المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌(بَابُ الرِّبَا) قَالَ الرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ - فتح القدير للكمال بن الهمام - ط الحلبي - جـ ٧

[الكمال بن الهمام]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

(بَابُ الرِّبَا)

قَالَ الرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا

(بَابُ الرِّبَا)

هُوَ مِنْ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيَّةِ قَطْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} بِسَبَبِ زِيَادَةٍ فِيهِ فَمُنَاسَبَتُهُ بِالْمُرَابَحَةِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا زِيَادَةً إلَّا أَنَّ تِلْكَ حَلَالٌ وَهَذِهِ مَنْهِيَّةٌ، وَالْحِلُّ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ فَقُدِّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ، وَالرِّبَا بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحُهَا خَطَأٌ (قَوْلُهُ الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِيعَ بِجِنْسِهِ) وَفِي عِدَّةٍ مِنْ النُّسَخِ: الرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ إلَى آخِرِهِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْهَا زِيَادَةُ " مُتَفَاضِلًا ". الرِّبَا يُقَالُ لِنَفْسِ الزَّائِدِ، وَمِنْهُ ظَاهِرُ

ص: 3

فَالْعِلَّةُ عِنْدَنَا الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ وَالْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ.

قَالَ رضي الله عنه: وَيُقَالُ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ وَهُوَ أَشْمَلُ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا» وَعَدَّ الْأَشْيَاءَ السِّتَّةَ: الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ وَالتَّمْرَ وَالْمِلْحَ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ.

وَيُرْوَى بِرِوَايَتَيْنِ بِالرَّفْعِ مِثْلٌ وَبِالنَّصْبِ مِثْلًا.

وَمَعْنَى الْأَوَّلِ بَيْعُ التَّمْرِ، وَمَعْنَى الثَّانِي بِيعُوا التَّمْرَ،

قَوْله تَعَالَى {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} أَيْ الزَّائِدَ فِي الْقَرْضِ وَالسَّلَفِ عَلَى الْمَدْفُوعِ وَالزَّائِدُ فِي بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ بَيْعِ بَعْضِهَا بِجِنْسِهِ، وَسَنَذْكُرُ تَفْصِيلَهَا.

وَيُقَالُ لِنَفْسِ الزِّيَادَةِ: أَعْنِي بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ، وَمِنْهُ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} أَيْ حَرَّمَ أَنْ يُزَادَ فِي الْقَرْضِ وَالسَّلَفِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَدْفُوعِ وَأَنْ يُزَادَ فِي بَيْعِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ بِجِنْسِهَا قَدْرًا لَيْسَ مِثْلَهُ فِي الْآخَرِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ فِعْلٌ وَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ لَفْظِ مُحَرَّمٍ لَا يُرَادُ كُلٌّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى إسْقَاطِ لَفْظِ مُتَفَاضِلًا، أَوْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بِتَقْدِيرِ إثْبَاتِهَا فَكَانَ الْمُرَادُ حُكْمَ الرِّبَا وَهُوَ الْحُرْمَةُ، أَمَّا عَلَى اسْتِعْمَالِ الرِّبَا فِي حُرْمَتِهِ فَيَكُونُ لَفْظُ الرِّبَا مَجَازًا، أَوْ عَلَى حَذْفِهِ وَإِرَادَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ، وَالرِّبَا مُرَادٌ بِهِ الزِّيَادَةُ مُبْتَدَأٌ، وَالْمَجْرُورُ خَبَرُهُ: أَيْ حُرْمَةُ الزِّيَادَةِ ثَابِتَةٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ.

ثُمَّ قَوْلُهُ (فَالْعِلَّةُ الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ أَوْ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ) مُرَتَّبًا بِالْفَاءِ لَمَّا عُرِفَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى مُشْتَقٍّ يُوجِبُ كَوْنَ مَبْدَإِ الِاشْتِقَاقِ عِلَّتَهُ، وَلَمَّا رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعَ الْجِنْسِ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّ الْعِلَّةَ الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ (وَ) قَدْ (يُقَالُ) بَدَلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ (الْقَدْرُ وَهُوَ أَشْمَلُ) وَأَخْصَرُ لَكِنَّهُ يَشْمَلُ مَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذَا يَشْمَلُ الْعَدَّ وَالذَّرْعَ وَلَيْسَا مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا: أَيْ عِلَّةُ تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ كَوْنُهُ مَكِيلًا مَعَ اتِّحَادِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْجِنْسِ فَهِيَ عِلَّةٌ مُرَكَّبَةٌ (وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ)

ص: 4

وَالْحُكْمُ مَعْلُومٌ بِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ لَكِنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: الطَّعْمُ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ، وَالْجِنْسِيَّةُ شَرْطٌ، وَالْمُسَاوَاةُ مُخَلِّصٌ.

وَالْأَصْلُ هُوَ الْحُرْمَةُ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى شَرْطَيْنِ التَّقَابُضِ وَالْمُمَاثَلَةِ

أَخْرَجَ السِّتَّةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مِثْلَهُ سَوَاءً " وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ «يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى» ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلَهُ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ «فَقَدْ أَرْبَى إلَّا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ» وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِيعُوا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ " مِثْلٌ " بِالرَّفْعِ فَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا» وَهَكَذَا قَالَ إلَى آخِرِ السِّتَّةِ، وَكَذَا مَا رَوَى مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ بِإِسْنَادِهِ إلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ هَكَذَا» إلَى آخِرِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَذَكَرَ التَّمْرَ بَعْدَ الْمِلْحِ آخِرًا.

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا» إلَى أَنْ قَالَ: «وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا نَسِيئَةً فَلَا، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَّا النَّسِيئَةُ فَلَا» انْتَهَى.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَوَازَ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى زِيَادَةِ الْفِضَّةِ وَالشَّعِيرِ، بَلْ لَوْ كَانَ الزَّائِدُ الذَّهَبَ وَالْبُرَّ جَازَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ مِنْ تَفْضِيلِ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ وَالْبُرِّ عَلَى الشَّعِيرِ (قَوْلُهُ وَالْحُكْمُ) يَعْنِي حُرْمَةَ الرِّبَا أَوْ وُجُوبَ التَّسْوِيَةِ (مَعْلُولٌ بِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ) أَيْ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْقِيَاسِ عِنْدَ شَرْطِهِ، بِخِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَكَذَا عُثْمَانُ الْبَتِّيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ حُكْمَ الرِّبَا مُقْتَصِرٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا.

أَمَّا الظَّاهِرِيَّةُ فَلِأَنَّهُمْ يَنْفُونَ الْقِيَاسَ، وَأَمَّا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فَلِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ فِي كُلِّ أَصْلٍ أَنَّهُ مَعْلُولٌ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ هُنَا وَلِأَنَّهُ يُبْطِلُ الْعَدَدَ وَلَا يَجُوزُ كَمَا فِي قَوْلِهِ «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ» قُلْنَا: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَقِّ كَالطَّعَامِ فِي قَوْلِهِ «لَا تَبِيعُوا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ» كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ دَلِيلٌ، وَسَنُقِيمُ عَلَيْهِ الدَّلِيلَ.

وَأَمَّا إبْطَالُ الْعَدَدِ فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَالْإِبْطَالُ الْمَمْنُوعُ هُوَ الْإِبْطَالُ بِالنَّقْصِ، أَمَّا بِالزِّيَادَةِ بِالْعِلَّةِ فَلَا، وَتَخْصِيصُ هَذِهِ السِّتَّةِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ عَامَّةَ الْمُعَامَلَاتِ الْكَائِنَةِ يَوْمئِذٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ فِيهَا، وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ قَصْرُ حُكْمِ الرِّبَا عَلَى السِّتَّةِ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مَأْثُورٌ عَنْ قَتَادَةَ وَطَاوُسٍ، قِيلَ فَانْحَزَمَ قَوْلُهُ بِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ (قَوْلُهُ لَكِنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي الْقَدْرَ وَالْجِنْسَ فَعِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ، وَبِأَحَدِهِمَا مُفْرَدًا يَحْرُمُ النَّسَاءُ وَيَحِلُّ التَّفَاضُلُ كَمَا سَيَأْتِي (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الطُّعْمُ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ وَالْجِنْسِيَّةُ شَرْطٌ وَالْمُسَاوَاةُ مُخَلِّصٌ) مِنْ الْحُرْمَةِ (وَهِيَ) أَعْنِي الْحُرْمَةَ (الْأَصْلُ) وَعِنْدَ مَالِكٍ الْعِلَّةُ

ص: 5

وَكُلُّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِالْعِزَّةِ وَالْخَطَرِ كَاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ، فَيُعَلَّلُ بِعِلَّةٍ تُنَاسِبُ إظْهَارَ الْخَطَرِ وَالْعِزَّةِ وَهُوَ الطَّعْمُ لِبَقَاءِ الْإِنْسَانِ بِهِ وَالثَّمَنِيَّةُ لِبَقَاءِ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْمَصَالِحِ بِهَا، وَلَا أَثَرَ لِلْجِنْسِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَجَعَلْنَاهُ شَرْطًا وَالْحُكْمُ قَدْ يَدُورُ مَعَ الشَّرْطِ.

وَلَنَا أَنَّهُ أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِسَوْقِهِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْبَيْعِ، إذْ هُوَ يُنْبِئُ عَنْ التَّقَابُلِ وَذَلِكَ بِالتَّمَاثُلِ،

الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ، فَكُلُّ مَا يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ فَهُوَ رِبًا وَمَا لَا فَلَا، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَصَّ الْبُرَّ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ لِيُفِيدَ بِكُلِّ مَعْنًى ظَاهِرًا فِيهِ، فَنَبَّهَ بِالْبُرِّ عَلَى مُقْتَاتٍ تَعُمُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَتَقُومُ الْأَبْدَانُ بِهِ، وَالشَّعِيرُ يُشَارِكُهُ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ عَلَفًا وَقُوتًا لِبَعْضِ النَّاسِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ فَيَلْحَقُ بِهِ الذُّرَةُ وَنَحْوُهَا، وَنَبَّهَ بِالتَّمْرِ عَلَى كُلِّ حَلَاوَةٍ تُدَّخَرُ غَالِبًا كَالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَالزَّبِيبِ، وَبِالْمِلْحِ عَلَى أَنَّ مَا أَصْلَحَ الْمُقْتَاتَ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ فَهُوَ فِي حُكْمِهَا فَيُلْحَقُ الْأَبَازِيرُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ مُعَلَّلَانِ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ عِنْدَهُمْ وَهِيَ كَوْنُهُمَا قِيَمَ الْأَشْيَاءِ وَأُصُولَ الْأَثْمَانِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: الْعِلَّةُ الطُّعْمُ مَعَ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ، وَفِي الْجَدِيدِ: هِيَ الطُّعْمُ فَقَطْ فِي الْأَرْبَعَةِ وَالثَّمَنِيَّةُ فِي النَّقْدَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا عَيْنَهُمَا وَالتَّعَدِّي إلَى الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ وَجْهٌ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا رِبًا فِيهَا لِانْتِفَاءِ الثَّمَنِيَّةِ الْغَالِبَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَالْجِنْسِيَّةُ شَرْطُ عَمَلِ الْعِلَّةِ وَعَنْ هَذَا لَمْ يُجْعَلْ الْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ نَسَاءً. وَعَلَى الْجَدِيدِ يَحْرُمُ الرِّبَا فِي الْمَاءِ، وَجْهُ قَوْلِهِ قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالطَّعَامُ مُشْتَقٌّ مِنْ الطُّعْمِ فَكَانَ مَبْدَأُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً، وَرُوِيَ «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ» إلَى آخِرِهِ. فَأَفَادَ أَنَّ الْحُرْمَةَ أَصْلٌ وَالْمُسَاوَاةَ مُخَلِّصٌ مِنْهَا، إذْ لَوْ اُقْتُصِرَ عَلَى قَوْلِهِ " لَا تَبِيعُوا " لَمْ يَجُزْ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُطْلَقًا، فَمَا لَمْ تَثْبُتْ الْمُسَاوَاةُ كَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ فَامْتَنَعَ بَيْعُ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ وَالتُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ وَالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَتَيْنِ وَالْجَوْزَةِ بِالْجَوْزَتَيْنِ وَالْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَتَيْنِ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْقَدْرِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا النَّصِّ، إذَا يَجُوزُ الْحَفْنَةُ بِالْحَفْنَتَيْنِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ يُفِيدُ أَنَّهَا عِلَّةٌ مَنْصُوصَةٌ، وَلَوْ أَخَذْنَا فِي اسْتِنْبَاطِ عِلَّتِهِ أَدَّانَا إلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ أَيْضًا.

وَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى شَرْطَيْ التَّقَابُضِ وَالتَّمَاثُلِ وَهَذَا الِاشْتِرَاطُ (يُشْعِرُ بِالْعِزَّةِ وَالْخَطَرِ كَاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ) فَوَجَبَ تَعْلِيلُهُ بِعِلَّةٍ تُوجِبُ الْعِزَّةَ وَالْخَطَرَ، وَفِي الطُّعْمِ ذَلِكَ لِتَعَلُّقِ بَقَاءِ النُّفُوسِ بِهِ وَالثَّمَنِيَّةُ الَّتِي بِهَا يُتَوَصَّلُ إلَى تَحْصِيلِ الْعُرُوضِ الَّتِي بِهَا حُصُولُ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ بَقَاءِ النَّفْسِ وَغَيْرِهَا مِنْ حُصُولِ الشَّهَوَاتِ (وَلَا أَثَرَ لِلْجِنْسِيَّةِ) وَالْقَدْرِ (فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي إظْهَارِ الْعِزَّةِ وَالْخَطَرِ (فَجَعَلْنَاهُ شَرْطًا، وَالْحُكْمُ قَدْ يَدُورُ مَعَ الشَّرْطِ) كَالرَّجْمِ مَعَ الْإِحْصَانِ (وَلَنَا أَنَّهُ) أَيْ النَّصُّ الْمَشْهُورُ (أَوْجَبَ التَّمَاثُلَ شَرْطًا لِلْبَيْعِ) وَإِيجَابُ الْمُمَاثَلَةِ (هُوَ الْمَقْصُودُ بِسَوْقِ الْحَدِيثِ) إذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضْمَارِ لَفْظِ بِيعُوا حَيْثُ انْتَصَبَ مِثْلًا: أَيْ بِيعُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِثْلًا بِمِثْلٍ،

ص: 6

أَوْ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ التَّوَى، أَوْ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ بِاتِّصَالِ التَّسْلِيمِ بِهِ، ثُمَّ يَلْزَمُ عِنْدَ فَوْتِهِ حُرْمَةُ الرِّبَا وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، وَالْمِعْيَارُ يَسْوَى الذَّاتَ، وَالْجِنْسِيَّةُ تَسْوَى الْمَعْنَى

وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ هِيَ الْأَصْلُ.

وَقَوْلُهُ «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ» الْحَدِيثَ إنَّمَا يَنْصَرِفُ النَّهْيُ إلَى مَا بَعْدَ إلَّا نَحْوَ مَا جَاءَ زَيْدٌ إلَّا رَاكِبًا، وَحَاصِلُهُ الْأَمْرُ بِالتَّسْوِيَةِ عِنْدَ بَيْعِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي إيجَابِ الْمُمَاثَلَةِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْبَيْعِ الْمُنْبِئِ عَنْ التَّقَابُلِ إذْ كَانَ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ فَاسْتَدْعَى شَيْئَيْنِ كَمَا أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تَسْتَدْعِي شَيْئَيْنِ وَكَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ بِالتَّمَاثُلِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُسَاوٍ لِلْآخَرِ فِي كَوْنِهِ مُسْتَدْعِيَ الْعَقْدِ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فِي الْقَدْرِ لِيَتِمَّ مَعْنَى الْبَيْعِ (أَوْ) أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ (صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ التَّوَى) فَإِنَّهُ إذَا قُوبِلَ بِجِنْسِهِ قَابَلَ كُلُّ جُزْءٍ كُلَّ جُزْءٍ، فَإِذَا كَانَ فَضْلٌ فِي أَحَدِهِمَا صَارَ ذَلِكَ الْفَضْلُ تَاوِيًا عَلَى مَالِكِهِ، فَلِقَصْدِ صِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ التَّوَى أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُوبِلَ الْمَالُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ جُزْءٌ لَمْ يُقَابَلْ بِجُزْءٍ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّوَى إلَّا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ مَعَ تَحَقُّقِ الْفَضْلِ فِي إحْدَى الْجِهَتَيْنِ، ثُمَّ مِنْ تَتْمِيمِ التَّمَاثُلِ الْمُسَاوَاةُ فِي التَّقَابُضِ فَإِنَّ لِلْحَالِ مَزِيَّةً عَلَى الْمُؤَخَّرِ فَإِيجَابُ التَّقَابُضِ أَيْضًا لِذَلِكَ وَبِهِ ظَهَرَ قَصْدُ الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّيَانَةِ عَنْ التَّفَاوُتِ حِفْظًا عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ) تَمَامُهَا (بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَالْمِعْيَارُ يَسْوَى الذَّاتَ) أَيْ الصُّورَةَ (وَالْجِنْسِيَّةُ تَسْوَى الْمَعْنَى

ص: 7

فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا، لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الْفَضْلُ الْمُسْتَحَقُّ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْخَالِي عَنْ عِوَضِ شَرْطٍ فِيهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَفَاوُتًا عُرْفًا، أَوْ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ سَدَّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ، أَوْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَالطَّعْمُ وَالثَّمَنِيَّةُ مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، وَالسَّبِيلُ فِي مِثْلِهَا الْإِطْلَاقُ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ لِشِدَّةِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا دُونَ التَّضْيِيقِ فِيهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا ذَكَرَهُ.

فَيَظْهَرَ بِذَلِكَ الْفَضْلُ فَيَتَحَقَّقَ الرِّبَا، لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الْفَضْلُ الْمُسْتَحَقُّ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْخَالِي عَنْ عِوَضِ شَرْطٍ فِيهِ) أَيْ فِي الْعَقْدِ، وَعَلِمْت أَنَّ الْخُلُوَّ فِي الْمُعَاوَضَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ فَلَزِمَ مَا قُلْنَا مِنْ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ مَعَ الْجِنْسِ (وَلَمْ يُعْتَبَرْ) فِي إثْبَاتِ الْمُمَاثَلَةِ عَدَمُ تَفَاوُتِ (الْوَصْفِ) إمَّا (لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَفَاوُتًا عُرْفًا) وَفِيهِ نَظَرٌ (أَوْ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ سَدَّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ) وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو عِوَضَانِ مِنْ جِنْسٍ عَنْ تَفَاوُتٍ مَا فَلَمْ يُعْتَبَرْ.

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» إنْ صَحَّ يُفِيدُهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مُفَادٌ مِنْ حَدِيثِ بَيْعِ التَّمْرِ بِالْجَنِيبِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، وَعِلَّةُ إهْدَارِهِ مَا ذَكَرْنَا، وَعِنْدَ تَأَمُّلِ هَذَا الْكَلَامِ يَتَبَادَرُ أَنَّ الْمُتَنَاظِرَيْنِ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَكَذَا مَالِكٌ عَيَّنُوا الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ عَلَى شَرْعِ الْحُكْمِ، وَهَؤُلَاءِ عَيَّنُوا الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْمُعَرِّفِ لِلْحُكْمِ، فَإِنَّ الْكَيْلَ يُعَرِّفُ الْمُمَاثَلَةَ فَيُعْرَفُ الْجَوَازُ وَعَدَمَهَا فَيُعْرَفُ الْحُرْمَةُ.

فَالْوَجْهُ أَنْ يَتَّحِدَ الْمَحَلُّ وَذَلِكَ بِجَعْلِهَا الطُّعْمَ وَالِاقْتِيَاتَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرُوا عِنْدَهُمْ. وَعِنْدَنَا هِيَ قَصْدُ صِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَحِفْظِهَا عَلَيْهِمْ، وَظُهُورُ هَذَا الْقَصْدِ مِنْ إيجَابِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْمِقْدَارِ وَالتَّقَابُضِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى لُبٍّ فَضْلًا عَنْ فَقِيهٍ.

وَأَمَّا الطُّعْمُ فَرُبَّمَا يَكُونُ التَّعْلِيلُ بِهِ مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ لِأَنَّ الطُّعْمَ مِمَّا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ اشْتِدَادًا تَامًّا (وَالسَّبِيلُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ دُونَ التَّضْيِيقِ) فَإِنَّ السُّنَّةَ الْإِلَهِيَّةَ جَرَتْ فِي حَقِّ جِنْسِ الْإِنْسَانِ أَنَّ مَا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ أَكْثَرَ كَانَ إطْلَاقُ الشَّرْعِ فِيهِ أَوْسَعَ كَالْمَاءِ وَالْكَلَإِ لِلدَّوَابِّ، فَإِنْ قَالَ: دَلَّ التَّرْتِيبُ عَلَى الْمُشْتَقِّ عَلَيْهِ، قُلْنَا: ذَلِكَ بِشَرْطِ كَوْنِهِ صَالِحًا مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ

ص: 8

إذَا ثَبَتَ هَذَا نَقُولُ إذًا: بَيْعُ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ جَازَ الْبَيْعُ فِيهِ لِوُجُوبِ شَرْطِ الْجَوَازِ، وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمِعْيَارِ؛ أَلَا تَرَى إلَى مَا يُرْوَى مَكَانَ قَوْلِهِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ كَيْلًا بِكَيْلٍ، وَفِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ (وَإِنْ تَفَاضَلَا لَمْ يَجُزْ) لِتَحَقُّقِ الرِّبَا وَلَا يَجُوزُ (بَيْعُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) لِإِهْدَارِ التَّفَاوُتِ فِي الْوَصْفِ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ وَالتُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ) لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بِالْمِعْيَارِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَضْلُ،

أَنَّ الطَّعَامَ مُشْتَقٌّ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِبَعْضِ الْأَعْيَانِ الْخَاصَّةِ وَهُوَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ لَا يَعْرِفُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا الْخِطَابِ غَيْرَهُ بَلْ التَّمْرُ وَهُوَ غَالِبُ مَأْكُولِهِمْ لَا يُسَمُّونَهُ طَعَامًا وَلَا يَفْهَمُونَهُ مِنْ لَفْظِ الطَّعَامِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَالِكًا فِيمَا قَدَّمْنَا أَجَازَ التَّصَرُّفَ فِي كُلِّ مَبِيعٍ قَبْلَ الْقَبْضِ سِوَى الطَّعَامِ، قَالَ: لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَصَّهُ بِالذِّكْرِ وَلَمْ يُرِدْ كُلَّ مَا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ مِنْ الْبَقْلِ وَالْمَاءِ وَالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ، وَهُوَ صَحِيحٌ لَوْلَا دَلِيلٌ آخَرُ عَمَّهُ.

وَإِلْحَاقُهُ بِالْبُضْعِ فِيهِ خَلَلٌ لِأَنَّ الْبُضْعَ مَصُونٌ شَرْعًا وَعُرْفًا وَعَادَةً عَنْ الِابْتِذَالِ وَالْإِبَاحَةِ فَكَانَ الِاشْتِرَاطُ مِنْ تَحْقِيقِ غَرَضِ الصِّيَانَةِ، بِخِلَافِ بَاقِي الْأَمْوَالِ فَإِنَّ أَصْلَهَا الْإِبَاحَةُ، وَيُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْهَا مُبَاحًا حَتَّى الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَإِنَّمَا لَزِمَ فِيهَا الْعَقْدُ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّ إنْسَانٍ بِهِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ التَّغَالُبِ فَوَضْعُهَا عَلَى ضِدِّ وَضْعِ الْبُضْعِ مِنْ الِابْتِذَالِ وَالِامْتِهَانِ دَفْعًا لِلْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ فَإِلْحَاقُهَا بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، إلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا حَصَرُوا الْمُعَرَّفَ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ أَجَازُوا بَيْعَ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ مُجَازَفَةً، فَأَجَازُوا بَيْعَ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ وَالْحَفْنَةِ مِنْ الْبُرِّ بِحَفْنَتَيْنِ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمِعْيَارِ الْمُعَرِّفِ لِلْمُسَاوَاةِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَضْلُ، وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ لَا بِالْمِثْلِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْجَوْزِ مِنْ الْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ. أَمَّا فِيهِ فَكَلَامُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْجَوْزَةَ مِثْلُ الْجَوْزَةِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ، وَكَذَا التَّمْرَةُ بِالتَّمْرَةِ لَا فِي حُكْمِ الرِّبَا، لِأَنَّ الْجَوْزَةَ لَيْسَتْ مِثْلًا لِلْجَوْزَةِ لِعَدَمِ دَلِيلِ الْمُمَاثَلَةِ وَلِوُجُودِ التَّفَاوُتِ، إلَّا أَنَّ النَّاسَ أَهْدَرُوا التَّفَاوُتَ فَقُبِلَ فِي حَقِّهِمْ وَهُوَ ضَمَانُ الْعُدْوَانِ فَأَمَّا فِي حَقِّ الشَّرْعِ وَهُوَ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ فَلَا.

وَمِنْ فُرُوعِ ضَمَانِ مَا دُونَ نِصْفِ صَاعٍ بِالْقِيمَةِ أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ حَفْنَةً فَعَفِنَتْ عِنْدَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا، فَإِنْ أَبَى إلَّا أَنْ يَأْخُذَ عَيْنَهَا أَخَذَهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْفَسَادِ الَّذِي حَصَلَ لَهَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَمَّا كَانَتْ الطَّعْمُ حَرُمَ الْحَفْنَةُ وَالتُّفَّاحَةُ بِثِنْتَيْنِ وَقَالُوا مَا دُونَ نِصْفِ صَاعٍ فِي حُكْمِ الْحَفْنَةِ لِأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي الشَّرْعِ بِمَا دُونَهُ، فَعُرِفَ أَنَّهُ لَوْ وُضِعَتْ مَكَايِيلُ أَصْغَرُ مِنْ نِصْفِ الصَّاعِ لَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ بِهَا، وَهَذَا إذَا لَمْ يَبْلُغْ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ نِصْفَ صَاعٍ، فَإِنْ بَلَغَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ صَاعٍ لَمْ يَجُزْ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ نِصْفِ صَاعٍ فَصَاعِدًا بِحَفْنَةٍ.

وَفِي جَمْعِ التَّفَارِيقِ قِيلَ: لَا رِوَايَةَ فِي الْحَفْنَةِ بِقَفِيزٍ وَاللُّبِّ بِالْجَوْزِ، وَالصَّحِيحُ ثُبُوتُ الرِّبَا، وَلَا يَسْكُنُ الْخَاطِرُ إلَى هَذَا بَلْ يَجِبُ بَعْدَ التَّعْلِيلِ بِالْقَصْدِ إلَى صِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ تَحْرِيمُ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ وَالْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ، أَمَّا إنْ كَانَتْ مَكَايِيلُ أَصْغَرُ مِنْهَا كَمَا فِي دِيَارِنَا مِنْ وَضْعِ رُبْعِ الْقَدَحِ وَثُمُنِ الْقَدَحِ الْمِصْرِيِّ فَلَا شَكَّ، وَكَوْنُ الشَّرْعِ لَمْ يُقَدِّرْ بَعْضَ

ص: 9

وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله الْعِلَّةُ هِيَ الطَّعْمُ وَلَا مُخَلِّصَ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فَيَحْرُمُ، وَمَا دُونَ نِصْفِ الصَّاعِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْحَفْنَةِ لِأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي الشَّرْعِ بِمَا دُونَهُ، وَلَوْ تَبَايَعَا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا غَيْرَ مَطْعُومٍ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَالْجِصِّ وَالْحَدِيدِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ.

وَعِنْدَهُ يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ.

قَالَ (وَإِذَا عُدِمَ الْوَصْفَانِ الْجِنْسُ وَالْمَعْنَى الْمَضْمُومُ إلَيْهِ حَلَّ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ) لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُحَرِّمَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ.

وَإِذَا وُجِدَا.

الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ بِأَقَلَّ مِنْهُ لَا يَسْتَلْزِمُ إهْدَارَ التَّفَاوُتِ الْمُتَيَقَّنِ، بَلْ لَا يَحِلُّ بَعْدَ تَيَقُّنِ التَّفَاضُلِ مَعَ تَيَقُّنِ تَحْرِيمِ إهْدَارِهِ، وَلَقَدْ أُعْجَبُ غَايَةَ الْعَجَبِ مِنْ كَلَامِهِمْ هَذَا.

وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّمْرَةَ بِالتَّمْرَتَيْنِ وَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ حَرُمَ فِي الْكَثِيرِ فَالْقَلِيلُ مِنْهُ حَرَامٌ

(وَ) يَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِلَافِ مَا لَوْ تَبَايَعَا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا غَيْرَ مَطْعُومٍ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَالْجِصِّ وَالْحَدِيدِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْقَدْرِ (وَالْجِنْسِ) مَعَ التَّفَاضُلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ لِلصِّيَانَةِ (وَعِنْدَهُ يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ) هَذَا وَلَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالصِّيَانَةِ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ عَبْدٍ بِعَبْدَيْنِ وَبَعِيرٍ بِبَعِيرَيْنِ، وَجَوَازُهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إذَا كَانَ حَالًّا. فَإِنْ قِيلَ: الصِّيَانَةُ حِكْمَةٌ فَتُنَاطُ بِالْمُعَرِّفِ لَهَا وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ. قُلْنَا: إنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ خَفَاءِ الْحِكْمَةِ وَعَدَمِ انْضِبَاطِهَا، وَصَوْنُ الْمَالِ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ، فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ وَعَدَمَهَا مَحْسُوسٌ وَبِذَلِكَ تُعْلَمُ الصِّيَانَةُ وَعَدَمُهَا، غَيْرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ ضَبْطُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ تَفَادِيًا عَنْ نَقْضِهِ بِالْعَبْدِ بِعَبْدَيْنِ وَثَوْبٍ هَرَوِيٍّ بِهَرَوِيَّيْنِ.

وَفِي الْأَسْرَارِ: مَا دُونَ الْحَبَّةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا قِيمَةَ لَهُ

(قَوْلُهُ وَإِذَا عُدِمَ الْوَصْفَانِ الْجِنْسُ وَالْمَعْنَى الْمَضْمُومُ إلَيْهِ) وَهُوَ الْقَدْرُ (حَلَّ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ) كَبَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ بِمَرْوِيَّيْنِ إلَى أَجَلٍ وَالْجَوْزِ بِالْبِيضِ إلَى أَجَلٍ (لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُحَرِّمَةِ) وَعَدَمُ الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ، لَكِنْ إذَا اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ لَزِمَ مِنْ عَدَمِهَا الْعَدَمُ لَا بِمَعْنَى أَنَّهَا تُؤَثِّرُ الْعَدَمَ بَلْ لَا يَثْبُتُ الْوُجُودُ لِعَدَمِ عِلَّةِ الْوُجُودِ فَيَبْقَى عَدَمُ الْحُكْمِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى عَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ، وَإِذَا عُدِمَ سَبَبُ الْحُرْمَةِ (وَالْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ) مُطْلَقًا (الْإِبَاحَةُ) إلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ مِنْ أَصْنَافِهِ كَانَ الثَّابِتُ الْحِلَّ (وَإِذَا وُجِدَا) أَيْ الْجِنْسُ وَالْمَعْنَى الْمَضْمُومُ إلَيْهِ

ص: 10

حَرُمَ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ.

وَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا وَعُدِمَ الْآخَرُ حَلَّ التَّفَاضُلُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ مِثْلَ أَنْ يُسَلِّمَ هَرَوِيًّا فِي هَرَوِيٍّ أَوْ حِنْطَةً فِي شَعِيرٍ، فَحُرْمَةُ رِبَا الْفَضْلِ بِالْوَصْفَيْنِ وَحُرْمَةُ النَّسَاءِ بِأَحَدِهِمَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ لَا يُحَرِّمُ النَّسَاءَ لِأَنَّ بِالنَّقْدِيَّةِ وَعَدَمِهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا شُبْهَةُ الْفَضْلِ، وَحَقِيقَةُ الْفَضْلِ غَيْرُ مَانِعٍ فِيهِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ فَالشُّبْهَةُ أَوْلَى.

وَهُوَ الْقَدْرُ (حَرُمَ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ) كَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ التَّسَاوِي وَالتَّقَابُضِ (لِوُجُودِ الْعِلَّةِ) الْمُعَرِّفَةِ لِلْحُكْمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (وَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا وَعُدِمَ الْآخَرُ حَلَّ التَّفَاضُلُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ مِثْلُ أَنْ يُسَلِّمَ) ثَوْبًا (هَرَوِيًّا فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ) فِي صُورَةِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ مَعَ عَدَمِ الْمَضْمُومِ إلَيْهِ مِنْ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا إذَا بَاعَ عَبْدًا بِعَبْدٍ إلَى أَجَلٍ لِوُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ، وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدَ بِعَبْدَيْنِ أَوْ الْهَرَوِيَّ بِهَرَوِيَّيْنِ حَاضِرًا جَازَ (أَوْ حِنْطَةً فِي شَعِيرٍ) فِي صُورَةِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَضْمُومِ وَهُوَ الْمُسَوَّى، وَكَذَا حَدِيدٌ فِي رَصَاصٍ وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَجُوزَ فُلُوسٌ فِي خُبْزٍ وَنَحْوِهِ فِي زَمَانِنَا لِأَنَّهَا وَزْنِيَّةٌ (فَحُرْمَةُ رِبَا الْفَضْلِ بِالْوَصْفَيْنِ) جَمِيعًا (وَحُرْمَةُ النَّسَاءِ بِأَحَدِهِمَا) وَالنَّسَاءُ بِالْمَدِّ لَيْسَ غَيْرُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ لَا يُحَرِّمُ نَسَاءً) لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ.

وَأَيْضًا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَهَّزَ جَيْشًا فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ إلَى أَجَلٍ " وَهَذَا يَكُونُ سَلَمًا. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّهُ بَاعَ بَعِيرًا بِأَرْبَعَةٍ إلَى أَجَلٍ.

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ بَاعَ بَعِيرًا يُقَالُ لَهُ عُصْفُورٌ بِعَشْرَيْنِ بَعِيرًا إلَى أَجَلٍ ". وَالْمَعْنَى أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ يُظْهِرُ التَّفَاوُتَ فِيهِ حُكْمًا، وَالتَّفَاوُتُ حَقِيقَةً أَكْثَرُ تَأْثِيرًا مِنْهُ حُكْمًا، فَإِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ حَقِيقَةً فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ بِأَنْ بَاعَ الْوَاحِدَ بِالِاثْنَيْنِ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ الْجَوَازِ بِالِاتِّفَاقِ

ص: 11

وَلَنَا أَنَّهُ مَالُ الرِّبَا مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى الْقَدْرِ أَوْ الْجِنْسِ وَالنَّقْدِيَّةُ أَوْجَبَتْ فَضْلًا فِي الْمَالِيَّةِ فَتَتَحَقَّقَ شُبْهَةُ الرِّبَا وَهِيَ مَانِعَةٌ كَالْحَقِيقَةِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ النُّقُودَ فِي الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ يَجُوزُ، وَإِنْ جَمَعَهُمَا الْوَزْنُ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَّفِقَانِ

حَتَّى جَازَ هَذَا الْبَيْعُ إذَا كَانَ حَالًّا اتِّفَاقًا فَالتَّفَاوُتُ حُكْمًا أَوْلَى، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ بِالنَّقْدِيَّةِ إلَى آخِرِهِ (وَلَنَا أَنَّهُ مَالُ الرِّبَا نَظَرًا إلَى الْقَدْرِ أَوْ الْجِنْسِ وَ) عُرِفَ أَنَّ (النَّقْدِيَّةَ أَوْجَبَتْ فَضْلًا فِي الْمَالِيَّةِ) حَتَّى تُعُورِفَ الْبَيْعُ بِالْحَالِ بِأَنْقَصَ مِنْهُ بِالْمُؤَجَّلِ (فَتَتَحَقَّقُ) بِوُجُودِهِ (شُبْهَةُ) عِلَّةِ (الرِّبَا) فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ الرِّبَا (وَشُبْهَةُ الرِّبَا مَانِعَةٌ كَحَقِيقَةِ الرِّبَا) بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ مُجَازَفَةً وَإِنْ ظَنَّ التَّسَاوِيَ وَتَمَاثَلَتْ الصُّبْرَتَانِ فِي الرُّؤْيَةِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا شُبْهَةُ ثُبُوتِ الْفَضْلِ، بَلْ قَالُوا: لَوْ تَبَايَعَا مُجَازَفَةً ثُمَّ كِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَظَهَرَا مُتَسَاوِيَيْنِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا أَيْضًا خِلَافًا لِزُفَرَ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُسَاوَاةِ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطُ الْجَوَازِ لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الرِّبَا وَالرِّيبَةِ، وَكَذَا الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ نَسِيئَةً يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مِمَّا أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ مِنْ قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» فَأَلْزَمَ التَّقَابُضَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ وَهُوَ تَحْرِيمُ النَّسِيئَةِ، وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ أَكْثَرَهُمَا يَدًا بِيَدٍ. وَأَمَّا النَّسِيئَةُ فَلَا» ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد أَيْضًا قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً» فَقَامَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ وُجُودَ أَحَدِ جُزْأَيْ عِلَّةِ الرِّبَا عِلَّةٌ لِتَحْرِيمِ النَّسَاءِ ثُمَّ عَلَّلْنَا

ص: 12

فِي صِفَةِ الْوَزْن، فَإِنَّ الزَّعْفَرَانَ يُوزَنُ بِالْأَمْنَاءِ وَهُوَ مُثَمَّنٌ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالنُّقُودُ تُوزَنُ بِالسَّنَجَاتِ وَهُوَ ثَمَنٌ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.

وَلَوْ بَاعَ بِالنُّقُودِ مُوَازَنَةً وَقَبَضَهَا صَحَّ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْوَزْنِ، وَفِي الزَّعْفَرَانِ وَأَشْبَاهِهِ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِيهِ صُورَةً وَمَعْنًى وَحُكْمًا لَمْ يَجْمَعْهُمَا الْقَدْرُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَنْزِلُ الشُّبْهَةُ فِيهِ إلَى شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ.

بِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الرِّبَا: أَعْنِي الْفَضْلَ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِأَنَّ مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ لِلشُّبْهَةِ حُكْمَ الْحَقِيقَةِ أَنْ يَحْرُمَ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ التَّفَاضُلُ أَيْضًا، لِأَنَّ لِشُبْهَةِ الْعِلَّةِ حُكْمَ الْعِلَّةِ فَيَثْبُتُ بِهِ شُبْهَةُ حُكْمِ الْعِلَّةِ وَحُكْمُ الْعِلَّةِ هُوَ حُرْمَةُ التَّفَاضُلِ وَالنَّسَاءِ فَيَثْبُتَ فِيهِمَا، ثُمَّ يُقَدَّمُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى حَدِيثِ الْبَعِيرِ بِبَعِيرَيْنِ لِأَنَّهُ مُحَرِّمٌ وَذَلِكَ مُبِيحٌ، أَوْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا. وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ أَنْ لَا يَجُوزَ إسْلَامُ النُّقُودِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الزَّعْفَرَانِ وَفِي سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ كَالْقُطْنِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ.

أَجَابَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الْوَزْنَ فِي النُّقُودِ وَفِي تِلْكَ الْأَمْوَالِ مُخْتَلِفٌ، فَإِنَّهُ فِي النُّقُودِ بِالْمَثَاقِيلِ وَالدَّرَاهِمِ الصَّنَجَاتِ، وَفِي الزَّعْفَرَانِ بِالْأَمْنَاءِ وَالْقَبَّانِ، وَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي الصُّورَةِ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ آخَرُ مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَالزَّعْفَرَانَ وَغَيْرَهُ يَتَعَيَّنُ، وَآخَرُ حُكْمِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ النُّقُودَ مُوَازَنَةً وَقَبَضَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ الْوَزْنِ، وَتَفْسِيرُهُ لَوْ اشْتَرَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُوَازَنَةً فَوَزَنَهَا الْبَائِعُ بِغَيْبَةِ الْمُشْتَرِي وَسَلَّمَهَا فَقَبَضَهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا قَبْلَ وَزْنِهَا ثَانِيًا، وَفِي الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ يُشْتَرَطُ إعَادَةُ الْوَزْنِ فِي مِثْلِهِ (فَإِذَا اخْتَلَفَا) أَيْ النَّقْدُ وَالزَّعْفَرَانُ وَنَحْوُهُ (فِيهِ) أَيْ فِي الْوَزْنِ (صُورَةً وَمَعْنًى وَحُكْمًا لَمْ يَجْمَعْهُمَا الْقَدْرُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَنْزِلُ الشُّبْهَةُ فِيهِ إلَى شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ) وَقَوْلُهُ صُورَةً وَمَعْنًى وَحُكْمًا نَشْرٌ

ص: 13

قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ كَيْلًا فَهُوَ مَكِيلٌ

مُرَتَّبٌ بَعْدَ اللَّفِّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْيِينَ بِالتَّعْيِينِ وَعَدَمِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَزْنِ، وَلَيْسَ الِاخْتِلَافُ بِاعْتِبَارِهِ اخْتِلَافًا فِي مَعْنَى الْوَزْنِ، وَكَذَا الْأَوَّلُ فَإِنَّ الزَّعْفَرَانَ وَالْمِسْكَ وَالزَّبَادَ يُوزَنُ بِالصَّنَجَاتِ أَيْضًا، وَكَذَا الْأَخِيرُ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّقْدِ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ وَفِي الزَّعْفَرَانِ وَأَشْبَاهِهِ لَا يَجُوزُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ بَعْدَمَا اتَّزَنَهُ مِنْ بَائِعِهِ وَقَبَضَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يُعِيدَ الْوَزْنَ مَمْنُوعٌ، بَلْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُوَازَنَةً مِنْ آخَرَ ثُمَّ يَلْزَمَ بَعْدَ هَذَا الْبَيْعِ أَنْ يَزِنَهُ الْآخَرُ لِيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ لِيَصِحَّ تَصَرُّفُ الْآخَرِ فِيهِ، وَكَذَا نَقُولُ فِي الدَّرَاهِمِ إذَا قَبَضَهَا، وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إذَا بِالدَّرَاهِمِ حَتَّى كَانَتْ ثَمَنًا أَوْ بَاعَهَا لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا قَبْلَ قَبْضِهَا، بِخِلَافِ الزَّعْفَرَانِ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ وَذَلِكَ ثَمَنٌ وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ هَذَا الِاخْتِلَافِ الْحُكْمِيِّ وَحْدَهُ لَا يُوجِبُ اعْتِبَارَهُ غَيْرَ مُشَارِكٍ لَهُ فِي أَصْلِ الْوَزْنِ.

وَإِذَا ضَعُفَ هَذَا فَالْوَجْهُ فِي هَذَا أَنْ يُضَافَ تَحْرِيمُ الْجِنْسِ بِانْفِرَادِهِ إلَى السَّمْعِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيُلْحَقَ بِهِ تَأْثِيرُ الْكَيْلِ الْوَزْنَ بِانْفِرَادِهِ ثُمَّ يُسْتَثْنَى إسْلَامُ النُّقُودِ فِي الْمَوْزُونَاتِ بِالْإِجْمَاعِ كَيْ لَا يُفْسِدَ أَكْثَرَ أَبْوَابِ السَّلَمِ وَسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ خِلَافَ النَّقْدِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسَلَّمَ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا كَإِسْلَامِ حَدِيدٍ فِي قُطْنٍ أَوْ زَيْتٍ فِي جُبْنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إلَّا إذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَزْنِيًّا بِالصَّنْعَةِ إلَّا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ فَلَوْ أَسْلَمَ سَيْفًا فِيمَا يُوزَنُ جَازَ إلَّا فِي الْحَدِيدِ لِأَنَّ السَّيْفَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْزُونًا وَمَنَعَهُ فِي الْحَدِيدِ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَكَذَا يَجُوزُ بَيْعُ إنَاءٍ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ يَدًا بِيَدٍ نُحَاسًا كَانَ أَوْ حَدِيدًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَثْقَلَ مِنْ الْآخَرِ، بِخِلَافِهِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّهُ يَجْرِي فِيهِ رِبَا الْفَضْلِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُبَاعُ وَزْنًا لِأَنَّ صُورَةَ الْوَزْنِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِيهِمَا فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالصَّنْعَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْوَزْنِ بِالْعَادَةِ.

وَأَوْرَدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ حِينَئِذٍ إسْلَامُ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِاخْتِلَافِ طَرِيقَةِ الْوَزْنِ. أُجِيبُ بِأَنَّ امْتِنَاعَهُ لِامْتِنَاعِ كَوْنِ النَّقْدِ مُسَلَّمًا فِيهِ لِأَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَهُمَا مُتَعَيِّنَانِ لِلثَّمَنِيَّةِ، وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعًا؟ قِيلَ: إنْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ يَجُوزُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْمُسَلَّمِ فَقَدْ قِيلَ لَا يَجُوزُ.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، هَذَا وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ يُعْرَفُ بِاخْتِلَافِ الِاسْمِ الْخَاصِّ وَاخْتِلَافُ الْمَقْصُودِ؛ فَالْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ جِنْسَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: جِنْسٌ وَاحِدٌ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا لِأَنَّ اسْمَ الطَّعَامِ يَقَعُ عَلَيْهِمَا.

قُلْنَا: بَلْ جِنْسَانِ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ اسْمًا وَمَعْنًى، وَإِفْرَادُ كُلٍّ عَنْ الْآخَرِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَإِلَّا قَالَ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ، وَكَوْنُ اسْمِ الْأَعَمِّ يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَى الْأَخَصِّ لَا يُوجِبُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ يَكُونُ مُتَمَاثِلًا كَالْحَيَوَانِ يُطْلَقُ عَلَى أُمُورٍ مُتَبَايِنَةٍ بِلَا شَكٍّ كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ جِنْسًا وَاحِدًا بِالْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ، وَالثَّوْبُ الْهَرَوِيُّ وَالْمَرْوِيُّ وَهُوَ بِسُكُونِ الرَّاءِ جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الصَّنْعَةِ وَقِوَامِ الثَّوْبِ بِهَا، وَكَذَا الْمَرْوِيُّ الْمَنْسُوجُ بِبَغْدَادَ وَخُرَاسَانَ وَاللَّدُّ الْأَرْمَنِيُّ وَالطَّالَقَانِيُّ جِنْسَانِ، وَالتَّمْرُ كُلُّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَالْحَدِيدُ وَالرَّصَاصُ وَالشَّبَهُ أَجْنَاسٌ، وَكَذَا غَزْلُ الصُّوفِ وَالشَّعْرُ وَلَحْمُ الْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْأَلْيَةُ وَاللَّحْمُ وَشَحْمُ الْبَطْنِ أَجْنَاسٌ، وَدُهْنُ الْبَنَفْسَجِ وَالْخَيْرِيُّ جِنْسَانِ، وَالْأَدْهَانُ الْمُخْتَلِفَةُ أُصُولُهَا أَجْنَاسٌ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ رَطْلِ زَيْتٍ غَيْرِ مَطْبُوخٍ بِرَطْلٍ مَطْبُوخٍ مُطَيَّبٍ لِأَنَّ الطِّيبَ زِيَادَةٌ

(قَوْلُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ كَيْلًا فَهُوَ مَكِيلٌ

ص: 14

أَبَدًا، وَإِنَّ تَرَكَ النَّاسُ الْكَيْلَ فِيهِ مِثْلَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ وَكُلُّ مَا نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ وَزْنًا فَهُوَ مَوْزُونٌ أَبَدًا، وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الْوَزْنَ فِيهِ مِثْلُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنْ الْعُرْفِ وَالْأَقْوَى لَا يُتْرَكُ بِالْأَدْنَى (وَمَا لَمْ يَنُصُّ عَلَيْهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَادَاتِ النَّاسِ) لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ عَلَى خِلَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ لِمَكَانِ الْعَادَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمَنْظُورُ إلَيْهَا وَقَدْ تَبَدَّلَتْ، فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ بِجِنْسِهَا

أَبَدًا، وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الْكَيْلَ فِيهِ) حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ وَزْنًا وَإِنْ تَمَاثَلَا فِي الْوَزْنِ إلَّا إنْ عُلِمَ أَنَّهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي الْكَيْلِ أَيْضًا (وَكُلُّ مَا نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ وَزْنًا فَهُوَ مَوْزُونٌ أَبَدًا مِثْلُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنْ الْعُرْفِ) لِأَنَّ الْعُرْفَ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَاطِلٍ كَتَعَارُفِ أَهْلِ زَمَانِنَا فِي إخْرَاجِ الشُّمُوعِ وَالسُّرُجِ إلَى الْمَقَابِرِ لَيَالِيَ الْعِيدِ، وَالنَّصُّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَاطِلٍ، وَلِأَنَّ حُجِّيَّةَ الْعُرْفِ عَلَى الَّذِينَ تَعَارَفُوهُ وَالْتَزَمُوهُ فَقَطْ، وَالنَّصُّ حُجَّةٌ عَلَى الْكُلِّ فَهُوَ أَقْوَى، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَفِي الْمُجْتَبَى: ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ مَا يَعْتَادُهُ أَهْلُ خُوَارِزْمَ مِنْ بَيْعِ الْحِنْطَةِ الرَّبِيعِيَّةِ بِالْخَرِيفِيَّةِ مَوْزُونًا مُتَسَاوِيًا لَا يَجُوزُ (وَمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَادَاتِ النَّاسِ) فِي الْأَسْوَاقِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْعَادَةُ (دَلَالَةٌ) عَلَى الْجَوَازِ فِيمَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا» الْحَدِيثَ، وَمِنْ ذَلِكَ دُخُولُ الْحَمَّامِ وَشُرْبُ مَاءِ السِّقَاءِ لِأَنَّ الْعُرْفَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ أَصْلٍ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِهِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ كَالدَّقِيقِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ عَلَى خِلَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ) الْكَيْلِ فِي الشَّيْءِ أَوْ الْوَزْنِ فِيهِ مَا كَانَ فِي ذَاكَ الْوَقْتِ إلَّا لِأَنَّ الْعَادَةَ إذْ ذَاكَ بِذَلِكَ (وَقَدْ تَبَدَّلَتْ) فَتَبَدَّلَ الْحُكْمُ.

وَأُجِيبُ بِأَنَّ تَقْرِيرَهُ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُمْ عَلَى مَا تَعَارَفُوا مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ مِنْهُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْعُرْفِ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، كَذَا وَجْهٌ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَلْزَمُ أَبَا يُوسُفَ لِأَنَّ قُصَارَاهُ أَنَّهُ كَنَصِّهِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ يَقُولُ: يُصَارُ إلَى الْعُرْفِ الطَّارِئِ بَعْدَ النَّصِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَغَيُّرَ الْعَادَةِ يَسْتَلْزِمُ تَغَيُّرَ النَّصِّ، حَتَّى لَوْ كَانَ صلى الله عليه وسلم حَيًّا لَنَصَّ عَلَيْهِ عَلَى وِزَانِ مَا ذَكَرْنَا فِي سُنِّيَّةِ التَّرَاوِيحِ، مَعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ بَلْ فَعَلَهُ مَرَّةً ثُمَّ تَرَكَ، لَكِنْ لَمَّا بَيَّنَ عُذْرَ خَشْيَةِ الِافْتِرَاضِ عَلَى مَعْنًى لَوْلَاهُ لَوَاظَبَ حُكِمَ بِالسُّنِّيَّةِ مَعَ عَدَمِ الْمُوَاظَبَةِ، لِأَنَّا أَمِنَّا مِنْ بَعْدِهِ النَّسْخَ فَحَكَمْنَا بِالسُّنِّيَّةِ، فَكَذَا هَذَا لَوْ تَغَيَّرَتْ تِلْكَ الْعَادَةُ الَّتِي كَانَ النَّصُّ بِاعْتِبَارِهَا إلَى عَادَةٍ أُخْرَى تَغَيَّرَ النَّصُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ بِجِنْسِهَا

ص: 15

مُتَسَاوِيًا وَزْنًا، أَوْ الذَّهَبَ بِجِنْسِهِ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ تَعَارَفُوا ذَلِكَ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ عَلَى مَا هُوَ الْمِعْيَارُ فِيهِ، كَمَا إذَا بَاعَ مُجَازَفَةً إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِسْلَامُ فِي الْحِنْطَةِ وَنَحْوِهَا وَزْنًا لِوُجُودِ الْإِسْلَامِ فِي مَعْلُومٍ.

قَالَ (وَكُلُّ مَا يُنْسَبُ إلَى الرَّطْلِ فَهُوَ وَزْنِيٌّ) مَعْنَاهُ مَا يُبَاعُ بِالْأَوَاقِيِ لِأَنَّهَا قُدِّرَتْ بِطَرِيقِ الْوَزْنِ حَتَّى يُحْتَسَبَ مَا يُبَاعُ بِهَا وَزْنًا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَكَايِيلِ، وَإِذَا كَانَ مَوْزُونًا فَلَوْ بِيعَ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ وَزْنُهُ بِمِكْيَالٍ مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ فِي الْوَزْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَازَفَةِ.

مُتَسَاوِيًا وَزْنًا وَالذَّهَبَ بِجِنْسِهِ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (وَإِنْ تَعَارَفُوا ذَلِكَ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ فِي أَحَدِهِمَا) وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ إلَى آخِرِهِ) اسْتِثْنَاءٌ عَلَى قَوْلِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ فَهُوَ مَكِيلٌ أَبَدًا: أَيْ يَلْزَمُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالْكَيْلِ أَبَدًا فَهُوَ بِعُمُومِهِ يَمْنَعُ السَّلَمَ فِي الْحِنْطَةِ وَنَحْوِهَا وَزْنًا فَاسْتَثْنَاهُ وَقَالَ: يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُصَحَّحَ فِيهِ كَوْنُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ مَعْلُومًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا فِيهِ نِزَاعٌ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْوَزْنِ، بِخِلَافِ بَيْعِهَا بِجِنْسِهَا فَإِنَّ الْمُصَحَّحَ هُنَاكَ التَّمَاثُلُ بِالْمُسَوَّى الشَّرْعِيِّ الْمُعَيَّنِ، فَمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمُسَوَّى اُلْتُحِقَ بِالْجُزَافِ فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَا مُخْتَارُ الطَّحَاوِيِّ.

وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَصْحَابِنَا رحمهم الله أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا مَكِيلٌ بِالنَّصِّ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ. وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ وَقَدْ عَرَفْت الْفَرْقَ. وَقَوْلُهُ فِي الْكَافِي: الْفَتْوَى عَلَى عَادَةِ النَّاسِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَوْ اعْتَادُوا أَنْ يُسَلِّمُوا فِيهَا كَيْلًا فَأَسْلَمَ وَزْنًا لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ، بَلْ إذَا اتَّفَقَا عَلَى مُعَرَّفٍ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِوُجُودِ الْمُصَحِّحِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ. وَفِي جَمْعِ التَّفَارِيقِ رُوِيَ عَنْهُمَا جَوَازُ السَّلَمِ وَزْنًا فِي الْمَكِيلَاتِ وَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَوْزُونَاتِ كَيْلًا أَنَّهُ يَجُوزُ، وَكَذَا أَطْلَقَهُ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْمَكِيلِ وَزْنًا وَفِي الْمَوْزُونِ كَيْلًا، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فَرْقٌ بَيْنَ الْكَيْلِيِّ نَصًّا وَالْوَزْنِيِّ عَادَةً وَقَلَبَهُ، فَأَمَّا الْوَزْنُ نَصًّا وَعَادَةً كَمَا فِي إنَاءَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ حَدِيدٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَحَدُهُمَا أَكْثَرُ وَزْنًا مِنْ الْآخَرِ؛ فَفِي الْإِنَاءَيْنِ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنْ لَا يُبَاعَا وَزْنًا لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ، وَفِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَجُوزُ.

فَإِنَّهُ يَجْرِي فِيهِمَا رِبَا الْفَضْلِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُبَاعُ وَزْنًا فِي الْعَادَةِ فَإِنَّ الْوَزْنَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ لِلصَّنْعَةِ بِالْعَادَةِ، وَأَمَّا فِي الْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ فَالْوَزْنُ فِيهِ ثَابِتٌ بِالْعُرْفِ فَيَخْرُجَ بِالصَّنْعَةِ أَيْضًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْزُونًا بِالْعُرْفِ (قَوْلُهُ وَكُلُّ مَا يُنْسَبُ إلَى الرِّطْلِ فَهُوَ وَزْنِيٌّ) هَذَا فِي التَّحْقِيقِ تَفْسِيرٌ لِبَعْضِ أَلْفَاظٍ رُبَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهَا الْمَبِيعُ بِلَفْظٍ

ص: 16

قَالَ (وَعَقْدُ الصَّرْفِ مَا وَقَعَ عَلَى جِنْسِ الْأَثْمَانِ يُعْتَبَرُ فِيهِ قَبْضُ عِوَضَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ)

يُقَدَّرُ وَلَمْ يَشْتَهِرْ فِيهَا أَنَّهَا اسْمٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَزْنِ كَمَا اُشْتُهِرَ فِي الْمَنِّ وَالْقِنْطَارِ أَوْ إلَى الْكَيْلِ كَمَا فِي الصَّاعِ وَالْمُدِّ فَلَا يَدْرِي أَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ مِنْ قَبِيلِ الْوَزْنِ فَيَجْرِيَ حُكْمُ الْوَزْنِ عَلَى الْمَبِيعِ أَوْ الْمَكِيلِ فَيَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْكَيْلِيِّ وَذَلِكَ كَاسْمِ الرَّطْلِ وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَالْأُوقِيَّةِ، فَأَفَادَ أَنَّ الْمَنْسُوبَ إلَيْهَا مِنْ الْمَبِيعَاتِ وَزْنِيٌّ فَيَجْرِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَلَوْ بِيعَ مَا يُنْسَبُ إلَى الرِّطْلِ وَالْأُوقِيَّةِ كَيْلًا بِكَيْلٍ مُتَسَاوِيَيْنِ يُعْرَفُ قَدْرُهُمَا كَيْلًا وَلَا يُعْرَفُ وَزْنُ مَا يُحِلُّهُمَا لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ تَسَاوِيهِمَا فِي الْوَزْنِ فَيَكُونَ بَيْعَ الْجُزَافِ. وَلَوْ تَبَايَعَا كَيْلًا مُتَفَاضِلًا وَهُمَا مُتَسَاوِيَا الْوَزْنِ صَحَّ، وَلَيْسَ قَوْلُنَا لِاحْتِمَالِ عَدَمِ تَسَاوِيهِمَا وَزْنًا لِإِفَادَةِ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ تَسَاوِيهِمَا وَزْنًا يَجُوزُ، فَإِنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ أَمْوَالَ الرِّبَا لَوْ بِيعَتْ مُجَازَفَةً ثُمَّ ظَهَرَ تَسَاوِيهِمَا لَا يَجُوزُ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا، بَلْ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ لَوْ عُلِمَ تَسَاوِيهِمَا فِيمَا يَجِبُ نِسْبَتُهُمَا إلَيْهِ مِنْ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ كَانَ جَائِزًا.

ثُمَّ الرَّطْلُ وَالْأُوقِيَّةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا عُرْفُ الْأَمْصَارِ، وَيَخْتَلِفُ فِي الْمِصْرِ الْوَاحِدِ أَمْرُ الْمَبِيعَاتِ، فَالرَّطْلُ الْآنَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَزْنُ ثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَاثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا بِوَزْنِ كُلِّ عَشْرَةٍ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ، وَفِي مِصْرَ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَفِي الشَّامِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِهِ، وَفِي حَلَبٍ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَتَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدٍ الرَّطْلَ بِأَنَّهُ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ تَفْسِيرٌ لِلرَّطْلِ الْعِرَاقِيِّ الَّذِي قَدَّرَ بِهِ الْفُقَهَاءُ كَيْلَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْكَفَّارَاتِ، ثُمَّ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة الرَّطْلُ الْمَذْكُورُ لِغَيْرِ الْكَتَّانِ، وَرَطْلُ الْكَتَّانِ مِائَتَا دِرْهَمٍ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ، وَكُلُّ رَطْلٍ فِي عُرْفِ دِيَارِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَأَقْطَارِهِ اثْنَا عَشَرَ أُوقِيَّةً، وَرُبَّمَا كَانَ فِي غَيْرِهَا عِشْرِينَ أُوقِيَّةً، وَحِينَئِذٍ لَا يُشْكِلُ اخْتِلَافُ كَمِّيَّةِ الْأُوقِيَّةِ بِاخْتِلَافِ الرَّطْلِ.

وَفِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ الْأُوقِيَّةُ مَثَلًا اثْنَا عَشَرَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَفِي نَحْوِ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ عَشَرَةٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَعَ أَسْمَاءٍ أُخَرَ تَوْقِيفِيَّةٍ مِنْ جِهَةِ الِاصْطِلَاحِ تُعْرَفُ بِالِاسْتِكْشَافِ وَالسُّؤَالِ عَنْهَا فَيُعْرَفُ الْحَالُ. وَقَوْلُهُ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ وَزْنُهُ إلَى آخِرِهِ عُرِفَ تَقْرِيرُهُ

(قَوْلُهُ وَعَقْدُ الصَّرْفِ مَا وَقَعَ عَلَى جِنْسِ الْأَثْمَانِ) ذَهَبًا وَفِضَّةً بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، فَإِنْ كَانَ بِجِنْسِهِ اُشْتُرِطَ فِيهِ التَّسَاوِي وَالتَّقَابُضِ قَبْلَ افْتِرَاقِ الْأَبَدَانِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ حَتَّى لَوْ عَقَدَا عَقْدَ الصَّرْفِ وَمَشَيَا فَرْسَخًا ثُمَّ تَقَابَضَا وَافْتَرَقَا صَحَّ وَأَنْ لَا يَكُونَ بِهِ خِيَارٌ، وَكَذَا السَّلَمُ وَلَا أَجَلَ كَذَا ذُكِرَ، وَهُوَ مُسْتَدْرَكٌ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ التَّقَابُضِ يُفِيدُهُ.

وَلَوْ أُسْقِطَ الْخِيَارُ وَالْأَجَلُ فِي الْمَجْلِسِ عَادَ صَحِيحًا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ جِنْسِهِ كَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ اُشْتُرِطَ مَا سِوَى التَّسَاوِي. وَاسْتَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ

ص: 17

لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ هَاءَ وَهَاءَ» مَعْنَاهُ يَدًا بِيَدٍ، وَسَنُبَيِّنُ الْفِقْهَ فِي الصَّرْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ (وَمَا سِوَاهُ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّعْيِينُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّقَابُضُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ).

لَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «يَدًا بِيَدٍ» وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقْبَضْ فِي الْمَجْلِسِ فَيَتَعَاقَبُ الْقَبْضُ وَلِلنَّقْدِ مَزِيَّةٌ

ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» وَرَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا» إلَى آخِرِهِ، وَهَاءَ مَمْدُودٌ مِنْ هَاءٍ وَأَلِفٍ وَهَمْزَةٍ بِوَزْنِ هَاعَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، وَمَعْنَاهُ خُذْ وَهَاتِ: يَعْنِي هُوَ رِبًا إلَّا فِيمَا يَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ خُذْ، وَمِنْهُ {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ يَعْنِي يَدًا بِيَدٍ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ قَالَ (وَمَا سِوَاهُ) أَيْ مَا سِوَى عَقْدِ الصَّرْفِ (مِمَّا فِيهِ الرِّبَا) مِنْ بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بِجِنْسِهَا، أَوْ بِخِلَافِ الْجِنْسِ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّعْيِينُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّقَابُضُ، فَلَوْ افْتَرَقَا بَعْدَ تَعْيِينِ الْبَدَلَيْنِ عَنْ غَيْرِ قَبْضٍ جَازَ عِنْدَنَا (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ) أَيْ كُلُّ مَطْعُومٍ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ لَحْمٍ أَوْ فَاكِهَةٍ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «يَدًا بِيَدٍ» وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَقَعُ التَّعَاقُبُ فِي الْقَبْضِ وَلِلنَّقْدِ

ص: 18

فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ الرِّبَا.

وَلَنَا أَنَّهُ مَبِيعٌ مُتَعَيَّنٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ كَالثَّوْبِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ إنَّمَا هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَيَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى التَّعْيِينِ، بِخِلَافِ الصَّرْفِ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ لِيَتَعَيَّنَ بِهِ؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يَدًا بِيَدٍ» عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَكَذَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه، وَتَعَاقُبُ الْقَبْضِ لَا يُعْتَبَرُ تَفَاوُتًا فِي الْمَالِ عُرْفًا، بِخِلَافِ النَّقْدِ وَالْمُؤَجَّلِ.

مَزِيَّةٌ فَيَكُونُ كَالْمُؤَجَّلِ إذْ يَحْصُلُ التَّفَاوُتُ فِي الْبَدَلَيْنِ.

(وَلَنَا أَنَّهُ مَبِيعٌ مُتَعَيِّنٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي) صِحَّةِ بَيْعِهِ (وَالْقَبْضُ كَالثَّوْبِ) بِالثَّوْبِ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ إنَّمَا هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّعْيِينِ فَلَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِ شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ الْقَبْضُ، بِخِلَافِ الصَّرْفِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَا يَحْصُلُ فِيهِ إلَّا بِالْقَبْضِ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنُ مَمْلُوكَةً بِالْعَقْدِ إلَّا بِالْقَبْضِ. قَالَ: وَمَعْنَى (قَوْلِهِ يَدًا بِيَدٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ) وَكَذَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ " يَدًا بِيَدٍ " وَلَهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ مُسْلِمٍ " عَيْنًا بِعَيْنٍ " وَلَفْظُهُ فِي مُسْلِمٍ «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى» وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَقَوْلُهُ يَقَعُ التَّعَاقُبُ فَيَحْصُلَ التَّفَاوُتُ مَمْنُوعٌ، بَلْ هَذَا الْقَدْرُ مُهْدَرٌ لَا يُعَدُّ زِيَادَةً مَا لَمْ يُذْكَرْ الْأَجَلُ.

وَقَدْ اسْتَشْكَلَ بِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِ " يَدًا بِيَدٍ " عَلَى اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فِي الصَّرْفِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِهِ هُنَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ التَّعْيِينُ لَا التَّقَابُضُ فَيَكُونُ تَعْمِيمًا لِلْمُشْتَرَكِ أَوْ لِلْحَقِيقَةِ فِي الْمَجَازِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُ فَسَّرَ هَاءَ وَهَاءَ بِ " يَدًا بِيَدٍ "، وَفَسَّرَ يَدًا بِيَدٍ بِالتَّعْيِينِ لِرِوَايَةِ عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِهِ عَلَى التَّقَابُضِ فِي الصَّرْفِ لَا يَنْفِيهِ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ هُنَاكَ إنَّمَا هُوَ عَلَى التَّعْيِينِ أَيْضًا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ التَّعْيِينُ هُنَاكَ بِالتَّقَابُضِ يَكُونُ لَا بِغَيْرِهِ، لَمَّا قُلْنَا إنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْقَبْضِ كَانَ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا عَلَيْهِ، لِكَيْ يَنْبَغِيَ أَنْ يُقَالَ حَمْلُ يَدًا بِيَدٍ عَلَى مَعْنَى عَيْنًا بِعَيْنٍ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ قَلْبِهِ. وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ رِوَايَةَ عَيْنًا بِعَيْنٍ تَفْسِيرٌ لِلْمُحْتَمِلِ، لِأَنَّ يَدًا بِيَدٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَهِيَ تَفْسِيرٍ لَهُ.

وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقَبْضَ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ عَيْنًا بِعَيْنٍ فَائِدَةٌ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالْقَبْضِ ضَرُورَةً فَلَزِمَ

ص: 19

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَتَيْنِ وَالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَتَيْنِ وَالْجَوْزَةِ بِالْجَوْزَتَيْنِ) لِانْعِدَامِ الْمِعْيَارِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا.

وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ لِوُجُودِ الطَّعْمِ عَلَى مَا مَرَّ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ فَلَا تَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا، وَإِذَا بَقِيَتْ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا وَكَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ.

أَنَّ عَيْنًا بِعَيْنٍ تَفْسِيرًا لِيَدًا بِيَدٍ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَدْفَعَهُ بِمَنْعِ الِاحْتِمَالِ بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّقَابُضِ. وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَيْنًا بِعَيْنٍ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَبْضَ أَخَصُّ مِنْ التَّعْيِينِ، وَكُلُّ قَبْضٍ يَتَضَمَّنُ تَعْيِينًا وَلَيْسَ كُلُّ تَعْيِينٍ قَبْضًا، وَبَابُ الرِّبَا بَابُ احْتِيَاطٍ فَيَجِبَ أَنْ تُحْمَلَ الْعَيْنِيَّةُ عَلَى الْقَبْضِ، وَيُؤَيِّدُهُ فَهْمُ عُمَرَ رضي الله عنه كَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَوْسٍ اصْطَرَفَ مِنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَخَذَ طَلْحَةُ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنْ الْغَابَةِ وَعُمَرُ يَسْمَعُ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه، وَكَيْفَ وَمَعْنَى هَاءَ خُذْ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ وَمِنْهُ {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} وَقَالَ قَائِلٌ: تَمْزُجُ لِي مِنْ بُغْضِهَا السِّقَاءَ ثُمَّ تَقُولُ مِنْ بَعِيدٍ هَاءَ.

وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ عَلَى الصَّرْفِ فِي اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فَدُفِعَ بِأَنَّ الِاسْمَ يُنْبِئُ هُنَاكَ عَنْ صَرْفِ كُلٍّ إلَى الْآخَرِ مَا فِي يَدِهِ، وَالْمَعَانِي الْفِقْهِيَّةُ تُعْطَفُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَيْسَ فِي الْفَرْعِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَيْهِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَسْتَقِلُّ بِمَطْلُوبِهِ

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَتَيْنِ وَالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَتَيْنِ) إلَى آخِرِهِ وَمَبْنَى ذَلِكَ سَبَقَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ يَدًا بِيَدٍ، أَوْ هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. صُورَتُهَا فِيهِ: مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي بَيْعِ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ وَجَوْزَةٍ بِجَوْزَتَيْنِ وَفَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ وَتَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ يَدًا بِيَدٍ جَازَ

ص: 20

وَلَهُمَا أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِهِمَا إذْ لَا وِلَايَةَ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِمَا فَتَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا وَإِذَا بَطَلَتْ الثَّمَنِيَّةَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَلَا يَعُودُ وَزْنِيًّا لِبَقَاءِ الِاصْطِلَاحِ عَلَى الْعَدِّ إذْ فِي نَقْضِهِ فِي حَقِّ الْعَدِّ فَسَادُ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْجَوْزَةِ بِالْجَوْزَتَيْنِ

إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ وَلَيْسَ كِلَاهُمَا وَلَا أَحَدُهُمَا دَيْنًا. وَصُوَرُهُ أَرْبَعٌ: أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ قَطْعًا لِاصْطِلَاحٍ النَّاسِ عَلَى سُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْهَا فَيَكُونَ أَحَدُهُمَا فَضْلًا خَالِيًا مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ وَهُوَ الرِّبَا.

وَأَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ عَيْنِهِمَا لَا يَجُوزُ، وَإِلَّا أَمْسَكَ الْبَائِعُ الْفَلْسَ الْمُعَيَّنَ وَطَالَبَهُ بِفَلْسٍ آخَرَ. أَوْ سَلَّمَ الْفَلْسَ الْمُعَيَّنَ وَقَبَضَهُ بِعَيْنِهِ مِنْهُ مَعَ فَلْسٍ آخَرَ لِاسْتِحْقَاقِهِ فَلْسَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ عَيْنُ مَالِهِ وَيَبْقَى الْفَلْسُ الْآخَرُ خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ.

وَكَذَا لَوْ بَاعَ فَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا بِفَلْسٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَقَبَضَ الْمُشْتَرِي الْفَلْسَيْنِ وَدَفَعَ إلَيْهِ أَحَدَهُمَا مَكَانَ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ فَيَبْقَى الْآخَرُ فَضْلًا بِلَا عِوَضٍ اسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْبَيْعِ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ إنْ رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ. وَالرَّابِعُ أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِعَيْنِهِمَا فَيَجُوزَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْفَلْسَ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ مَا دَامَ رَائِجًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ ثَبَتَتْ بِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ فَلَا تَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا وَإِذَا بَقِيَتْ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَا بِغَيْرِ عَيْنِهِمَا وَكَبَيْعِ

ص: 21

بِخِلَافِ النُّقُودِ لِأَنَّهَا لِلثَّمَنِيَّةِ خِلْقَةٌ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا لِأَنَّهُ كَالِئٌ بِالْكَالِئِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لِأَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ.

الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ.

وَلَهُمَا أَنَّ ثَمَنِيَّتَهَا فِي حَقِّهِمَا ثَبَتَتْ بِاصْطِلَاحِهِمَا إذْ لَا وِلَايَةَ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِمَا فَتَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا، وَإِذَا بَطَلَتْ الثَّمَنِيَّةُ تَعَيَّنَتْ بِالتَّعْيِينِ لِصَيْرُورَتِهَا عُرُوضًا. اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْفُلُوسَ إذَا كَسَدَتْ بِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ لَا تَكُونُ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ لَا تَصِيرَ عُرُوضًا بِاصْطِلَاحِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعَ اتِّفَاقِ مَنْ سِوَاهُمَا عَلَى ثَمَنِيَّتِهَا. أُجِيبُ بِأَنَّ الْفُلُوسَ فِي الْأَصْلِ عُرُوضٌ، فَاصْطِلَاحُهُمَا عَلَى الثَّمَنِيَّةِ بَعْدَ الْكَسَادِ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِهِمَا لِوُقُوعِ اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَخِلَافِ النَّاسِ.

وَأَمَّا إذَا اصْطَلَحَا عَلَى كَوْنِهَا عُرُوضًا فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ فَيَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مَنْ سِوَاهُمَا عَلَى الثَّمَنِيَّةِ. وَقَوْلُهُ وَلَا يَعُودُ وَزْنِيًّا وَإِنْ صَارَ عُرُوضًا، جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ بَيْعُ قِطْعَةِ نُحَاسٍ بِقِطْعَتَيْنِ بِغَيْرِ وَزْنٍ.

فَأَجَابَ بِأَنَّ الِاصْطِلَاحَ كَانَ عَلَى أَمْرَيْنِ: الثَّمَنِيَّةِ وَالْعَدَدِيَّةِ، وَاصْطِلَاحُهُمَا عَلَى إهْدَارِ ثَمَنِيَّتِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ إهْدَارَ الْعَدَدِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ عَدَمِ الثَّمَنِيَّةِ وَعَدَمِ الْعَدَدِيَّةِ بَعْدَ ثُبُوتِ الثَّمَنِيَّةِ مَعَ عَدَمِ الْعَدَدِيَّةِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْعَدَدِيَّةِ مَعَ عَدَمِ الثَّمَنِيَّةِ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ، بِخِلَافِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لِأَنَّ النُّقُودَ لِلثَّمَنِيَّةِ خِلْقَةٌ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ عَيْنِهِمَا لِأَنَّهُ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ كَوْنُ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَسْتَلْزِمُ النَّسِيئَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ بِالنُّقُودِ بَيْعٌ بِمَا لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ حَالًّا فَكَوْنُهُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَيْسَ مَعْنَاهُ نَسِيئَةً، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لِأَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ، وَالْكَالِئُ بِالْكَالِئِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ النَّسِيئَةُ بِالنَّسِيئَةِ.

وَفِي الْفَائِقِ: كَلَأُ الدَّيْنُ بِالرَّفْعِ كَلَأً فَهُوَ كَالِئٌ إذَا تَأَخَّرَ. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَعَيْنُهُ كَالْكَالِئِ الضِّمَارِ

يَهْجُو رَجُلًا يُرِيدُ بِعَيْنِهِ عَطِيَّتَهُ الْحَاضِرَةَ كَالْمُتَأَخِّرِ الَّذِي لَا يُرْجَى، وَمِنْهُ كَلَأَ اللَّهُ بِك أَكْلَأَ الْعُمُرَ: أَيْ أَكْثَرَهُ تَأْخِيرًا، وَتَكَلَّأْتُ كَلَأً: أَيْ اسْتَنْسَأْتُ نَسِيئَةً.

وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْبَزَّارُ فِي مَسَانِيدِهِمْ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَاعَ كَالِئٌ بِكَالِئٍ» وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِمُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ فَقِيلَ لَهُ إنَّ شُعْبَةَ يَرْوِي عَنْهُ، فَقَالَ: لَوْ رَأَى شُعْبَةُ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَضُعِّفَ بِالْأَسْلَمِيِّ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُتْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَغَلَّطَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: إنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الزُّبَيْدِيُّ.

وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَعَنْ كَالِئٍ بِكَالِئٍ. وَالْحَدِيثُ لَا يَنْزِلُ عَنْ

ص: 22

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ وَلَا بِالسَّوِيقِ) لِأَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَاقِيَةٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ وَالْمِعْيَارُ فِيهِمَا الْكَيْلُ، لَكِنَّ الْكَيْلَ غَيْرُ مُسَوٍّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحِنْطَةِ لِاكْتِنَازِهِمَا فِيهِ وَتَخَلْخُلِ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ كَيْلًا بِكَيْلٍ

(وَيَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ مُتَسَاوِيًا كَيْلًا) لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ

الْحُسْنِ بِلَا شَكٍّ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ) أَيْ دَقِيقِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ (وَلَا بِالسَّوِيقِ) أَيْ سَوِيقِ الْحِنْطَةِ. أَمَّا سَوِيقُ الشَّعِيرِ فَيَجُوزُ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يَسْتَلْزِمُ شُبْهَةُ التَّفَاضُلِ، وَحَقِيقَتُهُ جَائِزَةٌ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَضْلًا عَنْ شُبْهَتِهِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِأَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا وَإِنْ انْتَفَتْ اسْمًا وَصُورَةً وَمَعْنًى مَوْجُودَةٌ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحِنْطَةِ مِنْ نَحْوِ الْهَرِيسَةِ وَالْمَقْلُوَّةِ وَإِخْرَاجِ النَّشَا مُنْتَفٍ فِي الدَّقِيقِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ أَجْزَاؤُهَا لِأَنَّ مِنْ أَجْزَائِهَا النُّخَالَةَ أَيْضًا فَالْحِنْطَةُ كُسِرَتْ عَلَى أَجْزَاءٍ صِغَارٍ، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي الْمُجَانَسَةَ، وَالْمِعْيَارُ فِي كُلٍّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ الْكَيْلُ، وَالْكَيْلُ لَا يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ بِعَارِضِ ذَلِكَ التَّكْسِيرِ صَارَتْ أَجْزَاؤُهَا مُكْتَنِزَةً (فِيهِ) أَيْ فِي الْكَيْلِ: أَيْ مُنْضَمَّةً انْضِمَامًا شَدِيدًا، وَالْقَمْحُ فِي الْكَيْلِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا كَيْلًا بَلْ هُوَ مُحْتَمِلٌ، فَصَارَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَيْلًا كَبَيْعِ الْجُزَافِ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَحُرْمَةُ الرِّبَا إنَّمَا كَانَتْ مُنْتَهِيَةً بِالْعِلْمِ بِالْمُسَاوَاةِ إلَّا فِيمَا لَا اعْتِبَارَ بِهِ مِثْلُ أَنْ يَتَّفِقَ كَبْسٌ فِي كَيْلِ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَمْ يَتَّفِقْ قَدْرُهُ سَوَاءً فِي الْأُخْرَى، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعِلْمُ بِهَا صَارَتْ مُنْتَفِيَةً بِالضَّرُورَةِ (فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَتْ كَيْلًا بِكَيْلٍ) مُسَاوٍ، وَقَوْلُنَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَظْهَرِ عَنْهُ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ، لِأَنَّ الدَّقِيقَ نَفْسُ الْحِنْطَةِ فُرِّقَتْ أَجْزَاؤُهَا فَأَشْبَهَ بَيْعَ حِنْطَةٍ صَغِيرَةٍ جِدًّا بِكَبِيرَةٍ جِدًّا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُرُوضِ الْجَهْلِ بِالْمُسَاوَاةِ بِعُرُوضِ الطَّحْنِ يَدْفَعُهُ.

وَبَيْعُ النُّخَالَةِ بِالدَّقِيقِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَازَهُ لِأَنَّ النُّخَالَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا لِأَنَّهَا لَا تُطْعَمُ. وَقَوْلُنَا الْمِعْيَارُ فِي الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ الْكَيْلُ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا فِيمَا إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ، أَمَّا بِالدَّرَاهِمِ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ وَزْنًا بِالدَّرَاهِمِ وَكَذَا الدَّقِيقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ مُتَسَاوِيًا كَيْلًا) وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَكَذَا اسْتِقْرَاضُهُ كَيْلًا وَالسَّلَمُ فِيهِ كَيْلًا، وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْعَ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَدِلُ فِي الْكَيْلِ لِأَنَّهُ يَنْكَبِسُ بِالْكَبْسِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ كَوْنَهُ لَا يُعْلَمُ بَلْ يُعْلَمُ، وَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ التَّفَاوُتِ بِالْكَبْسِ يُتَوَهَّمُ مِثْلُهُ فِي كَيْلِ الْقَمْحِ وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ. وَفِي الذَّخِيرَةِ عَنْ الْإِمَامِ الْفَضْلِيِّ: إنَّمَا يَجُوزُ إذَا تَسَاوَيَا كَيْلًا إذَا كَانَا

ص: 23

(وَبَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُتَفَاضِلًا، وَلَا مُتَسَاوِيًا) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْمَقْلِيَّةِ وَلَا بَيْعُ السَّوِيقِ بِالْحِنْطَةِ، فَكَذَا بَيْعُ أَجْزَائِهِمَا لِقِيَامِ الْمُجَانَسَةِ مِنْ وَجْهٍ.

وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ.

مَكْبُوسَيْنِ وَهُوَ حَسَنٌ، وَلَفْظُ مُتَسَاوِيًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَنُصِبَ كَيْلًا عَلَى التَّمْيِيزِ وَهُوَ تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ مِثْلَ تَصَبَّبَ عَرَقًا وَالْأَصْلُ مُتَسَاوِيًا كَيْلُهُ. وَفِي بَيْعِ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ وَزْنًا رِوَايَتَانِ، وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ رِوَايَةِ الْمَنْعِ فَقَالَ فِي جِنْسٍ آخَرَ فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَكَذَا بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ وَزْنًا لَا يَجُوزُ وَفِيهَا أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُ الدَّقِيقَيْنِ أَخْشَنَ أَوْ أَدَقَّ، وَكَذَا بَيْعُ النُّخَالَةِ بِالنُّخَالَةِ.

وَفِي شَرْحِ أَبِي نَصْرٍ: يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ إذَا كَانَا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ النُّعُومَةِ. وَاَلَّذِي فِي الْخُلَاصَةِ أَحْسَنُ لِإِهْدَارِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ زِيَادَةِ النُّعُومَةِ، وَبَيْعُ الدَّقِيقِ الْمَنْخُولِ بِغَيْرِ الْمَنْخُولِ لَا يَجُوزُ إلَّا. مُمَاثِلًا، وَبَيْعُ النُّخَالَةِ بِالدَّقِيقِ يَجُوزُ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِأَنْ كَانَتْ النُّخَالَةُ الْخَالِصَةُ أَكْثَرَ مِنْ النُّخَالَةِ الَّتِي فِي الدَّقِيقِ.

ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَبَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ لَا يَجُوزُ) أَيْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دَقِيقِ نَوْعٍ مِنْ الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ بِسَوِيقِ ذَلِكَ النَّوْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُتَفَاضِلًا وَلَا مُتَسَاوِيًا، أَمَّا دَقِيقُ الْحِنْطَةِ بِسَوِيقِ الشَّعِيرِ وَعَكْسُهُ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ (وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ) بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا (لِأَنَّهُمَا) أَيْ دَقِيقَ الْحِنْطَةِ وَسَوِيقَهَا مَثَلًا (جِنْسَانِ) وَإِنْ رَجَعَا إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ (لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ) اخْتِلَافًا كَثِيرًا بَعْدَ الْقَلْيِ وَالطَّحْنِ فَإِنَّ الْمَقَاصِدَ مِنْ الدَّقِيقِ مِثْلُ أَنْ يُصْنَعَ

ص: 24

قُلْنَا: مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّغَذِّي يَشْمَلُهُمَا فَلَا يُبَالَى بِفَوَاتِ الْبَعْضِ كَالْمَقْلِيَّةِ مَعَ غَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ وَالْعِلْكَةِ بِالْمُسَوِّسَةِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا بَاعَهُ بِلَحْمٍ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَجُوزُ

خُبْزًا أَوْ عَصِيدًا أَوْ طَرِيَّةً وَهُوَ شَبَهُ الرَّشْتَةِ لَا يَتَأَتَّى مِنْ السَّوِيقِ، كَمَا أَنَّ مَا يُقْصَدُ بِالسَّوِيقِ وَهُوَ أَنْ يُذَابَ مَعَ عَسَلٍ وَيُشْرَبَ أَوْ يُلَتَّ بِسَمْنٍ وَعَسَلٍ وَيُؤْكَلَ لَا يَتَأَتَّى مِنْ الدَّقِيقِ، وَإِذَا كَانَا جِنْسَيْنِ جَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُ أَنَّهُمَا جِنْسَانِ وَلَهُ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ بَيْعَ الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِالْحِنْطَةِ غَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ لَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ لَيْسَ إلَّا لِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِالتَّسَاوِي مَعَ مُسَاوَاةِ الْكَيْلِ لِاكْتِنَازِ أَحَدِهِمَا فِيهِ دُونَ الْآخَرِ، وَالدَّقِيقُ أَجْزَاءُ غَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ وَالسَّوِيقُ أَجْزَاءُ الْمَقْلِيَّةِ، وَلَمْ يَزِدْ الدَّقِيقُ عَلَى الْحِنْطَةِ إلَّا بِتَكْسِيرِهِ بِالطَّحْنِ، وَكَذَا الْآخَرُ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ بَعْدَ اتِّحَادِهِ.

وَالثَّانِي وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ بَيْعَ الْحِنْطَةِ غَيْرُ الْمَقْلِيَّةِ بِالسَّوِيقِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِالدَّقِيقِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِاسْتِلْزَامِهِ رِبَا الْفَضْلِ وَرِبَا الْفَضْلِ لَا يَثْبُتُ إلَّا مَعَ الْمُجَانَسَةِ فَكَانَتْ الْمُجَانَسَةُ ثَابِتَةً بَيْنَ السَّوِيقِ وَالْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقُ أَجْزَاءُ الْحِنْطَةِ فَتَثْبُتَ الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ ثُمَّ يَمْتَنِعُ الْعِلْمُ بِالْمُسَاوَاةِ فَيَمْتَنِعُ الْبَيْعُ مُطْلَقًا. قَوْلُهُمْ اخْتَلَفَتْ الْمَقَاصِدُ وَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْجِنْسِ (قُلْنَا أَعْظَمُ الْمَقَاصِدِ) هِيَ مُتَّحِدَةٌ فِيهِ (وَهُوَ التَّغَذِّي فَلَا يُبَالَى بِفَوَاتِ بَعْضِهَا) الَّذِي هُوَ دُونَ الْمَقْصِدِ الْأَعْظَمِ بِدَلِيلِ الْحُكْمِ بِاتِّحَادِ الْجِنْسِ فِي الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ وَغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ حَتَّى امْتَنَعَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ بِسَبَبِ اتِّحَادِهِمَا فِي ذَلِكَ الْمَقْصُودِ الْأَعْظَمِ مَعَ فَوَاتِ مَا دُونَهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ، فَإِنَّ الْمَقْلِيَّةَ لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ وَلَا لِلْهَرِيسَةِ وَلَا تُطْحَنُ فَيُتَّخَذَ مِنْهَا خُبْزٌ (وَ) كَذَا (الْعِلْكَةُ) أَيْ الْجَيِّدَةُ السَّالِمَةُ مِنْ السُّوسِ (مَعَ الْمُسَوِّسَةِ) وَمَعَ ذَلِكَ جُعِلَا جِنْسًا وَاحِدًا غَيْرَ أَنَّ الْمُسَوَّسَةَ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْعِلْكَةِ كَيْلًا مُتَسَاوِيًا، وَالْمَقْلِيَّةُ مَعَ غَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْكَيْلَ لَا يُسَوِّي بَيْنَهُمَا.

فَأَمَّا بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِالْمَقْلِيَّةِ فَاخْتَلَفُوا. قِيلَ يَجُوزُ إذَا تَسَاوَيَا وَزْنًا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَة. وَقِيلَ لَا وَعَلَيْهِ عَوَّلَ فِي الْمَبْسُوطِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّارَ قَدْ تَأْخُذُ فِي أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَمُسَوِّسَةٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ كَأَنَّهَا هِيَ سَوَّسَتْ: أَيْ أَدْخَلَتْ السُّوسَ فِيهَا

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ عَنْهُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) سَوَاءً كَانَ اللَّحْمُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ

ص: 25

إلَّا إذَا كَانَ اللَّحْمُ الْمُفْرَزُ أَكْثَرَ لِيَكُونَ اللَّحْمُ بِمُقَابَلَةِ مَا فِيهِ مِنْ اللَّحْمِ وَالْبَاقِي بِمُقَابَلَةِ السَّقْطِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا مِنْ حَيْثُ زِيَادَةُ السَّقْطِ أَوْ مِنْ حَيْثُ زِيَادَةُ اللَّحْمِ فَصَارَ كَالْخَلِّ بِالسِّمْسِمِ.

وَلَهُمَا أَنَّهُ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ،

الْحَيَوَانِ أَوْ لَا مُسَاوِيًا لِمَا فِي الْحَيَوَانِ أَوْ لَا بِشَرْطِ التَّعْيِينِ، أَمَّا بِالنَّسِيئَةِ فَلَا لِامْتِنَاعِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ وَاللَّحْمِ.

وَفَصَّلَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فَقَالَ: إنْ بَاعَهُ بِلَحْمٍ غَيْرِ جِنْسِهِ كَلَحْمِ الْبَقَرَةِ بِالشَّاةِ الْحَيَّةِ. وَلَحْمِ الْجَزُورِ بِالْبَقَرَةِ الْحَيَّةِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ كَلَحْمِ شَاةٍ بِشَاةٍ حَيَّةٍ فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ الْمُفْرَزُ أَكْثَرَ مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ لِيَكُونَ لَحْمُ الشَّاةِ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ مِنْ اللَّحْمِ، وَبَاقِي اللَّحْمِ (بِمُقَابَلَةِ السَّقْطِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا) إمَّا لِزِيَادَةِ السَّقْطِ إنْ كَانَ اللَّحْمُ الْمُفْرَزُ مِثْلَ مَا فِي الْحَيَوَانِ مِنْ اللَّحْمِ، أَوْ لِزِيَادَةِ اللَّحْمِ إنْ كَانَ اللَّحْمُ أَقَلَّ مِمَّا فِي الشَّاةِ فَصَارَ كَبَيْعِ الْحِلِّ بِالْمُهْمَلَةِ وَهُوَ دُهْنُ السِّمْسِمِ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّقْطِ مَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّحْمِ كَالْكَرِشِ وَالْمِعْلَاقِ وَالْجِلْدِ وَالْأَكَارِعِ؛ وَلَوْ كَانَتْ الشَّاةُ مَذْبُوحَةً مَسْلُوخَةً جَازَ إذَا تَسَاوَيَا وَزْنًا بِالْإِجْمَاعِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْلُوخَةِ الْمَفْصُولَةُ مِنْ السَّقْطِ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَقْطِهَا لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى الِاعْتِبَارِ.

وَلَوْ بَاعَ شَاةً مَذْبُوحَةً بِشَاةٍ حَيَّةٍ يَجُوزُ عِنْدَ الْكُلِّ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهَا بِاللَّحْمِ جَازَ كَيْفَمَا كَانَ فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهَا بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَحْمٌ بِلَحْمٍ وَزِيَادَةُ اللَّحْمِ فِي إحْدَاهُمَا مَعَ سَقْطِهَا بِإِزَاءِ السَّقْطِ، وَعَلَى هَذَا شَاتَانِ مَذْبُوحَتَانِ غَيْرُ مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ لَمْ تُسْلَخْ يَجُوزُ، لِأَنَّ اللَّحْمَ بِمِثْلِهِ وَزِيَادَةُ لَحْمِ الشَّاةِ بِإِزَاءِ الْجِلْدِ وَنَحْوِهِ، فَالْمُرَادُ هُنَا مِنْ الْمَسْلُوخَةِ وَغَيْرِهَا بِاعْتِبَارِ الْجِلْدِ وَعَدَمِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رحمهم الله: لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ أَصْلًا لَا بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وَلَا بِغَيْرِهِ، خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَلَوْ بَاعَهُ بِلَحْمٍ غَيْرِ جِنْسِهِ كَلَحْمِ الْبَقَرَةِ بِشَاةٍ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ يَجُوزُ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ وَالْأَصَحُّ لَا يَصِحُّ لِعُمُومِ نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْإِطْلَاقِ (أَنَّهُ بَاعَ مَوْزُونًا بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ) فَغَايَتُهُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ كَالْعَصِيرِ مَعَ الْعِنَبِ وَاللَّبَنِ مَعَ السَّمْنِ،

ص: 26

لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُوزَنُ عَادَةً وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ثِقَلِهِ بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ يُخَفِّفُ نَفْسَهُ مَرَّةً بِصَلَابَتِهِ وَيَثْقُلُ أُخْرَى، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِي الْحَالِ يُعَرِّفُ قَدْرَ الدُّهْنِ إذَا مِيزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّجِيرِ، وَيُوزَنُ الثَّجِيرُ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَا: لَا يَجُوزُ «لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام حِينَ سُئِلَ عَنْهُ أَوَ يَنْقُصُ إذَا جَفَّ؟ فَقِيلَ نَعَمْ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: لَا إذًا»

لَكِنَّ اتِّحَادَهُ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُقَدَّرِ بِهِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ بِهِ النَّسَاءُ فَقُلْنَا بِشَرْطِ التَّعْيِينِ وَلَا يَجُوزُ النَّسَاءُ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ بِمَوْزُونٍ (لِأَنَّهُ لَا يُوزَنُ عَادَةً) فَلَيْسَ فِيهِ أَحَدُ الْمُقَدَّرَيْنِ الشَّرْعِيَّيْنِ الْوَزْنُ أَوْ الْكَيْلُ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُعْرَفُ قَدْرُ ثِقَلِهِ بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ يُثَقِّلُ نَفْسَهُ وَيُخَفِّفُهَا فَلَا يُدْرَى حَالُهُ، بِخِلَافِ الدُّهْنِ وَالسِّمْسِمِ (لِأَنَّ الْوَزْنَ يُعَرِّفُ قَدْرَ الدُّهْنِ إذَا مِيزَ مِنْ الثَّجِيرِ) ثُمَّ يُوزَنُ الثَّجِيرُ هَذَا عَلَى التَّنَزُّلِ وَإِلَّا فَهُمَا عَلَى مَا قَالَ غَيْرُ الْمُصَنِّفِ يَعْتَبِرَانِ لَحْمَ الشَّاةِ مَعَ الشَّاةِ الْحَيَّةِ جِنْسَيْنِ أَخْذًا مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} أَيْ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْحَيَّ مَعَ الْجَمَادِ جِنْسَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ النَّسَاءُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ سَلَمٌ وَهُوَ لَا يَجُوزُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ السَّمْعَ ظَاهِرٌ فِي مَنْعِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، وَمِنْهُ ضَعِيفٌ وَقَوِيٌّ، فَمِنْ الْقَوِيِّ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَأَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ» .

وَفِي لَفْظٍ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيِّ بِالْمَيِّتِ» . وَمُرْسَلُ سَعِيدٍ مَقْبُولٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ السُّلَمِيِّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ نَحْوَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَمَنْ أَثْبَتَ سَمَاعَ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ عَدَّهُ مَوْصُولًا وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ جَيِّدٌ. وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُرْسَلَ عِنْدَنَا حُجَّةٌ مُطْلَقًا.

وَأَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ إلَى رَجُلٍ مَجْهُولٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ أَنْ يُبَاعَ حَيٌّ بِمَيِّتٍ» ، وَأَسْنَدَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه " أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ "، وَبِسَنَدِهِ إلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ تَابِعُونَ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه لَعَلَّهُ بِالْمَعْنَى، فَإِنَّ مَشَايِخَنَا ذَكَرُوهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ جَزُورًا نُحِرَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ بِعِنَاقِهِ فَقَالَ: أَعْطُونِي بِهَذَا الْعِنَاقِ لَحْمًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: لَا يَصِحُّ هَذَا» وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ نُحِرَ لِيُتَصَدَّقَ بِهِ

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)

ص: 27

وَلَهُ أَنَّ الرُّطَبَ تَمْرٌ «لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام حِينَ أُهْدَى إلَيْهِ رُطَبٌ أَوَ كُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا» سَمَّاهُ تَمْرًا.

وَبَيْعُ التَّمْرِ بِمِثْلِهِ جَائِزٌ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَمْرًا جَازَ الْبَيْعُ بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ تَمْرٍ فَبِآخِرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رحمهم الله: لَا يَجُوزُ، فَقَدْ تَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْقَوْلِ بِالْجَوَازِ.

وَأَمَّا الرُّطَبُ بِالرُّطَبِ فَيَجُوزُ عِنْدَنَا كَيْلًا مُتَمَاثِلًا، لِلْجَمَاعَةِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْبَيْضَاءِ بِالسُّلْتِ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ قَالَ الْبَيْضَاءُ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ:«سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ عَنْ شِرَاءِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ؟ قَالَ نَعَمْ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ» فَهَذَا حُكْمٌ مُنَبَّهٌ فِيهِ عَلَى عِلَّتِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ يَنْقُصُ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي ثَانِي الْحَالِ عَنْ الْمُسَاوَاةِ. وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ.

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَنَّ الرُّطَبَ تَمْرٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «حِينَ أُهْدَى لَهُ رُطَبٌ أَوَ كُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا» فَسَمَّاهُ) أَيْ سَمَّى الرُّطَبَ (تَمْرًا) وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ الْمُهْدَى رُطَبًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ تَمْرًا.

أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ فَقَالَ لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ مِنْ الْجَمْعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَفْعَلُوا وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا» وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ. وَلَفْظٌ آخَرُ «إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وَالْجَمْعُ أَصْنَافٌ مَجْمُوعَةٌ مِنْ التَّمْرِ.

وَمَا ادَّعَاهُ بَعْضُ الْخِلَافِيِّينَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا أَنَّهُ يَحْنَثُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْعُرْفِ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَهُ. ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ تَمْرًا) هَذَا اللَّفْظُ يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ دَخَلَ بَغْدَادَ وَكَانُوا أَشِدَّاءَ عَلَيْهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْخَبَرَ، فَسَأَلُوهُ عَنْ التَّمْرِ فَقَالَ: الرُّطَبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ تَمْرًا جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ

ص: 28

إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ وَمَدَارُ مَا رَوَيَاهُ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّقَلَةِ.

فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ دَائِرٌ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ وَزَيْدُ بْنُ عَيَّاشٍ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ.

وَأَبْدَلَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّقْلَةِ) وَغَلَّطَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ الْمُصَنِّفَ فِي قَوْلِهِ زَيْدَ بْنَ عَيَّاشٍ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ زَيْدٌ أَبُو عَيَّاشٍ. وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الشَّيْخَ عَلَاءَ الدِّينِ مُغَلْطَاي. قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ الْمَخْرَجُ رحمه الله: لَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ.

قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: زَيْدُ بْنُ عَيَّاشٍ أَبُو عَيَّاشٍ الدَّوْرَقِيُّ، وَيُقَالُ الْمَخْزُومِيُّ، وَيُقَالُ مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ الْمَدَنِيُّ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَغَيْرُ مَشَايِخِنَا ذَكَرُوا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا قَالَ هُوَ مَجْهُولٌ، وَقَدْ رَدَّ تَرْدِيدَهُ بَيْنَ كَوْنِهِ تَمْرًا أَوْ لَا بِأَنَّ هُنَا قِسْمًا ثَالِثًا وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ الْجِنْسِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْآخَرِ كَالْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ لِعَدَمِ تَسْوِيَةِ الْكَيْلِ بَيْنَهُمَا، فَكَذَا الرُّطَبُ بِالتَّمْرِ لَا يُسَوِّيهِمَا الْكَيْلُ، وَإِنَّمَا يَسْوَى فِي حَالِ اعْتِدَالِ الْبَدَلَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَجِفَّ الْآخَرُ.

وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُهُ وَيَعْتَبِرُ التَّسَاوِي حَالَ الْعَقْدِ، وَعُرُوضِ النَّقْصِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مَعَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْحَالِ إذَا كَانَ مُوجِبُهُ أَمْرًا خِلْقِيًّا وَهُوَ زِيَادَةُ الرُّطُوبَةِ، بِخِلَافِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِهَا فَإِنَّا فِي الْحَالِ نَحْكُمُ بِعَدَمِ التَّسَاوِي لِاكْتِنَازِ أَحَدِهِمَا فِي الْكَيْلِ، بِخِلَافِ الْآخَرِ لِتَخَلْخُلِ كَثِيرٍ وَرَدَّ طَعْنَهُ فِي أَبِي عَيَّاشٍ أَيْضًا بِأَنَّهُ ثِقَةٌ كَمَا نَقَلْنَا آنِفًا مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ التَّنْقِيحِ، وَأَيْضًا رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَهُوَ لَا يَرْوِي عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ.

وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: كَيْفَ يَكُونُ مَجْهُولًا وَقَدْ رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ ثِقَتَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ وَعِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ وَهُمَا مِمَّنْ احْتَجَّ بِهِمَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ عَرَفَهُ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ، وَقَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مَعَ شِدَّةِ تَحَرِّيهِ فِي الرِّجَالِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: زَيْدٌ أَبُو عَيَّاشٍ مَجْهُولٌ، فَإِنْ كَانَ هُوَ لَمْ يَعْرِفْهُ فَقَدْ عَرَفَهُ أَئِمَّةُ النَّقْلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا ذَكَرْنَا.

وَقَدْ أُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ السَّنَدِ فَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْهُ نَسِيئَةً، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ هَذَا زِيَادَةُ " نَسِيئَةً "، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَبَا عَيَّاشٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه يَقُولُ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ نَسِيئَةً» وَبِهَذَا اللَّفْظِ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَسَكَتَ عَنْهُ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: اجْتِمَاعُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى خِلَافِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ يَدُلُّ عَلَى ضَبْطِهِمْ لِلْحَدِيثِ يُرِيدُ بِالْأَرْبَعَةِ مَالِكًا وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ وَالضَّحَّاكَ بْنَ عُثْمَانَ وَآخَرَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ بَعْدَ صِحَّةِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ يَجِبُ قَبُولُهَا لِأَنَّ الْمَذْهَبَ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ قَبُولُ الزِّيَادَةِ وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ لَمْ يُورِدْهَا إلَّا فِي زِيَادَةٍ تَفَرَّدَ بِهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ الْحَاضِرِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَمِثْلُهُمْ لَا يَغْفُلُ عَنْ مِثْلِهَا فَإِنَّهَا مَرْدُودَةٌ عَلَى مَا كَتَبْنَاهُ فِي تَحْرِيرِ الْأُصُولِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ زِيَادَةٌ لِمَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ اجْتَمَعُوا فِيهِ فَسَمِعَ هَذَا مَا لَمْ يَسْمَعْ الْمُشَارِكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ بِالسَّمَاعِ، فَمَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّ الْحَالَ كَذَلِكَ فَالْأَصْلُ أَنَّهُ قَالَهُ فِي مَجَالِسَ ذَكَرَ فِي بَعْضِهَا مَا تَرَكَهُ فِي آخَرَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

لَكِنْ يَبْقَى قَوْلُهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ " أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ " عَرِيًّا عَنْ الْفَائِدَةِ إذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ نَسِيئَةً. وَمَا ذَكَرُوا أَنَّ فَائِدَتَهُ أَنَّ الرُّطَبَ يَنْقُصُ إلَى أَنْ يَحِلَّ الْأَجَلُ فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ مَنْفَعَةٌ لِلْيَتِيمِ بِاعْتِبَارِ النُّقْصَانِ عِنْدَ الْجَفَافِ

ص: 29

قَالَ (وَكَذَا الْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ) يَعْنِي عَلَى الْخِلَافِ وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ.

وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ اعْتِبَارًا بِالْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ، وَالرُّطَبُ بِالرُّطَبِ يَجُوزُ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا عِنْدَنَا لِأَنَّهُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَكَذَا بَيْعُ الْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ أَوْ الْمَبْلُولَةِ بِمِثْلِهَا أَوْ بِالْيَابِسَةِ، أَوْ التَّمْرُ أَوْ الزَّبِيبُ الْمُنْقَعُ بِالْمُنْقَعِ مِنْهُمَا مُتَمَاثِلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله لَا يَجُوزُ جَمِيعُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ الْمَالُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله يَعْتَبِرُهُ فِي الْحَالِ،

فَمَنْعُهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِشْفَاقِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ السَّائِلَ كَانَ وَلِيَّ يَتِيمٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ

(قَوْلُهُ وَكَذَا الْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ: يَعْنِي عَلَى الْخِلَافِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ مَعَ التَّسَاوِي كَيْلًا وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ. وَقَوْلُهُ (وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ) لَهُمَا يَعْنِي فِي مَنْعِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَيَنْقُصُ إذَا جَفَّ» بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّبِيبَ إمَّا مِنْ جِنْسِ الْعِنَبِ فَيَجُوزَ مُتَسَاوِيًا أَوْ لَا فَيَجُوزَ مُطْلَقًا. وَنَقَلَ الْقُدُورِيُّ فِي التَّقْرِيبِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ جَوَازَ بَيْعِ الزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا.

وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى الِاعْتِبَارِ، فَقَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ اعْتِبَارًا بِالْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ) فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْقَلْيَ كَائِنٌ بِصُنْعِ الْعِبَادِ فَتُعْدَمُ اللَّطَافَةُ الَّتِي كَانَتْ الْحِنْطَةُ بِهَا مِثْلِيَّةً، بِخِلَافِ التَّفَاوُتِ الْحَاصِلِ بِأَصْلِ الْحَلْقَةِ كَالرُّطَبِ مَعَ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ مَعَ الزَّبِيبِ لَا يُعْتَبَرُ فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، فَصَارَ فِي بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ: لَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا، يَجُوزُ اتِّفَاقًا وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَلَى الْخِلَافِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْكِتَابِ، يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى الِاعْتِبَارِ لِأَنَّ الزَّبِيبَ مَوْجُودٌ فِي الْعِنَبِ فَصَارَ كَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ. وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةِ الْمَنْعِ بَيْنَ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ وَجَوَازِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ وَرَدَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ التَّمْرِ عَلَى الرُّطَبِ وَلَمْ يَرِدْ مِثْلُ هَذَا فِي الزَّبِيبِ فَافْتَرَقَا (وَأَمَّا الرُّطَبُ بِالرُّطَبِ فَيَجُوزُ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا) وَكَذَا الْعِنَبُ بِالْعِنَبِ يَجُوزُ (عِنْدَنَا) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْمُزَنِيُّ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ لَهَا حَالُ جَفَافٍ كَالتِّينِ وَالْمِشْمِشِ وَالْجَوْزِ وَالْكُمَّثْرَى وَالرُّمَّانِ وَالْإِجَّاصِ لَا يُجِيزُ بَيْعَ رُطَبِهِ بِرُطَبِهِ، كَمَا لَا يُجِيزُ بَيْعَ رُطَبِهِ بِيَابِسِهِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ قَدْرُ النُّقْصَانِ إذْ قَدْ يَكُونُ نُقْصَانُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي الْبَاقِلَاءِ الْأَخْضَرِ بِمِثْلِهِ، لِأَنَّ بَيْنَ الْبَاقِلَائِتَيْن فَضَاءً يَتَفَاوَتُ فَيَمْنَعَ تَعْدِيلَ الْكَيْلِ فَكَانَ كَبَيْعِ الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ، وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْمَبْلُولَةِ وَالرَّطْبَةِ بِالرَّطْبَةِ أَوْ الْمَبْلُولَةِ بِالْيَابِسَةِ يَجُوزُ، وَكَذَا بَيْعُ التَّمْرِ الْمُنْقَعِ وَالزَّبِيبِ الْمُنْقَعِ بِالْمُنْقَعِ وَالْيَابِسِ مِنْهُمَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا مِنْ بَيْعِ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ إلَى هُنَا.

وَالْمُنْقَعُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أُنْقِعَ الزَّبِيبُ فِي الْخَابِيَةِ فَهُوَ مُنْقَعٌ. وَأَصْلُهُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْتَبِرُ الْمُسَاوَاةَ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ الْمَآلُ عِنْدَ الْجَفَافِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدٍ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي الْمَبْلُولَةِ وَالرَّطْبَةِ مَعَ مِثْلِهَا أَوْ الْيَابِسَةِ. أَمَّا مَعَ الْيَابِسَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَبْلُولَةُ مَعَ الْمَبْلُولَةِ فَالتَّفَاوُتُ يَقَعُ فِي قَدْرِ الْبَلَلِ، قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: الرِّوَايَةُ مَحْفُوظَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ

ص: 30

وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ رحمه الله عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْأَصْلَ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ لَهُمَا.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ رحمه الله بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ وَبَيْنَ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِيمَا يَظْهَرُ مَعَ بَقَاءِ الْبَدَلَيْنِ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَفِي الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مَعَ بَقَاءِ أَحَدِهِمَا عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونَ تَفَاوُتًا فِي عَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَفِي الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ

أَنَّ بَيْعَ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْيَابِسَةِ إنَّمَا لَا يَجُوزُ إذَا انْتَفَخَتْ، أَمَّا إذَا بُلَّتْ مِنْ سَاعَتِهَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْيَابِسَةِ إذَا تَسَاوَيَا كَيْلًا. وَأَبُو حَنِيفَةَ.

وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرَانِ الْمُسَاوَاةَ بِتَأْوِيلِ التَّسَاوِي فِي الْحَالِ (عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ) أَيْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَغَيْرِهِ (إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ تَرَكَ هَذَا الْأَصْلَ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ) مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَهُوَ مَخْصُوصٌ مِنْ الْقِيَاسِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَالْحِنْطَةُ الرَّطْبَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الرُّطَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالرُّطُوبَةُ فِي الرُّطَبِ مَقْصُودَةٌ وَفِي الْحِنْطَةِ عَيْبٌ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ، وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ نَقَضَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ التَّفَاوُتَ بِصُنْعِ الْعِبَادِ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَنْعِ، وَمَا بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لَا بِالْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ فَإِنَّ الرُّطُوبَةَ الْحَاصِلَة فِيهَا بِصُنْعِ الْعِبَادِ وَبِهَا يَحْصُلُ التَّفَاوُتُ مَعَ أَنَّهُ جَازَ الْعَقْدُ. أُجِيبُ بِأَنَّ الْحِنْطَةَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ رَطْبَةٌ وَهِيَ مَالُ الرِّبَا إذْ ذَاكَ وَالْبَلُّ بِالْمَاءِ يُعِيدُهَا إلَى مَا هُوَ أَصْلُ الْخِلْقَةِ فِيهَا فَلَمْ يُعْتَبَرْ بِخِلَافِ الْقَلْيِ (وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ) مِنْ بَيْعِ الْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ إلَى هُنَا حَيْثُ مَنَعَهُ (وَبَيْنَ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ) حَيْثُ أَجَازَهُ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْعِنَبِ بِالْعِنَبِ فَإِنَّهُ يُجِيزُهُ، وَحَاصِلُهُ (أَنَّ التَّفَاوُتَ) إنْ ظَهَرَ مَعَ بَقَاءِ الِاسْمِ عَلَى الْبَدَلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَسَدَ الْعَقْدُ، وَإِنْ ظَهَرَ بَعْدَ زَوَالِ الِاسْمِ عَنْهُمَا لَا يَفْسُدُ، فَفِي الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَعْدَ خُرُوجِ الْبَدَلَيْنِ عَنْ الِاسْمِ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، فَإِنَّ الِاسْمَ حِينَئِذٍ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ فَلَا يَكُونُ تَفَاوُتًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَفِي الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لَا يَتَغَيَّرُ فَيَظْهَرَ فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعَ

ص: 31

التَّفَاوُتُ بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ الِاسْمِ فَلَمْ يَكُنْ تَفَاوُتًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يُعْتَبَرُ.

وَلَوْ بَاعَ الْبُسْرَ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبُسْرَ تَمْرٌ، بِخِلَافِ الْكُفُرَّى حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِمَا شَاءَ مِنْ التَّمْرِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْرٍ، فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ لَهُ مِنْ أَوَّلِ مَا تَنْعَقِدُ صُورَتُهُ لَا قَبْلَهُ، وَالْكُفَرَّى عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ، حَتَّى لَوْ بَاعَ التَّمْرَ بِهِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَالسِّمْسِمُ بِالشَّيْرَجِ حَتَّى يَكُونَ الزَّيْتُ وَالشَّيْرَجُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ فَيَكُونَ الدُّهْنُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِالثَّجِيرِ) لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَعْرَى عَنْ الرِّبَا إذْ مَا فِيهِ مِنْ الدُّهْنِ مَوْزُونٌ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا فِيهِ لَوْ كَانَ

وَلَوْ بَاعَ الْبُسْرَ بِالتَّمْرِ) مُتَسَاوِيًا يَجُوزُ (وَمُتَفَاضِلًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبُسْرَ تَمْرٌ بِخِلَافِ الْكُفُرَّى) وَهُوَ بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَقْصُورًا كُمُّ النَّخْلِ وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَنْشَقُّ (حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِمَا شَاءَ مِنْ التَّمْرِ) أَيْ كَيْلًا مِنْ التَّمْرِ بِكَيْلَيْنِ مِنْ الْكُفُرَّى وَقَلْبِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْرٍ (لِأَنَّ) الْكُفُرَّى لَمْ يَنْعَقِدْ بَعْدُ فِي صُورَةِ التَّمْرِ (وَهَذَا الِاسْمُ) أَعْنِي التَّمْرَ لَهُ (مِنْ أَوَّلِ مَا تَنْعَقِدُ صُورَتُهُ لَا قَبْلَهُ) وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَوَرَّدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا لَا يَحْنَثُ فَكَانَ غَيْرَهُ.

فَأَجَابَ بِالْمَنْعِ بَلْ يَحْنَثُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ الْمَسْأَلَةُ مَسْطُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمَذْهَبِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ بِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَكَذَا ادَّعَى أَنَّهُ يَحْنَثُ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا فَأَكَلَ بُسْرًا وَلَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى هَذَا، إذْ يَكْفِيهِ أَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَكَلَامُنَا فِيهِ لُغَةٌ. وَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مُطَالَبُونَ بِتَصْحِيحِ أَنَّ اسْمَ التَّمْرِ يَلْزَمُ الْخَارِجَ مِنْ حِينِ يَنْعَقِدُ إلَى أَنْ يَطِيبَ ثُمَّ يَجِفَّ مِنْ اللُّغَةِ وَلَا يُنْكَرُ صِحَّةُ الْإِطْلَاقِ بِاعْتِبَارِ مَجَازِ الْأَوَّلِ.

وَقَوْلُهُ (وَالْكُفَرَّى عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ إلَى آخِرِهِ) جَوَابُ سُؤَالٍ هُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْكُفُرَّى تَمْرًا يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ إسْلَامُ التَّمْرِ فِيهِ وَشِرَاءُ التَّمْرِ بِهِ نَسِيئَةً فَقَالَ: الْكُفُرَّى عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ تَفَاوُتًا غَيْرَ مُهْدِرٍ فَلَا يَجُوزُ إسْلَامُهُ فِيهِ، وَلَا أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ نَسِيئَةً لِلْجَهَالَةِ فَتَقَعَ الْمُنَازَعَةُ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَالسِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ حَتَّى يَكُونَ الزَّيْتُ وَالشَّيْرَجُ مَعْلُومًا أَنَّهُ أَكْثَرُ مِمَّا فِي الزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ) فَلَوْ جَهِلَ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ أَقَلُّ أَوْ مُسَاوٍ لَا يَجُوزُ، فَالِاحْتِمَالَات أَرْبَعٌ، وَالْجَوَازُ فِي أَحَدِهَا بِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَكْثَرَ كَانَ الْخَارِجُ مِنْهُ بِمِثْلِهِ مِنْ الدُّهْنِ الْمُفْرَدِ (وَالزَّائِدُ) مِنْهُ (بِ) مُقَابَلَةِ (الثَّجِيرِ) وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ رحمه الله: إنَّمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِصُ أَكْثَرَ إذَا كَانَ الثِّقَلُ فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ، أَمَّا إذَا

ص: 32

أَكْثَرَ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ، فَالثَّجِيرُ وَبَعْضُ الدُّهْنِ أَوْ الثَّجِيرُ وَحْدَهُ فَضْلٌ، وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ مَا فِيهِ لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، وَالشُّبْهَةُ فِيهِ كَالْحَقِيقَةِ، وَالْجَوْزُ بِدُهْنِهِ وَاللَّبَنُ بِسَمْنِهِ وَالْعِنَبُ بِعَصِيرِهِ وَالتَّمْرُ بِدِبْسِهِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْقُطْنِ بِغَزْلِهِ، وَالْكِرْبَاسُ بِالْقُطْنِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ بِالْإِجْمَاعِ.

كَانَ لَا قِيمَةَ لَهُ كَمَا فِي الزُّبْدِ بَعْدَ إخْرَاجِ السَّمْنِ مِنْهُ فَيَجُوزُ مَعَ مُسَاوَاةِ الْخَارِجِ لِلسَّمْنِ الْمُفْرَدِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ زُفَرُ: يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالصِّحَّةِ فَلَا يَثْبُتُ الْفَسَادُ بِالشَّكِّ.

وَالْأَصْلُ الصِّحَّةُ. وَقُلْنَا: الْفَسَادُ غَالِبٌ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرَيْ النُّقْصَانِ وَالْمُسَاوَاةِ، وَالصِّحَّةُ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَكْثَرِيَّةِ فَكَانَ هُوَ الظَّاهِرُ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ هَذَا الْبَيْعُ أَصْلًا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ وَقْتَ الْعَقْدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُجَانَسَةَ تَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ فَتَمْنَعُ النَّسِيئَةَ كَمَا فِي الْمُجَانَسَةِ الْعَيْنِيَّةِ، وَذَلِكَ كَالزَّيْتِ مَعَ الزَّيْتُونِ وَالشَّيْرَجِ مَعَ السِّمْسِمِ، وَتَنْتَفِي بِاعْتِبَارِ مَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ فَيَخْتَلِفُ الْجِنْسُ مَعَ اتِّحَادِ الْأَصْلِ حَتَّى يَجُوزَ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا كَدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ مَعَ دُهْنِ الْوَرْدِ أَصْلُهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الزَّيْتُ أَوْ الشَّيْرَجُ فَصَارَا جِنْسَيْنِ بِاخْتِلَافِ مَا أُضِيفَا إلَيْهِ مِنْ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ نَظَرًا إلَى اخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ وَالْفَرْضِ وَلَمْ يُبَلْ بِاتِّحَادِ الْأَصْلِ وَعَلَى هَذَا دُهْنُ الزَّهْرِ فِي دِيَارِنَا وَدُهْنُ الْبَانِ؛ أَصْلُهُمَا اللَّوْزُ يُطَبَّقُ بِالزَّهْرِ وَبِالْخِلَافِ مُدَّةً ثُمَّ يُعْصَرُ اللَّوْزُ فَيَخْرُجَ مِنْهُ دُهْنٌ مُخْتَلِفُ الرَّائِحَةِ فَيَجُوزَ بَيْعُ أَحَدِ الدُّهْنَيْنِ بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا، وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ ضُمَّ إلَى الْأَصْلِ مَا طَيَّبَهُ دُونَ الْآخَرِ جَازَ مُتَفَاضِلًا حَتَّى أَجَازُوا بَيْعَ قَفِيزِ سِمْسِمٍ مُطَيَّبٍ بِقَفِيزَيْنِ غَيْرَ مُطَيَّبٍ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ رَطْلِ لَوْزٍ مُطَبَّقٍ بِرَطْلَيْ لَوْزٍ غَيْرِ مُطَبَّقٍ، وَكَذَا يَجُوزُ بَيْعُ رَطْلِ دُهْنِ لَوْزٍ مُطَبَّقٍ بِزَهْرِ النَّارِنْجِ بِرَطْلَيْ دُهْنِ اللَّوْزِ الْخَالِصِ، وَكَذَا رَطْلُ زَيْتٍ مُطَيَّبٍ بِرَطْلَيْ زَيْتٍ لَمْ يُطَيَّبْ فَجَعَلُوا الرَّائِحَةَ الَّتِي فِيهَا بِإِزَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى الرَّطْلِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يُجِيزُ الدُّهْنَ الْمُطَيَّبَ وَغَيْرَهُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ.

وَأَوْرَدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بَيْعُ السِّمْسِمِ بِدُهْنِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ لِأَنَّ الدُّهْنَ وَزْنِيٌّ وَالسِّمْسِمَ كَيْلِيٌّ. أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ السِّمْسِمِ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنْ الدُّهْنِ كَانَ بَيْعُ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجُوزُ بَيْعُ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ مُتَفَاضِلًا صَرْفًا لِكُلٍّ مِنْ دُهْنِهِ وَثَجِيرِهِ إلَى خِلَافِ جِنْسِهِ. أُجِيبُ بِأَنَّ الصَّرْفَ يَكُونُ عِنْدَ الِانْفِصَالِ صُورَةً كَمَسْأَلَةِ الْإِكْرَارِ وَلَا صُورَةَ هُنَا مُنْفَصِلَةٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْجَوْزُ بِدُهْنِهِ وَاللَّبَنُ بِسَمْنِهِ وَالْعِنَبُ بِعَصِيرِهِ وَالتَّمْرُ بِدِبْسِهِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ) يَعْنِي إنْ كَانَ الدُّهْنُ الْمُفْرَدُ وَالسَّمْنُ وَالدُّبْسُ أَكْثَرَ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْجَوْزِ وَاللَّبَنِ وَالتَّمْرِ جَازَ، وَقَدْ عَلِمْت تَقْيِيدَهُ بِمَا إذَا كَانَ الثُّفْلُ لَهُ قِيمَةٌ وَأَظُنُّ أَنْ لَا قِيمَةَ لِثُفْلِ الْجَوْزِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِيعَ بِقِشْرِهِ فَيُوقَدَ، وَكَذَا الْعِنَبُ لَا قِيمَةَ لِثُفْلِهِ فَلَا تُشْتَرَطُ زِيَادَةُ الْعَصِيرِ عَلَى مَا يَخْرُجُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (وَاخْتَلَفُوا فِي الْقُطْنِ بِغَزْلِهِ) فَبَعْضُهُمْ لَا يُجَوِّزُ مُتَسَاوِيًا لِأَنَّ الْقُطْنَ يَنْقُصُ بِالْغَزْلِ فَهُوَ كَالْحِنْطَةِ

ص: 33

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا) وَمُرَادُهُ لَحْمُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ؛ فَأَمَّا الْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا الْمَعْزُ مَعَ الضَّأْنِ وَكَذَا مَعَ الْعِرَابِ الْبَخَاتِيِّ.

قَالَ (وَكَذَلِكَ أَلْبَانُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) وَعَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ.

وَلَنَا أَنَّ الْأُصُولَ مُخْتَلِفَةٌ حَتَّى لَا يَكْمُلَ نِصَابُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ،

مَعَ الدَّقِيقِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَا يَجُوزُ إلَّا مُتَسَاوِيًا لِأَنَّ أَصْلَهُمَا وَاحِدٌ وَكِلَاهُمَا مَوْزُونٌ، وَإِنْ خَرَجَا أَوْ أَحَدُهُمَا عَنْ الْوَزْنِ جَازَ مُتَفَاضِلًا. وَبَيْعُ الْغَزْلِ بِالثَّوْبِ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ بِالْإِجْمَاعِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ بَيْعَ الْقُطْنِ بِالثَّوْبِ لَا يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا، وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وَهَكَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْمَحْلُوجِ بِالْقُطْنِ وَالْغَزْلِ بِالْقُطْنِ إذَا كَانَ يُعْلَمُ أَنَّ الْخَالِصَ أَكْثَرُ مِمَّا فِي الْآخَرِ وَهَذَا فِي الْمَحْلُوجِ مَعَ الْقُطْنِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْفَاضِلَ بِإِزَاءِ حَبِّ الْقُطْنِ وَهُوَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَقَدْ يُعْلَفُ لِبَعْضِ الدَّوَابِّ. وَأَمَّا فِي الْغَزْلِ فَكَأَنَّهُ لِيَكُونَ الْفَاضِلُ مِنْ الْقُطْنِ الْمُفْرَدِ بِإِزَاءِ صَنْعَةِ الْغَزْلِ، فَنَقْلُ الْإِجْمَاعِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْأَقْوَالِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهَا دُونَ الرِّوَايَاتِ

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ اللُّحُومِ) جَمْعُ لَحْمٍ (الْمُخْتَلِفَةِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَمُرَادُهُ لَحْمُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ لِاخْتِلَافِ أُصُولِهَا وَلَمْ يَحْدُثُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهَا زِيَادَةٌ تُصَيِّرُهُ جِنْسَيْنِ (فَأَمَّا الْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ) فَ (جِنْسٌ وَاحِدٌ) لَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ الْبَقَرِ بِلَحْمِ الْجَامُوسِ مُتَفَاضِلًا (وَكَذَا الْمَعْزُ مَعَ الضَّأْنِ وَالْعِرَابُ مَعَ الْبَخَاتِي) لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مَعَ الْآخَرِ مُتَفَاضِلًا لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُ لَحْمِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ الطُّيُورِ كَالسَّمَّانِ مَثَلًا وَالْعَصَافِيرِ مُتَفَاضِلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ مَالَ الرِّبَا إذْ لَا يُوزَنُ لَحْمُ الطَّيْرِ وَلَا يُكَالُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ لُحُومِ الطَّيْرِ الدَّجَاجُ وَالْإِوَزُّ لِأَنَّهُ يُوزَنُ فِي عَادَةِ دِيَارِ مِصْرَ بِعَظْمِهِ.

وَقَوْلُهُ وَمُرَادُهُ إلَى آخِرِهِ يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ اللُّحُومَ كُلَّهَا ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ: الطُّيُورُ جِنْسٌ، وَالدَّوَابُّ أَهْلِيُّهَا وَوَحْشِيُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَالْبَحْرِيَّاتُ (وَكَذَا أَلْبَانُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِاخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ (وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ اللُّحُومَ وَالْأَلْبَانَ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ) مِنْ الْكُلِّ وَهُوَ التَّغَذِّي، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ الْمُخْتَارِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ مِثْلُ قَوْلِنَا، ثُمَّ دُفِعَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ أُصُولَهَا (مُخْتَلِفَةُ) الْأَجْنَاسِ

ص: 34

فَكَذَا أَجْزَاؤُهَا إذَا لَمْ تَتَبَدَّلْ بِالصَّنْعَةِ.

قَالَ (وَكَذَا خَلُّ الدَّقَلِ بِخَلِّ الْعِنَبِ) لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْلَيْهِمَا، فَكَذَا بَيْنَ مَاءَيْهِمَا وَلِهَذَا كَانَ عَصِيرَاهُمَا جِنْسَيْنِ.

وَشَعْرُ الْمَعْزِ وَصُوفُ الْغَنَمِ جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ.

فَكَذَا أَجْزَاؤُهَا إذَا لَمْ تَتَبَدَّلْ بِالصَّنْعَةِ) فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تُعَدُّ أَجْنَاسًا، وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ الْخُبْزِ بِالدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ مُتَفَاضِلًا (وَكَذَا خَلُّ الدَّقَلِ بِخَلِّ الْعِنَبِ) مُتَفَاضِلًا وَكَذَا عَصِيرُهُمَا (لِاخْتِلَافِ أَصْلَيْهِمَا) جِنْسًا، وَتَخْصِيصُ الدَّقَلِ وَهُوَ رَدِيءُ التَّمْرِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ، لِأَنَّ الدَّقَلَ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي الْعَادَةِ يُتَّخَذُ خَلًّا (وَ) أَمَّا (شَعْرُ الْمَعْزِ وَصُوفُ الْغَنَمِ) فَ (جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ) بِخِلَافِ لَحْمِهِمَا وَلَبَنِهِمَا جُعِلَ جِنْسًا وَاحِدًا كَمَا ذَكَرْنَا لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ مَعَ عَدَمِ الِاخْتِلَافِ، فَإِنَّ مَا يُقْصَدُ بِالشَّعْرِ مِنْ الْآلَاتِ غَيْرُ مَا يُقْصَدُ بِالصُّوفِ فَصَارَ مَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْأُمُورِ الْمُتَفَرِّعَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: اخْتِلَافُ الْأُصُولِ، وَاخْتِلَافُ الْمَقَاصِدِ، وَزِيَادَةُ الصَّنْعَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: بِالنَّظَرِ إلَى اتِّحَادِ الْأَصْلِ فِي الصُّوفِ وَالشَّعْرِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا مُتَفَاضِلًا وَزْنًا، وَبِالنَّظَرِ إلَى الْمَقَاصِدِ اُخْتُلِفَ فَيَجُوزُ مُتَفَاضِلًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ مُتَفَاضِلًا تَغْلِيبًا لِلْحُرْمَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ تَعَارُضِ دَلِيلِهِمَا وَتَسَاوِيهِمَا فَيُرَجَّحُ الْمُحَرَّمُ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُقَاوِمُ الصُّورَةُ الْمَعْنَى، وَأَلْزَمَ عَلَى تَغْلِيبِ جَانِبِ الْمَعْنَى كَوْنَ أَلْبَانِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ جِنْسًا وَاحِدًا لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ. وَأُجِيبُ بِمَنْعِ اتِّحَادِهِ فَإِنَّ لَبَنَ الْبَقَرِ يُقْصَدُ لِلسَّمْنِ وَلَبَنَ الْإِبِلِ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِكَ، وَكَذَا أَغْرَاضُ الْآكِلِ تَتَفَاوَتُ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَطِيبُ لَهُ الْبَقَرُ وَيَتَضَرَّرُ بِهِ دُونَ الضَّأْنِ وَكَذَا فِي الْإِبِلِ.

وَمِنْ الِاخْتِلَافِ بِالصَّنْعَةِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ جَوَازِ بَيْعِ إنَاءَيْ صُفْرٍ أَوْ حَدِيدٍ أَحَدُهُمَا أَثْقَلُ مِنْ الْآخَرِ، وَكَذَا قَمْقَمَةٌ بِقُمْقُمَتَيْنِ وَإِبْرَةٌ بِإِبْرَتَيْنِ وَسَيْفٌ بِسَيْفَيْنِ وَدَوَاةٌ بِدَوَاتَيْنِ مَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَيَمْتَنِعُ

ص: 35

قَالَ (وَكَذَا شَحْمُ الْبَطْنِ بِالْأَلْيَةِ أَوْ بِاللَّحْمِ) لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ لِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ مُتَفَاضِلًا) لِأَنَّ الْخُبْزَ صَارَ عَدَدِيًّا أَوْ مَوْزُونًا فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَكِيلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْحِنْطَةُ مَكِيلَةٌ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ،

التَّفَاضُلُ وَإِنْ اصْطَلَحُوا بَعْدَ الصِّيَاغَةِ عَلَى تَرْكِ الْوَزْنِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْعَدِّ وَالصُّورَةِ

(وَيَجُوزُ بَيْعُ شَحْمِ الْبَطْنِ بِالْأَلْيَةِ أَوْ بِاللَّحْمِ) وَاللَّحْمِ بِالْأَلْيَةِ مُتَفَاضِلًا (لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ لِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا) وَأَمَّا شَحْمُ الْجَنْبِ وَنَحْوِهِ فَتَابِعُ اللَّحْمِ وَهُوَ مَعَ شَحْمِ الْبَطْنِ وَالْأَلْيَةِ جِنْسَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ نَسِيئَةً لِأَنَّ الْوَزْنَ يَجْمَعُهُمَا، وَأَمَّا الرُّءُوسُ وَالْأَكَارِعُ وَالْجُلُودُ فَيَجُوزُ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَمَا كَانَ لَا نَسِيئَةً لِأَنَّهُ لَمْ يُضْبَطْ بِالْوَصْفِ حَتَّى إنَّ السَّلَمَ فِيهِ لَا يَجُوزُ

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ مُتَفَاضِلًا) يَدًا بِيَدٍ قِيلَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ (لِأَنَّ الْخُبْزَ صَارَ) إمَّا (عَدَدِيًّا) فِي عُرْفٍ (أَوْ مَوْزُونًا) فِي عُرْفٍ آخَرَ (فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَكِيلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْحِنْطَةُ مَكِيلَةٌ) فَبِفَرْضِ كَوْنِ الْجِنْسِيَّةِ جَمَعَتْهُمَا اخْتَلَفَ الْقَدْرُ فَجَازَ التَّفَاضُلُ، وَالدَّقِيقُ إمَّا كَيْلِيٌّ فَكَذَلِكَ أَوْ وَزْنِيٌّ عَلَى مَا عَلَيْهِ عُرْفُ بِلَادِنَا، وَمَنْ جَعَلَهُ وَزْنِيًّا لَمْ يُثْبِتْ الْجِنْسِيَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُبْزِ فَيَجُوزَ التَّفَاضُلُ أَيْضًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لِنَفْيِ الْجَوَازِ بِطَرِيقِ التَّأْكِيدِ لِلنَّكِرَةِ فِي النَّفْيِ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ

ص: 36

وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ، وَهَذَا إذَا كَانَا نَقْدَيْنِ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ نَسِيئَةً جَازَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الْخُبْزُ نَسِيئَةً يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَكَذَا السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ جَائِزٌ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا خَيْرَ فِي اسْتِقْرَاضِهِ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِالْخُبْزِ وَالْخَبَّازِ وَالتَّنُّورِ وَالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَجُوزُ بِهِمَا لِلتَّعَامُلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَجُوزُ وَزْنًا وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا لِلتَّفَاوُتِ فِي آحَادِهِ.

وَأَحْمَدُ لِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ، إذْ فِي الْخُبْزِ أَجْزَاءُ الدَّقِيقِ، أَوْ أَنَّ الدَّقِيقَ بِعَرَضٍ أَنْ يَصِيرَ خُبْزًا فَيُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ وَلَا يُدْرَى ذَلِكَ.

(وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ) وَهُوَ الْجَوَازُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا كَيْفَمَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ (وَهَذَا إذَا كَانَا نَقْدَيْنِ) فَأَمَّا بَيْعُهُمَا نَسِيئَةً (فَإِنْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ نَسِيئَةً) أَوْ الدَّقِيقُ بِأَنْ أَسْلَمَ الْخُبْزَ فِيهِمَا فَدَفَعَهُ نَقْدًا (جَازَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الْخُبْزُ) نَسِيئَةً بِأَنْ أُسْلِمَ حِنْطَةٌ أَوْ دَقِيقًا فِي خُبْزٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى حَدٍّ لَهُ فَإِنَّهُ يَتَفَاوَتُ فِي الصَّنْعَةِ عَجْنًا وَخَبْزًا، وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ عِنْدَهُ وَيَكُونُ مِنْهُ الثَّقِيلُ وَالْخَفِيفُ (وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ وَزْنِيٌّ) أَوْ يَجُوزُ بِشَرْطِ الْوَزْنِ إنْ كَانَ الْعُرْفُ فِيهِ الْعَدَدَ وَالنُّضْجَ وَحِسَّ الْعَجْنِ وَصِفَاتٍ مَضْبُوطٍ نَوْعُهُمَا وَخُصُوصُ ذَلِكَ الْقَدْرِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعَجْنِ وَالنَّارِ مُهْدَرٌ.

وَاخْتَارَهُ الْمَشَايِخُ لِلْفَتْوَى إذَا أَتَى بِشَرَائِطِهِ

لِحَاجَةِ النَّاسِ

، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُحْتَاطَ وَقْتَ الْقَبْضِ حَتَّى يُقْبَضَ مِنْ الْجِنْسِ الَّذِي سُمِّيَ حَتَّى لَا يَصِيرَ اسْتِبْدَالًا بِالْمُسَلَّمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ إذَا قُبِضَ مُتَجَوِّزًا مَا هُوَ دُونَ مَا سُمِّيَ صَنْعَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالِاحْتِيَاطُ فِي مَنْعِهِ لِأَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَقَعَ الْأَخْذُ مِنْ النَّوْعِ الْمُسَمَّى خُصُوصًا فِيمَنْ يَقْبِضُ الْمُسَلَّمَ فِيهِ فِي أَيَّامٍ مُتَعَدِّدَةٍ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا كَذَا رَغِيفًا فَقَلَّ أَنْ لَا يَصِيرَ مُسْتَبْدَلًا (وَلَا خَيْرَ فِي اسْتِقْرَاضِ الْخُبْزِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِالْخُبْزِ وَالْخَبَّازِ وَالتَّنُّورِ) بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ جَدِيدًا أَوْ عَتِيقًا (وَالتَّقْدِيمُ) فِي التَّنُّورِ (وَالتَّأْخِيرُ) عَنْهُ وَيَتَفَاوَتُ جَوْدَةُ خُبْزِهِ بِذَلِكَ، وَإِذَا مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ السَّلَمَ فِيهِ وَبَابُ السَّلَمِ أَوْسَعُ حَتَّى جَازَ فِي الثِّيَابِ وَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا فَهُوَ لِاسْتِقْرَاضِهِ أَمْنَعُ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَجُوزُ بِهِمَا) أَيْ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا (لِلتَّعَامُلِ) بَيْنَ الْجِيرَانِ بِذَلِكَ، وَالْحَاجَةُ قَدْ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ بَيْنَ الْجِيرَانِ.

(وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ وَزْنًا لَا عَدَدًا لِلتَّفَاوُتِ فِي آحَادِهِ) وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: قَدْ أَهْدَرَ الْجِيرَانُ تَفَاوُتَهُ وَبَيْنَهُمْ يَكُونُ اقْتِرَاضُهُ غَالِبًا، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ، وَجَعَلَ الْمُتَأَخِّرُونَ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَأَنَا أَرَى أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ أَحْسَنُ

ص: 37

قَالَ (وَلَا رِبَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ) لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا فِي يَدِهِ مِلْكٌ لِمَوْلَاهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَهَذَا إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ لَيْسَ مِلْكَ الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ فَيَتَحَقَّقَ الرِّبَا كَمَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُكَاتَبِهِ.

قَالَ (وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

لَهُمَا الِاعْتِبَارُ بِالْمُسْتَأْمَنِ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا.

وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ»

قَوْلُهُ وَلَا رِبَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ) أَيْ الْمَأْذُونِ غَيْرِ الْمَدْيُونِ (لِأَنَّهُ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا) لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْبَيْعِ وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ (فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ) أَيْ الْبَيْعُ بِطَرِيقِ الرِّبَا (أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) فَلِعَدَمِ مِلْكِهِ لِمَا فِي يَدِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا بَيْنَهُمَا (وَعِنْدَهُمَا) إنْ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَمَّا فِي يَدِهِ لَكِنْ (تَعَلَّقَ بِمَا) فِي يَدِهِ (حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَصَارَ) الْمَوْلَى (كَالْأَجْنَبِيِّ) عَنْهُ (فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا) بَيْنَهُمَا (كَمَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُكَاتَبِهِ) وَفِي الْمَبْسُوطِ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا، وَلَكِنْ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ كَسْبَهُ مَشْغُولٌ بِحَقِّ غُرَمَائِهِ فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ دَيْنِهِ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ لَا بِجِهَةِ الْبَيْعِ سَوَاءٌ كَانَ اشْتَرَى مِنْهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ لَا، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْحُرِّ يَدًا وَتَصَرُّفًا فِي كَسْبِهِ فَيَجْرِي الرِّبَا بَيْنَهُمَا

(قَوْلُهُ وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ) وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الرِّبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ الْأَصْلِيِّ وَالْمُسْلِمِ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا؛ فَلَوْ بَاعَ مُسْلِمٌ دَخَلَ إلَيْهِمْ مُسْتَأْمَنًا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ حَلَّ، وَكَذَا إذَا بَاعَ مِنْهُمْ مَيْتَةً أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ قَامَرَهُمْ وَأَخَذَ الْمَالَ يَحِلُّ، كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَمَنْ ذَكَرْنَا، (لَهُمْ) إطْلَاقُ النُّصُوصِ فَإِنَّهَا لَمْ تُقَيِّدْ الْمَنْعَ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْمُسْتَأْمِنِ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا، فَإِنَّ الرِّبَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَهُ فَكَذَا الدَّاخِلُ مِنَّا إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ، وَنَقَلَ مَا رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ

ص: 38

وَلِأَنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالًا مُبَاحًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَدْرٌ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمِنِ مِنْهُمْ لِأَنَّ مَالَهُ صَارَ مَحْظُورًا بِعَقْدِ الْأَمَانِ.

ذَلِكَ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا لِأَنَّ بَعْضَ الْمَشْيَخَةِ حَدَّثَنَا عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «لَا رِبَا بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ» أَظُنُّهُ قَالَ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، أَسْنَدَهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ.

قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: هَذَا مُرْسَلٌ، وَمَكْحُولٌ ثِقَةٌ، وَالْمُرْسَلُ مِنْ مِثْلِهِ مَقْبُولٌ، «وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {الم} {غُلِبَتِ الرُّومُ} الْآيَةَ قَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: تَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ؟ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ: هَلْ لَك أَنْ تُخَاطِرَنَا، فَخَاطَرَهُمْ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبْ إلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ فَفَعَلَ، وَغَلَبَتْ الرُّومُ فَارِسًا فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ خَطَرَهُ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم»، وَهُوَ الْقِمَارُ بِعَيْنِهِ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَمُشْرِكِي مَكَّةَ كَانَتْ مَكَّةُ دَارَ شِرْكٍ (وَلِأَنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ) وَإِطْلَاقُ النُّصُوصِ فِي مَالٍ مَحْظُورٍ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ بِطَرِيقِ الْغَدْرِ (فَإِذَا لَمْ يَأْخُذْ غَدْرًا فَبِأَيِّ طَرِيقٍ يَأْخُذُهُ حَلَّ) بَعْدَ كَوْنِهِ بِرِضًا (بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ مِنْهُمْ) عِنْدَنَا (لِأَنَّ مَالَهُ صَارَ مَحْظُورًا بِالْأَمَانِ) فَإِذَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ يَكُونُ غَدْرًا، وَبِخِلَافِ الزِّنَا إنْ قِيسَ عَلَيْهِ الرِّبَا لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا يُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ بَلْ بِالطَّرِيقِ الْخَاصِّ، أَمَّا الْمَالُ فَيُبَاحُ بِطِيبِ النَّفْسِ بِهِ وَإِبَاحَتِهِ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ لِمُعَارَضَةِ إطْلَاقِ النُّصُوصِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ حُجِّيَّةِ حَدِيثِ مَكْحُولٍ.

وَقَدْ يُقَالُ: لَوْ سُلِّمَ حُجِّيَّتُهُ فَالزِّيَادَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا تَجُوزُ، وَإِثْبَاتُ قَيْدٍ زَائِدٍ عَلَى الْمُطْلَقِ مِنْ نَحْوِ {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} وَنَحْوِهِ هُوَ الزِّيَادَةُ فَلَا يَجُوزُ.

وَيُدْفَعُ بِالْقَطْعِ بِأَنَّ الْمُطْلَقَاتِ مُرَادٌ بِمَحَلِّهَا الْمَالُ الْمَحْظُورُ بِحَقٍّ لِمَالِكِهِ، وَمَالُ الْحَرْبِيِّ لَيْسَ مَحْظُورًا إلَّا لِتَوَقِّي الْغَدْرِ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ فِي التَّحْقِيقِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ خَبَرُ مَكْحُولٍ أَجَازَهُ النَّظَرُ الْمَذْكُورُ، أَعْنِي كَوْنَ مَالِهِ مُبَاحًا إلَّا لِعَارِضِ لُزُومِ الْغَدْرِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي حِلَّ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ يَنَالُهَا الْمُسْلِمُ، وَالرِّبَا أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ إذْ يَشْمَلُ مَا إذَا كَانَ الدِّرْهَمَانِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِ وَمِنْ جِهَةِ الْكَافِرِ، وَجَوَابُ الْمَسْأَلَةِ بِالْحِلِّ عَامٌّ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَكَذَا الْقِمَارُ قَدْ يُفْضِي إلَى أَنْ يَكُونَ مَالُ الْخَطَرِ لِلْكَافِرِ بِأَنْ يَكُونَ الْغَلَبُ لَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ تُفِيدُ نَيْلَ الْمُسْلِمِ الزِّيَادَةَ، وَقَدْ الْتَزَمَ الْأَصْحَابُ فِي الدَّرْسِ أَنَّ مُرَادَهُمْ مِنْ حِلِّ الرِّبَا وَالْقِمَارِ مَا إذَا حَصَلَتْ الزِّيَادَةُ لِلْمُسْلِمِ نَظَرًا إلَى الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَ إطْلَاقُ الْجَوَابِ خِلَافَهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 39

(بَابُ الْحُقُوقِ)

(وَمَنْ اشْتَرَى مَنْزِلًا فَوْقَهُ مَنْزِلٌ فَلَيْسَ لَهُ الْأَعْلَى إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ أَوْ بِمَرَافِقِهِ أَوْ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهِ أَوْ مِنْهُ. وَمَنْ اشْتَرَى بَيْتًا فَوْقَهُ بَيْتٌ بِكُلِّ حَقٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَعْلَى، وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا بِحُدُودِهَا فَلَهُ الْعُلُوُّ وَالْكَنِيفُ) جَمَعَ بَيْنَ الْمَنْزِلِ وَالْبَيْتِ وَالدَّارِ، فَاسْمُ الدَّارِ يَنْتَظِمُ الْعُلُوَّ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحُدُودُ، وَالْعُلُوُّ مِنْ تَوَابِعِ الْأَصْلِ وَأَجْزَائِهِ فَيَدْخُلَ فِيهِ. وَالْبَيْتُ اسْمٌ لِمَا يُبَاتُ فِيهِ، وَالْعُلُوُّ مِثْلُهُ، وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِمِثْلِهِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَالْمَنْزِلُ بَيْنَ الدَّارِ وَالْبَيْتِ لِأَنَّهُ يَتَأَتَّى فِيهِ مَرَافِقُ السُّكْنَى مَعَ ضَرْبِ قُصُورٍ إذْ لَا يَكُونُ فِيهِ مَنْزِلُ الدَّوَابِّ، فَلِشَبَهِهِ بِالدَّارِ يَدْخُلُ الْعُلُوُّ فِيهِ تَبَعًا عِنْدَ ذِكْرِ التَّوَابِعِ، وَلِشَبَهِهِ بِالْبَيْتِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ بِدُونِهِ.

(بَابُ الْحُقُوقِ)

مَحِلُّ هَذَا الْبَابِ عَقِيبَ كِتَابِ الْبُيُوعِ قَبْلَ الْخِيَارِ (قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى مَنْزِلًا فَوْقَهُ مَنْزِلٌ) حَاصِلُ مَا هُنَا أَنَّ الْأَسْمَاءَ ثَلَاثَةٌ: الْبَيْتُ، وَالْمَنْزِلُ، وَالدَّارُ.

فَالْبَيْتُ أَصْغَرُهَا وَهُوَ اسْمٌ لِمُسَقَّفٍ وَاحِدٍ جُعِلَ لِيُبَاتَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى هَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ لَهُ دِهْلِيزًا.

وَالْجَوَابُ فِيهِ أَنَّ عُلُوَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهِ: يَعْنِي إذَا بَاعَ الْبَيْتَ لَا يَدْخُلُ الْعُلُوُّ.

ص: 40

وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَدْخُلُ الْعُلُوُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَسْكَنٍ يُسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ خَانَهُ وَلَا يَخْلُو عَنْ عُلُوٍّ، وَكَمَا يَدْخُلُ الْعُلُوُّ فِي اسْمِ الدَّارِ يَدْخُلُ الْكَنِيفُ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَلَا تَدْخُلُ الظُّلَّةُ إلَّا بِذِكْرِ مَا ذَكَرْنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله

وَإِنْ قَالَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ أَوْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ الْعُلُوِّ صَرِيحًا لِأَنَّ الْعُلُوَّ مِثْلُهُ فَإِنَّهُ مُسَقَّفٌ يُبَاتُ فِيهِ وَالشَّيْءُ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ بَلْ مَا هُوَ أَدْنَى مِنْهُ.

وَأَوْرَدَ: الْمُسْتَعِيرُ لَهُ أَنْ يُعِيرَ مَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ وَالْمُكَاتِبِ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِطَرِيقِ الِاسْتِتْبَاعِ، بَلْ لَمَّا مَلَكَ الْمُسْتَعِيرُ الْمَنْفَعَةَ بِغَيْرِ بَدَلٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْلِكَ مَا مَلَكَ كَذَلِكَ، وَالْمُكَاتِبُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ لَمَّا صَارَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ كِتَابَتَهُ عَبْدَهُ مِنْ أَكْسَابِهِ.

وَالْمَنْزِلُ فَوْقَ الْبَيْتِ دُونَ الدَّارِ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَكَانٍ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ يَنْزِلُ فِيهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلَهُ مَطْبَخٌ وَمَوْضِعُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ فَيَتَأَتَّى فِيهِ السُّكْنَى بِالْعِيَالِ مَعَ ضَرْبِ قُصُورٍ، إذْ لَيْسَ لَهُ صَحْنٌ غَيْرُ مُسَقَّفٍ وَلَا إصْطَبْلُ الدَّوَابِّ فَلِكَوْنِ الْبَيْتِ دُونَهُ صَلَحَ أَنْ يَسْتَتْبِعَهُ فَلِشَبَهِهِ بِالدَّارِ يَدْخُلُ الْعُلُوُّ فِيهِ تَبَعًا عِنْدَ ذِكْرِ التَّوَابِعِ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ لَهُ فِيهِ أَوْ مِنْهُ، أَوْ بِكُلِّ حَقٍّ لَهُ أَوْ بِمَرَافِقِهِ، وَلِشَبَهِهِ بِالْبَيْتِ لَا يَدْخُلُ بِلَا ذِكْرِ زِيَادَةٍ.

وَالدَّارُ اسْمٌ لِسَاحَةٍ أُدِيرَ عَلَيْهَا الْحُدُودُ وَتَشْتَمِلُ عَلَى بُيُوتٍ وَإِصْطَبْلٍ وَصَحْنٍ غَيْرِ مُسَقَّفٍ وَعُلُوٍّ فَيُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ الصَّحْنِ لِلِاسْتِرْوَاحِ وَمَنَافِعِ الْأَبْنِيَةِ لِلْإِسْكَانِ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْأَبْنِيَةِ بِالتُّرَابِ وَالْمَاءِ أَوْ بِالْخِيَامِ وَالْقِبَابِ، وَالْعُلُوُّ مِنْ تَوَابِعِ الْأَصْلِ وَأَجْزَائِهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ بِلَا ذِكْرِ زِيَادَةٍ عَلَى شِرَاءِ الدَّارِ

، وَكَذَا يَدْخُلُ الْكَنِيفُ الشَّارِعُ.

وَالْكَنِيفُ هُوَ الْمُسْتَرَاحُ، أَمَّا الظُّلَّةُ وَهُوَ السَّابَاطُ الَّذِي يَكُونُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الدَّارِ وَالْآخَرُ عَلَى دَارٍ أُخْرَى أَوْ عَلَى أُسْطُوَانَاتٍ فِي السِّكَّةِ وَمِفْتَحُهَا فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الدَّارِ مَا لَمْ يَقُلْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ بِكُلِّ

ص: 41

لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَوَاءِ الطَّرِيقِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ. وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ مِفْتَحُهُ فِي الدَّارِ يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِهِ فَشَابَهَ الْكَنِيفَ.

قَالَ: وَمَنْ اشْتَرَى بَيْتًا فِي دَارٍ أَوْ مَنْزِلًا أَوْ مَسْكَنًا لَمْ يَكُنْ لَهُ الطَّرِيقُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ أَوْ بِمَرَافِقِهِ أَوْ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، (وَكَذَا الشُّرْبُ وَالْمَسِيلُ) لِأَنَّهُ خَارِجُ الْحُدُودِ إلَّا أَنَّهُ مِنْ التَّوَابِعِ فَيَدْخُلَ بِذِكْرِ التَّوَابِعِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ، إذْ الْمُسْتَأْجِرُ لَا يَشْتَرِي الطَّرِيقَ عَادَةً وَلَا يَسْتَأْجِرُهُ فَيَدْخُلَ تَحْصِيلًا لِلْفَائِدَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ، أَمَّا الِانْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ مُمْكِنٌ بِدُونِهِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ عَادَةً يَشْتَرِيهِ، وَقَدْ يَتَّجِرُ فِيهِ فَيَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَحَصَلَتْ الْفَائِدَةُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

حَقٍّ هُوَ لَهَا أَوْ مَرَافِقهَا أَوْ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَهُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا (لِأَنَّهُ) أَيْ الظُّلَّةُ بِتَأْوِيلِ السَّابَاطِ (مَبْنِيٌّ عَلَى هَوَاءِ الطَّرِيقِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ. وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ مِفْتَحُهُ فِي الدَّارِ يَدْخُلُ)

بِلَا ذِكْرِ زِيَادَةٍ، وَلِأَنَّ مِفْتَحَهَا إذَا كَانَ فِي الدَّارِ كَانَتْ تَبَعًا لِلدَّارِ كَالْكَنِيفِ الشَّارِعِ قَالُوا هَذَا فِي عُرْفِهِمْ: أَيْ عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ (أَمَّا فِي عُرْفِنَا يَدْخُلُ الْعُلُوُّ) مَا ذُكِرَ فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ بَيْتًا فَوْقَهُ عُلُوٌّ أَوْ مَنْزِلًا كَذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ مَسْكَنٍ يُسَمَّى خَانَهُ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ وَلَهُ عُلُوٌّ سَوَاءً كَانَ صَغِيرًا كَالْبَيْتِ أَوْ غَيْرِهِ إلَّا دَارَ السُّلْطَانِ تُسَمَّى سُرَايَ

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى بَيْتًا فِي دَارٍ أَوْ مَنْزِلًا) فِيهَا (أَوْ مَسْكَنًا) فِيهَا (لَمْ يَكُنْ لَهُ الطَّرِيقُ) فِي هَذِهِ الدَّارِ إلَى ذَلِكَ الْمُشْتَرَى (إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِكُلِّ حَقٍّ أَوْ بِمَرَافِقِهِ أَوْ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَكَذَا الشُّرْبُ وَالْمَسِيلُ لِأَنَّهُ خَارِجُ الْحُدُودِ إلَّا أَنَّهُ مِنْ التَّوَابِعِ فَيَدْخُلَ بِذِكْرِهَا) وَفِي الْمُحِيطِ: الْمُرَادُ الطَّرِيقُ الْخَاصُّ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ، فَأَمَّا طَرِيقُهَا إلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وَإِلَى طَرِيقٍ عَامٍّ فَيَدْخُلُ، وَكَذَا مَا كَانَ لَهُ مِنْ حَقِّ تَسْيِيلِ الْمَاءِ وَإِلْقَاءِ الثَّلْجِ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ خَاصَّةً.

وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: إذَا كَانَ طَرِيقُ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ أَوْ مَسِيلُ مَائِهَا فِي دَارٍ أُخْرَى لَا يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَلَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، إلَّا أَنَّ تَعْلِيلَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ يَقْتَضِي أَنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي هَذِهِ الدَّارُ يَدْخُلُ وَهُوَ غَيْرُ مَا فِي الْكِتَابِ.

فَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَدْخُلُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَلَمْ يَشْتَرِ جَمِيعَ هَذِهِ الدَّارِ إنَّمَا اشْتَرَى شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْهَا فَلَا يَدْخُلُ مِلْكُ الْبَائِعِ وَمِلْكُ الْأَجْنَبِيِّ إلَّا بِذِكْرِهِ.

ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ لَيْسَ لِلدَّارِ الْمَبِيعَةِ طَرِيقٌ فِي دَارٍ أُخْرَى فَالْمُشْتَرِي لَا يَسْتَحِقُّ الطَّرِيقَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ.

وَكَذَا لَوْ كَانَتْ جُذُوعُ دَارٍ أُخْرَى عَلَى الدَّارِ الْمَبِيعَةِ، فَإِنْ كَانَتْ لِلْبَائِعِ يُؤْمَرُ بِرَفْعِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ، وَكَذَا لَوْ ظَهَرَ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ طَرِيقٌ لِدَارٍ أُخْرَى أَوْ سَيْلُ مَاءٍ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الدَّارُ لِلْبَائِعِ فَلَا طَرِيقَ لَهُ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ.

وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الطَّرِيقُ: يَعْنِي فِي الْإِجَارَةِ يَدْخُلُ الطَّرِيقُ وَالشُّرْبُ وَالْمَسِيلُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الِانْتِفَاعُ وَلَا انْتِفَاعَ بِغَيْرِ دُخُولِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَالْبَيْعُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا الِانْتِفَاعُ بِعَيْنِهَا عَيْنًا، بَلْ إمَّا كَذَلِكَ أَوْ لِيَتَّجِرَ فِيهَا أَوْ يَأْخُذَ نَقْضَهَا فَلَمْ تَتَعَيَّنْ فَائِدَةٌ لِلْبَيْعِ فَلَا يَلْزَمُ، وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ الْجَحْشِ كَمَا وُلِدَ وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ فِي الْحَالِ، وَكَذَا الْأَرْضُ السَّبِخَةُ، وَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ ذَلِكَ.

وَفِي الْكَافِي: وَلِهَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ عُلُوًّا وَاسْتَثْنَى الطَّرِيقَ

ص: 42

(بَابُ الِاسْتِحْقَاقِ)

فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى عُلُوًّا وَاسْتَثْنَى الطَّرِيقَ يَصِحُّ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْعُلُوُّ ثُمَّ أُجِيزَ الْبَيْعُ صَحَّ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالِاسْتِحْقَاقِ لَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبُيُوعِ الْمَاضِيَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ سَاحَةِ الْعُلُوِّ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ بِمُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ، وَالْمَبِيعُ الْبِنَاءُ لَا السَّاحَةُ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْهَوَاءِ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ يُشْكِلُ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَفِيهَا صِفَةٌ فِيهَا بَيْتٌ وَبَابُهُ فِي الصِّفَةِ وَمَسِيلُ مَاءِ ظَهَرَ الْبَيْتِ عَلَى ظَهْرِ الصِّفَةِ فَاقْتَسَمَا فَأَصَابَ الصِّفَةَ أَحَدُهُمَا وَقِطْعَةً مِنْ السَّاحَةِ لَمْ يَذْكُرُوا طَرِيقًا وَلَا مَسِيلًا وَصَاحِبُ الْبَيْتِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْتَحَ بَابَهُ فِيمَا أَصَابَهُ مِنْ السَّاحَةِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَسِيلَ مَاءَهُ فِي ذَلِكَ فَالْقِسْمَةُ فَاسِدَةٌ، فَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْتُمْ فِي الْإِجَارَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ الطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ الْحُقُوقُ تَحَرِّيًا لِجَوَازِ الْقِسْمَةِ كَمَا أَدْخَلْتُمُوهَا تَحَرِّيًا لِجَوَازِ الْإِجَارَةِ.

أُجِيبُ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ مَوْضِعَ الشُّرْبِ لَيْسَ مِمَّا تَنَاوَلَتْهُ الْإِجَارَةُ، وَإِنَّمَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى الِانْتِفَاعِ، وَالْآجِرُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأُجْرَةَ إذَا تَمَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ؛ فَفِي إدْخَالِ الشُّرْبِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمَا هَذَا بِالْأُجْرَةِ وَهَذَا بِالِانْتِفَاعِ، أَمَّا هُنَا فَمَوْضِعُ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ دَاخِلٌ فِي الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُمَا كَانَا دَاخِلَيْنِ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ، فَمُوجِبُ الْقِسْمَةِ اخْتِصَاصُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا هُوَ نَصِيبُهُ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا لِأَحَدِهِمَا حَقًّا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ تَضَرَّرَ بِهِ الْآخَرُ، وَلَا يَجُوزُ الْإِضْرَارُ دُونَ رِضَاهُ، وَإِنَّمَا دَلِيلُ الرِّضَا اشْتِرَاطُ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْحُقُوقُ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ إحْدَاثُ طَرِيقٍ فِيمَا اشْتَرَاهُ وَتَسْيِيلُ مَائِهِ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ الطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ، وَفِي الْقِسْمَةِ إذَا ذُكِرَ الْحُقُوقُ وَأَمْكَنَهُ الطَّرِيقُ وَالتَّسْيِيلُ فِيمَا أَصَابَهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَتَطَرَّقُ وَيَسِيلُ فِيمَا أَصَابَهُ فَطُولِبَ بِالْفَرْقِ.

وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيْعَ إيجَادُ الْمِلْكِ مِنْ الْعَدَمِ لِقَصْدِ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ ذَلِكَ فَمَا شَرَطَهُ يَتِمُّ مُطْلَقًا.

وَالْمَقْصُودُ بِالْقِسْمَةِ تَمْيِيزُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لَهُمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا لِيَنْتَفِعَ بِهِ عَلَى الْخُصُوصِ بِحَيْثُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ، إذْ لَوْ لَمْ يُرْدِ ذَلِكَ الْخُصُوصَ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا إذَا لَمْ يَدْخُلْ الطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ فَلَا يَدْخُلَانِ إلَّا بِرِضًا صَرِيحٍ وَلَا يَكْفِي فِيهِ ذِكْرُ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ.

(بَابُ الِاسْتِحْقَاقِ)

ص: 43

(وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِبَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَوَلَدَهَا، وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِرَجُلٍ لَمْ يَتْبَعْهَا وَلَدُهَا) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ فَإِنَّهَا كَاسْمِهَا مُبَيَّنَةٌ فَيَظْهَرُ بِهَا مِلْكُهُ مِنْ الْأَصْلِ وَالْوَلَدُ كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا فَيَكُونُ لَهُ، أَمَّا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ يُثْبِتُ الْمِلْكَ فِي الْمُخْبَرِ بِهِ ضَرُورَةُ صِحَّةِ الْإِخْبَارِ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِإِثْبَاتِهِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ لَهُ.

ثُمَّ قِيلَ: يَدْخُلُ الْوَلَدُ فِي الْقَضَاءِ بِالْأُمِّ تَبَعًا، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ بِالْوَلَدِ وَإِلَيْهِ تُشِيرُ الْمَسَائِلُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالزَّوَائِدِ. قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا تَدْخُلُ الزَّوَائِدُ فِي الْحُكْمِ، فَكَذَا الْوَلَدُ إذَا كَانَ

حَقُّ هَذَا الْبَابِ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَ تَمَامِ أَبْوَابِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ ظُهُورُ عَدَمِ الصِّحَّةِ بَعْدَ التَّمَامِ ظَاهِرًا، وَلَكِنْ لَمَّا نَاسَبَ الْحُقُوقَ لَفْظًا وَمَعْنًى ذُكِرَ عَقِيبَهُ (قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ) فَإِنْ كَانَ (بِبَيِّنَةٍ) اسْتَحَقَّ وَلَدَهَا مَعَهَا وَأَرْشَهَا إنْ كَانَ (وَإِنْ) كَانَ (بِ) مُجَرَّدِ (إقْرَارِ) الْمُشْتَرِي (لَهُ بِهَا) لَا يَسْتَحِقُّ الْوَلَدَ بِذَلِكَ (وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ) أَيْ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ غَيْرُ مُقْتَصِرَةٍ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ (فَإِنَّهَا كَاسْمِهَا مُبَيَّنَةٌ) لَمَّا كَانَ ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ بِهِ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ إثْبَاتِ مِلْكٍ فِي الْحَالِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ وَلَا الْقَاضِي، وَإِنَّمَا تُظْهِرُ الْبَيِّنَةُ مَا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَهُ قَبْلِيَّةً لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ مُعَيَّنٍ، وَلِهَذَا تَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا إذَا اشْتَرَى وَاحِدٌ مِنْ آخَرَ وَاشْتَرَى مِنْ الْآخَرِ آخَرُ وَهَكَذَا ثُمَّ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ بِقَضَاءٍ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ أَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْكُلِّ، وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى أَحَدِهِمْ أَنَّهُ مِلْكُهُ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارُوا مَقْضِيًّا عَلَيْهِمْ بِالْقَضَاءِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَخِيرِ، كَمَا لَوْ ادَّعَتْ فِي يَدِ الْأَخِيرِ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ حَيْثُ يَرْجِعُونَ فَالْوَلَدُ كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ إظْهَارُ الْبَيِّنَةِ الْمِلْكَ فَيَكُونُ لَهُ (أَمَّا الْإِقْرَارُ فَحُجَّةٌ قَاصِرَةٌ) عَلَى الْمُقِرِّ حَتَّى لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ حُجَّةً لِضَرُورَةِ تَصْحِيحِ خَبَرِهِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِثْبَاتِهِ فِي الْحَالِ، وَالْوَلَدُ فِي الْحَالِ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا، وَالْإِقْرَارُ إنَّمَا هُوَ بِهَا فَقَطْ فَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ ادَّعَاهُ الْمُقَرُّ لَهُ لَا يَكُونُ لَهُ.

وَذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقَرِّ لَهُ إذَا لَمْ يَدَّعِهِ، فَلَوْ ادَّعَاهُ كَانَ لَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَهُ، وَإِذَا قُلْنَا إنَّ الْوَلَدَ لِلْمُسْتَحِقِّ بِالْبَيِّنَةِ فَقَضَى الْقَاضِي بِالْأُمِّ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْقَضَاءِ فَيَصِيرُ هُوَ أَيْضًا مَقْضِيًّا بِهِ،؟ قِيلَ نَعَمْ تَبَعًا كَمَا أَنَّ ثُبُوتَ اسْتِحْقَاقِهِ تَبَعًا (وَقِيلَ) لَا، بَلْ (يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ بِالْوَلَدِ أَيْضًا) لِأَنَّهُ أَصْلُ يَوْمِ الْقَضَاءِ لِانْفِصَالِهِ وَاسْتِقْلَالِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُكْمِ بِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ الْمَذْهَبِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَإِلَيْهِ تُشِيرُ الْمَسَائِلُ)

ص: 44

فِي يَدِ غَيْرِهِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ بِالْأُمِّ تَبَعًا.

الَّتِي ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ رحمه الله، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ: إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْأَصْلِ وَلَمْ يَعْلَمْ الزَّوَائِدَ لَا تَدْخُلُ الزَّوَائِدُ تَحْتَ الْحُكْمِ وَكَذَا إذَا كَانَتْ الزَّوَائِدُ فِي يَدِ غَائِبٍ لَمْ تَدْخُلْ، فَحَيْثُ لَمْ يَدْخُلْ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ فِي ضِمْنِ الْقَضَاءِ عَلَى الْحَاضِرِ وَهُوَ أَمْرٌ جَائِزٌ عُرِفَ أَنَّهُ يَشْتَرِي الْقَضَاءَ بِالْوَلَدِ بِخُصُوصِهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَائِعِ، وَلَكِنْ يُوجِبُ تَوَقُّفَهُ عَلَى إجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ وَتَبِعَهُ الْجَمَاعَةُ، فَاعْتَرَضَهُ شَارِحٌ بِأَنَّ غَايَةَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ بَيْعَ فُضُولِيٍّ: يَعْنِي بَائِعَ الْمُشْتَرِي الَّذِي قَضَى عَلَيْهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَفِيهِ إذَا وُجِدَ عَدَمُ الرِّضَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَإِثْبَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ دَلِيلُ عَدَمِ الرِّضَا: يَعْنِي الْمَوْقُوفَ الْمَفْسُوخَ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ.

وَاسْتَوْضَحَ بِمَا فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ ثُمَّ وَصَلَ إلَى الْمُشْتَرِي يَوْمًا لَا يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ وَإِنْ جُعِلَ مُقِرًّا بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ لَكِنْ بِمُقْتَضَى الشِّرَاءِ وَقَدْ انْفَسَخَ الشِّرَاءُ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَيَنْفَسِخُ الْإِقْرَارُ.

ثُمَّ قَالَ: لَا جَرَمَ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا قَدْ أَقَرَّ نَصًّا أَنَّهُ مِلْكُ الْبَائِعِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي وَرَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ ثُمَّ وَصَلَ إلَيْهِ يَوْمًا يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمِلْكِ لَهُ لَمْ يَبْطُلْ.

وَنَقَلَهُ عَنْ شَرْحِ قِسْمَةِ خُوَاهَرْ زَادَهُ انْتَهَى.

وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هُوَ الْمُتَصَوَّرُ.

وَقَوْلُهُ إثْبَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ دَلِيلُ عَدَمِ الرِّضَا إنْ أَرَادَ دَلِيلَ عَدَمِ الرِّضَا بِالْبَيْعِ فَلَيْسَ بِلَازِمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ عَدَمِ الرِّضَا بِأَنْ يَذْهَبَ مِنْ يَدِهِ مَجَّانًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدَّعِ الِاسْتِحْقَاقَ وَيُثْبِتْهُ اسْتَمَرَّ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ عَيْنُهُ وَلَا بَدَلُهُ فَإِثْبَاتُهُ لِيَحْصُلَ أَحَدُهُمَا إمَّا الْعَيْنُ أَوْ الْبَدَلُ بِأَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ الْبَيْعَ وَيَصِلَ الثَّمَنُ إلَيْهِ، فَظَهَرَ أَنَّ إثْبَاتَ الِاسْتِحْقَاقِ لَيْسَ مَلْزُومًا لِعَدَمِ الرِّضَا بِالْبَيْعِ، بَلْ الْمُحَقَّقُ أَنَّهُ مَلْزُومٌ لِعَدَمِ الرِّضَا بِذَهَابِهِ وَذَهَابِ بَدَلِ عَيْنِهِ.

وَأَمَّا مَا اسْتَوْضَحَ بِهِ مِنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى فَلَيْسَ مُفِيدًا لَهُ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ ثُمَّ وَصَلَ إلَيْهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ أَخَذَ عَيْنَهُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ وَصَلَ إلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا اتَّصَلَ بِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ أَخَذَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعَبْدِ بِعَيْنِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَرْجِعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ عَدَمُ الرِّضَا بِالْمَبِيعِ وَإِلَّا لَمْ يَأْخُذْ وَأَجَازَهُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ مُجَرَّدِ إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْقَضَاءِ بِهِ حَتَّى ظَهَرَ مِلْكُهُ فِيهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْفَتَّاحُ الْجَوَادُ لَا إلَهَ غَيْرُهُ وَلَا مَرْجُوَّ إلَّا خَيْرُهُ.

وَفِي الذَّخِيرَةِ: مِمَّا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي فَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ يُوجِبُ تَوَقُّفَ اسْتِحْقَاقِ الْعَقْدِ السَّابِقِ عَلَى إجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ وَلَا يُوجِبُ نَقْضَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ انْتَهَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ فِي أَنَّ الْبَيْعَ مَتَى يَنْفَسِخُ أَقْوَالُ: قِيلَ إذَا قَبَضَ الْمُسْتَحِقُّ، وَقِيلَ بِنَفْسِ الْقَضَاءِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ مَا لَمْ يَرْجِعْ

ص: 45

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَإِذَا هُوَ حُرٌّ وَقَدْ قَالَ الْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي اشْتَرِنِي فَإِنِّي عَبْدٌ لَهُ)، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا غَيْبَةً مَعْرُوفَةً لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَبْدِ وَرَجَعَ هُوَ عَلَى الْبَائِعِ.

وَإِنْ ارْتَهَنَ عَبْدًا مُقِرًّا بِالْعُبُودِيَّةِ فَوَجَدَهُ حُرًّا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ، حَتَّى لَوْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ بَعْدَمَا قَضَى لَهُ أَوْ بَعْدَمَا قَبَضَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ يَصِحُّ.

وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقَضَاءَ لِلْمُسْتَحِقِّ لَا يَكُونُ فَسْخًا لِلْبِيَاعَاتِ مَا لَمْ يَرْجِعْ كُلٌّ عَلَى بَائِعِهِ بِالْقَضَاءِ.

وَفِي الزِّيَادَاتِ: رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِصُ مَا لَمْ يَأْخُذْ الْعَيْنَ بِحُكْمِ الْقَضَاءِ.

وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَنْفَسِخُ مَا لَمْ يَفْسَخْ وَهُوَ الْأَصَحُّ انْتَهَى.

وَمَعْنَى هَذَا أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى الْفَسْخِ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِيهَا أَيْضًا: إذَا اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي فَأَرَادَ الْمُشْتَرِي نَقْضَ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَا الْبَائِعِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ احْتِمَالَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى النِّتَاجِ مِنْ الْبَائِعِ أَوْ عَلَى تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ ثَابِتٌ إلَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي فَيَلْزَمُ الْعَجْزُ فَيَنْفَسِخُ انْتَهَى.

يَعْنِي يَلْزَمُ الْعَجْزُ عَنْ إثْبَاتِ ذَلِكَ، أَوْ الْمُرَادُ أَنْ يَفْسَخَ الْمُسْتَحِقُّ فَإِنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ، نَعَمْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ اتِّفَاقُ عَدَمِ رُجُوعِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ أَنْ قُضِيَ لِلْمُسْتَحِقِّ وَأَخَذَ الْمَبِيعَ وَاسْتَمَرَّ غَيْرَ مُجِيزٍ أَنَّهُ يَنْفَسِخُ فَإِنَّ سُكُوتَهُ بَعْدَ الْأَخْذِ عَنْ الْإِجَازَةِ قَدْرَ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْإِجَازَةِ، وَلَمْ يُجِزْ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ رِضَاهُ بِالْبَيْعِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا) أَيْ اشْتَرَى إنْسَانًا (قَالَ لَهُ اشْتَرِنِي فَإِنِّي عَبْدٌ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ) أَيْ فَظَهَرَ أَنَّهُ حُرٌّ بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا (فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا غَيْبَةً مَعْرُوفَةً) أَيْ يُدْرَى مَكَانُهُ (لَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ بَائِعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْقَابِضِ وَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ لَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَبْدِ) بِمَا دَفَعَ إلَى الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ (وَرَجَعَ) الْعَبْدُ (عَلَى بَائِعِهِ) بِمَا رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَلَيْهِ إنْ قَدَرَ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى الْبَائِعِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالضَّمَانِ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَدَّى دَيْنَهُ وَهُوَ مُضْطَرٌّ فِي أَدَائِهِ، بِخِلَافِ مَنْ أَدَّى عَنْ آخَرَ دَيْنًا أَوْ حَقًّا عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَيْسَ مُضْطَرًّا فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْقَيْدَيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنَا عَبْدٌ وَقْتَ الْبَيْعِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِشِرَائِهِ أَوْ قَالَ اشْتَرِنِي وَلَمْ يَقُلْ فَإِنِّي عَبْدٌ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ

(وَلَوْ ارْتَهَنَ عَبْدًا مُقِرًّا بِالرِّقِّ فَظَهَرَ حُرًّا) وَقَدْ كَانَ قَالَ ارْتَهِنِّي فَإِنِّي عَبْدُ الرَّاهِنِ (لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْعَبْدِ (عَلَى كُلِّ حَالٍ)

ص: 46

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهِمَا لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالْمُعَاوَضَةِ أَوْ بِالْكَفَالَةِ وَالْمَوْجُودُ لَيْسَ إلَّا الْإِخْبَارُ كَاذِبًا فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ الْأَجْنَبِيُّ ذَلِكَ أَوْ قَالَ الْعَبْدُ ارْتَهِنِّي فَإِنِّي عَبْدٌ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ شَرَعَ فِي الشِّرَاءِ مُعْتَمِدًا عَلَى مَا أَمَرَهُ وَإِقْرَارِهِ أَنِّي عَبْدٌ، إذْ الْقَوْلُ لَهُ فِي الْحُرِّيَّةِ فَيُجْعَلُ الْعَبْدُ بِالْأَمْرِ بِالشِّرَاءِ ضَامِنًا لِلثَّمَنِ لَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ رُجُوعِهِ عَلَى الْبَائِعِ دَفْعًا لِلْغُرُورِ وَالضَّرَرِ، وَلَا تَعَذُّرَ إلَّا فِيمَا لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ، وَالْبَيْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ الْآمِرُ بِهِ ضَامِنًا لِلسَّلَامَةِ كَمَا هُوَ مُوجِبُهُ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ بَلْ هُوَ وَثِيقَةٌ لِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ حَقِّهِ حَتَّى يَجُوزَ الرَّهْنُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَالْمُسَلَّمِ فِيهِ مَعَ حُرْمَةِ الِاسْتِبْدَالِ فَلَا يُجْعَلُ الْأَمْرُ بِهِ ضَمَانًا لِلسَّلَامَةِ،

أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا يُعْرَفُ مَكَانُهُ أَوْ لَا يُعْرَفُ، وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ (عَنْهُمْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهِمَا)

أَيْ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ (لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالْمُعَاوَضَةِ) وَهِيَ الْمُبَايَعَةُ هُنَا (أَوْ بِالْكَفَالَةِ) وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ثَابِتًا (بَلْ) الثَّابِتُ (لَيْسَ إلَّا) مُجَرَّدُ (الْإِخْبَارِ كَاذِبًا فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ أَجْنَبِيٌّ) لِشَخْصٍ (ذَلِكَ) وَكَقَوْلِ الْعَبْدِ (ارْتَهِنِّي فَإِنِّي عَبْدٌ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ ثَانِيًا. وَلَهُمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ شَرَعَ فِي الشِّرَاءِ مُعْتَمِدًا عَلَى أَمْرِهِ وَإِقْرَارِهِ)

فَكَانَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ، وَالتَّغْرِيرُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي سَلَامَةَ الْعِوَضِ تُجْعَلُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَكَانَ بِتَغْرِيرِهِ (ضَامِنًا) لِدَرْكِ (الثَّمَنِ لَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ رُجُوعِهِ عَلَى الْبَائِعِ)، وَلَا تَعَذُّرَ إلَّا فِيمَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ (كَالْمَوْلَى إذَا قَالَ) لِأَهْلِ السُّوقِ (بَايِعُوا عَبْدِي فَإِنِّي قَدْ أَذِنْت لَهُ) فَفَعَلُوا (ثُمَّ ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُ الْعَبْدِ) فَإِنَّهُمْ (يَرْجِعُونَ عَلَى الْمَوْلَى بِقِيمَةِ الْعَبْدِ) وَيُجْعَلُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ ضَامِنًا لِدَرْكِ مَا ذَابَ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنْ النَّاسِ (بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ بَلْ عَقْدَ وَثِيقَةٍ لِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ حَقِّهِ حَتَّى جَازَ الرَّهْنُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ) فَلَوْ هَلَكَ يَقَعُ اسْتِيفَاءً لِلدَّيْنِ، فَلَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً كَانَ اسْتِبْدَالًا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَهُوَ حَرَامٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ لَا يُجْعَلُ الْأَمْرُ بِهِ ضَمَانًا لِأَنَّهُ لَيْسَ تَغْرِيرًا فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ

ص: 47

وَبِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ لَا يُعْبَأُ بِقَوْلِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ.

وَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا قَوْلُ الْمَوْلَى بَايِعُوا عَبْدِي هَذَا فَإِنِّي قَدْ أَذِنْت لَهُ ثُمَّ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، ثُمَّ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ ضَرْبُ إشْكَالٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِي حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ عِنْدَهُ، وَالتَّنَاقُضُ يُفْسِدُ الدَّعْوَى. وَقِيلَ إذَا كَانَ الْوَضْعُ فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ فَالدَّعْوَى فِيهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ لِتَضَمُّنِهِ تَحْرِيمَ فَرْجِ الْأُمِّ. وَقِيلَ هُوَ شَرْطٌ لَكِنَّ التَّنَاقُضَ غَيْرُ مَانِعٍ لِخَفَاءِ الْعَلُوقِ وَإِنْ كَانَ الْوَضْعُ فِي الْإِعْتَاقِ فَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ لِاسْتِبْدَادِ الْمَوْلَى بِهِ

أَمْنِ هَذَا الطَّرِيقِ فَقَالَ اُسْلُكْهُ فَإِنَّهُ آمِنٌ فَسَلَكَهُ فَنُهِبَ مَالُهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَكَذَا لَوْ قَالَ كُلْ هَذَا الطَّعَامَ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَسْمُومٍ فَأَكَلَهُ فَمَاتَ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ عَذَابًا لَا يُطَاقُ (وَبِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ لَا يُعْبَأُ بِقَوْلِهِ) فَالرَّجُلُ هُوَ الَّذِي اغْتَرَّ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (ثُمَّ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ ضَرْبُ إشْكَالٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الدَّعْوَى) أَيْ دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ (شَرْطٌ) فِي الْقَضَاءِ بِبَيِّنَتِهَا وَالدَّعْوَى لَا تَصِحُّ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ لِلتَّنَاقُضِ، فَإِنَّ دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ تُنَاقِضُ تَصْرِيحَهُ بِرِقِّهِ.

فَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى إنْ كَانَتْ بِحُرِّيَّةِ الْأَصْلِ (فَالدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ) كَقَوْلِهِمَا فِي دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ مُطْلَقًا (لِتَضَمُّنِهِ تَحْرِيمَ فَرْجِ أُمِّهِ) عَلَى السَّيِّدِ وَتَحْرِيمَ أَخَوَاتِهَا وَبَنَاتِهَا، وَحُرْمَةُ الْفَرْجِ حَقُّهُ تَعَالَى وَالدَّعْوَى لَيْسَتْ شَرْطًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي عِتْقِ الْأَمَةِ حَتَّى أَنَّ الشُّهُودَ يَحْتَاجُونَ فِي شَهَادَتِهِمْ إلَى تَعْيِينِ الْأُمِّ، وَالْحُرُمَاتُ لَا تَحْتَاجُ فِي الْقَضَاءِ بِهَا إلَى الدَّعْوَى، وَإِذَا لَمْ تَحْتَجْ إلَى الدَّعْوَى لَا يَضُرُّ التَّنَاقُضُ فِيهَا (وَقِيلَ هُوَ) أَيْ الدَّعْوَى (شَرْطٌ) مُطْلَقًا فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ وَدَعْوَى الْإِعْتَاقِ فِي الْكَافِي وَالصَّحِيحُ أَنَّ دَعْوَى الْعَبْدِ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ وَالْعِتْقِ الْعَارِضِ (لَكِنَّ التَّنَاقُضَ) فِي دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى بِهَا، أَمَّا فِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ (فَلِخَفَاءِ) حَالِ (الْعَلُوقِ) فَإِنَّهُ يُسْبَى مَعَ أُمِّهِ أَوْ بِدُونِهَا وَلَا يُعْلَمُ بِحُرِّيَّتِهَا وَرِقِّهَا حَالَ الْعَلُوقِ بِهِ فَيُقِرُّ بِالرِّقِّ ثُمَّ تَظْهَرُ لَهُ حُرِّيَّةُ أُمِّهِ فَيَدَّعِي الْحُرِّيَّةَ، وَفِي الْإِعْتَاقِ الْعَارِضِ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى يَنْفَرِدُ بِهِ، وَلَا يَعْلَمُ الْعَبْدُ فَيُقِرُّ بِالرِّقِّ

ص: 48

فَصَارَ كَالْمُخْتَلِعَةِ تُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ قَبْلَ الْخُلْعِ وَالْمُكَاتَبِ يُقِيمُهَا عَلَى الْإِعْتَاقِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ) مَعْنَاهُ حَقًّا مَجْهُولًا (فَصَالَحَهُ الَّذِي فِي يَدِهِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَاسْتُحِقَّتْ الدَّارُ إلَّا ذِرَاعًا مِنْهَا لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) لِأَنَّ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَقُولَ دَعْوَايَ فِي هَذَا الْبَاقِي.

قَالَ (وَإِنْ ادَّعَاهَا كُلَّهَا فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَاسْتُحِقَّ مِنْهَا شَيْءٌ رَجَعَ بِحِسَابِهِ) لِأَنَّ التَّوْفِيقَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ عِنْدَ فَوَاتِ سَلَامَةِ الْمُبْدَلِ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْمَجْهُولِ عَلَى مَعْلُومٍ جَائِزٌ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيمَا يَسْقُطُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ثُمَّ يَعْلَمُهُ فَيَدَّعِيهِ، وَالتَّنَاقُضُ فِي دَعْوَى مَا فِيهِ خَفَاءٌ يُعْذَرُ فِيهِ (وَصَارَ كَالْمُخْتَلِعَةِ تُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى تَطْلِيقِ) الزَّوْجِ إيَّاهَا (ثَلَاثًا قَبْلَ اخْتِلَاعِهَا) تُقْبَلُ (وَكَذَا الْمُكَاتَبُ يُقِيمُهَا عَلَى الْإِعْتَاقِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ) تُقْبَلُ مَعَ أَنَّ اتِّفَاقَهُمَا عَلَى سُؤَالِ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ إقْرَارٌ بِقِيَامِ الْعِصْمَةِ وَالرِّقِّ وَلَمْ يَضُرَّهُمَا التَّنَاقُضُ لِلْخَفَاءِ فَتَرْجِعُ الْمَرْأَةُ وَالْمُكَاتَبُ بِبَدَلِ الْخُلْعِ وَمَالِ الْكِتَابَةِ.

وَذَكَرَ هُنَا مَسْأَلَةَ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَهِيَ أَصْلٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ.

وَهِيَ: رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ آخَرَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ قَمِيصًا وَخَاطَهُ ثُمَّ جَاءَ مُسْتَحِقٌّ فَقَالَ هَذَا الْقَمِيصُ لِي وَأَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ فَالْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ مَا وَرَدَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِلْكَهُ فِي الْأَصْلِ انْقَطَعَ بِالْقَطْعِ وَالْخِيَاطَةِ كَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ وَخَاطَهُ يَنْتَقِلُ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ الثَّوْبُ إلَى الضَّامِنِ، فَالْأَصْلُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ إذَا وَرَدَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ الْكَائِنِ مِنْ الْأَصْلِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَرَدَ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا صَارَ إلَى حَالٍ لَوْ كَانَ غَصْبًا مَلَكَهُ بِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنُ الْكَذِبِ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَاهَا مُنْذُ شَهْرَيْنِ فَأَقَامَ رَجُلٌ بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ شَهْرٍ يُقْضَى بِهَا لَهُ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ، وَعُرِفَ أَنَّ الْمَعْنَى أَنْ يَسْتَحِقَّهُ بِاسْمِ الْقَمِيصِ، وَلَوْ كَانَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ قَبْلَ هَذِهِ الصِّفَةِ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ.

وَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ إذَا اشْتَرَى حِنْطَةً وَطَحَنَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الدَّقِيقُ؛ وَلَوْ قَالَ كَانَتْ قَبْلَ الطَّحْنِ لِي يَرْجِعُ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى لَحْمًا فَشَوَاهُ.

وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً فَذَبَحَهَا وَسَلَخَهَا فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ رَجُلٌ آخَرُ أَنَّ الرَّأْسَ وَالْأَطْرَافَ وَاللَّحْمَ وَالْجِلْدَ لَهُ فَقُضِيَ بِهَا رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ هَذَا اسْتِحْقَاقُ عَيْنِ الشَّاةِ

(قَوْلُهُ حَقًّا فِي دَارٍ) أَيْ مَجْهُولًا فَصَالَحَهُ الَّذِي فِي يَدِهِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَاسْتُحِقَّتْ (الدَّارُ إلَّا ذِرَاعًا لَمْ يَرْجِعْ) عَلَى الَّذِي صَالَحَهُ (بِشَيْءٍ) لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يَقُول مُرَادِي مِنْ الْحَقِّ الَّذِي ادَّعَيْته أَوْ الْحَقِّ الَّذِي أَدَّعِيهِ هَذَا الْبَاقِي (وَلَوْ) كَانَ (ادَّعَاهَا كُلَّهَا فَصَالَحَهُ فَاسْتُحِقَّ مِنْهَا شَيْءٌ رَجَعَ بِحِسَابِهِ، لِأَنَّ التَّوْفِيقَ هُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ عِنْدَ فَوَاتِ سَلَامَتِهِ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى) أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا (أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ مَجْهُولٍ عَلَى مَعْلُومٍ جَائِزٌ) لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْمَجْهُولِ جَائِزٌ عِنْدَنَا (لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيمَا يَسْقُطُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ)، وَالْآخَرُ أَنَّ صِحَّةَ الدَّعْوَى لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصُّلْحِ لِأَنَّ دَعْوَى الْحَقِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِجَهَالَةِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَلِذَا لَوْ أَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً لَا تُقْبَلُ، أَمَّا إذَا ادَّعَى إقْرَارَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ.

ص: 49

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فُرُوعٌ]

اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ قَالَ هُوَ مِلْكُ فُلَانٍ وَصَدَّقَهُ أَوْ ادَّعَاهُ فُلَانٌ وَصَدَّقَهُ هُوَ أَوْ أَنْكَرَ فَحَلَفَ فَنَكَلَ لَيْسَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا رَدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَحَلَفَ فَنَكَلَ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّ النُّكُولَ مِنْ الْمُضْطَرِّ كَالْبَيِّنَةِ وَهُوَ مُضْطَرٌّ فِي النُّكُولِ إذْ لَمْ يَعْلَمْ عَيْبَهُ وَلَا سَلَامَتَهُ.

وَلَوْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ مِلْكُ فُلَانٍ لَا يُقْبَلُ لِتَنَاقُضِهِ، فَإِنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الشِّرَاءِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، فَإِذَا ادَّعَاهُ لِغَيْرِهِ تَنَاقَضَ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَرْهَنَ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ أَنَّهُ مِلْكُ فُلَانٍ يُقْبَلُ لِعَدَمِ تَنَاقُضِهِ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ بَرْهَنَ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ وَهِيَ تَدَّعِي ذَلِكَ أَوْ أَنَّهَا مِلْكُ فُلَانٍ وَهُوَ أَعْتَقَهَا أَوْ دَبَّرَهَا أَوْ اسْتَوْلَدَهَا قَبْلَ شِرَائِهَا حَيْثُ يُقْبَلُ وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ فِي دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ وَفُرُوعِهَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى.

بَاعَ عَقَارًا ثُمَّ بَرْهَنَ أَنَّ مَا بَاعَهُ وَقْفٌ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْوَقْفِ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ؛ وَلَوْ بَرْهَنَ أَنَّهُ وَقْفٌ مَحْكُومٌ بِلُزُومِهِ يُقْبَلُ، وَلَوْ بَرْهَنَتْ أَمَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الْأَخِيرِ أَنَّهَا مُعْتَقَةُ فُلَانٍ أَوْ مُدَبَّرَتُهُ أَوْ أُمُّ وَلَدِهِ يَرْجِعُ الْكُلُّ إلَّا مَنْ كَانَ قِبَلَ فُلَانٍ.

اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى ادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ لَهُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي وَالْيَدَ لِلْبَائِعِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِيهِمَا فَشَرْطُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا حُضُورُهُمَا.

وَلَوْ قُضِيَ لَهُ بِهَا بِحَضْرَتِهِمَا ثُمَّ بَرْهَنَ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بَاعَهَا مِنْ الْبَائِعِ ثُمَّ هُوَ بَاعَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي قُبِلَ وَلَزِمَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ يُقَرِّرُ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ وَلَا يَنْقُضُهُ.

وَلَوْ فَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بِطَلَبِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ بَرْهَنَ الْبَائِعُ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بَاعَهَا مِنْهُ يَأْخُذُهَا وَتَبْقَى لَهُ وَلَا يَعُودُ الْبَيْعُ الْمُنْتَقَضُ؛ وَلَوْ قُضِيَ لِلْمُسْتَحِقِّ بَعْدَ إثْبَاتِهِ بِالْمُسْتَحَقِّ ثُمَّ بَرْهَنَ الْبَائِعُ عَلَى بَيْعِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ بَعْدَ الْفَسْخِ تَبْقَى الْأَمَةُ لِلْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهَا الْمُشْتَرِيَ لِنُفُوذِ الْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا عِنْدَهُ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِ مُشْتَرٍ فَبَرْهَنَ الَّذِي قَبْلَهُ عَلَى بَيْعِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ بَائِعِ بَائِعِهِ قُبِلَ لِأَنَّهُ خَصْمٌ؛ وَلَوْ بَرْهَنَ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا وَهَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ يُقْبَلُ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَوْ رَدَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَمَعَ ذَلِكَ أَقَامَ الْمُسْتَحِقُّ الْبَيِّنَةَ وَأَثْبَتَ عَلَيْهِ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى بَائِعِهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِالْبَيِّنَةِ لَا بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يُثْبِتَ بِهَا لِيُمْكِنَهُ الرُّجُوعُ عَلَى بَائِعِهِ.

هَكَذَا ذَكَرَ رَشِيدُ الدِّينِ فِي بَابِ دَعْوَى الدَّيْنِ بِسَبَبٍ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْ فَتَاوَاهُ.

وَذَكَرَ فِي بَابِ مَا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ فَتَاوَاهُ الْمُدَّعِي لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ لَهُ فَالْقَاضِي يَقْضِي بِالْإِقْرَارِ لَا بِالْبَيِّنَةِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُقْبَلُ عَلَى الْمُنْكِرِ لَا الْمُقِرِّ.

وَذَكَرَ فِي آخِرِ كِتَابِ الدَّعْوَى: ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ فَقَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي بِبَيِّنَتِهِ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْعَيْنِ لِلْمُدَّعِي يُقْضَى بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ، بَعْضُهُمْ قَالُوا بِالْإِقْرَارِ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ حِينَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُنْكِرًا وَاسْتَحَقَّ الْمُدَّعِي الْقَضَاءَ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يُبْطِلُ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ بِإِقْرَارِهِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ، وَهُوَ يُنَاقِضُ مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ دَعْوَى الدَّيْنِ إلَّا أَنْ تُخَصَّ تِلْكَ بِعَارِضِ الْحَاجَةِ إلَى الرُّجُوعِ وَقَصْدِ الْقَاضِي إلَى الْقَضَاءِ بِإِحْدَى الْحُجَّتَيْنِ بِعَيْنِهَا فَيَتَحَصَّلُ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ يَنْبَغِي عَلَى مَا جَعَلَهُ الْأَظْهَرَ أَنْ يَقْضِيَ بِالْإِقْرَارِ وَإِنْ سَبَقَتْهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْقَاضِيَ يَتَمَكَّنُ مِنْ اعْتِبَارِهِ قَضَاءً بِالْبَيِّنَةِ فَعِنْدَ تَحَقُّقِ حَاجَةِ الْخَصْمِ إلَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ قَضَاءً بِهَا لِيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ، وَلَوْ قَضَى بِالِاسْتِحْقَاقِ فَطَلَبَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنْ الْبَائِعِ فَرَدَّهُ إلَيْهِ ثُمَّ ظَهَرَ فَسَادُ الْقَضَاءِ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ الْبَائِعِ لِثُبُوتِ التَّقَابُلِ وَلَوْ لَمْ يَتَرَادَّا وَلَكِنَّ

ص: 50

(فَصْلٌ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ)

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ؛ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ لِأَنَّهَا بِالْمِلْكِ أَوْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَقَدْ فُقِدَا، وَلَا انْعِقَادَ إلَّا بِالْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ.

الْقَاضِيَ قَضَى لِلْمُسْتَحِقِّ وَفَسَخَ الْبَيْعَ ثُمَّ ظَهَرَ فَسَادُ الْقَضَاءِ يَظْهَرُ فَسَادُ الْفَسْخِ.

وَلَوْ أَحَبَّ الْبَائِعُ أَنْ يَأْمَنَ غَائِلَةَ الرَّدِّ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَأَبْرَأهُ الْمُشْتَرِي مِنْ ضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ قَائِلًا لَا أَرْجِعُ بِالثَّمَنِ إنْ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فَظَهَرَ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ وَلَا يَعْمَلُ مَا قَالَهُ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ.

قَالُوا: وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يُقِرَّ الْمُشْتَرِي أَنَّ بَائِعِي قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ مِنِّي اشْتَرَاهُ مِنِّي، فَإِذَا أَقَرَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَرْجِعُ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَلَى بَائِعِهِ فَهُوَ أَيْضًا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ)

مُنَاسَبَةُ هَذَا الْفَصْلِ مَعَ الِاسْتِحْقَاقِ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ دَعْوَى الِاسْتِحْقَاقِ تَتَضَمَّنُ دَعْوَى الْفُضُولِيِّ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إمَّا دَعْوَاهُ أَنَّ بَائِعَك بَاعَ مِلْكِي بِغَيْرِ أَمْرِي لِغَصْبِهِ أَوْ فُضُولِهِ. وَأَحْسَنُ الْمَخَارِجِ الْمُلْتَمَسَةِ فِيهِ فُضُولُهُ، وَالْفُضُولُ جَمْعُ فَضْلٍ غَلَبَ فِي الِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِيهِ وَمَا لَا وِلَايَةَ فِيهِ، فَقَوْلُ بَعْضِ الْجَهَلَةِ لِمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَنْتَ فُضُولِيٌّ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ (قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ لِأَنَّهَا بِالْمِلْكِ أَوْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَقَدْ فُقِدَا، وَلَا انْعِقَادَ إلَّا بِالْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ) وَصَارَ كَبَيْعِ الْآبِقِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَطَلَاقِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ فِي عَدَمِ الْوِلَايَةِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» .

قُلْنَا: الْمُرَادُ الْبَيْعُ الَّذِي تَجْرِي فِيهِ الْمُطَالَبَةُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ النَّافِذُ، أَوْ الْمُرَادُ أَنْ يَبِيعَهُ ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ فَيُسَلِّمَهُ بِحُكْمِ

ص: 51

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ذَلِكَ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ الْحَادِثَ يَثْبُتُ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ، وَحُكْمُ ذَلِكَ السَّبَبِ لَيْسَ هَذَا، بَلْ أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِجَازَةِ مِنْ حِينِ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ النَّهْيِ يُفِيدُ هَذَا وَهُوَ قَوْلُ حَكِيمٍ «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الرَّجُلَ يَأْتِينِي فَيَطْلُبُ مِنِّي سِلْعَةً لَيْسَتْ عِنْدِي فَأَبِيعُهَا مِنْهُ ثُمَّ أَدْخُلُ السُّوقَ فَأَشْتَرِيهَا فَأُسَلِّمُهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» .

وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الْجَوْزِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْقَزَّازِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ سَمِعَهُ مِنْ قَوْمِهِ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ.

وَحَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ قَالَ: حَدَّثَنَا مَيْمُونٌ الْخَيَّاطُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ: حَدَّثَنَا الْحَيُّ «عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْعِهِ بِالْبَرَكَةِ، فَكَانَ لَوْ اشْتَرَى تُرَابًا رَبِحَ فِيهِ» وَرُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ لِيَشْتَرِيَ بِهِ أُضْحِيَّةً، فَاشْتَرَى شَاةً ثُمَّ بَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى شَاةً بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِالشَّاةِ وَالدِّينَارِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: صلى الله عليه وسلم: بَارَكَ اللَّهُ لَك فِي صَفْقَتِك؛ فَأَمَّا الشَّاةُ فَضَحِّ بِهَا، وَأَمَّا الدِّينَارُ فَتَصَدَّقْ بِهِ» وَقَوْلُك لَا انْعِقَادَ إلَّا بِالْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ، إنْ أَرَدْت لَا انْعِقَادَ عَلَى وَجْهِ النَّفَاذِ سَلَّمْنَاهُ وَلَا يَضُرُّ، وَإِنْ أَرَدْت لَا انْعِقَادَ عَلَى وَجْهِ التَّوَقُّفِ إلَى أَنْ يَرَى الْمَالِكُ مَصْلَحَةً فِي الْإِجَازَةِ فَيُجِيزَ فِعْلَهُ أَوْ عَدَمَهَا فَيُبْطِلَهُ مَمْنُوعٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ الدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِهِ وَهُوَ تَحَقُّقُ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ لِكُلٍّ مِنْ الْعَاقِدِ وَالْمَالِكِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَلَا مَانِعٍ شَرْعِيٍّ فَيَدْخُلُ ثُبُوتُهُ فِي الْعُمُومَاتِ.

أَمَّا تَحَقُّقُ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّ الْمَالِكَ يَكْفِي مُؤْنَةَ طَلَبِ الْمُشْتَرِي وَوُفُورَ الثَّمَنِ وَقَرَارَهُ وَنَفَاقَ سِلْعَتِهِ وَرَاحَتَهُ مِنْهَا وَوُصُولَهُ إلَى الْبَدَلِ الْمَطْلُوبِ لَهُ الْمَحْبُوبِ وَالْمُشْتَرِي وُصُولُهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ وَدَفْعُهَا بِالْمَبِيعِ وَارْتِفَاعِ أَلَمِ فَقْدِهَا إذَا كَانَ مُهِمًّا لَهُ وَالْعَاقِدُ يَصُونُ كَلَامَهُ عَنْ الْإِلْغَاءِ وَالْإِهْدَارِ بَلْ وَحُصُولُ الثَّوَابِ لَهُ إذَا نَوَى الْخَيْرَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى حُصُولِ الرِّفْقِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ خَيْرًا لِكُلٍّ مِنْ جَمَاعَةِ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ كَانَ الْإِذْنُ فِي هَذَا الْعَقْدِ ثَابِتًا دَلَالَةً، إذْ كُلُّ عَاقِلٍ يَأْذَنُ فِي التَّصَرُّفِ النَّافِعِ لَهُ بِلَا ضَرَرٍ يَشِينُهُ أَصْلًا وَبِالْعُمُومَاتِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَصَارَ كَالْوَصِيَّةِ مِنْ الْمَدْيُونِ،

ص: 52

وَلَنَا أَنَّهُ تَصَرُّفُ تَمْلِيكٍ وَقَدْ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِانْعِقَادِهِ، إذْ لَا ضَرَرَ فِيهِ لِلْمَالِكِ مَعَ تَخْيِيرِهِ، بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ حَيْثُ يَكْفِي مُؤْنَةُ طَلَبِ الْمُشْتَرِي وَقَرَارُ الثَّمَنِ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ نَفْعُ الْعَاقِدِ لِصَوْنِ كَلَامِهِ عَنْ الْإِلْغَاءِ، وَفِيهِ نَفْعُ الْمُشْتَرِي فَثَبَتَ لِلْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ تَحْصِيلًا لِهَذِهِ الْوُجُوهِ، كَيْفَ وَإِنَّ الْإِذْنَ ثَابِتٌ دَلَالَةً لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَأْذَنُ فِي التَّصَرُّفِ النَّافِعِ،

الْمُسْتَغْرِقِ وَبِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بَاقِيًا حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْإِجْمَاعِ، فَهَذَا أَصْلٌ لِقِيَاسٍ صَحِيحٍ.

لَا يُقَال: فَإِذَا ثَبَتَ الْإِذْنُ دَلَالَةً يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ الْعَقْدُ. لِأَنَّا نَقُولُ: الثَّابِتُ دَلَالَةً مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، وَذَلِكَ هُوَ الِانْعِقَادُ مَوْقُوفًا عَلَى رَأْيِ الْمَالِكِ فَثَبَتَ بِهَذَا الْقَدْرِ.

فَأَمَّا نَفَاذُهُ بِلَا رَأْيِهِ فَفِيهِ إضْرَارٌ بِهِ، إذْ قَدْ لَا يُرِيدُ بَيْعَهُ فَيَثْبُتُ، بِخِلَافِ بَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ، فَإِنَّ الطَّيْرَ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ أَصْلًا قَبْلَهُ وَمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ، وَبَيْعُ الْآبِقِ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا وَهُوَ عِنْدَنَا مُفِيدٌ لِلْمِلْكِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ وَعَدَمُ تَوَقُّفِ طَلَاقِ الصَّبِيِّ وَلَوْ بِمَالٍ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ كَالْمَجْنُونِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا إذْ صَحَّ تَوْكِيلُهُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، وَطَلَاقُ الْمَرْأَةِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ شُرِعَ لِلتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاوُنِ وَانْتِظَامِ الْمَصَالِحِ فَلِذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ ذَلِكَ مِنْهُ لَا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ وَلَا عَلَى إجَازَتِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى أَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ فَإِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ أَوْ إجَازَتِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ. فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ أَنْ يَلْغُوَ لِعَدَمِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَهُوَ الْمِلْكُ.

قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ تَرْتِيبِهِ فِي الْحَالِ عَدَمُهُ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مَرْجُوٌّ فَلَا يَلْزَمُ عَدَمُهُ، وَكَوْنُ مُتَعَلِّقِ الْعَقْدِ مَرْجُوًّا كَافٍ فِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ. وَعَنْ هَذَا صَحَّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالشَّرْطِ، وَإِلَّا فَلَا وُقُوعَ فِي الْحَالِ وَلَا يُقْطَعُ بِوُقُوعِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُلْغَى، لَكِنْ لَمَّا كَانَ بِحَيْثُ يُرْجَى صَحَّ وَانْعَقَدَ سَبَبًا فِي الْحَالِ مُضَافًا أَوْ عِنْدَ الشَّرْطِ كَقَوْلِنَا هَذَا.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (تَصَرُّفُ تَمْلِيكٍ) مِنْ إضَافَةِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ كَحَرَكَةِ الْإِعْرَابِ، وَالْإِضَافَةِ فِي مِثْلِهِ بَيَانِيَّةٌ: أَيْ تَصَرُّفٌ هُوَ تَمْلِيكٌ وَحَرَكَةٌ هِيَ إعْرَابٌ، وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا الْقَيْدِ هُنَا لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ تَتَوَقَّفُ عِنْدَنَا إذَا صَدَرَتْ، وَلِلتَّصَرُّفِ مُجِيزٌ: أَيْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِجَازَةِ سَوَاءٌ كَانَ تَمْلِيكًا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالتَّزْوِيجِ وَالتَّزَوُّجِ أَوْ إسْقَاطًا، حَتَّى لَوْ طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَةَ غَيْرِهِ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَأَجَازَ طَلُقَتْ وَانْعَقَدَ، وَكَذَا سَائِرُ الْإِسْقَاطَاتِ لِلدُّيُونِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْفُضُولِيِّ بِالشِّرَاءِ فَفِي شِرَاءِ الْفُضُولِيِّ تَفْصِيلٌ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، وَطَرِيقُهُ الْخِلَافُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْ هَذَا لِفُلَانٍ فَقَالَ الْمَالِكُ بِعْت فَقَالَ الْفُضُولِيُّ قَبِلْت لِأَجْلِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ، أَمَّا إذَا قَالَ الْفُضُولِيُّ اشْتَرَيْت هَذَا لِأَجْلِ فُلَانٍ فَقَالَ بِعْت أَوْ قَالَ الْمَالِكُ ابْتِدَاءً بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ لِأَجْلِ فُلَانٍ فَقَالَ اشْتَرَيْت نَفَذَ عَلَى الْفُضُولِيِّ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى إجَازَة فُلَانٍ لِأَنَّهُ وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَا يَتَوَقَّفُ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَيْهِ ظَاهِرًا فَلَا حَاجَةَ إلَى إيقَافِهِ إلَى رِضَا الْغَيْرِ.

وَقَوْلُهُ لِأَجْلِ فُلَانٍ

ص: 53

قَالَ (وَلَهُ الْإِجَازَةُ إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بَاقِيًا وَالْمُتَعَاقِدَانِ بِحَالِهِمَا) لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِهِ وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.

يَحْتَمِلُ لِأَجْلِ شَفَاعَتِهِ أَوْ رِضَاهُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا (قَوْلُهُ وَلَهُ الْإِجَازَةُ) أَيْ لِلْمَالِكِ (إذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بَاقِيًا) وَهُوَ الْمَبِيعُ (وَ) كَذَا (الْمُتَعَاقِدَانِ) وَهُمَا الْفُضُولِيُّ وَاَلَّذِي خَاطَبَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ أَرْبَعَةٍ: الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْمَالِكِ حَتَّى لَوْ مَاتَ لَا تَصِحُّ إجَازَةُ الْوُرَّاثِ كَمَا سَنَذْكُرُ، هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا: أَيْ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ وَهَذَا (لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْعَقْدِ) الَّذِي هُوَ مَوْرِدُ هَذَا التَّصَرُّفِ وَقِيَامُهُ (بِقِيَامِ الْعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْمَالِكَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْإِجَازَةَ مِنْهُ وَهُوَ فَرْعُ وُجُودِهِ.

وَفِي الْإِيضَاحِ. عَقْدُ الْفُضُولِيِّ فِي حَقِّ وَصْفِ الْجَوَازِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ فَأَخَذَتْ الْإِجَازَةُ حُكْمَ الْإِنْشَاءِ، وَلَا بُدَّ فِي الْإِنْشَاءِ مِنْ قِيَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَبِالتَّفْصِيلِ شَرْطُ بَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَنْتَقِلْ فِيهِ وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَقِلَ بَعْدَ الْهَلَاكِ وَالْمُشْتَرِي لِيَلْزَمهُ الثَّمَنُ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَزِمَهُ حَالَ أَهْلِيَّتِهِ وَالْبَائِعُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ وَلَا تَلْزَمُ

ص: 54

وَإِذَا أَجَازَ الْمَالِكُ كَانَ الثَّمَنُ مَمْلُوكًا لَهُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ، لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ، وَلِلْفُضُولِيِّ أَنْ يَفْسَخَ قَبْلَ الْإِجَازَةِ دَفْعًا لِلْحُقُوقِ عَنْ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مُعَبِّرٌ مَحْضٌ، هَذَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا، فَإِنْ كَانَ عَرْضًا مُعَيَّنًا إنَّمَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ إذَا كَانَ الْعَرْضُ بَاقِيًا أَيْضًا. ثُمَّ الْإِجَازَةُ إجَازَةُ نَقْدٍ لَا إجَازَةُ عَقْدٍ حَتَّى يَكُونَ الْعَرْضُ الثَّمَنُ مَمْلُوكًا لِلْفُضُولِيِّ، وَعَلَيْهِ مِثْلُ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمَتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا، لِأَنَّهُ شِرَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَالشِّرَاءُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ.

إلَّا حَيًّا وَالْمَالِكُ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَكُونُ مِنْهُ لَا مِنْ وَارِثِهِ.

(وَإِذَا أَجَازَ الْمَالِكُ صَارَ) الْمَبِيعُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي (وَالثَّمَنَ مَمْلُوكًا لَهُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ) أَيْ فِي يَدِ الْفُضُولِيِّ، فَلَوْ هَلَكَ لَا يَضْمَنُهُ (كَالْوَكِيلِ فَإِنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ) مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِهَا صَارَ تَصَرُّفُهُ نَافِذًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الْمُشْتَرِي إذَا أَجَازَ الْمَالِكُ لَا يَنْفُذُ بَلْ يَبْطُلُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَهَذَا بِسَبَبِ أَنَّ الْمِلْكَ الْبَاتَّ إذَا طَرَأَ عَلَى الْمَوْقُوفِ وَهُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْفُضُولِيِّ يَبْطُلُ الْمَوْقُوفُ، وَلِهَذَا لَوْ تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ وَطِئَهَا مَوْلَاهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ فَمَاتَ قَبْلَ الْإِجَازَةِ تَوَقَّفَ النِّكَاحُ إلَى إجَازَةِ الْوَارِثِ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ مِلْكٌ بَاتٌّ لِلْوَارِثِ فِي الْبُضْعِ لِيَبْطُلَ، وَهَذَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْوَارِثِ بِكَوْنِهِ مِنْ الْوِلَادِ، بِخِلَافِ نَحْوِ ابْنِ الْعَمِّ (وَلِلْفُضُولِيِّ) أَيْ فِي الْبَيْعِ (أَنْ يَفْسَخَ قَبْلَ إجَازَةِ الْمَالِكِ) حَتَّى لَوْ أَجَازَهُ لَا يَنْفُذُ لِزَوَالِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ (لِيَدْفَعَ الْحُقُوقَ عَنْ نَفْسِهِ) فَإِنَّهُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ يَصِيرُ كَالْوَكِيلِ فَتَرْجِعُ حُقُوقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ فَيُطَالَبُ بِالتَّسْلِيمِ وَيُخَاصَمُ فِي الْعَيْبِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِهِ فَلَهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ عَلَيْهِ (بِخِلَافِ الْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ) لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ بِالْقَوْلِ وَلَا بِالْفِعْلِ (لِأَنَّهُ مُعَبِّرٌ مَحْضٌ) أَيْ كَنَاقِلِ عِبَارَةٍ، فَبِالْإِجَازَةِ تَنْتَقِلُ الْعِبَارَةُ إلَى الْمَالِكِ فَتَصِيرُ الْحُقُوقُ مَنُوطَةً بِهِ لَا بِالْفُضُولِيِّ فَلَا يَلْزَمُهُ بِالْإِجَازَةِ ضَرَرُ تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ.

وَقَدْ ثَبَتَ لِلْمَالِكِ وَالْوَلِيِّ حَقٌّ أَنْ يُجِيزَ، وَكَذَا بِالْفِعْلِ كَأَنْ زَوَّجَ امْرَأَةً بِرِضَاهَا مِنْ غَائِبٍ فَقَبْلَ أَنْ يُجِيزَ زَوَّجَهُ أُخْتَهَا تَوَقَّفَ الْعَقْدُ الثَّانِي أَيْضًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ بَعْدَ عَقْدِهِ فُضُولًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ أُخْتَهَا فَإِنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ يَبْطُلُ لِطُرُوءِ الْبَاتِّ عَلَى الْمَوْقُوفِ (هَذَا) الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيمَا (إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا) بِأَنْ بَاعَ الْفُضُولِيُّ مِلْكَ غَيْرِهِ بِعَرْضٍ مُعَيَّنٍ بَيْعَ مُقَايَضَةٍ اُشْتُرِطَ قِيَامُ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَخَامِسٍ وَهُوَ ذَلِكَ الثَّمَنُ الْعَرْضُ.

وَإِذَا أَجَازَ مَالِكُ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنُ عَرْضٌ فَالْفُضُولِيُّ يَكُونُ بِبَيْعِ مَالِ الْغَيْرِ مُشْتَرِيًا بِالْعَرْضِ مِنْ وَجْهٍ، وَالشِّرَاءُ لَا يَتَوَقَّفُ إذَا وَجَدَ نَفَاذًا فَيَنْفُذُ عَلَى الْفُضُولِيِّ فَيَصِيرُ مَالِكًا لِلْعَرْضِ، وَاَلَّذِي تُفِيدُهُ الْإِجَازَةُ أَنَّهُ أَجَازَ لِلْفُضُولِيِّ أَنْ يَنْقُدَ ثَمَنَ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَرْضِ مِنْ مَالِهِ كَأَنَّهُ قَالَ اشْتَرِ هَذَا الْعَرْضَ لِنَفْسِك وَانْقُدْ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِي هَذَا قَرْضًا عَلَيْك، فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا كَثَوْبٍ أَوْ جَارِيَةٍ فَقِيمَتُهُ، فَيَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا لِلْجَارِيَةِ أَوْ الثَّوْبِ، وَالْقَرْضُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْقِيَمِيَّاتِ لَكِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ

ص: 55

(وَلَوْ هَلَكَ الْمَالِكُ) لَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَرِّثِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ بِإِجَازَةِ غَيْرِهِ. وَلَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ فِي حَيَاتِهِ وَلَا يَعْلَمُ حَالَ الْمَبِيعِ جَازَ الْبَيْعُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَوَّلًا، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله وَقَالَ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَعْلَمَ قِيَامَهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الشَّكَّ وَقَعَ فِي شَرْطِ الْإِجَازَةِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ. .

قَصْدًا، وَهُنَا إنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا مُقْتَضًى لِصِحَّةِ الشِّرَاءِ فَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ صِحَّةِ الْمُقْتَضَى وَهُوَ الشِّرَاءُ لَا غَيْرُ، كَالْكَفِيلِ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ إذَا أَدَّاهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ يَصِيرُ مُقْرِضًا حَتَّى يَرْجِعَ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ ثَوْبًا لِأَنَّ الثَّوْبَ مِثْلِيٌّ فِي بَابِ السَّلَمِ، فَكَذَا فِيمَا جُعِلَ تَبَعًا لَهُ.

فَكَذَا هُنَا إذْ لَا صِحَّةَ لِشِرَاءِ الْعَبْدِ إلَّا بِقَرْضِ الْجَارِيَةِ، وَالشِّرَاءُ مَشْرُوعٌ فَمَا فِي ضِمْنِهِ يَكُونُ مَشْرُوعًا، هَذَا وَإِنَّمَا يَنْفُذُ الشِّرَاءُ عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا لَمْ يُضِفْهُ إلَى آخَرَ وَوَجَدَ الشِّرَاءُ النَّفَاذَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْبِقْ بِتَوْكِيلٍ لِلْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ، فَأَمَّا إنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالشِّرَاءُ يَتَوَقَّفُ وَفِي الْوَكَالَةِ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ.

فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ لِرَجُلٍ شَيْئًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ كَانَ مَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ أَجَازَ الَّذِي اشْتَرَاهُ لَهُ أَوْ لَمْ يُجِزْ، أَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى آخَرَ بِأَنْ قَالَ لِلْبَائِعِ بِعْ عَبْدَك مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا فَقَالَ بِعْت وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي هَذَا الْبَيْعَ لِفُلَانٍ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ هَلَكَ الْمَالِكُ لَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ) قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِيهِ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْقِسْمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّ الْقِسْمَةَ الْمَوْقُوفَةَ عَلَى إجَازَةِ الْغَائِبِ الْكَبِيرِ جَازَتْ بِإِجَازَةِ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِ الْقِسْمَةِ ثُمَّ الْإِعَادَةِ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ الْقِسْمَةُ مُبَادَلَةٌ كَالْبَيْعِ فَلَا تَجُوزُ بِإِجَازَةِ وَرَثَتِهِ هُوَ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ مُقَدَّمٌ. وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَهُ فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهُمَا شَاءَ الْبَائِعَ أَوْ الْمُشْتَرِيَ، وَأَيَّهُمَا اخْتَارَ بَرِئَ الْآخَرُ مِنْ الضَّمَانِ لِتَضَمُّنِ التَّضْمِينِ تَمْلِيكًا، فَإِذَا مَلَكَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا يُتَصَوَّرُ تَمْلِيكُهُ مِنْ الْآخَرِ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِيَ بَطَلَ الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ لِأَنَّ أَخْذَ الْقِيمَةِ كَأَخْذِ الْعَيْنِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْفُضُولِيِّ لَا بِمَا ضَمِنَ.

وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْبَائِعِ نُظِرَ إنْ كَانَ قَبَضَ الْبَائِعُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ يَنْفُذُ بَيْعُهُ لِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِهِ وَهُوَ غَصْبُهُ تَقَدَّمَ عَقْدُهُ وَإِنْ كَانَ قَبَضَ أَمَانَةً، وَإِنَّمَا صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ بِالضَّمَانِ لِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِهِ تَأَخَّرَ عَنْ عَقْدِهِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِتَضْمِينِ الْبَائِعِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَلَّمَهُ أَوَّلًا حَتَّى صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ثُمَّ بَاعَهُ فَصَارَ كَالْمَغْصُوبِ، هَذَا إذَا بَاعَهُ بِثَمَنِ دَيْنٍ، فَإِنْ كَانَ بِعَيْنٍ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَطَلَ الْبَيْعُ فَلَا تَلْحَقُهُ إجَازَةٌ وَيَرُدُّ الْمَبِيعَ عَلَى صَاحِبِهِ وَيَضْمَنُ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي مِثْلَ الْعَرْضِ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.

(وَلَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ فِي حَيَاتِهِ وَلَا يَعْلَمُ حَالَ الْمَبِيعِ جَازَ الْبَيْعُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ) رحمه الله (لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ) ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَعْلَمَ قِيَامُهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الشَّكَّ وَقَعَ

ص: 56

قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَبَاعَهُ وَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ) اسْتِحْسَانًا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمهم الله: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ، قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» وَالْمَوْقُوفُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ، وَلَوْ ثَبَتَ فِي الْآخِرَةِ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَالْمُصَحِّحُ لِلْإِعْتَاقِ الْمِلْكُ الْكَامِلُ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتِقَ الْغَاصِبُ ثُمَّ يُؤَدِّيَ الضَّمَانَ، وَلَا أَنْ يُعْتِقَ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ثُمَّ يُجِيزُ الْبَائِعُ ذَلِكَ،

فِي شَرْطِ الْإِجَازَةِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَبَاعَهُ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَجَازَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْبَيْعَ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ) كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا، لَكِنَّهُمْ أَثْبَتُوا خِلَافَهُ مَعَ زُفَرَ فِي بُطْلَانِ الْعِتْقِ وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي جَرَتْ الْمُحَاوَرَةُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَا رَوَيْت لَك عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِتْقَ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا رَوَيْت أَنَّ الْعِتْقَ بَاطِلٌ؛ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: بَلْ رَوَيْت لِي أَنَّ الْعِتْقَ جَائِزٌ. وَإِثْبَاتُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صِحَّةِ الْعِتْقِ بِهَذَا لَا يَجُوزُ لِتَكْذِيبِ الْأَصْلِ الْفَرْعَ صَرِيحًا. وَأَقَلُّ مَا هُنَا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ: قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: هَذِهِ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَنَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ، وَسَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالُوا: وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ قِيَاسٌ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانٌ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا عِتْقَ بِلَا مِلْكٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» (وَالْمَوْقُوفُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ) وَقْتَ الْعِتْقِ (وَلَوْ ثَبَتَ فِي الْآخِرَةِ) أَيْ عِنْدَ الْإِجَازَةِ (ثَبَتَ مُسْتَنِدًا وَهُوَ ثَابِتٌ) وَقْتَ الْعِتْقِ (مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَالْمُصَحِّحُ لِلْإِعْتَاقِ الْمِلْكُ الْكَامِلُ لِمَا رَوَيْنَا) مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ سَلَف تَخْرِيجُهُ.

(وَلِهَذَا) أَيْ لِأَجْلِ أَنَّ الشَّرْطَ الْمِلْكُ الْكَامِلُ (لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْتِقَهُ الْغَاصِبُ ثُمَّ يُؤَدِّيَ الضَّمَانُ وَلَا الْمُشْتَرِي) يَشْرِطُ (الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ثُمَّ يُجِيزُ لِلْبَائِعِ) الْبَيْعُ

ص: 57

وَكَذَا لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ أَسْرَعُ نَفَاذًا حَتَّى نَفَذَ مِنْ الْغَاصِبِ إذَا أَدَّى الضَّمَانَ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ إذَا أَدَّى الْغَاصِبُ الضَّمَانَ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ مَوْقُوفًا بِتَصَرُّفٍ مُطْلَقٍ مَوْضُوعٍ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى مَا مَرَّ فَتَوَقَّفَ الْإِعْتَاقُ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ وَيَنْفُذُ بِنَفَاذِهِ فَصَارَ كَإِعْتَاقِ الْمُشْتَرِي مِنْ الرَّاهِنِ وَكَإِعْتَاقِ الْوَارِثِ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ وَهِيَ مُسْتَغْرِقَةٌ بِالدُّيُونِ يَصِحُّ، وَيَنْفُذُ إذَا قَضَى الدُّيُونَ بَعْدَ ذَلِكَ،

وَكَذَا لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَعَ أَنَّ الْبَيْعَ أَسْرَعُ نَفَاذًا) مِنْ الْعِتْقِ (حَتَّى نَفَذَ مِنْ الْغَاصِبِ إذَا أَدَّى الضَّمَانَ) بَعْدَ أَنْ بَاعَ (وَكَذَا لَا يَصِحُّ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ إذَا أَدَّى الْغَاصِبُ الضَّمَانَ) وَلَا الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ حَتَّى إذَا أُجِيزَ لَا يَقَعُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَكُلٌّ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ فِي الْحَاجَةِ إلَى الْمِلْكِ عَلَى السَّوَاءِ، وَكَذَا إذَا جَعَلَ فُضُولِيٌّ أَمْرَ امْرَأَةِ رَجُلٍ بِيَدِهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ أَجَازَ الزَّوْجُ لَا تَطْلُقُ بَلْ يَثْبُتُ التَّفْوِيضُ، فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا الْآنَ طَلُقَتْ حِينَئِذٍ وَإِلَّا لَا.

(وَلَهُمَا أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ مَوْقُوفًا بِتَصَرُّفٍ مُطْلَقٍ مَوْضُوعٍ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى مَا مَرَّ) أَوَّلَ الْبَابِ (فَيَثْبُتُ الْإِعْتَاقُ مَوْقُوفًا مُرَتَّبًا عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْفُذُ بِنَفَاذِهِ) وَمُطْلَقٌ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَخَرَجَ جَوَابُ قَوْلِهِ لَا يَصِحُّ عِتْقَ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ مُطْلَقٍ إذْ الْخِيَارُ يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لَا بَاتًّا وَلَا مَوْقُوفًا، وَقَدْ يُقْرَأُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَالْفَتْحُ أَصَحُّ، وَبِمَوْضُوعٍ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ عَنْ الْغَصْبِ؛ فَخَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ لَا يَنْفُذُ مِنْ الْغَاصِبِ إذَا أَعْتَقَ ثُمَّ أَدَّى الضَّمَانَ، عَلَى أَنَّ الْغَصْبَ لَيْسَ سَبَبًا مَوْضُوعًا لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ إنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ ضَرُورَةَ أَدَاءِ الضَّمَانِ فَهُوَ بِعَرَضِيَّةِ أَنْ يُعْتَبَرَ سَبَبًا لَا أَنَّهُ وُضِعَ سَبَبًا فَيُقْتَصَرُ عَلَى ذَلِكَ وَلِذَا لَا يَتَعَدَّى إلَى الزَّوَائِدِ الْمُنْفَصِلَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا أُجِيزَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ.

وَأَمَّا بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ فَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ لِبُطْلَانِ عَقْدِهِ بِالْإِجَازَةِ، فَإِنَّ بِهَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي بَاتًّا، وَالْمِلْكُ الْبَاتُّ إذَا وَرَدَ عَلَى الْمَوْقُوفِ أَبْطَلَهُ.

وَكَذَا لَوْ وَهَبَهُ مَوْلَاهُ لِلْغَاصِبِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ مَاتَ فَوَرِثَهُ فَهَذَا كُلُّهُ يُبْطِلُ الْمِلْكَ الْمَوْقُوفَ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُ الْبَاتِّ مَعَ الْمَوْقُوفِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهٍ يَطْرَأُ فِيهِ الْبَاتُّ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ فِيهِ مِلْكٌ بَاتٌّ وَعَرَضَ مَعَهُ الْمِلْكَ الْمَوْقُوفَ (وَصَارَ كَإِعْتَاقِ الْمُشْتَرِي مِنْ الرَّاهِنِ) فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ فَكِّ الرَّهْنِ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ إعْتَاقٌ فِي بَيْعٍ مَوْقُوفٍ (وَكَإِعْتَاقِ الْوَارِثِ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ يَصِحُّ ثُمَّ يَنْفُذُ إذَا قَضَى الدَّيْنَ.

ص: 58

بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْغَاصِبِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْغَصْبَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارُ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ، وَقِرَانُ الشَّرْطِ بِهِ يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ أَصْلًا، وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ إذَا بَاعَ لِأَنَّ بِالْإِجَازَةِ يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ مِلْكٌ بَاتٌّ، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى مِلْكٍ مَوْقُوفٍ لِغَيْرِهِ أَبْطَلَهُ، وَأَمَّا إذَا أَدَّى الْغَاصِبُ الضَّمَانَ يَنْفُذُ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ كَذَا ذَكَرَهُ هِلَالٌ رحمه الله وَهُوَ الْأَصَحُّ

وَأَمَّا) عِتْقُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ (إذَا أَدَّى الْغَاصِبُ الضَّمَانَ) فَنَقُولُ (يَنْفُذُ) كَذَا ذَكَرَهُ هِلَالُ الرَّأْيِ ابْنُ يَحْيَى الْبَصْرِيُّ فِي وَقْفِهِ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي يُوسُفَ.

ذَكَرَ فِيمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَبَاعَهَا فَوَقَفَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَدَّى الْغَاصِبُ ضَمَانَهَا حَتَّى مَلَكَ قَالَ يَنْفُذُ وَقْفُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ فَالْعِتْقُ أَوْلَى، وَأَمَّا عَدَمُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ وَفِي التَّفْوِيضِ الْمَوْقُوفِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ جُعِلَ شَرْعًا سَبَبًا لِحُكْمٍ إذَا وُجِدَ مِنْ غَيْرِ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَمْ يَسْتَعْقِبْ حُكْمَهُ وَتَوَقَّفْ إنْ كَانَ مِمَّا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ جُعِلَ مُعَلَّقًا وَإِلَّا احْتَجْنَا إلَى أَنْ نَجْعَلَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ مُتَأَخِّرًا حُكْمُهُ إنْ أَمْكَنَ فَالْبَيْعُ لَيْسَ مِمَّا يُعَلَّقُ فَيُجْعَلُ سَبَبًا فِي الْحَالِ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْإِجَازَةِ ظَهَرَ أَثَرُهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ وَلِذَا مَلَكَ الزَّوَائِدَ.

وَأَمَّا التَّفْوِيضُ فَيَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ فَجَعَلْنَا الْمَوْجُودَ مِنْ الْفُضُولِيِّ مُعَلَّقًا بِالْإِجَازَةِ فَعِنْدَهَا يَثْبُتُ التَّفْوِيضُ لِلْحَالِ لَا مُسْتَنِدًا فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا مِنْ وَقْتِ الْإِجَازَةِ. وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَا يَتَعَلَّقُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي حَالِ التَّوَقُّفِ سَبَبًا لِمِلْكِ الطَّلَاقِ بَلْ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ الْمُسْتَعْقَبِ لَهُ إذَا ثَبَتَ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَجْلِ صِحَّةِ الطَّلَاقِ مَقْصُودًا

ص: 59

قَالَ (فَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ فَأَخَذَ أَرْشَهَا ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ فَالْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي) لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَمَّ لَهُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَطْعَ حَصَلَ عَلَى مِلْكِهِ وَهَذِهِ حُجَّةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَالْعُذْرُ لَهُ أَنَّ الْمِلْكَ مِنْ وَجْهٍ يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ الْأَرْشِ كَالْمُكَاتَبِ إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ وَأَخَذَ الْأَرْشَ ثُمَّ رُدَّ فِي الرِّقِّ يَكُونُ الْأَرْشُ لِلْمَوْلَى، فَكَذَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْمُشْتَرَى فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ثُمَّ أُجِيزَ الْبَيْعُ فَالْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ

لِأَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِضِدِّ ذَلِكَ مِنْ انْتِظَامِ الصَّالِحِ بَيْنَهُمَا لَا لِوُقُوعِ الشَّتَاتِ بِالْفُرْقَةِ فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْمَقْصُودِ أَوَّلًا وَهُوَ مُنْتَفٍ هُنَا، فَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ لَيْسَ إلَّا لِصِحَّةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، بِخِلَافِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ مَقْصُودًا لِصِحَّةِ الْعَتَاقِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " لَا عِتْقَ " الْحَدِيثُ النَّافِذُ فِي الْحَالِ، وَغَايَةُ مَا يُفِيدُ لُزُومَ الْمِلْكِ لِلْعِتْقِ وَهُوَ ثَابِتٌ هُنَا فَإِنَّا لَمْ نُوقِعْهُ قَبْلَ الْمِلْكِ.

فَحَاصِلُ الْخِلَافِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْقَاضِي يَرْجِعُ إلَى أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ لَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْمِلْكُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ فَكَانَ الْإِعْتَاقُ لَا فِي مِلْكٍ فَيَبْطُلُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ، وَعِنْدَهُمَا يُوجِبُهُ مَوْقُوفًا لِأَنَّ الْأَصْلَ اتِّصَالُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ وَالتَّأْخِيرِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ وَالضَّرَرِ فِي نَفَاذِ الْمِلْكِ لَا فِي تَوَقُّفِهِ، وَبَعْدُ فَالْمُقَدِّمَةُ الْقَائِلَةُ فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْمُصَحِّحَ لِلْإِعْتَاقِ الْمِلْكُ الْكَامِلُ لَمْ يُصَرَّحْ فِيهَا بِدَفْعٍ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَخْرَجَ مِنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ مَنْعٌ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مِلْكٍ كَامِلٍ وَقْتَ ثُبُوتِهِ بَلْ وَقْتُ نَفَاذِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ

(قَوْلُهُ فَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ) أَيْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَاصِبِهِ. وَحَاصِلُ وُجُوهِ هَذِهِ

ص: 60

عَلَى مَا مَرَّ.

الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ مَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَبَاعَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ ثُمَّ يُجِيزَ الْمَالِكُ بَيْعَ الْغَاصِبِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُعْتِقَهُ وَلَكِنْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَنَحْوَهُ مِنْ الْجِرَاحَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَرْشِ فَأَخَذَ أَرْشَهَا ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ بَيْعَ الْغَاصِبِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُ هَذَيْنِ وَلَكِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ بَيْعَ الْغَاصِبِ وَهُوَ الَّذِي يَلِي هَذَا الْفَرْعَ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَاتَ فِي يَدِهِ أَوْ قُتِلَ ثُمَّ أَجَازَ، فَهِيَ أَرْبَعَةُ فُرُوعٍ تَتَفَرَّعُ عَلَى إجَازَةِ بَيْعِ الْغَاصِبِ: أَوَّلُهَا مَا إذَا أَجَازَ بَيْعَ الْغَاصِبِ بَعْدَ عِتْقِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ وَهِيَ الَّتِي فَرَغَ مِنْهَا.

وَالثَّانِي مَا إذَا أَجَازَ بَيْعَ الْغَاصِبِ بَعْدَ أَنْ جَنَى عَلَى الْعَبْدِ جِنَايَةً فَأَخَذَ أَرْشَهَا فَإِنَّ الْأَرْشَ يَسْتَحِقُّهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ لِأَنَّ قَطْعَ يَدِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَازَةِ إذَا لَمْ يَفُتْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِقَطْعِهَا.

بِخِلَافِ مَوْتِهِ فَإِذَا لَحِقَتْهُ الْإِجَازَةُ ظَهَرَ أَنَّهُ قُطِعَ فِي مِلْكِهِ فَيَسْتَحِقُّ أَرْشَ يَدِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْبَيْعَ مَوْضُوعٌ سَبَبًا لِلْمِلْكِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُطِعَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ أَدَّى الضَّمَانَ فَمَلَكَ الْعَبْدَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ الزَّوَائِدُ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَمْ يُوضَعْ سَبَبًا لِلْمِلْكِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ مُسْتَنِدًا لِوَقْتِ الْغَصْبِ

ص: 61

(وَيَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ. قَالَ: فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ الْأَوَّلَ

بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَيَظْهَرُ فِي الْمُتَّصِلِ لَا الْمُنْفَصِلِ ثُمَّ (يَتَصَدَّقُ) هَذَا الْمُشْتَرِي (بِمَا زَادَ) مِنْ أَرْشِ الْيَدِ (عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ) لِأَنَّهُ أَيْ مَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ (لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ) لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيَّ نِصْفَهُ وَاَلَّذِي دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ هُوَ مَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الثَّمَنِ، فَمَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ يَكُونُ رَبِحَ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَهَذَا لِأَنَّ أَرْشَ يَدِ الْعَبْدِ نِصْفُ قِيمَتِهِ وَالْحُرُّ نِصْفُ دِيَتِهِ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْقِيمَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ فَلَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِالثَّمَنِ لَا بِالْقِيمَةِ وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ (فِيهِ شُبْهَةَ عَدَمِ الْمِلْكِ) لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْأَرْشِ يَثْبُتُ يَوْمَ الْقَطْعِ مُسْتَنِدًا إلَى يَوْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَهُوَ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ.

وَأُورِدَ عَلَيْهِ لَوْ وَجَبَ التَّصَدُّقُ لِشُبْهَةِ عَدَمِ الْمِلْكِ فِي الزَّوَائِدِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْكُلِّ، لِأَنَّ فِي الْكُلِّ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ لِعَيْنِ الْمَذْكُورِ فِي بَيَانِ شُبْهَةِ عَدَمِ الْمِلْكِ فِي الزَّوَائِدِ. وَلَوْ قِيلَ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ إنَّمَا تُؤْثِرُ الْمَنْعَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَضْمَنْ إلَّا بِانْفِرَادِهِ دُفِعَ بِأَنَّ كَوْنَهُ لَمْ يَضْمَنْ يَسْتَقِلُّ بِالْمَنْعِ اتِّفَاقًا فَلَا حَاجَةَ إلَى زِيَادَةِ شُبْهَةِ عَدَمِ الْمِلْكِ إذْ لَا تُفِيدُ شَيْئًا.

وَوَزَّعَ فِي الْكَافِي الْوَجْهَيْنِ فَقَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مَقْبُوضًا وَأَخَذَ الْأَرْشَ يَكُونُ الزَّائِدُ عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ رِبْحٌ مَا لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ الْعَبْدَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ، وَلَوْ كَانَ أَخَذَ الْأَرْشَ بَعْد الْقَبْضِ فَفِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ أَيْ الْمِلْكُ حَقِيقَةً وَقْتَ الْقَطْعِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ فِيهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَكَانَ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ أَعْتَقَ الْعَبْدَ ثُمَّ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى بَيْعَ الْغَاصِبِ كَانَ الْأَرْشُ لِلْعَبْدِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهَذِهِ أَيْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ.

وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ هُوَ (حُجَّةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ) يَعْنِي كَوْنُ الْأَرْشِ لِلْمُشْتَرِي حُجَّةً عَلَى مُحَمَّدٍ فِي عَدَمِ تَجْوِيزِهِ إعْتَاقَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ إذَا أَجَازَ الْمَالِكُ بَيْعَ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ إعْتَاقٌ فِي مِلْكٍ مَوْقُوفٍ، وَهَذَا اسْتِحْقَاقُ أَرْشٍ مَمْلُوكٍ بِمِلْكٍ مَوْقُوفٍ (وَالْعُذْرُ لَهُ) أَيْ جَوَابُهُ بِالْفَرْقِ (بِأَنَّ الْمِلْكَ مِنْ وَجْهٍ يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ الْأَرْشِ كَالْمُكَاتَبِ) إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ فَأَخَذَ أَرْشَهَا ثُمَّ عَجَزَ فَ (رُدَّ فِي الرِّقِّ فَإِ) نَّ (الْأَرْشَ لِلْمَوْلَى) مَعَ أَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ حَالَ الْكِتَابَةِ مِنْ وَجْهٍ لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (وَكَذَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ثُمَّ أَجَازَ) الْبَائِعُ (الْبَيْعَ) يَكُونُ (الْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَا مَرَّ) حَيْثُ لَا يَكْفِي فِيهِ إلَّا الْمِلْكُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

وَالثَّالِثُ مِنْ الْفُرُوعِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (فَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَ الْأَوَّلَ) أَيْ بَيْعَ الْغَاصِبِ

ص: 62

لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ الثَّانِي لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ الِانْفِسَاخِ عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِ الْإِجَازَةِ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَالْبَيْعُ يَفْسُدُ بِهِ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْغَرَرُ.

قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ الْمُشْتَرِي فَمَاتَ فِي يَدِهِ أَوْ قُتِلَ ثُمَّ أَجَازَ الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِجَازَةَ مِنْ شُرُوطِهَا قِيَامُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ وَكَذَا بِالْقَتْلِ،

لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ) أَيْ بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ مِنْ الْآخَرِ (لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَثْبُتُ لِلْبَائِعِ مِلْكًا بَاتًّا إلَى آخِرِهِ (وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ الِانْفِسَاخِ عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِ الْإِجَازَةِ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ) أَيْ بَيْعِ الْغَاصِبِ (بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (فَإِنَّهُ) أَيْ الْإِعْتَاقَ (لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ غَرَرُ) الِانْفِسَاخِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ قَبْلَ قَبْضِهِ يَجُوزُ، وَلَوْ بَاعَهُ لَا يَجُوزُ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ الْبَيْعُ كَمَا يَتَوَقَّفُ الْإِعْتَاقُ. وَاسْتُشْكِلَ هَذَا التَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ شَامِلٌ لِبَيْعِ الْفُضُولِيِّ مُطْلَقًا غَاصِبًا أَوْ غَيْرَ غَاصِبٍ، إذْ فِيهِ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْإِجَازَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا وَتَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ.

أُجِيبَ بِأَنَّ هُنَاكَ مُعَارِضًا لِغَرَرِ الِانْفِسَاخِ مُرَجِّحًا عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَحَقُّقِ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْقَاصِرَةِ مِنْ غَيْرِ شَائِبَةِ ضَرَرٍ، وَلَيْسَ مِثْلُهُ ثَابِتًا فِي الْبَيْعِ الثَّانِي لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ حَتَّى يَطْلُبَ مُشْتَرِيًا آخَرَ فَتَجَرُّدُ الْبَيْعِ الثَّانِي عُرْضَةٌ لِلِانْفِسَاخِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ تَقْدِيمُ ذَلِكَ الْمُعَارِضِ لِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ مُجَرَّدُ غَرَرِ الِانْفِسَاخِ بِلَا اعْتِبَارِ النَّفْعِ لَمْ يَصِحَّ بَيْعٌ أَصْلًا، لِأَنَّ كُلَّ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ خُصُوصًا فِي الْمَنْقُولَاتِ لِجَوَازِ هَلَاكِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَنْفَسِخُ فَالْمُعْتَبَرُ مَانِعًا غَرَرُ الِانْفِسَاخِ الَّذِي لَمْ يُشْبِهْ نَفْعًا.

وَفَرَّقَ الْعَتَّابِيُّ بِغَيْرِ هَذَا بَيْنَ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ حَيْثُ يَنْفُذُ بِالْإِجَازَةِ وَبَيْنَ بَيْعِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ حَيْثُ لَا يَنْفُذُ بِالْإِجَازَةِ بِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْهُ لِلْمِلْكِ فَهُوَ مُقَرَّرٌ لِلْمِلْكِ حُكْمًا، وَالْمُقَرَّرُ لِلشَّيْءِ مِنْ حُقُوقِهِ فَجَازَ أَنْ يَتَوَقَّفَ بِتَوَقُّفِهِ وَالْبَيْعُ إزَالَةٌ لَهُ بِلَا إنْهَاءٍ فَكَانَ ضِدًّا مَحْضًا لِحُكْمِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ بِتَوَقُّفِهِ وَلَا يَنْفُذُ بِنَفَاذِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَعْتَقَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ، وَلَوْ بَاعَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَا يَرْجِعُ

وَالرَّابِعُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ الْمُشْتَرِي وَ) لَكِنْ (مَاتَ فِي يَدِهِ أَوْ قُتِلَ ثُمَّ أَجَازَ الْبَيْعَ؟ لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِجَازَةَ مِنْ

ص: 63

إذْ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْبَدَلِ لِلْمُشْتَرِي بِالْقَتْلِ حَتَّى يُعَدَّ بَاقِيًا بِبَقَاءِ الْبَدَلِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الْقَتْلِ مِلْكًا يُقَابَلُ بِالْبَدَلِ فَتَحَقَّقَ الْفَوَاتُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ثَابِتٌ فَأَمْكَنَ إيجَابُ الْبَدَلِ لَهُ فَيَكُونُ الْمَبِيعُ قَائِمًا بِقِيَامِ خَلَفِهِ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ عَبْدَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ أَوْ رَبِّ الْعَبْدِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْبَيْعِ وَأَرَادَ رَدَّ الْمَبِيعِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ) لِلتَّنَاقُضِ فِي الدَّعْوَى، إذْ الْإِقْدَامُ عَلَى الشِّرَاءِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِصِحَّتِهِ، وَالْبَيِّنَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى (وَإِنْ أَقَرَّ الْبَائِعُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي)

شَرْطِهَا قِيَامُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَاتَ) وَهَذَا فِي الْمَوْتِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الْقَتْلِ فَلَمَّا لَمْ يَعْتَبِرْ إيجَابَ الْبَدَلِ لِلْمُشْتَرِي بِالْقَتْلِ فَيَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بَاقِيًا بِبَقَاءِ بَدَلِهِ فَتَصِحُّ الْإِجَازَةُ كَمَا فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ إذَا قُتِلَ فِيهِ الْعَبْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْفَسِخُ كَمَا يَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ، بَلْ يَجْعَلُ قِيَامَ بَدَلِهِ كَقِيَامِهِ فَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يَخْتَارَ الْبَيْعَ فَيَدْفَعَ الثَّمَنَ وَيَرْجِعَ بِبَدَلِ الْعَبْدِ عَلَى قَاتِلِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَهُ فَيَصِيرَ إلَى الْبَائِعِ فَدَارَ الْفَرْقُ بِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ حَالَ الْقَتْلِ مِلْكًا يُقَابَلُ بِالْبَدَلِ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مَوْقُوفٌ، وَالْمِلْكُ الْمَوْقُوفُ لَا يُقَابَلُ بِالْبَدَلِ بِخِلَافِهِ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ عَبْدَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ) قَوْلُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَلَيْسَ مِنْ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ، بَلْ صُورَتُهَا: بَاعَ عَبْدَ غَيْرِهِ مِنْ رَجُلٍ فَأَقَامَ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ مَالِكُهُ بِبَيْعِهِ أَوْ أَقَامَ عَلَى قَوْلِ رَبِّ الْعَبْدِ ذَلِكَ وَأَرَادَ بِذَلِكَ رَدَّ الْعَبَدِ فَإِنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ لِلتَّنَاقُضِ عَلَى الدَّعْوَى، إذْ الْإِقْدَامُ عَلَى الشِّرَاءِ دَلِيلُ دَعْوَاهُ صِحَّتُهُ، وَأَنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَهُ وَدَعْوَاهُ إقْرَارُهُ بِعَدَمِ الْأَمْرِ يُنَاقِضُهُ، إذْ هُوَ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَمْلِكْ الْبَائِعُ الْبَيْعَ وَقَبُولُ الْبَيِّنَةِ يُبْنَى عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى فَحَيْثُ لَمْ تَصِحَّ لَمْ تُقْبَلْ؛ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ بَلْ ادَّعَى الْبَائِعُ بَعْدَ الْبَيْعِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِبَيْعِهِ وَقَالَ الْمُشْتَرِي أَمَرَك أَوْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي عَدَمَ الْأَمْرِ فَالْقَوْلُ لِمَنْ يَدَّعِي الْأَمْرَ لِأَنَّ الْآخَرَ مُنَاقِضٌ، إذْ إقْدَامُهُ عَلَى الْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ دَلِيلُ اعْتِرَافِهِ بِالصِّحَّةِ وَقَدْ نَاقَضَ بِدَعْوَاهُ عَدَمَ الْأَمْرِ، بِخِلَافِ الْآخَرِ، وَلِذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ لَا الْبَاطِلَةِ.

ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ الْبَائِعُ عِنْدَ الْقَاضِي بِذَلِكَ حَيْثُ يَحْكُمُ بِالْبُطْلَانِ، وَالرَّدِّ إنْ طَلَبَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ وَلِذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالشَّيْءِ بَعْدَ إنْكَارِهِ إيَّاهُ، إلَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ: يَعْنِي إنَّمَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ خَاصَّةً، فَإِذَا وَافَقَهُ الْمُشْتَرِي نَفَذَ عَلَيْهِمَا فَلِذَا شَرَطَ طَلَبَ الْمُشْتَرِي حَتَّى يَكُونَ نَقْضًا بِاتِّفَاقِهِمَا لَا بِمُجَرَّدِ إقْرَارِ الْبَائِعِ، وَالْمُرَادُ بِفَسْخِ الْقَاضِي أَنَّهُ يُمْضِي إقْرَارَهُمَا لَا أَنَّ الْفَسْخَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ وَفُرُوعِهَا أَنَّ صَاحِبَ الْعَبْدِ إذَا حَضَرَ وَصَدَّقَهُمَا نَفَذَ الْفَسْخُ فِي حَقِّهِ

ص: 64

بَطَلَ الْبَيْعُ إنْ طَلَبَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّنَاقُضَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُسَاعِدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَحَقَّقُ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمَا، فَلِهَذَا شَرَطَ طَلَبَ الْمُشْتَرِي. قَالَ رحمه الله: وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا صَدَّقَ مُدَّعِيَهُ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ أَنَّهُ لِلْمُسْتَحِقِّ تُقْبَلُ. وَفَرَّقُوا أَنَّ الْعَبْدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ

وَتَقَرَّرَ، وَإِنْ كَذَّبَهُمَا وَقَالَ كُنْت أَمَرْته كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إقْدَامَهُمَا إقْرَارٌ مِنْهُمَا بِالْأَمْرِ فَلَا يَعْمَلُ رُجُوعُهُمَا فِي حَقِّهِ، وَيَغْرَمُ الْبَائِعُ الثَّمَنَ لَهُ وَيَكُونُ الْمَبِيعُ لِلْبَائِعِ لَا لَهُ، وَيَبْطُلُ عَنْ الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ لِلْآمِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لِلْآمِرِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ يَمْلِكُ إبْرَاءَ الْمُشْتَرِي عَنْ الثَّمَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَيَمْلِكُ الْإِقَالَةَ بِغَيْرِ رِضَا الْآمِرِ.

وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَمْلِكُ (قَوْلُهُ وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ) إلَى آخِرِهِ. صُورَةُ مَسْأَلَةِ الزِّيَادَاتِ: اشْتَرَى جَارِيَةً وَقَبَضَهَا وَنَقَدَ الثَّمَنَ ثُمَّ ادَّعَاهَا مُسْتَحِقٌّ كَانَ الْمُشْتَرِي خَصْمًا لِأَنَّهُ يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِلْمُدَّعِي أَمَرَ بِتَسْلِيمِهَا وَلَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ، لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِهَا لَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْبَائِعِ، وَكَذَا لَوْ جَحَدَ دَعْوَاهُ فَحَلَفَ فَنَكَلَ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لِأَنَّ نُكُولَهُ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ كَإِقْرَارِهِ. فَرْقٌ بَيْن هَذَا وَبَيْنَ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلَهُ بِإِقْرَارِهِ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، وَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ يَلْزَمُهُ كَرَدِّهِ بِالْبَيِّنَةِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخْتَارٌ فِي النُّكُولِ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ مَعَ وُجُودِ مَا يُطَلِّقُ لَهُ الْحَلِفَ وَهُوَ الْبَيْعُ الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمِلْكِ، لَوْ كَانَ مُضْطَرًّا فَالِاضْطِرَارُ إنَّمَا لَحِقَهُ بِعَمَلٍ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَظْهَرُ حُكْمُ نُكُولِهِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ.

أَمَّا الْوَكِيلُ فَمُضْطَرٌّ فِي النُّكُولِ إذْ لَمْ يُوجَدْ مَا يُطْلِقُ لَهُ الْحَلِفَ فَإِنَّ غَيْرَ الْمَالِكِ يَخْفَى عَلَيْهِ عَيْبُ مِلْكِ الْمَالِكِ. وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي أَنَا أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لِلْمُسْتَحِقِّ لِأَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ لَا يَلْتَفِتُ

ص: 65

فِي يَدِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ، وَشَرْطُ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ أَنْ لَا يَكُونُ الْعَيْنُ سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي.

إلَيْهِ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي دَعْوَاهُ، لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الشِّرَاءِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِمِلْكِ الْبَائِعِ وَبِصِحَّةِ الْبَيْعِ، وَبِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ نَاقَضَ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا ذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ.

رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَبَضَهُ وَنَقَدَ الثَّمَنَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْبَائِعَ بَاعَ الْعَبْدَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِكَذَا قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ مَعَ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ سَاعٍ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ.

وَالثَّانِيَةُ مَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا وُهِبَ لِرَجُلٍ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ ثُمَّ أَقَامَ الْوَاهِبُ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ دَبَّرَهَا أَوْ اسْتَوْلَدَهَا قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ فَيَرْجِعُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْجَارِيَةِ وَالْعُقْرِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ مَعَ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ سَاعٍ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ وَفَرَّقَ أَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْوَاهِبِ فَالْفَرْقُ أَنَّ تَنَاقُضَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْحُرِّيَّةِ كَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ، وَالتَّنَاقُضُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ إنَّمَا قُبِلَ فِي دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُمَا مِمَّا قَدْ يَخْفَى عَلَى الْمُتَنَاقِضِ الْمُدَّعِي بِهَا بَعْدَ إقْرَارِهِ بِالرِّقِّ وَالْفَاعِلِ بِنَفْسِهِ لِلتَّدْبِيرِ مَثَلًا، وَالِاسْتِيلَادُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فِعْلُ نَفْسِهِ مِنْ اسْتِيلَادِهِ وَوَطْئِهِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُقْبَلَ تَنَاقُضُهُ وَلَا يُحْكَمَ بِبَيِّنَتِهِ.

وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْمَأْذُونِ فَبِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَيْعِ مِنْ الْغَائِبِ قُبِلَ الْبَيْعُ مِنْهُ فَقَدْ أَقَامَهَا عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ أَنَّهُ مِلْكُ الْغَائِبِ لِأَنَّ الْبَيْعَ إقْرَارٌ مِنْ الْبَائِعِ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَى الْمُشْتَرِي. ثُمَّ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْقَاقِ لَوْ أَقَامَهَا عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ أَنَّهَا لِلْمُسْتَحِقِّ قُبِلَتْ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى الْبَائِعِ بِإِقْرَارِهِ، وَهُوَ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ وَيَثْبُتُ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ وَهُوَ إقْرَارُ الْبَائِعِ، وَلَوْ كَانَ مُنَاقِضًا فَالتَّنَاقُضُ يَرْتَفِعُ بِتَصْدِيقِ الْخَصْمِ وَهُوَ يُثْبِتُ بِهَذَا تَصْدِيقَ الْخَصْمِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِ الْخَصْمِ وَلَا تُقْبَلُ عَلَى نَفْسِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ فِي يَدِهِ عَبْدٌ فَادَّعَاهُ رَجُلٌ فَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ مَا لَمْ يَدَّعِ الْوُصُولَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْغَائِبِ. وَلَوْ أَقَامَهَا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْوُصُولَ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ.

وَفَرْقٌ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْهِدَايَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ، كَمَا لَا تُقْبَلُ عَلَى دَعْوَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَامِعِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ سَالِمٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَسَلَامَةُ الْمَبِيعِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ فَلَا يَكُونُ مُدَّعِيًا حَقَّ الرُّجُوعِ.

وَفِي الزِّيَادَاتِ: وَضَعَ فِيمَا إذَا أَخَذَتْ الْجَارِيَةُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ مُدَّعِيًا لِنَفْسِهِ حَقَّ الرُّجُوعِ، قَالَ: وَلَا يُقَالُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَأْذُونِ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَمَعَ هَذَا قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ. لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَخَذَ الْعَبْدُ مِنْ يَدِهِ، وَهَذَا هُوَ فَرْقُ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ مَنْظُورٌ فِيهِ بِأَنَّ وَضْعَ مَسْأَلَةِ الزِّيَادَاتِ أَيْضًا فِي أَنَّ الْجَارِيَةَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي كَمَا أَسْمَعْتُك، فَالْأَوْلَى مَا ذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْجَامِعِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ، أَمَّا إذَا أَقَامَهَا عَلَى إقْرَارِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ أَنَّ رَبَّ الْعَبْدِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْبَيْعِ فَتُقْبَلُ لِأَنَّ إقْدَامَ الْمُشْتَرِي عَلَى الشِّرَاءِ يُنَاقِضُ دَعْوَاهُ إقْرَارَ الْبَائِعِ بِعَدَمِ الْأَمْرِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَلَا يُنَاقِضُ دَعْوَاهُ إقْرَارَهُ بِعَدَمِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْبَيْعِ.

قَالَ: وَمَسْأَلَةُ

ص: 66

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الزِّيَادَاتِ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذَا أَيْضًا فَتَقَعُ الْغُنْيَةُ عَنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ انْتَهَى.

وَقِيلَ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ مَحْمُولَةٌ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ أَوْ رَبِّ الْعَبْدِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَمْ تُقْبَلْ لِلتَّنَاقُضِ وَالزِّيَادَاتِ عَلَى الْإِقْرَارِ بَعْدَ الْبَيْعِ فَلَمْ يَلْزَمْ التَّنَاقُضُ فَقُبِلَتْ. وَمِمَّا يُنَاسِبُ الْمَسْأَلَةَ: بَاعَ عَبْدَ غَيْرِهِ بِلَا أَمْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْ مَوْلَاهُ ثُمَّ أَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى الْعَبْدَ مِنْ مَوْلَاهُ بَعْدَ بَيْعِهِ أَوْ وَرِثَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَالَ مُحَمَّدٌ: تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ. وَمِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى مَا فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ مَا لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي لِلْقَاضِي سَلْ الْبَائِعَ أَنَّ الْأَمَةَ لِلْمُسْتَحِقِّ أَوْ لَيْسَتْ لَهُ؟ أَجَابَهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَنَّهُ مَظْلُومٌ وَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ بِإِقْرَارِهِ، فَيَسْأَلُهُ الْقَاضِي فَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ أَلْزَمَهُ الثَّمَنَ، وَإِنْ أَنْكَرَ وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي تَحْلِيفَهُ أَجَابَهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ.

فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّمَا يُحَلِّفُهُ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَعْنَى لَوْ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ، فَإِذَا جَحَدَ يَسْتَحْلِفُ كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، فَإِنَّهُ قِيلَ نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ مُنَاقِضٌ لِأَنَّ شِرَاءَهُ إقْرَارٌ مِنْهُ بِصِحَّتِهِ وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ مِلْكُ الْمُسْتَحِقِّ إنْكَارُ ذَلِكَ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَكَمَا لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ إلَّا بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ لَا يُسْتَحْلَفُ إلَّا بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ. دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي الْمَأْذُونِ: اشْتَرَى عَبْدٌ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ أَنَا مَحْجُورٌ وَقَالَ الْبَائِعُ مَأْذُونٌ فَأَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى لَا تُقْبَلُ وَلَا يَسْتَحْلِفُ خَصْمَهُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ الْبَائِعُ يَلْزَمُهُ.

وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ أَرَادَ اسْتِحْلَافَ الْبَائِعِ أَنَّك مَا بِعْته مِنْ فُلَانٍ قَبْلَ أَنْ تَبِيعَهُ مِنِّي لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ الْبَائِعُ يَلْزَمُهُ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ فِي مَسْأَلَتِنَا الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُنَاقِضٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ لَا يُنْكِرُ الْعَقْدَ أَصْلًا وَلَا الثَّمَنَ، فَإِنَّ بَيْعَ مَالِ الْغَيْرِ مُنْعَقِدٌ وَبَدَلُ الْمُسْتَحِقِّ مَمْلُوكٌ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ وَصْفَ الْعَقْدِ وَهُوَ اللُّزُومُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَكَانَ مُتَنَاقِضًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَجَعَلْنَاهُ مُنَاقِضًا فِي حَقِّ الْبَيِّنَةِ وَلَمْ نَجْعَلْهُ مُنَاقِضًا فِي حَقِّ الْيَمِينِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِهِمَا، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ، فَلَوْ لَمْ نَجْعَلْهُ مُنَاقِضًا فِي حَقِّهَا يَلْزَمُنَا أَنْ لَا نَجْعَلَهُ مُنَاقِضًا فِي حَقِّ الْيَمِينِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُنْكِرٌ لِحُكْمِ الْعَقْدِ أَصْلًا، لِأَنَّ شِرَاءَ الْمَحْجُورِ لَا يُوجِبُ مِلْكَ الثَّمَنِ فَكَانَ مُنَاقِضًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمُوَافَقَةِ لِلْمُصَنِّفِ فِي الْفَرْقِ قَالَ: وَلَوْ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْجَارِيَةُ وَلَكِنْ ادَّعَتْ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ، فَإِنْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ أَوْ اُسْتُحْلِفَ فَنَكَلَ وَقَضَى الْقَاضِي بِحُرِّيَّتِهَا لَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ.

أَمَّا حُرِّيَّةُ الْجَارِيَةِ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ لَهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَصَحَّ إقْرَارُهُ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ نُكُولَهُ وَإِقْرَارَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. مِنْهُمْ مَنْ قَالَ قَوْلُهُ فَاسْتُحْلِفَ فَنَكَلَ غَلَطٌ مِنْ الْكَاتِبِ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لَا يَجْرِي فِي دَعْوَى الرِّقِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي إلَّا أَنَّ الْيَمِينَ تَكُونُ عَلَى الْأَمَةِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَأَبَى الْمُشْتَرِي الْيَمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا بِيعَتْ الْأَمَةُ وَسُلِبَتْ فَانْقَادَتْ لِذَلِكَ فَانْقِيَادُهَا كَإِقْرَارِهَا بِالرِّقِّ فَدَعْوَاهَا الْحُرِّيَّةَ كَدَعْوَى الْعِتْقِ الْعَارِضِ فَيَكُونُ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، فَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهَا حُرَّةٌ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ. فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَاقِضٍ فِي فَصْلِ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ فِيهَا يَظْهَرُ بَيِّنَتُهُ أَنَّهُ أَخَذَ الثَّمَنَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَذَلِكَ دَيْنٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَنْفِي انْعِقَادَ الْعَقْدِ وَمِلْكَ الْيَمِينِ لِلْبَائِعِ، فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ مُظْهِرَةً أَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الشِّرَاءِ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِانْعِقَادِ الْعَقْدِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ.

أَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ فَلَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ وَلَا مِلْكَ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، فَلَوْ قَبِلْنَا بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا لِلْمُسْتَحِقِّ لَا يَظْهَرُ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهَا لِلْمُسْتَحِقِّ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الشِّرَاءِ إقْرَارٌ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِلْبَائِعِ، وَمَعَ بَقَاءِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ وَيَصِيرُ مُكَذِّبًا شُهُودَهُ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي الْفَصْلَيْنِ، إلَّا

ص: 67

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دَارًا لِرَجُلٍ وَأَدْخَلَهَا الْمُشْتَرِي فِي بِنَائِهِ لَمْ يَضْمَنْ الْبَائِعُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله آخِرًا، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: يَضْمَنُ الْبَائِعُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَهِيَ مَسْأَلَةُ غَصْبِ الْعَقَارِ وَسَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

أَنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى؛ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ ثُمَّ أَقَامَ الْعَبْدَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ ذَلِكَ قُبِلَتْ.

وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله فِيمَنْ بَاعَ أَرْضًا ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَاعَ مَا هُوَ وَقْفٌ. مِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَصَارَ كَالْبَيْعِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ التَّدْبِيرِ وَنَحْوِهِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رحمه الله إنَّمَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا حُرَّةٌ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى حُرْمَةِ الْفَرْجِ فَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، حَتَّى لَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَمَةِ عَبْدٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا تُقْبَلُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ فَلَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَالتَّنَاقُضُ يَمْنَعُ الدَّعْوَى.

وَلَوْ ادَّعَى الْمُسْتَحِقُّ أَنَّهَا أَمَتُهُ أَعْتَقَهَا أَوْ دَبَّرَهَا أَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَأَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ أَوْ أَبَى الْيَمِينَ وَقَضَى عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَائِعِ بِذَلِكَ، إنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الشِّرَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ فَكَانَ مُدَّعِيًا لِلدَّيْنِ فَلَا يَكُونُ مُنَاقِضًا، فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بَيْنَهُمَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهَا وَقْتُ الْعَقْدِ كَانَتْ مَمْلُوكَةً مَحَلًّا لِلْعَقْدِ، وَالْإِعْتَاقُ الْمُتَأَخِّرُ لَا يُبْطِلُ الشِّرَاءَ السَّابِقَ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ دَارًا لِرَجُلٍ) أَيْ عَرْصَةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَفِي جَامِعِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ: مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا بَاعَهَا ثُمَّ اعْتَرَفَ بِالْغَصْبِ بَعْدَمَا أَدْخَلَهَا الْمُشْتَرِي فِي بِنَائِهِ فَكَذَّبَهُ الْمُشْتَرِي (لَمْ يَضْمَنْ الْبَائِعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) لِمَنْ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ مِنْهُ (وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يَضْمَنُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ غَصْبِ الْعَقَارِ) هَلْ يَتَحَقَّقُ أَوْ لَا؟ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا فَلَا يَضْمَنُ، وَعَنْهُ مُحَمَّدِ نَعَمْ فَيَضْمَنُ.

[فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَصْلِ]

بَاعَ الْأَمَةَ فُضُولِيٌّ مِنْ رَجُلٍ وَزَوَّجَهَا مِنْهُ فُضُولِيٌّ آخَرُ فَأُجِيزَا مَعًا ثَبَتَ الْأَقْوَى فَتَصِيرُ مَمْلُوكَةً لَا زَوْجَةً؛ وَلَوْ زَوَّجَاهَا مِنْ رَجُلٍ فَأُجِيزَا بَطَلَا، وَلَوْ بَاعَاهَا مِنْ رَجُلٍ فَأُجِيزَا تُنَصَّفُ بَيْنَهُمَا وَيُخَيَّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيْنَ أَخْذِ النِّصْفِ أَوْ التَّرْكِ. وَلَوْ بَاعَهُ فُضُولِيٌّ وَآجَرَهُ آخَرُ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ زَوَّجَهُ فَأُجِيزَا مَعًا ثَبَتَ الْأَقْوَى فَيَجُوزُ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ غَيْرُهُ لِأَنَّ الْبَيْعَ أَقْوَى، وَكَذَا تَثْبُتُ الْهِبَةُ إذَا وَهَبَهُ فُضُولِيٌّ وَآجَرَهُ آخَرُ وَكُلٌّ مِنْ الْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ بِخِلَافِ غَيْرِهَا.

وَالْإِجَارَةُ أَحَقُّ مِنْ الرَّهْنِ لِإِفَادَتِهَا مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ، وَالْبَيْعُ أَحَقُّ مِنْ الْهِبَةِ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ بِالشُّيُوعِ، فَفِيمَا لَا يَبْطُلُ بِالشُّيُوعِ كَهِبَةِ فُضُولِيٍّ عَبْدًا وَبَيْعِ آخَرَ إيَّاهُ يَسْتَوِيَانِ لِأَنَّ الْهِبَةَ مَعَ الْقَبْضِ تُسَاوِي الْبَيْعَ فِي إفَادَةِ الْمِلْكِ، وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ صَحِيحَةٌ فَيَأْخُذُ كُلٌّ النِّصْفِ.

وَلَوْ تَبَايَعَ غَاصِبًا عِرْضَيْ رَجُلٍ وَاحِدِ لَهُ فَأَجَازَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْبَيْعِ ثُبُوتُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالتَّصَرُّفِ وَهُمَا حَاصِلَانِ لِلْمَالِكِ فِي الْبَدَلَيْنِ بِدُونِ هَذَا الْعَقْدِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ فَلَمْ تَلْحَقْهُ الْإِجَازَةُ. وَلَوْ غَصْبًا مِنْ رَجُلَيْنِ وَتَبَايَعَا وَأَجَازَ الْمَالِكُ جَازَ. وَلَوْ غَصَبَا النَّقْدَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ وَعَقْدَ الصَّرْفِ وَتَقَابَضَا ثُمَّ أَجَازَ جَازَ لِأَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَاصِبِينَ

ص: 68

(بَابُ السَّلَمِ)

مِثْلَ مَا غَصَبَ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمُخْتَارَ فِي بَيْعِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ، فَلَوْ وَصَلَ إلَى الْمَالِكِ بِوَفَاءِ الدَّيْنِ أَوْ الْإِبْرَاءِ أَوْ فَسْخِ الْإِجَارَةِ أَوْ تَمَامِ الْمُدَّةِ تَمَّ الْبَيْعُ، وَلَوْ لَمْ يُجِيزَا فَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَقْتَ الْبَيْعِ بِهِمَا، وَإِنْ عَلِمَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ إذَا عَلِمَ، وَقِيلَ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْبَيْعِ بِلَا خِلَافٍ وَلَا لِلرَّاهِنِ وَالْمُؤَجِّرِ. وَفِي الْمُرْتَهِنِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.

وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: بَيْعُ الْمَغْصُوبِ مَوْقُوفٌ إنْ أَقَرَّ بِهِ الْغَاصِبُ أَوْ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ، فَلَوْ أَجَازَ تَمَّ الْبَيْعُ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ انْتَقَضَ الْبَيْعُ، وَقِيلَ لَا لِأَنَّهُ أَخْلَفَ بَدَلًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَبِشْرٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ شِرَاءَ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَاصِبٍ جَاحِدٍ يَجُوزُ وَيَقُومُ الْمُشْتَرِي مَقَامَ الْبَائِعِ فِي الدَّعْوَى.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ: رَجُلٌ غَصَبَ عَبْدًا وَبَاعَهُ وَدَفَعَهُ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ إنَّ الْغَاصِبَ صَالَحَ الْمَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ عَلَى شَيْءٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ صَالَحَهُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَانَ كَأَخْذِ الْقِيمَةِ مِنْ الْغَاصِبِ فَيَنْفُذُ بَيْعُ الْغَاصِبِ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عَرْضٍ كَانَ كَالْبَيْعِ مِنْ الْغَاصِبِ فَيَبْطُلُ بَيْعُ الْغَاصِبِ.

وَمِنْ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ بَيْعُ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ، وَكَذَا شِرَاؤُهُ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ وَالِدِهِ أَوْ وَصِيِّهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ الْقَاضِي، وَكَذَا الَّذِي بَلَغَ سَفِيهًا، وَالْمَعْتُوهُ، وَكَذَا بَيْعُ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ الْمَدْيُونَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْغُرَمَاءِ فِي الصَّحِيحِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ فَاسِدٌ، فَلَوْ قَبَضَ الْمَوْلَى الثَّمَنَ فَهَلَكَ عِنْدَهُ ثُمَّ أَجَازَ الْغُرَمَاءُ بَيْعَهُ صَحَّتْ إجَازَتُهُمْ وَيَهْلَكُ الثَّمَنُ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ الْبَيْعَ وَنَقَضَهُ بَعْضُهُمْ بِحَضْرَةِ الْعَبْدِ وَالْمُشْتَرِي لَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَمِنْهُ بَيْعُ الْمَرِيضِ عَيْنًا مِنْ وَارِثِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ أَوْ صِحَّةِ الْمَرِيضِ، فَإِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ نَفَذَ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهُ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ بَطَلَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ السَّلَمِ)

تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْقَسِمُ إلَى بَيْعٍ مُطْلَقٍ وَمُقَايَضَةٍ وَصَرْفٍ وَسَلَمٍ، لِأَنَّهُ إمَّا بَيْعُ عَيْنٍ بِثَمَنٍ وَهُوَ الْمُطْلَقُ، أَوْ قَلْبُهُ وَهُوَ السَّلَمُ، أَوْ ثَمَنٍ بِثَمَنٍ فَالصَّرْفُ، أَوْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ فَالْمُقَايَضَةُ.

وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَايَضَةِ قَبْضٌ فَقُدِّمَا وَشُرِطَ فِي الْآخَرِينَ، فَفِي الصَّرْفِ قَبْضُهُمَا وَفِي السَّلَمِ قَبْضُ أَحَدِهِمَا، فَقُدِّمَ انْتِقَالًا بِتَدْرِيجٍ. وَخُصَّ بِاسْمِ السَّلَمِ

ص: 69

السَّلَمُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ آيَةُ الْمُدَايَنَةِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ وَأَنْزَلَ فِيهَا أَطْوَلَ آيَةٍ فِي كِتَابِهِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الْآيَةُ.

لِتَحَقُّقِ إيجَابِ التَّسْلِيمِ شَرْعًا فِيمَا صُدِّقَ عَلَيْهِ: أَعْنِي تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ، وَكَانَ عَلَى هَذَا تَسْمِيَةُ الصَّرْفِ بِالسَّلَمِ أَلْيَقَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ وُجُودُ السَّلَمِ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الظَّاهِرُ الْعَامُّ فِي النَّاسِ سَبَقَ الِاسْمُ لَهُ، وَيُعْرَفُ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيَّ بَيْعُ آجِلٍ بِعَاجِلٍ.

وَمَا قِيلَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ غَيْرُ صَحِيحٍ لِصِدْقِهِ عَلَى الْبَيْعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَعُرِفَ أَيْضًا أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى عَقْدِهِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ بِأَنْ قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِعْتُك كَذَا حِنْطَةً بِكَذَا إلَى كَذَا، وَيَذْكُرُ بَاقِي الشُّرُوطِ أَوْ يَقُولُ الْمُسْلَمُ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ إلَى آخِرِهِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ وَعِيسَى بْنِ أَبَانَ، وَصِحَّةُ الْمَذْهَبِ عَنْهُ عُسْرُ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَعْنَى، وَمَعْنَى أَسْلَمْتُ إلَيْكَ إلَى كَذَا وَبِعْتُكَ إلَى كَذَا فِي الْبَيْعِ مَعَ بَاقِي الشُّرُوطِ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَذَاكَ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ لَا بِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ. وَعُرِفَ أَنَّ رُكْنَهُ رُكْنُ الْبَيْعِ.

وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهِ شِدَّةُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ شَرَائِطَهُ.

وَأَمَّا حُكْمُهُ فَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ فِي الثَّمَنِ، وَلِرَبِّ السَّلَمِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ الدَّيْنُ الْكَائِنُ فِي الذِّمَّةِ، أَمَّا فِي الْعَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَبْضِهِ عَلَى انْعِقَادِ مُبَادَلَةٍ أُخْرَى عَلَى مَا سَيُعْرَفُ وَالْمُؤَجَّلُ الْمُطَالَبَةُ بِمَا فِي الذِّمَّةِ، وَمَعْنَاهُ لُغَةً: السَّلَفُ، فَاعْتُبِرَ فِي الشَّرْعِ كَأَنَّ الثَّمَنَ يُسَلِّفُهُ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ لِيَقْضِيَهُ إيَّاهُ، وَجَعَلَ إعْطَاءَ الْعِوَضِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ فِيهِ قَضَاءً كَأَنَّهُ هُوَ، إذْ لَا يَصِحُّ الِاسْتِبْدَالُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَجَعَلَ الْهَمْزَةَ فِي أَسْلَمْتُ إلَيْكَ لِلسَّلْبِ بِمَعْنَى أَزَلْتُ سَلَامَةَ رَأْسِ الْمَالِ حَيْثُ سَلَّمْتُهُ إلَى مُفْلِسٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ بَعِيدٌ، وَلَا وَجْهَ لَهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمَدْفُوعِ هَالِكًا، وَصِحَّةُ هَذَا الِاعْتِبَارِ تَتَوَقَّفُ عَلَى غَلَبَةِ تَوَائِهِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْوَاقِعُ أَنَّ السَّلَمَ كَذَلِكَ بَلْ الْغَالِبُ الِاسْتِيفَاءُ (قَوْلُهُ وَهُوَ) يَعْنِي السَّلَمَ (عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ آيَةُ الْمُدَايَنَةِ) أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدِهِ.

وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ وَأَذِنَ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ

ص: 70

وَبِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» وَالْقِيَاسُ وَإِنْ كَانَ يَأْبَاهُ وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِمَا رَوَيْنَاهُ. وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ إذْ الْمَبِيعُ هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ.

قَالَ (وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»

بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الْآيَةُ، وَعَنْهُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَزَّاهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمُصَنِّفِينَ إلَى الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ فِي صَحِيحِهِ لِأَبِي حِسَانَ الْأَعْرَجِ وَاسْمُهُ مُسْلِمٌ، وَالْمُصَنِّفُ قَدْ ذَكَرَ لَفْظَ الْحَدِيثِ: أُحِلَّ السَّلَفُ الْمَضْمُونُ، فَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: الْمُرَادُ بِالْمَضْمُونِ الْمُؤَجَّلُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: السَّلَفُ الْمُؤَجَّلُ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ صِفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لَا مُؤَسِّسَةٌ، وَيَكُونُ مَا رَوَى الْمُخْرِجُونَ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ مِنْ قَوْلِهِ الْمَضْمُونُ إلَى أَجَلٍ جَمْعًا بَيْنَ مُقَرَّرَيْنِ.

وَقَوْلُهُ مُسَمًّى أَيْ مُعَيَّنٌ (وَ) كَذَا (بِالسُّنَّةِ) إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيهِ غَرَابَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» وَإِنْ كَانَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلْقُرْطُبِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عُثِرَ عَلَيْهِ بِهَذَا اللَّفْظِ. قِيلَ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُرَكَّبٌ مِنْ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ» ، إلَى أَنْ قَالَ:«وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَتَقَدَّمَ.

وَالرُّخْصَةُ فِي السَّلَمِ رَوَاهُ السِّتَّةُ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ يُسَلِّفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ. فَقَالَ: مَنْ أَسَلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسَلِّفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «إنَّا كُنَّا لَنُسَلِّفُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بِكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ» .

وَلَا يَخْفَى أَنَّ جَوَازَهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، إذْ هُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لِلْحَاجَةِ مِنْ كُلٍّ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِرْبَاحِ لِنَفَقَةِ عِيَالِهِ وَهُوَ بِالسَّلَمِ أَسْهَلُ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمَبِيعِ نَازِلًا عَنْ الْقِيمَةِ فَيُرْبِحُهُ الْمُشْتَرِي، وَالْبَائِعُ قَدْ يَكُونُ لَهُ حَاجَةٌ فِي الْحَالِ إلَى السَّلَمِ وَقُدْرَةٌ فِي الْمَآلِ عَلَى الْمَبِيعِ بِسُهُولَةٍ فَتَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ الْحَالِيَّةِ إلَى قُدْرَتِهِ الْمَالِيَّةِ فَلِهَذِهِ الْمَصَالِحُ شُرِعَ. وَمَنَعَ بَعْضُ مَنْ نَقَدَ الْهِدَايَةِ.

قَوْلُهُمْ السَّلَمُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، قَالَ: بَلْ هُوَ عَلَى وَفْقِهِ فَإِنَّهُ كَالِابْتِيَاعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ. وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ وَبَيْنَ الْآخِرِ، بَلْ هُوَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ وَمَصْلَحَةِ النَّاسِ.

قَالَ: وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَتَلَا الْآيَةَ

ص: 71

وَالْمُرَادُ بِالْمَوْزُونَاتِ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهُمَا أَثْمَانٌ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُثَمَّنًا فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِمَا ثُمَّ قِيلَ يَكُونُ بَاطِلًا، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدِينَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ التَّصْحِيحَ إنَّمَا يَجِبُ فِي مَحِلٍّ أَوْجَبَا الْعَقْدَ فِيهِ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ.

ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ انْدَفَعَ فِيهِ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ قِيَاسَ السَّلَمِ عَلَى الِابْتِيَاعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى بَيْعِ الْمَعْدُومِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ عَادَةً مَعَ الْحُلُولِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ، وَأَطَالَ كَلَامًا وَحَاصِلُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ الْقَوْمَ قَاسُوا السَّلَمَ عَلَى بَيْعِ الْمَعْدُومِ فَيَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَأَنَّ قِيَاسَهُ عَلَى الثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ أَوْلَى بِهِ، وَلَيْسَ كَلَامُهُمْ هَذَا بَلْ إنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْأَصْلِيِّ فِيهِ، وَكَوْنُهُ مَعْدُومًا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ عَادَةً لَيْسَ هُوَ مُعْتَبَرًا فِي مَفْهُومِ السَّلَمِ عِنْدَهُمْ بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ مِنْ عِنْدِهِ.

وَقَوْلُهُ أَيُّ فَرْقٍ إلَى آخِرِهِ يُفِيدُ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، وَكَلَامُهُ يُفِيدُ الِاعْتِرَافَ بِكَوْنِ بَيْعِ الْمَعْدُومِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.

ثُمَّ الْفَرْقُ ظَاهِرٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْبَيْعِ وَالْمَحِلِّ لِوُرُودِهِ فَانْعِدَامُهُ يُوجِبُ انْعِدَامَ الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ وَصْفٌ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَعَ صِحَّةِ الْبَيْعِ، فَقَدْ تَحَقَّقَ الْبَيْعُ شَرْعًا مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي الذِّمَّةِ وَصْفٌ يُطَابِقُهُ الثَّمَنُ لَا عَيْنُ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُفْهِمُ أَنَّهُ رَآهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَكَوْنُهُ فِيهِ مَصْلَحَةِ النَّاسِ لَا يَنْفِي أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بَلْ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ شُرِعَ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (رحمه الله، وَالْمُرَادُ بِالْمَوْزُونَاتِ) أَيْ الَّتِي يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا (غَيْرُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ) أَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فَإِنْ أَسْلَمَ فِيهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَالِاتِّفَاقُ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَسْلَمَ غَيْرَهَا مِنْ الْعُرُوضِ كَكُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ ثَوْبٍ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَلَا يَصِحُّ سَلَمًا بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُثَمَّنًا وَالنُّقُودُ أَثْمَانٌ فَلَا تَكُونُ مُسَلَّمًا فِيهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فَهَلْ يَنْعَقِدُ بَيْعًا فِي الْكُرِّ وَالثَّوْبِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ أَوْ يَبْطُلُ رَأْسًا؟ حَكَى الْمُصَنِّفُ فِيهِ خِلَافًا (قِيلَ يَبْطُلُ) وَهُوَ قَوْلُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ (وَقِيلَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ) وَلَا يَبْطُلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ، وَجَعَلَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ قَوْلَ عِيسَى بْنِ أَبَانَ أَصَحُّ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَحِلِّ الَّذِي أَوْجَبَ الْمُتَعَاقِدَانِ الْبَيْعَ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ وَهُمَا لَمْ يُوجِبَاهُ إلَّا فِي الدَّرَاهِم، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِهَا بَلْ بِاعْتِبَارِ الثَّوْبِ وَلَمْ يُوجِبَاهُ فِيهِ فَكَانَ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدِي أُدْخِلَ فِي الْفِقْهِ لِأَنَّ حَاصِلَ الْمَعْنَى الصَّادِرِ بَيْنَهُمَا إعْطَاءُ صَاحِبِ الثَّوْبِ بِرِضَاهُ ثَوْبَهُ إلَى الْآخِرِ بِدَرَاهِمَ مُؤَجَّلَةٍ، وَهَذَا مِنْ إفْرَادِ الْبَيْعِ بِلَا تَأْوِيلِ إذْ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي، وَكَوْنُهُ أَدْخَلَ الْبَاءَ عَلَى الثَّوْبِ لَا يَقْدَحُ فِي أَنَّ الْوَاقِعَ بَيْنَهُمَا هُوَ هَذَا الْمَعْنَى وَفِيهِ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِمَا، وَإِدْخَال الْبَاءِ عَلَى الثَّوْبِ كَإِدْخَالِهَا عَلَى الثَّوْبِ الْمُقَابَلِ بِالْخَمْرِ فِيمَا إذَا اشْتَرَى خَمْرًا بِثَوْبٍ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ بَلْ يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْخَمْرُ وَهُوَ مُبْطِلٌ اعْتِبَارًا لِتَحْصِيلِ غَرَضِهِمَا مَا أَمْكَنَ

ص: 72

قَالَ (وَكَذَا فِي الْمَذْرُوعَاتِ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِذِكْرِ الذَّرْعِ وَالصِّفَةِ وَالصَّنْعَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا لِتَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ صِحَّةِ السَّلَمِ،

قَوْلُهُ وَكَذَا فِي الْمَذْرُوعَاتِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِذَكَرِ الذَّرْعِ وَالصِّفَةِ وَالصَّنْعَةِ وَلَا بُدَّ مِنْهَا) أَيْ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لِلضَّبْطِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الصِّحَّةِ.

وَعُرِفَ مِنْ تَعْلِيلِهِ هَذَا أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ السَّلَمِ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَضْبُوطًا عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ مِنْ غَيْرِ إفْضَاءٍ إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَلِهَذَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْبَسْطِ وَالْحُصْرِ وَالْبَوَارِي إذَا بَيَّنَ الطُّولَ وَالْعَرْضَ.

وَفِي الْإِيضَاحِ: يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْوَزْنِ فِي ثِيَابِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ لِبَقَاءِ التَّفَاوُتِ بَعْدَ ذِكْرِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ فَإِنَّ الدِّيبَاجَ كُلَّمَا ثَقُلَ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ، وَالْحَرِيرُ كُلَّمَا خُفَّ زَادَتْ انْتَهَى. وَهَذَا فِي عُرْفِهِمْ. وَفِي عُرْفِنَا ثِيَابُ الْحَرِيرِ أَيْضًا وَهِيَ الْمُسَمَّاةِ بِالْكَمْخَاءِ كُلَّمَا ثَقُلَ ازْدَادَتْ الْقِيمَةُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْوَزْنِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْقِيمَةُ تَزِيدُ بِالثِّقَلِ أَوْ بِالْخِفَّةِ.

فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي النَّصِّ الْمُفِيدِ لِشَرْعِيَّتِهِ إلَّا الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِمَا غَيْرُهُمَا. لَا يُقَالُ: السَّلَمُ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» وَدَلِيلُ التَّخْصِيصِ جَازَ أَنْ يُعَلَّلَ وَيُلْحَقَ بِالْمَخْرَجِ غَيْرُهُ بِهِ.

لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يُخَالِفْ حُكْمُ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ الْقِيَاسَ لِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا خَالَفَ الْقِيَاسَ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ شَرْعِيَّةَ السَّلَمِ لَيْسَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَامِ بَلْ مِنْ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ فَالْعَامُّ وَهُوَ لَفْظُ مَا لَيْسَ عِنْدَك الْوَاقِعُ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ وَهُوَ لَا تَبِعْ مُطْلَقٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذِكْرِ الْأَجَلِ فِيمَا لَيْسَ عِنْدَكَ وَعَدَمِهِ، وَشَرْعِيَّةُ السَّلَمِ تَقْيِيدٌ لَهُ بِمَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْأَجَلَ فِي الْمَبِيعِ، أَمَّا إذَا ذَكَرَ الْأَجَلَ فَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ لَا بَعْضُهُ لِيَكُونَ تَخْصِيصًا بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ، بَلْ كُلُّ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ بِلَا ذِكْرِ أَجَلٍ عَلَى عُمُومِهِ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ وَكُلِّهِ مَعَ ذِكْرِهِ مَخْرَجٌ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ لَكِنْ بِشَرْطِ ضَبْطِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، كَمَا أَنَّ مَا عِنْدَهُ أَيْضًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَنْ غَيْرِ سَلَمٍ مَعَ جَهَالَتِهِ وَعَدَمِ ضَبْطِهِ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّهُ مَعَ شَرْطِهِ مِنْ الضَّبْطِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِأَجَلٍ وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ أَجَلٍ، وَكَوْنُ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ لَيْسَ تَعْيِينًا لَهُمَا وَلَا أَمْرًا بِخُصُوصِهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ السَّلَمِ، بَلْ حَاصِلُهُ أَمْرٌ بِتَعْيِينِ الْأَجَلِ وَالْكَيْلِ عَلَى تَقْدِيرِ السَّلَمِ فِي الْمَكِيلِ بَيَانًا لِشَرْطِ الصِّحَّةِ وَهُوَ عَدَمُ الْجَهَالَةِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ وَهُوَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةِ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ فَقَالَ: مِنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ يَعْنِي مِنْ هَذِهِ الثِّمَارِ فَلِيَكُنْ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ»، ثُمَّ إنَّهُ صلى الله عليه وسلم زَادَ الْوَزْنَ لِيُفِيدَ عَدَمَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْكَيْلِ، فَإِنَّ سَبَبَ شَرْعِيَّةِ

ص: 73

وَكَذَا فِي الْمَعْدُودَاتِ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ كَالْجَوْزِ وَالْبِيضِ، لِأَنَّ الْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِيهِ سَوَاءٌ لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى إهْدَارِ التَّفَاوُتِ، بِخِلَافِ الْبِطِّيخِ

بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ الْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِرْبَاحِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُقِلِّ الرَّاجِي فَأُنِيطَ بِمَظِنَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى أَخْذِ الْعَاجِلِ بِالْآجِلِ وَإِعْطَائِهِ وَشَرْطُ الضَّبْطِ لِدَفْعِ الْمُنَازَعَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلِذَا أَجْمَعُوا عَلَى عَدَمِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ سَبَبَ شَرْعِيَّتِهِ لَا تَخْتَلِفُ وَهُوَ الْحَاجَةُ الْمَاسَةُ إلَى أَخْذِ الْعَاجِلِ بِالْآجِلِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ مِنْ الْقَزَّازِينَ فِي الْمَذْرُوعِ كَمَا فِي أَصْحَابِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، يَفْهَمُ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ سَبَبَ الْمَشْرُوعِيَّةِ الْمَنْقُولِ فِي أَثْنَاءِ الْأَحَادِيثِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَلِذَا كَانَ ثُبُوتُ السَّلَمِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ بِالدَّلَالَةِ: أَعْنِي دَلَالَاتِ النُّصُوصِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلسَّبَبِ لِمَنْ سَمِعَهَا.

فَإِنْ قِيلَ: فِي الْمَذْرُوعَاتِ مَانِعٌ وَهُوَ أَنَّ الضَّبْطَ بِالذَّرْعِ دُونَهُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِمَا.

فَالْجَوَابُ حِينَئِذٍ. إنْ قُلْتَ: الذَّرْعُ لَا يُضْبَطُ الْقَدْرُ كَمَا يُضْبَطُ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ بَلْ الذَّرَاعُ الْمُعَيَّنُ يَضْبِطُ كَمْيَّةَ الْمَبِيعِ بِلَا شُبْهَةٍ فِيهِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ لَيْسَ فِي الصَّنْعَةِ، وَنَحْنُ مَا قُلْنَا إنَّ مُجَرَّدَ ذِكْرِ عَدَدِ الذُّرْعَانِ مُصَحِّحٌ لَلسَّلَمِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْأَوْصَافِ حَتَّى يَنْضَبِطُ، كَمَا أَنَّ الْمَكِيلَ أَيْضًا لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ السَّلَمِ فِيهِ مُجَرَّدُ ذِكْرِ عَدَدِ الْكَيْلِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ الْأَوْصَافَ مَعَهُ، فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّقْرِيرَ فَإِنَّ فِي غَيْرِهِ خَبْطًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ وَكَذَا فِي الْمَعْدُودَاتِ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ كَالْجَوْزِ وَالْبِيضِ) أَيْ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا (لِأَنَّ الْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبُ مَضْبُوطٌ بِالْعَدَدِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمُ فَيَجُوز السَّلَمُ فِيهِ) عَدَدًا (وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِيهِ سَوَاءٌ لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى إهْدَارِ التَّفَاوُتِ) بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ حِينَئِذٍ يَسِيرُ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلِذَا لَا تُبَاعُ بَيْضَةُ دَجَاجَةٍ بِفَلْسٍ وَأُخْرَى بِفَلْسَيْنِ، وَهَذَا هُوَ الضَّابِطُ فِي الْمَعْدُودِ الْمُتَقَارِبِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ الْمُصَنِّفُ: أَعْنِي أَنَّ مَا تَفَاوَتَتْ مَالِيَّتُهُ مُتَفَاوِتٌ كَالْبِطِّيخِ وَالْقَرْعِ وَالرُّمَّانِ وَالرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ وَالسَّفَرْجَلِ، فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عَدَدًا لِلتَّفَاوُتِ فِي الْمَالِيَّةِ إلَّا إذَا ذَكَرَ ضَابِطًا غَيْرَ مُجَرَّدِ الْعَدَدِ كَطُولٍ وَغِلَظٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَمِنْ الْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ الْجُوَالِقَاتِ وَالْفِرَاءِ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إلَّا بِذِكْرِ مُمَيَّزَاتٍ. وَأَجَازُوهُ فِي الْبَاذِنْجَانِ وَالْكَاغَدِ عَدَدًا لِإِهْدَارِ التَّفَاوُتِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى كَاغَدٍ بِقَالِبٍ خَاصٍّ وَإِلَّا لَا يَجُوزُ، وَكَوْنُ الْبَاذِنْجَانَ مُهْدَرَ التَّفَاوُتِ لَعَلَّهُ فِي بَاذِنْجَانِ دِيَارِهِمْ وَفِي دِيَارِنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ بِيضِ النَّعَامِ وَجَوْزُ الْهِنْدِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْءٌ مِنْهُ بِالْإِسْلَامِ فِي بِيضِ الدَّجَاجِ وَالْجَوْزِ الشَّامِيّ وَالْفِرِنْجِ لِعَدَمِ إهْدَارِ التَّفَاوُتِ مِنْ جِنْسَيْنِ لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ.

وَيُشْتَرَطُ مَعَ الْعَدَدِ بَيَانُ الصِّفَةِ أَيْضًا، فَلَوْ أَسْلَمَ فِي بِيضِ النَّعَامِ أَوْ جَوْزِ الْهِنْدِ جَازَ كَمَا جَازَ فِي الْآخَرِينَ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَنَعَهُ فِي بِيضِ النَّعَامِ ادِّعَاءٌ لِتَفَاوُتِ آحَادِهِ فِي الْمَالِيَّةِ وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَالْوَجْهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْغَرَضِ فِي عُرْفِ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ فِي عُرْفِ مَنْ يَبِيعُ بِيضَ النَّعَامِ الْأَكْلُ لَيْسَ غَيْرُ كَعُرْفِ أَهْلِ الْبَوَادِي يَجِبُ أَنْ يَعْمَلَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَيَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ فِي ذَلِكَ الْعُرْفِ حُصُولُ الْقِشْرِ لِيَتَّخِذَ فِي سَلَاسِلَ الْقَنَادِيلِ كَمَا فِي دِيَارِ مِصْرَ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْصَارِ يَجِبُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ الْعَدَدِ إلَّا مَعَ تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ وَاللَّوْنِ مَعَ نَقَاءِ الْبَيَاضِ أَوْ إهْدَارِهِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ

ص: 74

وَالرُّمَّانُ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، وَبِتَفَاوُتِ الْآحَادِ فِي الْمَالِيَّةِ يُعْرَفُ الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي بِيضِ النَّعَامَةِ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ كَمَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا يَجُوزُ كَيْلًا. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَجُوزُ كَيْلًا لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ وَلَيْسَ بِمَكِيلٍ. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَدَدًا أَيْضًا لِلتَّفَاوُتِ. وَلَنَا أَنَّ الْمِقْدَارَ مَرَّةُ يُعْرَفُ بِالْعَدَدِ وَتَارَةٌ بِالْكَيْلِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَعْدُودًا بِالِاصْطِلَاحِ فَيَصِيرُ مَكِيلًا بِاصْطِلَاحِهِمَا وَكَذَا فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا. وَقِيلَ هَذَا عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رحمه الله.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ. وَلَهُمَا أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا بِاصْطِلَاحِهِمَا فَتَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا وَلَا تَعُودُ وَزْنِيًّا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ

وَكَمَا يَجُوزُ عَدَدًا فِي الْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ يَجُوزُ كَيْلًا، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَكِيلٍ بَلْ مَعْدُودٍ، وَعَنْهُ لَا يَجُوزُ عَدَدًا أَيْضًا لِلتَّفَاوُتِ) بَيْنَ آحَادِهِ. قُلْنَا: أَمَّا التَّفَاوُتُ فَقَدْ أَهْدَرَ فَلَا تَفَاوَتَ إذْ لَا تَفَاوَتَ فِي مَالِيَّتِهِ؛ وَأَمَّا كَوْنُهُ مَعْدُودًا فَمُسَلَّمٌ، لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ كَيْلُهُ مَعَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْمِقْدَارِ لَيْسَ إلَّا لِلضَّبْطِ وَالضَّبْطُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي الْعَدَدِ بَلْ يَتَعَرَّفُ بِطَرِيقٍ آخَرَ.

فَإِنْ قِيلَ: الْكَيْلُ غَيْرُ مَعْدُومٍ فِيهِ لِمَا يَبْقَى بَيْنَ كُلِّ جَوْزَتَيْنِ وَبَيْضَتَيْنِ مِنْ التَّخَلْخُلِ: قُلْنَا: قَدْ عِلْمنَا بِهِ وَرَضِيَ رَبُّ السَّلَمِ فَإِنَّمَا وَقَعَ السَّلَمُ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَمْلَأُ هَذَا الْكَيْلَ مَعَ تَخَلْخُلِهِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ ذَلِكَ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا وَالْمَعْدُودُ لَيْسَ مِنْهَا، وَكِيلُهُ إنَّمَا كَانَ بِاصْطِلَاحِهِمَا فَلَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مَكِيلًا مُطْلَقًا لِيَكُونَ رِبَوِيًّا.

وَإِذَا أَجَزْنَاهُ كَيْلًا فَوَزْنًا أَوْلَى (قَوْلُهُ وَكَذَا فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا) أَيْ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا، هَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْجَامِعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ، فَكَانَ هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ. وَقِيلَ بَلْ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. أَمَّا عِنْدَهُ فَلَا يَجُوزُ بِدَلِيلِ مَنْعِهِ بِبَيْعِ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ فِي بَابِ الرِّبَا لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ، وَهَذَا مَا أَرَادَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَإِذَا كَانَتْ أَثْمَانًا لَمْ يَجُزْ السَّلَمُ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.

وَرَوَى عَنْهُ أَبُو اللَّيْثِ الْخُوَارِزْمِيَّ أَنَّ السَّلَمَ فِي الْفُلُوسِ لَا يَجُوزُ عَلَى وَفْقِ هَذَا التَّخْرِيجِ، لَكِنْ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ الْجَوَازُ. وَالْفَرْقُ لَهُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالسَّلَمِ أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ السَّلَمِ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مُثَمَّنًا، فَإِذَا أَقْدَمَا عَلَى السَّلَمِ فَقَدْ تَضَمَّنَ إبْطَالُهُمَا اصْطِلَاحَهُمَا عَلَى الثَّمَنِيَّةَ، وَيَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَعَامَلُ فِيهَا بِهِ وَهُوَ الْعَدُّ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُهُ عَلَى الثَّمَنِ فَلَا مُوجِبَ لِخُرُوجِهَا فِيهِ عَنْ الثَّمَنِيَّةَ فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فَامْتَنَعَ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ الْفَرْقَ الْمَذْكُورَ جَوَابُ الْمُصَنِّفُ الْمَذْكُورِ عَلَى تَقْدِيرِ تَخْرِيجِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ.

وَقَوْلُنَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي إلَى آخِرِهِ هُوَ تَقْرِيرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلَا يَعُودُ وَزْنِيًّا: يَعْنِي إذَا بَطَلَتْ ثَمَنِيَّتُهَا لَا يَلْزَمُ خُرُوجُهَا عَنْ الْعَدَدِيَّةِ إلَى الْوَزْنِيَّةِ، إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ الثَّمَنِيَّةِ عَدَمُ الْعَدَدِيَّةِ كَالْجَوْزِ وَالْبِيضِ بَلْ يَبْقَى عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تُعُورِفَ التَّعَامُلُ بِهِ فِيهَا وَهُوَ الْعَدَدُ إلَّا أَنْ يُهْدِرَهُ أَهْلُ الْعُرْفِ كَمَا هُوَ فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّ الْفُلُوسَ أَثْمَانٌ فِي زَمَانِنَا وَلَا تُقْبَلُ إلَّا وَزْنًا فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا إلَّا وَزْنًا فِي دِيَارِنَا فِي زَمَانِنَا وَقَدْ

ص: 75

(وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوز لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالسِّنِّ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ، وَالتَّفَاوُتُ بَعْدَ ذَلِكَ يَسِيرٌ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ. وَلَنَا أَنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ مَا ذَكَرَ يَبْقَى فِيهِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فِي الْمَالِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ،

كَانَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَدَدِيَّةٌ فِي دِيَارِنَا أَيْضًا

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ) دَابَّةَ كَانَ أَوْ رَقِيقًا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ (يَجُوزُ) لِلْمَعْنَى وَالنَّصِّ.

أَمَّا الْمَعْنَى (فَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا) أَيْ مُنْضَبِطًا (بِبَيَانِ الْجِنْسِ) كَفَرَسٍ أَوْ إبِلٍ أَوْ عَبْدٍ (وَالسِّنُّ) كَابْنِ مَخَاضٍ أَوْ عَشَّارٍ (وَالنَّوْعُ) كَعَرَبِيٍّ وَبَخْتِيٍّ وَحَبَشِيٍّ (وَالصِّفَةُ) كَأَحْمَرَ وَأَسْمَرَ وَطَوِيلٍ أَوْ رَبَعَةٍ (وَالتَّفَاوُتُ بَعْدَ ذَلِكَ يَسِيرٌ) وَهُوَ مُغْتَفَرٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ سَلَمٌ أَصْلًا، فَإِنَّ الْغَائِبَ لَوْ بَلَغَ فِي تَعْرِيفِهِ النِّهَايَةَ لَا بُدَّ مِنْ تَفَاوُتٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْئِيِّ، فَإِنَّ بَيْنَ جَيِّدٍ وَجَيِّدٍ مِنْ الْحِنْطَةِ تَفَاوُتًا لَا يَخْفَى وَإِنْ صَدَقَ اسْمُ الْجُودَةِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَذَا بَيْنَ ثَوْبِ دِيبَاجٍ أَحْمَرَ وَثَوْبُ دِيبَاجٍ أَحْمَرَ فَعُلِمَ أَنَّ التَّفَاوُتَ الْيَسِيرَ مُغْتَفَرٌ شَرْعًا فَصَارَ الْحَيَوَانُ كَالثِّيَابِ وَالْمَكِيلِ، وَأَمَّا النَّصُّ فَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا، فَنَفِدَتْ الْإِبِلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى قَلَائِصَ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ» . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدِهِ

ص: 76

بِخِلَافِ الثِّيَابِ لِأَنَّهُ مَصْنُوعُ الْعِبَادِ فَقَلَّمَا يَتَفَاوَتُ الثَّوْبَانِ إذَا نُسِجَا عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ.

إلَى أَبِي رَافِعٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بِكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إبِلٌ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ لِلرَّجُلِ بِكْرَهُ، فَرَجَعَ إلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إلَّا جَمَلًا خِيَارًا رَبَاعِيًا، فَقَالَ: أَعْطِهِ إيَّاهُ، إنَّ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحَيَوَانِ فِي الذِّمَّةِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ يُوفِيهَا صَاحِبُهَا بِالرَّبْذَةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ، وَاسْتَوْصَفَ بَنُو إسْرَائِيلَ الْبَقَرَةَ فَوَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ فَعَلِمُوهَا بِالْوَصْفِ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «أَلَّا لَا يَصِفُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ بَيْنَ يَدَيْ امْرَأَتِهِ حَتَّى كَأَنَّهَا تَنْظُرُ إلَيْهِ وَلَا تَصِفُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ بَيْن يَدَيْ زَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا» فَقَدْ جَعَلَ الْمَوْصُوفَ كَالْمَرْئِيِّ.

وَقَدْ أَثْبَتَ الشَّرْعُ الْغُرَّةَ وَمِائَةً مِنْ الْإِبِلِ دِيَةٌ فِي الذِّمَّةِ وَأَثْبَتَ مَهْرًا فِي الذِّمَّةِ، وَصِحَّةُ الدَّعْوَى بِالْحَيَوَانِ الْمَوْصُوفِ وَالشَّهَادَةِ بِهِ مَعَ أَنَّ شَرْطَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ كَوْنُ الْمُدَعِّي وَالْمَشْهُودُ بِهِ مَعْلُومًا.

قُلْنَا: أَمَّا الْمَعْنَى فَيَمْنَعُ أَنَّ بَعْدَ الْوَصْفِ فِي الْحَيَوَانِ يَصِيرُ التَّفَاوُتُ يَسِيرًا بَلْ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا يَصِيرُ مَعَهُ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّ الْعَبْدَيْنِ وَالْمُتَسَاوِيَيْنِ سِنًّا وَلَوْنًا وَجِنْسًا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ فِي حُسْنِ الشِّيمَةِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَدَبِ وَفَهْمِ الْمَقَاصِدِ مَا يُصَيِّرُهُ بِأَضْعَافِ قِيمَةِ الْآخَرِ، وَكَذَا بَيْنَ الْفَرَسَيْنِ وَالْجَمَلَيْنِ (بِخِلَافِ الثِّيَابِ) فَإِنَّهَا مَصْنُوعَةُ الْعَبْدِ بِآلَةٍ خَاصَّةٍ، فَإِذَا اتَّحَدَتْ لَمْ تَتَفَاوَتْ إلَّا يَسِيرًا، وَكَذَا بَيْنَ الْجَيِّدِينَ مِنْ الْحِنْطَةِ مِثْلًا بِاتِّفَاقِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ ذَلِكَ وَلَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ تَعَالَى الْحَيَوَانَ كَذَلِكَ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله (قَلَّمَا يَتَفَاوَتُ الثَّوَبَانُ إذَا نُسِجَا عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ) يُرِيدُ أَنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ قَلِيلًا لَا عَدَمَ التَّفَاوُتِ أَصْلًا كَمَا هُوَ اسْتِعْمَالُ قَلَّمَا فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ: أَعْنِي قَلَّ إذَا كَفَّ بِمَا اسْتَعْمَلَ لِلنَّفْيِ: كَقَوْلِهِ وَقَلَّمَا وِصَالٌ عَلَى طُولِ الصُّدُودِ يَدُومُ وَحِينَ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ قِلَّةَ التَّفَاوُتِ وَجَبَ أَنْ تَجْعَلَ مَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْمَعْنَى قَلَّ التَّفَاوُتُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي قَوْلِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الشَّارِحِينَ إذَا اتَّحَدَ الصَّانِعُ وَالْآلَةُ اتَّحَدَا الْمَصْنُوعُ مِنْ التَّسَاهُلِ.

وَأَمَّا النَّصُّ الْمَذْكُورُ فَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ مُضْطَرِبُ الْإِسْنَادِ، فَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ هَكَذَا، وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ فَأَسْقَطَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ وَقَدَّمَ أَبَا سُفْيَانَ عَلَى مُسْلِمِ بْنِ جُبَيْرٍ. ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَرَوَاهُ عَفَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَقَالَ فِيهِ: عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي حَبِيبٍ: عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ حَرِيشٍ.

وَرَوَاهُ عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ حَرِيشٍ.

وَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، فَأَسْقَطَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ وَقَدَّمَ أَبَا سُفْيَانَ كَمَا فَعَلَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي مُسْلِمِ بْنِ جُبَيْرٍ مُسْلِمِ بْنِ كَثِيرٍ، وَمَعَ هَذَا الِاضْطِرَابِ فَعَمْرُو بْنُ حُرَيْشٍ مَجْهُولُ الْحَالِ وَمُسْلِمُ بْنُ جُبَيْرٍ لَمْ أَجِدْ لَهُ ذِكْرًا وَلَا أَعْلَمْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْإِسْنَادِ، وَأَبُو سُفْيَانَ فِيهِ نَظَرٌ انْتَهَى كَلَامُهُ.

فَلَا حُجَّةَ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً». وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ بِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَزَّارُ قَالَ الْبَزَّارُ: لَيْسَ فِي الْبَابِ أَجَلٌ إسْنَادًا مِنْ هَذَا.

وَقَوْلُ الْبَيْهَقِيّ إنَّهُ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلٌ بِسَبَبِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ عَنْ مَعْمَرٍ كَذَلِكَ كَأَنَّهُ هُوَ مَبْنَى قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: إنَّ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً غَيْرُ ثَابِتٍ، لَكِنْ هَذَا غَيْرُ مَقْبُولٍ بَعْدَ تَصْرِيحِ الثِّقَاتِ بِابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ دَاوُد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ عَنْ مَعْمَرٍ بِهِ مُسْنَدًا، وَغَايَةُ مَا فِيهِ تَعَارُضُ الْوَصْلِ

ص: 77

وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ» وَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَجْنَاسِهِ حَتَّى الْعَصَافِيرُ.

وَالْإِرْسَالِ مِنْ الثِّقَاتِ وَالْحُكْمُ فِيهِ لِلْوَصْلِ كَمَا عُرِفَ، وَقَدْ تَأَيَّدَ بَعْدَ تَصْحِيحِهِ بِأَحَادِيثَ مِنْ طُرُقٍ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سُمْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً» وَقَوْلُ الْبَيْهَقِيّ: أَكْثَرُ الْحُفَّاظِ لَا يُثْبِتُونَ سَمَاعَ الْحَسَنِ مِنْ سُمْرَةَ مُعَارَضٌ بِتَصْحِيحِ التِّرْمِذِيِّ لَهُ، فَإِنَّهُ فَرَّعَ الْقَوْلَ بِسَمَاعِهِ مِنْهُ مَعَ أَنَّ الْإِرْسَالَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ لَا يَقْدَحُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ شَاهِدًا مُقَوِّيًا فَلَا يَضُرُّهُ الْإِرْسَالُ.

وَأَيْضًا اُعْتُضِدَ بِالْوُصُولِ السَّابِقِ أَوْ الْمُرْسَلِ الَّذِي يَرْوِيهِ مَنْ لَيْسَ يَرْوِي عَنْ رِجَالِ الْآخَرِ، وَحَدِيثٌ آخَرُ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْحَيَوَانُ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ لَا يَصْلُحُ نَسَاءٌ، وَلَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ كَأَنَّهُ لِلْخِلَافِ فِي الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ.

وَحَدِيثٌ آخَرَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ سَوَاءٌ، وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ مُرْسَلٌ وَجَوَابُهُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا وَتَضْعِيفُ ابْنِ مَعِينٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ دِينَارٍ لَا يَضُرُّ لِذَلِكَ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ أَبِي خَبَّابٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَبِيعُ الْفَرَسَ بِالْأَفْرَاسِ وَالنَّجِيبَةَ بِالْإِبِلِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» وَحَمَلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى كَوْنِ النَّهْيِ فِيمَا إذَا كَانَ النَّسَاءُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ حَتَّى يَكُونَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ تَقْيِيدًا لِلْأَعَمِّ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ بِلَا مُوجِبٍ.

وَقَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ» هُوَ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ جَوْنِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ الذِّمَارِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَة عَنْ ابْن عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ السَّلَفِ فِي الْحَيَوَانِ» وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.

وَتَضْعِيفُ ابْنِ مَعِينٍ بْن جَوْنِي فِيهِ نَظَرٌ بَعْد تَعَدُّدِ مَا ذَكَرَ مِنْ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ وَالْحِسَانِ مِمَّا هُوَ بِمَعْنَاهُ يَرْفَعُهُ إلَى الْحُجِّيَّةِ بِمَعْنَاهُ لِمَا عُرِفَ فِي فَنِّ الْحَدِيثِ، وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يُرَجَّحَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ إنْ صَحَّ لِأَنَّهُ أَقْوَى سَنَدًا: أَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ حِبَّانَ، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ يُرَجَّحُ عَلَى الْمُبِيحِ.

وَفِي الْبَابِ أَثَرُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ

ص: 78

قَالَ (وَلَا فِي أَطْرَافِهِ كَالرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ) لِلتَّفَاوُتِ فِيهَا إذْ هُوَ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ لَا مُقَدَّرٌ لَهَا.

عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: دَفَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى زَيْدِ بْنِ خُوَيْلِدَةَ الْبِكْرِيِّ مَالًا مُضَارَبَةَ، فَأَسْلَمَ زَيْدٌ إلَى عِتْرِيسِ بْنِ عُرْقُوبِ الشَّيْبَانِيِّ فِي قَلَائِصَ، فَلَمَّا حَلَّتْ أَخَذَ بَعْضًا وَبَقِيَ بَعْضُ، فَأُعْسِرَ عِتْرِيسُ وَبَلَغَهُ أَنَّ الْمَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ فَأَتَاهُ يَسْتَرْفِقُهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَفَعَلَ زَيْدٌ؟ فَقَالَ نَعَمْ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: اُرْدُدْ مَا أَخَذْتَ وَخُذْ رَأْسَ مَالِكَ وَلَا تُسَلِّمْنَ مَا لَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ.

قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: فِيهِ انْقِطَاعٌ يُرِيدُ بَيْنَ إبْرَاهِيمَ وَعَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُرْوَى عَنْهُ بِوَاسِطَةِ عَلْقَمَةَ أَوْ الْأَسْوَدِ، إلَّا أَنَّ هَذَا غَيْرُ قَادِحٍ عِنْدَنَا خُصُوصًا مِنْ إرْسَالِ إبْرَاهِيمَ، فَقَدْ تَعَارَضَتْ الْأَحَادِيثُ وَالطُّرُقُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسُمْرَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَطْلُوبِ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ مَعْرِفَةِ الْبَقَرَةِ بِالْوَصْفِ فَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ لَهُمْ أَوْصَافًا ظَاهِرَةً لِيُطَبِّقُوهَا عَلَى مَعِينٍ مَوْجُودٍ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذَا مِمَّا تَحْصُلُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ وَكَلَامُنَا فِي أَنَّهُ يَنْتَفِي مَعَهُ التَّفَاوُتُ الْفَاحِشُ مُطْلَقًا مَعْنَاهُ.

وَأَمَّا مَنْعُهُ صلى الله عليه وسلم وَصْفُ الرَّجُلِ الْحَدِيثِ فَلِلُحُوقِ الْفِتْنَةِ عَلَى السَّامِعِ وَهِيَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى انْتِفَاءِ التَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالشَّخْصِ. وَأَمَّا ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ فِي الْمَهْرِ وَالدِّيَةِ وَنَحْوِهِمَا فَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ فِيهِ لَيْسَ مُقَابَلًا بِمَالٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ فَتَجْرِي فِيهِ الْمُسَاهَلَةُ، بِخِلَافِ مَا قُوبِلَ بِمَالٍ فَإِنَّهُ تَجْرِي فِيهِ الْمُشَاحَحَةُ فَجْرَيْنَا عَلَى مُوجِبِ ذَلِكَ وَقُلْنَا: مَا وَقَعَ مِنْ الْحَيَوَانِ بَدَلَ مَالٍ كَالْمَبِيعِ مِنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ لَمَا يَجْرِي فِيهِ الْمُشَاحَحَةُ عَادَةً، بِخِلَافِ غَيْرِهِ كَالْمَهْرِ وَمَا مَعَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِوَضًا عَنْ مَالٍ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْآخَرِ فَيَجُوزُ فَعَمَلنَا بِالْآثَارِ فِيهِمَا.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَوْنُ التَّفَاوُتِ بَعْدَ الْأَوْصَافِ يَبْقَى فَاحِشًا لَا يَضُرُّ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْبَاطِنِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ سِوَى مَا تَضَمَّنَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ، فَإِذَا انْطَبَقَ الْمَذْكُورُ مِنْهَا عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِقَبُولِهِ سَوَاءٌ كَانَ التَّفَاوُتُ قَلِيلًا بِحَسَبِ الْبَاطِنِ أَوْ كَثِيرًا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا الْمَوْصُوفُ فَقَطْ.

نَعَمْ لَوْ عَيَّنَ مِنْ الْأَوْصَافِ الذَّكَاءَ وَجُودَةَ الْفَهْمِ وَالْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ يَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بَعْدَ زَمَانِ الِاخْتِبَارِ، وَبَعْدَهُ تَجْرِي الْمُنَازَعَةُ فِي أَنَّ أَخْلَاقَهُ مَا هِيَ وَفِي تَحْرِيرِهَا.

فَالْمُفْزِعُ فِي إبْطَالِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ لَيْسَ إلَّا السُّنَّةُ، وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَمَّا سَأَلَهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَ: قُلْتَ لَهُ: إنَّمَا لَا يَجُوزُ فِي الْحَيَوَانِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بِالْوَصْفِ، قَالَ: لَا، لِأَنَّا نُجَوِّزُ السَّلَمَ فِي الدَّيَابِيجِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَصَافِيرِ، وَلَعَلَّ ضَبْطُ الْعَصَافِيرِ بِالْوَصْفِ أَهْوَنُ مِنْ ضَبْطِ الدَّيَابِيجِ وَلَكِنَّهُ بِالسَّنَةِ.

وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ: وَالْعَصَافِيرُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ لَكِنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُنْقَطِعِ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقْتَنَى وَلَا يُحْبَسُ لِلتَّوَالُدِ وَلَا يَتَيَسَّرُ أَخْذُهُ وَلَا رُجْحَانُ أَخْذِهِ يُقَامُ مَقَامَ الْمَوْجُودِ، بِخِلَافِ السَّمَكِ الطَّرِيِّ لِرُجْحَانِ إمْكَانِ أَخْذِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازُ السَّلَمِ فِيمَا يُقْتَنَى مِنْهَا كَالْحَمَامِ وَالْقُمْرِيِّ وَهُوَ خِلَافُ الْمَنْصُوصِ عَنْ مُحَمَّدٍ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ كَالْعَصَافِيرِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا وَفِي لُحُومِهَا، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى الدَّلِيلِ، لِأَنَّا إنْ عَلَّلْنَاهُ بِعَدَمِ الضَّبْطِ فَالْعِبْرَةُ لِعَيْنِ النَّصِّ لَا لِمَعْنَى النَّصِّ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا عُمُومَهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ قِيلَ. فَالسَّمَكُ الطَّرِيُّ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ الْحَيَوَانِ فَجَازَ فِي الْعَصَافِيرِ قِيَاسًا عَلَى الثِّيَابِ بِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ. قُلْنَا: إنَّمَا يَتِمُّ لَوْ شَرَطَ حَيَاةَ السَّمَكِ الطَّرِيِّ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ كَيْفَمَا كَانَ حَتَّى لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ كَانَ لَنَا أَنْ نَمْنَعَ صِحَّةَ السَّلَمِ فِيهِ (قَوْلُهُ وَلَا فِي أَطْرَافِهِ) أَيْ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ (كَالرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ) وَهُوَ جَمْعُ كَرَاعٍ وَهُوَ

ص: 79

قَالَ (وَلَا فِي الْجُلُودِ عَدَدًا وَلَا فِي الْحَطَبِ حُزَمًا وَلَا فِي الرَّطْبَةِ جُرُزًا) لِلتَّفَاوُتِ فِيهَا، إلَّا إذَا عُرِفَ ذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُ طُولَ مَا يَشُدُّ بِهِ الْحُزْمَةَ أَنَّهُ شِبْرٌ أَوْ ذِرَاعٌ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ

مَا دُونَ الرُّكْبَةِ فِي الدَّوَابِّ.

قِيلَ الْمَانِعُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَنْعِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ وَهَذِهِ أَبْعَاضُهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا الْحَيَوَانُ إنْ كَانَ النَّهْيُ تَعَبُّدًا، وَلَا الْمَعْنَى إنْ كَانَ مَعْلُولًا بِالتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، وَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجُوزُ فِي الْجُلُودِ لَكِنَّهُ جَائِزٌ بِذِكْرِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالنَّوْعِ وَالْجُودَةِ، وَلِذَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجُلُودِ وَزْنًا. وَالْمُصَنِّفُ إنَّمَا ذَكَرَ فِي مَنْعِهِ أَنَّهَا عَدَدِيَّةٌ مُتَفَاوِتَةٌ وَلَا مُقَدَّرٌ لَهَا فَامْتَنَعَ السَّلَمُ عَدَدًا وَغَيْرُ عَدَدٍ لِانْتِفَاءِ الْمَقْدُورِ.

وَعِنْدِي لَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الرُّءُوسِ وَالْأَكَارِعِ وَزْنًا بَعْدَ ذِكْرِ النَّوْعِ، وَبَاقِي الشُّرُوطِ، فَإِنَّ الْأَكَارِعَ وَالرُّءُوسَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ حِينَئِذٍ لَا تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، وَقَوْلُ مَالِكٍ بِجَوَازِهِ عَدَدًا بَعْدَ ذِكْرِ النَّوْعِ لِخِفَّةِ التَّفَاوُتِ جَيِّدٌ لَكِنْ يُرَادُ أَنَّهَا رُءُوسُ عَجَاجِيلٍ أَوْ أَبْقَارٍ كِبَارٍ وَنَحْوِهِ فِي الْغَنَمِ، فَإِنَّ التَّفَاوُتَ بَعْدَ ذَلِكَ يَسِيرٌ (لَا فِي الْجُلُودِ عَدَدًا) وَكَذَا الْأَخْشَابُ وَالْجُوَالِقَاتُ وَالْفِرَاءُ وَالثِّيَابُ الْمَخِيطَةُ وَالْخِفَافُ وَالْقَلَانِسُ، إلَّا أَنْ يَذْكُرَ الْعَدَدَ لِقَصْدِ التَّعَدُّدِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ ضَبْطًا لِكَمِّيَّتِهِ ثُمَّ يَذْكُرُ مَا يَقَعُ بِهِ الضَّبْطَ كَأَنْ يَذْكُرَ فِي الْجُلُودِ مِقْدَارًا مِنْ الطُّولِ وَالْعَرْضِ بَعْدَ النَّوْعِ كَجُلُودِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَكَذَا فِي الْأَدِيمِ بِأَنْ يَقُولَ طَائِفِيٍّ أَوْ بَرْغَالِيٍّ، وَفِي الْخَشَبِ طُولُهُ وَغِلَظُهُ وَنَوْعُهُ كَسَنْطٍ أَوْ حَوْرٍ وَنَحْوِهِ.

وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ يَجُوزُ فِي الْكَاغَدِ عَدَدًا مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدِ تَسْمِيَةِ طُولِهِ وَعِرْضِهِ وَثُخْنِهِ وَرِقَّتِهِ وَنَوْعِهِ، إلَّا أَنْ يُغْنِيَ ذِكْرُ نِسْبَتِهِ عَنْ قَدْرِهِ كَوَرَقٍ حَمَوِيّ، وَفِي الْجَوَالِيقِ طُولُهُ وَوُسْعُهُ، وَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ مُمَيِّزًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ قَاطِعًا لِلِاشْتِرَاكِ (وَ) كَذَا (لَا) يَجُوزُ (فِي الْحَطَبِ حُزَمًا وَلَا فِي الرَّطْبَةِ جُرُزًا لِلتَّفَاوُتِ إلَّا إذَا عَرَفَ ذَلِكَ) بِأَنْ يُبَيِّنَ طُولَ مَا يَشُدُّ بِهِ الْحُزْمَةَ أَنَّهُ شِبْرٌ أَوْ ذِرَاعٌ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ إذَا كَانَ لَا يَتَفَاوَتُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنْ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا أَصْلًا بَلْ لَا يَجُوزُ بِهَذَا الْعَقْدِ، وَلَوْ قَدَّرَ بِالْوَزْنِ فِي الْكُلِّ جَازَ.

وَفِي دِيَارِنَا تَعَارَفُوا فِي نَوْعٍ مِنْ الْحَطَبِ الْوَزْنَ فَيَجُوزُ الْإِسْلَامُ فِيهِ وَزْنًا وَهُوَ أَضْبَطُ وَأَطْيَبُ، وَكَوْنُ الْعُرْفِ فِي شَيْءٍ مِنْ بَعْضِ الْمُقَدَّرَاتِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَتَعَامَلَ فِيهِ بِمِقْدَارٍ آخَرَ يَصْطَلِحَانِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ كَمَا قُلْنَا فِي الْبَيْضِ كَيْلًا، وَعَنْهُ كَانَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْحِنْطَةِ وَزْنًا، بِخِلَافِ مَا إذَا قُوبِلَ نَحْوَ الْحِنْطَةِ بِجِنْسِهَا وَزْنًا وَهُوَ كَيْلِيٌّ لِمَا عُرِفَ فِي بَابِ الرِّبَا، أَمَّا السَّلَمُ فَلَيْسَ يَلْزَمُ فِيهِ ذَلِكَ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ فِي الْحِنْطَةِ لَا يَكُونُ حِنْطَةٌ وَقَدْ رَضِيَا بِضَبْطِهِ وَزْنًا كَيْ لَا يَصِيرَ تَفَاوُتُ الْحِنْطَتَيْنِ الْمُتَّحِدَتِي الْوَزْنِ كَيْلًا، وَبِهَذَا تَضْعُفُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْحِنْطَةِ وَزْنًا.

وَذَكَر قَاضِي خَانْ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى الْجَوَازِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْقَتِّ وَزْنًا وَالرَّطْبَةِ الْقَضْبَ، والْجُرَزِ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ جُرْزَةٌ: وَهِيَ الْحُزْمَةُ مِنْ الرَّطْبَةِ كَحُزْمَةِ الرِّيحَانِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا الْجِزَز بِكَسْرِ الْجِيمِ وِزَاءَيْنِ أَوَّلُهُمَا مَفْتُوحَةٌ فَجَمْعُ جِزَّةٌ وَهِيَ الصُّوفُ الْمَجْزُوزُ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ

ص: 80

مَوْجُودًا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الْمَحِلِّ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُنْقَطِعًا عِنْدَ الْعَقْدِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحِلِّ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ أَوْ مُنْقَطِعًا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ إذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَحِلِّ لِوُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِهِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُسَلِّفُوا فِي الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ بِالتَّحْصِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّحْصِيلِ.

مَوْجُودًا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الْمَحِلِّ) بِكَسْرِ الْحَاءِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ الْحُلُولِ (حَتَّى لَوْ كَانَ مُنْقَطِعًا عِنْدَ الْعَقْدِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحِلِّ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ أَوْ مُنْقَطِعًا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ) وَهُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْمَحِلُّ (لَا يَجُوزُ) وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ (إذَا كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحِلِّ جَازَ) وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْوُجُودِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَهُوَ بِالْوُجُودِ وَقْتُ الْمَحِلِّ فَاشْتِرَاطُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ بِلَا مُوجِبٍ، بَلْ دَلِيلُ نَفْيِهِ عَدَمُ دَلِيلِ وُجُودِهِ لِأَنَّ نَفْيَ الْمُدْرَكِ الشَّرْعِيِّ يَكْفِي لِنَفْيِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.

وَلَهُمْ أَيْضًا إطْلَاقُ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ أَعْنِي «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثَّمَرِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ» فَأَفَاضَ فِي بَيَان الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فَلَوْ كَانَ عَدَمُ الِانْقِطَاعِ شَرْطًا لَبَيَّنَهُ، وَحِينَ لَمْ يُبَيِّنْهُ لَمْ يَثْبُتْ بَلْ لَزِمَ أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا بِسُكُوتِهِ عَنْهُ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي بَيَانِ مَا هُوَ شَرْطٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مِثْلِهِ.

قُلْنَا: بَلْ فِيهِ مُدْرَكُ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَهْ، وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ «عَنْ رَجُلٍ نَجْرَانِيٍّ. قُلْتُ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أُسْلِمُ فِي نَخْلٍ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ؟ قَالَ لَا، قُلْت لِمَ؟ قَالَ لِأَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ فِي حَدِيقَةِ نَخْلٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ النَّخْلُ فَلَمْ تُطْلِعْ النَّخْلُ شَيْئًا ذَلِكَ الْعَامُ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: أُؤَخِّرَكَ حَتَّى تَطْلُعَ، فَقَالَ الْبَائِعُ: إنَّمَا النَّخْلُ هَذِهِ السَّنَةُ، فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِلْبَائِعِ: أَخَذَ مِنْ نَخْلِك

ص: 81

(وَلَوْ انْقَطَعَ بَعْدَ الْمَحِلِّ فَرَبُّ السَّلَمِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ فَسَخَ السَّلَمَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وُجُودَهُ) لِأَنَّ السَّلَمَ قَدْ صَحَّ وَالْعَجْزُ الطَّارِئُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَصَارَ كَإِبَاقِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.

شَيْئًا؟ قَالَ لَا، قَالَ: بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَهُ، اُرْدُدْ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ وَلَا تُسْلِمُوا فِي نَخْلٍ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ»

وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ أَوَّلًا يَصْدُقُ عَلَى السَّلَمِ إذَا وَقَعَ قَبْلَ الصَّلَاحِ أَنَّهُ بَيْعُ ثَمَرَةٍ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَفِيهِ مَجْهُولٌ كَمَا رَأَيْتَ، وَالْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ وَهُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» فَيَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِلنَّهْيِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ، وَعَنْ بَيْعِ الْوَرِقِ نَسَاءً بِنَاجِزٍ» وَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ فَقَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُؤْكَلَ مِنْهُ» فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ هَذَيْنِ الصَّحَابِيَّيْنِ الْكَبِيرِينَ فِي الْعِلْمِ وَالتَّتَبُّعِ أَنَّهُمَا فَهِمَا مِنْ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ بَيْعَ السَّلَمِ، فَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى اشْتِرَاطِ وُجُودِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى اشْتِرَاطِهِ عِنْدَ الْمَحِلِّ فَلَزِمَ اشْتِرَاطُ وُجُودِهِ عِنْدَهُمَا عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِمْ.

وَأَمَّا لُزُومُ وُجُودِهِ بَيْنَهُمَا فَإِمَّا لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ لِأَنَّ الثَّابِتَ قَائِلَانِ: قَائِلٌ بِاشْتِرَاطِهِ عِنْد الْمَحِلِّ فَقَطْ، وَقَائِلٌ عِنْدَهُمَا وَفِيمَا بَيْنَهُمَا، فَالْقَوْلُ بِاشْتِرَاطِهِ عِنْدَهُمَا لَا غَيْرُ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ، وَنَقُولُ ذَلِكَ بِتَعْلِيلِ النَّصِّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ مَعَ أَنَّ الْأَدَاءَ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ فَلَا يَضْطَرُّ إلَيْهِ عِنْدَهُ بِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُ الْوُجُودِ وَبِالِاسْتِمْرَارِ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّحْصِيلِ، فَإِنْ أَخْذَ السَّلَمِ مَظِنَّةُ الْعَدَمِ وَبِالْأَخْذِ بِذَلِكَ مَظِنَّةُ التَّحْصِيلِ شَيْئًا فَشَيْئًا فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ وَبِاعْتِبَارِ الظِّنَّةِ تُنَاطُ الْأَحْكَامُ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى كَوْنِ بَعْضِ مَنْ يُسْلِمَ إلَيْهِ قَدْ يُحَصِّلُهُ دَفْعَةً عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ كَالذَّرَاعِ وَأَهْلُ النَّخْلِ، فَإِنَّ مَا يُسْلَمُ فِيهِ لَا يُحْصَى وَأَكْثَرُهُمْ يُحَصِّلُ الْمُسْلَمَ فِيهِ بِدَفَعَاتٍ، أَرَأَيْتَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ فِي الْجُلُودِ أَيَذْبَحُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ أَلْفَ رَأْسٍ لِيُعْطِيَ جُلُودَهَا لِرَبِّ السَّلَمِ، وَكَذَا الْأَسْمَاكُ الْمَالِحَةُ وَالثِّيَابُ وَالْأَخْشَابُ وَالْأَحْطَابُ وَالْأَعْسَالُ.

وَالْمُشَاهَدُ فِي بَعْضٍ مَنْ لَهُ نَخْلٌ أَوْ زَيْتُونٌ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَحَصَّلُ لَهُ لِيُعْطِيَ مَا يَخْرُجُ لَهُ وَيَشْتَرِي الْبَاقِيَ، وَكَثِيرٌ يَأْخُذُونَ لِيَسْتَرِيحُوا فِي رَأْسِ الْمَالِ وَيُنْفِقُوا مِنْ فَضْلِ الْكَسْبِ عَلَى عِيَالِهِمْ وَيُحَصِّلُوا الْمُسْلَمَ فِيهِ قَلِيلًا قَلِيلًا، لِأَنَّ وَضْعَ الْمُسْلِمِ شَرْعًا لِاعْتِبَارِ ظَنِّ مَا ذَكَرْنَا فَيَكُونُ هُوَ السَّبَبُ فِي اشْتِرَاطِ الشَّرْعِ وُجُودَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ الِانْقِطَاعُ الَّذِي يُفْسِدُ الْعَقْدَانِ لَا يُوجَدُ فِي السُّوقِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي الْبُيُوتِ.

ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرِ الثَّلْجِيُّ وَتَوَارَدُوا عَلَيْهِ. وَفِي مَبْسُوطِ أَبِي اللَّيْثِ: لَوْ انْقَطَعَ فِي إقْلِيمٍ دُونَ إقْلِيمِ لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْإِقْلِيمِ الَّذِي لَا يُوجَدُ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ فَيَعْجَزُ عَنْ التَّسْلِيمِ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ فِي الرُّطَبِ بِبُخَارَى لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ بِسِجِسْتَانَ

(وَلَوْ انْقَطَعَ بَعْدَ الْمَحِلِّ) أَيْ حُلُولُ الْأَجَلِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ (لَكِنْ رَبُّ السَّلَمِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ فَسَخَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وُجُودَهُ) وَقَالَ زُفَرُ: يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْكَرْخِيِّ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ كَمَا لَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ لَا يَبْقَى عِنْدَ فَوَاتِهِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ ثُمَّ كَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فَكَذَا هُنَا.

وَلَنَا (أَنَّ السَّلَمَ قَدْ صَحَّ) ثُمَّ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِعَارِضٍ (عَنْ شَرَكِ الزَّوَالِ) فَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي (كَمَا لَوْ أَبِقَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ) وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ

ص: 82

قَالَ (وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحِ وَزْنًا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْقَدْرِ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ إذْ هُوَ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ عَدَدًا) لِلتَّفَاوُتِ. قَالَ (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي السَّمَكِ الطَّرِيِّ إلَّا فِي حِينِهِ وَزْنًا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَنْقَطِعُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ وَزْنًا لَا عَدَدًا لِمَا ذَكَرْنَا.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي لَحْمِ الْكِبَارِ مِنْهَا وَهِيَ الَّتِي تُقَطَّعُ اعْتِبَارًا بِالسَّلَمِ فِي اللَّحْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

عَلَيْهِ هُنَا دَيْنٌ وَمَحِلُّ الدَّيْنِ الذِّمَّةُ وَهِيَ بَاقِيَةٌ فَيَبْقَى الدَّيْنُ بِبَقَاءِ مَحِلِّهِ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ التَّسْلِيمُ إذَا كَانَ وُجُودُهُ مَرْجُوًّا، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ الْعَيْنِ فَإِنَّ بِهَلَاكِهِ يَفُوتُ مَحِلُّ الْعَقْدِ، وَكَذَا الْفُلُوسُ إذَا كَسَدَتْ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ لَكِنْ الثَّمَنُ الْكَائِنُ فِيهَا فُلُوسٌ هِيَ أَثْمَانٌ وَلَا وُجُودَ لَهَا بَعْدَ الْكَسَادِ فَيَفُوتُ الْمَحِلُّ، ثُمَّ هُوَ لَيْسَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بَلْ الظَّاهِرُ اسْتِمْرَارُهُ فِي الْوُجُودِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ لِإِدْرَاكِ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ أَوَانًا مَعْلُومًا، وَكَذَا لِغَيْرِهَا أَوَانٌ يَكْثُرُ وُجُودُهَا فِيهِ مِنْ السَّنَةِ بِرُخَصٍ

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحِ وَزْنًا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مَعْلُومًا) بِأَنْ يَقُولَ بُورِيٌّ أَوْ رَايٌ، وَفِي أَسْمَاكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة الشَّفْشُ وَالدُّونِيسُ وَغَيْرُهَا (لِأَنَّهُ) حِينَئِذٍ (مَعْلُومُ الْقَدْرِ مَضْبُوطُ الصِّفَةِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ، وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ عَدَدًا لِلتَّفَاوُتِ) فِي التُّحْفَةِ: وَأَمَّا الصِّغَارُ فَيَجُوزُ فِيهِ كَيْلًا وَوَزْنًا سَوَاءٌ فِيهِ الطَّرِيُّ وَالْمَالِحُ. وَفِي الْمُغْرِبِ: سَمَكٌ مَلِيحٌ وَمَمْلُوحٌ وَهُوَ الْمُقَدِّدُ الَّذِي فِيهِ الْمِلْحُ، وَلَا يُقَالُ مَالِحٌ إلَّا فِي لُغَةٍ رَدِيئَةٍ.

قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: لَكِنْ قَالَ الشَّاعِرُ:

بَصَرِيَّةٌ تَزَوَّجَتْ بَصْرِيًّا

أَطْعَمَهَا الْمَالِحَ وَالطَّرِيَّا

ثُمَّ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَكَفَى بِذَلِكَ حُجَّةٌ لِلْفُقَهَاءِ، وَظَاهِرُ هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَدِيءٍ وَلَمْ يَجِدْ سِوَى هَذَا الْبَيْتِ وَهُوَ لَا يُنَافِي قَوْلَ الْمَغْرِبِ إلَّا فِي لُغَةٍ رَدِيئَةٍ، وَلَيْسَ لِهَذَا الِاسْتِدْرَاكِ فَائِدَةٌ، بَلْ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ مِلْحٌ وَمَلِيحٌ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ الرَّاجِزِ

أَطْعَمَهَا الْمَالِحَ وَالطَّرِيَّا

ذَاكَ مُوَلَّدٌ لَا يُؤْخَذُ بِلُغَتِهِ.

وَأَمَّا الطَّرِيُّ فَيَجُوزُ حِينَ وُجُودِهِ وَزْنًا أَيْضًا، فَإِذَا كَانَ يَنْقَطِعُ فِي بَعْضِ السَّنَةِ كَمَا قِيلَ إنَّهُ يَنْقَطِعُ فِي الشِّتَاءِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَلَا يَنْعَقِدُ فِي الشِّتَاءِ.

وَلَوْ أَسْلَمَ فِي الصَّيْفِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُنْتَهَى الْأَجَلِ لَا يَبْلُغُ الشِّتَاءَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ

ص: 83

قَالَ (وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: إذَا وَصَفَ مِنْ اللَّحْمِ مَوْضِعًا مَعْلُومًا بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ) لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مَضْبُوطُ الْوَصْفِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ بِالْمِثْلِ. وَيَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ وَزْنًا وَيَجْرِي فِيهِ رِبَا الْفَضْلِ، بِخِلَافِ لَحْمِ الطُّيُورِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وَصْفُ مَوْضِعٍ مِنْهُ. وَلَهُ أَنَّهُ مَجْهُولٌ لِلتَّفَاوُتِ فِي قِلَّةِ الْعَظْمِ وَكَثْرَتِهِ أَوْ فِي سِمَنِهِ وَهُزَالِهِ عَلَى اخْتِلَافِ فُصُولِ السَّنَةِ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ. وَفِي مَخْلُوعِ الْعَظْمِ لَا يَجُوزُ عَلَى

فِي السَّمَكِ الطَّرِيِّ إلَّا فِي حِينِهِ: يَعْنِي أَنْ يَكُونَ السَّلَمُ مَعَ شُرُوطِهِ فِي حِينِهِ كَيْ لَا يَنْقَطِعُ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْحُلُولِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يَنْقَطِعُ جَازَ مُطْلَقًا وَزْنًا لَا عَدَدًا لَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفَاوُتِ فِي آحَادِهِ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْكِبَارِ الَّتِي تُقَطَّعُ كَمَا يُقَطَّعُ اللَّحْمُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي لَحْمِهَا اعْتِبَارًا بِالسَّلَمِ فِي اللَّحْمِ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مَنْعُ السَّلَمِ فِي الْكِبَارِ وَزْنًا مَعَ إجَازَتِهِ فِي اللَّحْمِ فَإِنَّ هُنَاكَ يُمْكِنُ إعْلَامُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ الْجَنْبِ أَوْ الظَّهْرِ أَوْ الْفَخِذِ وَلَا يَتَأَتَّى فِي السَّمَكِ ذَلِكَ.

وَطَعَنَ بَعْضُهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ فِي حِينِهِ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ حِينٍ مَدْفُوعِ، فَإِنَّ الِانْقِطَاعَ عَدَمُ الْوُجُودِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَفِي بَعْضِ السَّنَةِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمُ الِاصْطِيَادِ لِيَرُدَّ مَا ذَكَرَهُ

(قَوْلُهُ وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ) وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَأْكِيدٌ فِي نَفْيِ الْجَوَازِ كَقَوْلِهِ لَا خَيْرَ فِي اسْتِقْرَاضِ الْخُبْزِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّ الْمُجْتَهِدَ يَقُولُهُ فِيمَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ تَحَرُّزًا عَنْ الْقَطْعِ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّأْيِ بَعِيدٌ. فَكُلُّ الْأَحْكَامِ الْقِيَاسِيَّةِ الْمَظْنُونَةِ مُعَبَّرٌ عَنْهَا فِي الْفِقْهِ بِلَا يَجُوزُ كَذَا أَوْ يَجُوزُ كَذَا. وَكُلُّهَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا مَظْنُونَاتٌ لَا مَقْطُوعَاتٌ، وَأَيْضًا الْمُجْتَهِدُ قَاطِعٌ بِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ (وَقَالَا: إذَا وَصَفَ مِنْ اللَّحْمِ مَوْضِعًا مَعْلُومًا بِصِفَةٍ) كَكَوْنِهِ ذَكَرًا وَخَصِيًّا وَسَمِينًا بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ جِنْسَهُ مِنْ نَحْوِ الضَّأْنِ وَسِنَّهُ ثَنِيٌّ وَمِنْ الْفَخِذِ الْكَتِفِ أَوْ الْجَنْبِ مِائَةُ رِطْلٍ.

وَفِي الْحَقَائِقِ وَالْعُيُونِ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَهَذَا عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ ثُبُوتِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ. وَقَدْ قِيلَ لَا خِلَافَ، فَمَنَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا أَطْلَقَا السَّلَمَ فِي اللَّحْمِ وَقَوْلُهُمَا إذَا بَيَّنَّا مَا ذَكَرْنَاهُ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مَوْزُونٌ فِي عَادَةِ النَّاسِ مَضْبُوطٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَصْفِ.

وَقَوْلُهُ وَلِهَذَا يَضْمَنُ بِالْمِثْلِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى كَوْنِهِ مَوْزُونًا وَكَذَا كَوْنُهُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ جَائِزُ الِاسْتِقْرَاضِ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِيهِ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ قَاطِعٌ فِيهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْعَظْمِ غَيْرُ مَانِعٍ لِأَنَّهُ إذَا سَمَّى مَوْضِعًا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِيهِ عَظْمٌ كَانَ تَرَاضِيًا عَلَى قَطْعِهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْعَظْمِ، وَلِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالنَّوَى فِي التَّمْرِ وَلِذَا جَازَ السَّلَمُ فِي الْأَلِيَّةِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ عَظْمٍ وَالسَّلَمِ فِيهَا وَفِي الشَّحْمِ بِالْإِجْمَاعِ (بِخِلَافِ لَحْمِ الطُّيُورِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وَصْفُ مَوْضِعٍ مِنْهُ) لِأَنَّ عُضْوَ الطَّيْرِ صَغِيرٌ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي مَنْعِهِ مُطْلَقًا.

ص: 84

الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَالتَّضْمِينُ بِالْمِثْلِ مَمْنُوعٌ.

وَكَذَا الِاسْتِقْرَاضُ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ فَالْمِثْلُ أَعْدَلُ مِنْ الْقِيمَةِ، وَلِأَنَّ الْقَبْضَ يُعَايَنُ فَيُعْرَفُ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ بِهِ فِي وَقْتِهِ، أَمَّا الْوَصْفُ فَلَا يُكْتَفَى بِهِ.

وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ مَا لَا يُصْطَادُ مِنْ الطُّيُورِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَلَا فِي لَحْمِهِ.

وَمَا صِيدَ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَهُمَا يَجُوزُ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ. وَقِيلَ يَجُوزُ عِنْدَ الْكُلِّ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنْ الْعَظْمِ لَا يَعْتَبِرُهُ النَّاسُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْمَلُ مَا فِي الْكِتَابِ مِنْ الْمَنْعِ مُطْلَقًا فِي مَخْلُوعِ الْعَظْمِ. فَإِنَّ الْعِلَّةَ حِينَئِذٍ ثَابِتَةٌ. ثُمَّ يَجِبُ أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فِي مِائَةِ رِطْلٍ مِنْ لَحْمِ الدَّجَاجِ مَثَلًا أَنْ يُعَيِّنَ الْمَوْضِعَ بَعْدَ كَوْنِهِ بِعَظْمٍ.

فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُحِبُّ الصَّدْرَ مِنْهَا فَيَقُولُ أَوْرَاكًا أَوْ غَيْرِ الصَّدْرِ أَوْ يَنُصُّ عَلَى صَدْرِهَا وَأَوْرَاكِهَا، فَإِنْ أَطْلَقَ فَقَالَ مِنْ لَحْمِ الدَّجَاجِ السَّمِينِ يَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزُ لِلْمُنَازَعَةِ بِسَبَبِ مَا ذَكَرْنَا لِاخْتِلَافِ أَغْرَاضِ النَّاسِ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَقَعُ سَلَمًا فِي الْمَجْهُولِ لِتَفَاوُتِ اللَّحْمِ بِقِلَّةِ الْعَظْمِ وَكَثْرَتُهُ، بِخِلَافِ لَحْمِ السَّمَكِ فَإِنَّ مَضْمُونَهُ مِنْ الْعَظْمِ قَلِيلٌ مَعْلُومٌ إهْدَارُهُ بَيْنَ النَّاسِ. وَلِذَا هُوَ فَرْقٌ بَيْنَ لَحْمِ السَّمَكِ وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُمَا إذَا سَمَّى مَوْضِعًا كَانَ تَرَاضِيًا عَلَى قَطْعِهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْعَظْمِ.

قُلْتُ: لِلْمُشَاهَدِ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ حَالًا بِعَظْمِهِ جَرَيَانُ الْمُعَاكَسَةِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الْعَظْمِ، حَتَّى أَنَّ الْمُشْتَرِي يَسْتَكْثِرُهُ فَيَأْمُرُهُ بِنَزْعِ بَعْضِهِ وَالْجَزَّارُ يَدُسُّهُ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ فِي الْمُؤَجَّلِ الْمُسْتَأْخَرِ التَّسْلِيمُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي مَخْلُوعِ الْعَظْمِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ. ثَانِيهِمَا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْفُصُولِ سِمَنًا وَهُزَالًا، فَلَوْ سَمَّى السَّمِينَ قَدْ يَكُونُ انْتِهَاءُ الْأَجَلِ فِي فَصْلِ الْهُزَالِ. وَحَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ سَلَّمَ فِي الْمُنْقَطِعِ وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ فِي مَخْلُوعِ الْعَظْمِ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ شُجَاعٍ عَنْهُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْأَصَحُّ) لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ يَثْبُتُ مَعَ إحْدَاهُمَا كَمَا يَثْبُتُ مَعَهُمَا. وَقَوْلُهُمَا يَضْمَنُ بِالْمِثْلِ مَمْنُوعٌ بِمَا ذُكِرَ فِي بَابِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فِيمَنْ غَصَبَ لَحْمًا فَشَوَاهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ لَا يَسْقُطُ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ اللَّحْمِ.

قِيلَ وَلَا تُوجَدُ رِوَايَةٌ بِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ إلَّا هُنَا مِنْ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، لَكِنْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى أَنَّهُ رَأَى وَسَطَ غَصْبِ الْمُنْتَقَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا اسْتَهْلَكَ لَحْمًا قَالَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَحَلَّ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ (أَنَّ الْقَبْضَ) أَيْ قَبْضَ اللَّحْمِ الْقَرْضُ (يُعَايِنُ فَيَعْرِفُ مِثْلَهُ بِهِ) أَيْ بِالْمَقْبُوضِ. أَمَّا السَّلَمُ فَلَيْسَ فِيهِ مَقْبُوضٌ مُعَيَّنٌ بَلْ مُجَرَّدُ وَصْفٍ فَلَا يُكْتَفَى بِهِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا وَكَذَا الِاسْتِقْرَاضُ وَزْنًا أَيْضًا مَمْنُوعٌ بَلْ ذَاكَ مَذْهَبُهُمَا، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ أَيْ تَسْلِيمِ أَنَّ ضَمَانَ اللَّحْمِ بِالْمِثْلِ كَمَا اخْتَارَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالْمِثْلِ إلَّا أَنْ يَنْقَطِعَ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ جَرَيَانَ رِبَا الْفَضْلِ فِيهِ قَاطِعٌ بِأَنَّهُ مِثْلِيٌّ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالسَّلَمِ بِأَنَّ الْمُعَادَلَةَ فِي الضَّمَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، وَتَمَامُ الْمُعَادَلَةِ بِالْمِثْلِ لِأَنَّهُ مَثَلٌ صُورَةً وَمَعْنًى.

ص: 85

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَّا مُؤَجَّلًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ حَالًّا لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فِيمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً

دَفْعًا لِحَاجَةِ الْمَفَالِيسِ

فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَجَلِ لِيَقْدِرَ عَلَى التَّحْصِيلِ فِيهِ فَيُسَلِّمُ،

أَمَّا الْقِيمَةُ فَمِثْلٌ مَعْنًى فَقَطْ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ رَدُّ الْعَيْنِ وَالْمِثْلُ أَقْرَبُ إلَى الْعَيْنِ، بِخِلَافِ الْقِيمَةِ، وَكَذَا بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ اسْتِقْرَاضِهِ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّلَمِ وَالْقَرْضِ أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْقَرْضِ مُعَايَنٌ مَحْسُوسٌ فَأَمْكَنَ اعْتِبَارَ الْمَقْبُوضِ ثَانِيًا بِالْأَوَّلِ.

أَمَّا السَّلَمُ فَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ وَبِالْوَصْفِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا تُعْرَفُ مُطَابَقَتُهُ لِلْمَوْجُودِ عِنْدَ الْقَبْضِ كَمَعْرِفَةِ مُطَابَقَتِهِ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَقْبُوضِ الْمُوجِبِ لِلْمِثْلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَمَّا الْوَصْفُ فَلَا يُكْتَفَى بِهِ: أَيْ لَا يَكْتَفِي بِالْوَصْفِ فِي مَعْرِفَةِ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالْمَقْبُوضِ كَمَا هُوَ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ أَوَّلًا وَالْمَقْبُوضِ ثَانِيًا.

وَلَمَّا أَهْدَرَ الشَّارِعُ فِي بَابِ الرِّبَا كَوْنُ الْجُودَةِ فَارِقًا ثَبَتَ الرِّبَا بَيْنَ لَحْمَيْ نَوْعٍ مُتَفَاضِلًا وَإِنْ اخْتَلَفَ مَوْضِعُهُمَا كَلَحْمِ فَخِذٌ مَعَ لَحْمِ ضِلْعٍ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَّا مُؤَجَّلًا) وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رحمهم الله (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ السَّلَمُ الْحَالُّ) بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا: أَسْلَمْتُ هَذِهِ الْعَشَرَةَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا إلَى آخِرِ الشُّرُوطِ.

وَبِهِ قَالَ عَطَاءُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (لِإِطْلَاقِ النَّصِّ) وَهُوَ قَوْلُهُ (وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ) وَالظَّاهِرِ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَدِيثٍ. وَهَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَإِنَّمَا الْوَجْهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي اشْتِرَاطِ الْأَجَلِ فَوَجَبَ نَفْيُهُ، وَرُبَّمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى نَفْيِهِ بِأَنَّهُ لَوْ شُرِطَ الْأَجَلُ لَكَانَ لِتَحْصِيلِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ الَّتِي هِيَ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَاقِدِ أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْفَرْضُ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَيَقْدِرُ عَلَيْهِ،

ص: 86

وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ لَمْ يُوجَدْ الْمُرَخِّصُ فَبَقِيَ عَلَى النَّافِي.

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَالْأَجَلُ أَدْنَاهُ شَهْرٌ

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا حَقِيقَةً فَقَدْ ثَبَتَتْ قُدْرَتُهُ بِمَا دَخَلَ فِي يَدِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْرُجُ بِالْكِتَابَةِ مِنْ يَدِ مَوْلَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ فِي مُلْكِهِ شَيْءٌ فَلَا يَصِيرُ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمٍ بَدَلَ الْكِتَابَةِ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالكُمْ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالتَّأْجِيلِ فِي السَّلَمِ فَيَمْنَعُ الْحَالَّ، بَلْ مَعْنَاهُ: مَنْ أَسْلَمَ فِي مَكِيلٍ فَلْيُسْلِمْ فِي مَكِيلٍ مَعْلُومٍ أَوْ فِي مَوْزُونٍ فَلْيُسْلِمْ فِي مَوْزُونٍ مَعْلُومٍ أَوْ إلَى أَجَلٍ فَلِيَكُنْ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ أَيْضًا أَمْرًا بِأَنْ يَكُونَ السَّلَمُ فِي مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَلَمْ يَجُزْ فِي الْمَعْدُودِ وَالْمَذْرُوعِ لِأَنَّ النَّسَقَ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ.

وَنَحْنُ نَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ قَاطِبَةً فِي إخْرَاجِهِ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْعَامِّ لِلتَّرْخِيصِ لِلْمَفَالِيسِ الْمُحْتَاجِينَ إلَى نَفَقَةٍ عَاجِلَةٍ قَادِرِينَ عَلَى الْبَدَلِ بِقُدْرَةٍ آجِلَةٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَحِلُّ الرُّخْصَةِ إلَّا مَعَ ذِكْرِ الْأَجَلِ فَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، وَكَوْنُهُ قَادِرًا حَالَ الْعَقْدِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمُبِيحُ فِي حَقِّهِ. وَلَمَّا كَانَ جَوَازُهُ لِلْحَاجَةِ وَهِيَ بَاطِنَةٌ أُنِيطَ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ كَمَا هُوَ الْمُسْتَمِرُّ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ كَالسَّفَرِ لِلْمَشَقَّةِ وَنَحْوَهُ وَهُوَ ذَكَرَ الْأَجَلَ فَلَمْ يَلْتَفِتْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى كَوْنِ الْمَبِيعِ مَعْدُومًا مِنْ عِنْدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ مَوْجُودًا قَادِرًا هُوَ عَلَيْهِ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفُ (وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ لَمْ يُوجَدْ الْمُرَخَّصُ) مَعْنَاهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْأَجَلَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُمْ: الْغَرَرُ فِي السَّلَمِ الْحَالِ أَقَلُّ مِنْهُ فِي الْمُؤَجَّلِ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا لَا يُفِيدُ شَيْئًا: أَعْنِي بَعْدَمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ إلَى الْمَالِ الْعَاجِزِ عَنْ الْعِوَضِ فِي الْحَالِ، فَإِنَّ الْغَرَرَ قَدْ يُحْمَلُ فِيهِ لِتِلْكَ الْحَاجَةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي السَّلَمِ الْحَالِّ

(قَوْلُهُ وَالْأَجَلُ أَدْنَاهُ شَهْرٌ إلَى آخِرِهِ) فِي التُّحْفَةِ: لَا رِوَايَةٌ عَنْ أَصْحَابِنَا - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي الْمَبْسُوطِ فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُمْ.

وَالْأَصَحُّ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالشَّهْرِ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْآجِلِ وَأَقْصَى الْعَاجِلِ. وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: الصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ مُحَقَّقٌ فِيهِ، وَكَذَا مَا عَنْ الْكَرْخِيِّ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِلَى عُرْفِ النَّاسِ فِي تَأْجِيلِ مِثْلِهِ، كُلُّ هَذَا تَنْفَتِحُ فِيهِ الْمُنَازَعَاتُ، بِخِلَافِ الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الزَّمَانِ.

وَفِي الْإِيضَاحِ: فَإِنْ قَدَّرَا نِصْفَ يَوْمٍ جَازَ، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا قَدَّرُوا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اسْتِدْلَالًا بِمُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ ثَمَّةَ بِالثَّلَاثِ بَيَانُ أَقْصَى الْمُدَّةِ، فَأَمَّا أَدْنَاهُ فَغَيْرُ مُقَدَّرٌ انْتَهَى.

وَالتَّقْدِيرُ بِالثَّلَاثِ يُرْوَى عَنْ الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ أُسْتَاذُ الطَّحَاوِيِّ. وَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَلِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ وَهِيَ مَا إذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دِينَهُ عَاجِلًا فَقَضَاهُ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ فَكَانَ مَا دُونَ الشَّهْرِ

ص: 87

وَقِيلَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ

(وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَلَا بِذِرَاعِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُهُ لِأَنَّهُ تَأَخَّرَ فِيهِ التَّسْلِيمُ فَرُبَّمَا يَضِيعُ فَيُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمِكْيَالُ مِمَّا لَا يَنْقَبِضُ وَلَا يَنْبَسِطُ كَالْقِصَاعِ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْكَبِسُ بِالْكَبْسِ كَالزِّنْبِيلِ وَالْجِرَابِ لَا يَجُوزُ لِلْمُنَازَعَةِ إلَّا فِي قُرْبِ الْمَاءِ لِلتَّعَامُلِ فِيهِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله. قَالَ (وَلَا فِي طَعَامِ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا) أَوْ ثَمَرَةِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا لِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَرِيهِ آفَةٌ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ

فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ، فَالشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ آجِلٌ، قَالُوا: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَبِذِرَاعِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ إذَا كَانَ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ) أَمَّا إذَا عُرِفَ فَيَجُوزُ لِضَبْطِ الْمِقْدَارِ لَوْ تَلَفَ ذَلِكَ الْمِكْيَالُ وَالذِّرَاعُ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ احْتِمَالِ هَلَاكِ مَا قُدِّرَ بِهِ فَيَتَعَذَّرُ الْإِيفَاءُ.

قَالَ (وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ) يُرِيدُ أَوَّلَ كِتَابِ الْبُيُوعِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ وَبِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ، إلَى أَنْ قَالَ: بِخِلَافِ السَّلَمِ إلَى آخِرِهِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيْضًا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لَيْسَ بِمُكَايَلَةٍ وَلَا مُجَازَفَةٍ، وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَالْحَصْرُ مَمْنُوعٌ وَيَتَقَدَّرُ التَّسْلِيمُ فَهَذَا بَيْعٌ مُجَازَفَةً، ثُمَّ لَا بُدَّ (أَنْ يَكُونَ الْمِكْيَالُ مِمَّا لَا يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ كَالْقِصَاعِ) وَالْحَدِيدِ وَالْخَزَفِ (فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْكَبِسُ بِالْكَبْسِ كَالزِّنْبِيلِ) وَالْغِرَارَةِ (لَا يَجُوزُ لِلْمُنَازَعَةِ) عِنْدَ التَّسْلِيمِ (إلَّا فِي قُرْبِ الْمَاءِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِلتَّعَامُلِ فِيهِ) فَإِنَّهُ أَجَازَهُ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ سِقَاءِ كَذَا كَذَا قِرْبَةً مِنْ مَاءِ النِّيلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مَثَلًا بِهَذِهِ الْقِرْبَةِ وَعَيَّنَهَا جَازَ الْبَيْعُ، وَمُقْتَضَى الْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إذَا عَيَّنَ هَذِهِ الْقِرْبَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَكِنْ بِمِقْدَارِهَا.

وَالزِّنْبِيلُ بِالْفَتْحِ بِلَا تَشْدِيدٍ وَبِالْكَسْرِ مُشَدَّدُ الْبَاءِ وَيُقَالُ زِنْبِيلٌ أَيْضًا (قَوْلُهُ وَلَا فِي طَعَامِ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا) كَحِنْطَةِ بَلْدَةِ الْفَهْمِيِّينَ وَالْمَحَلَّةِ بِبِلَادِ مِصْرَ (أَوْ ثَمَرَةِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا) أَوْ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ (لِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَرِيهِ آفَةٌ فَتَنْتَفِي قُدْرَةُ التَّسْلِيمِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ

ص: 88

عليه الصلاة والسلام حَيْثُ قَالَ «أَرَأَيْتَ لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّمَرَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» وَلَوْ كَانَتْ النِّسْبَةُ إلَى قَرْيَةٍ لِبَيَانِ الصِّفَةِ لَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا قَالُوا كالخشمراني بِبُخَارَى وَالْبَسَاخِيِّ بِفَرْغَانَةَ.

- صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ «أَرَأَيْتَ لَوْ ذَهَبَ ثَمَرَةُ هَذَا الْبُسْتَانِ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ» ) فَإِنَّ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَذَا الْبَيْعِ ثَمَنًا إنْ لَمْ يُخْرِجْ هَذَا الْبُسْتَانُ شَيْئًا فَكَانَ فِي بَيْعِ ثَمَرِ هَذَا الْبُسْتَانِ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ فَلَا يَصِحُّ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ صَعِيدِيَّةٍ أَوْ شَامِيَّةٍ فَإِنَّ احْتِمَالَ أَنْ لَا يَنْبُتَ فِي الْإِقْلِيمِ بِرُمَّتِهِ شَيْءٌ ضَعِيفٌ فَلَا يَبْلُغُ الْغَرَرَ الْمَانِعَ مِنْ الصِّحَّةِ فَيَجُوزُ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ عَدَمَ صِحَّةِ الْبَيْعِ سَوَاءٌ كَانَ وُرُودُهُ فِي السَّلَمِ أَوْ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا.

وَالْوَاقِعُ أَنَّ مَعْنَاهُ وَرَدَّ فِي السَّلَمِ وَفِي الْبَيْعِ، أَمَّا فِي السَّلَمِ فَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ فِي الَّذِي أَسْلَمَ فِي تِلْكَ الْحَدِيقَةِ النَّخْلَ فَلَمْ يَطْلُعْ شَيْءٌ فَأَرَادَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ الثَّمَنَ الَّذِي كَانَ أَخَذَهُ وَقَالَ إنَّمَا النَّخْلُ هَذِهِ السَّنَةُ، حَيْثُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَخَذَ مِنْ نَخْلِكَ شَيْئًا؟ قَالَ لَا، قَالَ، بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَهُ؟ اُرْدُدْ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ» الْحَدِيثُ.

وَأَمَّا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنَّ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟» فَيَصْدُقُ عَلَى كُلٍّ مِنْ السَّلَمِ وَالْبَيْعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ وَيُوجِبُ رَدَّ الثَّمَنِ فَهُوَ دَلِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنْ لَمْ يُثْمِرْهَا اللَّهُ فَبِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ هَذَا؟» (فَلَوْ كَانَتْ نِسْبَةُ الثَّمَرَةِ إلَى قَرْيَةٍ) مُعَيَّنَةٍ (لِبَيَانِ الصِّفَةِ) لَا لِتَعْيِينِ الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِهَا بِعَيْنِهِ (كالخشمراني وَالْبَسَاخِيِّ) بِبُخَارَى وَهِيَ قَرْيَةٌ حِنْطَتُهَا جَيِّدَةٌ (بِفَرْغَانَةَ لَا بَأْسَ بِهِ) وَلِأَنَّهُ لَا يُرَادُ خُصُوصُ النَّابِتِ هُنَاكَ، بَلْ الْإِقْلِيمُ، وَلَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ الْحِنْطَةِ هُنَاكَ لِأَنَّهُ إقْلِيمٌ، وَكَذَا إذَا قَالَ مِنْ حِنْطَةِ هَرَاةَ يُرِيدُ هَرَاةَ خُرَاسَانَ وَلَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ طَعَامِ إقْلِيمٍ بِكَمَالِهِ، فَالسَّلَمُ فِيهِ وَفِي طَعَامِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ سَوَاءٌ، وَكَذَا فِي دِيَارِ مِصْرَ فِي قَمْحِ الصَّعِيدِ.

وَاَلَّذِي فِي الْخُلَاصَةِ وَذَكَرَ مَعْنَاهُ فِي الْمُجْتَبِي وَفِي غَيْرِهِ: لَوْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ بُخَارَى أَوْ حِنْطَةِ سَمَرْقَنْدَ أَوْ إسْبِيجَابَ لَا يَجُوزُ لِتَوَهُّمِ انْقِطَاعِهِ. وَلَوْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ هَرَاةَ لَا يَجُوزُ، وَفِي ثَوْبِ هَرَاةَ وَذَكَرَ شُرُوطَ السَّلَمِ يَجُوزُ لِأَنَّ حِنْطَتَهَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا إذْ الْإِضَافَةُ لِتَخْصِيصِ الْبُقْعَةِ فَيَحْصُلُ السَّلَمُ فِي مَوْهُومِ الِانْقِطَاعِ، بِخِلَافِ إضَافَةِ الثَّوْبِ لِأَنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ لَا لِتَخْصِيصِ الْمَكَانِ، وَلِذَا لَوْ أَتَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ بِثَوْبٍ نُسِجَ فِي غَيْرِ وِلَايَةِ هَرَاةَ مِنْ جِنْسِ الْهَرَوِيِّ: يَعْنِي مِنْ صِفَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ يُجْبَرُ رَبُّ السَّلَمِ عَلَى قَبُولِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَانِعَ وَالْمُقْتَضِي الْعُرْفُ، فَإِنْ تُعُورِفَ كَوْنُ النِّسْبَةِ لِبَيَانِ الصِّفَةِ فَقَطْ جَازَ وَإِلَّا فَلَا يُبَيِّنُهُ مَا فِي الْخُلَاصَةِ قَالَ: لَوْ كَانَ ذَكَرَ النِّسْبَةَ لَا لِتَعْيِينِ الْمَكَانِ كالخشمراني فَإِنَّهُ يُذْكَرُ لِبَيَانِ الْجُودَةِ لَا يَفْسُدُ

ص: 89

قَالَ (وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إلَّا بِسَبْعِ شَرَائِطَ: جِنْسٌ مَعْلُومٌ) كَقَوْلِنَا حِنْطَةٌ أَوْ شَعِيرٌ (وَنَوْعٌ مَعْلُومٌ) كَقَوْلِنَا سَقِيَّةٌ أَوْ بَخْسِيَّةٌ (وَصِفَةٌ مَعْلُومَةٌ) كَقَوْلِنَا جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ (وَمِقْدَارٌ مَعْلُومٌ) كَقَوْلِنَا كَذَا كَيْلًا بِمِكْيَالٍ مَعْرُوفٍ وَكَذَا وَزْنًا (وَأَجَلٌ مَعْلُومٌ) وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا وَالْفِقْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا (وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ) كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ

السَّلَمُ، وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ حِنْطَةُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِثْلَ الثَّوْبِ جَازَ السَّلَمُ وَإِلَّا لَا، أَمَّا السَّلَمُ فِي الْحِنْطَةِ الصَّعِيدِيَّةِ وَالْعِرَاقِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ فَلَا شَكٌّ فِي جَوَازِهِ.

وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ حَدِيثَةٍ قَبْلَ حُدُوثِهَا فَالسَّلَمُ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ فِي الْحَالِ، وَكَوْنُهَا مَوْجُودَةٌ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ شَرْطٌ لِصِحَّةِ السَّلَمِ

(قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه إلَّا بِسَبْعِ شَرَائِطَ) تُذْكَرُ فِي الْعَقْدِ.

وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَهِيَ الْخَمْسُ الْأُولَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلسَّلَمِ شُرُوطًا غَيْرِهَا وَلَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ ذِكْرُهَا فِي الْعَقْدِ بَلْ وُجُودُهَا. وَشَرَائِطُ جَمْعُ شَرِيطَةٌ، فَقَوْلُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ سَبْعٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ سَبْعَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمَعْدُودِ شَرْطًا وَسَبْعٌ عَلَى تَقْدِيرِهَا شَرِيطَةٌ وَكُلٌّ وَارِدٌ عَلَى اعْتِبَارٍ خَاصٍّ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ النُّسَخِ لَيْسَ إلَّا الْمَشْهُورُ سَبْعُ شَرَائِطِ (جِنْسٌ مَعْلُومٌ كَحِنْطَةٍ شَعِيرٍ وَنَوْعٌ مَعْلُومٌ كَسَقِيَّةٍ) وَهِيَ مَا يُسْقَى سَيْحًا (أَوْ بَخْسِيَّةٍ) وَهِيَ مَا يُسْقَى بِالْمَطَرِ وَنَسَبَتْ إلَى الْبَخْسِ لِأَنَّهَا مَبْخُوسَةُ الْحَظِّ مِنْ الْمَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّيْحِ غَالِبًا (وَصِفَةٌ مَعْلُومَةٌ كَجَيِّدٍ رَدِيءٍ) وَسَطٌ مُشْعِرٌ سَالِمٌ مِنْ الشَّعِيرِ (وَمِقْدَارٌ مَعْلُومٌ كَذَا كَيْلًا بِمِكْيَالٍ مَعْلُومٍ) فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ تُشْتَرَطُ فِي كُلٍّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ فَهِيَ ثَمَانِيَةٌ بِالتَّفْصِيلِ، فَإِنَّ مَا يَجُوزُ كَوْنُهُ مُسَلَّمًا فِيهِ يَجُوزُ كَوْنُهُ رَأْسَ السَّلَمِ وَلَا يَنْعَكِسُ، فَإِنَّ النُّقُودَ تَكُونُ رَأْسَ مَالٍ وَلَا سَلَمَ فِيهِ (وَ) الْخَامِسُ (أَجَلٌ مَعْلُومٌ) وَالْأَصْلُ فِيهِ: أَيْ فِي اشْتِرَاط هَذِهِ الْخَمْسَةِ مَا رَوَيْنَا: يَعْنِي قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ» الْحَدِيثُ، نَصَّ عَلَى شَرْطَيِّ الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ وَالْأَجَلِ الْمَعْلُومِ، وَثَبَتَ بَاقِي الْخَمْسَةِ بِالدَّلَالَةِ لِظُهُورِ إرَادَةِ الضَّبْطِ الْمُنَافِي لِلْمُنَازَعَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَالْفِقْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ (وَ) السَّادِسُ (ذِكْرُ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ) يَعْنِي تَنْقَسِمُ أَجْزَاءَ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى أَجْزَائِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِنْ الْمَكِيلَاتِ أَوْ الْمَوْزُونَاتِ أَوْ الْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَهَذَا الشَّرْطُ فِي قَدْرِهِ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ ثَوْبًا لِأَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ، وَإِعْلَامُ الْوَصْفِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فَوَجَدَهُ أَحَدَ عَشَرَ تُسَلَّمُ لَهُ الزِّيَادَةُ، وَلَوْ وَجَدَهُ تِسْعَةٌ لَا يَحُطُّ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ، وَالْمُسْلَمُ

ص: 90

(وَتَسْمِيَةُ الْمَكَانِ الَّذِي يُوفِيهِ فِيهِ إذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ) وَقَالَا: لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْمِيَةِ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا وَلَا إلَى مَكَانِ التَّسْلِيمِ وَيُسَلِّمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ، فَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ. وَلَهُمَا فِي الْأُولَى أَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ وَالْأُجْرَةَ وَصَارَ كَالثَّوْبِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رُبَّمَا يُوجَدُ بَعْضُهَا زُيُوفًا لَا يَسْتَبْدِلُ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهُ لَا يَدْرِي فِي كَمْ بَقِيَ أَوْ رُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إلَى رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ، وَالْمَوْهُومُ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَالْمُتَحَقِّقِ

فِيهِ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى عَدَدِ الذُّرْعَانِ لِيُشْتَرَطَ إعْلَامُهُ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءُ فَجَهَالَةُ قَدْرِ الذُّرْعَانِ لَا تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَهُنَا الْمُسْلَمُ فِيهِ بِمُقَابِلَةِ الْمُقَدَّرَاتِ فَيُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدَ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ اتِّفَاقًا فَصَارَتْ أَحَدَ عَشَرَ شَرْطًا.

وَالثَّانِي عَشَرَ تَسْمِيَةُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ وَهُوَ يَخُصُّ الْمُسْلَمَ فِيهِ. وَالثَّالِثُ عَشْرَ أَنَّ أَنْ لَا يَشْمَلَ الْبَدَلَيْنِ إحْدَى عِلَّتِي الرِّبَا لِأَنَّ انْفِرَادَ أَحَدِهِمَا يُحَرِّمُ النِّسَاءَ وَأَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ. وَالرَّابِعُ عَشَرَ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْمُسْلَمُ فِيهِ بِالتَّعْيِينِ فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَتَقَدَّمَ، فِي التِّبْرِ رِوَايَتَانِ.

وَالْخَامِسُ عَشَرَ انْعِقَادُ الثَّمَنِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، كَذَا ذُكِرَ بِسَبَبِ اشْتِرَاطِهِ لِأَجْلِ إعْلَامِ قَدْرِهِ (وَ) السَّابِعُ (تَسْمِيَةُ الْمَكَانِ الَّذِي يُوفِيهِ فِيهِ إذَا كَانَ لِلْمُسَلَّمِ فِيهِ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ) أَيْ إذَا كَانَ نَقْلُهُ يَحْتَاجُ إلَى أُجْرَةٍ وَنَحْوِهِ لِثِقَلِهِ (وَقَالَا: لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْمِيَةِ رَأْسَ الْمَالِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا) يَقْبِضُهُ دُفْعَةً (وَلَا إلَى مَكَانِ التَّسْلِيمِ وَيُسَلِّمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ، فَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ) خِلَافِيَّتَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا (لَهُمَا فِي الْأُولَى) وَبِقَوْلِهِمَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إعْلَامِ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ بِلَا مُنَازَعَةً (يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ) إلَى الْعَيْنِ الثَّمَنُ الْمُعَجَّلُ فَأُغْنِي عَنْ إعْلَامِ قَدْرِهِ وَصَارَ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ الْمُعَجَّلِ، وَالْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْمُضَارَبَةِ إذَا دَفَعَ إلَى آخَرَ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةِ الْمِقْدَارِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَكَرَأْسِ الْمَالِ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَلَيْهِ كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ فِيهِ إعْلَامُ كَمْيَّةِ ذُرْعَانِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَهُ.

مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ بِهِ، وَقَوْلُ الْفَقِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ. وَالْقِيَاسُ عَلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ بِجَامِعِ أَنَّهُ عِوَضٌ تَنَاوَلَهُ عَقْدُ السَّلَمِ، وَلِأَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَانِعٌ اتِّفَاقًا وَجَهَالَةُ رَأْسِ الْمَالِ مُؤَدٍّ إلَيْهِ،

ص: 91

لِشَرْعِهِ مَعَ الْمُنَافِي، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا لِأَنَّ الذَّرْعَ وَصْفٌ فِيهِ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى مِقْدَارِهِ.

وَمَا يُؤَدِّي إلَى الْمُمْتَنِعِ شَرْعًا مُمْتَنِعٌ شَرْعًا. بَيَانُ تَأْدِيَتِهِ إلَيْهِ أَنَّهُ رُبَّمَا يُنْفِقُ رَأْسَ الْمَالِ كَمَا يُنْفِقُهُ الْمُحْتَاجُونَ فَرُبَّمَا يَظْهَرُ فِيهِ زُيُوفٌ فَيَخْتَارُ الِاسْتِبْدَالَ بِهِ وَرَدَّهُ.

وَقَدْ يَكُونُ أَكْثَرُ رَأْسِ الْمَالِ زُيُوفًا فَإِنَّهُ إذَا رَدَّهُ وَاسْتَبْدَلَ بِهَا فِي الْمَجْلِسِ يَفْسُدُ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ الِاسْتِبْدَالَ فِي أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ خِلَافًا لَهُمَا.

وَقَدْ لَا يُتَّفَقُ الِاسْتِبْدَالُ بِهَا فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْرُ الْمَكِيلِ مَعْلُومًا لَمْ يَدْرِ فِي كَمْ انْتَقَضَ وَفِي كَمْ بَقِيَ فَيَصِيرُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولُ الْمِقْدَارِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ يَلْزَمُ هَذَا أَيْضًا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْهُومًا فَالْمَوْهُومُ فِي هَذَا الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْمَعْلُومِ (لِشَرْعِهِ مَعَ الْمُنَافِي) وَهُوَ كَوْنُ الْمَبِيعِ مَعْدُومًا فَإِنَّ مَا يُشْرَعُ لِذَلِكَ يَكُونُ ضَعِيفًا فِي الشَّرْعِيَّةِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ تَوَهُّمُ الْغَرَرَ الْمَذْكُورِ.

وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَعْلِيلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَرَأَيْتَ لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ ثَمَرَةَ هَذَا الْحَائِطِ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟» (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا لِأَنَّ الذَّرْعَ وَصْفٌ فِيهِ) وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةً فَإِذَا هُوَ خَمْسَةُ عَشَرَ كَانَ كُلُّهُ لَهُ وَالْمَبِيعُ لَا يُقَابِلُ الْأَوْصَافَ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ، وَلِهَذَا لَوْ ظَهَرَ الثَّوْبُ أَوْ الْحَيَوَانُ الْمَجْعُولُ رَأْسَ مَالٍ مُخَرَّقًا وَسَمَّى عَدَدًا مِنْ الذَّرِعَانِ فِيهِ فَوَجَدَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَنْقَصَ أَوْ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ تَالِفًا لَا يَنْتَقِصُ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ شَيْءٌ. بَلْ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ بِكُلِّ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ.

وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ هَذَا اعْتِبَارٌ لِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ أَوْ أَنْزَلَ مِنْهَا فَإِنَّ فِي وُجُودِ الزَّيْفِ احْتِمَالًا. ثُمَّ اخْتِيَارُ الرَّدِّ كَذَلِكَ، ثُمَّ عَدَمُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فِيهِ أَيْضًا ذَلِكَ، وَالْمُعْتَبَرُ الشُّبْهَةُ لَا النَّازِلُ كَمَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الشُّبْهَةُ لَا غَيْرُ وَهُوَ احْتِمَالُ أَنْ لَا تَخْرُجَ الثَّمَرَةُ.

أُجِيبَ تَارَةٌ بِأَنَّهَا شُبْهَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّ الْكُلَّ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِ الزَّيْفِ، وَتَارَةٌ بِأَنَّ السُّؤَالَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ كَالنَّقْدِ مَعَ النَّسِيئَةِ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْمَوْهُومُ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ طَرِيقَ الْمَنْعِ مَا انْحَصَرَ فِي وُجُودِ الزَّيْفِ بَلْ ظُهُورُ اسْتِحْقَاقِ رَأْسِ الْمَالِ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ طَرِيقٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ اعْتِبَارِ الْمَوْهُومِ فِي هَذَا الْعَقْدِ إجْمَاعُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ السَّلَمُ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ

ص: 92

وَمِنْ فُرُوعِهِ إذَا أَسْلَمَ فِي جِنْسَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ رَأْسَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ أَسْلَمَ جِنْسَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ أَحَدِهِمَا. وَلَهُمَا فِي الثَّانِيَةِ أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ يَتَعَيَّنُ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهُ مَكَانٌ آخَرَ فِيهِ فَيَصِيرُ نَظِيرُ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فِي الْأَوَامِرِ فَصَارَ كَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ.

بِعَيْنِهِ لَا يَعْرِفُ مِقْدَارَهُ لِاحْتِمَالِ هَلَاكِ هَذَا الْكَيْلِ قَبْلَ الْحُلُولِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمِنْ فُرُوعِهِ) أَيْ مِنْ فُرُوعِ الْخِلَافِ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ (إذَا أَسْلَمَ فِي جِنْسَيْنِ) كَكُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرِ عَشَرَةً مَثَلًا (وَلَمْ يُبَيِّنْ رَأْسَ مَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا) مِنْ الْعَشَرَةِ (أَوْ أَسْلَمَ جِنْسَيْنِ) كَدَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ كَبُرٍّ أَوْ أَسْلَمَ تَمْرًا وَحِنْطَةً مُعَيَّنِينَ فِي كَذَا مَنًّا مِنْ الزَّعْفَرَانِ (وَلَمْ يُبَيِّن مِقْدَارُ أَحَدِهِمَا) يَعْنِي عَرَفَ مِقْدَارَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ السَّلَمُ لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ فِي حِصَّةِ مَا لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُهُ فَيَبْطُلُ فِي الْآخَرِ أَيْضًا لِاتِّحَادِ الصِّفَةِ أَوْ (لِجَهَالَةِ حِصَّةِ الْآخَرِ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَيَكُونُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولًا. وَلَهُمَا فِي) الْمَسْأَلَةِ (الثَّانِيَةِ) وَهِيَ اشْتِرَاطُ مَكَانِ التَّسْلِيمِ فِيمَا لَهُ مُؤْنَةٌ (أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ يَتَعَيَّنُ) لِلْإِيفَاءِ (لِوُجُودِ الْعَقْدِ) فِيهِ (الْمُوجِبُ لِلتَّسْلِيمِ) مَا لَمْ يَصْرِفَاهُ بِاشْتِرَاطِ مَكَانِ غَيْرِهِ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مُقْتَضَى عَقْدٍ مُطْلَقٍ، فَلَا يُرَدُّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لَمَا صَحَّ اشْتِرَاطُ غَيْرِهِ، فَإِنَّ تَغْيِيرَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مَرْدُودٌ أَوْ هُوَ مُفْسِدٌ عَلَى مَا هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله، وَصَارَ كَانْصِرَافِهِ إلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ مَا لَمْ يُسَمِّيَا نَقْدًا غَيْرَهُ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَيَلْحَقُ بِالثَّمَنِ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِيَهُمَا مَعًا.

فَلَمَّا اقْتَضَى وُجُوبَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ وَجَبَ فِي الْآخَرِ كَذَلِكَ وَصَارَ الْمَكَانُ كَالزَّمَانِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ حَيْثُ يَتَعَيَّنُ لِلْوُجُوبِ لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ أَوْ لِلْأَدَاءِ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ التَّسْلِيمَ يَحْتَاجُ إلَى مَكَان وَهَذَا الْمَكَانُ لَا يُزَاحِمُ فِيهِ غَيْرُهُ فَيَتَعَيَّنُ كَأَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَإِلْحَاقًا أَيْضًا بِالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ حَيْثُ يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ وَالْقَرْضِ وَالِاسْتِهْلَاكِ. وَيَرِدُ أَنَّ كَوْنَ تَعْيِينِ غَيْرِ مَكَانِ الْعَقْدِ غَيْرِ مُفْسِدٍ يُنْقَضُ بِمَا إذَا اشْتَرَى كُرًّا وَشَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ حَمْلَهُ إلَى مَنْزِلِهِ فَيُفْسِدُ سَوَاءٌ اشْتَرَاهُ فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجَهُ.

أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْعَيْنَ بِمُجَرَّدِ شِرَائِهَا، فَإِذَا شَرَطَ حَمْلًا فَقَدْ شَرَطَ عَمَلًا فِي مِلْكِهِ مَعَ الشِّرَاءِ ثُمَّ سُمِّيَ الثَّمَنُ فِي مُقَابِلَةِ ذَلِكَ كُلَّهُ فَصَارَ بَائِعًا آجِرًا وَمُشْتَرِيًا مُسْتَأْجِرًا مَعًا فَهُوَ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ فَيَفْسُدُ. أَمَّا عَقْدُ السَّلَمِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي بِهِ الْعَيْنَ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا عَيْنٌ، فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ بِالْقَبْضِ بِالنَّقْلِ مِنْ مَكَان إلَى آخَرَ عَمَلٌ مِنْ الْبَائِعِ فِي مِلْكِهِ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ بَائِعًا وَآجِرًا.

وَأُورِدَ أَيْضًا فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَعْيِينِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ بَاعَ طَعَامًا وَالطَّعَامُ فِي السَّوَادِ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يَعْلَمُ مَكَانَهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ

ص: 93

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ التَّسْلِيمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِّ فَلَا يَتَعَيَّنُ، بِخِلَافِ الْقَرْضِ وَالْغَصْبِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَالْجَهَالَةُ فِيهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، لِأَنَّ قِيَمَ الْأَشْيَاءِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ، وَصَارَ كَجَهَالَةِ الصِّفَةِ،

فَلَهُ الْخِيَارُ. وَلَوْ تَعَيَّنَ مَكَانُ الْبَيْعِ مَكَانًا لِلتَّسْلِيمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ، ثُمَّ قِيلَ: إنَّمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إذَا كَانَتْ خَوَابِيَ الْحِنْطَةِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مِصْرَ وَسَوَادٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُطَالِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ فِي أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ وَالْبَائِعُ يُسَلِّمُهُ إلَيْهِ فِي الْأَبْعَدِ، وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ أَنَّ مَكَانَ الْبَيْعِ لَا يَتَعَيَّنُ.

أَجَابَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا وَالْمَبِيعُ فِي السَّلَمِ حَاضِرٌ لِأَنَّهُ فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ وَهُوَ حَاضِرٌ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ فَالْمَبِيعُ حَاضِرٌ بِحُضُورِهِ وَفِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّسْلِيمَ) فِي السَّلَمِ (غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِ فَلَا يَتَعَيَّنُ) مَكَانَ الْعَقْدِ (بِخِلَافِ الْقَرْضِ وَالْغَصْبِ) فَإِنَّ التَّسْلِيمَ فِيهِمَا وَاجِبٌ فِي الْحَالِ فَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ سَبَبِ الْوُجُوبِ فِي الْحَالِ، وَكَذَا انْدَفَعَ قِيَاسُهُ عَلَى رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ فِي الْحَالِ وَتَضَمُّنُ مَنْعِ مَا قَالَا مِنْ أَنَّ وُجُودَ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ يُوجِبُ تَعْيِينَ مَكَانِهِ، بَلْ الْعَقْدُ يُوجِبُ التَّسْلِيمَ فَقَطْ إلَّا إنْ اقْتَضَى أَمْرًا آخَرَ تَعْيِينَ مَكَانِهِ (فَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَالْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، لِأَنَّ قِيَمَ الْأَشْيَاءِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ) دَفْعًا لِلْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ الْمُسَلِّمَ يُطَالِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ فِي مَكَان يَسْقُطُ عَنْهُ فِيهِ مُؤْنَةُ الْحَمْلِ وَتَرْتَفِعُ قِيمَتُهُ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَلَى عَكْسِهِ.

وَبِخِلَافِ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ وَاجِبٌ لِلْحَالِ فَافْتَرَقَا، وَإِلْحَاقُهُ بِالْأَمْرِ فِي تَعَيُّنِ أَوَّلِ الْأَوْقَاتِ بِلَا جَامِعٍ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ التَّسْلِيمُ غَيْرُ وَاجِبٍ لِلْحَالِ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ مِمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ الْمَنْعُ إذْ لَا مُلَازَمَةٌ تَظْهَرُ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَعَيُّنِهِ مَعَ تَأَخُّرِ التَّسْلِيمِ حَتَّى إذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَجَبَ تَسْلِيمُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَنْعِ تَعْيِينِ الْعَقْدِ الْمَكَانِ وَإِلْحَاقِهِمَا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَالْقَرْضِ ظَهَرَ الْفَارِقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ السَّلَمِ وَبِالثَّمَنِ فِي الْعَيْنِ مَحِلِّ النِّزَاعِ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ يَرَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَيْضًا إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا، وَأَنَّهُ يَجِبُ تَعْيِينُهُ أَيْضًا كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ وَبِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ يُمْنَعُ فِيهِ حُكْمُ الْأَصْلِ، فَإِنَّا لَا نُعَيِّنُ مَكَانَ

ص: 94

وَعَنْ هَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ رحمهم الله إنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَهُ يُوجِبُ التَّخَالُفَ كَمَا فِي الصِّفَةِ. وَقِيلَ عَلَى عَكْسِهِ لِأَنَّ تَعَيُّنِ الْمَكَانِ قَضِيَّةُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ وَالْقِسْمَةُ، وَصُورَتُهَا إذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَجَعَلَا مَعَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ.

وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الثَّمَنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رحمه الله. وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الدَّارِ وَمَكَانُ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ لِلْإِيفَاءِ. قَالَ (وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ)

الْعَقْدِ لِتَسْلِيمِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بَلْ أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لِنَفْيِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، فَلَوْ عَقَدَا السَّلَمَ وَمَشَيَا فَرْسَخًا ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ جَازَ.

وَقَوْلُهُمْ الْمُوجِبُ لِلتَّسْلِيمِ وُجِدَ فِيهِ. قُلْنَا: نَعَمْ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْمُوجِبُ فِي مَكَان أَنْ يُوجِبَ مُقْتَضَاهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَإِنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ عَقْلِيَّةٌ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ فِي مَكَان وَأَثَرُهُ الْإِيجَابُ مُطْلَقًا فَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْمُلَازَمَةُ إلَّا سَمْعًا (قَوْلُهُ وَعَنْ هَذَا) أَيْ وَعَنْ كَوْنِ الْمَكَانِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقِيمَةِ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ: إنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ فَإِنَّ اخْتِلَافَ الصِّفَةِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقِيمَةِ، فَهُوَ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جُودَتِهِ وَرَدَاءَتِهِ.

وَقِيلَ عَلَى عَكْسِهِ: أَيْ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفُ عِنْدَهُ بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمَكَانِ لَيْسَ قَضِيَّةُ الْعَقْدِ عِنْدَهُ.

وَعِنْدَهُمَا يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمَكَانِ لَمَّا ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْعَقْدِ فِيهِ كَانَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ وَالِاخْتِلَافُ فِيهَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا هُنَا قَالَ (وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الثَّمَنُ) فِي الْبَيْعِ النَّاجِزِ إذَا كَانَ لَهُ مُؤْنَةُ حَمْلٍ وَهُوَ مُؤَجَّلٌ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ (وَالْأُجْرَةُ) بِأَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا مَثَلًا بِمَا لَهُ حَمْلُ وَمُؤْنَةٍ وَهُوَ مُؤَجَّلٌ عِنْدَهُ يَشْتَرِطُ بَيَانُ مَكَانِ تَسْلِيمِهَا وَعِنْدَهُمَا لَا (وَالْقِسْمَةُ) فِيمَا (إذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَجَعَلَا مَعَ نُصِبْ أَحَدِهِمَا شَيْئًا لَهُ حَمْلُ وَمُؤْنَةٍ. وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الثَّمَنِ)

بِالْإِجْمَاعِ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ) عِنْدَهُ (إذَا كَانَ مَوْجَلًا وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ. وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الدَّارِ) فِي الْقِسْمَةِ (وَمَكَانُ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ) فِي الْإِجَارَةِ (لِلْإِيفَاءِ)(قَوْلُهُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ)

ص: 95

لِأَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ (وَيُوفِيهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْبُيُوعِ.

وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّهُ يُوفِيهِ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا سَوَاءٌ، وَلَا وُجُوبَ فِي الْحَالِّ. وَلَوْ عَيَّنَا مَكَانًا، قِيلَ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ، وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمِصْرَ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يُكْتَفَى بِهِ لِأَنَّهُ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا ذَكَرْنَا.

كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَالزَّعْفَرَانِ وَصِغَارِ اللُّؤْلُؤِ: يَعْنِي الْقَلِيلَ مِنْهُ وَإِلَّا فَقَدْ يُسَلَّمُ فِي أَمْنَانٍ مِنْ الزَّعْفَرَانِ كَثِيرَةٌ تَبْلُغُ أَحْمَالًا، وَكَذَا الْمِسْكُ وَصِغَارُ اللُّؤْلُؤِ لَا يَشْتَرِطُ فِيهِ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ (وَيُوفِيهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَسْلَمَهُ فِيهِ) وَكُلَّمَا قُلْنَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ مَعْنَاهُ إذَا كَانَ مِمَّا يَتَأَتَّى التَّسْلِيمُ فِيهِ وَمَا لَا بِأَنْ أَسْلَمَ إلَيْهِ دِرْهَمًا فِي مَرْكَبٍ فِي الْبَحْرِ أَوْ جَبَلٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا مِنْهُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْبُيُوعُ) يَعْنِي مِنْ أَصْلِ الْمَبْسُوطِ، وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَاتِ مِنْ أَصْلِ الْمَبْسُوطِ (يُوفِيهِ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ) وَالْأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا (لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلُّهَا سَوَاءٌ) إذْ الْمَالِيَّةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ فِيمَا لَا حِمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ، بَلْ بِعِزَّةِ الْوُجُودِ وَقِلَّتِهِ وَكَثْرَةِ رَغَبَاتِ النَّاسِ وَقِلَّتِهَا، بِخِلَافِ مَالَهُ مُؤْنَةٌ فَإِنَّ الْحِنْطَةَ وَالْحَطَبَ يُوجَدُ فِي الْمِصْرِ وَالسَّوَادِ ثُمَّ يُشْتَرَى فِي الْمِصْرِ بِأَكْثَرِ مِمَّا يُشْتَرَى فِي السَّوَادِ (وَلَوْ عَيَّنَا مَكَانًا، قِيلَ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ) وَالشَّرْطُ الَّذِي لَا يُفِيدُ لَا يَجُوزُ.

(وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ) وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ (ثُمَّ لَوْ عَيَّنَا الْمِصْرَ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يُكْتَفَى بِهِ لِأَنَّهُ مَعَ تَبَايُنِ أَطْرَافِهِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي أَنَّ الْقِيمَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمِصْرِ الْوَاحِدِ عَادَةً. قِيلَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمِصْرُ عَظِيمًا، فَلَوْ كَانَ بَيْنَ جَوَانِبِهِ نَحْوَ فَرْسَخٍ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَى الْمُنَازَعَةِ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ. وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَكَان يَحْمِلُهُ إلَى مَنْزِلِهِ لَا خَيْرَ فِيهِ. وَلَوْ شَرَطَ الْحَمْلَ إلَى مَنْزِلِهِ ابْتِدَاءً قِيلَ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا.

وَرَوَى الْبَلْخِيّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ. وَقِيلَ إنَّمَا لَا يَجُوزُ قِيَاسًا إذَا شَرَطَ الْإِيفَاءَ فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ الْحَمْلَ إلَى مَنْزِلِهِ. أَمَّا لَوْ شَرَطَ الْإِيفَاءَ فِي مَنْزِلِهِ فَيَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا. وَفِي بَيْعِ الْعَيْنِ لَوْ شَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ فِي الْمِصْرِ أَنْ يُوفِيَهُ إلَى مَنْزِلِهِ وَالْعَقْدُ فِي مِصْرَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ جَوَانِبِ الْمِصْرِ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ.

وَلَوْ اشْتَرَى طَعَامًا بِطَعَامٍ مِنْ جِنْسِهِ وَشَرْطَ أَحَدُهُمَا التَّوْفِيَةَ إلَى مَنْزِلِهِ لَمْ يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ كَيْفَمَا كَانَ، وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَكَانِ كَذَا فَسَلَّمَهُ فِي غَيْرِهِ وَدَفَعَ الْكِرَاءَ إلَى الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ صَارَ قَابِضًا، وَلَا يَجُوزُ

ص: 96

قَالَ (وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ حَتَّى يَقْبِضَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ فِيهِ) أَمَّا إذَا كَانَ مِنْ النُّقُودِ فَلِأَنَّهُ افْتِرَاقٌ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا» ، فَلِأَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ، إذْ الْإِسْلَامُ وَالْإِسْلَافُ يُنْبِئَانِ عَنْ التَّعْجِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الِاسْمِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ لِيَتَقَلَّبَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِيهِ فَيَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إذَا كَانَ فِيهِ خِيَارُ

أَخْذُ الْكِرَاءِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ إلَيْهِ لِيُسَلِّمَهُ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ لِأَنَّهُ حَقُّهُ

(قَوْلُهُ لَا يَصِحُّ السَّلَمُ حَتَّى يَقْبِضَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ) بَدَنًا تَحْقِيقُهُ أَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ (أَمَّا إذَا كَانَ) رَأْسُ الْمَالِ (مِنْ النُّقُودِ فَلِأَنَّهُ) لَوْ لَمْ يَقْبِضْ (افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ) لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ فَلَا يَقَعُ الْعَقْدُ إلَّا عَلَى دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ فَيَقَعُ بِدَفْعِ الْعَيْنِ الْمُقَاصَّةِ عَنْهُ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» أَيْ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا رحمه الله يُجِيزُ التَّأْخِيرَ وَيَقُولُ: إذَا لَمْ يَشْرُطْ التَّأْجِيلَ لَا يُخَرِّجَهُ إلَى الدَّيْنِ عُرْفًا، وَبِقَوْلِنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ (وَإِنْ كَانَ عَيْنًا) فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَشْتَرِطُ تَعْجِيلُهُ لِأَنَّ عَدَمَ تَسْلِيمِهِ لَا يُؤَدِّي إلَى بَيْعِ دَيْنٍ بِدَيْنٍ بَلْ بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ.

وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُشْتَرَطُ إعْمَالًا لِمُقْتَضَى الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِسْلَافَ فِي كَذَا يُنْبِئُ عَنْ تَعْجِيلِ الْمُسَلِّمِ دُونَ الْآخِرِ لِأَنَّ وَضَعَهَا فِي الْأَصْلِ لِأَخْذِ عَاجِلٍ بِآجِلٍ وَالشَّرْعُ قَرَّرَهُ كَذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى الَّذِي اُعْتُبِرَ فِيهَا لَوْ فَرَضْنَا فَرْضًا أَنَّهَا صَارَتْ إعْلَامًا فَأَصْلُ الْوَضْعِ كَافٍ بِاعْتِبَارِ مَا اعْتَبَرَ فِي مَعْنَاهَا مِنْ الْأَحْكَامِ فَلَزِمَ التَّعْجِيلُ (وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِهِ لِيَتَقَلَّبَ فِيهِ الْمُسْلَمُ) إلَيْهِ إذْ الْفَرْضُ إفْلَاسُهُ وَحَاجَتُهُ إلَى الْعَقْدِ لِإِفْلَاسِهِ فَيَتَقَلَّبُ فِيهِ لِيَقْدِرَ عَلَى تَحْصِيلِ الْمُسْلَمِ فِيهِ إلَى الْأَجَلِ (وَ) لِهَذَا: أَيْ لِاشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ (قُلْنَا: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إذَا كَانَ فِيهِ خِيَارُ

ص: 97

الشَّرْطِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْض لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَكَذَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ

الشَّرْطِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ) الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ خَرَجَ الْبَدَلُ عَنْ مِلْكِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْآخَرِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا هُوَ مِلْكٌ مُتَزَلْزِلٌ فَإِنَّهُ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَفْسَخَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَلَا يُتِمَّ الْقَبْضُ لِأَنَّ تَمَامَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَمَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَقْبُوضِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا ظَهَرَ مُسْتَحَقًّا لَمْ يَمْنَعْ اسْتِحْقَاقُهُ مِنْ تَمَامِ قَبْضِهِ لِجَوَازِ إجَازَةِ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ أَجَازَ قَبْضَهُ صَحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ يَمْنَعُ الْمِلْكَ لِأَنَّ مَنْعَهُ الْمِلْكَ لَيْسَ بِقَضِيَّةِ السَّبَبِ، بَلْ السَّبَبُ وُجِدَ مُطْلَقًا لَا مَانِعَ فِيهِ سِوَى تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَجَازَ أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ الْغَيْرُ، فَإِذَا أَجَازَ اُلْتُحِقَتْ الْإِجَارَةُ بِحَالَةِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنَّ عَدَمَ الْمِلْكِ قَضِيَّةُ السَّبَبِ نَفْسِهِ وَيَجْعَلُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِشَرْطِ سُقُوطِ الْخِيَارِ وَكَانَ تَأْثِيرُهُ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ عَدَمِ الْقَبْضِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْإِبْطَالِ مِنْ عَدَمِ الْقَبْضِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ فَلَا حُكْمَ أَصْلًا وَهُوَ الْمِلْكُ فَلَا قَبْضَ، وَلِذَا قُلْنَا إنَّ إعْتَاقَ الْمُشْتَرِي لَا يَصِحُّ وَلَا يَتَوَقَّفُ إذَا كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ وَإِعْتَاقُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْفُضُولِيِّ يَتَوَقَّفُ.

(وَكَذَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ) أَيْ فِي السَّلَمِ (خِيَارُ رُؤْيَةٍ) بِالْإِجْمَاعِ (لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ) إذْ فَائِدَةُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ رَدُّ الْمَبِيعِ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا رُدَّ الْمَقْبُوضُ عَادَ دَيْنًا كَمَا كَانَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَيْنَ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ قَدْ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ بَلْ يَعُودُ حَقُّهُ فِي مِثْلِهِ، وَلِأَنَّ إعْلَامَ الدَّيْنِ لَيْسَ إلَّا بِذِكْرِ الصِّفَةِ فَقَامَ ذِكْرُ الصِّفَةِ مَقَامَ الْعَيْنِ فَلَا يَتَصَوَّرُ خِيَارُ رُؤْيَةٍ، ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي.

وَلَا يُشْكَلُ بِالِاسْتِصْنَاعِ فَإِنَّهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الصَّانِعِ وَيَجْرِي فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ: يَعْنِي إذَا رَدَّ مَا يَأْتِي بِهِ يَنْفَسِخُ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَبِيعَ فِيهِ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الصَّانِعِ بَلْ الْعَيْنُ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي رَأْسِ الْمَالِ فَصَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ، وَهَذَا إذَا كَانَ عَيْنًا مِثْلِيًّا أَوْ قِيَمِيًّا (بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ) فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ (لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ) لِأَنَّ تَمَامَهُ بِتَمَامِ الصَّفْقَةِ

ص: 98

وَلَوْ أُسْقِطَ خِيَارُ الشَّرْطِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَرَأْسُ الْمَالِ قَائِمٌ جَازَ خِلَافًا لَزُفَرَ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ

(وَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ جَمَعُوهَا فِي قَوْلِهِمْ إعْلَامُ رَأْسِ الْمَالِ وَتَعْجِيلُهُ وَإِعْلَامُ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَتَأْجِيلُهُ وَبَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ مِائَتِي دِرْهَمٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ مِائَةٌ مِنْهَا دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَمِائَةٌ نَقْدٌ فَالسَّلَمُ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ بَاطِلٌ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ وَيَجُوزُ فِي حِصَّةِ النَّقْدِ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ وَلَا يَشِيعُ الْفَسَادَ لِأَنَّ الْفَسَادَ طَارِئٌ، إذْ السَّلَمُ وَقَعَ صَحِيحًا، وَلِهَذَا لَوْ نَقَدَ رَأْسَ

وَتَمَامُهُمَا بِتَمَامِ الرِّضَا وَهُوَ تَمَامُ وَقْتِ الْعَقْدِ

(قَوْلُهُ وَلَوْ أُسْقِطَ خِيَارُ الشَّرْطِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَرَأْسُ مَالِ السَّلَمِ قَائِمٌ جَازَ) السَّلَمُ (خِلَافًا لَزُفَرَ) وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقِيَامِ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُمَا لَوْ أَسْقَطَاهُ بَعْدَ إنْفَاقِهِ أَوْ اسْتِهْلَاكِهِ لَا يَعُودُ صَحِيحًا اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ بِالْإِهْلَاكِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَم إلَيْهِ، فَلَوْ صَحَّ كَانَ بِرَأْسِ مَالٍ هُوَ دَيْنٌ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَلِأَنَّهُ الْآنَ فِي مَعْنَى الِابْتِدَاءِ، إذْ قَبْلَ الْإِسْقَاطِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَقْدِ وُجُودٌ شَرْعًا، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ كَقَوْلِ زُفَرَ (وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ) فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ ثُمَّ أَسْقَطَ الْأَجَلَ قَبْلَ حُلُولِهِ يَنْقَلِبُ جَائِزًا عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمْ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ جَمَعُوهَا إلَى آخِرِهِ) فَإِعْلَامُ رَأْسِ الْمَالِ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَتَعْجِيلِهِ تَتِمُّ خَمْسَةٌ، وَمِنْ صِفَتِهِ أَنْ يَذْكُرَ مِنْ النَّقْدِ الْفُلَانِيِّ إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةُ الْمَالِيَّةِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الرَّوَاجِ كَقَوْلِنَا عَدْلِيَّةً أَوْ غِطْرِيفِيَّةً، فَإِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ وَتَسَاوَتْ رَوَاجًا يُعْطِيهِ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ، وَلَوْ تَفَاوَتَتْ رَوَاجًا انْصَرَفَ إلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَيَنْبَغِي فِي دِيَارِنَا إذَا سَمَّى مُؤَيِّدَيْهِ يُعْطِيهِ الْأَشْرَفِيَّةَ وَالْجَقْمَقِيَةَ لِتَعَارُفِ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ مُؤَيِّدِيهِ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي الْمَالِيَّةِ وَالرَّوَاجِ وَإِعْلَامِ الْمُسْلَمِ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى مِثْلِهَا خَلَا التَّعْجِيلَ وَتَأْجِيلُهُ وَبَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ يَتِمُّ أَحَدَ عَشَرَ، وَأَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ عَدَمَ الِانْقِطَاعِ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ بِالْفِعْلِ فِي الْحَالِ لَيْسَ هُوَ شَرْطًا عِنْدَنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ اتَّفَقَ عَجْزُهُ عِنْدَ الْحُلُولِ وَإِفْلَاسُهُ لَا يَبْطُلُ السَّلَمُ وَقَدْ بَقِيَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَلَا يَجُوزُ فِي النُّقُودِ وَأَنْ لَا يَكُونَ حَيَوَانًا، وَانْتِقَادُ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ نَقْدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَأَنْ لَا يَشْمَلَ الْبَدَلَيْنِ إحْدَى عِلَّتِي الرِّبَا وَعَدَمُ الْخِيَارِ، فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ وَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ لَمْ يَتِمَّ.

ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي السَّلَمِ أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ مِائَتَيْنِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ (مِنْهَا مِائَةٌ دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَنَقَدَهُ مِائَةٌ أَنَّ السَّلَمَ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ بَاطِلٌ لِفَوَاتِ قَبْضُهُ وَلَا يَشِيعُ الْفَسَادُ) فِي الْكُلِّ خِلَافًا لَزُفَرَ رحمه الله. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ فَسَادٌ قَوِيٌّ لِتَمَكُّنِهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ. وَأَيْضًا فَقَدْ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي صِحَّةِ الدَّيْنِ شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِي صِحَّةِ النَّقْدِ

ص: 99

الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ إلَّا أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ لِمَا بَيَّنَّا، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فَيَنْعَقِدُ صَحِيحًا.

فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ.

وَلَنَا أَنَّ الْفَسَادَ طَارِئٌ. فَلَا يَشِيعُ فِي غَيْرِ مَحِلِّ الْمُفْسِدِ، أَمَّا إنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى مِائَتَيْنِ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ مِائَتَيْنِ فِي كَذَا ثُمَّ جَعَلَ إحْدَاهُمَا الدَّيْنَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إنْ أَضَافَ إلَى الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ جَمِيعًا بِأَنْ قَالَ أَسْلَمْتُ مِائَةَ الدَّيْنِ وَهَذِهِ الْمِائَةُ فِي كَذَا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ قِيلَ يَفْسُدُ فِي الْكُلِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَوَابَ فِيهِمَا عَدَمُ الْفَسَادِ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالدَّيْنِ، وَلَوْ قَيَّدَ بِهِ بِدَلِيلِ: مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ لَا يَبْطُلُ إلَّا إذَا كَانَا يَعْلَمَانِ عَدَمَ الدَّيْنِ فَيَفْسُدُ لِأَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُمَا حِينَئِذٍ هَازِلَانِ بِالْبَيْعِ حَيْثُ عَقَدَا بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ الْمِائَةُ عَلَى ثَالِثٍ فَإِنَّهُ يَشِيعُ الْفَسَادُ، وَلِذَا قَيَّدَ الْمُصَنِّفُ كَوْنَ الْمِائَةِ دَيْنًا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمِائَةَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَيْسَتْ مَالًا فِي حَقِّهِمَا، وَحِينَ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِالدَّيْنِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَسَادُ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ ذَلِكَ، بَلْ بِالِافْتِرَاقِ بِلَا قَبْضِ تِلْكَ الْمِائَةِ، وَلِهَذَا لَوْ نَقَضَ الْمِائَةَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ السَّلَمُ وَحِينَئِذٍ لَمْ يَلْزَمْ قَوْلُهُ جَعَلَ الْقَبُولَ فِي الْفَاسِدِ شَرْطًا إلَى آخِرِهِ إذْ لَمْ يَلْزَمْ الْفَسَادُ بِالْإِضَافَةِ لَفْظًا إلَى الدَّيْنِ وَكَانَ الْفَسَادُ طَارِئًا بِلَا شُبْهَةَ.

وَقَالَ فِي الْمَنْظُومَةِ: إنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَوْعَيْنِ نَقَدَ هَذَا وَدَيْنُ ذَاكَ فَالْكُلُّ فَسَدَ إنْ لَمْ يُبَيِّنْ قِسْطَ ذَا وَقِسْطَ ذَا وَالْبُرُّ فِي الشَّعِيرِ وَالزَّيْتُ كَذَا فَاسْتُشْكِلَتْ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَقِيلَ: إنَّمَا قَيَّدَ بِالنَّوْعَيْنِ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يَتَعَدَّى الْفَسَادُ كَمَا ذَكَر فِي الْهِدَايَةِ. وَاسْتَشْكَلَهُ صَاحِبُ الْحَوَاشِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ عِنْدَهُ إذَا وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَى شَيْئَيْنِ وَفَسَدَ فِي أَحَدِهِمَا يُفْسِدُ فِي الْآخَرِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَبُولُ الْفَاسِدِ شَرْطًا إلَى آخِرِهِ، قَالَ: إلَّا أَنَّ هَذَا فِي الْفَسَادِ الْمُقَارَنِ الَّذِي تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لَا فِي الطَّارِئِ، وَهَذَا طَارِئٌ لِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ، أَمَّا الْعَقْدُ فِي نَفْسِهِ فَصَحِيحٌ.

وَاسْتَشْكَلَهُ الشَّيْخُ حَافِظُ الدِّينِ فِي الْمُصَفَّى بِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَفْسُدَ فِي النَّقْدِ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَوْعَيْنِ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَعْرِفَةَ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطٌ عِنْدَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي قَدَّمَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى اشْتِرَاطِهِ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ إذَا كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ، فَإِذَا قُوبِلَ بِشَيْئَيْنِ كَانَ الِانْقِسَامُ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ انْتَهَى. وَهُوَ جَيِّدٌ مَا فَرَّعَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى اشْتِرَاطِ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ إلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى تَقْيِيدِ الْمَنْظُومَةِ بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا دَيْنًا فَإِنَّهُ

ص: 100

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ

(وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَالتَّوْلِيَةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ) لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ

(فَإِنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِرَأْسِ الْمَالِ شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَهُ كُلَّهُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَكَ أَوْ رَأْسَ مَالِكَ» أَيْ عِنْدَ الْفَسْخِ،

لَوْ كَانَ عَيْنَيْنِ فَسَدَ فِيهَا لِذَلِكَ أَيْضًا

(وَقَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَلَا الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ: أَمَّا الْأَوَّلُ) وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ فَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ التَّصَرُّفُ قَبْلَ قَبْضِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّ الشَّرْعِ وَهُوَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ شَرْعًا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ (وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ (فَإِنَّهُ مَبِيعٌ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلِيلِ فَلَا تَجُوزُ هِبَتُهُ وَلَا الِاسْتِبْدَالُ بِهِ، أَمَّا لَوْ دَفَعَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مَا هُوَ أَرْدَأَ مِنْ الْمَشْرُوطِ فَقَبِلَهُ رَبُّ السَّلَمِ أَوْ أَجْوَدَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الِاسْتِبْدَالِ فَإِنَّهُ جِنْسُ حَقِّهِ فَهُوَ كَتَرْكِ بَعْضِ حَقِّهِ وَإِسْقَاطُهُ فِي حَقِّ بَابِ السَّلَمِ وَمِنْ جِنْسِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَقَوْلُ الْقُدُورِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ

(وَلَا يَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَ) لَا (التَّوْلِيَةُ) مَعَ دُخُولِهِمَا فِي عُمُومِ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ لِقُرْبِ وُقُوعِهِمَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمُرَابَحَةِ وَالْوَضِيعَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ، وَفِي الْوَضِيعَةِ إضْرَارٌ بِرَبِّ السَّلَمِ فَيُبْعِدُ وُجُودُهُمَا، بِخِلَافِ أَخْذِهِ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ فَإِنَّهُ قَرِيبٌ، وَالشَّرِكَةُ هِيَ مَعْنَى أَخْذُ بَعْضِهِ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، وَقِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْبَعْضِ إنَّ التَّوْلِيَةَ تَجُوزُ عِنْدَهُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَالسَّلَمِ

(قَوْلُهُ فَإِنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ) أَيْ لِرَبِّ السَّلَمِ (أَنْ يَشْتَرِي مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِرَأْسِ الْمَالِ شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَهُ كُلَّهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَك أَوْ رَأْسَ مَالِكَ») أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مَعْنَاهُ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَأْخُذَ إلَّا هُوَ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَقَالَ: لَا أَعْرِفَهُ مَرْفُوعًا إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَعِيدِ الْجَوْهَرِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الدِّرْهَمِيِّ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ وَقَالَ: اللَّفْظُ لِلدِّرْهَمِيِّ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ: فَلَا يَأْخُذُ إلَّا مَا أَسْلَمَ فِيهِ أَوْ رَأْسَ مَالِهِ، وَهَذَا هُوَ حَدِيثُ الْمُصَنِّفِ وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَالتِّرْمِذِيُّ يُحَسِّنُ

ص: 101

وَلِأَنَّهُ أَخَذَ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ فَلَا يَحِلُّ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلَ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَبِيعًا لِسُقُوطِهِ فَجَعَلَ رَأْسَ الْمَالِ مَبِيعًا لِأَنَّهُ دَيْنٌ مِثْلُهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الِابْتِدَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ،

حَدِيثَهُ فَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَحَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ " إذَا أَسْلَفْت فِي شَيْءٍ فَلَا تَأْخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِكَ أَوْ الَّذِي أَسْلَفْتَ فِيهِ ". وَأَسْنَدَ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ نَحْوَهُ مِنْ قَوْلِهِ فَقَوْلُهُ لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَك: يَعْنِي حَالَ قِيَامِ الْعَقْدِ أَوْ رَأْسَ مَالِكَ: أَيْ عِنْدَ الْفَسْخِ. فَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ كَالْمَبِيعِ فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ (وَهَذَا) أَيْ كَوْنُهُ أَخَذَ شَبَهًا بِالْمَبِيعِ (بِ) سَبَبِ (أَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ) غَيْرِ الْمُتَعَاقِدِينَ وَالشَّرْعُ ثَالِثٌ، وَعَرَفَ أَنَّ صِحَّتهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْمَبِيعِ إلَى الْقَبْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ إقَالَةِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ تَبْطُلُ الْإِقَالَةُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ هُنَا لِأَنَّ بِالْإِقَالَةِ يَسْقُطُ الْمَبِيعُ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَا عَيْنٌ فَيَتَلَاشَى فَلَا يَعُودُ لَكِنَّهَا قَدْ صَحَّتْ فَيَلْزَمُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ رَأْسَ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ دَيْنٌ مِثْلَ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَجَعْلُ الدَّيْنَ مَبِيعًا لَيْسَ مُحَالًا.

وَأُورِدَ عَلَيْهِ: لَوْ كَانَتْ بَيْعًا جَدِيدًا لَكَانَتْ بَيْعُ سَلَمٍ لِأَنَّهَا إقَالَةُ بَيْعِ سَلَمٍ فَكَانَ يَلْزَمُ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ الْإِقَالَةِ فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَلْزَمْ بِالْإِجْمَاعِ، فَأَجَابَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ (بِأَنَّهُ) يَعْنِي عَقْدَ الْإِقَالَةِ (لَيْسَ فِي حُكْمِ الِابْتِدَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ لُزُومَ قَبْضِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لِئَلَّا يَفْتَرِقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ وَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَسْخِ بِالْإِقَالَةِ. وَيُمْكِنُ حَمْلُ جَوَابِ الْمُصَنِّفِ عَلَى هَذَا بِتَكَلُّفٍ يَسِيرٍ. وَحَاصِلُ جَوَابِ صَاحِبِ الْإِيضَاحِ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ جُعِلَ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ وَالْقَبْضُ لَيْسَ شَرْطًا فِيهِ فَلَيْسَ شَرْطًا لَهُ

ص: 102

وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ رحمه الله، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ.

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ قَضَاءٌ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً، وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ ثُمَّ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ فَاكْتَالَهُ لَهُ ثُمَّ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ جَازَ) لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ الصَّفْقَتَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَيْلِ مَرَّتَيْنِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ، وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا مَرَّ

وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ) أَيْ فِي مَنْعِ الِاسْتِبْدَالِ بِرَأْسِ مَال السَّلَمِ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بَعْدَ إقَالَةِ السَّلَمِ. فَعِنْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا شَاءَ وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّهُ بِالْإِقَالَةِ بَطَلَ السَّلَمُ وَصَارَ رَأْسَ الْمَالِ دَيْنًا عِنْدَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَيَسْتَبْدِلُ بِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ.

قَالَ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا) مِنْ الْأَثَرِ وَالْمَعْنَى فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ بِالْأَثَرِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ) وَهُوَ سِتُّونَ قَفِيزًا أَوْ أَرْبَعُونَ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، وَالْقَفِيزُ ثَمَانِيَةُ مَكَاكِيكُ، وَالْمَكُّوكُ صَاعٌ وَنِصْفُ (فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ أَنْ يَقْبِضَهُ قَضَاءٌ) عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَاقْتَضَاهُ رَبُّ السَّلَمِ بِحَقِّهِ بِأَنْ اكْتَالَهُ مَرَّةً وَحَازَهُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضِيًا حَقَّهُ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ يَهْلَكُ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَيُطَالِبُهُ رَبُّ السَّلَمِ بِحَقِّهِ (وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ) أَيْ لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ (ثُمَّ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ فَاكْتَالَهُ لَهُ) أَيْ رَبُّ السَّلَمِ لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ (ثُمَّ اكْتَالَهُ) مَرَّةً أُخْرَى (لِنَفْسِهِ) صَارَ مُقْتَضِيًا مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ وَهَذَا (لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ صَفْقَتَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَيْلِ مَرَّتَيْنِ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِي فِيهِ صَاعَانِ) صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي (وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا مَرَّ) فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِي بَابَ الْمُرَابَحَةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ اجْتِمَاعُ الصَّفْقَتَيْنِ.

وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ مَا سُمِّيَ فِيهِ وَهُوَ الْكُرُّ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْكَيْلِ فَكَانَ الْكَيْلُ مُعَيِّنًا لِلْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَهَذَانِ عَقْدَانِ وَمُشْتَرِيَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْفِيرِ مُقْتَضَى كُلِّ عَقْدٍ عَلَيْهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّانِيَ لَوْ كَالَهُ فَزَادَ لَمْ تَطِبْ لَهُ الزِّيَادَةُ وَوَجَبَ رَدُّهَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي كَالَهُ لِنَفْسِهِ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي فَقَبَضَهُ الثَّانِي لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكِيلَهُ إقَامَةً لِحَقِّ الْعَقْدِ الثَّانِي وَالصَّفْقَتَانِ شِرَاءُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مِنْ بَائِعِهِ الْكُرَّ وَالصَّفْقَةُ التَّقْدِيرِيَّةُ الَّتِي اُعْتُبِرَتْ بَيْنَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَ قَبْضِهِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ يَصِيرُ بَائِعًا مِنْ رَبِّ السَّلَمِ مَا اشْتَرَاهُ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ لَيْسَ عَيْنُ حَقِّهِ فَإِنَّهُ دَيْنٌ، وَهَذَا عَيْنُ قَاصَصَهُ بِهِ، وَقَدْ أَخَذُوا فِي صِحَّةِ الْأَمْرِ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ ثُمَّ يَقْبِضَهُ لِنَفْسِهِ. وَعِنْدِي لَيْسَ هَذَا بِشَرْطٍ، بَلْ الشَّرْطُ أَنْ يَكِيلَهُ مَرَّتَيْنِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهُ اقْبِضْ الْكُرَّ الَّذِي اشْتَرَيْتُهُ مِنْ فُلَانٍ عَنْ حَقِّكَ فَذَهَبَ فَاكْتَالَهُ ثُمَّ أَعَادَ كَيْلَهُ صَارَ قَابِضًا، لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ بِالْكَيْلِ الْأَوَّلِ بَلْ الثَّانِي، فَلَمَّا قَالَ لَهُ اقْبِضْهُ عَنْ حَقِّكَ وَالْمُخَاطَبُ يَعْلَمُ طَرِيقَ صَيْرُورَتِهِ قَابِضًا لِنَفْسِهِ أَنْ يَكِيلَهُ مَرَّةً لِلْقَبْضِ عَنْ الْآمِرِ وَثَانِيًا لِيَصِيرَ هُوَ قَابِضًا لِنَفْسِهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ صَارَ قَابِضًا حَقَّهُ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ اذْهَبْ فَافْعَلْ مَا تَصِيرُ بِهِ قَابِضًا.

وَلَفْظُ الْجَامِعِ يُفِيدُ مَا قُلْنَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَزِدْ فِيهِ عَلَى قَوْلِ

ص: 103

وَالسَّلَمُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا لَكِنْ قَبْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَاحِقٌ وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً.

وَإِنْ جَعَلَ عَيْنَهُ فِي حَقٍّ حُكْمٌ خَاصٌّ وَهُوَ حُرْمَةُ الِاسْتِبْدَالِ فَيَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَمًا وَكَانَ قَرْضًا فَأَمَرَهُ بِقَبْضِ الْكُرِّ جَازَ لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ فَكَانَ الْمَرْدُودُ عَيْنَ الْمَأْخُوذِ مُطْلَقًا حُكْمًا فَلَا تَجْتَمِعُ الصَّفْقَتَانِ.

فَاكْتَالَهُ ثُمَّ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ جَازَ. وَقَوْلُهُ (وَالسَّلَمُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا إلَى آخِرِهِ) جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ بَيْعُ رَبِّ السَّلَمِ مَعَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ كَانَ سَابِقًا عَلَى شِرَاءِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مِنْ بَائِعِهِ فَلَا يَكُونُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بَائِعًا بَعْد الشِّرَاءِ مَا اشْتَرَاهُ فَلَمْ تَجْتَمِعْ الصَّفْقَتَانِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ.

فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ السَّلَمُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا عَلَى شِرَاءِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مِنْ بَائِعِهِ (لَكِنْ قَبْضُ) رَبِّ السَّلَمِ (الْمُسْلَمِ فِيهِ لَاحِقٌ) لِشِرَائِهِ مِنْ بَائِعِهِ (وَأَنَّهُ) أَيْ قَبْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ (بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ الدَّيْنِ حَقِيقَةً) وَاعْتِبَارُهُ عَيْنُهُ فِي حَقِّ حُكْمٍ خَاصٍّ وَهُوَ صِحَّةُ قَبْضِهِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ كَيْ لَا يَلْزَمُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَهُ إيَّاهُ مُطْلَقًا فَأَخْذُ الْعَيْنِ عَنْهُ فِي حُكْمِ عَقْدٍ جَدِيدٍ فَيَتَحَقَّقُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بَعْدَ شِرَائِهِ مِنْ بَائِعِهِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ مَا قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: لَوْ أَسْلَمَ مِائَةٌ فِي كُرٍّ ثُمَّ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ كُرُّ حِنْطَةٍ بِمِائَتِي دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ فَقَبَضَهُ فَلَمَّا حَلَّ السَّلَمُ أَعْطَاهُ ذَلِكَ الْكُرَّ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ. يُرِيدُ أَنَّ رَبَّ السَّلَمِ اشْتَرَى مَا بَاعَهُ وَهُوَ الْكَرُّ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ بِأَقَلِّ مِمَّا بَاعَهُ. وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذَا جُعِلَا عِنْدَ الْقَبْضِ كَأَنَّهُمَا جَدَّدَا عَقْدًا.

وَمِثْلَ هَذَا فِيمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي مَوْزُونٍ مُعَيَّنٍ وَاشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مَوْزُونًا كَذَلِكَ إلَى آخِرِهِ لَا يَجُوزُ قَبْضُ رَبِّ السَّلَمِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ حِنْطَةٌ مُجَازَفَةً أَوْ مَلَكهَا بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ وَأَوْفَاهُ رَبُّ السَّلَمِ فَكَالَهُ مَرَّةً، وَتَجُوزُ بِهِ يُكْتَفَى بِكَيْلٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إلَّا عَقْدٌ وَاحِدٌ بِشَرْطِ الْكَيْلِ وَهُوَ السَّلَمُ.

وَلَوْ اشْتَرَى الْمَعْدُودَ عَدًّا وَالسَّلَمُ فِي مَعْدُودٍ فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي وُجُوبِ إعَادَةِ الْعَدِّ فِي بَيْعِ الْمَعْدُودِ بَعْدَ شِرَائِهِ عَدًّا هَذَا (فَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَلَمًا) وَلَكِنْ أَقْرَضَهُ (فَأَمَرَهُ بِقَبْضِ الْكُرِّ) وَلَمْ يَقُلْ اقْبِضْهُ لِي ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ فَقَبَضَهُ بِأَنْ اكْتَالَهُ مَرَّةً (جَازَ لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ وَكَانَ الْمَرْدُودُ عَيْنُ الْمَأْخُوذِ مُطْلَقًا فَلَمْ تَجْتَمِعْ صَفْقَتَانِ) فَلَمْ يَجِبْ الْكَيْلَانِ لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ فِي الْقَرْضِ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَزِمَ تَمَلُّكِ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً أَوْ تَفَرُّقٌ بِلَا قَبْضٍ فِيهِ وَهُوَ رِبًا، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِي الْقَرْضِ لِأَنَّهُ بَيْعٌ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً، وَكَذَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ الْأَوَّلُ سَلَمًا فَلَمَّا حَلَّ اقْتَرَضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ مِنْ الْمُقْرِضِ فَفَعَلَ جَازَ لَمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ الْقَرْضِ عَقْدُ مُسَاهَلَةٍ لَا يُوجِبُ الْكَيْلَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً، وَلِهَذَا لَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْ آخَرَ حِنْطَةً عَلَى أَنَّهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةً جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا

ص: 104

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَأَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ أَنْ يَكِيلَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِي غَرَائِرِ رَبِّ السَّلَمِ فَفَعَلَ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً) لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْكَيْلِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مِلْكَ الْآمِرِ، [لِأَنَّ] حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ دُونَ الْعَيْنِ فَصَارَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُسْتَعِيرًا لِلْغَرَائِرِ مِنْهُ وَقَدْ جَعَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ فِيهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمَ دَيْنٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ كِيسًا لِيَزِنهَا الْمَدْيُونُ فِيهِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا.

وَلَوْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ مُشْتَرَاةٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا صَارَ قَابِضًا لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ صَحَّ حَيْثُ صَادَفَ مِلْكَهُ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالْبَيْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ بِالطَّحْنِ كَانَ الطَّحِينُ فِي السَّلَمِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَفِي الشِّرَاءِ لِلْمُشْتَرِي لِصِحَّةِ الْأَمْرِ، وَكَذَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّهُ فِي الْبَحْرِ فِي السَّلَمِ يَهْلَكُ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَفِي الشِّرَاءِ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي،

قَبْلَ الْكَيْلِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَسْلَمَ فِي كُرٍّ فَأَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ أَنْ يَكِيلَهُ فِي غَرَائِرِ رَبِّ السَّلَمِ) وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْإِضْمَارِ فِيهِمَا لَكِنَّهُ أَظْهَرَهُ لِدَفْعِ الِالْتِبَاسِ (فَفَعَلَ وَهُوَ) أَيْ رَبُّ السَّلَمِ (غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ قَضَاءٌ) حَتَّى لَوْ هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَالتَّقْيِيدُ بِغَيْبَتِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَالَ فِيهَا وَرَبُّ السَّلَمِ حَاضِرٌ يَصِيرُ قَابِضًا بِالِاتِّفَاقِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْغَرَائِرُ لَهُ أَوْ لِلْبَائِعِ (لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْكَيْلِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مِلْكَ الْآمِرِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ لَا الْعَيْنِ فَصَارَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُسْتَعِيرُ الْغَرَائِرَ مِنْهُ جَاعِلًا مِلْكَ نَفْسِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمَ فَدَفَعَ) الدَّائِنُ إلَيْهِ كِيسًا (لِيَزِنَهَا الْمَدْيُونُ فِيهِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا) هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي غَرَائِرِ رَبِّ السَّلَمِ طَعَامٌ بِلَا تَرَدُّدٍ، فَإِنْ كَانَ قِيلَ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِمَا قَرَّرْنَا أَنَّ أَمْرَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ.

قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ أَمَرَهُ بِخَلْطِ طَعَامِ السَّلَمِ بِطَعَامِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ مُعْتَبَرٌ فَيَصِير بِهِ قَابِضًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَيَذْكُرُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ فِيمَنْ دَفَعَ نِصْفَ دِرْهَمٍ إلَى صَائِغٍ وَقَالَ زِدْ مِنْ عِنْدِك نِصْفَ دِرْهَمٍ وَصُغْ لِي بِهِمَا خَاتَمًا فَفَعَلَ جَازَ وَصَارَ بِالْخَلْطِ قَابِضًا (وَلَوْ كَانَتْ مُشْتَرَاةٌ) غَيْرُ مُسَلَّمٌ فِيهَا (وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا) أَيْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي غَرَائِرَهُ لِلْبَائِعِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهَا فِيهَا فَفَعَلَ بِغَيْبَتِهِ (وَصَارَ قَابِضًا لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ صَحَّ) هُنَا (لِأَنَّهُ مَلَكَ عَيْنَ الْحِنْطَةِ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ فَصَادَفَ أَمْرُهُ مِلْكَهُ) وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ أَمَرَهُ بِطَحْنِ الْحِنْطَةِ الْمُسْلَمِ فِيهَا فَطَحَنَهَا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ كَانَ الدَّقِيقُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ، فَلَوْ أَخَذَ رَبُّ السَّلَمِ الدَّقِيقَ كَانَ حَرَامًا لِأَنَّهُ اسْتِبْدَالٌ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَلَوْ كَانَتْ مُشْتَرَاةٌ فَأَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَنْ يَطْحَنَهَا فَطَحَنَهَا كَانَتْ لِلْمُشْتَرِي، فَلَوْ هَلَكَ الدَّقِيقُ فِي الْأَوَّلِ هَلَكَ مِنْ مِلْكِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَيَعُودُ دَيْنُ رَبِّ السَّلَمِ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ، وَلَوْ هَلَكَ فِي الثَّانِي هَلَكَ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَتَقَرَّرَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ (إذَا أَمَرَ) رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ (أَنْ يَصُبَّهُ فِي الْبَحْرِ فَفَعَلَ كَانَ مِنْ مَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ) وَلَوْ أَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِهِ كَانَ قَابِضًا فَيَهْلَكُ (مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي

ص: 105

وَيَتَقَرَّرُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَلِهَذَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ الْكَيْلِ فِي الشِّرَاءِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْكَيْلِ وَالْقَبْضِ بِالْوُقُوعِ فِي غَرَائِرِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ أَمَرَهُ فِي الشِّرَاءِ أَنْ يَكِيلَهُ فِي غَرَائِرِ الْبَائِعِ فَفَعَلَ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا لِأَنَّهُ اسْتَعَارَ غَرَائِرَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهَا فَلَا تَصِيرُ الْغَرَائِرُ فِي يَدِهِ، فَكَذَا مَا يَقَعُ فِيهَا، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ وَيَعْزِلَهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ بَيْتِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْبَيْتَ بِنَوَاحِيهِ فِي يَدِهِ فَلَمْ يَصِرْ الْمُشْتَرِي قَابِضًا.

وَلَوْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْعَيْنُ وَالْغَرَائِرُ لِلْمُشْتَرِي، إنْ بَدَأَ بِالْعَيْنِ صَارَ قَابِضًا، أَمَّا الْعَيْنُ فَلِصِحَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ وَبِمِثْلِهِ يَصِيرُ قَابِضًا، كَمَنْ اسْتَقْرَضَ حِنْطَةً وَأَمَرَهُ أَنْ يَزْرَعهَا فِي أَرْضِهِ، وَكَمَنْ دَفَعَ إلَى صَائِغٍ خَاتَمًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَهُ مِنْ عِنْدِهِ نِصْفَ دِينَارٍ،

لِمَا قُلْنَا وَلِهَذَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ الْكَيْلِ) الْوَاحِدِ (فِي الشِّرَاءِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْكَيْلِ وَالْوُقُوعِ فِي غَرَائِرِ الْمُشْتَرِي) وَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ لَا يُكْتَفَى إلَّا بِكَيْلَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ قَبْلَ بَابِ الرِّبَا، وَلَوْ كَانَ فِي الْبَيْعِ أَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَنْ يَكِيلَهُ فِي غَرَائِرِ الْبَائِعِ فَفَعَلَ بِغَيْبَتِهِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا (لِأَنَّهُ اسْتَعَارَ غَرَائِرَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهَا) فَلَمْ تَتِمَّ الْإِعَارَةُ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ عَقْدُ تَبَرُّعٍ لَمْ تَتِمَّ إلَّا بِالْقَبْضِ (فَلَمْ تَصِرْ الْغَرَائِرُ فِي يَدِهِ فَكَذَا مَا يَقَعُ فِيهِ) عَلَى تَأْوِيلِ الظَّرْفِ وَنَحْوِهِ (وَصَارَ كَمَا لَوْ أَمَرَ الْمُشْتَرِي) الْبَائِعُ (أَنْ يَكِيلَهُ وَيَعْزِلَهُ فِي مَكَان مِنْ بَيْتِ الْبَائِعِ) فَفَعَلَ بِغَيْبَتِهِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا

(وَلَوْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْعَيْنُ) بِأَنْ اشْتَرَى رَبُّ السَّلَمِ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ كُرًّا مُعَيَّنًا بَعْدَ حُلُولِ السَّلَمِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَ فِي غَرَائِرِ الْمُشْتَرِي كِلَيْهِمَا فَفَعَلَ بِغَيْبَتِهِ، إنْ بَدَأَ بِالْكُرِّ الْعَيْنِ ثُمَّ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُمَا (أَمَّا الْعَيْنُ فَلِصِحَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ) لِأَنَّهُ لَاقَى مِلْكَهُ (وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ وَبِمِثْلِهِ يَصِيرُ قَابِضًا كَمَنْ اسْتَقْرَضَ حِنْطَةً) وَلَمْ يَقْبِضْهَا (ثُمَّ أَمَرَ) الْمُقْرِضَ (أَنْ يَزْرَعهَا فِي أَرْضِ الْمُسْتَقْرِضِ، وَكَمَنْ دَفَعَ إلَى صَائِغٍ خَاتَمًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ عِنْدِهِ نِصْفَ دِينَارٍ) فَفَعَلَ بِغَيْبَتِهِ لَزِمَتْهُ الزِّيَادَةُ وَتَقَرَّرَ بَدَلُهَا عَلَيْهِ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِ فِيهِمَا

ص: 106

وَإِنَّ بَدَأَ بِالدَّيْنِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا، أَمَّا الدَّيْنُ فَلِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا الْعَيْنُ فَلِأَنَّهُ خَلَطَهُ بِمُلْكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ، وَهَذَا الْخَلْطُ غَيْرُ مَرْضِيٌّ بِهِ مِنْ جِهَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْبُدَاءَةَ بِالْعَيْنِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِي الْمَخْلُوطِ لِأَنَّ الْخَلْطَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ عِنْدَهُمَا.

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَبَضَهَا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ ثُمَّ تَقَايَلَا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ قَبْضِهَا، وَلَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ

وَإِنْ بَدَأَ بِالدَّيْنِ) فَكَالَهُ فِي الْغَرَائِرِ (لَمْ يَصِرْ قَابِضًا، أَمَّا فِي الدَّيْنِ فَلِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَمْرِ) لِمَا قُلْنَا (وَأَمَّا) فِي (الْعَيْنِ فَلِأَنَّهُ يَخْلِطُ مَالَ الْمُشْتَرِي) بِجِنْسِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ (يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ) بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. لَا يُقَال: هَذَا الْخَلْطُ لَيْسَ بِتَعَدٍّ لِيَكُونَ بِهِ مُسْتَهْلِكًا لِأَنَّهُ بِأَمْرِهِ.

أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِمَنْعِ إذْنِهِ فِيهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِجَوَازِ كَوْنِ مُرَادِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعَيْنِ (وَعِنْدَهُمَا) لَمَّا لَمْ يَكُنْ اسْتِهْلَاكًا يَصِيرُ الْمُشْتَرِي (بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ) لِعَيْبِ الشَّرِكَةِ (وَإِنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِي الْمَخْلُوطِ) وَأَوْرَدَ أَنَّ صَبْغَ الصَّبَّاغِ يَتَّصِلُ بِالثَّوْبِ وَلَا يَصِيرُ مَالِكُهُ قَابِضًا بِهِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ثُمَّةَ الْفِعْلُ لَا الْعَيْنُ، وَالْفِعْلُ لَا يُجَاوِزُ الْفَاعِلُ لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي كُرِّ حِنْطَةٍ) حَاصِلُ هَذِهِ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ وَالْبَيْعِ بِالثَّمَنِ وَبَيْعُ الْمُقَايَضَةِ، فَفِي السَّلَمِ تَجُوزُ الْإِقَالَةُ قَبْلَ هَلَاكِ الْجَارِيَةِ وَبَعْدَهُ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ تَعْتَمِدُ قِيَامَ الْعَقْدِ وَهُوَ بِقِيَامِ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَقْبِضَ، فَفِي السَّلَمِ الْمَبِيعُ قَصْدًا هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ، فَهَلَاكُ الْجَارِيَةِ وَعَدَمُهُ لَا يَعْدَمُ الدَّيْنَ الْمُسْلَمَ فِيهِ فَجَازَتْ الْإِقَالَةُ إذَا مَاتَتْ قَبْلَ الْإِقَالَةِ أَوْ بَعْدَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ لِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ، وَإِذَا جَازَتْ انْفَسَخَ فِي الْجَارِيَةِ تَبَعًا فَوَجَبَ رَدُّهَا وَقَدْ عَجَزَ فَيَرُدُّ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْقَبْضِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ كَانَ فِيهِ فَصَارَ كَالْغَصْبِ، وَفِيمَا لَوْ كَانَ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مَثَلًا لَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَبْطُلُ لَوْ مَاتَتْ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ فَلَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَا تَبْقَى عَلَى الصِّحَّةِ إذَا هَلَكَتْ بَعْدَهَا، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ مُقَايَضَةً بِأَنْ

ص: 107

هَلَاكِ الْجَارِيَةِ جَازَ) لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ تَعْتَمِدُ بَقَاءَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَفِي السَّلَمِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ فَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ حَالَ بَقَائِهِ، وَإِذَا جَازَ ابْتِدَاءٌ فَأَوْلَى أَنْ يَبْقَى انْتِهَاءٌ، لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ انْفَسَخَ فِي الْجَارِيَةِ تَبَعًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا وَقَدْ عَجَزَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا (وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَقَايَلَا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ، وَلَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَالْإِقَالَةُ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ الْجَارِيَةُ فَلَا يَبْقَى الْعَقْدُ بَعْدَ هَلَاكِهَا فَلَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ ابْتِدَاءً وَلَا تَبْقَى انْتِهَاءً لِانْعِدَامِ مَحِلِّهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ حَيْثُ تَصِحُّ الْإِقَالَةُ وَتَبْقَى بَعْدَ هَلَاكِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فِيهِ.

قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ شَرَطْتُ رَدِيئًا وَقَالَ رَبُّ السَّلَم لَمْ تَشْتَرِطْ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ) لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ الصِّحَّةَ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فِي الْعَادَةِ،

دَفَعَ الْجَارِيَةَ فِي ثَوْبٍ تَبْقَى الْإِقَالَةُ بَعْدَ هَلَاكِهَا إذَا كَانَ الْعَرْضُ الْآخَرُ بَاقِيًا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَبِيعٌ مِنْ وَجْهِ (قَوْلِهِ وَمَنْ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ إلَى آخِرِهِ) الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الصِّحَّةِ، فَإِنْ خَرَجَ كَلَامُ أَحَدِهِمَا مَخْرَجَ التَّعَنُّتِ وَهُوَ أَنْ يُنْكِرَ مَا يَنْفَعُهُ كَانَ بَاطِلًا اتِّفَاقًا وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ، وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخُصُومَةِ وَهُوَ أَنْ يُنْكِرَ مَا يَضُرُّهُ.

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ أَيْضًا إذَا اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ خَصْمُهُ هُوَ الْمُنْكِرُ وَقَالَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرُ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ. إذَا عُرِفَ هَذَا جِئْنَا إلَى الْمَسَائِلِ

(أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ فِي كُرٍّ فَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ شَرَطْتُ لَكَ رَدِيئًا) وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ لَمْ تَشْتَرِطْ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ (لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ مُتَعَنِّتٌ) لِأَنَّهُ بِإِنْكَارِ الصِّحَّةِ مُنْكِرُ مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ (لِأَنَّهُ) عَلَى كُلِّ حَالٍ (يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فِي الْعَادَةِ) وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَقْدًا وَالْمُسْلَمُ فِيهِ نَسِيئَةً لِأَنَّ الْعُقَلَاءَ قَاطِبَةً عَلَى إعْطَاءِ هَذَا الْعَاجِلِ بِذَاكَ الْآجِلِ،

ص: 108

وَفِي عَكْسِهِ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُنْكِرًا.

وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(وَلَوْ قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجَلٌ وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ بَلْ كَانَ لَهُ أَجَلٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّلَمِ) لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ حَقًّا لَهُ وَهُوَ الْأَجَلُ، وَالْفَسَادُ لِعَدَمِ الْأَجَلِ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ لِمَكَانِ الِاجْتِهَادِ

وَلَوْلَا أَنَّهُ يَرْبُو عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ آجِلًا لَمْ تُطَبَّقْ آرَاؤُهُمْ عَلَيْهِ، وَكَلَامُ الْمُتَعَنِّتِ مَرْدُودٌ فَيَبْقَى قَوْلُ الْآخَرِ بِلَا مُعَارِضٍ.

وَأَمَّا التَّوْجِيهُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ الصِّحَّةُ إلَى آخِرِهِ فَيَخُصُّ أَبُو حَنِيفَةَ تَمْشِيَتَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحِلِّ، وَالْمُرَادُ هُنَا تَوْجِيهُ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ لِلْآخَرِ وَهُمَا لَا يَقُولَانِ إنَّ الْقَوْلَ لِمُدَّعِي الصِّحَّةَ دَائِمًا لِيُعَلِّلَا هُنَا بِظُهُورِهَا فِي مُبَاشَرَةِ الْعَاقِدِ (وَفِي عَكْسِهِ) بِأَنْ ادَّعَى رَبُّ السَّلَمِ شَرْطُ الرَّدِيءِ وَأَنْكَرَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ الشَّرْطَ أَصْلًا لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ (وَقَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ يَجِبُ (أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ (لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَإِنْ كَانَ صَاحِبَهُ مُنْكِرًا) وَكَلَامُهُ خُصُومَةٌ (وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ) وَسَيُقَرِّرُ الْمُصَنِّفُ الْوَجْهَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ

(وَلَوْ قَالَ) الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَجَلٌ وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ فِيهِ أَجَلٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّلَمِ أَيْ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا فِي مِقْدَارِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ هُنَا تَعَنُّتٌ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا هُوَ حَقُّهُ (وَهُوَ الْأَجَلُ) لِأَنَّ الْأَجَلَ لِتَرْفِيهِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِمَنْ يَدَّعِي الْفَسَادَ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ لَمَّا كَانَ فِي الْعَادَةِ يَرْبُو عَلَى رَأْسِ الْمَالِ كَانَ إنْكَارُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ الصِّحَّةَ خُصُومَةٌ فَلَا يَكُونُ مُتَعَنِّتًا، وَهَذَا الْإِيرَادُ هُوَ وَجْهُ الْقِيَاسِ.

فَأَجَابَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَالْفَسَادُ لِعَدَمِ الْأَجَلِ لَيْسَ مُتَيَقِّنًا) حَتَّى

ص: 109

فَلَا يُعْتَبَرُ النَّفْعُ فِي رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ، بِخِلَافِ عَدَمِ الْوَصْفِ، وَفِي عَكْسِهِ الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ يُنْكِرُ حَقًّا لَهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ كَرَبِّ الْمَالِ إذَا قَالَ لِلْمُضَارِبِ شَرَطْتُ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةَ وَقَالَ الْمُضَارِبُ لَا بَلْ شَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ فَكَانَا مُتَّفِقِينَ عَلَى الصِّحَّةِ ظَاهِرًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فَلَا يُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فَيَبْقَى مُجَرَّدُ دَعْوَى اسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ، أَمَّا السَّلَمُ فَلَازِمٌ فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ مَنْ خَرَجَ كَلَامُهُ تَعَنُّتًا فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ خَرَجَ خُصُومَةٌ

يَكُونَ إنْكَارُهُ إنْكَارُ الصِّحَّةِ دَافِعًا لِزِيَادَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِأَنَّ السَّلَمَ الْحَالَّ جَائِزٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ (فَلَا يُعْتَبَرُ النَّفْعُ فِي رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ قَطْعًا (بِخِلَافِ عَدَمِ الْوَصْفِ) كَالرَّدَاءَةِ وَنَحْوِهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ مَلْزُومٌ قَطْعًا لِلْفَسَادِ (وَفِي عَكْسِهِ) وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ الْأَجَلَ وَرَبُّ السَّلَمِ يُنْكِرُهُ (الْقَوْلُ لِرَبِّ السَّلَمِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ يُنْكِرُ حَقًّا عَلَيْهِ) وَهُوَ زِيَادَةُ الرِّبْحِ الْكَائِنِ فِي قِيمَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى مَا دَخَلَ فِي يَدِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَصَارَ (كَرَبِّ الْمَالِ إذَا قَالَ لِلْمُضَارِبِ شَرَطْتُ لَك نِصْفَ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةَ وَقَالَ الْمُضَارِبُ بَلْ شَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَإِنَّ الْقَوْلَ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ) زِيَادَةَ (الرِّبْحِ) وَإِنْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ إنْكَارُ الصِّحَّةِ.

وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ نِصْفُ الرِّبْحِ وَزِيَادَةُ عَشَرَةً وَهِيَ غَلَطٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْقَوْلُ لِلْمُضَارِبِ، وَلِأَنَّ إنْكَارَهُ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَا عَلَى هَذَا (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ (لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ فَكَانَا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى الصِّحَّةِ ظَاهِرًا) إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسَلِّم الِامْتِنَاعُ عَنْ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُفِيدُ لِتَمَامِ الْفَرْضِ الْمَقْصُودِ مِنْ مُبَاشَرَتِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجِبُ نَقْضُهُ وَرَفْعُهُ شَرْعًا، وَلِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ، فَالِاتِّفَاقُ عَلَى صُدُورِ هَذَا الْعَقْدِ اتِّفَاقٌ عَلَى صُدُورِ شَرَائِطِهِ.

فَإِنْكَارُ الْأَجَلِ إنْكَارٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ ظَاهِرًا فَلَا يُقْبَلُ، وَصَارَ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي التَّزْوِيجِ بِشُهُودٍ أَوْ بِلَا شُهُودٍ فَالْقَوْلُ لِمَنْ يَدَّعِيهِ بِشُهُودٍ (بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ) لِأَنَّهُ أَيْ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ (لَيْسَ بِلَازِمٍ) وَلِهَذَا يَتَمَكَّنُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ عَزْلِهِ قَبْلَ شِرَائِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَكَذَا الْمُضَارِبُ لَهُ فَسْخُهُ، وَإِذَا كَانَ غَيْرُ لَازِمٍ ارْتَفَعَ بِاخْتِلَافِهِمَا، وَإِذَا ارْتَفَعَ بَقِيَ دَعْوَى الْمُضَارِبِ فِي اسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ لَهُ (أَمَّا السَّلَمُ فَ) عَقْدٌ (لَازِمٌ) فَلَا يَرْتَفِعُ بِالِاخْتِلَافِ فَكَانَ مُدَّعِي الْفَسَادَ مُتَنَاقِضًا ظَاهِرًا كَمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ إذَا صَحَّ كَانَ شَرِكَةً، وَإِذَا فَسَدَ صَارَ إجَارَةً فَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ مُدَّعِيَ الْفَسَادِ يَدَّعِي

ص: 110

وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ فَالْقَوْلُ لِمُدَعِّي الصِّحَّةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لِلْمُنْكِرِ وَإِنْ أَنْكَرَ الصِّحَّةَ.

الْإِجَارَةَ، وَمُدَّعِي الصِّحَّةِ يَدَّعِي الشَّرِكَةَ فَكَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي نَوْعِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ السَّلَمِ الْحَالِّ وَهُوَ مَا يَدَّعِيهِ مُنْكِرٌ الْأَجَلِ سَلَمٌ فَاسِدٌ لَا عَقْدٌ آخَرُ فَلِهَذَا يَحْنَثُ بِهِ فِي يَمِينِهِ لَا يُسَلَّمُ فِي شَيْءٍ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ وَاخْتَلَفَا فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ فَالْقَوْلُ لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ.

وَاسْتُشْكِلَ بِمَا لَوْ قَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتَ نِصْفَ الرِّبْحِ وَزِيَادَةَ عَشَرَةً فَإِنَّ الْقَوْلَ لِلْمُضَارِبِ، وَلَمْ يَقُلْ اخْتَلَفَا فِي نَوْعِ الْعَقْدِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُضَارِبَ ادَّعَى الشَّرِكَةَ وَالصِّحَّةَ وَرَبُّ الْمَالِ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ شَرَطْتُ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ ثُمَّ قَوْلُهُ وَزِيَادَةَ عَشَرَةً عَطْفًا عَلَيْهِ يَدَّعِي الْفَسَادَ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى آخِرِهِ فِيهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ إلَّا عَشَرَةً بِالِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ إذْ صَدْرُ الْكَلَامِ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ، قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ فِي الْأُصُولِ فِيمَا إذَا زَوَّجَهُ الْفُضُولِيُّ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ فَقَالَ أَجَزْتُ نِكَاحَ هَذِهِ وَهَذِهِ يَفْسُدَانِ، لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ بِوُجُودِ الْمُغَيِّرِ فِي آخِرِهِ وَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، وَأُورِدَ أَيْضًا بِمَا إذَا قَالَ تَزَوَّجْتُكِ وَأَنَا صَغِيرٌ وَقَالَتْ بَلْ بَعْدَ بُلُوغِكَ فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجِ مَعَ أَنَّهُ يَدَّعِي فَسَادَ الْعَقْدِ: أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ بَلْ أَنْكَرَهُ حَيْثُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالِ عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ إنْكَارَ الْأَجَلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا فِي أَصْلِ الْأَجَلِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ. وَالثَّانِي فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْأَقَلَّ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ لِلْمُدَعِّي الْأَكْثَرَ قَضَى بِهَا، وَإِنْ قَامَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُثْبِتِ الزِّيَادَةِ.

وَالثَّالِثُ فِي مُضِيِّ الْأَجَلِ إذَا قَالَ رَبُّ السَّلَمِ مَضَى الْأَجَلُ الْمُسَمَّى وَقَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ تَوَجُّهَ الْمُطَالَبَةِ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً قَضَى لَهُ، فَإِنْ أَقَامَاهَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْأَجَلِ، هَذَا وَالِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ عِنْدَنَا خِلَافًا لَزُفَرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا فِي بَدَلِهِ بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَةِ: يَعْنِي أَنَّهُ مَا هُوَ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ

ص: 111

قَالَ (وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ إذَا بَيَّنَ طُولًا وَعَرْضًا وَرُقَعَهُ) لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مَعْلُومٍ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ ثَوْبُ حَرِيرٍ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَزْنِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ فِيهِ.

لِأَنَّ الْوَصْفَ جَارٍ مَجْرَى الْأَصْلِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: إذَا شَرَطَ فِي السَّلَمِ الثَّوْبَ الْجَيِّدَ فَجَاءَ بِثَوْبٍ وَادَّعَى أَنَّهُ جَيِّدٌ وَأَنْكَرَ الطَّالِبُ فَالْقَاضِي يَرَى اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الصَّنْعَةِ وَهَذَا أَحْوَطُ وَالْوَاحِدُ يَكْفِي، فَإِنْ قَالَا جَيِّدٌ أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي السَّلَمِ يَتَحَالَفَانِ اسْتِحْسَانًا وَيَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمَطْلُوبِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ بِيَمِينِ الطَّالِبِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قَضَى بِهَا، وَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ قَضَى بِبَيِّنَةِ رَبِّ السَّلَمِ بِسَلَمٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.

وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إمَّا عَيْنٌ أَوْ دَيْنٌ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. اتَّفَقَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ أَوْ اخْتَلَفَ فِيهِمَا، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا وَاخْتَلَفَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا غَيْرَ فَقَالَ الطَّالِبُ هَذَا الثَّوْبُ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَالَ الْآخَرُ فِي نِصْفِ كُرٍّ أَوْ فِي شَعِيرٍ أَوْ فِي الْحِنْطَةِ الرَّدِيئَةِ وَأَقَامَا قَضَى بِبَيِّنَةِ رَبِّ السَّلَمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي رَأْسِ الْمَالِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا هَذَا الثَّوْبُ وَقَالَ الْآخَرُ هَذَا الْعَبْدُ وَاتَّفَقَا عَلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ أَنَّهُ الْحِنْطَةُ أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا هَذَا الثَّوْبُ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَالَ الْآخَرُ فِي كُرِّ شَعِيرٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ قَضَى بِالسَّلَمَيْنِ، فَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ. وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: كُلٌّ يَدَّعِي عَقْدًا غَيْرَ مَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ. وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَاخْتَلَفَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ لِرَبِّ السَّلَمِ وَيَقْضِي بِسَلَمٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ عَلَى الْقَلْبِ فَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ.

وَلَوْ اخْتَلَفَا فِيهِمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي كُرَّيْ حِنْطَةٍ وَقَالَ الْآخَرُ خَمْسَةُ عَشَرَ فِي كُرٍّ وَأَقَامَا، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ فَيَجِبُ خَمْسَةُ عَشَرَ فِي كُرَّيْنِ وَلَا يَقْضِي بِسَلَمَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِسَلَمَيْنِ عَقْدٌ بِخَمْسَةِ عَشَرَ فِي كُرٍّ وَعَقْدٌ بِعَشَرَةٍ فِي كُرَّيْنِ. وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ دَرَاهِمَ وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ بِسَلَمَيْنِ كَمَا فِي الثَّوْبَيْنِ. وَفِيهَا: أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ وَشَرَطَ الْوَسَطَ فَجَاءَ بِجَيِّدٍ وَقَالَ خُذْ هَذَا وَزِدْنِي دَرَاهِمَ فَعَلَى وُجُوهٍ: إمَّا إنْ كَانَ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا أَوْ ذَرْعِيًّا، فَفِي الْكَيْلِيِّ فَإِنْ أَسْلَمَ فِي عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ فَجَاءَ بِأَحَدِ عَشَرَ وَقَالَ زِدْنِي دِرْهَمًا جَازَ لِأَنَّهُ بَاعَ قَفِيزًا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَلَوْ جَاءَ بِتِسْعَةٍ وَقَالَ خُذْ وَأَرُدُّ عَلَيْكَ دِرْهَمًا فَقِبَل جَازَ أَيْضًا فَإِنَّهُ إقَالَةٌ فِي الْبَعْضِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي الْكُلِّ وَلَوْ جَاءَ بِحِنْطَةٍ أَجْوَدُ أَوْ أَرْدَأُ فَأَعْطَى دِرْهَمًا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ فِي الْأَرْدَإِ وَالْأَجْوَدِ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ.

وَفِي الثَّوْبِ إنْ جَاءَ بِأَزْيَدَ بِذِرَاعٍ وَقَالَ زِدْنِي دِرْهَمًا جَازَ وَهُوَ بَيْعُ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ، بِخِلَافِ بَيْعِهِ مُفْرَدًا، وَكَذَا إذَا أَتَى بِالزِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ جَاءَ بِأَنْقَصَ فَرَدَّ مَعَهُ دِرْهَمًا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ إقَالَةٌ فِيمَا لَا يُعْلَمُ حِصَّتُهُ لِأَنَّ الذِّرَاعَ وَصْفٌ وَحِصَّتُهُ مَجْهُولَةٌ، هَذَا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ لِكُلِّ ذِرَاعٍ حِصَّةً، فَإِنْ بَيَّنَ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا لَوْ جَاءَ بِأَنْقَصَ وَصْفًا لَا يَجُوزُ وَلَوْ بِأَزْيَدَ وَصْفًا جَازَ الْكُلُّ فِي الْأَصْلِ

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ إذَا بَيَّنَ طُولًا وَعَرْضًا وَرُقْعَةً لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مَعْلُومٍ) وَالرُّقْعَةُ يُرَادُ بِهَا قَدْرُ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَلْ فِي اشْتِرَاطِ وَزْنِهِ إذَا كَانَ حَرِيرًا

ص: 112

(وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجَوَاهِرِ وَلَا فِي الْخَرَزِ) لِأَنَّ آحَادَهَا مُتَفَاوِتَةٌ تَفَاوُتًا فَاحِشًا وَفِي صِغَارِ اللُّؤْلُؤِ الَّتِي تُبَاعُ وَزْنًا يَجُوزُ السَّلَمُ لِأَنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْوَزْنِ

(وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبِنِ وَالْآجُرِّ إذَا سَمَّى مَلْبَنًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ لَا سِيَّمَا إذَا سُمِّيَ الْمَلْبَنُ.

قَالَ (وَكُلُّ مَا أَمْكَنَ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ) لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ (وَمَا لَا يُضْبَطُ صِفَتُهُ وَلَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ، وَبِدُونِ الْوَصْفِ يَبْقَى مَجْهُولًا جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ

فَإِنَّ عِنْدَ بَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَا يَشْتَرِطُونَهُ وَالْوَجْهُ بِهَا ظَاهِرٌ، وَكَذَا يَجُوزُ فِي الْبُسُطِ وَالْأَكْسِيَةِ وَالْمُسُوحِ وَالْجُوَالِقِ وَالْبَوَارِي إذَا بَيَّنَ الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَالصَّنْعَةَ، وَكُلُّ مَا اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُ بِالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ مِنْ الثِّيَابِ عُرْفًا كَالْوَذَارِيِّ يُشْتَرَطُ بَيَانُ وَزْنِهِ وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ نَاجِزًا.

فِي الْمُنْتَقَى: إذَا بَاعَ ثَوْبَيْ حَرِيرًا يَدًا بِيَدٍ لَا يَجُوزُ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي السَّلَمِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ يُكْتَفَى بِتَعْرِيفِهَا فِي الْبَيْعِ، غَايَةُ الْأَمْرِ عَدَمُ مَعْرِفَةِ ثِقَلِهِ وَهُوَ كَعَدَمِ مَعْرِفَةِ عَدَدِ قُفْزَانِ الصُّبْرَةِ وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ، وَفِي الطُّولِ يَذْكُرُ عَدَدَ الذُّرْعَانِ يَجِبُ أَنْ يُتَوَسَّطَ عِنْدَ الذَّرْعِ بَيْنَ إرْخَاءِ الثَّوْبِ وَمَدِّهِ إنْ كَانَ الذِّرَاعُ مُخْتَلِفُ الطُّولِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَإِذَا دَخَلَ ثِيَابَ الْحَرِيرِ الْوَزْنُ لَزِمَ أَنْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا جُزَافًا فَلِذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ بَيْعَ ثَوْبِ خَزٍّ بِثَوْبِ خَزٍّ يَدًا بِيَدٍ لَا يَجُوزُ إلَّا وَزْنًا كَأَوَانِي الصُّفْرِ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْجَوَاهِرِ) بِلَا خِلَافٍ إلَّا لِمَالِكٍ (وَلَا فِي الْخَرَزِ لِأَنَّ آحَادُهَا تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا) فِي الْمَالِيَّةِ فَإِنَّ الْجَوْهَرَتَيْنِ قَدْ يَتَّحِدَانِ وَزْنًا وَيَخْتَلِفَانِ قِيمَةً بِاعْتِبَارِ حُسْنِ الْهَيْئَةِ، اللَّهُمَّ إلَّا فِي الصِّغَارِ الَّتِي تُدَقُّ لِلْكُحْلِ وَالتَّدَاوِي فَيَجُوزُ وَزْنًا.

(وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبِنِ وَالْآجُرِّ إذَا سَمَّى مَلْبَنًا مَعْلُومًا) لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ إذَا سَمَّى الْمَلْبَنَ. وَقَوْلُهُ (لَا سِيَّمَا إذَا سَمَّى إلَى آخِرِهِ) يُعْطِي أَنَّهُ مُتَقَارِبُ فَلَا تُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْمَلْبَنِ بَلْ إذَا سُمِّيَ يَكُونُ أَحْسَنُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ مِائَةِ آجُرَّةٍ مِنْ أَتُّونٍ، وَفِي عُرْفِ بِلَادِنَا يُسَمُّونَهُ قَمِينًا أَوْ قُمَيْرًا وَهُوَ الَّذِي يُبْنَى لِيُشْوَى فِيهِ الْآجُرُّ وَالْحِجَارَةُ تُعْمَلُ جِيرًا لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ فِي النُّضْجِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَأَلْحَقْنَاهُ فِي السَّلَمِ بِالْمُتَفَاوِتِ الْمُتَقَارِبِ

(قَوْلُهُ وَكُلُّ مَا أُمّكُنَّ ضَبْطُ صِفَتِهِ إلَى آخِرِهِ) لَا خِلَاف فِيهِ كَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالْإِبْرَيْسَمِ وَالنُّحَاسِ وَالتِّبْرِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ وَالْحِنَّاءِ وَالْوَسْمَةِ وَالرَّيَاحِينِ الْيَابِسَةِ وَالْجُذُوعِ إذَا بَيَّنَ طُولًا وَعَرْضًا وَغِلَظًا وَالْقَصَبُ وَصُوفُ الْأَخْشَابِ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي التِّبْنِ كَيْلًا بِالْغَرَائِرِ،

ص: 113

(وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي طَسْتٍ أَوْ قُمْقُمَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إذَا كَانَ يُعْرَفُ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ السَّلَمِ (وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ فَلَا خَيْرَ فِيهِ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ مَجْهُولٌ. قَالَ (وَإِنْ اسْتَصْنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَجَلٍ جَازَ اسْتِحْسَانًا) لِلْإِجْمَاعِ الثَّابِتِ بِالتَّعَامُلِ.

وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعًا لَا عِدَةً،

وَقِيلَ هُوَ مَوْزُونٌ، وَقِيلَ يُعْتَبَرُ التَّعَارُفُ، وَفِي عُرْفِنَا كَيْلُهُ فِي شِبَاكِ اللِّيفِ يُسَمُّونَهُ أَهْلُ الْعُرْفِ شَنِيفًا

(قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي طَسْتٍ أَوْ قُمْقُمَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ) كَالْكُوزِ وَالْآنِيَةِ مِنْ النُّحَاسِ وَالزُّجَاجِ وَالْحَدِيدِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَالطَّوَاجِنِ إذَا ضُبِطَ وَاسْتَقْصَى فِي صِفَتِهِ مِنْ الْغَلَطِ وَالسَّعَةِ وَالضَّيِّقِ بِحَيْثُ يَنْحَصِرُ فَلَا يَتَفَاوَتُ إلَّا يَسِيرًا (قَوْلُهُ وَإِنْ اسْتَصْنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَجَلٍ جَازَ اسْتِحْسَانًا) الِاسْتِصْنَاعُ طَلَبُ الصَّنْعَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِصَانِعِ خُفٍّ أَوْ مُكَعَّبٍ أَوْ أَوَانِي الصُّفْرِ اصْنَعْ لِي خُفًّا طُولُهُ كَذَا وَسِعَتُهُ كَذَا أَوْ دُسَتًا: أَيْ بُرْمَةً تَسَعُ كَذَا وَزْنُهَا كَذَا عَلَى هَيْئَةِ كَذَا بِكَذَا وَيُعْطِي الثَّمَن الْمُسَمَّى أَوْ لَا يُعْطِي شَيْئًا فَيَعْقِدُ الْآخَرُ مَعَهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا تَبَعًا لِلْعَيْنِ. وَالْقِيَاس أَنْ لَا يَجُوز وَهُوَ قَوْلُ زَفَرَ وَالشَّافِعِيّ، إذْ لَا يُمْكِنُ إجَارَةً لِأَنَّهُ اسْتِئْجَار عَلَى الْعَمَل فِي مِلْكِ الْأَجِيرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوز

ص: 114

وَالْمَعْدُومُ قَدْ يُعْتَبَرُ مَوْجُودًا حُكْمًا، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ دُونَ الْعَمَلِ، حَتَّى لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا لَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ مِنْ صَنْعَتِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَأَخَذَهُ جَازَ،

كَمَا لَوْ قَالَ احْمِلْ طَعَامَكَ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ إلَى مَكَانِ كَذَا بِكَذَا، أَوْ اُصْبُغْ ثَوْبَك أَحْمَرَ بِكَذَا لَا يَصِحُّ وَلَا بَيْعًا لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِ الْعَاقِدِ لَمْ يَجُزْ، فَإِذَا كَانَ مَعْدُومًا فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْجَوَازِ، وَلَكِنَّا جَوَّزْنَاهُ اسْتِحْسَانًا لِلتَّعَامُلِ الرَّاجِعِ إلَى الْإِجْمَاعِ الْعَمَلِيِّ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْيَوْمِ بِلَا نَكِيرٍ، وَالتَّعَامُلُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَصْلٌ مُنْدَرِجٌ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» «وَقَدْ اسْتَصْنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا. وَاحْتَجَمَ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الْحَجَّامَ»

مَعَ أَنَّ مِقْدَارَ عَمَلِ الْحِجَامَةِ وَعَدَدَ كُرَّاتِ وَضْعِ الْمَحَاجِمِ وَمَصَّهَا غَيْرُ لَازِمٍ عِنْدَ أَحَدٍ. وَمِثْلِهِ شُرْبُ الْمَاء مِنْ السِّقَاءِ، وَسَمِعَ صلى الله عليه وسلم بِوُجُودِ الْحَمَّامِ فَأَبَاحَهُ بِمِئْزَرٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ شَرْطًا. وَتَعَامَلَ النَّاسُ بِدُخُولِهِ مِنْ لَدُنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْآنَ، وَهُوَ أَنْ لَا يَذْكُرَ عَدَدَ مَا يَصُبُّهُ مِنْ مِلْءِ الطَّاسَةِ وَنَحْوِهَا فَقَصَرْنَاهُ عَلَى مَا فِيهِ تَعَامُلٌ، وَفِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ رَجَعْنَا فِيهِ إلَى الْقِيَاسِ كَأَنْ يَسْتَصْنِعَ حَائِكًا أَوْ خَيَّاطًا لَيَنْسِجَ لَهُ أَوْ يَخِيطَ قَمِيصًا بِغَزْلِ نَفْسِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ أَنَّهُ مُوَاعَدَةٌ أَوْ مُعَاقَدَةٌ، فَالْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَالصَّفَّارُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَصَاحِبُ الْمَنْثُورِ مُوَاعَدَةٌ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ الْفَرَاغِ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي وَلِهَذَا كَانَ لِلصَّانِعِ أَنْ لَا يَعْمَلَ وَلَا يُجْبَرَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السَّلَمِ، وَلِلْمُسْتَصْنِعِ أَنْ لَا يَقْبَلَ مَا يَأْتِي بِهِ وَيَرْجِعَ عَنْهُ، وَلَا تَلْزَمُ الْمُعَامَلَةُ وَكَذَا الْمُزَارِعَةُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِفَسَادِهِمَا مَعَ التَّعَامُلِ لِثُبُوتِ الْخِلَافِ فِيهِمَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا كَانَ عَلَى الِاتِّفَاقِ.

وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ جَوَازُهُ بَيْعًا لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَهُمَا لَا يَجْرِيَانِ فِي الْمُوَاعَدَةِ، وَلِأَنَّهُ جَوَّزَهُ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ دُونَ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ مُوَاعَدَةً جَازَ فِي الْكُلِّ، وَسَمَّاهُ شِرَاءً فَقَالَ: إذَا رَآهُ الْمُسْتَصْنَعُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ، وَلِأَنَّ الصَّانِعَ يَمْلِكُ الدَّرَاهِمَ بِقَبْضِهَا وَلَوْ كَانَتْ مَوَاعِيدُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَإِثْبَاتُ أَبِي الْيُسْرِ الْخِيَارَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ بَيْعٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ لَوْ لَمْ يَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْخِيَارُ وَحِينَ لَزِمَ جَوَازُهُ عِلْمنَا أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ فِيهَا الْمَعْدُومَ مَوْجُودًا وَفِي الشَّرْعِ كَثِيرٌ كَذَلِكَ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَتَسْمِيَةِ الذَّابِحِ إذَا نَسِيَهَا وَالرَّهْنِ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ وَقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْن دُونَ الْعَمَلِ) نَفْيٌ لِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ لِأَنَّ الِاسْتِصْنَاعَ يُنَبِّئُ عَنْهُ كَمَا قُلْنَا، وَالْأَدِيمُ وَالصَّرْمُ بِمَنْزِلَةِ

ص: 115

وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالِاخْتِيَارِ، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ الصَّانِعُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ جَازَ، وَهَذَا كُلُّهُ هُوَ الصَّحِيحُ.

قَالَ (وَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ) لِأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ وَلَا خِيَارَ لِلصَّانِعِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ قَطْعُ الصَّرْمِ وَغَيْرِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُمَا. أَمَّا الصَّانِعُ فَلِمَا ذَكَرْنَا.

وَأَمَّا الْمُسْتَصْنِعُ فَلِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ إضْرَارًا بِالصَّانِعِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَشْتَرِيهِ غَيْرُهُ بِمِثْلِهِ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِلنَّاسِ كَالثِّيَابِ لِعَدَمِ الْمُجَوَّزِ وَفِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا أَمْكَنَ إعْلَامُهُ بِالْوَصْفِ لِيُمْكِنَ التَّسْلِيمُ، وَإِنَّمَا قَالَ بِغَيْرِ أَجَلٍ لِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ الْأَجَلَ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ يَصِيرُ سَلَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ ضَرَبَهُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ يَصِيرُ سَلَمًا بِالِاتِّفَاقِ. لَهُمَا أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ لِلِاسْتِصْنَاعِ فَيُحَافَظُ عَلَى قَضِيَّتِهِ وَيُحْمَلُ الْأَجَلُ عَلَى التَّعْجِيلِ،

الصَّبْغِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ، وَلِذَا لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا لَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ مِنْ صَنَعْته قَبْلَ الْعَقْدِ فَأَخَذَهُ جَازَ، وَإِنَّمَا نُبْطِلُهُ بِمَوْتِ الصَّانِعِ لِشَبَهِهِ بِالْإِجَارَةِ.

وَفِي الذَّخِيرَةِ: وَهُوَ إجَارَةٌ ابْتِدَاءً بَيْعٌ انْتِهَاءً، لَكِنْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا عِنْدَ التَّسْلِيمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا مَاتَ الصَّانِعُ يَبْطُلُ وَلَا يُسْتَوْفَى الْمَصْنُوعُ مِنْ تَرِكَتِهِ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ انْعَقَدَ إجَارَةً أُجْبِرَ الصَّانِعُ عَلَى الْعَمَلِ وَالْمُسْتَصْنِعُ عَلَى إعْطَاءِ الْمُسَمَّى.

ص: 116

بِخِلَافِ مَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِأَنَّهُ اسْتِصْنَاعٌ فَاسِدٌ فَيُحْمَلُ عَلَى السَّلَمِ الصَّحِيحِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ دَيْنٌ يَحْتَمِلُ السَّلَمَ، وَجَوَازُ السَّلَمِ بِإِجْمَاعٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَفِي تَعَامُلِهِمْ الِاسْتِصْنَاعُ نَوْعُ شُبْهَةٍ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى السَّلَمِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُجْبَرْ الصَّانِعُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِإِتْلَافِ عَيْنٍ لَهُ مِنْ قَطْعِ الْأَدِيمِ وَنَحْوِهِ، وَالْإِجَارَةُ تُفْسَخُ فَفُسِخَ بِهَذَا الْعُذْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُزَارِعَ لَهُ أَنْ لَا يَعْمَلَ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ جِهَتِهِ، وَكَذَا رَبُّ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ بِهَذِهِ الْإِجَارَةِ إلَّا بِذَلِكَ وَالْمُسْتَصْنِعُ وَلَوْ شَرْطَ تَعْجِيلَهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ فِي الْآخِرَةِ كَشِرَاءِ مَا لَمْ يَرَهُ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الِاسْتِصْنَاعِ لِلْحَاجَةِ وَهِيَ فِي الْجَوَازِ لَا اللُّزُومِ، وَلِذَا قُلْنَا لِلصَّانِعِ أَنْ يَبِيعَ الْمَصْنُوعَ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرَ لَازِمٍ وَأَمَّا بَعْدَ مَا رَآهُ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلصَّانِعِ، بَلْ إذَا قِبَلَهُ الْمُسْتَصْنِعُ أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِهِ لَهُ لِأَنَّهُ بِالْآخِرَةِ بَائِعٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 117

(مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ)

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ، الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ، لِقَوْلِهِ

مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ)

الْمَسَائِلُ الَّتِي تَشِذُّ عَنْ الْأَبْوَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَمْ تُذْكَرْ فِيهَا إذَا اُسْتُدْرِكَتْ سُمِّيَتْ مَسَائِلَ مَنْثُورَةً: أَيْ مُتَفَرِّقَةً عَنْ أَبْوَابِهَا (قَوْلُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ، الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) هَكَذَا أُطْلِقَ فِي الْأَصْلِ، فَمَشَى بَعْضُهُمْ عَلَى إطْلَاقِهِ كَالْقُدُورِيِّ. وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ: نَصَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَتَضْمِينِ مَنْ قَتَلَهُ قِيمَتَهُ. وَرَوَى الْفَضْلُ بْنُ غَانِمٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ نَصُّهُ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الْعَقُورِ، وَعَلَى هَذَا مَشَى فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ إذَا كَانَ بِحَالٍ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ.

وَنُقِلَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْجَرْوِ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، وَقَالَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ. قَالَ: وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْأَسَدِ إذَا كَانَ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ وَيَصْطَادُ بِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ وَالِاصْطِيَادَ بِهِ لَا يَجُوزُ، قَالَ: وَالْفَهْدُ وَالْبَازِي يَقْبَلَانِ التَّعْلِيمَ فَيَجُوزُ بَيْعُهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ انْتَهَى.

فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ النَّمِرِ بِحَالٍ لِأَنَّهُ لِشَرِّهِ لَا يَقْبَلُ تَعْلِيمًا. وَفِي بَيْعِ الْقِرْدِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: رِوَايَةُ الْحَسَنِ الْجَوَازُ، وَرِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ بِالْمَنْعِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَكْرَهُ بَيْعَهُ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ إنَّمَا هُوَ لِلَّهْوِ وَهَذِهِ جِهَةٌ مُحَرَّمَةٌ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَوَازِ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ وَهَذَا هُوَ وَجْهُ رِوَايَةِ إطْلَاقِ بَيْعِ الْكَلْبِ وَالسِّبَاعِ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ أَوْ عَظْمِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ.

وَيَجُوزُ بَيْعُ الْهِرَّةِ لِأَنَّهَا تَصْطَادُ الْفَأْرَ وَالْهَوَامَّ الْمُؤْذِيَةَ فَهِيَ مُنْتَفَعٌ بِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ هَوَامِّ الْأَرْضِ كَالْخَنَافِسِ وَالْعَقَارِبِ وَالْفَأْرَةِ وَالنَّمْلِ وَالْوَزَغِ وَالْقَنَافِذِ وَالضَّبِّ، وَلَا هَوَامِّ الْبَحْرِ كَالضُّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَّاتِ إذَا كَانَ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْأَدْوِيَةِ وَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ فَلَا يَجُوزُ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الدُّهْنِ النَّجِسِ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ لِلِاسْتِصْبَاحِ فَهُوَ كَالسِّرْقِينِ، وَأَمَّا الْعَذِرَةُ فَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا إذَا خُلِطَتْ بِالتُّرَابِ فَلَا بِجَوَازِ بَيْعِهَا إلَّا تَبَعًا لِلتُّرَابِ الْمَخْلُوطِ، بِخِلَافِ الدَّمِ يَمْتَنِعُ مُطْلَقًا (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ) مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِلصَّيْدِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَأَمَّا اقْتِنَاؤُهُ

ص: 118

عليه الصلاة والسلام «إنَّ مِنْ السُّحْتِ مَهْرَ الْبَغِيِّ وَثَمَنَ الْكَلْبِ» وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَالنَّجَاسَةُ تُشْعِرُ بِهَوَانِ الْمَحَلِّ وَجَوَازُ الْبَيْعِ يُشْعِرُ بِإِعْزَازِهِ فَكَانَ مُنْتَفِيًا. وَلَنَا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ»

لِلصَّيْدِ وَحِرَاسَةِ الْمَاشِيَةِ وَالْبُيُوتِ وَالزَّرْعِ فَيَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَهُ فِي دَارِهِ إلَّا إنْ خَافَ لُصُوصًا أَوْ أَعْدَاءً لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» وَجْهُ قَوْلِهِ مَا رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنَّ مَهْرَ الْبَغِيِّ وَثَمَنَ الْكَلْبِ وَكَسْبَ الْحَجَّامِ مِنْ السُّحْتِ» وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدَيْنِ فِيهِمَا ضَعْفٌ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ» (وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَالنَّجَاسَةُ تُشْعِرُ بِهَوَانِ الْمَحَلِّ وَالْبَيْعُ بِرِفْعَتِهِ) فَلَا يَجْتَمِعَانِ، وَعَارَضَهُ الْمُصَنِّفُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا (أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ») وَهُوَ غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ.

نَعَمْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ» وَضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ إسْنَادُهُ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ لَيْسَ فِيهَا هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، لَكِنْ رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ فِي سَنَدِهِ عَنْ الْهَيْثَمِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:«أَرْخَصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَمَنِ كَلْبِ الصَّيْدِ» وَهَذَا سَنَدٌ جَيِّدٌ، فَإِنَّ الْهَيْثَمَ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ مِنْ أَثْبَاتِ التَّابِعِينَ، فَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى رَأْيِهِمْ يَصْلُحُ مُخَصِّصًا وَالْمُخَصِّصُ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِالْعَامِّ فَيَجُوزُ وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فِي الْقُوَّةِ عِنْدَهُمْ، حَتَّى أَجَازُوا تَخْصِيصَ الْعَامِّ الْقَاطِعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ابْتِدَاءً فَبَطَلَ مُدَّعَاهُمْ مِنْ عُمُومِ مَنْعِ الْبَيْعِ، ثُمَّ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ مِمَّا يُعَلَّلُ وَيُخْرَجُ مِنْ الْعَامِّ مَرَّةً أُخْرَى، وَتَعْلِيلُ إخْرَاجِ كَلْبِ الصَّيْدِ سَاطِعٌ أَنَّهُ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ، وَخُصُوصُ الِاصْطِيَادِ مُلْغًى إذْ لَا يَظْهَرُ مُوجِبٌ

ص: 119

وَلِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا فَكَانَ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، بِخِلَافِ الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَلْعًا لَهُمْ عَنْ الِاقْتِنَاءِ

لِذَلِكَ فَصَارَ الْكَلْبُ الْمُنْتَفَعُ بِهِ خَارِجًا سَوَاءٌ اُنْتُفِعَ بِهِ فِي صَيْدٍ أَوْ حِرَاسَةِ مَاشِيَةٍ وَخَرَجَ الْعَقُورُ.

وَمَنْ مَشَى مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ يَقُولُ: كُلُّ كَلْبٍ تَتَأَتَّى مِنْهُ الْحِرَاسَةُ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْكُلِّ. وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ نَسْخٌ لِمُوجِبِ الْعَامِّ بِالتَّعْلِيلِ وَلَا نَسْخَ بِقِيَاسٍ. فَالْوَجْهُ أَنْ يُعَلَّلَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ بِنَفْعٍ لَا تَرْبُو عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ، وَيَدَّعِي فِي الْعَقُورِ أَنَّ مَفْسَدَتَهُ تَرْبُو عَلَى مَنْفَعَةِ حِرَاسَتِهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ خَاصَّةٌ يَقْتَرِنُ بِهَا ضَرَرٌ عَامٌّ لِلنَّاسِ فَيَخْرُجُ مَا سِوَاهُ.

وَقَصُرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ نَظَرَهُ عَلَى الْحَدِيثِ فَحَكَمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى الْمَذْهَبِ بَلْ ذَكَرَهُ لِنَفْيِ مَذْهَبِ الْخَصْمِ: أَعْنِي شُمُولَ الْمَنْعِ فَيَحْتَاجُ بَعْدَهُ إلَى دَلِيلِ الْمَذْهَبِ وَلَيْسَ إلَّا الْوَجْهَ الثَّانِيَ، وَعَلَى تَقْرِيرِنَا يَتِمُّ الْأَوَّلُ أَيْضًا.

وَقَدْ اسْتَدَلَّ فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ مِنْ الشُّرُوحِ عَلَى عُمُومِ بَيْعِ الْكَلْبِ بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ قَضَى فِي كَلْبٍ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا» وَلَمْ يُخَصِّصْ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْكِلَابِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوَّلًا لَا يُعْرَفُ إلَّا مَوْقُوفًا حَدَّثَ بِهِ الطَّحَاوِيُّ عَنْ يُونُسَ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو " أَنَّهُ قَضَى فِي كَلْبِ صَيْدٍ قَتَلَهُ رَجُلٌ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَقَضَى فِي كَلْبِ مَاشِيَةٍ بِكَبْشٍ ". وَثَانِيًا هُوَ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا تُوجِبُ الْعُمُومَ فِي أَنْوَاعِ الْكِلَابِ فَجَعْلُهَا دَلِيلًا عَلَى الْعُمُومِ خَطَأٌ ظَاهِرٌ.

ثَانِيهمَا هُوَ قَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا فَكَانَ مَالًا) يَعْنِي مَالًا مَمْلُوكًا مُتَقَوِّمًا. أَمَّا كَوْنُهُ مَالًا فَلِأَنَّ الْمَالَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْآدَمِيِّ خُلِقَ لِمَنْفَعَتِهِ الْمُطْلَقَةِ شَرْعًا، وَهَذَا كَذَلِكَ فَكَانَ مَالًا، وَأَمَّا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ مُتَقَوِّمٌ فَلِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ مَأْذُونٌ شَرْعًا

ص: 120

وَلَا نُسَلِّمُ نَجَاسَةَ الْعَيْنِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ دُونَ الْبَيْعِ. وَقَالَ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا " وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّنَا،

فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَالتَّقَوُّمُ بِالتَّمَوُّلِ، وَكِلَاهُمَا مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا إذْ قَدْ أَذِنَ الشَّرْعُ فِي اقْتِنَاءِ كَلْبِ الْمَاشِيَةِ وَالصَّيْدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ بَيْعُهُ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَرَجَّحُ عَلَى النَّصِّ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُسَلَّمَ أَنَّهُ مَالٌ مُحَرَّزٌ مُتَقَوِّمٌ لَكِنْ ثَبَتَ مَنْعُ الشَّرْعِ مِنْ بَيْعِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَالِ. فَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِادِّعَاءِ نَسْخِ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِمَا قُلْنَا أَوَّلَ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ كَانَ أَمْرًا مُحَقَّقًا فِي الْأَوَّلِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ عُلِمَ نَسْخُ ذَلِكَ بِرِوَايَةِ تَرْكِ قَتْلِهَا عَلَى مَا حَدَّثَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ: مَالِي وَلِلْكِلَابِ؟ ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَفِي كَلْبٍ آخَرَ نَسِيَهُ سَعِيدٌ» .

وَلِهَذَا الْمَعْنَى طُرُقٌ كَثِيرَةٌ وَجَبَ حَمْلُ مَا رُوِيَ مِنْ التَّشْدِيدِ فِي سُؤْرِهَا وَالنَّهْيُ عَنْ ثَمَنِهَا وَبَيْعِهَا ثُمَّ التَّرْخِيصُ فِي بَيْعِ النَّوْعِ الَّذِي أَذِنَ فِي اقْتِنَائِهِ، الْأَوَّلُ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَالثَّانِي عَلَى الثَّانِيَةِ، فَكَانَ مَنْعُ الْبَيْعِ عَلَى الْعُمُومِ مَنْسُوخًا بِإِطْلَاقِ بَيْعِ الْبَعْضِ بِالضَّرُورَةِ. وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِهِ: نَجِسُ الْعَيْنِ بِالْمَنْعِ بِدَلِيلِ إطْلَاقِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. قَالَ (وَلَوْ سَلَّمَ فَنَجَاسَةُ عَيْنِهِ تُوجِبُ حُرْمَةَ أَكْلِهِ لَا مَنْعَ بَيْعِهِ) بَلْ مَنْعُ الْبَيْعِ بِمَنْعِ الِانْتِفَاعِ شَرْعًا، وَلِهَذَا أَجَزْنَا بَيْعَ السِّرْقِينِ وَالْبَعْرِ مَعَ نَجَاسَةِ عَيْنِهِمَا لِإِطْلَاقِ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا عِنْدَنَا، بِخِلَافِ الْعَذِرَةِ لَمْ يُطْلَقْ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَمُنِعَ بَيْعُهَا، فَإِنْ ثَبَتَ شَرْعًا إطْلَاقُ الِانْتِفَاعِ مَخْلُوطَةً بِالتُّرَابِ وَلَوْ بِالِاسْتِهْلَاكِ كَالِاسْتِصْبَاحِ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ كَمَا قِيلَ جَازَ بَيْعُ ذَلِكَ التُّرَابِ الَّتِي هِيَ فِي ضِمْنِهِ، وَبِهِ قَالَ مَشَايِخُنَا. وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بَيْعُ الْخَمْرِ لِنَصٍّ خَاصٍّ فِي مَنْعِ بَيْعِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَمَّا يُعْصَرُ مِنْ الْعِنَبِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «إنَّ رَجُلًا أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ عَلِمْت أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ شُرْبَهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَسَارَّ إنْسَانًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بِمَ سَارَرْته؟ قَالَ: أَمَرْته بِبَيْعِهَا، فَقَالَ: إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، قَالَ فَفَتَحَ الْمَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا» .

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ يَقُولُ وَهُوَ بِمَكَّةَ «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لَا هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهُ فَبَاعُوهُ وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» وَهَذَا يَتِمُّ بِهِ

ص: 121

وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. .

قَالَ (وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَلِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ مُحْتَاجُونَ كَالْمُسْلِمِينَ. قَالَ (إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ خَاصَّةً) فَإِنَّ عَقْدَهُمْ عَلَى الْخَمْرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْعَصِيرِ، وَعَقْدُهُمْ عَلَى الْخِنْزِيرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الشَّاةِ؛ لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ. دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ عُمَرَ: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ عَبْدَك مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الثَّمَنِ سِوَى الْأَلْفِ

شَرْحُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَقَوْلُهُ (وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَيَقُومُ إشْكَالًا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ السِّرْقِينِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرٍ فِي نَحْوِ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ، فَإِنَّا بَيَّنَّا فِي الْأُصُولِ أَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إلَى الْأَعْيَانِ تُقَدَّرُ إضَافَتُهُ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْعَيْنِ كَالشُّرْبِ مِنْ الْخَمْرِ وَالْأَكْلِ مِنْ الْمَيْتَةِ وَاللُّبْسِ مِنْ الْحَرِيرِ، فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا» يَعْنِي إذَا حَرَّمَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الشَّيْءِ " حَرَّمَ بَيْعَهُ وَأَكْلَ ثَمَنِهِ " كَالْمَقْصُودِ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمَقْصُودِ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي السِّرْقِينِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ تَحْرِيمُ الْبَيْعِ، فَإِنْ قَالَ النَّجَاسَةُ سَبَبٌ، قُلْنَا: مَمْنُوعٌ فَيَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ.

أَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ تَحْرِيمَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الشَّيْءِ مُوجِبٌ لِتَحْرِيمِ بَيْعِهِ

. (قَوْلُهُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ) يَجُوزُ لَهُمْ مِنْهَا مَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمُوجِبِ الْبِيَاعَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ مُحْتَاجُونَ إلَى مُبَاشَرَتِهَا، وَقَدْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا بِالْإِقَامَةِ فِي دَارِنَا وَإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ فَلَا يَجُوزُ مِنْهُمْ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَا سَلَمَ فِي حَيَوَانٍ وَلَا نَسِيئَةَ فِي صَرْفٍ، وَكَذَا كُلُّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ هُمْ فِي الْبُيُوعِ كَالْمُسْلِمِينَ (إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ) فَإِنَّا نُجِيزُ بَيْعَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لِخُصُوصٍ فِيهِ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ عَنْ إسْرَائِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: سَمِعْت سُوَيْد بْنَ غَفَلَةَ يَقُولُ: حَضَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَاجْتَمَعَ إلَيْهِ عُمَّالُهُ فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَأْخُذُونَ فِي الْجِزْيَةِ الْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْخَمْرَ، فَقَالَ بِلَالٌ: أَجَلْ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا وَلَكِنْ وَلَّوْا أَرْبَابَهَا بَيْعَهَا ثُمَّ خُذُوا الثَّمَنَ مِنْهُمْ، وَلَا نُجِيزُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بَيْعَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» لَمْ يُعْرَفْ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: بِعْ عَبْدَك مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك خَمْسَمِائَةٍ مِنْ الثَّمَنِ سِوَى الْأَلْفِ فَقَالَ

ص: 122

فَفَعَلَ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَأْخُذُ الْأَلْفَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْخَمْسَمِائَةِ مِنْ الضَّامِنِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ جَازَ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ وَلَا شَيْءَ عَلَى الضَّمِينِ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَتَلْحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ كَوْنُهُ عَدْلًا أَوْ خَاسِرًا أَوْ رَابِحًا، ثُمَّ قَدْ لَا يَسْتَفِيدُ الْمُشْتَرِي بِهَا شَيْئًا بِأَنْ زَادَ فِي الثَّمَنِ وَهُوَ يُسَاوِي الْمَبِيعَ بِدُونِهَا فَيَصِحُّ اشْتِرَاطُهَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ لَكِنْ مِنْ شَرْطِهَا الْمُقَابَلَةُ تَسْمِيَةً وَصُورَةً، فَإِذَا قَالَ مِنْ الثَّمَنِ وُجِدَ شَرْطُهَا فَيَصِحُّ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ لَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَصِحَّ.

بِعْت فَهُوَ جَائِزٌ) وَهُوَ جَوَابٌ لِلْكُلِّ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلُ الضَّامِنِ ذَلِكَ بَعْدَ مُفَاوَضَةٍ بَيْنَ فُلَانٍ وَسَيِّدِ الْعَبْدِ بِأَلْفٍ وَإِبَاءً أَوْ ابْتِدَاءً. قَالَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ: وَيَكُونُ الْبَيْعُ بَعْدَهُ دَلَالَةً عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ امْتِثَالٌ بِذَلِكَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك إنْ شِئْت فَقَالَتْ طَلَّقْت، يُجْعَلُ قَبُولًا اسْتِحْسَانًا، فَكَذَا هَذَا. وَفِي بَعْضِهَا مَا يُفِيدُ أَنَّهُ إيجَابٌ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إبَاءً وَلَا مُسَاوَمَةً وَحَصَلَ إيجَابُ الْعَقْدِ عَقِيبَ ضَمَانِ الرَّجُلِ كَانَ كَذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ بِعْ عَبْدَك أَمْرٌ وَلَفْظَةُ الْأَمْرِ لَا تَكُونُ فِي الْبَيْعِ إيجَابًا عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْنِي هَذَا بِكَذَا فَقَالَ بِعْت لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَقْبَلَ الْآخَرُ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ طَلِّقِي نَفْسَك فِي التَّفْوِيضِ فِي الْخُلْعِ فَلَا بُدَّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَقُولُ بَعْدَ بِعْت مِنْ الْبَائِعِ اشْتَرَيْت أَوْ مَعْنَاهُ عَلَى مَا سَلَفَ هُنَاكَ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ فَبَاعَ جَازَ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ فَقَطْ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: مِنْ الثَّمَنِ فَقَدْ أَضَافَ الْتِزَامَهُ زِيَادَةَ خَمْسِمِائَةٍ فِي الثَّمَنِ إلَى بَيْعِهِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

وَالضَّمَانُ جَائِزُ الْإِضَافَةِ فَقَدْ وُجِدَ الْمُقْتَضِي لِلُّزُومِ بِلَا مَانِعٍ. وَإِذَا لَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ لَمْ يَلْتَزِمْ الْخَمْسَمِائَةِ مِنْ الثَّمَنِ بَلْ الْتَزَمَ مَالًا يُعْطِيهِ إيَّاهُ إنْ بَاعَهُ بِأَلْفٍ، وَهَذِهِ رِشْوَةٌ إذْ لَمْ تُقَابَلْ بِالْمَبِيعِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ فَيَنْعَقِدُ بِأَلْفٍ فَقَطْ، ثُمَّ فِي الْأَوَّلِ إنْ كَانَ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَأْخُذَ الْخَمْسَمِائَةِ مِنْ الضَّامِنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَى الْمُشْتَرِي صَارَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُرَابِحَ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ أَخَذَهَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ.

وَلَوْ رَدَّ

ص: 123

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى زَوَّجَهَا فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ) لِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ،

بِعَيْبٍ أَوْ تَقَايَلَا فَالْبَائِعُ يَرُدُّ الْأَلْفَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالْخَمْسَمِائَةِ عَلَى الضَّامِنِ، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ وَيُرَابِحُ عَلَى أَلْفٍ وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِأَلْفٍ.

وَلَوْ تَقَايَلَا أَوْ رُدَّتْ بِعَيْبٍ أَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فَلِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْخَمْسَمِائَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا لِأَنَّ الشِّرَاءَ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا يَجُوزُ فَكَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ عَلَيْهِ. أَجَابَ الْكَرْخِيُّ بِمَنْعِ كَوْنِ الشِّرَاءِ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا يَجُوزُ إذْ لَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا. وَتَعَقَّبَهُ الرَّازِيّ بِأَنَّ مُحَمَّدًا نَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى غَيْرِ الْبَائِعِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْبَيْعِ كَوْنَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ إذَا كَانَ أَصْلُ الثَّمَنِ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجُوزَ وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ «فِي الَّذِي امْتَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِلدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ فَالْتَزَمَهُ أَبُو قَتَادَةَ رضي الله عنه فَصَلَّى عَلَيْهِ» فَقَدْ الْتَزَمَ دَيْنًا لَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ يَحْصُلُ لِلْمُلْتَزِمِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَذَلِكَ إذْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي مُقَابَلَتِهَا شَيْءٌ.

وَدُفِعَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِالنَّظَرِ إلَى مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ لَزِمَ جَوَازُ اشْتِرَاطِ كُلِّ الثَّمَنِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. فَالْجَوَابُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَهَا شِبْهٌ بِبَدَلِ الْخُلْعِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ يُسَلَّمُ لِلْمُلْتَزِمِ وَبَدَلُ الْخُلْعِ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَقَدْ يُقَالُ: هَذَا التَّعْلِيلُ قَاصِرٌ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ كَمَا لَا تَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ تَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ، وَوُجُودُهَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ أَكْثَرُ أَحْوَالِ الْعَقْدِ، فَإِنَّ أَحْوَالَهُ ثَلَاثَةٌ: كَوْنُهُ خَاسِرًا، وَرَابِحًا، وَعَدْلًا. وَكَوْنُهَا لَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ فِي وَجْهٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ رَابِحًا فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الْأَقَلِّ بَلْ الْوَاجِبُ اعْتِبَارُ الْحَالِ الْأَغْلَبِيَّةِ فِي الْمُشَابَهَةِ خُصُوصًا إذَا كَانَ يُبْنَى عَلَيْهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَالْأَوْلَى مَا قِيلَ: إنَّ الزِّيَادَةَ ثَبَتَتْ تَبَعًا فَجَازَ أَنْ تَثْبُتَ عَلَى الْغَيْرِ بِخِلَافِ أَصْلِ الثَّمَنِ الثَّابِتِ مَقْصُودًا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ ثَمَنًا وَالْأَجْنَبِيُّ ضَامِنٌ لَهَا لَزِمَ جَوَازُ مُطَالَبَةِ الْمُشْتَرِي بِهَا كَالْكَفِيلِ.

قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ عَلَى الْأَصِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَيْدٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفٌ وَأَنَا كَفِيلٌ بِهَا فَأَنْكَرَ فُلَانٌ طُولِبَ الْكَفِيلُ بِهَا دُونَ فُلَانٍ فَجَازَ هُنَا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَلْتَزِمْهَا إنَّمَا الْتَزَمَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَجْنَبِيُّ وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِلَا سَبَبٍ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى زَوَّجَهَا فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ) وَوَطْءُ الزَّوْجِ قَبْضٌ مِنْ الْمُشْتَرِي خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِوُجُودِ سَبَبِ وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ عَلَى

ص: 124

وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الرَّقَبَةِ عَلَى الْكَمَالِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ. (وَهَذَا قَبْضٌ) لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ فِعْلُهُ كَفِعْلِهِ (إنْ لَمْ يَطَأْهَا فَلَيْسَ بِقَبْضٍ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا؛ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمِيٌّ فَيُعْتَبَرُ بِالتَّعْيِيبِ الْحَقِيقِيِّ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي الْحَقِيقِيِّ اسْتِيلَاءً عَلَى الْمَحَلِّ وَبِهِ يَصِيرُ قَابِضًا وَلَا كَذَلِكَ الْحُكْمِيُّ فَافْتَرَقَا.

الْأَمَةِ (وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ عَلَى الْكَمَالِ) بِخِلَافِ مَا لَوْ مَلَكَهَا لَا عَلَى الْكَمَالِ كَمَا فِي مِلْكِ نِصْفِهَا لَا يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ بِهِ، وَإِنَّمَا جَازَ إنْكَاحُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالْغَرَرِ دُونَ النِّكَاحِ، وَفِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ احْتِمَالُ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالنِّكَاحُ لَا يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ: أَعْنِي الْمَرْأَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطٌ فِي الْبَيْعِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الْآبِقِ لَا يَصِحُّ وَتَزْوِيجَ الْآبِقَةِ يَجُوزُ.

وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الْوَارِدُ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَارِدًا فِي النِّكَاحِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِيَثْبُتَ بِدَلَالَتِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الْمُشْتَرِي فَصَارَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي كَانَ قَابِضًا فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ، وَلَوْ لَمْ يَطَأْهَا الزَّوْجُ لَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي قَابِضًا اسْتِحْسَانًا، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ بَعْدَ التَّزْوِيجِ قَبْلَ الْوَطْءِ هَلَكَتْ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا بِمُجَرَّدِ التَّزْوِيجِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، حَتَّى إذَا هَلَكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ هَلَكَتْ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ تَعْيِيبٌ مِنْهُ لِلْمَبِيعِ، وَكَذَلِكَ يَثْبُتُ خِيَارُ الرَّدِّ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا ذَاتَ زَوْجٍ، وَالْمُشْتَرِي إذَا عَيَّبَ الْمَبِيعَ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا فِعْلٌ حِسِّيٌّ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالتَّزْوِيجُ تَعْيِيبٌ حُكْمِيٌّ بِمَعْنَى تَقْلِيلِ الرَّغَبَاتِ فِيهَا فَكَانَ كَنُقْصَانِ السِّعْرِ لَهُ وَكَالْإِقْرَارِ مِنْهُ عَلَيْهَا بِدَيْنٍ. وَالْمُشْتَرِي إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَى الْعَبْدِ الْمَبِيعِ لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ قَابِضًا فَكَذَا مُجَرَّدُ التَّزْوِيجِ، بِخِلَافِ الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ كَأَنْ فَقَأَ عَيْنَهَا مَثَلًا أَوْ قَطَعَ يَدَهَا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَحَلِّ.

وَاسْتُشْكِلَ عَلَى هَذَا الْإِعْتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِهِمَا قَابِضًا وَلَيْسَ بِاسْتِيلَاءٍ عَلَى الْمَحَلِّ بِفِعْلٍ حِسِّيٍّ.

وَالْجَوَابُ إنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ نَفْسُ الْفِعْلِ قَبْضًا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يَكُونُ قَبْضًا هُوَ الْفِعْلُ الْحِسِّيُّ الَّذِي يَحْصُلُ الِاسْتِيلَاءُ، وَالْقَبْضُ الْحَاصِلُ بِالْعِتْقِ ضَرُورِيٌّ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَمِنْ ضَرُورَةِ إنْهَاءِ الْمِلْكِ كَوْنُهُ قَابِضًا وَالتَّدْبِيرُ مِنْ وَادِيهِ لِأَنَّهُ بِهِ يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبَّرِ وَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ. هَذَا وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَوْ انْتَقَضَ الْبَيْعُ بَطَلَ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.

قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَالْمُخْتَارُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَتَى انْتَقَضَ قَبْلَ الْقَبْضِ انْتَقَضَ مِنْ الْأَصْلِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَكَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، وَقَيَّدَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ بُطْلَانَ النِّكَاحِ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمَوْتِ، حَتَّى لَوْ مَاتَتْ

ص: 125

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَغَابَ فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهَا إيَّاهُ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ مَعْرُوفَةً لَمْ يُبَعْ فِي دَيْنِ الْبَائِعِ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيصَالُ الْبَائِعِ إلَى حَقِّهِ بِدُونِ الْبَيْعِ، وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُشْتَرِي (وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ هُوَ بِيعَ الْعَبْدُ وَأَوْفَى الثَّمَنَ) لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ فَيَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ مَشْغُولًا بِحَقِّهِ،

الْجَارِيَةُ بَعْدَ النِّكَاحِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ وَإِنْ بَطَلَ الْبَيْعُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَغَابَ) قَبْلَ الْقَبْضِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ (فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهُ إيَّاهُ) وَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ (فَإِنْ كَانَتْ غَيْبَةُ) الْمُشْتَرِي غَيْبَةً (مَعْرُوفَةً لَمْ يَبِعْهُ) الْقَاضِي (فِي دَيْنِ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيصَالُ الْبَائِعِ إلَى حَقِّهِ بِدُونِ الْبَيْعِ) فَيَكُونُ إبْطَالًا لِحَقِّ الْمُشْتَرِي فِي الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ هُوَ بِيعَ الْعَبْدُ وَأَوْفَى الثَّمَنَ) بِنَصْبِ الثَّمَنِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِبِيعَ وَقَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ هُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْغَيْبَةَ الْمَعْرُوفَةَ أَنْ يُعْلَمَ أَيْنَ هُوَ.

وَقَوْلُهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ بَيْعِ الْقَاضِي (لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ) يَعْنِي بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ (فَيَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ) وَهُوَ كَوْنُهُ (مَشْغُولًا بِحَقِّهِ) يُبَيِّنُ أَنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْقَاضِي لَيْسَ

ص: 126

وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي يَبِيعُهُ الْقَاضِي فِيهِ كَالرَّاهِنِ إذَا مَاتَ وَالْمُشْتَرِي إذَا مَاتَ مُفْلِسًا وَالْمَبِيعُ لَمْ يُقْبَضْ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَبْقَ مُتَعَلِّقًا بِهِ، ثُمَّ إنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُمْسَكُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ حَقِّهِ وَإِنْ نَقَصَ يَتْبَعُ هُوَ أَيْضًا. قَالَ (فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَغَابَ أَحَدُهُمَا فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَيَقْبِضَهُ، وَإِذَا حَضَرَ الْآخَرُ لَمْ يَأْخُذْ نَصِيبَهُ حَتَّى يَنْقُدَ شَرِيكُهُ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا دَفَعَ الْحَاضِرُ الثَّمَنَ كُلَّهُ لَمْ يَقْبِضْ إلَّا نَصِيبَهُ وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِمَا أَدَّى عَنْ صَاحِبِهِ)

لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَلَا يَقْبِضُهُ.

بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا لَا تُقَامُ لِإِثْبَاتِ الدَّيْنِ عَلَى الْغَائِبِ فَمَا هِيَ إلَّا لِكَشْفِ الْحَالِ لِيُجِيبَهُ الْقَاضِي إلَى الْبَيْعِ نَظَرًا لِلْغَائِبِ لَا لِيَثْبُت عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِمْهَا لَمْ يُجِبْهُ إلَى ذَلِكَ (وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ) وَالْفَرْضُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِمَالِيَّةِ هَذَا الْعَبْدِ لِأَنَّهُ كَالرَّهْنِ فِي يَدِهِ إلَى اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا كَانَ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِمَالِيَّتِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا مَاتَ الرَّاهِنُ فَإِنَّهُ أَحَقُّ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ فَيُعِينُهُ الْقَاضِي عَلَى بَيْعِهِ (بِخِلَافِ مَا بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ) أَيْ الْبَائِعِ (لَمْ يَبْقَ مُعَلَّقًا بِهِ) بَلْ هُوَ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَالْبَيِّنَةُ حِينَئِذٍ لِإِثْبَاتِ الدَّيْنِ وَلَا يَثْبُتُ دَيْنٌ عَلَى غَائِبٍ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْبَيْعِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهَذَا طَرِيقُ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ رحمه الله، وَتَقْرِيرُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ يُشْعِرُ بِخِلَافِهِ حَيْثُ قَالَ: الْقِيَاسُ أَنْ لَا تُقْبَلَ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهَا عَلَى إثْبَاتِ حَقٍّ عَلَى الْغَائِبِ وَلَيْسَ ثَمَّ خَصْمٌ لَا قَصْدِيٌّ وَلَا حُكْمِيٌّ، فَهُوَ كَمَنْ أَقَامَهَا عَلَى غَائِبٍ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ لَا تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إلَى حَقِّهِ.

وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تُقْبَلُ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَجَزَ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الثَّمَنِ وَعَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ وَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي وَرُبَّمَا تَرْبُو النَّفَقَةُ عَنْ الثَّمَنِ وَالْقَاضِي نَاظِرٌ لِإِحْيَاءِ حُقُوقِ النَّاسِ فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَهَا لِدَفْعِ الْبَلِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَهَا لِيُثْبِتَ حَقًّا عَلَى الْغَائِبِ لِيَنْزِعَ شَيْئًا مِنْ يَدِهِ لَا يَقْبَلُهَا، وَالْإِجْمَاعُ فِي مِثْلِهِ لِدَفْعِ الْبَلِيَّةِ عَنْ الْبَائِعِ وَلَيْسَ فِيهِ إزَالَةُ يَدِ الْغَائِبِ عَمَّا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِمَّا فِي يَدِهِ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ بَيْعَ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ. أُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ يَنْصِبُ الْقَاضِي مَنْ يَقْبِضُهُ ثُمَّ يَبِيعُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَثْبُتُ ضِمْنًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ النَّظَرُ لِلْبَائِعِ بِإِحْيَاءِ حَقِّهِ وَالْبَيْعُ ضِمْنٌ لَهُ. هَذَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي وَاحِدًا فَغَابَ، فَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَغَابَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ إعْطَاءِ الثَّمَنِ فَالْحَاضِرُ لَا يَمْلِكُ قَبْضَ نَصِيبِهِ إلَّا بِنَقْدِ جَمِيعِ الثَّمَنِ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَوْ نَقَدَهُ اخْتَلَفُوا فِي مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ هَلْ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى قَبُولِ حِصَّةِ الْغَائِبِ؟ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُجْبَرُ. وَالثَّانِي لَوْ أَنَّهُ قَبِلَ هَلْ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ نَصِيبِ الْغَائِبِ لِلْحَاضِرِ؟ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا، بَلْ لَا يَقْبِضُ إلَّا نَصِيبَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُهَايَأَةِ، وَعِنْدَهُمَا يُجْبَرُ. وَالثَّانِي لَوْ قَبَضَ الْحَاضِرُ الْعَبْدَ هَلْ يَرْجِعُ عَلَى الْغَائِبِ بِمَا نَقَدَهُ؟

ص: 127

وَلَهُمَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ، وَالْمُضْطَرُّ يَرْجِعُ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ عَنْهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا قَضَى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَهُمَا نِصْفَانِ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمِثْقَالَ إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ فَيَجِبُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالٍ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَجِبُ مِنْ الذَّهَبِ مَثَاقِيلُ وَمِنْ الْفِضَّةِ دَرَاهِمُ وَزْنُ سَبْعَةٍ

عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ، وَلِلْحَاضِرِ حَبْسُ نَصِيبِ الْغَائِبِ إذَا حَضَرَ حَتَّى يُعْطِيَهُ مَا نَقَدَهُ عَنْهُ.

وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَاضِرَ قَضَى دَيْنَ الْغَائِبِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فَلَا يَرْجِعُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُ حِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا (وَلَهُمَا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ) أَيْ فِي دَفْعِ حِصَّةِ الْغَائِبِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِهِ إلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ الصَّادِرَ إلَيْهِمَا مِنْ الْبَائِعِ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَالْمُضْطَرُّ يَرْجِعُ وَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ، وَصَارَ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ إذَا أَفْلَسَ الرَّاهِنُ وَهُوَ الْمُسْتَعِيرُ أَوْ غَابَ، فَإِنَّ الْمُعِيرَ إذَا افْتَكَّهُ بِدَفْعِ الدَّيْنِ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ، وَصَارَ كَصَاحِبِ الْعُلُوِّ إذَا سَقَطَ بِسُقُوطِ السُّفْلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ إذَا لَمْ يَبْنِهِ مَالِكُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى بِنَاءِ عُلُوِّهِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَلَا يُمَكِّنُهُ مِنْ دُخُولِهِ مَا لَمْ يُعْطِهِ مَا صَرَفَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ السُّفْلِ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ كَوْنِ صَاحِبِهِ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ إلَّا إذَا كَانَ غَائِبًا، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا لَا يَكُونُ مُضْطَرًّا فِي إيفَاءِ الْكُلِّ، إذْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ إلَى الْقَاضِي فِي أَنْ يَنْقُدَ حِصَّتَهُ لِيَقْبِضَ نَصِيبَهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ السُّفْلِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْعُلُوِّ لَوْ خَاصَمَهُ فِي أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِبِنَائِهِ فَكَانَ مُضْطَرًّا حَالَ حُضُورِهِ كَغَيْبَتِهِ (وَلَهُ) أَيْ لِلْحَاضِرِ.

وَمِثْلُ صُورَةِ حُضُورِهِمَا فِي عَدَمِ الِاضْطِرَارِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلَانِ دَارًا فَغَابَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ نَقْدِ الْأُجْرَةِ فَنَقَدَ الْحَاضِرُ جَمِيعَهَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي نَقْدِ حِصَّةِ الْغَائِبِ، إذْ لَيْسَ لِلْآجِرِ حَبْسُ الدَّارِ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ. وَإِذَا ثَبَتَ حَقُّ الْحَبْسِ فِي مَسْأَلَتِنَا لِلْحَاضِرِ فَلَهُ حَبْسُهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْكُلَّ، وَلَوْ بَقِيَ دِرْهَمٌ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ عَنْ الْمُوَكِّلِ إلَى أَنْ يُعْطِيَهُ جَمِيعَ الثَّمَنِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً إلَخْ)

ص: 128

لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَلْفَ إلَيْهِمَا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَزْنِ الْمَعْهُودِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

قَالَ (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جِيَادٍ فَقَضَاهُ زُيُوفًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَأَنْفَقَهَا أَوْ هَلَكَتْ فَهُوَ قَضَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ:

صُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ: اشْتَرَيْت هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفِ دِينَارٍ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ أَوْ يَقُولُ الْبَائِعُ: بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ إلَخْ. وَلَفْظُ الْجَامِعِ: فِي رَجُلٍ يَقُولُ لِرَجُلٍ: أَبِيعُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ جَيِّدٍ وَفِضَّةٍ قَالَ هُمَا نِصْفَانِ خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَخَمْسُمِائَةِ مِثْقَالِ فِضَّةٍ، وَيُشْتَرَطُ بَيَانُ الصِّفَةِ مِنْ الْجَوْدَةِ وَغَيْرِهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ بِأَلْفٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الصِّفَةِ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ.

وَعُرِفَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ وَإِنْ احْتَمَلَ الْعِدَّةَ إذَا أَرَادَ بِهِ الْحَالَ. وَقِيلَ بَلْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ مُسَاوَمَةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ ثُمَّ بَاعَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَثْبُتُ الِانْقِسَامُ. وَفِيهِ أَنَّ إضَافَةَ الْمِثْقَالِ إلَى الذَّهَبِ ثُمَّ عَطْفَ الْفِضَّةِ عَلَيْهِ مُرْسَلًا يُوجِبُ كَوْنَ الْفِضَّةِ أَيْضًا مُضَافًا إلَيْهَا الْمِثْقَالُ، وَيَنْفِي وَهْمَ أَنْ يَفْسُدَ لِجَهَالَةِ الْفِضَّةِ لِأَنَّ الْمِثْقَالَ غَالِبٌ فِي الذَّهَبِ فَتَصِيرُ الْفِضَّةُ مُرْسَلَةً عَنْ قَيْدِ الْوَزْنِ بَلْ يَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا، وَكَذَا صِفَةُ الْجَوْدَةِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ عَلَى وَجْهِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، فَالْمِثْقَالُ الْمُتَقَدِّمُ فَسَّرَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ غَدًا وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَقَعَا جَمِيعًا غَدًا فَإِنَّهُمَا مُضَافَانِ. ذَكَرَهُ فِي كَشْفِ الْغَوَامِضِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ قَالَ أَلْفٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ بِالْمَثَاقِيلِ وَخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ مِنْ الْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ فِي الدَّرَاهِمِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَلْفٌ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَجَبَ خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالٍ مِنْ الذَّهَبِ وَخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ مِنْ الْفِضَّةِ، لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِي وَزْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَا يَصْرِفُ أَحَدَهُمَا عَنْ الْمُتَعَارَفِ فِيهِ فَيُصْرَفُ إلَى الْوَزْنِ الْمَعْهُودِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَيَجِبُ كَوْنُ هَذَا إذَا كَانَ الْمُتَعَارَفُ فِي بَلَدِ الْعَقْدِ فِي اسْمِ الدَّرَاهِمِ مَا بِوَزْنِ سَبْعَةٍ وَالْمُتَعَارَفُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْآنَ كَالشَّامِ وَالْحِجَازِ لَيْسَ ذَلِكَ بَلْ وَزْنُ رُبْعٍ وَقِيرَاطٍ مِنْ ذَلِكَ الدِّرْهَمِ.

وَأَمَّا فِي عُرْفِ مِصْرَ لَفْظُ الدِّرْهَمِ يَنْصَرِفُ الْآنَ إلَى زِنَةِ أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ مِنْ الْفُلُوسِ، إلَّا أَنْ يُقَيَّدَ بِالْفِضَّةِ فَيَنْصَرِفَ إلَى دِرْهَمٍ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ فَإِنَّ مَا دُونَهُ ثَقُلَ أَوْ خَفَّ يُسَمُّونَهُ نِصْفَ فِضَّةٍ وَكَذَا هَذَا الِانْقِسَامُ فِي كُلِّ مَا يَقْرُبُهُ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا قَرْضًا أَوْ سَلَمًا أَوْ غَصْبًا أَوْ وَدِيعَةً أَوْ بَيْعًا أَوْ شِرَاءً أَوْ مَهْرًا أَوْ وَصِيَّةً أَوْ كَفَالَةً أَوْ جُعْلًا فِي خُلْعٍ، وَمِنْهُ مَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَسِمْسِمٍ كَانَ عَلَيْهِ الثُّلُثُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جِيَادٍ فَقَضَاهُ عَشَرَةً زُيُوفًا وَهُوَ) أَيْ رَبُّ الدَّيْنِ (لَا يَعْلَمُ) أَنَّهَا زُيُوفٌ (فَهُوَ قَضَاءٌ) حَتَّى لَوْ أَنْفَقَهَا الدَّائِنُ أَوْ هَلَكَتْ ثُمَّ عَلِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ وَهَذَا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ:

ص: 129

يَرُدُّ مِثْلَ زُيُوفِهِ وَيَرْجِعُ بِدَرَاهِمِهِ) لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْوَصْفِ مَرْعِيٌّ كَهُوَ فِي الْأَصْلِ، وَلَا يُمْكِنُ رِعَايَتُهُ بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْوَصْفِ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا قُلْنَا. وَلَهُمَا أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ. حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ جَازَ فَيَقَعُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ وَلَا يَبْقَى حَقُّهُ إلَّا فِي الْجَوْدَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا بِإِيجَابِ ضَمَانِهَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ.

لَهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الزُّيُوفِ وَيَرْجِعَ بِالْجِيَادِ)

وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ أَنَّ قَوْلَهُمَا قِيَاسٌ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ هُوَ الِاسْتِحْسَانُ. لَهُ أَنَّ حَقَّهُ فِي الْجَوْدَةِ مَرْعِيٌّ كَحَقِّهِ فِي الْمِقْدَارِ وَقَدْ تَعَذَّرَ ضَمَانُ الْوَصْفِ بِانْفِرَادِهِ (لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا قُلْنَا) مِنْ ضَمَانِ الْأَصْلِ لِيَصِلَ إلَى الْوَصْفِ (وَلَهُمَا أَنَّهُ) أَيْ الزُّيُوفَ (مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ) بِهِ كَالصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ (جَازَ) وَمَا جَازَ إلَّا لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ اسْتِبْدَالًا بَلْ نَفْسُ الْحَقِّ (فَيَقَعُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ، وَإِنَّمَا يَبْقَى حَقُّهُ فِي الْجَوْدَةِ وَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا بِإِيجَابِ ضَمَانِهَا) بَعْدَ هَلَاكِ الدَّرَاهِمِ (لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا (وَلَا بِإِيجَابِ ضَمَانِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لَهُ عَلَيْهِ) يَعْنِي هُوَ إيجَابٌ لِلْقَابِضِ عَلَى نَفْسِهِ (وَلَا نَظِيرَ لَهُ) فِي الشَّرْعِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَنْفَصِلُ بِمَنْعِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا بَلْ تَدَارُكُهَا بِمَا ذَكَرَ مِنْ إيجَابِ الْمِثْلِ مُمْكِنٌ وَهَذَا كَمَا لَوْ وَجَدَهَا سَتُّوقَةً أَوْ نَبَهْرَجَةً فَهَلَكَتْ أَلَيْسَ يَرُدُّ مِثْلَهَا، فَإِنْ قَالَ: السَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْجِيَادِ حَتَّى يَصِيرَ مُقْتَضِيًا حَقَّهُ بِهَا. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُقْتَضِيًا حَقَّهُ بِالزَّيْفِ إلَّا إنْ عَلِمَ فَرَضِيَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ تَارِكٌ لِبَعْضِ حَقِّهِ وَهُوَ صِفَةُ الْجَوْدَةِ قَوْلُهُمْ فِيهِ مَانِعٌ وَهُوَ كَوْنُهُ يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ جِنْسَ حَقِّهِ، فَإِذَا ضَمِنَ مِثْلَهُ كَانَ الْوُجُوبُ لِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ إذْ الْمَدْيُونُ لَا يُضَمِّنُهُ شَيْئًا. قُلْنَا: يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا أَفَادَ كَالْمَوْلَى إذَا أَتْلَفَ بَعْضَ أَكْسَابِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، وَقَدْ أَفَادَ هُنَا تَدَارُكَ حَقِّهِ فَصَارَ كَشِرَاءِ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ إلَّا إذَا أَفَادَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ أَوْ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا يَبْطُلُ قَوْلُهُمْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ. وَيُجَابُ بِمَنْعِ الِاتِّحَادِ فِي الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ، بَلْ الضَّمَانُ فِي الْمَأْذُونِ لِلْغُرَمَاءِ وَهُنَا الْمَقْبُوضُ كُلُّهُ مِلْكٌ، وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ وَمَنْ عَلَيْهِ وَاحِدٌ وَهُوَ رَبُّ الدَّيْنِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ.

وَفِي النَّوَازِلِ: اشْتَرَى بِالْجِيَادِ وَنَقَدَ الزُّيُوفَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِالْجِيَادِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ بِمَا اشْتَرَى. وَلَوْ بَاعَهَا مُرَابَحَةً فَإِنَّ رَأْسَ الْمَالِ الْجِيَادُ. وَفِي الْأَجْنَاسِ: اشْتَرَى بِالْجِيَادِ وَنَقَدَ الزُّيُوفَ ثُمَّ حَلَفَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِالْجِيَادِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَا يَحْنَثُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْنَثُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

ص: 130

قَالَ (وَإِذَا)(أَفْرَخَ طَيْرٌ فِي أَرْضٍ رَجُلٍ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ) وَكَذَا إذَا بَاضَ فِيهَا (وَكَذَا إذَا تَكَنَّسَ فِيهَا ظَبْيٌ) لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ وَإِنْ كَانَ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حِيلَةٍ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَكَذَا الْبَيْضُ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ وَلِهَذَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكَسْرِهِ أَوْ شَيِّهِ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ لَمْ يُعِدَّ أَرْضَهُ فَصَارَ كَنَصْبِ شَبَكَةٍ لِلْجَفَافِ

قَوْلُهُ وَلَوْ أَفْرَخَ طَيْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ وَكَذَا إذَا بَاضَ فِيهَا وَكَذَا إذَا تَكَنَّسَ فِيهَا ظَبْيٌ) أَيْ دَخَلَ كِنَاسَهُ وَالْكِنَاسُ بَيْتُ الظَّبْيِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ تُكْسَرُ: أَيْ وَقَعَ فِيهَا فَتُكْسَرُ، وَيُحْتَرَزُ بِهِ عَمَّا لَوْ كَسَرَهُ رَجُلٌ فِيهَا فَإِنَّهُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَا لِلْآخِذِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الطَّيْرِ وَالْبَيْضِ وَالْفَرْخِ وَقَدْ أُصْلِحَ فِي نُسْخَةٍ لِأَنَّهَا (مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ) أَيْ يَدُ الْآخِذِ إلَيْهِ (وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ وَإِنْ كَانَ يُؤْخَذُ بِلَا حِيلَةٍ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ وَالْبَيْضُ أَصْلُ الصَّيْدِ) فَيُلْحَقُ بِهِ (وَلِهَذَا يَجِبُ عَنْهُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِكَسْرِهِ أَوْ شَيِّهِ) لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} فِي قَوْله تَعَالَى {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} كَذَا ذُكِرَ.

وَقَوْلُهُ (وَصَاحِبُ الْأَرْضِ لَمْ يُعِدَّ أَرْضَهُ لِذَلِكَ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ هِيَ قَيْدٌ لِقَوْلِهِ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ: أَيْ إنَّمَا يَكُونُ لِلْآخِذِ إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَعَدَّهَا لِذَلِكَ بِأَنْ حَفَرَ فِيهَا بِئْرًا لِيَسْقُطَ فِيهَا أَوْ أَعَدَّ مَكَانًا لِلْفِرَاخِ لِيَأْخُذَهَا، فَإِنْ كَانَ أَعَدَّهَا لِذَلِكَ لَا يَمْلِكُهَا الْآخِذُ بَلْ رَبُّ الْأَرْضِ يَصِيرُ بِذَلِكَ قَابِضًا حُكْمًا، كَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً لِيُجَفِّفَهَا فَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدٌ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ لَا لِصَاحِبِ الشَّبَكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعِدَّهَا الْآنَ لِلْأَخْذِ، وَكَمَا إذَا دَخَلَ الصَّيْدُ دَارِهِ وَلَمْ يَعْلَمْهُ فَأَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ وَأَغْلَقَ الْبَابَ عَلَيْهِ أَوْ سَدَّ الْكُوَّةَ كَانَ لِصَاحِبِ الدَّارِ، وَكَذَا إذْ وَقَعَ فِي ثِيَابِهِ النِّثَارُ مِنْ السُّكَّرِ أَوْ الدَّرَاهِمِ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ مَا لَمْ يَكُفَّ ثَوْبَهُ عَلَى السَّاقِطِ فِيهِ، وَمَا هَذِهِ مَصْدَرِيَّةٌ نَائِبَةٌ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ: أَيْ لِلْآخِذِ فِي زَمَانِ عَدَمِ كَفِّهِ الثَّوْبَ.

وَقَوْلُهُ أَوْ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهُ: أَيْ لِلنِّثَارِ بِأَنْ بَسَطَ ثَوْبَهُ لِذَلِكَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ، فَإِذَا كَفَّهُ أَوْ كَانَ مُسْتَعِدًّا فَهُوَ لَهُ، أَمَّا إذَا عَسَّلَ النَّحْلُ فِي أَرْضِهِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ عُدَّ مِنْ أَنْزَالِهِ: أَيْ مِنْ زِيَادَاتِ الْأَرْضِ: أَيْ مَا يَنْبُتُ فِيهَا فَيَمْلِكُهُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ كَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِيهَا وَكَالتُّرَابِ وَالطِّينِ الْمُجْتَمِعِ فِيهَا بِجَرَيَانِ الْمَاء عَلَيْهَا. وَالْأَنْزَالُ جَمْعُ نُزُلٍ وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَذُكِرَ ضَمِيرٌ؛ لِأَنَّهُ وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَكَانِ، وَمِثْلُهُ وَقَعَ فِي شِعْرِ الْعَرَبِ قَالَ:

ص: 131

وَكَذَا إذَا دَخَلَ الصَّيْدُ دَارِهِ أَوْ وَقَعَ مَا نُثِرَ مِنْ السُّكَّرِ وَالدَّرَاهِمِ فِي ثِيَابِهِ مَا لَمْ يَكُفَّهُ أَوْ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَسَّلَ النَّحْلُ فِي أَرْضِهِ لِأَنَّهُ مِنْ أَنْزَالِهِ فَيَمْلِكُهُ تَبَعًا لِأَرْضِهِ كَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِيهَا وَالتُّرَابِ الْمُجْتَمِعِ فِي أَرْضِهِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(كِتَابُ الصَّرْفِ)

فَلَا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا

وَلَا أَرْضٌ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا

وَمِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ: لَوْ اتَّخَذَ فِي أَرْضِهِ حَظِيرَةً لِلسَّمَكِ فَدَخَلَ الْمَاءُ وَالسَّمَكُ مَلَكَهُ؛ وَلَوْ اُتُّخِذَتْ لِغَيْرِهِ، فَمَنْ أَخَذَ السَّمَكَ فَهُوَ لَهُ، وَكَذَا فِي حَفْرِ الْخَفِيرَةِ إذَا حَفَرَهَا لِلصَّيْدِ فَهُوَ لَهُ أَوْ لِغَرَضٍ آخَرَ فَهُوَ لِلْآخِذِ، وَكَذَا صُوفٌ وُضِعَ عَلَى سَطْحِ بَيْتٍ فَابْتَلَّ بِالْمَطَرِ فَعَصَرَهُ رَجُلٌ، فَإِنْ كَانَ وَضَعَهُ لِلْمَاءِ فَهُوَ لِصَاحِبِهِ وَإِلَّا فَالْمَاءُ لِلْآخِذِ، وَلَوْ بَاضَ صَيْدٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ أَوْ تَكَسَّرَ فِيهَا فَجَاءَ رَجُلٌ لِيَأْخُذَهُ فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ صَاحِبُ الْأَرْضِ عَلَى أَخْذِهِ قَرِيبًا مِنْهُ بِأَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ كَانَ الصَّيْدُ لِرَبِّ الْأَرْضِ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ لَا يَمْلِكُ.

(كِتَابُ الصَّرْفِ)

لَمَّا كَانَ قُيُودُهُ أَكْثَرَ كَانَ وُجُودُهُ أَقَلَّ فَقَدَّمَ مَا هُوَ أَكْثَرُ وُجُودًا. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ عَقْدًا عَلَى الْأَثْمَانِ وَالثَّمَنُ فِي الْجُمْلَةِ تَبَعٌ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْبَيْعِ أُخِّرَ عَنْ الْبُيُوعِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ: أَعْنِي الْمَبِيعَاتِ، وَمَفْهُومُهُ لُغَةً وَشَرْعًا يَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ، وَشَرْطُهُ التَّقَابُضُ لِلْبَدَلَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ فِيهِ أَجَلٌ وَلَا خِيَارُ شَرْطٍ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ أَوْ تَمَامَهُ عَلَى الرَّأْيَيْنِ مِنْهُمْ وَذَلِكَ يُخِلُّ بِالْقَبْضِ الْمَشْرُوطِ وَهُوَ الْقَبْضُ لِلَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّعْيِينُ، بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَالْعَيْبُ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ فِي الْمَبِيعِ فَلَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ، فَلَوْ افْتَرَقَا وَفِي الصَّرْفِ خِيَارُ عَيْبٍ أَوْ رُؤْيَةٍ جَازَ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي النَّقْدِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ عَلَى مِثْلِهَا لَا عَيْنِهَا، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ هَذَا الدِّينَارَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ لِصَاحِبِ الدِّينَارِ أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَهُ، وَكَذَا لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ بِخِلَافِ الْأَوَانِي وَالْحُلِيِّ.

وَلَوْ أَسْقَطَا فِي الْمَجْلِسِ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْأَجَلِ عَادَ الصَّرْفُ صَحِيحًا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَأُورِدبَ عَلَيْهِ كَيْفَ جَازَ أَنْ يُقَالَ التَّقَابُضُ شَرْطُ الْجَوَازِ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْعَقْدِ فَإِنَّمَا هُوَ حُكْمُهُ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّهُ لَيْسَ

ص: 132

قَالَ (الصَّرْفُ هُوَ الْبَيْعُ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عِوَضَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ) سُمِّيَ بِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى النَّقْلِ فِي بَدَلَيْهِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ.

وَالصَّرْفُ هُوَ النَّقْلُ وَالرَّدُّ لُغَةً، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إلَّا الزِّيَادَةَ إذْ لَا يُنْتَقَعُ بِعَيْنِهِ، وَالصَّرْفُ هُوَ الزِّيَادَةُ لُغَةً كَذَا قَالَهُ الْخَلِيلُ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْعِبَادَةُ النَّافِلَةُ صَرْفًا

إلَّا شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ، فَالْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ الْقَائِلِينَ: إنَّهُ الْجَوَازُ. وَأَجَابُوا بِأَنَّ تَأَخُّرَهُ ضَرُورَةُ نَفْيِ إيجَابِ قَبْضِ مِلْكِ الْغَيْرِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ مُقَارِنًا أَوْ مُتَقَدِّمًا شَرْعًا وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا صُورَةً، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْ هَذَا التَّكَلُّفِ بِارْتِكَابِ الْقَوْلِ الْآخَرِ.

وَأَمَّا مَفْهُومُهُ شَرْعًا فَبَيْعُ مَا مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْقُدُورِيِّ (الصَّرْفُ هُوَ الْبَيْعُ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عِوَضَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ) وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ بَيْعُ ثَمَنٍ بِثَمَنٍ لِيَدْخُلَ بَيْعُ الْمَصُوغِ بِالْمَصُوغِ أَوْ بِالنَّقْدِ، فَإِنَّ الْمَصُوغَ بِسَبَبِ مَا اتَّصَلَ مِنْ الصَّنْعَةِ بِهِ لَمْ يَبْقَ ثَمَنًا صَرِيحًا وَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ وَمَعَ بَيْعِهِ صَرْفٌ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ اصْطِلَاحًا بِهِ لِأَنَّ مَفْهُومَهُ اللُّغَوِيَّ هُوَ النَّقْلُ، وَمِنْهُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ:" فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ " وَنَقْلُ كُلٍّ مِنْ الْبَدَلَيْنِ عَنْ مَالِكِهِ إلَى الْآخَرِ بِالْفِعْلِ شَرْطُ جَوَازِهِ فَكَانَ فِي الْمُسَمَّى مَعْنَى اللُّغَةِ فَسُمِّيَ بِاسْمِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَشْرُوطِ فِيهِ (أَوْ هُوَ) أَيْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ الزِّيَادَةُ، وَهَذَا الْعَقْدُ لَا يُقْصَدُ بِهِ إلَّا الزِّيَادَةُ دُونَ الِانْتِفَاعِ بِعَيْنِ الْبَدَلِ الْآخَرِ فِي الْغَالِبِ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ، بِخِلَافِ نَحْوِ الطَّعَامِ وَالثَّوْبِ وَالْخِمَارِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ قَصْدَ كُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ التِّجَارَةُ وَالرِّبْحُ فِيهِ بِالنَّقْلِ وَإِلَّا خَلَا الْعَقْدُ عَنْ الْفَائِدَةِ، وَالزِّيَادَةُ تُسَمَّى صَرْفًا وَبِهِ سُمِّيَتْ الْعِبَادَةُ النَّافِلَةُ صَرْفًا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ انْتَمَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» فَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّرْفِ النَّافِلَةُ الَّتِي هِيَ الزِّيَادَةُ، وَالْعَدْلُ الْفَرْضُ الَّذِي هُوَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ فِي مُنَاسَبَةِ تَسْمِيَةِ الْفَرْضِ عَدْلًا فَقِيلَ عَلَيْهِ قَدْ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِغَيْرِ هَذَا.

قَالَ فِي الْفَائِقِ:

ص: 133

قَالَ (فَإِنْ بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ لَا يَجُوز إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ وَالصِّيَاغَةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا» الْحَدِيثَ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ. .

فِي ذِكْرِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَمْرِ الْمَدِينَةِ «مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» الصَّرْفُ: التَّوْبَةُ لِأَنَّهُ صَرْفُ النَّفْسِ عَنْ الْفُجُورِ إلَى الْبِرِّ. وَالْعَدْلُ: الْفِدْيَةُ مِنْ الْمُعَادَلَةِ وَالْفِدَاءِ يُعَادِلُ نَفْسَهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ إحْدَاثِ الْحَدَثِ فِعْلُ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْجَمْهَرَةِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ: الصَّرْفُ الْفَرِيضَةُ، وَالْعَدْلُ النَّافِلَةُ.

وَفِي الْغَرِيبَيْنِ عَنْ بَعْضِهِمْ: الصَّرْفُ النَّافِلَةُ وَالْعَدْلُ الْفَرِيضَةُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَا اعْتِرَاضَ مَعَ أَنَّهُ الْأَنْسَبُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ تَنْقَسِمُ إلَى ثَمَنِ كُلِّ حَالٍ وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ صَحِبَهَا حَرْفُ الْبَاءِ أَوْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ جِنْسِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِلَى مَا هُوَ مَبِيعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ مَا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ مِنْ الْعُرُوضِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ، وَإِلَى مَا هُوَ ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ مَبِيعٍ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ، فَإِنَّهَا إذَا عُيِّنَتْ فِي الْعَقْدِ كَانَتْ مَبِيعَةً؛ وَإِنْ لَمْ تُعَيَّنْ، فَإِنْ صَحِبَهَا حَرْفُ الْبَاءِ وَقَابَلَهَا مَبِيعٌ فَهِيَ ثَمَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهَا حَرْفُ الْبَاءِ وَلَمْ يُقَابِلْهَا ثَمَنٌ فَهِيَ مَبِيعَةٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الثَّمَنَ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ.

قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} الثَّمَنُ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ وَالنُّقُودُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ إلَّا دَيْنًا خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فَعِنْدَهُمْ يَتَعَيَّنُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ إذَا عُيِّنَتْ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ الْمُعَيَّنَةُ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَلَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهَا. هَذَا تَقْسِيمُ الْمَالِ بِاعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ، وَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الِاصْطِلَاحِ عَلَى الثَّمِينَةِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ سِلْعَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ رَائِجَةً فَهِيَ ثَمَنٌ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً فَهِيَ سِلْعَةٌ كَالْفُلُوسِ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ لَا يَجُوزُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) يَعْنِي فِي الْعِلْمِ لَا بِحَسَبِ نَفْسِ الْأَمْرِ فَقَطْ (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ وَالصِّيَاغَةِ) فَيَدْخُلُ الْإِنَاءُ بِالْإِنَاءِ، فَلَوْ بَاعَاهُمَا مُجَازَفَةً وَلَمْ يَعْلَمَا كَمِّيَّتَهُمَا وَكَانَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُتَسَاوِيَيْنِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ وَزْنًا فِي الْمَجْلِسِ فَظَهَرَا مُتَسَاوِيَيْنِ يَجُوزُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ وُزِنًا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ خِلَافًا لِزُفَرَ. هُوَ يَقُولُ: الشَّرْطُ التَّسَاوِي وَقَدْ ثَبَتَ، وَاشْتِرَاطُ الْعِلْمِ بِهِ زِيَادَةٌ بِلَا دَلِيلٍ. قُلْنَا: بَلْ هُوَ شَرْطٌ بِدَلِيلٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَوْهُومَ فِي هَذَا الْعَقْدِ جُعِلَ كَالْمَعْلُومِ شَرْعًا، وَمَا لَمْ تُعْلَمْ الْمُسَاوَاةُ تَوَهُّمُ الزِّيَادَةِ حَاصِلٌ فَيَكُونُ كَثُبُوتِ حَقِيقَةِ الزِّيَادَةِ؛ وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَجُوزَ إذَا وُزِنَ فِي الْمَجْلِسِ فَظَهَرَ مُتَسَاوِيًا أَيْضًا، لَكِنْ جَازَ فِي الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ كَأَنَّ الْعَقْدَ أُنْشِئَ الْآنَ؛ لِأَنَّ سَاعَاتِهِ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ وَزْنًا مَعْلُومًا فَلِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُسَاوَاةِ كَيْلًا، إذْ الْمُسَاوَاةُ وَزْنًا تَسْتَلْزِمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَيْلِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيمَا كَانَ مَكِيلًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم التَّقْدِيرُ بِالْكَيْلِ عَلَى مَا سَلَفَ.

وَعَنْ هَذَا إذَا اقْتَسَمَا مَكِيلًا مُوَازَنَةً لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ كَالْبَيْعِ. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى وُجُوبِ الْمُسَاوَاةِ (بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» الْحَدِيثَ) وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ انْتِصَابِهِ أَنَّهُ بِالْعَامِلِ الْمُقَدَّرِ: أَيْ بِيعُوا، وَالْأَوْلَى حَيْثُ كَانَ الذَّهَبُ

ص: 134

قَالَ (وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: وَإِنْ اسْتَنْظَرَك أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَلَا تُنْظِرُهُ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ أَحَدِهِمَا لِيَخْرُجَ الْعَقْدُ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْآخَرِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَوَجَبَ قَبْضُهُمَا سَوَاءٌ

مَرْفُوعًا فِي الْحَدِيثِ أَنْ يُجْعَلَ عَامِلُهُ مُتَعَلِّقَ الْمَجْرُورِ: أَيْ الذَّهَبُ يُبَاعُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ.

نَعَمْ حَدِيثُ الْخُدْرِيِّ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ» ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مُفَرَّغٌ لِلْحَالِ، وَبَقِيَّةُ الْحَدِيثِ «وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» وَالشِّفُّ بِالْكَسْرِ مِنْ الْأَضْدَادِ يُقَالُ لِلنُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا لَا تَزِيدُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يَتَّضِحُ فِي مَعْنَى النَّقْصِ وَإِلَّا لَقَالَ وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ، وَقَوْلُهُ وَزْنًا بِوَزْنٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا تُشِفُّوا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ الْمَذْكُورِ تَفْسِيرٌ لِمِثْلًا بِمِثْلٍ، فَإِنَّ الْمِثْلِيَّةَ أَعَمُّ، فَفَسَّرَهَا بِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ الْمِقْدَارِ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» أَيْضًا، وَتَخْرِيجُهُ وَهُوَ دَلِيلُ سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ وَسُقُوطُ زِيَادَةِ الصِّيَاغَةِ بِمَا رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ سَرِيعٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِإِنَاءٍ كُسِرَ وَإِنِّي قَدْ أَحْكَمْت صِيَاغَتَهُ، فَبَعَثَنِي بِهِ لِأَبِيعَهُ فَأُعْطِيت وَزْنَهُ وَزِيَادَةً، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا. هَذَا وَيَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ الْمُسَاوَاةِ الْمَصُوغُ بِالْمَصُوغِ وَالتِّبْرُ بِالْآنِيَةِ، حَتَّى لَوْ بَاعَ إنَاءَ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ بِإِنَاءِ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ وَأَحَدُهُمَا أَثْقَلُ مِنْ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ إنَاءَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمَا نُحَاسٍ أَوْ شِبْهِهِ حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَإِنْ تَفَاضَلَا وَزْنًا مَعَ أَنَّ النُّحَاسَ وَغَيْرَهُ مِمَّا يُوزَنُ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ صِفَةَ الْوَزْنِ فِي النَّقْدَيْنِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالصَّنْعَةِ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَوْزُونًا بِتَعَارُفِ جَعْلِهِ عَدَدِيًّا لَوْ تُعُورِفَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا فَإِنَّ الْوَزْنَ فِيهِ بِالْعُرْفِ فَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَوْزُونًا بِتَعَارُفِ عَدَدِيَّتِهِ إذَا صِيغَ وَصُنِعَ.

(قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ) بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ. وَفِي فَوَائِدِ الْقُدُورِيِّ: الْمُرَادُ بِالْقَبْضِ هُنَا الْقَبْضُ بِالْبَرَاجِمِ لَا بِالتَّخْلِيَةِ يُرِيدُ بِالْيَدِ، وَذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ شَرْطُ الْبَقَاءِ عَلَى الصِّحَّةِ لَا شَرْطُ ابْتِدَاءِ الصِّحَّةِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: فَإِذَا افْتَرَقَا بَطَلَ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ بَعْدَ وُجُودِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا ظَهَرَ الْفَسَادُ فِيمَا هُوَ صَرْفٌ يَفْسُدُ فِيمَا لَيْسَ صَرْفًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَلَا يَفْسُدُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ، وَقَوْلُهُ (لِمَا رُوِّينَا) يَعْنِي قَوْلَهُ

ص: 135

كَانَا يَتَعَيَّنَانِ كَالْمَصُوغِ أَوْ لَا يَتَعَيَّنَانِ كَالْمَضْرُوبِ أَوْ يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا وَلَا يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَتَعَيَّنُ فَفِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ التَّعْيِينِ لِكَوْنِهِ ثَمَنًا خِلْقَةً فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُ اعْتِبَارًا لِلشُّبْهَةِ فِي الرِّبَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِافْتِرَاقُ بِالْأَبْدَانِ، حَتَّى لَوْ ذَهَبَا عَنْ الْمَجْلِسِ يَمْشِيَانِ مَعًا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ نَامَا فِي الْمَجْلِسِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه

يَدًا بِيَدٍ " وَكَذَا مَا رُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» وَقَوْلُ عُمَرَ: " وَإِنْ اسْتَنْظَرَك إلَى آخِرِهِ، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْهُ قَالَ لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالذَّهَبِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَالْآخَرُ نَاجِزٌ، وَإِنَّ اسْتَنْظَرَك أَنْ يَلِجَ بَيْتَهُ فَلَا تَنْظُرُهُ إلَّا يَدًا بِيَدٍ هَاتِ وَهَاتِ، إنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ الرِّبَا " وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ " الرِّمَا " بِالْمِيمِ وَهُوَ الرِّبَا. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَقَالَ: أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ. وَلَمَّا ثَبَتَ نَصُّ الشَّرْعِ بِإِلْزَامِ التَّقَابُضِ عَلَّلَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَحَلَّهُ أَنَّ لِلتَّقَدُّمِ مَزِيَّةً عَلَى النَّسِيئَةِ فَيَتَحَقَّقُ الْفَضْلُ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَهُوَ الرِّبَا، وَلَمَّا كَانَ مَظِنَّةُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا غَيْرُ لَازِمٍ فِي قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يُجْعَلَا مَعًا نَسِيئَةً قَالَ: لَا بُدَّ شَرْعًا مِنْ قَبْضِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ كَيْ لَا يَلْزَمَ الْكَالِئُ بِالْكَالِئِ: أَيْ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ فَلَوْ لَمْ يَقْبِضْ الْآخَرُ لَزِمَ الرِّبَا بِمَا قُلْنَا.

وَأَيْضًا يَلْزَمُ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ لِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي مَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ، فَإِذَا وَجَبَ قَبْضُ أَحَدِهِمَا فَكَذَا الْآخَرُ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: تَعْلِيلُ الْكِتَابِ يَخُصُّ الثَّمَنَيْنِ الْمَحْضَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَتَعَيَّنَانِ وَالْحُكْمُ وَهُوَ لُزُومُ التَّقَابُضِ ثَابِتٌ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالْمَصُوغِ.

فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِإِطْلَاقِ مَا رُوِّينَا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ» وَعَلَّلَ الْإِطْلَاقَ الْمَذْكُورَ بِأَنَّ الْمُتَعَيَّنَ أَيْضًا كَالْمَصُوغِ فِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ التَّعْيِينِ إذْ فِيهِ شُبْهَةُ الثَّمَنِيَّةِ إذْ قَدْ خُلِقَ ثَمَنًا، وَالشُّبْهَةُ فِي بَابِ الرِّبَا كَالْحَقِيقَةِ عَلَى مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَلَمَّا كَانَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ تَنَاوَلَ

ص: 136

وَإِنْ وَثَبَ مِنْ سَطْحٍ فَثِبْ مَعَهُ، وَكَذَا الْمُعْتَبَرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ فِيهِ.

(وَإِنْ بَاعَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ جَازَ التَّفَاضُلُ) لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ (وَوَجَبَ التَّقَابُضُ)

النَّصَّ بِإِطْلَاقِهِ لَمْ يَدْفَعْهُ أَنَّ الثَّابِتَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ بَلْ وَجَبَ بِالنَّصِّ إلْحَاقُ شُبْهَةِ شُبْهَةِ الرِّبَا بِشُبْهَةِ الرِّبَا فِي هَذَا الْحُكْمِ.

وَقَوْلُهُ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُمَا لَوْ مَشَيَا كُلٌّ فِي جِهَةٍ كَانَ افْتِرَاقًا مُبْطِلًا. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: وَإِنْ وَثَبَ مِنْ سَطْحٍ فَثِبْ، يُفِيدُ عَدَمَ بُطْلَانِ الْعَقْدِ بِمُجَرَّدِ اخْتِلَافِ الْمَكَانِ، بَلْ إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ الْآخَرُ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ وُثُوبِ أَحَدِهِمَا اخْتَلَفَ مَكَانُهُمَا وَلَمْ يُعْتَبَرْ مَانِعًا إلَّا إذَا لَمْ يَثِبْ مَعَهُ.

وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: وَعَنْ أَبِي جَبَلَةَ قَالَ: سَأَلْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقُلْت: إنَّا نَقْدُمُ أَرْضَ الشَّامِ وَمَعَنَا الْوَرِقُ الثِّقَالُ النَّافِقَةُ وَعِنْدَهُمْ الْوَرِقُ الْخِفَافُ الْكَاسِدَةُ، فَنَبْتَاعُ وَرِقَهُمْ الْعَشْرَ بِتِسْعَةٍ وَنِصْفٍ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُ، وَلَكِنْ بِعْ وَرِقَك بِذَهَبٍ وَاشْتَرِ وَرِقَهُمْ بِالذَّهَبِ، وَلَا تُفَارِقُهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ، وَإِنْ وَثَبَ عَنْ سَطْحٍ فَثِبْ مَعَهُ. وَفِيهِ دَلِيلُ رُجُوعِهِ عَنْ جَوَازِ التَّفَاضُلِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا رُجُوعُهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا أَجَابَ لَا بَأْسَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلسَّائِلِ طَرِيقَ تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ كَمَا فَعَلَ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ لِبِلَالٍ «بِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِيهِ» إنَّمَا الْمَحْظُورُ تَعْلِيمُ الْحِيَلِ الْكَاذِبَةِ لِإِسْقَاطِ الْوُجُوبَاتِ.

قَالَ (وَكَذَا الْمُعْتَبَرُ فِي قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ) يَعْنِي أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ دُونَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ (بِخِلَافِ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ) فَإِنَّهَا لَوْ قَامَتْ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ بَطَلَ، وَكَذَا إذَا مَشَتْ مَعَ زَوْجِهَا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ إعْرَاضِهَا عَمَّا كَانَتْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِبْطَالِ هُنَاكَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ، وَالْقِيَامُ وَنَحْوُهُ دَلِيلُهُ فَلَزِمَ فِيهِ الْمَجْلِسُ، وَلِتَعَلُّقِ الصِّحَّةِ بِعَدَمِ الِافْتِرَاقِ لَا يَبْطُلُ لَوْ نَامَا فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا أَوْ طَالَ قُعُودُهُمَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله جُعِلَ الصَّرْفُ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ يَبْطُلُ بِدَلِيلِ الْإِعْرَاضِ كَالْقِيَامِ مِنْ الْمَجْلِسِ، حَتَّى لَوْ نَامَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَهُوَ فُرْقَةٌ، وَلَوْ نَامَا جَالِسَيْنِ فَلَا.

وَعَنْهُ: الْقُعُودُ الطَّوِيلُ فُرْقَةٌ دُونَ الْقَصِيرِ، وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ مِائَةُ دِينَارٍ فَأَرْسَلَ رَسُولًا يَقُولُ لَهُ: بِعْتُك الدَّرَاهِمَ الَّتِي لِي عَلَيْك بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي لَك عَلَيَّ فَقَالَ: قَبِلْت كَانَ بَاطِلًا، وَكَذَا لَوْ نَادَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ أَوْ مِنْ بَعِيدٍ لِأَنَّهُمَا مُتَفَرِّقَانِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ قَالَ الْأَبُ: اشْهَدُوا أَنِّي اشْتَرَيْت هَذَا الدِّينَارَ مِنْ ابْنِي الصَّغِيرِ بِعَشَرَةٍ وَقَامَ قَبْلَ نَقْدِهَا بَطَلَ. هَذَا وَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَالْحَوَالَةِ بِهِ كَمَا فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ.

(قَوْلُهُ: وَإِنْ بَاعَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ جَازَ التَّفَاضُلُ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ وَاشْتُرِطَ الْقَبْضُ) لِمَا رَوَى السِّتَّةُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ

ص: 137

لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» (فَإِنْ افْتَرَقَا فِي الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بَطَلَ الْعَقْدُ) لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْقَبْضُ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ وَلَا الْأَجَلُ لِأَنَّ بِأَحَدِهِمَا لَا يَبْقَى الْقَبْضُ مُسْتَحَقًّا وَبِالثَّانِي يَفُوتُ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ، إلَّا إذَا أُسْقِطَ الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَعُودُ إلَى الْجَوَازِ لِارْتِفَاعِهِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ رحمه الله.

- صلى الله عليه وسلم «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» قِيلَ: وَمَعْنَى قَوْلُهُ رِبًا: أَيْ حَرَامٌ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهِ فِي حَقِيقَتِهِ شَرْعًا وَأَنَّ اسْمَ الرِّبَا تَضَمَّنَ الزِّيَادَةَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْخَاصَّةِ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فِي قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ.

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ اسْتَثْنَى حَالَةَ التَّقَابُضِ مِنْ الْحَرَامِ بِحَصْرِ الْحِلِّ فِيهَا فَيَنْتَفِي الْحِلُّ فِي كُلِّ حَالَةٍ غَيْرِهَا فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْمُسْتَثْنَى حَالَةُ التَّفَاضُلِ وَالتَّسَاوِي وَالْمُجَازَفَةِ فَيَحِلُّ كُلُّ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا أُسْقِطَ الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ لَازِمِ قَوْلِهِ لَا يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ وَهُوَ فَوَاتُ الشَّرْطِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْبُطْلَانِ: أَيْ شَرْطُ الْخِيَارِ يَفُوتُ الشَّرْطُ إلَّا إذَا أَسْقَطَهُ فَلَا يَفُوتُ فَيَعُودُ إلَى الْجَوَازِ.

وَقَدَّمْنَا نَقْلَ خِلَافِ زُفَرَ فِيهِ: هَذَا وَبَيْنَ الْفَسَادِ بِتَرْكِ الْقَبْضِ وَالْفَسَادِ

ص: 138

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ، حَتَّى لَوْ بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْعَشَرَةَ حَتَّى اشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا فَالْبَيْعُ فِي الثَّوْبِ فَاسِدٌ) لِأَنَّ الْقَبْضَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي تَجْوِيزِهِ فَوَاتُهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْعَقْدُ فِي الثَّوْبِ كَمَا نُقِلَ عَنْ زُفَرَ، لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ فَيَنْصَرِفُ الْعَقْدُ إلَى مُطْلَقِهَا،

بِالْأَجَلِ فَرْقٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةٍ، وَهِيَ مَا إذَا بَاعَ جَارِيَةً فِي عُنُقِهَا طَوْقُ فِضَّةٍ زِنَتُهُ مِائَةٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى انْصَرَفَ لِلطَّوْقِ مِائَةٌ مِنْ الْأَلْفِ فَيَصِيرُ صَرْفًا فِيهِ وَتِسْعُمِائَةٍ لِلْجَارِيَةِ بَيْعًا، فَإِنَّهُ لَوْ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقَبْضِ بَطَلَ فِي الطَّوْقِ، وَبَيْعُ الْجَارِيَةِ بِتِسْعِمِائَةٍ صَحِيحٌ، وَلَوْ فَسَدَ بِالْأَجَلِ فَسَدَ فِيهِمَا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا. وَفَرَّقَ بِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ انْعَقَدَ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ الْمُفْسِدُ فَيَخُصُّ مَحَلَّهُ وَهُوَ الصَّرْفُ، وَفِي الثَّانِي انْعَقَدَ أَوَّلًا عَلَى الْفَسَادِ فَشَاعَ، وَهَذَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ الْبَقَاءِ عَلَى الصِّحَّةِ.

وَفِي الْكَامِلِ: لَوْ أُسْقِطَ الْأَجَلُ مَنْ لَهُ الْأَجَلُ دُونَ الْآخَرِ صَحَّ فِي الْمَشْهُورِ، وَلَيْسَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى مِثْلِهَا، بِخِلَافِ التِّبْرِ وَالْحُلِيِّ وَالْأَوَانِي مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ لِتَعَيُّنِهِ فِيهِ، وَلَوْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا دُونَ الِافْتِرَاقِ زَيْفًا أَوْ سُتُّوقًا فَحُكْمُهُ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِهِ الِاسْتِبْدَالُ وَالْبُطْلَانُ كَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ.

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ) وَكُلٌّ مِنْهُمَا ثَمَنُ الصَّرْفِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي أَحَدِ بَدَلَيْ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِهِبَةٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَا بَيْعٍ، فَإِنْ فَعَلَ بَعْضَ ذَلِكَ مَعَ الْعَاقِدِ بِأَنْ وَهَبَهُ الْبَدَلَ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ، فَإِنْ قَبِلَ بَطَلَ الصَّرْفُ لِتَعَذُّرِ وُجُوبِ الْقَبْضِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الشَّرْطُ يَنْتَفِي الْمَشْرُوطُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ لَا يُنْتَقَضُ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ وَمَا مَعَهَا سَبَبُ الْفَسْخِ فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ.

وَفَرَّعَ عَلَيْهِ (مَا لَوْ بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةٍ) مَثَلًا (وَلَمْ يَقْبِضْ الْعَشَرَةَ حَتَّى اشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا فَالْبَيْعُ فِي الثَّوْبِ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْقَبْضَ) فِي الْعَشَرَةِ (مُسْتَحَقٌّ حَقًّا لِلَّهِ) فَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَلَوْ جَازَ الْبَيْعُ فِي الثَّوْبِ سَقَطَ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الثَّوْبِ وَالصَّرْفُ عَلَى حَالِهِ بِقَبْضِ بَدَلِهِ مِنْ عَاقِدِهِ مَعَهُ. وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ فَسَادَ الصَّرْفِ حِينَئِذٍ حَقُّ اللَّهِ وَصِحَّةُ بَيْعِ الثَّوْبِ حَقُّ الْعَبْدِ فَتَعَارَضَا فَيُقَدَّمُ حَقُّ الْعَبْدِ لِتَفَضُّلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ.

أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقَّيْنِ وَلَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الْعَبْدِ بَعْدُ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ حَقَّ اللَّهِ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ فَيَمْتَنِعُ لَا أَنَّهُ يَرْتَفِعُ وَالتَّقْدِيمُ فِيمَا إذَا ثَبَتَا فَيَرْتَفِعُ أَحَدُهُمَا فَضْلًا، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ زُفَرَ رحمه الله صِحَّةُ بَيْعِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ بَدَلَ الصَّرْفِ

ص: 139

وَلَكِنَّا نَقُولُ: الثَّمَنُ فِي بَابِ الصَّرْفِ مَبِيعٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ سِوَى الثَّمَنَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَبَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ مَبِيعًا أَنْ يَكُونَ مُتَعَيَّنًا كَمَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ.

. قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً)

لِأَنَّ النَّقْدَ لَا يَتَعَيَّنُ، فَإِضَافَةُ الْعَقْدِ إلَى بَدَلِ الصَّرْفِ كَعَدَمِ إضَافَتِهِ فَيَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ شِرَاءُ ثَوْبٍ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَصِفْهَا، وَهَذَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْبِيَاعَاتِ، فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ بَيْعُ الثَّوْبِ كَقَوْلِنَا: قُلْنَا قَبْضُ بَدَلِ الصَّرْفِ وَاجِبٌ وَالِاسْتِبْدَالُ يُفَوِّتُهُ فَكَانَ شَرْطُ إيفَاءِ ثَمَنِ الثَّوْبِ مِنْ بَدَلِ الصَّرْفِ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَمْتَنِعُ الْجَوَازُ لِإِسْقَاطِ الثَّمَنِ بِهِ، كَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَلَا يَخْفَى كَثْرَةُ مَا ذَكَرُوا فِي عَدَمِ تَعَيُّنِ النَّقْدِ فِي الْبَيْعِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَشَارَ إلَى دَرَاهِمَ وَعَيَّنَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا وَيَدْفَعَ غَيْرَهَا.

وَحَاصِلُ شِرَاءِ الثَّوْبِ بِبَدَلِ الصَّرْفِ لَيْسَ إلَّا تَعْيِينَ ثَمَنِ الدَّرَاهِمِ، فَلَوْ كَانَ شَرْطًا فَاسِدًا يَمْنَعُ الْجَوَازَ بَطَلَ مَا ذَكَرُوا فِي عَدَمِ تَعَيُّنِ الدَّرَاهِمِ فِي الْبَيْعِ وَكَانَ كُلَّمَا تَعَيَّنَتْ الدَّرَاهِمُ فَسَدَ الْبَيْعُ لَا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ، لَا جَرَمَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا أَجَابَ بِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَابِ الصَّرْفِ مَبِيعٌ لِاسْتِدْعَاءِ الْبَيْعِ مَبِيعًا وَلَا مَبِيعَ فِيهِ سِوَى الثَّمَنِ فَكَانَ كُلُّ ثَمَنٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا وَثَمَنًا وَجَعَلَهُ بَدَلَ الثَّوْبِ وَثَمَنُهُ بَيْعٌ لَهُ وَبَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ: يَعْنِي وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ بَائِعِ الثَّوْبِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ زُفَرَ إنَّمَا قَالَ: يَجُوزُ بَيْعُ الثَّوْبِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ تَعَيُّنِ بَدَلِ الصَّرْفِ ثَمَنًا فَجَازَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنْ يَقُولَ بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِذَا قَالَ بِصِحَّةِ بَيْعِ هَذَا الثَّوْبِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ نَقْدِ بَدَلِ الصَّرْفِ فِي ثَمَنِهِ كَانَ بِالضَّرُورَةِ قَائِلًا بِأَنَّ الْبَيْعَ انْعَقَدَ مُوجِبًا دَفْعَ مِثْلِهِ، وَيَكُونُ تَسْمِيَةُ بَدَلِ الصَّرْفِ تَقْدِيرًا لِثَمَنِ الثَّوْبِ سَوَاءٌ سَمَّيْته مَبِيعًا أَوْ ثَمَنًا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا لَزِمَ تَسْلِيمُهُ بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ هُنَا هَكَذَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا وَاقِعًا لَمْ يَنْتَهِضْ مَا دَفَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ صِحَّةُ بَيْعِ الثَّوْبِ وَإِعْطَاءُ ثَمَنٍ يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ تَمْلِيكُ بَائِعِ الثَّوْبِ بَدَلَ الصَّرْفِ لَزِمَ بِالضَّرُورَةِ إعْطَاءُ غَيْرِهِ، وَهَكَذَا نَقَلَ الْقُدُورِيُّ عَنْهُ: أَعْنِي أَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ جَائِزٌ وَيَكُونُ ثَمَنُ الْمَبِيعِ مِثْلَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، قَالَ: وَهَذَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ زُفَرَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ، فَإِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ يَقَعُ الْبَيْعُ بِمِثْلِ بَدَلِ الصَّرْفِ، وَعَلَى هَذَا فَبُطْلَانُ بَيْعِ الثَّوْبِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ جَوَابُ الْمَذْهَبِ مُشْكِلٌ. وَتَنْظِيرُ النِّهَايَةِ بِغَاصِبِ الدَّرَاهِمِ إذَا اشْتَرَى وَأَشَارَ إلَيْهَا وَدَفَعَ مِنْهَا حَيْثُ يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ الْمَبِيعِ حِينَئِذٍ غَيْرُ مُطَابِقٍ؛ لِأَنَّ إجَازَةَ بَيْعِ الثَّوْبِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا بِأَنْ يَدْفَعَ مِثْلَ بَدَلِ الصَّرْفِ لَا نَفْسِهِ.

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً) وَكَذَا سَائِرُ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، بِخِلَافِ جِنْسِهَا

ص: 140

لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ فِيهِ وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ بَيْعِهِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الرِّبَا.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ مِثْقَالِ فِضَّةٍ وَفِي عُنُقِهَا طَوْقُ فِضَّةٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ مِثْقَالٍ بِأَلْفَيْ مِثْقَالِ فِضَّةٍ وَنَقَدَ مِنْ الثَّمَنِ أَلْفَ مِثْقَالٍ ثُمَّ افْتَرَقَا فَاَلَّذِي نَقَدَ ثَمَنَ الْفِضَّةِ) لِأَنَّ قَبْضَ حِصَّةِ الطَّوْقِ وَاجِبٌ فِي الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ بَدَلَ الصَّرْفِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ (وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْ مِثْقَالِ أَلْفٍ نَسِيئَةً وَأَلْفٍ نَقْدًا فَالنَّقْدُ ثَمَنُ الطَّوْقِ) لِأَنَّ الْأَجَلَ بَاطِلٌ فِي الصَّرْفِ جَائِزٌ فِي بَيْعِ الْجَارِيَةِ، وَالْمُبَاشَرَةُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْهُمَا (وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ فَدَفَعَ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسِينَ جَازَ الْبَيْعُ وَكَانَ الْمَقْبُوضُ حِصَّةَ الْفِضَّةِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْخَمْسِينَ مِنْ ثَمَنِهِمَا) لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ قَدْ يُرَادُ بِذِكْرِهِمَا الْوَاحِدُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وَالْمُرَادُ أَحَدُهُمَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِظَاهِرِ حَالِهِ

كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْمُجَازَفَةِ اشْتِرَاطُ الْعِلْمِ بِالْمُسَاوَاةِ (وَالْمُسَاوَاةُ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ فِيهِ) أَيْ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَكُلُّ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَذَلِكَ (لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لِمَا ذَكَرْنَا، يَعْنِي قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ») لَكِنَّ الْعَادَةَ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَقُولَ لِمَا رُوِّينَا، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْمَجْلِسِ مَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَعَبَّرَ بِالْمَجْلِسِ عَنْهُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ مِثْقَالِ فِضَّةٍ وَفِي عُنُقِهَا طَوْقٌ فِيهِ أَلْفُ مِثْقَالٍ بِأَلْفَيْ مِثْقَالِ فِضَّةٍ وَنَقَدَ مِنْ الثَّمَنِ أَلْفَ مِثْقَالٍ ثُمَّ افْتَرَقَا) صُرِفَ الْمَنْقُودُ إلَى الطَّوْقِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ الدَّافِعُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ خُذْهُ مِنْهُمَا صُرِفَ أَيْضًا إلَى الطَّوْقِ وَصَحَّ الْبَيْعُ فِيهِمَا تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ بِتَحْكِيمِ ظَاهِرِ حَالِهِمَا، إذْ الظَّاهِرُ قَصْدُهُمَا إلَى الْوَجْهِ الْمُصَحَّحِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يُفِيدُ تَمَامَ مَقْصُودِهِمَا إلَّا بِالصِّحَّةِ، فَكَانَ هَذَا الِاعْتِبَارُ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ وَالظَّاهِرُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ صَرَّحَ فَقَالَ خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ مِنْ ثَمَنِ الْجَارِيَةِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ حِينَئِذٍ عَارَضَهُ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ ثُمَّ افْتَرَقَا بَطَلَ فِي الطَّوْقِ كَمَا إذَا لَمْ يَقْبِضْهُ.

فَإِنْ قُلْت: فَفِي قَوْلِهِ خُذْهُ مِنْهُمَا عَارَضَهُ أَيْضًا. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ لِأَنَّ الْمُثَنَّى قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْوَاحِدِ أَيْضًا (قَالَ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وَالْمُرَادُ مِنْ أَحَدِهِمَا) وَهُوَ الْبَحْرُ الْمِلْحُ، وَ

ص: 141

(فَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْحِلْيَةِ) لِأَنَّهُ صُرِفَ فِيهَا (وَكَذَا فِي السَّيْفِ إنْ كَانَ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ بِدُونِ الضَّرَرِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَالْجِذْعِ فِي السَّقْفِ (وَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّصُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ جَازَ الْبَيْعُ فِي السَّيْفِ وَبَطَلَ فِي الْحِلْيَةِ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَصَارَ كَالطَّوْقِ وَالْجَارِيَةِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ أَزْيَدَ مِمَّا فِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ لَا يَدْرِي لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِلرِّبَا أَوْ لِاحْتِمَالِهِ، وَجِهَةُ الصِّحَّةِ مِنْ وَجْهٍ وَجِهَةُ الْفَسَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ فَتَرَجَّحَتْ. .

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} وَإِنَّمَا الرُّسُلُ مِنْ الْإِنْسِ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَقَالَ تَعَالَى {نَسِيَا حُوتَهُمَا} وَإِنَّمَا نَسِيَهُ فَتَى مُوسَى.

«وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَابْنِ عَمٍّ لَهُ: إذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا» وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ أَحَدُهُمَا وَقَالَ تَعَالَى {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} وَالْمُرَادُ دَعْوَةُ مُوسَى، إلَّا أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ هَارُونَ كَانَ يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ، فَإِذَا صَحَّ الِاسْتِعْمَالُ وَكَثُرَ وَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَذَكَرْنَا مِنْ قَرِيبٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَسَادُ بِسَبَبِ الْأَجَلِ فِي الْعَقْدِ شَاعَ الْفَسَادُ فِي الْجَارِيَةِ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ بِخِلَافِهِ عَنْ الِافْتِرَاقِ. هَذَا وَلَقَدْ وَقَعَ الْإِفْرَاطُ فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ طَوْقُهَا أَلْفُ مِثْقَالِ فِضَّةٍ فَإِنَّهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِالْمِصْرِيِّ وَوَضْعُ هَذَا الْمِقْدَارِ فِي الْعُنُقِ بَعِيدٌ عَنْ الْعَادَةِ بَلْ نَوْعُ تَعْذِيبٍ، وَعُرِفَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ كَوْنَ قِيمَتِهَا مَعَ مِقْدَارِ الطَّوْقِ مُتَسَاوِيَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ الْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا بِيعَ نَقْدٌ مَعَ غَيْرِهِ بِنَقْدٍ مِنْ جِنْسِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَزِيدَ الثَّمَنَ عَلَى النَّقْدِ الْمَضْمُومِ إلَيْهِ، وَمِثْلُ هَذَا فِيمَا إذَا بَاعَ سَيْفًا مُحَلَّى بِمِائَةٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَوْ بِمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ فَدَفَعَ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسِينَ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتُ، وَلَوْ لَمْ يَتَقَابَضَا فِي الصُّورَتَيْنِ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ فِي حِصَّةِ الطَّوْقِ وَالْحِلْيَةِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فِيهَا وَيَصِحُّ فِي الْجَارِيَةِ.

وَأَمَّا السَّيْفُ فَإِنْ كَانَتْ الْحِلْيَةُ لَمْ تَتَخَلَّصْ مِنْهُ إلَّا بِضَرَرٍ فِيهِ فَسَدَ فِي السَّيْفِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ فِيهِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَمَا مَرَّ فِي جِذْعٍ مِنْ سَقْفٍ، فَإِنْ كَانَ

ص: 142

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ إنَاءَ فِضَّةٍ ثُمَّ افْتَرَقَا وَقَدْ قَبَضَ بَعْضَ ثَمَنِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ وَصَحَّ فِيمَا قُبِضَ وَكَانَ الْإِنَاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهُ صَرْفٌ كُلُّهُ فَصَحَّ فِيمَا وُجِدَ شَرْطُهُ وَبَطَلَ فِيمَا لَمْ يُوجَدْ وَالْفَسَادُ طَارِئٌ لِأَنَّهُ يَصِحُّ ثُمَّ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ فَلَا يَشِيعُ. قَالَ (وَلَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الْإِنَاءِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ) لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ فِي الْإِنَاءِ.

يَتَخَلَّصُ بِلَا ضَرَرٍ جَازَ فِيهِ كَالْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ وَبَطَلَ فِي الْحِلْيَةِ خَاصَّةً.

ثُمَّ الْجَوَابُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ: يَعْنِي الثَّمَنَ أَكْثَرَ مِنْ الطَّوْقِ وَالْحِلْيَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ أَوْ لَا يَدْرِي وَاخْتَلَفَ الْمُقَوِّمُونَ فِي ذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِلرِّبَا حَقِيقَةً فِيمَا إذَا كَانَتْ أَقَلَّ أَوْ مُسَاوِيَةً بِسَبَبِ زِيَادَةِ الْبَدَلِ الْآخَرِ وَهُوَ الْمَبِيعُ الْفِضَّةُ زِيَادَةً مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ نَفْسُ الْجَارِيَةِ وَالسَّيْفِ أَوْ احْتِمَالُ الرِّبَا فِيمَا إذَا لَمْ يُدْرَ الْحَالُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِالْمُسَاوَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي صُورَةِ الِاحْتِمَالِ لَمْ يُقْطَعْ بِالْفَسَادِ. أَجَابَ بِأَنَّ جِهَةَ الْفَسَادِ مُتَعَدِّدَةٌ، فَإِنَّهَا مِنْ وَجْهَيْنِ، وَهُوَ تَجْوِيزُ الْأَقَلِّيَّةِ وَالْمُسَاوَاةُ، بِخِلَافِ الصِّحَّةِ فَإِنَّهَا عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الزِّيَادَةُ فَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْفَسَادِ، عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ الرِّبَا كَافٍ فِي الْفَسَادِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّرْجِيحِ مَعَ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِمَا يَصْلُحُ بِنَفْسِهِ عِلَّةً لِلْفَسَادِ وَيَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ بِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ احْتِمَالَ أَحَدِهِمَا فَقَطْ مُفْسِدٌ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَا، وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا اُشْتُرِيَ بِالْفِضَّةِ فِضَّةً مَعَ غَيْرِهَا أَوْ بِالذَّهَبِ ذَهَبًا مَعَ غَيْرِهِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ إنَاءَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ ثُمَّ افْتَرَقَا) وَقَدْ قَبَضَ بَعْضَ ثَمَنِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ وَصَحَّ فِيمَا قُبِضَ وَكَانَ الْإِنَاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ صَرْفٌ كُلُّهُ فَصَحَّ فِيمَا وُجِدَ شَرْطُهُ وَبَطَلَ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ (وَ) لَا يَشِيعُ (الْفَسَادُ) فِي الْكُلِّ لِأَنَّهُ (طَارِئٌ) بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الْكُلِّ بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ أَنَّ الْقَبْضَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ شَرْطُ الْبَقَاءِ عَلَى الصِّحَّةِ لَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ فِي الْكُلِّ (فَيَصِحُّ ثُمَّ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ فَلَا يَشِيعُ) وَلَا يَتَخَيَّرُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّ عَيْبَ الشَّرِكَةِ جَاءَ بِفِعْلِهِمَا وَهُوَ الِافْتِرَاقُ بِلَا قَبْضٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الْإِنَاءِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ (لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ) وَلَمْ يَحْدُثْ بِصَنْعَةٍ،

ص: 143

(وَمَنْ بَاعَ قِطْعَةَ نُقْرَةٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهَا أَخَذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهَا وَلَا خِيَارَ لَهُ) لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ.

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ جَازَ الْبَيْعُ وَجُعِلَ كُلُّ جِنْسٍ بِخِلَافِهِ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَاعَ كُرَّ شَعِيرٍ وَكُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرَّيْ شَعِيرٍ وَكُرَّيْ حِنْطَةٍ: وَلَهُمَا أَنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ تَغْيِيرَ تَصَرُّفِهِ لِأَنَّهُ قَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ، وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الِانْقِسَامُ عَلَى الشُّيُوعِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَالتَّغْيِيرُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَصْحِيحُ التَّصَرُّفِ، كَمَا إذَا اشْتَرَى قَلْبًا بِعَشَرَةٍ وَثَوْبًا بِعَشَرَةٍ بَاعَهُمَا مُرَابَحَةً لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُ الرِّبْحِ إلَى الثَّوْبِ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ الْبَائِعِ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا يَجُوزُ فِي الْمُشْتَرَى بِأَلْفٍ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِصَرْفِ الْأَلْفِ إلَيْهِ. وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ وَقَالَ بِعْتُك أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِصَرْفِهِ إلَى عَبْدِهِ. وَكَذَا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَثَوْبًا بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ وَافْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الدِّرْهَمَيْنِ وَلَا يُصْرَفُ الدِّرْهَمُ إلَى الثَّوْبِ لِمَا ذَكَرْنَا.

وَلَنَا أَنَّ الْمُقَابَلَةَ الْمُطْلَقَةَ تَحْتَمِلُ

بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ قِطْعَةَ نُقْرَةٍ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَهَا حَيْثُ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهَا (وَلَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ) فَلَمْ يَلْزَمْ الْعَيْبُ وَهُوَ الشَّرِكَةُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَقْطَعَ حِصَّتَهُ مِنْهَا.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِينَارَيْنِ وَدِرْهَمٍ جَازَ) الْبَيْعُ (وَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ) مِنْ الْجِنْسَيْنِ (بِخِلَافِهِ) فَيُعْتَبَرُ الدِّرْهَمَانِ بِالدِّينَارَيْنِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّينَارِ (وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَاعَ كُرَّ شَعِيرٍ وَكُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرَّيْ شَعِيرٍ وَكُرَّيْ حِنْطَةٍ) أَوْ بَاعَ السَّيْفَ الْمُحَلَّى بِفِضَّةٍ بِسَيْفٍ مُحَلًّى بِفِضَّةٍ وَلَا يَدْرِي مِقْدَارَ الْحِلْيَتَيْنِ، وَكَذَا دِرْهَمٌ وَدِينَارٌ بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ (لَهُمَا أَنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ تَغْيِيرُ تَصَرُّفِهِ) أَيْ تَصَرُّفِ الْعَاقِدِ (لِأَنَّهُ قَابَلَ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ، وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الِانْقِسَامُ عَلَى الشُّيُوعِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ جُزْءٍ عَلَى الشُّيُوعِ مُقَابِلًا لِكُلِّ جُزْءٍ عَلَى الشُّيُوعِ

ص: 144

مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ كَمَا فِي مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ، وَأَنَّهُ طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِتَصْحِيحِهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، وَفِيهِ تَغْيِيرُ وَصْفِهِ لَا أَصْلِهِ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُوجِبُهُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْكُلِّ بِمُقَابَلَةِ الْكُلِّ، وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا بَاعَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِخِلَافِ مَا عُدَّ مِنْ الْمَسَائِلِ.

أَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُرَابَحَةِ فَلِأَنَّهُ يَصِيرُ تَوْلِيَةً فِي الْقَلْبِ بِصَرْفِ الرِّبْحِ كُلِّهِ إلَى الثَّوْبِ. وَالطَّرِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ

فَيَنْدَرِجُ فِيهِ جِنْسُ ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَخِلَافُ جِنْسِهِ وَأَجْزَاءُ جِنْسِهِ أَكْثَرُ إذْ أَجْزَاءُ دِينَارَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ أَجْزَاءِ دِينَارٍ بِالضَّرُورَةِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ مُقَابَلٌ بِكُلِّ جُزْءٍ عَلَى الْعُمُومِ وَإِلَّا كَانَتْ الذَّرَّةُ مِنْ الدِّينَارِ مُقَابَلَةً بِجَمِيعِ الدِّينَارَيْنِ وَالدِّرْهَمِ فَلَمْ يَبْقَ لِلذَّرَّةِ مَا يُقَابِلُهَا أَوْ يُقَابِلُ الْكُلَّ بِنَفْسِهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَهُوَ اعْتِبَارٌ مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ مُسْتَنْكَرٌ وَهُوَ أَنْ يُقَايِلَ الذَّرَّةَ بِأَلْفِ ذَرَّةٍ ثُمَّ تَكُونُ هَذِهِ الْأَلْفُ بِنَفْسِهَا مُقَابِلَةً لِذَرَّةٍ أُخْرَى وَأُخْرَى وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَنْتَفِي الِانْقِسَامُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِانْقِسَامَ كَمَا ذَكَرْنَا مَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا وَجَارِيَةً بِثَوْبٍ وَفَرَسٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ فِي الثَّوْبِ وَالْفَرَسِ جَمِيعًا.

وَلَوْلَا أَنَّ الِانْقِسَامَ عَلَى الشُّيُوعِ لَمَا رَجَعَ فِي الثَّوْبِ وَالْفَرَسِ جَمِيعًا، وَتَغْيِيرُ تَصَرُّفِهِمَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَصْحِيحُ التَّصَرُّفِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، عَلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى قَلْبًا وَزْنُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ وَثَوْبًا بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُمَا مُرَابَحَةً صَفْقَةً وَاحِدَةً لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُ الرِّبْحِ إلَى الثَّوْبِ وَحْدَهُ لِيَخْلُوَ الْقَلْبُ عَنْ التَّفَاضُلِ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ الْبَائِعِ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا يَجُوزُ، وَيَفْسُدُ فِي الْمُشْتَرَى بِأَلْفٍ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِصَرْفِ الْأَلْفِ إلَيْهِ، وَكَذَا إذَا جُمِعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ وَقَالَ بِعْتُك أَحَدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِصَرْفِهِ إلَى عَبْدِهِ. وَكَذَا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَثَوْبًا بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ وَافْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ فَسَدَ فِي الدِّرْهَمَيْنِ وَلَا يُصْرَفُ إلَى الثَّوْبِ لِمَا ذَكَرْنَا فَهَذِهِ أَحْكَامٌ إجْمَاعِيَّةٌ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ تَغْيِيرَ التَّصَرُّفِ لَا يَجُوزُ،

ص: 145

صَرْفُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَلْفِ إلَى الْمُشْتَرِي. وَفِي الثَّالِثَةِ أُضِيفَ الْبَيْعُ إلَى الْمُنَكَّرِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ وَالْمُعَيَّنُ ضِدُّهُ.

وَإِنْ كَانَ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى تَصْحِيحِهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدِي فِي التَّعْلِيلِ أَنَّا تَعَبَّدْنَا بِالْمُمَاثَلَةِ تَحْقِيقًا وَهُنَا لَمْ تَتَحَقَّقْ فَيَفْسُدُ لِلْعَقْدِ.

قَالَ صَاحِبُ الْوَجِيزِ: وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: تَعَبَّدْنَا بِتَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا إذَا تَمَحَّضَتْ مُقَابَلَةُ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ أَمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

فَإِنْ قُلْت: الثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَإِنْ قُلْت الْأَوَّلُ فَمُسَلَّمٌ، وَلَيْسَ صُورَةَ الْخِلَافِيَّةِ، انْتَهَى بِبَعْضِ تَغْيِيرٍ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ مُقَابَلَةِ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ وَالْجُزْءِ الشَّائِعِ بِالشَّائِعِ لَا يَقْتَضِي الرِّبَا وَالْفَسَادَ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِيهِ لَوْ كَانَ التَّفَاضُلُ لَازِمًا حَقِيقَةً، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا إذَا قُوبِلَ مُعَيَّنٌ بِمُعَيَّنٍ وَتَفَاضَلَا، وَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ فِي التَّصْحِيحِ إلَى التَّوْزِيعِ وَصُرِفَ كُلٌّ إلَى خِلَافِ جِنْسِهِ عَيْنًا، لَكِنَّ الْأَصْحَابَ اقْتَحَمُوهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِيٍّ إجْمَاعِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ مَهْمَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِ الْمُسْلِمِ الْعَاقِلِ يَرْتَكِبُ وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ، وَلِهَذَا يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى الْمَجَازِ وَتُتْرَكُ حَقِيقَتُهُ إذَا كَانَ لَا يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِهِ، وَيُدْرَجُ فِي كَلَامِهِ زِيَادَةٌ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهَا إذَا كَانَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِذَلِكَ، كَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى أَنَّ الْمُقَابَلَةَ عَلَى وَجْهِ الشُّيُوعِ إنْ لَمْ تَقْتَضِ حَقِيقَةَ الرِّبَا اسْتَلْزَمَ شُبْهَةً، وَشُبْهَةُ الرِّبَا مُعْتَبَرَةٌ كَحَقِيقَةٍ؛ فَقَالُوا: الْعَقْدُ كَذَلِكَ إنَّمَا يَقْتَضِي مُطْلَقَ الْمُقَابَلَةِ لَا مُقَابَلَةَ الْكُلِّ بِالْكُلِّ وَلَا الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكِنْ مَعَ عَدَمِ الِاقْتِضَاءِ يَحْتَمِلُ مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ وَهُوَ الْجِنْسُ الْمُعَيَّنُ هُنَا بِجِنْسٍ مُعَيَّنٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْت هَذَيْنِ الدِّرْهَمَيْنِ وَالدِّينَارَ بِدِينَارَيْنِ وَدِرْهَمٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الدِّرْهَمَيْنِ بِالدِّينَارَيْنِ وَالدِّينَارَ بِالدِّرْهَمِ صَحَّ وَهُوَ طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِلتَّصْحِيحِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَفِيهِ تَغْيِيرُ وَصْفِ الْعَقْدِ كَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى أَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ مُقَابَلَةُ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ شَائِعًا لَا أَصْلُهُ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُوجِبُهُ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْكُلِّ بِمُقَابَلَةِ الْكُلِّ وَصَارَ كَمَا اتَّفَقْنَا عَلَيْهِ فِيمَا إذَا بَاعَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، بِخِلَافِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّ عَدَمَ الصَّرْفِ فِيهَا لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ وَالتَّعْيِينِ.

أَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُرَابَحَةِ فَعَدَمُ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ أَصْلُ الْعَقْدِ إذْ يَصِيرُ تَوْلِيَةً فِي الْقَلْبِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ وُجُوبِ حَمْلِ الْمُثَنَّى عَلَى الْوَاحِدِ فِي مَسْأَلَةِ الطَّوْقِ وَالْجَارِيَةِ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ بِعْتهمَا بِعِشْرِينَ مُرَابَحَةً فِيهِمَا بِعَشَرَةٍ أَنْ يُحْمَلَ فِيهِمَا عَلَى أَحَدِهِمَا: يَعْنِي الثَّوْبَ، كَمَا حُمِلَ قَوْلُهُ خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ مِنْ ثَمَنِهِمَا عَلَى ثَمَنِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الطَّوْقُ وَكَوْنُ الطَّوْقِ لَمْ يَصِرْ مُرَابَحَةً لَا يَضُرُّ إذْ يَصْدُقُ أَنَّ الْعَقْدَ مُرَابَحَةٌ بِثُبُوتِ الرِّبْحِ فِي بَعْضِ مَبِيعَاتِ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ عَبْدًا اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ مِمَّنْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ طَرِيقُ تَصْحِيحِهِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ أَنْ يَكُونَ بِصَرْفِ الْخَمْسِمِائَةِ إلَى الْعَبْدِ الْآخَرِ فَيَكُونُ بَائِعًا مَا اشْتَرَاهُ مِمَّنْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ كَمَا يَكُونُ بِذَلِكَ يَكُونُ بِصَرْفِ أَكْثَرَ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ بِدِرْهَمٍ أَوْ دِرْهَمَيْنِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إلَى الْعَبْدِ الْآخَرِ فَيَصِيرُ بَائِعًا

ص: 146

وَفِي الْأَخِيرَةِ الْعَقْدُ انْعَقَدَ صَحِيحًا وَالْفَسَادُ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَكَلَامُنَا فِي الِابْتِدَاءِ.

لِلْمُشْتَرِي مِمَّنْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَاهُ مِنْهُ. وَنُقِضَ بِأَنَّ طَرِيقَ الصِّحَّةِ أَيْضًا لَيْسَ مُتَعَيِّنًا فِيمَا قُلْتُمْ، بَلْ لَهُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُعْتَبَرَ مُقَابَلَةُ دِرْهَمٍ مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ بِمُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ وَدِينَارٌ مِنْ الدِّينَارَيْنِ بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ وَالدِّينَارُ الْآخَرُ بِمُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ التَّغْيِيرَ مَا أَمْكَنَ تَقْلِيلُهُ مُتَعَيَّنٌ، وَتَصْحِيحُ التَّصَرُّفِ مَعَ قِلَّةِ التَّغْيِيرِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَا قُلْنَا فَكَانَ مَا قُلْنَا مُتَعَيِّنًا، بِخِلَافِ مَا فُرِضَ فَإِنَّ فِيهِ ثَلَاثَ تَغْيِيرَاتٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي ادَّعَيْنَاهُ طَرِيقًا مُتَعَيِّنًا هُوَ صَرْفُ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ كَيْفَ كَانَ لَا بِخُصُوصِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ أَنْ يُصْرَفَ نِصْفُ دِرْهَمٍ إلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ فِي فُرُوضٍ كَثِيرَةٍ لَا يُخْرَجُ عَنْ صَرْفِ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ، وَإِلَى هَذَا رَجَعَ قَوْلُ صَاحِبِ الْكَافِي فِي الْجَوَابِ: التَّعَدُّدُ إنَّمَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ الْوُجُوهِ تَرْجِيحٌ بَلْ تَسَاوَتْ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ فَتَتَمَانَعُ الْوُجُوهُ فَيَمْتَنِعُ، أَمَّا إذَا كَانَ فَلَا، وَفِيمَا اعْتَبَرْنَاهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى اسْمِ الدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمَيْنِ فَلَا يُغَيَّرُ عَنْهُ، وَنَحْنُ أَسْلَفْنَا لَنَا فِي أَصْلِ هَذَا الْأَصْلِ نَظَرًا اسْتَنَدَ إلَى جَوَازِ ثُبُوتِ الشَّيْءِ بِعِلَلٍ مُسْتَقِلَّةٍ اجْتَمَعَتْ دَفْعَةً.

وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ وَهِيَ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ وَقَالَ بِعْتُك أَحَدَهُمَا فَلِأَنَّ الْبَيْعَ أُضِيفَ إلَى الْمُنَكَّرِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ لِجَهَالَتِهِ، وَلِأَنَّ الْمُعَيَّنَ ضِدُّهُ فَلَا يُحْمَلُ الشَّيْءُ عَلَى ضِدِّهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ مِنْ مَاصَدَقَاتِ النَّكِرَةِ، فَإِنَّ زَيْدًا يَصْدُقُ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَلَا شَكَّ أَنْ يَحْتَمِلَهُ فَيَجِبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ عَبْدِي أَوْ حِمَارِي حُرٌّ: إنَّهُ يُعْتَقُ الْعَبْدُ وَيَجْعَلُ اسْتِعَارَةُ الْمُنَكَّرِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَكَذَا مَا قِيلَ: إنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ يَجِبُ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ وَهُوَ لَمْ يُضَفْ إلَى الْمُعَيَّنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَوْرَدَ عَلَى دَفْعِ النُّقُوضِ الْمَذْكُورَةِ إنْ لُحِظَ لَهُ جَوَابٌ فَذَاكَ وَإِلَّا فَلَا يَضُرُّك النَّقْضُ فِي إثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ، إذْ غَايَتُهُ أَنَّهُ خَطَأٌ فِي مَحَلٍّ آخَرَ إذَا اعْتَرَفَ بِخَطَئِهِ فِي مَحَلِّ النَّقْضِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ خَطَأً فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.

وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ مَا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَثَوْبًا بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ وَافْتَرَقَا بِلَا قَبْضٍ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ صَحِيحًا، وَإِنَّمَا طَرَأَ الْفَسَادُ بِالِافْتِرَاقِ وَالصَّرْفِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ وَهُوَ قَدْ انْعَقَدَ بِلَا فَسَادٍ وَكَلَامُنَا لَيْسَ فِي الْفَسَادِ الطَّارِئِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَلْيُصْرَفْ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ جِنْسِهِ لِيَبْقَى صَحِيحًا كَمَا يُصْرَفُ لِيَنْعَقِدَ صَحِيحًا وَالْمُقْتَضَى وَاحِدٌ فِيهِمَا وَهُوَ الِاحْتِيَالُ لِلصِّحَّةِ. قُلْنَا: الْفَسَادُ هُنَاكَ لَيْسَ طُرُّوهُ مُتَحَقِّقًا وَلَا مَظْنُونًا لِيَجِبَ اعْتِبَارُ الصَّرْفِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ بَلْ يُتَوَهَّمُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمَا يَتَقَايَضَانِ بَعْدَمَا عَقَدَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ.

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْمُسْتَشْهَدُ بِهَا أَوَّلًا وَهِيَ الرُّجُوعُ فِي ثَمَنِ الثَّوْبِ وَالْفَرَسِ فَإِنَّمَا تَشْهَدُ عَلَى أَنَّ الْمُقَابَلَةَ لِلْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ عَلَى الشُّيُوعِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إذَا كَانَ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَفْرُوضَةِ؛ أَلَا تَرَى إلَى مَا فِي الْإِيضَاحِ قَالَ: الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى إبْدَالٍ وَجَبَ قِسْمَةُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.

وَتَظْهَرُ الْفَائِدَةُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَوُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ، فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مِمَّا لَا رِبَا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَفَاوَتُ فَالْقِسْمَةُ عَلَى الْأَجْزَاءِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَفَاوَتُ فَالْقِسْمَةُ عَلَى الْقِيمَةِ، وَأَمَّا فِيمَا فِيهِ الرِّبَا فَإِنَّمَا تَجِبُ الْقِسْمَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ الْعَقْدُ.

مِثَالُهُ: بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ يَصِحُّ الْعَقْدُ، فَإِنَّ الْخَمْسَةَ بِالْخَمْسَةِ وَالْخَمْسَةَ الْأُخْرَى بِإِزَاءِ الدِّينَارِ، وَكَذَا لَوْ قَابَلَ جِنْسَيْنِ بِجِنْسَيْنِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ. انْتَهَى.

وَنَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ

ص: 147

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ جَازَ الْبَيْعُ وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا وَالدِّينَارُ بِدِرْهَمٍ) لِأَنَّ شَرْطَ الْبَيْعِ فِي الدَّرَاهِمِ التَّمَاثُلُ عَلَى مَا رُوِّينَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ ذَلِكَ فَبَقِيَ الدِّرْهَمُ بِالدِّينَارِ وَهُمَا جِنْسَانِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِيهِمَا.

(وَلَوْ تَبَايَعَا فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ وَمَعَ أَقَلِّهِمَا شَيْءٌ آخَرُ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ بَاقِي الْفِضَّةِ جَازَ الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهِيَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ فَمَعَ الْكَرَاهَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ كَالتُّرَابِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ) لِتَحَقُّقِ الرِّبَا إذْ الزِّيَادَةُ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فَيَكُونُ رِبًا.

الْمَذْكُورَةِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَلِي هَذِهِ وَهِيَ (قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ جَازَ الْبَيْعُ) وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا وَالدِّينَارُ بِدِرْهَمِ لِأَنَّ شَرْطَ الْبَيْعِ فِي الدَّرَاهِمِ التَّمَاثُلُ وَهُوَ بِذَلِكَ فَيَبْقَى الدِّرْهَمُ بِالدِّينَارِ وَهُمَا جِنْسَانِ لَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا.

ثُمَّ فَرَّعَ الْمُصَنِّفُ فَرْعًا بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْبِيَاعَاتِ وَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً فِي الْحُكْمِ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ فَقَالَ (وَلَوْ تَبَايَعَا فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ) يَعْنِي وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ مِنْ الْآخَرِ إلَّا أَنَّ مَعَ الْأَقَلِّ شَيْئًا آخَرَ كَفُلُوسٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ قَدْرَ الزِّيَادَةِ فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ أَوْ أَقَلَّ بِقَدْرٍ يُتَغَابَنُ فِيهِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَأَنْ يَضَعَ مَعَهُ كَفًّا مِنْ زَبِيبٍ أَوْ فَلْسَيْنِ.

وَقِيلَ لِمُحَمَّدٍ كَيْفَ تَجِدُهُ فِي قَلْبِك؟ قَالَ: مِثْلَ الْجَبَلِ.

وَلَمْ تُرْوَ الْكَرَاهَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ صَرَّحَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَرِهَ مُحَمَّدٌ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَلِفَ النَّاسُ التَّفَاضُلَ وَاسْتَعْمَلُوهُ فِيمَا لَا يَجُوزُ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ أَيْضًا. وَقِيلَ: إنَّمَا كَرِهَهُ لِأَنَّهُمَا بَاشَرَا الْحِيلَةَ لِسُقُوطِ الرِّبَا كَبَيْعِ الْعِينَةِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ لِهَذَا. وَأُورِدَ لَوْ كَانَ مَكْرُوهًا كَانَ الْبَيْعُ فِي مَسْأَلَةِ الدِّرْهَمَيْنِ وَالدِّينَارِ بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخِلَافِيَّةُ مَكْرُوهًا وَلَمْ يَذْكُرْهُ.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْكَرَاهَةَ هُنَاكَ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الزَّائِدُ دِينَارًا بِمُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ وَقِيمَةُ الدِّينَارِ تَبْلُغُ الدِّرْهَمَ وَتَزِيدُ وَحِينَئِذٍ لَا كَرَاهَةَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَقْدَ وَاحِدٌ، وَكَمَا أَنَّ قِيمَةَ الدِّينَارِ تَبْلُغُ وَتَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ الدِّرْهَمِ فَالدِّرْهَمُ لَا تَبْلُغُ قِيمَةُ قِيمَتِهِ الدِّينَارَ وَلَا تَنْقُصُ بِقَدْرٍ يُتَغَابَنُ فِيهِ، فَالْعَقْدُ مَكْرُوهٌ بِالنَّظَرِ إلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ.

وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي جِهَةِ الْكَرَاهَةِ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ هُنَاكَ عَلَى الْكَرَاهَةِ فِيهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَصْلًا كُلِّيًّا يُفِيدُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا عَلَى الْكَرَاهَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ، وَأَمَّا إذَا ضَمَّ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَكَفٍّ مِنْ تُرَابٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَابِلْ الزِّيَادَةَ مَالٌ.

ص: 148

قَالَ (وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَشَرَةُ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدَفَعَ الدِّينَارَ وَتَقَاصَّا الْعَشَرَةَ بِالْعَشَرَةِ فَهُوَ جَائِزٌ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا بَاعَ بِعَشَرَةٍ مُطْلَقَةٍ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ يَجِبُ بِهَذَا الْعَقْدِ ثَمَنٌ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُهُ بِالْقَبْضِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِنَفْسِ الْمَبِيعِ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ، فَإِذَا تَقَاصَّا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ فَسْخَ

فَرْعٌ]

اشْتَرَى تُرَابَ الْفِضَّةِ بِفِضَّةٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي التُّرَابِ شَيْءٌ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ ظَهَرَ فَهُوَ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِتُرَابِ فِضَّةٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبَدَلَيْنِ هُمَا الْفِضَّةُ لَا التُّرَابُ. وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِتُرَابِ ذَهَبٍ أَوْ بِذَهَبٍ جَازَ لِعَدَمِ لُزُومِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، فَلَوْ ظَهَرَ أَنْ لَا شَيْءَ فِي التُّرَابِ لَا يَجُوزُ وَكُلُّ مَا جَازَ فَمُشْتَرِي التُّرَابِ بِالْخِيَارِ إذَا رَأَى؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ عَشَرَةٌ فَبَاعَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَشَرَةُ دِينَارًا بِعَشَرَةٍ وَقَبَضَ الدِّينَارَ) فَإِنْ كَانَ أَضَافَ إلَى الْعَشَرَةِ الدَّيْنَ جَازَ اتِّفَاقًا، وَيَجِبُ بِهَذَا الْعَقْدِ عَشَرَةٌ ثُمَّ لَا يَجِبُ

ص: 149

الْأَوَّلِ وَالْإِضَافَةَ إلَى الدَّيْنِ، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ، وَفِي الْإِضَافَةِ إلَى الدَّيْنِ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَالْفَسْخُ قَدْ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ كَمَا إذَا تَبَايَعَا بِأَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَزُفَرُ يُخَالِفُنَا فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالِاقْتِضَاءِ،

تَعَيُّنُهُ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِدَفْعِ الرِّبَا بِالتَّسَاوِي، وَقَدْ انْدَفَعَ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِقَبْضِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَهُوَ الدِّينَارُ وَالْقَبْضُ الَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْهُ التَّعْيِينُ فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ قَدْ تَحَقَّقَ سَابِقًا، فَعِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَى ذَلِكَ الْمَقْبُوضِ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ وَهُوَ كَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْبُوضًا قَبْضًا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْيِينُ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ حِينَئِذٍ عَشَرَةٌ مُطْلَقَةٌ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْعَشَرَةُ الدَّيْنَ، وَلِذَا قَالَ زُفَرُ رحمه الله فِيمَا إذَا بَاعَهُ الْمَدْيُونُ بِالْعَشَرَةِ دِينَارًا بِعَشَرَةٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ ثُمَّ تَقَاصَّا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مُوجِبَ ذَلِكَ الْعَقْدِ عَشَرَةٌ مُطْلَقَةٌ فَلَا تَصِيرُ تِلْكَ الْعَشَرَةَ الْمُعَيَّنَةَ، وَنَحْنُ نَقُولُ: مُوجِبُ الْعَقْدِ عَشَرَةٌ مُطْلَقَةٌ تَصِيرُ مُتَعَيِّنَةً بِالْقَبْضِ وَبِالْإِضَافَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ إلَى الْعَشَرَةِ الدَّيْنِ صَارَتْ كَذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ بِقَبْضٍ سَابِقٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يُبَالِي بِهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّعْيِينِ بِالْقَبْضِ بِالْمُسَاوَاةِ.

وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ لَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ فَسْخِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْعَشَرَةِ الدَّيْنِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَإِنَّ الْفَسْخَ لَازِمٌ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَصْدُقْ عَلَى الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْعَشَرَةِ مُطْلَقًا مَعَ هَذِهِ الْعَشَرَةِ لِلصِّدْقِ، لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ

ص: 150

وَهَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ سَابِقًا. فَإِنْ كَانَ لَاحِقًا فَكَذَلِكَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لِتَضَمُّنِهِ انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ وَالْإِضَافَةَ إلَى دَيْنٍ قَائِمٍ وَقْتَ تَحْوِيلِ الْعَقْدِ فَكَفَى ذَلِكَ لِلْجَوَازِ.

قَالَ (وَيَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ صَحِيحٍ وَدِرْهَمَيْ غَلَّةٍ بِدِرْهَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ وَدِرْهَمِ غَلَّةٍ) وَالْغَلَّةُ مَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ وَيَأْخُذُهُ التُّجَّارُ. وَوَجْهُهُ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْوَزْنِ وَمَا عُرِفَ مِنْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ.

قَالَ (وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الدَّرَاهِمِ الْفِضَّةَ فَهِيَ فِضَّةٌ، وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الدَّنَانِيرِ الذَّهَبَ

لَيْسَ قَيْدًا فِي الْعَقْدِ بِهَا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهَا أَصْلًا إذْ لَا وُجُودَ لِلْمُطْلَقِ بِقَيْدِ الْإِطْلَاقِ وَعَلَى ذَلِكَ مَشَوْا. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُمَا لَمَّا غَيَّرَا مُوجِبَ الْعَقْدِ فَقَدْ فَسَخَاهُ إلَى عَقْدٍ آخَرَ اقْتَضَاهُ، وَلَمَّا لَمْ يَقُلْ زُفَرُ بِالِاقْتِضَاءِ وَلِذَا لَمْ يَقُلْ فِي أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ: إنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْأَمْرِ إذَا أَعْتَقَهُ الْمَالِكُ لَمْ يَنْفَسِخْ فَلَا يَتَحَوَّلُ حُكْمُهُ (وَهَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ سَابِقًا) عَلَى بَيْعِ الدِّينَارِ (فَإِنْ كَانَ لَاحِقًا) قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا بِأَنْ عَقَدَا الدِّينَارَ بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَ مُشْتَرِي الدِّينَارِ مِنْ بَائِعِهِ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ ثُمَّ قَاصَصَهُ بِثَمَنِ الدِّينَارِ عَنْهَا فَفِي رِوَايَةٍ لَا يَصِحُّ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَعَلَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ حُصُولِ الِانْفِسَاخِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الدَّيْنِ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ.

وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إذَا اسْتَقْرَضَ بَائِعُ الدِّينَارِ عَشَرَةً مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ غَصَبَ مِنْهُ فَقَدْ صَارَ قِصَاصًا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّرَاضِي لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ الْقَبْضُ.

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ دِرْهَمِ غَلَّةٍ بِدِرْهَمَيْ غَلَّةٍ وَدِرْهَمٍ صَحِيحٍ، وَالْغَلَّةُ مَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ) لَا لِلزِّيَافَةِ، بَلْ لِأَنَّهَا دَرَاهِمُ مُقَطَّعَةٌ مُكَسَّرَةٌ يَكُونُ فِي الْقِطْعَةِ رُبُعٌ وَثُمُنٌ وَأَقَلُّ وَبَيْتُ الْمَالِ لَا يَأْخُذُ إلَّا الْغَالِيَ، وَإِنَّمَا جَازَ لِلْمُسَاوَاةِ فِي الْوَزْنِ وَالْجَوْدَةِ فَالصِّحَّةُ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ سَاقِطَةٌ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ إلَخْ) الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا

ص: 151

فَهِيَ ذَهَبٌ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِمَا مِنْ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِيَادِ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ الْخَالِصَةِ بِهَا وَلَا بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إلَّا مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ بِهَا إلَّا وَزْنًا) لِأَنَّ النُّقُودَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ عَادَةً لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ إلَّا مَعَ الْغِشِّ، وَقَدْ يَكُونُ الْغِشُّ خِلْقِيًّا كَمَا فِي الرَّدِيءِ مِنْهُ فَيُلْحَقُ الْقَلِيلُ بِالرَّدَاءَةِ، وَالْجَيِّدُ وَالرَّدِيءُ سَوَاءٌ (وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمَا الْغِشَّ فَلَيْسَا فِي حُكْمِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ) اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا فِضَّةً خَالِصَةً فَهُوَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ.

(وَإِنْ بِيعَتْ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا جَازَ صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ) فَهِيَ فِي حُكْمِ شَيْئَيْنِ فِضَّةٍ وَصُفْرٍ وَلَكِنَّهُ صُرِفَ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لِوُجُودِ الْفِضَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَإِذَا شُرِطَ الْقَبْضُ فِي الْفِضَّةِ يُشْتَرَطُ فِي الصُّفْرِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْهُ إلَّا بِضَرَرٍ. قَالَ رضي الله عنه:

الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَالْغِشُّ أَقَلُّ، أَوْ الْغَالِبُ الْغِشُّ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ أَقَلُّ أَوْ مُتَسَاوِيَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ الذَّهَبَ فِي الدَّنَانِيرِ وَالْفِضَّةَ فِي الدَّرَاهِمِ فَهُمَا كَالذَّهَبِ الْخَالِصِ وَالْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ لِأَنَّهَا عَلَى مَا قِيلَ قَلَّمَا تَنْطَبِعُ إلَّا بِقَلِيلِ غِشٍّ (وَقَدْ يَكُونُ الْغِشُّ خُلُقِيًّا كَمَا فِي الرَّدِيءِ مِنْهُ) الَّذِي يُقَالُ لَهُ نَاقِصَ الْعِيَارِ فِي عُرْفِنَا وَالرَّدَاءَةُ مُهْدَرَةٌ شَرْعًا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجَيِّدِ. فَكَذَا الْغِشُّ الْمَغْلُوبُ إلْحَاقًا لَهُ بِهَا، وَإِذَا كَانَ كَالْخَالِصَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا بِالْخَالِصِ مَعَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إلَّا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْوَزْنِ، وَكَذَا بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا بِهَا إلَّا وَزْنًا كَاسْتِقْرَاضِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْخَالِصَيْنِ (وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهِمَا الْغِشَّ فَلَيْسَ فِي حُكْمِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ) الْخَالِصَةِ (اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا فِضَّةً خَالِصَةً فَهُوَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ) وَهِيَ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ مِثْلَ الْفِضَّةِ الَّتِي فِي الدَّرَاهِمِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ لَا يَدْرِي لَا يَصِحُّ فِي الْفِضَّةِ وَلَا فِي النُّحَاسِ أَيْضًا إذَا كَانَ لَا تَتَخَلَّصُ الْفِضَّةُ إلَّا بِضَرَرٍ، وَإِنْ كَانَتْ الْخَالِصَةُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الدَّرَاهِمِ جَازَ لِيَكُونَ مَا فِي الدَّرَاهِمِ مِنْ الْفِضَّةِ بِمِثْلِهَا مِنْ الْخَالِصَةِ وَالزَّائِدُ مِنْ الْخَالِصَةِ بِمُقَابَلَةِ الْغِشِّ.

(وَكَذَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا صَرْفًا لِلْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ) أَيْ يُصْرَفُ كُلٌّ مِنْ الدَّرَاهِمِ إلَى غِشِّ الدَّرَاهِمِ الْأُخْرَى (لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ شَيْئَيْنِ فِضَّةٍ وَ) غِشِّ (صُفْرٍ) أَوْ غَيْرِهِ (وَلَكِنَّهُ) مَعَ هَذَا (صُرِفَ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْقَبْضُ) وَقَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَتَجَوَّزَ الْمُصَنِّفُ (بِالْمَجْلِسِ) عَنْهُ (لِوُجُودِ الْفِضَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَإِذَا شُرِطَ الْقَبْضُ فِي الْفِضَّةِ يُشْتَرَطُ فِي الصُّفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْهُ إلَّا بِضَرَرٍ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي كُلِّ دَرَاهِمَ

ص: 152

وَمَشَايِخُنَا رحمهم الله لَمْ يُفْتُوا بِجَوَازِ ذَلِكَ فِي الْعَدَالَى وَالْغَطَارِفَةِ لِأَنَّهَا أَعَزُّ الْأَمْوَالِ فِي دِيَارِنَا، فَلَوْ أُبِيحَ التَّفَاضُلُ فِيهِ يَنْفَتِحُ بَابُ الرِّبَا، ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِالْوَزْنِ فَالتَّبَايُعُ وَالِاسْتِقْرَاضُ فِيهَا بِالْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِالْعَدِّ فَبِالْعَدِّ، وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِهِمَا فَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمُعْتَادُ فِيهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا نَصٌّ، ثُمَّ هِيَ مَا دَامَتْ تَرُوجُ تَكُونُ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تَرُوجُ فَهِيَ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَإِذَا كَانَتْ يَتَقَبَّلُهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَهِيَ كَالزُّيُوفِ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ

غَالِبَةِ الْغِشِّ، بَلْ إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمَغْلُوبَةُ بِحَيْثُ تَتَخَلَّصُ مِنْ النُّحَاسِ إذَا أُرِيدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تَتَخَلَّصُ لِقِلَّتِهَا بَلْ تَحْتَرِقُ لَا عِبْرَةَ بِهَا أَصْلًا بَلْ تَكُونُ كَالْمُمَوَّهَةِ لَا تُعْتَبَرُ وَلَا يُرَاعَى فِيهَا شَرَائِطُ الصَّرْفِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَاللَّوْنِ وَقَدْ كَانَ فِي أَوَائِلِ قَرْنِ سَبْعِمِائَةٍ فِي فِضَّةِ دِمَشْقَ قَرِيبٌ مَعَ ذَلِكَ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَ) مَعَ هَذَا مَشَايِخُنَا يَعْنِي مَشَايِخَ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ مِنْ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ (لَمْ يُفْتُوا بِجَوَازِ ذَلِكَ) أَيْ بَيْعِهَا بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا (فِي الْعَدَالَى وَالْغَطَارِفَةِ) مَعَ أَنَّ الْغِشَّ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ الْفِضَّةِ (لِأَنَّهَا أَعَزُّ الْأَمْوَالِ فِي دِيَارِنَا، فَلَوْ أُبِيحَ التَّفَاضُلُ فِيهَا يَنْفَتِحُ بَابُ الرِّبَا) الصَّرِيحِ، فَإِنَّ النَّاسَ حِينَئِذٍ يَعْتَادُونَ التَّفَاضُلَ فِي الْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ فَيَدْرُجُونَ إلَى ذَلِكَ فِي النُّقُودِ الْخَالِصَةِ فَمُنِعَ ذَلِكَ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ.

وَالْغَطَارِفَةُ دَرَاهِمُ مَنْسُوبَةٌ إلَى غِطْرِيفِ بْنِ عَطَاءٍ الْكِنْدِيِّ أَمِيرِ خُرَاسَانَ أَيَّامَ الرَّشِيدِ، وَقِيلَ: هُوَ خَالُ الرَّشِيدِ (ثُمَّ إنْ كَانَتْ) هَذِهِ الدَّرَاهِمُ الَّتِي غَلَبَ غِشُّهَا (تَرُوجُ بِالْوَزْنِ فَالْبَيْعُ بِهَا وَالِاسْتِقْرَاضُ بِالْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَتْ إنَّمَا تَرُوجُ بِالْعَدِّ فَالْبَيْعُ بِهَا وَالِاسْتِقْرَاضُ لَهَا بِالْعَدِّ) لَيْسَ غَيْرُ (وَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ بِهِمَا فَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمُعْتَادُ فِيهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ نَصٌّ) عَلَى مَا عُرِفَ فِي الرِّبَا (وَمَا دَامَتْ تَرُوجُ فَهِيَ أَثْمَانٌ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ) وَلَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَائِجَةٍ فَهِيَ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَهَذَا إذَا كَانَا يَعْلَمَانِ بِحَالِهَا وَيَعْلَمُ كُلٌّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنَّ الْآخَرَ يَعْلَمُ، فَإِنْ كَانَا لَا يَعْلَمَانِ أَوْ لَا يَعْلَمُ أَحَدُهُمَا أَوْ يَعْلَمَانِ وَلَا يَعْلَمُ كُلٌّ أَنَّ الْآخَرَ يَعْلَمُ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَتَعَلَّقُ بِالدَّرَاهِمِ الرَّائِجَةِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لَا بِالْمُشَارِ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي لَا تَرُوجُ، وَإِنْ كَانَ يَقْبَلُهَا الْبَعْضُ وَيَرُدُّهَا الْبَعْضُ فَهِيَ فِي حُكْمِ الزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ، فَيَتَعَلَّقُ الْبَيْعُ بِجِنْسِهَا لَا بِعَيْنِهَا كَمَا هُوَ فِي الرَّائِجَةِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْلَمَ الْبَائِعُ خَاصَّةً ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا لِأَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ وَأَدْرَجَ نَفْسَهُ فِي الْبَعْضِ

ص: 153

بِعَيْنِهَا بَلْ بِجِنْسِهَا زُيُوفًا إنْ كَانَ الْبَائِعُ يَعْلَمُ بِحَالِهَا لِتَحَقُّقِ الرِّضَا مِنْهُ، وَبِجِنْسِهَا مِنْ الْجِيَادِ إنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لِعَدَمِ الرِّضَا مِنْهُ.

(وَإِذَا اشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً فَكَسَدَتْ وَتَرَكَ النَّاسُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا بَطَلَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: عَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْبَيْعِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: قِيمَتُهَا آخِرُ مَا تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا) لَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ صَحَّ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِالْكَسَادِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ، كَمَا إذَا اشْتَرَى بِالرُّطَبِ فَانْقَطَعَ أَوَانُهُ.

وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله وَقْتَ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَوْمَ الِانْقِطَاعِ لِأَنَّهُ أَوَانُ الِانْتِقَالِ إلَى الْقِيمَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الثَّمَنَ يَهْلَكُ

الَّذِي يَقْبَلُونَهَا بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ تَعَلُّقَ الْعَقْدِ عَلَى الرَّوَاجِ، فَإِنْ اسْتَوَتْ فِي الرَّوَاجِ جَرَى التَّفْصِيلُ الَّذِي أَسْلَفْنَاهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبَيْعِ، وَتَعْيِينُ الْمُصَنِّفِ الْجِيَادَ تَسَاهُلٌ.

(وَ) مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي غَلَبَ غِشُّهَا أَنَّهُ (لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِهَا فَكَسَدَتْ) أَيْ قَبْلَ قَبْضِهَا (بَطَلَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا مَقْبُوضًا رَدَّهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا أَوْ هَالِكًا رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا وَمِثْلُهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا فَلَا حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ أَصْلًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَا يَبْطُلُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا (فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْبَيْعِ) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى (لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِهِ) أَيْ بِالْبَيْعِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي الْمَغْصُوبِ إذَا هَلَكَ أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ آخِرُ مَا تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا) وَهُوَ يَوْمُ الِانْقِطَاعِ (لِأَنَّهُ أَوَانُ الِانْتِقَالِ إلَى الْقِيمَةِ) وَفِي الْمُحِيطِ وَالتَّتِمَّةِ وَالْحَقَائِقِ بِهِ يُفْتَى رِفْقًا بِالنَّاسِ (لَهُمَا أَنَّ الْبَيْعَ قَدْ صَحَّ) بِالْإِجْمَاعِ (إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ) أَيْ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ لِانْعِدَامِ الثَّمَنِيَّةِ (بِالْكَسَادِ) وَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ (وَأَنَّهُ) أَيْ الْكَسَادَ (لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ كَمَا إذَا اشْتَرَى بِالرُّطَبِ) شَيْئًا (فَانْقَطَعَ) فِي (أَوَانِهِ) بِأَنْ لَا يُوجَدَ فِي الْأَسْوَاقِ لَا يَبْطُلُ اتِّفَاقًا وَتَجِبُ الْقِيمَةُ أَوْ يَنْتَظِرَ زَمَانَ الرُّطَبِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَكَذَا هُنَا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الثَّمَنَ يَهْلَكُ بِالْكَسَادِ) لِأَنَّ مَالِيَّةَ

ص: 154

بِالْكَسَادِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ بِالِاصْطِلَاحِ وَمَا بَقِيَ فَيَبْقَى بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ فَيَبْطُلُ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ يَجِبُ رَدُّ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ هَالِكًا كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.

الْفُلُوسِ وَالدَّرَاهِمِ الْغَالِبَةِ الْغِشِّ (بِالِاصْطِلَاحِ) لَا بِالْخِلْقَةِ (وَمَا بَقِيَ) الِاصْطِلَاحُ بَلْ انْتَفَى فَانْتَفَتْ الثَّمَنِيَّةُ (فَبَقِيَ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ) بِخِلَافِ النَّقْدَيْنِ فَإِنَّ مَالِيَّتَهُمَا بِالْخِلْقَةِ لَا بِالِاصْطِلَاحِ، كَمَالِيَّةِ الْعَبْدِ لَمَّا كَانَتْ بِالْحَيَاةِ ذَهَبَتْ بِذَهَابِ الْحَيَاةِ. لَا يُقَالُ: فَلْتَصِرْ مَبِيعَةً إذَا انْتَفَتْ ثَمَنِيَّتُهَا. لِأَنَّا نَقُولُ: تَصِيرُ مَبِيعَةً فِي الذِّمَّةِ وَالْمَبِيعُ فِي الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي السَّلَمِ.

وَاعْتُرِضَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي بِأَنَّ انْتِفَاءَ ثَمَنِيَّتِهَا يُوجِبُ أَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعَ مُقَاصَّةٍ فَلَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ دَيْنًا وَلَا يَبْطُلُ بِعَدَمِ الْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ ثُبُوتِ التَّعْيِينِ فِي الْبَدَلَيْنِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ فَلَا يَلْزَمُ الِافْتِرَاقُ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، إلَّا أَنَّ الْمُجِيبَ نَظَرَ إلَى أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ بَاعَ بِدَرَاهِمَ كَذَا وَكَذَا غَلَبَ غِشُّهَا، وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعَ مُقَايَضَةٍ إذَا كَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَيْسَ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ أَحْضَرَ الدَّرَاهِمَ وَأَشَارَ إلَيْهَا بِعَيْنِهَا بَلْ بَاعَ بِهَا عَلَى نَمَطِ مَا يُبَاعُ بِالْأَثْمَانِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ حَالَ رَوَاجِهَا أَثْمَانًا وَإِنَّمَا كَسَدَتْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلَمْ يَنْتَبِهْ هَذَا الْمُعْتَرِضُ لِصُورَةِ الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ لُزُومُ كَوْنِهِ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ، ثُمَّ شُرِطَ فِي الْعُيُونِ أَنْ يَكُونَ الْكَسَادُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، فَلَوْ كَسَدَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ دُونَ الْبَعْضِ لَا يَبْطُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهَا لَمْ تَهْلَكْ لِيَصِيرَ الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ وَلَكِنْ تَعَيَّبَتْ فَيَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ مِثْلَ النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَتَهُ دَنَانِيرَ.

قَالُوا: وَمَا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَفِيَ الْبَيْعُ بِالْكَسَادِ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْبَيْعُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي بَيْعِ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ. عِنْدَهُمَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا لِاصْطِلَاحِ بَعْضِ النَّاسِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا لِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ، فَالْكَسَادُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَيْضًا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْكَسَادِ مِثْلُهُ فِي الِانْقِطَاعِ، وَالْفُلُوسُ النَّافِقَةُ إذَا كَسَدَتْ كَذَلِكَ هَذَا إذَا كَسَدَتْ أَوْ انْقَطَعَتْ، فَلَوْ تَكْسُدُ وَلَمْ تَنْقَطِعْ وَلَكِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْبَيْعُ عَلَى حَالِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يَتَخَيَّرُ الْبَائِعُ، وَعَكْسُهُ لَوْ غَلَتْ قِيمَتُهَا وَازْدَادَتْ فَالْبَيْعُ عَلَى حَالِهِ وَلَا

ص: 155

قَالَ (وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ) لِأَنَّهَا مَالٌ مَعْلُومٌ، فَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً جَازَ الْبَيْعُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ بِالِاصْطِلَاحِ، وَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ بِهَا حَتَّى يُعَيِّنَهَا لِأَنَّهَا سِلَعٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهَا (وَإِذَا بَاعَ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ ثُمَّ كَسَدَتْ بَطَلَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله خِلَافًا لَهُمَا) وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ.

يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي وَيُطَالَبُ بِالنَّقْدِ بِذَلِكَ الْعِيَارِ الَّذِي كَانَ وَقْتَ الْبَيْعِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ الْبَيْعِ بِالرُّطَبِ أَنَّ الرُّطَبَ مَرْجُوُّ الْوُصُولِ فِي الْعَامِ الثَّانِي غَالِبًا فَكَانَ لَهُ مَظِنَّةٌ يَغْلِبُ ظَنُّ وُجُودِهِ عِنْدَهَا، بِخِلَافِ الْكَسَادِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَظِنَّةٌ مُحَقَّقَةُ الْوُجُودِ فِي زَمَنٍ خَاصٍّ يُرْجَى فِيهَا بَلْ الظَّاهِرُ عَدَمُ الْعَوْدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي غَالِبِيَّةِ الْغِشِّ الْكَسَادُ وَعَدَمُ الثَّمَنِيَّةِ، وَالشَّيْءُ إذَا رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ قَلَّمَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنْ الْمُحِيطِ: دَلَّالٌ بَاعَ مَتَاعَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ وَاسْتَوْفَاهَا فَكَسَدَتْ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى صَاحِبِ الْمَتَاعِ لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ لَهُ.

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ) لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَالِ (فَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً جَازَ الْبَيْعُ وَإِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ) بَلْ لَوْ عُيِّنَتْ لَا تَتَعَيَّنُ وَلِلْعَاقِدِ أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَ مَا عَيَّنَ (لِأَنَّهَا) حِينَئِذٍ (أَثْمَانٌ) كَالدَّرَاهِمِ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَجُوزُ، وَلَوْ اُسْتُبْدِلَ بِهَا جَازَ، وَلَوْ بَاعَ فَلْسًا بِفَلْسَيْنِ يَجُوزُ عَلَى مَا سَلَفَ فِي بَابِ الرِّبَا؛ وَلَوْ بَاعَ فَلْسًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ وَضْعًا لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى سُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ فَيَكُونُ رِبًا، وَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً فَهِيَ مَبِيعَةٌ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مَا لَمْ تَتَعَيَّنْ (وَإِذَا بَاعَ الْفُلُوسَ النَّافِقَةَ ثُمَّ كَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ) أَيْ فِي الدَّرَاهِمِ الْغَالِبَةِ الْغِشِّ يَبْطُلُ الْبَيْعُ عِنْدَهُ لَا عِنْدَهُمَا، ثُمَّ تَجِبُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ، هَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْخِلَافَ.

وَاَلَّذِي فِي الْأَصْلِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالْأَسْرَارِ الْبُطْلَانُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ سِوَى خِلَافِ زُفَرَ رحمه الله. اسْتَدَلَّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ انْقِطَاعِ الرُّطَبِ الْمُشْتَرَى بِهِ وَإِبَاقِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَتَخْمِيرِ الْعَصِيرِ الْمُشْتَرَى قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَبْطُلُ

ص: 156

(وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا نَافِقَةً فَكَسَدَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُهَا) لِأَنَّهُ إعَارَةٌ، وَمُوجِبُهُ رَدُّ الْعَيْنِ

الْعَقْدُ فِيهَا، وَأُجِيبَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الرُّطَبِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَمَالِيَّتُهُ لَمْ تَبْطُلْ بِالْإِبَاقِ بَلْ هُوَ مَالٌ بَاقٍ حَيْثُ هُوَ، وَإِنَّمَا عَرَضَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسَلُّمِ وَكَذَا بِالتَّخَمُّرِ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِ الْمَالِكِ بَلْ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ شَرْعًا، بِخِلَافِ الْكَسَادِ لِهَلَاكِ الثَّمَنِ بِهِ، إلَّا أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ ثُبُوتُ الْخِلَافِ كَمَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَسَادِ الْمَغْشُوشَةِ وَكَسَادِ الْفُلُوسِ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا سِلْعَةٌ بِحَسَبِ الْأَصْلِ ثَمَنٌ بِالِاصْطِلَاحِ، فَإِنَّ غَالِبَةَ الْغِشِّ الْحُكْمُ فِيهَا لِلْغَالِبِ وَهُوَ النُّحَاسُ مَثَلًا، فَلَوْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْفُلُوسِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ.

وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ اشْتَرَى مِائَةَ فَلْسٍ بِدِرْهَمٍ وَقَبَضَ الْفُلُوسَ أَوْ الدِّرْهَمَ ثُمَّ افْتَرَقَا جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ، فَإِنْ كَسَدَتْ الْفُلُوسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْفَلْسُ هُوَ الْمَقْبُوضُ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ كَسَادَهَا كَهَلَاكِهَا. وَهَلَاكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ، وَإِنْ كَانَ الْفَلْسُ غَيْرَ مَقْبُوضٍ بَطَلَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ كَسَادَ الْفُلُوسِ كَهَلَاكِهَا، وَهَلَاكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْطُلَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ مَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّمَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ إذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إبْطَالَهُ فَسْخًا لِأَنَّ كَسَادَهَا كَعَيْبٍ فِيهَا وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ إذَا حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ قَبْلَ الْقَبْضِ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ الْخِيَارُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

وَلَوْ نَقَدَ الدِّرْهَمَ وَقَبَضَ نِصْفَ الْفُلُوسِ ثُمَّ كَسَدَتْ الْفُلُوسُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ النِّصْفَ الْآخَرَ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي نِصْفِهَا، وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ نِصْفَ الدِّرْهَمِ وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَى فَاكِهَةً أَوْ شَيْئًا بِعَيْنِهِ بِفُلُوسٍ ثُمَّ كَسَدَتْ وَقَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ فَسَدَ الْبَيْعُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ إنْ كَانَ قَائِمًا أَوْ الْقِيمَةَ أَوْ مِثْلَهُ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِمَّا ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ فِي هَذَا: إنَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْفُلُوسِ وَلَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهِيَ مَا إذَا بَاعَ الْفُلُوسَ بِدِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ أَوْجَبْنَا رَدَّ قِيمَةِ الْفُلُوسِ يَتَمَكَّنُ فِيهِ الرِّبَا وَهَاهُنَا لَا يَتَمَكَّنُ. وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا إذَا لَمْ تَكْسُدْ الْفُلُوسُ غَيْرَ أَنَّ قِيمَتَهَا غَلَتْ أَوْ رَخُصَتْ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ الْعَدَدَ الَّذِي عَيَّنَهُ مِنْهَا.

(قَوْلُهُ وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا فَكَسَدَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَرُدُّ مِثْلَهَا) عَدَدًا اتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا اسْتَقْرَضَ دَرَاهِمَ غَالِبَةَ الْغِشِّ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ مِثْلُهَا، وَلَسْت أَرْوِي ذَلِكَ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ فِي الْفُلُوسِ إذَا أَقْرَضَهَا ثُمَّ كَسَدَتْ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ يَوْمَ الْقَرْضِ فِي الْفُلُوسِ وَالدَّرَاهِمِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ قِيمَتُهَا فِي آخِرِ وَقْتِ إنْفَاقِهَا. وَجْهُ قَوْلِهِ. (أَنَّهُ) أَيْ الْقَرْضَ (إعَارَةٌ وَمُوجِبُهُ) أَيْ مُوجِبُ عَقْدِ الْإِعَارَةِ (رَدُّ الْعَيْنِ) إذْ لَوْ كَانَ اسْتِبْدَالًا حَقِيقَةً مُوجِبًا لِرَدِّ الْمِثْلِ اسْتَلْزَمَ الرِّبَا لِلنَّسِيئَةِ فَكَانَ

ص: 157

مَعْنًى وَالثَّمَنِيَّةِ فَضْلٌ فِيهِ إذْ الْقَرْضُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ. وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ قِيمَتُهَا لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ وَصْفُ الثَّمَنِيَّةِ تَعَذَّرَ رَدُّهَا كَمَا قُبِضَ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهَا، كَمَا إذَا اسْتَقْرَضَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَوْمَ الْقَبْضِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَوْمَ الْكَسَادِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِيمَنْ غَصَبَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنْظَرُ

مُوجِبًا رَدَّ الْعَيْنِ إلَّا أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْعَقْدُ لَمَّا كَانَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِالِاسْتِهْلَاكِ لَا مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ لَزِمَ تَضَمُّنُهُ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ؛ فَبِالضَّرُورَةِ اكْتَفَى بِرَدِّ الْعَيْنِ مَعْنًى وَذَلِكَ بِرَدِّ الْمِثْلِ، وَلِذَا يُجْبَرُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ عَلَى قَبُولِ الْمِثْلِ إذَا أَتَى بِهِ الْغَاصِبُ فِي غَصْبِ الْمِثْلِيِّ بِلَا انْقِطَاعٍ مَعَ أَنَّ مُوجِبَ الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْكَاسِدِ (وَالثَّمَنِيَّةُ فَضْلٌ فِي الْقَرْضِ) غَيْرُ لَازِمٍ فِيهِ وَلِذَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا بَعْدَ الْكَسَادِ، وَكَذَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُ كُلِّ مِثْلِيٍّ وَعَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ وَلَا ثَمَنِيَّةَ (وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ وَصْفُ الثَّمَنِيَّةِ تَعَذَّرَ رَدُّهَا كَمَا قَبَضَهَا فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهَا) وَهَذَا لِأَنَّ الْقَرْضَ وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِ وَصْفَ الثَّمَنِيَّةِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ اعْتِبَارِهَا إذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ قَرْضًا مَوْصُوفًا بِهَا لِأَنَّ الْأَوْصَافَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الدُّيُونِ؛ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بِهَا، بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ الْمُشَارِ إلَيْهَا وَصْفُهَا لَغْوٌ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بِذَوَاتِهَا وَتَأْخِيرُ دَلِيلِهِمَا بِحَسَبِ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ ظَاهِرٌ فِي اخْتِيَارِهِ قَوْلَهُمَا (ثُمَّ أَصْلُ الِاخْتِلَافِ) فِي وَقْتِ الضَّمَانِ اخْتِلَافُهُمَا (فِيمَنْ غَصَبَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَوْمَ الْقَضَاءِ) وَقَوْلُهُمَا أَنْظَرُ لِلْمُقْرِضِ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ فِي رَدِّ الْمِثْلِ إضْرَارًا بِهِ.

ثُمَّ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَنْظَرُ لَهُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ (فَكَانَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنْظَرَ) لِلْمُسْتَقْرِضِ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ (وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْسَرَ) لِأَنَّ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْقَبْضِ مَعْلُومَةٌ ظَاهِرَةٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا بِخِلَافِ ضَبْطِ وَقْتِ الِانْقِطَاعِ فَإِنَّهُ عُسْرٌ فَإِنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ أَيْسَرُ فِي ذَلِكَ.

ص: 158

لِلْجَانِبَيْنِ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْسَرُ.

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِنِصْفِ دِرْهَمِ فُلُوسٍ جَازَ وَعَلَيْهِ مَا يُبَاعُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ مِنْ الْفُلُوسِ) وَكَذَا إذَا قَالَ بِدَانِقِ فُلُوسٍ أَوْ بِقِيرَاطِ فُلُوسٍ جَازَ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِالْفُلُوسِ وَأَنَّهَا تُقَدَّرُ بِالْعَدَدِ لَا بِالدَّانِقِ وَالدِّرْهَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ عَدَدِهَا، وَنَحْنُ نَقُولُ: مَا يُبَاعُ بِالدَّانِقِ وَنِصْفُ الدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ وَالْكَلَامُ فِيهِ فَأَغْنَى عَنْ بَيَانِ الْعَدَدِ. وَلَوْ قَالَ بِدِرْهَمِ فُلُوسٍ أَوْ بِدِرْهَمَيْ فُلُوسٍ فَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِأَنَّ مَا يُبَاعُ بِالدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْمُرَادُ لَا وَزْنُ الدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالدِّرْهَمِ وَيَجُوزُ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ، لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ الْمُبَايَعَةَ بِالْفُلُوسِ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ فَصَارَ مَعْلُومًا بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَلَا كَذَلِكَ الدِّرْهَمُ قَالُوا: وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَصَحُّ لَا سِيَّمَا فِي دِيَارِنَا.

قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ) فَاكِهَةً أَوْ غَيْرَهَا بِأَنْ قَالَ مَثَلًا لِبَائِعِ سِلْعَةٍ اشْتَرَيْتهَا مِنْك بِنِصْفِ دِرْهَمِ فُلُوسٍ فَقَالَ بِعْتُك (انْعَقَدَ مُوجِبًا لِدَفْعِ مَا يُبَاعُ مِنْ الْفُلُوسِ بِنِصْفِ دِرْهَمِ فِضَّةٍ، وَكَذَا إذَا قَالَ بِدَانِقٍ مِنْ الْفُلُوسِ) وَهُوَ سُدُسُ دِرْهَمٍ (أَوْ بِقِيرَاطٍ) وَهُوَ نِصْفُ السُّدُسِ (وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَجُوزُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِالْفُلُوسِ وَهِيَ تُقَدَّرُ بِالْعَدِّ لَا بِالدَّانِقِ وَالدِّرْهَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ عَدَدِهَا) وَإِلَّا فَالثَّمَنُ مَجْهُولٌ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الدَّانِقِ وَالدِّرْهَمِ ثُمَّ شَرَطَ إيفَاءَهُ مِنْ الْفُلُوسِ وَهُوَ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ.

فَإِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يُعْطِيَ بِنِصْفِ الدِّرْهَمِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ فُلُوسًا وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ بِالدَّانِقِ فُلُوسًا، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ مَا يُبَاعُ بِالدَّانِقِ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفُلُوسِ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بِنِصْفِ دِرْهَمِ فُلُوسٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ نِصْفَ الدِّرْهَمِ ثُمَّ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ فُلُوسٌ وَهُوَ لَا يُمْكِنُ عُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا يُبَاعُ بِهِ مِنْ الْفُلُوسِ وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْعَدِّ بِخُصُوصِهِ، وَإِذَا صَارَ كِنَايَةً عَمَّا يُبَاعُ بِنِصْفٍ وَرُبُعِ دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْ جَهَالَةُ الثَّمَنِ وَلَا صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ حِينَئِذٍ مِنْ الِابْتِدَاءِ مَا يُبَاعُ مِنْ الْفُلُوسِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ (وَلَوْ قَالَ بِدِرْهَمِ فُلُوسٍ أَوْ دِرْهَمَيْنِ فَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ إلَّا فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ، لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ فِي الْعَادَةِ فِي الْفُلُوسِ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ فَيَصِيرُ مَعْلُومًا بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَلَا كَذَلِكَ الدِّرْهَمُ. قَالُوا: وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَصَحُّ وَلَا سِيَّمَا فِي دِيَارِنَا) أَيْ الْمُدُنِ الَّتِي وَرَاءَ النَّهْرِ فَإِنَّهُمْ يَشْتَرُونَ الْفُلُوسَ بِالدَّرَاهِمِ، وَلِأَنَّ الْمَدَارَ هُوَ الْعِلْمُ بِمَا يُبَاعُ بِالدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ مَعَ وُجُوبِ الْحَمْلِ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ الْمُرَادُ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ وَالدَّرَاهِمِ فَضْلًا عَنْ الدِّرْهَمِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَبْسُوطِ خِلَافَ مُحَمَّدٍ وَالْمَذْكُورُ مِنْ خِلَافِهِ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ سِيَّمَا بِغَيْرِ لَا وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ لَمْ يَثْبُتْ فِي كَلَامِ مَنْ يَحْتَجُّ بِكَلَامِهِ فِي اللُّغَةِ وَفِي بَعْضِهَا

ص: 159

قَالَ (وَمَنْ أَعْطَى صَيْرَفِيًّا دِرْهَمًا وَقَالَ أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ فُلُوسًا وَبِنِصْفِهِ نِصْفًا إلَّا حَبَّةً جَازَ الْبَيْعُ فِي الْفُلُوسِ وَبَطَلَ فِيمَا بَقِيَ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّ بَيْعَ نِصْفِ دِرْهَمٍ بِالْفُلُوسِ جَائِزٌ وَبَيْعُ النِّصْفِ بِنِصْفٍ إلَّا حَبَّةً رِبًا فَلَا يَجُوزُ (وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بَطَلَ فِي الْكُلِّ) لِأَنَّ الصَّفْقَةَ مُتَّحِدَةٌ وَالْفَسَادُ قَوِيٌّ فَيَشِيعُ وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ، وَلَوْ كَرَّرَ لَفْظَ الْإِعْطَاءِ كَانَ جَوَابُهُ كَجَوَابِهِمَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُمَا بَيْعَانِ

عَلَى الصَّوَابِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَعْطَى صَيْرَفِيًّا دِرْهَمًا فَقَالَ أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ) أَوْ رُبُعِهِ أَوْ قِيرَاطًا مِنْهُ (فُلُوسًا وَبِنِصْفِهِ نِصْفًا إلَّا حَبَّةً) وَعَلَى وِزَانِهِ أَنْ يَقُولَ وَبِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً وَقِسْ الْبَاقِيَ (جَازَ الْبَيْعُ فِي الْفُلُوسِ وَبَطَلَ فِيمَا بَقِيَ) مِنْ النِّصْفِ الْآخَرِ أَوْ الثَّلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ وَبَاقِي الصُّوَرِ (لِأَنَّ بَيْعَ نِصْفِ الدِّرْهَمِ بِالْفُلُوسِ جَائِزٌ وَبَيْعَ نِصْفِ دِرْهَمٍ بِنِصْفِ) دِرْهَمٍ (إلَّا حَبَّةً رِبًا فَلَا يَجُوزُ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَطَلَ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ مُتَّحِدَةٌ وَالْفَسَادُ قَوِيٌّ) مُقَارِنٌ لِلْعَقْدِ (فَيَشِيعُ وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ) يَعْنِي فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فِي مَسْأَلَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ إذَا لَمْ يُفَصَّلْ الثَّمَنُ يَشِيعُ الْفَسَادُ اتِّفَاقًا، وَإِذَا فُصِّلَ لَا يَشِيعُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَشِيعُ (فَلَوْ كَرَّرَ لَفْظَ الْإِعْطَاءِ) بِأَنْ قَالَ: أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ فُلُوسًا وَأَعْطِنِي بِنِصْفِهِ نِصْفًا إلَّا حَبَّةً (كَانَ جَوَابُهُ كَجَوَابِهِمَا) فِي أَنَّ الْفَسَادَ يَخُصُّ النِّصْفَ الْآخَرِ (لِأَنَّهُمَا بَيْعَانِ) لِتَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ خِلَافًا لِمَا حُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْمُظَفَّرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَرَّرَ لَفْظَ الْإِعْطَاءِ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الصَّفْقَةِ عِنْدَهُ بِتَعَدُّدِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَلَفْظُ أَعْطِنِي مُسَاوَمَةً، وَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ بِعْنِي

ص: 160

(وَلَوْ قَالَ أَعْطِنِي نِصْفَ دِرْهَمٍ فُلُوسًا وَنِصْفًا إلَّا حَبَّةً جَازَ) لِأَنَّهُ قَابَلَ الدِّرْهَمَ بِمَا يُبَاعُ مِنْ الْفُلُوسِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً فَيَكُونُ نِصْفُ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً بِمِثْلِهِ وَمَا وَرَاءَهُ بِإِزَاءِ الْفُلُوسِ. قَالَ رضي الله عنه: وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

بِكَذَا لَيْسَ إيجَابًا، حَتَّى لَوْ قَالَ بِعْت لَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَقُلْ الْأَوَّلُ قَبِلْت فَأَعْطِنِي وَلَيْسَ مِنْ مَادَّةِ الْبَيْعِ أَوْلَى، وَحِينَئِذٍ لَمْ يَتَعَدَّدْ الْبَيْعُ فَيَشِيعُ الْفَسَادُ عَلَى قَوْلِهِ كَالصُّورَةِ الْأُولَى.

وَجْهُ الْمُخْتَارِ أَنَّ ذَلِكَ صَارَ مَعْلُومَ الْمُرَادِ أَنَّهُ إيجَابٌ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ تُعُورِفَ فِي مِثْلِهِ صَحَّ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوهُ، أَوْ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا دُفِعَ إلَيْهِ الْمُخَاطَبُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ بَيْعًا فِي النِّصْفَيْنِ بِالْمُعَاطَاةِ فِيهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَلَوْ قَالَ) حِينَ دَفَعَ إلَيْهِ الدِّرْهَمَ الْكَبِيرَ (أَعْطِنِي نِصْفَ دِرْهَمٍ فُلُوسٍ وَنِصْفًا إلَّا حَبَّةً)(جَازَ) فِيهِمَا (لِأَنَّهُ قَابَلَ الدِّرْهَمَ بِمَا يُبَاعُ مِنْ الْفُلُوسِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً فَ) يَتَحَرَّى لِلْجَوَازِ بِأَنْ (يَكُونَ نِصْفُ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً بِمِثْلِهِ وَمَا وَرَاءَهُ بِإِزَاءِ الْفُلُوسِ) نَعَمْ قَدْ يُقَالُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ نِصْفُ دِرْهَمِ فُلُوسٍ مَعْنَاهُ مَا يُبَاعُ مِنْ الْفُلُوسِ بِهِ كَانَ الْحَاصِلُ أَعْطِنِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ مَا يُبَاعُ مِنْ الْفُلُوسِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَنِصْفِ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً، وَمَا يُبَاعُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ مَعْلُومٌ أَنَّهُ يَخُصُّ بِنِصْفِ الدِّرْهَمِ فَصَارَ كَالْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ نِصْفَ دِرْهَمِ فُلُوسٍ وَبِنِصْفِهِ نِصْفَ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً.

وَجَوَابُهُ أَنَّ مُوجِبَ التَّحَرِّي لِلتَّصْحِيحِ أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ أَعْطِنِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ نِصْفَ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً، وَمَا يُبَاعُ بِنِصْفِ دِرْهَمِ فُلُوسٍ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَى مَا يُبَاعُ مِنْ الْفُلُوسِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَحَبَّةٍ وَمَا يُبَاعُ مِنْ الْفُلُوسِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً بِمِثْلِهِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ (ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ) وَلَمْ يَذْكُرْ الْأُولَى، وَلِذَا قَالَ شَارِحُهُ وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ النَّاسِخِ، وَيَجُوزُ فِي فُلُوسٍ الْجَرُّ صِفَةً لِدِرْهَمٍ وَالنَّصْبُ صِفَةً لِلنِّصْفِ.

[فُرُوعٌ]

تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي ضِمْنِ التَّعْلِيلِ فَرُبَّمَا يُغْفَلُ عَنْهَا. تَصَارَفَا جِنْسًا بِجِنْسٍ مُتَسَاوِيًا فَزَادَ أَحَدُهُمَا أَوْ حَطَّ شَيْئًا وَقَبِلَ الْآخَرُ الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَبَطَلَ الْعَقْدُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَلْتَحِقُ فِيهِمَا وَلَا يَبْطُلُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَصِحُّ الْحَطُّ فَقَطْ وَيُجْعَلُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً. وَلَوْ تَصَارَفَا بِغَيْرِ الْجِنْسِ فَزَادَ أَوْ حَطَّ جَازَ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْمُمَاثَلَةِ غَيْرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ يَجِبُ قَبْضُهَا فِي مَجْلِسِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ ثَمَنُ الصَّرْفِ، وَعِنْدَ مَنْ لَا يَلْحَقُ الزِّيَادَةَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّهَا هِبَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَلَوْ افْتَرَقَا لَا عَنْ قَبْضِهَا بَطَلَ حِصَّتُهَا مِنْ الْبَدَلِ الْآخَرِ كَأَنَّهُ بَاعَ الْكُلَّ ثُمَّ فَسَدَ فِي الْبَعْضِ لِعَدَمِ الْقَبْضِ، وَالْحَطُّ جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ، وَيَرُدُّ الَّذِي حَطَّ مَا حَطَّ، وَإِنْ كَانَ الْحَطُّ قِيرَاطَ ذَهَبٍ فَهُوَ شَرِيكٌ فِي الدِّينَارِ مَثَلًا؛ لِأَنَّ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرًا وَكُلُّ مَالٍ رِبَوِيٍّ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً وَلَا مُوَاضَعَةً إذَا اشْتَرَاهُ بِجِنْسِهِ وَيَجُوزُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ.

وَلَوْ اشْتَرَى مَصُوغًا مِنْ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ أَوْ مِنْ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ وَتَقَابَضَا فَوَجَدَهُ الْمُشْتَرِي مَعِيبًا لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ، فَإِنْ رَدَّهُ بِقَضَاءٍ لَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ مِنْ الْبَائِعِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ

ص: 161

(كِتَابُ الْكَفَالَةِ)

وَبِغَيْرِ قَضَاءٍ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ، فَإِنْ قَبَضَ صَحَّ الرَّدُّ وَإِلَّا بَطَلَ وَعَادَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فِي حَقِّ الشَّرْعِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِأَنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ حَدَثَ عَيْبٌ آخَرُ رَجَعَ بِأَرْشِ الْعَيْبِ إنْ كَانَ الثَّمَنُ ذَهَبًا لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ فِضَّةً لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، فَإِنْ قَبِلَهُ الْبَائِعُ بِعَيْبِهِ لَهُ ذَلِكَ وَالْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي بَعْدُ. وَلَوْ اشْتَرَى دِينَارًا بِدِرْهَمٍ وَلَا دِينَارَ لِهَذَا وَلَا دِرْهَمَ لِلْآخَرِ ثُمَّ اقْتَرَضَا وَتَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَازَ، وَفِي الْمَكِيلِ لَا يَجُوزُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: اشْتَرَى فُلُوسًا بِدَرَاهِمَ وَلَا فُلُوسَ وَلَا دَرَاهِمَ لَهُمَا ثُمَّ نَقَدَ أَحَدُهُمَا وَتَفَرَّقَا جَازَ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْفُلُوسِ دِينَارٌ لَمْ يَجُزْ وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي تَقْسِيمِ الطَّحَاوِيِّ. اشْتَرَى سَيْفًا حِلْيَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فِضَّةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ حِلْيَتَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَإِنْ شَاءَ زَادَ فِي الثَّمَنِ مِائَةً أُخْرَى وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَالْمِائَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ يَزِيدُ شَيْئًا لِيَتَمَحَّضَ الْمِائَتَانِ لِلْحِلْيَةِ، وَلَوْ عَلِمَ بَعْدَ التَّقَابُضِ وَالتَّفَرُّقِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْكُلِّ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي إبْرِيقِ فِضَّةٍ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي نِصْفِ الْإِبْرِيقِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

بسم الله الرحمن الرحيم

(كِتَابُ الْكَفَالَةِ)

أَوْرَدَ الْكَفَالَةَ عَقِيبَ الْبُيُوعِ لِأَنَّهَا غَالِبًا يَكُونُ تَحَقُّقُهَا فِي الْوُجُودِ عَقِيبَ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَطْمَئِنُّ الْبَائِعُ إلَى الْمُشْتَرِي فَيَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَكْفُلُهُ بِالثَّمَنِ، أَوْ لَا يَطْمَئِنُّ الْمُشْتَرِي إلَى الْبَائِعِ فَيَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فِي الْبَيْعِ وَذَلِكَ فِي السَّلَمِ، فَلَمَّا كَانَ تَحَقُّقُهَا فِي الْوُجُودِ غَالِبًا بَعْدَهَا أَوْرَدَهَا فِي التَّعْلِيمِ بَعْدَهَا، وَلَهَا مُنَاسَبَةٌ خَاصَّةٌ بِالصَّرْفِ وَهِيَ أَنَّهَا تَصِيرُ بِالْآخِرَةِ مُعَاوَضَةً عَمَّا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ الْأَثْمَانِ وَذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، ثُمَّ لَزِمَ تَقْدِيمُ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ مِنْ أَبْوَابِ الْبَيْعِ السَّابِقِ عَلَى الْكَفَالَةِ فَلَزِمَتْ الْكَفَالَةُ بَعْدَهُ.

وَمَحَاسِنُ الْكَفَالَةِ جَلِيلَةٌ وَهِيَ: تَفْرِيجُ كَرْبِ الطَّالِبِ الْخَائِفِ عَلَى مَالِهِ، وَالْمَطْلُوبِ الْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ كُفِيَا مُؤْنَةَ مَا أَهَمَّهُمَا وَقَرَّ جَأْشُهُمَا وَذَلِكَ نِعْمَةٌ كَبِيرَةٌ عَلَيْهِمَا، وَلِذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْعَالِيَةِ حَتَّى امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا حَيْثُ قَالَ {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} فِي قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ يَتَضَمَّنُ الِامْتِنَانَ عَلَى مَرْيَمَ، إذْ جَعَلَ لَهَا مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهَا وَيَقُومُ بِهَا بِأَنْ أَتَاحَ لَهَا ذَلِكَ، وَسَمَّى نَبِيًّا بِذِي الْكِفْلِ لَمَّا كَفَلَ جَمَاعَةً مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِمَلِكٍ أَرَادَ قَتْلَهُمْ. وَسَبَبُ وُجُودِهَا تَضْيِيقُ الطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَعَ قَصْدِ الْخَارِجِ رَفْعَهُ عَنْهُ إمَّا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إزَالَةً لِلْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِمَّنْ يَهُمُّهُ مَا أَهَمَّهُ. وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهَا دَفْعُ هَذِهِ الْحَاجَةِ

ص: 162

الْكَفَالَةُ: هِيَ الضَّمُّ لُغَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ثُمَّ قِيلَ: هِيَ ضَمُّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَقِيلَ فِي الدَّيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

وَالضَّرَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.

وَدَلِيلُ وُقُوعِ شَرْعِيَّتِهَا قَوْله تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَالْإِجْمَاعُ.

وَشَرْطُهَا فِي الْكَفِيلِ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، فَلَا كَفَالَةَ مِنْ صَبِيٍّ وَلَا عَبْدٍ مَحْجُورٍ وَلَا مُكَاتَبٍ، وَلَا تَصِحُّ مِنْ الْمَرِيضِ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ، وَفِي الدَّيْنِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا؛ فَلَا كَفَالَةَ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ دَيْنًا صَحِيحًا إذْ لَا يَلْزَمُ دَيْنٌ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ وَلُزُومُ دَيْنِ الْكِتَابَةِ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِيَصِلَ الْعَبْدُ إلَى الْعِتْقِ وَأَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَأَمَّا مَفْهُومُهَا (الْكَفَالَةُ) لُغَةً فَقَالَ الْمُصَنِّفُ: الضَّمُّ سَوَاءٌ كَانَ مُتَعَلِّقُهُ عَيْنًا أَوْ مَعْنًى. قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: تَرْكِيبُهُ دَالٌّ عَلَى الضَّمِّ وَالتَّضْمِينِ، وَمِنْهُ كِفْلُ الْبَعِيرِ كِسَاءٌ يُدَارُ حَوْلَ سَنَامِهِ كَالْحَوِيَّةِ يُرْكَبُ عَلَيْهِ، وَكِفْلُ الشَّيْطَانِ مَرْكَبُهُ.

وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ (ثُمَّ قِيلَ: هِيَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَقِيلَ فِي الدَّيْنِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ)

فَلَا يَثْبُتُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ؛ فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْأَصِيلِ، وَلَمْ يُرَجِّحْ فِي الْمَبْسُوطِ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَمَا يُخَالُ مِنْ لُزُومِ صَيْرُورَةِ الْأَلْفِ الدَّيْنِ الْوَاحِدِ أَلْفَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ مَعَ بَقَائِهِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ مَا يُوجِبُ زِيَادَةَ حَقِّ الطَّالِبِ، لِأَنَّ الدَّيْنَ وَإِنْ ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ فَالِاسْتِيفَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ. فَإِنَّ كُلًّا ضَامِنٌ لِلْقِيمَةِ وَلَيْسَ حَقُّ الْمَالِكِ إلَّا فِي قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا، وَاخْتِيَارُهُ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْآخَرِ، فَكَذَا هُنَا يُرِيدُ بِاخْتِيَارِهِ التَّضْمِينَ الْقَبْضَ مِنْهُ لَا مُجَرَّدَ حَقِيقَةِ اخْتِيَارِهِ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِمُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا وَبِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لَا يَبْرَأُ الْآخَرُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ لِلْكَفِيلِ صَحَّ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ مَعَ أَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا تَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى مِنْ الْكَفِيلِ بِالدَّيْنِ شَيْئًا يَصِحُّ مَعَ أَنَّ الشِّرَاءَ بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَصِحُّ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ ثُبُوتَ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ اعْتِبَارٌ مِنْ الِاعْتِبَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي ذِمَّتَيْنِ، إنَّمَا يَمْتَنِعُ فِي عَيْنٍ ثَبَتَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ فِي ظَرْفَيْنِ حَقِيقِيَّيْنِ، وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِي مُجَرَّدِ الْمُطَالَبَةِ لَا الدَّيْنِ لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ فِي الذِّمَّتَيْنِ وَإِنْ أَمْكَنَ شَرْعًا لَا يَجِبُ الْحُكْمُ بِوُقُوعِ كُلِّ مُمْكِنٍ إلَّا بِمُوجِبٍ وَلَا مُوجِبَ لِأَنَّ التَّوَثُّقَ يَحْصُلُ بِالْمُطَالَبَةِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ، وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ اعْتِبَارِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ يُطَالَبُ بِالثَّمَنِ وَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَسْلِيمِ الْهِبَةِ وَالدَّيْنِ فَإِنَّا جَعَلْنَاهُ فِي حُكْمِ الدَّيْنَيْنِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ وَقَبْلَهُ لَا ضَرُورَةَ فَلَا دَاعِيَ إلَى ذَلِكَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّيْنَ فِعْلٌ يَقْتَضِي أَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ أَيْضًا كَمَا هُوَ فِي ذِمَّةِ

ص: 163

قَالَ (الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ: كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ، وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ. فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ وَالْمَضْمُونُ بِهَا إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ)

الْأَصِيلِ إذْ فِعْلُ الْأَدَاءِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ الْوَجْهُ أَنْ تُطْلَقَ الْمُطَالَبَةُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالدَّيْنِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ كَمَا تَكُونُ بِالدُّيُونِ تَكُونُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا وَهُوَ مَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ هَلَكَ ضَمِنَ مِثْلُهُ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ، وَبِقِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا. وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا وَيَجِبُ تَسْلِيمُهَا، وَإِذَا هَلَكَتْ يَجِبُ تَسَلُّمُ قِيمَتِهَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ، وَالْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِغَيْرِهَا وَهِيَ الْأَعْيَانُ الْوَاجِبَةُ التَّسْلِيمِ قَائِمَةٌ، وَعِنْدَ هَلَاكِهَا لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ مِثْلِهَا وَلَا قِيمَتِهَا وَهُوَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُضْمَنُ بِالثَّمَنِ وَكَالرَّهْنِ يُضْمَنُ بِالدَّيْنِ، وَلَوْ هَلَكَتْ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ قِيمَتُهَا. وَأَمَّا الْأَعْيَانُ الْوَاجِبَةُ التَّسْلِيمِ وَهِيَ أَمَانَةٌ كَالْعَارِيَّةِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا وَمَتَى هَلَكَتْ لَا تَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ قِيمَتُهَا، بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ الْغَيْرِ الْوَاجِبَةِ التَّسْلِيمِ كَالْوَدِيعَةِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا أَصْلًا.

وَأَمَّا رُكْنُهَا فَالْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِالْأَلْفَاظِ الْآتِيَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ أَبُو يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ الْأَخِيرِ الْقَبُولَ رُكْنًا فَجَعَلَ الْكَفَالَةَ تَتِمُّ بِالْكَفِيلِ وَحْدَهُ فِي الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَاخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ فَقِيلَ: إنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ مِنْ الْوَاحِدِ وَحْدَهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الطَّالِبِ أَوْ تَصِحُّ نَافِذًا وَلِلطَّالِبِ حَقُّ الرَّدِّ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَا إذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ مَنْ يَقُولُ بِالتَّوَقُّفِ يَقُولُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ.

وَأَمَّا حُكْمُهَا فَثُبُوتُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلْكَفِيلِ مَتَى شَاءَ سَوَاءٌ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ الْأَصِيلِ أَوْ لَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يُطَالِبُهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَدَاوُد وَأَبُو ثَوْرٍ: يَنْتَقِلُ الْحَقُّ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ فَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْأَصِيلِ أَصْلًا كَمَا فِي الْحَوَالَةِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْمَنْظُومَةِ مِنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ إلَى مَالِكٍ خِلَافُ مَا فِي مَشَاهِيرِ كُتُبِ أَصْحَابِهِ. احْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَضَرَ جِنَازَةً فَقَالَ: هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ دِرْهَمَانِ، فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: أَنَا لَهُمَا ضَامِنٌ، فَقَامَ صلى الله عليه وسلم وَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَقَالَ: جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا وَفَكَّ رِهَانَك كَمَا فَكَكْت رِهَانَ أَخِيك، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ كَافَّةً؟ فَقَالَ لِلنَّاسِ كَافَّةً» فَدَلَّ أَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بَرِيءٌ مِنْ الضَّمَانِ، وَلِلْعَامَّةِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» وَقَوْلُهُ فِي خَبَرِ أَبِي قَتَادَةَ «الْآنَ بَرَدَتْ جِلْدَتُهُ» وَصَلَاتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ صَارَ وَفَاءً، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَدْيُونٍ لَمْ يُخْلِفْ وَفَاءً، وَقَوْلُهُ " فَكَّ اللَّهُ رِهَانَك " لِأَنَّهُ كَانَ بِحَالٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، فَلَمَّا ضَمِنَ عَنْهُ فَكَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْجَوَابُ بَعْدُ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ يَتِمُّ بِصَلَاتِهِ عَقِيبَ ضَمَانِ عَلِيٍّ إذْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمَانَ تَمَّ بِذَلِكَ

(قَوْلُهُ قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ (الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ: كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ، وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ) وَيَدْخُلُ فِي الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ الْكَفَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الَّتِي ذَكَرَاهَا (وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ وَالْمَضْمُونُ بِهَا إحْضَارُ الْمَكْفُولِ بِهِ)

ص: 164

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى مَالِ نَفْسِهِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» وَهَذَا يُفِيدُ مَشْرُوعِيَّةَ الْكَفَالَةِ بِنَوْعَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِطَرِيقِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ الطَّالِبُ مَكَانَهُ فَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَوْ يَسْتَعِينَ بِأَعْوَانِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَيْهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ تَحَقُّقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَهُوَ الضَّمُّ فِي الْمُطَالَبَةِ فِيهِ.

ثُمَّ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَا تَجُوزُ وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْقَوْلِ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ كَقَوْلِنَا. وَاسْتَدَلَّ لِقَوْلِهِ الْمُضَعَّفِ (بِأَنَّهُ الْتِزَامُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِهِ) فَكَانَ كَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ حُرٌّ لَا يَنْقَادُ لَهُ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ خُصُوصًا إذَا كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَكَذَا بِأَمْرِهِ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِكَفَالَتِهِ لَا يُثْبِتُ لَهُ وِلَايَةً عَلَيْهِ وَصَارَ كَالْكَفَالَةِ بِبَدَنِ الشَّاهِدَيْنِ (وَ) اسْتَدَلَّ لِلْمَذْهَبِ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ (قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الزَّعِيمُ غَارِمٌ») بِاعْتِبَارِ عُمُومِهِ.

وَقَوْلُهُ (بِنَوْعَيْهِ) أَيْ نَوْعَيْ عَقْدِ الْكَفَالَةِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ مُخَصَّصٌ بِالزَّعِيمِ فِي الْمَالِ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ غَارِمٌ، وَالْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِلْمَالِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْغُرْمَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَالِ بَلْ الْغُرْمُ أَدَاءُ مَا يَلْزَمُهُ مِمَّا يَضُرُّهُ، وَالْغَرَامُ اللَّازِمُ ذَكَرَهُ فِي الْمُجْمَلِ، وَالْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ يَلْزَمُهُ الْإِحْضَارُ، وَقَدْ تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَالَةِ الْمَالِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ مَاسَّةٌ، وَقَدْ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ) وَحَاصِلُهُ إلْحَاقُهُ بِجَامِعِ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا إحْيَاءً لِلْحُقُوقِ مَعَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالشَّرَائِطِ، وَمَا طَرَأَ مِنْ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ بِانْتِفَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَنْقَادُ إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِلَا أَمْرِهِ يُمْكِنُهُ إحْضَارُهُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِأَعْوَانِ الْحَاكِمِ. وَأَبْطَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْكَفَالَةِ فَلَا يَصِحُّ دَلِيلًا. وَلَا يَخْفَى أَنْ لَيْسَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُدْرَةِ الْمَنْفِيَّةِ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ لِيَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْكَفَالَةِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ بِقَلِيلٍ تَأَمَّلْ: وَرُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَفَلَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» وَكَانَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَعُمَرَ رضي الله عنهما خُصُومَةٌ فَكَفَلَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنَفْسِ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وَاعْتُرِضَ بِالْمُنَاقَضَةِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ فِيهِمَا لَا تَصِحُّ وَإِنْ كَانَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَاجِبًا كَتَسْلِيمِهَا لِلْجَوَابِ. وَالْجَوَابُ مَنَعَ عَدَمَ صِحَّتِهَا مُطْلَقًا بَلْ الْمَنْصُوصُ فِي الْأَصْلِ صِحَّةُ الْكَفَالَةِ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ مِنْ وَجْهٍ فِي بَعْضِهَا وَمِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي بَعْضِهَا.

وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ فَعَدَمُ صِحَّةِ

ص: 165

قَالَ (وَتَنْعَقِدُ إذَا قَالَ تَكَفَّلْت بِنَفْسِ فُلَانٍ أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِرُوحِهِ أَوْ بِجَسَدِهِ أَوْ بِرَأْسِهِ وَكَذَا بِبَدَنِهِ وَبِوَجْهِهِ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْبَدَنِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ عُرْفًا عَلَى مَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ، كَذَا إذَا قَالَ

الْكَفَالَةِ لِلُزُومِ التَّنَافِي، فَإِنَّ الْحَدَّ يَحْتَالُ فِي دَرْئِهِ وَصِحَّةُ الْكَفَالَةِ لِلِاسْتِيثَاقِ وَالِاحْتِيَالِ لِاسْتِيفَائِهِ فَقَامَ الْمَانِعُ فِيهِمَا. وَأَمَّا الْجَبْرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ فِيهَا فَفِي الْحُدُودِ لَا يُجْبَرُ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي الْقِصَاصُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.

وَأَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِنَفْسِ الشَّاهِدِ لِيُؤَدِّيَ فَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تُفِيدُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عِنْدَ مُطَالَبَةِ الطَّالِبِ لَهُ بِالْأَدَاءِ إمَّا أَنْ يُجِيبَ وَيَحْضُرَ أَوْ لَا؛ فَفِي الْأَوَّلِ لَا حَاجَةَ إلَى الْكَفَالَةِ، وَفِي الثَّانِي يَلْزَمُ فِسْقُهُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَوْ أَحْضَرَهُ الْكَفِيلُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ

(قَوْلُهُ وَتَنْعَقِدُ إذَا قَالَ تَكَفَّلْت إلَخْ) شُرُوعٌ فِي ذِكْرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الْكَفَالَةُ، وَهِيَ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ، فَالصَّرِيحُ تَكَفَّلْتُ وَضَمِنْتُ وَزَعِيمٌ وَقَبِيلٌ وَحَمِيلٌ وَعَلَيَّ وَإِلَيَّ وَلَك عِنْدِي هَذَا الرَّحْلُ وَعَلَيَّ أَنْ أُوفِيَك بِهِ أَوْ عَلَيَّ أَنْ أَلْقَاك بِهِ أَوْ دَعْهُ إلَيَّ، وَحَمِيلٌ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى كَفِيلٍ بِهِ، يُقَالُ حَمَلَ بِهِ حَمَالَةً بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُضَارِعِ. وَرُوِيَ فِي الْفَائِقِ " الْحَمِيلُ ضَامِنٌ " وَأَمَّا الْقَبِيلُ فَهُوَ أَيْضًا بِمَعْنَى الْكَفِيلِ، وَيُقَالُ قَبَلَ بِهِ قَبَالَةً بِفَتْحِهَا فِي الْمَاضِي وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا فِي الْمُضَارِعِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُوجِبُ لُزُومَ مُوجِبِ الْكَفَالَةِ إذَا أُضِيفَتْ إلَى جُمْلَةِ الْبَدَنِ أَوْ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ حَقِيقَةً فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ وَمَا لَا فَلَا عَلَى وِزَانِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا مَرَّ مِثْلُ كَفَلْتُ أَوْ أَنَا حَمِيلٌ أَوْ زَعِيمٌ بِنَفْسِهِ أَوْ رَقَبَتِهِ أَوْ رُوحِهِ أَوْ جَسَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ وَجْهِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ يُعَبَّرُ بِهَا حَقِيقَةً كَالنَّفْسِ وَالْجَسَدِ وَالْبَدَنِ وَعُرْفًا وَلُغَةً وَمَجَازًا كَهُوَ رَأْسٌ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وَتَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ رحمه الله مَا إذَا كَفَلَ بِعَيْنِهِ. قَالَ الْبَلْخِيّ رحمه الله: لَا يَصِحُّ كَمَا فِي الطَّلَاقِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْبَدَنَ. وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ فِي الْكَفَالَةِ وَالطَّلَاقِ إذْ الْعَيْنُ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْكُلِّ، يُقَالُ عَيْنُ الْقَوْمِ وَهُوَ عَيْنٌ فِي النَّاسِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي زَمَانِهِمْ أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ بِيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ وَيَتَأَتَّى فِي دَمِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ (وَكَذَا)

ص: 166

بِنِصْفِهِ أَوْ بِثُلُثِهِ أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ فِي حَقِّ الْكَفَالَةِ لَا تَتَجَزَّأُ فَكَانَ ذِكْرُ بَعْضِهَا شَائِعًا كَذِكْرِ كُلِّهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ تَكَفَّلْتُ بِيَدِ فُلَانٍ أَوْ بِرِجْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْبَدَنِ حَتَّى لَا تَصِحَّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِمَا وَفِيمَا تَقَدَّمَ تَصِحُّ (وَكَذَا إذَا قَالَ ضَمِنْته) لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمُوجِبِهِ (أَوْ قَالَ) هُوَ (عَلَيَّ) لِأَنَّهُ صِيغَةُ الِالْتِزَامِ (أَوْ قَالَ إلَيَّ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى عَلَيَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ. (قَالَ عليه الصلاة والسلام «وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَإِلَيَّ»)(وَكَذَا إذَا قَالَ أَنَا زَعِيمٌ بِهِ أَوْ قَبِيلٌ بِهِ) لِأَنَّ الزَّعَامَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ. وَالْقَبِيلُ هُوَ الْكَفِيلُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّكُّ قَبَالَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَتِهِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَعْرِفَةَ دُونَ الْمُطَالَبَةِ.

قَالَ (فَإِنْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ إحْضَارُهُ إذَا طَالَبَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ) وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ، فَإِنْ أَحْضَرَهُ وَإِلَّا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحِقٍّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يَحْبِسُهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَعَلَّهُ مَا دَرَى لِمَاذَا يَدَّعِي.

إذَا أَضَافَ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهُ كَكَفَلْتُ (بِنِصْفِهِ أَوْ ثُلُثِهِ أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ فِي حَقِّ الْكَفَالَةِ لَا تَتَجَزَّأُ فَذِكْرُ بَعْضِهَا شَائِعًا كَذِكْرِ كُلِّهَا) وَوَجْهُ ضَمِنْت (بِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ) بِمُوجِبِهِ (لِأَنَّ مُوجِبَ الْكَفَالَةِ لُزُومُ الضَّمَانِ فِي الْمَالِ) فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ (وَعَلَى صِيغَةِ الْتِزَامٍ وَإِلَيَّ فِي مَعْنَاهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم مَنْ تَرَكَ كَلًّا) أَيْ يَتِيمًا (فَإِلَيَّ) لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ.

وَقَوْلُهُ (وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ) اقْتَصَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا الْحَدِيثُ يُرِيدُ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنَا» وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيَّ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَأَنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ أَعْقِلُ عَنْهُ وَأَرِثُهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَعْقِلُ عَنْهُ وَيَرِثُهُ» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد «وَأَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً فَإِلَيَّ» (بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَتِهِ) لَا تَثْبُتُ بِهِ الْكَفَالَةُ (لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَعْرِفَةَ دُونَ الْمُطَالَبَةِ) وَكَذَا بِمَعْرِفَتِهِ وَكَذَا أَنَا ضَامِنٌ لَك عَلَى أَنْ أُوقِفَك عَلَيْهِ أَوْ عَلَى أَنْ أَدُلَّك عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَنْزِلِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لِتَعْرِيفِهِ أَوْ عَلَى تَعْرِيفِهِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَلْزَمَهُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُتَعَدٍّ إلَى اثْنَيْنِ فَقَدْ الْتَزَمَ أَنْ يُعَرِّفَهُ الْغَرِيمَ، بِخِلَافِ مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي إلَّا مَعْرِفَةَ الْكَفِيلِ لِلْمَطْلُوبِ. وَعَنْ نُصَيْرٍ قَالَ: سَأَلَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبَا سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيَّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِآخَرَ: أَنَا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَةِ فُلَانٍ، قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: أَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِيك لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ قَالَ هَذَا عَلَى مُعَامَلَةِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ.

قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي النَّوَازِلِ: هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَالظَّاهِرُ مَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَفِي خِزَانَةِ الْوَاقِعَاتِ وَبِهِ يُفْتِي: أَيْ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، لَكِنْ نَصَّ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لَك بِمَعْرِفَةٍ فَلَأَنْ يَلْزَمَهُ، وَعَلَى هَذَا مُعَامَلَةُ النَّاسِ. وَفِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ: لَوْ قَالَ الدَّيْنُ الَّذِي لَك عَلَى فُلَانٍ أَنَا أَدْفَعُهُ إلَيْك أَوْ أُسَلِّمُهُ إلَيْك أَوْ أَقْبِضُهُ لَا يَكُونُ كَفَالَةً مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِزَامِ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنْ مُتَفَرِّقَاتِ خَالِهِ قَيَّدَهُ بِمَا إذَا قَالَهُ مُنَجَّزًا فَلَوْ مُعَلَّقًا يَكُونُ كَفَالَةً نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: إنْ لَمْ يُؤَدِّ فَأَنَا أُؤَدِّي، نَظِيرُهُ فِي النَّذْرِ لَوْ قَالَ: أَنَا أَحُجُّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنَا أَحُجُّ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ

(قَوْلُهُ فَإِنْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ) أَيْ بِالنَّفْسِ (تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ) أَوْ يَوْمٍ (لَزِمَهُ إحْضَارُهُ فِيهِ وَإِلَّا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ حَقٍّ عَلَيْهِ) وَهَذَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ عَنْ

ص: 167

وَلَوْ غَابَ الْمَكْفُولُ بِنَفْسِهِ أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ، فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يُحْضِرْهُ يَحْبِسُهُ لِتَحَقُّقِ امْتِنَاعِهِ عَنْ إيفَاءِ الْحَقِّ. قَالَ (وَكَذَا إذَا ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ) وَهَذَا لِأَنَّهُ عَاجِزٌ فِي الْمُدَّةِ فَيُنْظَرُ كَاَلَّذِي أُعْسِرَ، وَلَوْ سَلَّمَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بَرِئَ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّهُ فَيَمْلِكُ إسْقَاطَهُ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ.

قَالَ (وَإِذَا أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ فِي مَكَان يَقْدِرُ الْمَكْفُولُ لَهُ

إحْضَارُهُ فِيهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَا يَحْبِسُهُ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي حَبْسِهِ، كَمَا إذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ تَبْطُلُ، فَإِنْ غَابَ وَعَلِمَ مَكَانَهُ لَا يُطَالِبُ الْكَفِيلَ لِلْحَالِ وَيُؤَجِّلُ إلَى مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ الْإِحْضَارُ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ ظَهَرَتْ مُمَاطَلَةُ الْكَفِيلِ فَيُحْبَسُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ لِلْقَاضِي تَعَذُّرُ الْإِحْضَارِ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ أَوْ بِشُهُودٍ بِذَلِكَ فَيُخْرَجُ مِنْ الْحَبْسِ وَيُنْظَرُ إلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ كَالْإِعْسَارِ بِالدَّيْنِ، وَإِذَا أُخْرِجَ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكْفُولِ لَهُ فَيُلَازِمُهُ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَشْغَالِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَكَانَهُ سَقَطَتْ مُطَالَبَةُ الْكَفِيلِ؛ فَلَوْ قَالَ الطَّالِبُ تَعْرِفُ مَكَانَهُ وَقَالَ الْكَفِيلُ لَا أَعْرِفُ؛ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ خُرْجَةٌ مَعْرُوفَةٌ يَخْرُجُ إلَيْهَا إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ لِلتِّجَارَةِ فَالْقَوْلُ لِلطَّالِبِ وَيُؤْمَرُ الْكَفِيلُ بِالذَّهَابِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ لِلْكَفِيلِ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْجَهْلُ وَمُنْكِرٌ لُزُومَ الْمُطَالَبَةِ.

وَقِيلَ: لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ الْكَفِيلِ وَيُحْبَسُ حَتَّى يَظْهَرَ عَجْزُهُ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ كَانَتْ مُتَوَجِّهَةً عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى مَا يُسْقِطُهَا، فَإِنْ أَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا يُؤْمَرُ الْكَفِيلُ بِالذَّهَابِ إلَيْهِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ) يَعْنِي يُمْهِلُهُ الْحَاكِمُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إنْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُوَادَعَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يُؤَاخَذُ الْكَفِيلُ لِلْعَجْزِ عَنْهُ وَاللِّحَاقِ، وَإِنْ كَانَ مَوْتًا فَهُوَ حُكْمِيٌّ فِي مَالِهِ لِيُعْطِيَ الْأَقْرَبَ إلَيْهِ، أَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَثَابِتَةٌ عَلَى حَالِهَا، وَلَمْ يَفْصِلْ فِي الْمَذْهَبِ بَيْنَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ وَالْقَرِيبَةِ. لِلشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ مَسَافَةُ الْقَصْرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَسْقُطُ الطَّلَبُ كَمَا هُوَ فِيمَا دُونَهَا، وَالثَّانِي يَسْقُطُ إلْحَاقًا بِالْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ (قَوْلُهُ إذَا أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فِي مَكَان يَقْدِرُ الْمَكْفُولُ لَهُ

ص: 168

أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرٍ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ) لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ إلَّا مَرَّةً. قَالَ (وَإِذَا كَفَلَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَسَلَّمَهُ فِي السُّوقِ بَرِئَ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَقِيلَ فِي زَمَانِنَا: لَا يَبْرَأُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُعَاوَنَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَا عَلَى الْإِحْضَارِ فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا (وَإِنْ سَلَّمَهُ فِي بَرِّيَّةٍ لَمْ يَبْرَأْ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهَا فَلَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ، وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ فِي سَوَادٍ لِعَدَمِ قَاضٍ يَفْصِلُ الْحُكْمَ فِيهِ، وَلَوْ سَلَّمَ فِي مِصْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْمِصْرِ الَّذِي كَفَلَ فِيهِ بَرِئَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهِ. وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ شُهُودُهُ فِيمَا عَيَّنَهُ.

عَلَى أَنْ يُخَاصِمَهُ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرٍ) مِنْ الْأَمْصَارِ (بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ) سَوَاءٌ قَبِلَهُ الطَّالِبُ أَوْ لَا كَالْمَدْيُونِ إذَا جَاءَ بِالدَّيْنِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ الطَّالِبِ (وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ) بِالْكَفَالَةِ (إلَّا مَرَّةً) وَقَدْ حَصَلَتْ. ثُمَّ الشَّرْطُ عِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمِصْرُ وَهُوَ الْمِصْرُ الَّذِي كَفَلَ فِيهِ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ مَسَائِلِ التَّسْلِيمِ، وَوَضْعُهَا هُنَا أَنْسَبُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ يُثْبِتُ بِذَلِكَ قُدْرَةَ الْمُخَاصَمَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُمَا يَقُولَانِ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّكْفِيلِ بِنَفْسِهِ تَحْصِيلُهُ فِي وَقْتٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى مُخَاصَمَتِهِ وَهَذَا لَا يَكُونُ ظَاهِرًا إلَّا فِي مِصْرِهِ؛ لِأَنَّ شُهُودَهُ ظَاهِرٌ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَمْصَارِ، وَلَا يُفِيدُ التَّكْفِيلُ فَائِدَتَهُ الْمَقْصُودَةَ بِهِ، وَقَوْلُهُمَا أَوْجَهُ. وَفِي الْفَتَاوَى: الْقَاضِي إذَا أَخَذَ كَفِيلًا مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ إذَا سَلَّمَهُ إلَى الْقَاضِي أَوْ إلَى رَسُولِهِ بَرِيءَ، وَإِنْ سَلَّمَ إلَى الْمُدَّعِي لَا، وَهَذَا إذَا لَمْ يُضِفْ الْكَفَالَةَ إلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ أَضَافَ بِأَنْ قَالَ أَكْفُلُ لِلْمُدَّعِي فَالْجَوَابُ عَلَى الْعَكْسِ، أَمَّا إنْ عَيَّنَ مَجْلِسَ الْقَاضِي أَوْ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَهُ فِي السُّوقِ بَرِيءَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَفَالَةِ يَحْصُلُ بِذَلِكَ وَهُوَ قُدْرَةُ الْمُخَاصَمَةِ.

وَحِينَ اخْتَلَفَ الزَّمَانُ رَأَى الْمَشَايِخُ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إيصَالِهِ إلَى حَضْرَةِ الْقَاضِي بِمُعَاوَنَةِ النَّاسِ وَعُبَّارُ الطَّرِيقِ الْآنَ لَا يَقْدِرُونَ أَوْ لَا يَفْعَلُونَ إنْ قَدَرُوا فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ نَصًّا وَقَالَ: لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُعِينُونَهُ لِلْإِحْضَارِ. قِيلَ وَيَجِبُ أَنْ يُفْتِيَ بِهَذَا. وَلَوْ شَرَطَ تَسْلِيمَهُ عِنْدَ الْأَمِيرُ فَسَلَّمَهُ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ عُزِلَ ذَلِكَ الْقَاضِي وَوُلِّيَ غَيْرُهُ فَدَفَعَهُ عِنْدَ الثَّانِي جَازَ، ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ (وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي بَرِّيَّةٍ أَوْ سَوَادٍ لَا يَبْرَأُ) اتِّفَاقًا

ص: 169

وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرُ الطَّالِبِ لَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ فِيهِ.

قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْكَفَالَةِ) لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ، وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الْحُضُورُ عَنْ الْأَصِيلِ فَيَسْقُطُ الْإِحْضَارُ عَنْ الْكَفِيلِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ وَمَالُهُ لَا يَصْلُحُ لِإِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ.

وَلَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِوَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ

وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرُ الطَّالِبِ لَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُحَاكَمَةِ فِيهِ) وَفِي الْمُنْتَقَى: رَجُلٌ كَفَلَ بِنَفْسِ مَحْبُوسٍ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَهُ حَتَّى يَدْفَعَهُ الْكَفِيلُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَى السِّجْنِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرُ الطَّالِبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ.

وَفِي الْعُيُونِ: لَوْ ضَمِنَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَحُبِسَ الْمَطْلُوبُ فِي السِّجْنِ فَأَتَى بِهِ الَّذِي ضَمِنَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَدَفَعَهُ إلَيْهِ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهُ فِي السِّجْنِ؛ وَلَوْ ضَمِنَهُ وَهُوَ فِي السِّجْنِ يَبْرَأُ، وَلَوْ خُلِّيَ عَنْ الْحَبْسِ ثُمَّ حُبِسَ ثَانِيًا فَدَفَعَهُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي الْحَبْسِ، إنْ كَانَ الْحَبْسُ الثَّانِي مِنْ أُمُورِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا صَحَّ الدَّفْعُ، وَإِنْ كَانَ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السُّلْطَانِ لَا يَبْرَأُ.

وَلَوْ حَبَسَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ ثُمَّ أَخَذَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ فَقَالَ: ادْفَعْهُ إلَيَّ فَدَفَعَهُ وَهُوَ فِي الْحَبْسِ قَالَ مُحَمَّدٌ: بَرِئَ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ وَهُوَ فِي حَبْسِهِ. وَمَفْهُومُ هَذَا الْقَيْدِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَقَدْ حَبَسَهُ غَيْرُ الطَّالِبِ.

وَلَوْ قَالَ الْمَطْلُوبُ فِي السِّجْنِ دَفَعْت نَفْسِي إلَيْك عَنْ كَفَالَتِهِ كَانَ جَائِزًا أَيْضًا وَبَرِئَ الْكَفِيلُ. وَفِي الْوَاقِعَاتِ: رَجُلٌ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَهُوَ مَحْبُوسٌ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْكَفِيلُ لَا يُحْبَسُ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِ وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الْحُضُورُ عَنْ الْأَصِيلِ فَيَسْقُطُ الْإِحْضَارُ عَنْ الْكَفِيلِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْكَفِيلُ) يَعْنِي يَبْرَأُ (لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ وَمَالُهُ لَا يَصْلُحُ لِإِيفَاءِ هَذَا الْوَاجِبِ) الَّذِي هُوَ إحْضَارُ النَّفْسِ (بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ) إذَا مَاتَ فَإِنَّهُ يُطَالِبُ بِأَدَاءِ مَا كَفَلَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يَصْلُحُ لِلْوَفَاءِ بِذَلِكَ فَيُطَالِبُ بِهِ الْوَصِيُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْوَارِثُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَيِّتِ وَتَرْجِعُ وَرَثَةُ الْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ: أَعْنِي الْمَكْفُولَ عَنْهُ إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ كَمَا فِي الْحَيَاةِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا وَمَاتَ الْكَفِيلُ قَبْلَ الْأَجَلِ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ حَالًّا وَلَا تَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إلَّا بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ بَاقٍ فِي حَقِّ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِبَقَاءِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ.

وَعَنْ زُفَرَ لَا يَحُلُّ بِمَوْتِ الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ عَلَى الْكَفِيلِ أَيْضًا. أَمَّا لَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَلَا تَسْقُطُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ كَمَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَالِ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مَوْجُودٌ عَلَى

ص: 170

الْمَيِّتِ.

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ آخَرَ وَلَمْ يَقُلْ إذَا دَفَعْت إلَيْك فَأَنَا بَرِيءٌ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ) لِأَنَّهُ مُوجِبُ التَّصَرُّفِ فَيَثْبُتُ بِدُونِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُ الطَّالِبِ التَّسْلِيمَ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَوْ سَلَّمَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كَفَالَتِهِ صَحَّ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْخُصُومَةِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الدَّفْعِ،

قُدْرَتِهِ، وَالْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ يَقُومُ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِي الْمُطَالَبَةِ فَيُطَالِبُهُ بِذَلِكَ

(قَوْلُهُ وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ آخَرَ وَلَمْ يَقُلْ إذَا دَفَعْته إلَيْك أَنَا بَرِيءٌ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ لِأَنَّهُ) أَيْ دَفْعَ الْمَطْلُوبِ هُوَ (مُوجِبُ التَّصَرُّفِ) يَعْنِي الْكَفَالَةَ فَلَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِهِ إلَى التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ كَالْمِلْكِ مُوجِبُ الْبَيْعِ فَيَثْبُتُ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْتَرَطَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مُوجِبَ الْكَفَالَةِ وُجُوبُ الدَّفْعِ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ وَجَوَازُهُ عِنْدَ عَدَمِهَا وَالْبَرَاءَةُ مُوجِبُ الدَّفْعِ فَكَانَتْ حُكْمَ مُتَعَلِّقٍ مُوجِبِ الْكَفَالَةِ، فَإِذَا وُجِدَ وُجِدَتْ وَقَدْ وُجِدَ، إذْ قَدْ فَرَضَ الدَّفْعَ فَتَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى اشْتِرَاطِهَا.

وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ) يَعْنِي إذَا سَلَّمَ الْمَدْيُونُ الدَّيْنَ لِلدَّائِنِ وَلَا مَانِعَ مِنْ الْقَبْضِ بَرِيءَ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ كَالْغَاصِبِ إذَا رَدَّ الْمَغْصُوبَ عَلَى الْمَالِكِ يَبْرَأُ مَعَ أَنَّهُ جَانٍ فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَالْبَائِعُ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْكَفِيلَ تَسْلِيمُهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مَا أُرِيدَتْ إلَّا لِلتَّوَثُّقِ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَمَا لَمْ يَسْتَوْفِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ فَأَزَالَ هَذَا الْوَهْمَ بِبَيَانِ أَنَّ عَقْدَ الْكَفَالَةِ يُوجِبُ التَّسْلِيمَ مَرَّةً لَا بِقَيْدِ التَّكْرَارِ (قَوْلُهُ وَلَوْ سَلَّمَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كَفَالَتِهِ) أَيْ مِنْ كَفَالَةِ الْكَفِيلِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: سَلَّمْت نَفْسِي أَوْ دَفَعْت نَفْسِي إلَيْك مِنْ كَفَالَةِ فُلَانٍ (صَحَّ) عَنْ كَفَالَتِهِ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِذَلِكَ.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَكْفُولَ (مُطَالَبٌ بِالْخُصُومَةِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مُطَالَبٌ بِالْحُضُورِ: يَعْنِي إذَا طَالَبَ الْكَفِيلَ فَكَانَ

ص: 171

وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ وَكِيلُ الْكَفِيلِ أَوْ رَسُولُهُ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَهُ.

قَالَ (فَإِنْ تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى وَقْتِ كَذَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ فَلَمْ يُحْضِرْهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ لَزِمَهُ ضَمَانُ الْمَالِ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ صَحِيحٌ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ (وَلَا يَبْرَأُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ) لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ لَا يُنَافِي الْكَفَالَةَ بِنَفْسِهِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّوَثُّقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ.

بِتَسْلِيمِهِ نَفْسَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْقِطًا ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ إذَا طَالَبَهُ بِمُعَجَّلِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا كَالْمُحِيلِ إذَا قَضَى الدَّيْنَ بِنَفْسِهِ يَصِحُّ قَبِلَ الطَّالِبُ أَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ (وَكَذَا إذَا سَلَّمَهُ رَسُولُ الْكَفِيلِ أَوْ وَكِيلُهُ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَهُ) يَعْنِي إذَا قَالَ: سَلَّمْت إلَيْك نَفْسَهُ عَنْ الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ سَلَّمَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ سَلَّمَهُ الْوَكِيلُ وَلَمْ يَقُلْ مَا ذَكَرْنَا لَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ، وَلَوْ سَلَّمَهُ أَجْنَبِيٌّ لَا بِأَمْرِ الْكَفِيلِ عَنْ الْكَفِيلِ لَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِذَلِكَ إلَّا أَنْ يَقْبَلَهُ الطَّالِبُ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ حِينَئِذٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَكَتَ الطَّالِبُ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا لَا يَبْرَأُ

(قَوْلُهُ فَإِنْ تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى وَقْتِ كَذَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ فَلَمْ يُحْضِرْهُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهُوَ ضَامِنٌ) لِلْأَلْفِ (لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ) فِي هَذَا (مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ، وَهَذَا تَعْلِيقٌ صَحِيحٌ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ وَلَا يَبْرَأُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ) الْمُعَلَّقَةِ (لَا يُنَافِي الْكَفَالَةَ بِنَفْسِهِ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلتَّوَثُّقِ) وَلَعَلَّهُ يُطَالِبُهُ بِحَقٍّ آخَرَ فَهَذَانِ مَطْلَبَانِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَخَالَفَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْكَفَالَةُ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَالَةِ (تَعْلِيقُ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ) فَكَمَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَيْعِ كَأَنْ يَقُولَ إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَقَدْ بِعْتُك

ص: 172

وَلَنَا أَنَّهُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ وَيُشْبِهُ النَّذْرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الْتِزَامٌ. فَقُلْنَا: لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِمُطْلَقِ الشَّرْطِ كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَنَحْوِهِ. وَيَصِحُّ بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ وَالتَّعْلِيقُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ مُتَعَارَفٌ.

كَذَا بِمِائَةٍ فَقَبِلَ الْآخَرُ لَا يَثْبُتُ الْبَيْعُ عِنْدَ الدُّخُولِ كَذَلِكَ. هَذَا (وَلَنَا أَنَّهُ) أَيْ عَقْدَ الْكَفَالَةِ (يُشْبِهُ الْبَيْعَ) فِي الِانْتِهَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْكَفِيلَ بِالْأَمْرِ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِمَا أَدَّى فَصَارَ كَالْمُعَاوَضَةِ (وَيُشْبِهُ النَّذْرَ) ابْتِدَاءً (مِنْ حَيْثُ إنَّهُ) تَبَرَّعَ فِي الِابْتِدَاءِ بِ (الْتِزَامِ) الْمَالِ فَبِالنَّظَرِ إلَى الشَّبَهِ الْأَوَّلِ فَقَطْ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الثَّانِي فَقَطْ يَجُوزُ مُطْلَقًا، فَإِنَّ النَّذْرَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ مُطْلَقًا فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ (فَقُلْنَا إنْ كَانَ) التَّعْلِيقُ (بِشَرْطٍ مُتَعَارَفٍ) بَيْنَ النَّاسِ أَيْ تَعَارَفُوا تَعْلِيقَهَا بِهِ (صَحَّ عَمَلًا بِشَبَهِ النَّذْرِ) وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مُتَعَارَفٍ كَدُخُولِ الدَّارِ (وَهُبُوبِ الرِّيحِ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ عَمَلًا بِشَبَهِ الْبَيْعِ وَالتَّعْلِيقُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ مُتَعَارَفٌ) ثُمَّ ذَكَرَ خُصُوصَ الْكَمِّيَّةِ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ الْأَلْفُ اتِّفَاقِيٌّ فِي التَّصْوِيرِ، فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى مَعْلُومِيَّةِ الْقَدْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ بَلْ لَا تَضُرُّهُ جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ لَوْ قَالَ: كَفَلْت لَك بِمَالِك عَلَيْهِ صَحَّ، وَمَهْمَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ لَزِمَهُ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ صِحَّةِ الْكَفَالَتَيْنِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الصَّحِيحِ عَنْهُ بَلْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ جَائِزَةٌ فَإِنَّمَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ لِلتَّعْلِيقِ.

وَأَمَّا ثُبُوتُ صِحَّتِهِمَا فَلِلْمُقْتَضِي وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ أَوَّلًا ثُمَّ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ ثَانِيًا مُعَلَّقَةٌ وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَصَحَّتْ كَفَالَتَانِ مُتَعَدِّدَتَا الْمُوجِبِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ تِلْكَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَمُوجِبَ الْأُخْرَى تَسْلِيمُ الْمَالِ وَلَيْسَ إسْقَاطُ أَحَدِهِمَا مُسْقِطًا لِلْآخَرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ آخَرُ يَدَّعِي بِهِ غَيْرَ الْمَالِ الَّذِي كَفَلَ بِهِ مُعَلَّقًا، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يُوجِبُ أَنَّ الْتِزَامَ الْكَفَالَتَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ إلَّا لَوْ كَانَتْ الْعِبَارَةُ كَفَلْت بِنَفْسِهِ، عَلَى أَنِّي إنْ لَمْ أُوَافِ بِهِ إلَى كَذَا كُنْت كَفِيلًا بِمَا عَلَيْهِ بَدَلَ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَذَلِكَ بَلْ اللَّفْظُ عَلَى ثُبُوتِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ مُنَجَّزًا بِقَوْلِهِ كَفَلْت بِنَفْسِهِ وَعَلَى تَعْلِيقِ كَفَالَةٍ أُخْرَى بِالْمَالِ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِهِ وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَثَبَتَ الْكَفَالَتَانِ. وَلَا يَخْفَى حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْمُعَلَّقَةُ بِمَا لَهُ عَلَيْهِ بِأَنْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ

ص: 173

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَقَالَ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ، فَإِنْ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ ضَمِنَ الْمَالَ) لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ.

يُوَافِ بِهِ إلَى كَذَا فَهُوَ كَفِيلٌ بِكُلِّ مَالٍ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ فَدَفَعَهُ ثُمَّ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ قَبْلَهُ حَقٌّ أَنْ تَبْطُلَ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ حِينَئِذٍ، وَلَوْ تَوَارَى الْمَكْفُولُ لَهُ عِنْدَ مَجِيءِ الْوَقْتِ فَلَمْ يَجِدْهُ الْكَفِيلُ لِيَدْفَعَهُ إلَيْهِ وَخَافَ لُزُومَ الْمَالِ عَلَيْهِ يَرْفَعُ أَمْرَهُ إلَى الْقَاضِي لِيُنَصِّبَ وَكِيلًا فَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَتَوَارَى حَتَّى كَادَتْ تَمْضِي يَرْفَعُ الْمُشْتَرِي إلَى الْقَاضِي لِيُنَصِّبَ وَكِيلًا عَنْ الْغَائِبِ وَيَرُدَّ عَلَيْهِ.

قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: هَذَا خِلَافُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَلَوْ فَعَلَهُ الْقَاضِي فَهُوَ حَسَنٌ، ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ، وَفِيهَا كَفِيلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَالْمَالُ الَّذِي لِلطَّالِبِ عَلَى فُلَانٍ رَجُلٌ آخَرُ وَهُوَ كَذَا عَلَى الْكَفِيلِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ.

وَهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ وَاحِدًا فِي الْكَفَالَتَيْنِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا.

وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ مُخْتَلَفًا فِيهِمَا فَتَبْطُلُ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَطْلُوبُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ وَاحِدًا وَالْمَطْلُوبُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فَهُوَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ إلَى غَدٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فِي الْمَجْلِسِ مَثَلًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ الَّذِي عَلَيْهِ وَاشْتَرَطَ الْكَفِيلُ عَلَى الطَّالِبِ إنْ لَمْ تُوَافِ غَدًا لِتَقْبِضَهُ مِنِّي فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ فَالْتَقَيَا بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ الْكَفِيلُ قَدْ وَافَيْت وَقَالَ الطَّالِبُ قَدْ وَافَيْت وَلَمْ تُوَافِ أَنْتَ لَمْ يُصَدَّقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَلَوْ أَقَامَ الْمَطْلُوبُ بَيِّنَةً عَلَى الْمُوَافَاةِ بَرِيءَ مِنْ الْكَفَالَتَيْنِ، وَكُلَّمَا كَفَلَ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ فَعَلَيْهِ الْمَالُ فَادَّعَى الْكَفِيلُ أَنَّهُ وَافَى بِهِ لَا يُصَدَّقُ، وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ وَقَالَ: فَإِنْ غَابَ فَلَمْ أُوَافِك بِهِ فَأَنَا ضَامِنٌ لِمَا عَلَيْهِ فَهَذَا عَلَى أَنْ يُوَافِيَهُ بَعْدَ الْغَيْبَةِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَقَالَ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ، فَإِنْ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ) يَعْنِي بَعْدَ الْغَدِ (ضَمِنَ الْمَالَ) لِلْمَكْفُولِ لَهُ وَيَرْجِعُ عَلَى وَرَثَةِ الْمَكْفُولِ بِهِ إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِهِ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْمَالُ إذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ هَذِهِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بَقَاءُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَهِيَ قَدْ زَالَتْ بِمَوْتِ الْمَكْفُولِ بِهِ عَلَى مَا عُرِفَ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْمَكْفُولُ لَهُ الْكَفِيلَ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ قَبْلَ الْوَقْتِ. أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ وُضِعَ لِفَسْخِ الْكَفَالَةِ فَتُفْسَخُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بِخِلَافِ الِانْفِسَاخِ بِالْمَوْتِ إنَّمَا هُوَ ضَرُورَةُ الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ الْمُفِيدِ فَيُقْتَصَرُ إذْ لَا ضَرُورَةَ إلَى تَعَدِّيهَا إلَى الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ.

وَأَمَّا جَوَابُ الْمَحْبُوبِيِّ وَالْمَبْسُوطِ بِأَنَّ تَصْحِيحَهَا بِطَرِيقِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ كَفَلَ بِالْمَالِ لِلْحَالِ ثُمَّ عَلَّقَ إبْرَاءَهُ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ.

ص: 174

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مِائَةَ دِينَارٍ بَيَّنَهَا أَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ رَجُلٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمِائَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: إنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى تَكَفَّلَ بِهِ رَجُلٌ ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى دَعْوَاهُ) لِأَنَّهُ عَلَّقَ مَالًا مُطْلَقًا بِخَطَرٍ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى مَا عَلَيْهِ،

فَخُرُوجٌ عَنْ الظَّاهِرِ احْتِيَاطًا لِإِيجَابِ الْمَالِ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَفْظَ الْغَدِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَقَاضِي خَانْ؛ فَيَثْبُتُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ وَالْقُدُورِيِّ بِأَنَّ هَذِهِ مُطْلَقَةٌ وَتِلْكَ مُقَيَّدَةٌ بِالْوَقْتِ فَلِذَا ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ. وَالْوَجْهُ أَنَّ هَذِهِ تُفِيدُ فَائِدَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ عَدَمَ الْمُوَافَاةِ إذَا كَانَ لِعَجْزِ الْمَوْتِ لَا أَثَرَ لَهُ وَيَثْبُتُ عِنْدَهُ الضَّمَانُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْعَجْزَ الْمُوجِبَ لِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ يَكُونُ عَنْ تَقْصِيرٍ مِنْ الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ مَوْتِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِأَنَّهُ غُلِبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ وَلَا تَقْصِيرَ مِنْهُ فِيهِ، وَإِلَّا فَكَوْنُ تِلْكَ مُقَيَّدَةً وَهَذِهِ مُطْلَقَةً لَا يُفِيدُ عَدَمَ مَعْرِفَةِ حُكْمِ هَذِهِ، إذْ قَدْ عُرِفَ أَنَّ الْمَدَارَ وُجُودُ الشَّرْطِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ فِيهِ، هَذَا إذَا مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ، فَلَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ قَبْلَ مَجِيءِ الْوَقْتِ هَلْ يَجِبُ الْمَالُ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ إذَا مَضَى الْوَقْتُ؟ قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ: فِي الْأَصْلِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ وَافَى وَرَثَةُ الْكَفِيلِ بِالْمَكْفُولِ بِهِ الطَّالِبَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ الْمَالُ، وَإِنْ أَبَى الْقَبُولَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّ لَهُمْ حَقًّا فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُمْ الْمَالُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ إلَخْ) صُورَتُهَا فِي الْجَامِعِ مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: فِي رَجُلٍ لَزِمَ رَجُلًا وَادَّعَى عَلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ فَبَيَّنَهَا أَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا أَوْ لَزِمَهُ وَلَمْ يَدَّعِ مِائَةَ دِينَارٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:

ص: 175

وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ بَيَّنَهَا وَلِأَنَّهُ لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَلَا يَجِبُ إحْضَارُ النَّفْسِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلَا تَصِحُّ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَيَّنَ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمَالَ ذُكِرَ مُعَرَّفًا فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا عَلَيْهِ، وَالْعَادَةُ جَرَتْ بِالْإِجْمَالِ فِي الدَّعَاوَى فَتَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى اعْتِبَارِ الْبَيَانِ، فَإِذَا بَيَّنَ الْتَحَقَ الْبَيَانُ بِأَصْلِ الدَّعْوَى فَتَبَيَّنَ صِحَّةُ الْكَفَالَةِ الْأُولَى فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّانِيَةُ.

دَعْهُ وَأَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ إلَى غَدٍ فَإِنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَعَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ فَرَضِيَ بِذَلِكَ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا، قَالَ عَلَيْهِ الْمِائَةُ الدِّينَارِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا إذَا ادَّعَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنَّهُ لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ ادَّعَى وَلَمْ يُبَيِّنْهَا حَتَّى كَفَلَ لَهُ بِالْمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ ادَّعَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى دَعْوَاهُ، وَأَرَادَ بِالْوَجْهَيْنِ مَا إذَا بَيَّنَهَا: أَيْ ذَكَرَ أَنَّهَا جَيِّدَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ كَذَا قِيلَ: وَالْأَفْيَدُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَجْهَيْنِ مَا إذَا ادَّعَى الْمِائَةَ عَيَّنَهَا أَوْ لَا، وَمَا إذَا لَمْ يَدَّعِ شَيْئًا حَتَّى كَفَلَ لَهُ ثُمَّ ادَّعَى الْمِقْدَارَ الَّذِي سَمَّاهُ الْكَفِيلُ. لِمُحَمَّدٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْتِزَامَ مَالٍ مُطْلَقٍ بِخَطَرٍ هُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ إذَا لَمْ يَنْسُبْ الْمِائَةَ إلَى مَا عَلَيْهِ وَهُوَ رِشْوَةٌ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الْمَطْلُوبَ فِي الْحَالِ فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُ هَذَا الْمَالِ أَوْ كَلَامُهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ كَمَا يَحْتَمِلُ مَا يَدِّعِيهِ فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِالشَّكِّ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَوَّلَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ صِحَّتَهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى (وَلَمْ تَصِحَّ) مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّعَى بِهِ (مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَلَمْ يَجِبْ إحْضَارُ النَّفْسِ فَلَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلَمْ تَصِحَّ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ) وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْأُولَى لَمْ تَصِحَّ الثَّانِيَةُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَوَّلَ الْكَرْخِيُّ وَهُوَ مُبْطِلٌ لِلْكَفَالَتَيْنِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَهُمَا أَنَّ الْمَالَ ذُكِرَ مُعَرَّفًا فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا عَلَيْهِ وَالْعَادَةُ جَرَتْ بِالْإِجْمَالِ فِي الدَّعَاوَى) قَبْلَ الْحُضُورِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي احْتِرَازًا عَنْ حِيَلِ الْخُصُومِ ثُمَّ يَقَعُ الْبَيَانُ فِيهِ (فَتَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى اعْتِبَارِ الْبَيَانِ، فَإِذَا بُيِّنَ الْتَحَقَ الْبَيَانُ بِأَصْلِ الدَّعْوَى فَيَتَبَيَّنُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ الْأُولَى فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا) صِحَّةُ (الثَّانِيَةِ) وَنَحْنُ قَدْ أَسْمَعْنَاك عِبَارَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمَالُ مُنْكَرٌ فِيهِ حَيْثُ قَالَ فَعَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ، وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَكَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَيُقَالُ: إنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ الدَّعْوَى بِأَلْفٍ ظَهَرَ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَلْفَ الَّتِي سَيَدَّعِيهَا حُكَّامُنَا بِأَنَّ الْكَفِيلَ كَانَ يَدْرِي خُصُوصَ دَعْوَاهُ تَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ مَا أَمْكَنَ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ حِينَ تَقَعُ عَلَى اعْتِبَارِ بَيَانِ الدَّعْوَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ. وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّا لَا نَحْكُمُ حَالَ صُدُورِهَا بِالْفَسَادِ بَلْ الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى ظُهُورِ الدَّعْوَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ ظَهَرَ أَنَّهُ إنَّمَا كَفَلَ بِالْأَلْفِ الْمُدَّعَى بِهِ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ قَالَ: إذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ الَّتِي عَلَيْهِ فَمَضَى غَدٌ وَلَمْ يُوَافِ بِهِ وَفُلَانٌ يَقُولُ: لَا شَيْءَ عَلَيَّ وَالطَّالِبُ يَدَّعِي أَلْفًا

ص: 176

قَالَ (وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) مَعْنَاهُ: لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا عِنْدَهُ، وَقَالَا: يُجْبَرُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَفِي الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيَلِيقُ بِهِمَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى.

وَالْكَفِيلُ يُنْكِرُ وُجُوبَهُ عَلَى الْأَصِيلِ فَعَلَى الْكَفِيلِ أَلْفُ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحَاصِلَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَحْدَهُ.

وَيُسْتَفَادُ بِهَا أَنَّ الْأَلْفَ تَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْمَكْفُولِ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ يُنْكِرُ وُجُوبَهُ عَلَى الْأَصِيلِ، وَسَنَذْكُرُ مَا يَظْهَرُ فِيهَا

(قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه) قَالَ الْمُصَنِّفُ (مَعْنَاهُ لَا يُجْبَرُ) عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ (عِنْدَهُ، وَقَالَا: يُجْبَرُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ) وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ الدَّعْوَى (وَفِي الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ) لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْغَالِبُ فِيهِ ذَلِكَ، وَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ لِإِخْلَاءِ الْأَرْضِ عَنْ الْفَسَادِ، وَمَعْنَى الْجَبْرِ لَيْسَ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُعْطِيَ بَلْ يُلَازِمُهُ لَا يَدَعُهُ يَدْخُلُ بَيْتَهُ إلَّا وَهُوَ مَعَهُ أَوْ يَجْلِسُ مَعَهُ خَارِجَ الْبَيْتِ أَوْ يُعْطِيَ كَفِيلًا (بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ) كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ أَوْ قَبْلَهَا لِأَنَّ قَبْلَهَا لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِسَبَبِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ دَعْوَى أَحَدٍ فِي الزِّنَا وَالشُّرْبِ فَلَمْ تَقَعْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لِحَقٍّ وَاجِبٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَبَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ التَّعْدِيلِ أَوْ شَهَادَةِ وَاحِدٍ عَدْلٍ يُحْبَسُ وَبِهِ يَحْصُلُ الِاسْتِيثَاقُ فَلَا مَعْنَى لِلْكَفَالَةِ، بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَإِنَّ حُضُورَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ مُسْتَحِقٌّ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْقَذْفِ وَالْقَتْلِ حَتَّى يُجْبِرَهُ الْقَاضِي عَلَى الْحُضُورِ وَيَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِإِحْضَارِهِ. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْبَسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِثْيَاقِ فِيهِ أَكْثَرُ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَبْسَ فِي هَذَا لَيْسَ لِلِاحْتِيَاطِ لِإِثْبَاتِ الْحَدِّ بَلْ لِتُهْمَةِ الْإِعَارَةِ وَالْفَسَادِ تَعْزِيرًا، وَإِذَا لَمْ يَكْفُلْ بِهِ مَاذَا يَصْنَعُ؟ قَالَ: يُلَازِمُهُ إلَى وَقْتِ قِيَامِ الْقَاضِي عَنْ الْمَجْلِسِ، فَإِنْ أَحْضَرَ الْبَيِّنَةَ فِيهَا وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الَّذِي يَجْمَعُ الْخَمْرَ وَيَشْرَبُهُ وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ قَالَ: أَحْبِسُهُ وَأُؤَدِّبُهُ ثُمَّ أُخْرِجُهُ، وَمَنْ يُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ وَضَرْبِ النَّاسِ فَإِنِّي أَحْبِسُهُ وَأُخَلِّدُهُ فِي السِّجْنِ

ص: 177

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَلِأَنَّ مَبْنَى الْكُلِّ عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَلِيقُ بِهَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ (وَلَوْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِهِ يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فِيهَا وَاجِبٌ فَيُطَالَبُ بِهِ الْكَفِيلُ فَيَتَحَقَّقُ الضَّمُّ. قَالَ (وَلَا يُحْبَسُ فِيهَا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ أَوْ شَاهِدٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ الْقَاضِي)

إلَى أَنْ يَتُوبَ، لِأَنَّ شَرَّ هَذَا عَلَى النَّاسِ وَشَرَّ الْأَوَّلِ عَلَى نَفْسِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ (قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ») رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْكَلَاعِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ بَقِيَّةِ الْمَجْهُولِينَ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ. فِي الْكَامِلِ عَنْ عُمَرَ الْكَلَاعِيِّ وَأَعَلَّهُ بِهِ. قَالَ: مَجْهُولٌ لَا أَعْلَمُ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ بَقِيَّةٍ، كَمَا يُرْوَى عَنْ سَائِرِ الْمَجْهُولِينَ (وَلِأَنَّ مَبْنَى الْكُلِّ) يَعْنِي الْحُدُودَ الْخَالِصَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَاَلَّتِي فِيهَا حَقُّ الْعَبْدِ كَالْقِصَاصِ (عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَلِيقُ بِهَا الِاسْتِيثَاقُ كَمَا فِي التَّعْزِيرِ) حَيْثُ يُجْبَرُ الْمَطْلُوبُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ فِيهِ بِنَفْسِهِ.

هَذَا (وَلَوْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ) أَيْ نَفْسُ الْمَطْلُوبِ (بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِلَا جَبْرٍ) يَعْنِي فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ (جَازَ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ) وَهُوَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ (لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فِيهِمَا وَاجِبٌ فَيُطَالِبُ بِهِ الْكَفِيلُ فَيَتَحَقَّقُ الضَّمُّ) وَمُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ صِحَّةُ الْكَفَالَةِ إذَا سَمَحَ بِهَا فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ وَاجِبٌ فِيهَا، لَكِنْ نَصَّ فِي الْفَوَائِدِ الْخَبَّازِيَّةِ وَالشَّاهِيَة عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ الَّتِي فِيهَا لِلْعِبَادِ حَقٌّ كَحَدِّ الْقَذْفِ لَا غَيْرُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ، وَلِأَنَّهُ مُعَارِضٌ بِوُجُوبِ الدَّرْءِ (وَلَا يُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ أَوْ شَاهِدٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ الْقَاضِي) أَنَّهُ عَدَلَ لِنَفْيِ الْمَجْهُولِ

ص: 178

لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ هَاهُنَا، وَالتُّهْمَةُ تَثْبُتُ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ: إمَّا الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ، بِخِلَافِ الْحَبْسِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لِحُصُولِ الِاسْتِيثَاقِ بِالْكَفَالَةِ.

لِأَنَّ الْحَبْسَ هُنَا لِلتُّهْمَةِ) لَا لِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ (وَالتُّهْمَةُ تَثْبُتُ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ، إمَّا الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ) فَإِذَا وَقَعَتْ التُّهْمَةُ حُبِسَ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رَوَى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ» وَقَدَّمْنَا تَخْرِيجَهُ وَالْكَلَامَ فِيهِ فِي الْحُدُودِ (بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْحَبْسَ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ) أَيْ فِي الْمَالِ فَإِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمَالُ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ وَامْتَنَعَ مِنْ الْإِيفَاءِ يُحْبَسُ فَكَانَ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهَا.

أَمَّا الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ فَأَقْصَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا الْقَتْلُ، وَالْحَبْسُ نَوْعُ عُقُوبَةٍ فَجَازَ أَنْ يُعَاقَبَ بِالْحَبْسِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ.

وَفِي الصِّحَاحِ وَالْمُغْرِبِ: التُّهَمَةُ بِالتَّحْرِيكِ، وَأَصْلُ التَّاءِ فِيهِ وَاوٌ مِنْ وَهَمْت الشَّيْءَ أَهِمُهُ وَهْمًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ: أَيْ وَقَعَ فِي خُلْدِي، وَالْوَهْمُ مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الْخَاطِرِ، وَاتَّهَمْت فُلَانًا بِكَذَا وَالِاسْمُ التُّهْمَةُ بِالتَّحْرِيكِ أَصْلُهُ اوْتَهَمْتُ كَمَا فِي اتَّكَلْت أَصْلُهُ اوْتَكَلْتُ بِمَعْنَى اعْتَمَدْت قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا ثُمَّ أُبْدِلَتْ مِنْهَا وَأُدْغِمَتْ فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُحْبَسُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لِحُصُولِ الِاسْتِيثَاقِ بِالْكَفَالَةِ) إذْ هُمَا يَقُولَانِ بِجَوَازِ الْكَفَالَةِ فَيَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ فَكَانَ عَنْهُمَا رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يُحْبَسُ وَلَا يَكْفُلُ، وَفِي أُخْرَى يَكْفُلُ وَلَا يُحْبَسُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِأَحَدِهِمَا. وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُولَى يُحْبَسُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى كَفِيلٍ، وَبِالثَّانِيَةِ يَكْفُلُ بِلَا حَبْسٍ إنْ قَدَرَ عَلَى الْكَفِيلِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُدُودِ حَدُّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ.

ص: 179

قَالَ (وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ فِي الْخَرَاجِ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءِ فَيُمْكِنُ تَرْتِيبُ مُوجِبِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فِيهِمَا.

قَالَ (وَمَنْ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا آخَرَ فَهُمَا كَفِيلَانِ) لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْتِزَامُ

قَوْلُهُ وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ فِي الْخَرَاجِ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمٌّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ وَالْخَرَاجُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ حَتَّى يُحْبَسَ بِهِ وَيُلَازَمَ وَيُمْنَعَ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهِ وَالرَّهْنُ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَالْخَرَاجُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ (فَأَمْكَنَ تَرْتِيبُ مُوجِبِ الْعَقْدِ) أَيْ كُلٌّ مِنْ عَقْدِ الْكَفَالَةِ وَهُوَ مُطَالَبَةُ الْكَفِيلِ وَعَقْدِ الرَّهْنِ وَهُوَ الِاسْتِيفَاءُ لِلْخَرَاجِ مِنْ الرَّهْنِ فَصَحَّ كُلٌّ مِنْ عَقْدِ الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ بِهِ.

وَظَهَرَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ مُطَالَبٌ بِهِ مُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءِ لَفٌّ وَنَشْرٌ، فَالْمُطَالَبَةُ تَرْجِعُ إلَى الْكَفَالَةِ وَالِاسْتِيفَاءُ يَرْجِعُ إلَى الرَّهْنِ. وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى خُصُوصِ هَذَا الدَّيْنِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِهِ لِأَنَّ الْخَرَاجَ فِي حُكْمِ الصِّلَاتِ وَوُجُوبَهُ لِحَقِّ الشَّرْعِ كَالزَّكَاةِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَلْزُومًا لِلَوَازِمِ الدَّيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا صَحَّ الْعَقْدَانِ الْمَذْكُورَانِ. بِخِلَافِ دَيْنِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُطَالِبٌ، مِنْ الْعِبَادِ وَهُوَ الْإِمَامُ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَالِكُ فِي الْبَاطِنَةِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةَ الدَّيْنِ، لِأَنَّ حَاصِلَهُ إيجَابُ تَمْلِيكِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْغِنَى، وَلِذَا لَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ جَبْرًا لِلْوَرَثَةِ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَخْلُصْ كَوْنُهُ لَهُ مُطَالِبًا مِنْ الْعِبَادِ عَنْ شُبْهَةِ عَدَمِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَالِكَ لِلْعَيْنِ يَتَحَقَّقُ مُطَالَبًا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ حَقِيقَةً، بَلْ حَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمَالِكِ مُطَالَبًا لِلْمَالِكِ، فَالْمَالِكُ مُطَالَبٌ بِفَتْحِ اللَّامِ لَيْسَ غَيْرُ، وَمُطَالَبَةُ الْإِمَامِ لَيْسَ لِإِيصَالِ الْمُسْتَحَقِّينَ إلَى أَمْلَاكِهِمْ بَلْ إلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ لَا بِطَرِيقِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ فَإِنَّهَا مَمْلُوكَاتٌ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا آخَرَ) بِنَفْسِهِ جَازَ (وَهُمَا كَفِيلَانِ) بِالنَّفْسِ (لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْتِزَامُ

ص: 180

الْمُطَالَبَةِ وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ وَالْمَقْصُودُ التَّوَثُّقُ، وَبِالثَّانِيَةِ يَزْدَادُ التَّوَثُّقُ فَلَا يَتَنَافَيَانِ

(وَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فَجَائِزَةٌ مَعْلُومًا كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ أَوْ مَجْهُولًا إذَا كَانَ دَيْنًا صَحِيحًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ تَكَفَّلْت عَنْهُ بِأَلْفٍ أَوْ بِمَا لَك عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُدْرِكُك فِي هَذَا الْبَيْعِ) لِأَنَّ مَبْنَى الْكَفَالَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فَيَتَحَمَّلُ فِيهَا الْجَهَالَةَ، وَعَلَى الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ إجْمَاعٌ وَكَفَى بِهِ حُجَّةً،

الْمُطَالَبَةِ) وَجَازَ تَعَدُّدُ الْمُلْتَزِمِينَ بِهَا لِزِيَادَةِ التَّوَثُّقِ. ثُمَّ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا نَفْسَ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا يَبْرَأُ الْآخَرُ بِالْإِجْمَاعِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ إنْ كَفَلُوا مَعًا طُولِبَ كُلٌّ بِمَا يَخُصُّهُ أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ جَازَتْ مُطَالَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ بِالْكُلِّ. مَثَلًا: كُفِلَ ثَلَاثَةٌ مَعًا بِأَلْفٍ لَا يُطَالَبُ أَحَدُهُمْ إلَّا بِثُلُثِهَا، وَلَوْ كُفِلُوا بِهَا عَلَى التَّعَاقُبِ طُولِبَ كُلُّ وَاحِدٍ بِالْأَلْفِ، وَأَيُّهُمْ قَضَى سَقَطَتْ عَنْ الْبَاقِينَ.

(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ) هُوَ عَدِيلُ قَوْلِهِ أَوَّلَ الْبَابِ: الْكَفَالَةُ ضَرْبَانِ: كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ، وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْمُعَادَلَةَ الصَّرِيحَةَ لَوْ قَالَ: أَمَّا الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَهُوَ إنَّمَا قَالَ فَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ إلَخْ، وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ عِنْدَنَا جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الْمَكْفُولُ بِهِ مَجْهُولَ الْمِقْدَارِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ هُوَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَاللَّيْثُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا تَجُوزُ بِالْمَجْهُولِ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ مَالٍ مَجْهُولٍ فَلَا يَجُوزُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ لِوُقُوعِ الْمُمَاكَسَاتِ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَالْكَفَالَةُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ كَالنَّذْرِ لَا يُقْصَدُ بِهِ سِوَى ثَوَابِ اللَّهِ أَوْ رَفْعِ الضِّيقِ عَنْ الْحَبِيبِ فَلَا يُبَالَى بِمَا الْتَزَمَ فِي ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إقْدَامُهُ بِلَا تَعْيِينِهِ لِلْمِقْدَارِ حِينَ قَالَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَعَلَيَّ، فَكَانَ مَبْنَاهَا التَّوَسُّعَ فَتُحُمِّلَتْ فِيهَا الْجَهَالَةُ.

وَمِنْ آثَارِ التَّوَسُّعِ فِيهَا جَوَازُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَمَا نُوقِضَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لَك بِبَعْضِ مَالِك عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مَمْنُوعٌ بَلْ يَصِحُّ عِنْدَنَا وَالْخِيَارُ لِلضَّامِنِ وَيَلْزَمُ أَنْ يُبَيِّنَ أَيَّ مِقْدَارٍ شَاءَ (وَعَلَى ضَمَانِ الدَّرَكِ إجْمَاعٌ) وَضَمَانُ الدَّرَكِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْتَرِي: أَنَا ضَامِنٌ لِلثَّمَنِ إنْ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ أَحَدٌ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ اسْتِحْقَاقُ بَعْضِهِ أَوْ كُلِّهِ، وَقَدْ نَقَلَ

ص: 181

وَصَارَ كَمَا إذَا كَفَلَ لِشَجَّةٍ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ وَإِنْ اُحْتُمِلَتْ السِّرَايَةُ وَالِاقْتِصَارُ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا صَحِيحًا وَمُرَادُهُ أَنْ لَا يَكُونَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ، وَسَيَأْتِيك فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

قَالَ (وَالْمَكْفُولُ لَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ كَفِيلَهُ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي قِيَامَ الْأَوَّلِ لَا الْبَرَاءَةَ عَنْهُ، إلَّا إذَا شَرَطَ فِيهِ الْبَرَاءَةَ فَحِينَئِذٍ تَنْعَقِدُ حَوَالَةً اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى، كَمَا أَنَّ الْحَوَالَةَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْرَأَ بِهَا الْمُحِيلُ تَكُونُ كَفَالَةً (وَلَوْ طَالَبَ أَحَدَهُمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا) لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ الضَّمُّ، بِخِلَافِ الْمَالِكِ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ

نَصَّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه عَلَى جَوَازِ ضَمَانِ الدَّرَكِ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إذَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يُعَقِّبْهُ بِإِنْكَارٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ حِمْلَ الْبَعِيرِ كَانَ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا كَمَا يُتَعَارَفُ فِي زَمَانِنَا أَنَّ الْحِمْلَ الصَّادِرَ خَمْسُمِائَةِ رَطْلٍ فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ (وَصَارَ كَمَا لَوْ كَفَلَ بِشَجَّةٍ) أَيْ خَطَأٍ، فَإِنَّ الْعَمْدَ عَلَى تَقْدِيرِ السِّرَايَةِ يَجِبُ الْقِصَاصُ إذَا كَانَتْ بِآلَةٍ جَارِحَةٍ وَلَا كَفَالَةَ بِالْقِصَاصِ، وَإِذَا كَانَتْ خَطَأً فَفِي الْكَفَالَةِ بِهَا جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ فَإِنَّهَا إنْ سَرَتْ إلَى النَّفْسِ وَجَبَ دِيَةُ النَّفْسِ وَإِلَّا فَأَرْشُ الشَّجَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ صَحَّ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الدَّيْنِ الصَّحِيحِ مَا لَا يَكُونُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إسْقَاطِ هَذَا الدَّيْنِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ وَلِأَنَّهُ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ وَلَا دَيْنَ يَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ، وَكَذَا يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ دَيْنِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ دَيْنٌ حَتَّى يَمْنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةَ الدَّيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالدَّرَكُ التَّبِعَةُ وَفِيهِ فَتْحُ الرَّاءِ وَسُكُونُهَا.

(ثُمَّ الْمَكْفُولُ لَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الْكَفِيلَ) وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَعَنْ مَالِكٍ لَا يُطَالِبُ الْكَفِيلَ إلَّا إذَا تَعَذَّرَتْ مُطَالَبَةُ الْأَصِيلِ (وَلَهُ مُطَالَبَتُهُمَا) جَمِيعًا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ وَذَلِكَ يُسَوِّغُ مُطَالَبَتَهُمَا أَوْ مُطَالَبَةَ أَيِّهِمَا شَاءَ، إلَّا إذَا شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَحِينَئِذٍ لَا يُطَالِبُ الْأَصِيلَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا حِينَئِذٍ حَوَالَةٌ عُقِدَتْ بِلَفْظِ الْكَفَالَةِ تُجُوِّزَ بِهَا فِيهَا فَتَجْرِي حِينَئِذٍ أَحْكَامُ الْحَوَالَةِ، كَمَا أَنَّ الْحَوَالَةَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبْرَأَ الْأَصِيلُ تَنْعَقِدُ كَفَالَةً اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى فِيهِمَا (بِخِلَافِ الْمَالِكِ) الْمَغْصُوبِ مِنْهُ (إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ

ص: 182

أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ أَحَدَهُمَا يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ مِنْهُ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّمْلِيكُ مِنْ الثَّانِي، أَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِالْكَفَالَةِ لَا تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ فَوَضَحَ الْفَرْقُ

قَالَ (وَيَجُوزُ)(تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِالشُّرُوطِ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَا بَايَعْت فُلَانًا فَعَلَيَّ أَوْ مَا ذَابَ لَك عَلَيْهِ فَعَلَيَّ أَوْ مَا غَصَبَك فَعَلَيَّ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّةِ

أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ) يَعْنِي الْغَاصِبَ وَغَاصِبَ الْغَاصِبِ إذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْآخَرَ (لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ) تَضْمِينَ (أَحَدِهِمَا) أَيْ إنْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ (يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ مِنْهُ) فَيَبْرَأُ الْآخَرُ بِالضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ الْمُطَالَبَةِ عَنْ الْكَفَالَةِ لَا تَقْتَضِي التَّمْلِيكَ وَلَوْ قَضَى عَلَيْهِ مَا لَمْ تُوجَدْ حَقِيقَةُ الِاسْتِيفَاءِ.

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِالشُّرُوطِ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَا بَايَعْت فُلَانًا فَعَلَيَّ وَمَا ذَابَ لَك عَلَيْهِ، أَيْ مَا وَجَبَ وَثَبَتَ فَعَلَيَّ مِنْ ذَوْبِ الشَّحْمِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى إنْ بَايَعْته فَعَلَيَّ دَرَكُ ذَلِكَ الْبَيْعِ. وَإِنْ ذَابَ لَك عَلَيْهِ شَيْءٌ فَعَلَيَّ، وَكَذَا مَا غَصَبَك فَعَلَيَّ، وَإِذَا صَحَّتْ فَعَلَيْهِ مَا يَجِبُ بِالْمُبَايَعَةِ الْأُولَى، فَلَوْ بَايَعَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَا يَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْمُبَايَعَةِ الثَّانِيَةِ، ذَكَرَهُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا.

وَفِي نَوَادِر أَبِي يُوسُفَ بِرِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ: يَلْزَمُهُ كُلُّهُ، وَلَوْ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَنْ هَذَا الضَّمَانِ وَنَهَاهُ عَنْ الْمُبَايَعَةِ صَحَّ، حَتَّى لَوْ بَايَعَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ فُلَانًا لِيَصِيرَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ مَعْلُومًا فَإِنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ كَجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ فِي الْإِضَافَةِ.

وَلَوْ قَالَ مَا بَايَعْت مِنْ النَّاسِ فَعَلَيَّ ضَمَانُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ بِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِهِ، بِخِلَافِ انْفِرَادِ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ بِهِ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ قَلِيلَةٌ تُتَحَمَّلُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ مُطْلَقًا وَجَهَالَةَ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُهَا مُطْلَقًا وَجَهَالَةَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي التَّعْلِيقُ وَالْإِضَافَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ، وَفِي التَّنْجِيزِ لَا تَمْنَعُ. مِثَالُ ذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَا ذَابَ لَك عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَوْ مَا بَايَعْت أَحَدًا فَهُوَ عَلَيَّ لَا تَصِحُّ لِجَهَالَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فِي الْإِضَافَةِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ مَا ذَابَ لِأَحَدٍ عَلَيْك فَهُوَ عَلَيَّ لَا تَصِحُّ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ.

وَلَوْ قَالَ مَا غَصَبَك فُلَانٌ أَوْ سَرَقَك فَعَلَيَّ جَازَ لِانْتِفَائِهِمَا، وَمِنْ الْمُثُلِ مَا غَصَبَك أَهْلُ هَذِهِ الدَّارِ فَأَنَا لَهُ ضَامِنٌ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا يَجِبُ لَك عَلَى وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فَعَلَيَّ، وَفِيهِ لَا تَصِحُّ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ. وَمَنْ بَايَعَ فُلَانًا الْيَوْمَ مِنْ بَيْعٍ فَعَلَيَّ لَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ شَيْءٌ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْوَاحِدَ مِنْ النَّاسِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ حَاضِرِينَ مَا بَايَعْتُمُوهُ فَعَلَيَّ يَصِحُّ فَأَيُّهُمْ بَايَعَهُ لَزِمَ الْكَفِيلَ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لِمُعَيَّنِينَ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ كَوْنُ أَهْلِ الدَّارِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لَيْسُوا مُعَيَّنِينَ مَعْلُومِينَ عِنْدَ الْمُتَخَاطَبِينَ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ. وَمِنْهُ مَا لَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ كَفَلْت لِهَذَا بِمَا لَهُ

ص: 183

ضَمَانِ الدَّرَكِ، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِشَرْطٍ مُلَائِمٍ لَهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ، أَوْ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ وَهُوَ مَكْفُولٌ عَنْهُ،

عَلَى فُلَانٍ وَهُوَ أَلْفٌ أَوْ لِهَذَا بِمَا لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ.

وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ كَفَلْت بِمَا لَك عَلَى فُلَانٍ أَوْ مَا لَك عَلَى فُلَانٍ رَجُلٌ آخَرُ جَازَ لِأَنَّهَا جَهَالَةٌ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي غَيْرِ تَعْلِيقٍ وَيَكُونُ الْخِيَارُ لِلْكَفِيلِ فَيَحْتَاجُ إلَى فَرْقَيْنِ فَرْقٌ بَيْنَ الْمَكْفُولِ لَهُ. وَعَنْهُ فِي التَّنْجِيزِ حَيْثُ يَصِحُّ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ دُونَ الْمَكْفُولِ لَهُ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي التَّنْجِيزِ وَالْإِضَافَةِ حَيْثُ يَصِحُّ فِي التَّنْجِيزِ دُونَ الْإِضَافَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْكَفَالَةَ فِي حَقِّ الطَّالِبِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَالْمَكْفُولُ لَهُ كَالْبَائِعِ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِنْ الْكَفِيلِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ وَلَا يَصِحُّ بِدُونِ قَبُولِ الْمُشْتَرِي وَقَبُولُهُ يَسْتَلْزِمُ تَعْيِينَهُ فَكَانَتْ جَهَالَةُ الطَّالِبِ مَانِعَةً جَوَازَهَا كَجَهَالَةِ الْمُشْتَرِي مَانِعَةٌ لِلْبَيْعِ، وَالْكَفَالَةُ فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حَيْثُ صَحَّ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ وَأَمْرِهِ فَلَا تَمْنَعُ جَهَالَتُهُ جَوَازَهَا كَمَا لَا تَمْنَعُ جَهَالَةُ الْمُعْتَقِ جَوَازَ الْعِتْقِ.

وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي الْإِرْسَالِ وَالتَّعْلِيقِ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ إضَافَةِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي حَقِّ الطَّالِبِ. وَإِنَّمَا جُوِّزَ اسْتِحْسَانًا لِلتَّعَامُلِ وَالتَّعَامُلُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ مَعْلُومًا فَإِذَا كَانَ مَجْهُولًا يَبْقَى عَلَى الْقِيَاسِ. وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ الْمُبْطِلَ هُوَ الْإِضَافَةُ لَا جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ. إذَا عُرِفَ هَذَا جِئْنَا إلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، فَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وَنُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ تَضْعِيفُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْعِمَالَةِ لَا الْكَفَالَةِ. وَكَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ ضَامِنٌ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْأُجْرَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ لَا الْكَفَالَةِ، وَضَمَانُ الْعِمَالَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزٌ كَمَنْ أَبَقَ عَبْدُهُ فَقَالَ مَنْ جَاءَ بِهِ فَلَهُ كَذَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْكَفَالَةِ بَلْ هُوَ الْعِمَالَةُ أَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ فِي الْآيَةِ مَجْهُولٌ وَلَا كَفَالَةَ مَعَ جَهَالَتِهِ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ سَتَأْتِي.

وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ قَالُوا: الِاسْتِدْلَال بِهِ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الزَّعِيمَ حَقِيقَةُ الْكَفِيلِ، وَالْمُؤَذِّنُ إنَّمَا نَادَى الْعِيرَ عَنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الْمَلِكُ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمَلِكُ يَقُولُ لَكُمْ لِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ، لِأَنَّهُ إنَّمَا نَادَى بِأَمْرِهِ ثُمَّ كَفَلَ عَنْ الْمَلِكِ بِالْجُعْلِ الْمَذْكُورِ لَا عَنْ نَفْسِهِ، إلَّا أَنَّ فِيهِ جَهَالَةَ الْمَكْفُولِ لَهُ، فَقَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَمْرَيْنِ: جَوَازُ الْكَفَالَةِ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ، وَجَوَازُهَا مُضَافَةٌ.

وَقَدْ عُلِمَ انْتِسَاخُ الْأَوَّلِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِهَا مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَسْخَ الْآخَرِ كَمَا قُلْنَا بِجَوَازِ الْكَفَالَةِ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ وَبُطْلَانِهَا مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ وَغَيْبَتِهِ لِحَدِيثِ «أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ الْمَيِّتِ الْمَدْيُونِ بِدِرْهَمَيْنِ فَقَالَ عَلِيٌّ هُمَا عَلَيَّ، فَصَلَّى عليه الصلاة والسلام عَلَيْهِ» فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِسَاخِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ جَوَازُهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ وَلَمْ يَقُمْ عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ، وَلَوْ لَمْ يَتِمَّ هَذَا كَفَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَعْنَى فِيهَا وَمِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ.

وَلَمَّا كَانَ إضَافَةُ الْكَفَالَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ شَبَهِهِ بِالْبَيْعِ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يُنَاسِبُ مَوْرِدَ النَّصِّ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا مُلَائِمًا، وَمُلَاءَمَةُ الشَّرْطِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلُزُومِ الْحَقِّ وَهُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ (بِأَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ) فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا فِي الْآيَةِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ بِالْجُعْلِ مُعَلَّقَةٌ بِسَبَبِ وُجُوبِهِ وَهُوَ الْمَجِيءُ بِصَاعِ الْمَلِكِ فَإِنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِ الْجُعْلِ.

الثَّانِي (أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ وَهُوَ مَكْفُولٌ عَنْهُ) فَإِنَّ قُدُومَهُ سَبَبٌ مُوَصِّلٌ لِلِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ. الثَّالِثُ (أَنْ يَكُونَ

ص: 184

أَوْ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ إذَا غَابَ عَنْ الْبَلْدَةِ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الشُّرُوطِ فِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَمَّا لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ بِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ إنْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ جَاءَ الْمَطَرُ وَكَذَا إذَا جَعَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَجَلًا، إلَّا أَنَّهُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَيَجِبُ الْمَالُ حَالًّا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَمَّا صَحَّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.

سَبَبًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِثْلُ إنْ غَابَ عَنْ الْبَلَدِ) أَوْ هَرَبَ أَوْ مَاتَ وَلَمْ يَدَّعِ شَيْئًا. وَمِنْ الصُّوَرِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ضَمِنْت مَالَك عَلَى فُلَانٍ إنْ تَوِيَ وَإِنْ حَلَّ مَالُك عَلَيْهِ وَلَمْ يُوَافِك بِهِ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ نَقْلًا عَنْ الْأَصْلِ قَالَ لِلْمُودَعِ: إنْ أَتْلَفَ الْمُودِعُ وَدِيعَتَك، أَوْ جَحَدَك فَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ صَحَّ، وَكَذَا إذَا قَالَ إنْ قَتَلَك ابْنُك فُلَانٌ خَطَأً فَأَنَا ضَامِنٌ لِلدِّيَةِ صَحَّ، بِخِلَافِ إنْ أَكَلَك سَبُعٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَيْسَ مُلَائِمًا كَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ قَدِمَ فُلَانٌ وَهُوَ غَيْرُ مَكْفُولٍ عَنْهُ أَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ جَاءَ الْمَطَرُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيقُ (وَكَذَا إذَا جَعَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَجَلًا) يَعْنِي مِنْ هُبُوبِ الرِّيحِ وَمَجِيءِ الْمَطَرِ كَأَنْ يَقُولَ: كَفَلْت بِهِ أَوْ بِمَالِك عَلَيْهِ إلَى أَنْ تَهُبَّ الرِّيحُ أَوْ إلَى أَنْ يَجِيءَ الْمَطَرُ لَا يَصِحُّ، إلَّا أَنَّ الْكَفَالَةَ تَثْبُتُ حَالَّةً وَيَبْطُلُ الْأَجَلُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلَّقَهَا بِهِمَا نَحْوُ إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فَقَدْ كَفَلْت لَك بِمَالِك عَلَيْهِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ بَاطِلَةٌ أَصْلًا.

وَلَوْ جَعَلَ الْأَجَلَ الْحَصَادَ أَوْ الدِّيَاسَ أَوْ الْمِهْرَجَانَ أَوْ الْعَطَاءَ أَوْ صَوْمَ النَّصَارَى جَازَتْ الْكَفَالَةُ وَالتَّأْجِيلُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرْطَ الْغَيْرَ الْمُلَائِمِ لَا تَصِحُّ مَعَهُ الْكَفَالَةُ أَصْلًا وَمَعَ الْأَجَلِ الْغَيْرِ الْمُلَائِمِ تَصِحُّ حَالَّةً وَيَبْطُلُ الْأَجَلُ لَكِنَّ تَعْلِيلَ الْمُصَنِّفِ لِهَذَا بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَمَّا صَحَّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ)

ص: 185

(فَإِنْ قَالَ تَكَفَّلْت بِمَا لَك عَلَيْهِ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ ضَمِنَهُ الْكَفِيلُ) لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً فَيَتَحَقَّقُ مَا عَلَيْهِ فَيَصِحُّ الضَّمَانُ بِهِ (وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ

يَقْتَضِي أَنَّ فِي التَّعْلِيقِ بِغَيْرِ الْمُلَائِمِ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ حَالَّةً، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنَّ الْكَفَالَةَ بَاطِلَةٌ فَتَصْحِيحُهُ أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ تَعْلِيقِهَا عَلَى مَعْنَى تَأْجِيلِهَا بِجَامِعِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَدَمَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْحَالِ، وَقَلَّدَ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَفْظَ الْمَبْسُوطِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ التَّعْلِيقَ وَأَرَادَ التَّأْجِيلَ. هَذَا وَظَاهِرُ شَرْحِ الْأَتْقَانِيِّ الْمَشْيُ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: الشَّرْطُ إذَا كَانَ مُلَائِمًا جَازَ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِهِ، وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ: إذَا اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ فَأَنَا ضَامِنٌ إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَمَجِيءِ الْمَطَرِ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَلَكِنْ تَنْعَقِدُ الْكَفَالَةُ وَيَجِبُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ لَا يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ أَصْلُهُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ: كَفَلَ بِمَالٍ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الطَّالِبُ جُعْلًا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْكَفَالَةِ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِيهَا فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ انْتَهَى. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ إنْ كَانَتْ فِي صُلْبِهَا.

(قَوْلُهُ فَإِنْ قَالَ تَكَفَّلْت بِمَالَكَ عَلَيْهِ) هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ خُصُوصِ وَقْتِ الْوُجُوبِ عَلَى الْكَفِيلِ، وَهَذَا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَقَعُ بِهَا الْكَفَالَةُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ تَكَفَّلْت بِمَالَكَ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِمِقْدَارِ أَلْفٍ أَوْ غَيْرِهَا (لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً فَيَتَحَقَّقُ بِهَا مَا عَلَيْهِ) فَوَجَبَ عَلَيْهِ (وَلَوْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ

ص: 186

فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ (فَإِنْ اعْتَرَفَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى كَفِيلِهِ) لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ (وَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ) لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا.

فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ فِي مِقْدَارِ مَا عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) مَعَ يَمِينِهِ (فَإِنْ اعْتَرَفَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى كَفِيلِهِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَيُصَدَّقُ) الْمَكْفُولُ عَنْهُ (فِي حَقِّ نَفْسِهِ) بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ (لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا) بِخِلَافِ قَوْلِهِ مَا ذَابَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ أَوْ مَا ثَبَتَ فَأَقَرَّ الْمَطْلُوبُ بِمَالٍ لَزِمَ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ حَصَلَ بِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ ذَابَ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى حَصَلَ وَقَدْ حَصَلَ بِإِقْرَارِهِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِمَا لَك عَلَيْهِ فَإِنَّهَا بِالدَّيْنِ الْقَائِمِ فِي الْحَالِ وَمَا ذَابَ وَنَحْوُهُ الْكَفَالَةُ بِمَا سَيَجِبُ، وَالْوُجُوبُ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ، بِخِلَافِ مَا قَضَى عَلَيْهِ لَك لَا يَلْزَمُ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي وَمِثْلُ مَالَكَ مَا أَقَرَّ لَك بِهِ أَمْسِ، فَلَوْ قَالَ الْمَطْلُوبُ أَقْرَرْت لَهُ بِأَلْفٍ أَمْسِ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّهُ قَبِلَ مَالًا وَاجِبًا عَلَيْهِ لَا مَالًا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ مَا أَقَرَّ بِهِ فَأَقَرَّ فِي الْحَالِ يَلْزَمُهُ؛ وَلَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ قَبْلَ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ مَا كَانَ أَقَرَّ لَك، وَلَوْ أَبَى الْمَطْلُوبُ الْيَمِينَ فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بَلْ بَذْلٌ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ: رَجُلٌ قَالَ مَا أَقَرَّ فُلَانٌ بِهِ فَهُوَ عَلَيَّ فَمَاتَ الْكَفِيلُ ثُمَّ أَقَرَّ فُلَانٌ فَالْمَالُ لَازِمٌ فِي تَرِكَةِ الضَّامِنِ، وَكَذَا ضَمَانُ الدَّرَكِ. وَفِيهَا: رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ بَايِعْ فُلَانًا فَمَا بَايَعْتَهُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَيَّ صَحَّ، فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ بِعْته مَتَاعًا بِأَلْفٍ وَقَبَضَهُ مِنِّي وَأَقَرَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ وَجَحَدَ الْكَفِيلُ يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِهِ اسْتِحْسَانًا بِلَا بَيِّنَةٍ، وَلَوْ جَحَدَ الْكَفِيلُ وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ الْبَيْعَ وَأَقَامَ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ لَزِمَهُمَا، وَلَوْ قَالَ إنْ لَمْ يُعْطِك فُلَانٌ مَالَك عَلَيْهِ فَأَنَا ضَامِنٌ بِذَلِكَ لَا سَبِيلَ فِيهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَقَاضَاهُ فَيَقُولَ: لَا أُعْطِيك، وَلَوْ مَاتَ الْمَطْلُوبُ قَبْلَ أَنْ يَتَقَاضَاهُ لَزِمَ الضَّمَانُ أَيْضًا، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ لَكِنَّهُ قَالَ: أَنَا أُعْطِيك إنْ أَعْطَاهُ مَكَانَهُ أَوْ ذَهَبَ إلَى السُّوقِ فَأَعْطَاهُ أَوْ قَالَ اذْهَبْ إلَى الْمَنْزِلِ حَتَّى أُعْطِيَك مَالَك فَأَعْطَاهُ فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ وَلَمْ يُعْطِهِ مِنْ يَوْمِهِ لَزِمَ الْكَفِيلَ، وَلَوْ قَالَ: إنْ تَقَاضَيْت فُلَانًا مَالَك عَلَيْهِ وَلَمْ يُعْطِك فَأَنَا لِمَالِك عَلَيْهِ ضَامِنٌ فَمَاتَ الْمَطْلُوبُ قَبْلَ أَنْ يَتَقَاضَاهُ بَطَلَ الضَّمَانُ، وَلَوْ قَالَ: إنْ عَجَزَ غَرِيمُك عَنْ الْأَدَاءِ فَهُوَ عَلَيَّ فَالْعَجْزُ يَظْهَرُ بِالْحَبْسِ إنْ حَبَسَهُ وَلَمْ يُؤَدِّ لَزِمَ الْكَفِيلَ.

وَفِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ: رَجُلٌ كَفَلَ لِرَجُلٍ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ عَلَى أَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ فُلَانٌ بِكَذَا مِنْ الْمَالِ فَلَمْ يَكْفُلْ فُلَانٌ فَالْكَفَالَةُ لَازِمَةٌ وَلَيْسَ لَهُ خِيَارٌ فِي تَرْكِ الْكَفَالَةِ.

وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: جَمَاعَةٌ طَمِعَ الْوَالِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَاخْتَفَى بَعْضُهُمْ وَظَفِرَ الْوَالِي بِبَعْضِهِمْ فَقَالَ الْمُخْتَفُونَ الَّذِينَ وَجَدَهُمْ الْوَالِي لَا تُطْلِعُوهُمْ عَلَيْنَا وَمَا أَصَابَكُمْ فَهُوَ عَلَيْنَا بِالْحِصَصِ، فَلَوْ أَخَذَ الْوَالِي مِنْهُمْ شَيْئًا فَلَهُمْ الرُّجُوعُ، قَالَ: هَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ

ص: 187

قَالَ (وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِثُبُوتِ الرُّجُوعِ إذْ هُوَ عِنْدَ أَمْرِهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ (فَإِنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ رَجَعَ بِمَا أَدَّى عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ

بِجَوَازِ ضَمَانِ الْجِبَايَةِ، وَعَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ لَا يَصِحُّ، وَلَوْ كَفَلَ بِمَا لَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ وَدِيعَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ الَّتِي عِنْدَهُ جَازَ إذَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْوَدِيعَةَ مِنْهُ، فَإِنْ هَلَكَتْ بَرِئَ الْكَفِيلُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ أَنَّهَا هَلَكَتْ، فَلَوْ غَصَبَهَا رَبُّ الْوَدِيعَةِ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ اسْتَهْلَكَهَا بَرِئَ الْكَفِيلُ وَالْحَوَالَةُ عَلَى هَذَا؛ وَلَوْ ضَمِنَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ مِنْ ثَمَنِ هَذِهِ الدَّارِ فَلَمْ يَبِعْهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ ضَمَانٌ وَلَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ الدَّارِ.

(قَوْلُهُ وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ. الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا) وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ بِإِذْنٍ وَبِلَا إذْنٍ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ عَقْدَ الْكَفَالَةِ (الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ) أَيْ هَذَا الِالْتِزَامُ (تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ بِلَا ضَرَرٍ عَلَى الْمَطْلُوبِ) لِأَنَّ ضَرَرَهُ (بِثُبُوتِ الرُّجُوعِ) وَلَا رُجُوعَ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الرُّجُوعَ (عِنْدَ أَمْرِهِ وَ) عِنْدَ أَمْرِهِ يَكُونُ (قَدْ رَضِيَ بِهِ، فَإِنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ رَجَعَ بِمَا أَدَّى لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ) مُقَيَّدٌ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْأَمْرُ، فَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَحْجُورًا وَأَمَرَ مَنْ يَكْفُلُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا مَحْجُورًا فَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ عِتْقِهِ، فَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا صَحَّ أَمْرُهُ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ أَمْرِهِ بِسَبَبِ الْإِذْنِ.

ثَانِيهِمَا: أَنْ يَشْتَمِلَ كَلَامُهُ عَلَى لَفْظَةِ عَنِّي كَأَنْ يَقُولَ: اُكْفُلْ عَنِّي اضْمَنْ عَنِّي لِفُلَانٍ أَوْ عَلَى قَوْلِهِ وَأَنَا ضَامِنٌ وَنَحْوُهُ، فَلَوْ قَالَ: اضْمَنْ الْأَلْفَ الَّتِي لِفُلَانٍ عَلَيَّ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْكَائِنَ مُجَرَّدُ الْأَمْرِ بِالضَّمَانِ وَالْإِعْطَاءِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ لِيَرْجِعَ وَأَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ طَلَبَ تَبَرُّعِهِ بِذَلِكَ فَلَمْ يَلْزَمْ الْمَالُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِدَلِيلِ مَا فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ: إذَا قَالَ لِرَجُلٍ اضْمَنْ لِفُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ اقْضِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ إلَّا

ص: 188

(وَإِنْ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا يُؤَدِّيهِ) لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِأَدَائِهِ، وَقَوْلُهُ رَجَعَ بِمَا أَدَّى مَعْنَاهُ إذَا أَدَّى مَا ضَمِنَهُ، أَمَّا إذَا أَدَّى خِلَافَهُ رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ

إذَا كَانَ خَلِيطًا أَوْ شَرِيكًا.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَرْجِعُ لِأَنَّهُ وَجَدَ الْقَضَاءَ بِنَاءً عَلَى الْأَمْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ قَضَاءً مِنْ جِهَةِ الَّذِي أَمَرَ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: اقْضِ عَنِّي وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ اسْتِقْرَاضًا مِنْهُ، وَمَتَى قُلْنَا: لَا يَقَعُ عَنْ الَّذِي أَمَرَ لَغَا الْأَمْرُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا عَنْ نَفْسِهِ فَيَصِيرُ وُجُودُ الْأَمْرِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً. أَمَّا الْخَلِيطُ فَيَرْجِعُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْخَلِيطُ هُوَ الَّذِي يَعْتَادُ الرَّجُلُ مُدَايَنَتَهُ وَالْأَخْذَ مِنْهُ وَوَضْعَ الدَّرَاهِمِ عِنْدَهُ وَالِاسْتِجْرَارَ مِنْهُ، وَأَوْرَدَ مُطَالَبَةً بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرِ فِي الْكَفَالَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ أَدِّ عَنِّي زَكَاةَ مَالِي أَوْ أَطْعِمْ عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فَأَدَّى عَنْهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ مَا لَمْ يَشْرِطْ الضَّمَانَ فَيَقُولُ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ فَلَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ فِي الرُّجُوعِ وَإِنْ ذَكَرَ فِيهِ لَفْظَةَ عَنِّي بَلْ حَتَّى يَشْتَرِطَ الضَّمَانَ وَفِي الْكَفَالَةِ اكْتَفَى بِهِ.

وَأَجَابَ فِي الذَّخِيرَةِ وَمَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الْآمِرَ طَلَبَ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَأْمُورِ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ وَيَقْضِيَ عَنْهُ وَأَنْ يَكُونَ قَاضِيًا عَنْهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ الْمَقْضِيُّ بِهِ مِلْكًا لِلْآمِرِ، إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ لِلْآمِرِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ مِلْكِ الْقَابِضِ فَيَثْبُتُ عَلَى وَقْفِهِ، فَمَتَى ثَبَتَ لِلْقَابِضِ مِلْكٌ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ يَثْبُتُ لِلْآمِرِ مِثْلُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا. وَفِي قَضَاءِ الدَّيْنِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْقَابِضِ مِلْكٌ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَمَلَّكَهُ بِالْمِثْلِ وَهُوَ الدَّيْنُ السَّابِقُ لَهُ، حَتَّى لَوْ ظَهَرَ أَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ يَسْتَرِدُّ مِنْهُ الْمَقْبُوضَ فَيَثْبُتُ لِلْآمِرِ مِلْكٌ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْقَرْضُ. وَفِي بَابِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ يَثْبُتُ لِلْقَابِضِ مِلْكٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْمِثْلِ، حَتَّى لَوْ ظَهَرَ أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْفَقِيرِ مَا قَبَضَ فَيَثْبُتُ لِلْآمِرِ مِلْكُ مِثْلِ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا بِالشَّرْطِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْكَفَالَةِ تَضَمَّنَ طَلَبَ الْقَرْضِ إذَا ذَكَرَ لَفْظَةَ عَنِّي، وَفِي قَضَاءِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ طَلَبُ اتِّهَابٍ؛ وَلَوْ ذَكَرَ لَفْظَةَ عَنِّي لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ثَبَتَ لِلْقَابِضِ.

وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ) هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ يَرْجِعُ كَالْوَكِيلِ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الطَّالِبَ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ كَالْمُمَلِّكِ لِمَا عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ كَالْمُقِيمِ لَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَالِ مِنْ الْأَصِيلِ. وَقُلْنَا: تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ، وَحَيْثُ تَسَاهَلْنَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ التَّشْبِيهُ: أَيْ هُوَ كَالْمُمَلِّكِ، وَفِي الْكَفَالَةِ بِالْأَمْرِ يَجِبُ الْمَالُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ حُكْمًا لِلْكَفَالَةِ كَمَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ بِهَا عَلَى الْكَفِيلِ لَكِنْ يَتَأَخَّرُ إلَى أَدَائِهِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي كَفَالَتِهِ بِلَا أَمْرِهِ (لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ) وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ بِلَا رِضَاهُ وَلِذَلِكَ لَا يَرْجِعُ.

وَقَوْلُهُ (رَجَعَ بِمَا أَدَّى مَعْنَاهُ إذَا أَدَّى مَا ضَمِنَهُ أَمَّا إذَا أَدَّى خِلَافَهُ) فَإِنَّمَا (يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ) حَتَّى لَوْ كَانَ الدَّيْنُ زُيُوفًا: فَأَدَّى عَنْهَا جِيَادًا فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِالزُّيُوفِ أَوْ كَانَ الدَّيْنُ جِيَادًا فَأَدَّى عَنْهَا

ص: 189

لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ، كَمَا إذَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْإِرْثِ، وَكَمَا إذَا مَلَكَهُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ

زُيُوفًا وَتَجَوَّزَ الطَّالِبُ بِهَا فَيَرْجِعُ بِالْجِيَادِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى، فَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ جِيَادًا فَأَدَّى زُيُوفًا يَرْجِعُ بِالزُّيُوفِ، وَلَوْ كَانَ زُيُوفًا فَأَدَّى جِيَادًا رَجَعَ بِالزُّيُوفِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ بِحُكْمِ الْأَمْرِ، وَلَمْ تَدْخُلْ صِفَةُ الْجَوْدَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ زُيُوفًا تَحْتَ الْأَمْرِ.

أَمَّا الْكَفِيلُ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ، وَحُكْمُهَا أَنَّهُ يَمْلِكُ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ فَيَصْبِرُ كَالطَّالِبِ نَفْسَهُ فَيَرْجِعُ بِنَفْسِ الدَّيْنِ فَصَارَ كَمَا إذَا مَلَكَ الْكَفِيلُ الدَّيْنَ بِالْإِرْثِ بِأَنْ مَاتَ الطَّالِبُ وَالْكَفِيلُ وَارِثُهُ فَإِنَّ مَالَهُ عَيْنُهُ، وَكَذَا إذَا وَهَبَ الطَّالِبُ الدَّيْنَ لِلْكَفِيلِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ وَيُطَالِبُ بِهِ الْمَكْفُولَ بِعَيْنِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ هِبَةُ الدَّيْنِ مِنْ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَلَيْسَ الدَّيْنُ عَلَى الْكَفِيلِ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَفَالَةَ ضَمٌّ فِي الدَّيْنِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إنَّمَا لَا تَجُوزُ إذَا لَمْ يَأْذَنْ لِلْغَيْرِ فِي قَبْضِهِ، فَأَمَّا إذَا وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ آخَرَ وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ جَازَ اسْتِحْسَانًا، وَهُنَا لَمَّا أَدَّى الدَّيْنَ فَقَدْ سَلَّطَهُ الطَّالِبُ عَلَى قَبْضِهِ مِنْ الْمَطْلُوبِ كَذَا قِيلَ. وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذِهِ الْعِبَارَةَ لِأَنَّ بِقَبْضِ الطَّالِبِ مِنْ الْكَفِيلِ سَقَطَتْ وِلَايَتُهُ عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمَطْلُوبِ إذْ صَارَ مِلْكًا لَهُ شَرْعًا جَبْرًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ الطَّالِبِ فَلَا يَمْلِكُ التَّسْلِيطَ عَلَى مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ.

وَالْأَوْجَهُ إمَّا اعْتِبَارُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ كَمَا هُوَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَيَسْقُطُ عَنْهُمَا بِأَدَاءِ أَحَدِهِمَا كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ اعْتِبَارُهُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْهِبَةِ تَصْحِيحًا لِلتَّصَرُّفِ. وَإِذَا وَهَبَ الْكَفِيلُ الدَّيْنَ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَبْرَأَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ وَبِالْإِبْرَاءِ تَسْقُطُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.

وَقَوْلُهُ (وَكَمَا إذَا مَلَكَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الدَّيْنَ) بِالْأَدَاءِ إلَى الْمُحْتَالِ بِأَنْ أَحَالَ الْمَدْيُونُ رَجُلًا عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَبِلَ الْحَوَالَةَ وَأَدَّى فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الدَّيْنَ

ص: 190

بِمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَوَالَةِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ حَيْثُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يَمْلِكَ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَصَارَ كَمَا إذَا أَبْرَأَ الْكَفِيلَ.

قَالَ (وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِالْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ) لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَيْثُ يَرْجِعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ.

الَّذِي عَلَى الْمُحِيلِ فَيَرْجِعُ بِهِ لَا بِمَا أَدَّى، حَتَّى لَوْ أَدَّى عُرُوضًا أَوْ دَرَاهِمَ عَنْ الدَّنَانِيرِ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِالدَّيْنِ كَالْكَفِيلِ، وَكَذَا لَوْ وَهَبَ الْمُحْتَالُ الدَّيْنَ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ وَرِثَهُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحْتَالِ.

وَقَوْلُهُ (كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَوَالَةِ) أَيْ حَوَالَةِ كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى (بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الدَّيْنَ بِالْأَدَاءِ) فَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا (وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَنْ الْأَلْفِ) الْمَكْفُولِ بِهَا (عَلَى خَمْسِمِائَةٍ) حَيْثُ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى وَهُوَ الْخَمْسُمِائَةِ لَا بِمَا ضَمِنَ وَهُوَ الْأَلْفُ (لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ) أَوْ هُوَ إبْرَاءٌ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ فَيَسْقُطُ الْبَعْضُ وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الْكَفِيلِ.

وَقَوْلُهُ (فَصَارَ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ) يَعْنِي عَنْ خَمْسِمِائَةٍ وَأَخَذَ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ لَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إلَّا بِخَمْسِمِائَةٍ، فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ عَنْ الْأَلْفِ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِخَمْسِمِائَةٍ؛ أَوْ الْمَعْنَى إذَا أَبْرَأَ الْكَفِيلَ عَنْ كُلِّ الدَّيْنِ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ عَنْ بَعْضِهِ لَا يَرْجِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ الْبَعْضِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ.

(قَوْلُهُ وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِالْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ) أَيْ الْكَفِيلَ (لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَيْثُ) لَهُ أَنْ (يَرْجِعَ) عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ (قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ)

ص: 191

قَالَ (فَإِنْ لُوزِمَ بِالْمَالِ كَانَ لَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ حَتَّى يُخَلِّصَهُ) وَكَذَا إذَا حُبِسَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ مَا لَحِقَهُ مِنْ جِهَتِهِ فَيُعَامِلُهُ بِمِثْلِهِ

(وَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَوْ اسْتَوْفَى مِنْهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ) لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ

فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَسْتَفِيدُ الْمِلْكَ إلَّا مِنْ قِبَلِ الْوَكِيلِ فَكَانَ الْوَكِيلُ كَالْبَائِعِ وَلِذَا كَانَ لَهُ حَبْسُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَلِلْبَائِعِ الْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَكَذَا الْوَكِيلُ (فَإِنْ لُوزِمَ) الْكَفِيلُ (بِالْمَالِ فَلَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ) إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ الرُّجُوعَ (حَتَّى يُخَلِّصَهُ، وَكَذَا إذَا حُبِسَ كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الْأَظْهَرِ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَيْهِ إذْ الدَّيْنُ لَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْأَدَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ بَعْدُ.

وَقُلْنَا: مُلَازَمَتُهُ وَحَبْسُهُ مَعَهُ كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ لِلدَّيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي ذَلِكَ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ وَإِلَّا فَيُعَامِلُهُ بِمِثْلِ مَا عَامَلَهُ بِهِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَوْ اسْتَوْفَى مِنْهُ حَقَّهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ) بِالْإِجْمَاعِ (لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْأَصِيلِ (فِي الصَّحِيحِ) خِلَافًا لِمَنْ ذَكَرَ أَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ كَذَا قِيلَ. وَلَيْسَ لِهَذَا الْخِلَافِ أَثَرٌ هُنَا بَلْ الْقَائِلُ: إنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ قَائِلٌ بِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْكَفِيلِ بِشَرْطِ بَقَاءِ ضَمَانِ الْأَصِيلِ. وَيُشْتَرَطُ قَبُولُ الْأَصِيلِ أَوْ مَوْتُهُ قَبْلَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الْقَبُولِ، وَلَوْ رَدَّهُ ارْتَدَّ وَدَيْنُ الطَّالِبِ عَلَى حَالِهِ.

وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ أَنَّ الدَّيْنَ هَلْ يَعُودُ إلَى الْكَفِيلِ أَمْ لَا؟ فَبَعْضُهُمْ يَعُودُ وَبَعْضُهُمْ لَا، بِخِلَافِ الْكَفِيلِ فَإِنَّهُ إذَا أَبْرَأَهُ صَحَّ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا قَرِيبًا. وَلَوْ كَانَ إبْرَاءُ الْأَصِيلِ أَوْ هِبَتُهُ أَوْ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقَبُولُ وَالرَّدُّ لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ قَبِلُوا صَحَّ، وَإِنْ رَدُّوا ارْتَدَّ،

ص: 192

(وَإِنْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ لَمْ يَبْرَأْ الْأَصِيلُ عَنْهُ) لِأَنَّهُ تَبَعٌ، وَلِأَنَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ وَبَقَاءَ الدَّيْنِ عَلَى الْأَصِيلِ بِدُونِهِ جَائِزٌ (وَكَذَا إذَا أَخَّرَ الطَّالِبُ عَنْ الْأَصِيلِ فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْ الْكَفِيلِ، وَلَوْ أَخَّرَ عَنْ الْكَفِيلِ لَمْ يَكُنْ تَأْخِيرًا عَنْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ) لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إبْرَاءٌ مُوَقَّتٌ فَيُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ الْمُؤَبَّدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ بِالْمَالِ الْحَالِّ مُؤَجَّلًا إلَى شَهْرٍ فَإِنَّهُ يَتَأَجَّلُ عَنْ الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الدَّيْنُ حَالَ وُجُودِ الْكَفَالَةِ فَصَارَ الْأَجَلُ دَاخِلًا فِيهِ، أَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِمْ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ثُمَّ مَاتَ وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْإِبْرَاءِ (وَإِنْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ لَمْ يَبْرَأْ الْمَكْفُولُ عَنْهُ: لِأَنَّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْكَفِيلِ (الْمُطَالَبَةَ) دُونَ الدَّيْنِ (وَبَقَاءُ الدَّيْنِ بِدُونِهِ) أَيْ بِدُونِ الْمُطَالَبَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الطَّلَبِ (جَائِزٌ) فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ عَدَمُ الدَّيْنِ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ بِإِبْرَائِهِ (وَكَذَا إذَا أَخَّرَ عَنْ الْأَصِيلِ فَهُوَ) تَأْخِيرٌ عَنْ كَفِيلِهِ، وَلَوْ أَخَّرَ عَنْ الْكَفِيلِ لَمْ يَكُنْ تَأْخِيرًا عَنْ الْأَصِيلِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إبْرَاءٌ مُوَقَّتٌ فَيُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ الْمُؤَبَّدِ فَإِنْ قِيلَ: الْإِبْرَاءُ الْمُؤَبَّدُ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْكَفِيلِ وَالْمُوَقَّتُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ وَبِرَدِّ الْأَصِيلِ يَرْتَدَّانِ كِلَاهُمَا.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمٍ لَا يَسْتَلْزِمُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ حُكْمٍ، وَسَبَبُ الِافْتِرَاقِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمُ وَهُوَ الِارْتِدَادُ بِالرَّدِّ وَعَلَيْهِ مَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ الْمُؤَبَّدَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْكَفَالَةِ مُجَرَّدُ الْمُطَالَبَةِ وَالْإِسْقَاطُ الْمَحْضُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ لِتَلَاشِي السَّاقِطِ كَإِسْقَاطِ الْخِيَارِ، وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ الْمُؤَقَّتُ فَهُوَ تَأْخِيرُ مُطَالَبَةٍ وَلَيْسَ بِإِسْقَاطٍ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ تَعُودُ بَعْدَ الْأَجَلِ وَالتَّأْخِيرُ قَابِلٌ لِلْإِبْطَالِ بِخِلَافِ الْإِسْقَاطِ الْمَحْضِ، فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَا لَمْ يَقْبَلْ الْكَفِيلُ التَّأْخِيرَ أَوْ الْأَصِيلُ فَالْمَالُ حَالٌّ يُطَالِبَانِ بِهِ لِلْحَالِ، وَهَذَا (بِخِلَافِ مَا لَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ) أَيْ بِالدَّيْنِ (الْحَالِّ مُؤَجَّلًا إلَى شَهْرٍ) مَثَلًا (فَإِنَّهُ يَتَأَجَّلُ عَنْ الْأَصِيلِ) إلَى شَهْرٍ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَكْفُولَ لَهُ (لَا حَقَّ لَهُ حَالَ الْكَفَالَةِ إلَّا فِي الدَّيْنُ) فَلَيْسَ إذْ ذَاكَ حَتَّى يَقْبَلَ التَّأْجِيلَ سِوَاهُ (فَكَانَ الْأَجَلُ) الَّذِي يَشْتَرِطُهُ الْكَفِيلُ (دَاخِلًا فِيهِ) فَبِالضَّرُورَةِ يَتَأَجَّلُ عَنْ الْأَصِيلِ (أَمَّا هَاهُنَا) وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ ثَابِتَةً قَبْلَ التَّأْجِيلِ (فَبِخِلَافِهِ) لِأَنَّهَا تَقَرَّرَ

ص: 193

قَالَ (فَإِنْ صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ الْمَالِ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَقَدْ بَرِئَ الْكَفِيلُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الصُّلْحَ إلَى الْأَلْفِ الدَّيْنِ وَهِيَ عَلَى الْأَصِيلِ فَبَرِئَ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ، ثُمَّ بَرِئَا جَمِيعًا عَنْ خَمْسِمِائَةٍ بِأَدَاءِ الْكَفِيلِ، وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَمَلَكَهُ فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ، وَلَوْ كَانَ صَالَحَهُ عَمَّا اسْتَوْجَبَ بِالْكَفَالَةِ لَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ؛ لِأَنَّ هَذَا إبْرَاءُ الْكَفِيلِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ.

حُكْمُهَا قَبْلَ التَّأْجِيلِ أَنَّهُ جَوَازُ الْمُطَالَبَةِ ثُمَّ طَرَأَ التَّأْجِيلُ عَنْ الْكَفِيلِ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ وَهُوَ جَوَازُ الْمُطَالَبَةِ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ الْمَالِ عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ) إنْ شَرَطَ بَرَاءَتَهُمَا جَمِيعًا عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ أَوْ شَرَطَ بَرَاءَةَ الْمَطْلُوبِ بَرِئَا جَمِيعًا، وَإِنْ شَرَطَ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ وَحْدَهُ بَرِئَ الْكَفِيلُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ وَالْأَلْفُ بِتَمَامِهَا عَلَى الْأَصِيلِ فَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِخَمْسِمِائَةٍ إنْ كَانَ بِأَمْرِهِ وَالطَّالِبُ بِخَمْسِمِائَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنْ يَهَبَ لَهُ الْبَاقِيَ حَيْثُ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِأَلْفٍ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطَا بَرَاءَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ صَالَحْتُك عَنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ (بَرِئَا جَمِيعًا) عَنْ خَمْسِمِائَةٍ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْكَفِيلَ (أَضَافَ الصُّلْحَ إلَى الْأَلْفِ الدَّيْنِ وَهُوَ) أَيْ الدَّيْنُ (عَلَى الْأَصِيلِ) فَيَبْرَأُ الْأَصِيلُ (مِنْ خَمْسِمِائَةٍ) وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَبْرَأَ الْكَفِيلُ مِنْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي أَوْفَاهَا وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا (بِخِلَافِ مَا لَوْ صَالَحَ بِجِنْسٍ آخَرَ لِأَنَّهُ) أَيْ الصُّلْحَ بِجِنْسٍ آخَرَ (مُبَادَلَةٌ فَيَمْلِكُهُ) أَيْ الدَّيْنَ (فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ) وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يَرْجِعُ بِالْأَقَلِّ مِنْ الدَّيْنِ وَمِنْ قِيمَةِ السِّلْعَةِ الَّتِي صَالَحَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى هَذَا الْقَدْرَ، وَلَا يُجْعَلُ الصُّلْحُ بِجِنْسِهِ مُبَادَلَةً؛ لِأَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ لَا تُجْعَلُ عِوَضًا عَنْ الْأَلْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّبَا، وَلَا يُمْكِنُ تَمْلِيكُهَا مِنْ الْكَفِيلِ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ.

وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ وَاجِبَةً فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ تَصْحِيحًا لِلصُّلْحِ مَعَ الْكَفِيلِ حَتَّى تَصِيرَ الْبَرَاءَةُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ مَشْرُوطَةً لِلْكَفِيلِ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى خِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى التَّمْلِيكِ، وَفِي خِلَافِ الْجِنْسِ يَحْتَاجُ إلَى التَّمْلِيكِ وَفِي الْجِنْسِ لَا يَحْتَاجُ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّبَا، بَلْ هُوَ إسْقَاطُ الْخَمْسِمِائَةِ فَكَانَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ مَشْرُوطَةً لِلْأَصِيلِ فَتَسْقُطُ عَنْهُمَا، ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ إذَا كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ (وَلَوْ كَانَ صَالَحَهُ عَمَّا اسْتَوْجَبَ بِالْكَفَالَةِ لَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْكَفَالَةِ الْمُطَالَبَةُ وَالْبَرَاءَةُ مِنْهَا مِنْ الْكَفَالَةِ فَيَبْقَى حَالُ الْمُطَالَبَةِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْكَفَالَةِ، وَجَعَلَ فِي النِّهَايَةِ صُورَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا فِي الْمَبْسُوطِ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةٍ عَلَى إبْرَاءِ الْكَفِيلِ خَاصَّةً مِنْ الْبَاقِي رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمِائَةٍ وَرَجَعَ الطَّالِبُ عَلَى الْأَصِيلِ بِتِسْعِمِائَةٍ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ فَسْخٌ لِلْكَفَالَةِ.

ص: 194

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِكَفِيلٍ ضَمِنَ لَهُ مَالًا قَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الْمَالِ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) مَعْنَاهُ بِمَا ضَمِنَ لَهُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الَّتِي ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ وَانْتِهَاؤُهَا إلَى الطَّالِبِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْإِيفَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا إقْرَارًا بِالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُ (وَإِنْ قَالَ أَبْرَأْتُك لَمْ يَرْجِعْ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) لِأَنَّهُ بَرَاءَةٌ لَا تَنْتَهِي إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ بِالْإِسْقَاطِ فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِالْإِيفَاءِ.

وَلَوْ قَالَ بَرِئْت قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله هُوَ مِثْلُ الثَّانِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِ وَالْإِبْرَاءِ فَيَثْبُتُ الْأَدْنَى إذْ لَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِالشَّكِّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: هُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَرَاءَةٍ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ وَإِلَيْهِ

قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِكَفِيلٍ ضَمِنَ لَهُ مَالًا) بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ (قَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الْمَالِ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) بِجَمِيعِ الدَّيْنِ لِأَنَّ لَفْظَ إلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَالْمُتَكَلِّمُ وَهُوَ رَبُّ الدَّيْنِ هُوَ الْمُنْتَهَى فِي هَذَا التَّرْكِيبِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مُبْتَدَأٌ وَلَيْسَ إلَّا الْكَفِيلُ الْمُخَاطَبُ فَأَفَادَ التَّرْكِيبُ بَرَاءَةً مِنْ الْمَالِ مُبْتَدَؤُهَا مِنْ الْكَفِيلِ وَمُنْتَهَاهَا صَاحِبُ الدَّيْنِ. وَهَذَا مَعْنَى الْإِقْرَارِ مِنْ رَبِّ الدَّيْنِ وَبِالْقَبْضِ مِنْ الْكَفِيلِ، كَأَنَّهُ قَالَ دَفَعْت إلَيَّ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ إنْ كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ وَالْحَوَالَةُ كَالْكَفَالَةِ فِي هَذَا. وَهُنَا ثَلَاثَةُ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا: هَذِهِ، وَالثَّانِيَةُ: قَالَ: أَبْرَأْتُك مِنْ الْمَالِ لَيْسَ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ حَتَّى كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصِيلَ بِهِ، وَالثَّالِثَةُ بَرِئْت مِنْ الْمَالِ وَلَمْ يَقُلْ إلَيَّ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِهِ بَرِئْت إلَيَّ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ كَقَوْلِهِ أَبْرَأْتُك إثْبَاتًا لِلْأَدْنَى وَهُوَ بَرَاءَةُ الْكَفِيلِ

ص: 195

الْإِيفَاءُ دُونَ الْإِبْرَاءِ. وَقِيلَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الطَّالِبُ حَاضِرًا يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمَلُ.

إذْ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهِ شَكٌّ فَلَا يَثْبُتُ. وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا لَوْ كَتَبَ فِي الصَّكِّ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي كَفَلَ بِهَا فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا كَقَوْلِهِ: بَرِئْت إلَيَّ بِقَضِيَّةِ الْعُرْفِ فَإِنَّ الْعُرْفَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الصَّكَّ يُكْتَبُ عَلَى الطَّالِبِ بِالْبَرَاءَةِ إذَا حَصَلَتْ بِالْإِيفَاءِ، وَإِنْ حَصَلَتْ بِالْإِبْرَاءِ لَا يُكْتَبُ الصَّكُّ عَلَيْهِ فَجُعِلَتْ الْكِتَابَةُ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ عُرْفًا وَلَا عُرْفَ عِنْدَ الْإِبْرَاءِ. وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ هُوَ مِثْلُ بَرِئْت إلَيَّ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِبَرَاءَةٍ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْكَفِيلُ الْمُخَاطَبُ. وَحَاصِلُهُ إثْبَاتُ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ عَلَى الْخُصُوصِ مِثْلُ قُمْت وَقَعَدْت، وَالْبَرَاءَةُ الْكَائِنَةُ مِنْهُ خَاصَّةً كَالْإِيفَاءِ، بِخِلَافِ الْبَرَاءَةِ بِالْإِبْرَاءِ فَإِنَّهَا لَا تَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ الْكَفِيلِ بَلْ بِفِعْلِ الطَّالِبِ فَلَا تَكُونُ حِينَئِذٍ مُضَافَةً إلَى الْكَفِيلِ، وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ الِاحْتِمَالَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ.

وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيمَا إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَبْرَأَنِي الْمُدَّعِي مِنْ الدَّعْوَى الَّتِي يَدَّعِي عَلَيَّ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ إقْرَارٌ بِالْمَالِ كَمَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأَنِي مِنْ هَذَا الْمَالِ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى تَكُونُ بِحَقٍّ وَبِبَاطِلٍ.

وَلَوْ قَالَ الْكَفِيلُ أَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ الْمَالِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَبْرَأْتُك؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْحِلِّ تُسْتَعْمَلُ فِي الْبَرَاءَةِ كَالْإِبْرَاءِ دُونَ الْبَرَاءَةِ بِالْقَبْضِ. قَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: هَذَا إذَا كَانَ الطَّالِبُ غَائِبًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ حَاضِرًا يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي الْبَيَانِ أَنَّهُ قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِجْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ إلَى الْمُجْمَلُ فِي الْبَيَانِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُجْمَلِ هُنَا مَا يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ وَيَحْتَمِلُ الْمَجَازَ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا كَمَا يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ بَرِئْت إلَيَّ مَعْنَى لِأَنِّي أَبْرَأْتُك لَا حَقِيقَةَ الْمُجْمَلِ: يَعْنِي يَرْجِعُ إلَيْهِ إذَا كَانَ حَاضِرًا لِإِزَالَةِ الِاحْتِمَالَاتِ، خُصُوصًا إنْ كَانَ الْعُرْفُ مِنْ ذَلِكَ

ص: 196

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبَرَاءَاتِ. وَيُرْوَى أَنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ دُونَ الدَّيْنِ فِي الصَّحِيحِ فَكَانَ إسْقَاطًا مَحْضًا كَالطَّلَاقِ، وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْكَفِيلِ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ إبْرَاءِ الْأَصِيلِ.

قَالَ (وَكُلُّ حَقٍّ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) مَعْنَاهُ بِنَفْسِ الْحَدِّ لَا بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ إيجَابُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ لَا تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ.

اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا، مِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيَقْصِدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَبْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصِدُ الْإِبْرَاءَ.

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ) أَيْ بِالشَّرْطِ الْمُتَعَارَفِ مِثْلُ إنْ عَجَّلْتَ لِي الْبَعْضَ أَوْ دَفَعْتَ الْبَعْضَ فَقَدْ أَبْرَأْتُك مِنْ الْكَفَالَةِ أَمَّا غَيْرُ الْمُتَعَارَفِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِهِ فَسَقَطَ سُؤَالُ الْقَائِلِ يُشْكِلُ بِمَا إذَا قَالَ الْكَفِيلُ بِالْمَالِ عَلَى أَنِّي إنْ وَافَيْت بِهِ غَدًا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ فَوَافَاهُ بِهِ بَرِئَ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُلَائِمٌ، عَلَى أَنَّهُ لَا وُرُودَ لَهُ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ فَهَذَا الْفَرْعُ شَاهِدُ إحْدَاهُمَا (وَيُرْوَى أَنَّهُ يَجُوزُ) وَهُوَ أَوْجَهُ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِمَعْنَى التَّمْلِيكِ وَذَاكَ يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَطْلُوبِ، أَمَّا الْكَفِيلُ فَالْمُتَحَقَّقُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ (فَكَانَ) إبْرَاؤُهُ (إسْقَاطًا مَحْضًا كَالطَّلَاقِ، وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ مِنْ الْكَفِيلِ بِخِلَافِ الْأَصِيلِ) لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى تَمْلِيكِ الْمَالِ.

وَقَوْلُهُ (وَكُلُّ حَقٍّ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ) كَنَفْسِ (الْحُدُودِ وَ) نَفْسِ (الْقِصَاصِ) إذْ لَا يُقْتَلُ الْكَفِيلُ بَدَلًا عَنْ الْمَكْفُولِ

ص: 197

قَالَ (وَإِذَا تَكَفَّلَ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ جَازَ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ (وَإِنْ تَكَفَّلَ عَنْ الْبَائِعِ بِالْمَبِيعِ لَمْ تَصِحَّ) لِأَنَّهُ عَيْنُ مَضْمُونٍ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْكَفَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، لَكِنْ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا كَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمَغْصُوبِ، لَا بِمَا كَانَ مَضْمُونًا بِغَيْرِهِ

عَنْهُ وَلَا يُضْرَبُ وَتَقَدَّمَ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ تَكَفَّلَ عَنْ الْبَائِعِ بِالْمَبِيعِ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَعْيَانَ إمَّا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْأَصِيلِ أَوْ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، فَغَيْرُ الْمَضْمُونَةِ كَالْوَدِيعَةِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْعَارِيَّةِ عِنْدَنَا وَالْمُسْتَأْجَرِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْمَضْمُونَةُ إمَّا مَضْمُونَةٌ بِغَيْرِهَا كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ وَالرَّهْنِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ فَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا أَصْلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةِ التَّسْلِيمِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ.

وَقَالُوا: رَدُّ الْوَدِيعَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُودَعِ بَلْ الْوَاجِبُ عَدَمُ الْمَنْعِ عِنْدَ طَلَبِ الْمُودِعِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ تَسْلِيمُهَا، بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ فَإِنَّ تَسْلِيمَهَا وَاجِبٌ فَصَحَّ التَّكْفِيلُ بِتَسْلِيمِهَا، وَكَذَا الْبَاقِي مِنْ الْقِسْمَيْنِ يَصِحُّ بِالتَّسْلِيمِ وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ بِعَيْنِهِ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ، فَإِنْ هَلَكَ فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَجِبُ عَلَى الْأَصِيلِ، بَلْ لَوْ هَلَكَ الْبَيْعُ إنَّمَا يَسْقُطُ الثَّمَنُ أَوْ الرَّهْنُ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ، وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ، وَعَلَى مَعْنَى الْكَفَالَةِ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ يَصِحُّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمَتَى هَلَكَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ، وَفَائِدَتُهُ حِينَئِذٍ إلْزَامُ إحْضَارِ الْعَيْنِ وَتَسْلِيمِهَا، وَلَوْ عَجَزَ بِأَنْ مَاتَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ أَوْ الرَّهْنُ أَوْ الْمُسْتَأْجِرُ انْفَسَخَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى وِزَانِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ سَوَاءً.

وَمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِتَسْلِيمِ الْعَارِيَّةِ بَاطِلَةٌ بَاطِلٌ، فَقَدْ نَصَّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِتَسْلِيمِ الْعَارِيَّةِ صَحِيحَةٌ، وَكَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَنَصَّ الْقُدُورِيُّ أَنَّهَا بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ جَائِزَةٌ، وَنَصَّ فِي التُّحْفَةِ عَلَى جَمِيعِ

ص: 198

كَالْمَبِيعِ وَالْمَرْهُونِ، وَلَا بِمَا كَانَ أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ. وَلَوْ كَفَلَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ جَازَ

مَا أَوْرَدْنَاهُ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالتَّسْلِيمِ صَحِيحَةٌ.

وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ الْوَدِيعَةِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَبَيْنَ الْعَارِيَّةِ وَمَا مَعَهَا مِنْ الْأَمَانَاتِ، إذْ لَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الرَّدِّ عِنْدَ الطَّلَبِ، فَإِنْ قَالَ: الْوَاجِبُ التَّخْلِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لَا رَدَّهَا إلَيْهِ فَنَقُولُ: فَلْيَكُنْ مِثْلُ هَذَا الْوَاجِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَهُوَ أَنْ يُحَصِّلَهَا وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَعْدَ إحْضَارِهِ إلَيْهَا، وَنَحْنُ نَعْنِي بِوُجُوبِ الرَّدِّ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا، وَمِنْ حِمْلِ الْمَرْدُودِ إلَيْهِ. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: الْكَفَالَةُ بِتَمْكِينِ الْمُودَعِ مِنْ الْأَخْذِ صَحِيحَةٌ، وَإِمَّا مَضْمُونَةٌ بِنَفْسِهَا كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْكَفِيلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ دَفْعُ الْعَيْنِ، فَإِنْ عَجَزَ وَجَبَ قِيمَتُهُ أَوْ مِثْلُهُ عَلَى الْكَفِيلِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَلَمْ يُقَدِّمْهُ إلَى الْقَاضِي وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَبِالْعَبْدِ فَمَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدُهُ يَقْضِي الْقَاضِي بِقِيمَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْكَفِيلِ لِأَنَّ بِالْبَيِّنَةِ ظَهَرَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ مَغْصُوبًا وَالْكَفَالَةُ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ تُوجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ أَدَاءَ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْأَصِيلِ كَذَلِكَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ فِي قِيمَتِهِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ كَالْأَصِيلِ: أَعْنِي الْغَاصِبَ، فَإِنْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ بِأَكْثَرَ لَزِمَهُ الْفَضْلُ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْكَفِيلِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: كَفَلَ بِالرَّهْنِ وَفِيهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ لَيْسَ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ لِأَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ الدَّيْنِ مِنْ الرَّهْنِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ،

ص: 199

لِأَنَّهُ الْتَزَمَ فِعْلًا وَاجِبًا.

قَالَ (وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ بِعَيْنِهَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ) لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهُ (وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ وَالْحَمْلُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ (وَكَذَا مَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِخِدْمَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ) لِمَا بَيَّنَّا.

وَلَا يَضْمَنُ الْكَفِيلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالْكَفَالَةِ، وَلَوْ ضَمِنَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مَا نَقَصَ الرَّهْنُ مِنْ دَيْنِهِ وَكَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ تِسْعَمِائَةٍ وَالدَّيْنُ أَلْفٌ مَثَلًا ضَمِنَ الْكَفِيلُ مِائَةً لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْكَفَالَةِ دَيْنًا مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ، وَلَوْ اسْتَعَارَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِهِ فَهَلَكَ عِنْدَ الرَّاهِنِ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الْأَصِيلِ بِسَبَبِ هَذَا الْقَبْضِ فَلَا يَضْمَنُ الْكَفِيلُ أَيْضًا، وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ جَازَ ضَمَانُ الْكَفِيلُ وَأَخَذَ بِهِ لِأَنَّ الرَّاهِنَ ضَامِنٌ مَالِيَّةَ الْعَيْنِ هُنَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِالْمَغْصُوبِ، وَلَفْظُ الْمُسْتَأْجَرِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِالْفَتْحِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ مَتَى هَلَكَ كُلٌّ مِنْ الْمَبِيعِ وَالرَّهْنِ وَالْمُسْتَأْجَرِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ بِتَسْلِيمِهِ لَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ؛ فَفِي الْمَبِيعِ وَالرَّهْنِ تَقَدَّمَ مَا يُفِيدُ وَجْهَهُ وَفِي الْمُسْتَأْجَرِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِهِ وَخَرَجَ الْأَصِيلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ رَدُّ الْأُجْرَةِ، وَالْكَفِيلُ مَا كَفَلَ الْأَجْرَ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ، فَإِنْ كَانَتْ بِعَيْنِهَا) أَيْ آجَرَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ (لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْفِعْلِ) الْوَاجِبِ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ حَمْلُهُ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّابَّةِ لِيَحْمِلَهُ عَلَيْهَا (وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا جَازَتْ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ عَلَى دَابَّةِ نَفْسِهِ) أَوْ عَلَى دَابَّةٍ يَسْتَأْجِرُهَا (وَالْحَمْلُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ) وَهُوَ مَقْدُورٌ لِلْكَفِيلِ فَصَحَّتْ كَفَالَتُهُ بِهِ (وَوَازَنَهُ مَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِخِدْمَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهُ إذْ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ، أَمَّا لَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ فَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى مَا عُرِفَ، وَلَوْ هَلَكَ لَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ.

وَقَالَ شَارِحٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِأَنَّ الدَّابَّةَ إذَا كَانَتْ بِعَيْنِهَا فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ تَسْلِيمُ الدَّابَّةِ لَا الْحَمْلِ، فَالْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ كَفَالَةٌ بِمَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا تَصِحُّ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْحَمْلُ وَيُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْكَفِيلِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ انْتَهَى.

وَاعْتَرَضَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْوَاجِبَ إنْ كَانَ

ص: 200

قَالَ (وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله آخِرًا: يَجُوزُ إذَا بَلَغَهُ أَجَازَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْإِجَازَةَ، وَالْخِلَافُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا. لَهُ أَنَّهُ تَصَرُّفُ الْتِزَامٍ فَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ، وَهَذَا وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ. وَوَجْهُ التَّوَقُّفِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفُضُولِيِّ

لَيْسَ إلَّا تَسْلِيمَ الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ بِسَبَبِ أَنَّ تَحْمِيلَهُ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَمْلُ الدَّابَّةِ فَكَذَلِكَ إجَارَةُ حَمْلِهِ عَلَى دَابَّةٍ إلَى مَكَانِ كَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ سِوَى تَسْلِيمِ أَيِّ دَابَّةٍ كَانَتْ إذْ لَا يَجِبُ تَحْمِيلُهُ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْ الرَّجُلَ نَفْسَهُ فَلَا فَرْقَ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجُوزَ الْكَفَالَةُ فِيهِ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَمْلَ أَيْضًا غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْأَصِيلِ بِعَيْنِ مَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْحَمْلُ عَلَى الدَّابَّةِ تَسْلِيمَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ فِيهِمَا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ صَحِيحَةٌ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ كَوْنُ الْمُسْتَأْجَرِ مِلْكًا لِغَيْرِ الْكَفِيلِ، وَإِنْ كَانَ التَّحْمِيلُ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ التَّحْمِيلَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْأَصِيلِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ مُعَيَّنَةً أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَسْلِيمِهَا بَلْ الْمَجْمُوعُ مِنْ تَسْلِيمِهَا وَالْإِذْنُ فِي تَحْمِيلِهَا وَهُوَ مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ التَّرْكِيبِ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَمْلِ عَلَيْهَا، فَفِي الْمُعَيَّنَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِذْنِ فِي تَحْمِيلِهَا إذْ لَيْسَتْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهَا لِيَصِحَّ إذْنُهُ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْحَمْلِ، وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ عِنْدَ تَسْلِيمِ دَابَّةِ نَفْسِهِ أَوْ دَابَّةٍ اسْتَأْجَرَهَا.

(قَوْلُهُ وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ إذَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ) أَيْ نُسَخِ كَفَالَةِ الْأَصْلِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (الْإِجَازَةَ) بَلْ إنَّهُ نَافِذٌ إنْ كَانَ الْمَكْفُولُ لَهُ غَائِبًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ عَنْهُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ (وَالْخِلَافُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا) وَجْهُ رِوَايَةِ النَّفَاذِ (أَنَّهُ الْتِزَامٌ فَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمُلْتَزِمُ) وَلَا يَتَعَدَّى لَهُ ضَرَرٌ فِي الْمَكْفُولِ لَهُ لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا مَلْزُومٌ، فَإِنْ رَأَى مُطَالَبَتَهُ طَالَبَهُ وَإِلَّا لَا.

وَأَحَالَ الْمُصَنِّفُ وَجْهَ التَّوَقُّفِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ أَنَّ شَطْرَ الْعَقْدِ يَتَوَقَّفُ حَتَّى إذَا عَقَدَ فُضُولِيٌّ لِامْرَأَةٍ عَلَى آخَرَ تَوَقَّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ كَمَا إذَا كَانَ عَقْدًا تَامًّا بِأَنْ خَاطَبَ عَنْهُ فُضُولِيٌّ آخَرُ وَعِنْدَهُمَا

ص: 201

فِي النِّكَاحِ. وَلَهُمَا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ فَيَقُومُ بِهِمَا جَمِيعًا وَالْمَوْجُودُ شَطْرُهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ (إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ تَكَفَّلْ عَنِّي بِمَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَكَفَلَ بِهِ مَعَ غَيْبَةِ الْغُرَمَاءِ جَازَ) لِأَنَّ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا تَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمَكْفُولَ لَهُمْ، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّمَا تَصِحُّ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ يُقَالُ إنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الطَّالِبِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ تَفْرِيغًا لِذِمَّتِهِ وَفِيهِ نَفْعُ الطَّالِبِ فَصَارَ كَمَا إذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ،

لَا يَتَوَقَّفُ إلَّا إنْ خَاطَبَهُ فُضُولِيٌّ آخَرُ فَلَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَهُمَا إلَّا الْعَقْدُ التَّامُّ (وَلَهُمَا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ فَيَقُومُ بِهِمَا جَمِيعًا وَالْمَوْجُودُ) مِنْ الْمُوجِبِ وَحْدَهُ (شَطْرُ الْعَقْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ تَمَّ عَقْدًا بِقَبُولِ فُضُولِيٍّ آخَرَ تَوَقَّفَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ عِنْدَهُمَا.

قَالُوا: إذَا قَبِلَ عَنْهُ قَابِلٌ تَوَقَّفَ بِالْإِجْمَاعِ، وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ الشَّرْطُ أَنْ يَقْبَلَ فِي الْمَجْلِسِ إنْ كَانَ حَاضِرًا فَتَنْفُذُ، أَوْ يَقْبَلَ عَنْهُ فُضُولِيٌّ آخَرُ إنْ كَانَ غَائِبًا فَتَتَوَقَّفُ إلَى إجَازَتِهِ أَوْ رَدٍّ، وَقَوْلُهُ (إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ صَحَّتْ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ فِي الْمَجْلِسِ وَلَا قَبُولِ فُضُولِيٍّ عَنْهُ (وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْمَرِيضُ) الْمَدْيُونُ (لِوَارِثِهِ تَكَفَّلْ عَنِّي بِمَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَكَفَلَ) عَنْهُ (بِهِ مَعَ غَيْبَةِ الْغُرَمَاءِ) فَإِنَّهُ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا فَلِلْغُرَمَاءِ مُطَالَبَتُهُ. وَذَكَرَ لِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَكَفَّلْ عَنِّي وَصِيَّةٌ: أَيْ فِيهِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ، إذْ لَوْ كَانَتْ حَقِيقَةَ الْوَصِيَّةِ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ حَالِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ فَكَأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ لَهُمْ اقْضُوا دُيُونِي فَقَالُوا نَعَمْ إذَا قَالُوا تَكَفَّلْنَا بِهَا، فَلِذَا قَالَ الْمَشَايِخُ: إنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَا تُؤْخَذُ الْوَرَثَةُ بِدُيُونِهِ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةَ الْكَفَالَةِ لَأُخِذُوا بِهَا حَيْثُ تَكَفَّلُوا.

ثَانِيهمَا: مَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْإِيضَاحِ أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لَا بِذِمَّتِهِ لِضَعْفِهَا بِمَرَضِ الْمَوْتِ وَلِذَا امْتَنَعَ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ وَاخْتَارَ، فَنَزَلَ نَائِبًا عَنْ الْغُرَمَاءِ الْمَكْفُولِ لَهُمْ عَامِلًا لَهُمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لَهُ بِتَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ الْمَكْفُولِ لَهُ كَمَا إذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ كَالطَّالِبِ حَضَرَ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهِ فَإِنَّ الصَّادِرَ مِنْهُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ: تَكَفَّلْ، وَلَوْ قَالَ تَكَفَّلْ لِي بِمَا لِي عَلَى فُلَانٍ فَقَالَ كَفَلْت لَا يَتِمُّ إلَّا أَنْ يَقُولَ بَعْدَ ذَلِكَ قَبِلْت أَوْ نَحْوَهُ، كَالْبَيْعِ إذَا قَالَ بِعْنِي بِكَذَا فَقَالَ بِعْت لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَقُولَ الْآمِرُ قَبِلْت. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ

ص: 202

وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ دُونَ الْمُسَاوَمَةِ ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَصَارَ كَالْأَمْرِ بِالنِّكَاحِ، وَلَوْ قَالَ الْمَرِيضُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ.

إنَّمَا لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ) بَعْدَ قَوْلِ الْوَارِثِ تَكَفَّلْت (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَكَفَّلْت (لَا يُرَادُ بِهِ الْمُسَاوَمَةُ) وَإِنَّمَا اُحْتِيجَ فِي الْبَيْعِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمُسَاوَمَةُ وَهُنَا لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا التَّحْقِيقُ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنَّ حَالَةَ الْمَوْتِ ظَاهِرَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى قَصْدِهِ إلَى تَحْقِيقِ الْكَفَالَةِ لِتَخْلِيصِ نَفْسِهِ لَا عَلَى الْمُسَاوَمَةِ بِهَا (فَصَارَ) الْأَمْرُ هُنَا (كَالْأَمْرِ بِالنِّكَاحِ) فِيمَا لَوْ قَالَ زَوِّجْنِي بِنْتَك فَقَالَ زَوَّجْتُكَهَا انْعَقَدَ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ قَبِلْت حَيْثُ كَانَ النِّكَاحُ لَا تَجْرِي فِيهِ الْمُسَاوَمَةُ (وَلَوْ قَالَ الْمَرِيضُ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ) فَضَمِنَ (اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ) مِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ بِلَا الْتِزَامٍ فَكَانَ الْمَرِيضُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ وَالصَّحِيحُ سَوَاءً، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ لِوَارِثِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَقْبَلَ الطَّالِبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَصِحُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَيَنْزِلُ الْمَرِيضُ مَنْزِلَةَ الطَّالِبِ لِحَاجَتِهِ لِتَضْيِيقِ الْحَالِ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَارِثِ وَهُوَ أَوْجَهُ، وَمَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ قَوْلِهِ وَهَذَا مِنْ الْمَرِيضِ صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الدَّيْنَ وَلَا صَاحِبَ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ

ص: 203

قَالَ (وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَتَكَفَّلَ عَنْهُ رَجُلٌ لِلْغُرَمَاءِ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: تَصِحُّ) لِأَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِحَقِّ الطَّالِبِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمُسْقِطُ وَلِهَذَا يَبْقَى فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَلَوْ تَبَرَّعَ بِهِ إنْسَانٌ يَصِحُّ، وَكَذَا يَبْقَى إذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ مَالٌ. وَلَهُ أَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ

بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ لِوَرَثَتِهِ بِأَنْ يَقْضُوا دَيْنَهُ، وَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْأَرْجَحِ وَهُوَ أَنَّهَا كَفَالَةٌ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَلْ هِيَ كَفَالَةٌ، وَجَهَالَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ وَهُوَ الدَّيْنُ لَا تَضُرُّ فِي الْكَفَالَةِ، وَقَدْ فَرَضَ أَنَّ الْمَرِيضَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَكْفُولِ لَهُ وَهُوَ مُعَيَّنٌ فَلَمْ يَكُنْ الْمَكْفُولُ لَهُ مَجْهُولًا حُكْمًا لِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا) بَلْ مَاتَ مُفْلِسًا (فَتَكَفَّلَ رَجُلٌ لِلْغُرَمَاءِ بِمَا عَلَيْهِ لَا تَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ (تَصِحُّ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ) لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِجِنَازَةِ أَنْصَارِيٍّ فَقَالَ: هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ دِرْهَمَانِ أَوْ دِينَارَانِ، فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَامَ أَبُو قَتَادَةَ وَقَالَ: هُمَا عَلَيَّ فَصَلَّى صلى الله عليه وسلم» فَلَوْ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ لَمَا صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ، وَلِأَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ (لِأَنَّهُ) أَيْ الدَّيْنَ (وَجَبَ) فِي حَيَاتِهِ (لِحَقِّ الطَّالِبِ) وَهُوَ بَاقٍ (وَلَمْ يُوجَدْ الْمُسْقِطُ) وَهُوَ الْأَدَاءُ أَوْ الْإِبْرَاءُ أَوْ انْفِسَاخُ سَبَبِ وُجُوبِهِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ بِالْمَوْتِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى بَقَائِهِ كَوْنُهُ يُطَالَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ (وَ) أَنَّهُ (لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ إنْسَانٌ جَازَ) أَخْذُ الطَّالِبِ مِنْهُ وَلَوْ سَقَطَ بِالْمَوْتِ مَا حَلَّ لَهُ أَخْذُهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِهِ كَفِيلٌ قَبْلَ مَوْتِهِ بَقِيَتْ الْكَفَالَةُ، وَلَوْ بَطَلَ الدَّيْنُ بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ لِسُقُوطِهِ عَنْ الْكَفِيلِ بِسُقُوطِهِ عَنْ الْأَصِيلِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ) فِي حُكْمِ الدُّنْيَا لَا مُطْلَقًا، وَالْكَفَالَةُ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا تُوَثَّقُ لِيَأْخُذَهُ فِيهَا لَا فِي الْآخِرَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ لَهَا وُجُودٌ بِلَا دَيْنٍ

ص: 204

لِأَنَّ الدَّيْنَ هُوَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً وَلِهَذَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ. لَكِنَّهُ فِي الْحُكْمِ مَالٌ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَيْهِ فِي الْمَآلِ وَقَدْ عَجَزَ بِنَفْسِهِ وَبِخَلَفِهِ فَفَاتَ عَاقِبَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً، وَالتَّبَرُّعُ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ،

كَذَلِكَ، (وَلِأَنَّ الدَّيْنَ فِعْلٌ حَقِيقَةً وَلِذَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ) وَالْمَوْصُوفُ بِالْأَحْكَامِ الْأَفْعَالُ (وَقَدْ عَجَزَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ وَبِخَلَفِهِ) هُوَ الْكَفِيلُ الْكَائِنُ قَبْلَ سُقُوطِهِ فَسَقَطَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ضَرُورَةً (وَالتَّبَرُّعُ لَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ) وَلَوْ كَانَ بِقَيْدِ الْإِضَافَةِ: أَيْ التَّبَرُّعُ بِالدَّيْنِ وَهُوَ الْحَقُّ فَإِنَّمَا يَعْتَمِدُ قِيَامُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ لَهُ، وَالْكَفَالَةُ نِسْبَةٌ بَيْنَ كُلٍّ مِنْ الْمَكْفُولِ لَهُ وَالْأَصِيلِ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ مَا عَلَى الْأَصِيلِ لِلْمَكْفُولِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ بِهِ كَفِيلٌ لَمْ يَعْجِزْ بِخَلَفِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ

ص: 205

وَإِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ أَوْ لَهُ مَالٌ فَخَلَفَهُ أَوْ الْإِفْضَاءُ إلَى الْأَدَاءِ بَاقٍ.

الدَّيْنُ بِمَوْتِهِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهَا كَفَالَةٌ بَعْدَ السُّقُوطِ (وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَالْإِفْضَاءُ إلَى الْأَدَاءِ بَاقٍ) فَلَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ فَصَحَّتْ كَفَالَتُهُ عَنْ الْمَيِّتِ الْمَلِيءِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فَلَيْسَ فِيهِ صَرِيحُ إنْشَاءِ الْكَفَالَةِ بَلْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ هُمَا عَلَيَّ كُلًّا مِنْ إنْشَائِهَا وَالْإِخْبَارِ بِهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَلَا عُمُومَ لِوَاقِعَةِ الْحَالِ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي خُصُوصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَيُحْتَمَلُ الْوَعْدُ بِهَا وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا، وَامْتِنَاعُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِيَظْهَرَ طَرِيقُ إيفَائِهِمَا لَا بِقَيْدِ طَرِيقِ الْكَفَالَةِ، فَلَمَّا ظَهَرَ بِوَعْدِهَا أَوْ بِالْإِقْرَارِ بِالْكَفَالَةِ بِهِمَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَصَلَّى عَلَيْهِ. وَنُوقِضَ إثْبَاتُ سُقُوطِ الدَّيْنِ بِمَسَائِلَ: أَحَدُهَا لَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا قَبْلَ أَدَائِهِ الثَّمَنَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَلَوْ سَقَطَ الثَّمَنُ بَطَلَ، وَلَوْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ فِي الذِّمَّةِ فَكَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الثَّمَنِ فِي نَفْسِهِ فَعُلِمَ أَنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ، بِالنِّسْبَةِ إلَى الدُّنْيَا لَا يُبْطِلُ الدَّيْنَ.

ثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِالدَّيْنِ كَفِيلٌ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا وَلَوْ سَقَطَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لَمْ تَبْقَ الْكَفَالَةُ.

ثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ بِالدَّيْنِ رَهْنٌ بَقِيَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُفْلِسًا وَبَقَاءُ الرَّهْنِ إنَّمَا يَكُونُ بِبَقَاءِ الدَّيْنِ، وَلِأَنَّ تَعَذُّرَ الْمُطَالَبَةِ لِمَعْنًى لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الدَّيْنِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، كَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ فَكَفَلَ عَنْهُ بِهِ كَفِيلٌ صَحَّ وَإِنْ كَانَ لَا يُطَالَبُ بِهِ فِي حَالِ رِقِّهِ فَكَذَا فِي حَالِ الْمَوْتِ.

أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ حَتَّى جَازَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُتَبَرِّعِ وَالْكَفَالَةُ تَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ سَقَطَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لِضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْمَحَلِّ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ.

وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ كَسَادَ الْفُلُوسِ يُبْطِلُ الْمِلْكَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فَلِذَلِكَ انْتَقَضَ الْعَقْدُ وَهُنَا الدَّيْنُ بَاقٍ فِي حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ.

وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ ذِمَّةَ الْكَفِيلِ السَّابِقِ كَفَالَتُهُ خَلَفٌ عَنْ ذِمَّتِهِ فَلَا تَبْطُلُ ذِمَّتُهُ بِالْمَوْتِ وَمِثْلُهُ الرَّهْنُ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَتَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ لِحَقِّ

ص: 206

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَقَضَاهُ الْأَلْفَ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ صَاحِبُ الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْقَابِضِ عَلَى احْتِمَالِ قَضَائِهِ الدَّيْنَ فَلَا يَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ مَا بَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ، كَمَنْ عَجَّلَ زَكَاتَهُ وَدَفَعَهَا إلَى السَّاعِي،

الْمَوْلَى كَمَا أَنَّ الدَّيْنَ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ الْحَيِّ وَإِنْ كَانَ لَا يُطَالَبُ بِهِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَقَضَاهُ) أَيْ قَضَى الرَّجُلَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ الْكَفِيلُ (الْأَلْفَ) الَّتِي كَفَلَ بِهَا (قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ) أَيْ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ الْكَفِيلُ الْأَلْفَ (صَاحِبَ الْمَالِ) وَذِكْرُ ضَمِيرِ يُعْطِيَهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَالِ أَوْ الْمَكْفُولِ بِهِ لَازِمٌ مِنْ قَوْلِهِ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ وَصَاحِبُ الْمَالِ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ لِيُعْطِيَ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ ضَمِيرُ الْمَالِ الْمُقَدَّمُ فِي يُعْطِيَهُ (فَلَيْسَ لَهُ) أَيْ لَيْسَ لِلرَّجُلِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ (أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا) وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيِّ.

وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ مَا لَمْ يَقْضِ الْأَصِيلُ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَأَنَّ الْأَمَانَةَ مَا إذَا كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْكَفِيلِ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ إلَى الطَّالِبِ وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ (لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْقَابِضِ عَلَى احْتِمَالِ قَضَائِهِ الدَّيْنَ فَلَا تَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ مَا بَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ) إلْحَاقًا بِالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ لِلسَّاعِي تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْقَابِضِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَتِمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْدَادُهُ شَرْعًا مَا بَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ (وَ) الْوَجْهُ الثَّانِي

ص: 207

وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّفْعُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ (وَإِنْ رَبِحَ الْكَفِيلُ فِيهِ فَهُوَ لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ) لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ قَبَضَهُ، أَمَّا إذَا قَضَى الدَّيْنَ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا قَضَى الْمَطْلُوبُ بِنَفْسِهِ وَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ أُخِّرَتْ الْمُطَالَبَةُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْمَطْلُوبَ قَبْلَ أَدَائِهِ يَصِحُّ،

أَنَّهُ) أَيْ الْقَابِضَ (مَلَكَهُ) بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُ يُرِيدُ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ سَطْرٍ فِي تَعْلِيلِ طَيِّبِ الرِّبْحِ لِلْكَفِيلِ لَوْ عَمِلَ فِيهِ فَرَبِحَ وَهُوَ قَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ قَبَضَهُ. أَمَّا إذَا قَضَى الدَّيْنَ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا لَوْ قَضَى الْمَطْلُوبُ بِنَفْسِهِ)

الدَّيْنَ وَلَمْ يَقْضِ الْكَفِيلُ (وَثَبَتَ) لِلْمَطْلُوبِ (الِاسْتِرْدَادُ) بِمَا دَفَعَ لِلْكَفِيلِ، وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِثُبُوتِ مِلْكِهِ إذَا قَضَى الْأَصِيلُ بِنَفْسِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْكَفِيلَ (وَجَبَ لَهُ) بِمُجَرَّدِ الْكَفَالَةِ (عَلَى الْأَصِيلِ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ) عَلَى الْكَفِيلِ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ (إلَّا) أَيْ لَكِنْ (أُخِّرَتْ مُطَالَبَةُ الْكَفِيلِ إلَى أَدَائِهِ فَنَزَلَ) مَا لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ (بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ) وَلَوْ عَجَّلَ الْمَدْيُونُ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ مَلَكَهُ الدَّائِنُ بِقَبْضِهِ فَكَذَا هَذَا (وَلِهَذَا) أَيْ وَالدَّلِيلُ أَنَّ لِلْكَفِيلِ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ مُتَأَخِّرًا أَنَّهُ (لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْأَصِيلَ قَبْلَ أَدَائِهِ) أَيْ قَبْلَ أَدَاءِ الْكَفِيلِ (يَصِحُّ) حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَدَّى

ص: 208

فَكَذَا إذَا قَبَضَهُ يَمْلِكُهُ إلَّا أَنَّ فِيهِ نَوْعَ خُبْثٍ نُبَيِّنُهُ فَلَا يُعْمَلُ مَعَ الْمِلْكِ فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ

(وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ فَقَبَضَهَا الْكَفِيلُ فَبَاعَهَا وَرَبِحَ فِيهَا فَالرِّبْحُ لَهُ فِي الْحُكْمِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ (قَالَ: وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ الْكُرَّ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هُوَ لَهُ وَلَا يَرُدُّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ.

وَجَازَ أَخْذُ الْكَفِيلِ مِنْ الْأَصِيلِ رَهْنًا بِهِ قَبْلَ أَدَائِهِ (فَكَذَا إذَا قَبَضَهُ يَمْلِكُهُ) يَعْنِي إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ كَانَ بِحَيْثُ يَمْلِكُهُ إذَا قَبَضَهُ، وَإِذَا مَلَكَهُ كَانَ الرِّبْحُ لَهُ (إلَّا) أَيْ لَكِنْ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ (فِيهِ نَوْعُ خُبْثٍ) عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (نُبَيِّنُهُ) عَنْ قَرِيبٍ (فَلَا يُعْمَلُ مَعَ الْمِلْكِ فِيمَنْ لَا يَتَعَيَّنُ) وَهُوَ الْأَلْفُ الَّتِي قَضَاهُ إيَّاهَا لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ (وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ) فِي آخِرِ فَصْلٍ فِي أَحْكَامِهِ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ) فَدَفَعَهُ الْأَصِيلُ إلَى الْكَفِيلِ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ (فَالرِّبْحُ لَهُ) أَيْ الْكَفِيلِ (لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ) أَيْ مَلَكَ الْكُرَّ، وَإِنَّمَا بَيَّنَهُ فِي ضِمْنِ بَيَانِ أَنَّهُ مَلَكَ الْمَقْبُوضَ (قَالَ: وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الَّذِي قَضَاهُ الْكُرَّ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) وَلَا شَكَّ أَنَّ ضَمِيرَ قَالَ لِأَبِي حَنِيفَةَ.

فَقَوْلُهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنَّمَا ذَكَرَهُ لِيُمَهِّدَ لِنَصْبِ الْخِلَافِ بِذِكْرِ قَوْلِهِمَا حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ بِفَاعِلِ قَالَ (وَقَالَا: هُوَ لَهُ لَا يَرُدُّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ رِوَايَةٌ) أُخْرَى (عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ رِوَايَةُ كِتَابِ الْبُيُوعِ مِنْ الْأَصْلِ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (رِوَايَةٌ) ثَالِثَةٌ (أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ)

ص: 209

لَهُمَا أَنَّهُ رَبِحَ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فَيُسَلِّمُ لَهُ. وَلَهُ أَنَّهُ تَمَكَّنَ الْخُبْثُ مَعَ الْمِلْكِ، إمَّا لِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ بِأَنْ يَقْضِيَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ عَلَى اعْتِبَارِ قَضَاءِ الْكَفِيلِ، فَإِذَا قَضَاهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ وَهَذَا الْخُبْثُ يُعْمَلُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ فَيَكُونُ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ فِي رِوَايَةٍ، وَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ لِأَنَّ الْخُبْثَ لَحِقَهُ، وَهَذَا أَصَحُّ لَكِنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَا جَبْرٌ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ.

وَهِيَ رِوَايَةُ كِتَابِ الْكَفَالَةِ مِنْهُ (لَهُمَا أَنَّهُ رَبِحَ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ) فِي ثُبُوتِ مِلْكِهِ مِنْ أَنَّهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ إلَخْ (فَيُسَلِّمُ لَهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَمَكَّنَ الْخُبْثَ مَعَ الْمِلْكِ، إمَّا) لِقُصُورِ مِلْكِهِ بِسَبَبِ أَنَّ الْأَصِيلَ (بِسَبِيلٍ مِنْ اسْتِرْدَادِهِ بِأَنْ يَقْضِيَ) هُوَ الطَّالِبُ فَيَنْتَقِضُ مِلْكُ الْكَفِيلِ فِيمَا قَبَضَ (أَوْ لِأَنَّهُ) إنَّمَا بِمِلْكٍ (رَضِيَ بِهِ) أَيْ بِمِلْكِ الْكَفِيلِ فِيهِ (عَلَى اعْتِبَارِ قَضَاءِ الْكَفِيلِ، فَإِذَا قَضَاهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ) وَالْوَجْهُ أَنْ يَعْطِفَ بِالْوَاوِ فَإِنَّهُمَا وَجْهَانِ لَا أَنَّ الْوَجْهَ أَحَدُهُمَا بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَابِتٌ، وَهُوَ قُصُورُ الْمِلْكِ بِسَبَبِ ثُبُوتِ تِلْكَ الْخُبْثِيَّةِ وَعَدَمِ رِضَا الْأَصِيلِ بِمِلْكِ الْكَفِيلِ بِمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ إلَّا عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَهُوَ مُنْتَفٍ (وَهَذَا الْخُبْثُ يُعْمَلُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ) وَهُوَ الْكُرُّ لَا فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ كَالْأَلْفِ مَثَلًا (فَيَكُونُ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ فِي رِوَايَةٍ، وَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ) أُخْرَى (وَهِيَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْخُبْثَ لَحِقَ الْأَصِيلَ) لَا لَحِقَ الشَّرْعَ فَيَرُدُّهُ إلَيْهِ لِيَصِلَ إلَى حَقِّهِ (لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ) وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ يَطِيبُ لَهُ فَقِيرًا كَانَ أَوْ غَنِيًّا، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَوْجَهُ طِيبُهُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْحَقَّ لَهُ (إلَّا أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَا جَبْرٌ) لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْكَفِيلِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَكَرَّرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَابَلَةُ الِاسْتِحْبَابِ بِالْحُكْمِ فَقَالَ أَوَّلًا أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّهُ وَلَا يَجِبُ فِي الْحُكْمِ: أَيْ فِي الْقَضَاءِ. وَثَانِيًا لَكِنَّهُ اسْتِحْبَابٌ لَا جَبْرٌ: يَعْنِي لَا يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْبَابِ مَا يُقَابِلُ جَبْرَ الْقَاضِي يَكُونُ الْمَعْنَى لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي وَلَكِنْ يَفْعَلُهُ هُوَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَبْرِ الْقَاضِي عَدَمُ الْوُجُوبِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إذْ قَدْ عُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِحْبَابِ عَدَمُ جَبْرِ الْقَاضِي عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ فِي الْقَضَاءِ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَيْهِ، وَالْعِبَارَةُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ

ص: 210

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَأَمَرَهُ الْأَصِيلُ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَرِيرًا فَفَعَلَ فَالشِّرَاءُ لِلْكَفِيلِ وَالرِّبْحُ الَّذِي رَبِحَهُ الْبَائِعُ فَهُوَ عَلَيْهِ) وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِبَيْعِ الْعِينَةِ مِثْلُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ تَاجِرٍ عَشَرَةً فَيَتَأَبَّى عَلَيْهِ وَيَبِيعَ مِنْهُ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ مَثَلًا رَغْبَةً فِي نَيْلِ الزِّيَادَةِ لِيَبِيعَهُ الْمُسْتَقْرِضُ بِعَشَرَةٍ وَيَتَحَمَّلَ عَلَيْهِ خَمْسَةً؛ سُمِّيَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدَّيْنِ إلَى الْعَيْنِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ مَبَرَّةِ الْإِقْرَاضِ مُطَاوَعَةً لِمَذْمُومِ الْبُخْلِ. ثُمَّ قِيلَ:

الِاسْتِحْسَانُ.

قَالَ: وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَا قَبَضَهُ الْكَفِيلُ مَمْلُوكٌ لَهُ مِلْكًا فَاسِدًا مِنْ وَجْهٍ، فَإِنَّ لِلْأَصِيلِ اسْتِرْدَادَهُ حَالَ قِيَامِ الْكَفَالَةِ بِقَضَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَاسْتِرْدَادُ الْمَقْبُوضِ حَالَ قِيَامِ الْعَقْدِ حُكْمُ مِلْكٍ فَاسِدٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: حَالَ قِيَامِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِأَدَاءِ الْأَصِيلِ وَلَكِنْ تَنْتَهِي كَمَا لَوْ أَدَّى الْكَفِيلُ بِنَفْسِهِ، فَكَانَ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا فَاسِدًا مِنْ وَجْهٍ صَحِيحًا مِنْ وَجْهٍ، وَلَوْ كَانَ فَاسِدًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ اشْتَرَى مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مِلْكًا فَاسِدًا وَرَبِحَ فِيهِ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ أَوْ الرَّدُّ عَلَى الْمَالِكِ، لِأَنَّ الْخُبْثَ كَانَ لَحِقَهُ فَيَزُولُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، كَالْغَاصِبِ إذَا أَجَّرَ الْمَغْصُوبَ ثُمَّ رَدَّهُ فَإِنَّ الْأَجْرَ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ أَوْ يَرُدُّهُ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَكَذَا فِي الْمِلْكِ الْفَاسِدِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

وَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ صَحِيحًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ وَلَا رَدُّهُ، فَإِذَا فَسَدَ مِنْ وَجْهٍ وَصَحَّ مِنْ وَجْهٍ يَجِبُ التَّصَدُّقُ أَوْ الرَّدُّ عَلَى الْأَصِيلِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ظَاهِرَةً فِي وُجُوبِ رَدِّهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ التَّصَدُّقِ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ تَرَجَّحَ الرَّدُّ، هَذَا كُلُّهُ إذَا أَعْطَاهُ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ، فَلَوْ أَعْطَاهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ إلَى الطَّالِبِ فَتَصَرَّفَ وَرَبِحَ صَارَ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ وَطَابَ لَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِمَا عُرِفَ فِيمَنْ غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ مَالًا وَرَبِحَ فِيهِ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ فِي قَوْلِهِمَا لِأَنَّهُ اسْتَفَادَهُ مِنْ أَصْلٍ خَبِيثٍ وَيَطِيبُ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مُسْتَدِلًّا بِحَدِيثِ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» .

(قَوْلُهُ وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ بِأَمْرِهِ فَأَمَرَهُ) أَيْ فَأَمَرَ الْكَفِيلُ (الْأَصِيلَ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَرِيرًا) أَيْ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ حَرِيرًا بِطَرِيقِ الْعِينَةِ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ حَرِيرًا بِثَمَنٍ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ لِيَبِيعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ لِغَيْرِ الْبَائِعِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ الْبَائِعُ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ بِالْأَقَلِّ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ وَيَدْفَعَ ذَلِكَ الْأَقَلَّ إلَى بَائِعِهِ فَيَدْفَعَهُ بَائِعُهُ إلَى الْمُشْتَرِي الْمَدْيُونِ فَيُسَلِّمَ الثَّوْبَ لِلْبَائِعِ كَمَا كَانَ وَيَسْتَفِيدَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ الْأَقَلِّ، وَإِنَّمَا وَسَّطَا الثَّانِيَ تَحَرُّزًا عَنْ شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ.

وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِأَنْ يَسْتَقْرِضَ فَيَأْبَى الْمُقْرِضُ إلَّا أَنْ يَبِيعَهُ عَيْنًا تُسَاوِيَ عَشَرَةً مَثَلًا فِي السُّوقِ بِاثْنَيْ عَشَرَ فَيَفْعَلَ فَيَرْبَحَ الْبَائِعُ دِرْهَمَيْنِ رَغْبَةً عَنْ الْقَرْضِ الْمَنْدُوبُ إلَى الْبُخْلِ وَتَحْصِيلِ غَرَضِهِ مِنْ

ص: 211

هَذَا ضَمَانٌ لِمَا يَخْسَرُ الْمُشْتَرِي نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ عَلَيَّ وَهُوَ فَاسِدٌ وَلَيْسَ بِتَوْكِيلٍ وَقِيلَ هُوَ تَوْكِيلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْحَرِيرَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، وَكَذَا الثَّمَنُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِجَهَالَةِ مَا زَادَ عَلَى الدَّيْنِ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَالشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْكَفِيلُ وَالرِّبْحُ: أَيْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ.

الرِّبَا بِطَرِيقِ الْمُوَاضَعَةِ فِي الْبَيْعِ

فَلَا يَصِحُّ هُنَا، إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَيَّنَ عَلَيَّ حَرِيرٌ اذْهَبْ فَاسْتَقْرِضْ فَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُقْرِضَك فَاشْتَرِ مِنْهُ الْحَرِيرَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، بَلْ الْمَقْصُودُ اذْهَبْ فَاشْتَرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِذَا فَعَلَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَالْمِلْكُ لَهُ فِي الْحَرِيرِ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي يَخْسَرُهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ حَاصِلُهَا (ضَمَانٌ لِمَا يَخْسَرُ الْمُشْتَرِي نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ عَلَيَّ) كَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ فَمَا خَسِرَ فَعَلَيَّ، وَضَمَانُ الْخُسْرَانِ بَاطِلٌ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَضْمُونٍ وَالْخُسْرَانُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى أَحَدٍ، حَتَّى لَوْ قَالَ بَايِعْ فِي السُّوقِ عَلَى أَنَّ كُلَّ خُسْرَانٍ يَلْحَقُك فَعَلَيَّ أَوْ قَالَ لِمُشْتَرِي الْعَبْدِ إنْ أَبَقَ عَبْدُك هَذَا فَعَلَيَّ لَا يَصِحُّ (وَقِيلَ هُوَ تَوْكِيلٌ فَاسِدٌ) وَمَعْنَى عَلَيَّ مُنْصَرِفٌ إلَى الثَّمَنِ، فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ يَكُونُ الْبَيْعُ لَهُ فَأَغْنَى عَنْ قَوْلِهِ لِي فَهُوَ تَوْكِيلٌ لَكِنَّهُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِقْدَارُهُ وَلَا ثَمَنُهُ فَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي حِنْطَةً وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَهَا وَلَا ثَمَنَهَا، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الثَّمَنَ مَعْلُومٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ قَدْرُ مَا يَقَعُ بِهِ الْإِيفَاءُ كَانَ الْحَاصِلُ اشْتَرِ لِي حَرِيرًا لِيَكُونَ ثَمَنُهُ الَّذِي تَبِيعُهُ بِهِ فِي السُّوقِ قَدْرَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْنَا وَهُوَ لَا يُعَيِّنُ قَدْرَ ثَمَنِ الْحَرِيرِ الْمُوَكَّلِ بِشِرَائِهِ بَلْ مَا يُبَاعُ بِهِ بَعْدَ شِرَائِهِ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْإِيفَاءُ غَيْرُ مَعْلُومٍ (وَكَيْفَمَا) كَانَ تَوْكِيلًا فَاسِدًا أَوْ ضَمَانًا بَاطِلًا (يَكُونُ الشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْكَفِيلُ وَالرِّبْحُ أَيْ الزِّيَادَةُ) الَّتِي يَخْسَرُهَا (عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ) وَمِنْ صُوَرِ الْعِينَةِ أَنْ يُقْرِضَهُ مَثَلًا خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ يَبِيعَهُ ثَوْبًا يُسَاوِي عَشْرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَيَأْخُذَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ الْقَرْضَ مِنْهُ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ إلَّا عَشْرَةٌ وَثَبَتَ لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ.

وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ مَتَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ مِنْ الْمُسْتَقْرِضِ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبْعَثَ مُتَوَسِّطًا يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ بِأَلْفٍ حَالَّةً وَيَقْبِضَهُ ثُمَّ يَبِيعَهُ مِنْ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِأَلْفٍ ثُمَّ يُحِيلَ الْمُتَوَسِّطُ بَائِعَهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ حَالَّةً فَيَدْفَعَهَا إلَى الْمُسْتَقْرِضِ وَيَأْخُذَ مِنْهُ أَلْفَيْنِ عِنْدَ الْحُلُولِ. قَالُوا: وَهَذَا الْبَيْعُ مَكْرُوهٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَتَبِعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ذَلَلْتُمْ وَظَهَرَ عَلَيْكُمْ عَدُوُّكُمْ» وَالْمُرَادُ بِاتِّبَاعِ أَذْنَابِ الْبَقَرِ الْحَرْثُ لِلزِّرَاعَةِ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَتْرُكُونَ الْجِهَادَ وَتَأْلَفُ النَّفْسُ الْجُبْنَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُكْرَهُ هَذَا الْبَيْعُ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَحَمِدُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَعُدُّوهُ مِنْ الرِّبَا، حَتَّى لَوْ بَاعَ كَاغِدَةً بِأَلْفٍ يَجُوزُ وَلَا يُكْرَهُ

ص: 212

قَالَ (وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا قَضَى لَهُ عَلَيْهِ فَغَابَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكَفِيلِ بِأَنَّ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ) لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ مَقْضِيٌّ بِهِ وَهَذَا فِي لَفْظَةِ الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ، وَكَذَا فِي الْأُخْرَى لِأَنَّ مَعْنَى ذَابَ تَقَرَّرَ وَهُوَ بِالْقَضَاءِ أَوْ مَالٌ يُقْضَى بِهِ وَهَذَا مَاضٍ أُرِيدَ بِهِ الْمُسْتَأْنَفُ كَقَوْلِهِ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك فَالدَّعْوَى مُطْلَقٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: هَذَا الْبَيْعُ فِي قَلْبِي كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ ذَمِيمٌ اخْتَرَعَهُ أَكَلَةُ الرِّبَا، وَقَدْ ذَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ذَلَلْتُمْ وَظَهَرَ عَلَيْكُمْ عَدُوُّكُمْ» أَيْ اشْتَغَلْتُمْ بِالْحَرْثِ عَنْ الْجِهَادِ وَفِي رِوَايَةٍ «سَلَّطَ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» وَقِيلَ: إيَّاكَ وَالْعِينَةَ فَإِنَّهَا لَعِينَةٌ.

ثُمَّ ذَمُّوا الْبِيَاعَاتِ الْكَائِنَاتِ الْآنَ أَشَدَّ مِنْ بَيْعِ الْعِينَةِ، حَتَّى قَالَ مَشَايِخُ بَلْخٍ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ بِبَلْخٍ لِلتُّجَّارِ: إنَّ الْعِينَةَ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْحَدِيثِ خَيْرٌ مِنْ بِيَاعَاتِكُمْ، وَهُوَ صَحِيحٌ، فَكَثِيرٌ مِنْ الْبِيَاعَاتِ كَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ وَالشَّيْرَجُ وَغَيْرِ ذَلِكَ اسْتَقَرَّ الْحَالُ فِيهَا عَلَى وَزْنِهَا مَظْرُوفَةً ثُمَّ إسْقَاطُ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ عَلَى الظَّرْفِ وَبِهِ يَصِيرُ الْبَيْعُ فَاسِدًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ بِحُكْمِ الْغَصْبِ الْمُحَرَّمِ فَأَيْنَ هُوَ مِنْ بَيْعِ الْعِينَةِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَلَفِ فِي كَرَاهَتِهِ، ثُمَّ الَّذِي يَقَعُ فِي قَلْبِي أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ الدَّافِعُ إنْ فُعِلَتْ صُورَةٌ يَعُودُ فِيهَا إلَيْهِ هُوَ أَوْ بَعْضُهُ كَعَوْدِ الثَّوْبِ أَوْ الْحَرِيرِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَكَعَوْدِ الْعَشَرَةِ فِي صُورَةِ إقْرَاضِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ فَمَكْرُوهٌ، وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَةَ إلَّا خِلَافُ الْأُولَى عَلَى بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ كَأَنْ يَحْتَاجَ الْمَدْيُونُ فَيَأْبَى الْمَسْئُولُ أَنْ يُقْرِضَ بَلْ أَنْ يَبِيعَ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ إلَى أَجَلٍ فَيَشْتَرِيَهُ الْمَدْيُونُ وَيَبِيعَهُ فِي السُّوقِ بِعَشَرَةٍ حَالَّةٍ، وَلَا بَأْسَ فِي هَذَا فَإِنَّ الْأَجَلَ قَابَلَهُ قِسْطٌ مِنْ الثَّمَنِ وَالْقَرْضُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ دَائِمًا بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ، فَإِنْ تَرَكَهُ بِمُجَرَّدِ رَغْبَةٍ عَنْهُ إلَى زِيَادَةِ الدُّنْيَا فَمَكْرُوهٌ أَوْ لِعَارِضٍ يُعْذَرُ بِهِ فَلَا، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي خُصُوصِيَّاتِ الْمَوَادِّ وَمَا لَمْ تَرْجِعْ إلَيْهِ الْعَيْنُ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ لَا يُسَمَّى بَيْعَ الْعِينَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْعَيْنِ الْمُسْتَرْجَعَةِ لَا الْعَيْنِ مُطْلَقًا وَإِلَّا فَكُلُّ بَيْعٍ بَيْعُ الْعِينَةِ.

(قَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا قَضَى لَهُ عَلَيْهِ فَغَابَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَأَقَامَ) رَجُلٌ (بَيِّنَةً عَلَى الْكَفِيلِ أَنَّ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَا يَقْبَلُ) الْقَاضِي هَذِهِ الْبَيِّنَةَ وَلَا يَقْضِي بِهَا لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى غَائِبٍ لَمْ يُنْتَصَبْ عَنْهُ خَصْمٌ، إذْ الْكَفِيلُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَكُونُ خَصْمًا عَنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَفَلَ عَنْهُ بِمَالٍ مَقْضِيٍّ بَعْدَ الْكَفَالَةِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَاضِيًا فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ كَقَوْلِهِمْ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك، وَهَذَا لِأَنَّهُ جَعَلَ الذَّوْبَ شَرْطًا وَالشَّرْطُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ الذَّوْبُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ لَا يَكُونُ كَفِيلًا (وَالدَّعْوَى مُطْلَقٌ عَنْ ذَلِكَ) وَالْبَيِّنَةُ لَمْ تَشْهَدْ بِقَضَاءِ مَالٍ وَجَبَ بَعْدَ الْكَفَالَةِ فَلَمْ تَقُمْ عَلَى مَنْ اتَّصَفَ بِكَوْنِهِ كَفِيلًا عَنْ الْغَائِبِ بَلْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ إذْ لَا يُنْتَصَبُ خَصْمًا (وَهَذَا فِي لَفْظَةِ الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ، وَكَذَا فِي الْأُخْرَى) وَهِيَ لَفْظَةُ ذَابَ (لِأَنَّ مَعْنَى ذَابَ تَقَرَّرَ) وَوَجَبَ (وَهُوَ بِالْقَضَاءِ) بَعْدَ الْكَفَالَةِ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى أَنِّي قَدَّمْت الْغَائِبَ إلَى قَاضِي كَذَا وَأَقَمْت عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِكَذَا

ص: 213

(وَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَنَّ هَذَا كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ وَعَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ يُقْضَى عَلَى الْكَفِيلِ خَاصَّةً)

بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَقَضَى لِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ صَارَ كَفِيلًا، وَصَحَّتْ الدَّعْوَى وَقَضَى عَلَى الْكَفِيلِ بِالْمَالِ لِصَيْرُورَتِهِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ يَكُونُ الْقَضَاءُ عَلَى الْكَفِيلِ خَاصَّةً.

وَقَدَّمْنَا مِنْ مَسَائِلِ الذَّوْبِ وَنَحْوِهِ عِنْدَ مَسْأَلَةِ تَعْلِيقِ الْكَفَالَةِ بِالشَّرْطِ، وَلَوْ ضَمِنَ ثَمَنَ مَا بَاعَهُ أَوْ دَايَنَهُ أَوْ أَقْرَضَهُ فَغَابَ الْمَطْلُوبُ فَيَرْهَنُ الطَّالِبُ عَلَى الْكَفِيلِ أَنَّهُ كَفَلَ بِهِ وَقَدْ دَايَنَهُ أَوْ أَقْرَضَهُ بَعْدَهُ وَجَحَدَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ قَضَى عَلَى الْكَفِيلِ وَالْغَائِبِ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ الضَّمَانَ مُقَيَّدٌ بِصِفَةٍ وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَيُنْتَصَبُ الْكَفِيلُ خَصْمًا عَنْهُ فَيَقَعُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِمَا.

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ) صُورَتُهَا فِي الْجَامِعِ. وَقَالَ يَعْقُوبُ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فَغَابَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَجَاءَ الطَّالِبُ بِالْكَفِيلِ فَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَنَّ هَذَا كَفَلَ لَهُ بِأَمْرِ فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ فَإِنِّي أَقْضِي بِشَهَادَتِهِمْ بِالْمَالِ عَلَى هَذَا وَعَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ الْغَائِبِ، فَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْغَائِبِ قَضَيْت بِالْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ وَلَمْ يَكُنْ الْكَفِيلُ بِخَصْمٍ

ص: 214

وَإِنَّمَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مَالٌ مُطْلَقٌ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّهُمَا يَتَغَايَرَانِ، لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِأَمْرٍ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَمُعَاوَضَةُ انْتِهَاءٍ، وَبِغَيْرِ أَمْرٍ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَانْتِهَاءٍ، فَبِدَعْوَاهُ أَحَدَهُمَا لَا يُقْضَى لَهُ بِالْآخَرِ، وَإِذَا قُضِيَ بِهَا بِالْأَمْرِ ثَبَتَ أَمْرُهُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ

عَنْ الْغَائِبِ انْتَهَى. يَعْنِي فَلَا يَقَعُ الْقَضَاءُ عَلَى الْأَصِيلِ، وَإِنَّمَا خَصَّ قَوْلَهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصًّا لَا أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافًا.

(وَإِنَّمَا قُبِلَتْ) هَذِهِ الْبَيِّنَةُ وَلَمْ تُقْبَلْ فِيمَا قَبْلَهَا (لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ) هُنَا (مَالٌ مُطْلَقٌ) وَدَعْوَى الْمُدَّعِي مُطْلَقَةٌ أَيْضًا فَصَحَّتْ فَقُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهَا بِنَاءٌ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى (بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا) لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ هُنَاكَ مَالٌ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِ وُجُوبِهِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِخُصُوصِ كَمِّيَّةٍ وَلَمْ يُطَابِقْهَا دَعْوَى لِلْمُدَّعِي وَلَا الْبَيِّنَةُ (وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ) الْقَضَاءُ (بِالْأَمْرِ وَعَدَمِهِ) حَتَّى يَقَعَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِمَا فِي الْأَمْرِ فَيَرْجِعَ الْكَفِيلُ، وَلَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ قَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِهِ وَعَلَى الْكَفِيلِ وَحْدَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَمْرٌ فَلَا يَرْجِعُ (لِأَنَّهُمَا) أَيْ الْكَفَالَةَ بِالْأَمْرِ وَبِغَيْرِ الْأَمْرِ (يَتَغَايَرَانِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْأَمْرِ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَمُعَاوَضَةُ انْتِهَاءٍ، وَبِغَيْرِ الْأَمْرِ تَبَرُّعُ ابْتِدَاءٍ وَانْتِهَاءٍ فَدَعْوَاهُ أَحَدَهُمَا) وَهُوَ مُجَرَّدُ التَّبَرُّعِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً (لَا يُقْضَى لَهُ بِالْآخَرِ) وَهُوَ الْمُعَاوَضَةُ لِيَثْبُتَ لَهُ الرُّجُوعُ وَيَكُونَ الْغَائِبُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ (وَإِذَا قُضِيَ بِهَا) أَيْ بِالْبَيِّنَةِ (بِالْأَمْرِ ثَبَتَ أَمْرُهُ) أَيْ أَمْرُ الْمَكْفُولِ عَنْهُ.

(وَأَمْرُهُ يَتَضَمَّنُ

ص: 215

الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ فَيَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ، وَالْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا تَمَسُّ جَانِبَهُ لِأَنَّهُ تَعْتَمِدُ صِحَّتُهَا قِيَامَ الدَّيْنِ فِي زَعْمِ الْكَفِيلِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ، وَفِي الْكَفَالَةِ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْآمِرِ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ فَقَدْ ظَلَمَ فِي زَعْمِهِ فَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ وَنَحْنُ نَقُولُ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا فَبَطَلَ مَا زَعَمَهُ.

إقْرَارَ الْأَصِيلِ بِالْمَالِ) إذْ لَا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِقَضَاءِ مَا عَلَيْهِ إلَّا وَهُوَ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ عَلَيْهِ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ دَيْنًا (فَيَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ) فَإِنَّهَا (لَا تَمَسُّ جَانِبَهُ) أَيْ جَانِبَ الْأَصِيلِ (لِأَنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ) بِلَا أَمْرِ الْمَكْفُولِ (إنَّمَا تَعْتَمِدُ قِيَامَ الدَّيْنِ فِي زَعْمِ الْكَفِيلِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْأَصِيلِ) إذْ زَعْمُهُ لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ (ثُمَّ فِي الْكَفَالَةِ بِأَمْرِهِ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْآمِرِ) حَيْثُ ثَبَتَ الْأَمْرُ (وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ فَقَدْ ظَلَمَ فِي زَعْمِهِ فَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ) وَهُوَ الْأَصِيلُ (وَنَحْنُ نَقُولُ) قَدْ (صَارَ) الْكَفِيلُ فِي إنْكَارِهِ الدَّيْنَ عَلَى الْأَصِيلِ (مُكَذَّبًا شَرْعًا) بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِخِلَافِهِ (فَيَبْطُلُ زَعْمُهُ) فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْكَفَالَةُ بِالْأَمْرِ، وَهَذَا كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ مِلْكُ الْبَائِعِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِثَمَنِهِ وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ الْبَائِعَ ظَلَمَ.

وَاسْتَشْكَلَ عَلَيْهِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَبَاعَهُ فَرُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ إنْكَارِهِ الْعَيْبَ؛ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَلَمْ يَبْطُلْ زَعْمُهُ بِالْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَرُدُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا عَيْبَ فِيهِ نَفْيٌ لِلْعَيْبِ فِي الْحَالِ وَالْمَاضِي، وَالْقَاضِي إنَّمَا كَذَّبَهُ فِي قِيَامِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ قِيَامَ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ لَيْسَ شَرْطًا لِلرَّدِّ عَلَى الثَّانِي.

وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ فَقَالَ: إمَّا أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ مُطْلَقَةً نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: كَفَلْت بِمَالِك عَلَى فُلَانٍ، أَوْ مُقَيَّدَةً نَحْوُ أَنْ يَقُولَ كَفَلْت لَك عَنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً فَالْقَضَاءُ عَلَى الْكَفِيلِ قَضَاءٌ عَلَى الْأَصِيلِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَنَّ الطَّالِبَ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إثْبَاتِ حَقِّ الْكَفِيلِ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِهِ عَلَى الْأَصِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْكَفِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْكَفِيلُ خَصْمًا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا ادَّعَى عَلَى الْحَاضِرِ حَقًّا لَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِإِثْبَاتِهِ عَلَى الْغَائِبِ.

قَالَ مَشَايِخُنَا: وَهَذَا طَرِيقُ مَنْ أَرَادَ إثْبَاتَ الدَّيْنِ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْغَائِبِ وَالْكَفِيلِ اتِّصَالٌ، وَكَذَا إذَا خَافَ الطَّالِبُ مَوْتَ الشَّاهِدِ بِتَوَاضُعٍ مَعَ رَجُلٍ وَيَدَّعِي عَلَيْهِ مِثْلَ هَذِهِ الْكَفَالَةِ فَيُقِرُّ الرَّجُلُ بِالْكَفَالَةِ وَيُنْكِرُ الدَّيْنَ فَيُقِيمُ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الدَّيْنِ فَيُقْضَى بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ ثُمَّ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ، وَكَذَا الْحَوَالَةُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ ادَّعَى حَقًّا

ص: 216

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ دَارًا وَكَفَلَ رَجُلٌ عَنْهُ بِالدَّرَكِ فَهُوَ تَسْلِيمٌ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَوْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ فَتَمَامُهُ بِقَبُولِهِ، ثُمَّ بِالدَّعْوَى يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فِيهِ فَالْمُرَادُ بِهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ وَتَرْغِيبُ الْمُشْتَرِي فِيهِ إذْ لَا يَرْغَبُ فِيهِ دُونَ الْكَفَالَةِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ.

لَا يَثْبُتُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا بِالْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ يَكُونُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ؛ كَمَنْ قَذَفَ رَجُلًا فَادَّعَى الْمَقْذُوفُ الْحَدَّ فَقَالَ الْقَاذِفُ: قَذَفْته وَهُوَ عَبْدٌ فَأَقَامَ الْمَقْذُوفُ عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا لِفُلَانٍ وَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ قُضِيَ بِعِتْقِهِ عَلَى فُلَانٍ لِأَنَّهُ ادَّعَى حَقًّا وَهُوَ الْحَدُّ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْعِتْقِ فَصَارَ الْقَاذِفُ خَصْمًا عَنْ فُلَانٍ سَيِّدِ الْعَبْدِ الْغَائِبِ وَيَثْبُتُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ، وَكَذَا عَبْدٌ مَأْذُونٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَالَ رَجُلٌ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ: أَنَا ضَامِنٌ لِدَيْنِك إنْ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ أَقَامَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بَيِّنَةً أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ كَفَالَةِ الْكَفِيلِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَقَضَاءٌ لِلْغَائِبِ، وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِحْسَانٌ اسْتَحْسَنَهُ عُلَمَاؤُنَا صِيَانَةً لِلْحُقُوقِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ دَارًا فَكَفَلَ عَنْهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ فَهُوَ تَسْلِيمٌ) وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ضَمَانَ الدَّرَكِ هُوَ قَبُولُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ، وَقَوْلُهُ تَسْلِيمٌ: أَيْ تَصْدِيقٌ مِنْ الْكَفِيلِ أَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكُ الْبَائِعِ، فَلَوْ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، إذْ لَوْ صَحَّتْ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْكَفِيلِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ فَلَا يُفِيدُ. وَأَيْضًا (فَالْكَفَالَةُ إنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ) بِأَنْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَكْفُلَ لَهُ (فَتَمَامُ الْبَيْعِ بِقَبُولِهِ) أَيْ بِقَبُولِ الْكَفِيلِ (ثُمَّ بِالدَّعْوَى يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ) وَلِهَذَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ لَوْ كَانَ الْكَفِيلُ شَفِيعًا (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ) أَيْ عَقْدُ الْكَفَالَةِ (مَشْرُوطًا فِيهِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ وَتَرْغِيبُ الْمُشْتَرِي فِيهِ إذْ لَا يَرْغَبُ فِيهِ إلَّا بِالْكَفَالَةِ) تَسْكِينًا لِقَلْبِهِ (فَيَنْزِلُ) عَقْدُ الْكَفَالَةِ (مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ بِمِلْكِ الْبَائِعِ) وَإِلَّا كَانَ تَغْرِيرًا فَلَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ إيَّاهُ أَصْلًا بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا إذَا كَفَلَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكْفُلْ وَلَكِنْ شَهِدَ عَلَى الْبَيْعِ ثُمَّ ادَّعَاهَا بَعْدَ شَهَادَتِهِ إنْ كَانَ رَسْمٌ مَكْتُوبًا عَلَى الصَّكِّ وَفِي الصَّكِّ مَا يُفِيدُ الِاعْتِرَافَ بِمِلْكِ الْبَائِعِ مِثْلُ بَاعَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ جَمِيعَ الدَّارِ الْجَارِيَةِ فِي مِلْكِهِ بَيْعًا بَاتًّا نَافِذًا ثُمَّ كَتَبَ بِذَلِكَ أَوْ كَتَبَ جَرَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكْتُبَ فِي الصَّكِّ بَاعَ فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ جَمِيعَ الدَّارِ أَوْ أَقَرَّ بِالْبَيْعِ بِحَضْرَتِي وَالشِّرَاءِ ثُمَّ كَتَبَ شَهِدْت بِذَلِكَ أَوْ كَتَبَ جَرَى ذَلِكَ لَا تُمْنَعُ دَعْوَاهُ فِيهَا، فَلَعَلَّهُ كَتَبَ الشَّهَادَةَ لِيَحْفَظَ

ص: 217

قَالَ (وَلَوْ شَهِدَ وَخَتَمَ وَلَمْ يَكْفُلْ لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا وَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ مَشْرُوطَةً فِي الْبَيْعِ وَلَا هِيَ بِإِقْرَارٍ بِالْمِلْكِ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَرَّةً يُوجَدُ مِنْ الْمَالِكِ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ كَتَبَ الشَّهَادَةَ لِيَحْفَظَ الْحَادِثَةَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، قَالُوا: إذَا كَتَبَ فِي الصَّكِّ بَاعَ وَهُوَ يَمْلِكُهُ أَوْ بَيْعًا بَاتًّا نَافِذًا وَهُوَ كَتَبَ شَهِدَ بِذَلِكَ فَهُوَ تَسْلِيمٌ، إلَّا إذَا كَتَبَ الشَّهَادَةَ عَلَى إقْرَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

(فَصْلٌ فِي الضَّمَانِ)

قَالَ (وَمَنْ بَاعَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا وَضَمِنَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ مُضَارِبٌ ضَمِنَ ثَمَنَ مَتَاعِ رَبِّ الْمَالِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَهِيَ إلَيْهِمَا فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا لِنَفْسِهِ،

الْحَادِثَةَ لِيَسْعَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَثْبِيتِ الْبَيِّنَةِ، وَقَوْلُهُ (وَخَتَمَ) هُوَ أَمْرٌ كَانَ فِي زَمَانِهِمْ إذَا كَتَبَ اسْمَهُ فِي الصَّكِّ جَعَلَ اسْمَهُ تَحْتَ رَصَاصٍ مَكْتُوبٍ وَوَضَعَ نَقْشَ خَاتَمِهِ كَيْ لَا يَطْرُقَهُ التَّبْدِيلُ، وَلَيْسَ هَذَا فِي زَمَانِنَا.

(فَصْلٌ فِي الضَّمَانِ)

الضَّمَانُ هُوَ الْكَفَالَةُ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ مَسَائِلَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَذُكِرَتْ فِيهِ بِلَفْظِ الضَّمَانِ أَوْرَدَهَا مُتَرْجَمَةً بِذَلِكَ (قَوْلُهُ وَمَنْ بَاعَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا) اللَّامُ فِي لِرَجُلٍ لَامُ الْمِلْكِ: أَيْ بَاعَ ثَوْبًا هُوَ لِرَجُلٍ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ عَنْهُ فِي بَيْعِهِ (وَضَمِنَ) الْوَكِيلُ (لَهُ) أَيْ لِلرَّجُلِ الْمَالِكِ (الثَّمَنَ أَوْ مُضَارِبٌ ضَمِنَ ثَمَنَ مَتَاعٍ لِرَبِّ الْمَالِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ) وَهِيَ الضَّمَانُ (الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ وَالْمُطَالَبَةُ إلَيْهِمَا) أَيْ إلَى الْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ (فَيَصِيرُ كُلٌّ مِنْهُمَا ضَامِنًا لِنَفْسِهِ) فَيَصِيرُ مُطَالَبًا، وَهَذَا لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَيْهِمَا، حَتَّى لَوْ حَلَفَ الْمُشْتَرِي مَا لِلْمُوَكِّلِ عَلَيْهِ دَيْنٌ

ص: 218

وَلِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي أَيْدِيهِمَا وَالضَّمَانُ تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ كَاشْتِرَاطِهِ عَلَى الْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ (وَكَذَا رَجُلَانِ بَاعَا عَبْدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَضَمِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ) لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الضَّمَانُ مَعَ الشَّرِكَةِ يَصِيرُ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ، وَلَوْ صَحَّ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً يُؤَدِّي إلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ،

بَرَّ، وَلَوْ حَلَفَ مَا لِلْوَكِيلِ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَنِثَ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ عَنْ الْمَرْأَةِ حَيْثُ يَصِحُّ ضَمَانُهُ الْمَهْرَ لَهَا عَنْ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ سَفِيرٌ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ فَلَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَا سَلَفَ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ.

(وَلِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِ كُلٍّ مِنْ الْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ أَمَانَةٌ) فَلَا يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا وَلَا يَصِحُّ الضَّمَانُ لِاسْتِلْزَامِهِ تَغْيِيرَ حُكْمِ الشَّرْعِ وَصَارَ (كَاشْتِرَاطِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَكَذَلِكَ) أَيْ لَا يَصِحُّ الضَّمَانُ أَيْضًا فِيمَا (إذَا بَاعَ رَجُلَانِ عَبْدًا) مَثَلًا بَيْنَهُمَا (صَفْقَةً وَاحِدَةً وَضَمِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الضَّمَانُ مَعَ الشَّرِكَةِ) بِأَنْ ضَمِنَ نِصْفَ الثَّمَنِ مُطْلَقًا (يَصِيرُ ضَامِنًا لِنَفْسِهِ) لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الثَّمَنِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَمَا يَسْتَحِقُّ بِنَصِيبِ أَحَدِهِمَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ، فَمَا يُؤَدِّيهِ الضَّامِنُ لِلشَّرِيكِ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَضْمُونِ لَهُ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ عَلَى الشَّرِيكِ فَإِذَا رَجَعَ بَطَلَ حُكْمُ الْأَدَاءِ فِي مِقْدَارِهِ مَا وَقَعَ الرُّجُوعُ فِيهِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَا أَدَّى إلَّا الْبَاقِيَ فَكَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الْبَاقِي ثُمَّ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ أَوْ يَبْقَى الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ فَظَهَرَ لُزُومُ بُطْلَانِ الضَّمَانِ مِنْ حَيْثُ صَحَّ (وَلَوْ كَانَ ضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ خَاصَّةً يُؤَدِّي إلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ قَبْضِهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ) لِأَنَّهُ فِي الذِّمَّةُ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ لِأَنَّهَا إفْرَازٌ، وَلَا يُمْكِنُ إلَّا فِي عَيْنٍ خَارِجِيَّةٍ، وَالدَّيْنُ وَصْفٌ اعْتِبَارِيٌّ. وَيَرُدُّ عَلَيْهِ اخْتِيَارُ الثَّانِي

ص: 219

بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَا بِصَفْقَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا وَيَقْبِضَ إذَا نَقَدَ ثَمَنَ حِصَّتِهِ وَإِنْ قَبِلَ الْكُلَّ.

وَنُقِلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ يَجُوزُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَيْنِ يَجُوزُ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي صَحَّ هَذَا يَكُونُ نَصِيبُ شَرِيكِهِ الْمَضْمُونِ لَهُ.

قَالَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ هَذَا: وَلَكِنَّ التَّعْوِيلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا يُرِيدُ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ بُطْلَانِ الضَّمَانِ حَيْثُ صَحَّ، لَكِنْ بَعْدَ مَا صَارَ الْوَجْهُ مُرَدَّدًا بَيْنَ كَوْنِ الضَّمَانِ بِنِصْفٍ شَائِعٍ أَوْ بِنِصْفِ شَرِيكِهِ وَبَطَلَ الْأَوَّلُ بِمَا ذَكَرَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَخْتَارَ الثَّانِيَ وَيَدْفَعَ لَازِمُهُ الْبَاطِلَ بِمَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ شِرَائِهِ بِحِصَّتِهِ وَبَيْنَ ضَمَانِهَا، أَوْ يَخُصَّ الْبُطْلَانَ بِمَا إذَا أُرِيدَ ضَمَانُ النِّصْفِ شَائِعًا وَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ الْمُرَادُ، وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ صَفْقَتَيْنِ) يَعْنِي بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ الشَّرِيكَانِ الْعَبْدَ صَفْقَتَيْنِ بِأَنْ بَاعَ هَذَا نَصِيبَهُ عَلَى حِدَتِهِ، وَهَذَا كَذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ ضَمِنَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ نَصِيبَهُ أَوْ بَاعَا مَعًا وَسَمَّيَا لِكُلِّ نَصِيبٍ ثَمَنًا ثُمَّ ضَمِنَ أَحَدُهُمَا صَحَّ الضَّمَانُ (لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ) بَيْنَهُمَا بِحُكْمِ الشَّرْعِ بِذَلِكَ، وَلِذَا لَوْ قَبِلَ الْمُشْتَرِي

ص: 220

قَالَ (وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ آخَرَ خَرَاجَهُ وَنَوَائِبَهُ وَقِسْمَتَهُ فَهُوَ جَائِزٌ. أَمَّا الْخَرَاجُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ) يُخَالِفُ الزَّكَاةَ، لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ فِعْلٍ وَلِهَذَا لَا تُؤَدَّى بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ إلَّا بِوَصِيَّةٍ.

فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا فِيمَا إذَا بَاعَا مَعًا دُونَ الْآخَرِ صَحَّ، وَلَوْ قَبِلَ الْكُلُّ ثُمَّ نَقَدَ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا مَلَكَ قَبْضَ نَصِيبِهِ عَلَى الْخُصُوصِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا فِي الثَّانِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَعَادَ مَعَ تَفْصِيلِ الثَّمَنِ لَفْظَةَ الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِمَا فِي تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ عَلَى مَا سَلَفَ فِي الْبَيْعِ.

قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ: وَلَوْ تَبَرَّعَ يَعْنِي الشَّرِيكُ بِالْأَدَاءِ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ جَازَ تَبَرُّعُهُ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْأَدَاءِ وَعِنْدَ الْأَدَاءِ يَصِيرُ مُسْقِطًا حَقَّهُ فِي الْمُشَارَكَةِ فَيَصِحُّ وَجَوَازُ التَّبَرُّعِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ أَسْرَعُ جَوَازًا مِنْ الْكَفَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّبَرُّعُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِهِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ آخَرَ خَرَاجَهُ وَنَوَائِبَهُ وَقِسْمَتَهُ فَهُوَ جَائِزٌ، أَمَّا الْخَرَاجُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ) قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ بِقَوْلِهِ وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ فِي الْخَرَاجِ (وَهُوَ يُخَالِفُ الزَّكَاةَ لِأَنَّهَا مُجَرَّدُ فِعْلٍ) هُوَ تَمْلِيكُ طَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ مُقَدَّرَةً لَا دَيْنَ ثَابِتَ فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ اسْمٌ لِمَالٍ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ يَكُونُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ أَتْلَفَهُ أَوْ قَرْضٍ اقْتَرَضَهُ أَوْ مَبِيعٍ عَقَدَ بَيْعَهُ أَوْ مَنْفَعَةٍ عَقَدَ عَلَيْهَا مِنْ بُضْعِ امْرَأَةٍ وَهُوَ الْمَهْرُ أَوْ اسْتِئْجَارِ عَيْنٍ، وَالزَّكَاةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ إيجَابُ إخْرَاجِ مَالٍ ابْتِدَاءً بَدَلًا عَنْ مَالِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِدَيْنٍ حَقِيقِيٍّ، وَلَوْ وَجَبَتْ فِي نِصَابٍ مُسْتَهْلَكٍ وَإِنَّمَا لَهَا شَبَهُ الدَّيْنِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، بِخِلَافِ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ الذَّبِّ عَنْ حَوْزَةِ الدَّيْنِ وَحِفْظِهِ فَكَانَ كَالْأُجْرَةِ، وَقَدْ قُيِّدَتْ الْكَفَالَةُ بِمَا إذَا كَانَ خَرَاجًا مُوَظَّفًا لِإِخْرَاجِ مُقَاسَمَةٍ وَهُوَ مَا يَجِبُ فِيمَا يَخْرُجُ فَإِنَّهُ غَيْرُ

ص: 221

وَأَمَّا النَّوَائِبُ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا يَكُونُ بِحَقٍّ كَكَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَأَجْرِ الْحَارِسِ وَالْمُوَظَّفِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَفِدَاءِ الْأَسَارَى وَغَيْرِهَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ بِهَا عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ كَالْجِبَايَاتِ فِي زَمَانِنَا فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ رحمهم الله، وَمِمَّنْ يَمِيلُ إلَى الصِّحَّةِ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ، وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَقَدْ قِيلَ: هِيَ النَّوَائِبُ بِعَيْنِهَا أَوْ حِصَّةٌ مِنْهَا وَالرِّوَايَةُ بِأَوْ، وَقِيلَ هِيَ النَّائِبَةُ الْمُوَظَّفَةُ الرَّاتِبَةُ، وَالْمُرَادُ بِالنَّوَائِبِ مَا يَنُوبُهُ غَيْرُ رَاتِبٍ وَالْحُكْمُ مَا بَيَّنَّاهُ.

وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ.

(وَأَمَّا النَّوَائِبُ فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا يَكُونُ بِحَقٍّ كَكَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ) لِلْعَامَّةِ (وَأُجْرَةِ الْحَارِسِ) لِلْمَحَلَّةِ الَّذِي يُسَمَّى فِي دِيَارِ مِصْرَ الْخَفِيرُ (وَالْمُوَظَّفِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ) فِي حَقِّ (وَفِدَاءِ الْأَسَارَى) إذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ (وَغَيْرِهَا) مِمَّا هُوَ بِحَقٍّ (فَالْكَفَالَةُ بِهِ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُوسِرٍ بِإِيجَابِ طَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ فِيمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَلْزَمْ بَيْتَ الْمَالِ أَوْ لَزِمَهُ وَلَا شَيْءَ فِيهِ (وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ كَالْجِبَايَاتِ) الْمُوَظَّفَةِ عَلَى النَّاسِ (فِي زَمَانِنَا) بِبِلَادِ فَارِسٍ عَلَى الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِمْ لِلسُّلْطَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهَا ظُلْمٌ.

فَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِهَا، فَقِيلَ: تَصِحُّ إذْ الْعِبْرَةُ فِي صِحَّةِ الْكَفَالَةِ وُجُودُ الْمُطَالَبَةِ إمَّا بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ مَنْ تَوَلَّى قِسْمَتَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَعَدَلَ فَهُوَ مَأْجُورٌ، وَيَنْبَغِي أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَفَالَةَ ضَمٌّ فِي الدَّيْنِ يَمْنَعُ صِحَّتَهَا هَاهُنَا، وَمَنْ قَالَ فِي الْمُطَالَبَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ بِصِحَّتِهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يَمْنَعَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ أَوْ مَعْنَاهُ أَوْ مُطْلَقًا (وَمِمَّنْ يَمِيلُ إلَى الصِّحَّةِ الْإِمَامُ الْبَزْدَوِيُّ) يُرِيدُ فَخْرَ الْإِسْلَامِ، أَمَّا أَخُوهُ صَدْرُ الْإِسْلَامِ فَأَبَى صِحَّةَ الْكَفَالَةِ بِهَا (وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَقِيلَ: هِيَ النَّوَائِبُ بِعَيْنِهَا أَوْ حِصَّةٌ مِنْهَا) إذَا قَسَمَهَا الْإِمَامُ، وَلَا حَاجَةَ إلَى كَوْنِ الرِّوَايَةِ قَسَمَ بِلَا هَاءٍ، لِأَنَّ قِسْمَةً فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى قَسَمَ، قَالَ تَعَالَى {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} إذْ لَا مَعْنَى لِضَمَانِ حَقِيقَةِ الْقِسْمَةِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ، لَكِنْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَنْبَغِي كَوْنُ الرِّوَايَةِ بِالْوَاوِ لِيَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ بِأَوْ (وَقِيلَ النَّائِبَةُ الْمُوَظَّفَةُ الرَّاتِبَةُ وَالْمُرَادُ بِالنَّوَائِبِ) مَا هُوَ (مِنْهَا غَيْرُ رَاتِبٍ) فَتَغَايَرَا (وَالْحُكْمُ) يَعْنِي فِي الْقِسْمَيْنِ (مَا بَيَّنَّاهُ) مِنْ الصِّحَّةِ فِي أَحَدِهِمَا وَالْخِلَافِ فِي الْأُخْرَى، ثُمَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْأَفْضَلُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ

ص: 222

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ مِائَةٌ إلَى شَهْرٍ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ)، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي، وَمَنْ قَالَ ضَمِنْت لَك عَنْ فُلَانٍ مِائَةً إلَى شَهْرٍ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّامِنِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ.

يُسَاوِيَ أَهْلَ مَحَلَّتِهِ فِي إعْطَاءِ النَّائِبَةِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: هَذَا كَانَ فِي ذَاكَ الزَّمَانِ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْجَائِحَةِ وَالْجِهَادِ، أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَأَكْثَرُ النَّوَائِبِ تُؤْخَذُ ظُلْمًا، وَمَنْ تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِعْطَاءَ فَلْيُعْطِ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ لِفَقِيرٍ يَسْتَعِينُ بِهِ الْفَقِيرُ عَلَى الظُّلْمِ وَيَنَالُ الْمُعْطِي الثَّوَابَ.

وَقَوْلُهُ وَالْحُكْمُ مَا بَيَّنَّاهُ يَعْنِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْكَفَالَةَ فِيمَا كَانَ بِحَقٍّ جَائِزٍ وَبِغَيْرِ حَقٍّ فِيهَا خِلَافٌ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ) الْمُرَادُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ لِرَجُلٍ فَاعْتَرَفَ بِالدَّيْنِ الْمُقَرِّ لَهُ وَأَنْكَرَ الْأَجَلَ الْقَوْلُ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَلَوْ

ص: 223

ثُمَّ ادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ وَهُوَ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ إلَى أَجَلٍ وَفِي الْكَفَالَةِ مَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ الشَّهْرِ، وَلِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الدُّيُونِ عَارِضٌ حَتَّى لَا يَثْبُتَ إلَّا بِشَرْطٍ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ الشَّرْطَ كَمَا فِي الْخِيَارِ، أَمَّا الْأَجَلُ فِي الْكَفَالَةِ فَنَوْعٌ مِنْهَا حَتَّى يَثْبُتَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بِأَنْ كَانَ مُؤَجَّلًا عَلَى الْأَصِيلِ، وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله أَلْحَقَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ، وَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ أَلْحَقَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي وَالْفَرْقُ قَدْ أَوْضَحْنَاهُ.

أَقَرَّ بِكَفَالَةٍ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَاعْتَرَفَ الْمُقَرُّ لَهُ وَأَنْكَرَ الْأَجَلَ الْقَوْلُ لِلْكَفِيلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ أَلْحَقَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي فَجَعَلَ الْقَوْلَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لِلْمُقِرِّ. وَلِأَبِي يُوسُفَ عَلَى رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ رُسْتُمَ حَيْثُ أَلْحَقَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ فَجَعَلَ الْقَوْلَ فِيهِمَا لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَمَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ مِنْ عَكْسِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَلْحَقَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ وَأَبُو يُوسُفَ قَلَبَهُ سَهْوٌ مِنْ الْكَاتِبِ.

وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّ الدَّيْنَ نَوْعَانِ: حَالٌّ وَمُؤَجَّلٌ. فَاعْتِرَافُهُ بِالْمُؤَجَّلِ اعْتِرَافٌ بِنَوْعٍ كَالِاعْتِرَافِ بِحِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ أَوْ جَيِّدَةٍ فَلَا يَلْزَمُ النَّوْعَ الْآخَرَ فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ كَالْكَفِيلِ.

وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْأَجَلَ عَلَى صَاحِبِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا فِي الْأَوَّلِ وَصَارَ الْأَجَلُ كَالْخِيَارِ فِيمَا لَوْ أَقَرَّ بِالْكَفَالَةِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ وَأَنْكَرَ الطَّالِبُ الْقَوْلَ لِلطَّالِبِ فِي إنْكَارِهِ الْخِيَارَ.

وَجْهُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُقِرَّ بِالدَّيْنِ أَقَرَّ بِمَا هُوَ سَبَبُ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِّ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الدَّيْنَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بَدَلًا عَنْ قَرْضٍ أَوْ إتْلَافٍ أَوْ بَيْعٍ وَنَحْوِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى بِخُرُوجِ مُسْتَحِقِّهِ فِي الْحَالِّ إلَّا بِبَدَلٍ فِي الْحَالِّ، فَكَانَ الْحُلُولُ الْأَصْلَ وَالْأَجَلُ عَارِضٌ فَكَانَ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ مَعْرُوضًا لِعَارِضٍ لَا نَوْعًا (ثُمَّ ادَّعَى لِنَفْسِهِ حَقًّا وَهُوَ تَأْخِيرُهَا) وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ (وَفِي الْكَفَالَةِ مَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ) عَلَى مَا هُوَ الْأَصَحُّ بَلْ بِحَقِّ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ شَهْرٍ وَالْمَكْفُولُ لَهُ يَدِّعِيهَا فِي الْحَالِّ وَالْكَفِيلُ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمُطَالَبَةِ يَتَنَوَّعُ إلَى الْتِزَامِهَا فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالْكَفَالَةِ بِمَا ذَابَ وَالدَّرَكِ، فَإِنَّمَا أَقَرَّ بِنَوْعٍ مِنْهُمَا فَلَا يَلْزَمُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَإِنَّهَا ضَعِيفَةٌ لِقِلَّةِ وُجُودِهَا فَنَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، وَهَذَا مُخَلِّصٌ مِمَّنْ ادَّعَى مَالًا وَهُوَ مُؤَجَّلٌ فِي الْوَاقِعِ.

ص: 224

قَالَ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ فَاسْتَحَقَّتْ لَمْ يَأْخُذْ الْكَفِيلَ حَتَّى يُقْضَى لَهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ) لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَنْتَقِضُ الْبَيْعُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا لَمْ يُقْضَ لَهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ فَلَمْ يَجِبْ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ رَدُّ الثَّمَنِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ بِالْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِهَا لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْكَفِيلِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالِاسْتِحْقَاقِ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ يَرْجِعُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ وَمَوْضِعُهُ أَوَائِلُ الزِّيَادَاتُ فِي تَرْتِيبِ الْأَصْلِ.

فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ مُؤَجَّلًا لَا يُصَدَّقُ، وَإِنْ أَنْكَرَ يَكُونُ كَاذِبًا وَخَافَ إنْ اعْتَرَفَ بِهِ كَذَلِكَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْأَجَلِ، فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي هَذَا الْمَالُ الَّذِي تَدَّعِيهِ مُؤَجَّلٌ أَمْ مُعَجَّلٌ، فَإِنْ قَالَ: مُؤَجَّلٌ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ قَالَ: مُعَجَّلٌ فَيُنْكِرُ وَهُوَ صَادِقٌ.

وَفِي الْعُيُونِ: مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ إذَا حَلَفَ مَا لَهُ الْيَوْمَ قَبْلَهُ شَيْءٌ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ إنْ كَانَ لَا يَقْصِدُ بِهِ إتْوَاءَ حَقِّهِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِالدَّرَكِ فَاسْتَحَقَّتْ لَمْ يَأْخُذْ الْكَفِيلَ) وَفَاعِلُ يَأْخُذُ ضَمِيرُ مَنْ وَالْكَفِيلُ مَفْعُولٌ: يَعْنِي لَمْ يُطَالِبْهُ (حَتَّى يُقْضَى لَهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ) أَوْ الْقَضَاءِ بِهِ وَبِالْمَبِيعِ (لَا يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ) أَيْ لَا يَنْفَسِخُ (عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) وَاحْتَرَزَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ رِوَايَةِ الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ تَوَجَّهَ عَلَى الْبَائِعِ وَوَجَبَ لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَتُهُ فَكَذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ.

وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فَبِالضَّرُورَةِ لَا يَجِبُ الثَّمَنُ عَلَى الْبَائِعِ وَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي، حَتَّى لَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالِاسْتِحْقَاقِ نَفَذَ عِتْقُهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَهَا مِنْ غَيْرِهِ فَاسْتَحَقَّتْ مِنْ يَدِ الثَّانِي لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى بَائِعِهِ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الثَّمَنُ عَلَى الْأَصِيلِ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُضِيَ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِهِ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ لِلْبَيْعِ فَيَكُونُ اسْتِحْقَاقًا مُبْطِلًا لِلْمِلْكِ رَأْسًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ اسْتِحْقَاقٌ نَاقِلٌ لِلْمِلْكِ فَمَحَلِّيَّتُهُ لِلْمِلْكِ بَاقِيَةٌ وَاحْتِمَالُ إجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْبَيْعِ الْقَائِمِ ثَابِتٌ، فَمَا بَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ يَبْقَى الْمِلْكُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُضِيَ عَلَى الْبَائِعِ بِرَدِّ الثَّمَنِ لِارْتِفَاعِهِ حِينَئِذٍ. وَصَحَّحَ فِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ أَنَّ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُجِيزَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَبَعْدَ قَبْضِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ، وَالرُّجُوعُ بِالْقَضَاءِ يَكُونُ فَسْخًا. ثُمَّ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ الْمُبْطِلِ دَعْوَى النَّسَبِ وَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ وَدَعْوَى الْوَقْفِ فِي الْأَرْضِ الْمُشْتَرَاةِ، أَوْ أَنَّهَا كَانَتْ مَسْجِدًا، وَيُشَارِكُ الِاسْتِحْقَاقُ النَّاقِلُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجْعَلُ الْمُسْتَحِقَّ عَلَيْهِ وَمَنْ تَمَلَّكَ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنْ جِهَتِهِ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِمْ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَقَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَاعَةِ فِي النَّاقِلِ لَا يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى كَفِيلِ الدَّرَكِ مَا لَمْ يَقْضِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَأَسْلَفْنَا مِنْ مَسَائِلِ الِاسْتِحْقَاقِ جُمْلَةً.

وَقَوْلُهُ (وَمَوْضِعُهُ) أَيْ الِاسْتِحْقَاقِ (أَوَائِلُ الزِّيَادَاتِ فِي تَرْتِيبِ الْأَصْلِ) يُرِيدُ تَرْتِيبَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ بَدَأَ بِبَابِ الْمَأْذُونِ، وَاحْتَرَزَ بِالْأَصْلِ عَنْ تَرْتِيبِهَا الْكَائِنِ الْآنَ فَإِنَّهُ تَرْتِيبُ

ص: 225

(وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَضَمِنَ لَهُ رَجُلٌ بِالْعُهْدَةِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ) لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مُشْتَبِهَةٌ قَدْ تَقَعُ عَلَى الصَّكِّ الْقَدِيمِ وَهُوَ مِلْكُ الْبَائِعِ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ، وَقَدْ تَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ وَعَلَى حُقُوقِهِ وَعَلَى الدَّرَكِ وَعَلَى الْخِيَارِ، وَلِكُلِّ ذَلِكَ وَجْهٌ فَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهَا، بِخِلَافِ الدَّرَكِ لِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي ضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ عُرْفًا، وَلَوْ ضَمِنَ الْخَلَاصَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَخْلِيصِ الْمَبِيعِ وَتَسْلِيمِهِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَكِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الْبَيْعِ أَوْ قِيمَتِهِ فَصَحَّ.

أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّعْفَرَانِيِّ تِلْمِيذِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ غَيَّرَ تَرْتِيبَ مُحَمَّدٍ إلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ بِالزِّيَادَاتِ لِأَنَّ أُصُولَ أَبْوَابِهِ مِنْ أَمَالِي أَبِي يُوسُفَ فَكَانَ مُحَمَّدٌ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْبَابَ مِنْ كَلَامِ أَبِي يُوسُفَ أَصْلًا ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهِ تَفْرِيعًا تَتْمِيمًا لَهُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا وَضَمِنَ لَهُ رَجُلٌ بِالْعُهْدَةِ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مُشْتَبِهَةُ) الْمُرَادِ فَإِنَّهَا (تُقَالُ لِلصَّكِّ الْقَدِيمِ وَهُوَ مِلْكُ الْبَائِعِ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ) وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: هُوَ كِتَابُ الشِّرَاءِ وَهُوَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ضَمِنَ لِرَجُلٍ مِلْكَهُ، وَفِي بِلَادِنَا يُقَالُ لِخَاصٍّ مِنْهُ وَهُوَ مَكْتُوبُ شِرَاءِ الْجَوَارِي، وَتُقَالُ لِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ مِنْ الْعَهْدِ كَالْعُقْدَةِ مِنْ الْعَقْدِ، وَالْعَهْدُ وَالْعَقْدُ وَاحِدٌ، وَتُقَالُ عَلَى حُقُوقِ الْعَقْدِ لِأَنَّهَا ثَمَرَاتُهُ وَعَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، وَهِيَ فِي الْحَدِيثِ «عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» أَيْ خِيَارُ الشَّرْطِ فِيهِ، وَلِكُلِّ ذَلِكَ وَجْهٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ، وَإِذَا تَعَدَّدَتْ الْمَفَاهِيمُ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهَا قَبْلَ الْبَيَانِ (بِخِلَافِ) ضَمَانِ (الدَّرَكِ فَإِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي ضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ عُرْفًا) فَلَا تَعَذُّرَ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ضَمَانَ الْعُهْدَةِ هُوَ ضَمَانُ الدَّرَكِ (وَلَوْ ضَمِنَ الْخَلَاصَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَخْلِيصِ الْمَبِيعِ وَتَسْلِيمِهِ وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَكِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ) إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ (أَوْ) تَسْلِيمُ (قِيمَتِهِ) وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ أَنَّ

ص: 226

(بَابُ كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ)

(وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى اثْنَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا إذَا اشْتَرَيَا عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكَفَلَ كُلُّ

تَفْسِيرَ الْخَلَاصِ وَالدَّرَكِ وَالْعُهْدَةِ وَاحِدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: يَعْنِي فَيَكُونُ صَحِيحًا لِأَنَّهُ ضَمَانُ الدَّرَكِ عِنْدَهُمَا تَصْحِيحًا لِلْكَلَامِ، فَتَمَّتْ الْأَلْفَاظُ ثَلَاثَةً: ضَمَانُ الدَّرَكِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَضَمَانُ الْعُهْدَةِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَضَمَانُ الْخَلَاصِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ فِي شُرُوطِهِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ كَانَا يَكْتُبَانِ فِي الشُّرُوطِ: فَمَا أَدْرَكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ أَوْ رَدُّ الثَّمَنِ.

وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ رَدَّ الثَّمَنِ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ يَبْقَى الضَّمَانُ بِتَخْلِيصِ الْمَبِيعِ. وَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا إذَا ذُكِرَ ضَمَانُ الْخَلَاصِ مُطْلَقًا، أَمَّا إذَا قَالَ: خَلَاصُ الْمَبِيعِ أَوْ رَدُّ الثَّمَنِ أَوْ أَرَادَ ذَلِكَ وَاتَّفَقَا عَلَى إرَادَتِهِ فَيَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ.

(بَابُ كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ)

ص: 227

وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ حَتَّى يَزِيدَ مَا يُؤَدِّيهِ عَلَى النِّصْفِ فَيَرْجِعَ بِالزِّيَادَةِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَفِيلٌ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ مَا عَلَيْهِ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ وَبِحَقِّ الْكَفَالَةِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ دَيْنٌ وَالثَّانِيَ مُطَالَبَةٌ، ثُمَّ هُوَ تَابِعٌ لِلْأَوَّلِ فَيَقَعُ عَنْ الْأَوَّلِ، وَفِي الزِّيَادَةِ لَا مُعَارَضَةَ فَيَقَعُ عَنْ الْكَفَالَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي النِّصْفِ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ لِأَنَّ أَدَاءَ نَائِبِهِ كَأَدَائِهِ

لَمَّا نَزَلَ هَذَا مِمَّا قَبْلَهُ مَنْزِلَةَ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْمُفْرَدِ ذَكَرَهُ عَقِيبَهُ (قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى اثْنَيْنِ بِأَنْ اشْتَرَيَا مَعًا عَبْدًا بِأَلْفٍ) أَوْ اقْتَرَضَا مَعًا (وَكَفَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ حَتَّى يَزِيدَ مَا يُؤَدِّيهِ عَلَى النِّصْفِ فَيَرْجِعَ بِالزَّائِدِ لِ) وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا (أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَفِيلٌ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ مَا عَلَيْهِ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ وَ) مَا عَلَيْهِ (بِحَقِّ الْكَفَالَةِ) لِقُوَّةِ الْأَوَّلِ وَضَعْفِ الثَّانِي (لِأَنَّ الْأَوَّلَ دَيْنٌ) عَلَيْهِ.

(وَالثَّانِيَ مُطَالَبَةٌ) بِلَا دَيْنٍ (ثُمَّ هُوَ تَابِعٌ) فَوَجَبَ صَرْفُ الْمُؤَدِّي عَنْ الْأَقْوَى تَقْدِيمًا لَهُ عَلَى الْأَضْعَفِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالْعَادَةِ. لَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الدَّيْنَ عَلَى الْكَفِيلِ مَعَ الْمُطَالَبَةِ يَكُونُ الْمُؤَدِّي بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ مَشَايِخِنَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِهَذَا إلَّا أَنْ يَصْرِفَهُ بِنِيَّتِهِ أَوْ بِلَفْظِهِ إلَى أَحَدِهِمَا. لِأَنَّا نَقُولُ: الْحُكْمُ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عِنْدَنَا، فَإِنَّ الدَّيْنَ الثَّابِتَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ لَيْسَ بِقُوَّةِ الْكَائِنِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا اشْتَرَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ شَيْئًا كَانَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَوْ كَفَلَ كَانَ مِنْ الثُّلُثِ.

وَأَيْضًا لَوْ اشْتَرَى الْمَرِيضُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَ، وَلَوْ كَفَلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ يُصْرَفُ بِنِيَّتِهِ. قُلْنَا: التَّعْيِينُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ وَهَذَا دَيْنٌ وَاحِدٌ، حَتَّى لَوْ كَانَ نِصْفُ الدَّيْنِ بِقَرْضٍ مَثَلًا وَنِصْفُهُ بِبَيْعٍ وَعَيْنٍ صَحَّ إذْ فِي الْجِنْسَيْنِ يُعْتَبَرُ تَعْيِينُهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُفِيدٌ.

ثَانِيهِمَا (أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي النِّصْفِ عَنْ صَاحِبِهِ) لِلْكَفَالَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِهِ (فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ) بِعَيْنِ مَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِهِ الْمُؤَدِّي (لِأَنَّ أَدَاءَ نَائِبِهِ) يَعْنِي كَفِيلَهُ بِأَمْرِهِ (كَأَدَائِهِ

ص: 228

فَيُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ

(وَإِذَا كَفَلَ رَجُلَانِ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ فِي الصَّحِيحِ أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِالْكُلِّ عَنْ الْأَصِيلِ وَبِالْكُلِّ عَنْ الشَّرِيكِ وَالْمُطَالَبَةُ مُتَعَدِّدَةٌ فَتَجْتَمِعُ الْكَفَالَتَانِ عَلَى مَا مَرَّ وَمُوجِبُهَا الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْكَفِيلِ

بِنَفْسِهِ)، وَلَوْ أَدَّى بِنَفْسِهِ يَرْجِعُ فَكَذَا بِنَائِبِهِ، لَكِنْ إذَا جَعَلَهُ كُلَّهُ عَنْ صَاحِبِهِ فَنَقُولُ بِذَلِكَ لِيَرْجِعَ بِجَمِيعِ مَا رَجَعَ بِهِ صَاحِبُهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَّا بِنِصْفِ مَا رَجَعَ بِهِ صَاحِبُهُ. بَيَانُهُ أَدَّى الْأَوَّلُ مِائَتَيْنِ يَرْجِعُ بِنِصْفِهَا لِأَنَّهُ فِي إحْدَى الْمِائَتَيْنِ أَصِيلٌ، فَإِذَا رَجَعَ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ لَمْ يَقْدِرْ صَاحِبُهُ أَنْ يَرْجِعَ بِكِلْتَيْهِمَا إلَّا إذَا اعْتَبَرَ نَفْسَهُ مُؤَدِّيًا كُلَّهَا عَنْ صَاحِبِهِ الْمُؤَدِّي حَقِيقَةً وَإِلَّا لَمْ يَرْجِعْ إلَّا بِنِصْفِهَا، لِأَنَّهُ لَوْ أَدَّاهَا حَقِيقَةً بِنَفْسِهِ انْصَرَفَ مِنْهَا خَمْسُونَ إلَى مَا عَلَيْهِ أَصَالَةً وَخَمْسُونَ إلَى مَا عَلَيْهِ كَفَالَةً، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْكَفَالَةِ (فَيُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ) وَمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مُمْتَنِعٌ فَيَمْتَنِعُ رُجُوعُهُ فَلَمْ يَقَعْ عَنْ صَاحِبِهِ وَإِلَّا تَغَيَّرَ حُكْمُ الشَّرْعِ، إذْ الْوُقُوعُ عَنْ صَاحِبِهِ حُكْمُهُ جَوَازُ الرُّجُوعِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ امْتَنَعَ لِلدَّوْرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ لَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الدَّوْرِ فَإِنَّهُ تَوَقُّفُ الشَّيْءِ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَرُجُوعُ الْمُؤَدِّي لَيْسَ مُتَوَقِّفًا عَلَى رُجُوعِ صَاحِبِهِ، بَلْ إذَا رَجَعَ لِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ فِي مَالٍ وَاحِدٍ بَلْ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، فَإِذَا رَجَعَ الْآخَرُ اسْتَفَادَهُ أَوْ أَعْطَاهُ غَيْرَهُ، كَذَا الْأَوَّلُ فَاللَّازِمُ فِي الْحَقِيقَةِ التَّسَلْسُلُ فِي الرُّجُوعَاتِ بَيْنَهُمَا فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ بَاطِلٌ لِأَنَّ رُجُوعَ الْمُؤَدِّي عَنْهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَوِّغَهُ شَرْعًا اعْتِبَارُ الْمُؤَدِّي عَنْهُ أَنَّهُ أَدَّى بِنَفْسِهِ وَاحْتَسَبَهُ عَنْ الْمُؤَدِّي؛ لِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ بَاطِلٌ يُؤَدِّي إلَى أَنَّ الْمُؤَدِّيَ عَنْهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُؤَدِّي عَنْهُ بِمِثْلِ مَا أَدَّى إلَى الطَّالِبِ، وَهُوَ نَقِيضُ مَا يُقْطَعُ بِهِ مِنْ الشَّرْعِ أَنَّ الْمُؤَدِّيَ هُوَ الَّذِي يَرْجِعُ عَلَى الْمُؤَدِّي عَنْهُ بِمِثْلِ مَا أَدَّى، وَكَيْفَ يَكُونُ أَدَاءُ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ سَبَبًا لَأَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِمِثْلٍ آخَرَ، هَذَا مُجَازَفَةٌ عَظِيمَةٌ.

(قَوْلُهُ: وَإِذَا كَفَلَ رَجُلَانِ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ فِي الصَّحِيحِ أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِالْكُلِّ عَنْ الْأَصِيلِ وَبِالْكُلِّ عَنْ الشَّرِيكِ وَالْمُطَالَبَةُ مُتَعَدِّدَةٌ) مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَنَّهَا مَعَ الدَّيْنِ أَوْ لَا (فَتَجْتَمِعُ الْكَفَالَتَانِ) وَمُوجِبُهُمَا الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْكَفِيلِ

ص: 229

كَمَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْأَصِيلِ وَكَمَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا وَقَعَ شَائِعًا عَنْهُمَا إذْ الْكُلُّ كَفَالَةٌ فَلَا تَرْجِيحَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ وَلَا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ الِاسْتِوَاءُ، وَقَدْ حَصَلَ بِرُجُوعِ أَحَدِهِمَا بِنِصْفِ مَا أَدَّى فَلَا يَنْتَقِضُ بِرُجُوعِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّهُمَا أَدَّيَا عَنْهُ أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِنَائِبِهِ (وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِالْجَمِيعِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ) لِأَنَّهُ كَفَلَ بِجَمِيعِ الْمَالِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ. قَالَ (وَإِذَا أَبْرَأَ رَبُّ الْمَالِ أَحَدَهُمَا أَخَذَ الْآخَرَ بِالْجَمِيعِ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ) بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَبَقِيَ الْمَالُ كُلُّهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَالْآخَرُ كَفِيلٌ عَنْهُ بِكُلِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلِهَذَا يَأْخُذُهُ بِهِ.

قَالَ (وَإِذَا افْتَرَقَ

لِأَنَّهُ الْتِزَامُ مَا عَلَى الْكَفِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِمَا كَفَلَ بِهِ (كَمَا تَصِحُّ عَنْ الْأَصِيلِ) بِالْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَيْهِ (وَكَمَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ) لِلْمُحَالِ بِمَا أُحِيلَ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى آخَرَ (وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا وَقَعَ شَائِعًا عَنْهُمَا إذْ الْكُلُّ كَفَالَةُ) مَا عَنْ نَفْسِهِ وَمَا عَنْ الْكَفِيلِ الْآخَرِ (فَلَا تَرْجِيحَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ) لِيَقَعَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ عَنْ نَفْسِهِ خَاصَّةً (بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ) وَإِذَا لَمْ يَتَرَجَّحْ مَا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْمَدْيُونِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ الْآخَرِ.

(فَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ جَمِيعِ مَا أَدَّى وَلَا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ؛ لِأَنَّ قَضِيَّتَهُ هَذَا الِاسْتِوَاءُ) لِلِاسْتِوَاءِ فِي الْعِلَّةِ وَهِيَ الْكَفَالَةُ (وَقَدْ حَصَلَ بِرُجُوعِ أَحَدِهِمَا) وَهُوَ الْمُؤَدِّي (بِنِصْفِ مَا أَدَّى فَنَقَضَهُ بِرُجُوعِ غَيْرِ الْمُؤَدِّي بِلَا مُوجِبٍ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ) لَا اسْتِوَاءَ فِيهِ فِي الْعِلَّةِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا عِلَّتُهُ أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ فَلَمْ يَسْتَوِيَا فَلَمْ يَسْتَوِ مُوجِبُهَا فَلِذَا لَا يَرْجِعُ إلَّا بِمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، وَهَذَا الْفَرْقُ بِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَلَوْ كَانَ الْوَجْهُ الثَّانِي صَحِيحًا لَمْ يَقَعْ فَرْقٌ بِاعْتِبَارِهِ لِأَنَّ مُسَوِّغَ رُجُوعِ الْمُؤَدِّي عَنْهُ اعْتِبَارُ نَفْسِهِ أَدَّى مَا أَدَّاهُ عَنْهُ الْمُؤَدِّي، وَاحْتِسَابُهُ بِهِ عَنْ الْمُؤَدِّي وَهَذَا مُمْكِنٌ هُنَا بِعَيْنِهِ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الَّذِي تَرْجِعُ عَلَيَّ بِهِ بِسَبَبِ أَنَّك أَدَّيْته عَنِّي هُوَ كَأَدَائِي بِنَفْسِي فَكَأَنِّي أَنَا الَّذِي أَدَّيْته وَاحْتَسَبْته عَنْك فَأَنَا أَرْجِعُ عَلَيْك بِهِ، وَلَا شَكَّ فِي بُطْلَانِ هَذَا فَلَا يَقَعُ الْفَرْقُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ (ثُمَّ يَرْجِعَانِ) يَعْنِي الْكَفِيلَيْنِ الْمُتَكَافِلَيْنِ (عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّهُمَا أَدَّيَا عَنْهُ أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِنَائِبِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ الْكَفِيلُ الْمُؤَدِّي بِالْجَمِيعِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ بِأَمْرِهِ) ثُمَّ أَدَّاهُ (وَلَوْ أَبْرَأَ رَبُّ الْمَالِ أَحَدَهُمَا أَخَذَ الْآخَرَ بِالْجَمِيعِ، لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَبَقِيَ الْمَالُ كُلُّهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَالْآخَرُ كَفِيلٌ عَنْهُ بِكُلِّهِ).

(قَوْلُهُ وَإِذَا افْتَرَقَ

ص: 230

الْمُتَفَاوِضَانِ فَلِأَصْحَابِ الدُّيُونِ أَنْ يَأْخُذُوا أَيَّهمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الشَّرِكَةِ (وَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ) لِمَا مَرَّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ.

قَالَ (وَإِذَا كُوتِبَ الْعَبْدَانِ كِتَابَةً وَاحِدَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ) وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَطَرِيقُهُ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصِيلًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ عِتْقُهُمَا مُعَلَّقًا بِأَدَائِهِ وَيُجْعَلَ كَفِيلًا بِالْأَلْفِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي الْمُكَاتَبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ بِنِصْفِهِ عَلَى صَاحِبِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا، وَلَوْ رَجَعَ بِالْكُلِّ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ

الْمُتَفَاوِضَانِ فَلِأَصْحَابِ الدُّيُونِ أَنْ يَأْخُذُوا أَيَّهُمَا شَاءُوا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي) كِتَابِ (الشَّرِكَةِ) مِنْ أَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ تَنْعَقِدُ عَلَى وَكَالَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَكَفَالَةِ كُلٍّ عَنْ الْآخَرِ إلَّا مَا اسْتَثْنَى (وَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ لِمَا مَرَّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ) الْمَدْيُونَيْنِ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا كُوتِبَ الْعَبْدَانِ كِتَابَةً وَاحِدَةً) بِأَنْ قَالَ مَثَلًا كَاتَبْتُكُمَا عَلَى أَلْفٍ إلَى عَامٍ (وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ بِنِصْفِهِ عَلَى صَاحِبِهِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ) وَهُوَ عَقْدُ الْكَفَالَةِ (جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا) خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ وَاحِدَةً فَقَطْ، وَلِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَأَيْضًا شَرَطَ فِيهِ كَفَالَةَ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَالْكِتَابَةُ تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ لَهُ وَجْهٌ يَصِحُّ بِهِ فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَالَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَعِتْقَ الْآخَرِ مُعَلَّقًا بِأَدَائِهِ كَمَا فِي الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ فَيُجْعَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى كَأَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ عَلَيْهِ وَعِتْقَ الْآخَرِ مُعَلَّقًا بِأَدَائِهِ فَيُطَالِبُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ لَا الْكَفَالَةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْمَالُ مُقَابَلٌ بِهِمَا فَيَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَتْ كِتَابَتُهُمَا لِأَنَّ عِتْقَ كُلٍّ مِنْهُمَا مُعَلَّقٌ بِمَالٍ عَلَيْهِ عَلَى حِدَةٍ فَتَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ الْمُصَحَّحِ الْحَقِيقَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ حَتَّى إنَّ مَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ بِنِصْفِهِ عَلَى

ص: 231

قَالَ (وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّيَا شَيْئًا حَتَّى أَعْتَقَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا جَازَ الْعِتْقُ) لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ وَبَرِئَ عَنْ النِّصْفِ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ إلَّا لِيَكُونَ الْمَالُ وَسِيلَةً إلَى الْعِتْقِ وَمَا بَقِيَ وَسِيلَةً فَيَسْقُطُ وَيَبْقَى النِّصْفُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَابَلٌ بِرَقَبَتِهِمَا. وَإِنَّمَا جُعِلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ الضَّمَانِ، وَإِذَا جَاءَ الْعِتْقُ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَاعْتُبِرَ مُقَابَلًا بِرَقَبَتِهِمَا فَلِهَذَا يَتَنَصَّفُ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِحِصَّةِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ أَيَّهمَا شَاءَ الْمُعْتَقَ بِالْكَفَالَةِ وَصَاحِبَهُ بِالْأَصَالَةِ، وَإِنْ أَخَذَ الَّذِي أَعْتَقَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا يُؤَدِّي لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ أَخَذَ الْآخَرُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُعْتَقِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

صَاحِبِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا (وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّيَا شَيْئًا) حَتَّى إنَّ الْمَوْلَى (أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا جَازَ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ) وَبَرِئَ عَنْ النِّصْفِ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ إلَّا لِيَكُونَ وَسِيلَةً إلَى عِتْقِهِ وَلَمْ يَبْقَ وَسِيلَةً لِحُصُولِ عِتْقِهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ (فَيَسْقُطُ وَيَبْقَى النِّصْفُ عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَابَلٌ بِعِتْقِهِمَا، وَإِنَّمَا جُعِلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ الضَّمَانِ) وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ تَشَوُّفُ الشَّارِعِ إلَى الْعِتْقِ (فَإِذَا جَاءَ الْعِتْقُ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَاعْتُبِرَ مُقَابَلًا بِرَقَبَتِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِحِصَّةِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ أَيَّهمَا شَاءَ، الْمُعْتَقَ بِالْكَفَالَةِ وَصَاحِبَهُ بِالْأَصَالَةِ) وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الرَّقِيقِ ضَامِنًا لِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ.

أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ لَا فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا لَوْ مَاتَ شُهُودُ النِّكَاحِ (فَإِنْ أَخَذَ الَّذِي عَتَقَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا أَدَّى، وَإِنْ أَخَذَ الْآخَرَ بِهِ لَمْ يَرْجِعْ) عَلَى الَّذِي عَتَقَ (لِأَنَّهُ) رُبَّمَا (أَدَّى عَنْ نَفْسِهِ).

ص: 232

(بَابُ كَفَالَةِ الْعَبْدِ وَعَنْهُ)

(وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ عَبْدٍ مَالًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقَ وَلَمْ يُسَمِّ حَالًّا وَلَا غَيْرَهُ فَهُوَ حَالٌّ) لِأَنَّ الْمَالَ حَالٌّ عَلَيْهِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَقَبُولِ الذِّمَّةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ لِعُسْرَتِهِ، إذْ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَلَمْ يَرْضَ بِتَعَلُّقِهِ بِهِ وَالْكَفِيلُ غَيْرُ مُعْسِرٍ، فَصَارَ كَمَا إذَا كَفَلَ عَنْ غَائِبٍ أَوْ مُفْلِسٍ،

بَابُ كَفَالَةِ الْعَبْدِ وَعَنْهُ)

أُخِّرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِتَأَخُّرِهِ بِالرَّدِّ بِالرِّقِّ (قَوْلُهُ وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ عَبْدٍ مَالًا) مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ (لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَعْتِقَ) كَأَنْ أَقَرَّ بِاسْتِهْلَاكِ مَالٍ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى أَوْ أَقْرَضَهُ إنْسَانٌ أَوْ بَاعَهُ وَهُوَ مَحْجُورٌ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ عِتْقِهِ، وَكَذَا إذَا أَوْدَعَ شَيْئًا فَاسْتَهْلَكَهُ أَوْ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ اسْتِهْلَاكُهُ لِلْمَالِ مُعَايَنًا مَعْلُومًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، فَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ الْعَبْدِ بِالْمَالِ الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْرِطَ فِي الْكَفَالَةِ تَأْجِيلًا (وَ) هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (لَمْ يَذْكُرْ حُلُولًا وَلَا غَيْرَهُ لَزِمَ) الْكَفِيلَ (حَالًّا لِأَنَّ الْمَالَ حَالٌّ عَلَى الْعَبْدِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَقَبُولِ الذِّمَّةِ) وَعَدَمِ الْأَجَلِ، وَكَيْفَ وَالْعِتْقُ لَا يَصْلُحُ أَجَلًا لِجَهَالَةِ وَقْتِ وُقُوعِهِ وَقَدْ لَا يَقَعُ أَصْلًا (وَ) إنَّمَا (لَا يُطَالَبُ بِهِ لِعُسْرَتِهِ، إذْ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى لَمْ يَرْضَ بِتَعَلُّقِهِ بِهِ) أَيْ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمِلْكِهِ.

(وَالْكَفِيلُ غَيْرُ مُعْسِرٍ) فَالْمَانِعُ الَّذِي تَحَقَّقَ فِي الْأَصِيلِ مُنْتَفٍ مِنْ الْكَفِيلِ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْكَفَالَةُ الْمُطْلَقَةُ بِمَالٍ غَيْرِ مُؤَجَّلٍ فَيُطَالَبُ بِهِ فِي الْحَالِ (فَصَارَ كَمَا لَوْ كَفَلَ عَنْ مُفْلِسٍ أَوْ غَائِبٍ) يَلْزَمُهُ فِي الْحَالِّ مَعَ أَنَّ الْأَصِيلَ لَا يَلْزَمُهُ،

ص: 233

بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ بِمُؤَخَّرٍ، ثُمَّ إذَا أَدَّى رَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الطَّالِبَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ، فَكَذَا الْكَفِيلُ لِقِيَامِهِ مَقَامِهِ.

(وَمَنْ ادَّعَى عَلَى عَبْدٍ مَالًا وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ الْعَبْدُ بَرِئَ الْكَفِيلُ) لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ كَمَا إذَا كَانَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِنَفْسِهِ حُرًّا.

قَالَ (فَإِنْ ادَّعَى رَقَبَةَ الْعَبْدِ فَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ فَمَاتَ الْعَبْدُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ ضَمِنَ الْكَفِيلُ قِيمَتَهُ) لِأَنَّ عَلَى الْمَوْلَى رَدَّهَا

وَهَذَا أَحْسَنُ فِي حُلُولِ هَذِهِ الْكَفَالَةِ، بِخِلَافِ وَجْهِ تَأْخِيرِ الدَّيْنِ إلَى الْعِتْقِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ وَعَدَمُ رِضَا الْمَوْلَى، فَإِنَّهُ لَوْ ثَمَّ لَزِمَ تَأْخِيرُ دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ الْمُعَايَنِ لِعُسْرَتِهِ وَعَدَمِ رِضَا الْمَوْلَى، بَلْ الْوَجْهُ عَدَمُ نَفَاذِ تَصَرُّفِ غَيْرِ الْمَوْلَى فِي حَقِّهِ بِمَا يَضُرُّهُ: أَعْنِي تَصَرُّفَ الْمُقْرِضِ وَالْبَائِعِ لِلْعَبْدِ وَلَمْ يَرْضَ بِإِيدَاعِ الْمُودِعِ عِنْدَ عَبْدِهِ وَلَا بِتَمْكِينِ الْمَرْأَةِ، وَعَدَمِ نَفَاذِ قَوْلِ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى إذَا كَانَ يُكَذِّبُهُ، بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ الْمُعَايَنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدُهُمَا فَيَنْفُذُ فِي حَقِّهِ دَفْعًا لِضَرَرٍ لَمْ يَتَسَبَّبْ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَجِبُ الدَّيْنُ فِي الْحَالِ فَيُؤْخَذُ مِنْ كَسْبِهِ إنْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ وَالِاتِّبَاعُ رَقَبَتُهُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى، هَذَا هُوَ الْمُرَجَّحُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْعَبْدِ الَّذِي يَسْتَهْلِكُ الْمَالَ الَّذِي لَا يَجِبُ حَتَّى يَعْتِقَ (بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ لِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ بِمُؤَخِّرٍ) صَحِيحٍ، وَلَوْ كَانَ كَفَلَ بِدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ الْمُعَايَنِ يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ الْعِتْقِ إذَا أَدَّى لِأَنَّهُ دَيْنٌ غَيْرُ مُؤَخَّرٍ إلَى الْعِتْقِ فَيُطَالَبُ السَّيِّدُ بِتَسْلِيمِ رَقَبَتِهِ أَوْ الْقَضَاءِ عَنْهُ، وَبَحَثَ أَهْلُ الدَّرْسِ هَلْ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا الرُّجُوعِ الْأَمْرُ بِالْكَفَالَةِ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ السَّيِّدِ؟ وَقَوِيَ عِنْدِي كَوْنُ الْمُعْتَبَرِ أَمْرَ السَّيِّدِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ.

. (قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى عَلَى عَبْدٍ مَالًا وَكَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ الْعَبْدُ بَرِئَ الْكَفِيلُ لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَكْفُولِ بِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَإِنَّمَا فَرَضَهَا فِي الْعَبْدِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهَا مَسْأَلَةَ دَعْوَى الرَّقَبَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ.

(فَلَوْ كَانَ ادَّعَى رَقَبَةَ الْعَبْدِ فَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ فَمَاتَ الْعَبْدُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ لَهُ ضَمِنَ الْكَفِيلُ قِيمَتَهُ) لِأَنَّ عَلَى الْمَوْلَى رَدَّ رَقَبَةِ الْعَبْدِ

ص: 234

عَلَى وَجْهٍ يَخْلُفُهَا قِيمَتُهَا، وَقَدْ الْتَزَمَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ وَبَعْدَ الْمَوْتِ تَبْقَى الْقِيمَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَا عَلَى الْكَفِيلِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.

قَالَ (وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَمْرِهِ فَعَتَقَ فَأَدَّاهُ أَوْ كَانَ الْمَوْلَى كَفَلَ عَنْهُ فَأَدَّاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ) وَقَالَ زُفَرُ: يَرْجِعُ، وَمَعْنَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ حَتَّى تَصِحَّ كَفَالَتُهُ بِالْمَالِ عَنْ الْمَوْلَى إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ، أَمَّا كَفَالَتُهُ عَنْ الْعَبْدِ فَتَصِحُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ. لَهُ أَنَّهُ تَحَقَّقَ الْمُوجِبُ لِلرُّجُوعِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ وَالْمَانِعُ وَهُوَ الرِّقُّ قَدْ زَالَ. وَلَنَا أَنَّهَا وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَكَذَا الْعَبْدُ عَلَى مَوْلَاهُ،

عَلَى وَجْهٍ يُخَلِّفُهَا قِيمَتَهَا (وَقَدْ الْتَزَمَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ الْقِيمَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَا عَلَى الْكَفِيلِ) فَهُوَ كَمَا لَوْ كَفَلَ بِالْمَغْصُوبِ حَيْثُ يُؤْخَذُ بِرَدِّ عَيْنِهِ، فَإِنْ عَجَزَ فَبِقِيمَتِهِ. فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَالٍ هُوَ رَقَبَةُ الْعَبْدِ وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ الْمَوْلَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ الَّذِي عَلَى الْعَبْدِ فَمَاتَ يَجِبُ ضَمَانُهُ وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ فِيهِ هُوَ الْعَبْدُ، وَكَذَا عَنْ الْحُرِّ فَمَاتَ الْحُرُّ مُفْلِسًا لَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، بِخِلَافِ مَنْ كَفَلَ عَنْ الْمُفْلِسِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ.

. (قَوْلُهُ وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَمْرِهِ فَعَتَقَ فَأَدَّى أَوْ كَانَ الْمَوْلَى كَفَلَ عَنْ عَبْدِهِ وَأَدَّى بَعْدَ عِتْقِ عَبْدِهِ لَمْ يَرْجِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ) بِشَيْءٍ (وَ) نُقِلَ (عَنْ زُفَرَ رحمه الله) فِي شَرْحِ الْجَامِعِ (أَنَّهُ يَرْجِعُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَمَعْنَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ) يَعْنِي ضَمَانَ الْعَبْدِ عَنْ سَيِّدِهِ (أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ حَتَّى تَصِحَّ كَفَالَتُهُ عَنْ سَيِّدِهِ) وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كَفَالَةَ الْعَبْدِ لَا تَصِحُّ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ التَّبَرُّعُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ فَلِذَا لَا تَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمَأْذُونِ، غَيْرَ أَنَّ أَمْرَ السَّيِّدِ لَهُ بِهَا فَكٌّ لِلْحَجْرِ عَنْهُ فِيهِ فَتَصِحُّ حَتَّى تُبَاعَ رَقَبَتُهُ فِي دَيْنِ الْكَفَالَةِ إذَا كَفَلَ لِغَيْرِ السَّيِّدِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ مَالِيَّتَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهَا فَلَا يَعْمَلُ أَمْرُهُ إيَّاهُ بِالْكَفَالَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ لِمَوْلَاهُ الْحَقَّ فِي مَالِيَّتِهِ فَيَعْمَلُ إذْنُهُ لَهُ فِي أَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ: وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَيْسَتْ صَحِيحَةً لِمَا بَيَّنَّا.

أَمَّا كَفَالَةُ السَّيِّدِ عَنْ الْعَبْدِ فَصَحِيحَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا. فَإِنْ قِيلَ: دَيْنُ الْعَبْدِ الَّذِي يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى يُقْضَى مِنْ مَالِيَّتِهِ وَهِيَ مِلْكُ الْمَوْلَى فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذِهِ الْكَفَالَةِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَائِدَةَ شَغْلُ ذِمَّةِ الْمَوْلَى بِالْمُطَالَبَةِ مَعَ الدَّيْنِ أَوَّلًا مَعَهُ لِيُقْضَى مِنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكْفُلْ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عَيْنًا إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ لِيُبَاعَ، وَقَدْ لَا يَفِي ثَمَنَهُ بِالدَّيْنِ فَلَا يَصِلُ لِلْغُرَمَاءِ إلَى تَمَامِ الدَّيْنِ وَبِالْكَفَالَةِ يَصِلُونَ (لِزُفَرَ رحمه الله أَنَّهُ تَحَقَّقَ الْمُوجِبُ لِلرُّجُوعِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ وَالْمَانِعُ وَهُوَ كَوْنُهُ عَبْدَهُ) وَلَا يَسْتَوْجِبُ وَاحِدٌ مِنْ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ دَيْنًا عَلَى الْآخَرِ (قَدْ زَالَ) بِالْعِتْقِ فَإِنَّ الْأَدَاءَ مِنْهُمَا بَعْدَهُ فَيَجِبُ الرُّجُوعُ (وَلَنَا أَنَّهَا وَقَعَتْ) مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا (غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ) بِمَا قُلْنَا إنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا عَلَى الْآخَرِ

ص: 235

فَلَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً أَبَدًا كَمَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَجَازَهُ.

(وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِمَالِ الْكِتَابَةِ حُرٌّ تَكَفَّلَ بِهِ أَوْ عَبْدٌ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي

فَلَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً أَبَدًا كَمَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ) فَبَلَغَهُ (فَأَجَازَ فَأَدَّى الْكَفِيلُ لَا يَرْجِعُ) لِأَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَإِنْ تَحَقَّقَ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ لَمْ يُوجِبْ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ الرُّجُوعُ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا يَقَعُ لَازِمًا لَا يَكُونُ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ.

وَهَذِهِ الْكَفَالَةُ حِينَ وَقَعَتْ وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ لِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى الْآخَرِ دَيْنًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَدْيُونًا فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ لَهُ الدَّيْنُ عَلَى السَّيِّدِ، وَإِذَا وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ فَلَوْ انْقَلَبَتْ مُوجِبَةً كَانَ فِي حَالِ الْبَقَاءِ وَلَيْسَ لِبَقَائِهَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهَا تَقَعُ لَازِمَةً، وَقَدْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الرَّاهِنِ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الرَّهْنَ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي ذَلِكَ الدَّيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى سَيِّدِهِ فَلِمَ لَا يَرْجِعُ هُنَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ اسْتِيجَابَ الدَّيْنِ عَلَى مَوْلَاهُ وَقَعَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَنَافٍ وَقْتَ اسْتِيجَابِ الدَّيْنِ لِحُرِّيَّتِهِمَا إذْ ذَاكَ فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْلَى، أَمَّا هُنَا فَزَمَانُ اسْتِيجَابِ الدَّيْنِ وَهُوَ زَمَانُ الْكَفَالَةِ كَانَ عَبْدًا فِيهِ.

. (قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ حُرٌّ تَكَفَّلَ بِهِ أَوْ عَبْدٌ) وَكَذَا لَا تَجُوزُ بِمَالٍ آخَرَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْمُكَاتَبِ (لِأَنَّهُ) أَيْ عَقْدُ الْكِتَابَةِ (ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي) وَهُوَ عَبْدِيَّتُهُ لِلسَّيِّدِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ الدَّيْنِ لِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ،

ص: 236

فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ عَجَزَ نَفْسُهُ سَقَطَ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ، وَإِثْبَاتُهُ مُطْلَقًا يُنَافِي مَعْنَى الضَّمِّ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الِاتِّحَادُ، وَبَدَلُ السِّعَايَةِ كَمَالِ الْكِتَابَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ.

وَإِنْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ لِتَحْقِيقِ الْعِتْقِ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَيْهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ (فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ عَجَّزَ نَفْسُهُ سَقَطَ) هَذَا الدَّيْنُ (وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ) أَيْ إثْبَاتُ هَذَا الدَّيْنِ (عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى الْكَفِيلِ) وَهُوَ كَوْنُهُ إذَا عَجَزَ الْكَفِيلُ نَفْسُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ (وَإِثْبَاتُهُ مُطْلَقًا) فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ (يُنَافِي مَعْنَى الضَّمِّ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الِاتِّحَادَ) وَلَوْ أَثْبَتَاهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَلَى الْكَفِيلِ وَعَلَى تَمْكِينِهِ مِنْ إسْقَاطِهِ عَلَى الْأَصِيلِ لَمْ يَتَّحِدْ الدَّيْنُ عَلَيْهِمَا (وَبَدَلُ السِّعَايَةِ كَمَالِ الْكِتَابَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ) لِلْعِلَّةِ الْأُولَى، لِأَنَّ لَهُ أَحْكَامَ الْعَبْدِ عِنْدَهُ حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، وَلَا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْنِ وَيُنَصِّفُ حَدَّهُ. وَقَسْمُهَا دُونَ الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ إذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ دَيْنُ السِّعَايَةِ بِتَعْجِيزِ نَفْسِهِ، وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ عِنْدَهُمَا، وَأَمَّا الْكَفَالَةُ لِلْمُكَاتَبِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى السَّيِّدِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَجَائِزَةٌ. وَأَمَّا الْعَبْدُ التَّاجِرُ إذَا أَدَانَ مَوْلَاهُ دَيْنًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا لَهُ فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ لَا السَّيِّدِ فَكَانَ الدَّيْنُ وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ كَمَا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَا تَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ صَحَّتْ.

ص: 237

(كِتَابُ الْحَوَالَةِ)

كِتَابُ الْحَوَالَةِ)

الْحَوَالَةُ تُنَاسِبُ الْكَفَالَةَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَقْدُ الْتِزَامِ مَا عَلَى الْأَصِيلِ لِلتَّوَثُّقِ، إلَّا أَنَّ الْحَوَالَةَ تَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ بَرَاءَةً مُقَيَّدَةً عَلَى مَا سَتَعْلَمُ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ لَا تَتَضَمَّنُهُ فَكَانَتْ كَالْمُرَكَّبِ مَعَ الْمُفْرَدِ، وَالْمُفْرَدُ مُقَدَّمٌ فَأَخَّرَ الْحَوَالَةَ عَنْهَا. وَأَيْضًا أَثَرُ الْكَفَالَةِ أَقْرَبُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ السُّقُوطِ بِهِ الثُّبُوتُ وَأَثَرُ الْحَوَالَةِ أَبْعَدُ مِنْهُ. وَالْحَوَالَةُ اسْمٌ مِنْ الْإِحَالَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ أَحَلْت زَيْدًا بِمَا لَهُ عَلَى عَمْرٍو فَاحْتَالَ أَيْ قَبِلَ فَأَنَا مُحِيلٌ وَزَيْدٌ مُحَالٌ، وَيُقَالُ مُحْتَالٌ وَالْمَالُ مُحْتَالٌ بِهِ وَالرَّجُلُ مُحَالٌ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ مُحْتَالٌ عَلَيْهِ. فَتَقْدِيرُ الْأَصْلِ فِي مُحْتَالٍ الْوَاقِعِ فَاعِلًا مُحْتَوِلٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَفِي الْوَاقِعِ مَفْعُولًا مُحْتَوَلٌ بِالْفَتْحِ كَمَا يُقَدَّرُ فِي مُخْتَارِ الْفَاعِلِ مُخْتِيرٌ بِكَسْرِ الْيَاءِ وَبِفَتْحِهَا فِي مُخْتَارٍ الْمَفْعُولِ، وَإِمَّا صِلَةٌ لَهُ مَعَ الْمُحْتَالِ الْفَاعِلِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا، بَلْ الصِّلَةُ مَعَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَفْظَةٌ عَلَيْهِ فَهُمَا مُحْتَالٌ وَمُحْتَالٌ عَلَيْهِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِعَدَمِ الصِّلَةِ وَبِصِلَةٍ عَلَيْهِ. وَفِي الْمُغْرِبِ تَرْكِيبُ الْحَوَالَةِ يَدُلُّ عَلَى الزَّوَالِ وَالنَّقْلِ، وَمِنْهُ التَّحْوِيلُ وَهُوَ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ، وَيُقَالُ لِلْمُحْتَالِ حَوِيلُ أَيْضًا، فَالْمُحِيلُ هُوَ الْمَدْيُونُ وَالْمُحَالُ وَالْمُحْتَالُ رَبُّ الدَّيْنِ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي الْتَزَمَ ذَلِكَ الدَّيْن لِلْمُحْتَالِ وَالْمُحْتَالُ بِهِ نَفْسُ الدَّيْنِ. وَهِيَ فِي الشَّرْعِ نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ مِنْ ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ إلَى ذِمَّةِ الْمُلْتَزِمِ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّهَا ضَمٌّ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا نَقْلٌ فَلَا يُطَالَبُ الْمَدْيُونُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ أَنَّ الدَّيْنَ أَيْضًا يَنْتَقِلُ أَوَّلًا وَسَنَذْكُرُهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَوْ أُرِيدَ التَّعْرِيفُ عَلَى قَوْلِ النَّاقِلِينَ بِخُصُوصِهِمْ قِيلَ نَقْلُ الدَّيْنِ

ص: 238

قَالَ (وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ) قَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَتَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِالدُّيُونِ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، وَالتَّحْوِيلُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ.

قَالَ (وَتَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ) أَمَّا الْمُحْتَالُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَقِلُ بِهَا وَالذِّمَمُ مُتَفَاوِتَةٌ

أَوْ وَقَوْلُ النَّافِينَ قِيلَ نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ فَقَطْ.

. (قَوْلُهُ وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ) قَالَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا بِلَفْظِ أُحِيلَ مَعَ لَفْظِ يَتْبَعُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَرِوَايَةُ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأَوْسَطِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ «وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ» قِيلَ: وَقَدْ يُرْوَى فَإِذَا أُحِيلَ بِالْفَاءِ فَيُفِيدُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاتِّبَاعِ لِلْمُلَاءَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْغَنِيُّ ظُلْمًا، فَإِذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الظُّلْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ لِلْوُجُوبِ، وَالْحَقُّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرُ إبَاحَةٍ هُوَ دَلِيلُ جَوَازِ نَقْلِ الدَّيْنِ شَرْعًا أَوْ الْمُطَالَبَةُ، فَإِنَّ بَعْضَ الْأَمْلِيَاءِ عِنْدَهُ مِنْ اللَّدَدِ فِي الْخُصُومَةِ وَالتَّعْسِيرِ مَا تَكْثُرُ بِهِ الْخُصُومَةُ وَالْمُضَارَّةُ، فَمَنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ هَذَا لَا يَطْلُبُ الشَّارِعُ اتِّبَاعَهُ بَلْ عَدَمُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ الْخُصُومَاتِ وَالظُّلْمِ، وَأَمَّا مَنْ عُلِمَ مِنْهُ الْمُلَاءَةُ وَحُسْنُ الْقَضَاءِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اتِّبَاعَهُ مُسْتَحَبٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْفِيفِ عَلَى الْمَدْيُونِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَا يُعْلَمُ حَالُهُ فَمُبَاحٌ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ إضَافَةُ هَذَا التَّفْصِيلِ إلَى النَّصِّ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ مَجَازِيَّيْنِ لِلَفْظِ الْأَمْرِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ جُعِلَ لِلْأَقْرَبِ أُضْمِرَ مَعَهُ الْقَيْدُ وَإِلَّا فَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِهَا دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ النَّقْلَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ نَقْلٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَعْيَانِ، بَلْ الْمُتَصَوَّرُ فِيهَا النَّقْلُ الْحِسِّيُّ فَكَانَتْ نَقْلَ الْوَصْفِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الدَّيْنُ.

(قَوْلُهُ وَتَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ. أَمَّا الْمُحْتَالُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ وَهُوَ) أَيْ الدَّيْنُ (الَّذِي يَنْتَقِلُ بِهَا) أَيْ بِالْحَوَالَةِ (وَالذِّمَمُ مُتَفَاوِتَةٌ)

ص: 239

فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ، وَأَمَّا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ وَلَا لُزُومَ بِدُونِ الْتِزَامِهِ، وَأَمَّا الْمُحِيلُ فَالْحَوَالَةُ تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ.

فِي حُسْنِ الْقَضَاءِ وَالْمَطْلِ (فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ) وَإِلَّا لَزِمَ الضَّرَرُ بِإِلْزَامِهِ إتْبَاعَ مَنْ لَا يُوفِيهِ (وَأَمَّا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ) الَّذِي (يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ وَلَا لُزُومَ إلَّا بِالْتِزَامِهِ) وَلَوْ كَانَ مَدْيُونًا لِلْمُحِيلِ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الِاقْتِضَاءِ مِنْ بَيْنِ سَهْلٍ مُيَسِّرٍ وَصَعْبٍ مُعَسِّرٍ (وَأَمَّا الْمُحِيلُ فَالْحَوَالَةُ تَصِحُّ بِلَا رِضَاهُ ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ) أَيْ الْمُحِيلُ (لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ) عَاجِلًا بِانْدِفَاعِ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ فِي الْحَالِّ وَآجِلًا بِعَدَمِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِأَمْرِهِ) وَحَيْثُ تَثْبُتُ الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَأَوَّلَ فِي الْأَوْضَحِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُدُورِيِّ بِمَا إذَا كَانَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُ الْحَوَالَةَ، فَإِنَّ قَبُولَ الْحَوَالَةِ حِينَئِذٍ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ يَكُونُ إسْقَاطًا لِمُطَالَبَةِ الْمُحِيلِ عَنْ نَفْسِهِ: أَعْنِي نَفْسَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِرِضَاهُ، كَذَا فِي الْخَبَّازِيَّةِ. وَاشْتِرَاطُ رِضَا الْمُحِيلِ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، قَالُوا لِأَنَّ الْمُحِيلَ إيفَاءُ مَا عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْجِهَاتِ قَهْرًا. وَنَقْلُ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ رِضَا الْمُحِيلِ لَا خِلَافَ فِيهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ: وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ لَك عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَلْفٌ فَاحْتَلْ بِهَا عَلَيَّ فَرَضِيَ الطَّالِبُ وَأَجَازَ صَحَّتْ الْحَوَالَةُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَسَنُبَيِّنُ الْحَقَّ فِيهِ عِنْدَنَا. هَذَا وَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ فِي غَيْبَةِ الْمُحْتَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْكَفَالَةِ إلَّا أَنْ يَقْبَلَ رَجُلٌ الْحَوَالَةَ لِلْغَائِبِ فَتَتَوَقَّفُ إجَازَتُهُ إذَا بَلَغَهُ، وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ أَحَالَ عَلَى

ص: 240

قَالَ (وَإِذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْ الدَّيْنِ بِالْقَبُولِ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَبْرَأُ اعْتِبَارًا بِالْكَفَالَةِ،

غَائِبٍ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَ صَحَّتْ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ بِالْقَبُولِ بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنْ الدَّيْنِ) هَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَهُوَ الْمُصَحَّحُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَقَوْلُ طَائِفَةٍ أُخْرَى: لَا يَبْرَأُ إلَّا مِنْ الْمُطَالَبَةِ فَقَطْ (وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَبْرَأُ) مِنْ الْمُطَالَبَةِ أَيْضًا، فَالنَّظَرُ فِي خِلَافِ الْمَشَايِخِ أَوَّلًا حَتَّى يَثْبُتَ الْمَذْهَبُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي خِلَافِ زُفَرَ، فَالْقَائِلُونَ إنَّ الْمَذْهَبَ لَا يَبْرَأُ عَنْ الدَّيْنِ اسْتَدَلُّوا بِمَسَائِلَ ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ. فَمِنْهَا أَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا أَبْرَأَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ يَصِحُّ وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ كَإِبْرَاءِ الْكَفِيلِ؛ وَلَوْ انْتَقَلَ أَصْلُ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَرْتَدَّ بِرَدِّهِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْمُحْتَالُ الْمُحِيلَ قَبْلَ الْحَوَالَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحِيلَ إذَا نَقَدَ الْمُحْتَالُ مَالَهُ بَعْدَ الْحَوَالَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ، فَلَوْ انْتَقَلَ أَصْلُ الدَّيْنِ بِالْحَوَالَةِ كَانَ مُتَبَرِّعًا

ص: 241

إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ، وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ لُغَةٌ، وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ وَالدَّيْنُ مَتَى انْتَقَلَ عَنْ الذِّمَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا.

أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى وِفَاقِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ وَالتَّوَثُّقِ بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَأِ وَالْأَحْسَنِ فِي الْقَضَاءِ،

بِمَالِ الْمُحْتَالِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ لِغَيْرِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا وَكَّلَ الْمُحِيلُ بِقَبْضِ مَالِ الْحَوَالَةِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ، وَلَوْ انْتَقَلَ الدَّيْنُ صَارَ الْمُحِيلُ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، وَتَوْكِيلُ الْأَجْنَبِيِّ بِقَبْضِ الدَّيْنِ صَحِيحٌ.

وَمِنْهَا أَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا أَبْرَأَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَى الْمُحِيلِ، فَلَوْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ وَلَوْ وُهِبَ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُحِيلِ كَمَا فِي الْكَفِيلِ إلَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِلَّا الْتَقَيَا قِصَاصًا، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ يَتَحَوَّلُ إلَى ذِمَّتِهِ كَانَ الْإِبْرَاءُ وَالْهِبَةُ فِي حَقِّهِ سَوَاءٌ فَلَا يَرْجِعُ. وَالْقَائِلُونَ إنَّ الْمَذْهَبَ يَنْتَقِلُ الدَّيْنُ اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمُحْتَالَ إذَا وُهِبَ الدَّيْنَ مِنْ الْمُحِيلِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ لَا يَصِحُّ إبْرَاؤُهُ وَهِبَتُهُ، وَلَوْ بَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ، وَجَعَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ هَذَا الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَنْتَقِلُ الدَّيْنُ وَالْمُطَالَبَةُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَنْتَقِلُ الْمُطَالَبَةُ لَا الدَّيْنُ. قَالَ: وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا حَالَ الْمُرْتَهِنَ بِالدَّيْنِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا لَوْ أَبْرَأهُ عَنْهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَسْتَرِدُّهُ كَمَا لَوْ أَجَّلَ الدَّيْنَ بَعْدَ الرَّهْنِ.

وَالثَّانِيَةُ إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمُحِيلَ بَعْدَ الْحَوَالَةِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ بَرِئَ بِالْحَوَالَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ وَبَرِئَ الْمُحِيلُ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنَّمَا تَحَوَّلَتْ الْمُطَالَبَةُ لَيْسَ غَيْرُ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْخِلَافَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَقَالَ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ مُحَمَّدٍ نَصٌّ بِنَقْلِ الْمُطَالَبَةِ دُونَ الدَّيْنِ، بَلْ ذَكَرَ أَحْكَامًا مُتَشَابِهَةً وَاعْتَبَرَ الْحَوَالَةَ فِي بَعْضِهَا تَأْجِيلًا وَجَعَلَ الْمُحَوَّلَ بِهَا الْمُطَالَبَةَ لَا الدَّيْنَ، وَاعْتَبَرَهَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ إبْرَاءً وَجَعَلَ الْمُحَوَّلَ بِهَا الْمُطَالَبَةَ وَالدَّيْنَ، وَإِنَّمَا فَعَلَ هَكَذَا لِأَنَّ اعْتِبَارَ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ يُوجِبُ نَقْلَ الْمُطَالَبَةِ وَالدَّيْنِ، إذْ الْحَوَالَةُ مُنْبِئَةٌ عَنْ النَّقْلِ وَقَدْ أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ، وَاعْتِبَارُ الْمَعْنَى يُوجِبُ تَحْوِيلَ الْمُطَالَبَةِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَأْجِيلٌ مَعْنًى؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا يَعُودُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى التَّأْجِيلِ، فَاعْتَبَرَ الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَاعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ فِي بَعْضِهَا، نَعَمْ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ كَمِّيَّةِ خُصُوصِ الِاعْتِبَارِ فِي كُلِّ مَكَان، وَسَيُجِيبُ الْمُصَنِّفُ عَنْ بَعْضِهَا فِي خِلَافِيَّةِ زُفَرَ هَذِهِ.

إذَا عُرِفَ الْمَذْهَبُ حِينَئِذٍ جِئْنَا إلَى خِلَافِ زُفَرَ لَهُ الِاعْتِبَارُ بِالْكَفَالَةِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ وَلَمْ يَنْتَقِلْ فِيهَا دَيْنٌ وَلَا مُطَالَبَةٌ بَلْ تَحَقَّقَ فِيهَا اشْتِرَاكٌ فِي الْمُطَالَبَةِ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الِانْتِقَالِ أَدُخِلَ فِي مَعْنَى التَّوَثُّقِ إذْ يَصِيرُ لَهُ مُكْنَةُ أَنْ يُطَالِبَ كُلًّا مِنْهُمَا فَكَذَا هَذَا.

(وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ لِلنَّقْلِ لُغَةً وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ) فَوَجَبَ نَقْلُ الدَّيْنِ (وَالدَّيْنُ إذَا انْتَقَلَ عَنْ الذِّمَّةِ لَا يَبْقَى فِيهَا، أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِلضَّمِّ) لُغَةً لِأَنَّهَا مِنْ الْكِفْلِ وَهُوَ الضَّمُّ فَوَجَبَ فِيهَا اعْتِبَارُ ضَمِّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ (لِأَنَّ الْأَحْكَامَ) يَعْنِي الْعُقُودَ (الشَّرْعِيَّةَ) الْمُسَمَّاةَ بِأَسْمَاءٍ تُعْتَبَرُ فِيهَا مَعَانِي تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ فَائِدَةُ اخْتِصَاصِهَا بِأَسْمَائِهَا.

(قَوْلُهُ عَقْدُ تَوَثُّقٍ) وَالتَّوَثُّقُ أَنْ يُطَالِبَ كُلًّا

ص: 242

وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ إذَا نَقَدَ الْمُحِيلُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ عَوْدُ الْمُطَالَبَةِ إلَيْهِ بِالتَّوَى فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا.

قَالَ (وَلَا يَرْجِعُ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقَّهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَرْجِعُ وَإِنْ تَوِيَ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ

مِنْهُمَا. قُلْنَا بَلْ التَّوَثُّقُ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي ذَلِكَ بَلْ يَصْدُقُ بِاخْتِيَارِ الْأَمْلَأِ وَالْأَيْسَرِ فِي الْقَضَاءِ فَيُكْتَفَى بِهِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّوَثُّقِ فِي مُسَمَّى لَفْظِ الْحَوَالَةِ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى خُصُوصِ مَا ذُكِرَ مِنْ التَّوَثُّقِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَنْتَهِضُ عَلَى زُفَرَ فَإِنَّهُ قَالَ بِبَقَاءِ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ عَلَى الْأَصِيلِ. أَمَّا الطَّائِفَةُ مِنْ الْمَشَايِخِ الْقَائِلُونَ بِنَقْلِ الْمُطَالَبَةِ دُونَ الدَّيْنِ فَلَا، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: الْحَوَالَةُ تُنَبِّئُ عَنْ النَّقْلِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا ذَلِكَ.

قَالُوا: سَلَّمْنَا، وَاعْتِبَارُ نَقْلِ الْمُطَالَبَةِ كَافٍ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى النَّقْلِ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى نَقْلِ الدَّيْنِ كَمَا قُلْت. لِزُفَرَ إنَّ تَحْقِيقَ التَّوَثُّقِ يَحْصُلُ بِاخْتِيَارِ الْإِمْلَا إلَخْ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى كُلٍّ كَمَا يَحْصُلُ بِهِ التَّوَثُّقُ. وَقَوْلُهُ يُجْبَرُ إلَخْ جَوَابُ نُقِضَ مِنْ قِبَلِ زُفَرَ وَهُوَ مِمَّا سَبَقَ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ مِنْ الْمَشَايِخِ بِعَدَمِ نَقْلِ الدَّيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْمُحِيلَ إذَا نَقَدَ الْمُحْتَالَ الدَّيْنَ الْمُحَالَ بِهِ قَبْلَ نَقْدِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أُجْبِرَ الْمُحْتَالُ عَلَى الْقَبُولِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ بَاقِيًا عَلَى الْمُحِيلِ لَمْ يُجْبَرْ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُتَبَرِّعٌ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ. أَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ عَلَى تَقْدِيرِ النَّقْلِ أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا مَحْضًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَوْدُ الدَّيْنِ الْمُنْتَقِلِ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ مُمْكِنًا مَخُوفًا قَدْ يُتَوَقَّعُ، فَأَمَّا إنْ كَانَ فَلَا لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ دَافِعٌ عَنْ نَفْسِهِ الْمُطَالَبَةَ عَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِ سَبَبِهَا، فَهَذَا الْجَوَابُ يَدْفَعُ هَذَا الْوَارِدَ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَقْضٌ لِزُفَرَ وَدَلِيلٌ لِتِلْكَ الطَّائِفَةِ، وَقَدْ نُقِضَ مِنْ قِبَلِ زُفَرَ بِوُجُودِ الْحَوَالَةِ وَلَا نَقْلَ أَصْلًا بِمَا إذَا وَقَعَتْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُحِيلِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى النَّقْلِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَبْقَى إذْ ذَاكَ عَلَى الْمُحِيلِ شَيْءٌ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ لَوْ صَحَّ هَذَا لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِيهَا نَقْلُ الدَّيْنِ أَيْضًا بِهَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهُ إذَا أَدَّى الْكَفِيلُ لَا يَبْقَى عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ شَيْءٌ. وَالْحَقُّ أَنَّ أَصْلَ الْجَوَابِ سَاقِطٌ فَإِنَّ انْتِفَاءَ الدَّيْنِ عَنْ الْمُحِيلِ بِأَدَاءِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ نَقْلُ الدَّيْنِ بَلْ انْتِفَاؤُهُ مِنْ الْوُجُودِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا نَقْلَهُ بَلْ نَقْلُهُ تَحَوُّلُهُ مِنْ مُحَالٍ إلَى مَحَلِّ ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ.

وَعِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُحِيلِ لَيْسَتْ حَوَالَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَوَالَةِ إنْ كَانَ فِعْلُ الْمُحِيلِ الْإِحَالَةَ أَوْ الْحَاصِلُ مِنْ فِعْلِهِ فَهُوَ مُنْتَفٍ لِانْتِفَاءِ الْفِعْلِ مِنْهُ، وَالنَّقْلُ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِيقَتِهَا وَلِهَذَا أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْمَعْنَى وَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْحَوَالَةِ وَسَمَّوْهُ حَمَالَةً، وَحُكْمُهَا شَطْرُ حُكْمِ الْحَوَالَةِ وَهُوَ اللُّزُومُ عَلَى الْمُتَحَمِّلِ دُونَ الشَّطْرِ الْآخَرِ وَهُوَ انْتِقَالُ الدَّيْنِ عَنْ الْمَدْيُونِ فَلَمْ تَكُنْ حَوَالَةً وَإِلَّا اسْتَعْقَبَتْ تَمَامَ حُكْمِهَا وَهَذَا مَا وُعِدْنَاهُ.

(قَوْلُهُ وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا أَنْ يُتْوَى حَقُّهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَرْجِعُ وَإِنْ تَوِيَ)

ص: 243

حَصَلَتْ مُطْلَقَةً فَلَا تَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ. وَلَنَا أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِسَلَامَةِ حَقِّهِ لَهُ إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ، أَوْ تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ لِفَوَاتِهِ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ

بِمَوْتٍ أَوْ إفْلَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَاللَّيْثِ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَعَنْ أَحْمَدَ إذَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا وَلَمْ يَعْلَمْ الطَّالِبُ بِذَلِكَ فَلَهُ الرُّجُوعُ إلَّا أَنْ يَرْضَى بَعْدَ الْعِلْمِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، لِأَنَّ الْإِفْلَاسَ عَيْبٌ فِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِسَبَبِهِ كَالْمَبِيعِ، وَلِأَنَّ الْمُحِيلَ غَرَّهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ دَلَّسَ الْمَبِيعَ يَرْجِعُ بِهِ (لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ) الْحَاصِلَةَ بِالِانْتِقَالِ (حَصَلَتْ مُطْلَقَةً فَلَا تَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ) وَلَا سَبَبَ فَلَا عَوْدَ.

وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنها دَيْنٌ فَأَحَالَهُ بِهِ عَلَى آخَرَ فَمَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ اخْتَرْت عَلِيًّا فَقَالَ لَهُ أَبْعَدَك اللَّهُ فَمَنَعَ رُجُوعَهُ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ كَوْنَ الْبَرَاءَةِ مُطْلَقَةً بَلْ هِيَ مُقَيَّدَةٌ مَعْنًى بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً، وَهَذَا الْقَيْدُ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْحَوَالَةِ لَيْسَ مُجَرَّدَ الْوُجُوبِ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ الذِّمَمَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْقَدْرِ مُتَسَاوِيَةٌ، وَإِنَّمَا تَتَفَاوَتُ فِي إحْسَانِ الْقَضَاءِ وَعَدَمِهِ، فَالْمَقْصُودُ التَّوَصُّلُ إلَى الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْمَحَلِّ الثَّانِي عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْسَنِ، وَإِلَّا لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ الْأَوَّلِ فَصَارَتْ السَّلَامَةُ مِنْ الْمَحَلِّ الثَّانِي كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ الْمَشْرُوطُ عَادَ حَقُّهُ عَلَى الْأَصِيلِ

ص: 244

فَصَارَ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ. قَالَ (وَالتَّوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ:

فَصَارَ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى عَيْنٍ فَهَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يَعُودُ الدَّيْنُ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مَا ثَبَتَتْ مُطْلَقَةً بَلْ بِعِوَضٍ، فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ يَعُودُ.

يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا فِي الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا قَالَ: يَعُودُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَقَالَ لَا تَوَى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. وَلَفْظُ الْأَسْرَارِ قَالَ: إذَا تَوِيَ الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَادَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ كَمَا كَانَ، وَلَا تَوَى عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ عَنْ شُرَيْحٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ، فَإِنْ كَانَا صَحِيحَيْنِ أَوْ لَمْ يَثْبُتَا فَقَدْ تَكَافَآ. هَذَا وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ الْعَوْدِ فَقِيلَ بِفَسْخِ الْحَوَالَةِ أَيْ بِفَسْخِهَا الْمُحْتَالَ وَيُعَادُ الدَّيْنُ كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، وَقِيلَ تَنْفَسِخُ وَيَعُودُ الدَّيْنُ كَالْمَبِيعِ إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقِيلَ فِي الْمَوْتِ عَنْ إفْلَاسٍ تَنْفَسِخُ وَيَعُودُ. وَفِي الْجُحُودِ يُفْسَخُ وَيُعَادُ، وَفِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ قَالُوا لَوْ مَاتَ الْمُحِيلُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسَيْنِ لَا يَرْجِعُ فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ بَلْ لَهُ الرُّجُوعُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ بِالْإِعْسَارِ وَلِهَذَا كُلَّمَا ظَهَرَ لِأَحَدِهِمَا مَالٌ أَخَذَهُ كَمَا فِي الْكَفِيلِ وَالْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا مَاتَا مُفْلِسَيْنِ تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ، ثُمَّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ لَا تَثْبُتُ حَالَةَ حَيَاةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ. قَالُوا: مَالُ الْحَوَالَةِ جُعِلَ كَالْمَقْبُوضِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَالْمَقْبُوضِ لَأَدَّى إلَى الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلِأَنَّهُ تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَالصَّرْفِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ كَالْمَقْبُوضِ لَمْ تَجُزْ الْحَوَالَةُ. وَإِذَا مَاتَ الْمُحِيلُ مُفْلِسًا لَا يَكُونُ الْمُحْتَالُ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَالْمَقْبُوضِ لَا يَرْجِعُ. قُلْنَا: لَيْسَ كَالْمَقْبُوضِ وَإِلَّا لَجَازَ لِلْمُحْتَالِ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَالْمَقْبُوضِ صَارَ دَيْنًا بِدَيْنٍ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ الْقَصْدُ مِنْهُ الْمُعَاوَضَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَالْقَرْضِ.

وَأَمَّا الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ فَحُجَّةٌ لَنَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَالْمَقْبُوضِ لَجَازَ أَنْ يَتَفَرَّقَا عَنْ الْمَجْلِسِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا أَحَالَ بِهِمَا فَلَوْ افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَلَوْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ قَبْضًا لَكَانَ هَذَا افْتِرَاقًا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمُحْتَالِ لَا يَصِيرُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ إذَا مَاتَ الْمُحِيلُ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَى مَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَمَمْنُوعٌ. قَالَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: وَلَوْ أَنَّ الْمُحَالَ أَخَّرَ الْحَوِيلَ سَنَةً ثُمَّ مَاتَ الْمُحِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ سِوَى دَيْنِ الْمُحَالِ يُقْسَمُ دَيْنُهُ عَلَى الْحَوِيلِ بَيْنَ الْمُحَالِ وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ لِأَنَّ هَذَا مَالُ الْمُحِيلِ وَلَمْ يَصِرْ بِالْحَوَالَةِ مِلْكًا لِلْمُحَالِ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يُتَصَوَّرُ لَكِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحَالِ وَبِهَذَا لَا يَصِيرُ الْمُحَالُ أَخَصَّ بِهِ مَا لَمْ تَثْبُتْ الْيَدُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَتَعَلَّقُ حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ لَوْ وَجَبَ بَعْدَ ذَلِكَ دَيْنٌ آخَرُ كَانَ رَقَبَتُهُ ثَمَّ وَكَسْبُهُ بَيْنَ الْكُلِّ بِالْحِصَصِ انْتَهَى. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالتَّوَى بَيْنَ التَّوَى بِقَوْلِهِ (وَالتَّوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بِكُلٍّ مِنْ أَمْرَيْنِ:

ص: 245

إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا) لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الْوُصُولِ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ التَّوَى فِي الْحَقِيقَةِ (وَقَالَا هَذَانِ الْوَجْهَانِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِإِفْلَاسِهِ حَالَ حَيَاتِهِ)

وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِفْلَاسَ لَا يَتَحَقَّقُ بِحُكْمِ الْقَاضِي عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ غَادٍ وَرَائِحٌ.

قَالَ (وَإِذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ بِمِثْلِ مَالِ الْحَوَالَةِ فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَك يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ الدَّيْنِ) لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِأَمْرِهِ إلَّا أَنَّ الْمُحِيلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ، وَلَا تَكُونُ الْحَوَالَةُ إقْرَارًا مِنْهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِدُونِهِ.

إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ) لِلْمُحْتَالِ وَلَا لِلْمُحِيلِ، فَقَوْلُهُ (لَهُ) يَعْنِي كُلًّا مِنْ الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ (أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا) لَا مَالَ لَهُ مُعَيَّنًا وَلَا دَيْنًا وَلَا كَفِيلَ عَنْهُ بِدَيْنِ الْمُحْتَالِ، وَعِنْدَهُمَا بِهَذَيْنِ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ بِإِفْلَاسِهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي يَصِحُّ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ ارْتِفَاعُهُ بِحُدُوثِ مَالٍ لَهُ فَلَا يَعُودُ بِتَفْلِيسِ الْقَاضِي عَلَى الْمُحِيلِ. وَالتَّوَى التَّلَفُ، يُقَالُ مِنْهُ تَوِيَ بِوَزْنِ عَلِمَ يَتْوَى وَهُوَ تَوٍ وَتَاوٍ.

وَلَوْ قَالَ الْمُحْتَالُ مَاتَ مُفْلِسًا وَقَالَ الْمُحِيلُ بِخِلَافِهِ فَفِي الشَّافِي وَالْمَبْسُوطِ: الْقَوْلُ لِلطَّالِبِ مَعَ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا فَزَعَمَ أَنَّهُ مُفْلِسٌ فَالْقَوْلُ لَهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَفِي شَرْحِ النَّاصِحِيِّ: الْقَوْلُ لِلْمُحِيلِ مَعَ الْيَمِينِ لِإِنْكَارِهِ عَوْدَ الدَّيْنِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ بِمِثْلِ مَالِ الْحَوَالَةِ فَقَالَ الْمُحِيلُ) إنَّمَا (أُحِلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُ الدَّيْنِ لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ قَدْ تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ وَهُوَ قَضَاؤُهُ دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ، وَلِأَنَّ الْمُحِيلَ يَدَّعِي دَيْنًا عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ) وَلَا يُقَالُ: قَبُولُ الْحَوَالَةِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ قَبُولِ الْحَوَالَةِ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ تَكُونُ مِمَّا عَلَيْهِ وَهِيَ الْمُقَيَّدَةُ وَقَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةً وَالْمُطْلَقَةُ هِيَ حَقِيقَةُ الْحَوَالَةِ أَمَّا الْمُقَيَّدَةُ فَوَكَالَةٌ بِالْأَدَاءِ مِنْ وَجْهِ الْقَبْضِ.

(وَإِذَا طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ فَقَالَ إنَّمَا أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي وَقَالَ الْمُحْتَالُ لَا بَلْ أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ كَانَ لِي عَلَيْك، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُحِيلِ (الدَّيْنَ وَهُوَ يُنْكِرُ)

ص: 246

قَالَ (وَإِذَا طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ فَقَالَ إنَّمَا أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي وَقَالَ الْمُحْتَالُ لَا بَلْ أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ كَانَ لِي عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ) لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الدَّيْنَ وَهُوَ يُنْكِرُ وَلَفْظَةُ الْحَوَالَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَكَالَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ آخَرَ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى الْقَضَاءِ، فَإِنْ هَلَكَتْ بَرِئَ) لِتَقَيُّدِهَا بِهَا، فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ الْأَدَاءَ إلَّا مِنْهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْمَغْصُوبِ

فَالْقَوْلُ لَهُ لِأَنَّ فَرَاغَ الذِّمَّةِ هُوَ الْأَصْلُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي وَجْهٍ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ الْقَوْلُ لِلطَّالِبِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ ظَاهِرًا، فَمَا قَالَهُ الْمُحِيلُ تَوْكِيلٌ فَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَلَفْظَةُ الْحَوَالَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَكَالَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ) جَوَابٌ عَنْهُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى تَسَاوِيهِمَا فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَمَنْعُ كَوْنِهَا بِالدَّيْنِ أَظْهَرُ فَالْحَوَالَةُ مُتَوَاطِئٌ فِيهِمَا وَإِلَّا فَادِّعَاؤُهُ مَجَازًا مُتَعَارَفًا يَخُصُّ قَوْلَهُمَا فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ، وَقَدْ تَكَلَّفَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ حِينَ اسْتَبْعَدَ التَّوَاطُؤَ وَتَقْدِيمَ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ فَحَمَلَهَا عَلَى مَا إذَا اسْتَوْفَى الْمُحْتَالُ الْأَلْفَ الْمُحَالَ بِهَا وَقَدْ كَانَ الْمُحِيلُ بَاعَ مَتَاعًا مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَلْفِ فَيَقُولُ الْمُحْتَالُ كَانَ الْمَتَاعُ مِلْكِي وَكُنْت وَكِيلًا فِي بَيْعِهِ عَنِّي وَالْمَقْبُوضُ مَالِيٌّ وَيَقُولُ الْمُحِيلُ كَانَ الْمَتَاعُ مِلْكِي وَإِنَّمَا بِعْتُهُ لِنَفْسِي فَالْقَوْلُ لِلْمُحِيلِ، لِأَنَّ أَصْلَ الْمُنَازَعَةِ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ ذَلِكَ الْمَتَاعِ وَالْيَدِ كَانَ لِلْمُحِيلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَهُ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِنَحْوِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقٌ فِي سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَجْوِيزِ كَوْنِ لَفْظِ أَحَلْتُك بِأَلْفٍ يُرَادُ بِهِ أَلْفٌ لِلْمُحِيلِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الدَّيْنِ عَلَى الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَطْعِ بِهَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَوْ دَلَالَتِهِ، مِثْلُ: لَهُ عَلَيَّ أَوْ فِي ذِمَّتِي لِأَنَّ فَرَاغَ الذِّمَّةِ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ ضَرَرُ شَغْلِ ذِمَّتِهِ إلَّا بِمِثْلِهِ مِنْ اللَّفْظِ، وَمِنْهُ نَحْوُ قَوْلِهِ اتَّزِنْهَا فِي جَوَابِ لِي عَلَيْك أَلْفٌ لِلتَّيَقُّنِ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي اتَّزِنْهَا عَلَى الْأَلْفِ الْمُدَّعَاةِ، بِخِلَافِ مُجَرَّدِ قَوْلِهِ أَحَلْتُك.

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ آخَرَ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى الْقَضَاءِ) لِتَيَسُّرِ مَا يُقْضَى بِهِ وَحُضُورِهِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ (فَإِنْ هَلَكَتْ بَرِئَ) الْمُحَالُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُودِعُ (لِتَقَيُّدِهَا بِهَا) أَيْ لِتَقَيُّدِ الْحَوَالَةِ الْوَدِيعَةِ الَّتِي هَلَكَتْ (فَإِنَّهُ) أَيْ الرَّجُلُ (مَا الْتَزَمَ الْأَدَاءَ إلَّا مِنْهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً) بِعَيْنِ (مَغْصُوبٍ) عَرْضٍ أَوْ أَلْفِ دِرْهَمٍ مَثَلًا، فَإِنَّهُ إذَا هَلَكَ الْمَغْصُوبُ الْمُحَالُ بِهِ لَا تَبْطُلُ

ص: 247

لِأَنَّ الْفَوَاتَ إلَى خُلْفٍ كَلَا فَوَاتَ، وَقَدْ تَكُونُ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ أَيْضًا، وَحُكْمُ الْمُقَيَّدَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ

الْحَوَالَةُ وَلَا يَبْرَأُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْعَيْنِ، فَإِنْ عَجَزَ رَدَّ الْمِثْلَ أَوْ الْقِيمَةَ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَا يَبْرَأُ (لِأَنَّ) لَهُ خُلْفًا وَ (الْفَوَاتُ إلَى خُلْفٍ كَلَا فَوَاتٍ) فَبَقِيَتْ مُتَعَلِّقَةً بِخُلْفِهِ فَيُرَدُّ خُلْفُهُ عَلَى الْمُحْتَالِ (وَقَدْ تَكُونُ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ أَيْضًا) بِأَنْ يُحِيلَهُ بِدَيْنِهِ الَّذِي لَهُ عَلَى فُلَانٍ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَصَارَتْ الْمُقَيَّدَةُ بِالتَّفْصِيلِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: مُقَيَّدَةٌ بِعَيْنِ أَمَانَةٍ، وَبِعَيْنٍ مَضْمُونَةٍ، وَبِدَيْنٍ خَاصٍّ (وَحُكْمُ الْمُقَيَّدَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ) أَعْنِي الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ (أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ) بِذَلِكَ الْعَيْنِ وَلَا بِذَلِكَ الدَّيْنِ

ص: 248

لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحْتَالِ عَلَى مِثَالِ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحِيلِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ لَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَهِيَ حَقُّ الْمُحْتَالِ.

لِأَنَّ الْحَوَالَةَ) لَمَّا قُيِّدَتْ بِهَا (تَعَلَّقَ حَقُّ الطَّالِبِ بِهِ) وَهُوَ اسْتِيفَاءُ دَيْنِهِ مِنْهُ (عَلَى مِثَالِ الرَّهْنِ) وَأَخْذُ الْمُحِيلِ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ فَلَا يَجُوزُ؛ فَلَوْ دَفَعَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْعَيْنَ أَوْ الدَّيْنَ إلَى الْمُحِيلِ ضَمِنَهُ لِلطَّالِبِ فَإِنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحْتَالِ كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَ الرَّهْنَ أَحَدٌ يَضْمَنُهُ لِلْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ.

وَلَمَّا كَانَ تَشْبِيهُ الْمُصَنِّفِ بِالرَّهْنِ يَتَبَادَرُ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمُحِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ غَيْرُ دَيْنِ الْمُحْتَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ الْمُحْتَالُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ الَّذِي أُحِيلَ بِهِ أَوْ الْعَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ (وَإِنْ كَانَ) أَيْ الْمُحْتَالُ (أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ) فِيهِ (بَعْدَ مَوْتِ الْمُحِيلِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ) لِلْمُحِيلِ (حَقُّ الْمُطَالَبَةِ) بِمَا أَحَالَ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ الْمُعَيَّنِ (فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَ) الْوَاقِعُ (أَنَّهَا حَقُّ الْمُحْتَالِ) فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُ، وَتُرِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْمُحَالِ بِهِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا، وَالْفَرْقُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَقُّ الْمُحْتَالِ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ الْمَخْصُوصَةِ أَوْ الدَّيْنِ كَمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الدَّائِنِ بِالرَّهْنِ الْمُعَيَّنِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ يَدٌ وَلَا مِلْكٌ وَالْمُرْتَهِنُ لَهُ يَدٌ ثَابِتَةٌ مَعَ الِاسْتِحْقَاقِ فَكَانَ لَهُ زِيَادَةُ اخْتِصَاصٍ، وَإِذَا كَانَ الْمُحْتَالُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فَلَوْ قُسِّمَ ذَلِكَ الدَّيْنُ أَوْ الْعَيْنُ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ وَأَخَذَ الْمُحْتَالُ حِصَّتَهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِتَقَيُّدِ الْحَوَالَةِ بِذَلِكَ الْمُقْسَمِ. هَذَا وَمِنْ أَحْكَامِ الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالدَّيْنِ أَوْ الْعَيْنِ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْمُحْتَالُ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ وَكَانَ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِدَيْنِهِ، وَلَوْ وَهَبَ الْمُحْتَالُ دَيْنَهُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَوْ مَاتَ الْمُحْتَالُ لَهُ وَوَرِثَهُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ.

وَالْفَرْقُ أَنَّ الْهِبَةَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، وَكَذَا الْإِرْثُ، فَمَلَكَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِالْهِبَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِالْأَدَاءِ، وَلَوْ أَدَّى لَا يَرْجِعُ الْمُحِيلُ عَلَيْهِ، فَكَذَا إذَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ، بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَوْضُوعٌ لِلْإِسْقَاطِ فَلَا يَمْلِكُ بِهِ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا خَرَجَ بِهِ عَنْ ضَمَانِهِ لِلْمُحْتَالِ دَيْنُهُ وَهُوَ الشَّاغِلُ لِدَيْنِ الْمُحِيلِ فَبَقِيَ دَيْنُ الْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِلَا شَاغِلٍ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ

ص: 249

بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّهِ بِهِ بَلْ بِذِمَّتِهِ فَلَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ بِأَخْذِ مَا عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَهُ.

قَالَ (وَيُكْرَهُ السَّفَاتِجُ وَهِيَ قَرْضٌ اسْتَفَادَ بِهِ الْمُقْرِضُ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ) وَهَذَا نَوْعُ نَفْعٍ اُسْتُفِيدَ بِهِ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا» .

(كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي)

وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ) يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ لَا يَمْلِكُ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِالْعَيْنِ الْمُحَالِ بِهِ وَالدَّيْنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَوَالَةَ قِسْمَانِ، مُقَيَّدَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمُطْلَقَةٌ.

وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْمُحِيلُ لِلطَّالِبِ أَحَلْتُك بِالْأَلْفِ الَّتِي لَك عَلَى هَذَا الرَّجُلِ وَلَمْ يَقُلْ لِيُؤَدِّيَهَا مِنْ الْمَالِ الَّذِي لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا أَحَالَ كَذَلِكَ وَلَهُ عِنْدَ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَدِيعَةٌ أَوْ مَغْصُوبَةٌ أَوْ دَيْنٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الشَّأْنُ (لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّ الْمُحْتَالِ بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْعَيْنِ أَوْ الدَّيْنِ لِوُقُوعِهَا مُطْلَقَةً عَنْهُ (بَلْ بِذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ) وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ (فَيَأْخُذُ دَيْنَهُ أَوْ عَيْنَهُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ) وَمَا عَلَيْهِ يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ أَوْ الْغَصْبِ أَوْ عِنْدَهُ يَرْجِعُ إلَى الْوَدِيعَةِ. وَمِنْ الْمُطْلَقَةِ أَنْ يُحِيلَ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ وَلَا عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَتَنْقَسِمُ الْمُطْلَقَةُ إلَى حَالَّةٍ وَمُؤَجَّلَةٍ. فَالْحَالَّةُ أَنْ يُحِيلَ الطَّالِبُ بِأَلْفٍ وَهِيَ عَلَى الْمُحِيلِ حَالَّةٌ فَتَكُونُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ حَالَّةً لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لِتَحْوِيلِ الدَّيْنِ فَيَتَحَوَّلُ بِالصِّفَةِ الَّتِي هِيَ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَيْسَ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ، وَلَكِنْ لَهُ إذَا لُوزِمَ أَنْ يُلَازِمَهُ، وَإِذَا حُبِسَ أَنْ يَحْبِسَهُ.

وَالْمُطْلَقَةُ الْمُؤَجَّلَةُ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفٌ إلَى سَنَةٍ فَأَحَالَ الطَّالِبُ عَلَيْهِ إلَى سَنَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ إلَى سَنَةٍ؛ وَلَوْ حَصَلَتْ الْحَوَالَةُ مُبْهَمَةً لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ، وَقَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ مُؤَجَّلَةً كَمَا فِي الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ مَا عَلَى الْأَصِيلِ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ، فَلَوْ مَاتَ الْمُحِيلُ لَمْ يَحِلَّ الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حُلُولَ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْأَجَلِ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ حَيٌّ مُحْتَاجٌ إلَى الْأَجَلِ، وَلَوْ حَلَّ عَلَيْهِ إنَّمَا يَحِلُّ بِنَاءً عَلَى حُلُولِهِ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ الْأَصِيلَ بَرِيءٌ عَنْ الدَّيْنِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْتَحَقَ بِالْأَجَانِبِ؛ وَلَوْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْأَجَلِ وَالْمُحِيلُ حَيٌّ حَلَّ الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْأَجَلِ بِمَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً رَجَعَ الطَّالِبُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَى أَجَلِهِ لِأَنَّ الْأَجَلَ سَقَطَ حُكْمًا لِلْحَوَالَةِ وَقَدْ اُنْتُقِضَتْ الْحَوَالَةُ بِمَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَيُنْتَقَضُ مَا فِي ضِمْنِهَا وَهُوَ سُقُوطُ الْأَجَلِ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْمَدْيُونُ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ عَبْدًا مِنْ الطَّالِبِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ عَادَ الْأَجَلُ لِأَنَّ سُقُوطَ الْأَجَلِ كَانَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ وَقَدْ اُنْتُقِضَ كَذَا هُنَا.

(قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ السَّفَاتِجُ) جَمْعُ سَفْتَجَةٍ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ التَّاءِ وَهُوَ تَعْرِيبُ سُفْتَهَ وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُحْكَمُ، سُمِّيَ هَذَا الْقَرْضُ بِهِ لِإِحْكَامِ أَمْرِهِ. وَصُورَتُهُ أَنْ يَدْفَعَ فِي بَلْدَةٍ إلَى مُسَافِرٍ قَرْضًا لِيَدْفَعَهُ إلَى صَدِيقِهِ أَوْ وَكِيلِهِ مَثَلًا فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى لِيَسْتَفِيدَ بِهِ أَمْرَ خَطَرِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا، رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ حَمْزَةَ، أَنْبَأَنَا سَوَّارُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ عُمَارَةَ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: سَمِعْت عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا

ص: 250

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَهُوَ رِبًا» وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِسَوَّارِ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: مَتْرُوكٌ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ.

وَرَوَاهُ أَبُو الْجَهْمِ فِي جُزْئِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ سَوَّارٍ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سُمْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «السُّفْتَجَاتُ حَرَامٌ» وَأَعَلَّهُ بِعَمْرِو بْنِ مُوسَى بْنِ وَجِيهٍ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَعِينٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ. وَأَحْسَنُ مَا هُنَا مَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنِّفِهِ: حَدَّثَنَا خَالِدُ الْأَحْمَرُ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ كُلَّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً.

وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى وَغَيْرِهَا: إنْ كَانَ السَّفْتَجُ مَشْرُوطًا فِي الْقَرْضِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَالْقَرْضُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا جَازَ. وَصُورَةُ الشَّرْطِ مَا فِي الْوَاقِعَاتِ رَجُلٌ أَقْرَضَ رَجُلًا مَالًا عَلَى أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِهِ إلَى بَلَدِ كَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَقْرَضَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَكَتَبَ جَازَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ اُكْتُبْ لِي سَفْتَجَةً إلَى مَوْضِعِ كَذَا عَلَى أَنْ أُعْطِيَك هُنَا فَلَا خَيْرَ فِيهِ. وَفِي كِفَايَةِ الْبَيْهَقِيّ: سَفَاتِجُ التُّجَّارِ مَكْرُوهَةٌ، ثُمَّ قَالَ: إلَّا أَنْ يُقْرِضَ مُطْلَقًا ثُمَّ يَكْتُبَ السُّفْتَجَةَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَضَاهُ بِأَحْسَنَ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ لَا يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا قَالُوا: إنَّمَا يَحِلُّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ يُفْعَلُ لِذَلِكَ فَلَا.

وَاَلَّذِي يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ فِي ظِلِّ جِدَارِ غَرِيمِهِ فَلَا أَصْلَ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ انْتِفَاعًا بِمِلْكِهِ، كَيْفَ وَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا وَلَا مُتَعَارَفًا، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْقُدُورِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هُنَا لِأَنَّهَا مُعَامَلَةٌ فِي الدُّيُونِ كَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي)

لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْمُنَازَعَاتِ فِي الدُّيُونِ وَالْبِيَاعَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ مُحْتَاجَةً إلَى قَطْعِهَا أَعْقَبَهَا بِمَا هُوَ الْقَاطِعُ لَهَا وَهُوَ الْقَضَاءُ. وَالْأَدَبُ الْخِصَالُ الْحَمِيدَةُ وَالْقَاضِي مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَأَفَادَهَا، وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ مَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَهُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ؛ وَسُمِّيَتْ الْخِصَالُ الْحَمِيدَةُ أَدَبًا لِأَنَّهَا تَدْعُو إلَى الْخَيْرِ، وَالْأَدَبُ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْأَدْبِ بِسُكُونِ الدَّالِ هُوَ الْجَمْعُ

ص: 251

قَالَ (وَلَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الْمُوَلَّى شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ وَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ يُسْتَقَى مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ

وَالدُّعَاءُ، وَهُوَ أَنْ تَجْمَعَ النَّاسَ وَتَدْعُوَهُمْ إلَى طَعَامِك، يُقَالُ مِنْهُ أَدَبَ زَيْدٌ يَأْدِبُ أَدْبًا بِوَزْنِ ضَرَبَ يَضْرِبُ ضَرْبًا إذَا دَعَاك إلَى طَعَامِهِ فَهُوَ آدِبٌ، وَالْمَأْدُبَةُ الطَّعَامُ الْمَصْنُوعُ الْمَدْعُوُّ إلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ يَمْدَحُ قَوْمَهُ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ:

وَرِثُوا السُّؤْدُدَ عَنْ آبَائِهِمْ

ثُمَّ سَادُوا سُؤْدُدًا غَيْرَ زُمَرْ

نَحْنُ فِي الْمَشْتَاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى

لَا تَرَى الْآدِبَ فِينَا يَنْتَقِرْ

وَمِنْهُ مَا ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدَبَةُ اللَّهِ، فَمَنْ دَخَلَ فِيهِ فَهُوَ آمِنٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا مَأْدَبَةُ اللَّهِ فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدَبَتِهِ، بِفَتْحِ الدَّالِ: أَيْ تَأْدِيبِهِ، وَكَانَ الْأَحْمَرُ يَجْعَلُهُمَا لُغَتَيْنِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ هَذَا غَيْرَهُ. وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُسْتَعْمَلُ لَمَعَانٍ كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى الْخَتْمِ وَالْفَرَاغِ مِنْ الْأَمْرِ: يَعْنِي بِإِكْمَالِهِ. وَفِي الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الْإِلْزَامُ، وَيُقَالُ لَهُ الْحُكْمُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْعِ الظَّالِمِ عَنْ الظُّلْمِ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي رَأْسِ الْفَرَسِ. .

وَأَمَّا وَصْفُ الْقَضَاءِ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلَوْ امْتَنَعَ الْكُلُّ أَثِمُوا هَذَا إذَا كَانَ السُّلْطَانُ لَا يَفْصِلُ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَأْثَمُوا كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ، وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يُكْرِهَ مَنْ يَعْلَمُ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إيصَالِ الْحُقُوقِ إلَى أَرْبَابِهَا بِإِلْزَامِ الْمَانِعِينَ مِنْهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْقَضَاءِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَقَبْلَهُ صلى الله عليه وسلم دَاوُد بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} «وَبَعَثَ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا قَاضِيًا عَلَى الْيَمَنِ وَمُعَاذًا وَقَالَ لَهُ: بِمَ تَقْضِي؟ فَقَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ، قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ، قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي فَأَقَرَّهُ» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ.

(قَوْلُهُ لَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْقَاضِي حَتَّى يَجْتَمِعَ فِي الْمَوْلَى شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ وَيَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ. وَذَكَرَ الْمَوْلَى عَلَى لَفْظِ الْمَفْعُولِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ أَلْقَى عَلَيْهِ الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ لَهُ مِنْهُ كَمَا هُوَ الْأَوْلَى (أَمَّا الْأَوَّلُ) وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ (فَلِأَنَّ حُكْمَ الْقَضَاءِ يُسْتَقَى مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَةِ) يَعْنِي: كُلٌّ مِنْ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ

ص: 252

لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ يَكُونُ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ وَمَا يُشْتَرَطُ لِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ يُشْتَرَطُ لِأَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ.

وَالْفَاسِقُ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ قُلِّدَ يَصِحُّ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ كَمَا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ،

يَسْتَمِدُّ مِنْ سِرٍّ وَاحِدٍ هُوَ شُرُوطُ الشَّهَادَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ وَكَوْنِهِ غَيْرَ أَعْمَى وَلَا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، وَالْكَمَالُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عَفِيفًا عَالِمًا بِالسُّنَّةِ وَبِطَرِيقِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْقُضَاةِ.

[فَرْعٌ]

قُلِّدَ عَبْدٌ فَعَتَقَ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ بِتِلْكَ الْوِلَايَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى تَجْدِيدٍ، كَمَا لَوْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ حَالَ الرِّقِّ ثُمَّ عَتَقَ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْقَضَاءِ. وَذَكَرَ بَعْدَ وَرَقَةٍ: لَوْ قُلِّدَ قَضَاءُ مِصْرَ لِصَبِيٍّ فَأَدْرَكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَلَوْ قُلِّدَ كَافِرٌ الْقَضَاءَ فَأَسْلَمَ قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ عَلَى قَضَائِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَوْلِيَةٍ ثَانِيَةٍ فَصَارَ الْكَافِرُ كَالْعَبْدِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَهُ وِلَايَةٌ وَبِهِ مَانِعٌ، وَبِالْعِتْقِ وَالْإِسْلَامِ يَرْتَفِعُ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ أَصْلًا. وَمَا فِي الْفُصُولِ: لَوْ قَالَ لِصَبِيٍّ أَوْ كَافِرٍ إذَا أَدْرَكْت فَصَلِّ بِالنَّاسِ أَوْ اقْضِ بَيْنَهُمْ جَازَ لَا يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ فِي الصَّبِيِّ، لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ الْوِلَايَةِ وَالْمُعَلَّقُ مَعْدُومٌ قَبْلَ الشَّرْطِ، وَمَا تَقَدَّمَ تَنْجِيزٌ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ وِلَايَةُ الصَّبِيِّ قَاضِيًا لَا يَصِحُّ سُلْطَانًا، فَمَا فِي زَمَانِنَا مِنْ تَوْلِيَةِ ابْنٍ صَغِيرٍ لِلسُّلْطَانِ إذَا مَاتَ فَقَدْ سَأَلَهُ فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ وَصَرَّحَ بِعَدَمِ وِلَايَتِهِ وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاتِّفَاقُ عَلَى وَالٍ عَظِيمٍ يَصِيرُ سُلْطَانًا، وَتَقْلِيدُ الْقَضَاءِ مِنْهُ غَيْرَ أَنَّهُ يُعِدُّ نَفْسَهُ تَبَعًا لِابْنِ السُّلْطَانِ تَعْظِيمًا وَهُوَ السُّلْطَانُ فِي الْحَقِيقَةِ انْتَهَى. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدٍ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا إنْ عَزَلَ ذَلِكَ الْوَالِي الْعَظِيمُ نَفْسَهُ مِنْ السَّلْطَنَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَنْعَزِلُ إلَّا بِعَزْلِهِ نَفْسَهُ وَهَذَا غَيْرُ وَاقِعٍ. وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ إلَّا لِلْقَضَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالدِّمَاءِ فَتَقْضِي الْمَرْأَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِيهِمَا.

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَضَاءِ الْفَاسِقِ، فَأَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَعَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ فِي النَّوَادِرِ مِثْلُهُ، لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ قَالَ: اجْتِمَاعُ هَذِهِ الشُّرُوطِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالِاجْتِهَادِ وَغَيْرِهِمَا مُتَعَذِّرٌ فِي عَصْرِنَا لِخُلُوِّ الْعَصْرِ عَنْ الْمُجْتَهِدِ وَالْعَدْلِ، فَالْوَجْهُ تَنْفِيذُ قَضَاءِ كُلِّ مَنْ وَلَّاهُ السُّلْطَانُ ذُو شَوْكَةٍ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَاسِقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا، فَلَوْ قُلِّدَ الْجَاهِلُ الْفَاسِقُ صَحَّ وَيُحْكَمُ بِفَتْوَى غَيْرِهِ وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الرَّعِيَّةِ عَدْلٌ عَالِمٌ لَا يَحِلُّ تَوْلِيَةُ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَوْ وُلِّيَ صَحَّ عَلَى مِثَالِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ لَا يَحِلُّ قَبُولُهَا، وَإِنْ قَبِلَ نَفَّذَ الْحُكْمَ بِهَا، وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ذَكَرَ الْأَوْلَوِيَّةَ: يَعْنِي الْأَوْلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ قَبِلَ جَازَ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنْ

ص: 253

وَلَوْ قَبِلَ جَازَ عِنْدَنَا.

وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا فَفَسَقَ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَنْعَزِلُ وَيَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا رحمهم الله.

لَا يَحِلُّ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا فَإِنْ قَضَى جَازَ وَنَفَذَ.

(وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا) قَبْلَ الْوِلَايَةِ فَوُلِّيَ (فَفَسَقَ) وَجَازَ (بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ وَغَيْرِهَا) مِنْ أَسْبَابِ الْفِسْقِ (لَا يَنْعَزِلُ وَيَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا) الْبُخَارِيُّونَ وَالسَّمَرْقَنْدِيُّونَ وَمَعْنَى يَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ عَزْلُهُ ذَكَرَهُ فِي الْفُصُولِ. وَقِيلَ إذَا وُلِّيَ عَدْلًا ثُمَّ فَسَقَ انْعَزَلَ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ فِي مَعْنَى الْمَشْرُوطَةِ فِي وِلَايَتِهِ، لِأَنَّهُ حِينَ وَلَّاهُ عَدْلًا اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مُقَيَّدَةً بِعَدَالَتِهِ فَتَزُولُ بِزَوَالِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ لَزِمَ ذَلِكَ انْعَزَلَ فَإِنَّ الْوِلَايَةَ تَقْبَلُ التَّقْيِيدَ وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ إذَا وَصَلْت إلَى بَلْدَةِ كَذَا فَأَنْتَ قَاضِيهَا، وَإِذَا وَصَلْت إلَى مَكَّةَ فَأَنْتَ أَمِيرُ الْمَوْسِمِ، وَالْإِضَافَةُ كَأَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُك قَاضِيًا فِي رَأْسِ الشَّهْرِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا كَأَنْ يَقُولَ جَعَلْتُك قَاضِيًا إلَّا فِي قَضِيَّةِ فُلَانٍ أَوْ لَا تَنْظُرُ فِي قَضِيَّةِ كَذَا، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ اخْتِيَارِ وِلَايَتِهِ لِصَلَاحِهِ تَقْيِيدُهَا بِهِ عَلَى وَجْهٍ تَزُولُ بِزَوَالِهِ فَلَا يَنْعَزِلُ.

وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ انْدَفَعَ الْمُوَرِّدُ مِنْ أَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَفِي الِابْتِدَاءِ يَجُوزُ وِلَايَةُ الْفَاسِقِ، فَفِي الْبَقَاءِ لَا يَنْعَزِلُ. وَاتَّفَقُوا فِي الْإِمْرَةِ وَالسَّلْطَنَةِ عَلَى عَدَمِ الِانْعِزَالِ بِالْفِسْقِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ.

ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ الْإِمَارَةِ وَإِضَافَتِهَا «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَعَثَ الْبَعْثَ إلَى مُؤْتَةَ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ أَمِيرُكُمْ وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ» وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهَا جَمِيعُ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي. ثُمَّ الرِّشْوَةُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: مِنْهَا مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ وَالْمُعْطِي وَهُوَ الرِّشْوَةُ عَلَى تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ لَا يَصِيرُ قَاضِيًا. الثَّانِي ارْتِشَاءُ الْقَاضِي لِيَحْكُمَ وَهُوَ كَذَلِكَ حَرَامٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ثُمَّ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا سَوَاءٌ كَانَ بِحَقٍّ أَوْ بِبَاطِلٍ. أَمَّا فِي الْحَقِّ فَلِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَلَا يَحِلُّ أَخْذُ الْمَالِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا فِي الْبَاطِلِ فَأَظْهَرُ.

وَحُكِيَ فِي الْفُصُولِ فِي نَفَاذِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِيمَا ارْتَشَى فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: لَا يَنْفُذُ فِيمَا ارْتَشَى فِيهِ، وَيَنْفُذُ فِيمَا سِوَاهُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ، لَا يَنْفُذُ فِيهِمَا، يَنْفُذُ فِيهِمَا، وَهُوَ مَا ذَكَرَ الْبَزْدَوِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ لِأَنَّ حَاصِلَ أَمْرِ الرِّشْوَةِ فِيمَا إذَا قَضَى بِحَقٍّ أَجَابَهَا فِسْقُهُ وَقَدْ فُرِضَ أَنَّ الْفِسْقَ لَا يُوجِبُ الْعَزْلَ

ص: 254

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْفَاسِقُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُ، وَعَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رحمهم الله فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رحمهم الله: إذَا قُلِّدَ الْفَاسِقُ ابْتِدَاءً يَصِحُّ، وَلَوْ قُلِّدَ وَهُوَ عَدْلٌ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ لِأَنَّ الْمُقَلَّد اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِتَقْلِيدِهِ دُونَهَا.

وَهَلْ يَصْلُحُ الْفَاسِقُ مُفْتِيًا؟ قِيلَ لَا لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ

فَوِلَايَتُهُ قَائِمَةٌ وَقَضَاؤُهُ بِحَقٍّ فَلِمَ لَا يَنْفُذُ، وَخُصُوصُ هَذَا الْفِسْقِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَغَايَةُ مَا وُجِّهَ بِهِ أَنَّهُ إذَا ارْتَشَى عَامِلٌ لِنَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ يَعْنِي وَالْقَضَاءُ عَمَلُ اللَّهِ تَعَالَى وَارْتِشَاءُ الْقَاضِي أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَوْ بَعْضِ أَعْوَانِهِ سَوَاءٌ إذَا كَانَ بِعِلْمِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرْتَشِيَ ثُمَّ يَقْضِيَ أَوْ يَقْضِيَ ثُمَّ يَرْتَشِيَ، وَفِيهِ لَوْ أَخَذَ الرِّشْوَةَ ثُمَّ بَعَثَ إلَى شَافِعِيٍّ لِيَقْضِيَ لَا يَنْفُذُ قَضَاءُ الثَّانِي، لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَمِلَ فِي هَذَا لِنَفْسِهِ حِينَ أَخَذَ الرِّشْوَةَ وَإِنْ كَانَ كَتَبَ إلَى الثَّانِي لِيَسْمَعَ الْخُصُومَةَ وَأَخَذَ مِثْلَ أَجْرِ الْكِتَابِ صَحَّ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ، وَاَلَّذِي قُلِّدَ بِوَاسِطَةِ الشُّفَعَاءِ كَاَلَّذِي قُلِّدَ احْتِسَابًا فِي أَنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ طَلَبُ الْوِلَايَةِ بِالشُّفَعَاءِ.

الثَّالِثُ: أَخَذَ الْمَالَ لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ أَوْ جَلْبًا لِلنَّفْعِ وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْآخَرِ لَا الدَّافِعِ، وَحِيلَةُ حِلِّهَا لِلْآخِذِ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ أَوْ يَوْمَيْنِ فَتَصِيرَ مَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةً ثُمَّ يَسْتَعْمِلَهُ فِي الذَّهَابِ إلَى السُّلْطَانِ لِلْأَمْرِ الْفُلَانِيِّ. وَفِي الْأَقْضِيَةِ قَسَّمَ الْهَدِيَّةَ وَجَعَلَ هَذَا مِنْ أَقْسَامِهَا فَقَالَ: حَلَالٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْإِهْدَاءِ لِلتَّوَدُّدِ. وَحَرَامٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْإِهْدَاءِ لِيُعِينَهُ عَلَى الظُّلْمِ، حَلَالٌ مِنْ جَانِبِ الْمُهْدِي حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ وَهُوَ أَنْ يُهْدِيَ لِيَكُفَّ عَنْهُ الظُّلْمُ. وَالْحِيلَةُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ إلَخْ، قَالَ: هَذَا إذَا كَانَ فِيهِ شَرْطٌ، أَمَّا إذَا كَانَ الْإِهْدَاءُ بِلَا شَرْطٍ وَلَكِنْ يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ إنَّمَا يُهْدِي إلَيْهِ لِيُعِينَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ فَمَشَايِخُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَوْ قَضَى حَاجَتَهُ بِلَا شَرْطٍ وَلَا طَمَعٍ فَأَهْدَى إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ حَلَالٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ كَرَاهَتِهِ فَوَرَعٌ. الرَّابِعُ مَا يُدْفَعُ لِدَفْعِ الْخَوْفِ مِنْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ حَلَالٌ لِلدَّافِعِ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ، لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْمَالِ لِيَفْعَلَ الْوَاجِبَ.

(وَهَلْ يَصْلُحُ الْفَاسِقُ مُفْتِيًا قِيلَ لَا لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ) وَقَدْ

ص: 255

وَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الدِّيَانَاتِ، وَقِيلَ يَصْلُحُ لِأَنَّهُ يَجْتَهِدُ كُلَّ الْجَهْدِ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ حَذَارِ النِّسْبَةِ إلَى الْخَطَإِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالصَّحِيحُ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ.

ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ لِلدِّينِ (وَقِيلَ يُسْتَفْتَى لِأَنَّهُ يَجْتَهِدُ كُلَّ الْجَهْدِ حَذَارِ أَنْ يَنْسُبَهُ فُقَهَاءُ عَصْرِهِ إلَى الْخَطَإِ. وَأَمَّا الثَّانِي)

وَهُوَ اشْتِرَاطُ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ (فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْوِلَايَةِ بَلْ لِلْأَوْلَوِيَّةِ).

(فَأَمَّا تَقْلِيدُ الْجَاهِلِ فَصَحِيحٌ عِنْدَنَا) وَيُحْكَمُ بِفَتْوَى غَيْرِهِ (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَقَوْلُهُمْ رِوَايَةٌ عَنْ عُلَمَائِنَا نَصُّ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ، أَنَّ الْمُقَلَّدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ خِلَافُهُ. قَالُوا: الْقَضَاءُ يَسْتَدْعِي الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَلَا قُدْرَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ. قُلْنَا: يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِفَتْوَى غَيْرِهِ (وَمَقْصُودُ الْقَضَاءِ وَهُوَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ) وَرَفْعُ الظُّلْمِ (وَيَحْصُلُ بِهِ) فَاشْتِرَاطُهُ ضَائِعٌ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ لَيْسَ مَا يَقْطَعُ بِصَوَابِهِ بَلْ مَا يَظُنُّهُ الْمُجْتَهِدُ، فَإِنَّهُ لَا قَطْعَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ، وَإِذَا قَضَى بِقَبُولِ مُجْتَهِدٍ فِيهِ فَقَدْ قَضَى بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَكَوْنُ مُعَاذٍ قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي لَا يَلْزَمُهُ اشْتِرَاطُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ مُعَاذٌ الْإِجْمَاعَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا عَنْ الْغَزَالِيِّ تَوْجِيهَ خِلَافَهُ فَيُقَلَّدُ فِي هَذَا الزَّمَانِ. فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ: الِاسْتِدْلَال عَلَى تَقْلِيدِ الْمُقَلِّدِ بِتَقْلِيدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا الْيَمَنَ وَلَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام دَعَا لَهُ بِأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ قَلْبَهُ وَيُثَبِّتَ لِسَانَهُ. فَإِنْ كَانَ بِهَذَا الدُّعَاءِ رُزِقَ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ فَلَا إشْكَالَ، وَإِلَّا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ الْعِلْمُ وَالسَّدَادُ، وَهَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ فِي غَيْرِهِ، وَسَنَذْكُرُ سَنَدَ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقَاضِي ذُكِرَ فِي الْمُفْتِي فَلَا يُفْتِي إلَّا الْمُجْتَهِدُ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ مِمَّنْ يَحْفَظُ أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ بِمُفْتٍ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إذَا سُئِلَ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ كَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ، فَعُرِفَ أَنَّ مَا يَكُونُ فِي زَمَانِنَا مِنْ فَتْوَى الْمَوْجُودِينَ لَيْسَ بِفَتْوَى، بَلْ هُوَ نَقْلُ كَلَامِ الْمُفْتِي لِيَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَفْتِي، وَطَرِيقُ نَقْلِهِ كَذَلِكَ عَنْ الْمُجْتَهِدِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ سَنَدٌ إلَيْهِ أَوْ يَأْخُذَهُ مِنْ كِتَابٍ مَعْرُوفٍ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي، نَحْوُ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَنَحْوُهَا مِنْ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ لِلْمُجْتَهِدِينَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْهُمْ أَوْ الْمَشْهُورِ، وَشَهِدَ هَكَذَا ذِكْرُ الرَّازِيّ فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدْنَا بَعْضَ نُسَخِ النَّوَادِرِ فِي زَمَانِنَا لَا يَحِلُّ عُزُوُّ مَا فِيهَا إلَى مُحَمَّدٍ وَلَا إلَى أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْتَهَرْ فِي عَصْرِنَا فِي دِيَارِنَا وَلَمْ تُتَدَاوَلْ. نَعَمْ إذَا وُجِدَ النَّقْلُ عَنْ النَّوَادِرِ مَثَلًا فِي كِتَابٍ مَشْهُورٍ مَعْرُوفٍ كَالْهِدَايَةِ وَالْمَبْسُوطِ كَانَ ذَلِكَ تَعْوِيلًا عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ،

ص: 256

فَأَمَّا تَقْلِيدُ الْجَاهِلِ فَصَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَهُوَ يَقُولُ: إنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ يَسْتَدْعِي الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَلَا قُدْرَةَ دُونَ الْعِلْمِ. وَلَنَا أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِفَتْوَى غَيْرِهِ، وَمَقْصُودُ الْقَضَاءِ يَحْصُلُ بِهِ وَهُوَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ.

فَلَوْ كَانَ حَافِظًا لِلْأَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفَةِ لِلْمُجْتَهِدِينَ وَلَا يَعْرِفُ الْحُجَّةَ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ لِلتَّرْجِيحِ لَا يَقْطَعُ بِقَوْلٍ مِنْهَا يُفْتِي بِهِ، بَلْ يَحْكِيهَا لِلْمُسْتَفْتِي فَيَخْتَارُ الْمُسْتَفْتِي مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ الْأَصْوَبُ ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الْجَوَامِعِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حِكَايَةُ كُلِّهَا بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَحْكِيَ قَوْلًا مِنْهَا فَإِنَّ الْمُقَلِّدَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ أَيَّ مُجْتَهِدٍ شَاءَ، فَإِذَا ذَكَرَ أَحَدَهَا فَقَلَّدَهُ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، نَعَمْ لَا يَقْطَعُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ جَوَابُ مَسْأَلَتِك كَذَا بَلْ يَقُولُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ حُكْمُ هَذَا كَذَا، نَعَمْ لَوْ حَكَى الْكُلَّ فَالْأَخْذُ بِمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ الْأَصْوَبُ أَوْلَى.

وَالْعَامِّيُّ لَا عِبْرَةَ بِمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ صَوَابِ الْحُكْمِ وَخَطَئِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَفْتَى فَقِيهَيْنِ: أَعْنِي مُجْتَهِدَيْنِ فَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ الْأَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِمَا يَمِيلُ إلَيْهِ قَلْبُهُ مِنْهُمَا. وَعِنْدِي أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِقَوْلِ الَّذِي لَا يَمِيلُ إلَيْهِ قَلْبُهُ جَازَ لِأَنَّ مَيْلَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ وَقَدْ فَعَلَ أَصَابَ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ أَوْ أَخْطَأَ. وَقَالُوا الْمُنْتَقِلُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ آخَرَ بِاجْتِهَادٍ وَبُرْهَانٍ آثِمٌ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ فَبِلَا اجْتِهَادٍ وَبُرْهَانٍ أَوْلَى، وَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا الِاجْتِهَادِ مَعْنَى التَّحَرِّي وَتَحْكِيمِ الْقَلْبِ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ لَهُ اجْتِهَادٌ. ثُمَّ حَقِيقَةُ الِانْتِقَالِ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ خَاصَّةٍ قَلَّدَ فِيهِ وَعَمِلَ بِهِ، وَإِلَّا فَقَوْلُهُ قَلَّدْت أَبَا حَنِيفَةَ فِيمَا أَفْتَى مِنْ الْمَسَائِلِ مَثَلًا وَالْتَزَمْت الْعَمَلَ بِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ صُوَرَهَا لَيْسَ حَقِيقَةَ التَّقْلِيدِ بَلْ هَذَا حَقِيقَةُ تَعْلِيقِ التَّقْلِيدِ أَوْ وَعَدَ بِهِ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ

ص: 257

وَيَنْبَغِي لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ هُوَ الْأَقْدَرُ وَالْأَوْلَى لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ» .

يَعْمَلَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فِيمَا يَقَعُ لَهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَعَيَّنُ فِي الْوَقَائِعِ، فَإِنْ أَرَادُوا هَذَا الِالْتِزَامَ فَلَا دَلِيلَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْمُجْتَهِدِ الْمُعَيَّنِ بِإِلْزَامِهِ نَفْسَهُ ذَلِكَ قَوْلًا أَوْ نِيَّةً شَرْعًا، بَلْ الدَّلِيلُ اقْتَضَى الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ فِيمَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وَالسُّؤَالُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ طَلَبِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَحِينَئِذٍ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ وَجَبَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ بِهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ إلْزَامَاتٌ مِنْهُمْ لِكَفِّ النَّاسِ عَنْ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ وَإِلَّا أَخَذَ الْعَامِّيُّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ قَوْلُهُ أَخَفُّ عَلَيْهِ. وَأَنَا لَا أَدْرِي مَا يَمْنَعُ هَذَا مِنْ النَّقْلِ أَوْ الْعَقْلِ وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ يَتَّبِعُ مَا هُوَ أَخَفُّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَوْلِ مُجْتَهِدٍ مُسَوَّغٌ لَهُ الِاجْتِهَادُ مَا عَلِمْت مِنْ الشَّرْعِ ذَمَّهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مَا خَفَّفَ عَنْ أُمَّتِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. .

(قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي لِلْمُقَلِّدِ) وَهُوَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّقْلِيدِ (أَنْ يَخْتَارَ مَنْ هُوَ أَقْدَرُ وَأَوْلَى) لِدِيَانَتِهِ وَعِفَّتِهِ وَقُوَّتِهِ دُونَ غَيْرِهِ وَيَرْزُقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مُثْرِيًا وَإِنْ احْتَسَبَ فَهُوَ أَفْضَلُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَالِ الْيَتِيمِ إذَا عَمِلَ فِيهِ الْوَصِيُّ {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَرْزُقُ سُلَيْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ عَلَى الْقَضَاءِ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ وَعِيَالُهُ عَلَيْهِمْ. قَالُوا: وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَرْزُقُ شُرَيْحًا كُلَّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَرَزَقَهُ عَلِيٌّ خَمْسِمِائَةٍ وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عِيَالِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه، أَوْ رُخْصِ السِّعْرِ وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَوْ غَلَاءِ السِّعْرِ، فَرِزْقُ الْقَاضِي لَا يُقَدَّرُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَجْرٍ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ عَلَى الْقَضَاءِ.

وَإِنَّمَا يَخْتَارُ الْأَوْلَى لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ» وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَتَعَقَّبَ بِحُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَضَعَّفَهُ الْعُقَيْلِيُّ وَقَالَ: إنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا مِنْ كَلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه. وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ حُسَيْنٍ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَوَلَّى مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ وَأَعْلَمُ مِنْهُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ» وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَيُّمَا رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى عَشَرَةِ أَنْفُسٍ وَعَلِمَ أَنَّ فِي الْعَشَرَةِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فَقَدْ غَشَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ» وَاَلَّذِي لَهُ وِلَايَةُ التَّقْلِيدِ الْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ الَّذِي نَصَّبَهُ الْخَلِيفَةُ

ص: 258

وَفِي حَدِّ الِاجْتِهَادِ كَلَامٌ عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَحَاصِلُهُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ لِيَعْرِفَ مَعَانِيَ الْآثَارِ أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَقِيلَ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ صَاحِبَ قَرِيحَةٍ

وَأَطْلَقَ لَهُ التَّصَرُّفَ، وَكَذَا الَّذِي وَلَّاهُ السُّلْطَانُ نَاحِيَةً وَجَعَلَ لَهُ خَرَاجَهَا وَأَطْلَقَ لَهُ التَّصَرُّفَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ وَيَعْزِلَ، كَذَا قَالُوا.

وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ لَا يُصَرِّحَ لَهُ بِالْمَنْعِ أَوْ يَعْلَمَ ذَلِكَ بِعُرْفِهِمْ فَإِنَّ نَائِبَ الشَّامِ وَحَلَبَ فِي دِيَارِنَا يُطْلِقُ لَهُمْ التَّصَرُّفَ فِي الرَّعِيَّةِ وَالْخَرَاجِ وَلَا يُوَلُّونَ الْقُضَاةَ وَلَا يَعْزِلُونَ، وَلَوْ وُلِّيَ فَحُكْمُ الْمُوَلَّى ثُمَّ جَاءَ بِكِتَابٍ لِلسُّلْطَانِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إمْضَاءً لِلْقَضَاءِ، وَالْحُرِّيَّةُ شَرْطٌ فِي السُّلْطَانِ وَفِي التَّقْلِيدِ بِالْأَصَالَةِ لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ إذَا أَمَّرَ عَبْدَهُ عَلَى نَاحِيَةٍ وَأَمَّرَهُ أَنْ يُنَصِّبَ الْقَاضِيَ جَازَ، فَإِنْ نَصَّبَهُ كَنَصْبِ السُّلْطَانِ بِنَفْسِهِ.

(قَوْلُهُ وَفِي حَدِّ الِاجْتِهَادِ كَلَامٌ عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَحَاصِلَهُ) الْكَلَامِ (أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ فِي الْفِقْهِ لِيَعْرِفَ مَعَانِيَ الْآثَارِ أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ عَلَى الْأَوَّلِ نِسْبَتُهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِالْفِقْهِ، وَفِي الثَّانِي عَكْسُهُ. ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ رَتَّبَ عَلَى الْأَوَّلِ كَوْنَهُ حِينَئِذٍ يَعْرِفُ مَعَانِيَ الْآثَارِ، وَالْمُرَادُ بِمَعَانِي الْآثَارِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مُنَاطَاةُ الْأَحْكَامِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا أَلْفَاظُ الْحَدِيثِ، وَعَلَى الثَّانِي سَلَامَتُهُ مِنْ الْقِيَاسِ مَعَ مُعَارَضَةِ النَّصِّ وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمَا قَوْلَانِ، وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا مُتَضَادَّانِ لِأَنَّ كَوْنَهُ أَدْرَى بِالْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ يُضَادُّ كَوْنَهُ أَدْرَى بِالْفِقْهِ مِنْ الْحَدِيثِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَحْتَاجُ إلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ تَحَرُّزُهُ مِنْ الْقِيَاسِ فِي مُعَارَضَةِ النَّصِّ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِي الْآثَارِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقِيَاسِ. فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ " صَاحِبَ حَدِيثٍ وَفِقْهٍ " لِيَعْرِفَ مَعَانِيَ الْآثَارِ، وَيَمْتَنِعَ عَنْ الْقِيَاسِ، بِخِلَافِ النَّصِّ. وَالْحَاصِلُ أَنْ يَعْلَمَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِأَقْسَامِهِمَا مِنْ عِبَارَتِهِمَا وَإِشَارَتِهِمَا وَدَلَالَتِهِمَا وَاقْتِضَائِهِمَا وَبَاقِي الْأَقْسَامِ نَاسِخِهِمَا وَمَنْسُوخِهِمَا وَمُنَاطَاةِ أَحْكَامِهِمَا وَشُرُوطِ الْقِيَاسِ وَالْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِجْمَاعِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَدِّمُهُ عَلَى الْقِيَاسِ فَلَا يَقِيسُ فِي مُعَارَضَةِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَيَعْلَمُ عُرْفَ النَّاسِ وَهَذَا قَوْلُهُ (وَقِيلَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ قَرِيحَةٍ إلَخْ) فَهَذَا الْقِيلُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْمُجْتَهِدِ، فَمَنْ أَتْقَنَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فَهُوَ أَهْلٌ لِلِاجْتِهَادِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِاجْتِهَادِهِ وَهُوَ أَنْ يَبْذُلَ جَهْدَهُ فِي طَلَبِ الظَّنِّ بِحُكْمٍ

ص: 259

يَعْرِفُ بِهَا عَادَاتِ النَّاسِ لِأَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهَا.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ لِمَنْ يَثِقُ بِنَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فَرْضَهُ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم تَقَلَّدُوهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةٌ، وَلِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِكَوْنِهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ.

شَرْعِيٍّ عَنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَلَا يُقَلِّدُ أَحَدًا.

(قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ لِمَنْ يَثِقُ بِنَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فَرْضَهُ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - تَقَلَّدُوا وَلِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِكَوْنِهِ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ) أَمَّا إنَّ الصَّحَابَةَ تَقَلَّدُوا فَحَدِيثُ مُعَاذٍ مَعْرُوفٌ. وَكَذَا عَلِيٌّ رضي الله عنهما لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَلِيٍّ قَالَ «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرْسِلُنِي وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ؟ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَك وَيُثَبِّتُ لِسَانَك، فَإِذَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْك الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِيَنَّ حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ كَمَا سَمِعْت مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ حَرِيٌّ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَك الْقَضَاءُ، قَالَ: فَمَا زِلْت قَاضِيًا أَوْ مَا شَكَكْت فِي قَضَاءٍ بَعْدُ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالطَّيَالِسِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَفِيهِ «فَضَرَبَ صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ، قَالَ: فَمَا شَكَكْت» الْحَدِيثَ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا رضي الله عنه إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: عَلِّمْهُمْ الشَّرَائِعَ وَاقْضِ بَيْنَهُمْ» الْحَدِيثَ، وَصَحَّحَهُ ثُمَّ قَلَّدَ عَلِيٌّ شُرَيْحًا الْإِمَامَ.

وَأَمَّا إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَقَدْ قَدَّمْنَاهُ، غَيْرَ أَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الدُّخُولُ فِيهِ مُسْتَحَبًّا؛ وَعِبَارَةُ لَا بَأْسَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْمُبَاحِ وَمَا تَرْكُهُ أَوْلَى. وَحَاصِلُ مَا هُنَا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ الْحَيْفَ: أَيْ الْجَوْرَ أَوْ عَدَمَ إقَامَةِ الْعَدْلِ كُرِهَ لَهُ الدُّخُولُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ لِأَنَّ الْغَالِبَ الْوُقُوعُ فِي مَحْظُورِهِ حِينَئِذٍ وَإِنْ أُمِنَ أُبِيحَ رُخْصَةً، وَالتَّرْكُ هُوَ الْعَزِيمَةُ لِأَنَّهُ وَإِنْ أُمِنَ فَالْغَالِبُ هُوَ خَطَأُ ظَنِّ مَنْ ظَنَّ مِنْ نَفْسِهِ الِاعْتِدَالَ فَيَظْهَرُ مِنْهُ خِلَافُهُ فَيُؤَخِّرُهُ عَنْ الِاسْتِحْبَابِ. هَذَا إذَا لَمْ تَنْحَصِرْ الْأَهْلِيَّةُ فِيهِ، وَإِنْ انْحَصَرَتْ صَارَ فَرْضَ عَيْنٍ وَعَلَيْهِ ضَبْطُ نَفْسِهِ، إلَّا إنْ كَانَ السُّلْطَانُ مِمَّنْ يُمْكِنُ أَنْ يَفْصِلَ الْخُصُومَاتِ وَيَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ جُعِلَ عَلَى الْقَضَاءِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ اُسْتُقْضِيَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْقُضَاةِ اسْتَخَفَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ دَعَا مَنْ يُسَوِّي لَهُ لِحْيَتَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ يَحْلِقُ لَهُ تَحْتَ لِحْيَتِهِ فِي حُلْقُومِهِ إذَا عَطَسَ الْقَاضِي فَأَلْقَى الْمُوسَى رَأْسَهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ الْقَضَاءِ آثَارٌ.

وَقَدْ اجْتَنَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَبَرَ عَلَى الضَّرْبِ وَالسَّجْنِ حَتَّى مَاتَ فِي السِّجْنِ وَقَالَ: الْبَحْرُ عَمِيقٌ فَكَيْفَ أَعْبُرُ بِالسِّبَاحَةِ؟ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْبَحْرُ عَمِيقٌ وَالسَّفِينَةُ وَثِيقٌ وَالْمَلَّاحُ عَالِمٌ. فَقَالَ

ص: 260

قَالَ (وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ فِيهِ لِمَنْ يَخَافُ الْعَجْزَ عَنْهُ وَلَا بَأْسَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَيْفُ فِيهِ) كَيْ لَا يَصِيرَ شَرْطًا لِمُبَاشَرَتِهِ الْقَبِيحَ، وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ الدُّخُولَ فِيهِ مُخْتَارًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " مَنْ جُعِلَ عَلَى الْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ "

أَبُو حَنِيفَةَ: كَأَنَّ بِك قَاضِيًا. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِ أَبِي قِلَابَةَ: مَا وَجَدْت الْقَاضِيَ إلَّا كَسَابِحٍ فِي بَحْرٍ فَكَمْ يَسْبَحُ حَتَّى يَغْرَقَ. وَكَانَ دُعِيَ لِلْقَضَاءِ فَهَرَبَ حَتَّى أَتَى الشَّامَ فَوَافَقَ مَوْتَ قَاضِيهَا، فَهَرَبَ حَتَّى أَتَى الْيَمَامَةَ. وَاجْتَنَبَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ. وَقُيِّدَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا لِيَتَقَلَّدَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ «عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ الْيَتِيمِ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ وَجَارٍ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفْ الْحَقَّ فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «يُدْعَى بِالْقَاضِي الْعَادِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي عُمُرِهِ» وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ وَلِيَ عَشَرَةً فَحَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَحَبُّوا أَوْ كَرِهُوا جِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ، فَإِنْ حَكَمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَمْ يَرْتَشِ فِي حُكْمِهِ وَلَمْ يَحِفْ فَكَّ اللَّهُ عَنْهُ غُلَّهُ، وَإِنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَارْتَشَى فِي حُكْمِهِ وَحَافَ فِيهِ شُدَّتْ يَسَارُهُ إلَى يَمِينِهِ ثُمَّ رُمِيَ بِهِ فِي جَهَنَّمَ» وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ مَكْحُولٍ: لَوْ خُيِّرْت بَيْنَ ضَرْبِ عُنُقِي وَبَيْنَ الْقَضَاءِ لَاخْتَرْت ضَرْبَ عُنُقِي.

وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ قَالَ: اُسْتُعْمِلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى الْقَضَاءِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ يُهَنُّونَهُ بِالْقَضَاءِ، فَقَالَ: أَتُهَنُّونَنِي بِالْقَضَاءِ وَقَدْ جُعِلْت عَلَى رَأْسٍ مَهْوَاةٍ مَنْزِلَتُهَا أَبْعَدُ مِنْ عَدَنَ وَأَبْيَنَ. وَأَمَّا مَا فِي الْبُخَارِيِّ «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ» فَلَا يُنَافِي مَجِيئُهُ أَوَّلًا مَغْلُولَةً يَدُهُ إلَى

ص: 261

وَالصَّحِيحُ أَنَّ الدُّخُولَ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ فَلَعَلَّهُ يُخْطِئُ ظَنُّهُ وَلَا يُوَفَّقُ لَهُ أَوْ لَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعَانَةِ إلَّا إذَا كَانَ هُوَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ دُونَ غَيْرِهِ فَحِينَئِذٍ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ التَّقَلُّدُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِخْلَاءً لِلْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ.

قَالَ (وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ وَلَا يَسْأَلَهَا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ» وَلِأَنَّ مَنْ طَلَبَهُ يَعْتَمِدُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَحْرُمُ، وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّهِ فَيُلْهَمُ.

عُنُقِهِ إلَى أَنْ يَفُكَّهَا عَدْلُهُ فَيُظِلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ فَلَا يُعَارَضُ.

. (قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ الْوِلَايَةَ وَلَا يَسْأَلَهَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ» إلَخْ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نُزِّلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ» وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد «مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ» وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ ابْتَغَى الْقَضَاءَ وَسَأَلَ فِيهِ شُفَعَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ» وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ إسْرَائِيلَ يُرِيدُ سَنَدَ الْأَوَّلِ، وَأَصَحُّ مِنْ الْكُلِّ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سُمْرَةَ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْت إلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا» وَإِذَا كَانَ طَلَبُ الْوِلَايَةِ أَنْ يُوكِلَ إلَى نَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَعْلُومٌ وُقُوعُ الْفَسَادِ مِنْهُ لِأَنَّهُ مَحْذُورٌ.

ص: 262

(ثُمَّ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْعَادِلِ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم تَقَلَّدُوهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه وَالْحَقُّ كَانَ بِيَدِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي نَوْبَتِهِ، وَالتَّابِعِينَ تَقَلَّدُوهُ مِنْ الْحَجَّاجِ وَكَانَ جَائِرًا إلَّا إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِحَقٍّ

قَوْلُهُ وَيَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْعَادِلِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم تَقَلَّدُوهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه وَالْحَقُّ كَانَ بِيَدِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي نَوْبَتِهِ، وَالتَّابِعِينَ تَقَلَّدُوا مِنْ الْحَجَّاجِ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِجَوْرِ مُعَاوِيَةَ، وَالْمُرَادُ فِي خُرُوجِهِ لَا فِي أَقْضِيَتِهِ، ثُمَّ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَلِيَ الْقَضَاءَ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْحَسَنِ لَهُ، وَأَمَّا بَعْدَ تَسْلِيمِهِ فَلَا، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْعَامُ عَامَ الْجَمَاعَةِ، وَاسْتَقْضَى مُعَاوِيَةُ أَبَا الدَّرْدَاءِ بِالشَّامِ وَبِهَا مَاتَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه اسْتَشَارَهُ فِيمَنْ يُوَلَّى بَعْدَهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِفُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ فَوَلَّاهُ الشَّامَ بَعْدَهُ. وَقَوْلُهُ فِي نَوْبَتِهِ: نَوْبَةُ عَلِيٍّ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ هِيَ كَوْنُهُ رَابِعًا بَعْدَ عُثْمَانَ، وَقَيَّدَ بِنَوْبَتِهِ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ الرَّوَافِضِ إنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِهَا فِي سَائِرِ النُّوَبِ حَتَّى مِنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَإِنَّمَا كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ فِي تِلْكَ النَّوْبَةِ لِصِحَّةِ بَيْعَتِهِ وَانْعِقَادِهَا فَكَانَ عَلَى الْحَقِّ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْجَمَلِ وَقِتَالِ مُعَاوِيَةَ بِصِفِّينَ. «وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِعَمَّارٍ سَتَقْتُلُك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» وَقَدْ قَتَلَهُ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُمْ بُغَاةٌ، " وَلَقَدْ أَظْهَرَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها النَّدَمَ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ قَالَ: قَالَتْ رضي الله عنها لِابْنِ عُمَرَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا مَنَعَك أَنْ تَنْهَانِي عَنْ مَسِيرِي؟ قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا غَلَبَ عَلَيْك: يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ: أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ نَهَيْتنِي مَا خَرَجْت ". . وَأَمَّا الْحَجَّاجُ فَحَالُهُ مَعْرُوفٌ فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ فَعَزَلَهُ الْحَجَّاجُ وَجَعَلَ أَخَاهُ مَكَانَهُ. وَأَسْنَدَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ ضَمْرَةَ قَالَ: اسْتَقْضَى الْحَجَّاجُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى وَأَجْلَسَ مَعَهُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، ثُمَّ قُتِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَاتَ الْحَجَّاجُ بَعْدَهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. . وَفِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ لِلْحَافِظِ أَبِي نُعَيْمٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْأُمَوِيِّ: وَلِيَ الْقَضَاءَ بِأَصْبَهَانَ لِلْحَجَّاجِ ثُمَّ عَزَلَهُ الْحَجَّاجُ وَأَقَامَ مَحْبُوسًا بِوَاسِطَ، فَلَمَّا هَلَكَ الْحَجَّاجُ رَجَعَ إلَى أَصْبَهَانَ وَتُوُفِّيَ بِهَا.

وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ فِي بَابِ الِاسْتِسْقَاءِ: طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ طَلْحَةُ النَّدَى ابْنُ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ مِنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ يَرْوِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنهم.

وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِحَقٍّ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ

ص: 263

لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّقَلُّدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ.

قَالَ (وَمَنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ يُسَلَّمُ إلَيْهِ دِيوَانُ الْقَاضِي الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ) وَهُوَ الْخَرَائِطُ الَّتِي فِيهَا السِّجِلَّاتُ وَغَيْرُهَا، لِأَنَّهَا وُضِعَتْ فِيهَا لِتَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ فَتُجْعَلُ فِي يَدِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ.

ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَيَاضُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْخُصُومِ فِي الصَّحِيحِ

يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ مِنْ التَّقَلُّدِ) حِينَئِذٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ. هَذَا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سُلْطَانٌ وَلَا مَنْ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْهُ كَمَا هُوَ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ كَقُرْطُبَةَ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ الْآنَ وَبَلَنْسِيَةَ وَبِلَادِ الْحَبَشَةِ وَأَقَرُّوا الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُمْ عَلَى مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجْعَلُونَهُ وَالِيًا فَيُوَلَّى قَاضِيًا أَوْ يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَهُمْ وَكَذَا يُنَصِّبُوا لَهُمْ إمَامًا يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ.

[فُرُوعٌ فِي الْعَزْلِ] لِلسُّلْطَانِ عَزْلُ الْقَاضِي بِرِيبَةٍ وَبِلَا رِيبَةٍ، وَلَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَبْلُغَهُ الْعَزْلُ وَيَنْعَزِلُ نَائِبُهُ بِعَزْلِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْقَاضِي يَنْعَزِلُ نَائِبُهُ.

وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّ النَّائِبَ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ نَائِبٌ لِلسُّلْطَانِ، وَيَنْعَزِلُ الْقَاضِي بِعَزْلِهِ نَفْسِهِ إذَا بَلَّغَ السُّلْطَانَ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْهُ لَا يَنْعَزِلُ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ نَفْسِهِ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يُبَلِّغَ الْمُوَكِّلَ. وَقِيلَ لَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي بِعَزْلِ نَفْسِهِ لِأَنَّ قَضَاءَهُ صَارَ حَقًّا لِلْعَامَّةِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ السُّلْطَانِ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضٍ آخَرُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ النَّاسِ، وَمِثْلُهُ وَصِيُّ الْقَاضِي إذَا عَزَلَ نَفْسَهُ يَشْتَرِطُ عِلْمَ الْقَاضِي، وَيَجُوزُ تَعْلِيقَ الْعَزْلِ بِالشَّرْطِ. وَمِنْ صُوَرِهِ: إذَا كَتَبَ الْخَلِيفَةُ إلَيْهِ إذَا وَصَلَك كِتَابِي هَذَا فَأَنْتَ مَعْزُولٌ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ الْكِتَابُ. وَلَمْ يُجِزْ ظَهِيرُ الدِّينِ تَعْلِيقَ الْعَزْلِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَيَنْعَزِلُ خُلَفَاءُ الْقَاضِي بِمَوْتِهِ وَلَا يَنْعَزِلُ أُمَرَاءُ الْخَلِيفَةِ، وَلَوْ قُلِّدَ رَجُلٌ قَضَاءَ بَلْدَةِ قَاضٍ هَلْ يَنْعَزِلُ؟ الْأَوَّلُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْعَزِلُ. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ. وَلَوْ شَرَطَ فِي الْقَضَاءِ شَرْطًا مِثْلُ أَنْ لَا يَمْتَثِلَ أَمْرَ أَحَدٍ فَخَالَفَ انْعَزَلَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُتْرَكُ الْقَاضِي عَلَى الْقَضَاءِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ ثُمَّ يَعْزِلُهُ وَيَقُولُ أَشْغَلْنَاك اذْهَبْ فَاشْتَغِلْ بِالْعِلْمِ ثُمَّ ائْتِنَا. .

(قَوْلُهُ وَمَنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ يَسْأَلُ) أَيْ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ. هَذَا وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ: أَيْ يَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي الْمُنْعَزِلِ دِيوَانَهُ ثُمَّ فَسَّرَ دِيوَانَهُ بِأَنَّهُ (الْخَرَائِطُ الَّتِي فِيهَا السِّجِلَّاتُ وَغَيْرُهَا) مِنْ كُتُبِ الْأَوْقَافِ وَكُتُبِ نَصْبِ الْأَوْصِيَاءِ وَالْمُحَاضِرِ وَالصُّكُوكِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَاتِ لِلْأَيْتَامِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا اقْتَضَاهُ الْحَالُ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهُ (لِأَنَّهَا) إنَّمَا (وُضِعَتْ) عِنْدَ الْقَاضِي (لِتَكُونَ حُجَّةً) وَوَثِيقَةً مَحْفُوظَةً (عِنْدَ) الْقَاضِي إذَا وَقَعَتْ (الْحَاجَةُ) إلَى الْحُجَّةِ وَمَعْرِفَةِ الْأَحْوَالِ (فَتُجْعَلُ عِنْدَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ النَّظَرِ) فِي أُمُورِهِمْ وَمَا كَانَتْ عِنْدَ الْأَوَّلِ إلَّا لِأَنَّهُ كَذَلِكَ (ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَيَاضُ) الَّذِي كَتَبَ فِيهِ الْقَاضِي وَرَقًا أَوْ رِقًّا (مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ أَرْبَابِ الْقَضَايَا فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ)

ص: 264

لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهَا فِي يَدِهِ لِعَمَلِهِ وَقَدْ انْتَقَلَ إلَى الْمُوَلَّى، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ اتَّخَذَهُ تَدَيُّنًا لَا تَمَوُّلًا، وَيَبْعَثُ أَمِينَيْنِ لِيَقْبِضَاهَا بِحَضْرَةِ الْمَعْزُولِ أَوْ أَمِينِهِ وَيَسْأَلَانِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيَجْعَلَانِ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا فِي خَرِيطَةٍ كَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى الْمُوَلَّى، وَهَذَا السُّؤَالُ لِكَشْفِ الْحَالِ لَا لِلْإِلْزَامِ.

لِأَنَّهُ لِلْقَاضِي لَا لِأَنَّهُ مِلْكُ الذَّاتِ (وَقَدْ انْتَقَلَ) الْقَضَاءُ (إلَى) الْقَاضِي (الْمُوَلَّى وَإِنْ كَانَ مِلْكَ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ اتَّخَذَهُ تَدَيُّنًا) لِيَحْفَظَ بِهِ أُمُورَ النَّاسِ وَحَاجَاتِهِمْ (لَا تَمَوُّلًا، وَيَبْعَثُ) الْمُوَلَّى (اثْنَيْنِ) أَوْ وَاحِدًا مَأْمُونًا (لِيَقْبِضَاهَا بِحَضْرَةِ الْمَعْزُولِ أَوْ) مِنْ (أَمِينِهِ وَيَسْأَلَانِ) أَعْنِي الْأَمِينَيْنِ (الْمَعْزُولَ شَيْئًا فَشَيْئًا وَيَجْعَلَانِ كُلَّ نَوْعٍ فِي خَرِيطَةٍ) مَثَلًا الصُّكُوكُ فِي خَرِيطَةٍ وَالنَّفَقَاتُ فِي خَرِيطَةٍ وَكُتُبُ الْأَوْقَافِ فِي خَرِيطَةٍ لِيَكُونَ أَسْهَلَ لِلتَّنَاوُلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَلَطَ الْكُلَّ فَإِنَّ فِي الْكَشْفِ عَنْهُ حِينَئِذٍ عُسْرًا شَدِيدًا، وَفِي عُرْفِ دِيَارِنَا لَيْسَ عِنْدَ الْقَاضِي صُكُوكُ النَّاسِ وَلَا كُتُبُ أَوْقَافِهِمْ، بَلْ إذَا كَانَ الْقَاضِي هُوَ نَاظِرُ الْوَقْفِ (وَهَذَا السُّؤَالُ لِكَشْفِ الْحَالِ) لَا لِيَلْزَمَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْجَوَابِ مِنْ الْقَاضِي فَإِنَّهُ الْتَحَقَ بِسَائِرِ الرَّعَايَا بِالْعَزْلِ، ثُمَّ إذَا قَبَضَاهُ خَتْمًا عَلَيْهِ خَوْفًا مِنْ طُرُوُّ التَّغْيِيرِ. وَأَمَّا مَا قِيلَ يَكْتُبَانِ عَدَدَ ضِيَاعِ الْوُقُوفِ وَمَوَاضِعَهَا فَلَيْسَ إلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ، فَإِنَّ كُتُبَ الْأَوْقَافِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عَدَدِ الضِّيَاعِ الْمَوْقُوفَةِ وَالدُّورَ

ص: 265

قَالَ (وَيَنْظُرُ فِي حَالِ الْمَحْبُوسِينَ) لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا (فَمَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ (وَمَنْ أَنْكَرَ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ الْمَعْزُولِ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ) لِأَنَّ بِالْعَزْلِ الْتَحَقَ بِالرَّعَايَا، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ (فَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ لَمْ يُعَجِّلْ بِتَخْلِيَتِهِ حَتَّى يُنَادَى عَلَيْهِ وَيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ) لِأَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي الْمَعْزُولِ حَقٌّ ظَاهِرًا فَلَا يُعَجِّلُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ.

وَالْحَوَانِيتُ مَحْدُودَةٌ.

(قَوْلُهُ وَيَنْظُرُ فِي حَالِ الْمَحْبُوسِينَ) فَيَبْعَثُ إلَى السِّجْنِ مَنْ يُحْصِيهِمْ وَيَأْتِيهِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ وَيَسْأَلُ الْمَحْبُوسَ عَنْ سَبَبِ حَبْسِهِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ مَحْبُوسُونَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ سَبَبٌ يُوجِبُ حَبْسَهُمْ، وَثُبُوتُهُ عِنْدَ الْأَوَّلِ لَيْسَ حُجَّةً يَعْتَمِدُهَا الثَّانِي فِي حَبْسِ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْأَوَّلِ لَمْ يَبْقَ حُجَّةً (فَمَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ) وَرَدَّهُ إلَى السِّجْنِ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ الْمِقْدَارَ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنْ السِّجْنِ عِنْدَهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالٌ، وَكَذَا مَنْ أَنْكَرَ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَالْقَاضِي يَعْرِفُ هَؤُلَاءِ الشُّهُودَ بِالْعَدَالَةِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُمْ أَخَذَ مِنْهُمْ كَفِيلًا وَأَطْلَقَهُمْ حَتَّى يَنْظُرَ فِي حَالِهِمْ، فَإِنْ ظَهَرَتْ عَدَالَةُ الشُّهُودِ رَدَّهُ إلَى السِّجْنِ إذَا طَلَبَهُ الْخَصْمُ (وَلَوْ أَخْبَرَ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ بِسَبَبِ حَبْسِهِمْ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ) بِوَاحِدٍ مِنْ (الرَّعَايَا وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَيْسَتْ حُجَّةً) مُوجِبَةً لِلْعَمَلِ (لَا سِيَّمَا) وَهِيَ (عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ.

وَقَالَ أَحْمَدُ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ بَعْدَ الْعَزْلِ كَمَا قَبْلَ الْعَزْلِ لِأَنَّهُ أَمِينُ الشَّرْعِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ قَبْلَ الْعَزْلِ أَيْضًا إلَّا بِحُجَّةٍ (وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمَعْزُولِ عَلَيْهِ وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ) بِمَا وَجَبَ حَبْسُهُ (لَا يُعَجِّلُ) بِإِطْلَاقِهِ (لِأَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي ظَاهِرًا) مَا كَانَ إلَّا (بِحَقٍّ) فَيُحْتَاطُ لِخَصْمِهِ الْغَائِبُ

ص: 266

(وَيَنْظُرُ فِي الْوَدَائِعِ وَارْتِفَاعِ الْوُقُوفِ فَيَعْمَلُ فِيهِ عَلَى مَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ.

(وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَ الْمَعْزُولِ) لِمَا بَيَّنَّا (إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ أَنَّ الْمَعْزُولَ سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَيَقْبَلُ قَوْلَهُ فِيهَا) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْقَاضِي فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْقَاضِي كَأَنَّهُ فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ، إلَّا إذَا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ الْقَاضِي فَيُسَلِّمُ مَا فِي يَدِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ حَقِّهِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي وَيُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي.

فَيُنَادَى عَلَيْهِ، وَصِفَتُهُ أَنْ يَأْمُرَ كُلَّ يَوْمٍ إذَا جَلَسَ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي مَحَلَّتِهِ مَنْ كَانَ يَطْلُبُ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الْمَحْبُوسَ بِحَقٍّ فَلْيَأْتِ إلَى الْقَاضِي يَفْعَلُ ذَلِكَ أَيَّامًا، فَإِذَا حَضَرَ وَادَّعَى وَهُوَ عَلَى جُحُودِهِ ابْتَدَأَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ إذْ لَعَلَّهُ مَحْبُوسٌ بِحَقٍّ لِغَائِبٍ، وَأَمَارَتُهُ أَنَّهُ فِي حَبْسِ قَاضٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِحَقٍّ، فَإِنْ قَالَ لَا كَفِيلَ لِي وَأَبَى أَنْ يُعْطِيَ كَفِيلًا وَجَبَ أَنْ يَحْتَاطَ نَوْعًا آخَرَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فَيُنَادِيَ شَهْرًا فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ أَطْلَقَهُ.

وَقِيلَ أَخْذُ الْكَفِيلِ هُنَا قَوْلُهُمَا. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا كَمَا قَالَ فِي أَصْحَابِ الْمِيرَاثِ إذَا اقْتَسَمُوا عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ هُنَا اتِّفَاقٌ. وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَالَ ظَاهِرًا حَقٌّ لِهَذَا الْوَارِثِ، وَفِي ثُبُوتِ وَارِثٍ آخَرَ شَكٌّ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ حَقِّهِ إلَى زَمَانِ حُصُولِ الْكَفِيلِ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ، وَهُنَا الظَّاهِرُ أَنَّ حَبْسَهُ بِحَقٍّ لِظُهُورِ أَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي بِحَقٍّ وَلَكِنَّهُ مَجْهُولٌ، فَلَيْسَ أَخْذُ الْكَفِيلِ لِمَوْهُومٍ، وَلَوْ قِيلَ فَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا الظَّاهِرِ يَجِبُ أَنْ لَا يُطْلِقَهُ بِقَوْلِهِ إنِّي مَظْلُومٌ حَتَّى تَمْضِيَ مُدَّةٌ يُطْلَقُ فِيهَا مُدَّعِي الْإِعْسَارِ كَانَ جَيِّدًا.

(قَوْلُهُ وَيَنْظُرُ فِي الْوَدَائِعِ وَارْتِفَاعِ الْأَوْقَافِ) الْكَائِنَةِ تَحْتَ أَيْدِي أُمَنَاءِ الْقَاضِي، وَاَلَّذِي فِي دِيَارِنَا مِنْ هَذَا أَنَّ أَمْوَالَ الْأَوْقَافِ تَحْتَ أَيْدِي جَمَاعَةٍ يُوَلِّيهِمْ الْقَاضِي النَّظَرَ أَوْ الْمُبَاشَرَةَ فِيهَا وَوَدَائِعَ الْيَتَامَى تَحْتَ يَدِ الَّذِي يُسَمَّى أَمِينُ الْحُكْمِ (فَيَعْمَلُ) فِيهَا (عَلَى) حَسَبِ (مَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ) أَنَّهُ لِفُلَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (أَوْ يَعْتَرِفُ) الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ.

(وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَعْزُولِ) عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ إذَا أَنْكَرَ وَقَالَ هِيَ لِي إلَّا بِبَيِّنَةٍ (لِمَا بَيَّنَّاهُ) أَنَّهُ الْتَحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا، بِخِلَافِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِأَنْ يَكْتَفِيَ بِقَوْلِهِ فِي الْإِلْزَامِ حَتَّى إنَّ الْخَلِيفَةَ الَّذِي قَلَّدَ الْقَاضِيَ لَوْ أَخْبَرَ الْقَاضِيَ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ بِكَذَا لَا يَقْضِي بِهِ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ الْخَلِيفَةُ مَعَ آخَرَ، وَالْوَاحِدُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الَّذِي فِي يَدِهِ أَنَّ) الْقَاضِيَ (الْمَعْزُولَ) سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَحِينَئِذٍ إمَّا

ص: 267

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَنْ يَقُولَ سَلِّمْهَا إلَيَّ وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هِيَ، أَوْ يَقُولَ سَلِّمْهَا إلَيَّ وَقَالَ هِيَ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَهُوَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ: فَفِي هَذَيْنِ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَعْزُولِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ مَنْ فِي يَدِهِ أَنَّ الْيَدَ فِيهَا كَانَتْ لِلْقَاضِي فَيُقْبَلُ إقْرَارُ الْقَاضِي فِيهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ حَالَ إقْرَارِهِ، أَوْ يَقُولَ دَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ وَهُوَ لِفُلَانٍ، وَقَالَ الْمَعْزُولُ بَلْ لِفُلَانٍ رَجُلٍ آخَرَ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْمَعْزُولُ، وَيُدْفَعُ لِمَنْ أَقَرَّ بِهِ لَهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْيَدِ لِلْقَاضِي فَصَارَ كَأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ فَأَقَرَّ بِهِ لِوَاحِدٍ وَأَقَرَّ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ لِآخَرَ وَفِيهِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَاضِي فَكَذَا هَذَا أَوْ بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ لِفُلَانٍ فَقَالَ هُوَ لِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ ثُمَّ قَالَ دَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي فَفِي هَذَا يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْأَمِينُ، وَيَضْمَنُ مِثْلَهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمَتَهُ لِلْمَعْزُولِ فَيَدْفَعُهُ الْمَعْزُولُ إلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَزِمَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا هُوَ فِي يَدِهِ، فَلَمَّا قَالَ دَفَعَهُ إلَيَّ الْقَاضِي فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْقَاضِي وَالْقَاضِي يُقِرُّ بِهِ لِغَيْرِ مَنْ أَقَرَّ هُوَ بِهِ لَهُ فَيَصِيرُ هُوَ مُتْلِفًا لِذَلِكَ عَلَى مَنْ أَقَرَّ لَهُ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِهِ فَيَضْمَنُهُ. هَذَا وَأَمَّا لَوْ شَهِدَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ سَمِعُوا الْقَاضِيَ الْأَوَّلَ يَقُولُ اسْتَوْدَعْت فُلَانًا مَالَ فُلَانٍ الْيَتِيمِ وَجَحَدَ مَنْ فِي يَدِهِ أَوْ شَهِدُوا عَلَى بَيْعِهِ مَالَ فُلَانٍ الْيَتِيمِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ وَيُؤْخَذُ الْمَالُ لِمَنْ ذَكَرَهُ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ وَاسْتُقْضِيَ غَيْرُهُ فَشَهِدَ بِذَلِكَ. [فَرْعٌ يُنَاسِبُ هَذَا]

لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا أَوْ قَالَ الْقَاضِي لَمْ أَقْضِ بِشَيْءٍ

ص: 268

قَالَ (وَيَجْلِسُ لِلْحُكْمِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ) كَيْ لَا يَشْتَبِهَ مَكَانُهُ عَلَى الْغُرَبَاءِ وَبَعْضِ الْمُقِيمِينَ، وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشْهَرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَحْضُرُهُ الْمُشْرِكُ وَهُوَ نَجَسٌ بِالنَّصِّ وَالْحَائِضُ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ دُخُولِهِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحُكْمِ» . «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ فِي مُعْتَكَفِهِ» وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عِبَادَةٌ فَيَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي الْمَسْجِدِ كَالصَّلَاةِ.

لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَهُمَا. وَيُعْتَبَرُ قَوْلُ الْقَاضِي، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقْبَلُ وَيَنْفُذُ ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ وَيَجْلِسُ لِلْحُكْمِ جُلُوسًا ظَاهِرًا كَيْ لَا يَشْتَبِهَ مَكَانُهُ عَلَى الْغُرَبَاءِ وَبَعْضِ الْمُقِيمِينَ) وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَلَا يُتْعِبُ نَفْسَهُ فِي طُولِ الْجُلُوسِ وَلَكِنْ يَجْلِسُ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ، وَكَذَا الْمُفْتِي وَالْفَقِيهُ (وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشْهَرُ) ثُمَّ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَاتُ وَإِنْ لَمْ تُصَلَّ فِيهِ الْجُمُعَةُ. قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: هَذَا إذَا كَانَ الْجَامِعُ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ، أَمَّا إذَا كَانَ فِي طَرَفٍ مِنْهَا فَلَا لِزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ عَلَى أَهْلِ الشُّقَّةِ الْمُقَابِلَةِ لَهُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَخْتَارَ مَسْجِدًا فِي وَسَطِ الْبَلَدِ وَفِي السُّوقِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ فِي بَيْتِهِ وَحَيْثُ كَانَ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَا، وَبِقَوْلِنَا قَالَ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْقَضَاءُ (يَحْضُرُهُ الْمُشْرِكُ وَهُوَ نَجَسٌ بِالنَّصِّ) قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ} (وَالْحَائِضُ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ دُخُولِهِ) وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، وَالْخُصُومَاتُ تَقْتَرِنُ بِالْمَعَاصِي كَثِيرًا مِنْ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَالْكَذِبِ فِي الدَّعَاوَى (وَلَنَا) مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ اللِّعَانِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَفِيهِ «فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ» وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ أَحَدِهِمَا كَاذِبًا حَانِثًا فِي يَمِينٍ غَمُوسٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سُجُفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى: يَا كَعْبُ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِك، قَالَ كَعْبُ: قَدْ فَعَلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قُمْ فَاقْضِهِ» وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مُسْنِدًا إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذْ أَتَى رَجُلٌ فَتَخَطَّى النَّاسَ حَتَّى قَرُبَ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ عَلَيَّ الْحَدَّ، فَقَالَ: اجْلِسْ فَجَلَسَ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ عَلَيَّ الْحَدَّ، فَقَالَ اجْلِسْ فَجَلَسَ ثُمَّ قَامَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ عَلَيَّ الْحَدَّ، قَالَ وَمَا حَدُّك؟ قَالَ: أَتَيْت امْرَأَةً حَرَامًا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ

ص: 269

وَنَجَاسَةُ الْمُشْرِكِ فِي اعْتِقَادِهِ لَا فِي ظَاهِرِهِ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ، وَالْحَائِضُ تُخْبِرُ بِحَالِهَا فَيَخْرُجُ الْقَاضِي إلَيْهَا أَوْ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ يَبْعَثُ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَصْمِهَا كَمَا إذَا كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي الدَّابَّةِ. وَلَوْ جَلَسَ فِي دَارِهِ لَا بَأْسَ بِهِ وَيَأْذَنُ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهَا،

وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنهم انْطَلِقُوا بِهِ فَاجْلِدُوهُ وَلَمْ يَكُنْ تَزَوَّجَ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَجْلِدُ الَّتِي خَبُثَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَاحِبَتُك؟ قَالَ: فُلَانَةُ فَدَعَاهَا ثُمَّ سَأَلَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَبَ عَلَيَّ وَاَللَّهِ إنِّي لَا أَعْرِفُهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: مَنْ شَاهِدُك؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي شَاهِدٌ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ حَدَّ الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً» وَأَمَّا إنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ فَنُقِلَ بِالْمَعْنَى: يَعْنِي وَقَعَ مِنْهُمْ هَذَا، وَلَا يَكَادُ يَشُكُّ فِي أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما وَقَعَ لَهُمَا ذَلِكَ.

وَمَنْ تَتَبَّعَ السِّيَرَ رَأَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا. فَفِي الْبُخَارِيِّ: " لَاعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ". وَأَسْنَدَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ إلَى الْحَسَنِ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ قَضَى فِي الْمَسْجِدِ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي ذَلِكَ، فَمَا قِيلَ إنَّهُ غَرِيبٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد رِوَايَةُ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَفِي الطَّبَقَاتِ لِابْنِ سَعْدٍ بِسَنَدِهِ إلَى رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ " أَنَّهُ رَأَى أَبَا بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْقَبْرِ. "، وَكَانَ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْمَدِينَةِ فِي وِلَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَسْنَدَ إلَى سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ بَانَكَ. قَالَ: رَأَيْت سَعْدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ قَدْ وُلِّيَ قَضَاءَ الْمَدِينَةِ.

وَإِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا وَلَّى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إمْرَةَ الْمَدِينَةِ لَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَّى أَبَا طُوَالَةَ الْقَضَاءَ بِهَا فَكَانَ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: أَبُو طُوَالَةَ ثِقَةٌ يَرْوِي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَإِلَى إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: رَأَيْت شُرَيْحًا يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ، وَإِلَى الْأَسْوَدِ بْنِ شَيْبَانَ قَالَ: رَأَيْت الشَّعْبِيَّ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَاضِي الْكُوفَةِ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ، وَكُلُّ قَضَاءٍ صَدَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ كَانَ بَيْنَ السَّلَفِ مَشْهُورًا وَفِيهِمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَلَمْ يُرْوَ إنْكَارُهُ عَنْ أَحَدٍ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ «إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالْحُكْمِ» فَلَمْ يُعْرَفْ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ «الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي قَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَهْ مَهْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا تَزْرِمُوهُ دَعُوهُ فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَالْقَذَرِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، قَالَ: وَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَدَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ» وَأَمَّا نَجَاسَةُ الْمُشْرِكِ فَفِي الِاعْتِقَادِ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ (وَالْحَائِضُ تُخْبِرُ بِحَالِهَا لِيَخْرُجَ إلَيْهَا الْقَاضِي) أَوْ يُرْسِلَ نَائِبَهُ (كَمَا لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي دَابَّةٍ، وَلَوْ جَلَسَ فِي دَارِهِ فَحَسَنٌ بِ) شَرْطِ (أَنْ يَأْذَنَ لِلنَّاسِ) عَلَى الْعُمُومِ وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ حَقًّا فِي مَجْلِسِهِ، وَعَلَى

ص: 270

وَيَجْلِسُ مَعَهُ مَنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي جُلُوسِهِ وَحْدَهُ تُهْمَةً.

قَالَ (وَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِمُهَادَاتِهِ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ صِلَةُ الرَّحِمِ وَالثَّانِيَ لَيْسَ لِلْقَضَاءِ بَلْ جَرَى عَلَى الْعَادَةِ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَصِيرُ آكِلًا بِقَضَائِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ لِلْقَرِيبِ خُصُومَةٌ لَا يَقْبَلُ هَدِيَّتَهُ، وَكَذَا إذَا زَادَ الْمُهْدِي عَلَى الْمُعْتَادِ أَوْ كَانَتْ لَهُ خُصُومَةٌ لِأَنَّهُ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ فَيَتَحَامَاهُ.

قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْجِدِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَلَا يَقْضِي وَهُوَ يَمْشِي أَوْ يَسِيرُ عَلَى دَابَّتِهِ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ غَيْرُ مُعْتَدِلِ الْحَالِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالْقَضَاءِ، وَلِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِمَا هُوَ فِيهِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَّكِئَ لِأَنَّهُ نَوْعُ جِلْسَةٍ كَالتَّرَبُّعِ وَغَيْرِهِ، وَطِبَاعُ النَّاسِ فِي الْجُلُوسِ مُخْتَلِفَةٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْضِيَ وَهُوَ غَضْبَانُ أَوْ فَرْحَانُ أَوْ جَائِعٌ أَوْ عَطْشَانُ أَوْ مَهْمُومٌ أَوْ نَاعِسٌ أَوْ فِي حَالِ بَرْدٍ شَدِيدٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ أَوْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى الْجِمَاعِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي حَالَ شَغْلِ قَلْبِهِ، وَأَصْلُهُ حَدِيثُ «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» مَعْلُولٌ بِهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَطَوَّعَ بِالصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُرِيدُ الْجُلُوسَ وَلَا يَسْمَعُ مِنْ رَجُلٍ حُجَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَلِيلًا، وَلَا يُقَدِّمُ رَجُلًا جَاءَ الْآخَرُ قَبْلَهُ، وَلَا يَضْرِبُ فِي الْمَسْجِدِ حَدًّا وَلَا تَعْزِيرًا (وَ) يَنْبَغِي أَنْ (يَجْلِسَ مَعَهُ مَنْ كَانَ يُجَالِسُهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي جُلُوسِهِ وَحْدَهُ تُهْمَةً) الرِّشْوَةَ أَوْ الظُّلْمَ. وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه مَا كَانَ يَحْكُمُ حَتَّى يَحْضُرَ أَرْبَعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيُشَاوِرَهُمْ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُحْضِرُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ: يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ وَيُشَاوِرُهُمْ فِيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: فَإِنْ دَخَلَهُ حَصْرٌ فِي قُعُودِهِمْ عِنْدَهُ أَوْ شُغْلِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ جَلَسَ وَحْدَهُ، فَإِنَّ طِبَاعَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ حِشْمَةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ فَصْلِ الْقَضَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْدَادُ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يَدْخُلُهُ حَصْرٌ جَلَسَ وَحْدَهُ. وَفِي الْمَبْسُوطِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعْتَذِرَ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَيُبَيِّنَ لَهُ وَجْهَ قَضَائِهِ وَيُبَيِّنَ لَهُ أَنَّهُ فَهِمَ حُجَّتَهُ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّرْعِ كَذَا يَقْتَضِي الْقَضَاءَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُمْكِنْ غَيْرُهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْفَعَ لِشِكَايَتِهِ لِلنَّاسِ، وَنِسْبَتِهِ إلَى أَنَّهُ جَارٍ عَلَيْهِ. وَمَنْ يَسْمَعْ يُخَلِّ، فَرُبَّمَا تُفْسِدُ الْعَامَّةُ غَرَضَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ، وَإِذَا أَمْكَنَ إقَامَةُ الْحَقِّ مَعَ عَدَمِ إيغَارِ الصُّدُورِ كَانَ أَوْلَى.

(قَوْلُهُ وَلَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ) الْحَاصِلُ أَنَّ الْمُهْدِيَ إمَّا لَهُ خُصُومَةٌ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَهُ عَادَةٌ بِمُهَادَاتِهِ أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خُصُومَةٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَادَةٌ بِذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِسَبَبِ قَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَادَةٌ بِذَلِكَ جَازَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمُعْتَادِ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَإِنْ زَادَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ. وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَالُ الْمُهْدِي قَدْ زَادَ فَبِقَدْرِ مَا زَادَ مَالُهُ إذَا

ص: 271

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

زَادَ فِي الْهَدِيَّةِ لَا بَأْسَ بِقَبُولِهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ مِنْ الْقَرِيبِ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ عَادَةٌ بِالْمُهَادَاةِ كَغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَرِيبِ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَادَةً فَأَهْدَى بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يَقْبَلُ. وَعِبَارَةُ الْهِدَايَةِ مَعَ الْقُدُورِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ مِمَّنْ لَهُ عَادَةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ تُفِيدُ قَبُولَهَا مِنْ الْقَرِيبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ عَادَةٌ بِالْمُهَادَاةِ قَبْلُ إذَا لَمْ تَكُنْ خُصُومَةٌ.

وَالْوَجْهُ هُوَ ظَاهِرُ النِّهَايَةِ. ثُمَّ صَرَّحَ فِي مَسْأَلَةِ الدَّعْوَى عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ هَدِيَّتَهُ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ عَادَةٌ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْقَرِيبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ عَادَةٌ بِمُهَادَاةٍ قَبْلَ الْقَضَاءِ إنْ كَانَ ذَلِكَ لِفَقْرٍ ثُمَّ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ وِلَايَةِ قَرِيبِهِ فَصَارَ يُهْدَى إلَيْهِ جَازَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَانِعَ مَا كَانَ إلَّا الْفَقْرَ، وَهَذَا عَلَى شِبْهِ قَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي الزِّيَادَةِ إذَا كَثُرَ مَالُهُ.

ثُمَّ إذَا أَخَذَ الْهَدِيَّةَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُبَاحُ أَخْذُهَا قِيلَ يَضَعُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهَا بِسَبَبِ عَمَلِهِ لَهُمْ وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّهَا عَلَى أَرْبَابِهَا إنْ عَرَفَهُمْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ أَوْ كَانُوا بَعِيدًا حَتَّى تَعَذَّرَ الرَّدُّ فَفِي بَيْتِ الْمَالِ وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ اللُّقَطَةِ، فَإِنْ جَاءَ الْمَالِكُ يَوْمًا يُعْطَاهَا، وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ لِلْمُسْلِمِينَ عَمَلًا حُكْمُهُ فِي الْهَدِيَّةِ حُكْمُ الْقَاضِي.

وَفِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالْهَدِيَّةِ أَنَّ الرِّشْوَةَ يُعْطِيهِ بِشَرْطِ أَنْ يُعِينَهُ، وَالْهَدِيَّةُ لَا شَرْطَ مَعَهَا انْتَهَى. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ «اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي، قَالَ عليه الصلاة والسلام: هَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا» قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: كَانَتْ الْهَدِيَّةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً وَالْيَوْمَ رِشْوَةٌ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ رضي الله عنه أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدِمَ بِمَالٍ فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا؟ قَالَ: تَلَاحَقَتْ الْهَدَايَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رضي الله عنه: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ هَلَّا قَعَدْت فِي بَيْتِك فَتَنْظُرَ أَيُهْدَى لَك أَمْ لَا، فَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَتَعْلِيلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْهَدِيَّةِ الَّتِي سَبَبُهَا الْوِلَايَةُ، وَلِهَذَا لَوْ زَادَ الْمُهْدِي عَلَى الْمُعْتَادِ أَوْ كَانَتْ لَهُ خُصُومَةٌ كُرِهَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ مُحَرَّمٌ كَالرِّشْوَةِ. هَذَا وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَدِيَّةُ الْمُسْتَقْرِضِ لِلْمُقْرِضِ كَالْهَدِيَّةِ لِلْقَاضِي إنْ كَانَ الْمُسْتَقْرِضُ لَهُ عَادَةٌ قَبْلَ اسْتِقْرَاضِهِ فَأَهْدَى إلَى الْمُقْرِضِ فَلِلْمُقْرِضِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ قَدْرَ مَا كَانَ يُهْدِيهِ

ص: 272

وَلَا يَحْضُرُ دَعْوَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً لِأَنَّ الْخَاصَّةَ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ فَيُتَّهَمُ بِالْإِجَابَةِ، بِخِلَافِ الْعَامَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَوَابِ قَرِيبُهُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يُجِيبُهُ وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً كَالْهَدِيَّةِ، وَالْخَاصَّةُ مَا لَوْ عَلِمَ الْمُضِيفُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا لَا يَتَّخِذُهَا.

قَالَ (وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ) لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ

بِلَا زِيَادَةٍ.

(قَوْلُهُ وَلَا يَحْضُرُ دَعْوَةً إلَّا إذَا كَانَتْ عَامَّةً) يَعْنِي وَلَا خُصُومَةَ لِصَاحِبِ الْوَلِيمَةِ الْعَامَّةِ (وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَوَابِ قَرِيبُهُ) فَلَا يُجِيبُ دَعْوَتَهُ إلَّا إذَا كَانَتْ عَامَّةً وَلَا خُصُومَةَ لَهُ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ يُجِيبُ قَرِيبُهُ وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً) هَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ الطَّحَاوِيُّ. وَقَالَ الْخَصَّافُ: يُجِيبُ الْخَاصَّةَ لِقَرِيبِهِ بِلَا خِلَافٍ لِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْخِلَافِ طُولِبَ بِالْفَرْقِ فِي الْقَرِيبِ بَيْنَ الْهَدِيَّةِ، قَالَ: يُقْبَلُ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ جَرْي الْعَادَةِ وَغَيْرِهِ، وَفِي الدَّعْوَى فَصَلَ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْمَتْنِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: قَالُوا مَا ذُكِرَ فِي الضِّيَافَةِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمُحَرَّمُ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا الدَّعْوَةُ وَالْمُهَادَاةُ وَصِلَةُ الْقَرَابَةُ وَأَحْدَثَ بَعْدَ الْقَضَاءِ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَتْ الْحَالَةُ هَذِهِ فَهُوَ وَالْأَجْنَبِيُّ سَوَاءٌ. وَمَا فِي الْهَدِيَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ جَرَى بَيْنَهُمَا الْمُهَادَاةُ وَصِلَةُ الْقَرَابَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، فَإِذَا أَهْدَى بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا بَأْسَ بِقَبُولِهِ انْتَهَى. فَقَدْ آلَ الْحَالُ إلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْغَرِيبِ فِي الْهَدِيَّةِ وَالضِّيَافَةِ سِوَى ذَلِكَ لِإِمْكَانِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فَقِيلَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ خَاصَّةٌ وَالْعَشَرَةُ وَمَا فَوْقَهَا عَامَّةٌ. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ (الْخَاصَّةُ) هِيَ (الَّتِي لَوْ عَلِمَ الْمُضِيفُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا لَا يَتَّخِذُهَا) وَالْعَامَّةُ هِيَ الَّتِي يَتَّخِذُهَا حَضَرَهَا الْقَاضِي أَوْ لَا. وَعِنْدِي أَنَّ مَا حُكِيَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي عَلِيٍّ النَّسَفِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْعَامَّةَ دَعْوَةُ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ وَمَا سِوَاهُمَا خَاصَّةٌ حَسَنٌ فَإِنَّ الْغَالِبَ هُوَ كَوْنُ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ هَاتَيْنِ، وَرُبَّمَا مَضَى عُمَرُ وَلَمْ يَعْرِفْ مَنْ اصْطَنَعَ طَعَامًا عَامًا ابْتِدَاءً لِعَامَّةِ النَّاسِ بَلْ لَيْسَ إلَّا لِهَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ أَوْ لِمَخْصُوصٍ مِنْ النَّاسِ وَلِأَنَّهُ أَضْبَطُ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ كَوْنِ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يَحْضُرْ الْقَاضِي لَمْ يَصْنَعْ أَوْ يَصْنَعُ غَيْرَ مُحَقَّقٍ فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُبْطَنٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ لَوَائِحُ لَيْسَ كَضَبْطِ هَذَا، وَيَكْفِي عَادَةُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَعَادَةُ النَّاسِ هِيَ مَا ذَكَرَ النَّسَفِيُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: يَحْضُرُ الْوَلَائِمَ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْضُرُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَقْضِي. قُلْنَا كَانَ صلى الله عليه وسلم مَعْلُومَ الْعِصْمَةِ عِنْدَ الْكُلِّ لَا يَضُرُّهُ حُضُورٌ وَلَا قَبُولُ هَدِيَّةٍ فَلَقَدْ أُبْعِدَتْ.

(قَوْلُهُ وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ) الْمُرَادُ مَرِيضٌ لَا خُصُومَةَ لَهُ وَإِلَّا

ص: 273

عليه الصلاة والسلام «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ» وَعَدَّ مِنْهَا هَذَيْنِ.

(وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ خَصْمِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ فِيهِ تُهْمَةً. قَالَ (وَإِذَا حَضَرَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُلُوسِ وَالْإِقْبَالِ)

لَا يَعُودُهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَك فَانْصَحْ لَهُ» فَهَذِهِ هِيَ السَّادِسَةُ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ فِيهِ: «وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ يُشَمِّتُهُ» . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُفْرَدِ فِي الْأَدَبِ مِنْ حَدِيثِ «عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ الْإِفْرِيقِيِّ قَالَ: كُنَّا غُزَاةً فِي الْبَحْرِ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ، فَانْضَمَّ مَرْكَبُنَا إلَى مَرْكَبِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، فَلَمَّا حَضَرَ غَدَاؤُنَا أَرْسَلْنَا إلَيْهِ فَأَتَانَا وَقَالَ: دَعَوْتُمُونِي وَأَنَا صَائِمٌ فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنْ أَنْ أُجِيبَكُمْ لِأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إنَّ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ سِتَّ خِصَالٍ وَاجِبَةٍ، إنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا فَقَدْ تَرَكَ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ لِأَخِيهِ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ، وَيُجِيبُهُ إذَا دَعَاهُ، وَيُشَمِّتُهُ إذَا عَطَسَ، وَيَعُودُهُ إذَا مَرِضَ، وَيَحْضُرُهُ إذَا مَاتَ، وَيَنْصَحُهُ إذَا اسْتَنْصَحَهُ» وَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْوُجُوبِ فِيهِ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ الْوُجُوبِ فِي اصْطِلَاحِ الْفِقْهِ الْحَادِثِ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ وُجُوبُ الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ، وَكَوْنُ الْوُجُوبِ وُجُوبَ عَيْنٍ فِي الْجِنَازَةِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَمْرٌ ثَابِتٌ عَلَيْهِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا بِالِاصْطِلَاحِ.

(قَوْلُهُ وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ خَصْمِهِ) الْآخَرِ، لِمَا رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ فَنَزَلَ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَأَضَافَهُ، فَلَمَّا قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُخَاصِمَ، قَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه: تَحَوَّلْ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نُضَيِّفَ الْخَصْمَ إلَّا وَمَعَهُ خَصْمُهُ» . وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثُمَّ الدَّارَقُطْنِيُّ. (وَلِأَنَّ فِيهِ تُهْمَةَ) الْمَيْلِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا حَضَرَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُلُوسِ وَالْإِقْبَالِ) لِمَا رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ: أَخْبَرَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ، وَلَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ» وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ» وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنْ: آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِك وَعَدْلِك وَمَجْلِسِك

ص: 274

لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا اُبْتُلِيَ أَحَدُكُمْ بِالْقَضَاءِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ» (وَلَا يُسَارُّ أَحَدَهُمَا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّةً) لِلتُّهْمَةِ وَلِأَنَّ فِيهِ مَكْسَرَةً لِقَلْبِ الْآخَرِ فَيَتْرُكُ حَقَّهُ (وَلَا يَضْحَكُ فِي وَجْهِ أَحَدِهِمَا) لِأَنَّهُ يَجْتَرِئُ عَلَى خَصْمِهِ (وَلَا يُمَازِحُهُمْ وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمْ) لِأَنَّهُ يُذْهِبُ بِمَهَابَةِ الْقَضَاءِ.

حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك وَلَا يَيْأَسُ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِك.

(وَلَا يَسَّارِ أَحَدَهُمَا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّتَهُ لِلتُّهْمَةِ وَلِأَنَّ فِيهِ مَكْسَرَةً لِقَلْبِ الْآخَرِ فَيَتْرُكُ حَقَّهُ وَلَا يَضْحَكُ فِي وَجْهِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يَجْتَرِئُ بِذَلِكَ عَلَى خَصْمِهِ، وَلَا يُمَازِحُهُمْ وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمْ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِمَهَابَةِ الْقَضَاءِ) وَالْمُسْتَحَبُّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُجْلِسَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يُجْلِسُ وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا، وَلِذَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يَخُصُّ بِهِ أَبَا بَكْرٍ دُونَ عُمَرَ. وَفِي أَبِي دَاوُد «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ خَاصَمَهُ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ عَلَى السَّرِيرِ قَدْ أَجْلَسَ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى السَّرِيرِ، فَلَمَّا جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَّعَ لَهُ سَعِيدٌ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرِ فَقَالَ هُنَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: الْأَرْضَ الْأَرْضَ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ: سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْلِسَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي.» .

وَفِي النَّوَازِلِ وَالْفَتَاوَى الْكُبْرَى: خَاصَمَ السُّلْطَانُ مَعَ رَجُلٍ فَجَلَسَ السُّلْطَانُ مَعَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِهِ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُومَ مِنْ مَقَامِهِ وَيَجْلِسَ خَصْمُ السُّلْطَانِ فِيهِ وَيَقْعُدَ هُوَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَقْضِي بَيْنَهُمَا. وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَظْهَرُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَصْلُحُ قَاضِيًا عَلَى السُّلْطَانِ الَّذِي وَلَّاهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِصَّةُ شُرَيْحٍ مَعَ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ قَامَ فَأَجْلَسَ عَلِيًّا رضي الله عنه مَجْلِسَهُ، وَيَنْبَغِي لِلْخَصْمَيْنِ أَنْ يَجْثُوَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يَتَرَبَّعَانِ وَلَا يَقْعَيَانِ، وَلَوْ فَعَلَا ذَلِكَ مَنَعَهُمَا الْقَاضِي تَعْظِيمًا لِلْحُكْمِ كَمَا يَجْلِسُ الْمُتَعَلِّمُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُعَلِّمِ تَعْظِيمًا لَهُ فَيَكُونُ بُعْدُهُمَا عَنْهُ قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْفَعَا أَصْوَاتَهُمَا، وَيُسْنِدُ الْقَاضِي ظَهْرَهُ إلَى الْمِحْرَابِ، وَهَذَا رَسْمُ زَمَانِنَا. قَالُوا: وَهُوَ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم. أَمَّا فِي زَمَنِ الْخَصَّافِ وَغَيْرِهِ فَكَانَ الْقَاضِي يَجْلِسُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ؛ وَيَقِفُ أَعْوَانُ الْقَاضِي بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَكُونَ أَهَيْبَ.

وَإِذَا حَضَرَا فَالْقَاضِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ابْتَدَأَ فَقَالَ مَا لَكُمَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا حَتَّى يَبْتَدِئَاهُمَا بِالنُّطْقِ، وَبَعْضُ الْقُضَاةِ يَخْتَارُ السُّكُوتَ وَلَا يُكَلِّمُهُمَا بِشَيْءٍ غَيْرِ مَا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا تَكَلَّمَ الْمُدَّعِي أَسْكَتَ الْآخَرَ حَتَّى يَفْهَمَ حُجَّتَهُ لِأَنَّ فِي تَكَلُّمِهِمَا مَعًا شَغَبًا وَقِلَّةَ حِشْمَةٍ لِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ يَسْتَنْطِقُ الْآخَرَ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ الْمُدَّعِي ذَلِكَ. وَقِيلَ لَا إلَّا بَعْدَ سُؤَالِ الْمُدَّعِي بِأَنْ يَقُولَ اسْأَلْهُ لِكَيْ يَتَفَكَّرَ فِي الدَّعْوَى لِتَظْهَرَ لَهُ صِحَّتُهَا، وَإِلَّا قَالَ قُمْ فَصَحِّحْ دَعْوَاك، وَإِذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى يَقُولُ فَمَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ، فَإِنْ قَالَ أُرِيدُ جَوَابَهُ سَأَلَهُ. وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَسْتَنْطِقُهُ ابْتِدَاءً لِلْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ، وَإِذَا كَانَتْ الْخُصُومَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِهِنَّ مَعَهُمْ، وَاخْتَارَ مُحَمَّدٌ أَنْ يُقَدِّمَ الدَّعْوَى الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، وَيَضَعَ عَلَى ذَلِكَ أَمِينًا لَا يَرْتَشِي يَعْرِفُهُ السَّابِقُ، وَلْيُبَكِّرْ عَلَى بَابِ الْقَاضِي وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ طَمَعٌ، وَلَوْ أَشْكَلَ السَّابِقُ يَقْرَعُ بَيْنَهُمْ وَلَا يَسْتَعْجِلُ عَلَى الْخُصُومِ بَلْ يَتَمَهَّلُ مَعَهُمْ فَإِنَّ بِالْعُجَالَةِ تَنْقَطِعُ الْحُجَّةُ وَيُذْهَلُ عَنْهَا، وَلِهَذَا لَا يُخَوِّفُهُمْ فَيَكُونُ مَهِيبًا لَا تَخَافُهُ النَّاسُ. وَأَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ مَا رَأَوْا

ص: 275

قَالَ (وَيُكْرَهُ تَلْقِينُ الشَّاهِدِ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَيُكْرَهُ كَتَلْقِينِ الْخَصْمِ. وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَحْصُرُ لِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ فَكَانَ تَلْقِينُهُ إحْيَاءً لِلْحَقِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِشْخَاصِ وَالتَّكْفِيلِ.

مِنْ أَخْذِ بَوَّابِ الْقَاضِي شَيْئًا لِيُمَكِّنَّهُ مِنْ الدُّخُولِ وَهُوَ يَعْلَمُ. قَالُوا: هَذَا فَسَادٌ عَظِيمٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ التَّقَدُّمِ إلَى بَابِ الْقَاضِي فِي حَاجَةٍ، وَالْمَأْخُوذُ عَلَى ذَلِكَ رِشْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَعَلَى هَذَا يُقَاسُ حَالُ الَّذِي يُسَمَّى فِي زَمَانِنَا نَقِيبَ الْقَاضِي. قِيلَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ بَيْنَ يَدَيْهِ إذَا جَلَسَ لِلْحُكْمِ رَجُلٌ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ مَعَهُ سَوْطٌ يُقَالُ لَهُ الْجِلْوَازُ، وَصَاحِبُ الْمَجْلِسِ يُقِيمُ الْخُصُومَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْبُعْدِ وَالشُّهُودُ بِقُرْبٍ مِنْ الْقَاضِي، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي لِلْخُصُومَةِ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا، بَلْ أَنْ يُجْلِسَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ الْمُحْدَثَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.

وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ إذَا سَافَرَ اسْتَصْحَبَ رَجُلًا سَيِّئَ الْأَدَبِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ الشَّرَّ بِالشَّرِّ يُدْفَعُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُو الْأَحْوَالِ وَالْأَدَبِ. وَقَدْ حَدَثَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أُمُورٌ وَسُفَهَاءُ فَيَعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْحَالِ مُرَادًا بِهِ الْخَيْرَ لَا حِشْمَةَ النَّفْسِ الْمُؤَدِّي إلَى الْإِعْجَابِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِبْسَةٌ بِلَا غَضَبٍ، وَأَنْ يَلْزَمَ التَّوَاضُعَ مِنْ غَيْرِ وَهْنٍ وَلَا ضَعْفٍ، وَلَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ الْحَقِّ، وَيَتَّخِذُ كَاتِبًا أَمِينًا صَالِحًا يَكْتُبُ الْمَحَاضِرَ وَالسِّجِلَّاتِ عَارِفًا بِهَا كَيْ لَا يَقَعَ السِّجِلُّ فَاسِدًا بِالْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الشُّرُوطِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ السِّجِلَّاتِ وَالْمَحَاضِرَ، وَيُقْعِدُهُ حَيْثُ يَرَى مَا يَكْتُبُ وَيَكْتُبُ خُصُومَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَشَهَادَةَ شُهُودِهِمَا فِي صَحِيفَةٍ وَهِيَ الْمَحْضَرُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ، بِخِلَافِ عُرْفِ الْعَادَةِ الْيَوْمَ بِمِصْرَ.

(قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ تَلْقِينُ الشَّاهِدِ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي كَلَامًا يَسْتَفِيدُ بِهِ الشَّاهِدُ عِلْمًا وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيِّ لَا بَأْسَ بِهِ لِمَنْ اسْتَوْلَتْهُ الْحِيرَةُ أَوْ الْهَيْبَةُ فَتَرَكَ شَيْئًا مِنْ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ فَيُعِينُهُ بِقَوْلِهِ أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا بِشَرْطِ كَوْنِهِ (فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ) أَمَّا فِيهَا بِأَنْ ادَّعَى الْمُدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ الْخَمْسَمِائَةِ وَشَهِدَ الشَّاهِدُ بِأَلْفٍ فَيَقُولُ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ وَاسْتَفَادَ الشَّاهِدُ بِذَلِكَ عِلْمًا فَوُفِّقَ بِهِ فِي شَهَادَتِهِ كَمَا وُفِّقَ الْقَاضِي فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا فِي تَلْقِينِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: مَا قَالَاهُ عَزِيمَةٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَنْهِيٌّ عَنْ اكْتِسَابِ مَا يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ وَتَلْقِينُ الشَّاهِدِ لَا يَخْلُو مِنْهُ. وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رُخْصَةٌ، فَإِنَّهُ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ شَاهِدُ الْحَصْرِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ مُهَابٌ فَيَضِيعُ الْحَقُّ إذَا لَمْ يُعِنْهُ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَيَحْصَرُ مُضَارِعُ حَصِرَ مِنْ بَابِ عَلِمَ إذَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ

ص: 276

(فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ)

وَضَاقَ صَدْرُهُ بِهِ، وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَأَيْضًا أَمْرًا بِإِكْرَامِ الشُّهُودِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي بِهِمْ الْحُقُوقَ، وَهَذَا التَّلْقِينُ إعَانَةٌ وَإِكْرَامٌ حَيْثُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ الْقُصُورُ. وَقَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَشْخَاصِ هُوَ إرْسَالُ شَخْصٍ لِيَأْتِيَ بِخَصْمِهِ، يُقَالُ شَخَصَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ إذَا ذَهَبَ مِنْ حَدٍّ مَنَعَ. قِيلَ وَتَأْخِيرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَتَسْمِيَتُهُ بِالِاسْتِحْسَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ اسْتَحْسَنَهُ مَعْنَاهُ لَهُ دَلِيلُ الِاسْتِحْسَانِ الِاصْطِلَاحِيِّ، وَقَدْ لَا يَلْزَمُ وَيَكْفِي كَوْنُهُ آخِرُ دَلِيلٍ فِي ذَلِكَ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانٍ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِنَفْسِهِ بَلْ يُفَوِّضُ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ يَتَّخِذُ وَكِيلًا لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ وَكِيلُ الْقَاضِي تَحَرُّزًا عَنْ الْمُحَابَاةِ، وَشَرَطَ شُرَيْحٌ عَلَى عُمَرَ حِينَ وَلَّاهُ أَنْ لَا أَبِيعَ وَلَا أَشْتَرِيَ وَلَا أَرْتَشِيَ، وَقَالَ بَعْضُ أَشْيَاخِ الْمَالِكِيَّةِ، يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَرْتَفِعَ عَنْ طَلَبِ الْعَوَارِيّ مِنْ الْمَاعُونِ وَالدَّابَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَيَنْبَغِي لِلْخُصُومِ إذَا وَصَلَّوْا أَنْ لَا يُسَلِّمُوا عَلَى الْقَاضِي، فَإِذَا سَلَّمُوا لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي رَدُّ سَلَامِهِمْ، فَإِنْ رَدَّ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَيْكُمْ وَيَخْرُجُ فِي أَحْسَنِ ثِيَابِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

(فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ)

أَحْكَامُ الْقَضَاءِ كَثِيرَةٌ فَذَكَرَ مِنْهَا مَا ذَكَرَ، وَمِنْهَا الْحَبْسُ، إلَّا أَنَّهُ اخْتَصَّ بِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ فَأَفْرَدَهُ بِفَصْلٍ عَلَى حِدَتِهِ. وَالْحَبْسُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} وَبِالسُّنَّةِ عَلَى مَا سَلَفَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» . وَذَكَرَ الْخَصَّافُ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ اقْتَتَلُوا فَقَتَلُوا بَيْنَهُمْ قَتِيلًا، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَبَسَهُمْ» وَلَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ سِجْنٌ، إنَّمَا كَانَ يَحْبِسُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الدِّهْلِيزِ حَتَّى اشْتَرَى عُمَرُ رضي الله عنه دَارًا بِمَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَاِتَّخَذَهُ مَحْبِسًا.

وَقِيلَ بَلْ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ أَيْضًا إلَى زَمَنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَبَنَاهُ، وَهُوَ أَوَّلُ سِجْنٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ.

ص: 277

قَالَ (وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا، وَهَذَا إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهُ مُمَاطِلًا فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ فَلَعَلَّهُ طَمِعَ فِي الْإِمْهَالِ فَلَمْ يَسْتَصْحِبْ الْمَالُ، فَإِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ حَبَسَهُ لِظُهُورِ مَطْلِهِ، أَمَّا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حَبَسَهُ كَمَا ثَبَتَ لِظُهُورِ الْمَطْلِ بِإِنْكَارِهِ.

قَالَ فِي الْفَائِقِ: إنَّ عَلِيًّا بَنَى سِجْنًا مِنْ قَصَبٍ فَسَمَّاهُ نَافِعًا، فَنَقَبَهُ اللُّصُوصُ وَتَسَيَّبَ النَّاسُ مِنْهُ، ثُمَّ بَنَى سِجْنًا مِنْ مَدَرٍ فَسَمَّاهُ مَخِيسًا، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَلِيٌّ رضي الله عنه:

أَلَا تَرَانِي كَيِّسًا مُكَيِّسَا

بَنَيْت بَعْدَ نَافِعٍ مُخَيَّسَا

بَابًا حَصِينًا وَأَمِينًا كَيِّسَا

وَالْمُخَيَّسُ مَوْضِعُ التَّخْيِيسِ وَهُوَ التَّذْلِيلُ، وَالْكَيْسُ حُسْنُ التَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ، وَالْكَيِّسُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْكَيْسِ. وَأَرَادَ بِالْأَمِينِ السَّجَّانَ الَّذِي نَصَبَهُ فِيهِ، وَالْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ لَا يَخْرُجُ لِصَوْمِ رَمَضَانَ وَلَا لِعِيدٍ وَلَا لِجُمُعَةٍ وَلَا لِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ وَلَا لِحَجِّ فَرِيضَةٍ وَلَا لِحُضُورِ جِنَازَةِ بَعْضِ أَهْلِهِ وَلَوْ أَعْطَى كَفِيلًا بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيُسَارِعَ لِلْقَضَاءِ، وَلِهَذَا قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْضِعًا خَشِنًا وَلَا يُبْسَطُ لَهُ فِرَاشٌ وَلَا وِطَاءٌ وَلَا يَدْخُلُ لَهُ أَحَدٌ يَسْتَأْنِسُ بِهِ. وَقِيلَ يَخْرُجُ بِكَفِيلٍ لِجِنَازَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالْأَوْلَادِ، وَفِي غَيْرِهِمْ لَا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إبْطَالُ حَقٍّ آدَمِيٍّ بِلَا مُوجِبٍ وَمَوْتُ الْأَبِ وَنَحْوُهُ غَيْرُ مُبْطِلٍ بِنَفْسِهِ. نَعَمْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِحُقُوقِ دَفْنِهِ فَعَلَ ذَلِكَ. وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ عَمَّا إذَا مَاتَ وَالِدُهُ أَيَخْرُجُ فَقَالَ لَا. وَلَوْ مَرِضَ فِي السِّجْنِ فَأَضْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ لَا يَخْرُجُ حَتَّى يَمُوتَ، إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ يَخْرُجُ لِأَنَّهُ قَدْ يَمُوتُ بِسَبَبِ عَدَمِ الْمُمَرِّضِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مَقْضِيًّا لِلتَّسَبُّبِ فِي هَلَاكِهِ؛ وَلَوْ احْتَاجَ إلَى الْجِمَاعِ تَدْخُلُ زَوْجَتُهُ أَوْ جَارِيَتُهُ فَيَطَؤُهَا حَيْثُ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ يُمْنَعُ مِنْهُ لِأَنَّ الْجِمَاعَ لَيْسَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ الْإِيفَاءِ بِمَشُورَتِهِمْ وَرَأْيِهِمْ وَيُمْنَعُونَ مِنْ طُولِ الْمُكْثِ. وَالْمَالُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فِي الْحَبْسِ، فَيُحْبَسُ فِي الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ لِأَنَّ ظُلْمَهُ يَتَحَقَّقُ بِمَنْعِ ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُهُ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ) بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفَسَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ إحْلَالَ عِرْضِهِ بِإِغْلَاظِ الْقَوْلِ لَهُ وَعُقُوبَتِهِ بِالْحَبْسِ (فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ الْمُمَاطَلَةِ) وَلَمْ تَظْهَرْ بِمُجَرَّدِ ثُبُوتِ الْحَقِّ بِالْإِقْرَارِ (إذْ لَعَلَّهُ طَمَعَ فِي الْإِمْهَالِ فَلَمْ يَسْتَصْحِبْ الْمَالَ) وَإِنَّمَا يَظْهَرُ إذَا أَمَرَهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ فَامْتَنَعَ (أَمَّا إذَا ظَهَرَ بِالْبَيِّنَةِ فَيَحْبِسُهُ كَمَا ظَهَرَ لِظُهُورِ الْمُمَاطَلَةِ بِإِنْكَارِهِ). وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ.:

ص: 278

قَالَ (فَإِنْ امْتَنَعَ حَبْسُهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ) لِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ثَبَتَ غِنَاهُ بِهِ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْتِزَامِهِ بِاخْتِيَارِهِ دَلِيلُ يَسَارِهِ إذْ هُوَ لَا يَلْتَزِمُ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ مُعَجَّلُهُ دُونَ مُؤَجَّلِهِ. قَالَ (وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إذَا قَالَ إنِّي فَقِيرٌ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ غَرِيمُهُ أَنَّ لَهُ مَالًا فَيَحْبِسَهُ) لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ دَلَالَةُ الْيَسَارِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَعَلَى الْمُدَّعِي إثْبَاتُ غِنَاهُ،

وَعَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ عَكْسُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَحْبِسُهُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ لِأَنَّهُ يَعْتَذِرُ بِأَنِّي مَا كُنْت أَعْلَمُ أَنَّ عَلَيَّ دَيْنًا لَهُ بِخِلَافِهِ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالدَّيْنِ وَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَحْوَجَهُ إلَى شَكْوَاهُ؛ وَعَلَى قَوْلِ الْخَصَّافِ لَا يَحْبِسُهُ حَتَّى يَأْمُرَهُ فِي الْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ.

(قَوْلُهُ فَإِنْ امْتَنَعَ) أَيْ بَعْدَ أَمْرِهِ بِقَضَائِهِ (حَبَسَهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ كَ) الْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ثَبَتَ غِنَاهُ (بِهِ) وَالْمُرَادُ بِالْغِنَى الْقُدْرَةُ عَلَى الْإِيفَاءِ، وَإِلَّا فَالدَّيْنُ قَدْ يَكُونُ دُونَ النِّصَابِ وَيُحْبَسُ بِهِ: يَعْنِي إذَا دَخَلَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ثَبَتَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى إيفَائِهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ بَدَلَ مَالٍ لَكِنَّهُ لَزِمَهُ عَنْ عَقْدٍ الْتَزَمَهُ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ مَا يُلْزِمُ ذَلِكَ الْمَالَ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَيَحْبِسُهُ، وَلَا يَسْمَعُ قَوْلَهُ إنِّي فَقِيرٌ لِأَنَّهُ كَالْمُنَاقِضِ لِوُجُودِ دَلَالَةِ الْيَسَارِ (وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ) النَّوْعَيْنِ (إذَا قَالَ إنِّي فَقِيرٌ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ غَرِيمُهُ أَنَّ لَهُ مَالًا فَيَحْبِسَهُ) حِينَئِذٍ (لِأَنَّهُ وَجَدَ دَلَالَةَ الْيَسَارِ)

ص: 279

وَيُرْوَى أَنَّ الْقَوْلَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعُسْرَةُ. وَيُرْوَى أَنَّ الْقَوْلَ لَهُ إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ. وَفِي النَّفَقَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إنَّهُ مُعْسِرٌ، وَفِي إعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ الْقَوْلُ لِلْمُعْتِقِ،

أَيْ قُدْرَتَهُ عَلَى الدَّيْنِ الْمُدَّعَى بِهِ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ (وَيُرْوَى أَنَّ الْقَوْلَ لِمَنْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ) أَيْ فِيمَا كَانَ بَدَلَ مَالٍ أَوْ لَزِمَهُ بِعَقْدٍ أَوْ حُكْمًا لِفِعْلِهِ لَا لِعَقْدٍ كَالْإِتْلَافِ وَضَمَانِ الْغَصْبِ وَهُوَ قَوْلُ الْخَصَّافِ (لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعُسْرَةُ) فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّهُ خُلِقَ عَدِيمَ الْمَالِ، وَلِهَذَا قَالَ: إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ فَلَا يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ أَلَك مَالٌ أَوْ لَا، فَإِنْ قَالَ لَا اسْتَحْلَفَهُ فَإِنْ نَكَلَ حَبَسَهُ، وَإِنْ حَلَفَ أَطْلَقَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى قُدْرَتِهِ.

وَعِنْدَنَا يَحْبِسُهُ وَلَا يَسْأَلُهُ، فَإِنْ قَالَ أَنَا فَقِيرٌ حِينَئِذٍ يَنْظُرُ (وَيُرْوَى أَنَّ الْقَوْلَ لَهُ) أَيْ لِلْمَدْيُونِ (إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ) كَالْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ بِخِلَافِ الْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهِمَا قَوْلُ الْمُدَّعِي. وَنَسَبَ الْخَصَّافُ هَذَا الْقَوْلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: يَحْكُمُ الزِّيُّ إنْ كَانَ بِزِيِّ الْفُقَرَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْفَقْرِ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعِي قُدْرَتَهُ، وَإِنْ كَانَ بِزِيِّ الْأَغْنِيَاءِ فَالْقَوْلُ لِلْمُدَّعِي إلَّا فِي الْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ لَا يَحْكُمُ الزِّيُّ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّفُونَ فِي لِبَاسِهِمْ مَعَ فَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ كَانَ عَلَى الْمَطْلُوبِ زِيُّ الْفُقَرَاءِ فَادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ غَيْرُ زِيِّهِ وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْأَغْنِيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَلُ الْمُدَّعِيَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْأَغْنِيَاءِ جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْبَيَانِ حَكَمَ زِيُّهُ فِي الْحَالِ فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَدْيُونِ، وَكُلَّمَا تَعَارَضَتْ بَيِّنَةُ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْيَسَارِ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ مُوسِرٌ وَهُوَ يَقُولُ أَعْسَرْت بَعْدَ ذَلِكَ وَأَقَامَ بَيِّنَةً بِذَلِكَ فَإِنَّهَا تَقَدُّمُ لِأَنَّ مَعَهَا عِلْمًا بِأَمْرٍ حَادِثٍ وَهُوَ حُدُوثُ ذَهَابِ الْمَالِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مَسْأَلَتَيْنِ مَحْفُوظَتَيْنِ نَصًّا عَنْ أَصْحَابِنَا بِلَا خِلَافٍ: إحْدَاهُمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ أَنَّهُ مُوسِرٌ لِتَأْخُذَ نَفَقَةَ الْيَسَارِ وَقَالَ إنَّهُ مُعْسِرٌ لِيُعْطِيَ نَفَقَةَ الْإِعْسَارِ أَنَّ الْقَوْلَ لِلزَّوْجِ، وَالثَّانِيَةُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ فَلَا يَضْمَنُ لِلسَّاكِتِ شَيْئًا وَلَكِنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ وَقَالَ شَرِيكُهُ بَلْ مُوسِرٌ لِيَضْمَنَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُعْتِقِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ

ص: 280

وَالْمَسْأَلَتَانِ تُؤَدِّيَانِ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ مُطْلَقٍ بَلْ هُوَ صِلَةٌ حَتَّى تَسْقُطَ النَّفَقَةُ بِالْمَوْتِ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ، ثُمَّ فِيمَا كَانَ الْقَوْلُ

وَالْمَسْأَلَتَانِ تُؤَيِّدَانِ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ) يَعْنِي قَوْلَ الْقَائِلِ الْقَوْلُ لِمَنْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ الْقَوْلُ لِمَنْ عَلَيْهِ إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ. أَمَّا تَأْيِيدُهُمَا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجِ وَالْمُعْتِقِ، فَلَوْ كَانَ الصَّحِيحُ الْمَذْكُورَ أَوْ لَا، كَانَ الْقَوْلُ لِلْمَرْأَةِ وَالشَّرِيكِ السَّاكِتِ فِي دَعْوَى الْيَسَارِ، وَأَمَّا تَأْيِيدُهُمَا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَدَلُ الْمَهْرِ وَبَدَلُ الْعِتْقِ مَالًا جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْقَوْلَانِ الْأَخِيرَانِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَرْوَحَ فِي الْأَوَّلِ فَقَالَ: أَمَّا تَأْيِيدُهُمَا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ الْقَوْلُ لَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَظَاهِرٌ، وَذَكَرَ فِي الثَّانِي مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُمَا يُبْطِلَانِ الْقَوْلَ الْمُفَصَّلَ فِي الْكِتَابِ بَيْنَ كَوْنِ الدَّيْنِ مُلْتَزَمًا بِمَالٍ أَوْ بِعَقْدٍ، فَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمَطْلُوبِ وَكَوْنُهُ بِخِلَافِهِمَا فَالْقَوْلُ لِلْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ الْبَدَلَ فِيهِمَا مُلْتَزَمٌ بِعَقْدٍ أَوْ شِبْهِهِ، وَهُوَ الْفِعْلُ الْحَسَنُ الْمَوْضُوعُ سَبَبًا: أَعْنِي الْعِتْقَ، وَيُؤَيِّدَانِ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ لِلْمَدْيُونِ إلَّا فِيمَا بَدَلُهُ مَالٌ فَإِنَّ الْبَدَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ مَالًا، وَيَجْعَلُ الْقَوْلَ لِلْمَدْيُونِ تَأَيُّدُ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا بَدَلُهُ لَيْسَ بِمَالٍ يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ لِلْمَطْلُوبِ وَإِنْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ، ثُمَّ هَذِهِ الثَّانِيَةُ بِاعْتِبَارِ صِدْقِهَا مَعَ جُزْءِ كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ بِمُطَابَقَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يُوهِمُ أَنَّهُ يُفِيدُ الشُّمُولَ وَإِلَّا فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِهِ الْقَوْلَ لِلْمَطْلُوبِ فِيمَا إذَا الْتَزَمَ بِعَقْدٍ وَالْبَدَلُ لَيْسَ بِمَالٍ كَوْنُ الْقَوْلِ لَهُ فِي جَمِيعِ الدُّيُونِ. فَمَا فِي النِّهَايَةِ وَالدِّرَايَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ بَعْدَ تَوْجِيهِ التَّأْيِيدِ فَكَانَ الصَّحِيحُ هُمَا الْقَوْلَانِ تَسَاهُلٌ ظَاهِرٌ. وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الصِّحَّةِ وَهُمَا مُتَبَايِنَانِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْقَوْلِ لِلْمَطْلُوبِ فِي الْكُلِّ إذَا كَانَ هُوَ الصَّحِيحَ لَا يَكُونُ الْمُفَصَّلُ بَيْنَ كَوْنِ بَدَلِ الدَّيْنِ مَالًا فَالْقَوْلُ لِلْمُدَّعِي، أَوْ غَيْرَ مَالٍ فَالْقَوْلُ لِلْمَطْلُوبِ صَحِيحًا. فَاَلَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ إنَّمَا يُبْطِلَانِ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ لَيْسَ غَيْرُ.

وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْإِبْطَالِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ دَيْنَ النَّفَقَةِ وَضَمَانَ الْعِتْقِ لَيْسَ بِدَيْنٍ مُطْلَقٍ بَلْ هُوَ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ وَلِذَا سَقَطَتْ النَّفَقَةُ بِالْمَوْتِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (وَالتَّخْرِيجُ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ إلَخْ) فَلَمْ يُرِدْ نَقْضًا فَيَرْجِعَ قَوْلُ الْكِتَابِ الْمُفَصَّلِ عَلَى قُوَّتِهِ وَثُبُوتِهِ (ثُمَّ فِيمَا) إذَا (كَانَ الْقَوْلُ

ص: 281

قَوْلَ الْمُدَّعِي إنَّ لَهُ مَالًا، أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فِيمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ عَلَيْهِ يَحْبِسُهُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ فَالْحَبْسُ لِظُهُورِ ظُلْمِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُهُ مُدَّةً لِيَظْهَرَ مَالُهُ لَوْ كَانَ يُخْفِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَمْتَدَّ الْمُدَّةُ لِيُفِيدَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فَقَدَّرَهُ بِمَا ذَكَرَهُ، وَيُرْوَى غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرِ بِشَهْرٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَشْخَاصِ فِيهِ. قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ خُلِّيَ سَبِيلُهُ) يَعْنِي بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ فَيَكُونُ حَبْسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ظُلْمًا؛.

قَوْلَ الْمُدَّعِي إنَّ لَهُ مَالًا أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ يُحْبَسُ) الْمَدْيُونُ (شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ يُسْأَلُ عَنْهُ فَالْحَبْسُ لِظُهُورِ الْمُمَاطَلَةِ ثُمَّ إنَّمَا يُحْبَسُ مُدَّةً لِيَظْهَرَ مَالُهُ) فَيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ (فَلَا بُدَّ أَنْ تَمْتَدَّ تِلْكَ الْمُدَّةُ لِيُفِيدَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فَقَدَّرَهُ بِمَا ذَكَرَهُ) وَهُوَ شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ (وَيُرْوَى غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرِ بِشَهْرٍ) وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْآجِلِ وَمَا دُونَ الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ فَصَارَ أَدْنَى الْأَجَلِ شَهْرًا وَالْأَقْصَى لَا غَايَةَ لَهُ فَيُقَدَّرُ بِشَهْرٍ. وَرُوِيَ (أَوْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَيْ مَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

(قَوْلُهُ وَالصَّحِيحُ إلَخْ) ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ نَحْوَهُ وَكَذَا الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، فَالتَّقْدِيرُ فِي هَذَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَلْ هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي إذْ الْمَقْصُودُ بِالْحَبْسِ أَنْ يَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيَقْضِيَهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي بَعْدَ مُدَّةٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَرَّجَ عَنْ نَفْسِهِ فَيَسْأَلُ عَنْهُ جِيرَانَهُ وَأَهْلَ الْخِبْرَةِ بِهِ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ أَبَّدَ حَبْسَهُ، وَإِنْ

ص: 282

وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إفْلَاسِهِ قَبْلَ الْمُدَّةِ تُقْبَلُ فِي رِوَايَةٍ، وَلَا تُقْبَلُ فِي رِوَايَةٍ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ رحمهم الله. قَالَ فِي الْكِتَابِ خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ، وَهَذَا كَلَامٌ فِي الْمُلَازَمَةِ وَسَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ

قَالُوا إنَّهُ ضَيِّقُ الْحَالِ أَطْلَقَهُ، وَلَوْ رَأَى أَنْ يَسْأَلَ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَبْسِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ قَبْلَ الْحَبْسِ وَقَبُولُ بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ: فِي رِوَايَةٍ تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَبْسِ وَبِهِ أَفْتَى مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْحَبْسِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. قِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِنَّ بَيِّنَةَ الْإِعْسَارِ بَيِّنَةٌ عَلَى النَّفْيِ فَلَا تُقْبَلُ حَتَّى تَتَأَيَّدَ بِمُؤَيِّدٍ وَبَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ تَأَيَّدَتْ،

ص: 283

إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَجُلٌ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِدَيْنٍ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَبَّدَ حَبْسَهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا خَلَّى سَبِيلَهُ، وَمُرَادُهُ إذَا أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي أَوْ عِنْدَهُ مَرَّةً وَظَهَرَتْ مُمَاطَلَتُهُ وَالْحَبْسُ أَوَّلًا وَمُدَّتُهُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فَلَا نُعِيدُهُ.

قَالَ (وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ) لِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِالِامْتِنَاعِ (وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ) لِأَنَّهُ نَوْعُ عُقُوبَةٍ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْوَلَدُ عَلَى الْوَالِدِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ

إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَتَحَمَّلْ ضِيقَ السِّجْنِ وَمَرَارَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ الْقَاضِي بَعْدَ الْمُدَّةِ لِلِاحْتِيَاطِ وَإِلَّا فَبَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ دَفَعَهُ وَجَبَ إطْلَاقُهُ إنْ لَمْ يُقِمْ الْمُدَّعِي بَيِّنَةَ يَسَارِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى سُؤَالٍ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ مَالٌ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَلَوْ طَلَبَ الْمَدْيُونُ يَمِينَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ حَلَفَ، فَإِنْ نَكَلَ أَطْلَقَهُ، وَلَوْ قَبْلَ الْحَبْسِ، وَإِنْ حَلَفَ أَبَّدَ حَبْسَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَاهُ مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى حُدُوثِ عُسْرَتِهِ.

قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ فِي كَيْفِيَّةِ شَهَادَةِ الْإِعْسَارِ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ مُفْلِسٌ لَا نَعْلَمُ لَهُ مَالًا سِوَى كِسْوَتِهِ الَّتِي عَلَيْهِ وَثِيَابِ لَيْلِهِ وَقَدْ اخْتَبَرْنَا أَمْرَهُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ فَسَأَلَ فَإِنَّهُ يَكْفِي الْوَاحِدُ الْعَدْلُ فِي إخْبَارِهِ بِالْعُسْرَةِ، وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْحَبْسِ مِنْ كَفَالَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ

(قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَجُلٌ أَقَرَّ بِدَيْنٍ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْ حَالِهِ) إنَّمَا ذَكَرَهُ لِمَا فِي ظَاهِرُهُ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِمَا قَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ بِالْإِقْرَارِ لَا يَحْبِسُهُ فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ، فَإِنَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِي وَصْلِ الْحَبْسِ بِإِقْرَارِهِ فَذَكَرَهُ لِيُؤَوِّلَهُ بِقَوْلِهِ (وَمُرَادُهُ إذَا أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي أَوْ عِنْدَهُ مَرَّةً وَظَهَرَتْ مُمَاطَلَتُهُ فَتَرَافَعَا) إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ بِمُجَرَّدِ جَوَابِهِ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِ إلَى الْآنَ شَيْئًا

(قَوْلُهُ وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِالِامْتِنَاعِ) وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِأَنْ تُقَدِّمَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ فَرْضِ النَّفَقَةِ وَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ النَّفَقَةِ قَلِيلًا كَالدَّانَقِ إذَا رَأَى الْقَاضِي ذَلِكَ، فَأَمَّا بِمُجَرَّدِ فَرْضِهَا لَوْ طَلَبَتْ حَبْسَهُ لَمْ يَحْبِسْهُ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ تُسْتَحَقُّ بِالظُّلْمِ، وَالظُّلْمُ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْرِضْ لَهَا وَلَمْ يُنْفِقْ الزَّوْجُ عَلَيْهَا فِي يَوْمٍ يَنْبَغِي إذَا قَدَّمَتْهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْإِنْفَاقِ فَإِنْ رَجَعَ فَلَمْ يُنْفِقْ أَوْجَعَهُ عُقُوبَةً، وَإِنْ كَانَتْ النَّفَقَةُ سَقَطَتْ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَهُوَ ظَالِمٌ لَهَا وَهُوَ قِيَاسُ مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْقَسْمِ مِنْ قَوْلِهِمْ إذَا لَمْ يَقْسِمْ لَهَا فَرَفَعَتْهُ إلَى الْقَاضِي يَأْمُرُهُ بِالْقَسْمِ وَعَدَمِ الْجَوْرِ، فَإِنْ ذَهَبَ وَلَمْ يَقْسِمْ فَرَفَعَتْهُ أَوْجَعَهُ عُقُوبَةً، وَإِنْ كَانَ مَا ذَهَبَ لَهَا مِنْ الْحَقِّ لَا يَقْضِي وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ كَبِيرٌ.

(قَوْلُهُ وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ) وَلَا يَسْتَحِقُّ الْوَالِدُ عُقُوبَةً لِأَجْلِ الْوَلَدِ لِأَنَّ التَّأْفِيفَ لَمَّا حَرُمَ كَانَ الْحَبْسُ حَرَامًا لِأَنَّهُ فَوْقَهُ، وَكَذَا لَا يُحَدُّ

ص: 284

(إلَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ) لِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءً لِوَلَدِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُتَدَارَكُ لِسُقُوطِهَا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي)

لَهُ إذَا قَذَفَهُ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ إذَا قَتَلَهُ، أَمَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ فَأَبَى عَنْ الْإِنْفَاقِ أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا أَوْ جَدًّا، لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْإِنْفَاقِ سَعْيًا فِي هَلَاكِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ الْوَالِدُ لِقَصْدِهِ إلَى إهْلَاكِ الْوَلَدِ (وَلِأَنَّهُ لَا يُتَدَارَكُ لِسُقُوطِهَا) أَيْ لِسُقُوطِ النَّفَقَةِ (بِمُضِيِّ الزَّمَانِ) بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ. وَفِي الذَّخِيرَةِ وَالْعَبْدُ لَا يُحْبَسُ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ دَيْنًا، وَلَا الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ غَيْرِ الْمَدْيُونِ لِأَنَّ كَسْبَهُ لِمَوْلَاهُ فَكَيْفَ يُحْبَسُ لَهُ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حُبِسَ لِأَنَّهُ لِلْغُرَمَاءِ فِي التَّحْقِيقِ، وَيُحْبَسُ مَوْلَى الْمُكَاتَبِ لِلْمُكَاتَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ دَيْنُهُ مِنْ جِنْسٍ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ فِي الْجِنْسِ لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ. فَإِذَا أَخَذَ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا وَفِي غَيْرِ جِنْسِهِ لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ. وَالْمُكَاتَبُ فِي أَكْسَابِهِ كَالْحُرِّ فَلَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ فَيُحْبَسُ لِمَطْلِهِ، أَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا يُحْبَسُ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ لَا يَصِيرُ ظَالِمًا، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يُحْبَسُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا هُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ بِتَعْجِيزِ نَفْسِهِ فَيَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ صِلَةٌ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ.

(بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي)

هَذَا أَيْضًا مِنْ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْوُجُودِ إلَّا بِقَاضِيَيْنِ فَهُوَ كَالْمُرَكَّبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَبْسِ، وَالْعَمَلُ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى إخْبَارِهِ بِنَفْسِهِ، وَالْقَاضِي لَوْ أَخْبَرَ قَاضِيَ

ص: 285

قَالَ (وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُقُوقِ إذَا شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ) لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ (فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ حَكَمَ بِالشَّهَادَةِ) لِوُجُودِ الْحُجَّةِ (وَكَتَبَ بِحُكْمِهِ) وَهُوَ الْمَدْعُوُّ سِجِلًّا (وَإِنْ شَهِدُوا بِهِ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْخَصْمِ لَمْ يَحْكُمْ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ (وَكَتَبَ بِالشَّهَادَةِ) لِيَحْكُمَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ بِهَا وَهَذَا هُوَ الْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ،

الْبَلَدِ الْأُخْرَى بِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِبَيِّنَةٍ قَبِلَهَا حَقُّ فُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ الْكَائِنِ فِي بَلَدِ الْقَاضِي الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّ إخْبَارَ الْقَاضِي لَا يُثْبِتُ حُجَّةً فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ فَكِتَابُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُعْمَلَ بِهِ، لَكِنَّهُ جَازَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ

لِحَاجَةِ النَّاسِ

إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ شُهُودِهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ فِي بَلَدَيْنِ فَجُوِّزَ إعَانَةً عَلَى إيصَالِ الْحُقُوقِ لِمُسْتَحِقِّيهَا وَمَا وَجْهُ الْقِيَاسِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةِ التَّزْوِيرِ فَإِنَّ الْخَطَّ وَالْخَتْمَ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَالْخَتْمَ فَلَيْسَ بِذَاكَ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ مُنْتَفِيَةٌ بِاشْتِرَاطِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى نَسْبِهِ مَا فِيهِ إلَى الْقَاضِي الْمُرْسَلِ وَأَنَّهُ خَتَمَهُ. وَقِيلَ أَصْلُهُ مَا رَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَتَبَ: أَنْ وَرِّثْ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهِ. لَا يُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ مِسَاسَ الْحَاجَةِ إلَى كِتَابِ الْقَاضِي لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْكِتَابِ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ وَيُؤَدُّونَ عِنْدَ الْقَاضِي الثَّانِي فَلَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ لِأَنَّا نَقُولُ: فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ يَحْتَاجُ الْقَاضِي الثَّانِي إلَى تَعْدِيلِ الْأُصُولِ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي بَلَدِهِ، وَبِالْكِتَابِ يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكْتُبُ بِعَدَالَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا عِنْدَهُ.

(قَوْلُهُ وَيُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُقُوقِ) أَيْ الَّتِي تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ (إذَا شَهِدَ بِهِ) أَيْ بِالْكِتَابِ (عِنْدَ الْقَاضِي) الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ مِنْ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِيهِ مَا هُوَ عَنْ قَرِيبٍ.

ثُمَّ فَصَّلَ فَقَالَ (فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ حَكَمَ بِالشَّهَادَةِ) يُرِيدُ بِالْخَصْمِ الْحَاضِرِ مَنْ كَانَ وَكِيلًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ مُسَخَّرًا وَهُوَ مَنْ يُنَصِّبُهُ الْقَاضِي وَكِيلًا عَنْ الْغَائِبِ لِيَسْمَعَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَوْ أَرَادَ بِالْخَصْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ حَاجَةٌ إلَى الْكِتَابِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ، لِأَنَّ الْخَصْمَ حَاضِرٌ عِنْدَ هَذَا الْقَاضِي وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ (وَ) إذَا حَكَمَ (كَتَبَ بِحُكْمِهِ) إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّتِي فِيهَا الْمُوَكِّلُ لِيَقْتَضِيَ مِنْهُ الْحَقَّ (وَ) هَذَا الْكِتَابُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْحُكْمِ (هُوَ الْمَدْعُوُّ سِجِلًّا) فِي عُرْفِهِمْ (وَإِذَا شَهِدُوا بِلَا خَصْمٍ حَاضِرٍ لَمْ يَحْكُمْ) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَضَاءٌ عَلَى غَائِبٍ (وَ) إنَّمَا (يَكْتُبُ بِالشَّهَادَةِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ لِيَحْكُمَ) هُوَ (بِهَا وَهَذَا هُوَ الْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ) فِي عُرْفِهِمْ نَسَبُوهُ

ص: 286

وَهُوَ نَقْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَيَخْتَصُّ بِشَرَائِطَ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَجَوَازُهُ لِمِسَاسِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ شُهُودِهِ وَخَصْمِهِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَقَوْلُهُ فِي الْحُقُوقِ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الدَّيْنُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَغْصُوبُ وَالْأَمَانَةُ الْمَجْحُودَةُ وَالْمُضَارَبَةُ الْمَجْحُودَةُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ، وَهُوَ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِشَارَةِ، وَيُقْبَلُ فِي الْعَقَارِ أَيْضًا لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِ بِالتَّحْدِيدِ.

إلَى الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ (وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَقْلُ الشَّهَادَةِ) إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي، وَسَنَذْكُرُ شُرُوطَ الْحُكْمِ مِنْ الْقَاضِي الثَّانِي بِهِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ أَنَّ السِّجِلَّ يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ لَا يَرَى ذَلِكَ الْحُكْمَ لِصُدُورِ الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، وَالْكِتَابُ الْحُكْمِيُّ لَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ يُخَالِفُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ حُكْمٌ فِي مَحَلِّ اجْتِهَادٍ فَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ وَلَا يَعْمَلَ بِهِ (وَيَنْدَرِجُ فِي الْحُقُوقِ الدَّيْنُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَغْصُوبُ وَالْأَمَانَةُ الْمَجْحُودَةُ وَالْمُضَارَبَةُ الْمَجْحُودَةُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ، وَهُوَ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَى الْإِشَارَةِ) وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ لَا بُدَّ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى الرَّجُلِ وَإِلَى الْمَرْأَةِ، وَكَذَا فِي الْأَمَانَةِ وَالْمَغْصُوبِ فَكَانَتْ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ الْمُدَّعَى بِهَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ نَفْسُ النِّكَاحِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ فِي ضِمْنِهِ الْإِشَارَةُ إلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إذْ كُلٌّ خَصْمٌ، وَالْإِشَارَةُ إلَى الْخَصْمِ شَرْطٌ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إذَا لَزِمَتْهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ ضِمْنًا أَوْ قَصْدًا تَتَعَذَّرُ عَلَى شُهُودِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ. فَالْحَقُّ أَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَلْزَمُ مِنْ الْأُصُولِ إلَى الْخَصْمِ الْغَائِبِ، بَلْ يَشْهَدُونَ عَلَى مُسَمَّى الِاسْمِ الْخَاصِّ وَالنَّسَبِ وَالشُّهْرَةِ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ هُنَاكَ يَقَعُ التَّعْيِينُ كَمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَكْتُبُ فِيهَا كَمَا يَكْتُبُ فِي الدَّيْنِ وَالْعَبْدِ (وَيُقْبَلُ فِي الْعَقَارِ أَيْضًا) إذَا بَيَّنَ حُدُودَهَا الْأَرْبَعَ (لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِهِ)

ص: 287

وَلَا يُقْبَلُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَنْقُولَةِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِشَارَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْأَمَةِ لِغَلَبَةِ الْإِبَاقِ فِيهِ دُونَهَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِمَا بِشَرَائِطَ تُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ. .

وَلَا يُقْبَلُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَنْقُولَةِ) كَالْحِمَارِ وَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ (لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِشَارَةِ) فِيهَا (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قُبِلَ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْأَمَةِ لِغَلَبَةِ الْإِبَاقِ فِي الْعَبْدِ) لِأَنَّهُ يَخْدُمُ خَارِجَ الْبَيْتِ فَإِبَاقُهُ مُتَيَسِّرٌ فَلِمِسَاسِ الْحَاجَةِ فِيهِ جَوَّزَهُ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ لِأَنَّهَا دَاخِلُ الْبَيْتِ فَلَا يَتَيَسَّرُ لَهَا تَيَسُّرُهُ لَهُ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُنْقَلُ) مِنْ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالْإِمَاءِ (وَعَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ) وَنَصَّ الْإِسْبِيجَابِيُّ عَلَى أَنَّ الْفَتْوَى عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنْهُ مَا كَانَ إلَّا الْحَاجَةَ إلَى الْإِشَارَةِ فِي الْأَعْيَانِ وَهِيَ غَائِبَةٌ فِي بَلَدِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الدَّيْنِ أَيْضًا لَا بُدَّ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى الْمَدْيُونِ لِيُقْضَى عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ اكْتَفَى بِاسْمِهِ وَشُهْرَتِهِ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَيْهِ، وَقَبُولُ الْقَاضِي الْكَاتِبِ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ عِنْدَ الْقَضَاءِ مِنْ الثَّانِي يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِينِ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِإِيرَادِ الصُّوَرِ، فَصُورَةُ الدَّيْنِ إذَا شَهِدُوا عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ مِنْ فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا إلَى فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا سَلَامٌ عَلَيْك فَإِنِّي أَحْمَدُ إلَيْك اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ رَجُلًا

ص: 288

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَتَانِي يُقَالُ لَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَذَكَرَ أَنَّ لَهُ حَقًّا عَلَى رَجُلٍ فِي كُورَةِ كَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُجَرَّدِ يُقَالُ لَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ وَلَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا سَنَذْكُرُ، وَسَأَلَنِي أَنْ أَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ وَأَكْتُبَ إلَيْك بِمَا يَسْتَقِرُّ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ، فَسَأَلَتْهُ الْبَيِّنَةَ فَأَتَانِي بِعِدَّةٍ مِنْهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَيُحَلِّيهِمْ وَيَنْسُبُهُمْ فَشَهِدُوا عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا دَيْنًا حَالًّا، وَسَأَلَنِي أَنْ أُحَلِّفَهُ بِاَللَّهِ مَا قَبَضَ مِنْهَا شَيْئًا وَلَا قَبَضَهُ لَهُ قَابِضٌ بِوَكَالَةٍ وَلَا احْتَالَ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَحَلَّفْته فَحَلَفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا قَبَضَ مِنْ هَذَا الْمَالِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عِنْدِي وَلَا قَبَضَهُ لَهُ وَكِيلٌ وَلَا أَحَالَهُ وَلَا قَبَضَهُ لَهُ قَابِضٌ وَأَنَّهَا لَهُ عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا إلَيْك بِمَا اسْتَقَرَّ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ فَكَتَبْت إلَيْك هَذَا الْكِتَابَ وَأَشْهَدْت عَلَيْهِ شُهُودًا أَنَّهُ كِتَابِي وَخَاتَمِي وَقَرَأَتْهُ عَلَى الشُّهُودِ.

قَالَ ثُمَّ يُطْوَى الْكِتَابُ وَيُخْتَمُ عَلَيْهِ، فَإِنْ خَتَمَ عَلَيْهِ شُهُودُهُ فَهُوَ أَوْثَقُ ثُمَّ يَكْتُبُ عَلَيْهِ عِنْوَانَ الْكِتَابِ مِنْ فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا إلَى فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا ثُمَّ يَدْفَعُهُ إلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا أَتَى بِهِ الْمُدَّعِي إلَى الْقَاضِي الَّذِي بِالْكُورَةِ فَذَكَرَ أَنَّ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَيْهِ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي حَتَّى يَحْضُرَ الْخَصْمُ، فَإِذَا أَحْضَرَهُ وَأَقَرَّ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ قَبِلَ بَيِّنَتَهُ وَسَمِعَ بِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ لَهُ جِئْنِي بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، فَإِنْ جَاءَ بِهَا وَعُدِّلُوا سَمِعَ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي الَّذِي ذُكِرَ، فَيَقُولُ لَهُمْ: أَقَرَأَ عَلَيْكُمْ مَا فِيهِ؟، فَإِذَا قَالُوا قَرَأَهُ عَلَيْنَا وَأَشْهَدْنَا أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ وَخَتْمُهُ فَإِذَا سَمِعَ مِنْهُمْ لَا يَفُكُّ الْخَاتَمَ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ، فَإِذَا عُدِّلُوا لَا يَفُكُّهُ أَيْضًا حَتَّى يَحْضُرَ الْخَصْمُ، فَإِذَا حَضَرَ فَكَّهُ وَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَرَّ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ أَلَك حُجَّةٌ وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ قَضَى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حُجَّةٌ قَبِلَهَا، وَإِنْ قَالَ لَسْت أَنَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الَّذِي شَهِدُوا عَلَيْهِ بِهَذَا الْمَالِ لِزَيْدٍ بَلْ هُوَ آخَرُ، قَالَ لَهُ هَاتِ بَيِّنَةً أَنَّ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ أَوْ الْقَبِيلَةِ رَجُلًا يَنْتَسِبُ بِمِثْلِ مَا تَنْتَسِبُ إلَيْهِ وَإِلَّا أَلْزَمْتُك مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ، فَإِنْ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّ فِي تِلْكَ الْقَبِيلَةِ أَوْ الصِّنَاعَةِ مَنْ يَنْتَسِبُ بِمِثْلِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ أَبْطَلَ الْكِتَابَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْقَبِيلَةِ أَوْ الصِّنَاعَةِ أَحَدٌ عَلَى اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ قَضَى عَلَيْهِ انْتَهَى.

فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ التَّعْيِينَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِشَارَةِ يَحْصُلُ بِآخِرِهِ الْأَمْرُ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَوَاضِعُ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً نُنَبِّهُ عَلَيْهَا: مِنْهَا قَوْلُهُ فِي شُهُودِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَيُحَلِّيهِمْ وَيَنْسُبُهُمْ لَمْ يَذْكُرُ كَتْبَ عَدَالَتِهِمْ وَلَا بُدَّ مِنْهَا، وَقَالُوا لَوْ كَتَبَ وَأَقَامَ شُهُودًا عُدُولًا عَرَفْتهمْ بِالْعَدَالَةِ أَوْ سَأَلْت عَنْهُمْ فَعَدَلُوا كَفَى عَنْ تَسْمِيَتِهِمْ وَنَسَبِهِمْ، وَعِنْدِي لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ أَحْرَارٌ عُدُولٌ إذَا لَمْ يُسَمِّهِمْ.

وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ وَنِسْبَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ وَمُصَلَّاهُ وَحِرْفَتِهِ إنْ تَاجِرًا فَتَاجِرٌ أَوْ مُزَارِعًا فَمُزَارِعٌ، وَالْمَقْصُودُ تَتْمِيمُ تَعْرِيفِ الشُّهُودِ، ثُمَّ يَذْكُرُ أَنَّهُ عَرَفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ أَوْ عَدَلُوا لِأَنَّ الْخَصْمَ إذَا أَحْضَرَهُ الثَّانِي قَدْ يَكُونُ لَهُ مَطْعَنٌ فِيهِمْ أَوْ فِي أَحَدِهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِمْ لَهُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الطَّعْنِ إنْ كَانَ، وَإِلَّا فَيَقُولُ سَمُّوهُمْ لِي فَإِنِّي قَدْ يَكُونُ لِي فِيهِمْ مَطْعَنٌ.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ إلَى فُلَانٍ قَاضِي كُورَةِ كَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْقَاضِي وَاحِدًا فَإِنْ كَانَ لَهَا قَاضِيَانِ لَا يَصِحُّ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي الْمُدَّعِي يُقَالُ لَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ يَتِمُّ التَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِمَا وَعِنْدَهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجَدِّ، وَكَذَا الْخِلَافُ لَوْ ذَكَرَ قَبِيلَتَهُ أَوْ صِنَاعَتَهُ وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ الْأَبِ لَكِنْ نَسَبَهُ إلَى قَبِيلَتِهِ أَوْ فَخِذِهِ فَقَالَ فُلَانٌ التَّمِيمِيُّ أَوْ الْكُوفِيُّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ

ص: 289

قَالَ (وَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) لِأَنَّ الْكِتَابَ يُشْبِهُ الْكِتَابَ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ وَهَذَا لِأَنَّهُ مُلْزِمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ، بِخِلَافِ كِتَابِ الِاسْتِئْمَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ

تَعْرِيفًا بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا.

وَقِيلَ وَلَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ ادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ غَائِبٌ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ مَسِيرَةَ سَفَرٍ لِأَنَّ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ اخْتِلَافًا فِي الْمَسَافَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، فَجَمَاعَةٌ مِنْ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا يَجُوزُ فِيمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي وَجْهٍ.

وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِيمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَمِنْهَا خَتْمُ الشُّهُودِ لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ هُوَ أَوْثَقُ كَمَا قَالَ.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ وَعُدِّلُوا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا يَفُكُّ الْخَتْمَ حَتَّى يُعَدَّلَ شُهُودُ الْكِتَابِ وَفِيهِ خِلَافٌ سَيُذْكَرُ، وَإِنْ كَانَتْ دَارًا قَالَ وَادَّعَى أَنَّ لَهُ دَارًا فِي بَلَدِ كَذَا فِي مَحَلَّةِ كَذَا وَذَكَرَ حُدُودَهَا فِي يَدِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ يَعْرِفُهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ. وَلَوْ ذَكَرُوا ثَلَاثَةَ حُدُودٍ كَفَى اسْتِحْسَانًا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَلَوْ غَلِطُوا فِي بَعْضِ الْحُدُودِ بَطَلَ الْكِتَابُ. وَصُورَةُ كِتَابِ الْعَبْدِ الْآبِقِ مِنْ مِصْرٍ بَعْدَ الْعُنْوَانِ وَالسَّلَامِ أَنْ يَكْتُبَ شَهِدَ عِنْدِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ بِأَنَّ الْعَبْدَ الْهِنْدِيَّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فُلَانٌ حِلْيَتُهُ كَذَا وَقَامَتُهُ كَذَا وَسِنُّهُ كَذَا وَقِيمَتُهُ كَذَا مِلْكُ فُلَانٍ الْمُدَّعِي، وَقَدْ أَبَقَ إلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَهُوَ الْيَوْمَ فِي يَدِ فُلَانٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَشْهَدُ عَلَى كِتَابِهِ شَاهِدَيْنِ مُسَافِرَيْنِ إلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّة عَلَى مَا فِيهِ وَعَلَى خَتْمِهِ كَمَا سَيُذْكَرُ، فَإِذَا وَصَلَ وَفَعَلَ الْقَاضِي مَا تَقَدَّمَ وَفَتَحَ الْكِتَابَ دَفَعَ الْعَبْدَ إلَى الْمُدَّعِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِهِ لِأَنَّ الشُّهُودَ الَّذِينَ شَهِدُوا بِمِلْكِ الْعَبْدِ لِلْمُدَّعِي لَمْ يَشْهَدُوا بِحَضْرَةِ الْعَبْدِ وَيَأْخُذُ كَفِيلًا بِنَفْسِ الْعَبْدِ مِنْ الْمُدَّعِي وَيَجْعَلُ خَاتَمًا مِنْ الْقَاضِي فِي كَتِفِ الْعَبْدِ وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا إلَّا لِدَفْعِ مَنْ يَتَعَرَّضُ لَهُ وَيَتَّهِمُهُ بِسَرِقَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَا حَاجَةَ وَيَكْتُبُ كِتَابًا إلَى قَاضِي مِصْرٍ وَيَشْهَدَانِ عَلَى كِتَابِهِ عَلَى مَا عُرِفَ، فَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَيْهِ فَعَلَ مَا يَفْعَلُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الْمُدَّعِي أَنْ يُحْضِرَ شُهُودَهُ لِيَشْهَدُوا بِالْإِشَارَةِ إلَى الْعَبْدِ أَنَّهُ مِلْكُهُ، فَإِذَا شَهِدُوا قَضَى لَهُ بِهِ وَكَتَبَ إلَى قَاضِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لِيُبَرِّئَ كَفِيلَهُ.

وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ قَاضِيَ مِصْرٍ لَا يَقْضِي بِالْعَبْدِ لِلْمُدَّعِي لِأَنَّ الْخَصْمَ غَائِبٌ، وَلَكِنْ يَكْتُبُ كِتَابًا آخَرَ إلَى قَاضِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَيَذْكُرُ فِيهِ مَا جَرَى عِنْدَهُ وَيُشْهِدُ عَلَى كِتَابِهِ وَخَتْمِهِ وَيَرُدُّ الْعَبْدَ مَعَهُ إلَيْهِ لِيَقْضِيَ بِهِ بِحَضْرَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ ذَلِكَ وَيُبَرِّئُ الْكَفِيلَ. وَصُورَتُهُ فِي الْجَوَارِي كَمَا فِي الْعَبْدِ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ لَا يَدْفَعُ الْجَارِيَةَ إلَى الْمُدَّعِي بَلْ يَبْعَثُهَا عَلَى يَدِ أَمِينٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ إذَا أَرْسَلَهَا مَعَ الْمُدَّعِي يَطَؤُهَا لِاعْتِمَادِهِ أَنَّهَا مِلْكُهُ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: هَذَا فِيهِ بَعْضُ الْقُبْحِ، فَإِنَّهُ إذَا دَفَعَ الْعَبْدَ يَسْتَخْدِمُهُ قَهْرًا وَيَسْتَغِلُّهُ، فَيَأْكُلُ مِنْ غَلَّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ مِلْكُهُ فِيهِ بِالْقَضَاءِ وَرُبَّمَا يَظْهَرُ الْعَبْدُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ضَمَّ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَكَلَامُنَا عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمُخْتَارَةِ لِلْفَتْوَى الْمُوَافِقَةِ لِلْوَجْهِ وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَالزَّوْجَةُ الْمُدَّعَى بِاسْتِحْقَاقِهَا فِي بَلَدِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ تُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ الْأَمَةِ فَيَجْرِي فِيهَا مَا يَجْرِي فِيهَا لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الدُّيُونِ، لِأَنَّهَا إذَا قَالَتْ لَسْت أَنَا فُلَانَةَ الْمَشْهُودَ عَلَى أَنَّهَا زَوْجَةٌ الْمُدَّعِي الْمَذْكُورِ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى بَيِّنَةِ أَنَّ فِي قَبِيلَتِهَا مَنْ هُوَ عَلَى اسْمِهَا وَنَسَبِهَا أَنْ تُدْفَعَ إلَى الْمُدَّعِي يَطَؤُهَا

(قَوْلُهُ وَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ) أَيْ لَا يَقْبَلُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ الْكِتَابُ (إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) عَلَى أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي فُلَانٍ الْكَاتِبِ وَأَنَّهُ خَتْمُهُ وَأَنَّ

ص: 290

الْقَاضِي إلَى الْمُزَكَّى وَرَسُولِهِ إلَى الْقَاضِي لِأَنَّ الْإِلْزَامَ بِالشَّهَادَةِ لَا بِالتَّزْكِيَةِ

فِيهِ كَذَا وَكَذَا، وَلَا بُدَّ مِنْ إسْلَامِهِمَا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّينَ عَلَى كُتَّابِ الْقَاضِي الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ الْكِتَابُ لِذِمِّيٍّ عَلَى ذِمِّيٍّ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى فِعْلِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ إذْ قَلَّمَا يَحْضُرُ الْمُسْلِمُونَ مُعَامَلَاتِهِمْ خُصُوصًا الْأَنْكِحَةَ وَالْوَصَايَا، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي وَخَتْمِهِ، وَلَمْ يَشْرِطْ الشَّعْبِيُّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْحَسَنُ أَسْنَدَ الْخَصَّافَ إلَى عَمْرِو بْنِ أَبِي زَائِدَةَ أَوْ عُمَيْرٍ قَالَ: جِئْت بِكِتَابٍ مِنْ قَاضِي الْكُوفَةِ إلَى إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَجِئْت وَقَدْ عُزِلَ وَاسْتُقْضِيَ الْحَسَنُ فَدَفَعْت كِتَابِي إلَيْهِ فَقَبِلَهُ وَلَمْ يَسْأَلْنِي الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ فَفَتَحَهُ ثُمَّ نَشَرَهُ فَوَجَدَ لِي فِيهِ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ لِرَجُلٍ يَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ اذْهَبْ بِهَذَا الْكِتَابِ إلَى زِيَادَةَ فَقُلْ لَهُ أَرْسِلْ إلَى فُلَانٍ فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَادْفَعْهَا إلَى هَذَا وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ، فَالشَّرْطُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ يَعْرِفُ خَطَّ الْقَاضِي الْكَاتِبِ وَخَتْمَهُ قِيَاسًا عَلَى كِتَابِ الِاسْتِئْمَانِ، وَعَلَى رَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي وَرَسُولِ الْمُزَكِّي إلَى الْقَاضِي.

قُلْنَا: الْفَرْقُ أَنَّ هَذَا نَقْلٌ مُلْزِمٌ، إذْ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ وَيَعْمَلَ بِهِ، وَلَا بُدَّ لِلْمُلْزِمِ مِنْ الْحُجَّةِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ، بِخِلَافِ كِتَابِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُلْزِمًا إذْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا طَلَبُوهُ، وَلَهُ أَنْ لَا. وَأَمَّا الرَّسُولُ فَلِأَنَّ التَّزْكِيَةَ لَيْسَتْ مُلْزِمَةً، وَإِنَّمَا الْمُلْزِمُ هُوَ الْبَيِّنَةُ.

وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ رَسُولِ الْقَاضِي وَبَيْنَ كِتَابِهِ حَيْثُ يُقْبَلُ كِتَابُهُ وَلَا يُقْبَلُ رَسُولُهُ فَلِأَنَّ غَايَةَ رَسُولِهِ أَنْ يَكُونَ كَنَفْسِهِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ مَا فِي كِتَابِهِ لِذَلِكَ الْقَاضِي بِنَفْسِهِ لَا يَقْبَلُهُ، وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي كِتَابِهِ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ أُجِيزَ بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ.

فَإِنْ قُلْت: فَكَيْفَ عَمِلَ الْحَسَنُ بِالْكِتَابِ وَهُوَ لَمْ يَكْتُبْ إلَّا إلَى قَاضٍ آخَرَ غَيْرِهِ؟ فَالْجَوَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَالَ إلَى إيَاسٍ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ وَإِلَى كُلِّ قَاضٍ يَرَاهُ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ إذَا كَتَبَ كَذَلِكَ كَانَ لِكُلِّ قَاضٍ رُفِعَ إلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَتَبَ مَنْ الْأَوَّلُ إلَى مَنْ يَبْلُغُهُ كِتَابِي هَذَا مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ لِأَحَدٍ مِنْ الْقُضَاةِ، وَأَجَازَهُ أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ الْيَوْمَ.

ص: 291

قَالَ (وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ لِيَعْرِفُوا مَا فِيهِ أَوْ يُعْلِمَهُمْ بِهِ) لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ (ثُمَّ يَخْتِمُهُ بِحَضْرَتِهِمْ وَيُسَلِّمُهُ إلَيْهِمْ) كَيْ لَا يُتَوَهَّمَ التَّغْيِيرُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، لِأَنَّ عِلْمَ مَا فِي الْكِتَابِ وَالْخَتْمِ بِحَضْرَتِهِمْ شَرْطٌ، وَكَذَا حِفْظُ مَا فِي الْكِتَابِ عِنْدَهُمَا وَلِهَذَا يُدْفَعُ إلَيْهِمْ كِتَابٌ آخَرُ غَيْرُ مَخْتُومٍ لِيَكُونَ مَعَهُمْ مُعَاوَنَةٌ عَلَى حِفْظِهِمْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله آخِرًا: شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالشَّرْطُ أَنْ يُشْهِدَهُمْ أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ وَخَتْمُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْضًا فَسَهَّلَ فِي ذَلِكَ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله.

[فَرْعٌ]

يَجُوزُ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ كَمَا جَازَ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ. وَلَوْ كَتَبَ الْقَاضِي إلَى الْأَمِيرِ الَّذِي وَلَّاهُ أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ ثُمَّ قَصَّ الْقِصَّةَ وَهُوَ مَعَهُ فِي الْمِصْرِ فَجَاءَ بِهِ ثِقَةٌ يَعْرِفُهُ الْأَمِيرُ، فَفِي الْفَتَاوَى لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ إيجَابَ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ.

وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَجُوزُ لِلْأَمِيرِ أَنْ يُمْضِيَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ وَلَا يَلِيقُ بِالْقَاضِي أَنْ يَأْتِيَ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ إلَى الْأَمِيرِ لِيُخْبِرَهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِذَلِكَ رَسُولًا ثِقَةً كَانَ عِبَارَةُ رَسُولِهِ كَعِبَارَتِهِ فِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ، فَكَذَا إذَا أَرْسَلَ كِتَابَهُ وَلَمْ يَجْرِ الرَّسْمُ فِي مِثْلِهِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ فَشَرْطُنَا هُنَاكَ شَرْطُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي.

(قَوْلُهُ وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ الشُّرُوطِ الْمَوْعُودِ بِذِكْرِهَا فِي قَوْلِهِ وَيَخْتَصُّ بِشَرَائِطَ نَذْكُرُهَا. وَالْحَاصِلُ إنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعْلِمَهُمْ مَا فِيهِ: أَيْ بِإِخْبَارِهِ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ بِلَا عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِأَنَّ هَذَا الصَّكَّ مَكْتُوبٌ عَلَى فُلَانٍ لَا يُفِيدُ مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الدَّيْنِ وَاشْتِرَاطُ عِلْمِهِمْ بِمَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ.

وَمِنْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ خَتَمَهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْتِمَهُ بِحَضْرَتِهِمْ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِمْ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مُعَنْوَنًا: أَيْ مَكْتُوبًا فِيهِ الْعُنْوَانُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ اسْمُ الْكَاتِبِ وَاسْمُ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَنَسَبُهُمَا وَالشَّرْطُ الْعُنْوَانُ الْبَاطِنُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ وَكَانَ مُعَنْوَنًا فِي الظَّاهِرِ لَا يَقْبَلُهُ لِتُهْمَةِ التَّغْيِيرِ، وَعَنْ هَذَا قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَهُ نُسْخَةٌ أُخْرَى مَفْتُوحَةٌ لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى حِفْظِ مَا فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّذَكُّرِ مِنْ وَقْتِ الشَّهَادَةِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ عِنْدَهُمَا.

(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله آخِرًا: شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَالشَّرْطُ أَنْ يُشْهِدَهُمْ أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ وَخَتْمُهُ) بَعْدَمَا كَانَ أَوَّلًا يَقُولُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّ الْخَتْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْضًا رَخَّصَ فِي ذَلِكَ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأُمَّةِ السَّرَخْسِيِّ) وَلَا شَكَّ

ص: 292

قَالَ (وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْقَاضِي لَمْ يَقْبَلْهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ، بِخِلَافِ سَمَاعِ الْقَاضِي الْكَاتِبَ لِأَنَّهُ لِلنَّقْلِ لَا لِلْحُكْمِ.

عِنْدِي فِي صِحَّتِهِ فَإِنَّ الْفَرْضَ إذَا كَانَ عَدَالَةَ الشُّهُودِ وَهُمْ حَمَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ غَيْرَ مَخْتُومٍ مَعَ شَهَادَتِهِمْ أَنَّهُ كِتَابُهُ، نَعَمْ إذَا كَانَ الْكِتَابُ مَعَ الْمُدَّعِي يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ الْخَتْمَ لِاحْتِمَالِ التَّغْيِيرِ إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهِ حِفْظًا، فَالْوَجْهُ إنْ كَانَ الْكِتَابُ مَعَ الشُّهُودِ أَنْ لَا تُشْتَرَطَ مَعْرِفَتُهُمْ لِمَا فِيهِ وَلَا الْخَتْمُ، بَلْ تَكْفِي شَهَادَتُهُمْ أَنَّهُ كِتَابُهُ مَعَ عَدَالَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي اُشْتُرِطَ حِفْظُهُمْ لِمَا فِيهِ فَقَطْ وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ التَّارِيخَ، فَلَوْ لَمْ يَكْتُبْ لَا يُقْبَلُ، وَذَلِكَ لِيَنْظُرَ هَلْ هُوَ كَانَ قَاضِيًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ لَا، وَكَذَا إنْ شَهِدُوا عَلَى أَصْلِ الْحَادِثَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا لَا تُقْبَلُ.

وَفِي خِزَانَةِ الْفِقْهِ: يَجُوزُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْمِصْرَيْنِ، وَمِنْ قَاضِي مِصْرٍ إلَى قَاضِي رُسْتَاقٍ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ قَاضِي رُسْتَاقٍ إلَى قَاضِي مِصْرٍ انْتَهَى.

وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ بَعْدَ عَدَالَةِ شَهَادَةِ شُهُودِ الْأَصْلِ وَالْكِتَابِ لَا فَرْقَ، وَلَوْ كَانَ الْعُنْوَانُ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ أَوْ مِنْ أَبِي فُلَانٍ إلَى أَبِي فُلَانٍ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْمِ أَوْ الْكُنْيَةِ لَا يَتَعَرَّفُ بِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْكُنْيَةُ مَشْهُورَةً مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَكَذَلِكَ النِّسْبَةُ إلَى أَبِيهِ فَقَطْ مِثْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقِيلَ تُقْبَلُ الْكُنْيَةُ الْمَشْهُورَةُ كَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَلَا تَجُوزُ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ النَّاسَ يَشْتَرِكُونَ فِي الْكُنَى غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَشْتَهِرُ بِهَا فَلَا يَعْلَمُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ أَنَّ الْمَكْنِيَّ هُوَ الَّذِي اُشْتُهِرَ بِهَا أَوْ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَتَبَ إلَى قَاضِي بَلْدَةِ كَذَا فَإِنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ وَاحِدًا فَيَحْصُلُ التَّعْرِيفُ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَحَلِّ الْوِلَايَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَبُو يُوسُفَ الْعُنْوَانَ أَيْضًا بَلْ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَنْوَنًا وَكَانَ مَخْتُومًا وَشَهِدُوا بِالْخَتْمِ كَفَى.

(قَوْلُهُ وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْقَاضِي لَمْ يَقْبَلْهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: لَمْ يُفْتَكَّ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَقْرَؤُهُ إلَّا بِحُضُورِهِ لَا مُجَرَّدِ قَبُولِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَتَرْتِيبُ الْحَالِ أَنَّهُ إذَا وَصَلَ الْمُدَّعِي إلَى الْقَاضِي جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، فَإِنْ اعْتَرَفَ اسْتَغْنَى عَنْ الْكِتَابِ، وَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ لَهُ هَلْ لَك حُجَّةٌ، فَإِنْ قَالَ مَعِي كِتَابُ الْقَاضِي إلَيْك طَالَبَهُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَضَرُوا أَحْضَرَ خَصْمَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فَيَشْهَدُونَ بِحَضْرَتِهِ أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي سَلَّمَهُ إلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا فَحِينَئِذٍ افْتَكَّهُ وَقَرَأَهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْرَأْهُ إلَّا بِحُضُورِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْكِتَابَ فِي الْمَعْنَى (بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ) عَلَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَنْقُلُ أَلْفَاظَ الشُّهُودِ بِكِتَابِهِ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ يَنْقُلُ شَهَادَةَ شَاهِدِ الْأَصْلِ بِعِبَارَتِهِ (بِخِلَافِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ) فَإِنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ الْأُصُولِ الشَّهَادَةَ وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَائِبًا (لِأَنَّ سَمَاعَهُ لَيْسَ لِلْحُكْمِ بَلْ لِلنَّقْلِ) فَكَانَ سَمَاعُهُ بِمَنْزِلَةِ تَحَمُّلِ الْفَرْعِ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ، وَفِي التَّحَمُّلِ

ص: 293

قَالَ (فَإِذَا سَلَّمَهُ الشُّهُودُ إلَيْهِ نَظَرَ إلَى خَتْمِهِ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي سَلَّمَهُ إلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا وَخَتَمَهُ فَتَحَهُ الْقَاضِي وَقَرَأَهُ عَلَى الْخَصْمِ وَأَلْزَمَهُ مَا فِيهِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَاتَمُهُ قَبِلَهُ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْكِتَابِ ظُهُورُ الْعَدَالَةِ لِلْفَتْحِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَفُضُّ الْكِتَابَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رحمه الله لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ الشُّهُودِ وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُمْ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بَعْدَ قِيَامِ الْخَتْمِ،

لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْخَصْمِ كَذَا هَذَا، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ الِاكْتِفَاءُ بِشَهَادَةِ أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَتْمُهُ (وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْكِتَابِ ظُهُورُ الْعَدَالَةِ) فِي شُهُودِ الْكِتَابِ (لِلْفَتْحِ) حَيْثُ قَالَ فَإِذَا شَهِدُوا إلَخْ فَتَحَهُ وَلَمْ يَقُلْ فَإِذَا شَهِدُوا وَعُدِّلُوا. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَفُضُّ الْكِتَابَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ، ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ) وَاحْتَرَزَ بِهِ عَمَّا ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَذَكَرَ الْخَصَّافُ لَا يُفْتَحُ قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ، ثُمَّ قَالَ: مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَصَحُّ: أَيْ تَجْوِيزُ الْفَتْحِ قَبْلَ ظُهُورِهَا بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ كِتَابُهُ. وَوَجَّهَهُ الْمُصَنِّفُ بِمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ.

ص: 294

وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إذَا كَانَ الْكَاتِبُ عَلَى الْقَضَاءِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ أَوْ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا، وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ إخْبَارُهُ قَاضِيًا آخَرَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ أَوْ فِي غَيْرِ عَمَلِهِمَا، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إلَّا إذَا كَتَبَ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَاضِي بَلْدَةِ كَذَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ غَيْرَهُ صَارَ تَبَعًا لَهُ وَهُوَ مُعَرَّفٌ،

مِنْ أَنَّهُ رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ الشُّهُودِ بِأَنْ ارْتَابَ فِي هَؤُلَاءِ فَيَقُولُ زِدْنِي شُهُودًا، وَلَا يُمْكِنُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنْ الْمَزِيدِينَ إلَّا حَالَ قِيَامِ الْخَتْمِ.

[فَرْعٌ]

لَوْ سَمِعَ الْخَصْمُ بِوُصُولِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى قَاضِي بَلَدِهِ فَهَرَبَ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى كَانَ لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ إلَى قَاضِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ كِتَابِ الْقَاضِي، فَكَمَا جَوَّزْنَا لِلْأَوَّلِ الْكِتَابَةَ نُجَوِّزُ لِلثَّانِي وَالثَّالِثِ وَهَلُمَّ جَرًّا لِلْحَاجَةِ.

وَلَوْ كَتَبَ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ يَدِهِ حَتَّى رَجَعَ الْخَصْمُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ شُهُودِ الْكِتَابِ، بَلْ يُعِيدُ الْمُدَّعِي شَهَادَتَهُمْ لِأَنَّ سَمَاعَهُ الْأَوَّلَ كَانَ لِلنَّقْلِ فَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُهَا لَوْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا وَقْتَ شَهَادَتِهِمْ (وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ) هَذَا شَرْطٌ آخَرُ لِقَبُولِ الْكِتَابِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ عَلَى قَضَائِهِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ أَمْرُ الْكِتَابِ، فَلَوْ أَنَّهُ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ بِجُنُونٍ أَوْ عَمًى، قَالُوا أَوْ فِسْقٍ، وَإِنَّمَا يَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعَزْلِ بِالْفِسْقِ بَطَلَ الْكِتَابُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: يُعْمَلُ بِهِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهُ يَنْقُلُ بِهِ شَهَادَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عِنْدَهُ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، وَالنَّقْلُ قَدْ تَمَّ بِالْكِتَابَةِ فَكَانَ كَشُهُودِ الْفَرْعِ إذَا مَاتُوا بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ مَاتَ الْأَصْلُ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرْعِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ.

وَحَاصِلُ الْجَوَابِ فِي الذَّخِيرَةِ مَنْعُ تَمَامِ النَّقْلِ بِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ بَلْ حَتَّى يَصِلَ وَيَقْرَأَهُ، لِأَنَّ هَذَا النَّقْلَ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْقَاضِي فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَلَا يَجِبُ إلَّا بِقِرَاءَتِهِ؛ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِبَارَةَ الْجَيِّدَةَ أَنْ يُقَالَ لَوْ مَاتَ قَبْلَ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ لَا قَبْلَ وُصُولِهِ، لِأَنَّ وُصُولَهُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَقِرَاءَتِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (الْتَحَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا) يَعْنِي قَبْلَ تَمَامِ الْقَضَاءِ (وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ إخْبَارُهُ قَاضِيًا آخَرَ) غَيْرَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ (فِي غَيْرِ عَمَلِهِ أَوْ غَيْرِ عَمَلِهِمَا) وَلَوْ كَانَ عَلَى قَضَائِهِ لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَمَلِ الْآخَرِ كَوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا غَيْرَ أَنَّ الْكِتَابَ خُصَّ مِنْ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ وُصُولِ الْكِتَابِ وَقِرَاءَتِهِ عَمِلَ بِهِ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

(وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ) أَوْ عُزِلَ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ لَا يَعْمَلُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ عِنْدَنَا (إلَّا إذَا) كَانَ (كَتَبَ إلَى فُلَانٍ قَاضِي بَلَدِ كَذَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ غَيْرَهُ صَارَ تَبَعًا لَهُ) وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا هُنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يَعْمَلُ بِهِ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ شَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَى مَا تَحَمَّلُوهُ، وَمَنْ تَحَمَّلَ وَشَهِدَ وَجَبَ عَلَى كُلِّ قَاضٍ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ وَصَارَ

ص: 295

بِخِلَافِ مَا إذَا كَتَبَ ابْتِدَاءً إلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَرَّفٍ، وَلَوْ كَانَ مَاتَ الْخَصْمُ يَنْفُذُ الْكِتَابُ عَلَى وَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ.

(وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى الْإِسْقَاطِ وَفِي قَبُولِهِ سَعْيٌ فِي إثْبَاتِهِمَا

كَمَا لَوْ كَتَبَ وَإِلَى كُلِّ قَاضٍ وَصَلَ إلَيْهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكَاتِبَ لَمَّا خَصَّ الْأَوَّلَ بِالْكِتَابَةِ فَقَدْ اعْتَمَدَ عَدَالَتَهُ وَأَمَانَتَهُ، وَالْقُضَاةُ مُتَفَاوِتُونَ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فَصَحَّ التَّعْيِينُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ هُنَاكَ اعْتَمَدَ عَلَى عِلْمِ الْكُلِّ وَأَمَانَتِهِمْ فَكَأَنَّ الْكُلَّ مَكْتُوبٌ إلَيْهِمْ مُعَيَّنِينَ. أَمَّا لَوْ كَتَبَ ابْتِدَاءً إلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ كِتَابِي هَذَا مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامِهِمْ فَقَدَّمْنَا أَنَّهُ أَجَازَهُ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْوَجْهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ إعْلَامَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَالْعُمُومُ يُعْلَمُ كَمَا يُعْلَمُ الْخُصُوصُ وَلَيْسَ الْعُمُومُ مِنْ قَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَالتَّجْهِيلِ فَصَارَ قَصْدِيَّتُهُ وَتَبَعِيَّتُهُ سَوَاءً.

(وَلَوْ مَاتَ الْخَصْمُ يَنْفُذُ الْكِتَابُ عَلَى وَارِثِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ) سَوَاءٌ كَانَ تَارِيخُ الْكِتَابِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَطْلُوبِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَا خِلَافَ فِيهِ.

(قَوْلُهُ وَلَا يُقْبَلُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يُقْبَلُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الشُّهُودِ وَقَدْ شَهِدُوا. قُلْنَا (لِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي كِتَابِ الْقَاضِي (شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ) لَا يُقَامُ بِهِ الْحَدُّ لِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عَلَى الْإِسْقَاطِ بِالشُّبُهَاتِ (وَفِي قَبُولِ الْكِتَابِ سَعْيٌ) وَاحْتِيَاطٌ (فِي إثْبَاتِهِمَا) وَعُرِفَ مِنْ تَقْرِيرِنَا أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى عَدَمِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَلِأَنَّ مَبْنَاهُمَا إلَخْ.

ص: 296

(فَصْلٌ آخِرُ)

(وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) اعْتِبَارًا بِشَهَادَتِهَا.

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّك رُبَّمَا تَطَّلِعُ عَلَى فُرُوعٍ كَثِيرَةٍ فِي الْكُتُبِ فِيهَا تَصْرِيحٌ بِمَنْعِ الْكِتَابِ فِيهَا مِثْلُ مَا ذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا: فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ادَّعَيَا وَلَدًا وَقَالَا هُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنَّا هُوَ فِي يَدِ فُلَانٍ اسْتَرَقَّهُ فِي بَلْدَةِ كَذَا وَطَلَبَا الْكِتَابَ لَا يَكْتُبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَإِنْ ادَّعَيَا النَّسَبَ وَلَمْ يَذْكُرَا الِاسْتِرْقَاقَ يَكْتُبُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ دَعْوَى النَّسَبِ مُجَرَّدًا فَكَانَ كَدَعْوَى الدِّينِ. بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ يُرِيدُ دَفْعَ الرِّقِّ فَهُوَ كَدَعْوَى أَنَّهُ عَبْدِيٌ.

[فَرْعٌ]

هَلْ يَكْتُبُ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ؟ فِي الْخُلَاصَةِ هُوَ كَالْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ، وَالتَّفَاوُتُ هُنَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَكْتُبُ بِالْعِلْمِ الْحَاصِلِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ. وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عِنْدَ الْقَاضِي وَسَأَلَ أَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ كِتَابًا إلَى قَاضٍ آخَرَ فَعَلَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ شَاهِدٌ فِي مَحَلِّ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَيَكْتُبُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَيُبَيِّنُ الْأَجَلَ لِيُطَالِبَهُ إذَا حَلَّ هُنَاكَ، وَلَوْ قَالَ اسْتَوْفَى غَرِيمِي دَيْنَهُ أَوْ أَبْرَأَنِي مِنْهُ وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقْدَمَ الْبَلْدَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَأَخَافُ أَنْ يَأْخُذَنِي بِهِ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكْتُبُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكْتُبُ. وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: جَحَدَنِي الِاسْتِيفَاءُ أَوْ الْإِبْرَاءُ مَرَّةً يَكْتُبُ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَنَّ الشَّفِيعَ الْغَائِبَ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ وَأَقَامَ بَيِّنَةً وَطَلَبَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ هَلْ يَكْتُبُ؟ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَكَذَا امْرَأَةٌ ادَّعَتْ الطَّلَاقَ عَلَى زَوْجِهَا الْغَائِبِ وَأَشْهَدَتْ وَطَلَبَتْ الْكِتَابَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا. وَلَوْ قَالَتْ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا وَانْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْت بِآخَرَ وَأَخَافُ أَنْ يُنْكِرَ الطَّلَاقَ فَأَحْضَرَتْهُ وَقَالَتْ لِلْقَاضِي سَلْهُ حَتَّى إذَا أَنْكَرَ أَقَمْت عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ فَالْقَاضِي يَسْأَلُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَالْقِيَاسُ فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ وَهَذَا احْتِيَاطٌ.

(فَصْلٌ آخَرُ).

(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ نَاقِصَةُ

ص: 297

وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ.

(وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ قُلِّدَ الْقَضَاءَ دُونَ التَّقْلِيدِ بِهِ فَصَارَ كَتَوْكِيلِ الْوَكِيلِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ حَيْثُ يَسْتَخْلِفُ لِأَنَّهُ عَلَى شَرَفِ الْفَوَاتِ لِتَوَقُّتِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ إذْنًا بِالِاسْتِخْلَافِ دَلَالَةً

الْعَقْلِ لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْخُصُومَةِ مَعَ الرِّجَالِ فِي مَحَافِلِ الْخُصُومِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ) يَعْنِي وَجْهَ جَوَازِ قَضَائِهَا، وَهُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ كَالشَّهَادَةِ وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَتَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ. وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُ قَبْلُ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَخُصُّ وَجْهَ اسْتِثْنَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَجْعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا، وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَنْصِبْ الْخِلَافَ لِيَحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ عَنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرَ غَايَةُ مَا يُفِيدُ مَنْعُ أَنْ تَسْتَقْضِيَ وَعَدَمُ حِلِّهِ، وَالْكَلَامُ فِيمَا لَوْ وُلِّيَتْ وَأَثِمَ الْمُقَلِّدُ بِذَلِكَ أَوْ حَكَّمَهَا خَصْمَانِ فَقَضَتْ قَضَاءً مُوَافِقًا لِدِينِ اللَّهِ أَكَانَ يَنْفُذُ أَمْ لَا؟ لَمْ يَنْتَهِضُ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِهِ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَا أَنْ يَثْبُتَ شَرْعًا سَلْبَ أَهْلِيَّتِهَا، وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ سِوَى نُقْصَانِ عَقْلِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى حَدِّ سَلْبِ وِلَايَتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَصْلُحُ شَاهِدَةً وَنَاظِرَةً فِي الْأَوْقَافِ وَوَصِيَّةً عَلَى الْيَتَامَى وَذَلِكَ النُّقْصَانُ بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ، ثُمَّ هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الْجِنْسِ فَجَازَ فِي الْفَرْدِ خِلَافُهُ؛ أَلَا تَرَى إلَى تَصْرِيحِهِمْ بِصِدْقِ قَوْلِنَا: الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنْ الْمَرْأَةِ مَعَ جَوَازِ كَوْنِ بَعْضِ أَفْرَادِ النِّسَاءِ خَيْرًا مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ، وَلِذَلِكَ النَّقْصِ الْغَرِيزِيِّ نَسَبَ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ يُوَلِّيهِنَّ عَدَمَ الْفَلَاحِ، فَكَانَ الْحَدِيثُ مُتَعَرِّضًا لِلْمُوَلِّينَ وَلَهُنَّ بِنَقْصِ الْحَالِ، وَهَذَا حَقٌّ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِيمَا لَوْ وُلِّيَتْ فَقَضَتْ بِالْحَقِّ لِمَاذَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْحَقُّ.

(قَوْلُهُ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ) فِي صِحَّةٍ وَلَا مَرَضٍ (إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ ذَلِكَ إلَيْهِ) فَيَمْلِكَهُ كَمَا أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ فِيهِ بِالْمَنْعِ يَمْتَنِعُ مِنْهُ وَهَذَا (لِأَنَّهُ قُلِّدَ الْقَضَاءَ دُونَ التَّقْلِيدِ بِهِ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ) لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ (بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ حَيْثُ) جَازَ لَهُ أَنْ (يَسْتَخْلِفَ) لِأَنَّهُ لِتَوَقُّتِهِ بِحَيْثُ لَوْ عَرَضَ فِي وَقْتِهِ مَا يَمْنَعُهُ كَانَ لَا إلَى خُلْفٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ غَرَضٌ لِلْأَعْرَاضِ

ص: 298

وَلَا كَذَلِكَ الْقَضَاءُ. وَلَوْ قَضَى الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ قَضَى الثَّانِي فَأَجَازَ الْأَوَّلُ جَازَ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الشَّرْطُ، وَإِذَا فُوِّضَ إلَيْهِ يَمْلِكُهُ فَيَصِيرُ الثَّانِي نَائِبًا عَنْ الْأَصِيلِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ إلَّا إذَا فُوِّضَ إلَيْهِ الْعَزْلَ هُوَ الصَّحِيحُ. .

فَكَانَ الْمُوَلَّى لَهُ آذِنًا فِي اسْتِخْلَافِهِ دَلَالَةً بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْلِفُ سَمِعَ الْخُطْبَةَ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا فَلَا لِأَنَّهَا مِنْ شَرَائِطِ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ حَيْثُ يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ هُنَاكَ بَانٍ وَلَيْسَ بِمُفْتَتِحٍ، وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ الِافْتِتَاحِ وَقَدْ وُجِدَ فِي حَقِّ الْأَصْلِ، وَلِذَا لَوْ أَفْسَدَهَا هَذَا الْخَلِيفَةُ وَاسْتَفْتَحَ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِيهَا صَحِيحٌ، وَبِهَذَا الشُّرُوعِ الْتَحَقَ بِمَنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ حُكْمًا، وَبِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعِيرَ بِشَرْطِهِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَنَافِعَ لِنَفْسِهِ فَكَانَ لَهُ تَمْلِيكُهَا، بِخِلَافِ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فَإِنَّمَا هِيَ إذْنٌ فِي أَنْ يَعْمَلَ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا مَا قَالُوا: مَنْ قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ لَهُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مُقَامَ نَفْسِهِ، وَمَنْ قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ، وَبِخِلَافِ الْوَصِيِّ يَمْلِكُ الْإِيصَاءَ وَالتَّوْكِيلَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَيْضًا لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَرُبَّمَا يَعْجِزُ الْوَصِيُّ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ وَالْمُوصِي قَدْ مَاتَ فَلَا يُمْكِنُ رَجْعُهُ إلَى رَأْيِهِ فَتَضَمَّنَ الْإِيصَاءُ الْإِذْنَ بِالِاسْتِخْلَافِ.

وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَضَى الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ قَضَى) بِغَيْبَتِهِ فَبَلَغَهُ (فَأَجَازَ جَازَ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ) إذَا وَكَّلَ الْوَكِيلُ غَيْرَهُ فَتَصَرَّفَ بِحَضْرَتِهِ أَوْ بِغَيْبَتِهِ فَأَجَازَهُ نَفَذَ (لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الشَّرْطُ) فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ بِتَوْكِيلِهِ، وَتَحْقِيقُ حَالِهِ أَنَّهُ فُضُولِيٌّ ابْتِدَاءً وَكِيلٌ انْتِهَاءً، وَلَا يَمْتَنِعُ إذْ قَدْ يَجُوزُ فِي الِانْتِهَاءِ وَالْبَقَاءِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الِابْتِدَاءِ خُصُوصًا وَقَدْ فُرِضَ زَوَالُ الْمَانِعِ مِنْ الصِّحَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ هُوَ كَوْنُهُ لَيْسَ مِمَّا حَضَرَهُ رَأْيُهُ (وَإِذَا فُوِّضَ إلَيْهِ) الِاسْتِخْلَافُ (يَمْلِكُهُ فَيَصِيرُ الثَّانِي نَائِبًا عَنْ الْأَصِيلِ) يَعْنِي السُّلْطَانَ (حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ) إلَّا إذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ قَالَ لَهُ وَلِّ مَنْ شِئْت وَاسْتَبْدِلْ مَنْ شِئْت فَحِينَئِذٍ يَمْلِكُ عَزْلَهُ، أَوْ قَالَ جَعَلْتُك قَاضِي الْقُضَاةِ فَإِنَّ قَاضِيَ الْقُضَاةِ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ مُطْلَقًا تَقْلِيدًا وَعَزْلًا،

ص: 299

قَالَ (وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ أَوْ الْإِجْمَاعَ بِأَنْ يَكُونَ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ أَمْضَاهُ).

وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ) الْمَشْهُورَةَ (أَوْ الْإِجْمَاعَ بِأَنْ يَكُونَ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ) وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ: أَوْ يَكُونُ قَوْلًا إلَخْ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ أَمْضَاهُ) قَالُوا: إنَّمَا أَعَادَهُ لِأَنَّ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ فَائِدَتَيْنِ لَيْسَتَا فِي الْقُدُورِيِّ: إحْدَاهُمَا تَقْيِيدُهُ بِالْفُقَهَاءِ، أَفَادَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْخِلَافِ لَا يَنْفُذُ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.

وَالثَّانِيَةُ: التَّقْيِيدُ بِكَوْنِ الْقَاضِي يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ رَأْيُهُ فِي ذَلِكَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الْأَوَّلِ أَمْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ لَا يُمْضِيهِ، فَأَبَانَتْ رِوَايَةُ الْجَامِعِ أَنَّ الْإِمْضَاءَ عَامٌّ فِيمَا سِوَى الْمُسْتَثْنَيَاتِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ أَوْ مُوَافِقًا: يَعْنِي بِالطَّرِيقِ

ص: 300

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْأَوْلَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِالْخِلَافِ، وَإِنَّمَا مُفَادُهُ أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ عَالِمًا بِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَالِمًا، ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ هَذَا أَمْضَاهُ فَرُبَّمَا يُفِيدُ أَنَّ الثَّانِيَ عَالِمٌ بِالْخِلَافِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُنَفِّذُ وَالْكَلَامُ فِي الْقَاضِي الْأَوَّلِ الَّذِي يُنَفِّذُ هَذَا الْآخَرُ حُكْمَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالْخِلَافِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الدَّلَالَةِ.

نَعَمْ فِي الْجَامِعِ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ يُنَفِّذُهُ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ رَأْيِهِ، وَكَلَامُ الْقُدُورِيِّ يُفِيدُهُ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ وَهُوَ أَعَمُّ يَنْتَظِمُ مَا إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِ أَوْ مُخَالِفًا، وَإِنَّمَا فِي الْجَامِعِ النُّصُوصِيَّةُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُخَالِفًا.

وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ إلَخْ حَاصِلُهُ بَيَانُ شَرْطِ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ كَوْنُ الْمَحَلِّ مُجْتَهَدًا فِيهِ حَتَّى تَجُوزَ مُخَالَفَتُهُ أَوْ لَا، فَشَرْطُ حِلِّ الِاجْتِهَادِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ: يَعْنِي الْمَشْهُورَةَ، مِثْلُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَلَوْ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لَا يَنْفُذُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ ذَكَرَهُ فِي أَقْضِيَةِ الْجَامِعِ، وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَنْفُذُ مُطْلَقًا، ثُمَّ يُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُجْمَعِ عَلَى مُرَادِهِ أَوْ مَا يَكُونُ مَدْلُولٌ لَفْظُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ وَلَا تَأْوِيلُهُ بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ.

فَالْأَوَّلُ مِثْلُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الْآيَةَ، لَوْ قَضَى قَاضٍ بِحِلِّ أُمِّ امْرَأَتِهِ كَانَ بَاطِلًا لَا يَنْفُذُ. وَالثَّانِي مِثْلُ {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَلَا يَنْفُذُ الْحُكْمُ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، وَهَذَا لَا يَنْضَبِطُ فَإِنَّ النَّصَّ قَدْ يَكُونُ مُؤَوَّلًا فَيَخْرُجُ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَإِذَا مَنَعْنَاهُ يُجَابُ بِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِالْمَذْبُوحِ لِلْأَنْصَابِ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَقَعُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ أَوْ لَيْسَ بِمُؤَوَّلٍ، فَلَا يَكُونُ حُكْمُ أَحَدِ الْمُتَنَاظِرِينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَوَّلٍ قَاضِيًا عَلَى غَيْرِهِ بِمَنْعِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ. نَعَمْ قَدْ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِثُبُوتِ دَلِيلِ التَّأْوِيلِ فَيَقَعُ الِاجْتِهَادُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّهُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ أَوْ لَا، وَلِذَا نَمْنَعُ نَحْنُ نَفَاذَ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَيُجِيزُونَهُ وَبِالْعَكْسِ، وَلَقَدْ نُقِلَ الْخِلَافُ فِي الْحِلِّ عِنْدَنَا أَيْضًا وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ لَمْ يَحْكُوا الْخِلَافَ. فَفِي الْخُلَاصَةِ فِي رَابِعِ جِنْسٍ مِنْ الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ أَدَبِ الْقَاضِي قَالَ: وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا فَجَائِزٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ انْتَهَى.

وَأَمَّا عَدَمُ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ بِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ السَّمْعِيِّ أَوْ بِنَقْلِ عَدَمِ تَسْوِيغِ فُقَهَاءِ الْعَصْرِ اجْتِهَادَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ اجْتِهَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي جَوَازِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لَمْ يَقْبَلْهُ الصَّحَابَةُ مِنْهُ، فَلَوْ قَضَى بِهِ قَاضٍ لَا يَنْفُذُ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَفِيمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا يُعْتَبَرُ مُخَالَفَةُ الْبَعْضِ، وَلَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَلْ لَا يُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يُرِدْ بِالْبَعْضِ مَا دُونَ النِّصْفِ أَوْ مَا دُونَ الْكُلِّ بَلْ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَإِلَّا لَمْ يُعْتَبَرْ قَضَاءً فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ أَصْلًا، إذْ مَا مِنْ مَحَلِّ اجْتِهَادٍ إلَّا وَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ أَقَلُّ مِنْ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، إذْ لَا يُضْبَطُ تَسَاوِي الْفَرِيقَيْنِ وَلِذَا لَمْ يُمَثِّلُوهُ قَطُّ إلَّا بِخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ خِلَافُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَالْمُرَادُ إذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمٍ فَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ لَا يَصِيرُ الْمَحَلُّ بِذَلِكَ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ حَتَّى لَا يَنْفُذَ الْقَضَاءُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ الْوَاحِدَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِ الْبَاقِينَ، ثُمَّ هَذَا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِمْ سَوَّغُوا اجْتِهَادَهُ ذَلِكَ أَوْ لَا.

وَاَلَّذِي صَحَّحَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَاخْتَارَهُ أَنَّ الْوَاحِدَ الْمُخَالِفَ إنْ سَوَّغُوا لَهُ

ص: 301

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اجْتِهَادَهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يُسَوِّغُوا لَا يَصِيرُ الْمَحَلُّ مُجْتَهَدًا فِيهِ. قَالَ: وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ لِأَنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ. ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: الْمُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ: يَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ بَعْضُ الْعِبَارَاتِ ضَمَّ التَّابِعِينَ، وَعَلَيْهِ فَرَّعَ الْخَصَّافُ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَنْقُضَ الْقَضَاءَ بِبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ. وَقَدْ حُكِيَ فِي هَذَا الْخِلَافِ عِنْدَنَا، فَقِيلَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَيَجُوزُ قَضَاؤُهُ وَلَا يُفْسَخُ.

وَفِي النَّوَازِلِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِهِ، فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُرْفَعُ: يَعْنِي اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي جَوَازِ بَيْعِهِنَّ، فَعَنْ عَلِيٍّ الْجَوَازُ وَعُمَرُ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْعِهِ، ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِنَّ فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيُبْطِلُهُ الثَّانِي.

وَعِنْدَهُمَا لَمَّا لَمْ يُرْفَعْ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ وَقَعَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَنْقُضُهُ الثَّانِي، وَلَكِنْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ: إنَّ مُحَمَّدًا رَوَى عَنْهُمْ جَمِيعًا أَنَّ الْقَضَاءَ بِبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ، فَقَدْ عَلِمْت مَا هُنَا مِنْ تَشَعُّبِ الِاخْتِلَافِ فِي الرِّوَايَةِ.

وَبِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْخِلَافِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِ الْمَحَلِّ اجْتِهَادِيًّا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَ مَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ وَالشَّافِعِيُّ بِرَأْيِهِ: يَعْنِي إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ قَوْلُ مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ وَافَقَ قَوْلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فَلَا يُنْقَضُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَوْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بَلْ الْخِلَافُ مُقْتَضَبٌ فِيهَا بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ لِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَهُ إذَا خَالَفَ رَأْيَهُ.

وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ مُجْتَهِدُونَ فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِ الْمَحَلِّ اجْتِهَادِيًّا وَإِلَّا فَلَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَهْلُ اجْتِهَادٍ وَرِفْعَةٍ، وَلَقَدْ نَرَى فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ جَعْلَ الْمَسْأَلَةِ اجْتِهَادِيَّةً، بِخِلَافٍ بَيْنَ الْمَشَايِخِ حَتَّى يَنْفُذَ الْقَضَاءُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْرَفْ الْخِلَافُ إلَّا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ، يُؤَيِّدُهُ مَا فِي الذَّخِيرَةِ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ أَنَّ الْأَبَ إذَا خَلَعَ الصَّغِيرَةَ عَلَى صَدَاقِهَا وَرَآهُ خَيْرًا لَهَا بِأَنْ كَانَتْ لَا تُحْسِنُ الْعِشْرَةَ مَعَ زَوْجِهَا فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ يَصِحُّ وَيَزُولُ الصَّدَاقُ عَنْ مِلْكِهَا وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ عَنْهُ، فَإِذَا قَضَى بِهِ قَاضٍ نَفَذَ. وَفِي حَيْضِ مِنْهَاجِ الشَّرِيعَةِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ طَلَّقَهَا فَمَضَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ لَمْ تَرَ دَمًا فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بَعْدَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا قَضَى بِذَلِكَ قَاضٍ يَنْبَغِي أَنْ يُنَفِّذَ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ نُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يَجِبُ حِفْظُهَا لِأَنَّهَا كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِكَوْنِ الْمَحَلِّ مُجْتَهَدًا فِيهِ اشْتِبَاهُ الدَّلِيلِ لَا حَقِيقَةُ الْخِلَافِ. قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِإِبْطَالِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ نَفَذَ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ إذْ اعْتِبَارُ الطَّلَاقِ بِسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ يَنْفِي حُكْمَهُ، وَكَذَا لَوْ قَضَى فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ يُنَفِّذُهُ، وَلَيْسَ طَرِيقُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ كَوْنَهُ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ أَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ اشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، إذْ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ مُطْلَقًا وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْمُدَايَنَةِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ قَاطِعٌ فِي إبْطَالِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ وَلَوْ قَضَى بِجَوَازِ نِكَاحٍ بِلَا شُهُودٍ نَفَذَ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَمَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ يَشْتَرِطَانِ الْإِعْلَانَ لَا الشُّهُودَ، وَقَدْ اُعْتُبِرَ خِلَافُهُمَا لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ اشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ، إذْ اعْتِبَارُ النِّكَاحِ بِسَائِرِ

ص: 302

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقَضَاءَ مَتَى لَاقَى فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ

التَّصَرُّفَاتِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الشَّهَادَةُ انْتَهَى.

وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا كَانَتْ مُعَارَضَةُ الْمَعْنَى لِلدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ النَّصَّ تُوجِبُ اشْتِبَاهَ الدَّلِيلِ فَيَصِيرُ الْمَحَلُّ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ يَنْفُذُ الْقَضَاءُ فِيهِ، فَكُلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَوْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَوْ أَحَدِهِمْ مَحَلُّ اشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ حِينَئِذٍ إذْ لَا يَخْلُو عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى كَوْنِهِ بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ مَوَاضِعَ نَصَّ فِيهَا أَهْلُ الْمَذْهَبِ بِعَيْنِهَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي أَنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ وَهُنَاكَ لَوْثٌ مِنْ عَدَاوَةٍ ظَاهِرَةٍ كَقَوْلِ مَالِكٍ لَا يَنْفُذُ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» مَعَ أَنَّ مَعَهُ ظَاهِرًا فِي حَدِيثِ مُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةَ نَذْكُرُهُ فِي الْقَسَامَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى رَبُّ الْعَالَمِينَ.

وَلَوْ قَضَى بِحِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الثَّانِي بِلَا دُخُولٍ كَقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ لَا يَنْفُذُ لِذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ حَدِيثُ الْعُسَيْلَةِ. وَفِي السِّيَرِ مِنْ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: إذَا قَضَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمْلِكُونَ مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ نَفَذَ. وَفِي الْفُصُولِ نَقْلًا عَنْ فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ: الزَّوْجُ الثَّانِي إذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ يَنْفُذُ لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا وَهُوَ صَرِيحٌ {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ زُفَرَ. وَلَوْ قَضَى فِي الْمَأْذُونِ فِي نَوْعٍ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ فَقَطْ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَصِيرُ مُتَّفِقًا.

وَلَوْ قَضَى بِنِصْفِ الْجِهَازِ فِيمَنْ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ قَبَضَتْ الْمَهْرَ فَتَجَهَّزَتْ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْجُمْهُورِ، وَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ. وَلَوْ قَضَى بِعَدَمِ جَوَازِ عَفْوِ الزَّوْجَةِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ إنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْقِصَاصِ لَا يَنْفُذُ. وَلَوْ زَنَى بِأُمِّ امْرَأَتِهِ فَقَضَى بِإِقْرَارِ الْبِنْتِ مَعَهُ نَفَذَ.

وَحَكَى فِي الْفُصُولِ فِيمَا إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِنْتَهَا فَقَضَى بِجَوَازِهِ خِلَافًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْفُذُ لِلنَّصِّ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ، وَبِصِحَّةِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ يَنْفُذُ، وَيَنْفُذُ بِالْقُرْعَةِ فِي رَقِيقٍ أَعْتَقَ الْمَيِّتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَبِالشَّهَادَةِ لِأَبِيهِ، وَعَكْسُهُ يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَا يَنْفُذُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَبِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ نَفَذَ وَبِشَهَادَةِ شُهُودٍ عَلَى وَصِيَّةٍ مَخْتُومَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرَأَهَا عَلَيْهِمْ الْمَيِّتُ أَمْضَاهُ الْآخَرُ وَبِصِحَّةِ النِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ بِأَيَّامٍ نَفَذَ وَلَوْ عَقَدَا مُوَقَّتًا بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ، نَحْوُ مَتِّعِينِي بِنَفْسِك عَشَرَةَ أَيَّامٍ لَا يَنْفُذُ.

وَلَوْ قَضَى بِرَدِّ زَوْجَتِهِ بِالْعُيُوبِ مِنْ الْعَمَى وَالْجُنُونِ نَفَذَ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ بِرَدِّهَا بِالْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ، وَكَذَا بِصِحَّةِ رَدِّ الزَّوْجَةِ لَهُ. وَلَوْ قَضَى بِسُقُوطِ الْمَهْرِ بِالتَّقَادُمِ بِلَا إقْرَارٍ وَلَا بَيِّنَةٍ لَمْ يَنْفُذْ، وَكَذَا إذَا قَضَى أَنْ لَا يُؤَجَّلَ الْعِنِّينُ. هَذَا فِي الْقَضَاءِ بِالْمُجْتَهَدِ فِيهِ.

أَمَّا إذَا كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُجْتَهَدًا فِيهِ فَهَذِهِ فُرَيْعَاتٌ مِنْهُ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْخِلَافَ إذَا كَانَ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ وَالْوَاقِعُ تَوَقَّفَ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ فَإِنْ أَمْضَاهُ لَيْسَ لِلثَّالِثِ نَقْضُهُ لِأَنَّ قَضَاءَ الثَّانِي هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ: أَعْنِي قَضَاءَ الْأَوَّلِ. وَعَلَيْهِ فَرْعٌ إذَا قَضَى بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْسِدِ لِلْفَسَادِ لَا يَنْفُذُ لِتَحَقُّقِ الْخِلَافِ فِي الْقَضَاءِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ، وَقِيلَ أَنْ يُمْضِيَ الثَّانِي نَقْضَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَضَاءً فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ قَضَى لِامْرَأَتِهِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فَالْقَاضِي الثَّانِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُجِيزَهُ أَوْ يَرُدَّهُ لِأَنَّ الْخِلَافَ وَقَعَ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ، وَمِنْهُ مَا لَوْ قَضَى الْمَحْدُودُ أَوْ الْأَعْمَى.

وَأَمَّا قَضَاءُ السُّلْطَانِ فِي أَمْرٍ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْفُذُ، وَقِيلَ لَا يَنْفُذُ. فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ يَحْتَاجُ فِي نَفَاذِهِ إلَى أَنْ يُنْفِذَهُ قَاضٍ آخَرُ. وَقِيلَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ فِي صِحَّةِ نَقْضِ الثَّانِي إنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِقَضَاءٍ لِعَدَمِ الْمَقْضِيِّ لَهُ وَعَلَيْهِ نَفَذَ قَضَاءُ الثَّانِي بِإِطْلَاقِهِ عَنْ الْحَجْرِ.

(قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ) حَاصِلُهُ تَوْجِيهُ

ص: 303

يُنْفِذُهُ وَلَا يَرُدُّهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّ اجْتِهَادَ الثَّانِي كَاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ يُرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يُنْقَضُ بِمَا هُوَ دُونَهُ.

(وَلَوْ قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ) وَوَجْهُ النَّفَاذِ

أَنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ يُنَفِّذُ خِلَافَ رَأْيِهِ فِي الْمَرْفُوعِ إلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ اجْتِهَادَ الثَّانِي فِي الْبُطْلَانِ كَاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ فِي الصِّحَّةِ مَثَلًا فَتَعَارَضَ اجْتِهَادَاهُمَا وَتَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يَنْقُضُهُ الثَّانِي بِاجْتِهَادٍ هُوَ دُونَهُ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رِوَايَةً وَاحِدَةً (وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ) عَنْهُ (وَوَجْهُ النَّفَاذِ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ بِيَقِينٍ) لِأَنَّ رَأْيَهُ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ الصَّوَابَ، وَرَأْيُ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ خَطَأَهُ فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَطَأً بِيَقِينٍ، فَكَانَ حَاصِلُهُ قَضَاءً فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ.

وَوَجْهُ عَدَمِ النَّفَاذِ أَنَّ قَضَاءَهُ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ عَبَثٌ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَوَقَعَ تَحَرِّيهِ إلَى جِهَةٍ فَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا لَا يَصِحُّ لِاعْتِقَادِهِ خَطَأَ نَفْسِهِ، فَكَذَا هَذَا، وَبِهِ أَخَذَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْأُوزْجَنْدِيُّ. وَبِالْأَوَّلِ أَخَذَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَفَرَّعَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْقُضَاةُ مِنْ الْإِرْسَالِ إلَى الشَّافِعِيِّ لِيَحْكُمَ بِبُطْلَانِ الْيَمِينِ الْمُضَافَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرْطِ كَوْنِ الْقَاضِي الْمُرْسَلِ يَرَى بُطْلَانَهُ كَالشَّافِعِيِّ وَإِلَّا كَانَ مُقَلِّدًا لِغَيْرِهِ لِيَفْعَلَ مَا هُوَ الْبَاطِلُ عِنْدَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ: هَذَا خِلَافُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَلَّدُونَ الْقَضَاءَ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَيَرَوْنَ مَا يَحْكُمُونَ بِهِ نَافِذًا وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِ الْخُلَفَاءِ انْتَهَى.

وَأَوْكَدُ الْأُمُورِ فِي هَذَا حُكْمُ شُرَيْحٍ بِمَا يُخَالِفُ رَأْيَ عَلِيٍّ كَثِيرًا وَهُوَ يَعْلَمُ وَيُوَافِقُهُ كَمَا عَلِمَ فِي رَدِّهِ شَهَادَةَ الْحَسَنِ لَهُ وَعُمَرَ قَبْلَهُ، فَقِيلَ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَلَّدَ أَبَا الدَّرْدَاءِ الْقَضَاءَ فَاخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَضَى لِأَحَدِهِمَا ثُمَّ لَقِيَ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ عُمَرُ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ: قَضَى عَلَيَّ فَقَالَ: لَوْ كُنْت مَكَانَهُ قَضَيْت لَك، قَالَ: فَمَا يَمْنَعُك؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَيْسَ هُنَا نَصٌّ وَالرَّأْيُ مُشْتَرَكٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُرْسِلَ

ص: 304

أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ بِيَقِينٍ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، ثُمَّ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَالْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ مِنْهَا وَفِيمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا يُعْتَبَرُ مُخَالَفَةُ الْبَعْضِ وَذَلِكَ خِلَافٌ وَلَيْسَ بِاخْتِلَافٍ وَالْمُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ

يَقْطَعُ بِأَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي الْمُرْسَلُ إلَيْهِ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَظَنُّهُ بُطْلَانَهُ مَعْنَاهُ ظَنُّهُ عَدَمَ مُطَابَقَتِهِ لِحُكْمِ اللَّهِ الثَّابِتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنَّ الْقَطْعَ بِأَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ مِنْهُ تَعَالَى لَيْسَ إصَابَةَ ذَلِكَ بَلْ الْعَمَلُ بِمَظْنُونِهِ، وَإِنْ خَالَفَ حُكْمَهُ تَعَالَى فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِ حُكْمِهِ تَعَالَى فَكَانَ إرْسَالُ الْحَنَفِيِّ إلَيْهِ إرْسَالًا لَأَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ اللَّهَ جَوَّزَ لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ وَأَنْ يَعْمَلَ بِهِ مَنْ أَفْتَاهُ بِهِ أَوْ حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَاقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى وَجْهِ النَّفَاذِ دَلِيلُ أَنَّهُ الْمُرَجَّحُ عِنْدَهُ.

هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي وَجْهَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ (لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ) وَقَدْ تَضَمَّنَ وَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَابَهُ بِيَسِيرِ تَأَمُّلٍ، وَمَعَ

ص: 305

قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي فِي الظَّاهِرِ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَكَذَا إذَا قَضَى بِإِحْلَالٍ، وَهَذَا

ذَلِكَ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ كَصَاحِبِ الْمُحِيطِ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا. وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْفَتْوَى. وَالْوَجْهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُفْتَى بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ التَّارِكَ لِمَذْهَبِهِ عَمْدًا لَا يَفْعَلُهُ إلَّا لِهَوًى بَاطِلٍ لَا لِقَصْدٍ جَمِيلٍ.

وَأَمَّا النَّاسِي فَلِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مَا قَلَّدَهُ إلَّا لِيَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ لَا بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْقَاضِي الْمُجْتَهِدِ. فَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَإِنَّمَا وَلَّاهُ لِيَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَثَلًا فَلَا يَمْلِكُ الْمُخَالَفَةَ فَيَكُونُ مَعْزُولًا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ. هَذَا وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي حَمْلِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ. وَقَالَ: وَجْهُ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالْمُشَاوَرَةِ وَقَدْ تَقَعُ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ. وَجْهُ الْمَنْعِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الْآيَةَ. وَاتِّبَاعُهُ غَيْرَ رَأْيِهِ اتِّبَاعُ هَوَى غَيْرِهِ. وَالْوَجْهُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ إجْمَاعًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مُقْتَضَى ظَنِّهِ وَعَمَلِهِ هُنَا لَيْسَ إلَّا قَضَاؤُهُ، بِخِلَافِ الْمُرْسَلِ إلَى مَنْ يَرَى خِلَافَ رَأْيِهِ لِيَحْكُمَ هُوَ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ بِشَيْءٍ. هَذَا وَمِنْ تَتِمَّةِ الْيَمِينِ الْمُضَافَةِ أَنَّهُ إذَا فَسَخَ الْيَمِينَ الْمُضَافَةَ بَعْدَ التَّزَوُّجِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْعَقْدِ، وَلَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ النِّكَاحِ قَبْلَ الْفَسْخِ ثُمَّ فَسَخَ حُكِيَ عَنْ بُرْهَانِ الْأَئِمَّةِ يَكُونُ الْوَطْءُ حَلَالًا، وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَفُسِخَتْ الْيَمِينُ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِأُخْرَى هَلْ يَحْتَاجُ إلَى الْفَسْخِ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ؟ ذُكِرَ فِيهِ خِلَافٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْتَاجُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا. وَفِي الْمُنْتَقَى ذَكَرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْتَاجُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْتَاجُ. وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ أَيْضًا. وَحِيلَةُ أَنْ لَا يَحْتَاجَ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي عِنْدَ تَزَوُّجِ امْرَأَةٍ بِبُطْلَانِ الْيَمِينِ الْوَاقِعَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدِ فَسْخِهَا فِي حَقِّ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، وَسَنَذْكُرُ فِي أَمْرِ الْفَتْوَى فِيهَا كَلَامًا آخَرَ فِي بَابِ التَّحْكِيمِ.

(قَوْلُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي فِي الظَّاهِرِ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَذَلِكَ) أَيْ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ الَّذِينَ قَضَى بِهِمْ كَذَبَةً وَالْقَاضِي لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ (وَكَذَا إذَا قَضَى بِإِحْلَالٍ) يَكُونُ حَلَالًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ (وَهَذَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ مَشْرُوطٌ

ص: 306

إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَقَدْ مَرَّتْ فِي النِّكَاحِ

بِمَا (إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ) لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي النِّكَاحِ الْمُعَنْوَنَةُ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْقَاضِي نَافِذٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَاطِنًا خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ.

وَمِنْ الْمِثْلِ: ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ جَاحِدَةٌ وَأَقَامَ بَيِّنَةَ زُورٍ فَقَضَى بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا حَلَّ لِلْمُدَّعِي وَطْؤُهَا وَلَهَا التَّمْكِينُ خِلَافًا لَهُمْ، وَكَذَا إذَا ادَّعَتْ نِكَاحًا عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَجْحَدُهُ، وَمِنْهَا قَضَى بِبَيْعِ أَمَةٍ بِشَهَادَةِ زُورٍ بِأَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْهُ أَوْ أَنَّك اشْتَرَيْتهَا حَلَّ لِلْمُنْكِرِ وَطْؤُهَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ الزُّورُ وَقَضَى بِهَا، وَكَذَا فِي الْفُسُوخِ بِالْبَيْعِ وَالْإِقَالَةِ. وَفِي الْهِبَةِ رِوَايَتَانِ.

وَمِنْهَا ادَّعَتْ أَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهُوَ يُنْكِرُ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةَ زُورٍ فَقَضَى بِالْفُرْقَةِ فَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ عَلِمَ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، وَلَا يَحِلُّ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِكَذِبِ الشُّهُودِ. وَمِنْ صُوَرِ التَّحْرِيمِ: صَبِيٌّ وَصَبِيَّةٌ سُبِيَا فَكَبِرَا وَأُعْتِقَا ثُمَّ تَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَجَاءَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُمَا وَلَدَاهُ قَضَى الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِالْفُرْقَةِ، فَإِنْ رَجَعَ الشُّهُودُ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ شُهُودُ زُورٍ لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا عِنْدَهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحُرْمَةِ نَفَذَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَمُحَمَّدٌ فِي هَذَا الْفَرْعِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ كَذِبِ الشُّهُودِ، وَأَجْمَعُوا فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ عَنْ تَعْيِينِ سَبَبِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَاطِنًا، وَالْوَجْهُ فِي الْأَصْلِ.

وَالْفَرْقُ تَقَدَّمَ قُبَيْلَ بَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكِفَّاءِ، وَمِنْ الْأَوْجُهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَمْرِ الزَّوْجِ نَفَذَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَبِأَمْرِ اللَّهِ أَوْلَى، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِذَلِكَ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا، وَأَمَّا الِاسْتِشْهَادُ بِتَفْرِيقِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ يَنْفُذُ بَاطِنًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ثُمَّ أَنْكَرَ وَحَلَفَ فَقَضَى لَهُ بِهَا لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا، وَأَنَّ الشُّهُودَ لَوْ ظَهَرُوا عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا أَوْ مَحْدُودِينَ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا. وَفِيهَا رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَنَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً فَقَضَى الْقَاضِي بِأَنَّهَا ثَلَاثًا أَخْذًا بِقَوْلِ عَلِيٍّ نَفَذَ الْقَضَاءُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ الزَّوْجُ مُجْتَهِدًا يَتْبَعُ رَأْيَ الْقَاضِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَتْبَعُ رَأْيَ الْقَاضِي إنْ كَانَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْضِيًّا لَهُ يَتْبَعُ أَشَدَّ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا فَإِنْ اسْتَفْتَى فَمَا أَفْتَاهُ بِهِ الْمُفْتِي صَارَ كَالثَّابِتِ بِالِاجْتِهَادِ عِنْدَهُ

ص: 307

قَالَ (وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى غَائِبٍ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ لِوُجُودِ الْحُجَّةِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ فَظَهَرَ الْحَقُّ. وَلَنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ، وَلَا مُنَازَعَةَ دُونَ الْإِنْكَارِ وَلَمْ يُوجَدْ،

وَإِنْ لَمْ يَسْتَفْتِ أَخَذَ بِمَا قُضِيَ بِهِ انْتَهَى. وَالْوَجْهُ عِنْدِي قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ اتِّصَالَ الْقَضَاءِ بِالِاجْتِهَادِ الْكَائِنِ لِلْقَاضِي يُرَجِّحُهُ عَلَى اجْتِهَادِ الزَّوْجِ وَالْأَخْذُ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ، وَكَوْنُهُ لَا يَرَاهُ حَلَالًا إنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْقُرْبَانِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، أَمَّا بَعْدَهُ وَبَعْدَ نَفَاذِهِ بَاطِنًا كَمَا فُرِضَتْ الْمَسْأَلَةُ فَلَا.

(قَوْلُهُ وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى غَائِبٍ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ) إذَا كَانَ غَائِبًا عَنْ الْبَلَدِ أَوْ فِيهَا وَهُوَ مُسْتَتِرٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ غَيْرَ مُخْتَفٍ فَلَهُ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِدُونِ حُضُورِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْمُسْتَتِرِ تَضْيِيعُ الْحُقُوقِ لَوْ لَمْ يَحْكُمْ وَفِي غَيْرِهِ لَا. احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَاشْتِرَاطُ حُضُورِ الْخَصْمِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ بِلَا دَلِيلٍ.

وَلَنَا «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ حِينَ اسْتَقْضَاهُ عَلَى الْيَمَنِ لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِشَيْءٍ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ» وَقَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ وَتَصْحِيحِهِ وَتَحْسِينِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ جَهَالَةَ كَلَامِهِ مَانِعَةٌ مِنْ الْقَضَاءِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ مَعَ غَيْبَتِهِ وَغَيْبَةِ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ، وَلِأَنَّ حُجِّيَّةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِهَا مَوْقُوفٌ عَلَى عَجْزِ الْمُنْكِرِ عَنْ الدَّفْعِ وَالطَّعْنِ فِيهَا، وَالْعَجْزُ عَنْهُ لَا يُعْلَمُ إلَّا مَعَ حُضُورِهِ أَوْ نَائِبِهِ، وَلِأَنَّ شَرْطَ الْعَمَلِ بِهَا الْإِنْكَارُ حَتَّى لَا تُسْمَعَ عَلَى مُقِرٍّ، وَلَا يُقْضَى بِهَا إذَا اعْتَرَضَ الْإِقْرَارُ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبِغَيْبَتِهِ يَفُوتُ

ص: 308

وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ مِنْ الْخَصْمِ فَيَشْتَبِهُ وَجْهُ الْقَضَاءِ لِأَنَّ أَحْكَامَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، وَلَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْإِنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ قَدْ يَكُونُ نَائِبًا بِإِنَابَتِهِ كَالْوَكِيلِ

الْعِلْمُ بِوُجُودِ شَرْطِ الْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ الْإِنْكَارُ، وَمَا لَمْ يُعْلَمْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لَا يُحْكَمُ بِثُبُوتِ الْمَشْرُوطِ وَهُوَ صِحَّةُ الْحُكْمِ، وَلَا يَكْتَفِي فِي الْحُكْمِ بِثُبُوتِهِ كَوْنُهُ الْأَصْلَ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وُجُودُ أَمْرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ وُجُودِهِ، وَلِذَا قُلْنَا جَمِيعًا فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ وَقَالَ السَّيِّدُ دَخَلْت وَقَالَ الْعَبْدُ لَمْ أَدْخُلْ لَا يُحْكَمُ بِوُجُودِ الْعِتْقِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الدُّخُولِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ جُعِلَ شَرْطًا لِحُدُوثِ أَمْرٍ آخَرَ فَلَا يُحْكَمُ بِوُجُودِهِ

ص: 309

أَوْ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا بِأَنْ كَانَ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ

بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ. قُلْنَا: لِأَنَّ بَقَاءَ الْإِنْكَارِ شَرْطُ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِجَوَازِ الرُّجُوعِ عَنْهُ إلَّا بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ إذَا حَضَرَ وَسَكَتَ لِإِنْزَالِ الشَّرْعِ إيَّاهُ مُنْكِرًا لَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْكِرٍ، وَمَا قِيلَ وَقْفُ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُضُورِهِ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ.

وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الدَّعْوَى لَازِمَةٌ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مَعَ حُضُورِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقِرَّ فَيَبْطُلَ حُكْمُ الْبَيِّنَةِ أَوَّلًا، فَيَطْعَنُ فِي الْبَيِّنَةِ وَيُثْبِتُهُ أَوْ لَا يَطْعَنُ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَمَعَ غَيْبَتِهِ يَشْتَبِهُ وَجْهُ الْقَضَاءِ فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْبَيِّنَةِ أَنْ يَنْفُذَ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ وَبِالْإِقْرَارِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمُقِرِّ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِالْبَيِّنَةِ يَأْخُذُهَا وَوَلَدَهَا، وَلَوْ أَقَرَّ بِهَا لِرَجُلٍ لَمْ يَأْخُذْ وَلَدَهَا وَلَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهَا وَبِالْبَيِّنَةِ تَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا لَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْإِنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ قَالَ: يُحْكَمُ بِهَا لِأَنَّ إنْكَارَهُ سُمِعَ نَصًّا فَوَجَدَ شَرْطَ حُجِّيَّتِهَا كَمَا لَوْ أَقَرَّ ثُمَّ غَابَ يَقْضِي بِالْإِقْرَارِ. وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِالْبَيِّنَةِ وَيُقْضَى بِالْإِقْرَارِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ فِي الْبَيِّنَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقَّ الطَّعْنِ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ حَالَ غَيْبَتِهِ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ، أَمَّا لَيْسَ لَهُ حَقُّ الطَّعْنِ فِي إقْرَارِهِ فَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ حَالَ غَيْبَتِهِ ثَمَّ لَا يُبْطِلُ حَقًّا لَهُ.

وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يُقْضَى بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ عَلَى الْغَائِبِ جَمِيعًا، ثُمَّ رَجَعَ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ، وَقَالَ: يُقْضَى فِيهِمَا جَمِيعًا وَاسْتَحْسَنَهُ حِفْظًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ، فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ أَوْ حُضُورِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ أَحَدُ ثَلَاثٍ: نَائِبٌ بِإِنَابَتِهِ كَوَكِيلِهِ، أَوْ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي. وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا: يَعْنِي شَخْصًا يَقُومُ مَقَامَهُ حُكْمًا، أَيْ يَكُونُ قِيَامُهُ عَنْهُ حُكْمًا لِأَمْرٍ لَازِمٍ لَهُ، وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهَا نَفْيًا لِلْمُسَخَّرِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي فَإِنَّ فِيهِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ الَّذِي يُنَصِّبُهُ الْقَاضِي لِيَسْمَعَ عَلَيْهِ الدَّعْوَى، وَكَذَا لَوْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي رَجُلًا غَيْرَ خَصْمِهِ لِيَسْمَعَ الْقَاضِي الْخُصُومَةَ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَا يَسْمَعُ الْخُصُومَةَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُسَخَّرِ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ نَصْبُ الْقَاضِي الْوَكِيلَ عَنْ خَصْمٍ اخْتَفَى فِي بَيْتِهِ وَلَا يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَبْعَثَ أُمَنَاءَهُ إلَى بَابِ دَارِهِ فَيُنَادِيَ عَلَى بَابِ دَارِهِ وَيَقُولَ

ص: 310

وَهَذَا فِي غَيْرِ صُورَةٍ فِي الْكُتُبِ، أَمَّا إذَا كَانَ شَرْطًا لِحَقِّهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي جَعْلِهِ خَصْمًا

اُحْضُرْ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَإِلَّا يُحْكَمُ عَلَيْك، أَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَا.

وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ. رَجُلٌ غَابَ وَجَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَى عَلَى رَجُلٍ ذَكَرَ أَنَّهُ غَرِيمُ الْغَائِبِ وَالْغَائِبُ وَكَّلَهُ بِطَلَبِ كُلِّ حَقٍّ لَهُ عَلَى غُرَمَائِهِ بِالْكُوفَةِ وَبِالْخُصُومَةِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ وَكَالَتَهُ فَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى وَكَالَتِهِ قَضَى عَلَيْهِ بِالْوَكَالَةِ: يَعْنِي عَلَى الْغَائِبِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسَخَّرِ، فَإِنَّهُ قَالَ ذَكَرَ أَنَّهُ غَرِيمُ الْغَائِبِ وَلَمْ يَقُلْ هُوَ غَرِيمُ الْغَائِبِ. قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي أَنَّهُ مُسَخَّرٌ.

وَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا ذَكَرَ ظَهِيرُ الدِّينِ فِي فَتَاوَاهُ أَنَّ فِي نَفَاذِ قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ رِوَايَتَيْنِ، ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَنْفُذُ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمَشَايِخِ قَالُوا: لَا يَنْفُذُ، وَفِي مَفْقُودِ خُوَاهَرْ زَادَهُ، لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لِلْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ كَمَا لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ عَلَى الْغَائِبِ، إلَّا أَنَّ مَعَ هَذَا لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا وَأَنْفَذَ الْخُصُومَةَ بَيْنَهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى انْتَهَى.

وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنْ يُقَالَ إنَّ نَفَاذَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ مَوْقُوفٌ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ، لِأَنَّ نَفْسَ الْقَضَاءِ هُوَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ فَهُوَ كَقَضَاءِ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَنَحْوِهِ، وَحَيْثُ قَضَى عَلَى غَائِبٍ فَلَا يَكُونُ عَنْ إقْرَارٍ عَلَيْهِ.

وَمِنْ فُرُوعِهِ مَسْأَلَةٌ عَجِيبَةٌ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: عَيْنٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ مِلْكُهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَصَدَّقَهُ ذُو الْيَدِ فَالْقَاضِي لَا يَأْمُرُ ذَا الْيَدِ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُدَّعِي حَتَّى لَا يَكُونَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ بِالشِّرَاءِ بِإِقْرَارِهِ، وَهِيَ عَجِيبَةٌ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ. قَالَ: وَأَحَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إلَى بَابِ الْيَمِينِ مِنْ أَدَبِ الْقَاضِي وَلَمْ أَجِدْهَا ثَمَّةَ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَمَا إذَا كَانَ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لَا مَحَالَةَ، لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ (وَهُوَ فِي غَيْرِ صُورَةٍ فِي الْكُتُبِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ) مَا يَدَّعِيهِ الْغَائِبُ (شَرْطًا لِحَقِّهِ) لَا سَبَبًا لَا مَحَالَةَ، أَوْ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا وَقَدْ لَا يَكُونُ (فَإِنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي جَعْلِ الْحَاضِرِ خَصْمًا

ص: 311

عَنْ الْغَائِبِ وَقَدْ عُرِفَ تَمَامُهُ فِي الْجَامِعِ

عَنْ الْغَائِبِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَدْ عَرَفَ تَمَامَهُ فِي الْجَامِعِ). مِثَالُ السَّبَبِ الْمَلْزُومِ لَا مَحَالَةَ فِي سِتِّ مَسَائِلَ: ثَلَاثٌ فِيمَا يَكُونُ الْمَقْضِيُّ شَيْئَيْنِ، وَثَلَاثٌ فِيمَا يَكُونُ وَاحِدًا.

أَمَّا ثَلَاثُ الْوَاحِدِ: إحْدَاهَا ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا مِلْكُهُ وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَهُوَ يَمْلِكُهَا فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ سَبَبٌ لِثُبُوتِ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ الْمَالِكِ سَبَبٌ لَا مَحَالَةَ لِمِلْكِهِ. وَالثَّانِيَةُ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ كَفَلَ عَنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِمَا يَذُوبُ لَهُ عَلَيْهِ فَأَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ وَأَنْكَرَ الذَّوْبَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ذَابَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ أَلْفٌ يُقْضَى بِهَا عَلَى الْكَفِيلِ وَالْغَائِبِ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهِ.

الثَّالِثَةُ ادَّعَى شُفْعَةً فِي دَارٍ فِي يَدِ إنْسَانٍ فَقَالَ ذُو الْيَدِ الدَّارُ دَارِي مَا اشْتَرَيْتهَا مِنْ أَحَدٍ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَا الْيَدِ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِأَلْفٍ وَهُوَ يَمْلِكُهَا وَأَنَا شَفِيعُهَا يَقْضِي بِالشِّرَاءِ فِي حَقِّ ذِي الْيَدِ وَالْغَائِبِ. وَمِثَالُ ثَلَاثِ الشَّيْئَيْنِ: إحْدَاهَا قَذَفَ مُحْصَنًا فَادَّعَى عَلَيْهِ الْحَدَّ فَقَالَ الْقَاذِفُ أَنَا عَبْدٌ وَعَلَيَّ حَدُّ الْعَبِيدِ وَقَالَ الْمُدَّعِي الْمَقْذُوفُ بَلْ أَعْتَقَك مَوْلَاك فَعَلَيْك حَدُّ الْأَحْرَارِ وَالْمَوْلَى غَائِبٌ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ وَيُقْضَى بِالْعِتْقِ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ الْعِتْقَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهِ فَالْعِتْقُ سَبَبٌ لِكَمَالِ الْحَدِّ وَهُوَ الْمُدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ فَهُمَا شَيْئَانِ.

الثَّانِيَةُ شَاهِدَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِمَالٍ فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ هُمَا عَبْدَانِ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ فَأَقَامَ الْمَشْهُودُ لَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُمَا أَعْتَقَهُمَا قَبْلَ هَذَا وَهُوَ يَمْلِكُهُمَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ وَيَثْبُتُ الْعِتْقُ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَالْمَوْلَى الْغَائِبِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ.

الثَّالِثَةُ: رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ غَابَ أَحَدُهُمَا وَادَّعَى الْحَاضِرُ عَلَى الْقَاتِلِ أَنَّ الْغَائِبَ عَفَا عَنْ نَصِيبِهِ وَانْقَلَبَ نَصِيبِي مَالًا وَأَنْكَرَ الْقَاتِلُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ وَيُقْضَى بِهَا عَلَى الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُنْتَقَضٌ بِمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ غَائِبٍ وَحَاضِرٍ فَادَّعَى الْعَبْدُ عَلَى الْحَاضِرِ مِنْهُمَا أَنَّ الْغَائِبَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ وَادَّعَى قَصْرَ يَدِ الْحَاضِرِ عَنْ نَفْسِهِ لِصَيْرُورَتِهِ مُكَاتَبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْحَاضِرِ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ أَصْلًا مَعَ أَنَّ إعْتَاقَ الْغَائِبِ نَصِيبَهُ سَبَبٌ لِقَصْرِ يَدِ الْحَاضِرِ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ. أُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ عِنْدَهُ هُنَا لَا لِعَدَمِ الْخَصْمِ عَنْ الْغَائِبِ بَلْ لِجَهَالَةِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّ السَّاكِتَ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُعْتَقِ يَصِيرُ الْعَبْدُ مُكَاتَبًا مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَقِ، وَإِنْ اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ يَصِيرُ مُكَاتَبًا مِنْ جِهَةِ السَّاكِتِ فَكَانَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ مَجْهُولًا فَلَمْ يُقْبَلْ.

وَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ فِيهِ مَا يَدَّعِي بِهِ عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لَا مَحَالَةَ لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا شَيْئَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ وَاحِدًا، وَبَيَانُهُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا قَالَ لِعَبْدِ رَجُلٍ مَوْلَاك وَكَّلَنِي بِحَمْلِك إلَيْهِ فَأَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ تُقْبَلُ فِي حَقِّ قَصْرِ يَدِ الْحَاضِرِ وَلَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْعِتْقِ عَلَى الْغَائِبِ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ وَأَنْكَرَ الْعِتْقَ يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ بِهِ.

وَالثَّانِيَةُ: رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَةِ غَائِبٍ وَكَّلَنِي زَوْجُك بِحَمْلِك إلَيْهِ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةً أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَقْضِي بِقَصْرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهَا دُونَ الطَّلَاقِ، فَلَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ

ص: 312

قَالَ (وَيُقْرِضُ الْقَاضِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيَكْتُبُ ذِكْرَ الْحَقِّ)

الطَّلَاقَ يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهَا أَوْ بَيِّنَةٍ أُخْرَى فَالْمُدَّعِي الْعِتْقَ وَقَصْرَ الْيَدِ وَالطَّلَاقَ وَقَصْرَ الْيَدِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ قَدْ يَتَحَقَّقُ وَلَا يُوجِبُ انْعِزَالَ الْوَكِيلِ بِأَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ وَكَالَةٌ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ مُوجِبًا لِلِانْعِزَالِ بِأَنْ وُجِدَ بَعْدَ الْوَكَالَةِ، فَلَيْسَ انْعِزَالُ الْوَكِيلِ حُكْمًا أَصْلِيًّا لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لِحَقِّ الْحَاضِرِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَكُونُ الْحَاضِرُ فِيهِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا قَبِلْنَا الْبَيِّنَةَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْحَاضِرِ فِي قَصْرِ يَدِهِ وَانْعِزَالِهِ عَنْ الْوَكَالَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْعِزَالِ الْوَكِيلِ تَحَقُّقُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَلَا مِنْ ضَرُورَةِ تَحَقُّقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ انْعِزَالُ الْوَكِيلِ فَلَا يُقْضَى بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.

وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ دَعْوَى شَيْئَيْنِ، إلَّا أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْغَائِبِ لَيْسَ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْبَقَاءِ فَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلَ: إحْدَاهَا قَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَادَّعَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ كَانَ زَوَّجَهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي وَيُرِيدُ أَنْ يَرُدَّهَا بِهَذَا الْعَيْبِ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى بِهَا لَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَلَا فِي حَقِّ الْغَائِبِ، لِأَنَّ الْمُدَّعَى شَيْئَانِ: الرَّدُّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْحَاضِرِ، وَالنِّكَاحُ عَلَى الْغَائِبِ. وَالنِّكَاحُ الْمُدَّعَى بِهِ عَلَى الْغَائِبِ لَيْسَ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْبَقَاءِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَقَاءِ بِأَنْ شَهِدُوا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لِلْحَالِ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَقَاءَ تَبَعٌ لِلِابْتِدَاءِ. وَالثَّانِيَةُ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا أَرَادَ الْبَائِعُ الِاسْتِرْدَادَ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَا تُقْبَلُ لِإِبْطَالِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ لَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَلَا فِي حَقِّ الْغَائِبِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ لَيْسَ سَبَبًا لِبُطْلَانِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ لِجَوَازِ أَنَّهُ بَاعَ ثُمَّ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا فَيَعُودُ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ نَفْسِ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ الْبَقَاءِ لِأَنَّ الْبَقَاءَ تَبَعٌ لِلِابْتِدَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا. الثَّالِثَةُ رَجُلٌ فِي يَدِهِ دَارٌ بِيعَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ فَأَرَادَ ذُو الْيَدِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرَاةَ بِالشُّفْعَةِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي لَهُ: الدَّارُ الَّتِي بِيَدِك لَيْسَتْ لَك وَإِنَّمَا هِيَ لِفُلَانٍ فَأَقَامَ الشَّفِيعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَا يُقْضَى بِالشِّرَاءِ لَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَلَا فِي حَقِّ الْغَائِبِ، لِأَنَّ الْمُدَّعَى شَيْئَانِ، وَالْمُدَّعَى عَلَى الْغَائِبِ مِنْ شِرَاءِ الدَّارِ لَيْسَ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ فِي الشُّفْعَةِ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَقَاءُ، لِأَنَّهُ لَوْ فَسَخَ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَأَزَالَهَا عَنْ مِلْكِهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ لَا يَكُونُ لَهُ شُفْعَةٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الشُّفْعَةُ بِاعْتِبَارِ الْبَقَاءِ وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ؛ وَلَوْ أَقَامَ عَلَى الْبَقَاءِ لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا مَا يَكُونُ شَرْطًا فَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَصِبُ الْحَاضِر خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ فِيمَا يَدَّعِيهِ. وَصُورَتُهُ: قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ طَلَّقَ فُلَانٌ امْرَأَتَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَادَّعَتْ أَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَا يُقْضَى بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ.

وَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَفَخْرِ الْإِسْلَامِ والأوزجندي فِيهِ بِانْتِصَابِ الْحَاضِرِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ، وَيُقْضَى بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَبَرْهَنَتْ عَلَى دُخُولِ فُلَانٍ حَيْثُ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ فُلَانٌ غَائِبًا. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ بِشَيْءٍ إذْ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقٍّ لَهُ فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْحَاضِرِ مِنْ غَيْرِ إبْطَالِ حَقِّ الْغَائِبِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ فِيهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ، وَمَا تَضَمَّنَ إبْطَالًا عَلَيْهِ لَا يُقْبَلُ.

(قَوْلُهُ وَيُقْرِضُ الْقَاضِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيَكْتُبُ ذِكْرَ الْحَقِّ) وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِنَا بِالصَّكِّ وَالْحَقُّ هُنَا هُوَ الْإِقْرَاضُ، وَهَذَا

ص: 313

لِأَنَّ فِي الْإِقْرَاضِ مَصْلَحَتَهُمْ لِبَقَاءِ الْأَمْوَالِ مَحْفُوظَةً مَضْمُونَةً، وَالْقَاضِي يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ وَالْكِتَابَةِ لِيَحْفَظَهُ (وَإِنْ أَقْرَضَ الْوَصِيُّ ضَمِنَ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ، وَالْأَبُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِاسْتِخْرَاجِ.

لِأَنَّ فِي الْإِقْرَاضِ مَصْلَحَتَهُمْ) لِأَنَّ بَقَاءَهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ السَّارِقُ وَالْغَاصِبُ الْمُكَابِرُ، وَفِي الْقَرْضِ بَقَاؤُهَا مَحْفُوظَةً عَنْ ذَلِكَ مَضْمُونَةً (وَالْقَاضِي يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ) فَكَانَ النَّظَرُ فِي الْإِقْرَاضِ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ، إذْ رُبَّمَا لَا يُوَافِقُهُ الشُّهُودُ أَوْ لَا يَجِدُهُمْ، وَلَوْ وَجَدَهُمْ فَلَيْسَ كُلُّ بَيِّنَةٍ تَعْدِلُ وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ، وَفِي الْجُثُوِّ بَيْنَ يَدِي الْقُضَاةِ ذُلٌّ وَصَغَارٌ فَكَانَ إضْرَارًا بِالصِّغَارِ عَلَى الِاعْتِبَارِ (وَالْأَبُ كَالْوَصِيِّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ.

وَوَجْهُ الْأُخْرَى أَنَّهُ أَعَمُّ وِلَايَةً مِنْ الْوَصِيِّ لِأَنَّهَا فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ كَوِلَايَةِ الْقَاضِي، وَيَزِيدُ عَلَيْهَا بِزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ الْمَانِعُ مِنْ تَرْكِ النَّظَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقْرِضُ مِمَّنْ يَأْمَنُ جُحُودَهُ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ أَخَذَهُ الْأَبُ قَرْضًا لِنَفْسِهِ يَجُوزُ وَإِنْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي جَوَازِ الْقَرْضِ وَعَدَمِهِ لَيْسَ لِقُرْبِ الْقَرَابَةِ وَلَا لِزِيَادَةِ الْوِلَايَةِ بَلْ لِتَمَامِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِرْجَاعِ بَعْدَ وُجُودِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ وَلَا قُدْرَةَ لِلْأَبِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِدْ الشُّهُودَ لِمَوْتٍ أَوْ غَيْبَةٍ قَضَى بِعِلْمِهِ وَاسْتَخْرَجَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قُدْرَةَ هَذَا إنَّمَا تُفِيدُ مَعَ وُجُودِ الْمُلَاءَةِ.

أَمَّا لَوْ أَعْسَرَ الْمُسْتَقْرِضُ صَارَ الْقَاضِي كَغَيْرِهِ فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْخَصَّافُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَالَ الَّذِينَ أَقْرَضَهُمْ الْمَالَ حَتَّى لَوْ اخْتَلَّ حَالُ أَحَدٍ مِنْهُمْ يَأْخُذُ مِنْهُمْ الْمَالَ قَبْلَ أَنْ يُعْسِرَ فَلَا يَقْدِرُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَقْرِضُ مُعْسِرًا فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي إقْرَاضُهُ، وَقَدْ انْتَظَمَ مَا ذَكَرْنَا حُكْمَ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ وَلْنُفَصِّلْهَا فَعِنْدَنَا وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ لَا يَجُوزُ، وَعَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا رِوَايَةٌ بِالْجَوَازِ كَقَوْلِنَا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «قَالَ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» فَهَذَا قَضَاءٌ بِعِلْمِهِ، وَشَرْطُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَعْلَمَ فِي حَالِ قَضَائِهِ فِي الْمِصْرِ الَّذِي هُوَ قَاضِيهِ بِحَقٍّ غَيْرِ حَدٍّ خَالِصٍ لِلَّهِ مِنْ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ تَطْلِيقِ رَجُلٍ امْرَأَتَهُ أَوْ قَتْلِ عَمْدٍ أَوْ حَدِّ قَذْفٍ.

وَأَمَّا إذَا عَلِمَ قَبْلَ الْقَضَاءِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ ثُمَّ وُلِّيَ فَرُفِعَتْ إلَيْهِ تِلْكَ الْحَادِثَةُ أَوْ عَلِمَهَا فِي حَالِ قَضَائِهِ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ ثُمَّ دَخَلَهُ فَرُفِعَتْ إلَيْهِ لَا يَقْضِي عِنْدَهُ، وَقَالَ: يُقْضَى. وَفِي التَّجْرِيدِ جَعَلَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ عَلِمَ فِي رُسْتَاقِ مِصْرِهِ عِنْدَهُمَا يَقْضِي.

وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَوَاءٌ كَانَ مُقَلِّدًا لِلرُّسْتَاقِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْقَرْيَةِ وَالْمَفَازَةِ لَا يَنْفُذُ عِنْدَ

ص: 314

(بَابُ التَّحْكِيمِ)

أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَنَصَّ أَصْحَابُ الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي السَّوَادِ، وَهَكَذَا فِي النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَلَوْ عَلِمَ بِحَادِثَةٍ وَهُوَ قَاضٍ فِي مِصْرِهِ ثُمَّ عُزِلَ ثُمَّ أُعِيدَ إلَى الْقَضَاءِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقْضِي، وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي. وَأَمَّا فِي حَدِّ الشُّرْبِ وَالزِّنَا فَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بِعِلْمِهِ اتِّفَاقًا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

(بَابُ التَّحْكِيمِ)

هَذَا أَيْضًا مِنْ فُرُوعِ الْقَضَاءِ، وَالْمُحَكَّمُ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْ الْقَاضِي، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي فِيمَا لَا يَقْضِي الْمُحَكَّمُ فَأَخَّرَهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ التَّحْكِيمِ بِالشَّرْطِ وَإِضَافَتِهِ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ حُكْمَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِصْلَاحِ وَالْوَاقِعُ مِنْهُ كَالصُّلْحِ، أَوْ هُوَ صُلْحٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ مِثْلَهُ بِالشَّكِّ. وَالتَّحْكِيمُ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} الْآيَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا «قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَأَتَوْنِي فَحَكَمْت بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ عَنِّي الْفَرِيقَانِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: مَا أَحْسَنَ هَذَا» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأُجْمِعَ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَمِلَ بِحُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا اتَّفَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى الرِّضَا بِحُكْمِهِ فِيهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مُنَازَعَةٌ فِي نَخْلٍ فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَأَتَيَاهُ فَخَرَجَ زَيْدٌ وَقَالَ لِعُمَرَ: هَلَّا بَعَثْت إلَيَّ فَآتِيك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ، فَدَخَلَا بَيْتَهُ فَأَلْقَى لَعُمَرَ وِسَادَةً، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا أَوَّلُ جَوْرِك فَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيٍّ: لَوْ أَعْفَيْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَمِينٌ لَزِمَتْنِي، فَقَالَ أُبَيٌّ: نُعْفِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَنُصَدِّقُهُ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَظُنُّ بِأَحَدٍ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ التَّلْبِيسَ، وَإِنَّمَا هِيَ لِاشْتِبَاهِ الْحَادِثَةِ عَلَيْهِمَا فَتَقَدَّمَا إلَى الْحَكَمِ لِلتَّبْيِينِ لَا لِلتَّلْبِيسِ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّحْكِيمِ وَأَنَّ زَيْدًا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفِقْهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما كَانَ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ بِرِكَابِهِ عِنْدَ رُكُوبِهِ، وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِفُقَهَائِنَا، فَقَبَّلَ زَيْدٌ يَدَهُ وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِأَشْرَافِنَا. وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَكُونُ قَاضِيًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى الْعِلْمِ يَأْتِي إلَى الْعَالِمِ فِي بَيْتِهِ وَلَا يَبْعَثُ إلَيْهِ لِيَأْتِيَهُ وَإِنْ كَانَ أَوْجَهَ النَّاسِ. وَأَمَّا إلْقَاءُ زَيْدٍ الْوِسَادَةَ فَاجْتِهَادٌ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ» «وَبَسَطَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رِدَاءً لَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ» ، وَأَنَّ الْخَلِيفَةَ لَيْسَ كَغَيْرِهِ، وَاجْتِهَادُ عُمَرَ عَلَى تَخْصِيصِ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ عُمُومِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْحَلِفِ صَادِقًا، وَامْتِنَاعُ عُثْمَانَ عَنْ الْيَمِينِ حِينَ لَزِمَتْهُ كَانَ لِأَمْرٍ آخَرَ، وَأَنَّ

ص: 315

(وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ رَجُلًا فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا وَرَضِيَا بِحُكْمِهِ جَازَ) لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَصَحَّ تَحْكِيمُهُمَا وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِصِفَةِ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِيمَا بَيْنَهُمَا فَيُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ، وَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ اعْتِبَارًا بِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَالْفَاسِقُ إذَا حَكَمَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي الْمُوَلَّى

الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا وَيَسْقُطَ بِإِسْقَاطِهِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ رَجُلًا) أَوْ امْرَأَةً (فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا وَرَضِيَا بِحُكْمِهِ) إلَى أَنْ حَكَمَ (جَازَ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَصَحَّ تَحْكِيمُهُمَا) وَسَنَذْكُرُ لِهَذَا تَخْصِيصَاتٍ: أَوَّلُهَا قَوْلُهُ (وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِصِفَةِ الْحَاكِمِ) بِأَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ (فَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ) إلَّا أَنْ يُحَكِّمَهُ ذِمِّيَّانِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ (وَ) كَذَلِكَ (الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَالْفَاسِقُ) لَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ (لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ. وَالْفَاسِقُ إذَا حَكَمَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي الْمَوْلَى) الْفَاسِقِ يَنْفُذُ حُكْمُهُ. وَقَوْلُهُ (وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا) عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ: أَعْنِي قَوْلَهُ جَازَ، وَهَذِهِ شُرُوطُ التَّحْكِيمِ فَقَدَّمْنَاهَا عَلَى الْجَوَابِ، وَلَوْ قَدَّمَ الْمَجْرُورَ فَقَالَ وَعَلَيْهِمَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ كَانَ مُفِيدًا لِلْحَصْرِ فَيُفِيدُ أَنَّهُ

ص: 316

(وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَكِّمَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّهُ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِهِمَا فَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِرِضَاهُمَا جَمِيعًا (وَإِذَا حَكَمَ لَزِمَهُمَا) لِصُدُورِ حُكْمِهِ عَنْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا (وَإِذَا رَفَعَ حُكْمَهُ إلَى الْقَاضِي فَوَافَقَ مَذْهَبَهُ أَمْضَاهُ) لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِهِ ثُمَّ فِي إبْرَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ (وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ) لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَلْزَمُهُ لِعَدَمِ التَّحْكِيمِ مِنْهُ.

لَا يَنْفُذُ عَلَى غَيْرِهِمَا، فَلَوْ حَكَّمَاهُ فِي عَيْبٍ بِالْمَبِيعِ فَقَضَى بِرَدِّهِ لَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَى الْبَائِعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالْمُشْتَرِي عَلَى تَحْكِيمِهِ فَحِينَئِذٍ يَرُدُّهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَوْ اخْتَصَمَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مَعَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فِي الْعَيْبِ فَحَكَمَ بِرَدِّهِ عَلَى الْوَكِيلِ لَمْ يَلْزَمْ الْمُوَكِّلَ إذَا كَانَ الْعَيْبُ يَحْدُثُ مِثْلُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يَرْضَى الْمُوَكِّلُ بِتَحْكِيمِهِ مَعَهُمَا. وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَلَمْ يَدْخُلْ الْمُوَكِّلُ مَعَهُمْ فِي التَّحْكِيمِ فَفِي لُزُومِهِ لِلْمُوَكِّلِ رِوَايَتَانِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ حُكْمُهُ وَلَمْ يَتَعَدَّ لِأَنَّهُ كَالْمُصَالِحِ. ثُمَّ تُشْتَرَطُ هَذِهِ وَقْتَ التَّحْكِيمِ وَوَقْتَ الْقَضَاءِ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ حَكَّمَا عَبْدًا فَعَتَقَ أَوْ صَبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا فَبَلَغَ وَأَسْلَمَ ثُمَّ حَكَمَ لَا يَنْفُذُ كَمَا فِي الْمُقَلَّدِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا وَقْتَ التَّحْكِيمِ ثُمَّ ارْتَدَّ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ ثُمَّ الْإِضَافَاتُ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْعَبْدِ إلَخْ مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ إلَى الْفَاعِلِ جَازَ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَفِي الْمُغْنِي: يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ كَالْحُرِّ، وَتَحْكِيمُ الذِّمِّيِّ ذِمِّيًّا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذِمِّيٍّ يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا.

(قَوْلُهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَكِّمِينَ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِهِمَا) إذْ هُمَا الْمُوَلِّيَانِ لَهُ فَلَهُمَا عَزْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ كَمَا أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَعْزِلَ الْقَاضِيَ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ وَلَوْ حَكَمَ قَبْلَ عَزْلِهِ نَفَذَ وَعَزْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُهُ فَكَذَا هَذَا (وَإِذَا نَفَذَ حُكْمُهُ لَزِمَهُمَا لِصُدُورِ حُكْمِهِ عَنْ وِلَايَةٍ كَامِلَةٍ عَلَيْهِمَا) فَقَطْ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ دُونَ الصُّلْحِ وَبَعْدَمَا تَمَّ الصُّلْحُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ أَنْ يَرْجِعَ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا رُفِعَ حُكْمُهُ إلَى الْقَاضِي فَوَافَقَ مَذْهَبَهُ أَمْضَاهُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِهِ ثُمَّ إبْرَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ) بِعَيْنِهِ (وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ) وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: هُوَ كَالْمُقَلَّدِ فَلَا يُبْطِلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوْرًا بَيِّنًا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَنَحْنُ فَرَّقْنَا بِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي عَامَّةٌ عَلَى النَّاسِ لِعُمُومِ وِلَايَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُقَلِّدِ لَهُ، بِخِلَافِ الْمُوَلِّيَيْنِ لَهُ إنَّمَا لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَقَطْ لَا عَلَى الْقَاضِي فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ الْقَاضِيَ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَكِّمْهُ، وَلِأَنَّ تَقْلِيدَهُمَا إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى شَيْءٍ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَهُ أَوْ يُنْفِذَهُ فَكَذَا هَذَا، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ لَيْسَ مَا يُعْفِيهِ ظَاهِرُهُ مِنْ لُزُومِ إبْطَالِ الْقَاضِي إيَّاهُ بَلْ جَوَازُ

ص: 317

(وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى دَمِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِبَاحَةَ فَلَا يُسْتَبَاحُ بِرِضَاهُمَا قَالُوا: وَتَخْصِيصُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُفْتَى بِهِ، وَيُقَالُ يُحْتَاجُ إلَى حُكْمِ الْمُوَلَّى دَفْعًا لِتَجَاسُرِ الْعَوَامّ

أَنْ يُبْطِلَهُ وَأَنْ يُنْفِذَهُ. وَعِبَارَةُ الْمَبْسُوطِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْوَجْهَ فَلَا يَجِبُ تَنْفِيذُ حُكْمِهِ عَلَى الْقَاضِي.

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْقِصَاصِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْخَصَّافِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْخَصَّافِ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالُوا هَذَا فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ لِاسْتِيفَائِهَا وَلَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ. وَأَمَّا الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ فَيَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيهِمَا، وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ يُرِيدُ الْخَصَّافَ أَطْلَقَ وَقَالَ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَكَمِ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ بِالصُّلْحِ، وَلِأَنَّهُمَا يَنْدَرِئَانِ بِالشُّبُهَاتِ، وَفِي حُكْمِهِ شُبْهَةٌ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فِي حَقِّهِمَا لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَأَيُّ شُبْهَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ (قَالُوا وَتَخْصِيصُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ وَهُوَ صَحِيحٌ) وَفِي الْخُلَاصَةِ: قَضَاءُ الْحُكْمِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالدُّيُونِ وَالْبُيُوعِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْقِصَاصِ وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ وَقَطْعِ يَدٍ عَمْدًا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ جَائِزٌ إذَا وَافَقَ رَأْيَ الْقَاضِي.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ فِي الْقِصَاصِ. وَنَقَلَ النَّاصِحِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي الْقِصَاصِ: يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّ وَلِيَّ الْقِصَاصِ لَوْ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْفَعَ إلَى السُّلْطَانِ جَازَ، فَكَذَا إذَا حَكَّمَ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ بَنِي آدَمَ. وَتَوْجِيهُ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُمَا لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى دَمِهِمَا وَلِذَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِبَاحَةَ: يَعْنِي لَوْ قَالَ لِشَخْصٍ اُقْتُلْنِي لَا يَصِحُّ أَمْرُهُ وَلَا يَحِلُّ لِلْآخَرِ قَتْلُهُ لَا يَدْفَعُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّحْكِيمِ، وَالْآخَرُ: أَعْنِي الطَّالِبَ تَبَعٌ فَكَوْنُ

ص: 318

وَإِنْ حَكَّمَاهُ فِي دَمِ خَطَإٍ فَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ إذْ لَا تَحْكِيمَ مِنْ جِهَتِهِمْ. وَلَوْ حَكَمَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ رَدَّهُ الْقَاضِي وَيَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرَأْيِهِ وَمُخَالِفٌ لِلنَّصِّ أَيْضًا إلَّا إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيَقْضِيَ بِالنُّكُولِ وَكَذَا بِالْإِقْرَارِ) لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَوْ بِعَدَالَةِ الشُّهُودِ

أَحَدِهِمَا وَهُوَ الَّذِي تَحْكِيمُهُ لَيْسَ الْأَقْوَى يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ لَا يَقْتَضِي صِحَّةَ التَّحْكِيمِ فِيهِ بَلْ حَتَّى يَرْضَى الْآخَرُ، وَالْآخَرُ لَا يَمْلِكُ مَا حَكَمَ فِيهِ فَلَا يَصِحُّ التَّحْكِيمُ فِيهِ. وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: حُكْمُ الْمُحَكَّمِ فِي الطَّلَاقِ وَالْمُضَافِ يَنْفُذُ لَكِنْ لَا يُفْتِي بِهِ. وَفِيهَا: رُوِيَ عَنْ أَصْحَابِنَا مَا هُوَ أَوْسَعُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْحَادِثَةِ لَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا عَدْلًا فَأَفْتَاهُ بِبُطْلَانِ الْيَمِينِ الْمُضَافَةِ وَسِعَهُ اتِّبَاعُ فَتْوَاهُ وَإِمْسَاكُ الْمَرْأَةِ الْمَحْلُوفِ بِطَلَاقِهَا. وَرُوِيَ عَنْهُمْ مَا هُوَ أَوْسَعُ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اسْتَفْتَى أَوَّلًا فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِبُطْلَانِ الْيَمِينِ وَسِعَهُ إمْسَاكُ الْمَرْأَةِ فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْرَى وَكَانَ حَلَفَ بِطَلَاقِ كُلِّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَاسْتَفْتَى فَقِيهًا آخَرَ فَأَفْتَاهُ بِصِحَّةِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ يُفَارِقُ الْأُخْرَى وَيُمْسِكُ الْأُولَى عَمَلًا بِفَتْوَاهُمَا.

وَفِي الذَّخِيرَةِ: فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَبَعَثَ الْقَاضِي إلَى شَافِعِيٍّ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِبُطْلَانِ ذَلِكَ النِّكَاحِ وَبِبُطْلَانِ الثَّلَاثِ يَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ حَكَّمَا بِذَلِكَ حَكَمًا يَجُوزُ، وَلَا يُفْتَى بِهِ لِمَا مَرَّ: يَعْنِي مَا قَدَّمَهُ مِنْ خَشْيَةِ تَجَاسُرِ الْعَوَامّ: يَعْنِي عَلَى هَدْمِ الْمَذْهَبِ. قَالَ: وَكَذَا مَنْ غَابَ عَنْ امْرَأَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَلَمْ يُخَلِّفْ لَهَا نَفَقَةً فَبَعَثَ إلَى شَافِعِيٍّ لِيَحْكُمَ بِفَسْخِ النِّكَاحِ لِعَجْزِ النَّفَقَةِ يَجُوزُ. ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَوْ حَكَّمَاهُ فِي دَمِ خَطَإٍ فَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إذَا لَمْ يُحَكِّمُوهُ، وَكَذَا لَوْ حَكَمَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ) فَإِنَّ الْقَاضِيَ (يَرُدُّهُ وَيَقْضِي) بِمَا هُوَ الْحَقُّ وَهُوَ كَوْنُهُ (عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرَأْيِهِ وَلِلنَّصِّ) وَهُوَ حَدِيثُ حَمْلِ بْنِ مَالِكٍ (إلَّا إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ) وَهُوَ قَتْلُ الْخَطَإِ (بِإِقْرَارِهِ) فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِالدِّيَةِ حِينَئِذٍ عَلَى الْقَاتِلِ، لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْقَتْلَ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ كَمَا لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ وَالصُّلْحَ عَلَى الدِّيَةِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَنْفُذُ فِي حَقِّهِمْ إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَاقْتَصَرَ عَلَى نَفْسِهِ فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أُرُوشُ الْجِرَاحَاتِ إنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تَعْقِلُهَا الْعَاقِلَةُ، بَلْ تَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي بِأَنْ كَانَتْ دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ وَالنُّكُولِ أَوْ كَانَ عَمْدًا، وَإِنْ بَلَغَ خَمْسَمِائَةٍ

ص: 319

وَهُمَا عَلَى تَحْكِيمِهِمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ قَائِمَةٌ وَلَوْ أَخْبَرَ بِالْحُكْمِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِانْقِضَاءِ الْوِلَايَةِ كَقَوْلِ الْمُوَلَّى بَعْدَ الْعَزْلِ.

(وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لِأَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ بَاطِلٌ وَالْمُوَلَّى وَالْمُحَكَّمُ فِيهِ سَوَاءٌ) وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِهَؤُلَاءِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْقَضَاءُ لَهُمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَكَذَا الْقَضَاءُ، وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

فَقَضَى الْحَكَمُ عَلَى الْجَانِي جَازَ لِأَنَّهُ لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِهَا أَصْلًا لِأَنَّهُ إنْ قَضَى عَلَى الْجَانِي خَالَفَ الشَّرْعَ، وَعَلَى الْعَاقِلَةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوهُ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ أَخْبَرَ) يَعْنِي الْمُحَكَّمُ لَوْ قَالَ: لِأَحَدِهِمَا أَقْرَرْت عِنْدِي أَوْ قَامَتْ عِنْدِي بَيِّنَةٌ عَلَيْك بِهَذَا فَعَدَلُوا عِنْدِي وَقَدْ أَلْزَمْتُك ذَلِكَ وَحَكَمْت بِهَذَا فَأَنْكَرَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ وَمَضَى الْقَضَاءُ عَلَيْهِ مَا دَامَ الْمَجْلِسُ بَاقِيًا لِأَنَّ الْحَكَمَ مَا دَامَ تَحْكِيمُهُمَا قَائِمًا كَالْقَاضِي الْمُقَلِّدِ، وَلَوْ قَالَ الْمُقَلِّدُ ذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، فَكَذَا الْحَكَمُ إلَّا أَنْ يُخْرِجَهُ الْمُخَاطَبُ عَنْ الْحُكْمِ وَيَعْزِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ حَكَمْت عَلَيْك ثُمَّ قَالَ الْمُحَكَّمُ ذَلِكَ أَوْ قَالَهُ بَعْدَ أَنْ قَامَ مِنْ الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ بِالْقِيَامِ مِنْ الْمَجْلِسِ يَنْعَزِلُ كَمَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْحُكْمِ فَصَارَ كَالْقَاضِي، إذَا قَالَ بَعْدَ الْعَزْلِ قَضَيْت بِكَذَا لَا يُصَدَّقُ كَذَا هَذَا.

(قَوْلُهُ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ) سَوَاءٌ كَانَ قَاضِيًا أَوْ مُحَكَّمًا (لِأَبَوَيْهِ وَوَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ) وَكُلُّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ (بَاطِلٌ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ) بِخِلَافِ مَا إذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ يَجُوزُ لِانْتِفَائِهَا.

(قَوْلُهُ وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا لِأَنَّ الْحُكْمَ أَمْرٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ) وَإِنَّمَا رَضِيَ الْخَصْمَانِ بِرَأْيِهِمَا فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ لَا يُصَدَّقُ الْحَكَمَانِ فِي إخْبَارِهِمَا عَنْ الْحُكْمِ إذَا قَامَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ انْعِزَالِهِمَا فَالْتَحَقَا بِسَائِرِ الرَّعَايَا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَاهُ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُمَا، وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَ الْحَكَمَيْنِ شَاهِدَانِ ثُمَّ مَاتَ الشَّاهِدَانِ أَوْ غَابَا فَسَأَلَ الْمُدَّعِي الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَشْهَدَا لَهُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمَا مَا حَمَلَاهُمَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا. وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ فَلَوْ حَكَّمَا عَبْدًا وَحُرًّا لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ حَكَّمَ مُسْلِمٌ وَمُرْتَدٌّ رَجُلًا فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَتَلَ الْمُرْتَدَّ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا وَلَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ رَجُلًا بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ جَازَ وَيَصِيرُ كَالْقَاضِي، وَلَوْ أَمَرَ الْقَاضِي رَجُلًا لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ أَوْ يَتَرَاضَى بِهِ الرَّجُلَانِ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلًا فَأَخْرَجَهُ الْقَاضِي مِنْ الْحُكُومَةِ فَحَكَمَ بَعْدَهُ بَيْنَهُمَا فَأَجَازَاهُ جَازَ، وَلَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يُفَوِّضَ إلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ فَوَّضَ وَحَكَمَ الثَّانِي بِلَا

ص: 320

(مَسَائِلُ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ)

قَالَ (وَإِذَا كَانَ عُلْوٌ لِرَجُلٍ وَسُفْلٌ لِآخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَتِدَ فِيهِ وَتَدًا وَلَا يَنْقُبَ فِيهِ كَوَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) مَعْنَاهُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلْوِ (وَقَالَا: يَصْنَعُ مَا لَا يَضُرُّ بِالْعُلْوِ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلْوِهِ. قِيلَ مَا حُكِيَ عَنْهُمَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فَلَا خِلَافَ. وَقِيلَ

رِضَاهُمْ فَأَجَازَ الْقَاضِي لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجِيزَاهُ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالْوَكِيلِ الْأَوَّلِ إذَا أَجَازَ فِعْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي، وَلَوْ حَكَّمَا وَاحِدًا فَحَكَمَ لِأَحَدِهِمَا ثُمَّ حَكَّمَا آخَرَ يَنْفُذُ حُكْمُ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ جَائِزًا عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ جَوْرًا أَبْطَلَهُ، وَكِتَابُ الْحَكَمِ إلَى الْقَاضِي وَقَلْبُهُ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ كَتَبَ إلَيْهِ قَاضٍ فَرَضِيَ بِهِ الْخَصْمَانِ حَكَمَ حِينَئِذٍ بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ.

(مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ)

(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ عُلْوٌ لِرَجُلٍ وَسُفْلٌ لِآخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَتِدَ فِيهِ وَتَدًا، وَلَا يَنْقُبُ فِيهِ كَوَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه: أَيْ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلْوِ) وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ جِذْعًا، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَ سُفْلَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ صَاحِبِ الْعُلْوِ فِي سُكْنَاهُ الْعُلْوَ (وَقَالَا: يَصْنَعُ مَا لَا يَضُرُّ بِالْعُلْوِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلْوِهِ) أَوْ يَضَعَ عَلَيْهِ جِذْعًا أَوْ يَشْرَعَ كَنِيفًا. وَالْكَوَّةُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَيُقَالُ وَتَدَ وَتَدًا يَتِدُهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَهُ (قِيلَ مَا حُكِيَ عَنْهُمَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْنَعُ مَا فِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ لَا مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ (فَلَا خِلَافَ) بَيْنَهُمْ (وَقِيلَ) بَلْ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ وَهُوَ فِي مَحَلِّ وُقُوعِ الشَّكِّ، فَمَا لَا شَكَّ فِي عَدَمِ ضَرَرِهِ كَوَضْعِ مِسْمَارٍ صَغِيرٍ أَوْ وَسَطٍ يَجُوزُ اتِّفَاقًا، وَمَا فِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ كَفَتْحِ الْبَابِ يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ اتِّفَاقًا

ص: 321

الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا الْإِبَاحَةُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَالْمِلْكُ يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ وَالْحُرْمَةُ بِعَارِضِ الضَّرَرِ فَإِذَا أُشْكِلَ لَمْ يَجُزْ الْمَنْعُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ الْحَظْرُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ لِلْغَيْرِ كَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْإِطْلَاقُ بِعَارِضٍ فَإِذَا أُشْكِلَ لَا يَزُولُ الْمَنْعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَرَّى عَنْ نَوْعِ ضَرَرٍ بِالْعُلْوِ مِنْ تَوْهِينِ بِنَاءٍ أَوْ نَقْضِهِ فَيُمْنَعُ عَنْهُ.

وَمَا يَشُكُّ فِي التَّضَرُّرِ بِهِ كَدَقِّ الْوَتَدِ فِي الْجِدَارِ وَالسَّقْفِ فَعِنْدَهُمَا لَا يُمْنَعُ، لِأَنَّ (الْأَصْلَ) فِيهِ (الْإِبَاحَةُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَالْحَظْرُ بِعَارِضِ الضَّرَرِ فَإِذَا أُشْكِلَ لَمْ يَجُزْ الْمَنْعُ) لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ؛ كَمَا لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يَجُوزُ، وَلَوْ كَاتَبَ نَصِيبَهُ لَا يَجُوزُ، وَلِلشَّرِيكِ حَقُّ فَسْخِهِ (وَعِنْدَهُ الْأَصْلُ الْحَظْرُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ لِلْغَيْرِ) وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنْ هَدْمِهِ اتِّفَاقًا، وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِمِلْكِهِ يَمْنَعُ تَصَرُّفَهُ بِهِ كَالْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَمُنِعَ الرَّاهِنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ صَاحِبُ الْعُلْوِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالسُّفْلِ رِوَايَةً وَاحِدَةً.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَيْضًا: إذَا أُشْكِلَ تَصَرُّفُ صَاحِبِ الْعُلْوِ وَهَلْ يَضُرُّ بِالسُّفْلِ أَوَّلًا لَا يَمْلِكُهُ بِالِاتِّفَاقِ.

وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ إذَا أُشْكِلَ لَا يَمْلِكُهُ، وَإِذَا لَمْ يَضُرَّ يَمْلِكُهُ. وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ: لَوْ حَفَرَ صَاحِبُ السُّفْلِ فِي سَاحَتِهِ بِئْرًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ صَاحِبُ الْعُلْوِ، وَعِنْدَهُمَا الْحُكْمُ مَعْلُولٌ بِعِلَّةِ الضَّرَرِ، وَعَلِمْت أَنْ لَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ هَدْمُهُ، فَلَوْ هَدَمَهُ يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ لِأَنَّهُ تَعَدَّى عَلَى حَقِّ صَاحِبِ الْعُلْوِ وَهُوَ قَرَارُ الْعُلْوِ، كَالرَّاهِنِ إذَا قَتَلَ الْمَرْهُونَ وَالْمَوْلَى إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ الْمَدْيُونَ، وَهَذَا أَصْلٌ كُلِّيٌّ، كُلُّ مَنْ أُجْبِرَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مَعَ شَرِيكِهِ فَإِذَا فَعَلَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ أَمْرِ شَرِيكِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ لِأَنَّهُ لَهُ طَرِيقٌ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالْمُشَارَكَةِ فِي الْفِعْلِ كَنَهْرٍ بَيْنَهُمَا امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا عَنْ كَرْيِهِ وَكَرَى الْآخَرُ، أَوْ سَفِينَةٍ تَتَخَوَّفُ الْغَرَقَ أَوْ بَيْتٍ أَوْ دَارٍ أَوْ حَمَّامٍ أَوْ طَاحُونَةٍ فَأَصْلَحَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ جَنَى فَفَدَاهُ أَحَدُهُمَا فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ لِأَنَّ الْآخَرَ يُجْبَرُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُجْبَرُ لَمْ يَكُنْ مُتَطَوِّعًا كَعُلْوٍ لِرَجُلٍ وَسُفْلٍ لِآخَرَ وَسَقَطَ السُّفْلُ فَبَنَاهُ الْآخَرُ لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا لِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَائِهِ فَكَانَ فِي بِنَائِهِ إيَّاهُ مُضْطَرًّا لِيَصِلَ إلَى حَقِّهِ، وَإِذَا بَنَاهُ وَبَنَى عَلَيْهِ عُلْوَهُ لَهُ مُنِعَ صَاحِبُ السُّفْلِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَالسُّكْنَى حَتَّى يُؤَدِّيَ قِيمَتَهُ.

وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْقِيمَةَ هَلْ تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْبِنَاءِ أَوْ وَقْتَ الرُّجُوعِ، وَالصَّحِيحُ وَقْتَ الْبِنَاءِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي الدَّارِ وَالْبَيْتِ وَالطَّاحُونَةِ وَالْحَمَّامِ مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ

ص: 322

قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ زَائِغَةً مُسْتَطِيلَةً تَنْشَعِبُ مِنْهَا زَائِعَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ وَهِيَ غَيْرُ نَافِذَةٍ فَلَيْسَ لِأَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى أَنْ يَفْتَحُوا بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى) لِأَنَّ فَتْحَهُ لِلْمُرُورِ وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمُرُورِ إذْ هُوَ لِأَهْلِهَا خُصُوصًا حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَهْلِ الْأُولَى فِيمَا بِيعَ فِيهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ،

قِسْمَةُ السَّاحَةِ لِيَبْنِيَ فِي نَصِيبِهِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فِي الْحَائِطِ وَعِمَارَتِهِ قَالَ: وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ، وَهَذَا عِنْدِي فِي غَايَةِ الْحُسْنِ إذَا كَانَ بِقَضَاءٍ.

وَيَجِبُ أَنْ لَا يَضْمَنَ لَوْ عَلَا بِنَاءُ السُّفْلِ عَلَى قَدْرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ، أَمَّا إذَا كَانَتْ السَّاحَةُ صَغِيرَةً لَا يُمْكِنُ بِنَاءُ ذَلِكَ فِيهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ إذَا بَنَى لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا، وَكَذَا إذَا انْهَدَمَ بَعْضُهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ إلَّا بِبِنَائِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا. وَفِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ: دَارٌ لِجَارَيْنِ سَطْحُ إحْدَاهُمَا أَعْلَى وَمَسِيلُ مَاءِ الْعُلْيَا عَلَى الْأُخْرَى فَأَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَرْفَعَ سَطْحَهُ أَوْ يَبْنِي عَلَيْهِ لَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْجَارِ مَنْعُهُ، وَلَكِنْ يُطَالِبُهُ بِتَسْيِيلِ مَائِهِ إلَى طَرَفِ الْمِيزَابِ.

وَإِذَا انْهَدَمَ السُّفْلُ أَوْ هَدَمَهُ الْمَالِكُ لَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُكَلِّفَهُ الْعِمَارَةَ لِأَجْلِ إسَالَةِ الْمَاءِ لَكِنْ يَبْنِي هُوَ وَيَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ انْتَهَى. فَرَّقَ بَيْنَ حَقِّ التَّعَلِّي وَبَيْنَ حَقِّ التَّسْيِيلِ حَيْثُ لَوْ هُدِمَ فِي الْأَوَّلِ يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ، وَلَوْ هُدِمَ فِي الثَّانِي لَا يُجْبَرُ. وَفِي الْحَائِطِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لَوْ كَانَ لَهُمَا عَلَيْهِ خَشَبٌ فَبَنَى أَحَدُهُمَا لِلْبَانِي أَنْ يَمْنَعَ الْآخَرَ مِنْ وَضْعِ الْخَشَبِ عَلَى الْحَائِطِ حَتَّى يُعْطِيَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا.

وَفِي الْأَقْضِيَةِ: حَائِطٌ مُشْتَرَكٌ أَرَادَ أَحَدُهُمَا نَقْضَهُ وَأَبَى الشَّرِيكُ؛ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَخَافُ سُقُوطَهُ لَا يُجْبَرُ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَخَافُ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ يُجْبَرُ، وَإِنْ هَدَمَاهُ وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبْنِيَ وَأَبَى الْآخَرُ إنْ كَانَ أُسُّ الْحَائِطِ عَرِيضًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْنِيَ حَائِطًا فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا يُجْبَرُ الشَّرِيكُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ يُجْبَرُ كَذَا عَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى: وَتَفْسِيرُ الْجَبْرِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِقْهُ الشَّرِيكُ وَأَنْفَقَ عَلَى الْعِمَارَةِ رَجَعَ عَلَى الشَّرِيكِ بِنِصْفِ مَا أَنْفَقَ إنْ كَانَ الْحَائِطُ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ، وَفِي شَهَادَاتِ فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ: لَوْ هَدَمَاهُ وَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا يُجْبَرُ، وَلَوْ انْهَدَمَ لَا يُجْبَرُ وَلَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ نِصْفَ مَا أَنْفَقَ فِيهِ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ بِلَا قَضَاءٍ فَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ انْتَهَى.

فَلَوْ حُمِلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِلَا قَضَاءٍ وَقَوْلُ الْخَصَّافِ مَعَ قَوْلِ ابْنِ الْفَضْلِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِقَضَاءٍ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ الظَّاهِرِيُّ. فَلْيَكُنْ هُوَ الْمَحْمَلَ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُضْطَرًّا فِي الْبِنَاءِ كَانَ لَهُ تَضْمِينُ مَا صُرِفَ لِذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ مُضْطَرًّا فِي تَرْكِ مُرَاجَعَةِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الشَّرِيكِ وَهُوَ الْقَاضِي فَيَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْحَائِطُ صَحِيحًا فَهَدَمَ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ الشَّرِيكِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يُجْبَرُ الْهَادِمُ عَلَى الْبِنَاءِ إنْ أَرَادَهُ الْآخَرُ كَمَا لَوْ هَدَمَاهُ وَإِنْ هَدَمَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ.

وَفِي كِتَابِ الْحِيطَانِ: رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَهْدِمَ دَارِهِ وَلِأَهْلِ السِّكَّةِ ضَرَرٌ لِأَنَّهُ يُخَرِّبُ السِّكَّةَ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُمْنَعُ، فَلَوْ هَدَمَ مَعَ هَذَا وَأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْجِيرَانِ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْبِنَاءِ يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ، قِيلَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ. وَفِي كِتَابِ الْغَصْبِ مِنْ الْخُلَاصَةِ: رَجُلٌ هَدَمَ دَارِهِ فَانْهَدَمَ دَارُ جَارِهِ لَا يَضْمَنُ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ زَائِغَةً مُسْتَطِيلَةً تَنْشَعِبُ مِنْهَا زَائِغَةٌ أُخْرَى مُسْتَطِيلَةٌ وَهِيَ غَيْرُ نَافِذَةٍ) يَعْنِي الْمُنْشَعِبَةَ (فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى) إذَا كَانَ لَهُ جِدَارٌ فِي الزَّائِغَةِ الْمُنْشَعِبَةِ أَنْ يَفْتَحَ فِي جِدَارِهِ ذَلِكَ بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْمُنْشَعِبَةِ، وَهَذِهِ صُورَتُهَا:

ص: 323

بِخِلَافِ النَّافِذَةِ لِأَنَّ الْمُرُورَ فِيهَا حَقُّ الْعَامَّةِ. قِيلَ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ لَا مِنْ فَتْحِ الْبَابِ لِأَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَ جِدَارِهِ.

وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْفَتْحِ لِأَنَّ بَعْدَ الْفَتْحِ لَا يُمْكِنُهُ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ. وَلِأَنَّهُ عَسَاهُ يَدَّعِي الْحَقَّ فِي الْقُصْوَى بِتَرْكِيبِ الْبَابِ

وَاَلَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى هُوَ صَاحِبُ الدَّارِ الَّتِي فِي رُكْنِ الزَّائِغَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ فَتْحَهُ لِلْمُرُورِ وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ الزَّائِغَةِ الْأُولَى فِي الْمُرُورِ فِي الزَّائِغَةِ الْقُصْوَى بَلْ هُوَ لِأَهْلِهَا عَلَى الْخُصُوصِ، وَلِذَا لَوْ بِيعَتْ دَارٌ فِي الْقُصْوَى لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْأُولَى شُفْعَةٌ فِيهَا، بِخِلَافِ أَهْلِ الْقُصْوَى فَإِنَّ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا فِي الْأُولَى لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُرُورِ فِيهَا، وَ (بِخِلَافِ النَّافِذَةِ فَإِنَّ الْمُرُورَ فِيهَا حَقُّ الْعَامَّةِ) وَلَا خِلَافَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ. قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: لَا يُمْنَعُ مِنْ فَتْحِ الْبَابِ بَلْ مِنْ الْمُرُورِ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ رَفْعُ بَعْضِ جِدَارِهِ، وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ كُلَّهُ فَكَذَا لَهُ أَنْ يَرْفَعَ بَعْضَهُ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الْفَتْحِ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ بِنَصِّ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ بَعْدَ الْفَتْحِ لَا يُمْكِنُ إذْ لَا يُمْكِنُ مُرَاقَبَتُهُ لَيْلًا وَنَهَارًا فِي الْخُرُوجِ فَيَخْرُجُ، وَلِأَنَّهُ عَسَاهُ يَدَّعِي بَعْدَ تَرْكِيبِ الْبَابِ وَطُولِ الزَّمَانِ حَقًّا فِي الْمُرُورِ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِتَرْكِيبِ الْبَابِ فَيَكُونُ بِتَرْكِيبِ الْبَابِ مُمَهِّدٌ لِنَفْسِهِ دَعْوَى حَقِّ الْمُرُورِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ

ص: 324

(وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَدِيرَةً قَدْ لَزِقَ طَرَفَاهَا فَلَهُمْ أَنْ يَفْتَحُوا) بَابًا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّ الْمُرُورِ فِي كُلِّهَا إذْ هِيَ سَاحَةٌ مُشْتَرَكَةٌ وَلِهَذَا يَشْتَرِكُونَ فِي الشُّفْعَةِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا.

قَوْلَهُ لِلظَّاهِرِ الَّذِي مَعَهُ وَهُوَ فَتْحُ الْبَابِ (وَلَوْ كَانَتْ) الْمُنْشَعِبَةُ (مُسْتَدِيرَةً فَلَهُمْ أَنْ يَفْتَحُوا لِأَنَّ لِكُلِّ مِنْهُمْ حَقَّ الْمُرُورِ فِي كُلِّهَا إذْ هِيَ سَاحَةٌ مُشْتَرَكَةٌ) غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِيهَا اعْوِجَاجًا (وَلِهَذَا يَشْتَرِكُونَ فِي الشُّفْعَةِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا) وَهَذِهِ صُورَتُهَا:

وَفِي الْحِيطَانِ زُقَاقٌ غَيْرُ نَافِذٍ أَرَادَ إنْسَانٌ: يَعْنِي مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَتَّخِذَ طِينًا إنْ تَرَكَ مِنْ الطَّرِيقِ قَدْرَ الْمَمَرِّ لِلنَّاسِ وَيَرْفَعَهُ سَرِيعًا وَيَفْعَلَ فِي الْأَحَايِينِ مَرَّةً لَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ آرِيًّا أَوْ دُكَّانًا وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيهِ فِي عُرْفِنَا مِصْطَبَةً، وَلَوْ اسْتَأْذَنَ رَجُلًا فِي وَضْعِ جُذُوعٍ عَلَى حَائِطِهِ أَوْ حَفْرِ سِرْدَابٍ تَحْتَ دَارِهِ فَفَعَلَ ثُمَّ بَاعَ الْآذِنُ دَارِهِ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِرَفْعِهَا إلَّا إذَا شَرَطَ بَقَاءَهَا عِنْدَ الْبَيْعِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ نَصَبَ أَعْمِدَةً مُلَاصِقَةً لِجِدَارِ الرَّجُلِ مُقَابِلَةً لِبَابِهِ وَنَصَبَ عَلَيْهَا وَعَلَى وَجْهِ دَارِهِ سَقِيفَةً لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِإِزَالَتِهَا إلَّا إذَا شَرَطَهَا، وَلَوْ أَنَّ لِرَجُلٍ حَائِطًا وَوَجْهُهُ فِي دَارِ رَجُلٍ فَأَرَادَ أَنْ يُطَيِّنَ حَائِطَهُ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا بِدُخُولِ دَارِ الرَّجُلِ أَوْ انْهَدَمَ الْحَائِطُ فَوَقَعَ نَقْضُهُ فِي دَارِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ لِيَبُلَّ الطِّينَ وَغَيْرَهُ فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ لَهُ مَجْرَى مَاءٍ فِي دَارِهِ فَأَرَادَ حَفْرَهُ وَإِصْلَاحَهُ وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِدُخُولِ دَارِ الرَّجُلِ وَهُوَ يَمْنَعُهُ يُقَالُ لَهُ إمَّا أَنْ تَتْرُكَهُ يَدْخُلُ وَيُصْلِحُ وَيَفْعَلُ بِمَالِهِ أَوْ تَفْعَلُ بِمَالِك، كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.

وَفِي وَقْفِ النَّوَازِلِ: دَارٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ قَوْمٍ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَرْبِطُوا الدَّابَّةَ فِيهَا وَأَنْ يَضَعُوا الْخَشَبَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِهِ، وَأَنْ يَتَوَضَّئُوا بِحَيْثُ لَا تَضِيقُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ لِمُرُورِهِمْ وَلَوْ عَطِبَ بِهَا أَحَدٌ لَا يَضْمَنُ، وَلَوْ حَفَرَ الْأَرْضَ يُؤْمَرُ أَنْ يُسَوِّيَهَا فَإِنْ نَقَصَ الْحَفْرُ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَ قَوْمٍ وَهُوَ غَيْرُ نَافِذٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي الطَّرِيقِ لَا يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْحَفْرِ.

وَفِي أَوَّلِ قِسْمَةِ الْأَصْلِ قُبَيْلَ بَابِ قِسْمَةِ الدَّارِ: رَجُلٌ أَصَابَ سَاحَةً فِي الْقِسْمَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَهَا وَيَرْفَعَ بِنَاءَهَا وَأَرَادَ الْآخَرُ مَنْعَهُ وَقَالَ تَسُدُّ عَلَيَّ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ بِنَاءَهُ وَلَهُ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهَا حَمَّامًا أَوْ تَنُّورًا، وَإِنْ كَفَّ عَمَّا يُؤْذِي جَارَهُ فَهُوَ حَسَنٌ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ فَتَحَ صَاحِبُ الْبِنَاءِ فِي عُلْوِ بِنَائِهِ بَابًا أَوْ كَوَّةً لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ السَّاحَةِ مَنْعُهُ، وَلِصَاحِبِ السَّاحَةِ أَنْ يَبْنِيَ فِي مِلْكِهِ مَا يَسْتُرُ مَهَبَّهُ.

وَلَوْ اتَّخَذَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ أَوْ كِرْبَاسًا أَوْ بَالُوعَةً فَنَزَّ مِنْهَا حَائِطُ جَارِهِ وَطَلَبَ جَارُهُ مِنْهُ تَحْوِيلَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، فَإِنْ سَقَطَ الْحَائِطُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَضْمَنُ. هَذَا كُلُّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَجَوَابُ الرِّوَايَةِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَيْهِ مِنْ بِئْرٍ حَفَرَهَا جَارُهُ فِي دَارِهِ فَقَالَ

ص: 325

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

احْفِرْ فِي دَارِك بِقُرْبِ تِلْكَ الْبِئْرِ بَالُوعَةً فَفَعَلَ، فَسُجِّسَتْ الْبِئْرُ فَكَبَسَهَا صَاحِبُهَا وَلَمْ يُفْتِهِ بِمَنْعِ الْحَافِرِ بَلْ هَدَاهُ إلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ، وَبِذَلِكَ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيُّ. وَفِي مُضَارَبَةِ النَّوَازِلِ: لَوْ اتَّخَذَ دَارِهِ حَظِيرَةً لِلْغَنَمِ وَالْجِيرَانُ يَتَأَذَّوْنَ مِنْ نَتِنِ السِّرْقِينِ وَلَا يَأْمَنُونَ عَلَى الرُّعَاةِ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْحُكْمِ مَنْعُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَلَوْ حَفَرَ فِي دَارِهِ بِئْرًا فَنَزَّ مِنْهَا حَائِطُ جَارِهِ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ. قَالَ فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنْ نَصِرْ بْنِ يَحْيَى أَنَّ لِلْقَاضِي مَنْعَ الْجَارِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ تَمَسُّكَهُمْ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَالْوَجْهُ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبِنَاءِ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهَوَاءِ مِلْكِ صَاحِبِ السَّاحَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَصَاحِبُ السَّاحَةِ إذَا سَدَّ الْهَوَاءَ بِالْبِنَاءِ فَإِنَّمَا مَنَعَهُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ وَلَمْ يُتْلِفْ عَلَيْهِ مِلْكًا وَلَا مَنْفَعَةً، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ شَجَرَةٌ يَسْتَظِلُّ بِهَا جَارُهُ فَأَرَادَ قَطْعَهَا لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ الْجَارُ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِفَاعِ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ رِوَايَةً فِي مَسْأَلَةٍ لَا رِوَايَةً لَهَا فِي الْكُتُبِ، وَصُورَتُهَا بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا. وَحَاصِلُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ بَيْتَانِ لِرَجُلَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَقْفٌ وَاحِدٌ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْفَعَ الْبِنَاءَ وَيَجْعَلَهُ ذَا سَقْفَيْنِ. قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: إنْ كَانَا فِي الْقَدِيمِ بِسَقْفٍ وَاحِدٍ لِلْآخَرِ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَإِنْ كَانَ بِسَقْفَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ، قَالَ: وَحَدُّ الْقَدِيمِ أَنْ لَا تُحْفَظَ أَقْرَانُهُ وَرَاءَ هَذَا الْوَقْتِ كَيْفَ كَانَ.

قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: فَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ وَالْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ فَبَيِّنَةُ الْقَدِيمِ أَوْلَى. قَالَ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ السِّكَّةِ فِي هَذَا. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْمَنْعُ عَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ الْآخَرِ يَجْعَلُ بَيْتَهُ ذَا سَقْفَيْنِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَوَاءِ مِلْكِ نَفْسِهِ انْتَهَى. وَعَلَى تَقْدِيرِ الْفَرْقِ فَالْفَرْقُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْبَيْتَيْنِ يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الضَّوْءِ وَالضَّوْءُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْأَصْلِ يَمْنَعُهُ عَنْ الشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَذَا مِنْ الْحَوَائِجِ الزَّائِدَةِ انْتَهَى.

وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِلْقَطْعِ بِعَدَمِ امْتِنَاعِ كَثِيرٍ مِنْ الضَّرَرِ كَالتَّعَازِيرِ وَالْحُدُودِ وَنَحْوِ مُوَاظَبَةِ طَبْخٍ يَنْتَشِرُ بِهِ دُخَانٌ قَدْ يَنْحَبِسُ فِي خُصُوصِ أَمَاكِنَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ جِيرَانٌ لَا يَطْبُخُونَ لِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ خُصُوصًا إذَا كَانَ فِيهِمْ مَرِيضٌ يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَكَمَا أَرَيْنَاك مِنْ التَّضَرُّرِ بِقَطْعِ الشَّجَرَةِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْقَاطِعِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى خُصُوصٍ مِنْ الضَّرَرِ وَهُوَ مَا يُؤَدِّي إلَى هَدْمِ بَيْتِ الْجَارِ وَنَحْوِهِ مِنْ الضَّرَرِ الْبَيِّنِ الْفَاحِشِ. وَفِي الذَّخِيرَةِ: حُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا رحمهم الله أَنَّ الدَّارَ إذَا كَانَتْ مُجَاوِرَةً لِدُورٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الدَّارِ أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا تَنُّورًا لِلْخُبْزِ الدَّائِمِ أَوْ رَحًى لِلطَّحْنِ أَوْ مِدَقَّةً لِلْقَصَّارِينَ يُمْنَعُ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ جِيرَانُهُ ضَرَرًا فَاحِشًا. قِيلَ وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ الدَّقِّ الَّذِي يَهْدِمُ الْحِيطَانَ وَيُوهِنُهَا وَدَوَرَانُ الرَّحَى مِنْ ذَلِكَ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَفْعَلَ صَاحِبُ الْمِلْكِ مَا بَدَا لَهُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ، لَكِنْ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ فِي مَوْضِعٍ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى غَيْرِهِ ضَرَرًا فَاحِشًا كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنِ فِيمَا ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَهُوَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْهَدْمِ وَمَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ سَبَبٌ لَهُ أَوْ يَخْرُجُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ مَا يَمْنَعُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ كَسَدِّ الضَّوْءِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْفَرْقِ الْمُتَقَدِّمِ وَاخْتَارُوا الْفَتْوَى عَلَيْهِ.

وَأَمَّا التَّوَسُّعُ إلَى مَنْعِ كُلِّ ضَرَرٍ مَا فَيَسُدُّ بَابَ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْإِنْسَانِ كَمَا ذَكَرْنَا قَرِيبًا، وَمِنْهُ مَا ذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ فِي فَتَاوَاهُ: حُجْرَةٌ سَطْحُهَا وَسَطْحُ جَارِهِ مُتَسَاوِيَانِ فَأَخَذَ جَارُهُ حَتَّى يَتَّخِذَ حَائِطًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَارِهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الصُّعُودِ حَتَّى يَتَّخِذَ سُتْرَةً، إنْ كَانَ إذَا صَعِدَ يَقَعُ بَصَرُهُ فِي دَارِ جَارِهِ لَهُ الْمَنْعُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ

ص: 326

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى فِي دَارِ دَعْوَى وَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ) وَسَنَذْكُرُهَا فِي الصُّلْحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،

لَكِنْ يَقَعُ إذَا كَانُوا عَلَى السَّطْحِ لَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ. قَالَ فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ: وَعَلَى قِيَاسِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ أَنْ لَا يُمْنَعَ صَاحِبُ السَّاحَةِ مِنْ أَنْ يَفْتَحَ صَاحِبُ الْعُلْوِ كَوَّةً يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي هَذِهِ لَيْسَ لِلْجَارِ حَقُّ الْمَنْعِ مِنْ الصُّعُودِ وَإِنْ كَانَ بَصَرُهُ يَقَعُ فِي دَارِ جَارِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله لَمْ يَجْعَلْ لِصَاحِبِ السَّاحَةِ حَقَّ مَنْعِ صَاحِبِ الْبِنَاءِ عَنْ فَتْحِ الْكَوَّةِ فِي عُلْوِهِ مَعَ أَنَّ بَصَرَهُ يَقَعُ فِي السَّاحَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ يَأْخُذُ جَارُهُ بِبِنَاءِ السُّتْرَةِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي بِنَائِهَا لَا أَنْ يَسْتَقِلَّ هُوَ بِذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعِبَارَاتِ فِي كِتَابِ الْحِيطَانِ: دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قَسَمَاهَا وَقَالَ أَحَدُهُمَا نَبْنِي حَاجِزًا بَيْنَنَا لَيْسَ عَلَى الْآخَرِ إجَابَتُهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يُؤْذِي الْآخَرَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُمَا بِبِنَائِهِ يَتَخَارَجَانِ نَفَقَتَهُ بِقَدْرِ حِصَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي لِلْمَصْلَحَةِ. وَنَظِيرُهَا فِي فَتَاوَى أَبِي اللَّيْثِ: رَجُلٌ فِي دَارِهِ شَجَرَةُ فِرْصَادٍ، فَإِذَا ارْتَقَاهَا يَطَّلِعُ عَلَى عَوْرَاتِ الْجَارِ يَمْنَعُهُ الْقَاضِي مِنْهُ إذَا رَآهُ. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَعَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةِ فَتْحِ الْكَوَّةِ لَيْسَ لِلْجَارِ وِلَايَةُ الْمُرَافَعَةِ وَلَا لِلْقَاضِي الْمَنْعُ انْتَهَى.

وَلَقَدْ أَحْسَنَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي وَاقِعَاتِهِ حَيْثُ قَالَ: الْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرْتَقِيَ يُخْبِرُهُمْ وَقْتَ الِارْتِقَاءِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ حَتَّى يَسْتُرُوا أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ هَذَا جَمَعَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى فِي دَارٍ دَعْوَى وَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَسَنَذْكُرُهَا فِي الصُّلْحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) وَنُقِلَ فِي النِّهَايَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَرَادَ بِالدَّعْوَى مِقْدَارًا مُعَيَّنًا كَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِ لِتَصِحَّ الدَّعْوَى فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّعَى بِهِ. وَنُقِلَ عَنْ وَالِدِ ظَهِيرِ الدِّينِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الصُّلْحُ عَنْ الدَّعْوَى إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً، لِأَنَّ الصُّلْحَ إنَّمَا يَصِحُّ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَالْيَمِينُ إنَّمَا تَتَوَجَّهُ إذَا صَحَّتْ الدَّعْوَى. قَالَ: وَهَذَا يُشْكَلُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ دَفَعَتْهُ إلَيْهِ صَحَّ مَعَ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تُتَصَوَّرُ فِي النِّكَاحِ عِنْدَهُ، فَالْحَقُّ أَنَّ الصُّلْحَ يَتَحَقَّقُ لِدَفْعِ الشَّغَبِ وَالْخِصَامِ صَحَّتْ الدَّعْوَى أَوْ لَمْ تَصِحَّ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالصُّلْحُ عَنْ مَجْهُولٍ عَلَى مَعْلُومٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَهَالَةٌ فِي السَّاقِطِ فَلَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ) يَعْنِي وَهُوَ الْمَانِعُ.

ص: 327

وَالْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالصُّلْحُ عَلَى مَعْلُومٍ عَنْ مَجْهُولٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَهَالَةٌ فِي السَّاقِطِ فَلَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ عَلَى مَا مَرَّ.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ فِي وَقْتِ كَذَا فَسُئِلَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدَّعِي فِيهِ الْهِبَةَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ) لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ إذْ هُوَ يَدَّعِي الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ وَهُمْ يَشْهَدُونَ بِهِ قَبْلَهَا، وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ بَعْدَهَا تُقْبَلُ لِوُضُوحِ التَّوْفِيقِ، وَلَوْ كَانَ ادَّعَى الْهِبَةَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَهَا وَلَمْ يَقُلْ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لِأَنَّ دَعْوَى الْهِبَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ عِنْدَهَا، وَدَعْوَى الشِّرَاءِ رُجُوعٌ عَنْهُ فَعُدَّ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ

قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ فِي وَقْتٍ) يَعْنِي ذَكَرَ وَقْتًا عَيَّنَهُ كَقَوْلِهِ مُنْذُ شَهْرٍ وَسَلَّمَهَا إلَيَّ فَمَلَكْتهَا وَهِيَ الْآنَ فِي يَدِهِ وَأُطَالِبُهُ بِدَفْعِهَا إلَيَّ فَطَالَبَهُ الْقَاضِي بِالْبَيَانِ فَقَالَ لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ عَلَى الْهِبَةِ بَلْ عَلَى الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ ظَفِرَ بِهَا فَحَبَسَهَا عَنِّي فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً فَشَهِدُوا وَأَرَّخُوا وَقْتًا قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدَّعِي فِيهِ الْهِبَةَ (لَا تُقْبَلُ لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ) بَيْنَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ، لِأَنَّ الدَّعْوَى أَنَّ الشِّرَاءَ فِي تَارِيخٍ بَعْدَ تَارِيخِ الْهِبَةِ وَهُمْ يَشْهَدُونَ بِأَنَّهُ قَبْلَ الْهِبَةِ وَبَيْنَ نَفْسِ أَجْزَاءِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ بِمُقْتَضَى الْبَيِّنَةِ، وَقَوْلُهُ كَأَنَّهُ قَالَ وُهِبَ لِي هَذَا الشَّيْءُ وَكَانَ مِلْكِي بِالشِّرَاءِ قَبْلُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْهِبَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَكَانَ مُنَاقِضًا (وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ بَعْدَهَا تُقْبَلُ لِوُضُوحِ التَّوْفِيقِ) الَّذِي وَفَّقَهُ (وَلَوْ ادَّعَى الْهِبَةَ) يَعْنِي وَأَرَّخَ فَطُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ (فَقَامَتْ عَلَى الشِّرَاءِ قَبْلَهُ وَلَمْ يَقُلْ جَحَدَنِي الْهِبَةَ فَاشْتَرَيْتهَا) تَوْفِيقًا.

(وَلَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ) كَأَنَّهُ يُرِيدُ نُسَخَ الْأَصْلِ (لِأَنَّ دَعْوَى الْهِبَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ عِنْدَهَا، وَدَعْوَى الشِّرَاءِ رُجُوعٌ مِنْهُ فَعُدَّ مُنَاقِضًا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُ الْوَاهِبِ عِنْدَهَا) أَيْ عِنْدَ الْهِبَةِ، وَلَوْ لَمْ يُؤَرِّخْ الشِّرَاءَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ كَمَا لَوْ ذَكَرَ تَارِيخًا بَعْدَ الْهِبَةِ لِإِمْكَانِ الْحَمْلِ عَلَى مَا يَنْتَفِي بِهِ التَّنَاقُضُ،

ص: 328

لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ عِنْدَهَا.

(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَأَنْكَرَ الْآخَرُ إنْ أَجْمَعَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا) لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَهُ كَانَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ، إذْ الْفَسْخُ يَثْبُتُ بِهِ كَمَا إذَا تَجَاحَدَا فَإِذَا عَزَمَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ ثُمَّ الْفَسْخِ، وَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ إنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ الْفَسْخُ فَقَدْ اقْتَرَنَ بِالْفِعْلِ وَهُوَ إمْسَاكُ الْجَارِيَةِ وَنَقْلُهَا وَمَا يُضَاهِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَاتَ رِضَا الْبَائِع فَيَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهِ.

وَهَذَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَصْحِيحِ الدَّعْوَى إذَا أَمْكَنَ التَّوْفِيقُ وَإِنْ لَمْ يُوَفِّقْ الْمُدَّعِي. وَشَاهِدُهُ مَا ذُكِرَ فِي رَجُلٍ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ أَبِيهِ فِي صِحَّتِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً وَلَمْ تُزَكَّ أَوْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ وَحَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا دَارُهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ قَبِلَ الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ وَلَا يَكُونُ دَعْوَاهُ الْإِرْثَ تَنَاقُضًا، وَلَوْ ادَّعَى الْإِرْثَ مِنْ الْأَبِ أَوَّلًا ثُمَّ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً لَا يُقْضَى لَهُ بِالدَّارِ لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ فِي الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ الثَّانِي.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إذَا أَمْكَنَ التَّوْفِيقُ تَصِحُّ الدَّعْوَى وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْمُدَّعِي التَّوْفِيقَ. وَفِي دَعْوَى الْمَبْسُوطِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةٌ إلَّا أَنْ يُوَفِّقَ الْمُدَّعِي، فَكَانَ التَّوْفِيقُ مِنْ الْمُدَّعِي شَرْطًا فِي رِوَايَةٍ وَلَيْسَ شَرْطًا فِي أُخْرَى. وَفِي الْمُحِيطِ: قِيلَ مَا قَالُوا يُوَفِّقُ بِغَيْرِ دَعْوَى الْمُدَّعِي قِيَاسٌ، وَمَا قَالُوا لَا يُوَفِّقُ بِدُونِ دَعْوَاهُ اسْتِحْسَانٌ.

فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي شِرَاءَ مَا مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ. أُجِيبَ بِأَنَّ سَائِرَ الْعُقُودِ تَنْفَسِخُ بِالتَّجَاحُدِ إلَّا النِّكَاحُ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الْفَسْخَ يَتَحَقَّقُ مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ يَجْحَدُهُ، وَحِينَ أَقْدَمَ الْآخَرُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ فَانْفَسَخَتْ الْهِبَةُ بِتَرَاضِيهِمَا، فَإِذَا اشْتَرَى هُوَ ذَلِكَ فَقَدْ اشْتَرَى مَا لَا يَمْلِكُهُ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَأَنْكَرَ إنْ أَجْمَعَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا لِ) وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا (أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا جَحَدَ كَانَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ إذْ الْفَسْخُ يَثْبُتُ بِالْجَحْدِ كَمَا إذَا تَجَاحَدَا) مَعًا حَيْثُ يَنْقَسِمُ قَطْعًا (فَإِنْ عَزَمَ الْبَائِعُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ تَمَّ الْفَسْخُ) وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْعَزْمِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَسْخُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ إذَا عَزَمَ بِقَلْبِهِ عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ لَا يَنْفَسِخُ. الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْعَزْمُ الْمُؤَكَّدُ بِفِعْلٍ اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ إمْسَاكِهَا

ص: 329

قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ صُدِّقَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ اقْتَضَى، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَبْضِ أَيْضًا. وَوَجْهُهُ أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهَا مَعِيبَةٌ، وَلِهَذَا لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ

أَوْ نَقْلِهَا إلَى بَيْتِهِ، فَإِنَّ إمْسَاكَهَا لَا يَحِلُّ بِلَا فَسْخٍ فَكَانَ الْفَسْخُ ثَابِتًا بِهِ دَلَالَةً كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ أَجَّرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ يَوْمًا بِكَذَا لِتَرْكَبَهَا إلَى مَكَانِ كَذَا فَأَخَذَ الْمُسْتَأْجِرُ لِيَرْكَبَهَا كَانَ ذَلِكَ قَبُولًا دَلَالَةً، لِأَنَّ الْأَخْذَ وَالِاسْتِعْمَالَ لَا يَحِلُّ بِلَا قَبُولٍ. وَفِي الْمُحِيطِ تَفْسِيرُ الْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ بِالْقَلْبِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَقِيلَ أَنْ يَشْهَدَ بِلِسَانِهِ عَلَى الْعَزْمِ بِالْقَلْبِ وَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ. وَبَنَى فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ عَلَيْهِ فَرْعًا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ: اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ آخَرَ فَجَحَدَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي الْبَيْعَ فَخَاصَمَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ إلَى الْقَاضِي وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ فَعَزَمَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ وَأَرَادَ رَدَّهُ فَاحْتَجَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بِدَعْوَاهُ الْبَيْعَ عَلَى الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ عَزَمَ الْمُشْتَرِي عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ بَعْدَ تَحْلِيفِ الثَّانِي يَرُدُّهُ، أَوْ قَبْلَهُ فَلَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ الثَّانِي، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ جَحَدَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ وَحَلَفَ وَعَزَمَتْ الزَّوْجَةُ عَلَى تَرْكِ الْخُصُومَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ. الْوَجْهُ الثَّانِي الْتِزَامُ أَنَّ الْفَسْخَ يَحْصُلُ بِوَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَاتَ رِضَا الْبَائِعِ فَيَسْتَبِدُّ بِفَسْخِهِ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبَيْعِ وَهُوَ التَّرَاضِي، وَسَنَذْكُرُ نَظَرَ صَاحِبِ الْكَافِي فِي تَدَافُعِ الْوَجْهَيْنِ قَرِيبًا.

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَقَرَّ) هُنَا مَسَائِلُ الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ وَمَسَائِلُ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ، أَمَّا مَسَائِلُ الْقَبْضِ مَا إذَا أَقَرَّ (أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ صُدِّقَ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ اقْتَضَى وَهُوَ أَيْضًا الْقَبْضُ) يَعْنِي أَقَرَّ

ص: 330

وَالسَّلَمِ جَازَ، وَالْقَبْضُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ فَيُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ قَبْضَ حَقِّهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ الْجِيَادَ أَوْ حَقَّهُ أَوْ الثَّمَنَ أَوْ اسْتَوْفَى لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الْجِيَادِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً فَلَا يُصَدَّقُ وَالنَّبَهْرَجَةُ كَالزُّيُوفِ وَفِي السَّتُّوقَةِ لَا يُصَدَّقُ

أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ مَدْيُونِهِ بِدَيْنِ قَرْضٍ اقْتَرَضَهُ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ بَدَلِ إجَارَةٍ أَوْ قَالَ غَصَبْت مِنْهُ أَوْ أَوْدَعَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ أَوْ قَالَ بَعْدُ نَعَمْ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ يُصَدَّقُ فِي الْوَصْلِ وَالْفَصْلِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ قَبَضَ مِمَّا لَهُ عَلَى فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ وَجَدْتهَا زُيُوفًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ، وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ قَوْلَهُ صِدْقٌ يُفِيدُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ. فِي الْمَبْسُوطِ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ: لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ

ص: 331

لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِيمَا ذَكَرْنَا لَا يَجُوزُ.

وَالزَّيْفُ مَا زَيَّفَهُ بَيْتُ الْمَالِ، وَالنَّبَهْرَجَةُ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ، وَالسَّتُّوقَةُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْغِشُّ

أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ إجَارَةٍ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي دَعْوَى الزِّيَافَةِ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَعِنْدَهُمَا يُصَدَّقُ إنْ وَصَلَ لَا إنْ فَصَلَ. وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبِ تِجَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ يَنْصَرِفُ إلَى الِالْتِزَامِ بِالتِّجَارَةِ إذْ هُوَ اللَّائِقُ بِحَالِ الْمُسْلِمِ. وَقِيلَ يُصَدَّقُ هُنَا إذَا وَصَلَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً بِعَقْدِ التِّجَارَةِ، فَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ فِي كَلَامِهِ بِجِهَةِ التِّجَارَةِ لَا تَصِيرُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ مُسْتَحَقَّةً، وَتَأْتِي الْحُجَجُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: إذَا فَصَلَ لَا يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِأَنَّهُ كَمَا ذَكَرَ الْعَشَرَةَ فَهُمْ الْجِيَادُ.

وَقَوْلُهُ هِيَ زُيُوفٌ رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ. قُلْنَا: مَسْأَلَتُنَا إنَّمَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ وَقَبْضُ الدَّرَاهِمِ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِيَادِ بَلْ يَقَعُ عَلَى الزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ، فَإِذَا قَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ كَانَ حَاصِلُهُ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِقَبْضِ عِدَّةٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ مُنْكِرًا أَنَّهُ قَبَضَ حَقَّهُ أَعْنِي الْجِيَادَ، فَيُصَدَّقُ مَعَ يَمِينِهِ إذَا كَانَ الْآخَرُ يُكَذِّبُهُ وَلَمْ يَكُنْ رُجُوعًا عَنْ شَيْءٍ لِأَنَّ الْأَعَمَّ يُصَدَّقُ عَلَى كُلِّ أَخَصَّ، فَإِذَا نَفَى أَنَّهُ بَعْدَمَا صَدَقَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَأَنَّهُ مِنْ صَدَقَاتِهِ الْأُخْرَى لَا يَكُونُ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا فَكَانَ رُجُوعًا.

وَأَمَّا لَوْ اعْتَرَفَ أَنَّهُ قَبَضَ الْجِيَادَ أَوْ حَقَّهُ أَوْ الثَّمَنَ أَوْ اسْتَوْفَى مَالَهُ عَلَيْهِ لَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ الزُّيُوفَ وَالنَّبَهْرَجَةَ، لِأَنَّهُ فِي هَذَا مُقِرٌّ بِقَبْضِ الْجِيَادِ صَرِيحًا فِي الْأَوَّلِ وَدَلَالَةً فِيمَا بَعْدَهُ لِأَنَّ حَقَّهُ الثَّمَنُ، وَكَذَا بَدَلُ الْإِجَارَةِ هِيَ الْجِيَادُ.

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: جَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ فِي الْجَوَابِ بِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ وَلَيْسَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ، فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الْجِيَادِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ لَا يُصَدَّقُ لَا مَوْصُولًا وَلَا مَفْصُولًا، وَفِيمَا بَقِيَ يُصَدَّقُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا. وَالْفَرْقُ أَنَّ قَوْلَهُ قَبَضْت مَا لِي عَلَيْهِ أَوْ حَقِّي إقْرَارٌ بِقَبْضِ الْقَدْرِ وَالْجَوْدَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا اسْتَثْنَى الْجَوْدَةَ فَقَدْ اسْتَثْنَى الْبَعْضَ مِنْ الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا مِائَةً. أَمَّا إذَا قَالَ قَبَضْت عَشَرَةً جِيَادًا فَقَدْ أَقَرَّ بِالْقَدْرِ بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ وَبِالْجَوْدَةِ بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ، فَإِذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ فَقَدْ اسْتَثْنَى الْكُلَّ مِنْ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْجَوْدَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، كَمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِينَارٌ إلَّا دِينَارًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا.

فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ اسْتِثْنَاءُ الْجَوْدَةِ وَإِنْ دَخَلَتْ تَحْتَ الْإِقْرَارِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ تَبَعٌ لِلدَّرَاهِمِ وَصِفَةٌ لَهَا، وَاسْتِثْنَاءُ التَّبَعِ مَوْصُولًا لَا يَصِحُّ كَاسْتِثْنَاءِ

ص: 332

قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ ثُمَّ قَالَ فِي مَكَانِهِ بَلْ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ) لِأَنَّ إقْرَارَهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَقَدْ ارْتَدَّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ، وَالثَّانِي دَعْوَى فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُجَّةِ أَوْ تَصْدِيقِ خَصْمِهِ،

الْبِنَاءِ مِنْ الدَّارِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا. قُلْنَا: إنَّمَا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ اسْمِ الدَّارِ تَبَعًا فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مَوْصُولًا. وَأَمَّا الْجَوْدَةُ فَدَخَلَتْ تَحْتَ اللَّفْظِ مَقْصُودًا كَالْوَزْنِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ مَا عَلَيْهِ، وَكَمَا عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْوَزْنِ عَلَيْهِ الْجَوْدَةُ فَكَانَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ قَوْلِهِ مَا لِي عَلَيْهِ وَحَقِّي عَلَيْهِ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا فَيَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مَوْصُولًا انْتَهَى.

وَقَالَ صَاحِبُ الدِّرَايَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَهُ: فِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ. وَعِنْدِي أَنَّ التَّأَمُّلَ يَشُدُّهُ لَا يَرُدُّهُ؛ وَكَأَنَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أُشْكِلَ عَلَيْهِ تَبَعِيَّةُ الْجَوْدَةِ لِمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مِنْ أَنَّهَا تَبَعٌ وَصِفَةٌ لِلدَّرَاهِمِ وَالصِّفَةُ أَبَدًا تَابِعَةٌ لِلْمَوْصُوفِ. وَهَذَا سَهْوٌ عَنْ قَوْلِهِ دَخَلَتْ تَحْتَ اللَّفْظِ مَقْصُودًا. فَحَاصِلُ رَدِّهِ عَلَى السَّائِلِ أَنَّ مَا يَكُونُ تَبَعًا فِي الْوُجُودِ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ بِاللَّفْظِ وَصِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَقْصُودًا مِنْ اللَّفْظِ كَقَصْدِ الْبَاقِي سَوَاءٌ كَانَ تَبَعًا فِي الْوُجُودِ لَهُ أَوْ أَصْلًا مِثْلُهُ.

وَإِنَّمَا كَانَتْ السَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّ غِشَّهَا غَالِبٌ، وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ بِاعْتِبَارِ الْفِضَّةِ وَالنِّسْبَةِ إلَى الْغَالِبِ مُتَعَيَّنٌ. فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْغِشُّ فَلَيْسَتْ دَرَاهِمَ إلَّا مَجَازًا، وَلِذَا قِيلَ هُوَ مُعَرَّبُ سه طَاقه: يَعْنِي ثَلَاثَ طَاقَاتٍ الطَّاقُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ فِضَّةٌ، وَالْأَوْسَطُ نُحَاسٌ، وَهِيَ شِبْهُ الْمُمَوَّهِ. وَتَعَقَّبَ فِي النِّهَايَةِ إطْلَاقَ قَوْلِهِ فِي السَّتُّوقَةِ لَا يُصَدَّقُ بَلْ ذَاكَ إذَا قَالَ مَفْصُولًا، أَمَّا فِي الْمَوْصُولِ يَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي إقْرَارِ الْمَبْسُوطِ: لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ مِمَّا لَهُ عَلَى الْمَدْيُونِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَمَا سَكَتَ هُوَ رَصَاصٌ لَمْ يُصَدَّقْ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ لَا يَتَنَاوَلُ الرَّصَاصَ حَقِيقَةً، وَإِنْ قَالَ مَوْصُولًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الرَّصَاصَ مِنْ الدَّرَاهِمِ صُورَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا مَعْنًى فَكَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا لِظَاهِرِ كَلَامِهِ إلَى مَا هُوَ مُحْتَمَلٌ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا فَفِي السَّتُّوقَةِ أَوْلَى، لِأَنَّ الرَّصَاصَ أَبْعَدُ مِنْهَا إلَى الدَّرَاهِمِ.

وَذَكَرَ الْمَحْبُوبِيُّ فِي جَامِعِهِ مُصَرِّحًا فَقَالَ: فَأَمَّا إذَا قَالَ وَجَدْتهَا سَتُّوقَةً أَوْ رَصَاصًا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ: ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَصِحُّ إذَا كَانَ مَوْصُولًا، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْقَابِضِ مَعَ يَمِينِهِ فَلَا يَمِينَ عَلَى الطَّالِبِ أَنَّهَا كَانَتْ جِيَادًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أُحَلِّفُهُ إذَا اتَّهَمْته.

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ لَيْسَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ) أَوْ قَالَ هِيَ لَك أَوْ قَالَ هِيَ لِفُلَانٍ فَقَدْ رُدَّ إقْرَارُهُ، فَلَوْ عَادَ إلَى تَصْدِيقِهِ وَادَّعَى الْأَلْفَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ، لَا إنْ عَادَ الْمُقِرُّ إلَى الْإِقْرَارِ بِهَا بَعْدَ رَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ فَصَدَّقَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ الثَّانِي فَإِنَّهُ يَثْبُتُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا،

ص: 333

بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ اشْتَرَيْت وَأَنْكَرَ الْآخَرُ لَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ، لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَتَفَرَّدُ بِالْفَسْخِ كَمَا لَا يَتَفَرَّدُ بِالْعَقْدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ حَقُّهُمَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فَعَمِلَ التَّصْدِيقُ، وَأَمَّا الْمُقَرُّ لَهُ يَتَفَرَّدُ بِرَدِّ الْإِقْرَارِ فَافْتَرَقَا.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا

بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ سَيِّدُ الْعَبْدِ بِنَسَبِهِ لِإِنْسَانٍ فَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْمُقِرُّ لِنَفْسِهِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ حَتَّى كَانَ لِلرَّادِّ أَنْ يَعُودَ وَيَدَّعِيَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ بِالرَّدِّ بَقِيَ مُقِرًّا بِنَسَبِهِ لِغَيْرِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِنَفْسِهِ (وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِسَبَبِ الْمَالِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت مِنِّي وَأَنْكَرَ، لَهُ أَنْ) يَعُودَ فَ (يُصَدِّقَهُ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ) فَإِنْكَارُهُ إنْ كَانَ فَسْخًا مِنْ جِهَتِهِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الِانْفِسَاخُ، وَكَانَ الْعَقْدُ قَائِمًا بَعْدَ إنْكَارِهِ فَلَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ (أَمَّا الْمُقَرُّ لَهُ) بِالْمَالِ (فَيَتَفَرَّدُ بِالرَّدِّ فَافْتَرَقَا) وَنَاقَضَهُ فِي الْكَافِي بِأَنَّهُ ذَكَرَ هُنَا أَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ: يَعْنِي مِنْ مَسْأَلَةِ التَّجَاحُدِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَاتَ رِضَا الْبَائِعِ فَيَسْتَبِدُّ بِالْفَسْخِ وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ كَلَامَيْهِ صَعْبٌ انْتَهَى، وَهُوَ صَحِيحٌ. وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِأَنْ مَاتَ وَلَا بَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَيَسْتَمْتِعَ بِالْجَارِيَةِ فَالْوَجْهُ مَا قَدَّمَهُ أَوَّلًا.

[وَهَذِهِ فُرُوعٌ ذَكَرَهَا فِي النِّهَايَةِ] لَوْ صَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّ إقْرَارَهُ لَا يَرْتَدُّ. لَوْ وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ صَدَاقَهَا لِزَوْجِهَا وَقَبِلَ ثُمَّ رَدَّهُ فَرَدُّهُ بَاطِلٌ، وَكَذَا لَوْ قَبِلَ الْمَدْيُونُ الْإِبْرَاءَ ثُمَّ رَدَّهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ وَهَبْت لَك رَقَبَتَك فَرَدَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ، هَذَا كُلُّهُ فِي رَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ إقْرَارَ الْمُقِرِّ. فَأَمَّا لَوْ رَدَّ الْمُقِرُّ إقْرَارَ نَفْسِهِ كَأَنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْآخَرِ أَنَّهُ أَقْبَضَهُ أَوْ قَالَ بَعْدَ أَنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ لَمْ أَقْبِضْ أَوْ قَالَ هَذَا لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ هُوَ لِي وَأَرَادَ تَحْلِيفَ فُلَانٍ أَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ قَالَ كُنْت كَاذِبًا وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الدَّائِنِ أَنَّهُ أَقْبَضَهُ لَا يَحْلِفُ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَيْسَ لِي عَلَى فُلَانٍ شَيْءٌ ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا وَأَرَادَ تَحْلِيفَهُ لَا يَحْلِفُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ يَحْلِفُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ تَحَقُّقِهَا تَحَرُّزًا مِنْ امْتِنَاعِ الْقَابِضِ عَنْ الْإِشْهَادِ بَعْدَ أَنْ يُسَلِّمَهُ فَيَجِبَ أَنْ يُرَاعِيَ الْعَادَةَ، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالْبَيْعِ وَقَالَ: كَانَ تَلْجِئَةً وَطَلَبَ يَمِينَ الْآخَرِ حَلَفَ عَلَيْهِ، كَذَا هَذَا. وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: الرَّأْيُ فِي التَّحْلِيفِ إلَى الْقَاضِي يُرِيدُ أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي خُصُوصِ الْوَقَائِعِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ حِينَ أَقَرَّ وَأَشْهَدَ يَحْلِفُ لَهُ خَصْمُهُ وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ فِيهِ ذَلِكَ لَا يُحَلِّفُهُ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ بِالتَّفَرُّسِ فِي الْأَخْصَامِ وَاَللَّهُ الْهَادِي.

(قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ مَالًا) مَعْلُومَ

ص: 334

فَقَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى أَلْفٍ وَأَقَامَ هُوَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَضَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ) وَكَذَلِكَ عَلَى الْإِبْرَاءِ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَيَكُونُ مُنَاقِضًا.

وَلَنَا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى وَيَبْرَأُ مِنْهُ دَفْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالشَّغَبِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ وَقَدْ يُصَالَحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يُقْضَى، وَكَذَا إذَا قَالَ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ أَظْهَرُ (وَلَوْ قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُك لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى الْقَضَاءِ) وَكَذَا عَلَى الْإِبْرَاءِ لِتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَقَضَاءٌ وَاقْتِضَاءٌ وَمُعَامَلَةٌ بِدُونِ الْمَعْرِفَةِ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رحمه الله أَنَّهُ تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُحْتَجِبَ أَوْ الْمُخَدَّرَةَ قَدْ يُؤْذَى بِالشَّغَبِ عَلَى بَابِهِ

الْقَدْرِ وَمَا تَصِحُّ بِهِ الدَّعْوَى (فَقَالَ) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى أَلْفٍ وَأَقَامَ هُوَ بَيِّنَةً عَلَى الْقَضَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَكَذَلِكَ) لَوْ أَقَامَهَا (عَلَى الْإِبْرَاءِ. وَقَالَ زُفَرُ لَا تُقْبَلُ) وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى (لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَقَدْ أَنْكَرَ الْوُجُوبَ) حَيْثُ قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ، فَإِذَا أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ قَضَاهُ نَاقَضَ (وَلَنَا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى دَفْعًا لِلشَّغَبِ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَقٌّ (وَيَبْرَأُ مِنْهُ وَ) لِذَا (يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ، وَ) أَيْضًا (قَدْ يُصَالَحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يَقْضِي، وَكَذَا لَوْ قَالَ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ أَظْهَرُ) لِأَنَّهُ نَفَى فِي الْحَالِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّفْيَ مُطْلَقًا لِجَوَازِ الْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ بَعْدَ اللُّزُومِ فَيَنْتَفِي فِي الْحَالِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي قَبُولَ الْبَيِّنَةِ إذَا احْتَاجَ إلَى التَّوْفِيقِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى التَّوْفِيقِ. وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ شَرَطَ مُحَمَّدٌ دَعْوَى التَّوْفِيقِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَقِيلَ يُشْتَرَطُ الدَّعْوَى فِي الْكُلِّ وَيُحْمَلُ مَا سَكَتَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ حَتَّى قَالَ فِي الْأَقْضِيَةِ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُوَفِّقَ لِأَنَّهُ نُصِبَ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ لَا لِإِنْشَائِهَا وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَدْرِي مَا يُوَفِّقُ بِهِ الْمُدَّعِي.

وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: كَانَ وَالِدِي يُفْتِي بِأَنَّ التَّوْفِيقَ إذَا كَانَ مُمْكِنًا يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ التَّوْفِيقُ كَيْ لَا تَتَعَطَّلَ حُجَجُ الشَّرْعِ. وَالتَّوَسُّطُ فِي هَذَا أَنَّ وَجْهَ التَّوْفِيقِ إذَا كَانَ ظَاهِرًا مُتَبَادِرًا يَجِبُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ بِلَا تَوْفِيقِ الْمُدَّعِي كَقَوْلِهِ لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ ثُمَّ أَقَامَهَا عَلَى أَنَّهُ قَضَاهُ وَنَحْوُهُ، وَإِنْ كَانَ مُتَكَلِّفًا لَا يَعْتَبِرُهُ الْقَاضِي وَاقِعًا مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُدَّعِي، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ وَهَبَهَا لِي ثُمَّ أَنْكَرَهَا فَاشْتَرَيْتهَا، وَكَذَا فِيمَا يَأْتِي فِي الْجَارِيَةِ لَمْ أَبِعْهَا لَهُ وَلَكِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً كَاذِبَةً بِالْبَيْعِ فَسَأَلْته أَنْ يُبْرِئَنِي مِنْ الْعُيُوبِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَلْقِينٌ لِلْحُجَّةِ. هَذَا (فَلَوْ) زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَ (قَالَ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُك) أَوْ قَالَ وَلَا رَأَيْتُك أَوْ قَالَ وَلَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَك مُخَالَطَةٌ وَلَا أَخْذٌ وَلَا إعْطَاءٌ أَوْ مَا اجْتَمَعْت مَعَك فِي مَكَان وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ (لَمْ تُقْبَلْ) لِتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ (وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ) عَنْ أَصْحَابِنَا (أَنَّهَا تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُحْتَجِبَ أَوْ الْمُخَدَّرَةَ قَدْ يُؤْذَى بِالشَّغَبِ عَلَى بَابِهِ

ص: 335

فَيَأْمُرُ بَعْضَ وُكَلَائِهِ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ ثُمَّ يَعْرِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ.

قَالَ (وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَتَهُ فَقَالَ لَمْ أَبِعْهَا مِنْك قَطُّ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ فَوَجَدَ بِهَا أُصْبُعًا زَائِدَةً فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهَا تُقْبَلُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا.

فَيَأْمُرُ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَعْرِفُهُ ثُمَّ يَعْرِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ) فَعَلَى هَذَا قَالُوا يَجِبُ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ يَتَوَلَّى الْأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَإِلَّا قُبِلَتْ. وَفِي الشَّافِي: لَوْ قَالَ لَمْ أَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ ادَّعَى الدَّفْعَ لَمْ يُسْمَعْ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقُولَ لَمْ أَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا وَقَدْ دَفَعْته، أَمَّا لَوْ ادَّعَى إقْرَارَهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ أَوْ الْقَضَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعَ لِأَنَّ الْمُنَاقِضَ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ كَلَامَيْنِ وَهُنَا لَمْ يَجْمَعْ، وَلِهَذَا لَوْ صَدَّقَهُ الْمُدَّعِي عِيَانًا لَا يَكُونُ مُنَاقِضًا ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ. وَقِيلَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِبْرَاءِ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ يَتَحَقَّقُ بِلَا مَعْرِفَةٍ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ جَارِيَةً فَقَالَ لَمْ أَبِعْهَا مِنْك قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى شِرَائِهِ) إيَّاهَا مِنْهُ فَقَبَضَهَا (فَوَجَدَ بِهَا أُصْبُعًا زَائِدَةً) أَوْ نَحْوَهُ مِنْ عَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَأَرَادَ رَدَّهَا (فَأَقَامَ الْبَائِعُ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ تُقْبَلْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي التَّوْفِيقَ فِي الدَّيْنِ. وَقَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُشِيرُ إلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا حَكَاهُ الْخَصَّافُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ هُنَا أَنْ يَقُولَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا بَيْعٌ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا ادَّعَى عَلَيَّ الْبَيْعَ سَأَلْته أَنْ يُبْرِئَنِي مِنْ الْعَيْبِ فَأَبْرَأَنِي. قَالَ شَارِحٌ: وَلِأَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعَيْبِ فَجُحُودُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ دَعْوَى الْآخَرِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَذُكِرَ فِي وَجْهِ التَّوْفِيقِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ وَكِيلًا عَنْ الْمَالِكِ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ قَوْلُهُ لِلْمَالِكِ مَا بِعْتهَا لَك قَطُّ صِدْقًا فَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ لَيْسَ مُنَاقِضًا، وَالْوَجْهُ أَعَمُّ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى الْوَكِيلِ نَفْسِهِ لَا يُوَفِّقُ بِذَلِكَ. وَنَظِيرُهُ مَا ذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ: أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الشِّرَاءِ وَذُو الْيَدِ يُنْكِرُ، ثُمَّ أَقَامَ الْمُنْكِرُ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ رَدَّ الْبَيْعَ قُبِلَتْ، وَلَا يُبْطِلُ إنْكَارُهُ الْبَيْعَ بَيِّنَتَهُ لِأَنَّهُ يَقُولُ أَخَذَهَا مِنِّي بِبَيِّنَةٍ كَاذِبَةٍ ثُمَّ اسْتَقَلْته فَأَقَالَنِي

ص: 336

وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ اقْتِضَاءِ وَصْفِ السَّلَامَةِ إلَى غَيْرِهِ فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ الْبَيْعِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْضَى وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا عَلَى مَا مَرَّ.

قَالَ (ذِكْرُ حَقٍّ كُتِبَ فِي أَسْفَلِهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ الْحَقِّ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ كُتِبَ فِي شِرَاءٍ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ وَتَسْلِيمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَطَلَ الذِّكْرُ كُلُّهُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ عَلَى الْخَلَاصِ وَعَلَى مَنْ قَامَ بِذِكْرِ الْحَقِّ، وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ ذَكَرَهُ فِي الْإِقْرَارِ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ لِأَنَّ الذِّكْرَ لِلِاسْتِيثَاقِ، وَكَذَا الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَادُ

وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ مِنْ اقْتِضَائِهِ وَصْفَ السَّلَامَةِ إلَى غَيْرِهِ فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ الْبَيْعِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَكَانَ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْضَى وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا) وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلًّا مِنْ وَجْهَيْ التَّوْفِيقِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ يَدْفَعُ هَذَا.

(قَوْلُهُ ذِكْرُ حَقٍّ) يَعْنِي صَكًّا فِي إقْرَارٍ بِدَيْنٍ (قَالَ فِي آخِرِهِ: وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ) يَعْنِي مَنْ أَخْرَجَهُ كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ، ثُمَّ كَتَبَ (إنْ شَاءَ اللَّهُ) مُتَّصِلًا بِهَذِهِ الْكِتَابَةِ أَوْ صَكَّ شِرَاءٍ كَتَبَ فِيهِ وَمَا أَدْرَكَ فُلَانًا الْمُشْتَرِي مِنْ الدَّرَكِ فَعَلَى فُلَانٍ خُلَاصَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ (فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَبْطُلُ الصَّكُّ كُلُّهُ) الدَّيْنُ فِي الْأَوَّلِ وَالشِّرَاءُ فِي هَذَا وَالْخَلَاصُ (وَعِنْدَهُمَا كُلٌّ مِنْ الدَّيْنِ وَالشِّرَاءِ صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ) وَهُوَ وَكَالَةُ مَنْ قَامَ بِهِ وَضَمَانُ الدَّرَكِ خَاصَّةً (وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ لَهُ أَنَّ الْكُلَّ بِوَاسِطَةِ الْعَطْفِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ) اتَّصَلَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ (فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ) لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ يُبْطِلُ الْكُلَّ فَلَا يَقَعُ طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ وَلَا يَلْزَمُ نَذْرٌ (وَلَهُمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ لِأَنَّ الذِّكْرَ لِلِاسْتِيثَاقِ، وَكَذَا الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الِاسْتِبْدَادُ) فَقَامَ الْعِلْمُ بِالْمَقْصُودِ مِنْ كَتْبِ الصَّكِّ دَلَالَةً عَلَى قَصْرِ انْصِرَافِهِ إلَى الْأَخِيرِ، هَذَا هُوَ الْعَادَةُ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَادِثُ لَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُكْتَبُ لِلْإِبْطَالِ لِغَرَضٍ قَدْ يَتَّفِقُ.

وَظَاهِرُ الْوَجْهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ أُجْرِيَ بِالِاتِّفَاقِ مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ مُقْتَضَاهُ وَهُوَ انْصِرَافُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى مَا يَلِيهِ خَاصَّةً بِسَبَبِ الْعَطْفِ، وَهُمَا سَلَّمَا ذَلِكَ لَوْلَا عُرُوضُ فَهْمِ الْغَرَضِ مِنْ كُتُبِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ، إذْ لَوْ

ص: 337

وَلَهُ أَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِحُكْمِ الْعَطْفِ فَيُصْرَفُ إلَى الْكُلِّ كَمَا فِي الْكَلِمَاتِ الْمَعْطُوفَةِ مِثْلِ قَوْلِهِ عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَلَوْ تَرَكَ فُرْجَةً قَالُوا: لَا يَلْتَحِقُ بِهِ وَيَصِيرُ كَفَاصِلِ السُّكُوتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُتَصَوَّرْ وُجُودُ جُمَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِبَعْضِهَا اسْتِثْنَاءٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْأَخِيرَةِ لِأَنَّ وُجُودَ الْجُمَلِ الْمُتَعَدِّدَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْعَطْفِ، فَإِذَا كَانَ الْعَطْفُ يُصَيِّرُهَا كَوَاحِدٍ لَزِمَ فِي كُلِّ اسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ بِجُمَلٍ مَنْسُوقٍ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْكُلِّ وَيَسْتَحِيلَ وُجُودُ الْمَسْأَلَةِ، بَلْ الْوَجْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ شَرْطٌ، وَحُكْمُ الشَّرْطِ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مَنْسُوقَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْكُلِّ وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتِقْ وَلَمْ تَطْلُقْ وَلَمْ يَلْزَمْ النَّذْرُ فِيمَا ذَكَرْنَا، فَمَشَى أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى حُكْمِهِ، وَهُمَا أَخْرَجَا صُوَرَ كُتُبِ الصَّكِّ مِنْ عُمُومِهِ بِعَارِضٍ اقْتَضَى تَخْصِيصَ الصَّكِّ مِنْ عُمُومِ حُكْمِ الشَّرْطِ الْمُتَعَقِّبِ جُمَلًا مُتَعَاطِفَةً وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِذَا كَانَ قَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانًا رَاجِحًا عَلَى قَوْلِهِ. هَذَا إذَا كَانَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَكْتُوبًا مُتَّصِلًا بِالْكِتَابَةِ، فَلَوْ فَصَلَ بِبَيَاضٍ وَهُوَ الْفُرْجَةُ صَارَ كَفَاصِلِ السُّكُوتِ فَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا اتِّفَاقًا. وَقَدْ أَوْرَدَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْتُبْ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَبْطُلْ شَيْءٌ، وَيَلْزَمُهُ صِحَّةُ الْوَكَالَةِ لِلْمَجْهُولِ بِالْخُصُومَةِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ قَامَ بِهَذَا الذِّكْرِ فَهُوَ وَلِيُّ مَا فِيهِ، وَتَوْكِيلُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْكِتَابَةِ إثْبَاتُ رِضَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِتَوْكِيلِ مَنْ يُوَكِّلُهُ الْمُدَّعِي، فَلَا يَمْتَنِعُ الْمَدْيُونُ عَنْ سَمَاعِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ عِنْدَهُ. وَدَفَعَ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ بِهَذَا يَثْبُتُ الرِّضَا بِتَوْكِيلِ وَكِيلٍ مَجْهُولٍ، وَالرِّضَا بِتَوْكِيلِ وَكِيلٍ مَجْهُولٍ بَاطِلٌ فَلَا يُفِيدُ عَلَى قَوْلِهِ أَيْضًا. وَقِيلَ بَلْ فَائِدَتُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ لَا يُصَحِّحُ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ بِلَا رِضَا الْخَصْمِ إلَّا إذَا وُجِدَ الرِّضَا بِتَوْكِيلِ وَكِيلٍ مَجْهُولٍ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ، لَكِنْ ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ مُطْلَقًا.

ص: 338

(فَصْلٌ فِي الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ)

قَالَ (وَإِذَا مَاتَ نَصْرَانِيٌّ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً وَقَالَتْ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: الْقَوْلُ قَوْلُهَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ. وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْحِرْمَانِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ فَيَثْبُتُ فِيمَا مَضَى تَحْكِيمًا لِلْحَالِ كَمَا فِي جَرَيَانِ مَاءِ

فَصْلٌ فِي الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ)

(وَإِذَا مَاتَ نَصْرَانِيٌّ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً وَقَالَتْ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ) فَأَنَا أَسْتَحِقُّ فِي مِيرَاثِهِ (وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ) بَلْ (أَسْلَمْت قَبْلَ مَوْتِهِ) فَلَا مِيرَاثَ لَك (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ) كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ بَدَلُ قَوْلِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ لَا تُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ مَنْ كَانَ الْقَوْلُ لَهُ يَكُونُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا حَلِفَ عَلَيْهِمْ إلَّا إنْ ادَّعَتْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ كُفْرَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَهَا أَنْ تُحَلِّفَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ (وَقَالَ زُفَرُ: الْقَوْلُ لَهَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ حَادِثٌ فَ) الظَّاهِرُ (إضَافَتُهُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ. وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْحِرْمَانِ)

مِنْ الْمِيرَاثِ (ثَابِتٌ فِي الْحَالِ فَيَثْبُتُ فِيمَا مَضَى تَحْكِيمًا لِلْحَالِ كَمَا فِي جَرَيَانِ مَاءِ

ص: 339

الطَّاحُونَةِ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ نَعْتَبِرُهُ لِلدَّفْعِ؛ وَمَا ذَكَرَهُ يَعْتَبِرُهُ لِلِاسْتِحْقَاقِ؛ وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ وَلَهُ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ فَجَاءَتْ مُسْلِمَةً بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ أَسْلَمْت قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ أَيْضًا، وَلَا يُحَكَّمُ الْحَالُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ، أَمَّا الْوَرَثَةُ فَهُمْ الدَّافِعُونَ

الطَّاحُونَةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ) هُوَ اسْتِصْحَابٌ: أَعْنِي اسْتِصْحَابَ الْمَاضِي لِلْحَالِ (نَعْتَبِرُهُ لِلدَّفْعِ، وَمَا ذَكَرَهُ) اسْتِصْحَابُ هُوَ عَكْسُ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ يَكُونُ مِنْ الْمَاضِي لِلْحَالِ وَمِنْ الْحَالِ إلَى الْمَاضِي، وَلَكِنَّهُ (اعْتَبَرَهُ لِلِاسْتِحْقَاقِ) وَلَيْسَ حُكْمُ الِاسْتِصْحَابِ كَذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِجَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ مَا إذَا اخْتَلَفَ مَالِكُهَا مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا طَالَبَهُ بِمُدَّةٍ فَقَالَ: كَانَ الْمَاءُ مُنْقَطِعًا حُكْمُ جَرَيَانِهِ فِي الْحَالِ، فَإِذَا كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْحَالِ فَيُعْطَفُ عَلَى الْمَاضِي لِدَفْعِ اسْتِحْقَاقِ أُجْرَةِ الْمَاضِي فَكَذَا هَذَا، وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْتِصْحَابِ أَحْسَنُ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالظَّاهِرِ، فَإِنَّ مَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ كَثِيرًا مَا يَكُونُ ظَاهِرًا كَأَخْبَارِ الْآحَادِ قَدْ أَثْبَتَ مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقًا (وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ وَلَهُ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ فَجَاءَتْ مُسْلِمَةً بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ أَسْلَمْت قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ لَهُمْ أَيْضًا وَلَا يُحَكَّمُ الْحَالُ) هُنَا (لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهِ، أَمَّا الْوَرَثَةُ فَهُمْ الدَّافِعُونَ) وَالِاسْتِصْحَابُ يَكْفِي لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَهُوَ

ص: 340

وَيَشْهَدُ لَهُمْ ظَاهِرُ الْحُدُوثِ أَيْضًا.

اسْتِصْحَابُ مَا فِي الْمَاضِي مِنْ كُفْرِهَا إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَالْمَسْأَلَتَانِ مَبْنِيَّتَانِ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ اُعْتُبِرَ فِيهِمَا لِلدَّفْعِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ.

فَإِنْ قِيلَ: اعْتِبَارُ الْحَالِ فِي مَاءِ الطَّاحُونَةِ شَاهِدًا لِلْمَاضِي عُمِلَ بِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ بِالِاسْتِصْحَابِ فَإِنَّ بِهِ يَسْتَحِقُّ مَالِكُهَا أَجْرَ الْمَاضِي إذَا كَانَ جَارِيًا. أُجِيبَ بِأَنَّ هُنَاكَ اتَّفَقَا عَلَى وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْعَقْدُ، وَلَكِنْ اخْتَلَفَا فِي التَّأْكِيدِ، وَالظَّاهِرُ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلتَّأْكِيدِ. فِي مَسْأَلَةِ الْمِيرَاثِ نَفْسُ السَّبَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ الزَّوْجِيَّةُ مَعَ اتِّفَاقِ الزَّوْجَيْنِ فِي الدِّينِ عِنْدَ الْمَوْتِ.

وَاسْتُشْكِلَ بِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا مَاتَ أَبِي مُسْلِمًا وَقَدْ كُنْت مُسْلِمًا حَالَ حَيَاتِهِ وَقَالَ الْآخَرُ صَدَقْت وَأَنَا أَيْضًا أَسْلَمْت حَالَ حَيَاتِهِ وَكَذَّبَهُ الِابْنُ الْمُتَّفَقُ عَلَى إسْلَامِهِ وَقَالَ بَلْ أَسْلَمْت بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْقَوْلُ لِلِابْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَى إسْلَامِهِ، وَلَمْ يُجْعَلْ الْحَالُ حُكْمًا عَلَى إسْلَامِهِ فِيمَا مَضَى مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ فِي الْحَالِ وَهُوَ الْبُنُوَّةُ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يُصَارُ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الطَّرِيقِ إذَا اخْتَلَفَا فِي تَمَامِ الْمَاضِي فِي ثُبُوتِ مَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْحَالِ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارٍ مِنْهُ فَلَا يُصَارُ إلَى تَحْكِيمِ الْحَالِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ قَائِمًا، حَتَّى إنَّ فِي مَسْأَلَةِ الطَّاحُونَةِ إذَا اتَّفَقَا عَلَى الِانْقِطَاعِ فِي بَعْضِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ بِأَنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ الْمَاءُ مُنْقَطِعًا شَهْرَيْنِ وَقَالَ الْآخَرُ شَهْرًا فَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ مُنْقَطِعًا كَانَ الْمَاءُ أَوْ جَارِيًا فِي الْحَالِ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي جَرَيَانِ مُقَدَّرٍ هُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ لِلْحَالِ. وَفِي مَسْأَلَةِ الِابْنَيْنِ وَمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ الِاخْتِلَافُ وَاقِعٌ فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الْإِسْلَامِ لَا فِي نَفْسِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَالثَّابِتُ فِي الْحَالِ نَفْسُ الْإِسْلَامِ لَا إسْلَامٌ مُقَدَّرٌ فَهَذَا هُوَ الْمَأْخَذُ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ مَسْأَلَةً وَهِيَ تَرُدُّ أَيْضًا شُبْهَةً عَلَى الْأَصْلِ: أَعْنِي كَوْنَ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَثْبُتُ بِالظَّاهِرِ؛ وَهُوَ لَوْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ أَبَانَهَا فِي الْمَرَضِ فَصَارَ فَارًّا فَأَنَا أَرِثُ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ بَلْ فِي الصِّحَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا لِأَنَّهَا أَنْكَرَتْ

ص: 341

قَالَ (وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ هَذَا ابْنُ الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ حَقُّ الْوَارِثِ خِلَافَةً فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ حَقُّ الْمُوَرِّثِ وَهُوَ حَيٌّ أَصَالَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَكِيلُ الْمُودِعِ بِالْقَبْضِ أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ حَيْثُ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقِيَامِ حَقِّ الْمُودِعِ إذْ هُوَ حَيٌّ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى مَالِ الْغَيْرِ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، بِخِلَافِ الْمَدْيُونِ إذَا أَقَرَّ بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ (فَلَوْ قَالَ الْمُودَعُ لِآخَرَ هَذَا ابْنُهُ أَيْضًا وَقَالَ الْأَوَّلُ لَيْسَ لَهُ ابْنٌ غَيْرِي قَضَى بِالْمَالِ لِلْأَوَّلِ) لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ لِلْأَوَّلِ انْقَطَعَ يَدُهُ عَنْ الْمَالِ فَيَكُونُ هَذَا إقْرَارًا عَلَى الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِلثَّانِي، كَمَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ ابْنًا مَعْرُوفًا، وَلِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فَصَحَّ، وَحِينَ أَقَرَّ لِلثَّانِي لَهُ مُكَذِّبٌ

الْمَانِعَ مِنْ الْإِرْثِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي الصِّحَّةِ: يَعْنِي وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَانِعِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ) مَثَلًا (وَدِيعَةً فَأَقَرَّ الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ) فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ (لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ حَقُّ الْوَارِثِ) مِلْكٌ لَهُ (خِلَافَةً فَهُوَ كَمَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ حَقُّ الْمُوَرِّثِ وَهُوَ حَيٌّ أَصَالَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ) الْمُودَعُ (لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَكِيلُ الْمُودِعِ بِالْقَبْضِ) أَيْ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ (أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ) أَيْ اشْتَرَى الْوَدِيعَةَ الَّتِي فِي يَدِهِ مِنْ الْمُودِعِ (حَيْثُ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقِيَامِ حَقِّ الْمُودِعِ) وَمِلْكِهِ فِي الْوَدِيعَةِ الْآنَ (إذْ هُوَ حَيٌّ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى مَالِ الْغَيْرِ، وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ) لِزَوَالِ مِلْكِهِ فَإِنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمِلْكِهِ لِمَا فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ مِلْكِ مَالِكٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ لِلْحَالِ وَفِي فَصْلِ الشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمُودِعِ لَكِنْ لَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ: أَعْنِي الْمَالِكَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ مِلْكِهِ بِإِقْرَارِهِ فَصَارَ كَالْإِقْرَارِ بِالْوَكَالَةِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ لَوْ دَفَعَ إلَى الَّذِي اعْتَرَفَ لَهُ بِالْوَكَالَةِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ هَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا؟ قِيلَ لَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَاعِيًا فِي نَقْضِ مَا تَمَّ بِهِ.

وَقَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ كَانَ وَالِدِي يَتَرَدَّدُ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَوْ لَمْ يَدْفَعْ الْوَدِيعَةَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِالْوَكَالَةِ حَتَّى هَلَكَتْ قِيلَ يَضْمَنُهَا لِأَنَّهُ مَنَعَهَا مِنْ وَكِيلِ الْمُودِعِ فِي زَعْمِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَنَعَهَا مِنْ نَفْسِ الْمُودِعِ، وَقِيلَ لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الدَّفْعُ (بِخِلَافِ الْمَدْيُونِ إذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَكِيلُ الدَّائِنِ بِقَبْضِ مَالِهِ عَلَيْهِ) فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ (إذًا الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا) وَالْمِثْلُ مِلْكُ الْمُقِرِّ (فَإِنَّمَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ) حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِ الدَّائِنُ إذَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِالْوَكَالَةِ إذَا قَدِمَ (فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ. وَلَوْ قَالَ الْمُودَعُ لِآخَرَ هَذَا ابْنُهُ أَيْضًا وَأَنْكَرَ الِابْنُ الْأَوَّلُ قُضِيَ بِالْمَالِ لِلْأَوَّلِ) وَحْدَهُ (لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ لِلْأَوَّلِ) عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ (انْقَطَعَ يَدُهُ عَلَى الْمَالِ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى) الْغَيْرِ وَهُوَ الِابْنُ (الْأَوَّلُ فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ ابْنًا مَعْرُوفًا، وَلِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لِلْأَوَّلِ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فَصَحَّ، وَحِينَ أَقَرَّ لِلثَّانِي لَهُ مُكَذِّبٌ) وَهُوَ

ص: 342

فَلَمْ يَصِحَّ.

الْأَوَّلُ (فَلَا يَصِحُّ) وَهَلْ يَضْمَنُ لِلِابْنِ الثَّانِي شَيْئًا. قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: إنَّهُ لَا يَغْرَمُ الْمُودَعُ لِلِابْنِ الثَّانِي شَيْئًا بِإِقْرَارِهِ لَهُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لَمْ يَثْبُتْ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّلَفُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ ثُبُوتِ الْبُنُوَّةِ ثُبُوتُ الْإِرْثِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالْبُنُوَّةِ إقْرَارًا بِالْمَالِ. وَفِي الدِّرَايَةِ وَالنِّهَايَةِ وَغَيْرِهِمَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ نِصْفَ مَا أَدَّى لِلِابْنِ الثَّانِي الَّذِي أَقَرَّ لَهُ إذَا دَفَعَ الْوَدِيعَةَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدُ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لِلثَّانِي صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ الْمُودَعُ لِلِابْنِ الثَّانِي الَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ كَمَا لَوْ بَدَأَ الْمُودَعُ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِ الْقَاضِي الْمَعْزُولِ الْوَدِيعَةِ ثُمَّ أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ الْقَاضِي إلَيْهِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ الْكِتَابِ أَنَّهُ يَضْمَنُ لِلْقَاضِي قِيمَتَهُ. قُلْنَا: هُنَا أَيْضًا يَضْمَنُ إذَا دَفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى الِابْنِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي نِصْفَ مَا أَدَّى إلَى الْأَوَّلِ انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.

وَاخْتُلِفَ فِي اللُّقَطَةِ إذَا أَقَرَّ الْمُلْتَقِطُ بِهَا لِرَجُلٍ هَلْ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ؟ مَذْكُورٌ فِي اللُّقَطَةِ.

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَوْ ادَّعَى الْوِصَايَةَ وَصَدَّقَهُ مُودِعُ الْمَيِّتِ أَوْ الْغَاصِبُ مِنْهُ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ، هَذَا كُلُّهُ فِي الِابْنِ، فَلَوْ أَقَرَّ الْمُودَعُ لِرَجُلٍ أَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ شَقِيقُهُ وَأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ يَدَّعِيهِ أَوْ لِمَنْ ادَّعَى وَصِيَّةً بِأَلْفٍ مَثَلًا أَنَّهُ صَادِقٌ فَالْقَاضِي يَتَأَنَّى فِي ذَلِكَ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَخِ بِشَرْطِ عَدَمِ الِابْنِ، بِخِلَافِ الِابْنِ لِأَنَّهُ وَارِثٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ غَيْرَ أَنَّهُ احْتَمَلَ مُشَارَكَةَ غَيْرِهِ وَهُوَ مَوْهُومٌ وَالْبِنْتُ كَالِابْنِ وَفِي الْوَصِيَّةِ هُوَ مُقِرٌّ عَلَى الْغَيْرِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَلَفٍ عَنْ الْمَيِّتِ، إذَا تَأَنَّى إنْ حَضَرَ وَارِثٌ آخَرُ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْمَيِّتِ وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ وَارِثٌ آخَرُ أَعْطَى كُلَّ مُدَّعٍ مَا أَقَرَّ بِهِ لَكِنْ بِكَفِيلٍ ثِقَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلًا أَعْطَاهُ الْمَالَ وَضَمِنَهُ إنْ كَانَ ثِقَةً حَتَّى لَا يَهْلَكُ أَمَانَةً، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ تَلَوَّمَ الْقَاضِي حَتَّى يَظْهَرَ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لِلْمَيِّتِ، أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ ذَلِكَ ثُمَّ يُعْطِيهِ الْمَالَ وَيَضْمَنُهُ، وَلَمْ يُقَدِّرْ مُدَّةَ التَّلَوُّمِ بِشَيْءٍ بَلْ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَهَذَا أَشْبَهَ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا مُقَدَّرٌ بِحَوْلٍ، هَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ فِي الْخُلَاصَةِ عَنْ الْأَقْضِيَةِ.

قَالَ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مُقَدَّرٌ بِشَهْرٍ، هَذَا إذَا قَالَ ذُو الْيَدِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ قَالَ لَهُ وَارِثٌ وَلَا أَدْرَى أَمَاتَ أَمْ لَا لَا يَدْفَعُ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا لَا قَبْلَ التَّلَوُّمِ وَلَا بَعْدَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً تَقُولُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، وَكُلُّ مَنْ يَرِثُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ كَالْأَخِ وَالْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ كَالِابْنِ؛ وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَخُو الْغَائِبِ وَأَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ أَبُوهُ أَوْ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً وَادَّعَتْ أَنَّهَا عَمَّةُ الْمَيِّتِ أَوْ خَالَتُهُ أَوْ بِنْتُ أَخِيهِ وَقَالَ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرِي وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ لِلْمَيِّتِ أَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ

ص: 343

قَالَ (وَإِذَا قُسِمَ الْمِيرَاثُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَفِيلٌ وَلَا مِنْ وَارِثٍ وَهَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَهُوَ ظُلْمٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ وَالْإِرْثُ بِالشَّهَادَةِ وَلَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ.

أَوْ ثُلُثِهِ وَصَدَّقَهُمَا ذُو الْيَدِ وَقَالَ لَا أَدْرِي لِلْمَيِّتِ وَارِثًا غَيْرَهُمَا أَوْ لَا لَمْ يَكُنْ لِمُدَّعِي الْوَصِيَّةِ شَيْءٌ بِهَذَا الْإِقْرَارِ، وَيَدْفَعُ الْقَاضِي إلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأَخِ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَوْ الْعَمَّةِ أَوْ الْخَالَةِ أَوْ بِنْتِ الْأَخِ إذَا انْفَرَدَ، أَمَّا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ فَلَا يُزَاحِمُ مُدَّعِي الْبُنُوَّةِ مُدَّعِيَ الْأُخُوَّةِ لَكِنْ مُدَّعِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا زَاحَمَهُ مُدَّعِي الزَّوْجِيَّةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ بِالْكُلِّ أَوْ الثُّلُثِ مُسْتَدِلًّا بِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ فَمُدَّعِي الْأُخُوَّةِ أَوْ الْبُنُوَّةِ أَوْلَى بَعْدَمَا يُسْتَحْلَفُ الِابْنُ مَا هَذِهِ زَوْجَةُ الْمَيِّتِ أَوْ مُوصًى لَهُ، هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ قَامَ أَخَذَ بِهَا، وَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَفِيلُ؟ تَقَدَّمَ، وَلَوْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا ابْنُهُ أَوْ أَبُوهُ أَوْ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِالْكُلِّ أَوْ ثُلُثِهِ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ زَوْجَتُهُ فَالْمَالُ لِلِابْنِ وَالْمَوْلَى كَمَا لَوْ عَايَنَاهُ أَقَرَّ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ أَقَرَّ بِسَبَبٍ مُنْتَقَضٍ

(قَوْلُهُ وَإِذَا قُسِمَ الْمِيرَاثُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ) أَوْ بَيْنَ الْوَرَثَةِ (لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَفِيلٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَ) قَالَ (هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ فِيهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَهُوَ ظُلْمٌ) كَأَنَّهُ عَنَى بِهِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ بِالْكُوفَةِ (وَقَالَا: يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ) أَيْ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِمْ حَتَّى يَكْفُلُوا (وَالْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ وَالْإِرْثُ بِالشَّهَادَةِ وَلَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ) أَمَّا إذَا ثَبَتَا بِالْإِقْرَارِ فَيُؤْخَذُ

ص: 344

لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ لِلْغُيَّبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي التَّرِكَةِ وَارِثًا غَائِبًا أَوْ غَرِيمًا غَائِبًا، لِأَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَقَعُ بَغْتَةً فَيُحْتَاطُ بِالْكَفَالَةِ. كَمَا إذَا دَفَعَ الْآبِقَ وَاللُّقَطَةَ إلَى

الْكَفِيلُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا قَالَ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ لَا يُكْفَلُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يَتَأَنَّى الْقَاضِي سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَارِثُ مِمَّنْ يَحْجُبُ أَوْ لَا يَحْجُبُ، وَلَوْ قَالُوا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَكَذَلِكَ اسْتِحْسَانًا.

ثُمَّ مَا ذُكِرَ مِنْ نَفْيِ الدَّفْعِ إذَا لَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا آخَرَ هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ وَارِثًا لَا يُحْجَبُ بِغَيْرِهِ، وَتَفْصِيلُ الْمَسْأَلَةِ فِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ قَالَ: وَإِذَا حَضَرَ الرَّجُلُ وَادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوهُمْ بَلْ قَالُوا وَتَرَكَهَا لِوَرَثَتِهِ لَا تُقْبَلُ وَلَا يَدْفَعُ إلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ لِيَصِيرَ نَصِيبُ هَذَا الْوَاحِدِ مَعْلُومًا، وَالْقَضَاءُ بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ مُتَعَذِّرٌ.

وَهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: الْأَوَّلُ هَذَا، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوهُمْ. وَالثَّانِي أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِجَمِيعِ التَّرِكَةِ بِلَا تَلَوُّمٍ، الثَّالِثُ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ مَالِكِ هَذِهِ الدَّارِ وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَتَلَوَّمُ زَمَانًا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى، فَإِنْ حَضَرَ وَارِثٌ آخَرُ قَسَمَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ دَفَعَ الدَّارَ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ كَفِيلًا عِنْدَهُمَا. وَلَا يَأْخُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه ثُمَّ إنَّمَا يَدْفَعُ إلَى الْوَارِثِ الَّذِي حَضَرَ جَمِيعَ الْمَالِ إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يُحْجَبُ كَالْأَبِ وَالِابْنِ، فَإِنْ كَانَ يُحْجَبُ بِغَيْرِهِ كَالْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُحْجَبُ حَجْبَ نُقْصَانٍ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ يَدْفَعُ إلَيْهِ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُف، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَوْفَرَهُمَا وَهُوَ النِّصْفُ لِلزَّوْجِ وَالرُّبْعُ لِلزَّوْجَةِ. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مُضْطَرِبٌ.

هَذَا إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ وَالْإِرْثُ بِالشَّهَادَةِ، فَأَمَّا إذَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِالِاتِّفَاقِ. وَمِنْ صُوَرِهِ مَا إذَا أَقَرَّ الْمُودَعُ لِرَجُلٍ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَالْقَاضِي يَتَأَنَّى عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ، وَهُوَ أَلْيَقُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَهُوَ أَنْ يَنْتَظِرَ زَمَانًا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ابْنٌ آخَرُ لَظَهَرَ، وَقَدَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ بِعَامٍ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ وَارِثٌ آخَرُ دَفَعَ الْمَالَ وَأَخَذَ كَفِيلًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَظْهَرَ وَارِثٌ آخَرُ.

قِيلَ هَذَا قَوْلُهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَأْخُذُ، وَقِيلَ يَأْخُذُ عِنْدَ الْكُلِّ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ دُونَ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ (لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ لِلْغُيَّبِ) أَيْ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لَهُمْ (وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي التَّرِكَةِ وَارِثًا غَائِبًا أَوْ غَرِيمًا غَائِبًا، لِأَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَقَعُ بَغْتَةً فَيُحْتَاطُ بِالْكَفَالَةِ، كَمَا إذَا دَفَعَ) الْقَاضِي (الْآبِقَ وَاللُّقَطَةَ إلَى)

ص: 345

صَاحِبِهِ وَأَعْطَى امْرَأَةَ الْغَائِبِ النَّفَقَةَ مِنْ مَالِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ قَطْعًا، أَوْ ظَاهِرًا فَلَا يُؤَخَّرُ لِحَقٍّ مَوْهُومٍ إلَى زَمَانِ التَّكْفِيلِ كَمَنْ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِمَّنْ فِي يَدِهِ أَوْ أَثْبَتَ الدَّيْنَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى بِيعَ فِي دَيْنِهِ لَا يَكْفُلُ، وَلِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ مَجْهُولٌ فَصَارَ كَمَا إذَا كُفِلَ لِأَحَدِ الْغُرَمَاءِ

الَّذِي أَثْبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ (صَاحِبُهُ) أَخَذَ كَفِيلًا لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ (وَ) كَذَا إذَا (أَعْطَى امْرَأَةَ الْغَائِبِ) يَعْنِي إذَا كَانَتْ تَسْتَنْفِقُ: أَيْ تَطْلُبُ (النَّفَقَةَ) وَزَوْجُهَا غَائِبٌ وَلَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَدِيعَةٌ وَهُوَ مُقِرٌّ بِالزَّوْجِيَّةِ الْوَدِيعَةِ فَالْقَاضِي يُعْطِيهَا (مِنْ مَالِهِ) وَيَأْخُذُ كَفِيلًا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ قَطْعًا) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَارِثُ الْآخَرُ مَعْدُومًا (أَوْ ظَاهِرًا) فِيمَا إذَا كَانَ مَوْجُودًا وَالْقَاضِي لَمْ يُكَلَّفْ بِإِظْهَارِهِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ حَقَّ الْحَاضِرِ بَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ بِالْعَمَلِ بِمَا ظَهَرَ عِنْدَهُ (فَلَا يُؤَخَّرُ) إلَى زَمَانِ التَّكْفِيلِ (لِحَقٍّ مَوْهُومٍ) أَرَأَيْت لَوْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلًا كَانَ مَنْعُ حَقِّهِ هَذَا ظُلْمًا وَصَارَ (كَمَنْ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِمَّنْ فِي يَدِهِ) لَا يُؤْخَذُ كَفِيلٌ مِنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا أَثْبَتَ شِرَاءَهُ بِالْحُجَّةِ (وَ) لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ مِنْ رَبِّ الدَّيْنِ (الَّذِي أَثْبَتَ دَيْنَهُ عَلَى الْعَبْدِ) بِالْبَيِّنَةِ (حَتَّى بِيعَ) الْعَبْدُ (لِأَجْلِ دَيْنِهِ) وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ حُضُورُ مُشْتَرٍ آخَرَ قَبْلَهُ وَغَرِيمٍ آخَرَ لِلْعَبْدِ (وَلِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ مَجْهُولٌ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَفَلَ) لِأَحَدِ الْغُرَمَاءِ، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ ثَابِتٌ وَالزَّوْجُ مَعْلُومٌ، فَأَمَّا الْآبِقُ وَاللُّقَطَةُ فَفِي أَخْذِ (الْكَفِيلِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ. وَقِيلَ إنْ دَفَعَ اللُّقَطَةَ بِعَلَامَةٍ أَوْ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ يَكْفُلُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ ثَابِتٍ. وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُمْنَعَ)

مَعَ الْعَلَامَةِ وَإِقْرَارِ الْعَبْدِ بِالْإِبَاقِ. لَا يُقَالُ: يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ صِيَانَةً لِقَضَائِهِ عَنْ النَّقْضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ، وَلَا يُقَالُ يَأْخُذُ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي تَسْلِيمِ مَالِهِ إلَى وَارِثِهِ وَقَدْ أَثْبَتَ وِرَاثَتَهُ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْقَاضِي يَتَلَوَّمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالْإِجْمَاعِ ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ وَكَذَا ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، وَالتَّلَوُّمُ: إنَّمَا هُوَ لِتَوَهُّمِ وَارِثٍ أَوْ غَرِيمٍ آخَرَ، وَبَعْدَ التَّلَوُّمِ مَا انْقَطَعَتْ الشُّبْهَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْكَفِيلَ لِبَقَاءِ الشُّبْهَةِ وَيَدْفَعُ إلَى الْحَاضِرِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ رَاجِحَةٌ عَلَى الشُّبْهَةِ فَأَظْهَرْنَا رُجْحَانَهَا فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ فَيَجِبُ أَنْ يَظْهَرَ قِيَامُ الشُّبْهَةِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ عَمَلًا بِالْجِهَتَيْنِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْعَمَلَ يَجِبُ بِالْحُجَّةِ بَعْدَ قِيَامِهَا لَا بِالشُّبْهَةِ وَلَيْسَ التَّكْفِيلُ كَالتَّلَوُّمِ لِأَنَّ التَّلَوُّمَ لِطَلَبِ عِلْمٍ زَائِدٍ لَهُ لِيَتِمَّ عِلْمُهُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، فَإِنَّ التَّلَوُّمَ يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِ الشُّهُودِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَهَادَةٍ لِأَنَّهَا عَلَى النَّفْيِ، بَلْ هُوَ خَبَرٌ يُؤَكِّدُ ظَنَّ انْتِفَاءِ غَيْرِهِ، أَمَّا الْكَفَالَةُ فَطَلَبُ

ص: 346

بِخِلَافِ النَّفَقَةِ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ ثَابِتٌ وَهُوَ مَعْلُومٌ.

وَأَمَّا الْآبِقُ وَاللُّقَطَةُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ. وَقِيلَ إنْ دَفَعَ بِعَلَامَةِ اللُّقَطَةِ أَوْ إقْرَارِ الْعَبْدِ يَكْفُلُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُمْنَعَ. وَقَوْلُهُ ظُلْمٌ: أَيْ مَيْلٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَهَذَا يَكْشِفُ عَنْ مَذْهَبِهِ رحمه الله أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ لَا كَمَا ظَنَّهُ الْبَعْضُ.

قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ فُلَانٍ الْغَائِبِ قُضِيَ لَهُ بِالنِّصْفِ وَتَرَكَ النِّصْفَ الْآخَرَ فِي يَدِ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ وَلَا يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: إنْ كَانَ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ جَاحِدًا أُخِذَ مِنْهُ وَجُعِلَ فِي يَدِ أَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَجْحَدْ تُرِكَ فِي يَدِهِ)

لَهُمَا أَنَّ الْجَاحِدَ خَائِنٌ فَلَا يُتْرَكُ الْمَالُ فِي يَدِهِ، بِخِلَافِ الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ أَمِينٌ. وَلَهُ أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ لِلْمَيِّتِ مَقْصُودًا

أَمْرٍ زَائِدٍ مِنْ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِتَوَجُّهِ حَقٍّ عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَجَّهُ بِالْمَوْهُومِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَوْلُهُ ظُلْمٌ) أَيْ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (يَكْشِفُ عَنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ لَا كَمَا ظَنَّهُ الْبَعْضُ) أَنَّهُ قَائِلٌ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ جَرَّهُمْ إلَى هَذَا الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ فَكَانَ صِيَانَةُ الْمُجْتَهِدِينَ عَنْ الْخَطَإِ وَتَقْرِيرُهُمْ عَلَى الصَّوَابِ وَاجِبًا. وَسَبَبُ نِسْبَةِ هَذَا الْقَوْلِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِيُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ.

وَلَوْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَكَانَ مُتَنَاقِضًا، إذْ قَوْلُهُ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ أَصَابَ الْحَقَّ، وَإِلَّا لَكَانَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا، فَلَزِمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ: أَيْ يُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الِاجْتِهَادَ عَلَى الْمُتَأَهِّلِ لَهُ فَإِذَا اجْتَهَدَ فَقَدْ أَصَابَ بِسَبَبِ قِيَامِهِ بِالْوَاجِبِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ تَلَاعَنَا ثَلَاثًا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا نَفَذَ وَقَالَ أَخْطَأَ السُّنَّةَ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ فُلَانٍ الْغَائِبِ قُضِيَ لَهُ بِالنِّصْفِ وَتَرَكَ النِّصْفَ الْآخَرَ فِي يَدِ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ) إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْغَائِبُ (وَلَا يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَا: إنْ كَانَ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ) قَدْ (جَحَدَ) فَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ (أُخِذَ مِنْهُ) النِّصْفُ (فَوُضِعَ عَلَى يَدِ أَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَحَدَ تُرِكَ فِي يَدِهِ. لَهُمَا أَنَّ الْجَاحِدَ خَائِنٌ) ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ بِالْجَحْدِ (فَلَا يُتْرَكُ فِي يَدِهِ) لِقُرْبِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ إمَّا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا مِلْكُهُ وَأَنَّ الْبَيِّنَةَ كَذْبَةٌ أَوْ لِلْخِيَانَةِ (بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ) أَنَّهَا مَالُ الْمَيِّتِ مُودَعٌ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ خِيَانَةٌ وَقَدْ رَضِيَهُ الْمَيِّتُ فَكَانَ أَوْلَى بِحِفْظِهَا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَضَاءَ) إنَّمَا (يَقَعُ أَوَّلًا لِلْمَيِّتِ مَقْصُودًا) لِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ أَنَّهُ مَالُهُ

ص: 347

وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ مُخْتَارَ الْمَيِّتِ ثَابِتٌ فَلَا تُنْقَضُ يَدُهُ كَمَا إذَا كَانَ مُقِرًّا وَجُحُودُهُ قَدْ ارْتَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْجُحُودِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِصَيْرُورَةِ الْحَادِثَةِ مَعْلُومَةً لَهُ وَلِلْقَاضِي، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مَنْقُولٍ فَقَدْ قِيلَ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْحِفْظِ وَالنَّزْعُ أَبْلَغُ فِيهِ،

حِينَئِذٍ تُقْضَى دُيُونُهُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ (وَكَوْنُهُ مُخْتَارَ الْمَيِّتِ ثَابِتٌ) مَعَ جَحْدِهِ (فَلَا تُنْقَضُ يَدُهُ كَالْمُقِرِّ وَجُحُودُهُ قَدْ ارْتَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي) بِهَا لِلْمَيِّتِ (وَالظَّاهِرُ عَدَمُ جُحُودِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِصَيْرُورَةِ الْحَادِثَةِ مَعْلُومَةً لَهُ وَلِلْقَاضِي) وَمَوْتُ الْقَاضِي وَعَزْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْغَائِبُ، وَكَذَا احْتِرَاقُ الْمَحْضَرِ وَالتَّلَفُ نَادِرٌ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ لِنُدْرَتِهِ (فَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مَنْقُولٍ) وَأَنْكَرَ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ (فَقَدْ قِيلَ يُؤْخَذُ مِنْهُ) النِّصْفُ (بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الْحِفْظِ

ص: 348

بِخِلَافِ الْعَقَارِ لِأَنَّهَا مُحَصَّنَةٌ بِنَفْسِهَا وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ بَيْعَ الْمَنْقُولِ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ دُونَ الْعَقَارِ، وَكَذَا حُكْمُ وَصِيِّ الْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ عَلَى الصَّغِيرِ.

وَقِيلَ الْمَنْقُولُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِيهِ أَظْهَرُ لِحَاجَتِهِ إلَى الْحِفْظِ، وَإِنَّمَا لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ خُصُومَةٍ وَالْقَاضِي إنَّمَا نُصِبَ لِقَطْعِهَا لَا لِإِنْشَائِهَا، وَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ وَيُسَلَّمُ النِّصْفُ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ

وَالنَّزْعُ أَبْلَغُ فِي الْحِفْظِ) مِنْ تَرْكِهِ فِي يَدِهِ إذْ رُبَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مُتَأَوِّلًا كَمَا ذَكَرْنَا أَوْ خِيَانَةً (بِخِلَافِ الْعَقَارِ لِأَنَّهَا مُحَصَّنَةٌ بِنَفْسِهَا وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَجْلِ أَنَّ الْمَنْقُولَ مُحْتَاجٌ إلَى الْحِفْظِ دُونَ الْعَقَارِ.

وَالنَّزْعُ أَبْلَغُ فِي حِفْظِهِ مِنْ تَرْكِهِ (يَمْلِكُ الْوَصِيُّ بَيْعَ الْمَنْقُولِ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ دُونَ الْعَقَارِ وَكَذَا حُكْمُ وَصِيِّ الْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ عَلَى الصَّغِيرِ) يَمْلِكُ بَيْعَ الْمَنْقُولِ

مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةٌ فِي الْمَالِ (وَقِيلَ الْمَنْقُولُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا) عِنْدَهُ يُتْرَكُ فِي يَدِ الَّذِي جَحَدَ وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ (وَإِنَّمَا لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ) عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ (لِأَنَّهُ إنْشَاءُ خُصُومَةٍ وَالْقَاضِي إنَّمَا نُصِبَ لِقَطْعِهَا) وَهَذَا لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَجِدُ كَفِيلًا أَوْ لَا يَسْمَحُ بِإِعْطَائِهِ وَالْأَخُ الْحَاضِرُ يُطَالِبُهُ بِهِ فَتَثُورُ الْخُصُومَةُ (ثُمَّ إذَا حَضَرَ الْغَائِبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ وَيُسَلِّمُ النِّصْفَ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَضَاءِ) الْكَائِنِ فِي غَيْبَتِهِ (لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ

ص: 349

يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ لَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَعَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْمَيِّتُ فِي الْحَقِيقَةِ وَوَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ يَصْلُحُ خَلِيفَةٌ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَوْفِي إلَّا نَصِيبَهُ وَصَارَ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ، الْكُلِّ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ إذَا كَانَ الْكُلُّ فِي يَدِهِ.

ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ خَصْمًا بِدُونِ الْيَدِ فَيَقْتَصِرُ الْقَضَاءُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ.

يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا) فَقَدْ قَامَتْ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ الْوَرَثَةِ وَهَذَا مِنْهُمْ.

وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَعَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْمَيِّتُ فِي الْحَقِيقَةِ) عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَرِيبٍ (وَوَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ يَصْلُحُ خَلِيفَةً عَنْهُ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ) أَيْ اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ (لِأَنَّهُ عَامِلٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ) لَا لِلْمَيِّتِ (فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَوْفِي إلَّا نَصِيبَ نَفْسِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِدَيْنٍ لِلْمَيِّتِ) فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْكُلِّ وَلَا يَأْخُذُ إلَّا نَصِيبَ نَفْسِهِ.

وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْكُلِّ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ لَهُ وَعَلَيْهِ وَيَكُونُ قَضَاءٌ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ (إذَا كَانَتْ) التَّرِكَةُ كُلُّهَا (فِي يَدِهِ)

ص: 350

قَالَ (وَمَنْ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِالْكُلِّ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ رحمه الله لِعُمُومِ اسْمِ الْمَالِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ.

أَيْ فِي يَدِ الْحَاضِرِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَعْضُ فِي يَدِهِ يَنْفُذُ بِقَدْرِهِ لِأَنَّهُ لَا خُصُومَةَ بِدُونِ الْيَدِ، ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ.

قَالَ فِي شَهَادَاتِ الْمَوَارِيثِ: وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ دَارًا وَثَلَاثَةَ بَنِينَ وَابْنَانِ غَائِبَانِ وَالدَّارُ فِي يَدِ الْحَاضِرِ فَادَّعَى رَجُلٌ الدَّارَ عَلَى الْحَاضِرِ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ وَقَالَ مَاتَ وَالِدُنَا وَأَخَوَايَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ قَبَضَا نَصِيبَهُمَا وَأَوْدَعَانِي وَغَابَا وَقَالَ الْمُدَّعِي كَانَتْ دَارِي فِي يَدِ أَبِيكُمْ وَأَعْلَمُ أَنَّ الْغَائِبَيْنِ قَبَضَا ثُلُثَيْهَا شَائِعًا وَأَوْدَعَاهَا عِنْدَك وَأَنَا أُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارِي تُقْبَلُ وَذُو الْيَدِ خَصْمٌ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِيمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبَانِ وَصَدَقَا فِي الْإِرْثِ وَجَحَدَا حَقَّ الْمُدَّعِي فَالْقَضَاءُ مَاضٍ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ وَقَالَا لَمْ نَرِثْهَا مِنْ أَبِينَا بَلْ ثُلُثَاهَا لَنَا لَا بِالْإِرْثِ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي أَعِدْ بَيِّنَتَك عَلَيْهِمَا فِي ثُلُثَيْ الدَّارِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ خَصْمٍ لِأَنَّ إقْرَارَ الْحَاضِرِ يَعْمَلُ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الْغَائِبَيْنِ.

قَالَ الْعَتَّابِيُّ: قَالَ مَشَايِخُنَا: هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الدَّارُ مَقْسُومَةً، أَمَّا إذَا اقْتَسَمُوهَا وَأَوْدَعَ اثْنَانِ نَصِيبَهُمَا الْحَاضِرَ وَغَابَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي فِي نَصِيبِهِمَا عَلَى الْحَاضِرِ وَالْتَحَقَ هَذَا بِسَائِرِ أَمْوَالِهِمَا فَلَا يَكُونُ الْحَاضِرُ خَصْمًا فِيهَا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ مُبْقًى عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا عُرِفَ.

وَلَوْ كَانَ ثُلُثَا الدَّارِ فِي يَدِ رَجُلٍ مَقْسُومٍ أَوْ غَيْرِ مَقْسُومٍ أَوْدَعَهُ عِنْدَهُ الْغَائِبَانِ وَهُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لَهُمَا مِيرَاثٌ مِنْ أَبِيهِمَا لَمْ يَكُنْ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي، وَكَذَلِكَ الِابْنُ الْحَاضِرُ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يَكُونُ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمَيِّتِ فِيمَا فِي يَدِهِ لَا فِيمَا فِي يَدِ غَيْرِهِ.

قَالَ الْأُسْرُوشَنِيُّ فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِي عَيْنٍ هُوَ فِي يَدِهِ لَا فِي عَيْنٍ لَيْسَ فِي يَدِهِ، حَتَّى إنَّ مَنْ ادَّعَى عَيْنًا مِنْ التَّرِكَةِ وَأَحْضَرَ وَارِثًا لَيْسَ فِي يَدِهِ ذَلِكَ الْعَيْنُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَفِي دَعْوَى الدَّيْنِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ) فَيَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ النَّقْدَيْنِ وَالسَّوَائِمِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَيُمْسِكُ قُوتَهُ، فَإِذَا أَصَابَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِقَدْرِ مَا أَمْسَكَ، وَإِذَا وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِكُلِّهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبْلُغَ مَا عِنْدَهُ نِصَابًا أَوْ لَا، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ جِنْسُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ دُونَ قَدْرِهِ، وَلِذَا قَالُوا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِكُلِّ مَالِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ قَضَى بِهِ دَيْنًا لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يَكْتَسِبُهُ بَعْدَ إلَى أَنْ يُوَفَّى (وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَهُوَ عَلَى كُلِّ مَالٍ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِالْكُلِّ) فِيهِمَا (وَبِهِ قَالَ زُفَرُ) وَالْبَتِّيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِ مَالِهِ «لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي لُبَابَةَ حِينَ قَالَ: إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً: يُجْزِئُك الثُّلُثُ» (لِعُمُومِ اسْمِ الْمَالِ كَالْوَصِيَّةِ) وَقَالَ

ص: 351

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْصَرِفُ إيجَابُهُ إلَى مَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ فِيهِ الصَّدَقَةَ مِنْ الْمَالِ.

أَمَّا الْوَصِيَّةُ فَأُخْتُ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهَا خِلَافَةٌ كَهِيَ فَلَا يَخْتَصُّ مَالٌ دُونَ مَالٍ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ الْتِزَامُ الصَّدَقَةِ مِنْ فَاضِلِ مَالِهِ وَهُوَ مَالُ الزَّكَاةِ، أَمَّا الْوَصِيَّةُ تَقَعُ فِي حَالِ الِاسْتِغْنَاءِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ وَتَدْخُلُ فِيهِ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِأَنَّهَا سَبَبُ الصَّدَقَةِ، إذْ جِهَةُ الصَّدَقَةِ فِي الْعُشْرِيَّةِ رَاجِحَةٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا تَدْخُلُ لِأَنَّهَا سَبَبُ

- عليه الصلاة والسلام «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ فِيهِ الصَّدَقَةَ) وَمَا أَوْجَبَ بِهِ التَّصَدُّقَ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَعَلَّقَ الْإِيجَابَ بِبَعْضِهِ.

قَالَ تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وَلَمْ يَعُمَّ كُلَّ مَالٍ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ إنَّمَا يَصْدُقُ بِالْأَخْذِ مِنْ كُلِّ مَالٍ، وَذَكَرْنَا فِي الْأُصُولِ أَنَّ بِالْأَخْذِ مِنْ جِنْسِ الْأَمْوَالِ يَصْدُقُ بِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا ذَاكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَحْسَنُ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْعُمُومِ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ إذْ مُنِعَ مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} فَوَجَبَ تَقْيِيدُهَا بِبَعْضِهَا، ثُمَّ عَيَّنَا ذَلِكَ الْبَعْضَ بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا بِإِيجَابِ التَّصَدُّقِ مِنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» لَا يُنَافِيهِ لِأَنَّ إخْرَاجَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَجْنَاسِ الْمَالِ طَاعَةٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ تَقَيَّدَ بِجَمِيعِ مَا تَلَفَّظَ بِهِ وَهُوَ مُنْتَفٍ بِلُزُومِ الْمَعْصِيَةِ.

وَحَدِيثُ أَبِي لُبَابَةَ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ نَذَرَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى أَنَّهُ نَوَى ذَلِكَ وَقَصَدَهُ. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَجَرَيْنَا فِيهَا عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ أَيْضًا فَقُلْنَا: لَوْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلَهُ وَرَثَةٌ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّ فِي تَنْفِيذِهِ ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الثُّلُثِ الْمَفْسُوخِ لَهُ فِيهِ مَعَ وُجُودِ الْوَرَثَةِ.

وَأَمَّا نَفَاذُهُ فِي الْكُلِّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ فَلِأَنَّهَا إنَّمَا تُوجِبُ ذَلِكَ فِي حَالِ اسْتِغْنَائِهِ بِالْمَوْتِ فَانْتَفَى الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّهْيَ مَا كَانَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ إلَّا لِقِيَامِ حَاجَتِهِ النَّاجِزَةِ فِي الْحَيَاةِ وَعَدَمِ الْبُدَاءَةِ بِنَفْسِهِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» فَيُؤَدِّي إلَى ضِيقِ نَفْسِهِ وَحَرَجِهَا وَهُوَ قَدْ يَكُونُ سَبَبَ الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الصَّدَقَةَ إلَخْ) يَصْلُحُ تَقْرِيرًا لِإِبْدَاءِ الْمُخَصِّصِ يَعْنِي أَنَّ الْعُمُومَ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَكِنَّ هُنَا مَعْنًى يُخَصِّصُهُ

ص: 352

الْمُؤْنَةِ، إذْ جِهَةُ الْمُؤْنَةِ رَاجِحَةٌ عِنْدَهُ، وَلَا تَدْخُلُ أَرْضُ الْخَرَاجِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَتَمَحَّضُ مُؤْنَةً.

وَلَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ فَقَدْ قِيلَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَالٍ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ لَفْظِ الْمَالِ. وَالْمُقَيَّدُ إيجَابُ الشَّرْعِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِلَفْظِ الْمَالِ فَلَا مُخَصِّصَ فِي لَفْظِ الْمِلْكِ فَبَقِيَ عَلَى الْعُمُومِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ بِاللَّفْظَيْنِ الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ عَلَى مَا مَرَّ،

وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ إرْسَالِ لَفْظٍ عَامٍّ بِالْخُرُوجِ عَنْ كُلِّ مَالِهِ مَعَ قِيَامِ حَاجَتِهِ الْمُسْتَمِرَّةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ عَدَمُ كَوْنِهِ عَلَى وَجْهٍ يَدْخُلُ الضَّرَرُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، فَكَانَ ظَاهِرًا فِي إرَادَةِ الْخُصُوصِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ لُزُومِ الْمَعْصِيَةِ بِتَقْدِيرِ اعْتِبَارِ عُمُومٍ هُوَ أَيْضًا مِنْ إبْدَاءِ الْمُخَصِّصِ، وَهَذَا مِنْ أَفْرَادِ تَرْكِ الْحَقِيقَةِ بِدَلَالَةٍ.

وَهَلْ تَدْخُلُ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ فَيَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ نَعَمْ لِأَنَّ جِهَةَ الصَّدَقَةِ غَالِبَةٌ فِي الْعُشْرِ.

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا، لِأَنَّ جِهَةَ الْمُؤْنَةِ غَالِبَةٌ عِنْدَهُ، وَلَا تَدْخُلُ الْخَرَاجِيَّةُ اتِّفَاقًا لِتَمَحُّضِ الْخَرَاجِ مُؤْنَةً وَلِذَا وَجَبَ فِي أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْوَقْفِ (وَلَوْ) كَانَ (قَالَ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةً قِيلَ يَجِبُ الْكُلُّ) لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ فِي الشَّرْعِ الْمَذْكُورُ بِلَفْظِ الْمَالِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ بِاللَّفْظَيْنِ الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ) وَهَذَا يُؤْذِنُك بِقَصْدِهِمْ إلَى التَّخْصِيصِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ، وَكَانَ مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ فِي اللَّفْظَيْنِ أَنْ يَثْبُتَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ جَمِيعَ مَالِي أَوْ جَمِيعَ مِلْكِي، إلَّا أَنَّ الطَّحَاوِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَجِبُ الْكُلُّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ بِهِ فَقَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ جَمِيعَ مَالِي حَيْثُ يَجِبُ الْكُلُّ بِلَا إشْكَالٍ لِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ لِمَنْعِ النَّفْسِ عَنْ الْمَذْكُورِ بِالْتِزَامِ مَا يَكْرَهُهُ عَلَى تَقْدِيرِهِ فَانْفَتَحَ بَابُ إرَادَةِ الْعُمُومِ، إلَّا أَنَّ هَذَا عَلَى جَعْلِ الْمُخَصِّصِ الْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ، وَأَمَّا عَلَى جَعْلِهِ لُزُومَ الْمَعْصِيَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَخُصَّ أَيْضًا فَكَانَ تَعْوِيلُهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا مَرَّ) يُرِيدُ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ هَذَا.

ص: 353

(ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى مَا دَخَلَ تَحْتَ الْإِيجَابِ يُمْسِكُ مِنْ ذَلِكَ قُوتَهُ، ثُمَّ إذَا أَصَابَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِ مَا أَمْسَكَ) لِأَنَّ حَاجَتَهُ هَذِهِ مُقَدَّمَةٌ وَلَمْ يُقَدِّرْ مُحَمَّدٌ بِشَيْءٍ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ.

وَقِيلَ الْمُحْتَرِفُ يُمْسِكُ قُوتَهُ لِيَوْمٍ وَصَاحِبُ الْغَلَّةِ لِشَهْرٍ وَصَاحِبُ الضِّيَاعِ لِسَنَةٍ عَلَى حَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي مُدَّةِ وُصُولِهِمْ إلَى الْمَالِ، وَعَلَى هَذَا صَاحِبُ التِّجَارَةِ يُمْسِكُ بِقَدْرِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مَالُهُ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْوَصِيَّةَ حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ) فَهُوَ وَصِيٌّ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَكِيلِ حَتَّى يَعْلَمَ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا لِأَنَّ الْوِصَايَةَ إنَابَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَتُعْتَبَرُ بِالْإِنَابَةِ قَبْلَهُ وَهِيَ الْوَكَالَةُ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ لِإِضَافَتِهَا

ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ إلَّا مَا دَخَلَ تَحْتَ الْإِيجَابِ) يَعْنِي مَالَ الزَّكَاةِ عَلَى بُعْدِ ذَلِكَ (يُمْسِكُ مِنْهُ قُوتَهُ) وَيَتَصَدَّقُ بِمَا سِوَاهُ (وَإِذَا اسْتَفَادَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِقَدْرِ مَا أَمْسَكَ وَلَمْ يُقَدِّرْ مُحَمَّدٌ) مِقْدَارًا فِي أَصْلِ الْمَبْسُوطِ (لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ) مِنْ قِلَّةِ الْعِيَالِ أَوْ كَثْرَتِهِمْ وَالرَّخَاءِ وَالْغَلَاءِ فَيَخْتَلِفُ الِاعْتِبَارُ (وَقِيلَ الْمُحْتَرِفُ يُمْسِكُ لِيَوْمٍ) لِأَنَّهُ يَكْتَسِبُ يَوْمًا فَيَوْمًا (وَصَاحِبُ الْغَلَّةِ) وَهُوَ مَنْ لَهُ حَوَانِيتُ أَوْ دُورٌ يَجْبِيهَا يُمْسِكُ (شَهْرًا) لِأَنَّ يَدَهُ تَصِلُ إلَى نَفَقَتِهِ بَعْدَ شَهْرٍ (وَصَاحِبُ الضِّيَاعِ لِسَنَةٍ) لِأَنَّ غَلَّتَهَا كَذَلِكَ، وَأَمَّا فِي عُرْفِ دِيَارِنَا فَبَعْضُهُمْ كَذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يُؤَجِّرُهَا بِدَرَاهِمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَاطٍ كُلُّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ قِسْطٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَ إلَى تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ (وَعَلَى هَذَا فَصَاحِبُ التِّجَارَةِ يُمْسِكُ بِقَدْرِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مَالُهُ).

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوَصِيَّةِ حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَهُوَ وَصِيٌّ) بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إذَا بَاعَ ثُمَّ عَلِمَ بِالْوَكِيلِ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا حَتَّى يَعْلَمَ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْوِصَايَةَ إنَابَةٌ) أَيْ اسْتِنَابَةٌ وَالْمَعْرُوفُ مِنْ اللُّغَةِ فِي الْإِنَابَةِ إنَّمَا هُوَ مَعْنَى الرُّجُوعِ وَالْإِقْلَاعِ مِنْ أَنَابَ إلَى اللَّهِ.

وَاسْتَدَلَّ فِي النِّهَايَةِ أَنَّهَا بِمَعْنَى الِاسْتِنَابَةِ بِاسْتِعْمَالِ الزَّمَخْشَرِيِّ لَهَا كَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرُّومِ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ نَفْسُهُ يَفْعَلُ كَذَلِكَ فَيُنَزِّلُ عِلْمَ الْمُتَكَلِّمِ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ فَرُبَّمَا يَسْتَشْهِدُ بِبَيْتٍ لِأَبِي تَمَّامٍ وَأَبِي الطَّيِّبِ (وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) بَيْنَ الْوِصَايَةِ وَالتَّوْكِيلِ (أَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافٌ) فِي التَّصَرُّفِ عَنْ الْمَيِّتِ كَالْوِرَاثَةِ فَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَالْوَكَالَةِ (لِإِضَافَتِهَا) إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَتَصَرَّفُ كَتَصَرُّفِ الْوَارِثِ، وَلِذَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا ثُمَّ ظَهَرَ مَوْتُ الْمُوَرِّثِ ظَهَرَ نَفَاذُهُ حِينَ صَدَرَ

ص: 354

إلَى زَمَانِ بُطْلَانِ الْإِنَابَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي تَصَرُّفِ الْوَارِثِ.

أَمَّا الْوَكَالَةُ فَإِنَابَةٌ لِقِيَامِ وِلَايَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ لَا يَفُوتُ النَّظَرُ لِقُدْرَةِ الْمُوَكَّلِ، وَفِي الْأَوَّلِ يَفُوتُ لِعَجْزِ الْمُوصِي (وَمَنْ أَعْلَمَهُ مِنْ النَّاسِ بِالْوَكَالَةِ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ) لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ لَا إلْزَامُ أَمْرٍ.

قُلْ (وَلَا يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: هُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَبِالْوَاحِدِ فِيهَا كِفَايَةٌ.

وَالْوِصَايَةُ اسْتِخْلَافُ مُضَافٍ (إلَى) مَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْضًا وَهُوَ (زَمَانُ بُطْلَانِ الْإِنَابَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ) كَالْوِرَاثَةِ (لِقِيَامِ وِلَايَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ) وَلِهَذَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِالْمَوْتِ، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ (وَهَذَا لِأَنَّهُ) إذَا وَقَفْنَاهُ عَلَى الْعِلْمِ (لَا يَفُوتُ النَّظَرُ) لِقِيَامِ وِلَايَةِ الْمُوَكَّلِ وَقُدْرَتِهِ (وَفِي الْأَوَّلِ يَفُوتُ لِعَجْزِ الْمُوصِي) بِالْمَوْتِ، وَهَذَا إذَا ثَبَتَتْ الْوَكَالَةُ قَصْدًا، أَمَّا إذَا ثَبَتَتْ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ يَبِيعُك أَوْ لِامْرَأَتِهِ اذْهَبِي إلَى فُلَانٍ يُطَلِّقُك أَوْ اذْهَبْ بِعَبْدِي إلَى فُلَانٍ فَيَبِيعَهُ مِنْك فَذَهَبَ كَمَا أَخْبَرَهُ فَفَعَلَ.

ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَكَانَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي إحْدَاهُمَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَفِي أُخْرَى لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ.

وَذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ مَا يُوَافِقُ الْأَوَّلَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِلنَّاسِ بَايِعُوا عَبْدِي فَإِنِّي أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايَعُوهُ جَازَ مَعَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لِلْعَبْدِ بِالْإِذْنِ، وَإِذَا تَوَقَّفَتْ الْوَكَالَةُ عَلَى الْعِلْمِ فَلْنَذْكُرْ بِمَاذَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ الْمُثْبِتُ لِلْوَكَالَةِ فَقَالَ (كُلُّ مَنْ أَعْلَمَهُ بِالْوَكَالَةِ جَازَ بِهِ تَصَرُّفُهُ) بِشَرْطِ كَوْنِهِ مُمَيِّزًا رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً فَاسِقًا كَانَ أَوْ عَدْلًا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ لَا تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَصْلًا لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ عَقْدًا كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ وَ (لِأَنَّهُ) تَسْلِيطٌ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ قُلْنَا (إنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ) هُوَ حَقُّ أَنْ يَتَصَرَّفَ (لَا إلْزَامُ أَمْرٍ) فَإِنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ وَكَانَ كَقَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهَا عَلَى يَدِهِ، وَهُوَ مَحَلُّ الْإِجْمَاعِ وَالنَّصِّ، فَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُهَا مِنْ الْعَبْدِ وَالتَّقِيِّ وَيَشْتَرِي مِنْ الْكَافِرِ (أَمَّا الْعَزْلُ عَنْ الْوَكَالَةِ فَعِنْدَهُمَا هُوَ وَالْإِخْبَارُ بِهَا سَوَاءٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَثْبُتُ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدُ عَدْلٍ أَوْ شَاهِدَانِ) أَيْ مُخْبِرَانِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عَدَلَا أَوْ لَمْ يَعْدِلَا (وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَبِالْوَاحِدِ فِيهَا كِفَايَةٌ) وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَدَالَةِ الْمُخْبِرِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وَزَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَعْنَى إطْلَاقِ الْكِتَابِ أَنْ لَا يُعْلَمَ

ص: 355

وَلَهُ أَنَّهُ خَبَرٌ مُلْزِمٌ فَيَكُونُ شَهَادَةً مِنْ وَجْهٍ فَيُشْتَرَطُ أَحَدُ شَطْرَيْهَا وَهُوَ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَبِخِلَافِ رَسُولِ الْمُوَكَّلِ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِرْسَالِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أُخْبِرَ الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ

حَالُهُمَا إلَّا أَنْ يَعْلَمَهُمَا بِالْفِسْقِ.

وَقِيلَ بَلْ هُوَ عَلَى إطْلَاقِهِ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعَدَدِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْعَدَالَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِوَاحِدٍ عَدْلٍ لَا يَنْفُذُ وَبِفَاسِقَيْنِ يَنْفُذُ فَبِطَرِيقٍ أَوْلَى يَثْبُتُ بِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ (وَهَذَا لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُلْزِمٌ) أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ الْوَكِيلُ مِنْ التَّصَرُّفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

وَمَا قِيلَ مُلْزِمٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ بِنَاءً عَلَى مُجَرَّدِ اصْطِلَاحِ أَنْ يُرَادَ بِالْمُلْزِمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا كَانَ إلْزَامًا عَلَى خَصْمٍ مُنْكِرٍ بِشَرْطِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْإِلْزَامُ كَذَلِكَ كَانَ إلْزَامًا فِيهِ قُصُورٌ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لَوْ تَصَرَّفَ بِنَاءً عَلَى الْإِلْزَامِ مِنْ وَجْهٍ، ثُمَّ يَكْفِي لِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدَالَةِ كَوْنُهُ مُلْزِمًا مِنْ وَجْهٍ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ الْإِعْلَامِ بِالْوَكَالَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلْزَامٌ أَصْلًا لَمْ يَلْزَمْ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُخْبِرَ بِالْعَزْلِ لَوْ كَانَ فَاسِقًا وَصَدَّقَهُ يَنْعَزِلُ.

(قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا إذَا أُخْبِرَ الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ إلَخْ) هَذِهِ سِتُّ مَسَائِلَ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ مِنْهَا ثَلَاثَةً فِي الْأَصْلِ وَاثْنَتَيْنِ فِي النَّوَادِرِ وَالسَّادِسَةُ قَاسَهَا مَشَايِخُنَا عَلَى هَذِهِ. أَمَّا الثَّلَاثُ فَإِحْدَاهَا عَزْلُ الْوَكِيلِ. وَالثَّانِيَةُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِالْحَجْرِ إنْ كَانَ رَسُولًا يَنْحَجِرُ فَاسِقًا كَانَ أَوْ عَدْلًا، وَإِنْ كَانَ فُضُولِيًّا يُشْتَرَطُ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ فَيَنْحَجِرُ صَدَّقَهُ الْعَبْدُ أَوْ كَذَّبَهُ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا إنْ صَدَّقَهُ انْحَجَرَ وَإِلَّا فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ. وَالثَّالِثَةُ الْعَبْدُ إذَا جَنَى جِنَايَةً وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمَوْلَى حَتَّى أَعْتَقَهُ

ص: 356

وَالشَّفِيعُ وَالْبِكْرُ وَالْمُسْلِمُ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا.

قَالَ (وَإِذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ عَبْدًا لِلْغُرَمَاءِ وَأَخَذَ الْمَالَ فَضَاعَ وَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ لَمْ يَضْمَنْ) لِأَنَّ أَمِينَ الْقَاضِي قَائِمٌ مَقَامَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي مَقَامَ الْإِمَامِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَلْحَقُهُ ضَمَانٌ كَيْ لَا يَتَقَاعَدُ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ فَيُضَيِّعُ الْحُقُوقَ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغُرَمَاءِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ وَاقِعٌ لَهُمْ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرُّجُوعِ عَلَى الْعَاقِدِ، كَمَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُبَاعُ بِطَلَبِهِمْ

أَوْ بَاعَهُ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِالْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فَاسِقًا، إنْ صَدَّقَهُ ثُمَّ بَاعَ أَوْ أُعْتِقَ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلدِّيَةِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلدِّيَةِ، وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لَهَا. وَأَمَّا اللَّتَانِ فِي النَّوَادِرِ فَإِحْدَاهُمَا الْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَخْبَرَهُ إنْسَانٌ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْفَرَائِضِ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا، أَوْ أَخْبَرَهُ اثْنَانِ لَزِمَتْهُ حَتَّى لَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فَإِنْ صَدَّقَهُ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَعَلَى الْخِلَافِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ هَاهُنَا اتِّفَاقًا لِأَنَّ الْمُخْبِرَ لَهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَفِيهِ نَظَرٌ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِتَحْرِيرِ الْأُصُولِ. وَالثَّانِيَةُ الشَّفِيعُ إذَا أُخْبِرَ بِالشِّرَاءِ فَسَكَتَ فَعَلَى مَا قُلْنَا إنْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ فَصَدَّقَهُ ثَبَتَ الشِّرَاءُ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَهِيَ عَلَى الْخِلَافِ، فَإِذَا سَكَتَ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا تَبْطُلُ.

وَالسَّادِسَةُ الْبِكْرُ إذَا زُوِّجَتْ بِلَا اسْتِئْذَانٍ فَأُخْبِرَتْ فَسَكَتَتْ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا بَاعَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ عَبْدًا لِلْغُرَمَاءِ) أَيْ لِأَجَلِهِمْ لِيُوفِيَ دُيُونَهُمْ الَّتِي كَانَتْ عَلَى الْمَيِّتِ (وَأَخَذَ الْمَالَ) أَيْ الثَّمَنَ (فَضَاعَ) عِنْدَهُ (ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ) أَوْ مَاتَ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي (لَمْ يَضْمَنْ) الْقَاضِي وَلَا أَمِينُهُ لِلْمُشْتَرِي شَيْئًا (لِأَنَّ أَمِينَ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي وَالْقَاضِي كَالْإِمَامِ وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَلْحَقُهُ ضَمَانٌ كَيْ لَا يَتَقَاعَدَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ، وَ) إذَا لَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ مِنْ هَؤُلَاءِ (يَرْجِعُ) بِالثَّمَنِ (عَلَى الْغُرَمَاءِ) أَوْ الْغَرِيمِ (لِأَنَّ الْبَيْعَ) وَالتَّصَرُّفَ (وَاقِعٌ لِأَجَلِهِمْ) فَتَرْجِعُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِمْ وَصَارَ (كَمَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ)

ص: 357

(وَإِنْ أَمَرَ الْقَاضِي الْوَصِيَّ بِبَيْعِهِ لِلْغُرَمَاءِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَضَاعَ الْمَالُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَصِيِّ) لِأَنَّهُ عَاقِدٌ نِيَابَةً عَنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ بِإِقَامَةِ الْقَاضِي عَنْهُ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ بِنَفْسِهِ.

قَالَ (وَرَجَعَ الْوَصِيُّ عَلَى الْغُرَمَاءِ) لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُمْ، وَإِنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ فِيهِ بِدَيْنِهِ. قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَرْجِعُ بِالْمِائَةِ الَّتِي غَرِمَهَا أَيْضًا لِأَنَّهُ لَحِقَهُ فِي أَمْرِ الْمَيِّتِ، وَالْوَارِثُ إذَا بِيعَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ كَانَ الْعَاقِدُ عَامِلًا لَهُ.

فَصْلٌ آخَرُ.

عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَكَّلَهُ رَجُلٌ بِبَيْعِ مَالِهِ جَازَ الْعَقْدُ بِمُبَاشَرَتِهِمَا، وَلَا تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِهِمَا بَلْ بِمُوَكَّلِهِمَا لِأَنَّ الْتِزَامَ الْعُهْدَةِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا لِقُصُورِ الْأَهْلِيَّةِ فِي الصَّبِيِّ وَحَقُّ السَّيِّدِ فِي الْعَبْدِ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ تَعَلُّقُ الْحُقُوقِ بِالْعَاقِدِ تَتَعَلَّقُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَى الْعَقْدِ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ فِي مَسْأَلَتِنَا مَنْ يَنْتَفِعُ بِهَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ الْغَرِيمُ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَأْمُرُ الْوَصِيَّ أَوْ أَمِينَهُ بِالْبَيْعِ حَتَّى يَطْلُبَ الْغَرِيمُ فَلِذَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ (وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ الْوَصِيَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ نِيَابَةً عَنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ بِإِقَامَةِ الْقَاضِي إيَّاهُ عَنْهُ ثُمَّ الْوَصِيُّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَرِيمِ) وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْوَصِيُّ الْعَبْدَ لِنَفَقَةِ الْوَارِثِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْوَصِيِّ وَالْوَصِيَّ يَرْجِعُ عَلَى الْوَارِثِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْبَيْعَ لِأَجَلِهِ وَهُوَ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، فَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ صَغِيرًا نَصَبَ الْقَاضِي عَنْهُ مَنْ يَقْضِي دَيْنَهُ (فَلَوْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ يَرْجِعُ الْغَرِيمُ فِيهِ بِدَيْنِهِ): بِلَا شَكٍّ وَهَلْ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (قَالُوا وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَرْجِعُ بِالْمِائَةِ الَّتِي غَرِمَهَا أَيْضًا) يُرِيدُ بِالْمِائَةِ مَا ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي فَرْضُهَا مِائَةٌ (لِأَنَّهُ لَحِقَهُ) ذَلِكَ (فِي أَمْرِ الْمَيِّتِ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ: أَعْنِي جَوَازَ أَنْ يُقَالَ: وَأَمَّا الْوَاقِعُ مِنْ الْقَوْلِ بِالرُّجُوعِ بِمَا ضَمِنَ فَفِيهِ خِلَافٌ. قِيلَ نَعَمْ، وَقَالَ مَجْدُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: لَا يَأْخُذُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ لِأَنَّ الْغَرِيمَ إنَّمَا ضَمِنَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى غَيْرِهِ. وَفِي الْكَافِي: الْأَصَحُّ الرُّجُوعُ لِأَنَّهُ قَضَى ذَلِكَ وَهُوَ مُضْطَرٌّ فِيهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّصْحِيحِ كَمَا سَمِعْت.

(فَصْلٌ آخَرُ)

ص: 358

فَصْلٌ

(وَإِذَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَضَيْت عَلَى هَذَا بِالرَّجْمِ فَارْجُمْهُ أَوْ بِالْقَطْعِ فَاقْطَعْهُ أَوْ بِالضَّرْبِ فَاضْرِبْهُ وَسِعَك أَنْ تَفْعَلَ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا وَقَالَ: لَا تَأْخُذْ بِقَوْلِهِ حَتَّى تُعَايِنَ الْحُجَّةَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ وَالْخَطَأَ وَالتَّدَارُكُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُقْبَلُ كِتَابُهُ. وَاسْتَحْسَنَ الْمَشَايِخُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لِفَسَادِ حَالِ أَكْثَرِ الْقُضَاةِ فِي زَمَانِنَا إلَّا فِي كِتَابِ الْقَاضِي لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ.

وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أُخْبِرَ عَنْ أَمْرٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيُقْبَلُ لِخُلُوِّهِ عَنْ التُّهْمَةِ، وَلِأَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ وَاجِبَةٌ، وَفِي تَصْدِيقِهِ طَاعَةٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ رحمه الله: إنْ كَانَ عَدْلًا عَالِمًا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِانْعِدَامِ تُهْمَةِ الْخَطَإِ وَالْخِيَانَةِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَاهِلًا يُسْتَفْسَرُ، فَإِنْ أَحْسَنَ التَّفْسِيرَ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَاسِقًا أَوْ عَالِمًا فَاسِقًا لَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يُعَايِنَ سَبَبَ الْحُكْمِ لِتُهْمَةِ الْخَطَإِ وَالْخِيَانَةِ.

لَمَّا كَانَتْ مَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ تَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي بِانْفِرَادِهِ هَلْ يُقْبَلُ مُوَلًّى وَمَعْزُولًا أَخَّرَهُ (قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَ الْقَاضِي قَدْ قَضَيْت عَلَى هَذَا بِالرَّجْمِ فَارْجُمْهُ أَوْ بِالْقَطْعِ فَاقْطَعْهُ أَوْ بِالضَّرْبِ فَاضْرِبْهُ وَسِعَك أَنْ تَفْعَلَ) بِمُجَرَّدِ إخْبَارِهِ هَذَا (وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا وَقَالَ لَا تَأْخُذْ بِقَوْلِهِ حَتَّى تُعَايِنَ الْحُجَّةَ) الَّتِي عَنْهَا حَكَمَ فِيهِ بِذَلِكَ. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ بِحَضْرَتِهِ، وَزَادَ جَمَاعَةٌ عَلَى هَذَا فَقَالُوا: أَوْ يَشْهَدُ مَعَ الْقَاضِي شَاهِدٌ عَدْلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَشْهَدُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الْقَاضِي وَالْعَدْلُ عَلَى شَهَادَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِسَبَبِ الْحَدِّ لَا عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي، وَإِلَّا كَانَ الْقَاضِي شَاهِدًا عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ هُنَا مَنْ يَشْهَدُ عِنْدَهُ إلَّا الْمَأْمُورُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْعَادَةِ: أَعْنِي أَنْ يَشْهَدَ الْقَاضِي عِنْدَ الْجَلَّادِ بِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَيُؤَدِّي الْآخَرُ عِنْدَهُ، وَلِذَا اقْتَصَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى مُعَايَنَةِ حُضُورِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْمَأْمُورِ وَهَذَا (لِأَنَّ الْغَلَطَ وَالْخَطَأَ فِي الْحُكْمِ مُحْتَمَلٌ) لِأَنَّ الْقَطْعَ بِنَفْيِهِمَا لَيْسَ إلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَعَلَى هَذَا لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي) لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِيهِ عَلَى خَبَرِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ بِمُفْرَدِهِ (وَاسْتَحْسَنَ الْمَشَايِخُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِفَسَادِ حَالِ أَكْثَرِ الْقُضَاةِ إلَّا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي) لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةَ إحْيَاءِ الْحُقُوقِ، وَلَمَّا كَانَ عَدَمُ الِاعْتِمَادِ مُعَلَّلًا بِالْفَسَادِ وَالْغَلَطِ اقْتَضَى الْحَالُ التَّفْصِيلَ فِي التَّوَقُّفِ لَا إطْلَاقَهُ (فَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنْ كَانَ الْقَاضِي عَدْلًا عَالِمًا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ) فِي الدِّينِ بِالْعَدَالَةِ وَالْخَطَإِ فِي الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ (وَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَاهِلًا اُسْتُفْسِرَ، فَإِنْ أَحْسَنَ) فِي بَيَانِ سَبَبِ حُكْمِهِ وَشُرُوطِهِ (وَجَبَ تَصْدِيقُهُ) لِلْعَدَالَةِ وَتَرَكَ الْمُصَنِّفُ قِسْمَيْنِ آخَرَيْنِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ فَاسِقًا عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا، فَإِنَّ الْفِسْقَ مَانِعٌ مِنْ الرُّكُونِ لِإِخْبَارِهِ بِالِاسْتِفْسَارِ، وَحُكْمُهُ بِقَصْدِ الْمُخَالَفَةِ فَلَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ وَلَا بِتَفْسِيرِهِ (وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ أُخْبِرَ عَنْ أَمْرٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ) فِي الْحَالِ (فَيُقْبَلُ لِخُلُوِّهِ عَنْ التُّهْمَةِ) لِأَنَّ التُّهْمَةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي إخْبَارٍ بِأَمْرٍ لَا يُمْكِنُ إنْشَاؤُهُ

ص: 359

قَالَ (وَإِذَا عُزِلَ الْقَاضِي فَقَالَ لِرَجُلٍ أَخَذْتُ مِنْك أَلْفًا وَدَفَعْتهَا إلَى فُلَانٍ قَضَيْتُ بِمَا عَلَيْك فَقَالَ الرَّجُلُ أَخَذْتَهَا ظُلْمًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي، وَكَذَا لَوْ قَالَ قَضَيْت بِقَطْعِ يَدِك فِي حَقٍّ، هَذَا إذَا كَانَ الَّذِي قُطِعَتْ يَدُهُ وَاَلَّذِي أُخِذَ مِنْهُ الْمَالُ مُقِرَّيْنِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ قَاضٍ) وَوَجْهُهُ أَنَّهُمَا لَمَّا تَوَافَقَا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي قَضَائِهِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ.

فِي الْحَالِ فَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ، أَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُقْدَرُ عَلَى إنْشَائِهِ فِي الْحَالِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَنْشَأَهُ فِي الْحَالِ بِمُعَايَنَةِ الْحَاضِرِينَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الَّذِي يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ لَيْسَ إلَّا الْحُكْمَ وَهُوَ لَا يُفِيدُ، فَإِنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَانِعَ قَائِمٌ إذَا عَايَنَ الْحُكْمَ وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ الشَّهَادَةَ وَالشُّرُوطَ، وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ بِحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَقُلْ الْحُكْمَ فَلَا يُفِيدُ هَذَا الْوَجْهُ شَيْئًا. وَلَمَّا زَادَ مَنْ زَادَ عَلَى مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ قَوْلَهُمْ أَوْ يَشْهَدُ مَعَ الْقَاضِي عَدْلٌ عَلَى ذَلِكَ احْتَاجُوا أَنْ يَزِيدُوا وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يُنْصَبَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ قَاضٍ وَاحِدٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْقَاضِي بِانْفِرَادِهِ حُجَّةً فِي الْإِلْزَامِ لَقُلِّدَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ قَاضِيَانِ، وَأَنْتَ سَمِعْت مَا قَدَّمْنَاهُ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَعَلِمْت أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْعِلْمِ بِسَبَبِ الْقَضَاءِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْمَأْمُورِ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ وُقُوعَ السَّبَبِ أَوْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي الْآمِرِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ عَلَى الْوَجْهِ الْفُلَانِيِّ وَيَشْهَدُوا تَوَفُّرَ الشُّرُوطِ، وَهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَكْثِيرِ الْقُضَاةِ بَلْ عَلَى وُجُودِ الشُّهُودِ قُضَاةً كَانُوا أَوْ لَا، فَلَا يَلْزَمُ لِذَلِكَ تَكْثِيرُهُمْ، فَالْمُلَازَمَةُ بَيْنَ عَدَمِ قَبُولِ خَبَرِهِ بِانْفِرَادِهِ وَتَكْثِيرِ الْقُضَاةِ مَمْنُوعَةٌ

(قَوْلُهُ وَإِذَا عُزِلَ الْقَاضِي فَقَالَ لِرَجُلٍ إلَخْ) صُورَتُهَا عُزِلَ الْقَاضِي فَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَلْفًا بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ قَطَعَ يَدَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَالَ قَضَيْت بِهَا عَلَيْك لِفُلَانٍ وَدَفَعْتهَا إلَيْهِ وَقَضَيْت بِقَطْعِك فِي حَقٍّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي، وَلَمْ يُحْكَ فِي هَذَا جَرَيَانُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِأَنَّ هَذَا فِي أَمْرٍ فَاتَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ لِلْقَاضِي، وَإِلَّا امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُولِ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَزْلِ خُصُومَاتٌ فِي أَنْفُسٍ وَأَمْوَالٍ لَا تُحْصَرُ حِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْقَوْلِ لَهُ فِي هَذَا، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ بَعْدُ لَمْ يَقَعْ فَكَانَ إعْمَالُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ مُفِيدًا، نَعَمْ كَوْنُ الْقَوْلِ لَهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي مُقِرًّا بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ قَاضٍ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَوَافَقَا

ص: 360

إذْ الْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالْجَوْرِ ظَاهِرًا (وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْقَاضِي.

(وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ وَالْآخِذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ أَيْضًا) لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَالِ الْقَضَاءِ وَدَفْعُ الْقَاضِي صَحِيحٌ كَمَا إذَا كَانَ مُعَايِنًا (وَلَوْ زَعَمَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ أَوْ الْمَأْخُوذُ مَالُهُ أَنَّهُ فَعَلَ قَبْلَ التَّقْلِيدِ

عَلَى ذَلِكَ صَارَ كَأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى جَرَتْ وَهُوَ قَاضٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا (وَ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ (لَا يَقْضِي بِالْجَوْرِ ثُمَّ لَا يَمِينَ) عَلَى الْمَعْزُولِ (لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ) وَهُوَ (فِي) حَالِ (قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ، وَ) لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ فِي حَالِ قَضَائِهِ بِذَلِكَ (لَا يَمِينَ عَلَيْهِ) فَكَذَا بَعْدَهُ (وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ) الْمَأْمُورُ (أَوْ الْآخِذُ) لِلْمَالِ بِأَمْرِ الْقَاضِي (بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي) وَهُوَ أَنَّ الْقَطْعَ مِنْهُ وَالْأَخْذَ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْأَخْذِ وَأَمْرِهِ بِالدَّفْعِ (لَا يَضْمَنُ أَيْضًا) كَالْقَاضِي لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي حَالِ قَضَائِهِ، وَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ دَفَعَ الْقَاضِي الْمَالَ إلَى الْآخِذِ مُعَايِنًا لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ فِي حَالِ قَضَائِهِ وَيَصِيرُ الْقَطْعُ بِإِقْرَارِ الْمَقْطُوعِ أَنَّهُ قَطَعَهُ فِي حَالِ قَضَائِهِ كَالْمُعَايِنِ لِلْحَاكِمِ الَّذِي رَفَعَ إلَيْهِ الْمَقْطُوعُ وَاقِعَتَهُ (فَ) أَمَّا (لَوْ زَعَمَ الْمَقْطُوعُ وَالْمَأْخُوذُ مَالَهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ التَّقْلِيدِ) أَوْ بَعْدَهُ وَالْقَاضِي يَقُولُ بَلْ فَعَلْته فِي حَالِ قَضَائِي فَفِيهِ

ص: 361

أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ فَالْقَوْلُ لِلْقَاضِي أَيْضًا) هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ فِعْلَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ طَلَّقْت أَوْ أَعْتَقْت وَأَنَا مَجْنُونٌ وَالْجُنُونُ مِنْهُ كَانَ مَعْهُودًا

خِلَافٌ (وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْلَ أَيْضًا لِلْقَاضِي، لِأَنَّهُ) أَيْ الْقَاضِي (أَضَافَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا) اتَّفَقَا عَلَى الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.

وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ كَانَ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ عَقْلِكَ وَ (قَالَ) بَلْ (وَأَنَا مَجْنُونٌ وَكَانَ جُنُونُهُ مَعْهُودًا) فَالْقَوْلُ لَهُ وَكَمَا لَوْ قَالَ أَقْرَرْت لَكَ وَأَنَا ذَاهِبُ الْعَقْلِ مِنْ بِرْسَامٍ وَهُوَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ بِهِ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ عَمَّا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِهِ لِلْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنَّ الْقَوْلَ لِلْمُدَّعِي لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَادِثٌ فَيُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا يَخُصُّ مَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بَعْدَ الْعَزْلِ خَاصَّةً، وَكَذَا أَفْرَضَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ: فَأَمَّا إذَا زَعَمَ: أَيْ الْمُدَّعِي أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَزْلِ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَادِثٌ إلَخْ. قَالَ: وَمَنْ ادَّعَى فِيهِ تَارِيخًا سَابِقًا لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَالتَّصْحِيحُ يَخُصُّ مَا إذَا كَانَتْ دَعْوَاهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ بَعْدَ الْعَزْلِ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي تَعْلِيلِهِ مَا يَعُمُّ كَوْنَ الْقَوْلِ لِلْقَاضِي فَإِنَّهُ قَالَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمُنَازَعَةَ مَتَى وَقَعَتْ فِي الْحَالَةِ الْمَاضِيَةِ يُحَكَّمُ الْحَالُ كَمَسْأَلَةِ الطَّاحُونَةِ، وَفِي الْحَالِ فِعْلُهُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ يَدَّعِي سُقُوطَهُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ حَيْثُ تَصَادَقَا أَنَّهُ فَعَلَهُ وَهُوَ قَاضٍ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ، وَلَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ شُرُوحِ الْجَامِعِ أَنَّ الْقَوْلَ لِلْقَاضِي وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرِ الشَّهِيدِ، لِأَنَّهُ بِالْإِسْنَادِ إلَى الْحَالَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلضَّمَانِ مُنْكِرٌ لِلضَّمَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ بَعْدَ الْعَزْلِ بِعْت وَسَلَّمْت قَبْلَ الْعَزْلِ فَقَالَ الْمُوَكِّلُ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ لِلْوَكِيلِ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُسْتَهْلَكًا وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيَصِيرُ مُدَّعِيًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْعِتْقِ لِرَجُلٍ قَطَعْت يَدَك خَطَأً وَأَنَا عَبْدٌ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ وَأَنْتَ حُرٌّ فَالْقَوْلُ لِلْعَبْدِ وَلَا ضَمَانَ، وَكَذَا إذَا قَالَ أَخَذْت مِنِّي كُلَّ شَهْرٍ كَذَا مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَقَالَ السَّيِّدُ قَبْلَهُ فَالْقَوْلُ لِلسَّيِّدِ إنْ كَانَتْ الْغَلَّةُ هَالِكَةً، وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَالْقَوْلُ لِلْعَبْدِ، وَيَأْخُذُهُ مِنْ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ ثُمَّ بِالْإِضَافَةِ يُرِيدُ التَّمَلُّكَ عَلَيْهِ فَكَانَ مُدَّعِيًا، وَكَذَا الْوَصِيُّ لَوْ ادَّعَى بَعْدَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ كَذَا وَهُوَ فِي يَدِهِ وَادَّعَى الْيَتِيمُ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ، ذَكَرَهُ الْمَحْبُوبِيُّ.

وَاسْتُشْكِلَ بِمَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ فِيمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ قَالَ لَهَا قَطَعْت يَدَك وَأَنْتِ أَمَتِي فَقَالَتْ بَلْ وَأَنَا حُرَّةٌ فَالْقَوْلُ لَهَا، وَكَذَا كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَعَ أَنَّهُ مُنْكِرٌ بِإِسْنَادِهِ إلَى الْحَالَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلضَّمَانِ، وَلَوْ قُلْت أَقَرَّ هُنَاكَ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْقَطْعُ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ فَلَا يُسْمَعُ فَهَاهُنَا أَيْضًا أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ إقْرَارُهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِشَيْءٍ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ بِذَهَابِ الْعَقْلِ، وَكَذَا الْقَاضِي إذَا أَقَرَّ بَعْدَ الْعَزْلِ بِالْأَخْذِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ بِالْإِسْنَادِ وَكَذَا الْوَصِيُّ. أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الْمَوْلَى أَقَرَّ بِأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ وَادَّعَى جِهَةَ التَّمَلُّكِ لِنَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ فِي الْإِقْرَارِ لَا فِي جِهَةِ التَّمَلُّكِ، كَمَا لَوْ قَالَ أَخَذْت مِنْك أَلْفًا هِيَ دَيْنِي عَلَيْك أَوْ الْهِبَةُ الَّتِي وَهَبْتهَا وَأَنْكَرَ الْآخَرُ كَانَ الْقَوْلُ لِلْآخَرِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَكَلْت طَعَامَك بِإِذْنِك وَقَالَ: بِغَيْرِ إذْنِي فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ، بِخِلَافِ الْقَاضِي وَالْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ لِأَنَّهُمْ مَا ادَّعَوْا جِهَةَ التَّمَلُّكِ لِأَنْفُسِهِمْ، وَكَذَا فِي دَعْوَى الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَا ادَّعَوْا التَّمَلُّكَ لِأَنْفُسِهِمْ لِمَا هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ فَكَانَ الْقَوْلُ

ص: 362

(وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ أَوْ الْآخِذُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي بِضَمَانٍ) لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَقَوْلُ الْقَاضِي مَقْبُولٌ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ لَا فِي إبْطَالِ سَبَبِ الضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِعْلُهُ فِي قَضَائِهِ بِالتَّصَادُقِ (وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْآخِذِ قَائِمًا وَقَدْ أَقَرَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاضِي وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْمَالُ صُدِّقَ الْقَاضِي فِي أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي قَضَائِهِ أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ قَضَائِهِ يُؤْخَذُ مِنْهُ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لَهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى تَمَلُّكِهِ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَقَوْلُ الْمَعْزُولِ فِيهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.

قَوْلَهُمْ فِي إضَافَتِهِمْ إلَى الْحَالَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُنَافِيَةِ (قَوْلُهُ وَلَوْ أَقَرَّ الْقَاطِعُ أَوْ الْآخِذُ فِي هَذَا الْفَصْلِ) وَهُوَ فَصْلُ زَعْمٍ لِمَأْخُوذٍ مِنْهُ وَالْمَقْطُوعُ أَنَّ الْقَاضِيَ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّقْلِيدِ أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ فَأَقَرَّ الْقَاطِعُ وَالْقَابِضُ إنِّي فَعَلْت ذَلِكَ بِأَمْرِ الْقَاضِي وَهُوَ عَلَى قَضَائِهِ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ وَالْمَقْطُوعُ يَدَهُ يَقُولُ بَلْ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ (يَضْمَنَانِ) وَلَا يَضْمَنُ الْقَاضِي (لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِسَبَبِ الضَّمَانِ) وَهُوَ مُبَاشَرَتُهُمَا الْأَخْذَ وَالْقَطْعَ (وَقَبُولُ قَوْلِ الْقَاضِي) فِي ذَلِكَ (لِدَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ) بِسَبَبٍ يَخُصُّهُ وَهُوَ كَيْ لَا يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنْ قَبُولِهِ فَتَضِيعُ الْحُقُوقُ وَهِيَ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانُهُ عَنْ غَيْرِهِ لِعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ فِي ذَلِكَ السَّبَبِ. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْآخِذِ قَائِمًا) هَذَا قَيْدٌ فِيمَا يَلْزَمُ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الصُّورَتَيْنِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ لَازِمَ كَوْنِ الْقَوْلِ لِلْقَاضِي وَلِلْقَاطِعِ وَالْآخِذِ فِي صُورَةِ التَّصَادُقِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ فِي حَالَةِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ لَا رُجُوعَ بِالْمَالِ الْمَأْخُوذِ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ قَدْ حَكَمَ بِنَفَاذِ قَوْلِهِ فَأَفَادَ أَنَّ ذَلِكَ: أَعْنِي عَدَمَ الرُّجُوعِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ هَالِكًا، أَمَّا إذَا كَانَ قَائِمًا فَيُؤْخَذُ مِنْ الْقَابِضِ سَوَاءٌ صُدِّقَ

ص: 363

(كِتَابُ الشَّهَادَاتِ)

الْقَابِضُ فِي أَنَّهُ أَخَذَهُ فِي حَالِ قَضَائِهِ أَوْ كَذَّبَهُ وَقَالَ بَلْ قَبْلَ التَّقْلِيدِ أَوْ بَعْدَ الْعَزْلِ، عَلَّلَهُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فَقَالَ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ فَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ، قَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا أَقَرَّ بِالْأَخْذِ يَصِيرُ شَاهِدًا لِغَيْرِهِ بِالْكَلَامِ الثَّانِي، وَإِقْرَارُهُ بِالْأَخْذِ صَحِيحٌ وَشَهَادَتُهُ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ بَاطِلَةٌ، وَلِأَنَّ الْقَابِضَ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ حَيْثُ أَقَرَّ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ التَّمَلُّكَ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَقَوْلُ الْمَعْزُولِ لَيْسَ بِبَيِّنَةٍ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَاهِدًا بِالدَّيْنِ بَلْ بِفِعْلِ نَفْسِهِ الْمُنَافِي لِلضَّمَانِ.

(كِتَابُ الشَّهَادَاتِ)

يَتَبَادَرُ أَنَّ تَقْدِيمَهَا عَلَى الْقَضَاءِ أَوْلَى لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا، إذْ كَانَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بِهَا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَضَاءُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الشَّهَادَةِ قَدَّمَهُ تَقْدِمَةً لِلْمَقْصُودِ عَلَى الْوَسِيلَةِ. وَالشَّهَادَةُ لُغَةً، إخْبَارٌ قَاطِعٌ، وَفِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ إخْبَارُ صِدْقٍ لِإِثْبَاتِ حَقٍّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَتَخْرُجُ شَهَادَةُ الزُّورِ فَلَيْسَتْ شَهَادَةً.

وَقَوْلُ الْقَائِلِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَشْهَدُ بِرُؤْيَةِ كَذَا لِبَعْضِ الْعُرْفِيَّاتِ. وَسَبَبُ وُجُوبِهَا طَلَبُ ذِي الْحَقِّ أَوْ خَوْفُ فَوْتِ حَقِّهِ، فَإِنَّ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لَا يَعْلَمُ بِهَا صَاحِبُ الْحَقِّ وَخَافَ فَوْتَ الْحَقِّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ بِلَا طَلَبٍ. وَشَرْطُهَا الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْوِلَايَةُ، فَخَرَجَ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ الْإِسْلَامُ لِأَنَّ الدِّينَ أَصْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ. وَرُكْنُهَا اللَّفْظُ الْخَاصُّ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقٌ لِلْإِخْبَارِ. وَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْحُكْمِ عَلَى الْقَاضِي وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا لَكِنَّهُ تُرِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وَنَظَائِرُهُ مِنْ الْكِتَابِ

ص: 364

(قَالَ: الشَّهَادَةُ فَرْضٌ تَلْزَمُ الشُّهُودَ وَلَا يَسَعُهُمْ كِتْمَانُهَا إذَا طَالَبَهُمْ الْمُدَّعِي) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}

وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ، وَسَبَبِيَّةُ الطَّلَبِ ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وَسَبَبِيَّةُ خَوْفِ الْفَوْتِ بِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ سَبَبِيَّةَ الطَّلَبِ إنَّمَا ثَبَتَتْ كَيْ لَا يَفُوتَ الْحَقُّ (قَوْلُهُ الشَّهَادَةُ فَرْضٌ) يَعْنِي أَدَاءَهَا بَعْدَ التَّحَمُّلِ، فَإِنَّهَا تُقَالُ لِلتَّحَمُّلِ كَمَا يُقَالُ لِلْأَدَاءِ فِي الْعُرْفِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ الْمُتَكَلِّمِ مُسَوِّغًا لِلْإِطْلَاقِ فِي قَصْدِ التَّحَمُّلِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا عِنْدَ عُرْفِ أَهْلِ التَّكَلُّمِ وَافْتِرَاضُ الْأَدَاءِ إلَّا فِي الْحُدُودِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وقَوْله تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرَادَ النَّهْيُ عَنْ الْإِبَاءِ عَنْ التَّحَمُّلِ إذَا دُعِيَ إلَيْهِ، وَيَكُونُ اسْمُ الشُّهَدَاءِ مَجَازًا فِيمَنْ سَيَتَّصِفُ بِالشَّهَادَةِ فَيَكُونُ النَّهْيُ لِكَرَاهَةِ الْإِبَاءِ عَنْ التَّحَمُّلِ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَمَرْجِعُهَا خِلَافُ الْأَوْلَى لِأَنَّ التَّحَمُّلَ لِمَا فِيهِ مِنْ إعَانَةِ الْمُسْلِمِ

ص: 365

وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ طَلَبُ الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا حَقُّهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. .

عَلَى حِفْظِ حَقِّهِ أَوْلَى.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ نَهْيُ مُسَمَّى الشُّهَدَاءِ عَنْ الْإِبَاءِ، وَحَقِيقَةُ الشُّهَدَاءِ مَنْ اتَّصَفَ بِالشَّهَادَةِ فَيَكُونُ نَهْيُ مَنْ اتَّصَفَ بِالشَّهَادَةِ حَقِيقَةً عَنْ الْإِبَاءِ إذَا ادَّعَى، وَلَا اتِّصَافَ قَبْلَ الدُّعَاءِ إلَّا بِالتَّحَمُّلِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ النَّهْيِ عَنْ إبَاءِ الْأَدَاءِ وَهُوَ الرَّاجِحُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَالْأَدَاءُ الْمَفْرُوضُ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَقَدْ فَرَضَ سبحانه وتعالى عَلَى الْمُتَحَمِّلِ أَنْ يَذْهَبَ إذَا دُعِيَ إلَى الْحَاكِمِ لِلْأَدَاءِ.

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} وَهُوَ تَحْرِيمُ الْكِتْمَانِ عَنْ الْقَاضِي فَيَكُونُ الْإِظْهَارُ لِلْقَاضِي وَهُوَ الْأَدَاءُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ الضِّدُّ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ الِانْتِهَاءُ عَنْ الْمُحَرَّمِ الذِّشِي هُوَ الْكِتْمَانُ إلَّا بِهِ، ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ التَّحْرِيمَ الْمُفَادَ بِالنَّهْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وَهُوَ تَأْكِيدٌ فِي تَأْكِيدٍ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى فَإِنَّهُ آثِمٌ تَأْكِيدٌ، وَإِضَافَةُ الْإِثْمِ إلَى الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ وَرَئِيسُهَا تَأْكِيدٌ فِي تَأْكِيدٍ.

وَلِأَنَّهُ هُوَ مَحَلُّ الْكِتْمَانِ فَهُوَ مَحَلُّ الْمَعْصِيَةِ بِتَمَامِهَا هُنَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِمَعْصِيَةِ الْقَلْبِ وَهُوَ الْهَمُّ الْمُتَّصِلُ بِالْفِعْلِ فَلَيْسَ هُوَ مَحَلًّا لِتَمَامِهَا.

قَالُوا: يَلْزَمُ إذَا كَانَ مَجْلِسُ الْقَاضِي قَرِيبًا، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا. فَعَنْ نَصْرٍ: إنْ كَانَ بِحَالٍ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمِهِ يَجِبُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ شَيْخًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَأَرْكَبَهُ الطَّالِبُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ فِيمَنْ أَخْرَجَ الشُّهُودَ إلَى ضَيْعَةٍ فَاسْتَأْجَرَ لَهُمْ حَمِيرًا فَرَكِبُوهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهَا الْعَادَةُ وَهِيَ إكْرَامُ الشُّهُودِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَفَصَّلَ فِي النَّوَازِلِ بَيْنَ كَوْنِ الشَّاهِدِ شَيْخًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَلَا يَجِدُ مَا يَسْتَأْجِرُهُ دَابَّةً فَتُقْبَلُ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا تُقْبَلُ، وَلَوْ وَضَعَ لِلشُّهُودِ طَعَامًا فَأَكَلُوا إنْ كَانَ مُهَيَّأً قَبْلَ ذَلِكَ تُقْبَلُ، وَإِنْ صَنَعَهُ لِأَجْلِهِمْ لَا تُقْبَلُ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا تُقْبَلُ فِيهِمَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله: تُقْبَلُ فِيهِمَا، وَهُوَ الْأَوْجَهُ لِلْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بِإِطْعَامِ مَنْ حَلَّ مَحَلَّ الْإِنْسَانِ مِمَّنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ شَاهِدًا أَوْ لَا، وَيُؤْنِسُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِهْدَاءَ إذَا كَانَ بِلَا شَرْطٍ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ عِنْدَ الْأَمِيرِ يَجُوزُ كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْأَدَاءَ فَرْضٌ، بِخِلَافِ الذَّهَابِ إلَى الْأَمِيرِ. وَعِنْدَ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ فِيمَنْ لَا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي إنْ عَلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُهُ نَرْجُو أَنْ يَسَعَهُ أَنْ لَا يَشْهَدَ.

وَفِي الْعُيُونِ: إنْ كَانَ فِي الصَّكِّ جَمَاعَةٌ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَسِعَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْ كَانَ لَكِنَّ قَبُولَهَا مَعَ شَهَادَتِهِ أَسْرَعُ وَجَبَ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إذَا دُعِيَ فَأَخَّرَ بِلَا عُذْرٍ ظَاهِرٍ ثُمَّ أَدَّى لَا تُقْبَلُ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِيهِ إذْ يُمْكِنُ أَنَّ تَأْخِيرَهُ بِعُذْرٍ وَيُمْكِنُ أَنَّهُ لِاسْتِجْلَابِ الْأُجْرَةِ انْتَهَى.

ص: 366

(وَالشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ يُخَيَّرُ فِيهَا الشَّاهِدُ بَيْنَ السَّتْرِ وَالْإِظْهَارِ) لِأَنَّهُ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ إقَامَةِ الْحَدِّ وَالتَّوَقِّي عَنْ الْهَتْكِ (وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ «لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَفِيمَا نُقِلَ مِنْ تَلْقِينِ الدَّرْءِ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ السَّتْرِ

وَالْوَجْهُ أَنْ تُقْبَلَ وَيُحْمَلَ عَلَى الْعُذْرِ مِنْ نِسْيَانٍ ثُمَّ تَذَكُّرٍ أَوْ غَيْرِهِ

(قَوْلُهُ وَالشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ) أَيْ الْأَدَاءُ فِي الْحُدُودِ يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالتَّرْكِ لِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لَكِنْ ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّتْرِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ «لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا قَالَهُ صلى الله عليه وسلم لِهَزَّالٍ.

ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ هَزَّالٌ «لَوْ سَتَرْته بِرِدَائِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» وَالْمُرَادُ بِمَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ سَتَرْته مَاعِزٌ رضي الله عنه. رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَقَرَّ عِنْدَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ وَقَالَ لِهَزَّالٍ: لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» وَإِنَّ هَزَّالًا هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى مَاعِزٍ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيُقِرَّ عِنْدَهُ وَلَمْ يَكُنْ شَاهِدًا، لِأَنَّ مَاعِزًا إنَّمَا حُدَّ بِالْإِقْرَارِ، أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ هَزَّالًا أَمَرَ مَاعِزًا أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيُخْبِرَهُ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ

ص: 367

(إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ فِي السَّرِقَةِ فَيَقُولُ: أَخَذَ) إحْيَاءً لِحَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ (وَلَا يَقُولُ سَرَقَ) مُحَافَظَةً عَلَى السَّتْرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَتْ السَّرِقَةُ لَوَجَبَ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ لَا يُجَامِعُ الْقَطْعَ فَلَا يَحْصُلُ إحْيَاءُ حَقِّهِ.

وَزَادَ.

وَقَالَ شُعْبَةُ: قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ بِمَجْلِسٍ فِيهِ يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ فَقَالَ يَزِيدُ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ، هَذَا حَدِيثُ جَدِّي وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَفِيهِ «قَالَ فِي هَزَّالٍ بِئْسَمَا صَنَعْت، لَوْ سَتَرْته بِطَرْفِ رِدَائِك لَكَانَ خَيْرًا لَك، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَدْرِ أَنَّ فِي الْأَمْرِ سَعَةً» وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَتَلْقِينُ الدَّرْءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيْ تَلْقِينُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الدَّرْءُ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى قَصْدِهِ إلَى السَّتْرِ وَالسَّتْرُ يَحْصُلُ بِالْكِتْمَانِ، فَكَانَ كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ مَخْصُوصًا مِنْ عُمُومِ تَحْرِيمِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «أُتِيَ بِسَارِقٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا سَرَقَ فَقَالَ لَهُ مَا إخَالُهُ سَرَقَ».

وَرَوَى أَبُو دَاوُد «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلِصٍّ قَدْ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم: مَا إخَالُكَ سَرَقْت، قَالَ فَأَعَادَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ» الْحَدِيثَ.

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَاعِزٍ: لَعَلَّك قَبَّلْت أَوْ غَمَزْت أَوْ نَظَرْت، قَالَ: لَا» الْحَدِيثُ قَدَّمْنَاهُ فِي الْحُدُودِ. فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ صَحَّ لَك الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعَامِّ مِنْ الْكِتَابِ بِهَذِهِ وَهِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ، وَأَيْضًا شَرْطُ التَّخْصِيصِ عِنْدَكُمْ الْمُقَارَنَةُ وَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ لَك ذَلِكَ. قُلْت: هَذِهِ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي طَلَبِ السَّتْرِ بَلَغَتْ مَبْلَغًا لَا تَنْحَطُّ بِهِ عَنْ دَرَجَةِ الشُّهْرَةِ لِتَعَدُّدِ مُتُونِهَا مَعَ قَبُولِ الْأُمَّةِ لَهَا فَصَحَّ التَّخْصِيصُ بِهَا، أَوْ هِيَ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَخْيِيرِ الشَّاهِدِ فِي الْحُدُودِ، فَثُبُوتُ الْإِجْمَاعِ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْمُخَصِّصِ.

وَأَمَّا الْمُقَارَنَةُ فَإِنَّمَا هِيَ شَرْطُ التَّخْصِيصِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ الَّذِي ادَّعَيْنَاهُ هُنَا لَيْسَ بِذَاكَ بَلْ هُوَ جَمْعٌ لِلْمُعَارَضَةِ عَلَى مَا كَتَبْنَاهُ فِي التَّعَارُضِ مِنْ كِتَابِ تَحْرِيرِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ إذَا تَعَارَضَا بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِهِ، فَإِذَا وَجَبَ لِلْجَمْعِ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ تَضَمُّنُ الْحُكْمِ مِنَّا بِأَنَّهُ كَانَ مُقَارِنًا أَوْ أَنَّهَا لَيْسَتْ تَخْصِيصَاتٍ أُوَلَ كَمَا أَنَّا إذَا رَجَّحْنَا فِي التَّعَارُضِ الْمُحَرِّمَ عَلَى الْمُبِيحِ وَثَبَتَ صِحَّتُهُمَا تَضَمَّنَ حُكْمُنَا أَنَّ الْمُبِيحَ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى التَّحْرِيمِ فَنَسَخَ حُكْمًا لِوُجُوبِ تَرْجِيحِ الْمُحَرِّمِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ تَقَدُّمُهُ بِعِلْمِ تَارِيخِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَعْتَرِضُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّارِحِينَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَحْكُومِ فِيهَا بِالتَّخْصِيصِ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَلَا يَثْبُتُ التَّخْصِيصُ، وَمُرَادُهُمْ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ مَا ذَكَرْنَا، هَذَا كُلُّهُ إذَا نَظَرْنَا إلَى مُجَرَّدِ إطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} فَأَمَّا إذَا قَيَّدْنَاهُ بِمَا إذَا دُعُوا لِلشَّهَادَةِ فِي الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ أَوَّلَ الْآيَةِ: أَيْ قَوْله تَعَالَى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} .

ثُمَّ قَالَ {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ} يَعْنِي بِذَلِكَ الدَّيْنَ فَظَاهِرٌ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ مُخَيَّرٌ فِي الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَشْهَدَ بِالسَّرِقَةِ فَقَدْ يَتَبَادَرُ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ فِيهَا

ص: 368

(وَالشَّهَادَةُ عَلَى مَرَاتِبَ: مِنْهَا الشَّهَادَةُ فِي الزِّنَا يُعْتَبَرُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (وَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ) لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ رضي الله عنه: مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَلِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ

(وَمِنْهَا الشَّهَادَةُ بِبَقِيَّةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}

مُطْلَقًا لِاسْتِلْزَامِهِ الْحَدَّ فَقَالَ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ إحْيَاءً لِحَقِّ مَالِكِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَقُولُ أَخَذَ الْمَالَ وَلَا يَقُولُ سَرَقَ، فَإِنَّ الْأَخْذَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ غَصْبًا أَوْ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّهُ مِلْكُهُ مُودَعًا عِنْدَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَلَا تَسْتَلْزِمُ الشَّهَادَةُ بِالْأَخْذِ مُطْلَقًا ثُبُوتَ الْحَدِّ بِهَا مَعَ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ إذَا قَالَ سَرَقَ فَثَبَتَتْ السَّرِقَةُ وَجَبَ الْقَطْعُ وَبِهِ يَنْتَفِي ضَمَانُ الْمَالِ إنْ كَانَ أَتْلَفَهُ

(قَوْلُهُ وَالشَّهَادَةُ عَلَى مَرَاتِبِهَا) أَرْبَعَةٌ (مِنْهَا الشَّهَادَةُ فِي الزِّنَا) وَالشَّهَادَةُ فِي بَقِيَّةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَالشَّهَادَةُ فِيمَا سِوَاهَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ، وَالشَّهَادَةُ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ النِّسَاءِ.

أَمَّا عَلَى الزِّنَا فَيُعْتَبَرُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخَلِيفَتَيْنِ بَعْدَهُ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالدِّمَاءِ انْتَهَى. وَتَخْصِيصُ الْخَلِيفَتَيْنِ. يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما لِأَنَّهُمَا

ص: 369

(وَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ) لِمَا ذَكَرْنَا.

(قَالَ: وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ مِثْلُ النِّكَاحِ) وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْوَقْفِ وَالصُّلْحِ (وَالْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ) وَالْهِبَةِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْوَلَدِ وَالْوِلَادِ وَالنَّسَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْقَبُولِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَاخْتِلَالِ الضَّبْطِ وَقُصُورِ الْوِلَايَةِ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِمَارَةِ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ وَحْدَهُنَّ إلَّا أَنَّهَا قُبِلَتْ فِي الْأَمْوَالِ ضَرُورَةً، وَالنِّكَاحُ أَعْظَمُ خَطَرًا وَأَقَلُّ وُقُوعًا فَلَا يَلْحَقُ بِمَا هُوَ أَدْنَى خَطَرًا وَأَكْثَرُ وُجُودًا.

اللَّذَانِ كَانَ مُعْظَمُ تَقْرِيرِ الشَّرْعِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ فِي زَمَانِهِمَا وَبَعْدَهُمَا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا إلَّا الِاتِّبَاعُ، وَلِأَنَّ النَّصَّ أَوْجَبَ أَرْبَعَةَ رِجَالٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} فَقَبُولُ امْرَأَتَيْنِ مَعَ ثَلَاثَةٍ مُخَالِفٌ لِمَا نُصَّ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَدِ وَالْمَعْدُودِ.

وَغَايَةُ الْأَمْرِ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ عُمُومِ {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وَبَيَّنَ هَذِهِ فَتُقَدَّمَ هَذِهِ لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ وَتِلْكَ مُبِيحَةٌ. وَأَيْضًا هَذِهِ تُفِيدُ زِيَادَةَ قَيْدٍ وَزِيَادَةُ الْقَيْدِ مِنْ طُرُقِ الدَّرْءِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَثُرَتْ قُيُودُ الشَّيْءِ قَلَّ وُجُودُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ تَقْيِيدٍ، وَلِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ، وَلِذَا لَا تُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} الْآيَةُ ظَاهِرَةٌ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ رِجَالٍ يَشْهَدُونَ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ فَاعْتُبِرَ حَقِيقَةُ الْبَدَلِيَّةِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ نَزَلَتْ إلَى شُبْهَةِ الْبَدَلِيَّةِ وَالشُّبْهَةُ كَالْحَقِيقَةِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَسَائِرُ مَا سِوَى حَدِّ الزِّنَا مِنْ الْحُدُودِ يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ وَلَا تُقْبَلُ النِّسَاءُ لِمَا ذَكَرْنَا

وَكَذَا الْقِصَاصُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ: أَيْ وَكُلُّ مَا سِوَى ذَلِكَ يُقْبَلُ فِيهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مَالًا أَوْ لَا كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالْعِتْقِ وَالرَّجْعَةِ وَالنَّسَبِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا كَالْإِذْنِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ وَالشُّفْعَةِ وَالْإِجَارَةِ وَقَتْلِ الْخَطَإِ وَكُلِّ جُرْحٍ لَا يُوجِبُ إلَّا الْمَالَ، وَكَذَا فَسْخُ الْعُقُودِ وَقَبْضُ نُجُومِ الْكِتَابَةِ إلَّا النَّجْمُ الْأَخِيرُ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِتَرَتُّبِ الْعِتْقِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْقَبُولِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَاخْتِلَالُ الضَّبْطِ، وَكَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ

ص: 370

وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْقَبُولُ لِوُجُودِ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ وَالضَّبْطُ وَالْأَدَاءُ، إذْ بِالْأَوَّلِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلشَّاهِدِ، وَبِالثَّانِي يَبْقَى، وَبِالثَّالِثِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي وَلِهَذَا يُقْبَلُ إخْبَارُهَا فِي الْأَخْبَارِ، وَنُقْصَانُ الضَّبْطِ بِزِيَادَةِ النِّسْيَانِ انْجَبَرَ بِضَمِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا الشُّبْهَةُ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ

- رحمه الله قَالَ مَالِكٌ.

وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ رِوَايَةٌ كَقَوْلِنَا وَرِوَايَةٌ كَقَوْلِهِمَا، وَقُصُورُ الرِّوَايَةِ حَتَّى إنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِمَارَةِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ، لَكِنْ خَرَجَ عَنْ الْأَصْلِ شَرْعًا فِي الْأَمْوَالِ ضَرُورَةً لِكَثْرَةِ وُقُوعِ أَسْبَابِهَا فَيَلْحَقُ الْحَرَجُ بِطَلَبِ رَجُلَيْنِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ، وَكَذَا الْعَادَةُ أَنْ يُوَسَّعَ فِيمَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ. بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ أَعْظَمَ خَطَرًا أَقَلَّ وُقُوعًا فَلَا يَلْحَقُ الْحَرَجُ بِالِاشْتِرَاطِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى فِي الرَّجْعَةِ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَالرَّجْعَةُ مِنْ تَوَابِعِ النِّكَاحِ فَأُلْحِقَتْ بَقِيَّةُ التَّوَابِعِ بِهِ كَالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْقَبُولُ) فَابْتَدَأَ بِتَضْمِينِ مَنْعِ مُقَدِّمَتِهِ الْقَائِلَةِ: الْأَصْلُ عَدَمُ الْقَبُولِ، ثُمَّ أَثْبَتَ هَذِهِ بِوُجُودِ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ إلَخْ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ وَالضَّبْطَ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ لَا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ، بَلْ هِيَ كَمَا قَالَ فِي الْأَسْرَارِ: إنَّ أَهْلِيَّتَهَا بِالْوِلَايَةِ وَالْوِلَايَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَالْإِرْثِ وَالنِّسَاءُ فِي هَذَا كَالرِّجَالِ. بَقِيَ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَهُوَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالضَّبْطِ وَالنِّسَاءُ فِي ذَلِكَ كَالرِّجَالِ وَلِهَذَا قُبِلَتْ رِوَايَتُهُنَّ لِأَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ الْمُلْزِمَةِ لِلْأُمَّةِ.

فَعَنْ هَذَا قَدْ يُقَالُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: إنْ جَعَلَ الشَّارِعُ الثِّنْتَيْنِ فِي مَقَامِ رَجُلٍ لَيْسَ لِنُقْصَانِ الضَّبْطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ لِإِظْهَارِ دَرَجَتِهِنَّ عَنْ الرِّجَالِ لَيْسَ غَيْرُ، وَلَقَدْ نَرَى كَثِيرًا مِنْ النِّسَاءِ يَضْبِطْنَ أَكْثَرَ مِنْ ضَبْطِ الرِّجَالِ لِاجْتِمَاعِ خَاطِرِهِنَّ أَكْثَرَ مِنْ الرِّجَالِ لِكَثْرَةِ الْوَارِدَاتِ عَلَى خَاطِرِ الرِّجَالِ

ص: 371

وَعَدَمُ قَبُولِ الْأَرْبَعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَيْ لَا يَكْثُرَ خُرُوجُهُنَّ.

قَالَ (وَتُقْبَلُ فِي الْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ وَالْعُيُوبِ بِالنِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ» وَالْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ فَيَتَنَاوَلُ الْأَقَلَّ.

وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا سَقَطَتْ الذُّكُورَةُ لِيَخِفَّ النَّظَرُ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ فَكَذَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ إلَّا أَنَّ الْمُثَنَّى وَالثَّلَاثَ أَحْوَطُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ

وَشُغْلِ بَالِهِمْ بِالْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَقِلَّةِ الْأَمْرَيْنِ فِي جِنْسِ النِّسَاءِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لِنُقْصَانِ الضَّبْطِ وَزِيَادَةِ النِّسْيَانِ فِي جِنْسِهِنَّ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَفْرَادِهِنَّ أَضْبَطَ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} لَكِنْ ذَلِكَ انْجَبَرَ بِضَمِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ إلَّا الشُّبْهَةُ فَلَمْ تُقْبَلْ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَأَمَّا عَدَمُ قَبُولِ الْأَرْبَعِ فَعَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَأَنَّهُ كَيْ لَا يَكْثُرَ خُرُوجُهُنَّ

(قَوْلُهُ وَتُقْبَلُ فِي الْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ وَالْعُيُوبِ بِالنِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) مُسْلِمَةٍ حُرَّةٍ عِدْلَةٍ وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ

ص: 372

(ثُمَّ حُكْمُهَا فِي الْوِلَادَةِ شَرَحْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ) وَأَمَّا حُكْمُ الْبَكَارَةِ فَإِنْ شَهِدْنَ أَنَّهَا بِكْرٌ يُؤَجَّلُ فِي الْعِنِّينِ سَنَةً وَيُفَرَّقُ بَعْدَهَا

وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ. وَشَرَطَ الشَّافِعِيُّ أَرْبَعًا. وَمَالِكٌ ثِنْتَيْنِ.

لَهُ أَنَّ كُلَّ ثِنْتَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ. وَلِمَالِكٍ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشَّهَادَةِ أَمْرَانِ الْعَدَدُ وَالذُّكُورَةُ، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الذُّكُورَةِ فَبَقِيَ الْعَدَدُ. وَلَنَا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي أَوَّلِ بَابِ شَهَادَاتِ النِّسَاءِ مِنْ الْأَصْلِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَطَاوُسٍ قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ» وَهَذَا مُرْسَلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ.

وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ اعْتِبَارُهَا فِي الْعَهْدِ إذْ لَا عَهْدَ فِي مَرْتَبَةٍ بِخُصُوصِهَا مِنْ مَرَاتِبِ الْجَمْعِ كَانَتْ لِلْجِنْسِ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَتَصِحُّ بِوَاحِدَةٍ وَالْأَكْثَرُ أَحْسَنُ فَقُلْنَا كَذَلِكَ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِنْ وِلَادَاتِ النِّسَاءِ وَعُيُوبِهِنَّ» ، وَهَذَا مُرْسَلٌ حُجَّةٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ إلَّا عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا هُنَّ مِنْ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ. وَلَهُ مَخَارِجُ أُخَرُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (ثُمَّ حُكْمُهَا فِي الْوِلَادَةِ شَرَحْنَاهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ)

ص: 373

لِأَنَّهَا تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ إذْ الْبَكَارَةُ أَصْلٌ، وَكَذَا فِي رَدِّ الْمَبِيعَةِ إذَا اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ، فَإِنْ قُلْنَ إنَّهَا ثَيِّبٌ يَحْلِفُ الْبَائِعُ لِيَنْضَمَّ نُكُولُهُ إلَى قَوْلِهِنَّ وَالْعَيْبُ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي حَقِّ الْإِرْثِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَطْلُعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ إلَّا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْإِرْثِ أَيْضًا لِأَنَّهُ صَوْتٌ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَلَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ عَادَةً فَصَارَ كَشَهَادَتِهِنَّ عَلَى نَفْسِ الْوِلَادَةِ

أَيْ فِي بَابِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ شَهِدَ بِالْوِلَادَةِ رَجُلٌ فَقَالَ فَاجَأْتهَا فَاتَّفَقَ نَظَرِي إلَيْهَا تُقْبَلُ إذَا كَانَ عَدْلًا، وَلَوْ قَالَ تَعَمَّدْت النَّظَرَ لَا تُقْبَلُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنْ قَالَ تَعَمَّدْت النَّظَرَ تُقْبَلُ أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. وَأَمَّا حُكْمُ الْبَكَارَةِ، فَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهَا بِكْرٌ يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ سَنَةً فَإِذَا مَضَتْ فَقَالَ وَصَلْت إلَيْهَا فَأَنْكَرَتْ تَرَى النِّسَاءُ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ تُخَيَّرُ فَإِنْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ فُرِّقَ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا فُرِّقَ بِقَوْلِهِنَّ لِأَنَّهَا تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ وَهُوَ مُوَافَقَةُ الْأَصْلِ، إذْ الْبَكَارَةُ أَصْلٌ، وَلَوْ لَمْ تَتَأَيَّدْ شَهَادَتُهُنَّ بِمُؤَيِّدٍ اُعْتُبِرَتْ فِي تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ لَا فِي إلْزَامِ الْخَصْمِ، وَكَذَا فِي رَدِّ الْمَبِيعِ إذَا اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي هِيَ ثَيِّبٌ يُرِيهَا النِّسَاءَ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ لَزِمَتْ الْمُشْتَرِيَ لِتَأَيُّدِ شَهَادَتِهِنَّ بِمُؤَيِّدٍ هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الْفَسْخِ لِأَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ قَوِيٌّ وَشَهَادَتُهُنَّ ضَعِيفَةٌ وَلَمْ تَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ لَكِنْ ثَبَتَ حَقُّ الْخُصُومَةِ فَتَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ لَقَدْ سَلَّمْتهَا بِحُكْمِ الْبَيْعِ وَهِيَ بِكْرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهَا حَلَفَ بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْتهَا وَهِيَ بِكْرٌ، فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَلَفَ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فَتُقْبَلُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ.

وَأَمَّا فِي حَقِّ الْإِرْثِ فَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ صَوْتٌ مَسْمُوعٌ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ فَكَانَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، بِخِلَافِ الْوِلَادَةِ فَإِنَّهَا انْفِصَالُ الْوَلَدِ مِنْ الْأُمِّ فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ

ص: 374

قَالَ (وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّاهِدُ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَقَالَ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ) أَمَّا الْعَدَالَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الْمُعِينَةُ لِلصِّدْقِ، لِأَنَّ مَنْ يَتَعَاطَى غَيْرَ الْكَذِبِ قَدْ يَتَعَاطَاهُ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَأْجَرُ لِوَجَاهَتِهِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ لِمُرُوءَتِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ،

وَهُمَا يَقُولَانِ صَوْتُهُ يَقَعُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَعِنْدَهَا لَا يَحْضُرُ الرِّجَالُ فَصَارَ كَشَهَادَتِهِنَّ عَلَى نَفْسِ الْوِلَادَةِ، وَبِقَوْلِهِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَهُوَ أَرْجَحُ

(قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ) حَتَّى لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ لَا تُقْبَلُ. وَثَالِثٌ وَهُوَ التَّفْسِيرُ حَتَّى لَوْ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ أَوْ مِثْلَ شَهَادَتِهِ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا مِثْلُ شَهَادَةِ صَاحِبِي عِنْدَ الْخَصَّافِ لِلِاحْتِمَالِ. أَمَّا اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الْمُعَيِّنَةُ لِجِهَةِ الصِّدْقِ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ إخْبَارٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ عَلَى السَّوَاءِ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الْمَفْهُومِ، فَبِذَلِكَ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ صِدْقًا حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُنْكِرُ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ عَدْلًا.

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُعَارِضُهُ اخْتِلَافُ الْمُدَّعِي فَيَتَسَاقَطَانِ وَتَسْلَمُ الشَّهَادَةُ عَنْ الْمُعَارِضِ أَوْ يَتَرَجَّحُ إخْبَارُ الْمُدَّعِي بِالشَّهَادَةِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ) كَمُبَاشِرِي السُّلْطَانِ وَالْمَكَسَةِ وَغَيْرِهِمْ (تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَأْجَرُ لِشَهَادَةِ الزُّورِ لِوَجَاهَتِهِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ لِمُرُوءَتِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَلَا يُقْبَلُ

ص: 375

إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَصِحُّ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَصِحُّ، وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ. وَأَمَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ النُّصُوصَ نَطَقَتْ بِاشْتِرَاطِهَا إذْ الْأَمْرُ فِيهَا بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَلِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ تَوْحِيدٍ، فَإِنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَكَانَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْكَذِبِ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ أَشَدَّ.

وَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْعَدَالَةُ، وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهَا

إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إنْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَنْفُذُ عِنْدَنَا) وَيَكُونُ الْقَاضِي عَاصِيًا.

(وَأَمَّا) اشْتِرَاطُ (لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ النُّصُوصَ نَطَقَتْ بِاشْتِرَاطِهَا إذْ الْأَمْرُ فِيهَا) أَيْ فِي النُّصُوصِ (بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ) قَالَ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}

{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «إذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ» . وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: غَايَاتُهَا وَرَدَتْ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ لَفْظَ الشَّهَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} وَلَمْ يُرِدْ مِنْ السُّنَّةِ فِي تَكْبِيرِ الِافْتِتَاحِ إلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» وَلَمْ يُشْتَرَطْ لِذَلِكَ لَفْظُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَمِنْ أَيْنَ لَزِمَ فِي الشَّهَادَةِ؟ قُلْنَا: لِفَرْقٍ مَعْنَوِيٍّ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ أَقْوَى فِي إفَادَةِ تَأْكِيدِ مُتَعَلِّقِهَا مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ كَأَعْلَم وَأَتَيَقَّنُ لِمَا فِيهَا مِنْ اقْتِضَاءِ مَعْنَى الْمُشَاهَدَةِ وَالْمُعَايَنَةِ الَّتِي مَرْجِعُهَا الْحِسُّ وَلِأَنَّهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْحَلِفِ فَالِامْتِنَاعُ مَعَ ذِكْرِهَا عَنْ الْكَذِبِ أَظْهَرُ.

وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْرُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ» فَلَزِمَ لِذَلِكَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ فَإِنَّهُ التَّعْظِيمُ، وَلَيْسَ لَفْظُ أَكْبَرَ أَبْلَغَ مِنْ أَجَلَّ وَأَعْظَمَ فَكَانَتْ الْأَلْفَاظُ سَوَاءً، فَلَمْ تَثْبُتْ خُصُوصِيَّةٌ تُوجِبُ تَعْيِينَ لَفْظِ أَكْبَرَ. وَقَوْلُهُ (فِي ذَلِكَ كُلِّهِ) أَيْ فِي الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ كُلِّهَا تُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ، وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا.

وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا

ص: 376

شَهَادَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ حَتَّى اخْتَصَّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: يَقْتَصِرُ الْحَاكِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَسْأَلُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ حَتَّى يَطْعَنَ الْخَصْمُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» وَمِثْلُ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الِانْزِجَارُ عَمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ دِينُهُ، وَبِالظَّاهِرِ كِفَايَةٌ إذْ لَا وُصُولَ إلَى الْقَطْعِ.

(إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ) لِأَنَّهُ يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا فَيُشْتَرَطُ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهَا دَارِئَةٌ، وَإِنْ طَعَنَ الْخَصْمُ فِيهِمْ

خَبَرٌ كَالشَّهَادَةِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ النَّاسِ وَمِنْهُمْ مَشَايِخُ الْمَذْهَبِ مِنْ الْبُخَارِيِّينَ وَالْبَلْخِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّصُوصِ مَعَ وَجْهِ إفَادَةِ اشْتِرَاطِهَا، بِخِلَافِ رَمَضَانَ فَإِنَّ اللَّازِمَ فِيهِ لَيْسَ الشَّهَادَةَ بَلْ الْإِخْبَارَ ذُكِرَ فِي الْخُلَاصَةِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، لَوْ أَخْبَرَ عَدْلٌ الْقَاضِيَ بِمَجِيءِ رَمَضَانَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِالصَّوْمِ يَعْنِي فِي يَوْمِ الْغَيْمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَشَرَائِطُ الْقَضَاءِ، أَمَّا فِي الْعِيدِ فَيُشْتَرَطُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ انْتَهَى.

وَلِهَذَا احْتَاجُوا إلَى الْحِيلَةِ فِي إثْبَاتِ الرَّمَضَانِيَّةِ. قَالُوا: يَدَّعِي عِنْدَ الْقَاضِي بِوَكَالَةٍ مُعَلَّقَةٍ بِدُخُولِ رَمَضَانَ بِقَبْضِ دَيْنٍ فَيُقِرُّ الْخَصْمُ بِالدَّيْنِ وَيُنْكِرُ دُخُولَ رَمَضَانَ فَيَشْهَدُ الشُّهُودُ بِذَلِكَ فَيُقْضَى بِالْمَالِ فَيَثْبُتُ مَجِيءُ رَمَضَانَ، لِأَنَّ إثْبَاتَ مَجِيءِ رَمَضَانَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ.

ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي شَهَادَاتِ الْخُلَاصَةِ. وَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْإِسْلَامِ: يَعْنِي فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَإِلَّا فَالذِّمِّيُّ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مِثْلِهِ عِنْدَنَا (قَوْلُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ) يَعْنِي لَمَّا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَدَالَةِ.

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقْتَصِرُ الْحَاكِمُ عَلَى

ص: 377

سَأَلَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ تَقَابَلَ الظَّاهِرَانِ فَيَسْأَلُ طَلَبًا لِلتَّرْجِيحِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَبْنَاهُ عَلَى الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْعُدُولِ فَيَتَعَرَّفُ عَنْ الْعَدَالَةِ، وَفِيهِ صَوْنُ قَضَائِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ.

وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ

ظَاهِرِ عَدَالَةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ ظَاهِرُ حَالِهِ مِنْ الْتِزَامِ الْإِسْلَامِ الْتِزَامُ الِاجْتِنَابِ عَنْ مَحْظُورَاتِهِ فَيُقْبَلُ كُلُّ مُسْلِمٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَدْلٌ.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه. قَالَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَدَّمْنَا بَعْضَهُ وَفِيهِ " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَجْلُودًا فِي قَذْفٍ، أَوْ مُجَرَّبًا فِي شَهَادَةِ زُورٍ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ.

وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ حَسَنَةٌ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ غَيْرِ الطَّرِيقَيْنِ جَيِّدَةٍ، وَإِذَا كَانَ الثَّابِتُ ظَاهِرًا هِيَ الْعَدَالَةُ اكْتَفَى بِهَا، إذْ الْقَطْعُ لَا يَحْصُلُ وَلَوْ مَعَ الِاسْتِقْصَاءِ. نَعَمْ تَزْدَادُ قُوَّةُ الظَّنِّ وَلَا مُوجِبَ لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ يَسْأَلُونَ قَبْلُ.

وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِيهَا دَلِيلَ طَلَبِ الزِّيَادَةِ فَيَسْأَلُ عَلَى مَا عُرِفَ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، إذْ رُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ التَّزْكِيَةِ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ وَهُوَ مَطْلُوبٌ. وَأَوْرَدَ أَنَّ الظَّاهِرَ إنَّمَا يَكْفِي لِلدَّفْعِ وَالشَّهَادَةُ تُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي الشَّهَادَةِ كَالْقَطْعِ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ الْوُصُولُ إلَى الْقَطْعِ وَلَا بِالتَّزْكِيَةِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الظَّاهِرَ يُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ، وَالْمُرَادُ بِالظَّاهِرِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ هُوَ الِاسْتِصْحَابُ.

وَأَمَّا إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ فَقَدْ تَقَابَلَ ظَاهِرَانِ فَيَسْأَلُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ طَعَنَ الْخَصْمُ أَوْ لَمْ يَطْعَنْ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ مَالِكٌ مَنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ لَا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَمَنْ عُرِفَ جُرْحُهُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ إذَا شَكَّ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَنْبَنِي عَلَى الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْعُدُولِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ الْعَدَالَةُ وَذَلِكَ بِذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى قُوَّةُ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَوْنُهُ لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ الْعَدَالَةُ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ يَقُولُ: طَرِيقُ الثُّبُوتِ هُوَ الْبِنَاءُ عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَةِ الْمُسْلِمِ خُصُوصًا مَعَ مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَمَعَ ذَلِكَ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا لِاخْتِلَافِ حَالِ الزَّمَانِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: هَذَا الْخِلَافُ خِلَافُ زَمَانٍ لَا حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي زَمَانِ أَبِي حَنِيفَةَ الصَّلَاحُ بِخِلَافِ زَمَانِهِمَا.

وَمَا قِيلَ بِأَنَّهُ أَفْتَى فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالصَّلَاحِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» وَهُمَا

ص: 378

وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ.

قَالَ (ثُمَّ التَّزْكِيَةُ فِي السِّرِّ أَنْ يَبْعَثَ الْمَسْتُورَةَ إلَى الْمُعَدِّلِ فِيهَا النَّسَبُ وَالْحَلْيُ وَالْمُصَلَّى وَيَرُدُّهَا الْمُعَدِّلُ) كُلُّ ذَلِكَ فِي السِّرِّ كَيْ لَا يَظْهَرَ فَيُخْدَعَ أَوْ يُقْصَدَ (وَفِي الْعَلَانِيَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُعَدِّلِ وَالشَّاهِدِ) لِتَنْتَفِي شُبْهَةُ تَعْدِيلِ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَتْ الْعَلَانِيَةُ وَحْدَهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَوَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِالسِّرِّ فِي زَمَانِنَا تَحَرُّزًا عَنْ الْفِتْنَةِ.

أَفْتَيَا فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ فَفِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله تُوُفِّيَ فِي عَامِ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ فَكَيْفَ أَفْتَى فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ.

وَقَوْلُهُ خَيْرُ الْقُرُونِ إلَخْ إثْبَاتُ الْخَيْرِيَّةِ بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّفَاوُتِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ غَلَبَةَ الْفِسْقِ، وَالظَّاهِرُ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْغَالِبِ أَقْوَى مِنْ الظَّاهِرِ الَّذِي يَثْبُتُ بِظَاهِرِ حَالِ الْإِسْلَامِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَمَّا قَطَعْنَا بِغَلَبَةِ الْفِسْقِ فَقَدْ قَطَعْنَا بِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ الْتَزَمَ الْإِسْلَامَ لَمْ يَجْتَنِبْ مَحَارِمَهُ فَلَمْ يَبْقَ مُجَرَّدُ الْتِزَامِ الْإِسْلَامِ مَظِنَّةَ الْعَدَالَةِ فَكَانَ الظَّاهِرُ الثَّابِتُ بِالْغَالِبِ بِلَا مُعَارِضٍ.

[فَرْعٌ]

لَوْ تَابَ الْفَاسِقُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ تَمْضِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ سَنَةٌ، وَلَوْ كَانَ عَدْلًا فَشَهِدَ بِالزُّورِ ثُمَّ تَابَ فَشَهِدَ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ مُدَّةٍ

(قَوْلُهُ ثُمَّ التَّزْكِيَةُ فِي السِّرِّ أَنْ يَبْعَثَ الْمَسْتُورَةَ) وَهِيَ الْوَرَقَةُ الَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا الْقَاضِي أَسْمَاءَ الشُّهُودِ وَنَسَبَهُمْ وَحَالَهُمْ وَالْمُصَلَّى: أَيْ مَسْجِدَ مَحَلَّتِهِمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَارَ إلَّا مُعَدِّلًا صَالِحًا زَاهِدًا كَيْ لَا يُخْدَعَ بِالْمَالِ مَأْمُونًا أَعْظَمَ مَنْ يَعْرِفُهُ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَيَكْتُبُ إلَيْهِ ثُمَّ هُوَ يَسْأَلُ عَنْهُمْ أَهْلَ مَحَلَّتِهِمْ وَسُوقِهِمْ وَمَنْ يَعْرِفُهُمْ، وَيَكُونُ الْمُزَكِّي صَاحِبَ خِبْرَةٍ بِالنَّاسِ مُدَاخِلًا لَهُمْ لَا مُنْزَوِيًا عَنْهُمْ، فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْمُخَالَطَةِ وَالْمُدَاخَلَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَهْلَ مَجْلِسِهِ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ، فَإِنْ وَجَدَهُمْ غَيْرَ ثِقَاتٍ يَعْتَبِرُ تَوَاتُرَ الْأَخْبَارِ.

وَعَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: يَجُوزُ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالْمَحْدُودُ إذَا كَانُوا عُدُولًا، وَلَا يَجُوزُ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ إلَّا مَنْ

ص: 379

وَيُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله: تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ. ثُمَّ قِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْمُعَدِّلُ هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُعَدَّلُ، وَقِيلَ يَكْتَفِي بِقَوْلِهِ هُوَ عَدْلٌ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالدَّارِ وَهَذَا أَصَحُّ. .

قَالَ (وَفِي قَوْلِ مَنْ رَأَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْخَصْمِ إنَّهُ عَدْلٌ) مَعْنَاهُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَزْكِيَتُهُ، لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضُمُّ تَزْكِيَةَ الْآخَرِ إلَى تَزْكِيَتِهِ لِأَنَّ الْعَدَدَ عِنْدَهُ شَرْطٌ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْخَصْمَ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ مُبْطَلٌ فِي إصْرَارِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُعَدِّلًا، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ هُمْ عُدُولٌ إلَّا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوْ نَسُوا، أَمَّا إذَا قَالَ صَدَقُوا أَوْ هُمْ عُدُولٌ صَدَقَةٌ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ.

تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِيهَا إلَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَقَطْ، لِأَنَّ تَزْكِيَةَ السِّرِّ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ يُقْبَلُ خَبَرُهُ فِي الْأَمْرِ الدِّينِيِّ إذَا كَانَ عَدْلًا كَمَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ لِلْأَخْبَارِ، فَإِذَا قَالَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ هُوَ عَدْلٌ كَتَبَ الْمُزَكِّي هُوَ عَدْلٌ مَرَضِيٌّ مَقْبُولٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ، وَإِلَّا يَكْتُبُ هُوَ غَيْرُ عَدْلٍ.

وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إنْ عَرَفَ فِسْقَهُ لَا يَكْتُبُ تَحْتَ اسْمِهِ ذَلِكَ بَلْ يَسْكُتُ احْتِرَازًا عَنْ الْهَتْكِ، أَوْ يَقُولُ اللَّهُ أَعْلَمُ، إلَّا إذَا خَافَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ فَيُصَرِّحُ حِينَئِذٍ بِذَلِكَ، وَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ لَا بِعَدَالَةٍ وَلَا بِفِسْقٍ يَكْتُبُ مَسْتُورٌ ثُمَّ يَرُدُّ الْمَسْتُورَةَ مَعَ أَمِينِ الْقَاضِي إلَيْهِ كُلُّ ذَلِكَ فِي السِّرِّ كَيْ لَا يَظْهَرَ الْأَمْرُ فَيُخْدَعَ الْمُزَكِّي أَوْ يُقْصَدَ بِالْأَذَى.

وَأَمَّا الْعَلَانِيَةُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالْمُعَدِّلِ لِتَنْتَفِي شُبْهَةُ تَعْدِيلِ الْمُعَدِّلِ لِغَيْرِ هَذَا الشَّاهِدِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ الْقَاضِي إذْ قَدْ يَتَّفِقُ اسْمٌ وَشُهْرَةٌ وَصِفَةٌ لِاثْنَيْنِ، وَقَدْ كَانَتْ الْعَلَانِيَةُ وَحْدَهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمْ كَانَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الصَّبْرُ لِلْحَقِّ، وَوَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِالسِّرِّ فِي زَمَانِنَا

ص: 380

(وَإِذَا كَانَ رَسُولُ الْقَاضِي الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ وَاحِدًا جَازَ وَالِاثْنَانِ أَفْضَلُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا يَجُوزُ إلَّا اثْنَانِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُزَكِّي، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ رَسُولُ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي وَالْمُتَرْجِمُ عَنْ الشَّاهِدِ لَهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ تَنْبَنِي عَلَى ظُهُورِ الْعَدَالَةِ وَهُوَ بِالتَّزْكِيَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَمَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِيهِ، وَتُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ فِي الْمُزَكِّي وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ، وَاشْتِرَاطُ الْعَدَدِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فِي الشَّهَادَةِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا.

لِغَلَبَةِ النُّفُوسِ فِيهِ فَيُوجِبُ الْفِتْنَةَ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ، ثُمَّ قِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْمُعَدِّلُ هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزِ الشَّهَادَةِ. وَقِيلَ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ هُوَ عَدْلٌ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالدَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا فَلَا تَلْزَمُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ، وَهَذَا أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ الْحُرِّيَّةُ نَظَرًا إلَى الدَّارِ فَيُكْتَفَى بِهِ مَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ بِالرِّقِّ

ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَنْ رَأَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ بِلَا طَعْنٍ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْخَصْمِ: يَعْنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا قَالَ فِي شُهُودِ الْمُدَّعِي هُمْ عُدُولٌ فَلَا تَقَعُ بِهِ التَّزْكِيَةُ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْخَصْمَ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ مُبْطَلٌ فِي إصْرَارِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُعَدِّلًا لِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي الْمُزَكِّي بِالْإِجْمَاعِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، يَجُوزُ قَوْلُهُ ذَلِكَ تَعْدِيدٌ، لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضُمُّ تَزْكِيَةُ آخَرَ إلَى تَزْكِيَتِهِ أَيْ تَزْكِيَةِ الْخَصْمِ لِأَنَّ الْعَدَدَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الْمُزَكِّي شَرْطٌ، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ هُمْ عُدُولٌ إلَّا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوْ نَسُوا.

أَمَّا لَوْ قَالَ صَدَقُوا أَوْ هُمْ عُدُولٌ صَدَقَةٌ أَوْ مَعْنًى هَذَا فَقَدْ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ وَانْقَطَعَ النِّزَاعُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا قَالَ هُمْ عُدُولٌ فَالْقَاضِي يَسْأَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَشَهِدُوا عَلَيْك بِحَقٍّ أَمْ بِبَاطِلٍ، فَإِنْ قَالَ بِحَقٍّ فَهُوَ إقْرَارٌ، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ.

[فَرْعٌ]

إذَا شَهِدَ فَعُدِّلَ ثُمَّ شَهِدَ لَا يُسْتَعْدَلُ إلَّا إذَا طَالَ، فَوَقَّتَ مُحَمَّدٌ شَهْرًا وَأَبُو يُوسُفَ سَنَةً ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ

(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ رَسُولُ الْقَاضِي الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ وَاحِدًا جَازَ وَالِاثْنَانِ أَفْضَلُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إلَّا اثْنَانِ، وَالْمُرَادُ)

مِنْ رَسُولِ الْقَاضِي (الْمُزَكِّي) وَهُوَ الْمَسْئُولُ مِنْهُ عَنْ الشُّهُودِ فَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْلَهُ الَّذِي يُسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَكْفِي فِي التَّزْكِيَةِ الْوَاحِدُ، وَكَذَا الرِّسَالَةُ إلَيْهِ وَالرِّسَالَةُ مِنْهُ إلَى الْقَاضِي، وَكَذَا فِي التَّرْجَمَةِ عَنْ الشَّاهِدِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي تَنْبَنِي عَلَى ظُهُورِ الْعَدَالَةِ وَهِيَ بِالتَّزْكِيَةِ فَتَوَقَّفَتْ عَلَيْهَا كَمَا تَوَقَّفَتْ عَلَيْهَا فَيُشْتَرَطُ فِيهِ

ص: 381

(وَلَا يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ فِي الْمُزَكِّي فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ) حَتَّى صَلُحَ الْعَبْدُ مُزَكِّيًا، فَأَمَّا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ فَهُوَ شَرْطٌ، وَكَذَا الْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ رحمه الله لِاخْتِصَاصِهَا بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ. قَالُوا: يُشْتَرَطُ الْأَرْبَعَةُ فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الزِّنَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله.

(فَصْلٌ)

الْعَدَدُ كَمَا يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ، وَلِذَا اُشْتُرِطَتْ الذُّكُورَةُ فِي الْمُزَكِّي فِي الْحُدُودِ كَمَا اُشْتُرِطَتْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا.

وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَالتَّوَقُّفُ لَا يَسْتَلْزِمُ اشْتَرَاك كُلِّ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حُكْمٍ، بَلْ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ الَّتِي بِهَا ثُبُوتُ الْحَقِّ يَكُونُ مِثْلُهَا وَمَا لَا فَلَا يَلْزَمُ، وَالتَّزْكِيَةُ لَا يَسْتَنِدُ إلَيْهَا ثُبُوتُ الْحَقِّ بَلْ إلَى الشَّهَادَةِ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ شَرْطًا لَا عِلَّةً، وَلِهَذَا وَقَعَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي التَّزْكِيَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ اشْتِرَاطُهَا فِي التَّزْكِيَةِ، عَلَى أَنَّ التَّعَدِّيَةَ تَكُونُ بِجَامِعٍ يُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ، وَاشْتِرَاطُ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ أَمْرٌ تَحَكُّمِيٌّ فِي الشَّهَادَةِ يَعْنِي تَعَبُّدِيٌّ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: هُوَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ. وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى كَوْنِهِ تَعَبُّدِيًّا إذْ فِي الْقِيَاسِ يَكْفِي الْوَاحِدُ الْعَدْلُ لِأَنَّ خَبَرَهُ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ لَا عِلْمِ الْيَقِينِ، وَكَمَا لَا يَثْبُتُ الْعِلْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا: أَيْ لَا يَتَعَدَّى الشَّهَادَةَ إلَى التَّزْكِيَةِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ، فَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ، مَعَ أَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ يَجْرِي فِيهِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ زِيَادَةُ شِبْهٍ لَهَا بِالشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَهَا اتِّفَاقًا، وَلَمَّا ظَهَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارُ التَّزْكِيَةِ بِالشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْعَدَدِ.

قَالَ الْمَشَايِخُ: فَيَجِبُ عِنْدَهُ اشْتِرَاطُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الْمُزَكِّينَ فِي شُهُودِ الزِّنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ وَمُسَوِّغِهِ)

ص: 382

وَمَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ وَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الشَّاهِدُ أَوْ رَآهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا هُوَ الْمُوجِبُ بِنَفْسِهِ) وَهُوَ الرُّكْنُ فِي إطْلَاقِ الْأَدَاءِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام «إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» قَالَ (وَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ وَلَا يَقُولُ أَشْهَدَنِي) لِأَنَّهُ كَذِبٌ، وَلَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّ النَّغْمَةَ تُشْبِهُ النَّغْمَةَ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ إلَّا

قَوْلُهُ وَمَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ) أَيْ يَكُونُ هُوَ تَمَامُ السَّبَبِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ قَوْلًا كَانَ مِثْلَ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ. أَوْ فِعْلًا كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ، فَإِذَا سَمِعَ الشَّاهِدُ الْقَوْلَ كَأَنْ سَمِعَ قَاضِيًا يُشْهِدُ جَمَاعَةً مَا عَلَى حُكْمِهِ أَوْ رَأَى الْفِعْلَ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ فَيَقُولَ أَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ

ص: 383

إذَا كَانَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ سِوَاهُ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْبَابِ وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ مَسْلَكٌ غَيْرُهُ فَسَمِعَ إقْرَارَ الدَّاخِلِ وَلَا يَرَاهُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.

(وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَإِذَا سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ

أَشْهَدُ أَنَّهُ قَضَى، فَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَيْعَ مُعَاطَاةٍ فَفِي الذَّخِيرَةِ يَشْهَدُونَ عَلَى الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ. وَقِيلَ يَشْهَدُونَ عَلَى الْبَيْعِ كَالْقَوْلِيِّ، وَلَا يَقُولُ أَشْهَدَنِي لِأَنَّهُ كَذِبٌ، وَإِنَّمَا جَازَ الْأَدَاءُ بِلَا إشْهَادٍ لِأَنَّهُ عَلِمَ الْمُوجِبَ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَيْ عِلْمُ الْمُوجِبِ الرُّكْنُ الْمُسَوِّغُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِمُسَوِّغِ الْأَدَاءِ سِوَاهُ. وَقَوْلُهُ فِي إطْلَاقٍ يَعْنِي مُطْلَقَ الْأَدَاءِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى تَسْوِيغِ الشَّرْعِ لِلْأَدَاءِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فَأَفَادَ أَنَّ مَنْ شَهِدَ عَالِمًا بِحَقٍّ كَانَ مَمْدُوحًا فَلَزِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُطْلَقٌ شَرْعًا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَمْدُوحًا. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ» فَأَمَرَ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْعِلْمِ يَقِينًا، فَعَنْ هَذَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ لَا تَشْهَدْ عَلَيَّ بِمَا سَمِعْته مِنِّي ثُمَّ قَالَ بِحَضْرَتِهِ لِرَجُلٍ بَقِيَ لَك عَلَيَّ كَذَا وَغَيْرُ ذَلِكَ حَلَّ لَهُ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: اشْتَرَى عَبْدًا وَادَّعَى عَلَى الْبَائِعِ عَيْبًا بِهِ فَلَمْ يُثْبِتْهُ فَبَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ فَادَّعَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَيْهِ هَذَا الْعَيْبَ فَأَنْكَرَ، فَاَلَّذِينَ سَمِعُوا مِنْهُ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى الْعَيْبِ فِي الْحَالِ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الشَّهَادَةِ فَقَالَ: هَلْ تَرَى الشَّمْسَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ» صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ مَشْمُولٍ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ انْتَهَى. وَالْمَعْلُومُ أَنَّ النَّسَائِيّ ضَعَّفَهُ، وَوَافَقَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَفِي الْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَلَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَثِيفٍ لَا يَشِفُّ مِنْ وَرَائِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ شَهِدَ وَفَسَّرَهُ لِلْقَاضِي بِأَنْ قَالَ سَمِعْته بَاعَ وَلَمْ أَرَ شَخْصَهُ حِينَ تَكَلَّمَ لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّ النَّغْمَةَ تُشْبِهُ النَّغْمَةَ إلَّا إذَا أَحَاطَ بِعِلْمِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَوِّغَ هُوَ الْعِلْمُ غَيْرَ أَنَّ رُؤْيَتَهُ مُتَكَلِّمًا بِالْعَقْدِ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ فَإِذَا فَرَضَ تَحَقُّقَ طَرِيقٍ آخَرَ جَازَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ دَخَلَ الْبَيْتَ فَرَآهُ فِيهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ أَحَدٌ غَيْرَهُ وَلَا مَنْفَذَ غَيْرُ الْبَابِ وَهُوَ قَدْ جَلَسَ عَلَيْهِ وَسَمِعَ الْإِقْرَارَ أَوْ الْبَيْعَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَنَحْوُهُ مَا فِي الْأَقْضِيَةِ: ادَّعَى عَلَى وَرَثَةٍ مَالًا فَقَالَا نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا الْمُتَوَفَّى قَبَضَ مِنْ الْمُدَّعِي صُرَّةً فِيهَا دَرَاهِمُ

ص: 384

إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُوجِبَةً بِالنَّقْلِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنَابَةِ وَالتَّحْمِيلِ وَلَمْ يُوجَدْ (وَكَذَا لَوْ سَمِعَهُ يُشْهِدُ الشَّاهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لَمْ يَسَعْ لِلسَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ) لِأَنَّهُ مَا حَمَلَهُ وَإِنَّمَا

وَلَمْ يَعْلَمَا كَمْ وَزْنُهَا إنْ فَهِمَا قَدْرَهَا وَأَنَّهَا دَرَاهِمُ وَأَنَّ كُلَّهَا جِيَادٌ بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ يَقِينُهُمَا بِذَلِكَ فَإِذَا شَهِدَا بِهِ جَازَ. وَفِي الْفَتَاوَى: إذَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ لَا يَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى إقْرَارِهَا إلَّا إذَا رَأَى شَخْصَهَا فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ. أَجْمَلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَوَضَعَهَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا هَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى امْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا سَأَلَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبَا سُلَيْمَانَ عَنْهَا قَالَ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَشْهَدَ جَمَاعَةٌ أَنَّهَا فُلَانَةُ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِيك فَيَجُوزُ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ وَجْهِهَا؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ وَإِلَيْهِ مَالَ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ. وَفِي النَّوَازِلِ قَالَ: يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ شَخْصِهَا. وَفِي الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ: يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ وَجْهِهَا، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةٍ تُفِيدُ التَّمْيِيزَ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَيْهَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّعْرِيفَ يُفِيدُ التَّمْيِيزَ لَزِمَ أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى رُؤْيَةِ وَجْهِهَا وَلَا شَخْصِهَا كَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ، إلَّا إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، وَإِذَا وُجِدَ حِينَئِذٍ يَجْرِي الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْمَعْرِفَةِ عَدْلَانِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ جَمَاعَةٍ، وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْمُنْتَقَى: تَحَمَّلَ الشَّاهِدُ الشَّهَادَةَ عَلَى امْرَأَةٍ فَمَاتَتْ فَشَهِدَا عِنْدَهُ أَنَّ الْمُقِرَّةَ فُلَانَةُ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا، نَقَلَهُ فِي الْخُلَاصَةِ. وَفِي الْمُحِيطِ: شَهِدَا عَلَى امْرَأَةٍ سَمَّيَاهَا وَنَسِيَاهَا وَكَانَتْ

ص: 385

حَمَلَ غَيْرَهُ.

وَلَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ إذَا رَأَى خَطَّهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ الشَّهَادَةَ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ. قِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله

حَاضِرَةً، فَقَالَ الْقَاضِي أَتَعْرِفَانِهَا، فَإِنْ قَالَا لَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَلَوْ قَالَا تَحَمَّلْنَاهَا عَلَى الْمُسَمَّاةِ بِفُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ وَلَا نَدْرِي أَنَّهَا هَذِهِ أَمْ لَا صَحَّتْ الشَّهَادَةُ وَكُلِّفَ الْمُدَّعِي أَنْ يَأْتِي بِآخَرَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا هُنَاكَ أَقَرَّا بِالْجَهَالَةِ فَبَطَلَتْ الشَّهَادَةُ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ يُفِيدُ مَا قُلْنَاهُ.

وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَإِذَا سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَهُ ذَلِكَ الشَّاهِدُ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالنَّقْلِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنَابَةِ وَالتَّحْمِيلِ، وَلِهَذَا لَوْ سَمِعَهُ يُشْهِدُ شَاهِدًا عَلَى شَهَادَتِهِ لَمْ يَسَعْ السَّامِعَ أَنْ يَشْهَدَ لِأَنَّهُ مَا حَمَّلَهُ وَإِنَّمَا حَمَّلَ غَيْرَهُ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ مُلْزِمَةٌ.

[فُرُوعٌ]

كَتَبَ إلَى آخَرَ رِسَالَةً: مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ. كَتَبْت تَتَقَاضَى الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ وَكُنْت قَضَيْتُك مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ وَبَقِيَ عَلَيَّ خَمْسُمِائَةٍ، أَوْ كَتَبَ إلَى زَوْجَتِهِ: قَدْ بَلَغَنِي كِتَابُك تَسْأَلِينِي الطَّلَاقَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ سَاعَةَ كَتَبَ، وَيَنْبَغِي لِمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ وَالطَّلَاقِ وَهِيَ شَهَادَةُ حَقٍّ. بِخِلَافِ مَا لَوْ كَتَبَ صَكَّ وَصِيَّةٍ وَقَالَ لِلشُّهُودِ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ وَلَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ.

وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَإِنَّمَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهِ إذَا قَرَأَهُ عَلَيْهِمْ أَوْ رَأَوْهُ يَكْتُبُ وَهُمْ يَقْرَءُونَهُ أَوْ كَتَبَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ قَرَأَهُ عَلَيْهِ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ فَقَالَ لَهُمْ هُوَ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ، وَلَوْ قَرَأَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ الشَّاهِدَانِ نَشْهَدُ عَلَيْك بِمَا فِيهِ فَحَرَّك رَأْسَهُ بِنَعَمْ بِلَا نُطْقٍ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا فِي الْأَخْرَسِ، وَمِثْلُهُ مَا إذَا وَقَّعَ إلَيْهِمْ وَصِيَّةً مَخْتُومَةً. وَقَالَ هَذِهِ وَصِيَّتِي وَخَتْمِي فَاشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا كَتَبَ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ وَأَوْدَعَهُ الشَّاهِدَ وَلَمْ يَعْرِفْ الشَّاهِدُ مَا فِيهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا فِيهِ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ كَانَ مَعْصُومًا مِنْ التَّبْدِيلِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ إذَا كَانَ الْكِتَابُ عَلَى الرَّسْمِ الْمَعْرُوفِ بِأَنْ كَانَ عَلَى وَرَقَةٍ وَعُنْوَانٍ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ فِي الْكِتَابَةِ إلَى الْغَائِبِ.

وَإِذَا شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ فَقَالَ لَهُمْ لَمْ أُرِدْ الْإِقْرَارَ وَالطَّلَاقَ لَا يَدِينُهُ الْقَاضِي وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا لَوْ رَآهُ كَتَبَ ذِكْرَ حَقٍّ عَلَى نَفْسِهِ لِرَجُلٍ لَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ وَلَمْ يُشْهِدْهُمْ بِهِ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِالدَّيْنِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِلتَّجْرِبَةِ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْمَرْسُومَةِ، وَبِخِلَافِ خَطِّ السِّمْسَارِ وَالصَّرَّافِ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ لِلْعُرْفِ الْجَارِي بِهِ عَلَى مَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ

(قَوْلُهُ وَلَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ إذَا رَأَى خَطَّهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا إذَا تَذَكَّرَ شَهَادَتَهُ) الَّتِي صَدَرَتْ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَجَزَمَ أَنَّهُ خَطَّهُ لَا يَشْهَدُ، لِأَنَّ هَذَا الْجَزْمَ لَيْسَ بِجَزْمٍ بَلْ تَخَيُّلُ الْجَزْمِ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا هُوَ وَلَا فِي شَرْحِهِ لِلْأَقْطَعِ، وَكَذَا الْخَصَّافُ ذَكَرَهَا فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا. وَلَمَّا حَكَى الْخِلَافَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَغَيْرُهُ كَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: قِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ.

وَقِيلَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ: يَعْنِي عَدَمَ جَوَازِ

ص: 386

وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ. وَقِيلَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ فِي دِيوَانِهِ أَوْ قَضِيَّتَهُ، لِأَنَّ مَا يَكُونُ فِي قِمْطَرِهِ فَهُوَ تَحْتَ خَتْمِهِ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ وَلَا كَذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي الصَّكِّ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا تَذَكَّرَ الْمَجْلِسَ الَّذِي كَانَ فِيهِ الشَّهَادَةُ أَوْ أَخْبَرَهُ قَوْمٌ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّا شَهِدْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ. .

الشَّهَادَةِ إذْ رَأَى وَلَمْ يَتَذَكَّرْ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْقَاضِي شَهَادَةً فِي دِيوَانِهِ: يَعْنِي رَأَى فِي دِيوَانِهِ شَهَادَةَ شُهُودٍ أُدِّيَتْ عِنْدَهُ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهَا حُكْمٌ ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ لَهُ وَطَلَبَ حُكْمَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي لَا يَتَذَكَّرُ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ شُهُودٌ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عِنْدَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.

وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا وَجَدَهُ فِي قِمَطْرِهِ تَحْتَ خَاتَمِهِ يَجُوزُ أَنْ يَقْضِي بِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.

وَكَذَا إذَا رَأَى قَضِيَّتَهُ: أَيْ رَأَى حُكْمَهُ مَكْتُوبًا فِي خَرِيطَتِهِ وَهِيَ الْقِمَطْرَةُ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ أَنَّهُ حَكَمَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ حَكَى الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ الْمَبْسُوطِ حَكَى الْخِلَافَ كَذَلِكَ فِي وِجْدَانِ صَحِيفَةِ الْحُكْمِ، وَأَمَّا فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ يَجِدُهَا فِي صَكٍّ وَعَلِمَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ وَفِي الْحَدِيثِ يَجِدُهُ مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ وَوَجَدَ سَمَاعَهُ مَكْتُوبًا بِخَطِّ غَيْرِهِ وَهُوَ خَطٌّ مَعْرُوفٌ فَعَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَقَدْ صَارَتْ الْفُصُولُ ثَلَاثَةً: وِجْدَانُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ أَوْ حُكْمُهُ، وَوِجْدَانُ الشَّاهِدِ خَطَّهُ، وَالرَّاوِي فِي الْحَدِيثِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخَذَ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ بِالرُّخْصَةِ تَيْسِيرًا وَقَالَ: يُعْتَمَدُ الْخَطُّ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا، وَأَبُو يُوسُفَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالرِّوَايَةِ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ يَدِ أَمِينِهِ.

وَفِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْخَصْمِ فَلَا يَأْمَنُ الشَّاهِدُ التَّغْيِيرَ فَلَا يُعْتَمَدُ خَطُّهُ. وَحَاصِلُ وَجْهِ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صُوَرِ خِلَافِهِمْ أَنَّ وَضْعَ الْخَطِّ لِيَرْجِعَ إلَيْهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ، وَهُوَ يَمْنَعُ حَصْرَ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ، بَلْ صَحَّ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهُ أَنْ يَتَذَكَّرَ بِرُؤْيَتِهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ إلَّا أَنِّي أَرَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مَحْفُوظًا مَأْمُونًا عَلَيْهِ مِنْ التَّغْيِيرِ كَأَنْ يَكُونَ تَحْتَ خَتْمِهِ فِي خَرِيطَتِهِ الْمَحْفُوظَةِ عِنْدَهُ أَنْ يَتَرَجَّحَ الْعَمَلُ بِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عِنْدَ غَيْرُهُ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَرَأَيْنَا كَثِيرًا تَتَحَاكَى خُطُوطُهُمْ حَتَّى أَنِّي رَأَيْت بِبَلْدَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة خَطَّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُعْرَفُ بِالْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ الدَّمَامِينِيِّ كَانَ رحمه الله فَقِيهًا مَالِكِيًّا شَاعِرًا أَدِيبًا فَصِيحًا، وَخَطَّ آخَرَ بِهَا شَاهِدٌ يُعْرَفُ بِالْخَطِيبِ لَا يُفَرِّقُ الْإِنْسَانُ بَيْنَ خَطَّيْهِمَا أَصْلًا.

وَدَمَامِينُ بِالنُّونِ بَلْدَةٌ بِالصَّعِيدِ. وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِصَلَاحِهِ وَخَبَرِهِ أَنَّهُ شَاهَدَ رَجُلًا كَانَ مُعِيدًا فِي الصَّلَاحِيَةِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ وَضَعَ رَسْمَ شَهَادَتِهِ

ص: 387

قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ إلَّا النَّسَبَ وَالْمَوْتَ وَالنِّكَاحَ وَالدُّخُولَ وَوِلَايَةَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ

فِي صَكٍّ فَأَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ عُدْوَانًا فَكَتَبَ رَجُلٌ مِثْلَهُ ثُمَّ عَرَضَهُ عَلَى ذَلِكَ الْكَاتِبِ فَلَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ خَطُّهُ.

وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ الصَّكُّ فِي يَدِ الشَّاهِدِ تَرَكَهُ الطَّالِبُ فِي يَدِهِ مُنْذُ كَتَبَهُ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَادِثَةَ. وَبِهَذَا أَجَابَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ حِين كَتَبَ إلَيْهِ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى فِيمَنْ نَسِيَ شَهَادَتَهُ وَوَجَدَ خَطَّهُ وَعَرَفَهُ هَلْ يَسْعَهُ أَنْ يَشْهَدَ؟ قَالَ: إذَا كَانَ الْخَطُّ فِي حِرْزِهِ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ.

وَقَالَ فِي الْمُجَرَّدِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ شَهِدُوا عَلَى صَكٍّ فَقَالُوا نَعْرِفُ أَنَّ هَذَا خَطُّنَا وَخَوَاتِيمُنَا لَكِنْ لَا نَذْكُرُهُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يُنْفِذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَنْفَذَهُ قَاضٍ غَيْرُهُ ثُمَّ اخْتَصَمُوا إلَيْهِ فِيهِ أَنْفَذَهُ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْقُضَاةُ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ لِلْقَاضِي أَنِّي أَشْهَدُ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ لِلْحَادِثَةِ بَلْ لِمَعْرِفَةِ خَطِّي لَمْ تُقْبَلْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكِ خِلَافًا.

وَلَوْ نَسِيَ قَضَاءَهُ وَلَا سِجِلَّ عِنْدَهُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّك قَضَيْت بِكَذَا لِهَذَا عَلَى هَذَا، فَإِنْ تَذَكَّرَ أَمْضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ، وَقِيلَ وَأَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْتَمَدُ وَيَقْضِي بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَعَلَى هَذَا لَوْ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ حَدِيثًا ثُمَّ نَسِيَ الْأَصْلُ رِوَايَتَهُ لِلْفَرْعِ ثُمَّ سَمِعَ الْفَرْعَ يَرْوِيهِ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْمَلُ بِهِ.

وَمِنْ ذَلِكَ الْمَسَائِلُ الَّتِي رَوَاهَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَنَسِيَهَا أَبُو يُوسُفَ وَهِيَ سِتٌّ فَكَانَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله لَا يَعْتَمِدُ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ لَهَا عَنْهُ، وَمُحَمَّدٌ كَانَ لَا يَدَعُ رِوَايَتَهَا عَنْهُ، كَذَا قَالُوا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ فِي تَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ السِّتِّ إشْكَالًا، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَنْكَرَ وَقَالَ مَا رَوَيْت لَك عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَلِكَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ فِيمَا إذَا صَلَّى أَرْبَعًا وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ أَرْبَعٍ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَا رَوَيْت لَك إلَّا رَكْعَتَيْنِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَيْسَتْ مِنْ صُوَرِ نِسْيَانِ الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ، بَلْ مِنْ صُوَرِ تَكْذِيبِ الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ عَنْهُ كَمَا يُعْرَفُ فِي الْأُصُولِ، وَلَا خِلَافَ يُحْفَظُ فِيهِ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ أَنَّ رِوَايَةَ الْفَرْعِ تُرَدُّ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا نَسِيَ الْأَصْلُ وَلَمْ يَجْزِمْ بِالْإِنْكَارِ فَلَا يَنْبَغِي اعْتِبَارُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رحمه الله.

نَعَمْ إذَا صَحَّ اعْتِبَارُ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُ تَخْرِيجًا عَلَى أُصُولِ أَبِي حَنِيفَة يُمْكِنُ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ) أَيْ لَمْ يَقْطَعْ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُعَايَنَةِ بِالْعَيْنِ أَوْ السَّمَاعِ إلَّا فِي النَّسَبِ وَالْمَوْتِ وَالنِّكَاحِ وَالدُّخُولِ وَوِلَايَةِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْإِخْبَارِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَفِي الْمَوْتِ إذَا قُلْنَا يَكْفِي الْوَاحِدُ لَا يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ بِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ وَقِيلَ فِي الْمَوْتِ يَكْتَفِي بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ عَدْلٍ أَوْ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، بِخِلَافِ مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يُشَاهِدُ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَهَابُهُ وَيَكْرَهُهُ، فَإِذَا رَآهُ وَاحِدٌ عَدْلٌ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ وَهُوَ عَدْلٌ أَخْبَرَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ يَشْهَدَانِ بِمَوْتِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ الْمُخْبِرُ أَنَّهُ شَهِدَ مَوْتَهُ أَوْ جِنَازَتَهُ أَوْ دَفْنَهُ حَتَّى يَشْهَدَ الْآخَرُ مَعَهُ، وَكَذَا لَوْ جَاءَ خَبَرَ مَوْتِ رَجُلٍ وَصَنَعَ أَهْلُهُ مَا يُصْنَعُ بِالْمَوْتَى لَمْ يَسَعْ لِأَحَدٍ

ص: 388

مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ وَذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَلَمْ يَحْصُلْ فَصَارَ كَالْبَيْعِ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ تَخْتَصُّ بِمُعَايَنَةِ أَسْبَابِهَا خَوَّاصٌ مِنْ النَّاسِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ تَبْقَى عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرُونِ،

أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ إلَّا إنْ شَهِدَ مَوْتَهُ أَوْ سَمِعَ مِمَّنْ شَهِدَ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى.

وَالِاكْتِفَاءُ بِالْعَدْلَيْنِ نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا يَشْهَدُ حَتَّى يَسْمَعَ مِنْ جَمَاعَةٍ، وَقَالَ الْخَصَّافُ فِي الْكُلِّ: حَتَّى يَسْمَعَ مِنْ الْعَامَّةِ وَتَتَابُعَ الْأَخْبَارُ وَيَقَعَ فِي قَلْبِهِ تَصْدِيقُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.

وَفِي الْفُصُولِ عَنْ شَهَادَاتِ الْمُحِيطِ فِي النَّسَبِ أَنْ يَسْمَعَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ جَمَاعَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا إذَا أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ تَحِلُّ الشَّهَادَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ كَانَ يُفْتِي بِقَوْلِهِمَا وَهُوَ اخْتِيَارُ النَّسَفِيِّ. وَفِي النِّكَاحِ لَمْ يَشْتَرِطْ الْمُصَنِّفُ مَعَ رُؤْيَةِ دُخُولِهِ إلَى آخِرِهِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ النَّاسِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَكَذَا الْقَضَاءُ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ الْحَقُّ.

ثُمَّ قَوْلُ أَحْمَدَ كَقَوْلِنَا فِيمَا سِوَى الدُّخُولِ. وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَحْكِ خِلَافًا بَلْ جَعَلَ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا. فَالْقِيَاسُ عَدَمُ الْجَوَازِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ، فَإِنَّ الِاشْتِقَاقَ انْتِظَامُ الصِّيغَتَيْنِ مَعْنًى وَاحِدًا بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُرُوفِ الْأُصُولِ، وَالْمُشَاهَدَةُ مُنْتَفِيَةٌ: يَعْنِي الْقَطْعَ فَلَا تَجُوزُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، كَمَا لَوْ سَمِعَ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَنَّهُ بَاعَ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ وَكَذَا غَيْرُهُ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ سَبَبٌ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سِوَى الْخَبَرِ، إذْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِحُضُورِ النَّاسِ الْوِلَادَةَ، إنَّمَا يَرَوْنَ الْوَلَدَ مَعَ أُمِّهِ أَوْ مُرْضِعَتِهِ وَيَنْسِبُونَهُ إلَى الزَّوْجِ فَيَقُولُونَ هُوَ ابْنُ فُلَانٍ، وَكَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ لَا يَحْضُرُهُ غَالِبًا إلَّا الْأَقَارِبُ، فَإِذَا رَأَوْا الْجِنَازَةَ وَالدَّفْنَ حَكَمُوا بِمَوْتِ فُلَانٍ، وَكَذَا النِّكَاحُ لَا يَحْضُرُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَإِنَّمَا يُخْبِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ فُلَانَةَ، وَكَذَا الدُّخُولُ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِأَمَارَاتِ فَإِنَّ الْوَطْءَ لَا يُشَاهَدُ، وَكَذَا وِلَايَةُ السُّلْطَانِ لِلْقَاضِي لَا يَحْضُرُهَا إلَّا الْخَوَاصُّ، وَإِنَّمَا يَحْضُرُونَ جُلُوسَهُ وَتَصَدِّيهِ لِلْأَحْكَامِ، وَإِذَا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ عِلْمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَالِبًا لَا يَحْصُلُ إلَّا لِبَعْضِ أَفْرَادٍ وَأَنَّ النَّاسَ يَعْتَمِدُونَ فِيهِ عَلَى الْخَبَرِ كَانَ الْخَبَرُ مُسَوِّغًا لِلشَّهَادَةِ وَإِلَّا ضَاعَتْ حُقُوقٌ عَظِيمَةٌ تَبْقَى عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ كَالنَّسَبِ وَالنِّكَاحِ وَالْإِرْثِ وَالْمَوْتِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مِثْلُ الْعِدَّةِ وَالْإِحْصَانِ وَكَمَالِ الْمَهْرِ فِي الدُّخُولِ، وَالْحَاسِمُ لِمَادَّةِ الشَّغَبِ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما وَأَنَّهَا زَوْجَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ دَخَلَ بِهَا، وَأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه ابْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرَ رضي الله عنه بْنَ الْخَطَّابِ، وَأَنَّ شُرَيْحًا كَانَ قَاضِيًا، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رضي الله عنه مَاتُوا وَإِنْ لَمْ نُعَايِنْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.

وَحُكِيَ فِي الْخُلَاصَةِ عَنْ ظَهِيرِ الدِّينِ

ص: 389

فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِالِاشْتِهَارِ وَذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ.

وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِيَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ عِلْمٍ. وَقِيلَ فِي الْمَوْتِ يَكْتَفِي بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يُشَاهِدُ غَيْرُ الْوَاحِدِ إذْ الْإِنْسَانُ يَهَابُهُ وَيَكْرَهُهُ فَيَكُونُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ بَعْضُ الْحَرَجِ، وَلَا كَذَلِكَ النَّسَبُ وَالنِّكَاحُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ

فِي الدُّخُولِ: لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ الدُّخُولَ يُثْبِتَ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ.

وَنَصَّ الْخَصَّافُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِالتَّسَامُعِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَشْتَهِرُ، بِخِلَافِ الزِّنَا فَإِنَّهُ فَاحِشَةٌ تُسْتَرُ (قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ) فَيَشْهَدَ أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ أَمِيرٌ أَوْ قَاضٍ، أَمَّا إذَا فَسَّرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ شَهِدَ عَنْ تَسَامُعٍ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، كَمَا أَنَّهُ إذَا شَهِدَ بِالْمِلْكِ لِمُعَايَنَةِ الْيَدِ حَلَّ لَهُ وَتُقْبَلُ، وَلَوْ فَسَّرَ فَقَالَ لِأَنِّي رَأَيْتهَا فِي يَدِهِ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا تُقْبَلُ. وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: شَهِدَا عَلَى النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ وَفَسَّرَا وَقَالَا سَمِعْنَا ذَلِكَ مِنْ قَوْمٍ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لَا تُقْبَلُ. وَقِيلَ تُقْبَلُ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ: لَوْ قَالَا أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ مَنْ نَثِقُ بِهِ تُقْبَلُ وَجَعَلَهُ الْأَصَحَّ وَاخْتَارَهُ الْخَصَّافُ. وَفِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ: لَوْ شَهِدَ عَلَى النِّكَاحِ فَسَأَلَهُمَا الْقَاضِي هَلْ كُنْتُمَا حَاضِرَيْنِ فَقَالَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُمَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ، وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ كَأَنَّهُمَا قَالَا لَمْ نُعَايِنْ. وَلَوْ شَهِدَا وَقَالَا سَمِعْنَا لَا تُقْبَلُ فَكَذَا هَذَا. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُمَا دَفَنَاهُ أَوْ قَالَا شَهِدْنَا جِنَازَتَهُ تُقْبَلُ.

وَلَوْ شَهِدَ بِالْمَوْتِ وَاحِدٌ وَآخَرُ بِالْحَيَاةِ تَأْخُذُ امْرَأَتُهُ بِشَهَادَةِ الْمَوْتِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْعَارِضَ، ذَكَرَهُ رَشِيدُ الدِّينِ فِي فَتَاوَاهُ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ أَخْبَرَهَا وَاحِدٌ بِمَوْتِهِ وَاثْنَانِ بِحَيَاتِهِ، إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ بِالْمَوْتِ عَدْلًا

ص: 390

أَمَّا إذَا فَسَّرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالتَّسَامُعِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ كَمَا أَنَّ مُعَايَنَةَ الْيَدِ فِي الْأَمْلَاكِ تُطْلِقُ الشَّهَادَةَ، ثُمَّ إذَا فَسَّرَ لَا تُقْبَلُ كَذَا هَذَا.

وَلَوْ رَأَى إنْسَانًا جَلَسَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخُصُومُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى كَوْنِهِ قَاضِيًا وَكَذَا إذَا رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً يَسْكُنَانِ بَيْتًا وَيَنْبَسِطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ انْبِسَاطَ الْأَزْوَاجِ كَمَا إذَا رَأَى عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِ. وَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ شَهِدَ دَفْنَ فُلَانٍ أَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ فَهُوَ مُعَايَنَةٌ، حَتَّى لَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي قَبْلَهُ ثُمَّ قَصَرَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكِتَابِ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ يَنْفِي اعْتِبَارَ التَّسَامُعِ فِي الْوَلَاءِ وَالْوَقْفِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله آخِرًا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَلَاءِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ»

وَيَشْهَدُ أَنَّهُ عَايَنَ مَوْتَهُ أَوْ جِنَازَتَهُ وَسِعَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.

ثُمَّ قَالَ: هَذَا إذَا لَمْ يُؤَرِّخَا، فَإِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ شَاهِدِي الْحَيَاةِ بَعْدَ تَارِيخِ شَاهِدِ الْمَوْتِ فَشَهَادَةُ شَاهِدِي الْحَيَاةِ أَوْلَى وَكَذَا بِقَتْلِهِ انْتَهَى. وَأَطْلَقَ فِي وَصَايَا عِصَامِ الدِّينِ فَقَالَ: شَهِدَا أَنَّ زَوْجَهَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ وَآخَرَانِ عَلَى الْحَيَاةِ فَالْمَوْتُ أَوْلَى.

وَفِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ: شَهِدَ عِنْدَهَا عَدْلٌ أَنَّ زَوْجَهَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ هَلْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ؟ رِوَايَتَانِ: فِي السِّيَرِ لَا يَجُوزُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ.

وَمِنْ فُرُوعِ التَّسَامُعِ فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ: قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَةٍ: سَمِعْت أَنَّ زَوْجَكِ مَاتَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ أَخْبَرَهَا جَمَاعَةٌ أَنَّهُ حَيٌّ إنْ صَدَّقَتْ الْأَوَّلَ يَصِحُّ النِّكَاحَ. وَفِي الْمُنْتَقَى لَمْ يَشْتَرِطْ تَصْدِيقَهَا بَلْ شَرَطَ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فَقَطْ، وَقَدْ يَخَالُ أَنَّ هَذَا خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ.

وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَلِّ إقْدَامِهَا وَعَدَمِهِ، وَهَذَا بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ وَاسْتَحَقَّهَا الزَّوْجُ الثَّانِي ظَاهِرًا، وَالشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ إذَا أَخْبَرَهَا وَاحِدٌ عَدْلٌ أَوْ شَهِدَ عِنْدَ وَلِيِّهَا بِأَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا صِدْقُهُ لَهَا أَنْ تَعْتَدَّ وَتَتَزَوَّجَ. وَذَكَرَ رَشِيدُ الدِّينِ أَيْضًا فِيهِ إنَّمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ عَلَى الْمَوْتِ إذَا كَانَ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِأَنْ كَانَ عَالِمًا أَوْ مِنْ الْعُمَّالِ، أَمَّا إذَا كَانَ تَاجِرًا أَوْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالْمُعَايَنَةِ (قَوْلُهُ ثُمَّ قَصَدَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكِتَابِ) أَيْ اسْتِثْنَاءَ الْقُدُورِيِّ حَيْثُ قَالَ: إلَّا فِي النَّسَبِ إلَى آخَرِ الْأَشْيَاءِ

ص: 391

وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ، إلَّا أَنَّا نَقُولُ الْوَلَاءُ يُبْتَنَى عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمُعَايَنَةِ فَكَذَا فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْوَقْفُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِي أَصْلِهِ دُونَ شَرَائِطِهِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ هُوَ الَّذِي يَشْتَهِرُ.

الْخَمْسَةِ يَنْفِي اعْتِبَارَ التَّسَامُعِ فِي الْوَلَاءِ وَالْوَقْفِ فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِيهِمَا.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تَجُوزُ فِي الْوَلَاءِ بِالتَّسَامُعِ رَجَعَ إلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلًا يَقُولُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا تَجُوزُ إلَّا أَنْ يَسْمَعَا الْعِتْقَ. ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنَّهُ تَجُوزُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَفِي النَّسَبِ تَجُوزُ بِالتَّسَامُعِ، فَكَذَا فِي الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ قَنْبَرًا مَوْلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَنَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَبِلَالًا مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.

وَلَهُمَا أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ لِقَوْلِهِ قَوْلًا يُسْمَعُ، وَكَثِيرًا مَا يُقْصَدُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ لَا يَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ فَكَذَا مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ، وَلَيْسَ تَجْوِيزُنَا بِالسَّمَاعِ لِكَوْنِ الشَّيْءِ مِمَّا يَشْتَهِرُ بَلْ لِلضَّرُورَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النَّسَبَ لَا يُرَى إذْ لَا يُرَى الْعُلُوقُ، وَكَذَا تَقْلِيدُ الْقَاضِي الْقَضَاءَ إلَّا الْخَوَاصُّ وَالْمَوْتُ وَالْبَاقِي فَيُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَا كَذَلِكَ الْعِتْقُ.

وَكَوْنُ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَنَحْوُهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ الْحَقِّ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنْ لَا خِلَافَ فِي الْعِتْقِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بِالتَّسَامُعِ، وَعَلَيْهِ نَصَّ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِي الْعِتْقِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجُوزُ بِالتَّسَامُعِ خِلَافًا لَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَشَرَطَ الْخَصَّافُ فِي الْوَلَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ شَرْطًا لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: إنَّمَا تُقْبَلُ إذَا كَانَ الْعِتْقُ مَشْهُورًا وَلِلْمُعْتِقِ أَبَوَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَأَمَّا الْوَقْفُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ عَلَيْهِ فِي أَصْلِهِ) وَقَالَ الْأَقْطَعُ فِي شَرْحِهِ: قَالَ مُحَمَّدٌ تَجُوزُ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ أَصْلَهُ هُوَ الَّذِي يَشْتَهِرُ لَيْسَ بِذَاكَ، وَالْوَجْهُ فِي التَّوْجِيهِ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا مِمَّا يُقْصَدُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ لَكِنَّهُ فِي تَوَالِي الْأَعْصَارِ تَبِيدُ الشُّهُودُ وَالْأَوْرَاقُ مَعَ اشْتِهَارِ وَقْفِيَّتِهِ فَيَبْقَى فِي الْبَقَاءِ سَائِبَةٌ إنْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ بِهِ بِالتَّسَامُعِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ فَالصَّحِيحُ إلَخْ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ. قَالَ فِي الْفُصُولِ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ. قَالَ بَعْضُهُمْ تَحِلُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَحِلُّ. وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ تَجُوزُ عَلَى أَصْلِ الْوَقْفِ بِالتَّسَامُعِ لَا عَلَى شَرَائِطِهِ، وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَلَيْسَ مَعْنَى الشُّرُوطِ أَنْ يُبَيِّنَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ بَلْ أَنْ يَقُولَ يَبْدَأُ مِنْ غَلَّتِهَا بِكَذَا وَكَذَا وَالْبَاقِي كَذَا وَكَذَا.

وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ: إذَا شَهِدُوا أَنَّ هَذَا وَقْفٌ عَلَى كَذَا وَلَمْ يُبَيِّنُوا الْوَاقِفَ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ. وَنَصٌّ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ ظَهِيرِ الدِّينِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَقْفُ قَدِيمًا لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ

ص: 392

قَالَ (وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَسِعَك أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ) لِأَنَّ الْيَدَ أَقْصَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمِلْكِ إذْ هِيَ مَرْجِعُ الدَّلَالَةِ فِي الْأَسْبَابِ كُلِّهَا فَيَكْتَفِي بِهَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ

الْوَاقِفِ، وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّ هَذِهِ الضَّيْعَةَ وَقْفٌ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْجِهَةَ لَا تَجُوزُ وَلَا تُقْبَلُ بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولُوا وَقْفٌ عَلَى كَذَا. ثُمَّ قَالَ: وَمَا ذُكِرَ هُنَا.

وَفِي الْأَصْلِ صُورَتُهُ: أَنْ يَشْهَدُوا بِالتَّسَامُعِ أَنَّهَا وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَقْبَرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِغَلَّتِهَا فَيُصْرَفُ إلَى كَذَا ثُمَّ مَا فَضُلَ يُصْرَفُ إلَى كَذَا لَا يُشْهَدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِالتَّسَامُعِ، وَهَكَذَا قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْجِهَةِ أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَقْبَرَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ.

قَالَ: وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِمْ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى شَرَائِطِ الْوَقْفِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِهَةِ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ يَبْدَأُ مِنْ غَلَّتِهِ فَيُصْرَفُ إلَى كَذَا وَكَذَا، وَلَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِ لَا تُقْبَلُ. ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ. وَذَكَرَ فِي الْمُجْتَبَى وَالْمُخْتَارِ أَنْ تُقْبَلَ عَلَى شَرَائِطِ الْوَقْفِ أَيْضًا. وَأَنْتَ إذَا عَرَفْت قَوْلَهُمْ فِي الْأَوْقَافِ الَّتِي انْقَطَعَ ثُبُوتُهَا وَلَمْ يُعْرَفْ لَهَا شَرَائِطُ وَمَصَارِفُ أَنَّهَا يَسْلُكُ بِهَا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي دَوَاوِينِ الْقُضَاةِ لَمْ تَقِفْ عَنْ تَحْسِينِ مَا فِي الْمُجْتَبَى لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الثُّبُوتِ بِالتَّسَامُعِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ إلَخْ) صُورَتُهَا: رَأَى عَيْنًا سِوَى مَا اسْتَثْنَاهُ فِي يَدِ إنْسَانٍ ثُمَّ رَآهَا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْمِلْكَ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُدَّعِي لِأَنَّ الْمِلْكَ يُعْرَفُ بِالظَّاهِرِ وَالْيَدُ بِلَا مُنَازَعٍ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَلَا دَلِيلَ سِوَاهُ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُمْكِنُ فِيهِ أَنْ يُعَايِنَ سَبَبُ الْمِلْكِ مِنْ الشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَمَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَشَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الثَّانِي حَتَّى يَكُونَ مِلْكُ الْأَوَّلِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَلِّ الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ. وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أُسْنِدَ هَذَا الْقَوْلُ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَفْظُهُ وَعَنْهُمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَالُوا يَعْنِي الْمَشَايِخَ:

ص: 393

قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرًا لِإِطْلَاقِ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي الرِّوَايَةِ فَيَكُونُ شَرْطًا عَلَى الِاتِّفَاقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: دَلِيلُ الْمِلْكِ الْيَدُ مَعَ التَّصَرُّفِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رحمهم الله لِأَنَّ الْيَدَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى إنَابَةٍ وَمِلْكٍ.

قُلْنَا: وَالتَّصَرُّفُ يَتَنَوَّعُ أَيْضًا إلَى نِيَابَةٍ وَأَصَالَةٍ. ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ: إنْ عَايَنَ الْمَالِكُ الْمِلْكَ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَكَذَا

يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرًا لِإِطْلَاقِ مُحَمَّدٍ فِي الرِّوَايَةِ. قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْكُلِّ وَبِهِ نَأْخُذُ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي حِلِّ الشَّهَادَةِ الْيَقِينُ لِمَا عُرِفَ، فَعِنْدَ تَعَذُّرِهِ يُصَارُ إلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الْقَلْبُ لِأَنَّ كَوْنَ الْيَدِ مُسَوِّغًا بِسَبَبِ إفَادَتِهَا ظَنَّ الْمِلْكِ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْقَلْبِ ذَلِكَ لَا ظَنَّ فَلَمْ يُفِدْ مُجَرَّدَ الْيَدِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إذَا رَأَى إنْسَانٌ دُرَّةً ثَمِينَةً فِي يَدِ كَنَّاسٍ أَوْ كِتَابًا فِي يَدِ جَاهِلٍ لَيْسَ فِي آبَائِهِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ لَهُ فَعُرِفَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْيَدِ لَا يَكْفِي.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دَلِيلُ الْمِلْكِ الْيَدُ مَعَ التَّصَرُّفِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَهُوَ الْخَصَّافُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، لِأَنَّ الْيَدَ تَتَنَوَّعُ إلَى مِلْكٍ وَنِيَابَةٍ وَضَمَانٍ.

قُلْنَا: وَكَذَا التَّصَرُّفُ أَيْضًا فَلَمْ يَزُلْ احْتِمَالُ عَدَمِ الْمِلْكِ بِالتَّصَرُّفِ، ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ الشَّهَادَةَ حَتَّى لَوْ قَالَ إنَّهُ شَهِدَ بِنَاءً عَلَى الْيَدِ لَا تُقْبَلُ، وَهَذَا لِأَنَّ مُعَايَنَةَ الْيَدِ مُطْلِقٌ لِلشَّهَادَةِ مُجَوِّزٌ لَهَا لَا مُوجِبٌ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ وَالْقَاضِي يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ بِالشَّهَادَةِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِالْعِمَارَةِ وَالْهَدْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِيعَتْ دَارٌ إلَى جَانِبِهَا فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهَا فِي يَدِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا إذَا أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الدَّارَ الَّتِي فِي يَدِهِ مِلْكُهُ لِأَنَّ الْعِيَانَ لَيْسَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ بَلْ لِلْجَوَازِ (قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ عَايَنَ الْمِلْكَ إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنْ يُعَايِنَ الْمِلْكَ وَالْمَالِكَ، وَهُوَ إنْ عَرَفَ الْمَالِكَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ

ص: 394

إذَا عَايَنَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ دُونَ الْمَالِكِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ فَيَحْصُلُ مَعْرِفَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْهَا أَوْ عَايَنَ الْمَالِكَ دُونَ الْمِلْكِ لَا يَحِلُّ لَهُ.

وَوَجْهِهِ وَعَرَفَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ وَرَآهُ فِي يَدِهِ بِلَا مُنَازَعٍ ثُمَّ رَآهُ فِي يَدِ آخَرَ فَجَاءَ الْأَوَّلُ وَادَّعَاهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ وَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِلْكِ الْمَمْلُوكُ.

الثَّانِي أَنْ يُعَايِنَ الْمِلْكَ دُونَ الْمَالِكِ بِأَنْ عَايَنَ مِلْكًا بِحُدُودِهِ يُنْسَبُ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ وَنَسَبِهِ ثُمَّ جَاءَ الَّذِي نُسِبَ إلَيْهِ الْمِلْكُ وَادَّعَى مِلْكَ هَذَا الْمَحْدُودِ عَلَى شَخْصٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ جَوَازَ الشَّهَادَةِ، فَكَذَا فِي الْمَشْهُودِ لَهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمِلْكَ الْمَشْهُودَ بِهِ مَعْلُومٌ وَالنَّسَبَ يَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ فَصَارَ الْمَالِكُ مَعْلُومًا بِالتَّسَامُعِ أَيْضًا. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ بِالتَّسَامُعِ. وَأُجِيبَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ هُنَا لَيْسَتْ قَصْدًا بَلْ بِالنَّسَبِ وَفِي ضِمْنِهِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فَيَجُوزُ، وَهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ هَذَا الْمِلْكَ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ فَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِنَسَبِ الْمَالِكِ بِالتَّسَامُعِ وَثَبَتَ مُلْكُهُ فِي ضِمْنِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْمُتَضَمِّنِ لَا الْمُتَضَمَّنِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يُوجِبْ ثُبُوتَ مِلْكِهِ لِتِلْكَ الضَّيْعَةِ لَوْلَا الشَّهَادَةُ بِهِ، وَكَذَا الْمَقْصُودُ لَيْسَ إثْبَاتُ النَّسَبِ بَلْ الْمِلْكِ فِي الضَّيْعَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَعَلَى هَذَا قَالَ النَّاضِحِيُّ: فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ امْرَأَةً لَا تَخْرُجُ وَلَا يَرَاهَا الرِّجَالُ، فَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ مَشْهُورًا أَنَّهُ لَهَا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ لِأَنَّ شُهْرَةَ الِاسْمِ كَالْمُعَايَنَةِ.

الثَّالِثُ أَنْ لَا يُعَايِنَ الْمِلْكَ وَلَا الْمَالِكَ بَلْ سَمِعَ أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ ضَيْعَةً فِي قَرْيَةِ كَذَا حُدُودُهَا كَذَا وَهُوَ لَمْ يَعْرِفْ تِلْكَ الضَّيْعَةَ وَلَمْ يُعَايِنْ يَدَهُ عَلَيْهَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ لِأَنَّهُ مُجَازِفٌ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ.

الرَّابِعُ أَنْ يُعَايِنَ الْمَالِكَ بِأَنْ عَرَفَهُ مَعْرِفَةً تَامَّةً كَمَا ذَكَرْنَا وَسَمِعَ أَنَّ لَهُ ضَيْعَةً فِي كُورَةِ كَذَا وَهُوَ

ص: 395

وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَكُونُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ إلَّا أَنَّهُمَا صَغِيرَانِ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ فَذَلِكَ مَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيُدْفَعُ يَدُ الْغَيْرِ عَنْهُمَا فَانْعَدَمَ دَلِيلُ الْمِلْكِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِمَا أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالثِّيَابِ، وَالْفَرْقُ مَا بَيِّنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

لَا يَعْرِفُ تِلْكَ الضَّيْعَةَ بِعَيْنِهَا لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِلْمُ بِالْمَحْدُودِ

(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ) يَعْنِي إذَا عَايَنَهُمَا فِي يَدِ إنْسَانٍ يَخْدُمَانِهِ إذَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُمَا مِلْكَهُ سَوَاءٌ كَانَا صَغِيرَيْنِ أَوْ كَبِيرَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِوَصْفِ الرِّقِّ لَا يَدَ لَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَقَدْ شُوهِدَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا فَكَانَ كَرُؤْيَةِ ثَوْبٍ فِي يَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ رِقَّهُمَا، فَإِنْ كَانَا صَغِيرَيْنِ: أَيْ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِمِلْكِهِمَا لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا لَا يَدَ لَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا، وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ: أَيْ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا سَوَاءٌ كَانَا صَبِيَّيْنِ عَاقِلَيْنِ أَوْ بَالِغَيْنِ بِهِ صَرَّحَ الْمَحْبُوبِيُّ فَهُوَ مَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَتَدْفَعُ الْغَيْرَ عَنْهُمَا، حَتَّى أَنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي يَعْقِلُ لَوْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ جَازَ إقْرَارُهُ وَيَصْنَعُ الْمُقِرُّ لَهُ بِهِ مَا يَصْنَعُ بِمَمْلُوكِهِ، وَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لَا تَكُونُ الْيَدُ دَلِيلَ الْمِلْكِ إذْ الْحُرُّ قَدْ يَخْدُمُ الْحُرَّ خِدْمَةَ الْعَبِيدِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ يُهْدَرُ إذَا كَانَا لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا فَلَا يَزَالُ اعْتِبَارُهُ إلَّا بِإِقْرَارِهِمَا بِالرِّقِّ، فَإِنْ لَمْ يُقِرَّا لَا تَثْبُتُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِمَا بِهِ، وَإِنَّمَا لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُمَا الْحُرِّيَّةَ بَعْدَمَا كَبِرَا فِي يَدِ مَنْ هُمَا فِي يَدِهِ لِظُهُورِ الرِّقِّ عَلَيْهِمَا بِالْيَدِ فِي حَالِ صِغَرِهِمَا. هَذَا وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِي الْكَبِيرَيْنِ أَيْضًا، وَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَجَعَلُوا الْيَدَ فِي الْكُلِّ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ وَذُو الْيَدِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فَالْقَوْلُ لِذِي الْيَدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِقِيَامِ يَدِهِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ (وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا) يُرِيدُ كَوْنَ يَدَيْهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَتُدْفَعُ الْيَدُ عَنْهُمَا.

ص: 396

(بَابُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ)

قَالَ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: تُقْبَلُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى السَّمَاعِ وَلَا خَلَلَ فِيهِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَجُوزُ إذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْأَدَاءُ يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ وَلِسَانُهُ غَيْرُ مُوفٍ وَالتَّعْرِيفُ يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَيِّتِ.

(بَابُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ)

لَمَّا ذَكَرَ تَفْصِيلَ مَا يُسْمَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُ وَأَخَّرَهُ لِأَنَّ الْمَحَالَّ شُرُوطٌ وَالشَّرْطُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ التُّهْمَةَ تُبْطِلُ الشَّهَادَةَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ» وَالتُّهْمَةُ تَثْبُتُ مَرَّةً بِعَدَمِ الْعَدَالَةِ وَمَرَّةً بِعَدَمِ التَّمْيِيزِ مَعَ قِيَامِ الْعَدَالَةِ (قَوْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى) مُطْلَقًا سَوَاءٌ عَمِيَ قَبْلَ التَّحَمُّلِ أَوْ بَعْدَهُ فِيمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ أَوْ لَا تَجُوزُ (وَقَالَ زُفَرُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: تُقْبَلُ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّسَامُعُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ لِلسَّمَاعِ وَلَا خَلَلَ فِي سَمْعِهِ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ.

وَتُقْبَلُ فِي التَّرْجَمَةِ عِنْدَ الْكُلِّ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ بِالسَّمَاعِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجُوزُ فِيمَا طَرِيقُهُ السَّمَاعُ، وَمَا لَا يَكْفِي فِيهِ السَّمَاعُ إذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ ثُمَّ عَمِيَ عِنْدَ الْأَدَاءِ إذَا كَانَ يَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ

ص: 397

وَلَنَا أَنَّ الْأَدَاءَ يَفْتَقِرُ إلَى التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمَيِّزُ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ، وَفِيهِ شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ وَالنِّسْبَةِ لِتَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ فَصَارَ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

وَلَوْ عَمِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ يَمْتَنِعُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ قِيَامَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ وَقْتَ الْقَضَاءِ

وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ كَفَى كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْمَيِّتِ (وَلَنَا أَنَّ الْأَدَاءَ يَفْتَقِرُ إلَى التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَعَلَيْهِ) وَهُوَ مُنْتَفٍ عَنْ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ (وَفِيهِ) أَيْ فِي التَّمْيِيزِ بِالنَّغْمَةِ (شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ) فَلَمْ تَقَعْ ضَرُورَةٌ إلَى إهْدَارِ هَذِهِ التُّهْمَةِ، بِخِلَافِ وَطْءِ الْأَعْمَى زَوْجَتَهُ وَأَمَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِجِنْسِ

ص: 398

لِصَيْرُورَتِهَا حُجَّةً عِنْدَهُ وَقَدْ بَطَلَتْ وَصَارَ كَمَا إذَا خَرِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ فَسَقَ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا، لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْمَوْتِ قَدْ انْتَهَتْ وَبِالْغَيْبَةِ مَا بَطَلَتْ.

(قَالَ وَلَا الْمَمْلُوكِ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ لَا يَلِي نَفْسَهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ

النِّسَاءِ فَأُهْدِرَتْ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُ وَالِاكْتِفَاءُ بِالنِّسْبَةِ فِي تَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِجِنْسِ الْمَشْهُودِ، عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ لَمْ تَقَعْ إلَى وَكِيلِ الْغَائِبِ وَوَصِيِّ الْمَيِّتِ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ بِالْحُدُودِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ شَهَادَةَ الْأَعْمَى لَا تُقْبَلُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ بَلْ مَا تَقَدَّمَ يَكْفِي إذْ الرَّدُّ بِتُهْمَةٍ مَا فِي الْحُدُودِ لَا يَسْتَلْزِمُ الرَّدَّ بِمِثْلِهَا فِي غَيْرِهَا لِأَنَّ تِلْكَ يُحْتَاطُ فِي دَرْءِ الْحُكْمِ فِيهَا.

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ رَدَّ شَهَادَةَ الْأَعْمَى فَيَقُولُ أَبُو يُوسُفَ هَذِهِ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَجَازَ كَوْنُهُ كَانَ فِي حَدٍّ وَنَفْيِهِ، وَقَيَّدَ فِي الذَّخِيرَةِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ بِمَا إذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُ فِي الدَّيْنِ وَالْعَقَارِ.

أَمَّا فِي الْمَنْقُولِ فَأَجْمَعَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ. وَاسْتُشْكِلَ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، فَإِنَّ الشُّهُودَ لَا يُشِيرُونَ إلَى أَحَدٍ وَتُقْبَلُ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ فِيهِ يَعْرِفُونَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ لَوْ رَأَيْنَاهُ عَرَفْنَاهُ، وَالْأَعْمَى لَا يَعْرِفُهُ، إذْ لَوْ رَآهُ لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى لَوْ قَالُوا فِي كِتَابِ الْقَاضِي لَا نَعْرِفُهُ الْيَوْمَ لَمْ تُقْبَلْ. وَأَيْضًا فَنَقُولُ: كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا ضَرُورَةَ فِي شَهَادَةِ الْأَعْمَى لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ هَذَا.

قَالَ: فَلَوْ أَدَّى بَصِيرًا ثُمَّ عَمِيَ قَبْلَ الْقَضَاءِ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ قِيَامَ الْأَهْلِيَّةِ شُرِطَ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِصَيْرُورَةِ الشَّهَادَةِ حُجَّةً عِنْدَهُ أَيْ عِنْدَ الْقَضَاءِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُرَادُ لِلْقَضَاءِ فَمَا يَمْنَعُ الْأَدَاءَ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ، وَالْعَمَى وَالْخَرَسُ وَالْجُنُونُ وَالْفِسْقُ يَمْنَعُ الْأَدَاءَ فَيَمْنَعُ الْقَضَاءَ، وَأَبُو يُوسُفَ قَاسَهُ بِمَا إذَا غَابَ الشَّاهِدُ بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ مَاتَ. قُلْنَا: بِالْمَوْتِ انْتَهَتْ الشَّهَادَةُ وَتَمَّتْ بِالْغَيْبَةِ مَا بَطَلَتْ، بِخِلَافِ الْعَمَى فَإِنَّهُ مُبْطِلٌ لَهَا.

وَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ لَا تَتَحَقَّقُ مِنْهُ، وَنُقِضَ بِأَنَّ الْأَصَحَّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله تُقْبَلُ إذَا كَانَتْ فِيهِ إشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ التُّهْمَةِ فِي الْإِشَارَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْقَبُولِ مِنْ الْأَعْمَى لِأَنَّ فِي الْأَعْمَى إنَّمَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ فِي نِسْبَتِهِ وَهُنَا تَتَحَقَّقُ فِي نِسْبَتِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ قَدْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَأُمُورٍ أُخَرَ.

(قَوْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَمْلُوكِ) أَيْ الرَّقِيقِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَحْمَدُ تُقْبَلُ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُد. وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: تُقْبَلُ عَلَى مِثْلِهِ لَا الْأَحْرَارِ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ

ص: 399

(وَلَا الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} وَلِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَانِعًا فَيَبْقَى بَعْدَ التَّوْبَةِ كَأَصْلِهِ، بِخِلَافِ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ لِأَنَّ الرَّدَّ لِلْفِسْقِ وَقَدْ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله

فِي الْمَنْعِ عَدَمُ وِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا هُوَ إلَّا مَعْنًى ضَعِيفٌ بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَةِ الْعَبْدِ وَتَمَامِ تَمَيُّزِهِ وَعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ لِعَارِضٍ يَخُصُّهُ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى لَا لِنَقْصٍ فِي عَقْلِهِ وَلَا خَلَلٍ فِي تَحَمُّلِهِ وَضَبْطِهِ فَلَا مَانِعَ.

وَأَمَّا ادِّعَاءُ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ فَلَمْ يَصِحَّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: شَهَادَةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ عَدْلًا. وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى.

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ إلَّا الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ.

وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ، وَقَالَ شُرَيْحٌ كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّبِيِّ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَعَنْ مَالِكٍ تُقْبَل فِي الْجِرَاحِ إذَا كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِأَمْرٍ مُبَاحٍ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه. وَالْوَجْهُ أَنْ لَا تُقْبَلُ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَرُبَّمَا يَقْدَمُ لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ.

[فُرُوعٌ] إذَا تَحَمَّلَ شَهَادَةً لِمَوْلَاهُ فَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى عَتَقَ فَأَدَّاهَا بَعْدَ الْعِتْقِ قُبِلَتْ، كَالصَّبِيِّ إذَا تَحَمَّلَ فَأَدَّى بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَكَذَا الَّذِي إذَا سَمِعَ إقْرَارَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَأَدَّى جَازَ.

(قَوْلُهُ وَلَا الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ تُقْبَلُ إذَا تَابَ، وَالْمُرَادُ بِتَوْبَتِهِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ شَهَادَتِهِ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فِي قَذْفِهِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ مَعَهُ إصْلَاحُ الْعَمَلِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ يُعْتَبَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} وَقِيلَ لَا لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ تُبْ قَبْلَ شَهَادَتِكَ. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ كَانَ مِنْ الْعُبَّادِ وَحَالُهُ فِي الْعِبَادَةِ مَعْلُومٌ. فَصَلَاحُ الْعَمَلِ كَانَ ثَابِتًا لَهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا التَّوْبَةُ بِإِكْذَابِ نَفْسِهِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} يَنْصَرِفُ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ أَوْ إلَى الْكُلِّ، وَالْمَسْأَلَةُ مُحَرَّرَةٌ فِي الْأُصُولِ، وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مُتَعَاطِفَةً هَلْ

ص: 400

تُقْبَلُ إذَا تَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} اسْتَثْنَى التَّائِبَ. قُلْنَا: الِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيه وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}

يَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ أَوْ إلَى الْأَخِيرَةِ؟ عِنْدَنَا إلَى الْأَخِيرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ثَلَاثُ جُمَلٍ هِيَ قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوهُمْ} ، {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وَالظَّاهِرُ مِنْ عَطْفِ " وَلَا تَقْبَلُوا " أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْحَدِّ لِلْعَطْفِ مَعَ الْمُنَاسَبَةِ وَقَيْدِ التَّأْبِيدِ.

أَمَّا الْمُنَاسَبَةُ فَلِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ مُؤْلِمٌ لِقَلْبِهِ مُسَبَّبٌ عَنْ فِعْلِ لِسَانِهِ كَمَا أَنَّهُ آلَمَ قَلْبَ الْمَقْذُوفِ بِسَبَبِ فِعْلِ لِسَانِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» فَإِنَّهُ لَا يُنَاسِبُ الْحَدَّ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَصْلُحُ مَانِعًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّغْرِيبُ سَبَبُ لِزِيَادَةِ الْوُقُوعُ لِأَنَّهُ لِغُرْبَتِهِ وَعَدَمِ مَنْ يَعْرِفُهُ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ أَحَدٍ يُرَاقِبُهُ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ لَهُ دَاعِيَةَ الزِّنَا أَوْسَعَ فِيهِ، وَكَذَا قَيْدُ التَّأْبِيدِ لَا فَائِدَةَ لَهُ إلَّا تَأْيِيدُ الرَّدِّ، وَإِلَّا لَقَالَ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَعْلِيلِ عَدَمِ الْقَبُولِ.

ثُمَّ اسْتَثْنَى الَّذِينَ تَابُوا، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّدَّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَيْسَ إلَّا لِلْفِسْقِ وَيَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّأْبِيدِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَبُولِ بِالتَّوْبَةِ. وَأَمَّا رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْكُلِّ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُحَارَبِينَ {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} إلَى قَوْله تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} حَتَّى سَقَطَ عَنْهُمْ الْحَدُّ فَلِدَلِيلٍ اقْتَضَاهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فَإِنَّهُ لَوْ عَادَ إلَى الْأَخِيرَةِ: أَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فَائِدَةٌ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْعَذَابَ.

فَفَائِدَةُ قَوْله تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} لَيْسَ إلَّا سُقُوطُ الْحَدِّ، وَهَذَا لِأَنَّا إنَّمَا نَقُولُ بِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْأَخِيرَةِ فَقَطْ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ دَلِيلِ عَوْدِهِ إلَى الْكُلِّ، فَأَمَّا إذَا اقْتَرَنَ بِهِ عَادَ إلَيْهَا كَمَا يَقُولُ هُوَ إنَّ عَوْدَهُ إلَى الْكُلِّ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ دَلِيلِ عَوْدِهِ إلَى الْأَخِيرَةِ فَقَطْ وَلَوْ اقْتَرَنَ بِهِ عَادَ إلَيْهَا فَقَطْ، وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْحُدُودِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِمَا يُوجِبُ أَنَّ الرَّدَّ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ فَكَانَ قِيَاسًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ.

لَا يُقَالُ: رَدُّ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ يَنْفِي الْفَائِدَةَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ شَرْعًا أَنَّ التَّوْبَةَ تُزِيلُ الْفِسْقَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّا نَقُولُ: كَوْنُ التَّوْبَةِ تُزِيلُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يُعْرَفُ عَقْلًا بَلْ سَمْعًا، وَذَلِكَ بِإِيرَادِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ السَّمْعِ وَهَذَا مِنْهُ، وَكَوْنُ آيَةٍ أُخْرَى تُفِيدُهُ لَا يَضُرُّ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ طَرِيقَ الْقُرْآنِ تَكْرَارُ الدَّوَالِّ خُصُوصًا إذَا كَانَ مَطْلُوبُ التَّأْكِيدِ {كَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} وَقَدْ تَكَرَّرَ قَوْله تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} لِذَلِكَ الْغَرَضِ، فَفِي آيَةِ {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} إلَى قَوْلِهِ {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .

وَفِي أُخْرَى {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} إلَى قَوْله تَعَالَى {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} وَفِي أُخْرَى {إِلا مَنْ تَابَ} إلَى قَوْله تَعَالَى {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} وَمَوَاضِعُ أُخْرَى عَدِيدَةٌ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنْ يُقَالَ فِي أَحَدِهَا قَدْ عُرِفَ هَذَا بِآيَةٍ أُخْرَى فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا إلَّا مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعِبَادِ لِيُؤَكِّدَ هَذَا الْمَعْنَى، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَعَسَى أَنْ لَا يَسْمَعَهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَإِذَا تَعَدَّدَتْ مَوَاضِعُهُ فَمَنْ لَمْ L

ص: 401

أَوْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ.

(وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ) لِأَنَّ لِلْكَافِرِ شَهَادَةٌ فَكَانَ رَدُّهَا مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ، وَبِالْإِسْلَامِ حَدَّثَتْ لَهُ شَهَادَةٌ أُخْرَى، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا فَتَمَامُ حَدِّهِ يَرُدُّ شَهَادَتَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ.

يَسْمَعْ تِلْكَ الْآيَةَ سَمِعَ تِلْكَ، وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ تِلْكَ سَمِعَ أُخْرَى فَكَانَ فِي تَعْدَادِهِ إفَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى نَصْبَ مَظِنَّةِ عِلْمِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ مَعَ تَأْكِيدِ جَانِبِ عَفْوِهِ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ.

وَأَمَّا مَا عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَك فَفِي ثُبُوتِهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ رَاوِيَهُ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، وَلَوْ تَرَكْنَا النَّظَرَ فِي ذَلِكَ كَانَ مُعَارَضًا بِمَا قَالَهُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي كِتَابِهِ لَهُ: وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَجْلُودًا فِي قَذْفٍ، أَوْ مُجَرَّبًا فِي شَهَادَةِ زُورٍ، أَوْ ظَنِينًا بِقَرَابَةٍ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» وَبِقَوْلِنَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم. قَالَ الْمُصَنِّفُ (أَوْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ) وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّائِبِينَ لَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي الْفَاسِقِينَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ لَكِنَّ الَّذِينَ تَابُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: أَيْ يَغْفِرُ لَهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ، وَإِذَا كَانَ الرَّدُّ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مَانِعًا: أَيْ زَاجِرًا يَبْقَى بَعْدَ التَّوْبَةِ كَأَصْلِهِ: أَيْ كَأَصْلِ الْحَدِّ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، فَكَذَا مَا كَانَ تَمَامًا لَهُ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ عَلَى صِدْقِهِ بَعْدَ الْحَدِّ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ.

(قَوْلُهُ وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ لِلْكَافِرِ شَهَادَةً) فِي الْجُمْلَةِ

ص: 402

(قَالَ وَلَا شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَلَا الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ» وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ مُتَّصِلَةٌ لِهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ فَتَكُونُ شَهَادَةٌ

فَكَانَ رَدُّهَا مِنْ تَمَامِ شَهَادَتِهِ، وَبِالْإِسْلَامِ حَدَثَتْ لَهُ شَهَادَةٌ أُخْرَى بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أُعْتِقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ إذْ ذَاكَ، فَلَزِمَ كَوْنُ تَتْمِيمِ حَدِّهِ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ الَّتِي تَجَدَّدَتْ لَهُ.

وَقَدْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُحَدُّ حَيْثُ تَوَقَّفَ حُكْمُ الْمُوجِبِ فِي الْعَبْدِ إلَى أَنْ أَمْكَنَ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ فِي الزِّنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ إلَى الْإِمْكَانِ بِالْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الزِّنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلًا لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْإِمَامِ، فَلَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ مُخَاطَبًا بِإِقَامَتِهِ أَصْلًا لِأَنَّ الْقُدْرَةَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، فَلَوْ حَدَّهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ آخَرَ كَانَ بِلَا مُوجِبٍ، وَغَيْرُ الْمُوجِبِ لَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ خُصُوصًا فِي الْحَدِّ الْمَطْلُوبِ دَرْؤُهُ. أَمَّا قَذْفُ الْعَبْدِ فَمُوجِبٌ حَالَ صُدُورِهِ لِلْحَدِّ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ تَمَامُهُ فِي الْحَالِ فَتَوَقَّفَ تَتْمِيمُهُ عَلَى حُدُوثِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ فَرْقَ الْمُصَنِّفِ: هَذَا الْفَرْقُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ فِي الدِّيَانَاتِ، أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْمُنْتَقَى أَنْ لَا تُقْبَلَ فَالْفَرْقُ أَنَّ الْكَافِرَ بِالْإِسْلَامِ اسْتَفَادَ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَهَذِهِ الْعَدَالَةُ لَمْ تَصِرْ مَجْرُوحَةً بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ بِالْعِتْقِ لَا يَسْتَفِيدُ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مِنْ قَبْلُ وَقَدْ صَارَتْ عَدَالَتُهُ مَجْرُوحَةً بِإِقَامَةِ الْحَدِّ. ثُمَّ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْيِيدِ الْجَوَابِ فِي الْعَبْدِ بِكَوْنِ الْعِتْقِ بَعْدَ الْحَدِّ فِي قَوْلِهِ إذَا حُدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحَدَّ حَتَّى عَتَقَ فَحُدَّ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا، وَلَكِنْ وَضَعَهُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ سِيقَ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ لَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ حُدَّ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ حُدَّ بَعْضَ الْحَدِّ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَبَعْضَهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ. وَمَرَّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: لَا تَسْقُطُ شَهَادَتُهُ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ تَمَامُ الْحَدِّ، تَسْقُطُ إذَا أُقِيمَ أَكْثَرُهُ، تَسْقُطُ إذَا ضُرِبَ سَوْطًا لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْحُكْمُ شَرْعًا بِكَذِبِهِ.

(قَوْلُهُ وَلَا شَهَادَةُ الْوَالِدِ) وَإِنْ عَلَا لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ (وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ) أَمَّا الْوَلَدُ مِنْ الرَّضَاعِ فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لَهُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " لَا تُقْبَلُ " إلَخْ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ قَوْلِ شُرَيْحٍ قَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الِابْنِ لِأَبِيهِ، وَلَا الْأَبُ لِابْنِهِ، وَلَا الْمَرْأَةُ

ص: 403

لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ تَتَمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ. قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ عَلَى مَا قَالُوا التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَعُدُّ ضَرَرَ أُسْتَاذِهِ ضَرَرَ نَفْسِهِ وَنَفْعَهُ نَفْعَ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ» وَقِيلَ الْمُرَادُ الْأَجِيرُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهِرَةً أَوْ مُيَاوَمَةً فَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِمَنَافِعِهِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَأْجَرِ عَلَيْهَا.

لِزَوْجِهَا، وَلَا الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ، وَلَا الشَّرِيكُ لِشَرِيكِهِ فِي الشَّيْءِ بَيْنَهُمَا لَكِنْ فِي غَيْرِهِ وَلَا الْأَجِيرُ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ وَلَا الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ " انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ بِهِ وَأَخْرَجَا نَحْوَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، لَكِنَّ الْخَصَّافَ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ أَكَابِرُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ كَبِيرٌ فِي الْعِلْمِ رَوَاهُ بِسَنَدِهِ إلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها: ثِنَا صَالِحُ بْنُ زُرَيْقٍ وَكَانَ ثِقَةً: ثِنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ الشَّامِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ. وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ، وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَلَا السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ، وَلَا الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ، وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ» انْتَهَى.

وَقَدْ فَسَّرَ فِي رِوَايَةِ شُرَيْحٍ أَمْرَ الشَّرِيكِ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ» وَهُوَ بَعْضُ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدَّ شَهَادَةَ الْخَائِنِ وَالْخَائِنَةِ وَذِي الْغِمْرِ عَلَى أَخِيهِ وَشَهَادَةَ الْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ وَأَجَازَهَا لِغَيْرِهِمْ» .

قَالَ أَبُو دَاوُد: الْغَمْرُ الشَّحْنَاءُ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَعَنْهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا، وَتَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ تَابَعَهُ غَيْرُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ، وَرَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ فِي ابْنِ مَاجَهْ وَآدَمُ بْنُ فَائِدٍ فِي الدَّارَقُطْنِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرَا فِيهِ الْقَانِعَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ الدِّمَشْقِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَجْلُودٍ حُدَّا، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ. وَلَا مُجَرَّبٍ بِشَهَادَةِ زُورٍ، وَلَا الْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَلَا ظَنِينٍ فِي وَلَاءٍ وَلَا قَرَابَةٍ» انْتَهَى.

وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ الدِّمَشْقِيِّ، وَهُوَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ: وَالْغَمْرُ الْعَدَاوَةُ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْغَمْرُ الْعَدَاوَةُ، وَالْقَانِعُ التَّابِعُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ كَالْخَادِمِ لَهُمْ. قَالَ: يَعْنِي وَيَطْلُبُ مَعَاشَهُ مِنْهُمْ. وَالظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ فِي دِينِهِ. فَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ. فَإِذَا ثَبَتَ رَدُّ الْقَانِعِ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَالْوَلَدُ

ص: 404

قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: تُقْبَلُ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَالْأَيْدِي مُتَحَيِّزَةٌ وَلِهَذَا يَجْرِي الْقِصَاصُ وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ بَيْنَهُمَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لِثُبُوتِهِ ضِمْنًا كَمَا فِي الْغَرِيمِ إذَا شَهِدَ لِمَدْيُونِهِ الْمُفْلِسِ

وَالْوَالِدُ وَنَحْوُهُمَا أَوْلَى بِالرَّدِّ. لِأَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ أَعْظَمُ فِي ذَلِكَ فَيَثْبُتُ حِينَئِذٍ رَدُّ شَهَادَتِهِمْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ الْمَذْكُورِ فِيهِ «وَلَا ظَنِينَ فِي وَلَاءٍ وَلَا قَرَابَةٍ» وَإِنْ كَانَ رَاوِيهِ مُضَعَّفًا.

إذْ لَيْسَ الرَّاوِي الضَّعِيفُ كُلُّ مَا يَرْوِيهِ بَاطِلٌ إنَّمَا يُرَدُّ بِتُهْمَةِ الْغَلَطِ لِضَعْفِهِ، فَإِذَا قَامَتْ دَلَالَةٌ أَنَّهُ أَجَادَ فِي هَذَا الْمَتْنِ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ مُتَّصِلَةٌ فَتَكُونُ شَهَادَةً لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَلِكَوْنِ قَرَابَةِ الْوِلَادِ كَنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَجُزْ شَرْعًا وَضْعُ الزَّكَاةِ فِيهِمْ، وَعَلَى هَذَا كَانَ شُرَيْحٌ " حَتَّى رَدَّ شَهَادَةَ الْحَسَنِ رضي الله عنه حِينَ شَهِدَ مَعَ قَنْبَرٍ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَا سَمِعْتَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ هُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» قَالَ: نَعَمْ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَكِنْ ائْتِ بِشَاهِدٍ آخَرَ، فَقِيلَ عَزَلَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ وَزَادَ فِي رِزْقِهِ " فَقِيلَ رَجَعَ عَلِيٌّ رضي الله عنه إلَى قَوْلِهِ، وَقَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ عَلَى مَا قَالُوا التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَعُدُّ ضَرَرَ أُسْتَاذِهِ ضَرَرَ نَفْسِهِ وَنَفْعَهُ نَفْعَ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ» وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَالتِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي يَأْكُلُ مَعَهُ وَفِي عِيَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ أُجْرَةٌ مَعْلُومَةٌ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ الْأَجِيرُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً أَوْ مُيَاوَمَةً، لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ إجَارَتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دَخَلَتْ مَنْفَعَتُهُ الَّتِي هِيَ الْأَدَاءُ فِي أُجْرَتِهِ فَيَكُونُ مُسْتَوْجِبًا الْأَجْرَ بِهَا فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ مُوجِبًا تَمْلِيكَ مَنَافِعِهِ، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ، بِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ حَيْثُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا تَمْلِيكَ مَنَافِعِهِ بَلْ وَقَعَ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ لَهُ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ فَافْتَرَقَا. وَفِي الْعُيُونِ: قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَوْمًا وَاحِدًا فَشَهِدَ لَهُ الْأَجِيرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: الْقِيَاسُ أَنْ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ كَانَ أَجِيرًا خَاصًّا فَشَهِدَ فَلَمْ يَعْدِلْ حَتَّى ذَهَبَ الشَّهْرُ ثُمَّ عَدَلَ قَالَ أُبْطِلُهَا كَرَجُلٍ شَهِدَ لِامْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا، وَلَوْ شَهِدَ وَلَمْ يَكُنْ أَجِيرًا ثُمَّ صَارَ أَجِيرًا لَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ فَإِنِّي أُبْطِلُ شَهَادَتَهُ فَإِنْ لَمْ تَبْطُلْ حَتَّى بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ ثُمَّ أَعَادَ الشَّهَادَةَ جَازَتْ، كَالْمَرْأَةِ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ ثُمَّ أَعَادَهَا تَجُوزُ. وَمَا فِي زِيَادَاتِ الْأَصْلِ مِنْ قَوْلِهِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ حَمَلَ عَلَى الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ كَمَا حَمَلَ مَا فِي كِتَابِ كَفَالَةِ الْأَصْلِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَصْلِ عَلَى الْأَجِيرِ الْخَاصِّ لِمَا فِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَجِيرِ مُشَاهَرَةً وَإِنْ كَانَ أَجِيرًا مُشْتَرَكٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ اهـ. وَأَمَّا شَهَادَةُ الْأُسْتَاذِ لِلتِّلْمِيذِ وَالْمُسْتَأْجِرِ لِلْأَجِيرِ فَمَقْبُولَةٌ لِأَنَّ مَنَافِعَهُمَا لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِلْمَشْهُودِ لَهُ.

(قَوْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ)

ص: 405

وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مُتَّصِلٌ عَادَةً وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَيَصِيرُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ يَصِيرُ مُتَّهَمًا، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْغَرِيمِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ عَلَى الْمَشْهُودِ بِهِ.

وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ الزَّوْجَةِ أَوْ الزَّوْجِ مَمْلُوكًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْبَلُ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا لِأَنَّ لَهَا حَقًّا فِي مَالِهِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ لَهَا لِعَدَمِ التُّهْمَةِ.

وَجْهُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَالْأَيْدِي مُتَحَيِّزَةٌ: أَيْ كُلُّ يَدٍ فِي حَيِّزٍ غَيْرِ حَيِّزِ الْأُخْرَى فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْهُ مِنْ حَازَ الشَّيْءَ مَنَعَهُ فَلَا اخْتِلَاطَ فِيهَا وَلِهَذَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِمَالِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالنِّكَاحِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ لَأَنْ يَنْتَفِعَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَالِ الْآخَرِ.

وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْمَقْصُودِ عَادَةً وَصَارَ كَالْغَرِيمِ إذَا شَهِدَ لِمَدْيُونِهِ الْمُفْلِسِ بِمَالٍ لَهُ عَلَى آخَرَ تُقْبَلُ مَعَ تَوَهُّمِ أَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِي مَنْفَعَتِهِ. وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ " وَقَدْ سَمِعْتَ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ شُرَيْحٍ وَمَرْفُوعٌ مِنْ رِوَايَةِ الْخَصَّافِ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَصٌّ كَفَى الْمَعْنَى فِيهِ، وَإِلْحَاقُهُ بِقَرَابَةِ الْوِلَادِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِجَامِعِ شِدَّةِ الِاتِّصَالِ فِي الْمَنَافِعِ حَتَّى يُعَدَّ كُلٌّ غَنِيًّا بِمَالِ الْآخَرِ.

وَلِذَا قَالَ تَعَالَى {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} قِيلَ بِمَالِ خَدِيجَةَ رضي الله عنها، بَلْ رُبَّمَا كَانَ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَنَافِعِ، وَالِانْبِسَاطُ فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ، بَلْ قَدْ يُعَادِي أَبَوَيْهِ لِرِضَا زَوْجَتِهِ وَهِيَ لِرِضَاهُ، وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ أَصْلُ الْوِلَادِ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ عَنْهَا تَثْبُتُ فَيَلْحَقُ بِالْوِلَادِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى اتِّصَالِ الْمَنَافِعِ كَمَا أَعْطَى كَسْرَ بَيْضِ الصَّيْدِ حُكْمَ قَتْلِ الصَّيْدِ عِنْدَنَا، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لِأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا زَوْجِيَّةَ. وَفِي الْمُحِيطِ: لَا نَقْبَلُ شَهَادَتَهُ لِمُعْتَدَّتِهِ مِنْ رَجْعِيٍّ وَلَا بَائِنٍ لِقِيَامِ النِّكَاحِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ.

وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ فَارْتَفَعَتْ الزَّوْجِيَّةُ فَأَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رُدَّتْ لِفِسْقٍ ثُمَّ تَابَ وَصَارَ عَدْلًا وَأَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّ الْقَاضِي لَمَّا رَدَّهَا صَارَ مُكَذَّبًا فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ شَرْعًا فَلَا تُقْبَلُ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ إذَا رُدَّتْ ثُمَّ أُعْتِقَ وَأَسْلَمَ وَبَلَغَ وَأَعَادَهَا تُقْبَلُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: لَا تُقْبَلُ كَالرَّدِّ لِلْفِسْقِ. قُلْنَا: رَدَّ شَهَادَتَهُمْ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ لَا لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي الرَّدِّ، فَإِذَا صَارُوا أَهْلًا تُقْبَلُ. وَلَوْ قِيلَ الرَّدُّ فِي الْفِسْقِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِكَذِبِهِ بَلْ لِمُجَرَّدِ تُهْمَتِهِ بِهِ، وَبِالْإِعَادَةِ فِي الْعَدَالَةِ تَرْتَفِعُ تُهْمَةُ كَذِبِهِ فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ بِعَيْنِهَا فَيَجِبُ قَبُولُهَا احْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ، فَصَارَ الْحَاصِلُ: كُلُّ مَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِمَعْنًى وَزَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى

ص: 406

(وَلَا شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ مِنْ وَجْهِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّ الْحَالَ مَوْقُوفٌ مُرَاعَى (وَلَا لِمُكَاتَبِهِ) لِمَا قُلْنَا.

(وَلَا شَهَادَةُ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا، وَلَوْ شَهِدَ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ.

(وَتَقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَعَمِّهِ) لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ وَمَنَافِعَهَا مُتَبَايِنَةٌ وَلَا بُسُوطَةَ لِبَعْضِهِمْ فِي مَالِ الْبَعْضِ.

لَا تُقْبَلُ إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، إلَّا الْعَبْدُ إذَا شَهِدَ فَرُدَّ وَالْكَافِرُ وَالْأَعْمَى وَالصَّبِيُّ إذَا شَهِدَ كُلٌّ مِنْهُمْ فَرُدَّ ثُمَّ أُعْتِقَ وَأَسْلَمَ وَأَبْصَرَ وَبَلَغَ فَشَهِدُوا فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا تُقْبَلُ وَلَا تُقْبَلُ فِيمَا سِوَاهُمْ، وَتُقْبَلُ لِأُمِّ امْرَأَتِهِ وَأَبِيهَا وَلِزَوْجِ بِنْتِهِ وَلِامْرَأَةِ ابْنِهِ وَلِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَلِأُخْتِ امْرَأَتِهِ.

(قَوْلُهُ وَلَا شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْخَصَّافِ، وَلِأَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَمِنْ وَجْهٍ إذَا كَانَ، وَلِأَنَّ الْحَالَ: أَيْ حَالَ مَالِ الْعَبْدِ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى بَيْنَ أَنْ يَصِيرَ لِلْغُرَمَاءِ بِسَبَبِ بَيْعِهِمْ الْمَالَ فِي دَيْنِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَبْقَى لِلْمَوْلَى بِسَبَبِ قَضَائِهِ دَيْنَهُ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ. وَقَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا: يَعْنِي مِنْ أَنَّهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَبِي الْمَوْلَى وَابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ لِهَؤُلَاءِ، وَكَذَا شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا الْمَمْلُوكِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ تُقْبَلَ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ شَهَادَةٌ لِسَيِّدِهِ لَكِنْ مَنَعُوهُ لِلَفْظِ النَّصِّ السَّابِقِ.

"وَلَا الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا " بِخِلَافِ مَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا حَيْثُ تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا وَلِذَا قَالُوا: لَا تُقْبَلُ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ، لِأَنَّ مَا سِوَى هَذِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَيَنْبَغِي أَنْ تُزَادَ الشَّهَادَةُ بِمَا كَانَ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ أَحَدِهِمَا أَوْ كِسْوَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيهِ.

(قَوْلُهُ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَعَمِّهِ) قِيلَ بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ السَّلَفِ: مَنْ قَالَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ، وَلَا شَكَّ فِي ضَعْفِ التُّهْمَةِ لِأَنَّهُ لَا بُسُوطَةَ وَلَيْسَ مَظِنَّةً مُلْزِمَةً لِلْإِلْفِ، بَلْ كَثِيرًا مَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، وَكُلُّ قَرَابَةٍ غَيْرُ الْوِلَادِ كَالْخَالِ

ص: 407

قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ) وَمُرَادُهُ الْمُخَنَّثُ فِي الرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، فَأَمَّا الَّذِي فِي كَلَامِهِ لِينٌ وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ فَهُوَ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ.

(وَلَا نَائِحَةٍ وَلَا مُغَنِّيَةٍ) لِأَنَّهُمَا يَرْتَكِبَانِ مُحَرَّمًا فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام «نَهَى عَنْ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةُ» (وَلَا مُدْمِنِ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ) لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مُحَرَّمَ دِينِهِ

وَالْخَالَةِ وَغَيْرِهِمَا كَالْأَخِ تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ.

(قَوْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ، وَمُرَادُهُ الْمُخَنَّثُ فِي الرَّدِيءِ مِنْ الْأَفْعَالِ) وَهُوَ التَّشَبُّهُ بِالنِّسَاءِ تَعَمُّدًا لِذَلِكَ فِي تَزْيِينِهِ وَتَكْسِيرِ أَعْضَائِهِ وَتَلْيِينِ كَلَامِهِ كَمَا هُوَ صِفَتُهُنَّ لِكَوْنِ ذَلِكَ مَعْصِيَةً. رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَعَنَ اللَّهُ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنْ النِّسَاءِ» يَعْنِي الْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ، فَكَيْفَ إذَا تَشَبَّهَ بِهِنَّ فِيمَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا الَّذِي فِي كَلَامِهِ لِينٌ خِلْقَةً وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ خِلْقَةً فَهُوَ عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ.

(قَوْلُهُ وَلَا نَائِحَةٍ وَلَا مُغَنِّيَةٍ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ، فَأَطْلَقَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَا مَنْ يُغَنِّي لِلنَّاسِ، فَوَرَدَ أَنَّهُ تَكْرَارٌ لِعِلْمِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ: مُغَنِّيَةٍ. وَالْوَجْهُ أَنَّ اسْمَ مُغَنِّيَةٍ وَمُغَنٍّ إنَّمَا هُوَ فِي الْعُرْفِ لِمَنْ كَانَ الْغِنَاءُ حِرْفَتَهُ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا الْمَالَ؛ أَلَا تَرَى إذَا قِيلَ مَا حِرْفَتُهُ أَوْ مَا صِنَاعَتُهُ يُقَالُ مُغَنٍّ كَمَا يُقَالُ خَيَّاطٌ أَوْ حَدَّادٌ، فَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ هُنَا يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ خَصَّ الْمُؤَنَّثَ بِهِ لِيُوَافِقَ لَفْظَ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَعَنَ اللَّهُ النَّائِحَاتِ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُغَنِّيَاتِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لِوَصْفِ التَّغَنِّي لَا لِوَصْفِ الْأُنُوثَةِ وَلَا لِلتَّغَنِّي مَعَ الْأُنُوثَةِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى مُشْتَقٍّ إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ وَصْفَ الِاشْتِقَاقِ هُوَ الْعِلَّةُ فَقَطْ لَا مَعَ زِيَادَةٍ أُخْرَى.

نَعَمْ هُوَ مِنْ الْمَرْأَةِ أَفْحَشُ لِرَفْعِ صَوْتِهَا وَهُوَ حَرَامٌ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّغَنِّي لِلَّهْوِ أَوْ لِجَمْعِ الْمَالِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ، وَمِثْلُ هَذَا لَفْظُ النَّائِحَةِ صَارَ عُرْفًا لِمَنْ جَعَلَتْ النِّيَاحَةَ مُكْسِبَةً، وَحِينَئِذٍ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ اتَّخَذَ التَّغَنِّي صِنَاعَةً يَأْكُلُ بِهَا لَا مَنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِنَاعَتَهُ، وَلِذَا عَلَّلَهُ فِي الْكِتَابِ بِأَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَى ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ. وَفِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْغِنَاءَ فِي حَقِّهِنَّ مُطْلَقًا حَرَامٌ لِرَفْعِ صَوْتِهِنَّ وَهُوَ حَرَامٌ فَلِذَا أَطْلَقَ فِي قَوْلِهِ مُغَنِّيَةٍ، وَقَيَّدَ فِي غِنَاءِ الرِّجَالِ بِقَوْلِهِ لِلنَّاسِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ مَنْ يُغَنِّي لِلنَّاسِ لَا يَخُصُّ الرِّجَالَ لِأَنَّ مَنْ تُطْلَقُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ خَاصَّةً فَضْلًا عَنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَعًا، وَكَوْنُ صِلَتِهَا وَقَعَتْ بِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ يُغَنِّي بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ لَا يُوجِبُ خُصُوصَهُ بِالرِّجَالِ

ص: 408

(وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ) لِأَنَّهُ يُورِثُ غَفْلَةً وَلِأَنَّهُ قَدْ يَقِفُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ بِصُعُودِهِ عَلَى سَطْحِهِ لِيُطَيِّرَ طَيْرَهُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ وَهُوَ الْمُغَنِّي (وَلَا مَنْ يُغْنِي لِلنَّاسِ) لِأَنَّهُ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَى ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ.

لِمَا عُرِفَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي ضَمِيرِهَا مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى وَمُرَاعَاةُ اللَّفْظِ وَمُرَاعَاةُ اللَّفْظِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى التَّأْنِيثِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ الْمُؤَنَّثِ وَالْمُذَكَّرِ.

فَإِنْ قُلْت: تَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله يَجْمَعُ النَّاسِ عَلَى كَبِيرَةٍ يَقْتَضِي أَنَّ التَّغَنِّي مُطْلَقًا حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ مُفَادُهُ بِالذَّاتِ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ كَبِيرَةٌ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ بِالذَّاتِ لِأَنَّ كَوْنَ الِاسْتِمَاعِ مُحَرَّمًا لَيْسَ إلَّا لِحُرْمَةِ الْمَسْمُوعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا تَغَنَّى بِحَيْثُ لَا يُسْمِعُ غَيْرَهُ بَلْ نَفْسَهُ لِيَدْفَعَ عَنْهُ الْوَحْشَةَ لَا يُكْرَهُ. وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ إذَا فَعَلَهُ لِيَسْتَفِيدَ بِهِ نَظْمَ الْقَوَافِي وَيَصِيرَ فَصِيحَ اللِّسَانِ.

وَقِيلَ وَلَا يُكْرَهُ لِاسْتِمَاعِ النَّاسِ إذَا كَانَ فِي الْعُرْسِ وَالْوَلِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ لَهْوٍ بِالنَّصِّ فِي الْعُرْسِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّغَنِّي لِإِسْمَاعِ نَفْسِهِ وَلِدَفْعِ الْوَحْشَةِ خِلَافًا بَيْنَ الْمَشَايِخِ. مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُكْرَهُ، إنَّمَا يُكْرَهُ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ اللَّهْوِ احْتِجَاجًا بِمَا عَنْ أَنْسَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ مِنْ زُهَّادِ الصَّحَابَةِ وَكَانَ يَتَغَنَّى، وَبِهِ أَخَذَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله.

وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ كَرِهَ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَبِهِ أَخَذَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَيَحْمِلُ حَدِيثَ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَنْشُدُ الْأَشْعَارَ الْمُبَاحَةَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْغِنَاءِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْرُوفِ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا» وَإِنْشَادُ الْمُبَاحِ مِنْ الْأَشْعَارِ لَا بَأْسَ بِهِ. وَمِنْ الْمُبَاحِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ

ص: 409

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

صِفَةُ امْرَأَةٍ مُرْسَلَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ بِعَيْنِهَا حَيَّةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله قَائِلًا بِتَعْمِيمِ الْمَنْعِ كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ رحمه الله، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ التَّغَنِّي الْمُحَرَّمَ هُوَ مَا كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا لَا يَحِلُّ كَصِفَةِ الذَّكَرِ وَالْمَرْأَةِ الْمُعَيَّنَةِ الْحَيَّةِ وَوَصْفِ الْخَمْرِ الْمُهَيِّجِ إلَيْهَا وَالدُّوَيْرَاتِ وَالْحَانَاتِ وَالْهِجَاءِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ إذْ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ هِجَاءَهُ لَا إذَا أَرَادَ إنْشَادَ الشِّعْرِ لِلِاسْتِشْهَادِ بِهِ أَوْ لِتَعَلُّمِ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ.

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَصْفَ الْمَرْأَةِ كَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مَا سَلَفَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ إنْشَادِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَهُوَ مُحْرِمٌ:

قَامَتْ تُرِيكَ رَهْبَةً أَنْ تَهْضِمَا

سَاقًا بَخَنْدَاةٍ وَكَعْبًا أَدْرَمَا

وَإِنْشَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما

إنْ يَصْدُقُ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا

لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِيهِمَا لَيْسَتْ مُعَيَّنَةً، فَلَوْلَا أَنَّ إنْشَادَ مَا فِيهِ وَصْفُ امْرَأَةٍ كَذَلِكَ جَائِزٌ لَمْ تَقُلْهُ الصَّحَابَةُ، وَمِمَّا يَقْطَعُ بِهِ فِي هَذَا قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:

وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبِينِ إذْ رَحَلُوا

إلَّا أَغَنَّ غَضِيضُ الطَّرَفِ مَكْحُولُ

تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظُلَمٍ إذَا ابْتَسَمَتْ

كَأَنَّهُ مَنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ

وَكَثِيرٌ فِي شِعْرِ حِسَانَ مِنْ هَذَا كَقَوْلِهِ وَقَدْ سَمِعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي أَوَّلُهَا:

تَبَلَتْ فُؤَادَك فِي الْمَنَامِ خَرِيدَةٌ

تَسْقِي الضَّجِيعَ بِبَارِدٍ بَسَّام

فَأَمَّا الزُّهْرِيَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ ذَلِكَ الْمُتَضَمَّنَةُ فِي وَصْفِ الرَّيَاحِينِ وَالْأَزْهَارِ وَالْمِيَاهِ الْمُطْرِبَةِ كَقَوْلِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ:

سَقَاهَا بِغَابَاتٍ خَلِيجٌ كَأَنَّهُ

إذَا صَافَحَتْهُ رَاحَةُ الرِّيحِ مُبْرِدُ

يَعْنِي سَقَى تِلْكَ الرِّيَاضِ، وَقَوْلُهُ:

وَتَرَى الرِّيَاحَ إذَا مَسَحْنَ غَدِيرَهُ

صَقَلْنَهُ وَنَفَيْنَ كُلَّ قَذَاةِ

مَا إنْ يَزَالُ عَلَيْهِ ظَبْيٌ كَارِعًا

كَتَطَلُّعِ الْحَسْنَاءِ فِي الْمِرْآةِ

فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ عَلَى هَذَا.

نَعَمْ إذَا قِيلَ ذَلِكَ عَلَى الْمَلَاهِي امْتَنَعَ وَإِنْ كَانَ مَوَاعِظَ وَحِكَمًا لِلْآلَاتِ نَفْسِهَا لَا لِذَلِكَ التَّغَنِّي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي الْمُغَنِّي: الرَّجُلُ الصَّالِحُ إذَا تَغَنَّى بِشَعْرٍ فِيهِ فُحْشٌ لَا تَبْطُلُ عَدَالَتُهُ.

وَفِي مُغْنِي ابْنِ قُدَامَةَ: الْمَلَاهِي نَوْعَانِ: مُحَرَّمٌ وَهُوَ الْآلَاتُ الْمُطْرِبَةُ بِلَا غِنَاءٍ كَالْمِزْمَارِ وَالطُّنْبُورِ وَنَحْوِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي بِمَحْقِ الْمَعَازِفِ وَالْمَزَامِيرِ» . وَالنَّوْعُ الثَّانِي مُبَاحٌ وَهُوَ الدُّفُّ فِي النِّكَاحِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا كَانَ مِنْ حَادِثِ سُرُورٍ. وَيُكْرَهُ غَيْرُهُ لِمَا عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ صَوْتَ الدُّفِّ بَعَثَ يَنْظُرُ، فَإِنْ كَانَ فِي وَلِيمَةٍ سَكَتَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ عَمَدَ بِالدُّرَّةِ. وَفِي الْأَجْنَاسِ سُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ الَّذِي يَتَرَنَّمُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: لَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِ.

وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ فَأَبَاحَهَا قَوْمٌ وَحَظَرَهَا قَوْمٌ. وَالْمُخْتَارُ إنْ كَانَتْ الْأَلْحَانُ لَا تُخْرِجُ الْحُرُوفَ عَنْ نَظْمِهَا وَقَدْرِ ذَوَاتِهَا فَمُبَاحٌ، وَإِلَّا فَغَيْرُ مُبَاحٍ، كَذَا ذُكِرَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي بَابِ الْأَذَانِ مَا يُفِيدُ أَنَّ التَّلْحِينَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ تَغْيِيرِ مُقْتَضَيَاتِ الْحُرُوفِ فَلَا مَعْنَى لِهَذَا التَّفْصِيلِ. وَنَقَلْنَا هُنَاكَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ لِلسَّائِلِ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِالتَّلْحِينِ وَقَدْ أَجَابَ بِالْمَنْعِ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ، فَقَالَ: أَيُعْجِبُكَ

ص: 410

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَنْ يُقَالَ لَك يَا مُوحَامَدُ؟ هَذَا وَأَمَّا النَّائِحَةُ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا أَيْضًا فِي الْعُرْفِ لِمَنْ اتَّخَذَتْ النِّيَاحَةَ مُكْسِبَةً، فَأَمَّا إذَا نَاحَتْ لِنَفْسِهَا فَصَرَّحَ فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ: لَمْ يَرُدَّ النَّائِحَةَ الَّتِي تَنُوحُ فِي مُصِيبَتِهَا بَلْ الَّتِي تَنُوحُ فِي مُصِيبَةِ غَيْرِهَا، اتَّخَذَتْ ذَلِكَ مُكْسِبَةً لِأَنَّهَا ارْتَكَبَتْ مَعْصِيَةً وَهِيَ الْغِنَاءُ لِأَجْلِ الْمَالِ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَرْتَكِبَ شَهَادَةَ الزُّورِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَهُوَ أَيْسَرُ عَلَيْهَا مِنْ الْغِنَاءِ وَالنُّوحِ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَلَمْ يَتَعَقَّبْ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الْمَشَايِخِ فِيمَا عَلِمْت، لَكِنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي الشَّارِحِينَ نَظَرَ فِيهِ بِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ لِلنَّاسِ أَوْ لَا.

قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَعَنَ اللَّهُ الصَّالِقَةَ وَالْحَالِقَةَ وَالشَّاقَّةَ» وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» وَهُمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النِّيَاحَةَ وَلَوْ فِي مُصِيبَةِ نَفْسِهَا مَعْصِيَةٌ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهَا لِذَلِكَ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى الشُّهْرَةِ لِيَصِلَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّمَا قُيِّدَ بِكَوْنِهَا لِلنَّاسِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَهُوَ يَرُدُّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا مُدْمِنَ لِلشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ، يُرِيدُ شُرْبَ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ خَمْرًا أَوْ غَيْرَهُ.

وَلَفْظُ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي الْأَصْلِ: وَلَا شَهَادَةُ مُدْمِنِ خَمْرٍ، وَلَا شَهَادَةُ مُدْمِنِ السُّكْرِ.

يُرِيدُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ خَمْرًا، فَقَالَ هَذَا الشَّارِحُ يُشْتَرَطُ الْإِدْمَانُ فِي الْخَمْرِ، وَهَذِهِ الْأَشْرِبَةُ: يَعْنِي الْأَشْرِبَةَ الْمُحَرَّمَةَ لِسُقُوطِ الْعَدَالَةِ مَعَ أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ كَبِيرَةٌ بِلَا قَيْدِ الْإِدْمَانِ، وَلِهَذَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْخَصَّافُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ الْإِدْمَانَ، لَكِنْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ كَمَا سَمِعْت فَمَا هُوَ جَوَابُهُ؟ هُوَ الْجَوَابُ فِي تَقْيِيدِ الْمَشَايِخِ بِكَوْنِ النِّيَاحَةِ لِلنَّاسِ، ثُمَّ هُوَ نَقَلَ كَلَامَ الْمَشَايِخِ فِي تَوْجِيهِ اشْتِرَاطَ الْإِدْمَانِ أَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ لِيَظْهَرَ عِنْدَ النَّاسِ، فَإِنَّ مَنْ شَرِبَهَا سِرًّا لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ وَلَمْ يَتَنَفَّسْ فِيهِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَذَا الَّتِي نَاحَتْ فِي بَيْتِهَا لِمُصِيبَتِهَا لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهَا لِعَدَمِ اشْتِهَارِ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ، وَانْظُرْ إلَى تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله بَعْدَ ذِكْرِ الْإِدْمَانِ بِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مُحَرَّمَ دِينِهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِلَا إدْمَانٍ، فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ إذَا أَدْمَنَ حِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ مُرْتَكِبُ مُحَرَّمِ دِينِهِ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، بِخِلَافِ الَّتِي اسْتَمَرَّتْ تَنُوحُ لِلنَّاسِ لِظُهُورِهِ حِينَئِذٍ فَتَكُونُ كَاَلَّذِي يَسْكَرُ وَيَخْرُجُ سَكْرَانَ وَتَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ.

وَصَرَّحَ بِأَنَّ الَّذِي يُتَّهَمُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَ الْإِدْمَانَ بِنِيَّتِهِ وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَشْرَبَ مَرَّةً أُخْرَى، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِصْرَارِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَذْكُرُ رَدَّ شَهَادَةِ مَنْ يَأْتِي بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَدُّ وَشُرْبُ الْخَمْرِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِهِ تَوَقُّفٍ عَلَى نِيَّةِ أَنْ يَشْرَبَ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ أَمْرٌ مُبْطَنٌ لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ، وَالْمُدَارَاةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهَا حُكْمُ الْقَاضِي لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً لَا خَفِيَّةً لِأَنَّهَا مَعْرِفَةٌ وَالْخَفِيُّ لَا يُعْرَفُ وَالظُّهُورُ بِالْإِدْمَانِ الظَّاهِرِ.

نَعَمْ بِالْإِدْمَانِ الظَّاهِرِ يُعْرَفُ إصْرَارُهُ، لَكِنَّ بُطْلَانَ الْعَدَالَةِ لَا يَتَوَقَّفُ فِي الْكَبَائِرِ عَلَى الْإِصْرَارِ، بَلْ أَنْ يَأْتِيَهَا وَيَعْلَمَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الصَّغَائِرِ وَقَدْ انْدَرَجَ فِيمَا ذَكَرْنَا شَرْحُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ فَلِأَنَّهُ يُورِثُ غَفْلَةً، وَهَذَا كَأَنَّهُ بِالْخَاصِّيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالِاسْتِقْرَاءِ.

وَتُرَدُّ شَهَادَةُ الْمُغَفَّلِ لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ زِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ، وَلِأَنَّهُ يَقِفُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ لِصُعُودِ سَطْحِهِ لِيُطَيِّرَ طَيْرَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي مَنْعَ صُعُودِ السَّطْحِ مُطْلَقًا إلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ يَكْثُرُ مِنْهُ لِهَذِهِ الدَّاعِيَةِ فَإِنَّ الدَّاعِيَةَ إلَى الشَّيْءِ كَالْحَرْبِ فِي اقْتِضَاءِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ كَمَا فِي لِعْبِ الشِّطْرَنْجِ، فَإِنَّهُ يُشَاهَدُ فِيهِ دَاعِيَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ حَتَّى أَنَّهُمْ رُبَّمَا يَسْتَمِرُّونَ النَّهَارَ وَاللَّيْلَ لَا يَسْأَلُونَ عَنْ أَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ، وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ وَجْهٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الشَّيْطَانِ.

وَالْأَوْجَهُ أَنَّ اللَّعِبَ بِالطُّيُورِ فِعْلٌ مُسْتَخَفٌّ بِهِ يُوجِبُ فِي الْغَالِبِ اجْتِمَاعًا مَعَ أُنَاسٍ أَرَاذِلَ وَصُحْبَتَهُمْ وَذَلِكَ مِمَّا يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ. هَذَا وَفِي تَفْسِيرِ الْكَبَائِرِ كَلَامٌ، فَقِيلَ: هِيَ

ص: 411

(وَلَا مَنْ يَأْتِي بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَدُّ) لِلْفِسْقِ.

قَالَ (وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ مِئْزَرٍ) لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ.

(أَوْ يَأْكُلُ الرِّبَا أَوْ يُقَامِرُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ). لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ لِلِاشْتِغَالِ بِهِمَا، فَأَمَّا مُجَرَّدُ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ فَلَيْسَ بِفِسْقٍ مَانِعٍ مِنْ الشَّهَادَةِ،

السَّبْعُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْحَدِيثِ، وَهِيَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتُ الْمُؤْمِنِ، وَالزِّنَا، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَكْلَ الرِّبَا، وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ.

وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ فَذَكَرهَا وَفِيهَا السِّحْرُ، وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ» وَفِيهِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا» الْحَدِيثَ.

وَقَدْ عَدَّ أَيْضًا مِنْهَا السَّرِقَةَ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ» وَقِيلَ الْكَبِيرَةُ مَا فِيهِ حَدٌّ، وَقِيلَ مَا ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ مَا كَانَ حَرَامًا لَعَيْنِهِ.

وَنُقِلَ عَنْ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّهَا مَا كَانَ حَرَامًا مَحْضًا مُسَمًّى فِي الشَّرْعِ فَاحِشَةً كَاللِّوَاطَةِ أَوْ لَمْ يُسَمَّ بِهَا لَكِنْ شُرِعَ عَلَيْهَا عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ بِنَصٍّ قَاطِعٍ، إمَّا فِي الدُّنْيَا بِالْحَدِّ كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ الْوَعِيدِ بِالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ كَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَلَا تَسْقُطُ عَدَالَةُ شَارِبِ الْخَمْرِ بِنَفْسِ الشُّرْبِ لِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ مَا ثَبَتَ بِنَصٍّ قَاطِعٍ، إلَّا إذَا دَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ تَزُولُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ فَهَذَا أَوْلَى، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ الْكَبَائِرِ، فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ. وَفِي الْخُلَاصَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكَبِيرَةَ مَا فِيهِ حَدٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ قَالَ: وَأَصْحَابُنَا لَمْ يَأْخُذُوا بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا بَنَوْا عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا مَا كَانَ شَنِيعًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُنَابَذَةٌ لِلْمُرُوءَةِ وَالْكَرَمِ، وَكُلُّ فِعْلٍ يَرْفُضُ الْمُرُوءَةَ وَالْكَرَمَ فَهُوَ كَبِيرَةٌ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يُصِرَّ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنْ عَدَمِ الِانْضِبَاطِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ أَيْضًا. وَمَا فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: الْعَدْلُ مَنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ كُلَّهَا حَتَّى لَوْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ.

وَفِي الصَّغَائِرِ الْعِبْرَةُ لِلْغَلَبَةِ لِتَصِيرَ كَبِيرَةً حَسَنٌ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَدَبِ الْقَاضِي لِعِصَامٍ وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ، غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمَ بِزَوَالِ الْعَدَالَةِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ يَحْتَاجُ إلَى الظُّهُورِ، فَلِذَا شَرَطَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ الْإِدْمَانَ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَجْلِسُ مَجْلِسَ الْفُجُورِ وَالْمَجَانَةِ عَلَى الشُّرْبِ وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْ، لِأَنَّ اخْتِلَاطَهُ بِهِمْ وَتَرْكَهُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ يُسْقِطُ عَدَالَتَهُ وَفِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ: وَكَذَا الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعَاصِي، وَالْحَثُّ عَلَيْهَا مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ.

(قَوْلُهُ وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إزَارٍ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ) وَفِي الذَّخِيرَةِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مَنْ مَشَى فِي الطَّرِيقِ بِسَرَاوِيلَ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَلَيْسَ لِلْحُرْمَةِ بَلْ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ.

(قَوْلُهُ أَوْ يَأْكُلُ الرِّبَا، إلَى قَوْلِهِ:

ص: 412

لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا. وَشَرَطَ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ آكِلُ الرِّبَا مَشْهُورًا بِهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَنْجُو عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ رِبَا.

وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ) أَمَّا أَكْلُ الرِّبَا فَكَثِيرٌ أَطْلَقُوهُ، وَقَيَّدَهُ فِي الْأَصْلِ بِأَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِهِ فَقِيلَ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ لَوْ اُعْتُبِرَ مَانِعًا لَمْ يُقْبَلْ شَاهِدٌ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْفَاسِدَةَ كُلَّهَا فِي مَعْنَى الرِّبَا وَقَلَّ مَنْ يُبَاشِرُ عُقُودَ الْبِيَاعَاتِ وَيَسْلَمُ دَائِمًا مِنْهُ.

وَقِيلَ لِأَنَّ الرِّبَا لَيْسَ بِحَرَامٍ مَحْضٍ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا مَعَ ذَلِكَ فَكَانَ نَاقِصًا فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً. وَالْمَانِعُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ مَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى إمْكَانِ ارْتِكَابِ شَهَادَةِ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ حَرَامٌ مَحْضٌ فَالدَّالُّ عَلَيْهَا لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ حَيْثُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِمَرَّةٍ. وَقِيلَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَشْتَهِرْ بِهِ كَانَ الْوَاقِعُ لَيْسَ إلَّا تُهْمَةَ أَكْلِ الرِّبَا وَلَا تَسْقُطُ الْعَدَالَةُ بِهِ. وَهَذَا أَقْرَبُ وَمَرْجِعُهُ إلَى مَا ذُكِرَ فِي وَجْهِ تَقْيِيدِ شُرْبِ الْخَمْرِ بِالْإِدْمَانِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ مَحْضٍ فَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ. وَالدَّالُّ عَلَى تَجْوِيزِ شَهَادَةِ الزُّورِ مِنْهُ يَكْفِي كَوْنُهُ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ دِينِهِ؛ أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا كَانَ الْفَاسِقُ وَجِيهًا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِبُعْدِهِ أَنْ يَشْهَدَ بِالزُّورِ لِوَجَاهَتِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ لَمْ يَرْتَضِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَالرِّبَا لَمْ يَخْتَصَّ بِعَقْدٍ عَلَى الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فِيهِ تَفَاضُلٌ أَوْ نَسِيئَةٌ، بَلْ أَكْثَرُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ.

وَنَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا بِسَبَبِ إقْرَاضِهِمْ الْمِقْدَارَ كَالْمِائَةِ وَغَيْرِهِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ إلَى أَجَلٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ فِيهِ أَرْبَى عَلَيْهِ فَتَزِيدُ الْكَمِّيَّةُ. وَهَذَا هُوَ الْمُتَدَاوَلُ فِي غَالِبِ الْأَزْمَانِ لَا بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ فَرُبَّمَا لَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ أَصْلًا أَوْ إلَّا قَلِيلًا. وَأَمَّا أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ فَلَمْ يُقَيِّدْهُ أَحَدٌ وَنَصُّوا أَنَّهُ بِمَرَّةٍ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الظُّهُورِ لِلْقَاضِي، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا يَرُدُّ بِهِ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ فَكَأَنَّهُ بِمَرَّةٍ يَظْهَرُ لِأَنَّهُ يُحَاسَبُ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ اسْتَنْقَصَ مِنْ الْمَالِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفِسْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَانِعٌ شَرْعًا، غَيْرَ أَنَّ الْقَاضِي لَا يُرَتِّبُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُ فَالْكُلُّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلِذَا نَقُولُ: إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ رَدَّ شَهَادَتَهُ سَوَاءٌ قَامَرَ بِهِ أَوْ لَمْ يُقَامِرْ، لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَلَعِبُ الطَّابِ فِي بِلَادِنَا مِثْلَهُ لِأَنَّهُ يَرْمِي وَيَطْرَحُ بِلَا حِسَابٍ وَإِعْمَالِ فِكْرٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ مِمَّا أَحْدَثَهُ الشَّيْطَانُ وَعَمِلَهُ أَهْلُ الْغَفْلَةِ فَهُوَ حَرَامٌ سَوَاءٌ قُومِرَ بِهِ أَوْ لَا.

فَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي إبَاحَتِهِ، فَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ، وَكَذَا عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِمَا رَوَيْنَاهُ، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ النَّرْدَشِيرَ هُوَ الشِّطْرَنْجُ، وَلِمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «كُلُّ لَهْوِ الْمُؤْمِنِ بَاطِلٌ إلَّا ثَلَاثَةً: تَأْدِيبَهُ لِفَرَسِهِ، وَمُنَاضَلَتَهُ عَنْ قَوْسِهِ، وَمُلَاعَبَتَهُ مِنْ أَهْلِهِ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام لَيْسَ مِنْ اللَّهْوِ إلَّا ثَلَاثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ

ص: 413

قَالَ (وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ كَالْبَوْلِ عَلَى الطَّرِيقِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ) لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلْمُرُوءَةِ، وَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَحْيِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ فَيُتَّهَمُ.

وَمَالِكٍ: يُبَاحُ مَعَ الْكَرَاهَةِ إنْ تَجَرَّدَ عَنْ الْحَلِفِ كَاذِبًا وَالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا وَالْمُقَامَرَةِ بِهِ فَلَمَّا كَانَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مُتَجَرِّدًا مَسَاغٌ لَمْ تَسْقُطُ الْعَدَالَةُ بِهِ.

وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ مَنْ يَلْعَبُهُ عَلَى الطَّرِيقِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ فَلِإِتْيَانِهِ الْأُمُورَ الْمُحَقَّرَةَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الشَّعْبَذَةِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي دِيَارِنَا دِكَاكًا لِأَنَّهُ إمَّا سَاحِرٌ أَوْ كَذَّابٌ: أَعْنِي الَّذِي يَأْكُلُ مِنْهَا وَيَتَّخِذُهَا مُكْسِبَةً، فَأَمَّا مَنْ عَلِمَهَا وَلَمْ يَعْمَلْهَا فَلَا، وَصَاحِبُ السِّيمَيَا عَلَى هَذَا.

(قَوْلُهُ وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَحْقَرَةَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُسْتَقْبَحَةِ، وَفِي بَعْضِهَا الْمُسْتَخِفَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي نَفْسِهَا مُحَرَّمَةٌ.

وَالْمُسْتَخَفَّةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا: أَيْ الَّتِي يَسْتَخِفُّ النَّاسُ فِعْلَهَا، أَوْ الْخَصْلَةُ الَّتِي تَسْتَخِفُّ الْفَاعِلَ فَيَبْدُو مِنْهُ مَا لَا يَلِيقُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} وَذَلِكَ (كَالْأَكْلِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ) يَعْنِي بِمَرْأَى النَّاسِ، وَالْبَوْلِ عَلَيْهَا، وَمِثْلُهُ الَّذِي يَكْشِفُ عَوْرَتَهُ لِيَسْتَنْجِيَ مِنْ جَانِبِ بِرْكَةٍ وَالنَّاسُ حُضُورٌ، وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي دِيَارِنَا مِنْ الْعَامَّةِ وَبَعْضِ مَنْ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الطَّلَبَةِ، وَالْمَشْيِ بِسَرَاوِيلَ فَقَطْ، وَمَدِّ رِجْلِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَكَشْفِ رَأْسِهِ فِي مَوْضِعٍ يُعَدُّ فِعْلُهُ خِفَّةً وَسُوءَ أَدَبٍ وَقِلَّةَ مُرُوءَةٍ وَحَيَاءٍ، لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَبْعُدُ مِنْهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالزُّورِ.

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» وَعَنْ الْكَرْخِيِّ: لَوْ أَنَّ شَيْخًا صَارَعَ الْأَحْدَاثَ فِي الْجَامِعِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ سَخَفٌ. وَأَمَّا أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ الدَّنِيئَةِ كَالْكَسَّاحِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي عُرْفِ دِيَارِ مِصْرَ قَنَوَاتِيًّا، وَالزَّبَّالِ وَالْحَائِكِ وَالْحَجَّامِ فَقِيلَ لَا تُقْبَلُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَوُجِّهَ بِكَثْرَةِ خَلْفِهِمْ الْوَعْدَ وَكَذِبِهِمْ، وَرَأَيْت أَكْثَرَ مُخْلِفٍ لِلْوَعْدِ السَّمْكَرِيُّ. وَالْأَصَحُّ تُقْبَلُ لِأَنَّهَا قَدْ تَوَلَّاهَا قَوْمٌ صَالِحُونَ، فَمَا لَمْ يُعْلَمْ الْقَادِحُ لَا يُبْنَى عَلَى ظَاهِرِ الصِّنَاعَةِ، وَمِثْلُهُ النَّخَّاسُونَ وَالدَّلَّالُونَ فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ كَثِيرًا زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِمْ مَعَ خَلْفِهِمْ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا مَنْ عُلِمَ عَدَالَتُهُ مِنْهُمْ.

وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَائِعِ الْأَكْفَانِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: هَذَا إذَا تَرَصَّدَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَبِيعُ الثِّيَابَ وَيُشْتَرَى مِنْهُ الْأَكْفَانُ فَتُقْبَلُ لِعَدَمِ تَمَنِّيهِ الْمَوْتَ لِلنَّاسِ وَالطَّاعُونِ. وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّكَّاكِينَ لِأَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ أَوْ بَاعَ أَوْ أَجَّرَ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَيَكُونُ كَذِبًا، وَلَا فَرْقَ فِي الْكَذِبِ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْكِتَابَةِ. وَالصَّحِيحُ تُقْبَلُ إذَا كَانَ غَالِبُ أَحْوَالِهِمْ الصَّلَاحَ، فَإِنَّهُمْ غَالِبًا

ص: 414

(وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ) لِظُهُورِ فِسْقِهِ بِخِلَافِ مَنْ يَكْتُمُهُ.

(وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةُ)

إنَّمَا يَكْتُبُونَ بَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ وَقَبْلَ صُدُورِهِ يَكْتُبُونَ عَلَى الْمَجَازِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ لِيَسْتَغْنُوا عَنْ الْكِتَابَةِ إذَا صَدَرَ الْمَعْنَى بَعْدَهَا. وَرَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ شَهَادَةَ الْقَرَوِيِّ وَالْأَعْرَابِيِّ، وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ تَقْبَلُ إلَّا بِمَانِعٍ غَيْرِهِ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ وَالرَّقَّاصِ وَالْمُجَازِفِ فِي كَلَامِهِ وَالْمَسْخَرَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَفِي الْحَدِيثِ «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ وَيَكْذِبُ كَيْ يَضْحَكَ مِنْهُ النَّاسُ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ» وَقَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى: مَنْ يَشْتُمُ أَهْلَهُ وَمَمَالِيكَهُ كَثِيرًا فِي كُلِّ سَاعَةٍ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ أَحْيَانًا تُقْبَلُ، وَكَذَا الشَّتَّامُ لِلْحَيَوَانِ كَدَابَّتِهِ، وَأَمَّا فِي دِيَارِنَا فَكَثِيرًا يَشْتُمُونَ بَائِعَ الدَّابَّةِ فَيَقُولُونَ قَطَعَ اللَّهُ يَدَ مَنْ بَاعَكِ، وَلَا مَنْ يَحْلِفُ فِي كَلَامِهِ كَثِيرًا وَنَحْوِهِ. وَحُكِيَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ شَهِدَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَرَدَّ شَهَادَتَهُ فَشَكَاهُ إلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: إنَّ وَزِيرِي رَجُلُ دِينٍ لَا يَشْهَدُ بِالزُّورِ فَلِمَ رَدَدْت شَهَادَتَهُ؟ قَالَ: لِأَنِّي سَمِعْتَهُ يَوْمًا قَالَ لِلْخَلِيفَةِ: أَنَا عَبْدُك، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَكَذَلِكَ، فَعَذَرَهُ الْخَلِيفَةُ. وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ رَدَّ أَبِي يُوسُفَ شَهَادَتَهُ لَيْسَ لِكَذِبِهِ، لِأَنَّ قَوْلَ الْحُرِّ لِغَيْرِهِ أَنَا عَبْدُك مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقِيَامِ بِخِدْمَتِكَ، وَكَوْنِي تَحْتَ أَمْرِكَ مُمْتَثِلًا لَهُ عَلَى إهَانَةِ نَفْسِي فِي ذَلِكَ وَالتَّكَلُّمُ بِالْمَجَازِ عَلَى اعْتِبَارِ الْجَامِعِ وَوَجْهِ الشَّبَهِ لَيْسَ كَذِبًا مَحْظُورًا شَرْعًا وَلِذَا وَقَعَ الْمَجَازُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ رَدَّهُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ خُصُوصُ هَذَا الْمَجَازِ مِنْ إذْلَالِ نَفْسِهِ وَتَمَلُّقِهِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا فَرُبَّمَا يَعِزُّ هَذَا الْكَلَامُ إذَا قِيلَ لِلْخَلِيفَةِ فَعَدَلَ إلَى الِاعْتِذَارِ بِأَمْرٍ يَقْرُبُ مِنْ خَاطِرِهِ. وَالْحَاصِلُ فِيهِ أَنَّ تَرْكَ الْمُرُوءَةِ مُسْقِطٌ لِلْعَدَالَةِ. وَقِيلَ فِي تَعْرِيفِ الْمُرُوءَةِ أَنْ لَا يَأْتِي الْإِنْسَانُ بِمَا يَعْتَذِرُ مِنْهُ مِمَّا يَبْخَسُهُ عَنْ مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْفَضْلِ. وَقِيلَ السَّمْتُ الْحَسَنُ وَحِفْظُ اللِّسَانِ وَتَجَنُّبُ السُّخْفِ وَالْمُجُونِ وَالِارْتِفَاعُ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيءٍ. وَالسُّخْفُ: رِقَّةُ الْعَقْلِ مِنْ قَوْلِهِمْ ثَوْبٌ سَخِيفٌ إذَا كَانَ قَلِيلَ الْغَزْلِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَخِيلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَفْرَطَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ إلَى مَنْعِ الْحُقُوقِ.

(قَوْلُهُ وَلَا مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ) كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله، وَكَذَا الْعُلَمَاءُ. وَنَصَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ، قَالَ: لِأَنَّهُ إذَا أَظْهَرَ سَبَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ، فَإِذَا أَظْهَرَ فِي وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَيْفَ يَكُونُ مَقْبُولًا، وَقَيَّدَ بِالْإِظْهَارِ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَهُ وَلَمْ يُظْهِرْ فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلِذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ: لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ يَشْتُمُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ يَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ إظْهَارَ الشَّتِيمَةِ مُجُونَةٌ وَسَفَهٌ وَلَا يَأْتِي بِهِ إلَّا الْأَوْضَاعُ وَالْأَسْقَاطُ، وَشَهَادَةُ السَّخِيفِ لَا تُقْبَلُ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُتَبَرِّئُ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ دِينًا مَرَضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ جَائِزَةٌ.

(قَوْلُهُ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ) كُلُّهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ.

ص: 415

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ وُجُوهُ الْفِسْقِ. وَلَنَا أَنَّهُ فِسْقٌ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ وَمَا أَوْقَعَهُ فِيهِ إلَّا تَدَيُّنُهُ بِهِ وَصَارَ كَمَنْ يَشْرَبُ الْمُثَلَّثَ أَوْ يَأْكُلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا مُسْتَبِيحًا لِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي.

أَمَّا الْخَطَّابِيَّةُ فَهُمْ مِنْ غُلَاةِ الرَّوَافِضِ يَعْتَقِدُونَ الشَّهَادَةَ لِكُلِّ مَنْ حَلَفَ عِنْدَهُمْ. وَقِيلَ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ لِشِيعَتِهِمْ وَاجِبَةً فَتَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِمْ.

قَالَ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ) وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ.

وَسَائِرُهُمْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى مِثْلِهِمْ وَعَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، إلَّا الْخَطَّابِيَّةُ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّوَافِضِ لَا لِخُصُوصِ بِدْعَتِهِمْ وَهَوَاهُمْ بَلْ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ، لِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لِمَنْ حَلَفَ لَهُمْ أَنَّهُ مُحِقٌّ أَوْ يَرَوْنَ وُجُوبَ الشَّهَادَةِ لِمَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَمَنَعَ قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ لِشِيعَتِهِمْ لِذَلِكَ وَلِغَيْرِ شِيعَتِهِمْ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ. وَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الشَّافِعِيِّ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَامِدٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَكَقَوْلِنَا بِلَا اخْتِلَافٍ. وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ مَا ذُكِرَ أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الِاعْتِقَادِ مِنْ أَعْظَمِ الْفُسُوقِ فَوَجَبَ رَدُّ شَهَادَتِهِ بِالْآيَةِ. وَلَنَا أَنَّ صَاحِبَ الْهَوَى مُسْلِمٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ بِالْكَذِبِ لِتَدَيُّنِهِ بِتَحْرِيمِهِ حَتَّى أَنَّهُ رُبَّمَا يَكْفُرُ بِهِ كَالْخَوَارِجِ فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ بِهِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِالْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ مَعَ الْإِسْلَامِ. فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْفِسْقَ الْفِعْلِيَّ، وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْخَوَارِجِ إذَا اعْتَقَدُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا، فَإِذَا قَاتَلُوا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ لِإِظْهَارِ الْفِسْقِ بِالْفِعْلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّخْصِيصِ اتِّفَاقُنَا عَلَى قَبُولِ رِوَايَاتِهِمْ لِلْحَدِيثِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَعَ اعْتِمَادِهِ الْغُلُوَّ فِي الصِّحَّةِ مَعَ أَنَّ قَبُولَ الرِّوَايَةِ أَيْضًا مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْفِسْقِ بِظَاهِرِهَا وَبِالْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ رَدَّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِيهِمْ. وَالْخَطَّابِيَّةُ نِسْبَةٌ إلَى أَبِي الْخَطَّابِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْأَجْدَعُ، وَقِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْنَبَ الْأَسَدِيُّ الْأَجْدَعُ. وَخَرَجَ أَبُو الْخَطَّابِ بِالْكُوفَةِ وَحَارَبَ عِيسَى بْنَ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَظْهَرَ الدَّعْوَةَ إلَى جَعْفَرَ فَتَبَرَّأَ مِنْهُ جَعْفَرُ وَدَعَا عَلَيْهِ فَقُتِلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ قَتَلَهُ وَصَلَبَهُ عِيسَى بِالْكَنَائِسِ.

(قَوْلُهُ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ) قَيَّدَ بِهَا لِتَخْرُجَ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَيَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ شَهَادَةُ أَهْلِ مِلَّةٍ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ احْتَرَزَ بِهِ عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مَعَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ كَشَهَادَةِ الْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَعَكْسِهِ

ص: 416

(وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ. وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى جِنْسِهِ،

وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ أَصْلًا لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، قَالَ تَعَالَى {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَوَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ الْهِدَايَةِ: وَالْكَافِرُونَ هُمْ الْفَاسِقُونَ.

وَفِي النِّهَايَةِ النُّسْخَةُ الْمُصَحَّحَةُ بِتَصْحِيحٍ بِخَطِّ شَيْخِي قَالَ تَعَالَى لِلْكَافِرِينَ: هُمْ الْفَاسِقُونَ إذْ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَصَارَ كَالْمُرْتَدِّ) بِذَلِكَ الْجَامِعِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَالْكَافِرُ لَيْسَ ذَا عَدْلٍ وَلَا مَرَضِيًّا وَلَا مِنَّا، وَلِأَنَّا لَوْ قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمْ لَأَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ عَلَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى الْمُسْلِمِ شَيْءٌ بِقَوْلِهِمْ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ») قَالَ الْإِمَامُ: الْمَخْرَجُ غَرِيبٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمُدَّعَى، وَهُوَ أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ جَائِزَةٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ، وَلَوْ قَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ عِوَضَ النَّصَارَى وَافَقَ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشُّعَبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ» وَمُجَالِدٌ فِيهِ مَقَالٌ.

ثُمَّ قَالَ شَيْخُنَا عَلَاءُ الدِّينِ: وَيُوجَدُ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ الْيَهُودِ عِوَضَ النَّصَارَى، وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا الْإِسْنَادِ «جَاءَتْ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: ائْتُونِي بِأَعْلَمَ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ، فَأَتَوْهُ بِابْنَيْ صُورِيَّا، فَنَشَدَهُمَا اللَّهَ كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَا: نَجِدُ فِيهَا إذَا

ص: 417

وَالْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ غَيْرُ مَانِعٍ لِأَنَّهُ يَجْتَنِبُ مَا يَعْتَقِدُهُ مُحَرَّمَ دِينِهِ، وَالْكَذِبُ مَحْظُورُ الْأَدْيَانِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ، وَبِخِلَافِ شَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يَتَقَوَّلُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَغِيظُهُ قَهْرُهُ إيَّاهُ، وَمِلَلُ الْكُفْرِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَلَا قَهْرَ فَلَا يَحْمِلُهُمْ الْغَيْظُ عَلَى التَّقَوُّلِ.

شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْكُمْ أَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا، قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا؟ قَالَا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّهُودِ فَجَاءُوا بِأَرْبَعَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِهِمَا» قَالَ: هَكَذَا وَجَدْتَهُ فِي نُسْخَةِ عَلَاءِ الدِّينِ يَدُهُ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ فَدَعَا بِالشُّهُودِ بِخَطٍّ كَشَفْتَهُ مِنْ نَحْوِ عِشْرِينَ نُسْخَةً، وَكَذَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ وَالْبَزَّارُ فِي مَسَانِيدِهِمْ وَالدَّارَقُطْنِيّ كُلُّهُمْ قَالُوا: فَدَعَا بِالشُّهُودِ.

قَالَ فِي التَّنْقِيحِ: قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ " فَدَعَا بِالشُّهُودِ فَشَهِدُوا " زِيَادَةٌ فِي الْحَدِيثِ تَفَرَّدَ بِهَا مُجَالِدٌ وَلَا يُحْتَجَّ بِمَا تَفَرَّدَهُ بِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. لَكِنَّ الطَّحَاوِيَّ أَسْنَدَهُ إلَى عَامِرِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «ائْتُونِي بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُمْ يَشْهَدُونَ» ثُمَّ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا يُقْبَلُ

ص: 418

قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ) أَرَادَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمُسْتَأْمَنُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا

مَا تَفَرَّدَ بِهِ مُجَالِدٌ يَجْرِي فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّاوِيَ الْمُضَعَّفَ إذَا قَامَتْ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ مَا رَوَاهُ حُكِمَ بِهِ لِارْتِفَاعِ وَهْمِ الْغَلَطِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رَجْمَهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ بِنَاءً عَلَى مَا سَأَلَ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ فِيهِمَا. وَأُجِيبَ بِهِ مِنْ أَنَّ حُكْمَهَا الرَّجْمُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ إذْ هُوَ يُوَافِقُ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ بَنَى عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، لِأَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ فِيمَا بَيْنَ يَهُودٍ فِي مَحَالِّهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ، فَهَذِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مُجَالِدًا لَمْ يَغْلَطْ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَأَنْتَ عَلِمْتَ فِي مَسْأَلَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ فِسْقُ الْأَفْعَالِ لِأَنَّهُ الَّذِي يُتَّهَمُ صَاحِبُهُ بِالْكَذِبِ لَا الِاعْتِقَادُ، إلَّا أَنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نُسِخَتْ قَوْله تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} فَبَقِيَتْ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا. ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى جِنْسِهِ بِدَلِيلِ وِلَايَتِهِ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَمَمَالِيكِهِ فَجَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى جِنْسِهِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ أَصْلًا فَلَا شَهَادَةَ لَهُ، وَلِأَنَّهُ يَتَقَوَّلُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِغَيْظِهِ بِقَهْرِهِ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِيهِ، بِخِلَافِ أَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى، وَلِأَنَّهُ وَإِنْ عَادَاهُ لَيْسَ أَحَدُهُمْ تَحْتَ قَهْرِ الْآخَرِ فَلَا حَامِلَ عَلَى التَّقَوُّلِ عَلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ إذْ مُجَرَّدُ الْعَدَاوَةِ مَانِعٌ مِنْ الْقَبُولِ كَمَا فِي مُسْلِمٍ يُعَادِي مُسْلِمًا ثُمَّ يُشَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثٌ مُضَعَّفٌ بِعُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ إلَّا مِلَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهَا تَجُوزُ عَلَى مِلَّةِ غَيْرِهِمْ» وَأَيْضًا فَقَوْلُ الرَّاوِيِّ أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ وَاقِعَةِ حَالٍ شَهِدَ فِيهَا بَعْضُ الْيَهُودِ عَلَى بَعْضٍ أَوْ بَعْضُ النَّصَارَى عَلَى بَعْضٍ فَلَا عُمُومَ لَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حِكَايَةُ تَشْرِيعٍ قَوْلِيٍّ فَيَعُمُّ شَهَادَةَ الْمِلَّتَيْنِ مِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ فَلَا نَحْكُمُ بِأَحَدِهِمَا عَيْنًا، غَيْرَ أَنَّ فِي هَذِهِ خِلَافًا فِي الْأُصُولِ، وَرُجِّحَ الثَّانِي وَهُوَ مَسْأَلَةُ قَوْلِ الرَّاوِي «قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ» .

(قَوْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحَرْبِيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ) أَرَادَ بِهِ الْمُسْتَأْمَنَ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ

ص: 419

وَهُوَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَعَلَى الذِّمِّيِّ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ دَارَيْنِ كَالرُّومِ وَالتُّرْكِ لَا تُقْبَلُ) لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ وَلِهَذَا يَمْنَعُ التَّوَارُثَ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ.

(وَإِنْ كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَغْلَبُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ أَلَمَّ بِمَعْصِيَةٍ) هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَوَقِّي الْكَبَائِرِ كُلِّهَا وَبَعْدَ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ كَمَا ذَكَرْنَا،

غَيْرُهُ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ دَخَلَ بِلَا أَمَانٍ قَهْرًا اُسْتُرِقَّ، وَلَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى أَحَدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ أَعْلَى مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّهُ قِيلَ خَلْفَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْهُ، وَلِهَذَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ عِنْدَنَا لَا بِالْمُسْتَأْمَنِ، وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الَّذِي مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَإِنْ كَانُوا مِنْ دَارَيْنِ: يَعْنِي تُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ صَارَ كَالْمُسْلِمِ وَشَهَادَةُ الْمُسْلِمِ تُقْبَلُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَا الذِّمِّيُّ، وَإِنَّمَا لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ وَالشَّهَادَةُ مِنْهَا وَمِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي الْإِرْثِ وَالْمَالِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَغْلَبَ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ) هَذَا هُوَ مَعْنَى الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ، وَفِيهِ قُصُورٌ حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَمْرِ

ص: 420

فَأَمَّا الْإِلْمَامُ بِمَعْصِيَةٍ لَا تَنْقَدِحُ بِهِ الْعَدَالَةُ الْمَشْرُوطَةُ فَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ الْمَشْرُوعَةُ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ اجْتِنَابِهِ الْكُلَّ سَدَّ بَابِهِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ إحْيَاءً لِلْحُقُوقِ.

قَالَ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ) لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ إلَّا إذَا تَرَكَهُ اسْتِخْفَافًا بِالدِّينِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِهَذَا الصَّنِيعِ عَدْلًا.

الْمُرُوءَةِ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعَاصِي. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هُوَ قَوْلُهُ أَنْ لَا يَأْتِي بِكَبِيرَةٍ وَلَا يُصِرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ وَيَكُونُ سَتْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ هَتْكِهِ وَصَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِهِ وَمُرُوءَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَيَسْتَعْمِلُ الصِّدْقَ وَيَجْتَنِبُ الْكَذِبَ دِيَانَةً وَمُرُوءَةً. هَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو حَازِمٍ حِينَ سَأَلَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ وَزِيرُ الْمُعْتَضِدِ عَنْ الْعَدَالَةِ فَقَالَ: أَحْسَنُ مَا نُقِلَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ الْقَاضِي. ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ، وَكَانَ يَكْفِيهِ إلَى قَوْلِهِ وَمُرُوءَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (فَأَمَّا الْإِلْمَامُ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تَنْقَدِحُ بِهِ الْعَدَالَةُ) يُرِيدُ الصَّغِيرَةَ، وَلَفْظُ الْإِلْمَامِ وَأَلَمَّ قَدْ اشْتَهَرَ فِي الصَّغِيرَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ خِرَاشٍ وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:

إنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا

وَأَيُّ عَبْدٍ لَك لَا أَلَمَّا

هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْعُتْبِيُّ عَنْهُ بِسَنَدِهِ، وَنَسَبَهُ الْخَطَّابِيُّ إلَى أُمَيَّةَ، وَنِسْبَةُ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ إيَّاهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَلَطٌ. وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ أَفْرَادٍ نَصَّ عَلَيْهَا: مِنْهَا تَرْكُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ بَعْدَ كَوْنِ الْإِمَامِ لَا طَعْنَ عَلَيْهِ فِي دِينٍ وَلَا حَالٍ وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا فِي تَرْكِهَا كَأَنْ يَكُونَ مُعْتَقِدًا فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَالْإِمَامُ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ بِالتَّرْكِ، وَكَذَا بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْقَطَهَا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ كَالْحَلْوَانِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَالسَّرَخْسِيِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ. وَذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ: مَنْ أَكَلَ فَوْقَ الشِّبَعِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ فِي غَيْرِ إرَادَةِ التَّقَوِّي عَلَى صَوْمِ الْغَدِ أَوْ مُؤَانَسَةِ الضَّيْفِ، وَكَذَا مَنْ خَرَجَ لِرُؤْيَةِ السُّلْطَانِ أَوْ الْأَمِيرِ عِنْدَ قُدُومِهِ. وَرَدَّ شَدَّادُ شَهَادَةَ شَيْخٍ صَالِحٍ لِمُحَاسَبَتِهِ ابْنَهُ فِي نَفَقَةِ طَرِيقِ مَكَّةَ كَأَنَّهُ رَأَى مِنْهُ تَضْيِيقًا وَمُشَاحَحَةً فَشَهِدَ مِنْهُ الْبُخْلَ. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ رُكُوبَ الْبَحْرِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِلتَّفَرُّجِ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ، وَكَذَا التِّجَارَةُ إلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ وَقُرَى فَارِسٍ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهُ مُخَاطِرٌ بِدِينِهِ وَنَفْسِهِ لِنَيْلِ الْمَالِ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكْذِبَ لِأَجْلِ الْمَالِ، وَتُرَدُّ شَهَادَةُ مَنْ لَمْ يَحُجَّ إذَا كَانَ مُوسِرًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَاهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَكَذَا مَنْ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، وَكُلُّ مَنْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارٍ بَاطِلٍ وَكَذَا عَلَى فِعْلٍ بَاطِلٍ، مِثْلُ مِنْ يَأْخُذُ سُوقَ النَّخَّاسِينَ مُقَاطَعَةً وَأَشْهَدَ عَلَى وَثِيقَتِهَا شُهُودًا. قَالَ الْمَشَايِخُ: إنْ شَهِدُوا حَلَّ لَهُمْ اللَّعْنُ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى بَاطِلٍ فَكَيْفَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عِنْدَ مُبَاشِرِي السُّلْطَانِ عَلَى ضَمَانِ الْجِهَاتِ وَالْإِجَارَاتِ الضَّارَّةِ وَعَلَى الْمَحْبُوسِينَ عِنْدَهُمْ وَاَلَّذِينَ فِي تَرْسِيمِهِمْ.

(قَوْلُهُ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ).

ص: 421

(وَالْخَصِيِّ) لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَبِلَ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ، وَلِأَنَّهُ قُطِعَ عُضْوٌ مِنْهُ ظُلْمًا فَصَارَ كَمَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ.

(وَوَلَدِ الزِّنَا) لِأَنَّ فِسْقَ الْأَبَوَيْنِ لَا يُوجِبُ فِسْقَ الْوَلَدِ كَكُفْرِهِمَا وَهُوَ مُسْلِمٌ. وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: لَا تُقْبَلُ فِي الزِّنَا لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ كَمِثْلِهِ فَيُتَّهَمُ. قُلْنَا: الْعَدْلُ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَحِبُّهُ، وَالْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ.

قَالَ (وَشَهَادَةُ الْخُنْثَى جَائِزَةٌ) لِأَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَشَهَادَةُ الْجِنْسَيْنِ مَقْبُولَةٌ بِالنَّصِّ.

(وَشَهَادَةُ الْعُمَّالِ جَائِزَةٌ) وَالْمُرَادُ عُمَّالُ السُّلْطَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ لَيْسَ بِفِسْقٍ إلَّا إذَا كَانُوا أَعْوَانًا عَلَى الظُّلْمِ.

نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ. قَالَ: وَتَجُوزُ صَلَاتُهُ وَإِمَامَتُهُ إلَّا إذَا تَرَكَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّغْبَةِ عَنْ السُّنَّةِ لَا خَوْفًا مِنْ الْهَلَاكِ، وَكُلُّ مَنْ يَرَاهُ وَاجِبًا يُبْطِلُ بِهِ شَهَادَتَهُ وَعِنْدَنَا هُوَ سُنَّةٌ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «الْخِتَانُ لِلرِّجَالِ سُنَّةٌ، وَلِلنِّسَاءِ مَكْرُمَةٌ» وَمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ «لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا تُقْبَلُ صَلَاتُهُ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ» إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَجُوسِيَّ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ.

(قَوْلُهُ وَالْخَصِيُّ إذَا كَانَ عَدْلًا) لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ لِأَنَّ حَاصِلَ أَمْرِهِ مَظْلُومٌ. نَعَمْ لَوْ كَانَ ارْتِضَاءً لِنَفْسِهِ وَفَعَلَهُ مُخْتَارًا مُنِعَ. وَقَدْ قَبِلَ عُمَرُ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ أَنَّ الْجَارُودَ شَهِدَ عَلَى قُدَامَةَ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: هَلْ مَعَكَ شَاهِدٌ آخَرُ؟ قَالَ لَا، قَالَ عُمَرُ: يَا جَارُودُ مَا أَرَاك إلَّا مَجْلُودًا، قَالَ: يَشْرَبُ خَتْنُكَ الْخَمْرَ وَأُجْلَدُ أَنَا، فَقَالَ عَلْقَمَةُ الْخَصِيُّ لِعُمَرَ: أَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْخَصِيِّ؟ قَالَ: وَمَا بَالُ الْخَصِيِّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؟ قَالَ: فَإِنَى أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْته يَتَقَيَّؤُهَا، فَقَالَ عُمَرُ: مَا قَاءَهَا حَتَّى شَرِبَهَا، فَأَقَامَهُ ثُمَّ جَلَدَهُ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مُطَوَّلًا.

(قَوْلُهُ وَوَلَدِ الزِّنَا) أَيْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الزِّنَا وَغَيْرِهِ، إذْ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَعَنْ مَالِكٍ رحمه الله: لَا تُقْبَلُ فِي الزِّنَا وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ.

(وَشَهَادَةُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ جَائِزَةٌ) إذَا شَهِدَ مَعَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، فَلَوْ شَهِدَ مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تُقْبَلُ، إلَّا إذَا زَالَ الْإِشْكَالُ بِظُهُورِ مَا يَحْكُمُ بِهِ بِأَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ.

(قَوْلُهُ وَشَهَادَةُ الْعُمَّالِ جَائِزَةٌ) وَالْمُرَادُ عُمَّالُ

ص: 422

وَقِيلَ الْعَامِلُ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ لَا يُجَازِفُ فِي كَلَامِهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَمَا مَرَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله فِي الْفَاسِقِ، لِأَنَّهُ لِوَجَاهَتِهِ لَا يَقْدُمُ عَلَى الْكَذِبِ حِفْظًا لِلْمُرُوءَةِ وَلِمَهَابَتِهِ لَا يُسْتَأْجَرُ عَلَى الشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ.

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ الرَّجُلَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَى فُلَانٍ وَالْوَصِيُّ يَدَّعِي ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَصِيُّ لَمْ يَجُزْ) وَفِي

السُّلْطَانِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِفِسْقٍ لِأَنَّهُ مُعِينٌ لِلْخَلِيفَةِ عَلَى إقَامَةِ الْحَقِّ وَجِبَايَةِ الْمَالِ الْوَاجِبِ، وَلَوْ كَانَ فِسْقًا لَمْ يَلِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِعُمَرَ وَكَثِيرٌ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا قِيلَ، وَلَوْ كَانَ فِسْقًا لَمْ يَلِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رضي الله عنهم لِأَنَّ هَؤُلَاءِ خَلْفَاءُ وَالْعُمَّالُ فِي الْعُرْفِ مَنْ يُوَلِّيهِمْ الْخَلِيفَةُ عَمَلًا يَكُونُ نَائِبَهُ فِيهِ، وَكَانَ الْغَالِبُ فِيهِمْ الْعَدَالَةُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَتُقْبَلُ مَا لَمْ يَظْهَرْ وَيَنْقَشِعْ عَنْهُ الظُّلْمُ كَالْحَجَّاجِ. وَقِيلَ أَرَادَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَاسِقِ الْوَجِيهِ وَعَلِمْتَ مَا فِيهِ وَرَدَّهُ شَهَادَةَ الْوَزِيرِ لِقَوْلِهِ لِلْخَلِيفَةِ أَنَا عَبْدُك يُبْعِدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ. وَقِيلَ أَرَادَ بِالْعُمَّالِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ وَيُؤَاجِرُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْعَمَلِ، لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ رَدَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ الْخَسِيسَةِ فَأَفْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِإِظْهَارِ مُخَالَفَتِهِمْ، وَكَيْفَ لَا وَكَسْبُهُمْ أَطْيَبُ كَسْبٍ، وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ أَنَّ شَهَادَةَ الرَّئِيسِ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا الْجَابِي وَالصَّرَّافُ الَّذِي يَجْمَعُ عِنْدَهُ الدَّرَاهِمَ وَيَأْخُذُهَا طَوْعًا لَا تُقْبَلُ. وَقَدَّمْنَا عَنْ الْبَزْدَوِيِّ أَنَّ الْقَائِمَ بِتَوْزِيعِ هَذِهِ النَّوَائِبِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالْجِبَايَاتِ بِالْعَدْلِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَأْجُورٌ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ ظُلْمًا، فَعَلَى هَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَالْمُرَادُ بِالرَّئِيسِ رَئِيسُ الْقَرْيَةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي بِلَادِنَا شَيْخَ الْبَلَدِ. وَمِثْلُهُ الْمُعَرِّفُونَ فِي الْمَرَاكِبِ وَالْعُرَفَاءُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَضُمَّانُ الْجِهَاتِ فِي بِلَادِنَا لِأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ أَعْوَانٌ عَلَى الظُّلْمِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ الرَّجُلَانِ) صُورَتُهَا: رَجُلٌ ادَّعَى أَنَّهُ وَصِيُّ فُلَانٍ

ص: 423

الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ إنْ ادَّعَى، وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَ الْمُوصِي لَهُمَا بِذَلِكَ أَوْ غَرِيمَانِ لَهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ أَوْ شَهِدَ الْوَصِيَّانِ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى هَذَا الرَّجُلِ مَعَهُمَا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا شَهَادَةٌ لِلشَّاهِدِ لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ نَصْبِ الْوَصِيِّ إذَا كَانَ طَالِبًا وَالْمَوْتُ مَعْرُوفٌ، فَيَكْفِي الْقَاضِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ لَا أَنْ يَثْبُتَ بِهَا شَيْءٌ فَصَارَ كَالْقُرْعَةِ وَالْوَصِيَّانِ إذَا أَقَرَّا أَنَّ مَعَهُمَا ثَالِثًا يَمْلِكُ الْقَاضِي نَصْبَ ثَالِثٍ مَعَهُمَا لِعَجْزِهِمَا عَنْ التَّصَرُّفِ بِاعْتِرَافِهِمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَنْكَرَا وَلَمْ يَعْرِفْ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ نَصْبِ الْوَصِيِّ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ، وَفِي الْغَرِيمَيْنِ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْتُ مَعْرُوفًا لِأَنَّهُمَا يُقِرَّانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيَثْبُتُ الْمَوْتُ بِاعْتِرَافِهِمَا فِي حَقِّهِمَا

الْمَيِّتِ فَشَهِدَ بِذَلِكَ اثْنَانِ مُوصَى لَهُمَا بِمَالٍ أَوْ وَارِثَانِ لِذَلِكَ الْمَيِّتِ أَوْ غَرِيمَانِ لَهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ أَوْ وَصِيَّانِ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا.

وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ، لِأَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ تَتَضَمَّنُ جَلْبَ نَفْعٍ لِلشَّاهِدِ. أَمَّا الْوَارِثَانِ لِقَصْدِهِمَا نَصْبَ مَنْ يَتَصَرَّفُ لَهُمَا وَيُرِيحُهُمَا وَيَقُومُ بِإِحْيَاءِ حُقُوقِهِمَا وَالْغَرِيمَانِ الدَّائِنَانِ وَالْمُوصَى لَهُمَا لِوُجُودِ مَنْ يَسْتَوْفِيَانِ مِنْهُ وَالْمَدْيُونَانِ لِوُجُودِ مَنْ يَبْرَءَانِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَالْوَصِيَّانِ لِوُجُودِ مَنْ يُعِينُهُمَا فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَالْمُطَالَبَةِ وَكُلُّ شَهَادَةٍ جَرَّتْ نَفْعًا لَا تُقْبَلُ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا لَمْ نُوجِبْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَاضِي شَيْئًا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، بَلْ إنَّمَا اعْتَبَرْنَاهَا عَلَى وِزَانِ الْقُرْعَةِ لَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ. وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا لِفَائِدَةٍ غَيْرِ الْإِثْبَاتِ كَمَا جَازَ اسْتِعْمَالُهَا لِتَطْيِيبِ الْقَلْبِ فِي السَّفَرِ بِإِحْدَى نِسَائِهِ وَلِدَفْعِ التُّهْمَةِ عَنْ الْقَاضِي فِي تَعْيِينِ الْأَنْصِبَاءِ، فَكَذَا هَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَمْ تُثْبِتْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَاهَا لِفَائِدَةِ إسْقَاطِ تَعْيِينِ الْوَصِيِّ عَنْ الْقَاضِي، فَإِنَّ لِلْقَاضِي إذَا ثَبَتَ الْمَوْتُ وَلَا وَصِيَّ أَنْ يُنَصِّبَ الْوَصِيَّ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَيِّتُ وَصَّى وَادَّعَى الْعَجْزَ وَهَذِهِ الصُّوَرُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُثْبِتْ شَيْئًا وَثَبَتَ الْمَوْتُ فَلِلْقَاضِي أَوْ عَلَيْهِ أَنْ يُنَصِّبَ وَصِيًّا، فَلَمَّا شَهِدَ هَؤُلَاءِ بِوِصَايَةِ هَذَا الرَّجُلِ فَقَدْ رَضَوْهُ وَاعْتَرَفُوا لَهُ بِالْأَهْلِيَّةِ الصَّالِحَةِ لِذَلِكَ، فَكَفَى الْقَاضِي بِذَلِكَ مُؤْنَةَ التَّفْتِيشِ عَلَى الصَّالِحِ، وَعُيِّنَ هَذَا الرَّجُلُ بِتِلْكَ الْوِلَايَةِ لَا بِوِلَايَةٍ أَوْجَبَتْهَا الشَّهَادَةُ الْمَذْكُورَةُ وَكَذَلِكَ وَصِيَّا الْمَيِّتِ لَمَّا شَهِدَا بِالثَّالِثِ فَقَدْ اعْتَرَفَا بِعَجْزٍ شَرْعِيٍّ مِنْهُمَا عَنْ التَّصَرُّفِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ مَعَهَا، أَوْ بِعَجْزٍ عَلِمَهُ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا حَتَّى أَدْخَلَهُ مَعَهُمَا فِي فَيَنْصِبُ الْقَاضِي الْآخَرَ،

ص: 424

(وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا الْغَائِبَ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دُيُونِهِ بِالْكُوفَةِ فَادَّعَى الْوَكِيلُ أَوْ أَنْكَرَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا) لِأَنَّ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ نَصْبَ الْوَكِيلِ عَنْ الْغَائِبِ، فَلَوْ ثَبَتَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا وَهِيَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ.

وَفِي الصُّوَرِ كُلِّهَا ثُبُوتُ الْمَوْتِ شَرْطٌ لِأَنَّ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ نَصْبَ وَصِيٍّ قَبْلَ الْمَوْتِ إلَّا فِي شَهَادَةِ الْغَرِيمَيْنِ الْمَدْيُونَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي إثْبَاتِ الْوَصِيِّ الَّذِي شَهِدَا لَهُ ثُبُوتُ الْمَوْتِ لِأَنَّهُمَا مُقِرَّانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِثُبُوتِ حَقِّ قَبْضِ الدَّيْنِ لِهَذَا الرَّجُلِ فَضَرَرُهُمَا فِي ذَلِكَ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهَا بِالْوَصِيَّةِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا الْغَائِبَ وَكَّلَ هَذَا الرَّجُلَ بِقَبْضِ دَيْنِهِ وَهُوَ يَدَّعِي الْوَكَالَةَ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ نَصْبِ الْوَكِيلِ عَنْ الْغَائِبِ، فَلَوْ أَثْبَتَ الْقَاضِي وَكَالَتَهُ لَكَانَ مُثْبِتًا لَهَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ لَا تُقْبَلُ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِيهَا عَلَى مَا عُرِفَ وَإِذَا تَحَقَّقْتَ مَا ذُكِرَ ظَهَرَ أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ ثَابِتٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا إذْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِهَا شَيْءٌ وَإِنَّمَا ثَبَتَ عِنْدَهُمَا نَصْبُ الْقَاضِي وَصِيًّا اخْتَارُوهُ، وَلَيْسَ هُنَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا يُصْرَفُ إلَيْهِ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ، وَلَوْ اُعْتُبِرَا فِي نَفْسِ إيصَاءِ الْقَاضِي إلَيْهِ فَالْقِيَاسُ لَا يَأْبَاهُ فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ الْمَشَايِخِ فِيهَا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.

وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَصْحَابِ الْمَذْهَبِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَيْسَ إلَّا مُحَمَّدُ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمهم الله فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا لِرَجُلٍ أَنَّ أَبَاهُمَا أَوْصَى إلَيْهِ قَالَ: جَائِزٌ إنْ ادَّعَى ذَلِكَ، وَإِنْ أَنْكَرَ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دُيُونِهِ بِالْكُوفَةِ كَانَ بَاطِلًا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّ الْقَاضِي لَا يَقْدِرُ عَلَى نَصْبِ وَكِيلٍ عَنْ الْغَائِبِ، فَلَوْ نَصَبَهُ كَانَ عَنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ.

[فُرُوعٌ] إذَا شَهِدَ الْمُودَعَانِ بِكَوْنِ الْوَدِيعَةِ مِلْكًا لِمُودِعِهِمَا تُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ مُدَّعِيهَا أَنَّهَا مِلْكُ الْمُودَعِ لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا كَانَا رَدَّا الْوَدِيعَةَ عَلَى الْمُودِعِ

وَلَوْ شَهِدَ الْمُرْتَهِنَانِ بِالرَّهْنِ لِمُدَّعِيهِ قُبِلَتْ، وَلَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ لَا تُقْبَلُ وَيَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ لِلْمُدَّعِي لِإِقْرَارِهِمَا بِالْغَصْبِ، وَلَوْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِكَوْنِ الرَّهْنِ مِلْكَ الرَّاهِنِ لَا تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ هَالِكًا إلَّا إذَا شَهِدَ بَعْدَ رَدِّ الرَّهْنِ، وَإِذَا أَنْكَرَ الْمُرْتَهِنَانِ فَشَهِدَ الرَّاهِنَانِ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ وَضَمِنَا قِيمَتَهُ لِلْمُدَّعِي لِمَا ذَكَرْنَا

وَلَوْ شَهِدَ الْغَاصِبَانِ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا كَانَ بَعْدَ رَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِمَا ثُمَّ شَهِدَا لِلْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ

وَلَوْ شَهِدَ الْمُسْتَقْرِضَانِ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُسْتَقْرِضِ لِلْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ لَا قَبْلَ الدَّفْعِ وَلَا بَعْدَهُ، وَلَوْ رَدَّ عَيْنَهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تُقْبَلُ بَعْدَ رَدِّ الْعَيْنِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ قَبْلَ اسْتِهْلَاكِهِ عِنْدَهُ حَتَّى كَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ إذَا شَهِدَ الْمُشْتَرِيَانِ شِرَاءً فَاسِدًا بِأَنَّ الْمُشْتَرَى مِلْكٌ لِلْمُدَّعِي بَعْدَ الْقَبْضِ لَا تُقْبَلُ وَكَذَا لَوْ نَقَضَ الْقَاضِي الْعَقْدَ أَوْ تَرَاضَوْا عَلَى نَقْضِهِ هَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِمَا، فَلَوْ رَادَّهُ عَلَى الْبَائِعِ ثُمَّ شَهِدَا قُبِلَتْ.

وَلَوْ شَهِدَ الْمُشْتَرِي بِمَا اشْتَرَى لِإِنْسَانٍ وَلَوْ بَعْدَ التَّقَايُلِ أَوْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِلَا قَضَاءٍ لَا تُقْبَلُ، كَالْبَائِعِ إذَا شَهِدَ بِكَوْنِ الْمَبِيعِ مِلْكًا لِلْمُدَّعِي بَعْدَ الْبَيْعِ، وَلَوْ كَانَ الرَّدُّ بِطَرِيقٍ هُوَ فَسْخٌ قُبِلَتْ.

وَشَهَادَةُ الْغَرِيمَيْنِ بِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِمَا لِهَذَا الْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ وَإِنْ قَضَيَا الدَّيْنَ

وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْجِرِ بِكَوْنِ الدَّارِ لِلْمُدَّعِي إنْ قَالَ الْمُدَّعِي أَنَّ الْإِجَارَةَ كَانَتْ بِأَمْرِي لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ قَالَ كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِي تُقْبَلُ،

وَشَهَادَةُ سَاكِنِ الدَّارِ بِغَيْرِ إجَارَةٍ لِلْمُدَّعِي أَوْ عَلَيْهِ تُقْبَلُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِيمَا عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى تَجْوِيزِ غَصْبِ الْعَقَارِ وَعَدَمِهِ.

وَلَوْ شَهِدَ عَبْدَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنَّ الثَّمَنَ كَذَا لَا تُقْبَلُ. وَفِي الْعُيُونِ: أَعْتَقَهُمَا بَعْدَ الشِّرَاءِ ثُمَّ شَهِدَا عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ جُحُودِهِ تَجُوزُ إجْمَاعًا،

وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي أَلْفٍ قِبَلَ فُلَانٍ فَخَاصَمَ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي ثُمَّ عَزْلَهُ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الْقَاضِي فَشَهِدَ بِهَذِهِ الْأَلْفِ لِمُوَكِّلِهِ جَازَتْ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ بِمُجَرَّدِ الْوَكَالَةِ قَامَ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ كَانَ خَاصَمَ عِنْدَ الْقَاضِي وَالْبَاقِي بِحَالِهِ لَمْ تَجُزْ، وَلَوْ خَاصَمَ فِي الْأَلْفِ

ص: 425

قَالَ (وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى جَرْحٍ وَلَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ) لِأَنَّ الْفِسْقَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّ لَهُ الدَّفْعَ بِالتَّوْبَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْزَامُ، وَلِأَنَّهُ هَتْكُ السِّرِّ وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ وَالْإِشَاعَةُ حَرَامٌ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ ضَرُورَةَ إحْيَاءِ الْحُقُوقِ

عِنْدَ الْقَاضِي وَالْوَكَالَةُ بِكُلِّ حَقٍّ قِبَلَ فُلَانٍ فَعَزَلَهُ فَشَهِدَ لِمُوَكِّلِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ، إنْ كَانَ التَّوْكِيلُ عِنْدَ الْقَاضِي قُبِلَتْ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهُ فَاحْتَاجَ إلَى إثْبَاتِ الْوَكَالَةِ عِنْدَ الْقَاضِي بِالْإِشْهَادِ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَمَّا اتَّصَلَ بِهَا الْقَضَاءُ صَارَ الْوَكِيلُ خَصْمًا فِي جَمِيعِ مَا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَشَهَادَتُهُ شَهَادَةُ الْخَصْمِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْقَاضِي عَلِمَ بِالْوَكَالَةِ وَعِلْمُهُ لَيْسَ قَضَاءً فَلَا يَصِيرُ خَصْمًا فَتُقْبَلُ فِي غَيْرِ مَا صَارَ فِيهِ خَصْمًا، هَذَا كُلُّهُ فِي الْوَكَالَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَالطَّلَبِ لِمَ عَلَى رَجُلٍ مُعَيَّنٍ. وَحُكْمُهَا أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ الْحَادِثَ بَعْدَ التَّوْكِيلِ، أَمَّا الْعَامَّةُ وَهِيَ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِطَلَبِ كُلِّ حَقٍّ لَهُ قِبَلَ جَمِيعِ النَّاسِ أَوْ أَهْلِ مِصْرٍ فَيَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ بَعْدَ التَّوْكِيلِ وَفِيهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِمُوَكِّلِهِ بِشَيْءٍ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْعَزْلِ إلَّا عَلَى مَا وَجَبَ بَعْدَ الْعَزْلِ.

شَهِدَ ابْنَا الْمُوَكِّلِ أَنَّ أَبَاهُمَا وَكَّلَ هَذَا بِقَبْضِ دُيُونِهِ لَا تُقْبَلُ إذَا جَحَدَ الْمَطْلُوبُ الْوَكَالَةَ وَكَذَا فِي الْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ وَشَهَادَةُ ابْنَيْ الْوَكِيلِ عَلَى الْوَكَالَةِ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا شَهَادَةُ أَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ وَأَحْفَادِهِ.

وَشَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ بَعْدَمَا أَخْرَجَهُ الْقَاضِي عَنْ الْوِصَايَةِ لَا تُقْبَلُ وَلَوْ بَعْدَمَا أَدْرَكَتْ الْوَرَثَةُ سَوَاءٌ خَاصَمَ فِيهِ أَوْ لَا،

وَلَوْ شَهِدَ لِكَبِيرٍ عَلَى أَجْنَبِيٍّ تُقْبَلُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَوْ لِكَبِيرٍ وَصَغِيرٍ مَعًا فِي غَيْرِ الْمِيرَاثِ لَا تُقْبَلُ.

وَلَوْ شَهِدَ الْوَصِيَّانِ عَلَى إقْرَارِ الْمَيِّتِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ دَارٌ أَوْ غَيْرِهَا لِوَارِثٍ بَالِغٍ تُقْبَلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى جَرْحٍ وَلَا يَحْكُمُ بِهِ) قِيلَ قَوْلُهُ وَلَا يَحْكُمُ بِهِ تَكْرَارٌ. أُجِيبَ بِجَوَازِ أَنْ لَا يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ السَّمَاعِ عَدَمُ الْحُكْمِ عَلَى نَفْيِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمُرَادُ الْجَرْحُ الْمُجَرَّدُ عَنْ حَقِّ الشَّرْعِ أَوْ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا أَحَدَهُمَا سُمِعَتْ الشَّهَادَةُ وَحُكِمَ بِهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ الشُّهُودَ فَسَقَةٌ أَوْ زُنَاةٌ أَوْ أَكَلَةُ الرِّبَا أَوْ شَرَبَةُ الْخَمْرِ، أَوْ عَلَى إقْرَارِهِمْ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالزُّورِ أَوْ أَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ، أَوْ عَلَى إقْرَارِهِمْ أَنَّهُمْ أُجَرَاءُ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، أَوْ إقْرَارُهُمْ أَنَّ الْمُدَّعِيَ

ص: 426

وَذَلِكَ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ (إلَّا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ تُقْبَلُ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ.

قَالَ (وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ لَمْ تُقْبَلْ) لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى جَرْحٍ مُجَرَّدٍ، وَالِاسْتِئْجَارُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَيْهِ فَلَا خَصْمَ فِي إثْبَاتِهِ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ لِيُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ وَأَعْطَاهُمْ الْعَشَرَةَ مِنْ مَالِي الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ

مُبْطِلٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، أَوْ إقْرَارُهُمْ أَنْ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ. فَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ تُقْبَلُ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تُقْبَلُ لِلْحُكْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمَشْهُودِ بِهِ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ، وَالْفِسْقُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْحُكْمَ إلْزَامٌ وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْقَاضِي إلْزَامُ الْفِسْقِ لِأَحَدٍ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ رَفْعِهِ فِي الْحَالِ بِالتَّوْبَةِ. الثَّانِي أَنَّ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ يَفْسُقُ الشَّاهِدُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ فِيهِ إشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ الْمَقْصُودُ إشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ بَلْ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. أُجِيبَ بِأَنَّ دَفْعَهُ لَيْسَ يَنْحَصِرُ فِي إفَادَةِ الْقَاضِي عَلَى وَجْهِ الْإِشَاعَةِ بِأَنْ يَشْهَدَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ، إذْ يَنْدَفِعُ بِأَنْ يُخْبِرَ الْقَاضِيَ سِرًّا فَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الصُّوَرُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.

وَمِنْهَا مَا لَوْ أَقَامَ رَجُلٌ: يَعْنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ لِهَذَا الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ عَلَى جَرْحٍ مُجَرَّدٍ. فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِئْجَارُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْجَرْحِ. أَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَالِاسْتِئْجَارُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا زَائِدًا فَلَا خَصْمَ فِي إثْبَاتِهِ، لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ نَائِبًا عَنْ الْمُدَّعِي فِي إثْبَاتِ حَقِّهِ هَذَا بَلْ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ. وَأَوْرَدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ الْفِسْقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلُوا مُزَكِّينَ لِشُهُودِ الْمُدَّعِي فَيُخْبِرُونَ بِالْوَاقِعِ مِنْ الْجَرْحِ فَيُعَارِضُ تَعْدِيلَهُمْ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ قُدِّمَ الْجَرْحُ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعَدِّلَ فِي زَمَانِنَا يُخْبِرُ الْقَاضِيَ سِرًّا تَفَادِيًا مِنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ وَالتَّعَادِي، وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يُسْمَعُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي، وَقَوْلُ الشَّاهِدِ لَا شَهَادَةَ عِنْدِي لِشَكٍّ أَوْ ظَنٍّ عُرَاه بَعْدَمَا مَضَتْ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ، فَأَمَّا لَوْ كَانَ الْجَرْحُ غَيْرَ مُجَرَّدٍ بَلْ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ حَقٍّ لِلْعَبْدِ أَوْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَهُمْ بِعَشَرَةٍ وَأَعْطَاهُمُوهَا مِنْ مَالِي الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ أَنِّي صَالَحْتُهُمْ عَلَى كَذَا وَدَفَعْتُهُ إلَيْهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا وَقَدْ شَهِدُوا وَأَنَا أُطَالِبُهُمْ بِهَذَا الْمَالِ الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِمْ تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ صَالَحْتُهُمْ عَلَى كَذَا إلَى آخِرِهِ، لَكِنْ لَمْ أَدْفَعْ إلَيْهِمْ الْمَالَ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ جَرْحٌ مُجَرَّدٌ، وَكَذَا إذَا شَهِدُوا أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ سَرَقَ مِنِّي أَوْ زَنَى

ص: 427

ثُمَّ يَثْبُتُ الْجَرْحُ بِنَاءً عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا أَقَامَهَا عَلَى أَنِّي صَالَحْت الشُّهُودَ عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ. وَدَفَعْتُهُ إلَيْهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا الْبَاطِلِ وَقَدْ شَهِدُوا وَطَالَبَهُمْ بِرَدِّ ذَلِكَ الْمَالِ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ قَاذِفٌ أَوْ شَرِيكُ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ.

أَوْ شَرِيكُ الْمُدَّعِي فِيمَا ادَّعَى بِهِ مِنْ الْمَالِ أَوْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ الْمَجْلِسَ الَّذِي كَانَ فِيهِ هَذَا الْأَمْرُ قُبِلَتْ، أَوْ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُمْ تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّ مِنْهُ مَا تَضَمَّنَ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَمَوَاضِعُهُ ظَاهِرَةٌ وَفِي ضِمْنِهِ يَثْبُتُ الْجَرْحُ. وَمِنْهُ الشَّهَادَةُ بِرِقِّهِمْ فَإِنَّ الرِّقَّ حَقٌّ لِلْعَبْدِ.

وَمِنْهُ مَا تَضَمَّنَ حَقًّا لِلشَّرْعِ مِنْ حَدٍّ كَالشَّهَادَةِ بِسَرِقَتِهِمْ وَشُرْبِهِمْ وَزِنَاهُمْ أَوْ غَيْرِ حَدٍّ كَالشَّهَادَةِ بِأَنَّهُمْ مَحْدُودُونَ، فَإِنَّهَا قَامَتْ عَلَى إثْبَاتِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَقَضَاءُ الْقَاضِي حَقُّ الشَّرْعِ. وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبْطِلٌ لِشَهَادَتِهِمْ وَلَمْ يَتَضَمَّنْ إشَاعَةَ فَاحِشَةٍ فَتُقْبَلُ. وَمِنْهُ شَهَادَتُهُمْ بِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ الْمَشْهُودِ لَهُ إذْ لَيْسَ فِيهِ إظْهَارُ الْفَاحِشَةِ فَتُقْبَلُ فَتَصِيرُ الشَّرِكَةُ كَالْمُعَايَنَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ شَرِيكٌ مُفَاوِضٌ فَمَهْمَا حَصَلَ مِنْ هَذَا الْمَالِ الْبَاطِلِ يَكُونُ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ شَرِيكَهُ فِي الْمُدَّعَى بِهِ وَإِلَّا كَانَ إقْرَارًا بِأَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ لَهُمَا، وَكَذَا كُلُّ مَا يَشْهَدُونَ بِهِ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِمَا نَسَبَهُ إلَى شُهُودِهِ مِنْ فِسْقِهِمْ وَنَحْوِهِ لَيْسَ فِيهِ إشَاعَةٌ مِنْهُمْ، بَلْ إخْبَارٌ عَنْ إخْبَارِ الْمُدَّعِي عَنْهُمْ بِذَلِكَ فَتُصْبِحُ كَمَا لَوْ سَمِعَ مِنْهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ مِنْهُ اعْتِرَافٌ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ وَالْإِنْسَانُ مُؤَاخَذٌ بِزَعْمِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَكَذَا الْإِشَاعَةُ فِي شَهَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ مَحْدُودُونَ إنَّمَا هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ شَهَادَةِ الْقَذْفِ. هَذَا وَقَدْ نَصَّ الْخَصَّافُ فِي الْجَرْحِ الْمُجَرَّدِ أَنَّهُ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِهِ فَقِيلَ فِي وَجْهِهِ أَنَّهُ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ فَتُقْبَلُ كَالرِّقِّ وَأَنْتَ سَمِعْت الْفَرْقَ. وَأَوَّلُ جَمَاعَةٌ قَوْلَ الْخَصَّافِ بِحَمْلِهِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ يُجْعَلُ كَشَاهِدٍ زَكَّاهُ نَفَرٌ وَجَرَّحَهُ نَفَرٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا مَا يَمْنَعُهُ ثُمَّ قَدْ وَقَعَ فِي عَدِّ صُوَرِ عَدَمِ الْقَبُولِ أَنْ يَشْهَدُوا بِأَنَّهُمْ فَسَقَةٌ أَوْ زُنَاةٌ أَوْ شَرَبَةُ خَمْرٍ. وَفِي صُوَرِ الْقَبُولِ أَنْ يَشْهَدُوا بِأَنَّهُ شَرِبَ أَوْ زَنَى لِأَنَّهُ لَيْسَ جَرْحًا مُجَرَّدًا لِتَضَمُّنِهِ دَعْوَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْحَدُّ وَيَحْتَاجُ

ص: 428

قَالَ (وَمَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى قَالَ أُوهِمْتُ بَعْضَ شَهَادَتِي، فَإِنْ كَانَ عَدْلًا جَازَتْ شَهَادَتُهُ) وَمَعْنَى قَوْلِهِ أُوهِمْتُ أَيْ أَخْطَأْت بِنِسْيَانِ مَا كَانَ يَحِقُّ عَلَيَّ ذِكْرُهُ أَوْ بِزِيَادَةٍ كَانَتْ بَاطِلَةً. وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ لِمَهَابَةِ

إلَى جَمْعٍ وَتَأْوِيلٍ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى قَالَ أُوهِمْت بَعْضَ شَهَادَتِي: أَيْ أَخْطَأْت لِنِسْيَانٍ) عَرَانِي بِزِيَادَةٍ بَاطِلَةٍ بِأَنْ كَانَ شَهِدَ بِأَلْفٍ فَقَالَ إنَّمَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ، أَوْ بِنَقْصٍ بِأَنْ شَهِدَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَالَ أُوهِمْت إنَّمَا هِيَ أَلْفٌ (جَازَتْ شَهَادَتُهُ) إذَا كَانَ عَدْلًا: أَيْ ثَابِتَ الْعَدَالَةِ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ لَا فَسَأَلَ عَنْهُ فَعُدِّلَ (وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى بِهِ

ص: 429

مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَانَ الْعُذْرُ وَاضِحًا فَتُقْبَلُ إذَا تَدَارَكَهُ فِي أَوَانِهِ وَهُوَ عَدْلٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ ثُمَّ عَادَ وَقَالَ أُوهِمْتُ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْمُدَّعِي بِتَلْبِيسٍ وَخِيَانَةٍ فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ، وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ إذَا اتَّحَدَ لَحِقَ الْمُلْحَقُ بِأَصْلِ الشَّهَادَةِ فَصَارَ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ، وَلَا كَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ. وَعَلَى هَذَا إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ الْحُدُودِ أَوْ فِي بَعْضِ النَّسَبِ وَهَذَا إذَا كَانَ مَوْضِعَ شُبْهَةٍ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ الْكَلَامِ أَصْلًا مِثْلُ أَنْ يَدَعَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ وَإِنْ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا.

لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ) إذْ طَبْعُ الْبَشَرِ النِّسْيَانُ وَعَدَالَتُهُ مَعَ عَدَمِ التُّهْمَةِ تُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَابَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ ذَلِكَ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ اسْتِغْوَاءِ الْمُدَّعِي فِي الزِّيَادَةِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالنَّقْصِ فِي الْمَالِ فَلَا تُقْبَلُ (وَعَلَى هَذَا إذَا غَلِطَ فِي بَعْضِ الْحُدُودِ) بِأَنْ ذَكَرَ الشَّرْقِيَّ مَكَانَ الْغَرْبِيِّ وَنَحْوَهُ (أَوْ فِي بَعْضِ النَّسَبِ) بِأَنْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ إنْ تَدَارَكَهُ فِي الْمَجْلِسِ قُبِلَ، وَبَعْدَهُ لَا، وَإِذَا جَازَتْ وَلَمْ تُرَدَّ فَبِمَاذَا يَقْضِي؟ قِيلَ بِجَمِيعِ مَا شَهِدَ بِهِ لِأَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ صَارَ حَقًّا لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِقَوْلِهِ أُوهِمْتُ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدِهِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الزِّيَادَةَ، فَإِنَّهُ لَوْ شَهِدَ لَهُ بِأَلْفٍ وَقَالَ: بَلْ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ لَا يَدْفَعُ إلَّا إنْ ادَّعَى الْأَلْفَ وَخَمْسَمِائَةٍ. وَصُورَةُ الزِّيَادَةِ حِينَئِذٍ عَلَى تَقْدِيرِ الدَّعْوَى أَنْ يَدَّعِيَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَيَشْهَدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ يَقُولَ أُوهِمْتُ إنَّمَا هُوَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، لَكِنْ هَلْ يَقْضِي بِأَلْفٍ أَوْ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؟ قِيلَ يَقْضِي بِالْكُلِّ، وَقِيلَ بِمَا بَقِيَ وَهُوَ الْأَلْفُ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ غَلِطْت بِخَمْسِمِائَةٍ زِيَادَةً وَإِنَّمَا هُوَ خَمْسُمِائَةٍ يَقْضِي بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَطْ لِأَنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُجْعَلُ كَحُدُوثِهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ لَوْ شَهِدَ بِخَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَقْضِ بِأَلْفٍ فَكَذَا إذَا غَلِطَ، وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ: أَيْ لَا تُرَدُّ، لَكِنْ لَا يَقْضِي، إلَّا كَمَا قُلْنَا سَوَاءٌ كَانَ وَهْمُهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ.

وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ بِشَهَادَةٍ ثُمَّ زَادَ فِيهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ وَقَالَا أُوهِمْنَا وَهُمَا غَيْرُ مُتَّهَمَيْنِ قُبِلَ مِنْهُمَا، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَقْضِي بِالْكُلِّ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ شَهِدَ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ يَوْمٍ وَقَالَ شَكَكْتُ فِي كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُهُ بِالصَّلَاحِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا بَقِيَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ بِالصَّلَاحِ فَهَذِهِ تُهْمَةٌ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا شَهِدُوا بِأَنَّ الدَّارَ لِلْمُدَّعِي وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ قَالُوا لَا نَدْرِي لِمَنْ الْبِنَاءُ فَإِنِّي لَا أُضَمِّنُهُمْ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَحْدَهُ كَمَا لَوْ قَالُوا شَكَكْنَا فِي شَهَادَتِنَا، وَإِنْ قَالُوا لَيْسَ الْبِنَاءُ لِلْمُدَّعِي ضَمِنُوا قِيمَةَ الْبِنَاءِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. فَعُلِمَ

ص: 430

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ عَدْلًا، وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

بِهَذَا أَنَّ الشُّهُودَ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِمْ شَكَكْنَا قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ فِي أَنَّهُ يُقْبَلُ إذَا كَانُوا عُدُولًا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ شُبْهَةٍ وَهُوَ مَا إذَا تَرَكَ لَفْظَ الشَّهَادَةِ أَوْ الْإِشَارَةَ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ الْمُدَّعِي أَوْ اسْمَ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّهُ وَإِنْ جَازَ بَعْدَ الْمَجْلِسِ يَكُونُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يُتَصَوَّرُ بِلَا شَرْطِهِ وَهُوَ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَالتَّسْمِيَةُ وَلَوْ قَضَى لَا يَكُونُ قَضَاءً.

[فُرُوعٌ] مِنْ الْخُلَاصَةِ: وَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَكْتَبٍ وَعَلَى مُعَلِّمِهِ فَغُصِبَ فَشَهِدَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنَّهُ وَقْفُ فُلَانٍ عَلَى مَكْتَبِ كَذَا وَلَيْسَ لِلشُّهُودِ أَوْلَادٌ فِي الْمَكْتَبِ قُبِلَتْ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ تَجُوزُ أَيْضًا، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ لِلْمَسْجِدِ بِشَيْءٍ، وَكَذَا شَهَادَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى وَقْفِيَّةٍ وَقْفٍ عَلَى مَدْرَسَةِ كَذَا وَهُمْ مِنْ أَهْلِهَا تُقْبَلُ، وَكَذَا إذَا شَهِدُوا أَنَّ هَذَا الْمُصْحَفَ وَقْفٌ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَكَذَا أَبْنَاءُ السَّبِيلِ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ وَقْفٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ. وَقِيلَ إنْ كَانَ الشَّاهِدُ يَطْلُبُ لِنَفْسِهِ حَقًّا مِنْ ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْهُمْ الْإِمَامُ الْفَضْلِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ حَامِدٍ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ: تُقْبَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ كَوْنَ الْفَقِيهِ فِي الْمَدْرَسَةِ وَالرَّجُلِ فِي الْمَحَلَّةِ وَالصَّبِيِّ فِي الْمَكْتَبِ غَيْرَ لَازِمٍ بَلْ يَنْتَقِلُ، وَأُخِذَ هَذَا مِمَّا سَنَذْكُرُهُ مِنْ كَلَامِ الْخَصَّافِ.

وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَوْصَى لِفُقَرَاءِ جِيرَانِهِ وَلِلشُّهُودِ أَوْلَادٌ مُحْتَاجُونَ فِي جَوَازِ الْمُوصِي قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُقْبَلُ لِلِابْنِ وَتَبْطُلُ لِلْبَاقِينَ، وَفِي الْوَقْفِ عَلَى فُقَرَاءِ جِيرَانِهِ كَذَلِكَ. وَفِي وَقْفِ هِلَالٍ قَالَ: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْجِيرَانِ عَلَى الْوَقْفِ. قُلْتُ: وَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي أَوْقَافِهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى فُقَرَاءِ جِيرَانِهِ أَوْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْجِيرَانِ قَالَ: تَجُوزُ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ فُقَرَاءَ الْجِيرَانِ لَيْسُوا قَوْمًا مَخْصُوصِينَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا يَنْظُرُ إلَى فُقَرَاءِ الْجِيرَانِ يَوْمَ تُقْسَمُ الْغَلَّةُ، فَمَنْ انْتَقَلَ مِنْهُمْ مِنْ جِوَارِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْغَلَّةِ حَقٌّ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلَيْنِ فَقِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ جَعَلَ أَرْضَهُ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنَّ الشَّهَادَةَ جَائِزَةٌ فَإِنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ لَهُمَا بِأَعْيَانِهِمَا خَاصَّةً؛ أَلَا تَرَى أَنَّ وَلِيَّ الْوَقْفِ لَوْ أَعْطَى الْغَلَّةَ غَيْرَهُمَا مِنْ فُقَرَاءِ الْكُوفَةِ كَانَ جَائِزًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَهَادَةٍ تَكُونُ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ مِثْلُ أَهْلِ بَغْدَادَ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ جَائِزَةٌ.

وَذَكَرَ قَبْلَ هَذَا بِأَسْطُرٍ إنْ شَهِدَا أَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى جِيرَانِهِ وَهُمَا جِيرَانُهُ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ، وَكَأَنَّ الْفَرْقَ تَعَيُّنُهُمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إذْ لَا جِيرَانَ لَهُ سِوَاهُمَا، بِخِلَافِ تِلْكَ الصُّورَةِ.

وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَأَهْلُ بَيْتِهِ فُقَرَاءُ لَا تُقْبَلُ،

وَلَوْ شَهِدَ بَعْضُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ بِزِيَادَةِ الْخَرَاجِ لَا تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ خَرَاجُ كُلِّ أَرْضٍ مُعَيَّنًا أَوْ لَا خَرَاجَ لِلشَّاهِدِ تُقْبَلُ، وَكَذَا أَهْلُ قَرْيَةٍ شَهِدُوا عَلَى ضَيْعَةٍ أَنَّهَا مِنْ قَرْيَتِهِمْ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا أَهْلُ سِكَّةٍ يَشْهَدُونَ بِشَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِ السِّكَّةِ إنْ كَانَتْ السِّكَّةُ غَيْرَ نَافِذَةٍ لَا تُقْبَلُ. وَفِي النَّافِذَةِ: إنْ طَلَبَ حَقًّا لِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ، وَإِنْ قَالَ لَا آخُذُ شَيْئًا تُقْبَلُ، وَكَذَا فِي وَقْفِ الْمَدْرَسَةِ عَلَى هَذَا فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ. وَقِيلَ إنْ كَانَتْ السِّكَّةُ نَافِذَةً تُقْبَلُ مُطْلَقًا.

وَفِي الْأَجْنَاسِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ وَأَهْلُ بَيْتِ الشَّاهِدَيْنِ فُقَرَاءُ لَا تُقْبَلُ لَهُمَا وَلَا لِغَيْرِهِمَا.

وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِفُقَرَاءِ بَنِي تَمِيمٍ وَهُمَا فَقِيرَانِ الشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ وَلَا يُعْطَيَانِ مِنْهُ شَيْئًا.

وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ جَعَلَ أَرْضَهُ صَدَقَةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى فُقَرَاءِ قَرَابَتِهِ وَهُمَا مِنْ

ص: 431

(بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ)

قَالَ (الشَّهَادَةُ إذَا وَافَقَتْ الدَّعْوَى قُبِلَتْ،

قَرَابَتِهِ وَهُمَا غَنِيَّانِ يَوْمَ شَهِدَا أَوْ فَقِيرَانِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا. وَوَضَعَ هَذِهِ الْخَصَّافُ فِيمَا إذَا شَهِدَا أَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ. قَالَ: وَكَذَا إذَا شَهِدُوا عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَيَوْمَ شَهِدَا هُمَا غَنِيَّانِ قَالَ شَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُمَا إنْ افْتَقَرَا يَثْبُتُ الْوَقْفُ لَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا،

وَكُلُّ شَهَادَةٍ تَجُرُّ نَفْعًا لِلشَّاهِدِ أَوْ لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِأَوْلَادِهِ أَوْ لِزَوْجَتِهِ لَا تَجُوزُ.

(بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ)

الِاخْتِلَافُ فِي الشَّهَادَةِ خِلَافُ الْأَصْلِ، بَلْ الْأَصْلُ الِاتِّفَاقُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَتَفَرَّعُ عَنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ذَلِكَ، وَالشَّهَادَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَتَفَرَّعُ إمَّا عَنْ رُؤْيَةٍ كَمَا فِي الْغَصْبِ وَالْقَتْلِ أَوْ سَمَاعِ إقْرَارٍ وَغَيْرِهِ، وَالشَّاهِدَانِ مُسْتَوِيَانِ فِي إدْرَاكِ ذَلِكَ فَيَسْتَوِيَانِ فِيمَا يُؤَدِّيَانِ فَلِهَذَا أَخَّرَهُ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ خِلَافٌ (قَوْلُهُ الشَّهَادَةُ إذَا وَافَقَتْ الدَّعْوَى قُبِلَتْ.

ص: 432

وَإِنْ خَالَفَتْهَا لَمْ تُقْبَلْ) لِأَنَّ تَقَدُّمَ الدَّعْوَى فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِيمَا يُوَافِقُهَا وَانْعَدَمَتْ فِيمَا يُخَالِفُهَا.

وَإِنْ خَالَفَتْهَا لَمْ تُقْبَلْ) لِأَنَّ تَقَدُّمَ الدَّعْوَى فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا لِإِثْبَاتٍ فِي حَقِّهِ فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ وَهُوَ الدَّعْوَى (وَقَدْ وُجِدَتْ) الدَّعْوَى (فِيمَا يُوَافِقُهَا) أَيْ يُوَافِقُ الشَّهَادَةَ فَوُجِدَ شَرْطُ قَبُولِهَا فَتُقْبَلُ (وَانْعَدَمَتْ فِيمَا يُخَالِفُهَا) فَإِنَّهَا لَمَّا لَمْ تُوَافِقْهَا صَارَتْ الدَّعْوَى بِشَيْءٍ آخَرَ وَشَرْطُ قَبُولِ الدَّعْوَى بِمَا بِهِ الشَّهَادَةُ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْمُوَافَقَةِ الْمُطَابِقَةَ، بَلْ إمَّا الْمُطَابَقَةُ أَوْ كَوْنُ الْمَشْهُودِ بِهِ أَقَلَّ مِنْ الْمُدَّعَى بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَكْثَرَ، فَمِنْ الْأَقَلِّ مَا لَوْ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ بِسَبَبِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِمَهْرِ كَذَا فَشَهِدُوا أَنَّهَا مَنْكُوحَتُهُ بِلَا زِيَادَةٍ تُقْبَلُ، وَيَقْضِي بِمَهْرِ الْمِثْلِ إنْ كَانَ قَدْرَ مَا سَمَّاهُ أَوْ أَقَلَّ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ لَا يَقْضِي بِالزِّيَادَةِ، كَذَا فِي غَيْرِ نُسْخَةٍ مِنْ الْخُلَاصَةِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَتْ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ، وَمِنْهُ إذَا ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا أَوْ بِالنِّتَاجِ فَشَهِدُوا فِي الْأَوَّلِ بِالْمِلْكِ بِسَبَبٍ وَفِي الثَّانِي بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ قُبِلَتَا، لِأَنَّ الْمِلْكَ بِسَبَبٍ أَقَلُّ مِنْ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْأَوَّلِيَّةَ، بِخِلَافِ بِسَبَبٍ يُفِيدُ الْحُدُوثَ، وَالْمُطْلَقُ أَقَلُّ مِنْ النِّتَاجِ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ يُفِيدُ الْأَوَّلِيَّةَ عَلَى الِاحْتِمَالِ وَالنِّتَاجَ عَلَى الْيَقِينِ، وَفِي قَلْبِهِ وَهُوَ دَعْوَى الْمُطْلَقِ فَشَهِدُوا بِالنِّتَاجِ لَا تُقْبَلُ.

وَمِنْ الْأَكْثَرِ مَا لَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ بِسَبَبٍ فَشَهِدُوا بِالْمُطْلَقِ لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ السَّبَبُ الْإِرْثَ،

ص: 433

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لِأَنَّ دَعْوَى الْإِرْثِ كَدَعْوَى الْمُطْلَقِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَيَّدَهُ فِي الْأَقْضِيَةِ بِمَا إذَا نَسَبَهُ إلَى مَعْرُوفٍ سَمَّاهُ وَنَسِيَهُ.

أَمَّا لَوْ جَهِلَهُ فَقَالَ اشْتَرَيْته أَوْ قَالَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ زَيْدٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَشَهِدُوا بِالْمُطْلَقِ قُبِلَتْ فَهِيَ خِلَافِيَّةٌ. وَذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الْقَبُولِ رَشِيدُ الدِّينِ، وَعَنْ هَذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَلَى مِلْكٍ بِسَبَبٍ، وَأَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمُطْلَقِ لَمْ يُذْكَرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ وَالْأَصَحُّ لَا يَحِلُّ لَهُ. قُلْت: كَيْفَ وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّهِ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ فِيمَا لَوْ ادَّعَاهَا بِسَبَبٍ. وَلَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ مَعَ الْقَبْضِ فَقَالَ وَقَبَضْته مِنْهُ هَلْ هُوَ كَالْمُطْلَقِ حَتَّى لَوْ شَهِدُوا بِالْمُطْلَقِ قُبِلَتْ. الْخُلَاصَةُ تُقْبَلُ. وَحُكِيَ فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ خِلَافًا، قِيلَ تُقْبَلُ لِأَنَّ دَعْوَى الشِّرَاءِ مَعَ الْقَبْضِ دَعْوَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ حَتَّى لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى تَعْيِينُ الْعَبْدِ، وَقِيلَ لَا لِأَنَّ دَعْوَى الشِّرَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا كَالْمُطْلَقِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي لَهُ بِالزَّوَائِدِ فِي ذَلِكَ. وَفِي زَوَائِدِ شَمْسِ الْإِسْلَامِ: دَعْوَى الدَّيْنِ كَدَعْوَى الْعَيْنِ، وَكَذَا فِي شَرْحِ الْحِيَلِ لِلْحَلْوَانِيِّ، فَلَوْ ادَّعَى الدَّيْنَ بِسَبَبِ الْقَرْضِ وَشَبَهِهِ فَشَهِدُوا بِالدَّيْنِ مُطْلَقًا، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ مَحْمُودٌ الْأُوزْجَنْدِيُّ: لَا تُقْبَلُ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ فِي الْأَقْضِيَةِ: مَسْأَلَتَانِ يَدُلَّانِ عَلَى الْقَبُولِ انْتَهَى. وَعِنْدِي الْوَجْهُ الْقَبُولُ لِأَنَّ أَوَّلِيَّةَ الدِّينِ لَا مَعْنَى لَهُ، بِخِلَافِ الْعَيْنِ. وَفِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ: لَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ فَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِسَبَبٍ ثُمَّ شَهِدُوا عَلَى الْمُطْلَقِ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا شَهِدُوا بِسَبَبِ حِمْلِ دَعْوَى الْمُطْلَقِ عَلَيْهِ فَلَا تُقْبَلُ بَعْدَهُ عَلَى الْمُطْلَقِ. وَلَوْ شَهِدُوا أَوَّلًا عَلَى الْمُطْلَقِ ثُمَّ شَهِدُوا عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ بِبَعْضِ مَا شَهِدُوا بِهِ أَوَّلًا. وَلَوْ ادَّعَى الْمُطْلَقَ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ مَعَ السَّبَبِ تُقْبَلُ وَيَقْضِي بِالْمِلْكِ الْحَادِثِ كَمَا لَوْ شَهِدَا جَمِيعًا بِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ بِسَبَبِ عَقْدِ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ فَهُوَ مِلْكٌ حَادِثٌ. وَلَوْ ادَّعَى بِسَبَبٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ مُطْلَقًا لَا تُقْبَلُ كَمَا لَوْ شَهِدُوا جَمِيعًا بِالْمُطْلَقِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ بِسَبَبِ الْإِرْثِ كَدَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ. وَإِذَا أَرَّخَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ تُقْبَلُ فِي دَعْوَى غَيْرِ الْمُؤَرِّخِ لَا فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُؤَرَّخِ. وَلَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ بِسَبَبٍ أَرَّخَهُ فَشَهِدُوا لَهُ بِهِ بِلَا تَارِيخٍ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ وَعَلَى الْقَلْبِ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ كَانَ الشِّرَاءُ شَهْرَانِ فَأَرَّخُوا شَهْرًا تُقْبَلُ. وَعَلَى الْقَلْبِ لَا، وَلَوْ أَرَّخَ الْمُطْلِقُ بِأَنْ قَالَ هَذَا الْعَيْنُ لِي مُنْذُ سَنَةٍ فَشَهِدَا أَنَّهُ لَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَا تُقْبَلُ وَعَلَى الْقَلْبِ تُقْبَلُ.

وَمِنْ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ مَا تَضْمَنَّهُ هَذِهِ الْفُرُوعُ الَّتِي نَذْكُرُهَا دَارٌ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَاهَا وَغَابَ أَحَدُهُمَا فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْحَاضِرِ أَنَّ لَهُ نِصْفَ هَذِهِ الدَّارِ مُشَاعًا فَشَهِدُوا أَنَّ لَهُ النِّصْفَ الَّذِي فِي يَدِ الْحَاضِرِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ الْمُدَّعَى بِهِ.

ادَّعَى دَارًا وَاسْتَثْنَى طَرِيقَ الدُّخُولِ وَحُقُوقَهَا وَمَرَافِقَهَا فَشَهِدُوا أَنَّهَا لَهُ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا شَيْئًا لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا لَوْ اسْتَثْنَى بَيْتًا وَلَمْ يَسْتَثْنُوهُ إلَّا إذَا وَفَّقَ فَقَالَ كُنْت بِعْت ذَلِكَ الْبَيْتَ مِنْهَا فَتُقْبَلُ.

وَفِي الْمُحِيطِ نَقْلًا مِنْ الْأَقْضِيَةِ وَأَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ: إذَا ادَّعَى الْمِلْكَ لِلْحَالِ: أَيْ فِي الْعَيْنِ فَشَهِدُوا أَنَّ هَذَا الْعَيْنَ كَانَ قَدْ مَلَكَهُ تُقْبَلُ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ الْمِلْكَ فِي الْمَاضِي فَيُحْكَمُ بِهَا فِي الْحَالِ مَا لَمْ يُعْلَمْ الْمُزِيلُ. قَالَ رَشِيدُ الدِّينِ بَعْدَمَا ذَكَرَهَا: لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ " امرو زملك وي مي دَانَيْت " انْتَهَى، مَعْنَى هَذَا لَا يَحِلُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَلَكَهُ الْيَوْمَ. نَعَمْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ فَقَطْ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ. قَالَ الْعِمَادِيُّ فَعَلَى هَذَا إذَا ادَّعَى الدَّيْنَ فَشَهِدَا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَذَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ كَمَا فِي الْعَيْنِ. وَمِثْلُهُ إذَا ادَّعَى أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَشَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ

ص: 434

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْحَالِ تُقْبَلُ، هَذَا كُلُّهُ إذَا شَهِدُوا بِالْمِلْكِ فِي الْمَاضِي.

أَمَّا لَوْ شَهِدُوا بِالْيَدِ لَهُ فِي الْمَاضِي لَا يُقْضَى بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ تُسَوِّغُ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَقْضِي بِهَا، وَخَرَّجَ الْعِمَادِيُّ عَلَى هَذَا مَا فِي الْوَاقِعَاتِ: لَوْ أُقِرَّ بِدَيْنِ رَجُلٍ عِنْدَ رَجُلَيْنِ ثُمَّ شَهِدَ عَدْلَانِ عِنْدَ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ أَنَّ شَاهِدَيْ الْإِقْرَارِ يَشْهَدَانِ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا يَشْهَدَانِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا ادَّعَى الدَّيْنَ وَشَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ تُقْبَلُ، وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهُ إنَّمَا تَعَرَّضَ لِمَا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ لَا لِلْقَبُولِ وَعَدَمِهِ، بَلْ رُبَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَنْعِهِ إحْدَى الْعِبَارَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى ثُبُوتُ الْقَبُولِ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ عِنْدَ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ قَضَاهُ فَلَا يَشْهَدَانِ حَتَّى يُخْبِرَ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ، وَأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَئِذٍ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ، وَسَيَأْتِي مِنْ مَسَائِلِ الْكِتَابِ إذَا عَلِمَ شَاهِدُ الْأَلْفِ أَنَّهُ قَضَاهُ خَمْسَمِائَةٍ لَا يَشْهَدُ حَتَّى يُقِرَّ بِقَبْضِهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

وَعَكْسُ مَا نَحْنُ فِيهِ لَوْ ادَّعَى فِي الْمَاضِي أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ كَانَتْ مِلْكِي فَشَهِدَ أَنَّهَا لَهُ اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِهَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَشَهِدَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ لَا تُقْبَلُ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ إذَا شَهِدُوا عَلَى طِبْقِ دَعْوَاهُ هَذِهِ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ لِأَنَّ إسْنَادَ الْمُدَّعِي دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ مِلْكِهِ فِي الْحَالِ، إذْ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَاضِي إلَّا ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ مَا شَهِدُوا بِهِ مُدَّعًى بِهِ بِخِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ إذَا أَسْنَدَا ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِمَا إيَّاهُ فِي الْحَالِ لِجَوَازِ قَصْدِهِمَا إلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْإِخْبَارِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمَا بِهِ إذْ لَمْ يَعْلَمَا سِوَى ثُبُوتِهِ فِي الْمَاضِي وَقَدْ يَكُونُ انْتَقَلَ فَيَحْتَرِزَانِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ لِلْحَالِ بِالِاسْتِصْحَابِ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ: ادَّعَى النَّقْرَةَ الْجَيِّدَةَ وَبَيَّنَ الْوَزْنَ فَشَهِدَا عَلَى النَّقْرَةِ وَالْوَزْنِ وَلَمْ يَذْكُرَا جَيِّدَةً أَوْ رَدِيئَةً أَوْ وَسَطًا تُقْبَلُ وَيُقْضَى بِالرَّدِيءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى قَفِيزَ دَقِيقٍ مَعَ النُّخَالَةِ فَشَهِدُوا مِنْ غَيْرِ نُخَالَةٍ أَوْ مَنْخُولًا فَشَهِدُوا غَيْرَ الْمَنْخُولِ لَا تُقْبَلُ.

وَفِيهَا أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنِ بَيْتٍ فَشَهِدُوا عَلَى أَلْفٍ مِنْ ضَمَانِ جَارِيَةٍ غَصَبَهَا وَهَلَكَتْ عِنْدَهُ لَا تُقْبَلُ، وَعَنْ هَذَا ذَكَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَسْطُورَةِ وَهِيَ مَا إذَا شَهِدَا بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ بَاعَهَا مِنْهُ فَقَالَ الْبَائِعُ إنَّهُ أَشْهَدَهُمَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَاَلَّذِي لِي عَلَيْهِ ثَمَنُ مَتَاعٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ: أَيْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِثَمَنِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ بِمِثْلِهِ فِي الْإِقْرَارِ تُقْبَلُ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا.

وَفِي الْكَفَالَةِ: إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَفَلَ بِأَلْفٍ عَنْ فُلَانٍ، فَقَالَ الطَّالِبُ هُوَ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَكِنَّ الْكَفَالَةَ كَانَتْ عَنْ فُلَانٍ آخَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْمَالِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يَضُرُّهُمَا الِاخْتِلَافُ فِي السَّبَبِ. وَمِثْلُهُ ادَّعَى أَنَّهُ آجَرَهُ دَارًا وَقَبَضَ مَالَ الْإِجَارَةِ وَمَاتَ فَانْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ وَطَلَبَ مَالَ الْإِجَارَةِ فَشَهِدُوا أَنَّ الْآجِرَ أَقَرَّ بِقَبْضِ مَالِ الْإِجَارَةِ تُقْبَلُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْمَقْصُودِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ مَالِ الْإِجَارَةِ، وَلَوْ ادَّعَى الدَّيْنَ أَوْ الْقَرْضَ فَشَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِالْمَالِ تُقْبَلُ.

وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ فَقَدْ أُطْلِقَ الْقَبُولُ فِي الْمُحِيطِ وَالْعُمْدَةِ. وَقَالَ قَاضِي خَانْ: قَالُوا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.

وَلَوْ ادَّعَى قَرْضًا فَشَهِدُوا أَنَّ الْمُدَّعِيَ دَفَعَ إلَيْهِ كَذَا وَلَمْ يَقُولُوا وَقَبَضَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَثْبُتُ قَبْضُهُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْبَيْعِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْبَيْعِ شَهَادَةٌ عَلَى الشِّرَاءِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْقَبْضُ بِذَلِكَ يَكُونُ الْقَوْلُ لِذِي الْيَدِ أَنَّهُ قَبَضَ بِجِهَةِ الْأَمَانَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِجِهَةِ الْقَرْضِ إنْ ادَّعَاهُ.

وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ قَضَاهُ دَيْنَهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ قَضَاهُ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدُوا جَمِيعًا بِالْإِقْرَارِ بِهِ قُبِلَتْ.

وَلَوْ ادَّعَى شِرَاءَ دَارٍ مِنْ رَجُلٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ وَكِيلِهِ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّ فُلَانًا بَاعَهَا مِنْهُ وَهَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَجَازَ الْبَيْعَ ادَّعَى أَنَّك قَبَضْت مِنْ مَالِي جَمَلًا بِغَيْرِ حَقٍّ مَثَلًا وَذَكَرَ سِنَّهُ وَقِيمَتَهُ فَشَهِدُوا

ص: 435

قَالَ (وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَلْفَيْنِ).

وَعَلَى هَذَا الْمِائَةُ وَالْمِائَتَانِ وَالطَّلْقَةُ وَالطَّلْقَتَانِ وَالطَّلْقَةُ وَالثَّلَاثُ.

أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ غَيْرَ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ وَيُجْبَرُ عَلَى إحْضَارِهِ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ مَالِي وَلَمْ يَقُلْ قَبَضْتَ مِنِّي فَلَا يَكُونُ مَا شَهِدَا بِهِ يُنَاقِضُهُ فَيَحْضُرُهُ لِيُشِيرَ إلَيْهِ بِالدَّعْوَى.

فَإِذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ وَوُجِدَ شَرْطُ الْقَبُولِ فِي شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ وَهُوَ مَا طَابَقَ الدَّعْوَى مِنْ الشَّاهِدَيْنِ فَالْوَاحِدُ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ لِلْقَاضِي. وَإِنَّمَا قَيَّدَ الِاشْتِرَاطَ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ احْتِرَازًا عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ الدَّعْوَى مُدَّعٍ خَاصٍّ غَيْرُ الشَّاهِدِ لَيْسَ شَرْطًا لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ حَقَّهُ تَعَالَى وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ الْقِيَامُ بِهِ فِي إثْبَاتِهِ، وَذَلِكَ لِلشَّاهِدِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَكَانَ قَائِمًا فِي الْخُصُومَةِ مِنْ جِهَةِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ وَشَاهِدًا مِنْ جِهَةِ تَحَمُّلِ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهَا إلَى خَصْمٍ آخَرَ.

(قَوْلُهُ وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ إلَخْ) أَيْ يُشْتَرَطُ التَّطَابُقُ بَيْنَ كُلٍّ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ كَمَا بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالدَّعْوَى أَيْضًا لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ. ثُمَّ الشَّرْطُ فِي تَطَابُقِ الشَّاهِدَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى) وَالْمُرَادُ مِنْ تَطَابُقِهِمَا تَطَابُقُ لَفْظِهِمَا عَلَى إفَادَةِ الْمَعْنَى سَوَاءٌ كَانَ بِعَيْنِ ذَلِكَ اللَّفْظِ أَوْ بِمُرَادِفٍ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ وَالْآخِرُ بِالْعَطِيَّةِ قُبِلَتْ لَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ (فَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ) فَلَمْ يُقْضَ بِشَيْءٍ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفَيْنِ) بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ يَدَّعِي أَلْفًا لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ أَكْذَبَ شَاهِدَ الْأَلْفَيْنِ، إلَّا إنْ وَفَّقَ فَقَالَ كَانَ لِي عَلَيْهِ أَلْفَانِ فَقَضَانِي أَلْفًا أَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ أَلْفٍ وَالشَّاهِدُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَقْضِي لَهُ بِالْأَلْفِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِمِائَتَيْنِ أَوْ بِطَلْقَةٍ وَطَلْقَتَيْنِ وَطَلْقَةٍ وَثَلَاثٍ لَا يُقْضَى بِطَلَاقٍ أَصْلًا عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى بِالْأَقَلِّ، وَعَلَى هَذَا الْخَمْسَةُ وَالْعَشَرَةُ وَالْعَشَرَةُ وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ وَالدِّرْهَمُ وَالدِّرْهَمَانِ، وَهَذَا فِي دَعْوَى الدَّيْنِ.

أَمَّا فِي دَعْوَى الْعَيْنِ بِأَنْ كَانَ فِي كِيسٍ أَلْفَا دِرْهَمٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْكِيسِ وَهُوَ أَلْفَا دِرْهَمٍ لَهُ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْكِيسِ لَهُ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ ذِكْرَ الْمِقْدَارِ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ذَكَرَهُ الْخَبَّازِيُّ.

وَبِقَوْلِهِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ

ص: 436

لَهُمَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ أَوْ الطَّلْقَةِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ فَيَثْبُتُ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا فَصَارَ كَالْأَلْفِ وَالْأَلْفِ وَالْخَمْسِمِائَةِ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا لَفْظًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ بِاللَّفْظِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَلْفَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْأَلْفَيْنِ بَلْ هُمَا جُمْلَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ فَحَصَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَصَارَ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَالِ.

ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يَسْتَحِقُّ الزَّائِدَ بِالْحَلِفِ عَلَيْهِ (مَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ أَوْ الطَّلْقَةِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ فَيَثْبُتُ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا وَصَارَ كَالْأَلْفِ وَالْأَلْفُ وَالْخَمْسُمِائَةِ) حَيْثُ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي بِالْأَلْفِ لِذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِهَا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا) فِي لَفْظٍ غَيْرِ مُرَادِفٍ (لِأَنَّ الْأَلْفَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْأَلْفَيْنِ) وَيَلْزَمُهُ اخْتِلَافُ الْمَعْنَى فَإِنَّمَا (هُمَا) أَيْ الْأَلْفُ وَالْأَلْفَانِ (جُمْلَتَانِ) أَيْ عَدَدَانِ (مُتَبَايِنَتَانِ حَصَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ وَصَارَ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَالِ) بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِكُرِّ

ص: 437

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

شَعِيرٍ وَالْآخِرُ بِكُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ بِمِائَةٍ بِيضٍ وَالْآخَرُ بِمِائَةٍ سُودٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي السُّودَ لَا تُقْبَلُ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا لِأَنَّ الْمُدَّعِي كَذَّبَ شَاهِدَ الْبِيضِ، إلَّا أَنْ يُوَفِّقَ الْمُدَّعِي فَيَقُولَ كَانَ لِي الْبِيضُ فَأَبْرَأَتْهُ مِنْ صِفَةِ الْجُودَةِ فَتُقْبَلُ حِينَئِذٍ، أَمَّا لَوْ كَانَ يَدَّعِي الْبِيضَ وَلَهَا مَزِيَّةٌ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالسُّودِ، وَلَمْ يَحْكُوا خِلَافًا ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ عَنْ الْأَقْضِيَةِ.

وَكَذَا لَوْ شَهِدَا لِمُدَّعِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا جَيِّدَةٌ وَقَالَ الْآخَرُ رَدِيئَةٌ وَالدَّعْوَى بِالْأَفْضَلِ يُقْضَى بِالْأَقَلِّ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى مِائَةَ دِينَارٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا نَيْسَابُورِيَّةً وَقَالَ الْآخَرُ بُخَارِيَّةً وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي النَّيْسَابُورِيَّة وَهِيَ أَجْوَدُ يُقْضَى بِالْبُخَارِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ يُنْقَلُ وَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْكَمْيَّةِ وَالْجِنْسِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَقَعْ جَوَابُ قَوْلِهِمَا الشَّاهِدُ بِالْأَلْفَيْنِ شَاهِدٌ بِالْأَلْفِ فِي ضِمْنِهِمَا فَاجْتَمَعَا عَلَيْهَا وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ فَلَا يُقْبَلُ.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَا شَهِدَ بِهَا إلَّا مِنْ حَيْثُ هِيَ جُزْءُ الْأَلْفَيْنِ، فَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْأَلْفُ فِي ضِمْنِ ثُبُوتِ الْأَلْفَيْنِ لِأَنَّ الْمُتَضَمَّنَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْمُتَضَمِّنِ وَلَمْ يَثْبُتْ الْأَلْفَانِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْأَلْفُ. فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى قَوْلِهِ مَا لَوْ ادَّعَى أَلْفَيْنِ وَشَهِدَ بِأَلْفٍ تُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَهِيَ شَرْطٌ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ. وَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَهَا أَنْتِ خَلِيَّةٌ وَالْآخَرُ أَنْتِ بَرِيَّةٌ لَا يُقْضَى بِبَيْنُونَةٍ أَصْلًا مَعَ إفَادَتِهِمَا مَعًا الْبَيْنُونَةَ.

وَتَقَدَّمَ أَنَّ اخْتِلَافَ اللَّفْظِ لَهُ وَحْدَهُ غَيْرُ ضَائِرٍ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ وَالْآخَرُ بِالْعَطِيَّةِ تُقْبَلُ. أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَإِنْ اُشْتُرِطَ لَكِنْ لَيْسَ عَلَى وَزْنِ اتِّفَاقِهِ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْغَصْبَ أَوْ الْقَتْلَ فَشَهِدُوا بِإِقْرَارِهِ بِهِ تُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْغَصْبِ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِهِ لَا تُقْبَلُ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ حَصَلَتْ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ يَدَّعِي أَلْفَيْنِ كَانَ مُدَّعِيًا الْأَلْفَ وَقَدْ شَهِدَ بِهِ اثْنَانِ صَرِيحًا فَتُقْبَلُ، بِخِلَافِ شَهَادَتِهِمَا بِالْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ لَمْ يَنُصَّ شَاهِدُ الْأَلْفَيْنِ عَلَى الْأَلْفِ إلَّا مِنْ حَيْثُ هِيَ أَلْفَانِ وَلَمْ يَثْبُتْ الْأَلْفَانِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ: الَّذِي يُبْطِلُ مَذْهَبَهُمَا مَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِطَلْقَةٍ: يَعْنِي قَبْلَ الدُّخُولِ وَآخَرَانِ بِثَلَاثٍ وَفَرَّقَ

ص: 438

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْقَاضِي بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعُوا كَانَ ضَمَانُ نِصْفِ الشَّهْرِ عَلَى شَاهِدَيْ الثَّلَاثِ لَا عَلَى شَاهِدَيْ الْوَاحِدَةِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ مَا قَالَا إنَّ الْوَاحِدَةَ تُوجَدُ فِي الثَّلَاثِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً تَقَعُ الْوَاحِدَةُ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ تَمْلِيكٌ فَقَدْ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ بِالتَّفْوِيضِ إلَيْهَا فِيهَا وَالْمَالِكُ يُوجَدُ مِنْ مَمْلُوكِهِ مَا شَاءَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا أَلْفًا يَقَعُ الثَّلَاثُ لِمِلْكِهِ الْعَدَدَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَغَا مَا فَوْقَ الثَّلَاثِ شَرْعًا.

وَأَمَّا عَنْ الثَّانِي فَيُمْنَعُ التَّرَادُفُ لِأَنَّ مَعْنَى خَلِيَّةٍ لَيْسَ مَعْنَى بَرِيَّةٍ لُغَةً وَالْوُقُوعُ لَيْسَ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى اللُّغَةِ وَلِذَا قُلْنَا إنَّ الْكِنَايَاتِ عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا فَهُمَا لَفْظَانِ مُتَبَايِنَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ يَلْزَمُهُمَا لَازِمٌ وَاحِدٌ هُوَ وُقُوعُ الْبَيْنُونَةِ، وَالْمُتَبَايِنَاتُ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ فَاخْتِلَافُهُمَا ثَابِتٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، فَلَمَّا اخْتَلَفَ الْمَعْنَى مِنْهُمَا كَانَ دَلِيلَ اخْتِلَالِ تَحَمُّلِهِمَا فَإِنَّ هَذَا يَقُولُ: مَا وَقَعَتْ الْبَيْنُونَةُ إلَّا بِوَصْفِهَا بِخَلِيَّةٍ وَالْآخَرُ يَقُولُ لَمْ تَقَعْ إلَّا بِوَصْفِهَا بِبَرِيَّةٍ وَإِلَّا فَلَمْ تَقَعْ الْبَيْنُونَةُ.

هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُدَّعِي عَقْدًا، أَمَّا إنْ ادَّعَى الْمَالَ فِي ضِمْنِ دَعْوَى الْعَقْدِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، فَالْجَوَابُ مَا سَتَعْلَمُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوْقَافِ الْخَصَّافِ مَا يُخَالِفُ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، ذَكَرَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا بَلْ أَشَارَ إلَى أَنَّهَا اتِّفَاقِيَّةٌ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً أَبَدًا عَلَى أَنَّ لِزَيْدٍ ثُلُثَ غَلَّتِهَا وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّ لِزَيْدٍ نِصْفَهَا قَالَ أَجْعَلُ لِزَيْدٍ ثُلُثَ غَلَّتِهَا الَّذِي أَجْمَعَا عَلَيْهِ وَالْبَاقِي لِلْمَسَاكِينِ، وَكَذَا إذَا سَمَّى أَحَدُهُمَا مَالًا لِزَيْدٍ مِنْ هَذِهِ الصَّدَقَةِ وَالْآخَرُ أَقَلُّ مِنْهُ أَحْكُمُ لِزَيْدٍ بِمَا أَجْمَعَا عَلَيْهِ وَكَذَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ يُعْطِي لِزَيْدٍ مِنْ غَلَّةِ هَذَا الْوَقْفِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَا يَسَعُهُ وَيَسَعُ عِيَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَقَالَ الْآخَرُ يُعْطِي أَلْفًا قَالَ أُقَدِّرُ نَفَقَتَهُ وَعِيَالِهِ فِي الْعَامِ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الْأَلْفِ حَكَمْت لَهُ بِالْأَلْفِ أَوْ الْأَلْفُ أَكْثَرُ أَعْطَيْته نَفَقَتَهُ وَالْبَاقِي لِلْمَسَاكِينِ، هَذَا بَعْدَ أَنْ أَدْخَلَ الْكِسْوَةَ فِي النَّفَقَةِ ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: قُلْت فَلِمَ أَجَزْت هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَقَدْ اخْتَلَفَا فِي لَفْظِهِمَا؟ قَالَ: الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الْوَقْفَ إلَى أَنَّ لِزَيْدٍ بَعْضَ هَذِهِ الْغَلَّةِ فَأَجْعَلُ لَهُ الْأَقَلَّ انْتَهَى.

فَإِيرَادُ هَذَا السُّؤَالِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْت أَنَّهُ أَشَارَ إلَى أَنَّهَا اتِّفَاقِيَّةٌ، فَإِنَّ إيرَادَهُ لَيْسَ إلَّا بِاعْتِبَارِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُهُ وَقَدْ اخْتَلَفَ لَفْظُهُمَا صَرِيحٌ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بَاطِلَةٌ انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ أَنَّا عَلِمْنَا اسْتِحْقَاقَهُ بَعْضَ هَذَا الْمَالِ وَتَرَدَّدْنَا بَيْنَ أَقَلَّ وَأَكْثَرَ فَيَثْبُتُ الْمُتَيَقَّنُ وَلَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ.

[فُرُوعٌ]

ادَّعَى بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَبِهِ هَذَا الْعَيْبُ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ بِهِ لَا تُقْبَلُ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَيْنًا أَنَّهُ لَهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَلَكَهُ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَنَّهُ مَلَكَهُ لَا تُقْبَلُ، وَمِثْلُهُ دَعْوَى الرَّهْنِ فَشَهِدَ بِهِ بِمُعَايَنَةِ الْقَبْضِ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ الرَّاهِنِ بِقَبْضِهِ لَا تُقْبَلُ. قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ: الرَّهْنُ فِي هَذَا كَالْغَصْبِ، وَكَذَا الْوَدِيعَةُ لَوْ أَعَادَهَا فَشَهِدَا بِإِقْرَارِ الْمُودَعِ قُبِلَتْ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهَا وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهَا لَا تُقْبَلُ عَلَى قِيَاسِ الْغَصْبِ.

وَعَلَى قِيَاسِ الْقَرْضِ تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَ الْوَفَاءَ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاعَ بِشَرْطِ الْوَفَاءِ وَالْآخَرُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَرَّ بِذَلِكَ تُقْبَلُ لِلْمُوَافَقَةِ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ وَاحِدٌ. وَمِثْلُهُ ادَّعَتْ صَدَاقَهَا فَقَالَ وَهَبَتْنِي إيَّاهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْهِبَةِ وَالْآخَرُ عَلَى الْإِبْرَاءِ تُقْبَلُ لِلْمُوَافَقَةِ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ السُّقُوطُ. وَقِيلَ لَا لِلِاخْتِلَافِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَالْهِبَةَ تَمْلِيكٌ. وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ إسْقَاطًا يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ وَلِهَذَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ،

ص: 439

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَلْفِ) لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى، لِأَنَّ الْأَلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ جُمْلَتَانِ عُطِفَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَالْعَطْفُ يُقَرِّرُ الْأَوَّلَ وَنَظِيرُهُ الطَّلْقَةُ وَالطَّلْقَةُ وَالنِّصْفُ وَالْمِائَةُ وَالْمِائَةُ وَالْخَمْسُونَ، بِخِلَافِ الْعَشَرَةِ وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ فَهُوَ نَظِيرُ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ (وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي لَمْ يَكُنْ لِي عَلَيْهِ إلَّا الْأَلْفُ فَشَهَادَةُ الَّذِي شَهِدَ بِالْأَلْفِ وَخَمْسِمِائَةٍ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّهُ كَذَّبَهُ الْمُدَّعِي فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَكَذَا إذَا سَكَتَ إلَّا عَنْ دَعْوَى الْأَلْفِ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ ظَاهِرٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ، وَلَوْ قَالَ كَانَ أَصْلُ حَقِّي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَلَكِنِّي اسْتَوْفَيْت خَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَبْرَأْتُهُ عَنْهَا قُبِلَتْ

وَلَوْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ فِي يَدِهِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ لَا تُقْبَلُ. وَفِي الْمُحِيطِ: ادَّعَى دَارًا فَشَهِدَ أَنَّهَا دَارُهُ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا لَهُ لَا تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الدَّيْنِ وَالْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِهَا لَا تُقْبَلُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ وَالْآخَرُ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ.

وَإِذَا رَاجَعْت الْقَاعِدَةَ الَّتِي نَذْكُرُهَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ اخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ خَرَّجْت كَثِيرًا مِنْ الْفُرُوعِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَلِيمُ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَلْفِ) بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَهُمَا ظَاهِرًا، وَعِنْدَهُ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَانْفِرَادُ أَحَدِهِمَا بِالشَّهَادَةِ بِجُمْلَةٍ أُخْرَى مَنْصُوصٌ عَلَى خُصُوصِ كَمِّيَّتِهَا لَا يَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ بِالْأَلْفِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمِائَةِ دِينَارٍ وَهُوَ يَدَّعِيهِمَا، وَلَوْ كَانَ إنَّمَا يَدَّعِي الْأَلْفَ وَسَكَتَ عَنْ التَّوْفِيقِ لَمْ يَقْضِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ إكْذَابٌ لِشَاهِدِ الْأَلْفِ وَخَمْسِمِائَةٍ ظَاهِرًا، لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ بَيَانٌ إلَّا إنْ وَفَّقَ فَقَالَ كَانَ حَقِّي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَقَضَانِي أَوْ أَبْرَأْتُهُ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ عَلَى نَظِيرِ مَا تَقَدَّمَ وَمَا لَمْ يُوَفِّقْ صَرِيحًا وَلَا يَقْضِي بِشَيْءٍ، وَلَا يَكْفِي احْتِمَالُ التَّوْفِيقِ

ص: 440

لِتَوْفِيقِهِ.

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَا بِأَلْفٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا بِالْأَلْفِ) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ (وَلَمْ يُسْمَعْ قَوْلُهُ إنْ قَضَاهُ) لِأَنَّهُ شَهَادَةُ فَرْدٍ (إلَّا أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ آخَرُ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَقْضِي بِخَمْسِمِائَةٍ، لِأَنَّ شَاهِدَ الْقَضَاءِ مَضْمُونُ شَهَادَتِهِ أَنْ لَا دَيْنَ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ. وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا. قَالَ (وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ) إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ (أَنْ لَا يَشْهَدَ بِأَلْفٍ حَتَّى يُقِرَّ الْمُدَّعِي أَنَّهُ قَبَضَ خَمْسَمِائَةٍ) كَيْ لَا يَصِيرَ مُعِينًا عَلَى الظُّلْمِ.

فِي الْأَصَحِّ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مَا كَانَ لِي إلَّا أَلْفٌ لِأَنَّهُ إكْذَابٌ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُهُ التَّوْفِيقُ فَلَا يُقْضَى بِشَيْءٍ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَا بِأَلْفٍ، وَقَالَ أَحَدُهُمَا قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ قَضَى بِالْأَلْفِ لِقَبُولِ شَهَادَتِهِمَا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَسْمَعْ قَوْلَهُ إنَّهُ قَضَاهُ لِأَنَّهُ شَهَادَةُ فَرْدٍ) بِسُقُوطِ بَعْضِ الْحَقِّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَلَا تُقْبَلُ (إلَّا أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ آخَرُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ) رحمه الله فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ (أَنَّهُ يُقْضَى بِخَمْسِمِائَةٍ) فَقَطْ (لِأَنَّ شَاهِدَ الْقَضَاءِ مَضْمُونٌ شَهَادَتُهُ أَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ. وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ، يَعْنِي فَبَعْدَ ثُبُوتِ الْأَلْفِ بِاتِّفَاقِهِمَا شَهِدَ وَاحِدٌ بِسُقُوطِ خَمْسِمِائَةٍ فَلَا تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ بِأَلْفٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا إنَّهُ قَضَاهُ إيَّاهَا بَعْدَ قَرْضِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْكُلِّ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شَاهِدِ الْقَضَاءِ، وَذَكَرُوا قَوْلَ زُفَرَ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهُ إكْذَابٌ مِنْ الْمُدَّعِي فَهُوَ كَمَا لَوْ فَسَّقَهُ.

وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا إلَى آخِرِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِكْذَابِ التَّفْسِيقُ لِجَوَازِ كَوْنِهِ تَغْلِيطًا لَهُ (قَالَ) الْقُدُورِيُّ (وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ) أَيْ بِقَضَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ (أَنْ لَا يَشْهَدَ حَتَّى يَعْتَرِفَ الْمُدَّعِي بِقَبْضِهَا) لِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ فَإِمَّا بِالْأَلْفِ ثُمَّ يَقُولُ قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ وَعَلِمْت أَنَّهُ يُقْضَى فِيهِ بِأَلْفٍ فَيَضِيعُ حَقُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَإِمَّا بِخَمْسِمِائَةٍ يَثْبُتُ اخْتِلَافُهُمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَفِيهِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ أَصْلًا عَلَى قَوْلِ

ص: 441

(وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَجُلَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِقَرْضٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ قَضَاهَا، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ عَلَى الْقَرْضِ) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَضَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رحمه الله لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَكْذَبَ شَاهِدَ الْقَضَاءِ. قُلْنَا: هَذَا إكْذَابٌ فِي غَيْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْقَرْضُ وَمِثْلُهُ لَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ.

أَبِي حَنِيفَةَ فَيَضِيعُ حَقُّ الْمُدَّعِي.

فَالْوَجْهُ أَنْ لَا يَشْهَدَ الَّذِي عَرَفَ الْقَضَاءَ حَتَّى يَعْتَرِفَ بِالْقَدْرِ الَّذِي سَقَطَ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مِنْ لَفْظِ لَا يَنْبَغِي لَا يَحِلُّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي جَامِعِ أَبِي اللَّيْثِ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ: رَجُلٌ أَقَرَّ عِنْدَ قَوْمٍ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ كَذَا فَبَعْدَ مُدَّةٍ جَاءَ رَجُلَانِ أَوْ أَكْثَرُ إلَى الْقَوْمِ فَقَالُوا لَا تَشْهَدُوا عَلَى فُلَانٍ بِذَلِكَ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ قَضَاهُ كُلَّهُ فَالشُّهُودُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا امْتَنَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ وَإِنْ شَاءُوا أَخْبَرُوا الْحَاكِمَ بِشَهَادَةِ الَّذِينَ أَخْبَرُوهُمْ بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُونَ عُدُولًا لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِالْمَالِ، هَذَا قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ، لَوْ شَهِدَ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يَدَّعُوا الشَّهَادَةَ، وَكَذَا إذَا حَضَرُوا بَيْعَ رَجُلٍ أَوْ نِكَاحَهُ أَوْ قَتْلَهُ فَلَمَّا أَرَادُوا أَدَاءَ الشَّهَادَةِ شَهِدَ عِنْدَهُمْ بِطَلَاقِ الزَّوْجِ ثَلَاثًا أَوْ قِيلَ عَايَنَّا امْرَأَةً أَرْضَعَتْهُمَا أَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ أَوْ عَفَا عَنْهُ الْوَلِيُّ إنْ كَانَ وَاحِدًا شَهِدُوا أَوْ اثْنَيْنِ لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا، وَكَذَا لَوْ رَأَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فَأَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ لَهُ فَأَخْبَرَهُ عَدْلَانِ أَنَّ الْمِلْكَ لِلثَّانِي لَا يَسَعُهُ بِالْمِلْكِ لِلْأَوَّلِ، وَلَوْ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْ ذِي الْيَدِ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا عَلِمَ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِهِمَا.

هَذَا وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ بَعْدَ مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ تَفْرِيعَهَا عَلَيْهَا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ الَّتِي نَقَلَهَا يُقْضَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا قَضَاهُ إيَّاهَا أَنْ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ فَذَكَرَهَا لِلْإِعْلَامِ بِالْفَرْقِ.

وَقِيلَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لِقَاتِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شَاهِدِ الْقَضَاءِ عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ مُتَقَدِّمًا لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى لِلشَّاهِدِ أَنْ يَقُولَ: أَنَا تَحَمَّلْت الشَّهَادَةَ وَأَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا وَقَدْ قَضَاهُ خَمْسَمِائَةٍ وَلَكِنِّي أَشْهَدُ كَمَا أُشْهِدْت عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ، فَإِذَا ظَهَرَتْ شَهَادَتُهُ مَعَ الْآخَرِ بِهَا قُضِيَ لَهُ بِالْأَلْفِ. أَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ فَالشَّاهِدُ يَذْكُرُ أَنَّ الشَّهَادَةَ سَقَطَتْ عَنْهُ وَلَيْسَ عَلَيَّ أَدَاؤُهَا فَشَهَادَتِي بَاطِلَةٌ فَلَا يَقْضِي بِالْأَلْفِ، فَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَزَالَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَأَثْبَتَتْ جَوَازَ الشَّهَادَةِ.

وَاسْتَرْوَحَ فِي النِّهَايَةِ فَقَالَ: التَّفَاوُتُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ وَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ شَهِدَ بِقَضَاءِ الْمَدْيُونِ كُلَّ الدَّيْنِ وَفِي الَّتِي

ص: 442

قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ قَتَلَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَاجْتَمَعُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ لَمْ يَقْبَلْ الشَّهَادَتَيْنِ) لِأَنَّ إحْدَاهُمَا كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى (فَإِنْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا وَقَضَى بِهَا ثُمَّ حَضَرَتْ الْأُخْرَى لَمْ تُقْبَلْ) لِأَنَّ الْأُولَى تَرَجَّحَتْ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا فَلَا تُنْتَقَضُ بِالثَّانِيَةِ.

قَبْلَهَا شَهِدَ بِقَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَآخَرَانِ أَنَّهُ قَتَلَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَاجْتُمِعُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ لَمْ يَقْضِ) بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَلَوْ لَمْ يَجْتَمِعُوا بَلْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِمَكَّة فَقُضِيَ بِهَا ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يَقْتُلُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِكَذِبِ إحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ وَلَا أَوْلَوِيَّةَ فَلَا قَبُولَ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِلْأَوْلَوِيَّةِ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ الصَّحِيحِ بِهَا فَإِنَّهُ حِينَ قَضَى بِالْأُولَى لَا مُعَارِضَ لَهَا إذْ ذَاكَ فَنَفَذَ شَرْعًا فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي ثَبَتَ شَرْعًا بِحُدُوثِ مُعَارِضٍ، كَمَنْ لَهُ ثَوْبَانِ فِي أَحَدِهِمَا نَجَاسَةٌ شَكَّ فِي تَعْيِينِهِ فَتَحَرَّى وَصَلَّى فِي أَحَدِهِمَا ثُمَّ وَقَعَ ظَنُّهُ عَلَى طَهَارَةِ الْآخَرِ لَا يُصَلِّي فِيهِ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِتَحَرِّيهِ الْأَوَّلِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ هُوَ الصِّحَّةُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فِيهِ فَلَا يُؤَثِّرُ التَّحَرِّي الثَّانِي فِي رَفْعِهِ. وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْآلَةِ، قَالَ أَحَدُهُمَا قَتَلَهُ بِسَيْفٍ وَقَالَ الْآخَرُ بِيَدِهِ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا إنْ شَهِدَ بِالْقَتْلِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لَا تُقْبَلُ لِاخْتِلَافِ الْمَشْهُودِ بِهِ لِأَنَّ الْقَوْلَ غَيْرُ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْقَتْلِ وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى أَحَدِهِمَا نِصَابٌ، وَكَذَا الضَّرْبُ الْوَاقِعُ أَمْسِ وَبِتِلْكَ الْآلَةِ لَيْسَ عَيْنَ الضَّرْبِ الْوَاقِعِ الْيَوْمَ وَبِالْأُخْرَى حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْفِعْلِ الثَّانِي إخْبَارًا عَنْ الْأَوَّلِ لِيَتَّحِدَ الْفِعْلُ نَفْسُهُ، وَكُلُّ مَا هُوَ مِنْ بَابِ الْفِعْلِ كَالشَّجِّ وَالْجِنَايَةِ مُطْلَقًا وَالْغَصْبِ أَوْ مِنْ بَابِ الْقَوْلِ الْمَشْرُوطِ فِي صِحَّتِهِ الْفِعْلُ كَالنِّكَاحِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ إحْضَارُ الشُّهُودِ فَاخْتِلَافُهُمَا فِي الزَّمَانِ أَوْ الْمَكَانِ أَوْ الْإِنْشَاءِ أَوْ الْإِقْرَارِ يَمْنَعُ الْقَبُولَ لِمَا ذَكَرْنَا، إذْ الْمُرَادُ بِالْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ ذِكْرُ أَنَّ إنْشَاءَ الْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ.

مِثَالُهُ: مَا لَوْ ادَّعَى الْغَصْبَ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَا جَمِيعًا بِالْإِقْرَارِ بِهِ قُبِلَتْ، بِخِلَافِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِيمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْقَوْلِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالرَّهْنِ وَالْإِقْرَارِ وَالْقَرْضِ وَالْبَرَاءَةِ وَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْقَذْفِ لَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ، فَإِنَّ الْقَوْلَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ إنْشَاءً وَإِخْبَارًا وَهُوَ فِي الْقَرْضِ بِحَمْلِهِ عَلَى قَوْلِ الْمُقْرِضِ أَقْرَضْتُك، وَكَذَا يُقْبَلُ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَا يَشْهَدَانِ بِمُعَايَنَةِ الْقَبْضِ لِأَنَّ الْقَبْضَ يَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَفِي الْمُحِيطِ: ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا مِلْكُهُ وَأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ قَبَضَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ مُنْذُ شَهْرٍ وَشَهِدُوا لَهُ بِالْقَبْضِ مُطْلَقًا لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَى الْقَبْضِ بِلَا تَارِيخٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَالِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْفِعْلَ فِي الْمَاضِي وَالْفِعْلُ فِي الْمَاضِي غَيْرُهُ فِي الْحَالِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى الْقَتْلَ مِنْ شَهْرٍ فَشَهِدُوا بِهِ فِي الْحَالِ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى الْقَتْلَ مُطْلَقًا وَشَهِدُوا بِهِ مِنْ شَهْرٍ لِأَنَّهُ

ص: 443

(وَإِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ بَقَرَةً وَاخْتَلَفَا فِي لَوْنِهَا قُطِعَ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا بَقَرَةً وَقَالَ الْآخَرُ ثَوْرًا لَمْ يُقْطَعْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (وَقَالَا: لَا يُقْطَعُ فِي الْوَجْهَيْنِ) جَمِيعًا، وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ فِي لَوْنَيْنِ يَتَشَابَهَانِ كَالسَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ لَا فِي السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَقِيلَ هُوَ فِي جَمِيعِ الْأَلْوَانِ. لَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ فِي السَّوْدَاءِ غَيْرُهَا فِي الْبَيْضَاءِ فَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَصَارَ كَالْغَصْبِ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ أَمْرَ الْحَدِّ أَهَمُّ وَصَارَ كَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ. وَلَهُ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ فِي اللَّيَالِي مِنْ بَعِيدٍ وَاللَّوْنَانِ يَتَشَابَهَانِ أَوْ يَجْتَمِعَانِ فِي وَاحِدٍ فَيَكُونُ السَّوَادُ مِنْ جَانِبٍ وَهَذَا يُبْصِرُهُ وَالْبَيَاضُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ وَهَذَا الْآخَرُ يُشَاهِدُهُ

ادَّعَى الْفِعْلِ فِي الْحَالِ وَهُمْ شَهِدُوا بِهِ فِي الْمَاضِي فَلَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ وَقَالَ أَرَدْت مِنْ الْمُطْلَقِ الْفِعْلَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقِيلَ تُقْبَلُ فِي هَذَا مِنْ غَيْرِ تَوْفِيقٍ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ أَكْثَرُ وَأَقْوَى مِنْ الْمُؤَرَّخِ فَقَدْ شَهِدُوا بِأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَى بِهِ فَتُقْبَلُ انْتَهَى فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مِنْ الْفِعْلِ الْقَبْضُ.

وَمِنْ الْفُرُوعِ

عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ادَّعَى الشِّرَاءَ أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ فَشَهِدُوا بِهِ أَمْسِ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ قَوْلٌ، وَلَوْ ادَّعَى النِّكَاحَ أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ فَشَهِدُوا بِهِ أَمْسِ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْفِعْلَ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَرِيبٍ، هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ رِوَايَتِهِ، اخْتِلَافُهُمَا فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ يَمْنَعُ فِي الْكُلِّ إلَّا إذَا شَهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَقَالَ الْآخَرُ أَقَرَّ بِطَلَاقِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ،

وَإِذَا شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الرَّاهِنِ وَالْوَاهِبِ وَالْمُتَصَدِّقِ بِالْقَبْضِ جَازَتْ.

وَلَوْ ادَّعَى الْبَيْعَ وَشَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ وَاخْتَلَفَا فِي الزَّمَانِ أَوْ الْمَكَانِ قُبِلَتْ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ تُقْبَلُ لِأَنَّ لَفْظَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فَلَمْ يَثْبُتْ اخْتِلَافُ الْمَشْهُودِ بِهِ ذَكَرَهُ فِي الْفُصُولِ وَفِيهِ عَنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: لَوْ سَكَتَ شَاهِدَا الْبَيْعِ عَنْ بَيَانِ الْوَقْتِ فَسَأَلَهُمَا الْقَاضِي فَقَالَا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ تُقْبَلُ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُكَلَّفَا حِفْظَ ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَا إلَخْ) صُورَتُهَا: ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ لَهُ بَقَرَةً وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا لَوْنًا وَأَقَامَ بَيِّنَةً فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا

ص: 444

بِخِلَافِ الْغَصْبِ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ فِيهِ بِالنَّهَارِ عَلَى قُرْبٍ مِنْهُ، وَالذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَاحِدَةٍ، وَكَذَا الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ فَلَا يَشْتَبِهُ.

بِسَرِقَتِهِ الْحَمْرَاءَ وَالْآخَرُ سَوْدَاءَ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: تُقْبَلُ وَيُقْطَعُ، وَقَالَا هُمَا وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ لَا يُقْطَعُ، وَلَوْ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ عَيَّنَ لَوْنًا كَحَمْرَاءَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا سَوْدَاءَ لَمْ يُقْطَعْ إجْمَاعًا لِأَنَّهُ كَذَّبَ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَلَا فَرْقَ فِيمَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمُدَّعِي لَوْنًا بَيْنَ كَوْنِ اللَّوْنَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَلَفَا فِيهِمَا مُتَقَارِبَيْنِ كَالسَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ أَوْ مُتَبَاعِدَيْنِ كَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ فِي ثُبُوتِ الْخِلَافِ. وَقِيلَ فِي الْمُتَبَاعِدَيْنِ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ الْقَبُولِ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ تَصْحِيحَهُ وَذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالظَّهِيرِيَّةِ، وَعَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ لَوْ ادَّعَى سَرِقَةَ ثَوْبٍ مُطْلَقًا فَقَالَ أَحَدُهُمَا هَرَوِيٌّ وَالْآخَرُ مَرْوِيٌّ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَمْ تُقْبَلْ إجْمَاعًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ. لَهُمَا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَلَمْ يُوجَدْ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصَابُ شَهَادَةٍ فَكَانَ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي ذُكُورَتِهَا وَأُنُوثَتِهَا أَوْ فِي قِيمَتِهَا لَا تُقْبَلُ كَذَا هَذَا. وَأَيْضًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فِي الْغَصْبِ فَإِنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عَلَى غَصْبِ بَقَرَةٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا سَوْدَاءُ أَوْ حَمْرَاءُ وَالْآخَرُ بَيْضَاءُ لَمْ تُقْبَلْ مَعَ أَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ قَبُولُهَا إثْبَاتَ حَدٍّ فَلَأَنْ لَا تُقْبَلَ فِيمَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْلَى لِأَنَّ الْحَدَّ أَعْسَرُ إثْبَاتًا فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ. وَأَمَّا مَا زِيدَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ فَلَيْسَ مِمَّا فِيهِ الْكَلَامُ: أَعْنِي السَّرِقَةَ بَلْ يَخُصُّ الزِّنَا.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِمُجَرَّدِ شَهَادَتِهِمَا بِسَرِقَةِ بَقَرَةٍ وَهُوَ الْمُدَّعَى بِهِ بِلَا ذِكْرِ الْمُدَّعِي لَوْنًا خَاصًّا يَثْبُتُ الْحَدُّ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَلْ وَقَعَ فِيمَا لَيْسَ مِنْ نَفْسِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا لَمْ يُكَلَّفَا عِلْمَ لَوْنِهَا، فَإِنَّهُمَا لَوْ قَالَا لَا نَعْلَمُ لَوْنَهَا لَا تَسْقُطُ شَهَادَتُهُمَا وَيَجِبُ الْحَدُّ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي أَمْرٍ زَائِدٍ لَا يَلْزَمُهُمَا مِمَّا لَيْسَ مُدَّعًى بِهِ لَا يُبْطِلُ الْحَدَّ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي ثِيَابِ السَّارِقِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا سَرَقَهَا وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَحْمَرُ وَقَالَ الْآخَرُ أَبْيَضُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ، وَكَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانٍ الزِّنَا مِنْ الْبَيْتِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ وَقَالَ الْآخَرُ فِي تِلْكَ فَإِنَّهُ يُحَدُّ، وَعَلَى هَذَا فَلَا حَاجَةَ فِي قَبُولِهَا إلَى التَّوْفِيقِ كَمَا

ص: 445

قَالَ (وَمَنْ شَهِدَ لِرَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفٍ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ السَّبَبِ وَهُوَ الْعَقْدُ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثَّمَنِ فَاخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ بِهِ وَلَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ،

فَهِمَهُ الْعَلَّامَةُ السَّرَخْسِيُّ، غَيْرَ أَنَّا تَبَرَّعْنَا بِالتَّوْفِيقِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ السَّرِقَةَ تَكُونُ غَالِبًا لَيْلًا وَنَظَرُ الشَّاهِدِ إلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ، وَذَلِكَ سَبَبُ اشْتِبَاهِ اللَّوْنِ إذَا كَانَا مُتَقَارِبَيْنِ كَالسَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ وَإِنْ كَانَا مُتَبَاعِدَيْنِ فِي الْبَلْقَاءِ فَيَرَى كُلٌّ لَوْنًا غَيْرَ الْآخَرِ فَيُحْمَلُ اخْتِلَافُهُمَا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمُتَقَارِبَيْنِ، وَعَلَى الثَّانِي فَقَطْ فِي الْمُتَبَاعِدَيْنِ. بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَإِنَّهُ يَقَعُ نَهَارًا فَلَا اشْتِبَاهَ فِيهِ، وَبِخِلَافِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ لِأَنَّهُمَا يُكَلَّفَانِ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ لِتُعْلَمَ الْقِيمَةُ فَيُعْلَمَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ بَلَغَ نِصَابًا أَوْ لَا، وَلِأَنَّ ذِكْرَهُ الذُّكُورَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ مِنْ قَرِيبٍ وَتَحَقَّقَ بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْحَالُ فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ التَّوْفِيقُ، فَالِاخْتِلَافُ وَإِنْ كَانَ فِي زِيَادَةٍ فَقَدْ شَغَبَ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا التَّوْفِيقَ لَيْسَ احْتِيَاطًا لِإِثْبَاتِ الْحَدِّ، كَمَا لَمْ يَكُنْ التَّوْفِيقُ فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي مَكَانِ الزِّنَا مِنْ الْبَيْتِ بِأَنَّهُمَا قَدْ يَنْتَقِلَانِ بِحَرَكَةِ الْوَطْءِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان احْتِيَاطًا لِإِثْبَاتِهِ، وَلَا أَنَّ وَجْهَ قَوْلِهِمَا أَدَقُّ وَأَحَقُّ مِنْ قَوْلِهِ كَمَا ظَنَّهُ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ. وَمَا قِيلَ إنَّ التَّوْفِيقَ لِإِثْبَاتِ الْحُقُوقِ وَاجِبٌ فَيُفْعَلُ ثُمَّ يَجِبُ الْحَدُّ حِينَئِذٍ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ السَّرِقَةِ حِينَئِذٍ إنْ لَمْ يَصِحَّ مَنْعُ وُجُوبِهِ مُطْلَقًا بَلْ إذَا لَمْ يَسْتَلْزِمْ وُجُوبَ حَدٍّ

(قَوْلُهُ وَمَنْ شَهِدَ لِرَجُلٍ إلَخْ) صُورَتُهَا عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ فِي الرَّجُلِ يَدَّعِي عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَيُنْكِرُ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فَيُقِيمُ عَلَيْهِ شَاهِدًا بِأَلْفٍ وَشَاهِدًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، قَالَ يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله هَذَا بَاطِلٌ إلَى آخِرِ مَا هُنَاكَ، فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ هَذَا يُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ قَضَى بِأَلْفٍ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، وَهُنَا لَا تُقْبَلُ فِي شَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا ادَّعَى دَيْنًا فَقَطْ وَالْمَقْصُودُ هُنَا دَعْوَى الْعَقْدِ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ فَيُنْكِرُ الْبَائِعُ الْبَيْعَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ الدَّيْنَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ السَّبَبِ، وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ الْبَيْعَ فَالْبَيْعُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الثَّمَنَ مِنْ أَرْكَانِهِ، وَالْمُرَكَّبُ

ص: 446

وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْبَائِعَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي أَقَلَّ الْمَالَيْنِ أَوْ أَكْثَرَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا

(وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعَقْدُ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْعَبْدَ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ هُوَ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ السَّبَبِ

الَّذِي بَعْضُ أَجْزَائِهِ مِقْدَارٌ خَاصٌّ غَيْرُ مِثْلِهِ بِمِقْدَارٍ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى أَحَدِهِمَا نِصَابُ شَهَادَةٍ فَلَا يَثْبُتُ الْبَيْعُ أَصْلًا (وَلِأَنَّ الْمُدَّعِي يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ) وَهُوَ الشَّاهِدُ بِالْأَلْفِ (وَكَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْبَائِعَ) بِأَنْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ فَأَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ كَذَلِكَ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا أَكْثَرَ الْمَالَيْنِ أَوْ أَقَلَّهُمَا لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ وَالتَّكْذِيبُ مِنْ الْمُدَّعِي. وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ عَنْ السَّيِّدِ الْإِمَامِ الشَّهِيدِ السَّمَرْقَنْدِيِّ: تُقْبَلُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ الْوَاحِدَ يَكُونُ بِأَلْفٍ ثُمَّ يَصِيرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ بِأَنْ يُزَادَ فِي الثَّمَنِ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى الشِّرَاءِ الْوَاحِدِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا اشْتَرَى بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَكُونُ بِأَلْفٍ ثُمَّ يَكُونُ بِمِائَةِ دِينَارٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الشَّارِحِينَ: فِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ، كَأَنَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَوْ جَازَ لَزِمَ الْقَضَاءُ بِبَيْعٍ بِلَا ثَمَنٍ إذْ لَمْ يَثْبُتْ أَحَدُ الثَّمَنَيْنِ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ لَا يُفِيدُ لِأَنَّهُ تَعُودُ الْخُصُومَةُ كَمَا كَانَتْ فِي الْأَلْفِ وَالْخَمْسِمِائَة الْمُدَّعَى بِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ السَّبَبُ وَسِيلَةً إلَى إثْبَاتِهَا. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ ثَمَانِيَةُ مَسَائِلَ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ: إحْدَاهَا هَذِهِ.

وَالثَّانِيَةُ الْكِتَابَةُ ذَكَرَهَا فِي الْجَامِعِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ إذَا ادَّعَاهَا الْعَبْدُ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى: يَعْنِي الْكِتَابَةَ عَلَى وِزَانِ مَا ذَكَرَ فِي الْبَيْعِ زَادَ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ: وَكَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمَوْلَى لِأَنَّ دَعْوَى السَّيِّدِ الْمَالَ عَلَى عَبْدِهِ لَا تَصِحُّ، إذْ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ دَعْوَى الْكِتَابَةِ

ص: 447

(وَكَذَا الْخُلْعُ وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمَرْأَةَ أَوْ الْعَبْدَ أَوْ الْقَاتِلَ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْعَقْدِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الدَّيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْعَفْوُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ بِاعْتِرَافِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَبَقِيَ الدَّعْوَى فِي الدَّيْنِ وَفِي الرَّهْنِ، إنْ كَانَ الْمُدَّعَى هُوَ الرَّهْنَ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الرَّهْنِ فَعَرِيَتْ الشَّهَادَةُ عَنْ الدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الدَّيْنِ.

فَيَنْصَرِفُ إنْكَارُ الْعَبْدِ إلَيْهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ إلَّا بِهِ، فَالشَّهَادَةُ لَيْسَتْ إلَّا لِإِثْبَاتِهَا.

الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ الْخُلْعُ وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمَرْأَةَ فِي الْخُلْعِ وَالْعَبْدَ فِي الْعِتْقِ وَالْقَاتِلَ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُفِيدُهُمْ الْخَلَاصَ وَهُوَ مَقْصُودُهُمْ (وَإِنْ كَانَ الدَّعْوَى مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ) وَهُوَ الزَّوْجُ وَالْوَلِيُّ وَوَلِيُّ الْقَتِيلِ (فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ) وَهُوَ أَنَّهُ إذَا ادَّعَى أَكْثَرَ الْمَالَيْنِ فَشَهِدَ بِهِ شَاهِدٌ وَالْآخَرُ بِالْأَقَلِّ، فَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ بِعَطْفٍ مِثْلُ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ قَضَى بِالْأَقَلِّ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِ كَأَلْفٍ وَأَلْفَيْنِ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ، وَهَذَا (لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْعَفْوُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ بِاعْتِرَافِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَلَمْ تَبْقَ الدَّعْوَى إلَّا فِي الدَّيْن) وَالسَّادِسَةُ الرَّهْنُ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الرَّاهِنَ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِشَيْءٍ أَصْلًا لِأَنَّ قَبُولَهَا بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى وَلَمْ تَصِحَّ (لِأَنَّهُ) أَيْ الرَّاهِنَ (لَا حَظَّ لَهُ فِي الرَّهْنِ) أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِرْدَادِهِ مَا دَامَ الدَّيْنُ قَائِمًا فَلَا فَائِدَةَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى فَلَمْ تَصِحَّ (وَإِنْ كَانَ) الْمُدَّعِي هُوَ (الْمُرْتَهِنَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الدَّيْنِ) وَعَلِمْت حُكْمَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: الرَّهْنُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ فَكَانَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ

ص: 448

وَفِي الْإِجَارَةِ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ فَهُوَ نَظِيرُ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَالْمُدَّعِي هُوَ الْآجِرُ فَهُوَ دَعْوَى الدَّيْنِ.

اخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي قَدْرِ الْمَالِ كَاخْتِلَافِهِمَا فِيهِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ الرَّهْنَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ مَتَى شَاءَ، بِخِلَافِ الرَّاهِنِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ لِدَعْوَى الدَّيْنِ فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ إذْ الرَّهْنُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالدَّيْنِ فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ فِي ثُبُوتِ الدَّيْنِ وَيَثْبُتُ الرَّهْنُ بِأَلْفٍ ضِمْنًا وَتَبَعًا لِلدَّيْنِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ إنْ كَانَ مَثَلًا هَكَذَا أُطَالِبُهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لِي عَلَيْهِ عَلَى رَهْنٍ لَهُ عِنْدِي فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إلَّا الْمَالَ، وَذِكْرُ الرَّهْنِ زِيَادَةٌ إذْ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ دَيْنِهِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ دَيْنِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ هَكَذَا أُطَالِبُهُ بِإِعَادَةِ رَهْنِ كَذَا وَكَذَا كَأَنْ رَهَنَهُ عِنْدِي عَلَى كَذَا ثُمَّ غَصَبَهُ أَوْ سَرَقَهُ مَثَلًا فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ، فَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي أَنَّهُ رَهَنَهُ بِأَلْفٍ أَوْ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَإِنْ كَانَ زِيَادَةٌ يُوجِبُ أَنْ لَا يَقْضِيَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يَخْتَلِفُ بِهِ.

وَالسَّابِعَةُ الْإِجَارَةُ، إنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ فَهُوَ كَالْبَيْعِ بِأَنْ ادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ الْآجِرُ أَنَّهُ أَجَّرَهُ هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَشَهِدَ وَاحِدٌ كَذَلِكَ وَآخَرُ بِأَلْفٍ لَا تَثْبُتُ الْإِجَارَةُ كَالْبَيْعِ، إذْ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَا يُسْتَحَقُّ الْبَدَلُ فَكَانَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ الْعَقْدِ وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبَدَلِ فَلَا تَثْبُتُ الْإِجَارَةُ (وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّهَا) اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ أَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ بَعْدَ أَنْ تَسَلَّمَ، فَإِنْ

ص: 449

قَالَ (فَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِأَلْفٍ اسْتِحْسَانًا، وَقَالَا: هَذَا بَاطِلٌ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا) وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. لَهُمَا أَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْعَقْدِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ السَّبَبُ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ

كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمُؤَجِّرَ فَهُوَ دَعْوَى الْأُجْرَةِ، فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَهُوَ يَدَّعِي الْأَكْثَرَ يَقْضِي بِأَلْفٍ إذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ إلَّا الْأُجْرَةُ، وَإِنْ شَهِدَ الْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِيهِمَا لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا بِأَلْفٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمُسْتَأْجِرَ فَهُوَ دَعْوَى الْعَقْدِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مُعْتَرَفٌ بِمَالِ الْإِجَارَةِ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِمَا اعْتَرَفَ بِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ اخْتِلَافِهِمَا فِيهِ، وَلَا يَثْبُتُ الْعَقْدُ لِلِاخْتِلَافِ.

وَالثَّامِنَةُ النِّكَاحُ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ النِّكَاحَ أُجْرِيَ مُجْرَى الْفِعْلِ حَتَّى لَا يَقْبَلَ الِاخْتِلَافَ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى نِكَاحَهَا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّ وَلِيَّهَا زَوَّجَهَا مِنْهُ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ ادَّعَى هُوَ عَلَيْهَا ثَانِيًا أَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ فَشَهِدَ هَذَا بِأَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ تُقْبَلُ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ إذَا ادَّعَى أَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ فَشَهِدَا أَنَّ وَكِيلَهَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ زَوَّجَهَا لِأَنَّ لَفْظَ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا يُصَدَّقُ بِهِ فِي الْعُرْفِ.

وَقَدْ أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَالَ: فَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ: إذَا جَاءَتْ بِشَاهِدٍ يَشْهَدُ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَشَاهِدٍ يَشْهَدُ عَلَى أَلْفٍ جَازَتْ الشَّهَادَةُ بِالْأَلْفِ وَهِيَ تَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَأَمَّا يَعْقُوبُ وَمُحَمَّدٌ فَقَالَا: النِّكَاحُ بَاطِلٌ أَيْضًا، فَمَشَى الْمُصَنِّفُ رحمه الله عَلَى إطْلَاقِهِ فَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ كَوْنِ الْمُدَّعِي فِيهِ الزَّوْجَ أَوْ الزَّوْجَةَ، وَجَعَلَهُ الْأَصَحَّ نَفْيًا لِمَا حَكَاهُ مِنْ الْقَوْلِ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ كَوْنِ الْمُدَّعِي الزَّوْجَ فَلَا يَصِحُّ بِاتِّفَاقِهِمْ لِأَنَّهُ دَعْوَى الْعَقْدِ إذْ الزَّوْجُ لَا يَدَّعِي عَلَيْهَا مَالًا وَكَوْنُهُ الزَّوْجَةَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ: وَقَالَ وَجْهُ الْأَصَحِّ مَا ذَكَرْنَا.

يَعْنِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّعْلِيلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ فِي النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْحِلُّ وَالِازْدِوَاجُ وَالْمِلْكُ، وَلَا اخْتِلَافَ فِي هَذَا بَلْ فِي التَّبَعِ، وَإِذَا وَقَعَ فِي التَّبَعِ يُقْضَى بِالْأَقَلِّ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ بِالضَّرُورَةِ الْقَضَاءُ بِالنِّكَاحِ بِأَلْفٍ، فَإِنَّ هَذَا الْوَجْهَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ بِالْأَقَلِّ بِلَا تَفْصِيلٍ.

وَأَيْضًا أَجْرَى إطْلَاقَهُ فِي دَعْوَى لِلْأَقَلِّ الْأَكْثَرُ فَصَحَّحَ الصِّحَّةَ سَوَاءً ادَّعَى الْمُدَّعِي الْأَقَلَّ أَوْ الْأَكْثَرِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله فِي الْجَامِعِ قَيَّدَهُ بِدَعْوَى الْأَكْثَرِ حَيْثُ قَالَ: جَازَتْ الشَّهَادَةُ بِأَلْفٍ وَهِيَ تَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَالْمَفْهُومُ يُعْتَبَرُ رِوَايَةً، وَبِقَوْلِهِ ذَلِكَ أَيْضًا يُفْهَمُ لُزُومِ التَّفْصِيلِ فِي الْمُدَّعَى بِهِ بَيْنَ كَوْنِهِ الْأَكْثَرَ فَيَصِحُّ عِنْدَهُ أَوْ الْأَقَلَّ فَلَا يَخْتَلِفُ فِي الْبُطْلَانِ لِتَكْذِيبِ الْمُدَّعِي شَاهِدَ الْأَكْثَرِ كَمَا عَوَّلَ عَلَيْهِ مُحَقِّقُو الْمَشَايِخِ، فَإِنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَهِيَ تَدَّعِي إلَخْ يُفِيدُ تَقْيِيدَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بِالْجَوَازِ بِمَا إذَا كَانَتْ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ لِلْأَكْثَرِ دُونَهُ فَإِنَّ الْوَاوَ فِيهِ لِلْحَالِ وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ فَيَثْبُتُ الْعَقْدُ بِاتِّفَاقِهِمَا وَدِينَ بِأَلْفٍ.

ص: 450

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْمَالَ فِي النِّكَاحِ تَابِعٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحِلُّ وَالِازْدِوَاجُ وَالْمِلْكُ

فُرُوعٌ] شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ هَذَا الْعَبْدَ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ يَقْضِي بِهِ لِلْمُدَّعِي، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَهُ لَمْ يَقْضِ لِلْمَشْهُودِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَهُ مِنْهُ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ تُقْبَلُ.

وَزَادَ فِي الْمُنْتَقَى حِينَ وَضَعَهَا ثَانِيَةً فِي الثَّوْبِ: لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي أَقَرَّ بِمَا قَالَا لَكِنَّهُ غَصَبَهُ مِنِّي تُقْبَلُ وَيُجْعَلُ ذُو الْيَدِ مُقِرًّا بِمَلَكِيَّةِ الثَّوْبِ لِلْمُدَّعِي فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الثَّوْبِ بَعْدَهُ، ثُمَّ قَالَ فِيمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إقْرَارِهِ بِأَخْذِهِ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِالْإِيدَاعِ مِنْهُ وَقَالَ الْمُدَّعِي إنَّمَا أَوْدَعْته مِنْهُ لَا تُقْبَلُ لِعَدَمِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْإِقْرَارِ بِمِلْكٍ وَلَا بِأَخْذٍ، لِأَنَّ شَاهِدَ الْوَدِيعَةِ لَمْ يَشْهَدْ بِالْأَخْذِ فَلَزِمَ الْمُنَاقَضَةُ فِي الْحُكْمِ. وَالدَّلِيلِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيمَا إذَا شَهِدَ عَلَى إقْرَارِهِ بِغَصْبِهِ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِأَخْذِهِ مِنْهُ يَقْضِي بِهِ لِلْمُدَّعِي وَيُجْعَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى حُجَّتِهِ، لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْأَخْذِ لَيْسَ إقْرَارًا بِالْمِلْكِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ فَلَا مُنَاقَضَةَ إذَا كَانَ الْأَخْذُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ.

شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ اشْتَرَى هَذَا الْعَيْنَ مِنْ الْمُدَّعِي وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِإِيدَاعِهِ الْمُدَّعِيَ إيَّاهُ مِنْهُ قَضَى لِلْمُدَّعِي، وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ الثَّانِي شَهِدَ بِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ دَفَعَ إلَيْهِ هَذَا الْعَيْنَ قُضِيَ بِهِ لِلْمُدَّعِي أَيْضًا، لَكِنْ لَوْ بَرْهَنَ ذُو الْيَدِ عَلَى شِرَائِهِ مِنْهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ تُقْبَلُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ دَفَعَ إلَيَّ فُلَانٌ هَذَا الْعَيْنَ ثُمَّ بَرْهَنَ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ تُقْبَلُ.

وَفِي الزِّيَادَاتِ قَالَ أَحَدُهُمَا أَعْتَقَ كُلَّهُ وَقَالَ الْآخَرُ نِصْفَهُ لَا تُقْبَلُ. وَلَوْ ادَّعَى أَلْفَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إجْمَاعًا. ادَّعَى الشِّرَاءَ فَشَهِدَا بِالْهِبَةِ وَالْقَبْضِ لَا تُقْبَلُ، إلَّا إنْ وَفَّقَ فَقَالَ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ وَأَعَادَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْهِبَةِ لِأَنَّ الْأُولَى مَا قَامَتْ عَلَى مَا ادَّعَى بِهِ مِنْ الْهِبَةِ وَإِنَّمَا ادَّعَاهَا الْآنَ فَيُقِيمُ بَيِّنَةَ دَعْوَاهُ. ادَّعَى أَنَّهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ وَالْآخَرُ مِنْ أُمِّهِ لَا تُقْبَلُ.

ادَّعَى دَارًا فَشَهِدَا لَهُ بِمُدَّعَاهُ وَقُضِيَ لَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَقْضِيُّ لَهُ أَنَّ الْبِنَاءَ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لَا يَبْطُلُ الْحُكْمُ بِالْأَرْضِ لِلْمُدَّعِي، وَإِنْ شَهِدَ بِالْبِنَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ بَطَلَ الْحُكْمُ لِأَنَّهُ أَكْذَبَهُمَا فِيمَا قَضَاهُ مِنْ الْبِنَاءِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ دُخُولَ الْبِنَاءِ مُحْتَمَلٌ، فَإِقْرَارُ الْمُدَّعِي بِعَدَمِ دُخُولِهِ بَيَانٌ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ. شَهِدَ أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ وَالْآخَرُ أَنَّهَا حَبِلَتْ مِنْهُ، أَوْ شَهِدَ أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ غُلَامًا وَالْآخَرُ جَارِيَةً تُقْبَلُ. شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْمُدَّعِيَ سَكَنَ هَذِهِ الدَّارَ وَالْآخَرُ أَنَّهَا لَهُ لَا تُقْبَلُ. وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لَهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ سَاكِنُهَا قُضِيَ بِهَا لَهُ. شَهِدَ أَنَّ قِيمَةَ الثَّوْبِ الْهَالِكِ كَذَا وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِهَا لَا تُقْبَلُ.

شَهِدَ عَلَى صَرِيحِ الْإِذْنِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَبِيعُ فَلَمْ يَنْهَهُ لَا تُقْبَلُ، بِخِلَافِهَا عَلَى الْإِذْنِ فِي الطَّعَامِ وَالْآخَرُ عَلَيْهِ فِي الثِّيَابِ تُقْبَلُ عَلَى الْإِذْنِ. وَفِي الْأَقْضِيَةِ: ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَشَهِدَا عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ مَلَكَهُ تُقْبَلُ، وَلَوْ عَلَى إقْرَارِهِ بِالشِّرَاءِ مِنْهُ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعِي الْبَيْعَ يَأْخُذُهُ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالشِّرَاءِ وَالِاسْتِلَامِ إقْرَارٌ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَوْ بِعَدَمِ مِلْكِ نَفْسِهِ فِيهِ عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ وَلَا أَحَدَ مُتَعَرِّضٌ لِلْمُدَّعِي فَيَأْخُذُهُ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى إقْرَارِهِ بِالشِّرَاءِ مِنْهُ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِالْهِبَةِ مِنْهُ وَالْمُدَّعِي يُنْكِرُ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ قَالَ الْآخَرُ اسْتَأْجَرَهُ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ بَاعَهُ الْمُدَّعِي مِنْهُ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ عِنْدَهُ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ

ص: 451

وَلَا اخْتِلَافَ فِي مَا هُوَ الْأَصْلُ فَيَثْبُتُ، ثُمَّ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي التَّبَعِ يَقْضِي بِالْأَقَلِّ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ

دَفَعَهَا إلَيْهِ.

شَهِدَ عَلَى إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ هَذَا وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ أَوْدَعَهُ مِنْهُ تُقْبَلُ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْأَخْذِ لَكِنْ بِحُكْمِ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْأَخْذِ مِنْهُ مُنْفَرِدًا. شَهِدَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا دِينَارًا وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ تُقْبَلُ.

شَهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْآخَرُ بِغَيْرِهَا فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا بِالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ تُقْبَلُ، وَلَيْسَ الطَّلَاقُ كَذَلِكَ لِأَنِّي أَنْوِيهِ فِي وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَفِيهِ لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَالْآخَر أَنَّهُ قَالَ لَهُ " آزَادَ " تُقْبَلُ. وَفِيهِ لَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَشَهِدَ أَنَّهُ كَلَّمَهُ الْيَوْمَ وَالْآخَرُ أَمْسِ لَمْ تُقْبَلْ، وَذَكَرَ فِيهِ مَسْأَلَةَ الطَّلَاقِ قَالَ طَلَّقْت، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْعِتْقِ ثُبُوتُهُ إذَا وَفَّقَ الْعَبْدُ بِأَنْ قَالَ كَلَّمْته فِي الْيَوْمَيْنِ جَمِيعًا.

وَفِيهِ شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَكَذَا وَالْآخَرُ إنْ دَخَلَتْ هَذِهِ وَهَذِهِ لَا تُقْبَلُ، وَفِيهِ إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَشَهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا الْيَوْمَ وَالْآخَرُ أَمْسِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ، وَلَوْ قَالَ إنْ ذَكَرْت طَلَاقَك إنْ سَمَّيْته إنْ تَكَلَّمْت بِهِ فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَشَهِدَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا الْيَوْمَ وَالْآخَرُ أَمْسِ يَقَعُ الطَّلَاقُ لَا الْعَتَاقُ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا اخْتَلَفَتْ فِي الْكَلَامِ؛ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْقَذْفِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ تُقْبَلُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا. وَفِي إنْشَائِهِ وَإِقْرَارِهِ لَا تُقْبَلُ إجْمَاعًا.

ادَّعَى أَلْفًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفًا قَرْضًا وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ أَلْفًا تُقْبَلُ لِاتِّفَاقِهِمَا أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْهُ أَلْفٌ وَقَدْ جَحَدَ فَصَارَ ضَامِنًا هِيَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، وَقِسْمٌ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ادَّعَى مِلْكًا عَلَى رَجُلٍ بِالشِّرَاءِ فَشَهِدُوا لَهُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَلَا تُقْبَلُ، وَقَيَّدَهُ فِي الْأَقْضِيَةِ بِمَا إذَا نَسَبَهُ إلَى مَعْرُوفٍ كَأَنْ قَالَ اشْتَرَيْته مِنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ وَذَكَرَ شَرَائِطَ التَّعْرِيفِ، أَمَّا لَوْ جَهِلَهُ فَقَالَ اشْتَرَيْت فَقَطْ أَوْ قَالَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ مِنْ زَيْدٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَشَهِدُوا بِالْمُطْلَقِ قَبِلَتْ.

وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ فِي الْقَبُولِ خِلَافًا. وَلَوْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا فَشَهِدُوا بِهِ بِسَبَبٍ تُقْبَلُ، كَذَا أَطْلَقَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ. وَزَادَ فِي الْأَجْنَاسِ فِي الْقَبُولِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَلُ الْمُدَّعِيَ الْمِلْكَ أَلَكَ بِهَذَا السَّبَبِ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ إنْ قَالَ نَعَمْ قَضَى أَوْ لَا لَا.

وَفِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ: إذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ عَلَى مِلْكٍ لَهُ سَبَبٌ وَأَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ. وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْ مَعْرُوفٍ وَنَسَبَهُ إلَى أَبِيهِ وَجَدِّهِ مَعَ الْقَبْضِ وَقَالَ وَقَبَضْته مِنْهُ فَشَهِدُوا بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَفِي الْخُلَاصَةِ تُقْبَلُ بِلَا ذِكْرِ خِلَافٍ.

وَحَكَى الْعِمَادِيُّ فِيهِ اخْتِلَافًا، قِيلَ تُقْبَلُ لِأَنَّ دَعْوَى الشِّرَاءِ مَعَ الْقَبْضِ دَعْوَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ حَتَّى لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى تَعْيِينُ الْعَبْدِ، وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ دَعْوَى الشِّرَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي نَفْسِهَا

ص: 452

وَيَسْتَوِي دَعْوَى أَقَلِّ الْمَالَيْنِ أَوْ أَكْثَرِهِمَا فِي الصَّحِيحِ. ثُمَّ قِيلَ: لِاخْتِلَافٍ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الزَّوْجَ إجْمَاعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّ مَقْصُودَهَا قَدْ يَكُونُ الْمَالَ وَمَقْصُودَهُ لَيْسَ إلَّا الْعَقْدَ. وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَهَذَا أَصَحُّ وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

لَا كَالْمُطْلَقِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي لَهُ بِالزَّوَائِدِ فِي ذَلِكَ. وَفِي فَوَائِدِ شَمْسِ الْإِسْلَامِ دَعْوَى الدَّيْنِ كَدَعْوَى الْعَيْنِ، وَهَكَذَا فِي شَرْحِ الْحِيَلِ لِلْحَلْوَانِيِّ، لَكِنْ فِي الْمُحِيطِ ادَّعَى الدَّيْنَ بِسَبَبِ الْقَرْضِ وَشَبَهِهِ فَشَهِدُوا بِالدَّيْنِ مُطْلَقًا كَانَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ مَحْمُودُ الْأُوزْجَنْدِيُّ يَقُولُ: لَا تُقْبَلُ كَمَا فِي دَعْوَى الْعَيْنِ بِسَبَبٍ وَشَهِدُوا بِالْمُطْلَقِ. قَالَ: وَفِي الْأَقْضِيَةِ مَسْأَلَتَانِ يَدُلَّانِ عَلَى الْقَبُولِ انْتَهَى.

وَفِي فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ: لَوْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا فَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِسَبَبٍ ثُمَّ شَهِدُوا عَلَى الْمُطْلَقِ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبِ حَمْلِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُطْلَقِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى الْمُطْلَقِ ثُمَّ شَهِدُوا عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ تُقْبَلُ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِبَعْضِ مَا شَهِدُوا بِهِ أَوَّلًا فَتُقْبَلُ.

أَمَّا النِّكَاحُ فَلَوْ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِكَذَا فَشَهِدُوا أَنَّهَا مَنْكُوحَتُهُ بِلَا زِيَادَةٍ تُقْبَلُ وَيُقْضَى بِمَهْرِ الْمِثْلِ إنْ كَانَ قَدْرَ الْمُسَمَّى أَوْ أَقَلَّ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى لَا يُقْضَى بِالزِّيَادَةِ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَالَ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ قُضِيَ بِالنِّكَاحِ فَقَطْ.

وَلَوْ ادَّعَى الْمُطْلَقَ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ مَعَ السَّبَبِ تُقْبَلُ وَيُقْضَى بِالْمِلْكِ الْحَادِثِ كَمَا لَوْ شَهِدَا جَمِيعًا بِالْمِلْكِ الْحَادِثِ

ص: 453

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَكُلُّ مَا كَانَ بِسَبَبِ عَقْدِ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ وَغَيْرِهِ فَهُوَ مِلْكٌ حَادِثٌ، وَإِنْ ادَّعَى بِسَبَبٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ مُطْلَقًا لَا تُقْبَلُ كَمَا إذَا شَهِدُوا جَمِيعًا بِالْمُطْلَقِ، وَفِيمَا لَوْ ادَّعَى التَّمَلُّكَ فَشَهِدُوا عَلَى الْمُطْلَقِ تُقْبَلُ،

وَلَوْ ادَّعَى الْمُطْلَقَ فَشَهِدُوا عَلَى النِّتَاجِ لَا لِأَنَّ دَعْوَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ دَعْوَى أَوَّلِيَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِمَالِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النِّتَاجِ شَهَادَةٌ عَلَى أَوَّلِيَّتِهِ عَلَى الْيَقِينِ فَشَهِدُوا بِأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ فَلَا تُقْبَلُ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى النِّتَاجَ أَوَّلًا ثُمَّ ادَّعَى الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ تُقْبَلُ. وَلَوْ ادَّعَى الْمُطْلَقَ أَوَّلًا ثُمَّ النِّتَاجَ لَا تُقْبَلُ.

وَفِي الْمُحِيطِ: لَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ بِالنِّتَاجِ وَشَهِدُوا عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ لَا تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى الْمُطْلَقَ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِسَبَبٍ حَيْثُ تُقْبَلُ انْتَهَى.

وَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى النِّتَاجَ بِسَبَبٍ فَشَهِدَا بِسَبَبٍ آخَرَ لَا تُقْبَلُ. وَفِي الْفُصُولِ: الْقَاضِي إذَا سَأَلَ الشُّهُودَ قَبْلَ الدَّعْوَى عَنْ لَوْنِ الدَّابَّةِ فَقَالُوا كَذَا ثُمَّ عِنْدَ الدَّعْوَى شَهِدُوا بِخِلَافِهِ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَمَّا لَا يُكَلَّفُ بَيَانَهُ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ. وَقَالَ رَشِيدُ الدِّينِ: وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ.

وَلَوْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا مُؤَرَّخًا فَقَالَ قَبَضْته مِنِّي مُنْذُ شَهْرٍ فَشَهِدُوا بِلَا تَارِيخٍ لَا تُقْبَلُ وَعَلَى الْعَكْسِ تُقْبَلُ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَدَعْوَى الْمِلْكِ بِسَبَبِ الْإِرْثِ كَدَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى مَا إذَا أَرَّخَ. فَفِي الْخُلَاصَةِ: ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا مِلْكُ أَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ فَقَالَ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَبِعْتهَا مِنْ أَبِي ثُمَّ وَرِثْتهَا عَنْهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا التَّوْفِيقِ. وَإِذَا أَرَّخَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَا تُقْبَلُ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُؤَرِّخِ وَتُقْبَلُ فِي غَيْرِ الْمُؤَرَّخِ وَلَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ بِسَبَبٍ أَرَّخَهُ فَشَهِدُوا بِالشِّرَاءِ بِلَا تَارِيخٍ تُقْبَلُ وَعَلَى الْقَلْبِ لَا، وَلَوْ كَانَ لِلشِّرَاءِ شَهْرَانِ وَأَرَّخُوا شَهْرًا تُقْبَلُ وَعَلَى الْقَلْبِ لَا، وَلَوْ أَرَّخَ الْمُطْلَقَ بِأَنْ قَالَ هَذَا الْعَيْنُ لِي مُنْذُ سَنَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُ لَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ قَالَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَشَهِدُوا أَنَّهُ لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ تُقْبَلُ، وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ قَبَضَ مِنِّي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَشَهِدُوا عَلَى الْقَبْضِ تُقْبَلُ وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَبَضَ فِي الْحَالِ وَعَلَيْهِ شَهِدُوا وَقَدَّمْنَا مِنْ مَسَائِلِ الْقَبْضِ شَيْئًا.

دَارٌ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَاهَا بَعْدَ الدَّعْوَى أَوْ قَبْلَهَا وَغَابَ أَحَدُهُمَا وَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْحَاضِرِ أَنَّ لَهُ نِصْفَ هَذِهِ الدَّارِ مُشَاعًا وَفِي يَدِ رَجُلٍ نِصْفُهَا مَقْسُومَةً فَشَهِدُوا أَنَّ لَهُ النِّصْفَ الَّذِي فِي يَدِ الْحَاضِرِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ الْمُدَّعَى بِهِ.

وَمِثْلُهُ لَوْ ادَّعَى دَارًا وَاسْتَثْنَى طَرِيقَ الدُّخُولِ وَحُقُوقَهَا وَمَرَافِقَهَا فَشَهِدُوا أَنَّهَا لَهُ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا لَوْ اسْتَثْنَى بَيْتًا وَلَمْ يَسْتَثْنُوهُ إلَّا إذَا وَفَّقَ فَقَالَ صَدَقُوا لَكِنِّي بِعْت هَذَا الْبَيْتَ مِنْهَا تُقْبَلُ.

وَفِي الْمُحِيطِ مِنْ الْأَقْضِيَةِ وَأَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ: إذَا ادَّعَى الْمِلْكَ لِلْحَالِ فَشَهِدُوا أَنَّ هَذَا الْعَيْنَ كَانَ قَدْ مَلَكَهُ تُقْبَلُ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ فِي الْمَاضِي فَيُحْكَمُ بِهِ فِي الْحَالِ مَا لَمْ يُعْلَمْ الْمُزِيلُ.

وَقَالَ الْعِمَادِيُّ: وَعَلَى هَذَا إذَا ادَّعَى الدَّيْنَ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا أَوْ قَالَا بِالْفَارِسِيَّةِ أَيْنَ مِقْدَارُ " زردردمه اين مُدَّعَى عَلَيْهِ بِوُدِّ مُرِينِ مُدَّعَى را " يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ كَمَا فِي دَعْوَى الْعَيْنِ انْتَهَى.

وَنَظِيرُهُ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ مَا ذَكَرَ رَشِيدُ الدِّينِ: إذَا قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا كَانَ مِلْكَهُ تُقْبَلُ وَيَصِيرُ كَمَا لَوْ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا مِلْكَهُ فِي الْحَالِ وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ " امروز مِلْك وى مى دَانَيْت " انْتَهَى. وَمَعْنَى هَذَا لَا يَحِلُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَلَكَهُ الْيَوْمَ. نَعَمْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ فَقَطْ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ فِيمَا إذَا ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا فِي عَيْنٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمِلْكِهِ فِي الْحَالِ، أَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٌ يَمْلِكُهُ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْمِلْكِ

ص: 454

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فِي الْحَالِ تُقْبَلُ وَيُقْضَى بِالْعَيْنِ لِلْمُدَّعِي لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمْ الْقَاضِي إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَنَّ هَذِهِ زَوْجَتُهُ فَشَهِدُوا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْحَالِ تُقْبَلُ، هَذَا كُلُّهُ إذَا شَهِدُوا بِالْمِلْكِ فِي الْمَاضِي.

أَمَّا لَوْ شَهِدُوا بِالْيَدِ لَهُ فِي الْمَاضِي وَقَدْ ادَّعَى الْآنَ لَا يُقْضَى لِلْمُدَّعِي بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ تَسُوغُ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْضَى بِهَا، وَخَرَّجَ الْعِمَادِيُّ عَلَى هَذَا مَا نَقَلَ عَنْ الْوَاقِعَاتِ. لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنِ رَجُلٍ عِنْدَ رَجُلَيْنِ ثُمَّ شَهِدَ عَدْلَانِ عِنْدَ الشَّاهِدَيْنِ أَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ أَنَّ شَاهِدَيْ الْإِقْرَارِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا يَشْهَدَانِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا ادَّعَى الدَّيْنَ وَشَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ تُقْبَلُ، وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ عَلَيْهِ، وَالْحَالُ أَنَّ صَاحِبَ الْوَاقِعَاتِ فَرَّقَ حَيْثُ قَالَ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَشْهَدَانِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَمْ يَكُنْ لِمَنْعِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ مَعْنًى.

وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْفِقْهُ أَنَّهُمَا إذَا ثَبَتَ عِنْدَ هُمَا بِشَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ أَنَّهُ قَضَاهُ. ذَلِكَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ عِنْدَهُمَا أَوْ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ أَفَادَهُمَا ذَلِكَ أَنْ لَا يَشْهَدَا كَمَا عُرِفَ فِيمَا إذَا عَلِمَ شَاهِدُ الْأَلْفِ أَنَّهُ قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ لَا يَشْهَدُ حَتَّى يُقِرَّ بِقَبْضِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَكْسُ مَا نَحْنُ فِيهِ لَوْ ادَّعَى فِي الْمَاضِي بِأَنْ قَالَ هَذِهِ الْجَارِيَةُ كَانَتْ مِلْكِي فَشَهِدُوا أَنَّهَا لَهُ اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِهَا، وَالْأَصَحُّ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى طِبْقِ دَعْوَاهُ بِأَنْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ إسْنَادَ الْمُدَّعِي دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ مِلْكِهِ فِي الْحَالِ إذْ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى أَنَّ مِلْكَهُ كَانَ فِي الْمَاضِي إلَّا ذَلِكَ، بِخِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ إذَا أَسْنَدَا ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِمَا إيَّاهُ فِي الْحَالِ لِجَوَازِ قَصْدِهِمَا إلَى الِاحْتِرَاسِ عَنْ الْإِخْبَارِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمَا بِهِ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْلَمَا سِوَى ثُبُوتِهِ فِي الْمَاضِي وَلَمْ يَعْلَمَا بِانْتِقَالِهِ فَقَدْ يَكُونُ انْتَقَلَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَحْتَرِسُ عَنْهُ الشَّاهِدُ وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ لِلْحَالِ بِالِاسْتِصْحَابِ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ: ادَّعَى النَّقْرَةَ الْجَيِّدَةَ وَبَيَّنَ الْوَزْنَ فَشَهِدَا عَلَى النَّقْرَةِ وَالْوَزْنِ وَلَمْ يَذْكُرَا جَيِّدَةً وَلَا رَدِيئَةً وَلَا وَسَطًا تُقْبَلُ وَيُقْضَى بِالرَّدِيءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى قَفِيزَ دَقِيقٍ مَعَ النُّخَالَةِ فَشَهِدُوا مِنْ غَيْرِ نُخَالَةٍ أَوْ مَنْخُولًا فَشَهِدُوا عَلَى غَيْرِ الْمَنْخُولِ لَا تُقْبَلُ.

وَفِيهَا أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنِ بَيْتٍ فَشَهِدُوا عَلَى أَلْفٍ مِنْ ضَمَانِ جَارِيَةٍ غَصَبَهَا فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ لَا تُقْبَلُ. وَعَنْ هَذَا ذَكَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَسْطُورَةِ: وَهِيَ مَا إذَا شَهِدَا بِأَلْفٍ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ بَاعَهَا مِنْهُ فَقَالَ الْبَائِعُ إنَّهُ أَشْهَدَهُمَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَاَلَّذِي لِي عَلَيْهِ ثَمَنُ مَتَاعٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ: أَيْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِثَمَنِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ مِثْلَهُ فِي الْإِقْرَارِ يُقْبَلُ لِمَا ذَكَرُوا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا، وَفِي الْكَفَالَةِ: إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَفَلَ بِأَلْفٍ عَلَى فُلَانٍ فَقَالَ الطَّالِبُ هُوَ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَكِنَّ الْكَفَالَةَ كَانَتْ عَنْ فُلَانٍ آخَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْمَالِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يَضُرُّهُمَا الِاخْتِلَافُ فِي السَّبَبِ.

وَمِثْلُهُ ادَّعَى أَنَّهُ أَجَّرَهُ دَارًا وَقَبَضَ مَالَ الْإِجَارَةِ وَمَاتَ فَانْفَسَخَتْ وَطَلَبَ مَالَ الْإِجَارَةِ فَشَهِدُوا أَنَّ الْآجِرَ أَقَرَّ بِقَبْضِ مَالِ الْإِجَارَةِ تُقْبَلُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ، لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْمَقْصُودِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ مَالِ الْإِجَارَةِ، وَلَوْ ادَّعَى الدَّيْنَ أَوْ الْقَرْضَ فَشَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِالْمَالِ تُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ فَقَدْ أَطْلَقَ الْقَبُولَ فِي الْمُحِيطِ وَالْعِدَّةِ.

وَقَالَ قَاضِي خَانْ تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَلَوْ ادَّعَى قَرْضًا فَشَهِدُوا أَنَّ الْمُدَّعِيَ دَفَعَ إلَيْهِ كَذَا وَلَمْ يَقُولُوا قَبَضَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَثْبُتُ قَبْضُهُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْبَيْعِ شَهَادَةٌ عَلَى الشِّرَاءِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْقَبْضُ بِذَلِكَ يَكُونُ الْقَوْلُ لِذِي

ص: 455

(فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِرْثِ)

(وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَارٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ أَعَارَهَا أَوْ أَوْدَعَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ

الْيَدِ أَنَّهُ قَبَضَ بِجِهَةِ الْأَمَانَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِجِهَةِ الْقَرْضِ إنْ ادَّعَاهُ، وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ قَضَاهُ دَيْنَهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخَرُ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ قَضَاهُ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَا جَمِيعًا بِالْإِقْرَارِ قُبِلَتْ، وَلَوْ ادَّعَى شِرَاءَ دَارٍ مِنْ رَجُلٍ فَشَهِدَا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ وَكِيلِهِ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَهَا مِنْهُ وَهَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَجَازَ الْبَيْعَ. ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّك قَبَضْت مِنْ مَالِي جَمَلًا بِغَيْرِ حَقٍّ مَثَلًا وَبَيَّنَ سِنَّهُ وَقِيمَتَهُ فَشَهِدُوا أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ غَيْرِ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ وَيُجْبَرُ عَلَى إحْضَارِهِ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ مَالِي وَلَمْ يَقُلْ قَبَضْت مِنِّي فَلَا يَكُونُ مَا شَهِدُوا بِهِ يُنَاقِضُهُ فَيَحْضُرُهُ لِيُشِيرَ إلَيْهِ بِالدَّعْوَى.

الْقِسْمُ الثَّانِي: اخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ. ادَّعَى بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَبِهِ هَذَا الْعَيْبُ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ بِهِ لَا تُقْبَلُ كَمَا لَوْ ادَّعَى عَيْنًا أَنَّهُ لَهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّهُ مَلَكَهُ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَنَّهُ مَلَكَهُ لَا تُقْبَلُ، وَمِثْلُهُ دَعْوَى الرَّهْنِ فَشَهِدَ بِهِ بِمُعَايَنَةِ الْقَبْضِ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ الرَّاهِنِ بِقَبْضِهِ لَا تُقْبَلُ.

قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ: الرَّهْنُ فِي هَذَا كَالْغَصْبِ، وَكَذَا الْوَدِيعَةُ لَوْ ادَّعَاهَا فَشَهِدَا بِإِقْرَارِ الْمُودَعِ قُبِلَتْ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهَا وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهَا لَا تُقْبَلُ عَلَى قِيَاسِ الْغَصْبِ، وَعَلَى قِيَاسِ الْقَرْضِ تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَ بِشَرْطِ الْوَفَاءِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاعَ بِشَرْطِ الْوَفَاءِ وَالْآخَرُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَرَّ بِذَلِكَ تُقْبَلُ لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ فِي الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ وَاحِدٌ.

وَمِثْلُهُ لَوْ ادَّعَتْ صَدَاقَهَا فَقُلْت وَهَبَتْنِي إيَّاهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْهِبَةِ وَالْآخَرُ عَلَى الْإِبْرَاءِ تُقْبَلُ لِلْمُوَافَقَةِ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ السُّقُوطُ، وَقِيلَ لَا لِلِاخْتِلَافِ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَالْهِبَةَ تَمْلِيكٌ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ إسْقَاطًا يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ وَلِهَذَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.

وَلَوْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِهِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ لَا تُقْبَلُ. وَفِي الْمُحِيطِ: ادَّعَى دَارًا فَشَهِدَ أَنَّهَا دَارُهُ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا لَهُ لَا تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الدَّيْنِ وَالْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ وَالْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِهَا لَا تُقْبَلُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ وَالْآخَرُ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ، وَإِذَا رَاجَعْت الْقَاعِدَةَ الَّتِي أَسْلَفْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ اخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ خَرَّجْت كَثِيرًا مِنْ الْفُرُوعِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِرْثِ)

وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ تَعْقِيبِ الشَّهَادَةِ بِمِلْكٍ مُتَجَدِّدٍ لِحَيٍّ عَنْ مَيِّتٍ عَلَى الشَّهَادَةِ بِمِلْكٍ يَتَجَدَّدُ لِحَيٍّ عَنْ حَيٍّ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً إلَخْ) اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَنَّهُ هَلْ يَتَوَقَّفُ الْقَضَاءُ لِلْوَارِثِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَرِّ

ص: 456

أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ) وَأَصْلُهُ أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ مِلْكُ الْمُورَثِ لَا يَقْضِي بِهِ لِلْوَارِثِ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله. هُوَ يَقُولُ: إنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مِلْكُ الْمُورَثِ فَصَارَتْ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِلْمُورَثِ شَهَادَةٌ بِهِ لِلْوَارِثِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: إنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مُتَجَدِّدٌ فِي حَقِّ الْعَيْنِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْجَارِيَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَيَحِلُّ لِلْوَارِثِ الْغَنِيِّ مَا كَانَ صَدَقَةً عَلَى الْمُورَثِ الْفَقِيرِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّقْلِ، إلَّا أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالشَّهَادَةِ عَلَى قِيَامِ مِلْكِ الْمُورَثِ وَقْتَ الْمَوْتِ لِثُبُوتِ الِانْتِقَالِ ضَرُورَةً، وَكَذَا عَلَى قِيَامِ يَدِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَقَدْ وُجِدَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْيَدِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَأْجِرِ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِهِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ

وَالنَّقْلِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ فِي شَهَادَتِهِمْ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِهَذَا الْمُدَّعِي. فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ نَعَمْ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (هُوَ يَقُولُ مِلْكُ الْمُورَثِ مِلْكُ الْوَارِثِ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِلْكَهُ خِلَافَةً، وَلِهَذَا يُخَاصِمُ وَيَرُدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ وَيَصِيرُ مَغْرُورًا إذَا كَانَ الْمُورَثُ مَغْرُورًا، فَالشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِلْمُورَثِ شَهَادَةٌ بِهِ لَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَمْرٍ زَائِدٍ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ بِهِ لَهُ، وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ وَهُوَ شَهَادَتُهُمْ أَنَّهُ كَانَ مِلْكَ الْمَيِّتِ بِلَا زِيَادَةٍ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهَا لِأَبِيهِ لَا تُقْبَلُ ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ بِلَا ذِكْرِ خِلَافٍ؛ فَقِيلَ تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ (وَهُمَا يَقُولَانِ مِلْكُ الْوَارِثِ مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ فِي الْعَيْنِ حَتَّى وَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ اسْتِبْرَاءُ الْجَارِيَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَيَحِلُّ لِلْوَارِثِ الْغَنِيِّ مَا كَانَ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمُورَثِ الْفَقِيرِ) وَلَوْ زَكَاةَ أَوْ كَفَّارَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِمَا الْجَرَّ وَالِانْتِقَالَ غَيْرَ أَنَّهُ

ص: 457

الْجَرِّ وَالنَّقْلِ (وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدِهِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ) لِأَنَّ الْأَيْدِي عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ بِوَاسِطَةِ الضَّمَانِ وَالْأَمَانَةُ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالتَّجْهِيلِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى قِيَامِ مِلْكِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ

لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ ذَلِكَ نَصًّا بَلْ إمَّا نَصًّا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ أَوْ شَهِدَا بِالْمِلْكِ لِلْمُورَثِ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَهُوَ الْيَدُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَتَجَدُّدُ مِلْكِ الْوَارِثِ غَيْرُ لَازِمٍ شَرْعِيٍّ لِمَا شَهِدُوا بِهِ بَلْ لَازِمٌ لِقِيَامِهِ حَالَ الْمَوْتِ.

إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَارٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ أَعَارَهَا أَوْ أَوْدَعَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَلَا يُكَلَّفُ لِلْبَيِّنَةِ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ.

أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَقْتَ الْمَوْتِ أَوْ الْيَدِ وَقْتَ الْمَوْتِ تَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ، وَقَدْ وُجِدَ الثَّانِي فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْيَدَ عِنْدَ الْمَوْتِ حَيْثُ شَهِدَ أَنَّهَا مُعَارَةٌ مِنْهُ أَوْ مُودَعَةٌ عِنْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَأْجِرِ كَيَدِ الْمُعِيرِ وَأَخَوَيْهِ، وَقَدْ طُولِبَا بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَمَا إذَا شَهِدَا لِمُدَّعِي مِلْكِ عَيْنٍ فِي يَدِ رَجُلٍ بِأَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَ الْمُدَّعِي أَوْ أَنَّهُ كَانَ مَلَكَهَا حَيْثُ يَقْضِي بِهَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا أَنَّهَا مِلْكُهُ إلَى الْآنَ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا لِمُدَّعِي عَيْنٍ فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَذُو الْيَدِ يُنْكِرُ مِلْكَ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِذَا شَهِدَا بِمِلْكِهِ قُضِيَ لِلْمُشْتَرِي بِهِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّا عَلَى أَنَّهَا مِلْكُهُ يَوْمَ الْبَيْعِ، وَهَذِهِ أَشْبَهُ بِمَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الشِّرَاءِ وَالْإِرْثِ يُوجِبُ تَجَدُّدَ الْمِلْكِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَنُصَّا عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِهِ حَالَةَ الْمَوْتِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِصْحَابِ وَالثَّابِتُ بِهِ بِحُجَّةٍ لِإِبْقَاءِ الثَّابِتِ لَا لِإِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْوَارِثِ، بِخِلَافِ مُدَّعِي الْعَيْنِ فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالِاسْتِصْحَابِ بَقَاءُ مِلْكِهِ لَا تَجَدُّدُهُ، وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ فَإِنَّ الْمِلْكَ مُضَافٌ إلَيْهِ لَا إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لِثُبُوتِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي مِنْ بَقَائِهِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ آخِرُهُمَا وُجُودًا وَهُوَ سَبَبٌ مَوْضُوعٌ لِلْمِلْكِ حَتَّى لَا يَتَحَقَّقُ لَوْ لَمْ يُوجِبْهُ فَيَكُونُ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْبَيِّنَةِ.

أَمَّا هُنَا فَثُبُوتُ مِلْكِ الْوَارِثِ مُضَافٌ إلَى كَوْنِ الْمَالِ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا إلَى الْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا مَوْضُوعًا لِلْمِلْكِ بَلْ عِنْدَهُ يَثْبُتُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَارِغٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. هَذَا إذَا شَهِدَا أَنَّهَا كَانَتْ مُعَارَةً أَوْ مُودَعَةً (فَلَوْ شَهِدَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ أَبِيهِ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدِهِ وَالْأَبُ) هُوَ

ص: 458

(وَإِنْ قَالُوا لِرَجُلٍ حَيٍّ نَشْهَدُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي مُنْذُ شَهْرٍ لَمْ تُقْبَلْ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْيَدَ مَقْصُودَةٌ كَالْمِلْكِ؛ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَهُ تُقْبَلُ فَكَذَا هَذَا صَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا بِالْأَخْذِ مِنْ الْمُدَّعِي. وَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ بِمَجْهُولٍ لِأَنَّ الْيَدَ مُنْقَضِيَةٌ وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى مِلْكٍ وَأَمَانَةٍ وَضَمَانٍ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِإِعَادَةِ الْمَجْهُولِ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ، وَبِخِلَافِ الْآخِذِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَحُكْمُهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ، وَلِأَنَّ يَدَ ذِي الْيَدِ مُعَايِنٌ وَيَدُ الْمُدَّعِي مَشْهُودٌ بِهِ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ

الْمُرَادُ بِلَفْظِ فُلَانٍ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إنَّهُمَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ: يَعْنِي أَبَا الْوَارِثِ الْمُدَّعِي جَازَتْ الشَّهَادَةُ فَيَقْضِي بِالدَّارِ لِلْوَارِثِ لِإِثْبَاتِهِمَا الْيَدَ لِلْمَيِّتِ إلَى حِينِ الْمَوْتِ، وَبِذَلِكَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ لِأَنَّ الْيَدَ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ إلَى يَدِ عَصَبٍ وَأَمَانَةٍ وَمِلْكٍ، فَإِنَّهَا عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ تَصِيرُ يَدَ مِلْكٍ، لِمَا عُرِفَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْغَاصِبِ وَالْمُودَعِ إذَا مَاتَ مُجْهَلًا يَصِيرُ الْمَغْصُوبُ الْوَدِيعَةُ مِلْكَهُ لِصَيْرُورَتِهِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ شَرْعًا، وَلَا يَجْتَمِعُ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ مَالِكِ الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّ أَبَاهُ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ وَمَاتَ فِيهَا أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا حَتَّى مَاتَ، أَوْ أَنَّهُ مَاتَ فِيهَا أَوْ أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى هَذَا الْبِسَاطِ أَوْ نَائِمٌ عَلَى هَذَا الْفِرَاشِ، أَوْ أَنَّهُ مَاتَ وَهَذَا الثَّوْبُ مَوْضُوعٌ عَلَى رَأْسِهِ لَا تُقْبَلُ حَتَّى لَا يَسْتَحِقَّ الْوَارِثُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهَا تُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُورَثِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِقَوْلِهِ بِوَاسِطَةِ الضَّمَانِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَيْسَتْ مُوجِبَةً لِلضَّمَانِ.

قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: لَا تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَى الْمَحَلِّ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى لَا يَصِيرَ غَاصِبًا وَلَا يَصِيرَ ذُو الْيَدِ مُقِرًّا بِذَلِكَ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ بِالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَاللُّبْسِ فَإِنَّ الْيَدَ تَثْبُتُ بِهَا وَيَصِيرُ

ص: 459

(وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُفِعَتْ إلَى الْمُدَّعِي) لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ (وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ

بِهَا غَاصِبًا. هَذَا إذَا شَهِدَ كَذَلِكَ لِمَيِّتٍ، فَلَوْ شَهِدَا لِحَيٍّ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ كَذَلِكَ: أَيْ شَهِدَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ هَذَا الْمُدَّعِي مُنْذُ شَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ لَمْ يَذْكُرَا وَقْتًا، فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ هِيَ كَاَلَّتِي لِلْمَيِّتِ فَيَقْضِي لِلْمُدَّعِي بِالْعَيْنِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَالَا: لَا يَقْضِي بِهَا لِلْمُدَّعِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ. لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْيَدَ مَقْصُودَةٌ كَالْمِلْكِ، وَلَوْ شَهِدَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُدَّعِي تُقْبَلُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْفُرُوعِ اسْتِصْحَابًا لِمِلْكِهِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَى كَذَا هُنَا اسْتِصْحَابًا لِيَدِهِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَى وَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْهُ يَقْضِي بِالرَّدِّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ.

وَجْهُ الظَّاهِرِ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الشَّهَادَةَ مَعَ كَوْنِهَا بِيَدِهِ مُنْقَضِيَةً شَهَادَةً بِمَجْهُولٍ لِأَنَّ الْيَدَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى مِلْكٍ وَأَمَانَةٍ وَضَمَانٍ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَحَدُهَا بِعَيْنِهِ لِتَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِمَجْهُولٍ، بِخِلَافِ مِثْلِهَا فِي الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَزِمَ أَحَدَهَا بِعَيْنِهِ بِالْمَوْتِ وَهُوَ يَدُ الْمِلْكِ فَأَمْكَنَ الْقَضَاءُ، وَبِخِلَافِ الْأَخْذِ فَإِنَّ لَهُ مُوجِبًا مَعْلُومًا وَهُوَ الرَّدُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَخْذٌ إلَى أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ ثُبُوتُ أَنَّهُ أَخَذَ حَقَّهُ.

قَالَ عليه الصلاة والسلام «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ فَيَقْضِيَ بِهِ» وَأَيْضًا الْيَدُ مُعَايِنٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَدُ الْمُدَّعِي مَشْهُودٌ بِهِ مُخْبَرٌ عَنْهُ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ فَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يَقْضِي بِهِ لِلْمُدَّعِي. وَاسْتَشْكَلَ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ مَعَ ذِي الْيَدِ، وَكَذَا بِبَيِّنَةِ مُدَّعِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ مَعَ ذِي الْيَدِ حَيْثُ تَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَمُدَعِّي الْمِلْكِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مُسَلَّمٌ فِيمَا لَا يَتَنَوَّعُ كَبَيِّنَةِ الْخَارِجِ وَمُدَّعِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِخِلَافِ مَا يَتَنَوَّعُ. وَهَذَا الْجَوَابُ حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُعَايَنَةَ كَانَتْ تُقَدَّمُ لَوْ لَمْ تَلْزَمْ الْجَهَالَةُ فِي الْمَقْضِيِّ وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ يَصِيرُ إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَيَبْطُلُ اسْتِقْلَالُ الثَّانِي بِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ (قَوْلُهُ وَإِنْ أَقَرَّ إلَخْ) يَعْنِي لَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالدَّارِ الَّتِي فِي يَدِهِ هَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي دُفِعَتْ لِلْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ مُتَنَوِّعَةً لِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ جَهَالَةٌ فِي الْمُقَرِّ بِهِ وَهِيَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بَلْ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ بِالْبَيَانِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ صَحَّ وَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقَرَّ بِأَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَإِنَّمَا الْجَهَالَةُ فِي الْمُقَرِّ بِهِ وَهِيَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَضَاءِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَشَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ شَيْئًا جَازَتْ وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ.

[تَتِمَّةٌ] شَرْطُ الشَّهَادَةِ بِالْإِرْثِ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ كَانَ لِمُورَثِهِ، فَلَوْ قَالُوا إنَّهُ لِمُورَثِهِ تَقَدَّمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله قَالَ: لَا يَصِحُّ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا، لِأَنَّ الْمُورَثَ إنْ كَانَ حَيًّا فَالْمُدَّعِي لَيْسَ خَصْمًا، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَإِثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْمَيِّتِ حَالًّا مُحَالٌ وَتَقَدَّمَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّهَا تَصِحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ الشَّاهِدَ لَمْ يُرِدْ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ مَلَكَهُ حَالَ حَيَاتِهِ فَكَانَ كَالْأَوَّلِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَ الشُّهُودُ الْمَيِّتَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمِلْكِ لَا تَجُوزُ بِالتَّسَامُعِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنُوا جِهَةَ الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى لَوْ قَالُوا أَخُوهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يَقُولُوا لِأَبِيهِ أَوْ لِأُمِّهِ أَوْ لَهُمَا لِأَنَّ الْإِرْثَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِهَاتِ، وَكَذَا لَوْ قَالُوا كَانَ لِجَدِّهِ وَلَمْ يَقُولُوا مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِأَبِيهِ ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّةِ غَيْرَ أَنَّهُ يُسْأَلُ الْبَيِّنَةَ عَنْ عَدَدِ الْوَرَثَةِ لِلْقَضَاءِ.

وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ لِمُورَثِهِ تَرَكَهُ مِيرَاثًا لَهُ وَلَمْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرِثُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ لَا يَقْضِي لِاحْتِمَالِ عَدَمِ

ص: 460

أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي دُفِعَتْ إلَيْهِ) لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ هَاهُنَا الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَعْلُومٌ.

(بَابٌ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ)

قَالَ (الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ

اسْتِحْقَاقِهِ أَوْ يَرِثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ يُحْتَاطُ لِلْقَاضِي وَيَنْتَظِرُ مُدَّةً هَلْ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ أَمْ لَا ثُمَّ يَقْضِي بِكُلِّهِ، وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ يَخْتَلِفُ فِي الْأَحْوَالِ يَقْضِي بِالْأَقَلِّ؛ فَيَقْضِي فِي الزَّوْجِ بِالرُّبْعِ وَالزَّوْجَةِ بِالثُّمُنِ إلَّا أَنْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَقْضِي بِالْأَكْثَرِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَلَيْسَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ وَيَأْخُذُ الْقَاضِي كَفِيلًا عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ قَالُوا: لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ كَفَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.

[فُرُوعٌ] إذَا شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَلَمْ يَذْكُرَا سَبَبًا يَرِثُ بِهِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ حَتَّى يُبَيِّنَا سَبَبَ الْإِرْثِ، وَكَذَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ أَخُوهُ أَوْ عَمُّهُ أَوْ ابْنُ عَمِّهِ أَوْ جَدُّهُ أَوْ جَدَّتُهُ لَا تُقْبَلُ حَتَّى يُبَيِّنَا طَرِيقَ الْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ: أَيْ يُبَيِّنَا الْأَسْبَابَ الْمُوَرِّثَةَ لِلْمَيِّتِ أَنَّهُ لِأَبٍ أَوْ شَقِيقٌ وَيَنْسُبَا الْمَيِّتَ وَالْوَارِثَ حَتَّى يَلْتَقِيَا إلَى أَبٍ وَاحِدٍ، وَيَذْكُرُ أَيْضًا أَنَّهُ وَارِثُهُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ قَوْلُهُ إرْثُهُ فِي الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْوَلَدِ؟ قِيلَ يُشْتَرَطُ وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَوْلُهُ وَارِثُهُ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ لَا يُحْجَبُ بِحَالٍ لَا يُشْتَرَطُ قَوْلُهُ وَارِثُهُ. وَفِي الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِ الْمَيِّتِ أَوْ بِنْتُ ابْنِهِ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ.

وَفِي الشَّهَادَةِ أَنَّهُ مَوْلَاهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ اسْمِ أَبٍ الْمَيِّتِ، حَتَّى لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ جَدُّ الْمَيِّتِ أَبُو أَبِيهِ وَوَارِثُهُ وَلَمْ يُسَمُّوا أَبَا الْمَيِّتِ قُبِلَتْ.

وَفِي الْأَقْضِيَةِ شَهِدَا أَنَّهُ جَدُّ الْمَيِّتِ وَقَضَى لَهُ بِهِ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَادَّعَى أَنَّهُ أَبُو الْمَيِّتِ وَبَرْهَنَ فَالثَّانِي أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ وَوَارِثُهُ فَقَضَى بِهِ ثُمَّ شَهِدَ هَذَانِ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ بَلْ يَضْمَنَانِ لِلِابْنِ مَا أَخَذَ الْأَوَّلُ مِنْ الْإِرْثِ، وَلَوْ شَهِدَ آخَرَانِ أَنَّ الثَّانِيَ ابْنُ الْمَيِّتِ تُقْبَلُ. وَفِي الزِّيَادَاتِ: شَهِدَا أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ قَضَى بِأَنَّ هَذَا وَارِثٌ فَلِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَالْقَاضِي يَحْتَاطُ وَيَسْأَلُ الْمُدَّعِي عَنْ نَسَبِهِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ أَمْضَى الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ فِي الْحَالِ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ وَارِثُهُ، فَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الْأَوَّلِ قَضَى لِلثَّانِي، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَإِنْ زَاحَمَهُ بِأَنْ كَانَ مَثَلًا الْأَوَّلُ ابْنًا وَالثَّانِي أَبًا قَضَى بِالْمِيرَاثِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا.

(بَابٌ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ)

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ (قَوْلُهُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ)

ص: 461

جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، إذْ شَاهِدُ الْأَصْلِ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِبَعْضِ الْعَوَارِضِ، فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَدَّى إلَى إتْوَاءِ الْحُقُوقِ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ، إلَّا أَنَّ فِيهَا شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ الْبَدَلِيَّةُ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا زِيَادَةَ احْتِمَالٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.

جَائِزَةٌ فِي كُلِّ (حَقٍّ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ) فَخَرَجَ مَا لَا يَثْبُتُ مَعَهَا وَهُوَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ. فَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَفِي الْأَجْنَاسِ مِنْ نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ: يَجُوزُ فِي التَّعْزِيرِ الْعَفْوُ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ.

وَنَصَّ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ عَلَى أَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي الْأَقَارِيرِ وَالْحُقُوقِ وَأَقْضِيَةِ الْقُضَاةِ وَكُتُبِهِمْ وَكُلِّ شَيْءٍ إلَّا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، وَبِقَوْلِنَا هَذَا قَالَ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَأَصَحُّ قَوْلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَيْضًا لِأَنَّ الْفُرُوعَ عُدُولٌ، وَقَدْ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ فَالْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ لَا بِشَهَادَتِهِمْ وَصَارُوا كَالْمُتَرْجِمِ وَسَيَنْدَفِعُ (قَوْلُهُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ) أَيْ جَوَازُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَجَبَتْ عَلَى الْأَصْلِ وَلَيْسَتْ بِحَقٍّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ حَتَّى لَا تَجُوزَ الْخُصُومَةُ فِيهَا وَالْإِجْبَارُ عَلَيْهَا.

وَالنِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ كَوْنَ قَوْلِ إنْسَانٍ يَنْفُذُ عَلَى مِثْلِهِ وَيَلْزَمُهُ مَا نَسَبَهُ إلَيْهِ

ص: 462

(وَتَجُوزُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ). وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجُوزُ إلَّا الْأَرْبَعُ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ اثْنَانِ لِأَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ قَائِمَانِ مَقَامَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ فَصَارَا كَالْمَرْأَتَيْنِ

وَهُوَ يَنْفِيهِ وَيَبْرَأُ مِنْهُ إنَّمَا عُرِفَ حُجَّةً شَرْعًا عِنْدَ قَدْرٍ مِنْ احْتِمَالِ الْكَذِبِ وَهُوَ مَا فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ مِنْ الْكَذِبِ وَالسَّهْوِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً كَذَلِكَ عِنْدَ زِيَادَةِ الِاحْتِمَالِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ الثَّابِتُ ضَعْفَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ وَهُوَ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعَيْنِ وَإِنْ اخْتَلَفَ مَحَلُّ الْأَدَاءِ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ فِي الْأَصْلَيْنِ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْمُدَّعِي وَفِي الْفَرْعَيْنِ مَا يَشْهَدَانِ بِهِ مِنْ شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْحَقِّ الْمُدَّعَى بِهِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الشَّاهِدُ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْأَدَاءِ لِمَوْتِهِ أَوْ لِغَيْبَتِهِ أَوْ مَرَضِهِ فَيَضِيعُ الْحَقُّ أَثْبَتَهَا أَهْلُ الْإِجْمَاعِ صِيَانَةً لِحُقُوقِ النَّاسِ.

لَا يُقَالُ: يُسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ بِجِنْسِ الشُّهُودِ بِأَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَى كُلِّ حَقٍّ عَشَرَةٌ مَثَلًا فَيَبْعُدُ مَوْتُ الْكُلِّ قَبْلَ دَعْوَى الْمُدَّعِي. لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُدَّعِي جَازَ كَوْنُهُ وَارِثَ وَارِثِ صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى مِثْلِهِ، وَقَدْ انْقَرَضَ الْكُلُّ فَالْحَاجَةُ مُتَحَقِّقَةٌ إلَيْهَا، وَلَمَّا كَانَتْ الْحُقُوقُ مِنْهَا مَا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ وَمِنْهَا مَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ الِاحْتِيَاطَ فِي دَرْئِهِ وَهُوَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ لَوْ أَجَزْنَا فِيهَا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَعَ ثُبُوتِ ضَعْفِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ كَانَ خِلَافًا لِلشَّرْعِ وَالْمُصَنِّفُ عَلَّلَ بِهَذَا وَبِمَا فِيهَا مِنْ شُبْهَةِ الْبَدَلِيَّةِ، فَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ بَدَلًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ أَصْلٍ مَعَ فَرَعَيْنَ، إذْ الْبَدَلُ لَا يُجَامِعُ الْأَصْلَ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَدَلِيَّةَ هُنَا بِحَسَبِ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَإِنَّا عَلِمْنَا بِثُبُوتِ الْمَشْهُودِ بِهِ لِلْأُصُولِ فِيهِ شُبْهَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ أُخْرَى لَا بِحَسَبِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ عِيَانٌ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَبَعْدَ تَحَمُّلِهِ يَرُدُّهُ إلَى التَّعْلِيلِ الْآخَرِ وَهُوَ كَثْرَةُ الِاحْتِمَالِ بِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ فَلَا يَكُونَانِ تَعْلِيلَيْنِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، لَا جَرَمَ أَنَّ أَصْلَ السُّؤَالِ غَيْرُ وَارِدٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَدَلِيَّةِ وَالْمُصَنِّفُ إنَّمَا قَالَ فِيهِ شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ لَا حَقِيقَتُهَا.

فَإِنْ قِيلَ: ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أَنَّ قَاضِي بَلَدِ كَذَا حَدَّ فُلَانًا فِي قَذْفٍ تُقْبَلُ حَتَّى تَرِدَ شَهَادَةُ فُلَانٍ. أُجِيبَ بِأَنْ لَا نَقْضَ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الْقَاضِي وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ الشَّهَادَةُ بِوُقُوعِ أَسْبَابِهَا الْمُوجِبَةِ لَهَا، فَأَوْرَدَ أَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي مُوجِبٌ لِرَدِّهَا وَرَدُّهَا مِنْ حَدِّهِ فَهُوَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ.

أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ الْمُوجِبُ لِرَدِّهَا إنْ كَانَ مِنْ حَدِّهِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ هُوَ الْقَذْفُ نَفْسُهُ عَلَى أَنَّ فِي الْمُحِيطِ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ

(قَوْلُهُ وَتَجُوزُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ) أَوْ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ (عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ) يَعْنِي إذَا شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ كُلٍّ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ فَيَكُونُ لَهُمَا شَهَادَتَانِ شَهَادَتُهُمَا مَعًا عَلَى شَهَادَةِ هَذَا وَشَهَادَتُهُمَا أَيْضًا عَلَى شَهَادَةِ الْآخَرِ.

أَمَّا لَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا بِمَعْنَى شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلٍ وَالْآخَرُ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا لَكِنْ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.

وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْعَنْبَرِيِّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَإِسْحَاقَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ، لِأَنَّ الْفَرْعَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ رَسُولِهِ فِي إيصَالِ

ص: 463

وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه: لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، وَلِأَنَّ نَقْلَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ مِنْ الْحُقُوقِ فَهُمَا شَهِدَا بِحَقٍّ ثُمَّ شَهِدَا بِحَقٍّ آخَرَ فَتُقْبَلُ.

(وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ) لِمَا رَوَيْنَا، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رحمه الله، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِصَابِ الشَّهَادَةِ.

(وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ

شَهَادَتِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَأَنَّهُ شَهِدَ بِنَفْسِهِ وَاعْتَبَرُوهُ بِرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ (وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: لَا تَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ) ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ غَرِيبٌ.

وَاَلَّذِي فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا تَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ الْمَيِّتِ إلَّا رَجُلَانِ. وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ الْأَزْرَقِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى الشَّاهِدِ حَتَّى يَكُونَا اثْنَيْنِ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ كُلٍّ مِنْ الْأَصْلَيْنِ هِيَ الْمَشْهُودُ بِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى كُلِّ مَشْهُودٍ بِهِ شَاهِدَانِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ شَاهِدَةٌ مَعَ الْأُصُولِ لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَتِهَا إلَّا رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا تَجُوزُ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ لِأَنَّ الْفَرْعَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ أَصْلٍ وَاحِدٍ كَالْمَرْأَتَيْنِ، وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِهِمَا كَالْمَرْأَتَيْنِ لَمَّا قَامَتَا مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ كَانَ أَصْلًا فَشَهِدَ شَهَادَةً ثُمَّ شَهِدَ مَعَ فَرْعٍ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ لَا تَجُوزُ اتِّفَاقًا، فَكَذَا إذَا شَهِدَا جَمِيعًا عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ.

وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيِّ تَجُوزُ كَقَوْلِنَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يَنْتَظِمُ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَلِأَنَّ حَاصِلَ أَمْرِهِمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِحَقٍّ هُوَ شَهَادَةُ أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ، ثُمَّ شَهِدَ بِحَقٍّ آخَرَ هُوَ شَهَادَةُ الْأَصْلِ الْآخَرِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ بِحُقُوقٍ كَثِيرَةٍ، بِخِلَافِ أَدَاءِ الْأَصْلِ بِشَهَادَةِ نَفْسِهِ ثُمَّ بِشَهَادَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ مَعَ آخَرَ، فَإِنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِ يَجْتَمِعُ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ بِهِ وَشَهِدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ حَيْثُ يَجُوزُ.

وَقَوْلُهُ (وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ) فِيهِ نَظَرٌ، إذْ كُتُبُهُمْ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ عَلَى الْأَصْلِ لَا تَجُوزُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رِوَايَةً عَنْهُ، وَإِنَّمَا نَقَلَ هَذَا عَمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْجُمْلَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفَرْعَ كَرَسُولٍ، وَكَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ. وَيَدْفَعُهُ مَا ذَكَرْنَا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ حَقٌّ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِاثْنَيْنِ. وَذَكَرَ فِي الْمُسْتَوْعَبِ

ص: 464

لِشَاهِدِ الْفَرْعِ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ) لِأَنَّ الْفَرْعَ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ وَالتَّوْكِيلِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ كَمَا يَشْهَدُ عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ (وَإِنْ لَمْ يَقُلْ أَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ جَازَ) لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ إقْرَارَ غَيْرِهِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ (وَيَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَتِهِ، وَذِكْرِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَذِكْرِ التَّحْمِيلِ، وَلَهَا لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا وَأَقْصَرُ مِنْهُ

لِلْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ: لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةِ فُرُوعٍ لِيَشْهَدَ كُلُّ فَرَعَيْنَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلَيْنِ

(قَوْلُهُ وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ) أَيْ إشْهَادُ شَاهِدِ الْأَصْلِ شَاهِدَ الْفَرْعِ (أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ) وَإِنَّمَا شَرَطَ إشْهَادَ الْأَصْلِ الْفَرْعَ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعِ (لِأَنَّهُ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِنَابَةِ) وَذَلِكَ بِالتَّحْمِيلِ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ تَجُوزُ عَلَى الْمُقِرِّ وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ شَاهَدَ أَمْرًا غَيْرَ الشَّهَادَةِ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ كَالْإِقْرَارِ وَالْبَيْعِ وَالْغَصْبِ (عَلَى مَا مَرَّ) يَعْنِي فِي فَصْلِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةَ النَّائِبِ لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ فَرْعَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلٍ وَأَصْلُ الِامْتِنَاعِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ لَكِنَّهُ جَائِزٌ.

وَقَوْلُهُ (وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ) أَيْ شَاهِدُ الْأَصْلِ عِنْدَ الْفَرْعِ (كَمَا يَشْهَدُ) شَاهِدُ الْأَصْلِ (عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهُ الْفَرْعُ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ) شَاهِدُ الْأَصْلِ فِي شَهَادَتِهِ عِنْدَ الْفَرْعِ.

قَوْلُهُ (وَأَشْهَدَنِي) يَعْنِي الْمُقِرَّ (عَلَى نَفْسِهِ) بِذَلِكَ (جَازَ) لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ الْفَرْقِ. وَإِذَا وَقَعَ التَّحْمِيلُ بِمَا ذُكِرَ (فَيَقُولُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ) وَيُعَرِّفُهُ (أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ) فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْفَرْعِ جَرَّ شَاهِدِ الْأَصْلِ فَلَزِمَ فِيهِ خَمْسُ شِينَاتٍ، وَذَلِكَ (لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْفَرْعِ مِنْ شَهَادَتِهِ وَذِكْرِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَالتَّحْمِيلِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَهَا) أَيْ لِشَهَادَةِ الْأَدَاءِ مِنْ الْفَرْعِ (لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا وَأَقْصَرُ)

ص: 465

وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا.

(وَمَنْ قَالَ أَشْهَدَنِي: فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَشْهَدْ السَّامِعُ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ جَمِيعًا حَتَّى اشْتَرَكُوا فِي الضَّمَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا

أَمَّا الْأَطْوَلُ فَأَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا شَهِدَ عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَأَمَرَنِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَأَنَا الْآنَ أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ فَيَلْزَمُ ثَمَانُ شِينَاتٍ، وَأَمَّا الْأَقْصَرُ فَأَنْ يَقُولُ الْفَرْعُ أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ فُلَانٍ بِأَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا فَفِيهِ شِينَانِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ وَأُسْتَاذِهِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَحَكَى فَتْوَى شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ بِهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السَّيْرِ الْكَبِيرِ وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ.

وَحُكِيَ أَنَّ فُقَهَاءَ زَمَنِ أَبِي جَعْفَرٍ خَالَفُوا وَاشْتَرَطُوا زِيَادَةَ تَطْوِيلٍ، فَأَخْرَجَ أَبُو جَعْفَرٍ الرِّوَايَةَ مِنْ السَّيْرِ الْكَبِيرِ فَانْقَادُوا لَهُ. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: فَلَوْ اعْتَمَدَ أَحَدٌ عَلَى هَذَا كَانَ أَسْهَلَ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَى خَمْسِ شِينَاتٍ حَيْثُ حَكَاهُ، وَذَكَرَ أَنَّ ثَمَّ أَطْوَلَ مِنْهُ وَأَقْصَرَ، ثُمَّ قَالَ (وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا) وَذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ شَارِحُ الْقُدُورِيِّ أَقْصَرَ آخَرَ وَهُوَ ثَلَاثُ شِينَاتٍ.

قَالَ: وَيُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثِ لَفَظَاتٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا، ثُمَّ قَالَ: وَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْكِتَابِ: يَعْنِي الْقُدُورِيَّ أَوْلَى وَأَحْوَطُ.

ثُمَّ حَكَى خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ. قَالَ: وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُلْهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ أَنْ يَشْهَدَ مِثْلَ شَهَادَتِهِ وَهُوَ كَذِبٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمَرَهُ عَلَى وَجْهِ التَّحْمِيلِ فَلَا يَثْبُتُ الثَّانِي بِالشَّكِّ.

وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَمْرَ الشَّاهِدِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ فَيُحْمَلُ لِذَلِكَ عَلَى التَّحْمِيلِ انْتَهَى. وَالْوَجْهُ فِي شُهُودِ الزَّمَانِ الْقَوْلُ بِقَوْلِهِمَا وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ الْعَارِفُ الْمُتَدَيِّنُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ خُصُوصًا الْمُتَّخِذَ بِهَا مَكْسَبَةً لِلدَّرَاهِمِ، وَقَوْلُهُمْ فِي إعْطَاءِ الصُّوَرِ: أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ فُلَانٍ وَنَحْوُهَا الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمْثِيلُ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ شَاهِدَ الْأَصْلِ.

قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: شُهُودُ الْفَرْعِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَذْكُرُوا أَسْمَاءَ الْأُصُولِ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ حَتَّى لَوْ قَالَا نَشْهَدُ أَنَّ رَجُلَيْنِ نَعْرِفُهُمَا أَشْهَدَانَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِكَذَا وَقَالَا لَا نُسَمِّيهِمَا. أَوْ لَا نَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمَا لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهُمَا تَحَمَّلَا مُجَازَفَةً لَا عَنْ مَعْرِفَةِ

(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ أَشْهَدَنِي إلَخْ) أَيْ إذَا قَالَ شَاهِدٌ عِنْدَ آخَرَ أَشْهَدَنِي فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذَا لَا يَسَعُ السَّامِعَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ

ص: 466

لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِيَصِيرَ حُجَّةً فَيَظْهَرَ تَحْمِيلُ مَا هُوَ حُجَّةٌ. .

حَتَّى يَقُولَ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ. وَوَجَّهَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ.

أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ يَقُولُ بِاشْتِرَاكِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي الضَّمَانِ إذَا رَجَعُوا، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مُحَمَّدًا يُخَيِّرُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بَيْنَ تَضْمِينِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا يُعْطِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ مِنْ أَنَّهُ يُضَمِّنُ الْكُلَّ مَعًا، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْفُرُوعِ لَا يَرْجِعُونَ عَلَى الْأُصُولِ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ يَتَخَيَّرُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ فِي تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ رَجَعَ عَلَى غَاصِبِهِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا قَالَ فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ (لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ النَّقْلِ) يَعْنِي إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي (لِيَصِيرَ حُجَّةً فَيَظْهَرَ) بِالنَّقْلِ (تَحْمِيلُ مَا هُوَ حُجَّةٌ) يَعْنِي شَهَادَةَ الْأُصُولِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّ وُجُوبَ التَّحْمِيلِ لِوُجُوبِ النَّقْلِ، وَالنَّقْلُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالتَّحْمِيلِ، حَتَّى لَوْ سَمِعَ شَاهِدًا يَقُولُ لِرَجُلٍ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي إلَى آخِرِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَ غَيْرُهُ بِحَضْرَتِهِ، فَإِذَا نَقَلَ ظَهَرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ وُجِدَ الشَّرْطُ وَهُوَ التَّحْمِيلُ فَتَثْبُتُ عِنْدَهُ الْحُجَّةُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَمِعَ قَاضِيًا يَقُولُ لِآخَرَ قَضَيْت عَلَيْك بِكَذَا أَوْ عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى قَضَائِهِ بِلَا تَحْمِيلٍ لِأَنَّ قَضَاءَهُ حُجَّةٌ كَالْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ لَيْسَتْ نَفْسُهَا حُجَّةً حَتَّى تَصِلَ إلَى الْقَاضِي.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَوْنُ النَّقْلِ إلَى الْقَاضِي وَالْحُجِّيَّةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى التَّحْمِيلِ شَرْعًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ عَلَى الْأَصَحِّ

ص: 467

قَالَ (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ يَغِيبُوا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا أَوْ يَمْرَضُوا مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ) لِأَنَّ جَوَازَهَا لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا تُمَسُّ عِنْدَ عَجْزِ الْأَصْلِ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ. وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا السَّفَرَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ وَمُدَّةُ السَّفَرِ بَعِيدَةٌ حُكْمًا حَتَّى أُدِيرَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ فَكَذَا سَبِيلُ هَذَا الْحُكْمِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ صَحَّ الْإِشْهَادُ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ، قَالُوا: الْأَوَّلُ أَحْسَنُ

عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَإِلَّا فَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَمِعَ إقْرَارَ رَجُلٍ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْهُ، بَلْ وَلَوْ مَنَعَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ بِمَا سَمِعَ مِنْهُ فَإِخْرَاجُ الْإِقْرَارِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ بِشَهَادَتِهِ عَلَى فُلَانٍ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مِنْ الشَّرْعِ.

وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ فِي وَجْهِهِ أَمْرًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ لَهُ مَنْفَعَةُ فِي نَقْلِ شَهَادَتِهِ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ إذَا طَلَبَ مِنْهُ مَنْ هِيَ لَهُ؛ وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى التَّوْكِيلِ وَالتَّحْمِيلِ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ إذَا تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ لَكِنْ فِيهَا مَضَرَّةُ إهْدَارِ وِلَايَتِهِ فِي تَنْفِيذِ قَوْلِهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرِهِ وَرِضَاهُ فَيُشْتَرَطُ كَمَنْ لَهُ وِلَايَةُ إنْكَاحِ صَغِيرَةٍ لَوْ نَكَحَهَا إنْسَانٌ لَا بِأَمْرِهِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ

(قَوْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ يَغِيبُوا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) وَلَيَالِيِهَا (فَصَاعِدًا أَوْ يَمْرَضُوا مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ جَوَازَهَا لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا تُمَسُّ عِنْدَ عَجْزِ الْأَصْلِ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا السَّفَرَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ) فَقُدِّرَتْ بِمَسَافَةٍ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ بَعِيدَةً حَتَّى أَثْبَتَ رُخَصًا عِنْدَهَا مِنْ الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ وَامْتِدَادِ مَسْحِ الْخُفِّ وَعَدَمِ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ وَالْجُمُعَةِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ صَحَّ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ، قَالُوا: الْأَوَّلُ أَحْسَنُ) يَعْنِي مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ لِمُوَافَقَتِهِ لِحُكْمِ الشَّرْعِ

ص: 468

وَالثَّانِي أَرْفَقُ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.

قَالَ (فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودَ الْأَصْلِ شُهُودُ الْفَرْعِ جَازَ) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ (وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ فَعَدَّلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ صَحَّ)

(وَالثَّانِي أَرْفَقُ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ) وَفِي الذَّخِيرَةِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ أَخَذُوا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ (وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ) وَذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السَّيْرِ الْكَبِيرِ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ: تَجُوزُ الشَّهَادَةُ كَيْفَمَا كَانَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ فَشَهِدَ الْفَرْعُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى تُقْبَلُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ: يَجِبُ أَنْ تَجُوزَ عَلَى قَوْلِهِمَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ يَجُوزُ عِنْدَهُمَا بِلَا رِضَا الْخَصْمِ، وَعِنْدَهُ لَا إلَّا بِرِضَاهُ وَإِلَّا قُطِعَ، صَرَّحَ بِهِ عَنْهُمَا فَقَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تُقْبَلُ وَإِنْ كَانُوا فِي الْمِصْرِ.

[فُرُوعٌ] خَرِسَ الْأَصْلَانِ أَوْ عَمِيَا أَوْ جُنَّا أَوْ ارْتَدَّا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِسْقًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ

وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الِابْنِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَبِ دُونَ قَضَائِهِ فِي رِوَايَةٍ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ فِيهِمَا: وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ وَآخَرَانِ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ صَحَّ، وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِي النَّسَبِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي.

وَفِي الْأَصْلِ: لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِ الْحَاضِرِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْغَائِبِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، لِأَنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ الْحَاضِرِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ نِصْفُهُ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ وَرُبْعُهُ بِشَهَادَتِهِ مَعَ آخَرَ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْغَائِبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ.

وَلَمْ يَزِدْ فِي شَرْحِ الشَّافِي عَلَى تَعْلِيلِهِ بِأَنَّ شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ نَفْسِهِ أَصْلٌ وَشَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ بَدَلٌ وَلَا يَجْتَمِعَانِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ وَآخَرَانِ عَلَى شَهَادَةِ آخَرَ يَصِحُّ. .

وَلَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَقْضِ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى حَضَرَ الْأَصْلَانِ وَنَهَيَا الْفُرُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ صَحَّ النَّهْيُ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ. وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرُوا. سَمِعَا قَوْلَ حَاكِمٍ حَكَمْت بِكَذَا عَلَى هَذَا ثُمَّ نُصِّبَ حَاكِمٌ غَيْرُهُ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا أَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَا سَمِعَا مِنْ الْقَاضِي فِي الْمِصْرِ أَوْ سَوَادِهِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَقْيَسُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ إنْ سَمِعَاهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَهَذَا أَحْوَطُ

(قَوْلُهُ فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودَ الْأَصْلِ إلَخْ) شُهُودَ الْأَصْلِ مَنْصُوبٌ مَفْعُولًا وَشُهُودُ الْفَرْعِ فَاعِلٌ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ الْفَرْعَانِ فَإِنْ عَلِمَ الْقَاضِي عَدَالَةَ كُلٍّ مِنْ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ قُضِيَ بِمُوجِبِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَدَالَةَ الْأُصُولِ وَعَلِمَ عَدَالَةَ الْفُرُوعِ سَأَلَ الْفُرُوعَ عَنْ عَدَالَةِ الْأُصُولِ فَإِنْ عَدَّلُوهُمْ جَازَ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ فَتُقْبَلُ (وَكَذَا لَوْ شَهِدَا اثْنَانِ فَعَدَّلَ أَحَدُهُمَا) وَهُوَ مَعْلُومُ الْعَدَالَةِ لِلْقَاضِي (الْآخِرَ جَازَ) خِلَافًا لِقَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ

ص: 469

لِمَا قُلْنَا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ لَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ، كَيْفَ وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَةُ صَاحِبِهِ فَلَا تُهْمَةَ. قَالَ (وَإِنْ سَكَتُوا عَنْ تَعْدِيلِهِمْ جَازُوا نَظَرَ الْقَاضِي فِي حَالِهِمْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ إلَّا بِالْعَدَالَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَمْ يَنْقُلُوا الشَّهَادَةَ فَلَا يُقْبَلُ. وَلِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِمْ النَّقْلُ دُونَ التَّعْدِيلِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ، وَإِذَا نَقَلُوا يَتَعَرَّفُ الْقَاضِي الْعَدَالَةَ كَمَا إذَا حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَشَهِدُوا

فِي ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ بِتَعْدِيلِهِ رَفِيقَهُ يَثْبُتُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ، وَذَلِكَ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً إلَى آخِرِهِ، لَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ) يَعْنِي أَنَّ شَهَادَةَ نَفْسِهِ تَتَضَمَّنُ مِثْلَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ الْقَضَاءُ بِهَا، فَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِر الشَّرْعُ مَعَ عَدَالَتِهِ ذَلِكَ مَانِعًا كَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ (وَإِنْ سَكَتُوا) أَيْ الْفُرُوعُ عَنْ تَعْدِيلِ الْأُصُولِ حِينَ سَأَلَهُمْ الْقَاضِي (جَازَتْ) شَهَادَةُ الْفُرُوعِ (وَنَظَرَ الْقَاضِي) فِي حَالِ الْأُصُولِ، فَإِنْ عَدَّلَهُمْ غَيْرُهُمْ قَضَى وَإِلَّا لَا (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ)

إذَا سَكَتُوا أَوْ قَالُوا لَا نَعْرِفُ عَدَالَتَهُمْ (لَا تُقْبَلُ) شَهَادَةُ الْفُرُوعِ لِأَنَّ قَبُولَهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا نَقْلُ شَهَادَةٍ وَلَمْ تَثْبُتْ شَهَادَةُ الْأُصُولِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ) أَيْ الْوَاجِبَ (عَلَى الْفُرُوعِ لَيْسَ إلَّا نَقْلُ) مَا حَمَلَهُمْ الْأُصُولُ (دُونَ تَعْدِيلِهِمْ) فَإِنَّهُ قَدْ يَخْفَى حَالُهُمْ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ إذَا نَقَلُوا مَا حَمَلُوهُمْ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّفَ حَالَهُمْ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ وَصَارَ كَمَا لَوْ حَضَرَ الْأُصُولُ بِنَفْسِهِمْ وَشَهِدُوا وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أَنْ لَيْسَ سُؤَالُ الْقَاضِي الْفُرُوعَ عَنْ الْأُصُولِ لَازِمًا عَلَيْهِ بَلْ الْمَقْصُودُ أَنْ يَتَعَرَّفَ حَالَهُمْ غَيْرَ أَنَّ الْفُرُوعَ حَاضِرُونَ وَهُمْ أَهْلُ التَّزْكِيَةِ إنْ كَانُوا عُدُولًا فَسُؤَالُهُمْ أَقْرَبُ لِلْمَسَافَةِ مِنْ سُؤَالِ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ فَقَدْ قَصُرَتْ الْمَسَافَةُ وَإِلَّا احْتَاجَ إلَى تَعَرُّفِ حَالِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَذَا ذَكَرَ الْخِلَافَ النَّاصِحِيُّ فِي تَهْذِيبِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ وَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ.

ص: 470

قَالَ (وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ الْفَرْعِ) لِأَنَّ التَّحْمِيلَ لَمْ يَثْبُتْ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ وَهُوَ شَرْطٌ.

(وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَا أَخْبَرَانَا أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا فَجَاءَ بِامْرَأَةٍ وَقَالَا:

وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِيمَا إذَا قَالَ الْفُرُوعُ حِينَ سَأَلَهُمْ الْقَاضِي عَنْ عَدَالَةِ الْأُصُولِ لَا نُخْبِرُك بِشَيْءٍ لَمْ تَقْبَلْ شَهَادَتَهُمَا: أَيْ الْفُرُوعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِي الْجَرْحِ كَمَا لَوْ قَالُوا نَتَّهِمُهُمْ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ.

ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَكُونُ جَرْحًا. لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ تَوْقِيفًا فِي حَالِهِمْ فَلَا يَثْبُتُ جَرْحًا بِالشَّكِّ انْتَهَى. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَيُسْأَلُ غَيْرُهُمَا. وَلَوْ قَالَا: لَا نَعْرِفُ عَدَالَتَهُمَا وَلَا عَدَمَهَا، فَكَذَا الْجَوَابُ فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ السُّغْدِيُّ. وَذَكَرَ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَيَسْأَلُ عَنْ الْأُصُولِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقِيَ مَسْتُورًا فَيُسْأَلُ عَنْهُ.

وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي عَدْلٍ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً نَحْوَ عِشْرِينَ سَنَةً وَلَا يُدْرَى أَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ أَمْ لَا؟ فَشَهِدَا عَلَى تِلْكَ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَجِدْ الْحَاكِمُ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ، إنْ كَانَ الْأَصْلُ مَشْهُورًا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَضَى بِشَهَادَتِهِمَا عَنْهُ لِأَنَّ عَثْرَةَ الْمَشْهُورِ يُتَحَدَّثُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ لَا يَقْضِي بِهِ، وَلَوْ أَنَّ فَرَعَيْنَ مَعْلُومًا عَدَالَتُهُمَا شَهِدَا عَنْ أَصْلٍ وَقَالَا لَا خَيْرَ فِيهِ وَزَكَّاهُ غَيْرُهُمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا لَا يُلْتَفَتُ إلَى جَرْحِهِ.

وَفِي التَّتِمَّةِ: إذَا شَهِدَ أَنَّهُ عَدْلٌ لَيْسَ فِي الْمِصْرِ مَنْ يَعْرِفُهُ، فَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَوْضِعٌ لِلْمَسْأَلَةِ: يَعْنِي بِأَنْ تُخْفَى فِيهِ الْمَسْأَلَةُ سَأَلَهُمَا عَنْهُ أَوْ بَعَثَ مَنْ يَسْأَلُهُمَا عَنْهُ سِرًّا، فَإِنْ عَدَّلَاهُ قُبِلَ وَإِلَّا اكْتَفَى بِمَا أَخْبَرَاهُ عَلَانِيَةً (قَوْلُهُ وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ) لِأَنَّ إنْكَارَهُمَا الشَّهَادَةَ إنْكَارٌ لِلتَّحْمِيلِ وَهُوَ شَرْطٌ فِي الْقَبُولِ فَوَقَعَ فِي التَّحْمِيلِ تَعَارُضُ خَبَرِهِمَا بِوُقُوعٍ، وَخَبَرُ الْأُصُولِ بِعَدَمِهِ وَلَا ثُبُوتَ مَعَ التَّعَارُضِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ) هَكَذَا عِبَارَةُ الْجَامِعِ وَتَمَامُهُ فِيهِ. فَيَقُولَانِ قَدْ أَخْبَرَانَا أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا وَيَجِيئَانِ بِامْرَأَةٍ فَيَقُولَانِ لَا نَدْرِي هِيَ هَذِهِ أَمْ لَا؟ قَالَ: يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ الْفُلَانِيَّةُ بِعَيْنِهَا فَأُجِيزُ الشَّهَادَةَ.

وَالْمُصَنِّفُ أَفْرَدَ فَقَالَ (فَجَاءَ بِامْرَأَةٍ) يَعْنِي الْمُدَّعِيَ جَاءَ بِهَا

ص: 471

لَا نَدْرِي أَهِيَ هَذِهِ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنِّسْبَةِ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْحَقَّ عَلَى الْحَاضِرَةِ وَلَعَلَّهَا غَيْرُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِتِلْكَ النِّسْبَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ بِبَيْعٍ مَحْدُودَةً بِذِكْرِ حُدُودِهَا وَشَهِدُوا عَلَى الْمُشْتَرِي لَا بُدَّ مِنْ آخَرَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ الْمَحْدُودَ بِهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْمَذْكُورَةَ فِي الشَّهَادَةِ حُدُودُ مَا فِي يَدِهِ. .

قَالَ (وَكَذَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي)

وَهُوَ أَنْسَبُ وَهَذَا (لِأَنَّ الشَّهَادَةَ) بِالْأَلْفِ (عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنِّسْبَةِ قَدْ تَحَقَّقَتْ) بِالشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْفُرُوعِ (وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي) الْأَلْفَ (عَلَى حَاضِرِهِ جَازَ كَوْنُهَا غَيْرَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْحَاضِرَةِ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ) الَّتِي بِهَا شَهِدَا بِالْأَلْفِ عَلَيْهَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَنَظِيرُ هَذَا إذَا تَحَمَّلُوا شَهَادَةً بِبَيْعٍ مَحْدُودَةً) قَالَ قَاضِي خَانْ: وَهَذَا كَرَجُلَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ فُلَانًا اشْتَرَى دَارًا فِي بَلَدِ كَذَا بِحُدُودِ كَذَا وَلَا يَعْرِفَانِ الدَّارَ بِعَيْنِهَا يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ الْمَحْدُودَةَ بِهَذِهِ الْحُدُودِ فِي يَدِ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيَصِحَّ الْقَضَاءُ.

وَهَذَا التَّصْوِيرُ أَوْفَقُ بِالْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ: تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ بِبَيْعٍ مَحْدُودٍ. وَذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ رحمه الله: وَصَارَ كَرَجُلٍ ادَّعَى مَحْدُودًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَشَهِدَ شُهُودُهُ أَنَّ هَذَا الْمَحْدُودَ الْمَذْكُورَ بِهَذِهِ الْحُدُودِ مِلْكُهُ وَفِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِي غَيْرُ مَحْدُودٍ بِهَذِهِ الْحُدُودِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشُّهُودُ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ أَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ مَحْدُودٌ بِهَذِهِ الْحُدُودِ.

ثُمَّ تَصْوِيرُ الْمُصَنِّفِ يَصْدُقُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي شَفِيعًا وَالْمَحْدُودُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَادَّعَاهُ لِطَلَبِ الشُّفْعَةِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي الْعَيْنُ الَّذِي فِي يَدِي بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ لَيْسَ بِهَذِهِ الْحُدُودِ.

ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (قَالَ) يَعْنِي مُحَمَّدًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي) فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ فَأُجِيزُ الشَّهَادَةَ، وَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ

ص: 472

لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لِكَمَالِ دِيَانَتِهِ وَوُفُورِ وِلَايَتِهِ يَنْفَرِدُ بِالنَّقْلِ (وَلَوْ قَالُوا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسُبُوهَا إلَى فَخِذِهَا) وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الْخَاصَّةُ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي هَذَا، وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامَّةِ وَهِيَ عَامَّةٌ إلَى بَنِي تَمِيمٍ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يُحْصَوْنَ

شَاهِدَيْنِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله (إنْ قَالَا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسِبَاهَا إلَى فَخْذِهَا) إلَى هُنَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا كَتَبَ فِي كِتَابِهِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ أَنَّ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ شَهِدَا عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَاقْضِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي امْرَأَةً فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَقَالَ هِيَ هَذِهِ يَقُولُ لَهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ الَّتِي أَحْضَرْتهَا هِيَ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْكِتَابِ لِتُمْكِنَ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهَا.

وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُ الْقَاضِي وَحْدَهُ لِأَنَّهُ كَشَاهِدِ الْفَرْعِ شَهِدَ عَلَى الْأُصُولِ بِمَا شَهِدُوا بِهِ فَقَالَ إنَّ لِلْقَاضِي زِيَادَةَ وَفَوْرِ وِلَايَةٍ لَيْسَتْ لِلشُّهُودِ فَقَامَتْ تِلْكَ مَعَ دِيَانَتِهِ مَقَامَ قَوْلِ الِاثْنَيْنِ فَانْفَرَدَ بِالنَّقْلِ.

ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَالَ: وَلَوْ قَالُوا فِي هَذَيْنِ فَلَفْظُ قَالَ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ نَقْلًا لِلَفْظِ الْجَامِعِ عَلَى مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا: أَيْ قَالَ فِي الْجَامِعِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ قَالَا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ: أَيْ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي هِيَ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَكْفِ حَتَّى يَنْسِبُوهَا إلَى فَخْذِهَا، يُرِيدُ الْقَبِيلَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي لَيْسَ مَنْ دُونَهَا أَخَصُّ مِنْهَا، وَهَذَا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ اللُّغَوِيِّينَ وَهُوَ فِي الصِّحَاحِ.

وَفِي الْجَمْهَرَةِ جَعَلَ الْفَخْذَ دُونَ الْقَبِيلَةِ وَفَوْقَ الْبَطْنِ وَأَنَّهُ بِتَسْكِينِ الْخَاءِ وَالْجَمْعُ أَفْخَاذٌ، وَجَعَلَهُ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ الْبَطْنِ

وَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَالزُّبَيْرُ فَقَالَ: وَالْعَرَبُ عَلَى سِتِّ طَبَقَاتٍ: شَعْبٌ، وَقَبِيلَةٌ، وَعِمَارَةٌ، وَبَطْنٌ، وَفَخْذٌ، وَفَصِيلَةٌ؛ فَالشَّعْبُ تَجْمَعُ الْقَبَائِلَ، وَالْقَبِيلَةُ تَجْمَعُ الْعَمَائِرَ، وَالْعِمَارَةُ تَجْمَعُ الْبُطُونَ، وَالْبَطْنُ تَجْمَعُ الْأَفْخَاذَ وَالْفَخْذُ يَجْمَعُ الْفَصَائِلَ؛ فَمُضَرُ شَعْبٌ وَكَذَا رَبِيعَةُ وَمَذْحِجُ وَحِمْيَرُ، وَسُمِّيَتْ شُعُوبًا لِأَنَّ الْقَبَائِلَ تَتَشَعَّبُ مِنْهَا، وَكِنَانَةُ قَبِيلَةٌ، وَقُرَيْشٌ عِمَارَةُ، وَقُصَيٌّ بَطْنٌ، وَهَاشِمٌ فَخْذُ، وَالْعَبَّاسُ فَصِيلَةٌ.

وَعَلَى هَذَا فَلَا يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِالْفَخْذِ مَا لَمْ يَنْسُبْهَا إلَى الْفَصِيلَةِ لِأَنَّهَا دُونَهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} وَقَدَّمْنَا فِي فَصْلِ الْكَفَاءَةِ مَنْ ذَكَرَ بَعْدَ

ص: 473

وَيَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَخِذِ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ. وَقِيلَ الْفَرْغَانِيَّةُ نِسْبَةٌ عَامَّةٌ وَالْأُوزَجَنْدِيَّةُ خَاصَّةٌ، (وَقِيلَ السَّمَرْقَنْدِيَّة وَالْبُخَارِيَّةُ عَامَّةٌ) وَقِيلَ إلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ، وَإِلَى الْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ وَالْمِصْرِ عَامَّةٌ.

ثُمَّ التَّعْرِيفُ وَإِنْ كَانَ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رحمه الله عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، فَذِكْرُ الْفَخِذِ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ لِأَنَّهُ اسْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْجَدِّ الْأَدْنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ)

الْفَصِيلَةِ الْعَشِيرَةَ.

وَالْعِمَارَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَالشَّعْبُ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَأَسْلَفْنَا هُنَاكَ ذِكْرَهَا مَنْظُومَةً فِي شَعْرٍ. ثُمَّ إنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ نَحْوِ التَّمِيمِيَّةِ لِأَنَّهَا نِسْبَةٌ عَامَّةٌ فَلَا يَحْصُلُ بِهَا التَّعْرِيفُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ ذَلِكَ.

وَنَقَلَ فِي الْفُصُولِ عَنْ قَاضِي خَانْ: إنْ حَصَلَ التَّعْرِيفُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَلَقَبِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْجَدِّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ بِذِكْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ. وَفِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ مِنْ فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ: رَأَيْت بِخَطِّ ثِقَةٍ: لَوْ ذَكَرَ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَفَخِذَهُ وَصِنَاعَتَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَدَّ تُقْبَلُ. وَشَرْطُ التَّعْرِيفِ ذِكْرُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. فَعَلَى هَذَا لَوْ ذَكَرَ لَقَبَهُ وَاسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ هَلْ يَكْفِي؟ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْفِي. وَفِي اشْتِرَاطِ ذِكْرِ الْجَدِّ اخْتِلَافٌ، فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِدُونِ ذِكْرِ الْجَدِّ يَنْفُذُ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، قَالَ: كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ. وَلَا يَخْفَى أَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّعْرِيفِ أَنْ يُنْسَبَ إلَى أَنْ يَعْرِفَهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَعْرِفُهُ، وَلَوْ نَسَبَهُ إلَى مِائَةِ جَدٍّ وَإِلَى صِنَاعَتِهِ وَمَحَلَّتِهِ بَلْ لِيَثْبُتَ بِذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ وَيَزُولَ الِاشْتِرَاكُ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَتَّفِقُ اثْنَانِ فِي اسْمِهِمَا وَاسْمِ أَبِيهِمَا وَجَدِّهِمَا أَوْ صِنَاعَتِهِمَا وَلَقَبِهِمَا، فَمَا ذُكِرَ عَنْ قَاضِي خَانْ مِنْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْرَفْ مَعَ ذِكْرِ الْجَدِّ لَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ.

الْأَوْجَهُ مِنْهُ مَا نَقَلَ فِي الْفُصُولِ مِنْ أَنَّ شَرْطَ التَّعْرِيفِ ذِكْرُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي اللَّقَبِ مَعَ الِاسْمِ هَلْ هُمَا وَاحِدٌ أَوْ لَا، وَنَظِيرُ مَا ذُكِرَ فِي النَّسَبِ مَا ذُكِرَ فِي النِّسْبَةِ إلَى الْبُلْدَانِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُعْرَفُ لَهُ نِسْبَةٌ إلَى جَدٍّ مَشْهُورٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْفَرْغَانِيَّةُ وَكَذَا الْبَلْخِيَّةُ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ (وَقِيلَ السَّمَرْقَنْدِيَّة وَالْبُخَارِيَّةُ عَامَّةٌ) بِخِلَافِ الْأُوزْجَنْديَّةِ (وَقِيلَ) فِي النِّسْبَةِ (إلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ وَإِلَى الْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ وَالْمِصْرِ عَامَّةٌ) ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (ثُمَّ التَّعْرِيفُ وَإِنْ كَانَ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ) فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ ذِكْرَ الْجَدِّ (عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، فَذِكْرُ الْفَخِذِ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ لِأَنَّ الْفَخِذَ اسْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى) أَيْ الْجَدُّ الْأَعْلَى فِي ذَلِكَ الْفَخِذِ الْخَاصِّ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْجَدِّ الْخَاصِّ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَنْقُولِ فِي الْجَامِعِ: إنْ قَالَا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ فُلَانَةُ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسُبَاهَا إلَى فَخِذِهَا، فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِيمَا إذَا قَالَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ جَدٍّ، فَعُلِمَ أَنَّ الْفُلَانِيَّةَ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ إذَا كَانَ نِسْبَةٌ إلَى أَخَصِّ الْآبَاءِ.

(فَصْلٌ)

ص: 474

(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: شَاهِدُ الزُّورِ أُشَهِّرُهُ فِي السُّوقِ وَلَا أُعَزِّرُهُ. وَقَالَا: نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: شَاهِدُ الزُّورِ إلَخْ) أَخَّرَ حُكْمَ شَهَادَةِ الزُّورِ لِأَنَّهَا خِلَافُ الْأَصْلِ، إذْ الْأَصْلُ الصِّدْقُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِطْرَةِ كَوْنُهَا عَلَى الْحَقِّ وَالِانْحِرَافُ عَنْهُ لِعَارِضٍ مِنْ قِبَلِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ، وَشَاهِدُ الزُّورِ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَلَا يُحْكَمُ بِهِ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الدَّعْوَى أَوْ الشَّاهِدَ الْآخَرَ أَوْ تَكْذِيبُ الْمُدَّعِي لَهُ إذْ قَدْ يَكُونُ مُحِقًّا فِي الْمُخَالَفَةِ أَوْ لِلْمُدَّعِي غَرَضٌ فِي أَذَاهُ.

وَزَادَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِ وَاحِدٍ فَيَجِيءَ حَيًّا، وَلَوْ قَالَ غَلِطْت أَوْ ظَنَنْت ذَلِكَ قِيلَ هُمَا بِمَعْنَى كَذَبْت لِإِقْرَارِهِ بِالشَّهَادَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ شَاهِدَ زُورٍ.

فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: يُعَزَّرُ بِتَشْهِيرِهِ عَلَى الْمَلَإِ فِي الْأَسْوَاقِ لَيْسَ غَيْرُ (وَقَالَا: نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ) فَصَارَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا أُعَزِّرُهُ لَا أَضُرُّ بِهِ. فَالْحَاصِلُ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَعْزِيرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِتَشْهِيرِ حَالِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ الضَّرْبِ خُفْيَةً أَوْ هُمَا أَضَافَا إلَى ذَلِكَ الضَّرْبَ وَالْحَبْسَ وَبِقَوْلِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَمَالِكٌ (لَهُمَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا) رَوَاهُ ابْن أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ بِالشَّامِ أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ يُضْرَبُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَيُسَخَّمُ وَجْهُهُ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُطَالُ حَبْسُهُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا.

وَقَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ. أَخْبَرَنِي أَبُو الْأَحْوَصِ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَمَرَ بِشَاهِدِ الزُّورِ أَنْ يُسَخَّمَ وَجْهُهُ وَتُلْقَى عِمَامَتُهُ فِي عُنُقِهِ وَيُطَافُ بِهِ فِي الْقَبَائِلِ.

فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ مِمَّنْ يَرَى تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ ظَاهِرٌ، أَمَّا مَنْ لَا يَرَاهُ فَبِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ النَّكِيرِ فِيمَا فَعَلَ عُمَرُ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ لَا يُتَّجَهُ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ النَّكِيرُ عَلَى مُجْتَهِدٍ فِي مَحَلِّ اجْتِهَادِهِ فَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا السُّكُوتِ.

وَالثَّانِي أَنَّهُ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ قَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَا يَسْكُتُ» وَقَرَنَ تَعَالَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشِّرْكِ فَقَالَ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} وَإِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً وَلَيْسَ فِيهَا تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَفِيهَا التَّعْزِيرُ، وَهَذَا لَا يَنْتَهِضُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي التَّعْزِيرَ وَهُوَ لَا يَنْفِيهِ، بَلْ قَالَ بِهِ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ لَكِنَّهُ يَنْفِي الزِّيَادَةَ فِيهِ بِالضَّرْبِ.

وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَنْتَهِضُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَنْفِي ضَرْبَهُ وَهُمَا يُثْبِتَانِهِ، فَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ

ص: 475

وَلِأَنَّ هَذِهِ كَبِيرَةٌ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إلَى الْعِبَادِ وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ. وَلَهُ أَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ، وَلِأَنَّ الِانْزِجَارَ يَحْصُلُ بِالتَّشْهِيرِ فَيَكْتَفِي بِهِ، وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ وَلَكِنَّهُ يَقَعُ مَانِعًا عَنْ الرُّجُوعِ فَوَجَبَ التَّخْفِيفُ نَظَرًا إلَى هَذَا الْوَجْهِ.

وَحَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَالتَّسْخِيمِ

زِيَادَةً فِي التَّعْزِيرِ فَلْيَكُنْ إذْ قَدْ ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ فِيهِ بِهِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ شُرَيْحًا رضي الله عنه كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ) رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْهَيْثَمِ بْنِ أَبِي الْهَيْثَمِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَخَذَ شَاهِدَ الزُّورِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ قَالَ لِلرَّسُولِ قُلْ لَهُمْ إنَّ شُرَيْحًا يُعَرِّفُكُمْ وَيَقُولُ لَكُمْ إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَرَبِ أَرْسَلَ بِهِ إلَى مَجْلِسِ قَوْمِهِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا فَقَالَ لِلرَّسُولِ مِثْلَ مَا قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى.

وَنَحْوُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَ شُرَيْحُ يَبْعَثُ شَاهِدَ الزُّورِ إلَى مَسْجِدِ قَوْمِهِ أَوْ إلَى السُّوقِ وَيَقُولُ إنَّا زَيَّفْنَا شَهَادَةَ هَذَا. وَفِي لَفْظٍ: كَانَ يَكْتُبُ اسْمَهُ عِنْدَهُ.

وَقَالَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَ شُرَيْحُ يَبْعَثُ بِشَاهِدِ الزُّورِ فَأَدْخَلَ بَيْنَ وَكِيعٍ وَأَبِي حُصَيْنٍ سُفْيَانَ. وَقَدْ يُقَالُ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ لَمْ يَضُرَّ بِهِ بَلْ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَا يَنْفِي هَذَا أَنْ يَقُولَ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ.

ثُمَّ وَجَدْنَا هَذَا الْمُحْتَمَلَ مَرْوِيًّا. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقُ: أَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ الْجَعْدِ بْنِ ذَكْوَانَ قَالَ: أُتِيَ شُرَيْحُ بِشَاهِدِ زُورٍ فَنَزَعَ عِمَامَتَهُ عَنْ رَأْسه وَخَفَقَهُ بِالدُّرَّةِ خَفَقَاتٍ وَبَعَثَ بِهِ إلَى مَسْجِدٍ يَعْرِفُهُ النَّاسُ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَقَعَ الضَّرْبُ وَقَدْ قُلْنَا إنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ شَاهِدُ الزُّورِ بِإِقْرَارِهِ فَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَدْرِيَ شَاهِدُ الزُّورِ الرَّاجِحُ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ وَلَا يُضْرَبُ فَرَجَعَ، فَحِينَ تَرَتَّبَ عَلَى رُجُوعِهِ الضَّرْبُ وَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا فِي النُّفُوسِ يَكُونُ صَارِفًا لَهُ عَنْ الرُّجُوعِ وَحَامِلًا عَلَى التَّمَادِي فَوَجَبَ أَنْ يُتْرَكَ وَيُكْتَفَى بِمَا ذَكَرْت مِنْ التَّعْزِيرِ، هَذَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَا بِالنَّقْلِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَازَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي نَفْيِهِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ مَعْنًى آخَرَ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ ضَرْبِ عُمَرَ

ص: 476

ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّشْهِيرِ مَنْقُولٌ عَنْ شُرَيْحٍ رحمه الله، فَإِنَّهُ كَانَ يَبْعَثُهُ إلَى سُوقِهِ إنْ كَانَ سُوقِيًّا، وَإِلَى قَوْمِهِ إنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا، وَيَقُولُ: إنَّ شُرَيْحًا يُقْرِئُكُمْ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوا النَّاسَ مِنْهُ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله أَنَّهُ يُشَهَّرُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا.

وَالتَّعْزِيرُ وَالْحَبْسُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا، وَكَيْفِيَّةُ التَّعْزِيرِ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: شَاهِدَانِ أَقَرَّا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ لَمْ يُضْرَبَا وَقَالَا يُعَزَّرَانِ) وَفَائِدَتُهُ أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُكْمِ هُوَ الْمُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، فَأَمَّا لَا طَرِيقَ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلشَّهَادَةِ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالتَّسْخِيمِ كَانَ سِيَاسَةً، فَإِذَا رَأَى الْحَاكِمُ ذَلِكَ مَصْلَحَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَقَدْ يُرَدُّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كِتَابِ عُمَرَ بِهِ إلَى عُمَّالِهِ فِي الْبِلَادِ.

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى السِّيَاسَةِ بِالتَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَلَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ إلَى الْحُدُودِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُجِيزُهُ، وَقَدْ أَجَازَ عَالَمُ الْمَذْهَبِ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله أَنْ يَبْلُغَ بِهِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَتِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ فَجَازَ كَوْنُ رَأْيِ عُمَرَ رضي الله عنه كَذَلِكَ.

وَأَمَّا كَوْنُ التَّسْخِيمِ مُثْلَةً مَنْسُوخَةً فَقَدْ يَكُونُ رَأْيُ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ الْمُثْلَةَ لَيْسَتْ إلَّا فِي قَطْعِ الْأَعْضَاءِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْبَدَنِ وَيَدُومُ، لَا بِاعْتِبَارِ عَرَضٍ يُغْسَلُ فَيَزُولُ

ص: 477

(كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ)

(قَالَ: إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا سَقَطَتْ) لِأَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي

وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إنْ رَجَعَ عَلَى سَبِيلِ الْإِصْرَارِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ شَهِدْت فِي هَذِهِ بِالزُّورِ وَلَا أَرْجِعُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبَةِ لَا يُعَزَّرُ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ. وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ.

فَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي التَّائِبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّعْزِيرِ الِانْزِجَارُ وَقَدْ انْزَجَرَ بِدَاعِي اللَّهِ تَعَالَى. وَجَوَابُهُمَا فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالتَّسْخِيمِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ: يُقَالُ سَخَّمَ وَجْهَهُ، إذَا سَوَّدَهُ مِنْ السُّخَامِ وَهُوَ سَوَادُ الْقِدْرِ، وَقَدْ جَاءَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ الْأَسْحَمِ وَهُوَ الْأَسْوَدُ. وَفِي الْمُغْنِي: وَلَا يُسَحَّمُ وَجْهُهُ بِالْخَاءِ وَالْحَاءِ

(كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ)

لَمَّا كَانَ هَذَا إيجَابَ رَفْعِ الشَّهَادَةِ وَمَا تَقَدَّمَ إيجَابَ إثْبَاتِهَا فَكَانَا مُتَوَازِيَيْنِ فَتَرْجَمَ هَذَا بِالْكِتَابِ كَمَا تَرْجَمَ ذَاكَ لِلْمُوَازَاةِ بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا فَلَيْسَ لِهَذَا أَبْوَابٌ لِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ مَسَائِلِهِ لِيَكُونَ كِتَابًا كَمَا لِذَلِكَ وَلِتَحَقُّقِهِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ، إذْ لَا رَفْعَ إلَّا بَعْدَ الْوُجُودِ نَاسَبَ أَنْ يَجْعَلَ تَعْلِيمَهُ بَعْدَهُ، كَمَا أَنَّ وُجُودَهُ بَعْدَهُ وَخُصُوصَ مُنَاسَبَتِهِ لِشَهَادَةِ الزُّورِ هُوَ أَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَكُونُ غَالِبًا إلَّا لِتَقَدُّمِهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً (قَوْلُهُ إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ الشَّهَادَةِ سَقَطَتْ) عَنْ الِاعْتِبَارِ فَلَا يُقْضَى بِهَا لِأَنَّ كَلَامَهُمْ تَنَاقَضَ حَيْثُ قَالُوا نَشْهَدُ بِكَذَا لَا نَشْهَدُ بِهِ وَلَا يُقْضَى بِالْمُتَنَاقِضِ، وَلِأَنَّهُ أَيْ كَلَامَهُ الَّذِي نَاقَضَ لَهُ وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ فِي احْتِمَالِهِ الصِّدْقَ كَالْأَوَّلِ، فَلَيْسَ الْقَضَاءُ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ فَوَقَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا.

قَالُوا: وَيُعَزِّرُ الشُّهُودَ سَوَاءً رَجَعُوا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ لِأَنَّ الرُّجُوعَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ تَوْبَةٌ عَنْ الزُّورِ إنْ تَعَمَّدَهُ، أَوْ التَّهَوُّرِ وَالْعَجَلَةِ إنْ كَانَ أَخْطَأَ فِيهِ، وَلَا تَعْزِيرَ عَلَى التَّوْبَةِ وَلَا عَلَى ذَنْبٍ ارْتَفَعَ بِهَا وَلَيْسَ فِيهِ

ص: 478

بِكَلَامٍ مُتَنَاقِضٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا شَيْئًا لَا عَلَى الْمُدَّعِي وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ (فَإِنْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ) لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِمْ يُنَاقِضُ أَوَّلَهُ فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِالتَّنَاقُضِ وَلِأَنَّهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّدْقِ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ (وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ) لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ)

حَدٌّ مُقَدَّرٌ (قَوْلُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّهُمْ لَمْ يُتْلِفُوا شَيْئًا عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ فَإِنْ حُكِمَ إلَخْ) إذَا رَجَعُوا قَبْلَ الْحُكْمِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ رَجَعُوا بَعْدَهُ لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ كَلَامِهِمْ الْأَوَّلِ، وَلَا الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنْ الثَّانِي فَتَعَارَضَا، وَلَا تَرْجِيحَ قَبْلَ الْحُكْمِ لِأَحَدِ الْكَلَامَيْنِ فَلَا يُحْكَمُ بِأَحَدِهِمَا، وَبَعْدَهُ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ لِأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِحُكْمِهِ وَقَعَ فِي حَالٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ فِيهِ فَلَا يُنْقَضُ الْأَقْوَى بِالْأَدْنَى، لَكِنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانَ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانُوا مُتْلِفِينَ بِسَبَبِ لُزُومِ حُكْمِ شَهَادَتِهِمْ: أَعْنِي اتِّصَالَ الْقَضَاءِ الَّذِي لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ وَبِالرُّجُوعِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ بِهِ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ تَسَبُّبَهُمْ فِي ذَلِكَ الْإِتْلَافِ كَانَ تَعَدِّيًا لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ، وَالتَّسَبُّبُ فِي الْإِتْلَافِ تَعَدِّيًا سَبَبٌ لِلضَّمَانِ.

وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله أَوَّلًا يَقُولُ: يَنْظُرُ إلَى حَالِ الشُّهُودِ، إنْ كَانَ حَالُهُمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَفْضَلَ مِنْ حَالِهِمْ وَقْتَ الْأَدَاءِ فِي الْعَدَالَةِ صَحَّ رُجُوعُهُمْ فِي حَقِّ نَفْسِهِمْ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَيُعَزَّرُونَ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ وَيُرَدُّ الْمَالُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا عِنْدَ الرُّجُوعِ كَحَالِهِمْ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَوْ دُونَهُ يُعَزَّرُونَ، وَلَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الشَّاهِدِ.

وَهَذَا قَوْلُ أُسْتَاذِهِ حَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ. ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ وَلَا يُرَدُّ الْمَالُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا وَهُوَ قَوْلُهُمَا (قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ) سَوَاءً كَانَ هُوَ الْقَاضِيَ الْمَشْهُودَ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرَهُ، وَزَادَ جَمَاعَةٌ

ص: 479

لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ الْمَجْلِسِ وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَاضِي أَيَّ قَاضٍ كَانَ، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ تَوْبَةٌ وَالتَّوْبَةُ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ، فَالسِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْإِعْلَانُ بِالْإِعْلَانِ.

وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا لَا يَحْلِفَانِ، وَكَذَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ لِأَنَّ السَّبَبَ صَحِيحٌ.

فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي بِرُجُوعِهِمَا وَيُضَمِّنَهُمَا الْمَالَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ (وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا) أَنَّهُمَا لَمْ يَرْجِعَا (لَا يَحْلِفَانِ وَكَذَا) لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى هَذَا الرُّجُوعِ (لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا) وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَإِلْزَامُ الْيَمِينِ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى دَعْوًى صَحِيحَةٍ.

ثُمَّ قَالَ (حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ) فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي تَقْيِيدِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ، وَنُقِلَ هَذَا عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ. وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ تَوَقُّفَ صِحَّةِ الرُّجُوعِ عَلَى الْقَضَاءِ بِالرُّجُوعِ وَبِالضَّمَانِ، وَتَرَكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مُصَنِّفِي الْفَتَاوَى هَذَا الْقَيْدَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ إمَّا تَرَكَهُ تَعْوِيلًا عَلَى هَذَا الِاسْتِبْعَادِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمَجْلِسِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ شَاهِدٌ بِالرُّجُوعِ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِهِ وَبِالْتِزَامِ الْمَالِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ،

ص: 480

(وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ التَّسْبِيبَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي

وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ إذَا تَصَادَقَا أَنَّ لُزُومَ الْمَالِ عَلَيْهِ كَانَ بِهَذَا الرُّجُوعِ، وَلَوْ أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ قَاضٍ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا صَحَّ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ هَذَا رُجُوعًا عِنْدَ هَذَا الْقَاضِي لَا الَّذِي أَسْنَدَ رُجُوعَهُ إلَيْهِ، وَلَوْ رَجَعَا عِنْدَ الْقَاضِي ثُمَّ جَحَدَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِمَا وَيَقْضِي بِالضَّمَانِ عَلَيْهِمَا.

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لِاشْتِرَاطِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ وَجْهَيْنِ: أَوَّلُهُمَا أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ، فَكَمَا اُشْتُرِطَ لِلشَّهَادَةِ الْمَجْلِسُ كَذَلِكَ لِفَسْخِهَا، وَعَلَى الْمُلَازَمَةِ مَنْعٌ ظَاهِرٌ مَعَ إبْدَاءِ الْفَرْقِ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَجْلِسِ لِيُتَصَوَّرَ الْأَدَاءُ عِنْدَهُ بِالضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ الرُّجُوعِ لِأَنَّ حَاصِلَهُ الْإِقْرَارُ عَلَى نَفْسِهِ يَتَحَقَّقُ سَبَبُ الضَّمَانِ مِنْهُ، وَالْإِقْرَارُ بِالضَّمَانِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.

وَأَجَابَ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ مَا شُرِطَ لِلِابْتِدَاءِ شُرِطَ لِلْبَقَاءِ كَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ شُرِطَ فِيهِ وُجُودُ الْمَبِيعِ فَكَذَا فِي فَسْخِهِ، أَوْ هَذَا أَيْضًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمُلَازَمَةِ مَعَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ أَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ لِيَثْبُتَ حُكْمُ الْفَسْخِ وَهُوَ التَّرَادُّ، وَالتَّرَادُّ يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِهِ، بِخِلَافِ حُكْمِ الرُّجُوعِ فَإِنَّهُ الضَّمَانُ، وَيُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مَعَ ثُبُوتِهِ دُونَ الْمَجْلِسِ. ثُمَّ هُوَ قَدْ أَوْرَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ شَرْطَ الِابْتِدَاءِ شَرْطُ الْبَقَاءِ فِي السَّلَمِ حَيْثُ يُشْتَرَطُ لِابْتِدَائِهِ حُضُورُ رَأْسِ الْمَالِ دُونَ فَسْخِهِ. وَأَجَابَ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يَخُصُّ الِابْتِدَاءَ لَا يُوجَدُ فِي الْبَقَاءِ وَهُوَ كَيْ لَا يَلْزَمَ الِافْتِرَاقُ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي فَسْخِهِ فَلِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي فَسْخِهِ مَا شُرِطَ فِي ابْتِدَائِهِ، وَهَذَا نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْمَجْلِسِ ابْتِدَاءٌ لِيُتَصَوَّرَ الْأَدَاءُ بِخِلَافِ الْفَسْخِ. ثُمَّ تَمْهِيدُ الْجَوَابِ بِأَنَّ مَا شُرِطَ لِلِابْتِدَاءِ شُرِطَ لِلْبَقَاءِ لَا يُنَاسِبُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ الرَّفْعُ. نَعَمْ الرَّفْعُ يُرَدُّ عَلَى حَالَةِ بَقَاءِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحُكْمُ بِهَا، وَلَوْ تَسَهَّلْنَا إلَى جَعْلِ ذَلِكَ بَقَاءَ نَفْسِ الشَّهَادَةِ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ مَجْلِسِ الْحُكْمِ شَرْطًا لِبَقَاءِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ أَرْخَيَا الْعَنَانَ فِي الْآخَرِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَشْرُوطُ لِلْبَقَاءِ الْمَجْلِسَ الْأَوَّلَ الَّذِي كَانَ شَرْطًا لِلْأَدَاءِ، وَالْمَجْلِسُ الْمَشْرُوطُ هُنَا مَجْلِسٌ آخَرُ.

وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِهِ أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ وَنَقْضٌ لِلشَّهَادَةِ فَكَانَ مُقَابِلًا لَهَا فَاخْتَصَّ بِمَوْضِعِ الشَّهَادَةِ، وَمَنْعُ الْمُلَازَمَةِ فِيهِ ظَاهِرٌ فَبَيَّنَهُ بِأَنَّ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ لَمَّا كَانَا مُتَضَادَّيْنِ اُشْتُرِطَ لِلتَّضَادِّ اتِّحَادُ الْمَحَلِّ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ اتِّحَادَ الْمَحَلِّ إنَّمَا هُوَ شَرْطُ امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْمُتَضَادَّيْنِ لَا شَرْطٌ لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَضَادَّيْنِ فِي نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ مَجْلِسَ شَرْطٍ لِكُلٍّ مِنْ الشَّهَادَةِ وَنَقْضِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الرُّجُوعَ تَوْبَةٌ عَنْ ذَنْبِ الْكَذِبِ وَكَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَتَخْتَصُّ التَّوْبَةُ عَنْهُ بِمَجْلِسِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا غَيْرُ لَازِمٍ فِيهِ فَبَيَّنُوا لَهُ مُلَازَمَةً شَرْعِيَّةً بِحَدِيثِ «مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ أَوْصِنِي، فَقَالَ: عَلَيْك بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى مَا اسْتَطَعْت، إلَى أَنْ قَالَ: وَإِذَا عَمِلْت شَرًّا فَأَحْدِثْ تَوْبَةَ السِّرِّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةَ بِالْعَلَانِيَةِ» وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعَلَانِيَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِعْلَانِ فِي مَحَلِّ الذَّنْبِ بِخُصُوصِهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ بَلْ فِي مِثْلِهِ مِمَّا فِيهِ عَلَانِيَةٌ وَهُوَ إذَا أَظْهَرَ الرُّجُوعَ لِلنَّاسِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ وَبَلَغَ ذَلِكَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَكُونَ مُعْلِنًا

(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا مُسَبِّبَانِ وَلَا

ص: 481

سَبَّبَ الضَّمَانَ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَقَدْ سَبَّبَا لِلْإِتْلَافِ تَعَدِّيًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَضْمَنَانِ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّسْبِيبِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ. قُلْنَا: تَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَهُوَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ كَالْمَلْجَإِ إلَى الْقَضَاءِ، وَفِي إيجَابِهِ صَرْفُ النَّاسِ عَنْ تَقَلُّدِهِ وَتَعَذُّرُ اسْتِيفَائِهِ مِنْ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْحُكْمَ مَاضٍ فَاعْتُبِرَ التَّسْبِيبُ، وَإِنَّمَا يَضْمَنَانِ

عِبْرَةَ بِالتَّسَبُّبِ، وَإِنْ كَانَ تَعَدِّيًا مَعَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ. قُلْنَا: الْمُبَاشِرُ الْقَاضِي وَالْمُدَّعِي. وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاضِي اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ كَالْمَلْجَإِ إلَى مُبَاشَرَةِ الْقَضَاءِ الَّذِي بِهِ الْإِتْلَافُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِافْتِرَاضِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ، وَإِذَا أَلْجَأَهُ الشَّرْعُ لَا يَضْمَنُهُ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ عَدَمَ قَبُولِ الْقَضَاءِ مِنْ أَحَدٍ.

وَأَمَّا الْمُدَّعِي فَلِأَنَّهُ أَخَذَ بِحَقٍّ ظَاهِرٍ مَاضٍ لِأَنَّ خَبَرَ الرُّجُوعِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ لِيَنْقُضَ الْحُكْمَ، وَإِذَا لَمْ يَنْقُضْ لَا يُمْكِنُ جَبْرُهُ عَلَى إعْطَاءِ مَا أَخَذَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ الْمَاضِي شَرْعًا. وَإِذَا تَعَذَّرَ الْإِيجَابُ عَلَى الْمُبَاشِرِ تَعَيَّنَ عَلَى الْمُتَعَدِّي بِالتَّسَبُّبِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الشُّهُودَ يَضْمَنُونَ كَمَذْهَبِنَا، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يَنْقُضُ. وَلَا يَرُدُّ الْمَالَ مِنْ الْمُدَّعِي وَلَا يَضْمَنُ الشُّهُودُ وَهُوَ عَيْنُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ حَالُهُمَا وَقْتَ الرُّجُوعِ مِثْلَهُ عِنْد الْأَدَاءِ. وَقَدْ نُقِضَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَى الشُّهُودِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ قَتْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَعَ وُجُودِ الْمُبَاشِرِ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْمُقْتَصُّ وَالْقَاضِي. وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِدَلِيلٍ خَاصٍّ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِشَاهِدَيْ السَّرِقَةِ بَعْدَمَا قَطَعَ وَرَجَعُوا وَجَاءُوا بِآخَرَ وَقَالُوا هَذَا الَّذِي سَرَقَ: لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَدَّيْتُمَا لَقَطَعْت أَيْدِيَكُمَا، أَخْرَجَهُ

ص: 482

إذَا قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا، لِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِهِ يَتَحَقَّقُ، لِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ أَخْذِ الْعَيْنِ وَإِلْزَامِ الدَّيْنِ. قَالَ (فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ)

الشَّافِعِيُّ وَقَالَ: بِهَذَا الْقَوْلِ نَقُولُ. فَإِنْ نُوقِضَ بِأَنَّهُ لَا يَرَى تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ أَمْكَنَ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنِّي إنَّمَا قُلْت بِهِ لِمَا ظَهَرَ مِنْ مَنَاطِهِ مِنْ أَنَّ أَمْرَ الدَّمِ أَشَدُّ مِنْ أَمْرِ الْمَالِ.

قُلْنَا: الْأَشَدِّيَّةُ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهَا عَلَى ثُبُوتِ الضَّمَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِجَوَازِهِ بِاعْتِبَارِ أَمْرِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ مَتَى يُقْضَى بِالضَّمَانِ عَلَى الشَّاهِدِ؟. قَالَ الْمُصَنِّفُ (إذَا قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا) لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ إتْلَافٍ وَالْإِتْلَافُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَخْذِهِ مِنْهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ. وَفَرَّقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَشْهُودِ بِهِ عَيْنًا فَيَضْمَنَانِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُدَّعِي إيَّاهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ لَهُ بِهَا أَوْ دَيْنًا فَلَا يَضْمَنَانِ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُدَّعِي.

وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ ضَمَانَهُمَا ضَمَانُ إتْلَافٍ، وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ مُقَيَّدٌ بِالْمُمَاثَلَةِ، فَإِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ عَيْنًا فَالشَّاهِدَانِ وَإِنْ أَزَالَاهُ عَنْ مِلْكِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا حَتَّى لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، فَلَوْ أَزَلْنَا قِيمَتَهُ عَنْ مِلْكِهِمَا بِأَخْذِ الضَّمَانِ مِنْهُمَا لَا تَنْتَفِي الْمُمَاثَلَةُ، أَمَّا إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ دَيْنًا فَالشَّاهِدَانِ أَوْجَبَا عَلَيْهِ دَيْنًا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَوْ اسْتَوْفَى الضَّمَانَ مِنْهُمَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ انْتَفَتْ الْمُمَاثَلَةُ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى مِنْهُمَا عَيْنٌ فِي مُقَابَلَةِ دَيْنٍ أَوْجَبَاهُ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ يُوَافِقُ فِي وَجْهِ الدَّيْنِ، يَقُولُ فِي الْعَيْنِ: إنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ ثَبَتَ فِيهِ لِلْمُدَّعِي بِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ لَكِنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ مِلْكُهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَ شَيْئًا مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ يَدِهِ.

قَالَ الْبَزَّازِيُّ رحمه الله فِي فَتَاوَاهُ: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى الضَّمَانُ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ أَوْ لَا، وَكَذَا الْعَقَارُ يُضْمَنُ بَعْدَ الرُّجُوعِ إنْ اتَّصَلَ الْقَضَاءُ بِالشَّهَادَةِ.

ص: 483

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَذَا بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ وَقَدْ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ نِصْفُ الْحَقِّ

(وَإِنْ شَهِدَا بِالْمَالِ ثَلَاثَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ بَقِيَ بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بَاقٍ بِالْحُجَّةِ، وَالْمُتْلِفُ مَتَى اسْتَحَقَّ (سَقَطَ الضَّمَانُ فَأَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ) فَإِنْ رَجَعَ الْآخَرُ

فُرُوعٌ]

شَهِدَا أَنَّهُ أَجَّلَهُ إلَى سَنَةٍ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَاهُ حَالًا ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بَعْدَ السَّنَةِ، وَلَوْ تَوَى مَا عَلَى الْمَطْلُوبِ لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الطَّالِبِ بِخِلَافِ الْحَوَالَةِ.

وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَبْرَأَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا. وَلَوْ شَهِدَا عَلَى هِبَةِ عَبْدٍ وَتَسْلِيمٍ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ لِلْمَالِكِ وَلَا رُجُوعَ لِلْوَاهِبِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ كَالْعِوَضِ، وَإِنْ لَمْ يُضَمِّنْ الْوَاهِبُ الشَّاهِدَيْنِ لَهُ الرُّجُوعَ. شَهِدَا أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِائَةٌ وَقَضَى بِهِ ثُمَّ رَجَعَا يَخْسَرُ الْبَائِعُ بَيْنَ رُجُوعِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَى سَنَةٍ وَبَيْنَ تَضْمِينِ الشَّاهِدَيْنِ قِيمَتَهُ حَالَّةً وَلَا يُضَمِّنُهُمَا الْخَمْسمِائَةِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ رَجَعَا عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْبَائِعِ بِالضَّمَانِ وَطَابَ لَهُمَا قَدْرُ مِائَةٍ وَتَصَدَّقَا بِالْفَضْلِ (قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَذَا بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ) وَهَذَا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ الْمَالَ وَالرُّجُوعَ إنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ لَهُ، فَإِذَا بَقِيَ بَعْدَ رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مَنْ يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْمَالِ بَقِيَ الْمَالُ ثَابِتًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ بِالرُّجُوعِ إتْلَافُ شَيْءٍ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَضْمَنَ مَعَ عَدَمِ إتْلَافِ شَيْءٍ.

وَأَمَّا مَا أَوْرَدَ مِنْ أَنَّهُ يَنْبَغِي إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ شَيْءٌ أَصْلًا فَيَقْتَضِي أَنْ يُضَمَّنَ الْوَاحِدُ الرَّاجِعُ كُلَّ الْمَالِ وَهُوَ مُصَادِمٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى نَفْيِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَفْيِهِ لِأَنَّ عَدَمَ ثُبُوتِ شَيْءٍ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ إنَّمَا هُوَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ فِي حَلِّ الْبَقَاءِ مَا يَلْزَمُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَحِينَئِذٍ فَبَعْدَمَا ثَبَتَ ابْتِدَاءُ شَيْءٍ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ نُسِبَ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ ثُبُوتُ حِصَّةٍ مِنْهُ بِشَهَادَتِهِ فَتَبْقَى هَذِهِ الْحِصَّةُ مَا بَقِيَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَيَكُونُ مُتْلِفًا لَهَا بِرُجُوعِهِ.

إذَا عُرِفَ هَذَا فَإِذَا رَجَعَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ لَزِمَهُ ضَمَانُ النِّصْفِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِرُجُوعِهِ

(وَإِنْ شَهِدَ بِالْمَالِ ثَلَاثَةٌ فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ بَقِيَ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ إتْلَافِ شَيْءٍ مِنْهُ بِبَقَاءِ الشَّاهِدَيْنِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بَاقٍ بِالْحُجَّةِ (وَالْمُتْلَفُ مَتَى اُسْتُحِقَّ سَقَطَ الضَّمَانُ) كَمَا إذَا أَتْلَفَ مَالَ زَيْدٍ فَقُضِيَ بِضَمَانِهِ عَلَيْهِ فَظَهَرَ أَنَّ مُسْتَحِقَّهُ عَمْرٌو فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ وَيَسْقُطُ الضَّمَانُ لِزَيْدٍ (فَأَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ الضَّمَانُ) وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا فَإِنَّ بِالرُّجُوعِ أَتْلَفَ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ حِصَّتَهُ الَّتِي أَثْبَتَهَا لَهُ بِشَهَادَتِهِ لَهُ وَصَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَبِبَقَاءِ مَنْ يَبْقَى كُلُّ الْحَقِّ بِهِ ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُ الْمَشْهُودِ لَهُ لِتِلْكَ الْحِصَّةِ دُونَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَيَدْفَعُ الضَّمَانَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ (فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ) مِنْ الثَّلَاثَةِ

ص: 484

ضَمِنَ (الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الْمَالِ) لِأَنَّ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمْ يَبْقَى نِصْفُ الْحَقِّ

(وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ امْرَأَةٌ ضَمِنَتْ رُبُعَ الْحَقِّ) لِبَقَاءِ ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ بِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ (وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَ الْحَقِّ) لِأَنَّ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ بَقِيَ نِصْفُ الْحَقِّ (وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرَةُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ ثَمَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ) لِأَنَّهُ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ (فَإِنْ رَجَعَتْ أُخْرَى كَانَ عَلَيْهِنَّ رُبْعُ الْحَقِّ) لِأَنَّهُ بَقِيَ النِّصْفُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالرُّبْعُ بِشَهَادَةِ الْبَاقِيَةِ فَبَقِيَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ

(وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَالنِّسَاءُ فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْحَقِّ وَعَلَى النِّسْوَةِ خَمْسَةُ

ضَمِنَ الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّ بِبَقَاءِ الثَّالِثِ يَبْقَى نِصْفُ الْمَالِ) فَلَوْ قَالَ الرَّاجِعُ الْأَوَّلُ كَيْفَ أَضْمَنُ بِرُجُوعِ الثَّانِي مَا لَا يَلْزَمُنِي ضَمَانُهُ بِرُجُوعِ نَفْسِي وَقْتَ رُجُوعِي لَا يُقْبَلُ هَذَا، كَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ أَحَدِهِمَا لَوْ رَجَعَ الثَّلَاثَةُ لَا يَلْزَمُنِي شَيْءٌ لِأَنَّ غَيْرِي يَثْبُتُ بِهِ كُلُّ الْحَقِّ فَرُجُوعُ غَيْرِي مُوجِبٌ عَلَيْهِ لَا عَلَيَّ.

وَحَقِيقَةُ الْوَجْهِ أَنَّ تَلَفَ النِّصْفِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِهِ رُجُوعُ وَاحِدٍ إذَا فَرَضَ تَحَقُّقَهُ مَعَ رُجُوعِ جَمَاعَةٍ تَحَاصَصُوا الضَّمَانَ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ

(وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ إحْدَاهُمَا ضَمِنَتْ رُبْعَ الْمَالِ لِبَقَاءِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ بِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ، وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَهُ لِأَنَّ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ يَبْقَى نِصْفُ الْحَقِّ، وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ) مِنْهُنَّ (ثَمَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ، فَإِنْ رَجَعَتْ أُخْرَى ضَمِنَ) التِّسْعُ (رُبْعَ الْحَقِّ لِبَقَاءِ النِّصْفِ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ) الْبَاقِي (وَالرُّبْعِ بِشَهَادَةِ الْبَاقِيَةِ)(وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَالنِّسَاءُ) فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْحَقِّ وَعَلَى النِّسْوَةِ خَمْسَةُ

ص: 485

أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعِنْدَهُمَا عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسْوَةِ النِّصْفُ)

لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ يَقُمْنَ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا بِانْضِمَامِ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، «قَالَ عليه الصلاة والسلام فِي نُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ عُدِّلَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ» فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ بِذَلِكَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا (وَإِنْ رَجَعَ النِّسْوَةُ الْعَشَرَةُ دُونَ الرَّجُلِ كَانَ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ الْحَقِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ) لِمَا قُلْنَا

(وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا دُونَ الْمَرْأَةِ) لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَيْسَتْ بِشَاهِدَةٍ بَلْ هِيَ

أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَعِنْدَهُمَا عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسْوَةِ النِّصْفُ لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ يُقِمْنَ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا بِانْضِمَامِ الرَّجُلِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ.

«قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي نُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ عَدَلَتْ شَهَادَةُ كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ شَهَادَةَ رَجُلٍ» رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ فَقَالَ: أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِيَ لَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ» (فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا، وَإِنْ رَجَعَ النِّسْوَةُ الْعَشْرُ دُونَ الرَّجُلِ كَانَ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ الْحَقِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ عَلَى اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ.

فَعِنْدَهُمَا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفُ الْمَالِ وَعِنْدَهُ لِبَقَاءِ مَنْ يَثْبُتُ بِهِ النِّصْفُ وَهُوَ الرَّجُلُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعَ خَمْسَةٌ ثُمَّ لَيْسَتْ إحْدَاهُنَّ أَوْلَى بِضَمَانِ النِّصْفِ مِنْ الْآخَرِينَ

(وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا) فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا دُونَ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَيْسَتْ شَاهِدَةً بَلْ بَعْضٌ شَاهِدٌ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَشَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ شَطْرُ عِلَّةٍ وَشَطْرُ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ فَكَانَ الْقَضَاءُ لَيْسَ إلَّا بِشَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ فَلَا تَضْمَنُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ رُجُوعِهَا شَيْئًا. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَجَبَ ضَمَانُ نِصْفِ الْمَالِ

ص: 486

بَعْضُ الشَّاهِدِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ.

قَالَ (وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى امْرَأَةٍ بِالنِّكَاحِ بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا) لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَ الْإِتْلَافِ لِأَنَّ التَّضْمِينَ يَسْتَدْعِي الْمُمَاثَلَةَ عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِنَّمَا تُضْمَنُ وَتُتَقَوَّمُ بِالتَّمَلُّكِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُتَقَوِّمَةً ضَرُورَةَ الْمِلْكِ إبَانَةً لِخَطَرِ الْمَحَلِّ

لِبَقَاءِ مِنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ نِصْفَ الْمَالِ أَعْنِي الْمَرْأَتَيْنِ، ثُمَّ هُوَ عَلَى الرَّجُلِ خَاصَّةً عَلَى قَوْلِهِمَا لِثُبُوتِ النِّصْفِ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالنِّصْفِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ.

وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النِّصْفَ أَثْلَاثًا عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هُنَا بِشَهَادَةِ الْكُلِّ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الشُّيُوعِ. ثُمَّ يُقَامُ كُلُّ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ، فَثَلَاثُ نِسْوَةٍ مَقَامُ رَجُلٍ وَنِصْفٍ، فَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَعِنْدَهُمَا أَنْصَافًا.

وَعِنْدَهُ أَخْمَاسًا عَلَى النِّسْوَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ وَعَلَى الرَّجُلِ خُمُسَانِ

(قَوْلُهُ وَإِنْ شَهِدَا إلَى آخِرِهِ) إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا بِقَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ ادَّعَاهُ بِأَقَلَّ بِأَنْ ادَّعَاهُ بِمِائَةٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفٌ فَشَهِدَ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ فَقُضِيَ بِمُقْتَضَى شَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِرُجُوعِهِمَا وَلَا يَضْمَنَانِ شَيْئًا فِي الصُّورَتَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.

وَذَكَرَ فِي الْمَنْظُومَةِ فِي صُورَةِ النُّقْصَانِ أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ مَا نَقَصَ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. قَالَ فِي بَابِ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ أَثْبَتُوا نِكَاحَهَا فَأَوْكَسُوا إنْ رَجَعُوا لَمْ يَضْمَنُوا مَا بَخَسُوا. ثُمَّ بَيَّنَهُ فِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى بِالْحَصْرِ وَجُعِلَ الْخِلَافُ مَبْنِيًّا عَلَى مَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ. فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْقَوْلَ قَوْلُهَا إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَكَانَ يَقْضِي لَهَا بِأَلْفٍ لَوْلَا هَذِهِ الشَّهَادَةُ فَقَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهَا تِسْعَمِائَةٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقَوْلُ لِلزَّوْجِ فَلَمْ يَتْلَفَا عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهَا شَيْئًا وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْمَجْمَعِ.

وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ. وَغَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ لَمْ يَنْقُلُوا سِوَاهُ خِلَافًا وَلَا رِوَايَةً، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأُصُولِ كَالْمَبْسُوطِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا نَقَلُوا فِيهَا خِلَافَ الشَّافِعِيِّ، فَلَوْ كَانَ لَهُمْ شُعُورٌ بِهَذَا الْخِلَافِ الثَّابِتِ فِي الْمَذْهَبِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَعْرِضُوا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَشْتَغِلُوا بِنَقْلِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ. وَذَكَرُوا وَجْهَهُ بِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ لِثُبُوتِ

ص: 487

(وَكَذَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا) لِأَنَّهُ إتْلَافٌ بِعِوَضٍ لَمَّا أَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ حَالَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافٍ، وَهَذَا لِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْإِتْلَافِ بِعِوَضٍ وَبَيْنَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ (وَإِنْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الزِّيَادَةَ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.

قَالَ (وَإِنْ شَهِدَا بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ مَعْنًى

تَقَوُّمِهِ حَالَ الدُّخُولِ، فَكَذَا فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهُ فِي حَالِ الْخُرُوجِ عَيَّنَ ذَلِكَ الَّذِي ثَبَتَ تَقَوُّمُهُ. وَأَجَابُوا بِحَاصِلِ تَوْجِيهِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ تَقَوُّمَهُ حَالَ الدُّخُولِ لَيْسَ إلَّا لِإِظْهَارِ خَطَرِهِ حَيْثُ كَانَ مِنْهُ النَّسْلُ الْمَطْلُوبُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النَّفْعِ، كَمَا شُرِطَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعَقْدِ عَلَيْهِ دُونَ سَائِرِ الْعُقُودِ لِذَلِكَ لَا لِاعْتِبَارِهِ مُتَقَوِّمًا فِي نَفْسِهِ كَالْأَعْيَانِ الْمَالِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يُرَدُّ الْمِلْكُ عَلَى رَقَبَتِهِ وَالْمَنَافِعُ لَا تَتَقَوَّمُ فَلَا تُضْمَنُ لِأَنَّ التَّضْمِينَ يَسْتَدْعِي الْمُمَاثَلَةَ بِالنَّصِّ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْأَعْيَانِ الَّتِي تُحَرَّزُ وَتَتَمَوَّلُ وَالْأَعْرَاضِ الَّتِي تَتَصَرَّمُ وَلَا تَبْقَى.

وَفُرِّعَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ خِلَافِيَّةٌ أُخْرَى، هِيَ مَا إذَا شَهِدُوا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْفُرْقَةِ لَمْ يَضْمَنُوا عِنْدَنَا، وَكَذَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأَةَ رَجُلٍ لَا يَضْمَنُ الْقَاتِلُ لِزَوْجِهَا شَيْئًا، وَكَذَا إذَا ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِزَوْجِهَا. وَعِنْدَهُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْقَاتِلِ لِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ.

وَأَوْرَدَ عَلَى قَوْلِنَا نَقْضًا أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الضَّمَانَ بِإِتْلَافِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ حَقِيقَةً فِيمَا إذَا أَكْرَهَ مَجْنُونٌ امْرَأَةً فَزَنَى بِهَا يَجِبُ فِي مَالِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَكَذَا يَجِبُ فِي الْإِتْلَافِ الْحُكْمِيِّ. وَأَجَابَ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ بِأَنَّهُ فِي الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ بِالشَّرْعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْحُكْمِيُّ دُونَهُ فَلَا يَكُونُ الْوَارِدُ فِيهِ وَارِدًا فِي الْحُكْمِيِّ، وَنَظِيرُهُ مَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الدَّارَ مِنْ هَذَا شَهْرًا بِعَشْرَةٍ وَأُجْرَةُ مِثْلِهَا مِائَةٌ وَالْمُؤَجِّرُ يُنْكِرُ فَشَهِدَا بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْمَنْفَعَةَ وَمُتْلِفُ الْمَنْفَعَةَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ وَكَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً بِمَهْرِ مِثْلِهَا) بِأَنْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَشَهِدَا ثُمَّ رَجَعَا لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ عَلَى كُلِّ حَالٍ بَعْدَمَا قَضَى بِهِ، وَلَا يَضْمَنَانِ مَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمَا عَوَّضَا مِلْكَ الْبُضْعِ وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ حِينَ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافٍ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْإِتْلَافِ بِعِوَضٍ وَهُوَ الثَّابِتُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، وَالْإِتْلَافُ بِلَا عِوَضٍ وَهُوَ الَّذِي يُحْكَمُ بِهِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ (وَإِنْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الزِّيَادَةَ) عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ (لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا بِلَا عِوَضٍ) وَهِيَ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّتِي تَقَعُ الْمُمَاثَلَةُ بِالتَّضْمِينِ فِيهَا

(قَوْلُهُ وَإِنْ شَهِدَا بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ) بِأَنْ ادَّعَى ذَلِكَ مُدَّعٍ فَشَهِدَا لَهُ بِهِ.

(ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِتْلَافِ مَعْنًى

ص: 488

نَظَرًا إلَى الْعِوَضِ (وَإِنْ كَانَ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ ضَمِنَا النُّقْصَانَ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا هَذَا الْجُزْءَ بِلَا عِوَضٍ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ فِيهِ خِيَارُ الْبَائِعِ، لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْبَيْعُ السَّابِقُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ إلَيْهِ فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِمْ

نَظَرًا إلَى الْعِوَضِ، وَإِنْ) شَهِدَا بِهِ (بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ) ثُمَّ رَجَعَا (ضَمِنَا نُقْصَانَ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا هَذَا الْقَدْرَ) عَلَيْهِ (بِلَا عِوَضٍ) هَذَا إذَا شَهِدَا بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَشْهَدَا بِنَقْدِ الثَّمَنِ، فَلَوْ شَهِدَا بِهِ وَبِنَقْدِ الثَّمَنِ ثُمَّ رَجَعَا، فَإِمَّا أَنْ يُنَظِّمَاهَا فِي شَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ شَهِدَا أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا بِأَلْفٍ وَأَوْفَاهُ الثَّمَنَ أَوْ فِي شَهَادَتَيْنِ بِأَنْ شَهِدَا بِالْبَيْعِ فَقَطْ ثُمَّ شَهِدَا بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَوْفَاهُ الثَّمَنَ، فَفِي الْأَوَّلِ يُقْضَى عَلَيْهِمَا بِقِيمَةِ الْبَيْعِ لَا بِالثَّمَنِ، وَفِي الثَّانِي يُقْضَى عَلَيْهِمَا بِالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ.

وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ الْمَقْضِيَّ بِهِ الْبَيْعُ دُونَ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِإِيجَابِ الثَّمَنِ لِاقْتِرَانِهِ بِمَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْإِيفَاءِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ مِنْ هَذَا عَبْدَهُ وَأَقَالَهُ بِشَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُقْضَى بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ قَارَنَ الْقَضَاءَ بِهِ مَا يُوجِبُ انْفِسَاخَهُ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْإِقَالَةِ، فَكَذَا هَذَا، وَإِذَا كَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ الْبَيْعَ فَقَطْ وَزَالَ الْمَبِيعُ بِلَا عِوَضٍ فَيَضْمَنَانِ الْقِيمَةَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِشَهَادَتَيْنِ فَإِنَّ الثَّمَنَ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالثَّمَنِ لَا يُقَارِنُهُ مَا يُسْقِطُهُ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْهَدَا بِالْإِيفَاءِ بَلْ شَهِدَا بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا صَارَ الثَّمَنُ مَقْضِيًّا بِهِ ضَمِنَاهُ بِرُجُوعِهِمَا.

ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْبَيْعِ بَاتَا أَوْ فِيهِ خِيَارُ الْبَائِعِ لِأَنَّ السَّبَبَ) يَعْنِي الْبَيْعَ (هُوَ السَّابِقُ) حَتَّى اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ وَقَدْ أَزَالَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ إلَيْهِ (فَانْضَافَ التَّلَفُ إلَى الشُّهُودِ) وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ

ص: 489

(وَإِنْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ) لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا ضَمَانًا عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ الزَّوْجِ أَوْ ارْتَدَّتْ سَقَطَ الْمَهْرُ أَصْلًا وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ فَيُوجِبُ سُقُوطَ جَمِيعِ الْمَهْرِ كَمَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ

سُؤَالٍ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ.

حَاصِلُهُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا إنَّمَا أَثْبَتَا الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، وَبِهِ لَا يَزُولُ مِلْكَهُ عَنْ الْمَبِيعِ وَإِنَّمَا يَزُولُ إذَا لَمْ يُفْسَخْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ، وَإِذَا لَمْ يُفْسَخْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ كَانَ مُخْتَارًا فِي إزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ سَبَبَ التَّلَفِ الْعَقْدُ السَّابِقُ وَثُبُوتُهُ بِشَهَادَتِهِمْ فَيُضَافُ إلَيْهِمْ.

غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ سَكَتَ إلَى أَنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاهُ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِتَحَرُّزِهِ عَنْ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ الْكَذِبُ لِأَنَّهُ قَدْ أَنْكَرَ الْعَقْدَ، فَإِذَا فَسَخَ كَانَ مُعْتَرِفًا بِصُدُورِهِ مِنْهُ فَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ تَنَاقُضُهُ وَكَذِبُهُ، وَالْعَاقِلُ يَحْتَرِزُ عَنْ مِثْلِهِ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَنَّ فِيهِ خِيَارُ الْمُشْتَرِي وَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُفْسَخْ وَفِي قِيمَةِ الْمَبِيعِ نُقْصَانٌ عَنْ الثَّمَنِ الَّذِي شَهِدَا بِهِ ضَمِنَاهُ، وَلَوْ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ أَجَازَهُ فِي الْمُدَّةِ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُمَا لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَهُ بِاخْتِيَارِهِ، كَمَا لَوْ أَجَازَهُ الْبَائِعُ فِي شَهَادَتِهِمَا بِالْخِيَارِ لَهُ بِثَمَنٍ نَاقِصٍ عَنْ الْقِيمَةِ حَيْثُ يَسْقُطُ أَيْضًا

(قَوْلُهُ وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَضَى بِالْفُرْقَةِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ) هَذَا إذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ مَهْرٌ مُسَمًّى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَمِنَا الْمُتْعَةَ لِأَنَّهَا الْوَاجِبَةُ فِيهِ، وَذَلِكَ (لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ) وَعَلَى الْمُؤَكِّدِ مَا عَلَى الْمُوجِبِ.

أَمَّا كَوْنُهُ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ فَإِنَّ الْمَهْرَ بِحَيْثُ لَوْ ارْتَدَّتْ الزَّوْجَةُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ أَصْلًا. وَأَمَّا أَنَّ عَلَى الْمُؤَكِّدِ مَا عَلَى الْمُوجِبِ فَبِمَسْأَلَتَيْنِ: هُمَا مَا إذَا أَخَذَ مُحْرِمٌ صَيْدَ الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فِي يَدِهِ آخَرُ يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْآخَرِ وَرَجَعَ بِهِ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ أَكَّدَ مَا كَانَ بِحَيْثُ يَسْقُطُ بِأَنْ يَتُوبَ فَيُطْلِقُهُ، وَمَا إذَا أَكْرَهَ رَجُلٌ آخَرُ عَلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَرَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَكَذَلِكَ بِارْتِدَادِهَا وَنَحْوِهِ (وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ فَتُوجِبُ سُقُوطُ كُلِّ الْمَهْرِ كَمَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ) أَيْ مِنْ بَابِ الْمَهْرِ مِنْ أَنَّ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَعُودُ الْمَعْقُودُ

ص: 490

ثُمَّ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ فَكَانَ وَاجِبًا بِشَهَادَتِهِمَا

قَالَ (وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِمَا بِهَذَا الضَّمَانِ فَلَا يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ

عَلَيْهِ إلَيْهَا كَمَا كَانَ سَالِمًا فَلَا يَجِبُ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ (ثُمَّ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ ابْتِدَاءً) فَقَدْ أَوْجَبَا بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ مَالًا فَيَجِبُ ضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا، وَإِنَّمَا قَالَ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ وَلَمْ يَقُلْ فَسْخٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةَ الْفَسْخِ وَإِلَّا لَمْ يَنْقُصْ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ بِسَبَبِ عَوْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَيْهَا سَالِمًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ مَا لَوْ شَهِدَا بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ مَعَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْقُدُورِيِّ وَالْبِدَايَةِ.

وَحُكْمُهُ أَنْ لَا يَجِبَ ضَمَانٌ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا تُقَوَّمُ لَهُ حَالَ الْخُرُوجِ، وَمَا دَفَعَ مِنْ الْمَهْرِ قَدْ اعْتَاضَ عَنْهُ مَنَافِعَ الْبُضْعِ فَلَمْ يَتْلَفَا عَلَيْهِ مَالًا بِلَا عِوَضٍ. وَفِي التُّحْفَةِ: لَمْ يَضْمَنَا إلَّا مَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ إتْلَافٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعُ الَّتِي اسْتَوْفَاهَا. ثُمَّ الْمَعْرُوفُ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَضْمَنَانِ سِوَى نِصْفِ الْمَهْرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ. وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.

أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَيَضْمَنَانِ لِلْمَرْأَةِ مَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الْمَهْرِ إلَى تَمَامِهِ لِأَنَّهُمَا بِرُجُوعِهِمَا زَعَمَا أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُطَلِّقْهَا وَإِنَّمَا وَقَعَ بِالْقَضَاءِ بِهِ. فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وُقُوعُهُ بِالْقَضَاءِ كَإِيقَاعِ الزَّوْجِ وَبِإِيقَاعِ الزَّوْجِ لَيْسَ لَهَا إلَّا النِّصْفُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله الْقَضَاءُ بِهِ لَيْسَ إيقَاعًا مِنْهُ فَيَبْقَى حَقُّهَا ثَابِتًا فِي كُلِّ الْمَهْرِ وَفَوَّتَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا فَقَدْ أَتْلَفَاهُ انْتَهَى.

وَالْوَجْهُ عَدَمُهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْوُقُوعِ إنَّمَا هُوَ عَنْهُ تَكْذِيبًا لَهُ فِي إنْكَارِهِ الطَّلَاقَ. عَلَى أَنَّ نَقْلَ هَذَا الْخِلَافِ غَرِيبٌ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ

(قَوْلُهُ وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ) فَقَضَى بِالْعِتْقِ (ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ) مَالًا مُتَقَوِّمًا (بِلَا عِوَضٍ) فَيَضْمَنَانِ سَوَاءً كَانَا مُوسِرَيْنِ أَوْ مُعَسِّرَيْنِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ وَهُوَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْيَسَارِ (وَالْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْ جِهَتِهِ) وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْعِتْقِ صَارَ مُكَذِّبًا شَرْعًا، وَإِنَّمَا لَا يَتَحَوَّلُ لِلشَّاهِدَيْنِ بِضَمَانِهِمَا لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالُ وَلَا يَكُونُ الْوَلَاءُ عِوَضًا نَافِيًا لِلضَّمَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ بَلْ هُوَ كَالنَّسَبِ سَبَبٌ يُورَثُ بِهِ.

وَلَوْ كَانَا شَهِدَا بِتَدْبِيرِ الْعَبْدِ وَقَضَى بِهِ كَانَ عَلَيْهِمَا ضَمَانُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَغَيْرَ مُدَبَّرٍ وَقَدْ سَلَفَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ قَدْرُ نُقْصَانِ التَّدْبِيرِ. وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ رُجُوعِهِمَا فَعَتَقَ مِنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ كَانَ عَلَيْهِمَا بَقِيَّةُ قِيمَتِهِ عَبْدًا لِوَرَثَتِهِ، وَلَوْ شَهِدَا بِالْكِتَابَةِ ضَمِنَا تَمَامَ قِيمَتِهِ. وَالْفَرْقُ أَنَّهُمَا بِالْكِتَابَةِ حَالَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَمَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِشَهَادَتِهِمَا فَكَانَا غَاصِبَيْنِ فَيَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَحُولُ بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ مُدَبَّرِهِ بَلْ يَنْقُصُ مَالِيَّتُهُ، ثُمَّ إذَا ضَمِنَا تَبِعَا الْمُكَاتَبَ عَلَى نُجُومِهِ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْمَوْلَى حِين ضَمِنَا قِيمَتَهُ، وَلَا يُعْتَقُ الْمُكَاتَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِمَا الْجَمِيعَ كَمَا كَانَ كَذَلِكَ مَعَ الْمَوْلَى، وَوَلَاؤُهُ لِلَّذِي شَهِدَا عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ، وَإِنْ عَجَزَ فَرُدَّ فِي الرِّقِّ كَانَ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لِلشَّاهِدَيْنِ

ص: 491

(وَإِنْ شَهِدُوا بِقِصَاصٍ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَتْلِ ضَمِنُوا الدِّيَةَ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُمْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُقْتَصُّ مِنْهُمْ لِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُمْ تَسْبِيبًا فَأَشْبَهَ الْمُكْرِهَ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ الْوَلِيَّ يُعَانُ وَالْمُكْرِهَ يُمْنَعُ. وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ مُبَاشَرَةَ لَمْ يُوجَدْ، وَكَذَا تَسْبِيبًا

بِالضَّمَانِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَيَرُدُّ الْمَوْلَى مَا أَخَذَ مِنْهُمَا لِزَوَالِ حَيْلُولَتِهِمَا بِرَدِّهِ فِي الرِّقِّ، فَهُوَ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا ضَمِنَ قِيمَتَهُ بَعْدَ إبَاقِهِ ثُمَّ رَجَعَ يَكُونُ مَرْدُودًا عَلَى الْمَوْلَى وَيَرُدُّ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ.

وَلَوْ كَانَا شَهِدَا عَلَى إقْرَارِهِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَمَةَ وُلِدَتْ مِنْهُ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا لِلْمَوْلَى نُقْصَانَ قِيمَتِهَا وَذَلِكَ بِأَنْ تُقَوَّمَ أَمَةً وَأُمَّ وَلَدٍ لَوْ جَازَ بَيْعُهَا مَعَ الْأُمُومَةِ فَيَضْمَنَانِ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ فَعَتَقَتْ كَانَ عَلَيْهِمَا بَقِيَّةُ قِيمَتِهَا أَمَةً لِلْوَرَثَةِ وَإِنَّ هُمَا نَصَّا فِي شَهَادَتِهِمَا عَلَى إقْرَارِهِ فِي ابْنٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ مِنْهُ بِأَنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ هَذَا الْوَلَدَ كَانَ عَلَيْهِمَا مَعَ مَا ذَكَرْنَا لِلْمَوْلَى قِيمَةُ الْوَلَدِ، فَإِنْ قَبَضَهُمَا ثُمَّ مَاتَ فَوَرِثَهُ هَذَا الِابْنُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ مِمَّا وَرِثَ مِثْلُ مَا كَانَ الْمَيِّتُ أَخَذَهُ مِنْهُمَا مِنْ قِيمَتِهِ وَقِيمَةِ أُمِّهِ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْمَيِّتُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَنَّهُ دَيْنٌ فِي تَرِكَتِهِ لَهُمَا.

وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَا لِلْوَرَثَةِ مِقْدَارَ مَا وَرِثَ الِابْنُ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا، عَلَيْهِمْ بِشَهَادَتِهِمَا

(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَا بِقِصَاصٍ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَتْلِ ضَمِنَا الدِّيَةَ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُمَا) وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ خِلَافًا لِأَشْهَبَ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الشُّهُودِ.

وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ إنْ قَالَا أَخْطَأْنَا ضَمِنَّا الدِّيَةَ فِي مَالِهِمَا، وَإِنْ قَالَا تَعَمَّدْنَا اقْتَصَّ مِنْهُمَا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَقْتَصُّ لِوُجُودِ الْقَتْلِ) مِنْهُمَا (تَسْبِيبًا فَأَشْبَهَ) الشَّاهِدَ (الْمُكْرَهَ) فَإِنَّهُ تَسَبَّبَ بِشَهَادَتِهِ فِي قَتْلِ الْوَلِيِّ، كَمَا أَنَّ الْمُكْرَهَ تَسَبَّبَ بِإِكْرَاهِهِ فِي قَتْلِ الْمُكْرَهِ فَيُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ الْمُكْرَهُ (بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ لِأَنَّ وَلِيَّ الْقِصَاصِ) بَعْدَ الشَّهَادَةِ (يُعَانُ) عَلَى قَتْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ (وَالْمُكْرَهُ) لَا يُعَانُ عَلَى الْقَتْلِ بِإِكْرَاهِهِ بَلْ (يُمْنَعُ) وَيُنْكَرُ عَلَيْهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ (وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ) مِنْ الشَّاهِدِ (لَمْ يُوجَدْ) تَسْبِيبًا

ص: 492

لِأَنَّ التَّسْبِيبَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، وَهَاهُنَا لَا يُفْضِي لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ، بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ ظَاهِرًا، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ مِمَّا يَقْطَعُ النِّسْبَةَ، ثُمَّ لَا أَقَلَّ مِنْ الشُّبْهَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقِصَاصِ

لِأَنَّ التَّسْبِيبَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ) أَيْ إلَى مَا تَسَبَّبَ فِيهِ (غَالِبًا) وَالشَّهَادَةُ لَا تُفْضِي إلَى قَتْلِ الْوَلِيِّ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ، وَإِنْ أَفَضْت إلَى الْقَضَاءِ، بَلْ كَثِيرًا مَا يَقَعُ ثُمَّ تَقِفُ النَّاسُ فِي الصُّلْحِ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ بَلْ عَلَى قَدْرِ بَعْضِهَا فَلَمْ تُفِضْ غَالِبًا إلَيْهِ بَلْ قَدْ وَقَدْ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ طَلَبُ التَّشَفِّي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْعَفْوُ بِالْمَالِ يَرَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ مَا هُوَ الْأَحَبُّ لِلشَّارِعِ وَحُصُولُ مَالٍ يَنْتَفِعُ بِهِ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا بِالنَّظَرِ إلَى مُجَرَّدِ ذَاتِهِ وَمَفْهُومِهِ يَقْتَضِي كَثْرَةَ وُجُودِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَتْلِ فَكَيْفَ إذَا عَلِمَ كَثْرَةَ وُقُوعِهِ، وَإِذَا انْتَفَى التَّسْبِيبُ مِنْ الشَّاهِدِ حَقِيقَةً انْتَفَى قَتْلُهُ (بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ) يَعْنِي فَحَالَفَ الْوَلِيُّ الْمُكْرَهَ (لِأَنَّ) الْغَالِبَ أَنَّ (الْإِنْسَانَ يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ) عَلَى حَيَاةِ غَيْرِهِ فَكَانَ الْمُكْرَهُ بِإِكْرَاهِهِ مُسَبَّبًا حَقِيقَةً حَيْثُ ثَبَتَ بِفِعْلِهِ مَا هُوَ الْمُفْضِي لِلْقَتْلِ بِسَبَبِ الْإِيثَارِ الطَّبِيعِيِّ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الشَّاهِدِ عَلَيْهِ لِانْتِفَاءِ الْجَامِعِ وَهُوَ إثْبَاتُ مَا يُفْضِي غَالِبًا إلَى الْفِعْلِ.

وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ (أَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ) ذِي الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ أَعْنِي قَتْلَ الْوَلِيِّ الْمُعْتَرِضِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ (مِمَّا يَقْطَعُ نِسْبَةُ الْفِعْلِ) إلَى الشَّاهِدِ كَمَا عُرِفَ فِيمَنْ فَكَّ إنْسَانٌ قَيْدَهُ فَأَبَقَ بِاخْتِيَارِهِ وَأَمْثَالِهِ، كَمَنْ دَفَعَ إنْسَانًا فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا غَيْرُهُ تَعَدِّيًا فَإِنَّهُ بِدَفْعِهِ الِاخْتِيَارِيِّ انْقَطَعَتْ نِسْبَةُ التَّلَفِ إلَى الْحَافِرِ فَلَا وُجُودَ لِلْمُسَبِّبِ مَعَ الْمُبَاشِرِ مُخْتَارًا

ص: 493

بِخِلَافِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَالْبَاقِي يُعْرَفُ فِي الْمُخْتَلِفِ.

قَالَ (وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ صَدَرَتْ مِنْهُمْ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمْ (وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَقَالُوا لَمْ نُشْهِدْ شُهُودَ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِنَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ)

بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ اعْتَرَضَ فِعْلَهُ الِاخْتِيَارِيِّ عَنْ الْإِكْرَاهِ لَكِنَّ اخْتِيَارَهُ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ لِلْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ فَكَانَ كَلَا اخْتِيَارٍ، وَلِذَا لَا يَصِحُّ مَعَ اخْتِيَارِهِ هَذَا الْبَيْعُ وَلَا إجَازَةُ بَيْعِهِ وَلَا إجَارَتُهُ وَنَحْوُهَا فَلَمْ يَصْلُحْ لِقَطْعِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ عَنْ الْمُكْرَهِ فَاعْتُبِرَ الْمُكْرَهُ كَآلَةٍ لِلْمُكْرَهِ قَتَلَ بِهَا ذَلِكَ الْقَتِيلَ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْطَعْ الِاخْتِيَارَ الصَّحِيحَ النِّسْبَةَ إلَى الشَّاهِدِ فَلَا أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُوجِبَ شُبْهَةً فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَالْقِصَاصُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ (بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ) وَقَوْلُهُ فَأَشْبَهَ الْمُكْرِهِ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَقَوْلُهُ وَالْمُكْرَهُ يُمْنَعُ بِفَتْحِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْمُخْتَلِفِ مُخْتَلِفُ الرِّوَايَةِ لِلْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ.

وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْعَتَّابِيِّ: إذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَقَضَى بِذَلِكَ وَأَخَذَ الْوَلِيُّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ وَقُتِلَ الْقَاتِلُ فِي الْعَمْدِ ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا، فَالْعَاقِلَةُ فِي الْخَطَإِ إنْ شَاءُوا رَجَعُوا عَلَى الْآخِذِ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمِنُوا الشُّهُودَ لِأَنَّهُمْ تُسَبَّبُوا لِلتَّلَفِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْوَلِيِّ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا الْمَضْمُونَ وَهُوَ الدِّيَةُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَلِيَّ أَخَذَ مَالَهُمْ.

وَفِي الْعَمْدِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْوَلِيِّ وَلَا عَلَى الشُّهُودِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ أَوْرَثَ شُبْهَةً لَكِنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ وَيُخَيَّرُ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنُوا الْوَلِيَّ الدِّيَةَ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى أَحَدٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنُوا الشَّاهِدَيْنِ، وَهُمَا لَا يَرْجِعَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا الْمَضْمُونَ وَهُوَ الدَّمُ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَالًا، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُونَ بِمَا ضَمِنُوا لِأَنَّ أَدَاءَ الضَّمَانِ انْعَقَدَ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمَضْمُونِ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ لِعَدَمِ قَبُولٍ فَيَثْبُتُ فِي بَدَلِهِ كَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا وَغَصَبَهُ آخَرُ وَمَاتَ فِي يَدِهِ وَضَمِنَ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ يَرْجِعُ عَلَى الثَّانِي بِمَا ضَمِنَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا

(قَوْلُهُ وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا) وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ (لِأَنَّ الشَّهَادَةَ) الَّتِي (فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ) وَهِيَ الَّتِي بِهَا الْقَضَاءُ (صَدَرَتْ مِنْهُمْ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمْ. وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَقَالُوا لَمْ نُشْهِدْ شُهُودَ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِنَا لَمْ يَضْمَنُوا) وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ خِلَافًا.

ص: 494

لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا السَّبَبَ وَهُوَ الْإِشْهَادُ فَلَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ فَصَارَ كَرُجُوعِ الشَّاهِدِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ (وَإِنْ قَالُوا أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا ضَمِنُوا وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِمَا يُعَايِنُ مِنْ الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَتُهُمْ. وَلَهُ أَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ فَصَارَ كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا

وَفِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ لِأَبِي نَصْرِ الْبَغْدَادِيِّ قَالَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُونَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ انْتَهَى.

وَذَكَرَ أَبُو الْمُعِينِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فِيمَا إذَا شَهِدَ فَرْعَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ خَطَأً فَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَقَبَضَهَا الْوَلِيُّ ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا لَا يَضْمَنُ الْفُرُوعَ لِعَدَمِ رُجُوعِهِمْ وَعَدَمِ ظُهُورِ كَذِبِهِمْ بِيَقِينٍ لِجَوَازِ أَنَّ الْأَصْلَيْنِ أَشْهَدَاهُمَا غَيْرَ أَنَّ الْوَلِيَّ يَرُدُّ عَلَى الْعَاقِلَةِ مَا أَخَذَ مِنْهَا، وَلَوْ حَضَرَ الْأَصْلَانِ وَقَالَا لَمْ نُشْهِدْهُمَا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَصْلَيْنِ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُمَا لَوْ رَجَعَا بِأَنْ قَالَا أَشْهَدْنَاهُمَا بِبَاطِلٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَإِشْهَادَهُمَا لِلْفَرْعَيْنِ كَانَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ كَالرُّجُوعِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَضْمَنَا بِالرُّجُوعِ فَكَذَا إذَا ظَهَرَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا.

فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَضْمَنَانِ بِالرُّجُوعِ. ثُمَّ قَالَ هُنَا: لَا يَضْمَنَانِ: يَعْنِي قَالَ مُحَمَّدٌ فِي إنْكَارِ الْأُصُولِ الْإِشْهَادَ لَا يَضْمَنُ الْأَصْلَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَرَدُّدًا فِي أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خَاصَّةً أَوْ قَالَهُ اتِّفَاقًا. وَأَمَّا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَصَرَّحَ بِأَنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِهِ (لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا) أَيْ شُهُودُ الْأَصْلِ (السَّبَبَ وَهُوَ الْإِشْهَادُ، وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْقَضَاءَ لِأَنَّهُ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ) الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ (فَصَارَ كَرُجُوعِ الشَّاهِدِ) يَعْنِي بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يَنْقُضُ بِهِ الشَّهَادَةَ لِهَذَا (بِخِلَافِ مَا) إذَا أَنْكَرُوا الْإِشْهَادَ (قَبْلَ الْقَضَاءِ) لَا يَقْضِي بِشَهَادَةِ الْفَرْعَيْنِ كَمَا إذَا رَجَعُوا قَبْلَهُ، هَذَا إذَا قَالُوا لَمْ نُشْهِدْهُمْ (فَإِنْ قَالُوا أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا) أَوْ أَشْهَدْنَاهُمْ وَرَجَعْنَا (ضَمِنَ الْأُصُولَ) هَكَذَا أَطْلَقَ الْقُدُورِيُّ وَحَكَمَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ الضَّمَانَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأُصُولِ.

لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْفَرْعَيْنِ نَقَلَا شَهَادَتَهُمَا إلَى الْمَجْلِسِ وَوَقَعَ الْقَضَاءُ بِهَا كَأَنَّهُمَا حَضَرَا بِأَنْفُسِهِمَا وَأَدَّيَا فَإِذَا رَجَعَا ضَمِنَا. وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمَا لَيْسَتْ فِي الْمَجْلِسِ حَقِيقَةً لَكِنَّهَا فِيهِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا الْمَنْقُولَةُ فَعَمِلْنَا بِالْحَقِيقَةِ عِنْدَ عَدَمِ الرُّجُوعِ وَبِالْحُكْمِ عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ الْفَرْعَيْنِ نَائِبَيْنِ عَنْ الْأَصْلَيْنِ فَيَكُونُ فِعْلُهُمَا كَفِعْلِهِمَا لِيَرْتَفِعَ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَعَمِلَ مَنْعُ الْأَصْلَيْنِ إيَّاهُمَا عَنْ الْأَدَاءِ بَعْدَ التَّحْمِيلِ وَلَا يُعْمَلُ، فَلَهُمَا بَلْ عَلَيْهِمَا أَنْ يُؤَدِّيَا لَوْ مَنَعَاهُمَا بَعْدَ التَّحْمِيلِ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِحَقٍّ آخَرَ إنَّمَا يَقْضِي بِهِ بِشَهَادَتِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا

ص: 495

(وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ جَمِيعًا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَهُمَا عَلَى الْفُرُوعِ لَا غَيْرُ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَتِهِمْ: وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولَ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْفُرُوعَ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَا وَبِشَهَادَةِ الْأُصُولِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي التَّضْمِينِ (وَإِنْ قَالَ شُهُودُ الْفَرْعِ كَذَبَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ غَلِطُوا فِي شَهَادَتِهِمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ) لِأَنَّ مَا أُمْضِيَ مِنْ الْقَضَاءِ لَا يُنْتَقَضُ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مَا رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ إنَّمَا شَهِدُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالرُّجُوعِ

يَقْضِي بِمَا عَايَنَ مِنْ الْحُجَّةِ وَهُوَ شَهَادَتُهُمَا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَيْسَ إلَّا بِشَهَادَتِهِمَا لَمْ يَضْمَنْ غَيْرَهُمَا، وَقَدْ أَخَّرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَ مُحَمَّدٍ وَعَادَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَهُ مَا أَخَّرَهُ

(قَوْلُهُ وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ جَمِيعًا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَهُمَا عَلَى الْفُرُوعِ) بِنَاءً عَلَى مَا عُرِفَ لَهُمَا مِنْ (أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ) وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَكُونُ بِرُجُوعِ مَنْ قَضَى بِشَهَادَتِهِ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْفُرُوعَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَا) وَهُوَ قَوْلُهُمَا إنَّ الْقَضَاءَ بِمَا عَايَنَ الْقَاضِي مِنْ الْحُجَّةِ، وَإِنَّمَا عَايَنَ شَهَادَةَ الْفُرُوعِ (وَمِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ) أَيْ مُحَمَّدٌ رحمه الله وَهُوَ أَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ، فَالْقَضَاءُ بِالشَّهَادَةِ الْمَنْقُولَةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْأُصُولِ.

وَقَوْلُهُ (وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لِمَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ فَيَضْمَنُ كُلًّا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَ الْمُتْلَفِ؟ فَقَالَ هُمَا مُتَغَايِرَتَانِ لِأَنَّ شُهُودَ الْأَصْلِ يَشْهَدُونَ عَلَى أَصْلِ الْحَقِّ وَشُهُودَ الْفَرْعِ يَشْهَدُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ. وَقِيلَ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا إشْهَادٌ وَالْأُخْرَى أَدَاءٌ لِلشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ فَلَا تُعْتَبَرُ شَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَمْرِ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي التَّضْمِينِ بَلْ أَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ فِي تَضْمِينِ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ شَاءَ، وَلَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إذَا ضَمِنَ بِمَا أَدَّى عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَإِنَّهُ إذَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَى غَاصِبِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِهِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْآخَرِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُتْلِفَ نَقَلَ شَهَادَةَ الْأُصُولِ، إذْ لَوْلَا إشْهَادُ الْأُصُولِ مَا تَمَكَّنَ الْفُرُوعُ مِنْ النَّقْلِ، وَلَوْلَا نَقْلُ الْفُرُوعِ لَمْ يَثْبُتْ النَّقْلُ فَكَانَ فِعْلُ كُلٍّ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ

ص: 496

قَالَ (وَإِنْ رَجَعَ الْمُزَكَّوْنَ عَنْ التَّزْكِيَةِ ضَمِنُوا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

وَقَالَا: لَا يَضْمَنُونَ لِأَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارُوا كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ. وَلَهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ إعْمَالٌ لِلشَّهَادَةِ، إذْ الْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِهَا إلَّا بِالتَّزْكِيَةِ فَصَارَتْ بِمَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ، بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مَحْضٌ

(وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْيَمِينِ وَشَاهِدَانِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ

سَبَبَ الضَّمَانِ.

أَمَّا الْفُرُوعُ فَبِالنَّقْلِ. وَأَمَّا الْأُصُولُ فَبِتَحْمِيلِهِمْ الْفُرُوعَ عَلَى النَّقْلِ، إذْ بِتَحْمِيلِهِمْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ شَرْعًا حَتَّى يَأْثَمُوا لَوْ تَرَكُوا النَّقْلَ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِهِ

(قَوْلُهُ وَإِنْ رَجَعَ الْمُزَكَّوْنَ عَنْ التَّزْكِيَةِ) بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْمَالِ (ضَمِنُوا) الْمَالَ أَطْلَقَهُ الْقُدُورِيُّ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُونَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الَّذِي بِهِ الْإِتْلَافُ لَمْ يَقَعْ بِالتَّزْكِيَةِ بَلْ بِالشَّهَادَةِ فَلَمْ يُضِفْ التَّلَفَ إلَيْهِمْ فَلَا يَضْمَنُونَ (وَصَارُوا كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ) إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ لَا يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ بِاتِّفَاقِنَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ التَّزْكِيَةَ عِلَّةُ إعْمَالِ الشَّهَادَةِ وَالشَّهَادَةَ عِلَّةُ التَّلَفِ فَصَارَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى التَّزْكِيَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَمَا يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْعِلَّةُ فِي الْقَتْلِ بَلْ الْعِلَّةُ فِيهِ الزِّنَا، وَالْإِحْصَانُ لَيْسَ مُثْبِتًا لِلزِّنَا فَشُهُودُهُ لَا يَثْبُتُونَ الزِّنَا، فَلَيْسَ عِلَّةً لِعِلَّةِ الْقَتْلِ لِيَجِبَ الضَّمَانُ بَلْ هُوَ شَرْطٌ مَحْضٌ: أَيْ عِنْدَ وُجُودِهِ فَيَكُونُ الْحَدُّ كَذَا، وَتَمَامُ الْمُؤَثِّرِ فِي الْحَدِّ رَجْمًا كَانَ أَوْ جَلْدًا لَيْسَ إلَّا الزِّنَا، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ مِنْ طَرَفِهِمَا إنَّ الْحُكْمَ لَا يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ وُجُودِهَا لَا يُضَافُ إلَّا إلَيْهَا. وَهَذَا فَرْعٌ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ: شَهِدُوا بِالزِّنَا وَزَكَّوْا وَقَالَ الْمُزَكَّوْنَ هُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فَرَجَمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ، فَإِنْ ثَبَتَ الْمُزَكَّوْنَ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى الشُّهُودِ، أَمَّا الشُّهُودُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ، بَلْ الْوَاقِعُ أَنْ لَا شَهَادَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَبِيدٍ أَوْ كُفَّارٍ.

وَأَمَّا الْمُزَكَّوْنَ فَلِأَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا قَوْلَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ إخْبَارُهُمْ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ شَهَادَةً، وَأَمَّا لَوْ رَجَعُوا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ الدِّيَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَعِنْدَهُمَا الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْمُزَكَّيْنَ مَا أَثْبَتُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ وَهُوَ الزِّنَا، إنَّمَا أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا.

وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: جَعَلُوا مَا لَيْسَ بِمُوجَبٍ: أَعْنِي الشَّهَادَةَ مُوجَبًا بِالتَّزْكِيَةِ إلَى آخِرِهِ: يَعْنِي مَا ذَكَرْنَا

(قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْيَمِينِ) أَيْ شَهِدُوا بِتَعْلِيقِ طَلَاقِ زَوْجَتِهِ قَبْلَ

ص: 497

ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ، وَالتَّلَفُ يُضَافُ إلَى مُثْبِتِي السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ الْمَحْضِ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ الْيَمِينِ دُونَ شُهُودِ الشَّرْطِ، وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ. وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ يَمِينُ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ.

الدُّخُولِ بِهَا بِدُخُولِ الدَّارِ أَوْ بِتَعْلِيقِ عِتْقِ عَبْدِهِ بِهِ ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ بِدُخُولِ الدَّارِ فَقَضَى بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ثُمَّ رَجَعَ الْفَرِيقَانِ (فَالضَّمَانُ) لِنِصْفِ الْمَهْرِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ (عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ خَاصَّةً) وَاحْتُرِزَ بِلَفْظِ خَاصَّةً عَنْ قَوْلِ زُفَرَ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ.

قَالَ: لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِشَهَادَتِهِمْ. قُلْنَا: الْقَضَاءُ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ إنَّمَا هُوَ بِثُبُوتِ قَوْلِهِ أَنْتَ طَالِقٌ وَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّهُ الْعِلَّةُ فِي الْوُقُوعِ وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُصَنِّفُ السَّبَبَ، وَذَلِكَ إنَّمَا أَثْبَتَهُ شُهُودُ الْيَمِينِ، بِخِلَافِ شُهُودِ الدُّخُولِ لِأَنَّ الدُّخُولَ لَمْ يُوضَعْ شَرْعًا عِلَّةً لِطَلَاقٍ وَلَا عَتَاقٍ فَلَمْ يَكُنْ عِلَّةً، وَإِذَا ضَمِنَ الدَّافِعُ مَعَ وُجُودِ الْحَافِرِ وَهُمَا مُسَبِّبَانِ غَيْرَ أَنَّ الدَّفْعَ مُثْبَتٌ لِسَبَبٍ أَقْرَبَ مِنْ الْحَفْرِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا هِيَ الثِّقَلُ فَلَأَنْ يَضْمَنَ مُبَاشِرُ الْعِلَّةَ دُونَ مُبَاشِرِ السَّبَبِ أَوْلَى. وَمِنْ هَذَا إذَا رَجَعَ شُهُودُ التَّخْيِيرِ مَعَ شُهُودِ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا يَضْمَنُ شُهُودُ الِاخْتِيَارِ خَاصَّةً لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ هُوَ الْعِلَّةُ وَالتَّخْيِيرَ سَبَبٌ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا إذَا شَهِدَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ فُلَانَةَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا وَقَضَى بِكُلِّ الْمَهْرِ ثُمَّ رَجَعُوا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْمَهْرِ بِالتَّزَوُّجِ لِأَنَّ شُهُودَ الدُّخُولِ أَثْبَتُوا أَنَّ الزَّوْجَ اسْتَوْفَى عِوَضَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالتَّزَوُّجِ فَخَرَجَتْ شَهَادَتُهُمَا مِنْ أَنْ تَكُونَ إتْلَافًا، ثُمَّ مُقْتَضَى مَا فِي وَجْهِ انْفِرَادِ شُهُودِ الْيَمِينِ بِالضَّمَانِ أَنْ يَجِبَ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ لَوْ رَجَعُوا وَحْدَهُمْ بِتَسَبُّبِهِمْ بِإِثْبَاتِهِمْ مَا يَثْبُتُ السَّبَبُ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ مَعَهُمْ شُهُودُ الْيَمِينِ، وَحَكَى الْمُصَنِّفُ فِيهِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ.

قَالَ الْعَتَّابِيُّ قَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ: يَضْمَنُونَ لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا فِي التَّلَفِ بِغَيْرِ حَقٍّ، لِأَنَّ لَهُ أَثَرٌ فِي وُجُودِ الْعِلَّةِ عِنْدَهُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ

ص: 498

(كِتَابُ الْوَكَالَةِ)

عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ، بِخِلَافِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ أَثَّرَ فِي مَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ الدُّخُولَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ سَبَّبَ الِامْتِنَاعَ مِنْ الزِّنَا لَا سَبَّبَ إتْيَانَهُ فَلَا يَلْحَقُ بِالْعِلَّةِ.

وَجَعَلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ هَذَا عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِ الْعَتَّابِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا غَلَطٌ، بَلْ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ لَا يَضْمَنُونَ بِحَالٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ حُرٌّ مُبَاشِرُ الْإِتْلَافِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يُضَافُ إلَيْهِ لَا إلَى الشَّرْطِ سَوَاءً كَانَ تَعَدِّيًا أَوَّلًا. بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ فَالْعِلَّةُ هُنَاكَ ثِقَلُ الْمَاشِي، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ فِي شَيْءٍ فَلِهَذَا يُجْعَلُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا لِلشَّرْطِ وَهُوَ إزَالَةُ الْمَسْكَةِ.

ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ صُورَةَ رُجُوعِ شُهُودِ الشَّرْطِ وَحْدِهِمْ إذَا أَقَرَّ بِالتَّعْلِيَةِ فَشَهِدَا بِوُجُودِ الشَّرْطِ. وَأَمَّا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيقِ وَآخَرَانِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(كِتَابُ الْوَكَالَةِ)

أَعْقَبَ الشَّهَادَةَ بِالْوَكَالَةِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الشَّاهِدِ وَالْوَكِيلِ سَاعٍ فِي تَحْصِيلِ مُرَادِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَالْمُدَّعِي مُعْتَمِدٌ عَلَيْهِ كُلٌّ مِنْهُمَا. وَالْوَكَالَةُ لُغَةً بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا اسْمٌ لِلتَّوْكِيلِ وَهُوَ تَفْوِيضُ أَمْرِك إلَى مَنْ وَكَّلْته اعْتِمَادًا عَلَيْهِ فِيهِ تَرَفُّهًا مِنْك

ص: 499

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أَوْ عَجْزًا عَنْهُ. وَالْوَكَالَةُ أَبَدًا إمَّا لِلْعَجْزِ أَوْ لِلتَّرَفُّهِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا لِلضَّعْفِ، وَلِذَا كَانَ مَعْنَى الْوَكِلِ مَنْ فِيهِ ضَعْفٌ، وَفُسِّرَ قَوْلُ لَبِيدٍ:

وَكَأَنِّي مُلْجِمٌ سَوْذَانِقًا

أَجْدَلِيًّا كَرُّهُ غَيْرُ وَكِلْ

وَالسَّوْذَانِقُ وَالسَّوْذَقُ وَالسَّوْذَنِيقُ: الشَّاهِينُ، وَالْأَجْدَلُ: الصَّقْرُ نَسَبَ فَرَسَهُ إلَيْهِ وَوَكَّلَهُ جَعَلَهُ وَكِيلًا: أَيْ مُفَوَّضًا إلَيْهِ الْأَمْرُ، وَمِنْهُ وَكَلَ أَمْرَهُ إلَى فُلَانٍ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ:

فَلَأْيًا قَصَرْت الطَّرَفَ عَنْهُمْ بِحُرَّةِ

أَمُونٍ إذَا وَاكَلْتُهَا لَا تَوَاكَلُ

يَعْنِي إذَا فَوَّضْت أَمْرَهَا إلَيْهَا لَا تُوَكِّلُ نَفْسَهَا إلَى أَنْ أَحُثَّهَا عَلَى السَّيْرِ بَلْ تَسْتَمِرُّ عَلَى جَدِّهَا فِي السَّيْرِ وَلَا تَضْعُفُ فِيهِ، أَوْ تَوَكَّلُ قَبْلَ الْوَكَالَةِ وَاتَّكَلْت عَلَيْهِ اعْتَمَدْت وَأَصْلُهُ وَاتَّكَلْت قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا ثُمَّ أُبْدِلَتْ تَاءً فَأُدْغِمَتْ فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ.

وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَهُوَ الْقَائِمُ بِمَا فُوِّضَ إلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ: أَيْ مَوْكُولٌ إلَيْهِ الْأَمْرُ، فَإِذَا كَانَ قَوِيًّا عَلَى الْأَمْرِ قَادِرًا عَلَيْهِ نَصُوحًا تَمَّ أَمْرُ الْمُوَكِّلِ، فَإِذَا رَضِيَ سبحانه وتعالى أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا عَنْك وَاعْتَمَدْت عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الْحِرْمَانُ الْعَظِيمُ، فَكَيْفَ إذَا أَوْجَبَهُ عَلَيْك لِتَحَقُّقِ مَصْلَحَتِك فَضْلًا مِنْهُ.

قَالَ اللَّهُ عز وجل {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} وَعَلَى هَذَا اسْتِمْرَارُ إحْسَانِهِ وَبِرِّهِ لَا إلَهَ غَيْرُهُ. وَأَمَّا شَرْعًا فَالتَّوْكِيلُ إقَامَةُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ مَقَامَهُ فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ التَّصَرُّفُ مَعْلُومًا ثَبَتَ بِهِ أَدْنَى تَصَرُّفَاتِ الْوَكِيلِ وَهُوَ الْحِفْظُ فَقَطْ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ قَالَ لِآخَرَ وَكَّلْتُك بِمَالِي: إنَّهُ يَمْلِكُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْحِفْظَ فَقَطْ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ: إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ أَنْتَ وَكِيلٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَانَ وَكِيلًا بِالْحِفْظِ

وَأَمَّا سَبَبُهَا فَدَفْعُ الْحَاجَةِ الْمُتَحَقِّقَةِ إلَيْهَا كَمَا سَيَظْهَرُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ.

وَأَمَّا رُكْنُهَا فَالْأَلْفَاظُ الْخَاصَّةُ الَّتِي بِهَا تَثْبُتُ مِنْ قَوْلِهِ وَكَّلْتُك بِبَيْعِ هَذَا أَوْ شِرَائِهِ مَعَ اقْتِرَانِهِ بِقَبُولِ الْمُخَاطَبِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً فِيمَا إذَا سَكَتَ فَلَمْ يَقْبَلْ أَوْ يَرُدَّ ثُمَّ عَمِلَ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ وَيَظْهَرُ بِالْعَمَلِ قَبُولُهُ. وَرَوَى بِشْرُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ أَحْبَبْت أَنْ تَبِيعَ عَبْدِي هَذَا أَوْ قَالَ هَوَيْت أَوْ رَضِيت أَوْ وَافِقْنِي أَوْ شِئْت أَوْ أَرَدْت أَوْ وَدِدْت وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ تَوْكِيلٌ. وَلَوْ قَالَ لَا أَنْهَاك عَنْ طَلَاقِ زَوْجَتِي لَا يَكُونُ تَوْكِيلًا، فَلَوْ طَلَّقَ لَا يَقَعُ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ لَا أَنْهَاك عَنْ التِّجَارَةِ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا.

وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: الْجَوَابُ فِي الْوَكَالَةِ كَذَلِكَ، أَمَّا فِي الْإِذْنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا لِأَنَّ الْعَبْدَ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى يَصِيرُ مَأْذُونًا وَهَذَا فَوْقَ السُّكُوتِ، ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ. وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمَعْنَى أَنَّ قَوْلَهُ لَا أَنْهَاك فِي حَالِ عَدَمِ مُبَاشَرَةِ الْعَبْدِ الْبَيْعَ فَوْقَ سُكُوتِهِ إذَا رَآهُ يَبِيعُ، وَتَقَدَّمَ عَنْ الْمَحْبُوبِيِّ أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ بِالْحِفْظِ، قَالُوا: فَلَوْ زَادَ فَقَالَ أَنْتَ وَكِيلِي فِي كُلِّ شَيْءٍ جَائِزٌ صُنْعَك أَوْ أَمْرَك؛ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ وَكِيلًا فِي الْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْهِبَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حَتَّى مَلَكَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ فَقَطْ، وَلَا يَلِي الْعِتْقَ وَالتَّبَرُّعَ. وَفِي فَتَاوَى بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَكَذَا لَوْ قَالَ طَلَّقْت امْرَأَتَك وَوَقَفْت أَرْضَك الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.

وَمِثْلُهُ إذَا قَالَ وَكَّلْتُك فِي جَمِيعِ أُمُورِي. وَلَوْ قَالَ فَوَّضْت أَمْرَ مَالِي إلَيْك يَصِيرُ وَكِيلًا بِالْحِفْظِ فَقَطْ، وَكَذَا فَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك الصَّحِيحُ أَنَّهُ مِثْلُهُ

ص: 500

قَالَ (كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فَيَكُونَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ

وَفِي الْمَبْسُوطِ: إذَا وَكَّلَهُ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَهُوَ وَكِيلٌ بِالْحِفْظِ لَا بِتَقَاضِي بَيْعٍ وَلَا شِرَاءٍ، وَفَوَّضْت لَك أَمْرَ مُسْتَغَلَّاتِي وَكَانَ أَجْرُهَا مِلْكَ تَقَاضِي الْأُجْرَةِ وَقَبْضِهَا، وَكَذَا أَمْرَ دُيُونِي مِلْكَ التَّقَاضِي، وَأَمْرَ دَوَابِّي مِلْكَ الْحِفْظِ وَالرَّعْيِ وَالتَّعْلِيفِ، وَأَمْرَ مَمَالِيكِي مِلْكَ الْحِفْظِ وَالنَّفَقَةِ، وَفَوَّضَتْ إلَيْك أَمْرَ امْرَأَتِي مِلْكَ طَلَاقِهَا وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَكَّلْتُك.

وَالْوِصَايَةُ حَالَةَ الْحَيَاةِ وَكَالَةٌ كَالْوَكَالَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ وِصَايَةٌ لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ الْمَعَانِي. وَكَّلْتُك فِي كُلِّ أُمُورِي وَأَقَمْتُك مَقَامَ نَفْسِي لَيْسَ تَوْكِيلًا عَامًّا، فَإِنْ كَانَ لَهُ صِنَاعَةٌ مَعْلُومَةٌ كَالتِّجَارَةِ مَثَلًا يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صِنَاعَةٌ مَعْلُومَةٌ وَمُعَامَلَاتُهُ مُخْتَلِفَةٌ فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ وَلَوْ قَالَ وَكَّلْتُك فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهَا فَتَوْكِيلٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْبِيَاعَاتِ وَالْأَنْكِحَةَ. وَأَمَّا شَرْطُهَا فَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ.

وَأَمَّا صِفَتُهَا فَإِنَّهَا مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ غَيْرِ اللَّازِمَةِ حَتَّى مَلَكَ كُلٌّ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ الْعَزْلَ بِلَا رِضَا الْآخَرِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِكَوْنِ شَرْعِيَّتِهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ رَدَّ الْمُحَقِّقُونَ قَوْلَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فِيمَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا عَزَلْتُك فَأَنْتَ وَكِيلٌ لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ لِأَنَّهُ كُلَّمَا عَزَلَهُ تَتَجَدَّدُ وَكَالَتُهُ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ جَائِزٌ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْوَكَالَةِ مِنْ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ لَا الْجَائِزَةِ فَالْحَقُّ إمْكَانُ عَزْلِهِ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْقِيقِ لَفْظِ الْعَزْلِ؛ فَقِيلَ أَنْ يَكُونَ عَزَلْتُك عَنْ جَمِيعِ الْوَكَالَاتِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُعَلَّقِ وَالْمُنَجَّزِ. وَقِيلَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْعَزْلَ فَرْعُ قِيَامِ الْوَكَالَةِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُنَجَّزِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عَدَمُ قَبُولِ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَالصَّحِيحُ أَنْ يَقُولَ عَزَلْتُك عَنْ الْوَكَالَةِ الْمُنَفَّذَةِ وَرَجَعْت عَنْ الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ وَالرُّجُوعُ عَنْهَا صَحِيحٌ وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَظَهِيرُ الدِّينِ: يَجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ الرُّجُوعَ عَنْ الْمُعَلَّقَةِ عَلَى الْعَزْلِ عَنْ الْمُنَفَّذَةِ لِأَنَّهُ إذَا قَدَّمَ الْعَزْلَ عَنْ الْمُنَفَّذَةِ تَتَنَجَّزُ وَكَالَةٌ أُخْرَى مِنْ الْمُعَلَّقَةِ.

وَقِيلَ هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ لَفْظُ الرُّجُوعِ يَخُصُّ الْمُعَلَّقَةَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْإِخْرَاجَ عَنْ الْمُعَلَّقَةِ بِلَفْظِ الْعَزْلِ لَا يَصِحُّ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّهُ يَجُوزُ فَلَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

وَأَمَّا حُكْمُهَا فَجَوَازُ مُبَاشَرَةِ الْوَكِيلِ مَا وُكِّلَ بِهِ وَثُبُوتُ حُكْمِهِ لِلْمُوَكِّلِ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِكَوْنِهِ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنْ الْفِعْلِ الْمُوَكَّلِ بِهِ، وَإِلَّا فَمِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ وَالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ يَثْبُتُ ذَلِكَ لِلْمُوَكِّلِ

(قَوْلُهُ كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ) هَذَا ضَابِطٌ لَا حَدٌّ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْخَمْرِ وَيَمْلِكُ تَوْكِيلَ الذِّمِّيِّ بِهِ لِأَنَّ إبْطَالَ الْقَوَاعِدِ بِإِبْطَالِ الطَّرْدِ لَا الْعَكْسَ، وَلَا يُبْطِلُ طَرْدُهُ عَدَمَ تَوْكِيلِ الذِّمِّيِّ مُسْلِمًا بِبَيْعِ خَمْرِهِ، وَهُوَ يَمْلِكُهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّوَصُّلَ بِهِ بِتَوْكِيلِ الذِّمِّيِّ، فَصَدَقَ الضَّابِطُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ كُلُّ عَقْدٍ يَمْلِكُهُ يَمْلِكُ تَوْكِيلَ كُلِّ أَحَدٍ بِهِ بَلْ التَّوَصُّلُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَيْهِ تَوْكِيلَهُ الْوَكِيلُ الَّذِي لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ التَّصَرُّفَ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْعَقْدَ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ وَلَا يَمْلِكُ

ص: 501

وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ بِالشِّرَاءِ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ وَبِالتَّزْوِيجِ عُمَرَ بْنَ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما» .

التَّوْكِيلَ بِهِ، فَذَكَرُوا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِمُجَرَّدِ أَهْلِيَّتِهِ اسْتِبْدَادًا لَا بِنَاءً عَلَى إذْنِ غَيْرِهِ (قَوْلُهُ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَخْ) أَمَّا وَكَالَةُ حَكِيمٍ فَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُد بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ لَهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَاهَا بِدِينَارٍ وَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ فَرَجَعَ وَاشْتَرَى أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِدِينَارٍ وَأُضْحِيَّةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَصَدَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ وَدَعَا لَهُ أَنْ يُبَارِكَ لَهُ فِي تِجَارَتِهِ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ حَكِيمٍ وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَحَبِيبٌ عِنْدِي أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ حَكِيمٍ إلَّا أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي الْإِرْسَالِ عِنْدَنَا فَيُصَدَّقُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ صَحَّ إذَا كَانَ حَبِيبٌ إمَامًا ثِقَةً.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَيُّ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ قَالَ: «أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا يَشْتَرِي أُضْحِيَّةً أَوْ شَاةً فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ فَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ فَكَانَ لَوْ اشْتَرَى تُرَابًا رَبِحَ فِيهِ» وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي لَبِيدٍ وَاسْمُهُ لُمَازَةُ بْنُ زَبَّارٍ عَنْ عُرْوَةَ فَذَكَرَهُ، وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْ هَذَا ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ وَقَعَتْ لَهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ حَكِيمٍ أَوْ مَعَ عُرْوَةَ أَوْ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ فَتَثْبُتُ شَرْعِيَّةُ الْوَكَالَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

وَأَمَّا أَنَّهُ وَكَّلَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ: التَّزْوِيجَ فَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إلَيْهَا يَخْطُبُهَا فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ إنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ، وَإِنِّي غَيْرَى، وَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا كَوْنُك غَيْرَى فَسَأَدْعُو اللَّهَ فَتَذْهَبُ غَيْرَتُك، وَأَمَّا كَوْنُك مُصْبِيَةً فَإِنَّ اللَّهَ سَيَكْفِيك صِبْيَانَك، وَأَمَّا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَوْلِيَائِك لَيْسَ شَاهِدًا فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِك لَا شَاهِدٌ وَلَا غَائِبٌ إلَّا سَيَرْضَى بِهِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قُمْ يَا عُمَرُ

ص: 502

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فَزَوِّجْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.

وَاسْمُ ابْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ سَعِيدٌ سَمَّاهُ غَيْرُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ. وَنَظَرَ فِيهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِعِلَّةٍ بَاطِنَةٍ وَهِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ إذْ ذَاكَ: يَعْنِي حِينَ تَزَوَّجَهَا عليه الصلاة والسلام سِنُّهُ ثَلَاثَ سِنِينَ فَكَيْفَ يُقَالُ لِمِثْلِهِ زَوِّجْ. وَاسْتَبْعَدَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْكَلَابَاذِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَهُ فَإِنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ إنَّهُ وُلِدَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ إلَى الْحَبَشَةِ.

وَيُقَوِّي هَذَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ «أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: سَلْ هَذِهِ فَأَخْبَرَتْهُ أُمُّهُ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام يَصْنَعُ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَمَا وَاَللَّهِ إنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ» وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ كَبِيرًا.

ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ وَكِيلًا عَنْ أُمِّهِ لِأَنَّهَا هِيَ الْقَائِلَةُ لَهُ قُمْ يَا عُمَرُ فَزَوِّجْ لَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا يُفِيدُ ذَلِكَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ إلَى ابْنِهَا عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، فَزَوَّجَهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ صَغِيرٌ» إلَّا أَنَّهُمْ يُضَعِّفُونَ الْوَاقِدِيَّ خِلَافًا لَنَا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وَكَالَةِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ خِلَافًا لَهُمْ، إنْ نَظَرْنَا إلَى حَدِيثِ الْوَاقِدِيِّ فَظَاهِرٌ، وَإِلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُزَوِّجْهَا بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ عَلَى أُمِّهِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا وِلَايَةَ لَهُ فَيَكُونُ تَزْوِيجُهُ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ.

وَقَدْ قِيلَ إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه هُوَ الْمَقُولُ لَهُ زَوِّجْ وَالْمُزَوِّجُ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةِ الْوَكَالَةِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا: حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ «أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمْت عَلَيْهِ وَقُلْت: إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ: إذَا أَتَيْت وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنْ ابْتَغَى مِنْك آيَةً فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ» وَابْنُ إِسْحَاقَ عِنْدَنَا مِنْ الثِّقَاتِ.

وَأَمَّا عَلَى تَوْكِيلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَقِيلًا فَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ يَكْرَهُ الْخُصُومَةَ، فَكَانَ إذَا

ص: 503

قَالَ (وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَاجَةِ إذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى وُجُوهِ الْخُصُومَاتِ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه وَكَّلَ عَقِيلًا، وَبَعْدَمَا أَسَنَّ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رضي الله عنه (وَكَذَا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ بِاسْتِيفَائِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ) لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ، بِخِلَافِ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الرُّجُوعِ، وَبِخِلَافِ حَالَةِ الْحَضْرَةِ لِانْتِفَاءِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ.

فَلَوْ مُنِعَ عَنْهُ

كَانَتْ لَهُ خُصُومَةٌ وَكَّلَ فِيهَا عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا كَبِرَ عَقِيلٌ وَكَّلَنِي.

وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ بِالْخُصُومَةِ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله: إنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجِزُ إلَى آخِرِهِ.

بَيَانُ حِكْمَةِ شَرْعِيَّةِ الْوَكَالَةِ

(قَوْلُهُ تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَهْتَدِي إلَى وُجُوهِ الْخُصُومَاتِ الَّتِي بِهَا يَثْبُتُ حَقُّهُ أَوْ يَنْدَفِعُ بِهَا عَنْهُ مَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ.

وَكَذَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَاسْتِيفَائِهَا إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَمَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ بِإِيفَائِهَا وَلَا بِاسْتِيفَائِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِيفَاءِ فَقَطْ فَالنَّفْيُ مُطْلَقٌ، إذْ الْإِيفَاءُ لَيْسَ إلَّا بِتَسْلِيمِ ظَهْرِهِ أَوْ نَفْسِهِ لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْأَمْرُ إلَّا مِنْ الْجَانِي وَلَيْسَ هُوَ الْوَكِيلُ، فَكَانَ ذَلِكَ قَيْدًا فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِيفَاءُ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهَا: أَيْ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَتِهِ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ، قَالَ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} بِخِلَافِ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي ذَلِكَ مَعَ غَيْبَتِهِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهِ لَيْسَ إلَّا الرُّجُوعُ، وَلَيْسَ قَرِيبًا فِي الظَّاهِرِ وَلَا ظَاهِرَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ وَلَا الْغَالِبِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصِّدْقُ خُصُوصًا مَعَ الْعَدَالَةِ وَالرُّجُوعُ لَيْسَ غَالِبًا، بَلْ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِمِائَةِ عَامٍ لَا يُعْرَفُ إلَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ هَلْ نَدَرَ عِنْدَ غَيْرِهِ أَمْ لَا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا وُجُودَ لَهُ فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً يُدَارُ بِاعْتِبَارِهَا حُكْمٌ (بِخِلَافِ) الِاسْتِيفَاءِ (حَالَ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ) فَإِنَّ الْوَكَالَةَ بِهِ تَجُوزُ،

ص: 504

يَنْسَدُّ بَابُ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصُ بِإِقَامَةِ الشُّهُودِ أَيْضًا) وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رحمهم الله، وَقِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي غَيْبَتِهِ

فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ قَدْ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ، فَلَوْ امْتَنَعَ التَّوْكِيلُ بِهِ بَطَلَ هَذَا الْحَقُّ وَهَذَا فِي الْقِصَاصِ. وَأَمَّا الْحُدُودُ فَإِنَّ الَّذِي يَلِي اسْتِيفَاءَهَا الْإِمَامُ، وَقَدْ لَا يُحْسِنُ فَجَازَ تَوْكِيلُ الْجَلَّادِ وَإِلَّا امْتَنَعَ.

ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ تَعْلِيلَ الْمُصَنِّفِ النَّفْيَ حَالَةَ الْغَيْبَةِ بِثُبُوتِ شُبْهَةِ الْعَفْوِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي الْقِصَاصِ دُونَ الْحُدُودِ لِأَنَّ الْعَفْوَ فِيهَا لَا يَتَحَقَّقُ أَصْلًا كَمَا أَسْلَفْنَاهُ فِي الْحُدُودِ، وَلَوْ كَانَ حَدُّ قَذْفٍ وَسَرِقَةٍ لِأَنَّ الْحَقَّ صَارَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، حَتَّى لَوْ عَفَا الْمَسْرُوقُ مِنْهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَيَقْطَعُهُ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَضُمَّ مَا يَجْرِي فِيهِ مِنْ إمْكَانِ ظُهُورِ شُبْهَةٍ أَوْ غَلَطٍ، فَبَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَيُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يَحْضُرَ نَفْسُ الْمُسْتَحِقِّ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ (قَوْلُهُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ) أَيْ مِنْ جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ: أَيْ مِنْ جِهَةِ الْمَقْذُوفِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى السَّبَبِ

(قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِثْبَاتِهَا) وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ تَارَةً يُضَمُّ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَتَارَةً إلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَرْجِيحُهُ، وَكَذَا فَعَلَ فِي الْمَبْسُوطِ (وَقِيلَ هَذَا الْخِلَافُ) بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ) فَلَوْ وُكِّلَ بِإِثْبَاتِهَا وَهُوَ

ص: 505

دُونَ حَضْرَتِهِ لِأَنَّ كَلَامَ الْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ عِنْدَ حُضُورِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِنَفْسِهِ. لَهُ أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ وَشُبْهَةُ النِّيَابَةِ يُتَحَرَّزُ عَنْهَا فِي هَذَا الْبَابِ (كَمَا فِي الشَّهَادَةِ وَكَمَا فِي الِاسْتِيفَاءِ) وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ مَحْضٌ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُضَافٌ إلَى الْجِنَايَةِ وَالظُّهُورَ إلَى الشَّهَادَةِ فَيَجْرِي فِيهِ التَّوْكِيلُ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ التَّوْكِيلُ بِالْجَوَابِ مِنْ جَانِبِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ.

وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِيهِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَمْنَعُ الدَّفْعَ، غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةِ عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ.

حَاضِرٌ جَازَ اتِّفَاقًا

(لِأَنَّ كَلَامَ الْوَكِيلِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ عِنْدَ حُضُورِهِ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَابَةٌ وَشُبْهَةُ النِّيَابَةِ يُحْتَرَزُ عَنْهَا فِي هَذَا الْبَابِ) أَيْ بَابِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ حَتَّى لَا تَثْبُتَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَلَا بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَلَا بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فَصَارَ كَالتَّوْكِيلِ بِالِاسْتِيفَاءِ حَالِ الْغَيْبَةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ مَحْضٌ) لِثُبُوتِ الْحَدِّ (لِأَنَّ وُجُوبَهُ) إنَّمَا (يُضَافُ إلَى) نَفْسِ (الْجِنَايَةِ) لَا إلَى الْخُصُومَةِ (وَالظُّهُورِ) أَيْ ظُهُورِ الْجِنَايَةِ إنَّمَا يُضَافُ (إلَى) نَفْسِ (الشَّهَادَةِ) لَا إلَى السَّعْيِ فِي إثْبَاتِهَا فَكَانَ السَّعْيُ فِي ذَلِكَ حَقًّا (كَسَائِرِ الْحُقُوقِ) فَيَجُوزُ لِقِيَامِ الْمُقْتَضَى وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ.

وَقَوْلُهُ سَائِرُ الْحُقُوقِ: أَيْ بَاقِيهَا: أَيْ فَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِهَذَا الْحَقِّ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى تَفْسِيرِهِ بِجَمِيعِ الْحُقُوقِ مُعَوِّلًا عَلَى مَا فِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ ثُمَّ تَخْطِئَتِهِ بِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْبَاقِي لَا الْجَمِيعِ. هَذَا وَقَدْ يُمْنَعُ انْتِفَاءُ الْمَانِعِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْخُصُومَةَ لَيْسَ إلَّا السَّعْيَ فِي إثْبَاتِ سَبَبِ الْحَدِّ وَالِاحْتِيَالِ فِيهِ وَوَضَعَ الشَّرْعُ الِاحْتِيَالَ لِإِسْقَاطِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَحَّ هَذَا لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهَا مِنْ الْمُوَكِّلِ نَفْسَهُ عَلَى مَا ذَكَرْت لِأَنَّهُ سَاعٍ إلَى آخِرِهِ وَذَلِكَ يُخِلُّ بِالْإِجْمَاعِ.

قُلْنَا الْفَرْقُ أَنَّ الْوَكَالَةَ فِيهَا زِيَادَةُ تَحَيُّلٍ وَزِيَادَةُ تَكَلُّفٍ لِإِثْبَاتِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُوَكِّلُ لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِ لِضَعْفِهِ هُوَ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَالشَّرْعُ أَطْلَقَ فِي إثْبَاتِهِ لَا بِذَلِكَ التَّكَلُّفِ الزَّائِدِ وَالتَّهَالُكِ فِيهِ، بَلْ إذَا عَجَزَ تَرَكَ لِأَنَّهُ عِلَّةُ الدَّرْءِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلَّذِينَ اتَّبَعُوا مَاعِزًا حِينَ هَرَبَ لَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ؟» أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ التَّوْكِيلُ بِالْجَوَابِ مِنْ جَانِبِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ) أَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنَعَهُ أَبُو يُوسُفَ (وَ) لَا شَكَّ أَنَّ (كَلَامَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ أَظْهَرُ) مِنْهُ بِالْوَكَالَةِ بِإِثْبَاتِهَا (لِأَنَّ الشُّبْهَةَ) الَّتِي بِهَا مَنَعَ أَبُو يُوسُفَ هُنَاكَ (لَا تَمْنَعُ الدَّفْعَ) بَلْ تَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ بِجَوَازِ الْوَكَالَةِ بِدَفْعِهِ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ لِلْمُوَكَّلِ الْإِقْرَارُ عَلَى مُوَكِّلِهِ

ص: 506

(وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا. وَقَالَا: يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ.

كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَخِلَافُهُ هَذَا عَجِيبٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ وَجْهُ عَدَمِ صِحَّةِ إقْرَارِ الْوَكِيلِ مِنْ جِهَةِ الْمَطْلُوبِ هُنَا وَجَوَازُهُ فِي غَيْرِهِ أَنَّ الْوَكَالَةَ بِالْخُصُومَةِ انْصَرَفَتْ إلَى الْجَوَابِ مُطْلَقًا نَوْعًا مِنْ الْمَجَازِ فَنَعْتَبِرُ عُمُومَهُ فِيمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَنَخُصُّ مِنْهُ الِاعْتِرَافُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشَّرْعِ الْعَامِّ فِي الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ، وَفِي اعْتِرَافِهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ

(قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ) مِنْ قِبَلِ الْمُدَّعِي أَوْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ) إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا (وَقَالَا: يَجُوزُ) ذَلِكَ (بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله) قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله (وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ) قَالُوا: فَعَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ إلَخْ لَا يَلْزَمُ إلَّا بِرِضَا الْآخَرِ.

وَأَنْكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ عِبَارَةِ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنِ وَالطَّحَاوِيِّ وَكَثِيرٍ خِلَافُ ذَلِكَ، وَسَاقَ عِبَارَاتِهِمْ فَلَمْ تَرُدَّ عَلَى مَا عَلِمُوهُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ الْمَسْطُورِ هُنَا، وَهُوَ: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ، وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَشُكُّوا فِيهِ، وَإِنَّمَا فَسَرُّوهُ بِذَلِكَ.

وَسَبَقَ الْمُصَنِّفُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إلَى ذَلِكَ فَقَالَ: التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ صَحِيحٌ، لَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَطْلُبَ الْخَصْمَ أَنْ يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ وَيُجِيبَ، وَنَحْوُ هَذَا كَلَامٌ كَثِيرٌ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِمَّا ذَكَرُوهُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعَرِّفْ لِأَحَدٍ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ إذَا وَكَّلَ فَعَلِمَ خَصْمُهُ فَرَضِيَ لَا يَكُونُ رِضَاهُ كَافِيًا فِي تَوَجُّهِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ وَلَا تُسْمَعُ حَتَّى يُجَدِّدَ لَهُ وَكَالَةً أُخْرَى عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الظَّوَاهِرِ الَّتِي سَاقَهَا عَلِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِلَا تَجُوزُ إلَّا بِرِضَاهُ أَنَّهَا لَا تَمْضِي عَلَى الْآخَرِ وَتَلْزَمُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى، وَمَعْنَى هَذَا لَيْسَ إلَّا أَنَّ اللُّزُومَ عَلَيْهِ مَوْقُوفٌ عَلَى رِضَاهُ وَهُوَ مَعْنَى التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَمِنْ الْعِبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا مَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا أَقْبَلُ وَكَالَةً مِنْ حَاضِرٍ صَحِيحٍ إلَّا أَنْ يَرْضَى خَصْمُهُ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ حَتَّى أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ فَرَضِيَ الْآخَرُ لَا يَحْتَاجُ فِي سَمَاعِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ إلَى تَجْدِيدِ وَكَالَةٍ كَمَا هُوَ لَازِمُ مَا اُعْتُبِرَ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ

ص: 507

لَهُمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ كَالتَّوْكِيلِ بِتَقَاضِي الدُّيُونِ.

وَلَهُ أَنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ وَلِهَذَا يَسْتَحْضِرُهُ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْخُصُومَةِ، فَلَوْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا يَتَخَيَّرُ الْآخَرُ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ لِأَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِمَا هُنَالِكَ،

لَهُمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ) بِالْخُصُومَةِ (تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ) لِأَنَّ الْخُصُومَةَ حَقَّهُ الَّذِي لَا يَصُدُّ عَنْهُ فَاسْتِنَابَتُهُ فِيهِ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ (فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ) وَصَارَ (كَالتَّوْكِيلِ): بِغَيْرِ ذَلِكَ بِتَقَاضِي الدُّيُونِ.

وَلَهُ أَنَّ جَوَابَ الْخَصْمِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى خَصْمِهِ. وَلِاسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ يَسْتَحْضِرُهُ الْحَاكِمُ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِيُجِيبَهُ عَمَّا يَدَّعِيه عَلَيْهِ. وَغَايَةُ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ لَكِنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ إنَّمَا يُنَفَّذُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْإِضْرَارِ بِغَيْرِهِ (وَ) لَا شَكَّ أَنَّ (النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخُصُومَةِ) كَمَا صَرَّحَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ الْآخَرِ فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَكِيلَ إنَّمَا يَقْصِدُ عَادَةً لِاسْتِخْرَاجِ الْحِيَلِ وَالدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ لِيَغْلِبَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ مَعَهُ، كَمَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ.

وَفِي هَذَا ضَرَرٌ بِالْآخَرِ فَلَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْتِزَامِهِ، وَصَارَ (كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَاتَبَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ) فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، وَمَعَ هَذَا لَمَّا كَانَ مُتَضَمِّنًا الْإِضْرَارَ بِالْآخَرِ كَانَ لَهُ فَسْخُهَا، وَكَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إجَارَتُهُ إيَّاهَا تَصَرُّفٌ فِي حَقِّهِ وَمَمْلُوكِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُؤَجِّرِ إذْ كَانَ النَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي الرُّكُوبِ، بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ مِنْ التَّوْكِيلِ بِتَقَاضِي الدَّيْنِ فَإِنَّهُ بِحَقٍّ ثَابِتٍ مَعْلُومٍ يَقْبِضُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى الْآخَرِ فِيهِ فَإِنَّ الْقَبْضَ مَعْلُومٌ بِجِنْسِ حَقِّهِ وَعَلَى الْمَطْلُوبِ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، وَلِلتَّقَاضِي حَدٌّ مَعْلُومٌ إذَا جَاوَزَهُ مُنِعَ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْخُصُومَةِ فَإِنَّ ضَرَرَهَا أَشَدُّ مِنْ شِدَّةِ التَّقَاضِي، وَعَدَمُ الْمُسَاهَلَةِ فِي الْقَبْضِ لِتَضَمُّنِهَا التَّحَيُّلَ عَلَى إثْبَاتِ

ص: 508

ثُمَّ كَمَا يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ عِنْدَهُ مِنْ الْمُسَافِرِ يَلْزَمُ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً لَمْ تَجْرِ عَادَتُهَا بِالْبُرُوزِ وَحُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ قَالَ الرَّازِيّ رحمه الله: يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ لِأَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَنْطِقَ بِحَقِّهَا لِحَيَائِهَا فَيَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا. قَالَ: وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ.

مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ أَوْ دَفْعِ مَا هُوَ ثَابِتٌ فَلَا يُقْبَلُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، إلَّا إذَا كَانَ مَعْذُورًا وَذَلِكَ بِسَفَرِهِ فَإِنَّهُ يَعْجَزُ عَنْ الْجَوَابِ بِنَفْسِهِ مَعَ غَيْبَتِهِ أَوْ مَرَضِهِ، وَتَوْكِيلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ بِالْخُصُومَةِ إنْ لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ اسْتِرْضَاءُ الْخَصْمِ لَمْ يُنْقَلْ عَدَمُهُ فَهُوَ جَائِزُ الْوُقُوعِ فَلَا يَدُلُّ لِأَحَدٍ.

قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا عَلِمَ مِنْ الْمُدَّعِي التَّعَنُّتَ فِي إبَائِهِ التَّوْكِيلَ يَقْبَلُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِذَا عَلِمَ مِنْ الْمُوَكِّلِ الْقَصْدَ إلَى الْإِضْرَارِ بِالتَّوْكِيلِ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا بِرِضَا الْآخَرِ فَيَتَضَاءَلُ وَقْعُ الضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِي حَدِّ الْمَرَضِ: إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْمَشْيَ وَيَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوبِ وَلَوْ عَلَى إنْسَانٍ لَكِنْ يَزْدَادُ مَرَضُهُ صَحَّ التَّوْكِيلُ، وَإِنْ لَمْ يَزْدَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ لِأَنَّ نَفْسَ الْخُصُومَةِ مَظِنَّةُ زِيَادَةِ سُوءِ الْمِزَاجِ فَلَا يُلْزَمُ بِهِ (وَكَمَا يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُسَافِرِ يَلْزَمُ) مِنْ الْحَاضِرِ (عِنْدَ إرَادَةِ السَّفَرِ) غَيْر أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ فِي دَعْوَاهُ بِإِرَادَتِهِ فَيَنْظُرُ إلَى زِيِّهِ وَعِدَّةِ سَفَرِهِ وَيَسْأَلُهُ مَعَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ فَيَسْأَلُ رُفَقَاءَهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا إذَا أَرَادَ فَسْخَ الْإِجَارَةِ بِعُذْرِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْآجِرُ فَيَسْأَلُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ تَحَقَّقَ الْعُذْرُ فِي فَسْخِهَا (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً) قَالَ الرَّازِيّ وَهُوَ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيّ (يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ) مِنْهَا (لِأَنَّهَا لَوْ حَضَرَتْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَنْطِقَ بِحَقِّهَا لِحَيَائِهَا فَيَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا) أَوْ يُضَيِّعُ حَقُّهَا.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ يَعْنِي إمَّا عَلَى ظَاهِرِ إطْلَاقِ الْأَصْلِ وَغَيْرِهِ. عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ الْمُخَدَّرَةِ وَالْبَرْزَةِ، وَالْفَتْوَى عَلَى مَا اخْتَارُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَتَخْصِيصُ الرَّازِيّ ثُمَّ تَعْمِيمُ الْمُتَأَخِّرِينَ لَيْسَ إلَّا لِفَائِدَةِ أَنَّهُ الْمُبْتَدِئُ بِتَفْرِيعِ ذَلِكَ وَتَبِعُوهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ فِي تَفْسِيرِ الْمُخَدَّرَةِ عَنْ الْبَزْدَوِيِّ أَنَّهَا الَّتِي لَا يَرَاهَا غَيْرُ الْمَحَارِمِ مِنْ الرِّجَالِ. أَمَّا الَّتِي جَلِيَتْ عَلَى الْمِنَصَّةِ فَرَآهَا الرِّجَالُ لَا تَكُونُ مُخَدَّرَةً، وَلَيْسَ هَذَا بِحَقٍّ، بَلْ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَجْرِ عَادَتُهَا بِالْبُرُوزِ، فَأَمَّا حَدِيثُ الْمِنَصَّةِ فَقَدْ يَكُونُ عَادَةَ الْعَوَامّ تَفْعَلُهُ بِهَا وَالِدَتُهَا ثُمَّ لَمْ يَعْهَدْ لَهَا بُرُوزٌ وَمُخَالَطَةٌ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهَا بَلْ يَفْعَلُهُ غَيْرُهَا لَهَا (يَلْزَمُ تَوْكِيلُهَا) لِأَنَّ فِي إلْزَامِهَا بِالْجَوَابِ تَضْيِيعُ حَقِّهَا، وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.

ثُمَّ إذَا وَكَّلَتْ فَلَزِمَهَا يَمِينٌ بَعَثَ الْحَاكِمُ إلَيْهَا ثَلَاثَةً مِنْ الْعُدُولِ يَسْتَحْلِفُهَا أَحَدُهُمْ وَيَشْهَدُ الْآخَرَانِ عَلَى يَمِينِهَا أَوْ نُكُولِهَا. وَفِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ: إذَا كَانَ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ مَرِيضًا أَوْ مُخَدَّرَةً وَهِيَ الَّتِي لَمْ يُعْهَدْ لَهَا خُرُوجٌ إلَّا لِضَرُورَةٍ. فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مَأْذُونًا بِالِاسْتِخْلَافِ بَعَثَ نَائِبًا يَفْصِلُ الْخُصُومَةَ هُنَاكَ

ص: 509

(قَالَ: وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ)

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَعَثَ أَمِينًا وَشَاهِدَيْنِ يَعْرِفَانِ الْمَرْأَةَ وَالْمَرِيضَ، فَإِنْ بَعَثَهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى إقْرَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ إنْكَارِهِ مَعَ الْيَمِينِ لِيَنْقُلَاهُ إلَى الْقَاضِي، وَلَا بُدَّ لِلشَّهَادَةِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ، فَإِذَا شَهِدَا عَلَيْهِمَا قَالَ الْأَمِينُ وَكُلُّ مَنْ يَحْضُرُ مَعَ خَصْمِك مَجْلِسَ الْحُكْمِ فَيَحْضُرُ وَكِيلُهُ وَيَشْهَدَانِ عِنْدَ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ أَوْ نُكُولِهِ لِتُقَامَ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ الْوَكِيلِ.

وَلَوْ تَوَجَّهَ يَمِينٌ عَلَى أَحَدِهِمَا عَرَضَهُ الْأَمِينُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَبَى الْحَلِفَ عَرَضَهُ ثَلَاثًا، فَإِذَا نَكَلَ أَمَرَهُ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَحْضُرُ الْمَجْلِسَ لِيَشْهَدَا عَلَى نُكُولِهِ بِحَضْرَتِهِ، فَإِذَا شَهِدَا بِنُكُولِهِ حَكَمَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالدَّعْوَى بِنُكُولِهِ. قَالَ السَّرَخْسِيُّ: هَذَا اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِلْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَثَرِ النُّكُولِ. فَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ فَشَرَطُوهُ فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ النُّكُولِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَمِينُ يَحْكُمُ عَلَيْهِمَا بِالنُّكُولِ ثُمَّ يَنْقُلُهُ الشَّاهِدَانِ إلَى الْقَاضِي مَعَ وَكِيلِهِمَا فَيَمْضِيه الْقَاضِي. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقُولُ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي أَتُرِيدُ حَكَمًا يَحْكُمُ بَيْنَكُمَا بِذَلِكَ ثِمَّةً؟ فَإِذَا رَضِيَ بَعَثَ أَمِينًا بِالتَّحْكِيمِ إلَى الْخَصْمِ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَإِذَا رَضِيَ بِحُكْمِهِ وَحَكَمَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ نَفَذَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ خِلَافٌ تَوَقَّفَ عَلَى إمْضَاءِ الْقَاضِي. وَالْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَإِذَا أَمْضَاهُ نَفَذَ عَلَى الْكُلِّ.

وَفِي الذَّخِيرَةِ مِنْ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُوجِبُ لُزُومَ التَّوْكِيلِ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ. عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: حَيْضُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَ الْقَاضِي يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ، وَهَذِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَتْ طَالِبَةً قُبِلَ مِنْهَا التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، أَوْ مَطْلُوبَةً إنْ أَخَّرَهَا الطَّالِبُ إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْقَاضِي مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يُقْبَلُ تَوْكِيلُهَا بِغَيْرِ رِضَا الطَّالِبِ. وَلَوْ كَانَ الْمُوَكِّلُ مَحْبُوسًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ، إنْ كَانَ فِي حَبْسِ هَذَا الْقَاضِي لَا يُقْبَلُ التَّوْكِيلُ بِلَا رِضَاهُ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يُخْرِجُهُ مِنْ السِّجْنِ لِيُخَاصِمَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي حَبْسِ الْوَالِي وَلَا يُمَكِّنُهُ الْوَالِي مِنْ الْخُرُوجِ لِلْخُصُومَةِ يُقْبَلُ مِنْهُ التَّوْكِيلُ

(قَوْلُهُ وَمِنْ شَرْطِ الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُ الْأَحْكَامُ) فَهَذَانِ شَرْطَانِ لِلْوَكَالَةِ فِي الْمُوَكِّلِ.

قِيلَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ الْأَوَّلُ عَلَى قَوْلِهِمَا، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فَلَا لِأَنَّهُ يُجِيزُ تَوْكِيلَ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ خَمْرٍ وَشِرَائِهَا وَالْمُسْلِمُ لَا يَمْلِكُهُ، بَلْ الشَّرْطُ عِنْدَهُ كَوْنُ الْوَكِيلِ مَالِكًا لِذَلِكَ التَّصَرُّفِ الَّذِي وَكَّلَ بِهِ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمِلْكِهِ لِلتَّصَرُّفِ أَنْ تَكُونَ لَهُ وَلَا شَرْعِيَّةَ فِي جِنْسِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّةِ

ص: 510

لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لِيُمَلِّكَهُ مَنْ غَيْرَهُ.

نَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا، وَهَذَا حَاصِلٌ فِي تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيّ بِبَيْعِ خَمْرٍ وَشِرَائِهَا، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا هَدَاهُ لِذَلِكَ وَهُوَ خَطَأٌ إذْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ تَوْكِيلُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لِعَدَمِ الْبُلُوغِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ إذَا وُكِّلَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ يَصِحُّ بَعْدَ أَنْ يَعْقِلَ مَعْنَى الْبَيْعِ.

وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا إذَا قَالَ بِعْ هَذَا بِعَبْدٍ أَوْ اشْتَرِ لِي بِهِ عَبْدًا صَحَّ التَّوْكِيلُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مُبَاشَرَةُ الْمُوَكِّلِ لِمِثْلِ هَذَا، كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْتُك عَبْدِي هَذَا بِعَبْدٍ أَوْ اشْتَرَيْت هَذَا مِنْك بِعَبْدٍ لَا يَجُوزُ.

أُجِيبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ التَّوْكِيلِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِي الْجَهَالَةِ، فَإِنَّهَا إنَّمَا تُمْنَعُ فِي الْمُبَاشَرَةِ لَا التَّوْكِيلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُمْنَعُ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا لِذَاتِهَا، وَلِذَا لَمْ تُمْنَعْ فِي بَعْضِ الْبُيُوعِ كَبَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةِ طَعَامٍ حَاضِرٍ أَوْ شِرَائِهِ، وَجَهَالَةُ الْوَصْفِ

ص: 511

(وَ) يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ (الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ) لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْعِبَارَةِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ صَبِيًّا لَا يَعْقِلُ أَوْ مَجْنُونًا كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا.

لَا تُفْضِي إلَيْهَا فِي التَّوْكِيلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ لَازِمٍ، بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ لِلُزُومِهَا، ثُمَّ إذَا صَحَّ التَّوْكِيلُ بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِعَيْنِهِ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ قِيمَةِ الْعَبْدِ الثُّمُنَ أَوْ أَقَلَّ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ فِيهِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا فِي الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ كَانَ بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِنَا فِي شِرَاءِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ أَوْ الثَّوْبَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيُّهُمَا شَاءَ يَصِحُّ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ مِنْ الْهِدَايَةِ. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ فَلِأَنَّ الْوَكِيلَ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ الْمُوَكِّلِ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُوَكِّلِ يَمْلِكُهُ. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ فَإِنَّ الْوَكِيلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمٌ تَصَرُّفًا وَهُوَ الْمِلْكُ، فَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى كَمَا سَنَذْكُرُهُ.

وَقِيلَ بَلْ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَوْ اشْتَرَيَا شَيْئًا لَا يَمْلِكَانِهِ فَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُمَا وَصَحَّحَ. وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ صِحَّةُ تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ مِلْكَهُ شَرْطُ جَوَازِ تَمْلِيكِهِ لَا عِلَّتُهُ لِيَلْزَمَ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ فَجَازَ أَنْ لَا يُوجَدَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ كَمَا مَعَ فَقْدِ الْعِلَّةِ

(قَوْلُهُ وَيُشْتَرَطُ إلَى آخِرِهِ) مَا تَقَدَّمَ شَرْطُ الْوَكَالَةِ فِي الْمُوَكِّلِ وَهَذَا شَرْطُهَا فِي الْوَكِيلِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ، أَيْ يَعْقِلُ مَعْنَاهُ: أَيْ مَا يَلْزَمُ وُجُودُهُ مِنْ أَنَّهُ سَالِبٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جَالِبٌ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، فَيَسْلُبُ عَنْ الْبَائِعِ مِلْكَ الْمَبِيعِ وَيَجْلِبُ لَهُ مِلْكَ الْبَدَلِ وَفِي الْمُشْتَرِي قَلْبَهُمَا وَيَقْصِدُهُ لِفَائِدَتِهِ وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّ هَذَا الشَّرْطَ احْتِرَازٌ عَنْ الْهَزْلِ: يَعْنِي أَنَّ مَنْ شَرَطَ الْوَكَالَةَ أَنْ لَا يَهْزِلَ الْوَكِيلُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ

ص: 512

(وَإِذَا وَكَّلَ الْحُرُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ أَوْ الْمَأْذُونُ مِثْلَهُمَا جَازَ) لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَكِيلَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ (وَإِنْ وَكَّلَا صَبِيًّا مَحْجُورًا يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا جَازَ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْحُقُوقُ وَيَتَعَلَّقُ بِمُوَكِّلِهِمَا) لِأَنَّ الصَّبِيَّ

أَيْ ارْتِبَاطٌ بَيْنَ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ، وَكَوْنِ الْوَكِيلِ هَزَلَ فِي بَيْعٍ وَلَوْ كَانَ فِي بَيْعٍ وَكَّلَ بِبَيْعِهِ غَايَتَهُ أَنْ لَا يَصِحَّ ذَلِكَ الْبَيْعِ وَالْوَكَالَةُ صَحِيحَةٌ، وَخَرَجَ بِهِ الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ذَلِكَ وَالْمَجْنُونُ فَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ أَحَدِهِمَا وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ فِي الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْعِبَارَةِ، وَالْمُوَكِّلُ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ وَعِبَارَتُهُ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ يَعْقِلُ ذَلِكَ، وَأَمَّا زِيَادَةُ عَقْلِيَّةِ الْغَبَنِ الْفَاحِشِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَنْبَغِي اشْتِرَاطُهُ.

نَعَمْ إنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ لَا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ.

وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْوَكِيلِ أَنْ يَتَعَرَّفَهُ قَبْلَ بَيْعِهِ

(قَوْلُهُ وَإِذَا وَكَّلَ الْحُرُّ الْبَالِغُ أَوْ الْمَأْذُونُ مِثْلَهُمَا جَازَ) وَأَطْلَقَ فِي الْمَأْذُونِ لِيَشْمَلَ كُلًّا مِنْ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ الْمَأْذُونَيْنِ فِي التِّجَارَةِ لِاجْتِمَاعِ الشُّرُوطِ وَهِيَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ التَّصَرُّفَ وَلُزُومَ الْأَحْكَامِ وَعَقْلِيَّةُ الْوَكِيلِ مَعْنَى الْعَقْدِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَقْلَ مَعَ الْبُلُوغِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَقْلِ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ مِثْلُهُمَا لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ مِثْلِهِمَا أَوْ أَعْلَى حَالًا مِنْهُمَا كَتَوْكِيلِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ حُرًّا أَوْ دُونَهُمَا كَتَوْكِيلِ الْحُرِّ الْبَالِغِ عَبْدًا مَأْذُونًا (قَوْلُهُ وَإِنْ وَكَّلَ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ جَازَ وَلَا تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِهِمَا بَلْ بِمُوَكِّلِهِمَا) هَذَا الْكَلَامُ لَهُ مَنْطُوقٌ وَمَفْهُومٌ، فَمَنْطُوقُهُ ظَاهِرٌ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ (مِنْ أَنَّ الصَّبِيَّ) أَيْ

ص: 513

مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَالْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ مَالِكٌ لَهُ وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَالتَّوْكِيلُ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْتِزَامُ الْعُهْدَةِ. أَمَّا الصَّبِيُّ لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ وَالْعَبْدُ لِحَقِّ سَيِّدِهِ فَتَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْبَائِعِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنَّ حُقُوقَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، فَإِذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ يَتَخَيَّرُ كَمَا إذَا عَثَرَ عَلَى عَيْبٍ.

الْعَاقِلَ (مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ) حَتَّى (نَفَذَ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَالْعَبْدُ) مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ فِي (حَقِّ نَفْسِهِ مَالِكٌ لَهُ، وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَالتَّوْكِيلُ لَيْسَ تَصَرُّفًا) مِنْ الْمُوَكِّلِ (فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْتِزَامُ الْعُهْدَةِ، فَالصَّبِيُّ لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ وَالْعَبْدُ لِحَقِّ سَيِّدِهِ فَتَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ) وَيُعْرَفُ مِنْ كَوْنِ انْتِفَاءِ تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِالْعَبْدِ لِحَقِّ السَّيِّدِ أَنَّهُ لَوْ أُعْتِقَ بَعْدَ أَنْ بَاشَرَ الشِّرَاءَ لَزِمَتْهُ الْحُقُوقُ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لَوْ بَاشَرَ مَا وُكِّلَ بِهِ ثُمَّ بَلَغَ لَا تَرْجِعَ إلَيْهِ.

وَأَمَّا مَفْهُومُهُ فَهُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ كَانَ صَبِيًّا مَأْذُونًا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا تَعَلَّقَتْ الْحُقُوقُ بِهِمَا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ بَلْ ذَكَرَ فِيهِ تَفْصِيلًا فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ: إنْ كَانَ الْوَكِيلُ صَبِيًّا مَأْذُونًا، فَإِنْ وُكِّلَ بِالْبَيْعِ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ فَبَاعَ لَزِمَتْهُ الْعُهْدَةُ أَوْ بِالشِّرَاءِ إنْ كَانَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لَا تَلْزَمُهُ الْعُهْدَةُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا فَيُطَالِبُ الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ الْآمِرُ لَا الصَّبِيُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ ضَمَانُ كَفَالَةٍ لَا ضَمَانُ ثَمَنٍ، لِأَنَّ ضَمَانَ الثَّمَنِ مَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلضَّامِنِ فِي الْمُشْتَرِي وَهَذَا لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلضَّامِنِ إنَّمَا الْتَزَمَ مَا لَا عَلَى مُوَكِّلِهِ اسْتَوْجَبَ مِثْلُهُ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ، وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ لَا ضَمَانُ كَفَالَةٍ.

وَأَمَّا إذَا وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنِ حَالٍّ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْعُهْدَةُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَلْزَمُهُ لِأَنَّ لِلصَّبِيِّ مِلْكًا حُكْمِيًّا فِي الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ بِالثَّمَنِ عَنْ الْمُوَكِّلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ. وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ مِنْ أَهْلٍ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا لِأَنَّهُ بِمَا يَضْمَنُ مِنْ الثَّمَنِ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَإِنَّهُ لَا يَحْبِسُهُ عَنْ الْمُوَكِّلِ إلَى الِاسْتِيفَاءِ، وَالْعَبْدُ إذَا تَوَكَّلَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ وَالصَّبِيَّ الْمَحْجُورَيْنِ وَإِنْ

ص: 514

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِمَا الْحُقُوقُ فَلِقَبْضِهِمَا الثَّمَنَ وَتَسْلِيمَهَا الْمَبِيعِ اعْتِبَارًا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بَعْدَ هَذَا فِي التَّوْكِيلِ بِعَقْدِ السَّلَمِ فَقَالَ: وَالْمُسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ قَبْضَ الْعَاقِدِ وَهُوَ الْوَكِيلُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ وَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِمَا الْحُقُوقُ كَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: إنْ كَانَ الْمَأْذُونُ مُرْتَدًّا جَازَ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ الْمُعْتَبَرَةِ وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ الْعُهْدَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنْ أَسْلَمَ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَعَلَى الْآمِرِ وَعِنْدَهُمَا الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ لِنَفْسِهِ بَيْعًا وَشِرَاءً، وَنَظِيرُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ فِي عَدَمِ تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ الرَّسُولُ وَالْقَاضِي وَأَمِينُهُ (قَوْلُهُ وَالْعَقْدُ).

ص: 515