المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الإهداء إلى مَن روانا من فيض حنانه، ورعانا بجميل صبره وإحسانه، - فتح باب العناية بشرح النقاية - جـ ١

[الملا على القاري - المحبوبي صدر الشريعة الأصغر]

فهرس الكتاب

‌الإهداء

إلى مَن روانا من فيض حنانه، ورعانا بجميل صبره وإحسانه، إلى من آثر التعب على الراحة، والخمول على الشهرة، إلى من بذل صحته ووقته في سبيل تعليمنا.

إلى صاحب القلب الصافي الكبير، والصدر الواسع، والعلم الغزير.

هذه ثمرة من غرسكم الذي سهرتم عليه، وقطرة من عذب مائكم الذي نهلنا من معينكم.

إلى الملَّا عبد العليم الزنكي - رحمه الله تعالى -.

عربون محبة ووفاء وعرفان.

وإلى من أفنى عمره في خدمة السنة والعلم، إلى المحدث البارع، والمدقق اللامع، إلى صاحب الخلق الرفيع.

إلى العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة - رحمه الله تعالى -

محمد وهيثم

ص: 5

‌مقدمة سماحة المفتي الشيخ خليل المَيْس مدير "أزهر لبنان"

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده، محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.

وبعد:

فإن كُتب الفقه - وعند جميع المَذَاهب - جرى التصنيف فيها على مناهج تعرف بالمتون والشروح والحواشي.

والمتون ألَّفها حُذَّاق الأئمة وكِبار الفُقهاء المعروفين بالعِلم والزُّهد والفقه والتَّفقه في الرِّواية .. وقد اشتهر أنها موضوعة لنقل أصل المذهب ومَسائل ظاهر الرِّواية غَالبًا عند فُقَهاء الحنفيَّة، وكثيرًا ما يذكر أربابُ المتون مَسْألة هي من تخريجات المشايخ المُتقدمين .. ويذكرون فيها أيضًا مَذْهب الصاحِبَين: أبي يوسف ومحمد بن الحَسَن إذا كَان رَاجِحًا ..

هذا، وكتاب "النُّقَاية" للإِمَام صَدْر الشَّرِيعة عُبَيد الله بن مَسْعُود المَحْبُوبي (747 هـ) هُو مُخْتصر كتاب "الوِقَاية" المُنتقى مِنْ كِتاب "الهِدَاية" أحد المُتون الأربعة المُعتمدة في ضَبط مَذْهب الإِمَام أبي حنيفة رحمه الله، مُضافًا إليها "كَنْز الدَّقائق" للنَّسفي (710 هـ)، و"المُخْتَار" لأبي الفضل مَجْد الدِّين عبد الله بن محمود المَوْصِلي (683 هـ)، و "مَجْمع البحْرين" لمُظَفَّر الدين أحمد بن عَليّ البغْدَادِي المَعروف بـ:(ابن الساعاتي)، (694 هـ)، و"مُخْتَصر القُدُورِيّ" ذَائع الصيت لأبي الحسين أحمد بن مُحمَّد القُدُوري (428 هـ).

وأشهر هذه المُتون ذِكْرًا وأقوَاهَا للاعتماد: "والوقاية" و"الكَنْز" و"مُخْتَصر القُدُوريّ"، فهي المُراد بقولهم: المتون الثلاثة

وإِذَا أطلقُوا (المُتُون الأربعة) أرادوا هذه الثلاثة و"المُخْتَار" أو "المجمع"

هذا، وإن كتاب "فَتْح باب العِنَاية بشرح النُّقاية" للإِمَام الفقيه الحُجَّة الحافظ عليّ بن مُحمَّد سلطان القَارِي الحنفيّ المكيّ، المتوفَّى (1014 هـ)، قد استقاه من أُمهات شُروح

ص: 7

كُتب المَذْهَب، ولَقِيَ كلٌّ مِنْ المَتن والشرح رَوَاجًا كبيرًا ولِعدة قرون لدَى عُلماءِ البِلاد التي تُعْرف سابقًا ببلاد ما وَرَاء النَّهْر

‌الكتاب متنًا وشرحًا

وإنما شقَّ طريقَهُ إلى بلادنا العلَّامةُ الشيخُ عَبدُ الفَتَّاح أبو غُدَّة رَحِمَهُ الله تَعَالى، حيثُ نَشَر جزءًا من الكتاب محققًا منذ ثلاثين عامًا .. وتوقَّف عند هذا الحد

ومُنذُ ذلك التارِيخ تَشَوَّفت نفُوس العُلماء وطَلَبة العِلم الشريف لِصُدُور بقية الكِتاب، نظرًا لأسلوبه المُمَيَّز وقُرب تناول مادته.

وأخيرًا قيَّض اللهُ تَعَالى لَهُ كُلًا من الشَّابَّين الفاضلين: محمد وهيثم تميم، حيث بذلا جهدًا مُباركًا في تَحْقيقه وطبَاعتهِ، وأخرجوهُ مشكورين بهذه الحُلَّة الرائعة الرائقة.

ولَا شَكَّ أن فرحة أهل العلم قَاطبةً ستكون عظيمة عندما تَقعُ أبْصَارهم على هَذا السِّفْر النَّفِيس الذي يُعتبر بحقٍّ نموذجًا للفِقه الإِسْلامِي المُقَارن، وبخاصة بين مذْهَبَي أبي حنيفة والشافعيّ رَحِمهُما الله، مدعَّمًا بالأدلة من الكتاب والسُّنة للمَذْهبين، مع بيان وجه الاسْتِدْلَال لكل مِنْهما .. وهذا الأسلُوب الذي بَات اليوم مُفضلًا في تدريس مادة الفِقْه لدى كُلٍّ من الجَامِعات والمَعاهد الإِسْلَامِية وحِلَق العلم الشرعي الشريف.

ونرجُوه تَعَالى أن ينفعَ بهذا الكتاب أهلَ العِلم ويُجْزِلَ المثوبة للأخوين الكَريمَين: محمد وهيثم على حُسن صنيعهمَا .. في إصدَارِ هَذا الكِتاب الذي طالَ انتظارُهُ ..

والله من وراء القصد.

في بيروت

4 جمادى الآخرة سنة 1418 هـ

الموافق له: 7 من تشرين الأول سنة 1997 م

وكتبه

خادم العلم الشرعي

مفتي زحلة والبقاع الغربي

مدير "أزهر لبنان"

الشيخ خليل المَيْس

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، وأفاض علينا سابغ النِّعَم، في الظاهر والباطن والسِّرِّ والعلن، ما عَلِمنا منها وما لم نعلم، حَمْدَه القديمَ الذي حَمِدَ بهِ نفسَه، أفضلَ الحمد وأكملَه، حمدًا يعجز العقلُ عن حصره، واللسانُ عن وصفه، وتَقْصُرُ عنه الهِمَم.

وأفضل الصلاة وأتمُّ السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمةً للأُمم، من قيل له:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، ورضي الله عن أصحابه مصابيح الظُّلَم أبد الآبدين ما خطَّ قلم.

أما بعد:

فإن أولى ما صُرِفَتْ إليه نفائسُ الأيام، وأعلى ما خُصَّ بمزيد الاهتمام: الاشتغالُ بالعلوم الشرعية، ولا سيما الفقه منها، لقول النَّبي صلى الله عليه وسلم:"مَن يُردِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّههُ في الدِّين"

(1)

.

فَحَرِصَ العلماءُ على تعلُّم الفقهِ وتعليمه إلى أن لَقِيَ رَواجًا واسعًا، ونشأت عنه مدارسُ متعدِّدة.

وقد مرَّ فقهنا الإسلامي الشامخ بمراحل متعددة من التدوين، وحاز قَصَبَ السَّبْق في هذا المَيدان، مذهبُ الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، على يد محمد بن الحسن الشيباني مُدَوَّن المذهب وناشره رحمهما الله تعالى.

وصُنِّف بعد كُتِب الإمام محمد تآليف عديدة: بين مختصَر ومطوَّل، ومُخِلٍّ ومُفْرِط، ومدقَّق ومُحَرَّر، وكان من أدق كتب الحنفية في نقل المذهب تخريجًا وتلخيصًا وتحقيقًا وتمحيصًا كتاب "الهداية" للإمام برهان الدين المَرْغِيناني، واختصر هذا الكتاب الإمامُ تاج الشريعة محمود المَحْبُوبي بكتاب سماه "وقاية الرواية في مسائل الهداية"، وهو أحد المتون الأربعة المعتمدة عند الحنفية، ثم جاء الإمام مُلَّا علي القاري فشرحه واستوفي مقاصده وأظهر فرائده من عيون كتب الحنفية، بكتاب سماه "فتح باب العناية"، فكان شرحه حقًّا فتحًا لباب العناية رحمه الله تعالى.

(1)

أخرجه البخاري (فتح الباري) 1/ 164، كتاب العلم (3)، باب من يُرِد الله به خيرًا (13)، رقم (71).

ص: 9

‌قصتنا مع الكتاب:

هذا، وقد تعرفنا على كتاب "فتح باب العناية" من الجزء المحقَّق الذي اعتنى به شيخنا العلامة عبد الفتاح أبو غُدَّة رحمه الله تعالى. وكنا حريصين على اقتناء ما يحققه أو يعتني به أو يشير إليه من كتب، لكثرة اطلاعه، وسَدَاد نُصْحه، وطول باعه، وَوَفْرَة فوائده، وغَزَارة علمه.

فقرأنا مقدمة الكتاب، وعرفنا مدى شغف شيخنا به، ومدى حرصه على إخراجه لطلبة العلم، فشُغفنا بالكتاب لشغفه، وحَرِصنا على إخراجه لحرصه، وكان هذا منذ سنة 1990 تقريبًا، وما زلنا ننتظر الكتاب سنة بعد سنة، ولكن مشاغل شيخنا رحمه الله تعالى أحالت دون إصدار بقية الكتاب محققًا كما كان يرجو.

وفي سنة 1992 تقريبًا عندما قمنا بخدمة كتاب "شرح شرح نُخبة الفِكَر" لمُلّا علي القاري، وترجمنا له، وقفنا على أرقام مخطوطات لـ:"فتح باب العناية" في المكتبة السليمانية، ومن حسن تقدير الله تعالى، أن يَسَّر لنا زميلًا من تركيا من زملاء الدراسة

(1)

، فطلبنا إليه أن يساعدنا للحصول على مصوَّرة لهذا الكتاب النفيس، وزوَّدناه بأرقامها، فسعى جاهدًا للحصول على طَلِبَتَنَا، جزاه الله عنا كلَّ خير.

ومضت الأيام والشهور، وبعد حوالي ثمانية أشهر، بعد أن كدنا نَفْقِدُ الأمل، جاءتنا البشرى بمصوَّرة الكتاب على "ميكروفيلم"، فسُرِرنا بها أيَّما سرور وَطِرْنا بها فرحًا، ثم في سنة 1993 يَسَّر الله لنا الحصولَ على مطبوعة باكستان من المدينة المنورة أثناء رحلة الحج.

فرأينا أن الأمور تتيسر بين أيدينا لأمر يعلمه الله سبحانه، وكتابُ شيخنا لم يخرج بعد، واشتدت الحاجة إلى إخراجه أكثر، لما له من مزيد أهمية ومزيَّة، من حيث التدليلُ على المسائل الفقهية وربطها بأصولها من الكتاب والسنة.

فكنا نودّ أن يخرج الكتاب قريبًا، تعميمًا للنفع والفائدة، فعزمنا على إخراجه، إلا أننا كنا نقدِّم رِجلًا ونؤخر أخرى، لأننا لسنا من فرسان هذا المَيدان، ولا من حمائم تلك الأفنان.

فوقعنا في حَيصَ بيصَ، بين أمرين اثنين: أن تَطُولَ مُدَّةُ إخراج الكتاب حتى يتفرع له شيخنا رحمه الله ويخرج محققًا التحقيق الأمثل، أو أن يخرج الكتاب في مدة وجيزة بخُطة أقلَّ وتحقيق موجز!

(1)

وهو الأخ الفاضل حكمت التركي.

ص: 10

وبقي الأمر هكذا لم يُحسم حتى كنا مرة في زيارة لأزهر بيروت عند شيخنا الفاضل سماحة مفتي البقاع الشيخ خليل المَيْس، فسَأَلَنا عن آخر ما أصدرناه من أعمال علمية، فذكرنا له أنه "شرح شرح نُخْبَة الفكر" لمُلَّا علي القاري، وما كدنا أن ننتهي من عرض الاسم عليه حتى قال الشيخ لنا: لمُلا علي كتاب في الفقه ماتع ومفيد، لِمَ لا تعملون على إخراجه؟! فأخبرناه ما نحن به من حيرة، فشجعنا على ما كنا بصدده من إخراج الكتاب بخطة صغيرة وتحقيق موجز، وقال: فليكن مقسمًا أربعة أجزاء نقرره لطلاب "الأزهر" في كل سنة جزء. فكأنها كانت الإشارة.

فأبرقنا لشيخنا الفاضل عبد الفتاح أبو غُدَّة رسالتين نستشيره بما نحن بصدده، ونستأذنه فيما نحن عازمون عليه، إلا أن الشيخ رحمه الله كان مشغولًا جدًّا، بين سفر ومرض، فلم يتسنَّ له أن يردَّ علينا. فاستخرنا الله تعالى، وشرعنا فيما يَسَّرَ لنا أسبابَه، ولم نزل حريصين على معرفة رأي شيخنا رحمه الله تعالى، فأرسلنا إليه مرة ثالثة برسالة شفهية مع بعض الإخوة الذين زاروه، فكان جوابه أن بارك العمل ودعي لنا بخير، فجزاه الله عنا كل خير.

‌عملنا في الكتاب:

1) مقابلة مطبوعة باكستان على المخطوط، وإثبات الفوارق المُغَيِّرة للمعنى، وإسقاط الكثير مما ليس مهمًا، ويثقل الحواشي بما لا طائل تحته.

وقد عانينا في ضبط النص وترجيح الصواب عند الاختلاف كثيرًا، وكان من المرجِّحات عندنا التي تَحْسِم الخلاف بين المطبوع والمخطوط أو تصحح الخطأ في كليهما:"نصب الراية"، و "فتح القدير" - لأنه ينقل عنهما كثيرًا دون الإشارة إليهما غالبًا - وغيرهما من كتب السُّنَّة واللغة

2) إضافة متن "النُّقاية" في أعلى الصفحة كما مشى عليه شيخنا الفاضل عبد الفتاح رحمه الله.

3) تخريج الآيات القرآنية، والقراءات أحيانًا.

4) تخريج الأحاديث النبوية: تعهدنا ضمن خطتنا الصغيرة، أن نُخَرِّج. فقط الأحاديث التي لم يعزها مُلَّا علي لمُخَرِّج، فإذا قال مثلًا: أخرجه البخاري، لا نَرُدُّه إلى مصدره بالجزء والصفحة، أما إذا أهمله فإننا نبحث عنه ونُخَرِّجه. وقد خرَّجنا معظم الأحاديث إلا أننا لم نجد بعضها مع كثرة التفتيش وضيق الوقت (وستأتي أمثلة ذلك في: مؤاخذات على الكتاب - ص 13).

ص: 11

لم نُخَرِّج الآثار الواردة في الكتاب، لما في تخريجها من كبير مشقة وعَنَاء وكثير وقت، مما يؤدي إلى تأخير صدور الكتاب، وكنا قد التزمنا إخراجه ليكون مقررًا أزهريًا لسنة 1997 - 1998 م / 1418 - 1419 هـ.

5) شرح غريب الألفاظ: سيجد القارئ أننا شرحنا أحيانًا بعض الألفاظ والعبارات التي لا تخفى على طلبة العلم المتمرسين، علاوة على العلماء، إلا أنها تخفى على المبتدئين. ولمَّا كان هذا الكتاب سيقرر لطلاب الثانوي الشرعيين، كانت هذه الفكرة مسيطرة على معظم عملنا.

6) ضبط الأعلام وبعض الألفاظ: ضبطنا النَّصَّ جهدَ استطاعتنا بحيث يسَّرنا على الطالب قراءة الأعلام وبعض الألفاظ المُشكِلة بشكل صحيح خالٍ عن التحريف والغلط.

7) تصحيح الأخطاء المطبعية والواقعة من الناسخ، وتصحيح معظم التحريف الواقع في الكتاب.

وفاتنا بعض الأشياء التي لا يمكن تصحيحها إلا بنسخة مخطوطة دقيقة موثَّقة، بخطِّ المؤلِّف أو مقابلة على نسخة المؤلف أو مقروءة عليه.

8) التعليق على بعض العبارات، بما يحل مشكلها ويوضح غامضها.

9) شرحنا الموازين والمعايير القديمة بالمصطلحات الحديثة: المِتْرِيَّة أو الكيلوغرامية، وذلك تيسيرًا للفهم وارتباطًا بمعطيات الواقع أكثر.

10) فصَّلنا فقرات الكتاب وجعلنا له علامات ترقيم.

11) عَنْوَنَّا في بعض المواطن حيث يلزم، وجعلنا كل ما أضفناه بين حاصرتين:[].

12) مقدمة تعريفية بالكتاب والماتن.

‌منهج مُلَّا عليّ في الكتاب:

1 -

اختصر مُلَّا علي "نصب الراية" عند تخريج الأحاديث وسَرْدِ الروايات، دون أن يشير إلى هذا إلا أحيانًا قليلة.

وزاد على "نصب الراية" أشياء قليلة ليست فيه، من روايات في الباب تقوِّي الاستدلال وترجح الاختيار.

ص: 12

2 -

اختصر أشياء كثيرة من "فتح القدير" و "الكفاية"، دون أن يشير إليهما، حتى إنه ينقل العبارة أحيانًا بحروفها دون زيادة أو نقصان.

3 -

أضاف تعليلات قليلة ليست في شروح "الهداية" المطبوعة بين أيدينا.

4 -

تتبع أحاديث "الهداية" في كل باب بقوله: أما قول صاحب "الهداية" كذا فكذا.

5 -

يعرض المسألة ويأتي برأي المخالف ودليله، ثم يعرض دليل الحنفية في المسألة ويناقش أدلة الآخرين، ويُرَجِّح أخيرًا ما يتبدَّى له، ويُبَيِّن وجهة نظره في هذا الاختيار.

فالحق أنه كتاب في الفقه المقارن في بعض المسائل والأبواب.

ومن المعلوم أنه لا ينقل كلام المذاهب الأخرى من كتاب في الفقه الحنفي أو الشافعي .... ، ولكن تنقل أقوال المذاهب المحررة من كتب المذهب، وكذلك الأمر هنا بالنسبة لأقوال المذاهب الأخرى فهي بحاجة إلى تحرير وتأكد.

وأثناء عملنا في الكتاب تبين لنا أنه ينقل آراء الشافعية المعتمدة غالبًا، ولكن لم يتسنَّ لنا أن نتابعه في كل ما ينقل عن الشافعية حتى نتأكد من الأقوال كلها، فليُتَنَبَّه.

6 -

يناقش أقوال المذهب الحنفي ويحرر النقول بما يراه أوفق لقواعد المذهب، فتراه لا يقتنع بسهولة إلا بعد كثرة تمحيص وتفتيش ومحاورة وتدقيق.

7 -

تحقيقه للروايات الشائعة وتمحيصه لها كقصة: أن عثمان رضي الله عنه أُرْتِجَ عليه في أول خُطبة بعد ولايته، فحقق الكلام فيها وقال بأنها غير صحيحة. انظر صفحة 406 من الجزء الأول.

‌مؤاخذات على الكتاب:

1 -

ومع هذا التحقيق والتدقيق من مُلَّا علي رحمه الله إلا أن الله تعالى أَبَى العصمة إلا لكتابه، فإن المؤلف فاته أشياء من التحقيق كحديث: "إذا نام العبد في السجود يباهي الله ملائكته

" انظر صفحة 66 من الجزء الأول فهو حديث ضعيف جدًّا.

و"كقصة الحمامة" أنها وَكَرَتْ على باب الغار عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، انظر صفحة 98 - 99 من الجزء الأول، فهو أشبه بأن يكون موضوعًا.

2 -

التساهل في تحرير بعض الأقوال في المذهب الحنفي والمذاهب الأخرى،

ص: 13

كمسألة العورة عند الإمام مالك

3 -

وكعادته مُلَّا علي غالبًا ما ينقل الحديث والعبارات بالمعنى لا باللفظ.

4 -

روي أحاديث كثيرة في الكتاب فعزا معظمها إلى مُخَرِّجيها، إلا أنه ترك بعض الأحاديث بلا عزو، وهو بهذا يكون قد خالف منهجه، الذي مشى عليه. فحاولنا ما استطعنا أن نُخَرِّج ما فاته، فوُفِّقنا في كثير منها وبقي أشياء لم نعثر عليها مع شدة الحرص وكثرة البحث وضيق الوقت، مثل حديث: إجابة المؤذن عند قوله في أذان الفجر: "الصلاة خير من النوم" بـ: "صدقت وبَرِرْتَ

" فقال مُلَا علي: لورود الخبر هكذا! ولم يُصَرِّح بمن أورده. انظر صفحة 206 من الجزء الأول.

5 -

روى كثيرة من الآثار ولم يعزها إلى مُخَرِّجيها.

ولما كانت الآثار كثيرة والعمل على عزوها مجهدًا مما يؤخرنا عن تسليم الكتاب في الموعد المطلوب ليكون مقررًا درسيًا لطلبة "أزهر لبنان"، عزفنا عن تخريجها لطبعة لاحقة إن شاء الله تعالى.

‌أصل الكتاب

قال الشيخ عبد الفتاح أبو غُدَّة رحمه الله تعالى:

ألَّفَ أصلَ نصوصه: "المتنَ" المسمَّى "النُّقَاية" الإمام صدرُ الشريعة عُبَيْد الله بن مسعود المحبوبيُّ المتوفَّى سنة 747 هـ. وقد اختصرَ فيه أحدَ المتون الأربعة المعتبرة عند الحنفية: "وقاية الرواية في مسائل الهداية"

(1)

، الذي ألَّفَه له جَدُّه الإمامُ تاج الشريعة محمود المَحبوبي ليحفظه في أول نشأته. وقد استخلصه من مسائل كتاب "الهداية" للإمام برهان الدين المَرْغِيناني، الذي هو أجلُّ كتب الحنفية التي وصلت إلينا تحقيقًا وتمحيصًا، وأدقُّها في نقل مذاهب أئمتنا الحنفية تخريجًا وتلخيصًا.

ولما كان كتابُ "النُّقاية" ثبات كتاب "الوقاية" الذي هو لُبابُ كتاب "الهداية":

(1)

قال العلامة الإمام عبد الحي اللكنوي في "الفوائد البهية في تراجم الحنفية" في ترجمة (عبد الله بن محمود المَوصلي) صاحب الاختيار شرح المختار" ص 106: "قد كثر اعتماد المتأخرين على الكتب الأربعة: المختار، والكنز، والوقاية، ومجمع البحرين. وسمَّوها المتون الأربعة المعتبرة، ومنهم من يعتمد على الثلاثة: الوقاية، والكنز، ومختصر القدوري".

وذكر اللكنوي نحو هذا في كتابه العظيم "النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير" ص 9 - 10، - و "الجامع الصغير" للإمام محمد بن الحسن الشيباني - مع فوائد نفيسة لا يستغني عنها العالم الفقيه فضلًا عن المتفقه، فانظره. (انتهى تعليق الشيخ عبد الفتاح رحمه الله.

ص: 14

كان بحقٍّ لُبَابَ اللُّباب. ومن أَجْلِ هذا تبارى جهابذة فقهاء الحنفية في خدمته وشرحه، واستيفاءِ مقاصده وإظهار فرائده.

وكان أعلاهم في هذا المضمار كعبًا، وأبلغَهم في نيل مقصدِهِ أرَبًا: الإمامُ الفقيه المحدِّثُ الشيخ علي القاري، فقد نظَمَ في شرحه:"فتح باب العناية" المزايا المنثورةَ في كتب من تقدَّمه من الأئمة، مثل كتاب "المبسوط" للسَّرَخْسِي، و"البدائع" للكَاساني، و"الهداية" للمَرْغيناني، و"الاختيار" للمَوْصِليّ، و"تبيين الحقائق" للزيلعي، و"شرح الوقاية" لصدر الشريعة، و"العناية" للبَابِرتي، و"البناية" للعيني، و "غُنية المُتَمَلِّي" لإبراهيم الحلبي، و"حَلْبَة المُجَلِّي في شرح مُنية المصلي" لابن أمير الحاج الحلبي، و"فتح القدير" للكمال بن الهُمَام، وغيرها.

بل يمكن أن يقال: إنه لخَّص فيه كتابَ "فتح القدير" من معارك المناقشات والخلافات، ويسَّر أسلوبه، وفتَحَ عبارته، وجاء به سهلًا سائغًا عذبًا نَمِيرًا. كما أنه استخلَصَ زُبدةَ شروح و"النُّقاية" التي سبقَتْ شرحَه هذا، فكان شرحُه حقًّا:"فتح باب العناية" وأفضلَ الشروح جميعًا، كما أنه أنقاها لغة، وأسلسُهَا عبارة، وأوفاها استدلالًا، وأحسنُهَا تعليلًا، مع امتيازه - إلى هذه المزايا - بعزو الأحاديث إلى مخرِّجِيها، والأقوال إلى قائليها

(1)

.

لهذا كان قارئهُ لا يجد نفسَه مَحُولًا بينه وبين فهمه، كما هي الحال في جُلِّ كتب الفقه، بل إنه ليرَى هذا الكتاب وكأنه ليس فيه للغة العلمية والمصطلحات الفقهية الخاصة أيُّ نصيب. ومن أجل هذا اخترتُ خدمته وطبعه ونشره، ليكون في يد كل مسلم وشابٍّ متفقّه في دينه، حريصٍ على صحةِ عبادته وفهمِ شريعته

(2)

.

هذا، وقد يظن ظانٌّ أن "النُّقاية" مختصر "الوقاية"، مشى فيه على ترتيب "الهداية"، إلا أنه يتبين عند المقابلة لمَسْرَدِ كتب كلٍّ من الكتابين أن بينهما تقديمًا وتأخيرًا في كثير من المواطن، وقد قمنا بمقابلة لمسرد كتب كلا الكتابين وإليك التفصيل في الجدول الآتي:

(1)

وهذا الحكم غالبًا وليس دائمًا.

(2)

انتهى كلام الشيخ عبد الفتاح رحمه الله من مقدمته لـ "فتح باب العناية" ص 4 - 5.

ص: 15

‌جدول يُبيّنُ اختلاف ترتيب كتب "النُّقاية" و "الهداية"

فهرس كتب "النُّقاية

(1)

فهرس كتب "الهداية"

1 -

كتاب الطهارة

1 - كتاب الطهارات

2 -

كتاب الصلاة

2 - كتاب الصلاة

3 -

كتاب الزكاة

3 - كتاب الزكاة

4 -

كتاب الصوم

4 - كتاب الصوم

5 -

كتاب الحج

5 - كتاب الحج

6 -

كتاب النكاح

6 - كتاب النكاح

7 -

كتاب الرضاع

7 - كتاب الرضاع

8 -

كتاب الطلاق

8 - كتاب الطلاق

9 -

كتاب العتاق

9 - كتاب العتاق

10 -

كتاب المكاتب

10 - كتاب الأيمان

11 -

كتاب الأيمان

11 - كتاب الحدود

12 -

كتاب البيوع

12 - كتاب السرقة

13 -

كتاب الشفعة

13 - كتاب السِّير

14 -

كتاب القسمة

14 - كتاب اللقيط

15 -

كتاب الهبة

15 - كتاب اللقطة

16 -

كتاب الإجارة

16 - كتاب الإباق

17 -

كتاب العارية

17 - كتاب المفقود

18 -

كتاب الوديعة

18 - كتاب الشركة

19 -

كتاب الغصب

19 - كتاب الوقف

(1)

الكتب الزائدة في "الهداية" هي غالبًا إما فصول أو أبواب في "النُّقاية".

ص: 16

20 -

كتاب الرهن

20 - كتاب البيوع

21 -

كتاب الكفالة

21 - كتاب الصرف

22 -

كتاب الحوالة

22 - كتاب الكفالة

23 -

كتاب الوكالة

23 - كتاب الحوالة

24 -

كتاب الشركة

24 - كتاب أدب القاضي

25 -

كتاب المضاربة

25 - كتاب الشهادات

26 -

كتاب المزارعة

26 - كتاب الرجوع عن الشهادة

27 -

كتاب المساقاة

27 - كتاب الوكالة

28 -

كتاب إحياء الموات

28 - كتاب الدعوى

29 -

كتاب الوقف

29 - كتاب الإقرار

30 -

كتاب الكراهية

30 - كتاب الصلح

31 -

كتاب الأشربة

31 - كتاب المضاربة

32 -

كتاب الذبائح

32 - كتاب الوديعة

33 -

كتاب الأضحية

33 - كتاب العارية

34 -

كتاب الصيد

34 - كتاب الهبة

35 -

كتاب اللقطة واللقيط والآبق

35 - كتاب الإجارات

36 -

كتاب المفقود

36 - كتاب المكاتب

37 -

كتاب القضاء

37 - كتاب الولاء

38 -

كتاب الشهادة

38 - كتاب الإكراه

39 -

كتاب الإقرار

39 - كتاب الحجر

40 -

كتاب الدعوى

40 - كتاب المأذون

41 -

كتاب الصلح

41 - كتاب الغصب

42 -

كتاب الحدود

42 - كتاب الشفعة

ص: 17

43 -

كتاب السرقة

43 - كتاب القسمة

44 -

كتاب الجهاد

44 - كتاب المزارعة

45 -

كتاب الجنايات

45 - كتاب المساقاة

46 -

كتاب الديات

46 - كتاب الذبائح

47 -

كتاب الإكراه

47 - كتاب الأضحية

48 -

كتاب الحجر

48 - كتاب الكراهية

49 -

كتاب المأذون

49 - كتاب إحياء الموات

50 -

كتاب الوصايا

50 - كتاب الأشربة

51 -

كتاب الخنثى

51 - كتاب الصيد

. . . . . . . . . . .

52 - كتاب الرهن

. . . . . . . . . . .

53 - كتاب الجنايات

. . . . . . . . . . .

54 - كتاب الديات

. . . . . . . . . . .

55 - كتاب المعاقل

. . . . . . . . . . .

56 - كتاب الوصايا

. . . . . . . . . . .

57 - كتاب الخنثى

ص: 18

‌وصف الأصول المعتمدة

1 -

مطبوعة كراتشي /الباكستان، بمجلدين ضخمين من القَطْع الكبير، عدد صفحات الأول: 767 صفحة، والثاني: 567 صفحة.

وبهامشه "شرح النقاية" لمحمود بن إلياس بن يحيى الرومي، استفدنا منه في بعض المواطن.

طُبِعَ الأول سنة 1326 هـ = 1908 م، والثاني سنة 1928 هـ = 1910 م.

جعلنا المطبوع أصلًا وقابلنا المخطوط عليه، وفي بعض الأحيان كانا يتفقان على الخطأ في موضع واحد ولفظ واحد، مما يضطرنا إلى الرجوع لمرجِّح خارجي لضبط العبارة.

2 -

مخطوطة السليمانية، وهي عبارة عن جزءين رقمها:(512)، (513).

مسطرتها: 15 × 21 سم

عدد الأسطر: 25 - 26

عدد الأوراق:

الجزء الأول: 332 ق من كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الحج.

الجزء الثاني: 376 ق من كتاب البيوع إلى آخر الكتاب.

سنة النسخ: 1160 هـ.

وبشكل عام النسخة جيدة مع ما فيها من أخطاء وأسقاط وتحريفات، وقد عانينا الكثير لضبط النص، وبذلنا جهدنا ليكون في أقرب صورة لنص المؤلف رحمه الله، ومع هذا بقي في الكتاب أشياء من التصحيف والتحريف لم نهتد إلى تصويبها، وقد علقنا عليها بلفظ: كذا في الأصل! مع علامة تعجب. وهي ليست كثيرة بالنسبة لحجم الكتاب، فنسأل الله تعالى أن يوفقنا لاستدراكها في طبعة مقبلة إن شاء الله تعالى.

3 -

مخطوطة للمتن: "النقاية"، قابلنا معظم المتن عليها وساعدتنا في تصويب بعض الأخطاء.

وهي نسخة خاصة من مكتبة شيخنا الفاضل زهير الشاويش.

مسطرتها: 8 × 14 سم.

عدد الأسطر: 11.

ص: 19

عدد الأوراق: 142 ق.

سنة النسخ: 988 هـ.

بلد النسخ: مَرْوَ الشاهِجَان.

خطها واضح مقروء، فيها بعض التصحيفات والأغلاط، إلا أننا استفدنا منها في بعض المواضع.

4 -

"فتح القدير" لابن الهمام. كثيرا ما كنا نصوب بعض العبارات من "فتح القدير"، وذلك لأن مُلَّا علي لخص هذا الكتاب تقريبًا أثناء نقله عنه.

5 -

"نصب الراية" للزيلعي، وكذلك استفدنا منه استفادتنا من "فتح القدير".

‌تنبيه:

لم نترجم للعلّامة مُلَّا علي القاري - رحمه الله تعالى - هنا اكتفاءً بترجمته الواسعة التي كتبناها في مقدّمة "شرح شرح نُخْبَة الفِكَر". فانظره إذا شئت.

‌خبرٌ مفجع:

جاءنا خبر وفاة شيخنا الفاضل عبد الفتاح أبو غُدّة رحمه الله تعالى الأحد 9 من شوال سنة 1417 هـ، الموافق له: 16 من شباط سنة 1997 م، قبل دفع الكتاب للطباعة، فعدّلنا بعض التعليقات المنقولة عنه بالترحم عليه، فرحمه الله رحمة واسعة وجزاه عنا وعن طلبة العلم والعلماء كلَّ خير، وجعله الله تعالى في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسْنَ أولئك رفيقًا.

فكم كنا نتمنى أن نبعث إليه بهذه الطبعة المتواضعة التي قمنا بخدمتها، لتكون أصلًا لعمله، وتيسيرًا لتحقيق الكتاب كما يرتضيه، ولكنه قَدَرُ الله تعالى:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11].

وكذلك كان الأمر بالنسبة لصحيح الإمام البخاري، كنا نتمنى أن نبعث إليه بنسخة اعتنينا بها وأثبتنا على صفحة الغلاف اسم الكتاب العلمي، الذي طالما تمني الشيخ أن يراه مثبت على نسخ "صحيح البخاري"، فصدرت النسخة بعد وفاة الشيخ أيضًا، ولم تكتحل عينه برؤيتهما، فإنا لله وإنَّا إليه راجعون.

‌كلمة شكر:

هذا، ولا يفوتنا أن نتقدم بالشكر من كل مَنْ أسهم معنا في إخراج هذا الكتاب، ونخصُّ بالذكر منهم: الحاج الفاضل: أحمد أكرم الطَّبَّاع صاحب "دار الأرقم" على ما

ص: 20

يُسديه من خدمة للتراث الإسلامي فجزاه الله خيرًا، وكذلك نشكر الإخوة - في مكتبنا - الذين بذلوا الجهد في مساعدتنا على إخراج هذا الكتاب، فكانوا كالجنود المجهولين يعملون من وراء ستار ولهم كبير الأثر والفضل، وهم:

فادي مرشود، وعثمان دياب، وأحمد اليوسف. فجزاهم الله كل خير.

وأخيرُا لا ندّعي الكمال في عملنا، ونطلب من أهل الفضل والعلم أن يزودنا بملحوظاتهم واستدراكاتهم مشكورين مأجورين، حتى نُلْحِقَهَا بالكتاب أو نضعها في أماكنها.

ونرجو ممن استفاد من عملنا المتواضع أن يخُصَّنا وشيوخَنا بدعوة صالحة في ظهر الغيب، وأن يَغُضَّ الطَّرْف عن زلاتنا وينصحَ لنا.

"والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"

(1)

.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله الذي بنعمته تَتِمُّ الصالحات.

وكتبه

في بيروت

الجمعة: 1 من جمادى الثانية سنة 1418 هـ

الموافق له: 3 من تشرين الأول سنة 1997 م

محمد بن نزار تميم وهيثم بن نزار تميم

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 2074، كتاب الذكر والدعاء (11)، رقم (38 - 2699).

ص: 21

‌ترجمة صاحب "النُّقاية"

(1)

(000 - 747 هـ)

عُبَيد الله صدر الشريعة الأصغر ابن مسعود بن تاج الشريعة، محمود بن صدر الشريعة أحمد بن جمال الدين عُبَيد الله المَحْبُوبي، صاحب "شرح الوقاية"، المعروف بين الطلبة بصدر الشريعة.

هو الإمام المُتَّفَق عليه، والعَلَّامة المختلف إليه، حافظ قوانين الشريعة، مُلَخِّص مشكلات الأصل والفرع، شيخ الفروع والأصول، عالم المعقول والمنقول، فقيهٌ خلافي جَدلِيّ، محدِّثٌ نَحْويّ لُغَويّ، أديب نَظَّارٌ متكَلِّمٌ منطقي، عظيم القدر جليل المَحَلِّ، غُذِّي بالعلم والأدب، وورِثَ المجد عن أبٍ فأبٍ.

أخذ العلم عن جدِّه الإمام تاج الشريعة محمود بن صدر الشريعة، عن أبيه صدر الشريعة، عن أبيه جمال الدين المحبوبي، عن الشيخ الإمام المفتي إمام زاده، عن عماد الدين، عن أبيه شمس الأئمة الزَّرَنْجَرِيّ، عن السَّرَخْسِيّ، عن الحلواني، عن أبي عليٍّ النَّسفي، عن محمد بن الفضل، عن السُّبَذْمُونِي، عن أبي عبد الله بن أبي حفص الكبير، عن أبيه، عن محمد.

وكان ذا عناية بتقييد نفائس جَدِّه وجمع فوائده. شَرَح كتاب "الوقاية" من تصانيف جده تاج الشريعة، وهو أحسن شروحه، ثم اختصر "الوقاية" وسماه "النُّقاية"، وألَّف في الأصول متنًا لطيفًا سماه "التنقيح"، ثم صنَّف شرحًا نفيسًا سماه "التوضيح"، وله "المقدمات الأربعة"، و"تعديل العلوم"، و"الشروط والمحاضر".

مات سنة سبع وأربعين وسبع مئة (747 هـ)، ومرقده ومرقد والديه وأولاده وأجدادِ والديه كلها في شرع آباد ببخاري، وأما جَدُّه أبو أبيه تاج الشريعة وأبو والدته برهان الدين فإنهما ماتا في كَرمان ودُفِنَا فيها. كذا ذكره عبد الباقي الخطيب بالمدينة المنورة الذي يرفع نسبه إلى قاضيخان

(2)

.

(1)

انظر ترجمته في: الجواهر المضية 4/ 369، والطبقات السنية 4/ 429،، وتاج التراجم ص 203، وكتائب أعلام الأخيار رقم (517)، وكشف الظنون: ص 419، 496، 1047، 1270، 1971،2011، 2021، والفوائد البهية ص 109 - 112، وفيه بحث نفيس حرَّر فيه العلَّامة اللَّكْنَوِيّ الاضطراب الواقع في ترجمته. والأعلام 4/ 197 - 198.

(2)

انتهى بحروفه من الفوائد البهية ص 109 - 110.

ص: 22

‌نماذج من المخطوطات

صفحة وقْفِيَّة الجزء الأول من "فتح باب العناية"

ص: 23

الصفحة الأولى من الجزء الأول من "فتح باب العناية"

ص: 24

الصفحة الأخيرة من الجزء الأول من "فتح باب العناية"

ص: 25

صفحة وَقْفِيَّة الجزء الثاني من "فتح باب العناية"

ص: 26

الصفحة الأولى من الجزء الثاني من "فتح باب العناية"

ص: 27

الصفحة الأخيرة من الجزء الثاني من "فتح باب العناية"

ص: 28

صورة الصفحة الأولى من "النُّقَاية"

ص: 29

صورة الصفحة الأخيرة من "النُّقَاية"

ص: 30

بسم الله الرحمن الرحيم

[وبه أَستعين، ربِّ تَمِّم بالخير]

(1)

الحمدُ لله الذي جعل العلماءَ ورثة الأنبياء، وخلاصةَ الأولياء، الذين يدعو لهم ملائكةُ السماء، والسَّمَكُ في الماء، والطيرُ في الهواء. والصلاةُ والسلامُ الأتمَّان الأعمَّان على زُبدةِ خُلاصة الموجودات، وعُمدة سُلالة المشهودات، في الأصفياءِ الأزكياء، وعلى آله الطيبينَ الأطهارِ الأتقياء، وأصحابه الأبرار نجومِ الاقتداءِ والاهتداء.

أمّا بعد

(2)

، فيقول الملتجي إلى حَرَمِ ربّه الباري، عليُّ بن سلطانٍ محمدٍ القاري الحنيفي

(3)

الحنفي، عاملهما الله بلطفه الخفي، وكرمه الوفي:

إنَّ من المعلوم عند أرباب الفهوم أنَّ علم الفقه من العلوم أهمُّها، ولنفع الخاصَّة والعامَّة أعمُّها وأتمُّها، فينبغي الاعتناء به، لتحصيل درجة الاعتلاء بسببه، وقد قال الله تعالى:{وما كان المؤمنون لِيَنْفِروا كافَّةً فلولا نَفَرَ من كلّ فِرقةٍ منهم طائفةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنْذِروا قومَهم إذا رَجَعُوا إليهم لعلَّهم يَحْذَرُون}

(4)

، وقال عز وجل:{قد فصَّلنا الآياتِ لقومٍ يفقهون}

(5)

.

وقد ورد في «مسند أحمد» و «صحيحي الشيخين» وغيرهما، عن جَمْعٍ من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم قال:«من يُردِ اللهُ به خيراً يُفَقِّههُ في الدِّين» . وروى الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس مرفوعاً: «فقيهٌ واحدٌ أشدُّ على الشيطان مِنْ ألفِ عابد»

(6)

. وروى ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعًا

(7)

: «إنَّ أُناساً من أمتي سيتفقهون في الدين، ويقرؤن القرآن، ويقولون: نأتي الأمراء، ونُصيب من دُنياهم، ونعتزلهم بديننا، ولا يكون ذلك، كما لا يُجتنَى من القَتَاد

(8)

إلا الشَّوكُ، كذلك لا يُجتنَى مِنْ قُرْبِهم إلا الخطايا».

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوطة.

(2)

في المطبوعة: وبعد.

(3)

الحنيفي: زيادة من المخطوطة.

(4)

سورة التوبة، الآية:(122).

(5)

سورة الأنعام، الآية:(8).

(6)

سنده ضعيف، ولكن يتقوى بتعدد طرقه. انظر كشف الخفاء 2/ 144.

(7)

لفظ "مرفوعًا" سقط من المطبوعة والمخطوطة، واستدركه الشيخ عبد الفتاح أَبو غُدَّة رحمه الله تعالى في الجزء الذي حققه من هذا الكتاب.

(8)

القتاد: شجر له شوك. مختار الصحاح ص 218، مادة (قتد).

ص: 31

وروى الترمذي عن أبي أُمامة: «فَضْلُ العالم على العابد كفضلي على أدناكم» . وما ذلك إلا لكون العلم نفعُهُ متعدَ والعبادةُ نفعُها قاصر، ولأنَّ العلم إما فرضُ عين وإما فرضُ كفاية، والعبادةُ الزائدةُ على الفرائض لا تكون إلا نافلة، والعابدُ قد يكون مُقلِّداً، والعالم يكون مُحقِّقاً مجتهداً، فلا يكونانِ متساويَيْنِ أبداً. ومِن ها هنا

وَرَد: «يُوزَنُ مِدادُ العلماء بدماء الشهداء، ويرجُحُ مِدَادُ العلماء»

(1)

، مع أَنْ مدادهم أَدنى مراتب أفعالِهم، ودِماءَ الشهداء أعلى مناقب أحوالِهم.

(قَبُولُ الحديثِ المْرسَلِ)

والحاصل: أنَّ علم الفقه هو الباحثُ عن الحلال والحرام، والباعثُ على التمييز بين الجائز والفاسد من وجوه الأحكام، المحتاجُ إليه الخواصُّ والعوامّ، في جميع الساعات والأيام، لكن روى الدَّيْلَمِيّ عن علي مرفوعاً:«من ازداد علماً ولم يَزدد في الدنيا زُهداً، لم يَزدد من الله إلا بُعداً»

(2)

.

اعلم: أن علماءنا رحمهم الله تعالى أكثَرُ اتّباعاً للسُّنَّة من غيرهم، وذلك أنهم اتَّبعوا السلفَ في قبول المُرسَل، معتقدين أنه كالمُسنَد في المعتمد، مع الإِجماع على قبول مَرَاسِيل الصحابة من غيرِ النزاع.

قال الطبري: أجمَعَ العلماءُ على قَبول المُرْسَل، ولم يأتِ عن أحدٍ منهم إنكارُه إلى رأس المئتين. قال الراوي: كأنه يعني

(3)

الشافعي، وأشار إلى ذلك الحافظ أبو عُمرَ بنُ عبد البَرّ في «التمهيد» . فمَنْ نَسَبَ أصحابَنا إلى مخالفةِ السُّنَّةِ واعتبارِ الرأي والمقايسةِ، فقد أخطأ خطأً عظيماً، لأنَّ الحديث الموقوف على الصحابة مقدَّم على القياس عندنا، وكذا الحديثُ الضعيف، فمَنْ خَالَفنَا فيما ذكرنا فهو مِنْ رأيهِ الفاسد وقياسِه الكاسِد.

والحاصل: أنَّ المُرْسَل حُجَّةٌ عند الجمهور، ومنهم الإِمامُ مالك، وقد نَقَل الحافظُ أبو الفرج بنُ الجوزي في «التحقيق» عن أحمد، ورَوَى الخطيبُ في كتاب

(1)

قال المُنَاوي: قال الزين العراقي: سنده ضعيف .. وقال في "الميزان": متنه موضوع. انظر فيض القدير 6/ 466، وكشف الخفاء 2/ 400.

(2)

قال المُنَاوي: قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف. فيض القدير 6/ 52. ولفظه في المطبوعة: "ولم يزدد به في الدنيا".

(3)

لفظ: "يعني" لم يرد في المطبوعة، بل هو مثبت من المخطوطة.

ص: 32

«الجامع» ، أنه قال: رُبَّما كان المُرسَلُ أقوى من المُسنَد. وجَزَم بذلك عيسى بنُ أبانٍ من أصحابنا، وطائفةٌ من أصحاب مالك: أنَّ المُرسَلاتِ أولى من المسنَدَات. ووَجْهُهُ أن مَنْ أسنَدَ لك فقد أحالَكَ على

(1)

البحث عن أحوالِ مَنْ سَمَّاه لك، ومَنْ أرسَلَ من الأئمَّة حديثاً مع علمهِ ودينِهِ وثقتِهِ، فقد قَطَعَ لك على صحته وكَفَاكَ بالنَّظَر. وقالتْ طائفة من أصحابنا ومن أصحاب مالك: لسنا نقولُ: إنَّ المُرسَلَ أقوى من المُسنَد، ولكنهما سواءٌ في وجوب الحُجَّة. واستدلُّوا بأنَّ السلفَ أرسَلوا ووَصَلوا وأسندوا، فلم يَعِبْ واحدٌ منهم على صاحبِه شيئًا مِنْ ذلك.

ورَدَّ الشافعيُّ المُرسَل إلا أن يجيء من وجهٍ آخَرَ مُسنَداً، أو مُرسَلاً أرسَله عن

(2)

واحد مِنْ غير رجال الأَوَّل، أو اعتَضَد بقولِ الصحابي، أو بقولِ أكثر أهل العلم، أو كان المُرسِلُ لا يُرسِلُ إلا عن عَدْل، هكذا نَصَّ عليه الإِمام فخرُ الدين والآمِدِي.

قال ابنُ الحاجِب: وقد أُخِذَ على الشافعي فقيل: إنْ أُسْنِدَ فالعمَلُ بالمُسنَدِ وهو وارِدٌ، وإنْ لم يُسنَدْ فقد انضمَّ غيرُ مقبولٍ إلى مِثْلِهِ، لكنَّ الشقَّ الثاني لم يَرِد، لأنَّ الظنَّ قد يحصل أو يقوى بالانضمام، والله سبحانه أعلم بحقائق المرام.

ثم اعلم: أنَّ المتأخّرِين اصطلحوا على تقسيم الحديث إلى صحيح، وحسن، وضعيف، ومُرسَل، ومُنقطِع، ومُعضَل، وغير ذلك من الأنواع المعروفة في أصول الحديث كما حققَّناه في «شرحنا» على «شرحِ النُّخبة»

(3)

للحافظ ابن حَجَر العسقلاني، ثم رَدُّوا مِنْ ذلك المُرْسَلَ وما بعده.

وأمَّا المتقدّمون من السلف، فلم يَرُدُّوا شيئاً مِنْ ذلك، كما فَعَل الإِمامُ مالكٌ في «موطَّئه» كذلك، وذلك لعَدَمِ الفَرقِ عندهم بين المُرسَلِ والصحيحِ والحسَنِ، ويُطلقون المُرسَلَ على المنقطِع وعلى المُعْضَل. فإذا رأى مخالِفُنا أنَّا احتَجَجْنَا بأحاديثَ مرسلةٍ، أطلق عليها أنها ضعيفةٌ على اصطلاحهم ونَسَبنا إلى العَمَل بالحديثِ الضعيفِ المعارض للحديث الصحيح أو الحسَنِ بزعمه.

(1)

لفظ: "على" زيادة من المخطوطة.

(2)

لفظ: "عن" زيادة من المخطوطة.

(3)

طُبع "شرح شرح نُخْبَة الفِكَر" لملا علي القاري في دار الأرقم بن أبي الأرقم بتحقيقنا، وقدّم له شيخنا الفاضل عبد الفتاح أَبو غُدَّة رحمه الله تعالى.

ص: 33

(السَّبَبُ الدَّاعي لِذِكْرِ الأَدِلَّةِ)

ثم لم يزل أصحابُنا المتقدّمون يَعْتَنُون في كتبهم بذكر الأدلَّة من السُّنَّة، والبحثِ عنها وتبيينِ الصحيحِ والحسن والضعيف ونحوِها، كالطَّحاوي، وأبي بكر الرازي، والقُدُوري وغيرِهم. وإنما قَصَّر في ذلك المتأخرون من أصحابنا لاعتمادهم على ما تقرَّرَ عند متقدِّميهم، فنُسِبُوا إلى هَجْر السُّنَّة والشريعة ولا يَحِلُّ لأحدٍ أن يَنْسُبَ أصحابَنا إلى هذه الخَصْلة الشنيعة.

مع أنَّ المخالفين من الشافعية يَعِيبون على أصحابِنا ما هم واقعون فيه، فلقد أكثَرَ الإِمامُ أبو إِسحاق في «المهذَّب» ، وإمامُ الحَرَمين في «النهاية» وغيرُهما مِنْ ذكر الاستدلال بالأحاديث الضعيفة، وقد بيَّنَ ذلك البيهقيُّ من متقدميهم، ثم النوويُّ والمُنْذِريُّ مِنْ متأخِّريهم في عِدة مواضع

(1)

، بل صَرَّحَ إمامُ الحرمين عن حديثٍ ضعيفٍ بأنه صحيح، وغلَّطه الشيخُ تقيُّ الدين، وابنُ الصلاح، والنوويُّ وغيرُهم.

فهذا الذي أوجَبَ علينا ذِكرَ الأحاديث وتبيينَها، وتعريفَ المُخَرِّجينَ لها وتعيينَها، فإنَّ صاحب «الهداية» لمَّا ذكَرَ أحاديثَ مجملةً في تقوية الدراية بالرواية، من غير إسنادٍ إلى المخرِّجين، صار سبباً لطعنِ بعضِ أحاديثه للمتأخّرين، والله الموفق والمعين.

ولما كان كتابُ «النُّقَاية» مختَصَرُ «الوقاية» التي هي مقتَصَرُ «الهداية» المقبولُ عند أرباب البداية والنهاية، من أوجزِ المتونِ الفقيهة، في مذهب السادة الحنفية، الذين هم قادة ذي المِلَّة الحنيفية، قصدتُ أن أكتب عليه شرحاً غيرَ مُخِلَ ولا مُمِلَ، يُبيِّنُ مُشكلاتِ مَبَانيه، ويُعَيِّنُ مُعْضِلاتِ مَعَانيه، مشحوناً بالأدلة من الكتابِ، والسُّنَّة، وإجماعِ الأُمَّة، واختلافِ الأئمة، وأَكتفي من الفروع بما هو كثيرُ الوقوع، رجاءَ أن أُدرجَ في سلِكْ العلماء العاملين، وأُحشَرَ في زُمرةِ الفقهاءِ الكاملين، فأقول، وبعون الله سبحانه أَحُولُ وأَجُول، وهو حَسْبي ونِعم الوكيل، في أن يَهدِيِني سَواءَ السبيل:

قال المصنِّفُ عُمدةُ العلماء، وزُبدةُ الفضلاء، الجامعُ بين معرفة الفروع والأصول، والحاوي لطريق المنقول والمعقول، صاحبُ «التنقيح» وشرحِهِ «التوضيح» مولانا وسيدُنا صدرُ الشريعة، عُبَيدُ الله بنُ مسعودِ بنِ تاج الشريعة، ـ جعل الله سَعْيَه مِنْ أعلى السعاية، والذريعة إلى مراتب الدرجات الرفيعة، مات في نَيِّفٍ وثمانين وستِّ

(1)

عبارة المخطوطة: "من متأخريهم، بل في عدة مواضع صرح إمام الحرمين

".

ص: 34

‌بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله رافعِ أعلام الشريعة الغرَّاء،

===

مئةٍ

(1)

رحمه الله سبحانه رحمةً تامةً ـ:

(بسم الله الرحمن الرحيم)

أي باسمه أشرعُ لا بغيره (الحمد لله) وهو: الثناءُ بالجميل على جهة التبجيل. وجَمَع بينهما اقتداءً بالكتاب المجيد، وعملاً بما ورد من الحديث الحميد، كما رواه الحافظ الرُّهاوي في «أربعينه»: «كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدَأُ فيه بِبِاسم

(2)

الله فهو أقطع»، وفي رواية:«بذكرِ الله» . قال ابنُ الصلاح: رجالُهُ رجالُ «الصحيحين» ، وفي رواية:«فهو أبتر» رواه ابنُ حِبَّان. وروى أبو داود والنَّسائي في «عمل اليوم والليلة» : «كلُّ كلام ذي بالٍ لا يُبدأ فيه بالحمدُ لله فهو أجذم» ، ورواه ابنُ ماجه:«كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأ فيه بالحمدُ لله فهو أقطع» .

والحمدُ لغةً: هو الثناءُ بالجميل على جهةِ التبجيل، وعُرفاً: صَرْفُ العبدِ جميعَ نِعَمِ رَبِّه إلى ما خُلِقَ لأجلِه، كصَرْفِ النَّظَرِ إلى مَصُوغات مصنوعاتِه

(3)

، والسَّمْعِ إلى ما يُنبِاء بمرضِيَّاته، والاجتنابِ عن مَنْهِيَّاتِهِ، والقلبِ إلى تَذكُّر آياته والتفكر في صفاته. وقد بَسَطنا القولَ على مفردات البَسْمَلة والحَمْدَلة وما يتعلَّقُ بهما في بعض مصنَّفاتِنا المطوَّلة

(4)

.

(رافعِ أَعلامِ الشريعة الغَرَّاء) بدلٌ أو بيانٌ للجلالة، ويجوز رفعُهُ وجرُّه، كما قُرِاء بالوجوه الثلاثة في قوله تعالى:{الحمدُ ربّ العالمين} ، ورُويَ بها في حديث «بُنِيَ الإِسلامُ على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله

» الحديثَ

(5)

.

والمرادُ بالأعلام علماءُ الأنام. والغرَّاءُ: البيضاءُ النَّوْراء. وفي رفعِهم إشارةٌ إلى

(1)

قال العلامة اللَّكْنَوي: لعل فيه زلة من قلم الناسخ فلتراجع نسخة أخرى. الفوائد البهية ص 110. والصواب أنه توفي سنة: سبع وأربعين وسبع مئة. انظر المراجع التالية: كتائب أعلام الأخيار رقم (517)، وتاج التراجم ص 203، والطبقات السنية 4/ 429، والجواهر المضية 2/ 506 حاشية (3)، و 4/ 369، وهدية العارفين 1/ 649، والأعلام 4/ 197 - 198، ومعجم المؤلفين 2/ 296.

(2)

فائدة: ذكر شيخنا الفاضل عبد الغني الدَّقر أن ألِف الوصل تحذف من "باسم" إذا كُتبت في البسملة فقط، بشرط أن تُذكَر كُلُّها، وألّا يُذكر معها متعلِّق، فلو كتبتَ: باسم الله فقط، لم تُحذف ألِفُ الوصل، وكذلك: باسم الله الرحمن الرحيم كتابتس. انظر معجم القواعد العربية ص 539 بتصرف.

(3)

في المخطوطة: مصنوعات موضوعاته.

(4)

وهو: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 1/ 3 - 7.

(5)

رواه البخاري (فتح الباري) 1/ 49، كتاب الإيمان (2)، باب دعاؤكم إيمانكم (2)، حديث رقم (8).

ص: 35

جاعِلِها شجرةً أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء. والصلاةُ والسلامُ على رسولِهِ محمدٍ أفضلِ الرُّسُل والأنبياء، وعلى آله

===

قوله تعالى: {يَرفَعِ اللهُ الذِين آمنوا مِنْكم والذين أُوتُوا العلمَ درجاتٍ}

(1)

. وفيما بعده إيماءٌ إلى حدِيث: «بُعِثْتُ بالحنيفية السَّمْحَاءِ»

(2)

، ولا يبعُد أن يراد بالأَعلام ما يدل على الأحكام من الكتاب، والسُّنَّةِ، وإجماعِ الأُمَّة، والقياسِ: الأدلَّة، أو ما يَدُلُّ على ترويجها كالأذان والجماعَة. ورفعُها إظهارُها.

(جاعلها) أي مُصيِّر الشريعة أو أعلامِها. والمرادُ قواعدُ أصولِ الفقه وأحكامُها (شجرةً) أي كجشرةٍ عظيمة، لها ثمرة وَسِيمة (أصلها ثابت) أي في أرضِ قلوبِ العلماء (وفرعها) أي أعلاها، أو غُصْنُها أو نتيجَتُها (في السماء) أي في سَماءِ الرِّفعةِ والعلاء، وفيه اقتباسٌ لطيف، وتضمين شريف لقوله تعالى:{ألَمْ تَرَ كيف ضَرَبَ اللهُ مثلاً كلمةً طيِّبةً كشجرةٍ طيبة}

(3)

الآيةَ.

وقد وَرَد عن عبد الله بن عُمر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إنَّ مِنْ الشَّجَرِ شجرةً لا يَسْقُطُ وَرَقُها، وإنها مِثْلُ المُسْلمِ، فحدِّثُوني ما هي» ؟ قال عبدُ الله: فوقَعَ الناسُ في شجر البوادي، ووقَعَ في نفسي أنها النخلة، فاستَحْيَيْتُ، ثم قالوا: حَدِّثْنَا ما هي يا رسولَ الله؟ قال: «هي النخلةُ» قال عبد الله: فذكرتُ ذلك لعمر فقال: لأن تكون قلتَ: هي النخلةُ أحبُّ إليَّ مِنْ كذا وكذا». والمرادُ بأصلها الدلائلُ القطعية، وبفرعها المسائلُ الظَّنِّية.

(والصلاةُ) وهي: أفضلُ الثناء (والسلامُ) هو: أكمل الدعاء (على رسوله) أي المُجتَبَى من الأصفياء (محمدٍ أفضل الرُّسُلِ والأنبياء). والأنبياءُ أفضلُ من الملائكة عند أكثر العلماء، فهو أَفضلُ أهل الأرض والسماء. والصحيحُ أن النبيَّ إنسانٌ أُوحِيَ إليه، سواء أُمِرَ بالتبلِيغ أَوْ لا، والرسولُ من أُمِرَ بتبليغه.

(وعلى آله) أي أَهلِ بيته وأَقاربه، أَوْ جميع أُمَّته، لِمَا روى تمَّام في «فوائده» أَنه قيل: مَنْ آلُك يا رسول الله؟ قال: «آلي كلُّ تقيّ إلى يوم القيامة»

(4)

. والتقوى لها

(1)

سورة المجادلة، الآية:(11).

(2)

أخرجه الخطيب عن جابر رضي الله عنه بلفظ: "الحنيفية السمحة"، والديلمي عن عائشة رضي الله عنها بلفظ: "إني بعثت

"، وأحمد في مسنده بسند حسن. انظر كشف الخفاء 1/ 217، وفيض القدير 3/ 203.

(3)

سورة إبراهيم، الآية:(24).

(4)

خلاصة ما قيل فيه: إن أسانيده ضعيفة، ولكن شواهده كثيرة، توصله لدرجة الحسن لغيره. انظر كشف الخفاء 1/ 18 - 19.

ص: 36

وأصحابه نُجُومِ الاقْتِدَاء والاهْتِدَاءِ.

وبعد، فإنَّ العبدَ المتوسِّلَ إِلى الله تعالى بأقوى الذَّرِيعَة: عُبَيدَ الله بن مسعود بن تاج الشريعة - سَعِدَ جَدُّه، ............

===

مراتبُ أدناها الاجتنابُ من الشرك بالله، وأعلاها من ملاحظةِ ما سِواه.

(وأصحابِه) أي كلِّ مَنْ لقِيَه وآمَنَ به وماتَ عليه (نجوم الاقتداء والاهتداء) وفيه تلميحٌ إلى أنَّ أنوارَ عُلومِهم وأسرار فُهومِهم، مقتبسةٌ مِنْ مِشكاةِ صَدْرِ أربابِ النُّبُوَّة، الموصوف بكونه {سراجاً منيراً}

(1)

المرادِ به شمسُ سماءِ الرِّفْعَة والعَلاء، كما أنَّ أنوار الكواكب مستفادةٌ من ضياءِ شمسِ السماءِ، كما أشار إليه شارح متن «الحِكَم». وفيه أيضاً إيماءٌ إلى قوله عليه الصلاة والسلام:«أصحابي كالنُّجومِ بَأيِّهم اقتديتُم اهتديتم»

(2)

، وفيه تنبيهٌ نبيهٌ على تقديم الحَسَب على النَّسَب.

(وبعدُ) مبنيّ على الضم لِقَطْعِه عن الإِضافة، أي بعدَ البسملة والحمدلةِ والتَّصْلِيَة (فإنَّ العبدَ) الفاءُ لتوهم تحرير أمَّا، أو تقريره بتقدير، أو لدفعِ تجويز إضافةِ بعدُ إلى ما بعده، وقيل: الواوُ قائمة مقام أمَّا. (المتوسِّلَ) أي طالب الوسيلة إلى مقام القُربة والوُصْلة. وفي بعض النسخ: يقول العبدُ المتوسِّل (إِلى الله تعالى) شأنُه، وتعظَّم بُرهانُه (بأقوى الذريعة) أي بأعظم أنواع الوسيلة الشريفة، إلى وصولِ الدرجات المُنِيفة، ومنه قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وابتغوا إليه الوسيلة}

(3)

.

(عبيد الله) عطفُ بيان للعبد. فعلى النسخة الأولى منصوب، وعلى الثانية مرفوع (بن مسعود بن تاج الشريعة، سَعِدَ) بفتح فكسر، أو بصيغة المفعول، وبهما قُراء قوله تعالى:{وأمَّا الذين سَعِدُوا}

(4)

. (جَدُّه) بفتح الجيم، أي حَظُّه، ومنه حديثُ: «ولا يَنفعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ

(5)

»، وفُسِّر بِأبي الأمّ والأبّ، وعُلوِّ النسب أيضاً. فيكون في العبارة تورية، وهي: أن يُؤتى بكلمة لها معنيانِ، أحدُهما قريبٌ متبادر إلى الذهن، والآخَرُ بعيد، ويُراد به الأخير.

(1)

سورة الأحزاب، آية:(46).

(2)

رواه البيهقي في "الاعتقاد" ص 171. وقال اللَّكنَوي في "تحفة الأخيار" ص 53: وقد طال كلامهم على هذا الحديث تضعيفًا وجرحًا حتى ظن بعضهم أنه موضوع، وليس كذلك، نعم طُرق روايته ضعيفة، ولا يلزم منه وضعها، بل قد حسَّنه الصَّغَاني. انتهى باختصار.

(3)

سورة المائدة: آية: (35)

(4)

سورة هود، آية:(108). قرأ حفص والأَخَوَان: (حمزة والكسائي)، وخَلَف بضمِّ السين، وقرأ الباقون بفتحها. "البدور الزاهرة" ص 159.

(5)

أخرجه البخاري (فتح الباري) 2/ 325، كتاب الأذان (10)، باب الذكر بعد الصلاة (155)، حديث رقم (844).

ص: 37

وأُنجحَ جِدُّه - يقول: لَمّا ألَّفَ جَدِّي ومولاي العالمُ الربَّانيّ، والعاملُ الصَّمَدَاني، بُرهانُ الشريعة والحقِّ والدِّين، وارثُ الأنبياء والمرسلين، محمودُ بن صدر الشريعة، جزاه الله تعالى عني وعن سائر المسلمين خير الجَزَاء.

===

(وأُنجحَ جِدُّه) بكسر الجيم، أي سَعْيُهِ. ورُوِي به في الحديث أيضاً. وفي نسخة: قَصْدُه، أي نِيَّتُه ومَقْصِدُه. فالمعنى: ظَفِر

(1)

بمقصوده مِنْ باب معبوده. والجملتان دعائيتانِ معترضتان. (يقول) خبر إنَّ على النسخة الأولى، وساقطٌ من النسخة الثانية:

(لما ألَّف جدي) أي حين صَنَّف أبو والدي (ومولاي) أي مخدومي في مقام الفضل، ومُعتِقي مِنْ رِقّ الجهل (العالمُ الربانيّ) منسوبٌ إلى الربّ بزيادة الألف والنون للمبالغة كاللِّحيْاني، ومعناه: الكاملُ الجامعُ في العلم النافع، والعمل الرافع، لما رَوَى شعبة، عن عاصم، عن زِرِّ بن حُبَيْش، عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى:{ولكن كونوا رَبَّانِيِّين}

(2)

قال: حُكَمَاءَ وعُلمَاءَ. وفي رواية: كادوا أن يكونوا أنبياءَ. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الربَّانيُّ: هو الذي يُربِّي الناسَ بصِغَارِ العلمِ قبلَ كباره (والعاملُ الصَّمَدانيّ) أي منسوب إلى الصَّمَد، لأنه يُصْمَدُ إليه في الحوائج ويُقْصَد، وقيل: الصَّمَدانيُّ: هو الذي يَقْصِدُ بعمله وجْهَ الله سبحانه لا غير (برهان الشريعة) وهي ظاهِرُ المِلَّة. والبرهانُ بيانُ الحُجَّة (والحقِّ) وهو الأمرُ الثابت من أطوار الطريقة وأسرار الحقيقة (والدين) وهو جامعُ المعارف اليقينية

(3)

(وارثُ الأنبياء والمرسلين) أي آخِذُ علومِهِم مِنْ بعدِهم.

وقد وَرَد أنَّ: «العلماءَ ورَثَةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لا يُورِّثونَ ديناراً ولا درهماً وإنّما ورَّثوا العلمَ، فمن أخَذَه أخَذَ بحظٍ وافر»

(4)

(محمودُ بن صدر الشريعة جزاه الله تعالى عني) أي جزاه عن قِبَلي، وكافأه عِوَضي وَبَدَلي (وعن سائرِ المسلمين) فيما أفادني وإياهم مِنْ أمر الدين (خيرَ الجزاء)

(1)

في المخطوطة: "ظاهر" بدل "ظَفِر".

(2)

سورة آل عمران، آية:(79).

(3)

في المخطوطة: جامع معارف اليقين.

(4)

أخرجه أَبو داود في سننه 4/ 57 - 58، كتاب العلم (24)، باب الحث على طلب العلم (1)، رقم (3641). والترمذي في سننه 4/ 47، كتاب العلم (39)، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة (16)، رقم (2682). وابن ماجة في سننه 1/ 81، المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم (17)، رقم (223). وقد أخرج البخاري جزأً منه تعليقًا (فتح الباري) 1/ 159 - 160، كتاب العلم (3)، باب العلم قبل القول والعمل

(10).

ص: 38

لأجل حفظى كتابَ: "وِقاية الرِّوَاية في مسائِلِ الهداية"، وهو كتابٌ لم تَكْتَحِلْ عينُ الزمان بثانيه، في وجَازَةِ ألفاظه، مع كثرة معانيه.

لكن قَصَرَتْ هِمَّةُ أكثر أهل الزمَان عن حفظه، فاتَّخَذْتُ منه هذا "المختصر"، مشتملًا على ما لا بُدَّ منه، فمَن أَحَبَّ استحضارَ مسائل "الهِدَاية"، فعليه بحفظ "الوِقاية"، ومَن أَعْجَلَهُ الوقتُ، فليصرفْ إِلى حفظ هذا المختصر

===

وقد وَرَد: «من أتى إليكُم بمعروفٍ فكافِئُوه، فإنْ لم تجدوا فادْعُوا له»

(1)

وفي حديثٍ آخر: «من صُنِعَ إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء»

(2)

، أي فكافأه في الجزاء في مقام الدُّعاء (لأجل حفظي) عِلْمَ الفِقْه. متعلِّقٌ بـ: أَلَّفَ (كتاب «وقاية الرواية») مفعول ألَّفَ. والوِقاية بالكسر، وتُثَلَّث: ما وَقَيْتَ به شيئاً وحفظتَهُ بالرعاية (في مسائل الهداية) وهي «شرح البداية» للإِمام بُرهان الدين المَرْغِينَاني.

(وهو) أي: كتابُ «وِقايةِ الرواية» ، أو «وقايةُ الرواية» ، وتذكيرُهُ لأنه مصدر، أَوْ لتذكير خبرِهِ وهو (كتابٌ لم تَكْتَحِل عينُ الزمان بثانيه) أي لم يُوجَدْ له نظير (في وجَازة ألفاظه) بكسر الواو أي قِلَّةِ مَبَانِيه (مع كثرة معانيه) أي فكان الواجبُ على كلِّ أحدٍ أن يُقبِلَ عليه، ويَقْبَلَ ما يُنْسَبُ إليه.

(لكن قَصَرت) أي بَعُدَت أو خلت (هِمَّةُ أكثر أَهل الزمان) من جملة الإِخوان (عن حفظه) مع أنه في غاية من الإِتقان (فاتخذتُ منه هذا المختصرَ) وكان الأولى أن يقول: فاتخَذْتُ هذا المختَصَر عنه ليكونُ مُسَجَّعاً مع قوله (مشتملاً على ما لا بُدَّ منه) أي لا مَنْدُوحَة عنه، ولا استغناءَ منه، حالٌ مقدَّرة كقوله سبحانه:{فادخُلُوها خالدين}

(3)

. ويحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً نحو قوله تعالى: {اتخَذُوا أيمانَهم جُنَّةً}

(4)

. وفي بعض النسخ: مشتملاً على مسائِلَ لا مندوحَةَ عن حفظها.

(فمن أحب) وفي نسخة: أراد (استحضارَ مسائل الهداية) ضبطاً. وفي نسخة: أحبَّ ضَبْطَ مسائِلِ الهداية (فعليه بحفظ «الوقاية») ربطاً، (ومَنْ أعجله الوقتُ) أي لم يَسَعْهُ حِفْظُه في مقام الرعاية (فليصرف إِلى حفظ هذا المختصر) المسمى بالنُّقاية

(1)

أخرجه أَبو داود في سننه 2/ 310، كتاب الزكاة (9)، باب عطية من سأل بالله (38)، رقم (1672). والنسائي في سننه 5/ 87، كتاب الزكاة (23)، باب من سأل بالله عز وجل (73)، رقم (2566). ومسند الإمام أحمد 2/ 68، 99، 127.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه 4/ 333، كتاب البر والصلة (5 2)، باب ما جاء في المتشبِّع بما لم يُعطه (87)، رقم (2035).

(3)

سورة الزمر، آية:(73).

(4)

سورة المجادلة، آية:(16).

ص: 39

عِنان العناية، إِنه وَلِيُّ الهداية.

===

(عِنان العناية) أي لجام الاهتمام في الغاية (إِنه) أي الله سبحانه (ولي الهداية) وهي: ضِدُّ الضَّلالة والغَوَاية. وقيل: الضميرُ إلى المختَصَر، والهداية إمَّا اسمُ الكتاب، والمعنى أنَّ المختَصَر متولِّي أمْر «الهِدَاية» ، بمعنى أنه يَحْصُل منه ما يَحْصُل من مسائل «الهداية» . وإمَّا معناه اللغوي، أي هذا المختَصَرُ يَهدِي إلى علِمِ الفِقه لأرباب البِداية. والله تعالى أعلم.

ص: 40

‌كِتَابُ الطَّهَارَةِ

‌فَرضُ الوُضُوءِ:

غَسْلُ الوَجْهِ

===

كتاب الطهارة

(كتابُ الطهارةِ) أي جِنسها، وافتَتَح بها لأنها مفتاحُ الصلاة التي هي أمُّ العبادات المقدَّمةُ على المعاملات، مع ما في الطهارة من الإِيماء إلى النزاهة الباطنيَّة، عن الاعتقادات الرديَّة، والأخلاق الدنيَّة.

والكتابُ مصدرٌ بمعنى المفعول، واصطلاحاً: طائفةٌ من المسائل إما في الفروع وإما في الأصول. والطهارةُ لغةً: مجرَّدُ النظافة، وشرعاً: النظافةُ عن الحدَث أو الخَبَث. وسبَبُ وجوبِها إرادةُ الصلاة وما يُشابهها مما لا يصِحُّ وجوبُه

(1)

بدونها. وشَرْطُه الحَدَثُ أو الخَبَث.

(فَرضُ الوُضوء) بضمّ الواو: الفعلُ المخصوص، مشتقٌّ من الوَضاءة وهي: النَّقاوة. وبفتحها: الماءُ المُعَدُّ له. وقدَّمَه على الغُسْل لأنَّ الحاجة إليه أكثر، ولأنَّ محلَّه جزءٌ من محلّ الغُسل، ولأنه تعالى قَدَّمَهُ عليه.

والفرضُ عندنا: ما لَزِمَ فعلُه بدليلٍ قطعي، وحُكمهُ، أن يَستحِقَّ فاعلُه الثوابَ، وتاركُه العقابَ.

وأما الواجبُ فما ثَبَتَ لُزومُه بدليلٍ ظنّي. وثوابُ فاعلِهِ دون ثواب فاعلِ الفرض، وعقابُ تارِكِه أقلُّ من عقابِ تارك الفرض. الفرضُ ما يفوت العملُ بفوته، بخلاف الواجب. والعجَبُ من الإِمام الشافعي في عدمِ الفرقِ بينه وبين الظني، وتسميتِهِ الكلَّ واجباً، مع أنه اضطرَّ إليه في باب الحجّ.

وقال السُّهَيلي: «وكانت فريضةُ الوضوء بمكة، ونزلَتْ آيتُهُ بالمدينة، وأخرَجَ عن أسامة بن زيد بن حارثة أنَّ أباه حدَّثه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوَّل ما أُوحِيَ إليه أتاه جبرائيلُ عليه السلام فعلَّمه الوضوءَ، فلما فَرَغ من الوضوء أخذ غَرْفَةً من ماءٍ فنَضَحَ بها فَرْجَه» .

وَزَعَم ابنُ الجَهْم المالكي أنه كان مندوباً قبل الهجرة، وابنُ حَزْمٍ أنه لم يُشرَع إلا في المدينة.

فَفَرْضُ الوضوء مبتدأ، أي فرائضهُ أربعة:(غَسلُ الوجه) بفتح الغين مصدرُ غَسَلَ،

(1)

في المخطوطة: وجوده.

ص: 41

من الشَّعَرِ إِلى الأُذُن وأسفلِ الذَّقَن، ويديه ورِجليه مع مِرْفَقَيه وكعبيه، ومسحُ رُبْع رأسه،

===

بمعنى إسالةِ الماءِ وإمرارِه على العضو بحيث يتقاطر، وعن أبي يوسف أنه مجرَّدُ الإِسالة، وعنه أنه يكفي بَلُّ العضو. وبالضمّ: الاسمُ للفعل المخصوص. وبالكسر: ما يُغسَلُ به.

وحَدُّ الوجه: (من) مبدأ (الشَّعَر) بفتحهما، ويُسكَّن الثاني، أي شَعرِ الرأس غالباً، والأوجَهُ أن يقال: من مبدأ الجبهةِ الذي يلي الشعر (إِلى الأذن) بضمتين، وبضمّ فسكون، فهذا بيانُ عرْضه الشامل لليُمنَى واليُسرَى، فيكون ما بين العِذَارِ

(1)

والأذُنِ واجب الغَسْلِ كما هو مذهبُ أبي حنيفة ومحمد، خلافاً لأبي يوسف (و) إلى (أسفل الذَّقَن) بفتحتين وهو: مَجْمعُ اللَّحْيَيْن، وهذا بيانُ طوله. وفي الابتداءِ من الجبهةِ الحدِّ الأعلى: إيماءٌ إلى أن السُّنَّة في غَسلِ الوجه أن يَمُرَّ من الجبهة إلى الذَّقَن.

(ويديه ورجليه) أي وغَسلُ يديه ورجليه. والضميرُ لصاحبِ الوجه، لدلالة الوجه عليه، أو إلى المتوضّاء، لأنَّ سياق الكلام يُشير إليه.

وقالت الشيعةُ: الواجبُ في الرجلين المسحُ، وقال ابنُ جرِير: هو مخيَّر، وقال بعضُ الظاهرية: يجبُ الغَسلُ والمسحُ، ويأتي تحقيقُ الكلام على هذا المرام

(2)

.

(مع مرفقيه وكعبيه) أي مع غَسْل كلّ منهما. والمِرفَقُ بكسر الميم وفتح الفاء، وعكسِهِ: مُجتَمعُ العَضُدِ والساعِد. والكعْبُ ها هنا: العظمُ الناتاء عند أسفلِ الساق، وقال زُفَر وداودُ: لا يَدْخُل المرفَقان ولا الكعبان في غَسْل الوضوء.

ويُستَحبُّ ابتداؤه مِنْ رؤوس الأصابع في اليدين والرجلين، لأنه سبحانه جعَلَ المرافقَ والكعبين غايةَ الغَسْل، فينبغي أن تكون نهايةَ الفِعل.

(ومسحُ رُبْع رأسه) عطفٌ على غَسْل الوجه. والمسحُ إصابَة اليدِ المبتلَّةِ العضوَ، إما بَللاً يأخذه من الإِناء، أو بَللاً باقياً في اليدِ بعد غَسْلِ العضو من المغسولات، لا بللاً باقياً في يدِهِ بعدَ مَسْحِ العضوِ الممسوح، أو مأخوذاً من العُضوِ المغسولِ أو الممسوح.

وقال الشافعي: الفرضُ في المسح ما يقع عليه اسمُه، وهو روايَةٌ عن أحمد. وقال مالك وأحمد: جميعُ الرأس.

(1)

العِذَار: عذارا اللحية: جانِباها. المغرب في ترتيب المعرب: 2/ 48. وهو الشعر النابت على العَظْم الناتئ بقرب الأُذن. القاموس الفقهي ص 245.

(2)

ص 45.

ص: 42

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ودليلُ جملةِ ما ذكرنا قولُه تعالى: {يا أيها الذين آمَنوا إذا قمتُم إلى الصلاةِ فاغْسِلُوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المرافقِ وامْسَحُوا برءُوسِكم وأرجلَكمِ إلى الكعبين}

(1)

. ومعنى قمتم إلى الصلاة: أردتم القيام إليها، فأُقِيمَ السبب مقامَ سببِهِ الخاصّ للملابسة بينهما في تمام النظام ولإِيجاز الكلام. وظاهرُ الآية وجوبُ الوضوء على كلّ قائم إلى الصلاة وإن لم يكن مُحدِثاً، وهو خلافُ الإِجماع، ولأنه عليه الصلاة والسلام «صلَّى بوضوءٍ واحدٍ خمسَ صلواتٍ عام الفتح، فقال عُمَرُ رضي الله عنه: صَنَعَت ما لم تكن تصنعه؟ فقال: عَمْداً صَنَعتُه يا عُمَر»

(2)

. فلا بُدَّ من تأويلٍ في الآيةِ، فقيل: مطلَقٌ أُرِيدَ به التقييد، والمعنى وأنتم مُحدِثون. وقيل: الأمرُ فيها للندب، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يُجدّدُ الوضوءَ لكلّ صلاة في غالب الأيام.

ومعنى «إلى» عند المحققين الغايةُ مطلقاً، وأمَّا دخولُ ما بعدها في حكم ما قبلها أو خروجُهُ عنه، فأمرٌ يدورُ مع الدليل. فممَّا قام الدليلُ فيه على خروجِ ما بعدها قولُه تعالى:{فنَظِرةٌ إلى مَيسرة}

(3)

، إذ لو دَخَل لكان الإِنظار واجباً حالةَ اليسر أيضاً، وهو ممنوع اتفاقاً. وقولُه تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصيامَ إلى اللَّيل}

(4)

، إذ لو دخل لوجَبَ الوصال، وهو من المُحال. ومَّما قام الدليلُ فيه على دخولِ ما بعدها قولُه تعالى:{سبحانَ الذي أسْرَى بعبدِه ليلاً من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى}

(5)

، للعِلم بأنه لا يُسرِي به إلى البيتِ المُقدَّسِ من غير أن يُدْخلِه. وقد وَرَد أحاديثُ ممَّا يدلُّ على دخوله.

وأمَّا قولُه تعالى: {إلى المرافقِ} وقولُه: {إلى الكعبين}

(6)

فأخَذَ زُفَر وداودُ فيهما بالمتيقَّنِ فلم يُدخلاها في الغَسل، وأَخَذ الجمهورُ بالاحتياط وأدخلوها فيه لكونه عليه الصلاة والسلام أدارَ الماءَ على مَرافِقه.

ومعنى الباءِ في {برءوسِكم} للإِلصاق، وماسِحُ بعضِ رأسه ومستوعِبُه كلاهما مُلصقٌ المسحَ برأسه. فأخَذَ الشافعي بالمتيقَّن، وأخَذَ مالكٌ بالاحتياط، وأخَذَ أبو حنيفة

(1)

سورة المائدة، آية:(6).

(2)

أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 1/ 232، كتاب الطهارة (2)، باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد (25)، رقم (86 - 277).

(3)

سورة البقرة، آية:(280).

(4)

سورة البقرة، آية:(178).

(5)

سررة الإسراء، آية:(1).

(6)

سورة المائدة، آية:(6).

ص: 43

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

رحمه الله تعالى ببيَانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما روى مسلم والطبراني عن عُروة بن المُغيرة بن شعبة عن أبيه المغيرة: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم توضَّأ ومسَحَ بناصيته وعلى الخُفَّين» . وروى أبو داود والحاكم وسَكَتا عنه، من حديث أبي مَعْقِل، عن أنس بن مالك

(1)

قال: «رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضَّأ وعليه عمامةُ قِطْريَّة ـ وهي بكسر القاف نوعٌ من البُرود ـ فأدْخل يدَه مِنْ تحتِ العِمامة فمَسَحَ مقدَّمَ رأسه ولم يَنْقُض العِمامة» . وروى البَيهِقيُّ عن عطاءٍ: «أنه عليه الصلاة والسلام توضَّأ في

(2)

العِمامة ومسَحَ مقدَّمَ رأسهِ ـ أو قال ـ ناصيتِهِ». وهو وإن كان مُرسَلاً إلا أنه حُجَّة عندنا وعند الجمهور، كيف وقد اعتَضَد بالمتَّصل.

أما قولُ صاحب «الهداية» : «والمفروضُ في مسحِ الرأس مقدارُ الناصية، وهو رُبعُ الرأس، لما روى المُغيرةُ بن شُعبة: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَتَى سُباطَةَ

(3)

قومٍ فبال، وتوضَّأ ومسَحَ على ناصِيَتِهِ وخُفَّيه» فمركَّبٌ من حديث المغيرة وحديث حذيفة، أَما حديث المغيرة فرواه مسلم عنه:«أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم توضَّأ فمسَحَ بناصيته وعلى العِمامة وعلى خُفَّيه» . وأمَّا حديث حذيفة فرواه الشيخان عنه قال: «أَتَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم سُبَاطَةَ قومٍ فبال قائماً، ثم دعا بماءٍ فجئتُه بماء فتوضَّأ» ، وفي روايةٍ لمسلم:«فتوضَّأ، فمسَحَ على خُفَّيه» . وقد رواه ابنُ ماجه عن المغيرة

(4)

بأَسنادٍ مختلفة مختلَفٍ فيه

(5)

كما ساقه صاحبُ «الهداية» . ومعلومٌ أنَّ الناصيةَ ومقدَّمَ الرأس أحَدُ جوانبه الأربعة، إذ ظاهرهُ استيعابُ تمام المقدَّم، وتمامُه هو الرُّبع المسمَّى بالناصية، فلو كان مسحُ ربع الرأس ليس بمُجزاءٍ لم يَقتَصر في ذلك الوقت عليه، ولو كان مسحُ ما دونه مُجزِئاً لَفعَلَه صلى الله عليه وسلم ولو مرَّةً في عُمُرِه تعليماً للجواز، إذ يجب عليه مثلُ ذلك.

بقي الكلامُ على أنَّ مسحَ الرُّبع فرضٌ عملي لا اعتقادي، لأنَّ خبرَ الآحادِ ظنّي في نفسِه مع قطعِ النظر عن صحة دلالته. وقد يُطلقُ الفرضُ على ما يفوت الجوازُ بفوته، كغَسْل الفم والأنف في الغُسل، ويُسمَّى ذلك فرضاً ظنيّاً.

(1)

قوله: "عن أنس بن مالك" سقط من المطبوعة والمخطوطة واستدركها الشيخ عبد الفتاح أَبو غُدَّة رحمه الله. فتح باب العناية 1/ 24.

(2)

في المخطوطة: "فحسر" بدل "في".

(3)

الشباطة: الموضع الذي يرمى فيه التراب والأوساخ وما يُكنس من المنازل. النهاية 2/ 335.

(4)

في المخطوطة والمطبوعة: "وقد رواه المغيرة من جهة ابن ماجة" وهو تحريف فيه قلبٌ. نبه عليه شيخنا عبد الفتاح أَبو غُدّة رحمه الله.

(5)

عبارة المطبوعة: "بإسناد مختلفة كما" والمثبت من المخطوطة.

ص: 44

وكلِّ ما يَسْتُرُ البَشَرَةَ مِن لِحْيَتِهِ.

===

والواجبُ: هو الذي لا يَلزَمُ اعتقادُ حقِّيَتِه، لثبوتِه بدليلٍ ظنيّ. ويَلزَمُ العمَلُ بمُوجَبِهِ للدلائل الدالَّةِ على وجوب اتِّباع الظنّ في أخبار الآحاد. وقد يُستعملُ الواجبُ بمعنى الفَرْض وبالعكس، كقولهم: الحجُّ واجب، والوِتْرُ فَرْض.

ثم قوله تعالى: {وأرجُلَكم} بالنصب على قراءةِ نافعٍ وابن عامر وحفصٍ والكِسائيِّ عطفاً على {وجوهَكم} . والباقون بالجرّ. فقيل: على الجِوَار

(1)

، كقولهم: ماءُ بئرٍ

(2)

باردٍ، وجُحْرُ ضَبَ خَرِبٍ. وحكمةُ العُدُولِ إفادةُ الترتيب سُنِّيَّةٍ

(3)

أو وجوباً. وقيل: عُطِفَتْ على الممسوحِ لا لتُمْسَح بل ليُنبَّه على وجوبِ الاقتصاد في صَبّ الماءِ عليها، لكون غَسْل الرِّجْل مظِنَّةً للإسرافِ الموهوم

(4)

. ونبَّه بقوله: {إلى الكعبين} على أنها غيرُ ممسوحة، لأن المسح لم يُضرَبُ له غاية في الشريعة.

والأظهَرُ أنّ القراءتين مُبْهَمتان محمولتان على الحالتين، كما نبّه عليه

(5)

عليه الصلاة والسلام بفعلهِ حيث غَسَلهما وقت عُرْيهِما، ومسَح عليهما حالَ لبسِهما، وقد قال الله تعالى:{لتُبَيِّنَ للناس ما نُزِّل إليهم}

(6)

. ومما يدلُّ عليه ما تواتَرَ عنه أنه عليه الصلاة والسلام كان يَغْسلِ رجْلَهِ. ولم يُرْوَ أنه مسَحَ على رِجْلهِ قطُّ مكشوفة، بل ولمَّا رأى لُمْعة على رِجْلَيْ بعض الصحابة حيث غَسَلهُمَا عَجَلَةً قال:«ويلٌ للأعقاب من النار» رواه مسلم.

(وكلِّ ما يستر) بالجرّ، عَطْفٌ على رُبْع رأسِه، أي ومَسْحِ كلِّ ما يُغَطّي (البشرة من لحيتهِ) بيانٌ لـ «مَا» ، والبَشَرةُ ظاهِرُ البَشَر. واحتَرَز بما يَسترها عن الشَّعر المسترسِل، فإنه لا يجب غَسْلُه عندنا، وأوجَبَه مالكٌ والشافعيُّ بقوله عليه الصلاة والسلام لرجُلٍ غطَّى لحيتَه بثوبٍ:«اكشِفْها فإنها مِنْ الوجه» . والجوابُ أنه غيرُ صحيح، ولا على المدَّعَى صريح. ثم هذه روايةٌ عن أبي حنيفة، ووجهُهَا أنَّ غَسْلَ البَشَرَة لمَّا سقَطَ لعدَمِ المواجهةِ بها أو لعُسْرِه، وجَبَ مَسْحُ شيء هو ساتِرُها كالجَبيرة.

أو عطفٌ على رأسهِ، أي ومَسْحِ رُبع كلّ ما يسترها. فعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: يجِبُ مَسْحُ رُبع ساتِرِ البَشَرة، لأنه لمَّا سَقَطَ غَسْلُ ما تحته صار

(1)

المجاورة: هي إعطاء الكلمة حركة الكلمة المجاورة لها. معجم القواعد العربية ص 422.

(2)

في المخطوطة: "شن" بدل "بئر".

(3)

في المخطوطة: "سنة" بدل "سنية".

(4)

في المخطوطة: "المذموم" بدل "الموهوم".

(5)

عبارة المخطوطة: "كما بيَّنه عليه السلام".

(6)

سورة النحل، آية:(44).

ص: 45

‌[سُنَنُ الوُضُوءِ

ومُسْتَحبَّاتُه]

===

كالرأس يُفترَضُ مَسْحُ ربعه

(1)

.

والأصَحُّ ما رُوِي عن أبي حنيفة ومحمد أنه يجبُ إمرارُ الماءِ على ظاهرِ اللحية، لأنه لمَّا سَقَطَ غَسْلُ ما تحت الشَّعر انتقَلَ الواجب إليه من غيرِ تغييرٍ، كالحاجبينِ وأهدابِ العينين. وفي «البدائع» عن أبي شُجَاع: أنهم رَجَعُوا عما سوى هذا القول. وفي «الفتاوى الظهيرية» : وعليه الفتوى.

والخلافُ إنما هو في اللحيةِ الكثيفة، إذ يجبُ اتفاقاً غَسلُ شعر اللحية الخفيفة، وهو ما يشاهد منه البشَرةُ اللطيفة. ولا يجبُ غَسْلُ ما انكتم من الشفتين عند الانضمام المعتاد، فإنه تبَعٌ للفم على الأصح، وما ظَهَر فللوجه. ولا باطِنِ العينين ولو في الغُسل لخوفِ الضرر. وقد تكلَّفه بعضُ السَّلَف كابنِ عُمَر وابنِ عباس فكُفَّ بصَرُهما في آخِر عُمرهما.

‌فروع

ومن الفروعِ الكثيرة الوقوعِ: لو انضمَّت الأصابعُ، أو طال الظُّفُر فغطَّى الأُنملَةَ بحيث لا يُتيقَّنُ وصولُ الماء إلى أثنائها في الصورتين، أو كان فيه ما يَمنعُ وصولَ الماء كعجينٍ يابس وشمعِ: يجبُ غَسْلُ ما تحته، ولا يكفي إجراءُ الماء على البَدَن لعروض الحائل. واختُلِفَ في التراب، ولا يَمْنعُ الوسخُ ولا خُرءُ البراغيث ووَنِيمُ الذباب

(2)

. ونحوُ ذلك.

ويجب تحريكِ الخاتم الضيِّق في المختار من الرواية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا توضَّأ وضوءَ الصلاة حرَّك خاتمه في إصبعه» رواه ابنُ ماجه.

ولو ضَرَّه غَسْلُ شُقوقِ رِجْليه أَجرى الماءَ على ظاهر الدواء.

ولا يجوزُ المسحُ على ما جاوز الأُذنينِ من الشعر، لعدَمِ كونه من الرأس حقيقةً ولا حكماً. ولا يُعاد الغَسْلُ والمسحُ على موضعِ الحلْق وقطعِ الظفر ونحوِ ذلك لعدم الحدَث.

(سُنَنُ الوُضُوءِ)

(وسُننه): أي سُنن الوضوء. وفي نسخة: سُنَّتُه، وهي الطريقةُ المسلوكةُ في الدين من غير افتراضِ ولا وجوب، ويَستحِقُّ فاعِلُها الثواب، وتاركُها الملامةَ والعتاب. قال ابنُ الهُمَام:«والسُّنَّةُ ما واظَبَ عليها عليه الصلاة والسلام مع تركها أحياناً» . وفيه: أنَّ بعضَ سُنَن الوضوء مما لم يَثْبت أنه عليه الصلاة والسلام تركَهُ أصلاً كالترتيب،

(1)

عبارة المخطوطة والمطبوعة: "كالرأس يفترض مسح ربع رأسه" ولعله سبق قلم.

(2)

ونيم الذباب: خُرؤه. المصباح المنير ص 258، مادة (ونم).

ص: 46

البِدَاءةُ بالتسمية،

===

والوِلاءِ

(1)

، والتيامُنِ، وكذا النيَّة.

(البداءةُ) بالكسر، ويُضَمّ. وكذا البِداية بالياء. وفي «المُغْرِب»

(2)

أنها عاميَّة، وهو الابتداءُ (بالتسمية) وأقلُّها باسم الله، وأعلاها تكميلُها بالنَّعْتَين. وقال ابنُ الهمام: لفظُها المنقولُ عن السَّلَفِ الكرام وقيل عن النبي صلى الله عليه وسلم باسم الله العظيم والحمدُ لله على دين الإِسلام. انتهى. وقد روى معمرٌ عن ثابت، وقتادة عن أنس قال: «نظَرَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَضُوءاً فلم يجدوا، قال: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ها ها ماءٌ، فرأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وضَعَ يدَه في الإِناء الذي فيه الماء ثم قال: توضَّؤا بِبِاسم الله، قال: فرأيتُ الماءَ يفورُ مِنْ بين أصابِعه، والقومُ يَتوضَّؤن حتى توضَّؤا مِنْ آخِرِهِم. قال ثابتٌ: فقلت

(3)

لأنس: تُراهم كم كانوا؟ قال: نحواً مِنْ سبعين». رواه البيهقيُّ وقال: هذا أصحُّ ما في التسمية، وأخرجه النسائي، وابنُ مَنْدَه، وأبو بكر بنُ خُزَيمة، والدَّارَقُطْني، قاله في «الإِمام» ، وقال النووي: إسنادُهُ جيِّد.

وذهب أحمدُ إلى أنَّ التسميةَ شرطٌ في الوضوء، لما روى الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا صلاةَ لمن لا وضُوءَ له، ولَا وُضوءَ لمن لم يَذْكُرِ اسمَ الله عليه» ، وضُعِّفَ حديثُ أبي داود بالانقطاع، وهو عندنا ـ كالإِرسال بعد عدالة الرواةِ وثقتِهم ـ لا يَضرُّ، وروى ابنُ ماجه عن أبي سعيد أنه عليه الصلاة والسلام قال:«لا وُضوءَ لمن لم يَذكُرِ اسم الله عليه» ، وكذا رواه البيهقي.

وأُجيبَ: بأنَّ المرادَ نفيُ الفضيلة والكمال، لا نفيُ الجواز والصحة، كحديث:«لا صلاةَ لجارِ المسجدِ إلا في المسجدِ» ، ولِما رَوَى أصحابُ «السُّنَن الأربعة» من حديث علي بن يحيى بن خلاَّد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للمُسيءِ صلاتَه:«إذا قُمتَ فتوضَّأ كما أمَرَك اللهُ» . وليس في الوضوءِ الذي أَمرَ الله به التسميةُ. ولِمَا رواه الدارقطني مرفوعاً: «من توضَّأ وذكَرَ اسم الله فإنه يَطْهُر جسَدُه كلُّه، ومن توضَّأ ولم يَذكُر اسمَ الله لم يَطهُرْ إلا موضعُ الوضوء»

(4)

.

وفي «الهداية» : الأصحُّ أنها مستحبة. قال ابنُ الهمام: يجوزُ كَوْنُ مستَندِهِ فيه ضعفَ الأحاديث، ويجوزُ كونُهُ حديثَ المهاجِرِ بن قُنْفُذ، قال: «أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو

(1)

الوِلاء: التعاقب بين الأفعال، بفعل الثاني منها بعد الأول من غير فصل. معجم لغة الفقهاء ص 509.

(2)

المغرب في ترتيب المعرب: 1/ 60.

(3)

لفظ: "فقلت" زيادة من المخطوطة.

(4)

قال العظيم آبادي في التعليق المغني على الدارقطني 1/ 74: قال الذهبي: [في الميزان 4/ 88] مرداس بن محمد بن عبد الله، عن محمد بن أبان الواسطي: لا أعرفه، وخبره منكر في التسمية على الوضوء.

ص: 47

وبغسلِ يديه إِلى رُسْغَيه ثلاثًا،

===

يتوضأ فسلَّمت عليه، فلم يَرُدَّ عليَّ، فلما فَرَغ قال: إنه لم يَمنعني أن أردَّ عليك إلا أني كنتُ على غير وُضوء». رواه أبو داود، وابنُ ماجه، وابنُ حِبَّان في «صحيحه». وروى أبو داود عن نافع قال: انطلقتُ مع عبدِ الله بن عُمَر في حاجة إلى ابنِ عباس، فلما قَضَى حاجتَه كان من حديثه أن قال: مَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في سِكَّة من سِكَك المدينةِ وقد خَرَج من غائطٍ أو بولٍ إذْ سلَّمَ عليه رجلٌ، فلم يرُدَّ عليه السلام، ثم إنَّه ضرَبَ بيده الحائطَ فمسَحَ وجهَهُ مسحاً، ثم ضَربَ ضربةً فمسَحَ ذراعيه إلى المرفقين، ثم كَفَّه، وقال:«إنه لم يمنعني أن أرُدَّ عليك إلا أني لم أكن على طهارة» ، وما في «الصحيحين»: أنه عليه الصلاة والسلام أقبَل مِنْ نحو بئرِ جَمَل

(1)

، فلقيه رجلٌ فسلَّم عليه، فلم يَرُدَّ عليه حتى أَقبل علَى الجِدار فمَسَحَ وجهه ويديه، ثم رَدَّ عليه السلام. فهذه الأحاديثُ متظافِرةٌ على عدم ذكرِه صلى الله عليه وسلم على غير طهارَة، ومقتضاه انتفاؤهُ في أوَّل الوضوء الكائن عن حَدَث.

والجوابُ أنَّ المُعارضَةَ غيرُ متحقِّقة، لأن كراهة

(2)

ذكرٍ لا يكونُ من متمّمات الوضوء لا يَستلزم كراهة ما جُعِلَ شرعاً مِنْ ذكرِ الله تعالى تكميلاً له، فذلك الذِّكرُ ضروري للوضوء الكامل شرعاً، فلا تعارُضَ للاختلاف قطعاً.

(وبغسلِ يديه إِلى رُسْغيه ثلاثاً) جرَّ الغَسْلَ بالباء وعَطَفه على بالتسمية، للتصريح بأنَّ هذا الغَسْلَ سُنَّة باعتبار البداءة به، كما أنَّ التسمية كذلك، ولذا لا يكون الإِتيان بواحدٍ منهما في أثناء الوضوء إتياناً بالسُّنَّة. وأما تقديمُ التسمية على غَسل اليد فجائز بل متعيِّن. والرُّسْغ بضّم الراء وسكونِ السين المهملة، فغين معجمة: المَفْصِلُ الذي بين الساعدِ والكفّ.

ولم يُقيِّد الغَسلَ بالاستيقاظِ من النوم في بعض النسخ، لأنَّ هذا الغَسلَ سُنَّة في غير المستيقظ أيضاً، لأن عِلَّة الغَسل وهي احتمالُ أنَّه مَسَّ بيده أعراقَ

(3)

بدنه موجودةٌ في المتنبِّه أيضاً، ولأنَّ مَنْ حَكى وضوءَه عليه الصلاة والسلام قدَّمه، وإنما كان يُحكَى ما كان دأبَه وعادتَه في سائر الأيامِ، لا خصوصَ وضوئِه الذي بعد المنام. بل الظاهرُ أنَّ اطَّلاعهم على وضوئه من غير النوم كان أكثر.

(1)

بئر جَمَل: موضع بالمدينة فيه مال من أموالها. معجم البلدان 1/ 299.

(2)

عبارة المخطوطة: "لأن ذكر الله تعالى ذكر لا يكون من متممات الوضوء، فلا يستلزم كراهة".

(3)

العَرَق: رَشْحُ جلد الحيوان، ويستعار لغيره. القاموس المحيط ص 1171 مادة (عرق).

ص: 48

والسِّواكِ،

===

وأمَّا التقيدُ به في حديث «الشيخين» عن أبي هريرة: «إذا استيقظ أحدُكم من نومه فلا يَغْمِسْ يدَه في الإِناء حتى يَغسِلَها، فإنَّه لا يدري أين باتَتْ يدُه» ، ولفظُ مسلم:«حتى يغسلها ثلاثاً» ، ولفظُ البزَّار من حديث هشام بن حسان:«فلا يغمسَنَّ يدَه في طَهوره حتى يُفرِغَ عليها ثلاثاً» ، مؤكَّداً بالنون الثقيلة، وهو هكذا في «الهدايةِ» ومُعظَمِ كتبِ أصحابنا؛ فلأنَّ توهُّمَ نجاسةِ اليدِ يكونُ من المستيقظ غالباً.

وعن عروةَ بن الزبير وأحمد بن حنبل وداودَ الظاهري: أنه يجبُ على المستيقظ من نومِ الليل غَسْلُ اليدين لظاهر الحديث. قيل: وهو مذهبُ أبي هريرة وابن عمر والحسن.

وفي «الكفاية» : ينوبُ هذا الغَسلُ المسنونُ عن الغَسلِ المفروض، كالفاتحةِ واجبةٌ في الصلاة، وتنوبُ عن القراءة المفروضة فيما لو صلَّى ولم يَقرأ غيرَها.

(والسِّواكِ) قيل: عطفٌ على البدايةِ، والأظهَرُ أنه مجرورٌ عطفاً على التسمية، ليدلَّ على أن السُّنَّة استعماله في أوَّله. وقد صرَّحوا بأنَّ محلَّه قبل المضمضة. ولعلَّ مرادَهم أنه آخِرُ وقته، إذ يجوزُ تقديمُه على غَسل يده، كما صَرَّح به بعضُهم. ثم هو بكسر السين، اسمٌ للاستياك، وهو المرادُ هنا، وقد يُطلَق على العُود الذي يُستاكُ به، فيقدَّرُ مضافٌ، أي استعمالُه.

وإنما كان سُنَّةً لقوله عليه الصلاة والسلام: «لولا أنْ أشُقَّ على أمَّتي لأمرتُهم بالسِّواكِ عند كلّ صلاة» أو: «مع كلّ صلاة» رواه الستة، وعند النسائي في رواية:«عندَ كلّ وضوء» ، ورواها ابنُ خُزيمة في «صحيحه» وصحَّحها الحاكم، وذكرها البخاريّ تعليقاً.

والمعنى: لأمرتُهم وجوباً، وإلاَّ فقد أمرَهم سُنَّة. وروى أبو داود عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام:«كان لا يَرْقُدُ مِنْ ليلٍ أو نهار فيستيقظ إلا تسوَّكَ قبل أن يتوضَّأ» . وورد في «مسند أحمد» أنه عليه الصلاة والسلام قال: «صلاةٌ بسواكٍ أفضلُ مِنْ سبعين صلاةً بغير سِواك» . واختار ابنُ الهمام أنه من مستحبات الوضوء.

وينبغي أنْ يكون ليِّناً في غِلَظ الإِصبع وطولِ الشِّبر، مستوياً قليلَ العُقَد، من الأشجار المُرَّة، ليكون أقطعَ للبلغم، وأنقى للصدر، وأهنأ للطعام. وأنْ يَستاكَ به عَرْضاً وطُولاً أي عَرْضَ الأسنانِ، وهو طولُ الفم، ولو اقتصر على أحدهما فطُولاً، وقيل: يَستاك عَرضاً لا طولاً. ويَستاكُ بأصابعِه عند عدمهِ أو عدم أسنانه لقوله عليه الصلاة والسلام: «يُجزِي مِنْ السِّواكِ الأصابعُ» ، رواه البيهقي عن أنس بألفاظ مختلِفة، وروى الطبراني عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسول الله، الرجلُ يَذهبُ فُوهُ يَستاكُ؟ قال:«نعم» ، قلتُ: كيف يَصنعُ؟ قال: «يُدخِلُ إصبعَهُ في فيه» .

ص: 49

وغسل فمه بمياهٍ كأنفه،

===

(وغسلُ فمه) برفعه (بمياهٍ) متعلِّق به (كأنفه) أي بثلاثِ غَرَفات لكلّ منهما، لا بثلاثٍ لها كما قال الشافعي ومالك علَى الصحيح، لِما رُوِيَ «أنه عليه الصلاة والسلام مضمض واستنشق

(1)

ثلاثَ مرات من غَرفة واحدة».

ولنا صَريحُ ما رواه الطبراني بسنده إلى كعب بن عَمْرو الياميّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، يأخذ لكلّ واحدةٍ ماءً جديداً، وغسلَ وجهَهُ، فلما مَسح رأسه قال هكذا وأومأ بيديه من مُقدَّم رأسِه حتى بَلغ بهما إلى أسفل عنقه مِنْ قِبَل قفاه. وروى الطبراني وأبو داود عن طلحة بن مصرِّف عن أبيه عن جدّه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توضَّأ فمضمض واستنشق ثلاثاً، يأخذ لكلَّ مرةٍ ماءً جديداً.

وتحقيقُ التوفيقِ بعد صحة الروايات كلّها: أنَّ كُلاًّ رَوَى ما رأى، ولا منافاة بينهما في حصولِ أصل السُّنَّة، وإنما الخلافُ في زيادة الفضيلة.

والحاصِلُ: أنه عليه الصلاة والسلام واظَبَ على المضمضة والاستنشاق في غالب الأيام، إذْ أكثَرُ حُكاةِ وضوئه عليه الصلاة والسلام قولاً وفعلاً ـ وهم اثنان وعشرون نفراً من الصحابة ـ نَصُّوا عليهما، إلا أنَّ بعضَهم سكت عن ذكر العَدَد فيهما، وذكَرَ بعضُهم أنه مضمض واستنشق مرة، وبعضُهم وهو عبدُ الله بن زيد بن عاصم حكاه فعلاً، وفيه:«مضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاثِ غَرَفاتٍ» وفيه: «فمسَحَ رأسه فأقبلَ بهما وأدبر مرةً واحدة» . روى الأخيرَ الستةُ عنه. وقد بسطنا الكلامَ على هذا المرام في «المِرقاة شرح المِشكاة»

(2)

.

وأمَّا المبالغةُ للمفطر فيهما فمستحبةٌ، لقوله عليه الصلاة والسلام للَقِيط بن صَبِرَة:«أسبِغ الوضوءَ، وخَلَّلْ بين الأصابع، وبالِغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» رواه أصحابُ «السنن الأربعة» . وروى ابنُ القطّان بسندٍ صحيح: «وبالِغْ في المضمضة والاستنشاق» .

وحَدُّ المضمضة استيعابُ جميع الفم. والمبالغةُ فيه أن يصل الماءُ إلى رأس الحلق.

وحَدُّ الاستنشاق أن يصل الماءُ إلى المارِن. والمبالغةُ فيه أن يُجاوِزَ المارِنَ

(3)

، وهو بكسر الراء: ما اشتدَّ من الأنف. وفي «المحيط» : يَفعلُ كلاً مِنَ المضمضةِ

(1)

في المخطوطة: "واستنثر".

(2)

1/ 309

(3)

المارِنُ: ما لان من الأنف وفَضَلَ عن القَصَبَة. لسان العرب 13/ 404، القاموس المحيط ص 1592، مجمل اللغة 3/ 828، مادة (مرن). وهذا المعنى مخالف لما ذكره المؤلف رحمه الله.

ص: 50

وتخليلُ اللحيةِ

===

والاستنشاقِ بيمينه، وقيل: يَستنشق بِيساره، والصحيحُ أنه يَستنشق بيمينه، ويَستنثر بيساره.

وقال أحمدُ في أقوى الروايتين عنه بوجوبِ المضمضة والاستنشاق (في الوضوء لما روى الدارقطني عن أبي هريرة قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمضمضمة والاستنشاق)

(1)

. هذا، وقال المصنّفُ

(2)

: إنما قلتُ: بمياهٍ ليدلَّ على أنَّ المسنون التثليث بمياهٍ جديدة، انتهى. وذلك لأنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة، لكن لا خفاءَ في خفاءِ الدلالة على التجديد، فلو قال: بغَرَفاتٍ بدلَ قوله: بمياهٍ لكان مشعراً بما ذَكَر.

وقدَّمَ غَسلَ الفم لأن تقديمه سُنَّة. ومِن الدليلِ على الفصل بين المضمضة والاستنشاق ما رواه أبو داود عن طلحة بن مُصَرِّف عن أبيه عن جدّه: «أنه رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَفْصِلُ بين المضمضة والاستنشاق» . وسكت عنه المنذري، فهو حديثٌ حسن، لكن روى أبو داود في «سننه» ضدَّ ذلك عن عليّ:«أنه وصَفَ وضوءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمضمض مع الاستنشاق بماءٍ واحد» فمحمولٌ على بيانِ الجواز، فإنَّ الأوَّل أولى كما لا يخفى.

(وتخليلُ اللحيةِ) بالرفع أيضاً، لما روى الترمذي وابنُ ماجه عن عثمان:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُخَلِّلُ لحيتَه» . ولفظُ الترمذي: «توضَّأ وخلَّل لحيتَه» ، وقال: حسَنٌ صحيح، وصحَّحه ابنُ حِبَّان والحاكم، وقال الترمذي في «عِلله الكبير»: قال محمدُ بن إسماعيل ـ يعني البخاري ـ: أصحُّ شيء عندي حديثُ عثمان، وهو حديثٌ حَسن انتهى. فكيف وله شواهِدُ من حديث عمَّارٍ وأنس؟ كما رواها

(3)

الحاكم والترمذي وابن ماجه: «رأيتُه عليه الصلاة والسلام يُخلِّلُ لحيتَه» . وحديثُ أنس قال: «كان عليه الصلاة والسلام إذا توضَّأ خلَّل لحيته» رواه البزار وابن ماجه، وحديثُ أبي أيوب نحوُه، رواه ابنُ ماجه.

وكيفيةُ تخليلها أنْ يُدخِل أصابَعه من أسفل لحيته إلى ما فوقها لما رَوَى أبو داود عن أنس قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا توضَّأ أَخَذَ كفّاً من ماءٍ فأدخلَهُ

(4)

تحت حَنَكِهِ فخلَّل به لحيته وقال: بهذا أمَرني ربي» وسكَتَ عنه، وكذا المنذري. ويؤيده حديثُ ابن عباس: دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضَّأ، وقال فيه: فخلَّلَ لحيتَه، فقلتْ: يا

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوطة.

(2)

شرح الوقاية 1/ 60.

(3)

في المخطوطة والمطبوعة: "رواهما". والمثبت من الجزء الذي حققه شيخنا الشيخ عبد الفتاح أَبو غدة - رحمه الله تعالى - من هذا الكتاب.

(4)

في المخطوطة والمطبوعة: "أدخل"، والمثبت من سنن أَبي داود 1/ 101، كتاب الطهارة (1)، باب تخليل اللحية (57)، رقم (145).

ص: 51

والأصابعِ،

===

رسول الله هكذا الطُّهور؟ قال: «هكذا أمَرني ربِّي» . رواه الطبراني في «الأوسط» . ورَوَى أيضاً حديثَ أبي أُمامة وحديثَ عبد الله بن أبي أوْفى. وفي حديثِ أبي الدرداءِ وحديثِ أم سَلَمة: كان إذا توضَّأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خلَّل لحيتَه. وروى البزَّارُ عن أبي بَكْرة: أنه عليه الصلاة والسلام توضَّأ وخلَّل لحيتَه. وروى ابنُ عَدِيّ عن جابر: أنه توضَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرَ مرةٍ ولا مرَّتينِ ولا ثلاثَ مرَّاتٍ، فرأيتُه يخلِّلُ لحيتَه بأصابعه كأنها أسنان المُشْطِ.

فهذه الأحاديثُ تؤيِّدُ قولَ أبي يوسف: إنَّ تخليل اللحية سُنَّة، إلا أنَّ أبا حنيفة يقول: لم يَثْبُت منها المواظبةُ، بل مجرَّدُ الفعلِ إلا في شذوذٍ من الطُّرق، فكان مُستحبّاً لا سُنَّة.

(والأصابعِ) أي وتخليلُ أصابعِ اليدين والرجلين، لِمَا تقدَّم من حديث لَقِيط، ولِمَا روى الترمذي وحسَّنه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا توضَّأْتَ فخلِّلْ أصابعَ يديك ورجليك» . وتخليلُ الأصابع يكون بالتشبيك، والأَولَى أن يَجْعَل باطنَ كفِّه اليُمنى على ظهر اليُسرى، وبَطْنَ كفِّه اليُسرى على ظهر اليُمنى. وروى أحمدُ في «مسنده» عن المُسْتورِد بن شدَّاد صاحبِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضَّأ يخلَّل أصابعَ رجليه بِخِنْصَرِه.

وكيفيةُ تخليلِها: أن يضع يدَه اليُسرى في أسفلِ رجله اليُمنى ويُدخِلَ خِنْصَرَها بين الأصابع، مُبتدِءاً مِنْ خِنصرِهِ اليُمنى منتهياً إلى خِنصَرِه اليسرى. وهذا إذا وصَلَ الماءُ داخلَ الأصابع، وأمَّا إذا لم يصل بأنْ كانت مُنضمَّةً، فإنَّ تخليلها واجب، فقد ورد في الدارقطني مرفوعاً: «خَلِّلوا (بين)

(1)

أصابِعِكم، لا يُخلِّلها الله بالنار يوم القيامة». وفي الطبراني:«مَنْ لم يُخلّل أصابعَه بالماء خلَّلها الله بالنَّار يومَ القِيامة»

(2)

.

وقال ابنُ الهُمام: أمثَلُ أحاديث التخليل ما في «السنن الأربعة» من حديث لَقِيط بن صَبِرَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا توضَّأتَ فأسْبِغ الوضوء، وخلِّلْ بين الأصابع» ، قال الترمذي: حسَنٌ صحيح. ورَوَى هو وابنُ ماجه عن ابن عباس قال عليه الصلاة والسلام: «إذا توضَّأْتَ فخلَّل أصابعَ يديك ورجليك» ، وقال: حسَنٌ غريب

(3)

.

(1)

ما بين الحاصرتين من سنن الدارقطني.

(2)

إسناده واهٍ جدًّا كما قال ابن حجر. انظر فيض القدير 3/ 451.

(3)

عبارة المخطوطة: "حسن صحيح غريب" وعند الرجوع لسنن الترمذي 1/ 57، كتاب الطهارة (1)، باب ما جاء في تخليل الأصابع (3)، رقم (3)، وجدنا أن لفظة "صحيح" زائدة من المخطوطة.

ص: 52

وتثليثُ الغَسل، ومسحُ كلِّ الرأس مرَّةً،

===

(وتثليثُ الغَسْل) أي غَسْلِ الوجه، واليدين، والرجلين، عطفٌ على تخليل اللحية. وإنما كان سُنَّةً لِمَا روى أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عَمْرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جَدِّه: أنَّ رجلاً أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف الطُّهورُ؟ فدَعا بماءٍ في إناءٍ فغَسَل كفَّيه ثلاثاً، فذكَرَ صفةَ الوضوء ثلاثاً ثلاثاً إلاَّ الرأسَ، ثم قال:«هكذا الوضوءُ فمَنْ زادَ على هذا أو نَقَص فقد أساء وظَلَم» أو: «ظَلَم وأساء» . وفي روايةِ ابن ماجه: «فقد تَعَدَّى وظَلَم» ، وللنسائي:«فقد أساء وتعدَّى وظَلَم» . وهذا إذا زاد على الثلاث أو نَقَص عنه معتقداً أنَّ السُّنَّة هذا، أمَّا لو زاد لطمأنينةِ القلب عند الشكّ، أو نقَصَ لحاجةٍ فلا بأسَ به، إذ توضَّأ عليه الصلاة والسلام ثلاثاً ثلاثاً، ومرَّتين مرَّتين، ومرَّةً مرَّةً.

وظاهرُ العبارة تُوهِمُ أنَّ كُلاً من المرَّات الثلاث سُنَّة، لكن المراد منه أن الأُولَى ركنٌ، والثانيةَ والثالثةَ سُنَّة. وهذا هو الصحيح. وقيل: الثانيةُ سنةٌ، والثالثةُ نَفْل، وقيل: بعكسه، وقيل: إذا توضَّأ ثلاثاً ثلاثاً فالثلاث فرض، وهذا بعيدٌ جداً.

(ومسحُ كلِّ الرأس) أي استيعابُه (مرَّة) لِمَا تقدَّم عن عبد الله بن زيد بن عاصم، ولِمَا حكَت الرُّبَيِّعُ بنتُ مُعَوِّذٍ أنها رأت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يتوضَّأ، قالتْ: فمسَحَ رأسَه ما أقبَلَ منه وما أدبرَ، وصُدْغَيهِ، وأُذُنيه مرَّةً واحدة، ولِمَا رُوِي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسَحَ رأسَه بيديه، فأقبلَ بهما وأدبر، بدأَ بمُقدَّم رأسه، ثُم ذهَبَ بهما إلى قفاه، ثم رَدَّهما حتى رجع إلى المكانِ الذي بدأ منه، ثم غَسَل رجليه. رواه الترمذي.

والأظهرُ في كيفية المسح: أن يَضعَ كفَّيهِ وأصابعَه على مقدَّمِ رأسه ويمُدَّها إلى قفاه على وجهٍ يستوعبُ الرأسَ، ثم يمسَح بإصبعيه أذنيه. ولا يكونُ الماءُ مستعملاً بهذا، لأن الاستيعابَ بماءٍ واحد لا يكون إلا بهذا الطريق، ولأن مسحَ الأذنين بماء الرأس، ولا يكونُ ذلك إلا بماءٍ مَسَحَ به

(1)

الرأس، ولأنه لا يَحتاج إلى تجديد الماء لكل جزء من أجزاء الرأس، فالأُذن أولى لكونه تبعاً له، كذا ذكره في «شرح الكنز»

(2)

، واختاره ابنُ الهمام لأنه أوفق بما رُوِي عنه عليه الصلاة والسلام.

وقال صاحبُ «المحيط» : يُستحبُّ في الاستيعاب أن يضعَ مِنْ كلِّ واحدةٍ من اليدين ثلاثَ أصابع على مقدَّم رأسه ـ ولا يضعُ الإِبهام والسبَّابة ـ ويُجافيَ كفَّيه،

(1)

لفظة: "به" زيادة من المخطوطة.

(2)

المسمى "تبيين الحقائق" للزيلعي 1/ 6.

ص: 53

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ويَمُدَّهما إلى القَفَا، ثم يَضَع كفَّيه على مؤخَّر رأسِه ويَمُدَّهما إلى مقدَّمه، ثم يَمْسَح ظاهرَ كلّ أُذنٍ بإبهام، ويَمسِحَ باطنَهما

(1)

بمُسَبِّحة

(2)

.

وفي «الأسرار» : إنْ كرَّر إقبالاً وإدباراً مرَّةً بعد أُخرى بغيرِ ماءٍ جديد لم يكن فيه بأس. هذا، وقد توافَر وتكاثر، كادَ أَنْ يتواتر الطُّرقُ الصحيحةُ على المسحِ مرَّةً واحدة.

وقال الشافعي: السُّنَّةُ في مسح الرأس التثليثُ، لِمَا روى مسلم: أنَّ عثمان بن عفَّان رضي الله عنه توضَّأ بالمَقَاعد ـ وهو مَوضِع ـ وقال: ألا أُرِيكم وُضوء رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم توضَّأ ثلاثاً ثلاثاً. قال البيهقي: على هذا الحديثِ اعتمَدَ الشافعيُّ في تكرير المسح. والرواياتُ الثابتةُ عنه المفسَّرةُ، تدلُّ على أنَّ التكرارَ وقع فيما عدا الرأس من الأعضاء، وأنَّه مسَحَ برأسه مرةً واحدة.

وأمَّا ما رواه الدارقطني عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، عن خالد بن علقمة، عن عَبْدِ خَيْرٍ، عن عليّ كرَّم الله وجهه: أنه توضَّأ فغسَلَ يديه ثلاثاً، وفيه: مسَحَ رأسَهُ ثلاثاً، وغسَلَ، رجليه ثلاثاً، ثم قال: من أحبَّ أن يَنظر إلى وضوءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملاً فلينظر إلى هذا، فهكذا

(3)

رواه أبو حنيفة عن خالد بن علقمة، عن عبدِ خَيْر، عن علي، لكن خالفه جماعةٌ من الثقات: كسفيان الثوري، وشَريك، والشعبي وغيرهم، وقالوا: مسَحَ برأسه مرةً.

نعم، روى البزَّارُ في «مسنده» من طريق أبي داود الطَّيالِسي: أنَّ عليّاً توضَّأ في الرَّحْبة

(4)

فغسَلَ كفَّيه ثلاثاً، ثم مضمض ثلاثاً، واستنثر ثلاثاً، وغسَلَ وجهه ثلاثاً، وذِراعيهِ ثلاثاً، ومسَحَ رأسَه ثلاثاً، وغسَلَ رجليه إلى الكعبين ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: إني أحببت أن أُريَكم كيف كان طُهورُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا دليلُ الشافعيِّ وكذا دليلُ روايةِ الحسَنِ في تثليثِ المسحِ عن أبي حنيفة، ولكن بماءٍ واحدٍ كما رواه الطبراني عن علي في كتاب «مسند الشاميين» . والجوابُ رُجحانُ روايةِ الإِفرادِ على التثليث، أو

(1)

عبارة المخطوطة: "ويمسح بباطنهما. وفي الأسرار

".

(2)

قال ابن الهمام في "فتح القدير" 1/ 12: "والمسنون في كيفية المسح أن يضع كفَّيه وأصابعه على مقدَّم رأسه، آخذًا إلى قفاه على وجه يستوعب، ثم يمسح أذُنَيه بماء الرأس. وأما مجافاة السباحتين مطلقًا ليمسح بها الأذُنين، والكفَّين في الإدبار ليرجع بهما على الفَوْدَين: فلا أصل له في السنة". انتهى.

والفَوْدَان: شعرٌ يلي الأذنين.

(3)

في المطبوعة: "فهذا"، وفى سنن الدارقطني "هكذا"، والمثبت من المخطوط.

(4)

الرحبة: محلة بالكوفة .. والأصل في الرَّحبة: الفضاء بين أفنية البيوت، أو القوم والمسجد. معجم البلدان 3/ 33.

ص: 54

والأُذُنَينِ بِمَائِهِ، والنِّيَّةُ،

===

حمْلُهُ على تحقيق الاستيعاب، أوحملُ تعدَّدَ المياه على قلَّةِ البِلَّة أو نَفادِها، لا لتكون سُنَّةً مستمرة. وقال البيهقي

(1)

: وقد رُوِيَ من أوجُهٍ (غريبةٍ)

(2)

عن عثمان تكرارُ المسح، إلا أنه مع خلافِ الحُفّاظ ليس بحُجَّة عند أهل العلم.

(والأذنينِ) أي ومَسْحُهما (بِمَائِهِ) أي بماء مسحِ الرأس.

وقال مالك والشافعي وأحمد: بماءٍ جديد، لِمَا روى الحاكمُ من حديثِ حَبَّان ابن واسع، أنَّ أباه حدَّثه، أنه سمع عبدَ الله بن زيد يذكر: أنه رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يتوضَّأ فأخَذَ لأُذنيه ماءً خلافَ الماءِ الذي أخَذَ لرأسه.

ولنا صريحاً: ما رواه ابنُ حِبَّان، وابنُ خُزيمة، والحاكم عن ابن عباس أنه قال: ألا أخبركم بوُضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: ثم غَرَف غَرفةً: فمسَحَ بها رأسَه وأذُنيه. ودلالةً: ما رواه ابنُ ماجه بإِسنادٍ صحيح عن عبد الله بن زيد، والدارقطنيُّ بإسنادٍ صحيح عن ابنِ عباس: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأذنانِ مِنْ الرأس» ، أي حُكمُهما، فإنه عليه الصلاة والسلام ما بُعثَ لبيان الخِلْقة، فيُحمَل ما تقدَّم على نَفادِ البِلَّة توفيقاً بين الأدلَّة. وروى ابن ماجه بإسنادٍ صحيح عن ابن عباس: أنه عليه الصلاة والسلام مسَحَ أذنيه فأدخلهما السبَّابتين وخالفَ إبهاميه إلى ظاهر أذنيه، فمسَحَ ظاهرَهما وباطنَهما. وقد صرَّح الشيخ في «الإِلمام» عن أبي أُمامة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الأُذنانِ من الرأس وكان يمْسَحُ المأْقَيْنِ»

(3)

وقال أخرجه ابنُ ماجه، وهو حديثٌ حسن.

(والنيَّةُ) وهي: أن يُقصَدَ بالقلب الوضوءُ، أو رفعُ الحدَث، أو عبادةٌ لا تصحُّ إلا بالطهارة.

وقال مالك والشافعي وأحمد: النيَّةُ فَرْضٌ في الوضوء، لقوله عليه الصلاة والسلام:«إنما الأعمال بالنيات» .

ولنا أنه عليه الصلاة والسلام لم يُعلِّم الرجلَ الذي سأله عن الوضوء النيَّةَ، ولأنَّ الوضوء شرطٌ للصلاة فلا يَفتقر إلى النيَّة كسائر شروطها، فالمرادُ بالأعمالِ العباداتُ،

(1)

عبارة البيهقي في السنن 1/ 62: "وقد روي من أوجه غريبة عن عثمان رضي الله عنه ذكر التكرار في مسح الرأس، إلا أنها صح خلاف الحفاظ الثقات ليست بحجة عند أهل المعرفة، وإن كان بعض أصحابنا يحتج بها". انتهى. ولعل المؤلف نقلها بالمعنى كما هي عادته.

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من السنن الكبرى"للبيهقي" 1/ 62.

(3)

مأق العين: طرفها مما يلي الأنف، وهو مجرى الدمع من العين. القاموس المحيط ص 1191، مادة (مأق).

ص: 55

والترتيبُ، والوِلاءُ.

===

فإنَّ المباحاتِ تُعتبر شرعاً بلا نيَّة، كالطلاق، والنكاح، وسائرِ المعاملات، بل المرادُ بها الطاعاتُ المستقلةُ، دون ما يتعلَّق بها من الشرائط التي هي كالوسيلة من طهارةِ الثوب، وسَتْرِ العورة، ومعرفةِ القِبلة، فالنيَّةُ فيها تُوجبُ المثوبة، وتُصيِّرُ العملَ عبادة، فمن ادَّعى أنَّ الشرطَ وضوءٌ هو عبادةٌ، فعليه البيانُ.

وصورةُ الخلاف إنما يَتحقَّقُ في نحوِ مَنْ دَخَل الماء مدفوعاً أو مختاراً لقصدِ التبرُّد، أو مجرَّدِ قصدِ إزالةِ الوسَخ، أو مجرَّدِ تعليم الضوء.

ثم محلُّ النية إمَّا في مبدأ سُنَن الوضوء، أو في أوَّل فرائضه، والأوَّل أكملُ وأفضل، لكن الأولَى أن يَستديمها إلى غَسْل الوجه، فتأمَّل.

(والترتيبُ) أي بين أعضاء الوضوء المفروضة.

وقال مالك والشافعي وأحمد: فَرْضٌ لقوله تعالى: {إذا قُمْتُم إلى الصلاة فاغسِلُوا وجوهَكم}

(1)

، فإنَّ غَسْلَ الوجه فيها مرتَّب على القيام بِالصلاة، فيجبُ الترتيبُ في الباقي، إذْ لا قائل بالفَصْل.

وأُجيبَ بأنه لا يتِمُّ هذا الاستدلالُ إلا إذا كانت الفاءُ الجزائيةُ تدُلُّ على تعقيب مضمون الجزاءِ مضمونَ الشرط من غير تراخٍ، وتدُلُّ على وجوبِ تقديمِ ما بعدَها على ما عُطِفَ عليه بالواو، وكلاهما ممنوع، لأنَّنا نقطع بأنْ لا دلالةَ في قوله تعالى:{إذا نُودِي للصلاوة من يوم الجمعة فاسعَوْا إلى ذكر اوذَرُوا البَيْع}

(2)

، على وجوبِ السعي عقيبَ النداء بلا تراخٍ، وعلى وجوبِ تقديم السعي على ترك البيع. فمعنى آيةِ الوضوء: فاغسِلُوا هذه الأعضاء، ولا دلالةَ فيه على ترتِيبها في الأداء، فهو على نظير قولك: إذا دخلتَ السوقَ فاشترِ لنا خُبزاً ولحماً، حيث كان المُفادُ إعقابَ الدخولِ بشراء ما ذُكِرَ كيف وَقَع. نعَمْ، لو استُدِلَّ بمواظَبِتِه عليه الصلاة والسلام ومداومتِهِ على مُراعاة الترتيب لكان أولَى كما لا يخفى.

(والوِلاءُ) بكسر الواو: المتابعةُ، وهو: أن يَغسِلَ العضوَ الثاني قبل جفافِ الأوَّل في زمَانِ اعتدالِ الهواء. وقيل: أنْ لا يَشتغل بينهما بعملٍ غيرِ ما يتعلَّقُ بالوضوء. وشَرَطه مالكٌ، والدَّلْكُ كذلك لمواظبةِ النبي صلى الله عليه وسلم

والجوابُ أنها تدلُّ على السُّنيَّة دون الفَرْضية، لأن الله تعالى أمَرَ بالغَسْل مطلقاً

(1)

سورة المائدة، آية:(6).

(2)

سورة الجمعة، آية:(9).

ص: 56

ومُستحَبُّه: التيامُنُ، ومَسْحُ الرَّقَبَةِ.

===

عن قيدِ الوِلاءِ والدَّلْكِ قد روى ابنُ دَقيقِ العِيد في كتابه «الإِمام» عن عبد الرحمن بن عوف قال: قلتُ: يا رسول الله، إنَّ أهلي تَغارُ عليَّ إذا أنا وطِئتُ جَوارِيَّ، قال:«ومِمَّ يَعلَمْنَ ذلك» ؟ قلتُ: مِنْ قِبَلِ الغُسل، قال:«فإذا كان ذلك منك فاغْسِل رأسَك عند أهلك، فإِذا حَضَرَت الصلاةُ فاغْسِل سائرَ جسدِك» . فهذا يُفيد عدَم اشتراط الوِلاء في الغُسل، ففي الوضوء كذلك.

(مستحبات الوضوءِ)

(ومُستحَبُّه) أي الوضوءِ: (التيامُنُ) أي الابتداءُ باليمين في غَسل اليدين والرجلين.

والمستحبُّ: ما فعله عليه الصلاة والسلام أحياناً وتركه أحياناً، فالأصحُّ أنه سُنَّة كما صَرَّح به في «التحفة» لمواظبته عليه الصلاة والسلام، ولقوله صلى الله عليه وسلم «إذا توضَّأتم فابدؤا بميامنكم» رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن خُزيمة، وابن حِبَّان في «صحيحيهما». قال في «الإِمام»: وهو جدير بأن يُصحَّح. وغيرُ واحدٍ ممن حَكَى وضوءه عليه الصلاة والسلام صَرَّحوا بتقديم اليُمنى على اليُسرى من اليدين والرجلين، وذلك يُفيد المواظبة، لأنهم إنما يَحكون وضوءه الذي هو دأبُه وعادتُه، فيكون سُنَّة، ولِمَا روى البخاري ومسلم والأربعةُ عن عائشة رضي الله عنها قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبُّ التيامُنَ في كل شيء، حتى في طُهُوره، وتَنَعُّلِه، وتَرَجُّلِهِ، وشأنِهِ كلِّه» . والطُّهورُ: بضم الطاء عند الجمهور، والتَّنَعُّل: لُبسُ النعلين، والترجُّلُ: تسريحُ الشعر.

(ومَسْحُ الرقبة) وقيل: إنه سُنَّة، وهو اختيارُ بعضِ الشافعية وأكثرِ العلماءِ كما في «الخلاصة» من كتب الحنفية، لِمَا روى أبو عُبَيد القاسمُ، عن القاسمِ بن عبد الرحمن، عن موسى بن طلحة قال:«من مَسَح قفاه مع رأسِهِ وُقيَ من الغُلّ»

(1)

. والحديثُ موقوف لكنه حكماً مرفوع، لأنَّ مثله لا يقال بالرأي، ويُقوِّيه ما رُوِيَ مرفوعاً في «مُسنَد الفِردَوْس» من حديث ابن عُمَر

(2)

، لكن سنده ضعيف، إلا أنَّ الاتفاق على أن الضعيف يُعمل به في فضائل الأعمال، على أنَّا رَوَيْنا عن كعب بن عَمْرو الياميّ:«أنه صلى الله عليه وسلم توضَّأ وأومأ بيديه من مقدَّم رأسه حتى بلغ بهما إلى أسفلِ عنقهِ من قِبَل قفاه»

(3)

. ومسْحُ الحُلقُوم بدعةٌ كما في «الظهيرية» .

(1)

الغُل: هو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه. النهاية 3/ 380.

(2)

ولفظه: "مسح الرقبة أمانٌ" من الغُل يوم القيامة".

(3)

سبق تخريجه عند الشارح صفحة 50 عن الطبراني.

ص: 57

[نَوَاقِضُ الوُضُوءِ]

وناقِضُهُ: ما خَرَج

===

(آداب الوضوءِ)

ومن آداب الوضوء: أنْ لا يَتكلَّم فيه بكلام الناس، ويَستقبلَ القبلة، ولا يَستعينَ بغيره عند القدرة.

وعن الوَبَري: لا بأس بصبِّ الخادم، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يُصَبُّ الماءُ عليه. ويَقرأُ الأدعيةَ المأثورةَ عن الصحابة والتابعين. وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم «ما منكم مِنْ أحدٍ يَتوضَّأ فيُسبِغُ الوضوءَ ثم يقولُ: أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، إلا فُتِحَتْ له أبوابُ الجنَّةِ الثمانيةُ يَدْخلها من أيّ بابٍ شاء» رواه مسلم وزاد الترمذي:«اللهم اجعلني من التوَّابين، واجعلني من المتطهِّرين» . ويُستحَبُّ أن يُصلّي ركعتين بعده لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما مِنْ مسلمٍ يَتوضَّأ فيُحسن وضوءه ثم يقومُ فيُصلّي ركعتين يُقبِلُ علَيْهِما بقلبِهِ ووجهِهِ إلا وجبَتْ له الجنَّةُ» رواه مسلم.

(مكروهات الوضوءِ)

ويُكرَه: الإِسرافُ في الماء لقوله عليه الصلاة والسلام لسعدٍ لمَّا مَرَّ به وهو يتوضأ: «ما هذا السَّرَفُ يا سعد؟» فقال: أفي الوضوءِ سَرَفٌ؟ قال: «نعم، وإنْ كنتَ على نهرٍ جار» رواه أحمد وابن ماجه.

(فروع)

ومن الفروع: شَكَّ في بعض أعضاء وضوئه قَبْلَ الفراغ، فعَلَ ما شكَّ فيه إنْ كان أوَّل شَكّ، وإلاَّ فلا عليه، وإنْ شَكَّ بعده فلا مطلقاً. ولو شَكَّ في الوضوءِ أو الحدَثِ، وتَيقَّنَ سبْقَ أحدِهما: بَنَى على السابق، إلاَّ أنْ يتأيَّدَ اللاحق.

(نواقض الوضوءِ)

(وناقِضُهُ) أي مُبطِلُ الوضوءِ ومُخْرِجُه عما هو مطلوب فيه من استباحةِ الصلاة ونحوِها، سواء كان وضوؤه كاملاً أو ناقصاً:(ما خَرَج) أي ظَهَر حقيقةً أو حكماً، فلا يَنْقُضُ البولُ النازلُ إلى قَصَبة الذكر، لعدم ظهوره أصلاً، ويَنْقُضُ البولُ النازلُ إلى القُلْفة لظهوره حكماً. وإنما لم يجب إيصالُ الماء إلى ما تحت القُلْفة في الغُسْل عند بعض المشايخ للحرج في ذلك. وقد روى الدارقطني عن ابن عباس عنه عليه الصلاة والسلام قال:«الوضوءُ مما خَرَج وليس مما دَخَل» . وقيل: هذا موقوف، وقيل: مِنْ قولِ علي رضي الله عنه فلو أَدْخَلتْ إصبعها فيه نَقَض، لا لِمَا دَخَل، بل لأنها لا

ص: 58

من السَّبِيلَينِ

===

تَخْرُج إلا بِبِلَّةٍ معها، وكذا العُودُ في الدُّبُر كالمِحْقَنةِ وغيرها.

(من السبيلين) أي من أحدهما، معتاداً كان أو غيرَ معتاد، كالدُّودِ والحَصَى، لقوله تعالى في التيمم الذي هو بدَلٌ عن الوضوء:{أو جاء أحدٌ منكم من الغائط}

(1)

، وهو المكان المطمئنُّ والمنخفِضُ من الأرض. واستُعمِلَ في الحدَث مجازاً، لأنه في مثلِهِ يُقْضَى مُستَتِراً

(2)

.

وقال مالك: لا يَنْقُضُ الدُّودُ، والحصاةُ، والاستحاضة، ونحوُها من سَلَسِ بولٍ، وانطلاقِ بطنٍ، أو انفلاتِ ريح، لأنَّ الله تعالى كنَّى بالغائط عن الحاجة، وهي المعتادة.

ولنا ما صحَّ مِنْ قولِه عليه الصلاة والسلام: «المُستحاضَةُ تتوضَّأ لوقتِ كلِّ صلاة»

(3)

.

فإنْ قيل: الريحُ الخارجةُ مِنْ قُبُلِ المرأة وذَكَرِ الرجل خارجةٌ من أحدِ السبيلين، وليسَتْ بناقضة؟ أُجِيبَ بأنَّ ذلك اختلاجٌ أي انجذابٌ وتحرُّك، وليسَتْ بريحٍ خارجة، ولو سُلِّمَ، فليستْ بمنبعثة عن محلِّ النجاسة، ولهذا لا تَخْرجُ مُنتِنة، فصارت كالجُشَاء، إلاّ أنَّ المرأة إذا كانت مُفْضاةً

(4)

يُستحبُّ لها الوضوءُ، لاحتمال خروجها منِ دُبُرِها، على أنه رُوِي عن محمد: أنَّ الريح الخارجة مِنْ قُبُلِ المرأَة حدَثٌ، قياساً على دُبُرها.

وأمَّا ما ذكره صاحبُ «الهداية» : أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما الحدَثُ؟ قال: ما يَخْرُج من السبيلين. فلا أعرِفُ له أصلاً. نعَمْ، روى الدارقطني عن ابن عباس مرفوعاً:«الوضوءُ مما خرج وليس مما دخل» ، إلا أنَّ في شعبة ـ مولى ابنِ عباس الراوي ـ اختلافاً في توثيقه وتضعيفه

(5)

، والأصحُّ أنه موقوف على ابن عباس كما ذكره سعيد بن منصور. وقال البيهقي: ورُوِي أيضاً عن عليَ مِنْ قولِه.

فإن قيل: الحدَثُ شَرْط الوضوء، فلا يكون ناقضاً له. أُجِيبَ بأنه ناقِضٌ لِمَا كان، وشَرْطٌ لِمَا يكون.

(1)

سورة النساء، آية:(43).

(2)

عبارة المخطوطة: "لأنه يقضي في مثله تسترًا".

(3)

أخرجه الطبراني في "الأوسط"

(4)

المُفضاة: المرأة التي صار مسلكاها واحدًا، يعني مسلك البول ومسلك الغائط، "المغرب في ترتيب المعرب": 2/ 143.

(5)

عبارة المخطوطة: "إلا أن شعبة مولى ابن عباس الراوي اختلف في

".

ص: 59

أَو غيرِه إِن كان نَجَسًا

===

ثم الأصحُّ مِنْ مذهبِ الشافعي أنَّ المنيَّ لا يَنْقُض الوضوء، وإنْ أوجَبَ الغُسلَ لقول ابن عباسٍ: المنيُّ كالمُخاط، فأمِطْه عنك ولو بإذْخِرة

(1)

. ولأنه أصلُ خِلقةِ الآدمِي، فكان طاهراً كالتُراب، لاستحالة أن يقال: خُلِقَ الأنبياءُ من شيءٍ نَجِس.

ولنا قوله عليه الصلاة والسلام لعمَّار بن ياسر: «إنما يُغْسَل الثوبُ من خمسةٍ: البولِ، والغائطِ، والخمرِ، والمنيِّ، والدَّمِ» . وكونُه أصلَ الخِلقة لا يُنافي النجاسة كالمُضْغَة والعَلَقة. وابنُ عباس شبَّهه بالمُخاط في النظرِ لا في الحُكم، وأمْرُهُ بالإِماطةِ للتمكُّن من غَسله، إذْ قبلَها يَشِيع إذا أصابه الماء.

فروع

ومن الفروع: أنَّ المرأة إذا خَرَج الأقلُّ مِنْ وَلَدِها لم تصر نُفَساء، ويجبُ عليها الصلاةُ حينئذٍ، وإن لم تُصَلِّ صارَتْ عاصية، كذا في «الخلاصة» . وفيه إشكال حيث يَدلُّ على أنَّ خروجَ بعض الولد ليس بناقض للوضوء، ودُفِعَ بأنَّ خروجَ بعض الولد في حقِّها كخروج البول في حقّ مَنْ به سَلَسُ البول، فكما أن خروجَ البول في حقِّه اعتُبِرَ عَدَماً في الوقت للضرورة، كذا خروجُ بعض الولد في حقِّها. انتهى. وفي تنظيرِهِ نظر لا يخفى، والظاهرُ نقضُ وضوئها، فتتوضَّأ وتُصلِّي في آخِرِ الوقت.

(أو غيرِه) أي من غيرِ أحدِ السبيلين، أو مِنْ غيرِ المذكور. والمرادُ من الخروج أعمُّ من أن يكون بنفسه أو بالإِخراج، ليُلائم الخروجَ المذكورَ في المعطوف عليه، فإنه كذلك. فعلى هذا: لو عُصِر جُرحٌ وخَرَج منه شيء، وهو بحيث لو لم يُعْصَر لا يَخْرج، يَنْقُض

(2)

الوضوءَ، لأنه مُخْرَج لا خارج بنفسه.

(إِنْ كان نَجَساً) بفتح الجيم، أي عينَ نجاسة، كدمٍ، وقيحٍ، وصديد، فلا يَنْقُض نحوُ المُخاطِ، والدمعِ، والبُزاقِ، واللُّعابِ، والعَرَقِ. وكذا العِرْقُ المَدَني

(3)

الذي يقال له بالفارسية: رِشْتَهْ، فهو بمنزلة الدُّودِ الخارجِ حيث لا يَنْقُض الوضوءَ، لأنهما طاهِرانِ. وإن كان العِرْقُ المَدَني يَسِيلُ منه الماءُ يَنْقُض كذا في «الظهيرية» . ولو دَخَل الماءُ في أُذُنه وخَرَج، ففي «الخلاصة»: أنه لا يَنْقض. وفي «المحيط» : خروجُ القيح من الأذُن مع

(1)

الإذخر: حشيشة طيبة الرائحة. النهاية 1/ 33.

(2)

في المخطوطة: "ينتقض".

(3)

العِرْق المدني: نُسِب إلى المدينة لكثرته بها وهي بَثْرَة - نُفَّاخة مملوءة ماء - تظهر على سطح الجلد تتفجر عن عرق يخرج كالدودة شيئًا فشيئًا. حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 61.

ص: 60

سال إِلى ما يُطَهَّر،

===

الوجَع ناقض، وبدونه لا. ثُمَّ الماءُ الخارجُ من النَّفِطَة

(1)

بمنزلة الدَّم على الأصحّ، وكذا الصَّديدُ

(2)

. وقيل: الماءُ بمنزلة الدَّمْع، كذا في «المضمرات» .

(سال إِلى ما يُطَهَّر) أي ما يجبُ تطهيرُه في الجملة، ولو في الجنابة كالفم والأنف، فلا يَنْقضُ ما ظَهَر في موضعه ولم يَرتقِ كنَفِطَةِ الجُدَرِيّ والبَثْرَةِ

(3)

إذا قُشِرَتْ، ولا ما ارتقَى عن موضعه ولم يَسِلْ، والدمُ المرتقي مِنْ مَغْرِز الإِبَرِ، والحاصِلُ في الخلال من الأسنان، وفي الخُبزِ من العضّ، وفي الإِصبَعِ من إدخالِ الأنف

(4)

، ولا ما يَسِيلُ بعَصْرٍ وكان بحيث لو لم يُعْصَر لم يَسِل.

فالمرادُ بالسَّيَلانِ أعمُّ من أن يكون بالفعلِ أو بالقوَّةِ القريبة منه. ولا يَنْقُض نحوُ الدَّم يَخْرُج من العينِ أو الجِراحةِ ويَسيل فيهما بحيث لا يتجاوزهما. وقال زُفَر: لا يُشترط السَّيَلانُ اعتباراً بالمَخْرَجينِ. ولنا قولُه عليه الصلاة والسلام: «ليس في القَطْرَة والقطرتين من الدم وضوءٌ إلا أن يكون سائلاً» رواه الدارقطني في «سننه» ، لكنّ في إسناده ضعفاً.

وقال أحمد: يَنْقُضُ الدَّمُ الفاحشُ والدود الفاحش

(5)

الخارجُ من الفرج. وقال مالك والشافعي: لا يَنْقُض الخارجُ من غير السبيلين لِمَا أسنده أبو داود والحاكم وعلّقه البخاري فقال: «ويُذكَرُ عن جابر بنِ عبد الله أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرِّقاع ـ بكسر الراء ـ فرُمِيَ رجلٌ بسهم فَنَزَفه الدمُ، أي خرج منه حتى ضَعُف، فرَكَعِ وسَجَد ومَضَى في صلاته» . وسمَّاه البيهقي وقال: فنام عمَّارُ بنُ ياسر، وقام عَبَّادُ بنُ بِشْر يُصَلِّي وقال: كنتُ أصلِّي بسورة الكهف فلم أُحبَّ أن أقطعها. والاستدلالُ به مُشكِل، ولذا قال الخَطَّابي: ولستُ أدري كيف يصحُّ الاستدلال به، والدمُ إذا سال يُصِيبُ بدنَه، وربما أصاب ثوبَه، ومع إصابة شيء من ذلك لا تصحُّ صلاته، إلا أن يقال: إن الدم كان

(1)

النِّفِطَة: الجُدَرِي. حاشية الطحاوي على مراقي الفلاح ص 61. والقامرس المحيط ص 891 مادة (نفط).

(2)

الصَّديد: ماء الجُرح الرقيق. القاموس المحيط ص 373، مادة (صد).

(3)

في المطبوعة: البَشَرة، والمثبت من المخطوط، وهو الأصح. والبَثرَة: خُرَّاج صغير مملوءٌ قيحًا. معجم لغة الفقهاء ص 104.

(4)

عبارة المخطوطة: وفي الإصبع من إدخاله في الأنف.

(5)

لم ترد عبارة: "والدود الفاحش" في النسخة التي حققها شيخنا الشيخ عبد الفتاح أَبو غدة رحمه الله، وهي مثبتة في المطبوعة والمخطوطة اللتين بين أيدينا، ولكن بإبدال لفظ:"المخرج" بدل: "الفرج" في المخطوطة.

ص: 61

والقيءُ دَمًا رقيقًا إِن احمرَّ به البُزاقُ لا إِن اصفرَّ به، وغيرَهُ

===

يجري من الجُرح على سبيل الدَّفق حتى لا يُصيبُ شيئاً مِنْ ظاهر بدنه، وإن كان كذلك فهو أمرٌ عَجِيب. انتهى. ومع هذا لا يَنْهضُ حجةً إلا إذا ثَبَتَ اطِّلاعُ النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الرجل وتقريُرُه له عليها.

ولنا ما روى الدارقطنيُّ فى «سننه» عن تمِيمٍ الداريِّ، وابنُ عَدِيَ في «كامله» عن زيدِ بن ثابت: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الوضوءُ مِنْ كلِّ دمٍ سائل» . وروى البخاري عن عائشة أنَّ فاطمة بنت أبي حُبَيش جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: إني أُستحاضُ فلا أَطْهُر، أفأدَعُ الصلاة؟ فقال:«لا، إنما ذلكِ عِرْقٌ، وليسَ بالحَيْضة، فإذا أقبَلَت الحَيْضةُ فدَعِي الصلاة، وإذا أدْبَرَتْ فاغْسلِي عنكِ الدَّم، وتوضَّئي لكل صلاة» . فنبَّه عليه الصلاة والسلام على العِلَّة المُوجِبةِ للوضوء، وهو كونُ ما يَخْرجُ منها دَمَ عِرْقٍ، وهو أعمُّ من أن يكون خارجاً من السبيلينِ أو غيرِهِما، ثم أمَرَها بالوضوء لكلّ صلاة.

وقد قالوا: مَنْ رَمِدَتْ عَيْنُه وسال الدمُ منها وجَبَ عليه الوضوءُ، فإذا استمرَّ فلِوَقْتِ كلِّ صلاة. وأمَّا ما رواه الدارقطني من أنه عليه الصلاة والسلام «احتَجَم وصلَّى ولم يَتوضَّأ، ولم يَزِدْ على غَسْل مَحاجِمِه» فضعيف.

(والقيءُ) بالرفع عَطفٌ على ما خَرَجَ، والواوُ بمعنى أو. وقولُه:(دَماً) مفعول، لأنه مَصدَرُ قَاءَ يقِيءُ (رقيقاً) فإنَّه حينئذٍ يكون مِنْ قَرْحةٍ في الجوف وقد وَصَل إلى ما يُطَهَّر (إِنْ احمَرَّ بهِ البُزاقُ) لأنَّ الدم حينئذٍ غالبٌ أو مُساوٍ، فيكون سائلاً بقوَّةِ نَفْسِه فيُعتَبَر (لا إِنْ اصفَرَّ به) لأنه حينئذٍ مغلوبٌ فيكون سائلاً بقوَّةِ غيره فلا يُعتَبر

(1)

.

(وغيرَهُ) بالنصب عَطفٌ على دَماً والضميرُ له، أي والقيءُ غيرَ دم، وهو شاملٌ للطعامِ والماءِ والمِرَّةِ والدَّمِ الغليظة.

وقال أحمدُ: يَنْقُضُ القيءُ الفاحش، وقال مالك والشافعي: لا يَنْقُض القيءُ مطلقاً لِمَا صحَّحه الترمذي من حديث صفوانَ بن عسَّال

(2)

قال، «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمُرنا إذا كنا سَفْراً أن لا نَنْزِعَ خِفافنَا ثلاثة أيام وليالِيَها إلا مِنْ جنابة، ولكن مِنْ غائطٍ وبولٍ ونوم» ، فلم يَذْكُر القيءَ، فلو كان حدَثاً لذكره.

ولنا ما روى أبو داود والنسائي والترمذيُّ وقالَ: أصحُّ شيءٍ في الباب، والحاكمُ

(1)

في هامش المخطوطة: وفي الظهيرية: ولو كان في البزاق عروق الدم فهو عفو.

(2)

جاء في المطبوعة: "غسان" وهو تحريف، والتصحيح من المخطوطة وسنن الترمذي 1/ 159، كتاب الطهارة (1)، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم (71)، رقم (96).

ص: 62

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

في «مستدركه» وقال: صحيحٌ على شَرْط الشيخين ولم يخرجاه، من حديث مَعْدانَ بن أبي طلحة عن أبي الدرداء: أنَّ النبيّ عليه الصلاة والسلام قاءَ فتوضَّأ فلقيتُ ثَوبانَ في مسجد دمشق فذكرتُ ذلك له، فقال: صَدَقَ، وأنا صببتُ له وَضوءَه.

وأُجيبَ عن حديث صفوان بإنه إنما لم يُذْكَر القيءُ فيه لقلَّة وقوعِه، ولذا لم يُذْكر فيه الإِغماءُ والجنونُ. وقد روى ابنُ ماجه عن عائشة مرفوعاً:«من أصابه قَيءٌ، أو رُعافٌ، أو قَلَسٌ، أو مَذْيٌ فليَنصَرفْ وليتوضَّأ ثم ليَبْنِ على صلاته وهو في ذلك لا يَتكلَّم» وفي روايةِ الدارقطني: «ثم ليَبْنِ على صلاته ما لم يتكلَّم» ، والحديثُ هذا وإن كان مرسَلاً، لكنه حُجَّة عندنا وعند الجمهور، لا سيما ويَعضُده حديثُ مَعْدان، والله المستعان. وروى الدارقطني: أنه عليه الصلاة والسلام قال: «القَلَسُ حَدَثٌ» . والقَلَسُ ـ محرَّكة ويُسكَّن ـ الخارج مع الغَثَيان، والقيءُ مع سكونِ النَّفْس أو الأعمُّ، والله تعالى أعلم.

وأمَّا قولُ صاحب «الهداية» في دليل الشافعي: على أنَّ الخارج من غير السبيلين لا يَنْقُض الوضوءَ لِمَا رُوي أنه عليه الصلاة والسلام «قاءَ ولم يتوضأ» فليس له أصل. وأمَّا حديثُ ابن جُرَيج عن أبيه كما رواه الدارقطني فقد ذكَرَ البيهقي عن الشافعي: أنَّ هذه الرواية ليست بثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام.

ومن الغريبِ ما ذكره القاضي أبو العباس من أنَّ إمامَ الحرمين في «النهاية» والغزالي في «البسيط» ذكَرَا أنَّ هذا الحديث مَرويٌّ في كتب الصحاح، قال: وهو وَهَمٌ منهما، ولا معرفةَ لهما بالحديث لأنهما ليسا مِنْ أهل هذا الشأن. وأمَّا ما رواه الدارقطني عن ثوبان: أنَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام قاءَ فَدَعَا بِوَضوئِهِ، فقلتُ: يا رسول الله أفريضةٌ الوضوءُ مِنْ القيء؟ قال: «لو كان فريضةً لوجدتَه في القرآن» . فقال

(1)

: لم يَروه عن الأوزاعي غيرُ عُتبة بن السَّكَن، وهو متروك.

ومِن أدلَّتِنا ما في «موطَّأ مالك» عن نافع عن ابن عمر: أنه كان إذا رَعَف رجَعَ فتوضَّأ ولم يتكلَّمْ، ثم رَجَع وبَنَى على ما قد صلَّى، وما في «مصنَّف عبد الرزَّاق» عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه قال: إذا وَجَدَ أحدُكم رِزّاً أو رُعَافاً أو قَيْئاً فلينصرِفْ وليتوضَّأ، فإن تكلَّم استقبل وإلاَّ اعتدَّ لِمَا مضى. وفيه عن سلمان مثلُه، وفي «مسند الشافعي» عن ابن عُمَر نَحوُه. والرِّزُّ بكسر الراء وتشديد الزاي: القَرَقَرَةُ، وقيل: هو غَمْزُ الحدَثِ وحَرَكتُهُ للخروج، كذا في «النهاية» ، وقال

(1)

أي الدارقطني.

ص: 63

إِن مَلأ الفمَ

===

السيوطي: هو صوتٌ خَفيّ، وفي «القاموس»: صوتٌ تَسمعه من بعيدٍ أو أعمُّ.

وقولُ من نَفَى صِحَّة حديثٍ في نقضِ الوضوءِ بالدمِ والقيءِ والضحكِ إن سُلِّمَ لم يقدح في صحة الاحتجاج، لعدمِ توقُّفه على صِحَّةَ الحديثِ إذ الحُسْنُ كافٍ، على أنها قد تحْصُل من العَدَدِ المجتمِع، كما في المتواترِ المعنوي، مع أنه رأيٌ من النافي لها، وهو لا يَمنعُ رأيَ مثلِهِ من الصحيح بالنسبة إليه عند غلبةِ ظنِّه.

(إِنْ مَلأ) أي القيءُ (الفمَ) بأن لم يُمكِنْ ضبطُه إلا بكُلفة. وقيل: بأنْ لم يُمكِن معه الكلام. وقال زُفَر: قليلُ القيء ككثيره اعتباراً بالخارج من السبيلين. ولنا: ما رويناه مقيَّداً بالسَّيَلان

(1)

، وما رواه البيهقي في «الخلافيات» من قوله عليه الصلاة والسلام:«يُعادُ الوضوءُ من سَبْعٍ: من إقطارِ البولِ، والدَّمِ السائل، والقيحِ، ومن دسْعةٍ تَملاء الفم، ونومِ المضطجِعِ، وقهقهةِ الرجل في الصلاة، وخروجِ الدم» ، ولا يَضرُّ ضعفُ سهلِ بن عفَّانَ والجارودِ بن يزيد لوجود أصل الحديث عند غيرهما. والدَّسْعةُ: الدَّفعةُ الواحدة من القيء على ما في «النهاية» .

وأمَّا ما ذكره صاحب «الهدايةَ» من قول علي رضي الله عنه حين عَدَّ الأحداث: «أو دَسْعَةٍ تَملأ الفم» فهذا اللفظُ عن علي رضي الله عنه ليس له أصل.

ويَنتقِضُ بمصّ قُرَادٍ

(2)

وشُربِ الذُّبابِ دمَ جُرْح بحيث لو شُرِطَ القُرَاد

(3)

أو تُرِكَ دمُ الجرح لسالَ، لا بسُقوطِ لحمٍ ودُودٍ منه لعدمِ نجاسة الدُّود في ذاته واللحمِ في أصله.

وأمَّا قيءُ الدم المائع فناقضٌ عند أبي حنيفة رحمه الله وإن لم يَملأ الفم، وشَرَط محمد مِلْئه، وعن أبي يوسف أنه إن كان من قَرْحة نَقَض مطلقاً، وإن كان من الجوف لا يَنْقُض حتى يملأ الفم. وفي «النوادر». لو قاء مراراً كلَّ مرَّة دون ملء الفم والمجموعُ قد ملأه قال أبو يوسف: يَنقُضُ إذا اتحد المجلس، لأن اتحاده يَجمع المتفرقات كما في سجدة التلاوة. وقال محمد: إن اتحد السببُ وهو الغَثَيان، لأن الأصل إضافة الفعل إلى سببه، وهو الأصحُّ كما في «الكافي» .

ولو أرخينا العِنَان، وجعلنا الأدلة تتعارض في مَيدان البيان، فإنْ جَمَعنا بينها فهو

(1)

راجع ص 61. يريد حديث: "ليس في القطرة والقطرتين

".

(2)

القُراد: دُوَيْبَّةٌ معروفة تَعَضُّ الإبل. تاج العروس 9/ 26، مادة (قرد).

أطلق الشارح هنا نقض الوضوء بمصِّ القراد، كبيرًا أو صغيرًا، والصواب تقييده بالكبير كما نص عليه في "رد المحتار على الدر المختار" 1/ 94:"إن كان كبيرًا نقض وإلا لا ينقض".

(3)

شُرِطَ: شُقَّ.

ص: 64

لا بَلْغمًا أصلًا. وما ليس بحَدَثٍ، ليس بنَجَس. ونومُ مُتَّكىء إِلى ما لو أُزِيلَ لسَقَط،

===

أولى عند الإِمكان، حَمَلْنا ما رواه الشافعي على القليل في القيء وما لم يَسِل، وما رواه زُفَر على الكثير توفيقاً بين الأدلة.

ثم القليلُ في القيء غيرُ ناقض، وعلى هذا يَظهر ما في «المجتبى» عن الحَسَن: لو تَناول طعاماً أو ماءً ثم قاء مِنْ ساعته لا يَنتقضُ لأنه طاهرٌ حيث لم يَستحِل، وإنما اتَّصل به قليلُ القيء فلا يكون نَجِساً، وكذا الصبيُّ إذا ارتضع وقاءَ من ساعتِه، قيل: هو المختار.

(لا بَلْغماً) عطفٌ على «دَماً» ، أو منصوبٌ بمحذوف، أي لا يَنْقض القيءُ إذا كان بَلْغماً (أصلاً) أي سواءٌ كان من الرأسِ أو من الجوف، لم يكن مِلء الفم أو كان مِلئه، ولم يكن مخلوطاً بطعام أو كان مخلوطاً به، والحالُ أنَّ الطعام دون مِلء الفم، وأمَّا لو كان الطعامُ مِلء الفم فإنه يَنْقُض بالاتفاق. وقال أبو يوسف: البلغمُ النازلُ من الرأس لا يَنْقُض، والصاعِدُ من الجوف إن كان مِلء الفم يَنْقُض كغيره من أنواع القيء.

(وما ليس بحَدَثٍ) كالدَّم الذي ليس بسائل والقيءِ دون مِلء الفم (ليس بنَجَس) بفتح الجيم، ليس بنجاسةٍ عند أبي يوسف وهو الصحيحُ عند صاحبِ «الهداية» وغيرهِ، وقال محمد: وهو نَجَسٌ احتياطاً، واختاره أبو جعفر الهِنْدُوَانيُّ وغيرُه. فإن قيل: دمُ الاستحاضةِ والجُرح الذي لا يَرقأ ليس بحَدَثٍ وهو نَجَسٌ؟ أُجِيبَ بأنَّا لا نُسلِّم أنه ليس بحَدَث، غايتُهُ أنه حدَثٌ، لا يَظهر أثرُه إلا بخروج الوقت.

(ونومُ مُتّكاء) أي مستندٍ (إِلى ما لو أُزِيلَ لسَقَط). واعلم أنْ النوم إِنْ كان اضطجاعاً أو اتكاءً على أحدِ الوَرِكينِ نَقَضَ، وإِن كان استناداً إلى شيء يَسْقطُ المُتَّكيءُ عند إزالتِهِ، فإن زالت المَقْعَدةُ عن الأرض نَقَض اتفاقاً، وإن لم تَزُل ذكَرَ الطَّحاويُّ والقُدُوريُّ أنه يَنْقض لحصولِ غايةِ الاسترخاء، والمرويُّ عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يَنْقض، لأنَّ استقرارَ المَقْعَدةِ على الأرض يَمنع من الخروج. وإِن كان في قيامٍ أو ركوعٍ أو سجودٍ، فإن كان في الصلاة لا يَنْقض، وكذلك إن كان خارجَها وهو على هيئتها مِنْ رفع البطن في السجود عن الفخذين وتجافي العَضُدينِ عن الجنبين. وذَكَر ابنُ شُجَاع أنه يَنْقُض خارجَ الصلاة.

وقال الشافعي: يَنْقُضُ مطلقاً، لأنه لا يُؤمَنُ الحدَثُ في هذه الهيئات، ففارقَتْ هيئةَ القعود متمكناً.

ولنا قولُه عليه الصلاة والسلام: «لا يجبُ الوضوءُ على من نام جالساً، أو قائماً، أو

ص: 65

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ساجداً، حتى يضَعَ جنبيه، فإذا اضطجعَ استرخَتْ مفاصِلُه» رواه البيهقي، وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس: أنه رأى النبيَّ عليه الصلاة والسلام نامَ وهو ساجدٌ حتى غَطَّ أو نَفَخ، ثم قام فصلى فقلتُ: يا رسول الله إِنك نِمْتَ؟ فقال: «إنَّ الوضوءَ لا يجبُ إلا على من نام مضطجعاً، فإنه إذا اضطجَعَ استرخَتْ مفاصِلُه» . وغَطَّ النائمُ ـ بفتح الغين المعجمة وتشديد الطاء المهملة ـ إذا نَخَر

(1)

.

وأخرَجَ ابنُ عدي عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدّه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «ليس على من نام قائماً أو قاعداً وُضوءٌ حتى يَضْطَجِعَ جَنْبُه إلى الأرض» ، وأخرَجَ أيضاً عن ابن عباسٍ عن حُذَيفة بن اليمان قال: كنتُ جالساً في مسجد المدينة أَخْفِقُ

(2)

فاحتَضَنَني رجلٌ مِنْ خلفي، فإذا أنا بالنبيّ عليه الصلاة والسلام، فقلتُ: يا رسول الله وجَبَ عليّ وضوء؟ قال: «لا حتى تَضَع جَنْبَك على الأرض» .

وهذه الأحاديثُ وإن كانت بانفرادِها لا تخلو عن ضعف، إلاَّ أنها إذا تعاضَدَتْ لم تُنْزِله عن درجةِ الحَسَن، ولم يُعارضه صريحٌ مثلُه، فيجوزُ العمَلُ به.

وقال أبو يوسف: يُنْقَضُ الوضوءُ بتعمُّدِ النوم في سجود الصلاة، وقالا: لا يُنْقَضُ به لعموم ما رَوَينا، ولقولهِ عليه الصلاة والسلام:«إذا نام العبدُ في السجود يُباهِي اللهُ ملائكتَه فيقول: انظروا إلى عبدي، رُوحُه عندي، وبدَنُه في طاعتي»

(3)

. وإنما يكونُ في الطاعة أنْ لو بَقيَتْ طهارتُه، لأنه بدونها إمَّا كُفرٌ أو كبيرة.

وفي «الظهيرية» : لو نام قاعداً فسقَطَ إن انتَبَه قبل أن يَصِلَ جنبُه إلى الأرض لا يَنْقُض. وقيل: يَنقُض إذا ارتفَعَ مَقْعَدَتُهُ عن الأرض، والأوَّلُ أصحُّ. وفي «الخلاصة»: أن الأوَّلَ قولُ أبي حنيفة، والثانيَ قولُ محمد. ولو وضَعَ يدَه على الأرض ونام، أو نامَ محتبياً ورأسُهُ على ركبتيه لا يَنْقُض. ولو صلَّى المريضُ مضطجعاً، فنام فالصحيحُ أنه يَنْقُض. ولو نَعَسَ مضطجعاً إن كان نُعاسُهُ خفيفاً بحيث يَسْمعُ ما يُتحدَّثُ عنده لا يَنْقُض.

ثم النومُ وما ذُكِرَ بعده من الإِغماءِ والجنونِ: مَظِنَّاتٌ للأحداثِ أُقيمَتْ مُقامَها. والأصلُ فيها قولُه عليه الصلاة والسلام: «العَيْنانِ وِكاءُ السَّهِ، فإن نامَتْ العينانِ استَطْلَق

(1)

النَّخِير: صوت الأنف. "النهاية" 5/ 32.

(2)

خَفَقَ الرجل: حرك رأسه وهو نَاعِسٌ. مختار الصحاح ص 77، مادة (خفق).

(3)

هذا حديث ضعيف جدًّا كما قاله النووي في "المجموع" 2/ 13. وانظر "التلخيص الحبير" 1/ 120 - 121.

ص: 66

والإغماءُ،

===

الوِكاءُ»

(1)

. وأمَّا إذا نام قاعداً وتمايَلَ بحيث احتُمِلَ زوالُ المَقْعَدةِ به فلا يَنْقُض، لما في «سنن أبي داود»: كان أصحابُ رسول الله عليه الصلاة والسلام ينتظرون العِشاءَ حتى تَخْفِقَ رؤسُهم ـ أي تَضطرب ـ (ثم يصلون)

(2)

ولا يَتوضَّؤُون.

واعتبَرَ مالكٌ ثِقَلَ

(3)

النوم حالَ الجلوس لأنه مظِنَّةُ استرخاء المفاصل غالباً، فأُدِيرَ الحُكمُ عليه بخفاءِ سببه.

ولنا إطلاقُ ما رَوَيْنا من حديثِ حذيفةَ وغيرِه. وأمَّا ما في «مسند البزَّار» بإسنادٍ صحيح «كان أصحابُ رسول الله عليه الصلاة والسلام يَنتظرون الصلاةَ فيَضعون جُنوبَهم، فمنهم من ينامُ ثم يقومُ إلى الصلاة» ، فيجبُ حملُه على النُّعاس.

وقال الحَلْواني: لا ذكْرَ للنُّعاس مضطجِعاً، والظاهرُ أنه ليس بحَدَث، لأنه نومٌ قليل. أقول: بل هو مقدِّمةُ النوم، وقد قال الدَّقَّاقُ: إن كان لا يَفهَمُ عامَّةَ ما قِيلَ حوله كان حَدَثاً، وإن كان يَسْهو حرفاً أو حرفينِ فلا.

وأمَّا نومُهُ عليه الصلاة والسلام فليس بحَدَث، لأنه مِنْ خُصوصيَاتِهِ ولقوله عليه الصلاة والسلام:«تَنامُ عيناي ولا يَنَامُ قلبي»

(4)

.

(والإغماءُ) وهو مرضٌ يُوجِب ضعفَ القُوَى، والمرادُ به هنا: الغَلَبةُ على العقلِ بأيّ سببٍ كان، فيَشمل السُّكْرَ وهو: خِفَّةٌ تعتري الإِنسان. والضابطُ هنا كاليَمِين

(5)

، وهو أن يكون في مَشْيهِ اختلال، وهو الأصحُّ على ما في «المجتبى». وفي «الخلاصة»: السُّكْر حدَثٌ إذا لم يَعرِف به الرجلَ من المرأة.

(1)

جعل اليقظة للاسْتِ كالوكاء للقِربة، كما أن الوكاء يمنع ما في القِربة أن يخرج، كذلك اليقظة تمنع الاست أن تُحْدِث إلا باختبار. والسَّه: حَلْقَةُ الدُّبُر. النهاية 5/ 222.

(2)

ما بين الحاصرتين أثبتناه من المخطوطة وسنن أبي داود 1/ 137 - 138، كتاب الطهارة (1)، باب في الوضوء من النوم (79)، رقم (200).

(3)

في المطبوعة: "نقض"، والمثبت من المخطوطة، وهو الأصح، لما صرح به المالكية في كتبهم، بأن النوم إذا ثقل نقض، وإلا لا. انظر الإِكليل شرح مختصر سيدي خليل ص 23.

(4)

أخرجه البخاري (فتح الباري) 6/ 579، كتاب المناقب (61)، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه (24)، رقم (3569).

(5)

أي ضابط السُّكْرِ الذي ينقض الوضوء هنا كضابط السُّكْرِ في اليمين، وهو أن يكون في مشيه اختلال، فلو حلف أنه ليس بسكران، يعتبر في صدق يمينه هذا الضابط. انتهى من "فتح باب العناية" 1/ 74، الجزء الذي حققه الشيخ عبد الفتاح أَبو غُدَّة رحمه الله تعالى.

ص: 67

والجنونُ، وقهقهةُ بالغٍ في صلاةٍ مُطْلَقةٍ،

===

وإنما يَنتقِضُ وضوؤه بالغَلَبةِ على العقل، لأنها فوق النوم مضطجعاً، ولهذا كانت ناقضةً في جميع الأحوال، ألا تَرى أنّ المُغْمَى عليه لا يَنتبه بالتنبيه بخلاف النائم.

(والجنونُ) وهو عِلَّةٌ تُزيل العقلَ وتَسْلبه، وهو أقوى مما قبله.

(وقهقهةُ بالغٍ) عمداً كان أو سهواً، وهي ما تكون مسموعةً له ولجيرانه، سواءٌ ظهرت أسنانُهُ أوْ لا. والضحِكُ: ما يكون مسموعاً له دون غيرهِ، وتَبْطُلُ به الصلاةُ دون الوضوء. والتَّبَسُّمُ: ما لا يُسْمَعُ أصلاً، وليس بمُبِطلٍ لواحدٍ منهما. وقَيْدُ «بالغٍ» لأنَّ قهقهة الصبيّ لا تُبطِلُ وضوءه وتُبطِلُ صلاتَهُ.

(في صلاةٍ مُطْلَقةٍ) أي ذاتِ ركوعٍ وسجود أو ما يقوم مقامَهما من الإِيماء، فلا تَنْقضُ القهقهةُ في صلاة الجنازة ولا في سَجْدة تلاوة، وتَنقُضُ في نافلةٍ على الدابَّة.

وقال مالك والشافعي وأحمد: لا تَنقُضُ القهقهةُ وضوءاً، لأنها لو نَقَضتْ في الصلاةِ لنقضَتْ خارجَها، وفي صلاةِ الجنازةِ وسجدةِ التلاوةِ كباقي النواقض.

ولنا أنَّ القياس ما ذكروه ولكن تركناه ـ فيما إذا كانت القهقهةُ في ذاتِ ركوعٍ وسجود ـ بما رواه الدارقطنيُّ عن أبي هريرة وعِمرانَ بن حُصَين، والطبرانيُّ عن أبي موسى الأشْعَري واللفظُ له قال: بينما رسولُ الله عليه الصلاة والسلام يُصلِّي بالناس إذْ دَخَل رجلٌ فتردَّى ـ أي وقَعَ ـ في حُفرةٍ كانت في المسجد، وكان فِي بَصَرِهِ ضَررٌ، فضَحِكَ كثيرٌ من القوم وهم في الصلاة، فأمَرَ رسولُ الله عليه الصلاة والسلام مَنْ ضَحِكَ أن يُعيد الوضوءَ والصلاةَ.

ولنا أيضاً ما قدَّمنا

(1)

مِنْ قولِهِ عليه الصلاة والسلام: «يُعادُ الوضوءُ من سَبْع» ، وقولُهُ:«مَنْ ضَحِكَ في الصلاةِ قهقهةً فليُعِدِ الوضوءَ والصلاةَ» ، فإنَّه رُوِيَ مُرسَلاً ومُسنَداً، وقد اعتَرَفَ أهلُ الحديث كلُّهم بصحَّتِه مُرسَلاً، والمُرسَل حجَّةٌ عندنا وعند الجمهور. وأمَّا رِوايتُهُ مُسنَداً، فعن عِدَّةٍ من الصحابة كابنِ عُمَر، ومَعْبَدٍ الخُزاعي، وأبي موسى الأشْعَري، وأبي هريرة، وأَنس، وجابر، وعِمران بن حُصَين، وقد اسْتَوفَى صاحبُ التخريج الكلامَ على الطُّرقِ كلِّها

(2)

، ونَقتصرُ منها على طريقينِ:

طريقِ ابنِ عُمَر، وهو ما رَوَى ابنُ عَدِي في «الكامل» من حديث عَطِيَّة بن بَقِيَّة:

(1)

في ص 64.

(2)

يقصد الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" 1/ 47 - 54. وانظر "عمدة القاري".

ص: 68

والمُباشرةُ الفَاحِشَةُ، لا مَسُّ المرأةِ

===

حَدَّثنا أبي: حدثنا عَمْرُو بن قَيْس السَّكُوني، عن عطاء، عن ابنِ عمر قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «من ضَحِك في الصلاةِ قهقهةً فَليُعِدِ الوضوءَ والصلاة» .

وأمَّا الطَّعْنُ فيه بأنَّ بَقِيَّة مُدَلِّس، فكأنه سَمِعَهُ مِنْ بعضِ الضعفاء وحَذَفَ اسمَه: فمدفوعٌ بأنه صَرَّح فيه بالتحديث، والمُدَلِّس الصَّدُوقُ إذا صرَّحَ بالتحديث تَزولُ تُهْمَةُ التدليس، وبَقِيَّةُ مِنْ هذا القَبيل.

وطريقِ مَعبَد، وهو ما رَوَى أبو حنيفة في «مسنده» عن منصور بن زَاذَان الواسطي، عن الحسن، عن مَعْبَد بن أبي مَعْبَدٍ الخُزَاعي، عنه عليه الصلاة والسلام قال: بينما هو في الصلاة إذْ أقبَلَ أعمى يُريدُ الصلاةَ، فوقع في زُبْيَةٍ ـ بضمّ الزاي وسكون الموحدة فتحتيَّة ـ، أي حُفرةٍ، فاستَضْحَكَ القومُ فقهقهوا، فلما انصرَفَ رسولُ الله عليه الصلاة والسلام قال:«من كان منكم قَهْقَه فليُعِدِ الوضوءَ والصلاة» .

وقِيلَ: مَعْبدٌ هذا لا صُحبة له، فهو مُرسَلٌ أيضاً، ورُدَّ بأنَّ المَعْبَد الذي لا صُحبةَ له هو مَعْبَدٌ البَصْري الجُهَني، كان الحسَنُ يقول فيه: إياكم ومَعْبداً، فإنه ضالّ مُضِلّ

(1)

، ومَعْبدٌ هذا هو الخُزَاعي كما هو مصرَّحٌ في «مُسنَدِ أبي حنيفة» ، ولا شَكَّ في صُحبته، ذكره ابنُ مَنْدَه وأبو نُعيمٍ في الصحابة، ورَوَيا له حديثَ جابر: أنَّه لما مَرَّ النبيُّ عليه بخِبَاءِ أمِّ مَعْبَدٍ، فبَعَثَ مَعْبَداً وكان صغيراً فقال:«ادْعُ الشاةَ»

الحديث.

(والمُباشرةُ الفاحِشةُ) وهي أن يَمَسَّ

(2)

فَرْجُه فَرْجَها وهو مُنتشِر الآلة، وقال محمد: إنما يَنْقُض إذا خَرَج المَذْيُ، لأنَّ الناقض خروجُ النَّجَس. ولهما أنَّ المباشَرةَ على هذه الصفة لا تخلو غالباً عن مَذي، فجُعِلَ الغالبُ كالمتحقِّق احتياطاً. وفي «القُنْيَة»: وكذا المباشَرَةُ بين الرجلِ والغلامِ، وكذا بين الرَّجلين، تُوجِبُ الوضوءَ عليهما. ثم عباراتُ أكثرِ الكتبِ متظاهِرَةٌ من أنَّ الصحيحَ والمُفَتى به قولُ محمد

(3)

.

(لا مسُّ المرأةِ) أي لا يَنْقضُ الوضوءَ مَسُّ المرأة، سواءٌ تَكُونُ إضافةُ المصدر إلى فاعلِه أو مفعوله، وهو قولُ عليّ وجماعةٍ من الصحابة.

(1)

لأنه هو أول من أظهر القَدَر بالبصرة. تقريب التهذيب ص 539، ترجمة رقم (6777).

(2)

في المطبوعة والمخطوطة: "أن مس"، والمثبت من الجزء الذي حققه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى. "فتح باب العناية" 1/ 78.

(3)

لم يرتضِ ابن نجيم صاحب "البحر" هذا التصحيح، حيث قال: ولا يعتمد على هذا التصحيح، فقد صرح في "التحفة" - كما نقله شارح "المنية" - أن الصحيح قولهما، وهو المذكور في المتون. البحر الرائق 1/ 45.

ص: 69

والذَّكَرِ.

===

وقال الشافعي وأحمد: يَنْقُضُ مَسُّ المرأةِ التي غيرُ مَحْرَمٍ وضوءَ اللامس، وهو قولُ عُمَر وبعضِ الصحابة لقوله تعالى:{أو جاء أحدٌ منكم من الغائطِ أو لمَسْتُم النّساءَ}

(1)

بقصر اللام كما قرأه حمزة والكِسائي

(2)

، وحقيقةُ اللَّمْس المَسُّ، لقوله تعالى:{فَلَمَسُوه بأيديهم}

(3)

. وقال مالك: يُنْقَضُ بالمَسِّ إذا كان يتلذَّذُ به.

ولنا ما في «الصحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها: أنها قالتْ: كنتُ أنامَ بين يدَيْ رسولِ الله عليه الصلاة والسلام ورِجْلاي في قِبْلتِه، فإذا سَجَدَ غمَزَني فقبضتُ رِجْلَيّ، وإذا قام بسطتُهما، وما في «السُّنَّن الأربعة»: عن عائشة: أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يُقَبِّلُ بعضَ أزواجه ثم يُصَلّي ولا يتوضَّأ، ورواه البَزَّار في «مسنده» بإسنادٍ حسَّنه.

وأُجِيبَ عن الآية بأنَّ اللَّمْسِ يُكْنى به عن الجماع، وحَمْلُ الآية عليه أولى ليُوافِقَ قراءةَ:{لامَسْتُم} فإنه مُفسَّر بالجماع عند الجمهور، وقد قال ابنُ عباس: المُرادُ باللَّمْس: الجماعُ، إلا أنَّ الله تعالى حَيِيٌّ كَنَّى بالحَسن عن القبيح، كما كَنَّى بالمَسِّ عن الجماع في قوله تعالى:{وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أن تَمَسُّوهُنَّ}

(4)

، والمُرادُ الجماعُ بالإِجماع، ولأنَّ الآية تَصيرُ بياناً لكون اللَّمس رافعاً للحدث الأصغر والأكبر.

(و) لا (الذَّكَرِ) أي ولا يَنْقُضُ الوضوءَ مَسُّ ذَكَرِه أو ذَكَرِ غيرِه مطلقاً.

وقال الشافعي: يَنْقُضُه إن كان بِبَطْن الكفّ أو بطنِ الأصابع، وبه قال مالكٌ إذا كان بشهوة، وقال أحمد: مَسُّ الفَرْج يَنْقُض الوضوءَ ذَكَراً كان أو أُنثى، لما روى أحمد والطبراني عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أفضى أحدُكم بيده إلى فَرْجه ليس دونها حِجاب فقد وجَبَ عليه الوضوءُ» ، وما روى أصحابُ «السُّنَن الأربعة»: عن بُسْرة بنتِ صفوان أَنه عليه الصلاة والسلام قال: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَه فليتوضَّأ» .

ولنا ما رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن قَيْس بن طَلْق، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئِلَ عن الرجل يَمَسُّ ذَكَرهُ، في الصلاة؟ فقال:«هل هو إلا بَضْعَةٌ منك» ، بفتح الموحَّدة، أي قِطعة من جسدك، قال الترمذي: هذا الحديثُ أحسَنُ شيء يُروَى في هذا الباب، ورواه ابن حِبَّان في «صحيحه» ، ورواه الطَّحاوي وقال: هذا حديثٌ مستقيمٌ غيرُ

(1)

سورة النساء، آية:(23).

(2)

انظر "البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة" ص 80.

(3)

سورة الأنعام، آية:(7).

(4)

سورة البقرة، آية:(237).

ص: 70

وفَرْضُ الغُسْل:

غَسْلُ فمِهِ وأنفِه

===

مضطربٍ في إسنادِه ومَتْنِه، فهو حديثٌ صحيحٌ معارِضٌ لحديث بُسْرةَ. وأمَّا ما قيل من أنَّ المُرادَ به المَسُّ بحائل: فرُدَّ بأن تعليله عليه الصلاة والسلام يأبَى ذلك.

قال بعضُ المحققين: إنَّ الحديثينِ لم يَسْلَما من الطعن فيهما، والحقُّ أنهما لا يَنزِلانِ عن دَرَجةِ الحُسْن، لكن يَترجَّح حديثُ طَلْق بأنَّ الرجال أقوى في الحال، لأنهم أحفظ وأضبطُ للأقوال.

وقد ثبَتَ عن عليّ، وعمَّار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وحُذَيفة ابن اليمان، وعِمران بن الحُصَين، وأبي الدَّرْداء، وسعدِ بن أبي وقاص: أنهم كانوا لا يَرون النقضَ منه، وإن رُوِيَ النَّقضُ عن غيرهم كعُمَر، وابنِه، وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن خالد، وأبي هريرة، وعبد الله بن عَمْرو بن العاص، وجابر، وعائشة رضي الله عنهم، ذكره ابنُ الهُمَام.

وفي «شرح الآثار» للطَّحاوي: لا نعلمُ أحداً من الصحابة أفتَى بالوضوء مِنْ مَسّ الذَّكَر إلا ابن عُمَر، وقد خالفَهُ في ذلك الأكثرُ فتأمَّل وتدبَّر، فإنه على تقدير تساويهما إذا تعارَضَا تساقَطَا، والأصلُ عدَمُ النَّقْض. وإنْ سَلَكْنا طريقَ الجمع جُعِلَ مَسُّ الذَّكَر كنايةً عما يَخْرُج منه، وهو من أسرار البلاغة، يَسكتون عن ذِكر الشيء وَيرمزون عليه بذِكرِ ما هو مِنْ رَوَادِفه، فلما كان مَسُّ الذَكر غالباً يُرادِفُ خروجَ الحدَثِ منه ويُلازِمُه، عُبِّر به عنه، كما عَبَّر الله سبحانه بالمجيء من الغائط عما يُقْصَد الغائطُ لأجله ويَحُلُّ فيه، فيَتَطابَقُ طريقا الكتابِ والسُّنَّة

(1)

. وكذا الخِلافُ في مَسّ الدُّبُر.

(فَرْضُ الغُسْلِ)

(وفَرْضُ الغُسْلِ) بالضمّ أي الاغتسالِ (غَسْلُ فمِهِ وأنفِهِ) بالفتح مصْدَرُ غَسَلْتُ. وبه قال أحمَدُ في أقوى الروايتين.

وقال مالك والشافعي: غَسْلُهما سُنَّة في الغُسْل كالوضوء.

فهما فَرْضَان كما قدَّمنا. ولنا في الفَرْقِ بينهما أنَّ المأمورَ به في الوضوء غَسْلُ الوجه، وهو ما تَقع به المواجهَةُ ولا مواجهة

(2)

بداخلِ الفمِ والأنفِ، والمأمورَ به في الجَنَابة غَسْلُ جميعِ البدَن على وجهِ المبالغةَ لقوله تعالى: {وإنْ كنتُم جُنُباً

(1)

وقع في الأصول: "فيتطابق طريق الكتاب والسنَّة". والتصويب من فتح القدير: 1/ 49.

(2)

في المطبوعة: "وهو ما تقع به المواجهة، وليست بداخل الفم

"، والمثبت من المخطوط.

ص: 71

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

فاطَّهَّرُوا}

(1)

. فما في غَسلِه حَرَجٌ كداخلِ العين: يَسْقُط، وما لا حَرَجَ فيه: يَبْقى. وداخِلُ الفمِ والأنفِ ممَّا لا حَرَج فيه. وأيضاً يُغْسَلانِ عادةً وعِبادةً: نفلاً في الوضوء، وفرْضاً من النجاسة الحقيقية، فشَمِلَهُما نَصُّ الكتاب، والله تعالى أعلم بالصواب.

وأمَّا استدلالُهما

(2)

بقوله عليه الصلاة والسلام كما رواه أبو داود عن عمَّارٍ، ومُسْلِمٌ عن عائشِةَ:«عَشْرٌ من الفِطْرةِ» وعَدَّ منها المضمضةَ والاستنشاقَ: فمدفوعً بأنَّ كونَهما من الفِطرة لا يَنفِي وجوبَهما، لأنها الدِّينُ، وهو أعمُّ منه فلا يعارضه، قال الله تعالى:{فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عليها}

(3)

، ووَرَدَ «كلُّ مولودٍ يُولَد علَى الفِطرة»

(4)

.

وروى الدارقطني عن أبي هريرة لكن بسند ضعيف جدّاً أنه عليه الصلاة والسلام جَعَل المضمضةَ والاستشناقَ فريضةً للجنب، وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام «جَعَل المضمضةَ والاستنشاقَ للجُنُب ثلاثاً فريضةً»

(5)

. وقد انعقد الإِجماعُ على إخراج اثنتين منها عن الفَرْض فيَبْقَى مرَّةٌ واحِدة.

وأمَّا ما في «الهداية» من أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إنهما ـ يعني المضمضةَ والاستنشاقَ ـ فَرْضانِ في الجنابة، سُنَّتانِ في الوضوء» ، فلا أصْلَ له. وروى أبو حنيفة عن عثمان بن راشد، عن عائشة بنتِ عَجْردَ، عن ابن عباس فيمن نَسِيَ المضمضةَ والاستنشاقَ قال: لا يُعِيدُ إلاَّ أن يكون جُنُباً. وبمثلِهِ يُترَكُ القياسُ، وإن ادَّعى الشافعيُّ أنَّ عثمان وعائشة الراويين غيرُ معروفين ببلدِهما، إذ عدَمُ معرفتِهِ بحالهما لبُعْدِ عهدهِ بينهما: لا يَنْفي معرفةَ مَنْ أَخَذَ عنهما.

وفي «الظهيرية» : من اغتَسَل وبين أسنانه طعامٌ لا بأس به، لأنَّ ما بين الأسنانِ رَطْبٌ فيَصِلُ الماءُ إلى ما تحته. وقال الأستاذ الإِمام عليٌّ البَزْدَوِي: يَجِبُ عليه غَسْلُ ذلك الموضعِ، ويَنْبغِي أن يُحمَل الأوَّلُ

(6)

على حالِ تخلخله، والثاني

(7)

على عَدَمِهِ.

(1)

سورة المائدة، آية:(6).

(2)

يعني الإمامين: مالكًا والشافعي.

(3)

سورة الروم، آية:(30).

(4)

أخرجه البخاري (فتح الباري) 3/ 245 - 246، كتاب الجنائز (23)، باب ما قيل في أولاد المشركين (92)، رقم (1385).

(5)

في المخطوطة، والمطبوعة:"في الجنب". والتصويب من سنن الدارقطني 1/ 115، كتاب الطهارة، باب ما روي في المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة، رقم (3).

(6)

أي كلام "الظهيرية".

(7)

أي كلام البزدوي.

ص: 72

وكلِّ البَدَن.

[سننُ الغُسْل]

وسُنَنُهُ: أنْ يَغسِل يديه وفرْجَهُ، ويُزيلَ النجاسةَ،

===

ولو نَسِيَ المضمضمةَ ثم شَرِبَ ماءً وأتَى على جميع فمِهِ أجزأه وإلاَّ فلا. والدَّرَنُ اليابِسُ في الأنفِ كالخُبْزِ الممضوغِ والعجينِ يَمْنَع.

(وكلِّ البَدَنِ) أي وغَسْلِ جميع بَدَنه مرَّةً واحدةً مْستوعِبَةً للشَّعر والبَشَرة لقولِهِ عليه الصلاة والسلام: «تحتَ كلِّ شَعْرةٍ جنابةٌ، فبُلُّوا الشَّعر، وأَنْقُوا البَشَرَ» رواه أبو داود والترمذي. وقولِهِ عليه الصلاة والسلام: «مَنْ تَرَك شَعْرةً مِنْ جسَدِهِ ولم يَغسِلها فُعِلَ به كذا وكذا مِنْ النار» . قال علي كرَّم الله وجْهَهُ: فمِنْ ثَمَّ عادَيْتُ شَعْري وكان يَجُزُّه. كذا رَوَى في «الإِمام» .

فيَجِبُ غَسْلُ السُّرَّةِ وفَرْجِ المرأةِ الخارجِ، وداخِلِ القُلْفَة

(1)

عند بعض المشايخ. ولو كان في الأُذُن ثَقْبٌ فإن كان فيه قُرْطٌ وظنَّ أن الماء لا يصِلُ إلا بتحريكِه حُرِّكَ، وإنْ لم يكن فيه قُرْطٌ فإن كان لا يَصِلُ الماءُ إليه إلا بالتكلُّف ارتكبه، وإنْ كان بحالِ إنْ أمرَّ الماءَ عليه دَخَل وإن لم يُمِرَّ لم يَدْخُل: أمَرَّ الماءَ، وأجزأه كالسُّرَّةِ، لا سِيَّما بالنسبة إلى السِّمَان، ولا يَتكلَّفُ بإدخالِ شيءٍ، ولا يَضُرُّ ما يَنْتَضِحُ مِنْ غُسْلِه في الإِناء، بخلافِ ما إذا قَطَرَ فيه كلُّه أو أكثَرُه.

(سُنَنُ الغُسْلِ)

(وسُنَنُهُ) وفي نسخةٍ: سُنَّتُه، أي يُسَنُّ في الغُسْل (أنْ يَغْسِل يديه) أي إلى رُسْغَيْه أوَّلاً، لأنهما آلةُ التطهير (وفَرْجَهُ) لأنه مظِنَّة النجاسة، فيَشْمَل قُبُلَه ودُبُرَه، وإن اختَصَّ في اللغةِ بالقُبُل.

(ويُزيلَ النجاسَةَ) أي الحقيقيَّة عن بَدَنِه إن كانت عليه، لئلا تَشِيع بإسالةِ الماء. ولا يُغْنِي ذِكرُها عن ذِكْرِ الفَرْج كما ظَنَّه شارحُ «الكنز»

(2)

، لأنَّ تقديم غَسْلِه ها هنا سُنَّةٌ وإن لم يكن فيه نجاسة كتقديم الوضوءِ حتى مَسْحِ الرأس على الصَّحيح، وهو ظاهِرُ الرواية. لقولِ ميمونَةَ:«توضَّأ وضوءه للصلاة»

الحديث كما سيأتي

(3)

، وإن

(1)

القُلْفة: الجلدة التي تقطع من ذكر الصبي. النهاية 4/ 103.

(2)

أي الإِمام الزيلعي صاحب "تبيين الحقائق" حيث قال: وكان يغنيه أن يقول "ونجاسة" عن قوله "وفرجه"، لأن الفرج إنما يغسل لأجل النجاسة. تبيين الحقائق 1/ 14.

(3)

في الصفحة التالية.

ص: 73

ثم يَتوَضَّأَ إِلَّا رِجْلَيه، ثم يُفيضَ الماءَ على بَدَنِهِ ثلاثًا، ثم يَغْسِلَ الرِّجْلينِ لا في المُسْتنْقَع. ويَكفي لذاتِ الضَّفيرةَ أن يَبْتلَّ أصلُها.

===

رَوَى الحَسَنُ عَدَمَه، لأنَّ غَسْلَه لا بُدَّ منه.

(ثمَ يتوَضَّأ، إِلاَّ رِجْلَيهِ) هذا الاستثناء ثابتٌ في بعض النسخ، فهو متَّصِل أي يَغْسِلُ أعضاءَ وضوئِه، أو يستكملُ أجزاءَه

(1)

إلا غَسْلَهما فإنه يُؤَخَّرُ إلى آخِر الأمر.

(ثمَّ يُفِيضَ الماءَ على بَدَنِهِ ثلاثاً، ثم يَغْسِلَ الرِّجْلينِ لا في المُسْتَنْقَع) بصيغة المفعول، أي مُجْتَمَعِ الماءِ المستعْمَل، بل إنْ كان اغتسالُهُ في مكانٍ يَجْتَمِعُ فيه الماءُ غَسلَ رِجْليه في مكانٍ آخَر، وإنْ كان في مكانٍ لا يَجْتَمِع فيه الماءُ كما لو اغتسل على لوْحٍ أو حجَرٍ أو قُبْقَابٍ غسَلَ رِجْليه فيه.

وثُمَّ في المواضع الثلاث للتراخي في الرتبة مع الإِيماء إلى الترتيبِ، وإلى جوازِ المُهْلة، فإنَّ الموالاة ليسَتْ بشرطٍ عندنا. وكان الأولى أن يَعطفَ بالواوِ أو الفاءِ فإنه أخصرُ وأظهرُ.

وأصْلُ ذلك ما روى أصحابُ «الكتب الستة» عن ابن عباس قال: حدَّثَتْنِي خالتي ميمونَةُ قالتْ: أدْنَيْتُ ـ أي قرَّبْتُ ـ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم غِسْلَهُ من الجنابة ـ بكسر الغين أي ما يُغْتَسَلُ به ـ فغسَلَ كفَّيه مرَّتَيْنِ أو ثلاثاً، ثم أدخَلَ يدَهُ في الإِناءِ، ثم أفرَغَ على فَرْجهِ وغَسَلَه بِشمالِهِ، ثم ضَرَب بِشمالِهِ الأرضَ فدَلَكَها دَلْكاً شديداً، ثم تَوضَّأَ وُضوءَه للصلاة، ثَم أفْرَغَ على رَأسِهِ ثلاث حَفَنات، كلُّ حَفنةٍ مِلءَ كَفَّيْه، ثم غَسَل سائرَ جَسَدِه، ثم تَنَحَّى عن مَقامِه ذلك فغَسَل رِجْليه، ثم أتيتُهُ بالمِنْدِيلِ فَردَّه.

ثم كيفيةُ الصَّبّ أن يُفِيضَ على مَنْكِبِهِ الأيمنِ ثلاثاً، ثم الأيسر ثلاثاً، ثم على سائرِ جَسَدِه، أو يَبْدَأَ بالرأس، وهو الأظهرُ، لحديثِ ميمونة وغيرِها من عِدَّةِ أحاديث أوردها البخاري في «جامعه» .

(ويكفي لذاتِ الضَّفِيرَة) أي لصاحبةِ الشَّعر المضفور (أن يَبْتلَّ أصلُها) أَي أصلُ الضفيرة. وفيه إشعارٌ بأنه لا يجبُ عليها بَلُّ ذوائبها وعصْرُها كما قال بعض المشايخ، والصحيحُ: أنه يجبُ غَسْلُ الذوائب وإن جاوَزَت القدمين

(2)

. ثم المرادُ بالابتلالِ هذا: هُوَ وصولُ الماءِ إلى أُصولِ الشعر، حتى لا يَكفي الابتلالُ الحاصِلُ بالمسح، لكن في

(1)

في المطبوعة والمخطوطة: "يستعمل"، والمثبت من الجزء الذي حققه الشيخ عبد الفتاح أَبو غدة رحمه الله تعالى، 1/ 86.

(2)

الراجح في المذهب عدم وجوب غسل الذوائب، بل يُكتفى بإيصال الماء إلى أصول الشعر. راجع فتح القدير 1/ 52، تبيين الحقائق 1/ 14، رد المحتار على الدر المختار 1/ 103.

ص: 74

[مُوجِبات الغُسْل]

وموجِبُه: إِنزالُ مَنِيّ ذي دَفْقٍ ......................

===

«المُلتَقط» : أنه إذا لم يُصِب الغُسْلُ بعضَ البدنِ فمسَحَه بيده حتى ابتلَّ جسَدُه كلُّه أجزأه.

واحتَرَز بذاتِ الضفيرة عن ذي الضفيرة، فإنه يجبُ عليه نَقْضُها في الصحيح. وأمَّا إذا كانت الضفيرةُ منقوضةً فيجِبُ إيصالُ الماء إلى أثناءِ الشعر كما في اللِّحية لعدمِ الحرج.

وإنَّما لا يجبُ عليها نَقْصُ ضفيرتِها لما روى الجماعةُ إلا البخاري: عن أمّ سَلَمة قالت: قلتُ: يا رسول الله إني امرأةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رأسِي أفأنقُضُه لغُسْلِ الجنابة؟ وفي روايةٍ للحَيْضةِ والجنابة؟ فقال: «لا، إنما يَكفِيكِ أن تَحْثِي على رأسِكِ ثلاثَ حَثَيَات ثم تُفيضي عليك الماءَ فتطهُرِي» .

والضَّفْرُ بفتحٍ وسكون، وقيل بضَمّهما.

ولِمَا في أبي داود من أنهم استَفْتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «أمَّا الرَّجُلُ فليَنْشُرْ رأسَه فليَغْسِل حتى يَبْلُغَ أصولَ الشَّعر، وأمَّا المرأةُ فلا عليها أن تَنْقُضه، لِتغْرِفْ على رأسِها ثلاثَ غَرَفاتٍ بكَفَّيْها» ، وفي روايةٍ لمسلم عنها: أفأنْقُضُه للحَيْضةِ والجنابة؟ قال: «لا» .. الحديث. لكن روى الدارقطني عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا اغتسلت المرأةُ مِنْ حَيْضِها نقضَتْ شعرَها نقضاً وغسلته بخِطْمِيَ وأُشْنان

(1)

، فإذا اغتسَلتْ مِنْ الجنابة صبَّتْ على رأسِها الماءَ وعصرَتْه».

وأوجَبَ مالك الدَّلْكَ في الغسل كما في الوضوء. وأوجَبَه أبو يوسف في الغُسل، ووَجْهُهُ ما في آية الغُسل من المبالغة.

(مُوْجِبَات الغُسْلِ)

(ومُوجِبُهُ) بكسر الجيم، أي سبَبُ وجوبِه أي فرضيَّتِه، فإنَّ المُوجِبَ الحقيقيَّ هو الله سبحانه (إِنزالُ مَنِيّ) أي نُزولُه وخروجُه. وهو مِنْ المرأةِ: رقيقٌ أَصفَرُ. ومِن الرَّجُل: غليظٌ أبيَضُ رائحته كرائحة الطَّلْع

(2)

(ذي دَفْقٍ) وفي بعض النسخ: ذي قُوَّة،

(1)

الخطمي: شجرة من الفصيلة الخُبَّازية، كثيرة النفع، يُدق ورقُها يابسًا، ويُجعل غسلًا للرأس، فينقيه، القاموس الفقهى ص 118. الأُشْنَان: شجر ينبت في الأرضِ الرملية، يستعمل هو أو رماده في غسل الثياب والأيدي. القاموس الفقهي ص 20.

(2)

الطَّلْع من النخل شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان. القاموس المحيط ص 961، مادة (طلع).

ص: 75

وشهوةٍ عند الانفصال، وغَيْبَةُ حَشَفَةٍ

===

أي دَفقٍ وغَلَبة

(وشهوةٍ) أي ذي شهوة، وكأنه عطفُ تفسير (عند الانفصال) أي انفصال المَنِيِّ عن الظَّهْر، حتى لو أَنزَل مِنْ غير شهوةٍ، بأن حَمَل شيئاً ثقيلاً أو ضُرِبَ على ظهره، فسبَقَه المنيُّ، لا غُسْلَ عليه.

وقال مالك والشافعيُّ: عليه الغُسْلُ لِمَا روى مسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخُدْري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّما الماءُ من الماء» . أي الغُسْلُ من المنيِّ واجبٌ، إذ هو خِطابٌ جارٍ مَجرى الأمر.

ولنا قولُه تعالى: {وإنْ كنتم جُنُباً فاطَّهَّروا}

(1)

والجُنُبُ من قَضَى شهوته، لأنَّ الرجل إذا قَضَى شهوتَه مِنْ المرأةٍ جانَبَها. والحديثُ محمولٌ على الخروج بشهوة، لأنَّ اللام فيه للعهد الذهني، أي الماءُ المعهودُ وهو الخارج عن شهوة، كيف وهو مُتناوِلٌ لماءٍ لا يُوجب الغُسْلَ كالمَذْي ونحوِه، ورُبَّما يأتي على أكثرِ الناس جميعُ عُمرُه ولا يرى هذا الماء مجرّداً عن شهوة، إذْ حُصولُه إنما يكون بضَربٍ على الصُّلْبِ ونحوِه. على أنَّا نَمْنَعُ وجودَ مَنِيّ بلا شهوة، ألا تَرى إلى تفسير عائشة المَنِيَّ بأنه أبيَضُ ثَخِينٌ يَنكسِرُ منه الذَّكَر؟

(2)

وانكسارُهُ لا يكون إلا مِنْ شهوة، كذا ذكره بعضُ المحقَّقين. وفيه بحثٌ لا يَخْفَى على المدقِّقين.

وقال أبو يوسف: لا بُدَّ من بقاءِ الشهوة عند خروج المنيّ مِنْ ذَكَرِه. واكتفَيَا بوجودِها عند انفصالِها من الصُّلبِ احتياطاً، مع الاتفاقِ على أنه لا يجبُ الغُسْلُ إذا انفصَلَ عن مقَرِّه من الصُّلب بشهوةٍ إلا إذا خَرَج على رأس الذَّكَر. وتَظَهر ثمرتُهُ فيمن استَمْنَى بكفّه

(3)

وأمسَك ذَكَره حتى سكنَتْ شهوتُه فخرج المنيُّ بلا شهوة، وفيمن اغتَسَل قَبْلَ البولِ والنومِ والمشيِ ونحوِها، ثم خَرَج منه بقيَّةُ المنيّ حيث يَلزمُه الغُسلُ عندهما خلافاً له. وقولُهما أحوطُ كما لا يَخفى.

(وغَيْبَةُ حَشَفَةٍ) وهي ما فوقَ موضعِ الخِتان من رأس الذَّكَر، أو قَدْرُها إذا كانت

(1)

سورة المائدة، الآية:(6).

(2)

قال الشيخ عبد الفتاح رحمه الله: "التفسير المنسوب إلى عائشة رضي الله عنها غير واردٍ بهذا اللفظ إطلاقًا". "فتح باب العناية" 1/ 92.

(3)

ولم يتعرض الشارح هنا لحكم الاستمناء بالكف، وسيذكره في كتاب الصوم، فصل فيما يفسد وما لا يفسده ص 534، وخلاصته أنه لا يجوز الاستمناء إن قصد قضاء الشهوة، أما إن أراد تسكين ما به من الشهوة فلا بأس. وانظر لمزيد تفصيل "رد المحتار" 2/ 100، و"حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح" ص 437.

ص: 76

في قُبُلِ أو دُبُر، على الفاعلِ والمفعولِ به،

===

مقطوعةً ولو مِنْ مقطوع الأُنثَيْين

(1)

(في قُبُلٍ أو دُبُر) وإنما لم يَقُل: والتقاءُ الخِتانَينِ كما في الحديث الآتي، لأنه لا يَتناول الدُّبُر، ولأنَّ الحاصِلَ في القُبل أيضاً ليس بالتقاءٍ حقيقةً وإنما هو محاذاةٌ، لأنَّ ختان المرأة أعلى الفرجِ فوقَ مخرجِ البول، ومحلُّ الوطء أسفَلُه. والخِتانُ سُنَّةٌ للرجل تكرِمةً لها، إذْ جِماعُ المختون ألذّ. وفي «نَظْم الفقه»: سُنَّةٌ فيهما غير أنه لو تركه يُجبَرُ عليه إلا مِنْ خشية الهلاك، ولو تركَتْه هي لا.

(على الفاعلِ) وهو ظاهرٌ، لأنَّ الحدَّ واجبٌ عليه اتفاقاً (والمفعولِ به) أمَّا عند أبي يوسف ومحمدٍ فلأنه لمَّا وجَبَ عليه الحدُّ الذي يُحتاط في تركِهِ ففي

(2)

الغُسْل الذي يُحتاط في فعِله أولى. وأمَّا عند أبي حنيفة فلأنَّ الاحتياطَ في الحَدّ تَرْكُه وفي الغُسل فِعلُه.

وقالت الظاهرِيَّةُ: لا يجب الغُسْل بدون الإِنزال لِمَا في «الصحيحين» عن أُبَيّ بن كعب قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرَّجُل يُصيبُ من المرأة ثم يُكسِلُ؟ فقال: «يَغْسلُ ما أصابه مِنْ المرأة، ثم يَتوضَّأُ ويُصلِّي» . يُقال: أَكْسَلَ الرجلُ في الجماع: إذا خالَطَ أهلَه ولم يُنزل.

ولنا ما روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: اختلَفَ رَهْطٌ من المهاجرين والأنصار فقال الأنصاريُّون: لا يجبُ الغُسل إلا من الدَّفْق أو مِنْ الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالَطَ فقد وجَبَ الغُسل، وقال أبو موسى: أنا أَشْفِيكُم مِنْ ذلك، قال: فاستأذنتُ على عائشة فأُذِنَ لي فقلتُ: يا أُمَّاهُ إِني أُريد أَنْ أسألكِ عن شيءٍ وأَنا أستحييك، قالت: لا تَسْتَحْيِي أن تسألَنِي عمَّا كنتَ سائلاً عنه أُمَّك التي ولدَتْك فإنَّما أنا أُمُّك، قلتُ: فما يُوجِبُ الغُسْلَ؟ قالتْ: على الخَبِيرِ سقطتَ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا جَلَسَ

(3)

بين شُعَبِهَا الأربع

(4)

، ومَسَّ الخِتانُ الخِتانَ فقد وَجَبَ الغُسْلُ».

وفي «مُسنَد عبد الله بن وَهْب» أنه قال عليه الصلاة والسلام: «إذا التَقى الخِتَانانِ وغابَتْ الحشَفَةُ وجَبَ الغُسلُ أَنزَل أو لم يُنْزِل» . ولفظُ ابنِ أبي شيبة في «مُصنَّفه» : و «توارَتْ الحشَفَةُ» . وفي الترمذيِّ وابنِ ماجه عن عائشة رضي الله عنها:

(1)

أي الخصيتين

(2)

في المخطوطة: "يحتاط في تركه، فلأن يجب الغسل الذي

".

(3)

في المطبوعة والمخطوطة: "إذا جلس أحدكم"، والمثبت من صحيح مسلم 1/ 271، كتاب الحيض (3)، باب نسخ الماء من الماء

(22)، رقم (87 - 348).

(4)

شعبها الأربع: اليدان والرجلان. النهاية 2/ 477.

ص: 77

ورُؤيةُ المستيقِظِ المَنِيَّ أو المَذْيَ،

===

«إذا جاوَزَ الخِتانُ الخِتانَ وجَبَ الغُسْلُ، فعلتُهُ أنا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاغْتَسلْنا» .

ولا يُعارِضُهُ قولُه صلى الله عليه وسلم «إنَّما الماءُ مِنْ الماءِ» لما روى أبو داود والترمذي وصحَّحه أنَّ الفُتْيَا التي كانوا يُفتُون ـ إنما الماءُ مِنْ الماءِ ـ كانتْ رُخصةً رَخَّصها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ أمَرَ بالاغتسال، وفي روايةٍ:«ثم أمَرَنا» ، فهذا مُصَرِّحُ بالنَّسْخ، ولأنَّ الماءَ موجودٌ فيه تقديراً لأنه سبَبُ الإِنزال، إذ الغالبُ في مِثلِه الإِنزال، وهو مُتَغيِّبٌ عن بَصَرِه، فأُقِيم السبَبُ الظاهرُ ـ وهو الالتقاءُ ـ مُقامَ الإِنزال احتياطاً، وما ذكرناه مأثورٌ، لأنَّ هذا الفعلَ أُقِيمَ مُقامَ الإِنزال في حقِّ وجوبِ الحَدِّ، فلأنْ يقومَ مَقامَهُ في وجوب الغُسل أولى. وبهذا احتَجَّ عليّ رضي الله عنه على الأنصارِ فقال: تُوجِبُون الرَّجْمَ ولا تُوجِبُون صاعاً من الماء.

ثمَّ السببيَّةُ موجودةٌ على الكمالِ في الإِيلاج في الدُّبُر لكونه سبباً لخروج المنيّ غالباً كالإِيلاج في القُبُل لاشتراكهما في دواعي الإِنزال، ويجبُ على المفعولِ به وإن لم يكنْ سبباً لنزول مائه احتياطاً لوجوب الغُسل.

ثمَّ مُطلَقُ الإِيلاج في الآدمي يتناوَلُ الذَّكَرَ في القُبُلِ والدُّبُرِ وإيلاجَ الإِصبع، وفي إيلاج الإِصبعِ الدُّبُرَ خلافٌ في إِيجابِ الغُسْل

(1)

.

(ورُؤيةُ المستيقِظِ) أي عِلمُهُ ليَدْخل الأعمى. والرؤيةُ تُستعمل في معنى العلم باتفاقِ أهل اللغة، ومنه: رأيتُ اللهَ أكبرَ كلِّ شيء. (المَنِيَّ) بالنصب على المفعولية (أو المَذْيَ) بفتح الميم فسكون معجمة، وبكسر المعجمة وتشديد الياء: ما يَخرجُ من الرجل عند الملاعبةِ مع أهله. وهو ماءٌ رقيقٌ يَضرِبُ إلى البياض. وأمَّا ما يَخرجُ من المرأةِ فيُسمَّى القَذَى بفتح القاف والذال المعجمة. يَعنِي إذا استيقَظَ النائمُ فوجَدَ بَللاً، فإن كان مَنِيّاً يجبُ عليه الغُسلُ تذكَّرَ احتلاماً أو لم يتذكَّر، وكذلك إن كان مَذْياً.

وقال أبو يوسف: لا غُسْلَ عليه إن رأى مَذْياً ولم يتذكَّر احتلاماً، لأنَّ خُروجَ المَذْي موجب

(2)

للوضوءِ لا للغُسْلِ حالَ اليقَظَة، فبالحَرِيّ

(3)

أن لا يُوجِبَ في المنام، وبه أخَذَ خلَفُ بن أيُّوب وأبو الليث لكونِه أقيس.

(1)

والمختار أنه لا يجب الغسل، وأفاد كلامه أنه لا خلاف في وجوب الغسل بإيلاج الأصبع في القُبُل، والظاهر أن فيه خلافا، والمختار عدم وجوب الغسل منه أيضًا. أفاده الشيخ عبد الفتاح رحمه الله وانظر "رد المحتار" 1/ 112.

(2)

في المطبوعة: "يوجب" بدل "موجب".

(3)

في المخطوطة: "فبالأحرى".

ص: 78

وانقطاعُ الحيضِ والنِّفاسِ، لا وَطْءُ بهِيمةٍ بلا إنزالٍ. وسُنَّ للجُمُعَةِ، .....

===

ولهما ما روى أبو داود والترمذي: عن عائشة قالتْ: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرَّجُل يَجدُ البَلَل ولا يَذْكُر احتلاماً؟ قال: «يَغتَسِلُ» ، وعن الرَّجُل يَرى أنه قد احتَلم ولا يَجِدُ البَلَل؟ قال:«لا غُسْلَ عليه» . فقالت أمُّ سَلَمة: يا رسول الله قالمرأةُ تَرى ذلك أعليها الغُسْلُ؟ قال: «نعم، إنما النِّساءُ شَقَائقُ الرجال» . ولأنَّ النوم مظِنَّةُ الاحتلام فيُحمَل عليه، ثم يُحتمَلُ أنه كان مَنِيّاً فرَقَّ بواسطةِ الهواء، والاحتياطُ لازمٌ في بابِ العبادات.

وإنَّما قيَّدَ بالمستيقِظِ، لأنه لو أفاق السَّكرانُ والمُغْمَى عليه فوجَدَا مَذْياً لا غُسْلَ عليهما، لأنه وُجِدَ سببُ خروجِ المذي وهو السُّكرُ والإِغماءُ، فيُحالُ عليه. وتوضيحُهُ: أنَّ المَنِيَّ لا بُدَّ له مِنْ سببٍ، وقد ظهر في النوم وإن لم يَتذكَّر احتلاماً لكونه مظِنَّتَهُ، فإنَّ راحة النوم تهيجُ الشهوةَ مع احتمالِ حدوثِ الرِّقَّة، فاعتُبِرَ مَنِيّاً احتياطاً، ولا كذلك المُغْمَى عليه والسَّكرانُ، لأنه لم يَظهر فيهما هذا السَّبَبُ.

(وانقطاعُ الحيضِ) لقوله تعالى: {ولا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطَّهَّرْنَ}

(1)

، بتشديد الطَّاء، أي يَغْتَسِلن، فإنَّ مَنْعَ الزوجِ من القِربانِ الذي هو حقُّه، وجَعْلَ الغُسْلِ غايةً لذلك المنع، دليلٌ على وجوب الغُسل. (والنِّفاسِ) للإِجماعِ والقياسِ على الحَيْضِ.

(لا وَطْءُ بهيمةٍ) أي لا يوجب الغُسْلَ

(2)

وطءُ دابَّةٍ، وكذا وطءُ ميتةٍ وصغيرةٍ لا تُشْتَهَى (بلا إِنزالٍ) لنقصانِ السَّببيَّة في اقتضاء الشهوة.

وقال مالك والشافعي: لا يُشتَرَطُ الإِنزالُ فيهما اعتباراً لهما بغيرهما.

(فيما يُسنَّ الغُسْلُ)

(وسُنَّ) أي الغُسْلُ (للجُمُعَة) بضمتين ويُسكَّنُ الميم، لِمَا روى أبو داود والترمذي والنسائي عن قتادة عن الحسن

(3)

عن سَمُرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من توضَّأ يومَ الجمعة فبِهَا ونِعْمَتْ، ومَنْ اغتَسَل فهو أفضل» . وهو مذهَبُ جمهورِ العلماءِ

(1)

سورة البقرة، آية:(222) قرأ شُعبة والأَخَوان: (حمزة، والكِسَائي)، وخَلَف، بفتح الطاء والهاء مع التشديد فيهما، وقرأ الباقون بسكون الطاء وضم الهاء مخفَّفة. "البدور الزاهرة" ص 49.

(2)

عبارة المطبوعة: "أي لا يوجب وطء دابة"، والمثبت من المخطوطة.

(3)

في المخطوطة والمطبوعة: "عن قتادة قال: قال رسول الله

"، والمثبت من سنن أبي داود 1/ 251، كتاب الطهارة (1)، باب في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة (128)، رقم (354). والترمذي 2/ 369، كتاب الجمعة (4)، باب ما جاء في الوضوء يوم الجمعة (5)، رقم (497)، والنسائي 3/ 105، كتاب الجمعة (14)، باب في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة (9)، رقم (1379).

ص: 79

والعِيدينِ والإِحْرَامِ وعَرَفة.

===

وفقهاءِ الأمصار في الأعصار

(1)

، وهو المعروفُ من مذهبِ مالكٍ وأصحابهِ الأبرار.

وقيل: إنه قال بوجوبه لظاهر قولهِ عليه الصلاة والسلام: «الغُسْلُ يومَ الجمعةِ واجبٌ على كلّ محتلِمٍ» أي بالغٍ، رواه مسلمٌ عن أبي سعيد الخُدْري.

وأجابوا عنه بأنَّ معنى واجب: متأكِّدٌ لازمٌ ثابت، جمعاً بين الحديثين. وقيل الأوَّلُ ناسخٌ للحديث الثاني، والدليلُ على تأخُّرِهِ ما رواه أبو داود: عن عِكْرِمة أن أُناساً من أهلِ العراق جاؤا فقالوا لابن عباس: أتَرَى الغُسْلَ واجباً يوم الجمعة فقال: لا، ولكنه أطهرُ وخيرٌ لمن اغتَسَل، ومن لم يَغْتَسِل فليس عليه بواجب، وسأُخبِرُكم كيف بَدْءُ الغُسْلِ؟: كان الناسُ مجهودِين يَلْبَسُون الصُّوفَ ويَعملون على ظهورهم، وكان مسجدُهم ضيِّقاً مُقارِبَ السَّقْف إنما هو عَرِيش، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في يوم حارّ وعَرِقَ الناسُ في ذلك الصُّوف

(2)

حتى ثارَتْ منهم رِياحٌ آذَى بذلك بعضُهم بعضاً، فلمَّا وجَدَ النبي صلى الله عليه وسلم تلك الرياحَ قال:«يا أَيُّها الناس إذا كان هذا اليومُ اغتَسِلوا، وليَمَسَّ أحدُكم أمثَلَ ما يَجِدُ مِنْ دُهنِه وطِيبه» . قال ابنُ عَبَّاس: ثم جاء اللهُ بالخير، ولَبِسُوا غيرَ الصُّوف، وكُفُوا العَمَل، ووُسِّعَ مَسجِدُهم، وذهَبَ بعضُ الذي كان يُؤذي بعضُهم بعضاً من العَرَق.

ثم هذا الغُسْلُ لليوم عند الحسن بن زياد، وللصلاةِ عند أبي يوسف وهو الأصحُّ، لقوله عليه الصلاة والسلام:«إذا جاء أحدُكُم الجمعةَ فليغتَسِلْ» . رواه الشيخانِ عن ابن عُمَر.

(والعِيدينِ والإِحرامِ وعَرَفة) أمَّا العِيدانِ وعرفة فلِمَا رَوَى ابنُ ماجه في «سننه» والطبرانيُّ في «معجمه» عن ابن عباس: أنه عليه الصلاة والسلام كان يَغتسِلُ يومَ العيدين. والبزَّارُ في «مسنده» من حديث الفاكِهِ بن سَعْد ـ وهو صحابي مشهور، ولا يُعرَفُ له غيرُ هذا الحديث ـ:«أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتَسِلُ يومَ الفِطرِ ويومَ النَّحْر ويومَ عَرَفة» .

وأمَّا الإِحرامُ فلِمَا روى الترمذي والدارقطني عن خارجة بنِ زيد بن ثابت عن أبيه: «أنه صلى الله عليه وسلم تجرَّدَ لإِهلالِهِ واغتَسَل» ، والمعنى أنه كان يَتَجرَّدُ لإِحرامِه ويَغتَسِلُ سواء كان حَجّاً أو عُمرة، فيُفيد المواظبةَ الدالةَ على كونِه سُنَّة.

(1)

قوله: "في الأعصار" زيادة من المخطوطة لم ترد في المطبوعة.

(2)

في المطبوعة والمخطوطة: "في تلك الصوف"، والتصحيح من الجزء الذي حققه الشيخ عبد الفتاح أَبو غُدة رحمه الله تعالى ص 100.

ص: 80

[أَقْسَامُ المِيَاهِ]

ويَتوضَّأُ بماءِ السماءِ والأرضِ،

===

ومن الفروع: أنَّ الجُنُبَ أولى بالماءِ المُباح إذا وجدَهُ ومعه حائض، أوْ وَمَعه مَيِّت، ويَتيمَّمُ الميِّتُ والحائضُ، وكذا مِنْ المُحدِث

(1)

.

(أقسام المياه)

(ويَتوضَّأُ) أي المتوضِّيءُ أو مُريدُ الصلاة، والأولى أن يُقرأ مجهولاً، ولو قال: يَتطهَّرُ لكان أعمَّ وأظهر (بماءِ السماءِ) كماءِ المطَرِ، والنَّدَى، والثَّلْجِ، والبَرَدِ الذائبَينِ لقوله تعالى:{ويُنَزِّلُ عليكم من السماءِ ماءً لِيُطهِّرَكُم به}

(2)

، (والأرضِ) أي وبمائِها من العيونِ والآبار والغُدْرانِ لقوله تعالى:{ألم تَرَ أنَّ اأَنزَل مِنْ السماءِ ماءً فَسَلَكَهُ ينابيعَ في الأرض}

(3)

. ومنها ماءُ البِحار لِمَا روى مالك وأصحاب «السُّنن الأربعة» : عن أبي هريرة: أنَّ رجلاً سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله إنا نركَبُ البحرَ ونحملُ مَعَنا القليلَ من الماء، فإنْ توضَّأْنا به عَطِشنا أفتوضَّأُ من البحر؟ فقال عليه الصلاة والسلام:«هو الطَّهُورُ ماؤه الحِلُّ مَيْتَتُهُ» . صحَّحه الترمذيُّ وقالَ: سألتُ محمدَ بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: حديثٌ صحيح.

وروى أبو داود والترمذي من حديث الخُدْري قيل: يا رسول الله أنتوضَّأ من بِئرِ بُضَاعَةَ ـ وهي بِئْر تُلْقَى فيها الحِيَضُ ـ أي خُروقُها ـ ولحومُ الكِلابِ والنَّتْنُ ـ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الماءُ طَهُور لا يُنجِّسُه شيءٌ» ، وحسَّنَه الترمذي وصحَّحه ابنُ القطَّان، وكذا قال الإِمامُ أحمد: هو حديثٌ صحيح، فحينئذٍ يُستدَلُّ بالقَدْرِ الصحيحِ على طَهُوريَّة الماء، وبالإِجماع على تنجُّسه بتغير وصفه بالنجاسة. وأمَّا أنه لا يتنجَّسُ إلا إذا تغيَّرَ كما قال مالك فلا، إذْ لا يمكنُ الاستدلالُ عليه بصدر الحديث وهو قولُهُ:«لا يُنَجِّسُه شيء» ، إذ الإِجماعُ على تنجُّسه بالتغيُّرِ: يُفِيدُ أنَّ ظاهره غيرُ مراد، على أنَّ ماءها كان جاريًا في البساتين كما رواه الطحاوي بسنده عن الواقدي.

(1)

إنما كان الجُنُب أولى بالماء من المُحدِث لأن الجنابة أغلظ من الحدث، وكان أولى به من الحائض أيضًا لإمكان تيممها واقتدائها به دون إمكان اقتدائه بها، ولأن اقتداء المتيمم بالمتطهر أفضل من عكسه، وكان أولى به من الميت أيضًا بسبب أنه يؤدي به ما كُلِّف به من صلاة وقراءة، فاحتياجه إليه أكثر من الميت الذي يمكن أن يُيمَّم للصلاة عليه. وهذا كله فيما إذا كان الماء يكفي للغُسل، أما إذا كان لا يكفي إلا للوضوء، فالمحدث أولى به من الباقي. أفاده الطحطاوي في حاشيته على "الدر المختار" 1/ 133، ونحوه في "رد المحتار" 1/ 169، أفاده الشيخ عبد الفتاح أبو غُدة رحمه الله تعالى.

(2)

سورة الأنفال، آية:(11).

(3)

سورة الزمر، آية:(21).

ص: 81

وإِنْ تَغيَّرَ بالمَكْثِ، أو اختَلَط به طاهِرٌ، إِلا إِذا أَخرَجَهُ عن طَبْع الماءِ،

===

(وإِنْ تَغيَّرَ) أي لَونُهُ وطَعْمُهُ وأنْتَنَ (بالمَكْثِ) بفتح الميم أي طُولِ اللَّبْث، وهو مصدَرُ مَكَثَ بفتح الكاف وضمِّها، والاسمُ منه المُكْثُ بضّم الميمِ وكسرِها، وذلك لبقاءِ اسمِ الماءِ عليه.

(أو اختَلَط به طاهر) كالأُشْنانِ

(1)

والزَّعْفَرانِ والصَّابونِ والوَرَقِ الواقعِ في المياه زمانَ الخريف، لأنْ النبي صلى الله عليه وسلم اغتَسَل يومَ الفتح من قصعةٍ فيها مِنْ أثَرِ العجين. رواه النسائي، والماءُ بذلك يتغيَّر. ومِمَّا يَدُلُّ على ذلك ما رواه الشيخانِ عن ابن عباس: أنَّ رجلاً كان واقفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقَصَتْهُ ناقتُهُ ـ وفي روايةٍ: فأوْقَصَتْه، وفي أخرى: فأقْصَعَتْهُ ـ أي كَسَرَتْ عُنُقَهُ وهو مُحْرِم فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اغسِلُوهِ بماءٍ وسِدْر

(2)

، وكَفِّنوهُ في ثَوْبَيْه، ولا تُحَنِّطُوه، ولا تُخَمِّرُوا رأسَهُ، فإِنَّ الله عز وجل يَبْعَثُه يوم القيامة مُلَبِّياً». وليس في الحديث أنَّ الماء أُغلِيَ بالسِّدْرِ كما ذكره صاحبُ «الهداية» .

وأمَّا تغطيةُ رأسِ المُحْرِم وتَطْييبُهُ حال موتِهِ عندنا فمأخوذٌ من دليلٍ آخَرَ يأتي في محلّه، والميِّتُ لا يُغسَلُ إلا بما يَجوزُ للحيّ أن يَتطهَّرَ به. وروى مالك في «الموطَّأ» من حديث أُمّ عَطِيَّة قالتْ: دَخَلَ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تُوفِّيَتْ ابنتُهُ فقال: «اغسِلْنَها ثلاثاً أو خمساً أو أكثَرَ من ذلِكِ بماءٍ وسِدْر، واجْعَلْنَ في الآخِرَةِ كافوراً، أو شيئاً من كافور

»، الحديثَ. والغَسْلُ بالماءِ والسِّدْر لا يُتَصَوَّرُ إلا بخَلطِ السِّدْرِ بالماءِ أو بوَضْعِهِ على الجَسَد وصَبّ الماءِ عليه، وكيفما كان فلا بُدَّ من الاختلاطِ والتغيُّرِ، فيكونانِ مما لا يَضُرُّ.

(إِلاَّ إِذا أَخرَجَهُ) أي الطاهِرُ أو اختلاطُهُ (عن طَبْع الماءِ) وهو الرِّقَّةُ والسِّيَلانُ بأن غلَبَ الطاهِرُ المُخالِطُ على الماء. والصحيحُ أنه لا يُعتَبرُ غلبةُ اللون كما قال به محمد، بل يُعتبَرُ الأجزاءُ كما قال به أبو يوسف، ونُقِلَ بالعكس عنهما، فكان لهما روايتان.

وقال مالك والشافعي: لا يُرْفَعُ الحَدَثُ بماءٍ غالبٍ على شيءٍ طاهرٍ كأُشنانٍ وزَعْفَران، مع الاتفاق على أنَّ الماءَ المُطَلقَ يُزيلُ الحدَثَ، وأنَّ المُقَيَّد لا يُزِيل، إذ الحُكُم منقولٌ إلى التيمّم عند فَقْدِ المُطَلق فى النَّصّ. والخِلافُ في الماءِ الذي خالطَهُ الأشنانُ ونحوُه مَبنِيٌّ على أنه هل تَقَيَّدَ بذلك أَمْ لا؟ وقالا: تقيَّدَ به، لأنه ماءُ الزعفران.

(1)

مر التعريف به ص 75، التعليقة رقم (1).

(2)

السدر: نوعان: أحدهما ينبت في الأرياف فينتفع بورقه في الغسل وثمرته طيبة، والآخر ينبت في البر ولا ينتفع بورقه في الغسل. المصباح المنير ص 103، مادة (سدر).

ص: 82

أو غَيَّرَهُ طَبْخًا، وهو مما لا يُقصَدُ به النَّظافةُ. وإِن اختَلَطَ به نَجَسٌ، فإن كان جاريًا أو عَشْرًا في عَشْر،

===

ونَحنُ لا نُنكِرُ أنه يُقالُ ذلك، ولكن لا يَمتنع مع ذلك ما دام الخَالِطُ مغلوباً أن يقول القائلُ فيه: ماء، من غيرِ زيادة، كما في ماء المَدِّ

(1)

والسَّيلِ حالَ غلبةِ لونِ الطِّينِ عليه. وإضافتُهُ إليه للتعريف كإضافته للبئر أو للعَيْن، لا للتقييد كماء البِطِّيخ. والفَرْقُ بين الإِضافتين عدَمُ صِحَّةِ نفي الماءِ في الأُولى وصحَّتِهِ في الثانية، فحيثُ لم يَصِحَّ النَّفيُ ـ وقيل الإِطلاق ـ كان مُطلَقاً ولَزِمَهُ حُكْمُه من إزالة الحُكمية شرعاً، إذْ زَوالُهُ بارتفاعه، وهو بأن يَحْدُثَ له اسمٌ على حِدَة، ولزومُ التقييدِ يَندرجُ فيه، وإنما يكونُ ذلك إذا كان الماءُ مغلوباً، إذْ في إطلاقه على المجموع حينئذٍ يكون اعتبارُ الغالبِ عَدَماً، وهو عكسُ الثابتِ لغةً وعرفاً وشرعاً.

(أو غَيَّرَهُ) أو إذا غيَّرهُ الخالِطُ الطاهِرُ (طَبْخاً) أي مِنْ جهةِ الطبخ، لأنه حينئذٍ ليس بماءٍ مطلقٍ لعدم تبادُرِهِ عند إطلاقِ اسمِ الماء، ولا مَعْنِيَّ

(2)

بالمطلق إلا ما يَتبادَرُ عند إطلاقه (وهو) أي الطَّبْخُ بمعنى المطبوخ (مما لا يُقصَدُ به النَّظافةُ) جملةٌ حالية، وقيَّدَهُ به لأنه لو كانت النظافة تُقْصَدُ به كالسِّدْرِ والأُشنانِ يُطبَخُ بالماءِ: فإنَّه يُتوضَّأُ به، إلا إذا أَخرَجَ الماءَ عن طَبْعِه.

(وإِن اختَلَطَ به) أي بالماء (نَجَسٌ) بفتح الجيم، ويجوزُ كسرُها، إذ المتنجِّس لا يخلو عن النجاسة، فتُفهَمُ عينُها بالأَولى.

(فإن كان) أي الماءُ (جارياً): إِمَّا حقيقةً وهو ما يَعُدُّه الناسُ جارياً، وقيل: ما لا يتكرَّرُ استعمالُه، أو: ما يَذَهَبُ بِتِبْنةٍ. وألحقوا بالجاري حَوْضَ الحَمَّام إذا كان الماءُ يَنْزِلُ مِنْ أعلاه، حتى لو أُدخِلَتْ القصعة النجِسةُ فيه لا يتنجَّسُ. وإِمَّا حُكماً كما أشار إليه بقوله:

(أو عَشْراً في عَشْر) وبه قال عامَّةُ المشايخ، وعليه الفتوى. كما قال أبو الليث. وقيل: ثمانٍ في ثمانٍ، و: اثْنَيْ عَشَر في اثْنَيْ عَشَر.

وفي «الهداية» وغيرها: تُعتَبَرُ بذراعِ الكِرْباسِ

(3)

توسعةً على الناس، وهو سَبْعُ مُشْتات

(4)

، ليس فوق كل مُشْت إِصْبَعٌ قائمة. وفي «الخانيَّة»: يُعتَبَرُ ذراعُ المَساحة، لأنه أليَقُ بالممسوحات، وهو سَبْعُ مُشْتات، فوقَ

(1)

المَدُّ: السّيل. القاموس المحيط، ص 406، مادة (مد).

(2)

في المخطوطة: "نَعْنِي" بدل "مَعْنيّ".

(3)

الكِرباس: ثوب من القطن الأبيض. القاموس المحيط ص 73، مادة (الكرباس). والمراد هنا ذراع القُمَاش، لا ذراع المساحة.

(4)

المُشْت: قبضة الأصابع الأربع مضمومة. وهي لفظة فارسية. انظر الجزء الذي حققه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى من فتح باب العناية 1/ 108.

ص: 83

لا تَنْحَسِرُ أرضُه بالغَرْفِ: لا يَنْجَس،

===

كلِّ مُشْت إصْبَعٌ قائمة. وفي «المحيط» : الأصَحُّ أن يُعتَبَر في كلِّ زَمانٍ ومكانٍ ذراعُهُ.

وفي «شرح الوقاية» : إنما قدَّرنا الغَدِيرَ بعَشْر في عَشْر بناءً على قوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ حفَرَ بِئراً فله حَرِيمُها أربعون ذِراعاً»

(1)

فيكون له حَرِيمُها مِنْ كلِّ جانبٍ عَشَرةَ أذْرُع، ففُهِمَ مِنْ مَنْعِ غيرِ صاحب البئر عن حَفْرِ بئرٍ في العَشْر لانجذاب الماء إلى ما يَحفِرُه، ومِن عَدَمِ منعِهِ عن الحَفْر فيما وراء ذلك لعدم انجذاب الماءِ إليه، اعتبارُ العَشْرِ في العَشْر، هذا خُلاصَةُ كلامه. وفيه نظر، لأنَّ كونَ حَرِيم البئر عشرةَ أذرع مِنْ كلّ جانبٍ قولُ البعض، والصحيحُ أنه أربعون ذِراعاً من كلّ جانبٍ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في محلِّه

(2)

.

(لا تَنْحَسِرُ) أي لا تنكشف (أرضُه بالغَرْفِ) أي بالاغتراف بكفَ واحدٍ أو بكفَّينِ. وقيل: يُعتبَرُ تقديرُ عُمقه بذِراعٍ أَوْ شِبْر (لا يَنْجَس) بفتح الجِيم وضَمِّها، وهو مجزومٌ على جواب قوله: فإن كان، ويجوزُ رفعُهُ. أمَّا عدَمُ نجاسة الجاري، فإنَّ عدَمَ أثَرِ النجاسةِ دليلٌ على عدَمِ بقائِها، وأمَّا عدَمُ نجاسةِ العَشْر فى العَشْر فَلأَنَّه في معنى الجاري.

وكلامُ المصنِّفِ ظاهرٌ في عدَمِ نجاسةِ موضعِ وقوعِ النجاسة، وهو مرويٌّ عن أبي يوسف، وبه أخذَ مشايخُ بُخارَى وبَلْخ توسِعةً على الناس، إذا لم تكن النجاسةُ مَرْئيَّة. وفي «المبسوط» و «البدائع» و «المفيد»: أنَّه يَنْجُسُ، وإليه أشار القُدُوريُّ في «مختصره» بقوله: جازَ الوضوءُ مِنْ الجانبِ الآخَر، وعن أبي يوسف: أنه كالماءِ الجاري لا يَنْجُسُ إلاَّ بالتغيُّرِ، وهو الذي ينبغي تصحيحُه، فينبغي عليه عدَمُ التفرقةِ بين المَرْئيَّة وغيرِها، لِمَا روى الطَّحاويُّ عن جابرٍ وَأبي سعيدٍ قالا:«كنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ فانتهينا إلى غَدِيرٍ فيه جِيفَة، فكَفَفْنا وكفَّ الناسُ، حتى أتانا النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: «مالَكم لا تَسْتَقُون» ؟. فقلنا: يا رسول الله هذه جِيفةٌ، قال:«اسْتَقُوا فإنَّ الماءَ لا يُنَجِّسُهُ شيء، فاستقينا وارتوينا» .

ومِن الفروع: إذا وجَدَ الماءَ مُتَغيِّرَ اللونِ والريحِ يَتوضَّأ منه ما لم يَعلم أنه مِنْ نجاسةٍ، لأنَّ التغيُّرَ قد يكون لِطاهرٍ أو لمَكْثٍ.

واعلم أنَّ علماءنا اتَّفقوا على أنّ الغَدِيرَ العظيمَ في حكم الجاري، واختلفوا بماذا يُعتَبَر؟ فقال المتقدِّمون: بعدَمِ تحرُّكِ طَرَفِه عند تحريك الطَّرَفِ الآخَر، بأن لا يَنخفِضَ ويرتفعَ من ساعته. ثُمَّ عن أبي حنيفة رحمه الله: تحريكُ الاغتسال، لأنَّ الحاجة إلى

(1)

أخرجه ابن ماجه في سننه 2/ 831، كتاب الرهون (16): باب حريم البئر (22)، رقم (2486). بلفظ قريب.

(2)

في كتاب إحياء الموات.

ص: 84

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الحِيَاض فيه أشدّ

(1)

، وهو روايةٌ عن أبي يوسف، وعنه

(2)

تحريكُ اليَدِ توسعةً على الناس، وعن محمد تحريكُ التوضُّؤ، لأنه الوسَط، وهو روايةٌ عن أبي حنيفة. وفي «الغاية»: ظاهِرُ الرواية عن أبي حنيفة اعتبارُهُ بغلبة الظنّ، فإن غَلَبَ على ظنّ المتوضِّاء وصولُ النجاسة إلى الجانب الآخَر لا يتوضَّأ به، وإلا توضَّأ، قال: وهو الأصحّ. وقال أبو عِصْمة: كان محمدٌ يقدِّره بعَشْرٍ في عَشْرٍ، ثم رجَعَ إلى قول أبي حنيفة وقالَ: لا أُقدِّرِ فيه شيئاً. لكنَّ التقديرَ مختارُ ابن المبارك ومشايخِ بَلْخٍ وجماعةٍ من المتأخرِين. قال أبو الليث: وعليه الفتوى، وبه قال صاحبُ «الهداية» . ثم العِبرةُ بحالِ الوقوع، فإن نقَصَ بعده لا يَنجُسُ، وعلى العكس لا يَتطهَّر.

ولو كان الماءُ له طُولٌ وليس له عَرْضٌ، أو عُمقٌ بلا طُول، فالأصحُّ أنه إن كان بحالٍ لو ضُمَّ طُولُه إلى عَرْضِه يصيرُ عَشْراً في عَشْر يجوزُ الوضوءُ منه، ولا ينجُسُ بوقوع النجاسة فيه، لأنَّ اعتبارَ العَرْض يُوجِبُ تنجُّسَه، واعتبارَ الطُّولِ لا يُوجِبه، فوقع الشكُّ في تنجُّسِه، والأصلُ فيه هو الطهارةُ فيَبقَى طاهراً، وإن كان الحوض مُدوَّراً فقُدِّرَ بأربعةٍ وأربعين، وثمانيةٍ وأربعين، والمختارُ ستةٌ وأربعون في الأصل.

ويَتوضَّأ من الحوض الذي يَخافُ أن يكون فيه قذَرٌ ولا يَستيقنُهُ، وليس عليه أن يَسألَ ولا أن يدَعَ التوضُّؤَ منه حتى يَسْتيقن، لقولِ عُمَر رضي الله عنه حين سألَ عَمْرُو بنُ العاص صاحبَ الحوض: أَيَرِدُه السِّباعُ؟ ـ: يا صاحِبَ الحوضِ لا تُخْبِرْنَا. ذكره في «الموطَّأ» . ولا بأسَ بالوضوء مِنْ حُبَ

(3)

يُوضعُ كُوزُه

(4)

في نواحي الدار ويُشرَبُ منه، ما لم يَعلم أنه قَذر

(5)

. ويُكرَهُ للرجل أن يَستخلص لنفسه إناءً يَتوضَّأ منه ولا يَتوضَّأ من غيره. وقيل: التوضُّؤُ من الحوض أفضلُ من التوضُّؤ من النهر، لأنَّ أهلَ الاعتزالَ لا يَرون التوضُّؤَ من الحياض جائزاً، فنحن نتوضَّأ رغماً لهم. وفي «الواقعات» و «فتاوى أبي الليث»: أنَّ البول في الماء الجاري مكروه، وأمَّا البولُ في الماءِ الراكد فحرام.

ثم اعلم أنَّ الشافعي قَدَّرَه بقُلَّتينِ

(6)

، وهي خمسُ مئة رطلٍ بالعراقيّ، وقيل: ست

(1)

أي لأن الحاجة إلى الاغتسال في الحياض أشد من الحاجة إلى التوضؤ، لأن الوضوء يكون في البيوت عادة. أفادة الشيخ عبد الفتاح أبو غُدة رحمه الله تعالى.

(2)

أي عن أبي حنيفة.

(3)

الحُبُّ: الجرَّة، أو الضخمة منها. القاموس المحيط ص 91، مادة (حب).

(4)

الكوز: إناء بعُرْوة يشرب به الماء. المعجم الوسيط، ص 804، مادة (كوز).

(5)

أي متنجِّس.

(6)

القُلَّة: جرة بقدر ما يطيق الإنسان الموسط حملها لو مُلئت ماءً، والقلتان عند الشافعية تساوي:93.75 صاعًا = 160.5 لَترًا من الماء. معجم لغة الفقهاء ص 368.

ص: 85

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

مئة رطل، وقال: إذا بَلَغهما لم يَنْجُس إلا بالتغيُّرِ لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا بَلَغَ الماءُ قُلَّتَينِ لم يَحمِل الخَبَث» . رواه أصحاب «السنن الأربعة» عن ابن عُمَر، وفي روايةٍ أخرى لأبي داود:«فإنه لا يَنْجُسُ» ، وأخرجه ابنُ خُزَيمة والحاكمُ في «صحيحيهما» .

قلنا: ضعَّفَه جماعةٌ، منهم الحافظُ ابنُ عبد البَرّ، والقاضي إسماعيلُ بنُ إسحاق، وأبو بكر بنُ العربي: المالكيُّون، وقال البيهقي: إنه ليس بالقويّ. وقد تَرَكه الغزاليُّ والرُّوْيَانيُّ مع شدَّةِ اتّباعِهما للشافعي، وعن أستاذِ البخاري عليِّ بنِ المَدِيني

(1)

أنَّه قال: لم يَثبُت حديث القُلَّتَين، ولأن ابن العباس وابن الزُّبَيْر أَمَرا بنزح ماء زمزم حين مات فيها الزُّنجيُّ، ولو كان هذا صحيحاً لاحتَجَّ به بقيَّةُ الصحابةِ والتابعين عليهما، فعُلِمَ أنه شاذٌّ في حادثةٍ تعُمُّ بها البَلْوَى، فيُرَدُّ، كخبرَ الوضوءِ مما مَسَّتْه النارُ.

ثم حديثُ القُلَّتين ضَعَّفه أبو داود أيضاً للاضطرابِ فى سَنَدِه وكذا فى مَتْنِهِ، ففي روايةٍ:«لم يُنَجِّسْه شيء» ، وفي روايةٍ:«لم يَحمِل الخَبَث» ، قال البيهقيُّ: وهو غريب، وفي روايةٍ:«إذا بَلَغ الماءُ قُلَّتَينِ أو ثلاثاً لم يُنَجِّسه شيء» ، وفي روايةٍ:«إذا بلَغَ الماءُ أربعين قُلَّةً فإنه لا يَحمِلُ الخَبَث» . وضعَّفَه الدَّارقُطْنيُّ وذَكَر أنَّ جماعةً رَوَوْا عن ابن عُمَر موقوفاً: «إذا بلَغَ الماءُ أربعين قُلَّةً لم يَنْجُس» . وفي روايةٍ: «لم يُنَجِّسه شيء» . وفي أُخرى: «لم يَحمِل خَبَثاً» . قال الدارقطنيُّ: ورَوَى غيرُ واحدٍ عن أبي هريرة فقالوا: «أربعين غَرْباً»

(2)

، ومنهم من قال:«أربعين دَلْواً» .

وهذا الاضطرابُ يُوجبُ الضعفَ وإن وُثِّقَ الرجال، مع ما فيه من الاضطراب في معناه أيضاً حيث قيل: معنى لم يَحمِل خَبَثاً أنه يَضْعفُ عن حَمْلِ النجاسة فيتنجَّس، كما يُقال: هو لا يحمِلُ الكَلَّ، أي لا يُطيقه. وأيضاً القُلَّةُ مشتركةٌ بين الجَرَّةِ والقِرْبةِ ورأسِ الجَبَل.

وأمَّا قولُ الشافعي في «مسنده» : أخبرني مُسلِمُ بن خالد الزنجيُّ، عن ابنِ جُرَيْج بإسنادٍ لا يَحضُرني: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان الماءُ قُلَّتينِ لم يَحمِل خَبَثاً» ، فمُنقطِعٌ للجهالة، وفي روايةِ ابن عَدِيّ، عن ابن عُمَر مرفوعاً:«إذا كان الماءُ قُلَّتينِ مِنْ قِلالِ هَجَر لم يُنجِّسه شيء» ، ويُذْكَرُ أنهما فَرَقان، والفَرَقُ: بفتح الراء سِتَّةَ عَشَرَ رطلاً، كذا في «مُجمَل اللغة»

(3)

. وقال ابنُ جُرَيج: رأيتُ قِلالَ هَجَر، فالقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ أو قِرْبَتَينِ

(1)

في المطبوعة والمخطوطة: "المدني" وهو تحريف.

(2)

الغَرْبُ: الدلو العظيمة. مختار الصحاح ص 197، مادة (غرب).

(3)

مجمل اللغة 3/ 718.

ص: 86

إِلا إِذا غيَّر طعمَهُ أو لونَهُ أو ريحَهُ، وإن لم يكن، يَنْجُسْ. ولا بأسَ بموتِ مائيِّ المَوْلدِ، ولا بِمَوتِ ما ليس له دَمٌ سائل.

===

وشيئاً. وقال الشافعيُّ: فالاحتياطُ أن يُجْعَلَ قِرْبَتَيْنِ ونصفاً. لكن قال ابنُ عَدِيّ: قولُهُ في مَتْنِه: «مِنْ قِلالِ هَجَر» غيرُ محفوظٍ، لا يُذكَرُ إلاَّ مِنْ روايةِ مُغِيرة بن سِقْلاب يُكنَى أبا بِشْر، مُنكَرُ الحديث. وروى ابنُ عَدِيّ عنه عن ابن عُمَر مرفوعاً:«إذا كان الماءُ قُلَّتينِ لم يُنَجِّسه شي» . والقُلَّةُ أربعةُ أَصْوُع. هذا خلاصَةُ ما ذكَرَ ابنُ الهُمَام من تلخيص ما ذكره الشيخ تقيُّ الدين بن دقيق العِيد في «الإِمام» ، وقد أفرده الناسُ بالتصنيف.

واعتَبَر مالكٌ أوصافَ الماءِ قليلاً كان الماءُ أو كثيراً، لقولِهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الماء طاهِرٌ إلا أن يتغيَّرَ ريحُهُ أو طعمُهُ أو لونُهُ بنجاسةٍ تَحْدُثُ فيه»

(1)

، وقولِهِ:«إنَّ الماءَ طَهورٌ لا يُنجِّسُه شيء»

(2)

.

قلنا: الحديثُ الأوَّلُ غيرُ قويّ كما ذكره البيهقي. والثاني ليس على إطلاقه لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يَبُولَنَّ أحدُكم في الماءِ الدائم ولا يَغْتَسِلَنَّ فيه من الجنابة» ، أو:«ثُمَّ يَغْتَسِل منه» أو: «فيه» كما هو رواية «الصحيحين» . فلو لم يكن مُفْسِداً للماءِ لما كان للنهي عنه فائدة.

(إِلا إِذا غيَّر طعمَهُ أو لونَهُ أو ريحَهُ) يتعلَّقُ بالماءِ الجاري وماءِ الحوض جميعاً، فإنه إذا اختلَطَ النَّجَسُ بأحدِهما وغيَّرَ أحدَ أوصافِه الثلاثةِ يَصِيرُ نَجِساً. (وإِن لم يكن) الماءُ جارياً ولا عَشْراً في عَشْرٍ على الوجه المذكور (يَنْجُسْ) ذلك الماءُ لوقوع النجاسة فيه قليلةً كانت أو كثيرة.

(ولا بأسَ بموتِ مائيِّ المَوْلدِ) وهو ما يَتولَّدُ في الماء، كالسَّمَكِ والضِّفْدَعِ والسَّرَطان (ولا بموتِ ما ليس له دَمٌ سائل) كالبقِّ والذُّبابِ والخُنافسِ

(3)

لقوله صلى الله عليه وسلم «يا سَلمانُ كلُّ طعامٍ وشرابٍ وقعَتْ فيه دابَّةٌ ليس لها دَمٌ سائل فماتتْ فيه فهو حلالٌ أكلُه وشُرْبُه ووضوؤه» رواه الدارقطنيُّ وقالَ: لم يَرفعه إلا بَقِيَّةُ عن سَعِيد بن أبي سَعِيد الزُّبَيدِي وهو ضعيف. انتهى. وأعلَّه ابنُ عَدِيّ بجهالةِ سعيد، ودُفِعَا بأنَّ بَقيَّةَ هذا هو أبو الوليدِ رَوَى عنه الأئمةُ مثلُ الحمَّادَينِ، وابنِ المبارك، ويزيدَ بن هارون، وابنِ عيينة،

(1)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" 1/ 260.

(2)

أخرجه أبو داود في السنن 1/ 54 - 55، كتاب الطهارة (1)، باب ما جاء في بئر بضاعة (34)، رقم (66). والترمذي 1/ 95 - 96، كتاب الطهارة (1)، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء (49)، رقم (66).

(3)

الخُنْفُسَاء: حشرة سوداء، منته الريح. المعجم الوسيط ص 259، مادة (خنفس).

ص: 87

ولا يَتوضَّأ بماءٍ اعتُصِرَ، ولا بماءٍ استْعْمِلَ لقُرْبةٍ أو رَفْعِ حدَثٍ.

===

ووكيعٍ، والأوزاعيِّ، وإسحاق بن رَاهُويَه، وشُعْبةَ، وناهِيك بشعبة واحتياطِه، قال يحيى: كان شُعْبة مُبَجِّلاً لبقيَّةَ حين قَدِمَ بغداد، وقد رَوَى له الجماعةُ إلا البخاريَّ. وأمَّا سعيدُ ابنُ أبي سعيد هذا فذكره الخطيب قال: واسمُ أبيه: عبدُ الجبَّار، وكان ثقةً فانتفت الجهالة، والحديثُ مع هذا لا يَنْزِلُ عن الحَسَن.

ولقوله صلى الله عليه وسلم «إذا وقَعَ الذُّبابُ في شرابِ أحدِكم فليَغْمِسْه ثم لِيَنْزِعْه فإنَّ في أَحَدِ جناحَيه داءً وفي الآخَرِ شفاءً» رواه البخاري، وزاد أبو داود:«وإنه يَتَّقي بجَناحِه الذي فيه الداء» ، وفي روايةِ ابن ماجه والنَّسائي: «وإذا وقع في الطعام فامْقُلُوه

(1)

فيه، فإنه يُقدِّمُ السُّمَّ ويُؤخِّرُ الشّفاءَ». ولولا أنَّ موتَه فيه لا بأسَ به لم يَأْمُر صلى الله عليه وسلم بغَمْسِه الذي هو في العادة سبَبٌ لموته. قال ابنُ المُنذِر: ولا أعلمُ في ذلك خلافاً إلا ما كان من أحَدِ قولي الشافعي.

ثم إطلاقُ المصنِّفِ يقتضي أنه لا فَرْقَ بينَ الموتِ في الماء والإِلقاءِ فيه بعد الموت، ولا بينَ الماءِ وباقِي المائعات، وهو الصحيحُ. وهذه المسألة داخلةٌ فيما قبلها لأنَّ ما يَعيشُ في الماءِ لا دَمَ فيه، ذكَره ابنُ الهُمَام. وفيه نَظَر، إذ المُرادُ به غيرُ مائيِّ المَوْلِد بقرينةِ المقابلة، على أنه قد يكون مائيَّ المَوْلِد وله دمٌ سائل كالخِنزيرِ المائيّ والكلب المائيّ، فإنَّ الأصحَّ أنه لا بأسَ به كما في «الهداية» و «الكافي». ولا يَبْعُدُ أن يكون مائي المَوْلِد مطلقاً: مما ليس له دَمٌ سائل. وعلامتُهُ أنَّ دمه إذا أُلقِي في الشمس لم يَسودَّ بل يَبْيَضُّ.

(ولا يَتوضَّأُ) أي ولا يَرفَعُ الحدَثَ (بماءٍ اعتُصِرَ) يجوز قَصْرُ ألف الماءِ ومَدُّها، أي بماءٍ اعتَصَرَهُ الخالقُ أو المخلوقُ من شجر أو ثمر، لأنه ليس بماءٍ مُطلَق. والشَّجَرُ يَعُمُّ ما نبتَ من الأرض، كان له ساقٌ أوْ لا. والثَّمَرُ يَشمَلُ البَذْرَ والحُبوبَ. (ولا بماءٍ استُعْمِلَ لقُرْبةٍ) واجبةٍ أو مندوبةٍ كالوضوء (على الوضوء)

(2)

، أو أُرِيدَ بها أن يَنوِيَ الوضوءَ حتى يصيرَ عبادةً (أو رَفْعِ حدَثٍ).

والحاصِلُ: أنَّه

(3)

عند أبي حنيفة وأبي يوسف كلٌّ مِنْ رفعِ الحدثِ والتقرُّبِ،

(1)

أي اغمِسوه. يقال: مَقَلْت الشيءَ أمْقُلُه مَقْلًا: إذا غَمَسْتُه في الماء ونحوه. النهاية 4/ 347.

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(3)

أي سبب استعمال الماء.

ص: 88

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وعند محمد التقرُّبُ

(1)

كان معه رَفْعٌ أوْ لا، وعند زُفَر الرَّفْعُ

(2)

كان معه تقرُّبٌ أوْ لا. وإنما حصَرَ محمدٌ الاستعمالَ بالقُربة لأنه إنما هو بانتقالِ نجاسة الذُّنُوب إليه، كما ورد في الحديثِ الدالِّ عليه

(3)

، وذا لا يكون إلا بِنيَّةِ القُربة لديه.

ووافَقَنا الشافعيُّ في الجديد خلافاً لمالك، لأنه ماءٌ طاهر لاقَى محلاً طاهراً فيَبقَى على حاله، كما لو غَسَل به ثوباً طاهراً، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«الماءُ طاهرٌ إلا أن يتغيَّرَ ريحُه أو لونُه أو طعمُه بنجاسةٍ تَحدُثُ فيه» . لكنَّ الحديثَ غيرُ قوي، كما تقدَّم عن البيهقي

(4)

.

واعلم أنَّ كلامَ المصنِّف دالٌّ على حُكم الماءِ المستعمَل بعدم التوضّوء به، وليس بدالَ على حُكمِه بالطهارةِ أو عَدَمِها، فنقول: لم يُثبِتْ مشايخُ العراقِ خلافاً بين الأئمةِ الثلاثةِ

(5)

في أنَّ الماءَ المستعمَل طاهرٌ غير طَهُور، وأثبَتَهُ مشايخُ ما وراءَ النهر، واختلافَ الرواية

(6)

: فعن أبي حنيفة في رواية الحَسَن عنه ـ وهو قولُه ـ: أنه نَجِسٌ نجاسةً مغلَّظة، وعن أبي يوسف وهو روايةٌ عن أبي حنيفة: أنه نَجِسٌ نجاسةً مخفَّفة، وعن محمد وهو روايةٌ عن أبي حنيفة وهو الأقَيسُ: أنه طاهرٌ غيرُ طَهُور، واختار هذه الروايةَ المحقِّقون من مشايخِ ما وراءَ النهرِ وغيرِهم، وهو ظاهِرُ الرواية، وعليها الفتوى.

أمَّا دليلُ النجاسة فما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يَعْتَسِلَنَّ أحدُكم في الماءِ الدائم وهو جُنُب» ، مع ما رواه أيضًا عن جابر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يَبُولَنَّ أحدُكم في الماءِ الراكدِ» ، وفي «سنن أبي داود»: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَبُولَنَّ أحدُكم في الماءِ الدائم ولا يَغْتَسِلَنَّ فيه مِنْ الجنابةِ» . ووَجْهُ الدلالةِ أنه صلى الله عليه وسلم

(1)

هكذا جاء في غير كتاب، ولكن قال الإمام شمس الأئمة السَّرَخْسِي في "المبسوط" 1/ 53:"هذا المذهب غير محفوظ عن محمد نصًّا، ولكن الصحيح - أي عند محمد - أن إزالة الحدث بالماء مفسد للماء - أي يجعله مستَعْمَلًا ولو من غير قصد القُربة - إلا عند الضرورة كما ذكروه في الجُنب يُدخل يده في الإناء وفي البئر لطلب الدلو"، أفاده الشيخ عبد الفتاح أبو غُدة رحمه الله تعالى.

(2)

أي حصول رفع الحدث، سواء كان بنية من المتوضئ أم بغير نية.

(3)

وهو: "إذا توضأ العبد المسلم - أو المؤمن - فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء - أو مع آخر قطر الماء - فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء - أو مع آخر قطر الماء - فإذا غسل رجليه خرج كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء - أو مع آخر قطر الماء. حتى يخرج نقيًا من الذنوب". أخرجه مسلم 1/ 215 كتاب الطهارة (2)، باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء (11)، رقم (32 - 244).

(4)

ص 144.

(5)

أي أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد.

(6)

أي وأثبتوا اختلاف الرواية.

ص: 89

[أحْكَامُ الدِّبَاغةِ]

وكلُّ إِهابٍ دُبغَ طَهَرَ

===

سوَّى في النهي بينَ البولِ في الماءِ والاغتسالِ فيه، لكنَّ أبا يوسف قال بالتخفيف لاختلافِ العلماء.

وأمَّا دليلُ الطهارة فما روى البخاري عن جابر قال: ممَرِضْتُ فأتاني النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما ماشيانِ، فوجَدَاني قد أُغمِيَ عليَّ، فتوضَّأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَه عليَّ، فأفَقْتُ فقلتُ: يا رسول الله كيف أصنَعُ في مالي؟ كيفَ أقضِي في مالي؟ فلم يُجِبني بشيء، حتى نزلَتْ آيةُ الميراث»، وروى البخاري أيضاً من حديثِ أبي جُحَيفَة قال: «أَتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو في قُبَّةٍ حَمْراءَ من أَدَم

(1)

، ورأيتُ بلالاً أخَذَ وَضُوءَ النبي صلى الله عليه وسلم (ورأيتتُ الناسَ يَبْتَدِرِون ذاك الوَضوءَ، فمَنْ أصاب منه شيئاً تمسَّحَ به، ومن لم يُصِبْ منه شيئاً أخَذَ من بَلَلِ يَدِ صاحِبِهِ»

(2)

.

وفي «المحيط» : لو أَدَخَلَ الجُنبُ يدَهُ في الماءِ لا يَضُرُّه

(3)

استحساناً، لأنه ربما لا يُمكنه استعمالُ الماءِ إلا بالاغترافِ منه، فسَقَطَ اعتبارُه دفعاً للضرورة

(4)

.

(أَحْكَامُ الدِّبَاغَةِ)

(وكلُّ إِهابٍ) وهو الجلْدُ قبل الدِّباغِ (دُبِغَ) أي بما يَمنعُ النَّتْنَ والفسادَ كالقَرَظِ

(5)

والعَفْصِ

(6)

والتَّتْرِيبِ والتشميسِ والإِلقاءِ في الريح، لا بمجرَّدِ التجفيف (طَهَرَ) لما روى ابنُ خُزَيمة في «صحيحه» ، والحاكمُ وصحَّحه، والبيهقيُّ في «سننه» وصحَّحه: عن ابن عباس قال: أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يَتوضَّأ من سِقاءٍ فقِيل له: إنه مَيْتة، فقال:«دِباغُهُ يُزِيلُ خَبَثَه» أو «نَجَسَه» أو «رِجْسَه» . ولما في «سنن الترمذيِّ» : وصحَّحه، والنسائيِّ وابنِ

(1)

أي جلد. القاموس المحيط ص 1389، مادة:(الأدمة).

(2)

أخرجه البخاري (فتح الباري) 1/ 485، كتاب الصلاة (8)، باب الصلاة في الثوب الأحمر (17)، رقم (376). وما بين الحاصرتين منه.

(3)

أي لا يجعله مستَعْمَلًا.

(4)

أي سقط اعتبار ذلك الماء مستعملًا، فبقي طاهرًا مطهرًا مع إدخال الجُنُب يده فيه، ومع سقوط الحدث عنها. أفاده الشيخ عبد الفتاح أبو غُدة رحمه الله تعالى.

(5)

القَرَظ: حب معروف يخرج في غُلُف كالعدس من شجر العضاه. وبعضهم يقول: القرظ: السَّلَم يُدبغ به الأديم - الجلد - وهو تسامح، فإن الورق لا يدبغ به، وإنما يدبغ بالحب. المصباح المنير ص 19. مادة (قرظ).

(6)

العفص: ثمر معروف كالبندقة يدبغ به. المغرب في ترتيب المعرب: 2/ 64، مادة (عفص).

ص: 90

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ماجه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيُّمَا إهابٍ دُبِغَ فقد طَهَرَ» ، وفي «صحيح مسلم»:«إذا دُبِغَ الإِهابُ فقدَ طَهَرَ» .

وفي «الصحيحين» : عن ابن عباس قال: تُصدِّقَ على مولاةٍ لميمونة بشاةٍ فماتَتْ، فمَرَّ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال:«هَلاَّ أخذتُم إهابَها فدَبَغْتُموه؟» ، زاد مسلم:«فانتفعتُم به؟» فقالوا: إنها ميتة، قال:«إنَّما حَرُمَ أكلُها» ، وزاد الدارقطنيُّ:«أوَ ليسَ في الماءِ والقَرَظِ ما يُطهِّرها؟» ، وفي لفظٍ قال:«إنما حَرُمَ عليكم لَحْمُها، ورُخِّصَ لكم في مَسْكِها» أي جِلْدِها وفي لفظٍ: «إنَّ دِباغَهُ طَهُور» ، أخرَجَ هذه الألفاظَ في حديثِ ميمونة ثم قالَ

(1)

: وهذه الأسانيدُ كلُّها صِحاح. وفي أيمانِ البخاري مِنْ حديثِ سَوْدَةَ زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم قالتْ: «ماتَتْ لنا شاةٌ فدَبَغْنا مَسْكَها، ثم ما زِلنا نَنْبِذُ فيه

(2)

حتى صار شَنَّاً»

(3)

.

وقال مالك والشافعي بنجاسة جِلْدِ الميتة ولو دُبِغَ لما في «السنن الأربعة» : مِنْ حديث الحَكم بن عُتَيْبَة، عن عبدِ الرحمن بنِ أبي ليلى، عن عبد الله بن عُكَيْم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كَتَبَ إلى جُهَينَة قَبْلَ موتِه أن لا تَنتفعوا

(4)

من الميتة بإهابٍ ولا عَصَبٍ

(5)

، قال الترمذي: حديثٌ حَسَن، وعند أحمد: قبلَ موتِه بشهرٍ أو بشهرين، قال البيهقي: وجاء في لفظٍ آخَر قبلَ موتِه بأربعين يوماً.

وأُجِيبَ بأنَّ حديثَ ابنِ عُكَيْم لا يُوازِي حديثَ ابنِ عباس في جهة من جهاتِ

(1)

أي الدارقطني.

(2)

الانتباذ: يقال: نبذت التمر والعنب، إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذًا، وانتبذته: اتخذته نبيذًا، سواء كان مسكرًا أو غير مسكر. لسان العرب 3/ 511، مادة (نبد).

(3)

الشن: السقاء البالي. المغرب في ترتيب المعرب 1/ 455، مادة (شنن).

(4)

في المطبوعة والمخطوطة: "تنتفعن"، والمثبت من السنن الأربعة: أبو داود 4/ 371، كتاب اللباس (31)، باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة (39)، رقم (3128). والترمذي 4/ 194، كتاب اللباس (22)، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت (7)، رقم (1729). والنسائي 7/ 197، كتاب الفرع (41)، باب ما يدبغ به جلود الميتة (5)، رقم (4260). وابن ماجه 2/ 1194، كتاب اللباس (32)، باب من قال لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب (26)، رقم (3613).

(5)

العَصَب: قال ابن الأثير في "النهاية" 3/ 245: هي أطناب - أي أطراف - مفاصل الحيوانات، وهو شيء مدوّر، فكانوا يقطعونه ويجعلونه شبه الخرز، فإذا يبس يتخذون منه القلائد. انتهى. باختصار.

وقال اللَّكْنَوي في "السعاية" 1/ 415: "العَصَب: عضو أبيض شبيه بالعظم، ليِّن في الانعطاف، صُلْبٌ في الانفصال.

ص: 91

إِلا جِلدَ الخِنزِيرِ والآدَميّ.

===

الترجيح للاضطرابِ في مَتْنِه وسَندِه، وللاختلافِ في صُحْبَتِه كما ذكره النووي في «الخلاصة» ، وقال البيهقيُّ وغيرُه: لا صُحْبَة له، ولهذا رَجَعَ أحمدُ عن قوله به أوَّلاً حيث دَلَّ على أنه وقفَ آخِراً

(1)

.

قيل: وعلى تقديرِ مُساواتِه ليس بينهما مُعارَضَة، لأنَّ الإِهاب اسمٌ لغير المدبوغ، وبعدَ الدَّبغِ يُسمَّى أدِيماً وشَنَّاً، وأمَّا ما رواه الطبرانيُّ في «الأوسَط» مِنْ لفظِ هذا الحديث هكذا:«كنتُ رخَّصتُ لكم في جلودِ الميتة، فلا تَنْتفِعُوا من الميتة بجِلْدٍ ولا عَصَب» ففي سندِه فَضَالَةُ بن مُفَضَّل، مُضَعَّفٌ.

والحقُّ أنَّ حديثَ ابنِ عُكَيم ظاهِرٌ في النَّسْخ لولا الاضطرابُ، فإنَّ مِنْ المعلومِ أنَّ أحداً لا يَنتِفعُ بجلد الميتة قبلَ الدباغة، لأنه حينئذٍ مستقذَرٌ فلا يَتعلَّقُ به النَّهيُ ظاهراً.

ثم الدليلُ على حُصولِ الدِّباغةِ بالتشميسِ أو التَّتْرِيبِ ما في الدارقطني عن معروف بن حَسَّان، عن عَمْرِو بن ذَرَ، عن عُبَادة، عن عائشة قالَتْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اسْتَمْتِعُوا بجلودِ الميتة إذا هِيَ دُبِغَتْ، تُراباً كان، أو رَماداً، أو مِلْحاً، أوْ ما كان، بعد أن يَزِيدَ صَلاحُه» ، إلاَّ أنَّ أبا حاتم وابنَ عَدِي أنكرَا معروفاً. وروى أبو حنيفة، عن حمَّادٍ

(2)

، عن إبراهيم قال: كلُّ شيءٍ يَمْنَعُ الجِلدَ مِنْ الفسادِ فهو دِباغ

(3)

. إلا أنه إذا أصابَهُ الماءُ يعودُ نَجِساً في رواية، وفي أخرى: لا، وبها قالا، وهي الأظهر.

(إِلا جِلدَ الخِنزيرِ والآدَمِيّ) أمَّا جِلدُ الخِنزيرِ فلنجاسةِ عينِه لقوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فإنَّه رِجْسٌ}

(4)

.

والضميرُ للمضافِ إليه لقُرْبِه. فإن قيل: المضافُ إليه غيرُ مقصود ولا يعودُ الضميرُ إليهِ نحو لقيتُ ابنَ عُمَرَ وخَدَمْتُه. أُجِيبَ بأنَّ عَودَ الضمير إلى المضافِ إليه شائعٌ من غيرِ نكير، نحو قوله تعالى:{واشْكُروا نعمةَ اإن كنتُم إيَّاهُ تَعْبُدون}

(5)

. وجُوِّزَ الوجهان في قوله تعالى: {يَنْقُضون عَهْدَ اللهِ من بَعْدِ مِيثاقِهِ}

(6)

. ولأنَّ في صرفه إلى الخِنزِيرِ عملاً بهما

(7)

دونَ العكس فهو أحوط.

(1)

أي توقف عن العمل به آخرًا حين علم اضطرابه.

(2)

تحرف "حماد" في المطبوعة والمخطوطة إلى: "عمار"، والتصويب من "الآثار".

(3)

الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني ص 368، رقم (856).

(4)

سورة الأنعام، آية:(145).

(5)

سورة النحل، آية:(114).

(6)

سورة البقرة، آية:(27).

(7)

أي بالمضاف والمضاف إليه.

ص: 92

وما طَهَر جِلْدُه بالدِّباغِ طَهَرَ بالذَّكَاةِ، وكذا لَحْمُه وإِنْ لم يُؤكل، وما لا فلا. وشَعْرُ الميْتَة وسِنُّهَا

===

وأمَّا جِلْدُ الآدَمِيّ فلئلا يتجاسَرَ الناسُ على مَنْ كرَّمه اللهُ بابتذالِ أجزائه، ولأنه لا يجوزُ الانتفاعُ به لكرامتِه. وما لا يجوزُ الانتفاعُ به لا يُؤثِّرُ الدِّباغُ فيه

(1)

. وفي «المحيط» : الصحيحُ أنَّ عينَ الكلب ليس بنَجِس. وبه قال صاحبُ «الهداية» . وفي «المبسوط» : الصحيحُ من المذهب عندنا أنَّ عينَ الكلبِ نَجِسٌ

(2)

. وعند محمَّدٍ أن الفِيلَ كالخِنزِير، وعندهما كسائرِ السِّباعِ

(3)

لِمَا في «سنن البيهقي» : عن أنس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَمْتَشِطُ بمُشطٍ مِنْ عاجٍ. والعاجُ: نابُ الفِيل كما في «المُحْكَم» ، و: عَظْمُه كما في «الصِّحاح» .

(وما طَهَر جِلْدهُ بالدِّباغِ طَهَر) أي جِلْدُه المفهومُ من الجِلْدِ المضافِ إلى الضميرِ الراجعِ إلى ما، لا ما، فتأمَّل، (بالذكاةِ) الشرعيَّة، لأنها مانعةٌ من تَشرُّبِ الجِلدِ بالرطوبات، كما أنَّ الدِّباغة رافعةٌ للرطوبات. وقَيْدُ الشرعيَّةِ لإِخراجِ ذَبْحِ المَجُوسيِّ مطلقاً

(4)

والمُحْرمِ صَيْداً، فلا يَطْهُرُ بها الجلدُ، بل بالدَّبْغ، لأنها إماتة.

(وكذا لَحْمُه وإِنْ لم يُؤكل) لأنَّ الجلدَ يَطْهُر بالذكاة اتفاقاً، واللَّحمُ متَّصِلٌ به فلا يكون نَجِساً، وهو مُخْتارُ الكَرْخيِّ، وصاحبِ «الهداية» ، و «التحفة» ، وفي «المحيط»: وهو الصحيحُ من المذهب، وفي «البدائع»: وهو أقرَبُ إلى الصواب، لأنَّ النجاسة بالدَّمِ المسفوحِ وقد زالَ بالذكاة. وقال كثيرٌ من المشايخ: يَطْهُرُ جِلدُهُ بها ولا يَطْهُرُ لحمُه، كما لا يَطهُرُ بالدِّباغ. قال شارحُ «الكنز»: وهو الصحيحُ، واختاره صاحبُ «الغاية» و «النهاية» .

(وما لا) يَطْهُرُ جِلْدُه بالدِّباغ (فلا) يَطْهُرُ جِلدُهُ بالذكاة.

(وشَعْرُ الميتَة)

(5)

ورِيشُها، ووَبَرُها، وصُوفُها، وعَظْمُها (وسِنُّهَا) ومِنْقَارُها

(1)

قال في "الدر المختار" 1/ 136: وآدمي - أي جلده - فلا يدبغ لكرامته، ولو دبغ طهر وإن حَرُم استعماله. وقال ابن الهمام في "فتح القدير" 1/ 83: صرح في "الغاية" بأنه إذا دبغ جلد الآدمي طهر، لكن لا يجوز الانتفاع به كسائر أجزائه. وقولهما هو المحول عليه في المذهب خلافًا لما ذكره الشارح.

(2)

قال في "الدر المختار" 1/ 136:

وأفاد كلامه طهارة جلد كلب. وعلق عليه ابن عابدين بقوله: أما الكلب فبناءً على أنه ليس بنجس العين، وهو أصح التصحيحين.

(3)

وهو الأصح. انظر رد المحتار على الدر المختار 1/ 136.

(4)

أي سمى أو لم يُسَمِّ.

(5)

أي غير الخنزير.

ص: 93

وعَصَبُها طاهِرٌ. وكذا الإِنسانُ.

===

(وعَصَبُها) إذا يَبِسَ وذهَبَ لَحْمُهُ، وكذا ظِلْفُها

(1)

وحافِرُها وقَرْنُها (طاهِرٌ) وكذا لَبَنُها وبَيْضُها عند أبي حنيفة، إذا لم يكن على هذه الأشياءِ دُسومَةٌ، وبه قال مالك.

وقال الشافعي: كلُّ ذلك نَجِسٌ إلحاقاً للجُزْءِ بالكلِّ، ولِمَا تقدَّمَ

(2)

من حديثِ ابن عُكَيم: «لا تَنْتَفِعُوا من الميتة بإهابٍ ولا عَصَب» .

ولنا ما علَّقه البخاريُّ عن الزهريِّ: قال في عِظام المَوْتَى نحوِ الفِيل وغيرِه: أدركتُ ناساً مِنْ سَلَفِ العُلَماء يَمْتَشِطُون بها، ويَدَّهِنُون فيها، لا يَرَوْن به بأساً. وتقدَّمَ حديثُ أنس مرفوعاً عن البيهقي

(3)

. وأخرج الدارقطنيُّ عن عبد الجبَّار بن مُسْلم من حديثِ ابن عباس قال: إنما حرَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الميتةِ لحمَها، أمَّا الجِلْدُ والصُّوفُ والشَّعْرُ فلا بأس به. فإن قيل: عبدُ الجبَّار ضعَّفه الدارقطنيُّ؟ فالجواب أنَّ ابن حِبَّان وثَّقَه، فلا يَنْزِلُ حديثُه عن الحَسَن. وأخرَجَ أيضاً عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن قال: سمعتُ أمَّ سَلَمة زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم تقولُ: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا بأسَ بمَسْكِ الميتةِ إذا دُبِغَ، ولا بأسَ بصُوفِها وشَعرِها وقُرونِها إذا غُسِلَ بالماء» . فهذه عِدَّةُ أحاديثَ ولو كانتُ ضعيفةً حَسُنَ المتْنُ، فكيف ولها شاهدٌ في «الصحيحين» ؟

(4)

.

(وكذا الإِنسان) شعْرُهُ وعَظْمُه وعصَبُه: طاهِرٌ، لأنَّ هذه الأشياء لا تحلُّها الحياةُ لعدَمِ الحِسِّ الذي هو من خصائِصها، فلا تكون بانفصالها ميتة، ولأنه صلى الله عليه وسلم ناوَلَ شعرَهُ أَبا طلحة فقسَمَه بين الناس

(5)

. أمَّا لو نَتَفَ الشعرَ فيَنْجُس باعتبار طَرَفِه المُتَّصل بالجلدِ، وقيل: عَصَبُها نَجِسٌ في الصحيح، لأنَّ فيه حياةً بدليل تألُّمِه بالقطع، وقيل: طاهِرٌ لأنه غيرُ متَّصل.

(1)

الظِّلْف: للبقرة والشاة والظبي، كالحافر لغيرها. مختار الصحاح ص 170، مادة (ظلف).

(2)

ص 91.

(3)

ص 93، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُمتشط بمشط من عاج.

(4)

تقدّم صفحة 91 عن ابن عباس.

(5)

رواه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، 2/ 948، باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي

(56)، رقم (325 - 1305)، بلفظ: لمّا رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة ونحر نُسُكَه، وحَلَقَ، ناول الحالق شِقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري، فأعطاه إياه، ثم ناوله الشقَّ الأيسر فقال:"احلق"، فحلق، فأعطاه أبا طلحة فقال:"اقسمه بين الناس".

ص: 94

[أحْكَامُ الآبَارِ]

بِئرٌ فيها نَجَسٌ، أو مات حيوانٌ وانتَفَخَ أو تَفَسَّخَ، أو مات مثلُ آدَمِيٍّ أو شاةٍ: يُنْزَحُ كلُّ ماء فيها إِن أمكَنَ،

===

(أَحْكَامُ الآبَارِ)

(بِئْرٌ) بهمزةٍ ويُبْدَل ياءً (فيها نَجَسٌ) بفتحِ الجيم أو كسرِها، أي وقَعَ نجاسَةٌ، مِنْ بولٍ، أو خمرٍ، أو دمٍ، أو خِنزِيرٍ، أو مُتَنجِّسٍ قليلاً كان أو كثيراً (أو مات حيوانٌ وانتَفَخَ) أي تورَّم (أو تفسَّخَ) أي تقطَّعَ وتفرَّقَ صغيراً كان أو كبيراً (أو مات مثلُ آدِميَ، أو شاةٍ) أي كبيرةٍ، فإنها إذا كانت صغيرةً جداً فحكمُها حُكمُ الدَّجَاجة (يُنْزَحُ كلُّ ماءٍ) بهمزة في آخره (فيها) أي في البئر. وفي بعض النُّسَخ: كلُّ مائِها، أي في الصُّوَرِ المذكورةِ جميعِها (إِنْ أمكَنَ) نَزْحُ جميعهِ بأن لا تكونَ مَعِيْناً

(1)

.

أمَّا إِذا وَقَعَ فيها نجاسةٌ أو مات فيها حيوانٌ وانتفَخَ فلانتشارِ النجاسة في البئر، وأمَّا إِذا مات فيها مثلُ آدمِيّ، فلِمَا روى البيهقي والدارقطني واللفظُ له: عن ابنِ سِيرِينَ أنَّ زِنْجيّاً وقع في بئر زَمْزَم ـ يعني فمات ـ فأَمَر به ابنُ عَبَّاس فأُخرِجَ وأَمَرَ بها أن تُنْزَح، فغَلَبَتْهُم عينٌ جاءت من الرُّكْن، فأَمَر بها فدُسَّتْ بالقُبَاطيِّ والمَطارِفِ ونحوِها حتى نَزَحُوها، فلما نَزَحُوها انفجَرَتْ عليهم. وهو مُرسَلٌ، فإنَّ ابنَ سِيرِين لم يَرَ ابنَ عباس. والقُبَاطي بالضمّ ويُكسَر

(2)

: الثيابُ المصريَّة، والمَطارف: الأَرْدِيَة.

وروى الطَّحاويِّ وابنُ أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ عن عطاءٍ: أنَّ حَبَشيَّاً وقَعَ في زَمْزَم فمات، فأمَرَ عبدُ الله بنُ الزُّبَير فنُزِحَ ماؤها، فجَعلَ الماءُ لا ينقطعُ، فنُظِرَ فإذا عَيْنٌ تَجرِي مِنْ قِبَل الحجَرِ الأسود، فقال ابنُ الزبير: حَسْبُكم.

وأمَّا ما نُقِلَ عن ابنِ عُيَيْنَة: أنَا بمكَّةَ منذ سَبْعِينَ سنةً لم أرَ صغيراً ولا كبيراً يَعرِفُ حدِيثَ الزّنجيِّ الذي قالوا: إنه وقَعَ في زمزم. وقولُ الشافعي: لا يُعرَفُ هذا عن ابن عباس، كيفَ ويَروِي ابنُ عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم «الماءُ لا يُنَجِّسهُ شيء» ويَترُكُهُ؟ وإن كان قد فَعَله فلنجاسةٍ ظهرتْ على وجهِ الماء، أو للتنظيفِ: فمدفوعٌ بأنَّ عدَمَ عِلمِهما لا يَصْلُحُ دليلاً في دين الله سبحانه، وروايتُهُ الحديثَ كعلمِكَ أنتَ به، وقد قلْتَ بنجاسةِ ما دُونَ القُلَّتَيْنِ لدليلٍ آخَرَ وقَعَ عندك، فلا يُسْتبعَدُ مِنَ ابنِ عباس مِثلُه. والظاهرُ من السَّوْقِ ولفظِ القائل: فمات فأَمَرَ بنَزْحها، أنه للموتِ لا لنجاسةٍ أُخرى، على أَنَّ

(1)

أي عينًا تنبع باستمرار، فكلما نزحوا نبع الماء وهكذا. انظر لسان العرب 13/ 410، مادة (معن).

(2)

وضبطها في "العُبَاب" بالفتح! وكذا ضبطها الشيخ عبد الفتاح أبو غُدة رحمه الله تعالى.

ص: 95

وإلا فقَدْرُ ماءٍ فيها بقولِ ذي بَصَارة.

===

عندَكَ لا تُنزَحُ للنجاسةِ أيضاً.

ثم إنهما بَيْنَهما

(1)

وبيْنَ الحادثةِ قريبٌ من مئةٍ وخمسين سنةً، فكان إخبارُ مَنْ أدرَكَها وأثبَتَها أولى مِنْ عدمِ عِلمِ غيرِه.

وقولُ النووي: كيف يَصِلُ هذا الخبرُ إلى أهلِ الكوفة ويَجهلُهُ أهلُ مكة؟ استبعادٌ بعد وضوحِ طريقِ سَدَادٍ، ومُعارَضٌ بقولِ الشافعي لأحمد: أنتُم أعلَمُ بالأخبارِ الصحيحة مِنَّا، فإذا كان خبرٌ صحيح فأعلِمُوني به حتى أذهَبَ إليه كُوفيّاً أو بصريّاً أو شاميّاً. فهلاَّ قال: كيف يَصِلُ هذا إلى أولئك ويَجهلُه أهلُ الحَرَمينِ؟ وذلك لانتشارِ الصحابة رضي الله عنهم في البلادِ خصوصاً بالعراقِ وما حوله من السَّوَاد، قال العِجْليُّ في «تاريخه»: نَزَل بالكوفةِ ألفٌ وخمسُ مئةٍ من الصحابة.

(وإِلا) أي وإن لم يُمكِن نَزْحُ كلِّ ماءٍ في البئرِ لكونِها مَعِيناً (فقَدْرُ ماءٍ) بالهمزة، أي فيُنزَحُ مِقدارُ ماءٍ (فيها) أي في البئر. وفي بعض النُّسَخ: مائِها، أي في وقتِ الوقوعِ يُؤخذُ في قَدْرِهِ (بقول ذِي بَصَارة) بفتح مُوَحَّدة، أي خِبرةٍ ومعرفةٍ بأمر الماء، لأنَّ الرجوعَ إلى أهلِ المعرفةِ أصلٌ شرعي، قال الله تعالى:{فاسأَلوا أهلَ الذِّكرِ إنْ كنتُم لا تَعْلَمون}

(2)

.

واعلمُ أنَّ عبارَتَهُ تَقتضي الاكتفاءَ بقول واحد، والذي في غيرِ هذا المختَصَر حتى في «شرح الوقاية»: ويُؤخَذُ بقولَيْ رجُلَين لهما بصيرةٌ بأمْرِ الماءِ. وهو الأشبَهُ بالفقه، وأوفَقُ بقولِهِ تعالى:{يحْكُمُ به ذَوَا عَدْلٍ منكم}

(3)

والظاهرُ أنَّ أصلَ العبارةِ ذَوَيْ بصارةٍ على لفظ المُثَنَّى، وأنَّ النُّسَّاخَ أسقَطُوا الواوَ، فتغيَّرَ المبنَى، وترتَّبَ عليه فسادُ المعنَى. ثم رأيتُ أَصْلَ البِرْجَنْدِيِّ على التثنيةِ قالَ: وفي بعضِ النُّسَخ بالإِفراد، وهو مَبنِيٌّ على ما في «زاد الفقهاء»: أنه يَكفي قولُ رجلٍ ذي بَصَارة، والنُّسخةُ الأُولى هي الأَولى لما في «الهداية» و «الظهيرية» وغيرهما.

هذا، وعن أبي حنيفة أنه يُنزَحُ منها مئتا دَلْوٍ. وعن محمدٍ ثلاثُ مئة دلو، قال في «الخلاصة»: وبه يُفتَى.

(1)

أي بين ابن عُيَينة والشافعي.

(2)

سورة النحل، آية:(43).

(3)

سورة المائدة، آية:(95).

ص: 96

وفي نحوِ دجاجةٍ أربعون إِلى سِتِّين، وفي نحوِ عُصْفُورٍ نصفُ ذلك. دَلْوًا وَسَطًا، وغَيرُ الوَسَطِ احتُسِبَ به.

===

(وفي نحوِ دجاجةٍ) كهِرَّةٍ وحمامة وما أشبهَهَما في الجُثَّةِ ولم يَنتفخ نُزِحَ (أربعون) دَلْواً بطريق الوجوب، لِمَا روى الطحاويُّ عن الشَّعْبيّ في الطَّيْرِ والسِّنَّوْرِ

(1)

ونحوِهما يقَعُ في البِئرِ قال: يُنزَحُ منها أربعون دَلْواً. وعن النَّخَعِيّ في السِّنَّوْرِ: مثلُه. وعنهما: يُنزَحُ منها سبعون. وعن حمَّاد بن أبي سُليمان في دجاجةٍ وقعَتْ في البئر نُزح منها قَدْرُ أربعين أو خمسين ثم يُتوضَّأُ منها، وهو المذكور في «الجامع الصغير» . وروى ابنُ أبي شيبة عن عطاءٍ كما روى الطحاويُّ عن حَمَّاد (إِلى سِتِّين) استحباباً، لِمَا رُويَ عن الأَوَّلَينِ. وقيل: إلى خمسين لِمَا رُوِيَ عن عطاءٍ وحمَّاد.

(وفي نحوِ عُصْفُورٍ) بضمَّتَينِ كفأْرةٍ وسامَ أَبْرَص ونحوِهما في الجُثَّةِ (نِصفُ ذلك) أي عِشرون دَلْواً وجوباً إلى ثلاثين استحباباً، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في فأرةٍ ماتَتْ في بِئْرٍ وأُخْرِجتْ مِنْ ساعتِها نُزِحَ عِشرون دَلْواً. ذكَرَه في «الهداية» وغيرِها، لكن في كتب الحديثِ لم أرَه.

وأمَّا ما رواه الطحاويّ مِنْ قولِ عليّ كرَّمَ الله وجهَهُ في بئرٍ وقَعَتْ فيها فأرةٌ فماتَتْ: يُنزَحُ ماؤها، وقولِهِ: إذا سَقَطت الفأرةُ أو الدَّابَّةُ في البِئرِ فانْزَحْهَا حتى يَغلِبَك ماؤُها: فمحمولٌ على الفأرةِ المنتفِخَةِ والدَّابَّةِ الكبيرةِ أو الصَّغِيرةِ التي على بَدَنِها نجاسةٌ، توفيقاً بين الآثار.

(دَلْواً وَسَطاً) بفتحتين أي متوسِّطاً، وهو ما كَثُرَ استعمالُه في تِلك البئر

(2)

، لإِطلاقِ السَّلَفِ فيُصرَفُ إلى المُعتَاد. وقيل: ما يُستعمَلُ في ذلك البَلدِ وغيرِه (وغَيْرُ الوَسَطِ احتُسِبَ به) أي بالوَسَط، يَعني إذا نُزِحُ بدلْوٍ غيرِ وَسَطٍ نُزِحَ به على حسابِ الدلوِ الوسَطِ، حتى لو نُزِحَ بدلوٍ عظيمٍ يسعُ عشرين دلواً وسطاً مِنْ بئرٍ وجَبَ فيها ذلك، اكتُفِيَ بدلوٍ واحدٍ خلافاً لزفر.

واعلم أنَّ مسائلَ الآبار مبنيَّةٌ على اتّباعِ الآثار، لأنَّ القياسَ إمَّا عدَمُ تطهُّرِها لعدَمِ تطهُّرِ الجُدْرانِ والطِّينِ كما قاله بِشْر

(3)

، وإما عدَمُ تنجُّسِها كما نُقِلَ عن

(1)

السِّنَّوْر: الهر. لسان العرب 4/ 381، مادة (سنر).

(2)

في المطبوعة والمخطوطة: "ذلك" بدل "تلك". والمثبت من نسخة "فتح باب العناية" 1/ 136 التي حققها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى.

(3)

هو بِشر بن غياث المَرِيسي، أخذ الفقه عن الإمام أبي يوسف، إلا أنه اشتغل بالكلام والفلسفة، وحكي عنه في ذلك أقوال منكرة، فأعرض عنه أبو يوسف، مات سنة 228 هـ. أفاده الشيخ عبد الفتاح رحمه الله.

ص: 97

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

محمد أنه قال: اجتمَعَ رأيي ورأيُ أبي يوسف أنَّ ماءَ البئر في حُكم الجاري لوجودِ النبْعِ من أسفلِها والأخْذِ من أعلاها، ثم قلنا: وما علينا لو أمَرْنا بنَزْحِ بعضِ دِلَاءٍ ولا نُخالِفُ السَّلَفَ. ومِن الطَّرِيقِ: أن يكونَ الإِنسانُ في يَدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ كالأعمى في يَدِ القائد. انتهى.

ثم النَّزْحُ يكونُ طهارةً لها، وللدلوِ، والرِّشاءِ

(1)

، والبَكْرةِ، ويَدِ المُسْتَقِي، رُوِيَ ذلك عن أبي يوسف والحسَن، لأنَّ نجاسة هذه الأشياء كانت بنجاسةِ ماءِ البئر حُكماً، فتكونُ طهارتُها بطهارةِ البئر حُكماً، نفياً للحَرَج، كالدَّنِّ إذا تنجَّسَ بنجاسةِ الخمرِ ثم صارَتْ خَلاً حُكِمَ بطهارةِ الدَّنِّ تَبَعاً، وكمَنْ أخَذَ عُروةَ الإِناءِ من إبريقٍ ونحوهِ بيده وهي نَجِسة، وكُلَّما غَسَل يَدَهُ يأخذُ عُروةَ الإِناءِ: تَطْهُرُ العُروةُ بطهارةِ يدهِ، وكذا يَدُ المُستنجِي تَطهُرُ بطهارةِ المَحلّ. وقيل: الدَّلْوُ طاهرةٌ في حقِّ هذا البئرِ لا غيرِها، كدَمِ الشهيدِ طاهِرٌ في حقِّ نفسِه فقط.

ولو وَقَعَ البَعْرُ والرَّوْثُ والخِثْيُ في الآبار لا يُنَجِّسُها استحساناً. ولا فَصْلَ في ظاهر الرواية بين الرَّطْبِ واليابسِ، والصَّحيحِ والمنكسِرِ لشمولِ الضَّرُورةِ للكلّ، إلاَّ أن يَستكثره الناظرُ، وهو المرويُّ عن أبي حنيفة. قال في «الهداية»: وعليه الاعتماد. احترازاً مما قيل: الكثيرُ أنْ يأخُذَ وَجْهَ ثُلُثِ الماءِ أو رُبْعِهِ أو أكثَرِهِ أو كُلِّهِ، أو لا يخلوَ دَلْوٌ عن بعرة.

ولو بعَرَتْ الشاةُ وقتَ الحَلْب في المِحْلَب فرُمِيَ مِنْ حينِه ولم يَأخذ اللبَنُ مِنْ لونِهِ لا يَنْجُسُ اللبنُ كما رُوِيَ عن عليّ كرَّم اللهُ وجهَه، ولأَنَّ فيه ضَرْورةً: إذْ يَتَعذَّرُ أو يَتعسَّرُ الاحترازُ عن بَعْرِها وقْتَ الحلب. والبَعْرُ للبعير، والرَّوْثُ للخيلِ والحمير، والخِثْيُ بكسر الخاء للبقر. وفي «الهداية»: ولا يُعفَى القليلُ في الإِناء على ما قيل لعدَمِ الضرورة، فإنه المُتساهلُ في تركه مكشوفاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم في فأرةٍ وقعتْ في السَّمْن:«إِنْ كان جامداً فأَلقُوها وما حَوْلها، وإن كان مائعاً فلا تَقْرَبُوه»

(2)

.

ولا يَفْسُدُ الماءُ بخُرْءِ حَمَامٍ وعصفورٍ استحساناً، لحديثِ ابن مسعود: أنه خَرِئتْ عليه حَمامَةٌ فمسَحه بإصبعه. وزَرَقَ على ابنِ عُمَر طائرٌ فمسَحَه بحَصَاةٍ وصلَّى ولم يَغْسِله. وأصلُهُ حديث أبي أُمامة: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شَكَرَ الحَمَامَةَ وقال: «إنَّها

(1)

الرِّشاء: الحبل. مختار الصحاح ص 103، مادة (رشا).

(2)

أخرجه أبو داود في السنن 4/ 181، كتاب الأطعمة (26)، باب في الفأرة تقع في السمن (47)، رقم (3842). وجاء في المطبوعة والمخطوطة:"فلا تقربوها" وهو تحريف.

ص: 98

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وَكَرَتْ

(1)

عليَّ بابَ الغار حتى سَلِمْتُ، فجزاها الله تعالى، بأنْ جَعَل المَسْجِدَ مَأْوَاها»

(2)

. فهو دليلٌ على طهارةِ ما يكون منها، ويُقاسُ عليها نحوُها مِنْ طيرٍ يُؤكلُ لَحْمُها.

في «الهداية» : أجمَعَ المسلمون على اقتناءِ الحَمَامات في المساجد والعلِمِ بما يكون منها، مَعَ وُرودِ الأمر بتطهيرها. أمَّا الأوَّلُ فيرُادُ الإِجماعُ العَمَليّ، فإنها في المسجد الحرام مقيمةٌ مِنْ غيرِ نكير مِنْ أحَدٍ من العلماءِ مع العلِمِ بما يكون منها. وأمَّا الثاني فعن عائشة قالتْ: أمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ببناءِ المساجد في الدُّورِ، وأن تُنَظَّفَ وتُطَيَّبَ. رواه ابنُ حِبَّان في «صحيحه» ، وأحمد، وأبو داود، والترمذي وغيرُهم. وقد قا

ل الله تعالى: {وعَهِدْنا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ للطائِفِينَ والعاكِفِينَ والرُّكَّعِ

(1)

وَكَرَ الطائر: أي أتى الوْكَر - عش الطائر - أو دَخَلَه. القاموس المحيط ص 635، مادة (وكر). وفي المطبوعة والمخطوطة:"أوكرت" والمثبت من الجزء الذي حققه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى "فتح باب العناية" 1/ 140.

(2)

قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى في تعليقه على "فتح باب العناية" 1/ 140: "وقد تعبت كثيرًا في الكشف عن هذا الحديث، فلم أر له ذكرًا في كتب الحديث التي عندي، حتى ولا في كتب الضعاف والموضوعات. ورجعت إلى كتب السيرة النبوية الواسعة مثل: "شرح المواهب اللدنية" للزرقاني 1: 348، و "البداية والنهاية" لابن كثير 3: 181، فلم أره أيضًا.

ورأيت فيها عن "مسند البزّار" وابن عساكر من حديث أبي مُصعب المكي، قال: أدركتُ زيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك يتحدثون: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بات في الغار أمر الله شجرةً فنبتت في وجه الغار، وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار، فلما رآهما فتيان قريش رجعوا قائلين: ليس في الغار أحد، فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فعرف أن الله قد درأ عنه بهما، فدعا لهما، وسَمَّت عليهما - بشد الميم أي: بَرِّك عليهما - وأُقْرِرْنَ في الحرم، وفُرِضَ جزاؤهن. انتهى مختصرًا. قال الحافظ ابن كثير:"وهذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه". ورواه الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" 1: 123، وبَيَّن ما في سنده من علل.

ثم رأيت الإمام العيني رحمه الله عليه قال في "البناية شرح الهداية" 1: 224 تعليقًا على حديث أبي أُمامة الذي ذكره الشارح: أورده السِّغْنَاقي في "النهاية"، وتبعه صاحب "الدراية"، ثم صاحب "العناية"، والعجب من هؤلاء يذكرون حديثًا ولا يعزونه إلى مُخَرِّجه ولا إلى كتاب". انتهى مصححًا.

قلتُ: والعجب من الشارح كيف تابعه في إيراده دون التثبت من ثبوته! وقد عاب رحمه الله تعالى هذا الصنيع على الفقهاء كما سبق منه في ص 2. وقد أورده العلامة اللكنوي في حواشيه على "الهداية" 1: 26 متابعةً منه لصاحب "العناية"، وهو الذي استوفى التنبيه على أن الأحاديث المنقولة في كتب الفقه لا يُعتمد عليها اعتمادًا كليًا إلا إذا أسندت إلى كتاب من كتب الحديث المعتمدة، أو كان مؤلفها من المحدثين المحققين".

ص: 99

وتَنْجُسُ مِن وقتِ الوقوعِ إِنْ عُلِمَ، وإِلَّا فمنذُ يومٍ وليلةٍ، وإن انتَفَخَ فمنذُ ثلاثةِ أيامٍ وليالِيها. وقالا: منذُ وُجِدَ.

===

السُّجُود}

(1)

.

ولا يَفْسُدُ الماءُ مِنْ وقوعِ آدِميَ أو ما يُؤَكَلُ لحمُهُ إذا خرَجَ حَيّاً ولم يَكن عليه نجاسةٌ، هو الصَّحِيح، سواءٌ كان جُنُباً أو مُحْدِثاً. ثم ماءُ البئرِ والجُنُبُ المنغمِسُ فيه لطلبِ السِّقاءِ

(2)

لا لدَفْعِ الحدَثِ: طاهِرانِ في الأصحِّ عند أبي حنيفة، وعلى حالِهما عند أبي يوسف، وطاهِرٌ وطَهُورٌ عند محمد. والتحقيقُ أنَّ بقاءَهُ طهوراً للضرورة، كما قالوا جميعاً: لو أَدخَلَ المُحدِثُ أو الجُنُبُ أو الحائِضُ يدَهُ في الماءِ للاغترافِ طَهَرَتْ، ولا يَصِيرِ مستعمَلاً استحساناً، لما رُوِيَ أن المِهْرَاسَ

(3)

كان يُوضَعُ على باب مسجدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفيه ماء، وكان أصحابُ الصُّفَّةِ يَغتَرِفون منه للوضوءِ وغيرِه بأيديهم. ولأنَّ فيه بَلْوَى وضَرُورَةً وحاجةً.

(وتَنْجُسُ) البئر (مِنْ وقتِ الوقوعِ) أي وقوعِ الحيوان الذي وُجِدَ ميتاً فيها (إِنْ عُلِمَ) ذلك الوقتُ (وإِلاَّ) أي وإنْ لم يُعلَمُ وقتُ الوقوع، فإن لم ينتفخ الحيوانُ في ماءِ البئر (فمنذُ) أي تَنْجُسُ مِنْ ابتداءِ (يومٍ وليلةٍ) وهذا كلُّه إذا كان الواقعُ نَجِساً أو حيواناً ميتاً ولم ينتَفِخ في الماء.

(وإِن انتَفَخ) أي في الماء (فمنذُ) أي فتَنْجُسُ مِنْ ابتداءِ (ثلاثةِ أيامٍ وليالِيها).

(وقالا): لا تَتَنجَّسُ إلاَّ (منذُ وُجِدَ) فيها لأنَّ الماءَ طاهرٌ بيقين، ووقع الشكُّ في نجاسته فيما مضى، واليقينُ لا يَزُول بالشكّ.

ولأبي حنيفة رحمه الله: أنَّ الوقوعَ سبَبٌ ظاهر للموت فيُستَنَدُ إليه، وإن احتَمَل الموتُ لغيره، لأنَّ الموهومَ لا يعتبر في مقابلةِ الظاهر، كمن جَرَحَ رجلاً فلم يَزَل صاحِبَ فراش حتى مات، فإنه يُحمَلُ موتُه على تلك الجِرَاحةِ لأنها السببُ الظاهِرُ وإن احتَمَلَ غيرُهُ بأن يَموتَ بسببٍ آخَر. لكنْ عدَمُ الانتفاخ دليلُ القُرْبِ فقُدِّر بيومٍ وليلة، لأنَّ ذلك أقلُّ المقادير في باب الصلاة. والانتفاخ دليلُ التقادُمِ فقُدِّرَ بالثلاثِ، كالصلاةِ على قَبْرِ مَنْ لم يُصَلَّ عليه.

(1)

سورة البقرة، آية:(125).

(2)

أي الدلو.

(3)

المِهْراس: صخرة منقُورة تتَّسِعُ كثيرًا من الماء، وقد يُعمل منها حياضٌ للماء. النهاية 5/ 259.

ص: 100

[أحْكَامُ الأسآر]

وسُؤرُ الآدَمِيِّ والفَرَسِ

===

وهذا في حقِّ الوُضوء، وأمَّا في حقِّ غيرِه فيُحكَمُ بنجاستها منذُ وُجِدَ، حتى لو توضَّؤُا منها في تلك المدةِ أعادوا صلواتِهم، ولو غَسَلوا ثيابَهم منها في تلك المدةِ لم يَلزَمْ غَسْلُها على الصحيح

(1)

، لأنه مِنْ بابِ وجودِ النجاسة في الثوب. ولو وَجَدَ في ثوبِه نجاسةً أكثرَ مِنْ قَدْرِ الدرهم ولم يَدْرِ متى أصابَتْه لا يُعيدُ شيئاً من صلاته بالاتفاق، لأنَّ الثوبَ شيء ظاهر يَطَّلِعُ صاحبُه أو غيرُه على إصابةِ النجاسةِ، فإذا لم يَشْعُر به هو ولا غيرُه عُلِمَ أنه أصابته للحال. ولا كذلك البِئرُ، فإنها غائبةٌ مَخْفِيَّةٌ عن العين لا يُدْرَى ما فيها.

ومن الفروع: البُعْدُ بين البالوعةِ والبئرِ المانِعُ من وصولِ النجاسة إلى البئرِ خمسةُ أَذرع، وفي رواية: سبعةُ أذرع، والمعتبَرُ هو الطَّعمُ أو اللونُ أو الريحُ، فإنْ لم يتغيَّر جاز وإلاَّ فلا ولو كان عشرةَ أذرع.

ثم اعلمْ أنَّ جميعَ ما ذُكِرَ في مسائل البئر إنما هو على تقدير أن يكونَ وجْهُ الماءِ في البِئرِ أقلَّ من عَشْرٍ في عَشْر، (أمَّا إذا كان عَشْراً في عَشْر فلا حاجة إلى النَّزْح. وفي «القنية»: إذا كان عُمقُ ماءِ البئرِ عشرةَ أذْرُع)

(2)

فصاعداً لا يَتنجَّس في أصحِّ الأقوال، ونَقَلَ عن «جَمْع التفاريق»: إذا كان الماءُ فيها بقَدْرِ الحوض الكبير لا يَنْجُس

(3)

.

(أحكام الأَسآر)

(وسُؤرُ الآدَمِيِّ) بالهمزة ويُبْدل، وهو: بَقيَّةُ ماءِ الشُّرب، مسلماً كان أو كافراً، جُنُباً كان أو حائضاً، إلاَّ حالَ شُربِه الخمرَ لأنها نَجِسَة، فتُلاقي الماءَ فتُنَجِّسُه، فإنْ ابتلَعَ رِيقَهُ ثلاثَ مرَّاتٍ طهَرَ فمُهُ عند أبي حنيفة رحمه الله، لأنَّ المائعَ غيرَ الماءِ مطهِّرٌ عنده من غير اشتراطِ الصَّبّ.

(والفَرَسِ) أيْ على الأصحِّ، إذ قيل بكراهتِهِ والشكِّ فيه، والمعتمدُ: أنَّ حُرمةَ

(1)

هذا ما ذكره الزيلعي في "التبيين" 1/ 30، وخالفه المرغيناني في "الهداية"(فتح القدير) 1/ 93.

وابن عابدين في "رد المحتار" 1/ 146 فالمعوَّل عليه: غسل كلِّ شيء أصابه ماؤها.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

قال ابن عابدين في "رد المحتار" 1/ 131 و 141: "تصحيح هذا القول غريب متوغِّل في الإغراب، مخالف لما أطلقه جمهور الأصحاب.

ص: 101

وكلِّ مأكولٍ: طاهِرٌ. وسِبَاعِ البهائم: نَجِسٌ

===

لَحْم الفَرَس لكونه آلةَ الجهاد لا لنجاستِهِ، ألا يُرَى أنَّ لبنَهُ حلالٌ بالإِجماع، ذكَرَه العَيْنيُّ في «شرح تُحفة الملوك» .

(وكلِّ مأكولٍ) أي لحمُهُ، وفي نسخة: وكلِّ مأكولِ اللحم أيْ مِنْ الطيُّور، والدَّوابِّ، إلا الدجاجةَ المُخلاَّةَ، والإِبِلَ، والبقَرَ، والغنَمَ الجلاَّلةَ.

(طاهِرٌ) من غير كراهة. وإنما قلنا: إنَّ سُؤْرَ هذه الأشياء طاهرٌ من غير كراهة، لأنَّ اللّعابَ يَترشَّحُ من اللَّحْم، ولَحْمُ هذه الأشياءِ طاهر. وحُرمةُ أكلِ الآدَمِيِّ لاحترامِهِ لا لنجاسته، وكذلك حُرمةُ الفَرَسِ عند أبي حنيفة ـ في إحدى الروايتين عنه ـ ليسَتْ لنجاسته بل لأنه آلةُ الجهاد. ورَوى مسلم: عن عائشة رضي الله عنها قالتْ: كنتُ أشرَبُ وأنا حائضٌ، وأُناوِلُهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيضَعُ فاهُ على مَوْضِعِ فيَّ فيَشرب. وقد ورد:«إنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ» رواه أصحاب «السُّنَن» عن أبي هريرة. ونجاسَةُ الكافِرِ في قوله تعالى: {إنَّما المشركون نَجَسٌ}

(1)

لخُبْثِ باطنِهِ في اعتقادهِ فلا يُؤثِّرُ في نجاسة أعضائه، ولأنه صلى الله عليه وسلم أَنزَل وَفْدَ ثَقِيفٍ في المسجد، فلو كان النَّصُّ على ظاهره لَمَا أَنزلَهُم فيه.

(وسِبَاعِ البهائم) سُؤرُها ـ وهي: الأَسَدُ، والنَّمِرُ، والفَهْدُ، والذئبُ، والضَّبُعُ، والكلبُ، والخِنزيرُ، والفِيلُ ونحوُها ـ (نَجِسٌ). أمَّا الكلبُ والخِنزيرُ فيوافِقُنا فيهما الشافعيُّ.

وأمَّا مالكٌ فيقولُ بطهارةِ سُؤْرِهما، لأنه يَرى طهارةَ كُلِّ حيّ.

قلنا: ثَبتَتْ نجاسَةُ الخِنزير بالنَّصِّ، والكلبِ بدلالةِ قولِهِ صلى الله عليه وسلم «طَهُورُ إِناءِ أَحَدِكم إذا وَلَغَ فيه كلبٌ أن يَغْسِلَه سَبْعَ مَرَّات» . رواه مسلم وأبو داود.

وأمَّا سائِرُ أسْآرِ سِباعِ البهائم، فيُخالِفُنَا الشافعيُّ رحمه الله فيها تَبَعاً لمالك، لِمَا روى ابنُ ماجه مِنْ حديثِ عبد الرحمن بن زيد بن أسْلَمَ، عن أبيه، عن عطاءٍ عن أبي هريرة قال: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الحِياضِ التي بين مكة والمدينة، فقيل له: إنَّ الكلابَ والسباعَ تَرِدُ عليها؟ فقال: «لها ما أَخذَتْ في بُطُونِها، ولنا ما بَقِيَ شرابٌ وَطَهُورٌ» ، وما رُوِي: أنتوضَّأُ بِمَا أَفضَلَت الحُمُر؟ فقال: «نعم: وَبِما أَفضَلَت السِّباعُ كُلُّها»

(2)

.

(1)

سورة التوبة، آية:(28).

(2)

أخرجه الدارقطنى في سننه 1/ 62، كتاب الطهارة، باب الأسآر رقم (2) وعقَّبَه الدارقطنى بقوله: ابن أبي حبيبة ضعيف أيضًا، وهو إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة.

ص: 102

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ولنا ما رُوِيَ: أنَّ عُمَرَ وعَمْرَو بنَ العاص وَرَدَا حَوْضًا، فقال عَمْرُو بن العاص: يا صاحبَ الحوض أَتردُ السِّباعُ ماءَك هذا؟ فقال عُمَرُ: يا صاحِبَ الحوضِ لا تُخْبِرْنا

(1)

. فلولا أنه كان إذا أَخبَرَ بوُرُودِ السِّباعِ يَتعذَّرُ عليهما استعمالُه لمَا نَهَاهُ عن ذلك.

وتأويلُ الحديثينِ: أنه كان في الابتداءِ قَبْلَ تحرِيم لُحومِ السِّباع، أو وقَعَ السُّؤالُ في الحِياضِ الكِبار، ونحن نقولُ أيضاً: إن مثلَها لا يَتنجَّسُ. على أنَّ الأَوَّلَ معلولٌ بعبدِ الرحمن بن زيد، والثانيَ رواه الدَّارقطنيُّ وفيه داودُ بن الحُصَين، ضعَّفَه ابنُ حِبَّان. لكنْ روى عنه مالك. وأيضاً مُقتَضَى الحديثِ الأوَّلِ طهارةُ سُؤْر الكلبِ وإن كان دون القُلَّتَيْن، والشافعيُّ لا يقولُ به. وإنْ خصَّصَهُ بهما رَجَعْنا معه إلى أَصْلِ المسألة.

وأَوجَبَ علماؤنا وَالشافعيُّ: غسْلَ الإِناءِ بولوغ الكلبِ فيه لنجاستِه عندنا، ولم يُوجِبْه مالكٌ لطهارته عنده، لكن يُغْسَلُ عندنا ثلاثاً، لا سَبْعاً إحدَاهُنَّ بالتُّرابِ كما قال الشافعي، لِمَا رواه السِّتةُ عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«إذا وَلَغَ الكلبُ في الإِناء فاغْسِلُوه سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاهُنَّ أَوْ السَّابعَةُ بالتُّرابِ، على شَكِّ الراوي، وفي روايةٍ: «أُخْراهُنَّ» ، وفي الأُخرى:«إحداهُنَّ» . وهذا الاضطرابُ عَيْبٌ عظيمٌ في هذا الباب.

ولنا ما روى الدارقطنيُّ: عن عبد الوهاب بن الضحَّاك، عن إسماعيل بن عيَّاش، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبي الزِّنَادِ، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عنه عليه الصلاة والسلام

(2)

في الكلبِ يَلِغُ في الإِناءِ: «يُغْسَلُ ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً» . قال: وانفرد به عبدُ الوهاب عن ابنِ عيَّاشٍ وهو متروك، وغيرُهُ يَرويه عن ابنِ عياش بهذا الإِسناد:«فاغْسِلُوه سَبْعاً» ، ثم رواه أيضاً عن عبد الملك بن أبي سُلَيمان، عن عطاءٍ، عن أبي هريرة: أنه كان إذا وَلَغَ الكلبُ في الإِناءِ أهْرَاقَهُ

(3)

ثم غَسَلَه ثلاثَ مَرَّات. قال في «الإِمام» : وهذا سَنَدٌ صحيح. ورواه ابنُ عَدِيّ في «الكامل» عن الحسين بن علي الكَرَابِيسي: حدَّثَنا إسحاقُ الأزرق: حدَّثَنا عبدُ الملك، عن عطاءٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «إِذا وَلَغَ الكلبُ في إناءِ أحدِكم فلْيُهْرِقْهُ، ولْيَغْسِلْهُ ثلاثَ مَرَّات» . ثم أخرَجَهُ عن عُمَرِ بنِ شيبة: حدَّثَنا إسحاقُ الأزرق به موقوفاً. قال: ولم يَرفعه غيرُ الكَرَابِيسي، ولم أجِدْ له حديثًا منكراً غيرَ هذا، وإنَّما حَمَلَ عليه أحمدُ بنُ حنبل مِنْ جهةِ

(1)

أخرجه الإِمام مالك في "الموطأ" 1/ 23، كتاب الطهارة (2)، باب الطهور للوضوء (3)، رقم (14).

(2)

عبارة المطبوعة: "عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلب" والمثبت من المخطوطة.

(3)

هَرَاقَ الماء يُهْرِيقُهُ هِرَاقَةً: صَبَّه، وأصله: أراق يريق إراقة. مختار الصحاح ص 289، مادة (هرق).

ص: 103

والهِرَّةِ

===

اللفظِ بالقُرآن

(1)

، فأمَّا في الحديث فلم أرَ به بأساً.

ولا شَكَّ أنَّ الحُكَم بالضَّعْفِ والصِّحَّةِ إنما هو في الظاهر، أمَّا في نفسِ الأمْرِ فيجوزُ صِحَّةُ ما حُكِمَ بضعفِهِ ظاهراً وكذا العكسُ. وثبوتُ كون مذهبِ أبي هريرة ذلك قرينةٌ تُفيدُ أنَّ هذا مما أجادَهُ الراوي المُضَعَّفُ، وحينئذٍ فيُعارض حديثَ السَّبْعِ ويُقدَّمُ عليه، لأنَّ معه دلالةً على التقدُّمِ للعِلْمِ بما كان من التشديد في أَمْرِ الكلاب أوَّلَ الأمر، حتى أُمِرَ بقتلها. والتشديدُ في سُؤرِها يناسِبُ كونَهُ في ذلك الوقت، وقد ثَبَتَ نَسْخُه فيَتْبَعه حُكْمُ ما كان مَعَه.

ولئِنْ طَرَحْنا الحديثَ بالكليَّةِ كان في عَمَلِ الراوي على خلافِ كَمِّيَّةِ ما رَوَى دلالةٌ ظاهرةٌ عليه لاستحالةِ عُدُولِهِ عن القَطْعِيّ إلى رأيه الظَّنِّيّ، إذْ ظَنِّيَّةُ خبَرِ الواحد إنَّما هي بالنسبة إلى غير راويه، وأمَّا بالنسبةِ إلى مَنْ سَمِعَهُ من النبي صلى الله عليه وسلم فقطعيٌّ، ولا يجوزُ تَرْكه إلا بالنَّسْخ، إذْ لا يُتْرَكُ القطعيُّ إلاَّ بمثلهِ، فبطَلَ تجوِيزُ تَرْكه بناسخٍ ثَبَتَ باجتهادِهِ المحتَمِلِ للخطأ، مع أنَّ إثباتَ اجتهادِه في حيِّزِ المنع. وإذا عرفتَ هذا كان تَرْكُهُ للعَمَلِ به بمنزلةِ روايتِهِ للناسخِ بلا شبهة، فيكون الآخَرُ

(2)

منسوخاً بالضرورة، وإلا استَلْزَم سُوءَ الظنِّ به وسقوطَ عدالتِه، وهو باطلٌ بإِجماع الأُمَّة.

ثم إن الشافعيَّ جَعَلَ العَدَدَ تعبُّداً، وعَدَّاه إلى الثَّوْبِ وإلى رُطوبةٍ أُخرَى منه وإلى الخِنزيِرِ، والتعبّديُّ لا يَتعدَّى. وجَعَلَ مالكٌ غَسلَ الإِناءِ من وُلوغ الكلبِ فقط مندوباً دون غيرِهِ من السِّباعِ ولو خنزيراً، ويَحكُمُ بإراقة الماءِ لا الطعامِ، وقيل: لا يُراقَ الماءُ أيضاً لأنَّ غَسْلَ الإِناءِ تعبُّدٌ، وكان مالك يَرى الكلبَ كأنه مِنْ أهلِ البيت كالهِرَّةِ، ليس كغيره من السباع، وكان يَستعظم أن يُعْمَدَ إلى رِزِقِ الله من الماءِ أو الطعامِ فيُراقَ بولَوغِ الكلبِ فيه، وقال: جاء هذا الحديثُ وما أَدري ما حقيقتُه؟ وفي «مُدَوَّنتهم» لو توضَّأَ به وصلَّى فلا إعادة.

(والهِرَّةِ) أي وسُؤْرُ الهِرَّةِ التي لم تأكل نجاسةً أو أكَلتْها ومكثَتْ ساعةً: مكروهٌ عند أبي حنيفة ـ وقيل عند محمد أيضاً ـ كراهةَ تحريمٍ كما ذهب إليه الطَّحاوي، أو تَنْزِيهٍ كما ذهب إليه الكرخيُّ وهو الأصحُّ، لأنها لا تتَحامَى النجاسَةَ فيُكره، كماءٍ

(1)

في المطبوعة والمخطوطة: "اللفظ بالقرائن". والمثبت من الجزء الذي حققه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى من كتاب "فتح باب العناية" 1/ 150.

(2)

أي الحديث الآمر بالغسل سبع مرات.

ص: 104

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

غَمَسَ فيه صَغِيرٌ يدَهُ. وأصْلُهُ كراهَةُ غَمْسِ المستيقظِ يدَهُ في الإِناء قبلَ غَسْلِها. وفي «النوادر» عن أبي حنيفة في هِرَّةٍ أكلَتْ فأرةً ثم شَرِبَتْ لا يَتنجَّسُ الماءُ لأنها غَسَلَتْ فَمَها بلُعَابِها، ولُعابُها طاهرٌ، وهو قولُ أبي يوسف، وهو مؤيَّدٌ بأحاديثَ:

منها: ما رواه هو

(1)

عن عبدِ رَبِّه، عن سعيد المَقْبُري، عن أبِيه، عن عُروَة بن الزُّبَير، عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تَمُرُّ به الهِرَّةُ فَيُصغِي لها الإِناءَ فتَشْرَبُ، ثم يَتوضَّأُ بفَضْلِها. رواه الدارقطنيُّ في «سننه» ، وضَعَّفَ عَبْدَ ربِّه. ويُدفَعُ بأنَّ أَبا يوسف أدرَى به منه ضَرُورةَ عِلمِهِ بحالِ شيخه.

ومنها: ما رواه الدارقطني، وابن ماجه، والطحاوي من حديث حارثة بن محمد، عن عَمْرَة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنتُ أتوضَّأُ أنا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في إناءٍ واحدٍ قد أصابَتْ منه الهِرَّةُ قبلَ ذلك.

ومنها: ما رواه أصحاب «السُّنَن الأربعة» والطحاوي عن كَبْشَة بنتِ كعبِ بنِ مالك، وكانت تحت ابنِ أبي قتادة، فدَخَل عليها فسكَبَتْ له وَضُوءاً، فجاءت هِرّةٌ تَشْرَبُ منه، فأَصغَى لها الإِناءَ حتى شَرِبَتْ، قالتُ كَبْشَةُ: فرآني أنظُرُ إليه، فقال: أتَعجبينَ يا ابنةَ أخي؟ فقلتُ: نعم، فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ليسَتْ بنَجَس، إنَّها من الطَّوَافِين عليكم والطَّوَافات» ، قال الترمذي: حديثٌ حسَنٌ صحيح.

ومنها: ما في «صحيح ابن خُزَيمة» عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ليسَتْ بنَجَسٍ، هي كبعضِ أهل البيت» ، وفي «سُنَن الدارقطني»:«هي كبعضِ مَتاعِ البيت» .

ومنها: ما في «معجم الطبراني» : سُئِلَ أنسُ بن مالك عن الهِرَّة؟ قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرضٍ بالمدينة يُقالُ لها: بُطْحان، فقال:«يا أنسُ اسكُبْ لي وَضُوئي» ، فسكبتُ له، فلمَّا قَضَى صلى الله عليه وسلم حاجتَه أقبَلَ إلى الإِناء وقد أَتَى هِرٌّ فوَلَغَ في الإِناءِ، فوقَفَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقفةً حتى شَرِبَ الهِرُّ، ثم سألتُه فقال:«يا أنسُ إنَّ الهِرَّ مِنْ متاع البيت، لن يُقذِّرَ شيئاً ولن يُنَجِّسه» .

ولهما

(2)

، ما رواه الحاكمُ في «المستدرك» وقال: صحيحُ الإِسناد، والدارقطنيُّ عن عيسى بن المسيّب قال: حدَّثَنا أبو زُرْعَة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

أي أبو يوسف.

(2)

أي للإمام أبي حنيفة ومحمد القائلين بكراهة سؤر الهرة.

ص: 105

والدَّجاجةِ المُخَلَّاةِ وسِبَاعِ الطَّيرِ وَسَوَاكِنِ البيوتِ: مكروهٌ

===

«السِّنَّوْرُ سَبُعٌ» . وعيسى: مختلَفٌ فيه توثيقاً وتضعيفاً. وعلى كلِّ حالٍ فليس لمحلِّ الخلافِ حاجةٌ إلى هذا الحديث، إذْ ليس هو في النجاسة، لسقوطِها اتفاقاً بالطَّوَافِ المنصوصِ عليه، كسقوطِ الاستئذانِ عن المماليكِ، والذينَ لم يَبْلغوا الحُلُمَ عند دخولهم على مَوَالِيهم وأهلِيهم في غير الأوقاتِ الثلاثةِ المنصوصِ عليها في الآيةِ، المعلَّلة بأنهم {طَوَّافُون عليكم بعضُكم على بعض}

(1)

.

(والدَّجاجةِ) بفتح الدال، وتُثَلَّث (المُخَلاَّةِ) بتشديد اللام وهي: التي يَصِلُ منقارُها إلى النجاسة، يُكرَهُ سُؤْرُها، لأنها تُفَتِّشُ الأنجاسَ، فلا يخلو مِنقارُها من ذلك، إلاَّ أنه لم تُعلَم طهارتُه مِنْ نجاستِه، لكن لو توضَّأَ به جاز، لأنه تَيقَّنَ طهارتَه وشَكَّ في نجاسته والشَّكُّ لا يُعارِضُ اليقينَ، فَثَبتَت الكراهةُ للاحتمالِ، فلا يُكرَهُ لو حُبِسَتْ في قَفَصٍ وجُعِلَ عَلَفُها وماؤها ورأسُها خارجَه، بحيث لا يَصِلُ مِنقارُها إلى ما تحت قَدَمَيْها، لأنَّها رُبَّما تُفَتِّشُ نجاستَها.

وكذا كُرِهَ سُؤْرُ إبِلٍ، وبقرٍ، وغَنَمٍ جَلاَّلةٍ، وهي التي تأكلُ النجاسة، لكن إذا جُهِلَ حالُها، وأمَّا إذا عُلِمَ حالُ فَمِها طهارةً ونجاسةً فالسُّؤرُ كذلك. ولا يَحِلُّ أكلُ الدَّجاجةِ المُخلاَّةِ، والبقَرةِ الجلاَّلة إلا بحَبْسِ الأُولى ثلاثةَ أيام والثانيةِ عشرَةَ أيام.

(وسِبَاعِ الطَّيْرِ) كالصَّقْرِ، والبازِي

(2)

، والشاهينِ

(3)

والحِدَأَةِ

(4)

، إلاَّ المحبوسَ الذي يَعلَمُ صاحِبُه أنه لا قَذَرَ على مِنقاره، رُويَ ذلك عن أبي يوسف، واستحسَنَه المشايخُ.

(وسَوَاكنِ البيوت) كالحيَّةِ والفأرةِ والوَزَغَة

(5)

، لأنَّ الضرورة التي وقعَتْ الإِشارةُ إليها في الهِرَّةِ موجودةٌ فيها، فإنَّها تَسْكُنُ البيوتَ ولا يُمِكنُ صَوْنُ الأواني منها، فلم يُحكَمْ في سُؤرِها بالنجاسة فَتَبْقَى الكراهة، وقيل: كراهَةُ سؤرِها لحُرمَةِ لحمها مع تعذُّرِ صَوْنِ الأواني عنها، والأوَّلُ يُشِيرُ إلى كراهةِ التنزيه، والثاني إلى القُرْبِ من التحريم، فقولهُ:(مكروهُ) يَحتمِلُهما

(6)

. وحُكمُه أن يتوضَّأَ به ولا يَتيمَّم.

(1)

سورة النور، آية:(58).

(2)

البازي: ضَربٌ من الصقور. القاموس المحيط ص 3630، مادة (بزو).

(3)

الشاهين: طائر من جوارح الطير وسباعها. المعجم الوسيط ص 499.

(4)

الحِدَأة: طائر يصيد الجرذان. المغرب في ترتيب المعرب 1/ 184. مادة (حدأ).

(5)

الوزغة: سام أبرص. المغرب في ترتيب المعرب 2/ 352. مادة (وزغ).

(6)

أي الكراهة التحريمية والكراهة التنزيهية. قال في "الدر المختار" 1/ 149 - 150: (وسواكن البيوت) =

ص: 106

والحِمارِ والبغلِ: مشكوكٌ.

===

(والحِمارِ والبغلِ) أي وسُؤرُهما: (مشكوكٌ) في طَهُوريَّتِه، وقيل في طهارته، والأوَّلُ أصحُّ، لأنه لو مَسَحَ رأسَه منه ثم وجَدَ الماءَ لا يجبُ غَسْلُ رأسِه، ولو كان الشَّكُّ في طهارتهِ لوجَبَ غَسْلُه احتياطاً لِتوهُّمِ النجاسة.

وسبَبُ الشَّكِّ تعارُضُ الخبَرَينِ في إباحتِه وحُرمتِه.

فقد روى البخاري مِنْ حديث أنسٍ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جاءٍ في خَيْبَر فقال: أُكِلَتْ الحُمُر فسكَتَ، ثم أتاهُ الثانيةَ فقال: أُكِلَتْ الحُمُر فسكَتَ، ثم أتاه الثالثةَ فقال: أُفْنِيَت الحُمُر فأمَرَ مُنادياً يُنادي في الناسِ: «إنَّ اللهَ ورَسُولَه يَنهيانِكم عن لُحومِ الحُمُر الأَهلِيَّة» ، فأُكْفِئت القُدُورُ وإنها لتَفُورُ باللَّحْم. قال ابنُ أبي أَوْفَى: فتَحَدَّثْنا أنه إنما نَهَى عنها لأنها لم تُخَمَّس، وقال بعضُهم: نَهَى عنها البتَّةَ لأنها تأكل العَذِرَة

(1)

. قال ابنُ عباس: لا أدرِي أَنهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أجلِ أنه كان حَمُولةَ الناسِ، فكَرِهَ أن تَذهَبَ حَمُولَتُهم؟ أوْ حَرَّمَه يوم خَيْبَر؟.

وروى أبو داود عن غالبِ بن أَبْجَر قال: أصابَتْنَا سَنَةٌ، أي قَحْطٌ، ولم يكن في مالي شيءٌ أُطْعِمُ أهلي إلا شيءٌ مِنْ حُمُر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ لحومَ الحُمُرِ الأهليَّة، فذكرتُ ذلك لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أَطعِمْ أهلَك مِنْ سَمِينِ حُمُرِك، فإنَّما حَرَّمْتُها مِنْ أجلِ جَوَالِّ القَرْية»

(2)

.

وكذا تَعارَضَ الأَثَران، فعن ابنِ عُمَر نجاسَتُه، وعن ابن عبَّاس طهارَتُه. وليس أحدُهما أَولى مِنْ الآخَر، فيَبْقَى مُشْكِلاً.

والبَغْلُ مُتولِّدٌ مِنْ الحِمار، فأخَذَ حُكمَه. وقيل: البَغْلُ تابعٌ لأُمِّهِ

(3)

، فإنْ كانَتْ أتاناً

(4)

فسُؤْرُه مشكوكٌ فيه، وإنْ كانتْ رَمَكةً

(5)

فسُؤرُهُ طاهر. وأمَّا لَبَنُ الحمار ففي

= طاهر للضرورة (مكروه) تنزيهًا. علق ابن عابدين على قوله: تنزيهًا: قيد لئلا يتوهم التحريم. قال في "البحر": واعلم أن المكروه إذا أطلق في كلامهم، فالمراد منه التحريم إلا أن ينص على كراهة التنزيه.

(1)

أي الخرء. المصباح المنير ص 151، مادة (عذر).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه 4/ 163، كتاب الأطعمة (26)، باب في أكل لحوم الحمر الأهلية (33)، رقم (3809). وعقبه أبو داود بعد قوله: جَوّال القرية، يعني الجلالة.

والجلالة: الدابة التي يكون طعامها العذرة ونحوها من الجَلَّة والبعر. معجم لغة الفقهاء ص 165.

(3)

وهو الصحيح.

(4)

الأتان: الحمارة. مختار الصحاح ص 2، مادة (أتن).

(5)

الرَّمَكَة: الفرس. القاموس المحيط ص 1215، مادة (رمك).

ص: 107

يَتَوضَّأ به ويَتَيمَّمُ إِنْ عَدِمَ غيرَه، والعَرَقُ كالسُّؤر.

‌باب [التَّيَمُّمِ]

التيمُّمُ

===

«الهداية» : أنه طاهر، وفي ظاهر الرواية

(1)

أنه نَجِسٌ

(2)

. وحُكمُ المشكوكِ قولُهُ:

(يَتَوضَّأ به ويَتَيمَّمُ) أي يَجمَعُ بينَ الوضوءِ بسُؤْرِ الحمارِ أو البغلِ وبينَ التيمُّمِ (إِنْ عَدِمَ غيرَه) أي فُقِدَ ولم يُوجَد حينئذٍ غيرُ سُؤْرِ الحمار أو البغل، وأيَّهما قَدَّم جاز. وقال زُفَر: يَجِبُ تقديمُ الوضوءِ لتحقُّقِ شَرْطِ صِحَّةِ التيمُّمِ وهو فَقْدُ ماءٍ واجبٍ استعمالُه. قلنا: الاحتياطُ في الجَمْعِ بينهما لا في الترتيبِ، فإن كان مُطَهِّراً فقد توضَّأ به، قَدَّم أو أخَّر، وإلاَّ ففَرْضُه التيمُّمُ وقد أَتى به، لكن الأفضل تقديمُ الوضوء ولذا قَدَّمه.

(والعَرَقُ كالسُّؤر) أي في جميعِ ما تقدَّمَ، لأنَّ اللُّعابَ والعَرَقَ كِلَاهما مُتوِّلدٌ من اللحم، لكنْ في ظاهر الرواية: طهارةُ عَرَقِ الحِمارِ ونجاسَةُ لَبَنِه. أمَّا العَرَقُ فلأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَركَبُ الحِمارَ مُعْرَوْرِياً

(3)

في حَرِّ الحِجَاز، فلا بُدَّ مِنْ أن تَعَرَقَ الحُمُر، ولأنَّ ضَرُورةَ البَلْوَى ظاهِرةٌ لمن يَركَب. وأمَّا اللَّبَنُ فعن شمس الأئمة: الصَّحيحُ أنه نجس نجاسة غليظة، لأنه حرامٌ بالإِجماع، ولا ضَرُورَةَ فيه، وعن البَزْدَوِي: أنه يُعْتَبَرُ فيه الكثيرُ الفاحِشُ وصحَّحه، فيكون على هذا نجاسَتُهُ مخَفَّفَةً. وعن محمد: أنه طاهِرٌ ولا يُؤكل.

(باب التَّيَمُّم)

(باب) بالتنوين، أو بالوقف، أو بالإِضافةِ إلى قوله:(التيمُّم) والبابُ في اللغة: النوع، وفي العرف: نوعٌ من المسائل اشتَمَل عليها كتابٌ، وإنه بمنزلة الجنس. وفي نسخةٍ: فصلٌ بدَلَ باب.

ثم التيمُّمُ في اللغة: القَصْدُ، ومنه قوله تعالى: {ولا تَيمَّمُوا الخبيثَ منه

(1)

المقصود من ظاهر الرواية هنا: الكتب الستة للإِمام محمد بن الحسن الشيباني، وهي:"المبسوط" ويسمى "الأصل"، و "الجامع الصغير"، و"الجامع الكبير" و "السِّيَر الصغير"، و"السِّيَر الكبير"، و "الزيادات". وإنما سميت هذه الكتب الستة باسم "ظاهر الرواية" لأنها رويت عن الإمام محمد بروايات الثقات، فهي ثابتة عنه إما متواترة وإما مشهورة. انتهى باختصار من فتح باب العناية 1/ 152 الجزء الذي حققه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى.

(2)

وهو الصحيح. انظر "فتح القدير" 1/ 100.

(3)

أي لا سَرْج عليه. انظر القاموس المحيط ص 1690، مادة (عري).

ص: 108

يَخْلُفُ الوُضوءَ والغُسْلَ عند العَجْزِ عن الماء لِبُعْدِه مِيلًا،

===

تُنفِقون}

(1)

، وفي الشرع: القصدُ إلى الصَّعيدِ الطيِّب لمسح الوجه واليدين، بنيَّةِ استباحة الصلاةِ ونحوِها، لقوله تعالى:{فتيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فامْسَحُوا}

(2)

. وقد شُرِعَ في غزوة المُرَيْسِيع، وهو بناحية قُدَيْد بين مكة والمدينة، وهي غزوةُ بَنِي المُصْطَلِق.

(يَخْلُفُ) أي التيمُّمُ (الوُضوءَ) أي يقومُ مقامَ الوضوء، بمعنى أن التُّراب بدَلٌ عن الماء لرفع الحَدَث، فالبدَليَّةُ بين الصعيدِ والماء، فكما أن الماء مطهِّرٌ مطلقاً فكذلك التراب، وهذا عند الشيخين، وأما عند محمد فالفِعلُ بدَلٌ عن الفِعْل، أي التيمُّمُ، بدَلٌ عن التوضؤ، فإنَّ الأمر وقع في القرآن بالتوضؤ ثم بالتيمم عند العجز، فلهذا لا يجوز عنده إمامةُ المتيمم للمتوضاء، كما لا يجوز إمامةُ المُومِاء لمن يُتمُّ الركوعَ والسجود اتفاقاً.

(والغُسْلَ) سَواءٌ كان عن جنابة، أو حيض، أو نفاس، لقوله تعالى:{أوْ لامَسْتُم النساءَ}

(1)

أي جامعتم، فذَكَرَ نوعي الحَدَث عند وجود الماء، ثم ذكَرَ نوعي الحَدَث عند عَدَمه، وأَمرَ بالتيمم لهما بصفةٍ واحدة. والحائضُ والنُّفَساءُ في معنى الجُنب.

(عند العجز عن الماء) أي الكافي لرفع الحدَث، لأنَّ ما دونه لا يَثْبت به استباحةُ الصلاة، فكان وجودُه كالعَدَم. وإنما شَرَطنا في التيمم العجزَ عن الماء لقوله تعالى:{فلم تَجدُوا ماءً فتيمموا}

(2)

ولقوله صلى الله عليه وسلم «الصَّعِيدُ الطيِّبُ وُضوءُ المُسْلِم ولو إلى عَشْرِ حِجج

(3)

ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء فلْيُمِسَّهُ بشرته». رواه أبو داود، وابن حِبَّان، والحاكم عن أبي ذر، وصحَّحه الترمذي وقال: حسنٌ صحيح

(4)

.

(لِبُعْدِه) أي الماءِ عن المتيمّم (مِيلاً)

(5)

أي بُعْدَ مِيلٍ، أو بقَدْرِ ميل، سواءٌ كان مسافراً أو مقيماً، خارجَ المصر أو داخِلَه كما صَرَّح به في «الأسرار» ، وهو قول أبي حنيفة، وهو المختار. والمِيلُ ثُلُثُ فَرْسَخ، وذلك أربعةُ آلافِ خَطوة، وكلُّ خَطوة ذِراعٌ

(1)

سورة البقرة، آية:(267).

(2)

سورة المائدة، آية:(6).

(3)

أي عشر سنوات. انظر مختار الصحاح ص 52، مادة (حجج).

(4)

في المخطوطة والمطبوعة 1/ 62 (نسخة باكستان)، و 1/ 164 (نسخة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله: صحيح حسن، إلا أنَّا وجدناه في سنن الترمذي 1/ 213، كتاب الطهارة (1)، باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء (92)، رقم (124). كما تراه فاقتضى التنبيه.

(5)

الميل: هو ما يساوي اليوم 1848 مترًا. بمعجم لغة الفقهاء ص 470.

ص: 109

أو لِمَرَضٍ، أو بَرْدٍ،

===

ونصفُ ذراعِ بذِراع العامَّة، وذلك أربعٌ وعشرون إصبعاً بعدد حروف: لا إله إلا الله محمَّدٌ رسول الله

(1)

، فيكون ثُلُثُ الفرسخِ ستَّةَ آلافِ ذراع.

(أَوْ لِمَرَضٍ) يَخاف زِيادتَه، أو شِدَّتَه، أو طُولَه باستعمالِه، كالمحمومِ، وصاحبِ الجُدَري، والحَصْبة، أو بالحرَكةِ إليه كالمبطون ومشتكي العِرْقِ المَدَني

(2)

، أو لا يزدادُ لكن تَشُقُّ عليه الحركة.

وعند الشافعي: لا يَتيمَّمُ إلا إذا خاف تَلفَ نَفْسٍ أو عضوٍ. وهو مردودٌ لإِطلاق قوله تعالى: {وإنْ كنتُم مَرْضى}

(3)

. وفي «المحيط» : ولو وجَدَ المريضُ من يُوضِّئه جاز له التيمُّمُ عند أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز، ولو كان له خادم أو أجير لا يجوز بالاتفاق. وعلى هذا لو عَجَزَ عن التوجُّهِ إلى القِبلةِ، أو عن التحوُّلِ عن فراشٍ نَجِس ووجَدَ من يُوجِّهه ويُحوِّلُه، بناءً على أنَّ القُدْرَة بالغَيْر لا تُعدُّ قُدْرةً عنده، لأن الإِنسان إنما يُعدُّ قادراً إذا اختَصَّ بحالةٍ تُهيِّاءُ له الفعلَ متى أراد، وهذا لا يتحقَّقُ بقدرةِ غيره، ولهذا قلنا: لو بذَلَ الابنُ لأبيه المالَ والطاعةَ لا يلزمه الحجُّ، وعندهما تَثْبُتُ القُدرةُ له بالغَيْر، لأن آلَتَهُ صارت كآلته بإعانته، واختار حسام الدين قولَهما.

(أو بَرْدٍ) يَخافُ الصَّحيحُ المقيمُ من استعمالِهِ الماءَ الهلاكَ، أو تلَفَ العضوِ، أو المرَضَ. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز التيمم للبَرْد إلا في السفر، لأن الغالب في المِصْر وِجْدَانُ الماء الحارّ وإمكانُ الاستدفاء. ولأبي حنيفة: أنَّ عدمهما في المِصْر ليس بنادر، ولو سُلَّمَ، فالنُّدورُ لا يُنافي إباحةَ التيمم، كخوفِ حضور السَّبُع. وفي إطلاق المصنِّف إشارةٌ إلى أنه يجوز للمُحْدِث التيمُّمُ لخوف البَرْد، وهو قول بعض المشايخ، والصحيحُ: أنه لا يجوز له التيمم

(4)

.

والأصلُ في ذلك: ما رواه ابن مَرْدُويَهْ عن ابن عباس: أن عَمْرو بن العاص صلَّى بالناس وهو جُنُب، فلما قَدِموا المدينة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك، فقال: يا رسول الله خِفْتُ أن يَقتلني البَرْدُ، وقد قال الله تعالى: {ولا تَقْتُلوا أنفسَكم إنَّ اكان

(1)

استعمال هذه الجملة الكريمة للدلالة على العدد ليس فيه تكريم، فالأولى تركه. أفاده الشيخ عبد الفتاح رحمه الله.

(2)

مرَّ شرحه ص 60، التعليقة رقم (3).

(3)

سورة المائدة، آية:(6).

(4)

إذا تحقق الضرر في الوضوء جاز له التيمم اتفاقًا؛ لأن الحرج مدفوع بالنص. انظر رد المحتار على الدر المختار 1/ 156.

ص: 110

أو عَدُوٍّ، أو عَطَشٍ، أو عَدَمِ آلةٍ، أو فَوْتِ ما يفوتُ لا إِلى خَلَف، كصلاة العيد ابتداءً أو بِناءً، والجنازةِ لغير الوليّ.

===

بكم رحيماً}

(1)

قال فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقد نقل الإِمام هذا الحديث بزيادة: فتَيممت وصليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(أَوْ عَدُوَ) آدمياً كان أو غيرَه كالسَّبُع والحيَّة، وهذا يَشمل المحبوسَ، فإنه يصلي بالتيمم، واختُلِفَ هل يُعيد أم لا

(3)

؛ (أو عَطَشٍ) سواء كان عطَشَ نفسِه أو رفيقِه أو دابَّتِه مِنْ كلبٍ أو غيره، وسواء كان العطشُ حاصلاً في الوقت أو متوقَّعاً في ثاني الحال على ما ذُكِرَ في عامة الكتب (أو عَدَمِ آلة) كحَبْل أو دَلْو أو نحوهما.

(أو فَوْتِ ما يفوتُ لا إِلى خَلَف) بفتحتين أي: بَدَلٍ وعِوَض. احتَرَز بهذا القيد عن فوتِ الجمعة فإنَّ الظُّهر يَخْلُفها، وعن فوتِ إحدى الفرائض الخمس، فإنَّ قضاءها يَخْلُفها (كصلاة العيد ابتداءً) بأن كان جنباً أو مُحدِثاً، وخاف إن اغتسل أو توضَّأ فاتَتْه (أو بناءً) بأن كان الإِمامُ أو المقتدي شَرَع فيها فسبَقَه الحَدَث فخاف إن اشتغلَ بالوضوءِ أنْ تفوتَه، فإن كان شرع فيها بالتيمُّمِ تيمَّمَ وبَنَى بالاتفاق، لأنه متى أُمِرَ بالوضوء فسدَتْ صلاتُه، لأنه يكون واجداً للماء فيها، وإن كانَ شَرَع فيها بالوضوء تيمَّمَ وبَنَى عند أبي حنيفة، وعندهما لا يجزيه التيمُّمُ لعدم خوفِ الفوت إذ اللاحِقُ يصلي بعد فراغ الإِمام. ولأبي حنيفة: أنَّ خوف الفوت باقٍ، لأنه يومُ زَحْمَةٍ، فربما اعتراه ما أفسد صلاتَه، والأظهر قولهما

(4)

.

(والجنازةِ) أي وكصلاة الجنازة (لغير الوليّ) قيَّدَ به لأن الوليَّ يُنتظَر، ولو صَلَّوا له حَقُّ الإِعادة، وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة، وفي «الهداية»: هو الصحيح. وروى ابن أبي شيبة والطحاوي والنَّسائي في كتاب «الكُنَى» عن ابن عباس أنه قال: إذا خِفتَ أن تفوتك الجنازةُ وأنتَ على غير وُضوءٍ فتيمَّم، وروى البيهقِي أنَّ ابن عُمَر أُتي بجنازة وهو على غير وُضوءٍ فيتمَّمَ وصلَّى عليها، ونقَلَ الدارقطنيُّ عنهما في صلاة

(1)

سورة النساء، آية:(29).

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط، ولعله يريد بـ: الإِمام، الإِمام أحمد وهو كذلك، حيث أخرج الحديث في مسنده 4/ 203.

(3)

قال ابن عابدين في رد المحتار 1/ 156 - 157: اعلم أن المانع من الوضوء أن كان من قبل العباد كأسير منعه الكفار من الوضوء ومحبوس في السجن، ومن قيل له: إن توضأت قتلك، جاز له التيمم، ويعيد الصلاة إذا زال المانع

أما إذا كان من قبل الله تعالى، كالمرض فلا يعيد.

(4)

ويفتى بقول الإِمام لأنَّه الأصح. انظر "الدر المختار" و"رد المحتار" 1/ 162.

ص: 111

[صِفَةُ التَّيَمُّم]

وهو ضَرْبَتانِ: ضَرْبةٌ لِمَسحِ وجهِهِ، وضرْبةٌ ليديه مع مِرْفَقَيْه،

===

العيد كذلك.

وهو قولُ مالك وأحمد خلافاً للشافعي، ومما يُستدَلُّ به على ذلك ما رواه الشيخان من حديث أبي جُهَيم الحارث بن الصِّمَّة قال: أقبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئرِ جَمَلٍ

(1)

فلقيه رجلٌ فسلَّم عليه، فلم يَرُدَّ عليه حتى أقبل على جدارٍ فمسَحَ وجهه ويديه، ثم رَدَّ صلى الله عليه وسلم عليه السلام، ثم اعتذَرَ إليه فقال:«إني كرهتُ أن أذكر اسمَ الله إلا على طُهْر» أو قال: «إلا على طهارة» .

(صِفَةُ التَّيَمُّم)

(وهو) أي التيمُّمُ (ضَرْبَتانِ) وهما وَضْعَتانِ على وجْه الشِّدَّة

(2)

، ولو في مكانٍ واحد على الأصح لعدم صيرورته مستعمَلاً، لحصوله بما التَزَق بيده لا بما فَضَل. وحاصلُهُ: أن الضَّرْبَ رُكنٌ، فلو أحدَثَ بعده قبل المسح لا يجوز المسحُ بتلك الضربة لكونها ركناً كما لو أحدَثَ في الوضوء بعد غَسْل بعض الأعضاء، وبه قال السيد أبو شجاع، واختاره شمس الأئمة، وقال الإِسْبِيجابي: يجوز كمن ملأ فمَهُ

(3)

فأحدَثَ ثم استعمله.

(ضَرْبةٌ لمسحِ وجهه، وضرْبَةٌ ليديه مع مِرْفَقَيْه) لقوله تعالى: {فامْسَحُوا بوجوهِكم وأيدِيكم}

(4)

ولِمَا رواه الدارقطني والحاكم وصحَّحه من حديث جابر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التيمُّمُ ضَرْبتان: ضربةٌ للوجه، وضربةٌ للذراعين إلى المرفقين» .

ولو وضَعَ يدَهُ مرَّتين من غير ضَرْب ففي «المبسوط» : الجوازُ، وفي «الغاية»: الضَّرْبُ أولى وذلك إما ليوافِقَ لفظَ الحديث، وإما لِيَدْخُلَ الغُبارُ في أثناءِ الأصابع، ولذا قال في «الزاد»: ينبغي أن تكون الأصابعُ منفرِجَةً عند الضرب. واستيعابُ مَسْحِ العضوين بالتيمم واجبٌ في ظاهر الرواية، لأنه خَلَفٌ عن الوضوء، وفي الوضوء يجبُ الاستيعابُ، فكذا في التيمم، حتى لو لم يَمسَحْ ما تحت الحاجبين وفوقَ العينين أو لم يُحرِّك خاتمَهُ وهو ضيِّق لا يجزئه. وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة: أنه إذا تيمَّمَ على

(1)

موضع بالمدينة. مراصد الاطلاع 1/ 140.

(2)

الضربتان هما وَضْعَتان على وجه الشِّدة: أي: أن يصنعهما بشدة على الأرض.

(3)

في المخطوطة: "كفه" وفى "فتح القدير": "كفيه ماء"، بدل "فمه".

(4)

سورة المائدة، آية:(6).

ص: 112

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الأكثر جاز.

والمِرفقانِ يَدْخُلانِ في المسح، وبه قال الشافعي خلافاً لزُفَر، وقال الأوزاعي والأعمش: إلى الرُّسُغين، وهو روايةُ الحسن عن أبي حنيفة ومَرْوِيٌّ عن ابن عباس، وقال الزُّهْري: إلى الآباط.

وحديثُ عَمَّار وَرَدَ بذلك كلِّه كما رواه الطحاويُّ وغيرُه: فرجَّحنا روايةَ إلى المرفقين بقولِ النبي صلى الله عليه وسلم «التيمُّمُ ضَرْبتان: ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المِرْفقين» ، رواه الحاكم والدارقطني بهذا اللفظ عن ابن عُمَر عنه صلى الله عليه وسلم

وبِمَا في الطبراني والدارقطني والطحاوي: عن الرَّبيع بن بَدْر، عن أبيه، عن جَدِّه، عن الأسْلَع التميمي: قال: أراني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كيف أمسَحُ، فضَرَبَ بكفَّيه الأرضَ ثم رَفَعَهُما لوجهه، ثم ضَرَبَ ضَربةً أخرى فمسَحَ ذِراعيه باطِنَهما وظاهِرَهُما حتى مَسَّ بيديه المرفقين.

زاد الطحاوي عن الأسلع التميمي قال: كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فقال: «يا أسلَعُ قُمْ فارْحَلْ لنا» ، قلتُ: يا رسول الله أصابتني بَعْدَك جنابةٌ، فسكتَ عني حتى أتاه جبرائيل بآية التيمم، فقال لي:«يا أسلع قُمْ فتيمَّمْ صعيداً طَيِّباً ضَرْبَتَيْنِ: ضَرْبةً لوجهك، وضَرْبةً لذِراعَيْكِ ظاهِرَهما وباطِنَهما» ، فلمَّا انتهينا إلى الماءِ قال:«يا أسلَعُ قُمْ واغتسل» .

ومَنْ قال: إلى الرُّسُغين استدَلَّ بما في «الكتب الستة» من حديث عبد الرحمن بن أبْزَى: أنْ رجلاً أتى عُمَرَ رضي الله عنه، فقال: إني أَجنبتُ فلم أجد الماء، فقال: لا تُصَلِّ، فقال عَمَّارٌ: أمَا تذكُرُ يا أمير المؤمنين إذ كنتُ أنا وأنتَ في سَرِيَّة، فأجنبنا فلم نجد الماء، فأمَّا أنتَ فلم تُصلِّ، وأمَّا أنا فتمعَّكْتُ في التراب

(1)

فصلَّيتُ، فأتينا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنَّما يكفيك أن تَضْرِبَ بيديك الأرضَ ثم تَنْفُخَ وتمسَحَ بهما وجْهَك وكفَّيك»؟ قال عُمَر: نُولِّيك مِنْ ذلك ما تولَّيت.

قلنا: المرادُ بالكفَّينِ: الذراعان إطلاقاً لاسم الجزء على الكلّ، أو المرادُ الكفَّانِ مع الباقي حملاً له على قوله: كنتُ في القومِ حين نَزَلَتْ الرُّخصَةُ في المسَحَ بالتُّرابَ إذا لم نجد الماء، فأُمِرْنَا فَضَرَبْنا واحدةً للوجه، ثم ضَرْبةً أخرى لليدينِ إلى المرفقين.

(1)

أي تمرغت بالتراب. انظر المصباح المنير ص 220، مادة (معك).

ص: 113

على كلِّ طاهرٍ من جنس الأرض

===

ومَنْ حَدَّه إلى الآباط استدَلَّ بما رواه الطحاوي مِنْ طُرَقٍ عن عمَّار بن ياسر قال: كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلَتْ آيَة التيمُّم فضَرَبْنا ضربةً واحدةً للوجه، ثم ضَرَبْنَا ضربةً لليدين إلى المنكبين ظَهْراً وبَطْناً، وفي روايةٍ: تيمَّمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، فهَلَكَ عِقْدٌ لعائشة، فطلبوه حتى أصبحوا وليس مع القوم ماءٌ، فنزلَتْ الرُّخْصَة في التيمم بالصعيد، فقام المسلمون فضَرَبُوا بأيديهم إلى الأرض، فمسحوا بها وجوهَهم وظاهِرَ أيديهم إلى المناكب وباطِنَها إلى الآباط.

قلنا: هو بَدَلٌ عن الوضوء، فالتنصيصُ على الغاية فيه تنصيصٌ عليها في التيمم، مع ما في الأحاديث القولية من التنصيص عليها، ويُحملُ الحديثُ على فعلِ بعضهم أخذاً من إطلاق اليدين بدونِ ذكرِ الغاية، وليس في الحديث ما يدلُّ على أنه صلى الله عليه وسلم اطَّلعَ على فعلهم هذا وقَرَّرَهم، مع احتمال النَّسْخ، والله سبحانه أعلم.

وفي «المحيط» : وكيفيَّةُ التيمم أن يَضرِبَ يديه على الأرض ثم يَنفضَهُما فيمسَحَ (بهما وجهه بحيث لا يَبقَى منه شيء وإنْ قلّ، ثم يَضرِبَ يديه على الأرض ثم يَنفضَهُما فيمسَحَ)

(1)

بهما كفَّيه وذراعيه كليهما إلى المرفقين. وقال بعضُ مشايخنا: يَضْرِبُ يديه ثانياً ويَمسحُ بأربعِ أصابعِ يدِهِ اليُسْرى ظاهِرَ يدِهِ اليُمْنى من رؤوس الأصابع إلى المرفق، ثم يَمسَحُ بكفِّه اليُسْرى باطِنَ يدِهِ اليُمنى إلى الرُّسُغ، ويُمِرُّ باطِنَ إبهامه اليُسرى على ظاهر إبهامه اليُمنى، ثم يَفعلُ باليدِ اليُسرى كذلك، وهو الأحوط، لأن فيه احترازاً عن استعمال المستعمَلِ بقدرِ الإِمكان، فإنَّ التراب الذي على يده يصير مستعمَلاً بالمسح حتى لو ضَرَبَ يديه مرةً ومسَحَ بهما وجهه وذراعيه لا يجوز، ولا يجبُ مسْحُ باطنِ الكفِّ، لأنَّ ضربهما على الأرض يُغني عنه.

(على كلِّ طاهرٍ) متعلِّقٌ بضربة، وقيَّدَ بالطاهر لأنه المراد بالطيِّب في قوله تعالى:{فتيَمَّموا صَعِيداً طيِّباً}

(2)

وعليه الإِجماع، (مِنْ جنسِ الأرض) فكلُّ ما يَلِينُ ويذوبُ بالنار كالذهب والفضة، أو يحترقُ بها فيصير رماداً كالخشَب: ليس من جنس الأرض، لأنَّ مِنْ طبعِها أن لا تحترق بالنار ولا تلين بها، كذا في «المحيط» .

وأطلقه مالك لظاهر الصعيد، وأجمعوا على أنه لا يجوز التيمُّمُ بالرماد، وقال الشافعي وأحمد في أقوى الروايتين عنه وأبو يوسف في رواية: لا يجوزُ التيمُّمُ إلا

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

سورة المائدة، آية:(6)

ص: 114

ولو بلا نَقْع، وعليه مع القُدْرَةِ على الصَّعِيدِ

===

بالتُّراب لما في مسلم من حديث حُذَيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فُضِّلنا على الناس بثلاث: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كصفوف الملائكة، وجُعِلتْ لنا الأرضُ كلُّها مسجداً، وجُعِلتْ تُربتُها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء» .

وعن أبي يوسف وهو رواية عن أحمد: لا يجوزُ التيمم إلا بالتراب أو الرمل، لِمَا روى أحمد، والبيهقي، وإسحاق بن رَاهُويَه، والطبراني في «الأوسط» ، عن أبي هريرة: أنَّ أُناساً من أهل البادية أَتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنَّا نكونُ بالرمال الأشهُرَ الثلاثة والأربعة، ويكونُ فينا الجنبُ والحائضُ والنُّفَساء، ولسنا نجدُ الماءَ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «عليكم بالأرض» .

ولأبي حنيفة ومحمد وهو مذهَبُ مالك: قولُه تعالى: {فتَيمَّموا صعيداً طيِّباً}

(1)

، والصعيدُ: اسمٌ لما ظهَرَ على وجه الأرض مِنْ جنسها، وما في «الصحيحين» من حديث جابر:«أُعطِيت خمساً لم يُعطَهُنَّ أَحد قبلي: نُصِرتُ بالرُّعب مسيرةَ شهر، وجُعِلَتْ لي الأرضُ مسجداً وطَهُوراً، وأُعطِيتُ جوامعَ الكَلم، وأُحِلَّتْ لي الغنائم، وأُرسِلْتُ إلى الخَلْقِ كافَّةً» . وأمَّا حديثُ حذيفة فنحن نقولُ به، فإن التراب عندنا مما يُتيمَّمُ به، وكذلك حديثُ أبي هريرة، على أنَّ في إسناده المُثَنَّى بنَ الصَّبَاح وقد قال أحمد فيه: لا يساوي شيئاً، وقال النَّسائي: متروك.

(ولو بلا نَقْعٍ) أي ولو كان الطاهرُ الذي من جنسِ الأرض بلا غُبَار، حتى لو ضَرَب بيديه على حجرٍ أملسَ، أو حائط لا غُبارَ عليه، أو على أرضٍ نَديَّة ولم يَلتزِقْ بيده منه شيء: جاز عند أبي حنيفة، وقال محمد: لا يجوز بلا نَقْع، وهو قولُ الشافعي لقوله تعالى:{فامْسَحُوا بوجوهِكم وأيدِيكم منه}

(2)

. وكلمةُ مِنْ للتبعيض، ولأبي حنيفة وهو روايةٌ عن محمد: أنَّ المعتبر هو الإِمساسُ، بدليل أنه يَنفضُهما حتى يتناثر ما عليهما من التراب.

(وعليه) أي وجاز التيمم على النَّقْع أيضاً (مع القدرة على الصعيد) أي فضلاً معَ عدم القدرة للضرورة، حتى لو تيمَّمَ بغُبَارِ ثوبه، أو بنُفاضةِ لِبْدهِ، أو كَنَسَ داراً، أو كالَ حنطةً، أو هدَمَ بيتاً، أو هبَّتْ الريحُ فارتفع الغُبارُ وأصاب وجهَهُ وذراعيه فمسَحَ بنيَّةِ التيمم: جاز، لأن الغُبارَ جزءٌ من التراب. وقال أبو يوسف: لا يجوز لأنه ترابٌ ناقص،

(1)

سورة المائدة، آية:(6).

(2)

سورة المائدة، آية:(6).

ص: 115

بنيَّةِ أداء الصلاة.

ويصحُّ قبل الوقْتِ والطَّلَبِ من الرَّفيقِ

===

إلا إذا عَجَزَ عن التراب للضرورة. ولو تيمَّمَ مِنْ الطِّين جاز عند أبي حنيفة وهو الصحيح، لأنَّ الواجب عنده وضْعُ اليد على الأرض لا استعمالُ جزءٍ منها، والطينُ من جنس الأرض، إلا إذا صار مغلوباً بالماء فلا يجوز التيمم به.

(بنيَّةِ أداء الصلاة) وكذا بنيَّةِ استباحتِها، أو الطهارةِ، أو عبادةٍ مقصودةٍ لا تصح إلا بالطهارة، كسجود التلاوة وصلاة الجنازة. وقال زُفَر: لا تُشترطُ النيَّةُ في التيمم كما لا تُشترطُ في الوضوء والغُسل. وأُجيبَ بأنَّ التيمم لمَّا كان معناه اللغويُّ القصدَ، فاعتُبِرَ في مقتضاه الشرعي، وأيضاً الماءُ مطهِّرٌ بطبعه فلا يَحتاج إلى قصده، والترابُ مغبِّرٌ بوضعه فاحتِيجَ إلى قَصْدِه، لا سيما عند فَقْد أصله.

ولو تيمَّمَ لقراءة القرآن لا تجوز به الصلاة هو الصحيح، وكذا لو تيمَّمَ لدخولِ المسجد أو مسِّ المصحف ثم صلَّى الفريضةَ لا يجوز عند عامَّة العلماء. قال أبو بكر الرازي: ويَحتاج إلى نيَّة التيمم للحدثِ أو الجنابة، لأنَّ التيمم لهما بصفةٍ واحدة، فلا يتميز أحدُهما عن الآخر إلا بالنية. وقيل: لا يجبُ وهو الصحيح، لأن الحاجة إلى النية لتحصيل الطهارة، وعن محمد في الجنب إذا تيمَّمَ يُريدُ به الوضوءَ أجزأه عن الجنابة.

(ويصحُّ) أي التيمُّمُ (قبل الوَقْت) أي وقتِ الصلاة.

وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يصحُّ لأنه طهارةٌ لضرورةِ صحة الصلاة، كطهارة المُستَحَاضة.

ولنا إطلاقُ النصوص في حقّ الوقت، والمطلَقُ يَبقى على إطلاقه، منها: قولُه تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيَمَّموا صعيداً طيِّباً}

(1)

وقولُه صلى الله عليه وسلم «التُّرابُ طَهُورُ المسلم» ، وفي رواية «السُّنَنِ»:«الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وُضوءُ المسلم ولو إلى عَشْرِ حِجَج ما لم يجد الماء»

(2)

، وقولُه في «الصحيحين»:«وجُعِلَتْ لي الأرضُ مسجداً وطَهُوراً» ، ولأنه خَلَفٌ عن الوضوءِ والغُسل، وهما مِنْ شروط الصلاة، والأصل في الشرط جوازُ تقدُّمِه على الوقت، وكذا خَلَفُهُ الذي بمنزلة فَرْعه.

(والطَّلَبِ من الرفيق) أي ويَصِحُّ التيمُّمُ أيضاً قبل طَلَبهِ الماءَ من رفيقه الذي

(1)

سورة المائدة، آية:(6).

(2)

تقدم تخريجه ص 109.

ص: 116

ويُصلِّي بواحدٍ ما شاء.

===

معه ماءٌ، وكذا حُكمُ الدَّلْو والرِّشاء

(1)

، وهذا عند أبي حنيفة لأنه لا يلزمُه الطلبُ مِنْ مِلْك الغير، ولأنَّ السؤال مَذَلَّة ومهانة، وفيه بعضُ حرج وزيادةُ كُلفة. وعندهما: لا يصحُّ التيمُّمُ إلا بعدَ الطلب، لأنَّ الماءَ مبذولٌ عادة، وقد سأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعضَ حوائجه مِنْ غيره. وقيل: لا خلاف، فمرادُ أبي حنيفة إذا غلَبَ على ظنِّه منعُه إياه، ومرادُهما إذا غلَبَ عليه عدَمُ منعه، ولذا لم نجد

(2)

في «الكافي» خلافاً، وقال: إن كان مع رفيقه ماءٌ فظَنَّ أنه إن سأله أعطاه لم يَجز التيمم، وإن ظنَّ أنه لا يعطيه جاز

(3)

، وإن شك (في الإِعطاء)

(4)

وتيمَّمَ وصلَّى وسأله فأعطاه يُعيده لأنه ظهر أنه كان قادراً، وإن منَعَه قبل شروعه وأعطاه بعدَ فراغه لم يُعِد لأنه لم يَتبيَّن أنَّ القدرة كانت ثابتة.

(ويصلي بواحدٍ) أي بتيمُّمٍ واحدٍ (ما شاء) أي من أداءِ الفرائض وقضائِها والنوافلِ.

وقال مالك والشافعي: لا يَجمَعُ بين فرضين بتيمم واحد. والخلافُ يُبنَى تارةً على أنه رافعٌ للحدث عندنا مبيحٌ عندهم، وتارةً على أنه طهارةٌ ضروريةٌ عندهم، مطلقةٌ عندنا. وقال أحمد: إذا تيمَّمَ صلَّى الصلاةَ التي حضَرَ وقتُها والفوائتَ والتطوُّعَ، إلى أن يدخل وقتُ صلاة أخرى.

ولنا حديثُ أبي ذَرّ السابق

(5)

وهو قولُه صلى الله عليه وسلم «الصَّعيدُ الطيِّب وُضوءُ المسلم ولو إلى عَشْرِ حِجَج ما لم يجد الماءَ» ، فقد جعله صلى الله عليه وسلم وُضوءاً عند عدمِ الماءِ مطلقاً، فوجب أن يكون حُكمُه كحكم الوضوء، فوجب القولُ بارتفاع الحدَثِ إلى وجود الماء، ويؤيِّدُه قولُه تعالى:{ولكنْ يُريد ليُطَهِّرَكُم}

(6)

.

ولا مُتمسَّكَ للشافعي في قوله: إنَّ التيمم لا يَرفعُ الحدَثَ لقوله صلى الله عليه وسلم لعَمْرو بن العاص حين صَلَّى بالتيمم عن الجنابة: «ما حمَلَكَ على أن صلَّيتَ بأصحابك وأنت جنب» ؟ لاحتمالِ أنه تيمَّم مع القدرة أو ظَنَّ صلى الله عليه وسلم منه ذلك، بل هو الظاهِرُ، لأنه صلى الله عليه وسلم قال له على وجه الإِنكار، ولا يُنْكِرُ صلى الله عليه وسلم التيمَّمَ في موضع يجوز، ولمَّا بيَّنَ له السبَبَ تركه.

(1)

مرّ شرحه ص 98، التعليقة رقم (1).

(2)

في المخطوطة: "يحك" بدل "نجد".

(3)

عبارة المخطوطة: "لم يجز التيمم، وإن كان عنده أنه لا يعطيه يتيمم".

(4)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(5)

الصفحة الماضية.

(6)

سورة المائدة، آية:(6).

ص: 117

[نَوَاقِضُ التَّيمم]

ويَنقُضُه ناقضُ الأصل، وقُدرتُهُ على ماءٍ كافٍ لطُهْره لا ارتدادُهُ. ونُدِبَ لِرَاجيه صلاتُه آخِرَ الوقت.

===

(نَوَاقِضُ التَّيَمُّمِ)

(ويَنقُضُه) أي التيمُّمَ (ناقضُ الأصل) أصلِ ذلك التيمم وضوءاً كان أو غُسلاً، لأنه خَلَفُه فيأخذ حُكمَه منه. وفي بعض النسخ: ناقضُ الوضوء. (وقُدرتُهُ على ماءٍ) أي بإباحة أو تمليكٍ، في الصلاة أو خارجَها، قُدرةً حقيقةً أو حكميةً، كالناعس إذا مرَّ على الماء عند أبي حنيفة. وفي «فتاوى قاضيخان» قيل: يجبُ أن لا يُنقَضَ عند الكل، لأنه لو تيمَّمَ وبقُرْبِه ماء ولم يَعلم به صحَّ تيمُّمه فكذا هذا. انتهى. وهذا هو الظاهرُ، لأن أبا حنيفة إذا قال بجوازه لمستيقظٍ على شاطاء نهر لا يَعلَمُ به، فكيف يقولُ بانتقاض تيمُّم المارِّ به مع تحقُّق غفلته؟.

(كافٍ لطهْره) وضوءاً كان أو غُسلاً، لأنَّ الماء الذي لا يكفي للطهارة وجودُهُ كالعَدَمِ في حقّها. فلو اغتسل جنبٌ فبقي عضو من أعضائه وفَنِي الماءُ ثم أحدثَ حدثاً يوجب الوضوء فيتمَّمَ لهما، فإنْ وجَدَ بعد ذلك من الماء ما يكفي لِلُّمْعَةِ والوضوءِ بطل تيمُّمُه في حق كلِّ واحدٍ منهما، وإن لم يجد ما

(1)

يكفي لأحدهما بقي تيمُّمُه في حقهما، وإن وجَدَ ما يكفي لأحدهما بعينه بطل تيمُّمُه في حقه، وإن وجد ما يكفي لأحدهما لا بعينه غَسَل اللُّمْعَة لأنَّ الجنابة أغلظ.

وهل يُعيدُ التيمُّم للحدَث؟ فيه روايتان، وعلى إعادته فإنْ تيمَّم أولاً ثم غَسَل اللُّمعة، ففي إعادة التيمم أيضاً روايتان، وإن صَرَف الماء إلى الحدث انتقض تيمُّمه في حق اللُّمعة باتفاق الروايتين.

(لا ارتدادُهُ

(2)

) أي لا يَنقضُ التيمُّمَ ارتدادُ المتيمِّم، وقال زُفَر: يَنْقُضه لأنه عبادة، وكلُّ عبادة تَبطل بالرِّدَّة. واعتُرِضَ بأن التيمم لا يكون عبادة إلا بالنية، وهي ليست بشرط عند زُفَر. وأُجِيب بأن هذا القول منه في تيمُّمٍ بنيَّة. ولنا أنَّ الحاصل بالتيمم صفةُ الطهارة، والكفرُ لا ينافيها كالوضوء، والرِّدَّةُ تُبطِلُ ثوابَ العمل لا زوالَ الحدث.

(ونُدِبَ) أي استُحِبَّ (لِرَاجِيه) أي الماءِ (صلاتُه آخِرَ الوقت) ليقع الأداءُ بأكمل

(1)

في المخطوطة: "ماء" بدل "ما".

(2)

في المخطوطة: "لا ردّته".

ص: 118

ويجبُ طَلَبُهُ قَدْرَ غَلْوَةٍ إِنْ ظنَّه قريبًا

===

الطهارتين كالطامع في الجماعة نُدِبَ له تأخيرُ الصلاة إلى آخر الوقت، لكن لا يبالغ في التأخير لئلا تقع الصلاة في وقت الكراهة.

(ويجبُ طلَبُهُ) أي طلبُ الماءِ أو طلبُهُ الماءَ، بأن يَنظر يمينه وشِماله وأمامه ووراءه، كذا ذكره الشُّمُنِّي. والظاهر أنه يجب عليه الطلبُ من جانبِ ظنِّه ما يُقدَّرُ (قَدْرَ غَلْوَةٍ) بفتح معجمة وسكون لامٍ، وهي: مقدارُ رَمْيَةٍ

(1)

وهو الصحيح (إِنْ ظَنَّه قريباً).

وقال مالك والشافعي: يجبُ الطلبُ مطلقاً لقوله تعالى: {فلم تَجِدوا ماءً}

(2)

. وهو يفيد وجوبَ الطلب.

ولنا ما روى أبو داود والحاكم وصحَّحه: عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمَّما صعيداً طيِّباً ـ يعني فصَلَّيا ـ ثم وَجَدا الماءَ في الوقت، فأعاد أحدُهما الصلاة ولم يُعِد الآخر، ثم أتيا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذَكرا له ذلك، فقال للذي لم يُعِد:«أصبتَ السُّنَّة وأجزأَتْك صلاتك، وللذي توضَّأ وأعاد: لك الأجْرُ مرَّتين» .

وفي «المحيط» : ولو قَرُبَ من الماء وهو لا يَعلمُ به ولم يكن بحضرته من يسأله عنه أجزأه التيمم، لأنَّ الجهل بقُربه من الماء كبُعْده عنه، ولو كان بحضرته من يسأله فلم يسأل حتى تيمَّم وصلَّى، ثم سأله، فأخبره بماءٍ قريب لم تَجُز صلاته، لأنه قادر على استعمال الماء بواسطة السؤال، فإذا لم يَسأل جاء التقصير مِنْ قِبَلِه فلم يُعذَر، كمن نَزَل بالعُمْران ولم يطلب الماء لم يَجز تيمُّمُه. وإن سأله في الابتداء فلم يُخبره حتى تيمَّم وصلَّى، ثم أخبره بماءٍ قريب جازت صلاته، لأنه فَعَل ما عليه، وإنْ وجَدَه بثمن زائد على المثل زيادةً لا يَتغابَنُ الناسُ فيها يتيمَّم، لأنه لا يصل إلى استعماله إلا بإتلافِ بعضِ مالِه بلا عِوَض، وحُرمة المال كحرمة النفس.

وإن وجده بثمنِ المثل أو بزيادةٍ يُتغابَنُ فيها لم يتيمم ولزِمَه الشراء، لأنَّ القدرة على البَدَل كالقدرة على الأصل، كمَنْ عليه كفَّارة ولم يَملك رقبة، ولكنه مَلَك ثمنَها،

(1)

أي رمية سهم. المصباح المنير ص 172، مادة (غلا)، والغلوة: ثلاث مئة ذراع إلى أربع مئة. المغرب في ترتيب المعرب 1/ 111، مادة (غلو) وهي تساوي اليوم 184.80 مترًا. معجم لغة الفقهاء. ص 334.

(2)

سورة المائدة، آية:(6).

ص: 119

وإذا ذكَرَه في رَحْله لا يُعِيدُ الصلاةَ.

===

فإنه لا يجزيه التكفيرُ بالصوم. وفي «الخلاصة» : وتفسيرُ الغَبْن الفاحش: لو كان قيمةُ الماء درهماً وهو لا يبيعه إلا بدرهمين. وهذا كلُّه إن فَضَل عن نفقته.

(وإِذا ذَكَرَه) أي تذكَّر الماء (في رحله) أي منزلِه بعدما صلَّى متيمماً وكان بمحلٍ يُنْسَى فيه عادةً، فسواءٌ ذكره في الوقت أو بعده (لا يُعيد الصلاة) إذا وضَعَه بنفسه أو وُضِعَ بعلمه عند أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف، وكذا عند مالك والشافعي، وأمَّا إذا وُضِعَ بغير علمه فبالاتفاق. وقيَّدْنا بالنسيان لأنه لو ظَنَّ أنَّ ماءه قد فَنِي فتيمَّمَ وصلَّى ثم تبيَّنَ أنه لم يَفْنَ أعاد الصلاة بالاتفاق، لأنه أخطأ في ظنّه وأمكنه تحقيقُه بالطلب والتفحُّص. وقيَّدنا الماءَ بكونه في محلٍ يُنسَى فيه عادةً لأنه لو لم يكن كذلك بأن كان في مُقدَّم الرَّحْل وهو راكب، أو في مُؤخَّره على الظهر وهو سابقٌ يُعيد بالاتفاق.

ثم التيمُّمُ مع وجود نبيذ التمر

(1)

متعيِّنٌ عند أبي حنيفة في الأصح، وقد أفتى أبو يوسف به، وفي رواية عن أبي حنيفة تعيَّن الوضوءُ به لِمَا روى الطحاوي: أنَّ ابن مسعود كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلةَ الجِنّ وأنه صلى الله عليه وسلم احتاج إلى ما يتَوضَّأ به ولم يكن معه إلا النَّبِيذُ فقال صلى الله عليه وسلم «تَمْرةٌ طيِّبةٌ وماءٌ طهور فتوضَّأ به» . لكن رُوي أنَّ ابن مسعود أنكر كونَه مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلةَ الجِنّ، ويؤيِّدُه

(2)

ما صحَّ في أبي داود والترمذي عن عبد الله ابن مسعود

الحديث

(3)

إلا أنه قيل: هو منسوخٌ بآية التيمم، لأنَّ تلك القضية مكيَّة والآية مدنيَّة. وروي عن محمد عن أبي حنيفة: الجمعُ بينهما احتياطاً.

ولو كان أكثَرُ بَدَنِه صحيحاً وأقلُّه جريحاً ثم أَجنب أو أحدث غَسَل الصحيحَ ومسَحَ الجريحَ إن لم يَضرَّه، وعلى الخِرقة إن ضرَّه وتيمَّمَ لو كان عَكَسَه لقوله صلى الله عليه وسلم في المجدور:«كان يَكفيه التيمُّم»

(4)

. ولأن أحداً لم يقل بغَسْل ما بين كل جُدَرَتَيْنِ،

(1)

النبيذ الذي تكلموا فيه: أن يلقى في الماء تُمَيرات حتى يأخذ الماء حلاوته، ولا يشتدّ ولا يصير مسكرًا، فأما إذا صار مسكرًا فلا يجوز التوضؤ به؛ لأنَّه حرام عند عامة العلماء. أفاده الشيخ عبد الفتاح أبو غُدة رحمه الله تعالى نقلًا عن "شرح الجامع الصغير".

(2)

عبارة المخطوطة: "ويرده".

(3)

وهو: عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود: من كان منكم مع رسول الله ليلة الجن؟ فقال: ما كان معه منا أحد. سنن أبي داود 1/ 67، كتاب الطهارة (1)، باب الوضوء بالنبيذ (42)، رقم (85). وسنن الترمذي 5/ 356، كتاب التفسير (44)، سورة الأحقاف (46)، باب (1)، رقم (3258).

(4)

سنن أبي داود 1/ 239 - 240، كتاب الطهارة (1)، باب في المجروح - وفي رواية: المجدور - يتيمم (125)، رقم (336).

ص: 120

‌فَصْلٌ [في المَسْحِ على الخُفَّيْن والجَبْيرَة]

المَسْحُ على الخُفَّين جائزٌ للمُحدِث دون مَنْ عليه

===

فدَّل أنَّ العبرة بالأكثر. وقد تقرَّر أنه لا يُجمع بين الأصلِ والبدل، فلا نَجمع نحن ومالكٌ بين الوضوءِ والتيمم خلافاً للشافعي.

فصلٌ (في المَسْحِ على الخُفَّين والجَبِيرةِ)

(المَسْحُ على الخُفَّين) أي دون الخُفِّ الواحد (جائز) أي عند أهل السنّة والجماعة خلافاً لبعض أهل البدعة. وهو ثابتٌ بالسُّنَن المشهورة المتظاهرة، كادت أن تكون متواترة. ورُوي عن أبي حنيفة أنه قال: ما قلتُ بالمسح على الخفين حتى وردَتْ فيه آثار أضوأُ من الشمس، وعنه: أخاف الكُفرَ على من لم يَر المسح على الخفين. لأنَّ الآثار التي جاءت فيه في حيِّز التواتر، أي التواترِ المعنوي وإن كانت من الآحادِ اللفظي.

وقال أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي «الاستذكار» لابن عبد البَرّ: رَوَى المسحَ على الخفين نحوُ أربعين من الصحابة. وفي «الإِمام» لابن دقيق العيد: قال ابنُ المنذر وغيرُه: رَوَينا عن الحسن البصري أنه قال: حدَّثني سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسَحَ على الخفين. ورَوَى الجماعةُ من حديث جَرير قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالَ ثم توضَّأ فمسَحَ على خُفِّيه. قال إبراهيم النَّخَعي: كان يُعجبهم هذا لأن إسلام جَرير كان بعد نزول المائدة، وفي لفظ للبخاري: لأنَّ جَريراً كان آخِر مَنْ أسلم.

وقال ابنُ عبد البَرّ: لم يُروَ عن أحدٍ من الصحابة إنكارُ المَسْح، إلا عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة، فأمَّا ابنُ عباس وأبُو هريرة فقد جاء عنهما بالأسانيد الحِسان خلافُ ذلك وموافقةُ سائر الصحابة، وأمَّا عائشةُ رضي الله عنها ففي «صحيح مُسْلمٍ»: أنها أحالت ذلك على عِلْم عليّ. وقد رَوَى عن شُرَيح بن هانيء قال: سألتُ عائشةَ رضي الله عنها عن المسح على الخفين فقالت: لا أدري، سَلُوا عليَّاً، فإنه كان أكثرَ سفراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألْنا عليّاً فقال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَمسح على الخفين. وفي روايةٍ: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَمسَحُ المقيمُ يوماً وليلة، والمسافِرُ ثلاثة أيام وليالِيَها» ، فبَلَغ ذلك عائشةَ فقالت: هو أعلَمُ.

وإنما يجوز المسحُ على الخفين (لِلمُحدِث) رجلاً كان أو امرأةً (دون مَنْ عليه

ص: 121

الغُسل. وفَرْضُه - وهو خُطوطٌ - مِقْدارُ ثلاثةِ أصابعِ اليدِ في أسفلِ السَّاقِ.

===

الغُسل) للجنابة، لِمَا روى الترمذي، وصحَّحه وابن خزيمة، وابن حِبَّان في «صحيحه»: عن زِرْ بن حُبَيش أنه سأل صفوانَ بن عسَّال المُرادي عن المسح على الخفين فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمُرنا إذا كنا سَفْراً أن لا نَنْزِعَ خِفافنَا ثلاثةَ أيام وليالِيَها إلا مِنْ جنابة، ولكن مِنْ بولٍ وغائطٍ ونوم» . فلا يَمسحُ الجُنُب.

وصورتُه: توضَّأ ولَبِسَ خفيه ثم أَجنب ومعه ماء، فليس له أن يَربط خُفَّيه بحيث لا يَدخل الماءُ فيهما ويَغسلَ سائرَ جسده ويمسحَ خفيه. وقيل: صورتُه: لَبِسَ خُفَّيه ثم أَجنب وليس معه ماء، فتيمَّم لجنابته، ثم أَحدث ثم وجَدَ ماء يكفي للوضوء: لا يجوز المسحُ على خفيه.

وكذا لا تَمسحُ النُّفساء، وصورتُه: لَبِسَتْ الخفين على طهارة فنَفِسَتْ وانقطع نِفاسُها قبلَ ثلاثة أيام وهي مسافرة، أو قبل يوم وليلة وهي مقيمة. وكذا لا تَمسحُ الحائض، وصورةُ ذلك إنما تتأتى على قول أبي يوسف: إنَّ أقلَّ الحيض يومانِ وأكثرُ الثالث في مسافرةٍ لبِسَت الخفين فحاضَتْ وانقطع حيضُها لعادتها وهي يومانِ وأكثَرُ الثالث، وأمَّا على قولهما: إنَّ أقلَّ الحيض ثلاثة أيام ولياليها، فلا يتأتّى تصويرٌ لها، لأنها إن لبسَتْ الخفين قبل الحيض فغَسْلُ الرِّجْلين واجب لانقضاء مُدَّة المسح، وإنْ لَبِسَتْهما في الحيض فغَسلُ الرِّجلين واجِب لفواتِ شرط المسح وهو لُبسُ الخفين على طهارة. والمقصودُ تصويرُ المسألة بحيث لا يكون مانعٌ مِنْ مسحِ الخفين سوى وجوب الاغتسال.

(وفَرْضُه) أي مفروضُ المسح مقدَّرٌ عندنا (وهو خُطوطٌ) أي ثلاثةٍ (مِقْدارُ ثلاثة أصابعِ اليد) وقيل: أصابع الرِّجْل.

وقدَّره الشافعيُّ بجزءٍ ما، ومالكُ بأكثرِ ساترٍ أو كلِّه قياساً على مسح الرأس.

(في أسفلِ) أي في محلَ يكون أسفَلَ (السَّاقِ) في كلِّ رِجْل، فلو مسَحَ على أحَدِ خُفَّيه قَدْرَ إصبعين وعلى الآخَرِ قَدْرَ أربع لا يجزيه. ولو بدأَ مِنْ قِبَلِ الساقِ إلى الأصابع أو مسَحَ على ظهر القَدَم جاز، إلا أنه خِلافُ الأولى. وفي بعض النسخ: قَدْرُ ثلاث أصابعِ اليد أسفَلَ الساق على أعلاها. أي أعلى أسفل الساق وهو ما لاقَى ظاهِرَ القدم، ولا يَمسحُ على أسفلها، وهو ما لاقَى باطنَ القدم، ولا على عَقِبهِ، ولا على جَنْبِه، ولا على ما تحته لِمَا روى أبو داود في «سننه»: من حديث عَبْدِ خَيْر، عن عليّ كرَّم الله وجهه أنه قال: لو كان الدِّينُ بالرأي لكان أسفَلُ الخُفّ أَولى بالمسحِ مِنْ

ص: 122

ويجوزُ على الجُرْمُوقَيْن

===

أعلاه. وفي روايةٍ: لكان باطِنُ الخُفّ أَولى بالمسحِ مِنْ ظاهرِه، وقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَمسَحُ على ظاهر خُفَّيه.

وروى ابن أبي شيبة عن عُمَر: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ بالمسح على ظاهر الخفين إذا لَبِسَهُما وهما طاهرتان. وفي روايةِ الطبراني بلفظ: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرُ بالمسح على ظهر الخف ثلاثة أيام وليالِيَهن للمسافر، وللمقيم يوماً وليلة. وروى ابن أبي شيبة عن المغيرة بن شعبة قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالَ ثم جاء حتى توضأ ومسَحَ على خُفَّيه، ووضَعَ يدَهُ اليمنى على خُفِّه الأيمن ويدَهُ اليسرى على خُفِّه الأيسر، ثم مسَحَ أعلاهما مَسحةً واحدة، وكأني أنظرُ إلى أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين.

وروى ابن ماجه والطبراني عن بَقيَّة بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلٍ يتوضَّأ وهو يغسل خُفَّيه فَنَخَسه بيده

(1)

وقال: «إنما أُمِرنا بالمسح هكذا» ، وأَرَاه مِنْ مُقدَّم الخفين إلى أسفلِ أصلِ الساق مرَّةً، وفرَّجَ بين أصابعه.

ولا يُسَنُّ مسْحُ أسفلِه عندنا. ويُسَنُّ عند مالك والشافعي لما رواه أبو داود والترمذي من حديث الوليد بن مسلم بسنده إلى المغيرة بن شعبة قال: وضَّأْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبوك، فمسَحَ على الخُفِّ وأسفلِه. قلنا: قد أعلَّه الترمذيُّ وغيرُه.

(ويجوزُ) أي المسحُ (على الجُرْمُوقَيْن)

(2)

أي الجُرْمُوقَيْن يُلبَسانِ فوقَ الخفين في البلاد الباردة، فارسيٌّ معرَّب.

وقال مالك في إحدى الروايتين والشافعيُّ في قولٍ: لا يجوز المسحُ عليه، لأنه لا يُحتاج إليه في الغالب فلا تتعلَّقُ به الرخصة.

ولنا ما روى أبو داود، وابن ماجه، وابن خُزَيمة، والحَاكم وصحَّحه: أنَّ عبد الرحمن بن عَوْف سأل بلالاً عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان يَخرجُ يقضي حاجته، فآتيه بالماء فيتوضَّأ ويمسحُ على عِمامته وجُرْمُوقَيه

(3)

. ولأنَّ الجُرْمُوق

(4)

لا يُلبَسُ بدون الخفِ عادة، فأشبه خُفّاً ذا طاقين، وإنما يجوز المَسْحُ على

(1)

أي دفعه بيده، كما في سنن ابن ماجه 9/ 183، كتاب الطهارة (1)، باب في مسح أعلى الخف وأسفله (85)، رقم (551).

(2)

في المخطوطة: "المُوقين" بدل "الجرموقين". والمعنى واحد.

(3)

في المخطوطة: "الموقين" بدل "جرموقية".

(4)

في المخطوطة: "الموق" بدل "الجرموق".

ص: 123

وكلِّ ما يَستُرُ الكَعْبَ ويُمكن به السَّفَرُ.

وشُرِطَ كونُهما مَلْبُوسَيْنِ على طُهرٍ تامّ

===

الجرموقين عندنا إذا لَبِسَهُما فوق الخفين قبل أن يُحدِث ويَمسحَ، فأما إذا مسَحَ عليهما أوَّلاً ثم لَبِسَ الجرموق فليس له أن يمسح عليه (لأن حكم المسح استقر في الخف، فصار من أعضاء الوضوء حكماً، فيصير الجرموق بدلاً عنه، وكذا لو أحدث بعدما لبس الخف ثم لبس الجرموق، فليس له أن يمسح عليه)

(1)

لأنَّ ابتداء المسح من وقتِ الحدث، وقد انعقد في حق الخف، ولا يتحول إلى الجرموق بعد ذلك.

(وكلِّ ما يَستُر الكَعْبَ) أي ويجوز المسحُ على ما يستره (ويُمكن به السَّفَرُ) أي السَّفَرُ القصير العُرْفي وأقلُّه فرسخ

(2)

، سواء كانا مجلدين بأن كان الجلدُ أعلاهما وأسفلَهما، أو مُنعَّلَين بأن كان الجلد أسفلَهما فقط، أو ثخينين مستمسكين على الساق في قول أبي يوسف ومحمد وأبي حنيفة أخيراً قبلَ موتِه بسبعة أيام، وفي «النوازل»: بثلاثة أيام، وعليه الفتوى، لما روى أصحاب «السنن الأربعة»: عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضَّأ ومسَحَ على الجَوْربَينِ والنعلين. قال الترمذي: حسن صحيح. واعتُرِضَ بأن المعروف من رواية المغيرة المسحُ على الخفين. وأجيبَ بأنه لا مانع من أن يَروي المغيرة اللفظين، وقد عضدَه فعلُ الصحابة.

قال أبو داود: ومسَحَ على الجوريين: عليٌّ، وابن مسعود، والبراء، وأنس، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعَمْرو بن حُرَيث. ورُوي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، ويؤيده روايةُ ابن ماجه عن أبي موسى، والطبرانيِّ عن عيسى بن شيبان، وابن أبي شيبة عن بلال: أنه صلى الله عليه وسلم كان يمسحُ على الخفين والجَوْرَبين.

وأجمعوا على أنه لو كان مُنعَّلاً أو مُبطَّناً يجوز المسح عليه، ولو كان من الكِرْباسِ

(3)

لا يجوز المسحُ عليه، وإن كان من الشَّعَر فالصحيح أنه إن كان صُلْباً مُستمِسكاً يَمشي معه فرسخاً أو فراسخ يجوز. فعلى هذا الخلاف.

(وشُرِطَ كونُهما) أي الخفينِ ونحوِهما أو الممسوحينِ سواء كانا خُفَّين أو جرموقين

(4)

أو جَوْرَبين (ملبوسينِ على طُهر تامّ) أي بعْدَ طُهرِ (كامل)

(5)

أعضاءِ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(2)

الفَرْسخ: مقداره ثلاثة أميال، والميل يساوي: 1848 مترًا × 3 = 5544 مترًا. معجم لغة الفقهاء ص 343. بتصرف.

(3)

الكِرباس: ثوب غليظ من قطن. معجم لغة الفقهاء ص 379.

(4)

في المخطوطة: "موقين" بدل "جرموقين".

(5)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

ص: 124

وقتَ الحَدَث، لا في الجَبِيرة،

===

فَرْضِ وضوئه أو غُسلِه (وقتَ الحدَث) ظَرْفٌ لتامّ، فلا يُمسح على الخُفّ الملبوس على حَدَث.

وتَمسحُ المستحاضةُ ومَنْ بمعناها في الوقت، وبه قال مالك، ومنعه الشافعي في قولٍ لضعفِ طهارتها. ولا تَمسحُ خارجَ الوقت، وأجازه زُفَر إلى تمام المدة مسافراً كان أو مقيماً، ولا يُمسَحُ على الجرموق

(1)

الملبوس على خُفَ ممسوح، ولا على الخُفّ الملبوس على تيمم.

وقال مالك والشافعي وهو أشهر الروايتين عن أحمد: يُشترطُ أن يكون الطُّهرُ تامّاً وقتَ اللُّبس، فعندنا لو غَسَل رجليه ولَبِسَ الخفين ثم غَسَل باقي الأعضاء، أو توضَّأ مُرَتِّباً وغسَلَ رجله اليمنى فأدخلها الخف ثم غسَلَ اليسرى وأدخلها ثم أحدث: يَمسح، وعندهم لا يَمسح. أما لو غَسَل رجليه، ثم لَبِسَ خُفَّيه، ثم أحدث، ثم أكمل الوضوءَ لا يجوزُ له المسحُ بالإِجماع كما ذكره العَيْني في «شرح التُّحفة» .

لنا أنَّ الخفّ مانعُ حلولِ الحدث بالقَدَم فيُراعَى كمالُ الطهارة وقتَ المنع، ولا دلالة لهم في قوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة:«دَعْهُما فإني أدخلتُهما طاهرتين» . لأنَّ معناه أدخلتُ كلَّ واحدة منهما وهي طاهرة، كما يقال: دخلنا البلدَ رُكباناً، فإنَّ معناه دخَلَ كلٌّ منا وهو راكب، لا أنَّ جميعَنا راكبٌ عند دخولِ كلَ منا، كذا ذكره بعضُ علمائنا. وفيه بَحْث، إذ يَبعدُ حَمْلُ طُهره صلى الله عليه وسلم على غير المرتَّب المسطور مع احتماله المرتَّبَ المذكور، فالصوابُ في الجواب أنَّ الحديث نحن نقول به، وجوازُ تَرْكِ الترتيب عُلِمَ بدليل آخر فتدبَّر.

(لا في الجَبِيرة) أي لا يشترَطُ في المسح على الجبيرة كونُها مربوطةً على طُهر لأنها تُشدُّ حالَ الضرورة، فاشتراطُ الطهارة في شدِّها مُفضٍ إلى الحرج.

وقال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه: يُشترط، لأنه مسحٌ على الحائل فصار كمسح الخف.

والجَبِيرةُ: عُودٌ أو نحوُه يُربَطُ على العظم المكسور ونحوِه لِجَبْرِهِ.

وفي «المحيط» : لو كانت الجَبيرة زائدة على رأس الجرح، أو افتُصِدَ فتجاوز الرِّباطُ موضعَ الجِرَاحة: فإن كان حَلُّ الخِرقة وغَسْلُ ما تحتها يَضُرُّ بالجراحة، يجوز

(1)

في المخطوطة: "الموق".

ص: 125

ولا بأسَ بسقُوطِها إِلا عن بُرء.

===

المسحُ على الكل تبعاً لموضع الجراحة، لأنه لا يُمكنه ربطُ موضعِ الجراحة وحده. وإن كان الحَلُّ والمسحُ لا يَضرُّ بالجُرح لا يجزيه المسحُ على الخِرقة، بل يَغسِلُ ما حول الجراحة ويمسَحُ عليها. وإن كان يَضرُّه المسحُ ولا يضره الحلُّ، يمسحُ على الخرقة التي على رأس الجراحة ويَغسِلُ حواليْها وما تحت الخرقة الزائدة، هكذا فسَّره الحسنُ ابن زياد، لأنَّ جواز المسح لأجل الضرورة فيتقدر بقَدْرها، ومِنْ ضررِ الحَلِّ أن يكون في مكانٍ لا يَقدِرُ على ربطها بنفسه ولا يجدُ من يربطها.

ولو مسَحَ على بعض الجبيرة، ذكر الحسن: أنه إن مسَحَ على الأكثر أجزأه وإلا فلا، لأنه أُقيم الأكثر مُقام الكل دفعاً للحرج. ولو تَرَك المسحَ على الجبائر، والمسحُ يَضرُّه، جاز بلا خلاف، وإن لم تَضُرّه لم تَجُز صلاتُه عند أبي يوسف ومحمد، ولم يحكِ في «الأصل» قولَ أبي حنيفة. وقيل: عنده يجوز تَرْكُه بناءً على رِوايَةِ استحبابه عنده، قيل: هو قولُه الأول ثم رجَعَ عنه، والصحيحُ: أنَّ عنده مسحَ الجبيرة واجب وليس بفرض حتى يجوزُ بدونه الصلاة، لأن الفرضية لا تَثبت إلا بدليلٍ مقطوع به، قال في «متن المواهب»: وبه قالا

(1)

. وفي «الخلاصة» من يقول: مسحُ الجبيرة فرْضٌ يقول: استيعابُهَا فرْض، وهو رواية عن أبي حنيفة، وفي رواية عنه: لو مَسَح الأكثرَ يجوز وعليه الفتوى. والمجروحُ كالمكسور.

(ولا بأسَ بسقوطها) أي في حال (إِلا) إذا سقطتْ بنفسها سقوطاً ناشئاً (عن بُرءٍ) فإنه إن كان في الصلاة يستقبل الصلاة

(2)

، لأنه ظهر حكمُ الحدَث السابق، فصار كأنه شَرَع من غير غَسْلِ ذلك الموضع. وإن كان خارجَ الصلاة يَغسِلُ موضعَها لا غير إن لم يكن مُحْدِثاً. وأمَّا إن سقطتْ عن غير بُرء فإن كان في الصلاة يَمضي عليها، وإن كان خارجَ الصلاة أعاد الجبيرة أو أبدَلَها بأخرى ولا يُعيد المسحَ لبقاء العذر.

والدليلُ على جواز مَسْح الجَبيرة ما رواه ابن ماجه، والبيهقي، والدارقطني: عن علي كرَّم الله وجهه أنه قال: انكسَرَ

(3)

أحَدُ زَنْديَّ فسألتُ النبي صلى الله عليه وسلم فأمَرَني أن أمسحَ

(1)

أي بالوجوب، لكن حقق ابن عابدين في "رد المحتار" 1/ 168: أن الوجوب عندهما بمعنى الفرض العملي، يفوت الجواز بفَوْته، فلا تصح الصلاة بدونه، وعنده هو وجوب يأثم تاركه فقط مع صحة الصلاة بدونه ووجوب إعادتها. ورجح ابن الهُمام قول الإمام، والفتوى على قولهما. انتهى مختصرًا.

(2)

أي يعيد.

(3)

في المطبوعة والمخطوطة وسنن ابن ماجه 1/ 215، كتاب الطهارة (1)، باب المسح على الجبائر =

ص: 126

ولا يُمْسَحُ ساترُ غيرِ الرِّجْلِ إِلَّا هي

===

على الجبيرة. والزَّنْدُ مَفْصِلُ طرَفِ الذراعِ في الكفّ. قال البيهقي: وصحَّ عن ابن عُمَر رضي الله عنهما أنه مسَحَ على الجبيرة، ولم يُعرَف له مخالف من الصحابة. وروى الدارقطني عن ابن عُمَر: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَمسَحُ على الجبائر. وضعَّفه، لكن صحَّحَ المنذريُّ وغيره عن ابن عُمَر موقوفاً عليه أنه توضَّأَ وكفُّهُ معصوبة، فمسَحَ عليها وعلى العصابة، وغَسَل سِوَى ذلك. والموقوفُ في هذا كالمرفوع، لأنَّ الأبدالَ لا تُنصَبُ بالرأي.

وروى الطبراني عن أبي أُمَامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لمَّا رماه ابنُ قَمِيئة يومَ أُحُد قال: «رأيتُه إذا توضَّأ حَلَّ عن عصابته، أي كشَفَ عنها ومسَحَ عليها بالوضوء» . أي على الجبيرةِ بماءِ الوضوء، وكان شُجَّ في وجهه وكُسِرتْ رَباعِيَتُه صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وروى أبو داود في «سننه» عن جابر قال: خرجنا في سفَرٍ فأصاب رجلاً منا حجَرٌ فشجَّه في رأسه، ثم احتلم فقال لأصحابه: هل تجدون لي رُخصةً في التيمُّم؟ قالوا: ما نجدُ لك رُخصةً وأنت تقدر على الماء، قال: فاغتسل فمات، فلما قَدِمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبِرَ بذلك فقال:«قتلوه قتلهم الله، أَلا سألوا إذْ لم يعلموا؟ فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمَّمَ ويَعْصِرَ أو يَعْصِبَ ـ شَكَّ موسى ـ على جُرحه خِرْقَةً ثم يمسَحَ عليها ويغسِلَ سائرَ جسده» . قال البيهقي في «المعرفة» : هذا أصحُّ ما يُروَى في هذا الباب مع اختلافٍ في إسناده.

(ولا يُمْسَحُ سَاتِرُ غيرِ الرِّجل) بالإِضافة (إِلاَّ هي) أي الجَبِيرة، فلا يُمسَحُ على عِمامةٍ، ولا قَلَنْسُوَةٍ، ولا بُرْقُعٍ، ولا قُفَّاز. قال محمد في «موطئه»: أخبرنا مالك قال: بَلَغني عن جابر: أنه سُئل عن العِمامة فقال: لا، حتى يَمسَّ الشعرَ الماءُ. ثم قال: وأخبرنا مالك عن نافع قال: رأيتُ صَفيَّةَ ابنةَ أبي عُبَيد تتوضَّأُ وتَنزِعُ خِمارَها ثم تَمسحُ برأسِها.

قال نافع: وأنا يومئذٍ صغير. قال محمد: بهذا نأخذ، لا يُمسَحُ على خِمار ولا على عمامة، بَلَغنا أنَّ المسح على العمامة كان فتُرِكَ. أي فصار منسوخاً.

وأجازه الأوزاعي وأحمدُ وأهلُ الظاهر على العمامة، وقالوا: صحَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسَحَ على عِمامته وخُفَّيه، فقد روى أبو داود في «سننه» ، وابن خُزيمة في

= (134)، رقم (657)، بلفظ: انكسرت. إلا أن الإِمام المطرِّزي صاحب "المغرب في ترتيب المعرب" قال: الصواب: كُسِرَ أحد؛ لأنَّه مذكر، أي الزند. 1/ 368، مادة (زند).

(1)

الرَّبَاعية: السِّن التي بين الثَّنِيَّة والنَّاب. مختار الصحاح ص 97: مادة (ربع).

ص: 127

ومُدَّتُه للمُقِيمِ يومٌ وليلة، وللمسافر ثلاثة مِن وقتِ الحدَث.

===

«صحيحه» ، والحاكم وصحَّحه: أنَّ عبد الرحمن بن عوف سأل بلالاً عن وُضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان يخرجُ يَقضي حاجته، فآتيه بالماء فيتوضَّأ ويَمسَحُ على عِمامته ومُوقَيْه»

(1)

وروى الطبراني في «معجمه» عن علي بن أبي طالب قال: «زعم بلال أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَمسحُ على المُوقَيْن والخِمار» . وروى البيهقيُّ في «سننه» عن أنس والطبرانيُّ عن أبي ذَرَ مثلَه.

والجوابُ أنه منسوخ، أو كان بعُذْرٍ برأسه، ومع وجود الاحتمال لا يَصلُح للاستدلال والله تعالى أعلمُ بالأحوال، مع أنَّ الاستدلال بالحديث لا يَتِمُّ، لأنَّ قوله تعالى:{وامْسَحُوا برءوسِكم}

(2)

يقتضي عدَمَ جوازِ مسحِ غيرِ الرأس، فيكون العمل به زيادةً عليه بخبر الواحد، وهو لا يجوز، وإنما جاز المسحُ على الخُفّ لكون خبرِه تجاوَزَ عن حَدِّ الآحاد، والله تعالى أعلم بالمراد.

(ومُدَّته) أي مُدَّةُ المسح على الخفين (للمقيم يومٌ وليلة). وقال مالك في إحدى الروايتين عنه: لا يَمسَحُ المقيم. (وللمسافر ثلاثة) وفي بعض النسخ: ثلاثةُ أيام.

وقال مالك: لا توقيتَ في مسح الخُفَّين، ويُستحَبُّ نزعهُما للمقيم في كلِّ جمعة. لِمَا رواه الحاكم في «المستدرك» عن أنس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضَّأ أحدُكم ولَبِسَ خُفَّيه، فليُصَلِّ فيهما، وليَمْسَحْ عليهما، ثم لا يَخلعْهما إن شاء إلاَّ مِنْ جنابة» . وقال: إسنادُه صحيح على شرط مسلم، ورُواته ثقات عن آخرهم. وحَمَله ابنُ الجوزي على مُدَّة الثلاث ولم يُعِلَّه. ولحديثِ خُزَيمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المسحُ على الخفين للمسافر ثلاثةُ أيام، وللمقيم يومٌ وليلة» . رواه أبو داود والترمذيُّ وابنُ ماجه.

وفي رواية لأبي داود

(3)

: ولو استزدناه لزادنا. ولابنِ ماجه: ولو مَضَى السائلُ على مسألته لجعَلَها خمساً. إلا أنه معلول بثلاثِ عِللٍ ذكره ابن دقيق العيد في «الإِمام» . ولحديث أُبَيِّ بنِ عُمَارة قال: يا رسول الله أَمْسَحُ على الخفين؟ قال: «نعم، قال: يوماً؟ قال: «نعم» ، قال: ويومين؟ قال: «نعم» ، قال: وثلاثة؟، قال:«نعم وما بَدَا لك» . رواه أبو داود ثم قالَ: واختُلِفَ في إسناده، وليس بالقوي.

(مِنْ وقتِ الحدَث) أي مُبتدِئاً مِنْ وقتِ الحدث الذي يَمسَحُ عقيبَه،

(1)

الموق هو الجرموق.

(2)

سورة المائدة، آية:(6).

(3)

عبارة المخطوطة: "زاد أبو داود في رواية".

ص: 128

[نَوَاقِضُ المَسْحِ على الخُفَّيْنِ]

وناقِضُهُ ناقضُ الوضوء، ومُضيُّ المُدَّة،

===

وهو قولُ عامَّة العلماءِ، لِمَا روى أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حسَنٌ صحيح، عن خُزَيمة بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المسحُ على الخفين للمسافر ثلاثةُ أيام وللمقيم يومٌ وليلة» . ولقولِ المُغِيْرَة بن شُعْبة: آخِرَ غزوة غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَنا أن نَمسحَ على خِفافنا، للمسافر ثلاثةَ أيام وليالِيَها وللمقيم يوماً وليلةً ما لم نَخلع. رواه الطبراني. والظاهرُ أنَّ هذا التوقيت لبيانِ مُدَّة الحاجة إلى المسح، إذْ قبلَ الحدث لا حاجة إليه لحصول الطهارة بالغَسل.

وقيل: ابتداءُ مُدَّةِ المسح من وقتِ لُبْس الخفين، وهو قولُ الحسن البصري لقولِ صفوان:(كان رسول الله يأمرنا)

(1)

أن لا نَنزعَ خِفَافَنَا ثلاثة أَيام وليالِيَها. وقيل: مِنْ وقتِ مَسْحهما لتعليقِ المدَّة بالمسحِ في الحديث، وهو رواية عن أحمد، واختاره ابن المنذر، وقال النووي: وهو الراجحُ دليلاً. انتهى.

ويصحُّ المسحُ على الخُفّ المغصوب والمسروق، وفي سفَر المعصية عندنا، ونفاه الشافعي ومالك، لأنَّ هذا معصية والرخصة لا تُناطُ بها. قلتُ: الحرمةُ لمعنى في الغير لا تُنافي الصحَّة كالصلاةِ في ثوبٍ مغصوب، وأرضٍ مغصوبة، والطهارةِ بماءٍ مغصوب، والمسألة أصولية.

(نَوَاقِضُ المَسْحِ على الخُفَّيْنِ)

(وناقِضُهُ) أي مُبطِلُ مسحِ الخف (ناقضُ الوضوء) لأنه بدَلٌ عن بعضه (ومُضِيُّ المُدَّة) لأنه موقَّتٌ بها، وذلك لأنَّ استتار القدمين بالخف كان مانعاً من سِراية الحدَث إليهما في المدَّة بالنص، فإذا مضت سَرَى إليهما، فيجب غَسلُهما لا إعادةُ بقية الوضوء. هذا إذا كان الماءُ موجوداً.

ولو انقضت المُدَّة في الصلاة وهو غيرُ واجدٍ للماء فقيل: لا تَفسدُ صلاتُه، فيَمضي عليها لعدم الفائدة في نزعه، لأنه للغَسْل ولا ماءَ عنده فيكون عَبَثاً. وقيل: تَفسدُ فيتيمَّمُ ويصلي، لأنَّ عدَمَ الماءِ لا يَمنع سِراية الحدَث، وهذا هو الأصح، لأنَّ الشرع قدَّر مَنْعَه بمدَّةٍ، فيسري الحدَثُ بعدها، فكما يُحكَمُ عند وجود الماء بأن يَغْسِل،

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من سنن الترمذي 1/ 159، كتاب الطهارة (1)، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم (71)، رقم (95)، وهي غير موجودة في المخطوطة والمطبوعة.

ص: 129

‌وخُرُوجُ أكثرِ العَقِب

إِلى السَّاق.

وبعْدَ أحَدِ هذين يجبُ غَسْلُ رجليه فقط

===

يُحكَمُ عند عَدَمِه بأن يتيمَّم، لأنَّ الحدث وإن لم يُصب الرِّجْلَ حسّاً، لكن يُصيبها حكمُ طهارته وهو المقصود، فلا يَصلُحُ عدَمُه مانعاً من السراية بعد تمام المدَّة. لا يقال: هذا جمْعٌ بين التيمم والوضوء في الجملة وهو غيرُ جائز عندنا، لأنَّا نقول: أَحوَجَ إلى ذلك الاحتياطُ كما قلنا بالجمع بينهما في الماءِ المشكوك.

(وخروجُ أكثرِ العَقِب)

بكسر القاف: مؤخَّرِ الرِّجْل (إِلى السَّاق) عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف خروجُ أكثرِ القدم إلى الساق، وعند محمد إنْ بقي في محلِّ المسحِ مقدارُ ما يجوز المسحُ عليه ـ يعني ثلاث أصابع ـ لا يَنتقض المسحُ وإلا انتقض، لأنَّ خروج ما سِوى قَدْرِ المسح كلا خروج. ولأبي يوسف: أنَّ في الاحتراز من خروج أقلِّ القدم حرَجاً كما في الخُفِّ الواسع، ولا حرَجَ في أكثره. ولأبي حنيفة: أنَّ بقاءَ المسح لبقاءِ محل الغَسْل في الخفّ، وبخروجِ أكثرِ العَقِب إلى الساق الذي هو في حكم الظاهر لا يَبقَى محلُّ الغَسْل فيه، وهذا هو الأحوط، وكان مقتضاه خُروجَ مطلَقِه إلا أنه تُرِكَ الأقلُّ دفعاً للحرج.

ثم اعلم أنَّ خروجَ الرِّجْل ومُضيَّ المدَّة ليس بناقضٍ حقيقة، وإنما الناقضُ الحدَثُ السابق، لكن لمَّا ظهر أثرُهُ عندهما نُسِبَ النقضُ إليهما.

(وبعدَ أحَدِ هذين) أي مُضيِّ المدَّة وخروجِ أكثرِ العَقِب إلى الساق (يجبُ غَسْلُ رجليه فقط) إذا لم يكن مُحدِثاً، لأنَّ الحدَثَ السابق سَرَى إلى رجليه دون سائر أعضائه.

وشَرَط مالك أن يُبَادِر إلى غَسْلِهما بعد النزع بناءً على افتراض الوِلاء عنده. ولم يُوجب الحسنُ وطاوسٌ شيئاً بنَزْعِهما، كحلقِ الرأس بعدَ المَسْح. قلنا: الشَّعرُ خِلْقِي بخلاف الخُفّ. وقال الزُّهْري: إنْ نَزَعَ الخُفَّ عن إحدى رجليه غَسَلها ومسَحَ على خُفّ الأخرى. قلنا: طهارةُ المسْح جنسٌ واحد، فما يُبطِلُ بعضَها يُبطِلُ كلَّها. وقال بعضهُم: لا يَنقُضُ المسحَ أصلاً، وهو الأظهرُ، لأنَّ الشرعَ اعتَبَر الخُفَّ مانعاً عن سِراية الحدَث للقدم، فتَبقى على طهارتها

(1)

.

(1)

في هذا التعليل تهافُت، إذ الخُفّ، يمنع سراية الحدث ما دام على القدم، فإذا نُزِع عنها سرى الحدث إلى القدم فلزم غسلها. فما استظهره الشارح هنا غير مَرضِيّ. انظر "بدائع الصنائع" 1/ 13. أفاده الشيخ عبد الفتاح أبو غُدة رحمه الله تعالى.

ص: 130

ويمنعه خَرْقٌ يَبدو منه قَدْرُ ثلاثِ أصابع الرِّجْل أصغرِها. ويُجمَعُ خُروقُ خُفٍّ لا خُفَّين.

وفي سفَر المقيم وعكسِهِ قبلَ يومٍ وليلةٍ يُعتبَرُ الأخيرُ. وبَعْدَهما يَنزِعُ.

===

(ويَمنعُه) أي مَسْحَ الخُفّ (خَرْقٌ) أي دونَ الكَعْب، لأنَّ ما فوقه لا عِبرةَ به في حقّ المسح، حتى جاز المسحُ على خُفَ قُطِعَ من الكعبين.

(يَبدو) أي يَظهرُ حالَ المشي (منه) أي مِنْ ذلك الخَرْق (قَدْرُ ثلاثِ أصابعِ الرِّجْل) أي مضمومة (أصْغَرِها) بالجرّ، لأنَّ الخِفافَ لا تخلو عن قليلِ الخَرْق وتخلو عن كثيره غالباً، فلو اعتُبِرَ القليلُ مانعاً وقع الحرج، فاعتَبَرنا الكثيرَ، وقدَّرناه بثلاثِ أصابعِ الرِّجْل الصغار، لأنَّ الأصل في القدم الأصابع، والثلاثُ أكثرُها فقام مقامَ الكل، واعتبارُ الأصغر للاحتياط.

وقدَّر مالك المنعَ بأكثر القدم لأنَّ الأصل في الرُّخصة أنَّ الصحابة وعامَّتُهم كانوا محتاجين لا يجدون إلا الخَلَق

(1)

من الخِفاف وقد جُوِّزَ لهم المسحُ.

(ويُجمَعُ خُروقُ خُفّ) حتى لو بلَغَ مجموعُها قدْرَ ثلاث أصابع مَنَع (لا خُفَّين) حتى لو بلَغَ مجموعُ ما فيهما قَدْرَ ثلاث أصابع لا يَمنع. ولو كانت النجاسةُ في الخُفَّين جُمِعَتْ، وكذا لو كانت في ثيابِ المصلي أو في ثوبه وبدَنِه وتحت قَدمِه، وكذا انكشاف العورة في مواضعَ متعددة. وقد أجاز الخَرْقَ اليسيرَ مالكٌ كعلمائنا، ونفاه الشافعي.

(وفي سفَرِ المقيم وعكْسِهِ) أي إقامة المسافرِ (قبل يوم وليلة) هذا قيدٌ في المسألتين (يُعتَبَرُ الأخيرُ) وهو السَّفَرُ في الأولى، فيُكمِلُ ثلاثةَ أيام، والإِقامةُ في الثانية فيُكمِلُ يوماً وليلة، لأنه صَدَقَ في الأولى أنه مسافر، وفي الثانية أنه مُقِيم، وقد قال صلى الله عليه وسلم «يَمسَحُ المقيمُ يوماً وليلة، والمسافرُ ثلاثةَ أيام» . (وبَعْدَهما) أي وفي سفَرِ المقيم وإقامةِ المسافر بعدَ يومٍ وليلة (يَنْزِعُ) أي جنسَ الخف، أما في الأُولى فلانتهاءِ المدة، وأمَّا في الثانية، فلأنَّ رُخْصةَ السَّفَر لا تَبقَى بدونه، والله تعالى أعلم.

وقال الشافعي: لا يجوزُ لمن مسَحَ ثم سافر قبلَ يوم وليلة تكميلُ مدَّةِ السفر.

وأمَّا لو أقام مسافر في مُدَّته لم يَزِد على يوم وليلة من حينِ مسَحَ

(2)

، وهذا

(1)

الخَلَق: البالي. مختار الصحاح ص 78، مادة (خلق).

(2)

قوله: "من حين مسح" معارض بما ذكر ص 128، من أن مدة المسح تبدأ من وقت الحدث، لا من وقت المسح، فالصواب أن يقول: من حين أحدث.

ص: 131

‌بابُ الحَيْضِ

هو دَمٌ يَنفُضُه رَحِمُ بالغةٍ لا دَاءَ بها ولا إِياس. وأقلُّ الحيض ثلاثةُ أيام ولياليها. وأكثرُه عشرة

===

بالإِجماع، لأنَّ مُدَّة المسافر قبلَ استكمالِها تصيرُ مُدَّة المقيم عند الإِقامة، والله أعلم.

(باب الحيض)

هو في أصل اللغة مصدَرُ حاضَ يَحيضُ إذا سال، وفي الشرع:(هو دَمٌ يَنفُضُه) بضم الفاء، أي يَدفَعُه ويَدفُقُه (رَحِمُ بالغةٍ) أي فرجُ آدميَّةٍ أقلُّ عُمرِها تسعُ سنين على المختار، وقيل: ستُّ سنين، وقيل: ضِعْفُها. فخرج ما لا يكون من الفرج، كالرُّعاف، ودَمِ الجراحات، والاستحاضةِ، وما يكون منه ولكن من غير آدمية، وما يكون منه إلا أنه من غير بالغة

(1)

(لا دَاء بها) فخرج ما يكون لمرضٍ أو حَبَلٍ أو نِفاس (ولا إِياسَ) فخرج ما تراه الآيِسةُ، وهي عند أكثرهم: بنتُ ستين سنة، وقيل: بنتُ خمس وخمسين، وهو المختار كما في «الظهيرية» ، وقيل: بنتُ خمس وأربعين، وفي «الكفاية»: والفتوى في زماننا على أنه خمسون سنة.

(وأقلُّ الحيض ثلاثةُ أيام ولياليها) أي الثلاثُ، وروى الحسن عن أبي حنيفة: ثلاثةُ أيام والليلتانِ المتخللتان، وعن أبي يوسف: يومانِ وأكثَرُ اليوم الثالث.

وقال الشافعي وأحمد: يومٌ وليلة. وقال مالك: لا حَدَّ لأقلِّه لإِطلاق قوله تعالى: {فاعتَزِلُوا النِّساءَ في المحيض}

(2)

.

والصحيحُ عندنا أنها تَترك الصومَ والصَلاةَ عند رُؤيةِ الدم وإن احتمل انقطاعُه دون الثلاث، لأنَّ الأصل الصحَّة، والحيضُ دَمُ صِحَّة. وروى ابن وَهْب عن مالك: أن أقلَّه في العِدَّة والاستبراءِ ثلاثة أيام ولياليها.

(وأكثرُه عشرة) وقال مالك والشافعي وأحمد وهو قولُ أبي حنيفة الأول: خمسةَ عشرَ يوماً، لأنَّ المرجع في ذلك إلى العُرفِ، وهو كذلك على ما قال عطاءٌ: رأيتُ مِنْ النساءِ مَنْ كانت تحيض يوماً، ومَنْ كانت تحيض خمسةَ عشرَ يوماً. وقال أبو عبد الله الزُّهري: كانتْ مِنْ نسائنا من تحيض يوماً، ومَنْ تحيضُ خمسةَ عشرَ

(1)

في المخطوطة والمطبوعة: "وما يكون منها إلا أنها

" والمثبت من الجزء الذي حققه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى. "فتح باب العناية" 1/ 201.

(2)

سورة البقرة، آية:(222).

ص: 132

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

يوماً.

ولنا قولُه صلى الله عليه وسلم في حديثِ أُمِّ سَلَمة الصحيحِ لمَّا سأَلتْه عن المرأة التي تُهراقُ الدَّمَ: «لِتَنْظرْ عدَدَ الأيام والليالي التي كانت تحيض من الشهر ثم لتَغتسِلْ ثم لتُصَلِّ»

(1)

. حيث أجابها صلى الله عليه وسلم بذكر الأيام مِنْ غير سؤال عن حيضها قبلَ ذلك، وأكثَرُ ما يَتناولُ لفظُ الأيام عشرة، وأقلُّه ثلاثة.

وروى الطبرانيُّ في «معجمه» : عن أبي أُمامة، والدارقطنيُّ عنه: أنْ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقلُّ الحيض للجارية البكرِ والثيِّبِ ثلاثة، وأكثرُ ما يكون عشَرَة أيام، فإذا زاد فهي استحاضة» .

وروى الدارقطني عن واثِلة بن الأَسْقَع مرفوعاً: «أقلُّ الحيض ثلاثةُ أيام وأكثرُهُ عشرة أيام» .

وروى ابن عَدِي في «الكامل» : عن أنس مرفوعاً ولفظُه: «الحيضُ ثلاثة أيام، وأربعةٌ، وخمسةٌ، وستةٌ، وسبعةٌ، وثمانيةٌ، وتسعةٌ، وعشرةٌ، فإذا جاوزت العشرة فهي مستحاضة» .

وروى الدارقطني عن أنس قال: هي حائض فيما بينها وبين عشرة، فإذا زادت فهي مستحاضة.

وروى ابن عدي عن معاذ بن جبل مرفوعاً: «لا حَيْضَ دون ثلاثة أيام، ولا حيضَ فوق عشرة أيام، فما زاد على ذلك فهي مستحاضة، تتوضَّأُ لكلِّ صلاة إلا أيامَ أقرائها، ولا نِفاسَ دون أُسبوعين، ولا نِفاسَ فوق أربعين يوماً، فإن رأتْ النُّفَساءُ الطُّهرَ دون الأربعين صامت وصلَّت، ولا يأتيها زوجُها إلا بعد الأربعين» .

وروى العُقَيلي عن معاذ بن جبل مرفوعاً: «لا حيْضَ أقلُّ من ثلاثة، ولا فوقَ عشرة» .

وروى ابن الجوزي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: «أقلُّ الحيض ثلاثة، وأكثَرُه عشرة، وأقلُّ ما بين الحيضتين خسمةَ عشر يوماً» .

(1)

أخرجه أبو داود في سننه 1/ 187، كتاب الطهارة (1)، باب في المرأة تستحاض

(107)، رقم (274). والنسائي 1/ 129، كتاب الطهارة (1)، باب ذكر الاغتسال من الحيض (134)، رقم (208).

ص: 133

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وروى الدارقطني بسنده إلى عثمان بن أبي العاص: الحائضُ إذا جاوزتْ عشرةَ أيام فهي بمنزلة المستحاضة، تغتسِلُ وتصلي. وعثمانُ هذا صحابي. وبطريقٍ آخر له إلى سعيد بن جُبَير قال: الحيضُ ثلاثةَ عَشَر. وأَسند مثلَه عن سفيان

(1)

. وهو

(2)

قولُ عُمَر وعلي وابن مسعود وابن عباس.

فهذه عِدَّةُ أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بطُرقٍ متعددة تَرفعُ الضعيفَ إلى الحسَن. والمقدَّراتُ الشرعية مما لا يُدَركُ بالرأي، فالموقوفُ فيها حُكمُه الرفعُ. بل تسكُنُ النفسُ بكثرة ما رُوي فيه عن الصحابة والتابعين إلى أنَّ المرفوع مما أجاد فيه أولئك الرواةُ الضعفاء. وبالجملة فله أصلٌ في الشرع، بخلافِ قولهم: أكثَرُه خمسةَ عَشَر يوماً، فإنه لم يُعلَم فيه حديثٌ حسَنٌ ولا ضعيف، ولهذا رجَعَ عنه أبو حنيفة، والله سبحانه أعلم.

وأمَّا ما استدلُّوا به مِنْ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «تَمْكُثُ إحداكُن شطرَ عُمرِها لا تصلي» . فقال ابن الجوزي في «التحقيق» : إنه لا يُعرَف، وقال البيهقي: لم أجده في شيء من كتب الحديث، وقال ابن مَنْدَه: لا يَثْبُتُ هذا بوجهٍ من الوجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو سُلِّم أنه ثابتٌ، فمَنْ بلغتْ بخمسَ عشرةَ سنة إذا حاضَتْ مِنْ كلِّ شهرٍ عشرةً، وماتت في ستين سنة، كانت تاركةً للصلاة شطرَ عُمرها، على أنَّ الشطرَ نصفُ الشيء وجُزؤه كما في «القاموس» ، ومنه قولُه تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَك شَطَرَ المسجدِ الحرام}

(3)

. وحديثُ الإِسراء: «فَوَضَعَ شَطْرَها»

(4)

أي بعضَها.

ويُسَنُّ للمرأةِ أن تَحتشِيَ عند الحيض قُطنةً لتتعرَّفَ بها حالَها، وتُطيِّبَها بمِسْكٍ أو غاليةٍ

(5)

لتَذهبَ رائحةُ دمِها.

(1)

وهكذا جاء في "فتح القدير"2/ 162. والذي رواه الدارقطني في "سننه" عن سفيان قوله: أقل الحيض ثلاث، وأكثره عشر". وكذلك أسند الترمذي في "سننه" 1/ 228، كتاب الطهارة (1)، باب ما جاء في المستحاضة

(95)، رقم (128)، عن سغيان الثوري قوله:"أقل الحيض ثلاثة ثلاثة وأكثره عشرة".

(2)

أي تحديد الحيض بأن أقلَّه ثلاثة وأ كثر عشرة.

(3)

سورة البقرة، آية:(149). والاستشهاد بهذه الآية هنا غير سديد، لأن الشطر معناه: الجهة والناحية، وليس فيها معنى الجزئية إطلاقًا.

(4)

أخرجه البخاري (فتح الباري) 1/ 458 - 459، كتاب الصلاة (8)، باب كيف فرضت الصلوات في الإِسراء (1)، رقم (349).

(5)

الغالية: أخلاط من الطيب. المصباح المنير ص 172، مادة (غلا).

ص: 134

وأقلُّ الطُّهْرِ خمسةَ عشَرَ يومًا، ولا حَدَّ لأكثرِهِ.

===

(وأقلُّ الطُّهر خَمْسَة عشَرَ يَوماً) لاتفاقِ الصحابة على ذلك. وقد رَوَى جعفرُ بن محمد، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أقلُّ الحيضِ ثلاث، وأكثرُهُ عَشْر، وأقلُّ ما بين الحيضتين خمسة عشَرَ يوماً» . عزاه القاضي أبو العباس إلى الإِمام.

(ولا حَدَّ لأكثرِه) لأنه قد يَمتدُّ إلى سنةٍ وإلى سنتين، وقد لا تحيضُ أصلاً، فلا يُقدَّرُ أكثَرُه إلا لمن استمَرَّ دمُها وهي مُبَتدَأَةٌ

(1)

، فإنه يُقدَّرُ لها من كلّ شهرٍ عشرَةٌ حيضاً والباقي استحاضة.

(المُحَيّرة)

وأمَّا المعتادةُ الناسيةُ عدَدَ أيام حيضِها ودَوْرِها مِنْ كلِّ شهر: فإنْ كان لها ظنٌ تحرَّتْ ومضَتْ على غالبِ ظنها، وإنْ لم يكن لها ظنّ ـ وتُسمَّى المحيَّرة والمُضلَّلة ـ فإنها لا يُحكَمُ لها بشيء من الطُّهر أو الحيض على التعيين، بل تأخذُ بالأحوط في حقّ الأحكام بأن تصوم وتصلي

(2)

لجواز أن لا تكون حائضاً، ولا يطأَها زوجُها لاحتمالِ أن تكون حائضاً.

وهل يُقدَّرُ طُهرُها في حق انقضاءِ العِدَّة؟ قيل: لا يُقدَّرُ بشيء ولا تنقضي عِدَّتُها، وقال الأكثر: يُقدَّرْ، واختلفوا في قدره:

فقال محمدُ بن إبراهيم المَيْدَاني: يُقدَّرُ بستةِ أشهر إلاَّ ساعة، وعليه الأكثر، لأنَّ مُدَّة الطُّهر أقل مِنْ أدنى مدَّة الحَمْل عادةً، فَنَقَصْنا مِنْ ذلك ساعةً، وعلى هذا تنقضي عدَّتُها بتسعةَ عشَرَ شهراً إلا ثلاثَ ساعات، لأنها تحتاج إلى ثلاث حيَض كلُّ حيضةٍ عشرة أيام، وإلى ثلاثة أطهار كلُّ طُهر ستةُ أشهر إلا ساعة. قال البِرْجَنْدي: وهذا إنما يصحُّ لو كان الطلاق في أوَّل الطهر، إذ لو كان الطلاق في آخره انقضَتْ بثلاثةَ عشَرَ شهراً إلا ساعتين. وفي «شرح الكنز»: ينبغي أن يزيدوا على ذلك لجواز أن يكون طلاقها في أوَّل الحيض، فلا يُعتدُّ بتلك الحيضة، فتنقضي العِدَّةُ بتسعةَ عشَرَ شهراً وعشرةِ أيام إلا أربعَ ساعات. فثلاثُ ساعات لما مَرَّ، وواحدةٌ لزمان إيقاع الطلاق.

وروى ابنُ سَمَاعة عن محمد بن الحسن: أنه يُقدَّرُ الطُّهرُ بشهرين. وهو اختيارُ أبي سهل الغزاليِّ والحاكمِ في «مختصره» . وقيل: وعليه الفتوى

(3)

. لأنَّ العادة من

(1)

أي بَلَغَت حائضًا واستمر نزول دمها.

(2)

أي مع الاغتسال لكل صلاة.

(3)

ويؤيد هذا ما ذكره الحَصْكَفِي في "الدر المختار" 1/ 190: حيث قال: به يفتى.

ص: 135

والطُّهْرُ المُتخلِّلُ في مُدَّته، وما رأتْ مِن لونٍ فيها سوى البياضِ: حيضٌ.

===

العَوْد، والحيضُ والطُّهرُ مما يعود في شهرين عادة، فلا يكون الطهرُ أكثرَ من شهرين.

وأمَّا في حقّ ما عدا العِدَّة، فلم يُقدِّرُوا لها الطُّهرَ بشيء، بل قالوا: تَجتَنِبُ ما تَجتنبُ الحائضُ من قراءةِ القرآن ومَسِّه ودخولِ المسجد وإتيانِ الزوج، وتَغتسِلُ لكلّ صلاة فتؤدِّي به الفرضَ والوتر

(1)

، وتقرأُ فيهما قَدْرَ ما تجوزُ به الصلاة ولا تزيدُ، وقيل: تقرأُ الفاتحةَ والسورةَ، لأنهما واجبتانِ وهو الأصحُّ الأحوط. وإنْ حجَّتْ تَطوفُ للزيارة، لأنه ركنٌ ثم تُعيده بعدَ عشرةِ أيام، وتطوفُ للصَّدَرِ لأنه واجب، وتصومُ شهرَ رمضان لاحتمالِ أنها طاهرة، ثم تَقضي خمسةً وعشرين يوماً، لاحتمالِ أنها حاضَتْ فيه خمسَةَ عشرَ يوماً، عشرةٌ في أوَّله وخمسةٌ في آخره أو بالعكس، واحتمالِ أنها حاضت في القضاء عشَرَة.

(والطُّهْرُ المُتخلِّلُ) أي بين الدَّمَيْنِ (في مُدَّته) أي مُدَّةِ الحيض (وما رأتْ مِنْ لونٍ فيها) أي المُدَّة (سوى البياضِ حيضٌ).

أمَّا كونُ ما عدا البياضَ الخالصَ حيضاً، فلِمَا في «الموطأ»: عن علقمة بن أبي علقمة، عن أُمِّه مولاةِ عائشة أنها قالت: كانت النساءُ يَبعْثنَ إلى عائشة بالدُّرْجة فيها الكُرْسُف فيه الصُّفْرَةُ من دَمِ الحيض يَسألْنها عن الصلاة؟ فتقول لهن: لا تَعْجلن حتى تَرَيْنَ القَصَّةَ البيضاءَ. تُريدُ بذلك الطُّهرَ من الحيضة. والكُرْسُف: بضم الكاف والسين المهملة: القُطنُ. والدُّرْجة: بضم الدال: حُقَّةٌ

(2)

تضعُ المرأةُ فيها طِيبَها ونحوَه. والقَصَّةُ: بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة: شيء كالخيط الأبيض يَخرُجُ مِنْ قُبُل المرأة عَقِيبَ انقطاع الدم، يُعرَف به أنها طَهُرَتْ

(3)

.

وأمَّا كونُ الطُّهرِ المُتخلِّل بين الدَّمَيْنِ في مُدَّةِ الحيض حيضاً فهو روايةُ محمدٍ عن أبي حنيفة، ولا يجوز على هذه الرواية بُداءةُ الحيضِ بالطهر ولا الختمُ به. ووَجْهُها أنَّ استيعابَ الدَّمِ مُدةَ الحيض ليس بشرط إجماعاً، فيُعتَبَرُ أوَّلُها وآخِرُها كالنِّصاب في باب الزكاة.

(1)

وتُؤدي به أيضًا السنن المؤكدة، ولا تصلي به شيئًا من التطوعات، كما في حاشية الشبلي على "تبيين الحقائق" للزيلعي 1/ 63. أفاده الشيخ عبد الفتاح أبو غُدة رحمه الله تعالى.

(2)

الحُقَّة: وعاء من خشب. القاموس المحيط ص 1130، مادة (حق).

(3)

هذا أحد معنيين للقَصَّة. والمعنى الثاني هو: أن تَخْرُج القُطْنَة أو الخِرقة التي تَحتشي بها الحائض كأنها قصَّة بيضاء، لا يُخَالطها صُفرة. والقَصَّة: الجِصّ. أي أن تخرج بيضاء كالجص لا شيء عليها كما دخلت بيضاء. انظر "النهاية في غريب الحديث" 4/ 71.

ص: 136

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وقال أبو يوسف ـ وهو روايةٌ عن أبي حنيفة وقيل: هو آخِرُ أقواله ـ: إن كان الطُّهرُ أقلَّ من خمسةَ عشَرَ يوماً لا يَفصِل لأنه طُهرٌ فاسد، فصار بمنزلة الدَّم، وحكمُه حكمُ دمٍ منفصِل، فيُنظَرُ: إن كان ذلك كلُّه لا يزيد على العشرة فالكلُّ حيض: ما رأتْ فيه الدَّمَ وما لم تَر، سواءٌ كانتْ مُبتَدَأةً أو صاحبةَ عادة.

وإن زاد على العشرة: إن كان لها عادةٌ رَدَّتْ إليها، ويكون الزائد استحاضة. وإن كانت مُبتَدَأةً فالعشرةُ حيضٌ: ما رأت فيه الدمَ وما لم تَر، وما زاد استحاضة. وكثيرٌ من المتأخرين أفتَوا بهذه الرواية لأنها أيسر على المفتي والمستفتي لقلَّةِ التفاصيلِ التي يَشقُّ ضبطُها. ويجوزُ على هذه الرواية البداءةُ بالطُّهرِ والختمُ به، لكن يُشترَطُ إحاطةُ الدم من الجانبين، كما إذا رأت قبلَ عادتِها يوماً دماً وعشرةً طهراً ويوماً دماً، فالعشرةُ حيض.

وروى ابنُ المبارك عن أبي حنيفة: أنه يُشترَط أن يكون الدمُ في العشرة ثلاثةَ أيام، وهو قولُ زفر، لأن الحيض لا يكون أقلَّ من ثلاثة.

وحكَمَ محمدٌ بفصلِ الثلاثةِ من الطُّهر في مدة الحيض إن زادت على الدمين. قال في «المبسوط» : وهو الأصحُّ وعليه الفتوى. فلو رأت يوماً دماً وثلاثةً طهراً ويوماً دماً، لم يكن شيء منها حيضاً، لأن الطهر بلَغَ ثلاثة أيام، وهو غالبٌ على الدَّمينِ فصار فاصلاً، وكذلك إن زاد الطُّهر. وإنْ رأتْ يوماً دماً وثلاثةً طهراً ويومينِ دماً، فالستَّةُ حيضٌ، لأن الدم ساوَى الطُّهر في طَرَفي الستَّة فصار غالباً. ولو رأتْ ثلاثةً دماً وخمساً طُهراً ويوماً دماً، فحيضُها الثلاثةُ الأُولى، لأَنَّ الطهر غالب فصار فاصلاً، والمتقدِّمُ يمكن أن يُجعلَ بانفراده حيضاً، فجعلناه حيضاً.

وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنَّ الطهر المتخلِّل بين الدَّمَيْنِ إذا كان دون ثلاثة أيام لا يصير فاصلاً، وإذا بلغ ثلاثة أيام فَصَلَ على كلِّ حال، ثم يُنظَرُ إن أمكن أن يُجعَلَ أحدُهما بانفرادِه حيضاً جُعِلَ حيضاً، كما بيَّنا مِنْ مذهبِ محمد وإنْ خالفه في حرفٍ واحد، وهو أنه لم يَعتبِر غلبةَ الدم ولا مساواةَ الدم بالطهر، فلو رأتْ مُبتدَأةٌ يوماً دماً ويومين طهراً ويوماً دماً يكون الأربعةُ حيضاً. ولو رأتْ يومينِ دماً وثلاثةً طهراً ويوماً دماً لم يكن شيء منه حيضاً، لأنَّ الطُّهر المتخلِّل بلَغ ثلاثة أيام، وواحدٌ منهُمَا بانفرادِه لا يمكن أن يُجْعَل حيضاً، ولو رأتْ يوماً دماً وثلاثةً طهراً وثلاثةً دماً كانت الثلاثةُ الأخيرةُ حيضاً.

ولا نُميِّزُ نحن ومالكٌ بين دَمَي الحيضِ والاستحاضةِ باللون عند اتصال الدَّمَين.

ص: 137

يَمنَعُ الصلاةَ والصُّومَ، ويُقضَى هو لا هي،

===

وميَّزَ الشافعيُّ به بينهما وقال: إذا عبَرَ الدمُ الأكثرَ وكانت مُبتدَأةً مميِّزةً وهي التي تَرى في بعض الأيام دماً قوياً كالأسْودِ، وفي بعضها دماً ضعيفاً كالأحمر، فيجعلُها حائضاً في وقت القوي، ومستحاضةً في وقت الضعيف، بشرط أن لا يَنقُصَ القويُّ عن أقلِّ الحيض

(1)

، ولا يَزِيدَ على أكثرِه ليُمكِنَ جعلُه حيضاً، وأن لا يَنقُصَ الضعيفُ عن أقلِّ الطهر ليُمكِنَ جعلُه طهراً بين الحيضتين. وإن كانت معتادةً مميِّزةً فيأخُذ بمقتضَى التميُّزِ دون العادة على الأصحِّ عنده لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حُبَيش:«إنَّ دَمَ الحيضِ غليظٌ أسوَدُ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان غيرُه فاغتسلي وصلِّي»

(2)

.

ولنا قولُه صلى الله عليه وسلم «المستحاضةُ تدَعُ الصلاةَ أيامَ أقرائها»

(3)

. وقولُه: «دَعي الصلاة أيامَ أقرائك»

(4)

. اعتَبَر الأيامَ دون اللونِ وغيرِه، ومذهبُنا رُوي عن عليّ وابن عباس، ومثلُه عن سالمِ بن عبد الله، والقاسمِ بن محمد، ومكحولٍ، والحسنِ، وإبراهيم، وابنِ سيرين. وما رواه موقوفٌ على عائشة، ومعارَضٌ بقولِ عليّ وابن عباس، وقد روى ابن ماجه عن عائشة قالت: جاءت فاطمةُ بنت أبي حُبَيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأةٌ أُستحاضُ فلا أَطهُر، أفادَعُ الصلاة؟ فقال:«لا، اجتنبي الصلاةَ أيام مَحِيضك، ثم اغتسلي وتوضَّئي لكلِّ صلاةٍ وإن قطَرَ الدَّمُ على الحصير» .

(يَمْنَعُ) أي الحيضُ (الصلاةَ والصومَ) بإجماع المسلمين (ويُقضَى هو) أي الصومُ (لا هي) أي الصلاةُ لما في «الكتب الستة» : عن مُعاذَةَ العَدَوِيَّة قالت: سألتُ عائشةَ: ما بالُ الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحَرُورِيَّةٌ أنتِ؟ قلتُ: لستُ بحَرُورِيَّة ولكني أسأل؟ قالت: كان يُصيبنا ذلك فنُؤمَرُ بقضاءِ الصوم، ولا نُؤمرُ بقضاءِ الصلاة». انتهى. وعليه الإِجماعُ. ولأنَّ في قضاء الصلاة حرجاً لكثرتِها وتكرُّرِ الحيض، بخلافِ الصوم، فإنه يجب في السنة شهراً، ولا تحيضُ المرأةُ في الشهر بحسب العادة إلا مرَّةً.

والحَرُورِيَّة: بفتحٍ فضم نسبة إلى حَرُوراءَ، وهي قريةٌ بالكوفة كان اجتماعُ أوَّلِ

(1)

وهو عنده يوم وليلة.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه 1/ 197 - 198، كتاب الطهارة (1)، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة (109)، رقم (286). بلفظ قريب.

(3)

أخرجه أبو داود بلفظ قريب (الموضع السابق).

(4)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 212، كتاب الحيض، رقم (36).

ص: 138

ودخولَ المسجد والطوافَ واستمتاعَ ما تحتَ الإِزارِ

===

الخوارِجِ بها. وإنما قالت ذلك لها، لأنَّ طائفةً من الخوارج يُوجبون على الحائض قضاءَ الصلاة. والاستفهامُ إنكاريٌّ بأنَّ هذه طريقةُ الحَرُورِيَّة. وقيل: إنما قالت ذلك لأنها تعمَّقَتْ في الدين، وأهلُ حَرُوراء تعمَّقوا فيه حتى خرجوا عنه.

(و) يَمنعُ الحيضُ (دخولَ المسجد) لِمَا روى أبو داود من حديث عائشة قالت: جاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ووجوهُ بيوتِ أصحابه شارعةٌ في المسجد

(1)

، فقال:«وجِّهُوا هذه البيوتَ عن المسجد» . ثم دخل ولم يَصنع القومُ شيئاً رجاءَ أن يَنزِلَ فيهم رُخصة، فخرج إليهم فقال:«وجِّهُوا هذه البيوتَ عن المسجدِ، فإنِّي لا أُحِلُّ المسجدَ لجُنُبٍ ولا حائض» .

(و) يَمنعُ (الطوافَ) بالكعبة لأنَّه في المسجد. واحْتِيجَ إلى ذكرِه لئلا يُتوهَّمَ أنه لمَّا جاز لها الوقوفُ

(2)

مع أنه أقوى أركانِ الحجّ، فَلأَنْ يجوزَ لها الطَّوافُ أولى، ولِيَدُلَّ على أنه كما يَحرُمُ عليها الدخولُ في المسجد يَحرمُ عليها الطواف، ولأنها إذا دخَلَتْ المسجد طاهرةً ثم حاضَتْ لا تطوفُ، إِذْ يجبُ عليها الخروجُ في ساعته بتيمُّمٍ وهو الأولى.

(و) يَمنعُ (استمتاعَ ما تحتَ الإِزارِ) من المرأةِ حائضاً أو نُفَساء، وهو: ما بين السُّرَّةِ والرُّكْبة.

وقال محمد وأحمد بن حنبل: يَمنعُ الحيضُ الاستمتاعَ بالفرج خاصةً، وهو قولٌ للشافعيّ، واختاره النوويُّ لما رواه الجماعة إلا البخاريَّ عن أنس: أنَّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأةُ لم يُواكِلُوها، ولم يُجامِعُوها في البيوت، أي لم يُساكِنُوها فيها. فسأل أصحابُ النبيّ

(3)

صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى:{يَسئلونَك عن المَحِيضِ قُلْ هو أَذًى}

(4)

الآية. فقال صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كلَّ شيء إلا النكاحَ» ، أي الجماع كما في رواية.

ولنا: ما رَوَى أبو داود عن عبد الله بن سَعْد قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يَحِلُّ لي مِنْ امرأتي وهي حائض؟ فقال صلى الله عليه وسلم «لكَ ما فوقَ الإِزار» . وقد حسَّنه البعض، وقال

(1)

أي مفتوحة إلى المسجد، يدخلون منها إليه.

(2)

أي بعرفة.

(3)

في المطبوعة: "فسأل أصحابه صلى الله عليه وسلم عن ذلك

".

(4)

سورة البقرة، آية:(222).

ص: 139

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

شارحُه أبو زُرْعة العراقيُّ: ينبغي أن يكون صحيحاً.

وما صَحَّ مِنْ قولِ عائشة: وكان يأمُرني فأتَّزِرُ، فيُباشِرُني وأنا حائض. أي يُلامِسُني. وفي المتفق عليه: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يُباشِرُ إحداهُنَّ حتى يَأمُرَها أنْ تأتَزِر. ولولا مَنْعُ ما تحتَ الإِزار لم يكن لأمْرها بالإِزار

(1)

قبلَ المباشرةِ معنى، إلا أنه يُحتَملُ أن يكون من باب الاحتياط، فإنَّ الراعيَ حول الحِمَى يُوشِكُ أن يقع فيه، ويُمكِنُ حملُ قوله صلى الله عليه وسلم «إلا النكاح» على الجماع حقيقةً أو حُكماً، فالمسأَلةُ ظنيةٌ غيرُ قطعية.

ثم المشهورُ من رواية المحدِّثين وغيرهِم فأَتَّزِرُ بهمزةِ قطعٍ فمُثنَّاة فوقية مشدّدة. وقال المُطرِّزي

(2)

: الصوابُ فأَءْتَزِرُ بهمزتين: الأُولى للوصل، والثانيةُ ساكنةٌ، هي فاءُ افتعل من الإِزار، كذا نقله الشُمُنِّي. وهو خطأٌ في نقلِ عبارته، فإنَّ الصواب أن يقول: بهمزتين: الأُولى للقطع لأنها همزة متكلِّم، والثانيةُ مُبدَلَةُ الفاء. ونَصَّ الزمخشريُّ أيضاً على خطأ أَتَّزِرُ بالإِدغام وتَبعه الطِّيبيُّ في «شرح المِشكاة» ، ولا يَخفى أنَّ رواية المحدِّثين أقوى من نقلِ اللغويين.

وقد قال ابنُ مالك: إنَّ إدغام الهمزة في التاء مقصورٌ على السماع. وقد سُمِعَ: اتَّزَرَ من الإِزار، واتَّكلَ من الأَكْل. وقرأ ابنُ مُحَيْصِن {فليُؤدِّ الذي اتُّمِنَ}

(3)

بهزةِ وصل وتاءٍ مشدَّدةِ مضمومة، وهو من الأمانة. والقراءةُ الشاذَّةُ بمنزلةِ خبر الآحاد. ويؤيِّدُه قراءةُ الجمهور {اتَّخَذْتُم} بالإِدغام، فالظاهرُ أنه مأخوذٌ من الأَخْذ لا من اتَّخَذَ.

وفي «المحيط» : رَوَى ابنُ رُسْتُم: أنَّ من قال بأنَّ جِماع الحائض حلالٌ كُفِّرْ، أي إذا كان يعتقده أنه ليس بمنهي عنه، لأنه يصير جاحداً لحكمِ الكتاب. ومَنْ جامع

(4)

وهو عالمٌ بالتحريم فليس عليه إلا التوبةُ والاستغفار، لأنه باشَرَ كبيرةً فكفَّارتُها غيرُ مشروعة إلا بالتوبة. ويُستحَبُّ أن يتصدَّقَ بدينارٍ أو نصفِ دينار. وقيل: إن أصابها في الدَّمِ فبدينار، وفي انقطاعِه فبنِصفِ دينار. ويَشهدُ للقولِ الأوَّلِ: ما أخرجه أبو داود في «سننه» عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأتَه وهي حائض قال: «يَتصدَّقُ بدينارٍ أو بنصفِ دينار» . قال أبو داود: هكذا الروايةُ الصحيحةُ: «بدينارٍ أو

(1)

عبارة المخطوط: "لم يكن الأمر لها بالاتزار قبل المباشرة معنى".

(2)

المغرب في ترتيب المعرب 1/ 37 - 38، مادة (أزر).

(3)

سورة البقرة، آية:(283).

(4)

لفظ: "جامع" سقط من المطبوعة.

ص: 140

ولا تَقرأ كجُنُبٍ ونُفَساء، بخلافِ المُحْدِث.

===

بنصفِ دينار». وللقولِ الثاني: ما أخرجه أبو داود أيضاً عن ابن عباس: قال: إذا أصابها في أوَّل الدم فدينارٌ، وإذا أصابها في انقطاعه فنصفُ دينار. قلتُ: فهذا تفسيرٌ للحديث الأوَّل، والإِشعارُ بأنَّ «أوْ» للتنويع لا للشكّ.

(ولا تَقرأُ) أي الحائضُ آيةً ولا ما دُونَها (كجُنُبٍ ونُفَساء) أي كما لا يَقرأ جنبٌ ونُفَساءُ شيئاً منه، وهذا اختيارُ الكرخي. واختيارُ الطحاوي: أنه لا بأس بقراءة ما دون الآية لأن النَّظْم والمعنى قاصرانِ فيه، ولهذا لا تجوزُ به الصلاة. وفي «البخاري»: قال إبراهيمُ ـ أي النَّخَعِيُّ ـ: لا بأسَ أن تقرأ الحائضُ الآية. ولم يرَ ابنُ عباس بالقراءة للجنب بأساً.

ووَجْهُ الأوَّل ما روى الترمذي وابن ماجه مِنْ حديث ابن عُمَر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تَقرأُ الحائضُ والجُنُبُ شيئاً من القرآن» . وفي «المحيط» : وهذا إذا قرأتْ على قصدِ التلاوة، إذْ لو قرأتْ على قصدِ الذكر والثناءِ نحو: بسمِ الله الرحمن الرحيم، والحمدُ لله ربّ العالمين

(1)

، أو علَّمتْ الحائضُ أو الجنُبُ حرفاً حرفاً فلا بأس به بالاتفاق لأجلِ العُذْرِ والضرورة.

(بخلاف المُحْدِث) فإنه يَقرأُ لما في «السنن الأربعة» وصحَّحه الحاكم عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَحجُبه ـ أو لا يَحْجُزه ـ عن القرآن شيءٌ، ليس الجنابة. قال الترمذي: حسَنٌ صحيح.

ولم يَمنع مالكٌ الحائضَ التلاوةَ لاحتياجِها إليها خوفاً من النسيان، ولعدمِ قدرتها على رَفعِ الحيض، بخلاف الجنابة لقدرتها على إزالتها

(2)

.

ولنا ما رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عُمَر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَقرأُ الحائضُ والجُنُبُ شيئاً من القرآن» . ورواه الدارقطني في «سننه» عن جابر مرفوعاً نحوَه.

(1)

أو على قصد الدعاء نحو {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا

} فلا بأس بذلك، وأما ما لا ذكر فيه ولا ثناء ولا دعاء، فلا تجوز قراءته للحائض أو الجنب، كقوله تعالى:{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ونحوها من آيات الأحكام. انتهى. مما أفاده الشيخ عبد الفتاح أبو غُدة رحمه الله تعالى.

(2)

مذهب الإمام مالك جواز قراءة القرآن للحائض والنفساء من غير أن تمسّ المصحف، سواء خافت النسيان أو لم تخفه. فقول الشارح هنا:"خوفًا من النسيان" غير سديد، ويجوز للحائض والنفساء أن تَمسَّ المصحف إذا كانت معلِّمة أو متعلمة. ويجوز للجُنُب قراءة اليسير من القرآن للتعوُّذ عند النوم، أو خوف، أو للتبرُّك، أو للرُّقيا، أو للاستدلال على حكم شرعي. انتهى ملخصًا مما أفاده الشيخ عبد الفتاح رحمه الله تعالى. وانظر "الشرح الصغير" للدردير بحاشية الصاوي 1/ 65،92 - 93 و: 1/ 76.

ص: 141

ولا يَمَسُّ هؤلاء مصحفًا إِلا بغِلافٍ متُجَافٍ. وكُرِهَ بالكمّ. ولا دِرهمًا فيه سُورة إِلا بِصُرَّة

===

(ولا يَمَسُّ هؤلاءِ) أي الحائضُ، والنُّفَساءُ، والجُنُبُ، والمُحْدِثُ (مصحفاً) لقوله تعالى:{لا يَمَسُّهُ إلا المطهَّرون}

(1)

. ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا يَمَسُّ القرآنَ إلا طاهر» . رواه أبو داود

(2)

. ولِمَا روى الحاكم في «المستدرك» وصحَّحه عن حَكِيم بن حِزام قال: لَمَّا بَعَثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليَمَن قال: «لا تَمسَّ القرآنَ إلا وأنت طاهر» . (إِلا بغِلافٍ مُتَجافٍ) أي منفصلٍ نحوِ الخَرِيطة

(3)

، لأنَّ المنفصِلَ عنه لا يكون تبعاً له. وفي «البخاري» عن أبي وائلٍ أنه كان يُرسِلُ خادِمَهُ وهي حائض إلى أبي رَزِينٍ لتأتيَه بالمصحف فتُمسِكَ بعِلاقته

(4)

.

(وكُرِهَ) أي المَسُّ (بالكُمّ) أي بشيءٍ من الثوب الذي على الماسِّ، لأنه تَبَعٌ له فلا يَصيرُ حائلاً بينه وبين المصحف. ولهذا لو حلَفَ لا يَجلِسُ على الأرض فلَبِسَ ثوباً وجلَسَ على ذيله على الأرض يَحنث. وفي «النوادر»: أنه لا بأسَ به لأنَّ المحرَّم المسُّ وهو اسمٌ للمباشرةِ من غير حائل.

وكُرِهَ لهم أيضاً مَسُّ التفسير، وكتبِ السُّنَنِ، والفقهِ، لأنها لا تخلو عن آيات

(5)

. ولا بأسَ بمسِّها بالكُمّ بلا خلاف. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : يُكرَهُ لهم أن يكتبوا كتاباً فيه آية، لأنَّ الكتابة بالقلم وهو في اليد. وذكَرَ أبو الليث أنهم لا يكتبون، وإن كانت الصحيفةُ على الأرض

(6)

والمكتوبُ دون آية، وذكر القدوري: أنه لا بأسَ بالكتابة إذا كانت الصَّحيفةُ على الأرض. وقيل: هو قولُ أبي يوسف. وكَرِهَ بعضُهم دفعَ المصحفِ أو اللوحِ الذي عليه القرآنُ مكتوبٌ إلى الصبيّ إذا كان مُحدِثاً، والصحيحُ: أنه لا بأسَ به، لأنَّ في تكليفهم بالطهارة حرجاً.

(ولا دِرهماً) أي مَثَلاً فيَشمَلُ ديناراً ونحوَه، عطفاً على مصحفاً (فيه سُورة) أي شيءٌ من القرآن آيةٌ أو أكثر. قال المصنِّف: وإنما قيل: سُورةٌ لأنَّ الغالبَ كَتْبُ نحو سورةِ الإِخلاص على الدراهم (إِلا بصُرَّة) أي مِنْ هِمْيانٍ

(7)

وغيرِه لأنها بمنزلةِ غلافٍ

(1)

سورة الواقعة، آية:(79).

(2)

في "المراسيل" ص 121، حديث رقم (92).

(3)

الخريطة: وعاء من آدَمٍ - جلد - وغيره. القاموس المحيط ص 858، مادة (خرط).

(4)

أي الخيط الذي يعلق به كيس المصحف.

(5)

هذا قول الصاحبين، أما قول الإِمام فلا يكره. انظر رد المحتار 1/ 118 - 119.

(6)

أي إذا وضع على الصحيفة ما يحول بينها وبين يده.

(7)

الهِمْيان: شِداد السراويل - حزام - ووعاء الدراهم. القاموس المحيط ص 1735، مادة (همى).

ص: 142

وحَلَّ وطءُ من انقَطعَ دَمُها لأكثرِ الحيضِ أو النِّفَاسِ، قبلَ الغُسْل، دُونَ من انقَطعَ دَمُها لأقلّ، إِلا إِذا مَضَى وقتٌ يسَعُ الغُسلَ والتحريمة.

===

متجافٍ.

(وحَلَّ وطءُ من انقَطعَ دَمُها لأكثرِ الحيضِ أو النفاسِ قبلَ الغُسْل) ظَرْفٌ للوطء (دُون) أي لا (مَنْ انقطَعَ دَمُها لأقلَّ) أي أقلَّ من أكثرِ الحيضِ أو النفاسِ، يعني أنَّ الحائضَ التي انقطَعَ حيضُها لأكثرِ الحيض، والنُّفَسَاءَ التي انقطَعَ نِفاسُها لأكثرِ النِّفاس: يَحلُّ وطءُ كلِّ واحدةٍ منهما وإن لم تَغتسِل

(1)

. والحائضَ التي انقطَعَ حيضُها لأقلَّ مِنْ أكثرِ الحيض، والنُّفساءَ التي انقطع نِفاسُها لأقلَّ من أكثرِ النفاس: لا يَحِلُّ وطؤها.

(إِلا إِذا) اغتَسلَتْ بلا خلاف، أو تيمَّمتْ في السفر أو الحضر عند العجزِ عن الماءِ وصلَّتْ باتفاق، أو لم تُصَلّ عند محمدٍ قياساً على ما إذا اغتسلَتْ. ولهما: أنَّ التيمُّمَ لا استقرارَ لَه لجوازِ بُطلانه بالماء ولا كذلك الغُسل.

أو إذا (مَضَى وقتٌ يسَعُ الغُسلَ والتحريمةَ) لأنَّ وقت التحريمة يَتحقَّقُ به إدراكُ وقت الصلاة، إذ لا تجبُ في ذِمَّتِها ما لم تُدرِك قدرَ ذلك من الوقت، ووقتُ الغُسلِ محسوبٌ من الحيض، ولهذا لو طَهَرَتْ قبلَ الصبح بأقلَّ مِنْ وقتٍ يسع الغُسل لا يُجزئها صومُ ذلك اليوم ولا يجب عليها صلاةُ العشاء.

وهذا كلُّه في حقّ التي استكملَتْ عادتَها. وأمَّا التي لم تستكمِل فلا يَحلُّ وطؤها وإن اغتسلَتْ حتى تمضي عادتُها لاحتمالِ عودِ الدَّم إليها، لكنَّها تغتسلُ وتصومُ احتياطاً. وفي «مواهب الرحمن»: إلا أن تَغتسِلَ أو تصيرَ الصلاةُ دَيْناً في ذِمَّتِها بخروج وقتِها.

والمرادُ من قولِ بعضهم: أو يَمضيَ عليها أدنى وقتِ صلاة: أدناهُ الواقعُ آخِراً، أعني أن تَطْهُرَ في وقتٍ منه إلى خروجهِ قدْرَ الاغتسالِ والتحريمة، لا أعمَّ من هذا ومِن أن تطهر في أوله ويمضي منه هذا المقدار، لأنَّ هذا لا يُنزلُها طاهرةً كما غلِطَ به بعضُهم، ألا تَرى إلى تعليلهم بأنَّ تلك الصلاة صارت دَيْناً في ذِمَّتِها وذلك بخروج الوقت، ولذا لم يَذكر غيرُ واحدٍ لفظةَ أدنى. وعبارة «الكافي»: أو تصيرَ الصلاةُ دَيْناً في ذِمتِها بمضي أدنى وقتِ صلاة بقَدْرِ الغُسلِ والتحريمة بأن انقطعَتْ في آخِرِ الوقت، لأنَّ الشرع حكَمَ بطهارتها لمَّا أَوجبَ الصلاةَ عليها.

(1)

لكن يُندب له أن لا يقربها حتى تغتسل. انظر "رد المحتار" 1/ 196.

ص: 143

[أَحْكَامُ النِّفَاسِ]

والنِّفاسُ دَمٌ يَعْقُبُ الوَلَدَ. ولا حَدَّ لأقلّه

===

وقال مالك والشافعي وأحمد وزفر: لا يجوز وطءُ من انقطع حيضُها ونِفاسُها حتى تغتسل لقوله تعالى: {ولا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ}

(1)

أي من الحيض {فإذا تَطَّهْرن} أي اغتَسَلْنَ، كذا فسَّره ابنُ عباس فيما رواه البيهقي وغيرُه. وقال إسحاق بن راهُويَهْ: وأجمعَ أهلُ العلم من التابعين على أنه لا يَطأها حتى تغتسل.

ولنا قولُه تعالى: {فاعْتَزِلُوا النِّساءَ في المَحِيض}

(2)

. ووقتُ انقطاعِ الدم ليس وقتَ محيض، وإنها بمُضِيّ ما يَسَعُ الغُسلَ والتحريمةَ تَثْبُتُ الصلاةُ في ذمَّتها، وهو من أحكام الطهارة فتكون طاهرة حكماً، ولأنَّ في الآية قراءتين، فمُقتضَى قراءةِ التخفيف انتهاءُ الحرمةِ العارضةِ على الحِلّ بالانقطاع مطلقاً، وإذا انتهت حلَّتْ بالضرورة. ومُقتضَى قراءةِ التشديد عدَمُ انتهائها عنده بل عند الاغتسال، فالتوفيقُ بينهما بما قلنا.

وفي «الظهيرية» : والحائضُ إذا حَبَستْ الدَّمَ عن الدُّرُورِ لا تَخرُجُ من أن تكون حائضاً. وصاحبُ الجُرح إذا منَعَ الجُرحَ عن السيلان بعلاجٍ يَخرجُ من أن يكون صاحبَ عُذْر.

(أحكام النِّفَاس)

(والنِّفاسُ) بكسر النون، مَصْدَرُ نَفِسَتْ المرأةُ بفتح النون ونُفسَتْ بضَمِّها إذا وَلَدَتْ، وقيل: ضَمُّها أشهَرُ مِنْ فَتْحِها. ثم سُمِّي به (دَمٌ) أي دَمُ رَحِمٍ (يَعْقُبُ الوَلَدَ)

(3)

بضم القاف أي يَتْبَعُ وِلادَتَه، احترازاً مما يَخرُجُ قَبْلَها.

(ولا حَدَّ لأقلّه) أي أقلَّ النِّفاسِ اتفاقاً، لِما روى ابن ماجه عن أنس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ للنُّفَساء أربعين يوماً إلا أن تَرى الطُّهر قبلَ ذلك. وضُعِّفَ. وقد رُويَ مِنْ عِدَّةِ طُرُق لم تَخلُ عن طعنِ، لكنَّه يَرتفعُ بكثرتها إلى الحَسن. وأمَّا ما رُويَ عن أُمّ سَلَمة

(1)

سورة البقرة، آية:(222).

(2)

هذا إذا منعته بعد نزوله إلى الفرج الخارج، لأن الحيض لا يثبت إلا بالبروز لا بالإحساس به، خلافًا لمحمد. فلو أحسَّت به فوضعت الكُرْسُفَ في الفرج الداخل ومنعته من الخروج، فهي طاهرة، كما لو حَبَسَ المنيَّ في القصبة. "رد المحتار" 1/ 204 - 205. فلْيُتَنَبَّه لهذا الحكم لأنه قد يُحتاج إليه، وخصوصًا في الحج.

(3)

فلو ولدته من قِبل سُرَّتها بأن شُقَّ بطنها وأُخرج الولد منها، فإن سال الدم من الرَّحِم فهي نفساء، وإلا بأن سال الدم من السُرَّة فهي ذات جُرح، وإن ثبت له أحكام الولد. انظر "فتح القدير" 1/ 165. و"البحر" 1/ 218.

ص: 144

وأكثره أربعون يومًا. وهو لأمّ التوأَمَيْنِ مِن الأوَّل خلافًا لمحمد.

===

قالت: كانت النُّفَساءُ تَقْعُدُ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً. فقال النووي: هو حديثُ حَسَن رواه أبو داود والترمذي وغيرُهما. وقال ابن تيمية في «المنتقى» : ومعنى الحديث كانت تُؤمَرُ أن تجلِسَ إلى الأربعين لئلا يكون الخبرُ كذِباً، إذ لا يُمكِنُ أن يَتَّفقَ نساءُ عصر في نِفاس أو حيض.

ولو ولدَتْ ولم تَر دَماً يجب الغُسل عند أبي حنيفة وزفر، وهو اختيارُ أبي عليّ الدَّقَّاق. وعند أبي يوسف ـ وهو روايةٌ عن محمد ـ: لا غُسْلَ عليها، لكن يجبُ عليها الوضوءُ. وفي «المفيد» هو الصحيح

(1)

.

(وأكثَرُه أربعون يوماً)، وهو قولُ الشافعي ـ حكاه عنه أبو عيسى الترمذي ـ والمشهورُ من مذهب أحمد.

وقال الأوزاعي: أكثَرُه في الغلام خمسةٌ وثلاثون وفي الجارية أربعون. وعن مالك روايتان: إحداهما الرجوعُ إلى العادة، والأخرى ستون يوماً، وبه قال الشافعي في المشهور عنه.

ولنا ما رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصحَّحه من حديث أُمّ سَلَمة قالت: كانت المرأةُ من نساءِ النبي صلى الله عليه وسلم تَقعُدُ في النِّفاس أربعين يوماً أو أربعين ليلةً، إلا أن تَرى الطُّهرَ قبل ذلك

(2)

. زاد أبو داود في لفظ: لا يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاءِ صلاةِ النفاس. وقال النووي: حديثٌ حسن. والمرادُ بنساءِ النبي صلى الله عليه وسلم ها هنا: بَناتُه وقَرِيْبَاتُه. وقال الترمذي: أجمع أهلُ العلم من الصحابة ومن بعدَهم على أنَّ النُّفَساءَ تدَعُ الصلاة أربعين يوماً إلا أن تَرى الطُّهرَ قبلَ ذلك.

(وهو) أي النِّفاسُ (لأمِّ التَّوأَمَيْنِ) وهما الوَلَدانِ في بطنٍ بينَ وِلادَتَيْهما أقلُّ مِنْ ستةِ أشهر (من الأوَّل) لأنَّ ما تراه حينئذٍ دَمُ رَحمٍ خارجٌ عَقِبَ الولادة (خلافاً لمحمد) فإنَّ نِفاسَها عنده من الوَلَد الأخير، لأنها حاملٌ به مُنسَدٌّ رَحِمُها بسببه، فلا يكون ما تراه عَقِبَ الأوَّل من الرَّحِم، وبه قال زفر.

(1)

بل الصحيح والمعتمد في المذهب قول أبي حنيفة بوجوب الغسل عليها، حيث قال ابن عابدين في "رد المحتار" 1/ 199: فلو لم تره - أي الدم - هل تكون نفساء؟ - قال: المعتمد نعم.

(2)

قوله: "إلا أن ترى الطهر قبل ذلك" لم يرد عند أبي داود، والترمذي، والحاكم، وورد عند ابن ماجه 1/ 213، كتاب الطهارة (1)، باب النفساء كم تجلس (128)، رقم (649). ولكن عن أنس بن مالك، وليس في رواية أم سلمة هذه الزيادة.

ص: 145

وانقضاءُ العِدَّةِ من الأخير إِجماعًا. وسِقْطٌ بَدَا بعضُ خَلقِهِ وَلَدٌ، فتَصِيرُ أمُّهُ نُفَساءَ، والأمَةُ أُمَّ وَلَد، ويَقعُ المُعلَّق به، وتنقضي العِدَّةُ به.

[أَحْكَامُ الاسْتِحَاضَةِ]

وما نقَصَ عن أقلِّ الحيض أو زادَ على حيض المُبْتَدَأَة، وهو عشَرةُ، أو نِفاسِها، وهو أربعون، أو على العادَةِ فيهما، وجاوَزَ أكثرَهما، وما رأتْ حَامِلٌ: استحاضةٌ لا تَمنعُ صلاة وصومًا ووَطْئًا.

===

(وانقضاءُ العِدَّةِ من الأخير إِجماعاً) لقوله تعالى: {وأُولاتُ الأحمالِ أَجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(1)

وبوضعِ الأوَّل لم تَضَعْ حَمْلَها، وإنما وَضَعَتْ بعضَه.

ولو قُطِّعَ الوَلَدُ فيها: إن خَرَجَ أكثرُهُ فهو نِفاس، وإلا فلا. وقال محمد وزفر: لا يَثْبُتُ النِّفاسُ إلا بوَضْعِ كلِّ الحَمْل. وإن كان بين الوَلَدَيْنِ أربعون يوماً فصاعداً قيل: على قولِ أبي حنيفة يجبُ النفاسُ من الولدِ الثاني أيضاً، وعلى قياسِ قولِهما لا يجبُ وهو الصحيح. فلمَّا تَضَعُ الولَدَ الثاني تغتسلُ وتصلي.

(وسِقْطٌ) بالكسر ويُثلَّثُ: اسمٌ للولدِ الساقطِ قبلَ تمامِ خَلْقِه (بَدَا) أي ظَهَر (بعضُ خَلْقِه) مِنْ إصبع ونحوِه (وَلَدٌ) أي في حكم الشرع (فتَصِيرُ أُمُّهُ نُفَساءَ والأَمَةُ أُمَّ وَلَد) إذا ادَّعاه السيِّد (وَيقعُ المُعلَّقُ به) من طلاقٍ وعَتاق (وتنقضي العِدَّةُ به) لأنه وَلَدٌ ناقصُ الخِلقة، ونُقصانُ الخِلقة لا يَمنعُ أحكام الولادة.

(أحكام الاستحاضة)

(وما نقَصَ عن أقلِّ الحيض) وهو ثلاثةُ أيام (أو زادَ على حيضِ المُبتدأَة) وهي من لم تَحِضْ قبلَ ذلك (وهو) أي حيضُ المبتدَأةِ (عشَرةٌ) أي أيام (أو نِفاسِها) أي أو زاد على نفاسِ المْبتدَأة، وهي من لم تلد قبلَ ذلك (وهو) أي نِفاسُ المُبتدَأةِ (أربعون) أي يوماً (أو على العادةِ) أي أو زادَ على العادةِ (فيهما) أي في الحيضِ والنِّفاس (وجاوز أكثرهما) قيَّدَ به لأنه لو زادَ على العادة فيهما ولم يجاوز أكثرَهما يكون حيضاً في الحيض ونفاساً في النفاس (وما رأتْ حاملٌ) عطفٌ على ما نَقَصَ:(استحاضةٌ) خبرٌ عن ما نَقَصَ وما عُطِفَ عليه (لَا تَمْنع) أي ما ذُكِرَ أو الاستحاضةُ (صلاةً وصوماً) أي صِحَّتَهما (ووَطْئاً) أي جَوازَه.

(1)

سورة الطلاق، آية:(4).

ص: 146

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

أمَّا كونُ الزائد على العادة في الحيض والنفاس استحاضةً إذا جاوز أكثرَهما: فلقولِ عائشة رضي الله عنها: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في المستحاضة: «تدَعُ الصلاةَ أيامَ أَقْرَائها، ثم تغتسلُ مرةً، ثم تتوضَّأُ إلى مثلِ أيام أقرائها» .

وقولِ سَوْدَة بنت زَمَعة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المستحاضةُ تدَعُ الصلاةَ أيامَ أقرائها التي كانت تَجلِسُ فيها، ثم تَغتَسِلُ غُسلاً واحداً، ثم تتوضَّأُ لكلِّ صلاة» . رواهما الطبراني

(1)

.

ولأنَّ ما تراه في أيام عادتِا في الحيض حيضٌ يقيناً، وفي النفاسِ نفاسٌ يقيناً، وما تراه فيما زاد على أكثرِ الحيضِ والنفاسِ استحاضةٌ يقيناً، وما تراه فيما بينهما مشكوكٌ فيه، فأُلحِقَ بما زاد على أكثرهما، لأنه يجانسه في كونه مخالفاً للعادة.

ثم قيل

(2)

: لا تصلي في الزائد على العادة لاحتمالِ صيرورتَها أهلاً، وعدمِ صيرورتها، فتَبقى كما كانت.

وأمَّا كونُ ما تراه الحاملُ استحاضةً فلأنه لو جاز اجتماعُ الحيضِ والحملِ لم يكن الحيضُ دليلاً على عدمِ الحمل، وقد جعله الشارعُ دليلاً عليه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: إنَّ الله رفَعَ الحيضَ عن الحُبلَى وجَعَل الدَمَ رزقاً للولد، رواه ابن شاهين. وعن عائشة: الحاملُ لا تَحيضُ. رواه الدارقطني. ومثلُ هذا لا يقال بالرأي، فيُحمَلُ على أنهما قالا ذلك سماعاً.

وقال مالك والشافعي في الجديد: ما تراه الحاملُ على ترتيب أدوارها حيضٌ.

ومن الدليل لنا أنه لمَّا نزَلَ قولُه تعالى: {والمُطَلَّقاتُ يَتَربَّصْنَ بأنفسهن ثلاثةَ قُرُوء}

(3)

قالت الصحابةُ: فإن كانت آيسةً أو صغيرةً فنزلَتْ {واللائي يَئِسْنَ مِنْ المَحِيضِ مِنْ نسائِكم}

(4)

الآيةَ. فقالوا: إن كانت حاملاً؟ فنزلت: {وَأُولاتُ الأحمالِ أجلُهُنَّ أن يَضعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(5)

. ففيه تنبيهٌ على أنَّ الحامل لا تَحيض، وأنها ليست من

(1)

الحديث الأول في المعجم الصغير ص 489 (من اسمه يونس).

والحديث الثاني في المعجم الأوسط (مجمع الزوائد 1/ 281).

(2)

وهو الأصح، حيث جاء في "فتح القدير" 1/ 176 - 177: وهل تترك بمجرد رؤيتها الزيادة؟ اختلف فيه، قيل: لا إذا لم يتيقن بكونه حيضًا لاحتمال الزيادة على العشرة، وقيل: نعم استصحابًا للحال، ولأن الأصل الصحة، وكونه استحاضة بكونه عن داء، وهو الأصح.

(3)

سورة البقرة، آية:(228).

(4)

سورة الطلاق، آية:(4).

(5)

الموضع السابق.

ص: 147

[أَحْكَامُ المَعْذُورِين]

ومن لم يَمضِ عليه وقتُ فرضِ إلا وبه حدَثٌ من استحاضةٍ أو رُعافٍ أو نحوِهما: يَتوضَّأ لوقتِ كلِّ فرضٍ له، ويُصلي به فيه ما شاء فرضًا ونفلًا

===

ذوات الأقراء.

ثم لا يَشترطُ أبو يوسف عودَ الدَّم وتكرارَهُ لنقلِ العادةِ الأصلية إلى زيادةٍ أو نقصانٍ، أو زمانٍ آخر في الشهر الثاني، فلو كانت العادةُ في أوَّل الشهر ستةً مثلاً، ثم رأت تسعةً دماً أو بعكسه، أو رأته في غير حينه: قبلَ عادتها أو بعدَها: ينقُلُ أبو يوسف العادةَ الأصليةَ إلى الحالةِ الثانية، وبقوله يُفتَى تيسيراً للأمر عليهن، كالعادةِ الأصلية، وهي انتقالُ الطُّهر إلى الحيض بمرَّةٍ واحدة، فإن المُراهِقةَ إذا رأت الدم ثلاثة أيام يُحكَمُ بأنها حائض فكذا هذا. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا بدَّ من التكرارِ لنقلها، إذ العادةُ مأخوذةٌ من المعاودة فلا تَثْبُت بدون العَوْد.

(أَحكام المعذورين)

(ومن لم يَمضِ عليه وقتُ فرضٍ إلاَّ وبه حدَثٌ) أَي حَدَثُه الذي ابتُلي به (من استحاضةٍ أو رُعافٍ أو نحوِهما) من انفلاتِ ريح، أو استطلاقِ بطن، أو خروجِ دمٍ من جُرح (يتوضَّأُ لِوَقتِ كلِّ فرضٍ له) أي لأجلِ ذلك الحدث.

ولم يُوجِب مالكٌ الوضوءَ عليهم بناءً على ما تقدَّم

(1)

من قولِه بعدم انتقاضه واكتفائِه باستحباب الوضوء.

(ويُصلِّي به) أي بذلك الوضوء (فيه) أي في ذلك الوقت (ما شاء فرضاً ونفلاً).

وقال الشافعي: يتوضَّأ لكلِّ صلاةِ فرضٍ ويصلِّي من النوافلِ ما شاء تبعاً لذلك الفرض، لِما روى البخاري من حديث هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطِمةُ ابنةُ أبي حُبَيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني امرأةٌ أُستحاضُ فلا أَطهرُ، أفأدعُ الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا، إنما ذلك عِرقٌ وليس بحَيْض، فإذا أقبلتْ حَيضتُكِ فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنكِ الدمَ وصلِّي» . قال: وقال أَبي

(2)

: ثم توضئي لكلِّ صلاةٍ حتى يجيء ذلكِ الوقت. ولِما رواه ابن ماجه عن عَدِي بن ثابت، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المستحاضةُ تدَعُ الصلاةَ أيامَ

(1)

ص 58 في نواقص الوضوء.

(2)

أي عروة.

ص: 148

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

أقرائها، ثم تغتسلُ وتتوضَّأ لكلِّ صلاة، وتصومُ وتصلي».

وأُجيبَ بأنَّ اللام في «لكلِّ صلاة» نحوُها في قوله تعالى: {أقم الصلاةَ لِدُلوكِ الشمس}

(1)

أي وقتِ دُلوكِها أي زَوالها. وإنما قلنا: ذلك، لأنَّ المعهود في الشرع أنَّ الحدث خروجُ خارج أو خروج وقتٍ كمضيِّ مدَّةِ مسحِ الخُفَّين، ولم يُعهَد فيه أنَّ الفراغ من الصلاة حدثٌ بالنسبة إلى فرضٍ آخر.

وفي «شرح الآثار» : أجمعوا على أنها إذا توضَّأت في وقتِ صلاة فلم تُصلِّ حتى خرج الوقتُ فأرادت أن تصلي بذلك الوضوء: أنه ليس لها ذلك حتى تتوضأ وضوءاً جديداً. ورأَيْناها لو توضَّأْتُ في وقتِ صلاة فصلَّتْ، ثم أرادت أن تَطَّوَّع بذلك الوضوءِ كان لها ذلك ما دامت في الوقت، فدَلَّ ما ذكرنا أنَّ الذي يَنقضُ طُهْرُها هو خروجُ الوقت، وأن وضوءَها يُوجِبه الوقتُ لا الصلاةُ وإن كان وجوبُه بها.

هذا، وقال ابنُ قُدَامة في «المغني»: رُوي في بعض ألفاظ حديثِ فاطمة بنت أبي حُبيَش «وتوضَّئي لوقتِ كلِّ صلاة» (ذكر سبط ابن الجوزي: أن أبا حنيفة روى: المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة)

(2)

، وفي «شرح مختصر الطحاوي» رَوَى أبو حنيفة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حُبَيش:«وتوضئي لوقتِ كلِّ صلاة» .

ولا شكَّ أنَّ هذا مُحْكَمٌ بالنسبة إلى كلِّ صلاة، لأنه لا يَحتمل غيرَه، بخلاف الأوَّل، فإنَّ لفظ الصلاة شاع استعمالُها في لسان الشرعِ والعُرفِ في وقتِها. فمن الأوَّل قولُه صلى الله عليه وسلم «إنَّ للصلاةِ أوَّلاً وآخِراً»

(3)

. الحديثَ، أي لوقتِها. وقولُه:«أيُّما رجلٍ أدركَتْه الصلاةُ فلُيصَلِّ»

(4)

. ومن الثاني آتيك لصلاةِ الظُّهر أي في وقتِها، وهو ما لا يُحصَى كثرةً. فوجَبَ حملُه على المُحكم. وقد رُجِّحَ أيضاً بأنه متروكُ الظاهر بالإِجماعِ على أنه لم تُرَد حقيقةُ كلِّ صلاة، لجواز النوافل مع الفرضِ بوضوءٍ واحد.

ثم ما في المَتْنَ بيانُ شَرطِ بقاء الاستحاضة بعد ما ثبَتَ حكمُها. وأمَّا شرطُ

(1)

سورة الإِسراء، آية:(78).

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوطة، وقد روى محمد بن الحسن في كتاب "الآثار" أن المستحاضة تتوضأ لكل وقت صلاة. ص 169، كذا في "الآثار"، وفي "جامع المسانيد" 1/ 268 نقلًا عن "الآثار" لمحمد بن الحسن:

لوقت كل صلاة.

(3)

أخرجه الترمذى 1/ 283، كتاب الصلاة (1)، باب ما جاء في مواقيت الصلاة (1)، رقم (151).

(4)

أخرجه البخاري (فتح الباري) 1/ 435 - 436، كتاب التيمم (7)، باب (1)، رقم (335).

ص: 149

ويَنقُضُه خروجُ الوقتِ كطلوعِ الشمس، لا دُخُولُه كالزَّوالِ.

===

ثبوتِه ابتداءً، فأن يَستوعبَ استمرارُ العُذْرِ وقتَ الصلاة كاملاً، كالانقطاعِ والانتهاءِ لا يثَبُتُ ما لم يَستوعب الوقتَ كلَّه. وفي «الكافي» لحافظ الدين النَّسَفي: وإنما تصيرُ صاحبةَ عُذر إذا لم تجد في وقتِ الصلاة زماناً تتوضَّأ وتصلي فيه خالياً عن الحدَث. وهذا هو المرادُ بالاستيعاب لا حقيقة، إذ قلَّما يَستمرُّ العُذرُ بحيث لا ينقطع في الوقتِ لحظةً، فيُؤدِّي إلى نفي تحقُّقه إلا في الإِمكان العقلي.

وفي «السراج الوهاج» : رجلٌ سال جُرحُه ولم يَعلم أنه يَستمرُّ وقتاً كاملاً، فإنَّه لا يصلي في أوَّلِ الوقت بل ينتظر، فإن لم ينقطع توضَّأَ قبلَ خروج الوقت. قال ابن الهُمام: فإنْ فَعلَ فدخل وقتٌ آخَرُ وانقطع فيه أعادَ الأُولى لعدم الاستيعاب.

(ويَنقُضُه) أي ويَنقُضُ وضوءَ المعذور عند أبي حنيفة ومحمد (خروجُ الوقتِ) أي وقتِ صلاة الفرض (كطلوعِ الشمس) فلو توضَّأ معذورٌ لصلاةِ العيد بعدَ طلوعِها، له أن يصلّي الظهرَ به عندهما، لأنها ليست بفرضٍ فصار كما لو توضَّأ لصلاة الضُّحى (لا دخولُه) أي لا يَنقُض وضوءَ المعذورِ دخولُ الوقت (كالزَّوالِ). وقال أبو يوسف: يَنقُضُه دخولُ الوقت وخروجُه. وقال زُفَر: دخولُه فقط.

ويَجبُ أن يُصلّي جالساً بإيماءٍ إن سال بالمَيَلان، لأنَّ تَرْكَ السجود أهوَنُ من الصلاة مع الحدَث، فإنَّ لها وجوداً حالةَ الاختيار على الدابَّة نفلاً، ولا تجوزُ مع الحدثِ حالةَ الاختيار أصلاً.

ثم يجب على المستحاضة أن تَغسِلَ ثوبها من الدَّم لكلِّ صلاة في قولِ محمد بن مقاتل، وقال ابن سَلَمة: ليس عليها غَسْلُه، لأنَّ أمرَ الثوبِ ليس آكَدَ من البَدَن. والأوَّل أَولى

(1)

.

وقال أبو القاسم في المبطونِ إذا كان بحالٍ لا يُبسَطُ تحته ثوبٌ إلا نجَّسَه مِنْ ساعتِه: جاز أن يصلّي على حالته. ولو كان به دَمَامِيلُ أو جُدَريٌّ فتوضَّأ، وبعضُها سائل ثم سالَ الذي لم يكن سائلاً انتقض، لأنَّ هذا حدَثٌ جديد، فصار كالمَنخِرَينِ. ولو كان في عينه رَمَدٌ ويسيل دمعُها يُؤمُرُ بالوضوءِ لكلِّ وقتٍ إذا غَلَب على ظَنِّه أنه صديد، والله تعالى أعلم.

(1)

الذي في "الدر المختار" 1/ 204 غير هذا كليًا، ففيه:"وإن سال على ثوبه جاز له أن لا يغسله إن كان لو غَسَلَه تنجس قبل الفراغ منها، أي الصلاة، وإلا يتنجس قبل فراغه فلا يجوز ترك غسله، هو المختار للفتوى".

ص: 150

‌بَابُ الأَنْجَاسِ

يَطْهُرُ الشَّيءُ عن نَجَسٍ مَرئيٌّ بَزَوَالِ عَيْنِهِ، وإن بقي أثَرٌ يَشُقُّ زوالُه بالماء، وبكُلِّ مائعٍ مُزِيلٍ.

===

(باب الأنجاس)

أي معرفةِ أنواعِ النجاسة وبيانِ كيفية الطهارة منها. وهو جمعُ نَجَس، وهو في عُرف الفقهاء بفتح الجيم عينُ النجاسة، وبكسرها: ما لا يكونُ طاهراً، كذا قيل. والأظهرُ أنه الذي يَصيرُ نَجِساً حين لاقَى نَجَساً. وفي اللغة يقال: نَجِسَ الشيءُ بالكسر يَنْجَسُ نَجَساً فهو نَجِس ونَجَسٌ أيضاً، قال تعالى:{إنَّما المشركون نَجَسٌ}

(1)

والظاهُر أنَّ المرادَ به المعنى المصدريُّ في الآية للمبالغة في النجاسة الباطنية، لاشتمالِ قلوبهم على العقائد الرَّديَّة.

(يطَهُرُ الشيء) بَدَناً كان، أو ثوباً، أو مكاناً، أو غيرَ ذلك (عن نَجَسٍ) بفتح الجيم (مَرْئيّ) أي جِرْمُه (بزوال عينه) لأنَّ تنجُّسَ ذلك الشيء لاتصالِ النجاسة به، فإزالتُها ولو بغَسلةٍ واحدة تطهيرٌ له. وقال الفقيه أبو جعفر: يُغسَلُ بعدَ زوالِ العينِ مرةً أو مرتين، وقيل: ثلاثاً، كذا في «الكافي» . (وإِن بقي أثر يَشُقُّ زوالُه) بأن يُحتاجَ في إخراجه إلى نحوِ الصابون والأُشنان

(2)

.

(بالماءِ) متعلِّقٌ بـ يَطْهُرُ، وهو أنسَبُ، أَوْ بزوالِ عينه وهو أقرب.

والأصلُ فيه ما جاء عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنَّ إحدانا يُصيبُ ثوبَها مِنْ دمٍ الحيض، كيف تصنع؟ قال:«تَحُتُّه، ثم تَقرُصُه بالماء، ثم تَنْضَحُه، ثم تصلِّي فيه» . أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي. وعن أُمِّ قيس بنتِ مِحْصَن أنها سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكون في الثوب؟ قال: «حُكِّيه بضِلْع

(3)

، واغْسِلِيه بماءٍ وسِدْر

(4)

». أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه.

(وبكلِّ مائع) ذائبٍ جارٍ كماءِ الورد والخَلِّ (مُزِيلٍ) احتَرَز به عن نحوِ الدُّهنِ واللَّبَنِ والعصير مما ليس بمُزِيلٍ.

(1)

سورة التوبة، آية:(28).

(2)

مر شرحه ص 75، التعليقة رقم (1).

(3)

أي بعُود. النهاية 6/ 96.

(4)

تقدم شرحها ص 82، التعليقة رقم (2).

ص: 151

وعن ما لم يُرَ بغَسْلِه وعَصْرِه ثلاثًا إِن أمكَنَ، وإلا يُغسَل ويُترَك إِلى عَدَمِ القَطَرانِ، ثُمَّ وثُمَّ

===

وقال مالك والشافعي ومحمد وزفر: لا يَطْهُرُ النَّجِسُ إلا بالماء، لأنَّ المائع يَتنجَّسُ بأَوَّلِ الملاقاة، والنَّجِسُ لا يُفيدُ الطهارة، لكن تُرِكَ هذا القياسُ في الماءِ بالإِجماع. ولعلَّ سندَهُ جَعْلُه تعالى الماءَ طَهُوراً؟.

ولهما: أنْ الماء مطهِّرٌ لكونه مائعاً مُزِيلاً للنجاسة عن المحلِّ، فكلُّ ما يكون كذلك فهو مطهِّرٌ كالماء. و: ما رَوى البخاري من حديث عائشة أنها قالت: ما كان لإِحدانا إلا ثوبٌ واحدٌ تَحِيضُ فيه. فإذا أصابه شيءٌ من دَمٍ قالَتْ ـ أي فعَلَتْ ـ برِيقِها فمَصَعتْه بظُفُرِها». ويُروَى: فقَصَعَتْه. والمَصْعُ بمهملتين: الإِذهابُ، والقَصْعُ بمهملتين: الدَّلْكُ. وفيه أنَّه إنما يَتم الاستدلالُ لو ثبَتَ أنها قد صلَّتْ به، و: كان زائداً على قَدْرِ العفو، و: اطَّلَع عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم و: أَقرَّها عليه.

وذكَرَ التُّمُرْتَاشيُّ: أنَّ الدم إذا غُسِلَ ببولِ ما يُؤكلُ لحمُه تَزولُ نجاسةُ الدمِ وتَبقى نجاسةُ البول. وأمَّا الماءُ المستعَملُ فيجوز به إزالةُ النجاسةِ الحقيقيةِ اتفاقاً.

(وعن ما) أي ويَطهُرُ الشيءُ عن نَجَسٍ (لم يُرَ) أي لم يكن مَرْئيَّاً (بغَسْلهِ وعَصْرِه) من غيرِ لَيِّهِ إلى أن ينقطِعَ تقاطُرُه (ثلاثاً) أي ثلاثَ مرات، وهو قيدٌ لهما. وعن محمد أنَّ العصر في المرَّةِ الثالثة كاف، وهو أرفق، والأوَّلُ ظاهر الرواية. وقيل عن أبي يوسف ومحمد أيضاً: إنه يطْهُرُ إنْ ظُنَّ طهارَتُه بالغَسَلاتِ الثلاث بلا عَصْر، والمدارُ على غلبةِ الظنّ لأنه دليلٌ شرعي. وعند الشافعي رحمه الله تعالى: المرَّةُ كافية. وإنَّما قُدِّرتْ غلبةُ الظن بالثلاثِ لأنها تَحصُلُ عند هذا العدد غالباً. وقيل: بالسبع دفعاً للوسوسة كما في الاستنجاء.

(إِنْ أمكَنَ) أي عَصْرُه (وإِلا) أي وإن لم يُمكِن عَصْرُه كالخَشَب والجِلْد المدبوغ بالنَّجَس (يُغسَل ويُترك إلى عدم القَطَران) أي قَطْرِ الماء، وهو بفتح القاف والطاء، في آخرِه نون، مَصدَرٌ لقَطَرِ الماء، وهو بفتح الطاء يَقطُرُ بضمها. وفي بعض النسخ: بمثناة فوقية مكان النون، جَمْعُ قطرة. وإنما يُترَكُ إلى ذلك لأنه يقومُ مقامَ العصر. (ثُمَّ) يُغسَل ويُترَك إلى عدَم القَطَرانِ (وثُمَّ) يُغسَل ويُترَك إلى عدَمِ القَطَران، وهذا عند أبي يوسف. وقال محمد: ما لم يُمكِن عصرُه لا يَطْهُر. ويَطهُرُ عند أبي يوسف ما لا يَنعصر إذا تنجَّسَ بغسلِه وتجفيفِه

(1)

ثلاثاً كالحنطةِ المتنجِّسة، والخَزَفِ، والخشبِ

(1)

معنى التجفيف هنا: أن يُخَلّيه حتى ينقطع منه التقاطر، ولا تبتل منه اليد، وليس معناه: اليُبْس وانتفاء الرطوبة بالمرّة. أفاده الشيخ عبد الفتاح رحمه الله. انظر "رد المحتار" 1/ 221.

ص: 152

وعن المَنِيّ بغَسْلِهِ أو فَرْكِ يابِسِه.

===

الجديدين، والحصيرِ، والسكينِ المموَّهِ بالماء النَّجِس، واللحمِ المُغْلَى به.

واعلم أنَّ أصلَ مذهبنا في غير المَرْئيَّةِ من النجاسة اعتبارُ غلبة الظن في طهارة محلِّها، لا المرَّةَ الواحدةَ كما اعتَبَرها الشافعي

(1)

، بناءً على أنَّ إزالتها حُكمٌ شرعي، فيُكتفَى فيه بالمرَّةِ كالحُكمي.

ولنا أنَّ الحُكميَّ عُرِفَ ثبوتُه بالشرع، وهو حَكَمَ بزوالِه بغسلِه مرَّةً، فإنه صلى الله عليه وسلم توضَّأ مرَّةً وقال:«هذا وضوءٌ لا يقبل الله الصلاةَ إلا به»

(2)

. فحَكَم بزواله بمرَّة، والحقيقيُّ عُرِفَ ثبوتُه بالحقيقة، فعُرِف زوالُه بها. وذا بتكرار الغَسْل للاستخراج، ولا يُقطَع بزواله، فاعتُبِرَ غلبةُ الظنّ كما في أمر القِبلة. وتُقدَّرُ غلبةُ الظنّ بالغَسْل ثلاثاً لحصولها بها في الأغلب، فأقمنا السببَ الظاهرَ مُقامَها تيسيراً، ولأنَّ حديث المستيقظِ شَرَطَ الغَسْلَ ثلاثاً عند توهُّمِ النجاسة، فعند تحقُّقِها أَولى.

(وعن المَنِيّ) أي ويَطْهُرُ الشيءُ ثوباً كان، أو بدناً، أو مكاناً عنه سواء كان مَنِيَّ رجلٍ أو امرأة (بغَسْلِه) مطلقاً (أو فَرْكِ يابسِه).

واعلم أنَّ المنيَّ نَجِسٌ عندنا وعند مالك، لكن عندنا يجبُ غسلُه أو فركُ يابسِه، وعند مالكٍ وزُفَر: لا يَطهُرُ إلا بالماء.

وعند الشافعي وهو المشهورُ من قولِ أحمد: أنه طاهر، لأنه أصلُ أولياءِ الله. ولِما روى الدارقطني والطبراني عن ابن عباس قال: سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن المنيِّ يصيب الثوبَ؟ فقال: «إنما هو بمنزلة المُخاطِ والبُزاق، وإنَّما يَكفيك أن تَمسحه بخِرقة أو بإذْخِرة» والصحيحُ: أنه موقوفٌ كما في «البيهقي» . وأخرج أحمد عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسلُتُ المنيَّ من ثوبه بعِرْقِ الإِذْخِر، ثم يصلي فيه.

ولنا: ما روى مسلم عن عائشة: كنتُ أفرُكُ المنيَّ مِنْ ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُصلي فيه ـ بالفاء ـ، وفيه أيضاً عن عبد الله بن شهاب الخَوْلَاني قال: «كنتُ نازلاً على عائشة ـ أي ضيفاً ـ فاحتلمتُ في ثوبيَّ فغمستُهما في الماء

(3)

، فرأَتْني جارِيَةٌ

(1)

عبارة المطبوعة: "اعتبار غلبة الظن في طهارة محلها، لأن المرة الواحدة كما اعتبرها الشافعي

" والمثبت من المخطوطة.

(2)

أخرجه ابن ماجه في سننه 1/ 145، كتاب الطهارة (1)، باب ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثة (47)، رقم (419).

(3)

في المخطوطة: "فغسلتهما" والمثبت من المطبوعة وصحيح مسلم 1/ 239 - 240، كتاب الطهارة (2)، باب حكم المني (32)، رقم (109 - 290). ولعل "فغسلتهما" رواية من روايات مسلم.

ص: 153

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

لعائشة فأخبرَتها، فبعثَتْ إليَّ عائشة فقالت: ما حَمَلك على ما صنعتَ بثوبيك؟ فقلتُ: رأيتُ ما يَرَى النائم، قالت: هل رأيتَ بثوبَيْكَ شيئاً؟ قلتُ: لا، قالت: لو رأيتَ شيئاً غَسَلْتَه، لقد رأيتُنِي وإني لأَحكُّه مِنْ ثوبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظُفُري». زاد الطحاوي:«ثم يُصلّي فيه ولا يَغسله» .

و: ما روى الدارقطني في «سننه» والبَزَّار في «مسندهِ» عن عائشة قالت: كنتُ أفرُكُ المنيَّ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابساً، وأغسِلُه إذا كان رَطْباً». وفي رواية:«فيَخرُجُ إلى الصلاة وإنَّ بُقَع الماء لفي ثوبه» . وفي «مسلم» عنها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يَغسلُ المنيَّ ثم يَخرجُ إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغَسْل فيه».

و: ما رواه الدارقطني من حديث ثابت بن حمَّاد، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيَّب، عن عمَّار بن ياسر قال: أَتى علَي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا على بئر أدْلُو ماءً في رَكْوَةٍ لي، فقال:«يا عمَّار ما تصنع» ؟ قلتُ: يا رسول الله بأبي وأُمِّي: أَغسِلُ ثوبي مِنْ نُخامةٍ أصابَته، فقال:«يا عمَّار إنما يُغسَلُ الثوبُ من خمس: من الغائط، والبول، والقيء، والدم، والمنيّ، يا عمَّار ما نُخامَتُك ودُموعُ عينيكَ والماءُ الذي في ركْوَتِك إلا سواء» . وفي سَنَدِه ضعيف، وهو ثابتُ بن حمَّاد، لكنْ له مُتابِعٌ عند الطبراني، رواه في «الكبير» من حديث حمَّاد بن سَلَمة عن علي بن زيدٍ سنداً ومتناً، فبطَلَ جزْمُ البيهقي ببطلانِ الحديث بسببِ أنه لم يَروه عن عليّ بن زيدٍ سوى ثابت، ودُفِعَ قولُه في عليَ هذا ـ إنَّه غيرُ محتَجَ به ـ: بأنَّ مسلماً روى له مقروناً بغيره. وقال العِجْليُّ: لا بأس به، وروى له الحاكم في «المستدرك» ، وقال الترمذي: صدوق.

و: ما رواه الطحاوي بسنده:

إِلى معاوية بن أبي سفيان أنه سأل أُختَه أُمَّ حَبِيبة زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلِّي في الثوب الذي يُضاجعكِ فيه؟ قالت: نعم إذا لم يُصبه أذى.

وإِلى عُمَر أنه احتَلَم في السفرِ وقد كاد أن يُصبح، فلم يجد في الرَّكْبِ ماءً، فركِبَ حتى جاء الماءَ فجعل يَغْسِلُ ما رأى من الاحتلام حتى أَسفر، فقال له عَمْرو بن العاص: أَصبحتَ ومعنا ثيابٌ فدَعْ ثوبَك، فقالَ عُمَر: بل أغسِلُ ما رأيتُ، وأَنضَحُ ما لم أَره.

وإِلى أبي هريرة قال في المنيِّ يُصيب الثوبَ: إن رأيتَه فاغسِلْ، وإلا فاغسِلْ

ص: 154

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الثوب كلَّه.

وإِلى جابرِ بن سَمُرة أنه سُئل عن الرجل يصلي في الثوب الذي يُجامِع فيه أهلَه؟ قال: صَلِّ فيه إلا أن تَرى فيه شيئاً فاغسِله، ولا تَنْضَحْه فإنَّ النضح لا يَزيدُه إلا شَراً.

وإِلى أنس بن مالك أنه سُئل عن قَطِيفة

(1)

أصابَتْها جنابةٌ لا يُدرَى أين موضِعُها؟ قال: اغسِلْها.

وروى ابن أبي شيبة: أنَّ رجلاً سأل عُمَر رضي الله عنه فقال: إني احتَلمتُ على طِنْفِسَة؟ فقال: إن كان رَطْباً فاغسِلْه، وإن كان يابساً فاحْكُكْه، وإن خَفِيَ عليك فارْشُشْه بالماء. والطِّنْفسةُ: مثلَّثةُ الطاءِ والفاءِ، وبكسر الطاء وفتح الفاء وبالعكسِ: واحدةُ الطنافسِ: للبُسُطِ والثيابِ والحصيرِ من سَعَف عَرْضُه ذراع.

وأُجيب عن قولهم: إنه أصلُ أولياءِ الله تعالى بأنه أصلُ أعدائه، فينبغي أن لا يكون طاهراً، فإذا تعارَضَا تَسَاقَطَا، فلا يصلح الاستدلالُ في هذه الحال. على أنه لا استبعادَ في أن يتكوَّنَ الطاهرُ مِنْ النَّجِس كاللَّبَنِ من الدَّم، بل إظهارٌ لكمالِ القُدرة.

ثم إذا فُرِكَ المنيُّ حُكِمَ بالطهارةِ عند أبي يوسف ومحمد وهو الأصح، وبتقليلِ النجاسة وتخفيفيها في أظهر الروايتينِ عن أبي حنيفة، فلو أصابه ماءٌ عاد نَجِساً عند أبي حنيفة خلافاً لهما، وفي «الخلاصة»: المختارُ أنه لا يعود نَجِساً.

ولهذه المسألة نظائر

(2)

: الخُفُّ إذا أصابه نَجَسٌ فدُلِكَ، والأرضُ إذا أصابها نجاسةٌ وذهَبَ أثرُها، والبِئرُ إذ غار ماؤها وكانت نَجِسةً، وجِلدُ الميتة إذا دُبِغَ بنحوِ الشمس، بخلاف ما إذا دُبِغَ بنحو القَرَظِ ـ محرَّكةً ـ وهو وَرَقُ السَّلَم.

ثم البَدَنُ مثلُ الثوبِ في الاكتفاءِ بالفَرْكِ في ظاهر الرواية، لأنَّ البَلْوَى فيه أشدُّ لانفصالِ الثوب عن المنيِّ دون البَدَن، فالتَحقَ به دلالةً. وروى الحسنُ عن أبي حنيفة: أنه لا يُجزاءُ فيه الفَرْكُ، وهو روايةٌ عن أبي يوسف.

(1)

القطفة: ثوب مُخْمَل. مختار الصحاح ص 227، مادة (قطف).

(2)

أي هذا الخلاف الذي يجرى في هذا الفرع يجري في نظائر له من كل ما حُكِمَ بطهارته بغير مائع، مع العلم أن المعتَمد في هذه النظائر قول الصاحبين، وهو بقاء طهارتها إذا أصابها الماء. أفاده الشيخ عبد الفتاح رحمه الله تعالى.

ص: 155

والخُفُّ عن نَجَسٍ ذي جِرْم بالدَّلكِ بالأرض.

وعن غيرِه بالغَسْلِ فقط، والسيفُ ونحوُه بالمسح، والبِساطُ بجرْي الماء عليه ليلةً، والأرضُ وما اتَّصلَ بها، كالخُصِّ والكَلأ، باليُبْسِ

===

(و) يَطْهُرُ (الخُفُّ) وكذا النَّعْلُ (عن نَجَسٍ ذي جِرْم) سواءٌ كان جِرْمُه منه كالدَّمِ والعَذِرة، أو من غيره كالبول الملتصقِ به تراب، وأيضاً سواء جَفَّ ذو الجِرْم أو لم يَجفَّ، وهو قولُ أبي يوسف وعليه الأكثر، وفي «النهاية»: وعليه الفتوى. وقال أبو حنيفةَ: يُشترَط جفافُ ذي الجِرْم في طهارة الخُفّ (بالدَّلْكِ بالأرض).

وقال محمد وزفر ومالك والشافعي: لا يَطْهُرُ الخُفُّ من غير المنيِّ الجافِّ إلا بالغَسْل كالنجاسة التي لا جِرْم لها

(1)

.

ولأبي حنيفة وأبي يوسف ما رواه أبو داود، وابن حبان، وابن خُزيمة، والحاكم وقال: صحيحٌ على شرط مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا وَطِيءَ أحدُكم الأَذى بخُفَّيه فطهورُهما التراب» . ولما رواه الطحاوي وأبو داود عن أبي سعيد: «إذا جاء أحدُكم المسجدَ فلْيَنظر فإنْ رأى في نعليه قَذَراً أو أذىً فلْيَمسَحه وليُصلِّ فيهما» . لكنَّ أبا حنيفة يقول: إنَّ الرَّطْب لا يزول بالدَّلكِ، فيُشترَطُ الجفاف.

(وعن غيرِه) أي غيرِ ذي الجِرْم (بالغَسْلِ فقط) لأنَّ أجزاء النجاسة تَتشرَّب في الخفِّ فلا تَخرجُ منه إلا بالغَسْل، بخلافِ ذي الجِرْم، فإنه يَجذبُ ما في الخفِّ من الأجزاء النَّجِسة بجِرْمه إذا جَفّ.

(و) يَطْهُرُ (السيفُ) أي الصَّقِيل (ونَحوُه) في الصَّقالةِ وعدمِ المسامّ، سواءٌ كان النَّجَسُ رَطْباً أو يابساً (بالمسحِ) لأنَّ الغَسْلَ يُفسده، وفيه خلافُ محمد. ولهما: أنَّ الصحابة كانوا يقتلون الكفَّار بسيوفهم ثم يَمسحونها ويصلُّون معها. وقيَّدْنا بالصقيل لأنه لو كان السيفُ غيرَ صقيل أو كان الثوبُ صقيلاً: لا يَطْهُرُ إلا بالغسل.

(و) يَطْهُر (البِساطُ) أي الكبيرُ الذي لا يُمكن عصره (بجَرْي الماء عليه ليلةً) أي قَدْرَ ليلةٍ أو يوم، لأنَّ بذلك يُظَن زوالُ النجاسةِ منه. والتقديرُ بالليلةِ لقطع الوسوسة.

(و) تَطهرُ (الأرضُ وما اتَّصلَ بها كالخُصِّ) بضم المعجمة وتشديد المهملة: البيتُ مِنْ قَصَبٍ وجَرِيدٍ ونحوهما (والكلأ) وهو بالهمزة مقصوراً: العُشْبُ (باليُبْسِ

(1)

لكن رجع الإمام محمد إلى قول الشيخين: أبي حنيفة وأبي يوسف من طهارة الخُفِّ بالدَّلك، بعد دخول الرَّيّ ومشاهدته فيها بلوى الناس بالأرواث ونحوها. أفاده الشيخ عبد الفتاح رحمه الله تعالى. انظر "تبيين الحقائق" 1/ 71.

ص: 156

وذهابِ الأثر للصلاةِ لا التيمُّم.

===

وذهابِ الأثر) سواءٌ كان ذلك بشمسٍ أو ريحٍ أو نار. قيَّدَ بالاتصالِ لأنه لو كان منفصلاً لا يَطهُرُ إلا بالغَسْل (للصلاةِ) متعلِّقٌ بـ: تَطْهُرُ المقدَّر، أي تَطْهُرُ في حقِّ الصلاة (لا) في حقِّ (التيمُّم) اتفاقاً. وعن أبي حنيفة: تَطهُرُ للتيمُّم أيضاً

(1)

.

أمَّا الطهارةُ للصلاة فلِما روى مالك في «الموطَّأ» ، وأبو داود في «سننه» ، وابن خُزيمة في «صحيحه» عن ابن عُمَر قال: كنت فتًى شاباً عَزِباً ـ بكسر الزاي ـ أبيتُ في المسجد، وكانت الكلابُ تبولُ وتُقبِلُ وتُدبِرُ في المسجد، فلم يكونوا يَرُشُّون شيئاً من ذلك.

وأمَّا عدَمُ الطهارةِ للتيمّم، فلأنَّ طهارة الأرض للتيمم ثبتَتْ بالكتاب فلا تتأدَّى بما ثبَتَ بخبر الواحد، كما لا يتأدَّى مسحُ الرأس الثابتُ بالكتاب بمسحِ الأُذن الثابتِ كونُها من الرأس بخبر الواحد، وكما لا تتأدَّى التوجُّهُ إلى البيتِ الثابتُ بالكتاب بالتوجُّهِ إلى الحَطِيم الثابتِ كونُه من البيتِ بخبر الواحد.

وقال مالك والشافعي وزفر: لا تَطهُرُ الأرض باليُبس.

ولنا: ما رُوي عن عائشة ومحمد بن الحنفية: ذكاةُ الأرض يُبْسُها

(2)

. وجعَلَه في «الهداية» مرفوعاً، ولم أره. وعن أبي قِلَابة: جُفوفُ الأرض طَهورُها

(3)

. وجعَلَ في «المبسوط» قولَه: أيُّما أرضٍ جَفَّتْ فقد ذَكَتْ، حديثاً مرفوعاً. و: ما في «سنن أبي داود» بابُ طَهورِ الأرض إذا يَبِسَتْ، وأَسنَدَ عن ابن عُمَر قال: كنتُ أبِيتُ في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنتُ فتىً شابّاً عَزِباً، وكانت الكلابُ تَبولُ وتُقبِلُ وتُدبرُ في المسجد، ولم يكونوا يَرُشُون شيئاً من ذلك. انتهى. فلولا اعتبارُ أنها تَطهرُ بالجفاف كان ذلك تبقيةً لها بوصفِ النجاسة، مع العلم بأنهم يقومون عليها في

(1)

قال الزيلعي في "تبيين الحقائق" 1/ 73: وروي عن أبي حنيفة أنه يجوز التيمم به - أي بالأرض التي كانت نجسة ثم يبست وجفت - فعلى هذا لا فرق بينهما، والظاهر الأول. أي: لا يجوز التيمم بها.

(2)

يريد بذكاتها طهارتها من النجاسة. النهاية 2/ 164. والحديث لا أصل له في المرفوع؛ ذكره ابن أبي شيبة في "مصنَّفه" موقوفًا على أبي جعفر محمد بن علي الباقر بلفظ الكتاب، 1/ 57، كتاب الطهارات، باب الرجل يطأ الموضع القذر. وأخرج عن ابن الحنفية وأبي قِلابة، قال: إذا جفَت الأرض فقد ذَكَت. المصدر السابق، باب من قال: إذا كانت جافة فهو ذكاتها. انظر نصب الراية 1/ 211، والتلخيص الحبير 1/ 37.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 3/ 158، باب تزيين المساجد والممر في المسجد، رقم (5143).

ص: 157

ويُعفَى ما دون رُبعِ الثوب مِن نَجِسٍ خَفَّ

===

الصلاة البتة لصِغَرِ المسجد وكثرةِ المصلين.

(ويُعفَى ما دون رُبعِ الثوب) وكذا حُكمُ البَدَن.

(مِنْ نَجِسٍ) بكسر الجيم أي ذي نجاسةٍ (خَفَّ)

(1)

وهو الصحيحُ من قول أبي حنيفة ومحمد، خلافاً لأبي يوسف حيث قال: المانعُ شِبْرٌ في شِبْر، وهو روايةُ الحسنِ عن أبي حنيفة، والمذهبُ هو الأوَّل، لأنَّ ما دون رُبعِ الثوب ليس بفاحش، والمانعُ في النجاسةِ الخفيفةِ هو الفاحش، ولقيامِ الربع مقامَ الكُلِّ في وجوبِ الصلاة في ثوبٍ رُبعهُ طاهر، وفي وجوبِ مسح ربعِ الرأس في الوضوء، وفي لزوم الجزاءِ بحَلْقِ رُبعِه وهو مُحرِمٌ، وفي انكشافِ رُبعِ العورة.

فقيل: مرادُهم رُبعُ أدنى ثوب تجوزُ الصلاةُ فيه كالإِزار. وقيل: رُبعُ جميع الثوبِ أو البدن. قال في «المبسوط» : وهو الصحيح. وقيل: رُبعُ الموضعِ الذي أصابته النجاسة كالذَّيْل والكُمِّ والدِّخْرِيصِ

(2)

ـ معرَّب التَّيرِيز ـ وكالرِّجْلِ واليَدِ والظَّهرِ والبَطْن، قال صاحب «التحفة»: وهو الأصحّ.

وسبَبُ تخفيف النجاسة عند أبي حنيفة تعارُضُ النَّصَّينِ في طهارتِه ونجاستِه وترجُّحُ النجاسة. وعندَهُما اختلافُ العلماءِ المتقدِّمين من الصحابة والتابعين في طهارتِه ونجاستِه وترجُّحُ النجاسة. وسبَبُ تغليظِ النجاسة عندَهُ عدَمُ تعارضِ النَّصَّين، وعندَهُما عدَمُ اختلافِ العلماء فيها.

وثمرةُ الخلافِ تَظهرُ في الرَّوْثِ والخِثْي والبَعْر، فعندهما نجاسةٌ مخفَّفة لاختلافِ العلماء فيها، وعنده مغلَّظة، لأنَّ ما رواه البخاري من حديث ابن مسعود أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ألقى الرَّوثةَ وقال:«إنَّها رِكْس» : لم يُعارِضْه نصٌّ. والرِّكْسُ: بكسر الراء: الرِّجْسُ. والرَّوثُ للفرسِ والبغلِ والحمار. والخِثْيُ بكسر الخاء وسكون الثاء للبقرِ والجاموس. والبَعْرُ للبعيرِ والشَّاة.

وإن مالكاً يَرى طهارتَها، لأنها وقودُ أهل الحرمين

(3)

، وبه يَثبُتُ التخفيفُ

(1)

أي كانت النجاسة فيه من قسم النجاسة الخفيفة.

(2)

الدَّخْرِيص: الشق في أسفل الثوب ليساعد لابسه على المشي. معجم لغة الفقهاء ص 207.

(3)

قال الشيخ عبد الفتاح أبو غُدَّة رحمه الله: هذا التعليل عليل لا أصل له في كتب السادة المالكية، وقد راجعت الكثير منها: المطولات والمختصرات، راجعت من شروح "مختصر خليل" شرح الخطَّاب =

ص: 158

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

عندهما، وهو الأظهرُ لعموم البَلْوَى بامتلاءِ الطرق بها، بخلافِ بولِ الحمار وغيره مما لا يؤكلُ لحمُه، فإنَّ الأرض تَنْشَفُه.

وطهَّرها محمدٌ آخِراً وقال: لا يَمنعُ الرَّوثُ وإنْ فَحُش، لِمَا رأى مِنْ بَلْوَى الناس من امتلاءِ الطرق والخانَاتِ بها لمَّا دخَلَ الرَّيَّ مع الخليفة. وقاس المشايخُ على هذا طينَ بخارى، لأنَّ ممشَى الناسِ والدَّوابِّ فيها واحد، وعند ذلك رُويَ رجوعُه في الخُفّ حتى قال: إذا أصابَتْه عَذِرَةٌ يَطهُرُ بالدَّلْك، وفي الرَّوثِ لا يُحتاج إليه عنده.

وأمَّا قولُ النَّسائيِّ: هو طعامُ الجِنِّ ـ أي دَوابِّهم ـ فتفسيرٌ من حيث الشريعة لا من حيث اللغة، لِما روى مسلم والترمذي واللفظ له من حديث ابن مسعود

(1)

قال:

= والموَّاق والخرشي، ومن شروح "رسالة ابن أبي زيد القيرواني" شرح زروق وابن ناجي وأبي الحسن والنفراوي، وراجحت "الذخيرة" للقرافي و "الشرح الصغير" للدردير و "إرشاد السالك" للشهاب البغدادي و"القوانين الفقهية" لابن جزي و"بداية المجتهد" لابن رشد و"الفقه على المذاهب الأربعة". فلم أرَ لهذا التعليل ذكرًا.

ثم فيما نقله الشارح عن مذهب مالك تسامح كبير منه، فإن مالكًا يرى طهارة فضلات الحيوان المباح أكله، أما المحرم أو المكروه أكله ففضلا - له نجسة عنده، ومن الححرم أكله عنده: الفرس والبغل والحمار. ثم يشترط في طهارة فضلات المباح أكله شرط، وهو أن لا يكون قد أكل أو شرب النجاسة، فإن أكلها أو شربها ففضلاته نجسة.

وهذه عبارة "الشرح الصغير" للدردير 1: 22 و 23 و 26 "ومن الطاهر فضلة الحيوان المباح أكله من روث وبعر وبول وزبل دجاج وحمام وجميع الطور ما لم يستعمل النجاسة، فإن استعملها أكلًا أو شربًا ففضلته نجسة، ومن النجس: فضلة غير مباح الأكل كالخيل والبغال والحمير، أو مكروهة كالهر والسبع، و: فضلة مستعمل النجاسة من الطيور كالدجاج وغيره أكلًا أو شربًا. فإذا شربت البهائم من الماء المتنجس أو أكلت نجاسة ففضلتها من بول أو روث نجسة".

واستدل المالكية لطهارة فضلات المباح أكله بما قاله الخرشي في "شرح مختصر خليل" (1: 86 و 94 "مقتضى القياس أن تكون الأرواث والأبوال نجسة من كل حيوان كما قال المخالف للاستقذار. خرج المباح بدليل وهو طوافه عليه السلام على بحير، وتجويزه الصلاة على مرابض الغنم، وبقى ماعداه على الأصل. ويستحب عند مالك غسل بول المباح وعذرته الطاهرة من الثوب ونحوه، إما لاستقذاره أو مراعاة للخلاف". واستدل القرافي في "الذخيرة" 1: 177 على طهارتها بحديث العرنيين الذين أمرهم الرسول بشرب أبوال الإبل وألبانها.

وتبين لك من هذا كله بطلان التعليل الذي أورد الشارح رحمه الله تعالى وفقد الدقة والضبط فيما نقله من مذهب مالك رضي الله عنه. اهـ. نقلًا عن تعليق الشيخ عبد الفتاح رحمه الله تعالى على "فتح باب العناية" 1/ 251 - 252.

(1)

في المخطوطة والمطبوعة: "من حديث أبي سعيد قال، ولعله سهو من الشارح رحمه الله. إذ هو عند مسلم 1/ 332، كتاب الصلاة (4)، باب الجهر كالقراءة في الصبح .. (33)، رقم (150 - 450). =

ص: 159

كبولِ فرسِ وما أُكِلَ، وخُرءِ طيرٍ لا يُؤكل. وأمَّا خُرءُ طيرٍ يوْكَلُ فطاهِرٌ

===

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تستنجوا بالرَّوثِ ولا بالعظام، فإنَّهُ زادُ إخوانِكم مِنْ الجِنّ» .

(كبول فرسٍ وما أُكِلَ) أي لحمُه. وهذا مثالٌ للنَّجِس الخفيف عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: بولُ الفرس وما أُكِلَ لحمُه طاهر.

وقال مالك وأحمد: بولُ ما أُكِلَ وَرَوْثُه طاهرٌ، لحديث العُرَنِيِّين من أنه عليه الصلاة والسلام أَمَرَهم بشُربِ أبوالِ الإِبل وألبانِها، وهو حديثٌ متفق عليه. ولِما رواه البَرَاءُ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا بأسَ ببولِ ما يُؤكلُ لحمُه» . وفي روايةِ جابر: «ما أُكِلَ لحمُه فلا بأسَ ببوله» . رواهما أحمد والدارقطني. ولحمُ الفرسِ مأكولٌ عند محمد.

ولأبي حنيفة وأبي يوسف قولُه عليه الصلاة والسلام: «استنزِهوا من البولِ فإنَّ عامَّةَ عذابِ القبرِ منه» . أخرجه الحاكم عن أبي هريرة وقال: على شرطهما، ورواه الدارقطني عن أنس.

فيجوز عندهم شربُ بولِ ما يُؤكل لحمُه للتداوي وغيره، ويجوز عند أبي يوسف للتداوي.

ولا يجوز عند أبي حنيفة مطلقاً. وأُجيبَ عن إطلاقِ شُربه عليه الصلاة والسلام للعُرَنِيِّين بأنه إمَّا منسوخ، أو اطلَّعَ عليه الصلاة والسلام بالوحي أو المنام على أنَّ شفاءَهم فيه.

(وخُرءِ طيرٍ) بفتح الخاءِ وضَمِّها وسكون الراء (لا يُؤكل) أي لحمُه. وهذا أيضاً مثالٌ للنَّجِس الخفيف عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد مغلَّظ. وقيل: طاهر، وصحَّحه السَّرَخْسِيّ. فوَجْهُ الطهارةِ عدَمُ الأمرِ بتنحيةِ الطيور عن المساجد، وذلك دليلٌ على طهارةِ خُرئِها، ووَجْهُ التغليظِ أنه لا تكثر إصابتُه للثياب، وقد تغيَّر بطبع الحيوان فصار كخرء الدجاجةِ والبَطِّ. ووَجْهُ التخفيفِ عمومُ البلْوَى به والضرورةُ.

(وأمَّا خرءُ طيرٍ يُؤكلُ) أي لحمُه (فطاهِرٌ)، وبه قال مالك، لأنَّ في التوقي عنه حرجاً.

ونجَّسَه الشافعي لإِحالةِ الطبع إيَّاه إلى نَتْنٍ وفساد.

= والترمذي 1/ 29، كتاب الطهارة (1)، باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به (14)، رقم (18)، عن ابن مسعود، وليس عن أبي سعيد الخُدْري.

ص: 160

إِلا الدَّجاجَ فإنه غَلِيظٌ كسائرِ ما خرَجَ من المَخرجَيْنِ

===

ولنا أنَّ عبدَ الله بن مسعود خَرِئتْ عليه حمامةٌ فمسَحَهُ بإصبعه

(1)

. وابنُ عُمَر زَرَقَ عليه طائر فمسَحَهُ بحَصَاةٍ وصلَّى ولم يَغسله. ولأنَّ إجماعَ الناس على تركِ الحَمَامات في المساجد مع القدرةِ على إخراجها إجماعٌ منهم على طهارته، ولأنها تَزْرُقُ من الهواء، والحرَجُ لاحقٌ بسبب التوقي عن ذلك، فيَسقُطُ اعتبارُ نجاسته، بخلافِ الدجاجةِ والبطِّ لإِمكانِ التحامي عنه.

وفيه نظر، لاحتمالِ سقوطِ حكمِ القليلِ للضرورة، كما سقَطَ حكمُ قدْرِ الدرهم من المغلَّظة وما دون الرُّبع من المخفَّفةِ مع بقاءِ وصفِ النجاسة، ولا ضرورةَ إلى حكم الطهارة.

(إلا الدَّجاج) بفتح أوله ويُثَلَّث. وكذا البَطُّ الأهلي والأوَزُّ (فإنَّه غليظ) لأنَّ التوقِّي عنه لا حرَجَ فيه (كسائِر) أي كباقي (ما خرَجَ من المَخرجَيْن) وهو خُرء الفَرَس، وخُرءُ ما يؤكل لحمُه، وبولُ ما لا يؤكلُ لحمه، وخُرءُه، وبولُ الآدمي، وخُرءُه، ونَجْوُ الكلب، ورَجيعُ السباع، ولُعابُها لتولُّدِه من لحمها، وما يَنقُضُ الطهارةَ بخروجه من بَدَنِ الإِنسان، فهذه الأشياء نجاسَتُها غليظة اتفاقاً.

أمَّا عند أبي حنيفة فلورُودِ النَّصِّ في نجاستها من غير مُعارِض، وهو قولُه تعالى:{ويُحرَّمُ عليهم الخبائثَ}

(2)

. والطباعُ السليمةُ تَستخبثُ هذه الأشياء. والتحريمُ لا لاحترامِها آيةُ نجاستِها. وأمَّا عندهما فلعدمِ مساغِ الاجتهاد في طهارتها.

وأمَّا خُرء الفأر وبولُه فمعفوٌّ عنه في الطعامِ والثوبِ لعدمِ إمكان التحامي عنه، لأنَّ الفأرة غالباً تخرجُ في الليالي وتَدخُل المضايق، بخلاف الماءِ فإنَّ حفظه ممكن، كذا في «شرح تحفة الملوك» للعَيْني.

وقال الشافعي وأحمد: يَكفي في بولِ الطفل الذي لم يَطْعَم ولم يَشرب إلا اللبنَ الرَّشُّ بالماء، ويَتعيَّنُ في بولِ الصَّبِيَّةِ الغَسلُ لورود النَّضْحِ في بولِ الصبيِّ دون الصَبيَّة.

وأجاب الطحاوي بأنَّ النَّضح الوارد في بول الصبيَّ المراد به الصبُّ، لما روى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: أُتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصبيّ فبال عليه، فقال:«صُبُّوا عليه الماءَ صبّاً» . قال: فعُلِمَ منه أنَّ حُكَم بولِ الغلام الغَسلُ، إلا أنَّه

(1)

مر تخريجه ص 98.

(2)

سورة الأعراف، آية:(157).

ص: 161

والدَّمِ والخمرِ،

===

يُجزئِ فيه الصبُّ، وحُكمَ بولِ الجارية أيضاً الغَسلُ، إلا أنه لا يَكفي فيه الصبُّ، لأنَّ بولَ الغلام يكونُ في موضعٍ واحدٍ لضيقِ مخرجه، وبولَ الجارية يتفرَّقُ في مواضع لسعةِ مَخْرَجِها.

(والدَّمِ) أي وكالدَّمِ السائل، لا الباقي في عُروق لحمِ المذبوح، لقوله تعالى:{أو دَماً مسفوحاً}

(1)

. كذا لحمُ الميتةِ ذاتِ الدم وإهابُها قبل الدبغ، وليس دمُ البراغيث بشيء، لأنه ليس بدمٍ سائل، ولعدمِ إمكان الامتناع منه خصوصاً في زمان الصيف، لا سيَّما في حقّ من ليس له إلا ثوبٌ واحد ينام فيه، كما كان لأصحاب الصُّفَّة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

(والخمرِ) لقوله سبحانه وتعالى: {إنَّما الخمرُ والمَيْسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجْسٌ}

(2)

.

قال ابنُ أمير الحاجّ في «شرح المُنية» : لم أقف في كتب المذهب على ذِكرِ الزَّبَادِ

(3)

بطهارةٍ ولا نجاسة، والظاهرُ طهارتُه كما ذكره غيرُ واحد من متأخري الشافعية، قال شيخُنا، يعني ابنَ الهُمَام: وذاكرتُ بعض الإِخوان من المغاربة في الزَّبَاد فقلتُ: إنه يقال: إنَّه عَرَقُ حيوان مُحرَّمِ الأكل. فقال: ما يُحِيلُه الطَّبعُ إلى صلاحٍ كالطِّيبِيَّةِ يَخرجُ من النجاسة كالمِسك، انتهى. زاد البِرْجَندِي: فإنه وإن كان دماً فقد

(1)

سورة الأنعام، آية:(145).

(2)

سورة المائدة، آية:(9).

تتمة مهمة: أغفل الشارح رحمه الله تعالى بيان حكم باقي المسكرات غير الخمر، وقال العلامة الحَصْكفي في "الدر المختار" 1/ 213:"وفي باقي الأشربة المسكرة - غير الخمر - ثلاث روايات: التغليظ، والتخفيف، والطهارة، ورجَّح في "البحر" التغليظ، ورجَّح في "النهر" التخفيف. انتهى. فعلى رواية التخفيف يُعفى عما دون ربع الثوب المصاب أو البدن.

وكان العلّامة أحمد الزرقا شيخ شيوخنا في حلب (رحمه الله تعالى) يعتمد رواية الطهارة ويُفتي بها. وكان شيخنا العلامة المحقق الكوثري رحمه الله تعالى يقول: المسكر غير الخمر - كالإسبرتو - يجوز استعماله، ويَحْرُم شربه، وَيذْكُر أن هذا مذهب الإمام أبي حنيفة. ولا يخفى أن فتوى هذين الشيخين الجليلين فيها يسرٌ وسماحة للناس، لشيوع استعمال هذه المادة الهامة (الإسبرتو) في كثير من مرافق الحياة اليوم ولا ريب أن التنزه عن استعمالها لمن استطاعه أولى، لما فيها من اختلاف العلماء في طهارتها، والله تعالى أعلم. انتهى مما أفاده الشيخ عبد الفتاح أبو غُدَّة رحمه الله تعالى.

(3)

الزَّبَاد: حيوان ثدييّ من الفصيلة الزبادية قريب من السنانير، له كيس عطر قريب من الشرج يفرز مادة دهنية تستخدم في الشرق أساسًا للعطر. المعجم الوسيط. ص 388، مادة (زبد).

ص: 162

ويُعفَى منه قدْرُ الدِّرهم. وهو مِقالٌ في الكثيف، وقدْرُ عَرْضِ الكَفّ في الرقيق.

وبولٌ انتَضَح مِثلَ رُؤس الإبَر ليس بشيء. وماءٌ ورَدَ على نَجَسٍ نَجِسٌ، كعكسه. ورَمادُ القَذَرِ طاهرٌ كحمارٍ صار مِلْحًا.

===

تغيَّرَ فصار كرَمَادِ العَذِرَة.

(ويُعفَى منه) أي من الغليظ (قدْرُ الدِّرهم).

قال الشافعي وزفر: لا يُعفَى من النجاسة شيء، لأنَّ النصَّ الموجِبَ لتطهير النجاسة لم يُفصِّل بين قليلها وكثيرها. وقال مالك: كلُّ نجاسةٍ سوى الدَّمِ لا يُصلَّى بشيءٍ منها، لأنها يُمكن الاحترازُ عن جنسها.

ولنا أنَّ القليل من النجاسة لا يمكن التحرُّزُ عنه فكان عفْواً. وقدَّرناه بالدرهم أخذاً من موضعِ الاستنجاء، قال النَّخَعِي: أرادوا أن يقولوا: قَدْرَ المَقْعَد فاستقبحوه، فقالوا: قَدْرَ الدرهم، لأنه لا يزيد على مساحة الدرهم. وعن محمد الاعتبارُ بوزنِ الدرهمِ الكبير الذي قَدْرُه مثقال. وعنه الاعتبارُ بمِساحةِ الدرهم، وهو قَدْرُ عَرْضِ الكَفّ. ووفَّق أبو جعفرٍ بين الروايتين فقال:

(وهو مِثقالٌ في الكثيف) كالخُرء (وقدْرُ عَرْضِ الكَفّ في الرقيق) كالبولِ والخمر، وذلك لقول عُمَر رضي الله عنه: مِثلُ ظُفري هذا لا يَمنع حتى يكونَ أكثرَ منه. وظُفُره كان قريباً مِنْ كفِّنا. ذكره العَيْني، وهو غريبٌ جداً.

(وبولٌ انتَضَح) أي على البائلِ ونحوِه (مِثلَ رُؤوس الإِبَر) وفي «شرح الكنز» : وكذا إذا كان مثلَ جانِبها الآخر (ليس بشيء) لأنه لا يمكن الاحترازُ منه.

(وماءٌ) بهمزة في آخره (ورَدَ على نَجَسٍ) بالفتح (نَجِسٌ) بالكسر، وبه قال مالك.

وقال الشافعي: ليس بنَجِس، لأمره صلى الله عليه وسلم بصبِّ دلوٍ من ماء على بولِ الأعرابي الذي بالَ في المسجِد.

ولنا ما أشار إليه المصنِّفُ بقوله: (كعكسِه) وهو القياسُ على نَجَسٍ ورَدَ على ماءٍ، فإنه يَنْجُسُ اتفاقاً. وأُجيبَ عن حديث الأعرابي بأنه محمول على أنَّ الأرض كانت رَخْوَة، فيَنْقُلُ الماءُ بصبِّه فيها النجاسةَ إلى باطنها فيَطْهرُ ظاهرُها.

(ورَمَادُ القَذَرِ) بفتح القاف والذال المعجمة: العَذِرَةُ ونحوُها (طاهرٌ كحمارٍ صار مِلْحاً) بوقوعه في مِمْلَحة. ونظيرُه في الشرع النُّطفةُ نَجِسةٌ، وتَصيرُ عَلقَة وهي نَجِسة،

ص: 163

ويُصلَّى على ثوبٍ بطانتُه نَجِسة، وعلى طَرَفِ بساطٍ طَرَفٌ آخَرُ منه نَجسٌ، وفي ثوبِ ظهَرَ فيه مِن نَجَسٍ نُدُوَّةٌ لا يَقطُرُ شيء إِن عُصِرَ، أو وُضِعَ رَطْبًا على ما طُيِّنَ بطينٍ فيه

===

وتصيرُ مُضغةً فتَطهُر. والعصيرُ طاهرٌ. فيَصيرُ خمراً فيَنْجُس، فيَصيرُ خَلاً فيَطهُر، فعَرَفنا أنَّ استحالة العينِ تَستتبِعُ زوالَ الوصفِ المرتَّبِ عليها، لأنه استحالَ بطبعه وصُورته. وقال أبو يوسف: ليس بطاهر، لأن أجزاء ذلك النَّجَس باقية من وجه.

(ويُصلَّى على ثوبٍ) أي لا فيه (بِطانتُه نَجِسة) أمَّا إذا لم تكن البطانة مُضرَّبةً أو مَخِيطةً على الظِّهارة

(1)

فبالاتفاق، لأنه يكون كثوبينِ بُسِطَ الطَّاهِرُ منهما على النَّجِس. وأمَّا إذا كان أحدُهما مَخِيطاً على الآخر فعند محمد يجوز، لأنَّ الاتصال بينهما اتصالُ مجاورة لا اتصالُ تركيب، وعند أبي يوسف لا يجوز، لأنَّ اتصالهما اتصال تركيب، كما لو كانت النجاسة في حَشْوِ جُبَّتِه أو بِطانتِها.

(وعلى طَرِفِ بِساطٍ طَرَفٌ آخَرُ منه) وفي بعض النسخ: طرفه الآخرُ (نجسٌ) كبيراً كان البساطُ أو صغيراً، لأنه بمنزلة الأرض، فيُشتَرطُ فيه طهارة موضع الصلاة. فَقيدُ الطَّرَفِ اتفاقيٌّ. وقيل: إذا كان البساطُ كبِيراً بحيث لو رُفِعَ أحَدُ طرفيه لا يَتحرَّكُ الطَّرَفُ الآخَرُ جاز وإلا فلا، والأول أصح.

ثم الأصحُّ أنَّ النافِجة

(2)

طاهرةٌ بكلِّ حال، سواء تكون من حيوانٍ مُذَكَّى أو غيرِ مُذَكَّى، على ما ذكره الزيلعي في «شرح الكنز» .

(وفي ثوبٍ) عطفٌ على قوله: على ثوبٍ، أو على طرفِ بساط، أي ويُصلَّى في ثوبٍ (ظَهَرَ فيه مِنْ نَجَسٍ) بفتح الجيم (نُدُوَّةٌ) بضم النون والدال وتشديد الواو، أي رطوبةٌ قليلة بحيث (لا يَقطُر شيء) أي منه (إِنْ عُصِرَ) وفيه اختلافُ المشايخ

(3)

.

(أو وُضِعَ) عطفٌ على ظهَرَ، أي ويُصلَّى في ثوبٍ وُضِعَ حالَ كونه (رَطْباً على ما) أي على شيءٍ (طُيِّنَ) بضم الطاء وتشديد الياء مكسورة، أي خُلِطَ (بطِينٍ فيه

(1)

الظَّهارة من الثوب: ما يظهر للعين منه ولا يلي الجسد، وهو خلاف البطانة. المعجم الوسيط ص 578، مادة (ظهر).

(2)

النَّافجة: وعاء المسك. يعني الجلدة التي يجتمع فيها. القاموس المحيط ص 266، مادة (نفج). بتصرف.

(3)

قال ابن عابدين في "رد المحتار" 1/ 231: اعلم أنه إذا لف طاهر جاف في نجس مبتلّ واكتسب الطاهر منه، اختلف فيه المشايخ، فقيل: يتنجس الطاهر، واختار الحَلْوَاني أنه لا يتنجس إِن كان الطاهر بحيث لا يسيل منه شيء ولا يتقاطر لو عصر، وهو الأصح.

ص: 164

سِرْقِين فيَبِسَ، أو نُسيَ محلُّ النجاسة منه، فغُسِلَ طرَفٌ منه، كحِنطةٍ بالَ عليها حُمُرٌ تَدُوسُها، فغُسِلَ بعضُها، أو ذهَبَ، فإنها تَطهُرُ.

[أَحْكامُ الاسْتِنْجَاء]

الاستنجاءُ

===

سِرْقِين) بكسر السين والقاف، أي عَذِرة (فيَبِسَ) عطْفٌ على طُيِّن.

(أو نُسِيَ) بصيغة المجهول، عطفٌ أيضاً على طُيِّنَ. و «أو» للتنويع، أي ويُصلَّى أيضاً في ثوبٍ نُسِيَ (محلُّ النجاسة منه فغُسِلَ طرَفٌ منه).

(كحِنطةٍ) أي مثلِ كُدْسِ حِنْطةٍ ونحوِها من شعير (بال عليها حُمُرٌ) وكذا بقَرٌ أو بغل (تَدُوسُها فغُسِلَ بعضُها أو ذهَبَ) أي بعضُها هِبةً، أو صدقةً، أو سرقةً، أو قسمةً، أو نحوَها. وفي نسخة: أو وُهِبَ بصيغة المجهول (فإنها تَطْهُرُ) لاحتمالِ أن يكون ما أصابته النجاسةُ هو البعضَ المغسول، أو البعضَ الذاهبَ، أو الموهوبَ، فاعتُبِرَ هذا الاحتمال لمكانِ الضرورة.

كذا قيَّده المصنِّفُ في «شرح الوِقاية» ، وتَبِعَه بعضُ علمائنا. وتقييدهُ هذا، وكذا تقييدهُ في المتن بالحُمُر التي تَدُوسُها يَدلُّ على أنها لو تنجَّستْ الحنطةُ بغير ما ذكَرَه لا تَطْهرُ بهبةِ بعضِها، ولا بالقسمة لانعدام الضرورة. لكن ذكر في «الخلاصة»: أنَّ الكُدْس

(1)

إذا تنجَّس مطلقاً فقُسِمَ بين الدِّهْقان

(2)

والعاملِ يُحكَمُ بطهارته. لكن الظاهر أنَّ غَسْلَ البعضِ أو هبته، وكذا ذهابُه بالقسمةِ إنما يُطهِّرُ إذا لم يكن كلٌّ من القسمين أقلَّ مما تنجَّس انتهى. فيُمكنُ أن يكون قيْدُ حُمُرٍ تَدُوسُها وقَعَ اتفاقاً. وقولُه للضرورةِ أي للجهالةِ ودُفِعَ الحرج في غَسْلِ الكلِّ.

وفي «المحيط» : ولو غسَلَ رجلَه ومَشَى على أرضٍ نَجِسةٍ فابتلَّتْ الأرضُ مِنْ بلَلِ رِجْلِه فإنْ لم يَظهر أثرُ بللِ الأرض في رِجْلِه وصلَّى جازت صلاتُه، وإن ظهَرَ لا يجوز. ولو مشَى على أرضٍ نجِسةٍ رَطْبةٍ ورِجلُه يابسةٌ تَتنجَّسُ.

(أحكام الاستنجاء)

(الاستنجاءُ) وهو مسْحُ موضعِ النَّجْوِ بنحوِ حَجَرٍ، أو غسْلُه. والنَّجْوُ: ما يَخرجُ من البطن. ويجوز أن تكون السينُ فيها للطَّلب، أي طَلَبَ النَّجْوَ لِيُزيلَه.

(1)

الكُدُسُ: المجتمع من كل شيء، نحو الحب المحصود. المعجم الوسيط، ص 779، مادة (كدس).

(2)

الدَّهقان: رئيس الإِقليم. القاموس المحيط ص 1546، مادة (الدهقان).

ص: 165

مِن كلِّ حَدَثٍ غيرَ النومِ والرِّيح، بنحوِ حَجرٍ حتى يُنقِيَه: سُنَّةٌ.

===

(مِنْ كلِّ حَدَثٍ) أي لأجلِ خارجٍ من أحَدِ السبيلين كالبولِ والغائطِ وما يكون له جِرْم (غيرَ النومِ والرِّيح) أي ونحوِهما من الفَصْدِ، والإِغماءِ، والجنونِ، والسُّكرِ، مما ليس له جِرْمٌ خارجٌ من أحَدِهما كالريح، أو ليس مما خَرَج من أحدِ السبيلين كالباقي، فإنَّ الاستنجاء منها بدْعة، فالاستثناءُ منقطِع.

وفي «شرح الوقاية» فإنْ قلتَ: إنْ قُيِّدَ الحدَثُ بالخارج من أحدِ السبيلين فاستثناءُ النوم مستدرَك، وإنْ لم يُقيَّد به فيُسنُّ الاستنجاءُ في الفَصْد ونحوِه. قلتُ: يُقيَّدُ بالخارج من أحدِ السبيلين، واستثناءُ النوم غيرُ مستدرَك، لأنه إنما يَنقُضُ لأنَّ فيه مظنَّةَ الخروج من السبيلين. انتهى.

وحاصلُهُ: أنَّ الاستثناءَ متَّصِل، ونُزِّلَ مَظِنَّةُ الخروجِ مقامَ تحقُّقِه. وإنهما إذا لم يُسنَّ الاستنجاءُ فيهما فبالأَولى غيرُهما. ولا يَخفى أنَّ ذِكر الريح مُغنٍ عن النوم، لأنه مع تحقُّقِ خروجِه من السبيلين إذا لم يكن داخلاً في الحكم فما يكون في مقام المظِنَّة أَولى، ففي الجملة ذِكرُ النومِ مستدرَك، إلا أنه قد تسامح بتقديمه، فالأظهر والأخصر أن يقال: مِنْ بولٍ أو غائط.

(بنحوِ حَجَرٍ) كخِرقةٍ ومَدَر (حتى يُنقيَه) من الإِنقاءِ أو التنقية، أي يُنظِّفَه ويُجفِّفه. والإِسنادُ حقيقي أو مجازي (سُنَّةٌ) أي إذا كان أقلَّ من قَدْرِ الدرهم

(1)

.

لِما روى البيهقي وقال: إنه أصحُّ ما في الباب وأعلاه ـ أي سنداً ـ عن مولى عُمَر قال: كان عُمَر إذا بال قال: ناوِلْني شيئاً أستنجي به، فأناوله العُودَ أو الحجَر، أو يأتي حائطاً يَتَمَسَّحُ به، أو يَمسُّ الأرضَ، (ولم يكن يَغسله)

(2)

. والمرادُ بالحائط الجدارُ، وهو محمولٌ على جدارِ نفسه، إذ لا يجوز المسحُ بجدارِ غيرِه كالوقفِ ونحوه

(3)

.

ولا يُشترطُ التثليثُ عندنا. كما أشار إليه بقوله: حتى يُنقيَه، فإنَّه يَحتمل الزيادةَ والنقصان، وكذا الشفعُ والوتر.

وقال مالك والشافعي وأحمد: يجبُ الاستنجاءُ بالماءِ أو بثلاثةِ أحجار، لِما روى

(1)

بل ولو كان قدر الدرهم، نعم تكون إزالته حيئنذٍ آكد في السنية كما في دارد المحتار" 1/ 210 - 211، و 266. أفاده الشيخ عبد الفتاح رحمه الله تعالى.

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من السُّنن الكبرى "للبيهقي" 1/ 111 ومولى عمر اسمه: يَسَار بن نُمَيْر. كما جاء في سنن البيهقي.

(3)

إلا أن يكون مستأجرًا لهذا، فجائز ولو كان وقفًا. انظر "رد المحتار" 1/ 224.

ص: 166

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

أبو داود عن عُروة عن عائشة: أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ذهب أحدُكم لحاجته فلْيَستطِبْ بثلاثةِ أحجار» . وفي روايةٍ: «إذا ذهب أحدُكم إلى الغائط فلْيَذهبْ معه بثلاثةِ أحجار، فليَسْتطِبْ بها فإنَّها تُجزاء عنه» . رواهما أبو داود والنسائي. وصحَّح الدارقطنيُّ إسنادَه. ولقولِ سلمان: نهانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القِبلةَ بغائط أو بول، أو أن نستنجيَ باليمين، أو أن نستنجي بأقلَّ من ثلاثةِ أحجار، أو أن نستنجي برَجِيعٍ

(1)

، أو عَظْم». رواه مسلم.

ولنا ما روى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الغائطَ ـ أي أراد إتيانَه ـ فأمرَني أن آتيه بثلاثةِ أحجار، فوجدتُ حجرينِ ولم أجد الثالث، فأتيتُه برَوْثةٍ فأخذَ الحجرينِ وألقى الروثةَ وقال:«هذا رِكْسٌ» . أي رِجْس. ووجْهُ الدلالةِ أنه لو وجَبَ الثلاثةُ لطلَبَ بعدَ رمي الروثةِ حجراً ثالثاً.

وقال مالك والشافعي وأحمد: الاستنجاءُ واجبٌ لِما في «الصحيحين» عن ابن عباس: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقبرينِ فقال: «إنَّهما لَيُعذَّبان وما يَعذَّبانِ في كبير: أمَّا أحَدُهما فكان لا يَستبراءُ من البول ـ وفي روايةٍ: لا يَستنزِهُ ـ وأمَّا الآخَرُ فكان يَمشي بالنمِيمة، فأَخذَ جريدةً رَطْبةً فشَقَّها نِصفينِ، فغَرَزَ في كلِّ قبرٍ واحدةً» ، فقيل: لِمَ فعلتَ هذا يا رسول الله؟ قال: «لعلَّه أن يُخفَّفَ عنهما ما لم تَيْبَسا» . ولأنَّ الطهارة بالماءِ من الأنجاس شَرْطُ جوازِ الصلاة فلا بُدَّ منها، إلا أنه اكتُفي بغيرِه في موضعِ الاستنجاء للضرورةِ والإِجماعِ فلا يجوز تركه.

ولنا ما روى أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حِبَّان، والطحاوي عن أبي هريرة ـ وحسَّنه النوويّ ـ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «من استَجمَرَ فليُوتِر، مَنْ فعَلَ فقد أَحسن، ومن لا فلا حَرَج» . وقولُه: «من استجمر» أي استَنْجَى. وقد قال مالك: الاستجمارُ الاستطابةُ بالأحجار. وهو في «الصحيحين» بدون هذه الزيادة.

وأجاب البيهقي بأنَّ المراد فليُوتر بعدَ الثلاث، ورُدَّ بأن الأمرَ فيه للاستحبابِ بالاتفاق، لقوله:«مَنْ فعَلَ» . وعنده

(2)

الزيادةُ على الثلاثِ مع الإنقاءِ بدعةٌ، وبدونه

(1)

الرَّجِيع: الرَّوْث. مختار الصحاح ص 99، مادة (رجع). والرَّوْث: جُرْءُ الفرس. مختار الصحاح ص 110، مادة (روث). بتصرف.

(2)

أي عند الإمام مالك.

ص: 167

لا بعَظْمٍ ورَوْثٍ

===

واجبةٌ كما ذكره بعضُ علمائنا

(1)

.

لكن بقي الكلامُ في أصل المَرام، فإنّ هذا الحديث يدلُّ على أنَّ الإِيتارَ غيرُ واجب. والمدَّعى أن الاستنجاءَ نفسَه واجب أو سنة.

وأمَّا قولُ من قال: إنَّ الإِيتار يقعُ على الواحدة، فإذا لم يكن حرَجٌ في ترك الإِيتارِ لم يكن حرجٌ في تركِ الاستنجاء: ففيه نظر، فإنَّ المنفيَّ على هذا التقدير إنَّما هو الإِيتارُ ممن استَنجَى، وذلك لا يتحقَّقُ إلا بنفي إيتارٍ هو فوقَ الواحدة، فإنَّ بنَفْي الواحدةِ يَنتفي الاستنجاءُ، فلا يَصدُقُ نفيُ الإِيتارِ مع وجودِ الاستنجاء، فلا يَتمُّ الدليلُ إلا بصرفِ النفي إلى كلِّ ما ذكره، فيَدخلُ فيه أصلُ الاستنجاءِ ومجرَّدُ الإِيتار فيه، والمعنى مَنْ فعَلَ ما قلتُه كلَّه فقد أَحسنَ، ومنْ لا فلا حرج.

(لا بعَظْمٍ) لأنه يَجرحُ وكذا الزُّجاج (ورَوْثٍ) لأنه نَجِس. ولِما في «البخاري» من حديث أبي هريرة في: بَدْء الخلْق أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: «ابغِني أحجاراً أستَنفِضْ بها، ولا تأتني بعَظْمٍ ولا برَوْثة» ، قلتُ: ما بالُ العظامِ والروثة؟ قال: «هما مِنْ طعامِ الجِنّ» . فيه تغلِيبٌ أي العِظامُ طعامُ الجنّ، والرَّوثةُ علَفُ دوابَّهم، فإنَّ الله سبحانه يَخلُق في العظم ما كان فيه من اللحم، وكذا في الروثة.

وقد روى الترمذي مرفوعاً: «لا تسَتَنْجُوا بالرَّوثِ ولا بالعظام، فإنَّه زادُ إخوانِكم من الجِنّ» . وروى مسلم عن جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتمسَّحَ بعظمٍ أو بَعْر. وروى أبو داود عن ابن مسعود: لمَّا قَدِمَ وَفْدُ الجِنِّ على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله إِنْهَ أُمَّتَك أن تستنجيَ بِعَظْمٍ أو رَوْثةٍ أو حُمَمة

(2)

، فإنَّ الله تعالى جعَلَ لنا فيها رِزقاً، فنهانا رسولُ الله عن ذلك.

وروى الطحاوي عنه أنه قال: سألت الجِنُّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في آخَرِ ليلةٍ لَقِيَهُم في بعضِ شِعابِ مَكَّة ـ الزادَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «كُلُّ عظمٍ يَقعُ في أيدِيكم قد ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عليه أوفَرُ ما يكون لَحْماً، والبَعْرُ عَلَفاً لدوابِّكم» ، فقالوا: إنَّ بني آدم

(1)

عبارة المخطوطة: "وبدونه واجب كذا ذكره بعض علمائنا" بل مذهب المالكية غير هذا، ففي "الشرح الصغير" للدودير 1/ 44:" ويُندب له وتر المزيل إذا كان جامدًا كحجر حيث أنقى المحل بالشفع، وإلا فالإنقاء متعيِّن، وينتهى ندب الإيتار للسبع فإن أنقى بثامن، فلا يطلب بتاسع". انتهى مما أفاده الشيخ عبد الفتاح رحمه الله تعالى.

(2)

الحُمَمَة: الفَحْمَة. النهاية 1/ 444.

ص: 168

ويَمينٍ، ثم غَسْلُه أدَبٌ.

===

يُنجِّسونه علينا، فعند ذلك قال:«لا تَستنجوا برَوْثِ دابَّةٍ ولا بعَظْم، إنه زادُ إخوانِكم الجِنِّ» .

وبه يُعلم حُكمُ مطعومِ الناسِ وبهائمهم، مع أنَّ فيه إسرافاً وإضاعةً بلا ضرورة، فيكون منهيّاً عنهما.

(ويَمِينٍ) أي ولا يَمينٍ لما في «الكتب الستة» عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا بال أحدُكم فلا يَمسَّ ذكَرَه بيمينه، وإذا أَتى الخلأَ فلا يَتمسَّحْ بيَمِينه، وإذا شَرِبَ فلا يَشرب نَفَساً واحداً» . أي بل يَشربُ بنَفَسينِ أو ثلاثٍ مِنْ الفَصْل. ومعنى قوله: «لا يَتمسَّحْ» لا يَستنجِ بيَمِينه في البولِ والغائط، فَيَنبغي أن يأخذَ الحجرَ بيمينه، ويُمسكَ الذكَرَ بيساره، ويُحرِّكَ الذكَرَ دون الحجر. وروى أبو داود عن عائشة: كانت يَدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم اليُمنى لِطهُورِه، وكانت يَدُه اليُسرى لِخلائِه وما كان مِنْ أذى. ورُوي عن حفصة نحوُه.

(ثم غَسْلُه) أي غسلُ المحلِّ بعدَ تنظيفِه بنحوِ الحجر (أدَبٌ) أي مستحبٌّ لِما روى البزَّار في «مسنده» : عن ابن عباس قال: نزلتْ هذه الآيةُ في أهلِ قُباء {فيه رجالٌ يُحِبُّونَ أن يَتَطهَّروا واللهُ يُحِبُّ المتطهِّرين}

(1)

. أي المبالِغين في الطهارةِ والنظافة، فسألهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نُتْبِعُ الحجارةَ الماءَ. فهذا وجْهُ اختصاصِهم.

وقيل: هو سُنَّةٌ في زماننا لِما روى البيهقي في «سننه» وابن أبي شيبة في «مصنَّفه» عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: مَنْ كان قبلَكم كانوا يَبْعَرُون بَعْراً، وأنتم تَثْلِطون ثَلْطاً

(2)

، فأتبعُوا الحجارةَ الماءَ.

ثم الغَسْلُ وحدَه أفضلُ من التنقيةِ بالحجَرِ ونحوِه، لإِزالةِ النجاسة بالكلية، ولِما في «الصحيحين» عن أنس قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الخلاءَ فأحمِلُ ـ أنا وغلامٌ نَحْوِي ـ إداوةً

(3)

من ماءٍ وعَنَزةً

(4)

، فيَستنجي بالماء. وفي «سنن أبي داود»: عن أبي

(1)

سورة التوبة، آية:(108).

(2)

أي كانوا يتغوطون يابسًا كالبعر، لأنهم كانوا قليلي الأكل والمآكل، وأنتم تثلطون رقيقًا، وهو إشارة إلى كثرة المآكل وتنوعها. النهاية 1/ 220.

(3)

الإِداوة: إناءٌ صغير من جلد يُتخذ للماء. النهاية 1/ 33.

(4)

العنَزَة: مثل نصف الرُّمح أو أكبر شيئًا، وفيها سنان مثل سنان الرُّمح، والعكازة قريب منها. النهاية 3/ 308.

ص: 169

وإن جاوَزَ المخرَجَ أكثرُ مِن درهم فواجب، فيَغسِلُه ببطونِ الأصابع بعدَ غَسْلِ اليد

===

هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَتى الخلاءَ أَتيته بماءٍ في تَوْرٍ

(1)

أو رِكْوَة

(2)

، فاستَنْجَى، ثم مسَحَ يدَهُ على الأرض، ثم آتيهِ بإناءٍ آخَرَ فيتوضَّأ.

ومما يدلُّ على مواظبتِه عليه الصلاة والسلام الموجبِةِ لكونه سُنَّةً، ما رواه ابن ماجه عن عائشة قالت: ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرجَ من غائطٍ قطُّ إلا مسَّ ماءً.

(وإن جاوَزَ المخرَجَ أكثرُ مِنْ درهمٍ) أي من النجاسة. ورُوي «أكثَرَ» بالنصب، أي جاوَزَ الحَدَثُ المذكورُ حالَ كونِ ذلك الحدَثِ المجاوِزِ أكثرَ من درهم، أو مجاوزَةً أكثرَ من درهم (فواجبٌ) أي غَسْلُ المجاوِز، لأنَّ ما على المَخْرَجِ إنَّما اكتُفي منه بغيرِ الغسل للضرورة، ولا ضرورةَ في المجاوِز.

وعبارةُ «الكنز» : ويجبُ إن جاوَزَ النَّجَسُ المخرَجَ، ويُعتَبَرُ القَدْرُ المانعُ وراءَ موضعِ الاستنجاء. أمَّا لو جاوَزَ المخرجَ قدْرُ الدرهم فعند أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يجبُ غَسْلُه، وعند محمد: يجبُ غَسْلُهُ ولو قلَّ، بناءً على أنَّ المخرَجَ كالظاهِر وهو قولُ محمد، وكالباطِنِ وهو قولُهما

(3)

.

(فيَغسِلُه ببطونِ الأصابع) أي مِنْ يدِه اليُسرَى، ولا يُقدَّرُ غَسْلُه بعدَدٍ، لأنَّ النجاسة مَرْئِيَّة، ويدَلُّ على إزالتِها ذهابُ مُلَامَستِها، إلا أنه يُقدَّرُ لقطعِ الوسوسةِ بالثلاث، وقيل: بالسَّبْع. (بعدَ غَسْلِ اليد) لأنها آلةٌ.

ويُستحَبُّ الاستبراءُ من البولِ بتنَحْنُحٍ، أو مشيٍ، أو مسْحِ ذكَرٍ. ولا يُبالِغُ فيه، لأنه يُورِثُ الوسوسةَ الموجبةَ للشبهة، فقد ورد عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم «استنزهوا من البول، فإنَّ عامَّة عذاب القبر منه» . رواه الحاكم في «مستدركه» والدارقطني في «سننه» واللفظ له. وعن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم «إنَّ عامَّة عذاب القبر من البول، فتنزَّهوا منه» . رواه الحاكم والدارقطني والطبراني

(4)

.

(1)

تَوْر: هو إناء من صفر - نحاس - أو حجارة. النهاية 1/ 199.

(2)

الرّكوة: إناء صغير من جلد يُشرب فيه الماء. النهاية 2/ 261.

(3)

وهو الصحيح. انظر "رد المحتار" 1/ 226.

(4)

وقع في المطبوعة: "استنزهوا مرتين بالغتين أو ثلاثًا" رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم في "مستدركه" عن ابن عباس. فيه تحريف في لفظ الحديث، فإن الحديث الذي رواه هؤلاء الأئمة عن ابن عباس هو بلفظ:"استنثروا مرتين بالِغَتَين أو ثلاثًا" كما جاء عندنا في المخطوطة، وهو في استنثار الأنف في الوضوء وليس له علاقة في باب الاستنجاء. والظاهر أن الشارح وقع الحديث أمامه محرفًا فسرى عليه التحريف، أو سبق ذهنه وقلمه من حديث إلى حديث، فوقع منه هذا =

ص: 170

مُرْخِيًا مَخْرَجَه بِمبالغةٍ، ثمَّ يَغسِلُ اليدَ. وكُرهِ استقبالُ القِبلةِ واستدبارُها في الخلاء.

===

(مُرْخِياً مَخْرَجَه بمبالغةٍ) أي إرخاءً بصفةِ المبالغة إلا حالَ الصوم (ثمَّ يَغسِلُ اليدَ) أي ثانياً دفعاً للرائحة الكَرِيهة، ولو مَسَحها بترابٍ أو رمادٍ ثم غسَلَها فهو أفضل.

(وكُرِهَ) أي كراهةَ تحريم (استقبالُ القِبلةِ واستدبارُها في الخلاءِ) بالمدّ: مكانُ التغوُّطِ والبول.

وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يُكرَهُ ذلك في البناء لِم روى أبو داود والحاكم وقال: على شَرْطِ البخاري، عن مروان قال: رأيتُ ابنَ عُمَر أناخَ راحلتَه وجَلَس يَبولُ إليها، فقلتُ: يا أبا عبد الرحمن قد نُهِيَ عن هذا؟ قال: إنما نُهيَ عن ذلك في الفَضَاء، فإذا كان بينك وبين القِبلةِ شيء يَستُرك فلا بأس.

ولنا ما في «الكتب الستة» : عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أتيتُم الغائطَ فلا تستقبِلوا القِبلة، ولا تستدبِروها، ولكنُ شرِّقوا أو غرِّبوا» . والمعنى: توجَّهوا إلى جانبِ الشرقِ أو الغرب. ولا يَلزمُ منه جوازُ استقبالِ الشمسِ والقمر، فتدبَّرْ. قال أبو أيوب: فَقَدِمْنا الشامَ فوجدنا مراحيضَ قد بُنيَتْ نحوَ الكعبة، فنَنْحرِفُ عنها ونستغفرُ الله عز وجل.

وعن أبي حنيفة لا يُكرَه الاستدبارُ لِما روى الترمذي عن ابن عُمَر قال: ارتقيتُ على ظهرِ بيتٍ لنا فرأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مستقبِلَ الشامِ مستدبِرَ الكعبة. وفي رواية «الشيخين» عنه: ارتقيتُ فوقَ بيتِ حفصة لبعضِ حاجتي، فرأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقضي حاجتَه مستدبِرَ القِبلةِ مستقبِلَ الشام.

قلنا: يُحتَملُ أن يكون لعُذرٍ وضرورةٍ كما في حديث السُّباطة

(1)

، بدليلِ أحاديثَ أُخرَ منها قولُه عليه الصلاة والسلام:«إنَّما أنا لكم مثلُ الوالدِ لولدهِ أُعلِّمُكم، إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القِبلة، ولا تستدبروها» . رواه ابن ماجه والدَّارمي.

ولو أَقعدَتْ المرأةُ ولدَها للبولِ نحوَ القبلة يُكره، ولو مَدَّ مكلَّفٌ رِجْلَه نحوَ القِبلةِ أو نحوَ كتبِ فقهٍ يُكرَه

(2)

، والله تعالى أعلم.

= الخطأ. أثبتنا الحديثين اللذين أثبتهما شيخنا الشيخ عبد الفتاح أبو غُدَّة رحمه الله تعالى في التنزه من النجاسة. فتح باب العناية 1/ 274.

(1)

تقدم ص 44.

(2)

نقل ابن عابدين عن الطحطاوي: أن الكراهة تنزيهية. رد المحتار 1/ 441.

ص: 171

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ومما يُكرَهُ أيضاً التكلُّمُ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يَخْرُجُ الرجلانِ يَضرِبانِ الغائط كاشفينِ عن عورتيهما يتحدَّثان، فإنَّ الله يَمْقُتُ على ذلك» . رواه أبو داود. ورَوَى أيضاً عن ابن عُمَر: مَرَّ رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبولُ فسلَّمَ عليه فلم يَرُدَّ عليه.

ومما يُكرَهُ استقبالُ الشمسِ والقمرِ

(1)

احتراماً لهما، وقد ورد أنهما يَلعنانِ عليه

(2)

، كذا في «المَدخَل» . وكذا استقبالُ مهبِّ الريحِ لئلا يُصِيبَه رَشاشُ بولِه، وكذا التخلِّي في الطريقِ، ومجتمَعِ الناس، وتحتَ شجرٍ يُستظَلُّ به، لقولِه صلى الله عليه وسلم «اتَّقُوا اللاَّعِينَيْن، قالوا: وما اللاعِنانِ يا رسول الله؟ قال: «الذي يَتخَلَّى في طريقِ الناسِ أو في ظِلِّهم» . رواه مسلم. وقولِه عليه الصلاة والسلام: «اتَّقُوا الملاعِنَ الثلاثةَ: البَرَازَ في الموارِد

(3)

، وقارعةِ الطريق

(4)

، والظلِّ». رواه أبو داود وابن ماجه.

ومن الآدابِ: تقديمُ الاستعاذةِ، لقوله عليه الصلاة والصلام: «إنَّ هذه الحُشُوشَ

(5)

مُحتَضَرةٌ

(6)

، فإذا جاء أحدُكم الخلاءَ فليقُل: أعوذُ باللهِ من الخُبُثِ والخبائث». رواه أبو داود وابن ماجه. «كان عليه الصلاة والسلام إذا دَخَلَ الخلاءَ يقولُها» . متفق عليه.

ومنها: تقديمُ الرِّجْلِ اليُسرَى في الدخولِ فيه، واليُمنَى في الخروجِ منه تكريماً لها اعتباراً لها باليد.

ومنها: أن يقول بعدَ خروجِه منه: «الحمدُ للهِ الذي أَذهب عنيَ الأَذَى وعافاني» . هكذا رواه ابن ماجه عنه صلى الله عليه وسلم وروى هو وأبو داود والترمذي: «غُفرانَك» . وفي روايةٍ: كان يقولُ: «الحمدُ لله الذي أَذهبَ عني ما يؤذيني، وأَبقى عليَّ ما ينفعني» .

ومنها: أنْ يُبعِدَ في البَراز، لأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد البَرازَ انطلق حتى لا يَراه أحد.

(1)

نقل ابن عابدين: أنها تنزيهية. رد المحتار 1/ 228.

(2)

قال الشيخ عبد الفتاح رحمه الله تعالى: الله أعلم بثبوت هذا الخبر.

(3)

الموارد: أي المجاري والطرق إلى الماء. النهاية 5/ 173.

(4)

قارعة الطريق: أي وسطه. النهاية 4/ 45.

(5)

يعني الكُنُفَ ومواضع قضاء الحاجة، الواحد حَشٌّ بالفتح. وأصله من الحشّ: البستان، لأنهم كانوا كثيرًا ما يتغوطون في البساتين. النهاية 1/ 39.

(6)

محتضرة: أي يحضرها الجن والشياطين. النهاية 1/ 399.

ص: 172

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ومنها: أن يبول في مكانٍ ليِّنٍ، لأنه عليه الصلاة والسلام أراد ذات يَومٍ أن يبول فأتى ومشى في أصل جدار فبالَ ثم قال: «إذا أراد أحدُكم أن يبولَ فليَرْتَدْ لبولِه موضعاً

(1)

».

ومنها: أن لا يَرفعَ ثوبَه قائماً، «لأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد حاجةً لا يَرفَعُ ثوبَه حتى يَدنُوَ من الأرض» .

ومنها: أن لا يبولَ في موضعِ طُهْرِه، لقوله عليه الصلاة والسلام:«لا يَبُولَنَّ أحدُكم في مُسْتَحَمِّه ثم يَغتَسِلَ فيه أو يتوضَّأ فيه، فإنَّ عامَّة الوسواسِ منه» .

ومنها: أن لا يبولَ في جُحْر، نَهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُبالَ في جُحْر. رواها أبو داود

(2)

. وقيل: لأنه مساكنُ الجِنّ.

ومنها: أنْ يَنْضَحَ فَرْجَه بالماء، لقولِ زيد بن حارثة عنه عليه الصلاة والسلام:«إنَّ جبرائيلَ أتاه أوَّلَ ما أُوحيَ إليه يُعلِّمُه الوضوء والصلاة، فلمَّا فرَغَ من الوضوءِ أخذَ غَرْفةً من الماءِ فنَضَح بها فَرْجَه» . رواه أحمد والدارقطني.

ومنها: أن لا يبولَ قائماً، لقول عُمَر: رآني النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنا أبولُ قائماً فقال: «يا عُمَرُ لا تَبُلْ قائماً» . قال: فما بُلتُ قائماً بَعْدُ. رواه الترمذي وابن ماجه. وأمَّا بولُه عليه الصلاة والسلام في السُّباطةِ قائماً فقد كان لعُذْرٍ، لقولِ عائشة رضي الله عنها: مَنْ حدَّثَكم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يبولُ قائماً فلا تُصدِّقُوه. رواه أحمد والترمذي والنَّسائي.

وقد ضبَطَه بعضُ العلماء ضبطاً جَيِّداً فقال: يجوزُ الاستنجاءُ بكلِّ جامدٍ طاهرٍ مُنَقَ قَلاعٍ للأثرِ، غيرِ مؤذٍ، ليس بذي حُرمةٍ ولا سَرَفٍ، ولا يَتعلَّقُ به حقٌّ للغير. انتهى.

ويُستفادُ منه كما صَرَّح به بعضُ الحنفيةِ والشافعية: أنه يُكرَهُ الاستنجاءُ بالورقِ المجرَّد

(3)

، وجُوِّزَ به إذا كان فيه عِلمُ المنطِق إذا لم يكن فيه ذِكرُ الله وذِكرُ رسولِه،

(1)

أي فليطلب مكانًا ليِّنًا لئلا يرجع عليه رَشَاش بوله. يقال: راد، وارتاد، واستراد. "النهاية" 2/ 276.

(2)

أي الأحاديث الخمسة التي مرَّ ذكرها رواها أبو داود في "سننه".

(3)

أي الورق الأبيض المُعَدّ للكتابة، لأن فيه إتلاف مال وهدر حرمة، لكونه آلة لكتابة العلم. أما الورق المعَدّ للاستعمال في تلك الحال، في أيامنا، فالظاهر أنه ليس من السِّرف والاتلاف في شيء، واللَّه أعلم. أفاده الشيخ عبد الفتاح رحمه الله تعالى.

ص: 173

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وكذا الشِّعْرُ المذمومُ الخالي عن ذكرِهما

(1)

.

ولا يجوزُ بذهبٍ أو فضَّةٍ ونحوِهما لإِضاعةِ المال. ولا بثوبِ حريرٍ وغيرِه لما فيه من الإِسراف، ولا في وِعاءٍ من ذهبٍ أو فضَّة، فإنَّ استعمالَهما حرام مطلقاً.

هذا، وقد ذكَرَ ابنُ عَطِيَّة في تفسير قوله تعالى:{فلْيَنظُرِ الإِنسانُ إلى طعامِه}

(2)

ذهَبَ أُبَيُّ بنُ كعب، وابنُ عباس، والحسَنُ، ومجاهدٌ وغيرُهم إلى أنَّ المرادَ: إلى طعامِهِ إذا صار رَجيعاً

(3)

، ليتأَمَّل حيث تصيرُ عاقبةُ الدُّنيا ولذَّاتِها؟ وعلى أيِّ شيءٍ يَتفانى أهلُها في حالاتها؟ وهذا نظيرُ ما رُوي عن ابن عُمَر: إنَّ الإِنسان إذا أَحدَث فإنَّ مَلَكاً يأخذُ بناصيتِه عندَ فراغِه، فَيَرُدُّ بصرَه إلى نَجْوهِ مُوَقِّفاً له ومُعَجِّباً، فينفعُ ذلك مَنْ كان له قَلْب أو أَلقَى السمعَ وهو شهيد.

والله تعالى أعلمُ بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

هذا التفريع فيه توسُّع وإفراط، فقد نقلوا عندنا أن للحروف حرمة، فينبغي البعد عن استعمال كل ما فيه كتابة. أفاده الشيخ عبد الفتاح رحمه الله تعالى.

(2)

سورة عبس، آية:(24).

(3)

الرَّجيع: الرَّوْث. مختار الصحاح ص 99، مادة (رجع).

ص: 174

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

‌كتاب الصَّلَاةِ

وهي أمُّ العبادات، وأساسُ الطاعات، وماحيةُ الذُّنُوب، ونَاهِيَةُ السيئات. وقدَّمَ عليها كتاب الطهارة التي هي من شرائطها، لكونها مِفْتَاح الصَّلاة، ومِصْبَاح الصلاة. ومسائلها الكثيرة من المهمات.

ثمَّ هي في اللغة: الدعاء، ومنه قوله تعالى:{وصَلِّ عَلَيْهِم إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}

(1)

. وقوله عليه الصلاة السلام: «وصلَّت عليكم الملائكة»

(2)

. وقوله: «إذا دُعِيَ أحدكم إلى طعامٍ فليُجِبْ، فإن كان مُفْطِراً فليأكُل، وإن كان صائماً فلْيُصَلِّ»

(3)

، أي: فَلْيَدْعُ لصاحبه بالخير والبركة.

وفي الشرع: الأفعال المعلومة المعهودة من الشرائط والأركان المعدودة.

وكان فرض الصلوات الخمس ليلة المِعْرَاج ـ وهي: ليلة السبت لسبع عشرة خَلَتْ من رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً ـ من مكة إلى السماء. ومن يَرَى أنَّ المِعْرَاج من بيت المقدس، وأنه مع الإسراء في ليلةٍ واحدةٍ، فليلةُ الإسراء قبل الهجرة بسنة لسبع عشرة من شهر ربيع الأول، وبه جَزَم النووي في «شرح مسلم» ، قال ابن الأثير: إنه الصحيح. أو لاثنتي عشرة من شهر ربيع الأول على حَسَب اختلافهم، هذا هو المشهور.

وعن الزُّهْرِي: أن الإسراء، وفَرْضَ الصلوات الخمس، كان بعد البعث بخمس سنين. وفي سِيَر «الروضة» للنووي: أنه كان في رَجَب. وكانت الصلاة قبل الإسراء صلاتين: صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها. قال تعالى:{وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بَالْعَشِيِّ والإِبْكَارِ}

(4)

.

(1)

سورة التوبة، الآية:(103).

(2)

رواه أبو داود في سننه 4/ 189، كتاب الأطعمة (26)، باب ما جاء في الدعاء لرب الطعام

(54)، رقم (54 - 38).

(3)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" 10/ 285.

(4)

سورة غافر، الآية:(55).

ص: 175

وَقْتُ الصُّبْح من الفَجْرِ المُعْتَرِضِ في الأُفُقُ إلى الطُلُوعِ

===

ثم العبادة نوعان: مُوَقَّتة كالصلاة، وغير مُوَقَّتة كالزكاة، قال تعالى:{إنّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}

(1)

أي فرضاً مُوَقَّتاً.

(وَقْتُ الصُّبْحِ) أي صلاته، وبدأ به، لأنه لا خِلَاف في أَوَّله وآخره، أو لأنه أول النهار الشَّرْعي، أو لأنه كان مفروضاً من قبل. وبدأ محمد رحمه الله في «الأصل» بوقت الظهر، لأن جبرائيل في بيان الأوقات بدأ به.

(مِنَ الفَجْرِ المُعْتَرِضِ) أي الذاهب (في الأُفْقِ) عَرْضاً، ويُسَمَّى صادقاً. واحترز به عن الفجر المُسْتَطِيل الذي يَبْدَأُ كذَنَبِ الذئب، ثم يَعْقُبُه الظلام، ولهذا يُسَمَّى كاذباً، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«لا يَمْنَعَنَّكم من سَحوركم أذان بلال ولا الفجر المُسْتَطِيلِ، ولكن الفجر المُسْتَطِير في الأُفُقِ» . هكذا في الترمذي، وفي «الصحيحين»:«لَا يُغَرَّنكم أذان بلال ولا الفجر المُسْتَطِيل، إنما الفجر المُسْتَطِير في الأفُق» . وروى أبو داود في «سننه» عن بلال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «لا تُؤَذِّن حتى يسْتَبِين لك الفجر» ، ومدَّ يَدَهُ. وسكت عنه أبو داود.

ثم يمتد الوقت منه (إلى الطُّلُوعِ) أي إلى طلوع الشمس إجماعاً، ولقوله تعالى:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}

(2)

، ولما في مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال:«وقت صلاة الفجر: ما لم يَطْلُع قَرْنُ الشمس الأوَّل، ووقت صلاة الظهر: إذا زالت الشمس عن بطن السماء، ما لم يَحْضُر العصر، ووقت صلاة العصر: ما لم تَصْفَرَّ الشمس ويَسْقُط قرنها الأول، ووقت صلاة المغرب: إذا غابت الشمس، ما لم يَسْقُط الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل» .

وفي رواية أخرى لمسلم: «وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله ما لم يَحْضُر العصر. ووقت العصر ما لم تَصْفَرَّ الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يَغِبِ الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر، ما لم تَطْلُع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمْسِك عن الصلاة، فإنها تَطْلُع بين قرني الشيطان» .

ولِمَا روى أبو داود، والطَّحَاوي، والترمذي وقال: حسنٌ صحيحٌ، والحاكم وقال: صحيحُ الإسناد، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمَّنِي جبرائيل عند البيت مرتين، فصلّى الظهر في الأولى حين كان الفَيءُ مثل الشِّرَاك، ثم

(1)

سورة النساء، الآية:(103).

(2)

سورة طه، الآية:(130).

ص: 176

والظّهرِ من الزَّوالِ إلى بُلُوغ ظِلِّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَيهِ، سَوِى فَئ الزَّوَالِ، وفى روايةٍ: مِثْلهُ.

===

صلّى العصر حين كان كل شيء مثل ظلِّه، ثم صلّى المغرب حين وَجَبَتِ الشمس ـ أي سَقَطَتْ ـ وأفطر الصائم، ثم صلّى العِشَاء حين غاب الشَّفَقُ، ثم صلَّى الفجر حين بَزَغ الفجر ـ أي طَلَع ـ وحَرُم الطعام على الصائم. وصلّى المرة الثانية الظهر حين كان ظلُّ (كل)

(1)

شيءٍ مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلّى العصر حين كان ظلُّ كل شيء مِثْلَيْه، ثم صلّى المغرب لوقته الأوّل، ثم صلّى العشاء الآخرة حين ذهب ثُلُث الليل، ثم صلّى الفجر حين أَسْفَرَتِ الأرض ـ أي أضاءت ـ ثم التفت إليّ جبرائيل، فقال: هذا وقت الأنبياء من قَبْلِك، والوقت فيما بين هذين الوقتين».

(والظُّهْرُ) أي وقت صلاته (مِنَ الزَّوَالِ) أي زوال الشمس عن وسط السماء، مبدأً (إلى) مَبْدَءِ (بُلُوغِ ظُلّ كل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ) أي قائم على مكان مستوي السطح (سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ) وهو الظلُّ الذي يكون للأشياء وقتَ زَوَال الشمس.

(وفي رِوَايةٍ) رواها الحسن عن أبي حنيفة: إلى بلوغ ظلّ كل شيءٍ (مِثْله) سوى فيء الزوال، وهي قول مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد وزُفَر، وهو الأظهر لبيان جبرائيل أول وقت كل صلاة بفعله وآخره ـ غير المغرب ـ كذلك، ثم قوله:«الوقت فيما بين هذين الوقتين» في رواية ابن عباس، و:«ما بين هذين وقتٌ كلُّه» في رواية جابر.

وعن أبي يوسف: خالفتُ أبا حنيفة في وقت العصر، فقلت: أوله إذا زاد الظل على قامة

(2)

، اعتماداً على الآثار التي جاءت، وهو إشارة إلى ما ذكرنا. وفي روايةٍ رواها أسدً بن عمرو، عن أبي حنيفة، واختاره الطحاوي: إذا صار ظل كل شيء مثله، خرج وقت الظهر، ولا يَدْخُل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مِثْلَيْه.

لهم: إمامة جبرائيل للنبي صلى الله عليه وسلم على ما رواه ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو مسعود الأنصاري، وأبو هريرة، وعمرو بن حَزْم، وأبو سعيد الخُدْرِي، وأنس بن مالك، وابن عمر رضي الله عنهم.

فأمّا حديث ابن عباس، فقد تقدَّم.

وأمّا جابر، فقال: جاء جبرائيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين مَالَتِ الشمس، فقال: قُمْ يا محمد فصلِّ الظهر حين مالت الشمس، ثم مَكَثَ حتى إذا كان فيء

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(2)

في المطبوع قائمة، والمثبت من المخطوط.

ص: 177

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الرَّجُلِ مثلَه، جاءه للعصر، فقال: قُمْ يا محمد فَصَلِّ العصر، ثم مَكَثَ حتى غابت الشمس، ثم جاءه، فقال: قُمْ فَصَلِّ المغرب، فصلاَّها حين غابت الشمس سواء، ثم مَكَثَ حتى غاب الشَّفَقُ، ثم جاءه، فقال: قُمْ فصَلِّ العشاء، فقام فصلاَّها، ثم جاءه حين سَطَعَ

(1)

الفجر بالصبح، فقال: قُمْ يا محمد فصَلَّ الصبح، ثم جاء حين كان فيء الرَّجُل مثلَه، فقال: قُمْ يا محمد فَصَلِّ، فصلّى الظهر، ثم جاءه حين كان فيء الرجل مِثْلَيْهِ، فقال: قُمْ يا محمد فَصَلِّ، فصلَّى العصرَ، ثم جاءه المغرب حين غابت الشمس وقتاً واحداً لم يَزْل عنه، فقال: قُمْ يا محمد صَلِّ، فصلّى المغرب، ثم جاءه للعشاء حين ذَهَبَ ثُلْثُ

(2)

الليل، فقال: قُمْ يا محمد فَصَلِّ، فصلَّى العشاء، ثم جاءه للصبح حين أَسْفَرَ جداً، فقال: قُمْ يا محمد فَصَلِّ، فصلَّى الصبح، ثم قال:«ما بين هذين وقتٌ كله» . قال الترمذي: قال محمد بن إسماعيلَ ـ يعني البخاري ـ: حديث جابر أصحُّ شيءٍ في المواقيت.

وأمّا أبو مسعود الأنصاري، فقال نحواً من قول جابر، وزاد ذكر عدد ركعات الصلاة. رواه إسحاق بن رَاهُويَه في «مسنده» والبيهقي نحوه.

وأمّا أبو هُرَيْرة، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا جبرائيل جاء يعلمكم دينكم، فصلّى الصُّبْح حين طَلَع الفجر

»، ولفظه قريب مِمَّا تقدَّم. رواه الطَّحَاوي والنَّسائي.

وأمّا عمرو بن حَزْم، فقال:«جاء جبرائيل فصلَّى بالنبي صلى الله عليه وسلم وصلَّى بالناس حين زالت الشمس الظهرَ» ، كما تقدَّم.

وأَمّا أنس، فقال: إن جبرائيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حين زالت الشمس، فأمره أن يُؤَذِّن للناس بالصلاة حين فُرِضَت عليهم، فقام جبرائيل أمام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فصلّى أربع ركعات لا يَجْهَرُ فيها بقراءة، فَأْتَمَّ الناسُ برسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْتَمُّ بجبرائيل عليه السلام. فَذَكر عدم الجهر في الظهر والعصر، والجهر في أُوْلَيي

(3)

المغرب والعشاء، وفي الفجر، وعدمه في الثالثة والأُخْرَيَيْنِ. رواه الدَّارَقُطْنِي مُسْنَداً، وأبو داود مرسلاً، وهو الأصح.

(1)

في المطبوع: مطلع. والصواب ما أثبتناه لموافقته لما في سنن النسائي حديث رقم (525)، والمخطوط.

(2)

في المخطوط: ثلثا، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لرواية النسائي حديث رقم (525)، والترمذي حديث رقم (150). ولفظ الحديث هنا للنسائي. فليُتَنَبَّه.

(3)

في المطبوع: أول، والمثبت من المخطوط.

ص: 178

والعَصْرِ مِنهُ إلى الغُروبِ

===

ولأبي حنيفة ما في «الصحيحين» : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجلٍ استأجر أجِيراً، فقال: من يَعْمَل لي من غُدْوَة إلى نصف النهار على قِيرَاطٍ فعملتِ اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين، فأنتم هم. فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: كنا أكثر عملاً، وأقل عطاء. قال: هل ظلمتكم من أجركم شيئاً؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أُعْطِيه من أشاء» . ومن المعلوم أنه لا يكون النصارى أكثر عملاً، إلاّ إذا كان وقت العصر من صيرورة ظل كل شيء مِثْلَيْه.

فإن قيل: من الزوال إلى صيرورة ظل كل شيء مثله

(1)

أكثر من وقت صيرورة ظل كل شيء مثله إلى آخر النهار، فيتحقّق كون النصارى أكثر عملاً على هذا التقدير. أُجِيبَ بأن التفاوت بين هذين الوقتين لا يعرفه إلاّ الحُسَّاب، والمراد من الحديث تَفَاوُتٌ يظهر لكلِ أحد من الأمة. وإذا تعارضت الآثار لا ينقضي

(2)

الوقت بالشك، أو ينقضي

(3)

ولا يدخل (الثاني)

(4)

بالشك على القولين. قال أبو يوسف: هذا استدلالٌ حسنٌ، لكن النص الذي رَوَيْنَا فوق هذا.

وفي «المحيط» : ومعرفة الزوال بأن تُغْرَزَ خشبةٌ مستويةٌ في أرضٍ مستويةٍ قبل الزوال، فما دام الظل يَنْقُص لم تَزُل الشمس، فإذا لم يَظْهَر له زيادة ولا نقص، فهو وقت الظهيرة ـ أي الاستواء ـ فإذا أخذ الظل في الزيادة، فقد زالت الشمس، فخُطَّ على رأس الزيادة خطاً، فيكون من الخط إلى العود فيء الزَّوَال، فإذا صار الظل من الخط مِثْلَيْن أو مِثْلاً على الخلاف، فهو وقت (العصر)

(5)

. هذا، ووقت الجمعة: وقت الظهر. وعند مالك: لا يَخْرُج إلى المغرب، وعند الحنابلة: يجوز قبل الزَّوَال.

(والعَصْرِ) أي ووقت صلاة العصر (مِنْهُ) أي من آخر وقت الظهر على الروايتين (إلى الغُرُوبِ) أي غَيْبُوبة الشمس كلها. وقال الحسن بن زياد: إلى الاصفرار، لِمَا رَوَى مسلم من حديث عبد الله بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وقت العصر ما لم تَصْفَرَّ الشمس» .

ولنا: ما في «الكُتُب الستة» من حديث أبي هُرَيْرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من

(1)

في المطبوع: مثليه، والمثبت من المخطوط.

(2)

في المطبوع: ينقص، والمثبت من المخطوط.

(3)

في المطبوع: ينقص، والمثبت من المخطوط.

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(5)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 179

والمَغْرِبِ مِنْهُ إلى غَيْبَةِ الشَّفَقِ:

===

أدرك ركعة من العصر قبل أن تَغْرُب الشمس، فقد أدرك العصر». وأُجِيبَ عن حديث عبد الله بن عمر: بأنه محمولٌ على وقت الاختيار.

هذا، وفي «شرح الآثار» للطحاوي: مذهب أصحابنا: أن الوسطى هي صلاة العصر. قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم، وسُمِّيَت على هذا وُسْطَى، لأنها بين نَهَارِيَّتَيْنِ وبين لَيْلِيَّتَيْنِ. وروى الترمذي وقال: صحيح الإسناد، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الصلاة الوسطى: صلاة العصر» وعن مالك، وهو نصُ الشافعي في «الأُمِّ»: أنها الصُّبْح، وهو قول عمر، ومُعَاذ، وجابر، وعطاء، وعِكْرِمة، ومُجَاهِد، والربيع بن أنس. «وفي كشف المُغَطَّى عن الصلاة الوسطى» للحافظ الدِّمْيَاطي: أن فيها سبعة عشر قولاً.

قلت: وإذا صَحَّ الحديث، فلا معنى للاختلاف أصلاً.

ثم الإمام مالك شَرَّك بين الظهر والعصر إذا صار ظل كل شيء مثله بقدر أربع ركعات، حتى لو صُلِّيَت الظهر والعصر من يومين في ذلك الوقت، كانت أداءً عنده، لِمَا تقدَّم من إمامة جبرائيل الظهر والعصر من يومين في ذلك الوقت. وظاهرها يدلُّ على التشريك.

قلنا: معناه صلّى الظهر حين قَرُب الظل من مثله بدليل ما روينا من قوله صلى الله عليه وسلم «ووقت الظهر إذا زالت الشمس عن بطن السماء، ما لم يَحْضُر العصر» . وما في الترمذي من قوله صلى الله عليه وسلم «إن للصلاة أولاً وآخراً، وإن أول وقت الظهر حين تزولُ الشمس، وآخرها حين يدخلُ وقت العصر، وأول وقت صلاة العصر حين يدخلُ وقتها، وإن آخر وقتها حين تَصفرُّ الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تَغْرُب الشمس، وإن آخر وقتها حين يَغِيبَ الشَّفقُ، وإن أول وقت العشاء حين يَغِيبُ الشَّفقُ» . وكذا شَرَّك

(1)

ما بين العشاءين بقدر أحدهما فيما قبل مغيب الشفق.

(والمَغْرِبِ) أي وقت صلاة المغرب (مِنْهُ) أي من الغروب، لِمَا روى أبو داود، والترمذي وقال: حسنٌ صحيحٌ، عن سَلَمة بن الأكَوْع: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي المغرب إذ غَرَبت الشمس وتوارت بالحجاب. وهو ممتدٌ.

(إلى غَيْبَةِ الشَّفَقِ): وهو: البياض الذي يَعْقُب الحُمْرَة عند أبي حنيفة، وأحمد، والمُزَني، وطائفة من الفقهاء وأهل اللغة، وعن أحمد: أنه في السفر

(1)

أي الإمام مالك رحمه الله.

ص: 180

هُوَ الحُمْرَةُ، وبِهِ يُفْتى

===

الحُمْرة، وفي الحَضَر البياض، لقوله عليه الصلاة والسلام:«وآخر وقت المغرب إذا اسودّ الأفق» . أبو داود من حديث أبي مسعود الأنصاري، وفيه:«ويصلِّي العشاء حين يسودّ الأفق» ، وهو مرويٌ عن أبي بكر، ومُعَاذ بن جبل، وعائشة، ورواية عن ابن عباس، وبه قال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي، واختاره ثَعْلَب.

وأما ما روى الدَّارَقُطْني عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشَّفقُ الحُمْرة، فإذا غاب الشفق، وجبت الصلاة» فقال النَّووي: ليس بثابت، وما رواه موقوفٌ على ابن عمر. ذكره مالك في «الموطأ» .

هذا، وفي رواية عن مالك والشافعي: أن وقت المغرب مقدار ما يتوضّأ ويصلي خمس ركعات، لأنَّ جبرائيل أمَّ في المغرب في يومين في وقتٍ واحدٍ.

وقال أبو يوسف، ومحمد، ومالك، والشافعي، وأحمد، وجمهور الفقهاء، وأهل اللغة:(هُوَ الحُمْرَةُ) وهو رواية أسد بن عمرو، عن أبي حنيفة (وبِهِ يُفْتَى) لِمَا روى مسلم من حديث ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«وقت المغرب ما لم يسقط ثَوْرُ الشفق» . وهو بالمثلثة المفتوحة: ثَوَرَان حُمْرَته. ورواه أبو داود: «فور الشفق» ، وهو بقية حُمْرته، وسُمِّي فوراً لفورانه وسطوعه، وصحَّفه بعضهم فقال: نُور الشفق، بالنون، ولو صحّت الرواية، لكان له وجه حكاه المُنْذِري في «الحواشي». وقال الخَطَّابي:«فَوْر الشفق» : فَوَرَانه. والحديث حُجَّة على مالك والشافعي في تقديره بسَتْرٍ ووضوء، وأذانين، وخمس ركعات

(1)

.

وروى الدَّارَقُطْنِي في «سننه» عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الشَّفق الحُمْرة» ، لكن قال البَيْهَقِي: رُوِيَ هذا عن عمر، وعلي، وابن عباس، وعُبَادة بن الصّامت، وشدَّاد بن أوْس، وأبي هريرة، وعليه إطباق أهل اللسان، ولا يصح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه شيء. انتهى.

وقد نُقل رجوع الإمام إلى هذا القول، لِمَا ثبت عنده من حمل عامة الصحابة الشَّفق على الحُمَرة. واعلم أنَّ قول أبي حنيفة أولاً وافقه زُفَر، لأنه من أثر النهار، وهو قول أبي بكر الصديق، وأنس بن مالك، ومُعاذ بن جَبَل، وعائشة، وأُبَيّ، وابن الزُبَيْر، ورواية عن ابن عباس، وبه قال عُمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهم، واختاره المبرَّد وثَعْلب اللغويان، وهو الأحوط في جانب العشاء.

(1)

بسَتْرٍ: أي ستر العورة. هذا، والمفتي به عند الشافعية:"ويبقى وقتها حتى يغيب الشفق الأحمر". انظر: "نهاية المحتاج" 1/ 366 - 368.

ص: 181

والعِشَاءِ مِنْهُ، والوِتْرِ بَعْدَهُ إلى الفَجْرِ لَهُمَا.

===

(والعِشَاءِ) أي وقت صلاة العشاء الآخرة (مِنْهُ) أي من غروب الشَّفق (والوِتْرِ) أي وقته (بَعْدَهُ) أي بعد العشاء (إلى الفَجْرِ لهمَا) أي للعشاء والوتر، ويحتمل الظرف، أعني بعد أن يكون خبراً عن الوِتر، كما أن الجار والمجرور ـ أعني منه ـ خبر عن العشاء، فيكون المذكور قول أبي يوسف ومحمد: أن وقت الوِتر بعد وقت العشاء، ويحتمل أن يكون الوِتر معطوفاً على العشاء مشاركاً له في الخبر، ويكون الظرف ـ أعني بعده ـ في محل النصب على الحال، فيكون المذكور قول أبي حنيفة: أن وقت الوتر والعشاء واحد، لأن الوِتر فرض عنده، والوقت إذا جمع بين فرضين كان لهما كقضاء وأداء اجتمعا وإنما امتنع تقديم الوتر على العشاء عند التذكُّر لوجوب الترتيب.

ولهما: ما روى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه بسندٍ حسنٍ عن خَارجة بن حُذَافة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنَّ الله أمدَّكم بصلاة هي خير لكم من حُمْر النَّعَم، وهي الوِتر، فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر» ، وفي رواية الطحاوي:«إن الله زادكم صلاة» . وروى أحمد في «المسند» عن مُعَاذ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «زادني ربي صلاةً وهي الوتر، فوقتها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» .

وقد صنَّف الشيخ علم الدين السخَاوي المُقْرِاء

(1)

، تلميذ الشَّاطِبِيّ جزأً ساق فيه الأحاديث التي دلت على فرضية الوتر، ثم قال: فلا يرتاب ذو فَهْم بعد هذا أنها أُلْحِقت بالصلوات الخمس في المحافظة عليها، والجواب عن حديث الأعرابي ظاهر، فإنه كان قبل وجوب الوِتر. وفي قوله:«زادكم» إشارة إلى أنها متأخرة عن الصلوات الخمس. وأما الجواب عن فعله صلى الله عليه وسلم إياه على الرَّاحلة، وكذا ابن عمر، فقد روى الطحاوي عنه: أنه كان يصلِّي على راحلته، ويوتر بالأرض. ويَزْعُمُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل (الوتر)

(2)

، وما روي عنه ما يخالف ذلك كان قبل تأكده ووجوبه، أو محمول على عذرٍ به في ركوبه.

وثمرة الخلاف تظهر فيمن صلى الوتر قبل العشاء ناسياً، أو صلاهما مُرَتَّبتين، ثم ظهر فساد العشاء دون الوتر، فعند أبي حنيفة تُعاد العشاء وحدها، لأن الترتيب يسقط بمثل هذا العذر، وعندهما يُعاد الوتر أيضاً، لأنه تَبَعٌ للعشاء، فلا يصح قبلها.

هذا، وفي الطَّحَاوي: وأن ابن جُرَيج قال لأبي هريرة: «ما إفراط

(1)

ولد سنة 558 هـ، وتوفي سنة 643 هـ. انظر "معجم المؤلفين" 2/ 511.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

ص: 182

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

صلاة العشاء؟ قال: طلوع الفجر الصادق». وفيه أيضاً أنه يظهر من مجموع الأحاديث أن آخر وقت العشاء حين يطلع الفجر، وذلك أن في حديث ابن عباس، وأبي موسى، والخُدْري:«أنه صلى الله عليه وسلم أخّرها إلى ثلث الليل» . وفي حديث أبي هريرة وأنس: «أنه أخّرها حتى انتصف الليل» . وفي حديث ابن عمر: «أنه أخّرها حتى ذهب ثلثا الليل» ، وفي حديث عائشة:«أنه أعتم بها حتّى ذهب عامة الليل» .

فثبت أن الليل كله وقت لها، ويؤيده كتاب عمر إلى أبي موسى الأشْعَري رضي الله تعالى عنهما:«وَصَلِّ العشاء أيَّ الليل شئت ولا تُغفلها» . وعن ابن عباس: «لا تُفَوِّت صلاة حتى يجيء وقت الأخرى» . وفي مسلم عن قَتَادة: «والتفْرِيط أن يؤخّر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى، يدل على بقاء الأولى إلى أن يدخل وقت الأخرى، ووقت الأخرى بطلوع الفجر الثاني. وخُصَّ من ذلك كون آخر صلاة الصبح بطلوع الشمس، للأحاديث الصحيحة الصريحة المؤيَّدة بالإجماع.

ولا يُجْمع عندنا بين ظهر وعصر، ولا بين مغرب وعشاء بسفر أو مطر زماناً إلا في عرفة ومُزْدَلِفة. وجمع الشافعي ومالك بينهما فيهما مطلقاً، لِمَا روى الطحاوي عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الصلاتين في السفر. وعن أبي الطُّفَيل، عن مُعَاذ بن جبل أخبره:«أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء» . وعن عبد الله بن عمر: «أنه كان إذا جَدَّ به السيرُ جمع بين المغرب والعشاء بعدما يغيب الشفق، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جَدَّ به السير جمع بينهما» .

ولنا ما رويناه في عدم التشريك، ومنع دلالة المروي على الجمع بينهما زماناً، بل كان فعلاً لقول ابن مسعود: «والذي لا إله غيره ما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة قط إلا لوقتها إلا صلاتين: جمع بين الظهر والعصر بعَرَفة، وبين المغرب والعشاء بِجَمْع

(1)

»، متّفقٌ عليه. وقول نافع:«أن ابن عمر جدَّ به السير فراح روحة لم ينزل إلا للظهر أو العصر، وأخَّر المغرِب حتى صرخ به سالم: الصلاة، فَصَمَت ابن عمر حتى كان عند غيبُوبة الشَّفق نزل، فجمع بينهما وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هكذا إذا جَدَّ به السير» . وفي رواية: «حتى إذا كاد آخر الشَّفق نزل، فصلّى المغرب، وغاب الشفق فصلّى العشاء، وقال: هكذا كنّا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جَدَّ بنا السير» .

(1)

جَمْع: المُزْدَلِفة. مختار الصحاح ص 110، مادة (جمع).

ص: 183

[الأوقات المستحبة]

ويُسْتَحبُّ لِلفَجرِ البَدَاءَةُ مُسْفِرًا،

===

فهذه الروايات صريحة بأنَّ صلاته كانت قبل أن يغيبَ الشَّفق، فتُحْمَل رواية غيبوبته على القرب منها، توفيقاً بينهما. فإنْ قيل: روى أبو الطُّفيل عن مُعَاذ بن جبل: «أنه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخَّرَ الظهر حتى يجمعها مع العصر، فيصليهما جميعاً. وإذا ارتحل بعد زيْغ الشمس، صلّى الظهر والعصر جميعاً، ثم سار. وكان إذا ارتحل قبل المغرب، أخَّر المغرب حتى يصليها مع العشاء. وإذا ارتحل بعد المغرب، عجَّل العشاء فصلاّها مع المغرب» . رواه أحمد وغيره. قلنا: قال أبو داود: وليس في تقديم الوقت حديث قائم. وقال الحاكم: حديث أبي الطُّفيل موضوع، ولذا لم يذكر الطَّحَاوي هذه الرواية عن أبي الطُّفيل. وأما الجمع في عرفة والمُزْدَلِفة، فثابت على خلاف القياس، فلا يُلحق غيره به.

(الأوقات المستحبة)

(ويُسْتَحَبُّ للفَجْرِ البَدَاءَةُ مُسْفِراً) يقال: أسفر الصبح إذا أضاء، ومنه قوله تعالى:{والصُّبْح إِذَا أَسْفَرَ}

(1)

. وأسفر بالصلاة، أي صلاها في وقت الإسْفار. قال الطَّحَاوِي: ويستحبَ البَدَاءَةُ مُغلِّساً، والختم مُسْفِراً، واختاره بعض الشافعية. وقال مالك والشافعي، وهو أقوى الروايات عن أحمد: يستحب التعجيل لِمَا في «الصحيحين» من حديث عائشة قالت: «إنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلّي الصبح، فينصرفُ النساء مُتَلَفِّعَات

(2)

بمُرُوطِهنَّ

(3)

، ما يُعْرَفْنَ من الغَلَسِ

(4)

»، لكنه معارَض بقول ابن مسعود:«ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة إلا لميقاتها إلا صلاتين: صلاة المغرب والعشاء بجَمْع، وصلّى الفجر يومئذٍ قبل ميقاتها» ، مع أنه كان بعد طلوع الفجر، لما في البخاري:«والفجر حين بزغ الفجر» . وفي مسلم: «قبل ميقاتها بغَلَس» .

فعُلم أن المراد قبل ميقاتها الذي اعتاد الأداء فيه، لأنه غلَّس بها يومئذ ليمتد وقت الوقوف، وتُرَجَّح روايته على حكايتها، لأن الحال أكشف له منها، أو يحمل حكاية التغْلِيس على ما قبل الإسْفار جداً، أو على تغليس المسجد. وقد أخرج الطَّحَاوي بسند صحيح عن إبراهيم النَّخَعي أنه قال: ما اجتمع أصحاب

(1)

سورة المدّثر، الآية:(34).

(2)

مُتَلَفِّعات: أي مِتَلفِّفات. النهاية: 4/ 260.

(3)

مُرُوطِهنَّ: أي أَكسِيتِهِنَّ. النهاية: 4/ 319.

(4)

الغَلَس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح. النهاية: 3/ 377.

ص: 184

بِحَيثُ يُمْكِنُهُ تَرْتِيلُ أرْبَعِينَ آيَةً، ثُمَّ الإعَادَةُ إن ظَهَرَ فَسَادُ وُضُوئِهِ.

ويُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ ظُهْرِ الصَّيفِ

===

رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء ما اجتمعوا على التَّنوير، وقال: ولا يصح أن يجتمعوا على خلاف ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.

ولنا ما روى أصحاب السنن الأربعة عن رافع بن خَدِيج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر» . قال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ.

فإن قيل: المراد بالإسفار بالفجر تَبيُّن طلوعه، أجيب بما قال ابن دقيق العيد: وهو أن الحمل على هذا المعنى يأباه، أو يبعده مَا في «صحيح ابن حِبَّان»:«كلما أصبحتم بالصبح فهو أعظم للأجر» . وما أخرجه النَّسائي بسند صحيح: «ما أسفرتم بالفجر، فإنه أعظم للأجر» . وما في «مسانيد ابن أبي شَيْبَة، وإسحاق، وأبي داود» : «يا بلال نَوِّر بصلاة الصبح حتى يبصرَ القومُ مواقع نبلهم من الإسفار» . ولأنه ما لم يتبين، لا يحكم بجواز الصلاة، فضلاً عن إصابة الأجر المفاد بقوله:«فإنه أعظم للأجر» .

ثم الإسفار الذي يستحب بداية الفجر فيه أن يبتداء الصلاة (بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ تَرْتِيلُ أرْبَعِينَ آيَةً) أي سوى الفاتحة، والظاهر أن المراد بالأربعين أنه في مجموع الركعتين، لا في كل واحدة منهما، فالأَوْلى أن يقال: بحيث يَقْدِر على الصلاة بقراءة مسنونة (ثُمَّ الإعَادَةُ) أي ويمكنه إعادة الصلاة بقراءتها المستحبة قبل طلوع الشمس (إنْ ظَهَرَ فَسَادُ وُضُوئِهِ) أي في آخر أجزاء صلاته.

(ويُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ ظُهْرِ الصَّيْفِ) أي إبْرَاده

(1)

في شدة الحر، وهو متفق عليه. لقوله عليه الصلاة والسلام:«أبْرِدوا بالظهر، فإنَّ شِدَّة الحرِّ من فيح جهنم»

(2)

رواه البخاري، والطحاوي بمعناه من طرق. ولقوله عليه الصلاة والسلام:«إذا اشتد الحر فأبْرِدوا بالصلاة، فإنَّ شِدَّة الحرِّ من فَيْح جهنم» رواه الشيخان. ولِمَا في الطَّحَاوي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: «أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم يعجِّل في الظهر في الشتاء، ويؤخِّرُها في الصيف» . وعن أنس نحوه. وروى البخاري من حديث خالد بن دِينَار قال: «صلّى بنا أميرنا الجمعة، ثم قال لأنس: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي الظهر؟ قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بَكَّر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبْرد بالصلاة» . ورواه النَّسائي عن أنس لفظه: «إذا كان الحر أبْرَد بالصلاة، وإذا كان البرد عجَّل بالصلاة» .

(1)

إبراد الصلاة: تأخيرها قليلًا، ويكون ذلك في أوقات الحرِّ. معجم لغة الفقهاء ص 38.

(2)

الفَيْح: سُطوع الحر وفورانه، أي كأنه نار جهنم في حرِّها. النهاية: 3/ 484.

ص: 185

وتَأْخِيرُ العَصْرِ ما لَم تَتَغَيَّرْ،

===

وأما حديث: «أول الوقت رضوان الله، وآخر الوقت عفو الله»

(1)

، فإنما يعرف بيعقوب بن الوليد، وقد كَذَّبه أحمد بن حنبل، وسائر الحفّاظ. قال البَيْهَقِيّ في «المعرفة»: وإنما يروي عن أبي جعفر محمد بن عليّ من قوله، ولئن صحَّ، فليس على عمومه لِمَا سبق من إبراد الظهر المجمع عليه، وإسفار الفجر المصرح لديه، وبظاهر الدلالة على المُدَّعى، لعدم استلزامه التقصير، لقوله تعالى:{ويَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ العَفْوَ}

(2)

أي الفضل، أي ما يتفضَّل عنكم.

والمعنى: أن الصلاة في آخر الوقت لها فضل كثير، والحق أن يقال: المراد بأول الوقت: الوقت المختار، فإن الأول الحقيقي كاد أن لا يلحقه كل أحد. ثم ظاهر التقسيم أن أول الوقت يمتد إلى نصفه، لكن جاء في رواية:«وأوسطه رحمة الله»

(3)

، فيكون الأول إلى ثلثه.

(وتَأْخِيرُ العَصْرِ) سواء كان في الصيف أو الشتاء (ما لَمْ تَتَغَيَّرْ) أي الشمس، وهو تغير قُرْصها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، بحال لا تحار فيها الأعين، وهو مروي عن الشَّعْبي، لا تغير ضوئها كما قاله الحاكم الشهيد، وهو مروي عن محمد.

وقال مالك والشافعي: تقديمه أفضل لقول أنس: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلّي العصر، فيذهب الذاهب إلى العَوَالي والشمس مرتفعة» . قال الزُّهْرِيّ: والعَوَالي على ميلين من المدينة وثلاثة، وأحْسَبُه قال: وأربع. ولحكاية رافع بن خَدِيج: «كنّا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، ثم ننحر الجَزُور

(4)

، فَتُقْسَم عشرة قِسَم، ثم نطبخ، فنأكل لحماً نضيجاً قبل أن تغرب الشمس». رواهما الشيخان والطّحاوي.

ولنا ما رواه الترمذي عن أم سَلَمةَ أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد تعجيلاً للظهر منكم، وأنتم أشد تعجيلاً للعصر منه» . ولما رواه أبو داود أنه: «عليه الصلاة والسلام كان يؤخّر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية» . ورواه الدَّارقُطْنِيّ عن رافع بن

(1)

رواه الدارقطنى في السنن 1/ 249، كتاب الصلاة (4)، باب النهى عن الصلاة بعد الصلاة الفجر

، رقم (21) والترمذي في سننه 1/ 321، كتاب الصلاة (2)، باب ما جاء في الوقت الأول (13)، رقم (172). ولفظ الترمذي: (الوقت الأول من الصلاة

).

(2)

سورة البقرة، الآية:(219).

(3)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 249 - 250، كتاب الصلاة (4)، باب النهى عن الصلاة بعد الفجر

، رقم (22).

(4)

الجَزور: البعير ذكرًا كان أو أنثى. النهاية: 1/ 266.

ص: 186

وَالعِشَاءِ إلى ثُلُثِ اللَّيْلِ، والوِتْرِ إلَى آخِرِهِ، لِمَنْ يَثِقُ بالانْتِبَاهِ

===

خَدِيج مثله. وأما ما روياه فكان أحياناً، وهو جائز اتفاقاً.

(وَ) تأخير (العِشَاءِ إلى ثُلُثِ اللَّيْلِ) وفي «مختصر القُدُورِي» : إلى ما قبل ثُلُثه.

وجه الأول: ما رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا أنْ أشُقَّ على أمّتي، لأخَّرْتُ العشاء إلى ثُلُث الليل أو نصفه» . و «أو» تحتمل الشك أو التنويع، فالثلث في الصيف، والنصف في الشتاء، ويؤيد ما روى البخاري عن أنس:«أخَّر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء إلى نصف الليل، ثم قال: قد صلّى الناس وناموا، أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها» .

ووجه الثاني: ما روى البخاري من حديث عائشة قالت: «كانوا يصلون العَتَمَة ـ أي العشاء ـ فيما بين أن يغيب الشَّفق إلى ثُلُث الليل» . وما روى الترمذي والنَّسائي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لولا أن أشُقَّ على أمّتي، لأمرْتهُم بالسواك عند كل صلاة، ولأخَّرت العشاء إلى ثُلُث الليل» . والظاهر أن الغاية غير داخلة. وفي حديث ابن عباس: «أنه عليه الصلاة والسلام أخّرَ العشاء حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فقال عمر: يا رسول الله، نام النساء والولدان، فخرج فقال: لولا أن أشقَّ على أمّتي، لأمرْتهم أن يصلّوا العشاء في هذه الساعة» . رواه الشيخان.

وقيل: يستحب تعجيل العشاء في الصيف لئِلا يتقلّل الجماعة، أو لأنَّ الليل قصيرٌ. ثم تأخير العشاء إلى ما بعد نصف الليل مكروه، ويكره النوم قبلها والحديث بعدها، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنهما، إلا حديثاً في خير لقوله عليه الصلاة والسلام:«لا سمر بعد الصلاة ـ يعني العشاء الأخيرة ـ إلا لأحد رجلين: مصلَ أو مسافر» . وفي رواية: أو «عروس» ، رواه الإمام أحمد. ولقول عمر:«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَسْمُرُ عند أبي بكر الليلة في أمر المسلمين وأنا معه» . رواه الترمذي وحسَّنَه.

وأما قول صاحب «الهداية» : لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تزال أمتي بخير ما عَجَّلوا المَغْرِبَ وأخَّرُوا العشاء» ، فغير معروف بهذا اللفظ، نعم روى أبو داود عن أبي أيوب مرفوعاً قال:«لا تزال أمّتي بخير ـ أو قال على الفطرة ـ ما لم يؤخِّروا المغرب إلى أن تَشْتَبِكَ النجوم» .

(و) تأخير (الوِتْرِ إلَى آخِرِهِ) أي إلى آخر الليل (لِمَنْ يَثِقُ بالانْتِبَاهِ) لما روى مسلم من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من خاف أن لا يقوم آخر الليل، فليوتر أوله، ومن طَمِعَ أن يقوم آخر الليل، فليوتر آخره، فإن صلاة آخر الليل مشهودة،

ص: 187

وتَعْجِيلُ ظُهْرِ الشِّتَاءِ والمَغْرِبِ. ويَوْمُ غَيْمٍ يُعَجَّلُ العَصْرُ والعِشَاءُ ويُؤخَّرُ غَيرُهُمَا.

[الأوقات المكروهة]

ولا يَجُوزُ صَلاةٌ،

===

وذلك أفضل». ولقوله عليه الصلاة والسلام: «اجعلوا آخِرَ صلاتِكم بالليل وِتْراً» . رواه الشيخان. وفي رواية لمسلم عن جابر مرفوعاً: «أيّكم خاف أن لا يقوم آخر الليل، فليوتر ثم ليرقد» .

(و) يُستحب (تَعْجِيلُ ظُهْرِ الشِّتَاءِ) لما روينا في الإبراد (و) تعجيل (المَغْرِبِ) أي مغرب الصحو، سواء كان في الشتاء أو في الصيف، لصلاة جبرائيل إياها في أول وقتها في اليومين، ولما روى أبو داود والحاكم وقال: صحيحٌ على شرط مسلم، عن مَرْثد بن عبد الله قال: قَدِم علينا أبو أيوب غازياً، وعُقْبة بن عامر يومئذٍ على مصر، فأخَّر المغرب، فقام إليه أبو أيوب فقال: ما هذه الصلاة يا عُقْبة؟ قال: شُغِلْنا، قال: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال أمّتي بخير ـ أو على الفطرة ـ ما لم يؤخّروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم» . وفي رواية أحمد: «إلى اشتباك النجوم» . وأما ما في «الهداية» لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تزال أمّتي بخير ما عجّلوا المغرب، وأخّروا العشاء» ، فغير معروف بهذا اللفظ.

(ويَوْمُ غَيْمٍ يُعَجَّلُ العَصْرُ) لأن في تأخيرها توهم وقوعها في الوقت المكروه (والعِشَاءُ) لأن في تأخيرها تقليل الجماعة على اعتبار المطر (ويُؤخَّرُ غَيْرُهُمَا) أي في يوم الغيم. أما في الفجر، فلأنَّه لو عَجّل فيه لأدَّى إلى تقليل الجماعة بسبب الظلمة، ولا يأمَن من وقوعها قبل وقتها، وأمّا في الظهر والمغرب، فلئِلا تقعا قبل وقتهما. وروى الحسن عن أبي حنيفة استحباب تأخير كل صلاة في يوم الغيم، لأن في التأخير تردداً بين القضاء والأداء، وفي التعجيل تردداً بين الصحة والفساد، فيكون التأخير أولى لِتَيَقُّن براءة ذمّته.

(الأوقات المكروهة)

(ولا يَجُوزُ) أي ولا تصحّ (صَلَاةٌ) أي فرض، أو واجب، وأما لو صلّى التطوع في هذه الأوقات فيجوز، ويكره على ما ذكره الإسْبِيجَابي في «شرح الطَّحاوي» ، ويحتمل أن يراد مطلق الصلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، بناءً على ما رُويَ من أن النفل في هذه الأوقات لا يجوز. والمعنى: لا يجوز الشروع في صلاة، وعدم جواز الشروع في الصلاة لا ينافي لزومها بعد الشروع فيها، كما يقال: لا يجوز البيع الفاسد، ولو باع

ص: 188

وسَجْدَةُ تِلاوَةٍ، وصَلاةُ جِنَازَةٍ عِنْدَ طُلُوعِهَا وقِيَامِهَا وغُرُوبِهَا،

===

وقبض المبيع، ثبت الملك. وإنما قلنا ذلك لما ذكر شمس الأئمة لزوم قضائه بلا خلاف، وذكر التُّمُرْتَاشي لزومه عند أبي حنيفة وأبي يوسف.

وقيل: يُكْرَهُ النفل فيها تحريماً، وهو مُفَسَّرٌ عند أبي حنيفة وأبي يوسف بما كان إلى الحرام أقرب، وعند محمد بالحرام. وإنما كره تحريماً لما عُرِف أن النهي إذا كان ظَنِّيَّ الثبوت ولم يُصْرَف عن مقتضاه أفاد كراهة التحريم، وإذا كان قطعي الثبوت أفاد التحريم، فالتحريم في مقابلة الفرض في الرتبة، وكراهة التحريم في رتبة الواجب، والتنزيه في رتبة المندوب، والنهي الوارد من النوع الأول، فكان الثابت به كراهة التحريم، فلو شرع في النفل في أحدهما صح شروعه، حتى يجب قضاؤه إذا قطعه خلافاً لِزُفَر، ويجب قطعه وقضاؤه في وقت غير مكروه في ظاهر الرواية، ولو أتمّه خرج عن عُهْدَةِ ما لزمه بذلك الشروع.

(وسَجْدَةُ تِلَاوَةٍ) أي إذا تُليت قبل الأوقات المذكورة، لأن التي تُليت فيها تجوز من غير كراهة، لكن الأفضل تأخيرها، ليؤديها في الوقت المستحب لها، لأنها لا تفوت بتأخيرها (وصَلَاةُ جِنَازَةٍ) أي إذا حضرت قبل ذلك، لأن التي حضرت فيه تجوز، لأنها وجبت ناقصة، فتؤدى كما وجبت، إذ الوجوب بالحضور وهو أفضل، والتأخير مكروه لقوله عليه الصلاة والسلام:«ثلاثٌ لا يُؤخَّرْنَ، وذكر منها: الجنازة إذا حضرت»

(1)

.

(عِنْدَ طُلُوعِهَا) أي مع طلوع الشمس (وقِيَامِهَا) أي حال استوائها (وغُرُوبِهَا) وقال مالك: لا يصلى على الجنازة بعد الإسفار والاصفرار حتى تطلع الشمس أو تغرب، إلاَّ أنْ يخشى عليها التغير. وقال الشافعي: لا يكره الصلاة عليها في أوقات النهي، إلا أنْ يتعمّد تأخيرَها إلى ذلك بغير سبب.

لنا ما روى الجماعة إلا البخاري من حديث عُقْبة بن عامر الجُهَني قال: «ثلاثُ ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أنْ نصلّي فيهن، وأن نَقْبُرَ فيهنَّ موتانا: حين تَطْلُعُ الشمس بازغةً حتى ترتفعَ، وحين يقوم قائم الظَّهِيرَة

(2)

حتى تميل، وحين تَضَيَّفُ

(3)

للغروب حتى تَغْرُب». قال الترمذي: قبر الموتى هنا محمول على الصلاة عليها،

(1)

أخرجه الترمذي في سننه 3/ 387، كتاب الجنائز (8)، باب ما جاء في تعجيل الجنازة (74)، رقم (1075)، ولفظه: يا علي ثلاث لا تؤخرها

(2)

قائم الظهيرة: أي قيام الشمس وقت الزوال. النهاية: 4/ 125.

(3)

تضيَّفت: أي مالت. النهاية 3/ 108.

ص: 189

إلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ

===

وكذلك رُوِيَ، عن ابن المبارك. وروى ابن دقيق العيد في «الإمام» عن عُقْبة بن عامر قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ نصلّي على موتانا عند طلوع الشمس.

(إلاَّ عَصْرَ يَوْمِهِ) هذا استثناء من عدم جواز الصلاة وقت الغروب، فإنَّ عصر اليوم يجوز في وقت الغروب من غير كراهة في أدائها، وإنما الكراهة في تأخيرها، والفرق بين عصر اليوم ـ حيث يجوز عند الغروب ـ وفجر اليوم ـ حيث لا يجوز عند الطلوع ـ أنَّ سبب الصلاة جزءٌ من وقتها مُلَاقٍ لأدائها، وآخر وقت العصر وهو وقت التغير ناقص، لأنه وقت كراهة، وإذا شرع فيه، فقد وجبت ناقصة، فلا تفسد بطروء الغروب الذي هو وقت الفساد للملائمة بينهما في النقصان. وأما الفجر فإنَّ جميعَ وقتها كامل، فإذا شرع فيها، فقد وجبت كاملة، فتفسد بطروء الطلوع الذي هو وقت الفساد لعدم الملائمة بينهما.

فإن قيل: روى الجماعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أنْ تغرُبَ الشمس، فقد أدرك العصر» . أجيب بأنَّ التعارض لما وقع بين هذا الحديث، وبين النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة، رجعنا إلى القياس كما هو حكم التعارض، فَرَجَّحنا حكم هذا الحديث في صلاة العصر، وحكم النهي في صلاة الفجر. وذهب الطَّحاوي إلى عدم جواز عصر يومه كالفجر، لِئَلا يلزم العمل ببعض الحديث وترك بعضِه، مع أنَّ النقص قارن العصر ابتداءً، والفجر بقاءً.

ورُوِيَ عن أبي يوسف جوازُ الفجر أيضاً إذا أمسك عن تكميلها عند طلوع الشمس، وهو فيها، وكمَّلها بعد طلوعها، لأنه لم يَتَحرَّ بها طلوعها، وامتثل الأمر بالإمساك عنها، وتأخّرها حتى تبرز، ولم يوجد التشبه الحقيقي بعبُّادها. وذلك لما روى الطَّحاوي عن ابن عمر

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تَحَرَّوا بصلاتكم عند طلوع الشمس ولا غروبها، وإذا بدأ حاجب الشمس، فأخِّروا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس، فأخِّروا الصلاة حتى تغيب» .

أقول: ومما يؤيد أصل المذهب ظاهر حديث الحاكم: «من صلّى ركعة من الصبح، ثم طلعت الشمس، فليصل الصبح» ، أيْ قضاءً وإلاَّ لقال:«فليتِمه» . وأما صحّة

(1)

في المطبوع: ابن مسعود، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في "شرح معاني الآثار" 1/ 151 و 152.

ص: 190

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

السجدة والجنازة فيها، فلأنّهما أُدِّيَتَا كما وجبتا ناقصتين، لأنَّهما إنَّما وجبتا لإظهارِ مخالفة الكفار بالانقياد، ولقضاء حق الميت المسلم بالدعاء له، وكل منهما يتحقق مع النقصان.

وجوَّز مالك والشافعي الفرائض كلها فيها، لقوله عليه الصلاة والسلام:«من نام عن صلاة أو نَسِيَها فليُصلِّها إذا ذكرها» ، متفق عليه. وأنه عام في الأوقات كلها، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أنْ تغرُبَ الشمسُ فليُتمَّ صلاته. وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أنْ تطلع الشمس فَلْيُتمَّ صلاته» . رواه البخاري. واعتباراً بعصر يومه.

ولنا ما روينا من حديث عُقْبة، وما في مسلم:«ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني الشيطان» . وما في «الموطأ» والنَّسائي من قوله عليه الصلاة والسلام: «إنَّ الشمس تطلع بين قرني الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، وإذا دنت للغروب قارنها، وإذا غربت فارقها» ، ونهى عن الصلاة في تلك الساعات.

ويكره عندنا وعند مالك فيها صلاة ذات سبب، كركعتي الوضوء وتحية المسجد، والطواف، والمنذورات، والسنن الرواتب ولو في مكة. وجوَّزها الشافعي لقول بلال: ما جدَّدتُ طهارةً إلا صليت ما قُدِّرَ لي، ولإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام:«إذا دخل أحدكم المسجد، فَلْيُحَيِّه بركعتين»

(1)

. ولقوله عليه الصلاة والسلام: «يا بني عبد مَنَاف، لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أيَّة ساعة شاء، من ليل أو نهار» . رواه أصحاب السنن الأربعة.

ولنا ما رويناه، وهو نصٌ، فيُقيَّد به المبيح المطلق، وجوَّز الصلاة أبو يوسف ومعه الشافعي في الأصح عند استواء الشمس يوم الجمعة، لما في حديث عُقْبة:«إلا يوم الجمعة» ، ولما في حديث أبي هريرة:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة» . رواه الشافعي في «مسنده» . وكره أبو حنيفة ومحمد الصلاة فيه لإطلاق حديث عُقْبة. وهذه الزيادة غريبةٌ فيه، فلا تقيَّد بها، وهو مُحَرِّم، فيقدم على حديث أبي هريرة المبيح.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 1/ 537، كتاب الصلاة (8)، باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين (60)، رقم (444). ولفظه: "

فليركع ركعتين قبل أن يجلس".

ص: 191

وتُكْرَهُ إذَا خَرَجَ الإمَامُ للخُطْبَةِ.

ويُكْرَهُ النَّفْلُ فَقَطْ بَعْدَ الصُّبْحِ إلَّا سُنَّتَهُ، وبَعْدَ أَدَاءِ العَصْرِ إلى أدَاءِ المَغْرِبِ.

===

(وتُكْرَهُ) أي الصلاة، وسجدة التلاوة، وصلاة الجنازة، إلا الفائتة لصاحب الترتيب (إذَا خَرَجَ) أي صَعِدَ (الإمَامُ) المنبر (للخُطْبَةِ) أي خطبة الجمعة، أو العيدين، أو الحج، أو الكسوف، أو الاستسقاء، للإخلال باستماع الخُطبة والإعراض عنها، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغَوْت» . كما رواه الشيخان. فإنْ كان الأمر بالمعروف مع كونه فرضاً، صار حراماً في هذا الوقت، فما بالك بالنفل.

فإن قيل: روى الجماعة عن جابر بن عبد الله: «أن رجلاً جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: «أَصَلَّيتَ يا فلان؟، قال: لا، قال: فَصَلِّ ركعتين، وتجوَّز فيهما» ، أي اختصر. وأُجيب عنه بأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنصت له حتى فرغ من صلاته، لما روى الدَّارَقُطْنِي من حديث أنس قال:«دخل رجل المسجد» ، فذكر الحديث. وفيه:«وأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرغ من صلاته» ، ولأنَّ ذلك كان قبل الشُّروع في الخطبة.

وقد بوَّب النَّسائي في «سننه الكبرى» : باب الصلاة قبل الخطبة، ثم أخرج عن جابر قال:«جاء سُلَيْك الغَطَفَاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقعد سُلَيْك قبل أن يصلّي، فقال له عليه الصلاة والسلام: «أرَكَعْتَ ركعتين» ؟ قال: لا، قال:«قم فارْكَعْهُما» . وكذا يكره بعد الفراغ من خطبة الجمعة إلى الشروع في الصلاة عند أبي حنيفة، خلافاً لهما.

(ويُكْرَهُ النَّفْلُ فَقَطْ) أي دون الفوائت، وسجدة التلاوة، وصلاة الجنازة (بَعْدَ الصُّبْحِ) أي بعد طلوعه (إلاَّ سُنَّتَهُ وبَعْدَ أَدَاءِ العَصْرِ إلى أدَاءِ المَغْرِبِ). أمَّا بعد الصبح، فلما روى أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدَّارَقُطْنِي، من حديث يَسَار ـ مولى ابن عمر ـ، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتين» . ورواه الطَّبَرَانِي. وفي طريق آخر له: «بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر» ، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«لِيُبَلِّغْ شاهدكم غائبكم، لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين» . رواه أبو داود. ولقول حَفْصَة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر لا يصلّي إلا ركعتين خفيفتين» ، رواه مسلم.

قيل: وحكمة هذا النهي أن يصير الوقت كالمشغول بفرضه وما يتبعه، ولهذا كُرِه الكلامُ بين سنته وفرضه، إلا إذا كان كلام خير، فيظهر النهي في حق النفل، وكلّ

ص: 192

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ما وجب بسبب عن المكلف كالمنذور، وقضاء النفل الذي شرع فيه ثم أفسده، وركعتي الطواف. ورُوِي:«أن عمر رضي الله عنه طاف بالبيت سبعاً بعد الفجر ولم يصلِّ حتى خرج إلى ذي طُوَى، فصلّى ركعتي الطواف بعد ما ارتفعت الشمس» .

وأما كراهتها بعد أداء العصر، فلما روى الجماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«شهد عندي رجال مرضيون، ـ وأرضاهم عندي عمر ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس» . ولقول علي رضي الله عنه: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي دُبُر كل صلاة إلا الفجر والعصر» . وتقول عائشة: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلّي الصلاة إلا أتْبعَها ركعتين، غير العصر والغَدَاة

(1)

، فإنه كان يُعَجِّلُ الركعتين قبلهما»، رواهما الطَّحَاويّ.

وساق في خصوص العصر روايات بطرق مختلفة، ثم قال: فقد جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة بالنهي عن الصلاة بعد العصر، وعَمِل بذلك أصحابه من بعده، فلا ينبغي لأحد أنْ يخالِف ذلك. ثم أسند إلى أبي سعيد الخُدْري أنه قال:«أمرني عمر ابن الخطاب أن أَضْرِبَ من كان يصلّي بعد العصر الركعتين بالدِّرة»

(2)

. «وأنَّ خالد بن الوليد كان يَضْرِبُ الناس على الصلاة بعد العصر كعمر» . «وأن طاوساً سأل ابن عباس عن الركعتين بعد العصر، فنهاه وقال: {وما كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضَى اللهُ ورَسُولُهُ أمراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ}»

(3)

.

ثم روى عن عائشة من طرق: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع الركعتين عندي بعد العصر» . (وفي رواية: «والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعتين عندي بعد العصر)

(4)

قطُّ»، ولفظ الصحيحين:«ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلّى ركعتين» ، وفي لفظ للبخاري، عنها:«والذي ذَهَبَ به، ما تركهما حتى لَقِيَ الله، وما لقي الله تعالى حتى ثَقُلَ عن الصلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما، ولا يصليهما في المسجد مخافة أنْ يُثْقِلَ على أمّتهُ، وكان يحب ما يُخَفّف عنهم» .

وأجاب بأنَّ معاوية بن أبي سفيان لَمَّا أَرْسَلَ إليها لِيَسْأَلَها عنهما، قالت: «لا

(1)

الغداة: بالفتح: ما بين الفجر وطلوع الشمس. معجم لغة الفقهاء ص 328. والمقصود هنا: صلاة الفجر.

(2)

الدِّرَّة: السَّوْط: المعجم الوسيط، ص 279، مادة (دَرّ).

(3)

سورة الأحزاب، الآية:(36).

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 193

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

أدري سَلُوا أُمَّ سَلَمة». وبأنَّ ابن عباس، وعبد الرحمن بن أزْهر، والمِسْور بن مَخْرَمة لما أَرْسَلوا كُرَيباً يَسْأَلُهَا عنهما قالت:«سَلْ أمّ سلمة» ، وبأنَّها قالت:«ليس عندي صلاَّهما، ولكن أم سَلَمة حَدَّثَتْنِي: أنه صلاّهما عندها» . فهذا يُعَارِض ما قبله، فلا يصحّ الاحتجاج به على عدم كراهتهما، كيف وقد كشفت هي مع أم سلمة عن حقيقة أمرهما. أما هي فروى مسلم عن أبي سلمة:«أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهما بعد العصر، فقالت: كان يُصَلِّيهما قبل العصر، ثم شُغِلَ عنهما، أو نَسِيَهما، فصلاَّهما بعد العصر، ثم أثْبَتَهما. وكان إذا صلّى صلاة أثْبَتَها» ، يعني داوم عليها.

وروى أبو داود عن ذَكْوان ـ مولى عائشة ـ عنها: «أنها حَدَّثَتْه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بعد العصر، ويَنْهَى عنهما، ويُوَاصِلُ ويَنْهى عن الوِصَال» . وأما أم سلمة فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنهما، ثم رأيته يصليهما، فقيل له في ذلك فقال:«إنه أتانِي نَاسٌ من عبد القَيْس بالإسلام من قومِهم، فَشَغَلُوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان» . رواه الشيخان والطَّحَاوِيّ، وفي لفظ له عنها أنها قالت: صلاَّهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي لم أرَه صلاَّهما قَبْلُ ولا بَعْدُ، فقلت يا رسول الله: ما سجدتان رَأَيْتُكَ صلّيتهما بعد العصر، ما صلَّيْتَهما قَبْلُ ولا بَعْدُ؟ فقال: «هما سَجْدَتَانِ كُنْتُ أُصلِّيهما بعد الظهر، فَقَدِمَ عليَّ قلائص

(1)

من الصَّدقة، فَنَسِيتُهما حتى صَلَّيْتُ العصر، ثم ذَكَرْتُهما، فكَرِهْت أن أُصَلِّيهما في المسجد والناس يَرَوْنِي

(2)

فصليتهما عندك»، وفي رواية: قلت: يا رسول الله أفَنَقْضِيهما إذا فاتتا؟ قال: «لا» . فَعُلُمَ من هذا كُلِّه أنَّ قضاءهما، ثم استمرار فِعْلِهِما كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم فلا يَحِلُّ لأحد التَشَبُّهَ به مع نَهْيهِ عنهما، كما في سائر خصائصه.

وأما كراهتهما بعد الغروب قبل صلاة المغرب، فلما فيه من تأخير صلاة المغرب. وعن الشافعية في الركعتين قبل المغرب وجهان: أشهرهما أنها لا تُسْتَحبُّ. وأصحُّهما: أنها تُسْتَحبُّ، لما في «صحيح مسلم» عن مختار بن فُلْفُل قال: سألت أنس بن مالك عن التطَوُّع بعد العصر، فقال: كان عمر يَضْرِبُ الأيدي على الصلاة بعد العصر، وكنا نصلّي علَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل المغرب، فقلت له: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّيهما؟ قال: كان يرانا نصليهما، فلم يأمرنا ولم ينهنا.

(1)

قلائص: جَمْع قَلُوص، وهي الناقة الشابَّة. النهاية: 4/ 100.

(2)

في المخطوط والمطبوع: يرونه، والمثبت من شرح معاني الآثار للطحاوي: 1/ 302.

ص: 194

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ولما في البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: «صَلُّوا قبل صلاة المغرب» . ثم قال في الثالثة: «لمن شاء» . خشية أن يتخذها الناس سنة، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«بين كل أذانين صلاة» . ثم قال في الثالثة: «لمن شاء» . ولقول أنس: كان المؤذن إذا أذَّن قام ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري، فيركعون ركعتين (قبل المغرب)

(1)

، حتى إن الرجلَ الغريبَ ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صلّيت من كثرة من يصليهما. رواهما الشيخان. وفي لفظٍ للبخاري:«حتى يَخْرُجَ النبي صلى الله عليه وسلم وهم كذلك، يُصَلُّون ركعتين قبل المَغْرِب» . وفيه أيضاً عن مَرْثَد بن عبد الله

(2)

قال: أتيت عُقْبَة بنَ عامرٍ، فقلتُ: ألا أُعجِّبُكَ من أبي تميم، ركع ركعتين قبل صلاة المغرب، فقال عُقْبة: إنَّا كنَّا نفعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قلت: فما يَمْنَعُكَ الآن؟ قال: الشُّغْلُ.

ولنا ما في أبي داود، عن طاوس قال:«سئل ابن عمر عن الركعتين قبل المغرب. فقال: ما رأيت أحداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّيهما، ورخّص في الركعتين بعد العصر» . وسكت عنه أبو داود والمُنْذِري في «مختصره» ، وهذا تصحيح عندهما. وفي «سنن الدَّارْقُطْنِي» ثم البَيْهَقِيّ: عن حيّان بن عُبَيْد الله العَدَوِيّ: حدّثنا عبد الله بن بُرَيْدَة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن عند كل أذانين ركعتين، ما خلا المغرب» . ورواه البزَّار في «مسنده» وقال: لا نَعْلَمُ رواه عن ابن بُرَيْدَة إلاَّ حيَّان بن عبيد الله، وهو رجل مشهور من أهل البصرة، لا بأس به.

وفي الطَّبَرَانِي عن جابر قال: «سَأَلْنَا نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيْتُنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي الركعتين قبل المغرب؟ فقلن: لا، غير أن أمّ سلمة قالت: صلاَّهما (عندي)

(3)

مرةً، فسَألته ما هذه الصلاة؟ فقال: نسيت الركعتين من قبل العصر فصلّيتهما الآن». وفي «آثار محمد بن الحسن» : أخبرنا أبو حنيفة: حدّثنا حَمّاد بن سُلَيْمَان: أنه سأل إبراهيم النَّخَعي عن الصلاة قبل المغرب؟ قال: فنهى عنها وقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكونوا يصلونهما» .

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

في المخطوط: عبد الله بن مَرْثَد، وهو خطأ، والصحيح ما أثبتناه، كما جاء في "صحيح البخاري" حديث رقم (1184).

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 195

ومَنْ هُوَ أهْلُ فَرْضٍ في آخِرِ وَقْتِهِ، يَقْضِيهِ فَقْط،

===

لكن لا يخفى أن هذا القدر لا يتم به، إذ عَدَمُ روايتهما لا يدل على كراهتهما، كيف وقد جاء الأمر بهما، واستثناء المغرب مقدوح في صحته. فقد حكم الفلاَّس على حَيَّان بن عُبَيْد الله بالكذب، وهو مقدَّمٌ على قول البزار: لا بأس به. كيف، وقد روى ابن المبارك، عن كَهْمَس في هذا الحديث قال:«وكان ابن بُرَيْدة يصلي قبل المغرب ركعتين» . ورَوى حُسَيْن المُعَلِّم، عن عبد الله بن بُرَيْدَة، عن عبد الله بن مغفَّل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلوا قبل المغرب ركعتين

» الحديث، رواه البخاري.

هذا، ويكره عندنا وعند الشافعي لمصلي ليل نام عن حزبه، أن يأتي به ما بين طلوع الفجر وصلاته، وما بعدها إلى طلوع الشمس، لما تقدم. وأجازه مالك لقوله عليه الصلاة والسلام:«من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتِبَ له كأنَّما قرأه من الليل»

(1)

. قلنا: حقيقة اللفظ لا يدل عليه.

(ومَنْ هُوَ أهْلُ فَرْضٍ في آخِرِ وَقْتِهِ) بأن بَلَغ، أو أَسْلَم آخر الوقت، أو طَهُرت لأكثر الحيضِ أو النِّفَاس، وقد بقي قدر التحريمة، أو طَهُرت لأقل من أكثره، وقد بقي قدر التَّحْريمة والغُسْل، (يَقْضِيهِ) أي يقضي ذلك الفرض (فَقْط) أي لا يقضي غيره فيه، لأن آخر الوقت هو المعتبر في السببية عند عدم الأداء في أول الوقت، فمن كان أهلاً فيه وجب عليه فرض ذلك الوقت، ومن لم يكن أهلاً فيه سقط عنه. وقال الشافعي وأحمد: إن كان ذلك الفرض صبحاً، أو ظهراً، أو مغرباً، يقضي ذلك الفرض فقط، وإن كان عصراً أو عِشَاءً، يقضي مع العصر الظهر، ومع العشاء المغرب.

وهذا بناءً على أن وقت العصر والظهر واحد عندهما، وكذا المغرب والعشاء، إلا أنَّ المكلَّفَ أُمِرَ بالتفريق بينهما في الأداء، ألا ترى كيف قُدِّمَتِ العصر إلى وقت الظهر في عَرَفَة، وأُخِّرَت المغرب إلى وقت العشاء في المُزْدَلِفة، والتقديم والتأخير عمداً لا يجوز، فعُلِم أن وقتهما واحد، وعندنا متعدد، قال الله تعالى:{إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}

(2)

. وقد بينت السنة المشهورة أوائل الأوقات وأواخرها. ومقتضاه أن تكون المكتوبات مع أوقاتها خمساً لا ثلاثاً، فيختصّ كل وقت بحكم، وسيأتي تمامه في محله.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 515، كتاب صلاة المسافرين وقصرها (6)، باب جامع صلاة الليل

(18)، رقم (142 - 747).

(2)

سورة النساء، الآية:(103).

ص: 196

لا مَنْ حَاضَتْ فِيهِ.

===

(لا مَنْ حَاضَتْ) أي لا تقضي فرضاً من حاضت، وكذا من نَفِسَت (فِيهِ) أي في آخر الوقت، مع تَمَكُّنِها من الأداء في أول الوقت بقدر ما يسع الفرض، ولم تُصَلِّ حتى طَرَأَ الحيض، لما قدمنا.

وأوجبه الشافعي، إذ الوجوب بالخطاب، وهو متوجه إلى المُكلَّف من أول الوقت، ولهذا يقعُ أداءً إذا صلى فيه، ولو كان بآخره لوقع نفلاً، فإذا ثبت الوجوب، لم يبطل باعتراض الحيض، كما لو اعترض بعد الوقت. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 197

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

‌بابُ الأذَانِ

هو في اللغة: الإعلام. قال الله تعالى: {وأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولهِ إِلَى النَّاسِ}

(1)

الآية. وفي الشرع: الإعلامُ بدخول وقت الصلاة، بألْفَاظٍ مخصوصةٍ معلومةٍ. وسبب مَشْرُوعيته في السنة الأولى من الهجرة، وقيل: في السنة الثانية منها، لما روى ابن سعد بسنده: عن نافع بن جُبَيْر، وعُرْوة بن الزُّبَيْر، وسعيد بن المُسَيَّبِ: أنهم قالوا: «كان الناس في عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يُؤْمَرَ بالأذانِ، ينادي منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاةُ جامعةٌ، فتجتمع الناس، فلما صُرِفَتِ القِبْلَة أُمِرَ بالأذان» . ووجهُ الدَّلالة أن القِبلَة صُرِفت إلى الكعبة في السنة الثانية.

وفي مسلم من حديث ابن عمر قال: «كان المسلمون حين قدِمُوا المدينة يجتمعون فَيَتَحَيَّنُونَ الصلاة، أي يُقدِّرون حِينَها ليأتوا فيها إليها، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا نَاقوساً

(2)

مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قَرْناً مثل قرن اليهود، فقال عمر: أَوَلَا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بلال قُم فنادي بالصلاةِ».

قال القاضي عِيَاض في «شرح مسلم» : ظاهره أنه إعلام ليس على صفة الأذان الشرعي، بل إخبار بحضور وقتها. قال النووي في شرحه: وهذا الذي قال محتمل أو متعين، فقد صحَّ عن عبد الله بن زيد بن عبد ربّه في «سنن أبي داود» وغيرها: أنه رأى الأذان في المنام، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما رأى، فقال: «قم مع بلال فألقِ عليه ما رأيت فليؤذّن (به، فإنه أندَى صوتاً منك، فقام مع بلال، فجعل يُلْقِيه عليه ويُؤذِّن)

(3)

، فسمع عمر ذلك ـ وهو في بيته ـ فجاء يَجُرُّ رداءه ويقول: والذي بعثك بالحقّ لقد رأيت مثل ما أُرِي

» الحديث.

وهذا ظاهر في أنه كان في مجلس آخر، فيكون الواقع أولاً الإعلام، ثم رأى

(1)

سورة التوبة، الآية:(3).

(2)

الناقوس: مِضْراب النصارى الذي يضربونه إِيذانًا بحلول وقت الصلاة. المعجم الوسيط، ص: 946، مادة (نقس).

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 198

سُنَّةٌ للفَرَائضِ فَقَطْ.

===

عبد الله بن زيد الأذان، فشرَعَه النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، إمّا بوحي له، وإمّا باجتهاده على مذهب الجمهور في جواز الاجتهاد له، وليس عملاً بمجرد المنام، هذا مما لا شك فيه بين الأنام. انتهى.

والحاصل: أن الأذان ثابت بالكتاب، والسنة.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {وإِذَا نَادَيْتُم إِلى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً ولَعِباً}

(1)

.

وأمّا السنة، فما سبق من حديث عبد الله بن زيد، وهو رواية أبي داود، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حسنٌ صحيحٌ، إلاَّ أنَّه لم يَروِ كلمات الأذان والإقامة، وأبو داود روى بلا ترجيع في الأذان، وبالإفراد في الإقامة، وابن ماجه لم يذكر فيه لفظ الإقامة، ورواه ابن حِبّان في «صحيحه» بتمامه. وقال الحاكم: لم يخرجاه في الصحيحين لاختلاف الناقلين في أسانيده، ولكن تداوله بالقَبُولِ فقهاء الإسلام، والعلماء الأعلام.

ثم التكبير في أوْلِ الأذان أربع عند الجمهور، لما رُوِيَ من أذان المَلَك في المنام، وموافقة رأيه عليه الصلاة والسلام. وقال مالك وأبو يوسف: إنه مرتان لما في «صحيح مسلم» : «أن النبي صلى الله عليه وسلم عَلَّم أبا مَحْذُورَة الأذان: الله أكبر الله أكبر مرتين» ، قلنا: ورواه أبو داود، والنَّسائي، وذكر التكبير في أوله أربعاً، وإسناده صحيح، فَيُعْمَلُ بالزيادة باعتبار الأصل، وقبول زيادة الثقة.

(سُنَّةٌ للفَرَائِضِ) خبر مبتدأ مقدر وهو «هو» ، ويجوز تنوين باب، على أنه خبر هذا، ووقفه بالسكون أيضاً، فيكون الأذان مبتدأ خبره سنة للفرائض، أي العينية (فَقَطْ) أي لا للواجبات، كالعيدين، والوتر، ولا لفرض الكفاية، وهو الجنازة، ولا للسُّنَنِ كالتراويح. والإقامةُ تابعةٌ للأذانِ. وقد روى مسلم عن جابر بن سَمُرة:«صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرةٍ ولا مرتين بغير أذانٍ ولا إقامةٍ» . وعن عائشةَ: «خُسِفَتِ الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث منادياً بـ: الصلاة جامعة» . رواه مسلم.

وفي الصحيحين: الأذان للجمعة، (من)

(2)

حديث السائب بن يزيد، فهو بيان

(1)

سورة المائدة، الآية:(58).

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة يقتضيها السياق. وعبارة "فتح القدير": "وفي أذان الجمعة حديث السائب بن يزيد في الصحيح". 1/ 210 وهي أولى من عبارتنا هنا. وحديث السائب ليس متفقًا عليه، بل هو في "صحيح البخاري"(فتح الباري) 2/ 393، كتاب الجمعة (11)، باب الأذان يوم الجمعة (21)،=

ص: 199

في وَقْتِهَا، ويُعَادُ لَوْ أُذِّنَ قَبْلَهُ

===

لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُوْدِيَ للصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ}

(1)

، ويعُمُّ المصلّي ولو كان منفرداً، أداءً أو قضاءً، سفراً أو حضراً، بلا مشي وكلام فيهما، ولو كان ردَّ سلام لشبهةِ اتصال كلماتهما، واتحاد مكانهما.

وقيل: الأذان واجبٌ لقول محمد: لو أنَّ أهلَ البلدةِ أجْمَعُوا على ترك الأذان لقاتلتهم، ولو ترك واحد لضربته وحبسته. وأُجِيبَ بأن هذا لا يَدُل على الوجوب، لأنه قال أيضاً: لو ترك أهل بلدةٍ سنةً لقاتلتهم عليها، ولو تركها واحدٌ لضَرَبْتُه. وبأن السُّنة إذا كانت من الشعائر يقاتل عليها، والأذَانُ من الشعائر. ومما يدل على أن الأذانَ ليس بواجب: أنه عليه الصلاة والسلام عَلَّم الأعرابي الصلاةَ وما تتوقّف عليه، ولم يَذْكُر له الأذان. (في وَقْتِهَا) أي أوقات الفرائض، سواء كان وقتها لأدائها أو لقضائها.

(ويُعَادُ) أي الأذان (لَوْ أُذِّنَ قَبْلَهُ) أي قبل وقت الأداء لعدم الاعتداد بما قبله. وقال مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو يوسف: يَجُوز الأذانُ للفجر وحده قبل وقته في النصف الأخير من الليل، لما في الصحيحين عن ابن عمر:«أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن بلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلوا واشْرَبوا حتى تَسْمَعُوا أذانَ ابن أُمِّ مَكْتُوم» .

ولنا ما روى مسلم من حديث عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلّي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان، ويخفّفهما» . وما أخْرَجَه الطَّحَاويّ والبَيْهَقِيّ عن عبد الكريم الجَزِرِيّ، عن نافع، عن ابن عمر، عن حَفْصة بنت عمر:«أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أَذَّنَ المُؤَذِّنُ بالفجر، قام فصلّى ركعتي الفجر، ثم خرج إلى المسجد، فحرَّمَ الطعام، وكان لا يُؤَذِّنُ حتى يصبحَ» . وعبد الكريم الجَزِرِي قال فيه ابن معين، وابن المَدِينِي: ثَبْتٌ، ثِقَةٌ. وقال الثَوْرِي: ما رأيت مثلَه.

وروى أبو داود عن موسى بن إِسماعيل، وداود بن شَبيب قال: أَخْبَرَنا حمّادٌ، عن أيوبَ، عن نافعٍ، عن ابن عمر قالا:«إن بلالاً أذَّنَ قبل طلوع الفجر، فأَمَرَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يَرْجِعَ فينادي: ألا إنَّ العبدَ نام» ، زاد موسى:«فَرَجَعَ فنادى» . وروى البَيْهَقِيّ عن ابنِ عمر: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: «ما حَمَلَكَ على ذلك؟ قال: اسْتَيْقَظْتُ وأنا وَسْنَان

(2)

،

= رقم (912)، ولفظه:"كان النداء يوم الجمعة، أوّلُهُ إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه، وكَثُرَ الناس، زاد النداء الثالث على الزَّوراء".

والزوراء: دار عثمان بن عفان رضي الله عنه بالمدينة. "معجم البلدان" 3/ 156.

(1)

سورة الجمعة، الآية:(9).

(2)

الوَشنَان: النائم الذي ليس بِمُسْتَغْرِق في نومه. النهاية: 5/ 186.

ص: 200

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

فظننت أنَّ الفجر قد طلع، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينادي على نفسه: ألا إنَّ العبدَ قد نام».

وروى الدَّارَقُطْنِي عن أبي يوسف القاضي، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قَتَادة، عن أنس:«أن بلالاً أذَّنَ قبل الفجر، فأَمَرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَصْعَدَ فينادي: إنَّ العبدَ قد نام، فَفَعَلَ، وقال: ليت بلالاً لم تَلِدْهُ أُمّهُ، وابتل مِنْ نضح دم جبينه» . وفي رواية قال: «إنَّ العبدَ قد نام» مرتين. لكن قال أبو داود: ورواه الدَّرَاوَرْدِيّ

(1)

: عن عُبَيْد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال:«كان لعمر مُؤَذِّنٌ يقال له: مسعود» ، فذكر نحوه. قال: هذا أصح من ذاك

(2)

. قلت: ولا يبعد تعدد القضية.

وقد روى أبو داود أنه عليه الصلاة والسلام قال لبلال: «لا تُؤَذِّن حتى يستبين لك الفجر هكذا» ، ومدّ يده عرضاً. وأعَلَّهُ البيهقيُّ بالانقطاع، وهو غير مضرَ عندنا، ويَعْضُدُهُ ما رواه الطّحاوِيّ عن أبي ذر: أنه عليه الصلاة والسلام قال لبلال: «إنَّك تُؤَذِّنُ إذا كان الفَجْرُ ساطعاً، وليس ذلك الصُّبْح، إنما الصبحُ هكذا مُعْتَرِضاً» . وروى أبو داود بإسنادٍ كل رجاله ثقاتٌ: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا بلال لا تُؤَذِّن حتى يَطْلُعَ الفجر» . وقال الطّحَاوِيّ: حديث: «إنَّ بلالاً يُؤَذِّنُ بليل» ، على أنَّ الأذانَ كان منه على ظَنِّ طلوع الفجر، ولم يُصِبْ في طلوعه». قال: لِمَا روينا عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا يَغُرَّنَّكم أذانُ بلال، فإن في بصره سوأً» .

ولما روينا عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام قال: «بلالٌ ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم.

قالت: ولم يَكُنْ بينهما إلا مقدار ما يَنْزِلُ هذا ويَصْعَدُ هذا». قال: فلما كان بين أذانيهما من القُرْب ما ذكرنا، ثبتَ أنهما كانا يَقْصِدَان طلوع الفجرِ، لكن بلال يُخْطِئه، وابن أم مكتوم يصيبه، لأنه لم يكن يُؤَذِّنُ حتى يقولَ له الجماعة: أصبحت.

وفي «الإمام» لابن دقيق العيد: والتعارضُ بينهما لا يتحقق إلا بتقدير أن يكون قوله: «إنَّ بلالاً يؤذن بليل» في سائر العام، وليس كذلك، وإنما كان ذلك في رمضان، يعني بدليل قوله:«كلوا واشربوا» .

(1)

حُرِّفت في المخطوطة إلى: الدارقطني. والصواب ما أثبتناه من المطبوعة وسنن أبي داود 1/ 365، كتاب الصلاة (2)، باب في الأذان قبل دخول الوقت (40)، رقم (533).

(2)

أي أصح من رواية ثانية عند أبي داود نفسه - في الموضع السابق - قال فيها: إن مؤذنًا لعمر يقال له: مسروح أو غيره.

ص: 201

ويَتَرَسَّلُ فِيهِ مُسْتقْبِلًا، وأُصْبعَاهُ في أُذُنَيْهِ،

===

والأظهر أن يقال: إن أذان بلال حينئذٍ كان للإعلام بوقت السحور والتَهجُّد ونحوهما، سواء كان بألفاظ الأذان أو بغيرها، على أنَّه إنَّما يتم الاستدلال به لو اكتفى بالأذان الأول، ولم يقع ذلك أصلاً. ثم رأيت البخاري ومسلماً والطَّحَاوِيّ أخرجوا عن ابن مسعود: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَمْنَعَنَّ أحدَكم أذانُ بلال من سَحوره، فإنه يؤذن ـ أو قال: ينادي ـ بليل، لِيَرجِعَ قائِمكُم، ويَنْتَبِهَ نائِمكُم» وذلك لأن الصحابة كانوا فرقتين: فرقةٌ يَتَهَجَّدُون في النصف الأول من الليل، وفرقةٌ في النصف الأخير منه، وكان الفاصل أذان بلال، وإنما كانت الصلاة بأذان ابن أم مكتوم.

ومما يدلّ على أن الأذان لم يكن مرتين ما رواه الأوْزَاعِي، عن الزّهْرِي، عن عُرْوة، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سكت المُؤَذِّن بالأذان الأول من صلاة الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين، وأرادت بالأذان الأول احترازاً من الإقامة.

(ويَتَرَسَّلُ) أي يتمهَّل (فِيهِ) أي في الأذان، بأن يفصل بين كل جملتين منه بسكتة يسع فيه الإجابة. لما روى الترمذي والحاكم في «مستدركه». عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «إذا أذَّنْتَ فترسَّل، وإذا أقمت فاحْدُر

(1)

، واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكْلِهِ، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته». وروى الطَّبَرَاني في «سننه» عن سُوَيد بن غَفَلة قال: سمعت عليّ بن أبي طالب يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أنْ نترسَّلَ الأَذانَ، ونَحْدُرَ الإقامة.

(مُسْتَقْبِلاً) لما روينا من استقبال المَلَكِ بهما (وأُصْبَعَاهُ في أُذُنَيْهِ) لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا أذَّنْتَ فاجعل أُصْبَعيك في أُذُنَيْكَ، فإنَّه أرفع لصوتك» رواه الطَّبَرَانيّ. ولما روى الحاكم في «المستدرك» عن سعد القَرَظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يجعل أُصْبَعَيه في أُذُنيه، وقال:«إنه أرفعُ لصوتك» ، وسعد القَرَظ مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقُباء، وسمّي بذلك لأنه كان يتّجر في القَرَظ ـ محرّكة، وهو: ورق السَّلَم يُدْبَغُ به ـ فربح فيه، فلزمه فأُضِيفَ إليه: وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة مؤذنين غير سعد، وهم: بلال، وابن أم مكتوم وأبو مَحْذُورَة، وهو مؤذنه بمكة.

وأما قول صاحب «الهداية» : وإن لم يفعل، ـ يعني جعل أصبعيه في أذنيه ـ فحسن، لأنها ليست بسنة أصلية، ففيه نظر، لما تقدّم من الأحاديث الصحيحة، مع لفظ الأمر.

(1)

احْدُر: أي أَسْرِع. النهاية: 1/ 353.

ص: 202

ولا يَلْحَنُ، ولا يُرَجِّعُ،

===

(ولا يَلْحَنُ) من باب التفعيل، أي لا يتغنّى فيها، بأن نَقَّصَ من الحروف، أو من كيفياتها، وهي الحركات والسَّكنات، أو زاد في شيء منهما. وأما مجرد تحسين الصوت فهو حسن.

رُوِيَ أن رجلاً جاء إلى ابن عمر فقال: إني أحبك في الله، فقال: إني أبغضك في الله، قال: لِمَ؟ قال: بَلَغَنِي أنك تغنِّي في أذانك. وفي «الخلاصة» : ولا بأس بالتحسين من غير تغنَ، فإن تغنّى بِلحْنٍ أو مدَ، أو ما أشبه ذلك يكره، وكذا لو قرأ القرآن. قال شمس الأئمة الحَلْوَانيّ: هذا في الأذكار، أي الوارد في الأذان، وكذا في غيره من الأذكار. قال: فأمَّا قوله: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، فلا بأس بإدخال مد ونحوه فيه. انتهى.

وفيه بحث لا يخفى، ويستحب المبالغة في رفع الصوت المُؤَذَّن به، لقوله عليه الصلاة والسلام:«لا يسمع مدى صوت المُؤذِّن جِنٌ، ولا إنسٌ، ولا شيء إلا شَهِد له يوم القيامة» . رواه البخاري.

(ولا يُرَجِّعُ) بتشديد الجيم وكسرها بأن يقول الشهادتين بصوت خَفِيّ، ثم يقولهما بصوتٍ عالٍ. وقال مالكُ والشافعيُّ، وهو رواية عن أحمد: يُرَجِّع، لما رَوَى أبو داود عن أبي مَحْذُورَة، قال:«قلت يا رسول الله: عَلِّمْنِي سنةَ الأذانِ قال: تقول اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، ثم تقول: أشْهَدُ أنَّ لا إله إِلاَّ الله، أشْهَدُ أَنَّ محمّداً رسول الله، وتَخْفِضُ بهما صوتَك، ثم تَرْفَعُ صوتَك بهما» .

ولنا: أن حديث عبد الله بن زيد أصلُ الأذان، ولا ترجيع فيه. وقال أحمدُ بنُ حنبلَ: وهو آخِرُ الأمرين، قيل له: إنَّ أذان أبي مَحْذُورَة بعد فتح مكة، قال: أليس قد رَجَع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فَأَقَرَّ بلالاً على أذانِ عبد الله بن زيد.

وروى الطَّبَرَانِيّ في «الأوسط» عن إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي مَحْذُورَة قال: سمعت جدي عبد الملك بن أبي مَحْذُورَة يقول: سمعت أبي ـ أبا مَحْذُورَة ـ يقول: أُلْقِيَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان حرفاً حرفاً، الله أكبر، الله أكبر

إلى آخره، ولم يَذْكُر فيه ترجيعاً. وأمَّا ما قيل: إنَّ بلالاً رَجَّع، فلم يَصِحَّ، وعدم الترجيع في أذان غير أبي مَحْذُورَة دليلٌ على عدم كَوْنِه من أجزاء الأذان، أو أنَّه من خصائصه لأمرٍ قام به من عدم رفع صوته أولاً، أو على نسخه، ودوامه عليه للتبرك به، فإذا تَعَارضا تساقطا، وتُرَجَّح رواية عدمه.

ص: 203

ويُحَوِّلُ وَجْهَهُ في الحَيْعَلَتَيْنِ يَمْنَةً ويَسْرَةً.

وإنْ لَمْ يَتمَّ الإعْلامُ يَسْتَدِيرُ في المِئْذَنَةِ. والإقَامَةُ مِثْلُهُ،

===

(ويُحَوِّلُ) أي يدير (وَجْهَهُ) أي لا قدميه ولا صدره (في الحَيْعَلَتَيْنِ) أي عند قوله: حيَّ على الصلاة وحيَّ على الفلاح (يَمْنَةً ويَسْرَةً) بفتح أولهما بأنْ يقول: حيَّ على الصلاة مرتين في اليمين، وحيَّ على الفلاح في اليسار مرتين، لِمَا رَوَى الدَّارقُطْنِيّ في «أفراده» من حديث سُوَيْدِ بنِ غَفَلَةَ عن بلال قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذَّنَّا أو أقَمْنَا أن لا نزيل أقدامنا عن مواضعها. ولما رَوَى الجماعة من حديث أبي جُحَيْفَة: أنَّه رأى بلالاً يُؤذِّنُ قال: فَجَعلت أتَتَبَّعُ فاهُ ههنا وههنا بالأذان، يقول يميناً وشمالاً: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح.

ولما في «مسند الإمام إسحاق بن رَاهُويَه» : أخْبرنَا أبو معاوية: حدَّثنا الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، جاء عبد الله بن زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنِّي رأيْتُ رجلاً نزل من السماء فقام على جِذْمِ

(1)

حائط، فاستقبل القِبلة وقال: الله أكبر، الله أكبر، أشْهَدُ أنْ لا إله إلاَّ الله مرتين، أشهد أنَّ محمداً رسول الله مرتين، ثم قال عن يمينه: حيَّ على الصلاة مرتين، ثم قال عن يساره: حيَّ على الفلاح مرتين، ثم استقبل القبلة، فقال: ألله أكبر، ألله أكبر، لا إله إلاَّ الله، ثم قَعَد قَعْدَة، ثم قام فاستقبل القبلة، ففعل ذلك، وقال: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة.

(وإنْ لَمْ يَتِمَّ الإِعْلَامُ) أي بتحويل وجهه مع الثبات في محله (يَسْتَدِيرُ) أي لتمام الإعلام (في المِئْذَنَةِ) بكسر الميم وسكون الهمزة، ويُبَدِّل موضع الأذان من المنارة وغيرها، ولم يكُنْ في زمنه صلى الله عليه وسلم منارةٌ. فقد رَوَى أبو داود من حديث عُروةَ بنِ الزُّبَيْر عن امرأة من بني النَّجّار قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المَسجد، فكان بلالٌ يأتي بِسَحَرٍ يَجْلِسُ عليه، فينظر إلى الفجر، فإذا رآه أذَّنَ.

(والإقَامَةُ مِثْلُهُ) أي مثل الأذان في كونه سنةَ الفرائض، وفي عدد كلماته وفي ترتيبها، لِما روى الترمذيُّ عن عبد الله بن زيد أنَّه قال: كان أذانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم شَفْعاً شَفْعاً، في الأذان والإقامة. ولما روى الترمذيُّ وقال: حسنٌ صحيحٌ، عن أبي مَحْذُورَة قال: علَّمَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان تسع عشرة كلمةً، والإقامة سبع عشرةَ كلمةً، وإنَّما قال: تسعَ عشرةَ كلمةً لأجل الترْجِيع، وقد سبق الكلام عليه.

وروى الطحاويُّ والبيهقيُّ في «الخلافيات» عن أبي العُمَيس قال: سمعت

(1)

الجِذْمُ: الأصل، أراد بَقِيَّة حائط أو قطعة من حائط. النهاية: 1/ 252.

ص: 204

لَكنْ يَحْدُرُ فِيهَا، ويُزَادُ: قَدْ قَامتِ الصَّلاةُ مَرَّتَيْنِ، وفي الأَذَانِ بَعْدَ الفَلاح في الفَجْرِ: الصَّلاةُ خيرٌ من النَّوم، مرتين

===

عبد اللهِ بنَ محمد بنِ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ الأنصاريَّ يُحَدِّثُ عن أبيه عن جدّه: أنَّه رأى الأَذانَ ـ يعني في المنام ـ مَثْنَى مَثْنَى، والإقامةَ مَثْنَى مَثْنَى، قال: فأتَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال عَلِّمْهُنَّ بلالاً، قال: فتقدمت فأمرني أنْ أُقِيمَ فَأَقَمْتُ. وعن مالك: أنَّ الإقامةَ فرضٌ، وعلى من تركها الإعادةُ، وهو قول الأوزاعيّ وعطاء ومُجَاهد وابن أبي ليلى وأهل الظاهر، لأنَّه عليه الصلاة والسلام أَمَرَ الأَعرابيَّ بها كما أمره بالتكبير والاستقبال.

(لَكِنْ يَحْدُرُ) بضم الدال وبالكسر أي يُسْرِع (فِيهَا) أي في كلمات الإقامة من غير سكتةٍ بينها لما روينا، (ويُزَادُ) على ألفاظِ الأذانِ:(قَدْ قَامتِ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ) لحديث أبي مَحْذُورَة السابق.

(و) يُزَادُ (في الأَذَانِ بَعْدَ الفَلَاح في الفَجْرِ: الصَّلَاة خَيْرٌ من النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ)، لِمَا رَوَى أبو داود في «سُننه» في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أبا مَحْذُورَة الأذانَ قال: فإنْ كان صلاة الصُّبْحِ قلت: الصلاة خيرٌ من النوم، الصلاة خير من النوم. ولِمَا في «معجم الطَّبَرانيّ» عن عائشةَ قالت: جاء بلال إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يُؤْذِنُه بصلاة الصبح، فوجده نائِماً فقال: الصلاة خير من النوم. فأُقِرَّت في أذانِ الصُّبْحِ، وفي رواية: فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم «ما أَحْسَنَ هذا يا بلال، اجعله في أَذانك» ، وزاد في أُخْرى:«إذا أذَّنْتَ للصبح» ، فجعل بلال يقولها إذا أَذَّنَ للصبح.

ثم اعلم أنَّ الشافعيّ شَفَعَ معنا في الإقامةِ «قد قامت الصلاة» وحدها، وأَفْرَد البواقي، لِمَا في البخاري وأبي داود والطَّحاوِيّ: أَمَرَ بِلالاً أنْ يَشْفَعَ الأَذانَ، ويُوتر الإِقامة إلا الإقامة.

وأفردها مالك كلها لما في الدَّارقُطْنِي عن عبد الملك بن أبي مَحْذُورَة أنَّه سَمِعَ أباه يقول: إِنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمره أنْ يَشْفَعَ الأَذانَ ويُوتِرَ الإِقامة.، وعن يزيد بن أبي عبيد، عن سَلَمة بن الأَكْوَع قال: كان الأَذَانُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنى مثنى، والإقامة فُرَادَى. وهكذا رواه أبو داود والنَّسائي والطَّحَاويّ عن ابن عمر، غير أنَّه قال في الأذان: مرتين مرتين، وفي الإقامة: مرة مرة.

ولنا ما في «مصنف ابن أبي شَيْبَة» قال: حَدَّثنا وكيع: حدَّثنا الأعْمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدَّثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم «أنَّ عبد الله بن زيد الأنصاري جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، رأيتُ في المنامِ كَأَنَّ رجلاً

ص: 205

ولا يُتَكَلَّمُ فِيهِمَا.

===

قام وعليه بُرْدان أَخْضران، فقام على حائط، فَأَذَّنَ مَثْنَى مَثْنَى، وأقام مَثْنَى مَثْنَى». وهؤلاء كلهم رجال الصحيحين. وقال الطَّحاوِيّ:«فأَذَّن مَثْنَى، وأقام مَثْنَى، وقَعَد قَعْدَةً فيما بينهما» . وزاد في سنن أبي داود: «فاستقبل القبلة» .

والجوابُ عن الأمرِ بإيتارها: لأَنها من باب الاختصار في بعض الأحوال تعليماً للجواز، لا يستمر سُنَّةً، بدليل ما روى الطحاويّ وابن الجَوْزِيّ: أنَّ بلالاً كان يُثَنِّي الإقامة إلى أنْ مات، وبأنَّ إبراهيم النَّخَعِي قال: كانَت الإقامة مثل الأذان حتى كان هؤلاء الملوك، فجعلوها واحدة واحدة للسرعة إذا خرجوا ـ يعني بني أمية ـ.

(ولا يُتَكَلَّمُ) بصيغة المجهول (فِيهِمَا) أي في الأذان والإقامة لأَنَّه ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ كالخُطْبة.

وفي «الخلاصة» : رجل سَلَّمَ على المُؤَذِّن في أذانه، أو عطس وحَمِدَ الله وسمعه المؤذِّن، أو سَلَّم على المصلِّي، أو على قاراء القرآن، أو على الإمام وقت الخطبة. فعن أبي حنيفة: يَرُدُّ السلام ويُشَمِّتُ في نفسه. وعن محمد: يَرُدُّ بعد الفراغ. وعن أبي يوسف: لا يَرُدُّ في نفسه ولا بعد الفراغ، وهو الصحيح، ـ يعني عدم لزومه ـ فلا تنافي. واتفقوا على أنَّ المُتَغَوِّطَ لا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ قبل الفراغ ولا بعده. انتهى.

ولا يخفى أنَّ الأفضلَ أنَّه يَرُدُّه بعده، لحديث ورد بذلك

(1)

. ويُسْتَحَبُّ إجابة المُؤَذِّن باللسان، فَيُمْسِكُ عن التلاوة، وغيرها، في المسجد وغيره، ويقول السامع مثل المُؤَذِّن في التكبير والشهادتين، ويُحَوْقِلُ في الحيْعَلَتَيْنِ، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سَمِعَ المُؤَذِّن قال مثل ما قال، وإذا قال: حَيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، قال:«لَا حَوْلَ ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم» . رواه مسلم. وإذا قال: الصلاة خَيْرٌ من النوم في أذان الفجر قال: «صدقت وبَرَرْت، وبالحق نَطَقْت» ، لورود الخبر هكذا

(2)

.

(1)

صحيح مسلم 1/ 281، كتاب الحيض (3)، باب التيم (28)، رقم (115 - 370)، بلفظ: أن رجلًا مرّ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يَبُول، فسلَّم فلم يَرُدَّ عليه. وانظر سنن أبي داود 1/ 22، كتاب الطهارة (1)، باب (8)، رقم (17،16).

(2)

أورده النووي في "الأذكار" 1/ 66، باب ما يقول من سمع المؤذن. ولم يَعْزُهُ إلى مصدر! وقال ابن عَلَّان في "الفتوحات الربانية": لخبر ورد قاله ابن الرِّفعة، وقال غيره: لم نره في كتب الحديث، وقال بعض العارفين: هو من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. اهـ. 2/ 110.

ص: 206

والتَّثْوِيبُ حَسَنٌ. ويَجْلِسُ بَينَهُما إلَّا في المَغْرِبِ،

===

ثم دعا بعد الفَرَاغ بالوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا سَمِعْتُم المُؤَذِّنَ فَقُولوا مثلَ ما يَقُول، ثم صلّوا عَليَّ، فإنَّه من صلّى عليَّ صلاةً، صلّى الله عليه بها عشراً، ثم سَلُوا الله لِيَ الوسيلة، فإنَّها مَنْزِلَةٌ في الجَنَّة لا تنبغي إلاَّ لعبدٍ من عباد الله، وأَرجُو أنْ أكُونَ أنا هو، فَمَنْ سأل اللهَ لِيَ الوسيلةَ حَلَّتْ له الشفاعة» . رواه مسلم. ولقوله عليه الصلاة والسلام: «منْ قال حين يسمع النداء: اللهم رَبَّ هذه الدَّعوة التامّة والصلاةِ القائمة، آتِ محمّداً الوسيلةَ والفضيلةَ، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حَلَّتْ له شفاعتي يوم القيامة» . رواه البخاري.

ولقوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قَالَ حين يسمع الأذانَ: وأنا أشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، رَضِيتُ بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً، غُفِرَ له ذنوبه» . رواه مسلم وغيره. ولِمَا حَكَى ابنُ عمرَ: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله إنَّ المؤذنين يَفْضُلُونَنَا فقال عليه الصلاة والسلام: «قُلْ ما يقولون، فإذا انْتَهَيْتَ فَسَلْ تُعْطَهْ» . رواه أبو داود والنَّسائي. وأجاب الأذانَ الأولَ إنْ تكرَّر وإنْ كان في غير مَسجده، لأنَّه حيث سمعه نُدِبَ له أنْ يُجِيبَهُ لِتَحَقُّق السببِ في حَقِّه، فصار كتعدده في مسجده.

(والتَّثْوِيبُ) وهو الإعلام بالصلاة بين الأَذان والإِقامة بحسب ما تعارفه أهل كل بلد من لفظه (حَسَنٌ) في كل صلاة لِتَوَاني الناس في الأمور الدينية. وقال أصحابُنا المتقدمون: إنَّه مكروهٌ في غير الفجر، لما روى الترمذيُّ وابن ماجه من حديث ابن أبي ليلى عن بلال قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ لا أُثَوِّبَ في شيء من الصلاة إلاَّ في الفجر.

قال أصحابُنا: هو أنْ يقول بين الأذان والإقامة: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح مرتين: وقال غيرهُم: هو أنْ يقولَ في أذانِ الفجر: الصلاةُ خيرٌ من النومِ مرتين، ولما رُوِيَ أنَّ علياً رضي الله عنه رَأَى مُؤَذِّناً يُثَوِّبُ في العشاء، قال: أخْرِجُوا هذا المُبْتَدِعَ من المسجد. وكذا كَرِهَهُ مالكٌ والشافعيُّ مطلقاً.

(ويَجْلِسُ) أي يَمْكُثُ (بَيْنَهُما) أي بين الأذان والإقامة لِمَا سبق من الحديث، (إلاَّ في المَغْرِبِ) فلا يَجْلِسُ بين أذانها وإقامتها عند أبي حنيفة لاستلزامه تأخير المغرب، وقالا: يَجْلِسُ جَلْسَةً خفيفةً كما في سائر الصلوات. وهذا أَوْفق لإطلاق الحديث.

ويُسْتَحَبُّ أنْ يكونَ المُؤَذِّنُ صالحاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «ليُؤَذِّن لكم

ص: 207

ويُؤَذِّنُ لِلْفَائِتَةِ ويُقِيمُ، وكذا لأُولَى الفَوائِتِ، ولِكُلٍّ مِنَ البَوَاقِي يَأْتِي بِهِمَا، أوْ بِهَا وَحْدَهَا.

وكُرِهَ إقَامَةُ المحْدِثِ لا

===

خِيَارُكُم، وليَؤُمَّكم أقْرَؤُكُمْ». رواه أبو داود وابن ماجه. وأنْ يكونَ عالِماً بالأوقات لقوله عليه الصلاة والسلام:«الإمامُ ضامنٌ والمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللهم أَرْشِد الأئمة واغفر للمؤذنين» . رواه أبو داود.

(ويُؤَذِّنُ لِلْفَائِتَةِ ويُقِيمُ) لِمَا روى أبو داود عن عِمْران بن حُصَيْن: «أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان في مَسِيرٍ له فناموا عن صلاة الفجر، فَاسْتَيْقَظُوا بحر الشمس، فارْتَفعوا قليلاً حتى اسْتَقَلَّتِ الشمس، ثمَّ أمر مُؤَذِّناً فَأَذَّنَ، فصلّى رَكْعَتَين قبل الفجر، ثم صلّى الفجر بإقامته وَفْقَ عادته» . وفي رواية لأبي داود عن أبي هريرة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «تَحَوَّلُوا عن مكانِكم الذي أصابَتْكُم فيه الغَفْلَةُ» ، وأمر بلالاً فأذَّنَ وأقامَ فصلّى.

وفي رواية البخاري ومسلم، ـ واللفظ للبخاري ـ قال:«سِرْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً فقال القومُ: لو عَرَّسْتَ ـ أي نزلت ـ بنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخافُ أنْ تَنَامُوا عن الصلاة، فقال بلال: أنا أُوقِظُكُمْ، فاضْطَجَعُوا، وأسْنَد بلالٌ ظهرَه إلى راحلتهِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاه فنامَ فَاسْتَيقَظَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد طَلَعَ حَاجِبُ الشمس، فقال: يا بلالُ أيْنَ ما قُلْتَ؟. قال: ما أُلْقِيتْ عَلَيَّ نَوْمةٌ مِثلُها قطُّ، قال: إنَّ اللهَ قَبَضَ أرْوَاحَكُم حينَ شاء، ورَدَّها عليكم حين شاء، يا بلال قم فَأَذِّنْ بالناس للصلاة، فتَوَضَّأَ فلما ارْتَفَعَتِ الشمسُ وابْيَضَّت، قام فصلّى» . وفي سياق مسلم: «ثم أَذَّنَ بلالُ بالصلاة، فصلّى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم صلى الغداة، فصنع كما يصنع كل يوم» . وفيه: «ليس في النوم تفريطٌ، إنَّما التفريطُ على مَنْ لم يُصَلِّ حتى يَجِيءَ وقتُ الصلاةِ الأخرى» .

(وكذا) أي يُؤَذِّنُ ويُقِيمُ (لأُولى الفَوائِتِ) لِمَا سبق (ولِكُلَ مِنَ البَوَاقِي يَأْتِي بِهِمَا) أي بالأذانِ والإقامةِ، ليكُونَ القضاءُ على وَفْقِ الأداءِ (أوْ) يأتي (بِهَا) أي بالإقامةِ (وَحْدَهَا) لأَنَّ الأَذان للاستحضارِ وهم حضور، ولقول ابن مسعود:«إنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فاته يوم الخندق أربعُ صلوات، حتى ذهب ما شاء الله من الليل، فأمر بلالاً فأَذَّنَ، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أَقامَ فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلّى العشاء» . رواه الترمذي.

(وكُرِهَ إقَامَةُ المحْدِثِ) لأَنَّ الإِقامةَ لم تشرع إلا متصلةً بصلاة مَنْ يُقِيمُ (لا

ص: 208

أذَانُهُ، ولم تُعَدْ. وكُرِهَا مِن الجُنُبِ، ولا تُعَادُ هي بَل يُعَادُ هُوَ، كأذَانِ المَرْأةِ والمَجْنُونِ والسَّكْرَانِ. وكُرهَ تَرْكُهُمَا في السَّفَر

===

أذَانُهُ) أي لا يُكْرَه أذانُ المُحْدث لأَنَّه ذِكْرٌ يُسْتَحَبُّ فيه الطهارة، فلا يُكْرَه بدونها كقراءة القرآن، وقيل يُكْرَه، لِمَا روى الترمذيُّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَا يُؤَذِّنُ إِلاَّ مُتَوَضِّاءٌ» . (ولم تُعَدْ) أي الإِقامةُ لأَنَّ تكريرَها غيرُ مشروعٍ.

(وكُرِهَا) أي الأذانُ والإقامةُ (مِنْ الجُنُبِ، ولا تُعَادُ هي) أي الإقامةُ مِنَ الجُنُبِ لِمَا سَبَقَ (بَلْ يُعَادُ) أي استحباباً (هُوَ) أي الأَذانُ لأَنَّ تكريرَه في الشرع مُعْتَبرٌ في الجُمُعَةِ، فإنَّ الأَذانَ الأَولَ شُرِعَ في زمان عثمانَ، ولأَنَّ الأَذانَ لإعلام الغَائِبين، فتكريرُه مفيدٌ لاحتمال عدم سماع البعض.

(كأذَانِ المَرْأةِ) أي كما كُرِهَ أذانُ المرأةِ واسْتُحِبَّ إعادته، أمَّا كَرَاهةُ أَذَانِها، فلأَنَّها مَنْهِيَّةٌ عن رفع صوتها، وأمَّا استحبابُ إعادتهِ فَلِيَقَعَ على الوجهِ المَسْنُونِ. وسَنَّ الشافعيُّ الإِقامةَ للنساء اعتباراً لهن بالرجال.

قلت: رُوِيَ عن أَنس وابن عمر: كراهتهما لهن.

(والمَجْنُونِ) عَطْفٌ على الجُنُبِ، أي وكُرِهَا من المَجْنُونِ، وكان حَقُّه أنْ يقول:«ومن المجنون» لَئِلاَّ يُتَوَهَّم عَطْفُه على المرأةِ. (والسَّكْرَانِ) لعدم الوُثُوقِ بقولهما ولفقد تَميزِهما، فَيَتَعَيَّنُ إعادةُ أذانهِما وإقامتِهما، وكذا يُعَادُ أذانُ الصبيِّ الذي لا يَعْقِلُ كما صَرَّحَ به قَاضِيخَان.

(وكُرِهَ تَرْكهُمَا) أي الأَذان والإِقامة جميعاً (في السَّفَرِ) لِمَا روى الجماعة عن مالك بن الحُوَيْرِثِ قال: «أتَيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنا وصاحبٌ لي ـ وفي رواية: وابنُ عمَ لي، وفي رواية: وكنّا متقاربَين في القراءة ـ، فلما أَرَدْنَا الانصرافَ قال لنا: إذا حَضَرَتِ الصلاة فأَذِّنَا وأَقِيمَا» . أي لِيُؤَذِّنْ وَلْيُقِمْ أحدُكما ولَيَؤُمَّكما أكْبَرُكما ـ أي سناً أو رتبةً ـ، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«إذا كان الرجلُ بأرضٍ قَفْرٍ فَحَانَتِ الصلاة، فَلْيَتَوَضَّأْ، فإنْ لم يَجدْ فَلْيَتَيمَّمْ، فإنْ أَقَامَ صلَّى معه مَلَكَانِ، وإنْ أَذَّنَ وأَقَامَ صلّى خلفه من جنودِ الله ما لا يُرَى طرفاه» . رواه عبد الرَّزَّاق.

ولقول عليّ: المسافرُ بالخيار، إنْ شَاءَ أَذَّنَ وأقام، وإنْ شَاءَ أقام ولم يُؤَذِّن.

وأمَّا قولُ صاحب «الهداية» لقوله: عليه الصلاة والسلام لابْنَي أبي مُلَيْكَة: «إذا سَافَرْتُما أَذِّنَا وأَقِيمَا» ، فقولهُ: لابْنَي أبي مُلَيْكَةَ، غَلَطٌ، والصوابُ: مالكُ بن الحُوَيْرِث

ص: 209

وجَمَاعَةِ المَسْجِدِ، لا في بَيْتِهِ في مِصْرٍ.

===

وابنُ عمَ له، كما تَقَدَّمَ. والله تعالى أعلم.

وفي «الظَّهِيرية» : لَوْ تَرَك في السَّفَرِ الأَذَانَ وحدَه لم يُكْرَه، ولو تَرَكَ الإِقامةَ وحدَها كُرِه، لأَنَّ الأَذانَ لإعلامِ الغائبين، والرفقةُ حاضرون، والإقامةُ لإعلام افتتاح الصلاة، وهم مُحْتاجون إلى ذلك.

(و) في (جَمَاعَةِ المَسْجِدِ) أي: وكذا كُرِهَ تَرْكُهُما في مسجد جماعةٍ، وكذا تَرْكُ واحدٍ منهما لأَنَّ كلَّ واحدٍ منهما سنّةٌ مؤكدةٌ فيها، (لا في بَيْتِهِ) أي لا يُكْرَهُ تَرْكُهما لِمُصَلَ في بيته (في مِصْرٍ) أي إذا فُعِلا في مسجدِ مَحَلَّته، لأَنَّهم لما نَصَّبُوا مؤذِّناً، صار فعله كفعلهم حكماً، كما يشير إليه ابن مسعود حين صلَّى بعلقمةَ والأسود في داره بلا أذانٍ ولا إقامة، حيث قال: أذَانُ الحيِّ يَكْفِينَا، رواه الأَثْرَمُ، حكاه سِبْط ابن الجوزيّ وغيرُه. (وفي رواية: إقامة المِصْر تكفينا)

(1)

.

وفي رواية: «أنَّ الأسودَ وعَلْقَمَةَ كانا مع عبد الله في الدَّار فقال عبد الله: أصلَّى هؤلاء؟ قالوا: نعم، قال: فصلَّى بهم بغيرِ أذانٍ ولا إقامةٍ» . رواهما الطبرانيّ.

ولا يُكْرَهُ عندنا إقامةُ غير المُؤَذِّنِ برضاه، وبه قال مالكٌ وكَرِهَهَا الشافعيُّ. أمّا لَوْ لَمْ يَحْضُرْ فلا يُكْرَهُ اتفاقاً. له ما رواه أبو داود والطَّحاويّ عن زياد بن الحارث الصُّدَائِي واللفظ للطَّحاوي، قال:«أَتَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا كان أَذَانُ الصُّبْحِ، أمَرَنِي فأَذَّنْتُ، ثم قام إلى الصلاة، فجاء بلال لِيُقِيمَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ أخا صُدَاء أذَّنَ، ومَن أذَّنَ فهو يُقِيمُ» .

ولنا ما روياه أيضاً عن عبد الله بن زيدٍ ـ واللفظ له أيضاً ـ قال: «أَتَيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَخْبَرْتُه كيف رأيتُ الأذانَ فقال: ألْقِه على بلالٍ فإنَّه أَنْدَى صوتاً منك، فلمَّا أذَّنَ بلالُ نَدِمَ عبدُ الله، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِيم» . ولفظ أبي داود: «أنا رأيته وإني كنت أريده، قال: فَأَقِمْ أَنْتَ» . وأُجِيبَ بأنَّه إِنَّما أرادَ به تَطْيِيبَ قَلْبِه لفوات إرادته، أو تعليماً للجواز.

قلنا: وإنَّما مَنَعَ بلالاً منها لعدم رضاءِ الصُّدَائيّ بإقامةِ غيره، لِمَا في أبي داود من قوله: «فجعلت أقولُ: أُقِيمُ يا رسول الله؟ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلى ناحية المشرِق إلى الفجر فيقول: لا، حتى إذا طَلَعَ الفجر ـ أي أَسْفَرَ ـ نَزَلَ فَتَبَرَّزَ

» الحديثَ. ولأَنَّ الكراهةَ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 210

وَيَقُومُ الإِمَامُ عِنْدَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، ويَشْرَعُ عِنْدَ: قَدْ قَامَتِ الصلاة.

===

لَيْسَت لِعَيْنِ الذِّكْرَين

(1)

بدليل عدمها عند غيبته

(2)

، بل للوحشة بين الذَّاكِرَين، فتنتفي بانتفائها. نعم، الأفضلُ أنْ يكونَ المُؤَذِّنُ هو المُقيمُ.

(وَيَقُومُ الإِمَامُ) والقَومُ (عِنْدَ) قول المقيم (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ) لأَنَّهُ أمرٌ بالإقبالِ عليها، فَيُسْتَحَبُّ المُسَارَعَةُ إليها. (ويَشْرَعُ) أي الإمامُ والقومُ معه (عِنْدَ) قول المقيمِ (قَدْ قَامَتِ الصلاة) في قول أبي حنيفةَ ومحمد، وعند الفراغ من الإِقامةِ في قَول أبي يوسف.

والمعنى: إذا فَرَغ المُؤَذِّنُ من قوله: قد قامتِ الصلاة، شَرَعَ الإِمامُ. في «الخلاصة»: هذا هو الأصح، وقيل: مَعْناه أنَّه شَرَعَ فيها قبل تمام هذا القول. وفي «المحيط» : قال الإمام الحَلْوَانيّ: هذا هو الصحيح. وذكر في «الخِزَانة» : أنَّه لو لم يَشْرَعْ حتى فَرَغَ من الأَقامةِ فلا بَأْسَ به. والكلامُ في الاستحباب لا في الجواز. انتهى.

والجمهور على قول أبي يوسف لِيُدْرِكَ المُؤَذِّنُ أوَّلَ صلاة الإِمام، وعليه عَمَلُ أَهْلِ الحَرَمَيْن، والله تعالى أعلم.

وعند مالكٍ والشافعيّ: يُؤَخِّرُ الشُّرُوعَ إلى الفراغ من الإقامة واستواء الصفوف، لقول النُّعْمَان بنِ بَشِيرٍ:«كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صفوفَنا إذا قُمْنَا إلى الصلاة، فإذا اسْتَوَيْنَا كَبَّرَ» . ولقول أَنَس: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن يمينه: اعتدلوا، سَوُّوا صفوفكم، وعن يساره: اعتدلوا، سوُّوا صفوفَكم» . رواهما أبو داود.

هذا، ويُكْرَهُ للمُؤَذِّنِ أَخذُ الأجرةِ لِمَا رُوِيَ عن عثمان بن أبي العاص قال:«يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلني إمامَ قَوْمي، قال: أنت إمامهُم واقْتَدِ بأضعفهم واتخذ مُؤَذِّنَاً لا يَأْخُذُ على أذانه أجراً» . رواه أبو داود بسند حسن. ولأَنَّه أجْرَةٌ على الطاعةِ وهي غيرُ جائزةٍ، وكذا أَخْذُ الأجرةِ على الحجِّ وتعليمِ القرآنِ والفقهِ، ولَكِنَّ المتأخرين جوَّزُوا على التعليمِ والإمامةِ في زماننا لحاجةِ النَّاس وظهورِ التَّوَاني في الأمور الدينية، وعليه الفتوى. والله تعالى أعلم.

(1)

أي: الأذان والإقامة، وفي المخطوط: الذاكرَيْن، والمثبت من المطبوع وهو أولى.

(2)

أي: بدليل عدم الكراهة عند غيبة المؤذن. يعني لو أقام رجلٌ آخر غيرُ المؤذن، عند غيبة المؤذن، لا يُكره.

ص: 211

‌بَابُ شُرُوطِ الصَّلاةِ

طُهْرُ بَدَنِ المُصَلِّي مِنْ حَدَثٍ وخَبَثٍ، وثَوْبِهِ، ومَكَانِهِ،

===

بابُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ

أي ما يتوقف صِحَّةُ الصلاة على تحقُّقها، ولم تَكُنْ داخلةً في حقيقتها المسماةِ بأركانِها (طُهْرُ بَدَنِ المُصَلِّي) أي منها، أو أحدها، أو هي، والرَّبْطُ بعد العطف، ويجوز أنْ يكونَ البابُ هنا أيضاً بالتنوين، أو بالوقف كما مر، وإنَّما لم يَذْكُرِ الوقت فيها لأَنَّه ليس بشرطٍ للصلاة نفسها، وإنَّما هو شَرْطٌ لصحةِ أدائِها دُونَ قضائِها. وذِكْرُ التَّحْرِيمةِ في باب صفة الصلاة لكونها متّصلةً بأركانِها، وإنْ كانت شرطاً عندنا خلافاً للشافعيّ ومحمد من أصحابنا.

(مِنْ حَدَثٍ) أي مطلقاً لقوله تعالى {إذا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ}

(1)

الآيةَ، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«لا صلاة لمَنْ لا وضوء له» . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة. ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يَقْبلُ اللهُ صلاة أحدكم إذا أَحْدَثَ حتى يتوضأ» . رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة.

(وخَبَثٍ) أي مانع من الصلاة (وثَوْبِهِ) عطف على بدن المصلي (ومَكَانِهِ) أي لقوله تعالى: {وثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}

(2)

وإذا وَجَبَ تطهير ثياب المصلّي، وَجَبَ تطهير بدنه ومكانه، لأَنَّهما أَلْزَمُ له من ثوبه لعدم وجود الصلاة بدونهما بخلافه

(3)

، وذلك أنَّ الصلاة مناجاةُ الرَّبِّ في مقام القُرْبِ، فيجب أن يكونَ المصلي على أَحْسَنِ الأَحوال في طهارتهِ وطهارة ما يتصل به، فمتى ما وجب تطهير ثيابه مع تصور انفكاكه عنها، فلأَنْ يَجِبَ عليه تطهيرهما مع أنَّهما لا يَنْفكَّانِ عنها

(4)

أولى. وقيل: هو أمرٌ بتقصيرها، ومخالفة العرب في تَطْوِيلهم الثياب، وجرِّهم الذيولَ، وذلك لا يُؤْمَنُ معه إصابةُ النجاسةِ.

وفي «المحيط» : ولو صلَّى على مكانٍ طاهرٍ إلاَّ أنَّه إذا سجد تَقَعُ ثيابُه على أرضٍ نجسةٍ، جَازَتْ صلاته.

وفي «الأصل» : إذا كانت في موضع قَدَمَيّ المصلي مَنَعَتْ جوازَ الصلاةِ، وإنْ

(1)

سورة المائدة، الآية:(6)

(2)

سورة المدّثِر، الآية:(4).

(3)

أي بخلاف ثوبه.

(4)

أي الصلاة.

ص: 212

وسَتْرُ عَوْرَتِهِ،

===

كانت تحت قَدَمٍ واحدٍ أكثرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ، الأَصَحُّ: أنَّها تَمْنَعُ، وإنْ جَازَتِ الصلاة مع رفعها

(1)

، ولا يُجْعَلُ كأنَّها لم تُوضَعْ عليها. أَلَا تَرَى أنَّه لو سَجَد على مكانٍ نجسٍ تَفْسُدُ وإنْ أعاده

(2)

على طاهرٍ خلافاً لأبي يوسف، وقيل: لا يَمْنَعُ بِنَاءً على إمكانِ القيام في الصلاة بأحدهما

(3)

، وأمّا إنْ كانت النجاسةُ في موضع يَدَيْه أو رُكْبَتَيْهِ فلا تَمْنَعُ، وإنْ كانت في موضع سُجُودِهِ تَمْنَعُ (عندهما، وعن أبي حنيفة روايتان: المنعُ وعدمُه، وهو بناء على رواية الاكتفاء في السجود بالأنف)

(4)

، وهو أقل من قدر الدِّرْهم.

وفي «عمدة الفتاوى» : أنّ موضع الركبتين إذا كان نجساً لا يجوز الصلاة، وكذا في موضع اليدين، وهو اختيار أبي الليث وتصحيحه في «العيون» ، لتحقق التَّلبُّسِ بالنجاسة عند وضعهما عليها. والحكم بجواز الصلاة بدون وضعهما ينكره أبو الليث لأَنَّا أُمِرْنا بالسجود على سبعة أعضاءٍ.

(وسَتْرُ عَوْرَتِهِ) عطفٌ على «طُهْرِ بدن المصلي» ، وذلك للإجماعِ على افتراضه في الصلاةِ لِمَا نَقَلَه غير واحدٍ من أئمة النقلِ، ومخالفةُ بعض مُتَأَخِّري المالكية كالقاضي إسماعيل بعد تقرر الإجماع لا يجوز، ويحتمل أنْ يكونَ سند الإجماع قوله عليه الصلاة والسلام:«لا يقبل الله تعالى صلاة حائض إلاَّ بخمار» . رواه أبو داود والترمذي، وحَسَّنه الحاكم وصححه. والمراد بالحائض: البالغةُ، أو مَنْ شأنها الحيض لِتَعُمَّ المُراهِقَة.

واستدل في «الهداية» وغيرها بقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}

(5)

أي ما يُوَارِي عورتَكم عند كل صلاة، لأَنَّ أخذَ الزينة نفسها ـ وهي عرض ـ محالٌ فأُرِيد محلها ـ وهو الثوب ـ، ولا يجبُ أخذ الزينة لعين المسجد فَدَلَّ أنه للصلاة، لكن كَنَّى عن الصلاة بالمسجد. فالأول من إطلاق اسم الحال على المحل، والثاني عكسه.

فإنْ قيل: رُوِيَ عن ابن عباس: أنَّها نزلت في شأن الطائفين عراة لا في حق

(1)

أي القدم.

(2)

أي السجود.

(3)

أي أحد القدمين.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(5)

سورة الأعراف، الآية:(31).

ص: 213

واسْتِقْبَال القِبْلةِ،

===

الصلاة، أجيب: بأنَّ العبرةَ لعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعند كل مسجد عام، فلا يختص بالمسجد الحرام، وفيه بحث إذ الستر في الطواف واجبٌ عندنا حتى لو طاف عُرياناً أَثِمَ وحُكِمَ بسقوطه، وفي الصلاة فرضٌ حتى لا تصح بدونه. ولا يمكن أن يُرَادَا من الآية لاستلزامها الجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي معاً، لأنَّها إنْ كانت قطعية الدلالة فموجبها الافتراض، وإنْ كانت ظَنِّيَّة فالوجوب فقط. ومنهم من أخذ منها قطعية الثبوت، ومن حديث:«لا يَقبل الله صلاة حائض إلا بخمار»

(1)

قطعية الدلالة، فيثبت الفرض بالمجموع، والله تعالى أعلم.

وفي «الخلاصة» : لو صلى في قميص واحدٍ محلول الجيب

(2)

: إنْ كان بحالٍ يقعُ بصرُهُ على عورته لا تجوز صلاته، وكذا لو كان بحالٍ يقع بصرُ غيره عليه من غير تَكَلُّفٍ. كذا ذكره هشام عن محمد. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: إنَّ عورةَ الشخص ليست بعورة في حقّه. قلت: وهذا ضعيفٌ جداً للإجماع على بطلان مَنْ صلّى صلاة في بيت وحده أو في ظُلْمة من غير ستر عورةٍ إذا لم يكن عن عذر.

(واسْتِقْبَالُ القِبْلةِ) أي حال الأمن والقدرة لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شْطَرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وحَيْثُ ما كُنْتُم فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}

(3)

أي إلى جانبه عيناً أو جهةً. قال بعض العارفين: قِبلةُ البَشَر الكعبة، وقِبلة أهل السماء البيت المعمور، وقِبلة الكَرُوبِيِّين

(4)

الكرسي، وقِبلةُ حَمَلة العرش العرش، ومطلوب الكُلِّ وجهُ الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{فأيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}

(5)

.

واتفق العلماء على أَنَّه عليه الصلاة والسلام صلّى بالمدينة إلى بيت المقدس، ثم تَحَوَّل إلى الكعبة. والصحيح أَنَّه صلّى إليه سبعة عشر شهراً، واختلفوا كيف كانت صلاته قبل ذلك، فعن ابن عَبّاسٍ: فرض الله تعالى الصلاة ليلة الإسراء إلى بيت المقدس رَكْعَتين رَكْعَتين، والمَغْرِب ثلاثاً، فكان عليه الصلاة والسلام يصلّي إلى الكعبة، ووُجِّه إلى بيت المقدس، ثم زِيد في الصلاة بالمدينة حين صُرِفَ إلى الكعبة ركعتان إلاَّ المغرب. وعن ابن جُرَيْجٍ: «أول ما صَلَّى عليه الصلاة والسلام إلى الكعبة، ثم صُرِفَ إلى بيت المقدس ـ يعني قبل الهجرة ـ فصلَّتِ الأنصار قبل قدومه بثلاثٍ

(1)

سنن أبي داود 1/ 421 - 422، كتاب الصلاة (2)، رقم (641).

(2)

الجَيْب: جيب القميص: ما يُدخل منه الرأس عند لُبْسه. المعجم الوسيط، ص 149، مادة (جيب).

(3)

سورة البقرة، الآية:(150).

(4)

الكرُوبيُّيون: المُقَرَّبون. النهاية: 4/ 161.

(5)

سورة البقرة، الآية:(115).

ص: 214

والنِّيَّةُ.

وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ: مِنْ تَحْتِ سُرَّتِهِ إلى تَحْتِ رُكْبَتَيِهِ

===

نحو بيت المقدس، وصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد قدومه ستةَ عشرَ شهراً».

وروى أبو داود: «أنَّ يهودياً خاصم أبا العالية في القِبلة، فقال أبو العالية: إنَّ موسى كان يصلّي عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام، فكانت الكعبة قِبلته، وكانت الصخرة بين يديه، فقال اليهوديُّ: بيني وبينك مسجد صالح، قال أبو العَالِيَة: فأنا صليت في مسجد صالح وقِبلته إلى الكعبة. وأَخْبَر أَبو العالية أنَّه صلّى في مسجد ذي القَرنين وقِبلته إلى الكعبة» .

(والنِّيَّةُ) لقوله تعالى: {وما أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين}

(1)

والإخلاص لا يكونُ إلاَّ بالنية، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«إنَّما الأعمالُ بالنيّات» . رُوِيَ في الكتب الستة بـ: «إنما» ، وفي صحيح ابن حِبَّان بدونها، ورُوي بإفراد النيّة وحدها، وبإفراد العمل وحده، وبإفراد كليهما، وكلها صحاح، وقد بسطنا الكلام عليه في «المِرْقَاة شرح المشكاة»

(2)

.

ومن شروط الصلاة: الوقتُ، وقد تقدَّم.

(وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ) مبتدأ خبره (مِنْ تَحْتِ سُرَّتِهِ إلى تَحْتِ رُكْبَتَيْهِ) لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما فوق الرُّكُبَتَيْنِ من العَوْرَة، وما أسفل من السُّرَّةِ من العورة» . رواه الدَّارقُطْنِي من حديث أبي أيوب، ورَوَى عن عَمْرُو بنُ شُعَيْب، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مُرُوا صبيانكم بالصلاة في سبع سنين، واضربوهم عليها في عشر سنين، وفَرِّقُوا بينهم في المضاجع، وإذا زَوَّج أحدُكم أَمَتَه عبدَه أو أجيره، فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة، فإنَّ ما تحت السرَّة إلى الركبة من العورة» . ورواه أحمد ولَفْظُه: «ما أسفل من سرته إلى ركبتيه من عورته» . وقيل: ابتداء العورة من السرة لقوله عليه الصلاة والسلام: «السرَّة من العورة» . رواه البيهقي في «الخلافيات» . وأخرج الشافعي: «الرُّكْبَةُ من العورة» لما روينا.

ولنا ما في سنن الدَّارقُطْنِي عن عليّ رضي الله عنه: أنَّه عليه الصلاة والسلام قال: «الرُّكْبَةُ من العورةِ» وقَصَر مالك العورة على السوأتين

(3)

وهما: القُبُل والدُّبُر لظاهر

(1)

سورة البيِّنَة، الآية:(5).

(2)

1/ 35 - 43.

(3)

هذا الكلام موهم على إطلاقه، وتحرير الكلام عند المالكية هو كالآتي: ينقسم الكلام عليه إلى ثلاثة أقسام: =

ص: 215

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

قول أنس: «لمَّا غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيْبَر صلينا عندهما صلاة الغداة بِغَلَس

(1)

، وَرَكِبَ النبي صلى الله عليه وسلم ورَكِبَ أبو طَلْحَة وأنا رديفه، فأَجْرَى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خَيْبَر، ثم انحسر الإزار عن فَخِذَه حتى إنِّي لأَنْظُرُ إلى بياض فَخِذِ النبي صلى الله عليه وسلم. والقصةُ في «الصحيحين». ولقول عائشةَ: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مَضْطَجِعاً في بيته كاشِفاً عن فَخِذه أو ساقَيْهِ، فاستأَذَنَ أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك، فَتَحدَّث، ثم استأذن عثمانُ فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسَوَّى عليه

= 1) العورة في الصلاة. 2) حكم العورة المغلَّظة والمخُفَّفَة. 3) العورة بالنسبة للنظر.

1) العورة في الصلاة: تنقسم العورة في الصلاة إلى مغلَّظة ومخفَّفة للرجل والمرأة.

- فعورة الرجل ما بين السرة والركبة، والمغلظة منها: السَّوأتان، من المقدَّم: الذَّكر والأُنثيان، ومن المؤخَّر: ما بين أليَانِهِ. (مفردها ألْيَة، والحمع: ألْيَات، والمثنّى: ألْيَان) وعورته المخففة من المؤخَّر: الأليان، ومن المقدَّم: العانة وما فوقها إلى السرّة.

- والمرأة كلها عورة إلا الوجه والكفين، والمغلظة منها: البطن والفخذان وما بينهما، وما حاذاهما من الخلف. والمخففة ما عدا ذلك، كالصدر والظهر، وأعالي الكتفين والأطراف، كظهور قدميها إلى ركبتيها، وذراعها وشعرها، وما فوق منحرها.

2) حكم العورة المغلظة والمخففة: ستر العورة المغلظة واجب للصلاة، وشرط فيها مع القدرة، فلو صلى عُريانًا ناسيًا أو عامدًا، أو جاهلًا، فصلاته باطلة، يعيدها أبدًا، وإن صلى عُريانًا لحجز أعاد في الوقت. أما المخففة، فقد اتفق العلماء على وجوب سترها، واتفقوا على أن ستر العورة ليس شرطًا في صحة الصلاة، فمن صلى كاشفًا للعورة المخففة عمدًا أو جهلًا أو نسيانًا أعاد في الوقت استحبابًا، وإن كان كَشْفُها حرامًا أو مكروهًا في الصلاة، ويحرم النظر إليها من غيره بتاتًا. وهذه المسألة كمن لبس خاتم الذهب في الصلاة، فصلاته صحيحة ولبسه لخاتم الذهب حرام.

3) العورة بالنسبة للنظر: أما العورة الواجب سترها عن أعين الناس فهي:

من الرجل: ما بين السرة والركبة، بالنسبة للرجال والمحارم، أما بالنسبة للمرأة الأجنبية، فلا يجوز أن ترى من الرجل الأجنبي إلا الوجه والأطراف.

وعورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل، ما بين السرة والركبة، ومع المحارم ما عدا الوجه والأطراف، وكلها عورة بالنسبة للرجل الأجنبي إلا الوجه والكفين. انظر "الفقه المالكي في ثوبه الجديد" 1/ 177 - 180 و"منح الجليل شرح مختصر سيدي خليل" 9/ 211 - 230.

وبهذا يتيبن لنا أن التفريق بين العورة المغلظة والمخففة هو في الصلاة فقط، أما ستر العورة عن أعين الناس، فلم يفرقوا فيه بين مغلظة ومخففة، وإن كانتا تختلفان في الإثم من حيث درجة الحرمة، ولكن العلماء اتفقوا على وجوب سترها عن الأعين، وحرمة كشفها.

ويظهر لنا أن ما يتناقله العوام من أن مذهب الإمام مالك يبيح كشف ما عدا السوأتين كلامٌ مغلوط وموهم وناشره بين الناس آثم ومضلِّل، نسأل الله السلامة.

ونعتذر عن هذه الإطالة ولكن لما تفاقم الأمر وانتشر احتاج إلى بيان.

(1)

سبق شرحها ص 184، التعليقة رقم (4).

ص: 216

والأَمَةُ: هَذَا مَعْ ظَهْرِهَا وبَطْنِهَا. والحرَّةُ: بَدَنُهَا

===

ثيابه» الحديثَ

(1)

.

قلنا يُحْتَمَلُ أنه صلى الله عليه وسلم غَطَّى فَخِذَه بسرعة لَمَّا انكشف. وتَرْدِيدُ الراوي في الحديث الثاني بين فَخذِهِ وساقه يمنع تمام الاستدلال به. وعلى التَّنزُّل يُحْمَل الكشف على جانبها دون جانبهما

(2)

، أو على طرف فَخِذِه وهو الرُّكبة والساق، كما يشير إليه شكُّ الراوي. ومما يؤيد الجمهور قولهُ عليه الصلاة والسلام:«الفَخِذُ عورةٌ» . رواه الترمذي عن ابن عباس وغيره. وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تُبْرِزْ فَخِذَك، ولا تَنْظُرْ إلى فَخِذِ حيّ ولا ميت» . رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم في «مستدركه» عن علي كَرَّم الله وجهه.

(والأَمَةُ) أي وعورةُ الأَمَةِ ولو كانت مُدَبَّرة

(3)

، أو أمّ ولدٍ

(4)

، أو مُكَاتَبَة

(5)

. (هَذَا) أي ما ذُكِرَ: من تحت (السرة إلى تحت)

(6)

الركبة (مَعْ ظَهْرِهَا وبَطْنِهَا) لأنَّ النظر إليهما سبب للفتنة بها، وما عدا ذلك منها فليس بعورة فيها، لِمَا في «آثار محمد بن الحَسَن»: أخبرنا أبو حنيفة: عن حَمَّاد بن سليمان، عن إبْرَاهيم النَّخَعي:«أنَّ عمر بن الخطاب كان يضرب الإماء أنْ يَتَقَنَّعْنَ، ويقول: لا تُشَبَّهْنَ بالحرائر» . وفي «مصنف عبد الرَزَّاق» : أخبرنا مَعْمَرٌ، عن قَتَادة، عن أنس:«أنَّ عمر ضرب أمةً لآل أنس رآها مُتَقَنِّعةَ، فقال: اكشفي رأسك لا تتشبهي بالحرائر» . وأصله قوله تعالى: {يا أَيُّها النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وبَنَاتِكَ ونِسَاءِ المُؤْمِنينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ من جَلَابِيبِهِنَّ ذلك أَدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ}

(7)

.

(والحرُّةُ) أي وعورة الحرةِ (بَدَنُهَا) أي جميع أعضائها لقوله عليه الصلاة والسلام: «المرأةُ عورةٌ» . رواه الترمذيّ وصحّحه، وفي رواية النَّسائي:«الحُرَّة» .

(1)

رواه مسلم في صحيحه 4/ 1866، كتاب فضائل الصحابة (44)، باب من فضائل عثمان (3)، رقم (26)، بلفظ:"كاشفًا عن فخذيه". بالتثنية.

(2)

المقصود هنا حَمْل الكَشْفِ على جانب من العورة - أي جزء منها - لا على الجانبين - أي كلها -.

(3)

المُدَبَّرَة: الرقيق الذي عُلِّق عِتْقُها على موتِ سيدها، ومثاله قولُ السيِّد لعبده: إِنْ مِتُّ فأنت حُرٌّ. معجم لغة الفقهاء ص: 418.

(4)

أُمُّ الولد: الأمة التي حملت من سيِّدها وأتت بِوَلد. معجم لغة الفقهاء ص: 88.

(5)

مُكَاتَبة: الرقيقة (العبدة) التي تَمَّ عقد بينها وبين سيدها على أن تدفع له مبلغًا من المال نجومًا (مُقَسَّطًا) لتصيرَ حُرَّة. معجم لغة الفقهاء ص: 455 بتصرف.

(6)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(7)

سورة الأحزاب، الآية:(59).

ص: 217

إلّا الوَجْهَ والكفِّ والقَدَمَ.

وكَشْفُ رُبْعِ العُضْوِ يَمْنَعُ الصَّلاةَ. والسَّاقُ عُضْوٌ وَحْدَه، كالفَخِذِ، والذَّكَرِ مُنْفَرِدًا، والأُنْثَيَيْنِ،

===

(إلاّ الوَجْهَ والكفَّ والقَدَمَ) لقوله تعالى: {ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها}

(1)

أي إلاَّ ما جَرَتْ به العادة على ظهورها للأجانب من الوجه والكف والقدم، إذ من ضرورة إبداء الزينة إبداءُ مواضعها، والكحلُ زينةُ الوجه، والخَاتَم زينة الكف، ولأنَّ المرأة لا تجد بُدّاً من مزاولة الأشياء بيديها. ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً: الشهادةُ والمحاكمةُ، وتَضْطَرُّ إلى المَشْي في الطرقات وظهور قَدَمَيْها خصوصاً الفقيرات. وعن أبي حنيفة: أنَّ القَدمَ عورةٌ، وبه قال الشافعيُّ لِمَا رُوِيَ: «أنَّ أُمَّ سلمةَ قالت: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أَتُصَلِّي المرأةُ في دِرْعٍ

(2)

وخِمَارٍ وليس لها إزارٌ؟ قال: إذا كان الدِّرْع سَابِغاً

(3)

يُغَطِّي ظهور قدميها».

(وكَشْفُ رُبْعِ العُضْوِ) أي أيُّ عضوٍ كان (يَمْنَعُ) أيْ صحة (الصَّلَاةَ) ولا تَفسد الصلاة عندنَا بانكشاف القليل من العورة في زمن كثير، وهو ما يُؤَدَّى فيه رُكْنٌ كعكسه: وهو أنْ يَنْكَشِفَ منها كثيرٌ في زمن يسير، كما لو هَبَّتِ الريح فَكَشَفَتْ عَوْرَتَهُ، فتدارك سترها في الحال. وأفسدها مالك والشافعيّ، لأنَّ السترَ شرطُ صحةِ الصلاة مطلقاً ولم يوجد. ولنا اعتبارها بالوفاقية

(4)

، بجامع الضرورة.

(والسَّاق) أي ساق الحرة (عُضْوٌ) أي كامل (وَحْدَه) وهو من عورتها فيمنع انكشاف رُبْعِه الصحة (كالفَخِذِ) أيْ من الرجل والمرأة، والركبة من الفخذ، وقيل: عضوٌ منفردٌ.

(والذَّكَرِ) عطف على الفَخِذ دون الساقِ لقوله بعد هذا والأُنْثَيَيْن بالجر (مُنْفَرِداً) احترز به عن قول بعضهم: أنَّ الذَّكَرَ مع الأُنْثَيَيْن عضوٌ واحدٌ (والأُنْثَيَيْنِ) أيْ منفردين كما في الدِّيَةِ. وأُذُنُها عورةٌ بانفرادها، وأمَّا ثَدْيُها فإنْ كان مرتفعاً تَبِعَ صَدْرَها، وإنْ كان مُنْكَسِراً صار أصلاً بنفسه. وكلٌّ من الأَلْيَتَيْنِ عضوٌ على حدة، والدُّبُرُ ثالثهما في الصحيح.

(1)

سورة النور، الآية:(31).

(2)

دِرْعُ المرأة: قميصها. النهاية: 2/ 114.

(3)

سَابِغًا: أي تامًّا. النهاية: 2/ 338.

(4)

في المطبوع: "بالوقاية".

ص: 218

وشَعْرٍ نَزَلَ.

===

وبهذا تَبَيَّنَ أنَّه لا فرق بين العورة الغليظة وهي: القُبُلُ والدُبُرُ، وبين العورة الخفيفة وهي: غيرهما من موضع العورة في حقِّ الانكشافِ المانعِ وغيرِ المانعِ في صحة الصلاة وفسادها، وهذا أيضاً على الصحيح.

وذَكَر الكَرْخِيُّ: أنَّهُ يُعْتَبَرُ في الغليظة قَدْرُ الدرهم، وفي الخفيفة الرُبْعُ

(1)

، كما في نوعي النجاسة. وهو ليس بقوي، لأنه قَصَدَ به التغليظ في العورة الغليظة، وهو في الحقيقة تخفيفٌ، لأَنَّه اعتُبِر في الدُّبر قَدْرَ الدرهم، والدُّبُرُ لا يكونُ أكْثَرَ من قدرِ الدرهم. فهذا يقتضي جواز الصلاة وإنْ كان كل الدُّبُرِ مكشوفاً، وهو تناقضٌ، فافهم.

ثم الساترُ الرقيقُ الذي لا يَمْنَعُ رُؤْيةَ العورةِ لا يكفي لجوازِ الصلاة لعدم الستر الواجب عليه. وإذا صلّى في ثوبٍ واحدٍ محلول الجيب، اخْتُلِفَ فيهِ: ففي «نوادر ابن شجاع» أشار إلى أَنَّه يجوز، وسَوَّى بين كثيف اللحية وخفيفها، فإنَّه ذكر عن أبي حنيفة وأبي يوسف: أَنَّه لو نظر إلى عورته لا تَفْسُدُ صلاته وهو الصحيح. وفي «الواقعات» : وذلك لأنَّ العورةَ إنما تُعْتَبَرُ عورةً في حق غيره دون نفسه. انتهى. لكن يُشْكِل بمسألة إذا صلّى في مفازةٍ أو بيت مظلم من غير ستر، فإنَّه لا يجوز اتفاقاً إذا كان على الستر قادراً.

(وشَعْرٍ) بالجر أي وكشعر (نَزَلَ) أي من رأس المرأة في المختار من الروايتين. وفي «المحيط» : الأصح أنه عورة وإلاَّ جاز النظر إلى صُدْغِ

(2)

الأجنبية، أو طرف ناصيتها، وهذا يؤدي إلى الفتنة، وإنما لا يجب غسله على النساء في الجَنَابة على الصحيح لأَنَّ في غسله حرجاً. انتهى.

اعْتُرِضَ عليه بأنَّه لا ملازمة بين كون العضو غير عورة وجواز النظر إليه، إذ حِلُّ النظر منوطٌ بعدم خشية الشهوة مع انتفاء العورة، ولذا حُرِّمَ النظر إلى وجهها، ووجه الأَمْرَدِ

(3)

، إذا شك في الشهوة مع انعدام العورة، وهذا وجه الرواية النافية.

ثم العورة تنقسم إلى غليظة وخفيفة، فالغليظة: القُبُل والدُّبُر، والخفيفة: ما عدا ذلك، ويترتب على ما ذُكِرَ مراتب احتساب هنالك

(4)

.

(1)

أي ربع العضو.

(2)

الصُدْغ: جانب الوجه من العين إلى الأذن. المعجم الوسيط، ص: 510، مادة (صدغ).

(3)

الأمْرَد: الذي أبطأ بنات وجهه، وقيل: الذي لم تنبت لحيته. المصباح المنير، ص: 217، مادة (مرد).

(4)

أي تُجمع بالأجزاء، مثاله: انكشف ثُمُن فخذه من موضع وثمن فخذه من مرضع آخر، يُجمع الثمن إلى الثمن حسابًا، فيكون ربعًا، فيمنع. ولو انكشف ثمن فخذه من موضع من فخذه، ونصف ثمن =

ص: 219

وعَادِمُ مُزِيل النَّجِسِ صَلَّى مَعَهُ ولَمْ يُعِدْ. ولَمْ تَجُزْ عَارِيًا ورُبْعُ ثَوْبهِ طَاهِرٌ، وفي أقَلَّ: الأَفْضَلُ مَعَهُ. وعَادِمُ الثُّوْبِ يَجُوزُ صَلَاته قَائِمًا، ويُندَبُ قَاعِدًا مُومِئًا.

===

(وعَادِمُ مُزِيل النَّجِسِ) أيْ الخَبَث عدماً حقيقياً أو حكمياً، كما إذا كان معه ماء، لكن يخاف العطش. (صَلَّى مَعَهُ) للضرورة (ولَمْ يُعِدْ) وإنْ كان الوقت باقياً، لأنه فَعَل ما في وسعه.

(ولَمْ تَجُزْ) أي الصلاة حال كون المصلي (عَارِياً ورُبْعُ ثَوْبِهِ طَاهِرٌ) لأنَّ نجاسةَ ربعِ الثوبِ تقوم مقام نجاسة كله حال عدم الاضطرار، فيقوم طهارة ربعه مقام طهارة كله حال الاضطرار (وفي أقَلَّ) أيْ وفي ثوب أقل من ربعه طاهر، وكذا في نجاسة الكل عند أبي حنيفة وأبي يوسف (الأَفْضَلُ) أنْ يصلي (مَعَهُ) لحصول الركوع والسجود وستر العورة، ولأَنَّ فرض الستر عام لا يختص بالصلاة، وفرض الطهارة مختص بها. ويجوز أن يصلي عُرْياناً قاعداً يُومِاء، ويجوز أن يصلي عُرْيَاناً يركع ويسجد، وهذا دونها في الفضل.

(وعَادِمُ الثَّوْبِ) أيْ ما يستر عورته من حشيش وغيره، كتلطيخ بدنه من طين ونحوه (يَجُوزُ صَلَاتُه قَائِمَاً) يركع ويسجد (ويُنْدَبُ قَاعِداً) مَادّاً رجليه، واضعاً يديه بين فخذيه، لأنه أستر (مومئاً) بالركوع والسجود لأن في القيام ترك الستر من كل وجه، وفي القعود إتْيَان به، وبالركوع والسجود من وجه.

وأوجبَ القيام زُفَر كمالك والشافعي، لأنَّ في القيامِ تركُ الستر، وهو غير مخاطب به، وفي الإيماء ترك فروض وهو مخاطب بها. ولنا ما رُوِيَ عن أنس:«أنَّ بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رَكِبُوا في سفينة فانْكَسَرت بهم، فخرجوا من البحر عُرَاةً، فصلَّوا قعوداً بإيماء» . قال سِبْطُ ابنُ الجوزيّ: رواه الخلاّل. وعن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: «العاري يُصَلِّيَ قاعداً بالإيماء» . وعن عَطَاءٍ وعِكْرمَةَ وقَتَادَة: مثله. وقال قَتَادَةُ: إذا خرج ناس من البحر عُرَاةً فَأَمَّهُمْ أَحدُهم، صَلَّوا قاعدين، وكان إمَامُهم مَعَهُم في الصَّفِ يُومِئُونَ إيماءً. وعن عليّ رضي الله عنه:«أنَّه سُئِلَ عن صلاة العُرْيَان، فقال: إنْ كان حيث يراه الناس صلَّى جالساً، وإذا كان حيث لا يراه الناس صلّى قائماً» . رواه عبد الرَّزَّاق في «مصنفّه» . وهو تفصيل حسن من أبي الحسن.

= ذلك الفخذ من موضع آخر، لا يمنع. انتهى. "رد المحتار على الدر المختار" 1/ 274. وقد ذكر تفصيلًا مهمًا حول أعضاء عورة الرجل والمرأة. فانظره، فإنه مفيد.

ص: 220

وقِبْلَةُ خَائِفِ الاسْتِقْبَالِ جِهَةُ قُدْرَتِهِ. وإنْ عَدِمَ مَنْ يَعْلَمُ القِبلَةَ تَحَرَّى

===

(وقِبْلَةُ خَائِفِ الاسْتِقْبَالِ) من عَدُوَ، أو سَبُعٍ، أو غَرَقٍ بأنْ كان على خشبة في البحر، فقبلة مبتدأٌ خبره (جِهَةُ قُدْرَتِهِ) لتحقق عجزه عن التوجه إلى قِبلته. وكذا المريض الذي لا قدرة له على الاستقبال، ولا يجد من يُوَجِّهُهُ إلى القِبلة. وكذا العاجز عن النزول عن دابة سائرة لخوفٍ، أو لمرضٍ أو لطين ورَدْغَةٍ

(1)

، أو لنفورِها، وعدم وقوفها، أو لعجزه عن ركوبها بعد نزوله عنها.

وقِبْلةُ مَنْ بمكةَ إصابة عين الكعبة للمكي المشاهِدِ لها، لأنَّه الأصل، ولا حرج فيه. وقيل: يجب عليه إصابة عينها وإنْ كان بينه وبينها حائل لإمكان إدراكه. والأصح: أنَّه كالغائب، للزوم الحرج في إلزام حقيقة المُسَامَتَةِ

(2)

في كل بقعة يُصَلِّي فيها، لأنَّ أدنى انحراف من القريب يُخْرِجُه عنها، كما هو مُشَاهَدٌ في المَشَاهِد. وأَغْرَب العَيْنِيُّ في قوله: وفَرْضُ عين الكعبةِ للمكيّ بالإجماع، حتى لو صلّى المكيُّ في بيته ينبغي أنْ يُصَلِّي بحيث لو أُزِيلَت الجدْرَان يقع استقباله على شطر الكعبة. انتهى. ولا يَخْفَى بين قوله: فرضٌ، وبين قوله: ينبغي.

هذا، وقد ذكر ابن الهُمَام: أنَّ في النَّظْمِ: الكعبةُ قبلة من بالمسجد، والمسجد قبلة من بمكّة، ومكة قبلة الحرم، والحرم قبلة العالم. قال المصنف ـ يعني صاحب «الهداية» ـ في «التجنيس»: هذا يُشِير إلى أَنَّ مَنْ كان بمعاينتها، فالشرط إصابة عينها. ومن لم يكن يعاينها، فالشرط إصابة جهتها. وهو المختار. انتهى كلام صاحب «الهداية» ، والله الهادي في البداية والنهاية.

وأمّا النائي عنها فيكفي إصابة جهتها، ولا يُشْتَرط نية عينها عند عامة المشايخ وهو الصحيح. وقال الجُرْجَانِيّ: عين الكعبة، لأَنَّ النَّص لم يُفَصِّل بين مكة وغيرها في افتراض عينها، وبه قال الشافعي .. وأُجِيبَ بأنَّ التكليف على حسب الوسع: وهو في حق من ليس بمكة الجهة. لما رَوَى ابن ماجه والترمذي، وقال: حسنٌ صحيحٌ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بين المشرق والمغرب قبلة» .

(وإنْ عَدِمَ) أي لم يجد مريد الصلاة (مَنْ يَعْلَمُ القِبْلَةَ) وهو يجهلها بانطماسِ الأَعلام، وتراكم الظلام، وتَضَامِّ الغمام

(3)

(تَحَرَّى) أي صلَّى إلى جهة اجتهاده لأَنَّها

(1)

الرَّدْغَة: الوحل الكثير. المعجم الوسيط، ص: 338، مادة (رَدَغَ).

(2)

المُسَامتة: المقابلة.

(3)

تضامّ الغمام: انضمُّ - أي اجتمع - بعضه إِلى بعضٍ. المعجم الوسيط، مادة (ضم)، ص:544.

ص: 221

ولَمْ يُعِدْ مُخْطِئٌ تَحَرَّى، بَلْ مُصِيبٌ لم يَتَحَرَّ. وإنْ تَحوَّلَ رَأْيُهُ مُصَلّيًا اسْتَدَارَ.

===

قبلته حيث يسع قدرته، لقوله تعالى {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}

(1)

أيْ قبلته كما ارتضاه. فإنَّ الآية نزلت في الصلاة حال الاشتباه. ولما رُوِيَ من طرق ضعيفة قد يُحَسَّنُ الحديث بتعددها: «أنَّ بعض الصحابة تَحرَّوا القبلة في ليلة مظلمة، وصلَّوا وخَطُّوا خطوطاً، فلما أصبحوا وجدوها لغير القبلة، فلم يأمرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالإعادة» . ولما رَوَى ابن ماجه والترمذيّ من حديث عَامِر بن رَبِيعة، عن أبيه، قال:«كُنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر» ، زاد الترمذي:«في ليلة مظلمة، فَتغَيَّمَتِ السماء وأشْكَلَت القبلة، فصلّينا، فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا لغير القِبلة، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}» .

(ولَمْ يُعِدْ مُخْطِاءٌ تَحَرَّى) القبلة وصلى، ثم تبين خطؤه، لأنه أتى بالواجب في حقه: وهو الصلاة إلى جهة تحريه. وأوجب مالك إعادته في الوقت، والشافعي مطلقاً. (بَلْ) يعيد (مُصِيبٌ لم يَتَحَرَّ) بأنْ شَكَّ في القبلة، وصلّى من غير تحرَ، ثم تبين أنَّه أصاب، وهذا إذا تبين أنه أصاب وهو في الصلاة عند أبي حنيفة ومحمد، خلافاً لأبي يوسف. وأمّا إذا تبين أنه أصاب بعد الفراغ، فصلاته جائزة بالاتفاق لحصول المقصود. وفي «الظهيرية»: الأعْمَى إذا صلى ركعة فأخطأ القبلة، فجاء رجل وسوَّاه يمضي في صلاته ولا يقتدي ذلك الرجل به. قال: وعندي هذا محمول على ما إذا لم يجد من يسأله.

(وإنْ تَحوَّلَ رَأْيُهُ) أي رأي المتحري حال كونه (مُصَلّياً اسْتَدَارَ) لأَنَّ تبدُّلَ الاجتهاد بمنزلة النسخ، لما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر، قال: بينما الناس في صلاة الصبح بقُبَاء إذ جاءهم آتٍ فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنْزِلَ عليه الليلة قرآن، وقد أُمِرَ أنْ يَسْتَقْبِلَ القبلة فاسْتَقْبِلُوها، وكانت وجوههم إلَى الشام، فاستداروا إلى الكعبة». ورواه مسلم من رواية أنس وقال فيه: «فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر، وقد صلَّوا ركعة فنادى: أَلاَّ إنَّ القبلة حُوِّلت، فَمَالوا كما هم نحو الكعبة، واستحسنه النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن الجَوْزِيّ: في السنة الثانية حُوِّلَتِ القبلة ـ يعني من الهجرة ـ قال: وقال محمد بن حَبِيبٍ الهَاشِميّ: «حُوِّلَتْ ـ يعني القبلة ـ الظهر يوم الثلاثاء، النصف من شعبان: زار رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بِشْر بن البَرَاء بن المَعْرُور في بني سَلَمَةَ، فتغدّى هو وأصحابه، وحانت الظهر، فصلى بأصحابه في مسجد القبلتين ركعتين من الظهر إلى

(1)

سورة البقرة، الآية:(115).

ص: 222

ولا يَضُرُّ جَهْلُهُ جِهَةَ إِمَامِهِ، بَلْ تَقَدُّمُهُ، أوْ عِلْمُ مُخَالَفَتِهِ. ويَقْصدُ صلاتَهُ واقْتِدَاءَه، إن اقْتَدَى مُتَّصِلًا بالتَّحْرِيمَةِ،

===

الشام، ثم أُمِرَ أنْ يستقبل القبلة وهو راكع في الركعة الثانية، فاستدار إلى الكعبة ودارت الصفوف خلفه، ثم أَتَمَّ الصلاة، فسُمِّيَ مسجد القبلتين لهذا.

(ولا يَضُرُّ جَهْلُهُ) أي المُقْتَدي (جِهَةَ إِمَامِهِ) يعني: أنَّ من صلَّى في ليلة مظلمة مع إمامه، وتوجه كل منهما بالتحري إلى جهة، وكان المأموم جاهلاً جهة إمامه، لا تبطل صلاته، لأنه توجّه إلى ما هو القبلة في حقه، وهو جهة تحريه. وصار كما لو صلّى داخل الكعبة إلى غير جهة إمامه، ولم يَعْلَم مخالفة جهة إمامه، لعدم اعتقاده بأن إمامه على الخطأ في توجّهه (إذا علم أنه ليس خلفه)

(1)

.

(بَلْ) يضر (تَقَدُّمُهُ) على إمامه لِتَرْك فرض مقامه، كما إذا صلى داخل الكعبة مع إمامه. (أوْ عِلْمُ مخالفته) جهة إمامه لاعتقاده أنَّ إمامه، على الخطأ، «فعلم» مصدر مرفوع بالعطف على تَقدّمه.

(ويَقْصِدُ) أي المصلي بقلبه (صَلَاتَهُ) سواء صلّى منفرداً أو إماماً أو مقتدياً لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيّات» . رواه الشيخان وغيرهما، يُجْمَع على صحته، فقد رواه سبع مئة رجل من أصحاب يحيى بن سعيد، فهو مشهور بالنسبة إلى آخره، غريبٌ بالنسبة إلى أوله، وليس متواتراً لفقد الشرط في بدئه، ولأنَّ بالنية تتميز العبادات عن العادات.

وعن محمد: أنَّ من توضَّأ يريد به صلاة الوقت، وغَرَبَتْ

(2)

عنه النيّة عند الشروع جازت صلاته. وفي «الرَّقِّيَّات» : من خرج من منزله يريد الصلاة التي كان القوم فيها، فَلَمَّا انتهى إلى القوم كَبَّر ولم تحضره النية، فهو داخل مع القوم، لأنَّ النية وُجِدَت فتبقى حكماً حتى يأتي المُبْطِل ولم يوجد. انتهى.

ولا يخفى أن هذا كله مبني على أنّ النية من شروط الصلاة، ولا يشترط فيها الاتصال بخلاف الأركان، وفي هذا توسعة ورفق بأهل الإيمان والله المستعان.

(و) يقصد (اقْتِدَاءَه) بالإمام (إن اقْتَدَى) لأَنَّه يلزم الفساد من جهته، فلا بد له من التزامه في نيّته، ولو نوى الاقتداء بزيد فإذا عمرو لا يجوز، لأنه اقتدى بغائب، ولو نوى الاقتداء ظاناً أنه زيد فإذا هو عمرو، يجوز.

(مُتَّصِلاً) ذلك القصد (بالتَّحْرِيمَةِ) أي بتكبيرة الافتتاح من غير فصل بينهما

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

غَرَبَ: أَي بَعُدَ. مختار الصحاح ص: 197 مادة (غرب).

ص: 223

ومَعَ اللَّفْظِ أفْضَلُ. ويَكْفِي لِغَيرِ الفَرْضِ والوَاجِبِ نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّلاةِ، وشرِطَ لَهُمَا التَّعْيين لا العَدَدُ.

===

بعمل يمنع الاتصال كالكلام، والأكل، والشرب، ونحوها، ولا يجوز الصلاة بنية مُتأخِّرة عن التكبيرة، لئلا يخلو أول جزء من القيام عن النية فلا يكون عبادة، فلا يكون الباقي أيضاً عبادة، لأنه مبني عليه، وهذا هو الصواب وهو ظاهر الرواية. وقال الكرْخِيّ: يصح ما دام في الثناء، وقيل: يصح إذا تقدمت على الركوع، وهذا أيضاً مبني على أنَّ تكبيرة التحريمة شرط، ولا ترتيب بين الشرائط. وإنَّما لا بد (من)

(1)

وجود كلها قبل أركان الصلاة. فإذا وُجِدَت النية بل الركوع فقد قارنت بعض القيام وحصل المرام.

(ومَعَ اللَّفْظِ) أي والقصد مع التَلَفُّظ بما يدل عليه (أفْضَلُ) منه بلا تَلَفُّظٍ، لأنَّ اللسان ترجمان الجَنان، وهذا بدعة حسنة استحسنها المشايخ للتقوية، أو لدفع الوسوسة، ولا عبرة بالنطق باللسان وحده، حتى لو نَطَقَ بظُهْرٍ ونوى عصراً، يكون عصراً.

وأمَّا التكبير، فلا بد منه للشروع في الصلاة، إلاَّ على قول أبي بَكْرٍ الأَصَمِّ، وإسماعيل بن عُلَيَّة، فإنَّهما يقولان: يَصِيرُ شارعاً بمجرد النية، والأَذْكار عندهما كالتكبير والقراءة زينة الصلاة، وليست من الواجبات. وشَرَطَ الشافعيّ المقارنة بينهما. وفي كيفيتهما لأصحابه وجهان: إمّا النية بالقلب مع ابتداء التكبير باللسان والفراغ منهما معاً، وإمَّا القِران العرْفي بحيث يُعَدُّ مستحضراً للصلاة غير غافل عنها، وهو اختيار إمام الحرمين، والغزالي، وقريب من مذهب أصحابنا.

(ويَكْفِي لِغَيْرِ الفَرْضِ والوَاجِبِ) سواء كان نفلاً، أو سنة مؤكّدة، (نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّلاةِ) لأَنَّ تعيين النوافل والسنن بوقوعها في أوقاتها، فلا يَفْتَقِرُ إلى تعيين (وشُرِطَ لَهُمَا) أي للفرض والواجب (التَّعْيِينُ) لأَنَّ الفروض والواجبات كثيرة، فلا بد من تعيين ما يراد أداؤه في النيّة (لا العَدَدُ) أي لا يُشْتَرَطُ للفرض والواجب نية عدد الركعات، لأَنَّ قصد التعيين مُغْنٍ عنه، ولو نوى الظهر ثلاثاً، أو الفجر أربعاً جاز. وكذا لا يشترط نيّة الكعبة، لا عينها ولا جهتها، لأن القيام لَمَّا تَعَيَّنَ للصلاة بالنية، تَعَيَّنَ الاستقبال للصلاة ضرورة، ولأن الاستقبال شرط، والشرط لا يحتاج إلى نية كما تقدم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة يقتضيها السياق.

ص: 224

‌بَاب صِفَةِ الصَّلاةِ

فَرْضُهَا: التَّحْرِيمَةُ،

===

بابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ

الوصف والصفة مصدران كالوعد والعِدَة، والهاء عوض عن الواو، والمتكلمون فَرَّقُوا بينهما فقالوا: الوصف يقوم بالواصف، والصفة تقوم بالموصوف. والمراد بالصفة ههنا: الهيئة الحاصلة للصلاة بأركانها وعوارضها.

(فَرْضُهَا) أيْ ما لا بد منه فيها: (التَّحْرِيمَةُ) أي تكبيرة الافتتاح. وسميت تحريمة: لأن بها تَحْرُمُ أمورٌ كانت مباحة قبلها، بخلاف سائر التكبيرات بعدها، والتحريم: جَعْلُ الشيء مُحَرَّماً، والهاء لتحقيق الاسمية. وهي شَرْط عندنا، ورُكْنٌ عند مالك، والشافعي، وأحمد، واختاره الطَّحاوي لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث طويل أَخْرَجه مسلم عن مُعَاوِية بن الحَكَم السُّلَمِي:«أنَّ هذه الصلاة لا يَصْلُحُ فيها شيء من كلام الناس، إنما هي: التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن» . ولأنه يُشْتَرَط لها، ما يُشْتَرَط للصلاةِ: من استقبال القبلة، والطهارة، وستر العورة.

ولنا قوله تعالى: {وذَكَرَ اسْمَ ربِّهِ فَصَلَّى}

(1)

والكل لا يُعْطَفُ على جزئه بالفاء، وأُجِيبَ عن الحديث: بأنَّ المراد منه أنَّ الصلاة من جنس التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن، لا بيان فرائض الصلاة، وإلاّ لكان التسبيح فرضاً، وبأنَّا لا نُسَلِّمُ اشتراط الطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة للتحريمة، حتى لو أحرم حاملاً للنجاسة، أو مُنْحَرِفاً عن القبلة، أو مكشوف العورة، وأزال ذلك عند الفراغ من التحريمة جاز. ولو سُلِّم اشتراط ذلك للتحريمة، فليس ذلك لنفسها، وإنما هو لأجل ما يتصل بها من الأركان. ولهذا شُرِط لصحتها القيام عند القدرة.

وثمرة الخلاف تظهر في جواز بناء النفل على تحريمة الفرض، فعندنا يجوز، لأنَّ شرط الفرض يَصْلُحُ شَرْطاً للنفل كسائر الشروط. وعندهم لا يجوز، لأنها ركن الفرض، وركن الفرض وجزؤه لا يقع جزأً من النفل.

ثم مُثْبِت فرضيتها، شرطاً كانت أو ركناً، قولُه تعالى:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}

(2)

وقد جاء في التفسير: أنه أُرِيدَ به تكبيرة الافتتاح، ولأنَّ الأَمر للإيجاب، وما ورائها ليس

(1)

سورة الأعلى، الآية:(15).

(2)

سورة المدثر، الآية:(3).

ص: 225

والقِيَامُ، وقِرَاءَةُ آيةٍ، في كُلٍّ من رَكْعَتَي الفَرْضِ،

===

بفرض، فتعين هذا التكبير، لئلا يؤدي إلى تعطيل النص. وقوله عليه الصلاة والسلام:«مفتاح الصَّلاة الطُّهُور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» . رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن عليّ كرّم الله وجهه، وحَسَّنَه النووي.

(والقِيَامُ) يعني في غير السنن، والنوافل لقوله تعالى:{وقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}

(1)

أيْ ساكتين، أو داعين، أو خاشعين، أو مخلصين، أو طائعين. والمراد في الصلاة لعدم وجوبه في غيرها، ولِمَا رَوَى البخاري، وأحمد والأربعة من حديث عِمْرَان بن حُصَيْن: أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «صَلِّ قائماً، فإنْ لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك» .

(وقِرَاءَةُ آيةٍ) طويلة كانت، أو قصيرة لقوله تعالى:{فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ}

(2)

فإنَّها نَزَلَت في الصلاة بدليل سياق الآية، ولقوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته:«ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن»

(3)

وما دون الآية غير مراد بالإجماع، فتبقى الآية.

(في كُلَ مِنْ رَكْعَتَيّ الفَرْضِ) أي: أيُّ ركعتين كانتا منه. وقال مالك: في أكثره. وقال زُفَر: في ركعة واحدة، وبه قال الحسن البَصْري.

ولنا أنَّ الأمر لا يقتضي التكرار، والركعة الثانية كالأولى في عدم سقوطها في السفر، فتثبت القراءة فيها بطريق الدلالة. وقال الشافعي: يجب قراءة الفاتحة في كل ركعات الفرض، والنفل بناء على أنَّ كل ركعة صلاة على حدة عنده، لقوله عليه الصلاة والسلام:«لا صلاة إلاَّ بقراءة فاتحة الكتاب»

(4)

. وسيأتي عنه الجواب. إلاَّ أنَّ الأفضل أن يقرأ فيما بعد الأُولَيَيْنِ، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم داوم على ذلك. كذا ذكره صاحب «الهداية» وفيه: أنه يَلْزَم من المداومة والمواظبة الوجوب، خصوصاً وفي الصحيحين عن أبي قَتَادَة:«أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأُخْرَيَيْنِ بأُمِّ الكتاب» . لكنْ رَوَى أبو داود: «أنَّ ابن عباس سُئِلَ: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال: لا» . ورَوَى الطَّحَاوِيّ عنه أيضاً: أنه قيل له: «إنَّ ناساً يقرؤون في الظهر والعصر،

(1)

سورة البقرة، الآية:(238).

(2)

سورة المزمل، الآية:(20).

(3)

سيأتي تخريجه عند المؤلف ص 231.

(4)

أخرجه الترمذي في سننه 2/ 25، كتاب الصلاة (2)، باب ما جاء أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب (69)، رقم (247).

ص: 226

وفي كُلٍّ مِنْ رَكَعَاتِ الوِتْرِ والنَّفْلِ.

والمُكْتَفِي بها مُسِيءٌ. وعِنْدَهُمَا آيَةٌ طَوِيلَةٌ، أوْ ثَلاثٌ قِصَارٌ. والرُّكُوعُ، والسُّجُودُ

===

فقال: لو كان لي عليهم سبيل لقلعت

(1)

ألسنتهم، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت قراءته لنا قراءة، وسكوته لنا سكوتاً».

قال الطَّحَاوِي: وقد رُوِي عنه خلاف ذلك، كما حدَّثنا صَالِحُ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيّ: حدَّثنا سَعِيدُ بنُ مَنْصُور: حدَّثنا هُشَيْم: أخبرنا حُصَيْن، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:«حَفِظْتُ السُّنَّة، غير أَنِّي لا أَدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر، أم لا» ؟ فهذا يدل على أنه ما تحقق عنده قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند غيره تحقَّق، كما هو مقرر في محله، ومن حَفِظَ حجةٌ على من لم يَحْفَظ.

مع أنه قد رُوِيَ عن ابن عباس مِنْ رأيه ما يدل على خلاف ذلك، كما رواه الطحاوي بسنده عنه أنَّه قال:«اقرأ خلف الإمام بفاتحة الكتاب في الظهر والعصر» . وفي رواية له عنه: «لا تُصَلِّ صلاة إلاَّ قرأت فيها، ولو بفاتحة الكتاب» . كذا حقّقه الطحاوي وتَبِعَه بعض المخرّجين.

والظاهر أنَّ جزمه بناءً على غلبة الظن، وتردده بناء على عدم تحقّقه عنده، إنَّما هو في الركعتين الأُخْرَيَيْن من الظهر والعصر، وهو لا ينافي ما تقدَّم. والله سبحانه أعلم.

(وفي كُلَ مِنْ رَكَعَاتِ الوِتْرِ والنَّفْلِ) أمّا النفل، فلأن كل شَفْعٍ منه صلاةٌ على حدة، فصار كركعتي الصبح، ولهذا لا يُؤَثِّرُ فساد شفع منه فيما قبله

(2)

. وأمّا الوِتْر فلإلحاقه بالنفل احتياطاً، لأنَّ دليل وجوبه ليس بقطعي. (والمُكْتَفِي بها) أي بالآية (مُسِيءٌ) أيْ آثم لتركه الواجب: وهو قراءة الفاتحة. (وعِنْدَهُمَا) وهو رواية عن أبي حنيفة: فَرْضُ القراءة (آيَةٌ طَوِيلَةٌ أوْ ثَلَاثٌ قِصَارٌ) لأَنَّه لا يُعَدُّ قارئاً في العُرْفِ بدون ما ذُكِرَ.

(والرُّكُوعُ) عطف على التحريمة (والسُّجُودُ) لقوله تعالى: {يَا أيُّها الذين آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا}

(3)

فأركان الصلاة شُرِعَت في كتاب الله متفرقة، وعُرِفَ الترتيب

(1)

في المخطوط: لقطعت، والمثبت: من المطبوع وهو موافق لما في رواية الطحاوي في كتابه" شرح معاني الآثار"، 1/ 205.

(2)

مثاله: إذا صلى أربع ركعات نفل وقعد القعود الأول، ثم طرأ فاسد في الركعتين الأُخْرَيين، فإِن هذا الفاسد لا يؤثر بالركعتين الأوليين، وإنما تُكتبا له. وثمرة ذلك تظهر في وجوب الإعادة، ففى هذه الحالة، يتوجب عليه إعادة الركعتين الأُخْريين، لا الأوليين. والله تعالى أعلم.

(3)

سورة الحج، الآية:(77).

ص: 227

بالجَبْهَةِ والأَنْفِ، وبهِ يُفْتَى

===

بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ للنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ}

(1)

. والظاهر: أن السجود الثاني فرض عملي، لأنه لم يثبت بدليل قطعي، وقيل: تَثْبُت فرضيته بالإجماع، حتى تفسد الصلاة بترك واحدة منهما.

ثم تَكْرَارُ السجود دون الركوع أمر تعبدي. وقيل: الأُولى لامتثال أمر المولى، والثانية لرغم إبليس حيث لم يسجد استكباراً. وقيل: الأُولى للأمر، والثانية للشكر. وقيل: الأُولى للإيمان، والثانية لبقاء الإيمان. وقيل: الأُولى إشارة إلى خلق الإنسان ابتداء، والثانية لبقاء الأمان. وقيل: الأُولى إشارة إلى خلق الإنسان ابتداء، والثانية إيماء إلى حالته انتهاءً. كما يشير إليه قوله تعالى:{منها خَلَقنَاكُمْ وفِيهَا نُعِيدُكُمْ ومِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}

(2)

.

وإنَّما يكونُ السجود (بالجَبْهَةِ والأَنْفِ) أيْ مَعاً خلافاً لبعضهم (وبِهِ) أيْ بالجمع بينهما (يُفْتَى) فلو سجد على الجبهة وحدها، أو على الأنف وحده من غير عذر، لا يكون آتياً بالفرض. وهو قول أبي يوسف، ومحمد، ورواية أسد عن أبي حنيفة. والمشهور عنه

(3)

: إنْ اقتصر على أحدهما جاز، كما في «الهداية». وقيل: الاقتصار على الجبهة من غير عذر جائز بالاتفاق، كما في شَرْحَي «المجْمَع» و «الكنز» .

ولا يُقَامُ السجود على الذقن، والخد مُقَام السجود على الجبهة والأنف. وأما وضع القدم على الأرض في الصلاة حالة السجدة ففرض، كما في «الخلاصة» . ولو وضع أحدهما دون الآخر تجوز صلاته، كما لو قام على قدم واحد، كما في «التجريد». وقيل: ووضع القدم بوضع أصابعه، وإنْ وضع أصبعاً واحدة. وقيل: وَضْعُ القدم ليس بفرض، بل هو سنّة. ويُفْتَرض وضع اليدين والركبتين في السجود على الصحيح لقوله عليه الصلاة والسلام:«أُمِرْتُ أنْ أسْجُدَ على سبعة أَعْظُمٍ: الجبهة، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين» . متّفق عليه.

وقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا سَجد، سجد معه سبعة آراب

(4)

: وجهه، وكفّاه، وركبتاه، وقدماه» رواه أصحاب «السنن الأربعة» ، ورواه البَزَّار في «مسنده»

(1)

سورة النحل، الآية:(44).

(2)

سورة طه، الآية:(55).

(3)

أي: عن أبى حنيفة.

(4)

آراب: أي أعضاء. النهاية: 1/ 36.

ص: 228

والقَعْدَةُ الأَخِيرَةُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ،

===

بلفظ: «أُمِرَ العبد أنْ يسجد على سبعة آراب» . وكذا الطحاوي بلفظ «السنن» وزاد: «أيُّها لم يضعه فقد انتقص» . وقيل: يُسَنُّ وضع اليدين والركبتين لقوله عليه الصلاة والسلام: «مثَلُ الذي يُصلي وشعره معقوص

(1)

، كمثل الذي يصلّي وهو مكتوف»

(2)

، فالتمثيل يدل على نفي الكمال دون نفي الجواز، ولأنَّ ماهية السجدة حاصلة بوضع الوجه والقدمين على الأرض، فكان وضع اليدين والركبتين متمّماً ومكمّلاً، لا داخلاً في الماهية.

فإنْ قيل: روى مسلم من حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُمِرْتُ أنْ أسجد على سبع، ولا أَكْفِتَ

(3)

الشعر ولا الثياب ـ أي لا أضمهما ـ: الجبهة، والأنف، واليدين، والركبتين، والقدمين»، والمعدود فيه ثمانية أَعْظُم لا سبعة. فالجواب أنَّ الجبهة والأنف عضو واحد، لأن الجبهة هي العظم الذي منه الأنف. وروى الترمذي وقال: حسن صحيح، عن أبي حُمَيْدٍ:«أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد مَكَّنَ جبهته وأنفه من الأرض» . ولو سجد على كَور عِمامته وطرف ثوبه جاز، خلافاً للشافعيّ.

ولنا حديث أنس قال: «كُنّا نصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في شدّة الحر، فإنْ لم يستطع أحدنا أنْ يُمَكِّنَ جبهته من الأرض، بسط ثوبه فسجد عليه» . رواه الشيخان وقال البخاريّ في «صحيحه» : قال الحَسَنُ: كان القوم يسجدون على العِمَامَةَ والقَلَنْسُوَة»، كذا ذكره علماؤنا. وليس نصَّاً في المُدَّعى كما لا يخفى، إذ الشافعيّ يمنع جواز السجدة على ملبوس المصلي لا مطلق الثوب إذا فُرِشَ وصُلِّيَ عليه، مع الاحتياج إلى تقريره عليه الصلاة والسلام أيضاً على فرض ثبوته وتقديره.

(والقَعْدَةُ الأَخِيرَةُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ) أيْ مقدار ما يسع فيه قراءته إلى: «عبده ورسوله» ، لا بقدر إيقاع لفظ السلام، كما قال مالك، فإنَّ السلام فرض عنده فيقدر محله وهو القعود بقدره. وزعم بعض مشايخنا أنَّ القدر المفروض من القعدة ما يأتي فيه بكلمتي الشهادة.

ثم القعدة الأخيرة فرض لا ركن خلافاً للشافعيّ، وإنّما كانت فرضاً لقوله تعالى:

(1)

معقوص: أصل العقص: اللَّيُّ، وإدخال أطراف الشعر في أصوله. النهاية: 3/ 275.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 355، كتاب الصلاة (4)، باب أعضاء السجود والنهى عن كف الشعر

(44)، رقم (232 - 492).

(3)

في المخطوط: أكفف، والمثبت من المطبوع، وهو موافق لما في رواية مسلم 1/ 355: كتاب الصلاة (4)، باب أعضاء السجود والنهي ...... (44)، رقم (231).

ص: 229

والخُرُوجُ بِصُنْعِهِ.

===

{أَقِيمُوا الصَّلاةَ}

(1)

، وقد التحق فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله بها بياناً، وهو لم يفعلها قط بدون القعدة الأخيرة. والمواظبةُ من غير ترك دليلُ الفرضية، وإذا وقع بياناً للفرض على الصلاة المجملة، كان متعلقها فرضاً بالضرورة إلاَّ ما خرج بدليله.

وقد روى أحمد وأبو داود والطَّحَاوِيّ عن ابن مسعود: «أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وعَلَّمه التشهد» . وفي آخر الحديث: «إذا قلت هذا أو قَضَيْتَ هذا فقد قُضِيَتْ صلاتك، إنْ شِئْتَ أنْ تقوم فقم، وإنْ شئت أن تَقعد فاقعد» ، فعلّق عليه الصلاة والسلام تمام الصلاة بالقعود مع القراءة، وبالقعود بدونها. لأن معنى قوله:«إذا قلت هذا» : أيْ التشهّد في القعود، لأن قول التشهّد بدون القعود غير معتبر. وقوله:«أو قضيت هذا» : أيْ نفس القعود. فـ «أو» للتنويع، لا لشك الراوي.

فإنْ قيل: لا يلزم من تعليق التمام بالقعود كونه فرضاً، لجواز أنْ يكون واجباً، فإنَّ الواجب أيضاً متمّم. أُجِيبَ بأنَّ قراءة التشهد من الواجبات، ولم يُعَلَّقْ التمام بها. فَعُلِمَ أنَّ المراد تمام الفرائض. هذا، وحديث ابن مسعود من غير هذه الزيادة متّفق عليه. وقال النووي: اتفق الحُفَّاظُ على أنها مدرجة، ليست من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنها من كلام ابن مسعود. جاء ذلك صريحاً بإدراجها، وقد أوضح ذلك الدَّارقُطْنِيّ والبيهقيّ وغيرهما. قلت: على الفرض والتسليم، فمثل هذا لا يُعْرَفُ إلاَّ سَمَاعاً، فهو في حكم المرفوع إجماعاً

(2)

.

(والخُرُوجُ) أي من الصلاة (بِصُنْعِهِ) أي بفعل المصلي ما ينافيها، وهذا عند أبي حنيفة على تخريج البَرْدَعِي، لأَنَّ للصلاة تحريماً وتحليلاً. فلا يخرج منها إلاَّ بالصنع كالحج. وأما على تخريج الكَرْخِيّ فليس بفرض وهو الصحيح، لأنه ثَبَتَ بدليل ظنِّي: وهو ما رُوِيَ عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: «إذا قعد الإمام في آخر صلاته ثم أحدث قبل أن يتشهد (فقد تمت)

(3)

صلاته». وفي رواية: «قبل أنْ يُسَلِّم» . وفي رواية: «قبل أنْ يتكلَّم» رواه أبو داود والترمذي والبيهقي. وقال الشافعيّ: الخروج من الصلاة بلفظ السلام فرض لقوله عليه الصلاة والسلام: «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم»

(4)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(43).

(2)

هذا، وقد فَضَّل الزيلعي الكلام على هذه الزيادة في "نصب الراية" 1/ 424، فانظره.

(3)

في الأصل: "تم"، والتصويب من "سنن أبي داود" 1/ 410، رقم (617). وهو بلفظ مختلف.

(4)

أخرجه أبو داود في "السنن" الموضع السابق، حديث رقم (618).

ص: 230

[واجِبَاتُ الصَّلاةِ]

وَوَاجِبُهَا: قِرَاءةُ الفَاتِحَةِ، وضَمُّ سُورَةٍ، أو ثَلاثِ آيَاتٍ،

===

قلنا الحديث ظنّي وإنما يفيد الوجوب عندنا، وإنما فُرِضَ التكبير بدليل آخر، فتدبر. بل التحقيق أنَّ لفظ التكبير في التحريمة واجب، والشروع بذكر الله فرض، كما تقدم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(وَاجِبَاتُ الصَّلاةِ)

(وَوَاجِبُهَا: قِرَاءةُ الفَاتِحَةِ) وقال مالك، والشافعي، وأحمد: هي رُكْنٌ لما في الكتب الستة عن عُبَادَةَ بن الصَّامتِ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» . ورواه الدَّارَقُطْنِيّ عن زِياد بن أيوب بلفظ: «لا تُجْزِاءُ صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب» . وفي «صحيح مسلم» : «من صلَّى صلاة لم يقرأ فيها بأمِّ القرآن فهي

(1)

خِدَاج ثلاثاً»، أيْ: ناقصة. وإذا أُطلق النقصان، فالأصل صِدقُهُ على النقصان في الماهية إلاَّ أنْ يقوم الدليل على أنه في الأوصاف.

ولنا ما في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة قال: «دخل رجل المسجد فصلّى والنبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم جاء فسَلَّمَ، فردَّ عليه السلام، وقال: ارجِع فصلِّ فإنك لم تصلِّ، ففعل ذلك ثلاث مرات فقال: والذي بعثك بالحق ما أُحْسِنُ غير هذا فَعَلِّمْنِي فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبّر، ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اجعل ذلك في صلاتك كلها» .

وأُجِيبَ عن حديث عُبَادَة: بأنَّ المراد به نَفْيُ الفضيلة نحو: «لا صلاة لجار المسجد إلاَّ في المسجد» . رواه الدَّارَقُطْنيّ بحديث ضعيف عن جابر، عن أبي هريرة، والحاكم في «مستدركه» ، وسكت عنه. وقال ابن حَزْم: وهو صحيح عن عليّ. وأمّا الجواب عن رواية زِيَاد بن أيوب: فبأنها شاذة، إذ رواية غيره:«لا صلاة لمن لم يقرأ» ، وكأن زياداً زاد في المبنى وروى بالمعنى.

(وضَمُّ سُورَةٍ أو ثَلَاثِ آيَاتٍ) لمواظبته عليه الصلاة والسلام عليه، ولِمَا رَوَى أبو داود، وابن حبَّان عن أبي سعيد قال:«أُمِرْنا أنْ نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر» . ولفظ

(1)

في المطبوع: وهي، والمثبت من المخطوط، وهو موافق لما في رواية مسلم 1/ 297، كتاب الصلاة، (4)، باب وجوب قراءة الفاتحة .... (11)، رقم (41 - 395).

ص: 231

وَرِعَايَةُ التَّرْتِيبِ، والقَعْدَةُ الأُولَى، والتَّشَهُّدُ،

===

ابن حبَّان: «أَمرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب فما زاد» . رواه جماعةٌ: منهم الحاكم وقال: حديث صحيح، وفي رواية لمسلم:«لا صلاة لمن لم يقرأ بأمِّ القرآن فصاعداً» . وفي رواية للترمذيّ، وابن ماجه:«لا صلاة لمن لم يقرأ بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها» .

ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب وآيتين من القرآن» . أي طويلتين، رواه الطبرانيّ. ولقوله عليه الصلاة والسلام:«لا تُجْزِاء المكتوبة إلاَّ بفاتحة الكتاب وثلاث آياتٍ فصاعداً» . رواه ابن عَدِيّ. ولقول أبي سعيد: «أُمِرْنَا أنْ نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر» . رواه أبو داود. ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تُجْزِاءُ صلاة لا يُقْرَأُ فيها بفاتحة الكتاب، وشيء معها من القرآن» . رواه أبو نُعَيْم الحافظ. وبهذا اسْتُدِلَّ لأحد قولي مالك على فرضية الضم. وقال مالك في رواية، والشافعيّ: ضم السورة سنة.

(وَرِعَايَةُ التَّرْتِيبِ) بين القيام، والقراءة، والركوع، والسجود، واجبٌ. وقال زُفَر: فرض، لأن الصلاة كانت مُجْمَلة، ولم يقع البيان من النبيّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ كذلك. وأمَّا الترتيب بين التحريمة، والقعدة الأخيرة ففرض اتفاقاً. وفي «المحيط»: القيام والركوع والقعدة لا يُقْضَى بعد فواته لأنه لم يُشرع قُرْبةً بانفراده. والقراءة والسجدة الصُلْبِيَّة وسجدة التلاوة تُقْضَى ما دام في الصلاة، لأنها شُرِعت قربة بانفرادها. انتهى.

ولا يخفى أنّ قضاء القراءة لم يتصوّر في الصبح

(1)

وكذا في الوتر والنوافل. وقيل: يجب الترتيب في فعل مكرّر في ركعة، كالسجدة حتّى لو ترك الثانية وقام إلى الركعة الأخرى لا تفسد صلاته. وأمّا تقديم القيام على الركوع، والركوع على السجود، فإنه فرض. لأنَّ الصلاة لا توجد بدون ذلك. كذا في «مواهب الرحمن» وغيره. وفيه نظر لأنهم قالوا: يجب سجود السهو بتقديم ركن، وأوردوا نظيره: الركوع قبل القراءة. وسجدة السهو لا تجب إلاّ بترك الواجب، فعُلِمَ أنَّ الترتيب بين الركوع والقراءة واجب.

(والقَعْدَةُ الأُولَى) واجبة على الصحيح لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليها، وسجوده للسهو لَمّا تركها وقام ساهياً. وقال الطَّحاوِي والكَرْخِي: هي سنّة. (والتَّشَهُّدُ) أي جنسه الشامل

(1)

حرف في المطبوع إلى: "الصحيح". والصواب ما أثبتناه من المخطوط. وتوضيح المسألة: أنه إذا ترك القراءه في ركعة من المغرب قضاها في الركعة الثالثة، إذا تركها في الأوليين من صلاة رباعية قضاها في الأُخريين، أما في فرض الصبح فلا يتصور فيه القضاء، لأنه فرض ثنائي والركعتان متعينتان للقراءة.

ص: 232

ولَفْظُ السَّلامِ، وقُنُوتُ الوِتْرِ، وتَكْبِيراتُ العِيدَيْنِ،

===

للأول والثاني، وفي بعض النسخ: والتشهدان بلفظة التثنية، لقوله عليه الصلاة والسلام لابن مسعود:«قل: التحيات»

(1)

من غير تفرقة بين الأول والثاني، وإذا وجب التشهد الأول وجبت قعدته. وقال مالك والشافعيّ: هما سنتان، وقال أحمد: فرضان ويُجْبَران بالسجود. ثم اعلم أنَّ صاحب «الهداية» عد في هذا الباب: قراءة التشهد في القعدة الأخيرة من الواجبات، وسكت عن قراءة الأولى، وذكر في باب السجود أنَّ قراءته في القعدة الأولى واجبة. فقول المصنف في شرح «الوقاية» وفي «الهداية»: إن قراءة التشهد في القعدة الأولى سنّة، غير مستقيم.

(ولَفْظُ السَّلامِ) أيْ الخروج من الصلاة بلفظ السلام واجب، وقال مالك: التسليمة الأولى فرض. وقال الشافعي وأحمد: التسليمتان فريضتان. وقال سفيان الثوريّ والأوزاعي: سنتان.

لنا: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُعَلِّمْه الأعرابي حين عَلَّمَه الصلاة، ولو كان فرضاً لعلَّمه. وقوله عليه الصلاة والسلام:«إذا قضى الإمام الصلاة وقعد، فأحدث قبل أنْ يتكلم فقد تمّت صلاته، ومن كان خلفه ممن أتَمَّ الصلاة» . رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوي وقد اضْطَرَبُوا فيه. رواه الطَّحَاوِي عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «إذا قضى الإمام الصلاة وقعد، فأحدث هو، أو أحد ممن أتَمَّ الصلاة معه قبل أنْ يُسَلِّمَ الإمام، فقد تمّت صلاته، فلا يعود فيها» . وفي لفظ: «إذا رفع المصلي رأسه من آخر صلاته وقضى تشهّده ثم أحدث فقد تمّت صلاته، فلا يعود لها» . وفي لفظ: «من أخَّرَ السجود فقد تمّت صلاته إذا هو أحدث» ، ونحوه عن عليّ والحسن وابن المُسَيَّب (وعَطَاء وإبراهيم النَخَعِي.

وأما حديث: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» )

(2)

فيفيد الوجوب وقد قلنا به. ولا يُلحق التحليل بالتكبير لثبوته بدليل آخر قطعي، كما تقدم والله تعالى أعلم.

(وقُنُوتُ الوِتْرِ وتَكْبِيراتُ العِيدَيْنِ) ولهذا يجب سجود السهو بتركها، كذا ذكره

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 2/ 311، كتاب الأذان (10)، باب التشهد في الأخيرة (148)، رقم (831). وأبو داود في سننه 1/ 49 - 50، كتاب الطهارة (1)، باب فرض الوضوء (31)، رقم (61). والترمذي في سننه 1/ 8 - 9، كتاب الطهارة (1)، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور (3)، رقم (3). وابن ماجه في سننه 1/ 101، كتاب الطهارة وسننها (1)، باب مفتاح الصلاة الطهور (3)، رقم (275).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 233

وَتَعْيينُ الأُولَيَيْنِ للقِرَاءَةِ، وتَعْدِيلُ الأَرْكَانِ،

===

الشارح ولم يُظْهِر دليل وجوبهما، ولعله المواظبة عليهما من غير تركهما.

(وتَعْيينُ) الركعتين (الأُولَيَيْنِ للقِرَاءَةِ) لأَنه عليه الصلاة والسلام واظب على القراءة فيهما دون غيرهما، ولِمَا رُوِيَ:«أنَّ عمر ترك القراءة في ركعة من صلاة المغرب، فقضاها في الركعة الثالثة، وأنَّ عثمان ترك القراءة في الأُولَيَيْنِ مِنْ صلاةِ العِشَاءِ، فقضاها في الأُخْرَيَيْنِ وجهر» . كذا ذكره في «المبسوط» .

(وتَعْدِيلُ الأَرْكَانِ) أي تسوية الجوارح في الركوع والسجود حتى تطمئن، وهذا على تخريج الكَرْخِيّ، لأنَّ التعديل شُرِع لتكميل الأركان فيجب كقراءة الفاتحة. وعلى تخريج الجُرْجَانِيّ: هو سنةٌ كتعديل القَوْمَةِ والجَلْسَةِ، وبه قال بعض المالكية. ويؤيّد الأول مواظبته عليه الصلاة والسلام (فعلاً وقولاً، وقد نَزَّل الله الأحكام في كتابه مجملاً، فَبَيَّنه عليه الصلاة والسلام

(1)

مفصَّلاً، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم:«صلّوا كما رأيتموني أُصَلِّي»

(2)

وقد ركع، واطمأنّ وأتمَّ القومة والقعدة. فيكون إمّا واجباً، وإمّا فرضاً، كالقعدة الأخيرة المحتج بها بالمواظبة بل أوْلَى لِمَا سيأتي من الأحاديث الواردة.

وقال أبو يوسف، وهو قول مالك والشافعيّ وأحمد: تعديل الركوع والسجود والقيام عنهما والجلوس بين السجدتين فرض، لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته:«ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ» . رواه الشيخان، والترمذي، وأبو داود وغيرهم.

ولهما أنَّ الله تعالى أمر بالركوع: وهو الانحناء، وبالسجود: وهو وضع الجبهة على الأرض، فتَتَعَلَّق الفرضية بهما. وقد روى أبو داود والترمذيّ والنَّسائيّ في آخر حديث المسيء صلاته:«فإذا فعلت هذا فقد تمّت صلاتك، وما انتقصت من هذا فإنما انتقصت من صلاتك» . فوصفها بالنقصان عند فقد التعديل، ولو كانت باطلة لوصفها بالزوال والذهاب. وأيضاً لو كان التعديل فرضاً، لَمَا أقرّه عليه الصلاة والسلام إلى آخر الصلاة، ولأمره بالإعادة على الفور لأنَّ المُضِيَّ على الفاسد عبث، وإنما أمره بالإعادة جبراً للنقصان، وزجراً له عن العادة الذميمة، وبهذا نقول. فعن السَّرَخْسِي: مَنْ تَرَكَ الاعتدال تلزمه الإعادة. ومن المشايخ من قال: يلزمه، ويكون الفرض هو الثاني. ولا

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(2)

رواه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 13/ 231، كتاب أخبار الآحاد (95)، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد

(1)، رقم (7246).

ص: 234

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

إشكال في وجوب الإعادة إذ هو الحكم في كل صلاة أُدِّيَت مع الكراهة التحريمية، ويكون جابراً للأول لأن الفرض لا يتكرر. وجَعْلهُ الثاني يقتضي عدم سقوطه بالأول، وهو لازم من ترك الركن لا الواجب.

وقال بعض المحققين: وينبغي أنْ تكون القَوْمة والجَلْسة واجبتين للمواظبة، ولعله كذلك عندهما ويدل عليه إيجاب سجود السهو فيه كما ذُكِرَ في «فتاوي قَاضِيخَان» في فصل ما يُوجب السهو، قال: المصلي إذا ركع ولم يرفع رأسه من الركوع حتى خرّ ساجداً ساهياً، تجوز صلاته في قول أبي حنيفة ومحمد وعليه السهو. ويُحْمَل قول أبي يوسف: أنها فرائض، على الفرائض العملية وهي الواجبة، فيرتفع الخلاف. انتهى. إلاَّ أنَّ الحَمْلَ بعيد، لِحُكْمِهِ عند فوتها بعدم الصحة، عمداً كان أو سهواً وحكمهما بصحتها ناقصة في الأول، مجبورة بسجود السهو في الثاني.

ثم اعلم أنَّ المراد من حديث المسيء صلاته ما ورد في «الصحيحين» عن أبي هريرة من قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي دخل المسجد، فصلّى ثم جاء فسلّم عليه، فقال:«ارجع فَصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ» . حتى فعل ذلك ثلاث مرار فقال الرجل: «والذي بعثك بالحق ما أُحْسِنُ غير هذا فَعَلِّمْنِي، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئنَّ راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها، فإذا فعلت هذا فقد تَمَّتْ صلاتك» .

زاد أبو داود: «وما انْتَقَصْتَ من هذا، فقد انْتَقَصْتَ من صلاتك» ، وفي الترمذي: فقال الرجل في آخر ذلك: «فأرِنِي وعَلِّمْني، فإنما أنا بشر أُصيب وأخطاء، فقال: أجل، إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله، ثم تشهَّد فأقم أيضاً، فإنْ كان معك قرآن فاقرأ، وإلاّ فاحمد الله وكَبِّره وهَلِّله، ثم اركع فاطمئن راكعاً، ثم اعتدل قائماً، ثم اسجد فاعتدل ساجداً، ثم اجلس فاطمئنَّ جالساً، ثم قم، فإذا فعلت ذلك فقد تَمَّتْ صلاتُك، وإن انتقصتَ منه شيئاً فقد انتقصت من صلاتك» .

وفي النّسائي: «فدخل رجل فصلّى ركعتين ثم جاء فسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد كان يَرْمُقُه

(1)

في صلاته فَرَدَّ عليه السلام، ثم قال ارجع فصلّ حتى كان عند الثالثة أو

(1)

يرمقه: أي ينظر إليه شَزْرًا. النهاية: 2/ 264. والشَّزْر: نظر الغضبان بمؤخَّر عينه. مختار الصحاح. ص 142 مادة (شزر).

ص: 235

والجَهْرُ والإِخْفَاءُ فيما يَجْهَرُ ويُخْفِي.

===

الرابعة، فقال: والذي أنزل عليك الكتاب لقد جَهِدْتُ، فأرني وعَلِّمْنِي، قال: إذا أردت أن تصلي فتوضأ، فأحسن وضوءك ثم استقبل القبلة، فكبّر ثم اقرأ، ثم اركع»، وساقه بمعنى رواية أبي داود.

هذا، وفي «السنن الأربعة» من قوله عليه الصلاة والسلام:«لا تُجْزِاء صلاة لا يُقيم الرجل فيها ظهره في الركوع والسجود» . قال الترمذي: حديث حسنٌ صحيحٌ. وفي ابن ماجه عن عبد الله بن بَدْر أنَّ عبد الرحمن بن علي حدَّثه: «أنه أتاه عليّ بن شيبان وحدَّثه: أنَّه خرج وافِداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فَصَلَّيْنَا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمح بمؤخر عينه إلى رجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فلما انصرف قال: يا معشر المسلمين إنه لا صلاة لمن لم يُقِم صلبه في الركوع والسجود» .

وفي البخاري عن حُذَيْفَة: «أنه رأى رجلاً لا يتم ركوعاً ولا سجوداً، فلما انصرف عن صلاته دعاه حُذَيْفَة فقال له: منذ كم صليت هذه الصلاة؟ قال: صليتها منذ كذا وكذا، فقال حُذَيْفَة: ما صلّيت بَعْدُ صلاة وأحسبه قال

(1)

: ـ ولو مُتَّ، مُتَّ على غير سنّة محمّد صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا إنما يقال سماعاً لا رأياً.

(والجَهْرُ والإِخْفَاءُ) أي يجبان على الإمام (فيما يَجْهَرُ ويُخْفِي) فيجهِر القراءة في صلاة الفجر وأُولَيَي العشائين

(2)

، ولو كانت الصلاة قضاء، لقضية ليلة التَّعْرِيس

(3)

في الأصح. وجهر المنفرد أفضل، وكذا يجب الجهر في الجمعة والعيدين لورود النقل المستفيض به. ويجب الإسرار في غيرها من الصلاة في الركعات، لما روى أبو داود في مراسيله عن الحسن، قال: «سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أي شرع ـ أن يُجْهَرَ بالقراءة في الفجر بالركعتين كلتيهما ويقرأ في الركعتين الأُولَيَيْنِ في صلاة الظهر بأمّ القرآن وسورة في كل ركعة سراً في نفسه، ويقرأ في الركعتين الأُخْرَيين من صلاة الظهر بأمّ القرآن في كل ركعة سرّاً في نفسه، ويفعل في العصر مثل ما يفعل في الظهر.

ويجهر الإمام بالقراءة في الأُولَيين من صلاة المغرب، ويقرأ في كل ركعة منهما بأم القرآن وسورة، ويقرأ في الركعة الآخرة من صلاة المغرب بأمّ القرآن سراً في نفسه، ثم يجهر بالقراءة في الركعتين الأُولَيين من صلاة العشاء بأمّ القرآن وسورة، ويقرأ في

(1)

أي حُذَيْفَة.

(2)

أي صلاة المغرب وصلاة العشاء.

(3)

التعريس: هو نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة. النهاية: 3/ 206.

ص: 236

[سُنَنُ الصَّلاةِ]

وَسُنَّ غَيرُها أو نُدِبَ. فإذَا أرَادَ الشُّرُوعَ كَبَّرَ بِلا مَدِّ الهَمْزَةِ والبَاءِ، مَاسًّا بإبْهَامَيهِ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ

===

الركعتين الأُخْرَيين في نفسه بأمّ القرآن، وينصت من وراء الإمام ويستمع لِمَا يجهر به الإمام، لا يقرأ معه أحد، ويتشهد سراً في نفسه في الصلاة حين يجلس الإمام والناس خلفه في الركعتين».

وقد ورد في مواقيت الصلاة من حديث أنس ما معناه: «أنه صلى الله عليه وسلم أَسَرَّ في الظهر والعصر، والثالثة من المغرب، والأُخْرَيَين من العشاء، وَجَهَرَ في الفجر وأولَيي المغرب والعشاء. وقيل: إنَّ الجهر والإخفاء فيما يُجْهَرُ به ويُسَرُّ سُنَّتَان، لأنهما ليسا بمقصودين، وإنما المقصود القراءة. ويجب الإسرار في نفل النهار لقول مجاهد: «صلاة النهار عَجْمَاء»

(1)

، وخُيِّر المنفرد فيما يجهر به كنَفْل الليل، فإن شاء جهر، وهو أفضل من المخافتة تَشبُّهاً بالجماعة، وإن شاء خافت لعدم من يسمعه.

(سُنَنُ الصَّلاةِ)

(وَسُنَّ غَيْرُها) أي غير المذكورات من الفرائض والواجبات، وفي بعض النسخ: غيرهما، أي غير نوع الفرائض والواجبات، (أو نُدِبَ) أي استحب مما سيذكر في صفة الصلاة إجمالاً ونبين تفصيلاً.

(فإذَا أرَادَ الشُّرُوعَ) في الصلاة (كَبَّرَ) تكبيرة الافتتاح قائماً، فلو كَبَّر قاعداً ثم قام لا يكون شارعاً، ولو جاء والإمام راكع فحنى ظهره وكَبَّر: إنْ كان إلى القيام أقرب جاز، وإلاَّ فلا، ولو أدرك الإمام راكعاً فكبَّر قائماً يريد تكبيرة الركوع جاز، لأن إرادته لغت، فَبَقِيَ تكبيره حالة القيام للتحريمة، كذا في «المحيط» .

(بِلَا مَدِّ الهَمْزَةِ والبَاءِ) لأنَّ مدّ الهمزة في الجلالة وفي أكبر استفهامٌ مفسِد للصلاة، وعمدُه كفر، وأما مدّ الباء فيصير اللفظ به أكْبَار جمع كَبْر بفتح فسكون وهو الطبل. وقيل: اسم الشيطان فيفسدها، وعمده كفر. وقيل: لا يفسدها، لأنه إشباع، وهو لغة قوم. وأما مد الألف في آخر الجلالة فلا يضر للصلاة، إلاَّ أنه لا يجوز زيادة على قدر ألف في الوصل وعلى ثلاث ألِفَات في الوقف، وجزم الهاء خطأ.

(مَاسَّاً) أي واصلاً (بإبْهَامَيْهِ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ) ليتيقن محاذاة يديه لأذنيه، فإن محاذاتهما سنة عندنا، وهو رواية عن أحمد، لما رَوَى مسلم من حديث وَائِل بن

(1)

المعنى: أن صلاة الظهر لا تُسْمَع فيها قراءة. النهاية 3/ 187.

ص: 237

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

حُجْر: «أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر، ووضَعَهما حِيَال أذنيه، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع، أخرج يده من الثوب، ثم رفعهما، ثم كبّر فركع، فلما قال: سمع الله لِمَنْ حَمِدَه رفع يديه، فلما سجد، سجد بين كفّيه» .

وروى الطحاوي والدَّارَقُطْنِيّ وإسحاق بن رَاهُويه من حديث يَزِيد بن أبي زِيَاد، عن عبد الرّحْمَن بن أبي ليلى، عن البَرَاء بن عازب قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى رفع يديه حتى كان إبهاماه حذاء أذنيه» . زاد الدَّارَقُطْنِيُّ فيه: «ثم لم يعد» . وروى هو في «سننه» ، والحاكم في «مستدركه» ، عن أنس قال:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كبّر فحاذى بإبهاميه أذنيه، ثم ركع حتى استقر كل مَفْصِل منه، وانحط بالتكبير حتى سبقت يداه ركبتيه» . قال الحاكم: إسناده صحيح على شرط الشيخين، ولا أعلم له علّة، ولم يخرجاه. وروى الدَّارَقُطْنِيّ بطريق آخر (عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة كبَّر، ثم رفع يديه حتى)

(1)

يحاذي إبهاميه أذنيه، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك

» إلخ، وقال: رجال إسناده كلهم ثقات.

وأما قول صاحب «الهداية» : لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تُرْفَع الأيدي إلاَّ في سبع مواطن: تكبيرة الافتتاح، وتكبيرة القنوت، وتكبيرات العيدين، وذَكَرَ الأربع في الحج» ، فغير معروفٍ رَفْعُهُ، فإنما ثبت وقفه على النَّخَعِيّ من قوله، كذلك رواه الطحاويّ عن سُلَيْمَان ابن شُعَيْب، عن أبيه، عن أبي يُوسف، عن أبي حنيفة، عن طَلْحَة بن مُصَرِّف، عن إبراهيم النَّخَعِي، قال: «تُرْفَعُ الأَيدي في سبع مواطن: في افتتاح الصلاة، وفي التكبير للقنوت في الوتر، وفي العيدين

(2)

، وعند استلام الحجر، وعلى الصفا والمروة، وبِجَمْعٍ وعرفات، وعند المقامين، ثم عند الجمرتين».

والمرفوع من ذلك ما رواه الشافعي و (الطحاوي)

(3)

والبَزَّار في آخرين. وهذا لفظ البَزّار عن المُحَارِبي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس وعن نافع، عن ابن عمر، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تُرْفَع الأيدي في سبع مواطن: عند افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصفا والمروة، والموقفين والجمرتين» . وقال مالك والشافعي، وهو رواية عن أحمد: يرفع يديه حذو منكبيه، لِمَا رَوَى الجماعة

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

أي تكبيرات العيدين.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 238

والمَرْأةُ تَرْفَع يَدَيْهَا حِذَاءَ مَنْكِبَيْهَا.

ويَجُوزُ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى تَعْظِيمٍ،

===

عن عبد الله بن عمر: «أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبَّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع» .

قلنا: لا معارضة بين المحاذاتين لِمَا في أبي داود عن وائل (بن حُجْر)

(1)

: «أنه أبصر النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قام إلى الصلاة رفع يديه حتى كانتا بحيال منكبيه، وحاذى بإبهاميه أذنيه» . والذي نصَّ على محاذاة الإِبهامين بالشحمتين وَفَّقَ في التحقيق بين الروايتين فتعيّن اعتباره، إذ محاذاة الشحمتين بالإبهامين تُسَوِّغ حكاية محاذاة اليدين بالمَنْكِبين والأذنين، لأن طرف الكف مع الرسغ يحاذي المَنْكِب أو يقاربه، والكف نفسه يحاذي الأذن، واليد تطلق على الكف إلى أعلاها. ولئن سلّمنا، فجاز أنه رفع إلى الأذنين تارةً، وإلى المنكبين أخرى، فيكون إلى الأذنين من سنن الهُدى أو الزوائد، لما روينا في» الشفاء»

(2)

من قوله صلى الله عليه وسلم «إذا قمتم إلى الصلاة، فارفعوا أيديكم، ولا تخالف آذانكم» . ولا دليل على نسخ الأدنى للأعلى.

قال ابن المُنْذِر: لم يختلف أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة. انتهى. وقد روى البخاري عن أنس: «أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل في الصلاة كبَّر ورفع يديه .. » الحديث. وعن عليّ: «أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبّر ورفع يديه

» الحديث. رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. وعن مالك بن الحُوَيْرِث: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبَّر رفع يديه

» الحديث. رواه مسلم، وأصله في البخاري.

ثم يُسَنُّ نشر الأصابع عند الرفع بلا ضمّ ولا تفريج والأوْلى خروجها عن كُمّيْه، ثم قال أبو يوسف: يرفع يديه مقارناً للتكبير، وهو اختيار بعض المشايخ. وقال أبو حنيفة ومحمد: يرفع يديه ثم يكبر لأن في الرفع نفي الكبرياء عن غيره تعالى بطريق الإشارة، وفي التكبير إثبات الكبرياء له تعالى على سبيل العبادة. والنفي مقدم على الإثبات كما في كلمة الشهادتين. وفي «الهداية»: وهو الأصح.

(والمَرْأةُ تَرْفَع يَدَيْهَا حِذَاءَ مَنْكِبَيْهَا) لأنه أستر لها.

(ويَجُوزُ) الشروع في الصلاة (بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى تَعْظِيمٍ) وتبجيل من تسبيح

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(2)

في المخطوط: الثناء، والمثبت من المطبوع.

ص: 239

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وتهليل، لأن التكبير في اللغة: التعظيم، قال تعالى:{ورَبَّكَ فَكَبِّر}

(1)

أي فَعَظِّم، وقال:{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أكْبَرْنَهُ}

(2)

أي عَظَّمْنَهُ، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وفي «المحيط»: ورُوِيَ عن أبي حنيفة: أنه كرِه الافتتاح إلاَّ بـ: الله أكبر، والأصح أنه لا يُكْرَه، ذكره الشارح. قلت: الأصح أنه بدونه يُكْرَه لأنَّ مواظبة النبيّ صلى الله عليه وسلم تفيد الوجوب، مع الخلاف في صحّة الشروع بغيره. ثم رأيت «الذخيرة» صرّح بأنه يُكْرَه بغير التكبير. وعند أبي يوسف: لا يصحّ الشروع في الصلاة لمن يُحْسِن التكبير إلاّ بـ: ـالله أكبر، أو: الله الأكبر، أو: الله الكبير، أو: الله كبير.

وعند الشافعي: لا يجوز إلا بالأوَّلين

(3)

. وعند مالك وأحمد: لا يجوز إلاَّ بالأوّل

(4)

، لأنه المنقول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مُبَيِّنٌ لِمَا في الكتاب من التكبير المبهم. وللشافعي: أنَّ: الله الأكبر أبلغ من الله أكبر، لأن تعريف الخبر يفيد حصره في المبتدأ. ولأبي يوسف: أن أفعل التفضيل إذا لم يكن في أصله مشاركة كما في صفات الله سبحانه، لا يكون بمعنى التفضيل نحو:{وهُوَ أَهْوَنُ عليه}

(5)

فيكون أكبر في حقّه تعالى بمعنى كبير، ولأبي حنيفة: قوله تعالى: {وذَكَرَ اسْمَ ربِّه فَصَلَّى}

(6)

فإنه بإطلاقه يدل على جواز الشروع في الصلاة بكل ذِكْرٍ على سبيل التعظيم: كـ: الله أجلّ، والرحمن أكبر، و: الله أعظم، فإنَّ هذه الألفاظ موضوعة لتعظيم الله عز وجل فكانت تكبيراً وإنْ لم يُتَلَفَّظْ بِه.

فالثابت بالنص ذِكْر الله على سبيل التعظيم، ولفظ التكبير ثبت بالخبر فيجب العمل، حتى يُكْره افتتاح الصلاة بغيره لمَن يحسنه بناءً على تصحيح صاحب «التحفة» ، وهو أولى من تصحيح السَّرَخْسي: عَدَمَها بغيره.

ولو قال عند الشروع: الله، كان شارعاً في الصلاة عند أبي حنيفة خلافاً لأبي يوسف ومحمد، حتى يذكر الخبر: إمّا بلفظ التكبير عند أبي يوسف، أو بنحو: أجلَّ، وأعظم، وكريم، ورحيم عند محمد. وعند أبي حنيفة: يُكْتَفَى بالخبر، أو المبتدأ المقدر

(1)

سورة المدّثر، الآية:(3).

(2)

سورة يوسف، الآية:(31).

(3)

أي اللفظين الأوّلين: الله أكبر، أو الله الأَكبر.

(4)

أي: الله أكبر.

(5)

سورة الروم، الآية: (127.

(6)

سورة الأعلى، الآية:(15).

ص: 240

لا مَشُوبٍ بِدُعَاءٍ، ولَوْ بالفَارِسِيَّةِ، لا القِرَاءَةُ بِهَا إلّا بِعُذْرٍ، ويهِ يُفْتَى.

===

فقوله: الله، أيْ هو الله، أو أنت الله، أو الله ربنا، أو حسبنا.

وإذا كبَّر المأموم مقارناً لتكبير الإمام، يصير مُدْرِكاً فضيلة تكبيرة الافتتاح، وعندهما إذا أدرك الإمام في الثناء. وقال بعضهم: إذا أدرك الإمام في الركعة الأولى يصير مدركاً فضيلة تكبيرة الافتتاح.

(لا مَشُوبٍ) أي لا مخلوط (بِدُعَاءٍ) فلا يصح الافتتاح باللهم اغفر لي ونحوه، لأنه قصد السؤال به دون التعظيم، ولو قال: اللهم، قيل: يجزيه وهو الأصح، كذا في «المحيط» ، لأن معناه: يا الله، والميم المشددة خَلَف عن حرف النداء. وقيل: لا يجزيه، لأن معناه يا الله أمِّنَّا بخير، فيكون مشوباً بالدعاء. (ولَوْ) كان ما دل على التعظيم (بالفَارِسِيَّةِ) وهذا عند أبي حنيفة، لإطلاق قوله تعالى:{وذَكَرَ اسْمَ رَبِّه فَصَلَّى} ولأن مَنْ آمَنَ بلغة غير عربية، أو لبَّى في الحج، أو سَمَّى عند الذبح بها يجزيه، لحصول المقصود فكذا هذا. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يكون شارعاً بغير العربية إذا كان يُحْسِنُ العربية، لأن اللغة العربية لها من المزية ما ليس لغيرها، وعلى هذاالخلاف الخُطْبَةُ والقنوت والتشهد، لا الأذان، فإنه يعتبر فيه التعارف.

(لا القِرَاءَةُ بِهَا) أي لا يُجْزاء القراءة في الصلاة بالفارسية (إلاّ بِعُذْرٍ) بأن كان لا يُحْسِنُ العربية، بشرط أنْ لا يُخِلَّ بالمعنى عما يستفاد من المبنى. (وبِهِ يُفْتَى) وهو قولهما وقول أبي حنيفة الذي رجع إليه، كما ذكر أبو بَكْر الرَّازي.

وجه قوله الأول: قوله تعالى: {وإنَّه لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}

(1)

، وقوله تعالى:{إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى}

(2)

ولم يكن فيها هذا النظم بل معناه.

ووجه قولهما: أنّ المأمور به قراءة القرآن وهو اسم لهذا النظم العربي الدال على المعنى المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلاً متواتراً. وقال الله تعالى:{إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيَّاً}

(3)

، وقال:{قرآناً عربياً غَيْرَ ذِي عِوَج}

(4)

، {ولوْ جَعَلْنَاه قرآناً أَعجمياً لقالوا لولا فُصِّلت آياتُهُ}

(5)

. على أنه يحتمل أنْ يكون الضمير في: «إنَّه»

(6)

(1)

سورة الشعراء، الآية:(196).

(2)

سورة الأَعلى، الآية:(18).

(3)

سورة الزخرف، الآية:(3).

(4)

سورة الزمر، الآية:(28).

(5)

سورة فصلت، الآية:(44).

(6)

الوارد في الآية: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} .

ص: 241

ويَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ تَحْتَ سُرَّتِهِ

===

للنبي صلى الله عليه وسلم ويشهد لذلك قوله تعالى عَقِيب ذلك: {أوَلَمْ يكن لَهُمْ آيةً أنْ يَعْلَمَه عُلَمَاءُ بَنِي إسْرَائِيل}

(1)

الآيةَ.

وفي «الخانية» : الخطأ في الإعراب إنْ لم يغير المعنى لا يُفْسِد، لأنَّ الخطأ في الإعراب مما لم يمكن الاحتراز عنه فيُعذر. وإن غيَّر المعنى تغييراً فاحشاً نحو {وعَصَى آدَمُ رَبَّه}

(2)

بنصب آدم ورفع ربه، فإن كان مخطئاً فسدت صلاته في قول المتقدمين. واختلف فيها قول المتأخرين، وما قاله المتقدمون أحوط، وما قال المتأخرون أوسع.

ولو أبدل كلمة مكان كلمة وهما في القرآن ومعناهما متقارب، كما لو أبدل مكان «الظالمين»: الفاسقين، لا تفسد صلاته سواء أعاد وأصلح، أو لا عند أبي حنيفة ومحمد، وعن أبي يوسف: أنها تفسد. ولو أبدل الضاد بالظاء فسدت صلاته عند الكَرْخِيّ، والحاكم الشهيد، وأبي مُطِيع البَلْخِيّ، ومحمد بن مُقَاتِل الرازي. وعن محمد ابن سَلَمَة: لا تفسد، لأن النَّاس قَلَّ منهم من يُفَرِّق بينهما. هذا وجهر الإمام بالتكبير للإعلام بالإحرام.

(ويَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ) لِمَا رَوَى مسلم في رَفْعِ اليدين: «ثم وضع يده اليُمْنَى على اليُسْرَى

» الحديثَ. وفي وضع اليد اليُمْنى على اليسرى في الصلاة أحاديث في الصحيحين وفي غيرهما، وهو حجّة على الإمام مالك في اختيار إرساله. فمنها: ما رواه أبو داود عن ابن مسعود: «أنه كان يصلّي فوضع يده اليسرى على اليمنى، فرآه النبيّ صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى» . وعن قَبِيصَةَ بن هُلْب، عن أبيه قال:«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَؤُمُّنَا فيأخذ شماله بيمينه» . رواه الترمذي وحسَّنه، وقال أبو يوسف:«يقبض باليمنى رسغ اليسرى» . وقال محمد: يضع الرسغ وسط الكف. وفي «المفيد» : يأخذ الرسغ بالخنصر والإبهام، ويضع الباقي، وهو المختار.

وقال شمس الأئمة السَّرَخْسِي: استحسن كثير من مشايخنا الجمع بين الوضع والأخذ، وذلك بأن يضع باطن كفِّه اليمنى على ظاهر كفّه اليسرى، ويحلِّق بالخنصر والإبهام على الرسغ.

(تَحْتَ سُرَّتِهِ) وهو رواية عن أحمد لقول عليّ كرَّم الله وجهه: «إنَّ من السُّنة

(1)

سورة الشعراء، الآية:(179).

(2)

سورة طه، الآية:(121).

ص: 242

والمَرْأَةُ تَضَعُ عَلَى صَدْرِهَا في كلِّ قِيَامٍ فِيهِ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ، ويُرْسِلُ في قَوْمَةِ الرُّكُوعِ، وبَيْنَ تَكْبِيرَاتِ العِيدَيْنِ.

===

وضع الأكفّ على الأكفّ تحت السرة». رواه أحمد وأبو داود والدَّارَقُطْنِيّ والبيهقيّ. والصحابي إذا قال: السُّنة، يحمل على سنّة النبي صلى الله عليه وسلم وأمَّا قول صاحب «الهداية»: لقوله صلى الله عليه وسلم «إنَّ من السُّنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة» ، فلا يُعْرَفُ مرفوعاً.

وقال الشافعي: على صدره. وهو رواية أيضاً عن أحمد لِمَا رَوَى ابن خُزَيْمة في «صحيحه» ، من حديث وائل بن حُجْر قال:«صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره» . ولقوله تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ} أي ضع يدك على نَحْرك، وهذا التفسير مأثور عن عليّ كرَّم الله وجهه. وأُجِيبَ بأنَّ مدلول الآية طلب عين النحر، وهو غير طلب الوضع على الصدر على أنَّ وضعهما على الصدر، ليس هو حقيقة وضعهما على النحر، فصار الثابت هو وضع اليمين على اليسرى. وكونه تحت السرة أو على الصدر لم يثبت فيه حديث يوجب العمل به، فيُحَالُ على المعهود من وضعهما حال قصد التعظيم في القيام، والمعهود في الشاهد منه ما قلناه.

(والمَرْأَةُ تَضَعُ عَلَى صَدْرِهَا) اتفاقاً لأنَّ مبنى حالها على الستر. (في كلِّ قِيَامٍ) أيْ حقيقي أو حكمي كما إذا صلّى قاعداً (فِيهِ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ) أي مشروع في الجملة، وقال محمد: في حالة القراءة فقط. فَيُرْسِل عنده حالة الثناء والقنوت وصلاة الجنازة، ويضع عندهما. وفي «الإحياء»: إذا فَرَغَ من التكبير يرسلهما إرسالاً رقيقاً خفيفاً، ويستأنف وضع اليمنى على الشمال بعد الإرسال. قال: وفي بعض الروايات: كان صلى الله عليه وسلم إذا كبَّر أرسل يديه، وإذا أراد أنْ يقرأ وضع اليمنى على اليسرى. قال

(1)

: فإنْ صَحَّ، فهو أولى مما ذكرناه. قلت: وبذلك يراعى في الجملة مذهب مالك. والحديث رواه الطبراني من حديث مُعَاذ بإسنادٍ ضعيف، قاله العراقي.

(ويُرْسِلُ)(كان الأولى: فيرسل)

(2)

(في قَوْمةِ الرُّكُوعِ) إجماعاً، إذ ليس في قومته ذِكْرٌ، وإنما الذكر في حال الانتقال من الركوع إلى القومة، ومنها إلى السجود وذلك لعدم امتدادها في أصل وضعها، ولو ورد في بعض الروايات إطالتها وقراءة الأدعية فيها.

(وبَيْنَ تَكْبِيرَاتِ العِيدَيْنِ) اتفاقاً، خلافاً للشافعيّ، لأنَّ بينها يُسَنُّ الذكر عنده.

(1)

أي صاحب الإِحياء، (الغزالي).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 243

ثُم يُثْنِي ولا يُوَجِّهُ،

===

(ثُمَّ يُثْنِي) أي بعد التحريمة يأتي بالثناء إماماً كان أو مقتدياً أو منفرداً لقوله تعالى: {وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُوم}

(1)

، ولقوله صلى الله عليه وسلم «إذا قُمْتُم إلى الصلاة فارفعوا أيديكم، ولا تخالف آذانكم، ثم قولوا: الله أكبر، سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك

(2)

، ولا إله غيرك، وإنْ لم تزيدوا على التكبير أجزأكم». رواه الطَبَرانِيّ.

ورواه الدَّارَقُطْني في «سننه» بإسنادٍ رجالهُ ثقاتٌ عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة كبّر، ثم رفع يديه حتى يحاذي بإبهاميه شحمتي أذنيه» ، ثم قال:«سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك» . وتقول عائشة: «كان صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم

» إلخ. ورواه الجماعة. وقال مالك: إذا كبّر شرع في القراءة، ولا يشتغل بالثناء والتعوذ والتسمية، لما ورد:«أنه صلى الله عليه وسلم كان يستفتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين» .

ومن أدرك الإمام في الركوع: يكبّر للافتتاح، ويترك الثناء ويكبِّر ويركع، لئلا تفوته الركعة. أو في السجود أو القعود: يكبر للافتتاح ويأتي بالثناء. أو بعد ما اشتغل بالقراءة: قيل: لا يأتي به بل يستمع، وقيل: يأتي في حال سكتاته. وينبغي أنْ يأتي به في السرية، ويترك في الجهرية. وفي معنى السرية: إذا لم يسمع صوت الإمام في الجهرية. وأمّا قوله: «وجَلّ ثناؤك» فلم يُذْكَر في المشاهير فلا يأتي به في الفرائض. (ولا يُوَجِّهُ) أي لا يقول: وجّهت وجهي، إلى آخرِهِ وحدَه، كما اختاره الشافعي ولا يَجْمَعُ بينهما كما قال أبو يوسف، واختاره الطحاوِيُّ، إلاَّ أنه قال: المصلّي بالخيار إنْ شاء قال التوجيه بعد الثناء وإن شاء قاله قبل الثناء، وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف. والثانية أقوى لحديث ورد به، ولموافقة المذهب ثم مراعاة غيره.

والأظهر أنْ يأتي بالتسبيح تارةً، وبالتوجيه أخرى، لعدم ورود الجمع بينهما ثم الأولى أنْ يخص الأول بالفرائض، والثاني بالنوافل جمعاً بين الأدلة واختيارات الأئمة.

ويؤيده ما رواه النّسائي من أنه صلى الله عليه وسلم «كان إذا قام يصلّي تطوّعاً قال: الله أكبر، وجّهت وجهي» فيكون مفسّراً لِمَا في غيره من الأحاديث المطلقة.

هذا وقد روى مسلم من حديث عليّ رضي الله عنه: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان

(1)

سورة الطور، الآية:(48).

(2)

أي علا جلالك وعظمتك. النهاية 1/ 442.

ص: 244

وَيَتَعَوَّذ لِلقِرَاءَةِ لا لِلثَّنَاءِ،

===

إذا قام إلى الصلاة كبَّر ثم قال: وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسُكِي

(1)

ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين».

وفي رواية: «وأنا أول المسلمين» . وفي «الظهيرية» عن أبي يوسف: روايتان، في رواية يقول:«وأنا من المسلمين» . وفي رواية يقول: «وأنا أول المسلمين» يعني على الحكاية. لأنه صلى الله عليه وسلم أول مسلمي هذه الأمّة، وأوّل المسلمين مطلقٌ، وكون روحه أول ما خلق الله، ولأنه أول من قال: بلى في جواب قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ}

(2)

.

وأمّا القول بالتوجيه قبل تكبيرة الافتتاح، فليس له توجيه وجيه، سواء يكون قبل النية أو بعدها.

(وَيَتَعَوَّذُ) أي في أول الصلاة فقط اتفاقاً، بأنْ يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهو ظاهر الرواية ومختار شمس الأئمة، وجمهور أرباب القراءة، ويؤيده ما جاء في الكتاب والسنة بلفظ: أعوذ، دون أستعيذ، كما اختاره صاحب «الهداية» .

وهو مستحبٌّ عند عامة السلف وعليه جمهور الخلف وانفرد عطاء والثَّوْرِيّ بوجوبه لقوله تعالى: {فإذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ باللهِ}

(3)

. ولقول أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ: «إنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل كبّر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك

إلخ، ثم يقول: لا إله إلاَّ الله ثلاثاً، ثم يقول: الله أكبر كبيراً ثلاثاً، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من هَمْزِهِ

(4)

ونَفْخِهِ ونَفْثِهِ

(5)

، ثم يقرأ». رواه أبو داود والترمذيّ. قال الترمذي: هذا أشهر حديث في هذا الباب، وقد تُكُلِّمَ في إسناده. وقال المُنْذِري: وَثَّقَهُ غير واحد، وتكلم فيه غير واحد.

(لِلْقِرَاءَةِ) أي لأجل القراءة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد وعليه الجمهور، لقوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ} أي أردت قراءته (لا لِلثَّنَاءِ) كما هو قول أبي يوسف. وَوَجْهُهُ: أنه ذِكرٌ بعد الثناء من جنسه، فيكون تبعاً له. وفي «الخلاصة»: قول أبي

(1)

النُّسُك: الطاعة والعبادة، وكل ما تُقُرِّبَ به إلى الله تعالى. النهاية: 5/ 48.

(2)

سورة الأَعراف، الآية:(172).

(3)

سورة النحل، الآية:(98).

(4)

الهَمزُ: النَّخْسُ. النهاية: 5/ 273. وأصل النَّخْس: الدفع والحركة. النهاية: 5/ 32.

(5)

النَّفْثُ: شبيهٌ بالنَّفخ، وهو أقلّ من التَّفْل. مختار الصحاح، ص: 279، مادة (نفث).

ص: 245

فَيقُولُه المَسْبُوقُ، ويُؤخِّرُهُ عَنْ تَكْبِيراتِ العِيدَيْنِ، ويُسَمِّي

===

يوسف أصح. وفيه: أنه مخالف لظاهر القرآن فلا ينبغي أنْ يكون صحيحاً فكيف بالأصح.

(فَيَقُولُه المسْبُوقُ) عندهما: إذا قام إلى قضاء ما فاته، لأنه يقرأ حينئذٍ. وعند أبي يوسف: لا يقوله لأنه لا يأتي بالثناء حينئذٍ (ويُؤَخِّرُهُ) الإمام عندهما (عَنْ تَكْبِيراتِ العِيدَيْنِ) لتأخير القراءة عنها، وعند أبي يوسف: يقدمه عليها لتقدم الثناء عليها. (ويُسَمِّي) أول الصلاة فقط في رواية عن أبي حنيفة، لأنها شُرِعَت مفتاحاً للقراءة كالتعوذ، ولقول ابن عباس:«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم» ، رواه الترمذيّ. وفي رواية أخرى: ـ وهي قولهما ـ «أول كل ركعة» . لأنَّ التسمية لافتتاح القراءة وكل ركعة أصل في القراءة، فتبتدأ بالبسملة.

وفي «المحيط» : قيل: التسمية ـ أي في أوائل السورة ـ ليست عندنا من القرآن، لاختلاف العلماء والأخبار فيها، يعني المُستَلْزِمِ عدمَ تواترها. وإنما يُسْتَفْتَح في أوائل السورة تبرّكاً، وقد اختلف الصدر الأول فيها اختلافاً ظاهراً. والقرآن لا يثبت إلاَّ بالإجماع، حتى ادعى أبو بَكْرٍ البَاقِلاني وغيره، خطأ الشافعي في جعله البسملة من القرآن، معتمدين على أنه لا يجوز إثباته إلا بالتواتر، ولا تواتر ههنا، فيجب القطع بنفي كونها منه، وهو وجه رواية النفي، وبه قال مالك وطائفة من الحنفية وبعض أصحاب أحمد مدَّعين أنه مذهبه، أو رواية عنه.

قلت: ينبغي أنّ لا يُقْطَع بكونها من القرآن، ولا بنفيها منه كما لا يخفى، إذ لا دليل (قطعي)

(1)

على أحد الشقَّين. وأما قول الشافعيّ: مذهب ابن كَثِير وعَاصَمٍ والكِسَائيّ من القرّاء ووافقهم حَمْزَة في أنها من الفاتحة خاصة. ولم يعتقدها الباقون من الفاتحة ولا غيرها، وقالُون منهم ففيه بحث، إذ الموجود في كتب القِرَاءَة أنَّ القرَّاء كلهم يبتدؤن الفاتحة بالبسملة، واختُلِف فيما بين السورتين. وليس في كتبهم تعرض باعتقادهم أنهم يَعُدُّونها من القرآن أم لا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وروى الجَصَّاص عن محمد: أنها آية من القرآن أُنْزِلَت للفصل بين السور، وليست من الفاتحة، ولا من كل سورة. وهذا القول أعدَل وأصح، ولهذا كُتِبَت بخط الوحي

(2)

، أي ما ثبت أنه وحي، ليدل على كونها من القرآن، وكُتِبَت بخط على حدة ـ

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(2)

أي في سورة النمل، الآية (30).

ص: 246

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

أي بتطويل سين أو بقلم متين ـ ليدل على كونها ليست من تلك السورة. وقد روى أبو داود عن الصحابة رضي الله عنهم: «كنّا لا نعرف انقضاء السورة حتى نزل: بسم الله الرحمن الرحيم» .

وعند مالك: لا يُسْتَحَب الثناء ولا التعوّذ ولا التسمية في بدء الصلاة. وقال الشافعي: التسمية جزء من الفاتحة، ومن كل سورة، على اختلاف أنها آية أو بعضها، ويؤيد كونها آية قول (أم)

(1)

سَلَمة: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم في الفاتحة في الصلاة وَعَدَّها آية» . ذكره النووي في «الخلاصة» ، والحاكم في «المستدرك» ، وقول نُعَيم المُجْمِر:«صليت خلف أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. ثم قرأ بأم القرآن، فلما سَلَّمَ قال: والذي نفسي بيده إني لأشْبَهُكُم صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه ابن حِبَّان وابن خُزَيْمة في «صحيحيهما» .

وقال مالك: يبتدأ بالحمدلة لقوله صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال: حَمِدَني عبدي

» الحديث

(2)

. رواه مسلم. ولقول عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين» . ولقول أنس: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» . رواه الشيخان.

والجواب: أن هذا أول ما كان يُسمع منه، وهو لا ينافي قراءة الثناء والتعوّذ والبسملة سراً كما لا يخفى. نعم، في هذا حجّة على الشافعي في جهره بالبسملة، إلاّ أنه استدل في جهرها بما روى الدَّارَقُطْنِي في «سننه» عن محمد بن المتوكل بن أبي السَّرِيّ

(3)

قال: «صلّيت خلف المُعْتَمِر بن سليمان من الصلوات ما لا أُحْصِيها: الصبح والمغرب، فكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل الفاتحة وبعدها، (وسمعت المُعْتَمِر)

(4)

يقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أَبِي: ما آلو أن أقتدى

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

في المطبوع زيادة: (فنصفها لي ونصفها). والمثبت من المخطوط، وهو موافق لما جاء في رواية مسلم 1/ 308 كتاب الصلاة، (4)، باب وجوب قراءة الفاتحة .... (1 1)، رقم (38 - 395).

(3)

في المخطوط: محمد بن أبي السدي، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في سنن الدارقطني 1/ 308، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، رقم (25).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 247

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

بصلاة أَبِي، وقال أَبِي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس بن مالك، وقال أنس: ما آلُو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر، قال:«صليت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم» . وعن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:«كان صلى الله عليه وسلم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم» . وعن علاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة:«أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أمَّ الناس، جهر ببسم الله الرحمن الرحيم» .

والجواب عمّا رواه الدَّارَقُطْنِيّ عن محمد بن أبي السَّرِيّ، عن المُعْتَمِر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن، عن أنس، أنه مُعَارَض بما رواه ابن خُزَيْمَة في «مختصره» ، والطَّبَرَاني في «معجمه» ، عن المُعْتَمِر بن سُلَيْمَان، عن أبيه، عن الحسن، عن أنس:«أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسِرّ ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة» . زاد ابن خُزَيْمَةَ: «وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما في الصلاة» .

وعن حديث ابن أبي فُدَيْك

(1)

، عن ابن أبي ذئب أنه هو، وكذا الخلاّل ضَعَّفَ شيخَه عمر بن الحسن الشَّيْبَانيّ، وكذا ضعّف جعفر بن محمد بن مروان شيخ عمر، ونسب شيخ جعفر ـ وهو أبو طاهر أحمد بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب ـ إلى الوضع، وأبوه عيسى كان وضّاعاً أيضاً، ذكره الحافظ أبو محمد الرَّامَهُرْمُزِي.

وعن حديث ابن عباس المُخَرَّج من سبعة طرق أنه ضعيف من جميع طرقه بَيَّنَها الزَّيْلَعِي في تخريجه، ومُعَارِض لِمَا روى الطَّحَاوي، وابن عبد البَرّ، عن ابن عباس:«أن الجهر بالبسملة قراءة الأَعراب» . وعنه أيضاً: «لم يجهر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبسملة حتى مات» . وحُكِيَ عن الدَّارَقُطْنيّ: أنه لمَّا ورد مصر سأله بعض أهلها أن يُصَنِّفَ شيئاً في الجهر بالبسملة، فصَنَّفَ فيه جزأ، فاقسم عليه بعض المالكية أنْ يخبره بالصحيح منها، فقال: لم يصح بالجهر بالبسملة حديث. وقد تجَرَّد أبو بكر الخطيب لجمع أحاديث الجهر فأزرى

(2)

على علمه، بتغطية ما ظن أنه لا ينكشف، وقد بيَّنا عللها وخللها قاله

(1)

في المخطوط: ابن فديك، وفي المطبوع: ابن أبي فديك، وهو الصواب لموافقته لما في سنن الدَّارَقُطْنِي 1/ 305، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، رقم (12).

(2)

أَزرى بالشيء: تهاون به وقصّر. المعجم الوسيط ص: 393، مادة (زرى).

ص: 248

لا بَيْنَ الفَاتِحَةِ والسُّورَةِ، ويُسِرُّهُنَّ

===

صاحب «التنقيح» .

وعن حديث أبي هريرة: أنَّ الخطيب أخرجه عن أبي أُوَيْس، واسمه عبد الله بن أُنَيْس قال: أخبرني العَلاء بن عبد الرحمن

وساق الحديث. ورواه الدَّارَقُطنِيّ، وابن عَدِيّ وقالا فيه:«قرأ» عِوَض «جهر» ، وكأنه رواه بالمعنى، ولو ثبت هذا عن ابن أُنَيْس فهو غير محتج به لأنه لا يُحْتَجُّ بما انفرد به، فكيف إذا انفرد بما خالفه فيه من هو أوثق منه مع أنه مُتَكَلَّم فيه. فوثقه الدَّارَقُطْنِيّ وأبو زُرْعَة، وروى له مسلم في «صحيحه» ، وضَعَّفه أحمد وابن مَعِين وأبو حاتم.

وعن حديث نُعَيم المُجْمِر: أنه معلول، فإنّ ذِكْرَ البسملة فيه مما تَفَرَّد به نُعَيم من بين أصحاب أبي هريرة، وأنه حَدَّث عن أبي هريرة:«أنه صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالبسملة في الصلاة» . وقد أعرض عن ذكرها في حديث أبي هريرة صاحب الصحيح. ولم يذكرها واحد منهما مع شدة حرص البخاري على معارضة الإمام أبي حنيفة بالأحاديث مهما أمكنه، بدليل ما أشحن به صحيحه.

ثم إنَّا بعد ذلك كله نَحْمِل أحاديث الجهر على أحد أمرين: إمّا أن يكون جَهَرَ بها لتعليم الإتيان بها، أو جَهَرَ جهراً يسيراً يسمعه مَنْ قَرُبَ منه.

فإن المأموم إذا قَرُبَ من الإمام، أو حاذاه يسمع ما يخافته، ولا يُسمَّى ذلك جهراً، كما ورد أنه كان يصلي بهم الظهر فيسمعهم الآية والآيتين بعد الفاتحة أحياناً، أو يكون قبل الأمر بترك الجهر كما قدمنا عن سَعيد بن جُبَيْر.

(لا بَيْنَ الفَاتِحَةِ والسُّورَةِ) وقال محمد: يُسمِّي بينهما في السرية لا في الجهرية، لأنه إنْ خافت البسملة بينهما يكون سكتة ظاهرة في وسط القراءة، وإنْ جهر بها يكون جمعاً بين مخافتة البسملة أولاً، والجهر بها ثانياً. أقول: والأظهر أن يقرأها سراً ولو في الجهرية لأنها للفصل بين السورتين، ولا مانع من السكتة في وسط القراءة كما سيأتي في قوله آمين سراً.

(ويُسِرُّهُنَّ) أي الثناء والتعوذ والتسمية، لما روى محمد في «الآثار» عن أبي حنيفة، عن حَمَّاد، عن إبراهيم النَّخَعِيّ أنه قال: أربع يُخْفِيهنَّ الإمام: التعوذ، وبسم الله الرحمن الرحيم، وسبحانك اللهم وبحمدك، وآمين. وقال ابن عبد البرِّ: رُوِيَ عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه من وجوه ليست بالقائمة أنه قال: «يُخْفي الإمام أربعاً: التعوذ، وبسم الله الرحمن الرحيم، وسبحانك اللهم وبحمدك، وآمين» .

ص: 249

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

انتهى.

وفي رواية أحمد وأبي داود والدَّارَقُطْنيّ عن أبي وَائِل أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: «آمين وخفض بها صوته» . وفي البسملة وآمين خلاف الشافعي. وقال بالإسرار بالتسمية مع الفاتحة الثَّوْرِيُّ وأحمد وأبو عُبيد. ورُوِي ذلك عن عمر وعليّ وابن مسعود وعَمَّار وابن الزُّبَيْر رضي الله عنهم. وعن سعيد بن جُبَيْر أنه قال: «كان المشركون يحضرون المسجد وإذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: هذا محمد يذكر رحمن اليَمَامة ـ يعنون مُسَيْلَمَة الكذَّاب ـ فَأَمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم، ونزلت:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولَا تُخَافِتْ بِهَا}

(1)

رواه أبو داود. وفي رواية: «فخفض النبي صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم» . فهذا يدل على نسخ الجهر بها. قال الترمذي الحكيم: فَبَقِيَ ذلك إلى يومنا هذا وإن زالت العلة، كما بقي الرَّمَل

(2)

في الطواف، والمخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة. انتهى.

فمعنى الآية: ولا تجهر ببعض قراءتك وهي البسملة ولا تخافت بغيرها. وهو معنى غريب في الآية. والمشهور فيها: لا تجهر بقراءتك في النهار، ولا تخافت بها في الليل، أو لا تبالغ في الجهر بها حال التهجد، ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً.

ومن الأدلة على إسرار البسملة: قول أنس «صلّيت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» . وفي لفظ مسلم: «فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها» . وفي روايةٍ لمسلم: «فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» . ورواه النّسائي والدَّارَقُطْنِي في «سننهما» ، وأحمد في «مسنده» ، وابن حِبَّان في «صحيحه». وقالوا:«فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم» . وزاد ابن حِبَّان: «ويجهرون بالحمد لله رب العالمين» .

وفي مسند أبي يَعْلَى المَوْصِلي: «فكانوا يفتتحون القراءة فيما يجهر به بالحمد لله رب العالمين» . وفي «آثار الطَّحَاوِيّ» ، «ومعجم الطَبَرَانِيّ» ، «وحِلْيَة أبي نُعَيْم» ،

و

(1)

سورة الإسراء، الآية:(110).

(2)

الرَّمَل: الإسراع في المشي، وهَزُّ المنكبين. النهاية: 2/ 265.

ص: 250

ثُمَّ يَقْرَأُ الفَاِتحَةَ وَيُؤَمِّنُ سِرًّا كالمَأْمُومِ،

===

«مختصر ابن خُزَيْمَةَ» : «فكانوا يُسِرُّون ببسم الله الرحمن الرحيم» . ورجال هذه الروايات كلهم ثقات مخرَّج لهم في «الصحيحين»

(1)

.

ومنها قول ابن عبد الله بن مُغَفَّل

(2)

: «وسمعني أبي وأنا اقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم ـ أي جهراً ـ فقال: أي بُنَيَّ، إياك والحَدَثَ، قال: ولم أر أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه الحدث في الإسلام ـ يعني منه ـ فإني صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقولها، فلا تقلها أنت، وإذا صليت فقل: الحمد لله رب العالمين» . رواه الطحاوي وابن ماجه والنَّسائي والترمذي، وقال: حديث حسنٌ. والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين رضي الله عنهم، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، والثَّوْرِيّ، والحسن، والأَوْزَاعِيّ، والشعْبِيّ، والنَّخَعِي.

هذا، وقد قال الشافعيّ: البسملة من الفاتحة قولاً واحداً، وكذا من غيرها على الصحيح. وعندنا: هي آية أنْزِلت للفصل بين السُّور، ليست من الفاتحة، ولا من كل سورة. لِمَا رُوِيَ عن ابن عباس:«أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى نزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم» . رواه أبو داود والحاكم في «مستدركه» .

(ثُمَّ يَقْرَأُ الفَاتِحَةَ) أي وجوباً (وَيُؤَمِّنُ) أي يقول آمين حال كونه منفرداً أو إماماً، استحباباً (سِرّاً كالمَأْمُومِ) أي كما يُؤَمِّن المأموم سرّاً كما سبق. وإنما يُؤَمّن المصلي لما روى الشيخان عن أبي هريرة: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه» . ولفظ «أحدكم» يندرج فيه الإمام والمنفرد والمأموم.

ولما روى مالك، والجماعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أمَّنَ الإمام فأَمِّنُوا، فإنه من وافق تأمينُه تأمين الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه» . قال النووي في «شرح مسلم» : والصحيح الصواب أن المراد: الموافقة في وقت التأمين، أي لا في الكيفية من خلو الرياء والسمعة، كما قال به ابن حِبّان. ولا يبعد أنْ يُرَاد به الأعمّ والله تعالى أعلم. وقيل الملائكة: هم الحفظة، وقيل غيرهم، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:

(1)

في المطبوع: الصحيح. والمثبت من المخطوط.

(2)

في المخطوط عبد الله بن مُغَفَّل، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في "شرح معاني الآثار" 1/ 202.

ص: 251

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

«فوافق قوله قول أهل السماء» . وفي رواية: قالت الملائكة في السماء، ولا منع من الجمع.

وفي آمين لغتان: المد، وهو الأشهر، ومنه قول بعضهم: ويرحم الله عبداً قال آميناً. أو القصر، ومنه قول الشَّاطِبِيّ:

* أَمِينَ وأمناً للأَمينِ بِسِرِّها ** وإن عَثَرَتْ فَهُوَ الأَمُونُ تحمُّلاً

وهو اسم فعل ومعناه: استجب، عند أكثر أهل العلم. وقيل معناه: كذلك فليكن. وقال الترمذي: معناه لا تُخَيِّب رجاءنا. قال الجَوْهَرِيّ: وهو مبني على الفتح كأين، وتشديد الميم خطأ، قيل: تفسد الصلاة، وقيل: لا تفسدها، لأن نظير لفظه موجود في القرآن، وهو قوله تعالى:{ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ}

(1)

وقد حكى القُشَيْري: التشديد عن الحسن، وجعفر الصادق، فيكون مِنْ أمَّ إذا قصد. فالتقدير: دعوناك قاصدين، فلا تردَّنا خائبين.

واستدل الشافعي في جهر آمين، بما في سنن أبي داود والترمذي عن سفيان، عن سَلَمة بن كُهَيْل، عن حُجْر بن العَنْبَس، عن وائل بن حُجْر، واللفظ لأبي داود قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ: {ولا الضَّالَين}، قال: آمين ورفع بها صوته» . ولفظ الترمذي: «ومدَّ بها صوته» ، وقال حديثٌ حسنٌ. قلنا رواه شُعْبَة عن سَلَمة بن كُهَيْل، عن حُجْر بن العنبس، عن عَلْقَمَة بن وَائِلٍ، عن أبيه، وقال فيه:«وخفض بها صوته» . إلاَّ أنَّ أبا زُرْعَةَ والبخاري جعلا حديث سفيان أصح من حديث شُعْبَة. والبَيْهَقِيّ روى عنه موافقةً لسفيان: «يرفع الصوت بها» .

لكن روى الطَّحاوي في «آثاره» عن أبي وائل قال: «كان عمر وعليّ لا يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا بالتعوذ، ولا بآمين» . وروى عبد الرَّزَّاق في «مصنَّفه» : أخبرنا مَعْمَر، عن حَمَّاد، عن إبراهيم النَّخَعِي قال:«أربع يُخْفِيهن الإمام: التَّعوُّذ، وبسم الله الرحمن الرحيم، واللهم ربّنا لك الحمد، وآمين» . ثم قال: أخبرنا الثَّورِي، عن مَنْصُور، عن إبراهيم قال: «خمس يُخْفِيهن الإمام

فذكرها وزاد: سبحانك اللهم وبحمدك». فهذا يدل على أن الجهر بها في بعض الأحيان كان للتعليم فعلاً كما ورد: وكان يُسْمِعُنا الآية أحياناً، لا ليكون سنةً مستمرة، وإلاَّ لما تركه عمر وعليّ ولما ساغ لإبراهيم النَّخَعِي الحكم بخلافه من عنده.

(1)

سورة المائدة، الآية:(2)

ص: 252

ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ خَافِضًا، ويَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيهِ، مُفَرِّجًا أصَابِعَهُ، بَاسِطًا ظَهْرَهُ، غَيرَ رَافِعٍ ولا مُنَكِّسٍ رَأْسَهُ.

===

(ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ خَافِضاً) أي حال كونه منحطاً، بأن يكون ابتداء التكبير عند انحطاطه، وهذا موافق لما في «الجامع الصغير» حيث قال: ويكبر مع الانحطاط. وقيل: يكبر قائماً، ثم يركع. وعن محمد: ما يدل عليه، وهو: وإذا أراد أنْ يركع يكبّر. وروى النَّسائي، والترمذي وقال: حسنٌ صحيحٌ، عن عبد الله بن مسعود قال:«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يكبّر في كل خفض، ورفع، وقيام، وقعود، وأبو بكر وعمر» . وقوله في كل خفض: أي عند إرادة كل خفض إلى آخره. قال الترمذي: حديث ابن مسعود حسنٌ صحيحٌ، والعمل عليه عند أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ وغيرهم رضي الله عنهم، ومن بعدهم من التابعين، وعليه عامة العلماء.

(ويَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ) أي: ناصباً ساقيه. وأما انحناؤهما شبه القوس، كما يفعله بعض الناس فمكروه. وإنما يضع على ركبتيه لما في الصحيحين، عن مُصْعَب بن سعد بن أبي وَقَّاص قال:«صليت إلى جَنْب أبي فطَبَّقْتُ بين كفيَّ، ثم وضعتهما بين فخذي، فنهاني أبي، وقال: كنّا نفعله فَنُهِينَا عنه، وأُمِرْنا أنْ نضع أيدينا على الركب (إلا في السجود)»

(1)

.

(مُفَرِّجاً أصَابِعَهُ) ليكون أمكن من أخذهما. ولما روى الطبرانيّ في «معجمه» عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «يا بني إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك، وفَرِّج بين أصابعك، وارفع يديك عن جنبيك» .

قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين، ومن بعدهم، ولا اختلاف بينهم في ذلك إلاَّ ما رُوِيَ عن ابن مسعود، وبعض أصحابه: أنهم كانوا يُطَبِّقُون، والتطبيق منسوخ عند أهل العلم. قال سعد بن أبي وقَّاص:«كنا نفعل ذلك، فَنُهِينَا عنه، وأُمِرْنا أنْ نضع الأكف» . وحديث سعد هذا متفق عليه.

(بَاسِطاً ظَهْرَهُ) لما روى ابن ماجه في «سننه» ، عن راشد قال: سمعت وابِصَة ابن مَعْبَد يقول: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي، وكان إذا ركع سَوَّى ظهره حتى لو صُبَّ عليه الماءُ لاستقرَّ» . (غَيْرَ رَافِعٍ ولا مُنَكِّسٍ) بتشديد الكاف المكسورة (رَأْسَهُ) بالنصب على أنه مفعول تنازع فيه الفعلان. وذلك لما روى مسلم عن عائشة، في حديث طويل: «وكان إذا ركع لم يُشْخِصْ رأسه

(2)

، ولم يُصَوِّبْه، ولكن بين ذلك».

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

في المخطوط بصره، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم كتاب الصلاة (4)، باب ما يجمع صفة الصلاة ..... (46)، رقم (240 - 498).

ص: 253

ويُسَبِّحُ ثَلاثًا، وهوَ أَدْنَاهُ،

===

وإشخاص الرأس: رفعه. وتصويبه: خفضه.

(ويُسَبِّحُ ثَلاثاً) يقول كل مرة: سبحان ربي العظيم. وفي رواية: وبحمده. ولو رفع الإمام رأسه قبل أن يتم المأموم ثلاثاً، يتم في رواية، ويُتَابع في أخرى، وهو الصحيح. وقيل: إنّ تسبيحه، وتسبيح السجود، وتكبيرهما واجبات.

(وهُوَ) أي التسبيح ثلاثاً (أَدْنَاهُ) أي أدنى الكمال. لِمَا روى أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا ركع أحدكم فليقل في ركوعه ثلاث مرات: سبحان ربّي العظيم وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات، وذلك أدناه» ، ولما روى الترمذي مُرسلاً أنه صلى الله عليه وسلم قال:«إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، فقد تمَّ ركوعه وذلك أدناه، وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات، فقد تمَّ سجوده وذلك أدناه» .

ولِمَا في «السنن الأربعة» من قول حُذَيْفَة: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى» . ولقول عُقْبَة بن عامر الجُهَنِي: «لمَّا نزلت {فَسَبِّحْ باسم رَبِّك العظيم}

(1)

، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم، ولمَّا نزلت {سَبِّحْ اسمَ رَبِّك الأَعْلَى}

قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوها في سجودكم». رواه أبو داود، وابن ماجه، والطحاوي، وجعله ناسخاً للأذكار التي كانت تقال فيهما قبل نزولهما. وهي: ما رواه هو وغيره عن عليّ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو راكع: اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وأنت ربي خشع لك سمعي وبصري، ومُخِّي وعظمي لله رب العالمين» . وزاد في رواية: «وما استقلت به قدمي لله رب العالمين ـ ويقول في سجوده: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، أنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه، وصوَّره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين» . وفي رواية أخرى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نُهِيتُ أن أقرأ وأنا راكع أو ساجد، فأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ

(2)

أن يستجاب لكم».

وعن عائشة قالت: «فَقَدْت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فظننت أنَّه أتى جاريته،

(1)

سورة الحاقة، الآية:(52).

(2)

قَمِن: القمين: الخليق والجدير. القاموس المحيط، ص: 1581 مادة (قمن).

ص: 254

ثُمَّ يُسَمِّعُ رَافِعًا رَأْسَه. ويَكْتَفِي بِهِ الإمَامُ، وبالتَّحْمِيدِ المُؤْتَمُّ، ويَجْمَعُ المُنْفَرِدُ بَيْنَهُمَا

===

فالتمسته بيدي، فوقعت يدي على صدر قدميه وهو ساجد يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثْنَيْتَ على نفسك». وليس النسخ في قول الطحاوي بمعنى أنه لا يجوز غيره، بل المراد أنه أفضل، وإنْ جُمِعَ بينهما فهو أكمل.

(ثُمَّ يُسَمِّعُ) ـ بتشديد الميم المكسورة ـ أي يقول المصلّي: سمع الله لمن حمده، بهاء الكناية أو السكتة والاستراحة. ومعنى سمع: أجاب لأن الإجابة مُسَبَّبة عن السماع، واللام في لمن للمنفعة. وقيل: زائدة أي قَبِلَ حَمْدَ مَنْ حَمِدَه، على أنه خبر مبنىً، ودعاء معنىً. (رَافِعاً رَأْسَهُ) أي لا حالة قيامه، ويقول: ربنا لك الحمد خافضاً (ويَكْتَفِي بِهِ) أي بالتسميع وحده (الإمَامُ و) يَكْتَفِي عند أبي حنيفة (بالتَّحْمِيدِ المُؤْتَمُّ) لاكتفاء القوم بالتحميد اتفاقاً، وبه قال مالك. وقال أبو يوسف ومحمد: يجمع الإمام بين التسميع والتحميد. واختاره الطحاوي، وهو رواية عن أبي حنيفة. وهو الأصح من مذهب الشافعي لما روى البخاري عن أبي هريرة قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قال: «سمع الله لمن حمده، قال: اللهم ربّنا لك الحمد» . وقد يجاب بأنه محمول على حال انفراده، أو لبيان جوازه، ومع الاحتمال لا يصلح للاستدلال.

ولأبي حنيفة ما رواه الجماعة إلاَّ ابن ماجه، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربّنا لك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه» . وفي رواية لأبي داود وابن ماجه والنَّسائي والطحاوي أنه قال صلى الله عليه وسلم «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، يسمع الله لكم» . ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ بين ما يقول الإمام والمأموم، والقسمة تنافي الشركة. فإن قيل: قد وقعت القسمة في قوله صلى الله عليه وسلم «إذا قال الإمام: {غير المغضوب عليهم ولا الضّالين}، فقولوا: آمين» . مع أن الإمام يشارك المأموم في قوله آمين، فالجواب أنَّ الشركة بين الإمام والمأموم في قول آمين ثبتت بما روى النَّسائي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قال الإمام: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول آمين، وإن الإمام يقول آمين» . ويقول: ربنا ولك الحمد، أو: اللهم ربنا لك الحمد وقد ورد الأثرُ بهما.

(ويَجْمَعُ المُنْفَرِدُ بَيْنَهُمَا) أي بين التسميع والتحميد عند أبي يوسف ومحمد، وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة، وهو الأصح. كذا في «الهداية» ، لأنه إمام نفسه

ص: 255

ويَقُوم مسْتَوِيًا،

===

فَيُسَمِّعُ، وليس معه أحد يأتم به، فَيُحَمَّدُ. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة: أنّ المنفرد يكتفي بالتحميد. قال في «المبسوط» : هو الأصح، لأنَّ التسميع حث على التحميد، وليس معه أحد يحثّه عليه.

(ويَقُومُ مُسْتَوِياً) ويطمئن. ولا يُسَنُّ رفع اليدين في حالة الركوع وقيامه عندنا، خلافاً للشافعي فيهما لقول عليّ كرَّم الله وجهه:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبَّر، ورفع يديه حَذْوَ منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع، ويصنعه إذا رفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك» . رواه أصحاب السنن، والطحاوي، وكذا البخاري في كتابه في رفع اليدين.

ولقول ابن عمر: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة، رفع يديه حتى يكونا حَذْوَ منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبِّر للركوع، وحين يرفع رأسه من الركوع، ولا يفعل ذلك في سجوده» . كذا في لفظ البخاري. ولفظ مسلم: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للصلاة، رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، ثم كبَّر، وإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك، وإذا رفع من الركوع فعل مثل ذلك، ولا يفعله

(1)

حين يرفع رأسه من السجود». ولفظ الطَّحَاوي: قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعدما يرفع، ولا يرفع بين السجدتين» .

ولقول مالك بن الحُوَيْرِث: «إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبَّر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع، (فقال: سمع الله لمن حمده، فعل مثل ذلك)

(2)

». رواه الشيخان والطَّحَاوي واللفظ لمسلم. ولقول وَائِل بن حُجْر: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يكبر للصلاة، وحين يركع، وحين يرفع رأسه من الركوع، جعل يديه حذاء أذنيه» . رواه الطحاوي، وأخرجه مسلم بمعناه، وحكاه أبو هُرَيْرَة، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك وغيرهم عنه صلى الله عليه وسلم وقد جاءت عدة من الآثار بمعنى هذه الأخبار.

(1)

في المطبوع يرفعه، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في رواية مسلم 1/ 292، كتاب الصلاة (4)، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين .... (9)، رقم (22 - 390).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب المثبت لموافقته لما في صحيح مسلم 1/ 192 كتاب الصلاة (4) باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين

" (9)، رقم (25 - 391).

ص: 256

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ولنا ما روى الطَّحاوي عن عبد الله بن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة، ثم لا يعود» . وأخرج أبو داود والتِّرْمِذِيّ عن وَكِيع بسنده إلى عبد الله (بن مسعود قال:)

(1)

«ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى، ولم يرفع يديه إلاَّ أوَّل مرة. وفي لفظ: فكان يرفع يديه أول مرة ثم لا يعود. وكان هو لا يرفع يديه في شيء من الصلاة إلا في الافتتاح» . وما رواه عن البَرَاء بن عَازِب قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كبَّر لافتتاح الصلاة، رفع يديه حتى يكون إبهاماه قريباً من شحمتي أذنيه، ثم لا يعود» . وأخرجه أبو داود عن شَرِيك، عن يزيد بن أبي زياد، وساقه بسنده ومعناه وفيه من الآثار. ما رواه الطَّحَاوي ثم البَيْهَقُي من حديث الحسن بن عَيَّاش بسنده إلى الأسود قال:«رأيت عمر بن الخطَّاب يرفع يديه في أول تكبيرة، ثم لا يعود. وقال: ورأيت إبراهيم والشَّعْبِيّ يفعلان ذلك» .

قال الطَّحَاوِي: والحديث صحيح، فإن مداره على الحسن بن عَيَّاش، وهو ثقة حجّة، ذكر ذلك يحيى بن مَعِين وغيره. أفَتَرَى عمر بن الخطاب خَفِي عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع في الركوع والسجود، وعَلِمَ ذلك مَنْ دونه، ومَنْ هو معه يراه يفعل غير ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، ثم لا ينكر ذلك عليه؟ وهذا عندنا محال. وفِعلُ عمر هذا، وتَرْكُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه على ذلك، دليلٌ صحيح أن هذا هو الحق الذي لا ينبغي لأحد خلافه. انتهى.

وما رواه أيضاً عن أبي بكر النَّهْشَلِيّ: حدّثنا عاصم بن كُلَيْب، عن أبيه:«أنَّ علياً كان يرفع يديه في أول تكبيرة، ثم لا يرفع بعده» . وهو أثر صحيح. ورواه الدَّارَقُطْنِيّ من حديث النَّهْشَلِيّ وجعل وقفه على عليّ صواباً، ورفعه وهماً. فَترْكُهُ الرفع فيما روى هؤلاء يدل على انتساخه. وما رواه عن مُجَاهِد: قال: «صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة» . فَتَرْكه بعد رواية: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله، لا يكون إلا بعد ما ثبت عنده انتساخ ما رأى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله.

فظهر بما رَوَيْنا من الطرفين: ثبوت كلٍ من الأمرَيْن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم اختلف أصحابه في بقائه وعدمه. فآثرنا قول ابن مسعود ومن وافقه، لِمَا قد عُلِمَ أنه كان في

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب المثبت، لموافقته لما في سنن أبى داود 1/ 477، كتاب الصلاة (2)، باب من لم يذكر الرفع عندي الركوع (116، 117)، رقم (748).

ص: 257

ثُمَّ يُكَبِّرُ ويَسْجدُ، فَيَضَعُ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَدَيْهِ

===

الصلاة أقوال مباحة، وأفعال جائزة من جنس هذا الرفع، وقد عُلِمَ نسخها. فلا بد أن يكون هو مشمولاً به، كما رُوِي عن ابن الزُّبَيْر ما يدلّ عليه. كيف لا وقد ثبت ما يعارضه ثبوتاً لا مردَّ له بخلاف عدمه، فإنه لا يتطرق إليه احتمال عدم الشرعية، لأنه ليس من جنس ما عُهِدَ فيه ذلك، بل من جنس السكوت الذي هو طريق ما أُجْمِعَ على طلبه في الصلاة ـ أعني الخشوع ـ.

وعن إبراهيم: أنه ذكر عنده وَائِل بن حُجْر: «أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع يديه عند الركوع وعند السجود، فقال: أعرابيٌّ لم يُصَلِّ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاةً أُرى قبلها قط، أفهو أعلم من عبد الله بن مسعود وأصحابه؟ حَفِظَ، ولم يَحْفَظُوا» . وفي رواية: وقد حدّثني من لا أحصي عن عبد الله: «أنه رفع يديه في بدء الصلاة فقط» ، وحكاه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله عالم بشرائع الإسلام، وحدود الأحكام، مُتَفَقِّد لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ملازم له في إقامته وأسفاره في جميع الأيام، وقد صلّى معه ما لا يُحْصَى، فيكون الأخذ به عند التعارض أولى من إفراد مقابله من القول بسنية كلٍ من الأمرين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ومما يؤيد ما اختاره علماؤنا ما روى الطبرانيّ بسنده إلى ابن أبي ليلى عن الحَكَمِ، عن مِقْسَم، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُرْفَع الأيدي إلاَّ في سبع مواطن: حين يفتتح الصلاة، وحين يدخل المسجد الحرام فينظر إلى البيت، وحين يقوم إلى الصفا، وحين يقوم على المَرْوَة، وحين يقوم مع الناس عشية عَرَفة، وبجَمْعٍ

(1)

والمَقَامَيْن حين يرمي الجمرة». ومما استدل لنا حديث جابر بن سَمُرَة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمْسٍ

(2)

؟ اسكنوا في الصلاة». رواه مسلم، ويفيد النسخ. وحمله البخاري على آخر الصلاة عند التسليم. قلنا: العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب. إلاَّ أن آخر الصلاة لا يُقَال له في الصلاة.

(ثُمَّ يُكَبِّرُ ويَسْجدُ) مُطْمَئِناً (فَيَضَعُ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ) لِمَا روى أصحاب «السنن» من حديث وَائِل قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» . وقال مالك بالعكس لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا سجد أحدكم فلا

(1)

جَمْع: المُزْدَلِفة، وليلة جمع هي ليلة مزدلفة لأن الناس يجتمعون فيها. معجم لغة الفقهاء ص:166.

(2)

شُمْس: جمع شَمُوس، وهو النُّفُور من الدَّوابِّ الذي لا يستقر لشَغَبه وحِدَّته. النهاية: 2/ 501.

ص: 258

ضَامًّا أصَابِعَهُ، ثُمٌ يَضَعُ وَجْهَهُ بَيْنَ كَفيهِ، مُبْدِيًا ضَبْعَيْهِ، مُجَافِيًا بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ،

===

يَبْرُك كما يَبْرُك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه». رواه أبو داود، والنَّسائي. قال أبو سُلَيْمَان الخَطَّابي: حديث وائل أثبت من هذا، وقيل إنَّه منسوخ.

(ضَامَّاً أصَابِعَهُ) ليصير متوجّهاً إلى القبلة، كذا ذكره الشارح. وفيه أنه لا تَلازُم بين الضم والتوجه.

(ثُمَّ يَضَعُ وَجْهَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ) لِمَا روى مسلم من حديث وائل: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا سجد وضع وجهه بين كفيه» . لكنه يُعَارِض ما في البخاري من حديث أبي حُمَيْد: «أنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا سجد وضع كفّيه حَذْو منكبيه» . وفي معناه: في أبي داود والترمذي. ويُقَدَّم عليه حديث مسلم، لأن فُلَيْح بن سليمان الواقع في مسند البخاري وإنْ تَرَجَّحَ تثبيته، لكن قد تُكلِّمَ فيه: فَضَعَّفَه ابن مَعِين، وأبو داود، والنَّسائي وغيرهم. ولِمَا في «مسند إسحاق بن رَاهُوَيه» ، قال: أخبرنا الثوريّ، عن عاصم بن كُلَيْب، عن أبيه، عن وائل بن حُجْر قال:«رَمَقْت النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما سجد وضع يديه حَذْوَ أذنيه» . ولِمَا في الطحاويّ عن حَفْص بن غِيَاث، عن الحَجَّاج، عن أبي إسحاق قال: «سألت البَرَاء بن عازب أين كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يضع جبهته (إذا صلّى؟)

(1)

قال: بين كفيه».

قال بعض المحققين: ولو قال قائل: إنَّ السنة أن يفعل أيهما تيسَّر جمعاً للمرويات، بناء على أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا أحياناً، إلا أن بين الكفين أولى، لأن فيه من تخليص المجافاة المسنونة ما ليس في الآخر، لكان حسناً.

(مُبْدِياً) بالياء أي مُظْهِراً (ضَبْعَيْهِ) بفتح وسكون أي وسط عَضُده

(2)

لقول مَيْمُونَة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد جافى، حتى يَرَى مَنْ خلفه وَضَحَ إبطيه» ، أي بياضهما. وفي رواية «الصحيحين»:«فرَّج بين يديه حتى يَبْدُو بياضُ إبطيه» . ولما في «الصحيحين» من حديث عبد الله بن مالك بن بُحَيْنَة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجَنِّحُ في سجوده حتى يرى وَضَح إبطيه» . وقوله يُجَنِّحُ بجيم مفتوحة ونون مكسورة مشددة من الجَناح بالفتح أي: يُجَافي أو يُبَاعد بين جنبيه كما يشير إليه. قوله: (مُجَافِياً) أي مُبَاعِداً (بَطْنَهُ عَنْ فَخْذَيْهِ) لقول مَيْمُونة: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جَافَى حتى لو شاءت بهيمة أن تَمُرّ بين يديه لمَرَّت» . رواه مسلم.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في شرح معاني الآثار: 1/ 257.

(2)

العَضُدُ: السَّاعد وهو من المِرْفَق إِلى الكتِف. مختار الصحاح ص: 184، مادة (عضد).

ص: 259

مُوَجِّهًا أَصَابعَ رِجْلَيهِ نَحْوَ القِبْلَةِ.

ويَجُوزُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَجِدُ حَجْمَهُ، وتَسْتَقِرُّ جَبْهَتُهُ عَلَيهِ،

===

ولما روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن سفيان الثوريّ، عن آدم بن عليّ البكْرِي قال: «رآني عمر وأنا أصلّي، لا أتجافى عن الأرض بذراعي فقال: يا ابن أخي، لا تَنْبَسِطْ بَسْطَ السَّبُعِ وادَّعِم على راحتَيْك، وأبْدِ ضَبْعَيك

». ورواه ابن حِبَّان والحاكم وصححاه مرفوعاً: «لا تنبسط بَسْطَ السَّبُع وادَّعِم على راحتيك» . ولقوله صلى الله عليه وسلم «اعتدلوا في السجود، لا يَبْسُط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» . متفق عليه. ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا تَنْبَسِط بسط السَّبُع، وادَّعِم على رَاحَتَيْكَ وأبْدِ ضَبْعَيك، فإنك إذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك» . رواه ابن حِبّان والحاكم وصححاه.

وأما قول صاحب «الهداية» : لقوله صلى الله عليه وسلم «أبْدِ ضَبْعَيكَ» ، فلم يُعْرَف مرفوعاً. نعم ثَبَتَ أنه صلى الله عليه وسلم «كان إذا صلّى فَرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه» . حديث متفق عليه. وقوله ادَّعِم بتشديد الدال المهملة، وكسر العين المهملة أي: اتّكاء.

(مُوَجِّهاً أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ نَحْوَ القِبْلَةِ) لما روى البخاري من حديث أبي حُمَيْد السَّاعِدِيّ قال: «كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته إذا كبَّر جعل يديه حِذَاء منكبيه، وإذا ركع أمْكَنَ يديه من ركبتيه، ثم هَصَر ظهره ـ أي أماله ـ فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فَقَارٍ مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا ناصب، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة» . وأما قول صاحب «الهداية» لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا سجد المؤمن، سجد كل عضو منه، فليوجه من أعضائه القبلة ما استطاع» ، فليس بمعروف.

(ويُسَبِّحُ ثَلَاثَاً) ولو زاد على الثلاثة، وختم بفرد لكان أحب، إلا أن الإمام لا يزيد بحيث يَمَلُّ القوم.

(ويَجُوزُ) السُّجُودُ (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) أي من الجمادات والنباتات، دون الحيوانات إلا للضرورة. (يَجِدُ) المصلّي (حَجْمَهُ وتَسْتَقِرُّ جَبْهَتُهُ عَلَيْهِ) عطف تفسيري: وهو أنْ يكون بحيث لو بالغ في تسفيل رأسه لم ينزل. فلو سجد على الأَرُزِّ والذرة والجاوَرْس

(1)

لا يجوز، لأن الجبهة لا تستقر عليه. ولو سجد على الحِنْطَة أو الشعير جاز، لأن الجبهة تستقر عليه، كذا في «المحيط» .

وسُئِلَ الفقيه عبد الكريم الجُرْجَانيّ عن من وضع جبهته على الكف للسجدة

(1)

الجَاوَرْس: حَبّ يشبه الذُّرَة وهو أصغر منها. المصباح المنير ص: 37، مادة (جرس).

ص: 260

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

فقال: لا يجوز. وقال غيره من أصحابنا: يجوز، وهو الأصح، كذا في «الظهيرية» . ولا بد أنْ تكون الكف موضوعة على الأرض، وإلا فلا يجوز اتفاقاً. والأصح: أنه إذا سجد على فخذيه أو ركبتيه بعذر جاز، كذا في «شرح المُنْيَة». ولو سجد على كُمَّيْه أو ذيله أو كَور عِمامته يُكْرَه. وفي مذهب الشافعي: لا يصح، لقوله صلى الله عليه وسلم «مَكِّنْ جبهتك من الأرض حتى تجد حجمها» . وهذا مانع منه. وثوبه تابع له، فلا يصح السجود عليه.

وفي «الحِلْيَة» عن ابنِ عباس: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسجد على كَوْر عمامته» . ورواه الطَبَرانيّ في «معجمه الأوسط» عن ابن أبي أوفى قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على كَوْر العمامة» . ورواه ابن عَدِيّ في «الكامل» عن أنس: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسجد على كور العمامة» . وهكذا روى الحافظ أبو القاسم تَمَّامُ بن محمد الرَّازي في «فوائده» عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي «سنن البيهقي» عن هِشَام، عن الحَسَنِ قال:«كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويَسْجُد الرجل منهم على عِمَامَته» . وذكر البخاري في «صحيحه» تعليقاً فقال: «وقال الحسن: كان القوم يسجدون على العِمَامة والقَلَنْسُوَة

، ويداه في كُمِّه».

وفي الثوب ما رواه ابن أبي شَيْبَة في «مُصَنَّفِهِ» عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في ثوب واحد يَتَّقِي بفُضُولِه

(1)

حَرَّ الأرض وبردها». ورواه أحمد، وأبو يَعْلَى المَوْصِليّ في آخرين. وفي الكتب الستة عن أنس قال:«كنّا نُصَلِّي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يُمَكِّنَ وجهه من الأرض، بَسَطَ ثوبه فسجد عليه» . ولفظ البُخَاريّ: «كنا نُصَلِّي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يضع أحدنا طرف الثوب من شدَّة الحر في مكان السجود» .

وهذا ظاهر في المَلْبُوس، وإرادة غيره خلافه، فلا يُصَار إليه، على أنّ الحائل (المنفصل)

(2)

ليس بمانع منه اتفاقاً. ولم يَزِد

(3)

ما نحن فيه إلا اتصاله به، ونمنع تأثيره في الفساد لو تجَرَّد عن الآثار، فكيف وفيه ما أوْرَدْنَاه وإنْ تُكُلِّمَ في بعضها، كفى ما بَقِيَ منها. وعلى فَرْض ضَعف كلها، كانت حسنة لتعدد طرقها وكثرتها. وقول الحسن: كان القوم

إلخ، يُقَوِّي ظنّ صحة المرفوعات، إذ ليس معنى الضعيف: الباطل في نفس الأمر، بل ما لم يثبت بالشروط المُعْتَبرة عند أهل الحديث، مع تجويز

(1)

فضوله: أطرافه.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

في المخطوط والمطبوع: نرد. والتصويب من "فتح القدير" 1/ 266. ونسخة بولاق 1/ 215.

ص: 261

وَعَلَى ظَهْرِ مَنْ يُصَلِّي صَلاتهُ في الزِّحَامِ.

والمَرْأَةُ تَخْفِضُ وتُلْزِقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا. ويَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبرًا، ويَجْلِسُ مُطْمَئِنًّا، ويُكبِّرُ ويَسْجُدُ مُطْمَئِنًّا ويُكبِّرُ ويَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ رُكْبَتَيهِ، ويَقُومُ بِلا اعْتِمَادٍ عَلَى الأَرْضِ

===

صحته في حد ذاته، فيجوز أن تقوم قرينة تحقق ذلك.

ثم لا يُكْرَه السجود على جلد ونَسْج وقُطْن وكَتَّان ونحو ذلك. وكرِهَهُ مالك لأنه صلى الله عليه وسلم كان يطلب الخُمْرة

(1)

إذا أراد الصلاة ليسجد عليها. ولنا ما رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم سجد على فروة مدبوغة، وعلى بساط، وعلى حصير. ويَجِلُّ منصبه عن فعل المكروه.

(وَ) يجوز السجود (عَلَى ظَهْرِ مَنْ يُصَلِّي صَلَاتَهُ) أي مع الإمام (في الزِّحَامِ) لضرورة ضيق المقام. وعند الشافعي، والحسن بن زياد: لا يجوز. وإن كان موضع السجود أرفع من موضع القدمين بأن كانت الأرض هَبُوطاً

(2)

: إن كان التفاوت مقدار لَبِنَة أو لَبِنَتَيْنِ: يجوز. وإنْ كان أكثر: لا يجوز. أراد به المنصوبة لا المفروشة، كذا في «الظَّهِيريَّة» . وعدم الجواز محمول على غير الضرورة.

(والمَرْأَةُ تَخْفِضُ) حال السجود (وتُلْزِقُ بَطْنَهَا) من الإلزاق أي تُلْصقه (بِفَخِذَيْهَا) لأن ذلك أستر لها. (ويَرْفَعُ) المصلي (رَأْسَهُ) عن السجدة (مُكَبِّراً) للإعلام بالانتقال (ويَجْلِسُ مُطْمَئِناً) ولو لم يَسْتَو جالساً وسجد: أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد، بناء على أن الاستواء في الجِلْسَة سُنَّةٌ عندهما. والمعتمد في المذهب أنه واجب. وفي «الهداية»: الأصح أنه إنْ كان إلى السجود أقرب لا يجوز، لأنه يُعَدُّ ساجداً، أي فلا يتحقق تعدد السجود. وإن كان إلى الجلوس أقرب جاز لأنه يُعَدُّ جالساً. وقالوا: وليس بين السجدتين ولا بعد الرفع من الركوع ذكر مسنون. وما ورد فيهما محمول على التَّهَجُّدَ.

(ويُكَبِّرُ ويَسْجُدُ مُطْمَئِنَّاً ويُكَبِّرُ) أي للنهوض (ويَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ)، لِمَا تقدم من حديث أبي داود.

(ويَقُومُ) على صدور قدميه، مُعْتَمِداً بيديه على رُكْبَتَيْهِ (بِلا اعْتِمَادٍ) بيديه (عَلَى الأَرْضِ) لقول ابن عمر: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يَعْتَمِدَ الرجل على يديه

(3)

إذا نهض

(1)

الخُمْرة: هي مقدار ما يضع الرجل عليه وجهه في سجوده من حصير. النهاية: 2/ 77.

(2)

الهَبُوط: الحَدُور. مختار الصحاح ص: 287، مادة (هبط) أي بأن كانت الأرض منخفضة ..

(3)

في المطبوع: بيديه، والمثبت من المخطوط، لموافقته لما في سنن أبى داود 1/ 604 - 605، كتاب الصلاة (2)، باب كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة (181، 182)، رقم (992).

ص: 262

والرَّكْعَةُ الثَّانِيَة كَالأُولَى، لكن لا ثَنَاء، ولا تَعَوُّذَ، ولا رَفْعَ يَدٍ فِيهَا.

===

في الصلاة». رواه أبو داود وفي رواية: «أن يَجْلِسَ الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده» . وفي أخرى: أنْ يصلي الرجل وهو معتمد على يده. وقد أخذ بظاهره الإمام مالك في الإرسال موضع الوضع. وقال الطحاوي: ولا بأس بالاعتماد على الأرض. وقال الشافعيّ: يَجْلِسُ جَلْسَة خفيفة. لِمَا روى البخاري عن مَالِكِ بن الحُوَيْرِث: «أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كان في وِتْر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً» .

ولنا ما رواه التِّرْمِذيّ عن أبي هريرة: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَنْهَضُ في الصلاة على صدور قدميه» . قال التِّرْمِذِيّ: حديث أبي هريرة هذا عليه العمل عند أهل العلم. ورَوَى ابن أبي شَيْبَة، عن النُّعْمان بن أبي عيَّاش قال:«أدْرَكْتُ غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع أحدهم رأسه من السجدة الثانية في الركعة الأولى والثالثة، نهض كما هو ولم يَجْلِس» . وروى أيضاً عن عمر، وعليّ، وابن مسعود، وابن الزُّبَيْر رضي الله عنهم:«أنهم كانوا يَنْهَضُون في الصلاة على صدور أقدامهم» . وأما ما رواه مَالِكُ بن الحُوَيْرث: فكان حال كِبَرِهِ صلى الله عليه وسلم أو فَعَله أحياناً لبيان الجواز. وفي «الظهيرية» : قال شمس الأئمة الحَلْوانيّ: الخلاف إنما هو في الأفضلية، حتى لو فعل كما هو مذهبنا، لا بأس به عند الشافعيّ، ولو فعل كما هو مذهبه لا بأس به عندنا.

(والرَّكْعَةُ الثَّانِيَة كَالأُولَى) أي في جميع أحوالها، وأقوالها (لكن لا ثَنَاء) فيها لأنه شُرِعَ أول الصلاة (ولا تَعَوُّذَ) لأنه شُرِعَ أول القراءة. وإنما يُعَاد إذا فُصِلَ بفعل، أو قول أجنبيّ عنها. (ولا رَفْعَ يَدٍ فِيهَا) أي في أول الركعة الثانية، بل ولا في غير حالة التحريمة. لما روى محمد في «مُوَطَّئهِ»: عن ابن أَبَان، عن إبراهيم النَّخَعِيّ: أنه قال: «لا تَرْفَع يَدَيْك في شيء من الصلاة بعد التكبيرة الأولى» . وروى مسلم في «صحيحه» عن تَمِيم بن طَرَفَة، عن جابر بن سَمُرَة قال:«خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمْسٍ؟ اسكنوا في الصلاة» . وشُمْس

(1)

: ـ بضم المعجمة وسكون الميم ـ، جمع شَمُوس ـ بفتحها وضم الميم ـ أي: صعب. كذا ذكر بعض الشراح.

واعترض البخاريّ في كتابه «رفع اليدين» : بأنَّ هذا الرفع كان في التشهد، لأنَّ عبد الله بن القِبْطِيّة قال: سمعت جابر بن سَمُرَة يقول: «كنّا إذا صلّينا خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم، السلام عليكم، وأشار بيده إلى الجانبين. فقال: ما بال هؤلاء يُومِئُونَ بأيديهم كأنها أذناب خيل شُمْس. إنما يكفي أحدكم أنْ يضع يده على فَخِذه،

(1)

مرّ شرحها ص 258، تعليق رقم (2)، بأوضح من هذا، فانظره.

ص: 263

وإِذَا أَتمها افتَرَشَ رِجْلَهُ اليُسْرَى وجَلَسَ عَلَيْهَا، نَاصِبًا يُمْنَاهُ، مُوَجِّهًا أَصَابعَهُ نَحْوَ القِبْلةِ، وَاضِعًا يَدَيْهِ على فَخِذَيْهِ، مُوَجِّهًا أَصَابِعَهُ نَحْوَ القِبْلَةِ مَبْسُوطَةً.

===

ثم يسلم على أخيه من عن يمينه، ومن عن شماله».

(وإِذَا أَتَمّها) أي الركعة الثانية (افتَرَشَ رِجْلَهُ اليُسْرَى وجَلَسَ عَلَيْهَا نَاصِباً يُمْنَاهُ مُوَجِّهاً أَصَابِعَهُ نَحْوَ القِبْلةِ) لِمَا روى النَّسائيّ، عن ابن عمر أنه قال:«مِنْ سنة الصلاة أنْ يَنْصِبَ القدم اليُمْنَى، ويستقبل بأصابعها القِبْلَة، ويَجْلِسَ على اليُسْرَى» . ورواه البخاري من غير ذكر استقبال القِبْلَةِ بالأصابع. وروى مسلم عن عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ الصلاة بالتكبير إلى أن قالت: وكان يَفْرِشُ

(1)

رِجْلَه اليُسْرَى ويَنْصِبُ رجله اليُمْنَى، وكان يَنْهَى عن عُقْبَةِ الشيطان

(2)

وينهى أن يَفْتَرِشَ الرجل ذراعيه افتراش السَّبُع. وكان يَخْتِمُ الصلاة بالتَّسْلِيمِ».

(وَاضِعاً يَدَيْهِ على فَخِذَيْهِ) لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن القِبْطِيَّة السابق: «إنما يكفي أحدكم أنْ يضع يده على فَخِذه» . وينبغي أن يكون أطراف الأصابع على حرف الرُّكْبة لا مُبَاعِدَة عنه. (مُوَجِّهاً أَصَابِعَهُ) أي مُفَرَّقَة (نَحْوَ القِبْلَةِ مَبْسُوطَةً) أي لا مقبوضة. وفي «الظَّهِيريَّة» : ومتى أخذ في التشهد فانتهى إلى قوله: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، هل يشير بالسبابة من يده اليُمْنَى؟ اختلف المشايخ فيه، ثم كيف يصنع عند الإشارة؟ حُكِي عن الفقيه أبي جعفر أنه قال: يَعْقِدُ الخِنْصَرَ والبِنْصَرَ، ويُحَلِّقُ الوُسْطَى مع الإبهام ويُشيرُ بسبابته. وفي «المُنْيَة»: يكره الإشارة.

قلت: وهو مخالف للرواية والدراية كما ذَكر الإمام ابن الهُمَام، فعن ابن عمر رضي الله عنهما:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قَعَدَ في التشهد وضع يده اليُسْرَى على ركبته اليُسْرَى، ووضع يده اليُمْنَى على ركبته اليُمْنَى، وعقد ثلاثة وخمسين، وأشار بالسَّبابَة» . وفي روايةٍ: «كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصْبَعَه من يده اليُمْنَى التي تلي الإبهام يدعو بها، ويده اليسرى على ركبته باسطاً يده عليها» . وعن ابن الزُّبَيْر: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد يدعو وضع يده اليُمْنَى على فَخِذِه اليُمْنَى ويده اليُسْرَى على فَخِذِه اليُسْرَى، وأشار بإصْبَعه السَّبابَة، ووضع إبهامه على إصْبَعه الوُسْطَى ويُلْقِمُ كفّه اليسرى ركبته» . رواهما مسلم. وقد ذكر أبو يوسف في «الأمالي» : أنه يعقد الخِنْصَر والبِنْصَر ويُحَلِّق الوسطى والإبهام ويشير

(1)

في المطبوع يفترش، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 1/ 357 كتاب الصلاة (4)، باب ما يجمع صفة الصلاة ..... (46)، رقم (240 - 498).

(2)

عُقْبَة الشيطان: هو أَن يضع أَلْيتيه على عَقِبَيه بين السجدتين. النهاية: 3/ 268.

ص: 264

والمَرْأَةُ تَجْلِسُ عَلَى أليتِها اليُسْرَى، مُخْرِجَةً رِجْلَيهَا مِنَ الجَانِبِ الأَيمَنِ. ويَتَشَهَّدَ كابْن مَسْعُودٍ،

===

بالسَبَّابة. وذكر محمد في «موطّئه» : «أنه صلى الله عليه وسلم كان يُشِير ونحن نصنع بصنعه» . قال: وهو قول أبي حنيفة.

قلت: وهو قول سائر الأئمة فيكون عليه إجماع الأُمة. فلا اعتداد بخلاف بعض المشايخ المتأخرين من غير نسبة ولا بيان علة، كما أوضحته في رسالة مستقلة. وأما قول صاحب «الهداية»: ووضع يديه على فَخِذَيه وبسط أصَابِعَه وتشهد، يُرْوَى ذلك في حديث وائل فغير معروف عنه. بل رُوِي عنه:«وضع يده اليُمْنَى على فَخِذِه اليُمْنَى، ثم عقد الخِنْصَر والبِنْصَر، ثم حَلَّقَ الوسطى بالإبهام وأشار بالسَبَّابة» . رواه البَيْهِقِيّ وابن ماجه بإسنادٍ صحيحٍ، قاله النَوَوِيّ.

(والمَرْأَة تَجْلِسُ عَلَى أَلْيَتِها اليُسْرَى مُخْرِجَةً رِجْلَيْهَا مِنَ الجَانِبِ الأَيْمَنِ) لأنه أستر لها.

(ويَتَشَهَّدُ) المُصَلِّي (كابْنِ مَسْعُودٍ) وهو ما رواه الجماعة ـ واللفظ لمسلم ـ قال: «عَلَّمَني رسول الله صلى الله عليه وسلم التَشَهُّد، كَفِّي بين كَفَّيهِ، كما يُعَلِّمنِي السورة من القرآن فقال: إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التَحِيَّات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ـ فإذا قالها أصابت كل عبد الله صالح في السماء والأرض ـ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله» . وقال التِّرمِذِيّ: أصح حديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في التشهد حديث ابن مسعود والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين.

والتحيات، جمع التحية أي: أنواع الثناء والمِدْحَة. والصلوات: جمع الصلاة المعروفة، أو بمعنى الدعوات المألوفة. والطيبات: الكلمات الدالة على تسبيح الذات وتقديس الصفات. قال أبو سليمان الخَطَّابي عن أنس بن مالك في تفسير التحيات: «إنها أسماء الله، وهي السلام، المؤمن، المهيمن، الحيّ، القيوم، العزيز، الأحد، الصمد» . قال: التحيات لله بهذه الأسماء، وهي الطيبات لا يُحَيَّى بها غيرُه. والصلوات الأدعية. وعن بعض المشايخ: التحيات: العبادات القولية، والصلوات: العبادات البدنية، والطيبات: العبادات المالية، يعني أن جميع العبادات لا يستحقها غير الله سبحانه وتعالى.

واختار مالك تَشَهُّد عمر لِمَا ذكره في «الموطّأ» : أنَّ عمر كان يقول على المنبر

ص: 265

ولا يَزِيدُ عَلَيهِ. ويَقْرَأُ فِيمَا بَعْدَ الأُولَيَيْن الفَاتِحَةَ فَقَطْ سِرًّا. وإنْ سَبَّحَ أوْ سَكَتَ جَازَ.

===

للناس: «قُولُوا: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله» .

قلنا: يُرَجَّحُ تَشَهُّدُ ابن مسعود لِمَا روى الطَّحاوي عن ابن عمر: «أنَّ أبا بكر رضي الله عنه عَلَّمه الناس على المنبر» . واختار الشافعيّ تَشَهُّد ابن عباس. لِمَا رواه الجماعة غير البخاري عن سعيد بن جُبَيْر وطَاوُس، عن ابن عباس قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَشَهُّدَ كما يُعَلِّمُنَا السورة من القرآن، فكان يقول: التحيَّات المباركات الصلوات الطيّبات لله، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .. إلخ» . مُعَرَّفٌ السلام في رواية مسلم وأبي داود وابن ماجه، ومُنَكَّرُهُ في رواية التِّرْمِذي والنِّسَائي. واتفقوا على إخفائه لقول ابن مسعود:«من السُّنَّة أنْ يُخْفِي التشهد» ، رواه أبو داود، والتِّرْمِذي.

(ولا يَزِيدُ عَلَيْهِ) لِمَا رَوَى أحمد في «مسنده» من حديث ابن مسعود: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّمَه التشهُّد، فكان يقول إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وَرِكِهِ اليُسْرَى: التَحيَّات لله، إلى قوله

عبده ورسوله». قال: «ثُمَّ إنْ كان في وسط الصلاة نهض حين يَفْرُغُ من تشهّده. وإن كان في آخرها دعا بعد تشهّده بما شاء أن يدعو، ثم يُسَلِّم» .

(ويَقْرَأُ فِيمَا بَعْدَ الأُولَيَيْن) من المَغْرِبَين والعَصْرَين (الفَاتِحَة فَقَطْ سِرّاً) لِمَا قَدَّمنا في الجهر والمخافتة، ولمَا روى الشيخان عن أبي قَتَادَة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «كان يَقْرَأُ في الركعتين الأُولَيين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الأُخْرَيَيْنِ بفاتحة الكتاب. ويُسْمِعُنا الآية أحياناً ويُطِيلُ في الركعة الأولى ما لا يُطِيلُ في الثانية، وهكذا في الصبح» . ولقول جابر: «سُنَّة القراءة في الصلاة: أن يقرأ في الأُولَيَيْنِ بأمّ القرآن وسورة، وفي الأُخْرَيَيْنِ بأُمِّ القُرْآن» . رواه الطَّبَرَانِيّ. وقيل: يجب قراءتها، وهي رواية الحسن، عن أبي حنِيفة، حتى يَلْزَمه بتركها سجود السهو. وكأنَّ وَجْهَهُ المُوَاظبة عليها، ولأن القيام في الأُخْرَيَيْن مقصود في نفسه فَيُكْرَه إخْلَاؤه عن القراءة. ولا سيما في مذهب الشافعيّ ومَنْ تَبِعَه: لا يصح بدون قراءة الفاتحة.

(وإنْ سَبَّحَ أوْ سَكَتَ جَازَ) أي صَحَّت صلاته، لِمَا رَوَى ابن أبي شَيْبَة، عن شَرَيك، عن أبي إسحاق السَّبِيعِيّ، عن عليّ وابن مسعود أنهما قالا: «اقرأ في الأُولَيَيْن،

ص: 266

ثُمَّ يَقْعُدُ كالأُولَى، وبَعْدَ التَّشَهُّد يُصَلِّي علَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

===

وسَبِّح في الأُخْرَيَيْن». ومثل هذا لا يُقَال بالرأي، فهو في حكم المرفوع. ثم التسبيح ليس بفرض إجماعاً، فإذا سكت جاز.

(ثُمَّ يَقْعُدُ كالأُولَى) مُفْتَرِشاً رجله اليُسْرَى وجالساً عليها، وناصباً رجله اليُمْنَى، ومُوَجِّهاً أصابعه نحو القِبْلَة، وواضعاً يديه على فَخِذَيه. وعند مالك التَّوَرُّك أفضل في القَعْدَتَيْن، ووافقه الشافعيّ في الأخيرة، لِمَا في الكتب الستة ـ سوى «صحيح مسلم» ـ من حديث أبي حُمَيْد السَّاعِدِيّ:«كنت أحْفَظَكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنْ قال: فإذا جلس في الرّكْعَتَينِ، جلس على رجله اليُسْرَى ونصب اليُمْنَى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة، أخَّرَ رجله اليُسْرَى وقَعَدَ على شقّه متوركاً، ثم سلم» . وفي لفظ البخاري: «وإذا جلس في الركعة الأخيرة قَدَّم رِجله اليُسْرَى ونصب الأخرى وقعد على مَقْعَدَتِهِ» .

(وبَعْدَ التَّشَهُّد) الأخير (يُصَلِّيَ علَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم

وهي سُنَّةٌ عندنا ويُسِيءُ تاركها، وليست بواجبة، وعليه الجمهور خلافاً للشافعي، لأنَّ كل من رَوَى التَّشَهُّد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يذكرها فيه. وقد قال ابن مسعود وجابر وابن عباس:«يُعَلِّمُنا التَّشَهُّد، كما يُعَلِّمُنا السورة» . كذا ذكره الشارح. وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صَلَّى أحدكم فليبدأ بتمجيد

(1)

الله والثناء عليه، ثم ليُصلِّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم ليَدْعُ بعدُ ما شاء». رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث صحيح.

وفي رواية البَّيْهَقِي والحاكم: «إذا تَشَهَّد أحدكم في الصلاة فَلْيَقُلْ: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد. وبارك على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمداً وآل محمد، كما صلّيت وباركت وتَرَحَّمْتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد» .

وسُئِلَ محمد بن الحسن عن كيفية الصلاة فقال: «اللهم صلّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. إنك حميد مجيد» . وهذا أصح ألفاظ الصلاة، وقد أخرجه أصحاب الكتب الستة.

قال الكَرْخِيّ: والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم خارج الصلاة واجبة مرة في العمر على

(1)

في المخطوط: تحميد وهو موافق لما في رواية الترمذي 5/ 482 - 483، كتاب الدعوات (45)، باب (64)، رقم (3477). والمثبت من المطبوع وهو موافق لما في رواية أبي داود 2/ 162، كتاب الوتر، (8)، باب الدعاء (23)، رقم (1481).

ص: 267

ويَدْعُو بِمَا لا يُسْأَلُ مِنَ النَّاسِ،

===

الإنسان. قلت: لقوله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عليه وسَلِّمُوا تَسْلِيماً}

(1)

وهو أعمّ من أن يكون خارج الصلاة أو داخلها. وقال الطَّحَاوِيّ: يجب عند سماع اسمه في كل مرة، وهو الصحيح. كذا في «المحيط» ، ويتداخل في المسجد والمجلس. وقال القاضي عِيَاض: وقد شَذَّ الشافعي فقال: من لم يُصَلِّ عليه فصلاته فاسدة، ولا سلف له في هذا القول، ولا سُنَّة يَتَّبِعُها. وشَنَّعَ عليه فيه جماعة منهم الطَّبَرَانِيّ والقُشَيْرِي، وخالفه من أهل مذهبه الخَطَّابِيّ وقال: لا أعلم له فيها قدوة.

وما رُوِيَ عنه عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لمن لم يُصَلِّ عليّ»

(2)

، ضَعَّفَهُ أهل الحديث كلهم: وعلى فرض صحته فمعناه: كاملة، أو: لِمَنْ لم يُصَلِّ عليّ في عُمُرِه. وكذا ما جاء في حديث (أبي مسعود)

(3)

عنه صلى الله عليه وسلم «من صلّى صلاة لم يُصَلِّ عليّ فيها وعلى أهل بيتي لم يقبل الله منه»

(4)

، وهذا ضُعِّف بجَابرِ الجُعْفِي، مع أنه قد اخْتُلِفَ عليه في رَفْعَه ووَقْفه.

(ويَدْعُو) بعد الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِمَا لا يُسْأَلُ مِنَ النَّاسِ) لِمَا مَرَّ من قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: «إنّ هذه الصلاة لا يَصْلُحُ فيها شيء من كلام النَّاس، إنما هي التسبيح، والتهليل، وقراءة القرآن» . أي ونحوها من سائر الأدْعِية والأذْكَار فلو قال: اللهم ارْزُقْنِي من بَقْلِها وقِثَّائِها

(5)

وفُومها، جاز. ولو قال: أعطني بقلاً وقثاء وفوماً، فسدت صلاته إنْ لم يَقْعُد قدر التشهد، وإن قعد تَمَّتْ وخرج به من الصلاة. وعند الشافعي يجوز أنْ يدعو بما شاء مطلقاً.

والأَوْلَى أنْ يدعو بالأدعية المَأْثُورة منها قوله صلى الله عليه وسلم «إذا فَرَغَ أحدكم من التَّشَهُّد الآخر فَلْيَتَعَوَّذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المَحْيا والممات، ومن فتنة شر المسيح الدجّال»

(6)

. ومنها قول عائشة: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو

(1)

سورة الأحزاب، الآية:(56).

(2)

جزء من حديث أخرجه البيهقي في سننه الكبرى 2/ 379، عن عبد المهيمن بن عباس. وانظر نصب الراية 1/ 426 - 428.

(3)

حرفت في المطبوعة والمخطوطة إلى ابن مسعود والصواب ما أثبتناه لموافقته لما في نصب الراية 1/ 427، وسنن الدارقطني 1/ 355، والدراية 1/ 158.

(4)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 355. وانظر نصب الراية 1/ 427.

(5)

القِثَّاء: نوع من البطيخ، نباتيّ قريب من الخيار لكنه أطول. المعجم الوسيط ص: 715، مادة (أَقثأ).

(6)

صحيح مسلم 1/ 412 كتاب المساجد ومواضع الصلاة (5)، باب ما يستعاذ منه في الصلاة (25)، رقم (128 - 588).

ص: 268

ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ بِنِيَّةِ مَنْ ثَمَّةَ مِنَ البَشَرِ والمَلَكِ، ثُمَّ عَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ

===

في الصلاة يقول: اللهم إني أعوذ بك من المَأْثَم والمَغْرَم»

(1)

. متّفق عليه. ومنها قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله عَلِّمْنِي دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يَغْفِرُ الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارْحَمْنِي إنك أنت الغفور الرحيم». متّفقٌ عليه.

ومنها قول عليّ: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبَّر، ثم قال: وَجَّهتُ وَجْهِيَ، إلى أن قال: ثم يكون آخر ما يقول بين التَّشَهُّد والتسليم: اللهم اغفر لي ما قَدَّمْتُ وما أَخَّرْتُ، وما أَسْرَرْتُ وما أَعْلَنْتُ، وما أَسْرَفْتُ وما أنت أعلم به مني، أنت المُقَدِّمُ، وأنت المُؤَخِّرُ، لا إله إلا أنت» . رواه مسلم. ومنها قول مُعَاذ: «أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأُحِبُّك يا مُعَاذ، فقلت: وأنا أُحبك يا رسول الله. قال: فلا تَدَعْ أنْ تقول في كل صلاة: رَبِّ أعِنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» . رواه أبو داود والنَّسائي.

والحاصل: أنه يدعو عندنا وعند مالك بما يَسْتَحِيل طلبه من الناس خاصة، كسؤال الرحمة والمغفرة والعافية، والتَّعوُّذ من الفتنة والمحنة. وأطلقه الشافعي، وكذا مالك في رواية لقوله صلى الله عليه وسلم «ثم لِيَتَخَيَّر أحدكم من الدعاء أعْجَبَه إليه فيدعو به». رواه التِّرْمِذِيّ وابن ماجه في حديث التشهد. قلنا: يعارضه حديث: «إنَّ صلاتنا هذه لا يَصْلُحُ فيها شيء من كلام الناس» . وما لا يستحيل سؤاله منهم فهو كلامهم ويُقَدَّم عليه لأنه مانع، وذلك مبيح.

(ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ بِنِيَّة مَنْ ثَمَّة مِنَ البَشَرِ والمَلَكِ) وتنقطع التحريمة بتسليمة واحدة. فقيل الثانية: سنة، والأصح أنها واجبة. (ثُمَّ عَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ) أي بنية من هناك. لأن المُصَلِّي لَمَّا اشْتَغَلَ بالمناجاة فكان كالغائب عمن معه فيسلم عليه عند فراغه. وقال مالك: يُسَلِّمُ الإمام والمنفرد بتسليمة واحدة تلقاء وجهه يميل إلى الشق الأيمن. وهو مَرْوِي عن ابن عمر وعائشة.

ولنا ما رَوَى أصحاب «السنن الأربعة» عن ابن مسعود، وصححه التِّرْمِذِيّ:«أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسَلِّمُ عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله حتى يُرَى بياض خده الأيمن. وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله حتى يُرَى بياض خده الأيسر» .

(1)

المَغْرم: هو مصدر وُضِعَ موضع الاسم، ويُرِيدُ به مَغْرم الذُّنوب والمَعَاصِي. رقيل المَغْرَم كالغُرْم، وهو الدين، ويُرِيد به ما اسْتُدين فيما يكْرَهه الله، أو فيما يجوز ثم عَجِزَ عن أدائه. النهاية: 3/ 363.

ص: 269

والمُؤْتَم يَنْوِي إمَامَهُ في جَانِبِهِ، وفِيهِمَا إنْ حَاذَاهُ، والمُنْفَرِدُ المَلَكَ فَقَطْ.

‌فَصْلٌ [فيما يَجهَرُ به الإِمَامُ]

يَجْهَرُ الإِمامُ في الجُمُعَةِ، والعِيدَيْنِ، والفَجْرِ، وأُولَيَي العِشَاءَيْنِ أَداءً وَقَضَاءً

===

(والمُؤْتَمُّ يَنْوِي إمَامَهُ في جَانِبِهِ) أي يميناً كان أو يساراً (وفِيهِمَا إنْ حَاذَاهُ) لأن المحاذي ذو حظٍ من الجانبين. وهو قول محمد وروايةٌ عن أبي حنيفة. واقتصر أبو يوسف على نيته في التسليمة الأولى فقط.

(والمُنْفَرِدُ) يَنْوِي (المَلَكَ فَقَطْ) لأنه ليس معه غيره. وقيل: الإمام لا يَنْوِي مطلقاً لأنه يُشِيرُ إليهم ويَجْهَرُ بهما وهو فوق النية. ثم يُسَلِّمُ المأموم مع إمامه ويُحْرِم معه عند أبي حنيفة تحقيقاً للمُتَابعَة. وقالا: يُسَلِّمُ معه ويُحْرِمُ بعد إمامه. ولا دلالة في قوله صلى الله عليه وسلم «إذا كبَّر فَكبِّروا»

(1)

والخلاف في الجواز. وعن أبي حنيفة: يُسَلِّمُ المأموم بعد إمامه ويُحْرِمُ معه. ووجه الفَرْقِ أنّ الإحرام: شروع في العبادة: والسلام خروج عنها. ويُسْتَحَبُّ المبادرة في الأول دون الثاني.

فصلٌ (فيما يَجْهَرُ به الإِمَامُ)

(يَجْهَرُ الإِمامُ) وجوباً (في الجُمُعَةِ والعِيدَيْنِ) أي في صلاتهما. لِمَا رواه الجماعة إلا البُخَارِيّ من حديث النُّعْمَان بن بَشِير: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَقْرَأُ في العيدين ويوم الجمعة بـ: {سَبِّحْ اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية}» . وقال النَّوَوِي: أجمع المسلمون على كونها رَكْعَتين يُجْهَرُ فيها. (والفَجْرِ) لما روى أبو داود عن ابن عامر: «كنت أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة في السفر، فقال: ألا أُعَلِّمُكَ خير سورتين قُرِئَتَا، فَعَلَّمَنِي: {قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} و {قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. قال: فلم يَرَنِي سُرِرْتُ بهما جداً فَلَمَّا نزل لصلاة الصبح صلّى بهما» .

(وأولَيَي العِشَاءَيْنِ) لِمَا روى البخاريّ عن جُبَيْر بن مُطْعِمٍ قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بالمغرب بـ: «الطور» ـ أي بسورة الطور ـ كلها أو بعضها». ولِمَا رُوِيَ أيضاً عن البراء قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بـ: {التين والزيتون} في العشاء، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه» . وهذا كله مجمع عليه. وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة.

(أَداءً) قَيْدٌ لِمَا قبلها من الصلوات الثلاث (وَقَضَاءً) لِمَا رَوَى مالك في «المُوَطَّأ»

(1)

جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 2/ 216، كتاب الأذان (10)، باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة (82)، رقم (733).

ص: 270

لا غَيْرَ.

===

عن زيد بن أَسْلَم قال: «عَرَّسَ

(1)

رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً بطريق مكة، فذكر نومهم وقيامهم وصلاتهم. وأنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيُّها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء ردها. فإذا رَقَد أحدكم عن الصلاة أو نَسِيَها، ثم فَزِعَ

(2)

عليها فَلْيُصَلِّها كما كان يُصَلِّيها في وقتها». ورَوَى محمد بن الحَسَنِ في كتابه «الآثار» عن أبي حنيفة، عن حَمَّاد، عن إبراهيم النَّخَعِي قال:«عَرَّسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يَحْرُسُنا الليلة؟ فقال رجل شاب من الأنصار: أنا يا رسول الله أحْرُسُكُم فَحَرَسَهُم، حتى إذا كانوا في الصبح غَلَبَتْهُ عينه فما استيقظوا إلا بحَرِّ الشمس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ وتَوَضَّأَ أصحابه. وأمر المُؤَذِنَ فأَذَّن، وصَلَّى ركعتين، ثُمَّ أُقِيمَت الصلاة فصلّى الفجر بأصحابه، وَجَهَرَ فيها بالقراءة كما كان يصلي بها في وقتها» . وروى مسلم عن أبي قَتَادَة في قصة نومهم من صلاة الفجر قال: «ثم أذَّنَ بلال بالصلاة فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلّى الغُدْوَة

(3)

، فصنع كما كان يصنع كل يوم».

(لا غَيْرَ) أي لا يَجْهَرُ الإمام في الظهر والعصر وثالثة المغرب وأُخْرَيَي العشاء. لما رَوَى البخاري من حديث مَعْمَر قال: «قلنا لخَبَّاب بن الأَرَتّ: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بمَ كنتم تعرفون ذلك؟ قال: باضطراب لحيته» . وتقدم أنه كان يُسْمِعُنا الآية والآيتين أحياناً. ورَوَى عبد الرَّزَّاقِ في «مصنفه» عن مُجَاهِد وأبي عُبَيْدَة: أنهما قالا: «صلاة النَّهار عَجْماء» . أي: لا قراءة مسموعة فيها. قال صاحب «الهداية» ويُخْفِيها الإمام في الظهر والعصر وإن كان بعَرَفة، لقوله عليه الصلاة والسلام:«صلاة النهار عجماء» . واخْتُلِفَ في رفعه ووقفه على ابن عباس.

قال النوَوِي: عن أبي هريرة رَفَعَهُ «مَنْ جهر بالقراءة في صلاة النهار فارْمُوه بالبَعْر» . ويقول: «إنَّ صلاة النهار عَجْمَاء» . ثم قال: إنه باطل لا أصل له. لكن روى ابن شاهين عن أبي هريرة قال: «إذا رأيتم من يجهر بالصلاة في صلاة النهار فارموه بالبَعْر» . وذكر ابن أبي شَيْبَة، عن يَحْيَى بن أبي كَثِير:«قالوا: يا رسول الله إنّ ههنا قوماً يَجْهَرُون بالقراءة في النهار فقال: ارْمُوهم بالبَعْرِ» . ورُوِيَ عن عمر رضي الله عنه: أنَّ رجلاً جهر بالقراءة نهاراً فدعاه فقال: «إنّ صلاة النهار لا يُجْهَرُ فيها بالقراءة فأسِرَّ قراءتك» . رواه ابن أبي شَيْبَة. وقال صاحب «الهداية» : وفي عَرَفة خلاف مالك، وهذا غير معروف عند

(1)

سبق شرحها ص 236، التعليقة رقم (3).

(2)

فَزِعَ: أي هَبَّ وانْتَبه. النهاية: (3/ 444).

(3)

الغُدْوَة: تقدم شرحها ص: 193، التعليقة رقم (1).

ص: 271

والمُنْفَرِدُ خُيِّرَ إن أَدَّى، وَخَافَتَ حتْمًا إنْ قَضَى.

وأدْنَى الجَهْر إسْمَاعُ غَيرِهِ، وأدْنَى المُخَافَتَةِ إسْمَاعُ نَفْسِهِ، هُوَ الصَّحِيحُ.

وكَذَا في كُلِّ ما يَتَعَلَّقُ بالنُّطْقِ، كالطَّلاقِ، والعَتَاقِ، والاستِثْنَاءِ وغَيرِهَا.

===

أصحابه.

(والمُنْفَرِدُ خُيِّرَ إن أَدَّى) أي ما يجهر الإمام فيه لا فيما يُخَافِتُ فيه أيضاً، كما يوهم إطلاق المتن. وإنَّما يُسِرُّ لأَنه غير محتاج إلى إسماع غيره، بخلاف الإمام. ومع هذا الجهرُ أفضل ليكون على هيئة الجماعة. (وَخَافَتَ حتْماً) أي وُجوباً (إنْ قَضَى) ما يجهر الإمام. وفي «الهداية»: هو الصحيح: لأن الجهر يَخْتَصُّ إما بالجماعة حتماً، أو بالمنفرد في الوقت تَخْيِيراً، ولم يوجد أحدهما. واختار شمس الأئمة، وفخر الإسلام، وجماعة من المتأخرين: أنّ حُكْمَ المنفرد إنْ قَضَى كحكمه إنْ أدَّى في التخييرِ وأفضليةِ الجهر، لأن القضاء يكون على وَفْق الأداء. قال قاضيخان: وهو الصحيح. وقال صاحب «الذَّخِيرَة» : وهو الأصح. وأُجِيبَ عن استدلال صاحب «الهداية» : بمنع الحصر لجواز أنْ يكون للجهر تخيير بسبب آخر، وهو موافقة الأداء.

(وأدْنَى الجَهْرِ) عند أبي جعفر الهِنْدُوَاني وأبي بكر محمد بن الفضل

(1)

(إسْمَاعُ غَيْرِهِ) أي إسماعه مُغَايِراً واحداً وهو الذي يكون بقربه فَرْضاً، لِيَصِحَّ قوله: أدنى، فأقصى الجهر ما يتجاوزه. (وأدْنَى المُخَافَتَةِ إسْمَاعُ نَفْسِهِ) أي فقط عندهما أيضاً. وعلى هذا يكون أقْصَى المُخَافَتَة إسماع غيره. فرجع حاصله إلى أَدْنَى الجهر. ولهذا لم يُذْكَر في «الهداية» لفظ أدْنَى في المَوْضِعَيْنِ، ولا يَبْعُد أن يقال: المراد بأدناهما: أدنى ما يُطْلَقُ عليهما، ولا مفهوم له في جانب المُخَافَتَة.

(هُوَ الصَّحِيحُ) لأن حركة اللسان بدون الصوت، لا تُسَمَّى قراءة لا لغةً ولا عُرْفاً. وقال الكَرْخِيّ: أدنى الجهر أنْ يُسْمِعَ نفسه، وأدنى المخافتة أنْ يُصَحِّحَ الحروف، لأن القراءة فعل اللسان، وذلك بإقامة الحروف لا بالسماع لأنه فعل الأُذُنِ. وفيه أنَّ الحرف صوت يَعْتَمِدُ على مَخْرجٍ محقَّقٍ أو مُقَدَّرٍ، فلا يتحقق بدونِ السمع، وغيره يكون خاطراً وخيالاً.

(وكَذَا) الخلاف (في كُلِّ ما يَتَعَلَّقُ بالنُّطْقِ كالطَّلَاقِ والعَتَاقِ والاسْتِثْنَاءِ وغَيْرِهَا) كالشرط في الطلاق والعتاق، والتسمية للذبيحة، والتلاوة للسجدة، والإيجاب والقبول

(1)

حرفت في المخطوطة إلى: " أبو محمد بن الفضل"، والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في "الجواهر المضية" 3/ 350.

ص: 272

وسُنَّةُ القِرَاءَة في السَّفَرِ عَجَلَةً: الفَاتِحَةُ مَعَ أيِّ سُورَة شَاءَ، وآمِنًا نَحْوَ البُرُوجِ، وفي الحَضَرِ اسْتَحْسَنُوا طِوَالَ المُفَصَّلِ: في الفَجْرِ والظُّهْرِ، وأَوْسَاطَهُ في العَصْرِ والعِشَاءِ، وقِصَارَهُ في المَغْرِبِ.

ومِنَ الحُجُرَاتِ طِوَالٌ إلى البُرُوجِ،

===

في البيع والنكاح وأمثالها.

(وسُنَّةُ القِرَاءَة في السَّفَرِ عَجَلَةً) أي حال كونه ذا عَجَلة (الفَاتِحَةُ مَعَ أيِّ سُورَةٍ شَاءَ) لِمَا روى البخاريّ عن البَرَاءِ عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم «كان في سفر فقرأ في العِشَاء في إحدى الركعتين بـ: التين والزيتون» .

(وآمِناً) أي وحال كونه ذا أمْنٍ غيرَ مستعجل (نَحْوَ البُرُوجِ) مع الفاتحة لإمكان مُرَاعَاةِ السُّنَّة بذلك مع التخفيف. (وفي الحَضَرِ) عطف على في السفر (اسْتَحْسَنُوا) أي اسْتَحَبَّ العلماء في غير الضرورة (طِوَالَ المُفَصَّلِ في الفَجْرِ والظُّهْرِ)، وأُلْحِقَ الظهر بالفجر لمساواته إياه في سَعَةِ الوقت. وقال في «الأصل»: أو دونه، لما رُوِيَ عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى «أن اقرأ في الظهر بأوساط المُفَصَّل» . ولأنّ وقت الظهر وإن كان مُتَّسِعاً، إلاّ أنه وقت اشتغال الناس في مهماتهم بخلاف الصبح، ويُسَمَّى مُفَصَّلاً لكثرة فصوله وهو السُّبْع السابع.

(وأَوْسَاطَهُ في العَصْرِ والعِشَاءِ، وقِصَارَهُ في المَغْرِبِ) لِمَا روى عبد الرَّزَّاقِ في «مصنّفه» عن سُفْيَان الثَّوْرِي، عن علي بن زَيْد بن جَدْعَانَ، عن الحسن، وغيره قال:«كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى أن اقرأ في المغرب بِقِصَارِ المُفَصَّل» . وفي العِشَاء بأَوْسَاط المُفَصَّل، وفي الصبح بِطِوَال المُفَصَّل، والعصر كالعشاء في استحباب التأخير فَيُلْحَقُ بها في التقدير. وروى مسلم من حديث جابر بن سَمُرَة:«أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ: «قاف» وكانت صلاته تخفيفاً». وروى أيضاً من حديث أبي بَرْزَة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المئة» . ولفظ ابن حِبَّان: «بالستين إلى المئة» .

وروى النَّسائِيّ عن سُلَيْمان بن يَسَار، عن أبي هريرة قال: «ما رأيت أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان. قال سليمان: كان يُطِيلُ الركعتينِ الأُولَيَيْنِ من الظهر، ويُخَفِّفُ الأُخْرَيَيْنِ، ويُخَفِّفُ في العصر، ويقرأ في المغرب بقِصَار المُفَصَّل، ويقرأ في العشاء وسط المُفَصَّل، ويقرأ في الغداة بِطِوالِ المُفَصَّل. قال النووي: إسناده حسن.

(ومِنَ الحُجُرَاتِ طِوَالٌ إلى البُرُوجِ) قاله الحَلْوَاني وغيره من أصحابنا. (وقيل:

ص: 273

ثُمَّ أَوْسَاطٌ إلى {لَمْ يَكُنِ} ، ثُمَّ قِصَارٌ إلى الآخِرِ. وفي الضَّرُورَةِ بِقَدْرِ الحَالِ.

وكُرِهَ تَعْيِينُ دُورَةٍ لِصَلاة. ويَنْصِتُ المُؤْتَمُّ،

===

من سورة القتال)

(1)

، وقيل: من القاف، وقيل: من الجاثية، وقيل: من الفتح. (ثُمَّ أَوْسَاطٌ إلى {لَمْ يَكُنِ} ثُمَّ قِصَارٌ إلى الآخِرِ) أي آخر القرآن. (وفي الضَّرُورَةِ) يقرأ (بِقَدْرِ الحَالِ) من العَجَلةِ والإقَامَةِ. إذ قد رُوِيَ: «أنه عليه الصلاة والسلام قرأ المعوذتين في الفجر» .

(وكُرِهَ) عندنا وعند مالك (تَعْيِينُ سُورَةٍ) أي غير الفاتحة (لِصَلاةٍ) من الصلوات. واسْتَحَبَّ الشَّافِعِي قراءة سورة «السجدة» و «هل أتى» في الفجر كل جمعة، و «سبِّح اسم ربك الأعلى» و «الغاشية» في صلاة الجمعة. وقَيَّدَ الطَّحَاوِي والإِسْبِيجَابيّ الكراهة فيما إذا اعتقد أن الصلاة لا تجوز بغيرها. وأما إذا لم يعتقد ذلك ولَازَمَها لسهولتها عليه، أو تبرّكاً بقراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم إياها كقراءة: سورة «سبّح اسم» و «قُلْ يا أيُّها الكافرون» و «الإخلاص» في الوتر. وقراءة «الكافرون» و «الإخلاص» في سنة الفجر والمغرب، وركعتي الإحرام، وصلاة الطواف على ما ورد. وقراءة «السجدة» ، و «هل أتى» في بعض الأحيان في فجر الجُمُعَة، فلا يُكْرَهُ بل يكون حَسَناً. فتركه مُطْلَقاً غير مُسْتَحْسن، وإنما شُرِطَ أنْ يقرأ غيره أحياناً لئلا يظن الجاهل أنَّ غيره لا يُجْزِاءُ.

(ويَنْصِتُ المُؤْتَمُّ) ولا يقرأ سواء كانت الصلاة جهرية أو سرية لقوله تعالى: {وإِذَا قُرِاء القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا}

(2)

. روى البَيْهَقِي عن أحمد بن حنبل أنه قال: «أجمع الناس على أَنْ هذه الآية في الصلاة» . ورَوَى البَيْهَقِيّ عن مجاهد قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ في الصلاة، فسَمِعَ قراءة فتى من الأنصار فنزل» . وروى الدَّارَقُطْنِيّ عن أبي هريرة: «نزلت في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذا روى ابن أبي شَيْبَة في «المُصَنَّف» ، ومحمد بن الحسن في «الموطأ» ، والطَّحاوي في «معاني الآثار». وروى أبو دَاوُدَ في «سننه» من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«إنما جُعِلَ الإمام لِيُؤْتَمَّ به» . وفيه: «وإذا قرأ فأنصِتوا»

(3)

، وكذا رواه النَّسائِي. وروى مُسْلِم في غير صحيحه من حديث أبي موسى الأَشْعَرِيّ:«إذا كَبَّر الإمام فَكَبِّرُوا وإذا قرأ فأنْصِتُوا» .

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(2)

سورة الأَعراف، الآية:(204).

(3)

في المخطوطة والمطبوعة: "إذا قرئ القرآن فأنصتوا". وما أثبتناه من سنن أبي داود والنسائي، بحذف لفظ "القرآن".

ص: 274

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وفي «الأصل» : القراءة خلف الإمام في صلاة لا يجهر فيها هل يكره؟ اختلف فيه المشايخ: فبعضهم قالوا: لا يُكْرَه، أي عند الأئمة الثلاثة. وإليه مال الإمام أبو حَفْصٍ. وبعض مشايخنا قالوا: على قول محمد لا يُكْرَه. وعند أبي حنيفة وأبي يُوسُفَ يُكْره، كذا في «الخُلَاصة». فوجه عدم الكراهة الاحتياط لعموم الآية والأحاديث المُطْلَقة واختلاف الأئمة. حتى قال الشافعي ببطلان صلاة المُقْتَدِي إنْ لم يقرأ الفاتحة مُطْلَقاً. وقال مالك: بوجوب القراءة عليه في السِّرِّيَةِ. فدل على أنَّ المراد بالقراءة: قراءة الفاتحة. وبه يبطل قول من قال: إنّ القراءة عند عدة من الصحابة تُفْسِد الصلاة. والمعتمد أنَّ منع المُقْتدي عن القراءة مأثور عن ثمانين نفراً من أكابر الصحابة، لكن القول بالفساد فاسد. ومحمول على ما عدا الفاتحة، أو على الجهر المُشَوِّشِ للإمام وغيره.

ووجه الكراهة ما روى محمد في «مُوَطئه» عن سعد بن أبي وَقاص قال: وددت أنَّ الذي يقرأ خلف الإمام في فِيهِ جَمْرة. ورواه عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» . إلاَّ أنه قال: «في فِيه حَجَر» . وفيه أنه يمكن حمله على الجهرية، بل يتعين لأن مذهب محمد جوازه في السِّرِّية. وروى محمد أيضاً عن نافع، عن ابن عمر «أنه كان إذا سُئِلَ: هل يقرأ أحد مع الإمام؟ قال: إذا صلّى أحدكم مع الإمام فحسبه قراءة الإمام»، وكان ابن عمر لا يقرأ خلف الإمام. وروى سُفْيَان الثَّوْرِيّ، وشُعْبَة، وإسرائيل بن يُونس، وشَرِيْك، وأبو الأَحْوَص، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وجَرِير بن عبد الحَمِيد، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شَدَّاد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم (مرسلاً)

(1)

: «من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة» . ورواه أحمد في «مسنده» عن أبي الزُّبَيْر، عن جابر مرفوعاً.

والحاصل: أن المذهب عندنا اكتفاؤه بقراءة إمامه وكراهة قراءته. أما الاكتفاء فلقوله صلى الله عليه وسلم «من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة» . رواه ابن ماجه في «سننه» إلاَّ أنَّ في سنده جابراً الجُعْفِي، وقد رُوِيَ عن أبي حنيفة أنه قال: ما رأيت أكذب من جابر الجُعْفِي. ورواه محمد بن الحسن في «مُوَطَّئه» : أخبرنا أبو حنيفة: حَدَّثنا أبو الحَسَن مُوسَى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شَدَّاد، عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«من صلّى خلف الإمام، فإن قراءة الإمام له قراءة» .

وروى الدَّارَقُطْنِيّ عن أبي حنيفة، مقروناً بالحسن بن عُمَارة بالإسناد المذكور.

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

ص: 275

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

قال: لم يُسْنِدْه غير أبي حنيفة والحسن. انتهى. وهو غير صحيح، قال أحمد بن مَنِيع في «مسنده»: أخبرنا إسحاق الأزرق: حدَّثنا سُفْيَان وشَريك عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شَدَّاد عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة» . قال: وحدّثنا عبد بن حُمَيْد: حدَّثنا أبو نُعَيْم: حدَّثنا الحسن بن صالح، عن أبي الزُّبَيْر، عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم والإسناد الأول صحيح على شرط الشيخين، والثاني على شرط مسلم.

وأخرجه ابن عَدِي عن أبي حنيفة في ترجمته، وذكر فيه قصة، وبها أخرجه الحاكم قال: حدَّثنا أبو محمد بن أبي بَكْر بن محمد بن حَمْدَان الصَّيْرَفِيّ: حدّثنا عبد الصَّمَد بن الفضل البَلْخِيّ: حدّثنا مَكِيّ بن إبراهيم، عن أبي حنيفة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شَدَّاد بن الهاد، عن جابر بن عبد الله:«أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى ورجل خلفه يقرأ. فجعل رجل من أصحاب النبيّ ينهاه عن القراءة في الصلاة، فلما انصرف أقبل عليه الرجل وقال: أتَنْهَاني عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعا حتى ذُكِرَ ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم من صلّى خلف الإمام فإنَّ قراءة الإمام له قراءة» . وفي رواية لأبي حنيفة: «أنَّ رجلاً قرأ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر، وأوْمأ إليه رجل فنهاه، فَلَمَّا انصرف قال: أتنهاني؟

» الحديث.

قال بعض المحققين: ويفيد أنّ أصل الحديث هذا

(1)

، غير أنّ جابراً رَوَى محل الحُكْم فقط تارة، والمجموع أخرى، ويتضمن رد القراءة خلف الإمام، لأنه خرج تأييداً لنهي الصحابيّ عنها مطلقاً في السرِّية والجهرية، خصوصاً في رواية أبي حنيفة أن القصة كانت في الظهر أو العصر لإباحة فعلها وتركها، فيُعَارِض ما رُوِي في بعض روايات حديث:«ما لي أُنَازَعُ القرآن» إلى أن قال: «إنْ لا بدَّ، فالفاتِحَة» . وكذا ما رواه أبو داود والتِّرْمِذِي عن عُبَادة بن الصَّامِت قال: كنّا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَثَقُلَتْ عليه القراءة، فلمَّا فَرَغ قال:«لعلكم تقرؤون خلف إمامكم» ؟ قلنا: نعم يا رسول الله. قال: «لا تفعلوا إلاَّ بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» . ويُقَدَّم لتقدم المنع على الإطلاق عند التعارض، ولقوة السند. فإنّ حديث:«من كان له إمام» أصح. انتهى.

ولا يخفى أنّ دعوى تضمنه رد القراءة خلف الإمام، ومعارضته لما رُوِيَ، غيرُ

(1)

أي: أن المروي هو أصل الحديث.

ص: 276

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

تامة، لأنها في حَيِّز المنع. وعلى فرض تسليمها يقال: إنما نهاه عنها لجهره بالقراءة، بدليل سماعه لقراءته، وقوله صلى الله عليه وسلم «مالي أُنَازَع القرآن» . ولا تثبت المعارضة مع إمكان التوفيق، فَيُحْمَل النهي عن الجهر بها، لاستلزامه المنازعة المذكورة في الحديث. والأمر بها على السرية، بدليل قول أبي هريرة في حديث «قَسَمْتُ الصلاة»: اقرأ بها في نفسك»

(1)

. فلا يتم بهذا القدر المنع عن القراءة خلف الإمام مطلقاً، وإنما يُفِيد المنع عنها مقيداً.

وأمَّا الكراهة فلظاهر قول سعد بن أبي وَقَّاص: وَدِدْتُ أنَّ الذي يقرأ خلف الإمام في فِيه جَمْرة. رواه محمد بن الحسن، عن داود بن قيس الفَرَّاء المَدَنِيّ قال:«أخْبَرني بعض ولد سعد عنه» . ورواه عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» ، إلاَّ أنه قال:«في فِيه حَجَر» . وقول عمر: «ليت في فم الذي يقرأ خلف الإمام حَجَراً» . رواه محمد بن الحسن، عن داود بن قَيْس، عن ابن عَجْلان، عن عمر رضي الله عنه. ورواه عبد الرزاق أيضاً. وقول عليّ رضي الله عنه: «من قرأ خلف الإمام، فقد أخطأ الفِطْرة

(2)

». رواه ابن أبي شَيْبَة، وعبد الرَّزَّاق في «مصنفيْهما» عنه. ولكن يُخَصُّ منه ما رواه الطحاوي، عن عليّ رضي الله عنه:«أنه كان يأمر، أو يحب أنْ يقرأ خلف الإمام في الظهر والعصر في الركعتين الأُولَيَيْن بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأُخْرَيَيْن بفاتحة الكتاب» .

وأخرج أيضاً عن حَمَّاد بن سَلَمَةَ، عن أبي حَمْزَة قال:«قلت لابن عباس: أقرأ والإمام بين يديّ؟ فقال: لا» . وكذا عن عبد الله بن مِقْسَم: «أنه سأل عبد الله أبن عمر، وزَيْد بن ثابت، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم فقالوا: لا تقرأ خلف الإمام في شيء من الصلاة. وروى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن جابر قال: «لا تقرأ خلف الإمام إنْ جهر، ولا إنْ خافت» . وفي «مُوَطَّأ محمد بن الحسن» ، عن ابن مسعود: نحوه.

فهذه الأخبار الصريحة، المَعْضُودَة بالآثار الصحيحة، تقتضي إخراج المقتدي على طريقة الشافعيّ مطلقاً، وعلى طريقتنا أيضاً من عموم الآية والحديث، لأنه خُصَّ منهما مُدْرِك الإمام في الركوع إجماعاً.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 296، كتاب الصلاة (4)، باب وجوب قراءة الفاتحة

(11)، رقم (38 - 395).

(2)

الفِطْرة: أي السُّنَّة. النهاية: 3/ 457.

ص: 277

وكَذَا في الخُطْبَةِ. إلَّا إذا قَرَأَ يَا أَيُّها الَّذِين آمَنُوا صَلُّوا عَليه فيُصَلِّي السامعُ سِرًا.

[فَصْل في صَلاةِ الجَمَاعَةِ]

والجَمَاعَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.

===

والمسبوق يقضي فائتته بعد فراغ الإمام، لأنه مُنْفَرِد فيما سُبِق، فيأتي بالقراءة ولو كان قرأ مع الإمام، بخلاف ما لو قنت معه، فإنه لا يقنت فيما يقضي. ولو أدرك الإمام في ثالثة المغرب قضى الأُولَيَيْنِ بِجلْسَتَين، يَجْلِس على رأس كل ركعة، لأن ما صلّى مع الإمام أول صلاته وهو ركعة. ويَتَشَهَّدُ لموافقة الإمام، فإذا صلّى ركعة أخرى تشهّد، ثم يُصَلِّي أُخْرَى ويَتَشَهَّد أيضاً، لأنها آخر صلاته. (وكَذَا) يَنْصِتُ (في الخُطْبَةِ) حاضرها سواء كان قريباً، أو بعيداً.

((إلاَّ إذَا قَرَأَ) الخطيب: {يَا أَيُّها الَّذِين آمَنُوا (صَلُّوا عَليه}

(1)

فيُصَلِّي السامعُ سِرَاً)

(2)

.

أما إنصات السامع لها، فلأَنَّ استماعها فرض لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا قلت لصاحبك، والإمام يَخْطُبُ يوم الجمعة: أنصت، فقد لَغَوْت» . رواه مالك، وأحمد، والشيخان، وغيرهما. وأمّا إنصات البعيد فللاحتياط في إقامة فرض الإنصات. وقال بعضهم: الأفضل للبعيد أنْ يشتغل بقراءة القرآن.

(فَصْلٌ في صَلاةِ الجَمَاعَةِ)

(والجَمَاعَةُ) في الصلاة الفريضة (سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ). زاد في «المحيط» : وشريعةٌ ماضية، لا يُرَخَّصُ لأحد تركها إلاَّ لعذر، حتى لو تركها أهل مصر يؤمرون بها. فإن ائتمروا وإلا تحلّ مقاتلتهم، لأنها من شعائر الإسلام، وخصائص هذا الدين، فالسبيل إظهارها والزَّجْرُ عن تركها. وقال مَكْحُول الشَّامِيّ: السُّنَّة سُنَّتانِ: سنَّة أَخْذُها هدى، وتركها ضلالة، وهي ما كانت من أعلام الإسلام وشعائره. وسُنَّة أخذها فضيلة، وتركها لا إلى حرج، كصلاة الليل.

ويؤيده قول ابن مسعود: «من سَرَّه أنْ يَلْقَى الله غداً مسلماً، فَلْيُحَافِظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنَادَى بهِنَّ، فإنَّ الله شرع لنبيّكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صَلَّيْتُم في بيوتكم كما يُصَلِّي هذا المُتَخَلِّف في بيته، لتركتم

(1)

سورة الأحزاب، الآية:(56).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 278

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

سنّة نبيكم. ولو تركتم سنّة نبيكم، لَضَلَلْتُم، (وما من رجل يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثم يَعْمِدُ إلى مسجد من هذه المساجد، إلاَّ كتب الله له بكل خَطْوَة حَسَنَةً، ويرفعه بها درجة، ويحط بها عنه سيئة)

(1)

. ولقد رَأَيْتُنَا وما يتخلَّف عنها إلاّ منافق، معلوم النِّفَاق. ولقد كان الرجل يُؤْتَى به يُهَادَى بين الرَّجُلَين حتى يُقَام في الصف». رواه مسلم، وأبو داود، والنَّسائي موقوفاً. ورفعه صاحب «الهداية» ، وهو وَهَمٌ منه.

ومما يؤكد كونها سُنَّة ما ورد في الأحاديث في فضيلة ثواب الجماعة على الفَذِّ

(2)

، كقوله صلى الله عليه وسلم «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزأً». رواه الشيخان. وفي رواية:«درجة» . وفي أُخْرى: «ضِعْفاً» . وكقوله صلى الله عليه وسلم «صلاة الرجل مع الرجل أزْكَى من صلاته وحده. وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع رجل، وما زاد، فهو أحب إلى الله تعالى» . رواه أبو داود، والتِّرْمِذِيّ، وابن ماجه من حديث أُبَيّ بن كَعْب.

وقيل: إنها واجبة، واختاره جماعة من المشايخ. ففي «الغاية»: قال عامة مشايخنا: إنَّ الجماعة واجبة. وفي «التُحْفَة» : ذكر محمد في غير رواية الأصول: أن الجماعة واجبة. وقد سَمَّاها بعض أصحابنا سُنَّةً مؤكَّدة، وَهُمَا في المعنى سواء. وكأنَّه أراد بالسُّنَّة المؤكّدة كونَها قريبةً من الفرض. ومما يدل عليه: قوله صلى الله عليه وسلم «لقد هَمَمْتُ أنْ آمر بالمُؤَذِّن فيُؤَذِّن، ثم آمر رجلاً فيُصَلِّي بالناس، ثم أَنْطَلِق برجال معهم حِزَم الحطب إلى قوم يَتَخَلَّفُون عن الصلاة، فأُحَرِّقُ عليهم بيوتهم بالنار» . رواه الشيخان. وليس المراد ترك الصلاة رأساً

(3)

، بدليل قوله في رواية أخرى:«ثم آتي قوماً يُصَلُّون في بيوتهم ليست بهم عِلَّة، فأُحَرِّقُ عليهم» .

وبهذا استدل من قال بأنها فرض عين، وهو أحمد، وداوُد، وعَطَاء بن أبي رَبَاح، وأبو ثَوْر. وبقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَمِعَ النداء فلم يأته، فلا صلاة له إلاّ من عذر» . رواه ابن ماجه، والحاكم، وقال: على شرطهما. ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا صلاة لجار المسجد إلاَّ في المسجد» . رواه أبو داود، وصَحَّحَه عبد الحق.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إِثباته لموافقته لرواية مسلم 1/ 453، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (5)، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى (44)، رقم (257 - 654).

(2)

الفَذُّ: الواحد. النهاية: 3/ 422.

(3)

أي تركها كليًّا وعدم أدائها.

ص: 279

والأَوْلَى بالإمَامَةِ: الأَعْلَمُ بالسُّنَّةِ،

===

قلنا: هَمَّ ولم يفعل، فكان تهديداً لإظهار الشعائر، لا لكونها فرضاً. ومعنى لا صلاة له: أي كاملة. كما قال: «لا صلاة للعبد الآبق، ولا للمرأة الناشزة

(1)

».

وقيل: إنها فرض كفاية. وهو قول الكَرْخِيّ، والطَّحَاوِيّ، وأكثر أصحاب الشافعي لعين ما اسْتُدِلَّ به لفرض العين. إلاَّ أنَّ المقصود من الافتراض إظهار الشعائر، وهو يحصل بفعل البعض، وهو ضعيف. إذ لا شك في أنها كانت تقام على عهده صلى الله عليه وسلم في مسجده، ومع ذلك قال في المُتَخَلِّفِين ما قال، وهَمَّ بتَحْرِيقهم، ولم يَصْدُر عنه مثله فيمن يَتَخَلَّف عن فروض الكفاية. وفي «القِنْيَة»: تارك الجماعة من غير عذر، يجب تعزيره ويأثم الجيران بالسكوت عنه. وفي «الغاية»: العذر: لُحُوق الحَرَج في حضورها. قال شمس الأئمة: والوحل عذر.

قال نجم الأئمة: رجل يشتغل بتكرار الفقه ليلاً ونهاراً ولا يَحْضرُ الجماعة، لا يُعْذَر ولا تُقْبَل شهادته. وقال أيضاً: رجل اشتغل بتكرار اللغة، فتفوته الجماعة، لا يُعْذَر بخلاف تكرار الفقه. قيل: جوابه الأول فيمن واظب ترك الجماعة تهاوناً. والثاني فيمن لا يواظب على تركها. وفي «المحيط» : أقل الجماعة اثنان، وهو أن يكون واحد مع الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم «الاثنان فما فوقهما جماعة»

(2)

. بخلاف الجمعة لِمَا سيأتي في بابها. وكذا إن كانت معه امرأة أو صبي يعقل، كانت جماعة لأنهما من أهل الصلاة.

(والأوْلَى بالإمَامَةِ: الأَعْلَمُ بالسُّنَّةِ) أي بالأحكام الشرعية العملية المتعلقة بالصلاة: من شروطها، وأركانها، وسننها، وآدابها، إذا كان يُحْسِنُ من القراءة ما تجوز به الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم «يَؤُمُّ القومَ أقدُمُهم هِجْرَةً، فإن كانوا في الهجرة سواء، فَأَفْقَهُهُمْ في الدين، فإن كانوا في الفِقْه سواء، فأَقْرَؤُهم للقرآن، ولا يُؤَمُّ الرجل في سلطانه» . الحديث رواه الحاكم، وسكت عنه إلاَّ أنه معلول بالحجَّاج بن أَرْطَأَة من رواية، ولقوله صلى الله عليه وسلم «مُرُوا أبا بكر رضي الله عنه فَلْيُصَلِّ بالناس»

(3)

. مع ما روى البخاري من حديث أنس: «أن الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من

(1)

الناشزة: نشزت المرأَة: اسْتَعْصَت على بعلها وأَبْغَضَتْه. مختار الصحاح ص: 275، مادة (نشز).

(2)

أخرجه ابن ماجه في سننه 1/ 312، كتاب إقامة الصلاة (5)، باب الاثنان جماعة (44)، رقم (972).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 2/ 206 كتاب الأذان (10)، باب إذا بكى الإمام في الصلاة (70)، رقم (716).

ص: 280

ثُمَّ الأَقْرَأُ، ثُمَّ الأَوْرَعُ، ثُمَّ الأَسَنُّ.

===

الأنصار: أُبيّ بن كَعْب، ومُعَاذ بن جَبَل، وزيد بن ثابت، وأبو زَيْد». فهؤلاء أكثر قراءة منه رضي الله عنه. وحتى قال صلى الله عليه وسلم «أقرؤكم أُبيّ» ، لَكِنْ لَمَّا كان الصِّدِّيقُ مُشْتَرِكاً مع غيره في ضبط القراءة وحسن أدائها، قُدِّمَ عليهم.

فدل على أنه إذا تعارض الأقرأ والأعلم، يُقَدَّمُ الأعلم. لا سيما وقد كان مع هذا أوْرَعَ، وأَسَنَّ، وأسْبَقَ، فكان بها أَوْلَى، وأحَقَّ. ويدل على كونه أعلم قول أبي سعيد:«كان أبو بكر رضي الله عنه أعْلَمنا» . وهذا آخر الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون هو المُعَوَّل. والله تعالى أعلم. إلا أنَّ قصد الإشارة إلى الاستخلاف ربما تكون مُخَصَّصَة على أنها واقعة حال، وهي لا عموم لها. ومن ثَمَّ اختار جمع من المشايخ قول أبي يوسف

(1)

.

(ثُمَّ الأَقْرَأُ) أي الأَكْثَرُ حِفْظاً أَوْ الأَحْسَنُ ضَبْطاً (ثُمَّ الأَوْرَعُ)، والفرق بين الوَرَعِ والتَّقْوَى: أنَّ الوَرَعَ: اجتناب الشُّبُهَات. والتَّقْوى: اجتناب المُحَرَّمات. (ثُمَّ الأَسَنُّ) أي أكبر سنّاً، أو الأَسْبَقُ في الإسلام، ثُمَّ الأَحسن خُلُقاً، ثم الأَشْرَفُ نَسَباً، ثم الأَصْبَحُ وَجْهاً، ثم الأَحْسَنُ صَوْتاً، ثم الأَنْقَى ثَوْباً، ثم يُقْرَعُ بينهم، أو يُخَيَّرُ القوم، أي خيارُهُم. وورد: «ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شِبْراً: رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون

»، الحديث. رواه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنه. وفي «الخُلَاصَة»: رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون». إذا كانت الكراهة لفسادٍ فيه، أو لأنهم أحق بالإمامة، يُكْرَه له ذلك. وإن كان هو أحَقَّ بالإمامة، لا يُكْرَه.

وقال أبو يوسف: أوْلَى الناس بالإمامة الأقرأ. لِمَا رواه الجماعة إلاَّ البخاري، واللفظ لمسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يَؤُمُّ القومَ أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسُّنَّة، فإن كانوا في السُّنَّة سواء فأقدَمُهُم هجرة، فإنْ كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سِنّاً. ولا يَؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يَقْعُد في بيته على تَكْرِمَتِهِ

(2)

إلا بإذنه». وفي رواية: «سَلَماً» مكان: «سِنّاً» . وفي رواية: «إسلاماً» مكان: «سَلماً» . رواه الحاكم وقال عوض: «فأعلمهم بالسنة» : «فأفقههم فِقْهاً» ، و «إنْ كانوا في الفقه سواء، فأكبرهم سِنّاً» . وهي لفظة غريبة وإسنادها صحيح. وروى مسلم: «وليَؤُمّكُما أكْبركما» . وروى أبو داود عن أبي قِلَابَة، عن مالك بن الحُوَيْرِث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له، أو لصاحب له: «إذا حضرت الصلاة فأذِّنَا،

(1)

وهو أن أوْلى الناس بالإِمامة هو الأَقرأ، وسيأتي قريبًا مع أدلَته.

(2)

التَّكْرِمة: الموضع الخاص لجلوس الرجل من فِراش أو سرير مما يُعَدُّ لإكرامه. النهاية: 4/ 168.

ص: 281

فإنْ أَمَّ عَبْدٌ، أَو أَعْرَابِيٌّ، أو فَاسِقٌ، أو أعْمَى، أو مُبْتَدِعٌ، أو وَلَدُ زِنًا: كُرِهَ.

===

ثم أَقِيمَا، ثُمَّ ليَؤُمَّكُمَا أكبركما».

وأُجِيبَ: بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه. واعْتُرِضَ: بأن قوله: فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسُّنّة، تقتضي تقديم الأقرأ مُطْلقاً. وأُجيبَ: بأنه إذا كان الأقرأ لكتاب الله أعلم بأحكامه، كان معنى الحديث: يَؤُمُّ القوم أعلمهم بأحكام كتاب الله، فإن كانوا في ذلك سواء، فأعلمهم بالسُّنَّة: أي بالأحكام الثابتة بها.

فَيَتَحَصَّلُ أن القاراء المُفَسِّرَ مُقدَّمٌ على المُحَدِّثِ. ثم لَمَّا كانت الهجرة بعد الفتح منسوخة لقوله صلى الله عليه وسلم «لا هجرة بعد الفتح» أي بعد فتح مكة، كما رواه البخاريّ، أقَمْنَا الوَرَع مُقَامها لقوله صلى الله عليه وسلم «المهاجر من هجر ما حَرَّم الله ورسوله» . رواه البخاريّ وغيره.

والحاصل أنه إنما قَدَّم الأَقرأ في الحديث، لأنهم كانوا يَتَعَلَّمُون القرآن في ذلك الوقت بأحكامه، كما رُوِيَ عن عمر:«حَفِظَ سورة البقرة في اثنتيْ عشرة سنة» . فالأَقرأ منهم يكون أعلم. وأمَّا في زماننا فقد يكون الرجل ماهراً بالقراءة، ولا حَظَّ له في معرفة الأحكام، فالأعلم بالسُّنَّة أوْلى إلاَّ أنْ يُطْعَنَ عليه في دينه، لأن الناس لا يَرْغَبُون في الاقتداء به. وقد ورد عن ابن عمر مرفوعاً:«اجعلوا أئمتكم خِيَارَكم، فإنهم وَفْدُكم فيما بينكم وبين ربكم» . رواه البَيْهَقِيّ بسند ضعيف. وفي رواية: «إنْ سَرَّكم أنْ تُقْبَلَ صلاتكم فَلْيَؤُمّكُم علماؤكم، فإنهم وَفْدُكم فيما بينكم وبين ربكم» . رواه الطَبَرَانِيّ. وفي رواية الحاكم: «فَلْيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكم» . وسكت عنه.

وأمَّا قول صاحب «الهِدَاية» : لقوله صلى الله عليه وسلم «من صَلَّى خلف عالم تَقِيّ، فكأنما صَلّى خلف نبيّ» . فغير معروف.

(فإِنْ أَمَّ عَبْدٌ أَوْ أَعْرَابِيٌّ) وهو: مَنْ سَكَنَ في البادية عربياً كان أو عَجَمِيّاً، (أو فَاسِقٌ أو أعْمَى) كان حقّه أنْ يُقَدَّم أو يُؤَخَّر. وقال مالك: لا تَصِحُّ إمامة الفاسق. (أو مُبْتَدِعٌ) أي صاحب بدعة وهي: ما أُحْدِث على خلاف الحق المتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم، أو عَمَلٍ أو حال، أو صفةٍ بنوع استحسان، وطريق شُبْهَةٍ، وجُعِلَ دِيناً قِيَماً، وصِرَاطاً مستقيماً. (أو وَلَدُ زِنَاً كُرِهَ) وجاز.

أمّا كراهة إمامة العبد والأعرابيّ وولد الزِّنا، فلأنّ الغالب عليهم الجهل. والفاسق والمبتدع في إمامتهما تعظيمُهما، وقد أمرنا بإهانتهما. والأعمى لجهله باستقبال القِبْلَة، وتَعَسُّر تَمَكُّنه من التَوَقِّي عن النجاسة كما ينبغي، حتى لو لم يكن غيره من البُصَرَاءِ

ص: 282

كَجَمَاعَةِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ.

===

أفضل منه، كان هو الأوْلى. لأنه صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم على المدينة حين خرج إلى غزوة تبوك، وهو يومئذٍ كان ضريراً. وقد نزل في حقه:{عَبَسَ وتَوَلَّى * أنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} .

وأمّا الجواز فلِمَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عن مَكْحُول، عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صَلُّوا خَلْفَ كل بَرَ وفَاجِرٍ، وصلّوا على كل بَرّ وفاجر، وجاهدوا مع كل بَرّ وفاجر» . وفي رواية لأبي داود عن مَكْحُول، عن أبي هريرة مرفوعاً:«الجهاد واجب عليكم مع كل أمير بَرّاً كان أو فاجراً، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم بَرّاً كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر» . والحديث منقطع، ولم يُدْرِك مَكْحُول أبا هريرة، لكنَّه حُجَّةٌ عندنا

(1)

. وفي رواية: «سَيَلِيكُم مِنْ بعدي وُلَاةٌ: البَرُّ ببِرِّه، والفاجر بفجوره، فاسمعوا له، وأطيعوه فيما وافق الحق، وصلوا وراءهم. فإنْ أحسنوا، فلكم ولهم، وإنْ أساؤا فلكم وعليهم» .

ثم صاحب الهوى: إنْ كان هواه يُكَفِّرُه، لا تَجوز الصلاة خلفه. وإنْ كان لا يُكَفِّرُه يجوز، ويكره. كذا في «المحيط» . ورَوَى محمد عن أبي حنيفة، وأبي يوسف: أنَّ الصلاة خلف أهل الأهواء لا تَجوز. وَوُجِدَ بخط شمس الأئمة الحَلْوَانِيّ: أنه يُمْنَع عن الصلاة خلف من يخوض في علم الكلام، ويناظر صاحب الأهواء. وكأنه بناه على ما رُوِيَ عن أبي يوسف أنه قال: لا يجوز الاقتداء بالمُتَكَلِّمِ وإنْ تكلَّم بحق. قال الهِنْدُوَانِيّ: يجوز أنْ يكون مراده من يناظر في دقائق علم الكلام. وبناه في «المُجْتَبَى» على ما نُقِل عن أبي حنيفة حين رأى ابنه حَمَّاداً يناظر في علم الكلام، فنهاه فقال: رَأَيْتُك تناظر في الكلام وتنهاني فقال: كنا نناظر وكأنَّ على رؤسنا الطير مخافة أنْ يَزِلَّ صاحبه، وأنتم تناظرون وتريدون زَلَّة صاحبكم. ومن أراد زَلَّة صاحبه، فقد أراد أنْ يَكْفُر، فهو قد كَفَر قبل صاحبه. فهذا هو الخوض المنهيّ عنه. وهذا المُتَكَلِّم لا يجوز الاقتداء به.

(كَجَمَاعَةِ النِّسَاءِ وَحْدهُنَّ) أي كما كُرِه جماعة النساء بالإمام منهن، لأن اجتماعهن قَلَّمَا يَخْلُو عن فتنة بهن. ولِمَا رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم «بيوتهنّ خير لهنّ لو يَعْلَمْنَ»

(2)

، وبه قال مالك خِلَافاً للشافعيّ.

(1)

مراسيل القرون الأولى، انظر مقدمة في علوم الحديث.

(2)

رواه أبو داود في سننه 1/ 382، كتاب الصلاة (2)، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد (52)، رقم (567)، بلفظ:"لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن". اهـ. ولم يأت بقوله: "لو يعلمن"!

ص: 283

فإنْ فَعَلْنَ: تَقِفُ الإِمَامُ وَسْطَهُنَّ.

وكَحُضُور الشَّابَّةِ كُلَّ جَمَاعَةٍ، والعَجُوزِ الظُّهْرَ والعَصْرَ.

===

(فإنْ فَعَلْنَ) أي صَلَّيْنَ جماعة (تَقِفُ الإِمَامُ) أي إمامهن (وَسْطَهُنَّ) ـ بسكون السين وتفتح ـ في صَفِّهِنَّ، ولا تتقدم عليهن. ويجوز تذكير يقف، بناء على لفظ الإمام، فإنه مصدر بمعنى المفعول، أي المُقْتَدَى به، ويَسْتَوي فيه المذكر والمؤنث، فاندفع قول الشارح: وهو بالمثناة الفوقية في أوّله، لأن فاعله الإمام، وهو مؤنث حقيقيّ. وقد روى عبد الرَّزَّاق، والدَّارَقُطْنِيّ عن رِبْطَة الحَنَفِيَّة:«أن عائشة رضي الله عنها أَمَّتهُنَّ، وقامت بينهن في صلاة مكتوبة» . ولفظ الدَّارَقُطْنِيّ والبيْهَقِيّ: «فقامت بينهن وَسَطاً» . قال النَّوَوَيّ في «الخُلَاصَة» : إسناده صحيح. وروى عبد الرَّزَّاق، والدَّارقُطْنِيّ، وصحّحه النَّوَوِيّ، عن حُجَيْرَة بنت حُصَين قالت:«أَمَّتْنَا أمّ سلمة في صلاة العصر فقامت بيننا» . قال في «شرح المَجْمَع» : فَعَلَتَا

(1)

كذلك حين كانت جماعتهنّ مُسْتَحبة، ثم نُسِخَ الاستحباب.

أقول: الأظهر أن الكراهة محمولة على ظهورهن وخروجهن، والجواز على تسترهن في بيوتهن.

(وكَحُضُور الشَّابَّةِ) أي وكما كُرِه حضور الشَّابة (كُلَّ جَمَاعَةٍ) لخوف الفتنة (والعَجُوزِ) أي وكحضور العجوز (الظُّهْرَ والعَصْرَ) بخلاف الفجر والمغرب والعشاء والعيدين، فإنه لا بأس عند أبي حنيفة بحضور العجوز لها. وعندهما: لا بأس بحضور العجوز للصلوات كلها لعدم الرغبة فيها. ولأبي حنيفة أنَّ قوة الشهوة تُوقِع في الفتنة، غير أن الفُسَّاق في الفجر والعشاء نائمون، وفي المغرب بالطعام مشغولون، وفي العيدين لسَعَة الجَبَّانَة عن النساء مُعْتَزِلُون، وكان هذا في زمانه رضي الله عنه، وأمَّا في زماننا فَكَثُرَ انتشار الفُسَّاق وقت المغرب والعشاء.

والمختار: منع العجوز عن حضور الجماعة في جميع الأوقات فضلاً عن الشَّابة. لِمَا روى البخاريّ عن يَحْيَى بن سعيد، عن عَمْرة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:«لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء، لَمَنَعَهُنَّ كما مُنِعَتْ نساء بني إسرائيل. قلت لعَمْرَة: أَوَمُنِعْنَ؟ قالت: نعم» . وتقول عائشة ترفعه: «أيها الناس، انْهَوا نساءكم عن لُبْسِ الزينة والتَبَخْتُرِ في المساجد، فإن بني إسرائيل لم يُلْعَنُوا حتى لَبِسَ نساؤهم الزينة، وتَبَخْتَرْنَ في المساجد» . رواه ابن عبد البَرّ في «التَمْهِيد» .

(1)

أي: عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما.

ص: 284

ويَقْتَدِي المُتَوَضّىءُ بالمُتَيَمِّيم، والغَاسِلُ بالمَاسِحِ، والقَائِمُ بالقَاعِدِ،

===

(ويَقْتَدِي المُتَوَضّاءُ) بالهمزة وقد يبدل (بالمُتَيَمِّمِ) عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لمحمد، لأن المتوضاء أقوى حالاً. وبناء الأقوى على الأضْعَف لا يجوز. ولهما ما روى أبو داود، والحاكم وقال: على شرط الشيخين، عن عمرو بن العاص قال:«احْتَلَمتُ في ليلة باردة وأنا في غزوة ذات السلاسل، فأشْفَقْتُ إن اغْتَسَلْتُ أنْ أهْلِكَ. فتيمّمت وصلّيت بأصحابي الصبح، ثم أخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم فضحك، ولم يقل شيئاً» . وفي البخاري: «وأمَّ ابن عباس وهو متيمّم» .

(و) يقتدي (الغَاسِلُ بالمَاسِحِ) لأنّ المسح كالغسل سواء كان على جبيرة أو خُفّ (والقَائِمُ بالقَاعِدِ) الذي يركع ويسجد، وبه قال مالك والشافعي. وقال محمد، وأحمد، وإسحاق: لا يقتدي القائم بالقاعد وهو القياس، لأن اقتداء القائم بالقاعد اقتداء كامل الحال بناقصها. ولِمَا في «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها:«اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه ناس من أصحابه يَعُودُونَه، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فصلَّوا بصلاته قياماً فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا. فلما انصرف قال: «إنما جُعِلَ الإِمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً» .

ولنا أن هذا منسوخ بآخر فعله صلى الله عليه وسلم وإنما يؤخذ بالآخِر فالآخر من فعله عند التعارض، وهو ما في «الصحيحين» من حديث عائشة «أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر في مرضه الذي تُوُفِّيَ فيه أبا بكر رضي الله عنه أن يصلّي بالناس. فلمَّا دخل أبو بكر رضي الله عنه في الصلاة وجد صلى الله عليه وسلم في نفسه خِفَّة، فخرج يُهَادَى بين رجلين، ورِجْلَاهُ تَخُطَّان في الأرض. فجاء صلى الله عليه وسلم فجلس عن يسار أبي بكر رضي الله عنه. فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بالناس جالساً، وأبو بكر قائماً. يقتدي أبو بكر الصديق بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويَقْتَدِي الناس بصلاة أبي بكر» .

وليس معنى هذا الحديث أنَّ أبا بكر كان إماماً للناس، لأن الصلاة لا تصح بالإمامين، ولكن معناه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان الإمام، ولهذا وقف على يسار أبي بكر، وأبو بكر كان يُبَلِّغ الناس. فَسَّر ذلك الرواية الأخيرة في الصحيح وهي:«وأبو بكر يُسَمِّعُ الناس التكبير» ، أي تكبير النبيّ صلى الله عليه وسلم وإذا كان الأمر كذلك فقوله:«فلما دخل أبو بكر في الصلاة» معناه: أراد دخوله، أو قاربه. وإلاَّ فَلَزِمَ قطع الصلاة بعد شروعها، أو الانتقال بالنيّة كما قال به الشافعيّ. لكن يُشْكِلُ بقول ابن عباس:«لَمَّا مَرِض رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج، وأبو بكر يصلّي بالناس، فقرأ من حيث انتهى إليه أبو بكر رضي الله عنه» . رواه

ص: 285

والمُومِىءُ بالمومِىءُ، والمُتَنَفِّلُ بالمُفْتَرِضِ. لا بِامْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ.

===

ابن ماجه وغيره. فَيُحْمَلُ على الخصوصية، وأنه ليس التَقَدُّم على الإمام بسائغ إلا في حقّه صلى الله عليه وسلم

وذكر البَيْهَقِيّ في «المعرفة» : «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى الظهر يوم السبت أو الأحد في مرض موته جالساً، والنَّاس خلفه، وهي آخر صلاة صَلاَّها إماماً. وصلّى خلف أبي بكر الركعة الثانية صبحَ يوم الاثنين مأموماً، ثم أتَمَّ لنفسه» . وفي «السُّنَنِ الكبرى» : عن عائشة رضي الله عنها قالت: «صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي تُوُفِّيَ فيه خلف أبي بكر قاعداً» . قال الشافعيّ وغيره: إنْ صحَّت هذه الرواية، كان ذلك مرتين: مرة صَلَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم وراء أبي بكر، ومرة صلّى أبو بكر وراءه.

والحاصل: أنَّ الناس اختلفوا فيما إذا صلى الإمام جالساً. فقالت طائفة: يُصَلُّون قعوداً اقتداء به. واحتجّوا بحديث عائشة رضي الله عنها، وأنس:«وإذا صَلَّى جالساً، فصلّوا جلوساً أجمعون» ، وقد فعله أربعة من الصحابة: جابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأُسَيْد بن حُضَيْر، وقَيْس بن فَهْد.

وقال أكثر أهل العلم: يُصَلُّون قياماً، ولا يتابعونه في الجلوس، وبه قال أبو حنيفة والشافعيّ ومن تابعهما. وقالوا بنسخ ذلك الحديث بما قدمنا. وقال محمد: بعدم جواز اقتداء القائم بالقاعد، وادَّعَى أنّ ذلك من خصائصه، وهو الأحوط.

(و) يَقْتَدِي (المُومِيءُ) مِنْ أوْمأ مهموزاً وقد تبدل (بالمومِي) لاستواء حالهما. ويُسْتَثْنَى من ذلك: إذا كان الإمام مُضْطَجِعاً، والمؤتم قائماً أو قاعداً، لقوة حال القائم والقاعد على المضطجع. لأن القعود مقصود كالقيام، بدليل وجوبه عند القدرة عليه.

(و) يقتدي (المُتَنَفِّلُ بالمُفْتَرِضِ) لِمَا رَوَى أصحاب السُّنَنِ الأربعة عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كيف أنت إذا كان عليك أمراء يُؤَخِّرُون الصلاة؟» قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا تَأْمُرُني؟ قال: «صَلِّ الصلاة لوقتها، فإنْ أدركتها معهم، فصلِّ فإنها لك نافلة» .

(لا) يَقْتَدِي رجل (بِامْرَأَةٍ أَوْ صَبِيَ). أَمَّا المرأة: فَلِمَا رَوَى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن سُفْيَان الثَّوْرِيِّ، عن الأَعْمَش، عن إبراهيم، عن أبي مَعْمَر، عن ابن مسعود قال: كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يُصَلُّون جميعاً، فكانت المرأة تَلْبَس القَالَبَيْن فتقوم عليهما، فَتُوَاعِدُ خليلها، فأُلْقِيَ عليهن الحيض. فكان ابن مسعود يقول: أخِّرُوهنَّ من حيث أخَّرَهنّ الله، قيل: فما القَالَبَان؟ قال: أَرْجُلٌ من خشب يتّخذها النساء يَتَشَرَّفْنَ

ص: 286

وطَاهِرٌ بِمَعْذُورٍ، وقَارِىءٌ بأُمِّيٍّ، ولابِسٌ بَعَارٍ، وَغَيرُ مُومٍ بِمُومٍ.

ولا مُفْتَرِضٌ بِمُتَنَفِّلٍ،

===

الرجال في المساجد. وفي «الغاية» : كان شيخنا الصَدْرُ سُلَيْمَانَ يرويه: «الخمر أمّ الخبائث، والنساء حبائل الشيطان، فأخِّرُوهنَّ من حيث أخَّرَهُنَّ الله» . ويَعْزُوه إلى «مسند رَزِين» . قال القاضي أبو زَيْد: حيث اسم مكان، ولا مكان يجب على الرجل تأخيرها عنه إلا مكان الصلاة، فلا يجوز الاقتداء بها.

وأمَّا إمامة الصَّبيِّ فقال بعضهم: يجوز اقتداء البالغ بالصَّبيّ في التَّراويح والنوافل المطلقة، لأن كُلاًّ منهما نفل في ذاته. واللزوم بعارض الشروع لا يُخرجه عن أصل وضعه. والمختار: عدم الجواز. لأن نفل البالغ مضمون ويجب قضاؤه بإفساده، ونفل الصَّبيّ غير مضمون، لا يجب قضاؤه بإفساده، فكان نفل البالغ أقوى من نفل الصبيّ. ولو اقتدى صبيّ بصبيّ جاز لأن الصلاة مُتَّحِدَة.

(وطَاهِرٌ) أي ولا يقتدي طاهر، والمُرَاد به: من لا عذر له (بِمَعْذُورٍ) أيْ بمن له عذر من سَلَس البول ونحوه، لأن المعذور يُصَلّي مع الحدث حقيقة، وإنما جُعِلَ حدثه في حكم العدم للحاجة إلى الأداء، فكان أضعفَ حالاً من الطاهر. وكذا لو زال عُذْر المعذور في أثناء الصلاة لا يَبْنِي عليها، لأنها بناء القويّ على الضعيف. وفي المسألة خلاف الشافعيّ وزُفَر. ولو اقتدى معذور بمعذور: إن اتَّحَدَ عذرهما جاز، وإن اختلف لا يجوز.

(و) لا (قَارِاءٌ بأُمِّيَ) وهو: من لا يُحْسِن آية، لقوة حال القاراء. وكذا أُمِّيّ بأخرس، لقدرة الأُمِّيّ على التحريمة، بخلافه. واللفظ فوق الإيماء. (ولَابِسٌ بَعَارٍ وَغَيْرُ مُومٍ بِمُومٍ) بحذف الهمزة تخفيفاً كما في اطْفِ سراجك، وإنما لا يجوز اقتداؤهما، لقوة حالهما على حال العاري والمومي.

(ولا مُفْتَرِضٌ بِمُتَنَفِّلٍ) وبه قال مالك، وأحمد. وأجاز الشافعيّ اقتداءه به، لِمَا في الصحيحين من حديث جابر:«أن معاذاً كان يُصَلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عِشَاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه، فيُصَلِّي بهم تلك الصلاة» . ولفظ البخاري: «فَيُصَلِّي بهم الصلاة المكتوبة» . ولنا ما في «الصحيحين» من حديث أنس رضي الله عنه: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» .

ولو جاز اقتداء المفترض بالمتنفل لَمَا شُرع صلاةُ الخوف مع المُنَافِي، بل كان الإمام يُصَلِّي بكل طائفة صلاة كاملة. وأُجِيبَ عن حديث مُعَاذ: بأن النية أمر لا يَطَّلِعُ

ص: 287

ومفتَرِضٍ فَرْضًا آخَرَ،

===

عليه أحد إلاَّ بإخبار الناوي. فجاز أنّ مُعَاذاً كان يُصَلِّي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بنية النفل، لِيَتَعَلَّم منه سنة الصلاة ويَتَبَرَّك بالصلاة خلفه، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الفرض. ومع وجود الاحتمال لا يتم الاستدلال. ومن المعلوم أنّ حَمْل فعل الصحابيّ على الوجه المتفق عليه، أوْلَى من حمله على المختلف عليه.

وروى أحمد في «مسنده» : أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إمَّا أنْ تُصَلّي معي، وإمَّا أن تُخَفِّفَ عن قومك» . ومعناه: إما أنْ تصلّي الفرض معي، ولا تُصلِّي بهم، وإمَّا أنْ لا تُصلِّي معي الفرض حتى لا ينتظروك. قال ابن تيمية في «المُنْتَقَى» ـ وهو من أكابر الحنابلة ـ: فيه دَلالة على منع اقتداء المفترض بالمتنفل، لأنه يدل على أنه متى صَلّى معه امتنعت إمامته ـ أي للتقسيم الحاصر ـ، وبالإجماع لا تَمْتَنِعُ إمامته لصلاته النفل معه، فَعُلِمَ أن الذي كان يصلّيه مُعَاذ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم نفل.

(ومُفْتَرِضٍ) عطف على متنفل أي ولا يقتدي مُفْتَرِض بمُفْتَرِضٍ (فَرْضاً آخَرَ) لأن الاقتداء: شَرِكَةٌ في التحريمة المقرونة بالنيّة، وموافَقةٌ في الأفعال البدنية. ولما روى أصحاب «السنن» عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الأئمة ضُمَنَاء، والمُؤَذِّنُون أُمَنَاء. اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين» . قال صاحب «الغَريبَيْنِ» : معنى الضمان: الحفظ والرعاية. فمعنى الحديث ـ والله تعالى أعلم ـ أن الإمام حافظ، ومراع لصلاة من اقتدى به صحة وفساداً. وتوضيحه: أنه يَسْرِي فساد صلاة الإمام إلى صلاة المأموم عندنا. وجعله مالك والشافعيّ تَبَعاً له في صورة الموافقة، لا في الفساد والصحة، لقوله صلى الله عليه وسلم «إنما جُعِلَ الإمام لِيُؤتَمَّ به». أي: لِيُوَافَقَ في أَفعاله ويُتَابِعَه فيها. وفيما عدا ذلك، صلاة كل منهما في الصحة والفساد مضافة إلى اجتماع شرائطها وأركانها، وعدم اجتماعهما.

ولنا: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم «الإمام ضامن» . رواه أبو داود، والتّرمذيّ. وإنما يكون ضامناً إذا تَضَمَّنَتْ صلاته صلاة المُقْتَدِي، لتصح بصحتها، وتفسد بفسادها. فيكون اتحاد الصلاتين شرطاً في صحة الاقتداء، إلا ما فيه بناء الأخف على الأقوى، كاقتداء المُتَنَفِّل بالمُفْتَرِض على ما لا يَخْفَى. وصريح ما رواه عبد الرزاق في «مصنفه»: «أنّ عليّاً رضي الله عنه صلّى بالناس وهو جُنُب، أو على غير وضوء، فأعاد وأَمَرَهم أن يُعِيدُوا. وأنَّ عمر رضي الله عنه صلّى بالناس وهو جُنُب، فأعاد ولم يُعِدِ الناس. فقال له عليّ: قد كان يَنْبغِي لمن يُصَلّي معك أنْ يُعِيدَ، فَرَجَعُوا إلى قول عليّ رضي الله عنه.

قال القاسم: وقال ابن مسعود: مثل قول عليّ. وقد رَوَى البيهقِي والدَّارَقُطْنِي عن

ص: 288

والإمَامُ لا يُطِيلُهَا،

===

سعيد بن المُسَيَّب: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلّى بالناس وهو جُنُب، فأعاد، وأعادوا» . والحديث مُرْسَلٌ، والراوي عن سعيد: أبو جابر البَيَاضي: ضعيف.

ويفسد اقتداء مسبوق بغيره مطلقاً. أعني سواء كان مثله أو لاحقاً أو إماماً. وكذا بعكسه، بأن يقتدي الغير به، لأنه في حكم المقتدي من وجه، وفيه خلاف الشافعي. وأجاز الشافعيّ القضاء خلف الأداء مع الكراهة.

هذا، ولو اقتدى بالإمام في المسجد عن بُعْد يصح إذا لم يَشْتَبِه عليه حال إمامه، لأنَّ المسجد مع تباعد أطرافه كبقعة واحدة. ولو كان على سطح داره بجنب المسجد لا يصح، لاختلاف المكان، إلا إذا كان على رأس الحائط. وفي «الخُلاصَة»: ولو كان على دُكَّان خارج المسجد متصلاً بالمسجد يجوز الاقتداء، لكن بشرط اتصال الصفوف، لأن باتصال الصفوف يصير كبقعة واحدة. فلو كان على الطريق واحد لا يثبت الاتصال، ولو كان ثلاث يثبت، لأن الثلاث جمع صحيح. ولو كان اثنان: قال محمد: حكمهما حكم الواحد. وقال أبو يوسف: حكمهما حكم الثلاث. والله تعالى أعلم.

(والإمَامُ لا يُطِيلُهَا) أي الصلاة بإطالة القراءة ونحوها. لِمَا في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صَلَّى أحدكم للناس فَلْيُخَفِّفْ، فإنّ فيهم الضعيف، والسقيم، والكبير. وإذا صلّى لنفسه فَلْيُطَوِّلْ ما شاء» . وفي لفظ لمسلم: «الصغير، والكبير، والضعيف، والمريض، وذا الحاجة» . ولقول أبي مسعود الأنْصَارِيّ: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لأَتأخر عن صلاة الغداة مما يُطِيلُ بنا فلان. قال: فما رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في موعظة أشدّ غضباً من يومئذٍ. فقال: يا أيها النّاس إن منكم مُنَفِّرِين، مَنْ صَلَّى بالناس فَلْيُخَفِّفْ، فإن فيهم الكبير، والضعيف، وذا الحاجة» . رواه الشيخان، وفي لفظ البخاري:«والمريض» . ولقول عثمان بن أبي العاص: «آخر ما عَهِدَ إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَمَمْتَ قوماً فأَخِفَّ بهم الصلاة» . وفي لفظ: «أُمَّ قَوْمَكَ. فمن أمَّ قوماً فلْيُخَفِّفْ، فإنَّ فيهم الكبير، وإنّ فيهم الضعيف، وإنَّ فيهم المريض، وإنّ فيهم ذا الحاجة. وإذا صلَّى أحدكم وحده فلْيُصَلِّ كيف شاء» . رواه مسلم.

ولقصة مُعَاذ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتريد أنْ تكون فَتَّاناً يا مُعَاذ؟ إذا أمَمْتَ بالناس، فاقرأ بـ:{الشمس وضُحاها} ، و {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، و {اقْرَأْ باسْمِ

ص: 289

ولا قِرَاءَةَ الأُولَى إلَّا في الفَجْرِ.

ويَقُومُ المُؤتَمُّ الوَاحِدُ عَلى يَمِينِهِ، والزَّائِدُ خَلْفهُ

===

رَبِّكَ} و {الليل إذا يَغْشَى} . رواه الشيخان. وفي لفظ لمسلم: «فافْتَتَحَ سورة البقرة، فانْحَرَفَ رجل فسَلَّمَ، ثم صَلَّى وحده، وانصرف

» الحديث. وفي لفظ لأبي داود: «يا مُعَاذ: لا تكن فَتَّاناً، فإنه يُصَلِّي وراءك الكبير، والضعيف، وذا الحاجة، والمسافر» .

(ولا) يُطِيلُ (قِرَاءَةَ) الركعة (الأُولَى) على قراءة الرّكْعَة الثانية (إلاَّ في) صلاة (الفَجْرِ) لأنها في وقت غَفْلَة، فتُطَال الركعة الأولى ليدركها من أبْطَأَ في حضور الجماعة. ولا اعتبار في الزيادة والنقصان بما دون ثلاث آيات، لعدم إمكان الاحتراز عنه، وهذا عند أبي حنيفة، وأبي يوسف. وأمّا عند محمد: فيُسْتَحَبّ تطويل الركعة الأُولى من الصلوات كلها. لِمَا في «الصحيحين» من حديث أبي قَتَادة، واللفظ للبخاريّ: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأُولَيَيْنِ بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأُخْرَيَيْنِ بفاتحة الكتاب. ويُطَوِّلُ في الركعة الأولى، ما لا يُطَوِّلُ في الثانية. وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح. وأُجِيبَ بأن الحديث محمول على الإطالة بالثناء والتعوذ. ثم هذا في الفرائض، وأما في النوافل، فإطالة الثانية غير مكروهة.

(ويَقُومُ المُؤْتَمُّ الوَاحِدُ) بالغاً كان أو صبياً (عَلى يَمِينِهِ) أي يُسْتَحَبُّ أنْ يقف عن يمين الإمام، مساوياً له عند أبي حنيفة، وأبي يوسف. وواضعاً أصابع رجله بإزاء عَقِب الإمام عند محمد، لما روى الجماعة عن كُرَيْب ـ مَوْلى ابن عباس ـ عن ابن عباس قال:«بِتّ عند خالتي مَيْمُونَة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي من الليل. فَقُمْتُ عن يساره، وأخذني بيميني، فأدارني من ورائه، فأقامني عن يمينه، فصلّيت معه» . وفي رواية: «فجعلني عن يمينه» . وفي أخرى: «وأخذ برأسي من ورائي» . وفي رواية: بيدي أو عَضُدِي. «وفيه دَلالة على أنَّ أقل الجماعة في غير الجمعة واحد. ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «الاثنان جماعة فما فوقهما» . رواه ابن ماجه.

(و) يقوم المُؤْتَمُّ (الزَّائِدُ) على الواحد (خَلْفهُ) أي خلف الإمام لِمَا روى الجماعة إلاّ ابن ماجه عن مَالِك بنِ أَنَس، عن إسحاق بن أبي عبد الله بن طَلْحَة، عن أنس بن مالك: «أنَّ جدته مُلَيْكَة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته، فأكل منه، ثم قال: قوموا فلأُصَلِّي لكم. قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسْوَدَّ من طول ما لُبِس، فنضحتُه بماءٍ، فقام رَسول الله صلى الله عليه وسلم فَصَففْتُ أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا.

ص: 290

وَيَصُفُّ الرِّجَالَ، ثُمَّ الصِّبْيَانَ، ثُمَّ الخُنْثَى، ثُمَّ النِّسَاءَ. فإنْ حَاذَتْهُ في صَلاةٍ مُطْلَقَةٍ مُشْتَرِكَةٍ تَحْرِيمَةً وأداءً: فَسَدَتْ صَلَاتُهُ،

===

فصلى لنا ركعتين. واليتيم هو: ضُمَيْرَة بن سَعْد الحِمْيَريّ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم له ولأبيه صُحْبَة».

وعن أبي يوسف: يقوم الإمام بين الاثنين، لِمَا روى مسلم عن ابن مسعود:«أنه صَلّى بِعَلْقَمَة والأَسْوَد، فقام بينهما» . قلنا: الأثر دليل الإباحة، والخبر دليل الأفضلية، لقول جابر:«قام النبيّ صلى الله عليه وسلم فقمتُ عن يساره فأخذ بيدي، فأدَارَني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جَبَّار بن صَخْر، فقام عن يسار رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأيدينا جميعاً، فدفعنا حتى أقامنا خلفه» ، مختصر من حديث طويل في آخر مسلم. هذا، ولو صَحّ مرفوعاً، ما رُوِيَ عن ابن مسعود وأبي يوسف، فمحمول على بيان الجواز، أو على عذر كضيق المكان.

(وَيَصُفُّ الرِّجَالَ) على قدر مراتبهم (ثُمَّ الصِّبْيَانَ ثُمَّ الخُنْثَى) وفي نسخة الخَنَاثَى بفتح أوله جمع خُنْثَى بالضم، كالحَبَالى: جمع حُبْلى. (ثُمَّ النِّسَاءَ) لما روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَيَلِنِي منكم أولو الأحلام والنُّهَى، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونهُم» . وفي رواية «ثلاثاً» . والأحلام جمع حُلُم وهو: ما يراه النائم: كَنَّى به هنا عن البلوغ، لأنه سببه. والنُّهَى بضم النون: جمع نُهْيَة بضمها، وهو العقل. سُمِّي به لأنه ينهى عن المناهي، ويعقل صاحبه عن ارتكابها. ولقول أبي مالك الأشْعَري:«إن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى فأقام الرجال يَلُونَه، وأقام الصِّبْيان خلف ذلك، وأقام النِّسَاء خلف ذلك» . رواه ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» . «وفي مسند الحَارِث بن أبي أُسَامة» : «أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَصُفُّهم في الصلاة، فيجعل الرجال قُدَّام الغِلْمَان، والغِلْمَان خَلفهم، والنساء خلف الغِلْمَان» .

(فإنْ حَاذَتْهُ) أُنثى عاقلة مشتهاة: في الحال أو في الماضي، لتدخل العجوز، أجنبية منه كانت، أو قريبة له، أو زوجته، بكلها أو ببعضها، بأن كان أحدهما على الدُّكّان

(1)

والآخر على الأرض، وحاذى عضواً منها (في صَلاةٍ مُطْلَقَةٍ) ذات ركوع وسجود، أو بدلهما: وهو الإيماء (مُشْتَرَكَةٍ تَحْرِيمَةً وأداءً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ).

اعلم أنَّ المُدْرِك ـ وهو الذي أتى بالصلاة جميعها مع الإمام ـ بانٍ تحريمته على تحريمة الإمام، وأداؤه على أدائه. واللاحق ـ وهو الذي فاته من آخر الصلاة بسبب نوم أو سَبْقِ حَدَث ـ بانٍ تحريمته على تحريمة الإمام حقيقة، وأداءه فيما يقضي على أدائه

(1)

الدُّكَان: الدَّكَّة المبنية للجلوس عليها. النهاية: 2/ 128.

ص: 291

إنْ نَوَى إمَامَتَهَا، وإلَّا فَصَلاتُها.

===

تقديراً، لأنه التزم متابعته في أول الصلاة بالتحريمة.

ولهذا لا يقرأ فيما يقضيه، ولا يسجد بسهو فيه، وتبطل صلاته بتبدل اجتهاده في القبلة. والمسبوق ـ وهو الذي فاته الإمام أول الصلاة ـ بانٍ تحريمته على تحريمته، وليس بانياً أداء ما يقضيه على أدائه، بل هو منفرد فيه، ولهذا يقرأ فيه، ويسجد للسهو، ولا تبطل صلاته بتبدل اجتهاده في القبلة.

وفي «المحيط» : رجلٌ وامرأة قاما يقضيان ما سُبِقَا به، فتحاذيا لم تفسد صلاته، لأنهما لم يَشْتَرِكا في صلاة واحدة، لأنَّ المسبوق فيما يقضي منفرد. وإنْ أدركا أول الصلاة، ونَامَا أو أحدثا، ثم قاما يقضيان ما سُبِقَا به، فتحاذيا فسدت صلاته، لأنهما لاحقان. واللاحق بمنزلة المُصَلِّي خلف الإمام.

وإنما تفسد صلاة الرجل بالمحاذاة دون صلاة المرأة، لتركه التَقدُّم الذي أُمِرَ به فيما رَوْيَنَاه عن ابن مسعود وهو:«أخِّرُوهنَّ من حيث أَخَّرَهُنَّ الله» . لأنه المخاطب بها دونها. ولِمَا في حديث أنس السابق من أنه صُفَّ هو واليتيم وراء النبي صلى الله عليه وسلم والعجوز من ورائهما. ولولا أنَّ المحاذاة مفسدة، ما تأخَّرَت العجوز عنهما، لأنَّ الانفراد خلف الصف مكروه. وهذا وجه الاستحسان، وفيه بحث ظاهر إذ الظاهر أنَّ انفرادها لبيان الأفضل، وحينئذٍ لا يكون مكروهاً في حقها فتأمل.

وأمّا عند مالك والشافعيّ فلم تَفْسُد صلاته أيضاً، وهو القياس اعتباراً بصلاتها، حيث لا تفسد لأن المحاذاة تقوم بهما. ولو كانت علة الفساد ـ وهي قائمة بهما ـ لكان الحكم ـ وهو الفساد ـ ثابتاً في حقهما، إذ الاستواء في العلة، يقتضي الاستواء في المعلول. ولَمّا لم تَفْسُد صلاتها، دَلَّ أنها ليست بمفسدة لصلاته.

وأمّا محاذاة الأمرد فَصَرَّح الكل بعدم إفسادها إلا مَنْ شَذّ. ولا مُتَمَسّك له في الرواية، لِمَا صَرَّحُوا به، ولا في الدراية لتصريحهم بأن الفسادَ في المرأة غير معلول بعروض شهوة، بل هو لترك فرض المقام. وليس هذا في الصبيّ.

(إنْ نَوَى إمَامَتَهَا) إذا ائْتَمَّتْ محاذية، لأنه يلزمه الفساد من جهتها، فلا بد له من التزامه. كالمقتدي لا بد له من نية الاقتداء لَمَّا لَزِمَه الفساد من جهة إمامه. (وإلاَّ فَصَلاتُها) وإن لم ينو الإمام إمامتها، لا تُفْسِد صلاته، بل تُفْسد صلاتها، لأنها لم يصح اقتداؤها، فلم تكن قراءة الإمام قراءة لها، فتبقى صلاتها بلا قراءة. ولم

ص: 292

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

يشترط زُفَر نية

(1)

إمامتها مُطْلَقاً.

ويُشْتَرَطُ في المُحَاذَاة: أنْ لا يكون بينهما حائل، ولا فُرْجَة. وأدنى الحائل في الطول: مثل مُؤْخِرَة الرَّحل

(2)

أو مقدمته، لأنه أدنى أحوال الصلاة: القُعُود، فقدَّرْنَا الحائل به، وهو قدر ذراع بغِلَظ أُصْبَع. وأدنى الفُرْجَة: ما يقوم فيه شخص.

وفي «النوازل» : قوم صَلَّوا على ظهر ظُلَّة في المسجد، وقدَّامهم وتحتهم النساء: لا تجزيهم صلاتهم، لأنه تَخَلَّل بينهم وبين الإمام صف النساء، فمنع اقتداءهم. وإن كان بحذائهم من تحتهم نساء أجزأهم، لأنه ليس بينهم وبين الإمام نساء، وبينهم وبينهن حائل ـ وهو ارتفاع المكان ـ فلا تتحقق المحاذة، كما لو كان بينهما حائط. وفي «الغاية»: ويُشْتَرَطُ أنْ تكون جهتهما واحدة. ولا يُتَصَوَّرُ اختلاف جهتهما إلاَّ في ليلة مظلمة، أو الكعبة أي داخلها، أو حولها. ويُشْتَرَطُ أنْ تكون المحاذاة في ركن كامل.

وأمّا قول صاحب «الهداية» : لقوله صلى الله عليه وسلم «أخِّرُوهُنَّ من حيث أخَّرَهُنَّ الله» . فغيرُ معروفٍ رَفْعُه. وأغرب منه أنه جعله من المشاهير، وهذا خلاف ما عليه الجماهير.

والحاصل: أنه لا يصح رفعه، لكنّه ثبت عن ابن مسعود وقفه. رواه الطَّبَرانِيّ: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرَّزَّاق، عن الثَّوْرِيّ، عن الأعْمَشِ، عن إبراهيم، عن أبي مَعْمَر، عن ابن مَسْعُود قال: «كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يُصَلُّون جميعاً، وكانت المرأة إذا كان لها الخليل تَلْبَسُ القَالَبَيْنِ، تَطَّاوَلُ بهما لخليلها، فألْقَى الله عليهن الحيض. وكان ابن مسعود يقول: أَخِّرُوهُنَّ كما أخَّرَهُنَّ الله. قلنا لإبراهيم: ما القَالَبَان

(3)

؟ قال: قُبْقَاباً من خشب». وإسحاق بن إبراهيم هذا: هو الوَبَري، وأبو مَعْمَر: عبد الله بن سَخْبَرَة

(4)

الأزدي. وقد قال تقي الدين بن دقيق العيد: إنه حديث صحيح. والحديث مع كونه موقوفاً لا دَلَالة له فيه إلاَّ على الاستحباب، فأخِّرُوهُنَّ عن الرجال كتأخّر الأطفال وَفْقَ ما ثبت في الأحاديث المرفوعة. وعلى تسليم أنَّ الأمر للوجوب

(1)

في المطبوع: نيته.

(2)

مُؤْخِرَة الرحْل: الخشبة التي يستند إليها الراكب من رَحْل البعير. النهاية 1/ 29 بتصرف. والرَّحْلُ: ما يوضع على ظهر البعير للركوب. المعجم الوسيط ص 335، مادة (رحل).

(3)

ورواية الزيلعي عن "المصنَّف": قيل: فما القالبان؟ قال: أرْجُلٌ من خشب يتَّخِذُها النساء، يتشرَّفن الرجال في المساجد. انتهى. "نصب الراية" 2/ 36.

(4)

حُرِّفت في المطبوعة إلى: عبد الله بن الشجر الأزدي. وفى المخطوطة إلى: عبد الله بن الشَّخَّير الأزدي. والصواب ما أثبتناه. انظر "المغني في ضبط أسماء الرجال". ص 297. و "تقريب التهذيب"، ص 305، رقم (3341)، و "سير أعلام البنلاء" 4/ 133.

ص: 293

فَصْلٌ [فيمن سَبَقَهُ الحَدَثُ]

مُصَلٍّ سَبقَهُ الَحدثُ تَوَضَّأَ وأتَمَّ، ولَوْ بَعْدَ التَّشَهُّدِ،

===

بناء على أنه في حكم المرفوع، فلا دَلَالَة فيه على إبطال الصلاة حال المحاذاة ..

‌فصلٌ (فيمن سبقه الحدثُ في الصلاة)

(مُصَلَ سَبَقَهُ الحَدَثُ) أي حصل منه بدون اختياره ويسمى الحدث السَّمَاوي (تَوَضَّأَ) بلا توقف (وأتَمَّ) تلك الصلاة ثانياً.

وفيه إشارة إلى أنَّ المراد بالحدث: الموجب للوضوء، دون الغُسْل، إذ لا يصح البناء فيه كما سيأتي. (ولَوْ بَعْدَ التَّشَهُّدِ) أي قبل خروجه من الصلاة. وقال مالك والشافعي: يستأنف الصلاة لأنَّ الحدث ينافيها، والانحراف من الصلاة اللازم من الذهاب إلى الوضوء ـ عن القبلة غالباً يُفْسِدُها. فصار كالحدث العمد.

ولنا: ما روى ابن ماجه، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أصابه قيء أو قَلَس

(1)

أو مَذْي

(2)

فلينصرف وليتوضأ ثم ليَبْنِ على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم». وروى ابن أبي شَيْبَة: نحوه، موقوفاً على جماعة من الصحابة: منهم الصِّدِّيق، والفاروق، والمُرْتَضَى، وابن مسعود، وغيرهم رضي الله عنهم. والقلس: خروج شيء بسبب جُشَاء أو سَعْلَة.

فإن قيل: قال الدَّارَقُطْنِيّ: يروونه عن ابن أبي مُلَيْكَة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وهو الصحيح. أُجِيبَ بأن المُرْسَل حجةٌ عندنا، وعند الجمهور، كما تقرر في موضعه من الأصول. وقياس الحدث السَّمَاوي على الحدث العَمْدِي لا يصح، لأن الأول فيه بَلْوَى، فجُعِلَ المكلف به معذوراً، بخلاف الثاني.

وأمّا جواز بناء من سَبَقَه الحدث بعد التشهد أو القعود قَدْر التشهد، فعند أبي حنيفة. ووجهه: أنَّ خروج المُصَلِّي بصنعه فرض عنده، فحصول هذا العارض (في هذه الحالة كحصوله في وسط الصلاة. وأما عندهما فبالقعود قَدْرَ التشهد تَمَّت صلاته)

(3)

،

(1)

القَلَس: ما خرج من الجوف ملء الفم، أو دونه وليس بقيء، فإن عاد فهو القيء. النهاية: 4/ 100.

(2)

المَذْي: البَلَل اللَّزج الذي يَخْرُج من الذَّكر عند مُلاعَبة النساء، ولا يجب فيه الغُسْل. النهاية: 4/ 312.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 294

والاسْتِئْنَافُ أَفْضَلُ.

===

فحصول هذا العارض حينئذٍ كحصوله بعد السلام.

(والاسْتِئْنَافُ أَفْضَلُ) لأن فيه تَحَرُّزاً عن شُبْهَة الخلاف، لا واجب كما قال مالك والشافعيّ، وهو القياس، لوجود المُنَافي لشرط الصلاة، وهو الطهارة. ووجود المشروط بدون الشرط محال، ويَعَضُدُه قوله صلى الله عليه وسلم «إذا فسا أحدكم في الصلاة، فلينصرف فليتوضأ، ولْيُعِدْ صلاته» . رواه أبو داود والتِّرْمِذِي والنَّسائي. وقوله: «إذا رَعَف

(1)

أحدكم في صلاته فَلْيَغْسِلْ عنه الدَّم، ثم ليُعِدْ وُضُوءَه، ولْيَسْتَقْبِلْ صلاته». رواه الطَبَرَانِيّ وغيره.

وأُجِيبَ: بأنَّ في سند كل منهما ضَعْفاً. وروى أبو داود وابن ماجه، عن هِشَام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا صلّى أحدكم فأحدث فلْيأخذ بأنفه ثم لينصرف» . وروى الدَّارَقُطْنِيّ أيضاً عن عاصم بن حَمْزَة، والحارث، عن عليّ كرَّم الله وجهه قال: «إذا أمَّ الرجل القوم فوجد في بطنه ورماً

(2)

، أو رُعَافاً، أو قَاءَ، فليضع ثوبه على أنفه، ولْيَأْخُذ بيده رَجُلاً من القوم فَلْيُقَدِّمْهُ». الحديث ضعيف أيضاً. وتقدَّم أن الحارث كَذَّاب، وعاصم فيه بعض شيء. وروى الدَّارَقُطْنِي أيضاً مرفوعاً: وضَعُ اليد على الأنف حين الانصراف فقط. وهو ضعيف أيضاً.

والحاصل: أنه لم يصح في هذا الباب شيء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأما قول صاحب «الهداية» : أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلّى أحدكم فقاء أو رَعَفَ، فلْيَضَع يده على فمه

(3)

، ولْيُقَدِّمْ مَنْ لم يُسْبَقْ بشيء». فقوله:«من لم يُسْبَقْ بشيء» غير معروف في كتب الحديث. لكن ذكر أصحابنا: أن الأوْلى للإمام أن يُقَدِّم مُدْرِكاً، لأنه أقدر على إتمام صلاته. وذكر القاضي أبو العبّاس عن إمام الحرمين في «النهاية» ، وعن الغزالي في «البسيط»: أن حديث: «من قاء أو رَعَفَ أو أمْذَى في صلاته، فلينصرف وليتوضأ، ولْيَبْنِ على صلاته ما لم يتكلم» . في كتب الصحاح. وهو وَهْمٌ منهما، وعذرهما أنهما لا معرفة بالحديث لهما، لأنهما ليسا من أهل هذا الشأن. والله المستعان.

(1)

رَعَفَ: الرُّعاف: الدم يَخْرُج من الأنف. مختار الصحاح، ص: 104 مادة (رعف).

(2)

الورم: الانتفاخ، المعجم الوسيط ص: 1027، مادة (ورم)، ويريد به القرقرة، وأمَرَه بالوضوء لئلا يدافع أحد الأخبثين.

(3)

في المخطوطة: أنفه، وفي المطبوع: فيه. والصواب ما أثبتناه من متن "الهداية": "فتح القدير" 1/ 330، و"نصب الراية" 2/ 62.

ص: 295

[كيفية الاستخلاف إذا نابه شيء في الصلاة]

والإمامُ يَسْتَخْلِفُ، يَجُرُّ آخَرَ إلى مَكَانِهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ ويُتمُّ الصَّلاة ثَمَّة، أو يَعُودُ كالمُنْفَرِدِ إنْ فَرَغَ إمَامُهُ، وإلَّا عَادَ، وكَذَا المُقْتَدِي.

===

(والإِمامُ) أي حينئذٍ (يَسْتَخْلِفُ) لِمَا رَوَى الشيخان عن سَهْل بن سعد: «أن أبا بكر رضي الله عنه صلّى بالناس لغيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إصلاحه بين الطائفتين من الأنصار، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء الصلاة، فَتَقدَّمَ وتَأَخَّرَ أبو بكر، وائْتَمُّوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في بقية الصلاة» . كذا ذكره الشارح، وفيه نظر. ولعله أراد أنه دليل للاستخلاف في الجملة، وإنْ كان هذا مختصّاً به صلى الله عليه وسلم لِمَا تقدم. وروى البَيْهَقِي وغيره:«أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لَمَّا طَعَنَه أبو لؤلؤة وهو في الصلاة استخلف عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه» ، «واستخلف عليٌّ رضي الله عنه حين رَعَفَ» . وأجمع الصحابة على صحة الاستخلاف.

(كيفية الاستخلاف إذا نابه شيء في الصلاة)

وكيفية استخلافه ما بَيَّنه بقوله: (يَجُرُّ آخَرَ إلى مَكَانِهِ)، ويتأخر مُحْدَوْدِباً واضعاً يده في أنفه يُوهِم أنه قد رَعَفَ، لِيَنْقَطِع عنه الظنون، ويرتفع عنه ما يوجب الحياء المانع من البناء. ولا يَسْتَخْلِفُ بالكلام، فلو تكلم بطلت صلاتهم. وفي «مِعْرَاج الدِّرَاية»: اتفقت الروايات على أنّ الخليفة لا يصير إماماً ما لم يَنْوِ الإمامة.

(ثُمَّ يَتَوَضَّأُ ويُتِمُّ الصَّلَاة ثَمَّة

(1)

) حيث توضأ إن أمكن تقليلاً للمشي (أو يَعُودُ) إلى مكان صلاته لتصير الصلاة مؤداة في مكان واحد. (كالمُنْفَرِدِ) كما أنّ المنفرد الذي سبقه الحدث يُتِمُّ الصلاة في مكان وُضُوئه أو يَعُودُ إلى مكان الصلاة، والعود أحمد، وبه قال الكَرْخِيّ، وقيل: الأداء حيث الوضوء أفضل. وفي «نوادر ابن سَمَاعَة» : أنَّ العود يُفْسِدُ، لأنه مَشْيٌ بلا حاجة، وإنما يتخير الإمام الذي سبقه الحدث بين أن يُتِمَّ حيث توضأ أو يعود. (إنْ فَرَغَ إمَامُهُ) وهو الخليفة (وإلاَّ) أي وإنْ لم يَفْرُغ إمامه (عَادَ) وأتَمَّ خلف خليفته. (وكَذَا المُقْتَدِي) إن فَرَغَ إمامه، يُتِمُّ حيث توضأ، أو يعود، وإنْ لم يَفْرُغ إمامه، فعليه أنْ يعود.

ولو صلّى كلٌ من الإمام الأول والمقتدي في موضعه، فَسَدَت. لأن الاقتداء واجب عليه، وقد بنى في موضع لا يصح اقتداؤه فيه. ولا يجوز انفراد المقتدي، لأن

(1)

ثَمَّةَ: اسم يُشار به إِلى المكان البعيد بمعنى هناك. المعجم الوسيط ص: 101، مادة (ثَمَّ).

ص: 296

وَلَوْ جُنَّ المُصَلِّي، أو أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أو احْتَلَمَ، أو قَهْقَهَ، أوْ أَحْدَثَ عَمْدًا، أوْ أَصَابَهُ بَوْلٌ كَثِيرٌ، أو شُجّ فَسَالَ الدَّمُ، أو ظَنَّ أنه أَحْدَثَ، فَخَرَجَ مِنَ المَسْجِدِ، أَو جَاوَزَ الصُّفُوفَ خَارِجَهُ: فَسَدَتْ صَلَاتُهُ.

ولَوْ لَمْ يَخْرُجْ، أوْ لَمْ يُجَاوِزْ بَنَى. وبَعْدَ التَّشَهُّدِ إن عَمِلَ ما يُنَافِيهَا تَمَّتْ، وتَفْسُدُ صَلاةُ المَسْبُوقِ.

===

الانفراد في موضع الاقتداء مُفْسِدٌ للصلاة.

وفي «شرح الطَّحَاوي» : يشتغل أولاً بقضاء ما سبقه الإمام به ـ في حالة اشتغاله بالوضوء ـ بغير قراءة، ثم يَقْضِي آخر صلاته. ولو تابع الإمام جاز، ويقضي ما فاته مع الإمام بعد تسليمه، لأن ترتيب أفعال الصلاة واجب عندنا، وليس بشرط خلافاً لزُفَرَ ومالك والشافعيّ. ولنا: أنَّ المسبوق يبدأ بما أَدْرَكَ ويؤخر ما فاته، وفيه ترك الترتيب، لأن الذي فاته هو الأول، ولو كان رُكْناً لَمَا جاز له تركه لعذر الجماعة.

(وَلَوْ جُنَّ المُصَلِّي أو أُغْمِيَ عَلَيْهِ أو احْتَلَمَ) بأن نام نوماً لا ينقض الوضوء، فاحْتَلَمَ، أو تَفَكَّرَ، أو مَسَّ بشهوة فَأمْنَى (أو قَهْقَهَ) عمداً كان أو سهواً (أوْ أَحْدَثَ عَمْداً) في أثناء الصلاة قبل قُعُودِهِ قدر التشهد (أوْ أَصَابَهُ بَوْلٌ كَثِيرٌ) أي مانع من الصلاة (أو شُجّ فَسَالَ الدَّمُ، أو ظَنَّ أنه أَحْدَثَ) بأن خرج شيء من أنفه، فظن أنه رَعَفَ (فَخَرَجَ مِنَ المَسْجِدِ أَوْ جَاوَزَ الصُّفُوفَ خَارِجَهُ) أي خارج المسجد، سواء كان في الصحراء، أو غيرها. ولو تقدم قُدَّامه فاتخذ سُتْرة، فإنْ لم يكن سترة، فمقدار الصفوف خلفه، وإن كان منفرداً، فموضع سجوده من كل جانب

(1)

، ثم ظهر طُهْرُه (فَسَدَتْ صَلَاتُهُ).

(ولَوْ لَمْ يَخْرُجْ) من المسجد (أوْ لَمْ يُجَاوِزْ) الصفوف (بَنَى.) وعن محمد: لا يَبْنِي.

(وبَعْدَ التَّشَهُّدِ) أي بعد قعوده قدر التشهد (إن عَمِلَ) الإمام (ما يُنَافِيهَا) كحدثٍ عمد، وإن كان بعد حدث سماويّ، وكقهقهة وإنْ بَطَلَ بها وضوؤه، (تَمَّتْ) صلاة الإمام (وتَفْسُدُ صَلَاةُ المَسْبُوقِ).

أمّا تمام صلاة الإمام، فلأَنه تَعَذَّرَ البناء لوجود القاطع. ولا إعادة عليه، لأنه لم يَبْقَ عليه شيء من أركان الصلاة.

(1)

أي من قُدَّامه أو خلفه.

ص: 297

وإنْ وُجِدَ هُنَا رُؤْيَةُ المُتَيَمِّمِ المَاءَ ونَحْوُهُ،

===

وأمَّا فساد صلاة المَسْبُوق، فعند أبي حنيفة. وقالا: لا تَفْسُد، لأن صلاة الإمام لم تفسد، وصلاة المقتدي مبنية عليها. وله: أنّ القهقهة مفسدة للجزء الذي لاقته من صلاة الإمام، فَتُفْسِدُ مِثْلَه من صلاة المأموم، إلاَّ أنَّ الإمام لا يحتاج إلى البناء، والمسبوق يحتاج إليه، لبقاء الفرائض. وفساد ذلك الجزء يمنعه من بناء ما بَقِي عليه، لأن المبني على الفاسد فاسد، فيلزمه الاستئنَاف. بخلاف السلام لأنه مُحَلِّل لا مفسد، ولهذا لا يفوت به شرط الصلاة ـ وهو الطهارة ـ فإذا صادف جزأ لم يُفْسِدْه، فلم يؤثر ذلك في حكم المسبوق، ولكنه يقطعه في أوانه.

ثم اعلم أنه لو سَبَقَ المُصَلِّيَ حَدَثٌ بعد قراءة التشهد قبل السلام، تَوَضّأ وسَلّمَ، لأن السلام واجب فيأتي به ليخرج منها على الوجه المشروع. وإنْ تَعَمَّدَه، أو ما ينافيها من كلام ونحوه بعد التشهد، جازت صلاته عندنا ناقصة، فيجب إعادتها. أمّا نَقْصُها ووجوب إعادتها، فلتركه واجباً لا يمكن استدراكه وحده. وأمّا جوازها فلإتيانه بفرائضها. والأصل ما قدَّمْنَا من قوله صلى الله عليه وسلم «إذا قضى الإمام الصلاة وقعد، فأحدث قبل أن يتكلم، فقد تمّت صلاته، ومن كان خلفه ممن أَتَمَّ الصلاة» . رواه أبو داود والتِّرْمِذِي.

وما في «الحِلْيَة» لأبي نُعَيْم عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فَرَغَ من التَّشَهُّد، أقبل علينا بوجهه وقال: من أحْدَثَ حَدَثاً بعدما يَفْرُغُ من التشهد، فقد تَمَّتْ صلاته» . وما في «مصنف ابن أبي شَيْبَة» عن عليّ رضي الله عنه قال: «إذا جلس الإمام في الرابعة، ثم أحدث فقد تَمَّتْ صلاته. فَلْيَقُمْ حيث شاء» . وزِيد في رواية: «قدر التشهد» . عن عطاء: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قَعَدَ في آخر صلاته قدر التشهد، أقبل على النَّاس بوجهه. وذلك قبل أنْ ينزل التسليم» . رواه البَيْهَقِيّ.

(وإنْ وُجِدَ) بصيغة المجهول (هُنَا) أي بعد التشهد (رُؤْيَةُ المُتَيَمِّمِ المَاءَ) مع قدرته على استعماله (ونَحْوُهُ) وهو باقي الفروع المُلَقَّبَة باثني عَشْرِيَّة.

وهي: 1 ـ انقضاء مدة المسح. 2 ـ ونَزْع الخفَّيْنِ بعمل قليل. 3 ـ وسقوط الجبيرة عن بُرْء. 4 ـ وتَعَلُّم أُمّيٌّ قَدْرَ فرض القراءة، بأنْ تَذَكَّرَ بعد نسيان، أو حَفِظَ بمجرد السماع، لأن التعلم على خلاف هاتين الصورتين عمل كثير. 5 ـ ووجود عارٍ ما يَسْتُرُ عورته، ولو عَارِيَّة. 6 ـ وقدرة مُومٍ على الركوع والسجود. 7 ـ وتذكر مصلَ فائتة عليه، أو على إمامه وفي الوقت سَعَة، ويكون كلٌّ صاحب ترتيب. 8 ـ واستخلاف أُمِّيّ، 9 ـ وطلوع الشمس في الفجر. 10 ـ أو دخول وقت العصر في

ص: 298

فَسَدَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لفَرْضِيَّةِ الخُرُوجِ بِصُنْعِهِ، لا عِنْدَهُمَا.

‌فَصْلٌ فيما يُفْسِدُ الصَّلاة وما يُكْرَهُ فيها

يُفْسِدُهَا الكَلامُ مُطْلَقًا،

===

الجمعة. 11 ـ وخروج وقت المعذور ـ أعني المستحاضة ومن بمعناها

(1)

.

(فَسَدَتْ) الصلاة في هذه الصُّوَر وما في معناها، بأن يصلي في ثوب نجس فيجد ما يغسله به (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لفَرْضِيَّةِ الخُرُوجِ بِصُنْعِهِ) أي صُنْعِ المُصَلِّي عنده ولم يوجد. لأن الصلاة ذات تحريم وتحليل، فلا يخرج منها إلا بالصنع كالحج (لا عِنْدَهُمَا) لعدم فَرْضِيَّة الخروج بالصنع عندهما، وهو الأظهر لحديث ابن مسعود:«إذا قلت هذا، أو فعلت هذا، فقد تَمَّتْ صلاتك» . ولإطلاق ما أسلفناه، ولدلالته لأنها إذا لم تَفْسُد مع تَعَمُّدِهِ، فأوْلى أنْ لا تَفْسُد عند عدمه.

وقال الكَرْخِيّ: لا خلاف بين أصحابنا أنّ الخروج من الصلاة بفعل المصلي ليس بفرض، ولا نَصَّ فيه عن أبي حنيفة، وإنما أخذه أبو سعيد البَرْدَعِي من قوله بفساد الصلاة في هذه المسائل، فقال: إنَّ الصلاة لا تَفْسُد إلاَّ بترك فرض، ولم يبق في هذه الصور إلاّ الخروج بالصنع. قال الكَرْخِيّ: هذا غلط لأنه لو كان فرضاً، لاخْتَصَّ بما هو قربة ـ وهو السلام ـ ولَمَّا لم يَخْتَصَّ، عَلِمْنَا أنه ليس بفرض. وقال: إنما قال أبو حنيفة ببطلان الصلاة في هذه المسائل، لأن ما يُغَيِّرُ الصلاة في أثنائها يُغَيِّرُها في آخرها، كنية الإقامة واقتداء المسافر بالمقيم، كيف وقد بَقِيَ عليه واجب وهو: السلام، وهو آخرها داخلاً فيها.

فصلٌ فِيمَا يُفْسِدُ الصَّلَاة وما يُكْرَهُ فِيهَا

(يُفْسِدُهَا الكَلَامُ) أي ولو كان كلمة من كلام الناس (مُطْلَقاً) أي عَمْداً كان، أو جَهْلاً، أو خطأً، أو نسياناً، أو سَهْواً. يسيراً كان الكلام، أو كثيراً. نائماً كان المُصَلِّي، أو يقظاناً. وصورة الكلام خطأً: بأن قصد القراءة أو التسبيح، فجرى على لسانه كلام الناس. والكلام نسياناً: بأن قصد كلام الناس ناسياً أنه في الصلاة. وقال مالك: لا يُفْسِدُها الكلام ناسياً، ولا الكلام عَمْداً لإصلاح الصلاة إذا لم يَتَنَبَّهْ إمامه إلاَّ به. وقال الشافعيّ: لا يُفْسِدُها كلام النَّاسِي والمُخْطِاء إِلاَّ إذا طال. ويُعْرَفُ الطُّولُ بالعُرْف. وكذا الجاهل بتحريمه والمُكْرَه لقوله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله وَضَع عن أُمّتِي الخطأ، والنسيان،

(1)

والثانية عشر: رؤية المتيمم الماء.

ص: 299

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وما اسْتُكْرِهُوا عليه». رواه ابن ماجه، (وابن حِبّان)

(1)

، والحاكم. وقال: صحيح على شرطهما. والمراد وضع الحكم إذ هما يوجدان حسّاً والخُلْف في خَبَرِهِ محال. والحكم نوعان: حكم الدنيا: وهو الفساد، وحكم العُقْبَى: وهو الإثم. ومُسَمَّى الحكم يشملهما، فيتناولهما.

ولنا: ما رواه مسلم من حديث مُعَاوِيَة بن الحَكَم السُّلَمِيّ قال: «بينما أنا أُصَلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عَطَس رجل من القوم، فقلت له: يَرْحَمُك الله. فَرَمَاني القوم بأبصارهم، فقلت: وَاثُكْلَ

(2)

أمّاه، ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفْخَاذِهم. فَلَمَّا رَأَيْتُهم يُصَمِّتُونَنِي. سَكَتُّ، فَلَمَّا صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم دعاني. فبأبي هو وأمِّي ما رأيت مُعَلِّمَاً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه. فوالله ما ضَرَبَني ولا شَتَمَنِي، ثم قال:«إن هذه الصلاة لا يَصْلُح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي وفي رواية: إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن» . وفي لفظ الطبَرانِيّ في «معجمه» : «إنَّ صلاتنا لا يَحِلُّ فيها شيء من كلام الناس» . وما لا يَصْلُح ولا يَحِلُّ في صلاة فمباشرته تفسدها. ويَعْضُدُه قوله صلى الله عليه وسلم «الكلام يَنْقُضُ الصلاة، ولا ينقض الوضوء» . رواه الدَّارَقُطْنِيّ.

فإن قيل: الكلام الواقع من معاوية عَمْد، ومطلوبكم الكلام مطلقاً يفسد الصلاة. أُجِيبَ: بأن العبرة لعموم اللفظ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم «إنَّ هذه الصلاة لا يَصْلُحُ فيها شيء من كلام الناس» . لا لخصوص سببه ـ وهو الكلام العمد ـ لأن الذي يُسْتَدَلُّ به على الحكم هو اللفظ لا السبب. وحديث ذي اليَدَيْن منسوخ بما رَوَيْنا

(3)

. ألَا ترى أنَّ حديث ذي اليدين وقع فيه كلام كثير عمداً. وأمّا حديث: «(ن الله تعالى وضع» . فالإجماع على أنّ رفع الإثم مراد، فلا يُرَاد غيره وإلاّ لَزِم تعميمه. وفي «المحيط»: «لو

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(2)

وَاثُكْلَ: الثُّكل: فَقْد الوَلَد. كأنه دعا على نفسه بالموت لسوء فعله أو قوله. النهاية: 1/ 217.

(3)

وقصة حديث ذي اليدين كما جاءت في صحيح مسلم 1/ 403، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (5)، باب السهو في الصلاة والسجود له (19)، رقم (97 - 573). عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العَشِيِّ وإمَا الظهر وإمّا العصر، فسلم في ركعتين، ثم أتى جِذْعًا في قِبلة المسجد فاستند إليها مُغْضَبًا، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يتكلّما. وخرج سَرَعَان الناس، قُصِرَت الصلاة، فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول الله! أَقُصِرَت الصلاة أم نسيتَ؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يمينًا وشمالًا فقال: "ما يقول ذو اليدين؟ " قالوا: صدق. لم تُصَلّ إلا ركعتين. فصلّى ركعتين وسلّم، ثم كبَّر ثم سجد، ثم كبَّر فرفع، ثم كبَّر وسجد، ثم كبَّر ورفع انتهى. ومعنى قوله:"خرج سرعانُ الناسِ قصرت الصلاة": أي خرج الناس سراعًا يقولون: قصرت الصلاة.

ص: 300

والسَّلامُ عَمْدًا وَرَدُّه

===

عَطَسَ، أو تَجَشَّأَ فحصل منه كلام ـ أي لغوياً ـ لا تفسد لتعذّر الاحتراز عنه. وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم «أُفَ، ألم تَعِدْني أنْ لا تُعَذِّبَهم وأنا فيهم؟»

(1)

فواقعة حال لا عموم لها.

فيجوز كونها قبل تحريم الكلام في الصلاة فلا يُعَارِضُها قوله صلى الله عليه وسلم «إنَّ صلاتنا هذه» الحديث. وقوله: «فأُمِرْنا بالسكوت، ونُهِينَا عن الكلام»

(2)

. ونحوه من الأحاديث. كذا ذكره بعض علمائنا. وفيه بحث إذ جملة كلامه مضمون كلام الله سبحانه ومبناه على معناه وهو: قوله تعالى: {وما كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهم وأَنْتَ فِيهِمْ}

(3)

فهذا دعاؤه ومناجاته طِبْق الآيات القرآنية، والواردات الفرقانية. وقد جاء أُفَ في القرآن، فليست من الكلمات الأجنبية.

(و) يفسدها (السَّلَامُ) أي للصلاة إذ السلام على إنسان مفسد، عَمْداً كان أو خطأً، نص عليه في «المحيط» ، وقاضيخان. وفي «الخُلَاصة»: لو أراد السلام على إنسان فقال: السلام، فَتَنَبَّهَ وسكت فسدت صلاته. (عَمْداً) قيد به لأن السلام سَهْواً غير مُفْسِد، وذلك أنَّ السلام ذِكْر مشتمل على خطاب، فاعْتُبِرَ في حالة العَمْدِ بكونه خطاباً للناس، فأفسد الصلاة، وفي غير حالة العمد بكونه ذِكْراً، فَجُعِلَ عَفْواً. وتوضيحه: أن السلام من أذكار الصلاة، إذ المُتَشَهِّدُ يُسَلِّمُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى عباد الله الصالحين، وهو من أسمائه تعالى، وإنما أَخَذَ حكمَ الكلام بكاف الخطاب، وإنما يتحقق معنى الخطاب فيه عند القصد، فاعتبرناه ذِكْراً عند النسيان، وكلاماً عند التعمد عَمَلاً بالشبهين. وقيل: إنْ كان على ظن أنَّ الصلاة تامة فغير مُفْسِد، وإنْ كان ناسياً للصلاة فَمُفْسِد.

(وَرَدُّه) أي رد السلام بلسانه عمداً كان، أو سهواً، لأنَّ رد السلام ـ سواء قال: عليك السلام، أو السلام عليك ـ ليس من الأذكار، بل هو كلام وخِطَاب، والكلام مُفْسِدٌ عَمْداً كان أو سَهْواً.

وفي «الظَهِيرَيَّة» : ولو سلم إنسان على مُصَلَ، فأشار إلى رد السلام برأسه (أو

(1)

أخرجه أبو داود في سننه 1/ 704، كتاب صلاة الاستسقاء (3)، باب من قال يركع ركعتين (9)، رقم (1194).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 383، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (5)، باب تحريم الكلام .. (7)، رقم (351 - 539).

(3)

سورة الأنفال، الآية:(33).

ص: 301

والأَنِينُ ونَحْوهُ مِمَّا له صَوْتٌ، والبُكَاءُ بِصَوْتٍ، إِلّا لأَمْرِ الآخِرَةِ، وَتَنَحْنُحٌ إلا بِعُذْرٍ، وتَشْمِيتُ عَاطِسٍ، وَجَوَابُ الكَلامِ وَلَوْ

===

بيده)

(1)

، أو بأصبعه لا تفسد صلاته. ولو طلب إنسان من المُصَلِّي شيئاً، فأَوْمَأَ برأسه، أو بيده بـ: لا أو بـ: نعم، لا تَفْسُدُ صلاته. ومثل ذلك في «خُلاصَةِ الفَتَاوى» ، وكذا في «شرح الكَنْز» عن «الغاية». وذكر صاحب «المَجْمَع» رد السلام باليد في مفسدات الصلاة. وفي «الخُلَاصة»: أن في الرد بالرأس أو اليد تَفْسُد صلاته. وفي «مواهب الرحمن» : أنَّ رَدَّ السلام بيده مكروه في الصلاة.

(و) يُفْسِدها (الأَنِينُ ونَحْوهُ مِمَّا له صَوْتٌ) كالتأوّه (والتأفيف والنَّفْخ المسموع، إلا إذا كان مريضاً لا يملك نفسه عن الأنين والتَّأَوُّه)

(2)

، لأن أنينه حينئذٍ كالعُطَاس والجُشَاء إذا حصل بهما حروف.

(و) يُفْسِدُها (البُكَاءُ بِصَوْتٍ إِلاّ لأَمْرِ الآخِرَةِ) هذا قيد في هذه المسألة والتي قبلها.

والحاصل: أن نحو الأَنين والبكاء بصوت: إن كان لغير أمر الآخرة بأن كان لوجع أو مصيبة تفسد الصلاة، لأن فيه إظهار التأسّف والجزع، فصار كأنه قال: أعينُوني. وإن كان لأمر الآخرة بأن كان لِخَوْف أو رجاء لا تفسد، لأنه كالدعاء والثناء. روى أبو داود عن مُطَرِّف، عن أبيه قال: «رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وفي صوته أزيز كأزيز الرَّحى

(3)

من البكاء». وفي البخاري: قال عبد الله بن شداد: «سمعت نشيج عمر رضي الله عنه وأنا في آخر الصفوف يقرأ: {إنما أَشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى الله}

(4)

». يقال نشج الباكي نشيجاً إذا غَصَّ بالبكاء في حلقه من غير انْتِحَاب، أي بنفس شديد.

(وَ) يفسدها (تَنَحْنُحٌ) حصل به حروف (إلا بِعُذْرٍ) بأن كان مُضْطَرّاً إليه لعدم إمكان الاحتراز عنه حينئذٍ. ولو تَنَحْنَحَ المصلي لتحسين صوته لا تفسد صلاته، قاله خَواهِرْ زَادَهْ. (و) يفسدها (تَشْمِيتُ عَاطِسٍ) بأن قال له: يرحمك الله، لأنه يقع في خطاب الناس، فصار ككلامهم. وقد سبق الحديث الدال عليه صريحاً.

(وَ) يفسدها (جَوَابُ الكَلَامِ) سواء كان خبراً أو غيره (وَلَوْ) كان الجواب

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاضرتين سقط من المطبوع.

(3)

الرّحى: الأداة التي يُطحن بها، وهي حجران مستديران يوضع أحدهما على الآخر، ويدار الأعلى على قطبٍ. المعجم الوسيط، ص: 335 مادة (رحى).

(4)

سورة يوسف، الآية:(86).

ص: 302

بالذِّكْرِ، وَالفَتْحُ إلّا لإِمَامِهِ، والقِرَاءة من مِصْحَفٍ،

===

(بالذِّكْرِ) نحو أن يقول: الحمد لله، جواباً لمن أخبره بما يسره.

أو: لا حول ولا قوَّة إلا بالله، جواباً لمن أخبره بما يَسُؤه. أو: سبحان الله، جواباً لمن أخبره بما يُتَعَجَّبُ منه. أو: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، جواباً لمن أخبره بموت أحد، ولا إله إلاَّ الله جواباً لمن قال له: هل مع الله إله آخر؟ وفي المسألة خلاف أبي يوسف رحمه الله. وأمَّا إنْ لم يُرِدْ جوابه، وأراد به إعلامه أنه في الصلاة لم تَفْسُدْ بالإجماع.

(وَ) يفسدها (الفَتْحُ) أي فتح المُصَلِّي على قاراء مصلَ أو غيره (إلاّ لإِمَامِهِ) لأن الفتح على غير إمامه تعليم من غير ضرورة، فكان ككلام النَّاس. وفي «المُحِيط»: ولو فتح على غير إمامه تُفْسُدُ إلا إذا عَنَى به التلاوة دون التعليم. وفي «مُنْيَة المُصَلِّي» : وإن فتح على إمامه بعد ما قرأ مقدار ما يجوز به الصلاة، أو بعد ما تَحَوَّل إلى آية أخرى تَفْسُدُ، والصحيح أنها لا تَفْسُدُ. ولو أخذ منه الإمام قيل: تفسد صلاته، والصحيح عدمه.

وفي «الأصل» و «الجامع الصغير» : إذا فتح المأموم على إمامه تَجوز الصلاة مطلقاً، لأن الفتح عمل يسير وتلاوة خفيفة. ثم إذا فتح المأموم على إمامه يَنْوِي الفتح. وقال بعض المشايخ: القراءة. والصحيح الأول، لأن الفتح مُرَخَّصٌ فيه، وقراءة المأموم مَنْهِيّ عنها. وينبغي للمقتدي أن لا يُعَجِّل بالفتح، وللإمام أن لا يُلْجِئَهم إليه، بل إن قرأ قدر الفرض يركع، وإن لم يقرأه

(1)

، ينتقل إلى آية أخرى.

ولو قَبِل الإمام من فاتح غير داخل معه في الصلاة، تَبْطُل صلاة الكل. وإنما جاز الفتح على إمامه لقول ابن عمر:«إن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة فقرأ فيها فَلُبِّسَ عليه، فَلَمَّا انصرف قال لأُبَيّ: أصلَّيت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك؟»

(2)

. رواه أبو داود. ولقول عليّ كرَّم الله وجهه: «إذا استطعمك الإمام فأطعمه، وهو مَلِيم» . أي مستحق للمَلامَة حيث أحوجه إلى الفتح.

(و) يفسدها (القِرَاءةُ من مُصْحَفٍ) وقال أبو يوسف ومحمد: يُكْرَه قراءة المصلّي من المصحف ولا تَفْسُد صلاته. لأن القراءة عبادة، والنظر في المصحف

(1)

في المطبوع: يركع، والمثبت من المخطوط.

(2)

في المطبوع: "فما منعك أن تفتح عليَّ". اهـ. وما أثبتناه من المخطوط وسنن أبي داود 1/ 559، كتاب الصلاة (2)، باب الفتح على الإمام في الصلاة (158، 159)، رقم (907). قال الخطابي: أراد به: ما منعك أن تفتح عليّ إذ رأيتني قد لُبِّسَ عليّ حاشية سنن أبي داود. فلو كان هذا اللفظ موجودًا في الحديث لما قال الخَطَّابي: أراد به

، والله أعلم.

ص: 303

والسُّجُودُ عَلَى نَجِسٍ، والدُّعَاءُ بِمَا يُسْأَلُ مِنَ النَّاسِ، والأَكْلُ، والشُّرْبُ، والعَمَلُ الكَثِيرُ: أي ما يَحْتَاجُ إلى اليَدَيْنِ،

===

عبادة أخرى انضمت إليها، لكن يُكْره لأنه فعل أهل الكتاب. وله أنّ حمله وتقليب أوراقه والنظر فيه عمل كثير، فعلى هذا لو كان موضوعاً بين يديه على شيء، ولم يحمله ولم يُقَلِّبْه لا تفسد. أو لأنها تَلَقُّن منه، فصار كما إذا تَلَقّنها من معلم، وهذا يوجب التسوية بين المحمول وغيره فتفسد بكل حال، وهو الصحيح. فيجوز صلاة من يحفظ القرآن إذا قرأ من مصحف من غير حمل.

(و) يفسدها (السُّجُودُ عَلَى نَجِسٍ) أي يَابس، وقال أبو يوسف: إن أعاده على طاهر، لا تفسد صلاته، كما لو ترك السجدة الثانية من الركعة الأولى وأعادها آخر الصلاة. ولهما: أنَّ السجدة جزء من الصلاة، فتفسد الصلاة بفسادها. وإنما لم تفسد الصلاة بتأخير السجدة، لأن الترتيب في أفعال الصلاة ليس بفرض عندنا، خلافاً لمالك والشافعيّ وزُفَر رحمهم الله. وفي «الظَّهِيرِيَّة»: ولو سجد على مكانِ نَجِسٍ ـ أي سهواً ـ ثم أعاد على مكان طاهر جازت صلاته، وإن تعمد فسدت.

(و) يفسدها (الدُّعَاءُ بِمَا يُسْأَلُ مِنَ النَّاسِ) نحو: اللهم زَوِّجْنِي فلانة، اللهم أَعطني ألف دينار. وهذا إنْ كان قبل ما قعد قدر التشهد، وإن كان بعده تمت صلاته، وخرج به منها. وقال الشافعيّ ومالك في رواية: لا تفسد.

(و) يفسدها (الأَكْلُ والشُّرْبُ) لأن كل واحد منهما عمل كثير عُرْفاً. ولا فرق في ذلك بين العَمْدِ والسهو، وإن كان بينهما فرق في الصوم، لأن حالة الصلاة مُذَكِّرَة لأنها على هيئة تخالف العادة، وحالة الصوم غير مُذَكِّرَة لأنها على هيئة توافق العادة، ولأن زمن الصوم يطول فَيَكْثُر النسيان، بخلاف زمن الصلاة.

وفي «المُحِيط» : ولو ابتلع شيئاً بين أسنانه لا تفسد صلاته إن كان (أقل من)

(1)

قدرِ حِمِّصَة، لأنه ليس بعمل كثير، ولعُسْر الاحتراز عنه ولصيرورته كريق فمه في عدم الإفساد لها، والصوم. ولو أكل سِمْسِمَة من خارج فسدت صلاته، لأنه عمل كثير. وعن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: لا تفسد. ولو كان في فمه عين سُكَّرَة فذابت ودخلت حلقه فسدت، ولو وجد حلاوتها على إثْر ابتلاعها لا تفسد.

(و) يفسدها (العَمَلُ الكَثِيرُ: أي ما يَحْتَاجُ إلى اليَدَيْنِ) عادة، وإنْ فُعِلَ بيد واحدة كالتعمُّم، والتقمُّص، والتسرول، والرمي عن القوس، وما يحتاج ليد واحدة قليل،

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في فتح القدير 1/ 359.

ص: 304

أو يَسْتَكْثِرُه المُصَلِّي، أو يَظُنُّ النَّاظِرُ أن عَامِلَهُ غَيْرُ مُصَلٍّ.

[فصل في مَكْرُوهَاتُ الصَّلاةِ]

وكُرِهَ كُلُّ هَيئَةٍ فيها تَرْكُ خُشُوعٍ، والتَّخَصُّرُ،

===

وإن فُعِل بيدين كحل السراويل ولُبْسِ القَلَنْسُوَة ونزعها ونزع اللِّجَام

(1)

(أو) ما (يَسْتَكْثِرُه المُصَلِّي) أي يعده كثيراً. وهذا أقرب الأقوال إلى دأب أبي حنيفة، فإن من دَأْبِهِ أنْ يُفَوِّض مثل هذا إلى رأي المُصَلِّي.

(أو) ما (يَظُنُّ النَّاظِرُ) من بعيد (أنَّ عَامِلَهُ غَيْرُ مُصَلَ) روى ذلك البَلْخِيّ عن أصحابنا. وفي «المحيط» : وهو الأحسن. قيل: وعليه العامة. وقيل: الثلاث المتواليات في ركن كثير، وما دونه قليل. فلو حكَّ ثلاثاً في ركن، يَرْفَعُ يده في كل مرة فسدت صلاته. و «أوْ» في كلام المصنف للتنويع لا للشك والتخيير.

(فصل في مَكْرُوهاتِ الصَّلَاةِ)

(وكُرِهَ كُلُ هَيْئَةٍ فيها تَرْكُ خُشُوعٍ) لقوله تعالى: {والَّذِينَ هم فِي صَلاتِهِم خَاشِعُون}

(2)

، ولقوله صلى الله عليه وسلم «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» رواه الحاكم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه. فَيُكْره العبث بالثوب، أو بالجسد، أو بالشعر، كتشبيك الأصابع وفرقعتها أي وغمزها أو مدها حتى تُصَوِّت. لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تُفَرْقِع أصابعك، وأنت في الصلاة» . رواه ابن ماجه عن الحارث، عن عليّ رضي الله عنه، لكنَّه معلولٌ بالحارث. وأما قول صاحب «الهداية»: لقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله كَرِهَ لكم ثلاثاً» . ذكر منها: «العبث في الصلاة» . فغير معروف، نعم روى إسماعيل بن عَيَّاش، عن عبد الله بن دِينَار مرفوعاً:«إن الله كَرِهَ لكم: العبثَ في الصلاة، والرَّفَثَ في الصيام، والضَّحِكَ في المقابر» . أخرجه أبو عثمان عُمْرُو بن بَحْر في كتاب «البَيَان والتَّبْيِين»

(3)

. لكن قال الذهبي: هو من منكرات إسماعيل بن عيَّاش.

(و) يُكْرَه (التَّخَصُّرُ) أي وضع اليد على الخَاصِرة. وقيل: التوكّؤ على المِخْصَرَة وهي: العصا. وقيل: أنْ لا يُتِمَّ الركوع والسجود. وذلك لقول أبي هريرة: «نهى

(1)

اللِّجَام: الحديدة في فم الفرس. المعجم الوسيط ص: 816، مادة (أَلْجَم).

(2)

سورة المؤمنون، الآية:(2).

(3)

هذا الاسم الذي اشتهر به الكتاب، وقد رجع عن هذه التسمية الأستاذ عبد السلام هارون رحمه الله وأثبت أن اسمه الصواب:"البيان والتَّبَيُّن". انظر "قطوف أدبية" ص 97. واستفدنا هذه الفائدة من تعليق الأستاذ الفاضل محمد عوّامة على "الكاشف" 1/ 168.

ص: 305

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُصَلِّي الرَّجل مُخْتَصِراً». وفي لفظ: «نهى عن الاخْتِصَار في الصلاة» . أخرجه الجماعة سوى ابن ماجه. وزاد ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» : قال ابن سيرين: «وهو أنْ يضع الرجلُ يده على خاصرته» . وفي رواية: «الاختصار راحة أهلِ النار»

(1)

. وأخرج أبو داود عن زِيَاد بن صُبَيْح الحَنَفِيّ قال: «صلّيت إلى جَنْب ابن عمر رضي الله عنهما، فوضعت يديّ على خاصرتي، فلمَّا صلّى قال: هذا الصَّلْب في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه» .

ويكره الالتفات بالعُنقِ بحيث لا يتحول الصدر، حتى لو تحول بطلت. لقول عائشة رضي الله عنها:«سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في الصلاة، فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» . رواه البخاري. ولقول أنس رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «إياك والالتفاتَ في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هَلَكَة، فإنْ كان ولا بُدّ، ففي التطوّع لا في الفريضة» . رواه الترمذي وصححه. ولقوله صلى الله عليه وسلم «إياكم والالتفات في الصلاة، فإن أحدكم يُنَاجي ربّه ما دام في الصلاة» . رواه الطّبَرَاني. ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا يزال الله مُقْبِلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يَلتَفِت، فإذا صَرَف وجهه انصرف عنه» . رواه أبو داود والنَّسائي. وفي الباب أحاديث في الصحيحين وغيرهما.

ولو لم يلتفت بعنقه، ولَحَظ بمؤخر عينه، لا يُكْرَه، «لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَلْحَظ في الصلاة يميناً وشمالاً، ولا يَلْوِي عنقه خلف ظهره» . رواه الترمذي والنَّسائي وغيرهما عن ابن عباس.

وروى أبو داود عن سَهْل بن الحَنْظَلِيَّة قال: «ثُوَّبَ

(2)

بالصلاة ـ يعني الصبح ـ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وهو ينظر إلى الشِّعْبِ. قال: وكان أرسل فارساً إلى الشِّعْبِ من أجل الحرس». قال النووي: إسناده صحيح. وأما قول صاحب «الهداية» : لأنه صلى الله عليه وسلم كان يُلَاحِظ أصحابه في صلاته بِمُؤْقِ عينه

(3)

. فغير معروف.

ويُكْرَه التَّمَطِّي ـ وهو التمدُّد والتثاؤب ـ فإن غلبه التثاؤب وضع كُمّه، أو ظاهر يده على فِيهِ لقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله يحب العُطَاس ويَكْرَه التثاؤب، فإذا تثاءب أحدكم

(1)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 287، كتاب الصلاة، باب كراهية التخصر في الصلاة. وفيه زيادة "الاختصار في الصلاة

".

(2)

ثَوَّب بالصلاة: أي دعا إلى إقامتها. المعجم الوسيط، ص: 102، مادة (ثَوّب).

(3)

مُؤق عينه: هو طرفها الذي يلي الأنف. المعجم الوسيط، ص: 27، مادة (أمْق).

ص: 306

وقَلْبُ الحَصَى لِيَسْجُدَ، إلَّا مَرَّةً

===

فَلْيَرُدَّه ما استطاع، ولا يقول: هاه، هاه، فإن ذلك من الشيطان يضحك منه»

(1)

. وفي رواية: «إذا تثاءب أحدكم فَلْيُمْسِك يده على فمه، فإن الشيطان يدخل في فيهِ»

(2)

. ويُكرَه تغميض العينين في الصلاة، ورفعهما إلى السماء لقوله صلى الله عليه وسلم «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، لَيَنْتَهِيَنَّ أو لَتُخْطَفَنَّ أبصارهم»

(3)

. ويُكرَه الشروع فيها مع مُدَافعة الخبث، فإن شغله قَطَعَ الصلاة. وإن مضى عليه أجزأته وأساء. ويُكْرَه التَّرَوُّحُ بالكُمِّ، وتفسد بالمِرْوَحَة على الصحيح.

ويُكْرَه الإقعاء وهو عند الطَّحاويّ: أن يقعد على أَلْيَتيه، ويَنْصِبَ فَخِذَيه، ويضم ركبتيه إلى صدره، ويضع يديه على الأرض. وعند الكرْخِيّ: أنْ ينصب قدميه، ويقعد على عقبيه، ويضع يديه على الأرض. والأول أصح تفسيراً، لأنه يُشْبِه إقعاء الكلب. لقول أبي هريرة:«نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نَقْرَةٍ كنَقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب» . رواه أحمد في «مسنده» . ولقول عائشة: «كان ـ تعني النبيّ صلى الله عليه وسلم ينهى عن عُقْبَة الشيطان، وأنْ يَفْتَرِش الرجل ذراعيه افتراش السَّبُع» . رواه البخاري، وعُقْبَة الشيطان: الإقعاء. ولقول أنس: قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم «إذا رفعت رأسك من السجود، فلا تُقْعِ كما يُقْعِي الكلب، ضع ألْيَتَيك بين قدميك، والْزِق ظهر قدميك بالأرض» . رواه ابن ماجه.

ويكره التَّرَبُّع بلا عذر، لأن فيه ترك سنة القعود فيها. وأما خارجها، فليس بمكروه لأن جُلَّ قعود النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كان التربع، وكذا عمر رضي الله عنه. ويُكْرَه التراوح

(4)

بين القدمين في الصلاة إلاَّ بعذر. وكذا التمايل على يمناه مرة، وعلى يسراه أخرى. ويُكْرَه أن يُصَلِّي وفي فِيهِ دراهم ونحوها، وإن كان لا يمنعه عن القراءة.

(و) كُرِهَ (قَلْبُ الحَصَى) أي تسويته (لِيَسْجُدَ) عليه (إلاَّ مَرَّةً) لِمَا في البخاري

(1)

أخرجه الترمذي في سننه 5/ 80، كتاب الأدب (41)، باب ما جاء إن الله يحب العطاس .. (7)، رقم (2747) بلفظ قريب.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 2293، كتاب الزهد والرقائق (53)، باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب (9)، رقم (2995).

(3)

صحيح البخاري (فتح الباري) 2/ 232، كتاب الأذان (10)، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة (92)(رقم (750).

(4)

التراوح: الاعتماد على إحدى القدمين مرة على الأخرى مرة، ليوصل الراحة إلى كل منها. النهاية: 2/ 274، بتصرف.

ص: 307

ومَسْحُ جَبْهَتهِ مِنَ التُّرابِ فِيهَا، والسُّجُودُ على كُوْرِ عِمَامَتِهِ، وَافْتِرَاشُ ذِرَاعَيهِ، وعَقْصُ شَعْرِهِ،

===

من حديث مُعَيْقِيب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يُسَوِّي التراب حيث يسجد: إنْ كنت فاعلاً فواحدة» . ولقول جابر بن عبد الله: «سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كل شيء، حتى سألته عن مسح الحصى فقال: واحدة، ولأن تمسك عنها خير لك من مئة ناقة، كلها سُود الحِدَق» ولقول أبي ذر: «سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى سألته عن مسح الحصى فقال: واحدة، أو دَعْ» رواه أحمد في «مسنده» ، وعبد الرزاق، وابن أبي شَيْبَة في «مصنفيهما» . ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا يَمْسَحِ الحصى، فإنَّ الرحمة تواجهه» . رواه أصحاب «السنن» .

(و) كُرِه (مَسْحُ جَبْهَتهِ مِنَ التُّرابِ فِيهَا) أي في الصلاة. وأمَّا بعد الفراغ منها، فلا يُكْرَه، بل يُسْتَحَبُّ كتماناً للعبادة، أو خوفاً من الرياء والسمعة. (و) كُرِهَ (السُّجُودُ على كَوْرِ عِمَامَتِهِ) أي دَوْرِها. وكذا ما في معناها من كل جزء ثوب متصل بالمصلي كالذَّيْل والكُم، لِمَا روى مسلم من حديث أنس، قال:«كنّا نُصَلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدّة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يُمَكِّن جبهته من الأرض، بسط ثوبه فسجد عليه» . ولِمَا روى الحافظ أبو القاسم تَمَّام في «فوائده» : عن ابن عمر: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسجد على كَوْر العِمَامة» . وهو إما محمول على الضرورة، وإما على بيان الجواز، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يُلازم على فعل المُكْروه. وروى ابن أبي شَيْبَة، عن ابن عباس رضي الله عنه:««أنه صلّى في ثوب واحد، يَتَّقِي بفُضُوله حرّ الأرض وبردها» .

(وَ) كُرِهَ (افْتِرَاشُ ذِرَاعَيْهِ) لما في «الصحيحين» من حديث عائشةَ رضي الله عنها: «وكان عليه الصلاة والسلام ينهى أنْ يفترش الرجل ذراعيه افتراش السَّبُعِ، وعن عُقْبَة الشيطان» . والعُقْبة: بضم فسكون أنْ يفترش قدميه ويجلس بألْيَتَيْه على عَقِبيه. ولقول أبي ذَرّ: «نهاني خليلي عن ثلاث: أنْ أنقر نقر الديك، وأنْ أُقْعِي إقعاء الكلب، وأنْ أفْتَرِش افتراش السَّبُع» . رواه أبو داود. وروى الإمام أبو حنيفة في «مسنده» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث: عن نَقْرَة كنَقْرَة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب» . وقد روى البيهقي: النهي عن الإقعاء، عن جماعة من الصحابة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

(و) كُرِهَ (عَقْصُ شَعْرِهِ) وهو أن يشد ضفيرته حول رأسه، كما يفعله النساء، أو

ص: 308

وسَدْلُ الثَّوْبِ وكَفُّهُ،

===

يجمع شعره، فيعقده في مؤخر رأسه. وإنما كُرِه لِمَا روى مسلم عن كُرَيْب مولى ابن عباس:«أنَّ ابن عباس رأى عبد الله بن الحارث يُصَلِّي ورأسه مَعْقُوص من ورائه. قال: فجعل يحله، فلما انصرف، أقبل على ابن عباس وقال: ما لك ورأسي؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما مَثَلُ هذا مثل الذي يُصَلِّي وهو مكتوف» . وفي «شرح مسلم» : قال العلماء: والحكمة في النهي عنه، أنَّ الشعر يسجد معه، ولهذا مثَّله بالذي يصلي وهو مكتوف. ولقول علي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تَعْقِص شعرك في الصلاة، فإنه كِفْل الشيطان»

(1)

. رواه عبد الرزاق. وعن أبي رافع قال: «نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُصَلِّيَ الرجل ورأسه معقوص» ، رواه أحمد وابن ماجه. وفي الباب أحاديث في «الصحيحين» وغيرهما.

(و) كُرِه (سَدْلُ الثَّوْبِ) وهو أنْ يُرْسِلَه من غير أن يضم جانبه. (و) كُرِهَ (كَفُّهُ) أي تشميره لِمَا روى أبو داود عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«أُمِرتُ أنْ أسجد» . وفي رواية: «أُمِر نبيكم أن يسجد على سبعة أعظم، ولا يَكُفُّ شعراً ولا ثوباً» .

ومن المكروهات تغطية أنفه وفمه، لقول أبي هريرة:«أنه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السدل، وأن يغطي الرجل فَاه» . رواه أبو داود، والحاكم وصححه. وأخرجه الترمذي مقتصراً على الفصل الأول. وأخرج ابن ماجه الفصل الثاني. وكان من عادة العرب التَّلَثُّم بالعمائم على الأفواه، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الصلاة، إلا أن يَعْرِضَ للمصلي تثاؤب فيغطي فمه عند ذلك، للحديث الذي جاء فيه.

ويُكْرَه الشروع فيها بحَضْرَة طعام يميل طبعه إليه، لقوله صلى الله عليه وسلم «لا صلاة بحَضْرَة الطعام، ولا وهو يدافعه الأَخْبَثَانِ» . رواه مسلم. وأما ما في أبي داود: «ولا تؤخر الصلاة لطعام ولا لغيره» . فمحمول على تأخيرها عن وقتها لصريح قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا وُضِعَ عَشاء أحدكم، وأُقِيمَت الصلاة، فابدؤا بالعَشاء ولا يَعْجَلْ حتى يَفْرُغ عنه» . رواه الشيخان، وفي رواية:«إذا قُدِّمَ العَشَاء فابدؤا به قبل أنْ تُصلُّوا صلاة المغرب، ولا تَعْجَلُوا عن عشائكم» .

وكذا تكره مع مدافعة الأَخْبَثَين لِمَا قدّمنا، ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُصَلِّي وهو حَاقِن حتى يتخفف». رواه أبو داود. ولقوله عليه الصلاة والسلام:«إذا أراد أحدكم الغائط، وأقيمت الصلاة فليبدأ به» . رواه ابن ماجه،

(1)

الكِفْل: الحَظُّ والنَّصيب. النهاية: 4/ 192.

ص: 309

وتَخْصِيصُ الإِمَامِ بِمَكَانٍ، لا إن قَامَ في المَسْجِد وسَجَدَ في الطَّاقِ.

والقِيَامُ خَلْفَ صَفٍّ وُجِدَ فِيهِ فُرْجَةٌ،

===

وفي رواية «الموطأ» ، والنَّسائي:«إذا أراد أحدكم الغائط، فليبدأ قبل الصلاة» .

ويُكْرَه سبق المأموم للإمام لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تُبَادِرُوني بالركوع والسجود» (عن معاوية)

(1)

رواه أبو داود، (والجماعة)

(2)

من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «أما يَخْشَى، أو أَلَا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه والإمام ساجد، أن يُحَوِّل الله رأسه رأس حمار، أو صورته صورة حمار» . ثم هذا فيما وُجِدَت المشاركة مع الإمام. وأما إذا لم تُوجد أصلاً تفسد صلاته، كما ذكره العَيْنِيّ في «شرح التُّحْفَة» .

(و) كُرِه (تَخْصِيصُ الإِمَامِ بِمَكَانٍ) بأن يكون وحده على مكان مرتفع، والقوم تحته. وقُدِّرَ بقامة الرجل، وقيل: بذراع، وقيل: بما يقع به الامتياز. وذلك لِمَا روى أبو داود: «أنَّ عمَّار بن ياسر أمَّ الناس بالمدائن، وهو على مكان مرتفع والناس أسفل منه، فتقدم حُذَيْفَة رضي الله عنه إليه، وأخذ بيده فاتَّبَعَه عَمَّار حتى أنزله حُذَيْفَة، فَلَمَّا فَرَغَ عمَّار من صلاته قال له حُذَيْفَة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أم الرجل القوم، فلا يقم في مكان أرفع من مكانهم؟ قال عمَّار: ولذلك اتَّبَعْتُك حين أخذت بيدي» . وفي ظاهر الرواية: يُكْرَه عكسه أيضاً. وروى الطَّحَاوي: عدم الكراهة.

وإنما قال: تخصيص الإمام، لأنه لو كان مع الإمام بعض القوم، لا يُكرَه على الصحيح. وكذا يُكْرَه أنْ يكون الإمام وحده قائماً في المحراب، لأن ذلك يشبه فعل أهل الكتاب حيث يَخُصُّون إمامهم بمكان على حدة. (لا إن قَامَ في المَسْجِد وسَجَدَ في الطَّاقِ) أي المحراب، فإنه لا يُكْره، لفوت التشبه بأهل الكتاب.

(و) كُرِه (القِيَامُ خَلْفَ صَفَ وُجِدَ فِيهِ فُرْجَةٌ) قال أحمد، والنَّخَعِي، والحَسَنُ بن صالح: لا تصح الصلاة. واختاره ابن المُنْذِر، لِمَا روى أبو داود، والترمذي وحسنه عن وَابِصَة بن مَعْبدَ:«أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلّي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة» . واستدل الجمهور بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بَكْرَة حين كبَّر وحده ثم التحق بالصف: «زَادَك الله حرصاً ولا تعد»

(3)

، ولم يأمره بالإعادة. وقالوا: والأمر بالإعادة في

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته، لموافقته لما في سنن أبي داود 1/ 411، كتاب الصلاة (2)، باب ما يؤمر به المأموم من اتباع الإمام (74)، رقم (619).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط والصواب إثباته.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 2/ 267، كتاب الأذان (10)، باب إِذا ركع دون الصف (114)، رقم (783).

ص: 310

وصُورَةُ حَيَوَانٍ في ثَوْبهِ ومَسجَدِهِ وجِهَتِهِ، غَيْرَ خَلْفُ وتَحْتُ، لا إنْ صَغُرَتْ جِدًّا، أو مُحِيَ رَأْسُهَا.

===

الحديث الآخر أَمْرُ نَدْب، فكرهت الصلاة.

(وصُورَةُ حَيَوَانٍ في ثَوْبِهِ ومَسجَدِهِ) بفتح الجيم أي في موضع سجوده (وجِهَتِهِ) أي أو في جهاته السِّت. (غَيْرَ خَلْفُ وتَحْتُ) مبنيان على الضم لقطعهما عن الإضافة كقوله تعالى: {لِلَّهِ الأَمْرُ من قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ}

(1)

أي خلفه أو تحته، لأن الكراهة لِعِلَّةِ التَّشَبُّه بعبادة الصورة، وذلك في غير ما لو كانت خلفه أو تحته. وقيد بالحيوان، لأن صورة الجماد والشجر في الثوب والمسجد لا يُكْره، وفي «الجامع»: إنْ كانت الصورة في موضع القيام والجلوس لا يُكْرَه، لأنه استهانة بها. وكذلك الصورة على الوِسَادة، إنْ كانت قائمة يُكرَه لأنه تعظيم لها، وإنْ كانت مفروشة لا يُكْره.

(لا إنْ صَغُرَتْ) صورة الحيوان (جِدّاً) بحيث لا تبدو للناظر على بُعْد إلا بَعْد تأمل ما. وكان على خاتم أبي هريرة ذبابتان. وعلى خاتم دانيال عليه السلام صورة أسد ولَبُؤَة وبينهما صَبِيّ يَلْحَسَانِهِ. كلما نظر إليهما أغَرّ ورقت عيناه، وذلك أن بُخْتَ نَصَّر قيل له: يولد مولود يكون هلاكك على يده، فجعل يقتل من يولد. فَلمَّا ولدت دانيال أُمُّهُ ألقته في غَيْضَة

(2)

رجاء أن يَسْلَم، فقَيَّض الله له أسداً يحفظه، ولَبُؤةَ تُرْضِعُه وهما يَلْحَسَانه. فأراد بهذا النَّقْشِ أنْ يحفظ مِنَّة الله عليه.

وكان لابن عباس كانون

(3)

محفوف بصور صغار.

(أو مُحِيَ رَأْسُهَا) لأَنَّ الحيوان الصغير والممحو الرأس، لم يُعْبَدَا من دون الله. والكراهة بعلة العبادة. وروى البخاريّ عن عائشة رضي الله عنها «أنها اتّخذت على سُهْوَة لها ستر فيه تماثيل فهتكه النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: فاتّخذت منه نُمْرُقَتَيْن فكانتا في البيت يجلس عليهما». زاد أحمد: «فلقد رأيته مُتَّكِئأ على إحداهما وفيها صورة» . وروى النَّسائي، وابن حِبَّان عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قال: «استأذن جبرائيل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ادخل. فقال: كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير؟ إمَّا أن تقطع رأسها أو تُجْعَل بساطاً يوطأ، فإنا معاشر الملائكة لا ندخل بيتاً فيه تصاوير» . وفي لفظ ابن حِبَّان: «إنْ كنت لا بد فاعلاً فاقطع رؤوسها، أو اقطعها وسائد» . أي اجعلها بساطاً.

(1)

سورة الروم، الآية:(4).

(2)

غَيْضَة: هي الشجر الملتفّ. النهاية: 3/ 402.

(3)

كانون: المَوْقِد. المعجم الوسيط ص: 801.

ص: 311

وفي ثِيَاب البِذْلَةِ، وحَسْرُ رَأْسِهِ إلَّا تَذَلُّلًا، وعَدُّ ما يَقْرَأُ، وغَلْقُ بَابِ المَسْجِدِ،

===

والسُّهوة: بالضم كالصُّفَّة تكون بين البيوت. والنُّمْرُقة: وسادة صغيرة، ومنه قوله تعالى:{ونَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ}

(1)

. والوسائد جمع وسادة وهو ما يتوسد به كالمِخَدَّة. ولحديث جبرائيل عليه السلام: «إنَّا لا ندخل بيتاً فيه كلب أو صورة» . فالمراد بالملائكة في هذا الحديث ملائكة الوحي، أو ملائكة الرحمة. وأمّا الحفظة فلا يفارقون إلاَّ عند الخلاء وخلوة الرجل بأهله.

(و) كرهت الصلاة (في ثِيَاب البِذْلَةِ) بكسر الموحدة، أي ما يُمْتَهَنُ من الثياب. ويسمى ثوب الخدمة، وقيل: ما يُلْبَسُ في البيت ولا يُذْهَبُ به إلى الكُبَرَاء. ويستحب للرجل أن يصلي في ثلاثة أثواب: قميصٌ، وإزارٌ، وعِمَامةٌ. والمرأة أن تصلي في قميص وخمار ومِقْنَعَة

(2)

.

(و) كُرِهَ للمُصَلِّي (حَسْرُ رَأْسِهِ) أي كشفه لِمَا في ذلك من ترك الوقار (إلاَّ تَذَلُّلاً) لِمَا فيه من الخشوع والانكسار.

(و) كُرِهَ (عَدُّ ما يَقْرَأُ) من الآيات والسور والتسبيحات بالأصابع أو بِسُبْحَة يُمسكها بيده، لأن ذلك ليس من عمل الصلاة. وأمَّا عَدُّه بقلبه، أو بضم أنامله في موضعها فلا يُكْرَه. ولو عَدَّ بلسانه تفسد اتفاقاً. أمَّا عَدُّ التسبيح خارج الصلاة فلا يُكْره بل يُسْتَحَبُّ. لِمَا ورد:«أنه عليه الصلاة والسلام كان يَعْقِدُ بالأنامل» . ولِمَا ورد من التسبيح ونحوه ثلاثاً وثلاثين، وهو لا يُمْكِنُ بدون العَدِّ، إمّا باليد أو بالسُّبْحَة ونحوها من النَّواة والحصى كما ورد عن بعض الصحابيات. وقد قال الجُنَيْد: السُّبْحَة سوط الشيطان. وقيل: هو بدعة لقول بعض السلف: نُذْنِبُ ولا نحصي، ونسبح ونحصي

(و) كُرِهَ (غَلْقُ بَابِ المَسْجِدِ) في غير أوان الصلاة، لأنه يُشْبِه منع الصلاة وهو حرام. قال تعالى:{ومَنْ أَظلم مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أنْ يُذْكَرَ فيها اسْمُه}

(3)

وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت أو صلَّى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار»

(4)

. وقيل: لا بأس في زماننا صيانة لِمَا في المسجد من الأمتعة.

(1)

سورة الغاشية، الآية:(15).

(2)

مِقْنَعة: ما تغطي به المرأَة رأسها. المعجم الوسيط ص: 763، مادة (قنع).

(3)

سورة البقرة، الآية:(114).

(4)

أخرجه النسائي في سننه 1/ 308 - 309، كتاب الصلاة (64)، باب إباحة الصلاة في الساعات كلها بمكة (41)، رقم (584).

ص: 312

والوَطْئُ والحَدَثُ فَوْقَهُ، لا فَوْقَ بَيْتٍ فِيهِ مَسْجِدٌ، ولا تَزْيِينُهُ،

===

(و) كُرِهَ كراهة التحريم (الوَطْاءُ) أي الجماع (والحَدَثُ) أي ما يخرج من السبيلين عمداً من البول والغائط والمنيّ والمَذْي

(1)

، كذا قاله الشارح. والأظهر أنْ يُقَال: ما يجعله متنجساً، ليشمل القيء والدم ونحوهما، وليخرج الريح والنوم وأمثالهما. (فَوْقَهُ) لأن علو المسجد له حكمه. ولهذا صح الاقتداء منه بمن في المسجد، ولم يبطل الاعتكاف بالصعود إليه. وفي معنى السطح، فوق جدار المسجد.

(لا) يكرهان (فَوْقَ بَيْتٍ فِيهِ مَسْجِدٌ) أي موضع أُعِدَّ للصلاةِ، لأنه لا يأخذ حكم المسجد. ولهذا لا يصح الاعتكاف فيه إلاَّ للنساء. والتقييد بالفوق للمشاكلة، وإلاّ فهما لا يُكْرَهَان في البيت الذي فيه مسجد، فكيف فوقه. بل الظاهر أنهما لا يُكْرَهان في مسجد البيت أيضاً، فإنه ليس بمسجد حتى جاز بيعه. فلم يكن له حرمة المسجد كما في «الكافي». وفي «الخُلَاصة»: يُنْدَبُ لكل مسلم أن يتخذ مسجداً في بيته يصلي فيه النوافل والسنن، لكن ليس له حكم المسجد.

(تطور بناء المسجد الحرام)

(ولا تَزْيِينُهُ) أي ولا يُكْرَه تزيين المسجد ونَقْشُهِ بالجَصِّ والسَّاج

(2)

وماء الذهب. وقيل: يُكْرَه، لقوله عليه الصلاة والسلام:«إن من أشراط الساعة أن تُزَيَّنَ المساجد» . قلنا: محمل الكراهة: التكلُّف بدقائق النقوش، خصوصاً في جانب المحراب للافتخار والكبرياء والسمعة والرياء. أو التزيين مع ترك الصلاة، بدليل آخِرِ الحديث:«قلوبهم خاوية من الإيمان» . وتمام أحكامه مذكورة في باب المسجد من «قاضيخان» .

وقيل: يُسْتَحَبُّ لتزيين عثمان رضي الله عنه مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك أنه عليه الصلاة والسلام بنى مسجداً بالْلَّبِنِ، وسَقَفَهُ بالجريد، وجعل عُمُدَه خشب النخل، وجعل له ثلاثة أبواب: باباً في مؤخره، وباباً يقال له: باب الرحمة، وباباً يدخل منه. فَلَمَّا كان أيام عمر رضي الله عنه، زاد فيه وبناه على بنائه الأول، ثم غيَّره عثمان

(1)

المَذْي: تقدّم شرحها ص: 204، التعليقة رقم:(2).

(2)

السَّاج: ضرب من الشجر، يعظم جدًّا، ويذهب طولًا وعرضًا، وله ورق كبير. المعجم الوسيط ص: 460، مادة (ساج).

ص: 313

ولا صَلَاتُهُ إلى ظَهْرِ مَنْ لا يُصَلِّي.

وقَتْلُ الحَيَّةِ والعَقْرَبِ فِيهَا

===

رضي الله عنه، وزاد فيه كثيراً وبنى جُدُرَهُ بالحجارة المنقوشة والفضة، وجعل عُمُدَه حجارة منقوشة. ثم لَمَّا كان وليد بن عبد الملك، وكان عمر بن عبد العزيز على المدينة من قِبَله، وَسَّعه ببيوت نسائه صلى الله عليه وسلم ثم بناه المَهْدِيّ سنة ستين ومئة، ثم زاد فيه المَأْمُون، وأتقن بناءه سنة ثنتين ومئتين. قال السُّهَيْلِيّ: وهو على حاله إلى الآن.

(ولا) تكره (صَلَاتُهُ إلى ظَهْرِ مَنْ لا يُصَلِّي) وإن كان يتحدث، لِمَا روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه»: عن وَكِيع، عن هِشَام بن الغَازِي، عن نَافِع أنه قال:«كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سواري المسجد قال لي: وَلِّنِي ظهرك» .

وأما ما روى البَزّار عن عليّ رضي الله عنه: «أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يصلّي إلى رجل، فأمره أنْ يُعِيدَ الصلاة» . فواقِعَة حال لا تستلزم كون وجهه إلى ظهره لجواز كونه مستقبله، فأمره بالإعادة لدفع الكراهة. قال البخاري في «صحيحه»: «كَرِه عثمان رضي الله عنه استقبال الرجل في الصلاة. قال: وهذا إذا اشتغل

(1)

به. فإن لم يشتغل به، فقد قال زيد بن ثابت:«ما باليت أن الرجل لا يقطع صلاة الرجل» .

وأمّا حديث النهي عن الصلاة خلف النائم والمتحدث، فرواه أبو داود. إلاَّ أنَّ النَّوَوِي قال: اتفقوا على ضعفه. قلت: وقد رواه ابن ماجه، عن أبي أمامة، ولفظه:«نهى أن يصلّي خلف المتحدث والنائم»

(2)

. ولا يبعد أن يترقى به عن الضعْفِ إلى الحَسَنِ. ووجه الكراهة ظاهر أيضاً لشغل الخاطر، خصوصاً خلف المتحدث (والنائم)، وكذا لا يكره إذا كان متوجِّهاً إلى شمع، أو سراج موقَدٍ، لأنهم لا يعبدونها كذلك، بل إذا كانت مُضْرَمة. وقيل: يكره. كما لو كان بين يديه كانون

(3)

فيه جَمْرة أو نار موقدة.

(و) لا يكره (قَتْلُ الحَيَّةِ والعَقْرَبِ فِيهَا) أي في الصلاة، لِمَا روى أصحاب «السنن الأربعة» ، وقال الترمذي: حسن صحيح. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقتلوا الأَسْوَدَيْنِ في الصلاة: الحيَّة والعقرب» . وفي «المَبْسُوطِ» : الأظهر أن لا يُفْصَّلُ في قتلهما بين الفعل الكثير والقليل، لأنه رخصة كالمشي والتَّوَضُّاءِ في سبق

(1)

في المخطوط: استقبل، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في البخاري تعليقًا (فتح

الباري) 1/ 586 - 587، كتاب الصلاة (8)، باب استقبال الرجل صاحبه أو غيره في صلاته وهو

يصلي (102).

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(3)

تقدم شرحها ص: 311، التعليقة رقم:(3).

ص: 314

ويَأْثَمُ بالمُرُورِ أمَامَ المُصلِّي في مَسْجِدٍ صَغِيرٍ، وأمَّا فِي غَيْرِه، فَفِيمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ بَصَرُهُ، نَاظِرًا في مَسْجِدهِ، وَحَاذَى الأَعْضَاءُ الأَعْضَاءَ، إِنْ صلَّى عَلَى دُكَّانٍ،

===

الحدث. قالوا: وينبغي أن لا يقتل الحية البيضاء التي تمشي مستوية، لأنها من الجان. وقال الطحاويّ: لا بأس بقتل الكل، لأنه عليه الصلاة والسلام عاهد الجن أن لا يدخلوا بيوت أمّته ولا يُظْهِرُوا أنفسهم، فإن نقضوا عهدهم، فلا حُرْمة لهم. والأَوْلَى في غير الصلاة أن يُنْذِرَ الحيَّة ويقول: ارجعي بإذن الله، أو خَلِّي طريق المسلمين، فإنْ أَبَتْ قتلها.

(ويَأْثَمُ) المار (بالمُرُورِ أمَامَ المُصَلِّي) أي قُدَّامه وبين يديه. لِمَا في «الصحيحين» عن أبي النَّضْر، عن بِشْر بن سعيد:«أنّ زيد بن خالد الجُهَنِيِّ أرسله إلى أبي جُهَيْم يسأله: ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المار بين يدي المصلِّي؟ فقال أبو جُهَيْم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو يَعْلَمُ المارّ بين يدي المصلِّي ماذا عليه من الإثم؟ لكان أنْ يقف أربعين، خيراً له من أن يمر بين يديه» . قال أبو نَضْر: لا أدري قال أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة». وفي رواية البَزَّار في «مسنده»:«لكان أن يقوم أربعين خريفاً، خيراً له من أنْ يمرَّ بين يديه» .

(في مَسْجِدٍ صَغِيرٍ) في «شرح الوقاية» : إعلم أن الصلاة إنْ كانت في مسجد صغير، (فالمرور أمام المصلي)

(1)

حيث كان، يُوجِب الإثم، لأن المسجد الصغير مكان واحد، فأمام المصلي حيث كان، في حكم موضع سجوده.

(وأمَّا فِي غَيْرِه) سواء كان مسجداً كبيراً أو صحراء (فَفِيمَا) أي فيأثم بأن يمر فيما (يَنْتَهِي إِلَيْهِ بَصَرُهُ) أي بصر المصلي حال كونه (نَاظِراً في مَسْجِدهِ) أي موضع سجوده. وبه قال فخر الإسلام تَبَعاً لبعض المشايخ، ومختار شمس الأئمة، وشيخ الإسلام، وقاضيخان: أن الموضع الذي يُكْره المرور منه بين يدي المصلِّي، موضع سجوده. ولا يُكْرَه ما وراءه، وهو الأظهر، لأن ذلك القدر موضع صلاته دون ما وراءه. وفي تحريم ما وراءه تضييق على المارة، وبه قالت الأئمة.

(وَحَاذَى الأَعْضَاء الأَعْضَاءَ إِنْ صلَّى عَلَى دُكَّانٍ) ومر الآخر أمامه تحت الدُّكَّان

(2)

، لأنه إذا لم يُحَاذِ بأن كان ارتفاع الدُّكَّان بقدر قامة المار يعتبر ذلك سُتْرَة. وهذا الذي ذكره من اشتراط المحاذاة، إنما هو على ما قال فخر الإسلام، لا على ما

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(2)

الدُّكّان: سبق شرحها ص 291، التعليقة رقم (1).

ص: 315

إنْ لَمْ يَكُنْ لِلمُصَلِّي سُتْرَةٌ بِمِقْدارِ ذِرَاعٍ وغِلَظِ أُصْبَعٍ، تُغْرَزُ حَذْوَ أحَدِ حَاجِبَيهِ بِقُرْبِهِ.

===

اختاره شمس الأئمة، وبعض الأعلام.

ثم هذا كله (إنْ لَمْ يَكُنْ لِلمُصَلِّي سُتْرَةٌ) أي خَشَب، وأقلها أنْ يكون (بِمِقْدارِ ذِرَاعٍ وغِلَظِ أُصْبَعٍ) لِمَا روى مسلم عن طَلْحَة بن عُبَيْد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جعلت بين يديك مثل مُؤْخِرةَ الرَّحْلِ

(1)

، فلا يَضُرُّك من مرَّ بين يديك». وفي لفظ (له)

(2)

وللترمذي: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مُؤْخِرَة الرَّحل فَلْيُصَلِّ، ولا يُبَالِ من مر وراء ذلك» . وروى صاحب السنن: أن آخِرَة الرَّحْل: ذراع فما فوقها.

ولقوله عليه الصلاة والسلام: «ليستتر أحدكم في صلاته ولو بسهم» . رواه البُخَارِي في «تاريخه الكبير» . ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا صَلَّى أحدكم فليجعل تِلْقَاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلْيَنْصِب عصاً، فإن لم يكن عصاً، فَلْيَخُطَّ خطاً، ثم لا يضره ما مرَّ أمامه» . رواه أبو داود، وابن ماجه. قال النووي: قال الحُفَّاظُ: هو ضعيف، لكن قال البيهقي: ولا بأس بالعمل بهذا الحديث في هذا الحكم إن شاء الله سبحانه، وهذا الذي اختاره المختار، انتهى.

ويؤيده: أن في الباب أحاديث صِحَاحاً بألفاظ مختلفة المَبنَى، متفقة المعنى. وأما قول صاحب «الهداية»: لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا صلّى أحدكم في الصحراء فليجعل بين يديه سُتْرَة» . فقوله: في الصحراء، غير معروف.

(تُغْرَزُ) لتبدو للناظر (حَذْوَ أحَدِ حَاجِبَيْهِ) الأيمن أو الأيسر. لما روى أبو داود بسند ضعيف: عن المِقْدَاد بن الأَسود قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي إلى عُودٍ ولا عمود ولا شجرة إلاَّ جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يَصْمُدُ إليه صَمْداً» . أي لا يقابله مستوياً، بل يميل عنه. (بِقُرْبِهِ) لما روى أبو داود والنَّسائي بإسناد صحيح، عن سهل بن أبي حَثْمَة

(3)

: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلّى أحدكم إلى سُتْرة، فَلْيَدْنُ

(1)

مُؤْخِرَة الرَّحْلِ: هي الخشبة التي يَسْتَند إليها الرَّاكب من كُور البعير. النهاية: 1/ 29. والكُور: هو رَحْل الناقة بأَداته، وهو كالسَّرْج وآلته للفرس. النهاية: 4/ 208.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته، وذلك لوجود هذه الرواية في صحيح مسلم 1/ 358 كتاب الصلاة (4)، باب سترة المصلي (47)، رقم (241 - 499).

(3)

في المخطوط: سهل بن أبي خَيْثَمَة، والمثبت من المطبوع وهو الصواب، لموافقته لما في سنن أَبي داود 1/ 358، كتاب الصلاة (2)، باب الدُّنو من السترة (106)، رقم (695) ولما في سنن النَّسائي 2/ 395، كتاب القِبْلَةَ (9)، باب الأمر بالدنو من السُّتْرة (5)، رقم (747).

ص: 316

ويَكْفِي سُتْرَةُ الإِمَامٍ، وجَازَ تَرْكُها عِنْدَ عَدَمِ المُرُورِ وَعَدَمِ الطَّرِيقِ.

ويَدْرَأُ بالتَّسْبِيحِ والإشَارَةِ إنْ عَدِمَ سُتْرَةً، أو مَرّ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا.

===

منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته».

(ويَكْفِي سُتْرَةُ الإِمَامِ) أي تجزي عن سُتْرة المأموم. لِمَا في «الصحيحين» عن أبي جُحَيْفة: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بهم بالبطحاء وبين يديه عَنَزَةٌ، والمرأة والحمار يمرون من ورائها، ولم يأمر من صلّى خلفه باتخاذ سُتْرة» . والعَنَزَة: عصاً صغيرة. وأما قول صاحب «الهداية» : لأنه عليه الصلاة والسلام صلى ببَطْحَاء مكة، ولم يكن للقوم سُتْرَة. فغير معروف بهذا اللفظ.

(وجَازَ تَرْكُها) أي ترك السُّتْرَة إذا عَدِمَ الداعي إليها. وذلك (عِنْدَ عَدَمِ المُرُورِ) أي عَدم ظنّه (وَعَدَمِ الطَّرِيقِ). لِمَا روى أبو داود من حديث فضل بن عباس قال: «أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية ومعه العباس، فصلَّى في صحراء ليس بين يديه سُتْرة، وحمارةٌ وكلبةٌ تَعْبَثَانِ

(1)

بين يديه، فما بَالَى ذلك».

(ويَدْرَأُ) أي يدفع الرجل المار بين يديه (بالتَّسْبِيحِ) أي يقول: سبحان الله (والإشَارَةِ) بيده أو كُمِّهِ (إنْ عَدِمَ سُتْرَةً، أو مَرّ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا) لِمَا في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «مَنْ نابه شيء في صلاته فليُسَبِّح، فإنه إذا سَبَّح التَفَت إليه، وإنما التصفيق للنساء» .

وروى ابن ماجه عن أم سَلَمَة ـ زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي في حُجْرَة أم سَلَمَة، فمر بين يديه عبد الله أو عمر بن أبي سَلَمَة

(2)

فقال بيده ـ أي أشار بها ـ فرجع، فمرت زَيْنَبُ بنت أم سَلَمَة (فقال)

(3)

بيده، فمضت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هنّ أغلب

(4)

». ولقوله صلى الله عليه وسلم «إذا كان أحدكم يصلي، فلا يَدَعْ أحداً يمر بين يديه، وليدرأ ما استطاع، فإن أبَى، فليقاتله فإنما هو شيطان»

(5)

. أي يبالغ

(1)

تعبثان: من العبث وهو اللعب. النهاية 3/ 169.

(2)

في المخطوط: فمر بين يديه عبد الله بن عمرو أو عمرو بن سَلَمة. والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في سنن ابن ماجه 1/ 305، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها (5)، باب ما يقطع الصلاة (38)، رقم (948).

(3)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(4)

هن أغلب: أي النساء أغلب في المخالفة والمعصية. فلذلك امتنع الغلام عن المرور ومضت الجارية.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 362، كتاب الصلاة (4)، باب منع المارّ بين يدي المصلي (48)، رقم (258 - 505).

ص: 317

‌فَصْل في الوِتْرِ والنَّوَافِلِ

الوِتْرُ ثَلاثُ رَكَعَاتٍ وَجَبَ بِسَلامٍ

===

في دفعه. ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا تُصَلُّوا إلا إلى سُتْرة، ولا يَدَعْ المُصَلِّي أحداً يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله، فإن معه القرين» . رواه مسلم.

وأمَّا المرأة فلا تَدْرأُ بالتسبيح بل بالتصفيق، فإنّ في صوتها فتنة. وكيفية تصفيقها: أنْ تضرب بظهور أصابعها اليُمْنَى على صفحة الكف اليُسْرَى.

واعلم أنه لا تفسد الصلاة في مرور شيء في موضع سجوده، لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يقطع الصلاة مرور شيء»

(1)

. ورُوِي: «وادْرَؤوا ما استطعتم، فإنَّما هو شيطان» . رواه أبو داود. وأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ، عن سالم بن عبد الله عن أبيه:«أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه، قالوا: لا يقطع صلاةَ المسلم شيءٌ، وادْرَؤوا ما استطعتم» . ووَقَفَه مالك على عبد الله بن سالم، والبخاري صحّحه عن الزهريّ. ولقول عائشة:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وأنا مُعْتَرِضَةٌ بين يديه كاعتراض الجنازة» . رواه الشيخان. وفي لفظ مسلم عن عُرْوة، عن عائشة أنها قالت:«ما يقطع الصلاة؟ قال: قلنا: المرأة والحمار. فقالت: إنَّ المرأة لدابة سوء؟ ولقد رأيتني بين يديّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِضَةٌ كاعتراض الجنازة وهو يُصَلِّي» .

فصلٌ في الوِتْرِ والنَّوَافلِ

(الوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَجَبَ بِسَلامٍ) أما وجوبه، فعند أبي حنيفة في آخر أقواله. وفي «المحيط»: وهو الصحيح. وفي «الخَانِيَّة» : وهو الأصحُّ. وعن أبي حنيفة أنه فرضٌ، ـ أي عملي ـ فلا تَنَافي. وهو رواية حمَّاد بن زيد وبها أخذ زُفَر. وعنه

(2)

: أنّه سُنَّة. فيحتمل أنه أراد ثبوته بالسُّنَّة، أو سنَّة مؤكّدة تَقْرُب إلى الوجوب، وهو قول أبي يوسف ومحمد وأكثر أهل العلم، لقوله عليه الصلاة والسلام للأعرابيّ:«خمس صلوات كَتَبَهُنَّ الله عليك، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلاَّ أن تَطَّوَّعَ» . ولِمَا في «الصحيحين» عن ابن عمر: «أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أوتر على البعير» . وأُجِيبَ: بأنّ حديث

(1)

رواه البخاري تعليقًا في صحيحه (فتح الباري) 1/ 588، كتاب الصلاة (8)، باب من قال: لا يقطع

(105).

(2)

أي عن أبي حنيفة.

ص: 318

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الأَعرابيّ كان قبل وجوب الوتر. قال الطحاوي: ويُعَارِضُ حديث (الوتر على البعير حديث)

(1)

حَنْظَلَةَ بن أبي سُفْيَان، عن نَافِعٍ، عن ابن عمرَ:«أنه كان يُصلِّي على راحلته، ويوتر بالأرض، ويَزْعُمُ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك» . وروى مسلم من حديث أبي سعيد: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَوْتِرُوا قبل أن تُصْبِحُوا» . وفي لفظ له عن ابن عمر مرفوعاً: «بادروا الصبح بالوتر» . والأمر للوجوب. وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام: «الوتر حق على كل مسلم» . رواه أبو داود، وقال الحاكم: هو على شرط الشيخين. وفي «الصحيحين» : «اجْعَلُوا آخر صلاتكم بالليل وِتْراً» .

وأمَّا كونه بسلام بعد الثلاث، فلِمَا في «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة. يُصَلِّي أربعاً، فلا تَسْأَل عن حُسنِهنَّ وطولِهِنَّ (ثمَّ يُصَلّي أَربعاً، فلا تسأل عن حُسنهنَّ وطولهنّ)

(2)

، ثم يصلّي ثلاثاً». ولو كان صلى الله عليه وسلم يَفْصِلُ في الوتر بين الثلاث بسلام لقالت: ثم يُصلِّي ثنتين وواحدة. وروى النَّسائِي والحَاكِمُ وقال: على شرط البخاري ومسلم، عن عائشة قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُسَلِّمُ في الركعتين الأُولَيَيْنِ من الوتر» . وروى الطَّحاوي عن عُقْبة بن مُسْلِم قال: «سألت عبد الله بن عمر عن الوتر فقال: أتعرف وتر النهار؟ قلت: نعم، صلاة المغرب. قال: صدقت وأحسنت» . وحَكَى الحَسَنُ البَصْرِي إجماع المسلمين على الثلاث. كما رواه أبو بكر بن أبي شَيْبَة، عن حَفْص بن عمر، عن الحَسَنِ قال: «أجمع المسلمون على أن الوتر (ثلاث)

(3)

لا يُسَلَّمُ إلاَّ في آخرهن».

وأمَّا ما رُوِيَ عن ابن عمر: «أن رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح، فصلّ ركعة توتر لك ما صليت»

(4)

. وفي رواية: «فأوتر بواحدة» . قال الطَّحَاوِي: معناه: صل ركعة مع ثنتين قبلها. ولنا: ما في الطَّحَاوي أيضاً من رواية سَعْد بن هِشَامٍ، عن عائشة:«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يُسَلِّمُ في ركعتي الوتر» ، ومن رواية عَمْرَة بنت عبد الرّحْمن، عن عائشة: «أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُوتِرُ

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 2/ 477، كتاب الوتر (14)، باب ما جاء في الوتر (1)، رقم (990).

ص: 319

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

بثلاثٍ: يقرأ في أول ركعة: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ} ، وفي الثانية:{قُلْ يا أيُّها الكَافِرُونَ} ، وفي الثالثة:{قُلْ هُوَ اللهُ} والمعوِّذتين». فوافقت عَمْرةُ سعداً. وزاد عليها: «إنْ كان بسلام واحد» . وهكذا فيه عن ابن عباس وعِمْران بن حُصَيْن، إلاَّ أنهما لم يَذْكُرَا المعوِّذتين.

وروى الدَّارَقُطْنِيّ وغيره بأسانيد ضعيفة يصير مجموعها حسناً، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وتر الليل ثلاث كوتر النهار: صلاة المغرب» . وروى ابن عبد البر، عن أبي سعيد:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن البُتَيْراء أنْ يصلّي الرجل واحدة يُوتِر بها» . وذكره عبد الحقّ في «أحكامه» ، وذكر أنَّ في سنده ضعفاً، لكن يَعْضُدُه ما روى محمد بن الحسن في «مُوَطَّئِه» ، عن يعقوب بن إبراهيم: أخبرنا (حُصَين بن) إبراهيم، عن ابن مسعود

(1)

أنه قال: «ما أَجْزَأَتْ ركعةٌ قط» . وروى الحاكم في «المُسْتَدْرَكِ» عن حبيب المُعلِّم قال: «قيل للحسن: إنَّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يُسَلِّمُ في الركعتين من الوتر. فقال: كان عمر أفْقَهَ منه، وكان ينهض في الثانية بالتكبير، أي لا بنيَّةٍ مُجَدَّدَة» .

وعن عائشة: «أنه عليه الصلاة والسلام كان يوتر بثلاث لا يفصل بينها» . رواه النَّسائي وأحمد. ولفظ أحمد: «كان لا يُسَلِّمُ في ركعتي الوتر» . قال النووي: إسناده حسن. قال: ورواه البيهقيّ في «السنن الكبير» بإسناد صحيح.

وأما ما رواه أحمد في «مسنده» ، والحاكم في «مستدركه»: أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ثلاث هُنَّ عليَّ فرائض، وهي لكم تطوع: الوِتْرُ، والنَّحْرُ، وصلاة الضحى» ، فمعارَض بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم «إن الله أمركم بصلاة هي خير لكم من حُمْرِ النَّعَم

(2)

: وهي الوِتْرُ، فجعلها لكم فيما بين العِشَاء إلى طلوع الفجر». رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث خَارِجَة بن حُذَافة. قال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه لتَفَرُّدِ التابعي عن الصحابي. وقول الترمذي: غريب لا ينافي الصحة لِمَا عرفت. ولذا يقول هو مراراً: حسن صحيح غريب.

ورواه إسحاق بن رَاهُويه في «مسنده» من حديث عَمْرو بن العاص، وعُقْبَة بن

(1)

في المطبوع: روى محمد بن الحسن في "موطئه"، عن يعقوب بن إِبراهيم: عن ابن مسعود ..... والمثبت من المخطوط، وما بين الحاصرتين من "موطأ الإمام مالك برواية الإمام محمد" ص 96، باب السلام في الوتر، حديث رقم (264).

(2)

حُمْر النَّعم: كرائمها، وهو مَثَلٌ في كل نفيس. المصباح المنير ص 58، مادة (حُمْر).

ص: 320

وقَبْلَ رُكُوعِ الثَّالِثَةِ يُكَبِّرُ رَافعًا يَدَيْهِ، ثُمَّ يَقْنُتُ فِيهِ

===

عامر، ولفظه:«إن الله زادَكم صلاة، هي لكم خير من حُمْرِ النَّعَمِ: الوتر، وهي لكم فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر» .

وروى الدَّارَقُطْنِي، عن ابن عباس:«خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَبْشِراً فقال: إن الله زادكم صلاة وهي الوتر» . وزاد عن ابن عمر قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحْمَرّاً وجهُهُ يجر رداءه، فصعد المنبر فحَمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيُّها الناس، إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم: وهي الوتر» . وقوله صلى الله عليه وسلم «الوتر حق واجب، فمن أحبَّ أن يُوتِرَ بخمس فليوتر، ومن أحبَّ أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحبَّ أن يوتر بواحدة فليوتر» . رواه أبو داود وابن ماجه والنَّسائي. والحديث في الجملة يدل على وجوب الوتر، فلا ينافيه انعقاد الإجماع على عدم وجوب الخمس. وتجويزُ بعضٍ الإيتارَ بواحدة. وفي رواية لأبي داود:«الوتر حقٌّ، فمن لم يوتر فليس منّا» .

وأمَّا ما أخرجه الحاكم، والبيهقي بسند صحيح: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم هي خير لكم من حُمْر النَّعَم، ألا وهي الركعات قبل صلاة الفجر» . فالمراد بها الوتر لقوله عليه الصلاة والسلام: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وِتْراً»

(1)

لا كما توهمه بعض أئمتنا من حملها على سنة الفجر.

(وقَبْلَ رُكُوعِ الثَّالِثَةِ يُكَبِّرُ) أي استحباباً (رَافِعَاً يَدَيْهِ) أي حِذَاء أذنيه، لأن الحالة قد اختلفت (ثُمَّ يَقْنُتُ فِيهِ) أي في الوتر وجوباً. لِمَا روى الدَّارَقُطْنِيّ عن سُوَيْد بن غَفَلة قال:«سمعت أبا بكر وعمر وعليّاً رضي الله عنهم يقولون: قَنَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الوتر، وكانوا يفعلون ذلك» . والمواظبة دليل الوجوب، إلاَّ أنْ يقوم دليل على عدمه. وقال بعض المحققين: ولم نقف بعد على دليل نقلي في رفع اليدين والتكبير، ولا على ما يقتضي وجوب القنوت.

وأما (قول صاحب «الهداية» : لقوله عليه الصلاة والسلام للحسن حين علمه دعاء القنوت:

(2)

«اجعل هذا في وترك» . فلم يوجد فيه لفظ الأمر. وعلى تقدير وجوده لا يدل على الوجوب، لعدم بلوغ الحسن حينئذٍ، فإذا لم يجب على المأمور، لا يجب على غيره. وكذا قوله عليه الصلاة والسلام:«لا تُرفع الأيدي إلا في سبع مواطن» لم

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 2/ 488، كتاب الوتر (14)، باب ليجعل آخر صلاته

(4)، رقم (998).

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 321

أبَدًا

===

يَعُدَّ الوتر منها في الحديث.

(أبَداً) يعني دائماً في رمضان وغيره. وهو قول أحمد. وقال الشافعيّ وهو رواية عن مالك، وأحمد: يقنُتُ في الوتر بعد الركوع في النصف الأخير من رمضان فقط. لِمَا رَوَى الحاكم ـ وقال على شرط الشيخين ـ عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما قَال: «عَلَّمَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وتري إذا رفعت الرأس، ولم يبق إلا السجود: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولَّني فيمن تولّيت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرَّ ما قضيت، إنك تقضي ولا يُقْضَى عليك، وإنه لا يَذِل من واليت، ولا يعِز من عاديت، تباركت وتعاليت» . وفي رواية زيادة: «ونستغفرك اللهم ونتوب إليك، وصلِّ اللهم على النبيّ وآله وسلم» .

وروى أبو داود عن الحسن: «أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع الناس على أُبَيِّ بن كعب، فكان يُصلِّي بهم عشرين ليلة من الشهر ـ يعني رمضان ـ ولا يقنت بهم إلاَّ في النصف الثاني، فإذا كان العَشْر الأواخر تَخَلَّف فصلّى في بيته» . إلا أنه منقطع لعدم إدراك الحسن عمر. وهو فعل صحابي، وكلاهما ليس بحجة عنده

(1)

. وروى ابن عَدِيّ في «الكامل» عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في النصف من رمضان إلى آخره» . إلا أنَّ البَيْهَقِيّ قال: هذا حديث لا يَصِحُّ إسناده.

ولنا: على كون القنوت قبل الركوع ما روى النَّسائي، وابن ماجه، عن أبيّ بن كعب:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت قبل الركوع» . وزاد النَّسائي في «سننه الكُبْرى» «فإذا فَرَغ قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات، ويُطِيل في آخرهن» . وزاد الطَبَرَانيّ في «الأوسط» عن ابن عمر: «أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات، ويجعل القنوت قبل الركوع» . وروى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» والدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» ، عن ابن مسعود:«أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قنت في الوتر قبل الركوع» وله طريق آخر عن الخطيب البغْدَادِيّ. وأخرجه ابن الجَوْزِيّ في «التحقيق» من جهة وسكت عنه.

وروى أبو نُعَيْم في «الحِلْيَة» عن ابن عباس قال: «أوتر النبيّ صلى الله عليه وسلم بثلاث، وقنت فيها قبل الركوع» . وأمَّا ما روى أنس: «أنه عليه الصلاة والسلام قنت بعد الركوع فكان شهراً فقط. وفي «الصحيحين» عن أنس: أنه عليه الصلاة والسلام قنت شهراً يدعو على قوم من العرب، ثم تركه». بدليل ما في «الصحيحين» عن عَاصِم الأَحْوَل:

(1)

أخرجه الطبراني في معجمه الكبير 11/ 385، وانظر نصب الراية 1/ 389 - 391.

ص: 322

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

«سألت أنساً عن القنوت في الصلاة؟ قال: نعم. فقلت: أكان قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله. قلت: فإن فلاناً أخبرني عنك أنك قلت بعده. قال: كذب، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً» . وهذا يصلح مُفَسِّراً لِمَا روى أصحاب «السنن» عنه: «أنه صلى الله عليه وسلم قنت بعده» . ومما يحققه: ما رواه ابن أبي شَيْبَة بسنده إلى علقمة: «أنَّ ابن مسعود، وأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع» .

وأمَّا دليلنا على كون القنوت في جميع السَّنة: ما روى أصحاب «السنن الأربعة» عن عليّ: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحْصِي ثناء عليك، أنت كما أثْنَيْتَ على نفسك» . كذا ذكره الشارح. وليس بصريح في المُدَّعى على ما لا يخفى. فالأوْلى أنْ يؤخذ من عموم الأحاديث الواردة في أنه عليه الصلاة والسلام كان يقنت. ثم رأيت في شرح «تُحْفَةِ الملوك» : أنه قال في «جامع الأصول» عن عليّ مرفوعاً: «كان يقول في وتره» . فكان هذا الحديث وجه القائل بما تقدم، والله أعلم.

وأمّا تقييده بالنصف الأخير من رمضان فغير صحيح. أو كان حينئذٍ قنوتاً خاصاً زيادة على القنوت المتعارف: بأن يدعو لقوم أو على قوم.

ثم القنوت الذي اختاره علماؤنا: «اللهم إنّا نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونُثْنِي عليك الخيرَ، نشكرك ولا نكفرك، ونَخْلَعُ ونترك من يَفْجُرُكَ، اللهم إياك نعبد، ولك نصلّي ونسجد، وإليك نسعى ونَحْفِد

(1)

، نرجو رحمتك. ونخشى عذابك، إن عذابك بالكفار مُلْحِق». ومُلْحِق: بكسر الحاء على معنى لاحق، ويجوز فتحها. وفي رواية «الخير كله» و «إن عذابك الجِدّ» ومعنى نحفِد: نسرع أو نقصد. واستحسن بعض علمائنا أن يضم معه قنوت الحسن. ولو لم يُحْسِن القنوت، قال أبو الليث: يقول اللهم اغفر لي ثلاث مرات.

أقول: الأوْلى أن يقول: اللهم اغفر لي ولوالديَّ وللمؤمنين والمؤمنات. وأما قول محمد: ليس في القنوت دعاء مؤقَّت ـ أي مُعَيَّن ـ، فمحمول على غير قوله:«اللهم إنا نستعينك» وقوله: «اللهم اهدنا» ، أو محمول على أنه غير معين وجوباً. وفي «المحيط»: المنفرد إن شاء جهر بالقنوت، وإن شاء خافت، والإمام يجهر عند محمد، لأن له

(1)

أي عند الشافعي رحمه الله.

ص: 323

دُونَ غَيرِهِ، وَيْقَرأُ في كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهُ الفاتِحَةَ وسُورَةً ويَتْبَعُ القَانِتَ بَعْدَ رُكُوع الوِتْرِ لا القَانِتَ في الفَجْرِ،

===

شُبهةً

(1)

بالقرآن لاختلاف الصحابة في أنه من القرآن. ولا يجهر عند أبي يوسف، وهو الصحيح، لأنه دعاءٌ حقيقة، والسبيلُ في الأدعية المُخَافَتة.

(دُونَ غَيْرِهِ) أي ولا يَقْنُت في غير الوتر، ولا يقنت في الصبح وهو قول أحمد، وقال مالك والشافعيّ: يقنت فيه. ولنا: ما روى النَّسائي وابن ماجه والترمذي ـ وقال: حسن صحيح، عن أبي مالك الأشْجَعِيّ، سَعْد بن طَارِقٍ قال: قلت لأَبي: إنك صليت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم بالكوفة نحواً من خمسِ سنين، أكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: أي بُنَيَّ بدعة». أي في غير النوازل. لِمَا روى ابن حِبَّان عن أبي هريرة بسند صحيح قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقنت في صلاة الصبح إلا أن يدعو لقوم، أو على قوم» .

وروى محمد في «الآثار» : عن أبي حنيفة، عن حَمَّاد، عن إبراهيم، عن الأَسْوَدِ بن يَزِيد:«أنه صَحِبَ عمر بن الخطاب سنتين في السفر والحضر، فلم يره قانتاً في الفجر حتى فارقه» . قال إبراهيم: وأهل الكوفة إنما أخذوا القنوت عن عليّ رضي الله عنه قنت يدعو على معاوية (حين حاربه)

(2)

.

وأهل الشام أخذوا القنوت عن معاوية يدعو على عليّ (حين حاربه). وفي «الغاية» : وإن نزل بالمسلمين نازلة قَنَت الإمام في صلاة الجهر. وهو قول الثَّوْرِي وأحمد، لِمَا في مسلم، وأبي داود، والترمذي، وأحمد، والنَّسائي مِنْ ضَمِّ المغرب إلى الصبح في القنوت. وقال جمهور أهل الحديث: القنوت عند النوازل مشروع في الصلاة كلها.

(وَيْقَرأُ في كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهُ) أي من الوتر (الفاتِحَةَ وسُورَةً) لِمَا روى أصحاب «السنن الأربعة» ، والحاكم وقال: على شرط الشيخين، عن عائِشة رضي الله عنها:«أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى من الوتر بفاتحة الكتاب و {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الأَعْلَى}، وفي الثانية: {قُلْ يا أيُّها الكَافِرُونَ}، وفي الثالثة بـ {قُلْ هو اأحد} والمُعَوِّذَتَيْنِ» . ولعله باعتبار تعدد الوتر. ولذا جاء في بعض الروايات بدون ذكر المعوِّذَتَيْنِ.

(ويَتْبَعُ) المؤتم (القَانِتَ بَعْدَ رُكُوعِ الوِتْرِ) لأنه مجتَهَدٌ فيه (لا القَانِتَ في الفَجْرِ)

(1)

الشبهة: الالتباس. مختار الصحاح ص 139، مادة (شبه).

(2)

ما بين الحاصرتين من "الآثار" لمحمد بن الحسن ص 208، حديث رقم (216).

ص: 324

بَلْ يَسْكُتُ.

===

لأن القنوت في الفجر منسوخ عند عدم النوازل. (بَلْ يَسْكُتُ) المؤتمّ قائماً في الأظهر ليتابع الإمام فيما يجب متابعته فيه. وقيل: يُطِيلُ الركوع إلى أن يَفْرُغَ الإمام من القنوت. وقيل: يَقْعُدُ. وقيل: يسجد إلى أن يدركه فيه، تحقيقاً لمخالفته. وقال أبو يوسف: يقنت المؤتم في الفجر تَبَعاً لإمامه لالتزامه متابعته بالاقتداء به، فلا يتركه فيما يُحْتَمَلُ أنْ يكون مشروعاً. والقنوت مجتهد فيه، فصار كالاقتداء في العيدين بمن يُكَبِّرُ على خلاف رأيه ما لم يجاوز أقاويل الصحابة.

واعلم أنَّ قنوت الفجر منسوخ عندنا. وأبقاه مالك، والشافعيّ لحديث أنس:«ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا» . رواه عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» . ولقول أبي هريرة: «لأَنَا أقربكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعدما يقول: سمع الله لمن حمده. فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار» . رواه البخاري. وقال الحازِمِي في كتابه «الناسخ والمنسوخ» : ذهب إلى نسخه أكثر الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأَمصار إلى يومنا، ورُوي ذلك عن الخلفاء الأربعة. وذكر جمعاً كثيراً من الصحابة والتابعين والفقهاء والمجتهدين.

ومما يؤيده ما رواه ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» ، والبزَّارُ في «مسنده» ، والطَّبَرَانِي، والطَّحاوِي في «آثاره» كلهم من حديث شَرِيك القاضي، عن أبي حَمْزَة مَيْمُون القَصَّاب، عن إبراهيم، عن عَلْقَمَة، عن عبد الله: قال: «لم يقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبح إلاَّ شهراً ثم تركه. لم يقنت قبله ولا بعده» . وفي لفظ الطَّحاويّ: «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على عُصَيَّة وذَكْوَان، فلما ظَهَرَ عليهم، ترك القنوت» . تابعه أَبَان بن أبي عَيَّاش، عن إبراهيم فقال في حديثه:«لم يقنت في الفجر قط» .

وتَضَعِّفُ ابنِ حنبل، وابن مَعِين، وأبي حاتم: أبا حَمْزَة القَصَّاب، بسبب أنه كان كثير الوَهْمِ، فلا يكون حديثه رافعاً لحكم ثابت بالقوي

(1)

، مدفوع

(2)

: بأن مسلماً روى في «صحيحه» : عن محمد بن المُثَنَّى العَنَزي وابن بشَّار قالا: حدثنا أُمَيَّة بن خَالِد: حدّثَنَا شُعْبة، عن أبي حَمْزَة القَصَّاب، عن ابن عبَّاس، قال: «كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب. قال: فجاء فَحَطَأَني حَطْأَةً وقال: اذهب وادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: اذهب فادع لي

(1)

أي فلا يكون حديثه بالقوي. وهذه عبارة ابن الهُمَام في "فتح القدير" 1/ 376.

(2)

"مدفوعٌ": خبرُ تضعيف.

ص: 325

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

معاوية قال: فجئت فقلت: هو يأكل. فقال: لا أشبعَ اللهُ بطنه» فيكون توثيقاً من مسلم له. يقال: حَطَأَه فلان: ـ بالهمزة ـ ضرب ظهره بيده مبسوطة.

ورواه محمد بن جابر اليَمَامِي عن حمَّاد، عن إبراهيم وقال في حديثه:«ما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الصلوات إلاَّ في الوتر، كان إذا حارب يقنت في الصلوات كلها، يدعو على المشركين» . ورواه أبو حنيفة، عن حمَّاد، عن إبراهيم، عن عَلْقَمَةَ، عن عبد الله:«أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقنت في الفجر قط إلاَّ شهراً واحداً، لم يُرَ قبل ذلك ولا بعده، وإنما قنت في ذلك الشهر يدعو على ناس من المشركين» . ولهذا لم يكن أنس يقنت في الصبح كما رواه الطَّبَرَانِيّ بسنده من حديث غالب بن فَرْقَد الطحَّان قال: «كنت عند أنس بن مالك شهرين، فلم يقنت في صلاة الغداة» .

وما رواه البخاري ومسلم عن أبي سَلَمَة، وسعيد بن المُسَيَّبِ، عن أبي هريرة: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رفع رأسه من الركعة الثانية قال: اللهم أَنْجِ الوليد بن الوليد، (اللهم أَنْجِ)

(1)

سَلَمَة بن هِشَام». وفي آخره: «ثم بلغنا أنه ترك ذلك لَمَّا نزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}

(2)

» الآية. وما رواه ابن حِبَّان، عن إبراهيم، عن سَعْد، عن الزُّهْرِيّ، عن سعيد وابن سَلَمَةَ، عن أبي هريرة قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقنت في صلاة الصبح، إلاَّ أن يدعو لقوم، أو على قوم» . وما رواه الخَطِيبُ في كتابه في القنوت بسنده عن أنس: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقنت إلاَّ إذا دعا لقوم، أو على قوم» .

قال صاحب «التَّنْقِيح» : وسند هذين الحديثين صحيح، وهما نص في أنه مختص بالنازلة. وما أخرجه ابن عَدِيّ في «الكامل» ، عن بِشْر بن حَرْب، عن ابن عمر: أنه ذكر القنوت فقال: «والله إنه لبدعة، ما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم غير شهر واحد» . إلا أنه أعلَّه بتضعيف النَّسائي وابن مَعِين بِشْراً. ثم قال: هو عندي لا بأس به، ولا أعرف له حديثاً مُنْكَراً. وما أخرجه ابن ماجه، والنَّسائي، والترمذي ـ وقال: حسنٌ صحيحٌ ـ عن أبي مالك الأشْجَعِيّ، ـ سعد بن طارق بن أَشْيَم

(3)

ـ، عن أبيه قال: «صلّيت خلف النبيّ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته، لموافقته لما في صحيح مسلم 1/ 467، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (5)، باب استحباب القنوت .... (54)، رقم (295 - 675).

(2)

سورة آل عمران، الآية:(128).

(3)

في المخطوط: الأشجعي والمثبت عن المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في سنن الترمذي 2/ 252 - 253، كتاب الصلاة (2)، باب ما جاء في ترك القُنوت (178 و 179)، رقم (402).

ص: 326

[فَصْلٌ في النَّوَافِلِ]

وسُنَّ قَبْلَ الفَجْرِ وبَعْدَ الظُّهْرِ والمَغْرِبِ والعِشَاءِ: رَكْعَتَانِ. وقَبْلَ الظُّهْرِ والجُمُعَةِ وبَعْدَهَا أربعٌ بِتَسْلِيمَةٍ.

===

صلى الله عليه وسلم فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصلّيت خلف عمر فلم يقنت، (وصلّيت خلف عثمان فلم يقنت)

(1)

، وصليت خلف علي فلم يقنت، ثم قال: يا بُنَيَّ إنها بدعة».

قال البخاري: طارق بن أَشْيَمَ له صُحْبَة. وقد وَثَّقَ ابن حنبل، وابن مَعِين، والعِجْلِيّ: أبا مالك. وقد أخرج له مسلم في «صحيحه» حديثين. وما رواه ابن أبي شَيْبَة عن عليّ: «أنه لَمَّا قنت في الصبح أنكر الناس ذلك عليه، فقال: إنما اسْتَنْصَرْنا على عدونا» .

والحاصل أنَّ قول أنس: ما زال النبيّ صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، محمول على النوازل بصريح ما قدمنا عنه وعن غيره. وحديث أبي هريرة نصٌّ في النوازل لقوله:«يدعو للمسلمين وعلى الكفار» . وعليه يُحْمَلُ قول من قال به من الصحابة والتابعين. فلا يكون بالنسبة إلى النازلة منسوخاً بل مستمراً. وبه قال جماعة من أهل الحديث، إذ ليس في الأخبار ما يعارضه.

ثم الصحيح جواز اقتداء الحَنَفِي بالشافعي وغيره إذا لم يتيقن بالمُفْسِد.

(فَصْلٌ في النَّوَافِلِ)

(وسُنَّ قَبْلَ الفَجْرِ وبَعْدَ الظُّهْرِ والمَغْرِبِ والعِشَاءِ رَكْعَتَانِ، وقَبْلَ الظُّهْرِ والجُمُعَةِ وبَعْدَهَا أربعٌ بِتَسْلِيمَةٍ) لقوله عليه الصلاة والسلام: «ركعتا الفجر أحبُّ إليَّ من الدُّنيا وما فيها» . وفي لفظ: «خير من الدنيا وما فيها» رواه مسلم. ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا تتركوا ركعتي الفجر، فإن فيهما الرَّغَائِبَ»

(2)

، رواه أبو يَعْلَى المَوصْلِي. ولقوله صلى الله عليه وسلم «ولا تَدَعُوهُما وإن طردتكم الخيل» . رواه أبو داود

(3)

. ولقول عائشة: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط. والصواب إثباته لموافقته لما في سنن ابن ماجه وسنن الترمذي بالمعنى، ولموافقته باللفظ لما جاء في سنن النَّسائي 2/ 549 - 550، كتاب الصلاة (5)، باب ترك القنوت (32)، رقم (1079).

(2)

الرَّغَائِب: أي ما يُرْغَبُ فيه من الثواب العظيم. النهاية: 2/ 238.

(3)

أي: لا تتركوا ركعتي الفجر وإن دفعتكم خيلكم، أي: وإن حان وقت رحيل الجيش، وسار وعجَّل للرحيل. أو: وإن دفعتكم خيل العدو. انظر: "بذل المجهود" 6/ 380.

ص: 327

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

يُصَلِّي ويَدَع، ولكني لم أره ترك ركعتين قبل صلاة الفجر في سفر ولا في حضر، ولا صحة ولا سَقَم»، رواه الطَّبَرَانِيّ. ولقولها:«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين قبل الفجر» . رواه الشيخان. وفيه دلالة على أنها آكد السنن. وقيل: بفرضيَّتِها. وقيل: بوجوبها.

ولقوله عليه الصلاة والسلام: «ما من عبد مسلم يُصَلِّي لله في كل يوم ثِنْتَي عشرة ركعة تطوّعاً من غير الفريضة، إلا بنى الله له بيتاً في الجنة» . رواه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وأحمد، وزاد الترمذي والنَّسائي:«أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الغداة» . قال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ. ولقول عائشة رضي الله عنها: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي في بيته قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلِّي بالناس، ثم يدخل فيصلّي ركعتين» . رواه مسلم.

وأمَّا كونها بتسليمة فلِمَا في «موطأ محمد بن الحسن» قال: حدثنا بُكَيْر بن عامر البَجَليّ، عن إبراهيم والشَّعْبِي، عن أبي أيوب الأَنْصَارِيّ:«أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّي قبل الظهر أربعاً إذا زالت الشمس. فسأله أبو أيوب الأنصاري عن ذلك فقال: إن أبواب السماء تُفْتَحُ في هذه الساعة، فأحب أن يَصْعَدَ لي في تلك الساعة خير. قلت: أفي كلهن قراءة؟ قال: نعم. قلت أَيُفْصَلُ بينهن بسلام؟ قال: لا» . وفي «سنن أبي داود» ، وابن ماجه، و «شمائل الترمذي» عن أبي أيوب نحوه.

وأما كونها قبل الجُمُعَة كذلك، فلقول ابن عباس:«كان صلى الله عليه وسلم يركع قبل الجمعة أربعاً لا يفصل في شيء منهن»

(1)

. رواه ابن ماجه من حديث مُبَشِّر بن عُبَيْد

(2)

. ولقول عليّ: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم .. » وذكر نحوه سواء، وزاد:«ويجعل التسليم في آخرهن ركعة» . رواه الطَّبَرَانِيّ.

وأمَّا كونها بعد الجمعة كذلك فلِمَا رواه الجماعة إلاَّ البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا صلّيتم بعد الجمعة فصلّوا أربعاً، فإن عَجِلَ بك شيء، فصلِّ ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت» . ولِمَا روى مسلم عن أبي هريرة: أنّ

(1)

في المخطوط: "بينهن"، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في سنن ابن ماجه 1/ 358 كتاب إِقامة الصلاة والسنة فيها (5)، باب ما جاء في الصلاة قبل الجمعة (94)، رقم (1129).

(2)

حُرِّفَتْ في المخطوط والمطبوع إلى بِشْر بن عُبَيْد، والمثبت هو الصواب، لموافقته لما في سنن ابن ماجه، الموضع السابق.

ص: 328

وحُبِّبَ الأَرْبَعُ قَبْلَ العَصْرِ، وحُبِّبَ قَبْلَ العِشَاءِ وبَعْدَهُ.

===

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان منكم مصلّياً بعد الجمعة فليصلِّ أربعاً» . ويُسَنُّ عند أبي يوسف أن يصلّي بعد الجمعة ست ركعات، لِمَا في أبي داود عن ابن عمر:«أنه إذا كان بمكة فصلَّى الجمعة تقدم فصلّى ركعتين، ثم تقدم فصلّى أربعاً، وإذا كان بالمدينة فصلّى الجمعة، ثم رجع إلى بيته، فصلّى ركعتين ولم يصلِّ في المسجد. فقيل له، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك» . فقد أثبت ستاً بعدها بمكة.

(وحُبِّبَ) أي نُدِبَ (الأَرْبَعُ قَبْلَ العَصْرِ) لِمَا روى أبو داود، والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ. عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رَحِمَ الله امرأ صلّى قبل العصر أربعاً» . ويقول عليّ: «كان عليه الصلاة والسلام يصلّي قبل العصر ركعتين» . رواه أبو داود. ورواه الترمذي، وأحمد وقالا:«أربعاً» . ولما رواه الطَّبرانيّ بسند حسن عن ابن عمرو: «من صلّى قبل العصر أربعاً حَرَّمه الله على النار» .

(وحُبِّبَ قَبْلَ العِشَاءِ وبَعْدَهُ) لقوله عليه الصلاة والسلام: «من صلّى قبل العِشَاءِ أربعاً، كان كأنما تهجّد من ليلته، ومن صلاّهن بعد العشاء، كان كمثلهن من ليلة القدر» . رواه سعيد بن منصور في «سننه» . وأخرجه النَّسائي من قول كعب، والبَّيْهَقِي من قول عائشة. والموقوف في هذا كالمرفوع، لأنه من قبيل تقدير الثواب، وهو لا يُدْرَك إلاّ سَمَاعاً. ولقول عائشة: ما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط، فدخل عليَّ إلا صلّى بعدها أربع ركعات أو ستّاً». رواه أبو داود. ولِمَا روى البخاري عن ابن عباس قال:«بِتُّ عند خالتي مَيْمُونَة بنت الحارث ـ زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم فصلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم عاد إلى منزله، فصلى أربع ركعات، ثم قام فصلّى خمس ركعات، ثم ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة» .

وروى مسلم في «صحيحه» عن عبد الله بن مُغَفَّل المُزَنِي

(1)

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بين كل أذانين صلاة»

(2)

قالها ثلاثاً، قال في الثالثة:«لمن شاء» . وفي رواية: قال في الرابعة: «لمن شاء» . وخُصَّ

(3)

من هذا المغرب لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ والبيهقي

(1)

حُرِّف في المطبوع إلى: عبد الله بن معقل المزني، والمثبت من المخطوط وهو الصواب، لموافقته لما في صحيح مسلم 1/ 573، كتاب صلاة المسافرين وقصرها (6)، باب بين كل أذانين صلاة (56)، رقم (304 - 838).

(2)

(بين كل أذانين صلاة): يريد بها السُّنن الرَّواتب التي تُصَلى بين الأذان والإِقامة قبل الفرض. النهاية: 1/ 34. وقد أطلق على الإقامة تسمية الأذان من باب التغليب.

(3)

خُصَّ: أي استُثْنِيَ.

ص: 329

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

والبَزَّار عن أبي بُرَيْدة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عند كل أذانين صلاة، ما خلا صلاة المغرب» . وهذا زيادة مقبولة، فدل ذلك على عدم مشروعية الصلاة قبل المغرب. وذكر الطَّحَاوِي: أن السلف تركوا الركعتين قبل المغرب. وروى أبو داود بإسنادين عن ابن عمر أنه قال: «ما رأيت أحداً يصلي ركعتين قبل المغرب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره النَّوَوِيّ.

ومما يُنْدَب ست بعد المغرب لقوله عليه الصلاة والسلام: «من صلّى بعد المغرب ست ركعات كُتِبَ من الأوَّابِين، وتلى قوله تعالى:{إنَّه كان للأوَّابِينَ غَفُوراً}

(1)

. رواه ابن نصر عن محمد بن المُنْكَدِر مرسلاً: «من صلى ما بين المغرب والعشاء، فإنها صلاة الأوَّابين» . ولقوله عليه الصلاة والسلام: «من صلّى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم فيما بينهن بسوء، عَدَلْنَ بعبادة اثنتي عشر سنةً» . رواه الترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة. وفي رواية لابن ماجه عن عائشة:«مَنْ صلى بين المغرب والعشاء عشرين ركعة، بنى الله له بيتاً في الجنة» .

وصرح جماعة من المشايخ باستحباب أربع بعد الظهر لقوله عليه الصلاة والسلام: «من صلّى أربعاً قبل الظهر، وأربعاً بعدها، حَرَّمه الله على النار» . رواه أبو داود، (والترمذي)

(2)

، والنَّسائي. ويُسْتَحب أيضاً ركعتان لمن دخل المسجد قبل أنْ يقعد لقوله عليه الصلاة والسلام:«إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يركع ركعتين» . رواه البيهقي، وغيره عن أبي هريرة. ويستحب ركعتان لمن تَوَضَّأَ عَقِيبَ وضوئه لحديث بلال رضي الله عنه

(3)

.

ويستحب صلاة الضحى، وهي أربع ركعات فصاعداً. لما روى مسلم من حديث مُعَاذَة:«أنها سألت عائشة: كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي الضُّحَى؟ قالت: أربع ركعات، ويزيد ما شاء» .

(1)

سورة الإسراء، الآية:(25).

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط، وهي صحيحة لثبوت الحديث في سنن الترمذي 2/ 292، كتاب الصلاة (2). باب (200، 201)، رقم (227).

(3)

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: "يا بلال حدِّثني بأَرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دَفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة": قال: ما عملت عملًا أرجى عندي أني لم أتطهَّر طهورًا في ساعة ليل أو نهار إِلا صليت بذلك الطُّهور ما كُتِبَ لي أَن أُصلِّي. (صحيح البخاري) 3/ 32، كتاب التهجد (19)، باب فضل الطهور بالليل والنهار

(17)، رقم (1149).

ص: 330

وكُرِهَ مزِيدُ النَّفْلِ عَلَى أرْبَعٍ بِتَسْلِيمَةٍ نهارًا، وعلى ثَمَانٍ لَيْلًا

===

فإن قيل: ما الجمع بين هذا الحديث وبين ما في الصحيحين عن عُرْوَة، عن عائشة قالت:«ما سَبَّحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبحة الضحى قط وإني لأُسَبِّحُها» . أجيب: بأنه يحتمل أنها أخبرت في النفي: عن رؤيتها ومشاهدتها، وفي الإثبات: عن خبره عليه الصلاة والسلام، أو خبر غيره عنها. وأنها أنكرتها مواظبة وإعلاناً، أو أنها أنكرتها على ما هي مشهورة عند الناس ثماني ركعات. ومما يدل على فضيلة صلاة الضُّحَى حديث: أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يُصْبِحُ على كل سُلَامى

(1)

من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزاء عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى». رواه مسلم.

ومنها حديث بُرَيْدَة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «في الإنسان ثلاث مئة وستون مَفْصِلاً. فعليه أنْ يتَصَدَّق عن كل مَفْصَل منه بصدقة. قالوا: ومن يُطِيقُ ذلك يا رسول الله؟ قال: النُّخَاعَة

(2)

في المسجد تدفِنها، والشيء تُنَحِّيْه عن الطريق، فإن لم تجد فركعتا الضحى تُجْزِئْكَ». وحديث مُعَاذ بن أنس الجُهَنِيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ قعد في مُصَلاَّه حين ينصرف من صلاة الضحى حتى يُسَبِّحَ ركعتي الضحى لا يقول إلاَّ خيراً غُفِرَ له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» . رواهما أبو داود. ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حافظ على شَفْعَة الضُّحَى غُفِرَ له، وإن كانت مثل زبد البحر» . رواه أحمد، وغيره. ومنها حديث أبي سعيد:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها، ويدعها حتى نقول: لا يصليها» . رواه الترمذي.

(وكُرِهَ مزِيدُ النَّفْلِ) أي زيادته (عَلَى أرْبَعٍ بِتَسْلِيمَةٍ نهاراً، وعلى ثَمَانٍ لَيْلاً) لعدم ورود السُّنَّة بالزيادة فيهما، ولو جاز من غير كراهة، لفُعِلَ ولو مرة. وفي «النهاية»: النافلة ليلاً إلى ثمان جائزة، وفيما وراءه مكروهة في عامة الروايات. قال فخر الإسلام في «الجامع الصغير»: وأصل ذلك حديث عائشة: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّي من الليل

(1)

سُلامَى: جمع سُلامِيَة، وهي الأُتْمُلة من أنامل الأَصابع. وهى التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان وقيل السُّلامى: كل عظم مُجَوَّف من صغار العِظَام. النهاية: 6/ 396.

(2)

في المطبوع: النخامة، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في سنن أبي داود 5/ 406، كتاب الأدب (40)، باب في إماطة الأذى [عن الطريق](159 - 160)، رقم (5242).

والنُّخاعة: هي البَزْقة التي تخرج من أصل الفم، مما يلي أصل النُّخَاع. النهاية: 5/ 33.

ص: 331

والأَرْبَعُ أَفْضَلُ في المَلَوَيْنِ.

===

إحدى عشرة ركعة: ثلاث منها الوتر، وركعتا الفجر ـ أي سنته ـ فيبقى التطوع ستة». ورُوِيَ:«ثلاث عشرة» ، فبقي التطوع ثمانية. وفيه: أنه لا دلالة فيه على أنَّ الثمانية بتسليمة، ولا على أنَّ الزيادة عليها مكروهةٌ. وقد اعْتُرِضَ بأنَّ الزُّهْرِيّ روى عن عُرْوَة، عن عائشة:«أنه عليه الصلاة والسلام كان يسلم من كل ركعتين منهن» .

وفي «المبسوط» و «الخُلاصة» : الأصح على أن الزيادة لا تُكره لِمَا فيها من وَصْل العبادة. ثم رأيت السَّرَخْسِيّ صحَّح عدم كراهة الزيادة عليها لِمَا في البخاري عن عائشة: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلِّي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثُمَّ يُصلّي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين» فيبقى العشرة نفلاً. وروى الطَّحاوي الاستدلال بكليهما لِمَا رواه في دليلهما: من أنه عليه الصلاة والسلام كان يُسَلِّم بين كل اثنتين، ولأنه ليس في قولهما دلالة على أنه صلَّى الثمان أو العشرة بتسليمة.

(والأَرْبَعُ أَفْضَلُ في المَلَوَيْنِ) أي الليل والنهار، تثنية مَلا بفتح الميم والقصر. وهذا الذي ذكره عند أبي حنيفة. وعندهما: اثنان في الليل أفضل، والأربع في النهار أفضل. وعند الشافعي: الأفضل فيهما الاثنتان. وعند أحمد: لا بأس بالأربع في النهار، وهي بالليل مكروهة، وقيل: غير جائزة، لِمَا روى أصحاب «السنن» ، وصححه ابن حِبَّان، وجَوَّدَه أحمد عن ابن عمر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» . ولأبي يوسف ومحمد ما في «الصحيحين» عن ابن عمر: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الليل مثنى مثنى» . وليس فيه ذكر النهار. وقال النَّسائي: ذكره عندي خطأ.

ولأبي حنيفة ما في «الصحيحين» عن عائشة: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بالليل أربعاً، لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً» . وروى أبو يَعْلَى في «مسنده» عن عَمْرَة قالت: «سمعت عائشة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي الضحى أربع ركعات لا يفصل بينهن بسلام» . وقد تقدم حديث أبي أيوب في سنة الظهر نحوه. ولأنه أدوم تحريمة، فيكون أكثر مشقة وأكبر فضيلة. ولهذا لو نذر أن يصلِّي أربعاً بتسليمة، فصلاّها بتسليمتين، لم يوف بنذره. ولو نذر أن يُصَلِّيَها بتسليمتين، فصلاّها بتسليمة وَفَى بِنَذْرِهِ، لأنه عَمِلَ بالأفضل.

وأمّا ما أخرجه مسلم من حديث عائشة في حديث طويل قالت: «كُنّا نُعِدُّ له سِوَاكه وطَهُوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فَيَتَسَوَّكُ، ويتوضَّأُ، ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلاَّ في الثامنة، فيذكر الله، ويحمده، ويدعوه، ثم

ص: 332

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله، ويَحْمَده ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يُسْمِعَناهُ». وهو في غير مسلمٍ:«كان يوتر بتسع ركعات» . فاتفاق الأئمة على القعود في كل شفع لِمَا روينا دليل على انتساخه، أو أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم

ثم طول القيام أفضل عندنا من كثرة السجود، وعكسه عند الشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام:«أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأَكْثِرُوا الدعاء»

(1)

. وقوله عليه الصلاة والسلام لثَوْبَان: «عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلاَّ رفعك بها درجة، وحَطَّ عنك بها خطيئة» . وقوله عليه الصلاة والسلام لربِيعَة بن كَعْب حين سأله مرافَقَتَهُ في الجنة: «فأعِنِّي على نفسك بكثرة السجود» . (رواهما مسلم)

(2)

.

ولنا قوله عليه الصلاة والسلام كما في مسلم وغيره: «أفضل الصلاة طول القنوت» . أي القيام، ولأن القراءة تكثر بطول القيام، وبكثرة الركوع والسجود يكثر التسبيح، والقراءة أفضل منه. ولأنهما ركنان

(3)

، فكان اجتماع ركنين أوْلى وأفضل من اجتماع ركن وسنة

(4)

. وقال مالك: تتساوى فضيلتهما بناء على تساوي الدليلين من الجانبين عنده. والأظهر أنَّ السجود أفضل كيفية. والقيام أفضل كَمِّيَّة

(5)

. ولذا قيدهما عليه الصلاة والسلام في الحديثين السابقين بطول القنوت وبكثرة السجود. وقد يقال: كثرة السجود مستلزمة لكثرة القيام، ولعله عليه الصلاة والسلام أراد بكثرته كثرة الصلاة، وإنما عَبَّر عنها بكثرة السجود، لأن تمام الركعة به دون غيره.

(سجود الشكر)

ثم سجدة الشكر عند سماع خبر مفرح غير مشروعة، فلا يُتَقرَّبُ بها وحدها عند أبي حنيفة ومعه مالك، لأنها ركن دون ركعة، والتقرب بالركعة الواحدة منهي عنه، فما

(1)

صحيح مسلم 1/ 350، كتاب الصلاة (4)، باب ما يقال في الركوع والسجود (42)، رقم (215 - 482).

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع، وهي صحيحة والحديثان في صحيح مسلم 1/ 353، في كتاب الصلاة (4)، باب فضل السجود والحث عليه (43)، رقم (225 - 488). ورقم (226 - 489).

(3)

أي القيام والقراءة.

(4)

الركن هو السجود، والسُّنَّة هي التسبيح.

(5)

عبارة المخطوط: الأظهر أن السجود أفضل كمية، والقيام أفضل كيفية. وما أثبتناه أولى، لأن القيام يجمع ركنين: القيام والقراءة، فهو أفضل كمية، والسجود أفضل كيفية لورود الحديث، "أقرب ما يكون العبد مِن ربِّه وهو ساجد".

ص: 333

ولَزِمَ النَّفْلُ بالشُّرُوعِ، إلَّا بِظَنِّ أنَّهُ عَلَيْهِ

===

دونها أولى، وصارت كالركوع. وما رُوي عن سجود النبيّ صلى الله عليه وسلم شكراً إذا رأى مُبْتَلىً أو جاء خبر يَسُرّه، كان في مبدأ الإسلام، ثم نُسِخَ بالنهي عن البُتَيْرَاء.

وقال أَبو يوسف، ومحمد، ووافقهما الشافعي: هي قُرْبة لقول سعد بن أبي وَقَّاصٍ: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة نريد المدينة، فلما كنَّا قريباً من عزَوَرَ

(1)

نزل، ثم رفع يديه فدعا الله ساعة ثم خرَّ ساجداً، فمكث طويلاً ثم قام، فرفع يديه ساعةً، ثم خرَّ ساجداً، فمكث طويلاً، ثم قام، فرفع يديه ساعة. ثم خرَّ ساجداً. قال:«إني سألت ربي وشفعت لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجداً لربي، ثم رفعت رأسي فسألت وشَفَعْتُ لأُمّتِي، فأعطاني الثلث الآخر، فخررت ساجداً لربي، ثم رفعت رأسي فسألت وشفعت لأُمَّتِي، فأعطاني الثلث الآخر، فخررت ساجداً لربي» . رواه أحمد، وأبو داود.

(لو أفسد نفلاً لزمه قضاؤه)

(ولَزِمَ النَّفْلُ بالشُّرُوعِ) أي في الصلاة ونحوها، حتى لو أفسده لزمه قضاؤه لقوله تعالى:{ولا تُبْطِلُوا أَعْمالكُمْ}

(2)

، ولأنه عبادة شُرِعَ فيها. فلزم إتمامها وقضاؤها عند إفسادها، كالحج والعُمْرَة إجماعاً لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَة}

(3)

خلافاً للشافعيّ (ومالك)

(4)

في غيرهما.

(إلاَّ بِظَنِّ أنَّهُ) أي النفل من الصلاة والصوم دون الحج والعُمْرة (عَلَيْهِ) أي لازم أو باق لديه. مثل أنْ يشرع في الظهر فيذكر أنه قد صلاه، لأنه شرع فيه مسقِطاً له لا ملتزماً. وعند زُفَر: يجب عليه القضاء قياساً على سائر النوافل، كذا في الحصر

(5)

. وأما في النفل فبالعكس. في «القِنْيَة» قال ظهير الدين المَرْغِينَاني: شَرَع في السُّنة، ثم تذكر أنه أداها فقطعها، فعليه القضاء، وقال صاحب «المحيط»: بخلافه، ولو شرع في النفل عند الغروب أو الطلوع، لزمه في ظاهر الرواية. ورُوِيَ عن أبي حنيفة أنه لا يلزمه اعتباراً بالشروع في الصوم في الأيام المنهي عنه فيها. وَوَجْهُهُ: أنه يكون صائماً بنفس الشروع، فيصير مرتكباً للنهيّ فيجب إبطاله، ولا يكون مُصَلِّياً حتى يسجد. ولهذا

(1)

عَزْوَر: موضع أو ماء قريب من مكة. مراصد الاطلاع 2/ 938.

(2)

سورة محمد، الآية:(33).

(3)

سورة البقرة، الآية:(196).

(4)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(5)

أي الإِحصار في الحج، حيث يجب عليه القضاء ولو كان مُتَنَفِّلًا.

ص: 334

وقُضِيَ رَكْعَتَانِ لَوْ نَقَضَ في الشَّفْعِ الأَوَّلِ أو في الثَّانِي.

===

يحنث بالشروع لو حلف لا يصوم، ولا يحنث بالشروع لو حلف لا يُصَلِّي حتى يُتِمَّ ركعة. كذا ذكره الشارح. وفيه بحث: إذ كونه صائماً بنفس الشروع لا يَظْهَر وجهه لا شرعاً ولا عُرْفاً. والركعة الواحدة لا تصح عندنا، فكيف تكون صلاةً.

ثم اعلم أن مالكاً والشافعي قالا بعدم لزوم النفل بالشروع، لأن المُتَنَفِّل متبرع، ولا لزوم على المتبرع، قال تعالى:{ما على المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}

(1)

. وقالت عائشة: «دخل عليَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل عندكم شيء، فقلنا: لا، قال: فإني إذن صائم، ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله أُهْدِيَ لنا حَيْسٌ

(2)

، قال أرنيه، فلقد أصبحت صائماً، فأكل». وفي لفظ:«فأكل وقال: قد كنت أصبحت صائماً» ، رواه مسلم. فهذا يدل على عدم وجوب الإتمام، ولزوم القضاء مُرَتَّبٌ على وجوبه، فلا يجب واحد منهما.

ولنا ما في «سنن أبي داود والترمذي والنَّسائي» ، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: «كنت أنا وحَفْصَة صائمتين فعُرِضَ لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَبَدَرَتْنِي)

(3)

حَفْصَة ـ وكانت ابنة أبيها ـ فقالت: يا رسول الله إنّا كنا صائمتين، فعُرِضَ طعام اشتهيناه فأكلنا منه. قال: اقضيا يوماً آخر مكانه». ورواه الطَّبَرانيّ من طريق آخر عن أبي هريرة قال: «أُهْدِيَت لعائشة وحَفْصَة هدية وهما صائمتان، فأكلتا منها، فذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقضيا يوماً مكانه، ولا تعودا» . وحمله على أنه أمر ندبٍ خروجٌ عن مقتضاه بغير موجب يوجب، بل هو محفوف بما يوجب مقتضاه ويؤكده، وهو النهي عن (إبطال الأعمال، ولورود)

(4)

القياس على نَفْل الحج والعُمْرة.

(وقُضِيَ رَكْعَتَانِ) ـ بصيغة المجهول ـ وفي بعض النسخ: وقضى ركعتين ـ بصيغة الفاعل ـ (لَوْ نَقَضَ) أي أبطل النفل (في الشَّفْعِ الأَوَّلِ أو في) الشَّفْعِ (الثَّانِي). وعن أبي يوسف يقضي أربعاً اعتباراً للشروع بالنذر. وعنه روايتان فيما إذا نوى ستاً أو ثمانياً، ثم أفسدها. في رواية: يقضي أربعاً. وفي رواية: يقضي جميع ما نوى. وفي

(1)

سورة التوبة، الآية:(91).

(2)

الحَيْس: هو الطعام المتخذ من التمر والأَقِط والسَّمْن. النهاية: 1/ 467.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في سنن الترمذي 3/ 112، كتاب الزكاة (6)، باب ما جاء في إيجاب القضاء عليه (36)، رقم (735).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، حيث العبارة فيه: وهو النهي عن العود والقياس على .... الخ.

ص: 335

وَتَرْكُ القِرَاءَةِ في رَكْعَتَيْ الشَّفْعِ يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ عِنْدَ أبي حَنِيفَة، وعِنْدَ مُحَمَّدٍ في رَكْعَةٍ، وعِنْدَ أبي يُوسُفَ لا أصْلًا. بل يُفْسِدُ الأَداءَ. فَيَقْضِي أَرْبَعًا عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ فِيمَا تَرْكَ في

===

«المُنْتَقَى» قول أبي يوسف فيما إذا أفسدها بما لا يوجب الخروج عن التحريمة كترك القراءة. وأما إذا أفسدها بالكلام ونحوه، فلا يلزم عنده إلاَّ ركعتان. ولهما: أنه لم يوجد الشروع في الشفع الثاني لا حقيقة ولا حُكْماً، لأن كل شفع من النفل صلاة على حدة، ولا تَعَلُّق لأحد الشَّفْعَيْنِ بالآخر.

(وَتَرْكُ القِرَاءَةِ في رَكْعَتَيْ الشَّفْعِ) من النفل (يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ عِنْدَ أبي حَنِيفَة) حتى لا يصح بناء الشفع الثاني على الشفع الأول. وأما ترك القراءة في الركعة، فلا يُبْطِلُ التحريمة عنده، لأن كل شفع من النفل صلاة على حدة، وفساد الصلاة بترك القراءة في الركعة الواحدة مجتهد فيه، لأن عند الحسن البَصْرِي لا تفسد، وبه قال زُفَر. فقلنا بالفساد في حق لزوم القضاء، وبقاء التحريمة في حق لزوم الشفع الثاني احتياطاً.

(وعِنْدَ مُحَمَّدٍ) ترك القراءة (في رَكْعَةٍ) يُبْطِلُ (التحريمة)

(1)

لأنها تُعْقَد لأفعال الصلاة، والأفعال تفسد بترك القراءة في ركعة. (وعِنْدَ أبي يُوسُفَ لا) تَبْطُلُ التحريمة بترك القراءة (أصْلاً) أي لا في ركعتين، ولا في ركعة، لأن القراءة ركن زائد، بدليل وجود الصلاة بدونها في الجملة، كما في حقِّ الأُمِّيِّ، والأخرس، والمقتدي، فترك القراءة لا يُبْطِلُ التحريمة. (بَلْ يُفْسِدُ الأَدَاءَ)، لأَنه لا صحة للأداء بدون القراءة. وفساد الأداء ليس بأقوى من تَرْكه، فكما أن تركه لا يُفْسد التحريمة، لا يفسدها فساده. كما لو أحرم وقام طويلاً فسكت أو قعد ولم يأتِ بشيء من الأفعال.

ثم اعلم أن ترك القراءة في النفل الرُّبَاعي، إمَّا في بعض الشفع الأول وبعض الثاني، أو في بعض الأول، وجميع الثاني، أو في بعض الثاني، وجميع الأول، أو في جميع الأول والثاني، أو في جميع الأول فقط، (أو في بعض الأول فقط)

(2)

، أو في جميع الثاني فقط. أو في بعض الثاني فقط. فهذه ثمان مسائل متفرعة على الأصول السابقة، أشار إلى تفريعها بقوله:

(فَيَقْضِي أَرْبَعَاً عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ فِيمَا) أي في نفل مع (تَرْكَ) القراءة (في

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 336

إحْدَى الأَوَّلِ مَعْ الثَّاني أو بَعْضِهِ. وعِنْدَ أبي يُوسُفَ في أرْبَعِ مَسَائِلَ يُوجَدُ التَّرْكُ في شفْعَيْنِ، وفي البَاقِي رَكْعَتَيْنِ. وعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَكْعَتَيْنِ في الكُل. وإنْ لَمْ يَقْعُدْ في الوَسَط، أو نَوَى أَرْبَعًا وأَتَمَّ اثْنَيْنِ، فَلا شَيِء عَلَيهِ.

ويَتَنَفَّلُ راكبًا مُوميًا خَارِجَ المِصْرِ إلى غَيْرِ القِبْلَةِ،

===

إحْدَى) شفعه (الأَوَّلِ مَعْ) تركها في جميع شفعه (الثَّاني أو بَعْضِهِ) وأنكر أبو يوسف عن أبي حنيفة قضاء الأربع إذا ترك القراءة في إحدى الأوَّل وبعض الثاني، حين عَرَضَ عليه (محمد)

(1)

«الجامع الصغير» ، وقال: رَوَيْتُ لك عن أبي حنيفة قضاء ركعتين. قال محمد: بل رَوَيْتَ لي عنه قضاء أربع (ونسيت)

(2)

. واعتمد المشايخ على قول محمد، لأن الأصل المذكور ساعده.

(وعِنْدَ أبي يُوسُفَ) يقضي أربعاً (في أرْبَعِ مَسَائِل يُوجَدُ التَّرْكُ في شَفْعَيْنِ) وهي: ترك القراءة في جميع الشفعين، وفي بعض الأوَّل وبعض الثاني، وفي جميع الأول وبعض الثاني، وفي بعض الأول وجميع الثاني. (وفي البَاقِي) من الثمانية وهي ست مسائل عند أبي حنيفة، وأربع مسائل عند أبي يوسف. يقضي (رَكْعَتَيْنِ، وعِنْدَ مُحَمَّد) يَقْضِي (رَكْعَتَيْنِ في الكُلِّ) ووجه الكل ظاهر من الأصول السابقة. (وإنْ لَمْ يَقْعُدْ في الوَسَط) بأن صلَّى أربعاً ولم يقعد في وسطها (أو نَوَى أَرْبَعَاً وأَتَمَّ اثْنَيْنِ فَلَا شَيِء عَلَيْهِ). أما في المسألة الأولى، فقياساً على الفرض، واتساعاً في النفل. وقال محمد وزفر بفساده، لأن كل ركعتين منه صلاة. والقعْدَة فرض في آخر كل صلاةٍ فتَرْكُها مُفْسِدٌ كالفجر. ولهما ـ وهو الاستحسان ـ: أن الأربع صلاة واحدة بسبب أدائها بتحريمة واحدة، فكان القعود فرضاً في آخرها كالظهر. وأمَّا في الثانية، فلأنه لم يَشْرَع في الشفع الثاني، فلم يجب عليه.

(ويَتَنَّفَلُ راكباً مُومياً خَارِجَ المِصْرِ) في كل موضع يَقْصُر فيه المسافر (إلى غَيْرِ القِبْلَةِ) أي كيفما توجهت به. لقول ابن عمر: «رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي على راحلته وهو متوجه إلى خيبر» . رواه مسلم، وأبو داود، والنَّسائي. وفي رواية الدَّارَقُطَنِيّ:«على حمار» . ولقول جابر: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلّي النوافل على راحلته في كل وجه يُومِاء إيماء، ولكن يخفض للسجدتين عن الركوع» . رواه ابن حِبَّان في «صحيحه» . ولا يُشْتَرَطُ السفر، وشرَطه أحمد. وهو رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف. وعن أبي يوسف، وهو

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 337

وقَاعِدًا مَعْ قدْرَةِ قِيَامِهِ.

===

مذهب الشافعي، وفي رواية عن أحمد: يجوز التنفل في المصر أيضاً على الدابة، لما رُوِي:«أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رَكِب الحمار في المدينة يَعُودُ سَعْدَ بن عُبَادة، وكان يُصَلِّي وهو راكب» . وفي «الصحيحين» عن عَامِر بن رَبِيعَة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الراحلة يُسَبِّحُ يُومِاء برأسه قِبَل أيِّ وجْهٍ تَوَجَّه، لم يكن يصنع ذلك في المكتوبة».

والسنن الرواتب نوافل، وعن أبي حنيفة: ينزل الراكب لسنة الفجر لأنها آكَد. وعنه: أنها واجبة. وإنما خُصَّ التنفل، لأن أداء الفريضة على الدابة لا يصح إلاَّ لعذر: بأن خاف زيادة المرض، أو سَبُعاً، أو عدواً، أو كانت الدابة جموحاً، أو كان الطين والوحل بحال يغيب فيه وجهه. ثم هذا إذا كانت الدابة تسير بنفسها. وإنْ كانت تسير بتسيير صاحبها، فالفريضة لا تجوز. كما لا يجوز التطوع، ولا يجوز أيضاً الوتر على الدابة، ولا المنذور، ولا قضاء النفل الذي أُفْسِدَ، ولا صلاة الجنازة، ولا السجدة التي تُلِيَتْ على الأرض. ثم لا فرق بين أنْ يكون في موضع جلوسه، أو في رِكَابَيْهِ

(1)

نجاسة أو لا عند عامة المشايخ للضرورة. وقال أبو حفص الكبير، ومحمد بن مُقَاتِل: إذا كانت أكثر من قدر الدرهم لا تجوز الصلاة، اعتباراً لها بالتي على الأرض.

(و) يتنفل (قَاعِداً) فعن أبي حنيفة إن شاء محتبياً، وإن شاء متربّعاً، وإن شاء كالتشهد. وعن أبي يوسف: محتبياً، لأن عامة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم في آخر عمره كانت بالاحتباء. كذا في «مواهب الرحمن» من غير عزو، ولم أره في غيره. وعن محمد: متربعاً، لأنه أعدل. وعن زُفَر ـ وهو المختار ـ كالتشهد، لأنه القعود المعهود في الصلاة.

(مَعْ قُدْرَةِ قِيَامِهِ)، لما روى الجماعة إلاَّ مسلماً عن عِمْرَان بن حُصَيْن قال:«سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعداً، فقال: من صلّى قائماً فهو أفضل، ومن صلّى قاعداً، فله نصف أجر القائم، ومن صلّى نائماً، أو مُضْطَجِعَاً فله نصف أجر القاعد» . وروى مسلم عن ابن عمر مرفوعاً: «صلاة الرجل قاعداً نصف صلاة القائم» . وهذا في صلاة النافلة، لأن صلاة الفرض لا يجوز فيه القعود مع القدرة على القيام بالإجماع، ولأن ثواب القاعد في الفرض للعجز لا ينقص عن ثواب القائم، لما روى البخاري عن أبي موسى

(2)

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له

(1)

رَكَابَيْه: الرِّكَاب للسَّرْج: ما توضع فيه الرِّجْل. المعجم الوسيط. ص: 368، مادة (ركب).

(2)

في المطبوع: أبي يوسف، والمثبت من المخطوط وهو الصواب، لموافقته لما رواه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 6/ 136، كتاب الجهاد (56)، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة (134)، رقم (2996).

ص: 338

وكُرِهَ قَاعِدًا بَقَاءً، وإنْ افْتَتَحَ رَاكِبًا ونَزَلَ بَنَى، وبِعَكْسِهِ فَسَدَ.

===

مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً».

(وكُرِهَ) التنفُّل (قَاعِدَاً بَقَاءً

(1)

) بأن يُحْرم قائماً، ثم يقعد. وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يجوز، لأن الشروع ملزم لأنْ يأتي على صفة شرع فيها، أو بأكمل منها، فأشبه النذر قائماً. ولأبي حنيفة: أنّ البقاء أسهل من الابتداء، وقد جاز ترك القيام في ابتداء النفل، فيجوز في أثنائه. وفي «المحيط»: رجل صلَّى التطوّع قاعداً، وإذا أراد الركوع قام فركع، فالأفضل أن يقوم ويقرأ شيئاً، ثم يركع ليكون موافقاً للسنة. وهي ما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت:«ما رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في شيء من صلاة الليل جالساً، حتى إذا كَبِرَ قرأ جالساً، فإذا بَقِيَ عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية، قام فقرأهن ثم يركع» . ولو لم يقرأ واستوى قائماً وركع أجزأه. وإن لم يستوِ قائماً وركع لم يجزه، لأن ذلك لا يكون ركوعَ قائم، ولا ركوعَ قاعد.

(وإنْ افْتَتَحَ) النفل (رَاكِبَاً ونَزَلَ) بعملٍ قليلٍ بأن ثنى رجله فانحدر من الجانب الآخر (بَنَى) في ظاهر الرواية عنهم. وعن أبي يوسف: أنه يَسْتَقْبِل (وبِعَكْسِهِ) وهو أن يفتتح النفل نازلاً ثم يركب (فَسَدَ). ووجه الفرق: أن الأول أدَّىَ أكمل مما وجب عليه، لأن تحريمته غير موجبة للركوع والسجود. والثاني أدَّى أنقص مما وجب عليه، لأن تحريمته موجبة للركوع والسجود. وأجاز علماؤنا لمن نذر قُرْبة في مكان شريف أداءها فيما دونه شرفاً. ولم يتعين ذلك المكان عنده، وعَيَّنَه مالك والشافعي وزُفَر لظاهر قوله تعالى:{وأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عَاهَدْتُمْ}

(2)

، فيجب أنْ يأتي بما نَطَقَ به.

هذا، وقول صاحب «الهداية»: قوله صلى الله عليه وسلم «لا يُصَلَّى بعد صلاة مثلها» . غير معروف مرفوعاً. نعم رواه ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» من ثلاث طرق موقوفاً على عمر.

ففي الطريق الأول: أنه قال: «لا يُصَلَّى بعد صلاة مثلها» .

وفي الطريق الثاني: «كان يَكْرَهُ أن يُصَلَّى خلف صلاة مثلها» .

وفي الطريق الثالث: «كان يَكْرَه أن يُصَلَّى بعد المكتوبة مثلها» .

ورواه أيضاً موقوفاً على ابن مسعود من طريق آخر بنحو كلام عمر. فقيل في

(1)

في المخطوط: بناء، والمثبت من المطبوع.

(2)

سورة النحل، الآية:(91).

ص: 339

[فَصْلٌ في صَلاة التَّراويحِ]

وسُنَّ التَّرَاوِيحُ

===

تفسيره: يعني ركعتين بقراءة، وركعتين بقراءة. وفسر أصحابنا بأنهم كانوا يُصَلُّون الفريضة، ويصلُّون بعدها مرة أخرى. ويطلبون بذلك زيادة الأجر، فنَهَى عن ذلك. ويؤيد هذا التفسير ما في «سنن أبي داود»:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُصَلَّى صلاة في اليوم مرتين» .

(فَصْلٌ في صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ)

(وسُنَّ التَّرَاوِيحُ) وقيل يستحب، ولم يذكرها محمد في ظاهر الرواية، وذكرها غيره. وأجمعت الأمّة على شرعيتها. ولا اعتداد بمخالفة (الخوارج)

(1)

لأنهم أقبح أهل البدعة، ومعارضون لأهل السنة. وقد أقامها النبيّ صلى الله عليه وسلم وبَيَّنَ عذره في تركها بما في «الصحيحين» عن عائشة:«أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلَّى في المسجد فصلّى بصلاته ناس، ثم صلّى من القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم، فلم يَمْنَعْنِي من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم» . وذلك في رمضان. زاد البخاري في كتاب الصوم: «فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك» .

وعن زَيْد بن ثَابِت: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ حُجْرَة في المسجد من حصير، فصلّى فيها ليالي حتى اجتمع عليه ناس، ثم فقدوا صوته ليلة، فظنّوا أنه قد نام فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم فقال: ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أنْ يكتب عليكم، ولو كُتِبَ عليكم ما قمتم به، فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة» . متفق عليه.

وعن أبي ذر قال: «صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلمَّا كان السادسة لم يقم بنا، فلمَّا كان الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل. قلت: يا رسول الله لو نَفَلْتَنَا قيام هذه الليلة فقال: إن الرجل إذا صلّى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة. فلمَّا كانت الرابعة لم يقم بنا. فلما كانت الثالثة، جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا

(1)

في المخطوط: الروافض، والمثبت من المطبوع.

ص: 340

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

أن يفوتنا الفلاح. قلت: وما الفلاح؟ قال: السَّحُور. ثم لم يقم بنا بقية الشهر». رواه أصحاب «السنن» .

وعن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبه. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك. ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر رضي الله عنه» ، وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنه. رواه مسلم.

والحاصل: أن الأصح فيها أنها سنّة مؤكّدة كما رواه الحسن عن أبي حنيفة. والسُّنَّة فيه الجماعة لكن على وجه الكفاية. حتى لو امتنع أهل المسجد عن إقامتها كانوا مسيئين. ولو أقامها البعض، فالمتخلّف عن الجماعة تارك الفضيلة، لأن أفراد الصحابة والتابعين يُرْوَى عنهم التخلّف.

فروى البخاري عن نَافِعٍ، عن ابن عُمَر:«أنه كان لا يُصَلِّي خلف الإمام في شهر رمضان. وروى أيضاً عن إبراهيم قال: كان المجتهدون يُصَلُّون في ناحية المسجد، والإمام يصلِّي بالناس في رمضان» . وروى أيضاً عن عُرْوَة: «أنه كان يُصَلِّي مع الناس في رمضان، ثم ينصرف إلى منزله فلا يقوم مع الناس» . وروى البخاري وابن حِبَّان من حديث عبد الرحمن بن عبد القَارِي قال: «خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوْزَاع

(1)

متفرقون، يصلي الرجل (لنفسه)

(2)

فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قاراء واحد لكان أمثل، ثم عَزَمَ فجمعهم على أُبيّ بن كعب. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم فقال عمر رضي الله عنه: نِعْمَتُ البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل (من التي يقومون)

(3)

ـ يريد آخر الليل ـ وكان الناس يقومون أوله».

وروى البيهقي في «المعرفة» بإسناد صحيح عن السَّائبِ بن يَزِيد قال: «كنّا نقوم زمن عمر بن الخطاب بعشرين ركعة والوتر» . وعن يَزِيد بن رُومَان قال: «كان الناس يقومون في زمن عمر بثلاث وعشرين ركعة» . وكأنه مبني على ما رواه ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» والطَّبَراني من حديث ابن عباس: «أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلّي

(1)

أوْزاع: جماعات. المعجم الوسيط ص: 1029، مادة (وزع).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 341

قَبْلَ الوِتْرِ أوْ بَعْدَهُ، عَلى كُلِّ تَرْوِيحَةٍ جِلْسَةٌ بِقَدَرِهَا. وسُنَّ الخَتْمُ مرَّةً،

===

في رمضان عشرين ركعة سوى الوتر».

وأما ما في «الموطأ» عن السائب بن يزيد قال: «أمر عمر أُبَيّ بن كعب وتميماً الدَّاري أنْ يقوما للناس في رمضان بإحدى عشر ركعة، فكان القاراء يقرأ بالمئتين حتى كنّا نعتمد على العصا من طول القيام، فما كنّا ننصرف إلاّ بزوغ الفجر» . فكأنه بناء على ما رَوَيْنَا في الوتر: «من أنه صلى الله عليه وسلم قام بهم في رمضان فصلّى ثمان ركعات وأوتر، ثم انتظروه من القابلة، فلم يخرج إليهم، فسألوه فقال: خَشيت أن يُكْتَبَ عليكم الوتر» . أي مطلقاً أو في رمضان. وجُمِع بينهما بأنَّ الأقل وقع أولاً ثم استقر الأمر على العشرين. فإنه المتوارث بناء على ما تقدَّم ـ والله أعلم ـ فصار إجماعاً. لما روى البيهقي بإسناد صحيح: «أنهم كانوا يقيمون على عهد عمر بعشرين ركعة، وعلى عهد عثمان وعليّ رضي الله عنهم» . وعند مالك: «ست وثلاثون» . وجُمِع بين قوله وقول غيره: بأن عشرين كانت أول الليل، وست عشر آخره، كما عليه عمل أهل المدينة.

ووقتها بعد صلاة العشاء (قَبْلَ الوِتْرِ أوْ بَعْدَهُ) إلى طلوع الفجر وهو الأصح، لأنها تَبَعٌ للعشاء دون الوتر. حتى لو ظهر أنَّ العشاء صُلِّيَتْ بلا طهارة، والتراويح صليت بطهارة أُعِيدَتْ التراويح مع العشاء. وقيل: بعد العشاء قبل الوتر، وهو قول عامة المشايخ، كذا في «الهداية». وقيل: قبل العشاء وبعده، لأنها قيام الليل وهو الأظهر. إلاَّ أن تأخير الوتر أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وِتراً»

(1)

.

(عَلى كُلِّ تَرْوِيحَةٍ) أي أربع ركعات. وقيل: خمس تسليمات (جَلْسَةٌ بِقَدَرِهَا) لتوارث ذلك من السلف، وكذا قبل الوتر. هكذا رُوِيَ عن أبي حنيفة: لأنها إنما سمّيت بالترويحة للاستراحة. فيفعل ذلك تحقيقاً لمعنى الاسم. ثم إن أهل مكة تطوف سبعاً بين كل ترويحتين، كما حُكِيَ عن مالك. وأهل المدينة يصلون فُرَادَى أربعاً بدل ذلك. وأهل كل بلدة بالخيار: يسبحون، أو يهللون، أو ينتظرون سكوتاً، أو يصلون فُرَادَى.

(وسُنَّ الخَتْمُ) أي ختم القرآن على الأصح وهو قول الأكثر (مرَّةً) في صلاة التراويح. لأن شهر رمضان أنزل فيه القرآن. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُه فيه على جبرائيل كل سنة مرة، وفي السنة الأخيرة عرضه مرتين. وقال بعضهم: يَقْرأ في كل رَكعة ثلاثين آية لأنَّ عمر أمر بذلك، فيقع الخَتم ثلاث مرات، لأنَّ كل عُشْرٍ مخصوص بفضيلة

(1)

تقدم تخريجه ص 319.

ص: 342

ولا يُتْرَكُ لِكَسَلِ القَوْمِ، ولا يُوَتِرُ بِجَمَاعَةٍ خَارِجَ رَمَضَانَ.

===

على حِدَة، كما جاءت به السُّنَّة:«إنه شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عِتْقٌ من النار» . والذي عليه الأكثر ما رواه الحسن عن أبي حنيفة: أنه يقرأ الإمام في كل ركعة عشرَ آيات ونحوها. قيل: وهو الأحسن، لأن السُّنَّة فيها الختم مرة. وما أشار إليه أبو حنيفة بختم القرآن فيها مرة، لأن عدد ركعاتها في جميع الشهر ست مئة، وعدد آي القرآن ستة آلاف وشيء، فإذا قرأ في كل ركعة عشر آيات يحصل الختم فيها. وعن أبي حنيفة: أنه كان يختم إحدى وستين خَتْمَة: في كل يوم خَتْمَة، وفي كل ليلة خَتْمَة، وفي كل التراويح خَتْمَة.

(ولا يُتْرَك) الختم (لِكَسَلِ القَوْمِ) والأفضل تعديل القراءة، فإن خالف فلا بأس.

والصحيح أن إقامتها بجماعة سُنَّة على وجه الكفاية، لأنه تَخَلَّف عنها أفراد من الصحابة والتابعين كابن عمر، وعُرْوَة، والقاسم، وإبراهيم، ونافع، وسالم. وعن أبي يوسف: أنه إن أمكنه أداؤها في بيته مع مراعاة سنة القراءة وأشباهها فليصلها في بيته، إلا أن يكون فقيهاً كبيراً يُقْتَدَى به، لقوله عليه الصلاة والسلام:«صلّوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلاَّ المكتوبة»

(1)

. وأُجيب: بأن قيام رمضان مستثنى من ذلك لِمَا تقَدَّم من فعله عليه الصلاة والسلام، وبيان العذر في تركه، وفعل الخلفاء الراشدين، حتى قال عليّ رضي الله عنه:«نوَّر الله قبر عمر رضي الله عنه كما نَوَّر مساجدنا» . والمبتدعة أنكروا أداءها بالجماعة في المسجد. فأداؤها بالجماعة جُعِلَ شعار السُّنَّة كأداء الفرض بالجماعة شُرِعَ شعار الإسلام.

(ولا يُوَتِرُ بِجَمَاعَةٍ خَارِجَ رَمَضَانَ) أي يوتر الإمام بجماعة في رمضان فقط، وعليه إجماع المسلمين. ولا يوتر بالجماعة خارجه لأنه نفل من وجه، والجماعة في النفل في غير رمضان مكروه. وعن شمس الأئمة: إنّ التطوع بالجماعة إنما يُكْرَه إذا كان على سبيل التَّدَاعي. أما لو اقتدى واحد بواحد، أو اثنان بواحد لا يُكْرَه. وإنْ اقتدى ثلاثة بواحد اخْتُلِفَ فيه. وإنْ اقتدى أربعة بواحد كُرِه اتفاقاً. ثم بعد عدم كراهة الجماعة في رمضان اختلفوا في الأفضل: فقال قاضيخان: الصحيح أن الجماعة أفضل، لأنه لمَّا جازت الجماعة كانت أفضل، لأن ثوابها أكمل.

وقال أبو علي النَّسَفِي: إن علماءنا اختاروا أنْ يوتر في رمضان في منزله ولا

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 2/ 214 - 215، كتاب الأذان (10)، باب صلاة الليل (81)، رقم (731).

ص: 343

‌فَصْلٌ في صَلاةِ الكُسُوفِ والخُسوفِ والاسْتِسْقَاءِ

عِنْدَ الكسُوفِ يُصَلِّي إمَامُ الجمُعَةِ بالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ

===

يوتر بجماعة، لأن الصحابة لم يجتمعوا على الوتر بجماعة في رمضان كاجتماعهم على التراويح، لأن عمر رضي الله عنه كان يؤمهم فيه في رمضان، وأُبَيّ بن كعب ما كان يؤمّهم فيه. والجواب ما قدمناه في حديث ابن حِبَّان:«أنه صلى الله عليه وسلم صلّى بهم وأوتر في رمضان، وبَيَّنَ العذر في تأخيره، وأن الخلفاء الراشدين فعلوه» . وإنَّ مَنْ تأخَّر عن الجماعة فيه وأحبَّ أن يُصَلِّي آخر الليل، فإنه أفضل كما قال عمر:«والتي ينامون عنها أفضل» . وعُلِمَ قوله عليه الصلاة والسلام: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً»

(1)

. فأخَّرَه لذلك، والجماعة فيه إذ ذاك متعذرة، فلا يدل ذلك على أن الأفضل فيه ترك الجماعة لمن أحب أن يُوتِرَ أول الليل. كما يُفْهَم من إطلاق اختيارهم.

فصلٌ في صَلَاةِ الكُسُوفِ والخُسُوفِ والاسْتِسْقَاءِ

(عِنْدَ الكُسُوفِ) وهو تغيُّر الشمس إلى السواد، والخسوف لغةٌ فيه. قال المُنْذِرِي: روى حديث الكسوف تسعة عشر نَفْساً: بعضهم بالكاف، وبعضهم بالخاء، وبعضهم باللفظين جميعاً، أي فهما مترادفان. أو الكسوف مُخْتَصٌّ بالشمس، والخُسُوفُ أعم. وقيل: يقال بالكاف للشمس، وبالخاء للقمر. وعليه اصطلاح الفقهاء ويؤيده قوله تعالى:{فإذا بَرِقَ البَصَرُ * وخَسَفَ القَمَرُ}

(2)

. وأما ما في «صحيح مسلم» عن عُرْوَة: «لا تقل: كُسِفَت الشمس، ولكن قل: خُسِفَت» . فمحمول على رواية في لفظ الحديث.

(يُصَلِّي إمَامُ الجُمُعَةِ بالنَّاسِ) إلحاقاً لها بها. وأجازها مالك والشافعيّ لغيره كسائر الصلاة (رَكْعَتَيْنِ) برُكُوعَيْنِ لا بأربعٍ كما قال الشافعي ومالك. وهو المختار من مذهب أحمد كما في الكتب الستة عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خُسِفَتِ الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المسجد، فقام فكبَّر وصفَّ الناس وراءه، فاقترأ قراءة طويلة، ثم كَبَّر فركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. (ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى، ثم كبَّر فركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده ربنا

(1)

تقدم تخريجه ص 319.

(2)

سورة القيامة، الآية:(7 و 8).

ص: 344

نَفْلًا،

===

ولك الحمد)

(1)

. ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك. فاستكمل أربع ركعات بأربع سجدات، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف. ثم قام فخطب الناس فأثْنَى على الله بما هو أهله ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة».

ولنا ما روى البخاري من حديث أبي بَكْرَة قال: «خُسِفَتِ الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يجر رداءه حتى انتهى إلى المسجد، وثاب

(2)

الناس، فصلى بهم ركعتين فانجلت الشمس» (ورواه النَّسائي:«فصلَّى بهم ركعتين كما يُصَلُّون» . ورواه ابن حِبَّان: «فصلّى بهم ركعتين، مثل صلاتكم» .)

(3)

وروى النَّسائي، والترمذي في «الشمائل» والحاكم وصحَّحه، عن عَطَاء بن السَّائِبِ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:«انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكد يَرْكع، ثم ركع فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك» .

وأجيب عن استدلالهم بحديث عائشة بأنه مؤوَّل بما أُوِّلَ به ما روى مسلم عنها، وعن جابر، عن ابن عباس:«أنه عليه الصلاة والسلام صلّى ست ركعات بأربع سجدات» . وما روى أيضاً عن ابن عباس وعليّ: «أنه صلّى ثمان ركعات بأربع سجدات» . وما روى: أبو داود، عن أُبَيّ بن كعب:«أنه عليه الصلاة والسلام صلّى خمس ركعات في كل ركعة سجدة» . قال محمد: وتأويل ذلك أنه عليه الصلاة والسلام لَمَّا أطال الركوع رفع الصفوفُ رؤوسَهم ظنّاً منهم أنه عليه الصلاة والسلام رفع رأسه من الركوع، فرفع مَنْ خلفهم، فَلَمَّا رَأَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم راكعاً، ركعوا فركع مَنْ خلفهم، فمن كان خلفُ ظَنَّ أنه عليه الصلاة والسلام صلّى بأكثر من ركوع. فروى على حسب ما عندَهُ من الاشتباه. ويدل على هذا أنه عليه الصلاة والسلام لم يصلّها بالمدينة إلاَّ مرة واحدة.

(نَفْلاً) أي سنة كما رُوِيَ عن أبي حنيفة. وقال بعض المشايخ: إنَّها واجبة وهو

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

ثاب: الأصل في التثويب: أن يجيء الرجل مستصرخًا، فيُلَوِّح بثوبه ليُرَى ويشتهر. النهاية 1/ 226.

(3)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

ص: 345

مُخْفِيًا مُطَوِّلًا قِرَاءَتَهُ فِيهِمَا، ثُمَّ يَدْعُو حَتَّى تَنْجَلِي الشَّمْسُ. وإنْ لَمْ يَحْضُرْ، صَلَّوا فُرَادَى،

===

مختارُ صاحب «الأسرار» ، كما في «النهاية» . وفيه إشعارٌ بأنه لا يُشْتَرَطُ فيها الأذان والإقامة، وتُؤَدَّى في الوقت المُسْتَحَبِّ لا المكروه.

ولا يَخْطُبُ عندنا فيها بلا خلاف كما في «التُّحْفَة» ، و «المحيط» ، و «الكافي» ، و «الهداية» ، وشروحها. ولكن في «النَّظم»: يَخْطُب بعد الصلاة بالاتفاق، ونحوُه في «الخُلَاصة» و «قاضيخان» .

(مُخْفِيَاً) أي قارئاً سرّاً عند أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، والليث بن سَعْد، وجمهور الفقهاء. (مُطَوِّلاً قِرَاءَتَهُ فِيهِمَا) أي في الركعتين. وقال (أبو يوسف و)

(1)

محمد: يجهر بالقراءة فيهما. وهو اختيار الطحاوي، وقول أحمد، لِمَا في «الصحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:«جهر النبيُّ صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف» . ولأبي حنيفة ما في «الصحيحين» عن ابن عباس قال: «انْخَسَفَتِ الشمس، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناسُ معه، فقام قياماً طويلاً نحواً من سورة البقرة» . ولو كانت قراءته صلى الله عليه وسلم فيها مسموعة لذكرها ابن عباس ولم يُقَدِّرْها. وروى أصحاب «السنن» وقال الترمذي: حسن صحيح. عن سَمُرَة بن جُنْدُب قال: «صلى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في كُسُوفٍ لا نسمع له صوتاً» .

(ثُمَّ يَدْعُو حَتَّى تَنْجَلِي الشَّمْسُ) ولا يَخْطُب. (وقال مالك: يُذَكِّرُ الناس من غير خُطبة مرتبة. وقال الشافعي: يَخْطُب)

(2)

خُطبتين بعد الصلاة خلافاً لحديث عائشة

(3)

. ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة حيث قال: «فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة

(4)

»، ولم يأمر بالخُطْبة. ولو كانت الخُطْبَة مشروعة لبيّنها عليه الصلاة والسلام. وخطبته عليه الصلاة والسلام إنما كانت لرد قول من قال: إن الشمس كُسِفَت لموت إبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله: ثم يدعو يقتضي تأخير الدعاء عن الصلاة، وهو السّنَّة لِمَا روى الترمذي في كتاب الدعوات، وحسَّنه عن أبي أُمَامَة قيل:«يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير، ودُبُرِ الصلاة المكتوبة» .

(وإنْ لَمْ يَحْضُرْ) إمامُ الجمعة (صَلَّوا فُرَادَى) تحرزاً عن الفتنة، لأنها تقام بجمع

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

مَرَّ قريبًا فيما يرويه عنها أصحاب الكتب الستة.

(4)

مَرّ قريبًا من حديث عائشة رضي الله عنها، فيما يرويه عنها أصحاب الكتب الستة.

ص: 346

كَالْخُسُوفِ.

والاسْتِسْقَاءُ دُعَاءٌ واسْتِغْفَارٌ مُسْتَقْبِلًا. وإنْ صَلُّوا فُرَادَى جَازَ

===

عظيم (كَالْخُسُوفِ) وهو نقصان ضوء القمر فإنهم يُصلُّون عند حصوله فُرَادى وهو قول مالك.

وقال الشَّافِعِيّ: يصلُّون فيه بجماعة. لنا: أن صلاته تكون في وقت يحصل بالتجميع فيه مشقّة، ولأنه لم يُنْقَلْ أنه عليه الصلاة والسلام جمع له. وكذا يصلُّون فُرَادى عند حصول الضوء القوي بالليل، وعند انتشار الكواكب، وعند حصول الظُّلْمَة القوية بالنهار، وعند حصول الريح الشديدة، والزلازل، والصواعق، والثلج والمطر الدائمين، وعموم الأمراض، والخوف من العدو.

(والاسْتِسْقَاءُ دُعَاءٌ واسْتِغْفَارٌ مُسْتَقْبِلاً. وإنْ صَلَّوا فُرَادَى جَازَ). وهذا عند أبي حنيفة لقوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارَاً}

(1)

ولِمَا في «الصحيحين» من حديث أنس: «أن رجلاً دخل المسجد في يوم الجُمُعَةِ ورسول الله قائمٌ يَخْطُب فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هلكت الأموال وانقطعت السُّبُل، فادْعُ الله يُغِيثُنَا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم أغِثْنَا، اللهمَّ أَغِثْنَا» . وثبَتَ أيضاً أنَّ عمر اسْتَسْقَى ولم يُصَلِّ. وقال مالك: يُسَنُّ للاستسقاء ركعتانِ بِخُطْبَةٍ كالجمعة. وقال الشافعي: كالعيدين. وقال محمد: يجوز أن يصلي الإمامُ أو نائبُه ركعتين كما في الجمعة، ويَقْلِبُ رداءه دون القوم. وهو اختيار الطحاوي، وأبو يوسف مع محمد في رواية، ومع أبي حنيفة في أخرى.

لهم ما في الكتب الستة عن عَبْدُ الله بن زَيْدِ بن عَاصِم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يَسْتَسْقِي بهم، فَصَلَّى بهم ركعتين، وحَوَّل رداءه ورفع يديه فدعا، واستسقى، واستقبل القبلة» . متفق عليه. زاد البخاريّ، وأبو داود:«وجهر فيهما بالقراءة» ، ولقول ابن عباس: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَبَذِّلاً

(2)

متواضعاً متضرّعاً حتى أتى المُصَلَّى، فلم يَخْطُب خطبتكم هذه. ولكن لم يزل في الدعاء والتَّضَرُّع والتكبير، وصلّى ركعتين كما يُصَلِّي في العيدين». رواه أصحاب «السنن» وصحّحه الترمذي.

قال بعض علمائنا: يخرج له الشيوخ والصبيان والضَّعَفَة ثلاثة أيام ـ ولم يُنْقَلُ أكثر منها ـ متواضعين متخاشعين في ثياب خَلَقَةٍ

(3)

غَسِيلَةٍ

(4)

، مشاةً يقدِّمون الصدقة

(1)

سورة نوح، الآية:(10، 11).

(2)

تَبَذَّل الرجل: ترك التَّزَيُّن والتَّجَمُّل ولبس الخَلَق من الثياب. المعجم الوسيط، ص 45، مادة (بذل).

(3)

خَلَقَة: أي بالية. مختار الصحاح، مادة (خلق). ص:78.

(4)

غَسِيلة: أي مغسولة. المعجم الوسيط، ص: 653، مادة (غسل) أي ليست موجودة.

ص: 347

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

كل يوم بعد التوبة إلى الله تعالى. لكن في مكة وبيت المقدس يجتمعون في المسجد، ولا يخرجون إلى الصحراء. ثم لا يُسَنُّ تكبير الزوائد عندنا وعند مالك في الأصح. وقيل: يكبّر، وهو قول الشافعي. وجه الأصَحِّ قول أنس:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى، فخطب قبل الصلاة واستقبل القبلة وحوَّل رداءه، ثم نزل فصلّى ركعتين لم يكبر فيهما إلا تكبيرة» . رواه الطَّبَراني.

ووجه التكبير ما رواه الحاكم والطَّبَرانِي من حديث محمد بن عبد العزيز بن عُمَر بن عبد الرَّحْمن بن عَوْف، عن أبيه، عن طَلْحَة قال:«أرسلني مَرْوَان إلى ابن عباس أسأله عن سنّة الاستسقاء، فقال: سنّة الاستسقاء سنّة الصلاة في العيدين، إلا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَبَ رداءه فجعل يمينه على يساره، ويساره على يمينه، وصلّى ركعتين كَبَّرَ في الأُولَى سبع تكبيرات وقرأ: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وقرأ في الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ}، وكبَّر فيها خمس تكبيرات» . وأُجِيبَ بأنه ضعيف لا يُعَارِضُ ما رَوَى أنس.

وقد تردَّد أبو يوسف في سُنِّيَّةِ الصلاة وعدمها. واتّفقا على جعل خطبته واحدة بعد الركعتين لقول أبي هريرة: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يَسْتَسْقِي، فصلَّى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خَطَبَنَا ودعا الله وحوّل وجهه نحو القبلة رافعاً يديه، ثم قَلَبَ رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن» . رواه ابن ماجه. ورواه أحمد عن عبد الله بن زَيْد ولفظه: «فبدأ بالصلاة قبل الخُطْبَة، ثم استقبل القبلة فدعا، فلما أراد أن يَدْعُوَ أقبل بوجهه إلى القبلة وحَوَّل رداءه» .

ولقول عائشة رضي الله عنها: «شكى الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ المطر. فأمر بمنبر فوُضِعَ له في المصلَّى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه. قالت عائشة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر وحَمِدَ الله عز وجل ثم قال.

إنكم شَكَوْتُم جَدْبَ دياركم واستئخار المطر عن زمانه عنكم، وقد أمركم الله سبحانه أنْ تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم. ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أَنت الغني ونحن الفقراء. أَنْزِل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين. ثم رفع يديه، فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبْطَيْهِ. ثم حوَّل إلى الناس

ص: 348

ولا يَقلِبُ رِدَاءَهُ،

===

ظهره، وقَلَبَ أو حوَّل رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلّى ركعتين. فأنشأ الله سحابة فَرَعَدَتْ وبَرَقَتْ، ثم أمْطَرَت بإذن الله. فلم يأْت صلى الله عليه وسلم مسجده حتى سالت السيول. فَلَمَّا رأى سرعتهم إلى الكِنِّ

(1)

ضحك حتى بَدَتْ نواجذه. فقال: أشهد أنَّ الله على كل شيء قدير، وأنِّي عبد الله ورسوله». رواه أبو داود وقال: غريب وإسناده جيد. ورواه الحاكم في «المُسْتَدْرَك» وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وتُرَجَّحُ رواية تقديم الصلاة على الخطبة، لأنها عن مُشَاهَدَة بخلاف رواية تأخيرها. ورُوِيَ عنهما أنهما جعلا خطبتين بعد الصلاة إلحاقاً لها بالخطبة للجمعة.

(ولا يَقْلِبُ رِدَاءَهُ) أي لا يَقْلِبُ الإمام رداءه عند أبي حنيفة، وأبي يوسف. والمَرْويّ كان تَفَاؤلاً لقول جابر:«وحَوَّل رداءه ليتحوَّل القَحْطُ» . رواه الحاكم. ولقول أنس: «وقَلَبَ رداءه لكي يَنْقَلِبَ القَحْطُ» . رواه الطَّبَرَانيّ. لأنه فعلٌ لأمر لا يرجع إلى معنى العبادة، كذا قال الشارح. وفيه: أن فعلَه عليه الصلاة والسلام بقصد تحوُّل القحط عينُ العبادة لتميزه عن فعل العادة. لكن قد يُقال: إنَّ هذا خاص به، لأنه عُرِف بالوحي تَغَيُّرَ حال السماء عند قَلْبِ الرداء.

وعند محمد: أنَّ الإمام يَقْلِبُ رداءه بعد مُضِي صَدْر من خطبته لِمَا تقدَّم. وأما الناس فلا يقلبون أرديتهم عندنا. وقال مالك والشافعي: يقلبون. قال عبد الله بن زيد: «اسْتَسْقَى النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه خَمِيصَة

(2)

سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها، فَلَمَّا ثَقُلَتْ قَلَبَها على عاتقه». زاد أحمد:«وحوّل الناس معه» . قال الحاكم: على شرط مسلم. قالوا: ولم يُنْكِرْه صلى الله عليه وسلم عليهم، فكان تقريراً له. وأُجِيبَ: إنه إنما يَتِمُّ أنْ لَو عَلِمَ به. وهو ممنوع لِمَا روينا أنه إنما حَوّل بعد تحويل ظهره إليهم.

وينبغي أن يدعو الإمام بالدعوات المأثورة سرّاً أو جهراً والناس قعود مستقبلي القِبْلة مُؤَمِّنِينَ على دعائه بنحو: «اللهم أغثنا (اللهم أغثنا)

(3)

، اللهم أغثنا سيِّبا

(4)

نافعاً،

(1)

الكِنُّ: كُلُّ ما وقَى الحَرَّ والبرد من المساكن. الخطّابي بحاشية سنن أبي داود 1/ 693.

(2)

الخميصة: هي ثَوْب خَزٍّ أو صوف مُعْلَم. النهاية: 2/ 81، والمُعْلَم: اسم مفعول من أعلم، يقال أعلم الثوب: أي جمل له عَلَمًا من طِراز وغيره. المعجم الوسيط، ص: 624، مادة (عَلِمَ).

(3)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(4)

السَّيْبُ: العطاء. المعجم الوسيط، ص: 466، مادة (ساب).

ص: 349

ولا يَحْضرُ ذِمِّيٌّ.

===

اللهم اسقنا غَيْثاً مُغِيثاً، هَنيئاً مَرِيئاً مَرِيعاً

(1)

نافعاً غير ضارٍ غَدَقاً

(2)

عاجلاً غير رائثٍ

(3)

وآجل، مُجَلِّلاً

(4)

سَحَّاً

(5)

عاماً طَبَقاً

(6)

دائماً. اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم إن بالبلاد والعباد والخلق من الَّلأْوَاء

(7)

والضَّنْك ما لا نشكو إلا إليك. اللهم أَنْبِتْ لنا الزرع، وأدِرَّ لنا الضَّرعِ، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض. اللهم إنّا نستغفرك إنَّك كنت غَفَّاراً فأَرْسِل السماء علينا مِدْراراً».

فإذا مُطِرُوا قالوا: مُطِرْنا بفضل الله وبرحمته. وإذا زاد المطر حتى خِيف منه الضرر قالوا: «اللهم حَوَالَيْنَا ولا علينا، اللهم على الآكام

(8)

والظِّرَاب

(9)

وبطون الأودية ومنابت الشجر». وهذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة الثانية حين قيل: «يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يُمْسِكُها عنا»

(10)

.

(ولا يَحْضُرُ ذِمِّيٌّ) لأن خروجنا للدعاء وقد قال الله تعالى: {وما دُعَاءُ الكافِرِينَ إِلاَّ في ضَلَالٍ}

(11)

أي ضياع وخسار. وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يؤمر أهل الذمة بالخروج ولا يمنعون منه ولا يُمَكَّنُون من الخروج يوماً وحدهم، لأن الاستسقاء لطلب الرزق، والله سبحانه يرزق المؤمن والكافر، وهم لو خرجوا يوماً وحدهم وحصل في ذلك اليوم غيث لحصلت الفتنة.

(1)

مَرِيعًا: في المطبوع سريعًا. والمثبت من المخطوط. وهو يروى على وجهين بالياء والباء، فمن رواه بالياء جعله من المراعة وهو الخصب، يقال منه أمرع المكان إذا أخصب، ومن رواه مُرْبِعًا بالباء كان معناه منبتًا للربيع. الخَطَّابي في حاشية سنن أبي داود 1/ 691.

(2)

الغَدَقُ: الكثير، مختار الصحاح 4 ص: 196، مادة (غدق).

(3)

الرَّيث: البُطْء. المعجم الوسيط، ص: 385، مادة (ريث).

(4)

مُجَلِّلًا: أي يُجَلِّلُ - يُغَطي - الأرض بمائه، أو بنباته. النهاية: 1/ 289.

(5)

سَحَّ المطر والماءُ، يَسُحُّ سَحًّا: سال من فوق واشتدَّ انصبابه. تارج العروس من جواهر القاموس 6/ 457، مادة (سح).

(6)

طَبَقًا: أي مالئًا للأرض مُغَطِّيًا. النهاية: 3/ 113.

(7)

اللأْواء: الشدة، مختار الصحاح، ص: 245، مادة (لأْي).

(8)

الآكام: جمع الأكم وهو الرابية. النهاية: 1/ 59.

(9)

الظِّرَاب: الجبال الصِّغار. النهاية: 3/ 156.

(10)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 612 - 613، كتاب صلاة الاستسقاء (9)، باب الدعاء في الاستسقاء (2)، رقم (8 - 897).

(11)

سورة غافر، الآية:(50).

ص: 350

‌فَصْلٌ في إدْرَاكِ الفَرِيضَةِ

مَنْ شَرَعَ في فَرْضٍ فأُقِيمَتْ، إنْ لَمْ يَسْجُدْ لِلرَّكْعَةِ الأُوْلَى، أوْ سَجَدَ وهُوَ في غَيرِ رُبَاعِيٍّ: قَطَعَ واقْتَدَى،

===

والحاصل أنه قد يستجاب لهم في الشدة لقوله تعالى: {فإذَا رَكِبُوا في الفُلْكِ دَعَوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلى البَرِّ إذَا هُمْ يُشْرِكُون}

(1)

.

فصلٌ في إِدْرَاكِ الفَرِيضَةِ

(مَنْ شَرَعَ في فَرْضٍ) منفرداً (فأُقِيمَتْ) أي إقامة ذلك الفرض (إنْ لَمْ يَسْجُدْ لِلرَّكْعَةِ الأُوْلَى) سواء كان الفرض رُبَاعِياً أو ثُلَاثِياً أو ثُنَائِياً (أوْ سَجَدَ وهُوَ في غَيْرِ رُبَاعِيَ) ثُلَاثِياً أو ثُنَائِياً حَضَرِيّاً كان الفرض أو سَفَرِيّاً (قَطَعَ) تلك الصلاة قائماً بتسليمة واحدة. وقيل: بتسليمتين. وهو الأصح لأن القَعْدَة شرط للتحلل، وهذا قَطْعٌ وليس بتحلل. وقيل: يعود إلى القِعْدَة ثم يسلم. وقال شمس الأئمة: القعود حَتْمٌ، لأن الخروج عن صلاة مُعْتَدَ بها لم يشرع إلا بقعود. وإذا قعد قيل: يعيد التشهد. وقيل: لا. والقطع بالسلام ورد في حديث مُعاذ حين أتى قومه فافتتح (سورة البقرة)

(2)

، فانحرف رجل فسلَّم، ثم صلّى وحده. ثم هذا كله بناء على ما اختاره فخر الإسلام من أنَّ ما دون الركعة من الفرض ليس له حكم الصلاة بدليل: أن من حلف لا يُصَلِّي لا يحنث بما دونها، فكان بمحل الرفض

(3)

.

والقطع للإكمال جائز، وهو كهدم المسجد لتجديده. واختيار شمس الأئمة: أنه أتَمَّ شفعاً، لأنه وإن لم يكن صلاة فهو قُرْبَة فيَحْرُم قطعها، فيُتِمّها شفعاً ويقتدي ليكون جامعاً بين فضيلتي النافلة وصلاة الجماعة. ومتى أمكن إدراك العبادتين لا يُصَار إلى إبطال إحداهما، وعلى التقديرين قطع (واقْتَدَى) أي بنية مُتَجَدِّدَةٍ إحرازاً لفضيلة الجماعة التي هي من كمالها، لِمَا روى أصحاب الكتب الستة عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفَذِّ

(4)

بسبع وعشرين درجة». وللبخاري من حديث أبي سعيد: «بخمس وعشرين درجة» . زاد أبو داود: «فإذا صلاَّها في فَلَاة فأتم ركوعها وسجودها

(1)

سورة العنكبوت، الآية:(65).

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

أي فكان ما دون الركعة عند السلام مرفوضًا.

(4)

تقدم شرحها ص 279، التعليقة رقم:(2).

ص: 351

وَكَذَا فِيهِ إلَّا بَعْدَ ضَمِّ أُخْرَى.

وإن صلَّى ثَالثًا مِنْهُ يُتِمُّهُ ثُمَّ يَقْتَدِي مُتَنَفِّلًا، إلَّا في العَصْرِ.

===

بلغت خمسين صلاة». ورواها ابن حِبَّان، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين. قال الترمذي: وعامة من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال: «خمساً وعشرين» إلا ابن عمر: فإنه قال: «بسبع وعشرين» .

(وَكَذَا) يقطع (فِيهِ) أي في الرُّبَاعي لكن لا يقطع فيه (إلاَّ بَعْدَ ضَمِّ) ركعة (أُخْرَى) صيانة لِمَا فعله عن البطلان. فإن قيل: إذا أقيمت المغرب وقد سجد فيها لِمَ لا تُضَمُّ ثانية لصيانة ما فعله عن البطلان ثم يقتدي؟ أُجِيبَ بأنه إذا ضَمَّ ثانية كان آتياً بأكثر المغرب فيلزمه إتمامها، وإذا أتمّها يكون في اقتدائه مُتَنَفِّلاً، وهو بالثلاث مكروه، وبالأربع مخالف للإمام. قيل: هذه مخالفة بعد الفراغ، فلا يضر كالمقيم المقتدي بمسافر. أُجِيبَ بأنّ صلاةَ المقيمِ والمسافرِ واحدة بالنَّظَرِ إلى الأصل، ولا كذلك ما نحن فيه. ولو دخل مع الإمام في المَغْرب بعدما صَلاَّها، أَتَمَّ أربعاً لأن مخالفةَ الإمام أَخَفُّ من التنفّل بثلاث. قال أبو يوسف، وهو الأحسن، ولو سَلَّم مع الإمامِ تفسد صلاته، فيقضي أربعاً لأنها لزمته بالاقتداء. وعن بِشْر: يُسَلِّم مع الإمام ولا شيء عليه. ولعل وجهه عدم التزامه الرابعة حالَ الاقتداء.

واحترز بقوله: «في فرض» عمَّن شَرَعَ في نَفْلٍ أو سُنَّة، فإنه لا يَقْطَعُ لأنَّ قطعه ليس لإكمال ما قَطَعَه. ولو كان في سُنة الظهر والجمعة فأُقيمت أو خَطَب الإمام يقطع على رأس الركعتين. وهو مروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف وإليه مال السَّرَخْسِي. وقيل: لا يسلم لأنها صلاة واحدة، والقطع هنا ليس للإكمال. والأول أَوْجَه لأنه يتمكن من قضائها بعد الفرض. ولا إبطال في التسليم على رأس الركعتين. فلا يُفَوِّتُ فرض الاستماع والأداء على الوجه الأكمل بلا سبب.

(وإن صلَّى ثَالثَاً مِنْهُ) أي من الرُّبَاعِي بأنْ سَجَد لثالثة (يُتِمُّهُ ثُمَّ يَقْتَدِي مُتَنَفِّلاً)، لأن الفرض لا يتكرر في وقت واحد. ويؤيده ما في مسلم عن أبي ذر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنت إذا كان عليك أمراء يُؤَخِّرُون الصلاة عن وقتها؟ قلت: فما تأمرني؟ قال: صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فإنها لك نافلة» . وأداء الإمام فرضاً والمأموم نفلاً جائز بلا خلاف.

(إلاَّ في العَصْرِ) أي في فرضه، لأن النفل بعده مكروه. وعن محمد: يُتِمُّ قاعداً فتنقلب صلاته نفلاً، ثم يقتدي فيحصل له ثواب النفل والفرض في جماعة من غير

ص: 352

وكُرِهَ خُرُوجُ مَنْ لَمْ يُصَلِّ مِنْ مَسْجِدٍ أُذِّنَ فِيهِ، لا لِمُقِيم جَمَاعةٍ أُخْرَى،

===

إبطال. وأما لو لم يسجد لثالثة الرُّبَاعِي فيقطع.

والحاصل: أنه إذا أُقِيمَت بعدما صلّى ركعة من الفجر أو المغرب قطع وأتم، لأنه لو أضاف إليها أخرى لفاتته الجماعة لوجود الفراغ حقيقة أو شُبْهَة، وكذا لو قام إلى الثانية قبل أن يقيدها بالسجدة، وإنْ قيَّد الثانية فيهما بسجدة أتَمَّ. ولا يقتدي بالفجر لكراهة النفل بعده، وكذا في المغرب على ظاهر الرواية، لقوله عليه الصلاة والسلام:«إذا صلّيت في أهلك، ثم أدركت الصلاة فصلِّها إلاَّ الفجر والمغرب» . رواه الدَّارَقُطْنِيّ من حديث ابن عمر. قال عبد الحق: تَفَرَّدَ برفعه سَهْل بن صالح الأَنْطَاكِيّ وكان ثقة، فلا يضرّه حينئذٍ وَقْفُ من وقفه، لأن زيادة الثقة مقبولة.

ولو أدرك الإمامَ راكعاً فكبّر ووقف حتى رفع الإمام رأسه لم يصر مدركاً لتلك الركعة، لأن الشرط هو المشاركة للإمام في أفعال الصلاة، ولم يوجد لا في القيام ولا في الركوع، خلافاً لِزُفَر والشافعيّ. وأما لو أدركه في القيام ولم يركع معه حتى رفع الإمامُ رأسه، ثم ركع المقتدي صار مُدْرِكاً لتلك الركعة، لأنه أدرك حقيقة القيام وذلك بالاتفاق. ولو ركع قبل الإمام فأدرك الإمام فيه صحَّ، لوجود المشاركة وكُرِهَ للمخالفة، وقال زُفَر: لا يصح.

(وكُرِهَ خُرُوجُ مَنْ لَمْ يُصَلِّ) فرضه (مِنْ مَسْجِدٍ أُذِّنَ فِيهِ) لما روى ابن ماجه في «سننه» عن عثمان بن عَفَّان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أدرك الأذان في المسجد، ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجوع، فهو منافق» . وأخرجه أبو داود في كتاب «المراسيل» عن سعيد بن المُسَيَّب: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يخرج من المسجد أحد بعد النداء إلاَّ منافق، إلاَّ أحد أخرجته حاجة، وهو يريد الرجوع» . وأخرجه ابن ماجه بلفظ: «من أدرك الأذان في المسجد، ثم خرج لا يخرج لحاجة وهو لا يريد الرَّجْعَة

(1)

فهو منافق». وأخرجه الجماعة إلاَّ البخاري عن أبي الشَّعْثَاء، وسليم بن الأَسْوَدِ قال:«كنا مع أبي هريرة رضي الله عنه في المسجد، فخرج رجل حين أذَّنَ المؤذِّن للعصر فقال أبو هريرة: أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم» .

(لا) يُكْرَه الخروج بعد الأذان (لِمُقِيم جَمَاعةٍ أُخْرَى) بأن يكون مؤذنَ مسجد

(1)

في المطبوع: الرجوع، والمثبت من المخطوط وهو الصواب، لموافقته لِمَا في سنن ابن ماجه 1/ 242، كتاب الأذان والسنة فيها (3). باب إذا أذن وأنت في المسجد فلا تخرج (7)، رقم (734).

ص: 353

ولا لِمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ والعِشَاءَ، إلَّا عِنْدَ الإِقَامَةِ. وفي غَيْرِهِمَا يَخْرُجُ وإنْ أُقِيمَتْ.

وَيَتْركُ سُنَّةَ الفَجْرِ ويَقْتدِي، مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ، بِجَمْعٍ إن أدَّاهَا. ومَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْهُ صَلَّاهَا ولا يَقْضِيها إلَّا تَبَعًا لِفَرْضِهِ.

===

آخر أو إمامَه وإذا غاب تتفرق لغيبته جماعتُه (ولا) يُكْرَه الخروج بعد الأذان (لِمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ والعِشَاءَ) لأنه أجاب الداعي بالفعل (إلاَّ عِنْدَ الإِقَامَةِ) فإنه يكره خروجه لاتهام الناس بأنه من الخوارج والروافض من أهل البدعة الذين لا يَرَوْن الصلاة خلف أهل السنة (وفي غَيْرِهِمَا) أي غير الظهر والعشاء وهو الفجر والعصر والمغرب (يَخْرُجُ) أي يجوز له الخروج (وإنّ أُقِيمَتْ) لأنه أجاب الداعي مع كراهة التنفل بعد صلاة الفجر والعصر. وكُرِهَ التنفل بالثلاث بعد المغرب كما قدمنا.

(وَيَتْركُ سُنَّةَ الفَجْرِ ويَقْتدِي مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ) أي فرض الفجر (بِجَمْعٍ) أي بجماعة (إن أدَّاها) أي سنة الفجر، لأن الفجر (بِجَمْعٍ) أي بجماعة (إن أدَّاهَا) أي سنة الفجر لأن ثواب الجماعة أعظم من ثواب السُّنة. ففي «صحيح مسلم»: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ

(1)

بسبع وعشرين درجة».

(ومَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْهُ) أي من فرض الفجر لو صلّى سنّته (صَلاَّهَا) أي سنّته أولاً، لأنه أمكن الجمع بين فضيلتي السنّة والجماعة. لقوله عليه الصلاة والسلام:«من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» . رواه مسلم، وابن ماجه. لكن يُصَلِّي السنة عند باب المسجد أو في موضع لا يُصَلِّي فيه أحد. وإن لم يمكن له ذلك فيصلي خلف الصفوف ويبعد ما استطاع لنفي التُّهْمَة عن نفسه. روى الطحاوي عن أبي الدَّرْدَاءِ:«أنه كان يدخل المسجد والناس صفوف في صلاة الفجر فيصلي الركعتين في ناحية المسجد، ثم يدخل مع القوم في الصلاة» . وروى أيضاً عن ابن مسعود: نحوه. وقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تَدَعُوا ركعتي الفجر وإن طردتكم الخيل»

(2)

. وسكت عنه أبو داود ولم يُضَعِّفْه. وفي إسناده رجل مُخْتَلَف في توثيقه ذكره النووي. ولو كان يدرك التشهد، قال شمس الأئمة السَّرَخْسِيّ: يدخل مع الإمام. قال: وكان الفقيه أبو جعفر يقول: يصليها ثم يدخل مع الإمام عندهما، ولا يصليها عند محمد. وهو فرع اختلافهم فيمن أدرك تشهّد الجُمُعَة وسيأتي، أو فرع اختلافهم في قضائها وعدمه.

(ولا يَقْضِيها) أي سنة الفجر عندهما (إلاَّ تَبَعاً لِفَرْضِهِ) قبل الزوال بالاتفاق،

(1)

الفذُّ: تقدم شرحها ص: 279، التعليقة رقم:(2).

(2)

مرّ تخريجه صفحة 327.

ص: 354

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وبعده أيضاً عند بعض مشايخ ما وراء النهر. وقال محمد: يقضيها وحدها أيضاً قبل الزوال لِمَا روى مسلم من حديث أبي هريرة قال: «عَرَّسْنَا

(1)

مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ليأخذ كل إنسان برأس راحلته، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان. قال: ففعلنا، ثم دعا بالماء فتوضأ، ثم صلّى سجدتين، ثم أقيمت الصلاة فصلّى الغَداة ـ أي فرض الفجر ـ قضاء». ولهما أنَّ الأصل في السنة أن لا تُقْضَى. وقد ورد هذا الحديث بقضاء سنة الفجر تَبَعاً، فيبقى ما عدا ذلك على الأصل.

وذكر في «الفتاوي الظَّهِيرِيَّة» : لو افتتح ركعتي الفجر قبل صلاة الفجر، وأفسدها ثم قضاها بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس، قيل: يجوز، وفيه نظر. والأصَحُّ أنه لا يجوز، لأنه إبطال للعمل. وقد قال الله تعالى:{ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}

(2)

. وقد قال في «المُنْيَة» : ولو أفسد سنة الفجر لا يقضيها بعدما صلى الفجر. قال الحَلَبِي: لِمَا مَرَّ من كراهة ما لزم بالشروع في الوقتين. قيل: والأحسن أنْ يشرع في السُّنَّة، ثم يُكَبِّرُ من غير رَفْعٍ بالفريضة ناوياً لها، ويُتِمَّ الفرض مع الإمام فإذا سلَّم الإمام لم يسلم هو، ويقوم ويُصَلِّي السنة بلا نية مُجَدَّدَة بل بالنية الأولى، فلا يكون مفسداً للعمل، بل يكون مُنْتَقلاً من عمل إلى عمل.

قال في شرح «المُنْيَة» : ولا يُلْتَفَتُ إلى ما ذُكِرَ في «المحيط» عن بعض المشايخ من أنه: إنْ خاف أن لا يُدْرِكُ الفرض لو صلَّى السنة، فالأحسن أن يشرع في السنّة ويكبّر لها ثم يكبّر أخرى للفريضة، فيخرج من السنة ويصير شارعاً في الفريضة ولا يصير مفسداً، لعدم الفائدة في ذلك، لأنه وإن سُلِّمَ أنه لا يصير مفسداً، لكن كراهة قضائها بعد صلاة الفجر باقية. اللهم إلاَّ أنْ يفعل ذلك ليقضيها بعد ارتفاع الشمس، فهو غير ثابت بالسنة ـ كما سبق ـ فلا فائدة في هذا التكَلُّف.

وأيضاً إنَّ ما وجب بالشروع ليس أقوى مما وجب بالنذر، ونَصَّ محمد: أنَّ المنذور لا يُؤَدّى بعد الفجر قبل الطلوع. وأيضاً شروع في العبادة بقصد الإفساد، فإن قيل: ليؤدّيها مرة أُخْرَى قلت: إبطال العمل قصداً مَنْهِيٌّ عنه، ودرء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة.

وقال مالك والشافعي: يترك سنة الفجر ويقتدي، وإن لم يخف فَوْتها كالظهر.

(1)

عرّس: تقدم شرحها ص: 236، التعليقة رقم:(3).

(2)

سورة محمد، الآية:(33).

ص: 355

ويَتْرُكُ سُنَّةَ الظُّهْرِ في الحَالَيْنِ ويَقْتَدِي، ثُمَّ يَقْضِيهَا قَبْلَ شَفْعِهِ، وغَيْرُهُمَا لا يُقْضَى أَصْلًا.

===

قلنا: يمكن قضاؤها في وقت الظهر بعد الفرض بخلاف سنة الفجر كما قدمناه.

(ويَتْرُكُ سُنَّةَ الظُّهْرِ في الحَالَيْنِ) أي حال إدراك ركعة من الظهر، وحال عدم إدراكها (ويَقْتَدِي) لأنه يمكنه أداء سنّة الظهر في وقته بعد أن يصلِّي مع الجماعة (ثُمَّ يَقْضِيهَا) أي يؤدي سنة الظهر في وقته كما رُوِيَ عن أبي حنيفة وصَاحِبَيْه، وهو الصحيح. وقيل: لا يَقْضِي لأنه عليه الصلاة والسلام إنما واظب عليها قبل الظهر.

(قَبْلَ شَفْعِهِ) أي الركعتين اللتين بعده، وهذا عند محمد. وعند أبي يوسف: يقضيها بعد شَفْعِه. وقيل: الخلاف بالعكس. ثم وجْهُ تقديم الأربع على الشَّفْعِ: أنَّ حقها التقديم على الظهر المتقدم، وتأخيرها عن الظهر لا يقتضي تأخيرها عن شفعه. ووجه تقديم الشفع على الأربع: أنها فاتت عن محلها، فلا يفوت الشفع عن محله ـ وهو الاتصال بالفرض ـ وهو المعتمد. لما رواه ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الأربع قبل الظهر، صلاَّها بعد الركعتين بعد الظهر» . وما رواه صاحب «الهداية» من قوله صلى الله عليه وسلم «من ترك الأربع قبل الظهر لم تنله شفاعتي» . فغير معروف.

(وغَيْرُهُمَا) أي غير سنّة الفجر والأربع قبل الظهر من السنن (لا يُقْضَى) أي لا يلزم قضاؤه (أَصْلاً) أي لا وحده، ولا تَبَعاً لفرضه، لأن لزوم القضاء مختصٌّ بالفرض والواجب، وسنّة الفجر لقوّتها قريبة من الواجب، وسنّة الظهر إنما فات محلها لا وقت فرضها. وقيل: يُقْضَى غيرهما تَبَعاً. لأن الشيء قد لا يثبت قصداً، ويثبت تَبَعاً، والقياس على سنة الفجر تَبَعاً.

ثم الأفضل في عامة السنن والنوافل المَنْزِل، وهو مرويٌّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فقد روى ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال:«اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً» . متفق عليه. وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإنّ الله جاعل في بيته من صلاته خيراً» . رواه مسلم. وعن زيد بن ثابت: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صَلُّوا أيها الناس في بيوتكم، فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاَّ المكتوبة» . متفق عليه. وفي رواية مسلم: «فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلاَّ المكتوبة» . وعنه: «صلاة في مسجدي هذا، أفضل من ألف صلاة في غيره، وأفضل منه ركعتان يصليهما في زاوية بيته» . ضَعَّفه النووي وغيره.

ص: 356

‌فَصْلٌ في قَضَاءِ الفَوَائِتِ

فُرِضَ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الفُرُوضِ الخَمْسَةِ والوِتْرِ فَائِتًا، كلُّهَا أو بَعْضُهَا،

===

فصلٌ في قَضَاءِ الفَوَائِتِ

اعلم أن الأداء: تسليم عين الواجب بالأمر، كفعل الصلاة في وقتها. والقضاء: تسليم مثله به ـ أي بالأمر ـ، فلا يُقْضَى النَّفْل لأنه غير مضمون عليه بالترك.

(فُرِضَ التَّرْتِيبُ) أي وجب، وهو فرض عملي لا اعتقادي لأنه ثبت بدليل ظنّي (بَيْنَ الفُرُوضِ الخَمْسَةِ والوِتْرِ فَائِتاً كلُّهَا أو بَعْضُهَا) وقال أبو يوسف ومحمد: لا ترتيب بين الفروض والوتر بناء على أنّ الوتر سنّة عندهما، ولا ترتيب بين الفروض والسنن عند الكل. وقال مالك: الترتيب في قضاء الفوائت واجب بالذكر، ساقط بالنسيان في خمسٍ وما دونها. وقال الشافعي: الترتيب في الفروض مستحب، لأن كل فرض أصل فلا يتوقف جوازه على جواز غيره كالصيامات والزكوات، واختاره ابن الهُمَام، وخالف المشايخ العِظَام.

ولنا: ما في «الصحيحين» من حديث جابر: «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل يَسبُّ كفار قريش يوم الخندق وقال: يا رسول الله ما كِدْتُّ أُصلّي الظهر حتى كادت الشمس أن تغرب. وقال عليه الصلاة والسلام: والله ما صلّيتها. قال: فنزلنا بُطْحَان، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضّأنا، فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بعدما غربت الشمس، وصلّينا بعدها المغرب» . ولو كان الترتيب مستحباً، لَمَا أخر عليه الصلاة والسلام لأجله المغرب التي تأخيرها مكروه. ولا سيما على القول بتضييق وقت المغرب كما هو أحد قولي الشافعي ومذهب مالك. وروى أحمد والنَّسائي والترمذي عن ابن مسعود:«أنه عليه الصلاة والسلام شُغِلَ عن أربع صلوات يوم الخندق ـ يعني في يوم آخر من أيامه ـ حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً فأذن له، ثم أقام فصلّى الظهر، ثم أقام فصلّى العصر، ثم أقام فصلّى المغرب، ثم أقام فصلّى العشاء» .

والحاصل: أن الترتيب واجب بين الفائتة والوقتية وبين الفوائت. فلنا على الأول صريح قوله عليه الصلاة والسلام: «من نَسِيَ صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليتمّ صلاته، فإذا فَرَغَ من صلاته فليُعِد التي نَسِيَ ثم ليُعِد التي صَلاَّها مع الإمام» . رواه الدَّارَقُطْنِي، ثم البيهقي في «سننيهما» عن إسماعيل بن إبراهيم التَّرْجُمَانِي، عن سَعِيد بن

ص: 357

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

عبد الرحمن الجُمَحِيّ، عن عُبَيْد الله، عن نافع، عن ابن عمر. ورواه مالك عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً. وصحح الدَّارَقُطْنِيّ وأبو زُرْعَة وغيرهما وقفه. واختلفوا في نسبة الخطأ في رفعه: فمنهم من نسبه إلى الجُمَحِيّ، ومنهم من نسبه إلى التَّرْجُمَانِي. ولا يخفى أنَّ الرفع زيادة، وهو من الثقة مقبولة، وهما ثقتان. قال ابن مَعِين وأبو داود وأحمد في التَّرْجُمَاني: لا بأس به. وكذا وثق ابنُ مَعِين والنَّسائيُ الجُمَحِيَّ.

فإن قُلْتَ: لا يقاوم مالكاً. قُلْتُ: المختار في تعارض الوقف والرفع ليس كون الاعتبار للأكثر ولا للأحفظ وإن كانت مذاهب، بل للرافع بعد كونه ثقة، وهذا لأن الترجيح بذلك هو عند تَعَارُض المَرْوِيَّين، ولا تَعَارُض في ذلك لظهور أن الراوي قد يقف الحديث، وقد يرفعه. على أنَّ الحديث في حكم المرفوع ولو كان موقوفاً، لأن مثله لا يُقَال بالرأي. ويؤيده قول حَبِيب بن سِبَاع، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى المغرب، ونَسِي العصر فقال لأصحابه: هل رأيتموني صلّيت العصر؟. قالوا: لا يا رسول الله ما صلّيتها، فأمر المُؤَذِّن فأذَّن، ثم أقام فصلّى العصر و (نقض)

(1)

الأولى، ثم صلّى المغرب». رواه أحمد في «مسنده» ، والطَّبَرَانِي في «معجمه» من طريق ابن لَهِيعَة.

ولنا: على الثاني ما رواه أحمد والترمذي والنَّسائي عن عبد الله بن مسعود: «أن المشركين شَغَلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً فأذَّنَ، ثم أقام فصلّى الظهر، ثم أقام فصلّى العصر، ثم أقام فصلّى المغرب، ثم أقام فصلّى العِشَاء» .

وفي حديث مالك بن الحُوَيْرِث الذي أخرجه البخاري في الأذان: «وصلُّوا كما رأيتموني أصلّي» . فهو استدلال بمجموع فعله المرتب، وأمره بالصلاة على الوجه الذي فعل، فلزم الترتيب. وفي رواية النَّسائي من حديث أبي سعيد الخُدْرِيّ قال: «حُبِسْنَا يوم الخندق عن الظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى كُفِينَا ذلك، فأنزل الله {وكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ}

(2)

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بلالاً فأقام، ثم صلّى الظهر كما كان يصلّيها قبل ذلك، وهكذا قال في البواقي، ثم قال: وذلك قبل أن نَزَل: {فَرِجَالاً أو رُكْبَاناً}

(3)

. والظاهر أنّ التمسك به لا يتم لأنه خبر الواحد فلا تثبت به الفرضية، وإنما

(1)

في المطبوع: نقص، والمثبت من المخطوط.

(2)

سورة الأحزاب، الآية:(25).

(3)

سورة البقرة، الآية:(239).

ص: 358

إلَّا إذَا ضَاقَ الوَقْتُ، أوْ نَسِيَ،

===

يثبت به الوجوب.

وأما كونه شرطاً كما هو ظاهر المذهب، فغير ظاهر وإلا لَمَا سقط بالنسيان وضيق الوقت وكثرة الفوائت. وأمّا قول بعضهم وقع الحديث بياناً لمجمل الكتاب وهو قوله تعالى:{وأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}

(1)

فثبت لجواز الوقتية شرطاً به، فمدفوع بأنهم ما عَمِلُوا بخبر الفاتحة مثل ما عملوا بخبر الترتيب، حيث قالوا بفساد الصلاة عند ترك الترتيب لا عند ترك الفاتحة، وكذا قالوا بفسادها لو صلّى بمسح الرأس أدنى من الربع، مع أنه ثبت بخبر الآحاد مبيناً لِمَا أُجْمِلَ في الكتاب. ولا يظهر فرق بين المسائل الثلاثة.

فالحاصل: أن مقتضى الدليل وجوب تقديم الفائتة دون فساد الوقتية لو لم تُقَدَّم، فإن لم يفعل أَثِمَ لترك مقتضى خبر الواحد كترك الفاتحة سواء، لكن قال بعض المحققين: هذا إحداث قول ثالث بين القول بالاستحباب والقول بالوجوب على وجه يُفْسِدُ الوقتية، وهو لا يجوز ـ يعني في العرف والعادة ـ وإلاّ فأي مانع من الكتاب والسنة على هذه الإرادة مع أنه ليس فيه خلاف إجماع السلف، ولا اتفاق الخلف.

(إلاَّ إذَا ضَاقَ الوَقْتُ) بحيث صار الباقي منه عند الشروع لا يسع الفائتة والوقتية جميعاً، ولو كان الباقي من الوقت يسع بعض الفوائت والوقتية، قضى ما يسعه من الفوائت مع الوقتية، وهو الصحيح. ثم المعتبر عند محمد: الوقت المستحب، وعندهما: أصل الوقت. فلو تذكر الظهر وقت العصر، وكان بحيث لو قدم الظهر يقع العصر في الوقت المكروه، يسقط الترتيب عند محمد، ولا يسقط عندهما. وإنما كان ضيق الوقت مسقطاً للترتيب، لأن في اعتبار الترتيب مع ضيق الوقت تفويت الوقتية.

(أوْ نَسِيَ) لأن الوقت إنما يصير للفائتة بالتذكر. والترتيب يسقط بعذر العجز، كما يسقط بعذر النسيان، كفوت ثلاث من ثلاثة أيام كظهر وعصر ومغرب نَسِيَ ترتيبها على الأصح. وفي «الصحيحين» عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ نَسِي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلاَّ ذلك. قال الله تعالى:{وأَقِمِ الصَّلَاةِ لِذِكْرِي}

(2)

». ولمسلم «من نَسِيَ صلاة أو نام عنها، فكفارتها أن يصلّيها إذا ذكرها» .

(1)

سورة البقرة، الآية:(43).

(2)

سورة طه، الآية:(14).

ص: 359

أو فَاتَتْ سِتٌّ.

===

وقال الحسن: «من لا يعلم أنَّ الترتيب فرض فهو كالناسي» . وبه أخذ كثير من المشايخ. وقال مالك في المشهور عنه: إنه لا يسقط بهما. لإطلاق ما رَوَيْنَا.

(أو فَاتَتْ سِتٌّ) أي ست صلوات من الفروض الخمسة لا الوتر، حديثة كانت أو قديمة، لأن الاشتغال بالفوائت الكثيرة يؤدي إلى تفويت الوقتية ـ كذا قيل ـ وفيه نظر ظاهر. والكثرة تحصل بالدخول في حد التكرار. والدخول في أول حد التكرار يحصل بكون الفوائت ستّاً. فالمعتبر خروج وقت السادسة في ظاهر الرواية.

واعتبر محمد في رواية عنه: دخول وقت السادسة لا فوتها، لأن الكثير من كل شيء جنسه الاستغراقي، وكل الجنس في الصلوات الخمس كالشهر في الصوم، فالزائد عليها في حكم التكرار. وأسقط مالك الترتيب بصيرورة الفوائت خمساً. وهو رواية عن أبي حنيفة. لأن قوله عليه الصلاة والسلام:«من نام عن صلاة»

(1)

. شامل للقليل والكثير، ولكن خَصَّصْنَاه بما دون الكثير الذي يتكرر بوظيفة اليوم والليلة تحرّزاً عن المشقة.

وقال زُفَر: لا يسقط الترتيب بكثرة الفوائت إذا كان الوقت يسعها مع الوقتية. وإن كانت الفوائت عشراً، أو أكثر ولو شهراً، لأن مراعاة الترتيب حكم اسْتُفِيدَ بخبر الواحد، وليس في العمل به ترك حكم الكتاب لاتساع الوقت للكل، فجمع بينهما. أمَّا إذا لم يسع الكل، فإن العمل بالخبر حينئذٍ يؤدي إلى ترك العمل بالكتاب، فَيُقَدَّمُ حكم الكتاب على حكم الخبر. وعند ابن أبي لَيْلَى: لا يسقط الترتيب إلى سَنَة. وعند بِشْر بن غِيَاث: لا يسقط في جميع العمر لعدم الفصل في دليل الوجوب.

ثم كما تُسْقِطُ الستُّ الترتيبَ في الأداء تُسْقِطُ في القضاء، لأن الفوائت لَمَّا أسقطت الترتيب في غيرها فلأَنْ تُسْقِطَهُ في نفسها أولى. ومتى سقط الترتيب لا يعود في أصح الروايات، حتى لو ترك صلاة شهر وقضاها إلاَّ صلاة، ثم صلّى الوقتية ذاكراً لها

(2)

، جاز. وهو اختيار شمس الأئمة، وفخر الإسلام، وقاضيخان، وغيرهم. قال أبو حَفْصٍ الكبير: وعليه الفتوى، لأنَّ الساقط مُتَلَاشٍ، فلا يحتمل العود، كماء قليل نجس ورد عليه ماء جار حتى كَثُرَ، ثم عاد قليلاً، فإنه لا يعود نجساً. واختار الفقيه أبو

(1)

أخرجه النسائي في سننه 1/ 293، كتاب الصلاة (5)، باب فيمن نام عن صلاة (53) رقم (615).

(2)

أي الصلاة التي لم يُصَلِّها.

ص: 360

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

جَعْفَر: أن الترتيب يعود بعد سقوطه. وقال صاحب «الهداية» : إنه الأظهر.

ويُعْتَبَرُ أن تكون الست من وقت الفوائت سواء كان كلها فوائت أو بعضها

(1)

. وقيل: يُعْتَبَرُ أن تكون الفوائت، نفسها ستّاً

(2)

.

هذا، ويلزم المُرْتَدَّ عَقِيبَ فرضٍ أدّاه: صلاة كان أو حجّاً، وأسلم في الوقت، إعادتُه ثانياً

(3)

. وبه قال مالك خلافاً للشافعي لقوله تعالى: {ومَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}

(4)

عَلَّقَ الإحباط بموته على كفره. ولم يُوجَدْ شرطُ ما يُعَلَّقُ الإحباط به لإسلامه في وقتها، فلا يجب عليه إعادتها. ولنا: قوله تعالى: {ولَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}

(5)

وقوله: {ومَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}

(6)

علّق الإحباط بنفس الشرك والكفر، وقد وُجِدَ فنزل المشروط.

والجوابِ عن الآية السابقة: أنَّ المراد حبوط عمله في الدنيا والآخرة، وهو لا يكون إلاَّ بموته على الكفر

(7)

. وأما صوم المغتاب وصلاة المُرَائِي فلم يبطل ثوابهما من الأصل، ولكن حَصَّلَ من الرياء والغِيبة من الوبال ما ورد، لأنه بالغيبة والسُّمْعَة لا يخرج عن أهْلِيَّة الخطاب. بخلاف الكفر.

ولا يلزم المرتدَّ بعد التوبة قضاءُ ما فاته من صلاة وصيام زمن الرِّدَّة عندنا. وبه

(1)

اعلم أن الفوائت إما أن تكون حقيقية أو حكمية، وإطلاقها هنا يفيد شمولها لكليهما، ولتقريب عبارة الشارح نضرب المثال التالي: إذا ترك فرضًا وصلى بعده خمس صلوات ذاكرًا له، فإِن الخمس تفسد فسادًا موقوفًا. فالمتروكة فائتة حقيقة وحكمًا، والخمسة الموقوفة فائتة حكمًا فقط. فأصبح معنى قوله:"يُعْتَبَرُ أن تكون الست من وقت الفوائت، سواء كان كلها فوائت أو بعضها"، أي أن يكون بعضها حقيقيًا وبعضها حكميًا. "رد المحتار على الدر المختار" 1/ 489 بتصرف.

(2)

أي أن تكون الفوائت الحقيقية ستًا.

(3)

لأنه حبط بالردة. فلو صلّى الظهر مثلًا، ثم ارتدَّ عن الإسلام بقول أو بفعل - والعياذ باللَّه تعالى -، ثم عاد للإسلام، بلفظ الشهادتين ولم يمضِ وقت الظهر بعد، لزمه الإعادة. وكذلك الحج، لأن وقته العمر وسببه باقٍ وهو البيت، فلَمَّا حبط عمله بالردة ثم أدرك وقته مسلمًا لزمه. انظر "رد المحتار"4/ 494.

(4)

سورة البقرة، الآية:(217).

(5)

سورة الأنعام، الآية:(88).

(6)

سورة المائدة، الآية:(5).

(7)

لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في قوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ .... } الآية، عملين: أحدهما. الرِّدَّة، والآخر: الموت عليها - أي الاستمرار عليها إلى الموت -. وذكر جزاءين، لكل عمل جزاء، فإحباط الأعمال جزاء الردة، والخلود في النار جزاء الموت عليها. "رد المحتار" 1/ 494.

ص: 361

‌فَصْلٌ في سُجُودِ السَّهْوِ

يَجِبُ بَعْدَ سَلامٍ وَاحِدٍ: سَجْدَتَانِ، وَتَشَهُّدٌ، وسَلامٌ

===

قال مالك خلافاً للشافعي. وأما الكافر الأصلي فلا يلزمه إجماعاً لقوله تعالى: {إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}

(1)

. ويُعْذَرُ من أسلم في دار الحرب بجهل الشرائع من الأحكام الواجبة: كإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، مدة جهله، خلافاً للشافعي وأحمد وزُفَر. وأمّا في دار الإسلام، فلا يُعْذَرُ بجهله لأنها دار علم وإعْلَام وشيوع أحكام، فلا يُعْذَرُ في ترك تعلّمه إجماعاً. وكذا دلائل وجود الصانع ظاهرة فلا يُعْذَرُ أحد بجهله في عدم معرفته إجمالاً

(2)

.

فصلٌ في سُجُودِ السَّهْوِ

(يَجِبُ بَعْدَ سَلَامٍ وَاحِدٍ سَجْدَتَانِ وَتَشَهُّدٌ وسَلَامٌ) أمَّا كون سجود السهو واجباً فلأنه (شُرِع)

(3)

لجبر نقصان في عبادة، فصار كالدماء في الحج، وهو اختيار الكَرْخِيّ. قال القُدُوري: وهو الصحيح. ولهذا يَرْفَعُ التشهدَ والسلام

(4)

. وقال بعضهم: ـ قيل: وهم عامة أصحابنا ـ هو سنّة. وأخذوا ذلك من قول محمد: إنَّ العَوْدَ إلى سجود السهو لا يرفع التشهد ـ يعني القعْدَة ـ ولو كان واجباً، لرفعها كما ترفعها السجدة الصُّلْبِيَّة وسجدة التلاوة. وأُجِيبَ بأنّ الشيء لا يَرْتَفِعُ بما هو دونه والقعْدَة الأخيرة ركن، فلا تُرْفَع بسجدة السهو التي هي غير ركن، بخلاف السجدة الصلبية فإنها ركن، وبخلاف سجدة التلاوة فإنها أثر القراءة وهي ركن فتعطى حكمها.

وأمّا كون سجدة السهو بعد السلام، فَلِمَا في الكتب الستة عن عبد الله بن مسعود قال:«صلى بنا النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر خمساً فقيل له: أَزِيدَ في الصلاة؟ فقال: «وما ذاك؟ قيل: صلّيت خمساً، فسجد سجدتين بعدما سَلَّم» . وما أخرجوه إلاَّ الترمذي عن منصور بن المُعْتَمِر، عن إبراهيم، عن عَلْقَمَة قال: قال عبد الله بن مسعود: صلَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم: فلا أدري زاد أو نقص، فلما سلم قيل: يا رسول الله أَحَدَث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صلّيت كذا وكذا، قال: فثَنَى رجليه، واستقبل

(1)

سورة الأنفال، الآية:(38).

(2)

في المطبوع إجماعًا، والمثبت من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(4)

أي يرفع سجودُ السهو التشهدَ والسلام، لذا بعد أن يُسَلِّم عن يمينه يقرأ التشهد كاملًا ويدعو، ثم يُسَلِّم سلامين.

ص: 362

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

القبلة، وسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: إنه لو حدث في الصلاة شيء لنَبَّأْتكم به، ولكنِّي إنما أنا بشر أنسى كما تَنْسَون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين». انتهى بلفظ أبي داود والبخاري.

ولفظ مسلم: «فليُتِمّ عليه، ثم يسجد سجدتين» (بلا ذكر السلام. ولفظ ابن ماجه: «ويُسَلِّم ويسجد سجدتين» بالواو

(1)

، وفي لفظ لأبي داود: «من شك في صلاته فليسجد سجدتين)

(2)

بعد السلام» ولم يذكر النَّسائي: «فإذا شك أحدكم» إلى آخره.

فهذا تشريع عام قولي له بعد السلام عن سهو الشك والتَّحَرِّي، كحديث ثَوْبَان: أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لكل سهو سجدتان بعد السلام» . رواه أبو داود، وابن ماجه عن إسماعيل بن عَيَّاش. قال أبو زُرْعَة: لم يكن بالشام بعد الأَوْزَاعِي، وسعيد بن عبد العزيز، أحفظ من إسماعيل بن عَيَّاش. وكحديث عبد الله بن جَعْفَر:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من شك في صلاته، فليسجد سجدتين بعدما يسلم» رواه أبو داود، والنَّسائي، وأحمد في «مسنده» ، والبيهقي وقال: هذا إسناد لا بأس به.

وما أخرجه البخاري، ومسلم، والطَّحَاوِي من طُرُق عن أبي هريرة قال:«صلّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فسلّم في ركعتين، فقام ذو اليَدَيْنِ فقال: أَقَصُرَتِ الصلاة يا رسول الله، أم نسيت؟ إلى أن قال فأَتَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين، وهو جالس بعد التسليم» . وفي رواية: «فتقدم فصلّى ما ترك، ثم سلّم، ثم كبَّر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكَبَّر، ثم كبّر وسجد مثل سجوده، ثم رفع رأسه وكَبَّر» .

وقد عمل به من الصحابة: عليّ، وسعد بن أبي وَقَّاص، وعبد الله بن مسعود، وعَمَّار بن ياسر، وابن عباس، وابن الزُّبَيْر رضي الله عنهم، ومن التابعين: الحسن، وإبراهيم النَّخَعِيّ، وابن أبي لَيْلَى، والثَّوْرِي رحمهم الله وأهل الكوفة، ذكره الحَازِمي في كتابه «الناسخ والمنسوخ» .

وزاد الطَّحَاوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنس بن مالك، وعمر بن عبد العزيز. وقال مالك: سجود السهو في النقصان قبل السلام، وفي الزيادة بعد

(1)

أي بواو العطف.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 363

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

السلام. وقال أحمد: السجود كله قبل السلام إلا في نقص ركعة تامة أو ركعتين.

وقال الشافعي: السجود كله قبل السلام لِمَا في الكتب الستة والطَّحَاوِي عن عبد الله بن بُحَيْنَة واللفظ للبخاري: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلَّى الظهر، فقام في الركعتين الأُولَيَيْنِ ولم يَجْلِس، وقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة، وانتظر الناس تسليمه، كَبَّر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلَّم» . وفي طريق الطَّحَاوي: «فلما قضى صلاته سجد سجدتين، كبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجد الناس معه، مكان ما نسي من الجلوس» .

وفي «الهداية» : الخلاف إنما هو في الأَوْلَوِية. قلت: وهو ظاهر الرواية. وقيل: الخلاف في الوجوب، وهو رواية «النوادر». وفي «المحيط»: لو سجد للسهو قبل السلام لا يعيده، لأنه لو أعاده يتكرر، وهو خلاف الإجماع. ورُوِيَ عن أصحابنا أنه يعيده، لأنه أتى به في غير محله، كما لو سجد قبل القَعْدَة. وأُجيبَ؛ بأنَّ السجود قبل السلام مجتَهَدٌ فيه بخلاف السجود قبل القعْدَة.

وأمَّا كون السلام واحداً فاختيار فخر الإسلام، وقول محمد. وفي «المحيط»: إنه الأَصْوَب، لأن السلام الأول للتحليل، والثاني للتحية. وهذا السلام للتحليل لا للتحية، فكان ضَمُّ الثاني إليه عَبَثاً. وقيل: يسلم تلقاء الوجه، وعليه الجمهور، وإليه أشار في «الأصل» . ولأن الحاجة إليه ليفصل بين الأصل والزيادة الملحقة، وهذا يحصل بتسليمة واحدة. وفي «الهداية»: الأصح أنه يسلم تسليمتين، وهو اختيار شمس الأئمة، وصدر الإسلام الشهيد، وقول أبي يوسف، ومحمد، حَمْلاً للسلام المذكور في الحديث على المعهود في الصلاة، وهو تسليمتان.

وأمّا التشهّد والسلام بعد السجود، فَلِمَا أخرج أبو داود والنَّسائي عن أبي عُبَيْدَة، عن أبيه عبد الله بن مسعود: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنت في الصلاة فشككت في ثلاث أو أربع، وأكبر ظنّك على أربعٍ تَشَهَّدت، ثم سجدت سجدتين وأنت جالس قبل أن تسلّم، ثم تَشَهَّدتَ أيضاً، ثم تُسَلِّم» . واختار الكَرْخِي، وفخر الإسلام أن يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وبالدعاء في التشهد الذي بعد سجود السهو، لأن موضعهما آخر الصلاة، وهي لا تنتهي إلاَّ بعد سجود السهو. وفي «الهداية»: إنه الصحيح.

وقال الطحاوي: يأتي بهما في الذي قبله، والذي بعده وهو الأحوط، لأن كلاً

ص: 364

لَوْ قَدَّمَ رُكْنًا، أَوْ أَخَّرَ، أوْ كَرَّرَ، أوْ غَيَّرَ وَاجِبًا، أوْ تَرَكَهُ سَاهِيًا: كَرُكُوعٍ قَبْلَ القرَاءَةِ، وتَأْخِيرِ الثَّالِثَةِ بزِيَادَةٍ على التَّشَهُّدِ والرُّكُوعَيْنَ، والجَهْرِ فِيمَا يُخَافَتُ، وتَرْكِ القُعُودِ الأَوَّلِ، ويؤُولُ الكُلُّ إلى تَرْكِ الوَاجِبِ.

===

منهما في آخر الصلاة. وقيل: يأتي بهما عند محمد في الذي بعده، وعندهما في الذي قبله. لأن سَلام من عليه السهو يُخْرِجُه من الصلاة عندهما، ولا يخرجه عند محمد. وفي «الظَهِيريَّة»: والسهو بعد الجمعة والعيدين والمكتوبة واحد. ومن المشايخ من قال: لا يسجد للسهو في العيدين والجمعة لئلا يقع الناس في فتنة.

(فَصْلٌ في مُوجِبَاتِ سُجُودِ السَّهْوِ)

(لَوْ قَدَّمَ رُكْناً) عن محله (أَوْ أَخَّرَ) رُكْناً عن محله (أوْ كَرَّرَ) رُكْناً (أوْ غَيَّرَ وَاجِباً أوْ تَرَكَهُ) أي الواجب ولو مراراً (سَاهِياً) هذا القيد راجع إلى كل واحد مما تقدَّم (كَرُكُوعٍ قَبْلَ القِرَاءَةِ) مثال لتقديم الركن على محله (وتَأْخِير) القَوْمة (الثَّالِثَةِ بزِيَادَةٍ على التَّشَهُّدِ) الأول بأن كَرَّرَه أو صلَّى فيه على النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن قال: اللهم صلَ على محمد. وقيل: لا، حتى يزيد وعلى آل محمد. وقيل: ولو بحرف من الصلاة عليه، والأول أصح. وهذا مثال لتأخير الركن عن محله. وكذا لو أخَّرَ سجدة صُلْبِيَّة، فتذكرها وهو في الركعة الثانية، فسجدها. (والرُّكُوعَيْنِ) مثال لتكرير الركن، وكذا لو زاد سجدة (والجَهْرِ فِيمَا يُخَافَتُ) وكذا المخافتة فيما يُجْهَرُ قدر ما يجوز به الصلاة هو الصحيح. وفي ظاهر الرواية: وإن قَلَّ ما جهر به أو أَسَرَّ. مثال لتغيير الواجب، وهذا بالنسبة إلى الإمام (وتَرْكِ القُعُودِ الأَوَّلِ) مثال لترك الواجب.

(ويَؤُلُ الكُلُّ) أي يرجع ما ذُكِرَ من تقديم الركن أو تأخيره، وتكريره، وتغيير الواجب، وتركه (إلى تَرْكِ الوَاجِبِ) لأن كل واحد من هذه المذكورات مشتمل عليه. ولو ترك ثلاث تكبيرات من أثنائها لم يجب عليه السهو، وأوجبه مالك. لأنه ذِكْرٌ مقصود، والثلاث جمع صحيح فأشبه ترك الفاتحة في الركعة والقنوت عندنا.

قلنا: إنه سنّة، والمقصود منه الإعلام بالانتقال من ركن إلى ركن، فلم يجب بالسهو عنه سجود، إذ وجوبه بترك الواجب. ولو شك في تكبيرة الافتتاح فأعادها مع الثناء، ثم تذكر أنه كان كَبَّر أو شك في ركوعه أو سجوده، فَتَفَكَّر فيه أو في غيره، وطال تفكّره بحيث أشغله عن أداء ركن من الصلاة، يسجد استحساناً. وفي القياس هو كالقصر في عدم لزوم السهو لعدم تمكّن النقص فيها حين تذكر أنه أدّاها (على وجهها.

ص: 365

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ومجرد التفكّر لا يُوجِبُ السهو، كما لو شك في صلاة قبل هذه ثم تذكر أنه أداها)

(1)

فإنه لا سهو عليه، وإن طال تفكّره. ووجه الاستحسان أنه إذا طال يتمكن فيها النقص بتأخير الركن عن محله. ولو شك الإمام أنه صلى ركعة أو شفعاً فلَحَظَ مَنْ خلفه، ليفعل مثله من قيام أو قعود لا بأس به، لاندفاع وهمه به، ولا سهو عليه لعدم موجبه.

وفي «المحيط» : ولو قعد فيما يُقَام، أو قام فيما يُقْعَدُ، أو قدَّم السورة في الأُولَيَيْنِ على الفاتحة، أو تركها في الأُولَيَيْنِ، أو في إحداهما، أو أخَّرَ القراءة عن الأُولَيَيْنِ، أو ترك القنوت، أو قراءة التشهّد، أو تكبيرات العيدين، أو زاد سجدة أو ركوعاً، أو ترك تعديل الأركان، أو القومة التي بين الركوع والسجود، أو سَلَّمَ ساهياً، ولم يَسْتَتِمّ ـ أي صلاته ـ لزمه سجدتا السهو، لأنه غَيَّر واجباً، أو تركه، أو بَدَّل فرضاً. ولو قرأ الحمد لله في الأُولَيَيْنِ مرتين أو قرأ أكثرها، ثم عاد فيها ساهياً، يسجد لأنَّه أخَّر السورة عن موضعها، أي فيكون تغيير واجب. ولو قرأ الحمد لله في الأُخْرَيَيْنِ مرتين، لا يسجد.

ولو قرأ الحمد لله في الأُولَيَيْن، ثم السورة، ثم الحمد لله، لا يسجد. وصار كأنه قرأ سورة طويلة. ولو قرأ بعض السورة، ثم تذكَّر أنه لم يقرأ الفاتحة، يقرأ الفاتحة، ثم السورة، ويسجد. ولو قرأ بعض الفاتحة وترك أكثرها، سجد. وإن ترك أقلها، لا يسجد. ولو قرأ في الأُخْرَيَيْنِ الفاتحة والسورة، لا يسجد، وهو الأصح. لأن قراءة الفاتحة وحدها في الأُخْرَيَيْن سنة. ولو ترك بعض التشهد، يسجد. ولو نَسِيَ التشهد الأخير، ثم ذكره قبل السلام فقرأه، فعن أبي يوسف روايتان. ولو قرأ في ركوعه أو سجوده، يسجد. لأنهما ليسا محل القراءة، وقد زاد فيهما شيئاً من جنس الصلاة، والواجب أن لا يُزَادَ فيها شيء ولا يُنْقَص. ولو قرأ في تشهّده، إن بدأ بالقراءة، يسجد، وإن بدأ بالتشهد، لا يسجد.

وذكر أبو الليْث في «العيون» : أنه لو تشهّد في ركوعه أو سجوده أو قيامه، لا يسجد. وذكر النَّاطِفي في «أجناسه» عن محمد: أنه لو تشهّد في قيامه قبل قراءة الفاتحة، لا يسجد، لأنه بمنزلة الثناء. وبعدها، يسجد. وهو الأصح. ولو تشهّد ـ أي في القِعْدة ـ (الأخيرة)

(2)

مرتين، لا يسجد، لأنه قرأه في محله، كما لو قرأ الفاتحة في الأُخْرَيَيْنِ مرتين. ثم ليس القعود بعد سجود السهو فرضاً، حتى لو قام بعده

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 366

ولا يَجِبُ السُّجُودُ بِسَهْوِ المُؤْتَمِّ، بَلْ يَجِبُ بِسَهْوِ إِمَامِهِ إِنْ سَجَدَ. والمَسْبُوقُ يَسْجُدُ مع إمَامِهِ ثُمَّ يقْضِي. وإنْ لَمْ يَقْعُدْ أوَّلًا، وَهُوَ إليه أقْرَبُ قَعَدَ وتَشَهَّدَ ولا سهْوَ عَلَيهِ،

===

لم يُفْسِد صلاته، لأنه لم يَرِدْ فيما روينا آنفاً إعادة قعود ولا تشهد. وإنما ورد في رواية عِمْرَان بن الحُصَيْن فقط إعادة السلام. نعم روى الدَّيْلَمِيّ في «مسند الفِرْدَوْسِ» عن ابن مسعود وأبي هريرة مرفوعاً:«سجدتا السهو بعد التسليم» ، وفيها تشهد وسلام.

(ولا يَجِبُ السُّجُودُ بِسَهْوِ المُؤْتَمِّ) لأنه إن سجد وحده خالف الإمام، وإن سجد معه إمامه صار الأصل تبعاً. ولو سلم المسبوق سهواً: إن كان مقارناً بسلام الإمام، فلا سجود عليه لأنه حينئذٍ مقتد، وإن كان بعد سلامه، فعليه السجود لأنه منفرد فيما يقضي بخلاف اللاحق، فإنه مقتد فيما يقضي فلا يسجد لسهوه فيه.

(بَلْ يَجِبُ) السجود على المُؤْتَمِّ (بِسَهْوِ إِمَامِهِ إِنْ سَجَدَ) إمامه لأنه تَبَعٌ لإمامه، سواء كان السهو حالة الاقتداء أو قبلها، حتى لو اقتدى به بعدما سجد واحدة من سجدتي السهو، يُتَابِعُه في الأخرى، ولا يقضي الأُولى.

(والمَسْبُوقُ يَسْجُدُ مع إمَامِهِ) تَبَعَاً له ولا يُسَلِّمُ (ثُمَّ يَقْضِي) ما فاته. وسبب أن المسبوق يقضي بعد فراغ الإمام ما روى أحمد عن مُعَاذ بن جَبَلٍ قال: «كانوا يأتون الصلاة وقد سبقهم ببعضها النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان الرجل يشير إلى الرجل إذا جاء كم صلّى؟ فيقول ـ أي يشير ـ واحدة أو اثنتين، فيصليها ثم يدخل مع القوم في صلاتهم. قال: فجاء مُعَاذ فقال: لا أجده على حال أبداً إلاَّ كنت عليها، ثم قَضَيْتُ ما سبقني. قال: فجاء وقد سبقه صلى الله عليه وسلم ببعضها فثبت معه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قام فقضى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قد سَنَّ لكم مُعَاذ، فهكذا فاصنعوا» . وفي «المحيط» : وإن لم يسجد المسبوق مع الإمام للسهو، وجب عليه السجود آخر صلاته استحساناً.

(وإنْ لَمْ يَقْعُدْ) الإمام والمنفرد (أوَّلاً وَهُوَ إليه) أي إلى القعود (أقْرَبُ) بأن لم يرفع ركبتيه عن الأرض، وقيل: بأن لم ينصِب النصف الأول. (قَعَدَ وتَشَهَّدَ) لأن ما قَرُبَ من الشيء له حُكْمَه. وهذا رواية عن أبي يوسف، واستحسنها مشايخ بُخَارَى. وفي «قاضيخان» في رواية: إذا قام على ركبتيه لينهض يقعد وعليه السهو، يستوي فيه القعدَة الأولَى والثانية، وعليه الاعتماد. وفي «شرح الكَنْز»: والأصح أنه يقعد ما لم يَسْتَتِمَّ قائماً. قلت: وهو ظاهر الرواية، ويؤيده الحديث الآتي.

(ولا سَهْوَ عَلَيْهِ) أي في القعود قبل أن يستوي قائماً في الأصح لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا اسْتَتَمَّ أحدكم قائماً فليصل وليسجد سجدتي السهو، وإن لم

ص: 367

وإلَّا قَامَ وسَجَدَ لِلْسَّهْوِ. وإنْ لَمْ يَقْعُدْ أَخِيرًا قَعَدَ مَا لَمْ يَسْجُدْ، وسَجَدَ لِلْسَّهْوِ، وإنْ سَجَدَ تَحَوّلَ فَرْضُهُ نَفْلًا، وضَمَّ سَادِسةً إنْ شَاءَ.

وإنْ قَعَدَ الأَخِيرَةَ ثُمَّ قَامَ سَهْوًا عَادَ مَا لَمْ يَسْجُدْ وسَلَّمَ، وإنْ سَجَدَ تَمَّ

===

يَسْتَتِم قائماً، فليجلس ولا سهو عليه». رواه الطحاوي وهو اختيار محمد بن الفضل، ولأنه لَمَّا عاد إلى القعود عن قُرب فكأنه لم يقم. وقيل: عليه السهو، لأنه أخَّر واجباً ـ وهو التشهد ـ عن وقته. والجواب ما رويناه.

(وإلاَّ) أي وإن لم يكن إلى القعود أقرب (قَامَ) لأنه قائم معنى فكان كالقائم حقيقة، ولو عاد فسدت صلاته على الصحيح، لأنه رفض فرضاً بعد الشروع فيه لِمَا ليس بفرض.

(وسَجَدَ لِلْسَّهْوِ) لتركه القعود الأول لصريح قوله صلى الله عليه وسلم «إذا قام الإمام في الركعتين، فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً يجلس، وإن استوى قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو» . رواه أبو داود. وأما ما رُوِيَ: من أنه عليه الصلاة والسلام قام من الثانية إلى الثالثة قبل أن يقعد، فسبَّحُوا به فعاد، كان قبل أن يستتم قائماً. وما رُوِيَ: أنه لم يَعُد ولكن سَبَّح بهم فقاموا كان بعد أن استتم قائماً.

(وإنْ لَمْ يَقْعُدْ) الإمام أو المنفرد (أَخِيراً) وقام لركعة أخرى (قَعَدَ) لإصلاح صلاته (مَا لَمْ يَسْجُدْ) لأنه بالسجود يتأكد خروجه عن صلاة الفرض (وسَجَدَ لِلْسَّهْوِ) لأنه أخَّرَ فرضاً وهو القعود عن محله (وإنْ سَجَدَ) سجدة تامة بأن وضع جبهته على الأرض عند أبي يوسف، وبأن رفعها عن الأرض عند محمد. وفي «المُحِيط»: هو المختار، ـ وتظهر ثمرة الخلاف فيما لو سبقه حدث في هذه السجدة، فإنه يبني عند محمد لا عنده (تَحَوّلَ فَرْضُهُ نَفْلاً) عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وبطلت صلاته بالكلية عند محمد، بناء على أن صفة الفرضية إذا بطلت لا تبطل التحريمة وهو قولهما، أو تبطل وهو قول محمد، وعلى أنَّ تركَ القعود على رأس الركعتين لا يُبْطِل التحريمة عندهما، ويُبْطِل عند محمد.

(وضَمَّ سَادِسَةً إنْ شَاءَ) لأنه نفل لم يشرع فيه قصداً فلا يجب إتمامه، ونُدِبَ الضم ليصير نفله ستاً، ولا سجود عليه في الأصح، لأن النقصان لفساد الفرضية لا يُجْبَرُ بالسجود (وإنْ قَعَدَ) الإمام أو المنفرد القَعْدَة (الأَخِيرَةَ ثُمَّ قَامَ سَهْواً) يظنها القَعْدَة الأُولى (عَادَ مَا لَمْ يَسْجُدْ وسَلَّمَ) لأن السلام، حالة القيام غير مشروع (وإنْ سَجَدَ تَمَّ

ص: 368

فَرْضُهُ وضَمَّ سَادِسَةً وسَجَدَ لِلْسَّهْوِ، والرَّكْعَتَانِ نَفْلٌ لا تَنُوبَانِ عَنْ سُنَّةِ الظُّهرِ. وَمَنْ اقْتَدَى بِهِ فِيهِمَا صَلَّاهُمَا،

===

فَرْضُهُ) لأنه لَمْ يَبْقَ إلا السلام وترْكه لا يُفْسِدُ الصلاة لأنه ليس بفرض.

(وضَمَّ سَادِسَةً) أي نَدْباً إن كان الفرض رُبَاعياً لتصير الركعتان نفلاً لِمَا روى ابن عبد البرّ في «التَمْهِيد» من حديث أبي سعيد: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن البُتَيْراء» . وهي أن يصلي الرجل واحدة يُوتِرُ بها. وقيل: لا يضم في العصر سادسة للنهي عن التنفّل بعدها. وأُجِيبَ بأن النهي عن التنفّل بعد العصر إنما هو عن التنفّل المقصود. ثم لو قطعها ولم يضم سادسة لا شيء عليه، لأن الشروع في الصلاة على ظنّ أنها عليه ليس بملزم عندنا. فإن قيل: لِمَ قال في المسألة السابقة: وضَمَّ سادسة إن شاء، وفي هذه المسألة لم يقل: إن شاء، مع أن الركعتين في كل من المسألتين نفل إذا قُطِعَ لا يُقْضَى؟ أجيب: بأنَّ ضم السادسة في هذه آكَدُ منه في تلك، لأن الفرض في هذه لم يَبْطُل، وجُبِرَ نقصانه بالسجود بعد الركعتين، فلو قطعهما يلزم ترك السجود الجابر إنْ لَمْ يَعُدْ له، وأداؤه على غير الوجه المسنون إن أعاده، بخلاف تلك المسألة، فإنه لا جَبْر فيها لنقص الفرض لبطلانه بالكلية، كذا في «شرح الوِقَايَة» .

وفي «الخَانِية» : لو قام الإمام بعد الأخيرة إلى الخامسة ساهياً، لا يتابعه المأموم، بل يمكث جالساً، فإن عاد الإمام سَلَّمَ معه، وإنْ سجد سلم وحده ولا ينتظره.

(وسَجَدَ لِلْسَّهْوِ) اسْتحساناً. والقياس أن لا يسجد لأنه صار إلى صلاة غير التي سَهَى فيها. ومن سهى في صلاة لا يسجد في غيرها، ووجه الاستحسان أنه جَبْرٌ لنقصان النفل بالدخول فيه على غير الوجه المسنون عند أبي يوسف، إذ الواجب أن يشرع في النفل بتحريمة مبتدأة له، ولم يوجد. ولنقصان الفرض بترك السلام منه عند محمد. وقال أبو منصور المَاتُرِيدِي: الأصح أنْ يجعل السجود جبراً للنقص المتمكن في الإحرام، فَيُجْبَرُ به نقص الفرض والنفل جميعاً.

(والرَّكْعَتَانِ نَفْلٌ) محض (لا تَنُوبَانِ عَنْ سُنَّةِ الظُّهرِ) لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّها إلاَّ بتحريمة مبتدأة. وعن محمد: أنهما ينوبان عنها (وَمَنْ اقْتَدَى بِهِ فِيهِمَا) أي في الركعتين (صَلاَّهُمَا) فقط عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يصلِّي ستّاً لأنه المؤدّى بهذه التحريمة. ولهما: أن الإمام لَمَّا استحكم خروجه عن الفرض، صار كأنه دخل فيهما بتحريمة أخرى.

ص: 369

وإنْ أفْسَدَ قَضَاهُمَا. وإنْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ لا يَبْنِي وإنْ بَنَى صَحَّ، فإنْ سَلَّمَ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ، فَهُوَ في الصلاة، إنْ سَجَدَ وإِلَّا لا.

[فصلٌ في الشَّك في الصَّلاةِ]

شَكَّ أوَّلَ مَرَّةٍ أنَّهُ كَمْ صلَّى؟

===

(وإنْ أفْسَدَ) الركعتين من اقتدى به فيهما (قَضَاهُمَا) عند أبي حنيفة، وأبي يوسف. وقال محمد: لا قضاء عليه، كما لو أفسدهما الإمام. ولهما: أنَّ سبب سقوط قضائهما، الشروع فيهما على ظن أنهما عليه، وهذا موجود في الإمام دون المُقْتَدِي.

(وإنْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ) في شفع النفل (لا يَبْنِي) شفعاً آخر عليه، لأنه إن أعاد السجود آخر الصلاة فقد بطل ما فعله في وسطها، وإنْ لم يعده فقد أتى به في غير محله. (وإنْ بَنَى صَحَّ) لبقاء التحريمة، وأعاد السجود لأنه في وسط الصلاة غير مُعْتَدَ به. وقيل: لا يعيد لحصول جبر النقصان به.

(فإنْ سَلَّمَ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ، فَهُوَ في الصلاة إنْ سَجَدَ) ولا يخرج من الصلاة بسلامه (وإِلاَّ لا) أي وإن لم يسجد فليس هو في الصلاة بل خرج عنها بسلامه، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، لأن سلامه عندهما أخرجه عن الصلاة خروجاً موقوفاً. ولا يخرجه عند محمد وزُفَر، فهو في الصلاة سواء سجد أو لم يسجد، لأنه لمَّا وجب عليه السجود لجبر الصلاة، فلا بد من اعتبار إحرامها باقياً. ولهما أنَّ السلام مُحَلِّلٌ، والحاجة إلى أداء السجود مانعة عن التحليل، فإذا لم يكن السجود، عَمِلَ السلامُ عملَه.

وثمرة الخلاف تظهر في الاقتداء بمن سلَّم وعليه سجود سهو قبل أن يعود، فعندهما: إن عاد، صح الاقتداء. وعنده: يصح الاقتداء ولو لم يعد. وفي انتقاض طهارته بالقهقهة، فعندهما: إن عاد ينتقض، وإن لم يَعُد لم ينتقض. وعنده: ينتقض إن عاد أو لم يعد. وفي تغيُّر فرض المسافر بنية الإقامة، فعندهما: إن عاد يتغير، وإن لم يعد لم يتغير. وعنده: يتغير عاد أو لم يعد.

(فصلٌ في الشك في الصلاة)

(شَكَّ أوَّلَ مَرَّةٍ أنَّهُ كَمْ صلَّى؟) قال صاحب «الأجْنَاس» : معناه أول ما سهى في عمره. قال شمس الأئمة: معناه أن السهو ليس بعادة له. وقال فخر الإسلام: معناه أول

ص: 370

اسْتَأْنَفَ، وإنْ كَثُرَ أَخَذَ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، وإنْ لَمْ يَغْلِبْ فَبِالأَقَلِّ،

===

ما عَرَضَ له في (تلك)

(1)

الصلاة (اسْتَأْنَفَ) لِمَا روى ابن أبي شَيْبَة، عن ابن عمر أنه قال في الذي لا يدري صلّى ثلاثاً أو أربعاً:«يعيد حتى يحفظ» . وفي لفظ آخر قال: «أمَّا أنا فإذا لم أدْرِ كمْ صلّيت؟ فإني أُعِيدُ» . وروى نحوه عن سعيد بن جُبَيْر، وابن الحَنَفِيَّة، وشُرَيْح. وروى عامر الشَّعْبِيّ، عن ابن عباس أنه قال:«إذا شك الرجل في الصلاة استقبل الصلاة» . وروى خَواهِر زَادَهْ وغيره في «المَبْسُوط» : أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شَكَّ أحدكم في صلاته، أنه كم صلّى؟ فليستقبل الصلاة» . واستغربه الزَّيْلَعِيُّ المُخَرِّج

(2)

، وقد تبعهم صاحب «الهداية» .

(وإنْ كَثُرَ) شكّه (أَخَذَ بِغَالِبِ ظَنِّهِ) وعَمِلَ به، لِمَا في «الصحيحين» ، عن ابن مسعود: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شكَّ أحدكم فليتحر الصواب، وليتم عليه ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين» ، ولأنه يتحرَّج بالإعادة في كل مرة، فيعمل بغالب ظنّه دفعاً للحرج.

(وإنْ لَمْ يَغْلِبْ) على ظنّه شيء (فَبِالأَقَلِّ) عمل وأَخَذ، لِمَا روى (ابن ماجه و)

(3)

الترمذي وقال: حسن صحيح. عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سهى أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدة صلّى أو ثنتين، فَلْيَبْنِ على واحدة، فإن لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على ثنتين، فإذا لم يدر ثلاثاً صلّى أو أربعاً فليبن على ثلاث، ويسجد سجدتين قبل أن يُسَلِّم» .

ولفظ ابن ماجه: «إذا سهى أحدكم في صلاته فلم يَدْرِ واحدةً صلّى أو ثنتين؟ فليجعلها واحدة، وإذا شك في ثنتين والثلاث فليجعلها ثنتين، وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثاً، ثم ليتم ما بَقِيَ من صلاته حتى يكون الوَهْم في الزيادة، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم»

(4)

. وكذا رواه الحاكم في «المستدرك» ، ولفظه:«فلم يدر أثلاثاً صلّى أو أربعاً؟ فليُتِمَّ فإن الزيادة خير من النقصان» . ولفظ أبي داود:

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

فليُعْلَم أن الزيلعي إذا قال: غريب، فهو يعنى بهذا أنه لم يَجِدْهُ، وهو اصطلاح خاصٌّ به، ولا يعني به الغريب الذي يتفرّد به بعض الرواة. فليُتَنَبَّه.

(3)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط، وهي صحيحة، لوجود الحديث في سنن ابن ماجه 1/ 381 - 382، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها (5)، باب ما جاء فيمن شك في صلاته

(132)، رقم (1209)، واللفظ للترمذي.

(4)

لفظ الحديث عند ابن ماجه: "إذا شك أحدكم في الثِّنْتَيْن والواحدة، فلْيَجْعَلْها واحدة، وإذا شك في الثِّنْتَيْن والثلاث فَلْيَجْعَلْها ثِنْتَيْن، وإِذا شك في الثلاث والأربع فَلْيَجْعَلْها ثَلاثًا، ثم ليُتِمَّ ما بقي من صلاته حتى يكون الوهم في الزيادة، ثم يسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يُسَلِّم". والحديث سبق تخريجه في التعليقة السابقة.

ص: 371

لَكِنْ يَقْعُدُ حَيْثُ تَوَهَّمَهُ آخِرَ صَلاتهِ.

‌فَصْلٌ في سُجُودِ التِّلاوَةِ

تَجِبُ سَجْدَةٌ بَيْنَ تَكْبِيرَتَيْنِ

===

«إذا شك أحدكم في صلاته فليُلقِ الشك وَلَيَبْنِ على اليقين» . ولأن في الإعادة حرجاً. وقد انعدم الترجيح، فتعين الأخذ بالأقل.

(لَكِنْ يَقْعُدُ حَيْثُ تَوَهَّمَهُ آخِرَ صَلَاتِهِ) لئلا تبطل صلاته بترك القعْدَة الأخيرة. توضيحه: أَنَّ القعْدة الأخيرة فرض، والاشتغال بالنفل قبل إكمال الفرض مفسد للصلاة. ولو تَوَهَّمَ المصلي أنه أتمَّ صلاته فسلَّم بناء على توهّمه، ثم عَلِمَ أنه صلّى ركعتين فقط، أتمّها في مكانه، وسجد للسهو لحديث ذي اليَدَيْنِ

(1)

. ولأنَّ سلامه كان سهواً، فلم يخرج به من صلاته لكونه بمعنى الدعاء بخلاف ما لو ظنَّ أنه مسافر، أو أنه يصلي الجُمُعَة، أو كان في العشاء فظنَّ أنها التراويح، فسلَّم على رأس الركعتين فإنه تَفْسُد صلاته، لأنه عالم بالقدر الذي أدى، فسلامه (سلام عمد، فقطع صلاتَه.

فأمَّا إذا كان عنده أنَّ هذه القعْدَة هي الأخيرة، فسلامه سلام)

(2)

سهو، فلم تفسد صلاته. ولو شك أنه صلّى أو لا، فإن كان في وقت الصلاة فالظاهر أنه لم يصلها. وإنْ كان بعده فالظاهر أنه صلاّها. ولو شك أنه ركع في صلاته أو لا، فإن كان في الصلاة يأتي به، وإن لم يكن فيها فالظاهر أنه فعله.

فصلٌ في سُجُودِ التِّلَاوَةِ

(تَجِبُ سَجْدَةٌ بَيْنَ تَكْبِيرَتَيْنِ) واحدة عند الوضع وأخرى عند الرفع. وبه قال ابن مسعود، وإبراهيم، والحسن، وأبو قِلَابَة، وابن سِيرينَ، وغيرهم. وهما سنتان كما في الصلاة. وقيل: إنهما ركنان.

وقال مالك والشافعي وأحمد: تُسَنُّ سجدة التلاوة لِمَا في «الصحيحين» عن زيد بن ثابت قال: قرأت على النبيّ صلى الله عليه وسلم النَّجْم فلم يسجد. ولنا قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وإذا قُرِاءَ عَلَيْهِم القُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ}

(3)

. وما روى مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان

(1)

تقدم الحديث في سجود السهو، ص:363.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

سورة الانشقاق، الآية:(21).

ص: 372

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

يبكي يقول: يا وَيْلَه أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمِرْتُ بالسجود فأبيت، فلي النار».

والأصل أن الحكيم إذا حَكَىَ عن غير الحكيم (كلاماً)

(1)

ولم يُعَقِّبْهُ بالإنكار، دلَّ على أنه صواب

(2)

. ففيه دليل على أن ابن آدم مأمور بالسجدة، والأمر للوجوب، مع أَنْ آي السجدة تفيده أيضاً، فإنها ثلاثة أقسام: قسم فيه الأمر الصريح، وقسم يتضمن حكاية استنكاف الكفرة حيث أُمروا به، وقسم فيه حكاية فِعْل الأنبياء بالسجود، وكلٌّ من الامتثال والاقتداء ومخالفة الكفرة واجب، إلا أن يدل دليل في معين على عدم لزومه. لكن دلالتها فيه ظنّية، فكان الثابت الوجوب لا الفرض.

أما عدم سجوده عليه الصلاة والسلام حالة قراءة زيد، فلا يدل على عدم الوجوب لأن وجوبها ليس على الفَوْر، أو لعل قراءة زيد كانت في وقت كراهة الصلاة، فإنَّ الأفضل تأخيرها ليؤديها في الوقت المستحب لأنها لا تفوت بالتأخير، أو على غير وضوء، أو ليبين أنه غير واجب على الفور. وهذا الأخير مَحْمِل ما رُوِيَ في «الموطأ» عن هِشَام بن عُرْوَة، عن أبيه:«أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ سجدة وهو على المنبر يوم الجمعة، فنزل فسجد وسجدنا معه، ثم قرأها يوم الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود فقال: على رِسْلِكُم، علّمني رسولكم صلى الله عليه وسلم أن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء، فلم يسجد ومنعهم أن يسجدوا» .

(وأمَّا ما ذكره صاحب «الهداية» من قوله عليه الصلاة والسلام: «السجدة)

(3)

على من سمعها، والسجدة على من تلاها»، فغير معروف رفعه. وإنما وقفه جماعة على عليّ، وابن عباس، وقد روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن ابن عمر أنه قال:«السجدة على من سمعها» . ورُوِيَ عن إبراهيم، ونافع، وابن جُبَيْر أنهم قالوا:«مَنْ سمع السجدة فعليه أن يسجد» .

وأمَّا دليل سنية التكبير فما روى أبو داود، عن ابن عمر قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مَرَّ بالسجدة كَبَّر وسجد وسجدنا معه» . وقيل: يكبر في الابتداء بلا خلاف، وفي الانتهاء يُكَبِّر على قول محمد، ولا يُكَبِّرُ على قول أبي

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من "فتح القدير" 1/ 466.

(2)

يعني أن الشيطان حُكي عنه في الحديث أنه قال: "أُمِرَ ابنُ آدم"، فالشاهد فيه لفظ الأمر، ولم يعقِّبه النبي صلى الله عليه وسلم بالإنكار، بأن قال مثلًا: لم نؤمر بالسجود.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

ص: 373

بِشُرُوطِ الصَّلاةِ، بِلا رَفْعِ يَدٍ وَتَشَهُّد وسَلامٍ. وفِيهَا سُبْحَةُ السُّجُودِ،

===

يوسف. ذكره في «الذَّخِيرَة» . وعن أبي حنيفة ـ وهو رواية عن أبي يوسف ـ لا يُكَبِّرُ عند الانحطاط لأن التكبير للانتقال من ركن إلى ركن، ولم يوجد. وعنه

(1)

: يكبر عنده

(2)

لا في الانتهاء. ويؤيده الحديث الذي تقدَّم. والله تعالى أعلم.

(بِشُرُوطِ الصَّلاةِ) سوى التحريمة اعتباراً بسجدة الصلاة خلافاً لابن عمر في الوضوء. قال البخاري: وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء، ولعلّ وجهَهُ آية الوضوء حيث قال الله تعالى:{إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ}

(3)

. والسجدة المنفردة لا تسمى صلاة. ثم يفسدها ما يفسد الصلاة من الحدث والكلام، والقهقهة، ويلزم إعادتها. وقيل: هذا قول محمد. ولا تفسد عند أبي يوسف بناء على اختلافهما في أن السجدة تتم بالوضع أو الرفع

(4)

.

(بِلَا رَفْعِ يَدٍ) لأن هذا التكبير لمجرد الانحطاط لا للتحريم، فلا يرفع اليدان فيه كسجدة الصلاة. ولأن التحريم شُرِعَ لجمع الإجزاء المختلفة.

(وَ) بلَا (تَشَهُّد) لعدم وروده. ولأن التشهد لم يُشْرَع إلا لذات الركوع والسجود، ولهذا لم يُشْرَع في صلاة الجنازة. (و) بلا (سَلَامٍ) وهو قول مالك. لأن السلام لا يكون إلا عن تحريمة، وهي ليست بموجودة ههنا. وروى ابن أبي شَيْبَة عن الحسن، وعطاء، وإبراهيم النَّخَعِي، وسعيد بن جُبَيْر:«أنهم كانوا لا يُسَلِّمون في السجدة» . وإنما نفى المصنف هذه الأشياء لأن عند الشافعي: إذا لم يكن في الصلاة رفع اليد مستحب، والتشهد واجب ـ في قول ـ وأما السلام فواجب عنده، قيل: يُسْتَحَبُّ أنْ يقوم فيسجد. لِمَا رُوِيَ ذلك عن عائشة، ولأن الخرور الذي مُدِحَ به أولئك فيه، فيكون أفضل.

(وفِيهَا سُبْحَةُ السُجُودِ) ـ بضم السين ـ أي تسبيح سجود الصلاة، لأن سجدة الصلاة أفضل من سجدة التلاوة، فيقال فيها ما ورد فيها. قال أبو اللَّيْث: وبه نأخذ.

(1)

أي عن أبي يوسف.

(2)

أي عند الانحطاط.

(3)

سورة المائدة، الآية:(6).

(4)

ومُفَادُ هذا الاختلاف أن العبرة عند محمد لتمام الرُّكن وهو الرفع - أي رفع الجبهة عن الأرض -، والعبرة عند أبي يوسف للوضع - أي وضع الجبهة على الأرض -، ولهذا تفسد عند محمد بما تفسد به الصلاة، ويلزم عند طروء الفساد الإعادة. بخلاف أبي يوسف حيث لا تفسد لأنها تتم بمجرد وضع الجبهة على الأرض. "رد المحتار" 1/ 515 بتصرف وزيادة.

ص: 374

على مَن تَلَى آيةً مِن أَربعَ عشرة التي في: آخر الأَعرافِ، والرَّعد، والنَّحل، وبني إِسرائيل، ومريم، وأُولَى الحَجِّ وفِي الفُرْقَانِ، وَفي النَّمْلِ، في آلم السَّجْدَةِ، وفِي (ص).

===

وقيل: يُقَال: سبحان ربنا إنْ كان وعد ربنا لمفعولاً. أو: سجد وجهي للذي خلقه، وصوَّرَه، وشقَّ سمعه وبصره، بحوله وقوّته. ولا منع من الجمع مع جواز الكل. وعن عائشة رضي الله عنها قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل في السجدة مراراً: سجد وجهي للذي خلقه، وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقوّته» . رواه أبو داود.

(عَلَى مَنْ تَلَى) أي يجب على من قرأ (آيَةً مِنْ أَرْبَعَ عَشَرَةَ) آية وهي (التي في آخِرِ الأَعْرَافِ والرَّعْدِ) أي في أثناء الرعد (والنَّحْلِ وبَنِي إِسْرَائِيلَ) أي الإسراء وهي قريبة من آخرها (ومَرْيَمَ وأُولَى الحَجِّ) أي في أثنائهما. وقال الشافعي وأحمد، وهو رواية عن مالك: وثانية الحج أيضاً. لِمَا أخرجه أبو داود، والترمذي، والحاكم، عن عبد الله بن لَهِيعَة من حديث عُقْبَة بن عامر قال: قلت: «يا رسول الله، أَفُضِّلَت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال له: نعم، فمن لم يسجدهما فلم يقرأهما» . وأُجِيبَ بأن الترمذي قال: إن إسناده ليس بقوي. وعلى تقدير صحته فالأُولى سجدة تلاوة والثانية سجدة صلاة. ويؤيد ذلك اقتران الثانية بالركوع.

ومذهبنا مروي عن ابن عباس وابن عمر فإنهما قالا: سجدة التلاوة في الحج هي الأولى، والثانية سجدة الصلاة. وأما ما روى الحاكم عن عمر، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وأبي موسى، وأبي داود، أنهم سجدوا في الحج سجدتين، فمحمول على أنه اختيارهم أو رعاية للأحوط.

(وِ) التي (فِي الفُرْقَانِ وَ) التي (في النَّمْلِ) عند قوله تعالى: {ومَا يُعْلِنُونَ}

(1)

على قراءة غير الكِسَائِي

(2)

. وعند قوله تعالى: {أَلاَّ يَسْجُدُوا}

(3)

على قراءة الكِسَائِي، كذا ذكره الشارح الشُّمُنِّيُّ. والصحيح أن محل السجدة على جميع القراءات عند قوله:{وما يُعْلِنُون} بل الأصح أنه عند قوله: {رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ}

(4)

.

(و) التي (في آلم السَّجْدَةِ و) التي (فِي ص) وهو قول مالك، ورواية عن أحمد ومحلها قبل {وخَرَّ راكِعاً وأَنَابَ}

(5)

والصواب أنه عند قوله {وحُسْنَ مآبٍ}

(6)

. وقال الشافعي ـ وهو المشهور عن أحمد ـ سجدة ص سجدة شكر، ليست

(1)

الآية: (25).

(2)

قرأ حفص والكِسَائي بتاء الخطاب: {تُعْلِنُونَ} ، والباقون بياء الغيبة:{يُعْلِنُونَ} . "البدور الزاهرة" ص 235.

(3)

الآية: (25).

(4)

الآية: (26).

(5)

الآية: (24).

(6)

الآية: (25).

ص: 375

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

من عزائم السجود، فيسجد بها خارج الصلاة لا في الصلاة لِما في البخاري عن ابن عباس قال: «ليست ص من عزائم السجود، فيسجد بها خارج الصلاة لا في الصلاة، وقد رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يسجد فيها ـ أي لها ـ.

ولنا ما في البخاري عن العَوَّام بن حَوْشَب قال: «سألت مُجَاهِداً عن سجدة ص فقال: سألت ابن عباس من أين سجدت في ص؟ فقال: أوَمَا تقرأ {ومِنْ ذُرِّيَتِهِ دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ}

(1)

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِه}

(2)

فكان داود، ممن أمر نبيُكم أن يُقْتَدَى به، فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما ما في أبي داود من حديث الخُدْرِي قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ {ص} ، فلما مرَّ بالسجود نزل فسجد وسجدنا معه. وقرأها مرة أخرى فلما بلغ السجدة تَشَزَّنَّا للسجود ـ أي تهيّأنا ـ فلما رآنا قال: إنما هي (توبة نبي)

(3)

ولكني رأيتكم تَشَزَّنْتُم ـ أراكم قد اسْتَعْدَدْتُم للسجود ـ فنزل وسجد وسجدنا معه». فالجواب عنه أنَّ غاية ما فيه بيان السبب في حق داود، والسبب في حقّنا. وكونه للشكر لا ينافي الوجوب. فكل الفرائض والواجبات إنما وجبت شكراً لتوالي النِّعَم.

وقد أخرج الإمام أحمد عن بكر بن عبد الله المُزَنِي، عن أبي سعيد الخُدْرِي قال: «رأيت رؤيا، وإنا

(4)

أكتب سورة {ص} ، فلمَّا بلغت السجدة رأيت الدَّواة، والقلم، وكل شيءٍ يحضُرني ساجداً. قال: فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد لها». فأفاد هذا أن الأمر صار إلى المواظبة عليها كغيرها من غير ترك، واستقر عليه بعد أن كان لا يَعْزِم عليها. فظهر أنَّ ما رواه إن تمت دلالته كان قبل هذه القصة. وفي حديث الترمذي عن ابن عباس قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيتني في الليلة البارحة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسَجَدتُ، (فسجدتْ)

(5)

الشجرة بسجودي فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذُخْراً، وتقبَّلها مني كما تقبَّلتها من عبدك داود. قال ابن عباس: فقرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم سجدة، ثم سجد فسمعته وهو يقول مثلما أخبر الرجل عن

(1)

سورة الأنعام، الآية:(84).

(2)

سورة الأنعام، الآية:(90).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لرواية أبي داود في سننه 2/ 124، كتاب الصلاة (2)، باب السجود في "ص"(5)، رقم (1410).

(4)

في المخطوط والمطبوع: وإنما، وما أثبتناه من "مسند الإمام أحمد" 3/ 84.

(5)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 376

وفي حم السَّجْدَة، وفي النَّجْمِ، وفي انْشَقَّتْ، وفي اقْرَأْ.

===

قول الشجرة».

(و) التي (في حم السَّجْدَة) عند قوله: {وهم لا يَسْأَمُون}

(1)

لِمَا روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» ، عن ابن عباس:«أنه كان سجد عند قوله: {وهم لا يَسْأَمُون}» . وفي لفظه: «أنه رأى رجلاً يسجد عند قوله: {إن كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ}

(2)

فقال: لقد عجلت». وفيه تنبيه على أن السجدة في الآية الأخيرة أولى، لأن التأخير لا يضر بخلاف التقديم كما لا يخفى.

(و) التي (في النَّجْمِ و) التي (في انْشَقَّتْ و) التي (في اقْرَأْ) أي في آخرها. وقال مالك في رواية عنه: لا سجود في هذه الثلاث لِمَا روى أبو داود عن ابن عباس: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المُفَصَّل منذ تحوَّل إلى المدينة» .

ولنا ما روى الجماعة إلا الترمذي عن أبي هريرة قال: «سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقرأ باسم ربِّكَ}» وإسلام أبي هريرة في السنة السابعة من الهجرة. وأُجِيبَ عن ذلك الحديث: بأن ابن عبد البَرّ قال: إِنَّه مُنْكَر. وعبد الحق قال: إنه ليس بقوي. قلت: وعلى تقدير صحته فالمُثْبِتُ مقدّم على النافي مع أنه مُعَارَض بما في «الصحيحين» : «أن أبا هريرة قرأ {إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد، فقلت له: ما هذه السجدة؟ قال لو لم أر النبيّ صلى الله عليه وسلم يسجدها لم أسجد، لا أزال أسجدها حتى ألقاه» .

وأما ما روى ابن ماجه عن أبي الدَّرْدَاءِ قال: «سجدت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدةً ليس فيها شيء من المُفَصَّل: الأعراف، والرعد، والنحل، وبنى إسرائيل، ومريم، والحج، والفُرْقَان، والنمل، والسجدة، وص، وسجدة الحواميم» ، فضعيف. ولئن صحَّ فليس بمراد فيه نفيُ السجدة في المُفَصَّل، بل إن الإحدى عشرة ليس فيها من المفصل، شيء وليس في هذا نزاع. وقد روى أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن العاص: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ

(3)

خمس عشرة سجدةً في القرآن: ثلاث

(4)

في المُفَصَّل، وفي سورة الحج سجدتان. إلا أَنَّا نقول: السجدة الثانية في الحج هي

(1)

سورة فصلت، الآية:(38).

(2)

سورة فصلت، الآية:(37).

(3)

في المخطوط: أقرأه، والمثبت من المطبوع.

(4)

في المطبوعة: ثلث، والمثبت من المخطوط.

ص: 377

أوْ سَمِعَهَا، وإذَا تَلَى الإِمَامُ فَمَنْ سَمِعَهَا ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ في رَكْعَةٍ، سَجَدَ بَعْدَ الصَّلاةِ، كَمُصَلٍّ سَمِعَ مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ،

===

سجدة الصلاة. وعن ابن عباس: «أنه صلى الله عليه وسلم سجد بالنَّجْمِ ومعه المسلمون والمشركون والجن والإنس» . رواه البخاري. وعن أبي سعيد الخُدْرِي: «قرأ صلى الله عليه وسلم وهو على المِنْبَر {ص} فلما بلغ السجدة نزل فسجد، وسجد معه الناس» . رواه أبو داود.

(أوْ سَمِعَهَا) سواء قصد السماع أو لَمْ يقصد، لِمَا روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن ابن عمر أنه قال:«السجدة على من سمعها» . ولا بد في السامع أن يكون أهلاً لوجوب الصلاة، لأنها تجب على الجُنُبِ إذا سمع دون الحائض والنفساء. وفي «المحيط»: ولو سمعها من كافر أو صبي عاقل أو حائض أو نفساء أو جنب أو محدث وجبت. ولو سمعها من مجنون أو نائم لا يجب، لأنّ التلاوة صدرت عن غير معرفة وتمييز. ولو قرأها سكران وجبت عليه، وعلى من سمعها منه، لأن عقله اعْتُبِرَ قائماً زجراً له.

وشرط مالك ذكورة التالي، وتكليفه بسجود السامع لقوله عليه الصلاة والسلام لتال عنده لم يسجد:«كنت إمامنا، لو سجدت لسجدنا معك»

(1)

. ولذا ينبغي أن لا يرفع السامعون رؤوسهم قبل رفع التالي إذا سجدوا معه. والمرأة وغير المكلف لا يصلح إماماً. قلنا: المراد منه كنت حقيقاً أن تسجد قبلنا، لا حقيقة الإمامة. ألا ترى أنَّ المتوضاء يسجد لتلاوة المُحدِث مع أنه لا يصلح إماماً له في الحال.

(وإذَا تَلَى الإِمَامُ) أي قرأ آية السجدة (فَمَنْ سَمِعَهَا ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ في رَكْعَةٍ) أخرى بعد الركعة التي سمعها فيها (سَجَدَ بَعْدَ الصَّلاةِ) أي لا فيها، لأنه سمعها قبل الاقتداء فلا تكون صلاتية في حقه، ولم يدرك ركعتها ليكون كأنه أداها. فيأتي بها بعد الصلاة. وقال العَتَّابِي: لا يسجد بعد الصلاة أيضاً لأنها صلاتية، فلا تؤدى خارجها. والأصح أنه يسجد بعدها.

(كَمُصَلَ) أي كما يسجد بعد الصلاة مصل (سَمِعَ) آية السجدة (مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ) في تلك الصلاة، سواء كان مصلياً أو غير مصلّ لوجود السماع. وعدم كونها صلاتية، لأن سماع قراءة غير الإمام ليس من أفعال الصلاة. ثم لو سجد في الصلاة لم تجزئه تلك السجدة فيعيدها، لأن فعلها في الصلاة وقع ناقصاً لكونه في غير محله،

(1)

ورد الحديث في مراسيل أبي داود (ص 112)، بلفظ:"أنت قرأتها، ولو سجدت سجدنا".

ص: 378

ومَنِ اقْتَدَى بِهِ في تِلْكَ الرَّكْعَةِ بَعْدَ سُجُودِ الإِمَامِ لا يَسْجُدُ وقَبْلَهُ يَسْجُدُ مَعَهُ وإنْ لَمْ يَسْمَعْ لا يَسْجُدُ إِلَّا سَامِعٌ خَارِجِيٌّ

===

لكن لا تفسد صلاته لأنها عبادة زيدت في الصلاة كزيادة سجدة تطوعاً. ولا تفسد بما هو من أفعالها، بل تفسد بما ينافيها.

وفي «النَّوادِر» : تفسد صلاته لأنه اشتغل فيها بما ينبغي أنْ يفعل بعدها، أو لأنه زاد في الصلاة قُرْبَة ليست منها، كما إذا انتقل إلى النفل. وقيل: الفساد قول محمد، لأن السجدة الواحدة يُتَقَرَّبُ بها إلى الله تعالى عنده، حتى كان سجود الشكر قُرْبَة عنده. وعندهما: لا تفسد، لأنها ليست بقربة. ولهذا لو زاد ركوعاً أو قياماً لا تَبطل صلاته عند الكل، إذ كل واحد مما لا يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى.

(ومَنِ اقْتَدَى بِهِ في تِلْكَ الرَّكْعَةِ بَعْدَ سُجُودِ الإِمَامِ لا يَسْجُدُ) في الصلاة ولا بعدها، لأنه بإدراكه تلك الركعة صار مؤدياً للسجدة. كمن أدرك الإمام في ركوع ثالثة الوتر فإنه لا يقنت فيما يأتي بعد فراغ الإمام.

(وقَبْلَهُ) أي ومن اقتدى بالإمام قبل سجوده للتلاوة (يَسْجُدُ مَعَهُ وإنْ لَمْ يَسْمَعْ) لأنه تابع له.

(وإنْ تَلَا المَأْمُومُ)، فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف:(لا يَسْجُدُ إِلاَّ سَامِع خَارِجِيٌّ) أي خارج عن تلك الصلاة فلا يسجد التالي ولا الإمام ولا باقي المأمومين.

وقال محمد: يسجدون بعد الصلاة لتحقق السبب، وهو التلاوة والسماع مع ارتفاع المانع وهو الصلاة. ولهما: أنَّ المأموم محجور عليه في القراءة، فلا توجب تلاوته السجدة، كما لا يوجبها تلاوة المجنون. فإن قيل: الجنب والحائض ممنوعان عن القراءة ويجب السجدة بسماع قراءتهما. أُجِيبَ: بأن الجُنُب والحائض منهيَّان

(1)

عن القراءة لا محجوران عنها فتعتبر قراءتهما. كذا ذكره الشارح.

ولعل الفرق بين المَنْهِيّ والمَحْجُور: أن فعل المحجور عنه غير مُعْتَبر فلا يَحْرُم ولا يُكْرَه، بخلاف المنهي عنه فإنه يعتبر إما حرمةً وإما كراهةً. لكن يُشْكِل بأن فعل المقتدي ليس كفعل المجنون، فإن قراءته إما مكروهة، أو جائزة، أو واجبة، على خلاف في ذلك بين الأئمة. وعلى تقدير أن يكون حراماً، فهو كالحائض لا كالمجنون. ثم غاية ما في الباب أنه ممنوع عن القراءة خلف الإمام، لكن هذا لا يمنع

(1)

في المطبوع: ممنوعان، والمثبت من المخطوط.

ص: 379

والصَّلاتِيَّةُ لا تمضَى خَارِجًا، والرُّكُوعُ بِلا تَوَقُّفٍ يَنُوبُ عَنْهَا،

===

وجوب السجدة إذا حصلت التلاوة من الأهل كما لو تلا الجنب والحائض والصبي والكافر.

والمقتدي أهلٌ للتلاوة إذا كان أهلاً قبل الصلاة، وهي تستدعي القراءة فاستحال أنْ يكون منافياً لها، ولهذا كان أهلاً لو كان إماماً أو منفرداً، فاستحال أنْ لا يبقى أهلاً بالشروع في الصلاة، وإنما لم يسجد في الصلاة لأنه يؤدي إلى خلاف موضوع الإمامة أو التلاوة. وهذا لأنه لو سجدها التالي وتابعه الإمام انقلب الإمامُ المتبوعِ تَبَعَاً، والتابع متبوعاً، وإن لم يتابعه كان مخالفاً لإمامه. وأيّاً ما كان يلزم خلاف موضوعها.

وإن سجدها الإمام وتابعه التالي، كان خلاف موضوع التلاوة، فإنّ التالي إمام السامعين لقوله عليه الصلاة والسلام: «كنت إمامنا

» الحديثَ. أما السامع الخارج عن تلك الصلاة فيسجد لأن حَجْرَ المأموم عن القراءة ثبت في حق من معه في الصلاة فلا يَعْدُوهُم. ولو تلى المصلي آية السجدة في ركوعه، أو سجوده، أو تشهده، لا سجود عليه لأنه محجور عن القراءة في هذه الأحوال. وقال المَرْغِينَاني: عليه السجود، ويتأتى بالسجود أو بالركوع الذي تلا فيه.

(والصَّلاتِيَّةُ) أي سجدة التلاوة التي وجب أداؤها في الصلاة (لا تُقْضَى خَارِجاً) عن الصلاة، لأنها وجبت بصفة الكمال، فلا تؤدّى بغيرها، كذا علّله الشارح. وفيه: أنَّ ما لا يُدْرَكُ كله لا يُتْرَكُ كله. ثم رأيت تحقيق المرام في هذا المقام هو: أنه أُرِيدَ به النهي الضمني لا القصدي، إذ المصلي عند اشتغاله بسجدة التلاوة مأمور بإتمام ركن هو فيه، أو بالانتقال إلى ركن آخر، فيكون منهياً عن ضده ـ أعني السجدة ـ ضرورة، فتثبت كراهة السجدة في المذهب المختار. فتكون السجدة ناقصة، وقد وجبت عليه كاملة، فلم تتأد ناقصة وتعاد لتقرُّر سببها.

(والرُّكُوعُ) في الصلاة (بِلَا تَوَقُّفٍ) بين قراءة السجدة وبين الركوع بمقدار ثلاث آيات كما روي عن أبي يوسف (يَنُوبُ عَنْهَا) أي عن سجدة التلاوة لما رُوِيَ عن ابن عمر أنه كان إذا تلا آية السجدة في الصلاة ركع، ولأن الركوع وُضع للتواضع وهو المقصود من السجدة. وأما الركوع في خارج الصلاة فليس بقربة فلا ينوب عمّا هو قُرْبَةٌ. وفي «المحيط»: ولو تلاها في الصلاة: إن شاء ركع لها، وإن شاء سجد فقام فقرأ، لأن المقصود من السجدة إظهار الخشوع وذلك يحصل بالركوع، كما يحصل بالسجود، فناب الركوع منابه. وعن أبي حنيفة: أن السجود أفضل لأن الخشوع فيها

ص: 380

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

أتَمّ.

ثم سجدة التلاوة تتأتى بالسجدة الصلبية لأنها توافقها من كل وجه. وينوي بها في ركوعه أو بعدما استوى قائماً أنْ يسجد لصلاته وتلاوته جميعاً، ولو لم ينو به لا تجزئه، نص عليه في «النوادر». وقيل: تجزئه بدون النية. وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن السجود الذي عَقِيب الرُّكُوع ينوب عن سجدة التلاوة دون الركوع، لأن المجانسة بينهما أظهر. وقيل: الركوع ينوب عنها لأنه أقرب إلى موضع التلاوة. وفي «الظَّهِيريَّة» : لو تلا آية السجدة وركع لصلاته على الفور، وسجد، سقطت سجدة التلاوة نوى السجدة أو لم ينوها، وكذا إذا قرأ بعدها آيتين أو ثلاث آيات. وأجمعوا على أنَّ سجدة التلاوة تتأدّى بسجدة الصلاة، وإن لم ينوِ للتلاوة.

واختلفوا في الركوع: فقال شيخ الإسلام المعروف بخَواهِر زَادَه: لا بد للركوع من النية، حتى ينوب عن سجدة التلاوة. ونص عليه محمد. وإن قرأ بعد السجدة ثلاث آيات، وركع لسجدة التلاوة، ذكر شيخ الإسلام المذكور أنه ينقطع الفور. قال شمس الأئمة الحَلْوَاني: إنه لا ينقطع ما لم يقرأ أكثر من ثلاث آيات. وفي «النَّوادِر» : ولو قرأ الإمام السجدة فسجد، فظنَّ القوم أنه ركع: فبعضهم ركع، وبعضهم ركع وسجد سجدة، وبعضهم ركع وسجد سجدتين. فمن ركع ولم يسجد يرفض ركوعه ويسجد للتلاوة. ومن ركع وسجد تجزئه عن التلاوة، ومن ركع وسجد سجدتين فصلاته فاسدة، لأنه انفرد بركعة تامة.

قال في «المَبْسُوط» : فإن أراد أن يركع بالسجدة بعينها فالقياس أنَّ الركوع والسجود في ذلك سواء، وبالقياس نأخذ، وفي الاستحسان لا يجزئه إلاَّ السجدة. واختلفوا في موضع هذا القياس والاستحسان: فمن أصحابنا من قال: مراده إذا تلاها في غير الصلاة وركع، ففي القياس يجزئه.

لأن الركوع والسجود يتقاربان، قال الله تعالى:{وخَرَّ رَاكِعَاً وأَنَابَ}

(1)

، أي ساجداً والمقصود منهما الخضوع فينوب أحدهما عن الآخر كما في الصلاة. وفي الاستحسان: الركوع خارج الصلاة ليس بقربة، فلا ينوب عمّا هو قربة بخلاف الركوع في الصلاة. والأظهر أن مراده من هذا القياس والاستحسان التلاوة في الصلاة إذا ركع عند موضع السجدة.

ففي الاستحسان: لا يجزئه لأن سجدة التلاوة نظير سجدة الصلاة، فكما أن

(1)

سورة ص، الآية:(24).

ص: 381

فإنْ كَرَّرَ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أوْ صَلاةٍ، يَكْفِي سَجْدَةٌ

===

إحدى السجدتين في الصلاة لا تنوب عن الأخرى، والركوع لا ينوب عنها، فكذلك لا ينوب عن سجدة التلاوة. وفي القياس: يجوز التقارب بين الركوع والسجود فيما هو المقصود، فكل واحد منهما في الصلاة قربة. وأخذنا بالقياس لأنه أقوى الوجهين.

والقياس والاستحسان في الحقيقة قياسان، وإنما يُؤْخَذُ بما يترجح بظهور أثره، أو قوة في جانب صحته. انتهى. ثم إن قرأ بعدها مقدار ثلاث آيات، سجد لها قصداً في الصلاة، لأنها صارت ديناً عليه بفوات محل الأداء، فلا ينوب الركوع عنها بخلاف ما إذا ركع عندها، فإنها ما صارت ديناً لبقاء محلها، وبخلاف ما إذا كانت قريبة من خاتمة السورة، فإنها لا تصير ديناً بعدُ، حين لم يقرأ بعدها ما يَتِم به القراءة.

(فإنْ كَرَّرَ) التالي آيةَ السجدة، سواء كان المكرَّر متحداً أو متعدداً (في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ) كالمسجد مطلقاً على المذهب، أو البيت الصغير، أو تلاها على دابة سائرة وهو في الصلاة، أو في سفينة سائرة، وإن قام وقعد (أوْ صَلاةٍ) بأن قرأ في غير الصلاة ثم أعادها في الصلاة من غير اختلاف المجلس. وفُهِمَ من تخصيص المُعَاد بكونه في الصلاة أن الأول في غير الصلاة.

(يَكْفِي سَجْدَةٌ) لأن المجلس متحد فتتداخل التلاوات. وفي «الخُلَاصة» : لا فرق بينهما إذا أدى السجدة ثم كَرَّر، أو كَرَّر ثم أدى، لأن مبنى السجود في التلاوة على التداخل، لأن القاريء قد يحتاج إلى تكرار الآية للحفظ والتعليم والاعتبار والتَّفهُّم

(1)

. فلو وجب عليه تكرير السجود لربما وقع في حرج، ويكون سبباً لترك التلاوة التي هي من أفضل أنواع العبادة.

والتداخل قد يكون في الأسباب، بأن ينوب واحد منها عما قبله وما بعده، وهو ألْيَقُ بالعبادة لأن تركها مع وجود سببها شنيع. وقد يكون في الأحكام، بأن ينوب واحد منها عمّا قبله، وهو أليق بالعقوبة، لأنها شرعت للزَّجْر وهو يحصل بواحد. والكريم قد يعفو مع قيام سبب العقوبة. وخالف مالك والشافعي فَعَدَّدَاها، لأن السبب قد تعدد فيعدد المُسَبَّبُ، لأن مبنى العبادات على التكثير لأنا خُلِقْنَا لها بخلاف العقوبات، فإن مبناها على الدَّرْءِ والدفع.

ولنا: ما سبق المؤيد بقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُم في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}

(2)

،

(1)

في المخطوط: التفهيم، والمثبت من المطبوع.

(2)

سورة الحج، الآية:(78).

ص: 382

ويُعْتَبَرُ في السَّامِعِ مَجْلِسُهُ.

وإسْدَاءُ الثَّوْبِ والانْتِقِالُ مِنْ غُصْنٍ إلى غُصْنٍ آخر تَبْدِيلٌ.

ويُكْرَهُ تَرْكُ آيَةِ السَّجْدَةِ وَحْدَها لا عَكْسُهُ، ونُدِبَ ضَمُّ غَيْرِهَا،

===

وقوله سبحانه {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ}

(1)

، وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الدين يُسْرٌ، ولن يُشَادَّ

(2)

الدينَ أحدٌ إلا غلبه». رواه البخاري وغيره. ولأن مبنى السجدة على التداخل بالنص فإنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع من جبرائيل عليه السلام آية السجدة، ويقرأها على أصحابه، ولا يسجد إلاَّ مرة واحدة. مع أنه عليه السلام كان يكرر حديثه ثلاثاً ليُعْقَل، فكيف بالقرآن. وبدلالة الإجماع فإن السامع إذا قرأها لم يجب عليه إلاَّ واحدة، وقد تحقق في حقّه التلاوة والسماع، وكل واحد سبب على حدة، حتى يجب بالسماع وحده، وبالتلاوة وحدها إذا كان التالي أصَمّ. ولو كررها في الركعتين قال أبو يوسف: كَفَتْهُ سجدة. وقال محمد: يسجد سجدتين.

(ويُعْتَبَرُ في السَّامِعِ مَجْلِسُهُ) حتى لو اتَّحد مجلس التالي وتكرر مجلس السامع، تكرر الوجوب على السامع باتفاق المشايخ. ولو تعدد مجلس التالي واتحد مجلس السامع، قيل: تكرر الوجوب على السامع ولو تعدد في «الكافي» : وهو الصحيح، لأن التلاوة سبب والسماع شرط، والحكم يضاف إلى السبب دون الشرط. وقيل: لا يتكرر على السامع. في «الهداية» : هو الأصح، لأن مجلسه متحد والسماع سبب لوجوب السجدة كالتلاوة.

(وإسْدَاءُ الثَّوْبِ) أي جعل سَدَاه

(3)

على أخشاب بمجيء وذهاب (والانْتِقَالُ مِنْ غُصْنٍ إلى غُصْنٍ آخر تَبْدِيلٌ) للمكان، لأن المكان تبدَّل حقيقة. وقيل: يكفيه في الانتقال من غصن إلى غصن سجدة واحدة، لأن العبرة لأصل الشجرة وهو واحد.

(ويُكْرَهُ) في الصلاة وغيرها (تَرْكُ آيَةِ السَّجْدَةِ وَحْدَها) لأنه يُشْبِه الاستنكاف عن السجود، والإعراض عن طاعة المعبود (لا عَكْسُهُ) أي لا يكره قراءة آية السجدة وحدَها، لأن في ذلك مبادرة إلى السجود.

(ونُدِبَ ضَمُّ غَيْرِهَا) من آية أو آيتين قبلها أو بعدها كيلا يؤدي إلى إيهام تفضيل آية على آية. ولو قرأ آية السجدة إلاَّ الحرف الذي في آخرها لا يسجد، ولو

(1)

سورة البقرة، الآية:(185).

(2)

يشادّ: أي يُقَاوِيه ويُقَاومه، ويُكلِّف نفسه من العبادة فيه فوق طاقته. النهاية: 2/ 451.

(3)

السَّدَى: من الثوب، هو ما يمدُّ طولًا في النسيج. المعجم الوسيط مادة (سدا)، ص:424.

ص: 383

واسْتُحْسِنَ إِخْفَاؤُهَا عن السَّامِع.

‌فَصْلٌ في صَلاةِ المَرِيضِ

إنْ تَعَذَّرَ القِيَامُ لِمَرَضٍ حَدَثَ قَبْلَ الصَّلاةِ أوْ فِيهَا، صَلَّى قَاعِدًا يَرْكَعُ ويَسْجُدُ.

وإنْ تَعَذَّرَا مَع القِيَامِ أوْمَأَ إنْ قَدَرَ، ولا مَعَهُ

===

قرأ الحرف الذي يسجد فيه وحده لا يسجد إلا أن يقرأ أكثر آية السجدة معه. (واسْتُحْسِنَ إِخْفَاؤُهَا عن السَّامِعِ) شفقة عليه إلا أنْ يكون متهيئاً للسجود لديه.

فصلٌ في صَلَاةِ المَرِيضِ

(إنْ تَعَذَّرَ) أي تعسر كما في «الخَانِيَة» (القِيَامُ) أي كله (لِمَرَضٍ حَدَثَ قَبْلَ الصَّلاةِ أوْ فِيهَا) أي في أثْنائها، أو لخوف زيادة مرض أو بطئه أو دَوران الرأس، أو كان يجد بالقيام ألماً شديداً (صَلَّى قَاعِداً) كيف شاء (يَرْكَعُ ويَسْجُدُ) لما روى الجماعة إلاَّ مسلماً عن عِمْران بن حُصَيْن قال:«كانت لي بواسير، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، وإن لم تستطع فعلى الجَنْبِ» . زاد النَّسَائِي: «فإن لم تستطع فمُسْتَلْقِياً، لا يُكَلِّفُ الله نفساً إلا وُسْعَها» . ولفظ البخاري: «بواسير» ولفظ غيره: «النَّاصُور»

(1)

.

وإنْ لم يعجز عن كل القيام، قام بقدر ما يمكنه، فإذا عجز يقعد، لأن الطاعة بحسب الطاقة، حتى لو لم يقدر إلاَّ قَدْرَ التحريمة، لزمه أن يُحْرِم قائماً ثم يقعد. وإن قدر على كل القيام مُتَّكِئاً، قال شمس الأئمة الحَلْوَاني: الصحيح أنه يصلي قائماً متكئاً ولا يجزئه غير ذلك. وكذلك لو قدر أن يعتمد على عصاً، أو كان له خادم لو اتَّكأَ عليه قدر على القيام.

هذا، وفي كراهة اتِّكَاء المتنفّل على نحو عصاً أو حائط بلا عذر روايتان عن أبي حنيفة، وكرِهَاهُ بدونه وهو الأظهر. وأما لو كان بعذر فلا يُكره إجماعاً.

(وإنْ تَعَذَّرَا) أي الركوع والسجود (مَع القِيَامِ أوْمَأَ) ـ بهمْزة في آخره وقد يبدل ـ أي أشار برأسه قاعداً (إنْ قَدَرَ) على القعود لأنه وسعه (ولا مَعَهُ) أي وإن تعذر

(1)

النَّاصُور: النَّاسُور - المعجم الوسيط مادة (نصر) ص: 925 - والنَّاسُور: قرحة تمتد في أَنسجة الجسم على شكل أنبوبة ضيقة الفتحة، وكثيرًا ما تكون حول المقعدة. المعجم الوسيط ص: 917، مادة (نصر).

ص: 384

فَهُوَ أحَبُّ، وَجَعَل سُجُودَهُ أخْفَضَ من رُكُوعِهِ.

ولا يَرْفَعُ شَيئًا لِيَسْجُدَ عَلَيهِ، وإلَّا فَعَلَى جَنْبِهِ مُتَوَجِّهًا، أوْ على ظَهْرِهِ كَذَا، وذَا أوْلَى

===

الركوع والسجود دون القيام (فَهُوَ) أي فالإيماء بالركوع والسجود قاعداً (أحَبُّ) من الإيماء قائماً لقرب القعود من الأرض. وقال الشافعي: يتعين القيام لأنه ركن، فلا يسقط بالعجز عن ركن آخر من الركوع والسجود. وأجيب بأن ركنية القيام والركوع، لأجل الوسيلة إلى السجود الذي هو نهاية التعظيم، وسقوط الشيء يُسْقِطُ وسيلته.

(وَجَعَل سُجُودَهُ) بالإيماء (أخْفَضَ من رُكُوعِهِ) به لأن نفس السجود أخفض من الركوع فكذا الإيماء به.

(ولا يَرْفَعُ شَيْئَاً لِيَسْجُدَ عَلَيْهِ) لما روى البَزَّارُ في «مسنده» ، والبَيْهَقِيّ عن جابر، والطَّبَرانِيّ في «معجمه» عن ابن عمر

(1)

: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عاد مريضاً، فرآه يصلي على وِسَادة، فأخذها فرمى بها، فأخذ ـ أي المريض ـ عوداً ليصلي عليه، فأخذه فرمى به وقال: صلِّ على الأرض إن استطعت، وإلاَّ فأومِ إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك» . ولو رفع من يصلِّي بالإيماء شيئاً ليسجد عليه، فإن خفض رأسه أجزأه لوجود الإيماء، وإن لم يخفض لم يجزئه. وأما ما ذكره صاحب «الهداية» من قوله عليه الصلاة والسلام:«إن قدرت أن تسجد على الأرض فاسجد، وإلا فاومِ برأسك» ، فغير معروف بهذا اللفظ.

(وإلاَّ) أي وإن لم يقدر على القعود (فَعَلَى جَنْبِهِ) الأَيْمن (مُتَوَجِّهاً) إلى القبلة (أوْ على ظَهْرِهِ كَذَا) أي متوجهاً إلى القبلة (بأن تكون رجلاه إليها لكن تقامان يسيراً، لأن مَدَّهما إلى القبلة مكروه، ويجعل تحت رأسه ما يرفعه ليصير وجهه إلى القبلة)

(2)

(وذَا) أي الاستلقاء إلى الظهر (أوْلَى) لأن إيماء الذي على ظهره يكون إلى هواء الكعبة وهو قبلة، وإيماء الذي على جنبه إلى جهة قدميه. وعن أبي حنيفة: أن صلاة المريض على الجَنْب مُقَدَّم على صلاته على الظهر. لِمَا روينا من حديث (عِمْرَان)

(3)

السابق ولقوله تعالى: {يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِهِم}

(4)

، فهو بالاعتبار أوْلى كما

(1)

في المطبوعة: عن عمر. والصواب ما أثبتناه من المخطوط ومجمع الزوائد: 2/ 148.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

سورة آل عمران، الآية:(191).

ص: 385

والإِيمَاءُ بالرَّأْسِ، فإنْ تَعَذَّرَ أَخَّرَ. ومُومٍ صَحَّ في الصَّلاةِ اسْتَأْنَفَ،

===

لا يخفى. وبه قال مالك والشافعي. لا يُقَال: الحديث لا ينهض حجة على العموم، فإنه خطاب له وكان مرضه البواسير، وهو يمنع الاستلقاء، فلا يكون خطابه خطاباً للأمة، فإنا نقول: العِبْرةُ لعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

(والإِيمَاءُ) معتبر (بالرَّأْسِ) أي لا بغيره. وقال زُفَر ـ وهو رواية عن أبي يوسف، وبه قال مالك والشافعيّ ـ: إن عَجِزَ عن الإيماء بالرأس يوماء بالحاجب، فإن عجز فبالعين، وإن عجز فبالقلب. كما يوماء بالرأس إن عجز عن الركوع والسجود. وأجيب بأنَّ الأَبْدَال لا تُنْصَبُ بالرأي بل بالنص. ولو سُلِّمَ، فالفرق أن الرأس يتأدى به ركن بخلاف هذه الأشياء.

(فإنْ تَعَذَّرَ) الإيماء بالرأس (أَخَّرَ) الصلاة ولا يسقط عنه. بل يقضيها إذا قَدَرَ عليها، ولو كانت أكثر من صلاة يوم وليلة. إذا كان مفيقاً، لأنه يفهم الخطاب بخلاف المُغمَى عليه، (وهذا اختيار صاحب «الهداية». وقال قاضيخان: الأصح أنه لا يقضي أكثر من يوم وليلة كالمغمى عليه.)

(1)

. هذا اختيار فخر الإسلام، وشيخ الإسلام خَواهِرْ زَادَهْ.

وفي «المحيط» : وإذا عجز عن الإيماء، فإن مات من ذلك المرض لا شيء عليه، ولا يلزمه فديةٌ، وإن بَرِاءَ وصح قيل: يلزمه القضاء وإن كَثُرَ كما في النوم. والصحيح: أنه إن ترك صلاة يوم وليلة، قضى وإن أكثر من ذلك لا يقضي كما في الإغماء. وأمّا استشهاد قاضيخان بما رُوِيَ عن محمد فيمن قطعت يداه من المرفقين ورجلاه من الساقين، أنه لا صلاة عليه، فمدفوع بأن العجز هنا متصل بالموت، وكلامنا فيما إذا صَحَّ المريض بعد ذلك، حتى لو مات قبل القدرة على القضاء لايجب عليه شيء، ولا يلزمه الإيصاء به كالمسافر والمريض إذا أفطرا في رمضان وماتا قبل الإقامة والصحة.

هذا، وما ذكره صاحب «الهداية» من قوله صلى الله عليه وسلم «يصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، وإن لم يستطع فعلى قفاه يوماء إيماءً، فإن لم يستطع فالله تعالى أولى بقبول العذر منه» ، غير معروف.

(ومُومٍ صَحَّ في الصَّلَاةِ) بأن قدر على الركوع والسجود (اسْتَأْنَفَ) لأن بناء الأقوى على الأضعف غير جائز، وأجازه زُفَرُ. ولو قدر المُضْطَجِع في الصلاة على القعود دون الركوع، استأنف الصلاة على المختار، لأن حالة القعود أوْلَى.

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 386

وقَاعِدٌ يَرْكَعُ ويَسْجُدُ صَحَّ فِيهَا، بَنَى قائِمًا. صَلَّى قَاعِدًا فِي فُلْكٍ جارٍ بلا عذرٍ صَحَّ. وفي المَرْبُوطِ لا، إلَّا بِعُذْرٍ.

جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَوْمًا ولَيلَةً، قَضَى مَا فَاتَ

===

(وقَاعِدٌ يَرْكَعُ ويَسْجُدُ صَحَّ) أي زال ألمه بأن قدر على القيام (فِيهَا) أي في أثناء الصلاة (بَنَى قائِماً). عند أبي حنيفة، وأبي يوسف. وقال محمد: يستأنف الصلاة. وهي

(1)

فرع اقتداء القائم بالقاعد وقد تقدَّم.

(صَلَّى) فرضاً (قَاعِدَاً فِي فُلْكٍ: جارٍ بِلا عُذْرٍ) من دوران الرأس، وعدم القدرة على الخروج (صَحَّ) عند أبي حنيفة. وقالا: لا يصح إلا من عذر كغير الجاري. وهو الأظهر، لِمَا روى الدَّارَقُطْنِيّ، والحاكم وقال: على شرط مسلم: «أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ كيف أصلّي في السفينة؟ فقال: صلِّ قائماً إلاَّ أنْ تخاف الغَرَق» . قال الدَّارَقُطْنِيّ: السائل جعفر بن أبي طالب لَمَّا هاجر إلى الحبشة. ولأن القيام ركن، فلا يترك إلا بعذر محقق لا موهوم. ولأبي حنيفة أنَّ الغالب في الفُلْكِ الجاري دوران الرأس، والأمر الغالب كالمتحقق، لكن القيام أفضل، وأفضل من القيام الخروج إلى الشَّطِّ إن أمكن، لأنه للقلب أسكن.

(وفي المَرْبُوطِ لا) أي لا يصح قاعداً (إلاَّ بِعُذْرٍ). في «شرح الكَنْزِ» : والمربوط على الشَّطِّ كالشَّطِّ هو الصحيح. وكذا إذا كان قراره على الأرض. وإن كان مربوطاً في البحر وهو يضطرب اضْطِراباً شديداً فهو كالسائر، وإن كان يسيراً فكالواقف. وفي «الإيضاح»: وإن كانت السفينة مربوطة يمكن الخروج منها لم تجز الصلاة فيها، لأنها إذا لم تستقر على الأرض بمنزلة الدابة. وإن كانت غير مربوطة جازت الصلاة فيها وإن كانت سائرة، لأن سيرها غير مضاف إليها بخلاف الدابة.

(جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ) لمرض أو فزع من سَبُعٍ أو آدمي ولم يُفِقْ (يَوْماً ولَيْلَةً قَضَى مَا فَاتَ) لِمَا روي عن محمد في «الآثار» : عن أبي حنيفة، عن حَمَّاد، عن إبراهيم النَّخَعِي، عن ابن عمر أنه قال في الذي يُغْمَى عليه يوماً وليلة، يقضي. وروى الدَّارَقُطْنِيّ بسنده، عن ابن عمر:«أنه أُغْمِي عليه ثلاثة أيام ولياليهن، فلم يقض» . ورَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، عن يزيد، مولى عمَّار بن ياسر:«أنَّ عمَّار بن ياسر أُغْمِيَ عليه في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وأفاق نصف الليل فقضاهن» .

وفي «المَبْسُوط» عن عليّ رضي الله عنه: «أنه أُغْمِيَ عليه في أربع صلوات

(1)

أي هذه المسألة.

ص: 387

وإنْ زَادَ سَاعَةً لا.

‌فَصْلٌ في صَلاةِ المُسَافِرِ

المُسَافِرُ مَنْ فَارَقَ بُيُوتَ بَلَدِهِ

===

فقضاهن». وأسقط القضاء مالك والشافعي بالإغماء وقت صلاة واحدة، لأنه عَجْزٌ مانعٌ عن فهم الخطاب فَيُنَافي الوجوب إذا استوعب وقت صلاة. كالجنون في رواية. (وإنْ زَادَ سَاعَةً) أو زماناً (لَا) يقضي، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، لأنه إذا قَصُرَ يُعْتَبَرُ بما يَقْصُرُ عادة كالنوم، فلا يُسْقِطُ القضاء، وإذا طال اعْتُبِرَ بما يطول عادة كالصِّبَا فَيُسْقِطُ. وقال محمد: يقضي إلاَّ أنْ يزيد على اليوم والليلة وقت صلاة، لأن الكَثْرة بالدخول في حد التكرار وهو ست صلوات.

ولو زال عقله بخمر يلزمه القضاء وإن طال، ولو زال ببنج أو دواء فكذا عند أبي حنيفة، لأن سقوط القضاء عُرِفَ بالأَثر في آفة سماوية، ولا يُقَاس عليه ما حصل بفعله. وعند محمد يسقط القضاء، لأن عقله زال بمباح ابتداء، فصار كما لو زال بمرض. ثم يقضي فائتة المرض في زمن الصحة كاملة، لأن تحصيل الركن فرض وإنما سقط عند الأداء للعذر. ويقضي فائتة الصحة في المرض بحسب القدرة الباقية، ولو بالإيماء. إذ التكليف يعتمد الوسع، فيكلف فيه على القضاء كما يكلف على الأداء.

فصلٌ في صَلَاةِ المُسَافِرِ

السفر لغة: قَطْعُ المسافة. وليس كلُّ قطع تتغيَّر به الأحكام، فبيَّن ما يتغيّر به فقال:(المُسَافِرُ) الشرعيّ الذي يلزمه القَصْر، ويُبَاح له الفِطْر، ويجوز له المسح ثلاثة أيام ولياليها على الخف، وسقط عنه الجُمُعَة، والعيدان والأضْحِيَة (مَنْ فَارَقَ بُيُوتَ بَلَدِهِ) أي البلد الذي هو فيها. وفارق القرية المتصلة بِرُبْضِها

(1)

على الصحيح، لِمَا روى مسلم وأبو داودٍ عن أنس قال: «صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحُلَيْفة

(2)

ركعتين». وروى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن أبي حَرْب بن أبي الأَسْوَد الدُّؤَلي: «أن عليّاً رضي الله عنه لَمَّا خرج من البصْرَة صلّى الظهر أربعاً ثم قال: لو جاوزنا هذا الخُصَّ قصرنا» . والخُصُّ بالضم: البيت من القصب، أو البيت

(1)

الرُّبْض: أساس البناء. النهاية: 2/ 185.

(2)

ذو الحُلَيْفَة: ماءٌ من مياه بني جُشَمَ، ثم سُمِّيَ به الموضع، وهو ميقات أهل المدينة نحو مرحلة عنها، ويقال على ستة أميال. المصباح المنير ص: 146، مادة (حلف).

ص: 388

قَاصِدًا مَسَافَة ثلاثَةِ أَيامٍ ولَيَالِيهَا،

===

يُسْقَفُ بالخشب. ويُعْتَبَرُ مفارقة الجانب الذي خرج منه، حتى لو فارق البيوت من جانب خرج منه، ومن جانب آخر بيوت لم يفارقها قصر.

(قَاصِداً مَسَافَة ثلَاثَةِ أَيامٍ ولَيَالِيهَا) الأيام للمشي، والليالي للاستراحة كذا في «شرح الطحاوي» ، أو بالعكس، أو بالبعض لأنه في معناه. قَيَّدَ بقصد المسافة، لأنه لو لم يقصد مسافة، بل سار لطلب الآبق أو غريم ونحوهما لا يقصر. وقَيَّدَ المسافة بثلاثة أيام، لأنها لو كانت أقل من ذلك لا يقصر. وهذه رواية «الأصول» . وروى ابن سَمَاعَة عن أبي يوسف، ومحمد: التقدير بيومين وأكثر الثالث. وهو رواية الحسن، عن أبي حنيفة. وقال مالك وأحمد ـ وهو قول للشافعي ـ: أربعة بُرْد

(1)

، والبَرِيدُ أربعة فراسخ

(2)

. وعن الشافعيّ قول آخر: أنه يوم وليلة، وهو رواية عن مالك. وعنهما تقديره بثمانية وأربعين ميلاً، وعن الشافعي تقديره بستَّةٍ وأربعين ميلاً، وعن مالك بخمسة وأربعين ميلاً.

وجه هذه الأقوال حديث مُجَاهد: «سألت ابن عمر عن أدنى مدة السفر فقال: تَعْرِفُ السُّوَيداء؟ قلت: قد سمعت بها، قال: كنّا إذا خرجنا إليها قصرنا» . وهو موضع بينه وبين المدينة ستّة وأربعون ميلاً. وقيل: ثمانية وأربعون. وقيل: عشرون فَرْسَخاً. والميل ثلث الفَرْسَخ. ولنا قوله صلى الله عليه وسلم «لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رَحِمٍ مَحْرَم منها» . معناه ثلاثة أيام. وكلمة «فوق» صلة مثل: {فاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ}

(3)

.

وقد روى أحمد، والشيخان، وأبو داود، عن ابن عمر مرفوعاً:«لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلاَّ مع ذي رَحِمٍ مَحْرَم» . وهي لا تُمنع من الخروج لغير السفر بدون المَحْرَم. كذا ذكره بعضهم، وفيه: أنها تُمنع بدون المَحْرَم ولو لم يكن بهذه المسافة لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تسافر المرأة بَرِيداً إلاَّ ومعها مَحْرَم يَحرُمُ عليها» . رواه أبو داود، والحاكم في «مستدركه» ، عن أَبي هريرة. وفي رواية لأحمد، والشيخين، عن ابن عباس مرفوعاً:«لا تسافر المرأة إلاَّ مع ذي رَحِمٍ مَحْرَم، ولا يدخل عليها رجل إلاَّ ومعها مَحْرَم» .

(1)

البُرُدُ: جمع البَرِيدُ وهي مسافة قدرها 4 فراسخ - 12 ميلًا= 22179 مترًا. معجم لغة الفقهاء ص 107.

(2)

الفَرْسَخُ: مقياس مقداره ثلاثة أميال = 5524 مترًا. معجم لغة الفقهاء ص: 343. بتصرف.

(3)

سورة الأنفال، الآية:(12).

ص: 389

بِسَيرٍ وَسَطٍ، وهُوَ ما سَارَ الإِبلُ والرَّاجِلُ، وفي البَحْرِ مَا سَارَ الفُلْكُ إذَا اعْتَدَلَ الرِّيحُ.

===

فأوْلَى ما اسْتُدِلَّ به عليه قوله صلى الله عليه وسلم «يمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها»

(1)

. فهو تنصيص على أن مدة السفر لا تنقص عَمَّا يمكن استيفاء هذه الرخصة فيها، لذكر المسافر مُحَلَّى بالألف واللام، فاسْتَغْرَق الجنس لعدم المعهود كما هو في المقيم كذلك.

فاقتضى تمكن كل مسافر من مسح ثلاثة أيام ولياليها، ولا يُتَصَوَّرُ أن يمسح كل مسافر ثلاثة أيام ولياليها إلاَّ وأن يكون أقل مدة السفر ثلاثة أيام ولياليها. إذ لو كان أقل من ذلك لخرج بعض المسافرين عن استيفاء هذه الرخصة. والزيادة عليها منتفية إجماعاً، فكان الاحتياج إلى إثبات أنّ الثلاثة أقل مدة السفر. ولأن الرخصة كانت منتفية بيقين، فلا تثبت إلاَّ بتيقنِ ما هو سفر شرعي، وذا فيما عيَّنَّاه إذ لم يقل أحد بأكثر منه.

لكن قد يُقَال: المراد بمسح المسافر ثلاثة أيام إذاكان سفره يستوعبها فصاعداً، إلاَّ أنه احتمال يخالفه الظاهر، فلا يُصَار إليه، فإن قيل: هذا إنما يتم لو كان ثلاثة أيام ظرفاً ليمسح، وهو ممنوع، بل هو ظرف للمسافر. أجيب بأنه ظرف ليمسح، كما أن يوماً وليلة ظرف له، لأن الكلام على نسق واحد. وأيضاً لا يفهم منه حينئذ مدة المسح للمسافر، ولا حكم المسافر الذي يسافر أقل من الثلاثة.

واختار أكثر المشايخ تقدير أقل مدة السفر بالأميال، ثم اختلفوا فيه فقيل: يقدر بثلاثة وستين ميلاً، وقيل: يُفْتَى بأربعة وخمسين ميلاً. لأنها أوسط الأعداد المذكورة. ذكره في «المحيط» .

وقيل: بخمسة وأربعين ميلاً. إمَّا بناءً على ما مر من حديث مجاهد، وإمَّا لأن كل من قَدَّرَه بقَدْرٍ فيها أعتقد أنه مسيرة ثلاثة أيام.

(بِسَيْرٍ وَسَطٍ) أي متوسط معتدل (وهُوَ) في البر (ما سَارَ الإِبلُ والرَّاجِلُ) أي الماشي، وذلك لأن أعجل السير سير البَرِيد، وأبطأه سير العَجَلَة، وخير الأمور أوسطها. (وفي البَحْرِ مَا سَارَ الفُلْكُ) أي السفينة (إذَا اعْتَدَلَ الرِّيحُ) بحيث لم تكن عاصفة ولا هاوية. قال الحاكم الشهيد في «جامعه الصغير»: الفتوى على ذلك. وذكر في «العُيُون» عن أبي حنيفة: أنه يُعْتَبَرُ مسيرة ثلاثة أيام في البر، وإن أسرع في السير وسارها في

(1)

أخرجه النسائي في سننه 1/ 91، كتاب الطهارة (1)، باب التوقيت في المسح على الخفين (99)، رقم (129).

ص: 390

وما يَلِيقُ بالجَبَلِ، فَيقْصُرُ الرُّبَاعِيَّ

===

يومين أو أقل. (وما يَلِيقُ بالجَبَلِ) إذا كان السير فيه.

(فَيَقْصُرُ) الفرض (الرُّبَاعِيَّ) وفرضه فيه ركعتان، وهو قول البغداديين من المالكية. وقال الشافعي، وأحمد، وبه قال مالك في وجه: فرضه الأربع، ورُخِّصَ له القصر رخصة تَرْفِيهٍ، والإتمام أفضل كالصوم لقوله تعالى: ({فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}

(1)

ولِمَا في مسلم عن يَعْلَى بن أُمَيَّة قال: «قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه

(2)

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد أمِنَ الناس فقال: عَجِبْتُ مما عَجِبْتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صَدَقةٌ تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته».

ولنا ما في «الصحيحين» عن عائشة قالت: «فُرِضَتْ الصلاة ركعتين ركعتين، فَأُقِرَّت صلاة السفر وَزِيدَتْ في الحَضَرِ» . وفي لفظ البخاري: «فُرِضَتْ الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعاً، وتُرِكَتْ صلاة السفر على الفريضة الأُولى» . وفي «صحيح مسلم»

(3)

عن ابن عباس قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» . أي مع كل طائفة، وهذا رفع منه. وفي لفظ الطَّبَرَانِي:«افترض رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين في السفر، كما افترض في الحضر أربعاً» .

وفي النَّسائي، وابن ماجه، عن ابن أبي ليلى عن عمر قال:«صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمامٌ غير قصر على لسان محمد» . وفي البخاري عن ابن عمر: «صَحِبْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ولم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصَحِبْتُ عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

(4)

» وهو مُعَارِضٌ للمروي عن عثمان أنه كان يُتِمُّ.

(1)

سورة النساء، الآية:(101).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

في المخطوط: الصحيح. والمثبت من المطبوع وهو الصواب لوجود الحديث في صحيح مسلم 1/ 479، كتاب صلاة المسافرين وقصرها (6)، باب صلاة المسافرين وقصرها (1)، رقم (5 - 687).

(4)

سورة الممتحنة، الآية:(6).

ص: 391

إلى أنْ يَدْخُلَ بَلَدَهُ، أوْ يَنْوِي إِقَامَةَ نِصْفِ شَهْرٍ بِبَلْدَةٍ أوْ قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ،

===

والتوفيق أن إتمامه المَرْوِيَّ كان حين أقام بمِنىً أيام مِنىً. ولا شك أنه حكم منسحب على إقامة أيام مِنىً، فشاع إطلاق أنه أتمّ في السفر. ثم كان ذلك منه بعد مضي صدر من خلافته، لأنه تأهَّلَ بمكة، على ما رواه أحمد:«أنه صلّى بمنىً أربع ركعات، فأنكر الناس عليه فقال: أيها الناس، إنِّي تَأَهَّلْتُ بمكّة منذ قَدِمْتُ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تأَهَّلَ في بلد فليصلِّ صلاة المقيم» .

والحاصل أن القصر رُخْصَةُ إسقاطٍ، فهي رخصة مجازية، ولذا سمّاه في النص صدقة، ورَفْعَ الجُنَاح في الآية لدفع توهّم النقصان في صلاتهم بسبب دوامهم على الإتمام في الحَضَر، وذلك مَظِنّة وَهْمِ النقصان، فدَفَعَ ذلك عنهم.

ثم لا قصر في السنن لأن القصر للتخفيف على المسافر، والتخفيف يُحْتَاجُ إليه في الفرائض لأنها لازمة. كذا في «المحيط». وروى البخاري من حديث حَفْص بن عَاصِم قال:«سافر ابن عمر فقال: صَحِبْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم أره يسبِّح في السفر وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. انتهى. ومعنى يسبح: يتطوّع بالصلاة. وقيل: يأتي بالسنن إذا كان في المنزل، ويتركها إذا كان في الارتحال» .

فيقصر الفرض الرُّبَاعِي (إلى أنْ يَدْخُلَ بَلَدَهُ) الذي فارق بيوته وإن لم ينو الإقامة، لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام كانوا يسافرون ويعودون إلى أوطانهم مقيمين من غير عزم جديد. وهذا إن أكمل في ذهابه ثلاثة أيام. وأمَّا إن لم يُكْمِلْها، فيُتِمّ بمجرد رجوعه، لأنه نقض السفر قبل استحكامه. روى عبد الرزاق في «مصنفه» قال عليّ بن رَبِيعَة الأَسدي:«خرجنا مع عليّ رضي الله عنه ونحن ننظر إلى الكوفة فصلّى ركعتين، ثم رجعنا فصلّى ركعتين ـ وهو ينظر إلى القرية ـ فقلنا له: ألا تصلّي أربعاً؟ فقال: لا حتى ندخلها» .

(أوْ يَنْوِي إِقَامَةَ نِصْفِ شَهْرٍ بِبَلْدَةٍ أوْ قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ) أي لا في مفازة

(1)

من غير ساكنيها، لأن الإقامة لا تعتبر إلاَّ في موضع صالح لها، وغير البلدة والقرية لا يصلح للإقامة إلاَّ لأهل الأخْبِيَة

(2)

كما سيأتي. وهذا إذا سار ثلاثة أيام فصاعداً، وأمَّا إذا سار

(1)

المفازة: الصحراء. المعجم الوسيط: ص: 706، مادة (فاز).

(2)

الأخبية: جمع الخِبَاء وهو الخيمة كما سيأتي معناها من كلام الشارح قريبًا.

ص: 392

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

دونها فيتم إذا نوى إقامة نصف شهر ولو في المفازة. وإنما قيد البلدة أو القرية بكونها واحدة، لأن نية الإقامة في بلدتين أو قريتين أو بلدة وقرية لا تصح، فلا تصح نيّة الإقامة بمكة ومنى لفقد نيّة الإقامة كَمَلاً

(1)

إلاَّ إذا نوى قبل الدخول الإقامة في أحدهما ليلاً، وفي الآخر نهاراً، فحينئذٍ يصير مقيماً بالدخول فيما نوى الإقامة فيه ليلاً، لأن إقامة المرء مضافة إلى بيته.

وقال مالك والشافعي: إذ نوى المسافر إقامة أربعة أيام يتم. وقال أحمد: إذا نوى أكثر من إحدى وعشرين صلاة يتم. لِمَا رُوِيَ عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: «من أقام أربعاً أتمّ» . وعن سعيد بن المُسَيَّب: «من أجمع على إقامة أربع أتمّ» .

ولنا قول ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم: «إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تَظْعَن

(2)

فاقصرها». رواه الطحاوي. وما روى محمد بن الحسن في كتاب «الآثار» : أخبرنا أبو حنيفة رحمه الله: حدّثنا موسى بن مسلم، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر قال:«إذا كنت مسافراً فَوَطَّنْتَ نفسك على إقامة خمسة عشر يوماً فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري فاقصر» . وما روى محمد بن الحسن في «موطَّئه» : عن ابن عباس أنه قال: إذا نوى إقامة خمسة عشر يوماً أتَمَّ الصلاة»، وروى مثلَه عن سعيد بن جُبَيْر، وسعيد بن المُسَيَّب. وما روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن مُجَاهد: أن ابن عمر كان إذا جَمَعَ على إقامة خمسة عشر يوماً أتمَّ الصلاة. وقال الترمذي في كتابه

(3)

: رُوِيَ عن ابن عمر أنه قال: «من أقام خمسة عشر يوماً أتم الصلاة» . والأثر في مثله كالخبر، لأنه لا مدخل للرأي في المُقَدَّرات الشرعية.

ويَرُدُّ أثرَهما

(4)

ما في الكتب الستّة عن أنس قال: «خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلّي ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة. قيل: كم أقمتم بمكة؟ قال: أقمنا بها عشراً» . فإن قيل: يحتمل أنهم كانوا يَعْزِمُونَ على السفر كل يوم.

أُجيب بأن هذا الحديث في حجّة الوداع كما صَرَّحَ به المُنْذِري، فلا بد أنهم

(1)

كَمَلًا: أي كاملًا. القاموس المحيط ص 1362، مادة:(كمل).

(2)

ظعن: سار وارتحل. المعجم الوسيط ص: 576، مادة (ظعن).

(3)

سنن الترمذي 2/ 432، كتاب الجمعة (4)، باب ما جاء في كم تقصر الصلاة (272)، رقم:(548).

(4)

أي ما احتج به مالك والشافعي.

ص: 393

وبِصَحْرَاءِ دَارِنَا وهُوَ خِبَائِيّ، لا بِدَارِ الحَرْبِ، أوْ أَهْلِ البغْيِ مُحَاصِرًا،

===

قصدوا إقامة أكثر من أربعة أيام لأجل النُّسُك، فإنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الأحد صُبْحَ رابعة من ذي الحِجَّة، وبات بالمُحَصَّب

(1)

ليلة الأربعاء بعد أيام منىً، وفي تلك الليلة اعتمرت عائشة رضي الله عنها من التَّنْعِيمِ

(2)

، ثم طاف صلى الله عليه وسلم طواف الوداع سَحَراً قبل الصبح من يوم الأربعاء، وخرج صبيحته ـ وهو الرابع عشر ـ فتمت له عشر ليال.

نعم، يتأتى هذا الاحتمال في إقامته صلى الله عليه وسلم عام الفتح تسعة عشر يوماً فيما روى البُخَاري من حديث ابن عباس:«أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة تسعة عشر يوماً يَقْصُرُ الصلاة» . وقد صَرَّحَ في بعض الطرق: «أقام بمكة عام الفتح» . قال المُنْذِري: حديث أنس يُخْبِرُ عن مُقَامه صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع، وحديث ابن عباس يُخْبِرُ عن مُقَامِه في عام الفتح. وفي «الغاية»: عن العلماء في مدة الإقامة للمسافر ثمانية عشر قولاً.

(وبِصَحْرَاءِ دَارِنَا) عطف على «بلدة» ، أي ويَقْصُرُ إلى أن ينوي الإقامة بصحراء دار الإسلام، (وهُوَ خِبَائِيّ) أي والحال أنه من أهل الخِبَاء وهي بكسر الخاء: الخيمة. والمراد أهل البادية كالأعراب والأتراك، لأن الصحراء موضع إقامتهم. وقيل: لا يَصح إقامتهم أبداً، لأن حالهم يخالف عزيمتهم. فإن إقامتهم للكلأْ فإذا لم يبق انزعجوا

(3)

. وأُجِيبَ بأنهم مقيمون، لأن الإقامة للمرء أصل والسفر عارض، فلا يبطل بالانتقال من مَرْعى إلى مَرْعى.

(لا بِدَارِ الحَرْبِ) عطف على قوله: بصحراء دارنا، فإنه جعلَ نيّةَ الإقامة في صحراء دارنا غايةً للقصر، وحكم الغاية مخالف لحكم المُغَيَّا، فيكون حكمه عدم القصر. ثم قوله: لا بدار الحرب، نفي لذلك النفي، فيكون حكمه القصر. فالمعنى يقصر الرُّباعي عَسْكَرٌ نوى إقامة نصف الشهر بدار الحرب، سواء كان مُحَاصِراً لهم أو لم يكن.

(أوْ) بدار (أَهْلِ البَغْيِ) حال كون العسكر (مُحَاصِراً) للبغاة: وهم المسلمون الذين خرجوا على الإمام، لأن العسكر في دار الحرب ودار البغاة متردد بين الفرار والقرار، فتصير نية الإقامة فيه كنيتها في المفازة والجزيرة، فلا يقطع قصر الصلاة.

(1)

المُحَصَّب: موضع بمكة على طريق مِنىً ويُسمَّى البطحاء. المصباح المنير ص: 138، مادة (حصب).

(2)

التَّنْعِيم: موضع قريب من مكة، وهو أقرب أطراف الحِلِّ إِلى مكة، ويُقَال بينه وبين مكة أربعة أميال، ويُعْرف بمساجد عائشة رضي الله عنها. المصباح المنير ص: 614، مادة (نعم).

(3)

أزْعَجْتُه عن موضعه: أَزَلْتُه عنه. المصباح المنير ص: 253، مادة (زعج).

ص: 394

كَمَنْ طَالَ مُكْثُه بِلا نِيَّة، فَلَوْ أَتَمَّ وقَعَدَ الأوْلَى، تَمَّ فَرْضُه وأَسَاءَ، ومَا زَادَ نَفْلٌ. وإنْ لَمْ يَقْعُدْ بَطَلَ فَرْضُهُ.

===

ولهذا قالوا من دخل بلداً لقضاء حاجة، ونوى إقامة خمسة عشر يوماً، لا يصير مقيماً، لأنه إن قضى حاجته قبل ذلك خرج منها. فقد روى أبو داود ـ بإسناد قال النووي: إنه على شرط البخاري ومسلم ـ عن جابر: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوماً يَقْصُرُ الصلاة» .

(كَمَنْ طَالَ مُكْثُه بِلَا نِيَّةٍ) أي كما يقصر من طال مُكْثَه في بلد أو قرية ولا نيّة له. لِمَا روى البيهقي في «المعرفة» ـ بسند قال النووي: إنه على شرط الشيخين ـ أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «ارْتَجَّ علينا الثلج ونحن بأذْرَبِيجَان ستة أشهر في غَزَاةٍ، فكنا نقصر» . ارْتَجَّ بالمثناة والجيم من الارتجاج أي أَغْلَقَ. وفيه: «أنه كان مع غيره من الصحابة يفعلون ذلك» . ورَوَى في «المعرفة» عن المِسْوَرِ بن مَخْرَمَة قال: «كنّا مع سعد بن أبي وقَّاص في قرية من قُرَى الشام أربعين ليلة، فكنّا نصلّي أربعاً، وكان يصلّي ركعتين» . وعن أنس أيضاً: «أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برَامَهُرْمُزَ تسعة أشهر يَقْصُرُون الصلاة» . قال النووي: رواه البيهقي بإسناد صحيح.

وعن أنس أيضاً: «أنه أقام بالشام مع عبد الملك شهرين يصلي صلاة مسافر» . قال النووي: رواه البيهقي، بإسناد صحيح. وعن ابن عباس:«أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً يصلّي ركعتين» . رواه البيهقي. وإسناده ضعيف. وروى عبد الرَّزَّاق، عن الحسن قال:«كنّا مع عبد الرَّحْمن بن سَمُرَة ببعض بلاد فارس سنتين، فكان لا يجمع ولا يزيد على ركعتين. وروى أبو داود عن جابر قال: «أقام صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوماً يَقْصُرُ الصلاة» .

ويُعتبر التَّبَعُ كالعبد والمرأة والجندي مسافراً ومقيماً بنية المَتْبُوع بشرط علم التابع في الأصح، حتى لو لم يعلم بنية إقامته إلاَّ بعد أيام فإن صلاته في تلك الأيام جائزة لتوقف الخطاب بالحكم على العلم به. ورُوِيَ عن بعض أصحابنا: أنه عليه الإعادة، إذ الحكم في التبع يثبت بشرط علم الأصل.

(فَلَوْ أَتَمَّ) المسافر (وقَعَدَ) القعْدَة (الأُوْلَى تَمَّ فَرْضُه وأَسَاءَ) لتأخيره السلام عن وقته، إن كان الإتمام قصداً لشبهة عدم قبول صدقة الله تعالى. (ومَا زَادَ نَفْلٌ) وصار كما لو صلى الفجر أربعاً وقَعَدَ على رأس الركعتين (وإنْ لَمْ يَقْعُدْ بَطَلَ فَرْضُهُ) لتركه القعْدة التي هي فرض. وهذا إذا لم ينوِ الإِقامة في القَوْمَةِ الثالثة، وأمَّا إذا نواها فإنه يصير مقيماً، وينقلب فرضه أربعاً. وترك المقيم القعْدَة الأولى لا يبطل فرضه، لأنها حينئذٍ

ص: 395

مُسَافِرٌ أَمَّهُ مُقِيمٌ في الوَقْتِ يُتِمُّ، وبَعْدَهُ لا يَؤُمُّهُ. وَلَوْ أَمًّهُ بَطَلَ اقْتِدَاؤُهُ، وفي عَكْسِهِ أَتَمَّ المُقِيمُ وقَصَرَ المُسَافِرُ، قَائِلًا نَدْبًا: أَتِمُّوا صَلاتكُمْ فَإِنِّي مُسَافِرٌ.

===

واجبة، وقيل: سنة.

(مُسَافِرٌ أَمَّهُ مُقِيمٌ في الوَقْتِ يُتِمُّ) لأن فرضه يصير أربعاً تَبَعاً لإمامه، حتى لا يضره عدم جلوس إمامه على رأس الأُولَيَيْنِ لالتزامه التبعية. لِمَا روى مالك في «الموطأ»: عن نافع، عن ابن عمر:«أنه كان يصلي وراء الإمام أربعاً، فإذا صلَّى بنفسه صلّى ركعتين» .

(وبَعْدَهُ) أي بعد الوقت (لا يَؤُمُّهُ) أي لا يَؤُمُّ المقيم المسافر. (وَلَوْ أَمَّهُ بَطَلَ اقْتِدَاؤُهُ) لأنَّ فرض المسافر لا يتغير بعد الوقت لانفصال سببه ـ وهو الوقت ـ كما لا يتغير بعده بنيّة إقامته، فلا يصح اقتداؤه به، لأنه يؤدي إلى اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعْدة، إن اقتدى به في الشَّفْعِ الأَول، وفي حقِّ القراءة إن اقتدى به في الشَّفْعِ الثاني، إذ هي فيه نفل للمقيم.

(وفي عَكْسِهِ) وهو مقيم أمَّهُ مسافر (أَتَمَّ المُقِيمُ) سواء أَمَّه في وقتها أو فائتة، لأن القعْدَة الأولى فرض في حق المسافر غير فرض في حق المقيم، واقتداء غير المفترض بالمفترض جائز. وإذا سلَّم المسافر أتَمَّ المقيم منفرداً لأنه التزم الموافقة في الركعتين، فصار كالمسبوق في التزام بعض الصلاة مع الإمام وأداء باقيها منفرداً، فيقرأ. وقيل: لا يقرأ لأنه لاحق أدرك أول الصلاة.

(وقَصَرَ) الإمام (المُسَافِرُ) أي وجوباً (قَائِلاً نَدْباً) لدفع تَوَهُّم أنه سهى: (أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنِّي مُسَافِرٌ) لِمَا روى أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، عن عِمْرَانَ بن حُصَيْن قال:«غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثمان عشرة ليلة لا يصلِّي إلاَّ ركعتين يقول: يا أهل مكة: صلُّوا أربعاً فإنّا سَفْرٌ» . بفتح فسكون، جمع سافر ـ كصَحْبٍ وصاحب ـ أي مسافرون. ورواه أبو داود، والطَّيالِسِي ولفظه:«ما سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً قط إلاَّ صلى ركعتين حتى يرجع. وشهدت معه حُنَيْناً والطائف، فكان يصلّي ركعتين، ثم حججت معه واعتمرت فصلّى ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة: أَتمّوا صلاتكم فإنَّا قوم سَفْرٌ» . وهكذا أَخْبَرنا عن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما وقال:«وقد حججت مع عثمان رضي الله عنه سبع سنين من إمارته، فكان لا يصلّي إلاَّ ركعتين، ثم صلى بمنىً أربعاً» .

وخلاصة الكلام: أنه يستحب الإعلام بعد السلام للإتمام لاحتمال أن يكون

ص: 396

ويُبْطِلُ الوَطَنَ الأَصْلِيَّ مِثْلُهُ، لا السَّفَرُ، ووَطَنَ الإِقَامَةِ

===

خلفه من لا يعرف حاله، ولا تَيَسَّرَ له الاجتماع به قبل ذهابه، فيحكم حينئذٍ بفساد صلاة نفسه بناء على ظن إقامته، ثم إفسادها بسلامه على ركعتين. وهذا محمل ما في «الفتاوى»: إذا اقتدى بإمام لا يدري أمسافر هو أم مقيم، لا يصح، لأن العلم بحال الإمام شرط الأداء بجماعة، لا أنه شرط في الابتداء لِمَا في «المَبْسُوط»: رجل صلَّى بقوم الظهر ركعتين في قرية وهم لا يدرون أمسافر هو أم مقيم، فصلاتهم فاسدة، سواء كانوا مقيمين أو مسافرين، لأن الظاهر من حال مَنْ في موضع الإقامة أنه مقيم، والبناء على الظاهر واجب حتى يتبين خلافه. فإن سألوه فأخبرهم أنه مسافر جازت صلاتهم.

وإنما كان قول الإمام مستحباً لعدم تعيُّنه مُعَرِّفاً صحةَ صلاته لهم، فإنه ينبغي أن يُتِمُّوا ثم يسألوه فتحصل المعرفة. ثم من غريب المقام: أن الإمام أبا حنيفة صلّى بقوم في المسجد الحرام، فَلَمَّا انصرف قال: أَتِمُّوا صلاتكم فإني مسافر. فقال بعض المقتدين به من سفهاء مكة: نحن أعلم منك يا عراقي. (فقال أبو حنيفة: لو كنتَ أعلمَ مني لَمَا تكلّمتَ خلال صلاتك)

(1)

.

(ويُبْطِلُ الوَطَنَ الأَصْلِيَّ) مفعول مقدم، وهي البلدة أو القرية التي وُلِدَ بها أو تَأَهَّلَ فيها ـ أعني توطن بها ـ بأن نَوَى كونه فيها إلى آخر عمره. فالمعنى جعل نفسه من أهل تلك القرية، سواء تَزَوَّجَ فيها أم لا (مِثْلُهُ) أَلَا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة عَدَّ نفسه بمكة من المسافرين؟ وقال:«أَتمّوا صلاتكم فإني مسافر» . فيُبْطِله مثله، سواء كان بينهما مدة السفر أو لم يكن، حتى لو عاد إلى الأول وبينهما مدة السفر، لا يصير مقيماً إلاَّ بنية الإقامة، لأن الشيء يبطل بمثله كما يبطل بأقوى منه. فإنّ وطن الإقامة يبطل بالوطن الأصليّ. وهذا إذا لم يبق له في الوطن الأول أهل ـ أي تَعَلُّق ـ من زوج، أو ولد، أو زراعة، أو نحوها. وأما إن كان له فيه أهل فإنه لا يبطل، وبأيهما دخل يتم الصلاة من غير نيّة الإقامة.

(لا السَّفَرُ) بالرفع أي لا يُبطل الوطنَ الأصليّ السفُر. بل بمجرد دخول المسافر إلى وطنه الأصليّ يصير مقيماً، ولا يفتقر إلى نيّة الإقامة.

(ووَطَنَ الإِقَامَةِ) منصوب عطف على الوطن الأصليّ أي ويبطل وطن الإقامة وهو البلدة أو القرية التي ليس للمسافر فيها أهل ونوى أن يقيم فيها خمسة عشر يوماً

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 397

مِثْلُهُ والسَّفَرُ وَالأَصْلِيُّ، والسَّفَرُ وضِدُّهُ لا يُغَيِّرَانِ الفَائِتَةَ. وسَفَرُ المَعْصِيَةِ كَغَيْرِهِ في الرُّخَص.

===

فصاعداً (مِثْلُهُ) لأنَّ الشيء يُرتفض بمثله. (والسَّفَرُ) لأنه ضد الإقامة فلا تبقى معه، (وَ) الوطن (الأَصْلِيُّ) لأنه أقوى من وطن الإقامة.

(والسَّفَرُ وضِدُّهُ لا يُغَيِّرَانِ الفَائِتَةَ) عندنا وبه قال مالك. حتى لو قضى المسافر حَضَرِيّة قضاها أربعاً، ولو قضى المقيم سَفَرِيّة قضاها ثنتين، لأن القضاء على حسب الأداء. وإنما يقضي المريض بالإيماء ما فاته في الصحة بالركوع والسجود لئلا يلزم تكليف ما ليس في الوسع، ويقضي الصحيح بالركوع والسجود ما فاته في المرض بالإيماء، لأن الرخصة للعجز، ولا تبقى بدونه.

وقال الشافعيّ في الجديد: يقضيها أربعاً، لأن القصر رخصة للمسافر وهو حال قضائها لم يبق مسافراً، فلا يَقْصُرُ. قلنا: الواجب على المسافر في الوقت ركعتان، وبالفوات استقرتا في ذمته فلا يتغيران بالإقامة لوجوب القضاء بالسبب الذي يجب الأداء به، فيحكيه كالعكس وهو عدم تغير فائتة الحَضَر إذا قُضِيت في السفر اتفاقاً لِمَا قدَّمنا.

ثم يُعْتَبَرُ في السفر والإقامة، وكذا في الحيض والطهر منه، والبلوغ والإسلام، آخر الوقت، هو قدر التحريمة، وقد قررنا طرفاً منه في باب الحيض وتمامه في الأصول. ويباح السفر يوم الجمعة قبل الزوال وبعده. أمّا بعد الزوال فظاهر، وأما قبله فَلِمَا رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال:«بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رَوَاحَة في سَرِيّة فوافق ذلك يوم الجمعة فغدا أصحابه وقال: أتخلف فَأُصَلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ألحقهم، فلمَّا صلى معه صلى الله عليه وسلم رآه فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك. فقال: أردت أن أصلّي معك ثم ألحقهم. فقال: لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم» . أخرجه الترمذي.

(وسَفَرُ المَعْصِيَةِ) كالإباقِ والنشوز

(1)

وقطع الطريق (كَغَيْرِهِ) أي كسفر الطاعة من الحج والعُمْرَة والتجارة. (في الرُّخَص).

ومذهب مالك: أنَّ العاصي لا يَتَرَخَّصُ. ومذهب الشافعي: أنه إن أنشأ السفر وهو عاصٍ لا يَتَرَخَّصُ قولاً واحداً، وإن طرأ العصيان في سفره فوجهان.

ولنا أنَّ النصوص المقتضية للقصر والإفطار وغير ذلك من الرُّخَصِ كقوله تعالى:

(1)

النُّشُوز: نشزت المرأة من زوجها، عصت زوجها وامتنعت عليه، ونشز الرجل من امرأته: تركها وجفاها. المصباح المنير، ص: 605، مادة (نشز).

ص: 398

‌بَابٌ في صَلاةِ الجُمُعَةِ

===

{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر}

(1)

وقوله صلى الله عليه وسلم «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها»

(2)

، مطلقةٌ

(3)

لا تفرِّقُ بين سَفَرٍ وسَفَرٍ، وأنّ نفس السفر مباح، وإنما المعصية فيما جَاوَرَه من عقوق، أو خروج على الإمام، أو قطع طريق، والقُبْحِ المجاور لا يُعْدِمُ المشروعية كالصلاة في الأرض المغصوبة، والبيع وقت نداء الجمعة، والمسح على الخف المغصوب، وكثير من النظائر.

ثم من الغرائب: أن فقهاء ما وراء النهر اتفقوا في زمان عبد الله خان: على أنَّ السلطان في جميع مملكته حكمه حكم المقيم. وهذا خطأ فاحش، فإنه صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة قصر الصلاة، وكذا الخلفاء الراشدين كعمر وعثمان، إلاَّ أنَّ عثمان أتَمَّ في منىً آخر حجّه، وأُنْكِرَ عليه واعتَذَرَ بأنه تزوج بمكة. وروى حديثاً عنه صلى الله عليه وسلم «أن من تزوج بموضع صار في حكم المقيمين به»

(4)

، والله أعلم بالصواب.

باب في صَلَاةِ الجُمُعَةِ

وهي بضم الميم، وقُرِاء بإسكانها، وحُكِي فتحها، وسُمِّيت بذلك لاجتماع الناس فيها ولَمَّا قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس في بني عمرو بن عَوْفٍ وأَسَّسَ مسجدهم، ثم خرج من عندهم فأدركته الجُمُعَة في بني سالم بن عوف، فصلاَّها في المسجد الذي في بطن الوادي دَانُونَاء، فكانت أول جمعة صلاّها صلى الله عليه وسلم بالمدينة.

ثم هي فريضة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ للصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ}

(5)

لأنَّ المُرَاد بالذكر الصلاة. وإن كان المراد به الخُطْبَة التي هي شرط للصلاة، فَيَلْزَمُ السعيُّ إلى الصلاة التي هي المقصودة من باب أوْلى.

وأمَّا السُّنَّة، فقوله صلى الله عليه وسلم «الجُمُعَةُ حقٌّ واجبٌ على كل مسلم في

(1)

سورة البقرة، الآية:(184).

(2)

مرَّ تخريجه 121.

(3)

خبر "أن".

(4)

مرَّ تخريجه عن الإمام أحمد ص 392.

(5)

سورة الجُمُعَة، الآية:(9).

ص: 399

شُرِطَ لِوُجُوبِ الجُمُعَةِ الإقَامَةُ بِمِصْرٍ، والصِّحَةُ، والحُرِّيَّةُ، والذُّكُورَةُ، والبُلُوغُ، وسَلامَةُ العَيْنِ، والرِّجْلِ

===

جماعة إلاَّ أربعة: مملوك، أو امرأة، أو صبيّ، أو مريض». رواه أبو داود. (وروى البيهقي من طريق)

(1)

البخاري عن تميم الدَّارِيّ: قال صلى الله عليه وسلم «الجمعة واجبة إلا على صبيّ، أو مملوك، أو مسافر» . ورواه الطَّبَرَانِيّ، وزاد فيه:«المرأة والمريض» .

وقوله صلى الله عليه وسلم وهو على أعواد منبر: «لَيَنْتَهِيَنَّ أقوام عن وَدْعِهِمُ الجُمُعَات، أو لَيَخْتِمَنَّ الله على قلوبهم، ثم لَيَكُونَنَّ من الغافلين» . رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وابن عمر. وروى أحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«من ترك ثلاث جُمَعٍ تهاوناً طَبَعَ الله على قلبه» . وفي رواية لأحمد: «من ترك الجُمُعَة ثلاث مرات من غير ضرورة، طَبَعَ الله على قلبه» . وأما الإجماع: فلأن الأمة قد اجتمعت على فرضيتها، وإنَّما اختلفوا في فرض الوقت بطريق الأصالة ما هو؟ على ما يجيء.

(فَصْلٌ في شُرُوطِ وُجُوبِ الجُمُعَةِ)

ثم لها شروط زائدة على شروط سائر الصلاة فمنها ما هو في المُصَلِّي، ومنها ما هو في غيره. فأشار إلى الأول بقوله:(شُرِطَ لِوُجُوبِ الجُمُعَةِ) أي لفرضيتها (الإِقَامَةُ بِمِصْرٍ والصِّحَةُ) لأنّ في وجوبها على المسافر والمقيم بقرية والمريض حرجاً. وفي «الظَّهِيرِيَّة» : ولا جمعة على الشيخ الكبير الذي ضَعُفَ وعَجِزَ عن السعي كالمريض. (والحُرِّيَّةُ والذُّكُورَةُ) لأنَّ العبد مشغول بالمولَى، والمرأة بالزوج بخلاف باقي الصلوات المفروضة، فإنها تؤدى في زمان يسير. (والبُلُوغُ) لأنه شرطٌ لكل تكليف، وكذلك العقل. (وسَلَامَةُ العَيْنِ والرِّجْلِ) فلا تجب على الأَعمى سواء وَجَدَ قائداً يوصله إلى الجامع أو لا.

وقال أبو يوسف ومحمد: إنْ وجَد قائداً وَجَبَ عليه السعي وإلاَّ فلا، لأن الأعمى بواسطة القائد قادر. ولأبي حنيفة أنه عاجز بنفسه، فلا يعتبر قادراً بغيره. ونظير الخلاف في الأعمى الخلاف في العاجز عن الوضوء أو عن التَّوَجُّه إلى القبلة إذا وَجَدَ من يعينه. ولا تجب أيضاً الجُمُعَة على مَفْلُوج الرِّجْلِ ولا مقطوعها، ولا مُقْعَدٍ وإن وَجَدَ حاملاً، لأنه عاجز عن أصل السعي، كذا أطلقوا. وينبغي أنْ يكون فيه خلاف كالأعمى. روى أبو داود من حديث طارق بن شِهَاب: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة حق على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبداً مملوكاً، أو امرأةً، أو

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

ص: 400

وتقع فَرضًا إن صلَّاها فَاقِدُهَا.

وشُرِط لأدَائِهَا المِصْرُ

===

صبياً، أو مريضاً». قال أبو داود: وطارق رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه. قلت: مراسيل الصحابة مقبولة بلا شبهة، وإنَّما الخلاف في مراسيل غيرهم، مع أن الجمهور على كونها حجّة أيضاً.

(وتقع) الجُمُعَة (فَرضاً إن صلاَّها فَاقِدُهَا) أي فاقد الشروط المذكورة، أو واحدة منها وهي: الإقامة، والصحة، والحرية، والذكورة، وسلامة العين والرجل، لأن اشتراط الشروط للتخفيف ورفع المشقّة، فإن حضر فاقدها وصلّى أجزأه عن فرض الوقت كالمسافر إذا صام، والفقير إذا حج.

(شُرُوطُ أَدَاءِ الجُمُعَةِ)

(وشُرِطَ لأدَائِهَا المِصْرُ) فلا تُؤَدَّى في المفازة

(1)

والقرية لِمَا روى البيهقي في «المعرفة» ، وعبد الرَّزَّاق، وابن أبي شَيْبَة في «مصنَّفَيْهما»: عن علي أنه قال: «لا جمعة، ولا تشريق ـ أي تكبيره ـ ولا صلاة فطر ولا أضحى، إلاَّ في مِصْرٍ جَامِعٍ أو مدينة عظيمة» . الظاهر أنَّ «أو» للشك. والحديث صححه ابن حَزْم، ورواه عبد الرَّزَّاق من حديث عبد الرحمن السُّلَمي عن عليّ قال:«لا جُمُعَة، ولا تشريق، إلاَّ في مِصْرٍ جَامِعٍ» . ولأنه كان لمدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم قُرَى كثيرة، ولم يُنْقل أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة الجمعة فيها.

وأمَّا ما ذكره صاحب «الهداية» من قوله صلى الله عليه وسلم «لا جمعة، ولا تشريق، ولا فِطْرَ، ولا أضحى إلا في مِصْرٍ جامع» . فَرَفْعُه غير معروف، كذا ذكره مُخَرِّجُهُ

(2)

. لكن ذكره شيخ الإسلام خَواهِرْ زَادَه في «مبسوطه» وقال: ذكره أبو يوسف في «الأمَالِي» مُسْنَداً مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم والله سبحانه أعلم.

وأجاز مالك والشافعيّ الجُمُعَة في القُرَى لظاهر قوله تعالى: {فاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ}

(3)

وقياساً على سائر الصلوات.

ولنا: ما سبق عن عليّ، وكفى به قدوةً وإماماً. ولا يُعَارِضهُ ما رُوِيَ عن ابن

(1)

المفازة الصحراء.

(2)

انظر "نصب الراية" 2/ 995، و"فتح القدير" 2/ 22.

(3)

سورة الجُمُعَة، الآية:(9).

ص: 401

أو فِنَاؤُهُ.

===

عباس قال: «إنّ أول جُمُعَةٍ جُمِعَت (بعد جمعة)

(1)

في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بجُوَاثا» قرية في البحرين، إذ القرية تطلق على المِصْر في عُرْف الصدر الأول، وهو لُغةُ القرآن، قال الله تعالى:{وقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ على رَجلٍ من القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}

(2)

أي: مكة والطائف، ولا شك أن مكة مِصْر.

وفي «الصِّحَاحِ» : أنَّ جُوَاثا حصن بالبحرين، فهي مصر إذ لا يخلو الحصن عن حاكم وعالم، ولذا قال في «المبسوط»: وجُوَاثا مصر في البحرين، ثم يجب أنْ يُحمل قول عليّ رضي الله عنه على كونه سَمَاعاً، لأن دليل الافتراض من كتاب الله يفيد العموم في الأمكنة، فإقدامه على نفيها في بعض لا يكون إلاَّ عن سماع، لأنه خلاف القياس المنهي في مثله وفي الصلوات الباقيات أيضاً.

والتحقيق أن قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} ليس على إطلاقه اتفاقاً بين الأئمة، إذ لا يجوز إقامتها في البراري إجماعاً، ولا في كل قرية عندهما. بل يشترط أن لا يَظْعَن

(3)

أهلها عنها صيفاً ولا شتاءً. فكان خصوص المكان مراداً فيهما إجماعاً، فَقَدَّرَا

(4)

القرية، وقدَّرنا المِصْرَ، وهو أولْى لحديث عليّ رضي الله عنه. وهو لو عُورِضَ بقول غيره، كان عليّ رضي الله عنه مُقَدَّماً عليه، فكيف ولم يتحقق له مُعَارِضٌ؟ ولهذا لم يُنقل عن الصحابة أنهم حين فتحوا البلاد اشتغلوا بنصب المنابر إلا في الأمصار دون القرى، ولو كان لَنُقِلَ ولو آحاداً

(5)

.

(أو فِنَاؤُهُ) بكسر الفاء أي حوله المتصل به، ممَّا يُعَدُّ لمصالحه.

وفي «المُنْتَقَى» عن أبي يوسف: لو خرج الإمام عن المِصْر مع أهله لحاجة مقدار ميلين فحضرت الجُمُعَة، جاز أنْ يصلّيَ بهم الجُمُعَة، وعليه الفتوى. لأن فِنَاء المِصْر بمنزلة المِصْر فيما كان من حوائج أهله. وأداء الجمعة أُعِدَّ من حوائجهم. وتجوز الجُمُعَة بمنىً أيام الموسم عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا كان الإمام أمير الحجاز

(6)

، أو كان الخليفة حاجّاً. وقال محمد: لا يجوز لأنَّ مِنىً قرية. ولهما أنَّ مِنىً

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(2)

سورة الزخرف، الآية:(31).

(3)

يظعن: يسافر ويرتحل.

(4)

أي: قدّر مالك والشافعي القرية.

(5)

"كان" تامَّةٌ هنا، بمعنى وُجِدَ، أي: ولو وُجِدَ هذا الفعل من الصحابة، لَنُقِل إلينا، ولو كان النقلُ آحادًا.

(6)

حرِّفت في المخطوطة إلى: أمير الحاج، والصواب ما أثبتناه. انظر "فتح القدير" 2/ 24 - 26. وعبارةُ "الهداية": وتجوز بمعنى إن كان الأمير أميرَ الحجاز، أو كان مسافرًا

والتقييد بالخليفة وأمير الحجاز لأن الولاية (أي ولاية الإقامة للجمعة) لهما، أما أمير الموسم فَيَلِى أمور الحج لا غير.

ص: 402

ومَا لا يَسَعُ أَكْبَرُ مَسَاجِدِهِ أَهْلَه، مِصْرٌ، وما اتَّصَلَ بِهِ مُعَدًّا لِمَصَالِحِهِ فِنَاؤُهُ

===

أيَّام الموسم تصير مِصْراً، وأمَّا الجُمُعَة بعرفات فلا تصح إجماعاً، ولو وافق الوقوف، لأنه صلى الله عليه وسلم وقف بها يوم الجُمُعَة، ولم يصلِّ بها الجُمُعَةَ بل الظُّهْرَ والعصر جمعاً. وكذا لا يُصلِّي بمنىً صلاة العيد اتفاقاً لاشتغال الناس بأعمال المناسك في ذلك اليوم.

(ومَا لا يَسَعُ أَكْبَرُ مَسَاجِدِهِ أَهْلَه) الذي يجب عليهم الجمعة (مِصْرٌ) رُوِيَ ذلك عن أبي يوسف. وفيه إشكال، حيث لم يَصْدُقْ على المساجد الثلاثة، اللهم إلاَّ أن يُقَال: إنها مستثناة معلومة من الشريعة، أو يقال: هذا إذا كانت المساجد متعددة، ولا تَعَدُّدَ في مكة والمدينة والقدس. وعنه

(1)

: كل موضع له أميرٌ وقاضٍ يُنَفِّذُ الأَحكام، ويقيم حدود الإسلام. قال في «الهداية»

(2)

: وهو الظاهر ـ أي من المذهب ـ وعليه أكثر الفقهاء، واخْتَاره الكَرْخِيّ.

وعن أبي حنيفة: كل بلد لها سكك، وأسواق، ووالٍ لدفع المظالم، وعَالِم يُرْجَعُ إليه في الحوادث. قيل: هو الأصحّ. واختار الثَّلْجِي

(3)

الأَول

(4)

لظهور التواني في أحكام الشرع، لا سيما في إقامة الحدود. وقال محمد: هو كل موضع مَصَّرَه الإمام بإرسال نائب لإقامة الحدود والقصاص، حتى إذا عزله يُلْحَقُ بالقرى.

(وما اتَّصَلَ بِهِ) أي بالمصر (مُعَدَّاً لِمَصَالِحِهِ) أي لمصالح أهله: من ركض خيلهم، ورميهم بسهم، ودفن موتاهم. (فِنَاؤُهُ) وقدّره بعضهم بِفَرْسَخَيْنِ

(5)

، وبعضهم بميلين. وفي «الخَانِيَّة»: لا بد أنْ يكون الفِنَاء متصلاً بالمِصْر حتى لو كان بينه وبين المصر فُرْجَة من المزارع والمراعي لا يكون فِنَاءً.

ولو أُقِيمَتْ الجُمُعَة في مصر في مواضع، ففي المذهب أربع روايات:

أولاها عن أبي حنيفة ومحمد وهي أصحها: الجواز سواء كان التعدد في موضعين أو أكثر، لأن في عدم تعدد جوازها حرجاً. والحرج مدفوع، فصارت كصلاة العيدين. وبه قال محمد، وهو مختار السَّرَخْسِيّ.

(1)

وعنه: أي عن أبي يوسف، كما في "الهداية". فتح القدير 2/ 23 - 24.

(2)

عبارة "الهداية" مختلفة، وقد نقلها بالمعنى.

(3)

حرِّفت في المخطوطة إلى: البلخي، والصواب ما أثبتاه. انظر "فتح القدير" 2/ 24.

(4)

القول الأول في تعريف المِصْر هو: ما لا يسعُ أكبر مساجده أهلَه. أو بعبارة أخرى - كما ورد في "الهداية" -: أنهم إذا اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم.

(5)

الفَرْسَخ: سبق شرحها، ص: 278، التعليقة رقم (6).

ص: 403

والسُّلْطَانُ أو نَائِبُهُ، ووَقْتُ الظُّهْرِ

===

ثانيتها عن أبي حنيفة: لا يجوز في أكثر من موضع واحد، لأن الجمعة من أعلام الدين، فلا يجوز تقليل جماعتها، وفي جوازها في مكانين تقليلها.

ثالثتها عن أبي حنيفة وصاحبيه: يجوز في موضعين لا غير نظراً إلى وجهي الروايتين الأُولَيَيْنِ.

رابعتها عن أبي يوسف: يجوز في موضعين إذا كان المِصْرُ كبيراً، أو حال بينَ الخُطْبَتَيْنِ نهرٌ كبغداد.

ثم من قال بعدم جواز التعدد قال: الجمعة هي السابقة. وفي «المحيط» : إن وقعتا معاً بَطَلَتَا. وفي «شرح المَجْمَع» : وكذا لَوْ جُهِلَتْ السابقة، ثم الأَصَحُّ أنه يُعْتَبَرُ السَّبْقُ بالشروع لا بالفراغ ولا بهما.

وإذا وقع الشك في صحة أداء الجمعة لفقد بعض الشرائط، ينبغي أن يُصَلَّى بعد الجُمُعَة أربع ركعات احتياطاً، ولو بالحرمين الشريفين، وينوي ظهرَ يومه، أو آخر ظهر عليه ـ وهو أحسن ـ لأنه إن لم تُجزاء الجُمُعَة فعليه الظهر، وإن أجزأت كانت الأربع عن ظهر عليه إن كان عليه، وإلاَّ فيقع نفلاً. والأحوط أن يقول: نويت آخر ظهر أدركت وقته ولم أُصَلِّهِ بعدُ. لأن ظهر يومه إنما يجب عليه بآخر الوقت، ولأنه يفيد الترتيب أيضاً. والأصح أن يقرأ بالفاتحة والسورة في أربعٍ احتياطاً لاحتمال أن يكون نفلاً. وكذا من يقضي الصلوات احتياطاً.

(والسُّلْطَانُ) أي وشُرِطَ لأَداء الجمعة السلطان وهو الوالي الذي لا والي فوقه (أو نَائِبُهُ) وهو من أمَرَهُ السلطان بإقامتها لظاهر قول الحسن البَصْرِيّ: أربع إلى السلطان، وذَكَر منها الجمعة والعيدين. وحضوره وإذنه غير شرط عند مالك والشافعيّ. وأمَّا ما رُوِيَ:«أن عليَّاً جمع بالناس وعثمان محصور» ، فواقِعَةُ حال. فيجوز أنْ يكون بإذنه، وبه جَزَم في «الكافي» ، وأنْ يكون بغير إذنه، فلا حجة فيه لفريق. فيبقى قوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ تركها وله إمام جائر أو عادل، فلا جمع الله شمْله، ولا بارك له في أمره، ألا لا صلاة له» . الحديث رواه ابن ماجه وغيره. حيث شَرَطَ في لزومها الإمام كما يفيده قيد الجملة الواقعة حالاً مع ما عيَّنَّاه من المعنى سالمين عن المُعَارِض.

(و) شرط لأدائها (وَقْتُ الظُّهْرِ) ولو خرج وقته والإمام في الجُمُعَةِ استقبل الظهر ولا يَبْنِي عليها. وقال الشافعي وزُفَر: أتمها أربعاً بناءً على أن الجُمُعَة ظهر مُقْصَرٌ لمكان الخطبة بشرط أدائها في وقتها، وإذا خرج وهو فيها عادت ظهراً، وعندنا الظهر غير

ص: 404

والخُطْبَةُ نَحْوَ تَسْبِيحَةٍ

===

الجمعة اسماً وقدراً وشرطاً، فلا يمكن بناء الظهر عليها. وإنما شرط الوقت لِمَا في البخاري عن أنس:«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّيَ الجُمُعَة حين تميل الشمس» . وفي مسلم عن سَلَمَة بن الأَكْوَعِ: «كنّا نُجَمِّعُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس» . الحديث.

وقال أحمد: تجوز الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة لِمَا روى مسلم عن سَهْل بن سَعْد السَّاعِدِيّ قال: «ما كنا نَقِيلُ

(1)

ولا نَتَغَدَّى إلاَّ بعد الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الاستدلال به نظر، إذ لا دلالة فيه إلا على التبكير المُرَتَّبِ عليه تركُ الغداء والقَيْلُولَة مبادرةً إلى الجمعة. وأمَّا ما روى أحمد عن ابن مسعود:«أنه كان يصلِّي الجمعة ضُحىً ويقول: إنما عَجِلْتُ بكم خشية الحَرِّ عليكم» . ففيه أن فعله رضي الله عنه لا يصلح أن يكون مُعَارِضاً لفعله صلى الله عليه وسلم

وامْتَدَّ الوقت عند مالك من الزوال إلى المغرب، حتى لو افتتحها في وقت العصر، يصح عنده. ولو خرج الوقت يُتِمُّها عنده جمعةً، وهذا الخلاف مبني على أن وقتي الظهر والعصر واحد عنده، كما تقدَّم والله تعالى أعلم. وفي «الظَّهِيرِيَّة»: إذا أراد أن يسافر يوم الجمعة، لا بأس به إذا خرج من عُمْرَان المِصْرِ قبل دخول وقت الظهر.

(و) شرط لأدائها (الخُطْبَةُ) قبل الصلاة فلو صلاَّها بلا خُطْبَة أو خَطَبَ بعد الصلاة لم يجز. لأن إقامتها مقام الظهر على خلاف القياس، والشرع ما جاء بها إلاَّ مقيدة بالخُطْبَة، فإنه صلى الله عليه وسلم ما صلاَّها في عمره بدونها، نص على ذلك غير واحد من الحُفَّاظِ، منهم البيهقي قال:«لم يُصَلِّ النبيّ صلى الله عليه وسلم الجُمُعَة إلاَّ بالخطبة» . ولو جازت بدونها لفعلها مرة تعليماً للجواز، وما خطب إلاَّ قبلها لأن الأذان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما كان حين يجلس الإمام على المِنْبَرِ للخطبة، فيدل ذلك على أن الصلاة بعدها. وقد قال صلى الله عليه وسلم «صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي»

(2)

.

(نَحْوَ تَسْبِيحَةٍ) لقصد الخُطْبة ولو قال: الحمد لله، لعطاس أو: سبحان الله، لتعجبٍ لا يُجْزِاء اتفاقاً. وأراد بنحو تسبيحة تهليلة وتكبيرة مع الكراهة. وقال أبو

(1)

تَقَيَّلَ: نام في القائلة، والقائلة هي الظهيرة. المعجم الوسيط، ص: 771،.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح البارى) 2/ 111، كتاب الأذان (10)، كتاب الأذان للمسافر إذا كانوا .. (18)، رقم (631).

ص: 405

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

يوسف ومحمد: لا بد من ذكر طويل يُسَمَّى خطبة عُرْفاً، وهو أن يُثْنِي على الله بما هو أهله، ويُصَلِّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم ويدعو للمسلمين للتوارث، ولأن المأمور به مطلق الخطبة، فينصرف إلى المعهود المتعارف. قيل: وأقله قدر التشهد، لأن الواجب خطبة. والتحميدة الفردة، والتسبيحة الفردة لا تُسمَّى خُطْبَة في العادة.

ولأبي حنيفة إطلاق قوله تعالى: {فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ}

(1)

من غير فصل بين كونه ذكراً طويلاً يُسَمَّى خُطْبة، أو ذكراً لا يسمى خُطْبَة، فكان الشرط هو الذكر الأعم بالقاطع، غير أنَّ المأثور عنه صلى الله عليه وسلم اختيار أحد الفردين، أعني الذكر المسمى بالخطبة، والمواظبة عليه، فكان واجباً أو سنّة لا أنه الشرط الذي لا يُجْزِاء غيره، إذ لا يكون بياناً لعدم الإجمال في الذكر. وقد عُلِمَ وجوب تنزيل المشروعات على حسب أدلتها.

وقال الإمام القاسم بن ثابت السَّرَقُسْطِيّ في كتاب «غريب الحديث» من غير سند: رُوِيَ عن عثمان: «أنه صعد المنبر فأُرْتِجَ عليه ـ أي أغلق عليه ـ الكلام فقال: الحمد لله، إنَّ أول كل مَرْكَب صعب، وإنّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يُعِدَّانِ لهذا المقام مقالاً، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل، وإن أَعِشْ تَأْتِكُم الخطبة على وجهها إن شاء الله تعالى» . انتهى. وفي رواية زاد: «وأستغفر الله لي ولكم، فنزل وصلى بهم فلم يُنْكِر عليه أحد منهم» . فكان إجماعاً منهم إمَّا على عدم اشتراطهما. وإمَّا على كون نحو الحمد لله ونحوها يُسَمَّى خطبة لغة، وإن لم يُسَمَّ به عُرْفاً. لكن قال ابن الهُمَام: ليس لهذه القصة أصل، فإنها لم تعرف في كتب الحديث بل في كتب الفقه. وأنكر ابن العربيّ وغيره هذا الأثر.

وإنما تَبِعَ صاحبُ «الهداية» ما ذُكِرَ في «المبسوط» ، و «مُلْتَقَى البحار» ، و «شرح البخاري» لابن بَطَّال، و «شرح مسلم» للخِلَاطي، وبعض المَؤرِّخين، لكنَّ المدار على رواية المحدثين المخرِّجين.

ثم القيام فيها، وتلاوة آية من كتاب الله، وذكر موعظة بتنذير وتبشير وبتقوى الله، والجِلْسَة بين الخطبتين بقدر ثلاث آيات قصار. وقيل: بقدر ما يَمَسُّ مَقْعَدُهُ المنبرَ.

والصلاة فيها على النبيّ صلى الله عليه وسلم سُنَّة عندنا لإطلاق الذكر في الآية، لا شرط كما قال مالك والشافعيّ. لأن الخطبة قائمة مقام شرط الصلاة لقول عائشة:«إنما قصرت الصلاة لأجل الخطبة، فيُشْتَرَطُ لها ما يُشْتَرَطُ للصلاة» . وللتوارث على اشتمالها على

(1)

سورة الجُمُعَة، الآية:(9).

ص: 406

في الوَقْت.

والجَمَاعَةُ أي ثلاثَةُ رِجَالٍ سِوَى الإمَامِ، وإنْ نَفَرُوا بَعْدَ سُجُودِهِ أتَمَّهَا، وقَبْلَهُ بَدَأَ بالظُّهْرِ،

===

هذه الأشياء. وكذا ستر الخطيب عورته فيها سنة عندنا، وبه قال مالك. وشرط عند الشافعي، لأنها بمنزلة الصلاة.

(في الوَقْتِ) أي يشترط في الخطبة أن تكون بعد الزوال، حتى لو خطب قبل الزوال وصلى بعده لا يجزاء لِمَا روى البخاري عن السَّائِب بن يَزِيد قال:«كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين يَجْلِسُ الإمام» . ومعلوم أن الأذان في الوقت، وبه يُرَدُّ قول أحمد. وأمَّا ما رواه الدَّارَقُطْنِيّ من أنَّ:«أبا بكر وعمر كانا يخطبان قبل الزوال» ، فضعيف.

(والجَمَاعَةُ) أي وشُرِطَ لأدائها الجماعة إجماعاً على خلاف في عددها (أي ثلَاثَةُ رِجَالٍ سِوَى الإِمَامِ) عند أبي حنيفة ومحمد. وبالإمام عند أبي يوسف، لأن الاثنين مع الإمام جَمْعٌ. ولهما: أنَّ الجماعة شَرْطٌ على حِدَةٍ، والإمام شرط آخر، فَتُعْتَبَرُ جمع سوى الإمام لقوله تعالى:{إذا نُودِيَ للصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ}

(1)

، فهذا يقتضي منادياً وذاكراً ـ وهما المؤذن والإمام ـ وساعيين لأن قوله تعالى:{فاسْعَوْا} لا يتناول ما دون المثنَّى، ثم ما دون الثلاث: ليس بجمع متفق عليه، فإنَّ أهل اللغة فَصَلُوا بين التثنية والجمع، فالمثنَّى وإن كان فيه معنى الاجتماع من وجه، فليس بجمع مطلقاً، واشتراط الجماعة هنا ثابت مطلقاً، ثم يشترط في الثلاثة أن يكونوا بحيث يَصْلُحُون للإمامة في صلاة الجمعة، حتى إن نِصَابها لا يَتِمُ بالنساء والصِّبْيَان، ويتم بالعبيد والمسافرين لصلاحهم للإمامة فيها، كذا في «المبسوط» .

(وإنْ نَفَرُوا بَعْدَ سُجُودِهِ) أي سجود الإمام سجدة واحدة (أَتَمَّهَا) أي أَتَمَّ الإمام الصلاة جُمُعَةً، خلافاً لزُفَر. له: أن الجماعة شرط، فلا بد من دوامها كالوقت. ولهم: أنها شرط الانعقاد فلا يُشْتَرَطُ دوامها كالخطبة. لكنَّ أبا حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ يقول: لا يَتِم الانعقاد إلا بتمام الركعة، وتمامها بتقييدها بالسجدة. وقالا: إذا نَفَرُوا عنه بعدما افتتح الصلاة صلى الجمعة. وذكره في «الهداية» ، وهو الأظهر.

(وقَبْلَهُ) أي وإن نفروا قبل سجوده (بَدَأَ بالظُّهْرِ) أمّا قبل التحريمة فبالاتفاق، وأمَّا

(1)

سورة الجُمُعَة، الآية:(9).

ص: 407

والإِذْنُ العَامُّ

===

بعدها فعند أبي حنيفة، خلافاً لهما، والوجه ما قدمناه. وترك مالك تحديد الجماعة، واكتفى بوجود من يَقْرِي

(1)

بهم قرية من الذكور الأحرار بموضع يمكن الثُّوِيُّ

(2)

فيه من بناء متصل، أو أخْصَاص

(3)

، مستوطنين على الأصح. وشرط الشافعي وجود أربعين أحراراً مكلفين، مقيمين في موضع لا يَرْتَحِلُون عنه صيفاً ولا شتاءً إلا لحاجة، سامعين الخطبة، لقول جابر:«مَضَتْ السُّنَّة أنَّ في كل ثلاثة إماماً، وفي كل أربعين فما فوقه جمعة، وأضحى، وفِطْراً» . قلنا: هو ضعيف، حتى قال البيهقي: لا يُحْتَجُّ بمثله.

(والإِذْنُ العَامُّ) أي وشرط لأدائها الإذن العامّ لأنها من شعائر الإسلام، فيجب إقامتها على وجه الاشتهار بين الأنام، حتى لو أغلق الأمير باب قصره وصلى بعسكره لم يجز، ولو فتح باب قصره وأذِنَ بالدخول جازت مع الكراهة، كذا ذكره الشُّمُنِّي. وفي «المَبْسُوطِ»: إن الإذن العام هو أن تُفْتَح أبواب الجامع، ويُؤْذَنُ للناس حتى لو اجتمعت جماعة في الجامع وأغلقوا الأبواب وجَمَّعُوا لم تجز.

وكذا السلطان إذا أراد أن يُصَلِّي بِحَشَمِهِ

(4)

في قصره، فإِنْ فتح بابه وأذِنَ للناس إذناً عامّاً جازت صلاته، شهدتها العامة أو لا، وإنْ لم يفتح بابه ولم يأذن لهم بالدخول لا تجزئه، لأن اشتراط السلطان للتحرز عن تفويتها على الناس، وذا لا يحصل إلاَّ بالإذن العام. وكما يحتاج العامة إلى السلطان في إقامتها، فالسلطان يحتاج إليهم: بأن يأذن لهم إذناً عامّاً، فبهذا يعتدل النظر من الجانبين.

ثم الجمعة بدل عن الظهر عندنا، وقال مالك والشافعي وزُفَر: هي فريضة أصالةً، والظهر بدل عنها، لأنه مأمور بأداء الجمعة، معاقب بتركها، ومنهي عن أداء الظهر، مأمور بالإعراض عنه ما لم يقع اليأس عن الجمعة. وهذا هو صورة الأصل مع البدل، ولا يجوز أداء البدل مع القدرة على الأصل.

ولنا: أن فرض الوقت الظهر في هذا اليوم في حق الناس كافة ـ كما في سائر الأيام ـ بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم «أول وقت الظهر حين تزول الشمس»

(5)

. مطلقاً غير

(1)

يَقْرِي: يجمع. القاموس المحيط ص 1706، مادة:(قرى).

(2)

ثَوَى بالمكان: أي أقام واستقر. المعجم الوسيط، ص: 103، مادة (ثوى).

(3)

أخصاص: جمع الخُصّ وهو بيت من شجر أو قصب، أو البيت يسقف بخشب. المعجم الوسيط ص: 238، مادة (خصّ).

(4)

الحَشَم: الخدم. مختار الصحاح ص 58، مادة:(حشم).

(5)

أخرجه الترمذي 1/ 283، كتاب أبواب الصلاة (2)، ما جاء في مواقيت الصلاة (1)، رقم (151).

ص: 408

وكُرِهَ في المِصْرِ ظُهْرُ المَعْذُورِ وغَيْرِه بِجَمَاعَةٍ، وظُهْرُ غَيْرِ المَعْذُورِ قَبْلَ الجُمُعَةِ.

===

مقيد بيوم دون يوم. ودلَالَةِ الإِجماع، فإن من فاتته الجمعة يقضي الظهر إجماعاً. والجمعة لا تقضى والظهر غيرها، فيجب أن لا يلزمه شيء.

ولَمَّا أمر بالظهر علمنا أنه أصل عاد إليه الحكم، لأنه ينوي القضاء إذا أدَّى الظهر بعد انقضاء الوقت إجماعاً. فلو لم يكن أصل فرض الوقت في حقه الظهر، لَمَا نوى القضاء، ولأن الفرض في حق كل واحدٍ ما يتمكن من أدائه بنفسه، وأداؤه للتكليف يدور على الوُسْعِ والإمكان، فما قَرُبَ إلى الوُسْع فهو أحق أن يكون أصلاً، والظهر أقرب، لأنه يتمكن من أدائه بنفسه لأنه مبني على قدرة هي صفته، بخلاف الجمعة فإنها تتوقف على شرائط لا تتم به وحده وهي الإمام والجماعة وغيرهما، وذا ليس في وِسْعِه، وإنما يحصل له ذلك اتفاقاً. ولكن يجب إسقاط الظهر بالجمعة إذا اسْتَجْمَعَت شرائطها للأمر بالسعي إليها. وأبْهَمَ محمد تارة وقال: لا أدري ما أصل فرض الوقت في هذا اليوم، ولكنه يسقط الفرض عنه بأداء الظهر أو الجمعة، وعين الجمعة أحرى، ورَخَّصَ إسقاطها بالظهر.

(وكُرِهَ في المِصْرِ) أي دون القرية والمفازة، لأنهم ليس عليهم شهود الجمعة، فكان هذااليوم في حقّهم كسائر الأيام. كذا في «المبسوط» . وهذا القدر لا يدل على أكثر من كراهة التنزيه (ظُهْرُ المَعْذُورِ وغَيْرِه) كمن فاتته الجمعة لمانع، (بِجَمَاعَةٍ) سواء صلَّوا قبل الجمعة، أو بعدها. لأن في ذلك تقليل جماعة الجمعة. والمعارضة (لا)

(1)

على وجه المخالفة، خلافاً لمالك والشافعي، حيث نظرا إلى كونهم مخاطبين بالظهر دونها، وكون الجماعة سنة في الفرائض، ومذهبنا مَرْوِي عن عليّ رضي الله عنه.

(و) كُرِهَ في المِصْر (ظُهْرُ غَيْرِ المَعْذُورِ قَبْلَ الجُمُعَةِ) والمراد بالكراهة هنا الحرمة، لأنه ترك الفرض القطعي باتفاقهم الذي هو أوكد من الظهر، فكيف لا يكون مرتكِباً محرماً؟ غير أن الظهر تقع صحيحة، وإن كان مأموراً بالإعراض عنها. وإنما لم يبطل ظهره عندنا لِمَا مرَّ من أنَّ فرض الوقت هو الظهر وقد أتى به، والجمعة بدل عنه، لتوقفها على شرائط لا تتم بالمصلي وحده. والتكليف يعتمد على الوُسْعِ. وحكَم مالك والشافعي وزُفَر ببطلانها بناء على تعيين الجمعة فرض الوقت عندهم، فلا يصح ظهره لأن الجمعة هي الأصل المأمور بها، ولا يصح غير الأصل مع القدرة عليه.

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة في المخطوط.

ص: 409

وسَعْيُهُ إلى الجُمُعَةِ، والإِمَامُ فِيهَا يُبْطِلُهَا، ومُدْرِكُهَا في التَّشَهُّدِ، أوْ في سُجُودِ السَّهْوِ يُتِمُّهَا.

===

(وسَعْيُهُ) أي وسعيُ من صلّى الظهر (إلى الجُمُعَةِ) بخطوتين، أو بانفصاله عن داره ـ وهو الأصح ـ، سواء كان معذوراً أو غيره. وبعضهم اقتصروا على غير المعذور، (والإِمَامُ فِيهَا) أي في الجمعة وقت انفصاله عن مكانه ـ والجملة حالية ـ (يُبْطِلُهَا) أي يُبْطِلُ ظُهره عند أبي حنيفة وإن لم يدركها لبعد المسافة. وهو مختار مشايخ بَلْخ دون مشايخ العراق. والأول هو المعوَّل، فإن أدرك الجمعة وصلاَّها كانت فرضه وإلا أعاد الظهر.

وقَيَّدَ بقوله: والإمام فيها، لأنه لو كان خروج المصلِّي مع فراغ الإمام لا ينتقض ظهره اتفاقاً. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يبطل ظهره إلاَّ بالدخول مع الإمام، ففي رواية بإتمامها، لأن السعي إلى الجمعة دون الظهر، والشيء لا يبطل بما هو دونه. ولأبي حنيفة أن السعي إلى الجمعة من خصائصها فيأخذ حكمها.

وثمرة الخلاف تظهر فيمن سعى والإمام في الجمعة فحضر وقد فرغ الإمام، وفيمن سعى إلى الجمعة فخرج وقت الظُّهر قبل أن يدخل مع الإمام: فعند أبي حنيفة رحمه الله يعيد الظهر، وعندهما لا يعيدها.

(ومُدْرِكُهَا) أي الجمعة (في التَّشَهُّدِ، أوْ في سُجُودِ السَّهْوِ يُتِمُّهَا) جُمُعَةً. وقال محمد، وهو قول مالك والشافعي: إن أدرك أكثر الثانية: بأن أدرك الركوع أتَمَّها جُمُعَةً، وإن لم يُدْرِكْ أكثرها أتمَّها ظهراً، لأنها جمعةٌ نظراً إلى التحريمة، ظُهْرٌ نظراً إلى فوات بعض شروط الجمعة. فيُصَلِّي أربعاً اعتباراً للظُّهر، ويقعد على رأس الركعتين اعتباراً للجمعة، ويقرأ السورة في الأُخْرَيَيْن لاحتمال النفلية بخلاف مُدْرِك العيد في التشهد، أو سجود السهو، فإنه يُتِمُّهَا عيداً بلا خلاف، إذ لا خَلَفَ له.

له: ما رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ من حديث أبي هريرة: «مَنْ أدرك الركوع من الركعة الأخيرة يوم الجمعة فليُضِف إليها أخرى، ومَنْ لم يدرك الركوعَ من الركعة الأخيرة فليصلِّ الظهر أربعاً» . ولهما: ما في الكتب الستة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أُقِيمَتِ الصَّلاة فلا تأتوها تَسْعَوْن، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأَتِمُّوا» . وفي لفظ: «فاقضوا» . وفيه: أن هذا مطلق، والحديث الأول مقيد.

ثم الجمعة لا تجب على مَنْ بَعُدَ عن المِصْر فَرْسخاً. وأوجبها مالك عليه، ولا

ص: 410

وإذَا أَذَّنَ الأَوَّلَ تَرَكوا البَيْعَ وسَعْوَا

===

يجب على من هو أبعد منه خلافاً لمحمد ـ كما في رواية عنه ـ، لتناول الأمر بالسعي إياه. وعنه: ستة أميال، وهو رواية عن أبي يوسف. وعنه: بريد

(1)

ويوجبها أبو يوسف على من كان داخلاً حد الإقامة الذي من فارقه يصير مسافراً، ومن وصل إليه مقيماً، وهو الأصح، لأن وجوبها مختص بأهل المِصْر، والخارج عن هذا الحد ليس من أهله حقيقةً ولا حكماً. وشرط محمد لوجوبها سماع الأذان من أعلى مكان في الجامع. وفي ظاهر الرواية: لا يجب على من كان خارج الرُّبْضِ

(2)

.

(وإذَا أَذَّنَ الأَوَّلَ) وهو الأذان على المنارة، الذي أُحْدِثَ في زمان عثمان على الزَّوْرَاء ـ وهي دار بسوق المدينة مرتفعة ـ لما روى الجماعة إلاَّ مسلماً من حديث السائب بن يزيد

(3)

قال: «إن الأذان يوم الجمعة كان أوله حين يَجْلِسُ الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فَلَمَّا كان في خلافة عثمان وكَثُرُوا، أَمَرَ بالأذان الثالث، فأُذِّن على الزَّوْرَاء» . زاد ابن ماجه: «على دار في سوقٍ يُقَال لها الزَّوْرَاء، فثبت الأمر على ذلك» . وسُمِّيَ هذا الأَذان ثالثاً باعتبار الشرعية، لأن الأول فيما بين يدي الإمام، والثاني إقامة الصلاة.

(تَرَكُوا البَيْعَ) وما في معناه من الشغل المانع عن الحضور. وعامة العلماء على أن البيع يَحْرُم إلاَّ أنه صحيح. وقال مالك وأحمد بن حنبل: إنه فاسد.

(وسَعَوْا) لقوله تعالى: {إذا نُودِيَ للصَّلَاةِ من يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ وذَرُوا البَيْعَ}

(4)

، وفي قراءة شاذة: فامضوا، وهي تدل على أنَّ السعيّ ليس بمعنى الإسراع. وقال الطحاويّ: إنما يجب السعي وترك البيع إذا أَذَّنَ الأَذان الذي يكون والإمام على المنبر، لأنه الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، والأول أصحُّ، واختاره شمس الأئمة لحصول الإعلام به، ولأنه لو انتظر الأذان عند المِنْبَر يفوته أداء السنة وسماع الخطبة، وربما تفوته الجمعة إذا كان منزله بعيداً من الجامع.

(1)

حُرِّفَت في المطبوع إلى: وعن يزيد. والصواب ما أثبتناه من المخطوط. والبريد: مسافة قدرها 4 فراسخ = 12 ميلًا= 4800 ذراعًا= 22179 مترًا. معجم لغة الفقهاء ص 107.

(2)

الرُّبْض: سبق شرحها، ص: 278، التعليقة رقم:(1).

(3)

في المخطوط: ثابت بن يزيد، والمثبت من المطبوع. وهو الصواب لموافقته لرواية البخاري، (فتح الباري) 2/ 393، كتاب الجمعة (11)، باب الأذان يوم الجمعة (21)، رقم (912).

(4)

سورة الجمعة، الآية:(9).

ص: 411

وإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَرُمَتِ الصَّلاةُ والكَلامُ، حَتّى يُتِمَّ خُطْبَتَهُ. وإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى المِنْبَر، أَذَّنَ ثَانِيًا بَيْنَ يَدَيْهِ

===

(وإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ) أي صعد المنبر (حَرُمَتِ الصَّلَاةُ) أي الشروع في النافلة، إذ لو تذكر الفائتة ـ وهو من أهل الترتيب ـ يجب عليه أن يقضيها، ولو شرع في التطوع ثم خرج الإمام سلم عن ركعتين، ولو شرع في السنة قبل الجمعة فشرع الخطيب في الخطبة، فالأصح أنه يُتِمُّ أربعاً.

(والكَلَامُ) أي كلام الناس (حَتَّى يُتِمَّ خُطْبَتَهُ) لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تُصَلُّوا والإمام يخطب» . رواه عبد الحق من حديث علي رضي الله عنه. ولقوله صلى الله عليه وسلم «إذا قلت لصاحبك: أنْصِت، يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لَغَوْت» . رواه مسلم وأبو داود (وابن ماجه)

(1)

. ولِمَا في «مصنف ابن أبي شَيْبَة» ، عن عليّ، وابن عباس، وابن عمر:«أنهم كانوا يكرهون الصلاة والكلام بعد خروج الإمام» . ولقول الزُّهْرِيّ: «إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام» . ورفعه غريب من صاحب «الهداية» ، بل قال البيهقي: رفعه خطأ فاحش.

وعن ابن عباس: «يُكْرَه الكلام في أربع مواطن: يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، وفي الاستسقاء، إذا صعد الإمام المنبر فلا يُتَكَلَّمُ حتى ينزل» . وهذا عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس بالكلام إذا خرج الإمام قبل أنْ يخطب، وإذا نزل قبل أن يصلِّي، لقول الزُّهْرِيّ: خروجه يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام. رواه مالك في «الموطأ». وروى في «الموطأ» أيضاً عن ثَعْلَبَة بن أبي مالك القُرَظِيِّ:«أنهم كانوا في زمن عمر يصلُّون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، وإذا خرج وجلس على المِنْبَر، وأَذَّنَ المؤذِّن، جلسوا يتحدثون حتى إذا سكت المؤذِّن، وقام عمر، سكتوا فلم يتكلم أحد» . واختلفا

(2)

حالة جلوسه بين الخطبتين. فقال أبو يوسف: يُبَاحُ فيها الكلام، وخالفه محمد.

(وإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى المِنْبَر أَذَّنَ ثَانِياً بَيْنَ يَدَيْهِ) لِمَا سبق من حديث السائب. ولِما رواه إسحاق بن رَاهُويه في «مسنده» بلفظ: «كان النداء ـ الذي ذكره الله في القرآن ـ يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط، وهى صحيحة لثبوت الحديث في سنن ابن ماجه 1/ 352، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها (5)، باب ما جاء في الاستماع للخطبة والإنصات لها (86)، رقم (1110).

(2)

أي أبو يوسف ومحمد رحمهما الله.

ص: 412

واسْتقْبَلُوهُ مُسْتَمِعِينَ.

===

بكر، وعمر وعامَّة خلافة عثمان، فَلَمَّا كَثُرَ الناس، زاد النداء الثالث على الزَّوْرَاء». وإنَّما جُعِلَ الثالثُ لأن الإقامة تُسَمَّى أذاناً كما جاء في الحديث:«بين كل أذانين صلاة»

(1)

(واسْتَقبَلُوهُ مُسْتَمِعِينَ). في «الظَّهِيرِيَّة» : قال بعضهم: ما دام الخطيب في حمد الله وثنائه والمواعظ فعليهم الاستماع، فإذا أخذ في مدح الظَّلَمة والثناء عليهم فلا بأس بالكلام حينئذٍ. وقال بعضهم: التباعد عن الخطيب أفضل، كيلا يسمع ما يقول الخطيب من مدح الظلمة. ثم لا ينبغي أن يَتَخَطَّى رِقَاب الناس بحيث يؤذيهم، إلا إذا كان قدامه فضاء.

وفي «المحيط» : ولا يُشَمِّتُون عاطساً، ولا يردون سلاماً، ولا يقرؤون قرآناً. وعن أبي يوسف: يردون السلام، ويُشَمتُون العاطس في أنفسهم. وإذا كان بعيداً من الخطيب بحيث لا يسمع، قيل: يقرأ في نفسه، وقيل: يسكت، قيل: هو الأصحُّ. لأنه مأمور بالاستماع، ولم يعجز عن الإنصات فلزمه. والأظهر أنه يقرأ ليحوز الفضيلتين، وهو لا ينافي الإنصات المانع من الاستماع الذي وقع النهيّ عنه بقوله:{فاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا}

(2)

. وجَوَّزَ الشافعي ردَّ السلام بناءً على أنَّ الرَّدَّ واجب والاستماع عنده سُنَّة، فلا يكون مانعاً. وهو رواية عن أبي يوسف. قلنا: ذاك إذا كان السلام مأذوناً فيه شرعاً، وليس كذلك في حال الخطبة، بل يصير به آثماً لِشَغْلِهِ خاطر السامع عن الفرض.

وأجاز

(3)

أيضاً للداخل تحية المسجد لقصة سُلَيْك الغَطَفَانِيّ. أخرجها الجماعة، عن جَابِر بن عبد الله: أن رجلاً جاء يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطبُ، فقال: أصلَّيتَ يا فلان؟ قال: لا، قال: صلِّ ركعتين، فَتَجَوَّزْ

(4)

فيهما». زاد مسلم: وقال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام ـ يخطُب، فَلْيَرْكَعْ ركعتين، ولْيَتَجَوَّزْ فيهما» . ولنا ما روينا عن عليّ

(5)

، وما في ابن أبي شَيْبَة عن الزُّهْرِيّ قال في الرجل يجيء يوم الجمعة، والإمام يخطُب:«يَجْلِسُ ولا يُصَلّي» . وما في «الكتب الستة» ، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك: أنصِت، يوم الجمعة والإمام يخطب، فقد

(1)

سبق تخريجه، ص: 329، التعليقة رقم:(4).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(204).

(3)

أي الإمام الشافعي رحمه الله.

(4)

تَجَوَّزَ في الصلاة: أي خَفَّفَها وأسْرَعَ بها. النهاية: 1/ 315.

(5)

نص الحديث: "لا تُصَلُّوا والإِمام يخطب". رواه عبد الحق.

ص: 413

ويَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ بَيْنَهُمَا قَعْدَة قَائِمًا طَاهِرًا. فإذَا تَمَّتَا أُقِيمَ، وصَلَّى الإِمَامُ بالنَّاس رَكْعَتَيْنِ.

===

لَغَوْت». وهذا يفيد بطريق الدلَالة منع الصلاة، لأن الأمر بالمعروف، وهو أعلى من السُّنَّةِ وتحيِة المسجد، فَمَنْعه منهما أوْلَى.

فإن قيل: العبارة مقدَّمة على الدلَالة عند المعارضة، قلنا: إنها غير لازمة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنصت له حتى فَرَغَ من صلاته، لِمَا أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من حديث عُبَيْد بن محمد العَبْدِيّ: حدّثنا مُعْتَمِر، عن أبيه، عن قَتَادة، عن أنس قال:«دخل رجل المسجد ورسول الله يخطب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قم فاركع ركعتين. وأمسكَ عن الخطبة حتى فَرَغَ من صلاته» . ثم قال: وَهَم عُبَيد في إسناده. ثم رواه، عن أحمد بن حنبل: حدَّثنا مُعْتَمِر، عن أبيه قال:«جاء رجل والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: يا فلان أصلّيت؟ قال: لا، قال: قم فصلِّ، ثم انتظره حتى صلّى» . قال: وهذا المُرْسَل هو الصواب.

قلنا: المرسل حجّة عندنا وعند الجمهور، فيجب اعتقاد مقتضاه علينا، ثم إسناده بزيادة

(1)

الثقة مقبولة، فمجرد زيادته لا يوجب الحكم بغلطه، وإلاَّ لَمْ تُقْبَل زيادةٌ. وأمَّا ما رواه مسلم فيه من قوله: «إذا جاء أحدكم الجمعة

». الحديثَ، لا ينفي

(2)

كون المراد أن يركع مع سكوت الخطيب، لِمَا ثبت في السنة من ذلك، أو كان قبل تحريم الصلاة في حالة الخطبة. فَتَسْلَمُ تلك الدلَالة عن المُعَارِض.

(ويَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ، بَيْنَهُمَا قَعْدَةٌ) مقدار ثلاث آيات في ظاهر الرواية (قَائِماً) لأنه المتوارث، ولقوله تعالى:{وَتَرَكُوكَ قَائِماً}

(3)

. فعن ابن عمر: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بينهما» . وفي رواية: «يخطب قائماً، ثم يَقْعُدُ، ثم يقوم ـ كما يُفْعَلُ الآن ـ» . متفق عليه.

(طَاهِراً) لأنها ذِكْرٌ يتقدم الصلاة، فيستحب فيها التطهير كالأذان. فلو خطب قاعداً، أو على غير طهارة، جاز، إلاَّ أنه يُكْرَه عندنا خلافاً لمالك والشافعي فيهما، إذ القعود والطهارة شَرْط عندهما، وكذا سَتْرُ العورة عند الشافعي.

(فإذَا تَمَّتَا) أي الخطبتان (أُقِيمَ) أي للصلاة. وفي بعض النسخ: أُقِيمَتْ أي الصلاة (وصَلَّى الإِمَامُ بالنَّاس رَكْعَتَيْنِ) بذلك جرى العمل من حياته صلى الله عليه وسلم

(1)

عبارة المخطوط: ثم إسناده زيادة، وزيادة الثقة

والمثبت من المطبوع.

(2)

في المطبوع: لا يفيد، والمثبت من المخطوط.

(3)

سورة الجمعة، الآية:(11).

ص: 414

‌فَصْلٌ في صَلاةِ العيِدَينِ وَتَكْبِيَرات التَّشْرِيقِ

===

قال أبو مُطِيع البَلْخِيّ: لا يَحِلُّ للرجل أن يُعْطِي سُؤَّال المسجد، فإنه روى الحسن:«أنه يُنَادِي منادٍ يوم القيامة: ليقم بغيض الله، فيقوم سُؤَّال المسجد» . والصحيح أنه إذا كان لا يَتَخَطَّى رِقَاب الناس، ولا يمر بين يدي المصلِّي، ولا يسأل إلحافاً

(1)

، ويسأل لأمر لا بد له منه، فلا بأس بالسؤال والإعطاء. لِمَا روى أبو داود، عن عبد الرحمن بن أبي بكر

(2)

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل منكم أحد أَطْعَمَ اليوم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل، فوجدت كِسْرَة خبز في يد عبد الرحمن، فدفعتها إليه» .

قلت: ليس بصريح في المُدَّعَى، إذ يحتمل أن يكون السائل في طريق المسجد حال الدخول أو الخروج، لوقوع عين السائل على كِسْرَة ولده، وليس من المروءة حينئذٍ منعه. وأمَّا ما استُدِلَّ به على جوازه بقوله تعالى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُه والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُون الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وهم رَاكِعُون}

(3)

وأن عليّاً أعطى خَاتَمَه لسائل في الصلاة، فلا دَلالَة فيه على كونه في المسجد. هذا، وفي شرح «المُنْية»: يَحْرُم السؤال فيه، ويُكره الإعطاء للسائل فيه، وإلاَّ فلو أعطى مسكيناً في المسجد، فلا يُكْرَه اتفاقاً.

فصلٌ في صَلَاةِ العِيدَيْنِ وتَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ

وكانت صلاة عيد الفِطْرِ في السنة الأولى من الهجرة. وسُمِّيَ عيداً لأن لله تعالى فيه عوائد الإحسان على عباده. والأصل فيهما ما رواه أبو داود وغيره عن أنس قال: «قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد أبْدَلَكُم بهما خيراً منهما: يوم الأَضْحَى، ويوم الفِطْر» .

ثم صلاة العيد واجبةٌ عندنا في الأصح، ـ وهو رواية عن أبي حنيفة ـ لا سنة كما هو قول مالك والشافعي، وبه قال بعض أصحابنا. والأظهر أنها سنة مؤكّدة: أَخْذُها

(1)

إِلحافًا: أَلْحَفَ السائل: ألحَّ بالمسألةِ وهو مستغنٍ عنها. المعجم الوسيط، ص: 818، مادة (لَحَفَ).

(2)

في المطبوع عبد الله بن أبي بكر، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في سنن أَبي

داود 2/ 309، كتاب الزكاة (3)، باب المسألة في المساجد (63)، رقم (1670).

(3)

سورة المائدة، الآية:(55).

ص: 415

نُدِبَ يَوْمَ الفِطْرِ: أنْ يَأْكُلَ، ويَسْتَاكَ، ويَغْتَسِلَ، ويَتَطَيَّبَ، ويَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ،

===

هُدَىً، وتَرْكها ضلالة، لمواظبة النبيّ صلى الله عليه وسلم من غير ترك.

وقال أحمد: فرض كفاية، وهو رواية عن أبي حنيفة. وقيل: صلاة العيد سنّة، لقول محمد في «الجامع الصغير»: عيدان اجتمعا في يوم واحد: الأول سنَّةٌ، والثاني فريضة، ولا يُتْرَكُ واحدٌ منهما. ولقوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي حين قال له:«هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلاَّ أنْ تَطوَّعَ» . وأُجِيبَ عن الأول: بأن محمداً سمّاها سنّة، لأن وجوبها ثبت بالسُّنَّة. وعن الثاني: بأن الأعرابي من أهل البادية، وهي لا تجب عليهم. ومما يدل على الوجوب قوله عز وجل:{ولِتُكَبِّروا اللَّهَ عَلَى ما هَدَاكُمْ}

(1)

، فقد فُسِّرَ بصلاة العيد. وقد تواترت

(2)

عنه صلى الله عليه وسلم مواظبته لصلاة العيد.

(نُدِبَ يَوْمَ) عيد (الفِطْرِ أنْ يَأْكُلَ) أي يَطْعَمَ الإِنسان شيئاً حلواً قبل الغُدُوِّ إلى المُصَلَّى، لِمَا روى البخاري عن أنس قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَغْدُو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وتراً» .

وفي الترمذي، وابن ماجه:«أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل، وكان لا يأكل يوم النَّحْرِ حتى يُصَلِّي» . ولفظ ابن ماجه: «حتى يرجع» . ورواه أحمد، والدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» وزاد:«حتى يرجع فيأكل من أضْحِيَتِهِ» .

وعن بُرَيْدَة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفِطْر حتى يَطْعَمَ، ولا يَطْعَمُ يوم الأَضْحَى حتى يصلّي» . قال النووي: حديث حسن رواه الترمذي، وابن ماجه، والدَّارقطنيّ، والحاكم بأسانيد صحيحة.

(ويَسْتَاكَ) أي ويُبَالِغ في الاستياك (ويَغْتَسِلَ) لِمَا روى ابن ماجه مِنْ حديث الفَاكِه بن سَعْد: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفِطْر، ويوم النَّحْرِ، ويوم عَرَفة» . (ويَتَطَيَّبَ) لأنه يوم اجتماع، فَيُنْدَبُ فيه ذلك كالجمعة.

(ويَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ) لِمَا رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس: «أنه كان صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ في العيدين بُرْدَةً حِبَرَةً» . رواه ابن خُزَيْمَة، والبيهقي في «سننه» من طريق الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد الأَسْلَمِيّ: أخبرني جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَلْبَسُ بُرْدَةً حِبَرَةً في كل عيد» . والحِبَرَةُ كعِنَبَةُ: نوع من بُرُود اليمن. قال النووي وغيره: إسناده ضعيف. وأخرجه في «المعرفة» عن الحَجَّاح بن أرْطَاة، عن

(1)

سورة البقرة، الآية:(185).

(2)

في المطبوع: توارث، والمثبت من المخطوط.

ص: 416

ويُؤَدِّيَ فِطْرَتَهُ،

===

أبي جعفر، عن جابر بن عبد الله قال:«كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم بُرْدٌ أحمرُ يَلْبَسُه في الجُمُعَة والعيدين» . ورواه الطبرانيّ، عن أبي محمد عليّ بن الحسين، عن ابن عباس قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ يوم العيد بُرْدَةً حمراء» .

والحُلَّة الحمراء: عبارة عن ثوبين من اليمن، فيهما خطوط حُمْرٌ وخُضْرٌ، لا أنه أحمرُ بَحْتٌ، فليكن مَحْمَل البُرْدَة أحدهما. ورواه الطَّبَرَانيّ عن سَهْلِ بن سَعْد قال: «حِيكَتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حُلَّةٌ من أنْمَار صوف أبيض، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى المَجْلِس وهي عليه، فضرب على فَخِذه فقال: «ألا يرون ما أحسن هذه الحُلَّة فقال له أعرابي: يا رسول الله اكْسِنِي هذه الحِلّة، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سُئِلَ شيئاً، لم يقل قط: لا، فقال: نعم، فدعا بِمَقَعَّدَتَينِ

(1)

فلبسهما، وأعطى للأعرابي الحُلَّة، وأمر بمثلها تُحَاكُ له. فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في الحِيَاكة». وفي لفظ:«فتُوُفِّي صلى الله عليه وسلم وله جُبَّةُ صوفٍ في الحِيَاكة» .

(ويُؤَدِّيَ فِطْرَتَهُ) أي صدقة فِطْرِهِ قبل الصلاة، لِمَا في «الصحيحين» من حديث ابن عمر:«أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفِطر أنْ تُؤَدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة» . (ولقول ابن عمر: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفِطْر أن تُؤَدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة)

(2)

. وكان هو

(3)

يُؤَدِّيها قبل ذلك باليوم أو اليومين». رواه أبو داود. ولأن في التعجيل مسارعةً إلى الخير، وتفريغ قلب الفقير للصلاة. ولقوله صلى الله عليه وسلم «أغنوهم عن المسألة»

(4)

، ولقوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}

(5)

أي أعطى زكاة الفِطْر، {وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} بتكبير العيد في الطريق {فَصَلَّى}

(6)

صلاة العيد، على ما فسره بعضهم.

(1)

المُقَعَّدُ، كمُعَظَّم: ضربٌ من البُرُود يُجلب من هَجَر. تاج العروس 9/ 62، مادة (قعد).

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

أي ابن عمر، وهو ما نُصَّ عليه صراحة في سنن أَبي داود 2/ 263، كتاب الزكاة (3)، باب متى تؤدى (19)، رقم (1610).

(4)

أخرجه الدارقطني في سننه 2/ 152 - 153 بلفظ: "أغنوهم في هذا اليوم" والبيهقي في سننه الكبرى 4/ 175 بلفظ: "أغنوهم عن طواف هذا اليوم". وعزاه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الدراية 1/ 274 إلى الدارقطني في سننه. ولم نجده في النسخة التي بين أيدينا بهذا اللفظ.

(5)

سورة الأعلى، الآية:(14).

(6)

سورة الأعلى، الآية:(15).

ص: 417

ثُمَّ يَخْرُجُ إلى المُصَلَّى

===

(ثُمَّ يَخْرُجُ) ماشياً لِمَا رُوِيَ: «أن عليّاً لَمَّا قَدِمَ الكوفة، استخلف من يصلِّي بالضَّعَفَة صلاة العيدين في الجامع، وخرج إلى الجَبَّانة

(1)

مع خمسين شيخاً يمشي ويمشون»، (إلى المُصَلَّى) أي مُصَلَّى العيد، جاهراً بالتكبير عند أبي يوسف ومحمد كما في الأضحى، وهو رواية عن أبي حنيفة حكاها الطَّحَاوي عن أستاذه ابن عِمْرَان البَغْدَادِي عنه، ووجهها ظاهر قوله تعالى {ولِتُكْمِلُوا العِدَّة ولِتُكَبِّروا اللَّهَ على ما هَدَاكُم}

(2)

. وما رواه الدَّارَقُطْنِيّ عن ابن عمر موقوفاً: «أنه كان إذا غَدَا يوم الفِطْر ويوم الأضحى، يجهر بالتكبير حتى يأتي المُصَلَّى، ثم يُكَبِّر حتى يأتي الإمام» . ومرفوعاً: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر يوم الفِطْر، من حين يخرج من بيته حتى يأتي المُصَلَّى» . وقد وقفه، فلا يضر ضعف رَفْعه لجَزْمِنا بعدم ابتكار ذلك من عنده، لشدة حرصه على متابعة النبي واجتناب مخالفته صلى الله عليه وسلم

قال البيهقي: وَوَقْفه هو الصحيح، وأمّا رفعه فضعيف. ولفظه:«أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين مع الفَضْل بن عباس، وعبد الله، والعباس، وعليّ، وجعفر، والحسن، والحسين، وأُسَامَة بن زَيْد، وزَيْد بن حَارِثَة، وأيْمَن بْن أُمِّ أَيْمَن، رافعاً صوته بالتهليل والتكبير، فأخذ طريق الحدَّادين حتى يأتي المُصَلَّى، وإذا فَرَغَ رجع على الحدَّادين حتى يأتي منزله» . وفي رواية: «يُكبِّر يوم الفِطْر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المُصَلَّى» . وكلاهما ضعيف.

وغيرُ جاهر به عند أبي حنيفة في رواية المُعَلَّى عنه. ووجهها أنَّ رفع الصوت بالذكر خلاف الأولى، لمخالفة قوله تعالى:{واذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وخِيْفَةً ودُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ}

(3)

، وقوله صلى الله عليه وسلم «خيرُ الذِّكْر الخَفِيّ، وخيرُ الرِّزْقِ ما يكفي» . رواه أحمد، وابن حِبَّان، والبيهقي، عن سعد، فَيُقْتَصَرُ فيه على مورد الشرع.

وقد ورد الجهر في الأضحى وهو قوله تعالى: {واذْكُرُوا اللَّهَ في أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}

(4)

، وقد جاء في التفسير: أن المراد التكبير في هذه الأيام، وليس الفِطْر في معناه حتى يُلْحَقَ به، لاختصاصه بركن من أركان الحج الذي شُرِعَ التكبير فيه عَلَماً على أفعاله. وفعل ابن عمر مُعَارَضٌ بما رُوِيَ عن ابن عباس: «أنه سمع الناس يكبّرون،

(1)

الجَبَّانة: الصحراء. المعجم الوسيط، ص: 106، مادة (جبن).

(2)

سورة البقرة، الآية:(185).

(3)

سورة الأعراف، الآية:(205).

(4)

سورة البقرة، الآية:(203).

ص: 418

ولا يَتَنَفَّلُ قَبْلَ صَلاتِهِ في المُصَلَّى. وشُرِطَ لَهَا شُرُوطُ الجُمُعَةِ وُجُوبًا وأَدَاءً إلَّا الخُطبَةَ.

ووَقْتَهَا مِنَ ارْتَفَاعِ الشَّمْسِ

===

فقال لقائده: أَكَبَّرَ الإِمام؟ قال: لا. فقال: أفَجُنَّ الناس؟ أدركنا مثل هذا اليوم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فما كان أحد يكبر قبل الإمام». كذا ذكره بعض الشُّرَّاح. وفيه: أن أثر ابن عباس محمول على إنكار تكبير الناس قبل وقت خروج الإمام.

(ولا يَتَنَفَّلُ) أي وكُرِه التنفل (قَبْلَ صَلَاتِهِ) سواء كان إماماً أو مأموماً (في المُصَلَّى) بالاتفاق، وفي البيت عند عامة المشايخ. لقول ابن عباس:«إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فصلَّى بهم العيد، لم يصلِّ قبلها ولا بعدها» . متفق عليه. وكذا لا يتنفل بعد صلاته في المُصَلَّى عند الجمهور، ويتنفل في البيت، لِمَا روى ابن ماجه، من حديث أبي سعيد الخُدْرِيّ قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلّى ركعتين» .

(وشُرِطَ لَهَا) أي لصلاة العيد (شُرُوطُ الجُمُعَةِ وُجُوباً وأَدَاءً) حتى الإذْن العام (إلاَّ الخُطْبَةَ) فإنها شرط لأداء الجمعة دون العيدين. ولهذا تكون الخُطْبَةُ في العيدين بعد الصلاة، لِمَا في «الصحيحين» ، من حديث ابن عمر قال:«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر، وعمر، يُصَلُّون العيدين قبل الخُطْبَةِ» . ولقول ابن عباس: «شَهِدْتُ العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكلهم كانوا يصلّون العيدين قبل الخطبة» . رواه الشيخان. ورَوَى الإمام الشافعيّ عن عُبَيدِ اللَّهِ بنِ عبدِ اللْهِ بنِ عُتْبَةَ بنِ مسعودٍ

(1)

قال: «السُّنَّةُ أنْ يَخْطُبَ في العيدين خطبتين، يفصل بينهما بجلوس» . قال النووي: ضعيف غير متصل، ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء

(2)

، والمعتمد فيه القياس على الجمعة. ولو قُدِّمَتْ الخُطْبَة، جاز مع الإساءة، ولا تُعَاد بعد الصلاة.

(ووَقْتُهَا مِنَ ارْتَفَاعِ الشَّمْسِ) قَدْرَ رُمْحٍ أو رُمْحَيْنِ، للنهي عن الصلاة وقت الطلوع. لِمَا في سنن أبي داود، وابن ماجه، بإسناد صحيح على شرط مسلم ـ كما

(1)

حُرِّف في المطبوع إلى: عبد الله بن عقبة بن مسعود. والصواب ما أثبتناه من المخطوط و "ترتيب مسند الإمام الشافعي" 1/ 158، حديث رقم (463).

(2)

قال الحافظ ابن حجر: ولابن ماجه عن جابر: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فِطر، أو أَضحى، فخطب قائمًا ثم قعد قعدةً، ثم قام". قال الحافظ: وهذا يرُدُّ قول النووي: إِنه لم يرد في تكرير الخطبة يوم العيد شيء

انتهى. من "الدراية" 1/ 222.

ص: 419

إلى زَوَالِهَا، ويُكبِّرُ ثَلاثًا بَعْدَ الثَّنَاءِ، ويُكبِّرُ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ القِرَاءَةِ

===

قال النووي ـ عن يزيد بن خُمَيْر ـ بضم الخاء المعجمة ـ أنه قال: «خرج عبد الله بن بِشْر ـ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس في يوم عيد الفِطْر والأضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قد فَرَغْنَا ساعتنا هذه. وذلك حين التسبيح» . والمراد به: التنفل.

وأما قول صاحب «الهداية» : من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم «كان يُصَلِّي العيد، والشمس على قَدْرِ رُمْحٍ أو رُمْحَيْنِ» . فغير معروف في كتب الحديث. وأغرب سِبْط ابن الجَوْزِيّ في قوله: إنه متفق عليه.

(إلى زَوَالِهَا) لِمَا رَوَى أبو داود، والنَّسائي، وابن ماجه ـ واللفظ له ـ عن أبي عُمَيْر بن أنس قال: «حَدَّثَنِي عُمُومَتي ـ أي أعمامي ـ من الأَنصار من أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أُغمِي علينا هلال شوال، فأصبحنا صياماً، فجاء رَكْبٌ من آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رَأَوُا الهلال بالأمس. وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُفْطِرُوا، وأنْ يخرجوا إلى عيدهم من الغد. قال البيهقي: إسناده صحيح. ولو كانت صلاة العيد تُؤَدَّى بعد الزوال، لَمَا أخرها إلى الغد.

والمراد بآخر النهار: ما بعد الزوال، لِمَا صُرِّح في بعض طرقه من رواية الطحاوي، عن أبي عُمَيْر بن أنس بن مالك:«أخبرني عُمُومَتِي من الأنصار: أن الهلال خَفِي على الناس في آخر ليلة من شهر رمضان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبحوا صياماً، فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زوال الشمس أنهم رأوا الهلال الليلة الماضية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفِطْرِ، فأفطروا تلك الساعة، وخرج بهم من الغد فصلى بهم صلاة العيد» .

(ويُكَبِّرُ) في الركعة الأولى (ثَلَاثاً) زوائد على تكبير الصلاة، رافعاً يديه في كل تكبيرة، وساكتاً بين كل تكبيرتين مقدار ثلاث تسبيحات، لأنها تُقَامُ بجمع عظيم، فلو وَالَى بين التكبيرتين حصل الاشتباه، وليس هذا التقدير بلازم كما في «المَبْسُوط» ، لأن المقصود إزالة الاشتباه، وهو يختلف بكثرة الزِّحَام. وقلته.

(بَعْدَ الثَّنَاءِ) لأنه شُرِعَ عَقِيبَ تكبيرة الافتتاح، فيُقَدَّمُ على تكبيرات الزوائد. (ويُكَبِّرُ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ) ثلاثاً زوائد، رافعاً يديه (بَعْدَ القِرَاءَةِ) فعندنا التكبيرات الزوائد في كل ركعة ثلاث، والقراءة في الركعتين متوالية

(1)

، هو قول الثَّوْرِيّ.

(1)

أي بأن يكبر في الركعة الثانية بعد القراءة لتكون قراءتها تالية لقراءة الركعة الأولى. أما لو كبر في الثانية قبل القراءة أيضًا، يكون التكبير فاصلًا بين القراءتين. ثم اعلم أن هذه الكيفية للندب، حتى لو أنه كبَّر في أول كل ركعة جاز، لأن الخلاف في الأولوية كما في "البحر"، وأمَّا ما في "المحيط" =

ص: 420

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وقد رَوَى أبو داود في «سننه» ، وأحمد في «مسنده» ، عن عبد الرحمن بن ثَوْبَان، عن أبيه، عن مَكْحُول قال:«أخبرني أبو عائشة ـ جَلِيسٌ لأبي هُرَيْرَة ـ أن سعيد بن العَاص سأل أبا موسى الأشعري، وحُذَيْفة بن اليَمَانِ: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفِطْر؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربعاً تَكْبِيرَهُ على الجنائز. فقال حُذَيْفَة: صدق. فقال أبو موسى: كذلك كنت أكبِّر في البِصْرَةِ حيث كنت عليهم والياً» . وسكت عنه أبو داود، ثم المُنْذِرِيّ في «مختصره» ، وسكوتهما تصحيح، أو تحسين منهما.

وتضعيفُ ابن الجَوْزِيّ له بعبد الرحمن بن ثَوْبَان نَقْلاً عن أحمد وابن مَعِين، مُعَارَضٌ بقول صاحب «التَّنْقِيح» فيه: وثَّقَهُ غير واحد. وقال ابن مَعِين: لا بأس به، ولكن في مسنده أبو عائشة، يقول ابن حَزْم فيه: مجهول. وقال ابن القَطَّان: لا يُعْرَفُ حاله. قلنا: عَرَفَه مكحول، فرواه عنه.

ويُقَوِّيهِ ما رواه عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» : أخبرنا سُفْيَان الثَّوْرِيّ، عن أبي إسحاق، عن عَلْقَمَة، والأَسْوَد:«أنَّ ابن مسعود كان يُكَبِّرُ في العيدين تسعاً: أربعاً قبل القراءة، ثم يكبر فيركع. وفي الثانية يقرأ، فإذا فَرَغَ، كَبَّرَ أربعاً، ثم ركع» . وأخبرنا مَعْمَر، عن أبي إسْحَاق، عن عَلْقَمة والأَسود قال:«كان ابن مسعود جالساً وعنده حُذَيْفَة وأبو موسى الأشعري، فسألهم سعيد بن العاص عن التكبير في صلاة العيد، فقال حُذَيْفَة: سَل الأَشْعَرِيّ، فقال الأشعريّ: سَلْ عبد الله، فإنه أقدمنا وأعلمنا. فسأله، فقال ابن مسعود: يُكَبِّرُ أربعاً، ثم يقرأ، ثم يكبر فيركع، ثم يقوم في الثانية فيقرأ، ثم يُكَبِّرُ أربعاً بعد القراءة» .

ورَوَى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» : حدثنا هُشيم: أخبرنا مُجَالِد، عن الشَّعْبِيّ، عن مسروق قال:«كان عبد الله بن مسعود يُعَلِّمُنا التكبير في العيدين تسع تكبيرات: خَمْسٌ في الأولى، وأرْبَعٌ في الأخيرة، ويُوَالي بين القراءتين، وأن يخطب بعد الصلاة على راحلته» . والمراد بالخمس: تكبيرة الافتتاح، والركوع، وثلاث زوائد. وبالأربع: ثلاث زوائد، وتكبيرة الركوع. وروى محمد بن الحسن في كتاب «الآثار»: أخبرنا أبو

= من التعليل للموالاة بأن التكبيرات من الشعائر، ولهذا وجب الجهر بها، فوجب ضم الزوائد في الأولى إلى تكبيرة الافتتاح لسبقها على تكبيرة الركوع، وإلى تكبيرة الركوع في الثانية لأنها الأصل. فقد قال في "البحر": الظاهر أن المراد بالوجوب الثبوت لا المصطلح عليه، لأَن الموالاة مستحبة. "رد المحتار" 1/ 560.

ص: 421

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

حنيفة، عن حَمَّاد بن سُلَيْمان، عن إبراهيم النَّخَعِيّ، عن عبد الله بن مسعود:«أنه كان قاعداً في مسجد الكوفة ـ ومعه حُذَيْفَة بن اليَمَانِ، وأبو موسى الأَشْعَرِيّ ـ فخرج عليهم الوليد بن عُقْبَة بن أبي مُعَيْط ـ وهو أمير الكوفة يومئذ ـ فقال: إنَّ غداً عيدكم فكيف أصنع؟ فقالا: أخبره يا أبا عبد الرحمن، فأمره أن يصلي بغير أذان ولا إقامة، وأن يُكَبِّرَ في الأُولى خمساً، وفي الثانية أربعاً، وأن يُوَالي بين القراءتين» .

وقد رُوي عن غير واحد من الصحابة نحو هذا، وهو أثر صحيح، قاله بحضرة جماعة من الصحابة. ومثل هذا يُحْمَلُ على الرفع، لأنه مِثْل نَقْل أعداد الركعات. وروى ابن أبي شَيْبَة: حدَّثنا هُشَيم، أخبرنا خالد الحَذَّاء، عن عبد الله بن الحارث قال:«صلى ابن عباس يوم عيد، فكبر تسع تكبيرات: خمساً في الأولى، وأربعاً في الآخرة، ووَالَى بين القراءتين» . ورواه عبد الرزاق وزاد فيه: «وفعل المُغِيرَة بن شُعْبَة مثل ذلك» . فعملنا بأثر ابن مسعود لسلامته عن الاضطراب، وموافقة جمع من الصحابة له قولاً وفعلاً في هذا الباب، والله أعلم بالصواب.

وعند الشافعيّ وهو مَرْوِيّ عن أبي يوسف: التكبير في الأولى: سبعٌ سوى تكبيرة الإحرام والركوع. وعند مالك، وأحمد: بتكبيرة الإحرام والركوع، وفي الثانية: خمس سوى تكبيرة النهوض وتكبيرة الركوع.

ولا مُوَالَاةَ بين القراءتين في الركعتين، لِمَا روى أبو داود، وابن ماجه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «التكبير في الفِطْر سبعٌ في الأولَى، وخمسٌ في الثانية، والقراءة بعدهما كلتيهما» . زاد الدَّارَقُطْنِيّ: «سوى تكبيرة الصلاة» . والحديث من طريق عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي. قال ابن القَطَّان في كتابه: الطائفي هذا ضَعَّفَه جماعة، منهم ابن مَعِين. وقال الترمذي في «العِلَل»: سألت البخاري عنه فقال: هو صحيح. ولقول عائشة: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يكبّر في العيدين: في الأولى بسبع تكبيرات، وفي الثانية: بخمس قبل القراءة، سوى تكبير الركوع» . رواه أبو داود، وابن ماجه، عن ابن لَهِيعَة.

وقال الحاكم: تفرد به ابن لَهِيعة. وقد استشهد به مسلم في الموضعين. وأخرج الترمذي، وابن ماجه، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المُزَنِيّ

(1)

، عن أبيه،

(1)

في المطبوع المدني، والمثبت من المخطوط وهو الصواب، لموافقته لما في سنن الترمذي 2/ 416، كتاب الصلاة (2)، باب ما جاء في التكبير في العيدين (34)، رقم (536).

ص: 422

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

عن جده عمرو: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ في العيدين في الأولى: سبعاً قبل القراءة، وفي الآخرة: خمساً قبل القراءة» . قال الترمذي: حديث حسن، وهو أحسن شيء رُوِيَ في هذا الباب. وقال في «علله»: سألت محمداً عن هذا الحديث، فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح منه، وبه أقول. قال ابن القَطَّان في كتابه: وهذا ليس بصريح في التصحيح، فقوله: هو أصح شيء في الباب: يعني أشبه ما في الباب وأقل ضَعْفاً ـ يعني عنده ـ، وقوله: وبه أقول، يحتمل أنْ يكون من كلام الترمذي. ونحن وإن خرجنا عن ظاهر اللفظ، ولكن أوجبه أن كثير بن عبد الله متروك.

قال أحمد بن حنبل: كثير بن عبد الله لا يساوي شيئاً، وضرب على حديثه في «المسند» ولم يُحَدّث به. وقال ابن مَعِين: ليس حديثه بشيء. وقال الشافعي: هو ركن من أركان الكذب. وقال ابن دِحْيَة في «العلم المشهور»

(1)

: وكم حَسَّنَ الترمذي في كتابه من أحاديث موضوعة، وأسانيد واهية، منها هذا الحديث.

وقال الإمام أحمد: ليس في تكبيرة العيدين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث صحيح، وإنما أُخِذَ فيها بفعل أبي هريرة. وأشار به ما رَوَى مالك في «الموطأ» ، عن نافع ـ مولى ابن عمر ـ قال:«شهدت الأضحى والفِطْر مع أبي هريرة، فكَبَّر في الركعة الأولى: سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة: خمساً قبل القراءة» . قال مالك: وهو الأمر عندنا. وفي «مصنف ابن أبي شَيْبَة» : حدثنا وَكِيع، عن ابن جُرَيْج، عن عَطَاء:«أن ابن عباس كَبَّر في عيد ثلاث عشرة: سبعاً في الأولى، وستاً في الآخرة بتكبيرة الركوع، كلهن قبل القراءة» . فثبت بصحته عن الصحابة، وجود أصل له عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن كانت طرقه ضعيفة، لِمَا مَرَّ من أنه لا يلزم من ضعفها بطلان الحديث في نفسه، كيف وقد عمل به بعض الصحابة، وهو أمر مخالف للقياس، إذ هو من قبيل المقادير.

ثم علماؤنا والشافعيّ يرفعون الأيدي في تكبيرات الزوائد، كتكبيرة الإحرام، خلافاً لمالك ـ وهو رواية عن أبي يوسف ـ اعتباراً بتكبير الركوع. قلنا: الرفع لإعلام الأصم، وتكبيرة الركوع تُؤَدَّى في حال الانتقال، فلا حاجة إلى رفع اليدين للإعلام، كذا قالوه. ولكن يُنْتَقَضُ بتكبيرات الجنازة، حيث قال جمهور علمائنا: إنه لا رفع فيها.

(1)

واسم الكتاب كاملًا: العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور. انظر كشف الظنون: 2/ 1161.

ص: 423

ويُصَلِّي غدًا بِعُذْرٍ. وإذا صَلَّى الإِمَامُ لا يَقْضِيهَا أَحَدٌ. والأَضْحَى كَالْفِطْرِ،

===

ولو فاتته الرَّكعة الأولى من صلاة العيد، فإذا قام يقضيها يقرأ أولاً، ثم يكبر. وفي رواية «النوادر»: يُكَبِّرُ أولاً، ثم (يقرأ)

(1)

. ولو أدرك الإمامَ في الركوع، وخشي أنْ يرفع رأسه، يركع ويكبر في ركوعه عندهما، ما دام الإمام راكعاً لأنه قيام من وجه والتكبير واجب، والإتيان بالواجب في محله من وجه، أوْلَى من الإتيان بالسنة في محلها من كل وجه. فقيل: برفع الأيدي. وقيل: بدونها، وهو الأظهر.

هذا، وما رواه صاحب «الهداية» ، عن ابن عباس: أنه يكبر في الأولى للافتتاح وخمساً بعدها، وفي الثانية يكبر خمساً، ثم يقرأ، غير معروف عنه. وإنما ذَكره ابن المُنْذِر عن الزُّهْرِيّ وغيره. وكذا ما رواه عنه: يُكَبِّرُ في الأولى للافتتاح خمساً، وفي الثانية: أربعاً، إنما ذكره ابن المُنْذِرِ، عن الحسن البَصْرِي. وعند أبي يوسف: لا يكبر بل يسبح، لأنه محله حقيقة، ولو فاته أول الصلاة مع الإمام كَبَّرَ في الحال ولا يُؤَخِّرُ.

(ويُصَلِّي غداً بِعُذْرٍ) بأن غُمَّ الهلال، ثم شُهِدَ به بعد الزوال، لِمَا سبق من الحديث، أو شُهِدَ قبله بحيث لا يمكن اجتماع الناس فيه، أو بأن صُلِّيَتْ، ثم ظهر أنهم صَلَّوها بعد الزوال. قيد:«بالغد وبالعذر» ، لأنها لا تُصَلَّى بعد غدٍ ولو بعذر، (ولا غداً بغير عذر، لأنّ الأصل في العيد أنها لا تُقْضَى كالجمعة، إلاَّ أنا تركناه في الغد بعذر)

(2)

للحديث السابق، فيبقى ما وراء

(3)

على الأصل.

(وإذا صَلَّى الإِمَامُ لا يَقْضِيهَا أَحَدٌ) فاتته مع الإمام ولم يدركه، وبه قال مالك، لأن لها شرائط لا قدرة للمنفرد على تحصيلها كالجمعة. وقال الشافعي: يَقْضِي استحباباً، لأنها صلاة مُؤَقَّتة كسائر الفرائض.

(والأَضْحَى كَالْفِطْرِ) فيما تقدَّم، لِمَا نُقِلَ عن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى، عن عمر بن الخطاب قال:«صلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفِطْر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة السفر ركعتان، تامٌّ غير قَصْر» . قال النووي: ورواه النَّسائي، وابن ماجه، والبيْهَقِي، وقال: لم يسمعه ابن أبي ليلى عن عمر رضي الله عنه، وقال النووي: ووقع في رواية صحيحه للبيهقي، عن ابن أبي لَيْلَى، عن كَعْبِ بن عُجْرَة عن عمر. فهو كالفِطْرِ إلاَّ في بعض الأحكام نَبَّهَ عليها بقوله.

(1)

في المطبوع: يركع، والمثبت من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

عبارة المطبوع: رواه. والمثبت في المخطوط.

ص: 424

لكنْ نُدِبَ الإِمْسَاكُ إلى أنْ يُصَلِّيَ.

ويُكَبِّرُ جَهْرًا في الطَّرِيق، ويُصَلَّى ثلَاثة أيَّامٍ بِعُذْرٍ وغَيرِهِ. ويُعَلِّمُ في خُطْبَتِهِ وثَمَّ أحكامَ الفِطْرَةِ، لا اجْتَمَاعُ يَوْمَ عَرَفَةَ تَشَبُّهًا بالوَاقِفِينَ، ويَجِبُ قَوْلُه: اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، لا إِلهَ إلَّا اللَّهُّ، واللَّهُ

===

(لَكِنْ نُدِبَ الإِمْسَاكُ) عن الأَكل والشُّرْبِ (إلى أنْ يُصَلِّيَ) لِمَا تقدَّم من حديث الترمذي، وابن ماجه:«أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل يوم النَّحْرِ حتى يرجع» .

وفي رواية: «فيأكل من أُضْحِيَتِهِ» .

وفي «المحيط» : يُسْتَحَبُّ تعجيل صلاة الأضحى، ليتمكن الناس التعجيل بالأُضْحِيَة.

(ويُكَبِّرُ جَهْراً في الطَّرِيق) أي اتفاقاً لِمَا سبق من الحديث. ويُسْتَحَبُّ اختلاف الطريق في صلاة العيد، لِمَا رواه أبو داود، وابن ماجه، عن ابن عمر رضي الله عنهما:«أنه صلى الله عليه وسلم أخذ يوم العيد في طريق، ثم رجع في طريق» .

(ويُصَلَّى ثلَاثَة أيَّامٍ بِعُذْرٍ وغَيْرِهِ) ولا يُصَلَّى بعد ذلك، لأنها مؤقتة بوقت الأُضْحِية وهو ثلاثة أيام، لكنه يُسِيءُ بالتأخير من غير عذر لمخالفته المنقول. فالعذر في الأضحى لنفي الكراهة، وفي الفِطْر للجواز.

(ويُعَلِّمُ في خُطْبَتِهِ) أي في خطبة الأضحى (تَكْبِيرَ التَّشْرِيقِ والأُضْحِيَةِ) لأَنَّ الخطبة في الأضحى لتعليم أحكام وقته، وأحكام وقته

(1)

، الأضحية وتكبير التشريق

(2)

(وثمَّ) أي ويُعَلِّم في خطبة الفِطْر (أحكامَ الفِطْرَةِ) لأنها أحكام ذلك الوقت.

(لا اجْتَمَاعُ) عطف على الإمساك، أي لا يُنْدَب اجتماع الناس (يَوْمَ عَرَفَةَ) في غير عَرَفَاتٍ (تَشَبُّهاً بالوَاقِفِينَ) بعرفات، لأن الوقوف عُرِفَ عبادة مختصة بعرفات، فلا يكون عبادة بدونها. وعن أبي يوسف، ومحمد في غير رواية «الأصول»: أنه لا يُكْرَه، لِمَا رُوِيَ عن ابن عباس أنه فعل ذلك بالبَصْرَة. وأُجِيبَ بأن ما فعله ابن عباس لعله كان استسقاءً أو دُعَاءً.

(ويَجِبُ قَوْلُه:) مرة، والزيادة مستحبة (اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، لا إِلهَ إلاَّ اللَّهُ، واللَّهُ

(1)

عبارة المطبوع لتعليم أحكام وقت الأضحية وتكبير التشريق، والمثبت من المخطوط.

(2)

أي تكبير أيام التشريق، وأيام التشريق: هي ثلاثة أيام تلي عيد النحر. سُمِّيت بذلك من تشريق اللَّحم، وهو تقديده وبَسْطه في الشمس ليَجِفَّ، لأَنَّ لحوم الأضاحي كانت تُشرَّق فيها بمنىً. وقيل سُمِّيت به لأن الهَدْي والضَّحايا لا تُنْحر حتى تشرق الشمس: أي تطلع. النهاية: 2/ 464.

ص: 425

أكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، ولِلَّهِ الحَمْدُ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ عَقِيبَ كُلِّ فَرْضٍ أُدِّيَ بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ عَلَى المُقِيمِ بِالمِصْرِ، ومُقْتَدِيَةٍ برَجُلٍ، وعَلَى مُسَافِرٍ مَقْتَدٍ

===

أكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، ولِلَّهِ الحَمْدُ) كذا في رواية جابر. قال النووي: رواها الدَّارَقُطْنِيّ بأسانيد ضعيفة. وفي رواية عن جابر موقوفاً: «أنه كَبَّرَ: اللَّه أكبر ثلاثاً» . وعن ابن عباس: مثله. ضعيف، ضعفه النَّوَوِي. وأمَّا قول صاحب «الهداية»: إنّ هذا هو المأثور عن الخليل عليه الصلاة والسلام، فغير معروف، وصَرَّحَ بالوجوب، وهو اختيار فخر الإسلام، وصدر الإسلام، وأكثر الأعلام، لظاهر قوله تعالى:{واذْكُرُوا اللَّهَ في أيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}

(1)

، ولأنه من الشعائر، فصار كصلاة العيد، فمستحب رفع الصوت به. وقيل: التكبير سنة. واختاره التُّمُرْتَاشِي لمواظبة النبيّ صلى الله عليه وسلم

(مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ) لِمَا روى محمد في «الآثار» ، عن أبي حنيفة، عن حَمَّاد، عن إبراهيم، عن عليّ:«أنه كان يُكَبِّرُ بعد صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، ويكبر بعد العصر» . ورواه ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن شَقِيق عن عليّ رضي الله عنه. وعن أبي يوسف آخِراً: من ظُهر عَرَفَة. وهو قول ابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت.

(عَقِيبَ كُلِّ فَرْضٍ) من أيام التشريق (أُدِّيَ) أو قُضِيَ فيها في تلك السنَةِ (بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ) ويعتبر في كون التكبير عَقِيبَ الفرض، أنْ لا يتخلل بينه وبين الفرض ما يقطع حُرْمَةَ الصلاة، كالخروج من المسجد، والتكلم.

وقَيَّد «بالفرض» احترازاً عن النفل، وعن الواجب كالوتر، والعيد، وركعتي الطواف. وقَيَّدْنا الفرض بكونه من «أيام التشريق» وكونه أُدّي أو قُضِي فيها في تلك السنة، لأنّ مَنْ فاتته صلاة من غير أيام التَّشْرِيقِ فقضاها في أيامها، لا يكبر، لأن القضاء على وَفْقِ الأداء. ومن فاتته صلاة من أيام التشريق، فقضاها في غير أيامه، أو في أيامه في غير تلك السنة، لا يُكَبِّرُ، لأنه واجب فات عن وقته، فلا يُقْضَى كصلاة العيد. وقال: بجماعة، فلا يجب على المنفرد. وقَيَّد الجماعة بكونها «مستحبة» ، لأن النساء إذا صلّين بجماعة بإمامهن

(2)

، لا يجب التكبير عليهن.

(عَلَى المُقِيمِ) أي يجب على المقيم (بِالمِصْرِ) ولا يجب على المسافر، ولا على المقيم بالقرية. (ومُقْتَدِيَةٍ) ويجب على امرأة مقتدية (برَجُلٍ، وعَلَى مُسَافِرٍ مَقْتَدٍ

(1)

سورة البقرة، الآية:(203).

(2)

أي كان الإمام واحدة منهن.

ص: 426

بِمُقِيمٍ إلى عَصْرِ العِيدِ. وقالا: إلى عَصْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وبه يُعْمَلُ. ولا يَدَعُهُ المُؤْتَمُّ ولَوْ تَرَكَهُ إمَامُهُ.

‌بَابٌ في الجَنَائِزِ

سُنَّ للمُحْتَضَرِ

===

بِمُقِيمٍ) تبعاً لإمامهما. وهذا كله عند أبي حنيفة، وهو مَرْوِي عن ابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم. وقالا: يجب التكبير على كل من يُصَلِّي المكتوبة، لأن التكبير تبع للمكتوبة. لأبي حنيفة أنَّ الجهر بالتكبير خلاف الأصل، والنص الوارد فيه اجتمعت هذه الأمور فيه، فتراعى.

(إلى عَصْرِ العِيدِ) غاية لقوله: من فجر عَرَفَةَ، وهذا عند أبي حنيفة، لِمَا روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن الأسود قال:«كان عبد الله بن مسعود يكبر من صلاة فجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، فيقول: اللهُ أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» .

(وقالَا: إلى عَصْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) وهو قول الشافعي ـ رَجَّحَه جماعة من أصحابه ـ وقول أحمد بن حنبل.

(وبه يُعْمَلُ) أي وعليه الفَتْوَى، لأنه مَرْوِي عن عمر، وعليّ، وابن مسعود، ولأنه أخْذٌ بالأكثر، وهو أحوط في العبادات. وعن الشافعي ـ وهو قول مالك ـ: أنَّ ابتداء التكبير من ظهر يوم النحر إلى صبح آخر أيام التشريق.

(ولا يَدَعُهُ المُؤْتَمُّ ولَوْ تَرَكَهُ إمَامُهُ) لأن التكبير يُؤَدَّى لا في نفس الصلاة، فلا يكون الإمام فيه حتماً، بل مستحباً، كسجدة التلاوة، بخلاف ما لو ترك الإمام سجود السهو، فإنه يتبعه المَأْمُوم في تركه، لأنه يُؤَدَّى في حُرْمَة الصلاة. لكن ينبغي للمأموم أن ينتظر الإمام إلى أن يأتي بشيء يقطع التكبير، كالخروج من المسجد والحَدَث العمد، والكلام المُنَافي، والله أعلم.

باب في الجَنَائِزِ

وهو بفتح الجيم لا غير: جمع جِنَازة بكسر الجيم وفتحها، والكسر أفصح. وقيل: الفتح للميت، والكسر لسريره الذي يُحْمَلُ عليه. وقيل: بالعكس.

(سُنَّ للمُحْتَضَرِ) بفتح الضاد: وهو من حضره الموت أو ملائكته. وعلامة ذلك

ص: 427

أنْ يُوَجَّهَ إلى القِبْلَةِ عَلَى يَمِينِهِ، واخْتِيرَ الاسْتِلْقَاءُ. ويُلَقَّنُ الشَّهَادَةَ، فإذا مَاتَ تُشَدُّ لَحْيَاهُ، وتُغْمَضُ عَيْنَاهُ،

===

استرخاء قدميه، وانعواج أنفه، واسوداد ظفره، وانخساف صُدْغَيْه

(1)

. (أنْ يُوَجَّهَ) أي يجعل وجهه (إلى القِبْلَةِ) لِمَا روى الحاكم في «المستدرك» عن أبي قتادة: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ المدينة سأل عن البَرَاء بن مَعْرُور فقالوا: تُوُفِّي وأوْصَى بثلثه لك

(2)

، وأوْصَى أن يُوَجَّهَ إلى القِبلة لَمَّا احْتُضِرَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب الفِطْرَة، وقد رَدَدتُ ثُلُثَهُ على ولده». (عَلَى يَمِينِهِ) لأنه يوضع عليه في القَبْر فكذلك في هذا الوقت.

(واخْتِيرَ) عند بعض المشايخ (الاسْتِلْقَاءُ) لأنه أسهل في شدِّ اللَّحْيَيْنِ، وتغميض العينين، وأمنع من تقوّس أعضائه. قيل: وفي خروج الروح. ويُرْفَع رأسه قليلاً، ليصير وجهه إلى القبلة دون السماء.

(ويُلَقَّنُ الشَّهَادَةَ) لِمَا روى الجماعة إلاَّ البُخَارِي، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَقِّنُوا أمواتكم: لا إله إلا الله» . أي من قَرُبَ من الموت. وزاد ابن شاهين، عن ابن عمر مرفوعاً:«فإنه ليس مسلم يقولها عند الموت إلاَّ أنْجَتْه من النار» . وكيفية التلقين: أنْ يُقَال عنده وهو يسمع، ولا يُؤْمَرُ بها، ولا يُلَحُّ عليه، لأن الحال صعب لديه. فإذا أتى بها، ولم يتكلم بعدها يُمْسَكُ عنه، لأن المقصود أنْ يكون خَتَم كلامه بها. لقوله عليه الصلاة والسلام:«من كان آخرَ كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة» . رواه أبو داود. ولا يلَقَّنُ بعد الموت على القبر. وقيل: يُلَقَّنُ. وقيل: (لا يُؤْمَرُ به.)

(3)

ولا يُنْهَى عنه.

(فإذا مَاتَ تُشَدُّ لَحْيَاهُ) بفتح اللام، تثنية لَحْي: وهو مَنْبِت اللحية من الإنسان وغيره. (وتُغْمَضُ عَيْنَاهُ) إزالةً لشناعة منظره، وأمناً من دخول شيء من الهوامّ في جوفه من فمه، ولقوله صلى الله عليه وسلم «إذا حضرتم موتاكم فأغْمِضُوا البصر، فإنّ البصر يتبع الروح. وقولوا خيراً، فإن الملائكة تُؤَمِّنُ على ما قال أهل البيت» . رواه ابن ماجه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد. ولِمَا رَوَى مسلم من حديث أم سَلَمة قالت: «دخل رسول الله

(1)

الصدْغ: سبق شرحها، ص: 219، التعليقة رقم:(2).

(2)

عبارة المطبوع: وأوصى بثلث ماله. وما أثبتناه من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لرواية الحاكم في "المستدرك" 1/ 353.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 428

ويُجَمَّرُ تَخْتُهُ وكَفَنُهُ وِتْرًا.

ويُغَسَّلُ

===

صلى الله عليه وسلم على أبي سَلَمَة وقد شَقَّ بَصَرُه، فأغْمَضَه، ثم قال: إن الروح إذا قُبِضَ

(1)

تبعه البصر، فَضَجَّ ناس من أهله ـ أي فصاحوا ـ فقال: لا تَدْعُوا على أنفسكم إلاَّ بخير، فإن الملائكة يُؤَمِّنُون على ما تقولون. ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المَهْدِيِّين، واخْلُفْه في عقِبهِ في الغابرين»

(2)

. شَقَّ بصره، بفتح الشين ورفعِ البصر، وضَبَطَه بعضهم بالنصب معناه: شَخَصَ. ويقول مُغْمِضه: باسم الله، وعلى ملَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُسْتَحب تعجيل دفنه.

(ويُجَمَّرُ) بصيغة المجهول مخففاً أو مشدداً أي يُبَخَّر (تَخْتُهُ) أي سريره. قيل: ويوضع عليه طولاً إلى القبلة. وقيل: عرضاً، والأصح كما قال السَّرَخْسِي: كيفما تيسر ليَنْصَبَّ عليه الماء، وكان أقرب إلى التنظيف (وكَفَنُهُ) عند إرادة غسله، بأن تدار المِجْمَرَة حوله، إزالة لِمَا عسى أنْ يكون من الرائحة الكريهة. (وِتْراً) مرة أو ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، ولا يزاد على ذلك. روى أحمد، وابن حِبَّان في صحيحه، والحاكم وصححه، عن جابر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أجْمَرْتُم الميت، فأجْمِرُوه وِتْراً» . وفي رواية: «فأجْمِرُوه ثلاثاً» .

(ويُغَسَّلُ) بالتخفيف والتشديد. وغسلُه فرضُ كفاية على الأحياء بالاتفاق، حتى لو وُجِدَ ميت في الماء غسل، وإن كان تَفَسَّخَ صُبَّ عليه الماء.

واختلفوا في سبب غسله: فقيل: حَدَثٌ يَحُلُّ بالميت، لاسترخاء مفاصله. فإن الآدمي لا يَنْجُسُ بالموت، كرامةً له. وإنما لم يُقْتَصَرْ على أعضاء الوضوء، لأن في الاقتصار عليها في الحياة نفياً للحرج فيما يتكرر كل يوم، والحَدَثُ بسبب الموت لا يتكرر، فكان كالجنابة. وقال العراقيون: سببه النجاسة بالموت كسائر الحيوانات، لأن شخصاً لو حمل إنساناً ميتاً وصَلَّى لم تجز صلاته. ولو حمل مُحْدِثاً، فصلى جازت. وزوال نجاسته بالغسل دون باقي الحيوانات، كرامةً له، هذا هو الأظهر، إلاَّ أنَّ حديث أبي هريرة:«سبحان الله، إنّ المؤمن لا يَنْجُس حياً ولا ميتاً»

(3)

. فإن صحّت الرواية،

(1)

في المطبوع أفل، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 2/ 634، كتاب الجنائز (11)، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حُضِرَ (4). رقم (7 - 920).

(2)

أي: كُن خليفةً له في ذريته الباقين.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 1/ 390، كتاب الغسل (5)، باب عرق الجنب وأن المسلم

(23)، رقم (283).

ص: 429

ويُجَرَّدُ بِلا مَضْمَضَةٍ واسْتِنْشَاقٍ،

===

وجب ترجيح أنه للحدث.

وتُستر عَوْرَتُه لأن النظر إليها حرام كالحيّ، وهو ما تحت سرته إلى ركبته، كما في الحيّ. وقيل: الغليظة. وفي «الهداية» : هو الصحيح تيسيراً. قلت: وهو ظاهر الرواية. والأول رواية «النوادر» ، وصححها في «النهاية» ، واختاره الكَرْخِيّ لقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ:«لا تنظر إلى فَخذِ حيّ ولا ميت»

(1)

. ولذا لا يَحِلُّ للرجل غسل النساء، وبالعكس.

(ويُجَرَّدُ) عن ثيابه وهو قول مالك، للاعتبار بحال حياته. وقد كان هذا التجريد مشهوراً فيما بين الصحابة بدليل ما رُوِيَ أنهم قالوا: أنُجرِّدُه كما نُجَرِّدُ موتانا أم نُغَسِّلُه في ثيابه؟ فسمعوا هاتفاً يقول: لا تجرّدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية: «اغسلوه في قميصه الذي مات فيه» . ولأنه

(2)

قد يتنجس مما يخرج منه

(3)

، وينجس الميت به، ويَشِيعُ بصب الماء عليه، بخلاف النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه لم يخرج منه إلاَّ طيب. فقد قال عليّ:«طِبْتَ حيّاً وميتاً» .

ويُوَضَّأُ أولاً اعتباراً بحال الحياة، إلاَّ أنه لا يُقدَّمُ غَسْلُ يديه، بل يُبْدَأُ بوجهه، بخلاف الجُنُبِ، لأنه يتطهّر بهما. والميت يُغَسَّلُ بيد غيره. ولا يُمْسَحُ رأسُه في رواية، والمختار: أن يُمْسَحَ ويُنَجَّى

(4)

عند أبي حنيفة ومحمد، بعد ما يَلُفُّ على يده خِرْقَةً لحرمة المس كالنظر. وعند أبي يوسف: لا يُنَجَّى، لأن المُسْكَةَ

(5)

قد زالت، فلو نُجِّيَ ربما يزداد الاسترخاء، فتخرج نجاسة أخرى. فيُكْتَفَى بوصول الماء إليه

(6)

.

ولهما: أن موضع استنجاء الميت لا يخلو عن نجاسة، فَتُزَال كما في الحياة، وكما لو كانت في موضع آخر من بدنه.

(بِلَا مَضْمَضَةٍ واسْتِنْشَاقٍ) وهو قول مالك وأحمد، خلافاً للشافعي قياساً على الحيّ. ولنا: أن في إدخال الماء في أنفه وفمه وإخراجه منهما حرجاً، فيُتْرَكَان.

(1)

أخرجه ابن ماجه في سننه 1/ 69، كتاب الجنائز (6)، باب ما جاء في غسل الميت (8)، رقم (1460).

(2)

أي الثوب أو القميص.

(3)

أي من الميت.

(4)

أي يُزَال عنه النَّجْوُ من غائط وأذى.

(5)

المُسْكَة: أي القوة. المصباح المنير، ص: 573، مادة (مسك).

(6)

أي: إلى موضع الاستنجاء.

ص: 430

ولا قَلْمِ ظُفُرٍ، ولا تَسْرِيحِ شَعْرٍ

===

ولو وُلِدَ ميتاً، رُوِي عن أبي حنيفة ومحمد: أنه لا يُغَسَّلُ، لأن الغسل لأجل الصلاة، وهو لا يُصَلَّى عليه. وعن أبي يوسف: يُغَسَّلُ، لأنه يشبه الجزء من وَجْهٍ، والنفس من وجه، فَيُغَسَّلُ اعتباراً بالنفس، ولا يُصَلَّى عليه اعتباراً بالجزء. وفي «الخلاصة»: السِّقْطُ

(1)

الذي لم تتمّ أعضاؤه لا يصلّى عليه، ولكن يُغَسَّلُ ويُدْفَنُ في خِرْقَةٍ، وكأَنه اختار رواية أبي يوسف.

(ولا قَلْمِ ظُفُرٍ) أي وبلا قطعه. وعن (أبي حنيفة)

(2)

وأبي يوسف: إذا كان الظُّفُرُ منكسراً، فلا بأس بأخذه. وكذا لا يُقَصُّ شاربه ولا يُنْتَفُ إبْطُه ونحو ذلك.

(ولا تَسْرِيحِ شَعْرٍ) أي من رأسه ولحيته لِمَا رَوَى محمد بن الحسن في «آثاره» ، عن أبي حنيفة، وعبد الرَّزَّاق في «مصنفه» ، عن سفيان الثوري كلاهما عن حَمَّاد، عن إبراهيم: «أنَّ عائشة رأت امرأة يَكْدُون

(3)

شعرها بمشط فقالت: علام تُنْصُون ميتكم؟» أي تَمُدُّونَ ناصيته. وتكدون وتنصون على زِنَة تبكون ـ فأرادت عائشة أنَّ الميت لا يحتاج إلى تسريح الرأس. وعَبَّرَت بالأخذ بالناصية تنفيراً.

ومذهب الشافعيّ: قَصُّ ظُفُرهِ وشاربه، وتسريح لحيته وشعره بمشط واسع. وكذا غسله في قميص وبماء بارد اعتباراً له بالحي، واعتباراً بغسل النبيّ صلى الله عليه وسلم في قميصه، ولقول أم عَطِيَّة في غسل بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم «فضَفَرْنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها» . ولأن المُسَخَّنَ يوجب انحلال ما في الباطن فيكثر الخارج.

ولنا: أنَّ في الماء الحار مبالغةً في التنظيف كالسِّدْرِ

(4)

والحُرضِ

(5)

. وكون سخونته توجب الانحلال داع لا مانع، لأن المقصود يتم به، إذ باستفراغ ما في الباطن يحصل تمام النظافة، والأمان من تلويث الكَفَن عند تحريك الحَامِلِين. وقد سبق أنَّ غسله صلى الله عليه وسلم في قميصه كان من خصائصه. ولا يلزم من تضفير الشعر تسريحه كما لا

(1)

السِّقْط: الولد ذكرًا كان أو أنثى يسقط قبل تمامه وهو مُسْتبِينُ الخَلْقِ. المصباح المنير، ص: 280، مادة (سقط).

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

كَدَّ شعره: مَشَطَه. المعجم الوسيط، ص: 779، مادة (كدّ).

(4)

السِّدْر: الورق المطحون من شجرة النَّبْقِ. المصباح المنير، ص: 271، مادة (سدر). وشجرة النَّبْقَ: شجرة من الفصيلة السِّدْرية قليلة الارتفاع، أغصانها مُلْسٌ بيض اللون تحمل أَوراقًا متبادلة مُلْسًا، وأَزهارها صغيرة متجمعة إبطية، وثمرتها حَسَلَة حلوة تؤكل، وهى تنمو في مصر وفى غيرها من بلاد إفريقيا الشمالية. المعجم الوسيط، ص:898.

(5)

الحُرْض: رمادٌ إِذا أحرق ورُشّ عليه الماء انعقد وصار كالصابون تنظَّف به الأيدي والملابس. المعجم الوسيط، ص: 167، مادة (حرض).

ص: 431

ويُجْعَل الحَنُوطُ

===

يخفى. وجواب الباقي تقدم والله تعالى أعلم.

وفي «المحيط» : أن الصبيّ والصبية إذا لم يبلغا حَدَّ الشهوة فهما في الغسل كالبالغ، وإن كانا لا يعقلان لا يُوَضَّآن عند الغسل.

ولا تَغْسِل الأَمَةُ سيّدها لزوال مِلْكه عنها إلى الورثة، ولا المُدَبَّرَةُ مولاها لعتقها بموته، ولا أمّ الولد مولاها، وإن كانت تعتد منه، لأن عدّتها لم تجب قضاء لحقِّه. وعند زُفَر: تغسله. وتغسل المرأة زوجها اتفاقاً، وإن كانت مُحْرِمَة أو صائمة. ولا يغسل الرجل امرأته عندنا

(1)

خلافاً للثلاثة.

ثم يُصَبُّ عليه ماء مَغْلِي بسِدْرٍ أَوْ حُرْضٍ إِنْ وُجِدَ، وإلاَّ فالماء الخالص المسخن أولى. ويغسل رأسه ولحيته بالخَطْمِيّ

(2)

لأنه أبلغ في استخراج الوسخ. فإنْ لم يُوجَد فبالصابون ونحوه لعمله عَمَلَه.

ويُضْجِعُه بعد ذلك على يساره فيغسل جانبه الأيمن حتى يصل الماء إلى ما يلي التخت منه ـ وهو الجانب الأيسر ـ وهذه غِسْلَة. ثم يُضْجِعُه على يمينه ويغسله كذلك حتى يُنقيه، ويرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت ـ وهو الجانب الأيمن ـ وهذه ثانية. ثم يُجْلِسُه مسنَداً إليه، ويسند ظهره إلى ركبته ويمسح بطنه برفق حتى لو بقي شيء يسيل، فلا تتلوث أكفانه. فإن خرج منه شيء، كفى غسل موضعه، ولا يجب إعادة غسله. لأنه إنما عُرِفَ وجوبه بالنص مرة واحدة، مع قيام سبب النجاسة. إذ الحدث ـ وهو الموت ـ أعمُّ من أن يكون قبل خروج شيء أو بعده، فلا يُعَاد، لأن الحاصل بعد إعادته هو الذي كان قبله، ثم يُضْجِعهُ على جنبه الأيسر، ويغسله بماء فيه كافور

(3)

، وقد تمّت الثلاث. ثم ينشِّفه بثوب أو خِرْقة كما في حالة الحياة لئلاَّ تبتل ثيابه.

(ويُجْعَلُ الحَنُوطُ) بفتح الحاء المهملة، أخلاط من طيب مجتمع للميت خاصة. وفي «المحيط»: لا بأس بسائر الطيب في الحَنُوط غير الزَّعْفَرَان

(4)

(1)

لأن الملك يبطل محله. حاشية ابن عابدين، 1/ 576.

(2)

الخَطْمِيّ: نبات من الفصيلة الخُبَّازية، كثير النفع، يُدَقُّ ورقه يابسًا ويجعل غِسْلًا للرأس. المعجم الوسيط، ص: 245، مادة (خطم).

(3)

الكافور: شجر من الفصيلة الغارية يتخذ منه مادة شفَّافة بلورية الشكل يميل لونها إلى البياض رائحتها عطرية وطعمها مُرٌّ. المعجم الوسيط، ص: 792، مادة (كفر).

(4)

الزعفران: نبات بصليّ معمَّر من الفصيلة السَّوْسَنِيَّة. المعجم الوسيط، ص: 394، مادة (زعفر).

ص: 432

عَلَى رَأْسِهِ ولِحْييَهِ، والكَافُورُ عَلَى مسَاجِدِهِ.

===

والوَرْس

(1)

لأنهما للزينة. وقيل: يجوز للنساء دون الرجال.

(عَلَى رَأْسِهِ ولِحْيَتِهِ والكَافُورُ عَلَى مسَاجِدِهِ) وهي مواضع السجود من بدن الإنسان، جمع مسجَد، بفتح الجيم لا غير. قال الإمام السَّرَخْسِي: يعني بها جبهته، وأنفه، ويديه، وركبتيه، وقدميه، لأن الطيب سُنَّةٌ وكرامة. والرأس ومواضع السجود أحق بالكرامة، لأنه كان يسجد بهذه الأعضاء، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «كان آدم النبيّ عليه الصلاة والسلام رجلاً أشعر طُوَالاً كأنه نخلة سَحُوق

(2)

، فلمَّا حَضَره الموت، نزلت الملائكة بحَنُوطٍ وكَفَنٍ من الجنة. فلمَّا مات عليه الصلاة والسلام غسلوه بالماء والسِّدْر ثلاثاً، وجعلوه في الثالثة كَافُوراً، وكفَّنُوه في وترٍ من الثياب، وحفروا له لحداً

(3)

، وصلَّوا عليه، وقالوا: هذه سنة ولد آدم من بعده».

وفي رواية قالوا: «يا بني آدم هذه سنتكم من بعده، فكذلكم فافعلوا» . رواه الحاكم من طريقين سكت عن أحدهما، وصحح الآخر. ولقول أم عَطِيَّة:«دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته فقال: اغْسِلْنَها ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر من ذلك ـ إن رأيتن ذلك ـ بماء وسِدْرٍ، واجْعَلْنَ في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فَرَغْتُنَّ فآذِنَّنِي. فلمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاه. فألقى إلينا حِقْوَه ـ أي إزاره ـ فقال: أشْعِرْنَها إيّاه» . أي اجعلنه شعاراً لها. وفي رواية: «اغْسِلْنَها وِتْراً ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، وابْدَأْن بِمَيَامِنِها ومواضع الوضوء منها

» الحديث. متفق عليه.

وروى الحاكم في «المُسْتَدْرَك» بإسناد حسن، عن أبي وائل قال:«كان عند عليّ رضي الله عنه مِسْكٌ فأوصى أنْ يُحَنَّطَ به. وقال: هو فضل حَنُوط رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن أبي شَيْبَة أيضاً عن أبي وائل، وروى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن سَلْمان: «أنه استودع امرأته مِسْكاً، فقال: إذا مِتُّ فَطَيِّبُوني به، فإنه يَحْضُرَني خلق من خلق الله، لا ينالون من الطعام والشراب، وإنما يجدون الريح» . وروى مسلم في الطِّيب عن (أبي سعيد) الخُدْرِي مرفوعاً: «إن أطيب طيبكم المسك»

(4)

. ولِمَا في مصنف ابن

(1)

الوَرْس: نبت من الفصيلة القرنية ينبت في بلاد العرب والحبشة والهند، وثمرتها قرن مغطَّى عند نضجه بغدد حمراء، يستعمل لتلوين الملابس الحريرية لاحتوائه على مادة حمراء. المعجم الوسيط، ص: 1025، مادة (ورس).

(2)

السَّحُوق: الطويلة. المعجم الوسيط، مادة (سحق)، ص:420.

(3)

اللحد: الشقُّ يكون في جانب القبر للميِّت. المعجم الوسيط، مادة (لحد)، ص:817.

(4)

رواه المُصَنَّف المعنى ولفظه عند مسلم في كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها: " .... والمسك أطيب الطيب"، حديث (2252). وما بين الحاصرتين منه.

ص: 433

وسُنَّةُ الكَفَنِ لَهُ: إزَارٌ وقَمِيصٌ ولِفَافَةٌ،

===

أبي شَيْبَة»، عن ابن مسعود أنه قال:«يوضع الكَافُور على مواضع سجود الميت» .

وروى عبد الرَّزَّاق، عن الحسن بن عليّ رضي الله عنه:«أنه لَمَّا غَسَّل الأَشْعَث بن قيس، دعا بكافور فجعله على وجهه، وفي يديه ورأسه ورجليه ثم قال: أدْرِجُوه»

(1)

. وليس في الغسل استعمال القطن في الروايات الظاهرة. وعن أبي حنيفة: أنه يجعل القطن المحلول في مَنْخِرَيْه وفمه. وقال بعضهم: في صِمَاخِه

(2)

أيضاً. وقال بعضهم: في دُبُره أيضاً، واسْتَقْبَحه عامة العلماء كما في «الظَّهِيرِيَّة» .

ويُكْرَه أن يكون الغاسل جُنُباً أو حائضاً، ويُسْتَحَبُّ غسل الميت، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من غسل ميتاً (فكتم)

(3)

عليه، غُفِرَ له أربعون كبيرة، ومن كَفَّنَه، كساه الله من السُّنْدُس

(4)

والإسْتَبْرَقِ

(5)

، ومن حفر له قبراً حتى يَكِنَّهُ

(6)

، فكأنما أسكنه مَسْكَناً حتى يُبْعَثَ».

رواه البيهقي في «المعرفة» ، والحاكم في «المستدرك» وقال: على شرط مسلم. ولقوله عليه الصلاة والسلام: «يا عليّ: اغسل الموتى، فإنه من غسل ميتاً، غُفِرَ له سبعون مغفرة، لو قُسِمَتْ مغفرة منها على جميع الخلائق لوسعتهم. قلت: ما يقول من يغسل ميتاً؟ قال: غفرانك يا رحمن حتى يفرُغ من الغسل» . رواه أبو حفص

(7)

بن شاهين في كتاب الجنائز.

(وسُنَّةُ الكَفَنِ لَهُ) أي للرجل (إزَارٌ) وهو من القَرْن إلى القدم. (وقَمِيصٌ) وهو من أصل العُنُقِ إلى القدم بلا دِخْرِيص

(8)

، ولا جيب، ولا كُمَّين. (ولِفَافَةٌ) وهو أيضاً من القَرْن إلى القدم. لِمَا رَوَى أبو داود من حديث عائشة:«كُفِّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب: قميصه الذي مات فيه، وحُلَّة نجرانية» . قال أبو عُبَيْد الحلة: إزار ورداء، ولا تكون الحُلَّة إلا من ثوبين، وروى محمد في «الآثار» عن أبي حنيفة، عن حَمَّاد، عن إبراهيم رحمهم الله أنه عليه الصلاة والسلام «كُفِّن في حُلَّة يمانية، وقميص» . وقال جابر بن سَمُرَة: «كُفِّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب: قميص، وإزار،

(1)

أدْرَج: أي لَفَّ. النهاية: 2/ 112

(2)

الصِّمَاخ: قناة الأُذن التي تفضي إلى طبلته. المعجم الوسيط، ص: 522، مادة (صمخ).

(3)

في المطبوع: فختم. والمثبت من المخطوط.

(4)

السُّنْدُسُ: ضرب من رقيق الديباج - الحرير -. المعجم الوسيط، ص: 454، مادة (سند).

(5)

الإستبرق: هو ما غَلُظ من الحرير والإِبْرَيْسَم. النهاية: 1/ 47.

(6)

في المطبوع: يحنه والمثبت من المخطوط. وقد سبق شرح الكِن، ص: 247، التعليقة رقم:(1).

(7)

في المخطوط: أبو جعفر، والصواب ما أثبتناه.

(8)

الدِّخْرِيص: ما يُوصَل به بدن الثوب أو الدرع ليتَّسع. المعجم الوسيط، ص: 274، مادة (دخرص).

ص: 434

واسْتُحْسِنَ العِمَامَةُ

===

ولِفَافة». رواه ابن عَدِيّ في «الكامل» . إلاَّ أنَّ النَّسائي لَيَّنَ رواية ناصح بن عبد الله الكوفي، وقال: إنه ممن يُكْتَبُ حديثه. وقال النَّخَعِيّ: «كُفِّنَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في حُلَّة يمانية، وقميص» . رواه عبد الرَّزَّاق (في «مصنفه» عنه مُرْسلاً، وهو حجة. ونحوه عن الحسن البَصْرِيّ مُرْسَلاً. ورواه عبد الرَّزَّاق)

(1)

. وقال ابن عباس: «كُفِّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب: قميصه الذي مات فيه، وحُلَّة نجرانية» . رواه أبو داود. إلاّ أن في سنده: يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف.

(واسْتُحْسِنَ) عند المتأخرين (العِمَامَةُ) وهو بظاهره مخالف لقول عائشة: «كُفِّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سَحُولِيّة من كُرْسُف

(2)

ليس فيهن قميص، ولا عِمَامة». متفق عليه. وسحول بفتح السين وبضمها: قرية باليمن. وقد تظافرت الطرق في كون واحد منها قميصاً، والحال في الصِّفة أكشف على الرجال من النساء. كيف لا؟ وقد دُفِنَ ليلاً، فيترجح الإثبات على النفي. ولا يبعد أن يحمل النفي على القميص الذي غُسِلَ فيه، والإثبات على الذي مات فيه.

ثم البياض من القطن أفضل لِمَا قدمنا، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«الْبَسُوا من البياض، فإنه من خير ثيابكم، وكَفِّنُوا فيها موتاكم» . رواه أبو داود. ولا بأس بالبُرُود

(3)

والكَتَّان للرجال. وجاز الحرير والمُزَعْفَر

(4)

والمُعَصْفَر

(5)

للنساء، اعتباراً للكفن باللباس في الحياة.

والكفن من مال الميت مقدم على الدَّين والوصية والإرث. فإن لم يكن له مال، فكفنه على من تجب نفقته عليه، وإلا فعلى بيت المال. وقال محمد: لا يجب على الزوج كفن الزوجة ولو كانت فقيرة، لانقطاع الوُصْلَة. وقال أبو يوسف: يجب على الزوج تجهيزها، وإن تركت مالاً. قيل: وعليه الفتوى، والأظهر أنه يجب عليه إن كانت فقيرة.

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

الكُرْسف: القطن. المعجم الوسيط ص: 782.

(3)

البُرُود: جمع بُرْد وهو كساء مخطط يُلْتحف به. المعجم الوسيط، ص: 48، مادة (برد).

(4)

المُزَعَفر: المصبوغ بالزَّعْفَران وقد سبق شرحه ص: 312، التعليقة رقم:(2).

(5)

المُعَصْفَر: المصبوغ بالعُصْفر: وهو نبات صيفي من الفصيلة المركبة، أنبوبية الزهر، يُستعمل زهرها تابلًا، ويُستخرج منه صبغ أحمر. المعجم الوسيط ص: 605، مادة (عَصْفَر).

ص: 435

ويُزَادُ لَهَا خِمَارٌ وخِرْقَةٌ، تُرْبَطُ بها فَوْقَ ثَدْيَيْهَا. وكِفَايَتُهُ لَهُ إزارٌ ولِفَافَةٌ

===

(ويُزَادُ) على القميص والإزار واللِفَافة (لَهَا) أي للمرأة في كفن السُّنَّة (خِمَارٌ) فوق رأسها (وخِرْقَةٌ تُرْبَطُ بها فَوْقَ ثَدْيَيْهَا) وعرضها ما بين الثدي إلى السُّرَّة. وقيل: إلى الركبة. والأصل في كون كفنها خمسة قول ليلى بنت قَانِفٍ

(1)

قالت: «كنت فيمن غسل أم كُلْثُوم ـ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أول ما أعطانا الحِقا

(2)

، ثم الدِّرْع

(3)

، ثم الخِمَار، ثم الملحفة، ثم أُدْرِجَتْ بعدُ في الثوب الآخر. (قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند الباب معه كفنها، يناولناها ثوباً ثوباً)

(4)

» رواه أبو داود.

وروى مالك في «المُوَطَّأ» من حديث أم عَطِيَّة الأَنصارية قالت: «دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته عليه الصلاة والسلام فقال: اغْسِلْنَها ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر من ذلك ـ إن رأيتن ذلك ـ بماء وسِدْر، واجْعَلْنَ في الآخرة كافوراً، أو شيئاً من كافور، فإذا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي، فَلمَّا فَرَغْنَا، آذَنَّاه، فأعْطَانا حِقْوَه، فقال: أشْعِرْنَها إياه» . قال مالك: يعني بحقوه: إزاره، انتهى. ومعنى أشعرنها إياه: اجعلنه مما يلي شعر جسدها. وهذه البنت المتوفاة: هي زينب ـ زوجة أبي العاص بن الربيع ـ على الصحيح. وهي أكبر بناته صلى الله عليه وسلم وأم كلثوم كانت زوجة عثمان، وكانت وفاتها والنبيُّ صلى الله عليه وسلم غائب ببدر.

ثم طريق تكفينها أن يُجْعَلَ شعرها ضفيرتين على صدرها فوق القميص، ثم يُجْعَلَ الخِمَار تحت اللِّفَافة، ثم تجعل الخرقة فوقها.

(وكِفَايَتُهُ) أي كفاية الكفن (لَهُ) أي للرجل (إزارٌ ولِفَافَةٌ) لأنّ أدنى ما يَلْبَسُه الإنسان حال حياته، ويؤدي به الصلاة من غير كراهة: ثوبان. ولِمَا روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» ، عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِي، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت:«قال أبو بكر ـ لِثَوْبَيْهِ اللَّذَين كان يُمرَّض فيهما ـ: اغسلوهما وكَفِّنُوني فيهما. فقالت عائشة: ألا نشتري لك جديداً؟ فقال: لا، ألا إن الحيّ أحوج إلى الجديد من الميت» . وقال محمد بن

(1)

حُرِّفت في المخطوط والمطبوع إلى قايف. وما أثبتناه هو الصواب لموافقته لما في سنن أبي داود 3/ 509، كتاب الجنائز (20)، باب في كفن المرأَة (31، 32)، رقم (3157).

(2)

الحِقا: سيأتي شرحها بعد قليل عند المؤلف.

(3)

الدِّرْع: قميص المرأة. أو ثوب قصير تلبسه الجارية في البيت. المعجم الوسيط، ص: 280، مادة (درع).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط. والصواب إثباته. لموافقته لما في سنن أبي داود 3/ 509 - 510، كتاب الجنائز (20)، باب في كفن المرأة (31، 32)، رقم (3157).

ص: 436

ويُزَادُ لهَا الخِمَارُ. ويُعْقَدُ إنْ خِيفَ انْتِشَارُهُ.

وصَلَاتُه فَرْضُ كِفَايَةٍ،

===

الحسن في «الآثار» : بلغنا عن أبي بكر الصديق أنه قال: «اغسلوا ثوبيّ هذين، وكَفِّنُوني فيهما» . لكن في «صحيح البخاري» : أن أبا بكر قال: «اغسلوا لي ثَوْبِي هذا، وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيها» .

(ويُزَادُ لهَا) أي للمرأة في كفن الكفاية على الإزار واللِّفَافة (الخِمَارُ) لأن هذا المقدار أقل ما تَلْبَسه المرأة حال حياتها وتصح صلاتها فيه من غير كراهة. وأما ضرورة الكفن: فما يُوجَدُ، لِمَا روى الجماعة إلاَّ ابن ماجه عن خَبَّاب بن الأَرَتّ قال:«هاجرنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله تعالى، فوقع أجرنا على الله، فمنّا من مضى ولم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عُمَيْر قتل يوم أحد، وترك نَمِرَة»

(1)

. فكنا إذا غَطَّيْنَا بها رأسه، بدت رجلاه، وإذا غطّينا بها رجليه، بدا رأسه. فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه شيئاً من الإذْخِرِ»

(2)

. وفيه أيضاً دليل على أن ستر العورة وحدها لا يكفي في الكفن كما هو مذهبنا. وفي «الخُلَاصة» : إنْ كان في المال كَثْرةٌ وفي الورثة قِلَّة، فكفن السُّنَّة أولى، وإن كان على العكس، فكفن الكفاية أولى. قلت: لعل المأخذ: صنيع

(3)

أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والله وليّ التوفيق.

(ويُعْقَدُ) الكفن (إنْ خِيفَ انْتِشَارُهُ) صيانة للميت عن انكشافه ويُجَمَّرُ

(4)

الكفن، وتراً قبل أن يُدْرج فيه (لقوله عليه الصلاة والسلام:«إن الله وِتْر يحب الوتر» . رواه أبو داود. ولِمَا روينا من قوله)

(5)

صلى الله عليه وسلم «إذا أجمرتم الميت فأجْمِرُوه ثلاثاً»

(6)

. وفي البيهقي: «أَجْمِرُوا كفن الميت ثلاثاً» . ولقول أسماء عند موتها: «إذا أنا متّ، فاغسلوني، وكفّنوني، وأَجْمِرُوا ثيابي، وحنّطوني، ولا تَتْبَعُوني بنار» . رواه مالك في «المُوَطَّأ» . وأما قول صاحب «الهداية» : لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بإجْمَار أكفان بنته، فغير معروف.

(الصَّلاةُ على المَيِّتِ)

(وصَلَاتُه) أي صلاة الناس عليه (فَرْضُ كِفَايَةٍ) إجماعاً لظاهر قوله تعالى:

(1)

النَّمِرَة: كِسَاء فيه خطوط بيض وسود. المعجم الوسيط ص: 954، مادة (نمر).

(2)

الإِذْخِرُ: نبات ذكي الريح إِذا جَفَّ ابْيَضَّ. المصباح المنير ص: 207، مادة (ذخر).

(3)

حُرِّفت في المطبوع إلى: "منع"، والصواب ما أثبتناه من المخطوط.

(4)

يُجَمَّر: يُبَخَّر. المصباح المنير، ص: 108، مادة (جمَّر).

(5)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(6)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/ 331.

ص: 437

وهي أنْ يُكَبِّرَ اللهَ ويُثْنِيَ، ثُمَّ يُكَبِّرَ ويُصَلِّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يُكَبِّرَ ويَدْعُوَ،

===

{وصَلِّ عَلَيْهِمْ}

(1)

مع قوله صلى الله عليه وسلم «صلُّوا على صاحبكم»

(2)

لكونه عليه دين لا وفاء له. ولو كانت فرض عين لَمَا تركها عليه الصلاة والسلام، لكن بشرط إسلام الميت، فلا يجوز على كافر لقوله تعالى:{ولَا تُصَلِّ على أحدٍ مِنْهُمْ مات أبداً ولا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا باللَّهِ ورَسُولهِ}

(3)

وبشرط طهارته، فلا يجوز (الصلاة)

(4)

عليه بلا غسل، أو تيمم. إلا إذا دُفِنَ بدون أحدهما، ولم يمكن إخراجه إلاَّ بالنَّبْشِ، فإنه يصلى على قبره للضرورة، وبشرط أن يكون موضوعاً أمام المصلي، فلا يجوز على غائب، ولا على موضوع خلف المُصَلِّي لأنه كالإمام من وجه.

(وهي أنْ يُكَبِّرَ اللهَ) للتحريمة (ويُثْنِيَ) بأن يحمد الله مطلقاً ـ وهو ظاهر الرواية ـ وقيل: بأن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك

إلخ. ولا يقرأ الفاتحة (إلا بنية الثناء. وبه قال مالك. وأوجب الشافعي قراءة الفاتحة فيها)

(5)

لكونها صلاة من وجه. فيتناولها قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»

(6)

. ولنا: قول ابن مسعود: «لم يُوقت النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن في صلاة الجنازة» . وفي «المحيط» : ركنها: التكبيرات، والقيام. وشرطها على الخصوص: كونه مسلماً، وكونه مغسولاً. وسننها: التحميد، والثناء، والصلاة على المصطفى عليه الصلاة والسلام، والدعاء.

(ثُمَّ يُكَبِّرَ ويُصَلِّي على النبيّ

صلى الله عليه وسلم

لِمَا روى أبو داود والنَّسَائي، والترمذي وقال: حسن صحيح. من حديث فَضَالة بن عُبَيْد قال: «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو، ولم يحمد الله تعالى، ولم يُصَلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عَجِلَ هذا. ثم دعاه، فقال: إذا صلى أحدكم ـ أي دعا ـ فليبدأ بتمجيد ربه تعالى، والثناء عليه، ثم يُصَلِّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بعدُ بما شاء» .

(ثُمَّ يُكَبِّرَ ويَدْعُوَ) للميت. فقد رَوَى أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جِنَازة، فقال: اللهم اغفر لحيّنا، وميتنا، وصغيرنا، وكبيرنا، وذَكَرنا، وأنثانا، وشاهدنا، وغائبنا،

(1)

سورة التوبة، الآية:(103).

(2)

أخرجه البخاري تعليقًا (فتح الباري) 3/ 189، كتاب الجائز (23)، باب سنّة الصلاة

، (56).

(3)

سورة التوبة، الآية:(84).

(4)

ما بين الحاصرتين زيادة يقتضيها السياق.

(5)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(6)

تقدم تخريجه في واجبات الصلاة، ص 231.

ص: 438

ثُمَّ يُكَبِّرَ ويُسَلِّم

===

اللهم من أحييتَه منا، فأحْيِهِ على الإسلام، ومن تَوَفَّيْتَه منا، فَتَوَفَّه على الإيمان». وفي رواية بتقديم شاهدنا وغائبنا على صغيرنا. وفي رواية زيادة:«اللهم إن كان محسناً، فزد في إحسانه. وإن كان مسيئاً، فتجاوز عن سيئاته، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تَفْتِنَّا بعده» .

وروى مسلم، والترمذي، والنَّسائي، من حديث عَوْفِ بن مالك قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جِنَازة. فحفظتُ من دعائه عليه الصلاة والسلام: «اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكْرِم نُزُله، ووسِّع مَدْخَلَه، واغْسِلْه بالماء والثلج والبَرَد، ونقِّه من الخطايا كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وعُذْهُ من عذاب القبر، ومن عذاب النار، حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت» . وفي الصبي والمجنون يقول: اللهم اجعله لنا فَرَطاً، واجعله لنا ذُخْراً، واجعله لنا شافعاً ومُشَفَّعاً. وأصل الفَرَط: من يتقدَّم الواردة ـ أي السَّيَّارة

(1)

ـ. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا فَرَطُكم على الحوض»

(2)

.

(ثُمَّ يُكَبِّرَ ويُسَلِّمَ) تسليمتين ينوي فيهما ما ينوي في تسليمتي الصلاة، وينوي الميت بدل الإمام. وظاهر الرواية: أنه ليس بعد التكبيرة الرابعة سوى السلام. واختار بعضهم أن يقول {رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنةً}

(3)

الآية وبعضهم: أن يقول {رَبِّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا}

(4)

الآية وبعضهم: «اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تَفْتِنَّا بعده، واغفر لنا وله» . وهو مختار الشافعي.

وفي «المحيط» : قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: من اسْتَهَلَّ بعد الولادة، سُمِّيَ، وغُسِلَ، وصُلَّيَ عليه، ووَرِث ويُوَرَّثُ، فإن لم يستهل: لم يُسَمَّ، ولم يُغَسَّلْ، ولم يَرِثْ، ولم يُوَرَّث. لأن الاستهلال دَلَالة الحياة. وروى الترمذي، وابن ماجه:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الطفل لا يُصَلَّى عليه، ولا يَرِث ولا يُورَث حتى يستهل» .

وروى ابن عَدِيّ في «الكامل» عن عليّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في السِّقْطِ

(5)

: «لا يُصَلَّى عليه حتى يستهل، فإذا استهل صُلِّيَ عليه، وعَقَلَ

(6)

، ووَرِثَ.

(1)

السَّيَّارة: القافلة. المعجم الوسيط ص: 467، مادة (سار).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 11/ 463، كتاب الرقاق (81)، باب في الحوض

(53)، رقم (6576).

(3)

سورة البقرة، الآية:(201).

(4)

سورة آل عمران، الآية:(8).

(5)

السِّقْط: سبق شرحها ص: 311، التعليقة رقم:(1).

(6)

عَقَلَ: أي دفع الدِّية بكونه واحدًا من العاقلة، وهم العصبة والأقارب من قِبَل الأب الذين يُعْطُون دِيَةِ قَتيل الخطأ. النهاية: 3/ 278، بتصرف.

ص: 439

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وإن لم يستهل لم يُصَلَّ عليه ولم يورث ولم يَعْقِل». ونحوه عن جابر من طرق، مرفوعاً عند الترمذي والنَّسائي، وابن ماجه، والحاكم وصحح بعضها.

وموقوفاً عند ابن أبي شَيْبَة، عن شَعْث بن سَوَّار، عن أبي الزُّبَيْر، عن جابر قال:«إذا استهل الصبيّ صُلِّي عليه، ووَرِثَ، وإذا لم يستهل لم يُصَلَّ عليه، ولا يُوَرَث» . والاستهلال: ما يوجد منه مما يدل على الحياة من رفع صوت أو حركة عضو. والمعتبر خروج أكثره حيّاً، وما دونه لا يعتبر.

وذهب أحمد إلى أن الطفل يُصَلَّى عليه إذا استكمل أربعة أشهر، وهو أحد قولي الشافعي، لقوله عليه الصلاة والسلام:«السِّقْطُ يُصلَّى عليه، ويُدْعَى لوالديه بالمغفرة والرحمة» . رواه أصحاب «السنن» . قلنا: هو محمول على ذي الروح بصريح النهي عنه.

ولو مات كافر وله قريب مسلم، غسله كالثوب النجس، ولَفَّه في خِرْقَة، وألقاه في حفرة من غير مراعاة السنة في شيء من ذلك، لقول عليّ كرَّم الله وجهه لَمَّا مات أبو طالب:«انطلقتُ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت له: إنَّ عمك الشيخ الضالَّ قد مات. قال: اذهب فوارِ أباك ثم لا تُحْدِثَنَّ شيئاً حتى تأتيَني، فذهبت فواريْتُه وجئته. فأمرني، فاغتسلت ودعا لي» . رواه أبو داود، والنَّسائي، وكذا أحمد، وابن أبي شَيْبَة، والبَزَّار في مسانيدهم.

وروى الوَاقِدَيّ عن علي قال: «أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب، فبكى، ثم قال: اذهب فاغسله، وكَفِّنه، ووَارِه. فقال: ففعلت ثم أتيته. فقال: اذهب فاغتسل. قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له أياماً، ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه جبرائيل عليه والسلام بهذه الآية:{مَا كَانَ لِلْنَّبِي والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا للمُشْرِكِينَ ولَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}

(1)

. الآية».

(هبة ثواب الأعمال للميت)

وفي «الهداية» : مذهب أهل السنة والجماعة أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره: صلاة. أو صوماً، أو صدقة، أو غيرها. يعني قراءة قرآن، وأذكار، وأدعية. وأصل ذلك ما روى الجماعة:«أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بكَبْشَيْنِ: أحدهما عن نفسه، والآخر عن أُمَّته» . وروى الدَّارَقُطْنِيّ: «أن رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: كان لي أبوان أَبُرُّهما حال

(1)

سورة التوبة، الآية:(113).

ص: 440

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

حياتهما، فكيف أبَرُّهما بعد موتهما؟ فقال عليه الصلاة والسلام:«إن من البِرّ بعد البِرِّ أن تصلي لهما مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك» . وروى أيضاً عن عليّ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من مَرَّ على المقابر وقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عشر مرات، ثم وهب أجرها للأموات، أُعْطِيَ من الأجر بعدد الأموات» . وفي «الأذْكَار» للنَّوَوِي: أجمع العلماء على أنّ الدعاء للأموات ينفعهم ويصلهم ثوابه.

واختلفوا في وصول ثواب قراءة القرآن: والمشهور من مذهب الشافعي وجماعة: أنه لا يصل. وذهب ابن حنبل، وجماعة من العلماء، وجماعة من أصحاب الشافعي: إلى أنه يصل. فالمختار: أن يقول القاراءُ بعد فراغه: اللهم أوصل مثل ثواب ما قرأته إلى فلان. وفي «الخلاصة» : رجل أَجْلَسَ على قبر أخيه رجلاً يقرأ القرآن: يُكْرَه عند أبي حنيفة، ولا يُكْرَه عند محمد، ومشايخنا أخذوا بقول محمد.

(الخلاف في عدد تكبيرات الجنازة)

ثم اعلم أنه إنما كان التكبير في الجنازة أربعاً لِمَا روى محمد في «الآثار» عن أبي حنيفة، عن حَمَّاد، عن إبراهيم: «أن الناس كانوا يصلون على الجنائز خمساً، (وسِتَّاً،)

(1)

وأربعاً حتى قُبِضَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم كَبَّرُوا كذلك في ولاية أبي بكر، ثم وَلِيَ عمر ففعلوا ذلك. فقال لهم عمر: إنكم أصحاب محمد، متى تختلفون يختلف الناس بعدكم والناس حديثو عهد بجهل، فأَجْمِعوا على شيء يُجْمِع عليه من بعدكم. فَأَجْمَعَ رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينظروا إلى آخر جِنَازةٍ كَبَّر عليها فيأخذوا به، ويرفضوا ما سواه، فوجدوا آخر جِنَازة كَبَّر عليها أربعاً».

والانقطاع الذي بين إبراهيم وعمر لا يُعْتَبَرُ عندنا. وقد رواه أحمد من طريق آخر موصولاً قال: حدَّثنا وَكِيع: حدَّثنا سُفْيَان، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال: «جمع عمر الناس فاستشارهم في التكبير على الجِنَازة، فقال بعضهم: كَبَّر النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعاً (وقال بعضهم: خمساً)

(2)

، وقال بعضهم: أربعاً. فجمع عمر على أربع كأطول الصلاة.

وروى أبو نُعَيْم الأَصْبَهَانِيّ، عن ابن عباس: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُكَبِّرُ على أهل بدر سبع تكبيرات، وعلى بَنِي هاشم خمس تكبيرات. ثم كان آخر صلاته أربعَ

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 441

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

تكبيرات إلى أنْ خرج من الدنيا». وروى البَيْهَقِيّ والطَّبَرَانِيّ، عن ابن عباس أنه قال:«آخر جِنَازَة صلَّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كَبَّر عليها أربعاً» . قال البيهقي: رُوِيَ هذا الحديث من وجوه، كلها ضعيفة. إلاَّ أن اجتماع أكثر الصحابة على الأربع، كالدليل على صحة ذلك.

فلو كَبَّرَ الإمام خمساً، ترك المأموم متابعته في الخامسة. خلافاً لزُفَر ـ وهو رواية عن أبي يوسف ـ لِمَا روى مسلم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان زَيْد بن أرْقَم يكبر على جنائزنا أربعاً، وإنه كَبَّرَ على جنازة خمساً، فسألناه، فقال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يكبرها». وقد رُوِيَ أن عليَّاً كَبَّرَ خمساً.

قلنا: ثبت النسخ بما قررناه آنفاً. والمَرْوي عن زيد يحتمل أن يكون بناء على قول عليّ من تكبيره على أهل بدر ستاً، وعلى الصحابة خمساً، وعلى سائر المسلمين أربعاً. وروى الطَّحاوي، وابن أبي شَيْبَة، ورواه (هوو)

(1)

عبد الرَّزَّاق في «مصنَّفَيهما» ، والبخاري في «تاريخه»:«أن عليّاً صلى على ابن حُنَيف، فكبَّر عليه ستاً، ثم التفت إلينا فقال: إنه بَدْرِيّ» . وقد انقرضت الصحابة، فيكون التكبير بعدهم أربعاً لا غير، فمن زاد يكون مخالفاً للإجماع المُقَرَّر، فلا يكون فصلاً مجتَهَداً فيه، بخلاف تكبيرات العيد. كذا ذكره بعض المحققين.

وفيه نظر: لأن النَّسْخَ بالإجماع مختلف فيه ـ كما عُلِمَ في موضعه ـ فلا يخرج عن كونه فصلاً مجتهداً فيه، مع احتمال أنَّ إجماعهم كان على أن التكبير الأربع يجزاء، لا على أن الزيادة لا تجوز، بدليل ما رُوِيَ عن عليّ، وزيد رضي الله عنهما. ولا يلزم من وقوع الأربع أخيراً، أن يكون ناسخاً، لجواز أن يكون لبيان أدنى ما يجزاء، إذ لو كان ناسخاً، لَمَا ساغ لهم بعده الزيادة.

ثم إذا كَبَّر الإمام خمساً، ينتظر المأموم تسليم الإمام، ولا يسلم قبله في المختار من الرواية عن أبي حنيفة ليصير متابعاً له فيما وجبت المتابعة فيه، إذ البقاء في حرمة الصلاة ليس بخطأ، إنما الخطأ المتابعة في التكبيرة الخامسة. وعنه

(2)

: أنه يُسَلِّمُ حين اشتغل إمامه بالخطأ لشرعية التحلل عَقِيبَها بلا فصل، وهذا بناء على تحقيق النسخ.

ولو جاء رجل فوجد الإمام في صلاة الجِنَازة، لا يُكَبِّر عند أبي حنيفة ومحمد

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

أي: عن الإمام أبي حنيفة.

ص: 442

ولا يَرْفَعُ اليَدَ إلَّا في التَّكْبيرِ الأَوَّلِ. ويَقُومُ الإِمَامُ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ.

===

حتى يكبر الإمام، فكبر معه. وقال أبو يوسف: يكبر، ولا ينتظر الإمام، كما لو كان حاضراً في تلك التكبيرة، فإنه لا ينتظر التكبيرة الثانية اتفاقاً لأنه كالمُدْرِك لسائر الصلاة. ولهما

(1)

: أن كل تكبيرة قائمة مقامَ ركعة، لقول الصحابة: أربع كأربع الظهر. ولذا لو ترك تكبيرة منها، فسدت صلاته. كما لو ترك ركعة من الظهر، فلو لم ينتظر تكبيره، لكان قاضياً ما فاته قبل أداء ما أدرك معه، وذا منسوخ لِمَا سبق من حديث مُعَاذ.

وثمرة الخلاف تظهر فيمن جاء بعد التكبيرة الرابعة وقبل السلام، فعندهما: لا يدخل مع الإمام، وقد فاتته الصلاة.

وعنده: يدخل. والمسبوق في صلاة الجِنَازة يقضي ما فاته متوالياً بغير دعاء، وإذا رُفِعَتْ الجِنَازة على الأعناق قطع. وقيل: لا يقطع إن كان الجِنَازة إلى الأرض أقرب

(2)

.

(ولا يَرْفَعُ اليَدَ إلاَّ في التَّكْبيرِ الأَوَّلِ) وهو قول الثَّوْرِي. وعن مالك ثلاث روايات: الرفع في الجميع، والترك في الجميع، والرفع في الأول فقط. قال الشافعي، وأحمد: يرفع في الجميع. ولنا: ما روى الترمذي عن أبي هُرَيْرَة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى على الجِنَازة رفع يَديْه في أول تكبيرة، ثم وضع يَدَه اليُمْنَى على اليُسْرَى» . واختار كثير من مشايخ بَلْخ: الرفع في كل تكبيرة، لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ في «علله» ، عن ابن عمر:«أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى على الجِنَازَة، رفع يديه في كل تكبيرة، وإذا انصرف سَلَّمَ» . لكن قال الدَّارَقُطْنِيّ: والصواب أنه موقوف على ابن عمر.

قلت: ويقوي ظاهر المذهب ما تقدم من حديث: «لا تُرْفَع الأيدي إلاَّ في سبع مواطن

»

(3)

، الحديث. وقول ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه على الجِنَازة في أول تكبيرة، ثم لا يعود. رواه الدَّارَقُطْنِيّ، وسكت عنه.

(ويَقُومُ الإِمَامُ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ) من الرجل والمرأة في ظاهر الرواية، لقول أبي غالب:«صلّيت خلف أنس على جِنَازة، فقام حِيَال صدره» . رواه أحمد. وأما ما في «الصحيحين» : «أنه عليه الصلاة والسلام صلّى على امرأة ماتت في نِفَاسها، فقام وسَطَها» . فهو لا يُنَافي كونه الصدر، بل الصدر وسط باعتبار الأعضاء، إذ فوقه يداه ورأسه، وتحته بطنه وفَخِذَاه. ويحتمل أنه وقف كما قلنا، إلا أنه مال إلى العَوْرة في

(1)

أي: للطرفين: أبي حنيفة محمد.

(2)

عبارة المخطوط: قيل: يقطع إن لم تكن الجنازة

(3)

تقدم تخريجه 238.

ص: 443

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

حقها، فظن الراوي ذلك لتقارب المحلين.

ورُوي عن أبي حنيفة: أنه يُحَاذِي رأسه، ويُحَاذي وسطها. وبه قال الشافعي، لمَا روى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث نافع ـ أبي غالب ـ قال: «كنت في سِكَّة المِرْبَد

(1)

، فمرت جِنَازة معها ناس كثير ـ قالوا: جِنَازة عبد الله بن عُمَيْر ـ فتبعتها. فإذا أنا برجل عليه كِسَاء رقيق، وعلى رأسه خرقة تقيه من الشمس. فقلت: من هذا الدُّهْقَان؟ ـ أي الرئيس ـ. فقالوا: أنس بن مالك. فلما وُضِعَتْ الجِنَازة، فصلى عليها، وأنا خلفه لا يحول بيني وبينه شيء، فقام عند رأسه، وكبر أربع تكبيرات لم يُطِل، ولم يُسرع، ثم ذهب يقعد فقالوا: يا أبا حمزة: المرأة الأنصارية، فَقَرَّبُوها وعليها نَعْشٌ أخضر، فقام عند عَجِيزَتِها، فصلى عليها نحو صلاته على الرجل، ثم جلس.

فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي على الجنازة، يكبر أربعاً، ويقوم عند رأس الرجل، وعَجِيزَة المرأة؟ قال: نعم. قال أبو غالب: فسألت عن صنيع أنس في قيامه على المرأة عند عَجِيزتها. فحدثوني: أنه إنما كان لأنه لم يكن النُّعُوش، فكان الإمام يقوم حِيَال عجيزتها يسترها من القوم».

ويؤيده لفظ الترمذي، وابن ماجه عن أبي غالب قال:«رأيت أنس بن مالك صلَّى على جِنَازة فقام حِيَال رأسه، فجيء بجنازة أخرى. فقالوا: يا أبا حمزة: صَلِّ عليها، فقام حِيَال وسط السرير» .

وفي «المحيط» : لو اجتمع جنائز جاز أن يُصَلَّى عليها صلاة واحدة، بأن يُجْعَل الرجل بين يَدَي الإمام، والصبي وراءه، ثم الخُنْثَى، ثم المرأة، ثم الصبية. لأنهم يقفون حال الحياة في الجماعة هكذا. ولِمَا رَوَى ابن أبي شَيْبَة عن عليّ رضي الله عنه أنه قال:«إذا اجتمعت جنائز الرجال والنساء، جُعِل الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القِبْلة. وإذا اجتمع الحُرُّ والعبد، جُعِلَ الحر مما يلي الإمام، والعبد مما يلي القِبْلة» . وعن أبي هريرة: «أنه صلى على جنائز رجال ونساء، فقدَّم النساء مما يلي القبلة، والرجال مما يلي الإمام» . وعن عثمان وابن عمر، وزيد بن ثابت، ووَاثِلَةِ بن الأَسْقَع رضي الله عنهم نحوه.

وروى أبو داود، والنَّسائي، عن عمَّار بن أبي عمَّار قال: «شَهِدت جِنَازة أم كلثوم وابنها. فَجُعِلَ الغلام مما يلي الإمام، فأنكرت ذلك. ـ وفي القوم ابن عباس، وأبو سعيد،

(1)

المِرْبَد: موقف الإبل. المصباح المنير ص: 215، مادة (ربد).

ص: 444

والأَحَقُّ بالإِمَامَةِ السُّلْطَانُ، ثُمَّ القَاضِي، ثُمَّ إمَامُ الحَيِّ،

===

وأبو قَتَادة، وأبو هريرة ـ فقالوا: هذه السُّنَّة». وقال النَّوَوي: وسنده صحيح. وفي رواية البَيْهَقِي: «وكان في القوم الحسن، والحُسَيْن، وأبو هريرة، وابن عمر، ونحو من ثمانين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: «أن الإمام كان ابن عمر، لأنه كان أخاه من أبيه» .

قيل: وإن كان حر ومملوك، فكيفما وُضِعَا جاز كما في الوقوف بجماعة، إلاَّ أن الأفضل أن يُجْعَلَ الحرُّ مما يلي الإمام، لِمَا تقدم من حديث عليّ قال:«وإن شاء جعلهما صفّاً واحداً طولاً كما في حال الحياة» . وفيه: أنه يفوته فضيلة سنة الوقوف. وإذا وُضِع واحد خلف آخر، فإن جُعِلَ رأس الآخر أسفل من رأس الأول فحسن. أي قياساً على النبيّ صلى الله عليه وسلم وضَجِيعَيْه

(1)

. وإن وُضِعَ رأس كل واحد عند رأس الآخر فحسن، أي نظراً إلى عدم الفرق بين أهل الفضل وغيرهم. وعليه العمل الآن في الحرمين الشريفين. لكن في «مواهب الرَّحْمَان»: أنه لو صُلِّيَ على جنائز مختلفة جملة، قُدِّمَ الأفضل، فالأفضل إلى الإمام، والحر على العبد في المشهور. ولو جُمِعوا في قبر واحد، يوضعون على عكس ذلك، فَيُقدَّمُ الأفضل فالأفضل إلى القبلة في الرجلين، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم في قَتْلى أُحُد.

(والأَحَقُّ بالإِمَامَةِ) على الميت (السُّلْطَانُ) أي الخليفة إن حضر. وبه قال مالك، لِمَا رُوِيَ:«أن الحسين بن عليّ قدَّم سعيد بن العاص لَمَّا مات الحسن رضي الله عنه وقال: لولا السنة ما قدمتك» . وكان سعيد والياً بالمدينة. (ثُمَّ القَاضِي) إن لم يحضر السلطان، لأن له ولاية عامة. (ثُمَّ إمَامُ الحَيِّ) لأنه اختاره إماماً في حياته. وفي «الأصل»: إمام الحَيِّ أوْلَى. ومعناه إن لم يحضر السلطان، ولا من يقوم مقامه. وقال أبو يوسف: الوَلِيُّ أَوْلى كالنكاح ـ وهو رواية عن أبي حنيفة ـ وبه قال الشافعي. ولنا: أنَّ تعظيم هؤلاء واجب، وفي التقديم عليهم استخفاف بهم. وفي البخاري: قال الحسن: أدركت الناس، وأحقهم بالصلاة على جنائزهم من رضوه لفرائضهم.

ولو أوْصَى أن يُصَلِّي عليه فلان ـ وهو غير السلطان، والقاضي، وإمام الحيّ، والوَلِيّ ـ فالوصية جائزة، ويؤمر فلان بالصلاة لأنها لقضاء حق الميت، فمن رَضِيَ إمامته كان أحق بها. وقد أوصى عمر أن يُصَلِّي عليه صُهَيْب، وأوْصَت أُمُّ سَلَمَة أن يُصَلِّي عليها سعيد بن زيد، ـ أحد العشرة المُبَشَّرَة ـ، وأوصى أبو بكر أن يُصَلِّي عليه أبو بُرْدَة. وأوصت عائشة رضي الله عنها أن يُصَلِّي عليها أبو هريرة، وأوصى ابن مسعود أن يُصَلِّي عليه الزُّبَيْر. فلا يُلْتَفَتُ إلى ما في «المُنْتَقى» من أن الوصية باطلة. وقال

(1)

أي: أبي بكر وعمر.

ص: 445

ثُمَّ الوَلِيُّ، كَمَا في العَصَبَات ويَصِحُّ، فإنْ صَلَّى غَيْرُهُمْ يُعِيدُ الوَلِيُّ إنْ شَاءَ، ولا يُصَلِّي غَيْرُهُ بَعْدَهُ.

===

الصدر الشهيد: وعليه الفتوى.

(ثُمَّ الوَلِيُّ كَمَا في العَصَبَات) فيُقَدَّم بنو الأعيان ـ وهم الأخوة لأبوين ـ على بني العَلاَّت ـ وهم الأخوة لأب

(1)

ـ، ويُقَدَّم الابن على الأب. وذكر محمد في كتاب الصلاة: أن الأب مُقَدَّم. فقيل: هو قول محمد فقط. وقيل: قول الكل. وفي «المحِيط» : هو الأصِحّ، لأن للأب فضيلة، ولها أثر في استحقاق الإمامة، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام في القَسَامة:«ليتكلم أكبركما»

(2)

.

(ويَصِحُّ) الإذن بالصلاة عليها ممن له التقدم، لأن التقدم حقه، فيملك إبطاله بتقديم الغير. (فإنْ صَلَّى غَيْرُهُمْ) أي غير هؤلاء الذين ذُكِرُوا من السلطان، والقاضي، وإمام الحيّ، والوَلِيّ (يُعِيدُ الوَلِيُّ إنْ شَاءَ) لأن الولاية في الحقيقة له. وإذا كان للولي أن يُعِيدَ إذا صلّى غيرهم، كان لمن يتقدم على الوَلِي أن يعيد أيضاً. وهذا إذا لم يَرْضَ به، فلو تابعه وصلَّى معه فلا يعيد. وفي «القُنْيَة»: ليس لمن صلى عليها أنْ يُصَلِّي مع الوَليّ مرة أخرى.

(ولا يُصَلِّي غَيْرُهُ) أي غير الوَلِي (بَعْدَهُ) أي بعد صلاة الوَلِيّ ولو صَلَّى وحده، وبه قال مالك. وفي «شرح الكَنْز»: وكذا بعد صلاة إمام الحيّ، وبعد كل من يتقدم على الولي، لأن الفرض تأدَّى بالأولى، والتَّنَفُّلُ بها غير مشروع. وأجازه الشافعيّ لِقول أبي هريرة: «إنَّ رجلاً أسود كان يَقُمُّ

(3)

المسجد. فسأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنه فقالوا: مات. فقال: أفلا آذَنْتُمُونِي؟ دُلُّوني على قبره. فأتى على قبره، فصلّى عليه». ولقول ابن عباس:«أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى على قبر منبوذ، فصفهم عليه، فكبَّر أربعاً»

(4)

. رواهما الشيخان.

ولقول يزيد بن ثابت ـ أخي زيد، وكان أكبر منه ـ: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا وردنا البقيع إذا هو بقبر. فسأل عنه، فقالوا: فلانة، فعرفها. فقال: أَلَا آذَنْتُمُونِي (بها)

(5)

؟، قالوا: كنت قائلاً صائماً. قال: فلا تفعلوا، لا أَعْرِفَنَّ ما مات منكم ميت ما

(1)

في المخطوط: الإِخوة لأم، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب.

(2)

لم نجده.

(3)

في المطبوع: يقيم، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في الصحيحين. ومعنى يَقُمُّ: يَكْنُس. المصباح المنير ص: 516، مادة (قَمَّ).

(4)

في المطبوع زيادة في الحديث، وما أثبتناه لفظ المخطوط وهو الأوفق لما في الصحيحين.

(5)

ما بين الحاصرتين من "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 7/ 356 - 357، كتاب الجنائز، حديث رقم (3087).

ص: 446

ومَنْ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ فَدُفِنَ، صُلِّيَ مَا لَمْ يُظَنَّ تَفَسُّخُه. ولَمْ تَجُزْ رَاكِبًا. وكُرِهَتْ في مَسْجِدٍ،

===

كنتُ بين أظهركم إلاَّ آذَنْتُمُوني به، فإن صلاتي عليه رحمة. ثم أتى القبر، فصففنا خلفه، وكبَّر عليها أربعاً». رواه ابن حِبَّانٍ وصححه، والحاكم وسكت عنه. ولصلاة الصحابة على النبيّ صلى الله عليه وسلم فوجاً بعد فوج.

قلنا: كان له حق التقدم في الصلاة لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}

(1)

وللولي حق الإعادة. أو كانت من خَوَاصِّه صلى الله عليه وسلم ولقول سعيد بن المُسَيَّب: «إن أم سعد ـ يعني ابن عُبَادة ـ ماتت والنبيّ صلى الله عليه وسلم غائب، فَلَمَّا قَدِمَ صلى عليها وقد مضى لذلك شهر» . قال البَيْهَقِي: هو مرسل صحيح. وقد رُوِي موصولاً عن ابن عباس، والمشهور هو المرسل. «ولصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم على قَتْلَى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات» . رواه أبو داود. وكذلك صلاة الصحابة عليه أفواجاً كانت من الخواص، وإلاَّ لكان يُصَلَّى على قبره إلى قيام الساعة. لأنه صلى الله عليه وسلم كما وُضِع، لِمَا صَحَّ «أن لحوم الأنبياء مُحَرَّمةٌ على

(2)

الأرض». ولم يشتغل بها أحد من العلماء والصُّلَحاء الراغبين في التقرب إليه صلى الله عليه وسلم فكان دليلاً ظاهراً على عدم مشروعية التَّنَفُّلِ بها.

(ومَنْ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ فَدُفِنَ) بعد غسله أو تيممه (صُلِّيَ) على قبره إقامة للواجب بقدر الإمكان (مَا لَمْ يُظَنَّ تَفَسُّخُه) على الصحيح لأنه يختلف باختلاف الزمان: حَرّاً أو بَرْداً. والمكان: رَخَاوةً وصلابةً. وحال الميت: سُمْناً وهُزَالاً. فيعتبر فيه أكبر الرأي. ويُرْوى عن أئمتنا: أنه يُصَلَّى عليه إلى ثلاثة أيام.

(ولَمْ تَجُزْ) الصلاة على الجِنَازة حال كون المُصَلِّي (رَاكِباً) من غير عذر. وكذا إذا كان الميت على الدابة، أو على أيدي الرجال، لأن الميت بمنزلة الإمام، ولذا يُقَدَّمُ، وكذا لا يجوز إذا كان المُصَلِّي قاعداً مع القدرة على القيام

(وكُرِهَتْ) الصلاة على الجِنَازة عندنا وعند مالك (في مَسْجِدٍ) غير مُعَدَ لصلاة الجِنَازة كراهة تحريم في رواية، وتنزيهاً في أخرى، واختارها بعض المحققين. وقال الشافعي: لا يُكْره لِمَا في مسلم، عن أبي سَلَمة، عن عائشة أنها قالت لَمَّا تُوُفِّي سعد

(1)

سورة الأحزاب، الآية:(6).

(2)

سنن أبي داود 1/ 635، كتاب الصلاة (2)، باب فضل يوم الجمعة

(200 - 201)، رقم (1047): بلفظ "إن الله عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء".

ص: 447

ولَوْ وُضِعَ المَيِّتُ خَارِجَهُ اخْتَلَفَ المَشَايِخُ.

===

بن أبي وَقَّاص: «أدخُلُوا به المسجد حتى أُصَلِّيَ عليه، فأُنْكِرَ ذلك عليها. فقالت: والله لقد صلَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم على ابنَيْ بيضاء في المسجد: سُهَيْلٍ وأخيه» .

ولنا: ما أخرجه الطحاوي في «معاني الآثار» ، عن أبي هريرة: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من صلّى على جِنَازة في مسجد فلا شيء له» . ورواه أبو داود، وابن ماجه، عن أبي ذُؤَيْب، عن صالح ـ مولى التَّوْأَمة ـ عن أبي هريرة. ولفظ ابن ماجه:«فليس له شيء» . وفي رواية: «فلا شيء عليه» . وفي رواية: «فلا أجر له» . ورواه ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» بلفظ: «فلا صلاة له» . قال ابن عبد البَرّ: رواية: «فلا أجر له» خطأ فاحش. والصحيح: «فلا شيء له» . وصالح مولى التَّوْأَمة مختلف في ضعفه.

قال الطحاوي: وهذا أوْلى من حديث عائشة، لأن حديثها إخبار عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال الإباحة التي لم يتقدمها نهي، وحديث أبي هريرة إخبار عن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تقدمته الإباحة، فصار حديث أبي هريرة أوْلى من حديث عائشة، لأنه ناسخ له.

وفي إنكار من أنكر ذلك على عائشة ـ وهم يومئذ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أنهم قد عَلِمُوا في ذلك خلاف ما قد عَلِمَتْ، ولولا ذلك لَمَا أنكروا عليها. انتهى. ولأن صلاته عليه الصلاة والسلام على ابني بيضاء في المسجد: سُهَيْل وأخيه، واقعةُ حالٍ، لا عموم لها، فتجوز أن تكون لضرورة كونه مُعْتَكِفاً ونحوه، أو لبيان الجواز.

وأمَّا ما ثبت أنه صُلِّيَ على أبي بكر وعمر في المسجد، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شَهِدُوا الصلاة عليهما، وفي تركهم الإنكار دليل على الجواز، كما ذكره الخَطَّابِي، فجوابه: أن صلاتهم عليهما في المسجد كانت لعارض دفنهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والله سبحانه أعلم.

(ولَوْ وُضِعَ المَيِّتُ خَارِجَهُ) أي خارج المسجد، وقام الإمام خارجه ومعه صف، والباقي في المسجد (اخْتَلَفَ المَشَايِخُ) فقيل: لا يُكْرَه، لأنه ليس فيه احتمال تلويث المسجد. وقيل يُكْرَه، لأن المسجد أُعِدَّ لأداء المكتوبات، فلا يُقَام فيه غيرها إلاَّ لعذر. والأول أظهر، لأنه لا يُكْرَه النوافل وغيرها من أنواع الطاعات وأصناف الدعاء. وأمَّا المسجد الحرام فَمُسْتَثْنَى، كما صَرَّح به ابن الضياء إذ هو موضوع لأداء المكتوبات، والجمعة، والعيدين وصلاة الكسوف والخسوف، وصلاة الجِنَازة والاستسقاء، ولعله

ص: 448

وسُنَّ في حَمْلِ الجِنَازَةِ أرْبَعَةٌ،

===

بهذا المعنى جُمِع في قوله تعالى: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ}

(1)

أو لكِبَرهِ وسعة قدره، أو لتعظيم أمره، أو لاشتماله على جهات، كل جهة بمنزلة مسجد، أو لأنه قِبْلة المساجد كلها.

ولا يُصَلَّى عندنا ـ وفي ظاهر مذهب مالك ـ على غائب، وعُضْوٍ عُلِمَ موت صاحبه، إلاَّ أن يوجد أكثر بدنه أو نصفه مع رأسه. لا مطلقاً كما قال الشافعي، معللاً بأنها دعاء، فتجوز بلا قيد حضوره، ولا وجود أكثر بدنه. كيف وقد روى الشيخان، عن أبي هريرة:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المُصلَّى، فصف بهم، وكبّر عليه أربع تكبيرات» .

قلنا: كان ذلك من خصائصه، بدليل عدم صلاته على الغائبين من أصحابه مع شدة حرصه على الصلاة عليهم لِمَا روينا. وهذا الخلاف مبني في الحقيقة على منع تعدد الصلاة عليها وعدمه.

(وسُنَّ في حَمْلِ الجِنَازَةِ أرْبَعَةٌ) من الرجال، لِمَا رَوَى محمد في «الآثار» ، عن أبي حنيفة، عن منصور بن المُعْتَمِر، عن عُبَيْد بن نِسْطَاسٍ

(2)

، عن أبي عُبَيْدَة، عن أبيه، عبد الله بن مسعود أنه قال:«من السُّنَّةِ حمل السرير بجوانبه الأربع» . ورواه أبو داود الطَّيَالسِي، وابن أبي شَيْبَة، وعبد الرَّزَّاق، عن شُعْبَة، عن مَنْصُور ولفظهما:«فليأخذ بجوانب السرير الأربع» . ورواه ابن ماجه بلفظ: «من اتَّبَعَ جِنَازة، فليأخذ بجوانب السرير الأربع كلها، فإنه من السُّنَّة. فإن شاء فليتطوع، وإن شاء فليَدَعْ» . ولقول علي الأزْدِيّ: «رأيت ابن عمر في جِنَازة فحمل بجوانب السرير الأربع» . ولقول أبي هريرة: «(من حمل الجِنَازة بجوانبها الأربع، فقد قضى الذي عليه» . رواهما عبد الرَّزَّاق. وورد:)

(3)

من «حمل الجِنَازة بجوانب السرير الأربع، غُفِرَ له أربعون كبيرة» . رواه ابن عساكر، عن واثلة.

ولا يُسَنُّ ثلاثة كما قاله الشافعي بأن يضع الخشبتين المقدَّمَتَين على عاتقيه ورأسه بينهما، ويحمل المؤخَّرَتَين رجلان. وهذا أفضل من التَّرْبيع في الأصح من

(1)

سورة التوبة، الآية:(18).

(2)

في المخطوط بطاس، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في سنن ابن ماجه 1/ 474، كتاب الجنائز (6)، باب ما جاء في شهود الجنائز (15)، رقم (1478).

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 449

وأنْ تَضَعَ مُقَدَّمَهَا الأَيْمَن، ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَمِينِكَ، ثُمَّ كَذَا عَلَى يَسَارِكَ. ويُشرِعُونَ بِهَا بلا خَبَبٍ

===

مذهبه، «لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم حمل جِنَازة سعد بن مُعَاذ من بيته بين العمودين حتى خرج به من الدار»

(1)

. قال النَوَوِي: ورواه الشافعي بسند ضعيف. ورواه الواقدي وقال: والدار يكون ثلاثين ذراعاً. «ولأن عمر حَمَل بين عموديْ سريرٍ أُسَيْدَ بن حُضَيْر حتى وضعه بالبقيع، وصَلَّى عليه» . و «حسن بن حسن بن علي فعل كذلك في سرير جابر بن عبد الله» . رواهما الطَّبَرَانِي في مطولين.

وروى البَيْهَقِي في «المعرفة» من طريق الشافعيّ، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده قال: «رأيت سعد بن أبي وَقَّاص في جِنَازة عبد الرحمن بن عوف، واضعاً السرير على كاهله

(2)

، قائماً بين العمودين المقدمين». ونحوه عن عثمان بن عفان، وابن عمر في سرير رافع بن خَدِيج، و «حَمَل أبو هريرة بين عَمُودَي سرير سعد بن أبي وقَّاص». و «حمل ابن الزبير بين عموديْ سرير المِسْوَر بن مَخْرَمة». قلنا: هذه موقوفات، والمرفوع منها ضعيف. ثم هي وقائع أحوال، فاحتمل أن يكون للسنة، أو لعارض اقتضى ذلك في خصوص تلك الأوقات.

(وأنْ تَضَعَ مُقَدَّمَهَا الأَيْمَن ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا) الأيْمَن (عَلَى يَمِينِكَ) أتى بلفظ الخطاب تبعاً لأبي حنيفة فإنه خاطب أبا يوسف هكذا. (ثُمَّ كَذَا) تضع مقدمها الأيسر ثم مؤخرها الأيسر (عَلَى يَسَارِكَ) لِمَا روى ابن ماجه من حديث أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه أنه قال:«إذا تَبِعَ أحدكم الجنازة، فليأخذ بجوانب السرير الأربع، ثم لَيَتَطَوَّعْ بَعْدُ ـ أي بالزيادة ـ أو لِيَذَرْ» . ـ أي ليترك ـ

(ويُسْرِعُونَ بِهَا) لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «أسرعوا بالجِنَازة، فإن تَكُ صالحة، فخيرٌ تُقَدِّمونها إليه، وإن تك غير ذلك، فشرٌّ تضعونه عن رقابكم» . متفق عليه.

(بلا خَبَبٍ) وهو ضرب من العَدْوِ. وقيل: هو كالرَّمَل. ولو مَشَوا بالخَبَبِ كُرِه، لقول ابن مسعود: «سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المَشْي مع الجِنَازة فقال: دون الخَبَبِ، إن يكن خيراً، تُعَجَّلُ إليه، وإن يكن غير ذلك، فبعداً لأهل النار، والجنازة متبوعة، ولا تَتْبَع. ليس مِنَّا

(3)

من تَقَدَّمها». وضَعَّفَه البخاري، ورواه أحمد، وابن أبي شَيْبَة، وإسحاق

(1)

في المخطوط: البلد، والمثبت من المطبوع.

(2)

الكاهل من الإنسان: ما بين كتفيه. المعجم الوسيط ص: 803، مادة (كهل).

(3)

في المطبوع والمخطوط: ليس معها

، وما أثبتناه من مسند أحمد 1/ 394، 415، 419.

ص: 450

والمَشْيُ خَلْفَهَا أَحَبُّ

===

بن رَاهُويه، وأبو يَعْلَى في مسانيدهم. وقد روى ابن ماجه:«الجِنَازة متبوعة، وليست بتابعة، ليس معها من تقدَّمها» .

(والمَشْيُ خَلْفَهَا أَحَبُّ) وهو مذهب الأَوْزَاعِيّ. وقال الثَّوْرِيّ وطائفة: هما سواء. وقال مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل: قُدَّامها أفضل.

لنا ما قدمنا، وقوله عليه الصلاة والسلام:«لا تَتْبَع الجِنَازَة بصوت، ولا نار، ولا تمشِ بين يديها» . رواه أبو داود، وأحمد، وذكره الدَّارَقُطْنِيّ وعلّله بما فيه من الاختلاف. وقول أبي أُمَامَة:«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى خلف جِنَازة ابنه إبراهيم حافياً» . رواه الحاكم، وسكت عنه. وما في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من صلّى على جِنَازة، فله قِيرَاط

(1)

، ومن تبعها حتى توضع في القبر، فله قيراطان».

وروى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن مَعْمَر عن ابن طاوس، عن أبيه قال:«ما مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ـ إلا خلف الجِنَازة» . وروى أيضاً هو، وابن أبي شَيْبَة، عن عبد الرحمن بن أبْزَى قال: «كنت في جِنَازة وأبو بكر وعمر يمشيان أمامها، وعليّ يمشي خلفها.

فقلت لعليّ: أراك تمشي خلف الجِنَازَة، وهذان يمشيان أمامها. قال عليّ: لقد علمنا أنّ فضل المشيُ خلفها على المشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على الفَذِّ لكنهما أحَبَّا أن يُيَسِّرا على الناس».

وعن أبي أُمَامَة قال: «سأل أبو سعيد الخُدْرِيّ عليّ بن أبي طالب: المشيُ خلف الجنازة أفضل، أم أمامها؟ فقال عليّ: والذي بعث محمداً بالحق، إن فضل الماشي أمامها كفضل المكتوبة على التطوع. فقال له أبو سعيد: أَبِرأيك تقول، أم بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب، فقال: لا والله، بل سمعته غير مرة ولا اثنين ولا ثلاثة حتى عدَّ سبعاً. فقال أبو سعيد، إني رأيت أبا بكر وعمر يمشيان أمامها، فقال عليّ: يغفر الله لهما، لقد سمعا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سمعته. إنهما والله لخير هذه الأمّة، ولكنهما كَرِهَا أن يجتمع الناس، ويتضايقوا، فأحبَّا أن يُسَهِّلا على الناس» .

(1)

القيراط: جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عُشْره في أكثر البلاد. النهاية: 4/ 42. والمقصود هنا قيراط من الأَجر. ويوضح مقدار هذا القيراط من الأجر قوله صلى الله عليه وسلم عندما سُئِل: وما القيراط؟ قال: "مِثْلُ أُحُد. وفي رواية سُئلَ: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجَبَلَيْن العظيمين". صحيح مسلم 2/ 652 - 653، كتاب الجنائز (11)، باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها (17)، رقم (54 - 945) و (52 - 945).

ص: 451

وكُرِهَ الجُلُوسُ قَبْلَ وَضْعِهَا.

ويَلْحَدُ القَبْرُ

===

رواه عبد الرزاق

(1)

. وأعلّه ابن عَدِيّ في «الكامل» بمُطَّرِح ـ من رواته ـ وقال ابن مَعِين: الضعف على حديثه بيّن.

وعن نافع قال: «خرج عبد الله بن عمر في جِنَازة ـ وأنا معه ـ فقلت: يا أبا عبد الرحمن: كيف السُّنَّة في المشي مع الجِنَازة، أمامها أو خلفها؟ فقال: ويحك نافع، أما تراني أمشي خلفها؟» . رواه الطَّبرانِيّ. ولأن المَشْي خلفها أوْعَظ، فإنه ينظر إليها، ويتفكّر في حال نفسه لديها، ويتذكر أنه من اللاحقين للسابقين، ولأنه ربما يُحْتَاج إلى التعاون في حملها.

وللشافعي، ومن وافقه ما في السنن الأربع، عن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عن الزُّهْرِيّ، عن سالم، عن أبيه:«أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشيان أمام الجِنَازة» . إلاَّ أن عبد الرزاق قال: أخبرنا مَعْمَر عن الزُّهْرِي قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم .. » ، فذكره مرسلاً. وأسند الترمذي إلى ابن المبارك: أن حديث الزُّهْرِي هذا مرسلاً، أصح من حديث ابن عُيَيْنَة. ولأن أبا هريرة، وأبا قَتَادة، وابن عمر، وأبا أُسَيْد كانوا يمشون أمام الجِنَازة. ولأنهم شفعاء، والشفيع يتقدم ليمهِّد المقصود.

وقال مالك: تُقَدَّمُ على الرُّكَّاب دون المشاة، لِمَا في السنن الأربعة، عن المُغِيرَة بن شُعْبَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الراكب يسير خلف الجِنَازة، والماشي أمامها، قريباً منها، عن يمينها أو عن يسارها» . ويُكْرَه رفع الصوت بالذكر مع الجِنَازة لأنه بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم

(وكُرِهَ الجُلُوسُ قَبْلَ وَضْعِهَا) ـ أي عن أعناق الرجال ـ موافقة لهم، واستعداداً لإعانتهم. فإذا وُضِعَتْ على الأرض فلا بأس بالجلوس، ويُحْفَرُ القبر نصف القامة، أو إلى الصدر، وإن زِيدَ كان حسناً، لأنه أبلغ في منع الرائحة، ودفع السِّبَاع.

(ويُلْحَدُ القَبْرُ) أي يُحْفَرُ حفرة في جانبه ـ وهو السنة في الدفن ـ إذا كانت الأرض صلبة. ويكون في الجانب الذي يلي القِبْلة، فيوضع الميت فيه. ولا يُشَقُّ: وهو أن يحفر حفرة في وسط القبر، فيوضع فيه الميت، ويُسَمَّى الضَّرْح. ولا بأس به في

(1)

أورده المؤلف هنا مختصرًا تبعًا للزيلعي في "نصب الراية" 2/ 291، وقد أخرجه عبد الرزاق كاملًا في مصنفه 3/ 447، كتاب الجنائز، باب المشي أمام الجنازة، رقم (6267).

ص: 452

ويُدْخَل فِيهِ مِمَّا يَلِي القِبْلَة،

===

الأرض الرخوةِ لِمَا في السنن الأربع، عن عبد الأَعْلَى، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللحد لنا ـ أي معشر أهل المدينة ونحوهم ـ والشَّقُّ لغيرنا» أي لأهل مكة وأمثالهم. قال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وعبد الأَعْلَى فيه مقال بالاضطراب. وعن جَرِير بن عبد الله البَجَلِيّ مرفوعاً نحوه سواء. رواه أحمد، وابن ماجه، وابن أبي شَيْبَة وغيرهم. وفي رواية لابن ماجه:«احْفِرُوا، ووسِّعُوا، وأَحْسِنُوا» .

واخْتَلَفُوا في عُمْقِهِ. فقيل: قدر نصف القامة. وقيل: إلى الصَّدْرِ، وإن زادوا فحسن. ولِمَا رَوَى ابن ماجه من حديث أنس بن مالك قال:«لمَّا تُوُفِّي النبيّ صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة رجل يَلْحَدُ والآخر يَضَرَح. فقالوا: نستخير ربنا، ونبعث إليهما، فأيُّهما سبق تركناه. فأُرْسِل إليهما، فسبق صاحب اللَّحْد، فلحدوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم. ومن حديث عائشة رضي الله عنها: «لمَّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في اللحد والشَّقِّ حتى تكلموا في ذلك وارتفعت أصواتهم. فقال عمر: لا تَصِيحوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّاً ولا ميتاً، أو كلمة نحوها. فأرسلوا إلى الشَّاقِّ واللاَّحد، فجاء اللاَّحد، فلَحَد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دُفِنَ» .

ومن حديث ابن عبَّاس قال: «لَمَّا أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو عُبَيْدَة بن الجراح يَضْرَح: أي يشق ـ كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة وزيد بن سهل يحفر لأهل المدينة، وكان يَلْحَدُ، فدعا العباس رجلين. فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عُبَيْدة، وللآخر: اذهب إلى أبي طَلْحة. اللهم خِرْ لرسولك. فوجد صاحب أبي طَلْحَة أبا طلحة. فجاء به، فَلَحَدَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

«فَلَمَّا فُرِغَ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، وُضِعَ على سريره. وقد كان المسلمون اختلفوا في موضع دفنه. فقال قائل: ندفنه في مسجده. وقال قائل: ندفنه مع أصحابه. فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قُبِض نبي إلاَّ دُفِنَ حيث قُبِضَ» . فرُفِعَ فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تُوُفِّيَ فيه، فَحُفِرَ تحته، ثم دُعِيَ الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصلُّون عليه أرسالاً: الرجال حتى إذا فُرِغَ منهم، أُدْخِلَ النساء، حتى إذا فُرِغَ من النساء، أُدْخِلَ الصّبيان. ولم يَؤُمَّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ. فدُفِن صلى الله عليه وسلم من وسط الليل ليلة الأربعاء. ونزل في حفرته عليّ بن أبي طالب، والفضل بن العباس، وقُثَم أخوه، وشُقْرَان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(ويُدْخَلُ) الميت (فِيهِ) أي في اللحد (مِمَّا يَلِي القِبْلَة) بأن توضع الجِنَازة

ص: 453

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

على جنب القبلة، ثم يحمل منه إلى اللحد. فيكون الآخذ له مستقبل القِبْلة حال الأخذ. وبه قال كثير من أصحاب مالك لقول ابن عباس:«إن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل قبراً ليلاً، فأُسْرِجَ له بِسِراجٍ، فأخذ الميت من قِبَلِ القبلة. وقال: رحمك الله، إن كنت لأوَّاهاً تالياً للقرآن. وكَبَّر عليه أربعاً» . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. وأُنْكِرَ عليه، لأن مداره على الحجَّاجَ بن أَرْطاة، وهو مدلِس. ولم يَذْكُر سَمَاعاً. وضعَّف ابن مَعِين من رواته مِنْهَال بن خَلِيفَة. إلاَّ أن هذا يَحُطُّ الحديث عن درجة الصحة لا الحسن. ولِمَا روى ابن أبي شَيْبَة عن عمير

(1)

بن سعيد: «أن علياً كَبَّرَ على يزيد بن المكفف أربعاً، وأدخله من قِبَلِ القِبْلَةِ» .

(وعن ابن الحنفية: «أنه وَلِيَ ابنَ عباسٍ فكبَّر عليه أربعاً وأدخله من قِبَلِ القبلة»)

(2)

. وعن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، عن إبراهيم النَّخَعِي:«أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُدْخِل من قِبَل القبلة، ولم يُسَلّ سَلاًّ، ورُفِعَ قبره حتى يُعْرَف» . رواه أبو داود في «المراسيل» . وعن أبي سعيد: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخِذَ من قِبَل القِبلة، واسْتُقْبِل استقبالاً» . رواه ابن ماجه في «سننه» . وروى أبو داود، عن ابن مسعود، وبُرَيْدَة، وابن عباس:«أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُدْخِل من قبل القبلة، ولم يُسَلّ سلاًّ» .

وقال الشافعي، وأحمد: يُسَلُّ، بأن يوضع السرير في مؤخر القبر، حتى يكون رأس الميت بإزاء موضع قدميه من القبر، ثم يُدْخَلُ رأس الميت القبر، ويُسَلُّ كذلك، أو تكون رجلاه موضع رأسه، ثم يُدْخل رجلاه، ويُسَلُّ كذلك. وقد قيل: بكل منهما. والمرويّ للشافعي الأول. قال: أخبرنا الثقة، عن عمر بن العطاء، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: سُلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَل رأسه. ورَوى عن عِمْرَان بن موسى: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُلَّ من قِبَل رأسه، وكذلك أبو بكر، وعمر» .

ورَوَى أبو عمر بن شاهين في «كتاب الجنائز» ، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يُدْخَلُ الميت من قبل رجليه، ويُسَلُّ سلاًّ» . وروى ابن أبي شَيْبَة، عن ابن سِيرِين قال: «كنت مع أنس في جِنَازة، فأمر بالميت، فأُدْخِلَ من قبل رجليه. وعن

(1)

حُرِّفت في المطبوعة والمخطوطة إلى: عمر. والصواب ما أثبتناه من مصنف ابن أبي شيبة 3/ 328، كتاب الجنائز، مَن أدخل ميتًا من قبل القبلة.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المخطوط.

ص: 454

ويَقُولُ وَاضِعُهُ: بِاسْمِ اللَّهِ وعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، ويُوَجَّهُ إلى القِبْلَةِ. وتُحَلُّ العُقْدَةُ ويُسَوَّى

===

ابنِ عمر: أنه أَدْخَلَ ميِّتاً من قبل رجليه. وروى أبو داود: «أنَّ الحارث أوْصى أن يُصَلِّي عليه عبد الله بن زيد، فصلّى عليه، ثم أدخله القبر من عند رِجْلِ القبر، وقال: هذا من السنة» .

(ويَقُولُ وَاضِعُهُ) في قبره (بِاسْمِ اللَّهِ) وبالله (وعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) صلى الله عليه وسلم لقول ابن عمر: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أدخل الميت القبر قال: باسم الله، وعلى ملَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه ابن ماجه. وكذا الترمذي وزاد بعد «باسم الله» : «وبالله» . وقال: حسن غريب من هذا الوجه. ورواه أبو داود من طريق آخر بدون الزيادة. وكذا الحاكم ولفظه: «وإذا وضعتم موتاكم في قبورهم فقولوا: باسم الله، وعلى مِلَّة رسول الله» . وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخَرِّجاه. ورواه ابن حِبَّان في صحيحه. وأمَّا قول صاحب «الهداية»: وكذا قال عليه الصلاة والسلام حين وضع أبا دُجَانة، فهو غلط. لأن أبا دُجَانة كان حياً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشهد يوم اليَمَامة في خلافة أبي بكر الصديق. ولعله اشتبه على الكاتب فصحَّف ذا البِجَادَين

(1)

بأبي دُجَانة. ومع هذا لم يثبت أنه عليه الصلاة والسلام لَقَّنَه هذا الكلام، وإنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حفرته، وأبو بكر وعمر يُدْلِيَانه، وهو يقول: «أَدْلِيا

(2)

إليَّ أخاكما فَدَلَّيَاه له، فلما هيَّأه لشقه، قال: اللهم إني أمسيت راضياً عنه، فارض عنه» قال عبد الله بن مسعود: وقد شاهدت ذلك، يا ليتني كنت صاحب الحفرة. ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البَرِّ في «الاستيعاب» . والله الموفق للصواب.

(ويُوَجَّهُ) أي يجعل وجهه فيه (إلى القِبْلَةِ) على جنبه الأيمن لِمَا روى أبو داود، والنَّسائي، عن قَتَادة اللَّيْثي ـ وكانت له صحبة ـ «أن رجلاً قال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: هي تسع، فذكر منها استحلال البيت الحرام، ثم قال: قبلتكم أحياء وأمواتاً». ورواه الحاكم في «المُسْتَدْرَك» ، وقال: قد احتج الشيخان برواة هذا الحديث غير عبد الحميد بن سِنَان.

(وتُحَلُّ العُقْدَةُ) لحصول الأمن مما عُقِدَت لأجله (ويُسَوَّى) على اللحد

(1)

ذو البِجَادَين هو: عبد الله بن عبد نهم المُزَني. الإِصابة في تمييز الصحابة (4/ 98)، وقد ذكر سبب تسميته بذي البِجَادين فانظره. والبجاد: كساء مُخطّط من أكسية الأعراب. لسان العرب 3/ 77، مادة (بجد).

(2)

في المخطوط: أدينا.

ص: 455

اللّبِنُ والقَصَبُ ويُسَجَّى قَبْرُهَا لا قَبْرُهُ وكُرِهَ الآجُرُّ والخَشَبُ ويُهَالُ التُّرَابُ ويُسَنَّمُ القَبْرُ.

===

(اللّبِنُ) وهو الطُّوب النِّيء (والقَصَبُ) أو الإِذْخِر

(1)

. أمّا اللَّبِن فلِمَا في «صحيح مسلم» ، عن عامر بن سعد بن أبي وَقَّاص، عن أبيه أنه قال في مرضه الذي مات فيه: «الْحَدُوا لي لَحداً، وانْصِبُوا عليَّ اللّبِن نصباً، كما صُنِعَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي «شرح مسلم» : نقلوا أن عدد لَبِنَات لحده عليه الصلاة والسلام تسع. وأمَّا القَصَبُ فلما روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» ، عن الشَّعْبِي:«أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جُعِلَ على قبره طُنٌّ من قصب» . والطُّنُّ بضم المهملة وتشديد النون: حُزْمَة القصب. وهو مرسل. وروى ابن سعد عن أبي إسحاق قال: «أوصى أبو مَيْسَرة عمرو بن شُرَحْبِيل الهَمْدَانيّ أن يُجْعَل على لحده طُنٌّ من قصب. وقال: إني رأيت المهاجرين يستحبون ذلك. قال: فضمُّوا أربعةَ ـ هَوَادِي

(2)

بعضها إلى بعض وجعلوها لحداً».

(ويُسَجَّى

(3)

قَبْرُهَا) بثوب، لأن ابن عمر كان يغطي قبر المرأة و (لا) يُسَجَّى (قَبْرُهُ) خلافاً للشافعي، لأن عليّاً مر بقوم قد دفنوا ميتاً وبسطوا على قبره الثوب فجذابه، وقال:«إنما يُصْنَع هذا بالنساء» .

(وكُرِهَ الآجُرُّ) وهو الطُوب المطبوخ. (والخَشَبُ) لأنها لإِحْكَام البناء، فلا يكونان في بيت البلاء. لأن الآجُرَّ مسّته النار والخشب مُعَدٌّ لها. ولما رُوِيَ عن ابن عمرو بن العاص أنه قال:«لا تجعلوا في قبري خشباً ولا حَجَراً» . ولما روى ابن ماجه: «أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن تجصيص القبور» .

(ويُهَالُ التُّرَابُ) أي يصب عليه للتوارث (ويُسَنَّمُ

(4)

القَبْرُ) عندنا. لما روى البخاري تعليقاً، عن سفيان التمَّار:«أنه رأى قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّماً» . وروى ابن أبي شيبة عن سُفْيَان التمَّار، قال:«دخلت بالبيت الذي فيه قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فرأيت قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر مُسَنَّمَة» . وروى محمد في «الآثار» عن أبي حنيفة، عن حَمَّاد، عن إبراهيم قال: «أخبرني من رأى قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر، وعمر ناشزة

(5)

من الأرض، عليها فِلَق

(6)

من مَدَرٍ

(7)

أبيض». وروى ابن شاهين بسنده إلى جابر قال:

(1)

الإِذْخِر: سبق شرحها ص: 315، التعليقة رقم:(2).

(2)

يقال: هوادي الخيل: أوائلها، وهوادي الليل أوائله. لسان العرب 15/ 357.

(3)

يُسَجَّى: أي يُغَطَّى. المعجم الوسيط ص: 418، مادة سجا.

(4)

يُسَنَّمُ: أي يُرْفَعُ عن الأرض. المصباح المنير ص: 111، مادة (سَنَّم).

(5)

ناشزة: أي مرتفعة. المصباح المنير ص: 605، مادة (نشز).

(6)

الفِلَق: جمع الفِلْقَة وهي القطعة. المعجم الوسيط ص: 701، مادة (فلَق).

(7)

المَدَر: الطِّين اللَّزِج المتماسك. المعجم الوسيط، ص: 858، مادة (مدر).

ص: 456

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

«سألت ثلاثة ـ كلهم له في قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أبٌ ـ سألت أبا جعفر محمد بن عليّ، وسألت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسألت سالم بن عبد الله. قلت: أخبروني عن قبور آبائكم في بيت عائشة، فكلهم قالوا: إنها مُسَنَّمَة» .

ويُكْرَه التَّرْبيع عندنا. ويُسَنّ عند مالك والشافعي لِمَا في «صحيح مسلم» ، عن أبي الهَيَّاج الأَسَدِي قال:«قال لي عليّ: أَبْعَثُك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلاَّ طمسته، ولا قبراً مشرِفاً إلاَّ سوَّيته» . وعن أبي عليّ الهَمْدَانِيّ قال: «كنا مع فَضَالة بن عُبَيْد، فَتُوُفِّيَ صاحب لنا، فأمر فَضَالة بقبره فَسُوِّي. ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها» . زاد أبو داود: «بِرُودِس بأرض الروم. ثم قال: هي جزيرة في البحر. قلنا: هو محمول على ما كانوا يفعلونه من تَعْلِية القبور بالبناء العالي لِمَا رواه محمد بن الحسن في «الآثار» : أخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا شيخ لنا يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن تربيع القبور وتجصيصها» .

ولا يُخْرَجُ الميت من القبر بعد إهالة التراب عليه، وإن قصرت المدة، إلا أنْ تكون الأرض مغصوبة، وشاء صاحبها إخراجه، أو نَسِيَ في القبر متاع إنسان. ولذا لم يُحَوَّلْ كثير من الصحابة، وقد دفنوا بأرض الحرب. ولا بأس بنقله قبل تسوية اللَّبِن عليه نحو ميل أو ميلين، لأن المسافة إلى المقابر قد تبلغ هذا المقدار.

قال صاحب «الهداية» في «التَّجْنِيس» : لا إثم في النقل من بلد إلى بلد، لِمَا نُقِلَ: أن يعقوب عليه السلام مات بمصر، فنُقِلَ إلى الشام، وموسى عليه السلام نَقَل تابوت يوسف عليه السلام بعدما أتى عليه زمان من مصر إلى الشام، ليكون مع آبائه. انتهى. ولا يخفى أن هذا شرع من قبلنا، ولم يتوفر فيه شروط كونه شرعاً لنا، إلاَّ أنه نُقِلَ: «أن سعد بن أبي وَقَّاص مات في ضيعة على أربعة فرَاسِخ

(1)

من المدينة، فَحُمِلَ على أعناق الرجال إليها».

ويُكْرَه القعود على القبر، ووطئه، والنوم عنده، والبول، والتغوّط عليه. وقال مالك، والطَّحَاوي: المراد بالجلوس على القبر المَنْهِيّ عنه: الجلوس للحدث. ويَحْرُم البناء عليه للزينة، للإسراف وعدم المنفعة.

(1)

الفَرْسخ: سبق شرحه ص: 411، التعليقة رقم:(1).

ص: 457

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وينبغي أن يُعَلَّمَ القبر بعلامة لقول المُطَّلِب: «لَمَّا مات عثمان بن مَظْعُون وأُخْرِجَ بجنازته، فَدُفِن، وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يأتيه بحجر، ولم يستطع حمله، فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحَسَر

(1)

عن ذراعيه، ثم حملها فوضعها عند رأسه وقال: أَتَعَلَّمُ به قبر أَخي

(2)

، وأَدْفِنُ إليه من مات من أهلي». رواه أبو داود.

ولا بأس بدفن اثنين أو أكثر في قبر واحد عند الضرورة لقول هشام بن عامر: «جاءت الأنصار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد. فقالوا: أصابنا قَرْحٌ

(3)

وجهد، فكيف تأمرنا؟ قال: احفِروا، وأوسعوا، واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر. فقيل: أيهم نُقَدِّم؟ قال: أكثرهم قرآناً. قال: وأصيب أبو عامر يومئذٍ بين اثنين». رواه أبو داود.

ويُكْرَه الدفن ليلاً بلا ضرورة لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تَدْفِنوا أمواتكم بالليل إلا أن تضطروا» . رواه ابن ماجه. وروى مسلم: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب يوماً، فذكر رجلاً من أصحابه قُبِضَ، ودُفِنَ في كفن غير طائل، وقُبِر ليلاً. فزجر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُقْبَرَ الرجل بالليل حتى يُصَلَّى عليه، إلاَّ أنْ يضطر رجل إلى ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم «إذا كَفَّنَ أحدكم أخاه، فليحسن كفنه» .

ولا يُحْفَرُ قبرٌ لدفن آخر إلاَّ إذا بَلِيَ الأَول، ولم يبق له عظم، إلاَّ أن لا يُوجد بدٌ منه، فيُضَمُّ عظام الأول، ويُهَال بينها وبين الميت بالتراب ونحوه. ويكره الدفن في الأماكن التي تسمى فَسَاقِي

(4)

. ويلقى الميت في البحر بعد غسله وتكفينه والصلاة عليه إنْ بَعُدَ البر، وخيف من الضرر. وعن أحمد: يُثَقَّل ليرسب. وعن الشافعية كذلك، إن كان قريباً من دار الحرب، وإلاّ شُدَّ بين لوحين، ليقذفه البحر فيدفن.

ويسن الدعاء عند القبور دائماً، كما كان يفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البقيع. ويقول:«السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، وأسأل الله لي ولكم العافية» . ويجوز الجلوس للمصيبة ثلاثة أيام، وهو خلاف الأوْلى. ويُكْرَه

(1)

حَسَرَ: أَي كشف. المعجم الوسيط ص: 172، مادة "حَسَرَ".

(2)

في المخطوط: أهلي، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في سنن أبي داود 3/ 543، كتاب الجنائز (20)، باب في جمع الموتى في قبر، والقبر يعلم (57، 59)، رقم (3206).

(3)

القَرْح: الجُرْح. أرادوا ما نالهم من القتل والهزيمة يومئذ. النهاية: 4/ 35.

(4)

الفَسَاقِيّ: جمع الفَسْقِيَّة وهي حوض من الرخام ونحوه مستدير غالبًا، ويكون في القصور والحدائق والميادين. المعجم الوسيط ص: 689، مادة (فسق).

ص: 458

‌بَابُ الشَّهيدِ

مُسْلِمٌ طَاهِرٌ

===

في المسجد. ويُسْتَحَبُّ التعزية للرجال والنساء اللاتي لا يَفْتِنَّ لقوله عليه الصلاة والسلام: «من عزَّى مُصَاباً فله مثل أجره» . رواه الترمذي، وابن ماجه، عن ابن مسعود. وقوله عليه الصلاة والسلام:«من عزَّى ثَكْلَى كُسِيَ بُرْداً في الجنة» . رواه الترمذي عن أبي بَرْزَةَ

(1)

. ويُكْرَه اتخاذ الضِّيَافة من أهل الميت، لأنه شُرِعَ في السرور لا في ضده، وهي بدعة مستقبحة.

ويستحب للأقارب والجيران تهيئة طعام لهم يُشْبِعهم يومهم وليلتهم لقوله عليه الصلاة والسلام: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد جاءهم ما يَشْغَلُهم» . رواه الترمذي وحَسَّنَه، والحاكم وصححه. ويُلَحُّ عليهم في الأكل، لأن الحُزْنَ يمنعهم من ذلك فيضعفون هنالك. والله الموفِّق للصبر، والمُعَوِّض للأجر.

بابُ الشَّهِيدِ

فعيل بمعنى مفعول لأنه مشهود له بالجنة بالنص، ولأن الملائكة يشهدون موته إكراماً له. أو بمعنى فاعل لأنه حيٌّ عند الله حاضرٌ. قال الله تعالى:{ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} الآية

(2)

.

(مُسْلِمٌ طَاهِرٌ) أي ليس بجُنُبٍ ولا حَائِضٍ ولا نُفُسَاء. لأن هؤلاء يُغَسَّلُون عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يُغَسَّلُون، لأن ما وجب قبل الموت من غسل الجنابة ونحوها، سقط بالموت لانتهاء التكليف به. ولأبي حنيفة ـ وهو قول أحمد ـ ما روى ابن حِبَّان في «صحيحه» ، والحاكم في «مُسْتَدْرَكِه» وقال: على شرط الشيخين، عن الزُّبَيْر قال:«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ـ وقد قُتِل حَنْظَلة بن أبي عامر الثَّقَفِيّ ـ: إن صاحبكم تُغَسِّلُه الملائكة. فسألوا صاحبته. فقالت: خرج وهو جُنُب لَمَّا سمع الهَائِعَة ـ أي الصيحة المُفْزِعَة ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك غَسَّلَتْهُ الملائكة» .

وليس عند الحاكم: «فسألوا صاحبته» ـ يعني زوجته ـ وهي جميلة بنت أُبَيّ بن

(1)

في المطبوع: أبي بردة. والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في سنن الترمذي 3/ 387 - 388، كتاب الجنائز (8)، باب آخر في فضل التعزية (75)، رقم (1076).

(2)

سورة آل عمران، الآية:(169).

ص: 459

بَالِغٌ، قُتِلَ ظُلْمًا وَلمْ يَجِبْ بِهِ مَالٌ،

===

سلول أخت عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، وكانت قد بنى بها تلك الليلة. فرأت في منامها كأن باباً من السماء فُتِحَ فدخل

(1)

فأُغْلِقَ دونه، فعرفت أنه مقتول. فَلَمَّا أصبحت، دعت بأربعة من قومها وأشهدتهم أنه دخل بها خشية أن يقع في ذلك نزاع.

ذكره الواقديّ، وكذا ابن سعد في «الطبقات» في ترجمة حَنْظَلَة وزاد: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني رأيت الملائكة تغسل حَنْظَلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المُزْنِ

(2)

في صِحَاف الفضة». قال أبو أُسَيْد السَّاعِدِيّ: «فذهبنا إليه فوجدناه يقطر من رأسه ماء، فرجعت فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم (فذَكَرَتْ أنه خرج وهو جُنُب)

(3)

».

فغُسْلُ الملائكة له، تعليم لنا بما نفعله بمثله.

فإن قيل: لو اشْتُرِطَ في الشهادة الطهارة لأمر عليه الصلاة والسلام بغسل الحنظلة. أُجِيبَ: بأن الواجب هو الغسل كائناً من كان الغاسل، وقد حصل بفعل الملائكة.

(بَالِغٌ) لأن الصبي يُغَسَّل، وكذا المجنون، فكان حقه أن يقيد بقوله: عاقلٌ أو مُكَلَّفٌ. وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يُغَسَّلان. لأن عدم الغسل للكرامة، وهما أحق بها. ولأبي حنيفة: أن السيف كَفَى عن الغسل في حق شهداء أُحُد، لكونه طُهْرَة لذنوبهم، ولا ذنب للصبيّ، فلا يُلْحَق بهم.

(قُتِلَ ظُلْماً) سواء قتله أهل الحرب، أو أهل البَغْي، أو قُطَّاع الطريق، بأي سبب كان، إذا كان موته مضافاً إليهم. فلو نَفَّرُوا دابته فرمته فمات، أو خَرَقَوا سفينته، ومات، كان شهيداً. ولو انفلتت دابة حربي فوطئت مسلماً فمات، غُسِّلَ لعدم نسبة الفعل للحربي. ولو مَشَى مسلم على حسك

(4)

وضعوه، أو وقع في خَنْدَق حفروه، فمات، غُسِّل، لأن فعله يقطع النسبة عنهم. قيد بقوله: ظُلْماً لأنه لو قتل لقصاص، أو رُجِمَ لزنا، أو قتل بسَبُعٍ، أو سَيْلٍ، أو هَدْمٍ، أو سقوط، يُغَسَّل.

(ولَمْ يَجِبْ بِهِ) بنفس القتل (مَالٌ) حتى لو قتل الأبُ ابنَه ظلماً، أو صالح القاتل عن المقتول عمداً بمال، لا يُغَسَّلان، وإن وجب المال فيهما، لأن وجوبه ليس لنفس القتل، وإنما هو للأبوّة في الأول، وللصلح في الثاني. وخرج به المقتول خطأ، لأنه

(1)

أي حنظلة.

(2)

المُزْن: السحاب يحمل الماء. المعجم الوسيط ص: 867، مادة (مَزَنَ).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

الحسك: من الحديد: ما يُعْمل على مثال الحسك، كان يُلْقَى حول العسكر ويُبَث في مذاهب الخيل، فيشب في حوافرها. المعجم الوسيط ص 173 مادة (حسك).

ص: 460

ولَمْ يَرْتَثَّ، فَيُنْزَعُ عَنْهُ غَيْرُ ثَوْبِهِ، ويُزَادُ ويُنْقَصُ لِيَتِمَّ كَفَنُهُ، ولا يُغَسَّلُ ويُصَلَّى عَلَيْهِ،

===

يجب المال بنفس القتل. ولو قُتِل ظلماً بغير حديدة ليس له حكم الشهيد عند أبي حنيفة، فَيُغَسَّل. وله حكمه عندهما، فلا يُغَسَّل. بناء على أن موجب هذا القتل: المال، وهو قول أبي حنيفة، أو: القصاص، وهو قولهما، وبه قال مالك والشافعي.

(ولَمْ يَرْتَثَّ) بتشديد المثلثة أي: لم يرتفق بشيء من مرافق الحياة، أو لم يثبت له حكمٌ من أحكامها كما سيأتي بيانه.

ولا يختص الشهيد عندنا بمن مات في قتال الكفار بسببه، كما خصَّه مالك والشافعي، اعتباراً بشهداء أُحُد بجامع كون القاتل كافراً. قلنا: أهل البغي كأهل الحرب، لأن محاربتهم مأمور بها. قال الله تعالى:{فَقَاتِلُوا التي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}

(1)

فهو في هذه المحاربة باذل نفسه لابتغاء مرضاة الله تعالى كالمقتول في محاربة الكُفَّار، وكذا قُطَّاع الطَّريق، لأنه تعالى وصفهم بكونهم محاربين اللَّهَ ورسولهَ.

(فَيُنْزَعُ عَنْهُ غَيْرُ ثَوْبِهِ) أي غير ثوب يختص بالميت كالفَرْوِ، والحَشْوِ، والقَلَنْسُوَة، والسلاح، والخُفِّ. (ويُزَادُ) إن نقص ما عليه من الكفن (ويُنْقَصُ) إن زاد (لِيَتِمَّ كَفَنُهُ) لأن ذلك لا يزيل أثر الشهادة. ولما روى أبو داود، وابن ماجه، عن ابن عباس قال:«أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أُحُد أن يُنْزَعَ عنهم الحديد والجلود، وأنْ يدفنوا بدمائهم وثيابهم» .

(ولا يُغَسَّلُ) لِمَا روى البخاري وأصحاب السنن الأربعة عن اللَّيْث بن سعد، عن الزُّهْرِيّ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر بن عبد الله:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قَتْلَى أُحُد. وقال: أيهما أكثر قرآناً فإذا أشِير إلى أحدهما قَدَّمه في اللحد. فقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلهم» . زاد البخاري والترمذي: ولم يُصَلِّ عليهم.

قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . وقال النَّسائي: لا أعلم أحداً تابع اللَّيث من أصحاب الزُّهْرِيّ على هذا الإسناد، واخْتُلِفَ عليه فيه. انتهى. ولم يُؤَثِّر عند البخاري والترمذي تفرَّد الليث بهذا الإسناد، بل احتج به البخاري، وصححه الترمذي.

(ويُصَلَّى عَلَيْهِ) وقال مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه: لا يُصَلَّى عليه لِمَا قَدَّمناه. ولنا: ما روى البخاري من حديث عُقْبَة بن عامر: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج

(1)

سورة الحجرات، الآية:(9).

ص: 461

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

يوماً، فصلى على قَتْلَى أحد صلاته على الميِّت، ثم انصرف إلى المِنْبَر فقال: إني فَرَطُكم ـ أي على الحوض ـ وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أُعْطِيتُ مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أنْ تنافسوا فيها». وروى أيضاً:«أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى على قَتْلَى أُحُد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات» .

فثبت بهذا أنَّ الشهيد يُصَلَّى عليه، لأنه آخر فعله في شهداء أُحُد. وروى الحاكم وصححه، عن جابر قال:«فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة حين فاء الناس من القتال ـ أي رَجَعوا ـ فقال رجل: أنا رأيته عند تلك الشجرة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه فلما رآه، ورأى ما مُثِّلَ به، شَهِقَ، وبَكَى. فقام رجل من الأنصار فرمى عليه بثوب، ثم جِيء بحمزة فصلّى عليه. ثم جيء بالشهداء كلهم» . وفي «مسند أحمد» : حدَّثنا عفان بن مسلم: حدَّثنا (حمَّاد بن) سلمة

(1)

: حدَّثَنا عطاء بن السائب، عن الشَّعْبِي، عن ابن مسعود ـ رَضِي الله تعالى عنهم ـ قال:«كان النِّساء بأُحُد خلف المسلمين يُجْهِزْن على جرحى المشركين. إلى أن قال: فوضع النبيّ صلى الله عليه وسلم حمزة، وجيء برجل من الأنصار فَوُضِعَ إلى جنبه، فصلّى عليه ثم رُفِعَ. وتُرِكَ حَمْزَة حتى صَلَّى عليه يومئذٍ سبعين صلاة» . ورواه عبد الرزاق عن الشَّعْبِي مرسلاً، ولم يذكر ابن مسعود.

وفي «المُسْتَدْرَك» ، و «سنن البيهقي» ، عن يزيد بن أبي زياد، عن مِقْسَم، عن ابن عباس ـ رضِيَ الله تعالى عنهم ـ قال:«أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة يوم أُحُد فَهُيِّءَ للقبلة ثم كَبَّر سبعاً. ثم جمع إليه الشهداء حتى صلى عليه سبعين صلاة» . وزاد الطَّبَرَانِيّ: «ثم وقف عليهم حتى واراهم» . وسكت الحاكم عنه. وفي «مراسيل أبي داود» ، عن عطاء بن أبي رَبَاح:«أنه صلى الله عليه وسلم صلّى على قَتْلى أُحُد» . أسنده الواقِدِيّ في «المَغَازِي» قال: حدثني زيد بن عبد الله، عن عطاء، عن ابن عباس، فذكره.

وأسند في «فتوح الشام» عن سيف مولى ربيعة بن قيس اليَشْكُري قال: «كنت في الجيش الذي وجهه أبو بكر الصديق مع عمرو بن العَاص أَيْلَة وفلسطين» . فذكر القصة بطولها وفيها: «أنه قُتِلَ من المسلمين مئة وثلاثون. وصلى عليهم عمرو بن العاص ومن معه من المسلمين، وكانوا تسعة آلاف» .

(1)

في المطبوع: حدّثنا سلمة، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في "مسند الإمام أحمد" 1/ 463.

ص: 462

ويُدْفَنُ بِدَمِهِ.

وغُسِّلَ مَنْ وُجِدَ قَتِيلًا في مِصْرٍ لا يُعْلَمُ قَاتِلُهُ، أوْ جُرِحَ وارْتَثَّ، بأنْ نَامَ، أوْ أكَلَ، أوْ شَرِبَ، أوْ عُولِجَ، أو آوَاهُ خَيْمَةً، أو نُقِلَ مِنَ المِعْرَكَةِ حَيًّا، أوْ بَقِي عَاقِلًا وَقْتَ صَلاةٍ كامِلٍ،

===

فإن قيل: حديث جابر على ما رواه البخاري والترمذي نصٌّ في عدم الصلاة على الشهيد. فالجواب: أن رواية المُثْبِت موافقة للأصول، فتُقَدَّم على رواية النافي لمخالفتها لها، ولأن الصلاة واجبة علينا بيقين، فلا تسقط بظني مُعَارَض بمثله أو أمثاله. وأمَّا قول السُّهَيْلِي: ولم يُرْوَ أنه صلى الله عليه وسلم صلّى على شهيد في شيء من مغازيه إلاَّ هذه. فمُعْتَرَضٌ عليه بما ذكره النَّسائي: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى على أعرابي في غزوة أخرى» .

(ويُدْفَنُ بِدَمِهِ) لما روينا، ولِمَا في «سنن أبي داود» ، عن جابر. قال:«رُمِيَ رجل بسهم في صدره أو حلقه فمات، فأُدْرِجَ في ثيابه كما هو، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولِمَا في «سنن النَّسائي» ، عن عبد الله بن ثَعْلَبَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «زمِّلُوهم

(1)

بدمائهم، فإنه ليس كَلْمٌ

(2)

يُكْلَمُ في سبيل الله إلا يأتي يوم القيامة يَدْمَى، لونه لون الدَّم، وريحه ريح المسك». وفي «مسند أحمد» ، عن عبد الله بن ثَعْلَبَة:«أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أشرف على قَتْلَى أُحُد. فقال: «إني شهيد على هؤلاء، زَمِّلُوهم بكُلُومِهِم ودِمَائِهم» .

(وغُسِّلَ مَنْ وُجِدَ قَتِيلاً في مِصْرٍ لا يُعْلَمُ قَاتِلُهُ) سواء عُلِمَ أنه قُتِلَ بحديدة أو بعصاً كبيرةٍ أو صغيرةٍ. لأن الواجب فيه الدِّيَة والقَسَامة

(3)

. وأمَّا إذا عُلِمَ القاتل، فإنْ عُلِمَ أن القتل بالحديدة، لا يغسل، لأنه شهيد. وإن عُلِمَ أنه بالعصا الكبيرة يُغَسَّل عند أبي حنيفة، خلافاً لهما. وإنْ عُلِم أنه بالعصا الصغيرة يُغَسَّل اتفاقاً.

(أوْ جُرِحَ) أي وكذا غُسِّلَ من جرح (وارْتَثَّ بأنْ نَامَ أوْ أكَلَ أوْ شَرِبَ أوْ عُولِجَ) بدواء (أو آوَاهُ خَيْمَةً) وكذا شجرة أو بيتاً ليمرَّض فيها (أو نُقِلَ مِنَ المعْرَكَةِ حَيَّاً) لا لخوف أن يُدَاس لأنه نال من الراحة، فلم يكن في معنى شهداء أُحُد. «وأصاب سعد بن مُعَاذ سهم يوم الخَنْدَق فحُمِلَ إلى المسجد، ثم مات بعد ذلك. فغسَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(أوْ بَقِي عَاقِلاً وَقْتَ صَلَاةٍ كامِلٍ) لأنه وجب عليه قضاؤها وهو حكم من أحكام

(1)

زَمَّل: لفَّف وغَطَّى. المعجم الوسيط ص: 400، مادة (زمل).

(2)

الكَلمْ: الجُرْح. المعجم الوسيط ص: 796، مادة (كَلمَ).

(3)

القَسَامة: اليمين، وهي أن يُقْسِم خمسون من أولياء الدَّم على استحقاقهم دمَ صاحبهم إذا وجدوه قتيلًا بين قوم ولم يُعرف قاتله. فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يمينًا. ولا يكون فيهم صبيٌّ ولا امرأَة ولا مجنون ولا عبد، أو يُقْسِم بها المتَّهمون على نفي القتل عنهم - فإن حلف المدَّعون استحقّوا الدِّية وإن حلف المتَّهمون لم تلزمهم الدِّية. المعجم الوسيط ص: 735، مادة (قسم).

ص: 463

أوْ أَوْصَى بِشيء، وصُلِّيَ علَيْهِ.

وإِنْ قُتِلَ لِسِعَايَةٍ، أو لِبَغْي، أَو قَطْعِ طَرِيقٍ، غُسِّل ولا يُصَلَّى عليه.

===

الدنيا في حق الأحياء، فنال رفقهم إذ التكليف منه لطف من الله سبحانه. (أوْ أَوْصَى بِشيءٍ) من أمور الدنيا أو الأخْرَى عند أبي يوسف خلافاً لمحمد. قيل: اختلافهما (في الأمور الدنيوية، وأما الأخروية، فلا يغسل اتفاقاً، وقيل: وأما الدنيوية فيغسل اتفاقاً. وقيل: قول أبي يوسف)

(1)

في الأمور الدنيوية. وقول محمد في الأخروية. وفي «المُحيط» : وهو الأظهر. لأن الوصية بأمور الدنيا من أمور الأحياء.

(وصُلِّيَ علَيْهِ) عطف على غُسِّلَ. وفي «شرح الكنْز» : هذا كله بعد انقضاء الحرب. وأما قبله، فلا يكون مرتثّاً بشيء منه. ثم المُرْتَثُّ وإن غُسِّلَ فله ثواب الشهداء كالغريق، والحريق، والمبطون، والمطعون، والغريب، فإنهم يُغَسَّلُون وهم شهداء، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أَلَا ترى أنَّ عمر وعليَّاً حُمِلا إلى بيتهما بعد الطعن وغُسِّلا، وكانا شهيدَين، وعثمان لم يَرْتَثَّ

(2)

بل أُجْهِزَ عليه في مصرعه، فلم يغسل، فعرفنا بذلك أَنَّ الشهيد الذي لا يُغَسَّل مَنْ أُجْهِزَ عليه في مصرعه دون مَنْ حُمِل حيَّاً ليمرَّض.

(وإِنْ قُتِلَ لِسِعَايَةٍ) في الأَرض فساداً (أَوْ لِبَغْيٍ) على الإمام العدل (أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ، غُسِّل ولا يُصَلَّى عليه) للفَرْق بينه وبين الشهداء. وقيل: لا يُغسل ولا يصلَّى عليه إهانةً له، «لأَن عليَّاً رضي الله عنه لم يغسل أَهل النهروان، ولم يصلِّ عليهم، فقيل: أكفارٌ هم؟ فقال: لا ولكنهم إخواننا بغوا» . إشارة إِلى أَنَّ تَرْك الغسل والصلاة عقوبةً لهم، وليكون زجراً لغيرهم، وهو نظير تَرْك المصلوب على خشبته عقوبة له، زجراً لغيره، كذا ذكره السَّرَخْسِي. واستغربه الزَّيْلَعِي المُخَرِّج لأَحاديث «الهداية» .

ثُم هذا إذا قُتل الباغي وقاطع الطريق حال المحاربة، وأَما إِذا قُتِلا بعد ثبوت يد الإِمام عليهما فإِنهما يُغَسَّلان ويُصَلَّى عليهما، لأَنَّ قَتْل قاطع الطريق حينئذٍ لِلحَدِّ أو القصاص، وقَتْل الباغي للسياسة وكَسْر الشوكة. وأَمَّا المقتول بالعصبيةِ فحكمُه حُكْم الباغي، وكذا من قتَل نفسه عند أَبي يوسف. وقال محمد: يُصَلَّى عليه لأَنَّ بَغْيَه على نفسه، فكان كسائر الفُساق.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

الارْتثاث: ارتفاقُ - أي تمتع - الجريح بشيء من مرافق الحياة كالأكل والشرب ونحوهما - معجم لغة الفقهاء ص:53.

ص: 464

‌بَابُ صَلاةِ الخَوْفِ

إِذَا اشْتَدَّ خَوْفُ العَدُوِّ

===

ويُغَسَّل المقتول بِحَدَ أَوْ قَوَدٍ

(1)

ويُصَلَّى عليه بالاتفاق، لما في «مصنف ابن أبي شيبةَ»: حدثنا أَبو معاويةَ عن أَبي حنيفة، عن عَلْقَمَة بن مَرْثد، عن أَبي بُرَيْدة، عن أَبيه:«لما رُجِم ماعزٌ قالوا: يا رسولَ اللهاِ، ما نصنع به؟ قال: اصْنَعُوا به ما تَصْنعون بموتاكم من الغسل والكفن والحنوط والصلاة عليه» . ولأَبي يوسف قول جابر بن سَمُرَة: «أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتي بِرَجلٍ قَتَل نَفْسَه بمَشَاقِصَ

(2)

، فلم يُصَلِّ عليه». رواه مسلم. ويجاب: بأنَّ الظاهر أَنَّه صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ عليه، وينبغي أَنْ يكون الإِمام كذلك، وأما غيره فيصلِّي عليه لقوله صلى الله عليه وسلم «صلّوا على كل بَرَ وفاجر»

(3)

، لأَن الوجوب اليقيني لا يسقط بالأَمْرِ الظَّنِّي. ومَنْ قُتِل لِظُلمه يُغَسَّل ولا يُصَلَّى عليه، لأَنه سَاعٍ بالفساد، كذا في «المنتقى» ، والله أعلم بالصواب وإِليه المَرْجِعُ والمآب.

بابُ صلاةِ الخوف

الأَنسب أنْ يقال «فصل» ، ولا يُجعل بينه وبين صلاة المسافر فصل.

وقد قال الله تعالى: {وإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ}

(4)

الآية، واستدل بظاهرها الحسن البصري وأَبو يوسف، والمُزَني من الشافعية. وأَنكروا مشروعيتها بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم لأَن فيها أفعالاً منافيةً للصلاة، فَيُقتصر فيها على مَوْرِد الخطاب، وهو كون النبيّ صلى الله عليه وسلم إِماماً للأَصحاب. وللجُمْهور أَنَّ إِقامة الصحابة لها بعده صلى الله عليه وسلم دليل على تعميم الحكم للأَنام في سائر الأَيام، وأَن معنى الآية: كنت فيهم أَنت أَوْ مَنْ يقوم مَقَامَك كما في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالهِمِ صَدَقَةً}

(5)

.

(إِذَا اشْتَدَّ خَوْفُ العَدُوِّ) سواءٌ كان العدو آدمياً أَوْ غَيْره. والاشتداد مذكورٌ في «الهداية» ، و «الكافي» وغيرهما. وفي «الكفاية»: أَنه ليس بشرطٍ عند عامة مشايخنا خلافاً للشافعي، ولا يبعُد أَنْ يُرَاد باشتداده تحقُّقه. ولذا لم تجز بلا حضور عدوَ فلو، رأوا سواداً فصلوها على ظنِّ أَنه عدو، فإِنْ تبيَّن كما ظنّوا، جازت لوجود

(1)

القَوَد: القِصاص. معجم لغة الفقهاء ص: 372.

(2)

المِشْقَص: نَصْل السَّهْم - أي حديدته - إِذا كان طويلًا غير عريض. النهاية: 2/ 490.

(3)

أخرجه البيهقي في سننه الكبرى 4/ 19.

(4)

سورة النِّساء، الآية:(102).

(5)

سورة التوبة، الآية:(103).

ص: 465

جَعَلَ الإِمامُ أُمَّةً نَحْوَ العَدُوِّ، وصَلَّى بأُخْرَى رَكْعَةً فِي الثُّنَائِي، ورَكْعَتَيْنِ في غَيْرِه ومَضَتْ هذه إِليه، وَجَاءَتْ تِلْكَ وصَلَّى بهم مَا بَقِي وسَلَّمَ وَحْدَه ومَضَتْ إِليه، وجَاءَتِ الأُخْرَى وأَتمَّتْ بِلا قِرَاءَة، ثُمٌ الأُخْرَى وأَتَمَّتْ بِهَا.

===

سبب الرخصة، وإِن ظهر خلافه، لم تجز.

(جَعَلَ الإِمامُ أُمَّةً) أَي طائفة كقوله تعالى: {ولَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عليه أُمَّةً مِنَ النَّاسِ}

(1)

(نَحْوَ العَدُوِّ، وصَلَّى بأُخْرَى رَكْعَةً) لقوله تعالى: {فَلْتَقُم طَائِفةٌ مِنْهُم مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُم فإِذا سَجَدُوا}

(2)

أَي هذه الطائفة {فليكونوا} أي الطائفة الأخرى: {مِنْ ورائكم} . (فِي الثُّنَائِي) سواء كان فجراً أَوْ قصراً (ورَكْعَتَيْنِ في غَيْرِه) أَي غَيْر الثنائي (ومَضَتْ) مشت (هذه) أي التي صلت (إِليه) أَي إِلى وجه العدو.

(وَجَاءَتْ تِلْكَ) أَي التي كانت نحو العدو (وصَلَّى بهم) لقوله تعالى: {ولتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}

(3)

(مَا بَقِي) وهو ركعة في الثنائي والمغرب، وركعتان في غيره (وسَلَّمَ) الإِمام (وَحْدَه ومَضَتْ إِليه) أَي إِلى العدو. وفي «المحيط»: ولو كانت الطائفة الثانية حين سلم الإِمام، قَضَوْا ركعتين في مكانهم، ثُم انصرفوا، جاز، والأَفضل ما ذكرنا. قلت: ويؤيد الأَول اقتصاره سبحانه في الآية على ما تقدم، وبعض الأَحاديث الآتية، والله تعالى أَعلم.

(وجَاءَتِ الأُخْرَى) وهي الأُولى (وأَتَمَّتْ بِلا قِرَاءَةٍ) لأَنها لاحقةٌ، واللاحق في حكم المقتدي، ومضت إلى وجه العدو. (ثُمَّ) جَاءَتِ (الأُخْرَى) وهي الثانية (وأَتَمَّتْ بِهَا) أَي بِقِرَاءةٍ، لأَنها مسبوقةٌ، والمسبوق في حكم المنفرد.

لنا على أَنَّ هذه كيفية صلاة الخوف: ما في الكتب الستة ـ واللفظ للبخاري ـ عن ابن عمر قال: «غَزَوتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم قِبَل نَجْدٍ فوازَيْنا العدوَّ، فصَافَفْنَاهُمْ، فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي لنا، فقامت طائفةٌ معه تُصَلِّي وأَقبلت طائفةٌ على العدو، وركعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِمَنْ معه وسجد سجدتين، ثُم انصرفوا مكانَ الطائفة التي لم تصلِّ، فجاؤا فركع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِهِمْ ركعةً، وسجَد سَجْدَتَين، ثُم سلَّم، فقام كلُّ واحدٍ ـ أي مِنْ القوم ـ وهم الطائفتان، فرَكَعَ لنفسه ركعةً، وسجَد سَجْدَتَين» .

(1)

سورة القصص، الآية:(23).

(2)

سورة النساء، الآية:(102).

(3)

سورة النساء، الآية:(102).

ص: 466

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وفي لفظٍ آخَرَ له عن ابن عمر: «فإِذا صلَّى الذين معه ركعةً استأْخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يُسَلِّمون، ويتقدم الذين لم يصلُّوا فيصلُّون معه ركعةً، ثُم ينصرف الإِمام وقد صلَّى ركعتين، فتقُوم كلُّ واحدةٍ من الطائفتين فيصلّون لأَنفسهم ركعةً واحدةً بعد أَنْ ينصرف الإِمام» . الحديثَ. وروى أَبو داود عن مسلم بن إِبراهيم، عن عَبْد الصَّمَد بن حَبِيب، عن أَبيه أَنهم غزوا مع عبد الرحمن بن سَمُرَة كابُلَ فصلى بهم الخوف، وإِنَّ الطائفة التي صلَّى بهم ركعةً ثُم سلم مضوا إِلى مقام أَصحابهم، وجاء هؤلاء فصلّوا لأَنفسهم ركعةً، ثُم رجعوا إِلى مقام أُولئك وجاء الآخرون، فصلَّوا لأَنفسهم ركعةً.

وروى أَبو داود عن ابن مسعود: صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فقاموا صفّاً خلْفَه، وصفّاً مُسْتَقْبِلَ العدو، فصلى بهم ركعةً، ثُم جاء الآخرون فقاموا في مقامهم، واستقبلَ هؤلاء العدوَّ فصلَّى بِهِمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ركعةً ثُم سلَّم، فقام هؤلاء فصلَّوا لأَنفُسِهم ركعةً، ثُم سلّموا، ثُم ذهبوا فقاموا مقام أُولئك مستقبل العدو، ورجع أُولئك إِلى مقامهم فصلَّوا لأَنفسهم ركعةً، ثُم ذهبوا فقاموا مقام أُولئك مستقبل العدو، ورجع أُولئك إِلى مقامهم فصلّوا لأَنفسهم ركعةً ثُم سلَّموا». ولا يخفى أَنَّ كُلاًّ من الأَحاديث إِنما يدل على بعض المُدَّعى، وقد رَوَى تمام صورة الكتاب محمد بن الحسن في كتاب «الآثار» من رواية أبي حنيفة موقوفاً على ابن عباس، وهو كالمرفوع في هذا الباب

(1)

. والله تعالى أَعْلمُ بالصواب.

ومذهب الشافعي: أَنه يصلي بالطائفة الأُولى شَطْرَها في غير المغرب، فإِذا قام فارقته وأَتَمَّت هذه الطائفة صلاتها فُرادى وذهبت إليه، وجاءت الطائفةُ الأُخْرَى فاقتدت به وصلت معه، فإِذا جَلَس للتشهُّد قامت وأَتَمَّتْ ما فاتَها ولَحِقَتْهُ في التشهد وسَلَّم بهم، لقول سهل بن أبي حَثْمة:«يقوم الإِمام مستقبل القبلة، ويقوم طائفة منهم معه، وطائفة من قبل العدو ووجوههم إِلى العدو، فيركع بهم ركعةً، ويركعون لأَنفسهم، ويسجدون لأَنفسهم سجدتين في مكانهم، ثُم يذهبون إِلى مقام أُولئك ويجيء أُولئك، فيركع بهم ركعةً، ويسجد بهم سجدتين، فهي له ثنتان ولهم واحدةٌ، ثُم يركعون ركعةً، ويسجدون سجدتين» . رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، لم يرفعه يحيى بن سعيد الأَنصاري، عن القاسم بن محمد. ورفَعه شُعْبة، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، عن أَبيه، عن صالح بن خَوَّات، عن سهل بن أَبي حَثْمَة،

(1)

لأن الصحابي إِذا روى ما لا مجال للعقل في إدراكه، فله حكم المرفوع، وهنا كذلك.

ص: 467

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

ومذهب مالك: أَنْ الإِمام يُسَلِّم وَحْدَه بلا انتظارهم، وتُتِمُّ هذه الطائفة بعده. وحكاية ابن مسعود تشهد له. قال القُرْطبي في «شرح مسلم»: والفرق بين حديث ابن عمر وحديث ابن مسعود: أَنْ في حديث ابن عمر كان قضاؤهم في حالةٍ واحدةٍ، ويبقى الإِمام كالحارس وَحْدَه. وفي حديث ابن مسعود كان قضاؤهم متفرِّقاً على صفةِ صلاتهم. وقد تأَوَّل بعضهم حديث ابن عمر على ما في حديث ابن مسعود، وبه أَخذ أَبو حنيفة رحمه الله تعالى وأَصحابه غير أَبي يوسف، وهو نَصُّ أَشْهَب مِنْ أَصحابنا خلافَ ما تأَوَّلَهُ ابنُ حبيب. انتهى.

وفي صلاة الخوف دلالةٌ ظاهرةٌ على كون الجماعة فريضةً، وأَنَّ تعدُّد الجماعة وإِعادَتها غير جائزٍ، ولو بالضرورةِ، وأَما تعليل أَبي يوسف بأَنَّ الناس كانوا يرغبون في الصلاة خَلْفَه عليه الصلاة والسلام ما لا يرغبون في الصلاة خلف غيره، فَشُرِعت بصفة الذهاب والمجيء لينال كل فريق فضيلة خَلْفَهُ، وقد ارتفع هذا المعنى بعده، فكل طائفة يتمكنون من أَداء الصلاة بإِمامٍ على حِدَة، فلا يجوز لهم أَداؤها بصفة الذهاب والمجيء، فمدفُوعٌ بأَن الأَصل عَدمُ اختصاصه وقيام نائبه ـ وهو الإِمام ـ على أُمته بعده، وقد أَجمع الصحابة على ذلك، فلا ينبغي الخلاف لما جرى هنالك.

وذكر شمس الأَئمة السَّرَخْسِي: أَنَّ مخالفة أَبي يوسف إِنما هي في صلاة الخوف بصفة الذهاب والمجيء كما ذكره، لأَنه نقَل موافقته لهما فيما إِذا كان العَدُوُّ في وجه القبلة، وصورة ذلك: أَنْ يجعلَ الإِمام الناسَ صَفَّين يفتح الصلاة بهم جميعاً، فإِذَا ركَع الإِمامُ ركعُوا معه، وإِذا سجَد سَجَدَ معه الصفُّ الأَوَّل، والصفُّ الثاني قيامٌ يَحْرُسونَهم، فإِذا رفعوا رؤوسهم سجد الصفُّ الثاني، والصفُّ الأَول قعودٌ يحرسونَهم، فإِذا رَفَعُوا رؤوسهم سجد الإِمام السجدةَ الثانيةَ وسجد معه الصفُّ الأَول، والصف الثاني قعودٌ يَحْرُسُونَهم، فإِذا رفعوا رؤوسهم سجد الصفُّ الثاني، والصف الأَول قيامٌ يحرسونَهم، فإِذا رفعوا رؤوسهم تأخَّرَ الصفُّ الأَول وتقدم الصفُّ الثاني فصلّى بهم الركعة الثانية بهذه الصفة أَيضاً، فإِذا قَعَدُوا سلَّم وسلَّمُوا معه، وهذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بِعُسْفان.

رواها أَبو داود وغيره عن أَبي عَيَّاش الزُّرَقي وغيره.

وقال: «كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفَان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلّينا الظهر، فقال المشركون: لقد أَصبنا غفلةً لو كنَّا حمَلْنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت

ص: 468

وإن زَادَ الخَوْفُ صَلُّوا رُكْبَانًا فُرَادَى، بإِيمَاءٍ إِلى أَيِّ جِهَةٍ قَدِرُوا. ويُفْسِدُها القِتَالُ

===

آية القَصْر بين الظهر والعصر، فلما حضرت صلاة العصر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة والمشركون أَمَامَه»، وهكذا فَعَل أَبو موسى. فَعَلَى هذا لا يَتِمُّ جوابنا عن قول أَبي يوسف بأَن أَبا موسى صَلاَّها بأَصْبَهَان، وسعد بن أَبي وقَّاص في حَرْب المجوس بطَبَرِسْتَان، ومعه الحسن بن علي وحُذَيْفة بن اليَمَان وعبد الله بن عمرو بن العاص، حتى يَثْبُت أَنهم صلّوها على غير هذه الصِّفة.

ثُم حَمْلُ السلاح في الصلاة عند الخوف مستحبٌ عندنا لا واجبٌ، كما قال مالك والشافعي، عَمَلاً بظاهر الأَمر في قوله تعالى:{وليَأْخُذُوا حِذْرَهُم وأَسْلِحَتَهُمْ}

(1)

، قلنا هو محمول على النَّدْب، لأَنَّ حَمْلَها ليس من أَعْمَالها فلا يجب فيها.

ثُم اعلم أَنَّ صلاة الخوف على الصفة المذكورة، إِنما يلزم إِذا تنازع القوم في الصلاة خلف الإِمام، أَمَّا إِذا لم يتنازعوا فالأَفضل أَنْ يصلِّي بإِحدى الطائفتين تمام الصلاة، ويُصلِّي بالأُخرى إِمَامٌ آخر.

(وإِن زَادَ الخَوْفُ) بِأَنْ لم يَدَعْهم العدو يصلُّون نازلين بل يهاجمهم (صَلَّوا) حينئذ (رُكْبَاناً) لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفتم فرِجَالاً أَوْ رُكْباناً} أَي فإِنْ زِدْتُم في الخوف، فَصَلُّوا حالَ كَوْنِكُم قائمين أَوْ رَاكِبينَ (فُرَادَى) لعدم اتحاد المكان، إِلاَّ إِذا كان الإِمام والمأْموم على دابةٍ واحدةٍ. وعن محمد: تجوز صلاتهم جماعةً، وبه قال مالك والشافعي، لأَنه جوَّز لهم ما هو أَشدُّ من ذلك، وهو الانحراف والذهاب والإِياب.

(بإِيمَاءٍ) في الركوع والسجود. (إِلى أَيِّ جِهَةٍ قَدِرُوا) إِذا عجزوا عن الاستقبال، لما روى البخاري في قوله تعالى:{فإِنْ خِفْتُم فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}

(2)

، عن نافع: أَنَّ عبد الله بن عمر كان إِذا سُئِل عن صلاة الخوف قال: «يتقدم الإِمام وطائفة مِنْ النَّاس، فصلَّى بهم الإِمام ركعةً، وتكون طائفةٌ منهم بينهم وبين العدو لم يصلُّوا، وإِذا صَلَّى الذين معه ركعةً استأخروا مكان الذين لم يُصلُّوا

إِلى أَنْ قال: فإِذا كان خوف هو أَشدّ من ذلك، صَلَّوا رجالاً قياماً على أَقدامهم، أَوْ رُكْباناً مُسْتَقبِلي القبلة، أَوْ غير مستقبليها». قال مالك: قال نافع: لا أَرى عبد الله ذَكَرَ ذلك إلاَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(ويُفْسِدُها القِتَالُ)، عندنا، خلافاً للشافعي، وهو روايةٌ عن مالك، لأَن الأَمر

(1)

سورة النساء، الآية:(102).

(2)

سورة البقرة، الآية:(239).

ص: 469

والمَشْيُ والرُّكُوبُ.

‌بَابُ [الصَّلاةِ في الكعْبَةِ]

صَحَّ في الكَعْبَةِ الفَرْضُ والنَّفْلُ،

===

بأَخْذِ السلاح ليس إِلاَّ لِجَواز القتال، ويُمكن دفعه بأَنه قد يكون للترهيب، أَوْ للاحتياج إِليه إِذا تعدوا عن الحدِّ الموجِب لبطلان الصلاة، لكن يَرِدُ عليه جوازُ قَتْل الحية في الصلاة وإِن كان بعملٍ كثيرٍ على الظاهر.

(والمَشْيُ)، أَراد به أَنه إِذا هرب من العدو ولم يمكنه الوقوف للصلاة، لا يُصَلِّي ماشياً وإِنْ ذهب الوقت، ولم يُرِد أَنَّ مطلق المشي مُفْسد، لأَن صلاة الخوف قَلَّمَا توجد بدون المَشْي.

(والرُّكُوبُ)، لأَنه عملٌ كثيرٌ، واعلم أَنَّ عند أَهل السِّيَر أَنه صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة الخوف في أَربعة مواضع: ذاتِ الرِّقاع، وبَطْنِ نَخْلٍ، وعُسْفَان، وذي قَرَد ـ بفتحتين: موضع قرب المدينة السكينة ـ، والله سبحانه أَعلم بالصواب.

(ويُفْسِدُها القِتَالُ)، عندنا، خلافاً للشافعي، وهو روايةٌ عن مالك، لأَن الأَمر بأَخْذِ السلاح ليس إِلاَّ لِجَواز القتال، ويُمكن دفعه بأَنه قد يكون للترهيب، أَوْ للاحتياج إِليه إِذا تعدوا عن الحدِّ الموجِب لبطلان الصلاة، لكن يَرِدُ عليه جوازُ قَتْل الحية في الصلاة وإِن كان بعملٍ كثيرٍ على الظاهر.

(والمَشْيُ)، أَراد به أَنه إِذا هرب من العدو ولم يمكنه الوقوف للصلاة، لا يُصَلِّي ماشياً وإِنْ ذهب الوقت، ولم يُرِد أَنَّ مطلق المشي مُفْسد، لأَن صلاة الخوف قَلَّمَا توجد بدون المَشْي.

(والرُّكُوبُ)، لأَنه عملٌ كثيرٌ، واعلم أَنَّ عند أَهل السِّيَر أَنه صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة الخوف في أَربعة مواضع: ذاتِ الرِّقاع، وبَطْنِ نَخْلٍ، وعُسْفَان، وذي قَرَد ـ بفتحتين: موضع قرب المدينة السكينة ـ، والله سبحانه أَعلم بالصواب.

باب (الصلاة في الكعبة)

الأَنْسَبْ: فصلٌ. (صَحَّ في الكَعْبَةِ الفَرْضُ والنَّفْلُ) خلافاً لمالك في الأَوَّل

(1)

، لاستدبار بعضها وأَنه مُبْطل، بخلاف النفل فإِنه جاز اتفاقاً.

ولنا: قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ للطَّائِفِينَ والعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السجود}

(2)

، فإِنَّ الأَمْر بالتطهير للصلاة فيه، ظاهر في صِحتها فيه مطلقاً، ولأَن شَرْط الجواز استقبالُ جزءٍ من الكعبة، لقوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ}

(3)

وقد وُجِدَ الاستدبار غير مفسد لذاته، بل لتضمنه تَرْكَ الاستقبال الذي هو شَرْط الجواز، كما إذا استدبر خارج البيت، على أَنه لا فرق في الشَّرْط بين الفَرْض والنفل.

وقد ثبت أَنه صلى الله عليه وسلم صَلَّى في داخل البيت، كما في «الصحيحين» عن نافع، عن ابن عمر: «أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبةَ هو وأُسامَةُ وبلالُ وعثمانُ بن طلحةَ الحَجَبي فأَغلقها عليه، ثُم مَكَث فيها، قال ابن عمر: فَسَأَلْتُ بلالاً حين

(1)

أي في الفَرْض.

(2)

سورة البقرة، الآية:(125).

(3)

سورة البقرة، الآية:(149).

ص: 470

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

خرَج، ما صَنَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: جَعَلَ عمودَيْنِ عن يساره، وعموداً عن يَمِينِه، وثلاثةَ أَعْمِدة وراءه، ثُمَّ صَلَّى، وكان البيتُ يَومَئذٍ على ستةِ أَعْمِدة».

وفي رواية قال: «قَدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الفَتْحِ فنزل بفِنَاءِ الكعبة، فأَرسلَ إِلى عثمانَ بنِ طلحةَ، وأَمَرَ بالبابِ فأُغْلِقَ، فَلَبِثُوا فيه ملياً، ثُم فتح الباب، قال عبدُ الله: فبادَرْتُ البابَ فتلَقَّيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خارجاً، وبلالاً على أَثَره، فقلت لبلال: هل صلَّى فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، قُلْتُ: أَيْنَ؟ قال: بَيْنَ العمودَيْن تلقاءَ وَجْهِهِ، ونسيت أَنْ أَسْأَلَه كم صَلَّى» ؟

فإِنْ قيل: في «الصحيحين» أَيضاً عن ابن عباس: «أَنْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل الكعبةَ وفيها ستُّ سواري، فَقَامَ عِنْدَ ساريةٍ فدعا ولم يُصَلِّ» . وفي روايةٍ عنه قال: «أَخبرني أُسامَةُ بنُ زيد: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا دخل البيت دعا في نواحيه كلِّها ولم يُصَلِّ فيه حتى خرج، فلما خَرج رَكَع في قِبَل البيت ركعتين، وقال: هذه القِبْلة» . مختصر. أُجِيبَ: بأَنَّ حديثَ بلال مُثْبِتٌ، فقُدِّم على حديثِ ابن عباس لأَنه نَافٍ.

وقيل: دَخَلها ولم يُصَلِّ، ثُم دخلَها من الغد وصَلَّى، لما رَوى الدَّارَقُطْنِيّ عن ابن عمر قال:«دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم البيتَ، ثُم خرج وبلالٌ خَلْفَه، فَقُلْتُ لبلال: هل صلَّى؟ قال: لا، فَلَما كان من الغَدِ دَخَل، فسَأَلْتُ بِلالاً هل صلَّى؟ قال: نعم، صَلَّى ركعتين» .

وقال ابن حِبَّان في «صحيحه» : يُحمل حديثُ بلال على يومِ الفَتح، وحديثُ ابن عباس على حَجَّةِ الوَدَاع. واعتُرِض عليه بما روى إسحاق بنُ رَاهُويه في «مسنده» ، والطبراني في «مُعْجمه» عن ابن عباس:«أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يدخُلِ البيتَ في الحج، ودخل عامَ الفَتْح» .

وفي أَبي داودَ عن عبد الرحمن بن صَفْوان قال: «قلت لعمرَ بن الخطاب: كيف صَنَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين دخلَ الكعبةَ؟ قال: صَلَّى رَكْعَتينِ» . وفي «صحيح ابن حِبان» من حديث عبد الله بن السَّائب قال: «حَضَرْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الفَتْح وقد صلّى في الكعبة، فخلعَ نَعْليهِ فَوضعَهُما عن يساره، ثم افتتح سورةَ المؤمنين، فَلَمَّا بَلَغَ ذِكْرَ موسى أَوْ عيسى أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ» .

قال النووي: وأَما نَفْيُ أُسَامَةَ فَسَبَبُهُ: أَنهم لَمَّا دَخَلوا الكعبةَ أَغلقوا البابَ، فاشتغلوا بالدعاء، ورأى أُسَامة النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو، فاشتغل هو أَيضاً في الدعاء في ناحيةٍ من نواحيه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو، فاشتغل هو أَيْضاً في الدعاء في ناحيةٍ أُخْرى. وبلالٌ

ص: 471

ولَوْ كَانَ ظَهْرُهُ إِلى ظَهْرِ إِمَامِهِ لا لِمَنْ ظَهْرُهُ إِلى وَجْهِهِ. وكُرِهَ فَوْقَهَا

===

قريبٌ منه صلى الله عليه وسلم فرآه لِقُرْبه، ولم يره أُسامة لِبُعْدِه مَع خِفَّةِ الصلاة وإغلاق الباب واشتغاله بالدعاء. وجاز له نَفْيُها عملاً بِظَنِّه، على أَنه معارَضٌ بما في «مسند أَحمد» ، و «صحيح ابن حِبَّان» عن عُمَارة بن عُمَيْر، عن أَبي الشَّعْثَاءِ عن ابن عمر:«أَخبرني أُسامةُ بن زيد: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى في الكعبةِ بين السَّارِيَتَيْن ومَكَثَ معه عمر، لم أَسْأَله كم صَلَّى» . وهذا سند صحيح.

والأَوْلى الجمع بينهما بما رواه الدَّارَقُطْنِي عن ابن عمر كما تقدم. وبما روى هو والطبرانيُّ عن أَبي حبيب بن أَبي ثابت، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال:«دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم البيت فَصَلَّى بين الساريتين، ثُم خرج فصلَّى بين الباب والحِجْرِ ركعتين، ثُم قال: هذه القِبْلَةُ» ، ثُم دخل مرةً أُخرى فقام يدعو، ثُم خرج ولم يُصَلِّ. قال البيهقيُّ: فَصَلَّى مرةً وترك مرةً، إلا أَنَّ في ثبوت الحديثين نظراً. والله ولِي التوفيق، وبيده أَزِمَّة

التحقيق.

(ولَوْ كَانَ) المُصَلِّي (ظَهْرُهُ إِلى ظَهْرِ إِمَامِهِ) أَوْ جنبه إِلى جنبه، لأَنَّه توجه إِلى القِبلة غير متقدم على إِمَامهِ ولا معتقد بِخَطَئِهِ، لأَن كل جانب قِبلة بخلاف مسألة التحري

(1)

. (لَا لِمَنْ ظَهْرُهُ إِلى وَجْهِهِ) أَي وَجْهُ إِمَامهِ لأَنه مُتقدِّمٌ عليه. ولو كان وَجْهُهُ إِلى وجه إِمامه ولا حائل، جازت الصلاةُ مع الكراهة، لأَنه شِبْهُ عبادةِ الصورة. ولو قام الإِمام في الكعبة وفتح الباب وقام المقتدون حولها، جاز، وكان كقيامه في المحراب في باقي المساجد.

(وكُرِهَ) مع الجواز النَّفْلُ والفَرْضُ (فَوْقَهَا) أَما الجوازُ فلأَنَّ القِبْلة هي العَرْصَة

(2)

والهواء إلى عَنان السماء دون البناء، لأنه قد يُنْقَل، ولأَنها تجوز اتفاقاً على أَبي قُبَيس ولا بناءَ بين يديه يساويه. وأَما الكراهة فلما فيه مِنْ تَرْك التعظيم، ولِما روى الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُصَلَّى في سَبْعِ مواطن: في المزبلة، والمَجْزَرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمَّام، ومعاطن

(3)

الإِبل، وظهر بيت الله. ولم يُشترط لصحة الصلاة فوقها سترةٌ بين يَدَي المُصَلِّي. ويشترطها

(1)

قال صاحب "العناية" 2/ 152: يعني إِذا صلَّوا في ليلةٍ مظلمة، فجعل بعضهم ظهره إلى ظهر الإمام وهو يعلم حاله، فإنه لا تجوز صلاته لأنه اعتقد أن إمامه على الخطأ.

(2)

العَرْصَة: البُقْعة الواسعة بين الدُّور - جمع دار وهي المحل يجمع البناء والساحة - لا بناء فيها المعجم الوسيط ص: 593، مادة (عَرَصَ).

(3)

العَطَن: مَبْرَك الإِبل ومَرْبض الغنم عند الماء. المعجم الوسيط ص: 609، مادة (عَطَنَ).

ص: 472

وإِنِ اقْتَدوا حَوْلَها وبَعْضُهُم أَقرَبُ إِليها مِن إِمَامِهِ، صَحَّ إِنْ لَم يَكُن في جانِبِهِ.

===

الشافعي.

(وإِنِ اقْتَدوا حَوْلَها) بإِمامٍ خارِجَها (وبَعْضُهُم أَقْرَبُ إِليها مِنْ إِمَامِهِ صَحَّ إِنْ لَم يَكُنْ) الأَقرب (في جانِبِهِ) أَي جانب إِمامه، لأَنه لا يُعدَّ مُتقدِّماً على إِمامه، وفَسَد إِنْ كان الأَقرب في جانب إِمامه، لأَنه يُعَد متقدماً عليه، لأَن التقدُّم والتأخُّر إِنَّما يَظْهَرَانِ عند اتِّحاد الجهة لأَنهما من الأُمور الإِضافية، ولأَنه في معنى مَنْ ظهره إِلى وجه إِمَامِهِ، ولا يَخْفَى أَنَّ التقدم على الإِمام في المقام مكروهٌ عند الإِمام مالك، فَليُنْظَر في الأَدلة المتعلقة بما هنالك. والله تعالى أَعْلم بالصواب.

ص: 473

‌كِتَابُ الزَّكَاةِ

===

كتابُ الزَّكَاةِ

قَرَنَ الزكاة بالصلاة اقتداءً بكلام الله تعالى: {أَقِيمُوا الصلاةَ وآتُوا الزكاةَ}

(1)

، ولولاه لعقَّب الصوم بها، لأَنهما عبادتان بدنيتان، ولذا قَدَّمَ الصوم على الحج لتوقف وجوبه على المال وغيره.

والحاصل: أَنَّ العبادة: إِمَّا بدنيةٌ كالصوم، (والصلاة)

(2)

، وإِمَّا ماليةٌ كالزكاة، وإِمَّا مركبةٌ منهما كالحج، ولهذا تأَخَّرَ وصار ركناً خامساً من أَركان الإِسلام التي أَصلُها التصديقُ والإِقرارُ بالشهادتين، ونزل فيه قولهُ تعالى:{اليومَ أَكْمَلْتُ لكم دِينَكُمْ}

(3)

. ثم تركيبُ هذا البناء

(4)

يَدُلُّ على النَّماء، يُقَالُ: زَكا الزرعُ إِذَا نَمَا، وسُمِّيَتْ بها، لأَنها سَبَبٌ نما بالعِوَضِ في الدنيا، والثواب في العُقْبى، قال تعالى:{وما أَنْفَقْتُم مِنْ شَيءٍ فَهُو يُخْلِفُه}

(5)

، أَوْ على الطهارةِ، ومنه قوله تعالى:{وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وزكاةً}

(6)

، أَيّ طهارة، وفيها معنى التطهير، قال تعالى:{خُذْ من أَمْوَالِهِم صَدَقةً تُطَهِّرُهُم وتُزَكِّيهم بها}

(7)

، وسمّيت بها لأنها تُطَهِّرُ صاحبَها من الذنوب، أَوْ من رذيلة البُخْل الذي هو من أَكبرِ العيوب. وسُمِّيَتْ صدقةً لِدلالَتِها على صِدْق العبدِ في العُبوديَّة، وامتثاله لِحَقِّ الرّبوبية. وقوله:{تُزَكِّيهم} أَي تُثْنِي عليهم.

وفي الشرع: عبارةٌ عن تمليك جُزْءٍ من النصاب الحَوْلي للفقير ومَنْ بمعناه، لأَنها توصف بالوجوب. وقيل: هي اسم للقَدْرِ الذي يُخْرَج للفقير، لقوله تعالى:{وآتُوا الزكاةَ} ، ومعلوم أَنَّ مُتَعَلَّقَ الإِيتاءِ وهو المالُ، لأَنَّ الإِيتاء بدونه من المَحَال. والله سبحانه وتعالى أَعلم بالأَحوال.

(1)

سورة البقرة، الآية:(43).

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

سورة المائدة، الآية:(3).

(4)

أي لفظ الزكاة.

(5)

سورة سبأْ، الآية:(39).

(6)

سورة مريم، الآية:(13).

(7)

سورة التوبة، الآية:(103).

ص: 474

لا تَجِبُ إِلَّا عَلى حُرٍّ،

===

هي فريضة لقوله تعالى: {وآتُوا الزكاةَ} ، وإجماع الأُمة، والأَحاديث الواردة: منها ما رواه الترمذي، وصححه ابن حِبَّان في «صحيحه» ، والحاكم وقال: على شرط مسلم، عن سُلَيْم بن عامر قال: سمعت أَبا أُمامة يقول: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: «اتقوا الله، وصَلُّوا خَمْسَكم، وصوموا شهركم، وأَدُّوا زكاة أَموالكم، وأَطيعوا ذا أَمركم، تدخلوا جَنَّةَ ربِّكم» .

ومنها ما رواه أَحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن ابن عمر مرفوعاً: «بُنِي الإِسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أَنْ لا إِله إِلاَّ الله وأَنَّ محمداً رسول الله، وإِقامِ الصلاةِ، وإِيتاءِ الزَّكاةِ، وحجِّ البيت، وصومِ رمضان» .

وكان فرضيتُها في السَّنَةِ التي فُرِض فيها الصومُ، وهي السَّنة الثانية من الهجرة. وقيل: قبل الهجرة إجمالاً، وبعدها تفصيلاً. وهذا أيضاً يَصْلُحُ أَنْ يكونَ وجهاً لتقديم كتاب الزكاة على الصوم.

وفي «المحيط» : قال أَبو الحسن الكَرْخِي: إِنها تجب على الفور. وفي «المنتقى» : إِذا ترك حتى حال عليه حَوْلانِ، فقد أَساء وأَثِم. وعن محمد: إِنْ لم يؤدِ الزكاة لم تُقْبَل شهادته. وذكر ابن شجاع عن أَصحابنا: أَنها على التراخي، وهكذا ذكر أَبو بكر الجَصَّاص.

وفي التحقيق: أَنَّ الأَمر المطلق عن الوقت ـ وهو الأَمر الذي لم يتعلق أَداء المأمور به فيه بوقت محدود على وجه يفوت الأَداء (بفوته)

(1)

، كالأَمر بالزكاة، وصدقة الفطر، والعُشْر، والكفارات، وقضاء رمضان، والنذر المطلق ـ ذهب أَكثر أَصحابنا، وأَصحاب الشافعي، وعامة المتكلّمين: إِلى أَنَّه للتراخي، وذهب بعض أَصحابنا، منهم الشيخ أَبو الحسن الكَرْخِي، وبعض أَصحاب الشافعي، منهم الشيخ أَبو بكر الصَّيْرفي وأَبو حامد: إِلى أَنَّه للفور، وكذا كل من قال بالتكرار يلزمه الفور. ومعنى يجب على الفور: أَنه يجب تعجيل الفعل في أَول أَوقات الإِمكان. ومعنى يجب على التراخي: أَنه يجوز تأخيره عن أَول أَوقات الإِمكان، لا أَنه يجب تأخيره عنه بحيث لو أتى به فيه لا يُعْتَدُّ بِهِ

(2)

، لأَنه ليس مذهباً لأَحد.

(لا تَجِبُ) عَبَّر بالوجوب، لأَن بعض مقادير الزكاة ثابت بأَخبار الآحاد، أَوْ لأَن استعمال الوجوب في الفرض ـ مجازاً ـ كثيرٌ (إِلاَّ عَلَى حُرَ) احتراز عن

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

في المطبوع: "لا يعتبر به"، وما أثبتناه من المخطوط.

ص: 475

مُكَلَّف،

===

القِنِّ

(1)

، والمُدَبَّر

(2)

، وأُمِّ الولد

(3)

والمُكَاتَب

(4)

.

(مُكَلَّف) فلا يجب على صبي ولا مجنون. وقال مالك، والشافعي، وأَحمد: يجب في مالهما، كنفقة الزوجة، والعُشْر، والخَرَاج، وصدقة الفِطْر، لما روى عَمْرُو بنُ شُعَيْب، عن أَبيه، عن جده: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: «مَنْ وَلِيَ يتيماً له مَالٌ، فَلْيَتَّجِرْ فيه، ولا يتركه حتى تأكلَه الصدقةُ» . رواه الترمذي مرفوعاً، وموقوفاً على عمر رضي الله عنه، والدَّارَقُطْنِيّ من طرُقٍ لكنها ضعيفة. وقيل: المراد بالصدقة: النفقة. ولما رُوِيَ عن عمرَ وعليّ رضي الله عنهما، مِنْ قولهما بوجوبها في مال الصغير. وروى مالك في «الموطأ» ، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أَبيه أَنه قال: كنت وَلِيتْني عائشةُ أَنا وخالي يتيمين في حِجْرِها ـ أَي تربيتها ـ، وكانت تُخْرِجُ من أَموالِنَا الزَّكاة.

ولنا ما روى أَبو داود، والنَّسائي، وابن ماجه، والحاكم وقال: على شرط مسلم، أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«رُفِعَ القلمُ عن ثلاثة: عن النائمِ حتى يستيقظَ، وعن الصبيِّ حتى يَحْتَلِمَ، وعن المجنونِ حتى يَعْقِل» . وفي «آثار محمد بن الحسن» قال: أَخبرنا أَبو حنيفة: حدثنا ليث بن أَبي سُلَيْم، عن مجاهد، عن ابن مسعود قال: ليس في مال اليتيم زكاة. ولَيْثٌ: كان أَحد العلماء العُبَّاد، لكنِ اختلط في آخر عُمُرِه، ومعلومٌ أَنَّ أَبا حنيفة لم يكن ليذهب فيأْخذ عنه في حال اختلاطه ويرويه، مع تشديد أَمره في الرواية ما لم يشدده غيره، على ما عُرِف. وروى البيهقي عن لَيْث بن أَبي سُلَيم، عن مجاهد، عن ابن مسعود قال: «مَنْ وَلِيَ مالَ اليتيم فَلْيُحْصِ

(5)

عليه السنين، وإِذا دفع إِليه ماله، أَخبره بما فيه من الزكاة، فإِنْ شاء زَكَّى، وإِنْ شاء ترك». ورُوِي عن ابن عباس أَيضاً، إِلاَّ أَنَّه تَفَرَّدَ بإِسناده ابن لَهِيعَةَ.

والجواب عن الحديث الأَول: أَنَّ أَحمد بن حَنْبَل حكم بعدم صِحَّته، والترمذيَّ

(1)

القِنّ: الرَّقِيق الكامل الرِّق، إِذا لم يحصل فيه شيءٌ من أسباب العتق أو مقدماته، كالمكاتبة والتدبير ونحو ذلك. معجم لغة الفقهاء ص:370.

(2)

المُدَبَّر: الرقيق الذي عُلِّقَ عتقهُ على موت سيّده، ومثاله قول السيِّد لعبده: إِن مِتُّ فأنت حُر. معجم لغة الفقهاء ص: 418.

(3)

أُمِّ الولد: الأَمة التي حملت من سيدها وأتت بولد. معجم لغة الفقهاء ص 88.

(4)

المُكَاتَب: الرقيق الذي تمَّ عَقْدٌ بينه وبين سيّده على أَن يدفعَ مبلغًا من المال نجومًا - متفرقًا - ليصير حُرًّا. معجم لغة الفقهاء، ص:455.

(5)

في المطبوع: فَلْيَحْصر، وما أثبتناه من المخطوط.

ص: 476

مُسْلِمٍ، مَالِكٍ مِلْكًا تامًّا لِنِصَاب نَامٍ وهو إِمَّا بالثَّمَنِيةِ، أَوِ السَّوْمِ، أَوْ نِيَّةِ التِّجَارَةِ مَعَ الحَوْلِ،

===

بضعف سنده. وعن قول عمر وعليّ أَنَّه مُعارَضٌ بقول ابن مسعود، وابن عباس. ولأَن من شروطها النيةَ، وهي لا تتحق من الصبي والمجنون، ولا تُعْتَبَرُ نيَّةُ الولي، لأَنَّ العبادات الواجبة لا تتأَدى بنيّة الغير.

(مُسْلِمٍ) لأَنها عِبادة، والكافر ليس بأَهلها. وهذا في بعض النسخ ليس بموجود، ولعل ذلك لأَن قيد التكليف يُغْني عنه، بناءً على أَنَّ الكافر غير مخاطب بالشرائع عندنا.

(مَالِكٍ مِلْكاً تامّاً) أَي رقبةً ويداً، فلا يجب على المشتري في مالٍ اشتراه قبل القبض للتجارة، ولا على المولى في عبده للتجارة إذا أَبَق، ولا فيما بِيَدِ عبده المأْذون غير المديون، لأَنَّ يد المأْذون يدُ أَصَالة لا يَدُ نيابة.

(لِنِصَابٍ نَامٍ) ولو تقديراً، بأَنْ يتمكنَ من استنمائه لكونه في يده أَوْ يد نائبه، (وهو) أَي النمو:(إِمَّا بالثَّمَنِيَّةِ) أَي بِكَوْن المال ثمناً للأَشياء كالذهب والفضة، (أَوِ السَّوْمِ) أَي الرَّعْي، (أَوْ نِيَّةِ التِّجَارَةِ) في العُرُوض

(1)

إِذا اقترنت بعملٍ من أَعمالها، كالشراء والبيع والإِجارة، (مَعَ الحَوْلِ) لأَنه المُمَكِّنُ من النمو، لاشتماله على الفصول الأَربعة التي الغالب فيها تفاوت الأَسعار.

وأَمَّا شرط النصاب، فله شواهد كثيرةٌ منها: حديث الخُدْرِي

(2)

قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «ليس فيما دون خَمْس أَواقٍ من الوَرِقِ

(3)

صَدَقَةٌ، وليس فيما دون خَمْس ذَوْدٍ

(4)

صَدَقَةٌ، وليس فيما دون خَمْسة أَوْسُقٍ صَدَقَة».

وأَما الحولُ فلِمَا في الدَّارَقُطْنِيّ عن ابن عمر ـ مِنْ طُرُقٍ ـ مرفوعاً: «ليس في مالٍ زكاةٌ، حتى يحولَ عليهِ الحَوْلُ» . وصحح بعضهم وَقْفَهُ على رفعه.

وكذا رواه أَبو داود مرفوعاً، ففي «سنن أَبي داود» ، عن عاصم بن حَمْزَة،

(1)

العُرُوض: جَمْعُ العَرْض وهو المتاع، وكلُّ شيء فهو عَرْض سوى الدراهم والدنانير فإِنها عينٌ. معجم لغة الفقهاء، ص:309.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 3/ 271، كتاب الزكاة (24)، باب ما أُدِّي زكاتُه فليس بكنزٍ (4)، رقم (1405).

(3)

الوَرِق: الدَّراهم المضروبة من الفضة، معجم لغة الفقهاء، ص:501.

(4)

الذَّوْد من الإبل: من ثلاثة إلى عشرة. معجم لغة الفقهاء، ص:215.

ص: 477

فَاضِلٍ عن حاجتِهِ الأَصْلِيةِ، وعَن دَيْنٍ مُطَالَبٍ مِنْ عبدٍ

===

والحارِث الأَعْوَر، عن عليّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال:«إِذا كانَتْ لك مِئَتا دِرْهَم، وحَال عليها الحَوْلُ، ففيها خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وليس عليك شيءٌ ـ يعني في الذهب ـ حتى يكونَ لك عِشْرون ديناراً، وإِذَا كانَتْ لكَ عِشْرُون ديناراً وحَالَ عليها الحَوْلُ، ففيها نِصْفُ دينار، فما زاد فبِحِسَابِ ذلك قال: لا أَدري أَعَلِيٌّ يقول: فبحسابِ ذلك، أَوْ رفَعَه إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ وليس في مالٍ زكاةٌ حتى يحولَ عليه الحولُ» . ولا يَقْدحُ فيه ضَعْفُ الحارث من رواية، لمتابعة عاصم له، فيجب قَبُول رَفْعِه لتوثيق ابن المديني، وابن مَعِين، والنَّسائي إيَّاه. وقد قال النَّوَوي: حديث صحيح أَوْ حسن.

(فَاضِلٍ عن حاجتِهِ الأَصْلِيةِ) لأَنَّ المشغول بالحاجة الأَصلية كالمعدوم في حقّ الزكاة، فلا يجب في دُور السُّكْنى، وثياب البدَن، وأَثاثِ المنزل، ودوابِّ الرّكوب

(1)

، وعبيد الخِدمة، وسلاح الاستعمال، وكُتُب العلمِ لأَهلها، وآلات المحترفين لأَصحابها.

فلو كان له قَدْرُ نصاب، لكنْ يحتاج إِلى أَنْ يَصْرِفَه في هذه الأَشياء فلا زكاة فيه، كذا ذُكِر في بعض الشروح، نقله البِرْجَنْدي. وفيه بَحْث، لأَنَّه إِنْ أَراد أَنَّه لا يلزمه بعد الحول، فغير صحيح، وإِنْ كان قَبْلَه فلا كلام فيه.

(وعَن دَيْنٍ) حَالَ أَوْ مُؤَجَّلٍ بأَصالة أَوْ كفالة (مُطَالَبٍ مِنْ عبدٍ)، فلا يمنع الزكاة دَيْنٌ هو نَذْر أَوْ كفارة، أَوْ وجوب حج، لأَنَّ العبد ليس له أَنْ يُطَالِبَ به، ويمنعها دَيْنٌ هو عُشْر، أَوْ خَرَاج أَوْ زكاة عند أَبي حنيفة ومحمد. وفي «المحيط»: وصورته: إِذا حال الحول على النصاب فوجبت الزكاة فيه، لم يجب فيه في الحول الثاني، أَي لاشتغال بعض النصاب بدَيْنِ الزكاة، ولو أُتْلِفَ النصابُ ـ أَي كُلُّه ـ بعد الحول الثاني حتى صارت الزكاة ـ أَيْ زكاة الحول الأَول ـ دَيْناً في ذمّته يمنع ذلك وجوب الزكاة، أَي للحَوْل الثاني. وقال زُفَر: لا يمنع كِلاهما. وقال أَبو يوسف: وجوب الزكاة يمنع، ودَيْن الزكاة لا يمنع، لأَنَّ دَيْن الزكاة لا مُطَالِبَ له مِنْ جهة العباد، كالنذْر، والكفَّارة، وصدقة الفِطْر، والأُضحية. وأَما وجوب الزكاة فجزءٌ من النِّصاب صار مُسْتَحَقَّاً فانتقض به النصاب.

ولهما أَنَّ هذا دَيْن له مُطَالِب من جهة العباد، لأَن حقَّ الأَخْذ كان للإِمام في الأَموال الظاهرة والباطنة، لظاهر قوله تعالى:{خُذْ من أَموالهم صدقةً تُطَهِّرُهُمْ}

(2)

،

(1)

في المطبوع: الزرع، وما أثبتناه من المخطوط.

(2)

سورة التوبة، الآية:(103).

ص: 478

فَلا يَجِبُ على مُكَاتَب ولا بعد الوُصول لأَيَّام كان ضِمَارًا، كَمَفْقُودٍ

===

وعلى هذا كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والخليفتان بعده، فلما وَلِيَ عثمانُ وظَهَرَ تَغَيُّرُ الناس كَره أَنْ يُفَتِّشَ العمالُ مستورَ أَموال الناس، ففوَّضَ الأَموال الباطنة إِلى أَربابها نيابةً عنه، خوفاً عليهم من السُّعاة السوء، ولم يختلف عليه الصحابة في ذلك، وهذا

(1)

لا يُسْقِطُ طلبَ الإِمام أَصلاً، ومِن ثَمَّ لو عَلِم أَنَّ أَهْلَ بلدة لا يودُّونها طالبهم بها.

وإِنَّما شُرِط في وجوب الزكاة فراغُ المال عن الدَّيْن، لأَنَّ المال مع الدَّيْن مشغول بالحاجة الأَصلية، وهو دفع الحبس عن المَدْيون. والحاصل: أَنَّا لا نُوجِبُ الزكاة على مديون مُسْتَغْرِق ـ ولو بكفالة ـ نِصَابَهُ. وبه قال مالك، وأَوجبها الشافعي في أَظهر أَقواله، لأَنَّ السبب مالٌ نامٍ، ولا خلل في مِلْكِهِ، لأَنَّ الدَّيْن يتعلق بالذِّمَّة لا بالمال، ولذا يَنْفُذُ تصرفه فيه ببدلٍ، وبغيره، ولا في النماء لأَنَّهُ مُعَدٌّ للتجارة وضعاً أَوْ فعلاً.

ولنا ما في «الموطأ» عن السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ، أَنَّ عثمانَ كان يقول: هذا شَهْرُ زكاتكم، فَمَنْ كان عليه دَيْنٌ فليؤد دَيْنه، حتى تخلص أَموالكم، فتؤدون منها الزكاة، ولأَنه مشغول بحاجته

(1)

الأَصلية، وهي رفع المطالبة، والملازمة، والحبس في الحال، والمؤاخذة في المآل. إِذِ الدَّيْنُ يَحُولُ بينه وبين الجنة، وأَي حاجة أَعْظَمُ من هذه، فاعْتُبِرَ معدوماً، كالماء المُسْتَحَقِّ للعطش، وثياب البِذْلَة

(2)

، وعبيد الخدمة. ولأَنَّ المديون فقير، ولهذا يَحِلُّ له الصدقة مع تَمَكُّنِهِ من ماله، والصدقة لا تَحِلُّ لِغَنِي ولا تجب إِلاَّ على غَنِي.

(فَلَا يَجِبُ على مُكَاتَب) وإِنْ زاد ما بيده على مال كِتَابَتِهِ، لأَنه مالك لما في يده من المال يداً لا رقبةً، لأَن كَوْنَه رِقَّاً ينافي أَنْ يَملِكَ من كُلِّ وجه. (ولا بعد الوُصول) إلى المال (لأَيَّام) أَي لأَجل أَيَّام (كان) إلى المالُ (ضِمَاراً) فيها، بأَنْ كان المالُ عينه قائمة، ولا يَقْدِرُ المالك على الوصول إِليه، لأَنَّ المال حينئذٍ مملوكٌ رقبةً لا يداً، لعدم القدرة عليه.

(كَمَفْقُودٍ) هذا وما عُطِفَ عليه مِثَالٌ للمال الضِّمَارِ، والمفقود يتناول الآبق إِذا كان عبداً للتجارة، والمال الساقط في البحر، والمدفون في البرية. وأَمَّا المدفون في البيت فليس بِضِمَار، لأَنَّه يمكن الوصول إِليه، وفي المدفون في أَرض الرجل أَوْ كَرْمه، اختلف مشايخ بُخَارى، فقيل: يجب لإِمكان حَفْرِ جميع الأَرض، وقيل: لا يجب لأَنَّ

(1)

أي: وهذا التفويض للناس بأموالهم الباطنة.

(2)

البِذْلة: ما يُلْبَس في المهنة والعمل ولا يصان، المعجم الوسيط، ص 46، مادة بَذَلَ.

ص: 479

ومَجْحُودٍ لا حُجَّة عليه، ومَأخُوذٍ مُصَادَرَةً.

وشُرِطَ النِّيَّةُ وقتَ الأَداء أَوِ العَزْلِ،

===

في حفرها حَرَجاً.

(ومَجْحُودٍ) سواء كان ديناً أَوْ غَصْباً، واحترز به عن المُقَرِّ به سواء كان المُقِرُّ غنياً أَوْ فقيراً (لا حُجَّة عليه)، بل أَقام رَبُّ المال البينةَ بعد سنين على الإِقرار به. وإِنَّما قيد به لأَن المجحود الذي عليه بينة، أَوْ عَلِمَ القاضي به، يجب الزكاة فيه للأَيام الماضية، لإِمكان الوصول إِلى المال إِنْ كانَ الخصم مُوسِراً، وإِلى تحصيله إِنْ كان مُعْسِراً. وقال بعضهم: إِنَّه لا زَكاة عليهِ سواء كان له بينة أَوْ لم يكن، إِذْ ليس كلُّ شاهددُيقبل، ولا كُلُّ قاضٍ يَعْدِل، وفي المجاثاة بين يديه ذُلّ في الخُصُومة، فكان له أَنْ لا يَذِلَّ نفسه.

(ومَأْخُوذٍ مُصَادَرَةً)، لما رَوَى مالِك في «مُوَطَّئِهِ»: أَنَّ عمرَ بن عبد العزيز كتب في مالٍ قبضه بعضُ الولاةِ ظُلْماً، فأَمَرَ بِرَدِّه إِلى أَهله، ويؤخذ زكاته لِمَا مضى من السنين، ثم أَعقب بعد ذلك بكتاب، لا تؤخذ منه إِلا زكاة واحدة، فإِنَّه كان ضِمَاراً. ولِمَا روى ابن أَبي شَيْبَة في «مُصَنَّفِهِ» عن عبد الرحمن بن سليمان، عن عمرو بن مَيْمُون قال: أَخذ الوليدُ بنُ عبد الملك مالَ رجلٍ مِنْ أَهل الكوفةِ ـ يقال له أَبو عائشة ـ عشرين أَلفاً، فأَلْقَاها في بيت المال، فلما وُلِّيَ عمر بن عبد العزيز، أَتاه ولده فرفعوا مَظْلِمَتَهُم إِليه، فكتب إِلى ميمون: أَنِ ادفعوا إِليهم أَموالهم، وخذوا زكاة عامهم، فإِنَّه لولا أَنَّه كان مالاً ضِمَاراً أَخَذْنَا منه زكاة ما مضى. وهذا مذهب الحسن البصري، وبه قال مالك، خلافاً للشافعيِّ وزُفَر، لأَن وجوب الزكاة باعتبار المِلْك دون اليد، أَلا ترى أَنَّ ابن السبيل يلزمه الزكاة لما مضى إِذا وصلت يده إلى ماله لقيام مِلْكِهِ فيه، وكذلك في المَغْصُوب، فإِنَّ بالغصب ونحوه يَنْعَدِمُ يدُ المالك عنه دون ملكه.

ولنا ما ذكره سِبْطُ بن الجوزي في «آثار الإِنصاف» عن عثمان، وابن عمر: لا زكاة في مال الضِّمار. وأَمَّا عَزْوُ صاحب «الهداية» إِلى عليَ فليس بمعروف، ولأَنَّ وجوب الزكاة باعتبار معنى النماء، وقد اشتد على المالك طريق تحصيل النماء فيه، فانعدم ما لأَجْلِهِ كان نصابُ الزكاة، بخلاف ابن السبيل فإِنَّ النَّماء يَحْصُلُ له بيد نائبه كما يحصل بيده.

(وشُرِطَ) لأَدائها وصَيْرُورَةِ المُؤَدَّى زكاة (النِّيَّةُ) في الزكاة لأَنها عبادة (وقتَ الأَداء) أَي المُسْتَحَقُّ، لأَن الأَصل في النيّة أَنْ تقترنَ بالعبادة، (أَوِ العَزْلِ) أَي عَزْل

ص: 480

إِلَّا أَنْ يَتَصدَّقَ بالكُلِّ.

===

المِقْدَار الواجب من المالِ، لأَن الزكاة عبادة، فلا تتأَدى بلا إِخلاص، قال الله تعالى:{وما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ}

(1)

، ولا إِخلاص بلا نيّة، وقد صح حديثُ:«إِنَّما الأَعْمَالُ بالنِّيَّات»

(2)

. والأَصلُ اقتران النيّة بالأَداءِ كما في الصلاة إِلاَّ أَنَّ الدفع يتفرق ظاهراً، فاكْتُفِيَ بوُجُودِ النِّيَّةِ عَنْدَ العَزْلِ تَيْسيراً على المُؤَدِّي، كجواز تقديمها في الصوم للعجز عن اقترانها بأَوَّل الصبح.

(إِلاَّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بالكُلِّ) فلا يُشْتَرَطُ النيةُ استحساناً، لأَن النصاب محل الوجوب، وقد حصل بجميعه للفقير، فحصل له القدر الواجب، إِذْ الغَرَضُ من النيّة التعيينُ، ولا حاجة هنا إِلى التعيين. والحاصل: أَنَّ التصدُّق بكل المال بلا نية زكاة يُسْقِطها، لأَنَّ الواجب جزء (من)

(3)

النصاب، فإِذا أَدَّى الكُلَّ فقد أَدَّى الواجب ضرورة. بَقِيَ أَنَّ النية شَرْط، ولم يوجد. وأُجِيبَ بأَنَّ الواجب نيةُ أَصْل العبادة لِيَمْتَازَ عن العادة، وقد وُجِدَت إِذِ الكلامُ فيما إِذا تصدّق على الفقير، والصدقة ما يُرَاد بها رَضَا الله تعالى تعالى عنه، ونيَّة الفرض إِنَّما تُشْتَرَطُ لِتَحْصِيل التعيين، وذا عند عدم التعيين، والواجب مُتَعَيِّنٌ في هذا النصاب، فلا حاجة إلى التعيين، وصار كما إِذا نوى في رمضان الصوم مطلقاً، فإِنَّه يقع عن الفرض وإِنْ لم يُعَيِّنْهُ لَتَعَيُّنِهِ.

ولو تَصَدَّقَ ببعض النصاب، سقط زكاة ذلك البعض عند محمد، لأَن الوجوب شائع في الكل، فسقط منها بحصة ما تصدّق به، لأَن البعض مُعْتَبرٌ بالكل، ولهذا لو هلك البعض يهلك بما فيه، كما لو هلك الكل. وعند أَبي يوسف لا تسقط لجواز أَنْ يكون الباقي هو المحل للوجوب. ولو كان له دين على فقير فأَبْرَأَهُ منه، سقط زكاته، نوى أو لم ينو، ولو أَبرأه عن بعضه ففي سقوط زكاة ذلك البعض ما تقدم من الخلاف. ولو نوى (بما أَبْرَأَ منه الأَداءَ)

(4)

عن الباقي، أَوْ عن دين آخر لا يجزيه. ولو كان له دين على غني فوهبه له بعد وجوب الزكاة، قيل: يضمن القَدْرَ الواجب، وقيل: لا يضمن.

(1)

سورة البيِّنة، الآية:(5).

(2)

أخرجه الإِمام البخاري في صحيحه (فتح الباري) 1/ 9، كاب بدء الوحي (1)، باب كيف كان بدء الوحي إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، رقم (1).

(3)

سقط من المطبوع.

(4)

سقط من المطبوع.

ص: 481

[زَكَاةُ المَاشِيَةِ]

ويَجِبُ في كل خَمْسٍ من الإِبلِ شاةٌ، ثُمَّ في خَمْسٍ وعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، وفي سِتٍّ وثلاثين بِنْتُ لَبُون، وفي سِتٍّ وأَربعينَ حِقَّةٌ، وفي إِحْدَى وستينَ جَذَعَةٌ،

===

(زكاة الماشية)

(ويَجِبُ في كل خَمْسٍ من الإِبلِ) عِرَاباً كانت أَوْ بَخَاتاً. والبُخْتُ: بالضم الإِبِلُ الخُرَاسَانِيَّة، على ما في «القاموس» ، (شاةٌ) فيجب في خَمْسٍ شاةٌ، وفي عَشْرٍ شاتانِ، وفي خَمْسَ عَشرةَ ثلاثُ شِياه، وفي عشرين أَرْبَعُ شِياه. وقد بدأَ محمد رحمه الله في تفصيل أَموال الزكاة بالسوائم اقتداءً بِكُتُبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِنَّها مبتدأَة كُلَّها بزكاةِ الإِبل، ولأَنَّ قاعدة هذا الأَمر كان في حقِّ العرب، وهم كانوا أَربابَ المواشي بحسب الأَغْلَب، فقُدِّمَ لهذا السبب.

(ثُمَّ في خَمْسٍ وعِشْرِينَ) من الإِبل (بِنْتُ مَخَاضٍ) أَي ذات سَنَة، وسُمِّيت بذلك لأَنَّ أُمّها في الغالب تصير ذات مخاض بأُخرى، أَي حاملاً، فإِنَّ المخاض وجع الولادة.

(وفي سِتَ وثلاثين بِنْتُ لَبُون): وهي التي طَعَنَتْ

(1)

في الثالثة، وسُمِّيت بذلك لأَنَّ أُمَّها في الغالب تكون ذاتَ لبن من أُخرى.

(وفي سِتَ وأَربعينَ حِقَّةٌ): وهي التي دخلت في الرابعة، وسُمِّيت بها لأَنَّها استحقّت الحمل

(2)

والركوب.

(وفي إِحْدَى وستينَ جَذَعَةٌ): بفتحات، وهي التي طَعَنَتْ في الخامسة، وسُمِّيت بذلك لمعنى في أَسنان الإِبل يعرفها أَهلها، وهي أَكبر سِنَ يؤخذ في الزكاة. وفَوْقَ الجَذَعَةِ الثَّنِيّ

(3)

، وفَوْقَهُ السَّدِيسُ

(4)

، وفَوْقَهُ البازل

(5)

، ولا يُؤخذُ منها شيء في الزكاة.

(1)

أَي دَخَلَتْ.

(2)

في المطبوع: لِعَمل، وما أثبتناه من المَخْطُوط.

(3)

الثَّنِيٌّ: من الإبل هو ما أتمَّ خمسة أعوام، ومن البقر ما أتمَّ حَوْلين، ومن الغنم ما أتم حولًا. معجم لغة الفقهاء، ص:155.

(4)

السَّدِيِسُ: هي الشاةُ التي أَتَتْ عليها السنَةُ السادسةُ. المعجم الوسيط، ص: 423، مادة (سَدَسَ).

(5)

البَازِل: البعير إِذا أَتَمَّ الثامنِة من عُمُرهِ ودخل في التاسعة. معجم لغة الفقهاء، ص:102.

ص: 482

وفي سِتٍّ وسبعينِ بِنْتا لبُون، وفي إِحدى وتسعين حِقَّتان، إِلى مئة وعشرين

===

(وفي سِتَ وسبعينِ بِنْتا لبُون، وفي إِحدى وتسعين حِقَّتان، إِلى مئة وعشرين)، والعَفْوُ

(1)

بين الواجبين من خَمْسٍ إِلى خَمْسٍ وعشرين أَرْبَعٌ، ومنها

(2)

إِلى وجوب بِنْتِ لَبُون

(3)

عَشْرَةٌ، ومنها

(4)

إِلى حِقَّةٍ

(5)

تِسْعَةٌ، ومنها

(6)

اإلى جَذَعَةٍ

(7)

أَرْبَعَ عَشْرَةَ، ومنها

(8)

إِلى بِنْتَي لَبُون

(9)

كذلك، ومنها إِلى واجبٍ آخَرَ وهو الشاة بعد الاستئناف على ما يُذْكَرُ: ثلاث وثلاثون.

والأَصل فيه كتاب أَبي بكر الصدّيق، الذي رواه البُخَاري في «صحيحه» ، وفَرَّقَهُ في ثلاثة أَبواب متوالية، عن ثُمَامَةَ: أَنَّ أَنَساً حَدَّثَه: أَنَّ أَبا بكر كَتَبَ هذا الكتابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلى البحرين:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه فريضةُ الصدقةِ التي فَرَض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أَمَرَ اللهُ بها رسولَهُ، فَمَنْ سُئِلَها من المسلمين فَلْيُعْطِها على وجهها، ومن سئل فوقها فلا يُعْطِهِ: في أَربع وعشرين من الإِبل فما دونها من الغنم، مِنْ كل خَمْسِ ذَوْدٍ

(10)

شاةٌ، فإِذا بَلَغَتْ خَمْساً وعشرين إِلى خمس وثلاثين ففيها بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، وإِذا بلغت ستَّاً وثلاثين إِلى خمس وأَربعين ففيها بنتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فإِذا بلغت ستَّاً وأَربعين إِلى ستين ففيها حِقَّةٌ طَرُوقَة

(11)

الفَحْل، فإِذا بلغت واحدة وستين إِلى خمس وسبعين ففيها جَذَعَةٌ، فإِذا بلغت ستاً وسبعين إِلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإِذا بلغت إِحدى وتسعين إِلى عشرين ومئة ففيها حقتان طروقتا الفحل، فإِذا زادت على عشرين ومئة ففي كل أَربعين ابنة لبون، وفي كل خمسينَ حِقَّةٌ، ومَنْ لم يكن معه إِلاَّ أَربع من الإِبل فليس

(1)

العَفْو: الفَضْل، أي الزيادة بين النصابين. المُغْرِب 2/ 71، مادة (عفو) بتصرف.

(2)

أي ومن خَمْسٍ وعشرين.

(3)

أي إلى بلوغها سِتًّا وثلاثين.

(4)

أي ومن ستٍّ وثلاثين.

(5)

أي إلى أن يجب فيها حِقّ، وهو بلوغُها ستًّا وأربعين.

(6)

أي ومن ست وأَربعين.

(7)

أي إلى أن يجب فيها جذعة، وهو بلوغها إحدى وستِّين.

(8)

أي ومن إحدى وستِّين.

(9)

أي إلى أن يجب فيها بنتا لبون، وهو بلوغها ستًّا وسبعين.

(10)

تقدم شرحها، ص: 477، تعليق رقم (4).

(11)

طروقة الفَحْل: أي يَعْلو الفَحْلُ مِثْلَها في سِنِّها، - أي مركوبة للفَحْل -. النهاية: 3/ 122.

ص: 483

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

فيها صدقة، إِلاَّ أَنْ يشاء ربها، فإِذا بلغت خمساً من الإِبل ففيها شاةٌ.

وفي صدقة الغنم في سائمتها إِذا كانت أَربعين إِلى عشرين ومئة شاةٌ، فإِذا زادت على عشرين ومئة إِلى مئتين ففيها شاتان، فإِذا زادت على مئتين إِلى ثلاث مئة ففيها ثلاثُ شياة، فإِذا زادت على ثلاث مئة ففي كل مئة شاةٌ، فإِذا كانت سائمةُ الرجل ناقصةً من أَربعين شاةً

(1)

واحدةً فليس فيها صدقةٌ إِلاَّ أَنْ يشاء رَبُّها.

ثم ذكر البخاري في الباب الثاني عن ثُمَامَة، فقال:«مَنْ بلغت عنده من الإِبل صَدَقَةُ الجَذَعَة، وليست عنده جَذَعَةٌ، وعنده حِقَّةٌ، فإِنَّها تُقْبَلُ منه الحِقَّةُ، ويجعل معها شاتين إِنْ استيسرتا له، أَوْ عشرين درهماً. ومَنْ بلغت عنده صدَقةُ الحِقَّةِ، وليست عنده الحِقَّةُ، وعنده الجَذَعَةُ، فإِنها تُقْبَلُ منه الجَذَعَةُ ويُعْطِيه المُصَدِّقُ عشرين درهماً أَوْ شاتين. ومَنْ بلغت عنده صدقة الحِقَّة، وليست عنده إِلاَّ بِنْتُ لَبُون، فإِنها تُقْبَلُ منه بنت لبون، ويُعْطي شاتين أَوْ عشرين درهماً. ومَنْ بلغت صَدَقَتُهُ بِنْتَ لبون، وعنده حِقَّة، فإِنها تُقْبَل منه الحِقَّة، ويُعْطيه المُصَدِّقُ عِشرين درهماً، أَوْ شاتين، ومَنْ بلغت صَدَقَتُهُ بنتَ لبون ليست عنده، وعِنْدَه بِنْتُ مَخَاض، فإِنها تُقْبَلُ منه بنت مَخَاض، ويُعْطِي معها عشرين درهماً أَوْ شاتين» .

وفي الباب الثالث، عن ثُمَامةَ: أَنَّ أَنساً حَدَّثَهُ، وساق الحديث، وفيه: «لا يخرج في الصدقة هَرِمَةٌ، ولا ذَاتُ عَوَار، ولا تيس إِلا أَنْ يشاءَ المُصَدِّقُ

(2)

». ورواه أَبو داود حديثاً واحداً، وزاد فيه:«ما كان من خليطين فإِنهما يتراجعان بينهما بالسوية» . وكتاب عمرَ بنِ الخطاب الذي رواه أَبو داود، والترمذي، وابنُ ماجه على وفاق ما تقدم. وزادوا فيه:«ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع مخافة الصدقة» .

وكتاب عمرو بن حَزْم الذي رواه النسائي في الديات، وأَبو داود في «مراسيله» ، عن سليمان بن أَرقم، عن الزُّهْرِيِّ عن أَبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، عن أَبيه، عن جده: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إِلى أَهل اليمن بكتابٍ، فيه الفرائضُ والسنن والدِّيات، وبعث به مع عمرو بن حَزْم فقُرِأَت على أَهل اليمن، وهذه نسختها: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبيّ إِلى شُرَحْبِيل بن عبد كُلَالٍ ـ قَيْلِ ذِي رُعَيْن، ومُعَافِرَ، وهَمْدَانَ ـ، أَمَّا بعدُ: فقد رجع رسولُكم وأَعطيتم من المغانم خمس الله، وما كتب الله

(1)

وهي مفعول به لاسم الفاعل "ناقصة" وليست تمييزًا.

(2)

وفي المخطوط: المتصدق.

ص: 484

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

عز وجل على المؤمنين من العُشْرِ في العقار. وما سقت السماء، وكانت سَيْحاً

(1)

، أَوْ كان بَعْلاً، ففيه العُشْر إِذا بلغ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ

(2)

، وما سُقِيَ بالدالية والرِّشاء

(3)

، ففيه نِصْفُ العُشْر. وفي كل خَمْسٍ من الإِبل سائمةٍ شاةٌ، وساقه كما تقدم. وفيه: وفي كل ثلاثين باقورةً

(4)

تبيع

(5)

أَوْ جَذَعَةٌ

(6)

، وفي كل أَربعين باقورةً بَقَرَةٌ. ثُم ذكر صدقة الغنم، وفيه: وفي كل خَمْس أَواق من الوَرِقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وما زاد ففي كل أَربعين درهماً دِرْهَمٌ، وليس فيما دون خمس أَواق شيء، وفي كلِّ أَربعين ديناراً دِينارٌ. والصدقة لا تَحِلُّ لمُحَمَّدٍ ولا لأَهل بيته، إِنَّما هي الزكاة تُزَكَّى بها أَنْفُسُهم في فقراء المؤمنين، وفي سبيل الله. وفيه ذِكْرُ جُمَلٍ من الدِّيَاتِ وغيرها. قال النَّسائي: وسليمان بن أَرقم متروك.

وقد رواه عبد الرزاق في «مُصَنَّفِهِ» : أَخبرنا مَعْمَر عن عبد الله بن أَبي بكر. ورواه ابن حِبَّان في «صحيحه» ، والحاكم في «المُسْتَدْرَك» ، كُلُّها عن سُلَيْمَان بن داود، وحدثني الزُّهري به. قال الحاكم: إِسناده صحيح، وهو من قواعد الإِسلام. وقال أَحمد: كتاب عمرو بن حَزْم في الصدقات صحيح. قال ابن الجوزي ـ يشير بالصحة إِلى هذه الرواية لا إِلى غيرها ـ: وقال بعض الحفّاظ من المتأَخرين في نسخة كتاب عمرو بن حَزْم: تلقتها الأُمة بالقبول، وهي مُتَوَارَثَة كَنُسْخَة عَمْرو بنِ شُعَيب، عن أَبيه، عن جدّه، وهي دائرة على سليمان بن أَرقم، وسليمان بن داود، وكلاهما ضعيف.

لكن قال الشافعي في «الرسالة» : لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أَنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يَعْقوب بن سُفْيان الفَسَوي: لا أَعلم في جميع الكتب المنقولة أَصح منه، فإِن أَصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم والتابعين، كانوا يرجعون إِليه ويدعون آراءهم، وتضعيفُ سُلَيْمان بن داود الخَوْلَاني مُعَارَضٌ بأَنَّه أَثْنَى عليه جماعة منهم: أَحمد، وأَبو حَاتِم، وأَبو زُرْعة، وابن عَدِي، وعثمان بن سعيد الدَّارمِي. انتهى.

(1)

السَّيْح: الماء الجاري. النهاية: 2/ 433.

(2)

الوَسْق: مكيال قدره حِمْلُ بعير، ما يعادل 165 لترًا. معجم لغة الفقهاء، ص 502 ..

(3)

الرِّشاء: حَبْلُ الدَّلْو. المُغْرب: 1/ 331، مادة (رشو).

(4)

الباقورة: أهْلُ اليمن يُسَمُّون البقرة بَاقُورةً. مختار الصحاح، ص: 24، مادة (بقر).

(5)

التَّبِيع: ولد البقرة أوَّل سنة. النهاية: 1/ 179.

(6)

الجَذَع: هو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمَعْز ما دخل في السنة الثانية.

النهاية: 1/ 250.

ص: 485

ثُم في كلِّ خَمسٍ شاةٌ وفي خَمْسٍ وعشرين بِنْتُ مَخَاض، وفي مئة وخمسين ثلاثُ حِقَاق، ثُمَّ يستأنف كالأَول، فَيُزَادُ في كل ستٍّ وأَربعينَ إِلى خمسينَ حِقَّةٌ،

===

والحاصل: أَنَّه إِلى ههنا وقع الاتفاق بين الأَئمة، واشتهرت كُتِّب الصدقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(ثُمَّ في كل خَمْسٍ) من الإِبل (شاةٌ) كالأَول عندنا، وهو روايةٌ عن مالك. ففي خَمْس شاةٌ، وفي عَشْر ثِنْتَان، وفي خَمْسَ عَشْرَة ثلاثةُ شياه، وفي عشرين أَربعُ شياه.

(وفي خَمْسٍ وعشرين بِنْتُ مَخَاض، وفي مئة وخمسين ثلاثُ حِقَاق)، وليس في هذا الاستئناف بنتُ لبون لانعدام نصابه.

(ثُمَّ يستأنف) الفرض أَيضاً عندنا بعد كل خمسين وكل مئة، (كالأَول) أَي كأَول فرائض الإِبل، وإِنما لم يفسره بأَول الاستئنافات، لأَنه ليس فيه بنت لبون، وهذه الاستئنافات فيها ذلك.

(فَيُزَادُ في كل ستَ وأَربعينَ إِلى خمسينَ حِقَّةٌ) وبه قال سُفْيان الثوري.

واعلم أَنَّ هذه الزيادة باعتبار غاية

(1)

ما فيه الحِقَّة دون ابتدائه، لأَنَّ غاية ما يجب فيه الحِقَّةُ هنا خمسون، وفي الأَول: ستون، وابتداؤه فيهما: ست وأَربعون. وقال الشافعي، وأَحمد: إِذا زادت على مئة وعشرين واحدةً، ففيها ثلاث بنات لبون لكونها ثلاث أَربعينات، فإِذا صارت مئة وثلاثين، ففيها حِقَّةٌ وبِنْتَا لبون، ثم في كل أَربعين بِنْتُ لبون وفي كل خمسين حِقَّة. وعن مالك قولان: أَحَدُهُما كمذهبنا، والآخر كمذهب الشافعي.

لهم ما روى البُخَاري في «صحيحه» ، عن ثُمَامَةَ: أَنَّ أَنَساً حَدَّثه: «أَنَّ أَبا بكر كتب له هذا الكتاب حين وَجَّهَهُ إِلى البحرين، وفيه: فإِذا زادت على عشرين ومئة ففي كل أَربعين ابنةُ لبون، وفي كل خمسينَ حِقَّةٌ» .

ولنا ما روى إِسحاقُ بنُ رَاهُويه في «مسنده» ، والطحاوي في «المُشْكِل» ، وأَبو داود في «المراسيل» ، عن حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ قال: قلت لقَيْس بن سَعْد: اكتُب لي كتاب أبي بَكْر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، فكتب لي ورقة، ثم جاء يوماً وأَخبر أَنَّهُ أَخَذَهُ من كتاب أَبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، وأَخبرني: «أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه لجدّه عمرو بن حزم، في ذِكْرِ ما يُخْرَجُ من فرائض الإِبل فكان فيه: فإِذا كانت أَكثر

(1)

في المطبوع: غلبة، وما أثبتناه من المخطوط.

ص: 486

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

من عشرين ومئة، ففي كل خمسينَ حِقَّةٌ، وفي كل أَربعين بِنْتُ لبون، فما فضل ـ أَي زاد ـ على مئة وعشرين فإِنَّه يُعَاد إِلى (أَوَّلِ) فريضة الإِبل، فما كان أَقل من خمس وعشرين ففيه الغَنَمُ، في كلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ

(1)

شاةٌ».

وروى الطحاوي عن خُصَيف، عن أَبي عبيدة، وزياد بن أَبي مريم، عن ابن مسعود أَنَّه قال: فإِذا بلغت العشرين ومئة استُقْبِلَت الفريضة بالغَنَم، فإِذا بلغت خمساً وعشرين ففرائض الإِبل. ورُوِيَ عن إِبراهيم النَّخَعي نَحْوُهُ. وروى ابن أَبي شيبة، عن يَحْيَى بن سعيد، عن سفيان بن أبي إِسحاق، عن عاصم بن حمزة، عن عليَ قال:«إِذا زادت الإِبل على عشرين ومئة يستقبل بها الفريضة» .

واعترض البيهقي على الأَول بأَنه موقوف ومنقطع بين أَبي عبيدة وزياد، وبين ابن مسعود، وقال: خُصَيْف غير محتج

(2)

به. والثاني مُعَارَضٌ بأَنَّ شَرِيْكاً رواه عن ابن إسحاق، عن عاصم، عن عليّ قال:«إِذا زادت الإِبل على عشرين ومئة (ففي كل خمسين حِقَّةٌ، وفي كل أربعين ابنةُ لبون» . موافقاً لحديث أنس الذي)

(3)

لم تختلف فيه الروايات، فكان المصير إِليه أَولى. والجواب أَنَّ التنصيص في هذه الرواية على عود الفريضة، لا ينفيه ما نقول به، إِذْ الواجبُ في الأَربعين هو الواجب في ستَ وثلاثينَ، والواجب في الخمسين هو الواجب في ست وأَربعين، ولا يتعرض هذا الحديث لنفي الواجب عما دونه، فنوجبه بما رويناه.

وأَمَّا ما زاد أَبو دواد من طريق ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن ابن شِهَاب، قال:«هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة، وهي عند آل عمر بن الخطاب» . قال ابن شِهاب: أَقْرَأنيها سالمُ بنُ

(4)

عبد الله بنِ عمر، فَوَعَيْتُها على وجهها، وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز عن عُبَيد الله بن عبد الله بن عمر، وسالم بن عبد الله بن عمر، فذكر الحديث وقال: فإِذا كانت إِحدى وعشرين ومئة، ففيها ثلاث بنات لَبُون حتى تبلغ تسعاً وعشرين ومئة، فإِذا كانت ثلاثين ومئة ففيها بِنْتَا لَبُون وحِقَّة حتى تَبْلُغَ تسعاً وثلاثين ومئة، فإِذا كانت أَربعين ومئة ففيها حِقَّتان وبِنْتُ لَبُون حتى تبلغ تسعاً

(1)

تقدم شرحها، ص: 477، تعليق رقم (4).

(2)

وفي المخطوط: غير صحيح.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(4)

في المطبوع: عبد الله، والصواب ما أثبتناه من المخطوط، وأبي داود 2/ 226، كتاب الزكاة (9)، باب في زكاة السائمة (5)، رقم (1570).

ص: 487

وفي ثلاثين بَقَرًا تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ، وفي أَربعين مُسِنٌّ أَو مُسِنَّة،

===

وأَربعين ومئة، فإِذا كانت خمسين ومئة، (ففيها ثلاث حِقاق حتى تبلغ تسعاً وخمسين ومئة، فإذا كانت ستين ومئة)

(1)

ففيها أَربعة بنات لبون

» الحديث. وهذا مرسل كما أَشار إِليه الترمذي. فالجواب أَنَّ هذه الزيادة لم تُعْرف إِلاَّ من طريق أَبي داود ولم يعمل بها واحد من العلماء

(2)

.

ثم الواجب في الإِبل الإِناث، ولا تجزي الذكور إِلاَّ بطريق القيمة.

(وفي ثلاثين) أي ويجب في ثلاثين (بَقَراً) أَوْ جاموساً أَوْ مختلطاً إِذا كانت سائمة للنَّسل أَوْ الدَّرِّ (تَبِيعٌ): وهو ما طعن

(3)

في السَّنَةِ الثانية، وسُمِّي به لأَنه حينئذ يتبع أُمَّه (أَوْ تَبِيعَةٌ): وهي أُنْثَاهُ، وإِنما خيّر بين الذكور والإِناث، لأَنَّ الأُنوثة في البقر والغنم لا تُعَدُّ فضلاً، بخلاف الإِبل.

(وفي أَربعين مُسِنٌّ): وهو ما دخل في السنة الثالثة. (أَوْ مُسِنَّة)، لِمَا روى أَصحاب «السنن الأَربعة» من حديث مَسْرُوق، عن مُعَاذ بن جبل: «أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا وَجَّهَهُ إِلى اليمن، أَمَرَهُ أَنْ يأْخذَ من كل ثلاثين بقراً تبيعاً

(4)

أَوْ تبيعة، ومنْ كل أَربعينَ مُسِنَّةً». قال الترمذي: حديث حسن، وقد رواه بعضهم مرسلاً، ولم يذكر معاذاً، وهذا أَصح. ورواه ابن حِبَّان في «صحيحه» ، والحاكم في «مُسْتَدْرَكِهِ» ، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال أَبو عمر في «الاستدراك» : ولا خلاف بين العلماء أَنَّ السُّنَّة في زكاة البقر ما في حديث معاذ، وأَنَّه النصاب المجمع عليه فيها.

قلت: وهذا قول علي، وأَبي سعيد الخُدْرِيّ، والأَصل فيه ما في كتاب عمرو بن حَزْم: «وفي كل ثلاثين باقورة

(5)

تبيعٌ أَوْ جَذَعةٌ، وفي كل أَربعين باقورةً بَقَرَةٌ». وقد روى أَبو داود في «مراسيله» عن مَعْمَر قال: أَعطاني سِمَاك بن الفضل كتاباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم للمُقَوْقِس، فإِذا فيه: «وفي البقر مثل ما

(6)

في الإِبل». وأَخرج أَيضاً عن مَعْمَر،

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع ..

(2)

في المخطوط: الخلفاء.

(3)

أي دخل.

(4)

وهي مفعول به لفعل يأخذ، وليس صفة لـ "بقرًا".

(5)

تقدم شرحها، ص: 485، تعليق رقم (4).

(6)

في المطبوع: ما، والمثبت من المخطوط، و "مراسيل أبي داود" ص 130، ما جاء في صدقة السائمة وفي الزكاة (26)، رقم (109).

ص: 488

وفيما زاد على أَربعين يُحْسَبُ إِلى سِتِّين،

===

عن الزُّهْرّي قال: في خَمْسٍ من البقر شاةٌ، وفي عَشْرٍ شاتان، وفي خَمْسَ عَشَرَة ثلاث شِياه، وفي عشرين أَربعُ شِياه، وفي خَمْس وعشرين بَقَرَةٌ إِلى خمس وتسعين، وفيها بقرتان إِلى عشرين ومئة، فإِذا زادت على عشرين ومئة، ففي كل أَربعينَ بقرةً مُسنَّةٌ. وزعم قوم أَنَّ هذا قول عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله الأَنصاري.

(وفيما زاد على أَربعين يُحْسَبُ) أَي يُعْطِى بحسابه (إِلى سِتِّين)، في رواية «الأصل» عن أَبي حنيفة: فيجب رُبُعُ عُشْرِ المُسِنَّةِ في الواحدة الزائدة على الأَربعين، ونِصْفُ عُشْرِها في الثِّنْتَيْنِ

(1)

. وهكذا، لأَن المال سبب الوجوب، ونَصْب النِّصاب بالرأي لا يجوز، وكذا إِخلاؤه عن الواجب بعد تَحَقُّقِ سببه، ولأَن العفو

(2)

فيما بين الثلاثين إِلى الأَربعين ثبت بِنَصٍ، بخلاف القياس، ولا نَصَّ ههنا، وروى الحسن عن أَبي حنيفة: أَنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ خمسين، ففيها مُسِنَّةٌ ورُبُعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُث تَبيع وهو القياس، لأَن مَبْنى نصاب البقر على أَنْ يكون بين كل عَقْدَيْنِ وَقَصٌ

(3)

، وفي كلِّ عقد واجب، فأَوْقَاصُ البَقَرِ تِسْعٌ تِسْع كما قبل الأَربعين، وبعد الستين، فكذا هنا. وروى أَسَدُ بنُ عَمْرو عن أَبي حنيفة وقال في «المحيط» و «البدائع»: وهو أوفق الروايات، وهو قولهما المختار كما في «جوامع الفقيه» .

وقول مالك، والشافعي، وأَحمد:«أَنَّه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين، لِمَا في «الصحيحين» عن معاذ قال: بعثني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلى اليمن وأَمَرَني أَنْ آخذ من كل ثلاثين من البقر تَبِيعاً أَوْ تَبِيعَةً». وروى الدَّارَقُطْنِي، والبيهقي، والبَزَّار من حديث بَقِيَّةَ عن المسعودي، عن الحكم

(4)

، عن طاوس، عن ابن عباس قال:«بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إِلى اليمن، فأَمَرَهُ أَنْ يأْخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً أَوْ تَبِيعة، ومن كل أَربعين مُسِنَّةٌ» . قالوا: فالأَوْقَاص؟ قال: ما أَمَرَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بشيء، وسأسأله إذا قدمت، فلما قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله، فقال:«ليس فيها شيء» . قال المسعودي: والأَوقاص: ما بين الثلاثين إِالى الأَربعين، وما بين الأَربعين إِلى الستين.

(1)

في المطبوع: اثنين، وما أثبتناه من المخطوط.

(2)

تقدم شرحه، ص: 483، تعليق رقم (1).

(3)

الوَقَص: ما بين الفريضتين، كالزيادة على الخَمْس من الإبل إلى التِّسع، وعلى العَشْر إلى أربَعَ عشرة.

النهاية: 5/ 214.

(4)

في المطبوع: الحاكم، وما أثبتناه من المخطوط، وسنن الدارقطني 2/ 99، كتاب الزكاة، باب ليس في الخضراوات صدقة، رقم (22).

ص: 489

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وقال البَزَّار: لا أَعلم أَحداً أَسْنَدَ عن ابن عباس إِلاَّ بَقِيَّة عن المسعودي، وقد رواه الحفاظ عن الحَكَم

(1)

عن طاوس مرسلاً.

وأُجيب عن الحديث الأَول: بأَنَّه ساكت عن الأَوقاص، ليس فيه تَعَرُّضٌ لها. وعن الحديث الثاني: بأَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم توفي قبل قُدُومِ معاذ من اليمن، لِمَا روى مالك في «الموطأ» عن حُمَيْد بن قيس، عن طاوس: «أَنَّ معاذاً أَخذ من كل ثلاثين بقرةً تبيعاً، ومن كل أَربعينَ بقرةً مُسِنَّة

(2)

، وأُتِيَ بما دون ذلك، فَأَبى أَنْ يأخذَ منه شيئاً، وقال: لم أَسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أَلقاه وأَسأَله، فتوفي النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أَنْ يَقْدَمَ معاذ». لكنه منقطع، إِذْ لم يُدْرِك طاوس معاذاً، ومُعَارَضٌ بما رواه أَبو يَعْلَى المَوْصلِي في «مُسْنَدِهِ» عن صهيب: أَنَّ معاذاً لما قَدِمَ من اليمن سَجَدَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: «يا معاذُ، ما هذا؟ قال: إِنِّي لما قَدِمْتُ اليمن، وجدت اليهود والنَّصَارَى يسجدون لعظمائهم، وقالوا: هذا تحيةُ الأَنبياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كذبوا على أَنبيائهم، ولو كنتُ أَمَرْتُ أَحداً أَنْ يسجُدَ لغير الله، لأَمَرْتُ المرأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لزوجِها» .

إِذْ ظاهره أَنه رجع من اليمن قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو إِذا كان إِرساله إِلى اليمن مَرَّةً واحدةً فلا إشكال، على أَنه يحتمل أَنه وقع السؤال قبل الاجتماع وتغير الأَحوال، ويؤيده ما في «معجم الطبراني» من طريق ابن وَهْب، عن حَيْوَة بن شُرَيْح، عن يزيد بن أَبي حبيب، عن سلمة بن أُسامة، عن يَحْيى بن الحكم، أَنَّ معاذاً قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أَصْدُقُ أَهل اليمن، فأَمَرَنِي أَنْ آخذ من البقر من كل ثلاثين تَبِيعاً، ومن كل أَربعين مُسِنَّةً، ومن الستين تَبِيعَتَيْنِ، ومن السبعين مُسِنَّة وتبيعتين

(3)

، ومن الثمانين مُسِنّتَين، ومن العشرين والمئة ثلاث مُسِنَّات أَوْ أَربعة أَتْبِعَة. قال: وأَمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ لا آخذ فيما بين ذلك شيئاً، إِلاَّ أَنْ يَبْلُغَ مُسِنةً أَوْ جَذَعاً

(4)

، وقال: إِنَّ الأَوْقَاصَ

(5)

لا فريضة فيها». انتهى. إِلاَّ أَنَّ سَلَمَة بنَ أُسامة، ويَحْيى بن الحكم غير مشهورَيْن، ولم يذكرْهُمَا ابن أَبي حاتم في كتابه.

وروى الدَّارَقُطْنِيّ في كتابه «المُؤْتَلِف والمُخْتَلِف» : «أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهِد

(1)

في المطبوع: الحاكم، وما أثبتناه من المخطوط.

(2)

المُسِنَّة: ما جاوز السنتين. معجم لغة الفقهاء، ص:429.

(3)

تقدم شرحها، ص: 485، تعليق رقم (5).

(4)

تقدم شرحها، ص: 485، تعليق رقم (6).

(5)

تقدم شرحها، ص: 489، تعليق رقم (3).

ص: 490

ثم في كل ثلاثين تَبِيعٌ، وفي كل أَربعين مُسِنَّةٌ وفي أَرْبَعِينَ ضَأْنًا أَو مَعْزًا شاةٌ، وفي مئة وإِحدى وعِشْرِينَ شَاتَانِ، وفي مئتين وواحدةٍ ثَلاثُ شِيَاهٍ، وفي أَربع مئة أَربعٌ، ثم في كل مئة شاةٌ.

===

إِلى عُمَّاله على اليمن في البقر في كل ثلاثين تَبِيعٌ، وفي كُلِّ أَربعين مُسِنَّةٌ، وليس في الأَوْقَاص شيء». وقد يُجَابُ بأَنَّه لم يَعْهَدْ به أَولاً، ولكنه أَعْلَمَه به ثانياً.

(ثم في كل ثلاثين تَبِيعٌ، وفي كل أَربعين مُسِنَّةٌ) لما روينا، ففي ستين تبيعان، وفي سبعين تبيعٌ ومُسِنة، وفي ثمانين مُسِنّتان، وفي تسعين ثلاثةُ أَتْبِعَة، وفي مئة تبيعان ومُسِنة، وفي مئة وعشر تَبِيع ومُسِنتان، وفي مئة وعشرين ثلاث مُسِنَّات أَوْ أَربعة أَتْبِعَة، لما رويناه في «معجم الطبراني» ، فيتغيّر الفرض هكذا في كل عشرة، لأَن ما دونها وَقص.

(وفي أَرْبَعِينَ) أَي يجب في أَربعين (ضَأْناً أَوْ مَعْزاً) إِذا كانت سائمةً للدَّر والنَّسل (شاةٌ) لأَنَّ الذي في كُتُبهِ عليه الصلاة والسلام لفظ الغنم، وهو شامل لهما.

(وفي مئة وإِحدى وعِشْرِينَ شَاتَانِ، وفي مئتين وواحدةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وفي أَربع مئة أَربعٌ، ثم في كل مئة شاةٌ) ثبت ذلك بِكُتُبِهِ صلى الله عليه وسلم وكُتُبِ أَبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ففي كتاب الصِّدِّيق لأَنَس: «وفي صدقة الغنم في سائمتها إِذا كانت أَربعين إِلى عشرين ومئة شاةٌ، فإِذا زادت على عشرين ومئة إِلى مئتين شاتان، فما زادت على مئتين إِلى ثلاث مئة ففيها ثلاث شياه، فإِذا زادت على ثلاث مئة ففي كل مئة شاةٌ، فإِذا كانت سائمةُ الرجل ناقصةً من أَربعينَ شاةً واحدةً فليس فيها صدقة إِلاَّ أَنْ يشاء ربها» . انتهى. ويُؤخذ الثَّنِي في زكاتها، وهو ما عمره سنة ودخل في الثانية. وأَمَّا الجَذَعُ من الضأن الذي مضى عليه أَكثر السَّنَة، فلا يجزي عند أَبي حنيفة، على ظاهر الرواية.

قال في «الهداية» : لقول علي رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً: لا يؤخذ في الزكاة إِلاَّ الثَّنِي فصاعداً. إِلاَّ أَنه غريب غير معروف عند المُحَدِّثين. وأَجاز صاحباه

(1)

في الزكاة كما في الأُضحية اتفاقاً، لقوله عليه الصلاة والسلام:«لا تذبحوا إِلاَّ مُسِنَّةً إِلاَّ أَنْ يَعْسُرَ عليكم فتذبحوا جَذَعَة من الضَأْنِ» . رواه مسلم. ولما في «سُنن أَبي داود، وابن ماجه» في الضحايا، عن عاصم بن كُلَيب، عن أَبيه قال: «كنَّا مع رجل من أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَالُ له مُجَاشِع ـ من بني سُلَيم، فَعَزَّتْ الغَنَمُ، فأَمر

(1)

في المطبوع: صاحبه، وما أثبتناه من المخطوط.

ص: 491

[زَكَاةُ الفَرَسِ]

وفي كل فَرَسٍ مِنَ الإِنَاثِ أَوْ المختلطة دينارٌ أَوْ رُبُع عُشْرِ قيمتها

===

منادياً ينادي أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الجَذَع يُوَفِّى مِمَّا يُوَفِّي منه الثَّنِي» .

وأَمَّا قول صاحب «الهداية» : لقوله عليه الصلاة والسلام: «إِنَّما حَقُّنا الجَذَعَةُ والثَّنِي» ، فغيرُ مَعْرُوف، وجواز الجَذَع في الزكاة رواية أَيضاً عن أَبي حنيفة لما في «سُنن أَبي داود» ، و «النَّسائي» ، و «مُسْند أَحمد» عن مِسْعَر قال: جاءني رجلان مرتدفان فقالا: إِنَّا رَسُولَا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إِليك لِتُؤتِيَنَا صدقةَ غَنَمِك، قلت: وما هي؟ قالا: شاة، قال: فعمدت إِلى شاةٍ مُمْتلئةٍ مخاضاً

(1)

وشَحْماً، فأَخرجتها إِليهما، فقالا: هذه شَافِع، وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نأْخذَ شافعاً. ـ والشافع: التي في بطنها وَلَدُها ـ قلت: فأَي شيء تأْخذان؟ قالا: عَنَاقاً

(2)

: جَذَعة أَوْ ثَنِيَّة، فأَخرجت إِليهما عَنَاقاً فَتَنَاوَلَاهَا.

وفي «الموطأ» من حديث سُفْيان بن عبد الله: «أَنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثه مُصَدِّقاً، وكان يَعُدُّ على الناس السَّخل، فقالوا: أَتَعُدُّ علينا السَّخل ولا تأخذ منه شيئاً؟ فلما قَدِم على عمر ذكر ذلك له، فقال عمر: نعم، تَعُدُّ عليهم السَّخلة، يَحْمِلُها الراعي، ولا تأْخذها، ولا تأْخذ الأَكُولة

(3)

، ولا الرَّبِيَّ

(4)

، ولا الماخِض

(5)

، ولا فَحْل الغنم، وتأْخذ الجَذَعَة والثَّنِيَّة، وذلك عدل بين غِذاء الغنم وخياره. وقال النووي: سنده صحيح. والغِذاء ـ بغين مكسورة وذال معجمة ممدودة ـ: وهو الرَّديء. وفي «الصِّحاح» : الغَذْي: السخلة، والجمع غِذاء، مثل فَصْل وفِصَال.

(زكاة الفرس)

(وفي كل فَرَسٍ) أَي: ويجب في كل فرس (مِنَ الإِنَاثِ) الصِّرْفة (أَوْ المختلطة) من الذكور والإِناث للنَّسل، لا للحمل والركوب والتجارة (دينارٌ أَوْ رُبُع عُشْرِ قيمتها)

(1)

المَخاض: هي من الإبل التي استكملت سنةً من عُمُرها ولم تتم الثانية. معجم لغة الفقهاء ص: 414.

(2)

العَنَاق: الأُنثى من وَلَدِ المَعْز إِذا لم تستكمل السنة. معجم لغة الفقهاء، ص:322.

(3)

الأكولة: هي التي تُعزَل للأَكل من الأَنعام. معجم لغة الفقهاء، ص:86.

(4)

الرَّبيّ من الأنعام: الذي يُربَّى في البيت محاطًا بالرعاية، وهو غير السوائم التي تترك تطلب رزقها في الأرض. معجم لغة الفقهاء، ص:219.

(5)

الماخِض: الحامل التي ضربها الطلق للولادة. معجم لغة الفقهاء، ص:396.

ص: 492

نصابًا،

===

حال كونها (نصاباً). وهذا عند أَبي حنيفة، وتَبِعَهُ زُفَر.

وقيل: الخيار في الأَفراس المُتَسَاويةِ قيمةً كأَفراس العرب، وأَمَّا المتفاوتة قيمةً، فالزكاة باعتبار القيمة. والصحيح عدم اعتبار النصاب فيها عنده. وقيل: إِنَّه ثلاثة. وقيل: خمسة، وقيل: اثنان، ذكر وأُنثى، ولا يُؤخذُ من عينها إِلاَّ برضاء صاحبها بخلاف (سائر)

(1)

المواشي، تَمَسُّكاً بما في «سُنن الدَّارَقُطْنِي» ، ثم البيهقي عن الليث بن حماد الإصْطَخْري: حدثنا أَبو يوسف، عن غُورَك بن الخضرم

(2)

أَبي عبد الله، عن جعفر بن محمد، عن أَبيه، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «في الخيل السائمةِ: في كلِّ فرس دِينارٌ، وليس في الرابطةِ شيء» . قال الدَّارَقُطْنِيّ: تَفَرَّدَ به غُورَك، وهو ضعيف جداً، ومَنْ دونه ضعفاء. وقال البيهقي: ولو كان هذا الحديث صحيحاً عند أَبي يوسف لم يخالِفْهُ، ولم يَقُل ابن شِهَاب: لا أَعلم أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سَنَّ صدقة الخيل.

قلت: مخالفة أَبي يوسف لم تدل على عدم صحة الحديث، لاحتمال وجود معارضة الأَقوى كما لا يَخْفَى، ونَفْي عِلْم الزُّهري لا يكون حجة على مَنْ حَفِظَ وأَثبت، مع أَنه مُعَارَضٌ بما روى هو عن حَمَّاد، عن إِبراهيم أَنَّه قال: في الخيل السائمة التي يُطْلَبُ نَسْلُها إِنْ شِئْت في كل فرس دينارٌ أَوْ عَشْرَةُ دراهمَ، وإِنْ شِئتَ في القيمة فيكون في كل مئتي درهم خمسةُ دراهمَ في كل فرس ذكراً أو أنثى. وبما رواه عبد الرزاق، عن ابن جُرَيْج: أَخبرني ابن أبي حسين: أَنَّ ابن شهاب أَخبره: أَنَّ عثمان كان يصدق الخيل، وأَنَّ السَّائِب بن يَزِيد أَخبره: أَنه كان يأتي عمر بن الخطاب بصدقة الخيل». قال الإِسْبِيجَابي: جعل الطحاوي الاختيار إلى المُصَدِّق ـ أَي آخذ الصدقة من العمال ـ وليس كذلك، إِنَّما هو إِلى صاحب المال.

وفي الإِناث الخالص والذكور الصِّرْف: روايتان عن أَبي حنيفة، والراجح في الإِناث الوجوب، لإِمكان التناسل بالفحل المستعار، وفي الذكور عَدَمُه، لأَنَّ لحمها غير مأْكول عنده.

وعند أَبي يوسف ومحمد: لا شيء في الخيل منفردةً كانت أَوْ مختلطةً،

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

غُورَك بن الخضرم. هكذا في المخطوط. وفي المطبوع: الخصرم. وفي نسخة من "ميزان الاعتدال" 3/ 337، و "لسان الميزان" 5/ 420:"الحضرمي".

ص: 493

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

كالحُمْر والبغال المُتَّفَقِ على عدم الوجوب فيهما، واختاره الطحاوي. وفي «الينابيع»: وعليه الفتوى، وكذا قاله قاضيخان، وصاحب الأَسرار»، لكن رَجَّحَ شَمْسُ الأَئمة، وصاحب «التحفة» قولَ أَبي حنيفة، إِلاَّ أَنَّ قولهما عليه عامة العلماء، وهو قول مالك والشافعي، لما في الكُتُب الستة عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة» . زاد مُسْلم: «إِلاَّ صَدَقَةَ الفِطْر» . وأُجِيب عنه بأَن المراد به فَرَسُ الغازي.

وفي «سُنن أَبي داود والترمذي» ، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد عَفَوْتُ لكم عن صدقة الخيل، والرقيق، فهاتوا صدقة الرِّقةَ»

(1)

. قال الترمذي: سألت محمداً عن هذا الحديث، فقال: هو عندي صحيح.

وأَخرج البيهقي، عن بَقِيَّةَ: حدّثني أَبو معاذ، عن الزُّهْرِيِّ، عن سعيد بن المُسَيّب، عن أَبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم «عَفَوْتُ لكم عن صدقة الجَبْهة، والكُسْعَة، والنَّخَة» . والجَبْهة: الخيل. والنّخة: ـ بالفتح والضم ـ الرقيق. والكُسْعَة: الحمير. وأَخرجه أَبو داود، عن كَثِير بن زياد، عن الحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وهو حجة عندنا، وعند الجمهور.

ولأَبي حنيفة ما في «الصحيحين» ، عن أَبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «الخيل لِثَلاثة: لِرَجُل أَجْرٌ، ولِرَجُلٍ سِتْرٌ، وعلى رجل وِزْرٌ، فأَمَّا الذي له أَجر فَرَجُلٌ ربطها في سبيل الله، وهي لذلك الرجل أَجر، ورجل ربطها تَغَنِّياً وتَعَفُّفاً ولم يَنْس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر، ورجل ربطها فَخْراً وَنِوَاءً ـ أَي معاداة ـ فهي على ذلك وزر. فَسُئِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الحمير، فقال: ما أُنزل علَيَّ فيها إِلاَّ هذه الآيةُ الفَاذَّة ـ أَي المفردة الجامعة ـ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خيراً يَرَه ومَنْ يَعْمَل مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهْ}

(2)

». انتهى. وحق الله في رقابها الزكاة. وأَمَّا قول صاحب «الهداية» : ولا شيء في البِغال والحمير لقوله صلى الله عليه وسلم «لم ينزل عليَّ فيهما شيءٌ»

(3)

، فَوَهْمٌ، لأَنَّ هذا اللفظ وَرَدَ في الحمير خاصَّةً.

(1)

الرِّقَة: أي الفضة والدراهم المضروبة - أي المصاغة - منها. وأصل اللفظة الوَرِق، وهي الدراهم المضروبة خاصَّةٌ. النهاية: 2/ 254.

(2)

سورة الزلزلة، الآيتان:(7، 8).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 6/ 633، كتاب المناقب (61)، باب (28)، رقم (3645).

ص: 494

ولا يَجِبُ إِلَّا في السائمةِ، أَي المُكْتَفِية بالرَّعي في أَكثر الحولِ ولا في الصِّغار، إِلا تَبَعًا للكبار،

===

وروى عبد الرزاق في «مُصَنَّفِهِ» ، عن ابن جُرَيْج عن عمرو بنِ دِينار: أَنَّ جُبَيْر بنِ يَعْلَى: أَخبره أَنَّه سَمِعَ يَعْلَى بن أُمية يقول: «ابتاع عبد الرحمن ـ أَخو يَعْلَى بن أُمية ـ من رجل من أَهل اليمن فرساً أُنثى بمئة قَلُوصٍ

(1)

، فَقَدِمَ البائعُ على عمر فقال: غصبني يَعْلَى وأَخوه فرساً لي، فكتب إلى يَعْلَى أَنْ الْحَقْ بي، فأَتاه فأَخبره الخبر، فقال عمر: إِنَّ الخيل لتبلغ عندكم هذا، ما علمنا أَنْ فرساً يبلغ هذا، فنأخذ من كل أَربعين من الغنم شاة، ولا نأْخذ من الخيل شيئاً، خذ من كل فرس ديناراً».

قال ابن عبد البَرِّ: وروى الدَّارَقُطْنِيّ حديثاً صحيحاً، عن جَوَيْرية

(2)

، عن مالك، عن الزُّهْرِي:«أَنَّ السائب بن يَزِيد أَخبره قال: رأيت أبي يُقَوِّمُ الخيل، ثم يدفع صدقتها ـ أي رُبُعُ عُشْرِ قيمتها ـ» .

(ولا يَجِبُ) زكاة الماشية (إِلاَّ في السائمةِ أَي المُكْتَفِية بالرِّعي) المباح. والرِّعي: بكسر الراء: الكلأ، وفتحها المصدر. (في أَكثر الحولِ) لأَن اسم السَّوْم لا يَزُول بالعَلْفِ اليسير لعدم إِمكان الاحتراز عنه، ولا بد أَنْ يكونَ السَّوْمُ للدَّر والنَّسل، حتى لو كان للحمل والركوب لم يكن فيها زكاة، ولو كان للبيع والتجارة كان فيها زكاة التجارة، وهي رُبُعُ عُشْرِ قيمتها.

(ولا في الصِّغار، إِلا تَبَعَاً للكبار) في انعقاد النصاب لا في تأدية الزكاة، والمراد بالصغار: الفُصْلان جمع فَصِيل: وهو وَلَدُ الناقة قبل أَنْ يصيرَ ابنَ مخاض. والحُمْلان جمع حَمَل بالتحريك: وهو وَلَدُ الشاة في السنة الأولى. والعَجَاجيل جمع عِجْل: وهو من أَولاد البقر حين تَضَعُهُ أُمُّه إِلى شهر، والأُنثى عِجْلةٌ، لأَن المقادير لا يدخلها القياس، فإِذا امتنع إِيجاب ما ورد به النص، امتنع أَصلاً، والنَّصُّ وَرَدَ بالشاة والبقر والناقة لا مطلقاً، بل ذات السِّنِّ المُعَيَّنِ من الثَّنِية، والتَّبِيع، وبِنْت المَخَاض مثلاً، ولم يوجد فَتَعَذَّرَ الإِيجاب.

وهذا قول أَبي حنيفة رحمه الله آخراً وبه أَخذ محمد. وقال أَبو يوسف: يجب فيها واحد منها، وهو رواية عن أَبي حنيفة ثانياً نظراً للفقراء ورَبِّ المال.

(1)

القَلُوص: الأُنثى من الإِبل من حين تُرْكبُ إلى التاسعة من عمرها، ثم تكون بعد ذلك ناقةٌ. معجم لغة الفقهاء، ص:369.

(2)

صُحِّفت في المطبوع إلى: جريرة، والمخطوطة إلى: جويرة. والصواب ما أثبتناه من "نصب الراية" 2/ 359، وشرح معاني الآثار 2/ 26. وقد رواه الدارقطني في "غرائب مالك".

ص: 495

ولا فيما يَعْمَل.

والوَاجِبُ الوَسَطُ، فإِنْ لم يوجد يأْخذ العاملُ الأَدْنَى مَعَ الفَضْل، والأَعْلَى ويَرُدُّ الفَضْلَ.

===

وصورة المسألة: إِذا كان له خَمْسٌ وعشرون من النوق، أَوْ ثلاثون من البقر، أَوْ أَربعون من الغنم، فلما مضى عليها عَشْرَةُ أَشْهُر مثلاً، ولدت أَولاداً، وهلكت الأُمهات ثم كَمَلَ الحَوْلُ على الأَولاد، فهل يجب على الأَولاد شيءٌ؟ على الخلاف المذكور عن أَبي حنيفة أَولاً: أنه يجب فيها ما يجب في المسنات، وهو قول زُفَر ومذهب مالك، لأَن قوله صلى الله عليه وسلم «في خمس وعشرين بِنْتُ مَخَاض» يشمل الصِّغار والكبار، ولِتَنَاوُلِ اسم الإِبل والبقر والغنم الصغير والكبير كتناولهما الذكر والأُنْثَى.

(ولا فيما يَعْمَل) أَي ما أُعِدَّ للعمل، كإِثارة الأَرض، وحمل الأَثقال. وقال مالك: يجب فيه الزكاة لإِطلاق قوله صلى الله عليه وسلم «ليس فيما دون خَمْسِ ذَوْدٍ

(1)

من الإِبل صدقة»

(2)

. ولنا ما روى أَبو داود والدَّارَقُطْنيّ من حديث علي رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «هاتوا رُبُعَ العُشْرِ: من كلِّ أَربعينَ دِرْهَماً دِرْهَمٌ» إِلى أَنْ قال: «وليس في العوامل شيء» . وفي رواية: «صدقة» . قال أَبو الحسن القطان: سنده صحيح. وعن جابر أَنّه صلى الله عليه وسلم قال: «ليس في المُثِيرة

(3)

صدقة»

(4)

.

(والوَاجِبُ الوَسَطُ) من السِّنِّ الذي وجب، فلو وجب بِنْتُ لبون لا يأْخذُ العاملُ خِيَار بِنْت اللَّبُون، ولا رديئها، بل يأخذ الوَسَطَ لقوله صلى الله عليه وسلم لِمَعَاذ حين بعثه إلى اليمن: «إِيَّاك وكرائم

(5)

أَموالِهم». رواه الجماعة. ولأَن في أَخذ الوَسَطِ نَظَراً للفقراء، ولِرَبِّ المال.

(فإِنْ لم يوجد) الوَسَطُ من السِّنِّ الواجب (يأْخذ العاملُ الأَدْنَى) وَصْفاً أَوْ سِنَّاً (مَعَ الفَضْل)، ويُجْبَرُ على ذلك لأَنه إِعطاءٌ بالقيمة لا بَيْعٌ.

(و) يأْخذُ العامِلُ (الأَعْلَى) وَصْفاً أَوْ سِنَّاً (ويَرُدُّ الفَضْلَ) ولا يُجْبَرُ على ذلك،

(1)

تقدم شرحها، ص: 477، تعليق رقم (4).

(2)

أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (فتح الباري) 3/ 310، كتاب الزكاة (24)، باب زكاة الورق (32)، رقم (1447).

(3)

المُثِيرة: البقرة التي تثير الأَرض للزراعة. طلبة الطلبة ص: 39.

(4)

سنن الدارقطني 2/ 104، كتاب الزكاة، باب تفسير الخليطين .... ، رقم (2).

(5)

كَرَائِم الأَموال، أي نَفَائِسها التي تتعلق بها نَفْسُ مالِكها ويَختَصُّها لها. النهاية: 4/ 167.

ص: 496

[نِصَابُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ]

ونِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا، والفضة مئتا درهم، كُلُّ عشرَةٍ منها سَبْعَةُ مثاقيل،

===

لأَنَّه شِرَاء.

في «الكافي» : أَنَّ الخِيَار إِلى المالك في الصورتين، لأَن الشارع اعتبر التيسير على أَرباب الأَموال، وذا إِنَّما هو بالخِيَار إِلى المالك.

(نصاب الذهب والفضة)

(ونِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالاً

(1)

، والفضة مئتا درهم) لما في «الصحيحين» من حديث أَبي سعيد، أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«ليس فيما دون خَمْس أَواق صدقة» . والأُوقية: أَربعونَ درهماً. ولحديث عَليّ المتقدِّم في اشتراط الحَوْل. ولما قدمناه في كتاب عمرو بن حَزْم: «وفي كل أَربعينَ ديناراً دينار» . ولما رواه ابن ماجه عن ابن عمر وعائشة، «أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأْخذُ من كلِّ عشرين ديناراً نِصْفَ دينار، ومن الأَربعين ديناراً (ديناراً)

(2)

». ولقوله صلى الله عليه وسلم «هاتوا رُبُعَ العُشُورِ في كلِّ أَربعينَ دِرْهَماً، وليس عليكم شيءٌ حتى يتم مئتا درهم، فإِذا كانت مئتي درهم ففيها خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فما زادَ فَعَلى حِسَابِ ذلك»

(3)

.

(كُلُّ عشرَةٍ منها) أَي من الدَّرَاهِم (سَبْعَةُ مثاقيل) ويُسَمَّى وَزْنَ سَبْعة فيكون كُلُّ دِرْهَم نِصْفَ مِثْقَال، وخمساً فيكونُ الدِّرْهَم أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطاً. والقِيرَاط

(4)

: خمس شَعِيرَات. قيل: أَصْلُهُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ قبل عهد عمر كانت مختلفة، فمنها ما كان عشرين قيراطاً، وبعضها عَشَرَةَ قَرَارِيطَ، وبَعْضُها اثني عَشَرَ قيراطاً، فَأَمَرَ بِضَرْبِ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ متساويةٍ، فكان كُلُّ دِرْهَمٍ أَربعة عشَرَ قيراطاً، وهو وزن سبعة، وجمع الناس على ذلك. وقيل: لما أَراد عمر أَنْ يستوفي الخَرَاج بالأَكبر، فالتمسوا منه التخفيف، فجمع حُسَّابَ زمانهِ ليتوسّطوا وليتوفّقوا بين الدراهم كلها، واستخرجوا وزن السبعة، (واستقر)

(5)

الأَمر

(1)

المِثْقال: من وحدات الوزن، ويختلف المثقال لوزن الذهب عن المثقال لوزن الأشياء الأخرى. مثقال الذهب= 72 حبة = 4.24 غرامًا. مثقال الأشياء الأخرى= 80 حبة = 4.5 غرامًا. معجم لغة الفقهاء، ص 404.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

سنن أبي داود 2/ 228، كتاب الزكاة (3)، باب في زكاة السائمة (5)، رقم (1572).

(4)

القِيرَاط للأشياء وللفضة: هو ما يساوي 4 حبات= 0.248 غ. معجم لغة الفقهاء، ص:449.

(5)

سقط من المطبوع.

ص: 497

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

عليه.

وقال أَبو عبيد: كانت الدَّرَاهم قبل الإِسلام كباراً وصغاراً، فلما جاء الإِسلام وأَرادوا ضَرْبَ الدراهم، ـ وكانوا يزكونها من النوعين ـ فنظروا إِلى الدِّرْهم الكبير إِذا هو ثمانية دَوَانيق، وإِلى الدرهم الصغير فإِذا هو أَربعة دَوانِيق، فوضعوا زيادة الكبير على نقصان الصغير فجعلوهما درهمين سواء، كُلُّ واحد سِتَّةُ دَوانِيق، ثم اعتبروها بالمثاقيل، ولم يزل المثقال في آباد الدهر محدوداً لا يزيد ولا يَنْقُصُ، فوجدوا عَشْرَةً من هذه الدراهم التي واحِدُها سِتَّةُ دوانيق وَزْنَ سبعة مثاقيل سواء، فاجتمع فيه أَنَّ العشرة منها وزن سبعة مثاقيل، وأَنَّهُ عدل بين الكبار والصغار، وأَنَّه موافق لِسُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة، فمضت سنة الدراهم على هذا، فاجتمعت عليه الأئمة، انتهى.

وفي «صِحاح الجوهري» : الدَّانِق: سُدُسُ دِرْهَم. والقِيرَاط: نصف دانق. وقال ابن الأَثير: القِيرَاط: جزأ من أَجزاء الدينار، وهو نِصْفُ عُشْرِهِ في أَكثر البلاد. وأَهلُ الشام يجعلونه جُزءاً من أَربعة وعشرين، والياء فيه بَدَلٌ من الراء، فإِن أَصله قِرَّاط مُضَعَّفاً، كما أَنَّ أَصْلَ دِينار دِنَّار، والجمع فيهما قَرَارِيط، ودنانير. وفي «شرح الوقاية»: المِثْقَال: عشرون قِيراطاً، والدرهم: أَربعة عشر قيراطاً، والقِيراط: خمس شعيرات.

وفي «الغاية» : دراهم مصر أَربعة وستون حبة، وهو أَكبر من درهم الزكاة، فالنصاب منه مئة وثمانونَ دِرْهَمَاً وحبتان. وفي «القنية»: المُعْتَبَرُ في الزكاة وزن عشرة دنانير بوزن مكة، يَنْقُصُ عَمَّا عندنا بِثُلُثَي دينار، فلو بلغت الدنانير بوزن بلدتنا ثمانيةَ عَشَرَ وثلثي دينار، يجب فيها الزكاة. وفي ديات «الخُلاصَة»: أَنَّ كل عشرة من مثاقيل مكة تسعة من مثاقيل غيرها. وفي «الفتاوى المنصورية» : يُعْتَبَرُ في كُلِّ زمن عادة أَهْلِهِ، فَيُعْتَبَرُ دَرَاهِمُ ودنانيرُ كل بلدة بوزنها وإِنْ كان وزنها في البلاد متفاوتاً.

قال بعض المحققين: وهذا يقتضي أَنَّ النصاب ينعقد من الصغار، وهو الحق، لأَنَّهم لم يختلفوا في تفاوت الدراهم صِغَراً وكِبَراً في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم فبالضرورة تكون الأوقية مختلفة أيضاً بالصغر والكبر. وقد أَوْجَب النبيّ صلى الله عليه وسلم في خمس آواق الزكاة مطلقاً من غير تقييد بِصِنْف، فإِذا صَدَقَ على الصغيرة خمس آواق يجب الزكاة فيها بالنص.

ويؤيده ما نقل أَبو عُبَيْد: أَنهم كانوا يُزَكُّون من النوعين، ومن هذا ـ والله تعالى أَعلم ـ ذهب بعضهم إِلى أَنَّ المُعْتَبَرَ في حَقِّ كل أَهل بلد دراهمهم. ذكره قاضيخان،

ص: 498

معمولًا أَو تِبْرًا

===

قال: إِلاَّ أَنّي أَقول: ينبغي أَنْ يقيد بما إِذا كانت دراهمهم لا تَنْقُصُ عن أَقل ما كان وزناً في زمنه صلى الله عليه وسلم وهي ما تكون العشرة وزن خمسة، لأَنها أَقل ما قُدِّر النصاب بِمِئتَين منها. ثم قال: فإن لم يكن لهم إِلاّ دراهم كبيرة كوزن سبعة، فالاحتياط على هذا أَنْ تُزَكَّى، وإِنْ كانت أقل من مئتين إِذا بلغ ذلك لأَقل قَدْر النصاب، وهو وزن خمس.

(معمولاً أَوْ تِبْراً)

(1)

سواء كان المعمولُ سِكَّة

(2)

أو حُلِيَّاً أَوْ آنية. وقال مالك: الحُلِيُّ المباحُ الاستعمالِ للنساء والرجال لا زكاة فيه. وهو أَظهر القولين عن الشافعي، والرواية التي اختارها أَصحاب أحمد عنه. ورواه مالك في «الموطأْ» عن عائشة وابن عمر، ورواه الدَّارَقُطْنِيُّ عن أَسماء وأَنس. ولِمَا رُوِيَ عن جابر، أَنَّه صلى الله عليه وسلم قال:«ليس في الحُلِيِّ زكاة»

(3)

. ولقول ابن عمر: «لا زكاة في الحُلِيّ» . رواه عبد الرَّزَّاق. وقول أَنس: «ليس في الحُلِيِّ زكاة» . رواه الدارقطني.

قلنا: قال البيهقي في «المعرفة» : وما يُرْوى عن عافية بن أَيوب، عن الليث، عن أَبي الزبير، عن جابر مرفوعاً:«ليس في الحُلِيِّ زكاةٌ» ، فباطل لا أَصل له، إِنَّما يُرْوى عن جابر من قوله، وعَافِية بن أَيوب مجهول، فمن احتج به مرفوعاً كان داخلاً فيما يعيب به المخالفين من الاحتجاج برواية الكذَّابين.

ولنا عموم قوله تعالى: {والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللَّهِ}

(4)

الآية. وعموم قوله صلى الله عليه وسلم «في الرِّقَةِ رُبُعُ العُشْرِ» . رواه البُخَارِي. وهو

(5)

بكسر الراء وتخفيف القاف. والوَرِق: الفضة المَضْرُوبة

(6)

، حُذِفَتْ الواو منه وعوض عنه الهاء كالعِدَة في الوَعْد. وما رواه أَبو داود والنسائي من حديث عَمْرو بنِ شُعَيْب، عن أَبيه، عن جده:«أَنَّ امرأَة أَتَت النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعها ابنَةٌ لها، وفي يدِ ابنتها مَسَكَتَان غليظتان من ذهب، فقال لها: أَتُعْطِين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللهُ تعالى بهما يوم القيامة سِوارين من نار؟ قال: فخلعتهما فأَلقتهما إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله ولرسوله» . قال ابن القطان: إِسناده صحيح. وقال ابن المنذر في «مُخْتَصَرِه» : إِسناده لا

(1)

التِّبر: سبائك الذهب أَو الفضة قبل ضربها - أي تصاغ - نقودًا. معجم لغة الفقهاء، ص:120.

(2)

السِّكَّة: القالب الذي تُصب فيه النقود. معجم لغة الفقهاء ص 246، والمقصود هنا: النقود المضروبة.

(3)

سنن الدارقطني 2/ 107، كتاب الزكاة، باب زكاة الحُلِي، رقم (4).

(4)

سورة التوبة، الآية:(34).

(5)

أي الرِّقَة.

(6)

المضروبة: أي المُصاغة، ضرب الشئ إذا صاغه. معجم لغة الفقهاء، ص: 283، بتصرف.

ص: 499

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

مقال فيه، ثم بَيَّنَهُ رَجُلاً رَجُلاً.

ورواه الترمذي عن ابن لَهِيعَة، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أَبيه، عن جده قال:«أَتت امرأَتان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أَيديهما سِوَارَان من ذهب، فقال لهما: أَتُؤَدِّيان زكاة هذا؟ قالتا: لا، قال: «أَتُحِبّان أَنْ يُسَوِّرَكُما اللهُ سِوَارَين من نار» ؟ قالتا: لا، قال: فأَدِّيَا زكاته. قال الترمذي: ورواه المُثَنَّى بنُ صبَّاح، عن عمرو بنِ شُعَيْب نحو هذا. وابن لَهِيعة والمُثَنَّى يُضَعَّفَان في الحديث. ولا يصح في هذا الباب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم شيءٌ.

قال المُنْذِري: لعل الترمذي قصد الطريقين اللَّذَين ذكرَهما، وإِلاَّ فطريق أَبي داود لا مقالَ فيه. وقال ابن القَطَّان بعد تصحيحه لحديث أَبي داود: إِنما ضَعَّف الترمذي هذا الحديث، لأَنَّ عنده فيه ضعيفين: ابن لَهِيعَة، والمُثَنَّى بن الصبَّاح. وفي أَبي داود أَيضاً عن عَتَّابِ بن بَشير، عن ثابت بن عَجْلان، عن عطاء، عن أُم سَلَمَة قالت:«كُنْتُ أَلبَس أَوْضَاحاً من ذهب، فَقُلْتُ: يا رسولَ الله، أَكنزٌ هو؟ فقال: ما يبلغ أَنْ تُؤَدَّى زكاته فزُكِّي فليس بكنز» . وأَخرجه الحاكم عن محمد بن مُهَاجر، عن ثابت، وقال: صحيح على شرط البخاري، ولفظه:«إِذا أُدِّيَتْ زكاته فليس بكنز» . والأَوضاح: جمع وَضَح، وهو الحُلِيِّ.

ومن الآثار ما في «مصنَّف ابن أَبي شيبةَ» : كتب عمرُ بن الخطاب إِلى أَبي موسى: أَنْ مُرْ مَنْ قِبَلَكَ مِنْ نساءِ المؤمنينَ أَنْ يُزَكِّينَ حُلِيَّهُنَّ ولا تجعلن الزيادة والهدية

(1)

بينهن تعارضاً». وفيه أَيضاً: حدّثنا وَكِيعٌ، عن جرير بن حازم، عن عَمْرو بن شُعَيْب، عن عبد الله بن عمر: أَنه كان يأْمُرُ نساءه أَنْ يُزَكِّين حُلِيَّهُنَّ». وفيه أَيضاً عن عطاء وإِبراهيم وسعيد بن جُبَيْر، وعبد الله بن شَدَّاد أَنَّهم قالوا:«في الحُلِيِّ الزكاة» . زاد ابن شداد: «حتى في الخاتم» . وأَخرج عن عطاء، وإِبراهيم النَّخَعي أَيضاً أَنهم قالوا:«مَضَتِ السُّنَّة أَنَّ في الحلي الذهب والفضة زكاة» . وما في «مصنف عبد الرزاق» عن ابن مسعود قال: «في الحُلِيِّ زكاةٌ» .

وروى أَبو داود، والحاكم ـ وقال: على شرط الشيخين ـ عن عائشة قالت: «دَخَلْتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَرَأَى في يدي فَتَخَاتٌ مِنْ وَرِق، فقال: ما هذا؟ قلت: صَنَعْتُهُنَّ أَتَزَيَّنُ لك بهن، قال: أَفتؤدِّينَ زكاتهن؟ قلت: لا، قال: حَسْبُكِ من النار» .

(1)

حُرِّفت في المطبوع والمخطوط إلى: الهدنة. والصواب ما أثبتناه من "مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 153، كتاب الزكاة، في زكاة الحُلي ومن "نصب الراية" 2/ 374.

ص: 500

فَيَجِبُ رُبُعُ العُشْرِ وفي كُلِّ خُمْسٍ زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ

===

والفَتَخَات ـ بفاء ومثناة فوقية ومعجمة مفتوحة ـ: خواتم كبار. فالمعنى: أَفتؤدين زكاتهن مع انضمامهن إلى غيرهن مما تجب فيه الزكاة؟

(فَيَجِبُ رُبُعُ العُشْرِ) وهو نصف مثقال في نصاب الذهب وخمسة دراهم في نصاب الوَرِق (وفي كُلِّ خُمْسٍ) ـ بِضم الخاء المعجمة ـ (زَادَ عَلَى النِّصَابِ) أَي نصاب النَّقْدَيْنِ، وهو أَربعة دنانير في الذهب، وأَربعون دِرْهماً في الوَرِق. (بِحِسَابِهِ) عند أَبي حنيفة وما دونه عفو.

وقالا: يجب في كل ما زاد على النصاب بحِسابه، لحديث عليّ المتقدم في اشتراط الحول. ولما روى البخاري من حديث أَنس: وفي الرِّقَةِ

(1)

رُبُعُ العُشْرِ». ولما في «سُنن أَبي داود» عن زُهَيْر، عن عاصم بن حمزة والحارث، عن علي قال زُهَيْر: أَحسبه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «هاتوا ربع العُشْر: في

(2)

كل أَربعين دِرْهماً دِرْهَمٌ، وليس عليكم شيءٌ حتى يتم مئتي درهم، فإِذا كانت مئتي درهم ففيها خمسة دراهم، فما زاد على حساب ذلك

» الحديث. ورواه الدَّارَقُطْنِيُّ مجزوماً به ليس فيه أَحسبه، وصحح ابن القطان إِسناده. ولِمَا في «مُصَنَّفَي عبد الرزاق وابن أَبي شيبة» ، عن مَعْمَر، عن أَيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال:«في كُلِّ مئتي درهم خمسةُ دراهم، فما زاد فبحساب ذلك» . وأَخرجه ابن أَبي شيبة أَيضاً عن عمر بن عبد العزيز وابن سيرين وإِبراهيم النَّخَعِي.

ولأَبي حنيفة رحمه الله تعالى ما روى النَّسائي وابن حِبَّان والحاكم وغيرهم في كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إِلى عمرو بن حَزْم: «في كُلِّ خمس أَواق من الوَرِق خمسة دَرَاهِمَ، وما زاد ففي كل أَربعينَ دِرْهَماً درهم، وليس فيما دون خَمْسِ أَواق من الوَرِق شَيءٌ» .

وفي «أحكام عبد الحق» : روى أَبو أُوَيْس عن عبد الله ومحمد ـ ابني أَبي بكر بن عمرو بن حَزْم ـ، عن أَبيهما، عن جدّهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنه كتب هذا الكتاب لعَمْرو بن حَزْم حين أَمَّرَهُ على اليمن، وفيه: «والرِّقَةُ ليس فيها صدقةٌ حتى تَبْلُغَ مئتي درهم، (فإِذا بلغت مئتي درهم)

(3)

ففيها خمسة دراهم، وفي كُلِّ أَربعينَ دِرْهَماً دِرهمٌ، وليس فيما دون الأَربعين صدقةٌ». ولم يعزه عبد الحق لكتاب، وكثيراً ما يفعل ذلك في

(1)

تقدم شرحها، ص: 494، تعليق رقم (1).

(2)

في المطبوع: العُشُور من، وما أثبتناه من المخطوط.

(3)

سقط من المطبوعة.

ص: 501

ويُعْتَبَرُ الغَالِبُ.

وإِنْ غَلَبَ الغِشُّ يُقَوَّمُ، لا في غَيرِ مَا مَرَّ، إِلَّا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ عِنْدَ تَمَلُّكِهَا بِغَيْرِ الإِرْثِ إِذا بَلَغَ قِيمَتُهَا نِصَابًا مِنْ أَحدِهِمَا

===

«أَحكامه» .

وما في «سُنن الدَّارَقُطْنِيّ» من طريق أَبي إِسحاق، عن المِنْهال بن الجرَّاح، عن حبيب بن نجيح، عن عُبادة بن نُسَيّ، عن معاذ: «أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ حين وَجَّهَهُ إِلى اليمن: أَنْ لا تَأْخُذْ من الكسور شيئاً، إِذا كانت من الوَرِق

(1)

مئتي درهم فَخُذ منها خمسة دراهم، ولا تأخذ مما زاد شيئاً حتى تبلغَ أَربعينَ دِرْهماً، وإِذا بلغت أَربعينَ فَخُذْ منها دِرْهَماً». لكنه ضعيف بالمِنْهال، والله تعالى أَعلم بالحال.

وروى أَبو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّم في كتاب «الأَموال» عن أَنَس قال: «وَلاَّني عُمَرُ بن الخطاب الصدقات فأَمَرَني أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ عشرين دِيناراً نِصْفَ دِينَارٍ، وما زاد فبلغ (أَربعة دنانير ففيه درهم. وأَن آخذ من مئتي درهم خمسة دراهم، فما زاد فبلغ)

(2)

أَربعين دِرْهَمَاً ففيهِ دِرْهَمٌ.

(ويُعْتَبَرُ الغَالِبُ)، فإِن غلب الذهب على الغِشّ وجب زكاة الذهب، وإِنْ غلب الفضة على الغِشّ وجب زكاتها (وإِنْ غَلَبَ الغِشُّ) على الذهب والفضة (يُقَوَّمُ) ويُخْرَجُ من قيمته إِنْ نوى به التجارة، وإِنْ لم يَنْو فإِنْ كان الجيد يتخلص ويبلغ نصاباً وَحْدَهُ أَوْ بالضم إِلى غيره، زَكَّاه، لأَن عَيْن النقدين لا يُشترط فيها نية التجارة. وإِنْ لم يتخلص منه شيء فلا شيء عليه، لأَنها هلكت فيه، إِذْ لم ينتفع بها حالاً ولا مآلاً فَبَقِيَتْ العبرة للغِش وهو عُروض

(3)

، فيعتبر فيه نية التجارة. ولو ساوى الذهب أو الفضة الغش قيل: يجب الزكاة احتياطاً، وقيل: لا يجب، وهو الأَظهر، لعدم الغَلَبة المشروطة للوجوب. وقيل: يجب درهمان ونصف نظراً إِلى وجهي الوجوب وعدمه وهو الظاهر.

(لا في غَيْرِ مَا مَرَّ) أَي لا تجب الزكاة في غير ما مَرَّ من السوائم والذهب والفضة، وهو العروض (إِلاَّ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ عِنْدَ تَمَلُّكِهَا بِغَيْرِ الإِرْثِ إِذا بَلَغَ قِيمَتُهَا نِصَاباً مِنْ أَحدِهِمَا) أَي من الذهب والفضة، أَنَّث الضمير في «قيمتها» و «تملكها» نظراً إِلى

(1)

تقدم شرحها ص 477، التعليقة رقم (3).

(2)

سقط من المطبوع.

(3)

تقدم شرحها ص 477، التعليق رقم (1).

ص: 502

أَنْفَع لِلفَقِيرِ.

===

معنى «غير» ـ وهي العروض ـ. وفي بعض النُّسخ «قيمته» و «تملكه» بتذكير الضمير نظراً إِلى لفظ غير. (أَنْفَع لِلفَقِيرِ) أَي حال كون أَحدهما أَنفع له، لأَن في ذلك احتياطاً له.

وقال أَبو يوسف: إِنْ كان ثمنها من النقود قُوِّمَتْ بما اشْتُرِيَت به، وإِنْ كان من غيرها قُوِّمَتْ بالنقد الغالب، وقال محمد: يقوَّم بالنقد الغالب كالمغصوب والمستهلَك.

قَيَّدَ «النيَّة» بعد التملك، لأَن النية لا تُعتبر إِلاَّ إِذا اقترنت بالعمل، كنية السفر لا تُعتبر إِلاَّ إِذا اقترنت بالسفر. فلو اشترى جاريةً ونوى بها التجارة، كانت للتجارة لاقتران النية بالعمل. وإِن نوى بها الخدمة، كانت للخدمة، فإِنْ نوى بها بعد ذلك التجارة، لم تكن للتجارة حتى يبيعها أَوْ يُؤجرها، فحينئذٍ ينعقد الحول على ثمنها.

وقَيَّدَ «التملك» بغير الإرث، لأَن التملك بالإِرث جبري لا اختياري، فلا يمكن اشتراط نيّة التجارة عنده. فلو تملكه بالإِرث لا تجب الزكاة، نوى التملك أَوْ لم ينو. وقال محمد: إِذا قارنت نيةُ التجارةِ الهبةَ، أَوْ الوصيةَ، أَوْ النِّكاحَ، أَوْ الخُلْع، أَوْ الصُلْح عن القَوَدِ ـ أَي القِصاص ـ لا تصير تلك العين للتجارة، لأَن النية لم تقارن عملها. ونقل الإِسْبِيجَابي عن القاضي الشهيد: أَنَّ هذا قول أَبي حنيفة وأَبي يوسف، وأَن قول محمد: إِنَّها تكون للتجارة.

ثم اعلم أَنَّ العُروض ـ بالضم جَمْع عَرَض ـ بفتحتين: حُطام الدنيا على ما في «المُغْرِب والصحاح» ، والعَرْض بسكون الراء: المتاع، وكل شيء فهو عَرْضٌ سوى الدراهم والدنانير، كذا في «الصحاح». وقال أَبو عُبَيد: العُروض: الأَمْتِعَةُ التي لا يدخلها كَيْلٌ ولا وزنٌ، ولا يكون حيواناً ولا عَقاراً. فعلى هذا جَعْلُهَا هنا جَمْعَ عَرْض ـ بالسكون ـ أَولى، لأَنه في بيان حكم الأَموال التي هي غير النقدين والحيوانات، كذا في «النهاية» .

والأَصل في ذلك ما في «سُنن أَبي داود» عن جعفر بن سعد: حَدَّثَني حبيب بن سليمان، عن أَبيه، عن سَمُرَةَ بن جُنْدُب:«أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يَأْمُرُنا أَنْ نُخْرِجَ الصدقَةَ من الذي نُعِدُّ للبيعِ» . وسكت عليه، فهو حسن، وقرره غيره أَيضاً.

وأَمَّا قول صاحب «الهداية» : الزكاةُ واجبةٌ في عُروض التجارة كائنةً ما كانت إِذا بلغت قيمتها نِصاباً من الوَرِق أَوْ الذَّهب، لقوله صلى الله عليه وسلم فيها:«يُقَوِّمُها فيؤدي من كُلِّ مئتي درهم خمسة دراهم» . فغير معروفٍ بهذا اللفظ. وفي «المستدرك» عن أَبي ذَرَ

ص: 503

[دفع القيمة]

ويَجُوزُ دَفْعُ القِيَم في: الزكاةِ، والفِطرِ، والكفَّارَةِ، والعُشْرِ، والنَّذْرِ،

===

قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «في الإِبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البَزِّ صدقتها، ومَنْ دفع دراهمَ أَوْ دنانير أَوْ تِبْراً

(1)

، أَوْ فضة، لا يُعِدها لغريم ولا ينفقها في سبيل الله، فهو كَنْزٌ يُكْوَى به يوم القيامة». ورواه أَحمد والدَّارَقُطْنِيّ. قال النووي: هو بالباء والزاي: الثياب التي هي أَمتعة البزَّاز، وقد صَحَّفَه بعضهم بالراء، وضم الباء، وهو غلط.

(دفع القيمة)

(ويَجُوزُ دَفْعُ القِيَم في الزكاةِ والفِطْرِ والكَفَّارَةِ والعُشْرِ) وكذا الخَرَاج (والنَّذْرِ) وقال مالك، وأَحمد، والشافعي: لا يجوز لأَنها قُرْبَةٌ تعلقت بِمَحل، فلا تُؤَدَّى بغيره، كالهدايا والضحايا، ولقوله صلى الله عليه وسلم «في أَربعين شاةً شاةٌ»

(2)

. وإِنَّه بيانٌ لإِجْمَال الكتاب، فتعلق حقُّ الفقير بعين الشاة، وفي جواز دفع القيمة بالتعليل

(3)

إِبطال حَقِّه

(4)

من العين المنصوص عليها، فلا يجوز.

ولنا ما رَوى البخاري مُعَلَّقاً ـ وتعليقه صحيح ـ عن طاوس أَنَّ مُعَاذاً قال لأَهل اليمن: ائتوني بعَرْضٍ: ثِيَابٍ: خَمِيصٍ، أَوْ لَبِيس في الصدقة ـ أَي الزكاة ـ مكانَ الشعير والذُّرة أَهْون عليكم، وخيرٌ لأَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخَمِيص: ثياب خَزّ أَوْ صوف مُعَلَّمة كانوا يَلْبَسَونها، والمشهور بخميس، قال أَبو عبيدة: هو ما طوله خمسة أَذْرُع. واللَّبِيس: الملبوس.

وما رواه ابن أَبي شيبةَ عن (الصُّنَابِحي)

(5)

: أَبْصَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ناقةً حسنةً في إِبل الصدقة، فقال:«ما هذه؟» قال صاحب الصدقة: إِنِّي ارتجعتُها بِبَعِيرَيْنِ من حواشي الإِبل، قال:«نعم إِذن» .

(1)

تقدم شرحها، ص: 499، تعليق رقم (1).

(2)

أخرجه الترمذي في سُننه 3/ 17، كتاب الزكاة (5)، باب ما جاء في زكاة الإِبل والغنم (4)، رقم (621).

(3)

أي بالقياس بعد معرفة عِلَّة الحُكْم.

(4)

أي حقّ الفقير.

(5)

في المطبوع: الضايحي وهو مُحَرّف والصواب ما أثبتناه من المخطوط، و"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 116، كتاب البيوع والأقضية، في العبد بالعبدين والبعير بالبعيرين، رقم (483). و "تقريب التهذيب" ص 346.

ص: 504

والهَلاكُ بَعدَ الحَوْلِ يَسْقُطُ بحِصَّتِهِ. والزَّكَاة في النِّصَابِ لا العَفْوِ،

===

وما رواه البخاريُّ من حديثِ ثُمَامَةَ: أَنَّ أَنساً حَدَّثه أَنَّ أَبا بكر كتَب (له)

(1)

الفريضة التي أَمَر اللهُ تعالى ورسوله: «مَنْ بلغتْ عِنْده من الإِبل صدقةُ الجَذَعَةِ

(2)

وليس عنده جذعة وعنده حِقَّةٌ

(3)

، فإِنه تُقْبل منه الحِقَّة .... » الحديثَ. ولأَن أَداء البعير عن خمس من الإِبل بدلاً عن الشاة جائز باتفاق مع أَنه غير منصوص، وذلك بطريق القيمة، وإِنَّما لم تَجُزْ القيمةُ في الضحايا والهدايا، لأَن القربة فيهما إِراقة الدم، وهي غير معقولة المعنى

(4)

، وفي المُتَنَازَع فيه سدّ حاجة الفقير، وهو معقول.

(والهَلَاكُ بَعدَ الحَوْلِ يَسْقُطُ) من الزكاة (بِحِصَّتِهِ) أَي بِحِصَّةِ الهالِك، فإِنْ هلك جميع النصاب سقط زكاته، وإِنْ هلك بعضه سقط ما يَخُصُّه

(5)

. وقال مالك والشافعي وأَحمد في رواية: لا يسقط. ومبنى الخلاف: على أَنَّ الوجوب في الذِّمة، وهو قولهم، أَوْ في المال وهو قولنا.

ولنا قوله تعالى: {وفي أَمْوَالِهِم حَقٌّ}

(6)

، وقوله صلى الله عليه وسلم «في أَربعين شَاةً شَاةٌ، وفيما سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْر»

(7)

. فأَما الاستهلاك فلا يسقط اتفاقاً لوجود التعدي. ولو هلك النصاب بعد طلب الساعي لا يسقط عند العراقيين، وهو اختيار الكَرْخِي، لأَنه نوعٌ من التعدي، ويسقط عند مشايخ ما وراء النهر، وقيل: وهو الصحيح، كما لو هلك النِّصاب بعد طَلَب واحدٍ من الفقراء.

(والزَّكَاةُ في النِّصَابِ لا العَفْوِ): وهو ما بين النِّصَابَيْن، وهذا عند أَبي حنيفة وأَبي يوسف. وقال محمد وزُفَرُ: في مجموع النصاب والعَفْو، لقوله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصدقة في الإِبل: «فإِذا بلغت خمساً وعشرين إِلى خَمْس وثلاثين ففيها بِنْتُ مَخَاض

(8)

، وفي الغنم إِذا كانت أَربعين إِلى عشرين ومئة ففيها شاة»

(9)

. ولهما قوله

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

تقدم شرحها ص: 485، تعليق رقم (6).

(3)

الحِقّة: - من الإبل - هي التي أَتَّمت الثالثة من عُمرها ودخلت في الرابعة. معجم لغة الفقهاء، ص:183.

(4)

أي غير مدركة العِلَّة.

(5)

في المطبوع: بحصته، وما أثبتناه من المخطوط.

(6)

سورة الذاريات، الآية:(19).

(7)

تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.

(8)

تقدم شرحها ص: 492، تعليق رقم (1).

(9)

تقدم تخريجه عند المؤلف ص: 483.

ص: 505

فَيَجِبُ بِنْتُ مخاضٍ إِنْ هَلَكَ بَعْدَ الحَوْلِ خمسة عشر من أَرْبَعِينَ.

ويُضَمُّ المُسْتَفَادُ وسَطَ الحَوْلِ إِلى نِصَابٍ مِنْ جِنْسِهِ

===

صلى الله عليه وسلم «في الإِبل في خَمْسٍ شاةٌ، وفي عَشْرٍ شاتانِ، وفي خَمْسَ عَشَرَةَ ثلاث شياه، وفي عشرين أَربع شياه، وفي الغنم فإِذا زادت على ثلاث مئة، ففي كل مئة شاة»

(1)

. وهذا ظاهر في أنَّ الزكاة في النصاب فقط، فإِذا ملك خمساً وثلاثين من الإِبل، فالواجب ـ وهو بنتُ مخاض ـ، إِنما هو في خمسٍ وعشرين، لا في المجموع، حتى لو هلك عشرة بعد الحول، فالواجب على حاله. وعند محمد وزُفَر رحمهما الله: يسقط بقدره.

(فَيَجِبُ بِنْتُ مخاضٍ إِنْ هَلَكَ بَعْدَ الحَوْلِ خمسة عشر من أَرْبَعِينَ) من الإِبل عند أَبي حنيفة فإِنَّ عنده يُصرَف الهلاك بعد العفو إِلى النصاب الأَخير، ثُم إِلى الذي يليه إِلى أَنْ ينتهي فيصرف أَربعةً إِلى العَفْو، ثُم أَحَدَ عَشَرَ إِلى النصاب الذي يلي العفو، وهو ما بين خمسةٍ وعشرين إِلى ستةٍ وثلاثين، فيجب بنت مخاض.

وأَما عند أَبي يوسُف فبعد صرف الهلاك إِلى العفو يُصْرَف إِلى النُّصُب شائعاً، فإِذا صَرَف أَربعة إِلى العَفْو، يصرف أَحد عشر إِلى مجموع ستة وثلاثين وكان فيها بنتُ لبون

(2)

وهلك عشرة وبقي خمسةٌ وعشرونَ فالواجب خَمْسةٌ وعشرون جزأً من ستةٍ وثلاثينَ جُزأً من بنت لبون، أَعني ثلثي بنت لبون وربع تُسْعِها.

وأَما عند محمد فيجب نصفٌ وثمن بنت لَبُون، لأَنه يُصْرَفُ الهلاك إِلى مجموع العفو والنصاب، وقد كان الواجب في الأَربعين بنتَ لبون، وبقي بعد الهلاك خمسةٌ وعشرونَ، وهي نصفٌ وثُمُن الأَربعين.

(ويُضَمُّ المُسْتَفَادُ وسَطَ الحَوْلِ إِلى نِصَابٍ مِنْ جِنْسِهِ) سواءٌ كان المستفادُ بسببٍ من ذلك النصاب، بأَن اشترى في أَثناء الحول (بذلك النصاب)

(3)

شيئاً فاستفاد فيه، أَوْ لم يكن: بأَنْ كان معه نصابٌ، فَوُهِبَ له شيءٌ، أَوْ وَرِث في أَثناء الحول شيئاً من جنسه، أَوْ حَصَّله من كسبه.

وقال مالك والشافعي: إِنْ كان المستفاد بسببٍ من النصاب ضُمَّ، وإِنْ لم يكن

(1)

أخرجه الإمام الترمذي في سننه: 3/ 17، كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم (4)، رقم (621).

(2)

بنت لبون ابن اللَّبون: وَلَد النَّاقة إِذا استكمل سنتين، ودخل في الثالثة. معجم لغة الفقهاء، ص:389.

(3)

سقط من المطبوع.

ص: 506

ويُضَمُّ الذَّهَبُ إِلى الفِضَّةِ

===

بسبب منه لا يُضم، لأَنَّ المُستفاد أَصْلٌ في حق المِلْك، فيكون أَصلاً في حقِّ الواجب فيه.

ولنا أَنْ المجانسة هي العلة في ضَمِّ المُستفاد بسبب النصاب، كالأَولاد والأَرباح الحاصلة عنه في أَثناء الحول، وهي موجودة في المستفاد الذي ليس بسبب النصاب.

وشَرط مالك والشافعي للمُستفادِ فيه مُضِيَّ حَوْلٍ تامَ لقوله صلى الله عليه وسلم «لا زكاةَ في مالٍ حتى يحولَ عليه الحَوْلُ» ، وقوله صلى الله عليه وسلم «مَنِ استَفَادَ مالاً، فلا زكاةَ فيه حتى يحولَ عليه الحولُ» . رواهما الترمذي. قالا: وذلك بخلافِ الأَولادِ والأَرباحِ، لأَنها متولِّدةٌ من الأَصلِ نَفْسِهِ، فينسحب حكمه عليها، وما نحن فيه ليس كذلك. وللشافعي في «الخلافيات»

(1)

: أَنْ ثمن السائمةِ قائم مقَامَ عينٍ هي محل الزكاة، حتى لو هلكت سقطت زكاتها، وقد زكَّاها في هذا الحول، فلو ضم الثمن لزم الثِّنَى، وهو منفيٌّ لقوله صلى الله عليه وسلم «لا ثِنَى

(2)

في الصَّدَقَةِ»

(3)

.

ولنا في المستفاد من الجنس قوله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ في السَّنَةِ شَهْراً تُؤَدُّونَ فيه زكاةَ أَمْوَالِكُمْ، فما حَدَثَ بعْد ذلكَ فلا زكاة فيه حتى يجيءَ رَأْسُ الشَّهْر» . رواه الترمذي. فهذا يقتضي أَنه يجب الزكاة في الحادث عند مجيءِ رأْسِ السنة. وما رواه ليس بثابتٍ، ولئن ثبت فليس فيه ما يُنَافي مذهبنا، لأَنَّا نقول: لا يجب الزكاة في مال حتى يحول عليه الحول إِمَّا أَصالةً أَوْ تَبَعاً، كما في الأَولاد والأَرباح.

(ويُضَمُّ الذَّهَبُ إِلى الفِضَّةِ) وبالعكس، لاتحادهما في الثمنية. وبه قال مالك، خلافاً للشافعي، لأَنهما جنسان مختلفان حقيقةً وحُكْماً، أَمَّا حقيقةً فظاهرٌ، وأَمَّا حُكْماً فلجواز بَيْع أَحدهما بالآخر مُتفاضلاً، فلا يُضَمّ كالسوائمِ المختلفةِ الجنس. ولنا ما رُوِي عن بُكَيْرِ بن عبد الله بن الأَشَجِّ:«مَضَتِ السُّنَّةُ من أَصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في ضَمِّ الذهب إِلى الفضَّة، والفضَّةِ إِلى الذهب في إِخراج الزكاة» ، ذكره في «الأَسرار» و «المبسوط» .

(1)

حُرِّفت في المطبوع والمخطوط إلى: "الخلافية"، والصواب ما أثبتناه. "والخلافيات" هو كتاب للإمام البيهقي، يصدر الآن تباعًا عن دار .... ، ويُطبع لأول مرة.

(2)

الثَّنَى: أَن يُفْعَلَ الشيءُ مرتين، ومعنى الحديث: لا تؤخذ الزكاة مرتين في السنة. النهاية: 1/ 224.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنَّفه: 3/ 298، كتاب الزكاة، باب من قال: لا تؤخذ الصدقة في السنة إلا مرة.

ص: 507

والعُروضُ إِلَيهِمَا بالقِيمَةِ لإِتْمَامِ النِّصَابِ، ونُقْصَانُهُ في الحَوْلِ هَدْرٌ.

وجاز تَقْدِيْمُهَا لحوْلٍ وأَكْثَرَ، ولِنُصُبٍ لذي نِصَابٍ.

===

(والعُروضُ إِلَيْهِمَا) أَي أَحدهما، وذلك بالاتفاق (بالقِيمَةِ) قَيْدٌ للمسأَلتين (لإِتْمَامِ النِّصَابِ)، أَي لأَجل إِتمامه. وقال أَبو يوسف ومحمد: يُضَمُّ الذهبُ إِلى الفضةِ بالأَجْزاء، لأَن المُعتَبَر في النقدين القَدْر لا القيمة. ولأَبي حنيفة: أَنَّ الضَّمَّ للمجانسة، وهي تتحققُ باعتبار القيمة. وثمرةُ الخلاف تظهر فيمن له مئة درهم وخمسة مثاقيل قيمتُها مئة درهم، فعند أَبي حنيفة رحمه الله تعالى يُزَكّى، وعندهما لا يُزَكّى.

(ونُقْصَانُهُ) أَي نُقصان مِقْدار النصاب (في الحَوْلِ هَدْرٌ) أَي ساقطٌ غير مانعٍ من الزكاة، لأَن في اعتبار كمالِ النصاب في جميع الحول حَرَجاً، فاعْتُبِر وجودُ النصاب في أَول الحول للانعقاد، وفي آخره للوجوب، كاليمين

(1)

يشترط فيها الملك حالةَ الانعقاد وحالة نزول الجزاء، وفيما بين ذلك لا يشترط.

قَيَّدْنا النقصان بكَوْنه في المقدار، لأَن نقصان الصفة كذهاب السَّوْم عن الماشية في أَكثر الحولِ، مانعٌ من الزكاة باتفاق. وشرط مالك والشافعي كمال النصاب في كل الحول في السائمة والنقدين، وفي آخره فقط في العروض، وهو قول زُفَر في السوائم والنقدين.

(وجاز تَقْدِيْمُهَا) أَي الزكاة (لحوْلٍ وأَكْثَرَ) وبه قال الشافعي (ولِنُصُبٍ لذي نِصَابٍ) خلافاً لزُفَر، فإِنْ قَدَّمها لِحَوْلٍ وكان النصابُ كاملاً عند تمام الحول وقعت (عنه)

(2)

، وإِنْ لم يكن كاملاً عند تمامه فإِنْ كانت في يدِ الساعي رَدَّهَا، وإِنْ كانت هَالِكَةً لم يضمنها.

وقال مالك: لا يجوز إِخراج الزكاة قبل وجوبها، لما في «مُوَطَّئِهِ» عن ابن عمر رضي الله عنهما:«لا زكاةَ في مالٍ حتى يحولَ عليه الحَوْلُ» . ولأَن الأَداءَ إِسقاطٌ قبل الوجوب فصار كأَداء الظهر قبل الزوال.

ولنا ما روى أَحمد، وأَبو داود، والترمذي من حديث جُحَيَّةَ عن عليَ:«أَنَّ العباس سَأَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في تعجيل زكاتِهِ قَبْلَ أَنْ يحولَ الحوْلُ، مسارعةً إِلى الخَيْرِ، فَأَذِنَ له في ذلك» . ولنا أَيضاً: «أَنَّ العباسَ سأَلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في تعجيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحُلَّ، فَرَخَّصَ له في ذلك» . رواه ابن ماجه. وفي روايةٍ للترمذي: أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال

(1)

وفي المخطوط: كالثمن.

(2)

سقط من المطبوع.

ص: 508

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

لِعُمَرَ: «إِنَّا قد أَخَذْنَا زكاةَ العباسِ عام الأَول للعام» .

فإِنْ قِيل: قال البَيْهَقِيُّ: اختُلِف في هذا الحديث، والأَصَحُّ أَنه مُرْسَل، أُجِيبَ بأَن المُرْسَلَ حُجَّة عندنا، وعند الجمهور.

ولا تجب الزكاة عندنا في نصاب سائمةٍ صحت الخُلْطَة فيه باتحاد المَسْرَح

(1)

والمَشْرَع

(2)

، والمَرْعى والراعي، والفَحْل، والمِحْلَب

(3)

. وأَوْجبها مالك والشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يُجمَعُ بين مُتفَرِّقٍ ولا يُفَرَّق بَيْنَ مُجْتَمِعٍ»

(4)

. ولقوله صلى الله عليه وسلم «ما كان من خَليطَين فإِنَّهما يتراجعانِ بينهما بالسَّويةِ»

(5)

. وفي عدم الوجوب تفريقُ المجتمِع.

ولنا قوله صلى الله عليه وسلم «لا يُجْمَع بين متفرق» ، وفي الوجوب الجَمْعُ بين المِلْكَيْنِ المتفرقين. والمرادُ من الجمع والتفريق ليس إِلاَّ في المِلْك لا في المكان. ألا ترى أَنَّ النصاب المتفرقَ في الأَمكنة والمِلْك لِواحِدٍ يؤخذ منه الزكاة. ومَنْ ملك ثمانين شاةً ليس للساعي أَنْ يجعلها نصابين، فيأخذ منها شاتين كأَنها لاثنين.

ونحن نقول بالتراجع بين الخليطين، فإِن مئة وإِحْدَى وعشرين من الغنم إِذا كانت لِرَجُلَيْن: لأَحَدِهما أَربعون، وللآخَرِ ثمانون، فحال الحَوْلُ، فجاء المُصَدِّقُ وأَخذ من عرضهما شاتين، يرجع صاحب الكثير على صاحب القليل بِثُلُثَي شاة، ثُم في الحول الثاني إِنما يجب شاةٌ في نصيب صاحب الكثير خاصةً، لأَن نصاب الآخَر قد انتقص، فإِذا أَخَذَ المُصَدِّق شاةً، رجع صاحب القليل على صاحب الكثير بِثُلُثِ شاةٍ، فهذا معنى التَّرَاجُع.

ولا يُؤخذ عندنا كَرْهاً من سائمة، كما لا يؤخذ من الأَموال الباطنة جبراً، ولا من

(1)

المَسْرَح: مرعى السَّرح - الماشية - المعجم الوسيط، ص 426، مادة (سرح).

(2)

المَشْرَع: شريعة الماء، الشريعة: مورد الماء الذي يُسْتَقَى منه بلا رِشَاء. المعجم الوسيط ص 479، مادة (شرع).

(3)

المِحْلَب: الإناء يُحْلب فيه. المعجم الوسيط، ص 191، مادة (حلب).

(4)

أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (فتح الباري) 3/ 314، كتاب الزكاة (24)، باب لا يجمع بين متفرِّق

(34)، رقم (1450).

(5)

أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (فتح الباري) 3/ 315، كتاب الزكاة (24)، باب ما كان من خليطين

(35)، رقم (1451).

ص: 509

[فَصْلٌ في أَحْكَامِ العَاشِرِ]

ويُنْصَبُ العَاشِرُ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَأْخُذُ مِنَ المُسْلِم رُبُعَ العُشْرِ، ومِنَ الذِّمي ضِعْفَهُ

===

تَرِكَةٍ بلا وَصِيةٍ. وجَوَّزَ مالك والشافعي رحمهما الله للمُصَدِّقِ أَخْذَها جبراً، إِذْ (حَقُّ)

(1)

الأَخْذِ للإِمام، قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِم صَدَقَةً}

(2)

، وصار كصاحب الدَّيْنِ إِذا ظَفِرَ من مال غَرِيمِهِ بجنس حقه. وعندنا يؤمر بها ليؤدّيها اختياراً، لأَنها عبادةٌ، وشَرْطُ أَدائها الاختيار الدال عليه صريح الإِيتاء في قوله تعالى:{وآتوا الزكاة} ، وفي النص السابق أَيضاً دِلالةٌ عليه بتسمية المَأْخُوذ صدقة، أَي زكاة، ونية القُرْبة نية لها

(3)

، فإِذا أَوْصَى دَلَّ على الاختيار، ومحل الوصية الثُّلُث، فيؤخذ من الثلث لا من أَصْلِ التَّرِكة.

(فصل في أحكام العاشرِ)

(ويُنْصَبُ العَاشِرُ) مِنْ عَشَّرَ القومَ إِذا أَخَذَ عُشْرَ أَموالهم، فهو تسميةُ الشيء باعتبار بَعْض أَحواله، وهو أَخْذُه العُشْرَ من الحربي دون المسلم والذِّمي (عَلَى الطَّرِيقِ) أَي طريق المسافرين.

(فَيَأْخُذُ) مَنْ نَصَبَهُ الإِمامُ لأَخْذِ الصدقاتِ، ولأَمْنِ الناس به من اللصوص (مِنَ المُسْلِم رُبُعَ العُشْرِ) لأَنه زكاة بعينها (ومِنَ الذِّمي ضِعْفَهُ) إِظهاراً للذُّلِّ عليه، وسيأتي أَنه من الحربي العُشْر لزيادةِ تغليظٍ عليه.

والأَصْل فيه ما في «مُعْجَم الطبراني» عن ابن سيرِين عن أَنس بن مالك قال: «فَرَضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أَموالِ المسلمين في كُلِّ أَربعينَ دِرهَماً دِرهمٌ، (وفي أَموال أَهل الذِّمَّةِ: في عشرين دِرْهماً دِرْهمٌ)

(4)

، وفي أَموال مَنْ لا ذِمَّة له: في كل عَشَرَةِ دَرَاهِمَ دِرهمٌ». وقال: لم يُسْنِد هذا الحديث إِلاَّ محمدٌ بن العلاء، تفرد به. وقد رواه أَيّوب، وسَلَمَةُ بن عَلْقَمَةَ، ويَزِيدُ بن إِبراهيم، وجرير بن حازم، وحبيب بن الشهيد، والهيثم الصَّيْرفي، وجماعة عن أَنس بن سيرين عن أَنس بن مالك: أَنَّ عُمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه فَرَضَ، وذكر الحديث.

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

سورة التوبة، الآية:(103).

(3)

في المخطوط: "شرطها" بدل: "نية لها".

(4)

سقط من المطبوع.

ص: 510

وصُدِّقَا مَعَ اليَمِين إن أَنْكَرَا الحَوْلَ، أَوْ الفَرَاغَ مِنَ الدَّيْنِ، أَوِ ادَّعَيَا أَدَاءَهُ إِلى عَاشِرٍ آخَرَ يُعْلَمُ وُجُودُهُ، أَوْ إِلى فَقِيرٍ في غَيْرِ السَّوَائِمِ،

===

وروى محمد بن الحسن في كتاب «الآثار» : أَخبرنا أَبو حنيفة عن أَبي صَخْرة

(1)

المُحَاربي، عن زياد بن حُدَير قال:«بَعَثَني عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه إِلى عَيْن التَّمْر مُصَدِّقاً، فأَمَرَني أَنْ آخُذَ مِنَ المسلمينَ من أَموالهم إِذا اختلفوا بها للتجارة رُبُعَ العُشْرِ، ومن أَموال أَهل الذِّمَّةِ نِصْفَ العُشْرِ، ومن أَموال أَهْل الحَرْبِ العُشْرَ» . وبهذا السند رواه أَبو عبيد القاسم بن سَلاَّم في كتاب «الأَموال» .

وروى محمدٌ في «الآثار» عن أَبي حنيفة، عن الهيثم، عن أَنس بن سيرين قال: بَعَثَنِي أَنسُ بن مالك على الأَيْلَة، فأَخْرَجَ إِلَيَّ كِتاباً من عُمَرَ بن الخطاب:«خُذ من المسلمينَ: مِنْ كُلِّ أَربعين دِرهماً دِرهمٌ، ومن أَهل الذمة: مِنْ كُلِّ عِشْرينَ دِرهماً دِرهمٌ، وممَّنْ لا ذِمَّة له: مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ دَراهِمَ دِرْهَمٌ» . رواه عبدُ الرَّزَّاق في «مُصَنَّفِهِ» عن هشام ابن حسان

(2)

، عن أَنس بن سِيرين.

(وصُدِّقَا) أَي المسلم والذِّمي (مَعَ اليَمِين إِنْ أَنْكَرَا الحَوْلَ) بعد على المال، والحال إِنه لم يكن معهما مال حال عليه الحول من جنس المال الذي أَنكر حوله، وإِنَّما قَيَّدْنَا به لأَنه لو كان معهما ذلك المال أَخذ العاشر منهما، لأَنَّ الحول ليس بشرط في المستفاد المجانس.

(أَوْ) أَنكرَا (الفَرَاغَ مِنَ الدَّيْنِ) بأَنْ قال المسلم أَوْ الذِّمّي: عليَّ دَيْنٌ من جهة العبادِ مُسْتَغْرِق، أَي يفضل عنه دون النصاب. أَما المسلم فلأَنه منكرٌ للوجوب، والقول قول المُنْكِر مع يمينه. وأَما الذِّمّي فلأَن ما يُؤْخذ منه ضِعْفُ ما يُؤخذ من المسلم، فَيُراعى فيه جميع ما يُراعى في المسلم.

(أَوِ ادَّعَيَا أَدَاءَهُ إِلى عَاشِرٍ آخَرَ يُعْلَمُ وُجُودُهُ) قيَّدَ به لظهور كذبهما إِذا لم يعلم وجود عاشرٍ آخر في تلك السنة.

(أَوْ إِلى فَقِيرٍ) عَطْفٌ على «إِلى عاشر» أَي أَوْ ادَّعيا الأَداءَ إِلى فقيرٍ بالمصر (في غَيْرِ السَّوَائِمِ) وحلفا لأَنَّ كلاًّ منهما ادّعى وَضْعَ الأَمانةِ موضعها، فيُصدَّقان. وإِنَّما

(1)

وفي المخطوط: صخر، والصواب ما أثبتناه من كتاب الآثار ص 228، باب زكاة الزرع والعشر، رقم (314)، و "الكاشف" 1/ 288، ترجمة رقم (746). و"تقريب التهذيب" ص 137، ترجمة رقم (888).

(2)

حُرفت في المطبوع إلى هشام بن حسام، والصواب ما أثبتناه من المخطوط، و"مصنف عبد الرزاق" 4/ 88، كتاب الزكاة، باب صدقة العين، رقم (7072) و"تقريب التهذيب" ص 572، ترجمة (7289). و"الكاشف" 2/ 336 ترجمة رقم (5959).

ص: 511

ومِن الحَرْبي العُشْرَ، إِنْ لم يُعْلم ما يَأْخُذون مِنَّا، وإِنْ عُلِمَ أُخِذَ مِثْلُه، إِنْ كان بَعْضًا، ولَم يُؤخَذ منه إِن لم يأخذوا منّا.

وعُشِّرَ خَمْرُ الذِّمِّيِّ، لا خِنْزيرُهُ

===

يحلفان لأَنهما مُنْكِرانِ ثبوتَ الحَقِّ عليهما معنىً، وإِنْ كانا مُدَّعيين صورةً. قيدنا بالمصر لأَنهما لو ادَّعيا الأَداء بعد الخروج من المصر لا تُقبل. وقَيَّد «بغير السوائم» لأَنَّ حقّ الأَخْذِ في السوائم للإِمام كالجزية، فلا يُصدَّقان. وصَدَّقهما مالك والشافعي لأَنهما أَوْصلا الحق إِلى مُستحِقّه.

ثمَّ قيل: عندنا الزكاة هو الأَول

(1)

، والثاني

(2)

سياسة مالية زجراً لغيره عن الإِقْدام عمَّا ليس له، وقيل: هو الثاني، والأَول يَنْقَلِبُ نَفْلاً.

(ومِن الحَرْبي) أَي ويَأْخذُ من الحربي (العُشْرَ، إِنْ لم يُعْلم ما يَأْخُذون مِنَّا، وإِنْ عُلِمَ أُخَذَ مِثْلَهُ، إِنْ كان) ما يأخذونه

(3)

(بَعْضاً) من المال، وإِن كان مَأْخوذُهم كلَّه أُخِذَ منهم، خلا ما يُوصلهم إِلى مأْمنهم، وقيل: يُؤخذ منه الكلُّ مجازاةً وزجراً لهم عن مِثْله. قلنا: ذلك بعد التأمين غَدْرٌ وهو حرامٌ لِنَهْيه صلى الله عليه وسلم عنه، فصار كما لو قتلوا من دخل إليهم بأمانٍ، فإنا لا نفعل كذلك (لذلك)

(4)

(ولَم يُؤخَذ منه) أي من الحربي (إِنْ لم يأخذوا منّا)، لأنَّا أحقّ بمكارم الأَخلاق منهم.

(وعُشرَ خَمْرُ الذِّمِّيِّ) بأَنْ يَأْخذ العاشِرُ نِصف عُشْر قيمتها كما يُؤخذ من الحربي عشر قيمته (لا خِنْزيرُهُ) وكذا خِنْزِير الحَرْبي. وقال زُفَر: يُعْشَّرَانِ لاستوائهما في المالية عند أَهلِ الذِّمة. وقال أَبو يوسف: إِنْ مَرَّ بهما جُمْلَةً عُشَّرا كأَنه جعل الخنزير تَبَعاً للخَمْر، وإِنْ مَرَّ بأَحدهما عَشَر الخمر دون الخنزير، لأَن الخمر لها مالية في الجملة باعتبار التخليل.

ولأَبي حنيفة: أَنَّ القيمة في ذوات القِيَم لها حكم العين، والخنزير من ذوات القيم، والقيمة في ذوات الأَمثال ليس لها حكم العين، والخمر من ذوات الأَمثال. وفي «الغاية»: تُعرف قيمة الخمر بقَوْلِ فَاسِقَيْنِ تابا، أَوْ ذِمِّيين أَسلما. وفي «الكافي»: تُعرف

(1)

أي الأداء الأول الذي ادّعيَا أنهما أدّياه إِلى الفقير، أي سقط به الزكاة الواجبة في المال.

(2)

أي الأداء الثاني للعاشر، هو سياسة مالية.

(3)

أي من أموالنا، أو تُجَّارنا.

(4)

سقط من المطبوع ومعنى العبارة: إنا لا نفعل الغدرَ لنهيه صلى الله عليه وسلم عنه. وقد وقع في المخطوط تقديم في العبارة، والأولى ما أثبتناه.

ص: 512

ولا أَمَانَةٌ، وعَشَّرَ الحربيُّ ثانيًا قبل الحَوْلِ جائيًا من دَارِه.

[فصلٌ في زكاة المعادن]

وخُمِّسَ مَعْدِنُ ذَهَبٍ أَوْ نَحْوه

===

بالرجوع إِلى أَهل الذِّمة. وعن الكَرْخِي: أَنَّ جلود الميتة حُكُمُها حُكْمُ الخمر.

(ولا أَمَانَةٌ)

(1)

بأَنْ كان في يد المارِّ المسلم أَوْ الكتابي وديعة أَوْ مضاربة، لأَنه ليس بمالكٍ ولا نائبٍ عنه في أَداء الزكاة، أَوْ ضعفها. ولو كان في مال المضاربة ربح يبلغ نصيب المارّ منه نصاباً عَشَّرَ نَصِيبَهُ. وفي «المحيط»: مَنْ مَرَّ بأَقلِّ من مئتي درهم لم يأْخذ العاشر منه شيئاً، مسلماً كان أَوْ ذمياً، أَوْ حربياً، عَلِم أَنَّ له مالاً آخَرَ في منزلِهِ أَوْ لم يعلم، لأَن حق الأَخذ للعاشر باعتبار الحماية، لأَن الأَموال في البراري محمية بحماية الإِمام، وقَدْرُ ما صار محمياً بحمايته، لا زكاة فيه، وما في بيته لم يدخل في الحماية، ولكن يلزمه الزكاة بينه وبين رَبِّه.

(وعُشَّرَ الحربيُّ ثانياً قبل الحَوْلِ جائياً من دَارِه) لأَنَّ الأَمان الأَول انتهى برجوعه إلى دار الحرب، وقد مَرَّ بأَمانٍ جديدٍ فَيُؤخذ منه.

قيّد «بِقَبْل الحول» لأَنه إِذا مَرَّ ثانياً بعد تمام الحول عُشِّرَ، سواء كان جائياً من داره أَوْ ذاهباً من دارنا، لأَن الأَخذ الأَول للأَمان السابق وبعد الحول يجدد الأَمان، لأَن الحربي لا يُمَكَّنُ من المقام في دارنا إِلاَّ حولاً واحداً. وقَيّد بكونه «جائياً» من داره، لأَنه إِذا مَرَّ قبل تمام الحول ذاهباً من دارنا لم يُعْشَّر.

(فصلٌ في زكاة المعادن)

(وخُمِسَ مَعْدِنُ ذَهَبٍ). كان ينبغي أَنْ يَفصل (بفصل)

(2)

عَمَّا قبله. والمعْدِنُ: المال المخلوقُ في الأَرض. (أَوْ نَحْوه) أَي نحو ذهب من فضةٍ أَوْ رصاصٍ أَوْ حديدٍ أَوْ نُحاس.

وقال الشافعي وأَحمد: لا شيء في المَعْدِنِ لما في الكتب الستة عن أَبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «العَجْمَاءُ جُرْحُها جُبَارٌ، والبِئرُ جُبَارٌ، والمَعْدِنُ جُبَارٌ، وفي الرِّكَازِ الخُمْسُ» .

والعجماء: البهيمة. والجُبَار: الهَدْر.

(1)

أي ولا يُعشر أمانةً.

(2)

سقط من المطبوعة.

ص: 513

وُجِدَ في أَرْضِ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ،

===

وأُجِيب بأَن معنى الحديث عندنا: أَنَّ مَنِ استأْجر رجلاً لِحفرِ معدن فانهار عليه فهو هَدْر

(1)

، لا أَنَّ مَنِ استخرجَ مَعْدِناً فهو له، لما روى البيهقيّ عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الرِّكازِ الخُمْسُ، قيل: وما الرِّكَازُ يا رسولَ الله؟ قال: الذَّهَبُ والفِضَّةُ الذي خلق اللهُ تعالى في الأَرض يَوْمَ خُلِقَتْ» . ولأَن المعادن كانت في أَيادي الكفار، فإِنَّ الأَرض كانت في أَيديهم والمعادنُ جزءٌ منها، لأَنَّ مَنِ اشترى (أَرضاً)

(2)

فوجد فيها مَعْدِناً يكون له، ثم صارتِ الأَرض في أَيدينا فتكون تلك المعادن غنيمةً، وفي الغنيمة الخُمس.

ثُم اعلم أَنْ المال المستخرَجَ من الأَرض يقال له: كنز، ومعدن، ورِكاز. والكنز: اسم لِمَا دفنه بنو آدم؛ والمعدن: اسم لما خلقه الله في الأَرض يوم خلقها؛ والرِّكاز: اسم لهما جميعاً، لأَنه يَصْدق على كلَ منهما أَنه مركوزٌ في الأَرض وإِن اختلف الراكز.

(وُجِدَ في أَرْضِ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ) وكذا إِذا وُجد في صحراء ليست خَراجيةً، ولا عُشْرِيةً. والتقييد

(3)

لإِفادة الحق ليس له تعلق بالأَرض، أَوْ للاحتراز عن الدَّار.

والحاصل: أَنه يُؤخذ الخُمْس من المَعْدِن مُطلقاً لا رُبُع العُشْر من النقد فقط إِنْ بلغ نِصاباً كما قاله مالك والشافعي، لما روى أَبو حاتم من حديث عبد الله بن نافع، عن أَبيه، عن عبد الله بن عمرَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «في الرِّكازِ العُشُور» .

قلنا: ابن نافع متروك كما قال النسائي، فلم يَفِد مطلوباً. ولما في «الموطأَ» عن رَبِيعة بن (أبي)

(4)

عبد الرحمن، عن غير واحدٍ من علمائهم: «أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَقطع لِبِلال بن الحارث المُزَني معادن بالقَبَلِيِّة

(5)

. وهي ناحية بالفُرْع

(6)

، فتلك المعادن لا يُؤخذ

(1)

أي لا شيء على من استأجره. فتح الباري: 3/ 365.

(2)

في المطبوع: أَرضنا، وما أثبتناه من المخطوط.

(3)

أي قيد كلمة "أرض" بخراج أو بعُشْر لإِفادة الحق.

(4)

سقط من المطبوع والمخطوط. وهو من "الموطأ" 1/ 248، كتاب الزكاة (17)، باب الزكاة في المعادن (3)، رقم (8).

(5)

حُرِّفت في المطبوع إلى "القبيلة"، والصواب ما أثبتناه من المخطوط و"الموطأ" الموضع السابق.

(6)

القَبَلِيَّة: منسوبة إلى قَبَل، وهي ناحية من ساحل البحر، بينها وبين المدينة خمسة أيام، وقيل هي من ناحية الفرْع: وهي قرية من نواحي المدينة، بينها وبين المدينة ثمانية بُرُد على طريق مكة. انظر "النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/ 10، و "معجم البلدان" 4/ 252، 307.

ص: 514

وبَاقِيهِ لِلوَاجِدِ إِنْ لَمْ تُمْلَكِ الأَرْضُ، وإِلَّا فِلِمَالِكهَا، ولا شَيءَ فيهِ إِنْ وُجِدَ في دَارهِ، وفي أَرْضِهِ رِوَايَتَانِ.

===

منها إِلا الزكاة إِلى اليوم.

قلنا: حديثٌ مُنقطعٌ، ومع اتصاله من رواية الدَّرَاوَرْدِيّ ليس فيه: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بذلك، وإِنما قال: يُؤخذ منه إِلى اليوم، فيجوز أَنْ يكون ذلك اجتهاداً من أَهل الولايات. وحجتنا الكتاب والسنة، أَمَّا الكتابُ فَظَاهِرُ قَوْله تعالى:{واعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُم مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ}

(1)

ولا شَكَّ في صِدْق الغنيمة على هذا المال لما سبق من المقال. وأَمَّا السُّنَّةُ فالحديثان المتقدمان، وأَخرج الحاكم في «المُسْتَدْرَك» عن عمرو بن شُعَيْب، عن أَبيه، عن جده، عن عبد الله بن عمر أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في كنز وجده رَجُلٌ:«إِنْ كُنْتَ وَجَدْتَه في قريةٍ غَيْرِ مسكونة، أَوْ في غير سبيل ميتاء، ففيه وفي الرِّكَازِ الخُمْس» . ورواه الشافعي عن سفيان، عن داود بن شابور، ويعقوب بن عطاء، عن عَمْرُويَهْ.

وفي «الإِمام» عن الشَّعْبِيّ: «أَنَّ رجلاً وجد رِكَازاً فأَتَى به عَلِيّاً، فأَخَذَ منه الخُمْسَ، وأَعطى بَقِيَّتَهُ للذي وجده، فأَخبر به النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَعْجَبَهُ» . والمُرْسَلُ حجة عندنا وعند الجمهور، فهذا

(2)

دليل قوله:

(وبَاقِيهِ) وهو أَربعة أَخْماسه (لِلوَاجِدِ إِنْ لَمْ تُمْلَكِ الأَرْضُ) سواء كان الواجد حرَّاً، أَوْ عبداً، مُسلماً، أَوْ ذِمِّياً، لأَنَّ للغانمين يداً باطنةً، ولِلوَاجد يداً ظاهرةً وباطنةً فكانت أَقوى، فكان لها أَربعة أَخماس. ولو كان الواجدُ حربياً مُستأْمَناً أُخذ منه الكل، لأَنَّ الحربي لا حَظَّ له في الغنِيمة أَصلاً، بخلاف الكِتابي فإِنَّ له حظّاً فيها بطريقِ الرضخ: وهو إِعطاء شيءٍ أَقل من سَهْم.

(وإِلاَّ) أَي وإِنْ كانتِ الأَرْضُ مملوكةً (فِلِمَالِكِهَا) أَي فباقيه لمالكها، لأَنه صاحب اليد ظاهراً وباطناً. (ولا شَيءَ فيهِ) أَي في المعدن (إِنْ وُجِدَ في دَارهِ)، وقال أَبو يوسف ومحمد رحمهما الله: فيه الخُمْس كالكَنْز. ولأَبي حنيفة: أَنَّ المعدن جزءٌ من الدار خِلْقَةً، ولا مَؤُنة للسلطان بالعُشْر أَوْ الخَرَاج في جزءٍ من أَجزاء الدار، والكَنْز مالٌ أُودِعَ فيها ليس خِلْقَةً.

(وفي أَرْضِهِ رِوَايَتَانِ) عن أَبي حنيفة، ففي رواية «الأَصْل»: لا شَيءَ فيه، لأَنَّ

(1)

سورة الأنفال، الآية:(41).

(2)

وفي المخطوط: وهو.

ص: 515

ولا شَيْءَ في لُؤْلُؤٍ وعَنْبَرٍ، ولا في فَيْرُوزَجَ وُجِدَ في جَبَلٍ

===

كل جزءٍ من أَجزاءِ أَرْضِهِ لا خُمْس فيه، فكذا هذا الجزء. وفي رواية «الجامع الصغير»: فيه الخُمْس، لأَن أَرضه ليست خاليةً عن المُؤَن بخلاف الدار، فإِنها خاليةٌ عنها، ولهذا وَجَبَ العُشْرُ أَوْ الخَراج في الأَرض دون الدار، فكذا هذه للمؤنة.

وأَما عندهما: فيجب فيها الخُمْسُ أَيضاً روايةً واحدةً، لإِطْلَاقِ قوله عليه الصلاة والسلام:«وفي الرِّكَازِ الخُمْسُ» ، ودَعْوَى تخصيصه بالدار موقوفةٌ على إِيراد دليله، وكونها خُصَّتْ مِنْ حُكْمَي العُشْر والخَراج بالإِجماع، لا يَسْتَلزم أَنْ تكونَ مخصوصةً من كُلِّ حُكْمٍ إِلاَّ بدليلٍ في كُلِّ حُكْمٍ.

(ولا شَيْءَ في لُؤْلُؤٍ) ومُرْجان (وعَنْبَرٍ) وكُلِّ مُستخرَجٍ من البحر ولو كان ذهباً أَوْ فِضِّةً. وقال أَبو يوسف آخِراً ـ وهو قول أَبي حنيفة أَولاً ـ: فيه الخمس، لما روى عبد الرزاق وابن أَبي شَيْبَةَ في «مُصَنَّفَيْهِما» عن مَعْمَر عن سِمَاك بن الفضل:«أَنَّ عمر بن عبد العزيز أَخَذَ من العَنْبَرِ الخُمْسَ» . وهو قول الحسن البصري وابن شِهَاب الزُّهْرِيّ. رواه أَبو عُبَيْد.

ولهما ما رواه البخاريُّ عن ابن عباس أَنه قال: «ليس العَنْبَرُ بِرِكَازٍ، إِنَّما هو شَيءٌ دَسَرَهُ البَحْرُ ـ أَي دفعه» ـ. ولفظ ابن أَبي شَيْبَةَ عنه: «ليس في العَنْبَرِ زَكَاةٌ، إِنَّما هو شَيءٌ دَسَرَه البَحْرُ» . ولفظ أَبي عُبَيْدٍ عنه: أَنه قال: «ليس في العَنْبَرِ خُمْسٌ» . وعن جابر نحوه. فهذا أَوْلى بالاعتبار من قول مَنْ دونهما مِمَّنْ ذكرنا من التابعين. ولأَن قَعْر البحر لا يَدَ عليه، فلا يكون المأْخوذُ منه غنيمةً، فلا يكون فيه خُمْسٌ.

وفي «المحيط» : قيل: اللؤلؤ مطر الربيع يقع في الصَّدَفِ فيصيرُ لُؤلؤاً. وقيل: الصدف حيوان يخلق فيه اللؤلؤ. ولا شيء في الماء، ولا فيما يؤخذ من الحيوان كظبْي المِسْك. وأَمَّا العَنْبَرُ فعند محمد حشيش في البحر يبتلعه الحوت، فإِذا استقر في جوفه لفظه لمرارته، وقيل: خِثْيُ دابة في البحر. وقيل: زَبَدُ البحر، فإِنَّ الأَمواج إِذا تَلَاطَمَتْ هاج بها الزبد، فلا تزال بها الريح حتى يمكث ما صفا فينعقد عَنْبَراً، فيقذفه الماء إِلى الساحل، ويذهب ما لا يُنْتَفع به من الزبد جُفَاء.

(ولا في فَيْرُوزَجَ

(1)

) وياقوت وكل حجر نفيس (وُجِدَ في جَبَلٍ) أَوْ مَفَازَةٍ

(2)

.

(1)

الفَيْرُوزَج: حجرٌ كريمٌ غير شفاف، معروفٌ بِلَوْنِهِ الأزرق كلون السماء أو أميل إلى الخضرة، يُتَحَلَّى به. المعجم الوسيط، ص: 708، مادة (الفَيْرُوزج).

(2)

المَفَازَة: الصحراء، المعجم الوسيط، ص: 706، مادة (فاز) وكذلك سُميت بالمَهْلَكَة أي المكان الذي يغلب على ظنّ سالكه أنه يهلك. معجم لغة الفقهاء، ص:445.

ص: 516

وكَنْزٌ فيه سِمَةُ الإِسْلام كاللُّقَطَةِ، ومَا فِيهِ سِمَةُ الكُفْرِ خُمِّسَ، وبَاقِيهِ لِلْوَاجِدِ إِنْ لم تُمْلَك الأَرْضُ، وإِلَّا فللمُخْتَطِّ لَهُ.

===

والحال أَنه ليس بِكَنْز لأَنه من أَجزاء الأَرض، فلا شيءَ فيه كالملح والنُّورَة

(1)

، ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا زَكَاةَ في الحَجَر» . رواه ابن عَدي من طريقين ضعيفين.

(وكَنْزٌ) وهو مال موضوعٌ في الأَرض (فيه سِمَةُ الإِسْلام) أَي علامتُه ككلمةِ الشهادة ونحوها. وهذه الجملة صفة «كَنْز» ، وهو مبتدأ خبره (كاللُّقَطَةِ) وسيأتي حكمها إِنْ شاء الله تعالى. وذلك لأَنه من وَضْعِ المسلمين، ومال المسلم لا يُغْنم، فَيَجِبُ تعريفها على ما عُرِف في موضعه.

(ومَا): أَي كُنِزَ (فِيهِ سِمَةُ الكُفْرِ) كَنَقْشِ صنمٍ، أَوْ اسم مَلِك معروف بالكفر، (خُمِسَ) اتفاقاً على كل حال، ذهباً كان أَوْ رَصاصاً أَوْ زئبقاً، كبيراً كان الواجد أَوْ صغيراً، حرّاً كان أَوْ عبداً، مُسْلماً كان أَوْ ذِمّياً، لأَن كلَّ مَنْ سمَّيْنَا له فيها حَقٌّ سهماً أَوْ رَضْخاً، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«وفي الرِّكازِ الخُمْس»

(2)

، والركاز يتناول الكَنْز لما فيه من معنى الرَّكْز وهو الإِثبات، إِمَّا مخلوقاً وهو المَعْدِن، أَوْ مَوْضُوعاً وهو الكنز، على ما يُفْهم من «المُغْرِب» ، وكثير من كُتُب اللغة.

(وبَاقِيهِ) وهو أَربعة أَخماس (لِلْوَاجِدِ) أَي مُطْلقاً كما تقدم (إِنْ لم تُمْلَك الأَرْض) لأَنه مِنْ دَفْنِ الكفار وقد وقع أَصله في أَيدي الغانمين، إِلاَّ أَنهم هلكوا قبل تمام الإِحْرَاز منهم، فصار المُسْتَخْرِجُ أَوَّلاً مُحرِزاً له فكان أَحق به، ووجب الخُمْس لأَن ابتداء أَخْذِه كان جهاداً، وإِنْ لم يكن إِحراز هذا المُحْرِز جهاداً.

(وإِلاَّ) وإِنْ كانت مملوكةً (فللمُخْتَطِّ لَهُ) أَي المالك

(3)

أَول الفتح، ثُم لورثتِهِ مِنْ بعده إِنْ عُرِفوا لانتقاله إِليهم. وقال أَبو يوسف: لِلْوَاجِدِ، لأَنَّ الاستحقاق بتمام الحيازة وهو (من)

(4)

الواجد، ولأَن هذا المال لم يدخل تحت قسمة الغنائم لعدم المقابلة، فبقي مباحاً فيكون لِمَنْ سَبَقت يَدُه إِليه. ولهما أَنَّ يد المختط له. سبقت إِليه على الخصوص، فملكت ما في الباطن، وإِن كانت على الظاهر، وإِنْ لم يُعْرف المختط له، قال شمس الأَئمة السَّرَخْسِي: يُصْرف إِلى أَقصى مالك يُعْرف في الإِسلام

(1)

النُّورَة: حجر كلسي يُطْحَنُ ويخلط بالماء ويُطْلَى به الشعر فيسقط. معجم لغة الفقهاء، ص:490.

(2)

تقدم تخريجه عند المؤلف، ص:513.

(3)

الذي ملكه الإمام هذه البقعة.

(4)

سقط من المطبوع.

ص: 517

ورِكَازُ صَحْرَاء دَارِ الحَرْبِ كُلُّه لِمُسْتَأْمَنٍ وَجَدَهُ، وإِنْ وَجَدَهُ في دَارٍ منها رَدَّهُ على مَالِكِهَا، وإِنْ وَجَدَ رِكَازَ مَتَاعِهِم في أَرْضٍ لم تُمْلك، خُمِسَ، وبَاقِيه لَهُ.

===

لا يُعْرف غيره، أَوْ

(1)

لورثته لقيامهم مقام صاحب الخِطَّة في هذه البقعة.

وقال أَبو اليَسَر: يوضع في بيت المال. ولو لم يعلم: هل الكَنْز جاهلي أَوْ إِسلامي؟ فظاهر المذهب يجعل جاهلياً، لأَنه الغالب والأَصل. وقيل: يجعل إِسلامياً في زماننا لتقادم العهد، إِذِ الظاهر أَنه لم يبق شيءٌ مِمَّا وضعه أَهْلُ الحرب. وأَمَّا مع اختلاط دراهم الكفار مع دراهم المسلمين، كالمِشْخَص

(2)

المستعمل في زماننا في بعض بلاد الإِسلام، فلا ينبغي أَنْ يكون خلافٌ في جعله إِسلامياً.

(ورِكَازُ صَحْرَاء (دَارِ)

(3)

الحَرْبِ) مَعْدِناً كان أَوْ كَنْزاً، متاعاً كان أَوْ غَيْرَه (كُلُّه لُمُسْتَأْمَنٍ وَجَدَهُ) ولا خُمْس فيه، لأَنه ليس بغنيمة، لأَن الغنيمة ما أُخذ على طريق القهر والجبر، وهذا أَخِذَ على طريق التَّلَصّص. (وإِنْ وَجَدَهُ) أَي المُسْتَأْمَن من الرِّكاز (في دَارٍ منها) أَي من دارِ الحرب (رَدَّهُ على مَالِكِهَا) أَي مالك تلك الدار تحرزاً عن الغدر.

(وإِنْ وَجَدَ) أَي المستأْمنَ (رِكَازَ مَتَاعِهِم) ما يَتَمَتَّعُ به أَهل الحرب من ثياب وغيرها (في أَرْضٍ) أَي من أَراضي دار الحرب (لم تُمْلك، خُمِسَ، وبَاقِيه لَهُ) أَي لِلواجِد.

قال الشارح: ظاهر هذا أَنَّ المستأمنَ إِذا وجد متاع أَهل الحرب في أَرضهم رِكازاً أُخِذ منه خمسه، والباقي له، والحال أَنه ليس كذلك، لأَن ما يجده المستأمَن رِكازاً في أَرض الحرب لا خُمْس فيه، متاعاً كان أَوْ غَيْرَه. وعبارة «الهداية»: متاع وجد ركازاً فهو للذي وجده، وفيه الخُمْس، معناه وُجِد في أَرض لا مالك لها، لأَنه غنيمة بمنزلة الذهب والفضة. انتهى.

وفي «العناية» : إِنما ذكر صاحب «الهداية» هذه المَسْأَلَة لِبيان أَنْ وجوب الخُمْس لا فرق فيه بين كون الرِّكاز من النقدين أَوْ من غيرهما. انتهى. وعلى هذا فيمكن تقرير كلام المصنف بأَن قوله «وُجِدَ» مَبْني للمفعول أَوْ الفاعل، وفاعله ضمير الواجد لا المستأمَن. وقوله في أَرْضٍ لم تُملك: يَعْني من دار الإِسلام، ويكون هذا بياناً لِحُكْم

(1)

في المطبوع: "و"، وما أَثبتناه من المخطوط.

(2)

المِشخص مفرد مشاخص: وهي دنانير مُصَوَّرة. تاج العروس 18/ 10، مادة (شخص).

(3)

سقط من المطبوع.

ص: 518

وفي عَسَلِ أَرْضٍ عُشْرِيَّةٍ،

===

الرِّكاز من الأَمتعة في دار الإِسلام. وقوله فيما سبق: «وكَنْز فيه سِمَةُ الكفر» : بيانٌ لِحُكْم الرِّكاز من النقدين فيها.

ومصْرِف الخُمْس عندنا، وهو قول مالك، مَصْرِف الغنيمة لكونه منها، لا مَصْرِف الزكاة كما قاله الشافعي بناء على إِيجابه الزكاة في معدن النقدين دون الخُمْس.

(وفي عَسَلِ أَرْضٍ عُشْرِيَّةٍ) قيد بالعشرية لأَن الأَرض الخَراجية لا شيء في عسلها اتفاقاً. وقال مالك والشافعي: لا عُشْر في العَسَل مُطْلقاً، لأَنهُ مُتولّدٌ من حيوان فأَشبه الإِبْرَيسَم

(1)

.

ولنا ما رواه أَحمد وابن ماجه والبيهقي عن سليمان بن موسى عن أَبي سيَّارة المُتَعي قال: قلتُ: «يا رسولَ الله إِنَّ لي نَحْلاً، قال: «أَدِّ العُشور» . قُلت: يا رسولَ الله احْمِها لي، فحماها لي. قال البيهقي: هذا أَصح ما رُوِيَ في وجوب العُشْر فيه. وهو منقطعٌ، لأَن سليمان لم يُدْرِك أَحداً مِنْ أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

وروى عبدُ الرَّزاق في «مُصنفه» عن أَبي هريرة: أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إِلى أَهل اليمن أَنْ يُؤُخذ من أَهل العسل العشور. وليس فيه عِلَّةٌ إِلا عبد الله بن مُحَرَّر

(2)

، قال ابن حِبَّان: كان من خيار عباد الله إِلاَّ أَنَّه كان يكذب ولا يَعْلَم، ويَقْلِب الأَخبار ولا يفهم. وحاصله أَنه كان يغلَط كثيراً.

وروى ابن ماجه: حدثنا محمد بن يَحْيَى، عن نُعَيْم بن حمَّاد، عن ابن المبارك، عن أُسامة بن زيد، عن عَمْرو بن شُعَيْب، عن أَبيه، عن جدِّه عبد الله بن عَمْرو:«أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ من العَسَلِ العُشْر» .

وقال الشافعي: أَخبرنا أَنس بن عِيَاض، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أَبي ذُبَاب

(3)

الدَّوْسِي، عن منير بن عبد الله، عن سعد بن أَبي ذُبَاب الدَّوْسِي قال:

(1)

الإِبْريسَم: - لفظ مُعرّب -، أجود أنواع الحرير، أو الحرير المنقود قبل أن تخرج الدودة من الشرنقة. معجم لغة الفقهاء، ص:39.

(2)

حُرِّف في المطبوعة والمخطوطة إلى: "محرز"، والصواب ما أثبتناه من "مصنف عبد الرزاق" 4/ 63، و "ميزان الاعتدال" 2/ 500.

(3)

حُرِّف في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين إلى "ذياب". والصواب ما أثبتناه من "الأم" 2/ 38، و "تهذيب الكمال" 5/ 253. و"تقريب التهذيب" ص 146، رقم (1030) في ترجمة الحارث بن عبد الرحمن. وانظر "الإكمال في ذكر من له رواية في مسند أحمد" 1/ 334 ففيه زيادة توضيح وتخريج.

ص: 519

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

«أَتَيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وأَسلمت، وقلت: يا رسولَ، اجعل لقومي ما أَسلموا عليه، ففعل، واستعملني عليهم أَبو بكر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم واستعملني عمر بعد أَبي بكر، فلما قَدِم على قومه قال: يا قوم أَدُّوا زكاة العسل، فإِنه لا خير في مال لا تُؤدَّى زكاته. قالوا: كم ترى؟ قلت: العشر، فأَخذت منهم العُشْر، فأَتَيت به عمر رضي الله عنه، فباعه وجعله في صدقات المسلمين» .

وما في «سنن أَبي داود» من حديث عَمرو بن شُعَيب، عن أبيه عن جده قال:«جاء هلال ـ أَحد بني مُتْعَان ـ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُشور نَحْلٍ له وكان سأله أَنْ يَحْمِي له وادياً يقال له: سَلبَة، فحماه له» . ولا شك أَنَّ هذا القَدْر يفيد الوجوب فيه، وإِنَّ أَخْذَ سَعْدٍ لم يكن رأْياً منه ولا تطوّعاً منه فإِنه قال:«أَدُّوا زكاة العسل» . والزكاة: اسم للواجب، فيحتمل كونه سَمِعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم وكونه رأياً منه، وحَمْلُه على السماع أَولى بقرينةِ نَفْي الخَيْرِيَّة عن مالٍ لا تُؤدَّى زكاته.

ويدل عليه أَيضاً الحديث المرسل الذي لا شبهة في ثبوته

(1)

، وفيه الأَمر منه صلى الله عليه وسلم بأَداءِ العُشور. والمُرسل بانفراده حجّة على ما أقمنا عليه الدليل، وبتقدير أَنْ لا يُحتج به بانفراده، فتعدد طرق الضعيف ضعفاً بغير فِسْق الراوي يفيد حُجِّيَّته، إِذْ يغلِب على الظنِّ إِجادة كثير الغلط في خصوص هذا المتن، وهنا كذلك، وهو المرسل المذكور، فثبتت الحجّية اختياراً منهم ورجوعاً، وإِلا فإلزماً وجبراً.

هذا، ويعتبر أَبو يوسف في رواية نصاب العسل بعَشْر قِرَب، كُلُّ قِرْبَة خمسونَ مَنَّاً

(2)

، لِمَا روى الطَّبَراني عن عمرو بن شُعَيْب، عن أَبِيه عن جده:«أَنَّ بني سَيَّارة ـ بطن من فَهْم ـ كانوا يُؤدون إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نَحْلٍ كان لهم العُشْرَ: من كل عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَة، وكان يَحمِي وَادِيَيْنِ لهم، فلما كان عمر استعمل على ما هناك سفيان بن عبد الله الثَّقَفِي، فأَبَوْا أَنْ يُؤَدوا إِليه شَيئاً، قالوا: إِنَّما كُنَّا نؤدّيه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب سفيان إِلى عمرَ، فكتب إِليه عمرُ: إِنَّما النَّحْلُ ذباب غَيْث يسوقه اللهُ رِزْقاً إِلى مَنْ يَشاء، فإِنْ أَدَّوا إِليك ما كانوا يؤدون إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحم لهم أَوديتهم، وإِلاَّ فَخَلِّ بينه وبين الناس. فأَدَّوا إِليه ما كانوا يُؤدّون إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَحَمَى لَهُمْ أَوْدِيَتَهُم)»

(3)

. وروى أَبو عُبَيْد القاسم بن سَلاَّم بإِسْنَادِهِ

(4)

: «أَنَّ

(1)

في المطبوع: فيه، وما أثبتناه من المخطوط.

(2)

المَنّ: مِكيالٌ سعته رطلان عراقِيّان، وهو ما يساوي 815.39 غرامًا. معجم لغة الفقهاء ص 460.

(3)

سقط من المطبوع.

(4)

في المخطوطة: عن عمرو بن شُعَيب عن أبيه عن جَدِّه.

ص: 520

أَوْ جَبِلٍ وثَمَرِهِ.

[فَصْلٌ في زَكَاةُ الخَضْرَاوَاتِ]

ومَا خَرَجَ مِنَ الأَرْضِ وإِنْ قَلَّ: عُشْرٌ، إِنْ سَقَاه سَيْحٌ أَوْ مَطَرٌ،

===

رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ في زمانه من (العسل من كل عشر قِرَب قِرْبة من)

(1)

أَوْسَطها».

وروى الترمذي عن (ابن)

(2)

عمر، أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«في العَسَل في كُلِّ عشرة أَزُقَ زِقٌّ» ، إِلاَّ أَنه قال: في إِسناده مَقَال. ورواه الطبراني عن ابن عمر أَيضاً، ولفظه: قال: «في العَسَل العُشْر، في كل عَشْرِ قِرَب قِرْبة، وليس فيما دون ذلك شيءٌ» . فلا يَخْفى أَنَّ الأَحاديث السابقة كلها لم تدل على نصاب إِلا الأَخير، وهو شَاذٌّ تُفُرِّد به.

(أَوْ جَبَلٍ) أَي أَوْ في عَسَلٍ جَبَلِي. وقال أَبو يوسف: لا شيء في العسل الجبلي، لانعدام السبب: وهو الأَرض النامية. وأُجيب بأَنَّ المقصود الخارجُ وهو موجودٌ. (وثَمَرِهِ) عطف على عسل، والضمير للجبل.

(فصلٌ في زكاة الخَضْرَاوَاتِ)

(ومَا خَرَجَ مِنَ الأَرْضِ) العُشْرِية، ولو كانت وَقْفاً أَوْ لِصَبي أَوْ لِمَجْنُون (وإِنْ قَلَّ) متصل بكل واحد من العسل والثمر وما خرج من الأَرض (عُشْرٌ) هذا مبتدأ، «وفي عَسَلِ أَرْضٍ»: خبره (إِنْ سَقَاه سَيْحٌ): وهو الماء الجاري على الأَرض (أَوْ مَطَرٌ).

وقال أَبو يوسف ومحمد: لا يجب العشر فيما لا يبقى، وقُدِّر البقاء بسنة من غير معالجة كثيرة، ولا فيما دون خمسة أَوْسُق

(3)

، كل وَسْق ستون صاعاً بصاع النبيّ صلى الله عليه وسلم لما روى الترمذي عن معاذ: أَنه كتب إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأَله عن الخَضْرَاوات وهي البُقُول، فقال عليه الصلاة والسلام:«ليس فيها شيءٌ» . قال بعض الشراح: قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس في الخَضْرَوات صدقة» . رُوِيَ بأَلفاظ متعددةٍ عن عدة من الصحابة منهم: عليّ، ومعاذ، وطلحة بن عبيد الله، وأَنس بن مالك، ومحمد بن عبد الله بن جحش، وعائشة، رضي الله عنهم، بأَسانيدَ مضعَّفة ومرسلة.

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

سقط من المطبوع.

(3)

تقدم شرحها، ص: 485، تعليق رقم (2).

ص: 521

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

قال البيهقيُّ: وهذه الأَحاديث يشد بَعْضُها بَعْضاً، ومعها قول بعض الصحابة. ثُم أَخرج عن عمر أَنه قال:«ليس في الخَضْرَاوات صدقة» . ولأَن العقل يجزم باستحالة الغلط على جملة الأَسانيد، كيف وفيها مرسل صحيح، رواه الدَّارَقُطْنيّ عن موسى بن طلحة بن عبيد الله:«أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أَنْ يُؤْخَذ من الخَضْرَاوات صدقة» ، وهو حجة عندنا وعند الجمهور.

وأَما قول الترمذي: لم يصح في هذا الباب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم شيءٌ، فإِنما هو باعتبار كل فردٍ فرد، فلا ينفي صحة الإحاديث بجملتها، كالتواتر المعنوي، فينبغي حَمْلُه على صدقةٍ يأْخذها العاشر، وبه يقول أَبو حنيفة. ولِمَا في الصحيحين عن أَبي سعيدٍ الخُدْري قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «ليس فيما دون خَمْسَةِ أَوسق صدقة» . وفي لفظٍ لمُسْلم: «ليس في حَبَ ولا تَمْرٍ صدقةٌ حتى يَبْلُغَ خمسة أَوسق» . وفي رواية: «ولا ثمر» بالمثلثة. وفي لفظٍ لأَبي داود: «ليس فيما دون خمسة أَوْسق صدقة» . وروى أَحمد وابن ماجه عن أَبي سعيد الخُدْري: أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الوَسْقُ سِتُّونَ صاعاً» .

ولنا عموم قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ ما كَسَبْتُم وممَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ}

(1)

، وما روى البخاري وأَصحاب السُّنن من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فيما سَقَتِ السماءُ والعيون أَوْ كان عَثَرِياً العُشْرُ، وفيما سُقي بالنَّضْح نصفُ العُشْرِ» . والعَثَرِي: بالعين المهملة والمثلثة المفتوحتين وبالراء. قال الخَطَّابي: هو الذي يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنْ غير سَقْي.

والمراد بالنضح: هنا السَّوَاني

(2)

، لما في رواية البخاري:«وفيما سُقي بالسانية» .

ورواه أَبو داود بلفظ: «فيما سَقَتِ السماءُ والأَنهار والعيون أَوْ كان بقلا العُشْر، وفيما سُقِي بالسواني والنضح نصف العُشْر» . ورواه مسلم بلفظ: «فيما سَقَتِ السماءُ والغيم، وفيما سُقِي بالسانية نصف العُشْر» . وفي نسخة: «فيما سَقَتِ الأَنهارُ والغيم» . ومن الأَثر قول عمر بن عبد العزيز: «فيما أَنْبَتَتْ الأَرْض من قليلٍ أَوْ كثيرٍ العشر» . ونحوه عن مجاهد وإِبراهيم النَّخَعِي، وزاد إِبراهيم: «حتى في كلِّ عشرة دَسْتَجَاتٍ

(3)

دَسْتَجَةٌ».

(1)

سورة البقرة، الآية:(267).

(2)

السانية: البعير الذي يُستقى عليه من البئر. معجم لغة الفقهاء، ص:239.

(3)

الدَّسْتَجَة: حُزْمة ونحوها تَجمع اثني عشر فردًا من كل نوع. مُعَرَّب: دسته. المعجم الوسيط ص 283. مادة (دستجة).

ص: 522

إِلَّا في نَحْوِ حَطَبٍ.

ونِصْفُ عُشْرٍ إِنْ سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ بِلا رَفْعِ مُؤنِ الزَّرْعِ.

===

هذا، وحديث:«ليس فيما دون خمسة أَوْسق صدقة» محمولٌ على زكاة التجارة. وقيمة الوَسْقِ كانت يَوْمَئِذٍ أَربعينَ دِرْهَماً، ولذا لم يقل: ليس فيما دون خمسة أَوْسُق عُشْر.

ثُم وقتُ وجوب العُشْر حين ظهور الثمرة عند أَبي حنيفة، وحين الإِدراك عند أَبي يوسف، وحين الحصول في الحظيرة عند محمد. وثمرة الخلاف تظهر في وجوب الضمان بالإتلاف.

ويُعتبر لإِيجاب العُشْر أَوْ نصفه أَكثر المدة في السَّقْي بِسَيْحٍ أَوْ آلة، لأَن الأَقل تابع للأَكثر ومغلوب. فلو سقيتَ نصفَه بآلةٍ ونصفه بغيرها، قيل: يجبُ ثلاثة أَرْباع العُشْر.

(إِلاَّ في نَحْوِ حَطَبٍ) هذا استثناء من قوله: «وما خرج من الأَرض» . والمعنى: أَنْ نحو الحطب مما لا يُقْصَدُ به استغلال الأَرْض غالباً فلا عُشْر فيه، وذلك كالقصب الفارسي، والعُشْب، وكالحَبِّ الذي لا يصلح للزراعة مثل بَذْرِ البِطِّيخ، والقِثَّاء

(1)

، وكالتِّبْن، والسَّعَف

(2)

، والصَّمْغ، والقَطِران

(3)

مما يخرج من الشجر والنخل وليس بثمرة، ولو استغل أَرضه بشيءٍ من ذلك وجب فيه العشر.

(ونِصْفُ عُشْرٍ إِنْ سقي بِغَرْبٍ) أَي دَلْوٍ عظيمٍ (أَوْ دَالِيَةٍ) أَي دولاب تديره البقر. وقال أَبو يوسف ومحمد: لا بدّ أَنْ يكون المَسْقيُّ بغَرْب أَوْ دالية مما يبقى سنة ويكون خمسة أَوْسُق

(4)

، كما تقدم.

(بِلَا رَفْعِ مُؤَنِ الزَّرْعِ) يعني لا يَحْسُبُ ربُّ المال أُجْرَةَ العمال، ونفقة البقر، وكَرْي النهر، وغير ذلك مما يحتاج إِليه في الزرع فيرفعها، ثُم يخرج من الباقي العشر أَوْ نِصْفَه لإِطلاق ما تلونا من الآية، وعموم ما روينا من الحديث. ولأَنه عليه الصلاة والسلام حَكَم بتفاوتِ الواجب لتفاوت المُؤن، فلا معنى لرفعها.

(1)

القِثَّاء: نوعٌ من البطيخ، نباتي، قريب من الخيار لكنه أطول. المعجم الوسيط ص: 715، مادة (أَقثأَ).

(2)

السَّعَف: جَرِيدُ النَّخْل ووَرَقُه. المعجم الوسيط. ص: 431، مادة (سَعَفَ).

(3)

القَطِران: عصارة شجر الأرز والأبهل - وهي مستديمة الخضرة - تطبخ ثم تطلى بها الإبل. المعجم الوسيط ص: 744، مادة (قطرن).

(4)

تقدم شرحها ص 485، تعليق رقم (2).

ص: 523

وماءُ السماءِ والعَيْنِ والبِئْر عُشْريٌّ، وماءُ أَنْهَارٍ حَفَرَها العَجَمُ خَراجِيٌّ، وكذا الأَنهارُ الأَربعةُ عِنْدَ أَبي يُوسُفَ لا عِنْدَ محمدٍ. وأَرْضُ العَرَبِ ومَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ وأُقِرَّ في أَيديهم، أَوْ فُتِحَ عَنْوةً وقُسِمَ بَيْنَ جَيشِنَا، والبَصْرَةُ عُشْرِيَّةٌ

===

وفي «الخلاصة» : لو جعل السلطان العشر لصاحب الأَرض، لا يجوز، ولو جعل الخراج له جاز

(1)

عند أَبي يوسف، وعليه الفتوى إِذا كان من أَهل الخَرَاج. وقال محمد: لا يجوز.

(وماءُ السماءِ والعَيْنِ والبِئْر عُشْريٌّ) لأَن هذه المياه لم تدخل تحت ولاية أَحد. وفي «الكافي» : إِنما يكون ماء العين والبئر عُشْرِياً إِذا كانتا في أَرْضٍ عُشْرِيةٍ، فإِذا كانتا في أَرضٍ خَرَاجِيَّةٍ فهما خراجيتان.

(وماءُ أَنْهَارٍ حَفَرَها العَجَمُ) أَي ملوك الجاهلية قبل ظهور الإِسلام، مثلاً «يَزْدَجَرْد» و «مَرْوَرُود» (خَراجِيٌّ، وكذا الأَنهار الأَربعة): وهي جَيْحُون نهر تِرْمِذ، وسَيْحُون نهر التُّرْك، وهو نهر خُجَنْد، ودِجْلَة: نهر بغداد، والفُرَات: نهر الكوفة. (عِنْدَ أَبي يُوسُفَ) خَراجية (لا عِنْدَ محمدٍ) لأَنها لا تدخل تحت يدٍ فصارت كالبحار. ولأَبي يوسف: أَنها (من اتخَذَ) عليها القناطر من السفن فهو يدٌ عليها.

(وأَرْضُ العَرَبِ) قال أَبو عبيدة: وهي ما بين حفر أَبي موسى إِلى أَقصى اليمن في الطول، وما بين أَرض بِئرِين إِلى منقطع السَّمَاوة في العرض. وهي: تِهامة، والحجاز، ومكة، واليمن، والطائف، والعُمَان، والبحرين. وفي البخاري: قال يعقوب بن محمد: «سَأَلْتُ المُغِيرَة بن عبد الرحمن عن جزيرة العرب، فقال: مكة، والمدينة، واليمامة

(2)

، واليمن». وفي «شرح الوافي»: هي: أَرض الحجاز، وتهامة، واليمن، ومكة، والطائف، والبُرَيْه.

(ومَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ وأُقِرَّ في أَيديهم، أَوْ فُتِحَ عَنْوةً) أَي قَهْراً (وقُسِمَ بَيْنَ جَيْشِنَا،) والبَصْرَةُ عُشْرِيَّةٌ) أَمَّا أَرض العرب فلأَن الخَراج بمنزلة الفيء، فلا يثبت في أَرض العرب، كما لا تثبت الجِزْيَة في رِقابهم، لأَن العرب لا يُقْبل منهم إِلاَّ الإِسلام.

وفي «المحيط» : وكان القياس في أَرض مكة أَنْ تكون خَراجية، لأَنها فُتِحَتْ عَنوَةً، لكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوظِّف عليها. وأَمَّا ما أَسْلم أَهله أَوْ فُتِح عَنوةً، فلأَن الحاجة فيهما إِلى ابتداء التوظيف على المسلم، والعُشْر أَلْيَق به، لما فيه من معنى

(1)

في المطبوعة: يجوز.

(2)

في المخطوطة: تِهامة.

ص: 524

والسَّوَادُ وما فُتِحَ عَنْوَةً وأُقِرَّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ أَوْ صَالَحَهُم: خَرَاجِيَّةٌ. ومَوَاتٌ أُحْيِيَ يُعْتَبَرُ بقُرْبِهِ.

===

العبادة، ولهذا يشترط فيه النيةُ، ويصرف مصارف الصدقات.

وأَمَّا البَصْرة، فلأَنَّ القياس فيها أَنْ تكون خَرَاجيةً كما في أَرض العراق، إِلاَّ أَنَّ الصحابة وضعوا عليها العُشْر، ذكر ذلك أَبو عمر ابن عبد البَر وغيره.

(والسَّوَادُ) أَي سواد العِراق، وسُمِّيَ بذلك لِخُضْرَةِ أَشجاره وكثرة زروعه، وهو مَمْلُوكٌ عندنا لأَهْلهِ. وعند الشافعيِّ: هو وَقْفٌ على المسلمين، وأَهْلُهُ مستأجرون. وَحَدُّهُ طُولاً: ما بين العُذَيب إِلى عَقَبَة حُلْوَان ـ اسم بلدة ـ، وعَرْضاً: من العَلْثِ

(1)

: ـ وهي أَرض موقوفة على العلوية ـ، وقيل: من الثغلبية

(2)

ـ إِلى عَبَّادَان: وهي حصن صغير على شاطاء البحر.

(وما فُتِحَ عَنْوَةً وأُقِرَّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ أَوْ صَالَحَهُم خَرَاجِيَّةٌ) لأَن الحاجة إِلى ابتداء التوظيف على الكافر، والخَرَاج أَلْيَقُ به من العُشْر، ولما روى أَبو عُبَيْد القاسم بن سَلاَّم في كتاب «الأَموال» عن إِبراهيم التَّيْمِي قال: لما افْتَتَحَ المسلمونَ السَّوَادَ قالوا لِعُمَرَ: «اقسمه بيننا، فَأَبَى وقال: ما لِمَنْ جاء بَعْدَكُم مِنَ المسلمين؟ قال: فَأَقَرَّ أَهلَ السَّواد في أَرضهم، وضرب على رؤوسهم الجزية، وعلى أَرضهم الخَراج» .

والشَّامُ خَراجيةٌ، وكذا مصر، لما روى ابن سَعْد في «الطبقات» في ترجمة عمرو ابن العاص عن مشيخة من أَهل مصر ـ أَي مشايخ منهم ـ أَنَّ عمرو بن العاص افتتح مصر عَنْوةً، واستباح ما فيها، وعزل منه غنائم المسلمين، ثُم صالحهم بعد ذلك على الجزية في رقابهم، ووضع الخَرَاج على أَراضيهم.

(ومَوَاتٌ أُحْيِيَ يُعْتَبَرُ بقُرْبِهِ) فإِنْ كان إِلى الخَرَاجية أَقْرب فهو خَراجِي، وإِنْ كان إِلى العُشْريةِ أَقرب فهو عُشْرِي، وهذا عند أَبي يوسف، لأَن ما قرب من الشيء له حُكْمه، كفِنَاء

(3)

الدار له حُكْمُهَا. وقال محمد: إِنْ أُحْيِي الموات ببئر حُفِرَتْ، أَوْ بعين

(1)

حُرِّفت في المطبوعة إلى: "الصلت"، والمخطوطة إلى:"العلت". والصواب ما أثبتناه من "الدر المختار" 3/ 254 على هامش "ردّ المحتار". ومعجم البلدان 4/ 145.

(2)

وفي الدر المختار: وما قيل من الثَعْلبة غلط. وقال ابن عابدين: الذي رأيته في غيره الثعلبية بياء النسبة. وهو الموجود في الهداية، وعلق عليه ابن الهمام بقوله: قيل: هو غلط لأن الثعلبية بعد العذيب بكثير

فتح القدير 5/ 278.

(3)

فِنَاء الدَّار: ما امتدَّ من جوانبها. مختار الصحاح، ص:215. مادة (فَنِي).

ص: 525

والخَرَاجُ إِمَّا خَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ، كَمَا يُوضَعُ رُبُعٌ أَوْ نَحْوُه، ونِصْفُ الخَارِجِ غايةُ الطَّاقَةِ. وإِمَّا موظَّف: كَمَا وَضَعَ عُمَرُ على السوادِ لِكُلِّ جَرِيبٍ يَبْلُغُهُ الماءُ صاعٌ مِن بُرِّ أَوْ شَعِيرٍ ودِرْهَمٍ، ولِجَرِيبِ الرَطْبَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، ولِجَرِيبِ الكَرْمِ والنَّخْلِ مُتَّصِلةً

===

استخرجت، أَوْ بالأَنهار التي لا يملكها أَحَدٌ، فهي عشرية. وإِنْ أُحْيِيَ بالأَنهار التي حفرها العَجَمُ فَخَرَاجيةٌ، وهذا في حَقِّ المُسْلِم. وأَمَّا الكافرُ فيجب عليه الخَراج مُطْلقاً.

وعندنا لا عُشْر في خارج أَرض الخَراج، كما لا خَرَاج في خارج أَرض العُشْر.

وأَوجبه مالك والشافعي، لأَنهما جنسان مختلفان، فإِنَّ الخراج دراهم، والعشر بعض الخارج، والسبب أَيضاً مختلف، فَسَبَبُ

(1)

الخَراج الأَرض النامية، ولذا يجب بدون وجود الخارج، وسَبَبُ العُشْر الخارج، فإِنه لا وجوب حيث لا خارج، فإِذا اختلفا لم يتنافيا.

ولنا ما رواه أَبو حنيفة عن حَمَّاد، عن إِبراهيم، عن عَلْقَمَةَ، عن عبد الله بن مسعود قَال: قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يُجْمَعُ على مُسْلم عُشْرٌ وخَرَاجٌ في أَرْضٍ» . ولإِجْمَاعِ الصحابة، إِذْ قد فُتِحَ السواد لم يُنْقَل عنهم جمعهما على مالك.

(والخَرَاجُ إِمَّا خَرَاجٌ مُقَاسَمَةٍ): بأَن يضع الإِمام على الأَرض جُزأً شائعاً من الخارج منها (كَمَا يُوضَعُ رُبُعٌ أَوْ نَحْوُه ونِصْفُ الخَارِجِ غايةُ الطَّاقَةِ)، لأَنَّ الأَنْصاف عينُ الإِنصاف، وقد عامل النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَهل خَيْبر على نصف ما يخرج منها.

(وإِمَّا موظَّف: كَمَا وَضعَ عُمَرُ على السوادِ لِكُلِّ جَرِيبٍ يَبْلُغُهُ الماءُ صاعٌ مِنْ بُرَ أَوْ شَعِيرٍ ودِرْهَمٍ) أَي مع كل منهما، فقوله:«صاع» مبتدأ خبره «لكل» ، والجملة في محل نصب على أَنه مفعول «وَضَعَ» . وفي بعض النُّسَخ «صاعاً» بالنصب، ولا وجه له برفع «درهم» .

والجَرِيب: ستون ذراعاً في ستين ذراعاً بذراع المَلِكِ كِسْرى، وهو يزيد على ذراعِ العامَّة بقبضة، كذا في «المحيط». والصَّاع: القفيز الهاشمي، وهو أَربعة أَمْنَان، والمَنُّ: مئتان وستون دِرْهَماً. وقال المصنف: في كُتُب الفقه: ذِرَاعُ الكِرْباس: سبع قبضات، وذراع المساحة: سَبْعُ قبضات وأُصبع قائم. وعند أَهل الحساب: الذراع: أَربع وعشرون أُصبعاً، والأُصبع: سِتُّ شَعِيرَات مضمومةٌ بطونُ بعضِها لبعض.

(ولِجَرِيبِ الرَّطْبَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، ولِجَرِيبِ الكَرْمِ والنَّخْلِ مُتَّصِلةً) بأَنْ لا يكون

(1)

في المطبوعة: بأن سبب، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 526

ضِعْفُهُ، ولِمَا سِوَاهُ مَا تُطِيقُهُ.

ولا خَرَاجَ لو انْقَطَعَ الماءُ عَنْ أَرضٍ، أَوْ غَلَبَ عليها، أَوْ أَصابَ الزَّرعَ آفَةٌ. ويَجِبُ إِنْ عَطَّلَها مَالِكُهَا، ويَبْقَى إِنْ

===

قطعة من الأَرض خالية منه (ضِعْفُهُ)، أي ضِعْفُ جَرِيب الرطبة: وهو عشرة دراهم، هكذا ذُكِر توظيف عمر في كتب الفِقْه.

وروى ابن أَبي شَيبةَ عن قَتَادَة، عن أَبي مِجْلَزٍ

(1)

قال: بَعَثَ عمرُ رضي الله عنه عثمانَ بنَ حُنَيْف على مساحةِ الأَرض، فوضع عثمانُ: على الجَرِيب من الكرم عَشَرَةَ دَرَاهِمَ

(2)

، (وعلى جَرِيب النَّخْلِ ثمانية دراهم)، وعلى جريب القصب ستة دراهم ـ يعني الرطبة ـ، وعلى جَرِيب البُرِّ أَربعة دراهم، وعلى جَرِيب الشعير دِرْهَمَيْنِ. انتهى. وفي «المُحِيط»: وإِنْ كانت الأَشجار متفرقةً فلا شيء فيها، لأَنها تابعةٌ للأَرض بدليل أَنها تدخل في البيع، من غير ذِكْر، فوظيفةُ الأَرض وظيفة الأَشجار.

(ولِمَا سِوَاهُ) نحو الزَّعْفَرَان (مَا تُطِيقُهُ) الأَرض: بأَن ينظر ما يبلغ غلتها، فإِنْ بلغت قَدْرَ غلة الزراعة

(3)

، يؤخذ منها خَراج الزرع، أَوْ غلة الرطبة فخَراج الرطبة. ولو لم تطق الأَرض ما وُظِّف عليها نقصه الإِمام، ولو أَطاقت الزيادة، ففي «المحيط»: أَجمعوا على أَنه لا يجوز الزيادة على وظيفة الأَرض التي وظفها عمر كسواد العراق، ولا على ما وظفه إِمامٌ آخر في أَرض مثل ما وظفه عمر. ويجوز في غيرهما عند محمد وهو روايةٌ عن أَبي يوسف. ولا يجوز عند أَبي يوسف، وهو روايةٌ عن أَبي حنيفة.

(ولا خَرَاجَ لو انْقَطَعَ الماءُ عَنْ أَرضٍ أَوْ غَلَبَ عليها) وكذا لو مَنَعَهُ إِنسانٌ مِنْ زَرْعِهَا ابتداءً ولم يَبْقَ من السَّنَةِ ما يمكن أَنْ تُزْرَع الأَرض فيه، لأَن التَّمَكُّنَ من الزراعة في كل الحول شَرْطُ الخَراج.

(أَوْ أَصابَ الزَّرعَ آفَةٌ) وبقي، لأَنَّ الأَصْلَ في الوجوب هو الخارج، فإِذا وُجِد تعلق به، وسقط خَلَفُهُ، وهو التمكن، وإِذا تعلق به سقط بهلاكه كالعشر، ويؤخذ إِذا سَلِمَ الخارج، وسقط إِذا هلك.

(ويَجِبُ) الخَراج (إِنْ عَطَّلَها مَالِكُهَا) لأَن التقصير من جهته (ويَبْقَى) الخَراج (إِنْ

(1)

حُرِّفت في المطبوعة إلى: "مجلد"، والصواب ما أثبتناه من المخطوطة ومصنف ابن أبي شيبة 3/ 217.

(2)

سقط من المطبوعة.

(3)

وفي المخطوطة: المزارعة.

ص: 527

أَسلم المَالِكُ، أَوْ شراها مُسْلِمٌ.

إِنِ اشْتَرَى الكَافِرُ عُشرِيَّةَ مُسْلِمٍ وُضِعَ الخَراجُ.

===

أَسلم المَالِكُ، أَوْ شراها) أَي الأَرض الخَراجية (مُسْلِمٌ) لأَنَّ الخَراج فيه معنى المؤنة ومعنى العقوبة، فاعتبر مُؤْنةً حالة البقاء، فبقي على المسلم، وعقوبةً حالة الابتداء، فلم يبتدأ به المسلم.

ولما روى البيهقيُّ من حديث طارق بن شهاب قال: أَسلمت امرأَةٌ من أَهل نهر الملك ـ أَي كِسْرَى ـ فكتب عمر بن الخطاب: «إِنْ اختارت أَرضَها وأَدَّت ما على أَرضها فخلوا بينها وبين أَرضها، وإِلاَّ فخلوا بين المسلمين وبين أَرضيهم»

(1)

. وروى أَيضاً: أَنَّ فَرْقَداً السلمي قال لعمر بن الخطاب: «إِنِّي اشتريت أَرْضاً من أَراضي السواد. فقال عمر: أَنت فيها مثل صاحبها» .

قال صاحب «الهداية» : وليس على المجوسي في داره شيءٌ، لأَنَّ عمر جعل المساكن عَفْواً، فغير معروف عند المُحَدِّثين. وإِنَّما روى أَبو عُبَيْدٍ تَعْليقاً: أَنَّ عمر جعل الخَراج على الأَرَضِين التي تُغِلُّ مِنْ ذوات الحَبِّ والثمار والتي تَصْلُح لِلغَلَّةِ من النَّامِي والعاقر

(2)

، وعَطَّل من ذلك المساكن والدُّور التي هي منازلهم، ولم يجعل عليهم فيها شَيْئاً.

(إِنِ اشْتَرَى الكَافِرُ) أَي الذِّمي غير التغلبي (عُشرِيةَ مُسْلِم وُضِعَ الخَراجُ) عند أَبي حنيفة، لأَنه أَلْيَقُ بحال الكافر، إِذْ العُشْر مُشْتَمِلٌ على معنى العبادة، والكافر ليس بأَهْلٍ لها، فإِذا خَلا العُشْر عن معناها لم يكن عشراً، وإِخلاء الأَرضِ عن الواجب مُمْتَنِع، فَتَعَيَّنَ الخَراج. وَوُضِعَ العُشْرُ مُضَاعَفاً عند أَبي يوسف، لأَن تضعيفَ ما يُؤخذ من المسلم على الذمّي ثابتٌ في الشرع، كما إِذا مَرَّ على العاشر. فعلم أَنَّ ما يؤخذ من المسلم إِذا ثَبَتَ أَخْذه من الذمّي يضعف عليه ويُصْرف

(3)

مصارف الخراج اعتباراً بالتغلبي. ووضع العشر عند محمد لأن المُؤْنة عنده لا تتغير. قَيَّدْنا بغير التغلبي، لأن التغلبي يُؤْخذ منه العُشْر مُضاعفاً إِلاَّ عند محمد.

ولا يُؤخذ خَراجٌ آخَرُ، أَوْ عُشْرٌ، أَوْ زكاةٌ أَخَذَهُ بُغَاةٌ: وهُم قومٌ من المسلمين خرجوا عن طاعة الإِمام العادل بحيث يَسْتَحِلُّون قَتْلَ غيرِ العادلِ ومَالَهُ بتأْويل القرآن،

(1)

في المطبوعة: أرضها، وما أثبتناه من المخطوطة و"السنن الكبرى" للبيهقي 9/ 141.

(2)

في المطبوعة: العامرة، وما أثبتناه من المخطوطة.

(3)

في المطبوعة: مصرف، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 528

‌فَصْلُ في مَصْرفِ الزَّكَاةِ

===

ودانوا ذلك، وقالوا: مَنْ أَذنب صغيرةً أَوْ كبيرةً فقد كَفَرَ وحَلَّ قَتْلُه إِلاَّ أَنْ يتوب، وتمسكوا بظاهرِ قوله تعالى:{ومَنْ يَعْصِ اللَّهَ ورسولَهُ فإِنَّ له نارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فيها}

(1)

، فإِذا ظهر هؤلاء على بلدة فيها أَهلُ العدل فأَخذوا الخَراج وصدقة السوائم، ثم ظهر عليهم

(2)

الإِمامُ، لا يأْخذ منهم شيئاً ثانياً، لأَنه لم يَحْمِهم، والجباية بالحماية.

وأفتوا بأَنْ يُعيدوا الزكاة دون الخراج، وهو اختيار أَبي بكر الأَعمش، لأَنهم مصارف الخَراج لكونهم مقاتِلَة، حتى إِذا ظهر عَدُوٌّ ذَبُّوه عن دار الإِسلام. وأَمَّا الصدقات فَمَصْرِفُها الفقراء وهم لا يصرفونها إِليهم. وقيل: إِذا نوى بالدفع التصدّقَ عليهم يسقط، وهو المحكي عن الفقيه أَبي جعفر، وكذا الدَّفْع إِلى كلَ جائرٌ، لأَنهم بما عليهم من التَّبِعات فقراء. والإِفتاء بالإِعادة أَحْوط، بناءً على أَنَّ عِلْم من يأْخذ لما يأخذ شرط، وهذا يقتضي التعميم في الإِعادة للأَموال الباطنة والظاهرة سوى الخراج. وقد لا يبنى على ذلك، بل على أَنْ المقصود من شرعية الزكاة سَدُّ خَلَّة

(3)

المحتاج وذلك يَفُوت

(4)

بالدفع إِلى هؤلاء.

وقال الحاكم الشهيد: هذا يعني السقوط في صدقات الأَموال الظاهرة. وأَمَّا إِذا صادره ظالم، فنوى عند الدفع أَداء الزكاة إِليه فعلى قول طائفةٍ يجوز، والصحيح أَنه لا يجوز، لأَنه ليس لظالم ولايةُ أَخْذِ زكاةِ الأَموال الباطنة. والله تعالى أَعلم.

فصلٌ في مَصْرِفِ الزكاةِ

والأَصل فيه قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ والمَسَاكِينَ والعَامِلِينَ عَلَيْها والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفي الرِّقاب والغَارِمينَ وفي سبيل اللهِ وابنِ السَّبِيلِ}

(5)

، فذكر تعالى ثمانية أَصناف، وقد سقط منها «المؤلّفة قلوبهم» ، لما روى ابن أَبي شيبة عن عامر الشَّعْبي أَنه قال: «إِنَّمَا كانت المؤلّفة على عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فلما وَلِيَ أَبو بكر انقطعت.

(1)

سورة الجن، الآية:(23).

(2)

أي على أهل البلدة.

(3)

الخَلَّة: الحاجة والفقر. مختار الصحاح ص: 79، مادة (خلل).

(4)

في المطبوعة: يفرق، وما أثبتناه من المخطوطة.

(5)

سورة التوبة، الآية:(60).

ص: 529

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

قال الشيخ عبد العزيز: سُقُوطُهم تقريرٌ لما كان زَمَنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من حيثُ المعنى، لأَنَّ الدَّفْعَ إِليهم في ذلك الوقت كان لإِعزاز الإِسلام لكثرة أَهل الكفر، والإِعزاز بعد ذلك في عدم الدفع لكثرة أَهل الإِسلام. انتهى.

وتردّد في سقوطهم مالكٌ والشافعيُّ. والصحيحُ بقاءُ حكمهم إِنْ احتيج إِليهم. وهم كانوا ثلاثة أَقسام: قسم كفار كان صلى الله عليه وسلم يعطيهم ليتألفهم على الإسلام، وقسم كان يعطيهم لدفع شرّهم، وقسم أَسلموا وفيهم ضعفٌ في الإِسلام فكان يتأَلفهم ليثبتوا.

لا يُقَال كيف يجوز صرف الصدقات إِلى الكفار، لأَنا نقول بإِعطاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهم على أَنهم كانوا مخصوصين في زمنه صلى الله عليه وسلم من قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:«خُذْها من أَغنياءهم وَرُدَّها في فقرائهم»

(1)

.

ثُم روى الطبري

(2)

في «تفسيره» في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ} الآيةَ، بإِسناده عن يَحْيَى بن أبي كثير أَنه قال: المؤلّفة مِنْ بني أُمية: أَبو سفيان بن حَرْب، ومِن بني مَخْزُوم: الحارث بن هشام وعبد الرحمن بن يَرْبُوع، ومن بني جُمَح: صفوان بن أُمية، ومن بني عامر بن لُؤي: سُهَيْل بن عمرو، وحُوَيْطب بن عبد العُزَّى، ومن بني أَسد بن عبد العُزَّى: حكيم بن حِزَام، ومن بني هاشم: أَبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ومن بني فَزَارة: عُيَيْنَة بن حِصْن، ومن بني تميم: الأَقْرَع بن الحابِس، ومن بني النصر: مالك بن عوف، ومن بني سُلَيم: العباس بن مِرْدَاس، ومن بني ثَقِيف: العلاء بن حارثة، أَعْطَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم كُلَّ رجلٍ منهم مئةَ ناقةٍ إِلا عبد الرحمن بن يَرْبُوعٍ وحُوَيطب بن عبد العُزَّى، فإِنه أَعْطَى كل رجل منهم خمسين.

وأَسند أَيضاً: «قال عمر بن الخطاب حين جاءه عيينة بن حِصْن: {الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}

(3)

، يعني ليس اليوم مؤلفة». وقيل: «جاء عيينة والأَقرع إِلى أَبي بكر الصدّيق يطلبان أَرضاً، فكتب لهما الخَطَّ

(4)

، فمرَّا بعمر فَمَزَّقَهُ وقال: هذا شيءٌ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيكموه ليتأَلَّفكم به على الإِسلام، والآن

(1)

أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (فتح الباري) 3/ 357، كتاب الزكاة (24)، باب أخذ الصدقة من الأغنياء (63)، رقم (1496).

(2)

حُرِّفت في المطبوع إلى: الطبراني، والمثبت من المخطوط وهو الصواب. انظر "تفسير الطبري" 10/ 111.

(3)

سورة الكهف، الآية:(29).

(4)

الخط: موضع باليمامة. مختار الصحاح ص 76، مادة (خط).

ص: 530

مَصْرِفُ الزَّكَاةِ الفَقِيرُ: أَي مَنْ لَهُ مَا دُونَ النِّصَابِ،

===

قد أَعَزَّ اللهُ الإِسلام وأَغنى عنكم، فإِن ثبتم على الإِسلام وإِلاَّ فبيننا وبينكم السيف، فرجعوا إِلى أَبي بكر فقالوا: الخليفةُ أَنْت أَمْ عُمَرُ؟ فقال: هو إِنْ شاء. ووافقه ولم يُنكر أَحَدٌ من الصحابة ذلك مع ما يتبادر منه من كونه سبباً لإِثارة النائرة

(1)

، أَوْ ارتداد بعض المسلمين. فلولا اتفاق عقائدهم على حقيته، وأَنَّ مفسدة مخالفته أَكثر من المفسدة المتوقعة لبادروا إِلى إِنكاره.

ثم اختلف كلام القوم في وجه سقوطهم بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع ثبوته بالكتاب إِلى حينِ وفاته عليه الصلاة والسلام: فمنهم مَنْ ارتكب جواز نَسْخ الكتاب بالإِجماع، بناءً على أَنه حجَّةٌ قطعيةٌ كالكتاب، وليس بالصحيح من المذهب. ومنهم مَنْ قال: هو من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علّته، كانتهاء صوم رمضان بانتهائه. واعْتُرِض بأَن الحكم في البقاء لا يحتاج إِلى علة، كما في الرِّقِّ، والرَّمَل

(2)

والاضطِبَاع

(3)

في الطواف. والجواب: أَنْ الشارع حَكَمَ ببقائه ثَمَّةَ بعد زوال السبب لِحَقِّ العبد في الرِّقِّ، والذُّل

(4)

بقاء في ضِمْنِهِ، ولحكمة لائحة في الأَخيرين ولا ذل فيهما، ولا يُحْكمُ ههنا ببقائه بعد زوال السبب، فلو أُعطوا منها بعده لزِم ذل الإِسلام وإِنَّه لا يجوز، فكان من قبيل انتهاء الشيء بانتهاء علَّته، فلا جَرَم أَجْمَعَ الصحابة على قطعه، إِذْ لا نَسْخَ بعده عليه الصلاة والسلام.

(مَصْرِفُ الزَّكَاةِ) وكذا العُشْر، وما أَخَذَ العاشِر من تجار المسلمين (الفَقِيرُ: أَي مَنْ لَهُ مَا دُونَ النِّصَابِ) وفي «الهداية» وغيرها: الفقير مَنْ له أَدنى شيءٍ.

وكان المصنف أَخذ ما فسر به الفقير، من قولهم بجواز دَفْعِ الزكاة إِلى مَنْ يملك دون النصاب، وقد صَرَّح به في «الخُلاصة» ، وأَيضاً ما في «الهداية» وغيرها مُبْهَم يحتاج إِلى هذا التبيين. وفي معناه مَنْ له قَدْر نصاب غير نامٍ وهو مُسْتَغْرَقٌ في الحاجة.

وفي «المحيط» : لا يَحِلُّ للفقير أَنْ يأْخذ من مالِ غَنِيَ ـ لا يُزَكِّي ـ بغير علمه، فإِنْ أَخذ كان لِلْغَنيِّ أَنْ يستردَّ إِنْ كان قائماً، ويضمن إِنْ كان هَالِكاً، لأَنَّ الحق ليس

(1)

النَّائرة: العداوة والشَّحْناء. مختار الصحاح ص 285، مادة (نور).

(2)

الرَّمَل: المشي السّريع مع هَزِّ الكتفين. معجم لغة الفقهاء ص: 227.

(3)

الاضْطِباع بالرداء: يكون بإِخراجه من تحت الإِبط الأَيمن، وإِلقائه على المنكب الأيسر. معجم لغة الفقهاء، ص:73.

(4)

في المطبوعة: للذل، ما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 531

والمِسْكِينُ: أَي مَنْ لا شَيءَ لَهُ، وعَامِلُ الصَّدَقَةِ، فَيُعْطَى بِقَدْرِ عَمَلِهِ،

===

لهذا الفقير بعينه. ولو كان الفقير مُكْتَسِباً قوياً تَحِلُّ له الصدقةُ، ولا يَحِلُّ له السؤال.

(والمِسْكِينُ: أَي مَنْ لا شَيءَ لَهُ) فيكون أَسوأ حالاً من الفقير، وهو قول عامة السلف. وعن أَبي حنيفة ـ وهو قول الشافعي ـ أَنَّ الفقير أَسوء حالاً من المِسكين، لقوله تعالى:{أَمَّا السفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ}

(1)

، ووجه الأَول قوله تعالى:{فإِطْعَامُ ستينَ مِسْكِيناً}

(2)

، فإِنَّه لا فَاقَةَ أَحوج من الحاجة إِلى الطعام، ويؤيده قوله تعالى:{أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ}

(3)

وذِكْرُ المساكين في الآية الأُولى جاز أَنْ يكون لِلتَّرَحُّم، أَوْ يُقال: لام {لِمَسَاكِيَن} للاختصاص لا للملك، فإنها

(4)

ـ أي

(5)

السفينة ـ كانت للعمل، وهم كانوا خَدَمَة السفينة.

وقيل: إِنها كانت عارِيَّةً عندهم، ثُم عن أَبي يوسف أَنهما صِنْفٌ واحدٌ إِذْ يُعَبَّرُ عن كُلَ بالآخَر. وقال أَبو حنيفة: صنفان، وهو الصحيح كما قال فَخْرُ الإِسلام، لأَنَّ عطف أَحدهما على الآخر يقتضي المغايرة بينهما، فلو قال: ثلث مالي لفلان وللفقراء والمساكين، على قول أَبي يوسف لفلان نصفه، وعلى قول أَبي حنيفة ثلثه.

(وعَامِلُ الصَّدَقَةِ) وهو مَنْ يبعثه الإِمام لجبايتها (فَيُعْطَى بِقَدْرِ عَمَلِهِ) أَي ما يكفيه وأَعوانه ذهاباً وإِياباً، لأَنه فرَّغ نفسه لِعَمَلٍ من أُمور المسلمين فيستحق الكفاية، كالمقاتلة والقضاة. وليس ما يأْخذُه أَجرةً، لأَنها لا تكون إِلاَّ على عَمَلٍ مَعْلُومٍ، ومُدةٍ معينةٍ، ولا صدقةً، لأَنه يأْخذ وإِنْ كان غنياً. ويَحِلُّ به العَمَالة

(6)

بالإِجماع، لكن فيه شبهةُ الصدقة، فلم يجز أَخذها للعامل الهاشمي صيانةً لقَرابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أَوساخ الناس، وهذا عندنا خلافاً للشافعي.

وفي «شرح الكنز» : لو استغرقت كفايةُ العامل الزكاةَ لا يزاد على نصفها، لأَن الأَنصاف غايةُ الإِنصاف، ولو حُمِلت الزكاةُ إِلى الإِمام لم يستحق هو شيئاً إِذا كان غنياً.

(1)

سورة الكهف، الآية:(79).

(2)

سورى المجادلة، الآية:(4).

(3)

سورة البلد، الآية:(16) المَتْرَبَة: المَسْكَنةُ والفاقةُ، ومِسْكين ذو مَتْرَبَة: أي لاصقٌ بالتراب. مختار الصحاح ص: 32، مادة (ترب).

(4)

في المطبوعة: فإِن، وما أثبتناه من المخطوطة.

(5)

سقط من المطبوعة.

(6)

العَمَالة: أجرة العامل أو رزقه. معجم لغة الفقهاء ص 321.

ص: 532

والمُكاتَبُ فَيُعَانُ عَلى فَكِّ رَقَبَتِهِ، ومَدْيُونٌ لا يَمْلِكُ نِصَابًا فاضلًا عن دَيْنِهِ، وفي سَبِيلِ اللَّهِ: أَي مُنْقَطِعِ الغُزاةِ عِنْدَ أَبي يُوسُفَ، ومُنْقَطِعِ الحَاجِّ عِنْدَ مُحَمّدٍ،

===

(والمُكَاتَبُ فَيُعَانُ عَلى فَكِّ رَقَبَتِهِ) غنياً كان مولاه أَوْ فقيراً، بشرط أَنْ لا يكون المُكَاتَبُ مُكَاتَبَ المُزَكّي ولا مكاتَبَ الهاشمي، لما روى الطبري في «تفسيره» عن الحسن البَصْرِي، والزُّهْرِي، وعبد الرحمن بن زيد

(1)

بن أَسْلم أَنَّهُمْ قالوا: {وفي الرِّقَابِ} هم المُكَاتَبُونَ، ولأَنَّ التمليك لا بد منه في الزكاة، ولا يتصور من القِنِّ وقال مالك: يبتاع رقبةً فيعتق، فيكون الولاء على مذهبه لجماعة المسلمين دون المُعْتِقِ.

(ومَدْيُونٌ لا يَمْلِكُ نِصَاباً فاضلاً عن دَيْنِهِ) أَوْ يملكه، ولكنه عند الناس، ولا يتمكن من أَخْذهِ منهم كما مَرَّ

(2)

في مال الضِّمَار. وتوضيحه: أَنَّ مقدار الدين مِنْ مَالِهِ مستحق لحاجَتِهِ الأَصْلِيةِ فَجُعِلَ كالمَعْدُوم، وما وراء ذلك لا يبلغ مئتي درهم فلا يؤثر في حرمان الصدقة. فقال الشافعي: الغَارِمُ أَيضاً مَنْ تَحَمَّلَ غرامةً لإِصلاح ذاتِ البين وإِطفاء العداوة بين القبيلتين.

(وفي سَبِيلِ اللَّهِ: أَي مُنْقَطِعِ الغُزاةِ) أَي فقيرهم المنقطع بهم

(3)

(عِنْدَ أَبي يُوسُفَ) لأَنه المفهوم مِنْ إِطلاق هذا اللفظ، فينصرف إِليه لا غير. يؤيده ما في البخاري أَنه عليه الصلاة والسلام قال: «إِنَّ خالداً احْتَبَسَ

(4)

أَدْرَاعَه في سبيل الله»، ولا شك أَنَّ الدرع لِلغَزْو لا للحج.

(ومُنْقَطِعِ الحَاجِّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) يعني كذلك، لأَنه في معناه، وكأَنَّه أَراد بالحاج ما يعم الحج الأَكبر والأَصغر: وهو العمرة، لِمَا روى أَبو داود في «سُنَنِه» عن أُمِّ مَعْقِل قالت: يا رسول الله إِنَّ عليَّ حجّة ولأَبي مَعْقِل بَكْراً

(5)

، قال أَبو مَعْقِل: جعلتُه في سبيلِ الله، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «أَعْطِها فَلْتُحج عليه، فإِنَّه في سبيلِ الله، فأَعطاها البَكْر» . ولما في البخاري عن أَبي لاسٍ الخُزَاعي أَنه قال: «حَمَلَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم على إِبِل الصَّدَقَةِ للحَجِّ» .

ورَوى الحاكم في «المستدرك» من طريق أَحمد بن حنبل ـ وقال: صحيح على

(1)

في المطبوعة: يزيد، وما أثبتناه من المخطوطة وهو الصواب.

(2)

سقط من المطبوعة.

(3)

سقط في المطبوعة.

(4)

في المطبوعة: حَبَس، وما أثبتناه من المخطوطة.

(5)

البَكْر: الفتيُّ من الغنم، والأُنثى بَكْرة. النهاية: 1/ 149، بتصرف.

ص: 533

وابْنُ السَّبِيل: أي مَنْ لَهُ مَالٌ لا مَعَهُ.

===

شرط مسلم ـ عن أَبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: أَرسل مروان إِلى أُمِّ مَعْقِلٍ يسأَلها عن هذا الحديث، فحدثت أَنَّ زوجها جعل بَكْراً في سبيل الله، وأَنها أَرادت العُمرة فَسَأَلَتْ زَوْجَها البَكْرَ، فأَبى عليها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأَمره أَنْ يعطيها فقال:«إِنَّ الحج والعُمرة لَمِنْ سبيلِ الله» .

وفي البخاري عن ابن عباس أَنه قال: يعتق الرجل من زكاة ماله ويعطي في الحج. والشاهد في الفِقرة الثانية، أَما الأُولى فليس بالمذهب، وكأَنه مُختارُ ابن عباس. وقد منع علماؤنا والشافعي شراء قريبه بالزكاة ليعتق لأَجلها، لأَن الإِعتاق إِسقاطٌ لا تمليك، ولا بد منه

(1)

فيها. وجَوَّزه مالك لإِطلاق الرّقاب. قلنا: المراد به المعاونة على أَداء بدل الكِتَابة لِمَا قَدَّمنا.

هذا، ولا يَدفعُ الزكاة إِلى أَغنياء الغزاة والحجاج كما يفهم من قيد الانقطاع. وجوز مالك والشافعي دفعَها إِلى أَغنياء الغزاة لما في «سُنن أَبي داود» و «ابن ماجه» عن أَبي سعيد الخُدْري قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «لا تَحِلُّ الصدقة لغنيَ إِلاَّ لِخَمسةٍ: العامل عليها، ورجل اشتراها بماله، أَوْ غارم، أَوْ غازٍ في سبيل الله، أَوْ مِسْكِين تُصُدِّقَ بها عليه فأَهداها لِغني» .

ولنا ما في أَبي داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَحِلُّ الصدقة لِغنيَ ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِي

(2)

». رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، إِلاَّ أَنَّ الاستثناء في الحديث الأَول يمنعُ من الاحتجاج بعموم الثاني، لاستلزامه التعارضَ بينهما، وهو خِلاف الأَصل كما عُرِفَ في محله.

(وابْنُ السَّبِيل: أي مَنْ لَهُ مَالٌ لا مَعَهُ) بأَن كان مالُه في بلدٍ آخر. وفي معناه: مَنْ يكون في البلد الذي هو فيه ولكنه غائبٌ عن مالِهِ، لأَنَّ الحاجة هي المعتبرة وقد وجدت، لكونه فقيراً يداً وإِنْ كان غنياً ظاهراً، فيأخذ من الصدقة بِقَدْرِ حاجته. ولا يجوز له أَنْ يَأْخُذ أَكثر منها، والأَوْلى أَنْ يَسْتَقرض إِنْ قَدَرَ، ولا يلزمه ذلك لاحتمال عجزه عن الأَداء. ولو فضل في يده شيءٌ من الصدقة عند قدرته على ماله لا يلزم أَنْ يتصدق به كالفقير إِذا استغنى، والمُكَاتَب إِذا عجز، لأَنها وقعت في مَصْرِفِها عند

(1)

أي التمليك.

(2)

المِرَّة: القُوَّة والشِّدَّة. والسَّوِي: الصحيحُ الأَعضاء. النهاية: 4/ 316.

ص: 534

فَيُصرَفُ إِلى الكُلِّ أَوْ البَعْضِ

===

الأَخذ.

(فَيُصْرَفُ إِلى الكُلِّ) أَي كل الأَصناف المذكورة (أَوْ البَعْضِ) ولو كان شخصاً واحداً منهم، روى ذلك الطَّبَرِي

(1)

في «تفسيره» عن ابن عباس، وعُمر، وحذيفة، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء بن أَبي رباح، وإِبراهيم النَّخَعِي وأَبي العالية، وميمون بن مهران، فلفظ ابن عباس:«في أَيِّ صِنْفٍ وَضَعْتَه أَجْزَأَك» . ولفظ عمر: «أَيُّمَا صِنْفٍ أَعطيت من هذا أَجزأَ عنك» . ولفظ حذيفة: «إِذا وَضَعْتَها في صِنْفٍ واحدٍ أَجزأَك» .

قيل: ولم يُرْو عن غيرهم ما يُخَالفهم قولاً ولا فعلاً، ولم يُرْو عن غيرهم من الصحابة خلاف ذلك فيكون إِجماعاً. وهو قول مالك وأَحمد، ولقوله صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذ:«فأَعْلِمْهُم أَنَّ الله افتَرَضَ عليهم صدقةً في أَموالِهِم: تُؤخَذُ مِنْ أَغنيائهم فَتُرَدّ في فُقَرَائِهِم»

(2)

. ولأَنه صلى الله عليه وسلم أَمَرَ لِسَلَمَةَ بن صخر البَيَاضي بصدقةِ قومه.

ولِمَا رَوى القاسم بنُ سَلاَّم: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَتاه مال بعد ذلك، فجعل محله في صنفٍ واحدٍ، وهم المؤلّفة قلوبهم: الأَقْرَع بن حابس، وعُيَيْنَة بن حِصْن

(3)

، وعلقمة بن عُلاثة

(4)

، وزيد الخيل، قسم فيهم ذُهيبة بعث بها معاذ من اليمن، وإِنَّما يؤخذ من أَهل اليمن الصدقة، ثُم أَتاه مالٌ آخَرُ فجعله في صِنْفٍ واحدٍ وهم الغارمون، فقال لِقَبِيصَة بن المُخَارِق ـ حين أَتاه وقد تحمَّل حَمَالة ـ:«يا قَبيصةُ أَقِمْ حتى تأْتينا الصدقة فنأْمر لك بها» .

وأَوجبَ الشافعي أَنْ يُقسم على ثلاثة من كل صنف منهم، لأَن الإِضافة بحرف اللام إِنْ لم تُوجِب حقيقةَ المِلْك فلا أَقَلَّ من أَنْ تُوجِبَ الاستحقاق، ولهذا لو أَوْصَى بثُلث ماله لهؤلاء الأَصناف لم يَجُز حِرمانُ بَعْضِهِم، وقد ذُكِر كُلُّ صِنْفٍ بلفظ الجمع، فَوَجب أَنْ يُصْرف اإلى ثلاثة مِنْ كل صنف وإِنْ كان مُحَلَّىً باللام، لأَن الجنس هنا لا يمكن فيه الاستغراق فتبقى الجمعية على حالها.

ولنا: أَنَّ حقيقة اللام للاختصاص الذي هو المعنى الكلّي الثابت في ضمن

(1)

حُرِّفَتْ في المطبوعة إلى: الطبراني، وما أثبتناه من المخطوطة وهو الصواب.

(2)

تقدم تخريجه ص: 530، تعليق رقم (1).

(3)

في المطبوعة: حصين، والصواب ما أثبتناه من المخطوطة و"الإصابة" 4/ 264.

(4)

في المطبوعة: علاية، والصواب ما أثبتناه من المخطوطة و"الإصابة" 4/ 264.

ص: 535

تَمْلِيكًا، لا إِلى مَنْ بَيْنَهُمَا وِلادٌ أَو زَوْجِيَّةٌ،

===

الخصوصيات من الملك والاستحقاق، وقد يكون مُجرّداً، فحاصل التركيب: إِضافة الصدقات ـ العامُّ الشاملُ لِكُلِّ صدقةِ متصدِّقٍ ـ إِلى الأَصناف ـ العام كل منها الشامل لكل فردٍ فردٍ، بمعنى أَنهم أَجمعين أَخصُّ بها كُلِّها، وهذا لا يقتضي أَنْ تكون كل صدقة منقسمة على أَفراد كُلِّ صِنفٍ، بل يقتضي أَنَّ الصدقات كُلَّهَا للجميع أَعم من أَنْ تكون كل صدقةٍ صدقةٍ لكل فردٍ فردٍ إِنْ أَمكن، أَوْ كل صدقة جزئية لطائفة، أَوْ لواحدٍ، ومما يدل على صحّة ما قلنا الأَحاديثُ التي قدمنا.

(1)

(تَمْلِيكاً) لأَن الإِيتاء في قوله: {وآتُوا الزَّكَاةَ}

(2)

يقتضي التمليك، فلو بنى مسجداً، أَوْ قنطرةً، أَوْ سقايةً، أَوْ أَحَجَّ إِنساناً، أَوْ كَفَّنَ ميتاً لا يُجزِئه، لانعدام التمليك.

وفي «الخانية» : لو أَطعم يتيماً، أَوْ كساه من زكاته بالتسليم إِليه جاز إِنْ كان مُرَاهِقاً أَوْ يعقل القبض، وإِنْ كان صغيراً لا يَجُوز، كما لو وضعها على مكان فأَخذَها فقير. وفي «المحيط»: ولو قضى بها دَيْنَ حيَ بأَمره جاز، ويكون القابضُ كالوكيل بالقبض عنه.

(لا إِلى مَنْ بَيْنَهُمَا وِلادٌ) أَي لا يَصْرِفُ المُزَكِّي زكاته إِلى مَنْ بينه وبينه موالدة: فلا يَصْرِف إِلى أَصْلٍ من أُصوله وإِنْ علا، ذكراً كان كالأَب والجد أَوْ أُنْثَى كالأم والجدة، ولا إِلى فَرْعٍ من فروعه وهم: الابن والبنت وأَولادهم وإِنْ سفل، ذكراً كان أَوْ أُنثى، لأَن المنافع في الأَملاك بينهما متصلةٌ عادةً باعتبار الجزئية والبعضية، ولهذا لا تُقْبَلُ الشهادة فيما بينهم، فلا يتحقق التمليك على الكمال.

(أَوْ زَوْجِيَّةٌ) فلا يدفع الرجل زكاته إِلى امرأَته باتفاق. ولا تدفع المرأَة زكاتها إِلى زوجها عند أَبي حنيفة للاشتراك بينهما في المنافع عادةً.

وقال أَبو يوسف ومحمد: تدفع، لما روى الجماعة إِلاَّ أَبا داود عن زينب امرأَة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ ولو مِنْ حُلِيِّكُن، قالت: فرجعت إِلى عبد الله فقلت: إِنك رجلٌ خفيفُ ذاتِ اليد

(3)

، وإِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أَمرنا بالصدقة، فأْته فاسأَله، فإِن كان ذلك يُجْزِاء عني دَفَعْتُها إِليك، وإِلاَّ صرفتُها إِلى غيركم؟ قالت: فقال عبد الله: بل ائتيه أَنْتِ. قالت: انطلقت

(1)

نقل المؤلف هنا كلام ابن الهمام بشيء من الاختصار، فمن شاء التفصيل فلينظر "فتح القدير" 2/ 206.

(2)

سورة البقرة، الآية:(43).

(3)

خَفيفُ ذاتِ اليد: أَي فقير قليل المال والحظّ من الدنيا. النهاية: 2/ 54.

ص: 536

ولا إِلى مَمْلُوكِهِ، ولا عَبْدٍ أَعْتَقَ بَعْضهُ،

===

فإِذا امرأَةٌ من الأَنصار جاءت

(1)

رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حَاجَتُها حاجتي، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُلقي عليه المهابة، قالت: فخرج علينا بلالٌ فقلنا له: أَخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّ امرأَتين بالباب تسأَلانِك: أَتُجزِاءُ الصدقة عنهما على أَزواجهما، وعلى أَيتام في حجورهما؟ ولا تخبره مَنْ نحن. قالت: فدخل بلالٌ فسأَله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ هما؟ قال: امرأَة من الأَنصار وزينب، قال: أَيُّ الزيانب»؟ فقال: امرأَة عبد الله بن مسعود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لهما أَجران: أَجْر القَرَابة، وأَجر الصدقة».

وأُجيب عنه بأَنها كانت صدقةَ تَطَوّعٍ. قلنا: الحديث محمول على التطوع، بدليلِ ما رواه البَزَّار

(2)

في «مسْنَدِهِ» عن أَبي سعيدٍ قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أَضحى أَوْ فطر، ثُم انصرف فوعظ الناس وأَمرهم بالصدقة، ثُم مَرَّ على النِّساء فقال لهن:«تصدقنّ» . فلما انصرف وصار إِلى منزله، جاءته زينبُ امرأَة عبد الله بن مسعود فاستأذنت عليه فأَذن لها، فقالت: يا نبي اللهاِ إِنَّك اليوم أَمَرْتَنَا بالصدقةِ وعندي حُلِي لي، فأَردتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ به، فزعم ابنُ مسعود أَنه هو وولدهُ أَحقُّ مَنْ أَتصدق به عليهم. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «صدق ابن مسعود، زَوْجُكِ وولدُك احق مَنْ تصدّقت به عليهم» .

وما رواه الطحاوي أَنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إِنِّي امرأَةٌ ذاتُ صَنْعَة أَبيعُ منها، وليس لزوجي ولا ولدي شيءٌ فشغلوني فلا أَتصدق، فهل لي فيهم أَجر؟ فقال صلى الله عليه وسلم «لك في ذلك أَجران: أَجْرُ الصدقة، وأَجْرُ الصِّلَة». ومعلومٌ أَنَّ الصدقة الواجبة لا تدفع إِلى الولد بالاتفاق.

(ولا إِلى مَمْلُوكِهِ) أَي مملوك نفسه، سواءٌ كان قِنَّاً، أَوْ مُدَبَّراً أَوْ أُم ولد، لأَن كسبهم للسيد، أَوْ مُكَاتَباً

، لأَن للسيد حقاً في كسبه، فلا يتم التمليك.

(ولا) إِلى (عَبْدٍ أَعْتَقَ بَعْضَهُ) وهذا عند أَبي حنيفة، لأَنَّ عنده مُعْتَقَ البَعْض تجب عليه السِّعَايةُ

(3)

في البعض الذي لم يُعتَق، فلا يدفعُ مولاه الزكاةَ إِليه، كما لا يدفعها إِلى مُكاتَبِه. وأَمَّا عندهما إِذا أَعْتَقَ بعض عبده عَتَقَ جَميعُه، فيدفع مولاه الزكاة إِليه، لأَنَّه حينئذٍ ليس بمملوكه.

(1)

في المخطوطة: بباب.

(2)

وفى المطبوعة: الترمذي، والصواب ما أثبتناه لموافقته ما في فتح القدير 2/ 271.

(3)

السِّعَاية: تكليف العبد بعمل يفي به ما ترتب من مال. معجم لغة الفقهاء. ص 244.

ص: 537

ولا إِلى غَنِيٍّ،

===

(ولا إِلى غَنِيَ) لما رواه أَبو داود، والنسائي والترمذي وحسنه، عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الصدقة لا تحِلّ لغني، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِي ـ أَي صحيح البدن ـ» . والمِرَّة: بكسر الميم وتشديد الراء: القوة، ومنه قوله تعالى:{ذُو مِرَّةٍ}

(1)

.

وفي «المحيط» : إِنَّ الغِنَى ثلاثة أَنواع: غِنَى يُوجِبُ الزكاة وهو مِلْك نصاب حولي نامٍ

(2)

، وغِنَى يُحَرِّم الصدقة ـ أَي أَخذَها ـ ويوجب صدقة الفطر والأُضحية: وهو ملك ما يبلغ قيمة نصاب من الأَموال الفاضلة عن حاجته الأَصلية، وغِنىً يُحَرِّم السؤال دون الصدقة: وهو أَنْ يكون له قوتُ يومه وما يستر عورته. انتهى. وكذا مَنْ قَدِرَ على تحصيل قوت يومه بِكَسْبه وهو المراد بقوله: «ذي مِرَّةٍ سَوِيَ» .

والحاصل: أَنه يحرم سؤال من له قوتُ يومه، وله ما يَقِيه من حرِّه وبرده، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما يزال الرجلُ يسأَلُ النَّاسَ حتى يأْتي (يوم القيامة)

(3)

ليس في وجهه مزْعَةُ لحم

(4)

». متفق عليه. وقوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ سأَل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسأَلته في وجهه خموشٌ، أَوْ خدوش، أَوْ كُدُوح

(5)

»، قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: «خَمسونَ دِرْهماً أَوْ قيمتُها من الذهب» . رواه أَصحاب السُّنن. وفي رواية: «وما الغِنَى الذي لا تنبغي معه المسأَلة؟ قال: «قَدْر ما يغديه ويعشيه» . وفي رواية: «أَنْ يكون له شِبَع يوم وليلة» .

وأَمَّا ما أَخَذَهُ مِنْ غير مسأَلة فلا يَحْرُم، لقول عمر: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء، فَأَقول: أَعطه أَفْقَرَ إِليه مِنِّي، فقال: خذه فَتَمَوَّلْه

(6)

وتصدّق به، فما جاءك مِنْ هذا المال وأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ

(7)

ولا سائل فخذه، وما لا فلا تُتْبِعْهُ نَفْسَك»، متفق عليه.

(1)

سورة النجم، الآية:(6).

(2)

وفي المخطوطة: تام.

(3)

سقط من المطبوعة.

(4)

مُزْعَة: أي قطعةٌ يسيرةٌ من اللحم. النهاية: 4/ 325.

(5)

الكُدُوح: الخُدُوش، وكُلُّ أثَرٍ من خَدْش أَو عَضٍّ فهو كَدْح. النهاية: 4/ 155.

(6)

حُرِّفت في المطبوع إلى: فتحوله، وما أثبتناه من المخطوطة، وهو موافق لما في فتح الباري 3/ 337، كتاب الزكاة (24)، باب من أعطاه الله شيئًا من غير مسألة

(51)، في سياق شرح الحديث رقم (1473).

(7)

الإِشْراف: التعرض للشيء والحرص عليه، من قولهم أَشرف على كذا إِذا تطاول له، وقيل للمكان المرتفع شرفٌ لذلك. فتح الباري 3/ 337.

ص: 538

ولا إِلى مَمْلُوكِهِ، ولا إِلى طِفْلِهِ، ولا إِلى بَنِي هَاشِمٍ

===

وقيل: لا تَحِلُّ الزكاة لصحيح البدن لما تقدم، والله تعالى أَعلم.

(ولا إِلى مَمْلُوكِهِ) أَي مملوكِ الغَنِيِّ، لأَن كَسْبه لمولاه، ويستثنى من ذلك المُكَاتَبُ على ما قدمناه. وفي «الذخيرة»: لو كان عبدُ الغَنِيِّ زَمِناً

(1)

لا يجد شيئاً ولم يكن في عيالِ مولاه، أَوْ كان غائباً مولاه، يجوز الدفع إِليه.

(ولا إِلى طِفْلِهِ) أَي طفل الغَنِي، سواء كان ذكراً أَوْ أُنْثَى، في عيال الأَب أَوْ ليس في عياله، لأَنه يعد غنياً بمال أَبيه. واحتُرِز بالطفل عن الولد الكبير إِذا كان فقيراً، فإِنه يجوز الدفع إِليه وإِنْ كان أَبوه ينفق عليه، لأَنه لا يعد غنياً بِغِنَى أَبيه.

(ولا إِلى بَنِي هَاشِمٍ) وهم: بَنُو الحارث، والعباس ابنا عبد المطلب ـ جَدّ النبي صلى الله عليه وسلم وبَنُو عليّ، وجعفر، وعَقِيل ـ أَولاد أَبي طالب عمّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لا بَنُو أَبي لهب، لأَن حُرمة الصدقة أَولاً في الآباء إِكراماً لهم، ثُم سَرَت إِلى الأَبناء، ولا إِكرام لأَبي لهب.

وفي «المحيط» : ويجوز صَرْفُ صدقات الأَوقاف والتطوعات إِليهم ـ أَي إِلى بني هاشم ـ إِذا سُمّوا في الوقف. رُوي ذلك عن أَبي يوسف، ومحمد في «النَّوَادِر» . وإِنما لا تدفع الزكاة إِليهم لأَن الفَرْض مُطَهِّر فيتدنسُ المُؤَدَّى، كالماء المستعمل

(2)

، فَنُزِّه الهاشمِيُّ عنه كرامةً له، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«نحن أَهل البيت لا تَحِلُّ لنا الصدقات» . رواه البخاري. وقوله عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ هذه الصدقاتِ إِنَّما هي أَوساخ الناس، لا تَحِلُّ لمحمدٍ ولا آل محمد» . رواه مسلم. وفيه قصةٌ طويلة، رواه الطبراني، وفي آخِرِها: فقال لهما: «إِنه لا يحل لكم أَهلَ البيت من الصدقات شيء، إِنَّما هي غُسَالة الأَيدي، وإِن لكم في خُمْسِ الخُمْسِ ما يغنيكم» .

وأَمَّا قول صاحب «الهداية» : لقوله عليه الصلاة والسلام: «يا بني هاشم، إِنَّ الله حرّم عليكم غُسَالة أَيدي الناس، وأَوساخهم، وعوَّضكم منها بِخُمْس الخُمْس» . فَغَيْرُ مَعروفٍ بهذا اللفظ. قال الطحاوي: وعن أَبي حنيفة أَنَّ الصدقاتِ كُلَّها جائزة على بني هاشم، والحرمةُ كانت في عهده عليه الصلاة والسلام، لِوُصُولِ خُمْسِ الخُمْسِ إِليهم، فلما سَقَط ذلك بموته صلى الله عليه وسلم حَلَّت لهم الصدقة، قال: وبه نأخذ. وعن أَبي حنيفة رحمه

(1)

الزَّمِن: المُبْتَلى بعاهةٍ قديمةٍ. معجم لغة الفقهاء ص: 234.

(2)

حيث إنه أُدِّي به الفَرْض، أي رفع به الحدث لأجل الصلاة، فيدنَّس، أي لا يجوز أن يستعمل في رَفْع الحدث المطبوعة.

ص: 539

وإِلى مَوَالِيهِم وإِلى ذِمِّي. وجَازَ غَيْرُهَا إِليه.

===

الله جواز دَفْعِ الهاشمي زكاتَه للهاشمي.

(و) لا (إِلى مَوَالِيهِم) أَي مُعْتَقِي بني هاشم، لما روى أَبو داود، والترمذي والنَّسائي عن ابن أَبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أَبيه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رجلاً من بني مَخْزوم على الصدقةِ، فقال لأَبي رافع: اصحبني، فإِنَّك تُصِيبُ منها، قال: حتى آتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَسأَله، فأَتاه فسأَله، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم «مَوْلى القوم مِنْ أَنْفسِهِم، وإِنَّا لا تَحِلُّ لنا الصدقة» . وفي رواية الجماعة، وصححه الترمذي:«إِنَّ الصدقة لا تَحِل لنا، وإِنَّ مولى القوم مِنْ أَنْفُسِهِم» .

(و) لا (إِلى ذِمِّي) لما في الكتب الستة من حديث ابن عباس: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذاً إِلى اليمن فقال: «إِنَّك تأْتي قوماً أَهلَ كتابٍ، فادعهم إِلى شهادةِ أَنْ لا إِله إِلا الله وأَني رسولُ الله، فإِنْ هم أَطاعوك لذلك فأَعْلِمْهُم أَنَّ الله فَرَض عليهم خَمْسَ صلواتٍ في كُلِّ يَوْمٍ وليلةٍ، فإِنْ هم أَطاعوك لذلك، فأَعلمهم أَنَّ الله افترض عليهم صدقةً في أَموالهم، تُؤخذ من أَغنيائهم وتُرَدُّ على فقرائهم، فإِنْ هم أَطاعوك لذلك فإِيَّاكَ وكَرَائِممَموالِهِم، واتِّق دعوةَ المظلوم، فإِنه ليس بينها وبين اللهاِ حِجَابٌ» .

فإِنْ قيل: هذا لا يمنع جواز الصَّرْف إِلى غير المسلمين، قلنا: لَمَّا كان مأموراً بالصرف اإلى فقرائنا، فلو صرف إِلى غيرهم لكان تاركاً الأَمرَ، فلا يجوز. وأَجَازَهُ زُفَرُ لِعُموم قوله تعالى:{لا يَنْهَاكُم اللَّهُ عن الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلوكُم في الدِّينِ ولم يُخرجُوكم مِنْ دِيَارِكُم أَنْ تَبَرُّوهُم وتُقْسِطُوا إِلَيْهِم}

(1)

، وعموم آية المَصَارف، والتقييدُ زيادةٌ، وهو نَسْخٌ معنوي على ما عُرِف، ولهذا جاز صَرْفُ سائر الصدقات إِليهم إِلاَّ في روايةٍ عن أَبي يوسف بخلاف الحربي المستأمَن، حيث لا يجوز دَفْعُهَا إِليه لقوله سبحانه:{إِنَّما يَنْهَاكُم اللهُ عنِ الذين قَاتَلُوكم في الدِّين}

(2)

الآيةَ، قلنا: حيثُ خص منها الحربي بما تلونا، جاز تخصيصُ الذِّمي منها بما روينا، وإِنْ سلم أَنه من الآحاد، كيف وقد خرج منها أُصول المزكِّي

(3)

وفروعه وزوجته.

(وجَازَ غَيْرُهَا) أَي غير الزكاة من سائر الصدقات (إِليه) أَي إِلى الذِّمي، سواء كان تطوعاً أَوْ واجباً، كالكفارة وصدقة الفطر، والنَّذر.

(1)

سورة الممتحنة، الآية:(8).

(2)

سورة الممتحنة، الآية:(9).

(3)

في المطبوعة: المولى، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 540

وإِنْ دَفَعَ إِلى مَن ظَنَّهُ مَصْرِفًا فَظَهَرَ أَنه عَبْدُهُ، يُعِيدُها. وإِنْ ظَهَرَ مَوَانِعُ أُخَرُ لا.

===

وقال أَبو يوسف: لا يجوز صرْفُ الواجب إِلى الذِّمي، كما لا يجوز صرْفُ الزكاة إِليه.

ولهما ما روى ابنُ أَبي شيبةَ عن سعيد بن جُبَيْر مُرْسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تَصَدَّقُوا إِلاَّ عَلَى

(1)

أَهل دينكم، فأَنزل اللَّهُ تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُم} إِلى قوله {وما تُنفِقوا من خير يُوَفَّ إِليكم}

(2)

فقال صلى الله عليه وسلم «تصدّقوا على أَهل الأَديان كُلِّها» ، وهو بإِطلاقه يتناول الزكاة، لكن خرجت منه بحديث معاذ. ولقائل أَنْ يقول: آية الصدقة هي آية الزكاة وقد خُصَّتْ، وآية المبرّة

(3)

والحديثُ، محمولان على التطوع، وهذه صدقة واجبة فكانت أَنسبَ بالزكاة. ثم لا يُبْنَى منها نحو مسجد، ولا يُكَفن بها ميت، فإِنَّ التمليك شرط.

(وإِنْ دَفَعَ) الزكاة (إِلى مَنْ ظَنَّهُ مَصْرِفاً) لها (فَظَهَرَ أَنَّه عَبْدُهُ) أَوْ مكاتَبُهُ (يُعِيدُها) أَي يُعْطي الزكاة مرةً أُخرى، لانعدام التمليك أَوْ تمامِه.

(وإِنْ ظَهَرَ مَوَانِعُ أُخَرُ لا) أَي لا يعطي الزكاة مرة أُخرى. وقال أَبو يوسف: يعيدها، لأَنه ظهر خطؤه بيقين مع إِمْكانِ الوقوف على الصواب، فصار كما لو توضّأ بماءٍ، أَوْ صَلَّى في ثوبٍ ثُم تبين أَنه نَجس.

ولهما ما روى البخاري من حديث مَعْن بن يزيد قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنا وأَبي وَجَدِّي، وخطب علي فأَنكحني وخاصمت إِليه، وكان أَبي يَزِيدُ أَخرج دنانيرَ يتصدق بها، فوضعها عند رجلٍ في المسجد، فجئت فأَخذتُها فأَتيتُه بها، فقال: واللهِ ما إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُ إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال:«لك ما نَوَيْتَ يا يزيدُ، ولك ما أَخَذْتَ يا معن» . وهو وإِنْ كان واقعة حال، فيجوز فيه كونُ تلك الصدقةِ كانت نَفْلاً، لكن عموم لفظ «ما في» قوله عليه الصلاة والسلام:«لك ما نويت» يفيد المطلوب، ويؤيده ما في الصحيحين عن أَبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«قال رجلٌ لأَتصدَّقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يدِ غَنِيَ»

الحديثَ.

وقَيَّدَ بِمَنْ ظنه مَصْرِفاً، لأَنه لو دفع بغير اجتهادٍ، أَوْ باجتهاد وبدون ظَنَ، أَوْ بِظَنَ أَنه ليس بِمَصْرِفٍ، ثم تَبينَ المانع لا يجزئه. ولو دفع إِلى مَنْ يَظُنُّ أَنه ليس بِمَصْرِف ثُم

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

سورة البقرة، الآية:(272).

(3)

حُرِّفت في المطبوع إلى: المبراة، والمثبت من المخطوط.

ص: 541

ونُدِبَ دَفْعُ ما يُغْنِيهِ عَن السُّؤالِ يومًا، وكُرِهَ دَفْعُ النِّصابِ إِلى فقيرٍ غَيْرِ مَدْيُونٍ، ونَقْلُهَا إِلى بَلَدٍ آخَرَ،

===

تبين أَنه مَصْرفٌ يُجزئه، وذلك لأَن الواجبَ عليه الصَّرف إِلى مَنْ هو مَصْرفٌ عنده وقد فعله، فيجوز، كما إِذا صلى إِلى جهةٍ بالتحري ثُم تبين خطؤُه. وهذا لأَن الوقوف على هذه الأَشياء بالاجتهاد دون القطع، وقد لا يعرف الإِنسان ذلك من نفسه، فضلاً عن غيره والتكليف بحَسَبِ الوسع، بخلاف التحري في الثياب والأَواني، فإِنه يوقف على الطهارة والنجاسة فيهما. وعن أَبي حنيفة أَنه لا يجزيه في غير الغَنِي، والظاهر هو الأَول، ووجه الفرق على هذه الرواية أَنْ الغَني مَصْرِفٌ في الجملة كما في العامل.

(ونُدِبَ دَفْعُ ما يُغْنِيهِ) أَي يُغْنِي الفقير (عَنْ السُّؤالِ يوماً) لأَن في ذلك صيانةً له عن ذُلِّ السؤال، ولقوله:«اغْنُوهم عنِ المسأَلةِ في هذا اليوم» .

(وكُرِهَ دَفْعُ النِّصابِ إِلى فقيرٍ غَيْرِ مَدْيُونٍ) وقال زفر: لا يجوز، لأَن الغِنَى حالَ العطاء حكمُ حال الأَداء، وحكم الشيء معه، فصار كما لو دفع إِلى غَنِيَ. ولنا أَنْ الأَداء يلاقي الفقير، لأَن المدفوع إِليه حال التمليك فقير، وإِنَّما يصيرُ غنياً بعد تمام التمليك، فَيَتَأْخَّر الغنى عن التمليك، وإِنما كره لوجود الانتفاع به حال الغِنى، والأَصل حصول الانتفاع به حال الفقر، لأَن المقصود سَدُّ خَلَّةِ

(1)

الفقير، وكماله في حصوله حالاً ومآلاً.

وههنا حصل حالاً وكُرِه لأَنه لم يحصل مآلاً. وعن أَبي يوسف أنه لم يُجزئه أَكثر من نصاب.

قَيَّدَ بغير المديون لأَن المديون لا بأْس به بأَن يُعْطى قَدْرَ وفاء دينه وزيادة دون النصاب، وكذا إِذا كان الفقير له عيالٌ لا بأس به بأَن يُعْطَى قدر ما لو فُرِّق عليهم حصل

(2)

كل واحد منهم دون النصاب.

(و) كره (نَقْلُهَا) أَي نَقْل الزكاة (إِلى بَلَدٍ آخَرَ) غير البلد الذي فيه المال، لأَن فيه إِضاعة حق فقراءِ بلده، وهذا إِذا كان مسافة قَصْر الصلاة. وبه قال مالك، ومنعه الشافعي لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ:«فأَعْلِمْهُم أَنَّ الله تعالى افترض عليهم صدقةً في أَموالهم تؤخذ من أَغنيائهم وترد على فقرائهم»

(3)

.

(1)

تقدم شرحها ص: 529، تعليق رقم (3).

(2)

وفي المخطوطة: خصّ.

(3)

تقدم تخريجه ص: 530، تعليق رقم (1).

ص: 542

لا نَقْلُهَا إِلى قَرِيبِهِ أَوْ أَحْوَجَ مِنْ أَهْل بَلَدِهِ.

===

ولنا أَنَّ المَصْرِفَ مُطْلَقُ الفقراء لقوله تعالى: {إِنَّما الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ}

(1)

ولا ذِكْرَ للمكان فيه، فالتَقييدُ به يكون نسخاً، وحديث معاذ حجةٌ لنا، لأَنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك لأَهل اليمن، وهي بلادٌ شتى، على أَنَّ مراده صلى الله عليه وسلم أَنه لا طمع له في الصدقة، بل هي مصروفةٌ إِلى فقراء المسلمين، كما هي مأْخوذةٌ من أَغنيائهم. وإِنما يُكْره نقله لظاهرِ ما روينا، ولرعاية حق الجِوَار، والمعتبر في الزكاة فقراء مكانِ المال، لأَنه محل الوجوب، ولذا يسقط بهلاكه.

والأَفضل صَرْفُها إِلى إِخوته، ثُم أَعمامه، ثُم أَخواله، ثُم ذوي أَرحامه، ثُم جيرانِهِ، (ثُم أَهْل سَكَنِهِ)

(2)

، ثم أَهل محلّته، ثُم أَهل مصره.

وفي «المحيط» : وعند محمد يُعتبر في زكاة المال حيث المال، لا حيث المُزَكِّي، لأَن الواجب في المال لا في الذمة. وفي صدقة الفطر إِنْ كان يؤدي عن نفسه حيث هو، وإِن كان يؤدي عن ولده وعبده فعند أَبي يوسف يؤدي حيث العبد، وعند محمد حيث المَوْلَى وهو الأَصح، لأَن الواجب في ذِمَّة المَوْلى، حتى لو هلك العبد لم يسقط عنه.

(لا) يكره (نَقْلُهَا إِلى قَرِيبِهِ) لما فيه من الصلة مع الصدقة

(3)

(أَوْ) إِلى قومٍ (أَحْوَجَ مِنْ أَهْل بَلَدِهِ) لما فيه من زيادة دفع الحاجة، ولما قَدَّمنا من قول معاذ لأَهل اليمن:«ائتوني بعرض ثياب خميس أَوْ لبيس مكان الذرة والشعير أَهون عليكم وخير لأَصحاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة» . إِلاَّ أَنه يجب حَمْله على أَنْ مَنْ بالمدينة كانوا أَحوجَ، أَوْ على ما فَضَل مِنْ فقراء اليمن. وكذا لا يكره النقل إِلى أَهل بلدٍ أَورع من أَهل بلده، أَوْ أَنْفَع للمسلمين منهم، والله سبحانه وتعالى أَعلم بالصواب.

(1)

سورة التوبة، الآية:(60).

(2)

سقط من المطبوعة.

(3)

الخَمِيس: الثوبُ الذي طولهُ خَمْسُ أذْرُع. النهاية: 2/ 79.

ص: 543

‌فَصْلٌ صَدَقَةُ الفِطْرِ

الفِطْرَةُ مِنْ بُرٍّ ومَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، ومِنْ زَبيبٍ نِصْفُ صَاعٍ، ومِنْ تَمْرٍ أَو شَعِيرٍ صَاعٌ

===

فصلٌ صَدَقَةُ الفِطْرِ

وسبب شرعيتها ما في «سنن أَبي داود» «وابن ماجه» عن ابن عباس: «فرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُهْرةً للصائم من اللغو والرَّفَث، وطُعْمةً للمساكين، مَنْ أَدَّاها قبل الصلاة فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومَنْ أَدَّاها بعد الصلاة فهو صدقةٌ من الصدقات» . رواه الدارقطني وقال: ليس في روايته مجروح.

وكان أَمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بها في السَّنَة التي فُرِض فيها رمضان قبل أَنْ تُفرضَ زكاة المال، وكان يخطب قبل الفِطْر بيومين يأْمر بإِخراجها ـ أَي في الجملة ـ سواء يقع وقت الوجوب أَوْ قبله.

(الفِطْرَةُ مِنْ بُرَ) أَي حِنْطَة (ومَا يُتَّخَذُ مِنْهُ) كدقيقه وسويقه (ومِنْ زَبِيبٍ نِصْفُ صَاعٍ) وقال أَبو يوسف ومحمد: صاع

(1)

، وهو روايةٌ عن أَبي حنيفة وعليه الفتوى، لأَن الزبيب يقارب التمر من حيثُ المقصودُ وهو التَّفَكُّه، ولما ورد في الصحيحين من حديث أَبي سعيدٍ الخُدْرِيّ:«أَوْ صاعاً من زبيب» .

(ومِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ) وما يتخذ منه (صَاعٌ) لما في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر وغيره: «أَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس (صاعاً مِنْ تمر أَوْ)

(2)

صاعاً من شعيرٍ

» الحديث. ولما رواه أَبو داود عن أَبي سعيدٍ قال: «كنَّا نُخْرِجُ على عهدِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صاعَ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ أَقِطٍ، أَوْ زبيب، أَوْ صاعاً مِنْ دقيقٍ» .

وقال مالك والشافعي وأَحمد: يجب مِنْ البُرِّ صاعٌ كَغَيْرهِ لما روى الحاكم ـ وصححه ـ عن نافع عن ابن عمر: «أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعاً من تمر، أَوْ صاعاً من بُرَ على كلِّ حر، أَوْ عبد، ذكر أَوْ أُنثى من المسلمين» .

ولظاهر ما رواه الستة من حديث أَبي سعيدٍ الخُدْرِي: «كنَّا نُخْرِجُ إِذا كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغيرٍ وكبيرٍ، حرّ أَوْ مملوك، صاعاً

(1)

الصَّاع: وهو ما يساوي 4 أمداد، وما يُساوِي 3261.5 غرامًا. معجم لغة الفقهاء ص:270.

(2)

سقط من المطبوعة.

ص: 544

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

من طعام أَوْ صاعاً من أَقِط

(1)

أَوْ صاعاً من شعير أَوْ صاعاً من زبيب، فلم نزل نخرج

(2)

حتى قدم معاوية حَاجّاً أَوْ معتمراً، فكلم الناس على المنبر، فكان فيما كلم به الناس أَنْ قال: إِني أَرى أَنَّ مُدَّين

(3)

من سمراء

(4)

الشام يَعْدِلُ صاعاً من تمر، فأَخذ الناس بذلك». قال أَبو سعيد:«أَمَّا أَنا فلا أَزال أخْرِجُه كما كنتُ أَخرجه» .

وجه الاستدلال بلفظ «طعام» ، فإِنه عند الإِطلاق يتبادر منه البُر، وأَيضاً فقد عطف عليه هنا الشعيرَ والتمر وغيرهما، فلم يبق مرادُهُ منه إِلاَّ الحنطة. ويَعْضُدُهُ ما رواه الحاكم:«صاعاً من حنطة» . وقوله: «لا أُخْرِج إِلاَّ ما كنتُ أُخْرِجه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً مِنْ تمرٍ، أَوْ صاعاً من شعير، فقال له رجل من القوم: أَوْ مُدَّين مِنْ قمحٍ. فقال: لا تلك قيمة معاوية لا أَقبلُها ولا أَعمل بها» . رواه الحاكم عن عياض بن عبد الله وصححه. وأَخرج عن ابنِ عمر: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صاعاً مِنْ بُرَ

الحديثَ، وصححه عن أَبي هريرةَ نحوه مرفوعاً.

وأُجِيب عن حديث أَبي سعيدٍ بأَنه ليس بحجة علينا، لأَنه أَخبر بِفِعْلِ نَفْسه، قال:«كنا نخرج» ، وفِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام ليس بِمُوجِب، فَفِعْلُ الصحابي أَولى بأَنْ لا يكون مُوجِباً. والعجب من الشافعي أَنه لا يرى تقليدَ الصحابي واجباً، فكيف قَلَّد أَبا سعيد في هذه المسأَلة. كذا ذكره العَيْني.

ولنا ما في الصحيحين من حديث نافع عن ابن عمر قال: «فرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تَمْرٍ، أَوْ صاعاً من شَعِيرٍ، فعدل الناس به مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطة» . وما روى عبد الرزاق في «مُصَنفه» عن ابن جُرَيج، عن ابن شِهَاب، عن عبد الله بن ثَعْلَبة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس قبل الفطر بيومٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فقال: «أَدُّوا صاعاً من بُرَ، أَوْ قَمْحٍ بين اثنين، أَوْ صاعاً من تَمْرٍ، أَوْ شعيرٍ عن كُلِّ حُرَ وعَبْدٍ، صغيرٍ وكبيرٍ» . وكذا رواه أَبو داود. ورُوِي أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ قبل يوم العيد بيومين فقال: «إِنْ صدقةَ الفِطر مُدَّان مِنْ بُرَ لكل إِنسانٍ، أَوْ صاعٌ مِمَّا سواه من الطعام» . رواه الدارقطني.

وما في «سُنَن أَبي داود» و «النسائي» عن حُمَيدٍ الطويل، عن الحسن عن ابن

(1)

الأَقِط: هو لبنٌ مُجَفَّفٌ يابسٌ مُسْتَحْجِر يُطبَخُ به. النهاية: 1/ 57.

(2)

وفي المخطوطة: نخرجه.

(3)

المُدُّ: مكيالٌ، وهو رطلان عند الحنفية، وهو ما يساوي 815.39 غرامًا. معجم لغة الفقهاء، ص:417.

(4)

السَّمْراء: الحِنْطة. النهاية: 2/ 399.

ص: 545

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

عباس: أَنه خطب في آخر رمضان على منبر البصرة فقال: «أَخْرِجوا صدقة صومكم، فكأن الناس لم يعلموا فقال: «مَنْ ههنا مِنْ أَهل المدينة، قوموا إِلى إِخوانكم فَعَلِّمُوهُم فإِنَّهم لم يعلموا، فرضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة صاعاً من تمرٍ، أَوْ شعيرٍ، أَوْ نِصْفَ صاعِ قمحٍ»

الحديثَ، ورواته ثِقَات مشهورون، لكن فيه إِرسالاً: فإِنَّ الحسن لم يسمع من ابن عباس على ما قيل.

وما في «سُنن الترمذي» عن عَمْرو بن شُعَيب، عن أَبيه، عن جَدِّه: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُنَادِياً ينادي في فِجَاج

(1)

: «أَلَا إِنَّ صدقةَ الفِطْر واجبةٌ على كُلِّ مسلمٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنثى، حرَ أَوْ عَبْدٍ، صغيرٍ أَوْ كبيرٍ، مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ، أَوْ صاعٌ مِمَّا سواه من الطعام» . وقال: حسن غريب. ورواه الدَّارقطني عن علي بن صالح، عن ابن جُرَيْجِ، عن عَمْرو بن شُعَيْب، عن أَبيه، عن جَدِّه: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ صائحاً فصاح: «أَنَّ صدقة الفطر حَقٌّ واجبٌ على كل مسلم، مُدَّانِ مِنْ قمحٍ، أَوْ صاعٌ من شعيرٍ أَوْ تمرٍ» .

وما في الطحاوي: حدثنا المُزَني: حدّثنا الشافعي، عن يَحْيَى بن حِبَّان، عن الليث بن سَعْد، عن عقيل بن خالد، وعبد الرحمن بن خالد بن مُسَافر، عن ابن شِهَاب عن سعيد بن المُسَيَّب: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زكاة الفطر مُدَّين مِنْ حِنْطةٍ. قال في «التنقيح» : إِسنادُه صحيح كالشمس، وكونُه مُرْسَلاً لا يضر، فإِنه مُرْسَلُ سعيد، ومراسيلُه حُجَّةٌ ـ أَي اتفاقاً ـ.

وما في «مُسْند أَحمد» من طريق ابن المبارك، عن ابن لَهِيعة، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن فاطمة بنت المُنْذِر، عن أَسماء بنت أَبي بكر قال: «كنا نُؤدّي زكاة الفطر على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مُدَّيْنِ من قمح، بالمُدِّ الذي يقتاتون به. وحديث ابن لِهيعة صَالِحٌ للمتابعة، لا سيما وهو من رواية إِمام عنه، وهو ابن المبارك.

ثم هو مذهب جماعة من الصحابة منهم: الخلفاء الراشدون، فَفي «مُصنف عبد الرزاق» عن أَبي بكر: أَنه أَخرج زكاة الفِطْر مُدَّين

(2)

من حنطة. وفي «سُنن أَبي داود» و «النَّسائي» عن ابن عمر: كان النَّاس يُخْرِجون صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً

(3)

مِنْ شعيرٍ، أَوْ تَمْرٍ، أَوْ سُلْتٍ

(4)

، أَوْ زَبِيبٍ، فلما كان عُمَرُ وكَثُرت

(1)

الفِجَاج: جَمع فجٍّ، وهو الطريق الواسع. النهاية: 3/ 412.

(2)

تقدم شرحها، ص: 545، تعليق رقم (3).

(3)

تقدم شرحها، ص:544، تعليق رقم (1).

(4)

السِّلْت: ضَرْبٌ - أي نوعٌ - من الشَّعير أبيض لا قِشْر له. وقيل: هو نوعٌ من الحنطة. النهاية: 2/ 388.

ص: 546

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الحِنطة، جعل عمر نِصْفَ صاعِ حِنْطَةٍ مكانَ صاعٍ من تلك الأَشياء.

وفي الطحاوي عن عمر أَنه قال لنافع: «إِنَّما زكاتك على سيدك: أَنْ يؤديَ عنك عند كل فِطْرٍ صاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ شعيرٍ، أَوْ نِصْفَ صاعٍ مِنْ بُرَ» . وعن عثمانَ أَيضاً أَنه قال في خطبته: «أَدُّوا زكاة الفِطْر، مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَة» . وعن علِيَ أَنه قال: «على مَنْ جَرَتْ عليه نَفَقَتُكَ نِصْفُ صاعٍ مِنْ بُرَ، أَوْ صاعٍ مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ تَمْرٍ» .

وفي «مصنف عبد الرزاق» نحوه عن ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله، وفيه أَيضاً عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِي، عن عبد الرحمن، عن أَبي هريرة قال: «زكاةُ الفِطْر عن كُلِّ حُرَ وعَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، صغيرٍ أَوْ كبيرٍ، فَقِيرٍ أَوْ غَنِيَ صاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ. قال مَعْمَرُ: بلغني أَنَّ الزُّهْرِيَّ كان يرفعه إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه أَيضاً عن مجاهد: كُلُّ شيءٍ سوى الحِنْطة ففيه صاعٌ.

وروى الطحاوي عن جماعةٍ كثيرةٍ وقال: ما عَلِمْنَا أَحَداً من الصحابةِ والتابعين رُوِى عنه خلاف ذلك، وكان إِخراج أَبي سعيدٍ ظاهراً، فلم يحترز عنه. والجواب عن حديثه: أَنَّا لا نُسلِّم أَنَّ الطعام في العُرْف يُعَبَّر به عن الحِنْطة، بل يطلق على كلِّ مأْكولٍ، وههنا أُريدَ به أَشياء ليست الحنطة منها، بدليل ما في «مختصر صحيح ابن خُزَيمة» عن ابن عمر قال: «لم تكنِ الصدقةُ على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إِلاَّ التَّمْرَ، والزبيبَ، والشَّعِير، ولم تكن الحنطة.

وما في البخاري عن أبي سعيد نفسِه: كنا نُخْرجُ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفِطر صاعاً من طعام، وكان طعامُنا يومئذٍ الشعيرَ، والزبيبَ، والأَقِط

(1)

، والتمرَ». فلو كانت الحِنطة من طعامهم الذي يخرج منه لبادَرَ إِلى ذِكْرِهِ قبل الكل، لكونه صريحاً في خلاف معاويةَ. وعلى هذا يلزم أَنْ يكون المُرادُ من الطعام في الحديث الأَول الأَعم، لا الحنطةَ بخصوصها، فيكونُ الأَقِط وما بعده فيه مِنْ عَطْف الخاص على العام، بدليل هذا الصريح عنه، ويلزم أَنْ يكون المرادُ بقوله:«لا أَزال أُخْرِجه» إِلى آخره، لا أَزال أُخْرِجُ الصَّاعَ، أَي كنّا إِنَّما نُخْرِجُ مِمَّا ذكرت صاعاً، وحين كَثُر هذا القوتُ الآخَرُ فإِنَّما أُخْرِجَ منه ذلك القَدْر.

وحاصِلُهُ في التحقيق: أَنَّه لم يَرِدْ ذلك التقويم، بل إِنَّ الواجب صاعٌ، غير أَنه اتُّفِقَ أَنَّ ما منه الإِخْراجُ في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانَ غَيْرَ الحِنْطَةِ، وإِنه لو وقع

(1)

تقدم شرحه، ص: 545، تعليق رقم (1).

ص: 547

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الإِخْرَاجُ منها لأَخْرَجَ صَاعاً. وعن أَحاديثَ غيرهِ وزيادة الحاكم بأَنها ضعيفةٌ كما بُيِّنَ في محله، ولئن سَلَّمْنَا التكافؤ في السَّمْعِيَّاتِ كان ثبوتُ الزيادةِ على مُدَّيْنِ مُنْتَفِياً، إِذْ لا يُحْكم بالوجوبِ مَعَ الشك.

ثُمَّ الصَّاعُ ثَمانِيةُ أَرطالٍ عراقيةٍ عند أَبي حنيفةَ ومحمد. وعن أَحمد ما يَدُلُّ عليه، وهو اختيار بعضِ الصحابة. وقَدَّره أَبو يُوسفَ بخمسةٍ وثُلُثٍ، كما قال مالك والشافعيُّ، لما روى البيهقيُّ عن الحسن بن الوليد القُرَشِي ـ وهو ثِقَةٌ ـ قال: قَدِمَ علينا أَبو يوسف من الحَجِّ فقال: إِنِّي أُريدُ أَنْ أَفتح عليكم باباً من العلم أَهَمَّنِي، ففحصت عنه، فَقَدِمْتُ المدينة، فسأَلتُ عن الصَّاع فقالوا: صاعُنَا هذا صاعُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قلت لهم: ما حُجَّتُكُم في ذلك؟ فقالوا: نأْتيك بالحجة غداً، فَلَمَّا أَصبحتُ أَتاني نَحْوٌ مِنْ خمسينَ شَيْخاً مِنْ أَبناء المهاجرين والأَنصار، مع كُلِّ رَجُلٍ منهم الصَّاع تحت رِدَائِه، كُلُّ رجلٍ منهم يُخْبِر عن أَبيه وأَهل بيته أَنَّ هذا صاعُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَنَظَرْتُ فإِذا هي سواءٌ، قال: فعيَّرتُهُ فإِذا هي خَمْسَةُ أَرطالٍ وثُلُثٌ بنقصان يسيرٍ. قال فرأَيتُ أَمْراً قوياً فتركتُ قولَ أَبي حنيفةَ في الصَّاعِ فأَخَذْتُ بِقَوْلِ أَهْلِ المدينة، هذا هو المشهور عنه.

ورُوي أَنَّ مَالِكاً ناظره، واحْتَجَّ عليه بالصِّيعَانِ التي جاءَ بِها أُولئك الرَّهْطُ، فرجع أَبو يوسف إِلى قوله. وأَخْرَجَ الطَّحاوي عن أَبي يوسف أَنَّه قال: قَدِمت المدينةَ فأَخْرَج إِليَّ مَنْ أَثِقُ به صاعاً وقال: هذا صاعُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُه خَمْسَةَ أَرطالٍ وثُلُثَ

(1)

رِطَل. قال الطحاوي: وسمعت عن ابن أَبي عِمْرَان يقول: يقال: إِنَّ الذي أَخرجه إِلى أَبي يوسف هو مالك، وسمعت أَبا حازم يذكر عن مالك أَنه قال: هو تَحَرِّي عبد الملك لِصَاعِ عمر.

ولأَبي حنيفة ومحمد ما رَوى النَّسائي عن موسى الجُهَنِي قال: أَتَى مجاهدٌ بِقَدَحٍ حَزَرْتُه ثمانيةَ أَرطال ـ أَي خَمَّنْتُهُ وقَدَّرْتُه ـ فقال: «حَدَّثَتْنِي عائشة أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يَغْتَسِل بِمِثْلِ هذا. وما روى أَحمد وأَبو داود عن أَنَسٍ قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ بماءٍ يكونُ رطلين، ويغتسل بالصاع، يعني مع الوضوء في ضِمْنِهِ. وما روى الدَّارَقُطْنِيّ في «سُننه» عن أَنس وعائشة: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأُ بالمُدّ برطلين، ويغتسل بالصَّاع ثمانية أَرطال.

(1)

في المخطوطة: ثُلُثًا.

ص: 548

وجَازَ مَنَوَان بُرًّا.

===

قلت: وأَجْمَعُوا على أَنَّ الصَّاعَ أَرْبَعَةُ أَمداد. وما روى ابن أَبي شيبةَ عن يَحْيَى بن آدم قال: «سمعت حسن بن صالح يقول: صَاعُ عمر ثمانيةُ أَرطال» . قال شَرِيك: «أَكثر مِنْ سبعةِ أَرطال، وأَقل من ثمانية» .

وقيل: أَبو يوسف وَجَدَ الصَّاعَ خَمْسَة أَرطال وثُلُثاً بِرَطْل المدينة، وأَبو حنيفة يقول: الصاعُ ثمانيةُ أَرطال بِالبَغْدادي: وهي تَعْدِل خَمْسة أَرطال وثُلُثاً بالمدني، لأَن الرَّطل المدني ثلاثون إِستاراً، والبغدادي عشرونَ إِستاراً، والإِستار ـ بكسر الهمزة ـ: ستةُ دراهمَ ونِصْف، (وقيل:)

(1)

وهو الأَشبه، لأَن محمداً لم يذكر في المسأَلة خلاف أَبي يوسف، ولو كان لَذَكَرَهُ على المعتاد، وهو أَعْرَفُ بمذهبه.

وحَاصِلُهُ أَنَّ النِّزَاع لَفْظِيٌّ، والحق أَنه تَحْقِيقِيٌّ يحتاج إِلى أَمْرٍ تَوْفِيقي.

وأَما قول صاحب «الهداية» : والصَّاع عند أَبي حنيفةَ ومحمد ثمانيةُ أَرطال بالعراقي. وقال أَبو يوسف: خَمْسَةُ أَرطال وثُلُثُ رطل، وهو قول الشافعيّ، لقوله عليه الصلاة والسلام:«صَاعُنا أَصْغَرُ الصِّيعَان» ، فليس بِمَعْرُوفٍ. نعم روى ابنُ حِبَّان عن العلاء، عن أَبيه، عن أَبي هريرة: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قِيل له: «يا رسولَ الله صَاعُنا أَصغر الصِّيعان، ومُدُّنَا أَكبر الأَمداد» ، فقال عليه الصلاة والسلام:«اللهم بَارِك لنا في صاعِنا، وبارِك لنا في قليلِنا وكثيرِنا، واجْعَلْ لنا مَعَ البركةِ بَرَكَتَيْنِ» . قال ابن حبان: وفي تَرْكِهِ عليه الصلاة والسلام الإِنكارَ عليهم حيث قالوا: «صاعُنا أَصغر الصِّيعان» ، بيانٌ وَاضِحٌ أَنَّ صاعَ المدينة أَصغر الصِّيعان.

(وجَازَ مَنَوَانِ بُرَّاً

(2)

) لأَنهما عَدْلُ نِصْفِ صاع من بُرَ وَزْناً، والوزنُ هو المُعْتَبَرُ في الصَّاعِ فيما رَوَى أَبو يوسف عن أَبي حنيفة، لأَن اختلاف العلماء في مقدارِ الصَّاعِ أَرْطَالاً دليل على اعتبار الوزن، وعن محمد المُعْتَبَرُ الكَيْلُ، لأَن الآثار جاءت بِلَفْظِ الصَّاعِ وهو اسمُ الكَيْلِ المَخْصوصِ، والمَنُّ: أَربعون إِستاراً.

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

مَنَوَان: جمع مَنّ، والمَنُّ مِكْيالٌ سعته رطلان عراقيَّان، رهو ما يساوي 815.39 غرامًا. معجم لغة الفقهاء، ص: 460، ومختار الصحاح، ص: 265، مادة (منن).

ص: 549

[شُرُوط وُجُوبِ الفِطْرَةِ]

وتَجِبُ عَلَى حُرٍّ مُسْلِمٍ له نِصَابُ الزَّكَاةِ وإِنْ لَمْ يَنْمُ، وبهِ تَحْرُمُ الصدقةُ. وتَجِبُ الأُضحيةُ وَنَفَقَةُ القَرِيبِ لِنَفْسِهِ وطِفْلِهِ فَقِيرًا، وخَادِمِهِ مِلْكًا ولو مُدبرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَو كَافِرًا،

===

(شُرُوط وُجُوبِ الفِطْرَةِ)

(وتَجِبُ) الفِطْرَةُ. وفي البخاري: وقال أَبو العالية وعطاء وابن سيرين: تُفْتَرض (عَلَى حُرَ) لا عبدٍ، ليتحققَ التمليكُ، فإِنَّ العبد لا يملِك لو مُلِّك، فكيف يَمْلِك؟ (مُسْلِمٍ) لِيَكُونَ له قُرْبة وثوابَ عبادةٍ لا تصح إِلاَّ بِنِيَّةٍ، والكافر ليس له ذلك. (له نِصَابُ الزَّكَاةِ) من أَيِّ مالٍ كان لا ما دونه، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم «لا صدَقَةَ إِلاَّ عن ظَهْرِ غِنَى، واليَدُ العُلْيا خَيْرٌ مِنْ اليَدِ السُّفْلَى، وابدأْ بِمَنْ تَعُول» . رواه أَحمد عن أَبي هريرة. والمعنى: إِلاَّ عن غِنَى، فكلمة «ظهر» مقحمة، والغِنَى الشَّرْعي: نصابٌ فَاضِلٌ عن حَوَائجه الأَصلية. (وإِنْ لَمْ يَنْمُ) لأَن الفِطْرة إِنما وجبت بقدرة ممكنة، والنمو إِنما هو شرط فيما وَجَبَ بقدرةٍ ميسرة، كالزكاة.

وقال مالك والشافعي: تجب الفطرة على مَنْ يملك ما زاد على قوتِ يومِه لِنَفْسِه وعياله، لقوله عليه الصلاة والسلام:«أَدُّوا صاعاً من قمحٍ، أَوْ صَاعَاً مِنْ بُرَ ـ شك حمَّاد ـ عن كل اثنين، صغير أَوْ كبير، ذَكَر أَوْ أُنثى، حُرَ أَوْ مملوكٍ، غَنِيَ أَوْ فقيرٍ. أَمَّا غَنِيُّكُم فيزكيه اللهُ، وأَمَّا فَقِيرُكُم فَيَرُدُّ اللهُ عليه أَكثرَ مِمَّا يُعْطِي» . رواه أَحمد.

قلنا: وقد ضُعِّفَ بالنُّعمان بن راشد، ولو صَحَّ لم يُقَاوِم ما رويناه في الصحة، مع أَنَّ ما لا ينضبط كثرةً من الروايات المشتَمِلة على التقسيم المذكور ليس فيها الفقير، فكانت تلك روايةً شاذةً، فلا تُقْبلُ، لا سيما وهي مُخَالِفةٌ للقياسِ، لأَن مَنْ يجب عليه شيءٌ لا يجوز له أَخْذُه، ولحديث:«لا صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنَى» .

(وبِهِ) أَي بهذا النَّصاب (تَحْرُمُ الصدقةُ) أَي أَخذُها (وتَجِبُ الأُضحيةُ وَنَفَقَةُ القَرِيبِ) أَي يتعلق الوجوب بوجوده (لِنَفْسِهِ) متعلق بـ: يجب الأَول، أَي تجب الفطرةُ على الحُرِّ لأَجل نَفْسِه غَنِيَّاً (وطِفْلِهِ فَقِيراً) لأَن الأَصل في الوجوب رأْسه وهو يَمُونُه مَوْناً كاملاً ويَلِي عليه ولاية تامة، فكذلك ما كان في معناه من أَولاده الصغار الفقراء (وخَادِمِهِ مِلْكاً) احترز به عن خَادِمه بإِجَارَةٍ أَوْ إِخْدَام.

(ولو مُدبَّر أَوْ أُمَّ وَلَدٍ) لأَنَّ الولاية والمُؤَن لا ينعدمان بالتدبير والاستيلاد، وإِنما تختل بهما المالية من حيث إِنهما لا يُبَاعان (أَوْ كَافِراً).

ص: 550

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وقال مالك والشافعيُّ وأَحمد: لا فطرة لأَجل العبد الكافر، لما في الصحيحين من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زكاة الفِطْر من رمضان على الناس صاعاً من تمر، أَوْ صاعاً من شعيرٍ، على كلِّ حُرَ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى من المسلمين.

قلنا: قال الشيخ في «الإِمام» : وقد اشتهرت هذه اللفظة أَعني: قوله صلى الله عليه وسلم «مِنْ المسلمين» من رواية مالك، وقد رواه غيرُ واحدٍ عن نَافعٍ، فلم يقولوا

(1)

فيه «من المسلمين» ، منهم: الليثُ بن سعد، وعبيد الله بن عمر، وحديثهما في «صحيح مسلم» ، وأَيوب السَّخْتِياني وحديثه في «الصحيحين» ، كُلُّهم رَوَوْهُ عن نافع، عن

(2)

ابن عمر فلم يقولوا فيه: من المسلمين، ومشى على تفُّرده بها جماعةٌ، ولكنه ليس بصحيح، فإِنه قد تابعه سبعة من الثقات منهم: عمر بن نافع، والضحاك بن عثمان، ويونس بن يزيد.

فحديث عمر رواه البخاري في «صحيحه» عنه، عن أَبيه نافع، عن ابن عمر قال:«فرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفِطْر صَاعاً مِنْ تَمْر، أَوْ صاعاً مِنْ شعيرٍ، على العبد والحر، والذكر والأُنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأَمر بها أَنْ تُؤدّى قبل الصلاة» .

وحديث الضحاك رواه مسلم عن نافع، عن ابن عمر قال: فرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفِطْرِ من رمضانَ على كل نَفْسٍ من المسلمين: حُرَ أَوْ عبدٍ، رجلٍ أَوْ امرأَةٍ، صغيرٍ أَوْ كبير، صاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شعيرٍ.

وحديث يونس رواه الطحاوي في «مُشْكِلِهِ»

(3)

عنه: أَنْ نافعاً أَخبر قال: قال عبد الله بن عمر: فرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الناس زكاةَ الفِطْر من رمضانَ صاعاً من تَمْر، أَوْ صاعاً من شعيرٍ على كُلِّ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرَ أَوْ عَبْدٍ مِنْ المسلمين.

ولنا إِطلاق ما رَوَى الدَّارَقُطنيّ ثُم البيهقيّ من حديث قاسم بن عبد الله بن عامر ابن زُرَارَة بِسَنَدِهِ، عن نافع، عن ابن عمر قال: أَمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصدقةِ الفِطْر عن الصغيرِ والكبيرِ، والحرِّ والعبد، مِمَّنْ تمونون. قال الدَّارقُطَنِيّ: رفعه القاسم. هذا، وهو ليس بالقوي، والصواب أَنه موقوفٌ. وروى أَيضاً من حديث علي بن موسى، عن أَبيه، عن جَدِّه، عن آبائه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بنحوه.

(1)

في المطبوعة: يقرأ، وما أثبتناه من المخطوطة.

(2)

سقط من المطبوعة.

(3)

أي في كتابه: "شَرح مُشْكِل الآثار".

ص: 551

لا لِزَوْجَتِهِ

===

وروى البيهقي عن حاتم بن إِسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أَبيه، عن عليّ قال: فَرَض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، وزاد: صاعاً مِنْ شعيرٍ، أَوْ صَاعاً من تَمْر، أَوْ صَاعاً من زبيبٍ عن كل إِنسان. وصريح ما أَخرجه الدَّارَقُطْنِيّ في «سُننه» عن سَلاَّم الطويل، عن زيد العَمِّي، عن عِكْرِمةَ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَدُّوا صدقةَ الفِطْر عن كل صغيرٍ وكبيرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، يهوديَ أَوْ نصراني، حُرَ أَوْ مملوكٍ، نِصْفَ صاعٍ مِنْ بُرَ، أَوْ صاعاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ» . ثُم قال: لم يُسْنِده غير سَلاَّم الطويل، وهو متروك.

وما أَخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» عن ابن عباس قال: يُخْرِجُ زكاة الفطر عن كل مملوكٍ له وإِنْ كان يهودياً أَوْ نصرانياً. وما رواه الطحاوي في «المُشْكِلِ» عن ابن المبارك، عن ابن لَهِيعَة، عن عبيد الله بن جعفر، عن الأَعرج، عن أَبي هريرة قال: كان يُخْرِجُ الرجلُ زكاةَ الفِطْر عن كلِّ إِنسانٍ يَعُولُه: مِنْ صغيرٍ وكبيرٍ، حُرَ أَوْ عبدٍ، ولو كان نصرانياً، مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ، أَوْ صاعاً مِنْ تَمْرٍ. والتقييدُ بقوله:«مِنْ المسلمين» ، لا يعارض المطلق عندنا، لما عُرِف مِنْ عدم حَمْلِ المطلق على المقيد في الأَسباب، لأَنه لا تَزَاحُمَ فيها فيمكن العمل بهما، فيكون كل من المطلق والمقيد سبباً، بخلاف ما إِذا وَرَدَا في حُكْمٍ واحدٍ.

(لا لِزَوْجَتِهِ) لقصور الوقاية والمَؤُنة، لأَنه لا يلي عليها في غير حقوق الزوجية، ولا يمونها في غير الرواتب كالمداواة، ولأَن عليها الإِخراج عن عبيدها

(1)

، ونَفْسُهَا

(2)

أَقرب إِليها منهم، ومَنْ وجب عليه عَنْ غيرهِ لا يَجِبُ على غيره عنه. وأَوجبها مالك والشافعيُّ، لأَنه يمونها وله عليها مِلكٌ كمِلْكِ المولى على أُمِّ وَلَدِه، ولهذا لو أَدَّى عنها بغيرِ إِذْنِها، جاز.

قلنا: وجوب النفقة عليه ليس باعتبار الملك، بل في مقابلة احتباسها بِحَقِّه، على أَنَّ مِلْكَ النكاح ليس بملكٍ حقيقيَ بل هو ضروريٌّ لِشَرْعية الطلاق، بخلاف أُم الولد لاجتماع الولاية والمَؤُنة على الكمال، وجواز الدَّفْع عنها بغير أَمرها روايةٌ عن أَبي يوسف: فلنا أَنْ نمنع، ولئن سُلِّم فإِنما أَجْزَى عنها استحساناً لثبوت الإِذْن عادةً، والقياس أَنَّه لا يجوز كالزكاة.

(1)

في المطبوعة: عبيد، وما أثبتناه من المخطوطة.

(2)

سقط من المطبوعة.

ص: 552

وَوَلَدِهِ الكَبِيرِ وطِفْلِهِ الغَنِيِّ، بَل مِنْ مَالِهِ ومُكَاتَبِهِ وعَبْدِهِ للتِّجَارَةِ، وعَبْدٍ لَهُ أَبَقَ إِلَّا بَعْدَ عَوْدِهِ، وعَبْدٍ مُشْتَرَكٍ. وكذا العَبِيد مُشْتَرَكَةً خِلافًا لَهُمَا.

===

(وَوَلَدِهِ الكَبِيرِ) وإِنْ لزمه نفقته، لانعدام الولاية. وأَوجبها مالك والشافعيُّ لأَنه يمونه. (وطِفْلِهِ الغَنِيِّ) لعدم المُؤَن (بَلْ مِنْ مَالِهِ) أَي من مالِ الطفلِ، لأَنها أُجريت مجرى المَؤُنة فأَشبه النفقة، وهذا عند أَبي حنيفة، وأَبي يُوسف. وقال محمد وزُفَر: تجب صدقة فِطْر طفل الغني على أَبيه، لأَنها عبادةٌ وهو ليس مِنْ أَهْل وجوبها، فَحينئذٍ لو أَدَّى مِنْ ماله ضَمِنَ كالزكاة.

(ومُكَاتَبِهِ) لعدم الولاية الكاملة، ولا يجب على المُكَاتَب أَيضاً لِنَفْسِهِ لأَنه فَقِيرٌ، (وعَبْدِهِ للتِّجَارَةِ) لأَنه يجب عليه الزكاة بسببه، فلو وجبت الفِطْرة فيه لأَدَّى إِلى الثِّنَى في الزكاة: أَي التكرار، وقال صلى الله عليه وسلم «لا ثِنَى في الصدقة»

(1)

.

(وعَبْدٍ لَهُ أَبَقَ) ـ بصيغة الماضي أَوْ الفاعل ـ لعدم الولاية، وكذا إِذا أُسِر، أَوْ غُصِب، أَوْ جُحِد (إِلاَّ بَعْدَ عَوْدِهِ) لوجود الولاية والمُؤَن.

(وعَبْدٍ مُشْتَرَكٍ) بين اثنين لقصور الولاية والمُؤْنة في حَقِّ كُلِّ واحدٍ منهما. وأَوجبها مالك والشافعيُّ في العبيد الثلاثة كُلِّها لإِطلاق النصوص المتقدمة، ولأَن صدقة الفطر مؤنة الرأس لا تعلق لها بالمالية كالنفقة، أَلَا ترى أَنها تجب عن الولد الحر ولا مالية فيه، وزكاةُ المال تجب بسبب المال النامي، فكانا حَقَّيْنِ مختلفين يَجِبَانِ بسببينِ مختلفين: أَحدهما في الذمة: وهي الفطرة، حتى لا تسقط بعروض الفقر بعد الوجوب، والآخَر في المال: وهو بعضُ النِّصاب حتى تسقط بهلاك المال، فلم يكن بينهما تدافع كالأُجْرة والزكاة والنفقة. ولنا ما قدمناه، ولأَن الشرع بَنَى هذه الصدقة على المؤنة فقال:«أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُون»

(2)

، وهذا العبد مُعَدٌّ للتجارةِ لا للمؤنة والنفقة.

(وكذا العَبِيدِ) حال كونها (مُشْتَرَكَةً) عند أَبي حنيفة (خِلَافاً لَهُمَا) في المشهور عنهما، فإِنهما قالا: يجب على كُلِّ واحدٍ من الشريكين فطرة ما يَخُصّهُ من الرؤوس دون الأَشقاص

(3)

، حتى لو كان بين رجلين ثلاثة أَعْبُدٍ أَوْ خَمْسَةٌ، يجب على كل واحدٍ منهما صدقةُ عبدٍ أَوْ عَبْدَيْنِ، وهذا بناءً على صِحَّةِ قسمة الرقيق جبراً عندهما

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 3/ 218، كتاب الزكاة ..

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 161، كتاب الزكاة، باب إخراج الفطر عن نفسه وغيره ممن تلزمه مؤنته.

(3)

الشِّقْص: النَّصِبب في العين المُشْتركة من كُلِّ شيء. النهاية: 2/ 490.

ص: 553

وتَجِبُ بِطُلُوعِ فَجْرِ الفِطْرِ. وجَازَ تَقْدِيُمهَا. ولا تَسْقُط إِنْ أَخَّرَ.

===

وعدم صحة قسمتها عنده، فلم يملك كل واحدٍ منهما ما يُسَمَّى عبداً. وقيل: لا تجب الفِطرة في العبيد المُشْتَرَكَةِ باتفاق، لأَنَّ النصيب لا يجتمع قبل القسمة، فلم يتم رقبة لواحدٍ.

(وتَجِبُ) الفطرة (بِطُلُوعِ فَجْرِ) يوم (الفِطْرِ) فَمَنْ ماتَ قَبْلَه، أَوْ أَسْلَمَ بعده، أَوْ وُلِد، لا يجب لأَجله، ومَنْ أَسلم، أَوْ استغنى، أَوْ وُلِدَ له، أَوْ ملك عبداً قبله فعليه الصدقة.

وقال الشافعيُّ: تَجِبُ بغروبِ الشمس من اليوم الأَخير مِنْ رمضان، وعنه أَنَّها تَجب بطلوعِ الفجر. وعن مالك وأَحمد أَيضاً روايتان. ومَبْنَى الخِلاف على أَنَّ قول ابن عمر في الحديث السابق:«فرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صدقةَ الفِطْر من رمضانَ» . المراد به الفِطْرُ المعتاد في سائر الشهر، فيكون الوجوب بالغروب، أَوْ الفطر الذي ليس بمعتادٍ فيه، فيكون الوجوبُ بطلوع الفجر. لنا أَنه لو كان المراد الفِطْر المعتاد في سائر الشهر لوجب ثلاثونَ فِطْرَةً.

ثُم يُستحب إِخراجها بعد طلوع الفَجْر قبل صلاة العيد، لما رَوَى الحاكم في «علوم الحديث» من حديث ابن عمر قال:«كان يَأْمُرُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نُخْرِجَ صدقةَ الفِطْرِ قبل الصلاة، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُها قبل أَنْ يَنْصرِف إِلى المُصَلَّى ويقول: «أغنُوهُم عنِ السؤالِ في هذا اليوم» . ورواه أَبو داود عن ابن عمر، ولفظه:«أَمَرَنا عليه الصلاة والسلام بزكاةِ الفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خروجِ النَّاسِ إِلى الصلاة» .

(وجَازَ تَقْدِيمُهَا) على يوم الفطر مُطلقاً، وهو اختيار صاحب «الهداية». وقال خَلَف بن أَيوب: يجوز في رمضان ولا يجوز قبله، وهو اختيار الإِمام أَبي بكر محمد ابن الفضل، وهو الصحيح وعليه الفتوى، كذا في «الظهيرية». وقيل: يجوز في العَشْرِ الأَواخر لا قبله، وعند الحسن بن زياد لا يجوزُ تَعْجِيلُها أَصلاً، كذا في «الكافي» .

(ولا تَسْقُط إِنْ أَخَّرَ) عن يوم الفطر في الأَصح وإِنِ افتقر، لأَنها قُرْبَةٌ مالية، فلا تسقط بعد الوجوب إِلاَّ بالأَداء، كالزكاة. وعن الحسن أَنها تسقطُ بِمُضِيِّ يوم الفطر، لأَنها قُرْبةٌ اختصت بيوم العيد فَتَسْقُط بِمُضِيِّه، كالأَضحية. قلنا: لا تسقط بل ينتقل الوجوبُ إِلى التصدق بالقيمة، وهذا لأَن القُرْبة بإِراقة الدم غَيْرُ معقولةِ المعنى

(1)

، وإِنَّما عُرِفت شَرْعاً في أَيامٍ مخصوصةٍ، وَوَجْهُ القُرْبَةِ في التصدق مَعْقُولٌ: وهو سَدُّ خَلَّةِ

(1)

أي مدركة العِلَّة.

ص: 554

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

المحتاج، فلا يتقدر وقتُ الأَداء فيه بوقت دون وقت، كالزكاة.

ولو فَرَّقَ شخصٌ صدقةَ فِطْرِهِ على مسكينين لم يجزئه نظراً لظاهر: «أغنوهم» . وقال الكَرْخي: يُجزئه، وهو الصحيح لوجود الدفع إِلى المَصْرِف. ولو دفع جماعةٌ إِلى مِسكينٍ واحدٍ جاز على الصحيح، لأَنه بالنسبة إِلى كُلِّ مُعْطٍ مَصْرِفٌ. والله سبحانه وتعالى أَعلم.

ص: 555

‌كِتَابُ الصَّوْمِ

هو تَرْك الأَكَلِ والشُّرْب والوطئِ من الصُّبْحِ اإلى المَغْرِب، مَعَ النيَّة.

ويَصِحُّ أَداءُ رمضانَ وَقَضَاؤُه

===

كتاب الصَّوْمِ

كانت فرضيته بعدما صُرِفت القبلة إِلى الكعبة بشهرٍ، في شعبان، على رأْس ثمانية عشر شهراً من الهجرة. وسببه الشهر، لأَنه يضاف إِليه ويتكرر بِتَكَرُّرهِ، وكل يوم سبب لوجوب صومه، حتى إِذا بلغ الصبي في أَثناء الشهر يلزمه ما بقي لا ما مضى، لأَن الصيام يتفرق في الأَيام تفرُّق الصلوات في اليوم والليلة.

وهو لغةً: الإِمساك مطلقاً.

وشرعاً: إِمساك خاصٌّ (هو تَرْك الأَكلٍ والشُّرْب والوطاءِ من الصُّبْحِ اإلى المَغْرِب) أَي إِلى الغروب لقوله تعالى: {ثُمَّ أِتمُّوا الصيامَ إِلى الليل}

(1)

(مَعَ النيَّة) لتتميّزَ العبادة عن العادة، ولا بد مِنْ قَيْد «من أَهله» لِيخرج الحائض والنفساء. والمُعْتَبَرُ أَول طلوع عند الصبح عند جمهور العلماء، وقيل: استنارته، وهو مَرْوِيٌّ عن عثمان، وحذيفة، وابن عباس، وطَلْق بن علي، وعَطَاء بن أَبي رباح، والأَعْمَش. قال مَسْرُوق: لم يكونوا يَعدُّونَ الفجرَ فجركم، إِنَّما كانوا يَعدُّون الفجر الذي يملأُ البيوت. قال شمس الأَئمة «الحَلْوَاني»: الأَول أَحوط، والثاني أَرْفَق ـ أَي أوْسع ـ وللضعفاء أَوفق.

(ويَصِحُّ أَداءُ رمضانَ) ـ وهو فرض عين على كل مسلم عاقل بالغ أَداؤه، لقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ منكم الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه}

(2)

، (وَقَضَاؤُه) لقوله تعالى:{فمن كان مِنْكم مَرِيضاً}

(3)

الآية، وعلى فرضيته انعقد الإجماع، ولهذا يُكْفَرُ جَاحِدُه. قال تعالى:{يا أَيُّها الذين آمنوا كُتِب عليكمُ الصِّيامُ كما كُتِب على الذين مِنْ قَبْلِكُم لعلكم تَتَّقُون * أَيَّاماً معدودات}

(4)

، ثُمَّ بَيَّنَها بقوله:{شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فيه القرآنُ}

(5)

الآية. روى الطبراني عن قَتَادة (ودَغْفَل)

(6)

بن حَنْظَلة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كان على

(1)

سورة البقرة، الآية:(187).

(2)

سورة البقرة، الآية:(185).

(3)

سورة البقرة، الآية:(184).

(4)

سورة البقرة، الآية:(183 و 184).

(5)

سورة البقرة، الآية:(185).

(6)

في المطبوعة: غفل، وما أثبتناه من المخطوطة، وهو الصواب لموافقته ما في "تقريب التهذيب"، ص:201.

ص: 556

بِنِيَّةٍ

===

النصارى صومُ رمضانَ، وكان عليهم مَلِكٌ فَمَرِضَ، فقالوا: لئن شفاه اللهُ لَنَزِيدَنَّ عَشْراً، ثم كان عليهم مَلِكٌ بعده فتوجع، فقالوا: لئن شفاه اللهُ لنزيدَنَّ ثمانية أَيام، ثم كان بعد ذلك ملك فقالوا: نُتِمُّ هذه الأَيام، ونَجْعَلُ صومنا في الربيع، فصار خمسين يوماً».

وكذا صوم الكفارات فَرْضٌ لقوله تعالى في كَفَّارَتَيْ القتل والظِّهار

(1)

: {فَمَنْ لم يَجِد فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}

(2)

، وفي كفارة اليمين:{فَمَنْ لَمْ يَجِد فَصِيَامُ ثلاثةِ أَيَّامٍ، ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ}

(3)

، ولقوله عليه الصلاة والسلام للذي وَاقَع امرأته في رمضان:«صُم شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ»

(4)

. وكذا فَرْضُ المَنْذُورِ في الأَظهر لقوله تعالى: {وليُوفُوا نُذُورَهُم}

(5)

، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ:«أَوْفِ بِنَذْرِكَ»

(6)

. وقيل: إِنَّه واجب.

وشُرِطَ لوجوبِ أَداء رمضانَ: الصحةُ والإِقامةُ لما تلونا. وشَرْطُ صِحَّته: الطهارةُ من الحيض والنفاس ـ لما تقدم في بابه ـ لا الطهارةُ من الجنابة، لقوله تعالى:{فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ}

(7)

الآية.

(بِنِيَّةٍ) متجددة لكل يوم، لأَنه عبادة على حِدَة. وقال مالك في المشهور عنه، وهو رواية عن أَحمد: يكفي نيةٌ واحدة لجميع الشهر في أَول ليلة منه، لأَن صوم الشهر عبادةٌ واحدة، فتصح بنية واحدة، كصحة اعتكاف شهرٍ بنية واحدة. قلنا: إِنَّ صوم كل يوم عبادة على حِدَة، لِتَخَلُّلِ ليلةٍ غَيْرِ صَالحة للصوم بين كل يومين بخلاف اعتكاف شهر، فإِنَّ جميع أَوقاته صالحة له، ثم لو نوى عند الغروب لا يَصِحُّ، فلا بد أَنْ تقع في ليلةٍ.

(1)

الظِّهار: هو تحريمُ الرجل امرأته عليه بقوله: أنْتِ عليّ كَظَهْرِ أُمّي، معجم لغة الفقهاء، ص:297.

(2)

سورة المجادلة، الآية:(4).

(3)

سورة المائدة، الآية:(89).

(4)

أَخرجه الإِمام البخاري في "صحيحه" فتح البارى" 10/ 503، كتاب الأَدب (78)، باب التبسّم والضَّحك (68)، رقم (6085).

(5)

سورة الحج، الآية:(29).

(6)

أخرجه الإمام البخارى في صحيحه 4/ 284، كتاب الاعتكاف (33)، باب إذا نذر في الجاهلية أنْ يعتكف

(16)، رقم (2043).

(7)

سورة البقرة، الآية:(187).

ص: 557

قَبْلَ نِصْفِ النهارِ الشَّرْعِي

===

وجاز وُقوعُها (قَبْلَ نِصْفِ النهارِ الشَّرْعِي)، وهو من الفجر

(1)

إِلى الغروب. وَقَيَّدَ «النهار» بالشرعي لِدَفْعِ تَوَهُّم أَنَّ المراد النهار اللُّغوي، وهو من طلوع الشمس إِلى غروبها. وذلك لأَنه لا بد من وجود النية في أَكثر وقت الأَداء لقيامه مقام الكمال، ونصفه من طلوع الفجر إِلى وقت الضحوة الكبرى

(2)

، فتُشْتَرَطُ النية قبلها لِتَتَحَقَّقَ في الأَكثر، وهذا على الأَصح. وقيل: قيام الزوال. وقال مالك، والشافعي وأَحمد: يجب تعيين صوم الحاضر من الليل، إِلاَّ أَنَّ مالكاً يشترط تبييت النيّة من الليل في كل صوم: فرضاً ونفلاً.

وقال الشافعي، وأَحمد: في غير النَّفْل، لما في السنن الأَربعة من حديث ابن عمر، عن أُخته حفصة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له» .

هكذا لفظ أَبي داود والترمذي، ولفظ ابن ماجه:«لا صيام لِمَنْ لم يَفْرِض الصيام من الليل» ، وجَمَعَ النسائي بينهما، قال أَبو داود: ورواه الليث، وإِسحاق بن حازم عن عبد الله بن أَبي بكر بن عمرو بن حزم، عن الزّهْرِيّ مثله. وَوَقَفَهُ على حَفْصَةَ مَعْمَرٌ، والزُّبَيْر، وابن عُيَينة، ويونس الأَيلي، عن الزُّهْري. ورواه الترمذي عن يحيى بن أَيوب، عن عبد الله بن (أَبي بكر)

(3)

وقال: هذا حديث لا نعرفه مرفوعاً إِلاَّ من هذا الوجه. وقد روى نافع عن ابن عمر قوله، وهو أَصح.

وقال النَّسائي: الصواب عندنا أَنه موقوف، ولم يَرْوِ مالك في «الموطأ» إِلاَّ من كلام ابن عمر، وعائشة، وحفصة، وعلى تقدير ثبوته مَحْمُولٌ على نَفْي الكمال، ولأَن أَول أَجزائه مفتقر إِلى النية، لأَنه قُرْبةٌ كسائره، فإِذا خلا عنها بَطَلَ ذلك الجزء، فبطل الباقي ضَرُورَةً، لأَنه لا يتجزَّأُ.

ولنا ما في السنن الأَربعة عن ابن عباس قال: جاء أَعرابي إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: إِنّي رأَيتُ الهِلَال ـ قال الحسن في حديثه: يعني رمضانَ ـ فقال: أَتشهدُ أَنْ لا إِله إلااللهُ؟ قال: نعم، قال: أَتشهدُ أَنَّ محمداً رسولُ الله؟ قال: نعم، قال: يا بلالُ أَذِّن في الناس، فليصوموا». وأَما قول صاحب «الهداية»: لقوله عليه الصلاة والسلام بعدما شَهِدَ

(1)

أي الفجر الصادق.

(2)

الضحوة الكبرى: هي منْتَصف النهار الشرعي - وهو من الفجر إلى الغروب -. معجم لغة الفقهاء، ص 282.

(3)

في المطبوعة: بكرية، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 558

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الأَعرابي برؤية الهلال: «إِلاَّ مَنْ أَكَلَ فلا يأْكل بَقِيَّةَ يومه، ومَنْ لم يأْكل فَلْيَصُم» . فَغَيْرُ مَعْروف. نعم، ورد في الصحيحين عن سَلَمَةَ بنِ الأَكْوعِ: أَنه صلى الله عليه وسلم أَمر رجلاً من أَسْلَم: «أَذِّنْ في الناس أَنَّ مَنْ أَكل فَلْيَصُم بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» . ـ أَي فَلْيُمْسِك، كما في رواية ـ: ومَنْ لم يكن أَكَلَ فَلْيَصُم، فإِنَّ اليومَ يومُ عاشوراءَ».

وفيه دليل على أَنه كان أَمْرُ إِيجاب قبل نَسْخِه بِرَمَضَانَ، إِذْ لا يُؤْمَرُ مَنْ أَكَلَ بإِمساك بقية اليوم إِلاَّ في يوم مفروض الصوم، بخلاف قضاء رمضان إِذا أَفطر فيه، فعلم أَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ عليه صومُ يوم ولم ينوه ليلاً أَنَّه يجزئه نهاراً. وهذا بناءً على أَنه كان واجباً، لما في الصحيحين عن عائشة قالت:«كان يومُ عاشوراءَ يوماً تصومُهُ قُريشٌ في الجاهلية، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصومُه، فلما قَدِمَ المدينةَ صامَهُ وأَمر بصيامه، فَلَمَّا فُرِضَ رمضانُ قال: «مَنْ شاء صامه، ومَنْ شاء تَرَكَهُ» . قال الطحاوي: فيه دليل على أَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ عليه صومُ يومٍ ـ يعني كصوم رمضان، والنَّذْر المُعَيَّن ـ ولم يَنْوِهِ ليلاً، تجزئه النية نهاراً.

ولأَن الأَصل في النية مقارنتها للأداء، وإِنَّما جاز التقدم للضرورةِ، والضرورة موجودة في حَقِّ يوم الشك، وفي حَقِّ المجنون، والمُغْمَى عليه إِذا أَفاق نهاراً، وفي حَقِّ المسافر إِذا قَدِمَ نهاراً، ولا تندفعُ هذه الضرورة إِلاَّ بجواز النيةِ المتأخّرة، فَثَبَتَ أَنَّ الافتراض لا يمنعُ اعتبار النية مُجَزَّأَةً من النهار شرعاً، ويلزمه عدم الحكم بفساد الجزء الذي لم يُقْرَن

(1)

بها في أَول النهار عن الشارع، بل اعتباره موقوفاً إِلى أَنْ يَظْهَرَ الحالُ من وجودها بعده أَمْ لا، فإِذا وُجِدَتْ ظَهَرَ اعتبارُه عبادة لا أَنَّه انقلب صحيحاً بَعْدَ الحُكْم بالفساد. فبطل ذلك المعنى الذي عيَّناه

(2)

لقيام ما رويناه دليلاً على اعتباره شرعاً، وحُمِلَ مرويهما على نفي الكمال كما في أَمثاله من نحو:«لا وضوء لمن لم يُسَمِّ اللهَ»

(3)

، «ولا صلاة لجار المسجد إِلاَّ في المسجد»

(4)

، أَوْ على تقديم النيّة على الليل، فإِنه لو نوى قبل غروب الشمس أَنْ يصوم غداً لا يصح، وإِنَّما

(1)

في المطبوعة: يقارن، وما أثبتناه من المخطوطة.

(2)

وفي المخطوطة: عنياه.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه 1/ 75، كتاب الطهارة (1)، باب في التسمية على الوضوء (48)، رقم (101). والترمذي في سننه 1/ 37، 38، كتاب الطهارة (1)، باب ما جاء في التسمية (20) رقم (25، 26).

(4)

أخرجه الدارقطني في سننه 1/ 420.

ص: 559

ويَصِحُّ أَداءُ رمضانَ بِنِيَّةِ نَفْلٍ أَو بِنِيَّة مُطْلَقٍ وبنِية واجبٍ آخر، إِلَّا في سَفَرٍ أَو مَرَضٍ. وكَذَا النَّفْلُ، والنَّذْرُ المُعَيَّن إِلَّا في الأخير.

===

يصح إِذا نوى بعد الغروب. أَوْ معناه لم ينوِ أَنَّه صومٌ من الليل، ثم نوى الصوم من وقت النية على أَنَّه عام خُصَّ منه النفل، والعام متى خُصَّ منه شيء، صَحَّ تَخْصِيصُهُ بالقياس، فَتَحْمِلُه على صوم القضاء، والنذر المطلق، والكفارات.

ثم لا فرق فيما ذكرنا من جواز النية قبل نصف النهار، بين المسافر والمقيم، والصحيح والسقيم، لأَنه لا تفصيل في ذلك من (الدليل)

(1)

. وقال زفر: لا يجوز الصوم للمسافر والمريض إِلاَّ بنية من الليل، لأَن الأَداء غير مُسْتَحَقَ عليهما وقت السفر والمرض، فصار كالقضاء.

(ويَصِحُّ أَداءُ رمضانَ بِنِيَّةِ نَفْلٍ (أَوْ بِنِيَّة)

(2)

مُطْلَقٍ) بالإِضافة أَي مطلق الصوم، وفي بعض النسخ بنيةٍ مطلقةٍ ـ بالوصف ـ فلا بد من تقييدها للصوم، وهو روايةٌ عن أَحمد. وقال مالك، والشافعي: لا يصح أَداء رمضان إِلاَّ بنية على التعيين كما في الصلاة، ولنا في جواز النية المطلقة أَنَّ شهر رمضان مُتَعَيِّنٌ للفرض، ولا يسع غيره، والإِطلاق في المُتَعَيِّنِ تَعْيِينٌ، كَمَنْ نادى زيداً، المنفردَ في الدار بـ: يا إِنسان، فإِنَّ فيه تعيناً له، وأَمَّا في نيَّة النَّفْل فلأَن وصفه بالنفل خطأ فيبطل، ويبقى الإِطلاقُ، وهو تعيين.

(وبِنِية واجبٍ آخر، إِلاَّ في سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ) فإِن المسافر والمريض إِذا نويا في رمضان واجباً آخر يقع عن ذلك الواجب، وهذا عند أَبي حنيفة. وقال أَبو يوسف ومحمد: يقع عن رمضان، لأَن الرُّخْصَةَ لأَجل المشقة، فإِذا تحمل المعذور التَحَقَ بِغَيرِهِ، ولأَبي حنيفة: أَنهما شَغَلا الوَقْتَ بالأَهَمِّ، لمؤاخذتهما بذلك الواجب في الحال، حتى لو مات فيها يأَثم، وتأَخر مؤاخذتهما برمضان إِلى إِدراك عدةٍ من أَيام أُخَر، حتى لو مات قبل إِدراك العِدَّة، ليس عليه شيء.

(وكَذَا) أَي مثل رمضان فيما تقدم (النَّفْل، والنَّذْرُ المُعَيَّنُ إِلاَّ في الأَخير) وهو الواجب الآخر، والفَرْقُ بينَ رَمضانَ والنَّذْرِ المُعَيَّنِ: أَنَّ رمضان مُتَعَيِّنٌ بِتَعْيينِ الشارع، وله

(3)

إِبطال صلاحية ما نواه (بالتَّعيين لغير رمضان من الصيام، وأَمَّا النذر المعَيَّن فمتعين بتعْيين)

(4)

الناذر، وله إِبطال صلاحيته لما له وهو النفل، لا لما عليه وهو الواجب الآخر.

(1)

في المطبوعة: الليل، وما أثبتناه من المخطوطة.

(2)

في المطبوعة: وبنِيَّة، وما أثبتناه من المخطوطة.

(3)

أي للصائم.

(4)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوطة.

ص: 560

وشُرِطَ للقضاءِ والكَفَّارة والنَّذر المُطْلَق أَنْ يُبَيِّتَ النيةَ، ويُعَيِّنَ. والنَّفْل يَوْمَ الشَّكِّ أَفْضَلُ لِمَنْ وافَقَ صومًا يَعْتَادُهُ وللخَوَاصِّ، ويفْطِرُ غَيْرُهم بَعْدَ نِصْفِ النهار.

===

(وشُرط للقضاءِ والكَفَّارة والنَّذر المُطْلَق أَنْ يُبَيِّتَ النيةَ) من الليل (ويُعَيِّنَ)، لأَنَّ هذه الأَشياء ليس لها وقت مُعَيَّن، فيجب تعيينها من الابتداء، وكذا النفل عند مالك، لإِطلاق ما روينا من قوله عليه الصلاة والسلام:«لا صِيَامَ لمَنْ لم يَفْرِضْهُ من الليل»

(1)

. ولنا ما في مسلم، عن عائشة قالت رضي الله عنها: دخل عليَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا، فقال: إِنِّي إِذاً صائم» ، وأَجاز الشافعي في قولٍ نِيَّتَهُ بعد الزوال أَيضاً، فيصيرُ صائماً من حين نوى، إِذْ هو مُتَجَزِّاءٌ عنده لكونه مبنياً على النشاط، ولعله ينشط بعد الزَّوال، ولكن الصحيح اشتراط حصول شروط الصوم من أَول النهار.

(والنَّفْلُ يَوْمَ الشَّكِّ): وهو ما استوى فيه طرفُ العلم والجهل، وذا بأَنْ غُمَّ هِلَالُ رمضانَ في اليوم التاسع والعشرين، فيقع الشَّكُّ في اليوم الثلاثين أَنه من شعبان أَوْ رمضان، نظراً إِلى قوله صلى الله عليه وسلم «الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا»

(2)

، وحبس إِبهامه في المرة الثالثة.

وقوله: «هكذا وهكذا وهكذا» ، (أَفْضَلُ لِمَنْ وافَقَ صوماً يَعْتَادُهُ)، كذا لِمَنْ صام ثلاثة أَيام أَوْ أَكثر من آخر شعبان، وأَراد تكميل شعبان (وللخَوَاصِّ) كالقاضي، والمفتي من العلماء.

(ويُفْطِرُ غَيْرُهم بَعْدَ نِصْفِ النهار) الشرعيِّ نفياً لتُهْمَةِ ارتكاب المنهيِّ عنه. وقال أَحمد، وجماعةٌ: إِذا كان بالسماء غَيْمٌ فليس بيوم شك موصوف بالمنهيّ

(3)

عنه، ويجب صومه عن رمضان. وقال مالك: هو يوم الشك، ويجوز صومه إِذا لم يَقْصِد به استقبال رمضان، أَوْ وَافَقَ صوماً كان يصومه، ولا يجوز أَنْ يصومه على

(4)

أَنه من رمضان على طريق الاحتياط. وقال الشافعي: يكره التطوع إِذا انتصف شعبان، لما روى أَبو داود، والنسائي:«إِذا انتصف شعبان فلا تصوموا» . لكن قال أَحمد: إِنَّه غير

(1)

أخرجه ابن ماجه في سننه 1/ 542، كتاب الصيام (7)، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل (26)، رقم (1700).

(2)

أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه 2/ 761، كتاب الصيام (13)، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (2)، رقم (16 - 1080).

(3)

في المطبوعة: بالنهي، وما أثبتناه من المخطوطة.

(4)

سقط من المطبوعة.

ص: 561

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

محفوظ.

ولما روى أَبو داود والنَّسائي عن حذيفة: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَقَدَّمُوا الشهر حتى تَرَوا الهِلال، أَوْ تُكْمِلوا العدَّة، ثُمَّ صوموا حتى تروا الهلال أَوْ تُكْمِلُوا العِدَّة» . وما في أَبي داود والترمذي عن ابن عباس مرفوعاً: «لا تصوموا قبل رمضانَ، صوموا لرؤيته وأَفطروا لرؤيته، فإِنْ حال بينكم وبينه سحابٌ فكمِّلوا العِدَّة ثلاثين، ولا تستقبلوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالاً» . وصححه الترمذي. وما في البخاري: «لا تصوموا حتى تَرَوا الهِلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإِنْ غُمَّ عليكم فاقدروا له» . وفي رواية له: «صوموا لرؤيته، وأَفطروا لرؤيته» . وما في السنن الأَربعة عن صِلَة بن زُفَر قال: كنا عند عمَّار في اليوم الذي شُكَّ فيه، فأَتى بشاةٍ مَصْلِيَّةٍ

(1)

فَتَنَحَّى بعض القوم، فقال عمَّار:«مَنْ صام هذا اليوم فقد عَصَى أَبا القاسم» .

وما رواه الخطيب في «تاريخ بغداد» من قول ابن عباس: «مَنْ صام اليوم الذي شك فيه، فقد عَصَى اللهَ ورسولَه» . وما رواه البَزَّارُ من حديث أَبي هريرة: «نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ستة أَيام من السنة: يوم الأَضحى، ويوم الفِطْر، وأَيام التشريق، واليوم الذي يشك فيه من رمضان. وأَما قول صاحب «الهداية» : للحديث المرفوع، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:«مَنْ صام يوم الشك فقد عصى أَبا القاسم» ، فَرَفْعُهُ غير معروف، وإِنَّما هو من قول عمار كما تقدم، والله سبحانه أَعلم.

ولنا ما في الصحيحين من حديث عمار بن ياسر، أَنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل:«هل صمت من سَرَرِ شَعْبَان؟» قال: لا، قال:«وإِذا أَفطرت فصم يوماً مكانه» . وسَرَر الشَّهْر ـ بفتح السين وكسرها ـ: آخِرُه، كذا قال جمهور أَهل لغة الحديث: وسُمِّي بذلك لاسترار القمر فيه واختفائه، ذكره المُنْذِري. وربما كان ليلةً وربما كان ليلتين، وقد استدل به الإِمام أَحمد على وجوب صوم يوم الشك.

وعندنا هذا يفيد استحبابه لا وجوبه، لأَنه مُعَارَض بنهي التقدم بصيام يوم أَوْ يومين، فيحمل على كون التقدم بصوم رمضان جَمْعاً بين الأَدلة وهو واجب ما أَمْكن، ويصير حديث السَّرر للاستحباب، ولأَنَّ المعنى الذي يُعْقَل فيه هو أَنْ يختم شعبان بالعبادة، كما يستحب ذلك في كل شهر. فهو بيان أَنَّ هذا الأَمر ـ وهو صوم الشهر ـ بعبادة الصوم لا يختص بشهر شعبان، كما قد يتوهم بسبب اتصال الصوم الواجب به.

(1)

مَصْلِيَّة: أي مشوية. النهاية: 3/ 50.

ص: 562

وَكُرِهَ إنْ نَوَى واجبًا

===

وفي الكُتُب الستة عن أَبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «لا تَقَدَّمُوا رمضان بصوم يوم أَوْ يومين إِلاَّ رَجُلٌ كان يصُومُ صَوْماً فَيَصُومُه» . وفي لفظ أَبي داود: «إِلاَّ أَنْ يكون صوماً يَصُومُه رَجُلٌ فَلْيَصُمْ ذلك الصوم

(1)

».

وفي «المحيط» : الصوم قبل رمضان بيوم أَوْ يومين مكروه، ولا يكره بثلاثة لهذا الحديث، يعني إِذا لم يكن قصده الاستقبال، والله تعالى أَعلم بالحال.

وأَما حديث عمار، وابن عباس فموقوف، فلا يُعَارِض حديث السَّرَر، والأَولى حمله على إِرادة صومه عن رمضان، وكأَنَّه فَهِم من التَّنَحِّي

(2)

قَصْدَ ذلك، فلا تَعَارُضَ حينئذ أَصلاً. وعلى هذا التقدير لا يكره صومُ واجب آخر في يوم الشك، كما قال مالك والشافعي: لأَن المنهي عنه صوم رمضان. وهو غَيْرُ بَعِيدٍ من كلام «الكافي» وشارحي «الهداية» ، حيث ذكروا أَنَّ المراد من التقدم التَّقَدُّم بصوم رمضان، قالوا: ومقتضاه أَنْ لا يُكْرَه واجبٌ آخر أَصلاً، وإِنما كُرِه لصورةِ النَّهْي في حديث العصيان، وحقيقة هذا الكلام على وجه يصح أَنْ يكون معناه أَنُ يُتْرَك صَوْمُه عن واجب آخر تورّعاً. هذا ملخص كلام بعض أَهل التحقيق والله ولي التوفيق.

وأَمَّا قول صاحب «الهداية» : لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يُصَامُ اليومُ الذي يُشَكُّ فيه أَنَّه من رمضان، إِلاَّ تَطَوُّعاً» ، فَغَيْرُ معروف.

(وكُرِهَ) الصومُ تنزيهاً (إِنْ نوى) يوم الشك (واجباً) سواء كان ذلك الواجب رمضان أَوْ غيره، لكنَّ كراهة رمضان أَشد من كراهة غيره، فإِنْ ظهر أَنَّ ذلك رمضان صح لوجود أَصل

(3)

النية، وإِنْ ظهر أَنَّه من شعبان فإِنْ كان نوى رمضان يكون تطوعاً، وإِنْ أَفطر لا قضاء عليه، لأَنه ظانٌّ، وإِنْ كان نوى واجباً غير رمضان، قيل: يُكْرَهُ تطوعاً لأَنه منهيٌّ عنه فلا يتأَدَّى به الواجب، وقيل: يُجْزِئه عن الذي نواه وهو الأَصح.

(1)

عبارة المخطوط: فليصم ذلك اليوم، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في سنن أبي داود 2/ 750 كتاب الصوم (14) باب فيمن يصل شعبان برمضان (11)، رقم (2335).

(2)

التَّنَحِّي المارّ في حديث الشاة المَصْلِيَّة التي أتى بها عمار يوم الشك، فتنحَّى بعض القوم .... فكأن عمارًا فهم من هذا التنحي أنهم صائمون عن رمضان فقال لهم: من صام هذا اليوم أي بنية رمضان فقد عصى أبا القاسم.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

ص: 563

ولا صَوْمَ إِنْ نَوَى: إِنْ كان الغَدُ مِن رَمَضَانَ فَأَنا صَائِمٌ، وإِلَّا فلا. وكُرِه إِنْ رَدَّدَ بَيْنَ صومِ رمضانَ وغَيْرِه، فإِنْ كان الغَدُ مِنْ رمضانَ يَقَع عنه وإِلَّا فَنَفْلٌ.

ومَنْ رَأَى هلالَ صَوْمٍ أَوْ فِطْرٍ وَحْدَه يَصُومُ وإِنْ رُدَّ قَوْلُه

===

(ولا صَوْمَ إِنْ) رَدَّدَ في أَصل الصوم بأَنْ (نَوَى: إِنْ كان الغَدُ مِنْ رَمَضَانَ فَأَنا صَائِمٌ، وإِلاَّ) أَي وإِنْ لم يكن الغد من رمضان (فلا،) أَي فلست بصائم، وإِنما لا يكون بهذه النية صائماً لعدم الجزم فيها.

(وكُرِه إِنْ رَدَّدَ) في وصف الصوم بأَنْ رَدَّدَ (بَيْنَ صومِ رمضانَ وغَيْرِه) سواء كان ذلك الغيرُ واجباً أَوْ نَفْلاً مثل أَنْ يقولَ: إِنْ كان الغَدُ من رمضان فأَنا صائمٌ عنه، وإِنْ كان من شعبان فأَنا صائم عن قضاء، أَوْ أَنا صَائم تطوّعاً. وإِنَّما كُرِهَ ذلك للترديد بين مكروهين في المسأَلة الأُولى، وبين مكروه وغير مكروه في الثانية.

(فإِنْ كان الغَدُ مِنْ رمضانَ يَقَع عنه) لوجود الجزم في أَصْل النية، وإِنْ لم يوجد في وَصْفِها (وإِلاَّ) أَي وإِنْ لم يكن الغد من رمضان (فَنَفْلٌ) أَي فصومه نَفْلٌ. أَمَّا إِذا رَدَّدَ بين رمضان وَوَاجبٍ، فَلأَنَّ الجَزْمَ بالوصْفِ شَرْطٌ في واجب غير رمضان ولم يوجد، فلم يقع عنه، ومطلق النية موجود ـ وهو كافٍ في النفل ـ، فوقع عنه. وأَمَّا إِذا رَدَّدَ بين رمضانَ ونَفْلٍ، فَلأَنَّ الغد لما لم يكن من رمضان لَغَا ذِكْر رمضان وبقي مطلق النية، وهو كاف في النفل، ولو أَفسد هذا النفل لا يلزمه قضاؤه، لأَنه لم يَشْرع فيه مُلْتَزِماً، وإِنَّما شَرَعَ فيه مُسْقِطاً

(1)

. وأَما مَنْ جَهِلَ كونه رمضانَ، فنوى صوماً غيره، فإِنَّه يقع عن رمضان اتفاقاً، لوجود السبب

(2)

وتعينه

(3)

له

(4)

.

(ومَنْ رَأَى هلالَ صَوْمٍ أَوْ فِطْرٍ وَحْدَه) أَي منفرداً (يَصُومُ وإِنْ رُدَّ قَوْلُه.) أَي لم يقبل القاضي شهادته، أَما هِلال رمضانَ فلأَنه شهد الشهر، وقال تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}

(5)

وأَمَّا هلالَ الفِطْرِ فللاحتياط، ولأَن الناس لم يفطروا في هذا اليوم، وقد روى أَبو داود، والترمذي عن أَبي هريرة: أَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصومُ

(1)

أي لم يَشْرع في صيام هذا اليوم ملزمًا نفسه بصيام النفل، إنَّما شرع فيه إسقاطًا للفرض، فلما لغا ذِكْرُ الفرض وقع الصيام نفلًا.

(2)

وهو شهود جزء من الشهر.

(3)

أي وتَعَيُّن هذا اليوم لصيام الفرض.

(4)

سقط من المطبوعة.

(5)

سورة البقرة، الآية:(185).

ص: 564

وإِنْ أَفْطَرَ يَقْضِي ولا كَفَّارَةَ عليه. وقُبِلَ خَبَرُ عَدْلٍ ولو قِنًّا، أَوْ امرأَةً للصومِ مَعَ غَيْمٍ.

وشُرِطَ مع غيمٍ لِلْفِطر نِصَابُ الشهادة، ولَفْظُهَا، والعدالة لا الدَّعْوَى. وبِلا غَيْمٍ جَمْعٌ عَظِيمٌ فِيهما.

===

يومَ تَصُومُون، والفِطْرُ يوم تُفْطِرُون».

(وإِنْ أَفْطَرَ) مَنْ رأَى وحده هلال الصوم أَوْ الفِطْر (يَقْضِي) استدراكاً لما فاته (ولا كَفَّارَةَ عليه) في الصحيح، لأَن الكفارة تندراء بالشبهة وقد وجدت، أَما (في هلال الصوم)

(1)

في حَقِّ مَنْ رُدَّتْ شهادَتُه، فلأَنه صار مكذَّباً شَرْعاً، وفي حقِّ مَنْ لم تُرَدُّ شهادَتُه: بأَنْ رأَى ولم يشهد، أَوْ بأَنْ أَفْطَر قبل أَنْ يُرَدّ وفيه خلاف، لأَن هذا اليوم لم يَصُمْه الناس، وأَما في هلالِ الفِطْر فلأَنه يومُ عيدٍ عنده، ولو أَكمل ثلاثين يوما لا يُفْطِر إِلاَّ مع الإِمام للاحتياط، ولو أَفطر لا كَفَّارة عليه اعتباراً للحقيقةِ التي عنده.

(وقُبِلَ خَبَرُ عَدْلٍ ولو قِنَّاً، أَوْ امرأَة للصومِ) فقط (مَعَ غَيْمٍ) يمنع الرؤية، أَوْ دخانٍ، أَوْ غُبارٍ كذلك. وشَرَطَ مالك، والشافعيّ في أَحد قوليه: عَدْلين، لأَنه شهادة يُشْتَرَط فيها العدد. ولنا أَنْ هذا خبر ديني فَتُشترط فيه العدالة دون العدد والحرية والذكورة، كرواية الأَخبار، ولهذا لم يشترط فيه لفظ الشهادة، كما نبَّه عليه بقوله «خبر عدل» . وقَيَّد «بالعدل» لأَن الفاسق لا يُقْبَلُ خَبَرُهُ في الديانات التي يمكن تلقيها من العدول، ويُقْبَلُ فيما لا يمكن، كالإِخبار بنجاسة الماء وطهارته، وقول الطحاوي: عدلاً كان أَوْ غيره، أَراد بغير العَدْل المَسْتُور، وهو مَنْ لم يُعْرَفْ بِعَدَالَةٍ ولا فِسْقٍ.

وفي «المحيط» : ينبغي أَنْ يُفَسِّرَ الرائي جهة الرؤية، فإِنِ احتُمِل انفرادهُ برؤية تُقْبَل وإِلاَّ فلا. وفي «الخَانِيَّة»: تقبل شهادة الواحد على الواحد، وشهادة المحدود في قَذْف بعد التوبة. يعني في هذه المسأَلة على ظاهر الرواية، وعن أَبي حنيفة لا تُقْبَل، لأَنها شهادة مِنْ وَجْه.

(وشُرِطَ مع غيمٍ لِلْفِطر نِصَابُ الشهادة،) وهو رجلان، أَوْ رجل وامرأَتان (ولَفْظُهَا، والعدالة)، والحرية وعدم الحَدِّ في قذف لأَنَّها شهادة بما فيه نفع للعباد وهو الفطر، فكانت كشهادة سائر حقوقهم (لا الدَّعْوَى) أَي لا يشترط في هذه (الشهادة)

(2)

الدعوى، لما فيها مِنْ حَقّ الله تعالى، كما لا تشترط في الشهادة بِعِتْق الأَمَة، وطلاق الحرَّة.

(وبِلَا غَيْمٍ) ونحوه شُرِطَ (جَمْعٌ عَظِيمٌ فِيهما) أَي في الصوم والفطر، لأَن

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوطة.

ص: 565

وبَعْدَ صَوْمِ ثلاثين بِقَوْلِ عَدْلَيْنِ حَلَّ الفِطْرُ، وبقَوْلِ عَدْلٍ لا. والأَضْحَى كالفِطْرِ.

===

انفراد الجمع القليل بالرؤية يوجبُ ظَنَّ غَلَطِهِم، فيوجب التوقف فيه حتى يكون جمعاً كثيراً، بخلاف ما إِذا كان بالسماء غَيْمٌ، فإِنَّه قد يَنْشق الغيم فيتفق لبعض الناس النظر إِلى الهلال دون الباقين. والجمع العظيم: قيل: أَهْل مَحَلَّة، وعن أَبي يوسف: خمسون رَجُلاً كالقَسَامَةِ

(1)

، وعن محمد: أَنه قَدْر ما يحصل للإِمام العِلْمُ بخبرهم، بأَنْ يتواتر الخبر من كل جانب، والاكتفاء باثنين روايةٌ عن أَبي حنيفة. والأَصح تفويضه إِلى رأْي الإِمام لتفاوت الناس صِدْقاً.

(وبَعْدَ صَوْمِ ثلاثين بِقَوْلِ عَدْلَيْنِ) متعلق

(2)

بصوم (حَلَّ الفِطْرُ) عَامِلٌ

(3)

في «بَعْدَ» أَي، وحَلَّ بعد صوم ثلاثين بقول عدلين الفِطْرُ، لأَنه يَثْبُت بشهادة عدلين (وبِقَوْلِ عَدْلٍ لا) أَي لا يَحِلُّ الفِطْرُ، لأَنه لا يثبت بشهادةِ الواحد، فلا يُفْطِرُون احتياطاً. وأَجاز محمد للناس الفِطْر بعد ثلاثين يوماً بِقَوْل عدلٍ واحدٍ، كَثُبُوتِه بشهادة عدلين.

(والأَضْحَى كالفِطْرِ) أَي وحُكْمُ هِلالِ الأَضحى كحكم هلال الفِطْرِ، فيثبت بمثل ما يثبت به، لأَنه تَعَلَّق به حقُّ العباد وهو التوسع بلحوم الأَضحى. ولو رأَى الهلال نهاراً، فهو للَّيلة الآتية، لأَنه يحتمل أَنْ يكون من الماضية، أَوْ من الآتية فيُجْعل من الآتية وهو قول أَبي حنيفة، ومحمد، ومذهب مالك، والشافعي، وأَحمد، والليث، والأَوزاعي، وقال به من الصحابة عمر، وابن مسعود، وأَنس بن مالك. روى عبد الرزاق في «مُصَنَّفِهِ» ، عن مَعْمَر، عن الأَعْمَش، عن أَبي وائل قال: كتب إِلينا عمر أَنْ الأَهِلَّة بَعْضُها أَكبر من بعض، فإِذا رأَيتم الهلال نهاراً، فلا تُفْطِروا حتى يشهد شاهدان أَنَّهما رأَياه بالأَمس ـ أَي بليلة ـ. ولقوله صلى الله عليه وسلم «صوموا لرؤيته، وأَفطروا لرؤيته»

(4)

، فوجب سَبْقُ الرؤية على الصوم والفطر. والمفهوم المتبادر منه الرؤية عند عشية آخر كل شهر عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

(1)

القَسَامة: تقدم شرحها ص 463، التعليقة رقم (3).

(2)

أي الجار والمجرور "يقول عَدْلين".

(3)

أي: فعل "حَلَّ" عامل في الظرف "بعد".

(4)

أَخرجه الإمام البخاري في صحيحه (فتح الباري) 4/ 119، كتاب الصوم (30)، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيتمُ الهلالَ فصُومُوا .... "(11)، رقم (1909).

ص: 566

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ورُوِي عن عمر، وهو قول علي، وعائشة، ومذهب الثوري، وأَبي يوسف: إِنْ رُئِيَ

(1)

قبل الزوال فللماضية في الصوم والفطر، لأَن الشيء يأْخذ حكم ما قَرُبَ منه، ولأَن الظاهر أَنه لا يُرَى قبل الزوال إِلاَّ (وهو)

(2)

لليلتين. وقال الحسن بن زياد: إِنْ غاب بعد الشَّفَقِ فللماضية، وإِنْ غاب قبله فللراهنة.

وإِذا ثبت الهلال في مصر لزِم الصوم سائر الناس، فَيُلْزَمُ أَهلُ المشرق برؤية أَهل المغرب في ظاهر المذهب، واختاره أَكثر المشايخ، لعموم الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم «صوموا» مُعَلَّقاً بِمُطْلقِ الرؤية في قوله:«لرؤيته» ، وبرؤية قوم يصدق اسم الرؤية، وما يتعلق به من عموم الحكم فيجب العموم احتياطاً، هذا بناء على عدم الاعتبار باختلاف المطالع.

والأَشبه من حيث الدليل هو الاعتبار باختلافها كما في دخول وقت الصلاة، لأَن السبب شهود الشهر، فإِذا انعقد بالرؤية في حق قوم، لا يلزم أَنْ ينعقد في حق غيرهم مع اختلاف المطالع، كما لو زالت الشمس، أَوْ غربت على قوم دون آخرين، يجب الظهر أَوْ المغرب على الأَولين دون أُولئك لعدم انعقاد السبب في حقّهم.

واختار صاحب «التجريد» وغيره من المشايخ اعتبار اختلاف المطالع لما روى الجماعة إِلاَّ البخاري من حديث كُرَيْب، أَنَّ أُمَّ الفَضْل بَعَثَتْهُ إِلى معاويةَ بالشام، قال: فَقَدِمْتُ الشامَ، وقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، واستهل عليّ رمضانُ وأَنَا بالشَّامِ، فرأَيتُ الهِلَالَ ليلةَ الجُمُعَة، ثم قَدِمْتُ المدينةَ في آخرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلني ابنُ عَبَّاس، قال: متى رأَيتم الهلال؟ قلت: ليلة الجمعة، فقال: أَنت رَأَيْتَه؟ قلت: نعم، ورَأَوهُ النَّاس فَصَامُوا، وصَامَ معاويةُ، فقالَ: لكنَّا رأَينا ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أَوْ نراه ـ أَي الهلال ـ فقلت: أَولا تكتفي برؤية معاويةَ وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أَمَرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم

شك أَحدُ رواتِهِ في نكتفي، بالنون أَوْ بالتاء، ولا شك أَنَّ هذا أَولى لأَنه نَصّ، وذلك يحتمل أَنْ يكون المراد: أَمَرَ أَهل كل مطلع بالصوم إِذا رَأَوْه. هكذا قال بعض المحققين، وأُجيب بأَنه جاز أَنْ يكون مذهب ابن عباس أَنَّه من باب الشهادة، فلذا لم يُقْبَل قولُ كُرَيْب وحده، ويكون قوله: هكذا أَمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعني باعتبار قوله: «فإِنْ غُمَّ عليكم فأَكملوا» .

(1)

في المطبوعة: رأى، وما أثبتناه من المخطوطة.

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

ص: 567

‌فَصْلٌ فيما يُفسِدُ الصَّومَ وفيما لا يُفْسِدُهُ

مَنْ جَامَعَ أَوْ جُومِعَ في أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، أَوْ أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ غِذَاءً، أَوْ دَوَاءً عَمْدًا، قَضَى وكَفَّرَ كالمُظَاهِرِ

===

فصلٌ فيما يُفْسِدُ الصوم وفيما لا يُفْسده

(مَنْ جَامَعَ) حَيَّاً من الآدمِيِّين، (أَوْ جُومِعَ في أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ) سواء وُجِدَ منه إِنْزَالٌ أَوْ لم يُوجَد.

(أَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ غِذَاءً) ـ بكسر الغين وبالذال المعجمتين وبالمد ـ ما يُتَغَذَّى به

(1)

من الطعام والشراب.

(أَوْ دَوَاءً): وهو ما يُتَدَاوَى به (عَمْداً) ـ أَي متعمداً ـ في نهار رمضان. (قَضَى) استدراكاً لما فاته (وكَفَّرَ) لكمال الجناية. ولِمَا في الصحيحين عن أَبي هريرة، أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رجلاً أَفْطَر في رمضانَ أَنْ يُعْتِقَ رقبةً، أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِيناً. ولما رواه الدَّارَقُطْنِيّ عن أَبي مَعْشَر، عن محمد بن كَعْب القُرَظي، عن أَبي هريرة، أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ في رَمَضَانَ، فأَمَرَهُ

(2)

النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْتِقَ

الحديث، إِلاَّ أَنَّه أَعَلَّهُ بأَبي مَعْشَر.

قلنا: يَعْضُدُه ما مَرَّ في الصحيحين عنه. وقال الشافعي، وأَحمد: لا كفارة على مَنْ أَكل أَوْ شرب عمداً لأَن الكفارة وردت في الجِماع على خلاف القياس، فلا يلحق به غيره. وحديث أَبي هريرة هذا محمول على الإِفطار بالجماع، لأَنه رواه نَحْوُ عشرين عن الزُّهْرِي بلفظ:«وقع على امرأَته في رمضان» .

ولنا أَنَّ الكفارة تعلقت بالجِماع لكونه جنايةَ إِفطار في رمضان على وجه الكمال وهو التعمد، وهذا المعنى موجود في الأَكل والشرب عمداً، وما روى الدَّارَقُطْنِيّ من حديث أَبي هريرة، أَنَّ رجلاً أَكلَ في رمضانَ، فأَمَرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْتِقَ رقبةً، أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ، أَوْ يُطْعِمَ ستينَ مِسْكيناً.

(كالمُظَاهِرِ) أَي ككفارةِ المُظَاهِرِ على الترتيب دون التخيير، لقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

في المطبوعة: فأمر، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 568

وهِيَ بإِفسادِ أَداءِ رمَضَانَ لا غَيْرَ.

===

أَفْطَر في رمضانَ فَعَلَيْهِ ما على المُظَاهِر». رواه الدَّارَقُطْنِيّ بمعناه وقد تَقَدَّمَ. وهو قول الشافعي، وأَظْهَرُ الروايتين عن مالك، وأَحمد، لما روى الجماعة عن أَبي هريرة قال: جاء رجل إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: هَلَكْتُ يا رسول الله، قال:«وما أَهْلَكَكَ؟» قال: وَقَعْتُ على امرأَتي في رمضانَ وأَنَا صَائِمٌ، قال:«هَلْ تَجِدُ ما تَعْتِقُ رقبةً؟» قال: لا، قال:«فهل تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قال: لا، قال:«فهل تَجِدُ ما تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِيناً؟» قال: لا، قال:«اجلس» ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بعَرَقٍ فيه تمر، فقال:«تَصَدَّقْ بهذا» ، قال: على أَفْقَر مِنَّا؟ فما بَيْنَ لَابَتَيْهَا

(1)

ـ يريد الحَرَّتَيْنِ

(2)

ـ أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فضَحِكَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وفي رواية أَنْيَابُه ثُمَّ قال:«اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» . يعني والكفارة تبقى في ذِمَّتِهِ إِلى وقت الإِيسار.

والعَرَق: بفتحتين: المِكْتَل، وهو الزَّنْبّيِل

(3)

العظيم الذي يَسَعُ ثلاثينَ صاعاً. وفي رواية: «وقَعْتُ على امرأَتي وأَنَا صَائِمٌ» . وفي أُخْرَى: «وَطِئْتُ امرأَتي في رمضانَ نهاراً» . وفي رواية أَبي داود، قال صلى الله عليه وسلم «صُم يوماً مكانه». وأَما قول صاحب «الهداية» في آخر الحديث:«يُجْزِئُكَ ولا يُجْزِاءُ أَحداً بعدك» ، فغير معروف.

(وهِيَ) أَي الكَفَّارة في الصوم (بإِفسادِ أَداءِ رمَضَانَ لا غَيْرَ) أَي لا بإِفساد قضائه، ولا بإِفساد أَداء غيره، لأَنها لِهَتْكِ حُرْمَة رمضانَ، بخلاف الكفارة في الحج فإِنها لهتك حرمة العبادة، ولذلك تجب في الحج الفرض وغيره. وكَفَتْ عندنا كفارةٌ واحدة عن وطآت في أَيام لم يتخلل بينها تَكْفِير، ولَوْ كانت في رمضانين على الصحيح، وقيل: في رمضانَ واحد. وأَما إِنْ تَخَلَّلَ التكفير، فلا يكفي كفارة واحدة في ظاهر الرواية، لأَن التداخل قَبْلَ الأَداء لا بَعْدَه كما في الحدود. وأَوجب مالك والشافعي لكل يَوْمٍ كَفَّارَةٌ، لأَنَّ السَّبَبَ تَكَرَّرَ، فيتكرر حُكْمُه كما لو حَنِثَ في يَمِينَيْنِ. وهذا

(4)

لأَن معنى العبادة راجح فيها حتى يتأَتّى بما هو عبادة، والتداخل في العقوبات المَحْضَة

(5)

.

ولنا أَنها شُرِعَت لمعنى الزَّجر، وأَنَّه حاصل بالأَول، فلا يفيده الثاني

(6)

، لأَنَّه

(1)

أي ما بين لابتي المدينة.

(2)

الحرَّة: هي الأرض ذات الحجارة السّود. النهاية: 1/ 365.

(3)

الزَّنْبيلِ: القُفَّة. المعجم الوسيط، ص: 388، مادة (زَبَل).

(4)

أي التداخل.

(5)

يعني أن التداخل لا يكون إلا في الحدود لكونها عقوبة زاجرة وليس فيها معنى التعبد، أما الكفارات فلا تتداخل لكون معنى العبادة فيها.

(6)

أي التكفير الثاني.

ص: 569

وَقَضَى فَقَط إِنْ أَفْطَرَ خَطَأً، أَوْ مُكْرَهًا، أَوْ يَظُنُّ

===

تحصيل الحاصل. وهذا

(1)

مبني على الدرء بالشبهة، والاقتصار في الحدود على حدَ واحدٍ إِنَّما كان باعتبار شبهة عدم الفائدة لحصول الانزجار بالأَول منها فكذا هنا، بخلاف اليمين، لأَنها شرعت جبراً لهتك حرمة الاسم عندنا والهتك متعدد، بخلاف الكفارة هنا، لأَنها للزَّجر لا للجبر.

وتجب الكفارة على المُطَاوِعَةِ

(2)

عندنا، ونفاها مالك والشافعي عنها. وفي قولٍ للشافعي يجب عليها، ويتحملها الزوج عنها. وله قول ثالث كمذهبنا. وتَسْقُطُ الكفارةُ اتفاقاً لَوْ طَرَأَ في يوم الإِفسادِ حَيْضٌ، أَوْ نِفَاسٌ، أَوْ مَرَضٌ مبيحٌ للفِطْر، لأَنَّ الكفَّارة إِنَّما تَجِبُ بالإِفطار في صوم مُسْتَحَقَ، واستحقاقه في يوم واحد لا يتجزّأْ ثُبُوتاً وسُقُوطاً، فَبِعُرُوضِ المرض والحيض في آخره تَمَكَّنَتْ شبهةُ انتفاء الاستحقاق في أَوَّلِهِ.

(وَقَضَى فَقَط) ـ أَي من غَيْرِ كفارة ـ (إِنْ أَفْطَرَ خَطَأً) بأَن كان ذَاكِراً للصَوْمِ غَيْرَ قَاصِدٍ للفِطْرِ. كما لو تَمَضْمَضَ فَدَخَلَ الماءُ في حلقه وإِنْ لم يُبَالِغْ، وبه قال مالك، وشَرَطَ الشافعي وجودَ المبالغة للإِفطار على الأَصح، لأَنَّه حصل من غير قَصْدِه في إِقامة فِعْلٍ وهو سُنَّةٌ فكان معذوراً كالناسي، بخلاف ما إِذا زاد على السُّنَّةِ بالمبالغة، لأَنَّه حينئذ لا يكون مقيماً قُرْبةً. وعن ابن أَبي ليلى: أَنَّه إِذا توضّأَ للمكتوبة لا يَفْسُد صومُه، وإِن توضأَ للنَّافلةِ يَفْسُدُ، لأَنه مضطرّ إِلى الأَول دون الثاني.

(أَوْ مُكْرَهاً) وبه

(3)

قال مالك، وعند ( 3) الشافعي: لا يَقْضِي فيهما لقوله تعالى: {ولَيْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ فيما أَخْطَأْتُم به}

(4)

، وقوله صلى الله عليه وسلم «رُفِعَ عن أُمَّتِي: الخَطَأُ، والنسيانُ، وما استُكْرِهُوا عليه». رواه الطبراني عن ثَوْبَان، والبيهقي عن ابن عمر بلفظ:«وُضِعَ» . ولنا أَنَّ المُفْطِرَ وَصَلَ إِلى جوفه فَيَفْسُدُ صَوْمُه، وهو القياس في الناسي، إِلاَّ أَنَّا تَرَكْنَاهُ لما سيأْتي، وصار كما إِذا أُكْرِه على أَنْ يَأْكُلَ بيده، وأُجِيبَ عن الآيةِ والحديثِ بأَنَّ المرادَ بهما نَفْيُ الإِثم في الآية، ورَفْعُ الإِثمِ وَوَضْعُه في الحديث.

(أَوْ يَظُنُّ) ـ بصيغة المضارع ـ أَي أَفْطَرَ ظانَّاً، وفي نسخة صحيحة: بصيغة

(1)

أي كفارة الإفطار.

(2)

المُطَاوَعَة: المُوَافَقَة. مختار الصحاح، ص: 168، مادة (طوع). والمراد أن الكفارة تجب على زوجته لموافقتها.

(3)

سقط من المطبوعة.

(4)

سورة الأحزاب، الآية:(5).

ص: 570

أَنَّه لَيْلٌ، أَوْ وَصَلَ دَوَاءٌ إِلى جَوْفِهِ، أَوْ دِمَاغِهِ مِن غَيْرِ المَسَامِّ،

===

الجار والمجرور، أَي أَفْطَرَ بِظَنَ (أَنَّه) أَي وقت الأَكل (لَيْلٌ) ثم تَبَيَّنَ أَنَّهُ نهار، وهذا شامل للمسأَلتين:

إِحداهما أَنْ يأْكل وهو يَظُنُّ أَنَّ الفجر لم يَطْلُع، وكان قد طَلَعَ.

وثانيهما: أَنْ يأْكُلَ وهو يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ غَرَبَتْ، وكانت لم تَغْرُب، فيجب عليه الإِمساك بقيةَ يومه قضاءً لِحَقِّ الوقت وحرمته، لأَن إِفطارَهُ أَوَّلاً حَقٌّ مضمون بالمِثْلِ، ولا يجبُ الكفارة لأَنَّ الجناية قَاصِرة، ولقول أَسْمَاءَ: أَفْطَرْنَا يوماً في رمضان في غَيْمٍ في عهد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْس، قال: أُسامَةُ قلت لِهِشَام: أُمروا بالقَضَاءِ؟ قال: وبدٌ

(1)

من ذلك؟ رواه أَبو داود.

(أَوْ وَصَلَ) من غير الفَمِ (دَوَاءٌ إِلى جَوْفِهِ أَوْ دِمَاغِهِ) بأَنْ دَاوَى آمَّة: وهي الشَّجةُ التي تبلغ أُم الدِّمَاغِ (مِنْ غَيْرِ المَسَامِّ) قَيَّدَ به لأَنه لو وصل إِلى جوفه من المَسَامِّ لا يقضي، كما لو اغتسل بالماء البارد ووجد برده في كبده، وكما لو ادَّهَنَ فوجد أَثر الدهن في بوله، أَوْ اكتحل فوجد طَعْمَ الكُحْلِ في حَلْقِهِ، أَوْ لونِهِ في بُزَاقِهِ.

وصورة وصول الدواء من غير الفم إِلى الجوف: أَنْ يتداوى بِحُقْنَةٍ، أَوْ سَعُوط: وهو الصَّبُّ في الأَنف، أَوْ يُدَاوي جائفةً: وهي الجِرَاحة التي تكون في الجوف، أَوْ تقطر امرأَة دواء في قُبُلِها وهو الصحيح، أَوْ يقطر رَجُلٌ في إِحليله فَيَصِلُ إِلى المَثَانَةِ عند أَبي يوسف خلافاً لأَبي حنيفة، ولو دخل الماء باطنه بالاستنجاء يقضي، ولو أَقطر في أُذُنِهِ دهناً قضى، ولو أَقْطَرَ ماء لا يقضي، ولو استنشق الماء فوصل إِلى دماغه قضى.

وإِنما قلنا: إِنْ الوصول إِلى الجَوْفِ والدماغ من غير الفم والمسام موجب للقضاء وحده، لوجود معنى الفطر وهو صلاح البدن وعدم صورته. وفي «الهداية»: ومَنِ احْتَقَنَ، أَوْ اسْتَعَطَ، أَوْ أَقْطَرَ في أُذُنِهِ أَفْطَر لقوله صلى الله عليه وسلم «الفِطْرُ مِمَّا يَدْخُل» ، رواه البيهقي في «سننه الكُبْرَى» عن ابن عباس أَنَّه ذَكَرَ عندَهُ الوضوءَ مِنَ الطعام، فقال: الوضوءُ مِمَّا خَرَجَ وليس مِمَّا دخل، وأَمَّا الفطر فممَّا دخل. ورُوِيَ عن عليَ من قوله، ورُوِي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا يَثْبُت.

(1)

المعنى: لا بد من قضاء. فتح الباري 4/ 200.

ص: 571

أَو ابْتَلَعَ حَصَاةً، أَوْ تقَيَّأَ مِلأَ فيهِ، لا إِنْ غَلَبَهُ، أَو أفطَرَ نَاسِيًا،

===

(أَوْ ابْتَلَعَ حَصَاةً) وكذا ما في معناها

(1)

ممَّا لا يُتَغذَّى به، ولا يُتَدَاوَى كالحديد لوجود صورة الفطر وهو الإِدخال من الفم إِلى الجوف دون معناه، ولو مضغ لقمة ناسياً فتذكر فابتلعها، قال أَبو الليث: إِنْ ابتلعها بعد إِخراجها فلا كفّارة عليه لأَنها شيء تعافه النفس، وإِنِ ابتلعها قبل إِخْرَاجِها فعليه الكفارة.

(أَوْ تَقَيَّأَ مِلأِ فيهِ) أَمَّا القضاءُ فلِمَا روى أَصحاب السُّنَنِ الأَربعة من حديث أَبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ ذَرَعَهُ القيءُ ـ أَي سَبَقَهُ وغَلبه ـ وهو صَائِمٌ فليس عليه القضاءُ، ومَنِ استقاءَ عَمْداً فَلْيَقْضِ» . وقال الدَّارَقُطْنِيّ: رواتُه كُلُّهُم ثِقَات. وأَما عدمُ الكفارة فَلِعَدَمِ صورةِ الفِطْر. قَيَّدَ «بملأ الفم» ، لأنه لو تَقَيَّأَ دونه لا يَقْضي عند أَبي يوسف لعدم الخروج حُكْماً، ويقضي عند محمد، وهو الظاهر لإِطلاقِ الحديثِ السابقِ، (لا إِنْ غَلَبَهُ) أَي لا يقضي إِنْ غَلَبَ القيء ولو أَنه ملأَ الفم.

(أَوْ أَفطَرَ نَاسِياً) أَي لا يَقْضِي إِنْ أَفْطَرَ نَاسياً بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ جِمَاع، وهو قول الشافعي. وقال مالك: عليه القضاء دون الكفارة. وقال الأَوزاعي، والليث: يجب القضاء في الجِماع دون الأَكل والشُّرْب. وقال أَحمد: يجب القضاء والكفارة في الجِماع، ولا شيء في الأَكل والشرب. لنا ما رواه الشيخان وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَسِي وهو صَائِم فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَه، فإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وسَقَاه» .

وما روى ابن حِبَّان، وابن خُزَيمَة في «صَحِيحَيْهِما» والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، من حديث أَبي هريرة، أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ أَفْطَرَ في رمضانَ ناسياً فلا قضاء عليه، ولا كَفَّارَة» . وروى ابنُ حِبَّان في «صحيحه» ، والدَّارَقُطْنِيّ في «سُنَنِه»: أَنَّ رجلاً سأَل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقال: إِنِّي كنت صائماً فَأَكَلْتُ وشَرِبْتُ ناسياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَتِمَّ صَوْمَكَ فَإِنَّ اللهَ أَطْعَمَكَ وسَقَاكَ». وزاد الدَّارَقُطْنِي في لفظه:«ولا قضاء عليك» ، وفي لفظ (له)

(2)

: «إِذا أَكَلَ الصَّائِمُ نَاسِياً أَوْ شَرِبَ نَاسِياً، فإِنَّما هو رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ إِليه، فلا قضاء عليه» . وقال: إِسناده صحيح.

وإِذا ثبت هذا في الأَكل والشُّرْبِ ثَبَتَ في الوِقَاع دَلالَةً، للاستواء بين الكل في قيام الصوم بالكَفِّ عن الأَكل

(3)

مع أَنه

(4)

دونهما

(5)

في المناقضة. والنسيان يَغْلِبُ في

(1)

في المطبوعة: معناه، وما أثبتناه من المخطوطة.

(2)

مما بين الحاصرتين زيادة من المخطوطة.

(3)

في المطبوعة: الكل، وما أثبتناه من المخطوطة.

(4)

أي الوقاع.

(5)

أي الأكل والشرب.

ص: 572

أَوْ احْتَلَمَ،

===

الصوم لأَنه ليس له حالةُ مُذَكِّرَةٌ أَنَّه فيه، بخلاف الصلاة فإِنَّ لها هيئةً مذكرةً أَنَّه فيها، فلا يغلب النسيان فيها فلا تلحق به، فيبقى على خلاف القياس، ولا فَرْق بين الفرض والنفل، لأَنَّ النَّصَّ لم يفصِّل.

وعن سفيانَ أَنه إِذا أَكل أَوْ شرب ناسياً لم يُفْطِر، وإِنْ جامع ناسياً أَفطر. وَوَجْهُهُ أَنَّ الجِمَاعَ ليس في معناهما، لأَن زمانَ الصوم زمانُ الأَكل والشرب عادة، (فقد)

(1)

يُبْتَلى فيه المرء بالنسيان جَرْياً على مُقْتَضَى العادة، وليس وقت الجماع عادة، فقلَّ أن يُبْتَلى فيه، فافترقا. وجوابه ما قدمناه. ولو أَكَل عامداً بعد أَكْلِه ناسياً لا كفارة عليه وإنْ علم ببقاء الصومِ في ظاهر الرواية عن أَبي حنيفة، وعنه أَنَّه تجب، وبه قالا، لأَنه اشتباه بلا شبهة، وهذا لأَنَّ ظَنَّهُ مَدْفُوع لقوله صلى الله عليه وسلم «تمَّ على صَوْمِكَ»

(2)

فلا يبقى شبهة، وَوَجْهُ الظاهر عنه قِيَامُ الشُّبْهَةِ الحُكْمِيةِ نظراً إِلى القِيَاسِ، ولا تنتفي هذه الشبهةُ بالعلم، لأَن خبر الواحد لا يُوجِبُ العلم إِنما يوجب العمل، فلا تنتفي به الشبهةُ.

(أَوْ احْتَلَمَ) لما روى الترمذي، عن أَبي سعيد الخُدرِيّ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ لا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الحِجَامَةُ والقَيْء ـ أَي الغالب ـ والاحْتِلامُ» . وفي سنده عبد الرحمن بنُ زيد بن أَسْلَم وهو ضعيف. ورواه البَزَّارُ في «مسنده» عن ابن عباس قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثةٌ لا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: القيءُ، والحجامةُ، والاحتلام» . ثم قال: وهذا من أَحْسَنِها إِسناداً، وأَصَحِّهَا إِلاَّ أَنَّ عبد العزيز لم يكن بالحافظ. ورواه الطبراني عن ثَوْبَان، أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وذَكَر الحديث. وقال: لا يُرْوَى هذا الحديثُ عن ثَوْبان إِلاَّ بهذا الإِسناد، وقد تَفَرَّدَ به ابنُ وَهْب، فَقَدْ ظهر أَنَّ هذا الحديث يجِب أَنْ يرتقي إِلى درجة الحَسَنِ لِتَعَدُّدِ طُرُقِهِ، وضَعْفُ إِسناده إِنَّمَا هو مِنْ قِبَلِ الحِفْظِ لا العدالة، (فالتضافر دليل الإِجادة في خصوصه)

(3)

. ومما يؤيده روايةُ أَبي داود: «لا يُفْطِرُ مَنْ قاء، ولا مَنْ احْتَلَم، ولا مَنْ احْتَجَم» . لقول ابن عباس: احتجم

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوطة.

(2)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 4/ 155، كتاب الصوم (30)، باب الصائم إذا أكل

(26)، رقم (1923) ومسلم في صحيحه 2/ 809، كتاب الصوم (13)، باب أكل الناسي وشربه

(33)، رقم (171 - 1155). بلفظ: "

فليتم صومه

"، ولابن حبان في صحيحه (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) 8/ 288 - 289، كتاب الصوم، باب قضاء الصوم، رقم (3522)، بلفظ "أتم صومك".

(3)

في المطبوعة: فالتظافر في خصوصه دليل الإِجادة، وما أثبتناه من المخطوطة و"فتح القدير" 2/ 256.

ص: 573

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

النبيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ. رواه البُخَاري.

وقول عبد الرحمن بن أَبي لَيْلَى: حَدَّثَنِي رجلٌ مِنْ أَصْحَابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحِجَامَةِ والمُوَاصلة

(1)

ولم يُحَرِّمْهُمَا إِبقاء على أَصحابه. رواهما أَبو داود، وقال أَحمد: يُفْطِرُ الحاجِمُ والمحجوم، لقوله صلى الله عليه وسلم «أَفطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُوم» ، حين أَتى على رَجُلٍ يَحْتَجِمُ في رمضانَ. رواه أَصْحَابُ السُّنَنِ وغَيْرُهُم، وهو منسوخ بما روينا. وقد بسطنا الكلام عليه في «المرقاة شرح المشكاة» .

فلو ظَنَّ الصَّائِمُ أَنَّ الحِجَامَةَ مُفْطِرة فَتَعَمَّدَ الفِطْر بعدها قَضَى وكَفَّرَ، لأَنَّ الظن ما استند إِلى دليلٍ شرعي، إِلاَّ إِذا أَفتاه به فَقِيهٌ يراها مفطرة، كالحنابلة، وبعض أَهل الحديث، فحينئذ لا كفَّارة عليه، لأَن الواجب على العامي الأَخْذُ بِفَتْوى المُفْتي، فتصير الفتوى شبهة في حَقِّه وإِنْ كانت خطأً في نفسها، أَوْ سَمِعَ الحديث ولم يَعْرف تأْويلَه على المذهب، لأَنَّ قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون أدنى درجةً من قول المُفْتِي، وقولُ المفتي صَلُحَ عُذْراً، فَقَوْلُ الرسول صلى الله عليه وسلم أَوْلى.

وعن أَبي يوسف إِنَّها

(2)

تَجِبُ، لأَن العامي إِذا سَمِع حديثاً فليس له أَنْ يأْخذ بظاهره، لجواز أَنْ يكون مصروفاً عن ظاهره، أَوْ منسوخاً، وتجب الكفارة إِنْ عَرَف تأْويله لانتفاء الشبهة، وتأْويله أَنَّه صلى الله عليه وسلم مَرَّ بهما وهما يغتابان آخَرَ فقال صلى الله عليه وسلم ذلك

(3)

، أَي ذهب ثواب صومهما بالغِيبة. ويدل عليه أَنَّه عليه الصلاة والسلام سَوَّى بين الحَاجِمِ والمَحْجُوم، ولا خلاف أَنَّه لا يَفْسُدُ صَوْمُ الحاجم.

لا يُقَالُ: إِنَّ الأَوزاعي خَالَفَهُ فتُورثُ

(4)

الشبهةَ، كخلاف مالك في النسيان، لأَن خلافه إِنَّما اعْتُبِر لموافقةِ القياس، وخلَاف الأَوزاعي مخالف للقياس فلا يُورِثُ شبهة، أَوْ إِنَّهُ

(5)

منسوخ لما في البخاري، عن ابن عباس:«أَنَّه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو مُحْرِم، واحتجم وهو صائم» .

(1)

أي في الصوم.

(2)

سقط من المطبوعة.

(3)

أي قال: "أفطر الحاجم والمحجوم". وقد ذكر مُلّا علي تفصيل الكلام على تأويل الحديث في "مرقاة المفاتيح" 2/ 523 - 524 فانظره إذا شئت.

(4)

في المطبوعة: فتورثه، وما أثبتناه من المخطوطة، أي فتُورِث المخالفةُ الشُّبهة.

(5)

في المطبوعة: وإنه، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 574

أَوْ نَظَرَ فَأَنْزَلَ، أَوْ دَخَلَ غُبَارٌ، أَوْ دُخَانٌ، أَوْ ذُبَابٌ حَلْقَةُ.

===

وفي الدَّارَقُطْنِيّ عن أَنس قال: أَول ما كُرِهَتْ الحِجَامَةُ للصائم، أَنَّ جَعْفَرَ بنَ أَبي طالب احتجم وهو صائِمٌ، فمرّ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أَفْطَرَ هذَانِ» ، ثُمَّ رَخَّصَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بَعْدُ في الحِجَامة للصائم. وكان أَنسُ يَحْتَجِمُ وهو صائمٌ. قال: كل رواته ثقات، ولا أَعلم له علَّة. وفي النَّسائي عن أَبي سعيد الخُدْري، أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ في القُبْلَة، ورَخَّصَ في الحِجَامة. وفيه أَيضاً عن أَبي هريرة أَنَّه قال: يُقَال: أَفْطَرَ الحاجِمُ والمَحْجُوم، وأَما أَنا فَلَوْ احتَجَمْتُ ما بَالَيْتُ.

وكذا لا يَقْضِي إِنْ أَصْبَحَ جُنُباً، لاسْتِلْزَامِ جوازِ المباشرةِ إِلى الفجر وقوعَ الغُسْلِ بعده ضرورةً، لقوله تعالى:{فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وكُلُوا واشْرَبُوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْودِ مِنَ الفَجْرِ}

(1)

، ولما في سُنَنِ أَبي داود عن عائشةَ، وأُمِّ سَلَمَةَ ـ زَوْجَي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهما قالتا: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُباً في رَمَضَانَ مِنْ جِمَاع غَيْرِ احتلام، ثم يَصُومُ.

وفيه عن عائشةَ، أَنَّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وَاقِفٌ على الباب: يا رسولَ الله، إِنِّي أُصْبِحُ جُنُبَاً، وأَنا أُريد الصيامَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «وأَنا أُصْبِحُ جُنُباً، وأَنَا أُرِيدُ الصيام، وأَغْتَسِلُ وأَصُومُ

» الحديثَ.

(أَوْ نَظَرَ فَأَنْزَلَ) لأَنَّه لم يوجد منه صورةُ الجماع ولا معناه ـ وهو الإِنزال ـ عن شهوةٍ بالمباشرة، فصار كما إِذا تَفَكَّرَ فأَمْنَى، ولو استَمْنَى بِكَفِّه، المختارُ أَنَّه يجبُ القضاء.

وهل يجوزُ هذا الفعلُ لغير الصائم؟ قالوا: إِنْ قصد قضاء الشهوة لا يجوز، لقوله تعالى:{والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِم أَوْ ما ملَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فإِنَّهم غَيْرُ مَلُومِين فَمَنِ ابْتَغَى ورَاءَ ذلك فأُولئك هم العَادُون}

(2)

، قال: ابن جُرَيْج سأَلت عطاء فقال: سَمِعْت بقومٍ يُحْشَرُون وأَيْدِيهم حُبَالى، فَأَظُنُّ أَنهم هؤلاء. انتهى. وإِنْ أَراد تسكينَ ما به من الشهوة لا بأْس به. انتهى. كذا في «الكافي»

(3)

.

(أَوْ دَخَلَ غُبَارٌ أَوْ دُخَانٌ أَوْ ذُبَابٌ) أَوْ طَعْمُ الأَدْوِيَةِ (حَلْقَةُ) لأَنَّه لا يمكن الاحتراز عن هذه الأَشياءِ، بخلاف الثلج والمطر على الأَصح لإِمكان الاحتراز عنه بضم الفم،

(1)

سورة البقرة، الآية:(187).

(2)

سورة المعارج، الآيات:(29 - 31).

(3)

وانظر لمزيد تفصيل "رد المحتار" 2/ 100. و"حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح" ص 437.

ص: 575

ولو وَطِئَ بهيمةً، أَوْ ميتةً، أَو في غَيْرِ فَرْجٍ، أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ، إِنْ أَنْزَلَ قَضَى ولا كَفَّارَةَ.

ولا يَفْسُدُ بِأَكْل ما في أَسْنَانِهِ إِذَا كانَ أَقَلَّ من حِمِّصَةٍ، إِلَّا إِذا أُخْرِجَ مِن فِيه ثُمَّ أُكِلَ. ولا بأَكْلِ سِمْسِمَة مَضْغًا.

وعودُ القيءِ يُفْسِدُ إِنْ كَثُرُ

===

ولو دخل من دموعه أَوْ عَرَقِهِ قَطْرَةٌ أَوْ قَطْرَتَانِ لا يفطر، ولو دخله أَكثر يُفْطِر.

(ولو وَطِاءَ بهيمةً، أَوْ ميتةً، أَوْ في غَيْرِ فَرْجٍ،) كالتفخيذ (أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ، إِنْ أَنْزَلَ قَضَى) وكذا المرأَةُ تَقْضِي إِنْ أَنْزَلَتْ لوجود الجِمَاعِ مَعْنىً. (ولا كَفَّارَةَ) لِنُقْصَانِ الجناية، أَمَّا في وَطاءِ البهيمةِ، والميتةِ فلانعدام المَحَلِّ المُشْتَهَى، وأَمَّا في الباقي فلانعدام صورةِ الجِمَاعِ.

(ولا يَفْسُدُ) صَوْمُه (بِأَكْل ما في أَسْنَانِهِ) أَي فيما بَيْنَهَا (إِذَا كانَ أَقَلَّ من حِمِّصَةٍ إِلاَّ إِذا أُخْرِجَ مِنْ فِيه ثُمَّ أُكِلَ). وقال زُفَر: يَفْسُدُ، لأَن الفَمَ له حُكْمُ الظاهر، ولهذا لا يَفْسُدُ الصومُ بِالمَضْمَضَةِ. وأُجِيبَ بأَنَّ القليل يبقى عادةً بين الأَسْنَانِ فيكون تابعاً للرِّيقِ، بخلاف الكثير. ثمَّ قال أَبو يوسف: لا كَفَّارة في قَدْرِ الحِمِّصَة، لأَنَّ الطَّبْعَ يعافه. وقال زفر: فيه الكفارة لأَنه طعام (ولا بِأَكْلِ سِمْسِمَة) لم تكن بين أَسنانه (مَضْغاً) لأَنَّها تتلاشى في فمه وتلتزق بين أَسنانه، فلا يصل شيء منها إِلى جوفه، قَيَّدَ «بالمَضْغ» لأَنه لو ابتلعها صحيحة تُفْسِدُ صَوْمَه، واختلفوا في الكفارة، والأَصحُّ وُجُوبُهَا لوجود العلم بِوُصُولِ ما يُؤكَلُ عَادَةً إِلى حَلْقِهِ.

ولو جَمَعَ رِيقَهُ وابتلعه لا يُفْطِر ويُكْرَه. ولو أَخْرَجَهُ ثُمَّ ابتلعه يُفْطِرُ ولا كفارة عليه، كما لو ابتلع ريق غيره. وكذا

(1)

لو ابتلع المُخَاط الذي نزل من رأْسه في فيهِ، والبزاق الذي تَرَطَّبَتْ شفتاه منه عند الكلام ونحوه. وفي «المحيط»: ولو خرج الدم من بين أَسنانه ودخل حَلْقَهُ إِنْ كانت الغلبة للبزاق لا يُفْطِر، وإِن كانت للدم أَوْ كانا سواءً أَفْطَرَ، لأَن له حكمَ الخروج كما في الوضوء.

(وعودُ القيءِ يُفْسِدُ) ويوجب القضاء عند أَبي يوسف (إِنْ كَثُرَ) بأَن كان مِلْء الفم لأَنه خارج، ولهذا ينتقض به الوضوء، وقد دخل فيفسد الصوم، وخالفه محمد فلم يفسد عنده وهو الصحيح، لأَنه لم توجد صورةُ الفِطْر وهو الابتلاع، وكذا معناه

(2)

،

(1)

أي لا يَفْسدُ صومه.

(2)

أي معنى الفِطر.

ص: 576

وعِنْدَ مُحَمَّدٍ إِنْ أُعِيدَ.

وكُرِهَ الذَّوْقُ ومَضْغُ شَيءٍ، إِلَّا طعامَ صَبِيٍّ ضَرُورَةً،

===

لأَنه لا يُتَغَذَّى به.

(وعِنْدَ مُحَمَّدٍ) يُفْسِد (إِنْ أُعِيدَ) سواء كان قليلاً أَوْ كثيراً لوجود الصُّنْعِ منه في الإِدخال. وفي «المواهب» : إِنْ أَعادَه فَسَدَ اتفاقاً لوجود الإِدخال بعد الخروج فتتحقق صورةُ الفِطْر، وقد تقدَّم أَنَّ أَبا يوسفَ يشترط للفساد في تعمد القيء امتلاءَ الفمِ، واكتفى محمد بالتعمد، فلو ذرَعهُ أَقلُّ من مِلْئِهِ فعاد لم يَفْسُد اتفاقاً، لأَنه غَيْرُ خارج ولا صُنْعَ له في الإِدخال، ولو استقاء دون ملئه وأَعاده، فعن أَبي يوسف الفساد لكثرة الصنع، وعدمه لعدم الخروج حُكْماً.

(وكُرِهَ الذَّوْقُ) أَي ذَوْقُ الصَّائِمِ مَطْعُوماً لما فيه من تعريض الصوم للإِفْسَاد، لاحتمال أَنْ يَدْخُلَ في حلقه ولا يُفْطِر لعدم المُفْطِر صُورَةً ومَعْنىً. قالوا: وهذا في حَقِّ الفَرْض، وأَما في حَقِّ التطوع فلا يُكْرَه، لأَنَّ الإِفطار فيه لعذر مباح باتفاق، وبغير عذر في روايةٍ. وقال بعضهم: إِنْ كان الزوج سَيِّءَ الخُلُقِ لا بأْس للمرأَة أَنْ تذوق المَرَقة بلسانها، ويُكْرَه للصائم أَنْ يذوق العسل والدهن ليعرف الجيد من الرديء عند الشراء، كذا في قاضيخان، وفي «المحيط»: لا بأْس به كي لا يُغْبَن فيه، وهو مَرْوِيٌّ عن الحسن البَصْرِي.

(ومَضْغُ شَيءٍ) عِلْكاً كان أَوْ غَيره، (إِلاَّ طعامَ صَبِيَ ضَرُورَةً) كما إِذا لم يَكتَفِ وَلَدُ المرأَة بِلَبَنِها، ولم تجد مُفْطِراً يمضغ له طعاماً، (ولا طعاماً لا يحتاج إِلى مضغ،)

(1)

لأَنَّ الضرورة تبيح المحظورَ فأَولى أَنْ تبيح المَكْرُوه، ولأَنه يَجُوزُ لها الفِطر لحاجته فَجَوَازُ المضغ أَوْلى. وقيل: يُكْرَهُ مضغُ العِلْك لأَنَّ فيه تهمةَ الإِفطار، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر فلا يَقِفَنَّ مَواقِفَ التُّهَم»

(2)

. وقال عليّ كرّم الله وجهه: «إِيَّاك وما يَسْبِقُ إِلى القلوبِ إِنْكَارُه، وإِنْ كان عندك اعتذارُه، فليس كُلُّ سامعٍ نكيرٍ يُطِيقُ أَنْ يُوسَعه عذير» . إِلاَّ أَنَّه لا يُفْطر لأَنه لا يصل إِلى الجوف

(1)

عبارة المطبوعة: حتى لا تحتاج إلى مضغه، وما أثبتناه من المخطوط وهو أولى، ومعناه، أي: ولم تجد طعامًا لا يحتاج إلى مضغ .....

(2)

قال الزيلعي في "الإسعاف بأحاديث الكشَّاف": قلت: غريب. اهـ. 3/ 136، وهذا اصطلاح خاص كالزيلعي يقصد به أنه لم يجده. وقد طُبع الكتاب "الإسعاف" باسم غريب: وهو "تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في "تفسير الكشاف" مع أن الزيلعي سماه "الإسعاف" انظر "نصب الراية" 3/ 197.

وكذلك لم يجده الحافظ ابن حجر في "الكافي الشاف" حديث (209) 4/ 89، والحديث (247)، 4/ 137، المطبوع في آخر "الكشاف".

ص: 577

والقُبْلَةُ إِنْ خَافَ، لا السِّوَاكُ

===

عَيْنُه، وإِنما يصل إِليه طَعْمُه، ولا يكره للمرأَةِ إِذا لم تَكُنْ صائمةً، لِقِيَامِهِ مَقَامَ السِّوَاكِ في حَقِّها. ويكره للرجل إِذا لم يكن من عِلَّة، لما فيه من التَّشبُّه بالنِّساء.

(والقُبْلَةُ) والمَسُّ والمباشرةُ في ظاهر الرواية كُرِهَ (إِنْ خَافَ) على نفسه الجِماع، أَوْ الإِنزال، قَيَّدَ بهِ

(1)

لأَنه لو لم يَخَفْ فلا بأْس بها. وقال محمد: تُكْرَهُ القُبْلة مطلقاً، لأَنها لا تَخْلُو عن الفتنة، يعني إِذا كانت على طريق الشهوة. ولهما ما في الصحيحين من حديث عائشة أَنَّه صلى الله عليه وسلم كان يُقَبِّل ويُبَاشِر ـ (أي)

(2)

باللَّمْسِ ـ وهو صائم. وفي رواية: «وكَانَ أَمْلَكَكُم لإِربِهِ

(3)

»

(4)

. وروى الدَّارَقُطْنِيّ عن أَبي سعيد الخْدِري بإِسناد جَيِّد، أَنه صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ في القُبْلَةِ والحِجَامَةِ وروى أَبو داود بإِسناد جَيِّد عن أَبي هريرة، أَنَّه صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ رَجُلٌ عن المُبَاشَرة للصائمِ فَرَخَّصَ له، وأَتاه آخرُ فَنَهَاه، فإِذا الذي رَخَّصَ له شَيْخٌ، والذي نهاه شَابٌّ.

(لا السِّوَاكُ) أَي لا يُكْرَه للصائم استعمالُ السواك سواء كان رطباً أَوْ مبلولاً قبل الزوال أَوْ بعده، وهو قول مالك، وقال الشافعي: يُكْرَهُ بَعْدَ الزوال لأَنَّ فيه إِزالةَ الخُلُوفِ المَحْمُودِ بقوله صلى الله عليه وسلم «لخُلُوفُ فَمِ الصَّائم أَطْيَبُ عند الله مِنْ ريحِ المِسْكِ»

(5)

.

ولنا إِطلاقُ ما روى ابن ماجه والدَّارَقُطْنِي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «مِنْ خَيْرِ خِصَال الصائم السِّوَاكُ» . وعمومُ قوله صلى الله عليه وسلم «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ على أُمَّتِي لأَمَرْتُهم بالسِّواك عند كل صلاة» . إِذْ يَدْخُل في عُمومِ كُلِّ صلاة، الظُّهر والعَصْر، للصَّائمِ والمُفْطِر. وفي رواية النَّسَائِي، وصَحَّحها الحاكم، وعَلَّقَها البُخَارِيُّ عند كل وضوء، فيعم عند وضوء هذه الصلاة، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم «صلاةٌ بسِواك أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ من سبعينَ صلاةً بِغَيْرِ سِوَاك» . رواه أَحمد.

والخُلُوفُ: بِضَمِّ الخاء المعجمة على الصحيح: تَغَيُّرُ رائحة الفم من خلو المعدة، وذلك لا يزول بالسواك، ولأَنه لتطهير الفم وحال الصوم به أَحَقُّ، ولأَنه أَثر

(1)

أي بالخوف.

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوطة.

(3)

لإِرْبهِ: أي لِحَاجَتِهِ. فتح الباري: 4/ 151.

(4)

ما أثبتناه رواية البخاري ومسلم، أمَّا رواية المطبوعة:"وهو مَالِكٌ لأربه". ورواية المخطوطة: وهو أمْلَكُ لأربه".

(5)

أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، (فتح الباري): 10/ 369، كتاب اللباس (77)، باب ما يذكر في المسك (78)، رقم (5927).

ص: 578

ولا الكَحْلُ.

===

العبادة واللائقُ به الإِخفاء صيانةً للطاعة عن الرياء. وقد روى أَبو داود والترمذي عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعةَ، عن أَبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ وهو صَائمٌ ما لا أَعُدُّ ولا أُحْصِي. وكره مالك وأَبو يوسف الرَّطْبَ والمبلول منه، لأَنَّه تعريض للصوم على الإِفساد بسبب دخول الرطوبة.

ولنا إِطلاق ما روينا، ويشهد له ما رواه البَّيْهَقِيُّ عن إِبراهيم بن عبد الرحمن الخَوَارِزْمِي قال: سأَلْتُ عاصِماً الأَحْول: أَيَسْتَاكُ الصائِمُ بالسِّوَاك الرَّطْبِ؟ قال: نعم، أَتُرَاهُ أَشدَّ رطوبةً من الماء. قلت: أَوَّل النهار وآخِرَه؟ قال: نعم. قلت: عَمَّنْ رَحِمَك الله؟ قال: عن أَنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: تَفَرَّدَ به إِبراهيمُ الخَوَارِزْمِيّ. وقد حدَّث عن عاصم بالمناكير فلا يُحْتَجُّ به.

قيل: وتكره المضمضةُ في الصوم لغير الوضوء. وأَمَّا الاستنشاق والاغتسال أَوْ التلفف بثوب مُبْتَلَ للتبرّد فَمَكْرُوهٌ عند أَبي حنيفة لما في ذلك من إِظْهار التضجر في إِقامة العبادة، ولا يُكْرَهُ عند أَبي يوسف، وبه يُفْتَى، لأَنَّه صلى الله عليه وسلم صَبَّ على رأْسِهِ الماءَ وهو صائم من العطش ـ أَي مِنَ الحَرِّ ـ، رواه أَبو داود. وكان ابنُ عُمَرَ يَبُلُّ الثوبَ، ويَلُفُّهُ عليه وهو صائِمٌ. ولأَنَّ في هذه الأَشياء عَوْناً على العبادة، ودفعاً للتَّضَجُّر الطبيعي وَفْقَ العادة.

(ولا الكَحْلُ) ـ بفَتْحِ الكافِ ـ أَي الاكتحال، وبِضَمِّهَا أَي ولا يُكْرَهُ استِعْمَالُه للصَّائِم، لما روى ابنُ ماجه من حديث عائشة، أَنَّه صلى الله عليه وسلم اكتحل وهو صائم. وكذا رواه أَبو داود والدَّارَقُطْنِي. ولأَنَّ أَنَساً كان يَكْتَحِلُ وهو صَائِمٌ. متفق عليه.

ويُسْتَحَبُّ السَّحور، لِمَا رواه الجَمَاعَةُ إِلاَّ أَبا دَاودَ عن أَنس قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «تَسَحَّرُوا فإِنَّ في السَّحُورِ بَرَكَة» . وروى أَبو داودَ عن العِرْبَاضِ بن سَارِيَة قال: دعاني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلى السَّحُورِ في رمضانَ فقال: «هَلُمَّ إِلى الغَدَاءِ المُبَارَكِ» . وفي «سُنَنِ أَبي داود» عن عَمْرو بنِ العاصِ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ فَصْلَ ما بين صِيَامِنَا وصِيَامِ أَهْلِ الكتاب أَكْلَةُ السَّحَرِ» . قال «العَيْنِيّ» : رواه الجماعةُ إِلاَّ البُخَارِيَّ وابنَ ماجه. ويُرْوَى السَّحُور ـ بفتح السين ـ اسمُ ما يُؤْكَلُ وَقْتَ السَّحَرِ، وهو السُّدُسُ الأَخِيرُ من الليل.

ويُسْتَحَبُّ تأْخيره

(1)

لما في «معجم الطبراني» ، عن أَبي الدَّرْدَاءِ مرفوعاً: «ثَلَاثٌ

(1)

أي السحور.

ص: 579

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

من أَخْلاقِ المُرْسَلِينَ: تَعْجِيلُ الإِفْطَارِ، وتَأْخِيرُ السَّحُورِ، وَوَضْعُ اليَمِينِ على الشِّمال». ولِمَا رواه أَبو داود، أَنه صلى الله عليه وسلم كان يقول:«لا تزال أُمَّتي بخير ما أَخَّروا السَّحُورَ، وعَجَّلوا الفِطْرَ» . ورواه أَحمد. وفي الصحيحين عن سَهْل بن سَعْد، أَنه صلى الله عليه وسلم قال:«لا يزالُ النَّاسُ بِخَيْر ما عَجَّلُوا الفِطْرَ» . وعن أَنس: «أَنَّه صلى الله عليه وسلم كان يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ على رُطَبَاتٍ، فإِنْ لم تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْراتٍ، فإِنْ لم تكن تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ من ماء» . رواه أَحمد، وأَبو داود، والترمذي.

(الايام التي يُسْتَحبُّ صومها)

ويُسْتَحَبُّ صِيَامُ الأَيَّامِ البيضِ لما في «سُنَنِ أَبي دَاودَ، وابن ماجه» عن ابنِ مِلْحَان القَيْسِي، عن أَبيه قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأْمُرُنا أَنْ نصومَ البِيضَ: ثلاثَ عَشرةَ وأَرْبَعَ عَشرةَ وخَمْسَ عَشرةَ قال: وقال: «هُوَ كَصَوْمِ الدَّهْرِ» . وفي الترمذي والنسائي عن أَبي ذَرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أَبَا ذَرَ إِذا صُمْتَ من الشهرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَلاثَ عشرةَ، وأَرْبَعَ عَشرةَ، وخَمْسَ عَشرَةَ» . وفي النَّسائي عن ابن عباس قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يُفْطِرُ أَيامَ البِيضِ لا في سَفَر، ولا في حَضَر.

ويُسْتَحَبُّ صومُ يومِ الاثنينِ والخَمِيسِ، لقوله صلى الله عليه وسلم «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يومَ الاثنينِ والخميسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وأَنَا صائِمٌ» . رواه الترمذي، وأَبو داود. وعن أَبي هريرة أَنَّه صلى الله عليه وسلم كان يَصُومُ الاثنينِ والخميس، فقيل: يا رسول الله: إِنَّكَ تصومُ يوم الاثنينِ والخَميس

(1)

، فقال:«إِنَّ يوم الاثنينِ والخميسِ يَغْفِرُ اللهُ فيهما لكل مسلم، إِلاَّ مُهْتَجِرَين، يقول: دَعْهُمَا حتى يَصْطَلِحَا» . رواه ابن ماجه. ولقول حَفْصَةَ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصُومُ ثلاثةَ أَيَّام من الشهرِ: الاثنينِ والخَمِيسَ والجُمُعَةَ.

ويُسْتَحَبُّ صومُ يومِ عاشوراءَ مَعَ يومٍ قَبْلَه أَوْ بَعْدَه، لقول ابن عباس: ما رَأَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صيامَ يومٍ فَضَّلَهُ على غَيْرِه إِلاَّ هذا اليوم ـ يومَ عاشوراءَ ـ، وهذا الشهرَ ـ يَعْنِي شَهْرَ رمضانَ ـ. رواه الشيخان. ولقوله: قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ فرأَى اليهودَ تَصُومُ يوم عاشوراءَ فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يَوْمٌ صَالِحٌ، هذا يومٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسرائيل من عَدُوِّهِم فَصَامَهُ

(2)

موسى، فقال: أَنَا أَحَقُّ بِمُوسى منكم فَصَامَهُ، وأَمَرَ بِصِيَامِهِ. رواه البخاري. ولقوله حينَ صَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ عاشوراءَ وأَمَرَ بصيامه، قالوا: يا

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

في المطبوعة: فصام، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 580

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

رسولَ الله إِنَّه يومٌ يُعَظِّمُهُ اليهودُ والنَّصَارَى، فقال:«لَئِنْ بَقِيتُ إِلى قَابل لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» . رواه مسلم.

ولا يُكْرَهُ عندنا، وعند الشافعي إِتْبَاعُ عيدِ الفطر بِسِتَ من شوّال، لقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ صَامَ رمضانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتَّاً من شوال كانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ» . رواه مسلم وأَبو داود. وكَرِهَهُ مالكٌ، وهو رِوَايةٌ عن أَبي حنيفة وأَبي يوسف، لاشْتِمَالِهِ على التَّشَبُّهِ بأَهل الكتاب في الزيادة على الفروض، والتشبّه بهم مَنْهِيٌّ عنه، وعَامَّةُ المُتَأَخِّرِينَ لم يَرَوْا به بَأْساً. واختلفوا فيما بينهم، فقيل: الأَفضلُ وَصْلُهَا بِيَوْمِ الفِطْرِ لظاهر قوله: «ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتَّاً» ، وقيل: تَفْرِيقُهَا.

(الايام التي يَحْرُمُ ويُكْرَه صوفها)

ويَحْرُمُ صَوْمُ يوم العيدينِ لما رُوِيَ أَنَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن صيامِ يومين: يومِ الفِطْرِ، ويَوْمِ الأَضْحَى. رواه مالك في «الموطأْ» ، وأَبو داود في «السنن» . وكذا يَحْرُمُ صومُ أَيام التَّشْرِيقِ، لما وَرَدَ مِنْ أَنَّ أَيَّامَ مِنى أَيَّامُ أَكْلٍ وشُرْبٍ وبِعَال ـ أَي جِمَاع ـ. ويُسْتَحَبُّ صَوْمُ يوم عَرَفَة لقوله عليه الصلاة والسلام:«صِيَامُ يومِ عَرَفَةَ، إنِّي أَحْتَسِبُ على اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَه، والسَّنَةَ التي بَعْدَه» . رواه مسلم، وهذا لِغَيْرِ الحُجَّاجِ لِمَا رُوِيَ أَنَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن صوم يوم عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ. رواه أَبو داود وابنُ ماجه.

ولا تصومُ المرأَةُ تَطَوُّعاً إِلاَّ بإِذن زَوْجِهَا لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تَصُومُ المَرْأَةُ وبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، غَيْرَ رَمَضَانَ» . رواه أَبو داود.

وكُرِهَ إِفْرَادُ يَوْمِ الجُمُعَةِ بالصوم عِنْدَ أَبي يُوسُف، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تَخْتَصُّوا ليلةَ الجُمُعَةِ (بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيالِي، ولا تَخُصُّوا يومَ الجُمُعَةِ)

(1)

بِصِيَامٍ من بين الأَيام إِلاَّ أَنْ يكون في صوم يَصُومُهُ أَحدُكُم». رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم «لا يَصُم أَحَدُكُم يومَ الجُمُعَةِ إِلاَّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَه بيَوْمٍ أَوْ بَعْدَه» . رواه أَبو داود، وكذا يُكرهُ إِفرادُ يوم السبت بالصوم لقولهِ عليه الصلاة والسلام: «لا تصُومُوا يومَ السَّبْتِ إِلاَّ فيما افْتُرِضَ عَلَيْكُم، فَإِنْ لم يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلاَّ لحاء عنبة

(2)

، أَوْ عود شجرة فليمضغه». رواه أَحمد،

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع، وما أثبتناه هو الصواب وموافق لما في صحيح مسلم: 2/ 801، كتاب الصيام (13)، باب كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا (24)، رقم (148 - 1144).

(2)

لِحَاء عنبة: أي قِشْرُ العنبة، النهاية: 4/ 243.

ص: 581

وشَيْخٌ فَانٍ عَجَزَ عَنِ الصَّوْمِ، أَفْطَرَ، وأَطْعَمَ لِكُلِّ يومٍ مِسْكِينًا كالفِطْرَة. ويَقْضِي إِنْ قَدَرَ.

===

وأَصحاب السُّنَنِ إِلاَّ النَّسَائِي، وكذا يوم النَيْرُوز

(1)

والمِهْرَجَان

(2)

لأَن فيه تعظيمَ أَيَّامٍ نُهِينَا عن تعظيمها إِلاَّ أَنْ يُوافِق ذلك عادته في الصوم لفواتِ علَّة الكراهة.

ويُكْره صومُ الصَّمْتِ: وهو أَنْ يصومَ ولا يتكلم، يعني يلتزم عَدَمَ الكلامِ، بل يَتَكَلَّمُ بِخَيْرٍ وبِحَاجَتِه، وكذا يُكْره صومُ الوِصال ولو يومين لقول ابن عُمَر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوِصال، فقال: إِنَّك تُواصِلُ يا رسولَ الله، قال:«إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُم، إِنِّي أُطْعَمُ وأُسْقى» . رواه أَبو داود. وفي روايةٍ قال: «إِنِّي أَبِيتُ عِند رَبِّي يُطْعِمُني ويسْقِينِي» . وصوم الدَّهْرِ لأَنه يُضْعِفُه أَوْ يصير طبعاً له، ومبنى العبادة على خلاف العادة.

ولا تصومُ المرأَةُ نفلاً إِلاَّ بإِذن زوجها وله أَنْ يُفَطِّرَهَا.

وأَفضلُ الصيامِ صيامُ داود عليه الصلاة والسلام لقوله صلى الله عليه وسلم «أَحَبُّ الصيامِ إِلى اللَّهِ صيامُ داودَ، وأَحَبُّ الصلاةِ إِلى الله صلاةُ داودَ، كانَ يَنَامُ نِصْفَهُ ويَقُومُ ثُلُثَه ويَنَامُ سُدُسَهُ، وكانَ يُفْطِرُ يوماً ويَصُومُ يَوْماً» . رواه أَبو داود وغيره.

(وشَيْخٌ فَانٍ) سُمِّي به لِقُربهِ إِلى الفناء، أَوْ لأَنَّهُ فَنِيَتْ قوته، وهذا معنى قوله:(عَجز عَنِ الصَّوْمِ، أَفْطَرَ وأَطْعَمَ) على سبيل الوجوب، وهو قول أَحمد، وأَظْهر قولي الشافعي، ورواية عن مالك.

(لِكُلِّ يومٍ مِسْكِيناً كالفِطْرَةِ، ويَقْضِي إِنْ قَدَرَ) على الصيام بَعْدَ الإِطعام، لأَن شَرْطَ خَلَفية الإِطعامِ لصَوْمِه استمرارُ عَجزِهِ ولم يوجد، وقال مالك في المشهور عنه: لا يجب عليه الإِطعام، وهو قول الشافعي القديم، ومُخْتَار الطحاوي، لأَنه عَاجِزٌ عن الصوم، ولما لم يزل عادة مَنَع الوجوب، وتَرْكُ غير الواجب لا يوجب الضمان، فأَشبه المريض إِذا مات قبل البُرْء. وفي الصحيحين عن سَلَمَة بن الأَكْوَع قال: لَمَّا نزِلت هذه الآية: {وعلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين}

(3)

، كان مَنْ أَراد أَنْ يُفْطِرَ ويَفْتَدي فَعَل، حتى نزلت هذه الآية:{فَمَنْ شَهِدَ منكم الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}

(4)

(1)

النَّيْرُوز: لَفْظٌ مُعَرّب، اليوم الحادي والعشرون من شهر آذار من السنة الميلادية، وهو عيد الفرح عند الفُرْس = عيد رأس السنة عندهم. معجم لغة الفقهاء، ص:490.

(2)

المِهْرَجان: لفظ معرب، عيد الخريف عند الفُرْس. معجم لغة الفقهاء، ص:467.

(3)

سورة البقرة، الآية:(184).

(4)

سورة البقرة، الآية:(185).

ص: 582

وحَامِلٌ أَوْ مُرْضِعٌ خَافَتْ على نَفْسِهَا أَوْ ولدِها،

===

فنسختها.

ولنا ما روى الجماعة عن عطاء، أَنَّه سمع ابن عباس يقرأ:{وعلى الذينَ يُطِيقُونَه فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين} . وفي رواية: «يُطَوَّقُونَه»

(1)

، فقال: إِنَّها ليست بمنسوخة، بل هي للشيخ الكبير، والمرأَة الكبيرة لا يستطيعان أَنْ يصوما، فيطعمان كل يوم مسكيناً. وهو مَرْوِيٌّ عن علي وابن عمر وغيرهما من الصحابة، ولم يُرْوَ عن أَحد منهم خلاف ذلك، فكان إِجماعاً. وأَيضاً لو كان خلاف لكان قول ابن عباس: ليست بمنسوخة، مُقدَّماً لأَنه مما لا يقال بالرأي، بل عن سَمَاع، لأَنَّه مخالف لظاهر القرآن، لأَنه مُثْبَتٌ في نَظْم كتاب الله، فَجَعْلُه مَنْفياً بتقديرِ حَرْفِ النَّفْي لا يُقَدَّمُ عليه إِلاَّ بِسَماعٍ البتَّة. وكثيراً ما يُضْمَرُ حرفُ «لا» في الكلام، قال الله تعالى:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}

(2)

، {وألقى في الأرض رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}

(3)

، {تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ}

(4)

أَي لا تَفْتَؤُا، يعني لا تَنْفَكُّ ولا تَزَالُ. ورِوَايَةُ الأَفْقَهِ أَوْلى.

وفي «المحيط» : والأَعذار التي تبيح الإِفطار ستة: السفر، والمرض، والحَبَلُ، والإِرضاع، والعطش الشديد أَوْ الجوع الذي

(5)

يخاف منه الهلاك، أَوْ المرض، وعجز الشيخ الفاني عن الصوم، فلو وجب عليه قَضَاءُ شيءٍ من رمضانَ فلم يَقْضِهِ حتى صار شيخاً فانياً جازت له الفديةُ.

وكذا لو نذر صوم الأَبد فَضَعُفَ عن الصوم لاشتغاله بالمعيشة، له أَنْ يُفْطِر ويطعم لأَنه استيقن أَنه لا يقدر على قضائه، وإِنْ لم يقدر على الإِطعام لعسرته يستغفر الله ويستقيله

(6)

.

(وحَامِلٌ أَوْ مُرْضِعٌ خَافَتْ على نَفْسِهَا أَوْ ولدِها) لقوله: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عن المُسَافِرِ الصومَ وشَطْرَ الصلاة، وعن الحُبْلَى والمُرْضِع الصومَ»

(7)

. ولا كفارةَ على مَنْ أَفْطَرَتْ في رَمَضَانَ خَوْفاً على نَفْسِهَا من أَنْ تَمْرَضَ من الخدمةِ، أَمَةً كانت أَوْ مَنْكُوحَةً،

(1)

هذه قراءة شاذة.

(2)

سورة النساء، الآية:(176).

(3)

سورة النحل، الآية:(15).

(4)

سورة يوسف، الآية:(85).

(5)

سقط من المطبوعة.

(6)

يَسْتقِيله: أي يسأله أن يصفح عنه. المعجم الوسيط، ص: 770، مادة (قال).

(7)

أخرجه الإمام الترمذي في سننه 3/ 94، كتاب الصوم (6)، باب ما جاء في الرخصة في الإفطار .. (21)، رقم (715).

ص: 583

ومَرِيضٌ خَافَ زيادَةَ مَرَضِهِ والمُسَافِرُ، أَفْطَرُوا وقَضَوْا بلا فِدْية.

وصومُ سَفَرٍ - لا يَضُرُّ - أَحَبُّ

===

لعَدَمِ قَصْدِ هتك حُرمة الشهر.

(ومَرِيضٌ خَافَ زيادَةَ مَرَضِهِ) أَوْ تَأَخُّرِه بأَن غَلَبَ على

(1)

ظنِّه ذلك، أَوْ أَخبر به طبيب حاذق عَدْل عند أَبي حنيفة، وقالا: المبيح له هو عجزه عن القيام في الصلاة، لأَن فرض الصوم لا يسقط إِلاَّ بالأَداء، أَوْ بما هو عُذْر شرعي. والشرع اعتبر العجز عن القيام في الصلاة عُذْراً فتتعلق إِباحة الإِفطار به. وله أَنَّ قوله سبحانه:{فَمَنْ كان مِنْكُم مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَر}

(2)

يقتضي تعليقَ الفطر بمجرد المرض أَوْ السفر، إِلاَّ أَنَّ المرض لما كان متنوعاً يزداد بعضه بالصوم وينتقص بعضُه به، بَنَيْنَا الحُكْمَ على ازدياده دون أَصله بخلاف السفر، لأَن مَظِنَّة المشقة بكل حال، فأُدير الحكمُ فيه على أَصل السفر.

(والمُسَافِرُ) الذي فارق بيوتَ المِصْر قبل الفجر (أَفْطَرُوا) خَبَرٌ عن «الحامل» وما عُطِفَ عليه (وقَضَوْا بلا فِدْية) إِذا أَفطروا، ولا كفارة عليهم، لأَنهم أَفطروا بعذر، وهو مَرْوِيٌّ عن علي وابن عباس، وعن الشافعي ومالك كمذهبنا.

(وصومُ سَفَرٍ ـ لا يَضُرُّ ـ أَحَبُّ) من الفطر، وبه قال مالك والشافعي، وقال أَحمد والأَوْزَاعي: الفِطر أَحب مطلقاً لقوله صلى الله عليه وسلم «ليس من البِرِّ الصيامُ في السَّفَر»

(3)

. ولنا أَنَّ الصوم هو العزيمة في حق الكل لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ منْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}

(4)

، ثم قال:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَر} ( 4) للرُّخْصة، والأَفضل هو الأَخْذ بالعزيمة، ويؤيده أَيضاً إِطلاق قوله تعالى:{وأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لكم} ( 4)، وأَيضاً رمضانُ أَفضل الوقتين، فالأَداء فيه أَفضل مع ما فيه من المبادرة إِلى الطاعة، وفي التأْخير تعرضٌ لحدوث الآفة.

وفي «مُسْلم» من حديث أَبي سعيد الخُدْري قال: «كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضانَ، فَمِنَّا الصائمُ ومنّا المُفْطِرُ، فلا يَجِدُ الصائِمُ على المُفْطِر، ولا المفطر على الصائم، يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

سورة البقرة، الآية:(184).

(3)

أخرجه الإمام أبو داود في سننه 2/ 796، كتاب الصوم (14)، باب اختيار الفطر (44)، رقم (2407).

(4)

سورة البقرة، الآية:(185).

ص: 584

وإِنْ صَحَّ أَوْ أَقَامَ، ثُمَّ مَاتَ، فَدَى وَارِثُه ما فات إِنْ عَاشَ بَعْدَهُ بِقَدْرِهِ، وإِلَّا فَبِقَدْرِهِما.

===

قُوَّةً فَصَام، فإِنَّ ذلك حسن، ويرون أَنَّ مَنْ وجد ضَعْفاً فأَفْطَر فإِنَّ ذلك حسن». ومعنى لا يجد: لا يغضب ولا ينكر. وفي الصحيحين وأَبي داود عن أَبي الدرداء قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ غَزَوَاتِهِ في حَرَ شَدِيدٍ حتى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ يَدَهُ على رَأْسِهِ من شِدَّةِ الحَرِّ، ما فينا صَائِمٌ إِلاَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعبدُ اللَّه بنُ رواحة. فعلم أَنَّه اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَمَّا قوله صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ مِنْ البِرِّ الصَّيَامُ في السَّفَرِ» ، فَقَالَهُ في مُسَافِرٍ ضَرَّهُ الصَّوم.

(وإِنْ صَحَّ) المريضُ، (أَوْ أَقَامَ،) المسافر، (ثُمَّ مَاتَ) المريض (فَدَى وَارِثُه ما فات) أَي جميعه (إِنْ عَاشَ) أَي المريض أَوْ المسافر (بَعْدَهُ) أَي بعد المرض أَوْ السفر (بِقَدْرِهِ) أَي بَقْدر ما فات (وإِلاَّ) أَي وإِنْ لم يَعِش المريض بعد المرض، والمسافر بعد السفر بِقَدْر ما فاته بل عاش أَقَلَّ منه (فَبِقَدْرِهِما) أَي فَيَفْدِي وَارِثُهُ بِقَدْرِ الصحةِ والإِقامة، لأَنه عَجَزَ عن الأَداء في آخِرِ عمره فصار كالشيخ الفاني، فأُلْحِقَ به دلالةً لا قياساً.

قال الطحاوي: هذا قول محمد، وأَمَّا قولهما: فيلزمه قضاء الكل وإِنْ صح يوماً واحداً، وهذا ليس بصحيح، وإِنَّما الخلاف في النَّذْر فلو ماتا على حالهما لا

(1)

شيء عليهما لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}

(2)

، ولم يُدْرِكَاها فلم يَلْزَمْهُمَا القضاء، ولأَنهما لَمَّا عُذِرَا في الأَداء، فأَوْلَى أَنْ يُعْذَرَا في القضاء، وإِنْ عاشا قَضَيَا بعد الصحة والإِقامة بلا شرط الوِلَاءِ

(3)

، فله الخِيَار إِنْ شاءَ فَرَّقَ، وإِنْ شَاءَ تابع، لإِطلاق النَّص، ولقول ابن عباس: أَبْهِمُوا ما أَبْهَمَهُ اللَّهُ تعالى. وإِنْ لم يَقْضِيا حتى مَرِضَا لزمهما الإِيصاء بالفدية عنهما، فإِن جاء رمضان الثاني قدمه على القضاء ـ لأَنه وقت الأَداء ـ ثم قضى الأَول ولا يجب عليه فدية بالتأْخير عندنا، وأَوجبها مالك والشافعي، لما رُوِيَ أَنَّه عليه الصلاة والسلام قال في رجل مَرِضَ في رمضان فأَفطر ثُمَّ صح فلم يَصُم حتى أَدْرَكَهُ رمضان آخر:«يصومُ الذي أَدْرَكَهُ، ثُمَّ يَصُومُ الذي أُدْرِكَ فيه ويُطْعِمُ عن كلِّ يوم مِسكيناً»

(4)

.

ولنا إِطلاق قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} مِنْ غَيْر قَيْدٍ، فكان وجوب القضاء على التراخي، فلا يلزمه بالتراخي شيء، غير أَنه تاركٌ الأَولى: وهو

(1)

في المطبوعة: فلا، وما أثبتناه من المخطوطة.

(2)

سورة البقرة، الآية:(185).

(3)

الوِلاء: التعاقب بين الأفعال بِفِعْلِ الثاني منها بعد الأَول من غير فصل بينهما. معجم لغة الفقهاء، ص:509.

(4)

سنن الدارقطني: 2/ 197، كتاب الصيام، باب القُبْلة للصائم، رقم (89).

ص: 585

وَشُرِطَ الإِيصاءُ ونَفَذَ مِنَ الثُّلُثِ. وَفِدْيَةُ كُلِّ صلاةٍ كَصَوْمِ يَوْمٍ. وعبادةُ غيره لا يُجْزِيه.

===

المسارعة إِلى إِدراك الطاعة، وما روياه غير ثابت إِذْ في سنده إِبراهيمُ بنُ نَافع، وقد قال أَبو حَاتِم الرازي: إِنه كان يَكْذِبُ، وفيه من اتُّهِمَ بالوَضْع.

(وَشُرِطَ) في لزوم فديةِ الوارث (الإِيصاءُ) أَي إِيصاء الميت بأَن تُؤَدَّى عنه الفديه، حتى لو لم يُوص لم يلزم الوارث الفديةَ عنه. وقال مالك والشافعي: يلزم الوارث الفدية عنه ولو لم يوصِ الميت، كديون العباد. وأُجيب بأَن الفديةَ عبادةٌ تُؤدى عن الميت، فلا بد فيها من اختياره وذلك بإِيصائه، وحق العبد يجب وصولُه إِلى مُسْتَحِقِّهِ بأَي طريق كان، ولو لم يوصِ الميت بالفدية وتبرع به الوليّ قال محمد: يُجْزِاء إِنْ شاء الله تعالى.

(ونَفَذَ) أَي الإِيصاء (مِنَ الثُّلُثِ) لا من الكل كما قال مالك والشافعي، لأَنه تبرع ابتداءً وواجبٌ انتهاءً. وفي «الخَانِيّة»: يجوز في الفدية إِباحةُ أُكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ، ولا يجوز ذلك في صدقة الفطر، وكذا الحُكْم في الكفارة المالية، والحج، والصدقة المنذورة.

(وَفِدْيَةُ كُلِّ صلاةٍ كَصَوْمِ يَوْمٍ،) استحساناً، وقيل: صلاةُ يومٍ كَصَوْمِ يوم.

(وعبادةُ غيره لا يُجْزِيه) ولا يجزِاء صوم الولي عمن عليه صوم أَوْ صلاة، وهو مَرْويّ عن عائشة، وبه قال مالك، وأَحمد. وقال الشافعي في أَصح القولين عنه: يجزيه، لما في «الصحيحين» عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إِنَّ أُمّي مَاتَتْ وعليها صومُ شَهْرٍ أَفَأَقضيه عنها؟ فقال: «لو كانَ على أُمِّك دَيْنٌ أَكُنْتَ قاضيه عنها؟» قال: نعم، قال:«فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» . وفي رواية: أَنَّ امرأَةً قالت: يا رسولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي ماتت وعليها صومُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عنها؟ قال:«أَرَأَيْتِ إِنْ كان على أُمُّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكانَ يجزاءُ ذلك عنها؟» قالت: نعم، قال:«صومي عن أُمِّكِ» . وفيهما عن عائشةَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ مَاتَ وعليه صِيَامٌ يوم صامَ عنه وَلِيُّهُ» .

قلنا: الاتفاق على صَرْف الأَول عن ظاهره، فإِنه لا يصح في الصلاة الدَّيْن إِجماعاً. وقد أَخرج النسائي عن ابن عباس ـ وهو راوي الحديث الأَول في «سننه الكبرى» أَنه قال: «لا يصومُ أَحَدُكُم عن أَحَدٍ، ولا يُصَلِّي أَحَدٌ عن أَحَدٍ، ولكنْ يُطْعِمُ عنه مكان كل يوم (مُدَّاً)

(1)

من حِنْطَة». وفَتْوَى الراوي على خلاف مَرْوِيِّه بمنزلةِ

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع، وهي في المخطوطة و "السنن الكبرى" للنسائي 2/ 175، كتاب الصيام، الجزء الثاني من الصيام، حديث رقم (2918).

ص: 586

ويَلْزَمُ النَّفْلُ بالشُّرُوعِ إِلَّا في الأَيامِ المَنْهِيَّةِ: أَي

===

روايةِ الناسخ.

وأَخرج عبد الرزاق في «مُصَنَّفهِ» عن ابن عمر أَنَّه قال: لا يُصَلِّيَنَّ أَحدُكُم عن أَحد، ولا يَصُومَنَّ أَحَدٌ عن أَحد، ولكن إِنْ كنت فَاعلاً تَصَدَّقْتَ عنه، أَوْ أَهْدَيت. وأَخرج الترمذي عن أَشْعَث بن سَوَّار، عن محمد بن عبد الرحمن بن أَبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل مات وعليه صيام، «فَلْيُطْعَم عنه مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيناً». وقال: لا نعرفه مرفوعاً إِلاَّ من هذا الوجه، والصحيح عن ابن عمر موقوف، قوله وروى ابن ماجه بإِسناد حسن، كما قاله القرطبي عن ابن عمر: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ ماتَ وعليه صَوْمُ شَهْرٍ فَلْيُطْعَم عنه مَكَانَ كلّ يَوْمٍ مِسْكِيناً» .

وقال مالك: ولم أَسمع عن أَحد من الصحابة، ولا من التابعين بالمدينة أَنَّ أَحداً منهم أَمَرَ أَحداً أَنْ يصوم عن أَحد، ولا يصلي عن أَحد، وهذا يُؤَيِّدُ النسخ وأَنه الأَمر الذي استقر الشرع عليه آخِراً، ولأَن الولي لا يصوم عنه حال الحياة، فكذا بعد الموت كالصلاة.

(ويَلْزَمُ النَّفْلُ بالشُّرُوعِ) فَيَجِبُ قضاؤه إِنْ أَفْسَدَهُ، وقَال مالك: إِنْ أَفْطَرَ بعذر كمرض أَوْ شدة جوع أَوْ إِكراه أَوْ سهوٍ أَوْ خطأٍ، فلا يجب قضاؤه، وإِلاَّ يجب. وقال الشافعي وأَحمد لا

(1)

يجب قضاؤه، وله الخروج عن صومه بغير عذر، لما روى أَحمد وأَبو داود والترمذي من حديث أُمِّ هانِاء، أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: الصائمُ المُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ، إِنْ شاء صام وإِنْ شاء أَفطر».

ولنا حديث عائشة في رواية النسائي والترمذي ومالك في «الموطأ» عن عائشة أَنها قالت: «أَصْبَحْتُ أَنَا وحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ، فأُهْدِي إِلينا طعامٌ فأَفْطَرْنَا عليه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فَبَدَرَتْنِي حَفْصَةُ ـ وكانت ابنة أَبيها ـ فَسَأَلَتْهُ عن ذلك، فقال: «اقْضِيَا يوماً مَكَانَه» . وهو قول أَبي بكر، وعمر، وعلي وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهم، ولأَن صوم النَّفْل عَمَلٌ فيجب صيانته عن الإِبطال لقوله تعالى:{ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم}

(2)

وصيانته عن الإِبطال بالمُضِيِّ فيه.

وإِذا وجب المضي فيه وجب قضاؤه، (إِلاَّ في الأَيامِ المَنْهِيَّةِ) عن صومها (: أَي

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

سورة محمد صلى الله عليه وسلم، الآية:(33).

ص: 587

يَوْمِ الفِطْرِ، والأَضْحَى مع ثَلاثٍ بعده. وصَحَّ النَّذْرُ فِيهَا، لكِنْ أَفطَرَ وقَضَىَ، وإنْ صامَ صَحَّ.

===

يَوْمِ الفِطْرِ، والأَضْحَى مع ثَلَاثٍ بعده): وهي أَيامُ التشريق، وقال أَبو يوسف ومحمد: إِنْ شَرَعَ في نفل فيها، ثم أَفسده كما هو واجب عليه فعليه القضاء، لأَن الشروع مُلْزِمٌ كالنُّذُور

(1)

، ولأَبي حنيفة أَنَّ صيام هذه الأَيام مَنْهِي عنه، فلا يجب إِتمامه بل يجب إِفساده، ووجوب القضاء مَبْنِيٌّ على وجوب الإِتمَام.

(وصَحَّ النَّذْرُ) بالصوم (فِيهَا) أَي في الأَيامِ المنهية، لأَن النَّذْر التِزَامٌ فلا يكون معصية، وإِنما المعصية في الفِعْل (لكِنْ أَفطَرَ) احترازاً عن المعصية (وقَضَىَ) إِسقاطاً لما أَوْجَبَ على نَفْسِهِ.

(وإِنْ صامَ صَحَّ) لأَنَّه أَدَّى ما الْتَزَمَه. روى مسلم من حديث زياد بن جُبَيْر. قال: جاء رجل إِلى ابن عمر فقال: إِنّي نَذَرْت أَنْ أَصومَ يوماً فوافق يوم الأَضحى أَوْ الفِطر فقال: أَمر اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامِ هذا اليوم، والمعنى أَنَّه يمكنُ قضاؤه، فَيَخْرج به عن عُهْدة الأَمر والنهي.

والحاصل أَنَّ نَذْرَ الأَيام المذكورة يصح عندنا في المختار، وجعله زفر لغواً، وبه قال مالك والشافعي، وهو رواية عن ابن المبارك عن أَبي حنيفة، لأَن هذا نذرٌ بمعصية، لما في الصحيحين عن أَبي سعيد الخُدْري:«نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن صِيَامَيْنِ: صيامِ يوم الأَضحى، وصيام يومِ الفِطْر» . وفي لفظ لهما: سَمِعْتُه يَقُولُ: «لا يصح الصيام في يومين: يوم الأَضْحَى، ويومِ الفِطْرِ من رمضان» . ولما في «مُعْجم الطبراني» عن ابن عباس: «أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ أَيام مِنىً صَائِحاً يصيح: أَنْ لا يصوموا هذه الأَيامَ، فإِنَّها أَيامُ أَكْلٍ وشُرْبٍ وبِعَال» . والبِعَال: وِقَاعُ النِّساء.

وفي «سُنن الدراقطني»

(2)

عن أَبي هريرة قال: بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بُدَيْلَ بنَ وَرْقَاء الخُزَاعِي على جَمَلٍ أَوْرَقَ

(3)

يَصِيحُ في فِجَاج

(4)

مِنىً: أَلا إِنَّ الذكاة في الحَلْق واللَّبَّة

(5)

، ولا تعجلوا الأَنفس أَنْ تزهق، وأَيام مِنىً أَيامُ أَكْلٍ وشُرْبٍ وبِعَال. وفي «السنن

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

حرفت في المطبوعة والمخطوطة إلى: "سنن الطبراني"، والصواب ما أثبتناه. انظر "سنن الدارقطني" 4/ 283، باب الصيد والذبائح، رقم (45).

(3)

الأَوْرَق: الأَسْمَر. النهاية: 5/ 175.

(4)

الفِجَاج: جَمْع فَجٍّ، وهو الطريق الواسع. النهاية: 3/ 412.

(5)

اللَّبَّة: المَنْحَر: أسفل العُنُق. معجم لغة الفقهاء، ص:388.

ص: 588

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الثلاثة» عن عائشةَ، عنه عليه الصلاة والسلام:«لا نَذْرَ في معصية، وكفارتُه كفارَةُ يَمِين» . وفي النَّسائي عن عِمْران بن حُصَيْن مرفوعاً يقول: «النَّذْرُ نَذْرَانِ، فَمَنْ كان نَذَرَ في طاعة الله، فذلك لله، ففيه الوفاءُ، ومَنْ كانَ نَذَرَ في معصيةِ اللهاِ، فذلك للشيطان، فلا وفاء له، ويُكَفِّرهُ ما يُكَفِّرُ اليمين» .

ولنا أَنَّ هذا نَذْرٌ بصومٍ مشروع، لأَن الدليل الدَّالُّ على مشروعيته ـ وهو كونه كَفَّاً للنفس، التي هي عدو الله، عن شهواتها ـ لا يفصل بين يوم ويوم، فكان من حَيْثُ حقيقتُهُ حسناً مشروعاً، والنذر بما هو مشروع جائز، وما رُوِي من النهي فإِنَّما هو لِغَيْره، وهو ترك إِجابة دعوةِ الله تعالى، لأَن الناس أَضياف الله تعالى في هذه الأَيام، وإِذا كان النهي لغيره لا يمنع صحته من حيث ذاتُه، فيجب الفطرُ، لئلا يصير مُعْرِضاً عن ضيافة الكريم، ويجب القضاءُ باعتبار ذاته القويم، ويُجزئه إِنْ صام فيها لأَنه أَدَّاه كما التزمه، فإِنَّ ما وجب ناقصاً يجوز أَنْ يُؤَدَّى ناقصاً مع ارتكاب الحرمة الحاصلة من الإِعراض.

ثم اعلم أَنه يلزم الوفاء بنذرِ ما مِنْ جِنْسِهِ وَاجِب مقصود وليس بواجب، فهذه ثلاث شروط لا يصح النذر بدونها إِلاَّ إِذا قام الدليل على خلافه، فيلزم بالعتق، والاعتكاف، وبنذر الحج ماشياً، ولا يلزم الوضوء وسجدة التلاوة بالنذر، ولا عيادة المريض إِذْ ليس من جنسه وَاجب، وإِيجاب العبد معتبر بإِيجاب الرب، إِذْ له الاتباع لا الابتداع.

ثم إِنْ كان النذر مطلقاً وَفَى به لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُم}

(1)

، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، ومَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِي اللَّهَ، فلا يَعْصِهِ» . رواه البخاري. والإِجماع على وجوب الإِيفاء به، وبه استدل القائلون بافتراضه. وكذا إِذا كان مُعَلَّقاً بِشَرْط يريد كونه، كـ: إِنْ شَفَى اللهُ مريضي فعليَّ كذا، وَفَى به، وبشرطٍ لا يريد كَوْنَهُ، كـ: إِنْ شفَى اللهُ عَدُوِّي، وَوُجِدَ الشَّرْطُ يَلْزَمُهُ الوفاءُ به في ظاهر الرواية عن أَبي حنيفة، لإِطلاق الآية والحديث.

وأَجاز محمدٌ الاكتفاء بالكفارة، وقال: إِنْ شاء فعل المنذور، وإِن شاء أَتَى بكَفَّارَة اليمين، وهو رواية «النوادر» ، وهو المَرْوِيُّ عن أَبي حنيفة آخراً، وبهذا كان يُفْتي إِسماعيل الزاهد، ومشايخ بُخَارى، وهو اختيار شمس الأَئمة، وَوَجْهُهُ ما في «صحيح مسلم» من حديث عُقْبَةَ بنِ عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ

(1)

سورة الحج، الآية:(29).

ص: 589

ويُفْطِرُ بِعُذْرِ ضِيَافَةٍ، ثُمَّ يَقْضِي. ويُمْسِكُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ مُسَافِرٌ قَدِمَ، وحَائِض طَهُرَتْ، وصبِيٌّ بَلَغَ، وكَافِرٌ أَسْلَم،

===

كَفَّارَةُ اليمينِ»، ولو نَذَرَ صوماً في زمان شديد الحر، وعَجَز عنه، قضاه في زمان البرد.

(ويُفْطِرُ) المتنفل (بِعُذْرِ ضِيَافَةٍ) أَوْ غيرها (ثُمَّ يَقْضِي) لا يجوز الفطر لِمُتَطَوِّعٍ بلا عذر في ظاهر الرواية، ورواية «المنتقى»: أَنه يُباح بلا عذر، وهو رواية عن أَبي يوسف لما روى مسلم من حديث عائشةَ رضي الله عنها: أَنها قالت: دَخَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم فقال: «هَلْ عِنْدَكُم منْ شيءٍ؟» (فقلنا): لا، فقال:«إِنِّي إِذاً صَائِمٌ» ، ثم أَتى يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله أُهْدِي لنا حَيْسٌ، فقال:«هاتيه» ، وفي نسخة:«أَرِينيه، فلقد أَصْبَحْت صائماً» فَأَكَلَ، زاد النسائي:«ولكن أَصُومُ يوماً مَكَانَه» . وصحح عبد الحق هذه الزيادة. والحيس: تمر يُخْلَط بِسَمْنِ وأَقِط

(1)

.

ودليل ظاهر الرواية ما رُوِيَ عنه أَنَّه عليه الصلاة والسلام قال: «إِذا دُعِي أَحَدُكُم إِلى طعام فَلْيُجِب، فإِنْ كان مُفْطِراً فليأكل، وإِنْ كان صائماً فَلْيُصَلِّ» . رواه أَبو داود. والصلاة: الدعاء كما قاله هشام. قال القرطبي: قد ثبت هذا عنه صلى الله عليه وسلم ولو كان الفطر جائزاً، كان الأَفضل الفطرَ لإِجابة الدعوة التي هي السنة. انتهى. وفيه بحث لا يخفى، والضيافة عُذْر في الأَظهر لما روى أَبو داود والطيالسي في «مسنده» من حديث أَبي سعيد الخُدْرِي قال: صَنَعَ رجُلٌ من أَصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فدعا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأَصحابه، فلما أَتى بطعامٍ تَنَحَّى رجلٌ منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما لكَ؟» قال: إِنِّي صائم، فقال صلى الله عليه وسلم «تَكَلَّفَ أَخوك وصَنَعَ لك طعاماً، ودعاك، ثُمَّ تقول: إِني صائم، كُل وصُم يوماً مكانه» .

وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حديث جابر قال: إِنْ الرجل الذي صنع: أَبو سعيد الخُدْرِي. وقيل: لا يكون عذراً، وقيل: عُذْرٌ قبل الزوال، لا بَعْدَهُ إِلاَّ إِذا كان في عدم الفطر عقوقٌ لأَحد أَبَوَيْه، فإِنَّه يُفْطِر، وكذا إِنْ كان يَتَأَذَّى صاحب الضيافة بذلك يفطر.

(ويُمْسِكُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ) وُجُوباً وهو الصحيح، وقيل: نَدْباً (مُسَافِرٌ قَدِمَ) سواء كان قدومه بعدما أَفطر، أَوْ قبله، بعد وقت النية، وأَمَّا إِذا كان قبل الفطر في وقت النيّة فلزمه النيّة والصوم، لزوال المُرَخِّص في وقت النية، لكن لو أَفطر لا كفارة عليه، لِقِيَامِ شُبْهَةِ المُبِيحِ (وحَائِض) أَوْ نُفَسَاء (طَهُرَتْ) نهاراً (وصَبِيٌّ بَلَغَ، وكَافِرٌ أَسْلَم) وإِنَّما يُمْسِكُ

(1)

تقدم شرحها، ص: 545، تعليق رقم (1).

ص: 590

ولا يَقْضِي هذان. ويُتِمُّ مُقِيمٌ سافر، ولو أَفْطَرَ لا كَفَّارَةَ عليه.

وجُنُونُ كُلِّ الشَّهْرِ يُسْقِط لا البَعْضِ. وإِنْ أُغمِيَ أَيامًا قَضَاهَا، إِلَّا يومًا نواه.

===

هؤلاء بَقِيَّةَ يَوْمِهِم قَضَاءً لِحَقِّ الوَقْتِ بالتَّشَبُّهِ (ولا يَقْضِي هذان) أَي الصبي والكافر، وإِنْ كان البلوغُ والإِسلامُ في وقت النية ونويا الصوم وأَكلا، لأَن القضاء يَسْتَدْعِي سَبْقَ الوجوبِ ولا وجوبَ عليهما لعدم أَهْلِيَّتِهِمَا، وإِنما يجب قضاء الصلاة إِذا بلغ الصبي، أَوْ أَسلم الكافر في بعض وقتها، لأَن السبب فيها الجزء المتصل بالأَداء، وقد وجدت الأَهلية فيه. والسبب في الصوم الجزء الأَول من اليوم والأَهليةُ مُنْعَدِمَةٌ عنده.

وكذا يُمْسِك بقيةَ يومه المريضُ إِذا بَرِأَ، والمجنونُ إِذا أَفاق. وأَمَّا المُفْطِرُ خطأً أَوْ عَمْداً أَوْ أَفْطر يومَ الشك، ثم ظَهَرَ أَنه من رمضان، فإِنه يجب التَّشَبُّهُ اتفاقاً في هذه الصور، بخلاف الأَمثلةِ المُتَقَدِّمَةِ فإِنَّه قيل: يستحب، لقول أَبي حنيفة رحمه الله تعالى في الحائض تطهر نهاراً: لا يحسن أَنْ تأْكُل والناس صيام، وهو قول مالك والشافعي، لأَن الصوم لا يلزمها أَول النهار لا ظاهراً ولا باطناً، فلا يلزمها الإِمساك في آخر النهار، وهذا لأَن الإِمساك يدل على حقيقة الصوم، فلا يخاطب به من لم يكن عليه خطاب الأَصل، وقيل: يجب وهو الصحيح، لما ثبت مِنْ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بالإِمساك فِيمَنْ أَكل في يوم عاشوراء حين كان واجباً.

(ويُتِمُّ مُقِيمٌ سافر) ترجيحاً لجانب الإِقامة ولِوُقوعِ الالتزام وحصول سبب الوجوب، (ولو أَفْطَرَ لا كَفَّارَةَ عليه) لقيام شبهة المبيح.

(وجُنُونُ كُلِّ الشَّهْرِ يُسْقِط) وجوبَه، وفي نسخة: مسقط، وإِغماءُ كُلِّ الشهر لا يُسْقِطُ وُجُوبَه، والفَرْقُ أَنَّ الجنون يمتد شهراً عادة، فيتحقق الحَرَج في وجوبه، والإِغماء لا يمتد عادة، ولا حرج في وجوبه (لا البَعْضِ) بالجرِّ أَي لا يُسْقِطُ جنونُ بعضِ الشهرِ وجوبَ صوم الشهر، سواء كان الجنون أَصلياً بأَن بلغ مجنوناً، أَوْ عارضياً بأَن بلغ مُفِيقاً ثم جُنَّ لوجود سبب وجوب الشَّهْرِ كُلِّه وهو شُهُودُ بَعْضِ الشَّهرِ، إِذْ لو كان السَّبَبُ شُهُودَ جميع الشهر لَوَقَعَ صوم رمضان في شوال.

وعن محمد أَنَّ المجنون الأَصلي كالصبي، واختاره بعض المتأَخرين.

(وإِنْ أُغمِيَ أَياماً قَضَاهَا) لأَنَّ الإِغماء مَرَضٌ فيكون عذراً في التأْخير لا في الإِسقاط (إِلاَّ يوماً) الظاهر أَنه (نواه) وإِنَّما حملنا كلامه على هذا، لأَن عبارة «الوقاية»: إِلاَّ يوماً حَدَثَ الإِغماءُ فيه، أَوْ في ليلته. وفي «شرحها»: لأَن الظاهر أَنَّه نوى صوم ذلك اليوم، وهذا إِذا لم يَذْكُر أَنَّه نوى أَمْ لا، وأَمَّا إِذا علم أَنَّه نَوَى فلا شك في الصحة، وإِنْ

ص: 591

‌فَصْلُ [في الاعْتِكَافِ]

وهُوَ لَبْثُ صَائمٍ في مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ

===

عَلِمَ أَنه لم يَنْوِ فلا شك في عدمها

(1)

.

فصلٌ (في الاعتكاف)

الاعتكافُ سُنَّة مُؤَكَّدة، وقال «القُدُوري»: مستحب. والحق أَنه ينقسم إِلى واجب: وهو النَّذْر، وإِلى سنة مؤكدة: وهو العَشْر الأَخير من رمضان، وإِلى مستحب: وهو ما عدا ذلك. روى الجماعةُ إِلاَّ ابن ماجه من حديث عائشةَ رضي الله عنها: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَواخِرَ من رمضانَ، ثم اعتكف أزواجُه بعده.

(وهُوَ) في اللغة: الإِقامة على الشيء، وحَبْسُ النفس عليه، ومنه قوله تعالى:{ما هَذِهِ التَّمَاثِيلُ التي أَنْتُم لها عَاكِفُونَ}

(2)

.

وفي الشرع: (لَبْثُ صَائِمٍ) ـ بِفَتْحِ اللام وسكون الموحدة ـ أَي مُكْثُه (في مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ) وهو الذي له مؤذن وإِمام، ويُصَلَّى فيه الصلوات الخمس، أَوْ بعضها بجماعة. وعن أَبي حنيفة: لا بد أَنْ يُصَلَّى فيه الصلوات الخمس بجماعة، وهو قول أَحمد. وعن أَبي يوسف ومحمد: يصِح الإِعتكاف في كل مسجد، وهو قول مالك والشافعي لإِطْلاق قوله تعالى:{وأَنْتُم عَاكِفُون في المَسَاجِدِ}

(3)

.

ولأَبي حنيفة قول عَلِيّ: «لا اعتكاف إِلاَّ في مسجد جماعة» . رواه ابن أَبي شيبة، وعبد الرزاق في «مُصَنَّفَيْهِما». وقول ابن عباس:«إِنَّ أَبْغَضَ الأُمورِ إِلى اللَّهِ تعالى البِدَعُ، وإِنَّ مِنَ البِدَعِ الاعتكافَ في المساجد التي في الدُّورِ» . رواه البيهقي في «سننه» . وروى الطبراني في «معجمه» عن إِبراهيم النَّخَعِيّ، أَنَّ حذيفةَ قال لابن مسعود: «أَلَا

(4)

تَعْجَب مِنْ قومٍ بين دارِكَ ودارِ أَبي موسى، يَزْعُمُونَ أَنَّهم مُعْتَكِفون؟ قال: لعلهم أَصابوا وأَخطأْتَ، أَوْ حَفِظُوا ونَسِيتَ، قال: أَمَّا أَنَا فقد عَلِمْتُ أَنَّه لا اعتكاف إِلاَّ في مسجد جماعة». انتهى.

وأَفْضَل الاعتكافِ ما كان في المسجد الحرام، ثم ما كان في مسجده عليه

(1)

أي في عدم الصحة.

(2)

سورة الأنبياء، الآية:(52).

(3)

سورة البقرة، الآية:(187).

(4)

في المطبوعة: "لا"، وما أثبتناه من المخطوطة وهو الصواب.

ص: 592

بِنِيَّتِه

===

الصلاة والسلام، ثم ما كان في المسجد الأَقْصى، ثم ما كان أَهله أَكثر من الجوامع.

(بِنِيَّتِهِ) أَي بِقَصْد الاعتكاف، فإِنها المُمَيِّزة بين العادة والعبادة، فالصوم شَرْط عندنا وعند مالك وقال الشافعي وأَحمد: ليس بشرط، لِمَا في الصحيحين عن ابن عمر أَنه قال: يا رسولَ الله إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَعْتَكِفَ في المسجد الحرام ليلة، فقال عليه الصلاة والسلام:«أَوْفِ بِنُذْرِكَ» . وفي «سنن الدَّارَقُطَنِيّ» عن عبد الله بن عمر، أَنَّ عمر رضي الله عنه: نَذَرَ في الجاهليةِ أَنْ يَعْتَكِفَ ليلةً في المسجدِ الحرام، فَلَمَّا كانَ الإِسلامُ سأَل عنه عليه الصلاة والسلام فقال:«أَوْفِ بِنَذْرِكَ» ، فاعتكف عمرُ ليلةً.

ولنا ما روى أَبو داود من حديث عائشةَ أَنها قالت: مَضَتِ السُّنَّةُ على المُعْتَكِفِ أَنْ لا يعودَ مَرِيضاً، ولا يَشْهَدَ جَنَازَةً، ولا يَمَسَّ امرأَةً ولا يُبَاشِرَهَا، ولا يخرجَ لِحاجةٍ إِلاَّ لِمَا لا بُدَّ منه ـ أَي مِنَ البَوْلِ والغَائِطِ ـ، ولا اعْتِكَاف إِلاَّ بِصَوْم، ولا اعْتِكَافَ إِلاَّ في مَسْجِدٍ جَامِع. وأَيضاً لم يُرْوَ أَنه عليه الصلاة والسلام اعتكف بلا صيام، والمواظبةُ من أَدلة الوُجُوب.

فإِنْ قيل في «الصحيحين» أَنه عليه الصلاة والسلام اعتكف العَشْر الأُوَل من شَوَّال، أُجِيبَ بأَنه ليس فيه دلالة على أَنه كان صائماً أَوْ مفطراً، وأَمَّا حديث اعتكاف عمر، فرواه أَبو داود والنسائي والدَّارَقُطْنِيّ بلفظ: أَنَّ عمر رضي الله عنه جَعَلَ على نَفْسِهِ أَنْ يَعْتَكِفَ في الجاهلية ليلةً، أَوْ يوماً، عند الكعبةِ فسأَل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال:«اعتكف وصُم» . ولفظ النسائي والدَّارَقُطْنِيّ: فأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ ويَصُومَ. وروى الدَّارَقُطْنِيّ والبيهقي عن سُوَيْدِ بن عبد العزيز، عن سفيانَ بن حسين، عن الزُّهْرِيِّ، عن عروةَ، عن عائشةَ مرفوعاً:«لا اعتكاف إِلاَّ بالصوم» . وقد رُوي عن عَطَاء موقوفاً، وروى عبدُ الرَّزَّاق في «مُصَنَّفِهِ» عن عائشةَ وابن عباس:«مَنْ اعتكفَ فعليه الصَّوْمُ» . وروى البيهقي من قول ابن عمر: «المُعْتَكِفُ يَصُومُ» .

وأَمَّا ما رواه الحاكم وصححه عن ابنِ عباس: أَنْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على المُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلاَّ أَنْ يجعله على نفسه» ، فَمُعَارَضٌ بما قَدَّمْنَاهُ، فيُجْعَلُ مَرْجِعُ الضميرِ

(1)

ـ في قوله ـ إِلا أَنْ يجعله ـ للاعتكاف، فيكون دليل اشتراط الصوم في الاعتكاف المنذور دون النفل،

(1)

أي مَرْجع الضمير المتصل بالفعل: "يجعله" إلى كلمة: "المعتكف" الواردة في الحديث السابق الذِّكر.

ص: 593

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

هذا والجمع بين قوله: ليلة أَوْ يوماً: أَنَّ المراد الليلة مع يومها أَوْ اليوم مع لَيْلَتِهِ

(1)

.

ثُمَّ اعلم أَنَّ الصوم شرط لصحة الاعتكاف الواجب رواية واحدة، ولصحة التطوع في رواية الحسن عن أَبي حنيفة، وبه قال مالك. وأَمَّا في رواية «الأَصل» وهو قول محمد، بل قيل: إِنَّه ظاهر الرواية عن العلماء الثلاثة: فَلَيْسَ بِشَرْط، لأَن مَبْنَى النفل على المساهلة، ثم اعتكاف

(2)

العَشْرِ الأَخير سُنَّةٌ مُؤَكَّدة على الكفاية، للإِجماع على عدم ملامةِ بعض أَهلِ بلدٍ لم يأْتوا به إِذا أَتَى به بَعْضٌ منهم. ومما يدل على أَنها مؤكدة ما روى ابنُ ماجه عن أُبَيِّ بنِ كَعْب: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَواخِرَ من رمضانَ فَسَافَرَ عاماً، فلما كان العامُ المقبلُ اعتكفَ عِشْرِينَ يوماً. وما رُوِي

(3)

: أَنه صلى الله عليه وسلم اعتكف العَشْرَ الأَوْسَطَ، فلما فرغ أَتاه جبرائيل عليه السلام وقال: إِنَّ الذي تَطْلُبُ أَمَامَك ـ يعني ليلة القدر ـ فاعتكفَ العَشْرَ الأَواخر. وعن هذا ذهب الأَكثر إِلى أَنها في العَشْرِ الآخرِ من رمضان.

وقد وَرَدَ في الصحيح: أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأَواخِر، والتَمِسُوها في كل وِتْر» . والجمهور على أَنَّها ليلة السابع والعشرين. والله سبحانه أَعلم.

وفي «المحيط» : قال أَبو حنيفة: ليلة القدر في رمضان تَتَقدَّمُ وتَتَأَخَّرُ، وقال أَبو يوسف ومحمد: هي ليلة متعينة في النصف الأَخير من رمضان، فلو قال لامرأَته: أَنْتِ طالق ليلةَ القَدْرِ، فإِنْ كان عَامِّياً تَطْلُقُ ليلة

(4)

السابع والعشرين من رمضان من تلك السَّنَة، لأَن العَوَام يعرفونها ليلة القدر، وإِنْ كان فقيهاً يَعْرِفُ الخِلَافَ: فإِنْ حَلَف قبل رمضان تَطْلُقُ بِمُضِيِّه ـ أَي عندهم جميعاً ـ، وإِنْ حَلَفَ في النصف الأَخير لا تَطْلُقُ عندهما حتى يجيء وقتُ حَلِفِهِ من النصف الأَخير من رمضان القابل، ولا تَطْلُقُ عند أَبي حنيفة حتى يمضي رمضانُ القابل، وعليه الفتوى. انتهى.

لهما ما روى أَبو داود من حديث ابن مسعود قال: قال لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «اطْلُبُوها ليلةَ سَبْعَ عَشَرَةَ من رمضانَ، وليلةَ إِحْدى وعشرينَ، وليلةَ ثلاث وعشرين، ثُمَّ سَكَتَ» . ولأَبي حنيفة ما رواه أَبو داود عن ابن عمر قال: سُئِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأَنا

(1)

في المطبوعة: ليله، وما أثبتناه من المخطوطة.

(2)

سقط من المخطوطة.

(3)

أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (فتح الباري) 2/ 298، كتاب الأذان (10)، باب السجود على الأنف

(135)، رقم (813).

(4)

سقط من المطبوعة.

ص: 594

وأَقَلُّهُ يَوْمٌ، فَيقْضِي مَنْ قطعه فِيهِ. ولا يَخْرُجُ منه إِلَّا لحاجةِ الإِنسانِ أَوْ الجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَال.

ومَنْ بَعُدَ مَنْزِلُهُ فَوَقْتًا يُدْرِكُهَا، ويُصَلِّي السنن، ولا يَفْسُدُ بِمُكْثِهِ في الجامع أَكثر منه

===

أَسْمَعُ ـ عن ليلةِ القَدْرِ، قال:«هي في كلِّ رمضانَ» .

(وأَقَلُّهُ يَوْمٌ) في الواجب، وفي النفل ـ على رواية الحسن ـ وشَرَطَ أَبو يوسف أَكثر النهار، وأَما على قول رواية «الأَصل» ، وقول محمد ومذهب الشافعي: فأَقَلُّهُ ساعة ولو مِنَ الليل، وبهِ يُفْتَى، لأَنه مُتَبَرِّع فكان تقدير زمانه إِليه، والساعة: في عُرْفِ الفقهاءِ جُزْءٌ من الزمان، لا جُزْءٌ من أَربعةٍ وعِشْرينَ من يوم وليلة كما يقوله المنجمون.

(فَيَقْضِي مَنْ قطعه) أَي الاعتكاف (فِيهِ) أَي في ذلك اليوم (ولَا يَخْرُجُ) المُعْتَكِفُ (منه) أَي من المسجد (إِلاَّ لحاجةِ الإِنسانِ) ـ وهي البول والغائط ـ ولا يمكث في منزله بَعْد فَرَاغه من طُهُورهِ، لأَنَّ الثابت بالضرورة مُقَدَّرٌ بِقَدْرِهَا، لِمَا في الكتب الستة عن عائشةَ قالت: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذا اعتكفَ لا يَدْخُلُ البيتَ إِلاَّ لِحَاجَة الإِنسان.

(أَوْ الجُمُعَةِ) لأَنَّها من أَهَمِّ الحَوَائِجِ (بَعْدَ الزَّوَال) لأَنَّ الخطاب بالوجوب يَتَوَجَّهُ حينئذ، وهذا لِمَنْ قَرُبَ مَنْزِلُهُ وكان بحيث إِذا خرج بعد الزوال وصلى السُّنَّةَ لا تفوته الجمعة.

(ومَنْ بَعُدَ مَنْزِلُهُ فَوَقْتاً) أَي فَيَخْرُجُ وَقْتاً (يُدْرِكُهَا، ويُصَلِّي السنن) أَرْبَعَاً قبلها. (ولا يَفْسُدُ) اعتكافُه (بِمُكْثِهِ في الجامع أَكثر منه) أَي مِمَّا ذكر، لأَنَّهُ موضع اعتكاف، إِلاَّ أَنَّه التَزَمَ الاعتكافَ في مسجد فالأَوْلى أَنْ لا يفعل شيئاً من اعتكافه في غيره

(1)

إِلاَّ من ضرورة، والخُرُوجُ للجُمُعَةِ فيه خلاف مالك والشافعي، فلهما أَنَّ الخُرُوج ضِدُّ اللَّبْثِ فَيُفْسِدُه

(2)

إِلاَّ فيما تُحَقَّقُ الضرورةُ فيه، ويُمْكِنُهُ أَنْ يعتكف في الجامع فلا ضرورة له في الخروج.

ولنا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بالخُرُوج للجمعة فصار مستثنى عن نَذْرِهِ كالخروج للحاجة، بل أَوْلى لأَنها حاجة دينية. وقولهما يمكنُهُ الاعتكافَ في الجامع مدفوع بأَنَّ الاعتكاف في سائر المساجد مشروع لقوله تعالى:{ولا تُبَاشِرُوهُنَّ وأَنْتُمْ عَاكِفُون في المَسَاجِدِ}

(3)

،

(1)

أي في غير المسجد المعتكف فيه.

(2)

أي الاعتكاف.

(3)

سورة البقرة، الآية:(187).

ص: 595

وإِنْ خَرَجَ ساعةً بلا عُذْر، فَسَدَ. ويَأْكُلُ ويَشْرَبُ ويَنَامُ ويَبِيعُ ويَشْتَرِي فيهِ بِلا إِحْضَارِ مَبيع فيهِ، لا غَيرُه

===

وإِذا صَحَّ الشُّرُوعُ وقدْ مَسَّتِ الضرورةُ أُطْلِقَ له الخروجُ، ولو أَقام فيه أَكثر من ذلك لا يَفْسُدُ اعتكافُه، لأَن المُفسِد له الخروجُ من المسجد لا المكث فيه.

(وإِنْ خَرَجَ ساعةً بلا عُذْر فَسَدَ) اعْتِكَافُهُ عند أَبي حنيفة، وهو القياس لوجود المُنَافي، وقالا: لا يَفْسُدُ حتى يكونَ أَكثر من نصف يوم، لأَن في القليل ضرورةً، ولا ضرورةَ في الكثير، وفيه أَنْ لا ضرورة في مطلق القليل فتأمل في صحة التعليل. ولو خرج لإِنجاء غريق، أَوْ حَرِيق، أَوْ لأَداء شهادة، أَوْ لِنَفِيرٍ عَام، أَوْ لجنازة، أَوْ لعيادة فَسَدَ اعتكافُه فيقضيه. ولو خرج لانهدام المسجدِ، أَوْ تَفَرُّقِ أَهْله بحيث بطلت الجماعة عنه، أَوْ لإِخراج ظالم له كرهاً أَوْ لِخَوفٍ على نفسه أَوْ ماله من المكابرين لا يفسد، فَيَصحّ أَنْ يَبْنِي عليه.

(ويَأْكُلُ) المُعْتَكِفُ (ويَشْرَبُ ويَنَامُ) ـ لأَن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن له مأْوى إِلاَّ المسجد ـ، أَي وهو مُعْتَكِفٌ، ولأَنه يمكن قضاء هذه الحاجات فيه، فلا ضرورةَ إِلى الخروج.

(ويَبِيعُ ويَشْتَرِي فيهِ) أَي في المسجد، لأَنه قد يحتاج إِلى ذلك (بِلَا إِحْضَارِ مَبيع فيهِ) لأَنَّ المسجد مُحْرَزٌ عن حقوق العباد. وفي «الذخيرة»: هذا فيما لا بد منه، وأَمَّا البيع والشراء للتجارة فَيُكْرَهُ، لأَنَّ المُعْتَكِفَ مُنْقَطِعٌ إِلى الله تعالى فلا يشتغلُ بالدنيا.

(لا غَيْرُه) أَي لا يفعل غيرُ المُعْتَكِفِ شيئاً من هذه الأُمور في المسجد، لما روى الترمذي والحاكم ـ وقال: على شرط مسلم ـ عن أَبي هريرة قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يبيع ويشتري في المسجد، فقولوا له: «لا أربح اللهُ تجارَتَك، ومَنْ رأَيتموه ينشد ضالةً في المسجد فقولوا له: لا رَدَّ اللهُ عَلَيْكَ» . ولقوله عليه الصلاة والسلام: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَنا، صِبْيَانَكُم، ومَجَانِينَكُم، وبَيْعَكم، وشِرَاءَكُم، وخُصُومَاتِكم، ورَفْعَ أَصواتِكم، وإِقَامَةَ حُدُودِكُم، وسَلَّ سُيُوفِكُمْ، واتَّخِذُوا على أَبوابِها المَطَاهِرَ

(1)

، وجَمِّرُوهَا

(2)

في الجُمَع». رواه ابن ماجه في «سُنَنِهِ» ، والطَّبَرَانِيُّ في «مُعْجَمِهِ» . ويُكْرَهُ استطراقُ

(3)

المسجد إِلاَّ لِعُذْرٍ، فينبغي أَنْ ينوي الاعتكافَ ساعةً.

(1)

المطاهر: محالّ يتوضأ فيها المحتاج ويقضي حاجته.

(2)

التجمير: التبخير بالطِّيب. معجم لغة الفقهاء ص: 121، بتصرف.

(3)

الاستطراق: المرور. معجم لغة الفقهاء ص: 62.

ص: 596

ولا يَصْمُتُ، ولا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِخَيْر.

ويُبْطِلُه الوَطْئُ وَلَوْ لَيْلًا، أَوْ نَاسِيًا. وَوَطْؤُهُ في غَيْرِ فَرْجٍ أَوْ قُبْلَةٌ أَوْ لَمْسٌ إِنْ أَنْزَلَ، وإِلَّا فَلا، وإِنْ حَرُمَ

===

(ولا يَصْمُتُ) أَي لا يدوم على الصمت تَعَبُّداً بهِ

(1)

لأَنه

(2)

ليس في شريعتنا بل في شريعة غيرنا كما يشير إِليه قوله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليومِ إِنْسِيَّاً}

(3)

، ولما روى أَبو داود عن علي رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يُتْمَ بَعْدَ احتلام، ولا صِمَاتَ يومٍ إِلى الليل» . وأَسْنَدَ أَبو حنيفة عن أَبي هريرة: أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن صَوْمِ الوِصَالِ، وعن صَوْمِ الصَّمْتِ.

فيلازم لتلاوة الحديثِ والعلمِ وتَدْرِيسهِ، وسِيَرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسائر الأَنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأَخبار الصالحين، وكتابة أُصول الدين.

(ولا يَتَكَلَّمُ إِلاَّ بِخَيْر) لأَنَّه في عِبَادَة، فلا يَخْلِطها بغيرها، ولإِطْلَاقِ

(4)

قوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليومِ الآخر فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُت» . رواه أَحمد والشيخان وغيرهم.

(ويُبْطِلُه الوَطْاءُ) سواء أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِل، لقوله تعالى:{ولا تُباشِرُوهُنَّ وأَنْتُم عَاكِفُونَ في المَسَاجِدِ}

(5)

. (وَلَوْ لَيْلاً) لأَنَّ الليل مَحَلُّ الاعتكاف كالنَّهار، (أَوْ نَاسِياً) لأَن حالة الاعتكاف مُذَكِّرَةٌ كالصلاة فلا يُعْذر المُعْتَكِفُ بالنِّسْيان، بخلاف حالة الصوم، على أَنَّ الوطاء في المسجد حرام، وكذا الخروج والتوقف عنه لغير ضرورة. وقال الشافعي: لا يَفْسِدُهُ وطاءُ الناسي، وهو رواية ابن سَمَاعَة عن أَصحابنا.

(وَوَطْؤُهُ في غَيْرِ فَرْجٍ أَوْ قُبْلَةٌ أَوْ لَمْسٌ إِنْ أَنْزَلَ) لأَنَّ هذه الأَشياء مع الإِنزال في معنى الجِمَاع (وإِلاَّ) أَي وإِن لم يُنْزِل (فَلَا،) يَبْطُلُ اعتكافه لانعدام معنى الجماع، وهو أَظهر أَقوال الشافعي، وأَبْطَلَهُ مالك لظاهر الآية. ولنا اعتبارُه بالصوم، ومجازُ الآية ـ وهو الجِماعُ ـ مرادٌ فَبَطَلَ أَنْ تكون الحقيقة مُرَادةً.

(وإِنْ حَرُمَ)

(6)

كلٌّ من هذه الأَشياء عليه، لأَنه من دواعي الوطاء، والوطاء

(1)

في المطبوعة: بِقَيْد أنه. وما أثبتناه من المخطوطة.

(2)

سقط من المطبوعة.

(3)

سورة مريم، الآية:(26).

(4)

في المطبوعة: وإطلاق، وما أثبتناه من المخطوطة.

(5)

سورة البقرة، الآية:(187).

(6)

"إنْ" هنا وصلية.

ص: 597

والمرأَةُ تَعْتَكِفُ في بَيْتِهَا.

ولَوْ نَذَرَ اعتكافَ أَيَّامٍ لَزِمَهُ بِلَيَالِيهَا وِلاءً، وإِنْ لَمْ يَشْتَرِط

===

مَحْظُور الاعتكاف فَيَحْرُمُ دواعيه، كما في الظِّهَارِ والاسْتِبْراء والإِحْرَام، وإِنما لم تَحْرُمْ دواعي الوطاء في الصوم لأَنه يَكْثُرُ وجوده، فيؤدي مَنْعُهَا فيه إِلى الحرج، وأَمَّا الإِنزال من إِدامة نَظَرٍ أَوْ فِكْرٍ فلم يُفْسِد عندنا وعند الشافعي، وقال مالك: تُبْطِلُه لأَن الإِنزال لِشَهْوةِ الفِكْرِ كالوِقَاع. ولنا أَنَّ الإِنزال منهما

(1)

بمنزلة الإِنزال في الاحتلام.

(والمرأَةُ تَعْتَكِفُ في بَيْتِهَا) أَي في المَوْضِع الذي أَعَدَّتْهُ للصلاة فيه، حتى لو لم يكن في بيتها موضع مُعَدٌّ للصلاة أَوْ كان، واعتكفت في موضع غَيْرِهِ من بيتها، لا اعتكاف لها. ولو اعتكفت في مسجدِ جماعةٍ جاز، ولكنَّ مَسْجِدَ بيتها أَفْضَلُ من مسجدِ حَيِّهَا، ومَسْجدُ حَيِّهَا أَفضل من مسجدِ جماعة غيرهِ. وقال مالك والشافعي في القول الجديد: لا يجوز اعتكاف المرأَة في مسجد بيتها، وأَلْحَقُوها بالرجال لإِطْلَاقِ:«لا اعتكافَ إِلاَّ في مسجدِ جماعةٍ»

(2)

.

ولنا أَنَّ مسجد بيتها أَصْوَنُ لها وأَحْرَزُ لفضيلة الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم «صلاة المرأَة في بيتها أَفضلُ من صلاة المرأَةِ في صَحن دَارِها، وصلاتُها في صَحنِ دارها أَفضل من صلاتها في المسجد»

(3)

، فإِذا أَعطى لبيتها حُكْمَ المسجد في حق الصلاة، فكذا في حق الاعتكاف بِمَكَانِ الصلاة.

(ولَوْ نَذَرَ اعتكافَ أَيَّامٍ لَزِمَهُ) اعتكافُها (بِلَيَالِيهَا)، وكذا إِذا نَذَرَ اعتكاف ليالي، لَزِمَه اعتكافها بأَيَّامِها، لأَن ذِكْرَ الأَيام بلفظ الجَمْعِ يَدْخُل فيه لياليها، كما أَنَّ ذِكْر الليالي يَدْخُلُ فيه أَيَّامُهَا، قال تعالى:{ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزَاً}

(4)

، وقال:{ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيَّا}

(5)

والقضية واحدة، وبه قال مالك وأَخرج الشافعي اللياليَ، لأَنَّ اسم الأَيام لا يتناول الليالي، وإِنَّما دخلت الليالي المتخللة في نَذْر الشهر للضرورة، فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا.

(وِلَاءً) أَي متتابِعَةً (وإِنْ لَمْ يَشْتَرِط) الوِلاءَ في ظاهر الرواية، وبه قال مالك، وأَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ عند عدم التصريح به، وهو رواية عن أَبي حنيفة، وبها قال زفر. ولو نَذَرَ

(1)

أي من إدامة النظر والفكر.

(2)

سنن أبي داود 2/ 836 - 837، كتاب الصوم (14)، باب المعتكف يعود المريض (80)، رقم (2473).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه 1/ 383، كتاب الصلاة (2)، باب التشديد في ذلك (53)، رقم (570).

(4)

سورة آل عمران، الآية:(41).

(5)

سورة مريم، الآية:(10).

ص: 598

وفي يَوْمَيْنِ يَوْمَانِ بِلَيْلَتَيْهِمَا. وصَحَّ نِيَّةُ النَّهَارِ خَاصَّةً.

===

صَوْمِ أَيام لا يَلْزَمُه وِلاءٌ، إِلاَّ أَنْ يشترط والفَرْقُ بينهما: أَنَّ الليالي قابلة للاعتكاف غير قابلة للصوم، فيلزم الاعتكاف على التتابع حتى يَنُصَّ على التفريق، ويلزمه الصوم على التفريق حتى يَنُصَّ على التتابع.

(وفي يَوْمَيْنِ) أَي ولزمِه في نذر اعتكاف يومين (يَوْمَانِ بِلَيْلَتَيْهِمَا، وصَحَّ نِيَّةُ النَّهَارِ خَاصَّةً) في المسأَلتين لأَنَّه نَوَى حقيقةَ كلامِه، ولو نَذَرَ اعتكاف شَهْرٍ، وقال: أَرَدْتُ النهار خاصة، لا يُصَدَّق، لأَنَّ الشهر اسم لِمُقَدَّرٍ يَشْمَلُ الأَيَّامَ والليالي، والله تعالى أَعْلَمُ بالصواب.

ص: 599

‌كِتَابُ الحَجِّ

فُرِضَ

===

كتابُ الحَجِّ

بِفَتْح الحاء وبكسر، وهو لغةً: القَصْدُ إِلى مُعَظَّم.

وشَرْعاً: زيارةُ مكان مخصوص، بِفِعْل مخصوص. وسَبَبُهُ البيتُ، لأَنه يضاف إليه. وفي البخاري: عن أَبي إِسحاقَ، عن زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ بَعْدَمَا هَاجَرَ حَجَّةً واحدةً، وهي حَجَّةُ الوَدَاعِ، وهذا مِمَّا لا نِزَاعَ فيه بالإِجماع. وقال أَبو إِسحاق: وبمكةَ أُخرى، ـ يَعْنِي بِحَسَبِ عِلْمِهِ به ـ. وفي جزء الوزير

(1)

بن الجراح: عن سُفْيانَ الثَّوْري، عن جَعْفَرَ بن محمد، عن أَبيه، عن جابر بن عبد الله قال: حَجَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حِجَجٍ: حَجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، وحَجَّةً قَرَنَ معها عُمْرَة. انتهى.

وأَخرجه الدَّارَقُطْنِيّ في «السُّنَن» ، عن سُفْيانَ، عن جَعْفَرَ بن محمد، عن أَبيه، عن جابر مثله سواء. انتهى. وعن ابن عباس: أَنه عليه الصلاة والسلام حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ ثلاث حِجَج. أَخْرَجَهُ ابن ماجه والحاكم. وهو مَبْنِي على وفود الأَنصار بِمِنىً بعد الحج، وهذا لا يقتضي نَفْيَ الحج قبل ذلك. وقد أَخْرَجَ الحاكم بسند صحيح: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ حِجَجاً لا يُعْلَمُ عَدَدُهَا. وقال ابن الأَثير: كان يحج كل سنة قبل أَنْ يهاجر، يعني إِلاَّ أَنْ يَمْنَعَ منه مانع، فكانت حجة الفريضة بعدما هاجر سنة عشر. وحَجَّ أَبو بَكْر في السنة التي قبلها سنة تسع، وفيها فُرِضَ الحج، وأَما سَنَةُ ثمان ـ وهي عام الفتح ـ في رمضان فَحَجَّ بالناسِ فيها عَتَّابُ بنُ أُسَيْد. وهو الذي وَلاَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَميراً بمكةَ بعد الفَتْح.

(فُرِضَ) فَرْضِيَّةً مُحْكَمَةً بالإِجماع، والكتاب، والسُنَّةِ.

أَمَّا الكتابُ: فَقَوْلُهُ تعالى: {وللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِليهِ سَبِيلاً}

(2)

، وكلمة:«على» للإِيجاب، وقد نَزَلَ في سَنَةِ تِسْع، وليس في:{وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ}

(3)

النَّازِل في سنة ست دَلالةٌ على الإِيجاب من غير شروع. وقيل:

(1)

حُرفت في المطبوعة إلى: الرزين بن الجراح. والصواب ما أثبتناه من المخطوطة. وسير أعلام النبلاء 15/ 298. والنجوم الزاهرة 3/ 288. والوزير بن الجراح هو: الإمام المحدِّث الصادق، الوزير العادل، أبو الحسن، الكاتب. ولد سنة نيِّف وأربعين ومئتين، وتوفي سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة.

(2)

سورة آل عمران، الآية:(97).

(3)

سورة البقرة، الآية:(196).

ص: 600

عَلَى كُلِّ حُرٍّ مُسْلِم مُكَلَّفٍ صَحِيحٍ

===

فُرِضَ الحجُّ سنةَ سِتّ أَيضاً.

وأَمَّا السُّنَّةُ: فقد وردت منها أَخبار كثيرة: منها حديث: «بُنِيَ الإِسلامُ على خَمْسٍ

» الحديثَ. متفق عليه، ومنها:«حُجُّوا، فإِنَّ الحَجَّ يَغْسِلُ الذُّنُوبَ كَمَا يَغْسِلُ الماءُ الدَّرَنَ» . رواه الطبراني في «الأَوسط» ، ومنها:«مَنْ مَاتَ ولم يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شاء يهودياً أَوْ نَصْرَانِيَّاً» . رواه ابن عَدِي من حديث أَبي هريرة، والترمذي نحوه من حديث عليّ.

(عَلَى كُلِّ حُرَ) خَرَجَ به العَبْدُ وإِن أَذِنَ له مَوْلَاه (مُسْلِم) خَرَجَ به الكافر (مُكَلَّفٍ) خرج به الصبي والمجنون، لقوله صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا صَبِيَ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ الحِنْثَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وأَيُّمَا أَعرابي حَجَّ ثُمَّ هَاجَرَ، فعليه أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثم أُعْتِقَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى» . رواه الحاكم في «مُسْتَدرَكِهِ» ، وقال: على شرط الشيخَيْنِ.

والمرادُ بالأَعْرَابي: الذي لم يُهَاجر ولم يُسْلِم، فإِنَّ مُشْرِكي العَرَبِ كانوا يَحُجُّونَ فنفى إِجْزَاء ذلك الحَجِّ عن الواجب بعد الإِسلام، كذا ذَكَره ابن الهُمَام. وقال البغَوِي: ولم يكن يُقْبَلُ الإِسلام بَعْدَ هجرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ بالهِجْرَةِ، ثُمَّ نُسِخَ ذلك بعد فتح مكةَ بقوله صلى الله عليه وسلم «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ»

(1)

. هذا، والحِنْثُ: الإِثم، ولم يبلغوا الحِنْث: أَي لم يبلغوه فيكتب عليهم، وأَخْرَجَ أَبو داود في «مَرَاسِيله» ، عن محمد بن كَعْبِ القُرَظي قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «أَيُّما صَبِيَ حَجَّ به أَهْلُهُ فَمَاتَ أَجْزَأَ عنه، فإِن أَدْرَكَ فعليه الحَجُّ، وأَيُّما عَبْدٍ حَجَّ بهِ أَهْلُه فَمَاتَ أَجْزَأَ عنه، فإِنْ أُعْتِقَ فعليه الحَجُّ» . وأَخْرَجَهُ ابن أَبي شيبةَ في «مُصَنَّفِهِ» : حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأَعْمَشِ، عن أَبي ظَبْيَان، عن ابن عباس قال: احْفَظُوا عني، ولا تقولوا: قال ابن عباس: أَيُّما عَبْدٍ حَجَّ

إِلى آخرهِ. وانْعَقَدَ على شَرْط الحريةِ الإِجْمَاعُ.

(صَحِيحٍ) خرج به المريض، والمُقْعَدِ، والمَفْلُوج، والزَّمِن الذي لا يستطيع الثبوت على الراحلة، ومقطوع الرجلين عند أَبي حنيفة في المشهور عنه، وهو رواية عن أَبي يوسف ومحمد، لأَنَّ الاستطاعة معدومة عند عدم الصحة، فلا يجب عليهم الإِحْجَاج إِذا مَلَكُوا الزاد والراحلة، ولا الإِيصاء به في المرض، إِذا لم يَسْبِقْهُم الوجوب،

(1)

صحيح البخارى (فتح الباري) 6/ 3، كتاب الجهاد والسِّيَر (56)، باب فضل الجهاد والسير (1)، رقم (2783).

ص: 601

بَصِيرٍ،

===

لأَنه بدل الحج بالبدن، وإِذا لم يجب المُبْدَل لا يجب البَدَل.

وفي ظاهر الرواية عنهما: يجب الحج على هؤلاء إِذا مَلَكُوا الزاد، والراحلة، ومؤنة مَنْ يرفعهم ويضعهم ويقودهم إِلى المناسك، وهو رواية الحسن عن أَبي حنيفة رحمه الله. ويلزمهم الإِيصاء به إِنْ لم يحجّوا بأَنفسهم، ولو حجّوا عنهم وهم آيسون من الأَداء بالبدن ثُمَّ صَحُّوا، وجب عليهم الأَداء بأَنفسهم، وظهرت نفلية الأَول لأَنه خَلَفٌ ضروري، فيسقط اعتباره

(1)

بالقدرة على الأَصل

(2)

. فلهما حديث الخَثْعَمِية: إِنَّ فريضةَ الحجِّ أَدْرَكَتْ أَبي وهو شَيْخٌ كبير لا يَسْتَمْسِك على الراحلة، أَفترى أَنْ أَحجّ عنه؟ قال:«أَرأَيتِ لو كان على أبيكِ دين فَقَضَيْتِ عنه أَكان يجزاء عنه؟» قالت: نعم

(3)

.

وله قوله تعالى: {ولِلَّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِليهِ سَبِيلاً}

(4)

، قيل: الإِيجاب به، والعجز لازم مع هذه الأُمور، والاستطاعة بالبدن هي الأَصل، وملاءمة القائد والخادم وحصول المقصود له من الرفقة غير معلوم، والعجز ثابت للحال فلا يثبت الوجوب بالشك، إِلاَّ أَنَّ هذا قد يُدْفع بأَن هذه العبادة يجزاء فيها النيابة عند العجز لا مطلقاً، تَوَسُّطاً بين المالية المحضة والبدنية المحضة لتوسطها بينهما، والوجوب دائر مع فائدته فيثبت عند قدرة المال، ليظهر أَثره في الإِحجاج والإِيصاء.

وفي «التجنيس» لصاحب «الهداية» : وجب عليه الحج، فَحجَّ مِنْ عامه، فمات في الطريق، لا يجب عليه الإِيصاء بالحج، لأَنه لم يُؤخِّر بعد الإِيجاب. وفي «الغاية»: المحبوس والخائف من السلطان كالمريض لوجود المانع. انتهى. وكذا حُكْمُ السلطان إِذا خِيفَ على مِلْكِهِ أَوْ مِلْكِ غَيْرِهِ.

(بَصِيرٍ،) فلا يفترض على الأَعمى ـ الفاقِد مَنْ يقوده ـ أَنْ يَحُجَّ بنفسه باتفاق، ولا أَنْ يُحِجَّ غيرَه عند أَبي حنيفة. وقالا: عليه أَنْ يُحِجَّ غيره، ولا على الأَعمى الواجد مَنْ يقوده عند أَبي حنيفة رحمه الله، وعنهما روايتان: الوجوب وعدمه، والفرق لهما بين

(1)

أي اعتبار حج غيره عنه.

(2)

أي بقدرته على الحج عن نفسه.

(3)

أخرج البخاري جزءًا منه: (فتح الباري) 3/ 378، كتاب الحج (25)، باب وجوب الحج وفضله (1)، رقم (1513).

(4)

سورة آل عمران، الآية:(97).

ص: 602

لَهُ زَادٌ ورَاحِلَةٌ، فَضُلًا عَمَّا لا بُدَّ منه، وعَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إِلى حِينِ عَوْدِهِ،

===

الجمعة والحج على رواية عدم وجوب الحج أَنَّ وجود القائد إِلى الجمعة غالب وإِلى الحج نادر.

(لَهُ زَادٌ) أَي نفقة متوسطة ذاهباً وآيباً، (ورَاحِلَةٌ) وهو شِقُّ مَحْمِل

(1)

لذي رفاهية وضعيف بِنْيَة، أَوْ رأْس زَامِلَة

(2)

لذي قوة وجَلَدٍ، لا عُقْبة

(3)

، لعدم القدرة في جميع السفر حينئذ، وهذا في حق غير أَهل مكة ومَنْ حولها ما دون مسافة القصر، وأَما هُمْ فليس من شرط الوجوب عليهم الراحلة لعدم المشقة في حقهم، فأَشبه السعي إِلى الجمعة. والفقير الآفاقي

(4)

إِذا وصل إِلى ميقات فهو كالمكي. والمُعْتَمَدُ أَنْ يشترط الزاد في حقِّ المكي إِنْ قَدَرَ على المشي، وإِلاَّ فهو كالآفاقي. روى الحاكم في «المستدرك» ـ وقال: على شرط الشيخين ـ عن أَنس في قوله تعالى: {ولِلَّهِ على النَّاسِ حِجُّ البيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِليه سَبِيلا} ، قيل: يا رسولَ اللهِ ما السبيلُ؟ قال: «الزاد والراحلة» .

وقال مالك: مَنْ كانت عادته المشي من غير حاجة راحلة لزمه الحج إِذا وجد الزاد، ومَنْ كانت عادته المشي والمسألة لزمه الحج وإِنْ عَدِمَ الزادَ في الحج، وفي معنى المَسْأَلةِ الصَّنْعَةُ.

(فَضُلا) ـ بضَمِ الضاد ـ أَي زاد الزاد والراحلة (عَمَّا لا بُدَّ منه) من مسكنه، وخادمه، وفرسه، وسلاحه، وثيابه، وأَثاثه، وآلات حِرْفَتِهِ، وعبيد خِدْمَتِهِ ومَرَمَّة

(5)

مسكنه، وقضاء دينه، وأَصْدِقَة نسائه ولو مؤجلة. وقيل: لا تشترط، كذا في «السراج» ، والظاهر أَنَّه لا يُشْتَرَطُ (في المُؤجلة)

(6)

دون المعجلة.

(وعَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ) أَي من تلزمه نفقته من الزوجة والأَولاد الصغار والبنات البالغة، والخدم لأَنَّ حق العبد لفَقْره مقدَّم، على حق الله سبحانه لغناه (إِلى حِينِ عَوْدِهِ)

(1)

شِقُّ مَحْمِل: الشِّقُّ نِصْفُ الشَّيء. النهاية: 2/ 491، والمَحْمِل: الهودَج، وهو مَرْكَب يُرْكَبُ عليه على البعير، معجم لغة الفقهاء ص:414.

(2)

الزَّامِلة: البعير الذي يُحمل عليه الطعام والشراب والمتاع، معجم لغة الفقهاء ص:231.

(3)

أي ليس تناوبًا على الركوب.

(4)

الآفاقي: من كان خارج المواقيت المكانية للحرم، ولو كان من أهل مكة. معجم لغة الفقهاء ص 36.

(5)

المَرَمّة: متاعُ البيت. المعجم الوسيط ص: 374، مادة (رمّ).

(6)

في المطبوعة: بالمؤجلة، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 603

مَع أَمْنِ الطَّرِيقِ.

والزَّوْجِ أَوْ المَحْرَمِ للمَرْأَةِ

===

أَي رجوعه إِلى وطنه.

(مَع أَمْنِ الطَّرِيقِ) وقتَ خروج أَهل بلده ـ وإِنْ كانَ مُخِيفاً في غيره ـ بغلبة السلامة فيه، براً كان الطريق أَوْ بحراً على المفتى به. وهو قول أَبي الليث، لأَنَّ العبرة للغالب، وقد سُئِل الكَرْخي عَمَّنْ لا يَحُجُّ خَوْفاً من القرامطة في البادية، فقال: ما سلمت البادية من الآفات، أَي لا تخلو عنها كقلة الماء، وشدة الحر، وهيجان السَّمُوم

(1)

، وكثرة السرقة والغَلاء. وما أَفتى به أَبو بكر الرازي من سقوط الحج عن أَهل بغداد، وقول أَبي بكر الإِسْكَاف: لا أَقول الحج فريضة في زماننا، قاله سنة ست وعشرين وثلاث مئة، وقول الثلْجي

(2)

: ليس على أَهل خُرَاسَان حجّ منذ كذا وكذا سنة، كان وقت غلبة النهب والخوف في الطريق.

هذا، وذكر ابنُ شجاع عن أَبي حنيفة أَنَّ أَمْن الطريق شرط الوجوب، وهكذا ذكره الكَرْخِي

(3)

وأَبو حفص الكبير، لأَن الحج لا يَتَأَتَّى بدونه إِلاَّ بمشقة، فصار كالزاد والراحلة، وقال بعض أَصحابنا: إِنه شرط الأَداء، لأَنه عليه الصلاة والسلام لما فَسَّرَ الاستطاعة لم يذكر أَمْن الطريق منها.

وثمرة الخلاف تظهر في وجوب الإِيصاء بالحج على مَنْ أَدركه الموت والطريق غير آمن ولم يكن حَجَّ، فَمَنْ جعل أَمْن الطريق شرطاً للأَداء أَوْجَب عليه الإِيصاء، ومَنْ جعله شرطاً للوجوب لم يوجبه.

(و) مع (الزَّوْجِ) المكلف (أَوْ المَحْرَمِ) وهو مَنْ حَرُمَ عليه نكاحها على التأْبيد: وهو رضاعاً أَوْ مصاهرة، بشرط أَنْ يكون تقياً، لا فاسقاً ولا مجوسياً (للمَرْأَةِ) ولو عجوزاً.

وهل ذلك شرط للوجوب، وهو الأَظهر، أَوْ للأَداء؟ فيه ما مر في أَمْن الطريق من الخلاف، وثمرته تظهر في وجوب الوصية إِذا أَدركها الموت وليس لها مَحْرَم ولا زوج، وفي وجوب نفقة المَحْرَم وراحلته عليه إِذا أَبَى أَنْ يَحُجَّ معها إِلاَّ بهما

(4)

، وفي

(1)

السَّمُوم: الرِّيح الحارَّة. المعجم الوسيط ص: 451، مادة (سمَّ).

(2)

وفي المخطوطة: "البَلْخِي"، والصواب ما أثبتناه لما ذكره ابن الهمام في فتح القدير 2/ 328.

(3)

سقط من المطبوعة.

(4)

أي بالزاد والراحلة.

ص: 604

إِنْ كانَ بَيْنَها وَبيْنَ مَكَّةَ مسيرةُ سَفَر

===

وجوب التزوج عليها إِذا لم تجد مَحْرَماً، فَمَنْ قال: إِنَّ الزوج والمَحْرَم شرط أَداء قال: بِوُجُوب ذلك، ومَنْ قال: إِنه شرط وجوب، لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبه. وهذا كله إِذا وُجِد الشرط عند تأَهبِ أَهل بلده، إِذْ به يصير قادراً على الحج، فلو ملك مالاً قبله وأَنفقه حيث شاء، جاز ولا يجب عليه الحج، لأَنه لا يلزمه التأَهّب في الحال.

(إِنْ كانَ بَيْنَها وبَيْنَ مَكَّةَ مسيرةُ سَفَر) وهي ثلاثة أَيام بلياليها، ويُباح فيما دونها. ومذهب مالك: إِذا وجدت المرأَة صحبة مأْمونة لزمها الحج، لأَنه سفر مفروض كالهجرة. ومذهب الشافعي إِذا وجدت نسوةً ثِقَاتٍ فعليها أَنْ تحج معهنَّ.

ولنا ما في الصحيحين عن ابن عُمَرَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: لا تُسَافِر المرأَةُ ثلاثةَ أَيامٍ إِلاَّ ومعها ذو مَحْرَم. وفي لفظ: «مسيرة ثلاثِ ليالٍ» . وفي لفظ: «مسيرة ثلاثةِ أَيام» . وما رواه الدَّارَقُطْنِيّ في «سُنَنِه،» والبَزَّار في «مسنده» ، عن ابن عباس، أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تَحُجُّ المرأَةُ إِلاَّ ومَعَها مَحْرَمٌ» ، فقال رَجُلٌ: يا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي اكْتَتَبْتُ في غزوةِ كذا، وامرأَتي حَاجَّة، قال:«ارْجِع وحُجَّ مَعَها» . وفي «سُنَنِ الدَّارَقُطْنِي» من حديث أَبي أُمَامَةَ الباهِلِي مَرْفُوعاً: «لا تُسَافِرُ امرأَةٌ ثلاثةَ أَيَّامٍ أَوْ تَحُجُّ إِلاَّ ومعها زَوْجُها» . وفي رواية لمسلم وأَبي داود: أَنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا يَحِلُّ لامرأَةٍ تُؤمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ أَنْ تُسَافِرَ سفراً يكونُ ثلاثةَ أَيام فَصَاعداً، إِلاَّ ومعها أَبوها، أَوْ ابنها، أَوْ زوجها، أَوْ أَخوها، أَوْ مَحْرَم منها» .

ورُوِي عن أَبي حنيفة، وأَبي يوسف كراهةُ خُرُوجها مسيرة يوم بلا مَحْرَم، لما في الصحيحين عن سَعْدِ بن أَبِي سعيد، عن أَبي هريرة مرفوعاً:«لا يَحِلُّ لامرأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ أَنْ تُسَافِرَ مسيرةَ يومٍ وليلةٍ إِلاَّ مع ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ عليها» . (وفي لفظ لمسلم: «مسيرة ليلة»، وفي آخرَ له: «يوم»)

(1)

. وفي لفظ لأَبي داود: «بَرِيداً» ، وهو عن ابنِ حِبَّان في «صحيحه» ، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وللطبراني في «مُعْجَمه»: ثلاثة أَميال، فقيل له: إِنَّ الناس يقولون: ثلاثة أَيام، فقال: وَهِمُوا. قال المُنْذِري: («في حواشيه»)( 1): ليس في هذه (الروايات)( 1) تباين، فإِنه يُحْتَمَلُ أَنَّه صلى الله عليه وسلم قالها في مواطن مختلفة بِحَسَب الأَسئلة، ويُحْتَمَل أَنْ يكون ذلك كله تمثيلاً لأَقل الأَعداد، فاليوم الواحد أَوَّل العدد وأَقَلُّه، والاثْنَان أَوَّلُ الكثير

(2)

وأَقله، والثلاث أَوَّلُ

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

في المطبوعة: الكثرة، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 605

في العُمُرِ مرةً عَلَى الفَوْر.

===

الجَمْعِ وأَقله، فكأَنه أَشار إِلى أَنَّ مثل هذا في قلة الزمنِ لا يَحِلُّ لها [فيه]

(1)

السفر مع غير مَحْرم، فكيف بما زاد؟ انتهى.

ويُشْتَرَطُ في المرأَة أَيضاً أَنْ لا تكون مُعْتَدَّةً، ثم إِذا وجدت المرأَة مَحْرماً، ليس للزوج مَنْعُها من الحج الفرض، لأَنَّ حَقَّ الزوج لا يظهر في الفرائض كالصلاة والصوم، وجوّز مالك والشافعي أَنْ يمنعها الزوج من الحج كالحج المنذور، لأَن في خروجها تفويتَ حَقِّه، وحَقُّ العبد مُقَدَّمٌ على حَقِّ الله تعالى بإِذنه. ولنا ما قدمنا، وأَمَّا المنذور فَلأَنَّ وجوبه بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِها، فلا يظهر الوجوب في حَقِّه، فكان نَفْلاً بالنسبة إِليه.

(في العُمُرِ مرةً) لما روى أَبو داود، وابن ماجه، والحاكم وقال: صحيح الإِسناد، عن ابن عباس، أَنَّ الأَقْرَعَ بنَ حَابِسٍ سَأَلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ، الحَجُّ في كل سَنَة أَوْ مرة واحدة؟ قال:«لا بل مرةً واحدةً، فَمَنْ زَادَ فهو تَطَوُّع» . ولقول أَبي هريرة: خَطَبَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أَيها الناس، قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُم الحَجُّ فَحُجُّوا» ، فقال رجل: أَكُلَّ عام يا رسولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حتى قالها ثلاثاً، فقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «لو قلت: نعم لَوَجَبَتْ ولَمَا اسْتَطَعْتُم»، ثُمَّ قال:«ذَرُونِي ما تَرَكْتُكُم، فإِنما هلك مَنْ كان قبلكم بِكَثْرَةِ سؤالهم واختلافهم على أَنبيائهم، فإِذا أَمَرْتُكُمْ بِشيءٍ فَأْتُوا منه ما استطعتم، وإِذا نَهَيْتُكُم عن شيء فدعوه» . رواه مسلم.

فقوله: «لو قُلْتُ: نعم لوجبت ولَمَا اسْتَطَعْتُم» ، يستلزم نفي وجوب التكرار من وجهين: لإِفادة «لو» هنا امتناعَ «نعم» ، فيلزمه ثبوت نقيضه وهو «لا» ، والتصريح بنفي الاستطاعة أَيضاً، ولِقَوْلِ ابنِ عباس: خطبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أَيها الناس، إِنَّ اللهَ كَتَبَ عليكم الحج» ، فقام الأَقْرَعُ بنُ حَابِس فقال: في كل عام يا رسول الله؟ قال: «لو قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ ولم تستطيعوا أَنْ تَعْمَلوا بها، الحج مرة، فَمَنْ زَادَ فَتَطَوُّعٌ» . رواه أَحمد في «مُسْنَدِهِ» ، والدَّارَقُطْنِيّ في «سُنَنِهِ» .

ولأن سببه البيتُ، وإِنه لا يتعدد، فلا يتكرر الوجوب، فاندفع قولُ الشافعية: أَنَّ الحج فَرْضُ كفاية في كل سنة.

(عَلَى الفَوْر) وهو قول أَبي يوسف، ومذهب مالك، وأَصح الروايتين عن أَبي حنيفة. وقال محمد، وهو رواية عن أَبي يوسف وقول الشافعي: إِنه على التراخي، إِلاَّ

(1)

سقط من المطبوعة.

ص: 606

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

أَنْ يَظُنَّ فَوَاتَه إِنْ أَخَّرَه، لأَنَّ الحجَّ وقته العمر نَظَراً إِلى ظاهر الحال في بقاء الإِنسان، فكان كالصلاة في وقتها، فيجوز تأْخيره إِلى آخر العمر كما يجوز تأْخيرها إِلى آخر وقتها، إِلاَّ أَنَّ جواز تأْخيره مشروط عند محمد بأَنْ لا يفوت، حتى لو مات ولم يحج أَثِم، وعليه الإِجماع. ولأَبي يوسف أَنَّ الحج في وقت معين من السنة، والموت فيها ليس بنادر فيتضيق عليه الاحتياط لا لانقطاع التوسع بالكلية، فلو حَجَّ في العام الثاني كان مؤدياً باتفاقهما، ولو مات قبل العام الثاني كان آثماً باتفاقهما.

وثمرة الخلاف بينهما إِنَّما تظهر في حق تَفْسِيقِ المُؤَخِّر وَرَدِّ شهادتِهِ عند مَنْ يقول بالفور، وعدم ذلك عند مَنْ يقول بالتراخي. وفي «السِّرَاجِ الوهَّاج»: أَنَّ الخلاف فيما إِذا كان غالب ظَنِّه السلامة، وأَمَّا إِذا كان غالب ظَنِّه الموت بسبب مرض أَوْ هَرَم، فإِنه يتضيق عليه بالوجوب إِجماعاً، فلو مات يأْثم بتركه عن ذلك الوقت. ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَرادَ الحجَّ فَلْيَتَعَجَّل، فإِنه يَمْرَضُ المريضُ، وتَضِلُّ الضَالَّةُ، وتَعْرِض الحَاجَةُ» . رواه أَحمد

(1)

، وابن ماجه، والبيهقي.

وأَما ما استدل به الشافعي ومَنْ تَبِعَهُ من القول بالتراخي، أَنَّ الحج فُرِضَ في سنة خَمْس أَوْ سِت أَوْ تِسْع، وحجّ عليه الصلاة والسلام في سنة عشر، ولو كان على الفور لم يؤخر، فأُجيب عنه

(2)

بأَنه صلى الله عليه وسلم قد عَلِمَ بالوَحْي أَنه يعيش إِلى أَنْ يؤديه ويُعَلِّمَ الناس مناسكهم تكميلاً للتبليغ، فكان آمِناً من فواته، أَوْ لأَنه كان لعذر من نزول الآية بعد فوات الوقت، أَوْ لِخَوْفٍ من المشركين على أَهل المدينة، أَوْ لغير ذلك مِنْ أَمر النبيّ صلى الله عليه وسلم واختلاط المشركين بالمؤمنين ونحوها من جواز الحج النفل للضرورة كما قلنا.

ومما يدل على أَنه فُرِض سنة خمس، ما رواه أَحمد في «مسنده» من طريق محمد ابن إِسحاق: حدّثني محمد بن الوليد بن نُوَيْفِع، عن كُرَيْب، عن ابن عباس قال: بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بنِ بكر ضِمَامَ بنَ ثعلبةَ وافداً إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَر له فرائض الإِسلام: الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، بعد أَنْ ذَكَرَ التوحيد. قال: وقد رواه شُرَيك بن أَبي نَمِر عن كُرَيب فقال فيه: بَعَثَتْ بنو سعد ضِماماً في رجب سنة خمس. ومما يؤيد وجه الفورية حديث الحجاج بن عمرو الأَنصاري: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فقد

(1)

واللفظ له.

(2)

سقط من المطبوعة.

ص: 607

ولو أَحْرَمَ صَبِيٌّ فَبَلَغَ، أَوْ عَبْدٌ فعَتَقَ لم يُؤَدِّ فَرْضَه، ولَوْ جَدَّدَ الصَّبِيُّ إِحْرَامَهُ للفَرْضِ صَحَّ، لا لِلْعَبْدِ.

وفَرْضُهُ: الإِحْرَامُ،

===

حلَّ، وعليه الحج من قابل»

(1)

. وهذا بناء على أَنَّ لفظ «قابل» متعارف في السَّنَّة الآتية التي تلي هذه السَّنَّة.

والحاصل: أَنْ حقيقة دليل وجوب الفور هو الاحتياط، فلا يدفعه أَنَّ مقتضى الأَمر المطلق جواز التأْخير بشرط عدم التفويت.

(ولو أَحْرَمَ صَبِيٌّ فَبَلَغَ، أَوْ عَبْدٌ فعَتَقَ) فمضى الصبي أَوْ العبد (لم يُؤَدِّ فَرْضَه) لأَن إِحرامه انعقد للنفل فلا يَسْقُطُ به الفرض

(2)

. فإِنْ قيل: الإِحرام، شرط في الحج، والوضوء، شرط في الصلاة، فكان ينبغي أَنْ يجوز أَداء فرض الحج بإِحرام قبل البلوغ، كما يجوز أَداء فرض الصلاة بوضوء قبله، فالجواب أَنَّ الإِحرام إِنَّما يتحقق بنية الحج، وبها يصير شارعاً في أَفعاله من غير تجديد نيّة له، بخلاف الوضوء، فإِنه يتحقق قبل الشروع في الصلاة، وقد يُجَابُ بِأَنَّ الإِحرام شرط يشبه الركن من حيث إِمكانُ اتصال الأَداء به، فاعتبرنا شَبَهَ الركن فيما نحن فيه احتياطاً للعبادة.

(ولَوْ جَدَّدَ الصَّبِيُّ) بعد البلوغ (إِحْرَامَهُ للفَرْضِ) قبل مُضِيّ وقت الوقوف بعرفة (صَحَّ،) إِحْرَامُه (لا لِلْعَبْدِ)، أَي لا يَصِحُّ تجديد إِحرامه له بعد العتق. والفَرْق أَنَّ إِحرام الصبي غير لازم لعدم أَهليته، ولذا لو أُحْصِر الصبي وتَحَلَّلَ لا دَمَ عليه ولا قضاء، وكذا لا جزاء عليه لارتكاب المحظورات كما صرّح به ابن الهُمَام، فيمكنه الخروج عن الإِحرام بالشروع في غيره، وإِحرام العبد لازم فلا يمكنه الخروج إِلاَّ بالإِتمام. وفي «المبسوط»: ولو أَحرم صبي وهو يعقل، أَوْ أَحرم عنه أَبوه صار مُحْرِماً، يعني فينبغي أَنْ يُجَرِّدَه ويُلبِسه إِزاراً ورداء.

(فُروض الحَجِّ)

(وفَرْضُهُ) أَي فرض الحج، وهو ما لا بُدَّ منه شرطاً أَوْ ركناً (الإِحْرَامُ) بإِجماع الأُمّة، ولأَن كل عبادة لها تحليل فلها إِحرام كالصلاة، وهو عندنا شرط الأَداء لا ركنٌ، كما قال مالك والشافعي، لأَنه يدوم إِلى الحَلْقِ، ولا يَنْتَقِلُ عنه إِلى غيره، ويجامع كلَّ

(1)

سنن أبي داود: 2/ 433 - 434، كتاب المناسك (11)، باب الإِحصار (41)، رقم (1862).

(2)

في المطبوعة: بالفرض.

ص: 608

والوُقُوفُ بِعَرَفَة، وطَوَافُ الزِّيَارَة.

وَوَاجِبُهُ: وُقُوفُ جَمْع،

===

ركن في الجملة، ولو كان ركناً، لما كان كذلك.

(والوُقُوفُ بِعَرَفة) أَي الحضور بها ـ ولو ساعةً ـ من زوال

(1)

عرفة إِلى طلوع فجر النحر، بِشَرْطِ تقَدُّمِ الإِحرام.

(وطَوَافُ الزِّيَارَة) أَي أَكثرُه مقروناً بالنية، وفرضيتهما بإِجماع الأُمة، وهما رُكنان اتفاقاً، لقوله تعالى:{فَإِذَا أَفَضْتُم مِنْ عَرَفَاتٍ}

(2)

، وقوله:{ثُمَّ أَفِيضُوا من حيثُ أَفاضَ النَّاسُ}

(3)

، ولقول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم «الحَجُّ عَرَفَةَ» .

رواه أَحمد، والأَربعة. أَي معظم أَركانه الذي لا يفوت بعد وجوده وقوفَها، ولقوله صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة، فَمَنْ وقف بعرفة ساعة من ليل أَوْ نهار فقد تمّ حجّه» . روى بمعناه أَبو داود وغيرُه، وصححه الترمذي، ولقول عائشةَ: حاضتَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيَ بعدما أَفاضت فقال صلى الله عليه وسلم «أَحَابِسَتُنَا هي؟» قالوا: يا رسولَ الله، إِنّها أَفَاضَتْ، وطَافَتْ بالبيتِ، ثُمَّ حَاضَتْ بعد الإِفاضة، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «فَلَا إِذاً» . رواه الشيخان، ولقوله تعالى:{وليَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العَتِيقِ}

(4)

فإِنَّه مُفَسَّرٌ بِطَواف الإِفاضة، ويَدُلُّ عليه ما قَبْلَهُ مِنْ قوله:{ثُمَّ ليَقْضُوا تَفَثَهُم}

(5)

.

(واجبات الحج)

(وَوَاجِبُهُ وُقُوفُ جَمْع) أَي مُزْدَلِفَة ـ ولو ساعةً ـ من بعد فجر النحر إِلى ما قبل طلوع الشمس، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «من شَهِدَ صَلَاتَنَا هذه، وَوَقَفَ معنا حتى نَدْفَع

(6)

، وقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذلك ليلاً أَوْ نهاراً، فَقَدْ تَمَّ حَجُّه، وقَضَى تفثه». رواه أَصحاب السنن، والطحاوي من حديث عُرْوَة بن مُضَرِّس، علَّق به تمام الحج. وبهذا ثبت الوجوب لا الركنية، لأَنه خبر الواحد، ولأَنه صلى الله عليه وسلم قدَّم ضَعَفَة أَهْلِه بليل، كما في الصحيحين عن عائشةَ قالت: كانت سَوْدةُ امرأَةً ضخمة ثَبِطة

(7)

، فاسْتَأْذَنَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

أي زوال يوم عرفة.

(2)

سورة البقرة، الآية:(198).

(3)

سورة البقرة، الآية:(199).

(4)

سورة الحج، الآية:(29).

(5)

سورة الحج، الآية:(29).

(6)

الدَّفْع من عرفات أو مِنى: الإِفاضة منها وتركها مندفعًا إلى غيرها. معجم لغة الفقهاء ص: 209.

(7)

ثَبِطَة: أي ثقيلة بطيئة. النهاية: 1/ 207.

ص: 609

والسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ،

===

أَنْ تَفِيضَ من جَمْعٍ

(1)

بِلَيْلٍ فَأَذِنَ لها، قالت عائشةُ: فليتني كُنْتُ استأْذنْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودةُ، وكانَتْ عائِشةُ لا تَفِيضُ إِلاَّ مع الإِمام.

وعن ابن عباس قال: «أَنَا مِمَّنْ قدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة مزدلفة في ضعفه أَهله مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ» . ولو كان الوقوف بِمُزْدَلِفة بعد الفجر ركناً، لما جاز تَرْكُه كالوقوف بِعَرَفَة، فاندفع به قول الليث بن سعد: أَنَّ الوقوف به رُكْنٌ لقوله تعالى: {فإِذا أَفَضْتُم مِنْ عَرَفَاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ}

(2)

، ولأَن المأْمور به في الآية الذّكْر، وهو ليس بركن بالإِجماع، فلا شيء على مَنْ تَرَكَهُ بِعُذْرٍ لما قدّمنا.

وقال الشافعي: الوقوف بِجَمْعٍ سنَّة، وله في المَبِيت به قولان: الوجوب والسُّنِّية، وهو مذهبنا. وأَما ما ذكره العيني في «شرح تُحْفَةُ الملوك»

(3)

مِنْ أَنَّ الوقوف بِمُزْدَلِفة رُكْن عند الشافعي ـ وتَبِع فيه «الهداية» ـ فغيرُ صحيح، بل وَهْمٌ صَريح.

وسُمِّي جَمْعاً لاجتماعِ آدم مع حَوَّاء فيه. وسُمّي مُزْدَلِفة لأَن آدم ازدلف فيه من حواء، أَي دنا منها بعد بُعْدِه عنها، أَوْ لاقتراب الناس إِلى مِنى، أَوْ لأَن الوَاقِفِينَ فيه يَزْدَلِفُون إِلى الله تعالى: أَي يَتَقَرَّبُونَ إِليه.

(والسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ)، وقال مالك، والشافعي: وهو ركن لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}

(4)

، وما كان من الشعائر كان ركناً، ولقوله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عليكم السَّعْيَ فَاسْعَوْا» ، رواه ابن أَبي شَيبةَ. وروى الدَّارَقُطْنِيّ بإِسنادٍ صحيح:«أَنَّ نِسْوَةً مِنْ بَنِي عبد الدَّار اللاتي أَدْرَكْنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قُلْنَ: دَخَلْنَا دار أَبي حسين، فَرَأَيْنَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفا والمروة، والنَّاسُ بين يديه، وهو مِنْ ورائِهِم، وهو يَسْعَى حَتَّى نَرى رُكْبَتَيْهِ مِنْ شِدَّةِ السَّعي، وهو يقول: اسْعَوا فإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عليكمُ السَّعْيَ» .

والجواب عن الآية بأَنَّ المُزْدَلِفَةَ مِنَ الشعائر، ولذا سُمِّي بالمَشْعَر الحرام، مع أَنَّ الوقوف بها وكذا المبيت فيها ليس بركن اتفاقاً، على أَنَّ قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عليه أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ( 4) ينفي الركنية والوجوب جميعاً، إِلاَّ أَنَّا تركنا الظاهر في

(1)

جَمْع: المُزدَلِفة. معجم لغة الفقهاء ص: 166.

(2)

سورة البقرة، الآية:(198).

(3)

في المطبوعة: التحفة، وما أثبتناه من المخطوطة.

(4)

سورة البقرة، الآية:(158).

ص: 610

ورَمْيُ الجِمَار، وطَوافُ الصَّدَرِ للآفاقِي، والحَلْقُ. وغَيْرُهَا سُنَنٌ

===

الإِيجاب للإِجماع، وأَما ورود النَّص بِنَفْي الحرج لأَنَّ الصحابة كانوا يَحْتَرِزُونَ عن الطوافِ بهما لمكان الصنمين:«إِساف» ، و «نائلة» حيث كانا عليهما في الجاهلية. ورُوِي عن أَنَس، وابن عباس، وابن الزبير أَنَّهُمْ عملوا بظاهر الآية ولم يُوجِبُوا بِتَرْك السَّعْي شيئاً، وقالوا: بأَنه تَطَّوُّع، وعن الحديث بأَنَّه آحاد، فلا: يثبت به الفَرْضية، وإِنما يثبت به الوجوب، وقد قلنا به.

(ورَمْيُ الجِمَار) لقول عبد الرحمن بن مُعَاذ التَّيْمِي: «خَطَبَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بِمِنىً، ففتحنا أَسماعنا، حتى كنَّا نَسْمَعُ ما يقول ونَحْنُ في منازلنا، فَطَفِقَ يُعَلِّمُهُم مَنَاسِكَهِم حتى بلغ الجِمار، فَوَضَع أُصْبَعَيْه السَّبَّابَتَيْنِ ثم قال: بحصَى الخَذْف» . رواه أَبو داود.

(وطَوافُ الصَّدَرِ) ـ بفتحتين ـ وهو طواف الوداع (للآفاقِي) من الحاج دون المعتمر، لما في الصحيحين من حديث ابن عباس قال:«أُمِر النَّاسُ أَنْ يكون آخر عَهْدِهم بالبيت، إِلاَّ أَنَّه خُفِّفَ عن المرأَة الحائض» . أَي سَقَطَ، وفي لفظ لمسلم، وأَحمد قال:«كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يَنْفِرَنَّ أَحَدُكُم حتى يكونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطوافَ بالبيت» . وقال مالك والشافعي: هو سُنَّة.

قَيَّدَ بالآفاقي، لأَن المكي ومَنْ في

(1)

حُكْمِهِ مِمَّنْ هو دون الميقات لا يجب عليه طواف الصَّدَر بالاتفاق. ولو نوى الآفاقي الاستيطان قبل النَّفْر الأَول

(2)

صار من أَهل مكة، ولو نواها بعده لَزِمه طواف الصَّدَر.

(والحَلْقُ) وكان حَقُّه أَنْ يُقَدَّم على طواف الصَّدَر، والمراد به هو

(3)

، أَوْ ما يقوم مقامه: من تقصير وإِمرار موسى، وإِنَّما يجبُ لأَمر النبيّ صلى الله عليه وسلم به، ودعائه للمُحَلِّقين ثلاثاً، وللمُقَصِّرِينَ واحدةً، ولما رُوِي عن أَنس: «أَنه صلى الله عليه وسلم أَتى منى، فأَتى الجَمْرة فرماها، ثم أَتى منزله بمنى ونَحَرَ

(1)

وقال للحلاق: خُذ ـ وأَشَارَ إِلى جَانِبه الأَيمن، ثم الأَيسر ـ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيه النَّاسَ». رواه مسلم، وأَبو داود، وأَحمد. ويتعين التقصير للمرأَة لقوله صلى الله عليه وسلم «ليس على النساء الحَلْقُ، إِنَّما على النساءِ التَّقْصِيرُ» . رواه أَبو داود.

(وغَيْرُهَا) أَي غير هذه المذكورات من الفرائض والواجبات (سُنَنٌ) مؤكَدَةٌ

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

يوم النفر الأول: هو اليوم الثاني من أيام التشريق. والنفر الآخر اليوم الثالث. النهاية 5/ 92.

(3)

أي الحَلْق.

ص: 611

وآدَابٌ

===

كالرَّمَلِ

(1)

في الطواف، والهرولة في السَّعْيِ، والمبيت بِمِنىً لياليها، لما رُوي:«أَنه صلى الله عليه وسلم بات بها» . رواه أَبو داود (وآدَابٌ) مستحبَّة كما سيأتي. والأَصل في ذلك كله فِعله صلى الله عليه وسلم مع قوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم»

(2)

، ولا يخفى أَنَّ قوله:«وغَيْرُهَا سُنن وآداب» ، إِنْ أُرِيدَ أَنَّ كل ما هو غير المفروض والواجبات مطلقاً، فَسُنَنٌ وآداب، فليس بِمُفيد، وإِنْ أُرِيدَ أَنَّ كُلَّ ما هو غير هذه الفرائض الثلاثة وهذه الواجبات الخمسة سُنَنٌ وآداب، فمَمْنُوعٌ بِأَنَّ كثيراً من الواجبات غَيْرُ مذكور هنا: منها الإِحرام من الميقات، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تُجَاوِزُوا الوقت

(3)

إِلاَّ بإِحرام»، رواه ابن أَبي شيبةَ، والطبراني من حديث ابن عباس. وروى الشافعي في «مسنده» عن أَبي الشعثاء:«أَنَّه رأَى ابن عباس يَرُدُّ مَنْ جَاوَزَ الميقاتَ غَيْرَ مُحْرِم» . وروى إِسحاق بن رَاهُويه في «مسنده» : أَخبرنا فُضَيْلُ بنُ عِياض، عن لَيْث بن أَبي سُلَيم، عن عطاء، عن ابن عباس:«إِذا جاوز الوقتَ فلم يُحْرِم حتى دخل مكة، رَجَعَ إِلى الوقت فأَحرم، فإِنْ خَشِيَ إِنْ رَجَعَ إِلى الوقت فإِنه يُحْرِمُ ـ أَي في الطريق ـ ويهريقُ لذلك دماً» .

ومنها مَدُّ الوُقُوفِ بِعَرفة من الزوال إِلى الغروب، لأَن النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّما دَفَعَ بعد الغروب، وقد قال:«خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم» ، وقال في خطبته:«أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ كانوا يدفعون من هذا الموضع، إِذا كانتِ الشمس على رُؤوسِ الجبال مِثْلَ عمائم الرِّجالِ في وجوهها، وإِنَّا نَدْفَعُ بَعْدَ أَنْ تَغِيب» . رواهما الحاكم.

وكذا الرَّمْيُ، والحَلْقُ، وطَوَافُ الزِّيارة في أَيام النحر، وتقديم الرمي على الحَلْق ونحر القَارِن، والمتمتع

(4)

بين الرمي والحلق من الواجبات عند أَبي حنيفة.

وقالا: إِنها سنة لما رواه الطحاوي عن علي رضي الله عنه قال: «أَتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فقال: يا رسولَ الله، إِنِّي أَفَضْتُ قَبْلَ أَنْ أَحْلِق قال: احْلِقْ ولا حَرَج، قال: وجاءه آخر فقال: يا رسولَ اللهاِ إِني ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرمي، قال: ارْمِ ولا

(1)

الرَّمَل: المشي السريع مع هَزّ الكتفين. معجم لغة الفقهاء ص: 227.

(2)

صحيح مسلم 2/ 943، كتاب الحج (15)، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر واقفًا

(51)، رقم (310 - 1297).

(3)

الوقت: أي الميقات.

(4)

أي والمتمتع يَنْحَرُ بين الرمي والحلق.

ص: 612

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

حرج». وما رواه

(1)

عن ابن عباس: «أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عَمَّنْ يَحْلِق قبل أَنْ يَذْبَحَ، أَوْ ذَبَحَ قبل أَنْ يَحْلِق، فقال: لا حَرَجَ» . وفي لفظ آخر: «أَنَّه قيل له يومَ النَّحْر ـ وهو بِمنَى ـ في النَّحْر والحَلْقِ والرمي والتقديم والتأْخير، فقال: لا حَرَجَ» . وفي لفظ آخر: أَنه قال: «ما سُئِل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَومَئِذٍ عَمَّنْ قَدَّم شيئاً قبل شيءٍ إِلاَّ قال: لا حَرَجَ» . ورُوي عن جَابِر بن عبد الله بِمَعْنَاه.

ولأَبي حنيفة أَنَّ ابن عمر كان يرى في تأْخير النُّسُكِ دَماً. وعن ابن عباس: فيمن أَخَّرَ نُسُكاً عَنْ نُسُكٍ أَوْ قَدَّمَ نُسُكاً على نُسُكٍ أَنَّ عليه دَماً. والمرفوع محمول على النسيان كما رُوِي مَشْرُوحاً عن عليَ

(2)

كرَّم الله وَجْهَهُ: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ رجلٌ في حَجَّته فقال: إِني رَمَيْتُ، وأَفَضْتُ، ونَسِيتُ ولم أَحْلِق، قال: فاحْلِق ولا حَرَجَ»، ثم جاءه رجلٌ آخر فقال: رَمَيْتُ وأَفَضْتُ

(3)

ونَسِيتُ أَنْ أَنْحَر، قال:«فانْحَر ولا حَرَج» . وعن عبد الله بن عمر

(4)

أَنَّه قال: وَقَفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَدَاع للناسِ يَسْأَلُونَه، فجاءه رجلٌ فقال: يا رسولَ اللهِ لم أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْل أَنْ أَرْمِيَ، قال:«ارْمِ ولا حَرَج» ، قال: فَمَا سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ قُدِّم ولا أُخِّر إِلاَّ قال: «افْعَل ولا حَرَج» .

فَدَلَّ ما روينا: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إِنَّما أَسْقَطَ الحَرَج عنهم في ذلك للنِّسْيان أَوْ الجَهْل، لا أَنه أَباح لهم ذلك حتى يصير فِعْله مباحاً في العمل، كيف وابنُ عباس أَحَدُ رواة نَفْي الحَرَجُ يُوجِبُ بالتقديمِ والتأْخيرِ دَماً، فكان معنى ذلك عنده، على أَنَّ الذي فعلوه في حجّة النبي صلى الله عليه وسلم للجهل منهم بالحُكْم فيه كيف هو فَعَذَرَهُم، إِذْ كان ابتداء الخطاب بالمناسك على التمام والترتيب، وكان مِمَّنْ

(5)

لم يبلغهم الخطاب، لا يلزمهم على ما هو الأَصل في ابتداء الشرع: أَنَّه لا يجب إِلاَّ بعد السَّمَاع، هذا خلاصة ما ذكره الطحاوي والدَّبُوسي.

(1)

أي الإمام الطحاوي.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه 3/ 232 - 233، كتاب الحج (7)، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف (54)، رقم (885).

(3)

وفي المخطوطة: وحلقت.

(4)

أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - 2/ 948، كتاب الحج (15)، باب من حلق قبل النحر

(57)، رقم (327 - 1306).

(5)

في المطبوعة: مَن، وما أَثبتناه من المخطوطة.

ص: 613

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وكذا الحَلْقُ في الحَرَم واجب (عند أَبي حنيفة ومحمد، وسُنَّةُ)

(1)

عند أَبي يوسف، وكذا الاستقامة في الطواف: وهي أَنْ يَشْرَعَ على أَيْمَنَ ما يلي الباب. وكذا الطهارة له

(2)

من الحَدَثَيْن وستر العورة واجبان عندنا لا شرائط كما قال مالك والشافعي، ولا خلاف في رُكْنِيَّة طواف الزيارة، وعدم تمام الحج بدونه، وعَدَم جَبْرِه بشيء دونَ فِعْله، وإِنَّما الخلافُ في شروطه وكيفيته، فقال علماؤنا: طواف المُحْدِث والجُنُب يقع به التحلل عن الحج، وكذا بدون الستر، وبالمنكوس والمعكوس. وعندهما لا يقع به التحلل ويكون كَمَنْ لم يَطُف.

وجملة الجواب عندنا: أَنَّ مَنْ طَافَ وتَرَكَ واحِداً مما ذكرنا أَنَّهُ يَجِبُ عليه الإِعادة، وإِنْ لم يُعِد حتى خرج إِلى أَهله يَجبر نَقْص الجناية بالبَدَنة، ونقص البواقي بالشاة.

ولهما أَنَّ الطهارة شَرْطُ هذه العبادة قياساً على الصلاة، ولقوله صلى الله عليه وسلم «الطَّوَافُ بالبيتِ صَلَاةٌ إِلاَّ أَنكم تَتَكَلَّمُونَ فيه، فَمَنْ تَكَلَّمَ لا يتكلمُ إِلاَّ بخَيْر» ، رواه الترمذي. أَي صَلَاةٌ حُكْماً، لأَنَّه صلى الله عليه وسلم بُعِث لتعليم الأَحكام، ولأَنه استثنى، فَعُلِمَ أَنَّ المستثنى منه أَيضاً حُكْمٌ، فثبت أَنَّ الطهارة شرطُ هذا الركن، بخلاف سائر أَركان الحج، وأَنَّه مُشَبَّه بالصلاةِ في هذا الحُكْم.

ولِعُلمائنا قَوْلُه تعالى: {ولْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيق}

(3)

، وأَنَّه في اللغة عبارة عن الدوَرَان حول البيت، فَمَنْ شَرَطَ للخروج عن عُهْدَة هذا الأَمر غير هذا الفعل، من طهارةٍ فَقَدْ زَادَ على النص وذلك بِمَنْزِلَةِ النَّسْخِ، فلا يجوز بخبر الواحد، ولا بالقياس.

فإِنْ قيل: فِعْلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطوافَ بطهارةٍ كان بياناً للأَمر في حق الطهارة، إِذْ النص كان مُجْمَلاً في حقِّ الطهارة، وهذا الفعل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتواتر. قلنا: إِنَّما يقال: إِنَّه بيان، إِذا كان النص يحتمله بِوَجْهٍ، والأَمر بالطواف لا يحتمل الطهارة، فيصير زيادة لا محالة، والزيادة قد تكون لتعلق أَصل الجواز به، وقد تكون لتعلق الكمال به، فلا يتعلّق به أَصل الجواز بالاحتمال، بل يبقى معه ظاهر النص كما كان، ولأَن الأَصل في (النصوص الظاهرة أَنها لا تتوقفُ)

(4)

على البيان، وما يوجد

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

أي طواف الإِفاضة.

(3)

سورة الحج، الآية:(29).

(4)

عبارة المطبوعة: "النصر هو الظاهر وأنه لا يتوقف" وما أثبتناه عبارة المخطوطة.

ص: 614

وأَشْهُرُهُ: شَوّال وذو القَعْدة وعَشْرُ ذِي الحِجَّة. وكُرِهَ إِحْرَامُهُ له قَبْلَهَا.

===

من رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون بياناً للكامل منه في حق العمل (وفي حقِّ العلم، أَما في حقِّ العلم، فالطهارة ليست بشرط كسائر أَركان الحج، وفي حق العمل)

(1)

فالطهارة شرط له كالصلاة.

فعلى هذا أَمْرُ الطواف، أَصله بِقَدْرِ ما تدل عليه الآية واجبٌ عِلْماً وعَمَلاً، وما زِيدَ بالسُّنَّةِ مما لا يمكنُ إِضَافَتُه إِلى الآية واجبٌ عَمَلاً لا عِلْماً، إِما لأَنَّ الخبر خَبَرُ واحدٍ، فلا يُنْسَخُ به الفرضُ الثابت بالكتاب، فَيُحْمَل عليه، حتى لا يكون نسخاً، أَوْ لأَن النسخ لا يُصَارُ إِليه ما أَمكن حَمْلُ فِعْل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيان الأَكمل به بواجب من قبله لا بالكتاب، فيحمل عليه حتى

(2)

لا

(3)

يكون نسخاً. وستجيء سننه وآدابه.

(وأَشْهُرُهُ شَوّال وذو القِعْدة) ـ بفَتْح القاف وتكسر ـ (وعَشْرُ ذِي الحِجَّة) ـ بكسر الحاء ـ أَي عشرة أَيام منها، فإِنَّه إِذا حُذِف التمييز جاز التذكير، وهو قول العبادلة. وعن أَبي يوسف: عَشْرُ ليالٍ وتسعةُ أَيَّام. وقال مالك: وذو الحِجة بِتَمَامِهِ لقوله تعالى: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}

(4)

، أَي وَقْتُه، والشَّهْرُ يقع على الكامل حقيقةً، وعلى غيره مَجَازاً من باب إِطلاق الكل وإِرَادَة البعض.

ولنا ما أَخرجه الحاكم ـ وقال: على شرط الشيخين، وعَلَّقَهُ البُخَاري ـ عن ابن عمر في قوله تعالى:{الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، قال: شوال، وذو القِعدة، وعَشْرُ ذي الحِجة، وتَفْسِيرُ الصحابي في حُكْم الرفع

(5)

. وبهذا يتم الاستدلال. وأَخرج الدَّارَقُطْنِيّ، وابن أَبي شيبة عن ابن عباس وابن الزبير وابن مسعود نحوه. وفائدة توقيت الحج تظهر في أَنَّ شيئاً من أَفعال الحج لا يجزاء إِلاَّ فيه، لا في أَنَّ أَفعال الحج تجزاء في أَي وقت كان منه، فلو أَحرم بالحج في رمضان وسَعَى بعد أَكثر طواف القدوم في شوال أَجزأَه ذلك عن السعي الواجب، وإِن سعى في رمضان لا يجزئه.

(وكُرِهَ) أَي كراهة تحريم (إِحْرَامُهُ له) أَي الحج (قَبْلَهَا) أَي قبل أَشْهُرِ الحج،

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

(2)

"حتى" هنا التفريعية، وليست الناصبة.

(3)

سقط من المطبوعة.

(4)

سورة البقرة، الآية:(197).

(5)

أي الإضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 615

[أَحْكامُ العُمْرَةِ]

والعُمْرَةُ سُنَّةٌ،

===

لئلا يقع في محظور من محظوراته، فلو أَمِنَ من وُقُوعِ

(1)

محظورٍ لا يُكْرِه على ما في «المحيط» . ولو أَحرم صح، لأَن الإِحرام شرط، فيجوز إِيقاعه قبل وقت المشروط، وفيه خلاف مالك والشافعي لأَنه ركن عندهما، كما تقدّم. ولو أَحرم يوم النحر بالحج للقابل لم يُكْره عند أَبي حنيفة ومحمد، كما في «الذخيرة». ومن فوائد التأَقيت: أَنْ لو مَلَكَ الزاد والراحلة قبل الأَشهر فاسْتَهْلَكَهُمَا لم يجب الحج، كما في «المحيط» .

ولنا ما أَخرجه الحاكم ـ وقال: على شرط الشيخين، وعَلَّقَهُ البُخَاري ـ عن ابن عمر في قوله تعالى:{الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، قال: شوال، وذو القِعدة، وعَشْرُ ذي الحِجة، وتَفْسِيرُ الصحابي في حُكْم الرفع. وبهذا يتم الاستدلال. وأَخرج الدَّارَقُطْنِيّ، وابن أَبي شيبة عن ابن عباس وابن الزبير وابن مسعود نحوه. وفائدة توقيت الحج تظهر في أَنَّ شيئاً من أَفعال الحج لا يجزاء إِلاَّ فيه، لا في أَنَّ أَفعال الحج تجزاء في أَي وقت كان منه، فلو أَحرم بالحج في رمضان وسَعَى بعد أَكثر طواف القدوم في شوال أَجزأَه ذلك عن السعي الواجب، وإِن سعى في رمضان لا يجزئه.

(وكُرِهَ) أَي كراهة تحريم (إِحْرَامُهُ له) أَي الحج (قَبْلَهَا) أَي قبل أَشْهُرِ الحج، لئلا يقع في محظور من محظوراته، فلو أَمِنَ من وُقُوعِ محظورٍ لا يُكْرِه على ما في «المحيط» . ولو أَحرم صح، لأَن الإِحرام شرط، فيجوز إِيقاعه قبل وقت المشروط، وفيه خلاف مالك والشافعي لأَنه ركن عندهما، كما تقدّم. ولو أَحرم يوم النحر بالحج للقابل لم يُكْره عند أَبي حنيفة ومحمد، كما في «الذخيرة». ومن فوائد التأَقيت: أَنْ لو مَلَكَ الزاد والراحلة قبل الأَشهر فاسْتَهْلَكَهُمَا لم يجب الحج، كما في «المحيط» .

(أحكام العمرة)

(والعُمْرَةُ سُنَّةٌ) مُؤَكَّدَةٌ لِمَنِ استطاع. وقيل: واجبة، وعن بعض أَصحابنا أَنه فرض كفاية كما في «الكافي». ومذهب مالك أَنَّها سنّة. وقال الشافعي ـ في قوله الجديد ـ: إِنها فرض عين لِقِرَانها بالحج في قوله تعالى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ} ،

(2)

ولما روى الحاكم ـ وقال: على شرط الشيخين ـ عن أَبي رَزِين العُقَيْلي: «أَنَّه قال: يا رسولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبي شَيْخٌ كبيرٌ لا يستطيعُ الحَجَّ ولا العُمْرَةَ ولا الظَّعْنَ، ـ أَي الارتحال ـ فقال: احْجُجْ عن أَبيكَ واعتَمِرْ» .

ولنا ما روى الترمذي ـ وقال: حسن صحيح ـ عن جابر بن عبد الله قال: «سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن العُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ؟ قال: لا، وأَنْ تَعْتَمِرُوا هو أَفْضَل» . وقد روى ابنُ جُرَيْجٍ، عن محمد بن المُنْكَدِرِ، عن جابر موقوفاً، وروى عبدُ الباقي بنُ قَانِع، عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحَجُّ جِهَادٌ، والعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» . وروى ابن ماجه عن طَلْحَة بن عبيد الله، أَنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:«الحَجُّ جِهَادٌ والعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» . وأَخْرَجَ ابن أَبي شيبة من حديث أَبي أُسامَةَ، عن سعيد بن أَبي عَرُوبَةَ، وعن أَبي مَعْشَر، عن إِبراهيم قال: قال ابنُ مسعود: «الحَجُّ فَرِيضَةٌ، والعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» ، وكفى بعبد الله قُدْوَةً.

وأُجِيبَ عن الآية: بأَنَّ (قِرَانَها في الذكر)

(3)

لا يقتضي المساواة في الحكم، ولو سُلِّمَ فقِرَانُها بالحَجِّ في الآية إِنَّما هو في الإِتمام، وذلك إِنَّما يكونُ بَعْدَ الشُّرُوعِ. وعن حديث أَبي رَزِين: بأَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَحُجَّ ويعتمرَ عن أَبيه، وحَجُّهُ

(1)

سقط المطبوعة.

(2)

سورة البقرة، الآية:(196).

(3)

في المطبوعة: القِران في ذكر، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 616

وهِيَ: طَوَافٌ، وسَعْيٌ. وجَازَتْ في كُلِّ السَّنَةِ، وكُرِهَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وأَرْبَعَةً بَعْدَها.

===

واعْتِمَارُه عن أَبِيه ليس بواجب، مع أَنَّ قول أَبي رَزِين:«لا يستطيعُ الحَجَّ ولا العُمْرَةَ» يَقْتَضِي عدم وجوبهما على أَبيه، فيكون الأَمْرُ في حديثه للاستحباب.

وأَما ما روى الحاكم، والدَّارَقُطْنِيّ عن زَيْد بن ثابت قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «الحَجُّ والعُمْرَةُ فَريضَتَانِ لا يَضُرُّكَ بأَيِّهِما بَدَأْتَ» . فقال الحاكم: الصحيح عن زيد بن ثابت من قوله

(1)

. انتهى. وفيه إِسماعيل بنُ مسلم المَكِّي: ضَعَّفوه. قال البخاري: مُنْكَرُ الحديث. وقال أَحمد: حرقنا حديثه. وأَما ما رواه البَيْهَقِيّ عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين موقوفاً، وهو الصحيح. وعن ابن عمر:«ليس أَحَدٌ من خَلْقِ اللَّهِ تعالى إِلاَّ وعليه حَجَّةٌ وعُمْرَةٌ واجبتان، على من استطاع إِلى ذلك سبيلاً» . وعن ابن عباس: «الحَجُّ والعُمْرَةُ فريضتانِ على النَّاسِ كُلِّهم إِلاَّ أَهْلَ مَكَّةَ فإِنَّ عُمْرَتَهُم طَوَافُهُم، فَلْيَخْرُجُوا إِلى التَّنْعِيم ثُمَّ لِيَدْخُلوها

» الحديثَ. رواه الحاكم، وقال: على شرط مسلم. فكلُّ مذهبِ صحابيَ مَعَارَضٌ بمِثْلِهِ أَوْ بأَعْلَى منه.

ثم اعلم أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر بعد الهجرة أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلُّهُنَّ في ذِي القِعْدَة، إِلاَّ التي مع حَجَّتِهِ

(2)

. وعن ابن حَزْم: «حَجَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واعتمر قَبْلَ النبوّة وبعدها قبل الهجرة حِجَجاً وعُمْراً، لا نعرف أَعدادها» .

(وهِيَ) أَي العمرة (طَوَافٌ،) وهو رُكْنٌ بإِجماع الأَمة (وسَعْيٌ) واجب عندنا. وكذا الحَلْقُ أَوْ التقصير في الصحيح. وقيل: إِنه شرط للخروج منها. ويُشْتَرَطُ فيها الإِحرام كما في الحج.

(وجَازَتْ) مَرَّةً أَوْ أَكْثَر (في كُلِّ السَّنَةِ،) لأَنها غير مُؤقتة (وكُرِهَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وأَرْبَعَةً بَعْدَها): وهي يومُ النحر، وثلاثة أَيام التَّشْريق، لما رُوِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّها كانت تَكْرَهُ العُمْرَةَ في الأَيام الخمسة.

ولأَن الله تعالى سَمَّى هذه الأَيامَ أَيَّامَ الحج، فَيَقْتَضِي أَنْ تكون متعينةً للحج، فلا يجوز الاشتغال فيها بغيره. ولكن مع هذه الكراهةِ، لو نَوَاهَا في هذه الأَيام صَحَّ، ويبقى مُحْرِماً بها، فإِنْ أَهَلَّ بالعُمْرَة في هذه الأَيام رَفَضَها، وإِنْ مضى عليها صَحَّ ولَزِمه دمٌ في الوجهين: من الرَّفْضِ، وعَدَمِهِ

(3)

. أَمَّا في الرفض فظاهر،

(1)

يعني أنه موقوف على الصحابي زيد بن ثابت وليس مرفوعًا.

(2)

في المطبوعة: حجه، وما أثبتناه من المخطوطة.

(3)

أي لَزِمَهُ دمٌ في الحالتين: حالة رفضه للعمرة بأن يجني عليها بأي فعل من الأفعال الناقضة للإحرام، أو حالة متابعته العمرة وعدم رفضها.

ص: 617

[مواقيت الإحرام]

ومِيقَاتُ المَدَنِيِّ ذُو الحُلَيفَةِ، والعِرَاقيِّ ذَاتُ عِرْقٍ، والشاميِّ جُحْفَة، والنَّجْدِيِّ قَرْنٌ، واليَمَنِيِّ يَلَمْلَم.

===

وأَمَّا في عَدَمِهِ فَلِجَمْعِهِ بينهما

(1)

إِمَّا في الإِحرام أَوْ في الأَفعال الباقية.

وقال ابنُ دقيقِ العيد في «الإِمام» : روى إِسماعيل بن عَيَّاش، عن إِبراهيم بن نافع، عن طَاوسِ قال: قال الحَبْرُ ـ يعني ابن عباس ـ: «خمسة أَيام: يوم عرَفَةَ، (و)

(2)

يوم النَّحْر، وثلاثة أَيام التشريقِ، اعْتَمِر قَبْلَها وبعدَها ما شئت». وفيه دليل على أَنَّ العمرة المفردة لأَهل مكةَ في أَشْهُر الحج غير مكروهة، وإِنَّما الممنوعُ في حَقِّهم القِران والتمتع، كما سيجيء.

(مواقيت الإحرام)

(ومِيقَاتُ المَدَنِيِّ) الميقات: الوقت المعين، استُعِير للمكانِ المُعَيَّن، كعكسه في قوله تعالى:{هنالك ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ}

(3)

، أَي مكان إِحرامه ومَنْ وافقه في مرامه، (ذُو الحُلَيْفَةِ) ـ بالحاء والفاء مصغراً ـ بينه وبين مكة عشرة مراحل

(4)

، أَوْ تِسْعٌ، وبينه وبين المدينة ستة أَميال أَوْ أَقل، وهو أَبعد المواقيت من مكة.

(والعِرَاقيِّ) وسائر أَهل الشرق (ذَاتُ عِرْقٍ) ـ بِكَسْرِ العين المهملة وسكون الراء ـ بينه وبين مكة ثلاثة أَيام ولياليها، ويقال له العقيق.

(والشاميِّ جُحْفَة)

(5)

ـ بِضَم الجيم وسكون الحاء المهملة ـ ويقال لها رَابِغ. وهو على نحو ثلاثة مراحل من مكة على طريق المدينة.

(والنَجْدِيِّ قَرْنٌ) ـ بفَتْحِ القاف وسكون الراء ـ وهو جبل مشرف على عرفات، بينه وبين مكة نحو مرحلتين.

(واليَمَنِيِّ يَلَمْلَم) ـ بفتح التحتية واللامين ـ وهو من جبال تِهَامة على

(1)

أي الحج والعمرة.

(2)

سقط من المطبوعة.

(3)

سورة الأحزاب، الآية:(11).

(4)

المَرْحَلة: - بفتح الميم -، مسيرة نهار بسير الإبل المحمَّلة وقَدْرُها أَرْبَعَةٌ وعشرون ميلًا هاشميًا. أو 44352 مترًا، معجم لغة الفقهاء ص:421.

(5)

والمشهورة اليوم بـ: "آبار علي".

ص: 618

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

مرحلتين من مكة. وروى الشيخان من حديث ابن عباس: «أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأَهل المدينة ذا الحُلَيْفةِ، ولأَهل الشامِ الجُحْفَةَ، ولأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِل، ولأَهل اليمنِ يَلَمْلَمَ: هُنَّ لَهُنَّ، ولِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ من غير أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَراد الحَجَّ والعمرة ـ أَي مكانهما ـ ومَنْ كان دون ذلك، فمن حيثُ أَنشأَ حتى أَهْلُ مكة من مكةَ» . أَي أَنشأَوا إِحرامهم منها للحج، وأَمَّا للعمرة فلا بدَّ لهم من الخروج إِلى الحِلِّ من أَرض الحرم. ورُوِي: هنَّ لَهُم، والمشهور الأَول، وَوَجْهُهُ أَنَّه على حذف مضاف، والتقدير: هُنَّ لأَهلهن.

وروى البخاري عن ابن عمر قال: «لما فُتح هذان المصرانِ أَتَوْا عمر فقالوا: يا أَمير المؤمنين، إِنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حَدَّ لأَهل نَجْدٍ قَرْناً وهي جَوْرٌ عن طريقنا ـ أَي مائل ـ وإِنَّا إِذا أَرَدْنَا قَرْناً شَقَّ علينا، قال: انظروا حَذْوَها من طريقِكم، فَحَدَّ لَهُمْ ذاتَ عِرْق» . والمِصْران: هما البصرة والكوفة. وقد ثبت في «صحيح مسلم» عن أَبي الزُّبَيْر عن جابر قال: سمعت، أَحسبه رَفَعَ الحديثَ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مُهَلُّ

(1)

أَهْلِ المدينة .... إلى أَنْ قال: ومُهَلُّ العِرَاقِ من

(2)

ذَاتِ عِرْق». إِلاَّ أَنَّ الراوي شكَّ في رَفْعِهِ في هذه المرة، ورواه مرةً أُخرى بلا شك على ما في ابن ماجه. ولفظ ابن عمر:«ومُهَلُّ أَهْل الشُّرْق ذَاتُ عِرْق» . إِلاَّ أَنَّ في سنده إِبراهيم بن يزيد الجوزي لا يُحتج بحديثه.

وفي «سُنن أَبي داود» عن عائشة: «أَنه صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأَهل العراق ذاتَ عِرْق» . وفيها أَيضاً عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن ابن عباس قال:«وَقَّتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَهْل المَشْرِقِ العَقِيق» . قال البيهقي: تَفَرَّدَ به يزيد بن أَبي ( 2) زياد، عن محمد بن علي، وقال ابن القطان: أَخافُ أَنْ يكون مُنْقَطِعاً، فإِنَّ محمداً فيما عُهِدَ يَرْوي عن أَبيه، عن جَدِّه. وفي «مُسنَد البَزَّارِ» عن مُسْلم بنِ خالد الزَّنْجِي، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس:«وقّت رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأَهل (المَشْرق) ذَاتَ عِرْق» .

وقال الشافعي: أَخبرنا سعيد بن سالم: أَخبرني ابن جُرَيْج: أَخبرني عطاء: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فذكره مُرْسَلاً بِتَمَامِهِ. وفيه: «لأَهْل المَشْرق ذَاتُ عِرْق» . قال ابن

(1)

المُهَلُّ: مَوْضعُ الإِهْلال، وهو الميقاتُ الذي يُحْرِمون منه، النهاية: 5/ 271.

(2)

سقط من المطبوعة.

ص: 619

وَحَرُمَ تَأْخيرُ الإِحرام عنها لِمَنْ قَصَدَ دُخُولَ مَكَّةَ

===

جُرَيْج: قلت لعطاء: «إِنَّهم يَزْعُمون أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُوَقِّتْ ذَاتَ عِرْق» ، وإِنَّه لم يكن أَهلُ مَشْرِق يَوْمَئِذٍ، فقال: كذلك سَمِعْنا أَنه صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأَهلِ المَشْرِق ذَاتَ عِرْق». قلت: ولَعَلَّهُ ما بَلَغَ عُمَرَ رضي الله عنه، فيكون من جملة موافقاتِهِ له صلى الله عليه وسلم

ولو سلك في البَرِّ والبحر بين ميقاتين، اجتهد وأَحرم إِذا حَاذَى واحداً منهما، وإِحْرَامُه مِنْ أَبعدهما أَوْلى. ولو لم يُحْرِم المَدَنِي، ومَنْ بمعناه، من ذي الحُلَيْفَة، وأَحرَمَ من الجُحْفَة، لا شيء عليه وكُرِهَ وفاقاً. وعن أَبي حنيفة يلزمه دَمٌ، وبه قال الشافعي. لكنَّ الظاهر هو الأَول، لما رُوِي في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام:«هُنَّ لَهُنَّ ولِمَنْ أَتى عليهن من غَيْر أَهْلِهِنَّ» . فَمَنْ جاوز إِلى الميقات الثاني صار ميقاتاً له.

(وَحَرُمَ تَأْخيرُ الإِحرام عنها) أَي عن هذه المواقيت وعن ما حذاها (لِمَنْ قَصَدَ دُخُولَ مَكَّةَ) أَوْ الحَرَم، سواء قَصَدَ الحَجَّ أَوْ العُمْرَة أَوْ لم يقصد أَحَدَهُمَا، فإِنْ دخل بلا إِحرام فعليه حجة أَوْ عمرة لوجوب الإِحرام منها

(1)

لأَحَد النُّسُكَيْن، ولزم الدَّمُ بالتأخير، واحترز به عَمَّن قَصَدَ موضعاً دون الحرم، كبُسْتَان بني عامر ونحوه، سواء نوى الإِقامة فيه خمسة عشر يوماً أَوْ لم يَنْوِ فإِنه (يجوز له)

(2)

مجاوزة الميقات بغير إِحرام، ويصير كأَهْلِ ذلك الموضع. ومذهب مالك: يجوز مجاوزة الميقات بغير إِحرام للذي يكثر تَرْدَادُه إِلى مكة كأَهلها والمقيمين بها، الذين يخرجون للمعاش، دون أَهل الآفاق الذين إِنَّما يَقْصِدُونها لحاجة أَوْ تجارة.

ومذهب الشافعي على طريقين: أَحدهما يحكِي القَطْع بالاستحباب فيمن يَقْصِدُ مَكَّةَ لحاجة أَوْ تجارة أَوْ رسالة، وأَصحهما يحْكي قولين: أَحدهما لزوم الإِحرام، والآخر استحبابه وهو أَظهرهما. لهما ما روى مسلم والنَّسائي من حديث جابر:«أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فَتْحِ مَكَّةَ، وعليه عِمَامَةٌ سوداءُ، بغير إِحرام» .

ولنا ما قدمنا، وما روى ابن أَبي شيبةَ، عن عبد السلام بن حَرْب، عن خُصَيْف، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: أَنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُجَاوِزُوا الميقاتَ إِلاَّ بالإِحرام» . وهو لِكَونِهِ منطوقاً أَولى مِنْ أَخْذِ الشافعي بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ أَراد الحج والعمرة. ودُخُولُه صلى الله عليه وسلم عام الفتحِ بغير إِحرام حُكْمٌ مخصوص له ولأَصحابه بذلك الوقت، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم: «إِنَّها ـ أَي مكةَ ـ لا تَحِلُّ لأَحَدٍ قَبْلِي ولا تَحِلُّ

(1)

أي المواقيت.

(2)

ما في المطبوعة: يجزئه، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 620

لا التَّقْدِيمُ، وحَلَّ لأَهْلِ دَاخِلِهَا دُخُولُ مكةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ،

===

لأَحَدٍ بعدي، وإِنَّما حَلَّتْ لي ساعةً مِنْ نهار، ثُمَّ عادَتْ حَرَاماً»

(1)

. يعني في الدخول بغير إِحرام للإِجماع على حِلِّ الدُّخُولِ بعده صلى الله عليه وسلم للقِتال مع الإِحرام.

(لا التَّقْدِيمُ) أَي لا يَحْرُم تقديمُ الإِحرام على هذه المواقيت، بل هو أَفضل إِذا كان في أَشهر الحج، وأَما فيما قبله فمكروه، لما روى الحاكم من حديث عبد الله بن سَلَمَة المُرَادي قال: «سُئِل علي رضي الله عنه عن قوله تعالى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ}

(2)

، أَي من الإِتمام بمعنى الإِكمال، قال: أَنْ تُحْرِمَ من دُوَيْرَةِ أَهلك». وقال: صحيح على شرط الشيخين. وقد رُوي أَيضاً من حديث أَبي هريرة مرفوعاً، ونُظِرَ فيه. ولكن يَشْهَدُ له قوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ من المسجد الأَقصى إِلى المسجد الحرام، غُفِر له ما تَقَدَّم من ذنبه وما تأَخر، وَوَجَبَتْ له الجنةُ» . رواه أَحمد، وأَبو داود، وابن ماجه. ولأَنه أَكثر تعظيماً وأَوْفر مشقةً، والأَجْر على قَدْرِ المَشَقَّةِ. ولذا كانوا يستحبون الإِحرام بهما من الأَماكن القاصية، فَرُوي عن ابن عمر أَنَّه أَحْرَم من بيت المقدس، وعِمْران بن حُصَيْن من البصرة، وابن مسعود من القادسية، وابن عباس من الشام.

وأَما قول صاحب «الهداية» : إِنْ الرواية عن ابن مسعود كعلي في تفسير قوله تعالى، فغير معروف، وإِنَّما رواه البَيْهَقِيُّ عنه، قال:«أَتموا الحج والعمرة لله» .

وعن أَبي حنيفة: أَنْ تقديم الإِحرام على الميقات لا يكون أَفضل إِلا لِمَنْ أَمِنَ على نفسه الوقوع في محظور الإِحرام. وكره مالك تقديم الإِحرام على الميقات، اعتباراً له بتقديمه على أَشْهر الحج. والجواب ما قدمناه في شَبَهِ الإِحرام بالرُّكْن.

(وحَلَّ لأَهْلِ دَاخِلِهَا) أَي داخل المواقيت، وكذا لِمَنْ هو مَنْزِلُه في نفس الميقات (دُخُولُ مكةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ) لأَن دخولهم إِليها يكثر، وفي إِيجاب الإِحرام عليهم كُلَّ مرة حَرَجٌ. ولقول ابن عباس: «إِنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ للحطَّابين أَنْ يدخلوا مكَّة بغير إِحرام. والظاهر أَنَّهم لا يجاوزون الميقات، فدل أَنَّ كل مَنْ هو داخل الميقات له أَنْ يدخل مكة بغير إِحرام. وقد خرج ابن عمر من مكة يريد المدينة، فلما انتهى إِلى قُدَيْد بَلَغَتْهُ فتنة المدينة فرجع إِلى مكة ودخلها بغير إِحرام.

(1)

صحيح البخاري (فتح الباري): 5/ 87، كتاب اللقطة (45)، باب كيف تُعَرَّف لقطة أهل مكة؟ (7)، رقم (2434).

(2)

سورة البقرة، الآية:(196).

ص: 621

ومِيقَاتُهُ الحِلُّ. ولِمَنْ بِمَكَّةَ لِلْحَجِّ الحَرَمُ، ولِلعُمْرَةِ الحِلُّ.

===

وهذا إِذا لم يَقْصِد الداخل منهم الحج والعمرة، وأَمَّا إِذا قَصَدَ أَحدهما فموضع إِحرامه. (ومِيقَاتُهُ الحِلُّ) الذي بين الميقات والحرم، إِلا أَنه يجوز الإِحرام من دُوَيْرَةِ أَهله، بل هو أَفضل، وما بين الميقات والحرم مكان واحد حَدُّه الحَرَم كالميقات في حق الآفاقي، وحَدُّ الحرم من جانب المدينة نحو أَربعة أَميال ينتهي إِلى التَّنْعِيم، ومن جانب العراق ثمانية إِلى المنقطع، ومن جانب عرفات سبعة، ومما يلي اليمن سبعة إِلى أَضاة، ومِنْ جُدَّة عشرة تنتهي إِلى حُدَيبية وهي دون جُدَّة

(1)

. ويُعْرَفُ

(2)

الحرم بأَن مسيل الحِلّ إِذا جرى إِليه وقف دونه. كذا ذكره ابن الحاجب.

(ولِمَنْ بِمَكَّةَ) وما حولها من الحرم (لِلْحَجِّ الحَرَمُ) لما روى مُسْلِمٌ من حديث جابر قال: «أَمَرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لما أَحْلَلْنَا

(3)

أَنْ نُحْرِم إِذا توجهنا إِلى مِنىً، قال: فَأَحْرَمنا من الأَبْطَح».

(ولِلعُمْرَةِ الحِلُّ) لما روى البخاري عن عائشةَ رضي الله عنها أَنها قالت: «يا رسولَ الله، اعتمرْتُم ولم أَعتمِر فقال: يا عبدَ الرحمنِ اذهبْ بأُختِكَ فأَعْمِرْهَا من التنعيم، فأَحْقَبَها على راحلة، فاعتمرت» . ومعنى أَحْقَبَها: احْتَمَلها. ولما في «صحيح مسلم» عن عائشةَ قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إِلاَّ الحَجَّ حتى جئنا سَرِفَ

(4)

فطَمَثْتُ

(5)

، فدخل عَلَيَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأَنا أَبكِي، فقال: ما يُبْكِيكِ؟ فقلت: واللهِ لَوَدِدْت أَني لم أَكُنْ خرجْتُ العامَ، فقالَ: ما لَكِ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ؟ قلت: نعم، قال: هذا شيءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ على بناتِ آدمَ، افعلِي كما يفعلُه الحاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تطوفي بالبيتِ حتى تَطْهُرِي.

قالَتْ: فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأَصحابه: اجعلوها عُمْرَةً، فَأَحَلَّ الناسُ إِلاَّ مَنْ كان معه الهدي، قالت: وَكَانَتِ الهَدْيُ مَعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومع أَبي بكر، وعمرَ وذوي اليسارة، ثُم أَهلُّوا حين راحوا، فلما كان يومُ النَّحْرِ طَهُرْتُ، فأَمرني رسولُ

(1)

هذا، وقد حُدِّد الحرم المكّي الآن من مختلف الجهات بأعلام بَيِّنة مُبَيَّنة على أطرافه مثل المنار، مكتوب عليها اسم العَلَم بالعربية والأعجمية. الموسوعة الفقهية 17/ 186.

(2)

في المطبوعة: يحرم، وما أثبتناه من المخطوطة.

(3)

في المطبوعة: أحرمنا، وما أثبتناه من المخطوطة، وهو الموافق لما في صحيح مسلم 2/ 882، كتاب الحج (15)، باب بيان وجود الإِحرام (17)، رقم (139 - 1214).

(4)

في المطبوعة: جئت بسَرِف، وما أثبتناه من المخطوطة.

(5)

طَمَثَت المرأة: حاضت. معجم لغة الفقهاء ص 293.

ص: 622

[سُنَنُ وآدَابُ الحَجِّ]

ومَنْ شَاءَ إِحْرَامَهُ بالحَجِّ تَوَضَّأَ، وغُسْلُهُ أَحَبُّ،

===

الله صلى الله عليه وسلم فَأَفَضْتُ، قَالَتْ: فأَتينا بِلَحْمِ بقرٍ، فَقُلْتُ: ما هذا؟ فقال: أَهْدَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقرة، فلما كانَتْ ليلةُ الحَصْبَة

(1)

، قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ يَرْجِعُ الناسُ بِحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ، وأَرجعُ بِحَجَّةٍ، فأَمَرَ عبدَ الرحمن بن أَبي بكر، فَأَرْدَفَنِي على جَمَلِهِ، قالت: فإِني لأَذكر وأَنَا جَارِيةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ أَنعس فيصيب وجهي مُؤْخِرَة الرحل

(2)

، حتى جِئْنَا إِلى التنعيم، فأَهْلَلْتُ منها بِعُمْرَةٍ جزاءً بعمرة الناس التي اعتمروا».

وفي قولها: «يَرْجِعُ الناسُ بِحَجَّةٍ وعُمرةٍ، وأَرجع بِحَجةٍ» دليلٌ وَاضِحٌ على أَنَّ الناس: إِمَّا كانوا قارنين، أَوْ متمتعين، لا مُفْرِدين كما عليه المحققون من المجتهدين. ولأَن أَداء الحج في عرفة ـ وهي (في)

(3)

الحِلِّ ـ فيكونُ إِحْرَامُ المَكِيِّ بالحج مِنْ الحرم، لِيَتَحَقَّقَ له نوعٌ من السفر (بَتَبَدّل المكان، وأَداءَ العمرةِ في الحرم، فيكون إِحرام المكي بالعُمرة من الحِلِّ ليتحقق له نوعٌ من السفر)( 3).

(سنن وآداب الحج)

(ومَنْ شَاءَ إِحْرَامَهُ بالحَجِّ تَوَضَّأَ) اسْتِحْبَابَاً (وغُسْلُهُ أَحَبُّ) بل سُنَّةٌ، لما في «سنن الترمذي» ـ وحَسَّنَهُ ـ عن خارجةَ بنِ زَيْد، عن أَبيهِ زَيْد بن ثابت، أَنه رأَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم تَجَرَّدَ لإِهلاله واغتسل، وفي رواية الدَّارَقُطْنِيّ:«اغتسل لإِحرامهِ» ، والمراد بهذا الغُسْل تحصيلُ النظافة وإِزالة الرائحة لا قَصْدَ الطهارة، حتى تُؤْمَرُ به الحائض والنُّفَسَاء، لما روى ابن عباس أَنه صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ النُّفَسَاءَ والحائِضَ تَغْتَسِلُ وتُحْرِمُ، وتَقْضِي المناسِكَ كُلَّها غَيْرَ أَنْ لا تطوف بالبيتِ» . رواه أَبو داود والترمذي

وفي «مُعْجَم الطبراني» عن عائشة: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا خَرَجَ إِلى مَكَّةَ اغْتَسَل حين يُرِيدُ أَنْ يُحْرِم ـ أَي بِحج أَوْ عمرة ـ. ولما روى الحاكم ـ وقال: صحيح الإِسناد ـ من حديث ابن عباس قال: اغتسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثُم لَبِس ثيابَهُ ـ أَي الإِزَار والرداء ـ، فلما أَتى ذا الحُلَيْفَةَ صَلَّى رَكْعَتين، ثُم قصَد على بعيرِه، فلما استوى به على البَيْداء أَحْرَم ـ أَي جَدَّدَ إِحرامه ـ. فإِنَّ الصحيح أَنه صلى الله عليه وسلم عَقَّبَ صلاتَه بالإِحرام

(4)

، أَوْ المعنى:

(1)

ليلة الحَصْبَة: هي التي بعد أيام التشريق. القاموس المحيط، ص 95، مادة (حصب).

(2)

مُؤخِرة الرَّحْل: هي الخشبة التي يستند إليها الراكب من كُور البعير. النهاية 1/ 29. والكُور: الرحل بأداته. مختار الصحاح ص 242، مادة (كور).

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

(4)

وعبارة المخطوطة: "أحرم عَقِيب صلاة الإِحرام" - أي سُنة الإِحرام -.

ص: 623

ولَبِسَ رِدَاءً وإزَارًا طَاهِرَيْنِ، وتطَيَّبَ

===

رَفَعَ صَوْتَه بما يَدُل على الإِحرام، وهو التلبية.

ثم هذا الغُسْل للتنظيف حتى تُؤمرُ به الحائض والنفساء والصبي، ولا يقوم التيمم لهم مقامه. ويُستحب له قبل الغُسْل كمَالُ التنظيف: من قَصِّ الأَظفار، ونَتْفِ الإِبْطِ، وحَلْقِ العانة، وقص الشارب، وجِمَاع زوجته إِنْ تيسر، لأَنه يحصل به ارتفاق

(1)

له أَوْ لها فيما بعد ذلك. وقد أَسْند أَبو حنيفة عن إِبراهيم بن المُنْتَشِر، عن أَبيه، عن عائشة قالت: كنْتُ أُطَيِّبُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ثُم يَطُوفُ في نسائه، ثُم يُصْبِحُ مُحْرِماً. وفي رواية:«طيَّبْتُ، فَطَافَ، ثُم أَصبح» بصيغة الماضي.

(ولَبِسَ رِدَاءً وإِزَاراً طَاهِرَيْنِ) أَبْيَضَيْنِ، لحديث:«خَيْرُ ثِيَابِكُم البِيضُ» . رواه ابن ماجه. ولأَنهما بمنزلةِ الكفن، ولذا يُستحب أَنْ يكونا جَديدَيْنِ أَوْ غَسِيلين. وفي البخاري عن كُرَيْب، عن ابن عباس قال: انطلقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من المدينةِ بَعْدَمَا تَرَجَّلَ

(2)

وادَّهَنَ، ولَبِسَ إِزَارَهُ ورداءه هو وأَصحابه، فلم يَنْهَ عن شيءٍ من الأَردية، والأُزُر تُلْبَسُ، إِلاَّ المزعفرةَ التي تَرْدَعُ

(3)

على الجلد، فأَصبح بذي الحُلَيْفَةَ، رَكِبَ راحلته حتى استوى على البيداء، وأَهَلَّ هو وأَصحابُه وقَلَّدَ

(4)

بَدَنَتَهُ

الحديثَ.

(وتَطَيَّبَ) بأَيِّ طِيبٍ كان، وكَرِهَ محمدٌ مما يبقى عينه بعد الإِحرام، وهو قول مالك، لما في «الصحيحين» من حديث يَعْلَى بن أُمَيَّةَ قال: أَتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ

(5)

وعليه جُبَّةٌ فقال: يا رسولَ اللهِ، كيف تَرى في رجلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ في جُبَّةٍ بَعْدَما تَضَمَّخَ بطيب؟ فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم «أَمَّا الطيبُ الذي لكَ فاغْسِلْهُ ثلاثَ مراتٍ، وأَمَّا الجُبَّةُ فانْزعْها، ثم اصْنَع في عُمْرَتِكَ ما تَصْنَعُ في حَجَّتِك» . ولأَنه يصير منتفِعاً بعد الإِحرام بِعَيْنَ الطِّيب، وهو ممنوع منه.

ولنا ما في «الصحيحين» عن عائشةَ أَنها قالت: كُنْتُ أُطَيِّبُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لإِحرامه قبل أَنْ يُحْرِم. ورُوِيَ عن عائشةَ قالت: كُنْتُ أُطَيِّبُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأَطْيَب ما أَقْدِرُ عليه قبل أَنْ يُحْرِم. وفي رواية مالك في «الموطأ» ، والبخاري، وأَبي داود، عن

(1)

الارتفاق: ارتفق أي انتفع. المُغْرِب 1/ 339، مادة (رفق).

(2)

التَّرَجُّل: تَسْريحُ الشَّعَر وتنظيفُه وتَحْسِينُه. النهاية: 2/ 203.

(3)

تَرْدَع: أَي تَنْفُضُ صِبغَهَا عليه، وثوبٌ رَدِيع: أي مَصْبُوغٌ بالزَّعْفَران النهاية: 2/ 215.

(4)

تَقْلِيدُ البَدَنة: أن يُعَلَّق في عُنُقِها شيءٌ ليُعْلَم أَنَّها هَدْيٌ. مختار الصحاح ص: 229، مادة (قلد).

(5)

التَّضَمُّخ: التَّلَطُّخ بالطِّيب وغيره، والإِكثار منه، النهاية: 3/ 99.

ص: 624

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

عائشةَ قالت: كُنْتُ أُطَيِّبُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لإِحرامه قَبْل أَنْ يُحْرِم، ولإِحْلَالِهِ قبل أَنْ يَطُوفَ بالبيتِ. وفي لَفْظٍ لهما: كأَنِّي أَنْظُرُ إِلى وبيص (الطِّيب في مَفْرِق

(1)

رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُحْرم. وفي لفظ لمسلم: كأَني أَنظر إِلى وبيص)

(2)

المِسْك في مَفْرِق رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يُلَبِّي. والوَبِيص: ـ بصاد مُهْمَلة ـ البَرِيق.

والجواب عن حديث يَعْلى: أَنَّه محمول على أَنه كان من زعفران، تدل عليه روايةُ مسلم: وهو مُزَعْفِرٌ لحيته ورأْسه، وقد نُهِيَ الرجل عن الزَّعْفَران

(3)

. ورواية الطحاوي لحديث يَعْلى بن أُمية: «اخلع عَنْك هذه الجُبَّةَ، واغْسِل هذا الزَّعْفَرانَ، واصْنَع في عمرتِك ما كُنْتَ صَانِعاً في حَجَّتِك» . أَوْ أَنه منسوخ، لأَنه كان في عام الجِعْرانَةِ وهو سَنة ثمانٍ، وحديث عائشةَ في حجة الوداع سنةَ عَشْر.

وكونه

(4)

مُنْتَفَعَاً به

(5)

بعد الإِحرام لا يَضُر، لقول عائشةَ: كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِلى مكةَ فنضمِّد

(6)

جِبَاهَنَا بالمِسْك المطيب عند الإِحرام، فإِذا عَرِقَتْ إِحْدانا سَالَ على وَجْهِهَا، فَيَراهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلا يَنْهَانَا. رواه أَبو داود. ورُئِيَ ابن عباس مُحْرِماً وعلى رأْسه مِثْلُ الرُّبّ من الغَالِية

(7)

. وقال مُسْلم بن صُبَيح: رأَيت ابنَ الزُّبَيْر مُحْرِماً، وعلى رأْسه وفي لحيته من الطيب ما لو كان لرجلٍ أَعْدَمته رأْس ماله. قال المُنْذِري: وعليه أَكْثَرُ الصحابة رضي الله عنهم.

ويُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَدَهَّنَ أَيضاً، لما رُوِي عن عائشةَ قالت: كان صلى الله عليه وسلم إِذا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ تَطَيَّبَ بأَطْيَب ما يَجِدُ، ثُم يُرَى وبيصُ الدَّهْنِ في رَأْسِهِ ولِحْيَتِهِ بعد ذلك. رواه مسلم.

(1)

المَفْرِقَ: - بكسر الراء وفتحها - وسط الرأس، وهو الموضع الذي يُفْرَق فيه الشعر. مختار الصحاح ص: 210، مادة (فرق).

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

(3)

وفي المخطوطة: التزعفر.

(4)

أي الطيب.

(5)

سقط من المطبوعة.

(6)

الضَّمْد: الشَّدُّ، يقال: ضَمَدَ رأسه وجُرْحه إِذا شدَّهُ بالضِّماد، وهي خرقة يُشدُّ بها العُضْو المَؤُوف - أي المصاب. النهاية: 3/ 99.

(7)

الرُّبّ: سلافة خُثَارة كل ثمرة بعد اعتصارها. القاموس المحيط ص: 112، مادة (رب). والغالِية: بكسر اللام، جمع غوال، نوع من الطيب، مركب من مسك وعنبر وعُود ودهن. معجم لغة الفقهاء ص 328.

ص: 625

وصَلَّى شَفْعًا.

[أَحْكَامُ المُفْردِ]

وقَالَ المُفْرِدُ: اللهُمَّ إِنِّي أُريدُ الحَجَّ فَيَسِّرْهُ لي وتَقَبَّلْهُ مِنِّي، ثُمَّ لَبَّى، يَنْوي بها الحَجَّ،

===

(وصَلَّى شَفْعَاً) أَي ركعتين عند إِحْرَامه، لما رَوَى أَبو داود من حديث ابن عباس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حَاجّاً، فَلَمَّا صَلَّى في مسجده بِذِي الحُلَيْفَة ركعتيه، أَوجب في مجلسه فَأَهَلَّ حين فَرَغَ من رَكْعَتَيْن.

وأَمَّا ما ذكره في «الهداية» عن جابر: أَنه صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِذِي الحُلَيْفَة ركعتين عِند إِحْرَامه

(1)

، فالمعروف في حديث جابر: أَنَّه صَلَّى بذِي الحُلَيْفَةَ في المسجد من غير ذِكْرِ رَكْعَتَيْنِ.

وأَمَّا ما روى مسلم من حديث ابن عمرَ قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَرْكع بذِي الحُلَيْفَة ركعتين، فإِذا استوتْ به الناقةُ قائمةً عِنْد مسجدِ ذي الحُلَيْفَة، أَهَلَّ بهؤلاء الكلماتِ ـ أَي جَدَّدَ إِهْلَالَهُ بِكَلِمَاتِ التلبية ـ فلا يُعَارِضُ ما قَبْلَه.

ويُستحب أَنْ يقرأَ فيهما (بـ: {قل يا أيها)

(2)

الكافرون}، وسورة الإِخلاص. وفي رواية أَبي داود عن أَنس: أَنَّه صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظهر ثُمَّ رَكِبَ راحِلَتَهُ، فَلَمَّا عَلَا جَبَلَ البَيْدَاء أَهَلَّ.

(أحكام المفرد)

(وقَالَ المُفْرِدُ): وهو الذي يريد إِحرام الحَجِّ فقط، (اللهُمَّ إِنِّي أُريدُ الحَجَّ فَيَسِّرْهُ لي وتَقَبَّلْهُ مِنِّي،) فيطلب تَيْسِيرَهُ، لأَنَّ أَداءه في أَزمنة متفرقة، وأَمْكِنَةٍ متباينة، فلا يخلو عن المشقة عادةً، ويطلب تَقَبُّلَه، لأَن المدَار

(3)

على حصوله

(4)

والاقتداء بالخليل وإِسماعيل

(5)

عليهما السلام في قولهما: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّاً}

(6)

.

(ثُمَّ لَبَّى، يَنْوي بها) أَي بالتَّلْبِية (الحَجَّ) لأَنَّه عبادة، فلا يَتَأَتَّى إِلاَّ بالنيةِ. والأَوْلى

(1)

في المطبوعة: عن إحرام، وما أثبتناه من المخطوطة وهو الصواب.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

(3)

أي مدار حصول الحج على قبوله.

(4)

أي القبول.

(5)

وفي المخطوطة: ونجل الخليل.

(6)

سورة البقرة، الآية:(127).

ص: 626

وهِيَ: لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لك لبيك، إِنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لك والمُلْك لا شَرِيكَ لك.

===

أَنْ يقرأَ الدعاء بعد الصلاة، ثم يقول: نويت الحج، وأَحْرَمْتُ به لِلَّهِ تعالى، ثم يُلَبِّي.

وفي «سنن أَبي داود» من حديث أَبي إِسحاق، عن خُصَيف، عن سعيد بن جُبَيْر قال: قلت لعبد الله بن عباس: عَجِبْتُ لاختلافِ أَصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في إِهْلالِه حين أَوْجَبَ، فقال: إِنِّي لأَعْلَمُ النَّاسَ بذلك، إِنَّها إِنَّما كانَتْ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَجَّةً واحدةً، فمن هنالك

(1)

اختلفوا. خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَاجَّاً، فَلَمَّا صلَّى في مسجده بذي الحُلَيْفَة ركعتيه، أَوْجَبَ في مَجْلِسِه، فَأَهَلَّ بالحج حين فَرَغَ مِنْ ركعتيه، فسمع ذلك منه أَقْوَامٌ فحَفِظَتْهُ عنه، ثُمَّ رَكِبَ فَلمَّا اسْتَقَلَّت به ناقَتُهُ أَهَلَّ، وأَدْرَكَ منه ذلك أَقوامٌ، وذلك أَنَّ الناسَ كانوا يأْتون أَرسالاً

(2)

فَسَمِعُوه حين استقلت به ناقته يُهِلُّ، فقالوا: إِنَّما أَهَلَّ حين استقلتْ به نَاقَتُه، ثُمَّ مَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمَّا عَلَا على شَرَف البَيْدَاء

(3)

، أَهَلَّ، وأَدرك ذلك منه أَقوام، فقالوا: إِنَّما أَهَلَّ حين علا على شرف البيداء، وأَيْمُ الله، لَقَدْ أَوْجَب في مصلاّه، وأَهَلَّ حين استقلتْ به ناقَتُه، وأَهَلَّ حين عَلَا على شَرَف البيداء. ورواه الحاكم أَيضاً، وقال: صحيح على شرط مسلم.

(وهِي:) أَي التلبية المسنونة (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لك لبيك،) أَي أَجَبْتُ لك إِجَابَةً بعد إِجابةٍ (إِنَّ الحَمْدَ) بِكَسْرِ الهمزة عند محمد والكِسائي والفرَّاء على الاستئناف لزيادة الثناء، وبفتحها عند أَبي حنيفة وآخرين على التعليل. قال الخطابي: الفتح رواية العامة. وأَما ما في «المحيط» مِنْ أَنَّ الكسر أَصْوَب لأَن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَسَرها فغير صحيح (والنِّعْمَةَ لك والمُلْك) أَي لك (ولا شَرِيكَ لك) أَي في الملك ولا في غيره.

وفي الكتب الستة عن ابن عمر: أَنْ تلبية رسولِ الله صلى الله عليه وسلم «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْك، إلى آخره. وقد أَجمع المسلمون على أَنَّ التلبية بالحج هكذا. وروى الحاكم ـ وقال: صحيح الإِسناد ـ عن ابن عباس قال: لمَّا فَرَغَ إِبراهيمُ عليه السلام من بناء البيت قال: يا رَبّ قَدْ فَرَغْتُ، فقال: أَذِّنْ في الناسِ بالحَجِّ، قال: يا ربّ وما يبلغ صوتي، قال: أَذِّن، وعَلَيَّ البلاغ، قال: يا رَبّ كيف أَقول؟ قال: قل يا أَيَّها الناس، كُتِبَ عليكم الحَجُّ، حج البيت العتيق، فسمع مَنْ بينَ السماء والأَرض، أَلا تَرَى أَنَّهم يُجِيبُون من

(1)

في المطبوعة: هناك، وما أثبتناه من المخطوطة.

(2)

أَرْسَالًا: أي أفواجًا وفِرَقًا. النهاية: 2/ 222.

(3)

البَيْداء: اسم موضع بين مكة والمدينة. النهاية: 1/ 171.

ص: 627

ولا يُنْقِصُ منها وإِنْ زَادَ جَازَ،

===

أَقْصَى الأَرض.

قلت: ولَعَلَّهُ المَرادُ بقوله تعالى: {وإِذْ بَوَّأْنَا لإِبراهيمَ مكانَ البيتِ}

(1)

، إِلى أَنْ قال:{وأَذِّنْ في النَّاسِ بالحجِّ يأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كل فَجَ عَمِيق}

(2)

، الآيةَ.

(ولا يُنْقِصُ منها) أَي من التلبية المأْثورة بالروايات

(3)

المشهورة. وأَمَّا قولُ صاحب «الهداية» : لأَنه هو المنقول باتفاق الرواة فلا ينقص منه، فمنقوض بما روى البخاري في «صحيحه» عن عائشةَ قالت: إِنِّي لأَعْلَمُ كيف كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لك لبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لك ـ وليس فيه: والملك ـ لا شريك لك.

(وإِنْ زَادَ) عليها (جَازَ). وقال القُدُوري في «شرحه» : إِنْ زاد عليها استُحِب. والأَظهر أَنْ يُقال: إِنْ الزيادةَ مُسْتَحَبَّةٌ إِنْ كانت مرويةً عن الصحابة، وجازتْ إِنْ كانت بخلافها، لقول نافع: وكان ابن عمر يزيد في تلبيته: لبيك، لبيك وسَعْدَيْك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إِليك والعمل. رواه مسلم والأَربعة. وروى مسلم هذه الزيادة عن عمر أَيضاً: ولبيك إِله الخَلْق

(4)

لبيك. رواه النَّسائي وابن ماجه وابن حِبَّان والحاكم عن أَبي هريرة. ورُوِي عن ابن مسعود زيادة: لبيك عدد التراب. رواه إِسحاق بن رَاهُوَيه في «مُسْنده» . وروى الرَّبِيع عن الشافعي: إِنْ زاد عليها كُرِه.

وإِذا فَرَغَ من تلبيته سأَل اللَّهَ مغفرته ورضوانه واستعتقه من النَّار. رواه الطبراني عن خُزَيْمَةَ بن ثابتِ الأَنصاري فيقول: اللهم إِنِّي أَسْأَلُكَ مَغْفِرَتَكَ ورضاك عني في دار القرار، وأَنْ تُعْتِقَنِي مِنَ النَّار. أَوْ يقول: اللهم إِنِّي أَسأَلك رضاك والجنة، وأَعوذ بك من النار. فللدَّارَقُطْنِيّ عن خُزَيْمَةَ أَيضاً بلفظ: أَنَّه صلى الله عليه وسلم كان إِذا فَرَغَ من التلبية، سأَل رضوانه والجنة، واستعاذ برحمته من النار.

ويُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصوتِ بالتلبية، لقوله صلى الله عليه وسلم «جاءني جبرائيل فقال: يا محمدُ، مُرْ أَصْحابك فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهم بالتلبيةِ، فإِنها من شعائرِ الحجِّ». رواه ابن ماجه. ورُوِي

(1)

سورة الحج، الآية:(26).

(2)

سورة الحج، الآية:(27).

(3)

في المطبوعة: بالرواية، وما أثبتناه من المخطوطة.

(4)

في المطبوعة: الحق، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 628

فَصارَ مُحْرِمًا.

[مَحْظُورَاتِ الإِحْرامِ]

فَيَتَّقي الرَّفَثَ، والفُسُوقَ، والجِدَال،

===

عن القاسم بن محمد بن أَبي بكر أَنَّه قال: كان يَسْتَحِبُّ الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد التلبية. رواه أَبو داود والدَّارَقُطْنِي.

(فَصَارَ مُحْرِماً) أَي بالجَمْع بين النيّة والتلبية. وينعقد الإِحرام بمجرد النيّة، ويُسَنُّ بهما عند مالك والشافعي، وهو رواية عن أَبي يوسف قياساً على الصوم.

ولنا أَنَّ التلبية ذِكْرٌ يقوم مقام تكبير التحريمة في الصلاة، ولذا شُرِط في أَولهما، وسُنَّ عند الانتقالات فيهما. وقد رُوِي عن ابن عباس في قوله تعالى:{فَمَنْ فَرَضَ فيهنَّ الحَجَّ} (2)، قال: فَرْضُ الحَجِّ الإِهْلَالُ

(1)

. وقال ابن عمر: التلبية.

(محظورات الإِحرام)

(فَيَتَّقِي الرَّفَثَ والفُسُوقَ والجِدَال)، لقوله تعالى:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ في الحَجِّ}

(2)

، وهذا نَهْي في صيغة النفي، وهو آكَدُ. والرَّفَثُ: الجِمَاع، لقوله سبحانه:{أُحِلَّ لكم لَيْلَةَ الصِيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسَائِكُم}

(3)

، أَوْ ذِكْرُ الجِمَاع ودواعيه بحضرة النساء. ورُوِي أَنَّ ابن عباس أَنْشَدَ شِعْره

(4)

:

وهُنَّ يَمْشِينَ بنا هَمِيساً

(5)

إِنْ يَصْدُقِ الطير نَنِك لَمِيسا

فَقِيل له: أَتَرْفُثُ وأَنْتَ مُحْرِم؟ فقال: إِنَّمَا الرَّفَثُ ذِكْر الجِماع بحضرة النساء. وقيل: الفُحْشُ من الكلام. وقيل: ذِكْرُ الجِماع، ولو في غَيْبَةِ النساء. والفُسُوق: هو الخروج عن حدود الشريعة، وهو

(6)

في حالة الإِحرام أَشَدُّ وأَقْبَح، لأَنها حالة الإِقبال على الطاعات وهِجْرَان المباحات، فصار كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب في القراءة، ونظيرهُ الظلم في الأَشهر الحُرُم في قوله تعالى:{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}

(7)

. وقيل: هو السِّباب، والتنابز بالأَلقاب. والجِدال: المجادلة، وهي

(1)

سورة البقرة، الآية:(197).

(2)

الإِهلال: رَفْع الصوت بالتلبية. معجم لغة الفقهاء ص: 96.

(3)

سورة البقرة، الآية:(187).

(4)

في المطبوعة: الشعر، وما أثبتناه من المخطوطة.

(5)

الهَمْس: هو صوتُ نَقْلِ أَخْفافِ الإِبل. النهاية: 5/ 273.

(6)

وفي المطبوعة: "هي".

(7)

سورة التوبة، الآية:(36).

ص: 629

وقَتْلَ صَيْدِ البَرِّ، والإِشارةَ إِليه، والدَّلالَةَ عليه،

===

المخاصمة مع الرفيق، أَوْ الخادم، أَوْ المُكَارِي

(1)

من غير ضرورة تلجِئُهُ إِليه، وإِلا فمن تمام الحج ضَرْبُ الجَمَّال، وقد ورد أَنَّ الصِّدِّيقَ ضرب جمّاله لتقصيره في الطريق.

ويجوز نِكاح المُحْرم وإِنْكَاحه عندنا خلافاً لِمَالِك والشافعي. لهما قوله صلى الله عليه وسلم «لا يَنْكِح المُحْرِمُ ولا يُنْكَح»

(2)

. رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه. ولنا ما رُوي عن ابن عباس: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ ميمونةَ وهو مُحْرِمٌ. وهكذا رُوي عن عائشةَ، واختلفت الروايات في حديث أَبي رَافِع: ففي بعضها: تَزَوَّجَهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال، وفي بعضها: تَزَوَّجَها وهو مُحْرِم، وبنَى بها وهو حَلال، وكُنْتُ أَنَّا السفير فيما بينهما. وتبين بهذا الحديث أَنَّ المراد من حديث عثمان الوطاءُ دون العقد، فإِنه

(3)

لِلوطئ

(4)

حقيقةً، وإِن

(5)

كان مُسْتَعَاراً للعقد مجازاً. وفي كتاب النكاح لهذا مزيد التحقيق والله ولي التوفيق.

(وقَتْلَ صَيْدِ البَرِّ) وهو ما كان توالده ومثواه في البر، دون صيد البحر: وهو ما يكون كلاهما

(6)

في البحر. وأَصل ذلك قوله تعالى: {أُحِلَّ لكُم صَيْدُ البَحْرِ وطَعَامُهُ مَتَاعاً لكم وللسَّيَّارةِ وحُرِّمَ عليكم صَيْدُ البَرِّ ما دُمْتُم حُرُماً}

(7)

أَي مُحْرِمين.

(والإِشارةَ إِليه، والدَّلالَةَ عليه) والفرق بينهما: أَنْ الإِشارة لما يكون بالحضرة، والدَّلالة لما يكون بالغَيْبة، والنوعان ممنوعان لما في الكتب الستة من حديث أَبي قَتَادة: أَنَّهم كانوا في مَسيرٍ لهم، بَعْضُهم مُحْرِمٌ وبَعْضُهُم لَيْس بِمُحْرِم، قال: فَرَأَيْتُ حِمَارَ وَحْشٍ فَرَكِبْتُ فرسي، وأَخَذْتُ الرُّمْحَ واسْتَعَنْتُ بهم، فأَبَوْا أَنْ يُعِينُوني، فاخْتَلَسْتُ سوطاً من بعضهم وشددت على الحمار فأَصَبْتُه، فأَكلوا منه فأَشفقوا ـ وفي نسخة: واستبقوا ـ قال: فَسُئِلَ عن ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أَمِنْكُم أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عليها أَوْ أَشارَ إِليها؟» قالوا: لا، قال:«فكلوا ما بقي من لَحْمِهَا» .

(1)

المُكاري: الذي يؤجر الدوابَّ ونحوها. معجم لغة الفقهاء ص: 455.

(2)

صحيح مسلم 2/ 1031، كتاب النكاح (16)، باب تحريم نكاح المحرم (5)، رقم (43 - 1409) وأبو داود 2/ 421 - 422، كتاب المناسك (11)، باب المحرم يتزوج (38)، رقم (1841).

(3)

أي لفظ "النكاح".

(4)

وفي المطبوعة: الوطئ.

(5)

وصلية وليست شرطية.

(6)

أي توالده ومثواه.

(7)

سورة المائدة، الآية:(96).

ص: 630

والتَّطَيُّبَ، وقَلْمَ الظُّفُرِ، وسَتْرَ الوَجْهِ والرَّأْسِ،

===

وفي لفظ (لمسلم)

(1)

: «هل أَشرتم؟ هل أَعنتم؟» قالوا: لا، قال:«فكلوا» . وفي رواية قال:

(2)

«هل معكم مِنْ لَحْمِهِ شيءٌ» ؟ قالوا: معنا رِجْلُهُ، فأَخَذَها وأَكَلَهَا. وفي رواية: قالوا: نعم، فَرَفَعْنَا له الذِّراع، فدعا بها وأَكل منها. أَخرجه البخاري.

(والتَّطَيُّبَ) والتدهُّنَ، والخَضْبَ

(3)

بالحِنَّاء، وشمَّ الرياحين والثمار الطيبة، لما روى الترمذي، وابن ماجه من حديث ابن عمر قال: قامَ رجلٌ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: مَنْ الحاجُّ ـ أَي الكامل ـ؟ فقال: «الشَّعِث التَّفِل» . والشَّعِث: المنتشر شعر الرأْس. والتفل: التارك الطيب. وقال الشافعي: يجوز له الخِضَاب بالحِنَّاء، لأَنه ليس بِطِيب. ولنا أَنه صلى الله عليه وسلم نهى المُعْتدة عن الكحل والخِضاب والحِنَّاء. وقال:«الحِنَّاءُ طِيبٌ» . رواه النسائي.

(وقَلْمَ الظُّفُرِ) لأَنه من قضاء التَّفَث: أَي إِزالته. والتَّفَثُ: الوسخ، وقد قال تعالى:{ثُمَّ ليَقْضُوا تَفَثَهُم}

(4)

، أَي بعد التحلل الأَول.

(وسَتْرَ الوَجْهِ والرَّأْسِ)

لقوله صلى الله عليه وسلم «(إِحرامُ الرجل في رَأْسِهِ و)

(5)

إِحرامُ المرأَةِ في وَجْهِهَا». رواه الدَّارَقُطْنِيّ، والبيهقي في «سُننهما». ورُوِي عن عائشة أَنها قالت: كان الركبانُ يَمُرُّونَ بنا ونحنُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحْرِمَاتٌ، فإِذا حَاذُونا سدلت إِحدَانا جِلْبَابَهَا من رأْسها، فإِذا جاوزونا كشفنا. رواه أَبو داود، وأَحمد وغيرهما.

واقتصر الشافعي، وأَحمد في الرجل على سَتْر الرأْسِ. ورُوي عن مالك جوازُ تغطية الوجه وعدمُه. للشافعي ما رواه هو عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال ـ في الذي وُقِصَ ـ:«خَمِّرُوا وَجْهَهُ، ولا تُخَمِّرُوا رأْسَه» ، أَي في حال تكفينه لكونه مُحْرِماً، والوَقْص: كَسْرُ العنق، والتخمير: التغطية.

ولنا ما في «صحيح مسلم» ، والنسائي، وابن ماجه عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس: أَنَّ رجُلاً وقصته راحلتُه وهُو مُحْرِمٌ فمات، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «اغسلوه بماءٍ وسِدْرٍ، وَكَفِّنُوه في ثوبيه، ولا تُمِسُّوهُ طِيباً، ولا تُخَمِّروا رأْسَهُ ولا وَجْهَهُ، فإِنَّه يُبْعَثُ يومَ القيامة مُلَبِّياً» . ورواه الباقون ولم يذكروا فيه الوَجْهَ. وفي الجملة أَفاد: أَنَّ للإِحرام أَثراً

(1)

وفي المطبوعة: "مسلم".

(2)

سقط من المطبوعة.

(3)

الخِضَابُ: صَبْغُ الشعر أَو الأعضاء بالحِناء. معجم لغة الفقهاء. ص: 196.

(4)

سورة الحج، الآية:(29).

(5)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

ص: 631

وغَسْلَ رَأْسِهِ ولِحْيَتِهِ بِالخِطْمِي وقَصَّها، وحَلْقَ رَأْسِهِ، ولُبْسَ مَخِيطٍ، وعِمَامَةٍ،

===

في عدم تغطية الوجه، وإِنْ كان أَصحابُنا قالوا: لو مات المُحْرِمُ يُصْنَع به ما يُصْنَع بالحلال: من تغطية الرأْس والوجه، بِدَليلٍ آخر ذكره ابن الهُمَام. وقال بعض الأَعلام: يُشْكِلُ بهذا الحديثِ الصحيح تجويزُ مشايخنا تَخْمِيرَ وجه الميت مُحْرماً ورأْسه، لحديث ليس في قوة هذا، أَوْ لا يتمُّ الاستدلالُ به على عدم جواز

(1)

تغطية المحرم وجهه.

ورُوِي عن ابن عمر: ما فوقُ الذَّقن من الرأْس فلا تخمروه. وعن ابن عباس أَنه كان لا يجعل للمحرم أَنْ يُخَمِّر وجهه. وما رُوِي بخلاف هذا، حكاياتُ فِعْلٍ، وأَنَّه يباح حال العذر فيحمل عليه. ولو حمَل المُحْرم على رأْسه عِدْلاً

(2)

أَوْ طبقاً أَوْ إِجَّانة

(3)

، لا يكون مغطياً رأْسه عادة، ولو حمَل ثياباً كان مغطياً.

(وغَسْلَ رَأْسِهِ ولِحْيَتِهِ بِالخِطْمِي): وهو ـ بِكَسْر الخاء المعجمة ـ نَبْتٌ يُغْسَلُ به الرأْس. أَمَّا عند أَبي حنيفة فلأَنه طِيب، وأَمَّا عِنْدَهما فلأَنه يَقْتُل هَوَامَّ الرأْس واللحية، ويُلَيِّن الشعر. وثمرة الخلاف تظهر فيما يجب بسببه: فعند أَبي حنيفة دَمٌ، وعندهما صَدَقَةٌ. وقيد «بالخِطْمِي» لأَنَّ غَسْلَهُمَا بالأُشنان

(4)

والصابون ونحوهما جائز اتفاقاً. وأَجاز الشافعيُّ بالخِطْمِي أَيضاً خلافاً لِمَالِك.

(وقَصَّها) أَي قَصّ لحيته، لأَنه في معنى الحلق (وحَلْقَ رَأْسِهِ) لقوله تعالى:{ولا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُم}

(5)

الآيةَ. وفي معناه التقصيرُ، وشَعْرُ بَدَنِهِ ولو بنَتْفٍ أَوْ غيره من إِزالته.

(ولُبْسَ مَخِيطٍ) على الوجه المعتاد، فلو ارتدى بقميص أَوِ اتَّزَرَ بِسِرْوال

(6)

لا شيء عليه، (وعِمَامَةٍ) ـ بالكسر ـ وفي معناه الطاقيةُ، وخُفين إِلا إِذا لم يجد نعلين،

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

العِدْل: الجُوالق: وهو وعاءٌ من صوف أو شعر أو غيرهما، المعجم الوسيط ص: 148 - 149، مادة (الجوالق).

(3)

الإجَّانة: إِناءٌ تُغْسَل فيه الثياب. المعجم الوسيط ص: 7، مادة (أجَن).

(4)

الأُشْنان: هو نباتٌ من فصيلة السرمقيات تستخرج منه الصودا المستعملة في صناعة الزجاج، وكان يستعمل قديمًا في غسْل الثياب كأداة من أدوات التنظيف. معجم لغة الفقهاء ص:70.

(5)

سورة البقرة، الآية:(196).

(6)

في المطبوعة: بِسَراويل، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 632

والمَصْبوغِ بِطِيبٍ، إِلاَّ بَعْدَ زَوَالِهِ.

===

فإِنَّه يَلْبَسُ الخُفَّيْن بعد أَنْ يقطعهما أَسْفَلَ من الكعبين ـ أَعني المِفْصَلَيْنِ الذين في وسط القدمين عند مَعْقِدِ الشِّرَاك ـ.

(والمَصْبوغِ بِطِيبٍ) أَي (بشيءٍ)

(1)

له رائحة مستلذة من زَعْفَرَان

(2)

، أَوْ وَرْس

(3)

، أَوْ عُصْفُر، وهو قول الثَّوْري. وأَصل ذلك ما في الكتب الستة من حديث ابن عُمرَ: أَنَّ رَجُلاً قال: يا رسولَ الله ما تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ من الثيابِ في الإِحْرَام؟ قال: «لا تَلْبَسُوا القُمُص، ولا السراويلات، ولا العمائم ولا البرَانِس

(4)

، ولا الخِفَاف إِلاَّ أَنْ يكونَ أَحَدٌ ليس له نَعْلانِ، فَلْيَلْبَس الخُفَّيْنِ، وليَقْطَعْهُمَا أَسْفَل من الكعبين، ولا تَلْبَسُوا شيئاً مَسَّهُ زعفران ولا وَرْس».

وقال مالك والشافعي: لا بأْس بِلُبْس المُعَصْفَر، لما روى مالك في «الموطأ» عن أَسْمَاءَ بنتِ أَبي بكر أَنها كانت تَلْبَسُ المُعَصْفَرَ وهي مُحْرِمةٌ.

ولنا ما روى مالك في «الموطأ» من حديث نَافع أَنَّ عمر بن الخطاب أَنْكَرَ على طَلْحَةَ لُبْسَ المُعَصْفَر حالةَ الإِحرام. ومن المعلوم أَنَّ الرجال والنساء في اجتناب الطيبِ سواء، وإِنَّما يختلفان في لبس المَخِيط، وتغطية الرأْس، فإِنَّ المرأَة تُغَطِّيهِ دون الرجل

قال ابن الهُمَام: في «الموطأ» : «أَنَّ عمر رأَى على طَلْحَةَ بن عُبَيدِ اللَّه ثَوْباً مَصْبُوغاً، وهو مُحْرِمٌ فقال: ما هذا الثوبُ المَصْبوغُ يا طَلْحَةُ؟ فقال: يا أَميرَ المؤمنين، إِنَّما هو (مَدَرٌ)

(5)

، فقال عمرُ: أَيُّها الرَّهْطُ إِنكُم أَئمةٌ يقتدي الناسُ بِكُمْ، فلو أَنَّ رَجُلاً جاهلاً رأَى هذا الثوبَ لقال: إِنَّ طَلْحَةَ بنَ عُبيد اللَّه كان يَلْبَسُ الثيابَ المُصْبغة في الإِحْرامِ، فلا تَلْبَسُوا أَيها الرَّهْطُ شيئاً مِنْ هذه الثيابِ المُصْبَغَةِ». فإِنْ صَحَّ كَوْنُه بِمَحْضَرٍ من الصحابة أَفاد مَنْع المتنازع فيه، ثم يخرج منه الأَزرق ونحوه بالإِجماع على جوازه، ويبقى المُتَنَازَعُ فيه في مقام المنع.

(إِلاَّ بَعْدَ زَوَالِهِ) أَي زوال الطِيب بالغسْل، لأَن النهي للطِيب لا للون، بدليل أَنَّ المُحْرِم يجوز له لُبْسُ المَصْبُوغِ بمَغْرَة: وهو طين أَحْمَر، لأَنه لا رائحة له. وقيل: إِلاَّ أَنْ

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المخطوطة.

(2)

الزَّعْفَران: نَوْعٌ صبغي طبّيٌّ مشهور. المعجم الوسيط ص: 394، مادة (زَعْفَرَ).

(3)

الوَرْس: يُسْتَعْمل في صَبْغ الثيات. معجم لغة الفقهاء ص: 501.

(4)

البُرْنُس: هو قَلَنْسُوَةٌ طويلةٌ كان النِّساك يَلْبَسونها في صدر الإِسلام. النهاية: 1/ 122.

(5)

في المطبوعة: بدر، وما أثبتناه من المخطوطة. والمراد أي مصبوغ بالمَدَر - وهو الطين اللزج الذي لا يخالطه رَمْل -، النهاية 4/ 309.

ص: 633

[مباحات الإِحرام]

لا الاسْتِحْمَامَ

===

يكون الثوبُ المَصْبوغُ مَغْسولاً لا يَنْفُض ـ أَي لا يَفُوح ـ وقيل: لا يتناثر، والتَّفْسِيرانِ مَرْوِيَّانِ عن محمد. والأَصل في الاستثناء ما روى الطحاوي عن ابنِ عمر قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «لا تَلْبَسُوا ثَوْباً مَسَّهُ وَرْس أَوْ زعفران إِلاَّ أَنْ يكون غسيلاً» . وما رواه ابن أَبي شيبةَ، والبَزَّار، وأَبو يَعْلَى المَوْصِلي في «مسانيدهم» عن ابن عباس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«لا بأْسَ أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ في ثوبٍ مَصْبُوغٍ بزَعْفَران، وقد غسل وليس له نفض ولا رَدْغ» . قال ابن دُرَيْد: والرَّدْغ: ما يبل القدم من المطر أَوْ غيره.

وأَمَّا النساءُ المُحْرِماتُ فَقَدْ أَباح لهنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لُبْس السراويل والقُمُص، كما رواه أَبو داود.

(مباحات الإِحرام)

(لا الاسْتِحْمَامَ) أَي لا يجب أَنْ يتقي المُحْرم استعمال الماء الحار ودخول الحمام، لما في الصحيحين من حديث عبد الله بن حُنَيْن: أَنَّ عبد الله بن عباس والمِسْوَر بنَ مَخْرَمة اختلفا بالأَبواء ـ وهو بفتح الهمزة وسكون الموحدة والمد، جَبَلٌ بين مكة والمدينة وعنده بلد يُنْسَبُ إِليه على ما في «النهاية» ـ فقال ابن عباس: يَغْسِل المُحْرِمُ رأْسَه، وقال المِسْوَرُ: لا يغسله، فَأَرْسَله ابن عباس إِلى أَبي أَيُّوب الأَنصاري فوجده يغتسل بين القرنين، وهو مُسْتَتِر بثوب، قال: فسلمت عليه، فقال: مَنْ هذا؟ قُلْتُ: أَنا عبد الله بن حُنَيْن، أَرسلني إِليك عبد الله بن عباس أَسْأَلُك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ رَأْسَه وهو محرم؟ قال: فوضع أَبو أَيُّوب يده على الثوب فطأطأه أَي خفضه حتى بَدَا لي رأْسه ـ ثم قال لإِنسان يَصُبُّ عليه ـ: اصْبُبْ، فَصَبَّ على رأْسه، ثمَّ حَرَّك أَبو أَيوب رأْسه بيديه: فأَقبل بهما وأَدبر، ثم قال: هكذا رأَيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.

وفي البخاري: قال ابن عباس: يَدْخُلُ المُحْرِمُ الحَمَّامَ. وفي «مُسْنَدِ الشافعيِّ» في كتاب الحج الأَكبر: أَنَّ ابن عباس دخل الحمام بالجُحْفَة فقال: ما يعبأ اللَّهُ من أَوساخنا شيئاً. ورواه ابن أَبي شيبة في «مُصَنَّفِهِ» عن عِكْرمةَ، عن ابن عباس نحوه. «وفي مُسْنَد الشافعي» عن يَعْلَى بن أُميةَ أَنَّه قال: بينما عمر بن الخطاب يَغْتَسِلُ إِلى بعير وأَنَا أَسْتُر عليه بثوبٍ، قال عمر: يا يَعْلَى اصبُب على رأْسي، فَقُلْتُ: أَمير المؤمنين أَعلم، فقال عمر: واللَّهِ ما يزيدُ الماءَ الشَّعر إِلاَّ شَعَثاً فَسَمَّى اللهَ، ثُمَّ أَفاضَ على رَأْسِهِ.

ص: 634

والاسْتِظْلالَ بِبَيْتٍ أَوْ مَحْمِلٍ.

===

وأَصْلُ القِصَّة عند مالك في «الموطأ» ، والشافعي في «مُسْنَدِهِ» ، وأَبي بَكْر بن أَبي شَيْبَةَ في «مُصَنَّفِهِ» .

وفي «سُنن البيهقي» عن أَيُّوب السِّخْتِياني، عن عِكْرمة، عن ابن عباس قال: المُحْرم يشم الرَّيْحَان، ويدخل الحمام.

وقال ابن الهمام: إِنَّما كَرِه مالك أَنْ يغيب رأْسُه في الماءِ لِتَوَهُّمِ التغطية، وقتل القمل، فإِنْ فَعَل أَطعم.

(و) لا (الاسْتِظْلالَ بِبَيْتٍ) من حَجَر أَوْ مَدَر

(1)

أَوْ صوف أَوْ وَبَر (أَوْ مَحْمِلٍ) ـ بفتح الميم الأُولى وكسر الثانية، وبكسر الأُولى وفتح الثانية ـ لما في حديث جابر الطويل: فأَمَرَ بِقُبَّةٍ

(2)

من شَعرٍ فضُرِبَت له بِنَمِرَة

(3)

، فسار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى أَتى عرفة، فوجد القُبَّة ضربت له بنمرة، فنزَلَها حتى إِذا زاغت الشمس أَمر بالقَصْواء

(4)

فَرُحِّلَتْ له

(5)

. وفي «مصنف ابن أَبي شيبة» عن عبد الله بن عَامِر قال: خرجت مع عمر فكان يطرح النِّطْع

(6)

على الشجرة فيستظل به ـ يعني وهو محرم ـ وفيه أَيضاً عن عُقْبَةَ بن صُهْبَان

(7)

قال: رأَيت عثمان بالأَبْطَح وأَنَّ فسطاطه

(8)

مضروبة، وسيفه معلق بالشجرة.

وأَمَّا ما رواه البيهقي عن عامر بن ربيعة قال: رأَيت عثمان بن عفان بالعَرْج

(9)

وهو محرم في يوم صائف قد غطّى وجهه بقطيفة أرجوان، فمحمول على أَنه كان بِعُذْر أَوْ بفصل بين الوجه والقطيفة، وهذا هو الوجه فتنبه. وقد استدلّ بعضُ علمائنا في هذا المقام بما رواه مسلم وأَبو داود والنسائي عن أُمِّ الحُصَين قالت:

(1)

المَدَر: بالتحريك من مدر، الطين اللزج الذي لا يخالطه رمل، وأهل المدر: سكان المدن والقرى. معجم لغة الفقهاء ص: 418.

(2)

القُبَّة من الخيام: بيتٌ صغير مستدير، وهو من بيوت العرب، النهاية: 4/ 3.

(3)

نَمِرَة: هو الجبل عليه أنصاب الحرم بعرفات. النهاية: 5/ 118.

(4)

القَصْواء: هو لقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كانت مقطوعة الأُذن. النهاية: 4/ 75.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 886 - 892، كتاب الحج (15)، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (19)، رقم (147 - 1218).

(6)

النِّطْع: بسَاطٌ من الجلد. معجم لغة الفقهاء ص: 482.

(7)

في المطبوعة: حيان، وما أثبتناه من المخطوطة.

(8)

الفُسْطاط: بيتٌ يُتخذ من الشَّعر. المعجم الوسيط ص: 688، مادة (الفسطاط).

(9)

العَرْج: قرية من عمل الفَرْع - موضع معروف بين مكة والمدينة - على أيام من المدينة. النهاية 3/ 204.

ص: 635

وشَدَّ الهِمْيَانِ في خَصْرِه. وأَكْثَرَ التَّلْبِيَةَ مَتَى صَلَّى أَوْ عَلَا شَرَفًا، أَو هَبَطَ وَادِيًا، أَوْ لَقِيَ رُكْبَانَاً، أَوْ أَسْحَرَ.

===

حَجَجْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الوداع فرأَيته في جمرة العقبة، وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأُسامة أَحدُهما يقود راحلته، والآخر رافع ثوبه على رأْس النبيِّ صلى الله عليه وسلم يظلّله عن الشمس. وفيه أَنه لا دلالة فيه صريح على أَنه كان في حال الإِحرام.

(و) لا (شَدَّ الهِمْيَانِ) ـ بكسر الهاء ـ ما توضع فيه الدراهم والدنانير سواء تحت الإِزار ـ كما هو العادة ـ أَوْ فوقه، لأَنه لم يرد حفظ الإِزار به، كما ذكره ابن الهُمَام. (في خَصْرِه) ـ بفتح أَوله ـ أَي على وسطه لقول عائشة: أَوْثِق عليك نفقتك بما شئت، حين سُئِلَت عنه. وكره مالك شَدَّهُ بما فيه من نفقة غيره، لعدم الضرورة.

ولنا أَنه ليس في معنى لُبْسِ المَخِيط فاستوت فيه الحالتان. فإِنْ قلت: لو لم يكن الشَّدُّ لُبْساً لما كُرِه شَدُّ الإِزار بحبل ونحوه، مع أَنه مكروهٌ إِجماعاً. قلت: ثَبَتَتْ كراهته بالحديث، وهو: أَنه صلى الله عليه وسلم رأَى رجلاً شَدَّ فوق إِزاره حبلاً فقال: «أَلْقِ ذلك الحَبْلَ»

(1)

. كذا في شرح «المجمع» .

(وأَكْثَرَ التَّلْبِيَةَ) أَي جهراً، لقوله صلى الله عليه وسلم «أَتاني جبرائيلُ عليه السلام فأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي ومَنْ معي أَنْ يَرْفَعُوا أَصواتهم بالإِهلال ـ أَوْ قال: بالتلبية ـ. مُتَّفَقٌ عليه. ولما روى أَبو بكر الصديق: أَنه صلى الله عليه وسلم سُئِل: أَيُّ الحَجِّ أَفْضَل؟ قال: «العَجُّ والثَّجُّ» . رواه الترمذي. والعج: رَفْعُ الصوتِ بالتلبية. والثج: إِسالة دم الهَدْي.

(مَتَى صَلَّى) المكتوبة وغيرها في ظاهر الرواية (أَوْ عَلَا شَرَفاً) أَي مكاناً عالياً (أَوْ هَبَطَ وَادِياً) أَي نَزَل مكاناً سُفْلِيَّاً (أَوْ لَقِيَ رُكْبَانَاً) وهو اسْمُ جَمْع، أَوْ جمع راكب، وتخصيص الركب اتفاقي

(2)

إِذْ لو لقِيَ مشاةً لكانَ الأَمر كذلك.

(أَوْ أَسْحَرَ) أَي دَخَلَ في السَّحر: وهو سُدس آخر الليل، لما روى ابن أَبي شَيبة عن خَيْثَمَةَ قال: كان السلف يستحبون التلبية في ستة مواضع: في دبر الصلاة، وإِذا استقل الرَّجُلُ راحلته، وإِذا صعد شَرَفاً، وإِذا هَبَط وادياً، وإِذا لَقِيَ بعضُهم بعضاً، وبالأَسحار. وروى البيهقي عن ابن عمر: أَنه كان يُلَبِّي راكباً، ونازلاً، ومُضطجعاً. ورُوِي أَنه عليه الصلاة والسلام كان يُلَبِّي إِذا لَقِي رَكْباً، أَوْ صعِد أَكَمَةً

(3)

،

(1)

لم نجده.

(2)

أي قيد اتفاقي خرج مخرج العادة، وليس قيدًا احترازيًا.

(3)

الأَكَمة: ما ارتفع من الأرض كالتلّ. معجم لغة الفقهاء ص: 85.

ص: 636

[أَفْعَالُ الحَجِّ]

وإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ

===

أَوْ هَبط وادياً، وفي أَدبار المكتوبة، وآخر الليل. كذا في «الإمام وفي «الإِمام» عن جابر قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي إِذا لَقِي رَكْباً، أَوْ صعِد أَكَمةً، أَوْ هبط (وادياً، وفي)

(1)

أَدبار المكتوبة وآخر الليل.

قال ابن الهُمَام: ولو رد السلام حال التلبية جاز، ولكن يُكْره لغيره السلام عليه في تلك الحالة.

(أفعال الحج)

(وإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ) سُميت بها لأَنها تَمُكُّ الذنوب ـ أَي تذهبها ـ وتُسمى ببكة لأَنها تَبُكُّ

(2)

أَعناق الجبابرة، ومنه قوله سبحانه:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ للَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وهدىً للعَالَمِينَ}

(3)

أَي قِبْلَةً لهم

(4)

.

ويُستحب أن يدخلها من كدآء ـ بفتح الكاف والمد ـ وهي

(5)

الثَّنِية

(6)

التي بأَعلى مكةَ على درب المُعَلَّى وطريق الأَبطح بجنب الحَجُون

(7)

، وهي مَقْبُرَة أَهل مكة. ويخرج من كُدَا ـ بالضم والقَصْر ـ وهي الثَّنِية التي بأَسفل مكة على درب اليمن، لما في مُسْلِمٍ وغيره من حديث عائشةَ: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما جاء إِلى مكةَ دخل من أَعلاها، وخرج من أَسفلها. قيل: لأَن أَعلاها هو موضع دعا فيه إِبراهيم عليه السلام بقوله كما في التنزيل: {رَبِّ اجْعَل هذا البَلَدَ آمِناً} إِلى أَنْ قال {فاجْعَل أَفْئِدَةً مِنْ الناسِ تَهْوِي إِليهم}

(8)

، الآية. قيل في السر في ذلك: أَنَّ نسبة باب البيت إِلى البيت كنسبة وجه الإِنسان إِلى الإِنسان.

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

تَبُّكُّ: أي تَدُقُّ. مختار الصحاح. ص: 25، مادة (بكك).

(3)

سورة آل عمران، الآية:(96).

(4)

سقط من المطبوعة.

(5)

وفي المطبوعة: "وهو".

(6)

الثَّنِيَّة: الطريق في الجبل. المعجم الوسيط ص: 102، مادة (ثَنَى).

(7)

الحَجُون: الجبل المُشْرِف مما يلي شعب الجزَّارين بمكة، وقيل: هو موضع بمكة فيه اعوجاج. والمشهور الأول. النهاية 1/ 348.

(8)

سورة إبراهيم، الآيات:(34 - 37).

ص: 637

بَدَأَ بالمَسْجِدِ وحِينَ رَأَى البَيْتَ كَبَّرَ، وهَلَّلَ ودَعَا،

===

والأَدب أَنْ يُقصد الإِنسان من جهة وَجْهِهِ، فكذا تُقصد الكعبةُ من جهة بابِها. قيل: وإِن لم يكن في طريقه ينبغي أَنْ يميل إِليها في الحجِ والعمرة. وقيل: في العمرة يدخل من أَسفل مكةَ. ثُمَّ لا فَرْقَ بين الدخول ليلاً أَوْ نهاراً لما روى النَّسائي: أَنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة ليلاً في عمرته، ونهاراً في حجته. وقيل: نهاراً أَفْضَل، وإِنَّما كَرِه ابنُ عمر الدخول بالليل للخوف من السُّرَّاق.

(بَدَأَ) بعد حفظ أَثقاله ليكون حاضر القلب مقام إِقباله (بالمَسْجِدِ) لما في الصحيحين من حديث عائشة: إِنَّ أَوَّل شيءٍ بدأَ بهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حينَ قَدِمَ مكةَ: أَنْ توضأَ، ثُم طافَ بالبيت.

ويُستحب أَنْ يدخل المسجد من باب السلام، لأَنه صلى الله عليه وسلم دخل منه. ويُقَدِّمُ في دخوله رجلَه اليُمنى، ويقول: بسم الله، والحمد للَّهِ، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهمّ اغْفِر لي ذنوبي، وافتح لي أَبواب رحمتك.

(وحِينَ رَأَى البَيْتَ كَبَّرَ،) اللَّهَ، واسْتَحْضَرَ في قلبه عظمة تلك البُقعة (وهَلَّلَ) تجديداً للتوحيد (ودَعَا) لأَن الدعاء عند رؤيته مستجاب. وروى الشافعيُّ عن سعيد بن جُبَير، عن ابن جُرَيج: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إِذا رأَى البيت، رفع يَدَيْهِ وقال:«اللهم زِد هذا البيتَ تشريفاً وتَعْظيماً وتَكْرِيماً ومهابةً، وزِد مَنْ شَرَّفَهُ وكَرَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّه أَوْ اعتمرَهُ تَشْريفاً وتعظيماً وتكريماً وبِرَّاً» . وعن عطاء أَنه صلى الله عليه وسلم كان إِذا لَقِي البيتَ يقول: «أَعوذ بِرَبِّ البيتِ مِنْ الكُفْرِ والفَقْرِ وضِيْقِ الصَّدْرِ وعذابِ القبر» . ذكره ابن الهُمَام.

واسْتُحْسِن أَنْ يقول عند دخول المسجد: اللَّهُمَّ أَنت السلام، ومنك السلام، وإِليكَ يَرْجع السلام، حَيِّنَا رَبَّنا بالسلام، وأَدخلنا دارك دار السلام، تباركت رَبَّنا وتعاليت، يا ذا الجلال والإِكرام، لما روى البيهقي بسنده إِلى سعيد بن المُسَيَّب أَنه قال: سَمَعْت عن عمر كلمة، ما بقي أَحدٌ من الناس سَمِعَهَا غيري، سمعتُه يقول: إِذا رأَى البيت: اللهم أَنت السلامُ، إِلى آخره.

ثُم اعلم أَنْ أَول ما يَبْدأُ به داخلُ المسجد الحرام الطوافَ مُحْرِماً أَوْ غير مُحْرم دون الصلاة، إِلاَّ أَنْ يكون عليه فائتة أَوْ خوف فَوْت الوقتية، أَوْ الوتر، أَوْ سنة راتبة

(1)

،

(1)

الرَّاتِبة: أي المرافقة للفرائض، كسُنَّة الظهر القبلية وسنَّة الصبح ونحو ذلك معجم لغة الفقهاء ص:217.

ص: 638

ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الحَجَرَ وكَبَّرَ وهَلَّلَ، ورَفَعَ يَدَيْهِ كالصلاةِ واسْتَلَمَهُ إِنْ قَدِرَ غَيْرَ مُؤذٍ لأَحَدٍ،

===

أَوْ فَوْت الجماعة، فَتُقَدّم الصلاة في هذه الصور على الطواف، فإِنْ لم يكن مُحْرماً فطوافهُ تحيةٌ لقولهم: تحيةُ هذا المسجد الطوافُ. وليس معناه أَنَّ مَنْ لم يَطُف لا يصلّي تحية المسجد كما فَهِم بعضُ العوام. فقد روى عُروةُ عن عائشةَ أَنَّ أَول شيءٍ بَدأَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حينَ قَدِم مكةَ أَنْ توضأَ، ثُم طافَ بالبيتِ

الحديث، رواه الشيخان.

(ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الحَجَرَ) الأَسود لِمَا رُوي مِنْ: «أَنَّ الحجر يَمِينُ اللَّهِ في الأَرض يُصَافِحُ بها عبادَه» . رواه الخَطِيب، وابن عَسَاكِر عن جابر. وفي رواية:«الحَجَرُ يمينُ اللَّهِ، فَمَنْ مسَحَهُ فَقَدْ بَايَعَ اللهَ» . ولما في مُسْلم عن جابر قال: لَمَّا قَدِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ، بَدَأَ بالحجرِ فاسْتَلَمَه، ثُم مَضَى على يمينِه فَرَمَلَ ثلاثاً، ومَشَى أَرْبَعاً. وعن ابن عمر قال: استقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحجرَ، ثُم وَضع شَفَتَيْهِ عليه فبكى طويلاً، ثُمَّ الْتَفَتَ فإِذا هو بعمرَ بن الخطاب رضي الله عنه يَبكي، فقال:«يا عمر ههنا تُسْكَب العَبَرات» . رواه ابن ماجه، قال الحاكم: صحيح الإِسناد. وهذا الاستقبال مع الاستلام أَوْ نحوه في ابتداء الطواف سنة مؤكدة، ومستحبةٌ في أَول كل شوط عندنا لا واجبٌ كما قيل.

(وكَبَّرَ) فيقول: باسمِ اللهِ واللهُ أَكبرُ، لما روى أَحمد، والبخاري عن ابن عباس: أَنه صلى الله عليه وسلم طافَ على بَعيرٍ، كُلَّمَا أَتى على الرُّكْنِ أَشَارَ إِليه بشيءٍ في يده، وكَبَّرَ.

(وهَلَّلَ، ورَفَعَ يَدَيْهِ) عند التكبير لافتتاح الطواف حِذَاءَ مَنْكِبيه أَوْ أُذُنَيْهِ مُسْتَقْبِلَ القبلة بباطن كفيه. (كالصلاةِ) أَي ناوياً به، لأَن الطواف كالصلاة على ما ورد.

(واسْتَلَمَهُ) أَي لَمَسَهُ باليد. والقُبْلَةُ من غير صوتٍ. وقيل: وضع كفيه على الحجر وقَبَّله، أَوْ مَسَحَه بالكف وقَبَّلهُ (إِنْ قَدَرَ غَيْرَ مُؤذٍ لأَحَدٍ) لأَنَّ تَرْكَ الأَذى واجبٌ، والاستلام سُنَّةٌ، ولما روى أَحمد والبيهقي عن عمر أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له:«يا عمرُ، إِنَّك رجلٌ قويٌّ، لا تُزاحِم على الحجر فتؤذي الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فاسْتَلِمْه، وإِلا فاسْتَقْبِلهُ، وكَبِّرْ وهَلِّل» . وكذا رواه الشافعي، وإِسحاق بن رَاهُويَه، والطحاوي.

وهل يُستحب السجود على الحجر عَقيبَ التقبيل؟ قال قِوَام الدين الكَاكي: عندنا الأَوْلى أَنْ لا يسجد لعدم الرواية في المشاهير، لكن نَقَل عِزُّ الدين بن جَمَاعة في «مناسكه» السجودَ عن أَصحابنا. ويُؤَيِّدُه ما رُوِي عن ابن عباس: أَنه كان يُقَبِّلُه ويَسْجُدُ عليه بجبهته، وقال: رَأَيْتُ عُمَرَ رضي الله عنه قَبَّلَهُ، ثُم سجد عليه، ثم قالَ: رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذلك، فَفَعَلْته. رواه ابن المُنْذِر والحاكم وصَحَّحَه.

ص: 639

وإِلاَّ يَمَسُّ شَيْئًا في يَدِهِ وقَبَّلَهُ

===

وأَمَّا التقبيل فسنّةٌ مُؤَكَّدةٌ، لما في البخاري عن عمر: أَنه سُئِل عن اسْتِلامِ الحَجَرِ فقال: رأَيتُه صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُه ويُقَبِّلُه. وروى النَّسائي عن ابن عمر: أَنَّ عمر قَبَّله ثلاثاً. ولما في الكُتُبِ الستةِ عن عمرَ بن الخطاب: أَنَّه جاء إِلى الحجر فقَبَّله، وقال: إِني أَعلم أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، ولولا أَنِّي رَأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ لما قَبَّلْتُكَ. ورواه الحاكم وزاد فيه: فقال عليٌّ: يا أَمير المؤمنين يضر وينفع، ولو عَلِمتَ تأْويلَ ذلك من كتابِ الله لَعَلَمْتَ أَنه كما أَقول، قال الله تعالى:{وإِذ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَم}

(1)

الآيةَ، فلما أَقَرُّوا أَنَّه الرَّبُّ عز وجل، وأَنهم العبيدُ، كَتَبَ ميثاقَهُم في رَقَ ـ أَي في جلد رقيق ـ وأَلْقَمَهُ في الحجر، وأَنَّه يُبْعَثُ

(2)

يوم القيامة وله عينانِ ولسانٌ وشفتانِ، ويَشْهَدُ لِمَنْ وَافاه بالموافةِ، فهو أَمِينُ اللَّهِ في هذا الكتاب، فقال له عمرُ: لا أَبقاني اللَّهُ بأَرضٍ لَسْتَ فيها يا أَبا الحسن. وفي رواية: أَعوذُ بالله مِنْ أَنْ أَعيش في قوم لَسْتَ منهم. وقال الحاكم: ليس هذا الحديث على شرط الشيخين، فإِنَّهما لم يَحْتَجَّا بأَبي هارونَ العَبْدِي.

وقال ابن الهُمَام: ومن غرائب المتون ما في «مصنف ابن أَبي شيبة» في آخر مُسْند أَبي بكر عن رجلٍ رَأَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقف عند الحجر فقال: إِنِّي لأَعلَمُ أَنك حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنْفع، ثُم قَبَّله، ثُم حَجَّ أَبو بكر فوقف عنده فقال: إِنِّي لأَعلمُ أَنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أَني رأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلْتك. فإِنْ صَحَّ، يُحْكَم بِبُطْلان حديث الحاكم لِبُعْد أَنْ يَصْدُر عن عليَ كرّم اللهُ وجهه قوله:«بل يَضُرُّ ويَنْفَع» ، بعدما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم «لا يَضُرُّ ولا يَنفع» ، لأَنه صورة معارضة.

لا جَرَم أَنَّ الذهبي قال عن العبدي: إِنه سَاقِطٌ. وعمر إِنما قال ذلك أَوْ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إِزالةً لِوَهْم الجاهلية من اعتقاد الحجارة التي هي الأَصنام. قال البِرْماوي: وما وَرَدَ مِمَّا يَقْتَضِي النفع والضر ما جعلَ اللهُ في الحجر من الخير والشر، فليس لذات الحجر.

(وإِلاَّ) أَي وإِن لم يَقْدِر على استلام الحجر، أَوْ قَدَرَ عليه لكن يؤدي إِلى الضرر. (يَمَسُّ شَيْئاً في يَدِهِ) من نحو عصا وغيره (وقَبَّلَهُ) لما روى الجماعة إِلاَّ الترمذيَّ عن ابن عباس أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمِحْجَن معه ـ وهو، بكسر الميم وفتح الجيم: عُودٌ معوج الرأْس ـ.

(1)

سورة الأعراف، الآية:(172).

(2)

في المطبوعة: يبعثه، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 640

وإِنْ عَجَزَ اسْتقْبَلَهُ وكَبَّرَ وهَلَّلَ وحَمِدَ اللهَ وصَلَّى على النبيِّ صلى الله عليه وسلم،

===

قيل: إِنما طاف عليه الصلاة والسلام وهو راكبٌ لِبَيان الجواز، والأَصح أَنه لِيراه الناسُ ويأْخذوا عنه، وقد جاء ذلك في «صحيح مسلم» من حديث جابر.

وقيل: كراهية أَنْ يصرف الناس عنه، لما في مسلم عن عائشة قالت: طافَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالبيتِ في حجةِ الوداع على راحلته يستلم الركن، كراهيةَ أَنْ يصرف عنه الناس. وَرُدَّ هذا القيل باحتمال عود الضمير على الركن، ويدفع بأَن مآله إِلى ذلك القيل. وقال ابن الهُمَام: أَي لو طاف ماشياً لانصرفَ الناسُ عنه، لأَن كل مَنْ رام الوصول إِليه لسؤالٍ، أَوْ لرُؤيةٍ لاقتداءٍ لا يَقْدِرُ، لكثرةِ الخَلْقِ حَوْلَه، فينصرف من غير تحصيل حاجة.

وقيل: كان به شكاية ـ أَي وجع ـ لما روى محمد في «الآثار» عن أَبي حنيفة عن حَمَّاد: أَنَّه سعى بين الصفا والمروةِ، مع عِكْرِمَةَ فجعل حَمَّادُ يصعد على الصفا والمروة وعِكْرِمة لا يصعد (ويصعد حمّاد المروة، ولا يصعده عِكْرَمة)

(1)

، فقال حَمَّادُ: يا أَبا عبد الله أَلا تصعد الصفا والمروة؟ فقال: هكذا كان طوافُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حماد: فلقيتُ سعيدَ بنَ جُبَير، فذكرتُ له ذلك، فقال: إِنما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته ـ وهو شاكٍ ـ يستلم الرُّكْنَ بِمِحْجَن، فطاف بالصفا والمروة على راحلته، فمن أَجْل ذلك لم يصعد.

قلت: وهذا القول أَظهر لأَنَّ المَشْيَ في الطواف والسعي واجبان، فلا يُتْرَكان إِلاَّ لِعُذْرٍ ظاهرٍ.

ثُمَّ ههنا إِشْكَالٌ حَدِيثِي وهو: أَنَّ الثابت بلا شبهةٍ أَنه صلى الله عليه وسلم رَمَلَ في حجَّة الوداع، وهذا يُنَافِي طوافه راكباً، والجواب: أَنَّ في الحج للآفاقي أَطوفة، والرُّكُوب كان في طواف الزيارة يوم النَّحْر، ومشيه كان في طواف القدوم.

هذا، وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: لم أَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَمَسُّ مِنْ الأَركان إِلاَّ اليَمَانِيَيْن.

(وإِنْ عَجَزَ) عن الاستلام (اسْتَقْبَلَهُ) قائماً بحياله، رافعاً يدَيه حِذاءَ مَنْكِبيه أَوْ أُذنيه، جَاعِلاً بطنهما نَحْوَه، مشيراً بهما إِليه.

(وكَبَّرَ وهَلَّلَ) ويقول: اللَّهُ أَكبرُ الله أَكبرُ، لا إِله إِلاَّ الله (وحَمِدَ اللَّهَ وصَلَّى على النبيِّ

صلى الله عليه وسلم

ويقول: اللهم إِني أَسأَلُكَ إِيماناً بك، وتَصْدِيقاً بكتابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ،

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من الأصل واستدركناه من كتاب الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني، ص:235.

ص: 641

وَطَافَ طَوَافَ القُدُوم.

ويُسَنُّ هذا للآفاقي، آخِذًا عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي البابَ ورَاءَ الحَطِيمِ

===

واتِّباعاً لِسُنَّةِ نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم

(وَطَافَ) أَي المُفْرِدُ بالحجِّ (طَوَافَ القُدُوم) ويُسمَّى طوافَ التحية، (ويُسَنُّ هذا) الطوافُ (للآفاقي) أَي غير المكي، وإِلاَّ فَسُنَّ لأَهْلِ المواقيتِ وداخِلِيها أَيضاً. وأَما المُعْتَمِر فليس عليه طواف القدوم، فيطوف طواف العمرة. وأَما القَارِن فيطوف أَولاً طوافَ العمرة، ثُم طوافَ القدوم.

وأَوَّل وقته دخولُ مكةَ، وآخِرُهُ وُقُوفُه بِعَرَفَةَ، وأَوْجَبَ مالك طوافَ القدوم وجوب السُنَنِ لا الفرائضِ، يعني أَنه يجب بتركه الدَّمُ على الآفاقي إِذا تركه والوقت متسع، كذا في «الجوهرة»

(1)

، لقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَتى البيتَ فَلْيُحَيِّهِ بالطواف» .

ولنا أَنَّ الله تعالى أَمَرَ بالطواف، والأَمر المطلق لا يقتضي التكرار، وقد تعين طواف الزيارة بالإِجماع، والحديث غريب جداً، وعلى تقدير صحته ففي لفظ التحية دلالة على السنية، والسنية تنافي وجوبَ الدم. والله سبحانه أَعلم.

(آخِذاً) حال استقباله الحَجَر (عَنْ يَمِينِهِ) أَي يمين الطائف لا يمين الحجر، فقَوْلُه:(مِمَّا يَلِي البابَ) ـ أَي باب الكعبة ـ تأْكيدٌ لقوله: عن يمينه، فيصيرُ البيتُ في الطواف عن يساره ليكون الباب في أَوَّل طوافه، لقوله تعالى:{وأتُوا البيوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}

(2)

، أَوْ لأَن القلب في الجانب الأَيسر. وفي مسلم والنَّسائي عن جابر: لَمَّا قَدِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ بَدَأَ بالحجر، فاستلمه، ثُمَّ مضى على يمينه، فَرَمَل ثلاثاً ومَشَى أَرْبَعَاً.

(ورَاءَ الحَطِيمِ) ويُسَمَّى حظيرة إِسماعيل، وهو البُقعة التي تحت الميزَاب، عليها حاجز على هيئة نصف دائرة، بينها وبين البيت فُرجة. سُمِّي بالحطيم لأَنه حُطِّم من البيت ـ أَي كُسِر ـ وبالحِجْر لأَنه حُجِرَ منه ـ أَي مُنِع ـ. وإِنَّما يُطَافُ وراءَ الحطيم لأَنه من البيت، والمأمور هو الطواف به لا فيه، قال تعالى:{وليَطَّوَّفُوا بالبيتِ العَتِيقِ}

(3)

.

وفي الصحيحين ـ واللفظ لمسلم ـ عن عائشةَ قالت: سأَلت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الحِجْر، أَمِنَ البيتِ هو؟ قال:«نعم» ، قلت: فما بالُهم لم يُدْخِلُوه في البيت؟ قال:

(1)

في المطبوعة: الجواهر، وما أثبتناه من المخطوطة.

(2)

سورة البقرة، الآية:(189).

(3)

سورة الحج، الآية:(29).

ص: 642

سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَرْمُلُ في الثلاث الأُوَل

===

«إِنَّ قومكِ ـ يعني قريش ـ قصرت بهم النفقة ـ أَي المال ـ حال العِمَارة» ، قلت: فما شأْنُ بابه مرتفعاً؟ قال: «فعل ذلك قَوْمُكِ ـ أَي بَنُو شيبةَ من قريش ـ لِيُدْخِلوا مَنْ شاؤوا ويمنعوا مَنْ شاؤوا، ولولا أَنَّ قومَكِ حديث عهدهم بكفر

(1)

، وأَخاف أَنْ تنكر قلوبُهم، لنظرت أَنْ أَلصق الحِجْرَ بالبيت، وأَنْ أَلزق بابه بالأَرض». انتهى.

وليس الحطيم كله من البيت على الصحيح، بل مقدار ستة أَذرع منه، لحديث عائشة أَنه صلى الله عليه وسلم قال:«سِتَّةُ أَذْرُع من الحِجْرِ من البيتِ، وما زَادَ ليس من البيتِ» . رواه مسلم.

ولو طَافَ من الفُرجة التي بين الحطيم والبيت، لا تُجزئه في تحقق الكمال، ولا بد من إِعادة الطواف كله ليتحققه، وإِنْ أَعاد الحطيم وحده أَجزأَه بأَن يأْخذ على يمينه خارج الحِجْرِ حتى ينتهي إِلى آخره، ثُم يدخل الحِجْر من الفرجة، ويخرج من الجانب الآخر، أَوْ لا يدخل الحِجْر ـ وهو أَفضل ـ بأَنْ يرجع ويبتداء من أَول الحجر، هكذا يفعل سبع مرات، ويَقْضِي صفته من الرَّمَل وغيره.

ولو لم يُعِد صح طوافه، ووجب عليه الدم.

وفي «سنن أَبي داود» : أَنَّ عائشة قالت: كنت أُحِبُّ أَنْ أَدخل البيت وأُصلّي فيه، فَأَخَذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدي فأَدخلني الحِجْر فقال: صَلِّي في الحِجْر إِذا أَردتِ دخول البيت، فإِنما هو قطعةٌ منه، فإِنَّ قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأَخرجوه من البيت. وفي «المستدرك» عن ابن عباس قال: الحِجْر من البيت، لأَن رسول الله صلى الله عليه وسلم طافَ بالبيتِ من ورائه. قال تعالى:{وليَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العتيقِ}

(2)

، ثُم وإِنْ ثَبَت بهذا الخبر وغيره أَنه من البيت، لكن لم تجز الصلاة باستقباله وحده، لأَن فَرْضِية الاستقبال ثبتت بنص الكتاب، فلم يُكْتَف بما ثبت بالآحاد أَخْذاً بالاحتياط.

(سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ) من الحجر الأَسود إِليه نفسه شوط واحد (يَرْمُلُ) ـ بضم الميم ـ أَي يُسْرِع، ويقارب الخطوتين، ويحرِّك في مشيه الكتفين كالمبارز يتبختر بين الصفين (في الثلاث الأُوَل) ـ بضم الهمزة وتخفيف الواوـ جَمْع الأُولى مؤنث، الأُوَل ضد الأُخر. وذلك لما روى مسلم عن ابن عمر قال: رَمَلَ رسولُ الله

(1)

رواية مسلم: "في الجاهلية"، 1/ 973، كتاب الحج (15)، باب جدر الكعبة وبابها (70)، رقم (405 - 1333).

(2)

سورة الحج، الآية:(29).

ص: 643

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

صلى الله عليه وسلم من الحَجَر إِلى الحَجَر ثلاثاً، ومَشَى أَرْبَعاً.

ولِمَا في الصحيحين عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذا طَافَ بالبيتِ الطوافَ الأَوَّل خَبَّ

(1)

ثلاثاً، ومشى أَرْبَعَاً، وكان يسعى ببطن المسيل إِذا طاف بين الصفا والمروة. وفي حديث جابر الطويل: حتى إِذا أَتينا البيتَ معه استلم الرُّكْنَ فرَمَلَ ثلاثاً، ومشى أَرْبَعَاً. وفي لفظ عنه: قالَ: رَأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رَمَلَ من الحجر الأَسود حتى انتهى إِليه ثلاثاً. وقد ثبت في مُسْلم عن ابن عباس: إِنما سعى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ورَمَل بالبيتِ لِيُريَ المشركين قوّته. انتهى. وفي رواية: فأَمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشواط الثلاث، وأَنْ يمشوا ما بين الركنين، ولم يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهم أَنْ يَرْمُلوا بالأَشواطِ كُلِّها إِلاَّ الإِبقاءُ عليهم. متفق عليه.

وسببُ الرَّمَل إِظهار الجلادةِ للمشركين في عُمْرة القضاء، لقولهم: يَقْدَم غداً قومٌ قد وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فقال المشركون: هؤلاء الذين زَعَمْتُم أَنَّ الحُمَّى وهنَتْهُم أَجْلَدُ من كذا وكذا. ثُم بَقِيَ الحُكْم بعد زوال سببه كالاخفاء في صلاة الظهر والعصر الذي كان تَشْوِيشاً

(2)

. وفي رواية البخاري عن عمر أَنه رضي الله عنه قال: واللهِ أَعلم أَنَّك حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تنفعُ، ولولا أَني رأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم اسْتَلَمَكَ ما اسْتَلَمْتُكَ، ثُم قال: ما لنا وللرَّمَل، إِنَّا كُنَّا رَأَينا به المشركين وقد أَهْلَكَهُم اللَّهُ تعالى، ثُم قال: شيءٌ صَنَعَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَه.

وفي «سُنن أَبي داود، وابن ماجه» ، عن زيد بن أَسْلم، عن أَبيه قال: سمعت عمر يقول: فِيمَ الرَّمَلُ وكَشْفُ المَنَاكِب وقد أَعَزَّ اللَّهُ عز وجل الإِسلام ونَفَى الكفر، ومع ذلك فلا نَدَعُ شيئاً كنّا نفعله على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم انتهى. ولعل الحكمة في بقائه

(3)

تُذكّر ذلك الحال والجهد على

(4)

الانتقال بعون الله الملك المتعال.

ولو زَحَمَهُ الناس في الرَّمَل وَقَف قائماً إِلى أَنْ يَجِدَ فُرْجَةً، لأَنه مِنْ سُنَّةِ الطواف

(1)

يَخُبُّ: أي يُسْرِع في مَشْيه. فتح الباري: 3/ 470.

(2)

وفي المخطوطة: لتشويش الكفرة.

(3)

وفي المخطوطة: إبقائه.

(4)

وفي المخطوطة: الحمد.

ص: 644

مُضْطَبعَاً،

===

ولا بُدَّ له، بخلاف استلام الحجر حيث لا يتوقف فيه عند الازدحام، لأَن الإِشارة إِليه بَدَلٌ له. وفي «شرح الطحاوي»: يمشي حتى يَجِدَ وهو الأَظهر، لأَن وقوفه مُخالفٌ للسُّنَّةِ، فما لا يُدْرَك كله لا يترك كله.

(مُضْطَبعَاً) أَي جَاعِلاً رداءه تحت إِبْطِهِ اليُمنى مُلقياً طرفه على كتفه اليُسرى، لما روى أَبو داود والمُنْذِري ـ وقال: حديث حسن ـ عن ابن عباس: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الجِعْرَانَة، فَرَمَلُوا بالبيت وجعلوا أَرديَتهم تحتَ إِبَاطِهِم، ثُم قذفوها على عَوَاتِقِهِم

(1)

اليُسْرى. وقد نقل ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنه طاف مُضْطَبعاً وعليه بُرْدٌ. رواه ابن ماجه، والترمذي، وصححه أَبو داود وقال: بِبُرْدٍ له أَخضر.

وينبغي أَنْ يكونَ الاضطباع قبل الشروع في الطواف بقليلٍ. ذكره ابنُ الهُمَام، يعني لا اضطباع من أَول الإِحرام كما يَفْعَلُه العوام، ولا في السَّعْي، كما صرح به في «البدائع» . وكذا في «العناية شرح الهداية» ، ثُم الاضطباع سُنَّةٌ في جميع أَشواط الطواف، كما ذكره ابن الضياء، «فمضطبعاً» حال من فاعل طاف، لا مِنْ ضمير يَرْمُل كما هو المتبادر من المتن. ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الطواف قراءة، بل الذكر، وهو مُتَوَارَثٌ عن السلف، والمُجْمَعُ عليه، فكانَ أَوْلى. ذكره ابن الهُمَام.

وقد يقال: إِنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ فيه لئلا يُتوهَّم أَنَّ القراءة فيه فرضٌ أَوْ واجبٌ كما في الصلاة خصوصاً في مذهبنا، حيث أَجازوا الطواف للمُحْدِث والجنب فلا بأْس بقراءته في نفسه، كما في «الكافي» .

ويُكره رَفْعُ صوتِه به وبغيره من الأَذكار. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أَنه دعا بَيْن الركنين بقوله: {رَبَّنَا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنَا عذابَ النَّارِ}

(2)

». رواه أَبو داود، والنَّسائي، وابن حِبَّان، والحاكم، وابن أَبي شيبةَ عن عبد الله ابن السائب مرفوعاً. وكذلك يقول بين الرُّكن والحَجَر كما رواه ابن أَبي شيبةَ عنه. وكذا يقول في الطواف، أَي سائر أَماكنه، كما رواه الحاكم عنه أَيضاً.

وفي رواية ابن أَبي شيبةَ موقوفاً من قول ابن عمر: أَنْ يقول أَيضاً بين الركْن والمقام. وروى الحاكم مرفوعاً عن ابن عباس، وابن أَبي شيبة من قوله، أَنْ يقول في الطواف: اللهم ـ وفي رواية ـ ربِّ قَنِّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلُف على كل

(1)

العاتِق: ما بين المنكب والعُنُق المعجم الوسيط ص: 582، مادة (عتق).

(2)

سورة البقرة، الآية:(201).

ص: 645

وكُلَّما مَرَّ بالحَجَرِ فَعَل ما ذُكِرَ. واسْتِلَامُ الرُّكْنِ اليَمَانِي حَسَنٌ.

===

غايبة لي بخير. وروى ابن أَبي شيبة عن ابن عمر أَنه كان يقول في الطواف: لا إِله إِلاَّ اللَّهُ، وَحدَهُ لا شريكَ له، له الملكُ وله الحَمْدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ.

ورَوَى ابن ماجه عن أَبي هريرة أَنه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ طافَ بالبيتِ سَبْعاً ولا يتكلم إِلاَّ بِـ: سُبْحَانَ اللهِ، والحمدُ للَّهِ، ولا إِله إِلاَّ اللهُ، واللهُ أَكبرُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَليِّ العظيم، مُحِيَتْ عنه عَشْرُ سيّئاتٍ، وكُتِبَتْ له عَشْرُ حَسَنَاتٍ ورُفِعَتْ له عَشْر درجاتٍ» .

(وكُلَّما مَرَّ بالحَجَرِ) الأَسود (فَعَل ما ذُكِرَ) من الاستلام، لأَن أَشواط الطواف كَرَكْعَاتِ الصلاة، وكما يفتح كلَّ ركعةٍ بالتكبير، يفتح كلَّ شوطٍ بالاستلام، وهذا من جهة المعقول. وأَمَّا من طريق المنقول: فقد وَرَدَ في «مُسْنَد أَحمد» ، والبخاري وغيره: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ على بعيرٍ كُلَّمَا أَتى على الرُّكْنِ أَشارَ إِليه بشيءٍ في يَدِهِ وكَبَّرَ.

قال ابنُ الهُمَام: لم يذكر صاحبُ «الهداية» ولا كثيرٌ

(1)

رفعَ اليدين في كل تكبير يستقبل به في كل مبدأ شَوْط، فإِن لاحظنا ما رواه من قوله عليه الصلاة والسلام:«لا تُرْفَع الأَيدي إِلاَّ في سَبْعِ مَوَاطِنَ»

(2)

ينبغي أَنْ تُرْفَع في كل تكبير للعموم في استلام الحجر، وإِنْ لاحظنا عَدَمَ صِحَّةِ هذا اللفظ فيه وعدم تحسينه، بل القياس المتقدم، لم يُفِد ذلك، إِذْ لا رَفْعَ مع ما به الافتتاح فيها إِلاَّلاً الأَول. واعتقادي أَنَّ هذا هو الصواب، ولم أَرَ عنه صلى الله عليه وسلم خِلَافَه. انتهى

(3)

. والأَظهر أَنْ يَرفع تارةً ولا يَرفع أُخرى، عملاً بالوجهين (وَفْقَ الدَّلِيلَيْن)

(4)

.

(واسْتِلَامُ الرُّكْنِ اليَمَانِي) ـ بتخفيف الياء على الصحيح، لأَنه نِسْبةٌ إِلى اليمن فأَبدل إِحدى يائي النِّسبة أَلِفاً، فلو قيل بالتشديد لزم الجمع بين البدل والمُبْدَل منه، ومَنْ شَدَّدَها قال الأَلف فيها زائدة. ذكره الكِرْماني في «شرح البخاري». (حَسَنٌ) مِنْ غير تقبيلٍ في قول أَبي حنيفةَ وأَبي يوسف لما رواه مسلم وأَبو داود عن ابن عمر أَنه قال: ما تَرَكْتُ استلامَ هذين الرُّكْنَين: الرُّكْنِ اليماني، والحَجَرِ الأَسودِ، مُنْذُ رأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُما.

(1)

أي: ولم يَذْكُر كثيرٌ من الفقهاء رفع اليدين

(2)

تقدم تخرجه ص 283.

(3)

"فتح القدير" 2/ 358، 359.

(4)

وفي المطبوعة: وفرقًا للدليلين، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 646

وخَتم الطَّوَافَ باسْتِلَامِ الحَجَرِ، ثمَّ صَلَّى شَفْعَاً، يَجِبُ بَعْدَ كُلِّ طَوَافٍ

===

وقال محمد: السُّنَّةُ أَنْ يفعلَ فيه كما يفعلُ بالحجر الأَسود. كذا ذكره الشارح. وقال صاحبُ «المواهب» : حسنٌ في ظاهر الرواية عن أَبي حنيفة. وقالا: هو سُنَّةٌ، ومما يدل على قول محمد ما رَوَى ابن عباس أَنَّه صلى الله عليه وسلم كان يُقَبِّلُ الرُّكْنَ اليماني ويضع يده عليه. رواه الدارقطني. وعن ابن عباس أَنَّه صلى الله عليه وسلم إِذا استلم الرُّكْنَ اليماني قبَّله. رواه البخاري في «تاريخه» .

وأمّا الركن العِراقي والشامي فلا يُستلمان في المذاهب الأَربعة، لمَا روى الجماعةُ إِلاَّ الترمذيَّ عن ابن عمر قال: لم أَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ من البيت إِلاَّ الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَيْن. وفي لفظٍ لمسلم: كان لا يستلمُ إِلاَّ الحَجَرَ والرُّكْنَ اليَمَانِي. وعن ابن عباس قال: لم أَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يستلم غير الركنين اليمانيين

(1)

، ولأَن الرُّكن العراقي والشامي ليسا بِرُكْنَيْنِ حقيقةً، وإِنَّما هما من وسط البيت، لأَن بعض الحَطيم من البيت اتفاقاً.

(وَخَتَم الطَّوَافَ باسْتِلَامِ الحَجَرِ) ليكونَ ختامَهُ مِسْكٌ، والإِيماء إِلى قوله تعالى:{كما بدأكم تعودون}

(2)

(ثِمَّ صَلَّى شَفْعَاً، يَجِبُ)

(3)

عندنا وعند مالك (بَعْدَ كُلِّ طَوَافٍ) فرضاً أَوْ نَفْلاً، وقول ـ شذوذ مِنَّا ـ ينبغي أَنْ يكون واجباً عقيب الطواف الواجب (لا غير)

(4)

، ليس بشيءٍ لإِطلاق الأَدلة (منها الآية الآتية، ومنها ما رَوى البخاري عن الزُّهري:)( 4) فإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَطُف قَطُّ أُسبوعاً

(5)

إِلاَّ صلَّى ركعتين. ومنها قول ابن عمر: سَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِكُلِّ أُسبوعٍ ركعتين. رواه أَبو القاسم تَمَّامُ بن محمد الرَّازِي في «فوائده» .

ومنها قول الحسن البصري: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ مع كل أُسبُوعٍ ركعتين، لا يجزاءُ عنهما تَطوُّعٌ ولا فريضةٌ. رواه ابن أَبي شيبةَ في «مُصَنَّفِهِ». وأَمَّا قول صاحب «الهداية»: لنا قَوْلُه صلى الله عليه وسلم «وليصلِّ الطائفُ لِكُلِّ أُسبوعٍ ركعتين» ، فلم يُعْرَفْ هذا الحديثُ كما قال ابن الهُمَام وغيره.

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

سورة الأَعراف، الآية:(29).

(3)

أي هذا الشفع.

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

(5)

طافَ بالبيت أُسبوعًا أي سَبْعَ مَرَّات. مختار الصحاح ص: 283، مادة (سبع).

ص: 647

عِنْدَ المَقَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ المَسْجِدِ،

===

(عِنْدَ المَقَامِ) أَي مقام إِبراهيم عليه السلام: وهو الحجر الذي عليه أَثَرُ قدَمَيه لقوله تعالى: {واتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبراهيمَ مُصَلَّى}

(1)

في قراءة الجمهور بكسر الخاء، والأَمر للوجوب، وقد واظب عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من غير تَرْكٍ أَصلاً. وقال السُّدِّي وقَتَادةُ: أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا عند المقام، (أَي) ركعتي الطَّواف.

وروى أَحمد ومسلم أَنه صلى الله عليه وسلم لما انتهى إِلى المقام قرأَ: {واتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبراهِيمَ مُصَلَّى} ، فَصَلَّى ركعتين وقرأَ فاتحة الكتاب، و {قُلْ يا أَيُّها الكافرون} و {قل هو اللهُ أَحَد} ، ثُمَّ عاد إِلى الرُّكْنِ فاستلَمَه، ثم خرج إِلى الصَّفَا. ورَوَى الترمذي من حديث أَنس أَنَّ عمرَ رضي الله عنه قال: يا رسولَ الله لو صَلَّينا خَلْفَ المقام ـ يعني ركعتي الطواف ـ فأَنْزَلَ اللهاُ تعالى: {واتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبراهِيمَ مُصَلَّى} ، فَعَلَى صيغةِ الأَمر ظاهرٌ، وكذا على صيغةِ الخبر، فتدبر. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: إِذا أَراد أَنْ يركعَ خَلْفَ المقام جَعَلَ بينه وبين المقام صَفَّاً أَوْ صَفَّيْنِ، أَوْ رَجُلاً أَوْ رَجُلَيْنِ. رواه عبدُ الرَّزَّاق.

(أَوْ غَيْرِهِ مِنَ المَسْجِدِ) إِنْ لم تُيَسَّر له الصلاة عند المقامِ. والحاصل: أَنَّ أَفضل الأَماكن لأَداءِ صلاة الطواف خلف المقام، وهو ما يصدق عليه ذلك عادةً وعُرْفاً، ثُم في الكعبة، ثُم في الحِجْر تحت المِيزَاب، ثُم كُلَّمَا قَرُبَ مِنْ البيت، ثُم سائر المسجد، ثُم الحَرَم، ثُم جاز في غَيْرِه.

ولا يُكْرَه الطواف في الأَوقات التي تُكْرَه فيها الصلاة، بخلاف صلاة الطواف فإِنها مكروهةٌ فيها عندنا لما روى الطحاوي عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: طافَ عمرُ بالبيتِ بعد الصُّبْح فلم يَرْكَع، فلما صار بذِي طُوَىً، وطلعت الشمس صلَّى ركعتين. فَلَوْ جَمَع بين الأَطْوِفَة في الأَوقات المكروهة يُصلي بعد الجميع ركعتين لِكُلِّ طواف لما رُوِي أَنَّ عائشة طَافَتْ ثلاثةَ أَسابيع

(2)

، ثُمَّ صَلَّتْ لكل أُسبوعٍ ركعتين. ويَستوي فيه أَنْ يَنْصَرف عن وترٍ أَوْ شَفْعٍ اتفاقاً.

وأَمَّا في غيرِ الأَوقاتِ المكروهةِ فلا يَكْرَهُ أَبو يوسف وَصْلَ الأَسابيع في الطواف إِذا صلى عن وِتْر، كثلاثةٍ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ سبعةٍ. وفيها

(3)

أَثَرُ عائشةَ: لا بأْس بذلك إِذا

(1)

سورة البقرة، الآية:(125).

(2)

تقدم شرحها ص: 647، تعليق رقم (5).

(3)

في المخطوطة: وفيه.

ص: 648

ثُمَّ عَادَ واسْتَلَمَ الحَجَرَ وخرَجَ، وصَعِدَ الصَّفَا واسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ وكَبَّرَ وهَلَّلَ وصَلَّى على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ورَفَعَ يَدَيْهِ

===

انصرف عن وِتْرٍ. وكَرِهَهُ أَبو حنيفة ومحمد، سواءٌ انصرفَ عن وِتْرٍ أَوْ شَفْعٍ لقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ طافَ حَوْلَ البيتِ أُسبوعاً فَلْيُصَلِّ ركعتين» . وأَمَّا أَثَرُ عائشةَ فَمُعَارَضٌ بقول غيرها من الصحابة.

وفي «النوازل» : يقرأَ في الركعة الأُولى بـ: {قل يا أَيها الكافرون} ، وفي الثانية بـ:{قل هو الله أَحَد} ، ويدعو بعد فراغه من الصلاة. والمأْثور دعاء آدم عليه السلام: اللهم إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرِّي وعلانيتي فاقْبَل مَعْذِرَتي، وتَعْلَمُ حاجتي فأَعطني سُؤلِي، وتَعْلَمُ ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي. اللهم إِني أَسأَلك إِيماناً يُبَاشِرُ قلبي، ويقيناً صَادِقاً حتى أَعلمَ أَنه لا يصيبُني إِلاَّ ما كتبت لي، ورضاءً بما قَسَمْتَ لي.

ويُسْتَحَبُّ أَنْ يأْتي زَمْزَمَ فَيَشْرَبُ منها ويَتَضَلَّعُ

(1)

، ويقول: اللهم إِني أَسأَلك رِزْقاً واسعاً، وعلماً نافعاً، وشفاءً مِنْ كُلِّ داءٍ. ثُم يأْتي المُلْتَزم

(2)

ويَتَشَبَّثُ به ويضع صدره وبطنه وخَدَّه عليه، ويضع يديه فوق رأْسه مبسوطتين على الجدار قائمتين. وقيل عليه العمل: يلزم الملتزم قبل الركعتين، ثُم يصليهما، ثُم يأْتي زمزم.

(ثُمَّ) أَي بعد ذلك إِذا أراد السَّعْي (عَادَ واسْتَلَمَ الحَجَرَ) لما في حديث جابر أَنه صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذلك (وخرَجَ) مِنْ أَيِّ بابٍ شاء، وإِنما خَرَج النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ باب الصفا لأَنه أَقربُ إِليه (وصَعِدَ الصَّفَا) ـ بكسر العين ـ أَي رَقِيَهَا بقدر ما يَرَى الكعبة.

(واسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ) قائماً (وكَبَّرَ) ثلاثاً مِنْ غيرِ رَفْعِ يَدٍ (وهَلَّلَ) وقال: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريكَ له، له الملكُ وله الحَمْدُ، يُحْيي ويُمِيتُ، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخيرُ وهو على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، لا إِله إِلاَّ اللهُ، (وَحْدَهُ، صَدَقَ)

(3)

وعده، ونصر عبده، وأَعَزَّ جنده، وهزم الأَحزاب وَحْدَه، لا إِله إِلاَّ اللهُ، ولا نعبد إِلاَّ إِيَّاه، مخلصينَ له الدِّينَ ولو كره الكافرون.

(وصَلَّى على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أَوَّلِ دُعَائِهِ وآخره (ورَفَعَ يَدَيْهِ) حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ جاعلاً باطنهما إِلى السماء، لما روى أَبو داود في «سُننه» عن ابن عباس أَنَّ رسولَ الله

(1)

تَضَلَّعَ الرجلُ أي امتلأَ شِبَعًا ورِيًّا. مختار الصحاح ص: 383، مادة (ضلع).

(2)

المُلْتَزَم: ما بين الركن الذي فيه الحجر الأسود وباب الكعبة، سُمِّي بذلك لالتزامه الدعاء والتعوذ. معجم لغة الفقهاء ص:458.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

ص: 649

ودَعَا بِمَا شَاءَ، ثُمَّ مَشَى نَحْوَ المَرْوَةِ سَاعِيًا بَيْنَ المِيلَيْنِ الأَخْضَرَيْنِ، وصعِدَ فِيها وفَعَلَ ما فَعَلَ علَى الصَّفَا، ثُمَّ سَعَى إِلى الصَّفَا، فَصَارَ اثْنَينِ، يَفْعَلُ هَكَذا سَبْعًا.

===

صلى الله عليه وسلم قال: «المسألة أَنْ ترفَعَ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبيك أَوْ نَحْوَهُما» . والاستغفار: أَنْ تشيرَ بأُصْبَعٍ واحدةٍ. والابتهال: أَنْ تَمُدَّ يَدَيْكَ جميعاً. ورَوى إِسحاق بن رَاهُويه وابن ماجه من حديث ابن عباس أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «سَلُوا اللهَ بِبِطُون أَكُفِّكُم ولا تَسْأَلُوه بِظُهُورِهَا، فإِذا فرغتم فامسحوا بها وُجُوهَكُمْ» .

(ودَعَا بِمَا شَاءَ) ومِنَ المأْثور: اللهم إِنَّك قلت: ادْعُونِي أَستجب لكم، وإِنك لا تُخْلِفُ الميعاد، وإِني أَسْأَلُكَ كما هديتني للإِسلام أَنْ لا تَنْزِعَه مني حتى تَتَوفَّاني وأَنا مُسْلِمٌ. رواه مالك عن ابن عمر موقوفاً. (ثُمَّ مَشَى) على هِينَتِهِ نازلاً (نَحْوَ المَرْوَةِ) داعياً: اللهم اجْعَلْهُ حَجَّاً مبروراً، وسعياً مَشْكوراً، وذَنْباً مغفوراً، وتجارةً لَنْ تَبُور يا عزيزُ يا غفورُ. وأَمثال ذلك من الأَدعية والأَذكار.

(سَاعِياً) أَي مُسْرِعاً (بَيْنَ المِيلَيْنِ الأَخْضَرَيْنِ) قائلاً: رَبِّ اغْفِر وارْحَم وتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَم، إِنَّكَ أَنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ. رواه (ابن أَبي شيبةَ من قول)

(1)

ابن مسعودٍ موقوفاً. وعن جابر أَنَّه صلى الله عليه وسلم نَزَل إِلى المَرْوَةِ حتى إِذا انصبَّتْ قَدَمَاهُ رَمَلَ في بطن الوادي، حتى إِذا صَعِد مَشَى. رواه أَبو داود. (وصَعِدَ فِيها) أَي في المروة (وفَعَلَ ما فَعَلَ علَى الصَّفَا) من الاستقبال، والتكبير، والتهليل والدعاء، وهذا شَوْطٌ من السَّعْي.

(ثُمَّ سَعَى) أَي مَشَى متوجّهاً (إِلى الصَّفَا) وهو شَوْطٌ آخَرُ (فَصَارَ اثْنَينِ) ذَهَابُهُ إِلى المروةِ واحدٌ، وعَوْدُهُ إِلى الصَّفَا آخَرُ (يَفْعَلُ هَكَذا سَبْعاً) أَي ابتداءها من الصفا وخَتْمَهَا بالمروة.

وقال الطحاوي، وبعضُ الشافعية: الذهاب من الصفا إِلى المروة ومنها إِلى الصَّفا، مجموعُ ذلك شَوْطٌ، كما أَنَّ الشَّوْط في الطواف من الحجر إِلى الحجر. ويرده قول جابر: فلما كان آخر طوافه على المروة، لأَن مقتضى قولهم: أَنْ يكون آخر طوافه على الصفا. والفرق بين السَّعْي والطواف: أَنَّ السَّعْيَ يتم بالمروةِ فيكونُ الرجوعُ تَكْراراً، والطواف لا يتم إِلاَّ بالوصولِ إِلى الحجر. والأَصل في ذلك حديث جابر الطويل، من قوله: ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الباب إِلى الصفا، فَلَمَّا وَلَّى إِلى الصفا قرأَ:{إِنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}

(2)

فبدأَ بما بدَأَ اللهُ به.

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

(2)

سورة البقرة، الآية:(158).

ص: 650

ثُمَّ سَكَنَ بِمَكَّةَ مَحْرِمًا

===

وفي أَبي داود: «نبدأُ» . وفي النَّسائي، والدَّارَقُطْنِيّ:«ابدؤوا» ـ بصيغة الأَمر ـ، فبدأَ بالصَّفَا فَرَقِيَ عليها حتى رأَى البيت، فاستقبل القِبلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وكبَّره. وقال:«لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شريكَ له، له الملكُ وله الحَمْدُ وهو على كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، لا إِله إِلاَّ اللهُ وَحْدَه، أَنْجَزَ وعده، ونصر عبده، وهزم الأَحزاب وحده» ، ثُم دعا بين ذلك فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثُمّ نزل إِلى المروة حتى إِذا انصبَّتْ قَدَمَاه في بطن الوادي رَمَلَ، حتى إِذا كان آخر الطواف على المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، قال: «لو استقبلت مِنْ أَمري ما استدبرت لم أَسُقِ الهَدْيَ وجَعَلْتُهَا عمرةً، فَمَنْ كان مِنْكُم ليس معه هَدْي فليُحِلَّ وليجعلها عُمْرَةً

» الحديثَ.

وفي روايةٍ لِمُسْلِم، وأَبي داود عن أَبي هريرةَ أَنَّه صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ من طوافِهِ أَتى الصفا، فَعَلَا عليها حتى رأَى البيتَ ورَفَعَ يَدَهُ، فجعل يَحْمَدُ اللهَ تعالى ويدعو ما شاء أَنْ يدعو. ويُسْتَحَبُّ إِذا فَرَغَ من السَّعْي أَنْ يدخل المسجد فيصلّي ركعتين، فإِنه صلى الله عليه وسلم صلّى ركعتين في ـ قيل ـ حاشية المطاف حَذْوَ الرُّكْنِ الأَسود، وقيل: فيما يلي باب العُمْرَة، ذكره ابن الهُمَام.

(ثُمَّ سَكَنَ بِمَكَّةَ مُحْرِماً) مِنْ غَيْرِ تَحَلُّل، لأَنه مُحْرِمٌ بالحج فلا يتحلل منه حتى يأْتي بِأَفعاله.

وقال ابن عباس: لهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ ويفسخَ الحجَّ إِلى عُمْرَةٍ لما روينا. وأُجيب بأَن ذلك كان مختصاً بأَصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لِمَا في مسلم وغيره عن أَبي ذرّ أَنه قال: (المتعة كانت)

(1)

لأَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً. ولا يعارضه حديث

(2)

سُرَاقَةَ حيث قال: أَلِعَامِنَا هذا أَمْ للأَبد؟ فقال: «للأَبَدِ» . لأَن المراد «أَلِعَامِنَا» فِعْلُ العُمْرَةِ في أَشهر الحج أَمْ للأَبد؟ لا أَنَّ المراد فسخ الحج إِلى العمرة، وذلك لأَن سبب الأَمْر بالفسخ ما كان إِلاَّ تقريراً لِشَرْعِ العُمْرةِ في أَشهر الحج ما لم يكن مانِعُ سَوْقِ الهَدْي، وذلك أَنَّه كان مُسْتَعْظَماً عندهم، حتى كانوا يَعُدُّونَهَا في أَشهر الحج من أَفْجَرِ الفجور، فكَسَرَ سَوْرَةَ

(3)

ما استحكم في نفوسهم من الجاهلية من إِنكاره، بِحَمْلِهِم عَلَى فِعْلِهِ بأَنفسهم.

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

(2)

صحيح البخاري (فتح الباري) 3/ 606، كتاب العمرة (26)، باب عمرة التَّنْعيم (6)، رقم (1785).

(3)

سورة الغضب: وُثُوبُه. مختار الصحاح ص 135، مادة (سور).

ص: 651

وطَافَ نَفْلًا ما شَاءَ. وخَطَبَ الإمَامُ سابع ذِي الحِجَّةِ خُطْبَةً، وعَلَّمَ، ثُمَّ التَّاسِع، ثُمَّ في حَادِي عَشَر بِمِنَى. ويَخْرُجُ غَدَاةَ التَّرْوِيةِ إِلى مِنَى

===

(وطَافَ نَفْلاً ما شَاءَ) لأَنه يشبه الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم «الطَّوافُ بالبيتِ صلاةٌ إِلاَّ أَنَّ اللهَ تعالى قد أَحلَّ فيه المنطق، فَمَنْ نَطَقَ فيهِ فلا يَنْطِقْ إِلاَّ بِخَيْر» . رواه ابن حِبَّان في «صحيحه» . ورواية الترمذي والنَّسائي: «الطَّوافُ حولَ البيتِ مثلُ الصلاة، إِلاَّ أَنكم تتكلمون فيه، فَمَنْ تَكَلَّم فيه فلا يتكلمنَّ إِلاَّ بخير» . وأَمَّا التَّنَفُّلُ بالسَّعْي فَغَيْرُ مشروعٍ، والرَّمَل والاضطباعُ إِنما يُسنان في كل طوافٍ بَعْدَه سَعْيٌ. ثُم طوافُ النَّفْل أَفضلُ للغريب من صلاة التطوع.

(وخَطَبَ الإِمَامُ سابع ذِي الحِجَّةِ خُطْبَةً) واحدةً لا جلوس فيها، بعد صلاة الظهر (وعَلَّمَ) الناسَ فيها المناسك، والخروجَ إِلى مِنَى وعرفةَ، والصلاةَ فيها، والوقوفَ، والإِفاضةَ (ثُمَّ) خَطَبَ في اليوم (التَّاسِع) بعرفات خطبتين كالجُمُعَة (ثُمَّ) خطَبَ (في حَادِي عَشَر بِمِنَى) خطبةً واحدةً بعد صلاة الظهر لا يجلس فيها كخطبته يوم السابع، وعَلَّم فيها المناسك المحتاجَ إِليها في كل خطبة.

(ويَخْرُجُ) أَي الحاج مُلَبياً (غَدَاةَ التَّرْوِيةِ إِلى مِنَى) لقول جابر في الحديث الطويل: فَلَمَّا كان يوم الترويةِ توجّهوا إِلى مِنَى فأَهَلُّوا بالحجِّ، وركِب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِمِنَى الظهر، والعصر، والمَغْرب، والعِشاء، والفجر، ثُم مَكَثَ قليلاً حتى طَلَعَتِ الشَّمسُ

(1)

فأَجَاز رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى أَتى عرفةَ

الحديثَ.

ويوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحِجة، سُمِّيَ بذلك لأَن إِبراهيم عليه السلام رأَى في المنام ليلةَ هذا اليوم قائلاً يقول: إِنَّ اللهَ يأْمُرُكَ بِذَبْح ابنك، فلما أَصبح رَوَّى ـ أَي فَكَّرَ ـ أَنَّ ما رآه مِنْ الله فَيَأْتَمِرهُ، أَوْ لا فيترُكهُ، فسُمِّي يوم التَّرْوِية، فلما أَمسى رأَى مِثْلَ ذلك، فَعَرَف أَنَّه مِنْ الله تعالى فَسُمِّي يومَ عَرَفَةَ، ثُمَّ رأَى مثل ذلك في الليلة الثالثة فَهَمَّ بِنَحْرِ وَلدِه فَسُمِّي يومَ النَّحْرِ.

وقال ابنُ الأَنْباري: سُمِّي يومَ التروية لأَنَّ الناس يَرْوُونَ (فيه إِبِلَهم)

(2)

ويحملون الماء (لأَجلهم)

(3)

، وسُمِّي يوم عَرَفَة لأَنَّ جبرائيل عليه السلام عَلَّم إِبراهيم فيه المناسِكَ،

(1)

جَازَ المَوْضِعَ أي سَلَكهُ وسَار فيه، وأجَازَه: أي خَلَّفَه وقَطَعَهُ. مختار الصحاح ص: 117، مادة (جوز).

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

(3)

في المطبوعة: فيه، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 652

ومَكَثَ إِلى فَجْرِ عَرَفَةَ ثُمَّ مِنْها إِلى عَرَفَات، وكُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ. وإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خَطَبَ الإِمَامُ كالجُمُعَةِ وجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ والعَصْرِ بأذَانٍ وإِقَامَتَيْنِ.

===

فقال: عرفت. وقيل: لأَن آدم عليه السلام لَمَّا أُهْبِطَ إِلى الأَرض وقع بالهند، ووقعت امرأَته حواء بالسند، وفي رواية: بجدة، فلم يلتقيا إِلاَّ عشيةَ عرفةَ، فسُمِّي يوم عرفة، لمعرفةِ كُلَ منهما الآخر. وقيل: سُمِّي مِنَى بذلك لأَن جبريل لما أَراد أَنْ يفارق آدمَ قال له: ماذا تَتَمنَّى؟ فقال آدم: الجنة.

(ومَكَثَ) بعد وصوله إِلى مِنَى (إِلى فَجْرِ عَرَفَةَ) وصَلَّى الصبح، ومَكَثَ بعد الفجر إِلى طلوع الشمس على ثَبِير

(1)

، لما روينا من حديث جابر. (ثُمَّ) دَفَعَ (مِنْها) أَي مِنْ مِنَى (إِلى عَرَفَات) لما قَدَّمنا، ولِمَا روى ابنُ عُمر: أَنه صلى الله عليه وسلم غدَا مِنْ مِنَى حين طَلَعَ الصُّبحُ في صبيحةِ يَوْمِ عَرَفَةَ حتى أَتى عَرَفَةَ

الحديثَ. رواه أَحمد وأَبو داود.

ويُسْتحبُّ أَنْ يسير إِلى عرفةَ على طريق ضَبّ لا على طريق المَأْزِمَيْن، وينزل في عرفة مع الناس حيث شاء، ويُكْره أَنْ ينزل في موضع وحده، وقُرْبُ الجبلِ أَفضلُ إِنْ لم يكن هناك مزاحمة ومنكر.

(وكُلُّهَا) أَي جميع أَجزاء عرفة (مَوْقِفٌ) ولذا سُمِّيت عرفات (إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ) لما روى الطبراني والحاكم ـ وقال: على شرط مسلم ـ من حديث ابن عباس أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوقِفٌ، وادفَعُوا عن بَطْنِ عُرَنَة. والمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا موقفٌ، وادفعوا عن بَطْنِ مُحَسِّر» . زاد ابن ماجه: «وكُلُّ مِنَى مَنْحَرٌ إِلاَّ ما وراء العَقَبَة» . ورواه أَحمد عن جُبَيْرِ بنِ مُطْعِم وزاد: «وكُلُّ فِجَاج مِنَى مَنْحَرٌ، وفي كلِّ أَيامِ التشريقِ ذَبْحٌ»

(وإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خَطَبَ الإِمَامُ) في مسجد نَمِرَة بعد الزوال قبل الصلاة خطبتين، يَبْتَدِاءُ فيهما إِذا فَرَغَ المؤذن من الأَذان بين يديه، ويجلس بينهما، (كالجُمُعَةِ) ويُعَلِّمُهُم الوقوف بعرفةَ، ومُزْدَلِفَةَ وباقي المناسك، لحديث جابر: «فأَجازَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى أَتى عرفةَ، فوجد القبة قد ضربت له بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بها، حتى إِذا زَاغَتْ الشمسُ أَمَرَ بالقَصْواء، فرُحِّلت له، فأَتى بطنَ الوادي فخطب الناسَ إِلى أَنْ قال: ثُمَّ أَذَّن ثُم أَقام فصلّى الظهر، ثُم أَقام فَصَلَّى العصر، ولم يُصَلِّ بينهما شيئاً

الحديثَ. رواه مسلم. وهذا معنى قوله (وجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ والعَصْرِ) زَمَانِيَّاً

(2)

لما روينا (بأَذَانٍ وإِقَامَتَيْنِ) يؤذن ويقيم للظهر، ثُم يقيم للعصر، وعليه الإِجماع.

(1)

ثَبيرٌ: جَبَلٌ بِمَكَّة. مختار الصحاح ص: 82، مادة (ثبر).

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

ص: 653

وشُرِطَ الجَمَاعَةُ والإِحْرَامُ فِيهِمَا، فلا يَجُوزُ العَصْرُ لِفَاقِدِ أَحَدِهِما، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى المَوْقِفِ بِغُسْلٍ سُنَّ

===

(وشُرِطَ) لهذا الجمع (الجَمَاعَةُ) في الصلاتين مع الخطيب (والإِحْرَامُ) بالحَجِّ (فِيهِمَا، فلا يَجُوزُ العَصْرُ

(1)

لِفَاقِدِ أَحَدِهِما) واقتصرا

(2)

على الشرط الثاني: وهو الإِحرام كمالكٍ والشافعيِّ.

(ثُمَّ ذَهَبَ إِلى المَوْقِفِ بِغُسْلٍ سُنَّ) لِمَا ذَكَرْنَا في باب الغُسْل، ويَقِفُ الإِمَامُ بِقُرْب الجبل عند الصخرات السود الكبار التي أَسفل الجبل الذي بِوَسَطِ عرفات، يقال له: إِلَالَ على وزن هِلَال، ويقال له

(3)

أَيضاً: جبلُ الرحمة، بحيث يكون الجبل قُبَالَتَهُ بيمين إِذا استقبل القبلةَ، والبناء المربعِ عن يسارهِ بقليلٍ. فقيل: هو مَوْقِفُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيكون مستقبلَ القِبْلَةِ، ويدعو الناسُ بما أَحَبُّوا مستقبلين للقِبْلَةِ، لا كَمَا يَفْعَلُه العوامُ من استقبال الإِمام. وتُرْفَعُ الأَيدي بَسْطاً على رواحلهم وهو أَفْضَلُ من الوقوف قائماً، لما في حديث جابر: ثُم ركِب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فجعل بَطْنَ نَاقَتِهِ القَصْواء إِلى الصخرات، وجعل جبلَ المشاة بين يديه، واستقبلَ القبلةَ فلم يزَلْ واقفاً حتى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قليلاً حتى غاب القُرْصُ. رواه مسلم، وأَبو داود، وابن ماجه.

وقد ورد: «خَيْرُ الدُّعاءِ دُعاءُ يومِ عرفةَ، وخَيْرُ ما قلت أَنا والنبيُّون مِنْ قبلي: «لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، له الملكُ وله الحَمْدُ وهو على كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ» . رواه مالك، والترمذي، وأَحمد وغيرُهم. وعن ابن عباس: رَأَيْتُ النبيَّ عليه الصلاة والسلام يَدْعُو بعرفةَ، ويَدَاهُ إِلى صَدْرِهِ كالمُسْتَطْعِم المِسْكِين. رواه البيهقي في «سُنَنِهِ» .

وأَمَّا ما رواه ابنُ ماجه عن عبد الله بن كِنَانَةَ بن عباس بن مِرْدَاسِ السُّلَمِيّ: أَنَّ أَبَاه أَخبره عن أَبِيهِ: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دَعَا لأُمَّتِهِ عشيةَ عرفةَ بالمَغْفِرة، فأُجيب: أَني قد غَفَرْتُ لهم ما خَلا المظالِمَ فإِني آخِذٌ للمظلومِ منه، قال: «أَي رَبّ، إِنْ شِئت أَعطيتَ المظلوم الجنة وغفرت للظالم، فلم يُجِبْهُ عشيةَ عرفةَ، فَلَمَّا أَصبح بالمُزْدَلِفَةَ أَعادَ الدعاء، فأُجِيبَ إِلى ما سَأَل، فَضَحِكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَوْ قال ـ تَبَسَّم، فقال أَبو بكر وعمر: بأَبي أَنْتَ وأُمّي، إِنَّ هذه الساعةَ ما كُنْتَ تَضْحَكُ فيها، فما الذي أَضْحَكَكَ ( 3) أَضْحَكَ اللَّهُ ( 3) سِنَّكَ قال: إِنَّ عَدُوَّ اللهِ إِبْلِيس لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الله سبحانه قد استجابَ دعائي، وغَفَرَ لأُمّتِي، أَخَذَ الترابَ فَجَعَل يَحْثُوهُ على رأْسِهِ ويدعو

(1)

أي أداء العصر في هذا الوقت.

(2)

أي محمد وأبو يوسف (الصاحبان).

(3)

سقط من المطبوعة.

ص: 654

ويَكْفِي حُضُورُ سَاعَةٍ مِنْ زَوَالِ عَرَفَةَ إِلى فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ،

===

بالوَيْلِ والثُّبُورِ

(1)

، فأَضْحَكَنِي ما رَأَيْتُ مِنّ جَزَعِهِ».

فقد قال البُخاري: كِنَانة بن عباس عن أَبيه لا يصح. وقال ابن حِبَّان: كِنَانة بن عباس بن مِرْدَاس السُّلَمي ـ يَرْوي عن أَبيه وروى عنه ابنه ـ مُنْكَر الحديث جداً، ولا أَدْرِي أَنْ التخليط منه أَوْ مِنْ أَبيه، ومِنْ أَيِّهِمَا كان. فهو سَاقِطُ الاحتجاج. انتهى. وقد بسطت هذه المسأَلة في رسالة مستقلة.

وفي «المحيط» : والليالي كُلُّها تابعة للأَيام المستقبلة لا للأَيام الماضية إِلاَّ في الحج، فإِنها في حُكْم الأَيام الماضية، فَلَيْلَةُ عرفةَ تابعةٌ لِيَوْمِ التروية، ولَيْلَةُ النَّحْر تابعةٌ ليومِ عرفةَ، ولهذا يَصِحُّ الوقوف فيها.

وأَمَّا قَوْلُ صاحب «الهدايةِ» : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «خَيْرُ المواقِفِ ما اسْتُقْبِلَ به القِبْلَةُ» فَغَيْرُ معروفٌ بهذا اللفظ، نعم وَرَدَ:«خَيْرُ المجالسِ ما اسْتُقْبِلَتْ به القبلةُ» كما ذكره النووي في «التبيان» ، إِلاَّ أَنَّه مِنْ غير عَزْوٍ لأَحد، لكنْ أَخرجَهُ أَبو يَعْلَى، وابن عَدي، والطبراني في «الأَوْسط» ـ وفي سنده متروك ـ بلفظ:«أَكرمُ المجالِسِ ما اسْتُقْبِلَتْ به القبلةُ» . وأَورده الحاكم في «صحيحه»

(2)

من حديث طويل. وقال إِنه صحيح. ورواه العُقَيْلِي عن ابن عباس مرفوعاً بِلَفْظ: «إِنَّ لكلِّ شيءٍ شَرَفاً، وإِنَّ شَرَفَ المَجَالِسِ ما اسْتُقْبِلَتْ به القِبْلَةُ» . وفي الجملة لهذا الحديث أَصْلٌ ثَابِتٌ، فقول ابن حِبَّان مَوْضُوعٌ، مَدْفُوعٌ.

(ويَكْفِي) في الوقوف (حُضُورُ سَاعَةٍ) بشَرْط تَقَدُّم إِحرام (مِنْ زَوَالِ) يومِ (عَرَفَةَ) لأَنه صلى الله عليه وسلم لم يَقِف إِلاَّ بَعْدَمَا جَمَعَ بين الظهر والعصر بعد الزوال، وجَوَّزَ أَحمد الوقوف مِنْ أَوَّل يوم عرفةَ (إِلى فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ) وقد رَوَى أَصحابُ السُّنَن الأَربعة، والحاكم ـ وقال: صحيح الإِسناد على شرط كافَّة أَئمة الحديث ـ عَنْ عُرْوَةَ بن مُضَرِّس قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ شَهِدَ صلاتنا هذه ـ أَي صلاة الصبح بِمُزْدَلِفة ـ وَوَقَفَ معنا حتى نَدْفَعَ، وقد وقف بِعَرَفَة قبل ذلك ليلاً أَوْ نهاراً، فَقَدْ تَمَّ حَجُّه وقَضَى تَفَثَه» .

(1)

الثُّبُور: الهَلاكُ. النهاية: 1/ 206.

(2)

هذا تَجَوُّزٌ من المصنف: فالأولى أن يقول: في مستدركه.

ص: 655

وَلَوْ كَانَ نَائِمًا أَو مَارَّاً، أَوْ مُغْمىً عَلَيْهِ، أَوْ أَهَلَّ عَنْهُ رَفِيقُهُ، أَوْ جَهِلَ أَنَّها عَرَفَةُ.

وإِذَا غَرَبَتِ أَتى مُزْدَلِفَةَ - وكُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ وَادِي مُحَسِّر -

===

فإِن قيل: الطَّوافُ والوقوفُ رُكْنا الحَجِّ، فما الفَرْقُ بينهما، حيث لم تُشْتَرطُ النيةُ في الوقوف، وشُرِطت في الطواف، حتى لو طاف هَارِباً من عَدُوَ، أَوْ طَالِباً لغريم لا يُجْزِئه؟ أُجِيب بأَنَّ النيةَ عند الإِحرام تضمّنت جميعَ ما يُفْعَلُ فيه، والوقوفُ يُفْعَلُ فيه مِنْ كُلِّ وجه فاكْتُفِي فيه بتلك النية، والطواف يُفْعَلُ فيه من وَجْهٍ دونَ وَجْهٍ لأَنه يُفْعَلُ بعد التَّحَلُّلِ الأَوَّلِ، فاشْتُرِط فيه أَصلُ النية دون تعيينها عملاً بالشَبَهَين.

(وَلَوْ كَانَ نَائِماً أَوْ مَارَّاً

(1)

أَوْ مُغْمىً عَلَيْهِ أَوْ أَهَلَّ) أَي أَحرم (عَنْهُ رَفِيقُهُ) بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْر أَمْرِهِ، وهو قول أَبي حنيفةَ. وقالا: لا بد أَنْ يكون بأَمْرِه (أَوْ جَهِلَ أَنَّها عَرَفَةُ) وهذا من كمال توسعة الله على عِبَاده. ولم يفرض علماؤنا والشافعي ( 1) وقوفَ جزءٍ من الليل، وفَرَضَه مالكٌ لقوله

(2)

: «مَنْ فَاتَهُ الوقوفُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَه الحَجُّ» .

ولنا قوله صلى الله عليه وسلم «الحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ وَقَفَ بعرفةَ سَاعةً مِنْ ليلٍ أَوْ نهارٍ، فَقَد تَمَّ حَجُّه»

(3)

. وكلمة «أَوْ» للتخيير والتنويع، ويُلَبِّي بعرفةَ ساعةً فساعةً. وقال مالك: يَقْطَعُ التلبيةَ كما

(4)

يَقِفُ بِعرفةَ. ولنا ما رُوي عن الفَضْل: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما زَالَ يُلَبي حتى أَتى جَمْرَة العَقَبَة.

(وإِذَا غَرَبَتِ) الشَّمْسُ (أَتى مُزْدَلِفَةَ) على طريق المأْزِمَيْن بين العلمين دون طريق ضَبّ، وذلك لحديثِ عليَ أَنه صلى الله عليه وسلم دَفَعَ حِينَ غَابتِ الشمسُ. رواه أَبو داود وغيره. والأَفضل أَنْ يمشي على هينته، وإِذا وجد فُرْجَةً أَسرع لما روى البخاري من حديث ابن عباس أَنَّه دَفَعَ مَعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يوم عرفةَ، فَسَمِعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وراءه زَجْراً شديداً، وضَرْباً للإِبِل، فأَشارَ بِسَوْطِهِ إِليهم، وقال:«أَيُّها النَّاسُ، عَلَيْكُم بالسَّكِينَةِ، فإِنَّ البِرَّ ليس بالإِيضاع ـ أَي الإِسراع ـ» .

(وكُلُّهَا) أَي جميع أَجزاء المزدلفة (مَوْقِفٌ) أَي مبيت، لأَن التبييت بِمُزْدَلِفَة ليلةَ النَّحْر سُنَّةٌ. (إِلاَّ وَادِي مُحَسِّر) لما تَقَدَّم من حديث ابن عباس: «المُزْدَلِفةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ،

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

أخرجه الإمام مالك في الموطأ 1/ 390، كتاب الحج (20)، باب وقوف ما فاته الحج بعرفة (55)، رقم (169).

(3)

سنن الترمذي 3/ 237، كتاب الحج، باب مما جاء فيمن أدرك الإمام

رقم (889).

(4)

"كما" الحالية.

ص: 656

وصَلَّى العِشَاءَيْنِ في وَقْتِ العِشَاءِ بأَذَانٍ وإِقَامَةٍ

===

وادفعوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّر». رواه البخاري. والأَفضل أَنْ يَنْزِل بِقُرْب قُزَح، لأَنه مَوْقِفُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو المعروف بالمَشْعَرِ الحَرَام، لما رُوِي أَنه صلى الله عليه وسلم لما أَصْبَحَ وقَفَ على قُزَح. رواه أَبو داود. وقُزَح: اسم جبل بالمزدلفة. ولا ينزل على الطريق كيلا يَتَضَرَّرَ، ولا يَضُرُّ بالمَّارةِ.

(وصَلَّى العِشَاءَيْنِ) أَي المغرب والعشاء (في وَقْتِ العِشَاءِ بأَذَانٍ) واحدٍ اتفاقاً (وإِقَامَةٍ) واحدةٍ عندنا، إِلاَّ إِذا فَصَل بينهما: بصلاةٍ كان أَوْ بغيرها. وقال زُفر: بإِقامَتين مُطْلقاً. واختاره الطحاوي، وهو قول مالك والشافعيِّ، لما في الصحيحين عن أُسَامَة بنِ زَيْدٍ قال: دَفَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ عرفَةَ حتى إِذا كان بالشِّعْبِ نَزَل فبال فتوضَّأَ ولم يُسْبِغِ الوضوء، قلت: الصلاة يا رسولَ الله، قال صلى الله عليه وسلم «الصلاةُ أَمامك» ـ أَي مكاناً أَوْ زَماناً ـ فركب فلما جاءَ المُزْدَلِفَةَ نَزَل فتوضأَ فأَسبغَ الوضوء، ثُم أُقيمت الصلاةُ فصلَّى المغرب، ثُم أَناخ كلُّ إِنسانٍ بَعِيرَهُ في منزله، ثُم أُقيمتِ الصلاة فَصَلاَّها ولم يُصَلِّ بينهما شَيئاً. وفي رواية: فلما جاء المزدلفة فصلى بها والمَغْرِبَ والعِشَاءَ بأَذانٍ واحدٍ وإِقامتين ولم يُسَبِّح بينهما شيئاً

الحديثَ.

وفي البخاري عن ابن عمر قال: جَمَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ المَغْرِب والعِشَاءِ بِجَمْعٍ

(1)

، كل واحدة منهما بإِقامةٍ ولم يُسَبِّح بينهما، ولا على إِثْرِ واحدةٍ

(2)

منهما. ولنا ما في مسلم وأَبي داود عن سَعِيد بن جُبَير قال: أَفَضْنَا مَعَ ابن عمر فلما بلغنا جَمْعاً صلَّى بِنَا المَغْرِبَ ثلاثاً، والعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ بإِقامةٍ واحدةٍ، فلما انْصَرَفَ قال ابن عمر: هكذا صَلَّى بِنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكانِ. وجعل بعضُ الرواة مكانَ ابنِ عُمَرَ ابنَ عبَّاسٍ. كما أَخرجه أَبو الشيخ الأَصبهاني عن ابن عباس أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى المَغْرِبَ والعِشَاءَ بإِقامةٍ واحدةٍ.

وفي «سُنَنِ أَبي داود» عن أَشْعَثَ بن سُلَيْم عن أَبيه قال: أَقْبَلْتُ مع ابنِ عُمَرَ مِنْ عرفاتٍ إِلى المُزْدَلِفَة، فلم يكن يَفْتُرُ عن التكبير والتهليلِ حتى أَتَيْنَا المزدلفة، فأَذَّنَ وأَقام أَوْ أَمَرَ إِنْسانَاً فأَذَّنَ وأَقَامَ، فَصَلَّى بِنَا المَغْرِبَ ثَلَاثَ ركعاتٍ، ثم التَفَتَ إِلَيْنَا فقال: الصلاةَ، فَصَلَّى بِنا العِشَاءَ.

(1)

جَمْع: المُزْدَلِفة، وليلةُ جَمْع هي ليلةُ مزدلفة، لأن الناس يجتمعون فيها. معجم لغة الفقهاء. ص:166.

(2)

أي عَقِبها.

ص: 657

وإِذَا أَدَّى المَغْرِبَ أَعادَ مَا لَمْ يَطْلُعِ الفَجْرُ،

===

وفي الطحاوي، و «مُصَنَّف ابن أَبي شيبةَ» عن أَبي أَيُّوبٍ الأَنصاري: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْن صلاةِ المَغْرِبِ والعشاءِ بالمُزْدَلِفة بأَذانٍ واحدٍ وإِقامةٍ واحدةٍ. وقد رواه البخاري ومسلم عنه وليس فيه ذكر الإِقامة. وفي روايةٍ عن ابن عمر أَنه صلى الله عليه وسلم أَذَّنَ لِلمَغْرِبِ بِجَمْعٍ فأَقام، ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ بالإِقامةِ الأُولى. قال ابن حَزْم: رواه مسلم. قال بعضُ المحققين: فقد علمت ما في

(1)

هذا من التعارض، فإِنْ لم يَرْجَح ما اتّفق الشيخان على ما انفرد به مسلم وأَبو داود حتى تساقطا، كان الرجوعُ إِلى الأَصل يقتضي تعدد الإِقامة بتعدد الصلاة كما في قضاء الفوائت، بل أَوْلى لأَنَّ الصلاة الثانية ههنا وقتية، فإِذا أُقيم للأُولى المتأَخرة عن وقتها المعهود كانت الحاضرةُ أَوْلى أَنْ يُقَامَ لها بعدها، كما في الجَمْع بعرفة.

ثُمَّ الأَفضل أَنْ يصليهِما مع الإِمام بجماعةٍ، ولو صَلاَّهُما وَحْدَه أَوْ مع غيرِه أَجْزَأَه. وفي «شَرْح مسلم»: مذهبُ أَبي حنيفة وجماعة أَنه جَمْعٌ بِسَبَبِ النُّسُكِ

(2)

، فيجوزُ لأَهل مكةَ وغيرهم. والصحيح مِنْ مذهب الشافعيِّ أَنه جَمْعٌ بِسببِ السَّيْرِ، فلا يجوزُ إِلاَّ لِمُسافِرٍ مسافةَ القَصْر، وقال بعضُ أَصحابه كما قال أَبو حنيفة.

(وإِذَا أَدَّى المَغْرِبَ) في عرفات أَوْ في الطريق (أَعادَ مَا لَمْ يَطْلُعِ الفَجْرُ) حتى لو طلع الفجر قَبْل الإِعادة عاد إِلى الجواز اتفاقاً، فهو فسادٌ موقوفٌ، وذلك لأَن الفجر إِذا طلعَ فَاتَ وَقْتُ الجَمْعِ، وبه قال الثَّوْرِي. وقال أَبو يوسف: يُجْزِئه المَغْربُ مع الإِساءة، لأَنه أَدَّاها في وَقْتها المعهود، وبه قال مالك والشافعيُّ.

ولنا ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم لأُسامَةَ: «الصلاة أَمَامَكَ»

(3)

، فإِنَّ معناه زمانها أَوْ مكانها أَمامك، لا نَفْس الصلاة، لأَنها حركاتٌ توجد مِنْ فِعْل المُصَلِّي فلا تتصف بالقَبْلية قبل وجودها، فإِنْ كان المراد به المكان، فقد ظهر اختصاص هذه الصلاة بالمكان، وهو المزدلفة، فلا يجوز في غيرها، وإِن كان به المراد الزمان، فظهرَ أَنْ وقت المغرب في وقت الحج لا يدخل بغروب الشمس، وأَداء الصلاة قبل وقتها لا يجوز. إِلاَّ أَنَّ خَبَر الواحد يوجبُ العَملَ لا العِلْمَ، فأَمر بالإِعادة ما بقي الوقت لِيصيرَ جامعاً بين

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

النُّسُك: الطاعة والعبادة، ثُم سُمِّيت أُمورُ الحَجِّ كُلُّها مناسِك. النهاية: 5/ 48، بتصرف.

(3)

صحيح البخاري (فتح الباري) 3/ 519، كتاب الحج (25)، باب النزول بين عرفة وجمع (93)، رقم (1667).

ص: 658

ثُمَّ صَلَّى الفَجْرَ بِغَلَسٍ، ثُمَّ وَقَفَ ودَعَا.

===

الصلاتين بالمزدَلِفة، إِذِ التأْخيرُ إِنَّما وجب لِيُمْكِنَه الجمع بينهما بالمزدلفة، وبعد طلوع الفجر لا يمكنه الجمع فَسَقَطَتْ الإِعادة.

ولأَنَّا لو أَمرنا بالإِعادة بعد ذهاب الوقت لَحَكَمْنا بفسادِ ما أُدِّيَ وهو من باب العلم، وخبر الواحد لا يوجب العلمَ. فأَما وجوب الإِعادة في الوقت فَمِنْ باب العَمَل والأَخْذِ بالاحتياط فيعيدُ، كذا حَقَّقَهُ بعضُ علمائنا لكن في ترديده نظر ظاهر إِذْ

(1)

تَحَقُّقُ كُلَ مِنْ وقتِ العشاءِ وَوُصُولِ المزدلفة شَرْطٌ لهذا الجمع، فلا يجوزُ لِفَاقدِ أَحَدهِما.

(ثُمَّ صَلَّى الفَجْرَ بِغَلَسٍ

(2)

) لما في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: ما رأَيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صلاةً لِغَيْرِ مِيقَاتِها إِلاَّ صَلَاتَيْنِ: صلاةَ المَغْرِب، والعشاء بجَمْعٍ، وصَلَّى الفَجْرَ يَوْمئذٍ قبل ميقاتها.

يعني بعد الفجر قبل ميقاتها المعتاد، ولا يعني أَنه صَلاَّهُمَا قبل الفجر، لما في البخاري: وصَلَّى الفَجْرَ حينَ بَزَغَ ـ أَي طَلَعَ ـ.

(ثُمَّ وَقَفَ) وكَبَّرَ، وهَلَّلَ، ولبى، وصلّى على النبيِّ صلى الله عليه وسلم (ودَعَا) لِحَاجَتِهِ ما شاء، لما في حديث جابر الطويل: فَصَلَّى الفَجْرَ حين تَبَيَّنَ له الصُّبْحُ بأَذانٍ وإِقَامةٍ، ثُمَّ رَكِبَ القَصْواء حتى أَتى المَشْعَرَ الحَرَامَ فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ فَدَعَاهُ، وكَبَّره، وهَلَّلَه، وَوَحَّدَه، ولم يَزَل واقِفاً حتى أَسْفَرَ

(3)

جِداً فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشمسُ

الحديثَ. رواه مسلم.

وجملةُ ذلك في «سُنن أَبي داود، والترمذي، وابن ماجه» عن عليَ رضي الله عنه قال: وَقَفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ فقال: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» ، ثُم أَفَاضَ حين غربت الشمس وأَرْدَفَ أُسامة بنَ زيدٍ، وجَعَلَ يُشِيرُ بيده على هينةٍ والنَّاسُ يَضْرِبُونَ الإِبِلَ يميناً وشمالاً، يلتفت إِليهم ويقول:«أَيُّهَا الناسُ عليكم بالسَّكِينة» ، ثُم أَتى جَمْعَاً فصَلَّى بهم الصلاتين جَمِيعاً، فلما أَصْبَحَ أَتى قُزَحَ فَوَقَفَ.

وفي «المُسْتَدْرَك» عن المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ قال: خَطَبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعرفاتٍ، فَحَمِدَ الله وأَثْنَى عليه، ثُم قال: «أَمَّا بَعْدُ: فإِنَّ أَهلَ الشِّرْكِ والأَوثان كانوا يدفعون

(4)

من هذا الموضع إِذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كأَنَّها عَمَائِمُ الرِّجال (على

(1)

في المطبوعة: "و"، وما أثبتناه من المخطوطة.

(2)

الغَلَس: ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيل معجم لغة الفقهاء ص: 333.

(3)

الإسْفَار: الكشف والإضاءة، وإِسْفَارُ الفَجْرِ: ظُهُورُ النُّور وزوالُ الظلمة. معجم لغة الفقهاء ص: 67.

(4)

تقدم شرحها ص: 609 تعليق رقم (6).

ص: 659

وإِذَا أَسفَرَ أَتَى مِنىً، ورَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي سَبْعًا خَذْفَاً، وكَبَّرَ بِكُلِّ،

===

رؤوسها، وإِنَّا نَدْفَعُ قبل أَنْ تغيب، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام إِذا كانت الشمس)

(1)

منبسطة». ورواه الشافعي وقال: «وإِنَّا لا نَدْفَعُ مِنْ عرفةَ حتى تَغْرُبَ الشمسُ، ونَدْفَعُ مِنْ مُزْدَلِفَة قبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشمسُ، هَدْيُنَا مُخَالِفٌ لِهَدْي أَهْلِ الأَوْثَانِ والشِّرْكِ» .

(وإِذَا أَسْفَرَ

(2)

) أَي صار في وقت الإِسْفار. وأَمَّا ما وَقَعَ في بعض نُسَخ القُدُوري «وإِذَا طَلَعَتْ» فَخَطأٌ، لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُع الشمسُ كما في حديثِ جابر، (أَتَى مِنىً) أَي تَوَجَّه إِليها. ولو دَفَعَ بِلَيْلٍ لِعُذْرٍ به: مِنْ ضَعْفٍ، أَوْ كِبَرٍ، أَوْ مَرَضٍ جازَ، ولا شيءَ عليه لما رَوَى ابن عمر أَنه صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لضَعفَة النَّاسِ أَنْ يدفعوا بِلَيلٍ. رواه أَحمد: فإِذا بَلَغَ بَطْنَ مُحَسِّر أَسْرَعَ إِنْ كانَ ماشِياً، وحَرَّكَ دابَّتَهُ إِنْ كان رَاكِباً قَدْرَ رميةٍ، ويقول: اللهُمَّ لا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، ولا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وعَافِنا قَبْل ذلك.

(ورَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي سَبْعاً) أَي سَبْعَ حَصَيَاتٍ (خَذْفَاً) وهو ـ بالخاء المعجمة ـ الرَّمْيُ برؤوس الأَصابع. يُقَال: الحَذْفُ بالعصا، والخُذْفُ بالحصى، الأَول بالحاء المهملة، والثاني بالمعجمة.

وكيفيتُهُ: أَنْ يضعَ الحصياتِ على ظُفْرِ إِبْهَامِهِ اليمنى ويستعين بالمُسبَحة. وقيل: يَأْخُذُ بِطَرفي إِبهامه ومُسَبِّحَتِهِ، قال ابنُ الهُمَام: وهو الأَصح، لأَنه الأَيسر والمعتاد في الأَكثر. هذا، وقد ورد عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود أَنه رَمَى جمرةَ العَقَبةِ مِنْ بَطْن الوادي بِسَبْع حصياتٍ يُكَبِّر مع كلِّ حصاةٍ، قال: فَقِيل له: إِنَّ ناساً يَرْمُونها مِنْ فوقها، فقال: هذا والذي لا إِلهَ غَيْرُه مَقَامُ الذي أُنزلتْ عليه سورةُ البقرة.

(وكَبَّرَ بِكُلَ) أَي مع كلِّ حصاةٍ لحديث جابر: رَكِب القَصْواءَ حتى أَتَى المَشْعَرَ الحَرَامِ فاستقبل القبلةَ، ودَعَا، وكَبَّرَ، وهَلَّلَ، وَوَحَّدَ، فلم يَزَل واقِفَاً حتى أَسْفَرَ جداً، فدفع قَبْلَ أَنْ تطلعَ الشمسُ حتى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّر فَحَرَّك قليلاً ـ أَي ناقته ـ ثُم سلك الطريق الوُسْطى التي تخرج على الجمرة الكُبْرى، حتى أَتَى الجمرةَ التي عند الشجرةِ فَرَمَاها بِسَبْعِ حَصَياتٍ يكبر مع كلِّ حصاة مثل حصى الخذف، رَمَى مِنْ بطن الوادي ثُم انصرفَ إِلى المنْحَر. رواه مسلم.

وفي «سُنن أَبي داود» عن سليمان بن عمرو بن الأَحوص عن أُمِّه قالتْ: رأَيْتُ

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

(2)

تقدم شرحها ص: 659، تعليق رقم (3).

ص: 660

وقَطَعَ تَلْبِيَتَهُ بِأَوَّلِهَا،

===

رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي الجمرةَ مِنْ بَطْنِ الوادي وهو راكبٌ يُكَبِّر مع كُلِّ حصاةٍ، ورجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ يَسْتُره فَسَأَلتُ عن الرجل، فقالوا: الفضل بن عباس، وازدحم الناس، فقال صلى الله عليه وسلم «يا أَيُّها الناس، لا يقتل بعضُكم بعضاً، وإِذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخَذْفِ» . قِيل: هو مقدار الحِمِّصَة. أَوْ النواة، أَوْ مقدار الأُنْملة.

ولو رَمَى بأَكبر مِنْ حصى الخَذف، أَوْ رمى من أَعلى العَقَبة لا من بطن الوادي جازَ لحصول المقصود وكان تاركاً للأَفضل. ومِقْدارُ الرَّمْي استحباباً أَنْ يكون بين الرامي وبين موضع السقوط خَمْسَةُ أَذرعٍ، فلو، وقعت الحصاة قريباً من الجمرة جاز، ولو وقَعت بعيداً لا. وقَدْرُ القريبِ ثلاثةُ أَذرع، والبعيد ما فوقها. ولو رمى بحصاةٍ أَخَذَها من عند الجمرة أَجزأَه، لأَنَّ الرَّمْيَ لا يُغَيِّرُ صفة الحجر وأَساء، لأَنَّ ما عندها حَصَى مَنْ لم يُقْبَل حَجُّه، لما روى الدَّارَقُطْنِيّ والحاكم ـ وصححه ـ عن أَبي سَعِيدٍ الخُدْري قال: قلتُ: يا رسولَ الله هذه الجمار التي تُرمى بها كل عام فنحسب أَنها تنقص، فقال:«إِنَّه ما يُقبل منها رُفِع، ولولا ذلك لرأَيتها أَمثال الجبال» .

ورَوَى أَحمد في «مُسْنده» والحاكم في «صحيحه» عن ابن عباس قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غداةَ جَمْع: «القُطْ لي» ، فَلَقَطتُ له حصياتٍ له مِنْ حَصَى الخذف، فلما وَضَعْتُهُنَّ في يده قال:«نعم بأَمثال هؤلاء، وإِيَّاكُم والغلوَ في الدِّين، فإِنَّما هَلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكم بالغُلُو في الدِّين» .

ويَجُوزُ الرَّمْيُ بِجِنْس الأَرض مِنْ مَدَر

(1)

ونَحْوه، لأَن المقصودَ فِعْلُ الرَّمْي، وذلك يحصل بالمَدَر كما يَحْصُل بالحَجَر، بخلاف ما إِذا رَمَى بالذَّهَبِ والفضة لأَنَّه يُسَمَّى نِثَاراً لا رَمْياً. ويختص الرَّمْيُ بالحجر عند مالك والشافعي اتباعاً للمنقول المتوارث بالأَثَر.

ولا يقف عند جَمْرَة العَقَبة للدعاء لما رُوِي عن ابن عمر: أَنَّه كان يَرْمِي جَمْرَة العَقَبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، وينصرف ويقول: هكذا رأَيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُه. رواه البخاري.

(وقَطَعَ تَلْبِيَتَهُ) عندنا وعند الشافعي (بِأَوَّلِهَا) أَي بأَوَّلِ حصاةٍ رماها لما في الصحيحين من حديث ابن عباس: أَنَّ أُسامَةَ كان رِدْفَ

(2)

النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عرفةَ إِلى

(1)

المَدَر: الطِّينُ اللَّزج الذي لا يخالطه رَمْل. معجم لغة الفقهاء ص: 418.

(2)

الرّدْفُ: هو الذي يَرْكبُ خَلْفَ الرَّاكب. مختار الصحاح ص: 101، مادة (ردف).

ص: 661

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

المُزْدَلِفَةَ، والفَضْلَ كان رِدْفَهُ مِنْ مُزْدَلِفَة إِلى مِنَى، وكلاهما قال: فلم يَزَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حتى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَة. ولما في الكتب الستة عن الفضل بن عباس أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزَل يُلَبِّي حتى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبة. وفي ابن ماجه: فَلَمَّا رَمَاهَا قَطَعَ التَّلْبِيَةَ.

وفي «آثار الطحاوي» بسنده قال: لَبَّى عبدُ الله وهو مُتَوَجِّهٌ إِلى عرفاتٍ فقال أُناسٌ: مَنْ هذا الأَعرابي؟ فالتفت إِلى عبد الله فقال: ضَلَّ الناسُ أَمْ نَسَوْا؟ والله ما زَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حتى رَمَى الجَمْرَةَ، إِلاَّ أَنْ يخلط ذلك بتهليلٍ أَوْ تكبيرٍ. وفي رواية للطحاوي عن ابن عباس قال: ولم يَسْمع الناسَ يُلَبُّونَ عشيةَ عَرفةَ، قال: أَيُّها الناسُ، أَنَسِيتُم، والذي نَفْسي بِيَدِهِ، لقد رأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حتى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبة.

وقَطَعَ مالكٌ التلبيةَ بالرجوعِ من عرفاتٍ، لأَنَّ عمرَ وعليّاً وعائشةَ قطعوا التلبية حين أَفاضوا من عرفة. ولا يَقِفُ بعد رَمْي هذه الجمرةِ لما في البُخاري عن الزُّهْري قال: سَمِعْتُ سَالِماً يحدثُ عن أَبيهِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنه كان إِذا رَمَى الجَمْرَةَ رماها بِسَبْعِ حصياتٍ يُكبرُ مَعَ كلِّ حصاةً، ثُم ينحدرُ أَمامها فيقفُ مستقبلَ القِبلةِ رافعاً يَدَيْهِ يَدْعُو. وكان يُطِيلُ الوقوفَ، ويأْتي الجَمْرَة الثانيةَ فَيَرْمِيهَا بِسَبعِ حصياتٍ يُكبرُ كُلَّما رَمَى بحصاة، ثُم ينحدرُ ذاتَ اليسارِ مما يلي الوادي فيقفُ مستقبلَ البيتَ رافعاً يَدَيْه يَدْعُو، ثُم يأْتي الجَمْرَة عند العَقَبة فَيَرْمِيها بِسَبْع حصياتٍ يُكَبِّرُ كُلَّما رَمَاها بحصاةٍ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ ولا يَقِفُ عندها.

ولا يجوزُ الرَّميُ قبل طلوع الفَجْرِ الثاني عندنا، وهو قول مالك. وأَجازه الشافعيُّ لقولِ ابن عباس: إِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ للرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا لَيلاً. رواه ابن أَبي شيبةَ في «مسنده» ، والطبراني في «مُعْجَمه» ، ورواه الدارقُطَنِيّ بِسَنَدٍ ضعيفٍ من حديث ابن عُمر وزاد فيه: وأَيَّة ساعةٍ شَاؤوا مِنَ النهارِ.

ولنا ما في السُّنَن الأَربعةِ عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقَدِّمُ ضُعَفَاءَ أَهلِهِ بِغَلَس

(1)

، ويَأْمُرُهُم أَنْ لا يَرْمُوا الجَمْرَةَ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. وفي «مُسْنَدِ البَزَّارِ» عن الفَضْلِ بن عباس: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ ضَعَفَةَ بني هاشم أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ ويقول: «أُبَيْنِيَّ

(2)

، لا تَرْمُوا الجمرةَ حتى تَطْلُعَ الشمسُ».

(1)

تقدم شرحه ص: 659، تعليق (2).

(2)

في مسند البزَّار "البحر الزخّار" 6/ 97، "فيقول: أبني، أو: أُبَيْنِيَّ، لا ترموا

"،. قال مُلّا علي القاري في "مرقاة المفاتيح" (3: 225): أُبَيْنِيَّ: بضم الهمزة، وفتح الموحّدة، وسكون الياء، وكسر النون، وفتح الياء المشدّدة، وتُكسر: تصغير (ابن)، مضاف إلى النفس

والمراد: يا وُلَيداتي، أو: يا أبنائي، أو: يا بَنِيّ. انتهى باختصار.

ص: 662

ثُمَّ ذَبَحَ إِنْ شاءَ، ثُمَّ قَصَّرَ، وحَلْقُهُ أَفْضَلُ، وحَلَّ لَهُ إِلاَّ النِّساءَ.

===

وفي الطحاوي عن ابن عباس: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَأْمرُ نِسَاءه وثَقَله ـ أَي خدَمَهُ ـ صبيحة جَمْعٍ: أَنْ أَفيضوا من أَوَ

لِ الفَجْرِ بسوادٍ ولا تَرْمُوا الجمرةَ إِلاَّ مُصبحين. فأَثْبَتْنَا الجوازَ بهذا، والفضيلةَ لما قبله. وما رواه على الليلة الثانية والثالثة فَمَخْصُوصٌ بالدُّعاء.

وفي «مَبْسوط» شيخ الإِسلام: أَنْ ما بعدَ طلوعِ الفَجْرِ من يومِ النَّحْر وقتُ الجواز مع الإِساءة، وما بعد طلوعِ الشمسِ إِلى الزَّوَالِ وقتٌ مسنونٌ، وما بعد الزَّوال إِلى الغروب وَقْتُ الجواز بلا إِساءة، والليل وقتُ الجواز مع الإِساءة.

(ثُمَّ ذَبَحَ إِنْ شاءَ) لأَنَّ المُفْرِد لا يجبُ عليه دَمٌ، بل يستحب له. وفي حديث جابر: فَنَحَرَ صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستينَ بَدَنة، ثُم أَعطَى عَلِياً فَنَحَرَ ما غَبَرَ ـ أَي ما بقي من جُمْلَةِ المئة ـ وأَشْرَكَهُ في هَدْيِهِ. وقال ابن حِبَّان: والحِكْمَةُ في أَنَّه صلى الله عليه وسلم نَحَرَ ثلاثاً وستينَ بَدَنة أَنه كان له يَومَئِذٍ ثلاثٌ وستونَ سنةً، فَنَحَرَ لِكُلِّ سَنَةٍ بَدَنةً. ورَوى ابنُ ماجه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذَبَحَ بقرةً عَمَّنِ اعْتَمَرَ مِنْ نسائِهِ في حَجَّةِ الوداع. ورَوى النَّسائي عن عائشةَ قالت: ذَبَحَ عَنَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم حَجِّنَا بقرةً.

(ثُمَّ قَصَّرَ) بأَنْ أَخَذَ من رُؤوس شَعْر رَأْسِهِ مِقْدَارَ أُنْمُلةٍ، رجلاً كانَ أَوِ امرأَةً (وحَلْقُهُ) أَي الرجل (أَفْضَلُ) لتقديمه في الآية {مُحَلِّقِينَ رُؤوسَكُم ومُقَصِّرينَ}

(1)

، ولما في الصحيحين من حديث ابن عمر: أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «رَحِمَ اللهُ المُحَلِّقِينَ» ، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «رَحِمَ اللهُ المُحَلِّقِينَ» ، قالوا: والمقصّرين يا رسولَ الله؟ قال: «رَحِمَ اللهُ المُحَلِّقِينَ» ، قالوا: والمقصرين يا رسولَ الله؟ قال: «والمُقَصِّرين» . ولفظ البخاري فلما كان الرابعة قال: «والمُقَصِّرين» .

وأَمَّا قولُ صاحب «الهداية» : ثم يَذبحُ إِنْ أَحبَّ، ثُم يَحلقُ أَوْ يُقَصِّر لما رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنه كان يقول:«نُسُكنا هذا أَنْ نَرْمي، ثُم نَذْبحَ، ثُم نَحْلقَ» فغير معروف.

(وحَلَّ لَهُ) ما كان محظوراً منه (إِلاَّ النِّساءَ) لما في الصحيحين من حديث عائشةَ قالت: «طَيَّبْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُحْرِم، ويومَ النَّحْر قَبْل أَنْ يَطُوفَ بالبيتِ بطيبٍ فيه مِسْكٌ» . والرَّمْيُ غَيْرُ مُحَلِّلٍ من الإِحرام عندنا في المشهور، ومُحَلِّلٌ عند مالك والشافعيّ رحمهما اللهُ تعالى وفي غَيْرِ المشهورِ عندنا، لما في أَبي داود وابن

(1)

سورة الفتح، الآية:(27).

ص: 663

ثُمَّ طَافَ لِلزِّيارَةِ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ،

===

ماجه عن عائشة قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «إِذا رَمَى أَحَدُكُم جَمرةَ العَقَبَة فَقَد حَلَّ له كُلُّ شيءٍ إِلاَّ النِّساء» .

وفي «مُسْنَد أَحمد» عن أُم سَلَمَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال عشيةَ يومِ النَّحر:«إِنَّ هذا يومٌ رُخِّصَ لَكُمْ إِذا رَمَيْتُم الجمرةَ أَنْ تَحِلُّوا من كلِّ ما حُرِمْتُم عنه إِلاَّ مِنَ النساءِ» . ولقول ابن الزبير: مِنْ سُنَّةِ الحَجِّ إِذَا رَمَى الجمرةَ الكُبْرى حل له كل شيء حرم عليه إِلا النساء والطيب حتى يزور البيت. رواه

(1)

الحاكم في «المُسْتَدْرَك» ـ وقال: على شَرْط الشيخين ـ. وقول الصحابي: «مِنَ السُّنَة» (له)

(2)

حُكْم الرَّفْع. ولقول ابن عباس: إِذا رَمَيْتُم الجَمْرَةَ فقد حَلَّ لكم كُلُّ شيءٍ إِلاَّ النِّساءَ، فقال رجلٌ: يا أَبا العباسِ والطيب؟ قال: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُضَمِّخُ

(3)

رَأْسَه بالمِسْكِ. أَفَطِيبٌ هُو أَمْ لا؟ رواه ابن ماجه، والنَّسائي.

ولنا ما في الطحاوي والدَّارَقُطْنِيّ من حديث الحَجَّاج بن أَرْطَأَة عن أَبي بَكْر بن عمرو بن حزم، عن عَمْرَةَ، عن عائشةَ قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «إِذا رَمَيْتُم وحَلَقْتُم وذَبَحْتُم، فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شيءٍ إِلاَّ النِّسَاءَ» . وفي الطحاوي والدَّارَقُطْنِيّ من حديث الحَجَّاج: «وقَدْ حَلَّ لَكُمْ الثِّيابُ والطِّيبُ» . ثُم قال الدارقُطْنِي لم يَرْوِهِ غَيْرُ الحَجَّاجِ.

وقد نُصَّ على ما ذَكَرْنَا من حصول

(4)

التحليل بالرَّمْي عندنا أَيضاً في كتاب المناسك مِنْ «شرح المبسوط» للشيخ المعروف بخواهِر زَاده. وفي «شرح الجامع الصغير» لقاضي خان بقوله: وبعد الرَّمْي قَبْلَ الحَلْقِ حَلَّ لَهُ كُلُّ شيءٍ إِلاَّ النِّسَاءَ والطِّيبَ. وعن أَبي يوسف أَنه يَحِلُّ له الطِّيبُ أَيضاً. ورَوى ابنُ عباس أَنَّه صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ على النِّساءِ الحَلْقُ، إِنَّما على النِّساءِ التِّقْصِيرُ» . رواه أَبو داود، وأَحمد، وغيرهما.

(ثُمَّ طَافَ لِلزِّيارَةِ) وهذا الطواف رُكْنٌ (يَوْماً مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ) لقوله تعالى {ويَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ في أَيَّامٍ معلومات عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنعام فَكُلُوا مِنْهَا وأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ * ثُمَّ ليَقْضُوا تَفَثَهُم وليُوفُوا نُذُورَهُم وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ}

(5)

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة منا يقتضيها السياق.

(3)

تَضَمَّخَ: أي تَلَطَّخ به. مختار الصحاح ص: 161، مادة (ضمخ).

(4)

سقط من المطبوعة.

(5)

سورة الحج، الآيتان:(28 - 29).

ص: 664

سَبْعَةً بلا رَمْي ولا سَعْي، إِنْ كَانَ سَعَى قَبْلُ. وأَوَّلُ وَقْتِهِ بَعْدَ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وهُوَ فِيهِ أَفْضَلُ، وَحَلَّ لَهُ النِّسَاءُ، فَإِنْ أَخَّرَ عَنْهَا كُرِهَ ويَجِبُ دَمٌ.

وبَعْدَ زَوَالِ ثاني يَوْم النَّحْرِ رَمَى الجِمَارَ الثلاثَ، يَبْدَأُ بِمَا يَلِي المَسْجدَ،

===

فعطف الطواف على الذبح المؤقت بأَيام النحر فيتوقت هو

(1)

أَيضاً بها (سَبْعَةً) أَربعة فَرْضٌ، وثلاثة واجبٌ (بلا رَمْيٍ ولا سَعْيٍ إِنْ كَانَ سَعَى قَبْلُ) أَي قبل ذلك بأَنْ كان سَعَى عقيبَ طوافِ القُدُوم.

(وأَوَّلُ وَقْتِهِ) أَي وقت طواف الزيارة (بَعْدَ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ) لأَن ما قَبْلَهُ مِنْ الليل وقتُ الوقوف بِعَرفة، والطواف مرتبٌ عليه (وهُوَ) أَي طواف الزيارة (فِيهِ) أَي في أَوَّلِ أَيَّام النَّحْر (أَفْضَلُ) لما في مُسْلم عن ابن عمر: أَنَّه صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْر ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظهر بِمِنَى. قال نافع: وكان ابن عمر (يَفْعَلُ ذلك)

(2)

.

وأَمَّا قولُ صاحب «الهداية» . وأَفضلُ هذه الأَيام أَوَّلُهَا، قال النبي صلى الله عليه وسلم «أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا» فَغَيْرُ معروف. وفي حديث جابر الطويل: ثُمَّ رَكِبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأَفَاضَ إِلى البيتِ فَصَلَّى الظهر بِمَكَّةَ. قال بعضُهم: ولا شَكَّ أَنَّ أَحَدَ الخَبَرَيْنِ وَهْمٌ. وحيث لا بدَّ مِنْ صلاة الظهر في أَحَد المَكَانَيْنِ ففي المسجدِ الحرام أَوْلَى لِثُبوتِ مُضَاعَفَةِ الفرائض فيه، والأَوْلى أَنْ يُدْفَعَ الوَهْمُ ويجمع بأَنه عليه الصلاة والسلام كان يَفِيضُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ النَّحْر كما رُوِي، فالاختلاف مَبْنِيٌّ على تَعَدُّدِه.

(وَحَلَّ لَهُ النِّسَاءُ) بإِجماع الأُمةِ كذا ذكره الشارح. لكنَّ مَحَلَّهُ إِذا قَدَّم السَّعْي إِذْ لَا يَحِلُّ الجِمَاعُ بل ولا عَقْدُ النِّكَاحِ قبل السعي عند الشافعي، ثُم حِلهن بالحلق السابق (أَوْ الرَّمْي)

(3)

بناءً على خِلَافٍ في ذلك، لا بالطواف إِلاَّ أَنه أَخَّر عَمَلَهُ في حَقِّ النِّساء لصاحب العُذْر.

(فَإِنْ أَخَّرَ) الطواف (عَنْهَا) أَي عن أَيام النَّحر (كُرِهَ) تحريماً، لأَنَّه مؤقت بأَيامِ النَّحْر (ويَجِبُ دَمٌ) عند أَبي حنيفة كما لو أَخَّر رَمْيَ الجِمَار عن وقته، وعندهما لا يجبُ شيءٌ، لأَنه صلى الله عليه وسلم ما سُئِل عَنْ شيءٍ من أَعمال يومِ النَّحْرِ قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إِلاَّ قال:«افْعَل ولا حَرَج» . وأُجِيبَ بأَنَّ معناه: لا إِثْمَ، ولا يلزمه من عدمه عَدَمُ الكفارة.

(وبَعْدَ زَوَالِ ثاني يَوْمِ النَّحْرِ رَمَى الجِمَارَ الثلاثَ، يَبْدَأُ بِمَا يَلِي المَسْجِدَ) أَي

(1)

أي الطَّواف.

(2)

في المطبوعة: يفعله كذلك، وما أثبتناه من المخطوطة.

(3)

في المطبوعة: والسعي، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 665

ثُمَّ بمَا يَلِيه، ثُمَّ بالعَقَبة سَبْعًا، وكَبَّرَ بِكُلٍّ ودَعَا، ثُمَّ غَدَاً كَذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدَهُ كَذَلكَ إِنْ مَكَثَ، وهُوَ أَحَبُّ.

ويَسْقُطُ بِنَفْرِهِ قَبْلَ طُلُوعِ اليَومِ الرَّابعِ،

===

مِنْ مَسْجِد الخَيْف (ثُمَّ بِمَا يَلِيه) المسمى بالجَمْرَةِ الوُسْطَى.

(ثُمَّ بالعَقَبة سَبْعاً وكَبَّرَ بِكُلَ) أَي مع كل حصاةٍ يَرْمِيها، ووقف بعد كل من الأَولين في الموضع الذي يقف فيه النَّاسُ، وحَمِدَ اللَّهَ، وأَثْنَى عليه، وهَلَّلَ وكَبَّر (ودَعَا) واستغفر لأَبويه وأَقاربه ومعارفه لما رَوَى البخاري من حديثِ سالمٍ بن عبد الله، عن أَبيه: أَنَّه كان يرمي الجَمرةَ الدنيا بِسَبْعِ حصياتٍ، يُكَبِّرُ على إِثْرِ كُلِّ حصاةٍ، ثُم يتقدم فَيُسْهِل، ويقومُ مستقبلَ القبلة قياماً طويلاً، فَيَدْعُو ويَرْفَعُ يديه، ثُمَّ يَرْمِي الجمرةَ الوسطى كذلك فيأْخذ ذاتَ الشِّمال فيسهل

(1)

، ويقومُ مستقبلَ القبلةِ قياماً طويلاً، فيدعو ويرفع يديه، ثُمَّ يَرْمِي الجَمْرَةَ ذاتَ العَقَبة مِنْ بَطْنَ الوادي ولا يقف عندها، ويقول

(2)

هكذا رأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ.

وفي روايةٍ لأَبي داود عن عائشةَ أَنها قالت: أَفَاضَ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَوْمِهِ حين صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَجَعَ إِلى مِنَى فَمَكَثَ بها لَيَاليَ أَيَّام التَّشْرِيق ويَرْمي الجِمَارَ إِذا زَالَتِ الشَّمْسُ، كُلّ جمرةٍ بِسَبْعِ حَصَياتٍ، يُكَبِّرُ مع كُلِّ حصاةٍ، ويَقِفُ عند الأُولى والثانيةِ فَيُطِيلُ القِيَامَ، ويَرْمي الثالثة ولا يَقِفُ عندها. رواه أَبو داود.

(ثُمَّ غَدَاً) يَفْعَلُ (كَذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدَهُ كَذَلِكَ) يفعل (إِنْ مَكَثَ) قَيَّدَ بذلك لأَنه مُخَيَّرٌ بَيْنَ النَّفْرِ في اليوم الثالث، أَوْ الرابع لقوله تعالى:{فَمَنْ تَعَجَّلَ في يومين فَلا إِثْمَ عليه ومَنْ تَأَخَّر فلا إِثْم عليه لِمَنِ اتَّقَى}

(3)

(وهُوَ) ـ أَي المُكْث ـ إِلى زوال اليوم الرابع (أَحَبُّ) لِتَكْثُرَ العبادةُ وتزيدَ الطاعةُ، ولما رَوَى أَبو داود، وابن ماجه، وابن حِبَّان، والحاكم ـ وقال: على شرط مسلم ـ عن عائشةَ قالت: أَفَاضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ آخِر يومٍ حينَ صَلَّى الظُّهْرَ ـ أَي في اليوم الرابعِ من أَيَّام مِنَى ـ. ورَوَى الحاكم عن أَبي هريرة مرفوعاً: «اللهم اغفر للحَاجِّ، ولِمَنْ استغفر له الحَاجُّ» . وقال: صحيح على شرط مسلم.

(ويَسْقُطُ) الرَّمْيُ عنه (بِنَفْرِهِ قَبْلَ طُلُوعِ) فَجْرِ (اليَوْمِ الرَّابِعِ) وعن أَبي حنيفة،

(1)

أَسْهَل إذا صار إِلى السَّهْل من الأرض، أراد صار إلى بَطْن الوادي. النهاية: 2/ 428.

(2)

سقط من المطبوعة.

(3)

سورة البقرة، الآية:(203).

ص: 666

وإِذا نَفَرَ إلى مكَّةَ نَزَلَ بالمُحصَّبِ

===

وهو قول الشافعي: ليس له النَّفْرُ بَعْدَ غروب الشَّمْسِ من اليوم الثالث، لأَن النَّفْرَ في اليوم لا في الليل لقوله تعالى:{فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَينِ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، ولو رَمَى في اليومِ الرَّابعِ قَبْلَ الزَّوال، صَحَّ عند أَبي حنيفةَ مع الكراهةِ، لأَنه خالف السُّنَّةَ، وقالا: لا يصح اعتباراً باليومِ الثاني والثالث، وعليه الجمهور من السَّلَف والخَلَف.

ولأَبي حنيفة قول ابن عباس: إِذا انتفخ النهار مِنْ يومِ النَّفْرِ، فَقَد حَلَّ الرَّمْيُ، والصَّدَرُ. والانتفاخ: الارتفاع. لكنَّ في سنده طلحةَ بن عَمْرو: ضَعَّفَهُ البيهقيُّ، على أَنه إِنْ صَحَّ ليس بِنَصَ في المُدَّعَى كما لا يخفى. وفي قَاضِيخَان: قال أَبو حنيفة ومحمد: الرَّمْيُ كُلُّهُ رَاكِباً أَفْضَلُ. انتهى. لأَنه رُوِي رُكُوبُه صلى الله عليه وسلم فيه كُلِّه. وفي «الظهيرية» : يُسْتَحب المَشْي إِلى الجمار، وإِنْ رَكِبَ إِلَيْهَا فلا بأْسَ به. والمَشْيُ أَفضلُ. فكأَنَّهُ حَمَلَ فِعْلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على عُذْرٍ تقدم في الطوافِ والسَّعْي.

ثُم تَرْتِيبُ الرَّمْي كما ذكرنا، والمَبِيتُ

(1)

بِمِنىً في ليالي الرَّمْي سُنَّتانِ عندنا، لا واجبان كما قال مالك والشافعيُّ. لهما أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَتَّبَ الرَّمْي وبات بمنى في لياليه، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم»

(2)

. وروى ابن أَبي شيبةَ عن عمر: أَنَّه كان يَنْهَى أَنْ يَبِيتَ أَحَدٌ من وراء العَقَبة، وكان يَأْمُرُهُم أَنْ يدخلوا مِنى. وعن ابن عباس نحوه، وعن ابن عمر: أَنَّه كَرِهَ أَنْ يَنامَ أَحدٌ أَيَّامَ مِنىً بِمَكَّةَ.

ولنا أَنَّ ابن عباس استأْذَنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في البيتوتةِ بمكةَ في ليالي الرَّمْي للسِّقَايَةِ، فأَذِنَ له في ذلك. ولو كان واجباً لَمَا رَخَّصَ له تَرْكَها للسقاية، كذا قالوه. وفيه أَنَّ تَرْكَ الواجب بِعُذْرٍ مُسْقِطٌ للدم اتفاقاً، وقد سَبَقَ الإِذن للضعفة في ترك الوقوف بمزدلفة، على أَنه يَحْتَمِلُ الخصوصيةَ لأَهل السقاية، فافهم. والله تعالى أَعلم.

وكُرِهَ تقديمُ الثَقَل ـ وهو بفتحتين: متاعُ المسافر وحشمه ـ زَمَنَ الإِقَامَةِ بمنى للرمي، لما في «مصنف ابن أَبي شيبةَ» عن عُمَارَة: قال عمرُ: مَنْ قَدَّمَ ثَقَلَهُ مِنْ مِنىً ليلةَ النَّفْرِ فلا حج له. وعن ابن شُرَحْبِيل، عن عمر قال: مَنْ قَدَّم ثَقَلَهُ قَبْلَ النَّفْرِ فلا حَجَّ لَهُ. أَي لا كَمَالَ لِحَجِّه، لأَنه يشتغلُ به قَلْبُه، ورُبَّمَا يَمْنَعُه عن إِتْمَامِ الرَّمْي.

(وإِذَا نَفَرَ) مِنْ مِنَى (إِلى مَكَّةَ نَزَلَ بالمُحَصَّبِ) ـ بتشديد الصاد المهملة المفتوحة ـ ويقالُ له: الأَبطح، والبطحاء، والخَيْف، والبطحا، وهو ما بين الجبل الذي

(1)

في المطبوعة: التبييت، وما أثبتناه من المخطوطة.

(2)

تقدم تخريجه ص: 612، تعليق رقم (4).

ص: 667

ثُمَّ طَافَ للصَّدَرِ سَبْعَةً بِلا رَمَلٍ وسَعْيٍ

===

عنده المَقْبرة والجبل الذي يقابل مصعداً في الجانب الأَيسر وأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلى مِنَى مرتفعاً عن بطن الوادي، وليست المَقْبَرَةُ من المُحَصَّب.

وسُنَّ أَنْ يُصَلِّي فيه الظُّهْرَ، والعَصْرَ، والمَغْرِبَ، والعِشَاءَ، ويَهْجَعُ هَجْعَةً

(1)

، ثُمَّ يَدْخُل مكةَ، لما في البخاري عن أَنس: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظهرَ والعَصْرَ، والمَغْرِبَ، والعِشَاءَ، ورَقَدَ رقدةً بالمُحَصَّبِ، ثُم رَكِبَ إِلى البيت فَطَافَ به ـ أَي طوافَ الوَدَاع ـ. قال شمس الأَئمة في «مَبْسُوطه»: وكان ابنُ عباس يقول: ليس النزولُ فيه سنة (ولكنّه موضعٌ نَزَلَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِتفاقاً، وبه قال الشافعي. الأَصح عندنا أَنه سنّة، وأَنه عليه الصلاة والسلام نزله قصداً. له ما في الكتب الستة من حديث عائشة قالت: إِنَّما نزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المُحَصَّب ليكون أَسمحَ لخروجه، وليس بسُنَّة)

(2)

فَمَنْ شَاء نزله ومَنْ شاء لم ينزله. وفي مُسْلِمٍ عن أَبي رافع ـ مَوْلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لم يَأْمُرْني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْزِلَ الأَبْطَحَ حين خرج مِنْ مِنَىً، ولكن جِئْتُ فَضَربْتُ قُبَّتَه، فَجَاء فنَزَلَ. قال أَبو بكر: وكان عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

ولنا ما في الصحيحين عن أَبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونحن بِمِنىً: «نَحْنُ نازلون غداً بخَيْفِ بني كِنانَةَ حيثُ تَقَاسَمُوا

(3)

على الكُفْر». وذلك أَنْ قريشاً وبني كنانة تَحَالَفَتْ على بني هاشم وبني المطلب: أَنْ

(4)

لا يُنْكِحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إِليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني بذلك المُحَصَّب ـ. وفي مسلم من حديث نافع عن ابن عمر: أَنه كان يرى التَّحْصِيبَ سُنَّةً، وكان يُصَلِّي الظُّهرَ يومَ النَّفر بالمحصَّب. قال نافع: قد حَصَّبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده. والأَظهر أَنْ يُقال: إِنه سُنَّةُ كِفاية، لأَن ذلك المَوْضِعَ لا يسع الحاج جميعهم، وينبغي لأُمراء الحاج أَنْ ينزلوا فيه، وكذا غيرِهم، ولو ساعةً إِظهاراً للطاعة.

(ثُمَّ طَافَ للصَّدَرِ) عن البيت، وهو طوافُ الوَدَاع، ويُسْتَحب أَنْ يجعله آخِرَ طوافه (سَبْعَةً بِلا رَمَلٍ وسَعْيٍ) وهو واجبٌ على الآفاقي عندنا، وعند الشافعيِّ في الأَصح عنه. وقال مالك: هو سُنَّةٌ، لأَنه بمنزلةِ طواف القُدُوم. ولنا ما في الصحيحين

(1)

الهَجْعَةُ: النَّوْمَة الخفيفةُ في أوَّلِ اللَّيْل. معجم لغة الفقهاء ص: 493.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

(3)

تقاسَمُوا: من القَسَم: اليمين، أي تحالفوا. النهاية: 4/ 62 - 63.

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

ص: 668

ثُمَّ شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ

===

عن طاوس، عن ابن عباس قال: أَمَر الناسَ أَنْ يكونَ آخِرُ عهدِهم بالبيتِ، إِلاَّ أَنه خُفِّفَ على المرأَة الحائض. وفي لفظٍ لِمُسْلم قال: كان الناسُ يَنْصرِفونَ في كُلِّ وَجْهٍ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «لا ينفرنَّ أَحَدٌ حتى يكونَ آخرَ عهده بالبيت الطوافَ». وفي الترمذي والنَّسائي عن ابن عمر قال: من حجّ فليكن آخر عهده بالبيت إِلاَّ الحُيَّض

(1)

رخّص لهن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ورواه الشافعي في «مسنده» وزاد فيه: وإِن آخرَ النسك الطوافُ بالبيت.

(ثُمَّ شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ) مُسْتَقْبِلاً متضلعاً، ويستقي بيده إِنْ قدر، لما في حديث جابر: فأَتى ـ يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم يسقون على زَمْزَمَ فقال: «انزعوا بني عبد المطلب فلولا أَنْ يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دَلْواً» . ولقول ابن عباس: جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم إِلى زَمْزَمَ فَنَزَعْنَا له دَلْواً فَشَرِبَ، ثُمَّ مَجَّ فيها، ثُمَّ أَفرغناها في زَمْزَمَ، ثُم قال:«ولولا أَنْ تُغْلَبوا عليها لنزعت بيدي» . رواه أَحمد في («مُسْنَدهِ» والطبراني في)

(2)

«معجمه» .

وذكر ابن سَعْد في «الطبقاتِ» بِسَنده عن عطاء، عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَفَاضَ نزع لنفسه بالدلو ـ يعني مِنْ زمزم ـ لم يَنْزِع معه أَحد، فشرب منها. وعنه: أَنه صلى الله عليه وسلم قال: «خيرُ ماءٍ على وَجْه الأَرض ماءُ زمزم، فيه طعامُ طعمة وشفاءُ سَقَم. وشَرُّ ماءٍ على وجه الأَرض ماءٌ بِوادي بَرَهُوت

(3)

بقية حَضْرَمَوْت، كرِجْلِ الجَرَاد

(4)

(من الهوامّ)

(5)

يصبح يتدفق (ويُمسي)( 5) لا بِلَال

(6)

فيها». رواه الطبراني في «الكبير» ورواته ثقات. وعنه: أَنه صلى الله عليه وسلم قال: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ له: إِنْ شرِبْتَهُ لتَستشفي

(7)

شَفَاكَ اللهُ، وإِنْ شربْتَهُ ليُشْبِعَكَ أَشْبَعَكَ اللهُ، وإِنْ شَرِبْتَهُ لَيَقْطَع ظمأً قطعه الله، وهي هَزْمَة

(8)

جبرائيل، وسُقْيا

(1)

في المطبوعة: الحائض، وما أثبتناه من المخطوطة.

(2)

سقط من المطبوعة.

(3)

بَرَهُوت: وادٍ باليمن، أو بِئر بِحَضْرموت. معجم البلدان 1/ 405.

(4)

رِجْل الجراد: الجراد الكثير. النهاية 2/ 203.

(5)

ما بين الحاصرتين من المعجم الكبير للطبراني 11/ 98، رقم (11167).

(6)

البِلال: جمع بَلَل، هو كلُّ ما بَلَّ الحَلْق من ماء أو لبن أو غيره. النهاية: 1/ 153.

(7)

في المطبوعة: تستشفي، وما أثبتناه من المخطوطة.

(8)

الهَزْمة: النُّقْرَة في الصدر .. وهَزْت البئر إذا حَفَرْتها. والمراد: أن جبريل عليه السلام ضربها برجله، فنبع الماء. النهاية 5/ 263.

ص: 669

وقَبَّلَ العَتَبَةَ، وَوَضَعَ وَجْهَهُ عَلَى المُلْتَزَمِ، ويَتَشَبَّثُ بالأَستَارِ، وَدَعَا مُجْتَهِدًا ويَبْكِي، ويَرْجِعُ القَهْقَرَى حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ.

===

اللهِ إِسماعيلَ». رواه الدَّارَقُطْنِيّ وسكت عنه. وكذا رواه الحاكم مرفوعاً. وكان ابن عباس إِذا شَرِبَ ماءَ زَمْزَمَ قال: اللهم إِنِّي أَسأَلُكَ عِلْماً نَافِعَاً، ورِزْقاً وَاسِعاً، وشِفَاءً مِنْ كُلِّ داءٍ. رواه الحاكم في «مُسْتَدْرَكِهِ» موقوفاً.

(وقَبَّلَ العَتَبَةَ) المرتفعة عن الأَرض تعظيماً للكعبة (وَوَضَعَ وَجْهَهُ) الشامل بجبهته وخَدَّيْهِ وصَدْرِه (عَلَى المُلْتَزَمِ) وهو ما بين الحجر الأَسود والباب. فقد رَوى البيهقي عن المُثنى بن الصَّبَّاح، عن عمرو بن شُعَيب، عن أَبيه، عن جدّه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يلزق وَجْهَهُ، وصَدْرَهُ بالمُلْتَزَم. والمُثَنى بن الصَّبَّاح (ضعيف، لكن هذا مِنْ باب الترغيب. ورواه أَبو داود أَيضاً من جهة المثنى بن الصَّبَّاح)

(1)

عن عَمْرو بن شُعَيْب، عن أَبيه، عن جَدِّه بِأَطولَ مِنْ هذا.

(ويَتَشَبَّثُ) أَي يتعلّقُ (بالأَستَارِ) والتَصَقَ بالجدارِ (وَدَعَا مُجْتَهِداً) في الاعتذار (ويَبْكِي) ويُكْثِرُ الاستغفار، ويتعوّذُ بالمَلِكِ الجَبَّار العزيز الغفّار، لما في «سُنَن أَبي داود» عن عَمْرو بن شُعَيب، عن أَبيه قال: طُفْتُ مَعَ عبدِ الله فَلَمَّا جِئْنَا دُبُرَ الكعبةِ قلتُ: أَلا نَتَعَوَّذُ؟ قال: تَعَوَّذ باللهِ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ مَضَى حتى استلمَ الحجرَ، وقَامَ بين الرُّكِنِ والبابِ، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وذِرَاعَيْهِ وكَفَّيْهِ هكذا، وبَسَطَهُمَا بَسْطاً، ثُم قال: هكذا رأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُه. ورواه ابن ماجه وقال فيه: عن أَبيهِ، عن جَدّه. قال المُنْذِري: فيكونُ شُعَيبٌ وأَبو محمدٌ قَدْ طَافَا مع عبد الله، وهو مُضَعَّفٌ بالمُثَنى بن الصَّبَّاح.

وكذلك رواه عبد الرزاق: أَخبرنا ابن جُرَيج، عن عَمْرو بن شُعَيب قال: طاف جَدِّي محمد بن عبد الله بن عمرو، مع أَبيه عبد الله بن عمرو، فَلَمَّا كان سَابِعَهَا قال محمد لعبد الله: أَلا نتعوّذُ إِلى آخره. وهذا أَصحُّ إِسناداً من الأَول. وأَمَّا تعيينُ مَحَلِّ المُلْتَزم ففي «شُعَبِ الإِيمان» للبَيْهَقِيّ عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما بَيْنَ الرُّكْنِ والبابِ مُلْتَزَمٌ» . وأَخرجَ ابنُ عَدِيَ في «الكامل» عن عِكْرِمَةَ، عن ابن عباس مرفوعاً ووقفه عبدُ الرزاق في «مُصنفه» عن ابن عباس. والمُلْتَزَمُ مِنَ الأَماكن التي يُستجابُ فيها الدُّعَاءُ، نُقِلَ ذلك عن ابنِ عباس قال: فَوَاللهِ مَا دَعَوْتُ قَطُّ إِلاَّ أَجَابَنِي.

(ويَرْجِعُ القَهْقَرَى) أَي الرجوع إِلى الوراء. وقيل: ينصرفُ ويمشي ويلتفت إِلى البيت كالمُتَحَزِّنِ على فِرَاقه (حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ) أَي مِنْ أَسْفَلِهِ، قيل: من بابِ

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

ص: 670

[أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بالَمْرأَةِ]

والمَرْأَةُ كالرَّجُلِ إِلاَّ أَنَّها لا تَكْشِفُ رَأْسَهَا، بَلْ وَجْهَهَا. وَلَوْ سَدَلَتْ شَيْئًا عَلَيْهِ مُجَافِيًا عَنْهُ جَازَ. ولا تُلَبِّي جَهْرًا، ولا تَسْعَى بَيْنَ المِيلَيْنِ، ولا تَحْلِقُ بَلْ تُقَصِّرُ،

===

العُمْرة، وقيل: من باب المروة

(1)

وهو المشهور بل المأْثور. وفي «النوازل» : يقول إِذا رجع: تَائِبُون عَابِدُونَ لِرَبِّنا حَامِدُون، صَدق اللهُ وَعْدَه، ونَصَرَ عبدَه، وهزمَ الأَحزابَ وَحْدَهُ، الحمدُ لِلَّهِ الذي هدانا لهذا، وما كُنَّا لِنَهْتَدِي لولا أَنْ هدانا اللهُ، اللهم فكما هديتنا لذلك فتقبله منّا ولا تجعله آخر العهد بنا، وارزقنا العود إِليه حتى ترضى عنّا بِرَحْمَتك يا أَرْحَمَ الراحمين.

(أحكام خاصة بالمرأة)

(والمَرْأَةُ كالرَّجُلِ إِلاَّ أَنَّها لا تَكْشِفُ رَأْسَهَا) لأَنه عورةٌ (بَلْ) تكشفُ (وَجْهَهَا) لما رَوى الدَّارَقُطْنِيّ والبيهقي والطبراني عن ابن عمر قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «ليس على المرأَةِ إِحرَامٌ إِلاَّ في وَجْهِهَا وكَفَّيْهَا» . قال الدَّارَقُطْنِيّ: الصوابُ وَقْفُه على ابن عمر. قال ابنُ الهُمام: وقولُ الصحابي حُجَّةٌ عندنا إِذا لم يُخَالف، خُصُوصاً فيما لم يُدْرَك

(2)

. انتهى. لكن يُشْكِل ما في الفروع أَنَّ للمرأَة أَنْ تلبسَ القُفَّازَيْنِ.

(وَلَوْ سَدَلَتْ) أَي أَرسلت، وفي نُسخةٍ: أَسْدَلَت (شَيْئاً) أَي أَرْخَتْهُ (عَلَيْهِ) أَي على وجهها (مُجَافِياً) أَي مُبعداً (عَنْهُ) أَي عن وجهها (جَازَ) ذلك السَّدْلُ، لما رَوى أَبو داود، وابن ماجه من حديث عائشةَ رضي الله عنها قالت: كانَ رُكْبَانٌ يَمُرُّونَ بِنا ونَحْنُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم محرماتٌ فإِذا حَاذُونا سَدَلَتْ إِحْدَانا جِلْبَابَهَا مِنْ رأْسِها على وَجْهها، فإِذا جَاوزُونا كَشَفْنَاه.

(ولا تُلَبِّي جَهْراً) لأَن صوتها عورةٌ وقد يُؤدي إِلى فتنةٍ (ولا تَسْعَى بَيْنَ المِيلَيْنِ) وكذا لا تَرْمُلُ في الطواف، لَئِلاَّ يَنْكَشِفَ شيء مِنْ بدَنِها (ولا تَحْلِقُ) رأْسَها، لأَن حَلْقَهُ مُثْلَةٌ

(3)

بِهَا كَحَلْقِ الرجل لِحْيَتَه، ولقول عليَ كرَّم الله وجهه: نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ تَحْلِقَ المرأَةُ رأْسَها. رواه الترمذي والنَّسائي. (بَلْ تُقَصِّرُ) لِقوله صلى الله عليه وسلم «ليس على النِّساءِ الحَلْقُ، إِنَّما على النِّساءِ التَّقْصِيرُ» . رواه أَبو داود من حديث ابن عباس.

(1)

وفي المخطوطة: الحَزْورة.

(2)

أي بالرأي والاجتهاد.

(3)

المُثْلَة: التَّشْويه بِقَطْعِ الأَعضاء للحيِّ والمَيت. معجم لغة الفقهاء ص: 404.

ص: 671

وتَلْبَسُ المَخِيطَ، وحَيْضُهَا لا يَمْنَعُ إِلاَّ الطَّوَاف.

[مَن فَاَتهُ الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ]

وفَائِتُ الحَجِّ طَافَ وسَعَى وتَحَلَّلَ وقَضَى مِنْ قَابِل.

===

(وتَلْبَسُ المَخِيطَ) والخُفَّ تَحَرُّزاً عن الكَشْفِ، ولا تقرب الحجرَ الأَسود في الزحام تَحَرّزاً عن مماسَّةِ الرجال. (وحَيْضُهَا) وكذا نِفَاسُها (لا يَمْنَعُ) شيئاً من أَفعال الحج (إِلاَّ الطَّوَاف) لِمَا روى البخاري في حديث جابر: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعائِشَةَ حين حَاضَتْ بِسَرِف: «تَنَسَّكِي المَنَاسِكَ كُلَّها غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفي ولا تُصَلِّي حتى تَطْهُري» . وسَرِفُ ـ بكسر الراء ـ: موضعٌ قُرْبَ مكةَ فُوَيق التَّنْعِيم. ولِمَا في الصحيحين عن عائشة قالت: خَرَجْنا لا نَرَى إِلاَّ الحَجَّ فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِف حِضْتُّ، فدخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأَنَا أَبْكِي فقال:«مَا لَكِ أَنَفِسْتِ» ؟ قلت: نعم، قال:«إِنَّ هذا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللهُ على بناتِ آدمَ، فَاقْضِي ما يَقْضِي الحاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفي بالبيتِ حتى تَطْهُري» .

(من فاته الوقوف بعرفة)

(وفَائِتُ الحَجِّ) وهو الذي فاتَهُ الوقوفُ بعَرَفَة حتى يَطْلُعَ الفَجْرُ (طَافَ) وَقَطَعَ التلبيةَ عند استلامِ الحَجَرِ كالعُمْرةِ، لأَنه يَتَحَلَّلُ بأَفْعَالِها (وسَعَى وتَحَلَّلَ) إِنْ حلق أَوْ قَصَّر. (وقَضَى) بإِحرامٍ جديدٍ (مِنْ قَابِل) ولا دَمَ عليه عندنا.

وقال مالك والشافعيُّ: عليه هَدْيٌ، لما في «الموطأ» عن سُلَيْمَانَ بن يَسَار: «أَنَّ ابن الأَسود جاءَ يومَ النَّحْرِ وعُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه يَنْحَرُ هَدْيَهُ فقال: يا أَميرَ المؤمنين، أَخطأْنا العدة كنا نرى أَنْ هذااليوم يوم عرفة، فقال عمر: اذهب إِلى مكة فطف أَنت ومَنْ معك، وانحروا هَدْياً إِنْ كان معكم، ثُم احلِقوا أَوْ قَصِّروا وارْجِعُوا إِنْ شئتم، فإِنْ جاء عامٌ قَابِلٌ فحجّوا ـ أَي قضاء ـ واهدوا ـ. أي قياساً على المُحْصَر. {فَمَنْ لَمْ يَجِد فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُم}

(1)

.

ولنا ما رَوى الدَّارَقُطَنِيّ من حديث ابن عباس وابن عمر أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ وَقَف بعرفةَ بليلٍ فقد أَدْرَكَ الحجَّ، ومَنْ فاتَه عرفاتٌ بِلَيلٍ فقد فاتَه الحَجُّ، فَلْيَحِلَّ بِعُمْرةٍ، وعليه الحجُّ مِنْ قَابِل» . ولم يذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الهَدْيَ، ولو كان واجِباً لَذَكَرَهُ. وما رُوِي عن عمرَ محمولٌ عندنا على الاستحباب.

(1)

سورة البقرة، الآية:(196).

ص: 672

‌فَصلُ [في القِرَانِ]

===

ثُم عند أَبي حنيفةَ ومحمد أَصْلُ إِحرامه باقٍ ويتحللُ بأَفعالِ العمرةِ. وعند أَبي يوسف ينقلبُ إِحرامُه للعُمرة، لأَن أَفعال العمرةِ بإِحْرامِ غيرها غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ. ولهما أَنَّ قَلْبَ إِحرام الحجِّ للعمرةِ غيرُ مُمْكِن. ولو كان فائتُ الحجِّ قَارِناً طافَ طوافَيْنِ وسَعَى سَعْيَيْنِ إِنْ فاتَه الحَجُّ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّي العمرةَ، وإِلاَّ فهو كالمُفْرِدِ.

هذا، وقال في «الهداية»: ومَنْ قَلَّد بَدَنة تَطَوُّعاً، أَوْ نَذْراً، أَوْ جزاءَ صيدٍ، أَوْ شيئاً مِنَ الأَشياءِ وتوجّه معها يريد الحجّ فقد أَحرم، لقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَلَّدَ بدَنَةً فَقَدْ أَحْرَم». وفيه أَنَّ هذا اللفظ رَفْعُه غيرُ مَعْرُوفٍ. ورواه ابن أَبي شَيْبَةَ عن ابنِ عمر مِنْ قوله: مَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً فقد أَحْرَمَ». وعن ابن عباس أَيضاً مِنْ قوله: مَنْ قَلَّدَ وأَحلل أَوْ أَشْعَرَ فَقَد أَحْرَمَ. نعم روى الطحاوي بِسندِه عن جابر بن عبد الله قال: كنتُ عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم جَالِساً في المسجد فَقَدَّ قَمِيصَهُ مِنْ جيبه حتى أَخرَجَهُ مِنْ رِجْلَيْهِ، فنظرَ القومُ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: «إِنِّي أَمَرْتُ بِبُدْني التي بَعَثْتُ بها أَنْ تُقَلَّدَ اليوم (أَوْ)

(1)

تُشْعَرَ على كذا وكذا، فلبِسْت قميصي ونسيت، فلم أَكُنْ لأُخْرِجَ قميصي مِنْ رأْسي». وكان يبعث بُبْدنِهِ وأَقامَ بالمدينة.

والحديث ضعيفٌ باتفاقِ المحققين، ومُعَارِضٌ لِمَا صَحَّ عِنْد المُحَدِّثِينَ، فروى الشيخانِ عن عائشةَ أَنها قالت:(أَنا)

(2)

فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْي النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ بها مع أَبي، فلم يَحْرُمْ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم شيءٌ أَحل اللهُ له حتى نُحِرَ الهَدْيُ. ذَكَرَتْهُ ردّاً على ابن عباس في قوله: مَنْ أَهْدَى هَدْياً حَرُمَ عليه ما يَحْرُمُ على الحاج حتى يَنْحَرَ هَدْيَه. والله أَعلم.

فصل (في القِرَان)

القران أَفْضَلُ مُطْلَقاً، أَي مِمَّا عَدَاه وهو الإِفْراد والتمتع

(3)

. وقال مالك والشافعيّ في قولٍ لهما: الإِفْراد أَفْضل مطلقاً. وقال أَحمد: التمتّع أَفْضل مطلقاً، وهو قول مالك، لما في «الصحيحين» عن ابن عمر قال: تَمَتَّعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوداعِ بالعُمْرةِ إِلى الحج وأَهْدَى، فساقَ معه الهَدْيَ مِنْ ذي الحُلَيْفَة، وبَدأَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأَهَلَّ

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

سقط من المطبوع.

(3)

سيأتي بيانه ص: 682.

ص: 673

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

بالعُمْرةِ، ثُم أَهَلَّ بالحجِّ فَتَمَتَّعَ الناسُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالعُمرةِ إِلى الحج، فكان مِنَ الناسِ مَنْ أَهْدَى فساقَ الهَدْيَ، ومنهم مَنْ لم يَهْدِ، فلما قَدِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قال للناسِ:«مَنْ كان مِنْكم أَهْدَى فإِنَّه لا يَحِلُّ مِنْ شيءٍ حَرُمَ عليه حتى يَقْضِيَ حَجَّه، ومَنْ لم يكنْ منكم أَهْدَى فَلْيَطُف بالبيتِ، وبالصفا والمروة، وليُقَصِّر، وليَحْلِل، ثُم ليهل بالحج» . وفيهما عن ابن عمر أَيضاً قال: خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي بالحجِّ ولَبَّيْنَا معه، فَلَمَّا قَدِمَ أَمرَ مَنْ لم يكنْ معه الهَدْيُ أَنْ يَجْعَلُوها عُمْرةً.

وفيهما أَيضاً عن ابن عباس قال: كانوا يَرَوْنَ العمرةَ في أَشْهُرِ الحج مِنْ أَفْجَرِ الفجورِ في الأَرض، ويَجْعَلونَ المُحَرَّمَ صَفَراً يقولون: أَذا بَرَأَ الدَّبَرُ

(1)

، وَعَفَا الأَثَرُ

(2)

، وانْسَلَخَ صَفَرُ، حَلَّتِ العُمرةُ لِمَنْ اعتمر، فَقَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأَصحابُهُ صبيحةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بالحج، فأَمَرَهم أَنْ يجعلوهَا عُمرةً، فَتَعَاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ: أَيُّ الحِلِّ؟ قال: «الحِلُّ كُلُّه» . وفيهما أَيضاً عن عائشةَ قالت: خَرَجنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولا نَرَى إِلاَّ أَنَّه الحَجُّ، فلمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بالبيتِ، فأَمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ لم يكنْ ساق الهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ، فَحَلَّ مَنْ لم يكنْ ساقَ الهَدْيَ، ونِساؤهُ لم يَسُقْنَ فأَحْلَلْنَ.

وفي مسلمٍ عن سعيد قال: خَرَجنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَصَرَخَ بالحجِّ صُرَاخاً، حتى إِذا طُفْنَا بالبيتِ قال: اجْعَلُوها عمرةً إِلاَّ مَنْ كان مَعه هَدْيٌ، قال: فجعلنَاهَا عمرةً، فلمَّا كان يومُ الترويةِ

(3)

خَرَجنا بالحجِّ، فانْطَلَقْنَا إِلى مِنَى. وفي «الصحيحين» من حديث أَبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ قال: بَعَثَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَرْضَ قَوْمي، فَلَمَّا حَضَر الحَجُّ حَجَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَحَججتُ، فَقَدِمتُ عليه وهو نَازِلٌ بالأَبْطَحِ، فقال:«بِما أَهْلَلْتَ يا عبدَ اللهِ بنَ قَيْس؟» قال: قلت: لَبَّيْكَ (بِحَجَ كَحَجِّ)

(4)

رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَحْسَنت» ، ثُم قال:«هل سُقْتَ هَدْياً؟» فقلت: ما فعلت، قال:«اذهبْ فَطُفْ بالبيتِ، وبين الصَّفا والمَرْوة، ثُم احْلِل» ، فانْطَلقتُ فَفَعلتُ ما أَمَرَنِي وأَتيتُ امرأَة مِنْ قومي فَغَسَلَتْ رَأْسِي بالخَطْمِيِّ

(5)

وفَلَّتْهُ، ثُم أَهَلَّت بالحجِّ يومَ التَّرُويةِ.

(1)

الدَّبَر: الجُرْحُ الذي يكونُ في ظَهْر البعير. النهاية: 2/ 97.

(2)

عَفَا الأثَر: أي انْدَرَسَ أَثَرُ الإِبلِ وغيرِها في سَيْرِها. فتح الباري: 3/ 426.

(3)

وهو اليوم الثامن من ذي الحِجَّة.

(4)

وفي المطبوع: بإِهلالٍ كإِهلال، وما أثبتناه من المخطوط.

(5)

الخَطْمِيّ: نباتٌ من الفصيلة الخُبَّازِية، كثمِز النَّفْع، يدَقُّ ورقه يابسًا ويُجْعَلُ غِسْلًا للرَّأْس فَيُنَقِّيه.

المعجم الوسيط ص: 245، مادة (خَطَم).

ص: 674

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ولمالك والشافعيِّ ما في «الصحيحين» عن عائشةَ: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ بالحجِّ. انتهى بلفظ مُسْلم بِطُوله والبخاري. وفيهما عن ابن عُمَر قال: أَهْلَلْنَا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالحَجِّ مُفْرِداً. وفي لفظٍ: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بالحَجِّ مُفْرِداً. وفي مُسْلم عن جابر قال: أَقبلنا مُهِلِّين مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالحجِّ مُفْرِداً. وفيهما من حديث جابر قال: أَهْلَلْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالحجِّ خَالِصاً لا يُخَالِطُه شيءٌ. فَقَدِمْنَا مَكَّةَ لأَربعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذي الحجة وطُفْنَا وسَعَيْنَا، ثُم أَمَرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحِلَّ، وقال:«لولا هَدْيِي لَحَلَلْتُ» ، ثُمّ قام سُرَاقةُ بن مالك فقال: يا رسولَ اللهِ أَرأَيتَ مُتْعَتَنَا هذه، لِعَامِنَا هذا أَمْ للأَبَدِ؟ فقال صلى الله عليه وسلم «بل للأَبدِ» .

قال «البِرْمَاوي» : قوله: «لولا هَدْيي لحَلَلْتُ» هذا مُعَلَّلٌ بقوله تعالى: {ولا تَحْلِقُوا رؤوسَكُم حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ}

(1)

، وفَسْخُ الحج إِلى العمرة يَقْتَضِي التَّحْلِيل بالحَلْقِ بعد الفراغِ مِنْ العُمرة، ولو تَحَلَّل لَحَصَل الحَلْقُ قَبْل بلوغِ الهَدْي مَحلّه ـ وهو مِنىً ـ يومَ النحر. انتهى. والمعنى: بلوغ هَدْي الحج، ومحله أَرض الحَرَم مطلقاً، وإِنَّما ذكر مِنىً، لأَنه أَفْضَلُ أَمَاكِنِهِ في هَدْي (الحَجِّ، كما أَنَّ المروة أَفضلُ أَمَاكِنِ هَدْيِ)

(2)

العمرة. فتأَمل. ثمَّ قوله: «أَرَأَيت مُتْعَتَنا هذه» أَي إِتيان العمرةِ في أَشهر الحج حتى صار تمتعاً لا فَسْخ الحج إِلى العمرة، لأَنه ليس للأَبد بل خَاصٌّ لأَصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم عند الجمهور خلافاً لأَحمد.

ولنا ما في «الصحيحين» من حديث عبد العزيز بن صُهَيْب عن أَنس قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي بالحج والعُمرةِ يقول: «لَبَّيك حجةً وعمرةً» . وفيهما واللفظُ لمُسْلم عن بَكْر بن عبد الله المُزَني، عن أَنس قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي بالحجِّ والعُمرة جميعاً. قال بَكْرٌ: فَحَدَّثَهُ بذلك ابنُ عمرَ قال: لَبَّى بالحج وَحْدَه، فلَقيتُ أَنساً فَحَدَّثْتُه بِقَولِ ابن عمر فقال أَنسٌ: ما تعدوننا إِلاَّ صِبْياناً، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لبيك عمرة وحجّاً» . وفيهما أَيضاً: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَبَّيكَ عمرةً وحَجَّاً» . وفيهما عن أَنس أَيضاً قال: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَر كلهنَّ في ذي القِعدة إِلاَّ التي مع حجَّته: عُمرة الحديبية في ذي القِعدة، وعمرة من العام المُقْبل في ذي القعدة، وعمرة من الجِعرانة من حيث قسم غنائم حنين في ذي القِعدة، وعمرة مع حجته ـ أَي مقرونة ـ.

(1)

سورة البقرة، الآية:(196).

(2)

سقط من المطبوع.

ص: 675

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وفيهما عن سَعِيد بن المُسَيَّب قال: اختلفَ عليٌّ وعُثْمَانَ وهما بِعُسْفَانَ في المُتْعَةِ، فقالَ له عليٌّ: ما تُرِيدُ إِلاَّ

(1)

أَنْ تَنْهَى عن أَمْرٍ فَعَلَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال له عثمانُ: دَعْنَا مِنْكَ، فلما رَأَى ذلك عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِما جميعاً. هذا لفظ البخاري. ولَفْظُ مُسْلِمٍ: اجتمعَ عليٌّ وعُثمانُ بِعُسْفَانَ، فكانَ عثمانُ يَنْهَى عن المُتْعَةِ، فقال عليٌّ: ما تريد إِلى أَمْرٍ فعلَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تَنْهَى عنه، فقال عثمانُ: دَعْنَا منك، فقال: إِنّي لا أَستطيعُ أَنْ أَدَعَكَ، فلما رأَى عليٌّ ذلك أَهَلَّ بهما جَمِيعاً.

وفي «سُنن النَّسائي» عن مروان بن الحكم: كنتُ جَالساً عند عثمانَ فسمِعَ عليَّاً يُلبِّي بحجَ وعُمرةٍ فقال: أَلَمْ تكن تنهى عن هذا؟ (فقال:)

(2)

بلى، ولكنِّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي بِهِما جَمِيعاً، فَلَم أَدَعَ فِعْلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِكَ. وفي البخاري عن عمرَ بن الخطاب قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول ـ وهو بالعتيق ـ: «أَتانِي الليلةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فقال: صَلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرةً في حَجَّةٍ» . زاد في لفظٍ: يعني ذَا الحُلَيْفَةِ. وفي الطحاوي عن أُم سَلَمَةَ: سَمِعَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَهِلُّوا يا آلَ محمدٍ بِعُمْرةٍ وحَجَّةٍ» .

وفي ابن ماجه عن ابن عباس قال: أَخْبَرني أَبو طلحةَ أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بينَ الحَجَّةِ والعُمرةِ. وفي أَبي داود عن مجاهد قال: سُئِل ابنُ عمر: كم اعتمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرتين، فقالت عائشةُ: لقد عَلِم ابن عمر أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد اعتمرَ ثلاثاً سوى التي (قَرَنَها)

(3)

بحجةِ الوَدَاع. وفي روايةٍ لأَبي داود والنَّسائي عن عليَ كرَّم اللهُ وَجْهَه قال: أَتَيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: «كَيْفَ أَهْلَلْتَ؟» قلتُ: بإِهْلَالِكَ، فقالَ:«إِنِّي سُقْتُ الهَدْيَ وقَرَنْتُ» .

ولنا أَيضاً ظاهرُ قوله تعالى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرةَ لِلَّه}

(4)

، فإِنَّ إِتْمَامَهُمَا أَنْ يُحْرِمَ بِهِما مِنْ دُوَيْرَةِ أَهلِهِ. كذا فَسَّرَهُ الصحابةُ، وهو القِرَان. ورَوى أَحمد، والنَّسائي، وابن ماجه عن صُبَيِّ بن مَعْبَد التَّغْلِبِي قال: كنتُ رجلاً نَصْرانياً فأَسْلَمْتُ، فأَتَيْتُ رجلاً مِنْ عشيرتي يقال له: هُذَيْم

(5)

بن ثُرْمُلة فقلت: يا هناه، إِنِّي حريصٌ على الجهادِ، وإِني

(1)

في المطبوع: إلى، وما أثبتناه من المخطوط.

(2)

سقط من المطبوع.

(3)

سقط من المطبوع.

(4)

سورة البقرة، الآية:(196).

(5)

في المطبوع: هريم، وما أثبتناه من المخطوطة، وهو الصواب لموافقته ما في فتح القدير: 2/ 526.

ص: 676

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وجدتُ الحجَّ والعمرةَ مَكْتُوبَينِ عليَّ، فكيف لي بأَنْ أَجمع بينهما؟ فقال: اجْمَعْهُمَا واذبح ما تيسر مِنْ الهَدْي، فأَهْلَلْتُ بهما، فلما أَتيتُ العُذَيْب لقيني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأَنا أَهل بهما معاً، فقال أَحدُهما للآخَر: ما هذا بأَفْقَهَ مِنْ بعيرهِ. ـ وفي روايةٍ: لِهَذا أَضَلُّ مِنْ بَعِير أَهله ـ قال: فكأَنما حمل عليَّ بِكَلِمَتِهما جبل، فَقَدِمتُ على عمرَ بن الخطاب فأَخْبرتُه، فأَقْبَلَ عليهما فَلَامَهُمَا، وأَقْبَلَ عَلَيَّ وقال: هُدِيتَ سُنَّةَ نَبِيِّكَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم

ورواه أَبو حنيفةَ عن حَمَّادٍ بن أَبي سُلَيْمَانَ، عن إِبراهيم، عن الصُبَيِّ بن مَعْبَدٍ قال: اقبلت من الجزيرة حَاجَّاً قَارِناً، فمررت بسليمانَ بن ربيعةَ وزيد بن صوحان وهما مُنِيخَان بالعُذَيْب، فسمعاني أَقولُ: لبّيك بعمرةٍ وحجَّةٍ معاً، فقال أَحدهما: هذا أَفْضَلُ مِنْ بَعيرِه، وقال الآخر: هذا أَضَلُّ مِنْ كذا وكذا. فَمَضَيتُ حتى إِذا قَضَيْتُ نُسُكِي مررتُ بأَميرِ المؤمنين عمر، فساقه إِلى أَنْ قال فيه: قال ـ يعني عمر ـ: فصنعت ماذا؟ قال: مضيت فَطُفْتُ طوافاً لِعُمرتي، وسعيتُ سعياً لِعُمرتي، ثُم عدتُ ففعلتُ مثلَ ذلك لِحَجِّي، ثُم بقيتُ حراماً ما أَقمنا أَصنعُ كما يصنعُ الحاجُّ حتى قَضيتُ آخِرَ نُسُكي، قال: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم ولأَن في القِرانِ جَمْعاً بين العبادتين، فكان كالصوم مع الاعتكاف، والجهاد في سبيل الله مع صلاة الليل.

وفي «شَرْحِ مسلم» : اختلفت رواياتُ الصحابةِ في صِفةِ حَجِّه صلى الله عليه وسلم في حجَّةِ الوَدَاع: هل كان قارناً، أَوْ مُفْرِداً، أَوْ مُتمتعاً؟ وطريق الجمع أَنه صلى الله عليه وسلم كان أَوَّلاً مُفْرِداً ثُم صار قَارِناً، فَمَنْ روى الإِفْرَاد رَوى أَولَ الأَمر، ومَنْ رَوى القِرانَ اعتمد آخِرَ الأَمر، ومَنْ رَوى التمتّع أَرادَ التمتعَ اللغويَّ ـ وهو الارتفاق ـ أَي الانتفاع الأُخروي بأَداء النُّسُكَين في سفرٍ واحدٍ. انتهى.

وقد وضع ابنُ حزمَ كِتاباً في أَنه صلى الله عليه وسلم كانَ قَارناً في حجّة الوداع، وتأَول باقي الأَحاديث.

وفي «المبسوط» : وأَهل الحديث جمعوا رواة نُسُك رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فكانوا ثلاثين نَفَراً: عشرة منهم يروون أَنه كان قَارناً، وعشرة أَنه كان مُفْرِداً، وعشرة أَنه كان مُتَمَتّعاً فَنُوَفِّقُ بين هذه الرواياتِ فنقول: لَبَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَوَّلاً بالعمرةِ فسمَعَهُ بعضُ الناس، ثُم رواه. ثُم لَبَّى بعد ذلك بالحج فظنّوا أَنه كان متمتعاً فنقلوا كما وقع عندهم. ثم لَبَّى بعد ذلك بالحج فسمعَهُ قومٌ آخرون، فظنُّوا أَنه مُفْرِدٌ بالحج. ثُمَّ

ص: 677

وهُوَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وعُمْرَةٍ مِنْ ميقَاتٍ مَعَاً، ويَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الحَجَّ والعُمْرَةَ إِلى آخِرِهِ. وطَافَ للعُمْرَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَرْمُلُ للثلَاثَة الأوَلِ ويَسعَى، ثُمَّ يَحُجُّ كَمَا مَرَّ

===

لَبَّى بهما فسمعه قومٌ آخرون، فعلموا أَنه قارنٌ. فكُلٌّ نقل ما وقع عنده. والله أَعلم. وأَمَّا قولُ صاحِب «الهداية» خلافاً للشافعي لقولِهِ عليه الصلاة والسلام:«القران رخصة» فغيرُ معروفٍ. نعم، أَخرَجه الدَّارَقُطْنِيّ عن عائشةَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لها في عمرتِها التي اعتمرَتْها:«إِنَّما أَجْرُك في عُمرتك على قَدْرِ نَصَبك» .

(وهُوَ) أَي القِران لغةً: الجَمْعُ، مَصْدر قَرَنَ (بين)

(1)

الشيئين نحو كَتَبَ كِتاباً. وشرعاً: (أَنْ يُهِلَّ) أَي يُحْرم (بِحَجَ وعُمْرَةٍ مِنْ ميقَاتٍ) مِنْ المواقيت، ولم يُرِد به الاحترازَ عن أَنْ يهل بعمرةٍ وحَجَ قبل الميقاتِ أَوْ بعده، فإِنَّ الآفاقِي إِذا أَهَلَّ بهما قبل الميقات أَوْ بعده ـ ولو بمكة ـ يكونُ قارناً لكنه مسيءٌ، وإِنما أَراد به بيانَ أَنَّ القارن لا يكون إِلاَّ آفاقياً ولو تقديراً، وكذا لم يُرد بقوله (مَعَاً) الاحتراز، وإِنَّما أَرادَ به بيانَ الأَوْلَى والأَصل، حتى لو أَحْرَمَ بعمرةٍ من الميقات، ثُم أَحْرَمَ بحجَّةٍ قَبْلَ أَنْ يطوفَ أَرْبعةَ أَشواطٍ من العمرةِ، أَوْ أَحْرَمَ مِنْ الميقات بِحجةٍ، ثُم أَحْرَمَ بعمرةٍ قَبْلَ أَنْ يطوفَ كانَ قَارِناً، وهو قول الشافعي لِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَدَاعِ.

(ويَقُولُ) عَقِيبَ صلاةِ سُنَّةِ الإِحْرامِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الحَجَّ والعُمْرَةَ) وفي نسخة بتقديم العمرة وهو أَوْلى لِسَبْقِ فعلها (إِلى آخِرِهِ) أَي فَيَسِّرْهُما لي وتقبلهما منِّي. (وطَافَ للعُمْرَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ) مُضْطبِعَاً

(2)

فيها (يَرْمُلُ

(3)

للثلَاثَةِ الأُوَلِ) ويصلي بعد الطواف ركعتيه (ويَسْعَى) بين الصفا والمروة، ويُهَرْوِلُ بين الميلين.

ومِن شرائط صحَّة

(4)

القِران أَنْ يطوفَ للعُمرةِ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ في أَشْهُر الحج. لا يتحلّلُ القارِنُ بعد عُمرتِهِ. فلو طاف وقَصَّر كان جنايةً على إِحرام الحج وإِحرام العُمرة، فيجب عليه دَمَانِ، لأَن تَحَلُّلَ القَارِنِ مِنَ العمرة إِنَّما هو يومُ النَّحْر.

(ثُمَّ يَحُجُّ كَمَا مَرَّ) في المُفْرِدِ فيبدأُ بطوافِ القُدوم بلا رَمَلٍ واضطباعٍ إِلاَّ إِذا أَراد تقديمَ سَعْي الحجِّ على وقتِهِ الأَصلي وهو كونهُ بعدَ طوافِ الفَرض. وإِنَّما يُقَدِّمُ

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

الاضطِباع: بالرِّاءِ يكونُ بإخراجه من تحت الإبط الأيمن وإلقائه على المنكب الأيسر. معجم لغة الفقهاء ص:73.

(3)

الرَّمَل المشى السريع مع هَزِّ الكتفين. معجم لغة الفقهاء ص: 227.

(4)

في المطبوع: حَجّةٌ، وما أثبتناه من المخطوط.

ص: 678

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

القارِنُ أَفعالَ العُمرةِ على أَفعالِ الحج، لأَن الله تعالى ذَكَرهُ في قوله:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بالعُمْرَةِ إِلى الحَجِّ}

(1)

بعد حَرْف الغاية المُقْتَضِي (لانتهاء)

(2)

ما قبله بما بعده. فإِن قيل: الآيةُ في التمتع، أُجيب بأَن القِرانَ بمعناه، فأُلْحِقَ به في مقتضاه، لأَن كُلاًّ منهما تَرَفُّقٌ بأَداءِ النُّسُكَيْنِ في سفرٍ واحدٍ.

وقال مالك والشافعي وأَحمد: يطوفُ القارنُ طوافاً واحداً عن عُمرته وقُدوم حَجِّه، ويَسْعى سَعْياً واحداً عن عُمرته وحجّه، لما في حالصحيحينخ عن نَافِع عن ابن عمر: أَنه أَراد الحجَّ عامَ نزل الحَجَّاجُ بابن الزبير فَقِيل له: إِنَّ الناسَ كائن بينهم قِتالٌ وإِنَّا نخافُ أَنْ يَصُدُّوكَ، فقال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رسولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

(3)

، إِذاً أَصنعُ كما صنعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أُشْهِدُكُم أَني قد أَوْجَبْتُ عُمرةً، ثُم خرجَ حتى إِذا كانَ بظاهرِ البَيْدَاءِ وقال: ما شأْنُ الحجِّ والعُمرةِ إِلاَّ واحدٌ، أُشْهِدُكُم أَنِّي قد أَوْجَبْتُ حَجَّاً مع عُمرتي، وأهْدَى هَدْياً اشتراه بِقُدَيْد: وهو ـ مُصَغر ـ مَوْضِعٌ بينَ مَكَّةَ والمدينةِ، ولم ينحر ولم يحلل مِنْ شيءٍ حُرم منه، ولم يحلِقْ ولم يُقَصِّر حتى كان يومُ النَّحر، فنحر وحلق ورَأَى أَنْ قد قَضَى طوافَ الحجِّ والعُمرةِ بطوافِهِ الأَول. فقال ابن عمر: كذلك فَعَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم

ولقوله صلى الله عليه وسلم «هذه عمرةٌ اسْتَمْتَعْنَا بها، فَمَنْ لم يَكُنْ عِنْدَهُ هَدْيٌ (فليحل)

(4)

الحِلَّ كُلَّهُ، وقد دخلت العُمرةُ في الحجِّ إِلى يومِ القيامةِ». رواه مسلم، وأَبو داود، والنَّسائي. ولقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَحْرَم بالحجِّ والعُمرةِ أَجزأَه طوافٌ واحدٌ، وسَعْيٌ واحِدٌ» . رواه الترمذي وقال: حسن غريب. ولقول ابن عباس: لَمْ يَطُفِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأَصحابُهُ بين الصَّفَا والمروةِ إِلاَّ طَوَافاً واحداً لِعُمْرتِهِم وحَجِّهم. رواه ابن ماجه.

ولنا ما رواه النَّسائي في «السُّنن الكبرى» من حديث حَمَّاد بن عبد الرحمن الأَنصاري، عن إِبراهيم بن محمد بن الحَنَفية قال: طُفْتُ مع أَبي وقد جَمع بين الحجِّ والعُمرةِ، فطافَ طوافَيْنِ وسَعَى سَعْيَيْنِ، وحَدَّثني أَنَّ عَلِيَّاً فعل كذلك، وحَدَّثه أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَعَل ذلك. فإِنَّ حمَّاد بن عبد الرحمن هذا ضَعَّفَه الأَزديُّ.

(1)

سورة البقرة، الآية:(196).

(2)

في المطبوع: لانتفاء، وما أثبتناه من المخطوط، وهو الصواب.

(3)

سورة الأحزاب، الآية:(21).

(4)

في المطبوع: فليحلل، وما أثبتناه من المخطوط.

ص: 679

وذَبَحَ للقِرَانِ بَعْدَ رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ. وإِن عَجَزَ القَارِنُ،

===

أُجِيب بأَنَّ ابن حِبَّان وَثَّقَه، فلا ينزل حديثُه عن الحَسَن. وما أَخْرَجَه الدَّارَقُطْنِيّ عن عِمْران بن حُصَيْن: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طافَ طَوَافَيْنِ، وسَعَى سَعْيَيْنِ.

وما في «مصنف ابن أَبي شيبةَ» عن زياد بن مالك أَنَّ عَلِيَّاً وابن مسعود قالا في القارن: يطوفُ طَوَافَيْنِ، ويَسْعَى سَعْيَيْنِ. وما رَوَى محمدُ بن الحسن في «الآثار» عن أَبي حنيفة، عن منصور بن المعتمر، عن إِبراهيم النَّخَعي، عن أَبي نصر السُّلَمِيِّ، عن علي بن أَبي طالب قال: إِذا أَهللت بالحج والعمرة فَطُفْ

(1)

لهما طَوَافَيْنِ، واسْعَ

(2)

لهما سَعْيَين بين الصفا والمروة، قال منصور: فلقيتُ مُجَاهِداً وهو يُفْتِي بِطَوافٍ واحدٍ لِمَنْ قَرَن فَحَدَّثْتُه بهذا الحديث فقال: لو كنتُ سمعتهُ لم أَفْتِ إِلاَّ بِطَوافَيْن، وأَمَّا بعد فلا أُفْتِي إِلاَّ بهما. انتهى. وبه قال ابن مسعود، والشَّعْبي، والنَّخَعِي، وجابر بن زيد، وعبد الرحمن بن الأَسود، والثَّوْري، والحسن بن صالح.

وأَمَّا ما رُوِي مِنْ قوله صلى الله عليه وسلم «دَخَلت العُمرةُ في الحجِّ إِلى يومِ القيامةِ» . فمعناه أَنَّ العُمرةَ لا بأْس بها في أَشهرِ الحَجِّ كما قال الترمذي، فمعنى التداخل المذكور في الحديث: الوقت، أَي دَخَلَ وقتُ العُمرةِ في وقتِ الحَجِّ على معنى أَنَّهما يُؤديان في وقتٍ واحدٍ، وأَيضاً لا تَدَاخُلَ في العبادات، وإِنَّما التداخُلُ فيما يَنْدَراء بالشُّبُهَات.

(وذَبَحَ) وجوباً (للقِرَانِ بَعْدَ رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ) قبل الحلق في الحرم وأَيام النحر. ويُسَنُّ أَنْ يذبح بمنىً شاةً أَوْ سُبُعَ بعيرٍ، أو بقرة لقوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بالعُمرَةِ إِلى الحَجِّ فما اسْتَيْسَر مِنَ الهَدْي}

(3)

، (والهدي ما يُهْدَى)

(4)

إلى الحَرَمِ من شاةٍ أَوْ بقرةٍ أَوْ بعيرٍ، ولما في «الصحيحين» من حديث جابر (قال)

(5)

: حَجَجْنَا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَنَحَرْنَا البعيرَ عَنْ سَبْعَةٍ، والبقرةَ عَنْ سبعةٍ. ونَمْنَعُ نحن ومالكٌ ذَبْحَه قَبْلَ يومِ النَّحْرِ لكونه دَمَ شُكْرٍ عندنا، فيختص بيوم النَّحْر كالأُضحية. وأَجَازَهُ الشافعيُّ بناءً على كونِه دَمَ جَبْرٍ عنده.

(وإِن عَجَزَ القَارِنُ) عن الهَدْي بأَنْ لا يكون في ملكه عن كفافه قَدْرُ ما يشتري

(1)

في المطبوع: فطفت، وما أثبتناه من المخطوط.

(2)

في المطبوع: سعيت، وما أثبتناه من المخطوط.

(3)

سورة البقرة، الآية:(196).

(4)

سقط من المطبوع.

(5)

سقط من المطبوع.

ص: 680

صَامَ ثلاثةَ أَيَّامٍ وَآخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، وسَبْعَةً بَعْدَ حَجِّهِ أَيْنَ شَاءَ، فإِنْ فَاتَتِ الثَّلَاثَةُ تَعَيَّنَ الدَّمُ.

===

به الدَّم ولا هو في ملكه (صَامَ ثلاثةَ أَيَّامٍ) يُستحب تواليها (وَ) أَنْ يكون (آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ) بأَنْ يصومَ السابع والثامن والتاسع، وهذا بيانُ الأَفْضل، لأَنه غاية ما يمكن في التأْخير لاحتمال القدرةِ على الأَصْل وهو الهَدْي، ويجوز أَنْ يصومها قبل السابع إِذا كان قد أَحْرم بالعُمرةِ، ويكون في أَشهر الحَجِّ وينوي مِنْ الليل. وعند الشافعيِّ لا يجوزُ أَنْ يصومها حتى يُحْرِم بالحَجِّ، وأَمَّا قبل إِحرام العُمرةِ، فلا يجوز بالإِجماع.

(وسَبْعَةً بَعْدَ حَجِّهِ) أَي فراغ أَعماله (أَيْنَ شَاءَ) ولو بمكةَ من غير نيةِ الإِقامَة لقوله تعالى: {وسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُم}

(1)

، أَي من مِنىً إِلى مكةَ. والصحيح مِنْ مذهب الشافعيِّ أَنَّ المراد الرجوع إِلى الأَهل. وعن مالك قولان. وقال ابنُ الهُمَام: أَي إِذا فَرَغْتُم مِنْ أَعمال الحَجِّ، فإِن الفراغ سببُ الرجوع، ففيه ذِكْرُ المُسَبَّبِ وإِرادةُ السَّبَبِ. والدليل على إِرادة المجاز أَنَّ الإِجماع على أَنه لو استمر

(2)

على السياحة، وجب عليه صومُها بهذا النَّصِّ، ولا يتحقق في حَقِّه سوى الرجوع عن الأَعمال، فَعُلِم أَنَّ المراد الرجوع عنها، سواءٌ قَصَدَ وطنه أَوْ لا. ثُم لو قَدِرَ القارنُ (على)

(3)

الهَدْي بعد صوم الثلاثة قَبْل التحلّلِ وجب عليه الذَّبْحُ، ولو قَدِرَ عليه بعد التَّحَلُّلِ

(4)

لا يجب عليه الذَّبح.

(فإِنْ فَاتَتِ الثَّلاثَةُ) بأَنْ جاء يومُ النَّحْر ولم يَصُمْها بتمامها (تَعَيَّنَ الدَّمُ) ولم يجزئه الصومُ، لأَنه جُعِل خَلَفاً عن الدَّم على خلاف القياس، فيراعى ما ورد فيه، وهو الوقوعُ قَبْلَ يَوْم النَّحْر.

وأَجازَ الشافعيُّ صومَها بعد أَيام التشريق، لأَنه صومٌ مؤقتٌ فَيُقْضَى. وأَجازه مالك فيها غَيْرَ يوم النَّحر لقوله تعالى:{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الحَجِّ}

(5)

وهذا وقتُه، لأَن طواف الزيارة يَتَأَدَّى فيها، ولقول عائشةَ وابن عمر: لم يُرَخَّص في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يصومَ إِلاَّ مَنْ لم يَجِدِ الهَدْيَ. رواه البُخاري. وفيه عن ابن عمرَ أَنَّه قال: الصيامُ لِمَنْ تمتَّعَ بالعُمرةِ إِلى الحَجِّ إِلى يومِ عرفةَ، فإِنْ لم يَجِد هَدْياً ولم يَصُم، صَامَ أَيَّامَ مِنىً.

(1)

سورة البقرة، الآية:(196).

(2)

في المطبوع: اعتمر، وما أثبتناه من المخطوط.

(3)

سقط من المطبوع.

(4)

في المطبوع: التحليل، وما أثبتناه من المخطوط.

(5)

سورة البقرة، الآية:(196).

ص: 681

[فَصْلٌ في التَّمَتُّعِ]

والتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنَ الإِفْرَادِ وَهُوَ: أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرةٍ مِنَ المِيقَاتِ في أَشْهُرِ الحَجِّ ويَطُوفَ، ويَسْعَى، ويَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّر،

===

ولنا إِطلاقُ النهي المشهور عن الصيام في هذه الأَيام، وقولُ عمر لِمَنْ قال: إِنِّي تمتعتُ بالعُمرةِ إِلى الحَجِّ: اذْبَح شاةً، قال: ما معي شيءٌ؟ قال: سَلْ أَقارِبَكَ، قال: ما ههنا أَحدٌ منهم، فقال: يا مُغِيثُ أَعْطِهِ قيمةَ شاةٍ. ذَكَرَه في «المبسوط» . ولو لَمْ يَقْدِر على الهَدْي تَحَلَّلَ

(1)

، وعليه دَمَانِ: دَمٌ للقِرَان، ودَمٌ لِتَحَلُّلِهِ قَبْل الذَّبْحِ. هكذا قالوا، وفيه بَحْثٌ، إِذِ الترتيبُ واجبٌ عن من يقول به، وهو يسقط بالعُذْرِ. ولو لم يَدْخُلِ القارنُ مَكَّةَ ووقف بعرفةَ بعد الزوال، فعليه دَمُ جَبْرٍ لِرَفْضِ العمرةِ، سواءٌ نوى رَفْضَها أَمْ لا، وعليه قضاؤها، وبَطَل عنه دمُ القِران، لأَنه لما ارتفعتِ العُمرةُ لم يُوَفَّق بأَداء النُّسُكَيْنِ، فصارَ كالمُفْردِ لا دَمَ عليه.

(فصلٌ في التمتع)

(والتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنَ الإِفْرَادِ) لأَنَّ فيه جَمْعاً بين العبادتين، ودَماً للنُّسكِ كما في القِران، فيكون أَفْضَلَ مِنْ الإِفْرَادِ. وفي أَمْر النبيِّ صلى الله عليه وسلم المُحْرِمين بالحجِّ أَنْ يَتَحَلَّلُوا عنه ويَجْعلوه عمرةً إِشَارَةٌ إِلى أَنَّ التمتّعَ أَفْضَل مِنْ الإِفْراد. ورَوى الحسن عن أَبي حنيفة: أَنَّ الإِفرادَ أَفْضل مِنْ التمتُّعِ، لأَن المُتَمَتِّعَ وَقَعَ سَفَرُهُ للعمرة، بدليلِ أَنه بعد الفراغِ منها يصيرُ كالمكِّي في حقِّ الإِحرامِ، والحجّ فَرْض والعمرة سُنَّة، والسَّفَر (الواقع)

(2)

للفَرْضِ أَعْلَى مِنْ السفر للسنّة. والظاهر أَنَّ الإِفراد إِنَّما يكونُ أَفْضل مِنْ التمتعِ، إِذَا أَتى بِعُمرةٍ مُفْرَدةٍ بعده، وإِلاَّ فلا شبهةَ أَنَّ العِبَادَتَيْنِ أَفضل مِنْ عبادةٍ واحدةٍ، ولِذا قال محمد: حَجَّةٌ كوفية، وعُمرةٌ كوفية أَفْضل عندي مِنْ القِرَان.

(وَهُوَ) أَي التمتع لُغةً: الانتفاع، مأْخوذٌ مِنْ المَتَاع.

وشَرْعاً: (أَنْ يُحْرِمَ) الآفاقي لِيكونَ على الوَجْهِ المَسْنُون (بِعُمْرةٍ مِنَ المِيقَاتِ) وجوباً، أَوْ مِنْ مكانٍ قَبْلَه ـ وهو أَفْضل ـ أَوْ بعده، ويَجِبُ عليه حِينئذٍ دَمٌ (في أَشْهُرِ الحَجِّ) أَوْ يُحْرِم بِعُمرةٍ قَبْلَ الأَشْهُرِ، ويَطُوف لها في الأَشهر أَربعة أَشواط أَوْ أَكثر (ويَطُوفَ، ويَسْعَى، ويَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّر) إِنْ لم يَكُنْ سَاقَ هَدْياً وقد حَلَّ مِنْ إِحرامه، أَوْ يَبْقَى على إِحرامه حتى يُحْرِم بالحجِّ يومَ التَّرْوِيةِ، ويَتَحَلَّلُ مِنْ الإِحْرَامَين بالحلق يوم النَّحْر.

(1)

أي بالحلق أو التقصير.

(2)

سقط من المطبوع.

ص: 682

ويَقْطَعَ التَّلْبِيَةَ في أَوَّلِ طَوَافِهِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بالحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيةِ، وقَبْلَهُ أَفْضَلُ. وحَجَّ كالمُفْرِدِ وذَبَحَ، وإِنْ عَجَزَ صَامَ كالقَارِنِ،

===

(ويَقْطَعَ التَّلْبِيَةَ في أَوَّلِ طَوَافِهِ) باستلام الحجر الأَسود، ونَحْوهِ مِنْ أَنواعِ شُرُوعِهِ، لا عند مُشَاهَدتِهِ للبيتِ كما قال مالك، وهو مرويٌّ عن عُمَرَ رضي الله عنه. ولنا ما رواه أَبو داود، وصَحَّحَهُ الترمذي من (حديث عطاء عن)

(1)

ابن عباس: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُمْسِكُ عن التلبية في العمرة إِذا اسْتَلَمَ الحَجَر.

(ثُمَّ أَحْرَمَ بالحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيةِ) مِنْ الحَرَمِ لأَنه صار مَكِّياً، وميقاتُ المكِّي في الحَجِّ الحَرَم (وقَبْلَهُ) عندنا وعند مالك (أَفْضَلُ) لما فيه مِنَ المسارعةِ إِلى الطاعة. وقال أَصحابُ الشافعيِّ في غَيْر واجدِ الهَدْي: إنَّ المُسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يُحْرِم بالحجِّ قَبْلَ السَّادِس، والأَفْضَل لسائِقِ الهَدْي أَنْ يُحْرِم بالحَجِّ يَوْمَ الترويةِ قَبْل الزَّوال، لما رَوى جابر أَنَّه صلى الله عليه وسلم قال:«إِذا توجّهتم إِلى مِنَى رائحينَ فأَهِلُّوا بالحَجِّ» . وذلك يكونُ يومَ التَّرْوية قبل الزَّوال.

(وحَجَّ كالمُفْرِدِ) ورَمَل في طوافِ الزيارة، لأَنه أَوَّلُ طوافٍ في حَجِّه وسَعَى بعده نفلاً وَرَمَلَ وسَعَى. ولو أَحْرم بالحَجِّ وطَافَ (نفلاً ورَمَل وسعى)

(2)

قَبْلَ رَوَاحِهِ إِلى مِنَى لا يَرْمُلُ في طواف الزيارة ولا يَسْعَى بعده (وذَبَحَ) لِمَا ذكرنا في القِرَان، بَلْ هُو النَّص في القرآن.

(وإِنْ عَجَزَ) عن الهَدْي (صَامَ كالقَارِنِ) كمِّيةً وكيفيةً مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بينهما، إِلاَّ أَنَّه إِنْ صامَ الثلاثةَ بعد إِحرامِ العُمْرة ولو قَبْل الطوافِ لها جاز. ولم يُجز مالك والشافعي صومها قبل أَنْ يُحرم بالحجِّ لظاهرِ قوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِد فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الحَجِّ}

(3)

، ومَنْ صَام قبل أَنْ يُحْرِم بالحج لا يكونُ صومُه في الحج.

ولنا أَنه أَدَّاه بعد انعقادِ سَبَبِهِ، وهو الإِحرامُ بالعُمْرةِ، لأَن تَحَقُّقَ سببِ الهَدْي إِنَّما هو بإِدْخَالِ العُمرةِ على الحَجِّ في أَشْهُره، لا بِشُرُوعِهِ في الحجِّ، فيجوزُ الصَّوْمُ بعد انعقاد السبب، كجواز التَّكْفِير بعد جَرْحِ الصَّيْدِ قَبْلَ مَوْتِه. والمراد بالحج المذكور في النَّص وَقْتُه، لأَن نفسه لا يَصْلُحُ ظَرْفاً، لأَنه عِبارةٌ عن الأَفْعَال، والفِعْل لا

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

سورة البقرة، الآية:(196).

ص: 683

فإِنْ أَحْرَمَ بِسَوْقِ الهَدْي - وهُوَ أَفْضَلُ - لا يَتَحَلَّلُ،

===

يصلُح أَنْ يكونَ ظَرْفاً لِلفِعْلِ. ولو صَامَ ثلاثةً مِنْ شَوَّال ثُم اعتمر لم يَجُز عن الثلاثةِ اتفاقاً، لأَن سبب وجوب هذا الصوم التمتع لأَنه بَدَلٌ عن الهَدْي، وهو في هذه الحالةِ غَيْرُ متمتعٍ لا حقيقةً ولا حُكْمَاً، فلا يجوزُ أَداؤُه قَبْل وجودِ سَبَبِهِ.

(فإِنْ أَحْرَمَ) المُتَمَتِّع (بِسَوْقِ الهَدْي) بأَن قَلَّدَ بَدَنَةَ نَفْلٍ، أَوْ نَذْرٍ، أَوْ جزاء صيدٍ، أَوْ جِنايةٍ كانت عليه في السَّنَة الماضية وتوجَّهَ معها يُرِيدُ الحجَّ. والأَظهر أَنَّ لفظَ «بسوق» بالموحدة أَي مُصَاحَباً بِسَوْق الهَدي مُتَلَبِّساً به، ويُحْتَمَل أَنْ يكونَ بالمُثَنَّاةِ التحتيّة أَي حال كَوْنِه يَسُوقُ الهَدْي، والسَّوْقُ أَفْضَلُ مِنَ القَوْدِ إِلاَّ أَنْ لا يُسَاقَ فَيَقُودُهُ.

والتقليد ـ وهو جَعْلُ مَزَادَة: أَي قِطعة من أَدم

(1)

، أَوْ نَعْل، أَوْ لِحَاء

(2)

شجرةٍ في عُنُقِهِ ـ أَفْضَلُ من التجليل لقوله تعالى: {ولا الهَدْيَ ولا القَلَائِدَ}

(3)

، والجَمْع بينهما حسن. وأَمَّا الإِشْعَارُ ـ وهو أَنْ يَطعن بالرُّمح في أَسْفَلِ سَنَام البَدَنَةِ مِنْ يَسَارِها أَوْ يَمِينِهَا حتى يَخْرُجَ الدَّمُ، ثُمَّ يُلَطَّخُ به سنَامُهَا ـ فقيل: مَكْرُوهٌ، وقيل: مَسْنُونٌ، لقول ابن عباس: صَلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بذي الحُلَيفة، ثُم دعا بِنَاقَةٍ ـ وفي لفظٍ: بِبَدَنَةٍ ـ فأَشْعَرَها في صفحةِ سَنَامها الأَيْمن وسَلَت

(4)

الدم عنها، وقَلَّدها نَعْلَين. الحديث أَخرجه الجماعةُ إِلاَّ البخاريّ.

(وهُوَ) أَي إِحرام المتمتع بِسَوْق الهَدْي (أَفْضَلُ) مِنْهُ بِغَيْر سَوْقٍ، لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَهْدَى مئة مِنْ الإِبل. والجملةُ حاليةٌ مُعْتَرِضَةٌ بين الشَّرْطِ وجوابه وهو قوله:(لا يَتَحَلَّلُ) أَي يَبْقَى على إِحرامه للعُمْرةِ حتى يَتَحَلَّل مِنْ حَجِّه وإِنْ حَلَق لم يتحلل مِنْ إِحْرَامِهِ، ولزمه دَمٌ، وهو قول أَحمد. وقال مالك والشافعيُّ: إِذا طاف وسَعَى وحَلَق، حَلَّ مِنْ عُمرتِهِ قِيَاساً على مَنْ لم يَسُقِ الهَدْيَ.

ولنا ما في «الصحيحين» مِنْ حديث ابن عُمر قال: تَمَتَّعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حجَّةِ الوَدَاعِ بالعُمرةِ إِلى الحَجِّ وأَهْدَى، فساقَ معه الهَدْيَ مِنْ ذي الحُلَيْفة، وبَدَأَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأَهَلَّ بالعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بالحَجِّ فَتَمَتَّعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالعُمرةِ إِلى الحَجِّ، فكان مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فساقَ الهَدْي، ومنهم مَنْ لم يَهْدِ. فَلَمَّا قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ

(1)

أدم: جِلْد. لسان العرب ص 12/ 9 - 10، مادة (أَدم).

(2)

لِحَاء الشجرة: أي قشرها. النهاية: 4/ 243.

(3)

سورة المائدة، الآية:(2).

(4)

سَلَت الدَّم: أي أماطه. النهاية: 2/ 387.

ص: 684

ثُمَّ يُحْرِمُ بِالحَجِّ كَمَا مَرَّ.

[فَصْلٌ في أَحْكَامِ المَكَي ومَن بمَعْناهُ]

والمَكِّيُّ يُفْرِدُ فَقَطْ

===

قال للنَّاسِ: «مِنْ كانَ مِنْكُم أَهْدَى فإِنَّه لا يَحْلِل مِنْ شيءٍ حَرُمَ منه حتى يَقْضِي حَجَّه، ومَنْ لم يَكُنْ مِنكم أَهْدَى فَلْيَطُف بالبيتِ وبالصفا والمروة، وليُقَصِّر وليَحْلِل» .

(ثُمَّ يُحْرِمُ) ثانياً (بِالحَجِّ كَمَا مَرَّ) في المتمتع الذي لا يسوقُ الهَدْي.

(فصلٌ في أحكام المكي ومن بمعناه)

(والمَكِّيُّ) ومَنْ بِمعناه من أَهل داخل الميقات وإِنْ كانَ مسيرةَ سَفَر. وقد اختلف العلماءُ في حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَام، فقال مالك: هُمْ أَهّل مَكَّةَ خَاصَّةً. وقال الشافعيُّ: هم أَهْل مكة ومَنْ يكون مَنْزِلُه مِنْ مكةَ على مسيرةٍ لا يجوزُ فيها قَصْرُ الصلاةِ (يُفْرِدُ فَقَطْ) ولا يَتَمَتعُ ولا يَقْرِن، لما صحَّ عن عُمَرَ: لَيْسَ لأَهْلِ مكةَ تَمَتُّعٌ ولا قِرَانٌ. ومع هذا، فَمَنْ تَمَتَّعَ منهم أَوْ قَرَنَ صَحَّ وكان مُسِيئاً وعليه دَمُ جَبْرٍ لإِساءته، ومِنْ حُكْمِ هذا الدَّم أَنْ لا يقومَ الصَّوْمُ مقامه حال العُسْرةِ.

وقال الشافعيُّ: يتمتعُ المَكِّيُّ ويَقْرِنُ، لأَن قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بالعُمْرَةِ إِلى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي}

(1)

يَشْملُ المَكِّيَّ كما يَشْمَل غيره. ولنا أَنَّ هذه الآيةَ مخصوصةٌ بِغَير المَكِّي ومَنْ بمعناه، لأَن الإِشارة فيها للتمتع المفهوم. من قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بالعُمْرَةِ} وليست للهَدْي والصومِ كما قال به الشافعيُّ، وإِلاَّ لقيل

(2)

«ذلك على مَنْ لم يَكُنْ أَهْلُه حاضري المَسْجِدِ الحَرَامِ» ، لأَن الهَدْيَ وبَدَله ـ أَعْنِي الصَّوْمَ ـ واجبٌ على المتمتع، والواجب يُستعمل فيه «على» لا «اللام» .

ولو خَرَجَ المكيُّ إِلى الكوفةِ مَثَلاً فَقَرَنَ صَحَّ، لأَنَّ عُمْرَته وحجّته ميقاتيتان، وصار بمنزلة الآفاقي، ولَزِمَهُ دَمُ شُكْرٍ. ولو تَمَتَّعَ لا يصح، لأَنه إِذا تَحَلَّلَ بالعُمْرةِ صارَ من أَهْلِ مَكَّةَ، فيصيرُ الحَجُّ مِنْ وطنه ولا يكونُ بناءً على سَفَرٍ سابقٍ. فعُلم أَنَّ عَدَمَ الإِلْمَامِ

(3)

شَرْطٌ لِصحةِ التمتع، فَيَنْتَفِي بانتفائه. ويؤيدُه ما رَوَى الطحاوي عن سعيد

(1)

سورة البقرة، الآية:(196).

(2)

أي: وإلا لقيل في الآية: "ذلك على من لم يكن

"، بدل قوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري

}.

(3)

الإِلمام: زيارة الآفاقي المتمتع أهلَه ومكثه بعد أداء العمرة ثم العودة إلى الحرم. معجم لغة الفقهاء ص: 87.

ص: 685

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ابن المُسَيَّب، وعطاء، وطَاوُس، ومجاهد، والنَّخَعي: أَنَّ المتمتعَ إِذا رَجَعَ إِلى أَهْله بعد العُمرةِ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ. وكذا حكاه الرَّازي في «أَحكام القرآن» ، وهو قول مالك والشافعي أَيضاً.

وفي «الأَسرار» : والمكيُّ يعتمر في أَشْهُر الحجّ ولا يُكْرَهُ له

(1)

، ولكن (لا)

(2)

يدرك فضيلة التمتع، لأَن الإِلمام يَقْطَعُ مُتْعَتَه كما يقطع متعة الآفاقي إِذا رجع بين النُّسُكَيْنِ إِلى أَهْلِهِ. انتهى. وهذا صريحٌ في أَنَّ المكيَّ لو اقتصر على عُمْرَةٍ مُفْردةٍ في أَشهر الحجِّ ولم يَحُجّ في تلك السنةِ لا تكونُ مكروهةً بلا خِلافٍ، ومَنِ ادَّعَى خلافَ ذلك كابنِ الهُمَام فقد أَبْطَلْناه في غير هذا المقام، وبَيَّنَا أَنَّهُ غيرُ مُوافِقٍ للروايةِ ولا للدِّرَايةِ. ومن الأَدلة على ذلك ما رَوَى البيهقيُّ عن مُعَاذَة العَدَوِيَّة، عن عائشةَ قالت: العمرةُ في السَّنةِ كُلِّهَا إِلا أَرْبَعَةَ أَيَّام: يومَ عَرفةَ، ويوم النَّحر، ويومان بعد ذلك. ورَوى الإِمام الأَعظم رحمه الله بإِسنادهِ عن عائشةَ قالت: لا بأْس بالعُمْرَة في أَيِّ شَهْر شِئْت ما خلا خمسةَ أَيام: يوم عرفةَ، ويوم النَّحر، وأَيام التَّشْريقِ.

ثُم الآفاقي إِذا أَتى بِعُمْرةٍ في أَشهر الحَجِّ وتَحَلَّلَ منها، ثُم عادَ إِلى وطنه، ثُم حَجَّ في عَامِهِ بطل تمتعه إِنْ لم يكن ساق معه هدياً، فلا يلزمه دم، لأَنه أَلَمَّ بأَهْلِهِ فيما بين النُّسُكَيْن إِلْماماً صَحِيحاً، وبذلك يَبْطُل التمتعُ، كذا رُوي عن عمر وابنه وابن عباس. وقد ذكرنا مَنْ تَبِعَهُم من التابِعِين، وهذا لأَن حَدَّ التمتع ليس بصادقٍ عليه حيث أَنْشَأَ لكل نسك سَفَراً من أَهله، والمتمتع مَنْ يترفق بأَداء النسكين في سَفَرٍ واحدٍ. وإِنْ ساقَ الهدي، أَوْ أَخَّرَ الحلق، أَوْ ترَكَ أَربعةَ أَشواطٍ من الطواف لم يبطل تمتعه عندنا، خلافاً لمالك والشافعيّ ومحمد، لأَنه لم يجمع بين النسكين في سفرٍ واحدٍ (لانتهاء)

(3)

سفره الأَول بإِلْمَامِهِ

(4)

بأَهْله.

ولأَبي حنيفة وأَبي يوسف: أَنَّ إِلْمَامَه بأَهْلِه ليس بإِلْمَامٍ صَحِيحٍ لبقاءِ إِحْرَامه، لأَنَّ سَوْقَ الهَدْي يمنعه من التحلل، والعودُ ليحلِقَ في الحرم وليأْتيَ بالطواف واجبٌ عليه، فجرى وجود هذا السَّفَر مجرى عدمه لعدم استحكامه، فكأَنه لم يزل بمكةَ إِلى

(1)

في المطبوع: ولا يمكن التمتع، وما أثبتناه من المخطوط، وهو الصواب. انظر "إرشاد الساري إلى مناسدً الملا علي القاري" ص 182.

(2)

سقط من المطبوع.

(3)

في المطبوع: لانتفاء، وما أثبتناه من المخطوط.

(4)

تقدم شرحها ص: 685، تعليق رقم (1).

ص: 686

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

أَنْ حج. وإِنْ أَحْرَمَ بالعمرة قبل أَشهر الحج وطاف أَقل السبعة، ثُم أَتَمها في الأَشهر وحَجَّ، يكونُ متمتعاً عندنا، وهو قول مالك، لأَن الإِحرام بالعُمرةِ وإِنْ حصل قبل الأَشْهر لكنه شرطٌ عندنا، وإِنما يعتبر أَداء الأَركان في أَشهره، وأَكثر أَفعال العمرة باقية مؤداة في أَشهره، وللأَكْثر حُكْم الكلِّ، فكان جَامِعاً بين العبادتين، فكان متمتعاً.

ونفاه الشافعيُّ بناءً على أَنَّ الإِحرام رُكْن عنده. وعلماؤنا والشافعيُّ أَبطلوا التمتع إِنْ طاف الأَكثر قبل الأَشهر، وأَجازه مالك، لأَن تمام العمرة بالتحلل منها، وهو واقعٌ في أَشهره، فيكون جَامِعاً بين النُّسُكَيْن باعتبار تمامِ العمرة.

قلنا: إِنه ليس بِجَامعٍ بينهما في الأَشْهُرِ لا حقيقةً ـ وهو ظاهر ـ، ولا حُكْماً، لأَن الأَكْثر قد وُجِدَ في غير الأَشهر، وللأَكْثر حُكْمِ الكل.

ويَمْضِي المُحْرِمُ فيما أَفْسَدَ مِنْ حَجَ أَوِ عُمْرةٍ بخلاف الصلاة والصوم، لأَنه لا يمكنه الخروج عن عهدة الإِحرام إِلاَّ بالأَفعال، فإِن كان متمتعاً سقط دَمُ المتعة، لأَنه لم يُوَفَّق

(1)

بأَداء النُّسُكَين الصحيحين في سَفَرٍ واحدٍ. ولو أَحْرَم شخصٌ بنُسُكين كَحَجَّتَيْن أَوْ عمرتين لزماه عندنا، وأَلْزَم محمدٌ وزفر بِنُسك واحدٍ كمالك والشافعي، لأَن الإِهلال للشُّروع في الأَداء، وأَداؤهما معاً غَيْرُ ممكنٍ، ثم ارتفاض أَحد الإِحْرَامَين يتأَخّر إِلى زمن التوجه للأَداء عند أَبي حنيفة في ظاهر الرواية، وإِلى زمن الشروع في أَحَد النُّسُكَين في روايةٍ. ويحكم أَبو يوسف بالارتفاض عَقِيب الإِحرام بهما بلا مهلة.

ولو أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أُخرى يَوْمَ النَّحْرِ قبل الحلق لزمته الحجة اتفاقاً

(2)

، وعليه دَمٌ عند أَبي حنيفة، قصَّر

(3)

لأَجل الخروج من الإِحرام الأَول أَوْ لا، احتراماً للإِحرام الثاني

(4)

، وخَصَّا

(5)

لزوم الدمِ بالتقصير، وهذا بناءً على ما قَدَّمنا في أَوَّل الكتاب مِنْ وجوب التحلل في أَيامِ النَّحْر عنده، وعدمه عندهما.

(1)

وفى المخطوط: يترفق، وما أثبتناه من المطبوع.

(2)

ويؤدي الحجة الأخرى في العام القابل.

(3)

قصَّر: أي حلق بعد الإحرام الثاني لأجل الخروج من الإحرام الأول.

(4)

ويلزمه الدم عند الإمام على كِلا التقديرين؛ لأنَّه إذا حلق بعد الإحرام بالثانية، فهو جناية في حق إحرام الحجة الثانية، وهذا الحلق هو نُسُك في حق الحجة الأولى.

وأما إذا لم يحلق للأولى يلزمه الدم أيضًا؛ لأن تأخير النسك عن وقته يوجب الدم عند الإمام. انتهى.

"البناية في شرح الهداية" 3/ 800 بتصرف.

(5)

أي "الصاحبان".

ص: 687

‌فَصْلٌ في الجِنَايَاتِ

إِنْ طَيَّبَ مُحْرِمٌ عُضْوًا كَامِلًا،

===

ولو أَحْرَمَ بِعُمْرةٍ بعد الفراغ من الأُولى قبل التقصير لزمه دَمٌ لإِحْرامِه قبل الوقت، لأَن وقته بعد الحلق عن الأُولى، لأَن الجَمْع بين إِحْرَامي الحج أَوْ إِحْرامي العمرة بدعة. ولم يذكر محمد دَماً في الجَمْع بين الحجّتين في «الجامع الصغير» ، وذكره في الجَمْع بين العمرتين، وأَوجبه في مناسك «المبسوط» ، فجعل بعضُ المشايخ فيه روايتين، وذكر بعضُهم أَنَّه لا فَرْقَ بينهما. وسُكُوتُه في «الجامع» ليس نَفْياً بَعْدَ وجودِ المُوجِبِ، لأن الموجب له في العمرتين وهو عَدَمُ المشروعية ثابت في الحَجَّتَين.

فصلٌ في الجنايات

الجنايةُ: فِعْلٌ مُحَرَّمٍ، والمرادُ هنا خاصٌّ مِنْهُ، وهو ما يكون حُرمتُه بسببِ الإِحرام أَوِ الحَرَم. ثُم المُحْرِم إِذا جَنَى عَمداً بلا عذرٍ، يَجِب الجزاءُ والإِثم، فلا بد من التوبة، وإِنْ جَنَى بغيرِ عَمْدٍ أَوْ بِعُذرٍ، فعليه الجزاء دون الإِثم.

وأَمَّا الواجبات فكلُّها إِنْ تركها لِعُذْرٍ لا شيءَ عليه، كما في «البدائع» ، ويَجِب الجزاء عندنا وهو قول مالك على الناسي لإِحرامه، وكذا على الجاهل بالحُرْمةِ، إِذْ الإِحرام حالةٌ مُذَكِّرةٌ، فلم يكن النسيانُ ولا الجَهْلُ في دار الإِسلام عُذْراً. ونفاه الشافعيُّ عنهما لأَنهما معذوران، إِلاَّ إِذا قتلا صيداً فإِنه يَجِبُ الجزاءُ على الأَظهر.

ثُم الكَفَّارات كُلُّها واجبةٌ على التراخي، فلا يَأْثم بالتأْخير عن وقت الإِمكان، ويكون مُؤَدِّياً لا قَاضِياً في أَيِّ وقت (أَدَّى، وإِنَّما يتضيّقُ عليه الوجوب في آخِر عُمُره في وقتٍ)

(1)

يَغْلب على ظَنِّه أَنه لو لم يُؤَدِّه لفات، فإِنَّه إِنْ لم يُؤدِّ فيه حتى ماتَ أَثِمَ، ويَجِب عليه الوصيةُ بالأَداء، ولو لم يُوصِ لم يجب في التَّركةِ ولا على الوَرَثة، ولو تَبَرَّعَ عنه الورثةُ جاز، ولا يصومون عنه. والأَفْضل تعجيلُ الكفارات والمبادرة إِلى الخيرات، فإِنَّ في التأْخيرِ آفاتٍ.

ثُم الجنايات قِسْمَان: مُوجِبٌ للدم، ومُوجِبٌ للصَّدقةِ، فأَشار إِلى الأَوَّلِ بِقَوْلهِ:(إِنْ طَيَّبَ مُحْرِمٌ) مُكَلَّف، ذَكَراً كان أَوْ أُنْثَى (عُضْواً كَامِلاً) كالرأْس والفَخِذ والسَّاق. وقال الفقيه أَبو جعفر: يُعْتَبر كثرةُ الطَّيبِ في نفسه، كَكَفَّين مِنْ ماءِ

(1)

سقط من المطبوع.

ص: 688

أَوِ ادَّهَنَ،

===

الوردِ، وكَفَ من الغالية

(1)

، وما استكثره الناسُ مِنْ المسك.

وفي «المحيط» : وإِلى كلِّ قولٍ أَشَار محمدٌ، والصحيح إِنْ كان الطيبُ قَليلاً فالعبرةُ بالعُضْو لا بالطيب، وإِنْ كانَ الطِّيبُ كثيراً فالعبرة بالطيبِ لا بالعضو. ولو طَيَّب في مجلسٍ واحدٍ جميعَ أَعضائه، فعليه دَمٌ وَاحِدٌ لاتحاد المجلس

(2)

، وإِنْ كان في مجالس، فَلِكل طِيبٍ دَمٌ على حِدَة، كَفَّرَ للأُولى أَوْ لا عندهما. وقال محمد: عليه كفارةٌ واحدةٌ ما لم يُكَفِّر للأُولى.

ولو كان الطِّيبُ في أَكثر مِنْ عُضْوٍ يُجْمَع، فإِنْ بلغ عُضْواً فعليه دَمٌ. ولو شَمَّ طِيباً، أَوْ دخل بيتاً مُجَمَّراً فَعَلِقَ بثوبهِ رائحةٌ فلا شيءَ عليه، ويُكْرَهُ له شَمُّه قَصْداً. كما رُوي عن عمر (وجابر)

(3)

: كان ابن عباس لا يرى به بأْساً. وسُئِل عثمانُ عن المُحْرِم يدخل البستان قال: نعم، ويَشَمُّ الريحان. وأَوجب مالك والشافعيُّ الدَّمَ عليه.

ولو أَكل الزَّعفران وحدَه فعليه دَمٌ إِنْ كان كثيراً، وهو بحيث يلتزق به أَكثر فَمِه، وإِلاَّ فَصَدَقَةٌ عند أَبي حنيفةَ. وعندهما لا شيءَ عليه، لأَنَّ الزَّعْفَران يُستعمل في الأَطْعمة فالتَحَقَ بها. ولأَبي حنيفةَ أَنه طِيبٌ حقيقةً، ولا تسقط هذه الحقيقةُ إِلاَّ لضرورة التبعية للطعام، بأَنْ كان في طعام مسّته النار أَوْ لم تَمَسَّه. ولو طَيَّبَ رُبُعَ عُضْوٍ يَلْزَمُه صدقةٌ في ظاهر الرواية، وقيل:(يلزمه)

(4)

دمٌ اعتباراً بالحلق.

وفي «الهداية» : فإن خَضَب رأْسه بِحِنَّاء فعليه دَمٌ لقوله صلى الله عليه وسلم «الحِنَّاءُ طِيبٌ» . أَخرجه النَّسائي، والطبراني، والبيهقي، ولفظه عن خَوَلَة بنت حَكِيم عن أُمِّها: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُطَيِّبِي وأَنْتِ مُحْرِمَةٌ، ولا تَمَسِّي الحنّاء فإِنه طِيبٌ» .

(أَوِ ادَّهَنَ) ـ بتشديد الدال ـ أَي تَدَهَّنَ بِدُهْنٍ فيه طِيبٌ، كدُهْن البنفسج والورد والياسمين والبَان

(5)

، لَزِمه دَمٌ إِجْمَاعَاً. وفي «المحيط»: لو ادَّهَنَ بشحمٍ أَوْ سمنٍ، فلا شيء عليه إِجماعاً، لأَنه ليس بِطِيبٍ أَصلاً. ولو دهن شقاق رجليه بزيت أَوْ

(1)

الغالية: نوعٌ من الطِّيب، مُرَكَّب من مِسكٍ، وعنبر وعودٍ ودُهْنٍ. معجم لغة الفقهاء ص:328.

(2)

في المطبوع والمخطوط: لاتحاد الجنس، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه من "الدر المختار" حيث قال: والبدن كله كعضو واحدٍ إن اتحد المجلس، وإلا فلكل طيبٍ كفارةٌ. 2/ 201، "رد المحتار".

(3)

سقط من المطبوع.

(4)

سقط من المطبوع.

(5)

البان: شجر، لحبِّ ثمره دُهن طيب. القاموس المحيط ص: 1525، مادة (البون).

ص: 689

أَوْ لَبِسَ مَخِيطاً، أَوْ سَتَرَ رَأْسَهُ يَوْماً كَامِلاً،

===

داوى به جراحة، فلا شيء عليه (إِجماعاً)

(1)

، لأَن الزيت طِيبٌ من وجه، وليس بطيبٍ حقيقةً، فإِذا استعمل على وجه التَّطيّب لزمه الدَّمُ، ولو استعمل لإِصلاح البدن لا يلزمه شيءٌ، توفيراً على الشَّبَهَيْنِ حقهما.

(أَوْ لَبِسَ مَخِيطاً) ولو متعدداً في مجلس واحدٍ: بقميصٍ وقَلَنْسُوَة، وعِمَامة، وقَباء

(2)

وسراويل، لأَن جنس الجناية واحدٌ والمقصود واحدٌ، وهو الاستمتاع بلبسِ المخيط كحلق رأْسه كله، فصارت كجنايةٍ واحدةٍ.

(أَوْ سَتَرَ رَأْسَهُ) أَي غَطَّاه (يَوْماً كَامِلاً) أَوْ ليلةً كاملة، وهو ظرف للفِعْلَين

(3)

، لأَنَّ الارتفاق

(4)

الكامل في اللبس وستر الرأْس يدفع الحر والبرد، وذلك بيَوْمٍ كاملٍ. قال أَبو يوسف وهو قول أَبي حنيفة أَولاً: أَكْثرُ اليومِ كاليَوْمِ.

وفي «المحيط» : ولو غطَّى ربع رأسه يوماً أو أكثر، فعليه دمٌ، وفي الأَقل صدقةٌ عندنا، لا دَمٌ كما قال مالك والشافعيُّ، واحتجَّا بأَنه محظورُ الإِحرام وقد ارتكبه، فيجِبُ عليه الدَمُّ بنفسه لا بامتدادِه كسائر محظوراتِ الإِحرامِ.

وفي «شرح الطحاوي» : ولو لبس المُحْرم المَخِيط أَياماً ولم ينزعه ليلاً ونهاراً، فعليه دَمٌ واحِدٌ، فإِنْ ذبح ثُم استمر على اللبس يوماً كاملاً فعليه دَمٌ آخَرُ، لأَن الدوام كالابتداء. ولو اضطر المُحْرم إِلى ثوبٍ واحدٍ فلبس ثوبين: فإِنْ لبسهما على مَوْضع الضرورة لم يجب إِلاَّ دَمٌ واحدٌ على سبيل التخيير، كمَن اضطر إِلى لبس قميصٍ، فلَبِس قميصين أَوْ قميصاً وجُبَّةً. وإِنْ لَبِس أَحدهما على موضع الضرورة والآخر على غيره، كمَن اضطر إِلى لُبْسِ قَلَنْسُوة، فلبس قَلَنْسُوةً وقميصاً، فعليه دَمٌ (مُحَتَّمٌ)

(5)

للبسه ما لا يحتاج إِليه. ويُخيَّرُ بَيْن الدَّم، والإِطعام، والصيام لِلبسه ما يحتاج إِليه.

ولو كان يَلْبَسُ المخيط بالنهار ويَنْزِعُه بالليل للنوم من غير أَنْ يعزم على تَرْكه، فعليه دمٌ واحدٌ بالإِجماع. وإِن نَزَعَهُ على عزم الترك ثُم لبسه، فإِنْ كَفَّرَ للأُولى، فعليه

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

القَبَاء: ثوبٌ يُلْبَس فوق الثياب ويتمنطق عليه. معجم لغة الفقهاء ص: 355.

(3)

أي: اللَّبس والستر.

(4)

ارتفق: أي انتفع. المُغْرِب، 1/ 339، مادة (رفق).

(5)

سقط من المطبوع.

ص: 690

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

كفارةٌ بالإِجماع، وإِلا فعليه كَفَّارَتَان عندهما، وقال محمد: كفارةٌ واحدةٌ، كذا في «السراج» .

وقال ابن الهُمَام: لا فَرْق في لُزُوم الدَّم إِذا أَحْدث اللُّبْس بعد الإِحْرَام، أَوْ أَحْرَم وهو لَابِسٌ فَدَامَ يوماً أَوْ لَيلةً عليه، بخلافِ انتفاعِهِ بعد الإِحرام بالطِّيبِ السابق للنص فيه، ولولاه لأَوْجَبْنا فيه أَيْضاً، ولا في كونِه مختاراً في اللُّبْس أَوْ مُكْرهاً عليه أَوْ نَائِماً، فَغَطى إِنسانٌ رأْسَه لَيْلَةً أَوْ وجهه حتى يجِبُ الجزاء على النائم، لأَن الارتفاق حصل له، وعدم الاختيار أَسْقَطَ الإِثْمَ عنه لا المُوجَبَ. انتهى.

ولا بأْس للمُحْرم أَنْ يُغَطي فاه وأُذُنَيه، ويُكْره أَنْ يُغطي أَنْفَه. ولو غَطَّى ما استرسل مِنْ شعر لِحيتِه لا بأْس به، كذا في «السراج» . ويَجُوزُ وضع القَبَاء على مَنكبيه إِذا لم يُدْخِل يديه من كُمَّيه ولا دم عليه، وأَلْزَمه زُفَر ـ كمالك والشافعي ـ بالدَّم، لأَنه ارتفق بِلُبْس القَبَاء ارتفاقاً كاملاً وهو مَخِيط لأَنه قد لَبِسَ هكذا. ولنا أَنه استعمله اسْتِعْمال الرِّداء المطلق

(1)

للمُحْرم لا المَخِيط، أَلا ترى أَنه يحتاج إِلى التكلف في حِفْظه، والمَخِيط مَلْبوسٌ لا يتكلفُ في حِفْظه، فلم يكن لَابِساً للمَخِيط، فلم يَجِب عليه شيءٌ.

وفي «المبسوط» : ويتوشح المُحْرِم بالثياب ولا يَعْقِد على عنقه، لأَنه إِذا عَقَدَه لا يحتاج في حِفْظه على نَفْسِه إِلى تَكَلُّف، فكان في معنى المَخِيط. وكذلك قالوا: إِذا اتَّزَر لا يَنْبَغِي له أَنْ يَعْقِدَ إِزَاره على نفسه بِحَبْلٍ أَوْ غيره، فقد رُوِي أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأَى رجلاً قد شَدَّ فوق إِزَارَه حَبْلاً فقال:«أَلْقِ ذلك الحَبْلَ، ويلك» . وكذلك يكره أَنْ يُخَلِّل رِدَاءَهُ بخِلَال، لأَنه لا يحتاجُ إِلى تَكَلُّف في حِفْظه على نفسه، ولكنه مع هذا لو فَعَل، لا شيءَ عليه، لأَن المحظور عليه الاستمتاع بِلُبْس المخيط ولم يوجد ذلك، ولعل الحِكْمة في نفي الاحتياج إِلى التكلّف في حِفْظه على نَفْسِهِ ليكون مُذَكِّراً له حال إِحْرَامه، ولا يصير غَافِلاً عن مَرَامِهِ وكمال مقامه.

هذا، ويجب الدم عندنا على لَابِس السراويل بلا فتق وإِنْ لم يجد غيره، ونفاه الشافعيُّ، لأَنَّ الستر فَرْضٌ عليه، ولا يسقط هذا الفرض بالإِحرام، والفتق غيرُ واجبٍ

(1)

في المطبوع: المطابق، وما أثبتناه من المخطوط.

ص: 691

أَوْ حَلَقَ رُبْعَ رَأسِهِ،

===

لاستلزامه الضرر بتنقيص المال. وهذا بخلافِ الخُفَّيْن حيثُ يَجِب قَطْعُهُمَا أَسْفَلَ من الكعبين إِذا لبسهما، لأَن اللبس ثَمَّةَ غيرُ واجبٍ، وإِنَّما يَلبَسه لِدَفْعِ الأَذى، فَوَجَب القَطْعُ للتمكن من الانتفاع على الوجه المباح، وههنا الستر فَرْضٌ، فكان مُضْطرَّاً إِلى اللُّبْس فلم يَجِب فَتْقُه. ولنا أَنَّ تأْثير الإِحرام في حُرْمةِ لُبْسِ المَخِيط، وتأْثير العُذْر في الإِطلاق، أَمَّا في إِسقاط الحرمة فلا، فُيَنَّزلُ اللُّبْسُ للعُذْرِ منزلةَ الحَلْقِ لِدَفْع الأَذَى.

(أَوْ حَلَقَ رُبْعَ رَأْسِهِ) أَوْ لحيته طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، لأَنه حصل له ارتفاقٌ كامِل، لأَنَّ مِنَ الناسِ مَنْ يحلق بعض رأْسه، مَنْ يحلِق بعض لحيته. ولو كان مُكْرَهاً لا يرجع على المُكْرِه بشيءٍ، لأَن الدَّم في مقابلةِ ما حصل له مِنْ الراحة، وصار كالغُرور في العُقْر: ـ وهو بالضم: دية الفَرْج المغصوب، وصَدَاق المرأَة ـ. وصورته: أَنْ يَغُرَّ رَجُلاً فيقول له: أُزوِّجُ لك هذه فهي حرّةٌ، فيتزوجها ويدخل بها، ثُم استحق مُسْتَحِقٌّ بأَنها أَمَتُه، فإِنَّ المولى يأْخُذ مِنْ الزوجِ العُقْرَ، ولا يَرْجِعُ به الزوجُ على الغَارِّ، لأَنه قد حصلت له اللذةُ بمقابلةِ العُقْر وهي الوطء، كذا في «السراج» .

وقال زُفَر: يرجع به عليه، لأَنه هو الذي أَوْقعه في هذه العهدة، وأَلْزَمه هذه (الغرامة)

(1)

. ولا شيءَ عليه عند الشافعي بناءً على أَصْلِهِ: أَنَّ

(2)

الإِكراه يُخْرِجُ المُكْرَهَ مِنْ أَنْ يكونَ مُؤاخَذاً بِحُكْم الفِعْل، والنوم عنده أَبْلغ من الإِكْراه، لأَن الإِكْرَاه يُفْسِدُ قَصْدَه. وبالنوم يَنْعَدم القَصْدُ أَصلاً. وعندنا سَبَبُ النوم والإِكراه ينفي عنه الإِثم، ولكن لا ينفي حُكْم الفِعْل إِذَا تَقَرَّرَ سَبَبُه

(3)

، والسبب هنا أَنه نال مِنْ الراحة والزينة بإِزالة التَّفَثِ

(4)

عن بدنه فيلزمه الدَّمُ، وفي «الجامع الصغير»: عن أَبي حنيفةَ أَنه يَجِب الدمُ بِحَلْق الأَكْثر. انتهى. وهو رواية عن أَبي يوسف، وهو (الأَظْهَر)

(5)

. وذكر شمسُ الأَئمة وقاضى خان: أَنَّ على قولهما في حلق الجميع الدم. وفي الأَقل منه الطعام.

ثُم يَجِب عندنا صدقةٌ بِثَلاثِ شَعَراتٍ لِعَدَمِ كمال الارتفاق. ويجب دَمٌ عند الشافعيّ اعتباراً بنباتِ الحرم. وإِذا حَلَقَ مُحْرِمٌ رَأْسَ محرم عند جواز

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

في المطبوع: أصل، وما أثبتناه من المخطوط.

(3)

في المطبوع: "تقرَّب بسبب"، وما أثبتناه من المخطوط.

(4)

التَّفث في المناسك: قص الشارب والأظفار، ونتف الإِبط، ونتف شعر العانة، ونحو ذلك. معجم لغة الفقهاء ص:138.

(5)

في المطبوع: الأكثر، وما أثبتناه من المخطوط.

ص: 692

أَوْ عُضْواً كَامِلًا، أَو قَصَّ أَظْفَارَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ، أَو الكُلَّ في مَجْلِسٍ،

===

التحلل يوم النحر لم يكن عليهما شيءٌ، كذا في «السراج» ، والظاهر أَنه كذلك عند جواز التَّحَلل في العمرة.

(أَوْ عُضْواً كَامِلاً) بأَنْ حَلَق صدره، أَوْ ساقَه، أَوْ رقبته، أَوْ عانَتَه، أَوْ إِحدى إِبْطَيْهِ، أَوْ شَعْر مَوْضع حجامته في قول أَبي حنيفة. وقال أَبو يوسف ومحمد: الواجب في حَلْق المحاجم الصدقة، لأَنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو مُحْرِم، ولو كان حَلْقُ المحاجم يُوجِبُ الدَّمَ لما بَاشَرَه صلى الله عليه وسلم (أُجيب بأَنه يُحْتَمل بأَنه عليه الصلاة والسلام احتجم في مَوْضعٍ لا شَعْر فيه، أَوْ احتجم لعُذْرٍ لأَنه عليه الصلاة والسلام لا يفعل ما يُوجِب الدَّمَ)

(1)

. كما لا يفعل ما يُوجِب الدم لا يفعل ما يُوجِب الصدقة.

وفي «المحيط» : لو حَلق إِبْطَيه فعليه دَمٌ واحِدٌ، لأَنهما جِنَايتان مِنْ جنْسٍ واحِدٍ، فليكتفى بجزاءٍ واحدٍ. وعلماؤنا أَلْزَموا بأَخْذ شاربٍ ونحوه حكومةَ عَدْلٍ، وتفسيرها: أَنْ ينظر إِلى هذا المأْخوذ كم يكون من ربع اللحية فيجب عليه من الطعام بِحِسَابِهِ

(2)

، ويجب دَمٌ عليه عند مالك اعتباراً منه بما يميط الأَذى مِنْ حَلْقِ العَانَةِ، وموضع الحجامة، ونتف الإِبطِ والأَنف، وأَوجب في شعرةٍ أَوْ شعراتٍ إِطْعَام حُفْنة بيدٍ واحدةٍ.

(أَوْ قَصَّ أَظْفَارَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ) للارتفاق الكامل (أَوْ الكُلَّ في مَجْلِسٍ) لأَنها محظوراتٌ مِنْ نوعٍ واحدٍ فيتداخل، كإِيلَاجَيْن في جِمَاعٍ واحدٍ لا يلزم بها إِلاَّ مَهْرٌ وَاحِدٌ. وعند مالك والشافعيِّ يجب أَربعة دماء بناءً على عدم التداخل عندهما. قَيَّد «بِمَجْلس» لأَنه لو قَصَّ أَظفار كل يدٍ في مجلس، وَجَب لكل يَدَّ دَمٌ عند أَبي حنيفة وأَبي يوسف. وللجميع دَمٌ عند محمد، لأَن الجناياتِ مِنْ جِنْسٍ وَاحدٍ، وهو القَصُّ، في حُرمةٍ واحدة، وهي الارتفاق، فصارِت كجنايةٍ واحدةٍ، إِلاَّ إِذا كَفَّرَ للأَول قبل قَصِّ الثاني، فيلزمه دَمٌ للثاني.

ولهما أَنَّ هذه جناياتٌ متعددةٌ حقيقةً، لكنَّها في المعنى متحدةٌ، وهو حُصولُ الارتفاق مِنْ جانب القَصِّ، وهو شيءٌ واحدٌ. فعند اتحادِ المَجْلس جعلنا الكُلَّ جنايةً واحدةً. وعلى هذا الاختلاف لو جامع مرةً بعد أُخرى امرأَةً واحدةً، أَوْ نسوةً، أَلْحَقَ محمدٌ خمسةً متفرقةً فيهما بِمُجْتَمِعَةٍ في محلَ واحدٍ وأَلزم دَمَاً. وأَوجبا عن كل ظُفْر صدقةً إِلاَّ أَنْ يبلغَ ذلك دماً، فحينئذٍ ينقص منه ما شاء. وعن محمد: في

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

في المطبوع: "من الدم بحسبه"، وما أثبتناه من المخطوط.

ص: 693

أَوْ طَافَ للفَرْضِ مُحْدِثًا،

===

كل ظُفْرٍ خُمْسُ الدَّم. ولا شيءَ بأَخْذِ الظُّفْر المُنْكَسِر وقطعه اتفاقاً، لأَنه لا ينمو بعد الانكسار، فأَشْبَه اليابس مِنْ شجر الحَرَم.

(أَوْ طَافَ للفَرْضِ) جميعه أَوْ أَكثره (مُحْدِثاً) بناءً على أَنَّ الطهارة في الطواف عن الحدث الأَكبر والأَصغر واجبةٌ عندنا. وقال مالك والشافعي: لا يعتد بذلك الطواف بناءً على أَنَّ الطهارة فيه عنهما

(1)

شرط عنده

(2)

كما في الصلاة لما رَوى الترمذي من حديث ابن عباس قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «الطَّوافُ بالبيتِ صلاةٌ، إِلاَّ أَنكم تتكلَّمونَ فيه، فَمَنْ تَكَلَّم لا يتكلَّم إِلاَّ بخَيْر» .

وقال ابنُ الهُمَام: ووجه الاستدلال أَنه شَبِيهٌ في الحُكْم، بدليلِ الاستثناء مِنْ الحُكْم فكأَنه قال: هو مِثْل الصلاة في حُكْمِها إِلاَّ في جواز الكلام، فيصير ما سوى الكلام داخلاً في الصَّدَر، ومنه اشتراط الطهارة. وأَما المشي فقد عُلِم إِخراجه قبل التَّشْبِيه، فإِن الطواف نَفْسُ المشي، فحيث قال صلاة فقد قال المشي الخاص كالصلاة، فَوَجْه الشَّبَه ما سوى المشي. وخُصّ الانحراف أَيضاً بالإِجماع، وباتفاقِ رواةِ مَنَاسِكِه صلى الله عليه وسلم أَنه جَعَل البيتَ عن يَسارهِ حين طاف. والجواب على تسليمِ أَنْ التشبيه في الحكم أَنه خَبَرٌ واحدٌ، لو لم (يكن)

(3)

يلزم نَسْخُه لإِطلاق الكتاب لثبتَ به الوجوبُ لا الافتراض، لاستلزامه الإِكْفَار بِجَحْد مقتضاه، وليس ذلك لازمَ مُقْتضاه، بل لازِمُه التَّفْسيق به، على أَنَّا نَمْنَعُ أَنَّ التشبيه في الحُكْمِ لجَوَازِ أَنْ يكونَ في الثواب.

وقوله: «إِلاَّ أَنكم .... » إِلى آخره، منقطع، كلام مستأْنف بيانٌ لإِباحة الكلام فيه، ولو كان التشبيه في الحكم لكان مقتضاه وجوب طهارة الثوب والبدن فيه، لكن صرَّحوا بعدم وجوبه. ففي «البدائع»: أَنها ليست بشرطٍ بالإِجماع، فلا يُفترضُ تحصيلها ولا يجب، لكنَّهُ سُنَّةٌ، حتى لو طَافَ وعلى ثَوْبَه نَجَاسَةٌ أَكثر مِنْ قَدْر الدِّرهم، لا يلزَمُه شيءٌ لكنه يُكْره. انتهى. وهو غايةُ التحقيق والله ولي التوفيق.

ولنا قوله تعالى: {ولَيَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العَتِيقِ}

(4)

مِنْ غيرِ قَيْدٍ بالطهارةِ. وفي «الإِمام» : روى أَحمد بن حنبل، عن محمد بن جعفر، عن شُعبةَ قال: سأَلت حَمَّاداً

(1)

أي عن الحدثين.

(2)

أي الطواف.

(3)

سقط من المطبوع.

(4)

سورة الحج، الآية:(29).

ص: 694

أَو غَيْرِه جُنُباً، أَو أَفَاضَ قَبْلَ الإمَامِ، أَوْ تَرَكَ وَاجِباً، أَوْ أَكْثَرَه، أَوْ قَدَّمَ نُسُكًا عَلَى آخَرَ، أَو أَخَّرَ طَوَافَ الفَرْضِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ،

===

ومنصوراً عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة، فلم يَرَيَا به بأْساً.

(أَوْ غَيْرِه) أَي غير طوافِ الفَرْض، سواءٌ كان طوافَ قُدومٍ، أَوْ صَدَرٍ، أَوْ تَطَوُّعٍ (جُنُباً) لأَن نقص الجنابة في غير الفَرْص كنقض الحَدَث في طواف الفَرْض. (أَوْ أَفَاضَ قَبْلَ الإِمَامِ) نهاراً، لأَنه لو أَفاض قبل الإِمام ليلاً لا شيء عليه، ولو أَفاض الإِمَامُ نهاراً لَزِمه الدَّمُ، لأَن رواة نُسُكِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم متفقون على أَنه صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ مِنْ عرفاتٍ بعد غروب الشمس وقال:«خُذُوا عنّي مَنَاسِككُم»

(1)

.

وأَمَّا قول صاحب «الهداية» : لقوله صلى الله عليه وسلم «فادْفَعوا بَعْد غروبِ الشمسِ» فليس بمعروف. ولو عاد إِلى عرفةَ بعد غروبِ الشمسِ، لا يسقط عنه الدَّمُ في ظاهر الرواية، لأَنَّ المتروك سُنَّة الدفع مع الإِمام، ولَم يستدرك. وذكر ابن شُجَاع، عن أَبي حنيفة أَنه يسقط. قال القُدُوري: وهو الصحيح، والجمهور على أَنَّ الأَول هو الأَصح. ولو عاد قبل الغروب، قيل: يسقط لأَنه تدارك المتروك في وقته، وقيل: لا يسقط لأَنه لم يتدارك الجزءَ الفائتَ من الوقوف، وهو الأَظْهر، لأَن الاستدامة واجبٌ، فيفوتُ بِفَوْت البَعْض.

(أَوْ تَرَكَ وَاجِباً) بأَنْ تَرَكَ الوُقُوفَ بالمُزْدَلِفَةِ مِنْ غير عُذْرٍ، أَوْ طواف الصَّدَر لِغَيْرِ حَائِضٍ، أَوْ السعي للحج أَوْ العمرة، أَوْ رمي يومٍ (أَوْ أَكْثَرَه) أَي أَكثر واجبٍ، بأَنْ ترك أَربعة أَشواطٍ مِنْ طوافِ الصَّدَر، أَوْ من السَّعْي، أَوْ تَرَك أَربعَ حَصَياتٍ في اليوم الأَول، أَوْ إِحْدَى عشرةَ حصاةً في يومٍ مِنْ الأَيامِ الأُخَرِ. والتَّرْكُ يتحققُ بِغُروبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِر أَيَّامِ الرَّمْي. ولو ترك رمي الجمار في الأَيام كُلِّها يلزمه دَمٌ واحِدٌ، كما لو حَلَق جميعَ بَدَنِهِ في مَجْلِسٍ واحدٍ.

(أَوْ قَدَّمَ نُسُكاً) أَي عَمَلاً من أَعمال الحج (عَلَى) نُسُكٍ (آخَرَ) مِمَّا يكونُ مِنْ حَقِّه وجوبُ تَقْدِيمه، بأَن حَلَق قَبْلِ الرَّمْي، أَوْ نحر القارِنُ أَوْ المتمتع قبل الرمي، أَوْ حَلَق قَبْلَ الذَّبْح (أَوْ أَخَّرَ طَوَافَ الفَرْضِ) أَوْ الحَلْق أَوْ الذَّبْح لِمَنْ يَجِبُ عليه، (عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ) أَوْ أَخَّر رمي اليوم الأَول (إِلى الثاني، أَوْ رَمْي اليوم الثاني إِلى)

(2)

الثالثِ، أَوْ الثالث إِلى الرابع، وهذا كله عند أَبي حنيفة.

(1)

تقدم تخريجه ص: 612، تعليق رقم (2).

(2)

سقط من المطبوع.

ص: 695

أَوْ تَرَكَ أَقَلَّهُ، فَعَلَيْهِ دَمٌ.

===

وقال أَبو يوسف ومحمد ـ وهو قول الشافعيّ ـ: لا شيء عليه في تقديم نُسُكٍ أَوْ تأْخيره لما في «الصحيحين» من حديث ابن عباس: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الذبح، والرمي، والحلق، والتقديم والتأخير، فقال:«لا حَرَجَ» .

ولأَبي حنيفة ما رَوى ابنُ أَبي شيبةَ والطحاوي من حديث ابن عباس أَنَّه قال: مَنْ قَدَّم شيئاً في حَجِّه أَوْ أَخَّرَه، فَلْيُهْرِق لذلك دَماً. وقال الطحاوي: فهذا ابن عباس أَحَدُ مَنْ رَوى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنه ما سُئِل يومئذٍ عنْ شيءٍ قُدِّم أَوْ أُخِّر مِنْ أَمْرِ الحَجِّ إِلاَّ قال: «لا حَرَج» . فليس عنده مَعْنَى ذلك على الإِباحة في تَقْدِيم ما قَدَّمُوا، ولا في تَأْخِيرِ ما أَخَّرُوا مِمَّا ذَكَرْنا أَنَّ فيه الدَّمَ، ولكن معنى ذلك عنده على أَنَّ الذين فعلوه كان على الجهلِ بالحُكْم فيه كيف هو، فَعَذَرهم وأَمرهم في المُسْتَأْنَفِ أَنْ يَتَعَلَّموا مَنَاسِكَهم.

وتحقيقُ المقام ما ذكره ابن الهُمام أَنَّ لهما ما في «الصحيحين» أَنَّه صلى الله عليه وسلم وقف في حَجَّةِ الودَاع فقال رجلٌ: لَمْ أَشْعُر فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذبح، قال:«اذْبَح ولا حَرَج» ، وقال آخَرُ: يا رسولَ اللهِ لم أَشْعُر فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمي. قال: «ارْمِ ولا حَرَجَ» ، فما سُئِل يَوْمئذٍ عن شيءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّر إِلاَّ قال:«افْعَل ولا حَرَج» . والجواب أَنَّ نَفْي الحَرَج يتحقق بِنَفْي الإِثم والفساد، فَيُحْمل عليه دون نفي الجزاء. فإِنَّ في قول القائل:«لم أَشْعُر فَفَعَلْتُ» (ما)

(1)

يفيد أَنه ظهر له بَعْدَ فِعْله أَنَّه مَمْنوعٌ من ذلك، فلذا قَدَّم اعتذاره على سؤاله، وإِلاَّ لم يسأَل، أَوْ لم يعتذر.

ولكن قَدْ يُقَال يحتمل أَنَّ الذي ظهر له مخالفةُ تَرْتِيبه لترتيبِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَظَنَّ أَنَّ ذلك الترتيب مُتعينٌ، فقدّم ذلك الاعتذار وسأَل عَمَّا يلزمه به، فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم بالجوابِ عدمَ تَعَيُّنِهِ عليه بِنَفْي الحرج، وأَنَّ ذلك الترتيب مَسْنونٌ لا واجبٌ. والحق أَنَّه يُحْتمل أَنْ يكونَ ذلك، وأَنْ يكون الذي ظهر له كان هو الواقع إِلاَّ أَنه صلى الله عليه وسلم عذَرهم بالجهل فأَمرهم أَنْ يتعلموا مَنَاسِكَهُم. وإِنَّما عذرهم بالجهل لأَنَّ الحال كانَ إِذْ ذاك

(2)

في ابتدائه. وإِذا احتمل كُلاًّ منهما، فالاحتياطُ اعتبارُ التَّعْيين، إِذِ الأَخْذُ بهِ واجبٌ في مَقَام اضْطِّرابٍ فَيَتِمُّ الوَجْهُ لأَبي حنيفةَ.

(أَوْ تَرَكَ أَقَلَّهُ) أَي أَقل طوافِ الفَرْض، بأَنْ تَرَكَ ثلاثة أَشواط، أَوْ شَوْطين أَوْ شَوْطاً، إِلاَّ أَنَّ النقصان بِتَرْكِ الأَقل نقصانٌ يسير فأَشْبه النقصان بالحدث (فَعَلَيْهِ دَمٌ)

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

في المطبوع: لأنَّه كان الحال ذاك، وما أثبتناه من المخطوط.

ص: 696

وبِتَرْكِ أَكْثَرِهِ بَقِيَ مُحْرِمًا حَتَّى يَطُوفَ، وإِنْ طَافَهُ جُنُبًا فَبَدَنَةٌ، وإِنْ فَعَلَ أَقَلَّ مِمَّا ذُكِرَ، أَوْ طَافَ غَيرَ الفَرْضِ مُحْدِثًا،

===

هذا جواب قوله: «إِنْ طَيَّبٍ مُحْرِمٌ عضواً» وما عطف عليه، وكذا إِنْ طافَ للعُمرة بِغَيْرِ طهارة.

(وبِتَرْكِ أَكْثَرِهِ) أَي أَكْثَرَ طوافِ الفَرْضِ في الحَجِّ وهو أَربعة أَشْوَاط (بَقِيَ مُحْرِماً) أَي في حَقِّ النّساء (حَتَى يَطُوفَ) أَي إِلى أَنْ يطوف بذلك الإِحرام، لأَن تَرْك أَكثر الطواف كَتَرْك كُلِّه، وتَرْكُ كُلِّ هذا الطواف لا يُجْبَر بالدَّمِ.

(وإِنْ طَافَهُ) كُلَّه أَوْ أَكثره (جُنُباً) أَوْ حائضاً أَوْ نُفَسَاءَ (فَبَدَنَةٌ) تَجِبُ عليه، أَوْ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، كما روى ابن عباس. وهي عندنا بعيرٌ أَوْ بقرةٌ، لأَن الجنابة أَغْلظُ من الحَدَث، فيجب جَبْرُ نقصانها بالبَدَنة إِظهاراً للتفاوت في الجنايةِ، وللأَكثر حُكْم الكل. ثُم قيل: يجب الإِعادة في الحدث الأَصغر والأَكبر. والأَصح كما في «الهداية» أَنْ يُؤمر مَنْ بِمكَّة بإِعادته في الحدثِ استحباباً، وفي الجنابة وجوباً. وإِنَّما كان ذلك أَصحَّ لأَن النقص في الحدث يسيرٌ، وفي الجَنَابة كثيرٌ، فينبغي أَنْ يتفاوت بينهما في حُكْم الإِعادة للجبر.

فإِنْ أَعاده وقد طافَ مُحْدِثاً فلا دمَ عليه، سواءٌ أَعاد في أَيام النَّحْرِ أَوْ بعدها. وإِنْ أَعاده وقد طافه جُنُباً (إِنْ كان أَيام النَّحْر فلا دم عليه، و)

(1)

إِنْ كان بَعْدَها فعليه دَمٌ للتأْخيرِ عند أَبي حنيفةَ وسقطت البدنة بالاتفاق. وإِنْ رجع إِلى أَهْله في الحَدَث فالمستحبُّ بَعْثُ الشاةِ لا الإِعادة، لأَنه أَنْفَع للفقراء، وفي نقصانه خِفَّةٌ، وفي الجنابة عليه أَنْ يعود إِلى مكةَ بإِحرامٍ جديدٍ إِنْ جاوز الوقت، فلو لم يَعُدْ وبَعَثَ هَدْياً أَجْزَأَه.

(وإِنْ فَعَلَ أَقَلَّ مِمَّا ذُكِرَ) بأَنْ طَيَّبَ أَقل مِنْ عُضْو، أَوْ لَبِسَ مَخِيطاً، أَوْ ستر رأْسه أَقل مِنْ يوم، أَوْ حلق أَقل مِنْ ربع رأْسه، أَوْ حلق بعضَ عُضْو غيره، أَوْ قصَّر أَقل من خَمْسةِ أَظْفارٍ، أَوْ قَصَّ خَمْسةً متفرقةً. وتقدَّم أَنَّ محمداً أَوجب الدَّمَ في هذه الصورة، كما لو قَصَّ الخمسةَ في يدٍ واحدةٍ.

(أَوْ طَافَ غَيْرَ الفَرْضِ) أَي فرض الحج (مُحْدِثاً) سواء كان طواف الصَّدَر، أَوْ القُدُوم، أَوْ التَّطوّع، أَوْ طواف العُمرة. ويلزم دمٌ لو طافها جُنُباً، لأَنه نَقْصٌ كثير، ثُم كُلٌّ

(1)

سقط من المطبوع.

ص: 697

أَوْ تَرَكَ القَلِيلَ مِنَ الوَاجِبِ، أَوْ حَلَقَ رَأْسَ غَيْرِهِ، تَصَدَّقَ بِنِصْفِ صَاعٍ.

===

منها دوْنَ طوافِ الزيارةِ فَيُكْتَفى بالشاة. وهذا كُلُّه على روايةِ القُدُوري، واختارها صاحب «الهداية» ومَنْ تَبِعه. وفي «شَرْح الطحاوي»: إِذا طاف (طواف)

(1)

اللقاء مُحْدِثاً أَوْ جُنُباً فإِنَّه يُعِيد، وإِنْ لم يَعِد فلا شيء عليه. وفي «مبسوط» شيخ الإِسلام: ليس لطوافِ التحية مُحْدثاً أَوْ جُنُباً شيء، لأَنه لو تَرَكَهُ أَصلاً لم يكن عليه شيءٌ، فكذا إِذا تركه من وجه. قلنا: لا يلزم مِنْ عدم لزوم شيءٍ بِتَرْكِه ـ لكونه سُنَّةً ـ أَنْ لا يلزم شيءٌ بترك الطهارة فيها، لأَنها واجبةٌ في الطواف على الأَصح، فَبِتَرْكها يرتكبُ محظوراً، فيلزمُه الجزاء.

(أَوْ تَرَكَ القَلِيلَ مِنَ الوَاجِبِ) بأَنْ تَرَكَ ثلاثة أَشواط أَوْ أَقل من طوافِ الصَّدَر، أَوْ مِنْ السَّعْي، أَوْ ترك أَقل مِنْ جمرة العَقَبة في يوم النَّحْر، لأَنها فيه نسك كامل، أَوْ ترك أَقَلَّ الجِمار الثلاثِ في يوم بعد يوم النَّحر، لأَن الكل نُسُكٌ وَاحِدٌ فيه فكان المتروكُ أَقل.

(أَوْ حَلَقَ رَأْسَ غَيْرِهِ) بأَمرِهِ، أَوْ بغير أَمْرِه، أَوْ أَخَذَ شَارِبه، أَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَه، سواء كان ذلك الغير حَلالاً أَوْ مُحْرِماً. ولعله مأْخوذٌ من عموم قوله تعالى:{ولَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُم}

(2)

حيث يشمل

(3)

معنى: لا يحلِق بَعْضُكُم رأْس بعض، كقوله تعالى {ولا تَقْتُلوا أَنْفُسَكم}

(4)

.

ولو كان الحالق حَلالاً، والمحلوق مُحْرِماً، فعلى الحالق الصدقة لأَنه أَزال ما استحق الأَمْن، كنبات الحَرَم، وعلى المَحْلوق الدَّم. وقيل: ليس على الحالق الحلال شيءٌ. ولا شيء عند الشافعيّ على الحالق المُحْرِم إِذا حلق شخصاً، مُحْرِماً كان أَوْ حلالاً، لاَّن المُحْرِم ممنوعٌ عن إِزالة ما ينمو مِنْ بَدَنِ نَفْسه لما فيه مِنْ معنى الراحة والزينة، ولا يحصل شيءٌ مِنْ ذلك بِحَلْقِهِ رأْسَ غيره، فلا يلزمه به شيءٌ. ويجب عليه دَمٌ عندنا وبه قال مالك على ما في «مواهب الرحمن» .

(تَصَدَّقَ) جواب قوله: «وإِنْ فعل أَقل مِمَّا ذكر» وما عطف عليه (بِنِصْفِ صَاعٍ)

(5)

مِنْ بُرَ، أَوْ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شعير.

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

سورة البقرة، الآية:(196).

(3)

في المطبوع: فسر، وما أثبتناه من المخطوط.

(4)

سورة النساء، الآية:(29).

(5)

تقدم شرحها ص: 544، تعليق رقم (1).

ص: 698

وإِنْ طَيَّبَ عُضْواً، أَو حَلَقَ بِعُذْرٍ، ذَبَحَ شاةً في الحَرَمِ، أَوْ تَصَدَّقَ بِثَلَاثَةِ أَصْوُعِ طَعَامٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أَوْ صام ثَلاثَةَ أَيَّامٍ.

===

واعلم أَنَّ كُلَّ موضع يجِب فيه الصدقة المطلقة في الحج، أَوْ العمرة فهي هذه، إِلاَّ ما يجب بِقَتْل جرادةٍ أَوْ قملةٍ أَوْ إِزالَة الشَّعَث، فَفِيها يُطْعِم شيئاً يسيراً، وقد وَرَدَ:«تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادة»

(1)

، وإِنَّ تارك (ثلاثة)

(2)

أَشواط مِنْ طوافِ الصَّدَرِ أَوْ السَّعْي، وتارك أَقل جَمْرَةِ العَقَبة في يوم النَّحْرِ أَوْ أَقل الجِمار الثلاث في يومٍ بعده، يجب عليه لِكُلِّ شَوْطٍ أَوْ رميةٍ صَدَقَةٌ، إِلاَّ أَنْ يَصِيرَ مجموعُ الصدقاتِ بمنزلةِ دَمٍ فَيُنْقِصُ منه ما شاء إِنْ شاء.

(وإِنْ طَيَّبَ عُضْواً) كاملاً، أَوْ قَصَّ أَظْفَارَه، أَوْ لَبِسَ المَخِيط قَدْر يوم (أَوْ حَلَقَ بِعُذْرٍ، ذَبَحَ شاةً في الحَرَمِ) فيه إِشارةٌ إِلى أَنْ الواجب عليه الذَّبْحُ في الحرم لا غيرُ، فلو سُرِقت بعد الذَّبْحِ أَوْ هلكت بآفةٍ بَعْدَه لا يَجِبُ عليه شيءٌ. (أَوْ تَصَدَّقَ) في أَي مَوْضِع شاء (بِثَلَاثَةِ أَصْوُعِ طَعَامٍ) بإِضافة أَصْوُع، وهو بفتح الهمزة وضم الصاد وسكون الواو

(3)

، جَمْع صاع (عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ) كل مِسْكين نِصْف صاع من بُرِّ، أَوْ دقيق. ويُستحب أَنْ يتصدق على مَساكين الحَرَم.

(أَوْ صام) ولو كان مُوسَراً، لكن بتبييتِ النية وتعيينها (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) في أَي موضع شاء ولو مُتَفَرِّقَةً، لقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذَىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}

(4)

، وكلمة «أَوْ» للتخيير، وفَسَّرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ففي «صحيح البخاري» من حديث عبد الرحمن بن أَبي ليلى، عن كَعْب بن عُجْرَة أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال له:«لعلك آذَاك هَوَامُّك»

(5)

، قال: نعم يا رسولَ الله، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «احلق رَأْسَكَ، وصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّام، أَوْ أَطْعِم سِتَّةَ مَسَاكينَ، أَوْ انْسُك بشاةٍ» .

(1)

أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" موقوفًا على عمر 1/ 416، كتاب الحج (20)، باب فدية من أصاب شيئًا من الجراد وهو محرم (77)، رقم (236). وانظر "نصب الراية" 3/ 137.

(2)

سقط من المطبوعة.

(3)

كذا في الأصل، وهو مخالف لما في كتب اللغة حيث ضبطت فيها بفتح الهمزة وسكون الصاد وضم الواو. فلعله تقديم وتأخير من النساخ.

(4)

سورة البقرة، الآية:(196).

(5)

الهَوَامّ: بتشديد الميم جمع هامة، وهي ما يَدُبُّ من الأَخشاش - وهي ما لا دماغ له من دوابّ الأرض ومن الطير. القاموس المحيط ص: 762 - والمراد بها ما يلازم جسد الإِنسان غالبًا إِذا طال عهده بالتنطف، وقد عُيِّن في كثير من الروايات أنها القَمْل. فتح الباري: 4/ 14.

ص: 699

وَوَطْؤهُ

===

وفي الكتب الستة: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِكَعْبِ بن عُجْرَة بالحُدَيبيةِ وهو يُوقِدُ تحت قدر والقَمْلُ يتهافتُ على وَجْهِهِ فقال: «أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ هذه» ؟ قال: نعم، قال: «فاحلق رَأْسَك وأَطْعِم فَرَقَاً

(1)

بينَ ستةِ مساكينَ، أَوْ صُم ثلاثةَ أَيام، أَوْ انْسُك نَسِيكةً». وفي الصحيحين عن عبد الله بن مُغَفَّل قال: حدثني كَعْب بن عُجْرةَ أَنه خرج مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مُحْرِماً فَقَمِلَ رَأْسُه ولحيته، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَرسل إِليه فدعا الحلاَّقَ فحلق رأْسَه، ثُم قال له:«هل عنْدَك نُسُكٌ؟» قال: ما أَقْدِرُ عليه، فأَمَره أَنْ يصومَ ثلاثةَ أَيَّامٍ، أَوْ يُطْعِمَ ستةَ مساكينَ، لِكُلِّ مِسْكِينَيْنِ صَاعٌ، فأَنْزَل اللهُ فيه خاصَّة:{فَمَنْ كانَ مِنْكُم مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ}

(2)

ثُم كانت للمُسْلِمين عَامَّةً.

وفي لَفْظٍ لمُسْلم: فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم «احْلِق ثُم اذْبَح شاةً نُسُكاً، أَوْ صُم ثلاثةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ ثلاثةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ على ستةِ مساكينَ» . وفي روايةٍ: «لِكُلِّ مِسْكين نِصْفُ صَاعٍ» . وفي لفظٍ له: فقال لي: «هل عندك فَرَقٌ تَقْسِمُه بينَ ستةِ مساكينَ، ـ والفَرَقْ: ثلاثة آصُع ـ أَوْ انْسُك شاةً، أَوْ صُم ثلاثةَ أَيَّامٍ؟» فقلت: اختر لي يا رَسُولَ اللهِ، قال:«أَطْعِم ستَّةَ مساكينَ» . وفي لفظٍ عن الحسن: أَنه قال له: «فكيف صَنَعْت؟» قال: ذَبَحْت شاةً. فإِنْ قيل: الآيةُ والحديثُ لا يَدُلاَّنِ على الفِدْيةِ في الطِّيبِ واللُّبْسِ وقَصِّ الأَظْفار، فَبِمَ أَثْبَتُّم الفِدْيَةَ فيها؟ أُجيب: بالقياس على الحَلْقِ الثابتِ بالآيةِ والحديثِ لِوُجُودِ الجامِع بينهما وهو العُذْر.

وإِنَّما قُلنا: إِنَّ الذَّبْح يَخْتَصُّ بِالحَرَمِ، والإِطعامُ والصيامُ لا يَخْتَصَّانِ به، لأَنهما عبادةٌ في كُلِّ مكانٍ وزمانٍ، والذَّبْحُ لم يُعْرف شَرْعاً عبادةً وقُربةً إِلاَّ في زمانٍ أَوْ مكانٍ، وهذا الذَّبْح لا يختص بزمانٍ فتعينَ اختصاصُه بالمَكَانِ. ثُم الإِباحةُ في الإِطعام يجزئه عند أَبي يوسف اعتباراً بِكَفَّارةِ اليمين، بِجَامعِ أَنَّهما كفارةٌ، ولأَن الحديث ورد بلفظ الإِطعام، والإِباحة مجزئةٌ في كل ما ورد بِلَفْظِ الإِطعام. وخالفه محمدٌ وشرَط التمليكَ كالزكاة، بِجَامِعِ أَنهما صدقةٌ، ونَصُّ الكتابِ وَرَدَ بها، فَيُحْملُ الإِطعامُ الوارد في الحديث على وَجْهِ التمليكِ، لأَن الحديث وَرَدَ مَوْرِدَ تفسيرٍ للآيةِ.

(وَوَطْؤهُ) أَي جِمَاعُه بغيبوبةِ الحَشَفَةِ عامداً أَوْ نَاسياً، طَائَعاً أَوْ مُكْرَهَاً، في القُبُل

(1)

الفَرَق: - بفتح الفاء والراء - مكيالٌ سعته ثلاثة أصوع = ج 6 أقساط = 10.086 ليترًا = 9784.5 غرامًا عند الحنفية. و 8.244 لترًا و 6516 غرامًا عند غيرهم. معجم لغة الفقهاء ص 344.

(2)

سورة البقرة، الآية:(196).

ص: 700

قَبلَ وُقُوفِ عَرَفَةَ أَفْسَدَ حَجَّهُ، ومَضَى في حَجِّهِ وذَبَحَ وقَضَى. ولَمْ يَتَفَرَّقَا في القَضَاءِ،

===

أَوْ الدُّبُر (قَبْلَ وُقُوفِ عَرَفَةَ) أَي قَبْل وُقُوفه بعرفاتٍ في زمانه (أَفْسَدَ حَجَّهُ) بالإِجماع، لأَن الجِمَاع أَقْوى مَحْظُوراتِ الإِحرام.

(ومَضَى في حَجِّهِ) لإِجماع الصحابةِ على ذلك (وذَبَحَ) شاةً أَوْ شَارَكَ في سُبُعِ بقرةٍ أَوْ جَزُورٍ. وقال الشافعي: يجِبُ بَدَنَةٌ اعتباراً بالجِماعِ بعد الوقوف، بل أَوْلى، لأَن الجِمَاعَ قَبْلَه في مُطْلق الإِحرام، بخلافِه بعده. وأُجيبَ بأَنَّه لما وجب القضاءُ في الجِماع قَبْلَ الوقوف خَفَّ معنى الجِناية، فتجِبُ الشاةُ. وقد رَوى البيهقيُّ عن يَزِيد بن نُعَيْم الأَسلمي التابعي: أَنَّ رجلاً جامع امرأَتَهُ وهما مُحْرِمَانِ، فسأَلا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما:«اقْضِيَا نُسُكَكُما، واهْدِيا هَدْياً» . واسم الهَدْي يتناول الشاةَ كما يتناولُ البَدَنَة، وفي البَدَنَةِ أَكْمل، والواجب انصرافُ المطلقِ إِلى الكامل في الماهية لا إِلى الأَكمل، وماهية الهَدْي كاملةٌ في الشاة.

ورَوى أَبو داودَ مُرْسَلاً: أَنَّ رجلاً من جُذَام جامع امرأَتَه وهما مُحْرِمَان، فسأَل الرجلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال:«اقْضِيَا حَجَّكُما واهْدِيا هَدْياً» . ورَوى ابن وَهْب بسندٍ فيه ابنُ لَهِيعَة عن يزيد بن أَبي حَبِيب: أَنَّ رجلاً من جُذَامٍ

الحديثَ، وفيه:«إِذا كُنْتُما بالمكانِ الذي أَصَبْتُما فيه ما أَصَبْتُمَا، فأَحْرِمَا وتَفَرَّقَا ـ إِلى أَنْ قال: واهْدِيَا ـ» . وضُعِّف بابن لَهِيعة. ورُوي بالزيادةِ عن عِدَّةٍ من الصحابةِ، فابنُ أَبي شيبةَ أَسْنَدَهُ إِلى مَنْ سَأَل مُجَاهداً عن المُحْرم يُواقِع امرأَتَه، فقال: كان ذلك على عَهْد عُمَرَ، فقال: يَقْضِيَانِ حَجَّهُما، ثُم يَرْجِعَان حَلَالاً، فإِذا كانَ مِنْ قابل حَجَّا وأَهْدَيا، وتَفَرَّقَا من المكانِ الذي أَصابَهَا فيه.

وقال مالك في «المُوَطَّأ» : (إِنَّه بلغه)

(1)

أنَّ عمرَ بنَ الخطاب، وعليّ بنَ أَبي طالب، وأَبا هريرةَ سُئِلوا عن رَجُلٍ أَصَابَ أَهْلَه وهو مُحْرِمٌ بالحَجِّ، فقالوا: يَنْفُذَان لوجههما حتى يَقْضِيَا حَجَّهُما. ثُم عليهِما حَجٌّ مِنْ قابل والهَدْيُ، إِلاَّ أَنَّ عَلِيّاً قال: فإِذا أَهَلاَّ بالحَجِّ مِنْ قابِل تَفَرَّقَا حتى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا. والدَّارَقُطْنِيّ أَسْنَدَه عن ابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وابن أَبي شيبةَ عن عليَ أَيضاً قال: على كُلِّ واحد منهما بَدَنَةٌ، فإِذا حَجَّا من قابل تَفَرَّقَا من المكان الذي أَصابها فيه.

(وقَضَى) بإِجماع (ولَمْ يَتَفَرَّقَا في القَضَاءِ) وهو مَرْويٌّ عن الحسن وعطاء إِلاَّ

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع، وإثباته الصواب لموافقته لما في الموطأ 1/ 381، كتاب الحج (20)، باب هدي المحرم إذا أصاب أهله (48)، رقم (151).

ص: 701

وبَعْدَه تَجِبُ بَدَنَةٌ،

===

إِذا خَشِيَا المواقعةَ فَيُسْتحب أَنْ يتفرّقا في الإِحرام. والمُرَاد بالفُرْقة: أَنْ يَأْخذ كلٌّ منهما طريقاً غَيْرَ طريقِ الآخَرِ. وقال مالك: يجِب افتراقُهما في الإِحرام عن الموضع الذي وَطِئها فيه، وبه قال الشافعيُّ في القديم: وجوباً، وفي الجديد: اسْتِحْباباً، ومن حينِ الخُرُوجِ مِنْ مَوْضِع الإِقامة في قَوْل مالك لما رواه في «الموطأ» عن عليَ كَرَّمَ اللهُ وجهه، ومن حين الإِحرام في قولٍ آخَر، وبه قال زُفَر، لأَن الافتراق نُسُكٌ بِقَوْلِ الصحابة، وأَداء النُّسُكِ بعد الإِحْرَام.

ولنا أَنْ الافتراق ليس بِنُسُكٍ في الأَداء، فلا يُؤمرُ به في القضاء. فإِنْ قيل: رُوِي عن عمر، وعليِّ، وابن عباس أَنَّهم قالوا: يفترقان، أُجيب: بأَن قولهم مَحْمولٌ على النَّدْب لما قَدَّمناه من الدليل.

(وبَعْدَهُ) أَي بعد وقوف عرفةَ قَبْل الحَلْق (تَجِبُ بَدَنَةٌ) ولا يَفْسُد حَجُّهُ، سواءٌ جامع عامِداً أَوْ ناسياً. وفي «الوجيز»: وإِنَّما تجِبُ بَدَنةٌ إِذا جامع عامداً، أَما إِذا جامع ناسياً فعليه شاةٌ، كذا في «السراج». وقال الشافعي ـ وهو أَظْهَرُ القَوْلَيْن في مذهب مالك ـ: يَفْسُد إِذا جامع قبل الرَّمْي اعتباراً بما لو جامع قَبْلَ الوقوف، لأَن كُلاًّ منهما قبل التَّحَلُّل.

ولنا على عدم الفسادِ ما في «السُّنن الأَربعة» ـ وقال الترمذي: حسن صحيح ـ عن عُروةَ بن مُضَرِّس قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «مْنْ شَهِد صلاتنا هذه ـ أَي صلاة الصبح بالمُزْدَلِفَة ـ ووَقَفَ معنا حتى نَدْفَع وقد وَقَفَ بِعَرفةَ قَبْلَ ذلك ليلاً أَوْ نَهاراً فَقَد تَمَّ حَجُّهُ، وقَضَى تَفَثُهُ» . وفي روايةٍ: «مَنْ أَدْرَكَ معنا هذه الصلاةَ، وأَتَى عرفاتٍ قَبْلَ ذلك ليلاً أَوْ نهاراً فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وقَضَى تَفَثُهُ» . وحقيقةُ التَّمَام غيرُ مُرَادةٍ لبقاءِ طواف الزيارة وهو ركنٌ، فيكونُ المرادُ بِهِ الأَمْنَ مِنْ الفسادِ. وعلى

(1)

وجوبِ البَدَنَةِ ما رُوِي عن ابن عباس أَنَّهُ سُئِل عن رجلٍ وقع بأَهْلِهِ وهو بِمِنَى قبل أَنْ يفِيضَ، فأَمَرَه أَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً. رواه مالك في «الموطأ» عن أَبي زبير المكي، عن عطاء، عنه.

وأَسْنَدَهُ ابن أَبي شيبة (عن عطاء)

(2)

قال: سُئِل ابن عباس عن رَجُلٍ قَضَى

(1)

أي: "والدليل على وجوب البدنة"، وهي معطوفة على قوله في أول الفقرة:"ولنا على عدم الفساد".

(2)

سقط من المطبوع، وإثباته الصواب. انظر "مصنف ابن أبي شيبة"(الجزء المفقود) ص 414، كتاب الحج، في الرجل يقع على امرأته قبل أن يزور البيت.

ص: 702

وبَعْدَ الحَلْقِ شَاةٌ.

===

المَنَاسِكَ كُلَّها غيرَ أَنه لم يَزُر البيتَ حتى وقع على امرأَتِهِ، قال: عليه بَدَنَةٌ. ولو كان الواطِاءُ قارناً عليه بَدَنَةٌ لِحَجِّه، وشاةٌ لِعُمرَتِهِ، وليس عليه دَمُ القِرَانِ لفسادِ أَحَدِ النُّسُكَيْن. ولو جامع مرةً ثانيةً فعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شاةٌ مع بَدَنَةٍ، لأَنه وقع في حرمةٍ مهتوكةٍ فصَادَفَ إِحْراماً نَاقِصاً فيجب الدَّمُ.

(وبَعْدَ الحَلْقِ) قبل الطواف (شَاةٌ) أَوْ سُبُعُ بَدَنَةٍ، لأَن الجناية خَفَّتْ لِوُجودِ الحِلِّ في حَقِّ غَيْرِ النِّساءِ. ولو جامع بعد طواف الزيارة وقبل الحلق فعليه شاةٌ، لوجودِ الجِماع في الإِحرام، كذا في «الهداية» وشروح القُدُورِي. وقيل: يجب بَدَنَةٌ، لإِطْلَاق ظاهر الرواية لزوم البَدَنة بالجِماع بعد الوقوف، مِنْ غير تَفْصِيلٍ بينَ كَونِهِ قبل الحلق أَوْ بعده. وفي مذهب الشافعي: لو كان ناسياً أَوْ مُكْرَهاً أَوْ نائمةً لا يفسد حِجُّهُ، ولا يَلْزَمُهُ شيءٌ. ويلزم عندنا دَمٌ بِقُبلةٍ، أَوْ لَمْسٍ بشهوةٍ وإِنْ لم يُنزل، على روايةِ «الأَصْل» .

وفي «الجامع الصغير» يقول: إِذا مَسَّ بشهوةٍ فأَمْنَى. وللشافعيِّ قَوْلٌ إِذا اتصل به الإِنْزَالُ يَفْسُدُ الإِحْرامُ على قياسِ الصيام، فإِنه يَفْسُد بالتقبيلِ عنده إِذا اتصلَ به الإِنْزَالُ، ولكنَّا نقول: فسادُ الإِحرام حُكْمُه متعلّقٌ بالجماعِ فإِنَّه بارتكاب سائرِ المحظوراتِ لا يَفْسُد، وما تعلق بمعنى الجِماع مِنْ العقوبةِ لا يتعلقُ بالجِماع فيما دونَ الفَرْج كالحَدِّ. وللشافِعِيِّ قولٌ: أَنَّه لا يلزمه شيءٌ إِذا لم يُنْزِل، قياساً على الصوم، فإِنه لا يلزمُه شيءٌ إِذا لم يُنْزِل بالتقبيلِ فكذا في الحج. ولكنَّا نقولُ: الجِماعُ فيما دونَ الفَرْجِ مِنْ جملةِ الرَّفث فكان منهياً عنه بسبب الإِحرام، وبالإِقْدامِ عليه يصيرُ مُرْتَكِباً محظورَ إِحرامِهِ فيلزمُه الدَّمُ.

ولو طاف مكشوفَ العورةِ، أَوْ مَعْكُوساً بأَنْ يتوجه من عند الحجر الأَسود إِلى جهة الرُّكْن اليماني، أَوْ راكباً بلا عُذْرٍ يجب عليه دَمٌ، لأَنَّ كل واحد منهما واجب فيحصل النقص بتركه فيلزمه الدم. وجعلها الشافعيُّ شروطاً فأَلغاهُ بِدُونها، ولم يُوجِب بالطوافِ رَاكباً شَيئاً، لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طافَ رَاكِباً، ولم يُنْقَل عُذْر.

ولنا أَنَّ فِعْلَ الدابةِ وإِنْ أُضِيف إِلى الراكِبِ مَعْنىً لكنَّه مُتَخَلِّفٌ عنه صورةً، فيتمكن النقصان فيه باعتبار فوات الصورةِ، فيُجْبرُ بالدَّمِ، وما رواه كانَ لِعُذْرٍ، ففي «صحيح مُسْلمٍ» عن جابر قال: طافَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَدَاعِ على راحلتِهِ بالبيتِ يَسْتَلِمُ الحجرَ بِمحْجَنِهِ

(1)

وبين الصفا والمروة لِيَراهُ الناسُ ويُشْرِفَ ويسأَلوه،

(1)

المِحْجَن: عصا مُعَقَّفَة الرأس. النهاية 1/ 347.

ص: 703

وإِنْ قَتَلَ مُحْرِمٌ صَيْداً، أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ قاتِلَهُ،

===

فإِنَّ الناسَ غَشُوهُ

(1)

. وفي «الصحيحين» عن أُمِّ سَلَمَةَ قالت: شَكَوْتُ إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَني أَشتكي، فقال:«طوفي مِنْ وراءَ الناسِ وأَنْتِ رَاكِبةٌ» . فموردُ النَّصِ فيه مُعَلَّلٌ بالمرض، وقَصْد السؤال. والله تعالى أَعلم بحقيقةِ الأَحوال.

(وإِنْ قَتَلَ مُحْرِمٌ صَيْداً) أَي حيواناً مَأْكولاً أَوْ غَير مأْكولٍ ذا قوائم، فخرج به مِثْلُ الحيةِ والعَقْرَب، وسائر الهوام، متوحشاً في أَصْلِ الخِلْقة، فدخل الحمام المستأْنس، وخرج الإِبل المستوحش، وكان تَوالُدُه وتَعَيُّشُه في البَرِّ، فخرج به صيد البحر: وهو ما يكون توالُدُه ومثواه في الماء، لأَنَّ التوالدَ هو الأَصل، والكينونةُ بعد ذلك عَارضٌ فاعتبر الأَصل. فالبحريُّ حَلالٌ للحَلالِ والمُحْرِم، والبريُّ حَرَامٌ على المُحْرم إِلاَّ ما استثناه النبيُّ صلى الله عليه وسلم والأَصْل فيه قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وطعَامُهُ مَتَاعاً لكُم وللسيَّارةِ وحُرِّمَ عَلَيْكُم صيدُ البَرِّ ما دُمْتُم حُرُماً}

(2)

أَي مُحْرِمين، والمباح والمملوك فيه سواء، لأَن الصَيْدَ عَامٌّ.

(أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ) بالإِشارة أَوْ غيرها في قَتْله عَمْداً أَوْ سَهْواً، لأَنه ضمانٌ، فأَشْبَه غَرَاماتِ الأَمْوالِ من حيثُ أَنَّ الضمان يَدُور مع الإِتلافِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بالعمد، والتَّقْييد في الآية به لأَنَّ مَوْرِدَها في المتعمَّد، أَوْ للتَّنْبِيه على أَنَّ الخاطاءَ بالأَولى، كذا قيل، وبُعْدُه لا يخفى، أَوْ لأَجْل وعيدٍ لِيَذُوقَ وبَالَ أَمْرِهِ، والنَّاسي لا يستحق الوعيدَ. قال الزُّهْرِي: وَرَد الكتابُ بالعَمْد، ووردَتِ السُّنَّةُ بالخطأ، فيستوي في ذلك العامِدُ والناسي لإِحرامه، وكذا الخاطاء.

(قاتِلَهُ) المُحْرِم أَوْ الحَلَال بشروط منها: أَنْ لا يكون القاتلُ عالِماً بمكانِ الصيْدِ، لأَنه إِذا كان عالماً به يكون قتله بعِلْمِهِ لا بالدلالةِ، وعلى هذا لو أَعارَ المُحْرِمُ قَوْساً لِرَمْي صَيْدٍ، فَعَليهِ جزاءٌ إِنْ لم يَكُنْ مع المُسْتَعِيرِ قَوْسٌ، وإِنْ كان فلا شيءَ عليه. ومنها: أَنْ يُصَدِّقَه في الدلالة، حتى لو كَذَّبه ولم يتبع الصيدَ حتى دَلَّهُ عليه آخرُ فَصَدَّقَهُ وقتله، فالجزاءُ على الدَّالِّ الثاني، ولو لم يُصدِّقِ الأَول ولم يُكَذِّبه بأَنْ (أَخبره)

(3)

فلم يَرَهُ حتى دَلَّه آخَرُ فطلبه وقتله، كان على كُلَ منهما جزاء كما على القاتل. ومنها: أَنْ يَبْقَى الدَّالُّ مُحْرِماً إِلى قَتْلِ الصيدِ، فإِنْ دَلَّ ثُمَّ حَلَّ فقتله المدلول، فلا جزاءَ

(1)

غَشُوهُ: ازدحموا عليه.

(2)

سورة المائدة، الآية:(6).

(3)

في المطبوع: آخره، وما أثبتناه من المخطوط.

ص: 704

يَجِبُ جَزَاؤهُ، أَي ما قَوَّمَهُ عَدْلانِ في مَقْتَلِهِ، أَوْ [في] أَقْرَبِ مكانٍ مِنْه، فَيَشْتَرِي بِهِ هَدْيًا يُذْبَحُ بِمَكَّةَ،

===

عليه لكنه أَثِم.

(يَجِبُ جَزَاؤهُ: أَي ما قَوَّمَهُ عَدْلانِ في مَقْتَلِهِ) أَي مكان قَتْله إِنْ كان له فيه قيمةٌ، بأَنْ كان يُباعُ ويُشْتَرى في ذلك الموضع (أَوْ (في)

(1)

أَقْرَبِ مكانٍ مِنْه) إِنْ لم يكنْ له في مكانِ قَتْله قيمةٌ، وذلك لأَن القيمة تختلف باختلافِ الأَماكن فيعتبر مكان قتله أَوْ ما قَرُبَ منه.

أَمَّا وجوب الجزاء بالقتل فمجمعٌ عليه، وقد قال تعالى:{يا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأَنْتُم حُرُمٌ ومَنْ قَتَلَهُ مِنْكُم مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ به ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلك صِياماً لِيَذُوقَ وبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ومَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْه واللهُ عَزِيزٌ ذو انْتِقَامٍ}

(2)

. وأَمَّا وجوبُه بالدلالة فقال الطحاوي: ولَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصحابةِ خلافُ ذلك.

(فَيَشْتَرِي) أَي القاتل (بِهِ) أَي بِمَا قَوَّمَه عَدْلانِ إِنْ بَلَغَتْ (هَدْياً) مُجزياً في الأُضْحِيةِ من جَذَعِ

(3)

الضأْن أَوْ ثَنِيِّ

(4)

المَعْزِ، وهذا شرطٌ عند أَبي حنيفةَ حتى لو لم يبلغ قيمةُ الصيدِ إِلاَّ قيمةَ حَمَلٍ

(5)

أَوْ عَنَاقٍ يتصدَّقُ بها، ولا يُذْبَح بطريق الهَدْي عنده، لأَن مطلق الهَدْي يَنْصرفُ إِليه، كما في هدي المتعةِ والقِران، فإِنَّه ينصرفُ إِلى ما يجزاء في الأُضحيةِ. ولم يشترط محمدٌ ما يُجزاء فيها لِعُمومِ قوله تعالى:{مِنَ النَّعَمِ} فإِنَّه صادقٌ على الكبير والصغير، ولأَنَّ الصحابةَ أَوجبوا عَنَاقاً وجَفْرَةً. والعَنَاق: الأُنثى مِنْ أَولادِ المَعْزِ، والجدي: الذكَر، وهما دون الجَذَع. والجَفْر: ما يبلغُ أَربعةَ أَشْهُر، والجَفْرَة: أُنْثى. وَرُوي عن أَبي يوسف الاشتراطُ وعَدَمُه.

(يُذْبَحُ بِمَكَّةَ) أَي في أَرْضِ الحَرَم. ويخرج عن العُهْدةِ بمجرد ذبحه (فيها، حتى)

(6)

لو أُتْلف، (أَوْ تُصُرِّف فيه)

(7)

، أَوْ سُرِق بعد الذَّبْح لا يجبُ عليه شيء، فلا

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

سورة المائدة، الآية (95).

(3)

الجَذَع: هو من الغنم ما كان عُمُره أكثر من ستة أشهر. معجم لغة الفقهاء ص: 161.

(4)

الثَّنِي: هو من الإبل ما أَتَمَّ خمسة أعوام، ومن البقر ما أَتَم حولين، ومن الغنم ما أتم حولًا. معجم لغة الفقهاء ص:155.

(5)

الحَمَل: الصغير من أَولاد الضأْن (الغنم). معجم لغة الفقهاء ص: 186.

(6)

سقط من المطبوع.

(7)

سقط من المطبوع.

ص: 705

أَوْ طَعَاماً يَتَصَدَّقُ كالفِطْرَةِ، أَوْ صَامَ عَنْ كُلِّ مِسْكينٍ يَوْماً. ومَا فَضَلَ عَنْه تَصَدَّقَ بِهِ أَو صَامَ يَوْماً

===

يلزم أَنْ يتصدَّقَ بقيمةِ لَحْمِهِ عندنا، ولو بعد التَّمَكُّنِ من التصدّقِ به لسقوط التصدق بِفَوَاتِ محله. وأَوجبه مالك والشافعيُّ لتقصيرهِ، وكذا حُكْم دم الجَبْر. وهذا الخلاف كالخلاف في هلاك المال بعد التمكن من أَداء الزكاة، يَسْقُط عندنا خلافاً لهما.

ولو ذَبَح في غيرِ أَرْضِ الحَرَم لا يَخْرجُ عن العُهْدَةِ إِلاَّ إِذا تصدَّق على كل مسكينٍ من اللحم بما يساوي قيمةَ نصفِ صاعٍ مِنْ بُرَ، وكان فيه وفاء بِمَا قوَّمه عدلان، وإِنْ لَمْ يَفِ يُوَفَّى. وإِنما لا يجوزُ ذَبْحه إِلاَّ في الحَرَمِ لقوله تعالى:{هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ} ، فلو ذبح شيئاً مِنْ الدماءِ الواجبةِ في الحَجِّ والعُمْرة خَارِجَ الحَرَمِ لم يسقط عنه وعليه ذَبْحٌ آخَرُ في الحَرَم، وذلك لقوله تعالى:{ولا تَحْلِقُوا رؤسَكُم حَتَى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ}

(1)

. ويجوزُ أَنْ يتصدقَ بِلَحمِ الهَدْي على مِسْكِينٍ واحدٍ، أَوْ مَسَاكِينَ، ومساكينُ الحرم أَفْضَل.

(أَوْ طَعَاماً يَتَصَدَّقُ) به في أَيِّ موضع شاء، لأَن الصدقة قُرْبةٌ غَيْرُ مؤقتةٍ بالمكان (كالفِطْرَةِ) بأَن يُعطِي كلَّ مسكين نصفَ صاع مِنْ بُرَ أَوْ صاعاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ شعيرٍ، لا أَقَلَّ مِنْ ذلك ولا أَزْيَد. وفي «السراج»: يجوز أنْ يتصدَّقَ بالكُلِّ على مسكينٍ واحدٍ. وفي «اللباب» : ولا يجوزُ أَنْ يُطْعِم لمسكينٍ واحد أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ صاعٍ إِلاَّ أَنْ يَفْصُلَ، أَوْ يكون الواجب أَقلَّ منه، فيعطيه مسكيناً واحداً.

(أَوْ صَامَ) في أَيِّ موضع شاء (عَنْ) طعام (كُلِّ مِسْكينٍ يَوْماً) بأَنْ يُقَوَّمَ المَقْتُولُ طعاماً ثُم يصوم مكانَ طعامِ كُلِّ مسكينٍ يوماً، فالقاتِلُ بالخيارِ ـ ولو مُوسَراً ـ بين الهَدْي والإِطعام والصيام.

وإِنْ لم يبلغ الهدي فهو بالخِيار بين الطَعام والصيام (ومَا فَضَلَ عَنْه) أَي عنْ طعامِ مِسْكين بأَنْ بقي أَقل مِنْ نِصْفِ صاعٍ مِنْ بُرَ، أَوْ كَانَتْ قيمةُ المقتول أَقل من ذلك، بأَنْ قَتَلَ عُصْفُوراً (تَصَدَّقَ بِهِ) على مِسْكِينٍ وَاحِدٍ (أَوْ صَامَ يَوْماً) كاملاً لأَن صوم بعض اليوم غير مشروع.

ثُم اعْلَم أَنَّ كَوْنَ القتل الخطأ كالعَمْد قولُ عمرَ، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أَبي وَقَّاص، وبه أَخذ علماؤنا. وقال ابن عباس: ليس على المُحْرم في قتلِ خطأٍ جزاءٌ لظاهِرِ الآيةِ، وتقدَّم الجوابُ عنه.

(1)

سورة البقرة، الآية:(196).

ص: 706

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ثُمَّ كونُ العائِدِ

(1)

كالمُبْتَدِاء قولُ عطاء، وإِبراهيم، وسعيد بن جُبَيْر، والحسن، وبه قُلْنا، وعليه عامَّةُ العلماءِ. وعن ابن عباس وشُرَيْح أَنه لا يَجِبُ الجزاءُ على العائِد، وهو قول داود، ولكن يقال له: اذهب فينتقم اللهُ مِنْك، لِظاهر قوله تعالى:{ومَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}

(2)

. ولنا أَنَّ ضَمَانَ الإِتلاف لا يختلفُ بالابتداءِ والعودِ إِليه، بل جنايةُ العائِد أَظْهَرُ، والمرادُ بالآية ومَنْ عاد (من)

(3)

بعد العلم بالحُرْمَةِ كما في آيةِ الرِّبا: {فَمَنْ عَادَ فأُولئكَ أَصْحَابُ النَّارِ}

(4)

أَي ومَنْ عاد (إِلى المباشرة بعد)

(5)

العلم بالحرمة، لا أَنْ يكون المراد به العودَ إِلى القَتْلِ بعد القَتْل.

ثم لزوم الجزاء بالدلالة استحسانٌ عندنا، وفي القياس لا جزاء، وبه أَخَذ مالك والشافعيُّ، لأَنَّ الجزاءَ واجبٌ بِقَتْلِ الصَّيْدِ بالنَّصِّ. قال اللهُ تعالى:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُم مُتَعَمِّداً}

(6)

الآيةَ، والدلالة ليست في معنى القَتْل، ولهذا يجِبُ جزاءُ صَيْدِ الحَرَم على القاتِل الحلال، ولا يجِبُ على الدَّال (إِذا كانَ حَلالاً بالاتفاق، ولأَن حرمةَ الصيد في حقِّ المُحْرِم ليس بأَقوى مِنْ حرمةِ مالِ المُسْلِم ونَفْسِهِ)

(7)

، ولا يضمن الدَّالُّ على مَالِ المُسْلم ولا على نَفْسِهِ شيئاً بسبب الدلالةِ، فكذلك ههنا، إِلاَّ أَنَّا تَرَكْنا القِياسَ باتفاق الصحابة، فإِنَّ رجلاً سأَل عمرَ فقال: إِني أَشَرْتُ إِلى ظَبْيٍ وأَنَا مُحْرِمٌ فَقَتَلَهُ صاحبي، فقال عمرُ لعبدِ الرحمن: ماذا ترى (عليه)

(8)

؟ فقال: أَرَى عليه شاةً، فقال عمرُ: وأَنَا أَرَى عليه ذلك. وإِنَّ عَلِيَّاً وابن عباس سُئِلا عن مُحْرِمٍ دَلَّ على بَيْضِ نَعَامَةٍ فأَخَذَهُ المَدْلُولُ عليه فَشَواهُ، فقالا: على الدَّالِّ جَزَاؤه. وكذلك رُوِي عن عثمانَ.

والقياسُ يُتْرَكُ بِقَوْلِ الفقهاءِ من الصحابةِ، وما نُقِل منهم في هذا كالمَنْقُول عَنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذْ لا يُظَنُّ بهم أَنَّهم قالوه جُزَافاً، والقِيَاسُ لا يشهدُ لِقَوْلِهِم حتى نقولَ قالوا ذلك قِياساً، فلم يَبْق إِلاَّ السَّمَاعُ، ثُمَّ ثبتَ باتفاقهم أَنَّ الدلالة على الصيدِ مِنْ مَحْظُوراتِ الإِحرام، وذلك ثابتٌ بالنَّصِّ عَنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حيثُ قال

(1)

أي العائد إلى القَتْل مَرَّةً أخرى.

(2)

سورة المائدة، الآية:(5)

(3)

سقط من المطبوع.

(4)

سورة البقرة، الآية:(275).

(5)

سقط من المطبوع.

(6)

سورة المائدة، الآية:(5).

(7)

سقط من المطبوع.

(8)

سقط من المطبوع.

ص: 707

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

لأَصحاب أَبي قَتَادَةَ في صيدٍ أَخذه أَبو قَتَادة وكانوا مُحْرِمين: «هل مِنْكم أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عليه، أَوْ أَشارَ إِليه؟» قالوا: لا، قال:«فَكُلُوا ما بَقِيَ» . فَجَعَلَ الإِشارةَ كالإِعانة، فَعَرَفْنَا عنه أَنَّه مِنْ محظوراتِ الإِحرَامِ وذلك يُوجِب الجزاء، وبه فارق صيدُ الحَرَمِ الدلالةَ على مالِ المُسْلم ونَفْسِه.

ثُمَّ الخِيَارُ للقاتل عندنا على ما قَدَّمنا ككفارةِ اليمينِ والفِدْية لِعُذْرٍ. وجعله محمدٌ لِلعَدْلَين كمالك والشافعي لقوله تعالى: {يَحْكُمُ به ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم}

(1)

الآية، وأَوجبوا إِنْ حَكَما بالهَدْي نظيرَ صَيدٍ مِنْ الحيوان الأَهْلي صورةً، كالشاةِ فجعلوها نظيراً للظَّبْي والضَّبُع، والعَنَاقِ

(2)

نَظِيراً للأَرْنَبِ، والجَفْرَةِ

(3)

نظيراً لليَرْبُوع

(4)

، والجَمَل نظيراً للنَّعَامَةِ، والبَقَرة نظيراً لِحِمَارِ الوَحْش وبقرهِ أَيضاً، وإِنْ لم يَحْكُمَا بالهَدْيِ وحَكَما بالطعامِ أَوْ الصِّيامِ، أَوْ لم يكن له نَظِيرٌ مِنْ الأَهلي، فكما أَطلقَ أَبو حنيفةَ وأَبو يُوسف مِنْ لزوم قيمته.

والحاصل أَنْ يُقَوَّم الصيدُ بالنظيرِ فيما له نَظِيرٌ، وأَمَّا ما ليس له نَظِيرٌ كَعُصْفُورٍ وحَمَامٍ فعليه قِيمَتُه إِجْماعاً، لأَنه تعالى أَوْجَبَ المِثلَ بِقَيدِ كونِهِ مِنَ النَّعَم. وحقيقةُ المِثْلِ المُمَاثِلُ صورةً ومعنىً، والنظير كذلك، فلا يُعْدل عنه إِلاَّ عِنْدَ عدمه.

ولأَبي حنيفةَ وأَبي يوسف لو اعْتُبر المِثْلُ من حيثُ الصورةُ لما احتِيجَ إِلى العدلين، لأَنه لا يَخْفَى على أَحَدٍ، ولَمَا احْتِيجَ إِلى تَحْكِيمٍ جَدِيدٍ في كُلِّ مَقْتُولٍ، ولكن يُؤَيِّدُهُم أَنَّ الصحابةَ أَوْجَبَتْ المِثْلَ مِنْ حيثُ الصورةُ، ففي «الموطأ»: أَخْبَرنا أَبو الزبير عن جابر: أَنَّ عمرَ قَضَى في الضَّبُعِ بِكَبْشٍ، وفي الغَزَال بِعَنْزةٍ، وفي الأَرنب بِعَناقٍ، وفي اليَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ. وروى الشافعي حديثاً: أَنَّ عمرَ، وعثمانَ، وعَلِيَّاً، وزيدَ بنَ ثابت، وابن عباس، ومعاوية قالوا: في النَّعَامةِ يَقْتُلُهَا المُحْرِمُ بَدَنَةٌ من الإِبل. وفيه ضَعْفٌ، ولكن أَخرجه

(5)

البيهقي عن ابن عباس قال: في حَمَامَةِ الحَرَمِ شَاةٌ، وفي البيضتين: درهم، وفي النَّعَامَةِ: جَزُور، وفي البقرة: بقرة، وفي الحِمَار: بقرة.

(1)

سورة المائدة، الآية:(95).

(2)

العَنَاق: الأُنْثَى من ولد المَعْز إذا لم تستكمل السَّنة. معجم لغة الفقهاء ص: 322.

(3)

الجَفْرة: الأنثى من أولاد المعز إذا بلغت أربعة أشهر. معجم لغة الفقهاء ص: 164.

(4)

اليَرْبُوع: حيوانٌ - من الفصيلة اليربوعية - صغيرٌ على هيئة الجُرَذ الصغير، وله ذنبٌ طويلٌ ينتهي بخصلةٍ من الشَّعر، وهو قصير اليدين طويل الرجلين. المعجم الوسيط ص: 325، مادة (رَبَع).

(5)

وفي المخطوط: حدثنا. والمثبت من المطبوع.

ص: 708

وإِنْ نَقَصَهُ يَجِبُ ما نَقَصَ مِنْه.

===

وفي «سُنن أَبي داود» عن جابر بن عبد الله قال: سأَلتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الضَّبُعِ، أَصَيْدٌ هي؟ قال:«نعم، يُجْعَلُ فيه كَبْشٌ» .

والحاصل أَنَّهُمْ يَنْظرونَ إِلى النَّظِير إِنْ كان الصيدُ مِمَّا له نَظِيرٌ من حيثُ الخِلْقَةُ، سواءٌ كانت قيمةُ نَظِيرهِ مِثْلَ قيمتِهِ أَوْ أَقل، أَوْ أَكثر، ولا ينظرون إِلى القيمة. وعندهما لا يَجوزُ النظير إِلاَّ أَنْ تكونَ قيمتُهُ مساويةً لقيمة المقتول، وحَمَلا ما ورد عن الصحابةِ على مثل هذا. وقالا: إِيجاب الصحابة لهذه النظائرِ لا باعتبارِ أَعْيَانِها بل باعتبار القيمة، إِلاَّ أَنَّهم كانوا أَربابَ المواشي فكان ذلك أَيْسرَ عليهم من النقود. وهو نَظِيرُ ما قال عليٌّ كرَّمَ اللهُ وجهه: في ولد المَغْرُورِ يُفَكّ

(1)

الغلام بالغلام، والجارية بالجاريةِ». والمرادُ القيمةُ. ثُم الجزاءُ واجِبٌ على التخيير المذكور لأَن حقيقة «أَوْ» في الآيةِ لأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ بلا ترتيب، فلا يُعْدَل عنه. وحَمَلها زُفَرُ على الترتيبِ، فأَوْجَبَ الهَدْيَ أَوَّلاً، ثُم الإِطعام، ثُم الصِّيام، لأَنَّ الترتيب هو الملائم لحال الجاني إِذْ في التخيير نوعُ تخفيفٍ وهو لا يَسْتَحِقُّ، وكلمة «أَوْ» لا تَنْفي الترتيب كما في آية قُطَّاع الطريق. والله ولي التوفيق.

(وإِنْ نَقَصَهُ) أَي إِنْ نَقَصَ المُحْرِمُ الصيدَ، بِأَنْ جَرَحَهُ أَوْ قَطَعَ عُضْوَه، أَوْ جَذَّ شَعْره، أَوْ نَتَفَ رِيشَه، ولو لَمْ يُخْرِجْه عن حَيِّزِ الامتناع (يَجِبُ) مِنْ قيمته (ما نَقَصَ مِنْه) اعتباراً للجُزءِ بالكُلِّ كما في حقوق العباد، وهذا إِذا بَرَأَ الصيدُ وبَقِيَ فيه أَثَرُ الجِنايةِ. وأَمَّا إِذا لم يَبْقَ فيه أَثَرُهَا، فلا ضمانَ عليه لِزَوَالِ المُوجِب. وقال أَبو يوسف: يلزمه الصدقة للأَلم، ولو ماتَ الصَّيْدُ بعدما جَرَحه ضَمِن كُلَّه، لأَن جُرْحه سَببٌ ظَاهِرٌ لِموتِهِ، (فيُحَالُ)

(2)

به عليه، ولو غاب الصَّيْدُ ولم يُعلم بهِ مَوْتُه أَوْ بُرْؤُه، ضَمِنَ نُقْصانَه فقط في القياس، لأَن ضمانَ جَمِيعِه مَشْكُوكٌ فيه. وفي الاستحسان يَلْزَمُه جميعُ القيمةِ احتياطاً، كَمَنْ أَخْرَجَ صَيْداً مِنْ الحَرَمِ ثُمَّ أَرْسله ولا يَعْلَمُ أَدخل الحَرَم أَوْ

(1)

حرفت العبارة في المطبوعة إلى: في ولد المعز جزور، ولا يملك

والصواب ما أثبتناه من المخطوط، و"المبسوط" للسرخسي 4/ 83، و"الكفاية شرح الهداية" 3/ 11. طبعت مع "فتح القدير". و"البناية في شرح الهداية" 3/ 738 والمغرور هو: مَن تزوَّج امرأة على أنها حُرَّة، ثم تبيَّن له أنها أَمَةٌ، فهو مغرورٌ لكونه غُرِّر به. وولد المغرور هو: ولدُه من زوجته التي تبين أنها أمة بعدما وَلَدَتْ له. فالولد يتبع أُمَّهُ رقًّا وحرّيَّة، لذا كان ولده عبدًا تبعًا لأُمِّه. وانظر تفصيل المسألة في "الاختيار لتعليل المختار" 4/ 22.

(2)

سقط من المطبوع.

ص: 709

وإِنْ أَخْرَجَهُ عَنْ حَيِّزِ الامْتِنَاعِ أَو كَسَرَ البَيْضَ فَقِيمتُهُ، وكَذَا إِنْ ذَبَحَ الحَلَالُ صَيْدَ الحَرَمِ، أَوْ حَلَبَهُ، أَوْ قَطَعَ حَشِيشَهُ، أَوْ شَجَرَهُ

===

لا، يَجِب قِيمَتُه.

(وإِنْ أَخْرَجَهُ عَنْ حَيِّزِ الامْتِنَاعِ) بأَن نَتَفَ ريشَه كُلَّه أَوْ قَطع قَوائمه (أَوْ كَسَرَ البَيْضَ فَقِيمتُهُ) كاملةً تَجِب عليه. أَما إِذا أَخْرجه عن حَيِّز الامتناع وهو بالطيران، أَوْ بالعدو، أَوْ بِدُخُول الجُحْر، فلأَنه فَوَّتَ عليه الأَمْنَ بِتَفْويتِ آلةِ الامتناع، فيغرم جزاءه. وأَمَّا إِذا كَسَر بَيْضَه، فلأَنه أَصْلُ الصيد، فيأْخذ حُكْمَه، فعليه قيمةُ البيض لا قيمةُ مَآلِ البيض وهو الصيد، وهو مَرْوِيٌّ عن عليَ وابن عباس. وقد رَوى عبد الرزاق في «مُصَنَّفهِ» عن سفيانَ الثَّوْري، عن عبد الكريم الجَزَري، عن ابن عباس أَنه قال: في بَيْضِ النَّعَامِ يُصِيبُهُ المُحْرِم ثَمَنُه.

ولو كَسَرَ بَيْضَةً، فخرجَ منها فَرْخٌ ميتٌ يجِب قيمةُ الفَرْخِ الحيّ، لأَن الظاهر أَنه ماتَ بسببِ كَسْر البيضةِ، ولا شيءَ عليه في البيض. وقيل: إِنما ضمنه إِذا عَلِم أَنَّه كان حيَّاً، وماتَ بسببِ الكَسْر، وأَمَّا إِنْ عَلِمَ أَنَّه كان ميتاً، فلا شيء عليه، وإِنْ لم يعلم فالقياسُ أَنْ لا يَجِب الجزاء، لأَنه لم يَعْلم حياةَ الفَرْخ قبل الكسر. وفي الاستحسان يجبُ، لأَن البيضَ مُعَدٌّ ليخرجَ منه فَرْخٌ حيٌّ، والتمسك بالأَصْل واجِبٌ حتى يظهرَ خِلَافُه.

(وكَذَا إِنْ ذَبَحَ الحَلَالُ صَيْدَ الحَرَمِ) لزمه قيمتُه ويَهْدِي بها، أَوْ يطعم، ولا يُجزئه الصوم. وقال زُفَر: يجزئه. (أَوْ حَلَبَهُ) لأَن لَبَنَ الصيدِ جزؤُهُ، فأَخذ حُكْمَ كُلِّه. ولو فَعَل المُحْرمُ ذلك لَزِمَهُ في القياس قيمتان، لوجود الجناية على الإِحرام وعلى الحَرَم، وهو المذهب، وبه قال مالك. وفي الاستحسان قيمةٌ واحدةٌ، لأَن حرمةَ الإِحرام أَقْوى مِنْ حُرْمةِ الحَرَمِ لِحُصُولها في الأَماكِنِ كُلِّها، واعتبارُ الأَقْوى متعينٌ، فَتَدْخُلُ الجِنَايَةُ على الحَرَم في الجناية على الإِحرام، وبه قال الشافعيّ.

والحاصل أَنَّ صَيْدَ الحرم حرام على المُحْرم والحلالِ إِلاَّ ما استثناهُ الشارِعُ. فلو قَتَل مُحْرِمٌ صيداً، فعليه جزاءٌ واحدٌ، وليس عليه لأَجْلِ الحَرَمِ شَيْءٌ للتَّدَاخُلِ، كما لو قَتَله حَلالٌ فعليه جزاءٌ واحِدٌ لأَجْلِ الحَرَمِ، ثُمَّ يَتَعَيَّنُ قيمةُ صيدِ الحرم عندنا فيتصدَّق بها، ولا يجوز الصوم عنه، وأَجازه زُفَرُ كمالك والشافعيّ.

(أَوْ قَطَعَ) حَلَالٌ أَوْ مُحْرِمٌ (حَشِيشَهُ) أَي حشيش الحَرَم (أَوْ شَجَرَهُ) لأَنه أَزال عنه الأَمْنَ الذي كان يستحقُّه، بسببِ كونهِ منسوباً إِلى الحَرَمِ على الكمال. وذلك بأَنْ نَبَتَ بنفْسِه ولا يكون من جنس ما يُنْبِتُه الناسُ، فلو أَنْبَتهُ الناس سواء كان مِنْ جِنْس ما

ص: 710

إِلَّا مَمْلُوكًا أَوْ مُنْبَتاً أَو جَافَّاً.

ولا يُرْعَى الحَشِيشُ ولا يَقْطَعُ شيئاً منه إِلَّا الإِذْخِرَ.

===

أَنْبَتُوه أَوْ لا، (يحلُّ قطعه، لأنه منسوب إلى مالك، وكذا لو)

(1)

نبت بنفسه، وهو مما ينبته الناس بأَنْ نبتَ بَذْرٌ وقع فيهِ منهم فلا شيء فيه.

(إِلاَّ مَمْلُوكاً) للقاطع، قيدنا به لأَنَّه لو (قَطَعَهُ)

(2)

غيرُ مالكه لزِمه قيمتان: قيمةٌ بحَقِّ الشارِعِ، وقِيمةٌ بِحَقِّ المالك. ولهذا قالوا: لو نَبَت في مِلك رَجُلٍ أُمُّ غَيْلَان

(3)

فقطعها إِنْسَانٌ عليه قيمتها لِمَالِكِهِ، وعليه قيمتها لِحَقِّ الشَّرْع، بمنزلةِ ما لو قتل صيداً مملوكاً في الحرم. (أَوْ مُنْبَتاً) ـ بضم الميم وفتح الموحدة ـ سواء كان ما يُنْبِتُه النَّاسُ أَوْ مِمَّا يَنْبُتُ بنفسه، لأَنَّ نحوه غيرُ مضافٍ إِلى الحَرَمِ بل إِلى المَنْبت (أَوْ جَافَّاً) ـ بتشديد الفاء ـ أَي يابساً، لأَنه ليس بنامٍ فكان حَطَباً.

(ولا يُرْعَى الحَشِيشُ) أَي حشيش الحَرَم، وجَوَّزَ أَبو يوسف كمالك والشافعيِّ رَعْيَه لِدَفْع الحَرَج عن الزائرين والمقيمين.

(ولا يَقْطَع شيئاً منه إِلاَّ الإِذْخِرَ

(4)

ـ بالذال والخاء المعجمتين ـ نبتٌ معروفٌ. روى أَصحابُ الكتبِ الستةِ من حديث أَبي هريرةَ قال: «لما فَتَحَ اللهُ على رسولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قام فَحَمِدَ اللهَ وأَثْنَى عليه، ثُم قال: إِنَّ اللَّهَ حَبَس عن مَكَّةَ الفِيل ـ بالفاء، وفي روايةٍ: القتل (أَوْ الفيل، على الشَّك)

(5)

ـ وسَلَّطَ عليها رسولَه والمؤمنين، وإِنَّما أُحِلَّتْ لي ساعةً مِنْ نَهار، ثُم هي حَرامٌ إِلى يوم القيامة، لا يُعْضَدُ شجرُها ـ أَي لا يُقْطع ـ ولا يُنفَّر صيدها، ولا يُخْتَلَى خَلَاها، ولا تحل ساقطتها إِلا لمنشد ـ أَي مُعَرِّف ـ فقال العباس: إِلا الإِذْخِرَ، فإِنه لِقُبُورِنا وبيوتنا، فقال صلى الله عليه وسلم إِلاَّ الإِذْخِر». وفي روايةٍ للبُخَارِيّ:«إِلاَّ الإِذْخِر إِلاَّ الإِذْخِر» . مكرراً.

والخلا ـ بالقصر ـ الحشيش الرطب، واختلاؤُه: قَطْعُه. وقوله: «لا تحلّ ساقطتها: أَي ما سقط فيها بغفلة المالك، وهي اللُّقَطَة فقيل: ليس لواجد لقطة مكةَ غير

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

سقط من المطبوع.

(3)

أم غَيْلان: شجر السَّمُر، لسان العرب 11/ 513، مادة (غيل). والسَّمُر: ضرب من الشجر، صغار الورق، قصار الشوك، وله برَمَةٌ صفراء يأكلها الناس. وليس في العضاه - شجر له شوك - شيء أجود خشبًا من السَّمُر، ينقل إلى القرى، فتُغَمَّى به البيوت. لسان العرب 4/ 379، مادة (سمر) ..

(4)

الإِذْخِرُ، حشيشةٌ طيبةُ الرائحةِ تُسَقَّفُ بها البيوتُ فوق الخشب. النهاية: 1/ 33.

(5)

سقط من المطبوع.

ص: 711

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

التعريف، ولا يملكها أَبداً، ولا يتصدّقُ بها إِلاَّ أَنْ يظفر بصاحبها بخلاف لقطة سائر البقاع، وهو أَظْهر قولي الشافعي. والأَكْثَرُون على أَنَّه لا فَرْقَ بين لقطة الحرَمِ والحِلِّ. وقالوا معنى:«إِلاَّ لِمُنْشد» أَنه يُعَرِّفُها كما في سائر البقاع حَوْلاً كَامِلاً، حتى لا يتوهم (أَنَّه)

(1)

إِذا نَادَى عليها وقتَ الموسم، فلم يظْفَرْ بِمَالِكِها، جاز تمَلُّكُها. وقوله:«لِقُبُورِنَا وبُيُوتِنَا» لأَنَّه يُسَدُّ به فُرَجَ اللَّحْد المتخلِّل بين اللَّبِنَات، ويُسقف به البيت فوق الخشب.

فإِنْ قلت: ليس في كلام العباس ما استثني إِلاَّ الإِذْخر منه، فما المستثنى البيت منه؟ قلت: مثله ليس مُسْتَثنىً، بل هو تَلْقِينٌ بالاستثناءِ، كأَنه قال: قل يا رسول الله: لا يُخْتَلَى خَلاها إِلاَّ الإِذْخِر. والواقع في لفظه صلى الله عليه وسلم ظاهرٌ أَنَّه اسْتِثْنَاءٌ مِنْ كلامهِ السابِقِ، كذا أَفادَهُ الكِرْمَاني في «شَرْح البُخَاري» . ورُوِي أَنَّ ابن

(2)

عمر قَطَعَ دَوْحَةً

(3)

كانت في موضع الطواف تؤذي الطائفين وتَصَدَّقَ بقيمتها.

والحاصل أَنَّ كلَّ شجر أَنْبَتَه الناسُ وهو مِنْ جنسِ ما يُنْبِتُونه كالزرع، وما أَنْبَتَهُ النَّاسُ وليس مما يُنبتونه عادةً كالأَرَاك، وما نَبَتَ بِنَفْسه وهو مِنْ جنس ما ينبتونه، فهذا يَحِلُّ قَطْعُه ولا جزاء فيه، لأَنَّ الناسَ يَزْرَعُونَ ويحصدون في الحرم مِنْ لَدُن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إِلى يومنا هذا مِنْ غَيْر نكيرِ مُنْكِر، ولا زَجْر زَاجِرٍ. وكل ما نَبَتَ بِنَفْسِهِ وهو من جِنْس ما لا يُنْبِتُونه كأُم غَيْلَان، فهذا محظورُ القَطْعِ على المُحْرِم والحَلَال، مملوكاً أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكٍ، إِلاَّ اليابِسَ، والإِذْخِرَ، وذلك لأَنَّ حُرْمَةَ أَشْجَار الحَرَمِ كَحُرْمَةِ صَيْدِه، فإِنَّ صيده يأْوي

(4)

إِلى أَشجاره ويستظلُّ بظلها، ويتخذ أَوْكاراً على أَغْصَانِها.

فكما تجب القيمة في صيد الحَرَم على مَنْ أَتْلَفه، فكذلك تجب (القيمة)

(5)

على مَنْ قطعه. ويجوزُ للمُحْرم أَنْ يقطعَ شجرَ الحِلِّ وحشيشَهُ، رطباً ويابساً. ثُم مُجْمَلُ ما احتجّ به أَبو حنيفةَ ومحمد على تحريمِ رَعْي حشيش الحَرَمِ قولهُ صلى الله عليه وسلم «لا يُخْتَلَى خَلَاها» . وفي رَعْي الدوابِ ارتكابُ المنهيِّ عنه، لأَن مشافر

(6)

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

وفي المخطوط: عمر.

(3)

الدَّوْحَة: هي الشجرة العظيمة. النهاية: 2/ 138.

(4)

في المطبوع: يأتي، وما أثبتناه من المخطوط.

(5)

سقط من المطبوع.

(6)

المِشْفَر جمعُهُ مشافر: كالشَّفَة لك. القاموس المحيط، ص: 536، مادة (الشفر).

ص: 712

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الدواب كالمناجل

(1)

.

ولهم أَنَّ الذين يدخلون الحَرَمَ للحج والعُمرة يكونون على الدواب لا يمكنُهُم مَنْعها مِنْ رَعْيها، إِذْ في ذلك مِنَ الحرجِ ما لا يَخْفَى، حتى قال ابن أَبي ليلى: لا بأْس بأَنْ يحتشَّ ويَرْعى لأَجل الضرورة والبلوى، فإِنه يَشُقُّ على الناس حَمْلُ العلفِ للدوابِّ من خارج الحَرَم.

ولقائلٍ أَنْ يقول: احتياجُ أَهْلِ مكَّةَ إِلى حشيش الحرم لدوابِّهم فوق احتياجهم الإِذْخِر لعدم انفكاكها عنهم، وأَمْرُهم بِرَعْيها خارجَ الحَرَمِ في غايةِ المشقة، إِذْ أَقْرَبُ حِلِّ الحرمِ جهةُ التَّنْعِيم، وهي نحو أَربعة أَميال، والجهات الأُخَر: سبعةً وثمانية وعشرة، كما فصلناها عند ذكر المواقيت. ولو حَرُمَ رَعْيُه لخرج بها الرِّعاء كل يوم مانِعِينَ

(2)

لها إِلى إِحدى الجهات في زمن، ثُم عادوا في مثله، وقد لا يبقى من النهار وقتٌ تَرْعَى فيه الدوابُّ إِلى أَنْ تشبع، على أَنَّ أَصْلَ جَعْلِ الحرَم إِنَّما كان لِيأْمنَ أَهلُه على أَنفسِهم وأَموالِهم، فلو لم يَجُز لهم رَعْيُ حشيشه لَتُخُطِّفُوا كغيرهم، قال اللهُ تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِم}

(3)

، ذكره في مَعْرِض الامتنانِ عليهم، حيث كانت العرب حول مكةَ يغزو بعضهم بعضاً ويتغارُّون ويتناهبون، وأَهلُ مكةَ قارون آمِنون فيها لا يُغزَوْن ولا يغار عليهم مع قِلَّتِهم.

بل وفي قوله صلى الله عليه وسلم «لا يُخْتَلَى خَلاهَا، ولا يُعْضَدُ شَوْكُها» ، وسكوتِه عن نفي الرَّعْي إِشارةٌ إِلى جوازه، إِذْ معنى لا يُعْضَدُ ولا يُخْتَلى: لا يقطع، ولو كان الرَّعْيُ مثلَه لَبَيَّنَه، ولا مساواةَ بينهما لِيُلْحَقَ به دلالةً، إِذِ القطعُ فِعْلُ مَنْ يفعل، والرَّعْي فِعْلُ العَجْماءِ

(4)

وهو جُبَارٌ

(5)

وعليه عَمَلُ الناس. وليس في النَّصِّ دلالةٌ على نَفْي الرَّعْي لِيلزَم من اعتبار البلوى مَعَارَضَتُه بخلافِ الاحتِشَاشِ الذي قال به ابن أَبي لَيْلَى. هذا، ويجوزُ أَخْذُ كَمْأَةِ

(6)

الحَرَمِ، لأَنها ليست مِنْ نبات الأَرض، بل هي مُودَعَةٌ

(1)

في المطبوع: "كالمختلى". والمثبت من المخطوط.

(2)

في المطبوع: ما يعيِّن، وما أثبتناه من المخطوط.

(3)

سورة العنكبوت، الآية:(67).

(4)

العَجْماء: أي الدَّابة. النهاية: 1/ 236.

(5)

الجُبَار: الهَدر. النهاية: 1/ 236.

(6)

الكَمء: الفُطْرُ. المعجم الوسيط ص: 797، مادة (كَمَأَ).

ص: 713

وبِقَتْلِ قَمْلَةٍ أَوْ جَرَادَةٍ صَدَقَةٌ وإِنْ قَلَّتْ.

===

فيها. وكذلك لا بأْس بإخراج حجارةِ الحَرَمِ عندنا، وقد نُقِل عن ابن عباس وابن عمر أَنَّهُما كَرِهَا ذلك، وبه قال الشافعي. قال شمس الأَئمةِ السَّرَخْسِي: ولسنا نأْخذ بهذه العادة الجارية الظاهرة فيما بين الناس بإِخراج القذور ونحوها مِنْ الحَرَم.

(وبِقَتْلِ قَمْلَةٍ) أَي مِنْ بَدَنِهِ، فإِنه لو قَتَل قَمْلَةً مِنَ الأَرض أَوْ مِنْ غيرِه، لا شيء عليه، وكذا لو قتل محرِمٌ قَمْلَ غيرِه لا شيء عليه. ولو قال مُحْرِمٌ لِحَلالٍ: ارْفَع عني هذه القَمْلَة، أَوْ أَمَرَهُ بِقَتْلِها، أَوْ أَشار إِليها فقتلها، فعلى الآمِر الجزاءُ، والدلالةُ فيها موجِبةٌ كما في الصيد.

(أَوْ) قَتْل (جَرَادَةٍ صَدَقَةٌ وإِنْ قَلَّتْ) كَكَفَ من الطعامِ وكسرةٍ من خبزٍ. أَما القَمْلة فلأَنها متولدةٌ من بدنِهِ، فيكون قَتْلُهَا مِنْ قضاءِ التَّفَثِ، وفي إِزالتها ارتفاقٌ

(1)

، والقَمْلتانِ والثلاثُ كالواحِدِ. ولو قتل قَمْلاً كثيراً وهو ما زاد على الثلاثِ ـ بالِغاً ما بَلَغ ـ أَطْعَم نِصْفَ صاعٍ مِنْ بُرَ. وإِلْقاؤها على الأَرض كَقَتْلِها. ولو وضَع ثوبَه في الشمس ليقتلَ قَمْلَةً فماتت فعليه الجزاءُ. ولو وضَع ثوبَه في الشمسِ ولم يَقْصد قَتْلَ القَمْلِ لا شيءَ عليه، كما لو غَسَلَ ثوبَه فماتَ القَمْلُ.

وأَمَّا الجرادةُ فلأَنها مِنْ صَيْد البَرِّ، لما روى مالك في «المُوَطَّأ» من حديث يَحْيَى ابن سعيد: أَنَّ رجلاً سأَلَ عمرَ عن جرادة قتَلها وهو مُحْرِمٌ، فقال عمرُ لكَعْب: تَعَال حتى تَحْكُمَ، فقال كعب: دِرْهَمٌ، فقال عُمَر: إِنَّكَ لَتَجِدُ الدَّرَاهِم، لَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جرادةٍ. وعليه كثيرٌ مِنْ العلماء، لكنْ يُشْكِل عليه ما ورد في «سُنن أَبي داود والترمذي» عن أَبي هريرةَ قال: خَرَجْنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّةٍ أَوْ عُمرةٍ فاسْتَقْبلنا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ ـ بكسر الراء، أَي قطعة عظيمةٍ منه ـ فجعلنا نَضْرِبُه بِسِيَاطِنَا وقَسِّيِّنا

(2)

، فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم «كُلُوه، فإِنه مِنْ صَيْدِ البَحْرِ» .

وعلى هذا لا يكون فيه شيءٌ أَصلاً. وتَبِع عُمَرَ أَصحابُ المذاهبِ، كذا ذكره ابن الهُمامِ، وسكت عن تحقيقِ المرام.

وفي «حياة الحيوان» للعلامة الدَّمِيري: أَنَّ الجراد نوعان: بَرِّي وبِحْري، لما روى ابن ماجه عن أَنس: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا على جرادٍ فقال: «اللَّهُمَّ أَهْلِك كِبَارَهُ، وأَفْسِد صغارَهُ، واقْطَع دَابِرَه، وخُذ بأَفْوَاهِهِ عن معايشِنَا وأَرْزاقِنا فإِنَّك سميعُ الدُّعاءِ» ، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ كيف تَدْعُو على جُنْدٍ مِنْ أَجْنادِ اللَّهِ بِقَطْعِ دَابِره؟ قال:

(1)

تقدم شرحها ص: 690، تعليق رقم (4).

(2)

القَسِّيُّ: ثياب من كَتَّان مخلوط بحرير، يؤتى بها من مصر، النهاية 4/ 59.

ص: 714

ولا شَيءَ بِقَتْلِ غُرَابٍ، وحِدَأَةٍ، وعَقْرَبٍ، وحَيَّةٍ، وفَأْرَةٍ، وكَلْبٍ عَقُورٍ،

===

«الجرادُ نَثْرَهُ الحوتِ مفي البَحْر» ـ أَي عَطْسَتُه ـ. والمراد أَنَّ الجرادَ مِنْ صَيْدِ البحْرِ يَحِلُّ للمُحْرِم صَيْدُه. وبه قال أَبو سعيدٍ الخُدْرِي، فإِنَّه قال: لا جزاءَ فيه. وحكاه ابنُ المُنْذِر عن كعب الأَحبار، وعروةَ بن الزبيرِ، فإِنَّهم قالوا: هو مِنْ صَيْدِ البحرِ لا جزاءَ فيه.

واحتجّ لهم بحديثِ أَبي المُهَزِّم عن أَبي هريرةَ قال: أَصَبْنا ضَرْباً مِنَ الجراد

(1)

، فكان رَجُلٌ يَضْربُ بسوطٍ وهو مُحْرِمٌ، فقيل: إِنَّ هذا لا يصلح، فَذُكِر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال:«إِنَّما هو مِنْ صَيْدِ البَحْر» . رواه أَبو داود والترمذي وغيرهما. واتّفقوا على تَضْعِيفِهِ بِضَعْفِ أَبي المُهَزِّم، ثُم قال: والصحيح أَنَّهُ بَرِّي، لأَن المُحْرِم يجب عليه الجزاءُ إِذا أَتْلَفه عندنا، وبه قال عمرُ، وعثمانُ، وابن عمرَ، وابن عباس، وعطاء. قال العبدي: وهو قول أَهل العِلْم كافةً إِلاَّ أَبا سعيد الخُدْري. فقيل: حديثُ أَبي داود والترمذي مَنْسُوخٌ أَوْ غَيْرُ ثابتٍ، أَوْ مُؤَوَّل بأَنه مِثْلُ صيدِ البَحْرِ مِنْ حيث عدمُ الاحتياج إِلى ذَبْحٍ مِثْلِهِ.

(ولا شَيءَ بِقَتْلِ غُرَابٍ) في الحرم والإِحرام، وهو الغُراب الأَبقع الذي يأْكلُ الجَيفَ دون ما يأْكل الزَّرْع. والأَبْقَع: ما خالط بياضَهُ لونٌ آخَرُ (وحِدَأَةٍ)

(2)

دُوَيْبَّة على وزن عِنَبَة (وعَقْرَبٍ وحَيَّةٍ وفَأْرَةٍ) سواء كانت أَهليةً أَوْ وحشيةً (وكَلْبٍ عَقُورٍ) وهو المعروف عند الناس. وبه قال الأَوْزَاعِيُّ، وألحقوا به الذئب.

قال ابن الهُمَام: اسم الكلب يتناول السِّباع بأَسْرِها، يدلُّ عليه أَنَّه صلى الله عليه وسلم قال داعِياً على عُتْبَةَ بن أَبي لَهَب:«اللهم سَلِّط عليه كَلْباً مِنْ كلابِك، فافْتَرَسه سَبُعٌ ـ أَي أَسد ـ» . وقيل: الكَلْبُ العقور: يُقال لِكُلِّ عَاقِر حتى اللصّ المقاتل. وقيل: المراد به الذئب، وقيل: الأَسد. وعن أَبي حنيفةَ أَنَّ العَقُور وغَيْرَ العقورِ والمستأْنس والمتوحش سواءٌ في عَدم لزومِ الجزاء، لأَنَّ المُعْتَبَرَ في ذلك الجِنْسُ لا الوصفُ، إِلاَّ أَنَّ الكلب الأَهْلِي

(3)

إِذا لم يكن مؤذياً لا يحل قَتْلُه، لأَنَّ الأَمْرَ بِقَتْل الكلاب قد نُسِخ فيقيدُ القَتْل بوجودِ الإِيذاء.

رَوى مسلمٌ والبخاري من حديث عائشةَ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خَمْسُ

(1)

في المطبوع: جرادًا، وما أثبتناه من المخطوط.

(2)

الحِدَأَة: طائِرٌ من الجوارح ينْقَضُّ على الجُرْذَانِ والدَّواجن والأطعمة ونحوها. المعجم الوسيط ص: 159، مادة (حَدَأ).

(3)

في المطبوعة: العقور، وما أثبتناه من المخطوطة.

ص: 715

وبَعُوضٍ، وبُرْغُوثٍ، وقُرَادٍ، وسُلَحْفَاةٍ، وسَبُعٍ صَائِلٍ.

===

فَوَاسِق

(1)

يُقْتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَم: الغُرَابُ، والحِدَأةُ، والعَقْرَبُ، والفأْرَةُ، والكَلْبُ العَقُور». وفي لفظٍ لِمُسْلم:«الحَيَّةُ، والغُرابُ الأَبْقَعُ، والفأْرَةُ، والكلبُ العَقُور، والحُدَيّا ـ وهي تصغير الحِدَأَة ـ» . وفيهما أَيضاً عن ابن عمرَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «خَمْسٌ من الدَّواب ليس على محرم في قتلهن جناحٌ: العقرب، والفأْرة، والكلب العقور، والغراب، والحِدَأَة» . وفي «سُنن أَبي داود» عن أَبي سعيدٍ الخُدْرِي: سُئِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَمَّا يَقْتُلُه المُحْرِمُ، قال:«يقتل المحرم: الحية، والعقرب، والفويسقة، والكلب العقور، والحِدَأة، والسَّبُع العادي، ويَرْمي الغُرَابَ ولا يقتله» . والمراد به غَيرُ الأَبقع: وهو الذي يأْكلُ الزَّرْعَ، وإِنَّما يرميه لِيَنْفِيهِ عن الزَّرْع. وقال الشافعيُّ وأَحمد والثوري: المرادُ بالكَلْبِ العَقُورِ: كُلُّ عَاقِرٍ، أَي جَارحٍ مُفْتَرسٍ غالباً، كالأَسد، والنَّمِر، والذئب، والفهد.

(وبَعُوضٍ) أَي بَقَ، ومُفْرَدُه بَعوضةٌ (وبُرْغُوثٍ) بضمتين (وقُرَادٍ)

(2)

بضم أوله لأَنها مؤذية بطبعها وليست بصيد ولا متولّدة من البَدَن، وكذا النملةُ، مؤذيةٌ أو لا، لا شيءَ في قَتْلِها إِلاَّ أَنَّ النمل الذي لا يؤذي لا يُقتل (وسُلَحْفَاةٍ) بضم ففتح فسكون: حيوانٌ معروف، وليس بصيدٍ لأَنه يُؤخذ مِنْ غير حيلةٍ، ولأَنها مِنْ الحشراتِ فأَشْبَهَت الخنافس والوَزَغات (وسَبُعٍ صَائِلٍ) أَي مستطيل، أَوْ وَاثِب مِنْ الصَّوْلة: وهي الحَمْلة. وقال زفر: يجب فيه القيمةُ، لأَن عِصْمَتَه لا تَزُول بصولته، ولهذا لو صال جَمَلٌ على رجل فقتله يجب فيه القيمةُ.

ولنا ما روى الترمذي من حديث أَبي سعيدٍ الخُدْرِي: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِل ما يَقْتُلُ المُحْرم، فقال:«العَقْرب، والفُوَيْسِقة ـ وهي الفأْرة تصغير الفاسقة ـ، والغُراب، والكلب العَقُور، والحِدَأَة، والسَّبُع العادي» . والفَرْق بين السَّبُع الصَّائِل، والجَمَل الصَّائل: أَنَّ السَّبُع الصائل أَذِنَ مَالِكهُ ـ وهو اللهُ تعالى ـ في قَتْلِهِ. والجملُ الصائِلُ لم يَأْذَنْ مَالِكُه ـ وهو العبد ـ في قتله.

قال ابنُ الهُمَام: وطُولِب بالفَرْقِ بينه وبين العبدِ إِذا صال بالسَّيْفِ على إِنْسَانٍ فقتله المَصُولُ عليه لا يَضْمَنُه، مع أَنَّه لا إِذْن له أَيْضاً مِنْ مالكه. وأُجيبَ بأَنَّ العَبْدَ

(1)

الفَوَاسق: أَصل الفُسوق الخروج عن الاستقامة، وإنما سُمِّيت هذه الحيوانات فواسق - على الاستعارة - لِخُبْثِهِن، وقيل: لخروجهن من الحرمة في الحِلّ والحرَم: أي لا حرمة لهنَّ بِحَال. النهاية: 3/ 446.

(2)

القُرَاد: دُوَيْبة متطفِّلة - ذات أرجل كثيرة - تعيش على الدواب والطيور. المعجم الوسيط ص: 724.

ص: 716

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

مضمونٌ في الأَصل حقّاً لِنَفْسِهِ بالآدميةِ لا للمولى، لأَنه مُكَلَّفٌ كسائرِ المُكَلَّفِين، أَلَا تَرَى أَنَّه لو ارتدَّ أَوْ قَتَل يُقْتَل. وإِذا كان ضمانُ نَفْسه في الأَصل له سَقَطَ بِمُبيح جاء مِنْ قِبَلِه ـ وهو المحاربة

(1)

ـ وماليةُ المولى فيه وإِنْ كانَتْ مَتَقَوِّمةً مضمونةً له، فهي تَبَعٌ بِضَمَانِ النَّفْس، فيسقط التَّبَعُ في ضِمْن سُقُوطِ الأَصْل. انتهى.

وفي «مواهب الرحمن» : نُوجبُ نَحْنُ ومالك الجَزَاءَ بِقَتْل السِّباع في ظاهر الرواية، إِذْ كُلُّها صُيُودٌ. وعن أَبي يُوسُف أَنَّ الأَسَدَ كالكَلْبِ العَقُورِ، وكذا الذئب. وفي «البدائع» تَصْرِيحٌ بِحِلِّ قَتْل الأَسد، والفَهْد، والنَّمِر. أَقول: ويمكنُ الجمع بالحمل على العادي وغَيْرهِ. ولم يُوجِب الشافعيُّ في السِّباع مُطلقاً، لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّما استثنى الخَمْسَ، لأَن مِنْ طَبْعِها الأَذى، فَكُلُّ ما يكونُ من طبعه الأَذَى فهو بمنزلةِ الخَمْسِ مُسْتَثْنَى مِنْ نَصِّ التَّحْرِيم. فصار كأَنَّ الله تعالى قال: لا تَقْتُلوا غيرَ المؤذي من الصُّيودِ. وأُجِيب بأَنَّ ما سوى الخمس في معنى الإِيذاء دون الخَمْسِ، لأَنَّ الخَمْسَ مِنْ طَبْعها البدايةُ بالأَذَى، وما سواها لا يؤذي إِلاَّ أَنْ يُؤْذَى، فلم يكن في معنى المنصوص لِيُلْحَقَ به.

ثُم لا يتجاوز جزاءُ غَيْرِ المأْكولِ شاةً، وأَوجبَ زُفَرُ قيمتَهُ ـ بالِغَةً مَا بَلَغَتْ ـ اعتباراً بمأْكولِ اللَّحم، فإِنَّ الواجِبَ لحقِّ اللهِ تعالى مُعتبرٌ بالواجبِ لِحَقِّ العباد، وهناك لا فرق بين مأْكول اللحم وغيره، فههنا لا فَرْقَ بينهما أَيضاً، فإِمَّا أَنْ يُقالَ تجِب القيمةُ ـ بَالِغةً ما بلغت ـ في الموضعين جَمِيعاً، أَوْ لا يُجَاوَزُ بالقيمة شاةٌ في المَوْضِعَين. وحُجتُنا في ذلك: أَنَّ فيما لا يُؤكل لحمه وجوبَ الجزاءِ باعتبارِ معنى الصَّيْدِيَّةِ فقط، لا باعتبار عَيْنِهِ فإِنَّه غَيْرُ مَأْكولٍ، وباعتبار معنى الصيديةِ يكونُ مُرْتَكِباً محظورَ إِحرامه، فلا يلزمه أَكْثر من شاة كسائر محظورات الإِحرام.

وأَمَّا في مأْكولِ اللَّحم فوجوبُ الجزاءِ باعتبارِ عينه، لأَنه (مُفْسِدٌ)

(2)

لِلَحْمهِ بَفْعَله فتجب قيمتُه بالِغَةً ما بَلَغَتْ، وكذلك في حقوق العباد، ووجوبُ الضَّمَانِ ليس باعتبارِ الملكِ بل العينُ، فَيُقَدَّرُ (بِقَدْر)

(3)

قيمة العين، ثُم زيادة القيمة في الفهد والنَّمِر والأَسد لِمَعْنَى تفاخر الملوك بها، لا لِمَعْنىً في الصَّيْدِية، وذلك غيرُ مُعْتَبَرٍ في (حق)

(4)

(1)

وفي المطبوع: الحملة، وهو خطأ، صوابه ما أثبتناه من المخطوط و"فتح القدير" 3/ 22.

(2)

سقط من المطبوع.

(3)

سقط من المطبوع.

(4)

سقط من المطبوع.

ص: 717

ولَهُ ذَبْحُ الحيوانِ الأَهْلِي، وأَكْلُ ما صَادَه حَلَالٌ وذَبَحَهُ بِلا دَلَالَةِ مُحْرِمٍ وأَمْرِهِ.

===

المُحْرم، فلهذا لا يلزمه أَكْثر من شاةٍ إِنْ كان مُفْرداً بالحج أَوْ العُمرةِ، وإِنْ كان قَارِناً لا يجاوز ما وجب عليه شاتين.

(ولَهُ ذَبْحُ الحيوانِ الأَهْلِي) إِجماعاً، وهو الشاة، والبقرة، والبعير، والدجاجة، والبط، والأَوز الذي يكون في المَسَاكِن والحِياضِ ولا يطير، لأَن ذلك ليس بصيدٍ لِعَدَمِ التَّوَحُّش. والحَمَام صَيْدٌ ولو كان مُستأْنساً أَوْ مُسَرْوَلاً

(1)

، لأَنه متوحشٌ بأَصل الخِلْقَة، والاستئناس عَارض، فلم يُعتبر، كالبعيرِ إِذْ نَدَّ لا يأْخذُ حُكْمَ الصيدِ في حَقِّ الحُرْمةِ على المُحْرِم. ويجب الجزاءُ بِقَتْل خِنْزِيرٍ، وقِرْدٍ، وفيلٍ. ونفاه زُفَرُ، لأَنها مِمَّا يُمْسَك في البيوت فهي مُسْتَأْنِسة، فكانت في حُكْم الأَهْلي. ولنا أَنها مُستوحِشَةٌ بِطَبْعِها، مُمْتَنِعَةٌ بقوائمها وأَنْيابِها حسب طاقتها، فكانت صَيْداً فَتَنَاوَلتها الآيةُ، والاستئناسُ العارِض لا يُصَيِّرُها في حُكْم الأَهلي، كالظبي المستأْنس.

(وأَكْلُ ما صَادَه حَلَالٌ وذَبَحَهُ) ـ بفتح الموحدة، عَطْفٌ على صَادَه ـ أَي وللمُحْرم أَنْ يأْكل ما فعل الحلال فيه مجموع الاصطياد والذبح. سواءٌ صاده لأَجل حَلَالٍ أَوْ لأَجل مُحْرِم، فلو صاده حَلَالٌ فذبح له مُحْرِمٌ أَوْ عَكْسه، فهو مَيْتَةٌ. وهذا الحكم إِذا صادَه حَلَالٌ (بِلا دَلَالَةِ مُحْرِمٍ وأَمْرِهِ) وقال مالك والشافعيُّ: إِذا صادَ حَلَالٌ صيداً لأَجل مُحْرِم، لا يَحِل للمُحْرم أَكْلُه، لما روى أَبو داود، والترمذي، والنَّسائي من حديث جابر بن عبد الله قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صَيْدُ البَرِّ لكم حَلَال ما لم تَصِيدُوه أَوْ يُصَد لَكُمْ» . والخطاب للمُحْرِمين، كذا ذكره الشارح.

وقال ابن الهُمَام: الحديث على ما في «السنن الثلاثة» عن جابر: «لَحْمُ الصَّيْدِ حَلَالٌ (لَكُمْ)

(2)

ما لم تَصِيدوه أَوْ يُصَادُ لَكُمْ»، هكذا بالأَلف في «يصاد». قلت: العَطْفُ بحسب المعنى، والتقدير: أَوْ ما لا يصادُ لكم.

ولنا ما رَوَى مُسْلِمٌ من حديث معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان عن أَبيه قال: كُنَّا مع طَلْحَةَ بنِ عبيد الله، ونَحْن حُرُمٌ، فأُهْدِي إِليه طيرٌ، وطَلْحَة رَاقِدٌ، فَمِنَّا مَنْ أَكَل، ومِنَّا مَنْ تَوَرَّع، فَلَمَّا انْتَبَه أُخْبر، فَوَافَقَ مَنْ أَكَلَهُ وقال: أَكَلْناه مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم

لكن قَدْ يُقَال: إِنه ليس فيه نَصُّ على أَنَّ الصيدَ كان لأَجْلِ المُحْرِمين، فلا يَتِمُّ

(1)

المُسَرْوَل: - من الحمام - هو ما كان في رِجْلَيه ريشٌ. المعجم الوسيط ص: 428، مادة (سَرْوَلَ).

(2)

سقط من المطبوع.

ص: 718

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الاستدلال. وفي «المُوَطأ» من حديث هِشَام

(1)

بن عُرْوَةَ، عن أَبيه: أَنَّ الزُّبَيْرَ بن العَوَّام كان يَتَزَوَّدُ صَفِيفَ الظِّبَاءِ

(2)

في الإِحْرَام. والصفيف ـ بمعجمتين بينهما مثناة من تحت ـ ما يصف مِنْ اللَّحْمِ على اللَّفْمِ

(3)

لينشوي. وهو أَيضاً غَيْرُ تَمامٍ، إِذْ لا دلالةَ فيه على كون الاصطيادِ له وَقَع بَعْدَ إِحْرامه.

قال ابن الهُمَام: وفي «مسند أَبي حنيفةَ» : عن هشام بن عروة (عن أَبيه

(4)

)، عن جَدِّهِ الزُّبَيْرِ بن العوام قال: كُنَّا نَحْمِلُ الصَّيْدَ صَفِيفاً

(5)

، وكُنَّا

(6)

نتزوَّدُهُ ونأْكلُه ونَحْنُ مُحْرِمُونَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم واختصره مالك.

وحاصله: نُقِل وقائِعُ أَحوالٍ فيه لا عموم لها، فيجوزُ كونُ ما كانوا يِحْمِلون مِنْ لُحُومِ الصَّيْدِ للتزوّد ومِمَّا لم يُصَد لأَجل المُحْرِمين، بل هو الظاهر، لأَنَّهم يَتَزَوَّدُون مِنْ الحضر ظاهراً، والإِحْرَام بعد الخروج من الميقات، فالأَوْلى بالاستدلال على أَصل المطلوبِ حديثُ أَبي قَتادَةَ على وجه المُعَارضةِ على ما في «الصحيحين» ، فإِنَّهم لَمَّا سأَلوه صلى الله عليه وسلم لَمْ يُجِب بحِلِّهِ لهم حتى سَأَلَهم عن موانعِ الحِلِّ، أَكانت موجودةً أَمْ لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم «أَمِنْكُم أَحَدٌ أَمَرَه أَنْ يَحْمِلَ عليها أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟» قالوا: لا، قال:«فَكُلوا إِذاً» . فلو كانَ مِنَ الموانعِ أَنْ يُصَادَ لهم لَنُظِم في سِلْك ما يُسأَل عنه منها في التفحصِ عن الموانع، فيجب ما يحكم عند خلوه عنها. وهذا المعنى كالصريح في نفي كَوْنِ الاصطياد لهم مانِعاً، فَيُعَارِضُ حديثَ جَابِرٍ ويُقَدَّمُ عليه لِقُوَّةِ ثُبوتِه، إِذْ هو في «الصحيحين» وغيرهما من الكتب الستة بخلاف ذلك. انتهى.

وأَجابَ الطحاوي عن حديث جابر: بأَنَّ معناه: أَوْ يُصَاد لكم بأَمْرِكم، توفيقاً بين الحديثين: فإِنَّ الغالب في عمل الإِنسان لغيره أَنْ يكون بطلبٍ منه، فليكن محمله هذا دَفْعاً للمعارضة، وبأَنَّ اللام للملك

، والمعنى أَنْ يصاد ويجعل له، فيكون تمليك عين الصيد من المُحْرِم وهو مُمْتَنِعٌ أَنْ يَتملكه، فيأْكل مِنْ لَحْمِه.

(1)

في المطبوع: ابن هشام، وما أثبتناه من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في موطأ الإمام مالك 1/ 350، كتاب الحج (20)، باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد (24)، رقم (77).

(2)

في المطبوع: الصيد، وما أثبتناه من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في موطأ الإمام مالك 1/ 350.

(3)

حرِّفت في الأصل إلى: اللحم، والصواب ما أثبتناه لموافقته لما في كتب اللغة. انظر "القاموس المحيط" ص 1070، و"لسان العرب" 9/ 195.

(4)

سقط من المطبوع.

(5)

صَفَفْتُ اللحم أَصُفُّهُ صَفًّا: إذا تركته في الشمس حتى يجِفَّ. النهاية 3/ 37.

(6)

في المطبوع: وكذا، وما أثبتناه من المخطوط.

ص: 719

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

هذا، وفي «آثَارِ محمد بن الحسن»: أَخبرنا أَبو حنيفة، عن محمد بن المُنْكَدر، عن عُثمانَ بن محمد، عن طَلْحَةَ بن عُبَيد الله قال: تَذَاكَرْنا لَحْم الصَّيْدِ يأْكُلُه المُحْرم والنبيُّ صلى الله عليه وسلم نائِمٌ، فارتفعتْ أَصواتُنا فاستيقظَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَال:«فَبِمَ تنازعون؟» قلنا: في لَحْمِ الصَّيْدِ يأْكُلُهُ المُحْرم، فأَمَرَنا بأْكْلِهِ.

وفي «آثار الطحاوي» عن عُمَير بن سَلَمَةَ (الضَّمْري)

(1)

قال: بينما نحنُ نسيرُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ أَفْنَاءِ الروحاء وهُو مُحْرِمٌ، إِذا حمارٌ مَعْقُورٌ فيه سَهْمٌ قد مات، فقال صلى الله عليه وسلم «دَعُوه فيوشك صاحبُه أَنْ يأْتيه». فجاء رجلٌ من بَهْز ـ وهو الذي عَقَرَ الحمارَ ـ فقال: يا رسولَ الله، هذه رميتي فشأْنكم

(2)

به، فأَمَرَ صلى الله عليه وسلم أَبا بكرٍ أَنْ يَقْسِمَه بين الرِّفاقِ، وهم مُحْرِمُون.

وفي «سُنن أَبي داود» : أَنَّ الحارثَ بنَ نوفل ـ وكان خليفةَ عثمانَ على الطائف ـ صَنَعَ لعثمانَ طعاماً فيه مِنْ: الحَجَلِ

(3)

، واليعاقيب

(4)

، ولحم الوحش، فَبَعَثَ إِلى عليَ فجاءه الرسول وهو يَخْبِطُ لأَباعرَ له، فجاءه وهو ينْفُضُ الخَبَط

(5)

عن يديه، فقالوا له: كُلْ، فقال: أَطعموه قوماً حلالاً فأَنَا مُحْرِم، ثُم قال عليٌّ: أَنْشِد مَنْ كان ههنا مِنْ أَشْجَع: أَتعلمون أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَهْدَى إِليه رَجُلٌ حِمارَ وَحْشٍ وهو محرم فأَبَى أَنْ يَأْكلَه؟ قالوا: نعم. ورواه الطحاوي في «شرح الآثار» ولم يقل: أَنْشِد مَنْ كان ههنا

إلى آخره، وإِنَّما قال: فقال عليٌّ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وطَعَامُهُ متاعاً لَكُمْ وللسَّيَّارَةِ وحُرِّمَ عَلَيْكُم صَيْدُ البَرِّ ما دُمْتُم حُرُماً}

(6)

.

قال الطحاوي وقد خالف عَلِيَّاً في ذلك عُمرُ، وأَبو هريرة، وعائشةُ، وطلحةُ بن عُبَيْد الله. ثُم أَخرج عن عليّ بن المبارك

(7)

: حدثنا يحيى بن أَبي سَلَمَة، عن أَبي هريرةَ:

(1)

حرفت في المطبوع إلى: "الضميري"، والصواب ما أثبتناه من المخطوط، و"شرح معاني الآثار" 2/ 172، و"تهذيب الكمال" 22/ 378.

(2)

في المطبوع: فشاركتكم، وما أثبتناه من المخطوط، و"شرح معاني الآثار" 2/ 172.

(3)

الحَجَلَة: طائرٌ في حجم الحمام أحْمَرُ المنقار والرجلين طَيِّب اللحم. المعجم الوسيط ص: 158، مادة (حَجَل).

(4)

العُقَاب: طائر من كواسر الطَّيْر قويّ المخالب. له منقار صغير، حادّ البصر. المعجم الوسيط ص: 613، مادة (عقب).

(5)

الخَبَطُ: ما سقط من ورق الشجر بالخَبْط، وهو عَلَف الإبل. النهاية 2/ 7 بتصرف.

(6)

سورة المائدة، الآية:(96).

(7)

حرفت في المطبوع إلى: مناع بن المبارك. والصواب ما أثبتناه من المخطوط، ومن "شرح معاني الآثار" 2/ 174، و"الكاشف" 2/ 54، ترجمة رقم (3957).

ص: 720

ومَنْ دَخَلَ الحَرَمَ بِصيدٍ أَرْسَلَهُ، وَرُدَّ بَيْعُهُ إِنْ بَقِي، وإِلَّا جزى

===

أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الشام استفتاه في لَحْمِ الصَّيْدِ وهو مُحْرِم، فأَمَرَهُ بِأَكْلِهِ، قال: فَلَقِيتُ عُمَرَ فأَخْبَرْتُه بِمَسْأَلة الرجل، فقال: بِمَ أَفْتَيتَهُ؟ قلت: بأَكْلِهِ، قال: والذي نَفْسِي بِيَدِهِ لو أَفْتَيْتَه بغيرِ ذلك لَعَلَوتُك بالدِّرَّةِ

(1)

، إِنَّما نُهِيتَ أَنْ تَصْطَادَه. وأَخرج عبد الله بن شماس عن عائشةَ قالت ـ في لَحْمِ الصَّيْدِ يَصِيدُه الحَلالُ ثُمَّ يُهْدِيه للمُحْرِم ـ: ما أَرَى به بَأْساً.

قال: وأَمَّا الآيةُ فمعناها: وحُرِّمَ عليكم قَتْلُ صَيْد البَرِّ، بدليل قوله تعالى:{يا أَيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَقْتُلوا الصَّيْدَ وأَنْتُم حُرُمٌ}

(2)

ولم يقل: لا تأْكلوا. انتهى. وقد قدر المضاف، والأَظهر أَنَّ الصيد في الآيةِ الأُولى بمعنى الاصطياد، وفي الثانية بمعنى الصيد، لتفيد الآيتانِ الحُكْمَينِ المُحَرَّمَيْنِ على المُحْرِمين، وهما الاصطياد وقَتْل الصيد، فإِنَّهما مُتَغَايرَان. وأَكْل المُحْرم المضطر ميتة أَوْلى مِنْ أَكْل الصَّيْد يصيدُه، هو عند أَبي حنيفة، وهو روايةٌ عن أَبي يوسف، وفي أُخْرى: بِعَكْسه

(3)

، ويلزمه الجزاءُ. وقال زُفر: يتناول من الميتة لا غَيْرُ.

(ومَنْ دَخَلَ الحَرَمَ بِصَيْدٍ أَرْسَلَهُ) فيه، لأَنه بدخولِ الحَرَم صار مِنْ صَيْدِهِ، فلا يجوزُ التعرّضُ (له)

(4)

كما إِذا دخل بنفسه. وفي المسأَلة خلاف مالك والشافعي: فلو أَدخل الحَجَل واليعاقِيب الحرمَ أَحياءً، يَثْبُتُ الأَمنُ فيها، فلا يَحِلُّ تَنَاولُ شيءٍ منها، وهو مَرْوِيٌّ عن عائشةَ، وابن عمر، والحسين بن علي. فلو ذَبَحها قَبْل أَنْ يُدْخِلَها الحَرَمَ، فلا بأْس بِتَنَاولها في الحَرَم، لأَنه إِنَّما أَدْخَلَ اللَّحْمَ في الحَرَم، واللَّحْمُ ليس بِصَيدٍ، وأَكْلُ القاتل المحرم من الصيد بعد أَداء الجزاء، يوجب قيمة ما أكل عند أَبي حنيفة، ونفيا وجوبها، لأَن صيدَ الحَرَمِ كالميتة، وتناولها لا يُوجِب إِلاَّ الاستغفارَ، وصار كأَكْله قبل أَداءِ الجزاء، وكغير القاتِل في عدَم لزومِه بالأَكل منه مُحْرِماً كان أَوْ حلالاً، وكأَكْل حَلالٍ صَيدَ الحَرَم في عدم لزومه بالأَكْلِ منه.

(وَرُدَّ بَيْعُهُ) أَي بيع الحلال صيداً أَدخله في الحرم (إِنْ بَقِي) الصيدُ في يدِ المُشتري، سواء بيع في الحَرم أَوْ الحِلِّ بعد ما أَدخله في الحرم (وإِلاَّ) أَي وإِنْ لم يبق الصيد (جزى) البائع، لأَن البيع فاسِدٌ لاشتماله على التعرض للصيد، فيجب رَدُّهُ

(1)

الدّرَّة: السَّوْط يُضْرَبُ به. المعجم الوسيط ص: 279، مادة (دَرَّ).

(2)

سورة المائدة، الآية:(95).

(3)

أي وفي رواية أخرى: أكْل المحرم المضطر الصيد أولى من الميتة.

(4)

سقط من المطبوع.

ص: 721

كَبَيْعِ المُحْرِم صَيْداً، لا صَيْداً مَعَهُ إِذَا أَحْرَمَ. ومَنْ أَرْسَل صَيْداً في يَدِ مُحْرِمٍ إِنْ أَخَذَهُ حَلَالاً ضَمِنَ،

===

وإِرْسَالُ الصيدِ إِنْ كان باقياً، وقيمته إِنْ كان فانياً (كَبَيْعِ المُحْرِم صَيْداً) من مُحْرِمٍ أَوْ حَلالٍ، حيثُ يُردُّ البيعُ إِنْ كان الصيدُ قائماً، وتلزمُهُ القيمةُ إِنْ كان فَانياً، لأَنَّ البيع فاسِدٌ لاشتماله على تَعَرُّضِ المُحْرمِ للصَّيْد.

(لا صَيْداً) أَي لا يُرْسِل المُحْرم صيداً (مَعَهُ، إِذَا أَحْرَمَ) وهذا إِذا كان الصيد في قفصه أَوْ رَحْله، أَما إِذا كان في يده فإِنه يرسله اتفاقاً، لأَنَّ الواجب عليه تَرْكُ التعرضُ له، وليس في تَرْكِهِ في القفص تعرضٌ له. غايةُ الأَمر أَنه على مِلْكهِ ولا معتبرَ ببقاءِ الملك، بل ولا يزولُ مِلْكه بالإِرسال، حتى لو أَرسله وأَخَذه إِنسانٌ يستردُّه إِذا تحلَّل مِنْ إِحرامه. وقيل: إِذا كان القفص في يده لزمه إِرسالهُ، لكن على وجهٍ لا يضيع مِلْكه: بأَن يخليه في بيتِه، وإِنْ لم يرسلْه حتى مات في يده لزمه جزاؤه.

ورَوى ابن أَبي شيبةَ في «مُصَنّفه» عن أَبي بكر بن عَيَّاش، عن يزيد بن أَبي زياد، عن عبد الله بن الحارث قال: كنَّا نحجُّ ونَتْركُ عند أَهلِنا شيئاً مِنْ الصيد ما نُرْسِلُها. ورُوي أَيضاً عن عبد السلام بن حَرْب، عن لَيْث، عن مجاهد: أَنَّ عَلِيَّاً رأَى مع بعضِ أَصحابهِ داجِناً مِنْ الصيد وهم محرمون، فلم يَأْمُرْهم بإِرساله. والدَّاجِن ـ بكسر الجيم ـ: الشاة التي يَعْلِفها الناس في منازلهم. وقال الشافعي: بِلزوم إِرْساله، لأَنه متعرضٌ للصيد بإِمساكه في مِلْكِه، وذا حَرُمَ بسبب الإِحْرام، فيلزمه إِرْساله كما كان في يده.

ولنا ما قدَّمنا، وأَنَّ ذلك جرت به العادة الغاشية مِنْ لدن الصحابة. ومن بعدهم إِلى الآن، يُحْرمون وفي بيوتهم حَمَامٌ في أَبراج، وعندهم دواجنُ وطيورٌ لا يطلقونها، وهي مِنْ إِحدى الحُجج، فدلتْ على أَنَّ استبقاءها في المِلْك محفوظة بغيرِ اليد ليس هو التعرض المُمْتَنِع. ولم يَأْمُرْهُ

(1)

مالك بإِرساله مِنْ يده أَيضاً، كما لو كان في بيته وقفصه.

(ومَنْ أَرْسَل صَيْداً) كائناً (في يَدِ مُحْرِمٍ) ففيه تفصيل: (إِنْ أَخَذَهُ) أَي صاده ذلك المُحْرم حال كونه (حَلَالاً ضَمِنَ) مُرْسِلُه عند أَبي حنيفة كالمُرسل من قفصه وهو القياس، ونَفَيا الضمانَ عنه كالصيدِ بعد الإِحرام وهو استحسانٌ، لأَنه محسن بأَمْرِه بالمعروف، {ومَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل}

(2)

وهذا نظيرُ اختلافِهم فيمن أَتلف

(1)

في المطبوع: يؤمر، وما أثبتناه من المخطوط.

(2)

سورة التوبة، الآية:(91).

ص: 722

وإِنْ قَتَلَ مُحْرِمٌ صَيْدَ مُحْرِمٍ ورَجَعَ آخِذُهُ عَلَى قَاتِلِهِ وَمَا بِهِ دَمٌ عَلَى المُفْرِد فَعَلَى القَارِنِ دَمَانِ إِلَّا بِجِوَازِ الوَقْتِ غَيْرَ مُحْرِم بهما

===

معازفَ غيره مِنْ الملاهي: كالمِزْمار والبَرْبَط

(1)

، فعنده يَضْمن قيمته لغير لَهْوٍ، وعندهما لا يضمن. فلهما أَنه يجب عليه إِرساله، فإِذا فعله غيره حسبةً لم يضمن، لأَنه أَمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، كمَنْ أَراق خَمْرَ مسلمٍ.

وله أَنه أَتلف مِلْكَه بإِرساله فيضمنه، وهذا لأَن الصيد قبل إِحرامه كان مِلْكاً له متقوماً، ولم يبطل تَقَوُّمُه بإِحرامه، حتى لو أُرسل، ثُم وجده بعد الإِحرام في يد شخصٍ كان له أن يأْخذه منه، فالمرسِل أَتلف عليه مِلكاً متقوِّماً له فيضمنه، بخلاف إِراقة الخَمْر لأَنه ليس بمتقومٍ، والواجب عليه رَفْع يده، ولو رفَعه بنفسه لرفَعَه على وجهٍ لا يفوت مِلْكه بعد ما يحِل مِنْ إِحرامه، فإِذا فَوَّت المُرْسل مِلْكه فقد زاد عليه ما بِحقِّه فيضمنه. وقيد:«بأَنه أَخذه حال كونه حَلَالاً» لأَنه لو أَخَذَه حال كونه مُحْرِماً لا يضمن مرسِلُه باتفاقٍ، لأَن المُحْرِم لا يملكه.

(وإِنْ قَتَلَ مُحْرِمٌ صَيْدَ مُحْرِمٍ) فكلٌ يجزي، لأَن الآخذ متعرّضٌ للصيد بأَخْذه، والقاتلَ متعرّضٌ له بِقَتْله (ورَجَعَ آخِذُهُ) بما ضَمِنَ إِذا كَفَّر بالمال (عَلَى قَاتِلِهِ) وإِنْ كَفَّر بالصوم فلا. وقال زُفَر: لا يرجع، لأَنه في مقابلة صُنْعِه. ولنا أَنَّ القاتل قرر بِقَتْله ما كان على شرف الزوال، لأَن الآخذ كان متمكناً مِنْ الإِرسال فيضمن، كشُهودِ الطلاقِ قبل الدخول إِذا رجعوا، حيثُ يرجِع الزوج بما ضَمِنه مِنْ نصفِ المَهْر عليهم.

(وَمَا بِهِ دَمٌ) واحِدٌ (عَلَى المُفْرِدِ) بالحج أَوْ العمرة (فَعَلَى القَارِنِ دَمَانِ) دمٌ لحجته، ودَمٌ لعمرته، لأَنه متلبّسٌ بإِحرامين وقد جنى عليهما، وكذا ما يقومُ مقَامَ الدَّم من الصدقةِ والصوم (إِلاَّ بِجِوَازِ الوَقْتِ) ـ بكسر الجيم ـ أَي بمجاوزة الميقات المكاني (غَيْرَ مُحْرِم بهما) فإِنَّ القارن يلزمه دَمٌ واحدٌ عندنا، لأَن المستحق عليه عند الميقات إِحرامٌ واحدٌ، وقد فوّته. ولهذا لو أَحْرَمَ مِنْ الميقات بالعمرةِ ثُم أَحرم داخلَ الميقاتِ بالحج لا يجِب عليه شيءٌ، لكن لو أَحرم بالحج مِنْ الحلِّ وبالعُمرة من الحرم أَوْ بهما مِنْ الحرَم، فعليه دَمَانِ. وهذا كُلُّه إِذا مضى على إِحرامه ذلك ولم يعد، أَما إِذا عاد إِلى الميقاتِ قبل الطوافِ وجدَّد التلبية والإِحرام، سقَط عنه الدَّم خلافاً لزُفر.

وكذا بِقَطْع شجر الحرَم، وترْك الوقوفِ بمُزْدَلِفَةَ، والإِفاضة قبل الإِمام من عرفةَ، والحلْق قَبْل الرَّمي، والحلْق قبل الذَّبْح، وتأْخير الحلق عن أَيَّام النَّحْر،

(1)

البَرْبَط: العُود. المعجم الوسيط ص: 46، مادة (البَرْبَط).

ص: 723

ويُثَنَّى جزاء صَيْدٍ قَتَلَهُ مُحْرِمانِ. واتَّحَدَ لَوْ قَتَلَ صَيْدَ الحَرَمِ حَلَالَانِ.

بَاعَ المُحْرِمُ صَيْدًا أَو شَرَاهُ، بَطَل، ولَوْ ذَبَحَهُ حَرُمَ، ولَوْ أَكَلَ، غُرِّمَ قِيمَةَ مَا أَكَلَ لا مُحْرِمٌ لَمْ يَذْبَح.

===

وتأْخير الذَّبْح عنها، وترك الجمار، وترْك أَحد السَّعْيَيْن، وتَرْك طواف الصَّدَر، عليه دَمٌ واحِدٌ في جميع هذه الصُّور، لأَنها لا تتعلّق بإِحْرامَيْهِ

(1)

. وكذا لو نذَر حجّةً أَوْ عُمرةً ماشِياً فَقَرَن وركِب فعليه دَمٌ واحِدٌ. وكذا لو طافَ للزيارةِ جُنُباً أَوْ على غيرِ وضوء أَوْ للعُمرةِ كذلك، فعليه جزاء واحِدٌ، وإِنْ طافَ لَهُما كذلك، فعليه جَزَاآنِ.

(ويُثَنَّى جزاء صَيْدٍ قَتَلَهُ مُحْرِمانِ) لأَنَّ كلَّ واحِدٍ منهما جَنَى على الصيدِ جنايةً تَفُوقُ الدلالةَ، وهو أَعَمُّ مِنْ أَنْ يكونَ صيدَ الحرَم أَوْ الحِلِّ. ولو كانوا عَشرَةً فعلى كل واحدٍ منهم جزاء كامِلٌ. (واتَّحَدَ) الجزاءُ (لَوْ قَتَلَ صَيْدَ الحَرَمِ حَلَالَانِ) لأَن الواجب فيه بَدَل المحل لا جزاء الفِعْل، ولهذا لا يتأَدَّى بالصوم. فلا يتعدّدُ الجزاء إِلاَّ بتعدّدِ المحلِّ، ولا تعدُّد هنا. ولو قتل مُحْرِمٌ صيوداً على قَصْد التحلل. بالأَوَّل يكفيه جزاءٌ واحِدٌ عندنا، وأَلْزمه مالِكٌ والشافعيُّ عن كُلِّ صيدٍ جزاءً.

(بَاعَ المُحْرِمُ صَيْداً أَوْ شَرَاهُ بَطَل) لأَن في بيعه وشرائه تعرّضاً له، ولأَن المُحْرم لا يملك الصيدَ لا بالشراءِ، ولا بالهبةِ، ولا بالإِرْث، ولا بالوصية، فإِنْ قبضَه بعد الشراء دخَل في ضمانه، فإِنْ هلَك في يده لزِمه الجزاءُ لِحقِّ الله تعالى، والقيمةُ لمَالِكِه. وكذا لو وهَب مُحْرمٌ صيداً مِنْ محرمٍ فهلَك عنده، فعليه جزاآن، لحقِّ اللهِ، وضمانٌ لصاحبه، لفسادِ الهبةِ. ولو ردَّه المشتري على البائعِ فعليه جزاءٌ واحِدٌ حقّاً لِلّهِ تعالى، لتعديته بالتسليم.

(ولَوْ ذَبَحَهُ) أَي المُحْرِم الصَيْدَ (حَرُمَ) على الذابح وعلى غَيْرِهِ، لقوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُم صَيْدُ البَرِّ ما دُمْتُم حُرُماً}

(2)

كذا عَلَّله الشارح، والأَظْهر أَنه لِكَوْنِهِ كالميتةِ أَوْ كذَبْح المجوسي، وكذا ما ذبَحَه الحَلالُ مِنْ صيد الحَرَم.

(ولَوْ أَكَلَ) المُحْرِم الذابح من الصيد (غُرِّمَ قِيمَةَ مَا أَكَلَ) عند أَبي حنيفة. وقالا: لا شيء عليه إِلاَّ الاستغفار. وهذا الخلاف إِذا أَكل بعد الجزاء، وأَما إِذا أَكل قَبْلَه فيدخل قيمة ما أَكل في الجزاء اتفاقاً (لا مُحْرِمٌ) أَي لا يُغَرَّم قيمةَ ما أَكل مِنْ لحم الصيد مُحْرِمٌ (لَمْ يَذْبَح) باتفاقهم. ولو اضطر مُحْرم إِلى أَكْل الميتة فقتل

(1)

أي إِحرام العمرة إِحرام الحج.

(2)

سورة المائدة، الآية:(96).

ص: 724

ولدت ظبية أُخْرِجَت من الحرم وماتا غُرِّمَهُمَا، وإِنْ أَدَّى جَزَاءَها ثُمَّ وَلَدَتْ لَمْ يُجِزه.

===

صيداً، فعليه الجزاء، لأن الإذن للمضطر بحلق الرأس مقيد بالكفارة، فكذا هذا. ولو اضطر المحرم إلى أكل الميتة (وَقَتْل الصيد، يأْكل الميتة ولا)

(1)

يقتل الصيد. ولو وجد المُحْرم المضطر صيداً ومالَ مسلم، يأْكل الصَّيْد، لأَن حُرْمَته لِحَقِّ اللهِ تعالى وَحْدَه.

(ولدت ظبية أُخْرِجَت من الحرم) ولم يُؤْدَّ جزاؤها (وماتا) أَي الظبية وَوَلَدُها في الحِلِّ، وكذا إِنْ لم يعلم عودهما إِلى الحرم (غُرَّمَهُمَا) المخرج، سواءٌ كان حَلالاً أَوْ حَرَاماً، لأَنَّ الصيدَ بعد الإِخراج مِنْ الحرم مستحقُّ الرَّدِّ إِلى مأْمنه، وهو الحرم، فسرى إِلى الولد كالرِّقِّ والحرية.

(وإِنْ أَدَّى جَزَاءَها) أَي أَعطى جزاء الظبية (ثُمَّ وَلَدَتْ) ثُم مات (لَمْ يجزه) أَي لم يُعْطَ جزاءَ ولدها، لأَنه صيد حَلَّ لانعدام أَثر الإِخراج في الظبية بالتكفير عنها، حتى لو أَنْشَأَ القتل لم يَضْمن، ولو باعها بعد ما أَخرجها من الحرَم جاز، لأَنها مملوكةٌ له، ووجوبُ الإِرسال لا يُنافي الملك كما لو أَخذها وأَدْخَلها الحرَم، إِلاَّ أَنَّه يُكْره، لأَن ابتداء الفِعْل وقع معصيةً، وكذا لو ذَبَحها يَحِل أَكْلُها لأَنها في الحِلِّ.

ويجوز صيد المدينة المشرَّفة عندنا، ونفاه مالك والشافعي. لهما قوله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ إِبراهيم عليه السلام حَرَّم مكةَ، وأَنا أُحَرِّم ما بينَ لَابَتَيْهَا» يعني المدينة، وقال:«مَنْ رأَيتُموه يصطادُ في المدينة فخذوا ثيابه» . وحجتنا في ذلك ما رُوي في «الشمائل» : أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَعطى بعضَ الصبيانِ في المدينة طائراً، فَطَارَ مِنْ يدهِ فجعل يَتَأَسَّف في ذلك، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول:«يا أَبا عُمَير ما فعل النُّغَيْر ـ اسم طائر ـ» . وقد بسطتُ الكلام على هذا المرام في «المِرْقاة شرح المشكاة» .

ثُم علماؤنا والشافعيُّ فَضَّلوا مكةَ على المدينة، ومالك عَكَس القضيةَ لقوله صلى الله عليه وسلم «اللَّهُم بَارِك لنا في ثمرِنا، (وبارِك لنا في مَدِينَتِنا)

(2)

، وبارِك لنا في صاعِنَا، وبارِك لنا في مُدِّنا. اللهمّ إِنَّ إِبراهيم عَبْدُكَ، وخليلُك، ونَبِيُّك، وإِني عبدُك ونبيُّك، وإِنَّه دَعَاك لِمكَّةَ، وأَنَا أَدْعُوك للمدينَةِ بِمِثْلِ ما دَعَاك لمَكَّةَ، ومِثْلِهِ معه». رواه مسلم.

ولنا حديثُ عبد الله بن عَدِيِّ بن الحَمْرَاءِ قال: رأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على الحَزْوَرَةِ

(3)

، فقال: «والله إِنَّكِ لخَيْرُ أَرضِ اللهِ، وأَحبُّ أَرْضِ اللهِ إِلى اللَّهِ،

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

سقط من المطبوع.

(3)

الحَزْوَرَة: هو مَوْضِع بمَكَّةَ عند بابِ الحنَّاطين. النهاية: 1/ 380.

ص: 725

‌فَصْلٌ في الإحْصَارِ

إنْ أُحْصِرَ المُحْرِمُ بِعَدُوٍّ، أوْ مَرَضٍ،

===

ولولا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ ما خَرَجْتُ». رَوَاهُ الترمذي وابن ماجه. وحديث ابن عباس قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِمكَّة: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بلدٍ، وأَحَبَّكِ إِليَّ، ولولا أَنَّ قومي أَخْرَجُوني مِنْكِ ما سَكَنْتُ غَيْرَكِ» . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب إِسناداً. وأَمَّا دعاءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ دعاءِ إِبراهيم عليه الصلاة والسلام فإِنَّما كان في الرِّزْقِ مِنْ الثمراتِ، ولا ريب في أَكثريةِ ثمراتِ المدينة، وليس هذا بسبب لأَفضليتها.

فصلٌ (في الإِحصار)

وهو لغةً: المَنْعُ مطلقاً.

وشرعاً: مَنْعٌ أَوْ عُذْرٌ شرعي عنِ الوقوف والطواف معاً في الحج، وعن الطواف لا غَيْرُ في العمرة.

(إِنْ أُحْصِرَ المُحْرِمُ بِعَدُوَ) مسلمٍ أَوْ كافرٍ (أَوْ مَرَضٍ) أَوْ سَبُع، أَوْ حَبْس ـ ولو من غَيْرِ سلطان ـ أَوْ كَسْرٍ، أَوْ بموتِ مُحرمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ بِعِدَّةِ طلاقٍ، أَوْ هلاكِ نفقةٍ، أَوْ راحلةٍ وعَجْزٍ عَنْ مشيٍ، أَوْ ضلالةِ الطريقِ، أَوْ مَنْع زَوْجٍ في حجِّ النَّفْلِ إِنْ أَحْرَمَتْ بغيرِ إِذْنه. وقال مالك والشافعي: لا إِحْصار إِلاَّ بالعدو، لأَن آية الإِحصارِ هي قوله تعالى:{فإِنْ أُحْضِرْتُم فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي}

(1)

نَزَلَتْ في حقِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأَصْحَابه وكانوا محصورين بالعَدو (بِدَليل)

(2)

قوله: {فإِذَا أَمِنْتُم}

(3)

. وفي «الموطأ» عن عبد الله بن عمر أَنَّه قال: مَنْ حُبس دونَ البيتِ بِمَرَض فإِنه لا يَحِل حتى يطوفَ بالبيتِ وبين الصفا والمروة.

ولنا أَنْ الإِحصار إِنَّما يقال لغةً في المرض خاصَّاً كما قال بعضهم، أَوْ فيه وفي غيرهِ عامَّاً. والأَول ليس بالإِجماع، فتعينَ الثاني. والعبرةُ لعموم اللفظِ لا لخصوص السبب. وإِن الحَجَّاج بن عمرو الأَنصاري يقول: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ كُسِر أَوْ جُرِح فقد حَلَّ وعليه الحجُّ مِنْ قَابِل» . قال عِكْرمةُ: فسأَلتُ ابنَ عباس وأَبا هريرة عن ذلك فقالا: صَدَق. رواه أَصحاب السُّنَن والدَّارمِي، وقال الترمذي: حديث حسن، وزاد

(1)

سورة البقرة، الآية:(196).

(2)

سقط من المطبوع.

(3)

سورة البقرة، الآية:(196).

ص: 726

بَعَثَ المُفْرِدُ دَمًا، والقَارِنُ دَمَيْنِ. وعَيَّنَ يَوْمًا يُذْبَحُ فِيهِ، ولَوْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ

===

في رواية لأَبي داود: أَوْ مرض.

وروى الطحاوي من حديث عبد الرحمن بن يزيد قال: أَهَلَّ رَجُلٌ بعمرةٍ يُقال له: عُمَير بن سعيد فَلُدِغ، فبينا هو صريعٌ في الطريق إِذْ طلع عليه رَكْبٌ فيهم ابن مسعود فسأَلوه، فقال: ابعثوا بالهدي، واجعلوا بينكم وبينه يومَ أَمار ـ بفتح الهمزة، أَي وقته ـ فإِذا كان ذلك فليحلل، ثُم عليه عمرة بعد ذلك. وبه عن إِبراهيم، عن علقمة قال: لُدِغ صاحبٌ لنا وهو مُحْرِمٌ بعمرةٍ فذكرناه لابن مسعود فقال: يبعث (بِهَدْي) ويواعد أَصحابَه موعداً، فإِذا نُحِرَ عنه (حَلَّ)

(1)

. وفي الصحيحين عن عائشةَ: دخلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ضُباعة بنت الزُّبَيْر فقال لها: لعلك أَردت الحجَّ فقالت: والله ما (أَجِدُنِي)

(2)

إِلاَّ وَجعة، فقال لها: حُجِّي واشترطي وقولي: اللهم: مَحِلِّي (حيث)

(3)

حَبَسْتَنِي. وفي البخاري: قال عطاء: الإِحْصار مِنْ كلِّ شيء يحبسه.

(بَعَثَ المُفْرِدُ) بالحج أَوْ العمرة (دَماً) أَوْ قيمته ليُشْتَرى به ويُذْبح. وأَدْنَى ما يُجزاء فيه شاة كالأُضحية لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ}

(4)

، ولو بعث دمين يَحِلُّ بأَولهما، والثاني تَطَوُّعٌ (والقَارِنُ دَمَيْنِ) لأَنه مُحْرِمٌ بالحج والعمرة، فلا يتحلل إِلاَّ بعد الذبح عنهما. ولو لم يبين أَيهما للحج وأَيهما بالعمرة لم يضره.

(وعَيَّنَ يَوْماً يُذْبَحُ فِيهِ) لأَنَّ التَّحَلُّلَ موقوفٌ على الذبح لقوله تعالى: {ولَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُم حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ}

(5)

أَي حتى يذبح في الحرم، فلا بدّ مِنْ عِلْم زمانه حتى يقع التحلل بعد، حتى لو ظنَّ المُحْصرُ أَنَّ الهدي قد ذبح في الوقت الذي عَيَّنه ففعل شيئاً من محظوراتِ الإِحرام، ثُم ظهر عدمُ الذبح إِذْ ذاك، لزِمه مُوجَب الجناية، وكذا لو ذبح في الحِلِّ على ظنِّ أَنه الحَرَم.

(ولَوْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ)، وقالا: لا يجوز ذَبْحُ دم الإِحصار بالحج إِلاَّ في يوم (من أَيَّام)

(6)

النحر، وهو قول مالك لأَنه دمُ تحلل عن الحج، فصار كالحَلْق فيه. ولأَبي

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

في المطبوع: أجد في، وما أثبتناه من المخطوط.

(3)

سقط من المطبوع.

(4)

سورة البقرة، الآية:(196).

(5)

سورة البقرة، الآية:(196).

(6)

سقط من المطبوع.

ص: 727

وفي حِلٍّ لا، ويذبْحِهِ يَحِلُّ

===

حنيفة قوله تعالى: {فإِنْ أُحْصِرْتُم فَمَا اسْتَيْسَر مِنَ الهَدْي} وهو مطلقٌ في الزمان، ولأَنه دمُ كفارةٍ للتحلل قبل أَوَانِهِ كدم الإِحْصَار بالعُمرة، ولهذا لا يُباح التناول منه، ودمُ الكفَّارة لا يختص بالزَّمان.

(وفي حِلَ لَا) أَي ولو ذُبح دمُ الإِحصار في أَرض الحِلِّ لا يُجزاء، لقوله تعالى:{ولا تَحْلِقُوا رُؤوسَكم حتى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَه} ، والمراد به الحرَم لقوله تعالى:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلى البَيْتِ العَتِيقِ}

(1)

، ولما قدّمنا عن ابن مسعود في الملدوغ: يَبْعَثُ بِهَدْي ويواعِدُ أَصْحَابَه موعِداً. وقال مالك والشافعي: محله حيث يَحِل ذبْحُه، وهو مكانٌ أُحْصِر فيه، لحديث ابن عمرَ: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرَج مُعتمِراً فحال كفَّار قريش بينه وبين البيت، فنَحَر هَدْيَه وحَلَقَ رأْسَه بالحديبية، وقَاضَاهم ـ أَي صالحهم ـ على أَنْ يعتمرَه العام القابل ولا يحملَ سِلاحاً ولا يقيمَ فيها إِلاَّ ما أَحَبُّوا، فاعتمرَ العام المقبل (فَدَخَلَها) كما كان صالحهم، فلمَّا أَقام بها ثلاثاً أَمَرُوه أَنْ يخرجَ، فخرَجَ. رواه البخاري في الشهادات.

وأُجِيبَ بأَنَّ الحديبية (نِصْفُها مِنْ الحرم)

(2)

ونصفها من الحل، ومضارب

(3)

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل، ومُصَلاَّه في الحرم، وإِنما سبق ببعث الهدايا إِلى جانب الحرَمِ منها ونُحِرت في الحرم. وقد قال الوَاقِدي: الحديبيةُ طَرَفٌ للحَرَمِ على تسعةِ أَميال مِنْ البيتِ. وعن الزُّهْري أَنه صلى الله عليه وسلم نَحَرَ هَدْيَه بالحَرَم. والله سبحانه أَعلم.

(وبِذَبْحِهِ) أَي بِذبْح الذي به بَعَثَ المُحْصَر (يَحِلُّ) أَي يَحِلُّ له أَنْ يَحِلَّ من إِحرامه بِفِعْل أَدنى ما يَحْظُرُه الإِحرام، (إِذْ لا يخرج مِنَ الإِحرام)

(4)

بمجردِ الذَّبْح، إِلاَّ أَنه لا حلْق عليه ولا تقصير، وإِنْ حلَق فحسنٌ، وهذا عند أَبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: عليه الحَلْق، وإِنْ لم يحلِق فلا شيءَ عليه، لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأَصحابه أُحْصِرُوا بالحديبيةِ فأَمَرَهم بعد بلوغِ الهدَايا مَحِلَّها أَنْ يحلِقوا وحلَق صلى الله عليه وسلم ولحديث

(5)

المِسْوَر ومروان: أَنه صلى الله عليه وسلم قال لأَصْحَابِهِ: «قُوموا فانْحَرُوا ثُم احْلِقُوا

» إِلى أَنْ قال: فخرجَ فنحرَ

(1)

سورة الحج، الآية:(33).

(2)

سقط من المطبوع.

(3)

المِضْرَب جمعه مَضَارِب: الفُسْطَاط العظيم. أي البيت العظيم المتَّخَذ من الشحر. انظر "تاج العروس" 3/ 247.

(4)

سقط من المطبوع.

(5)

أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (فتح الباري) 5/ 329 - 333، كتاب الشروط (54)، باب الشروط في الجهاد (15)، رقم (2731، 2732).

ص: 728

وعَلَيْهِ إِنْ حَلَّ مِنْ حَجَّ حَجٌّ وعُمْرَةٌ،

===

بدَنَةً

(1)

ودعا حلاَّقاً فحلَقه، فلما رَأَوا ذلك قاموا فَنَحَروا وجعل بعضُهم يحلِق بعضاً، (حتى كاد بعضُهم يقتلُ بعضاً غماً

الحديث)

(2)

.

ولهما أَنَّ الحَلْق عُرِفَ قُربةً إِذا كان مرتباً على أَفعالِ النُّسُكِ، ولم يُوجد أَفعالهُ ههنا، وأَمْرُه صلى الله عليه وسلم بالحَلْقِ ليعرِفَ المشركون عَزْمهم على الانصراف، فلا يشتغلون بأَمْرِ الحرب، ويحصُل الأَمْن من كَيْد المشركين.

فإِنْ قيل: كيفَ يَقُولانِ بِجَوازِ التحلُّلِ للمُحْصَر قبل الحلْق مع صريحِ النهيِّ بقوله تعالى: {ولا تَحْلِقُوا رُؤوسكُم حَتَى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه}

(3)

، والآية نَزَلَتْ في حَقِّ المُحْصَر، وحيثُ كان مَنْهِياً عن الحلقِ قبل الغايةِ كان مَأْمُوراً به بعدَها، لأَنَّ حُكْمَ ما بعدَها يخالفُ حُكْمَ ما قبلَها؟ أُجِيبَ بأَنَّ اللهَ نَهَى المُحْصَر عنه حتى يبلغَ الهديُ مَحِلَّه بهذه الآية، فذاك دليل الإِباحة بعد بلوغه مَحِلَّه لا دليل الوجوب كما في سائر المحظورات، مع أَنْ الحلْق واجب عليه للإِحلال، والدَّمُ أُقِيم مُقَامه فيُستغنى به عنه، وفِعْلُه صلى الله عليه وسلم وأَمْرُه بالحلْق إِنما كان لأَنهم كانوا يمتنعونَ عن التحلل طمعاً في دخول مكة (يَرَوْنَ)

(4)

التحلل بالحلْق، فقطع بالأَمْرِ به أَطماعَهم، تسليماً لأَمْر اللَّهِ، وانقياداً لِحُكْمه، حتى جاء الله بالنَّصر والفتح.

هذا، ولا نرى نحنُ الصومَ للمُحْصَر بدلَ دم الإِحصار مجزياً، خلافاً لأَبي يوسف في روايةٍ، وهو أَظْهر أَقوال الشافعيُّ، فيقوَّم الدَّمُ ويتصدق به، وعند عَجْزهِ يصومُ عن كل صاعٍ يوماً ويتحلَّلُ به بمنزلةِ الهَدْي في جزاءِ الصيد، وهذا قول عطَاء. وفي «أَمالي أَبي يوسف»: هذا أَحَبُّ إِلي. وفي قولٍ للشافعي: إِذا عجزَ عن الهَدْي يصومُ مكانَه عشرةَ أَيَّام، عل قياسِ هَدْي المتعة. قلنا: هذا كلُّه قياسُ المنصوصِ على المنصوصِ، وإِنه لا يجوزُ، بل المَرْجِعُ في كُلِّ موضعٍ إِلى ما وقع التنصيص عليه، ولا يجوز العدول عنه إِلى غيره.

(و) يجب (عَلَيْهِ) أَي على المُحْصَر (إِنْ حَلَّ مِنْ حَجَ حَجٌّ) لِلُزُومه بالشروع (وعُمْرَةٌ) لأَنه في معنى فائتِ الحَجِّ، فإِذا لم يأْت بها قضاها، وهو قول ابن مسعود

(1)

البَدَنَة: الإِبل والبقر. معجم لغة الفقهاء ص 105.

(2)

سقط من المطبوع.

(3)

سورة البقرة، الآية:(196).

(4)

في المطبوع: يردون، وما أثبتناه من المخطوط.

ص: 729

ومِنْ عُمْرَةٍ عُمْرَةٌ، ومِنْ قِرَانٍ حَجٌّ وعُمْرَتَانِ.

وإِذا زَالَ إِحْصَارُهُ وأَمْكَنَهُ إِدْرَاكَ الهَدْي والحَجِّ، تَوَجَّهَ، وِإلَّا فَلَهُ أَنْ يَحِلَّ.

ومَنْعُهُ عَنْ رُكْنَي الحَجِّ بِمَكَّةَ إِحْصَارٌ، وعَنْ أَحدِهِمَا لا.

===

وابن عمر وابن عباس، وهذا إِذا لم يقض الحج (مِنْ عامه ذلك، وأَمَّا إِذا قضاه فيه، فلا تجب عليه العمرةُ، لأَنه حينئذ لا يكون بمنزلة فائت الحجِّ)

(1)

.

(و) إِنْ حَلَّ (مِنْ عُمْرَةٍ) فعليه (عُمْرَةٌ) لقضاءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأَصْحَابِه عمرةَ الحديبيةِ التي أُحْصِرُوا فيها، وكانت تُسمى عُمْرَةَ القضاء. وقال مالك والشافعي: لا يلزمه القضاء، لأَنه صلى الله عليه وسلم تَحَلَّل بالحديبيةِ، ولم يأْمر بالقضاء. (و) إِنْ حَلَّ (مِنْ قِرَانٍ) فعليه (حَجٌّ وعُمْرَتَانِ) لأَنه صَحَّ شروعُه في الحج والعمرة، فيلزمه بالتحلل قضاؤهما وعمرة أُخرى، لترْكه التحللَ بأَفعال العمرة.

(وإِذا زَالَ إِحْصَارُهُ) بعد أَنْ بَعَثَ الهدي، أَوْ ما يُشْترى به (وأَمْكَنَهُ إِدْرَاكَ الهَدْي والحَجِّ) معاً (تَوَجَّهَ) حتماً للحَجِّ لزوال العجز عن الأَداء قبل حصول المقصود بالحلق، وصَنَع بالهَدْي ما شاءَ، لأَنه عَيَّنَهُ لجهةٍ واستَغْنَى عنها.

(وإِلاَّ) أَي وإِنْ لم يُمْكِنه إِدراك الهَدْي والحج، بأَنْ لم يمكنه إِدراك واحدٍ منهما، أَوْ أَمكنه إِدراك الهَدْي دون الحج، أَوْ الحج دون الهَدْي، (فَلَهُ أَنْ يَحِلَّ) بِذَبْح الهَدْي المبعوث، أَما إِذا لم يمكنه إِدراك واحدٍ منهما، أَوْ أَمكنه إِدراك الهَدْي دون الحج فَلِعَجْزِهِ عن الحج.

وإِذا أَمكنه إِدراك الحج دون الهَدْي فلأَنه لو لم يتحلل يضيعُ هَدْيُه، وحرمةُ المال كحرمةِ النَّفْس، حتى أَباح الشرْع القَتْل دونه فيتحلل، كما إِذا خاف على نَفْسه، لكنَّ الأَفضل أَنْ لا يتحلل لفوات شيء قليلٍ من المال وإِدراك عظيم من الأَعمال، وهذا قول أَبي حنيفة وهو استحسانٌ، والقياسُ قولُ زُفَر، وهو روايةُ الحسن عن أَبي حنيفة: أَنه لا يجُوز التحلُّل لِزَوال العَجْز.

(ومَنْعُهُ عَنْ رُكْنَي الحَجِّ) أَي الطواف والوقوف (بِمَكَّةَ) أَي ولو فيها (إِحْصَارٌ) لعَجْزِهِ عن أَداء ركنٍ مِنْ أَركان الحج. (و) مَنْعُه (عَنْ أَحدِهِمَا) أَي عن الطواف أَوْ عن الوقوف (لا) أَي لا يكون إِحْصَاراً. أَما مَنْعه عن الطواف وحدَه، فلأَن الحج يتم بالوقوفِ، وهو باقٍ على إِحرامه إِلى أَنْ يطوف، وأَما مَنْعه عن الوقوف وحدَه، فلأَنه يَتَحَلَّلُ بالطوافِ كفائت الحجِّ، ولا حاجةَ إِلى تَحَلُّله بالهَدْي.

(1)

سقط من المطبوع.

ص: 730

[فَصْلٌ في أَحْكَامِ الحَجَّ عن الغَيْر]

ومَنْ عَجَزَ فأَحَجَّ صَحَّ، ويَقَعُ عَنْهُ

===

(فصلٌ في أحكام الحج عن الغير)

(ومَنْ عَجَزَ) أَي عن حجِّ الفَرْض، فإِنَّ حج النَّفْل لا يشترطِ فيه العَجْزُ، إِذْ بابُ النَّفْل وَاسِعٌ (فأَحَجَّ) غيره، سواءٌ كان ذلك لغير ذكراً أَوْ أُنثى، حُرَّاً أَوْ عبْداً مأْذوناً، حجَّ عن نَفْسه أَوْ لم يحج (صَحَّ) لكن يُكْره إِحجاج الأُنْثَى حرةً أَوْ أَمَةً عنِ الذَّكَر، وكذا العبد كراهةَ تَنْزيه. وأَمَّا مَنْ لم يَحجَّ عن نَفْسِهِ، فمكرُوهٌ كراهةَ تَحْرِيم.

(ويَقَعُ عَنْهُ) أَي عن العاجز الحجُّ، لما في «الكتب الستة»: أَبو داود عن عبد الله بن عباس، والباقون عن أَخيه الفَضْل: أَنَّ امرأَةً مِنْ خَثْعَم قالت: يا رسولَ الله، إِنَّ أَبي أَدْرَكَتْهُ فريضةُ اللَّهِ في الحجِّ وهو شَيْخٌ كبيرٌ لا يستطيعُ أَنْ يستويَ على ظهر البعير، قال:«حُجِّي عَنْه» . وذلك في حجّة الوَدَاع، ولم يسأَلها صلى الله عليه وسلم هَلْ حَجَّتْ عَنْ نَفْسِها أَمْ لم تحج، ولا هَلْ هي حرة أَوْ أَمَة. وفي «السُّنن الأَربعة» عن أَبي رَزِين العُقَيْلي قال: يا رسول الله إِنَّ أَبي شَيْخٌ كبيرٌ لا يستطيع الحجَّ ولا العُمرة ولا الظَّعْن، قال:«احْجُج عَنْ أَبِيكَ واعْتَمِر» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وفي «معجم الطبراني» بسنده إِلى سَوْدَة أُم المؤمنين: أَنَّ رجلاً قال: يا رسولَ الله، إِنَّ أَبي شَيْخٌ كبيرٌ لا يستطيع الحج، أَفَأَحُجُّ عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم «أَرأَيتَ لو كان على أَبِيكَ دَيْنٌ فقضيته، أَكانَ يُجزاءُ عنه؟» قال: نعم، قال:«فَحَجَّ عَنْه» .

وإِذا حجّ المأْمور فأَصْل الحج يقع عن الآمر في ظاهر المذهب. وعن محمد يقع عن المأْمورِ، وللآمرِ ثوابُ النَّفقةِ، لأَن الحج عبادةٌ بدنيةٌ، والمال شَرْطٌ لوجوبها، فلا تُجزاءُ فيها النيابةُ، كالصلاة والصيام، ويَسْقطُ عن الآمرِ الفَرْضُ بالإِجماع، لأَن الانفاق أُقيم مُقام الأَفعال في حَقِّ سقوطها، كالشيخِ الفاني حيثُ أُقِيم الإِطعام في حَقِّه مُقام الصيام. ولا يسقط به عن المأْمور فَرْضُ الحج بالإِجماع، لأَن النية وقعت عن الآمر، سواءٌ أَدَّاه على الموافقةِ أَوْ المُخَالَفَة، وسواءٌ كان عليه حَجٌّ أَوْ لا.

وأَمَّا حَجُّ النَّفْل فيقعُ عن المأْمورِ اتفاقاً، وللآمر الثوابُ بأَنْ يصيرَ المأْمور جاعِلاً ثوابَ فِعْلِهِ للآمِر، وهذا جائزٌ عند أَهل السُّنَّةِ، وهو أَنْ يجعلَ الإِنسان ثوابَ عملِهِ لغيره، صلاةً كان أَوْ صوماً أَوْ صدقةً أَوْ غيرها، كقراءةِ القرآنِ والطوافِ والعتاقِ والأَذكار ونحوها، لحديث عائشةَ وأَبي هريرة، رواهما ابن ماجه بسنده عنهما: أَنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

ص: 731

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

كان إِذا أَراد أَنْ يُضحي اشترى كَبْشَينِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ

(1)

مَوْجُوأينِ

(2)

، يَذْبَحُ أَحدهما عن أُمَّتِهِ مِمَّنْ شهِد لِلَّهِ بالتوحيد، وشهد له بالبلاغ، ويذبح الآخَرَ عن محمد وآل محمد

(3)

. وفي رواية الحاكم: فقرَّب أَحَدَهما فقال: «بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُم مِنْك ولك، اللهم هذا عَنْ محمدٍ وأَهْل بيتِهِ» ، ثُم قَرَّب الآخَرَ فقال:«بِاسْم اللَّهِ، اللَّهُم هذا مِنْك ولك، اللَّهُم هذا عَمَّنْ وَحَّدَكَ مِنْ أُمَّتِي» .

ولحديث جابر رواه أَبو داود وقال: ذبح النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ النَّحْر كَبْشَين أَقْرَنَين أَمْلَحَين مَوْجُوأَين، فلما وَجَّهَهُمَا قال: «{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} ـ الآيةَ

(4)

ـ، اللهم مِنْك ولك عن محمدٍ وأُمَّتِهِ، باسْمِ اللَّهِ واللَّهُ أَكْبر»، ثُم ذَبَح. ولحديث أَبي رافع رواه أَحمد وإِسحاق والطبراني من حديث شَرِيك قال: ضَحَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْن أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوأَين ـ أَي خصيين ـ وقال: أَحَدُهما عَمَّنْ شهِد لِلَّهِ بالتوحيد، وله بالبلاغِ، والآخر عنه وعن أَهْل بَيْتِهِ. ولحديث حذيفةَ رواه الحاكم، ولحديث أَبي طَلْحَةَ وأَنس، رواهما ابن أَبي شَيْبَةَ في «مسنده» بِمَعْنى ما تقدّم.

وقالت المعتزلة: ليس له ذلك، ولا يصِل إِليه ولا يَنْعَقِدُ

(5)

. وقال مالك والشافعيّ: يجوز ذلك في الصدقة والعبادة المالية كالحج. ولنا ما تقدم وما رُوي: أَنَّ رجلاً سأَل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: كان لي أَبَوَانِ أَبَرُّهُما حال حياتهما، فكيف لي بِبِرِّهِمَا بَعْد موتِهِما؟ فقال صلى الله عليه وسلم «إِنَّ من البِرِّ بعد المَوْتِ

(6)

أَنْ تُصلِّيَ لهما مع صلاتِك، وأَنْ تصومَ لهما مع صومِك». رواه الدَّارَقُطْنِيّ. وعن عليَ رضي الله عنه مرفوعاً: مَنْ مَرَّ على المقابِرِ وقَرَأَ: قُلْ هو اللَّهُ أَحَدُ، إِحْدى عشر مرةً ثُمَّ وَهَب أَجْرَها للأَموات، أُعْطِي من الأَجْر بِعَدَدِ الأَمواتِ». رواه الدارقطني. وعن مَعْقِل بن يَسَار مرفوعاً:«اقرؤوا على مَوْتَاكُم يس» . رواه أَبو داود. والأَصل الحقيقة مع أَنه لا محظور على أَنها تُقْرَأُ على المُحْتصِر لإِشْرَافِهِ على الموت.

(1)

الأمْلَحُ: الذي بياضه أكثر من سواده. النهاية 4/ 354.

(2)

مَوْجُوأين: أي خَصِيَّين. النهاية 5/ 152.

(3)

في المطبوع: عن نفسه وآل محمد، وما أثبتناه من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في "سنن ابن ماجه" 2/ 1043 - 1044، كتاب الأضاحي (26)، باب أضاحى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، رقم (3122) ..

(4)

سورة الأنعام، الآية:(79).

(5)

في المطبوع: ولا ينفعه، وما أثبتناه من المخطوط.

(6)

في المطبوع: البر، وما أثبتناه من فتح القدير 2/ 143، وهو الصواب.

ص: 732

إِنْ دَامَ عَجْزُهُ إِلى مَوْتِهِ، ونَوَى عَنْه

===

(إِنْ دَامَ عَجْزُهُ إِلى مَوْتِهِ) فلو أَحَجَّ عنْ نَفْسه وهو محبوسٌ أَوْ مَرِيضٌ، إِنْ ماتَ به أَجزأَه الحج، وإِنْ تَخَلَّص منه بطلَ إِجزاؤه عنه فرضاً، فيبقى نَفْلاً. وذلك لأَن الحج فُرض في العمر مرة فيُعْتبر استمرارُ العَجْز فيما بَقِي مِنْه.

(ونَوَى عَنْهُ) وَحْدَه على التعيين. حتى لو نوى الحج عن الآمرين على التعيين ضمِن النفقة لكلَ منهما وكان الحج له. ولو نواه عن واحدٍ منهما غير مُعَيّن ولم يعيِّن أَحدهما قبل طواف القدوم والوقوف ضمِن النفقة، وإِنْ عيَّن أَحدهما جاز استحساناً عند أَبي حنيفة ومحمد، كما لو أَهَلَّ الحج عن أَبويه ثُم عيَّنه لأَحدهما، وذلك لأَنَّ الإِبهام واقع في الإِحرام وليس بمقصودٍ، وإِنما المقصود الأَفعال، والتَّعْيين في الانتهاء بمنزلةِ التعيينِ في الابتداء. أَلَا ترى أَنه لو أَحرم ولا ينوي حجةً ولا عُمرةً بعينها كان له أَنْ يُعَيِّنَ في الانتهاء ويجعل ذلك كتعيينه في الابتداء.

وعند أَبي يوسف وقع الحج عن المأْمور وضمِن النفقة لأَنه مأْمور بتعيين الحج، فإِذا لم يعين فقد خالف فيضمن النفقة. ولو نواه ساكِتاً عن المحجوج عنه، لا نَصَّ فيه، وينبغي أَنْ يصح التعيين باتفاقهم لعدم المخالفة. وهذا كلُّه بطريقِ النيابة. وأَمَّا الاستئجار فلا يجوز عندنا، وإِذا لم يجز بقي أَمره بالحج فيكون له نفقةُ مثلهِ في ماله، وليست بِعَوض، ولكن يستحقُّ كفايتَه لأَنه فرَّغ نفسه لعملٍ ينتفع به فيستحق الكفاية في ماله، كالقاضي والعامل.

ولو حج عن أَبيه أَوْ أُمه حجة الإِسلام مِنْ غير وصيةٍ أَجزأَه إِنْ شاءَ الله تعالى، لما روينا من حديث الخَثْعَمِيَّة وغيرها. وإِنما قيَّد محمد الجواب بالاستثناء

(1)

بعد ما صح الحديث فيه، لأَن خبر الواحد لا يوجِب العلم اليقيني. فإِنْ قيل: فقد أُطْلِق الجواب في كثيرٍ من الأَحكام الثابتة بخبر الواحدِ. قلنا: لأَن خبر الواحد موجِبٌ للعَمل، فما طريقُه العمل أُطْلِق الجواب فيه. فأَما سقوط حَجَّةُ الإِسلام عن الميت بأَداء الوَرثة فطريقُه العِلْم، فإِنه أَمْرٌ بَيْنَه وبين الله، فلهذا قَيَّد الجواب بالاستثناء.

ثُم مِنْ شرائط جواز الإِحجاج: أَنْ يحج بمالِ المحجوج عنه، فإِنْ تبرَّع الحاجُّ عنه بمالِ نَفْسه لم يَجُز، فينفق على نفسه بالمعروف في الطعام، والشراب، والكسوة في الطريق، وثَوْبَي إِحرامه، وما فضَل ردَّه إِلى الورثة أَوْ الوصي، إِلاَّ أَنْ يوصِي الميت له

(1)

أي بقوله بعد أجزأه: "إن شاء الله تعالى".

ص: 733

ودَمُ الإحْصَارِ عَلى الآمِرِ ودَمُ القِرَانِ عَلَى الحَاجِّ.

===

به. وليس له أَنْ يدعو أَحداً إِلى طعامه، ولا يتصدّق به، ولا يقرِضه، ولا يصرِف الدنانير بالدراهم إِلاَّ لحاجةٍ تدعو إِلى ذلك، ولا يشتري منه ماء لوضوئه، ولا يدخل الحمام، ولا يشتري منها دهناً للسِّراج، ولا ما يدَّهِن به أَوْ يتداوى به، ولا يعطي منها أُجرة الحَلاق أَوْ الحجَّام إِلاَّ أَنْ يأْذن له الميت أَوْ الوارِث، ولا ينفق على مَنْ يَخْدُمه إِلاَّ إِذا كان مِمَّنْ لا يَخْدُم نفسه.

وفي «فتاوى قاضيخان» : له أَنْ يدخل الحَمَّام بالمتعارَف مِنْ الزمان، ويعطي أُجرة الحارس مِنْ مال الآمر، وله أَنْ يخلط دراهم النفقة مع الرُّفقة، ويُودِع المال، وله أَنْ يشتري دابةً يركَبها، ومَحْمِلاً

(1)

وقِرْبة

(2)

، وأَدواتٍ وسائر الآلات. انتهى. وإِذا تَعَجَّل إِلى مكة مِنْ رمضان فنفقتُه من مال نفسه إِلى عشر ذي الحِجّة.

ويحج عن المُوصِي بالحج راكِباً من بلده ـ لقيامه مقامه ـ إِنْ كَفَت نفقتُه لذلك، وإِلاَّ فمِنْ حيثُ يبلغه، وهذا استحسانٌ. وفي القياس تَبْطُل هذه الوصية لِعَجْز الوصي عن تنفيذ ما أُمِر به وهو الحج مِنْ منزِلِه، كما لو أَوْصى بعتق نَسمةٍ بأَلفٍ وكان ثلثُ المال دونَها. ووجه الاستحسان أَنَّ المقصود من الحج ابتغاءُ مرضاةِ اللهِ. ونَيْل الثواب، فيكون بمنزلةِ الوصية بالصَّدقة، وهي تَنْفُذ بِحَسب الإِمكان.

(ودَمُ الإِحْصَارِ عَلى الآمِرِ) إِنْ كان حَيَّاً وفي ماله مِنْ ثُلُثهِ، أَوْ كله إِنْ كانَ ميتاً، لأَنه الذي ورَّطَه فيه، ثُم يجب عليه مِنْ قابل بمالِ نفسه، لأَنه لم يُتِمَّ الأَفعال بسببِ الإِحصار، وإِنَّما يقع ما هو مسمى الحج عنه ولم يتحقق. ولو فاته الحج لا يضمن النفقة لعدم المخالفة، فهو كالمُحْصَر وعليه الحج مِنْ قابل بمالِ نفسه. وقال أَبو يوسف: على المأْمور، لأَنه للتَّحَلُّل وصار كدَمِ القِران. وأُجيب بأَن دم الإِحصار مَؤُنة بمنزلة نفقة الرجوع.

(ودَمُ القِرَانِ) ودم الجِناية (عَلَى الحَاجِّ) أَمَّا دم الجناية فلأَن المأْمور هو الجاني، وأَما دم القِران فلأَنه وجب شُكراً للجَمْع بين النُّسُكَيْن، والمأْمور هو المختص بهذه النعمةِ. قالوا: وهذه تشهد لصحَّة المَرْوي عن محمد مِنْ أَنَّ الحج يقع عن المأْمور، والمراد قِرانٌ أَمَرَه واحدٌ به أَوْ أَمَرَهُ اثنان: أَحدهما بالحج والآخر بالعمرة وأَذنا

(1)

المَحْمِل: الهَوْدج، وهو مَرْكب يُرْكب عليه على البعير. معجم لغة الفقهاء ص:414.

(2)

القِرْبة: ظرف من جلد يُخْرَز من جانب واحد، وتُستعمل لحفظ الماء أو اللبن ونحوهما. المعجم الوسيط، ص 723، مادة (قرب).

ص: 734

وضَمِنَ النَّفَقَةَ إِنْ جَامَعَ قَبْلَ وُقُوفِهِ، وإِنْ مَاتَ في الطَّرِيق، يُحَجُّ مِنْ مَنْزِلِ آمِرِهِ بِثُلُثِ ما بَقِي، لا مِنْ حَيثُ مَاتَ

===

له في القِران. أَمَّا لو أَمَره اثنان أَحدهما بالحج والآخر بالعمرة ولم يأَذنا له بالقِران وقرن كان مخالفاً، إِذْ المأْمور بالإِفراد مخالِفٌ بالقِران وإِن نواه للآمر عند أَبي حنيفة، كالتمتع للآمر بالإِفراد. وإِنما يصير مخالفاً لأَنه مأْمور بأَن يحج عنه من الميقات، والمتمتع يحج من جوف مكة فكان هذا غير ما أَمره به.

وقالا: هو موافِقٌ، وهذا استحسانٌ لأَنه أَتى بالمأْمور وزاد عليه ما يجانسه فلا يصير به مُخالِفاً، كالوكيل بالبيع إِذا باع بأَكثر مِمَّا سُمِّي له من جنسه. ويوضِّحه أَنَّ القِران أَفضل من الإِفراد، فهو بالقِران زاد خيراً فلا يكون مخالفاً. وأَبو حنيفة يقول: هو مأْمورٌ بإِنفاق المال في سفرٍ مجرَّدٍ للحج، وسفره هذا ما انفرد للحج، بل للحج والعُمرة جميعاً فكان مخالِفاً، كما لو تمتع. ولأَن العُمرة التي زادها لا تقع عن الآمر، لأَنه لم يأْمره بها فلا ولاية عليه للحاج في أَداء النُّسك عنه إِلاَّ بِقَدْر ما أَمَره. أَلا تَرَى أَنه لو لم يأْمره بشيءٍ لم يَجُز أَداؤه عنه، فكذا إِذا لم يأْمره بالعُمرة. وإِذا لم تكن عمرته عن الآمر صار كأَنه نَوَى العُمرة عن نفسه وهناك يصير مخالِفاً فكذا هنا.

(وضَمِنَ النَّفَقَةَ) وعليه القضاء في مال نفسه (إِنْ جَامَعَ قَبْلَ وُقُوفِهِ) لأَن المأْمور به هو الحج الصحيح، والجِماع قبْل الوقوف يُفْسِد الحج. أَمَّا لو جامع بعد الوقوف فلا يَفْسُد حجُّه ولا يَضْمن النفقةَ، ولزِمه الدم لأَنه دمُ جنايةٍ، ودم الجناية على المأْمور بالحج.

(وإِنْ مَاتَ) المأْمور بالحج عن الميت (في الطَّرِيق) أَوْ سُرِقت نفقته (يُحَجُّ مِنْ مَنْزِلِ آمِرِهِ) وهو الميت عند أَبي حنيفة (بِثُلُثِ ما بَقِي) من مال الميت على تقدير أَنْ يكون الحج عنه بوصيةٍ منه (لا مِنْ حَيْثُ مَاتَ) أَوْ سُرِقت نفقته كما قالا، وهو قول مالك والشافعيّ. وهذا مبنيٌّ على اختلافهم فيمن حجَّ بنفسه ومات في الطريق، فإِنه يوصِي بأَنْ يُحج عنه من منزله عند أَبي حنيفة، وعندهما ـ وهو الاستحسان ـ مِنْ موضع مات فيه، لأَن سفَره لم يبطُل بموته، لقوله تعالى:{ومَنْ يخرُج مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلى اللَّهِ ورَسُولِهِ ثُم يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَد وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}

(1)

، ولقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ خَرَج حَاجَّاً فمات كتب اللهُ له أَجْرَ الحاجِّ إِلى يومِ القيامةِ، ومَنْ خَرَجَ مُعْتَمِراً فماتَ كُتِبَ له أَجْرُ المُعتمِر إِلى يومِ القيامةِ، ومَنْ خَرَج غَازِياً في سبيلِ اللَّهِ فمات، كُتِبَ له

(1)

سورة النساء، الآية:(100).

ص: 735

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

أَجْرُ الغازي إِلى يومِ القيامةِ». رواه الطبراني في «مُعْجمه» ، وأَبو يَعْلَى المَوْصلي في «مَسْنَده» .

ورَوى تمَّام في «فوائده» عن عائشةَ قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ مات في طريقِ مكةَ لم يَعْرِضْهُ اللهُ تعالى، ولم يُحَاسَب» . ورَوى الدَّارَقُطْنِي عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ مات في هذا الوجهِ مِنْ حاجَ أَوْ مُعْتَمِرٍ لم يُعْرض له، ولم يُحَاسَبْ، وقيل له: ادخل الجنة» . وأَما ما في «الهداية» مِنْ قوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ ماتَ في طريقِ مكةَ، كتبَ اللهُ له حجةً مبرورةً في كلِّ سنةٍ» ، فغير معروف.

ولأَبي حنيفة أَنْ الموجود من السفر بطل في حقِّ أَحكام الدنيا، لما روى مسلم وأَبو داود والترمذي والنَّسائي من حديث أَبي هريرة: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذا مات ابنُ آدمَ انقطَعَ عملُهُ ـ أَي ثوابه ـ إِلاَّ مِنْ ثلاثٍ: صدقةٌ جاريةٌ، أَوْ علمٌ يُنْتَفَع به، أَوْ ولدٌ صالح يَدْعُو له» .

وحاصله: أَنَّ المراد بالانقطاع في أَحكام الدنيا وبعدَم الانقطاع في أَحكام العُقْبى، والأَول هو الذي يوجِبه هنا، كَمَنْ صام إِلى نصف النهار في رمضان، ثُم حضَره الموت، يجب أَنْ يوصِي بِفِدية ذلك اليوم، وإِنْ كان ثواب إِمساك ذلك القدر

(1)

باقياً، كذا ذكره ابن الهمام. وفي كون الوصية واجبةً بِفِدْية ذلك اليوم نَظَرٌ ظاهرٌ لا يَخْفَى على الأَعلام. وقد صرح صاحب «الهداية» في «التجنيس» أَنَّ مَنْ وجب عليه الحجُّ فحَجَّ مِنْ عامِه فمات في الطريق، لا يجب عليه الإِيصاء، لأَنه لم يؤخر بعد الإِيجاب.

ولو نوى الصَّرُورة ـ بالصاد المهملة: وهو الذي لم يحج حجَّة الإِسلام ـ (الحجَّ)

(2)

نفلاً أَوْ عن غيره صحَّ

(3)

عمَّا نوى عندنا لا عن فرضه كما قال مالك والشافعيّ. لهما على الأَول أَنْ بنية النفل تبقى مطلق نيّة الحج، وبمطلقِ النيةِ يتأَدَّى الفَرْضُ، ويدل عليه أَنَّ نية النفل لَغْوٌ لأَنه عبارة عن الزيادة، ولا يتصور قبل الأَصل، وإِذا لغت نية النفل تبقى مطلق نية الحج، وبمطلق النية يتأَدّى الفرض، ويدل عليه أَنْ نيّة النفل نوعُ سَفَهٍ (منه)

(4)

قَبْل أَداء حجَّة الإِسلام، والسَّفِيه يستحق الحج، فجعلت نية

(1)

في المخطوط: اليوم.

(2)

سقط من المطبوع.

(3)

في المطبوع: حج، وما أثبتناه من المخطوط.

(4)

سقط من المطبوع.

ص: 736

ولا يَجُوزُ للهَدْي إِلَّا جَائِزُ التَّضْحِيَةِ

===

النفل لغواً تحقيقاً لمعنى الحجة، فبقي مطلق النية. ويجوز أَنْ تتأَدَّى حجة الإِسلام بغير نيّة، كما في المُغْمَى عليه إِذا أَحْرَم عنه أَصْحَابُه، فبنية النفل أَوْلى. وعلى الثاني ما روى الدَّارَقُطْني عن ابن عباس: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سمِع رجُلاً يُلَبِّي عن شُبْرُمَة فقال له: «مَنْ شُبْرُمة؟ قال: أَخٌ لي، قال: هل حَجَجْتَ؟ قال: لا، قال: حُجَّ عن نَفْسِكَ، ثُم احجُج عن شُبْرُمَة» .

ولنا على الأَول أَنْ وقت أَداء الفَرْض في الحجِّ يسع أَداء النفل فلا يتأَدى الفرض فيه بنية النفل، كالصلاة، بخلاف الصوم عندنا فإِنَّ وقت أَدائه لا يسع أَداء النفل. وعلى الثاني ما روينا من حديث الخَثْعَمِيَّة وغيرها أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:«حجي عنه» . وقال لأَبي رَزِين العُقَيلي: «احجُج عن أَبيك واعتمر» ، ولم يستفسرهما أَنهما حجّا عن أَنفسهما أَوْ لا. وحديث الدَّارَقُطني معارَض بما رواه هو أَيضاً عن الحسن بن عُمَارة عن ابن عباس قال: سمِع النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يُلَبِّي عن نُبَيْشَة فقال: «أَيُّها المُلَبّي عن نُبَيْشَة، هل حججت؟ قال: لا، قال: فهذه عن نُبَيْشَة، واحجُج عن نَفْسِك» . إِلاَّ أَنَّه قال: هذا وَهْم من الحسن عن ابن عباس، ثُم قال: وقد رجع الحسن بن عُمَارة عن ذلك، وحدَّث به على الصواب موافقاً لرواية غيره، ثُم قال: وعلى كل حال فالحسن بن عُمَارة متروك. وقوله صلى الله عليه وسلم «حُجّ عنْ نَفْسِك ثُم عن شُبْرُمَة» أَمْرٌ باستئناف حجَ آخَر لنفسِه نظراً له، وقد كان قَبْل نَسْخ جواز فَسْخ الإِحرام، لا دالٌّ على وقوع الحج عن نفسه كما هو مذهبهما.

ومن الفروع: لو أَوْصَى أَنْ يَحُج عنه فلانٌ، فعند محمد يحُج عنه غيرُه إِلاَّ أَنْ يكونَ قد صرَّح بأَن لا يحُج غيره. ولو أَوْصَى بأَنْ يُحَجَّ عنه بثُلُثِ مالِهِ، وثُلُثُ المال يبلغ حِجَجَاً كثيرة، فالوصي بالخِيار إِنْ شاء أَحجَّ عنه في كل سنةٍ حجَّةً واحدةً، وإِنْ شاءَ أَحجَّ عنه مقدارَ ما يبلغ في سنةٍ واحدة، والتعجيل أَفضل. وإِن اجتمع الورثة على أَنْ يحُج واحدٌ منهم عنه جاز.

(ولا يَجُوزُ للهَدْي) وهو ما ينقل للذبح مِنْ الحِلِّ إِلى الحرم (إِلاَّ جَائِزُ التَّضْحِيَةِ) وهو الثَّنِي فصاعداً من الغنم والبقر والإِبل. والجَذَع من الضأْن فقط، لأَن الجَذَع من الإِبل: وهو ابن أَربع سنين، ومن البقر: ابن سَنة غير جائز، لقوله صلى الله عليه وسلم «ضَحُّوا بالثَّنَايا إِلاَّ أَنْ يَعْسُرَ عليكم، فاذبحوا الجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ»

(1)

. والهدايا كالضحايا، لأَن كلاً منهما قربة متعلقة بالإِراقة، فيكون في الجواز كذلك، فلا بد من السلامة من العيوب

(1)

تقدم تخريجه عند المصنف.

ص: 737

وأَكَلَ مِنْ هَدْي تَطَوُّعٍ ومُتْعَةٍ وقِرَانٍ فَقَط، وخُصَّا بِيَوْمِ النَّحْرِ لا غَيْرُهُمَا، والكُلُّ بالحَرَمِ

===

المذكورة في باب الأُضحية. والثَّنِي ـ بالكسر ـ من الإِبل: ما له خمس سنين وطعَن في السادسة، ومن البقر: ما له سنتان وطعن في الثالثة، ومن الغنم ما له سنة وطعن في الثانية. والجَذَع ـ بفتح الجيم والذال المعجمة ـ: ما أَتى عليه أَكثر السَّنة، وإِنَّما يجوز إِذا كان عظيماً. وتفسيره أَنه لو خُلِط بالثنايا اشتبه على النَّاظر أَنَّه منها.

(وأَكَلَ) استحباباً (مِنْ هَدْي تَطَوُّعٍ ومُتْعَةٍ وقِرَانٍ) لما في حديث جابر: ثُم أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنةٍ بِبَضْعَةٍ فجعلت في قِدْرٍ، فأَكلا ـ أَي النبيّ صلى الله عليه وسلم والولي ـ من لحمها، وشرِبا مِنْ مَرَقِها، ولأَنها دماءُ نُسُك كالأُضحية (فَقَط) أَي لا يجوزُ أَنْ يأْكل من غير هذه الهدايا، لأَنها دماء كفَّارَات.

(وخُصَّا) أَي هَدْي المتعة والقِرَان (بِيَوْمِ النَّحْرِ) أَي بأَيَّامه، لقوله تعالى:{فكُلُوا مِنها وأَطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ ثُمَّ ليقضُوا تفَثَهُم وليُوفُوا نُذُورَهُم وليَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العَتِيقِ}

(1)

، وقضاء التَّفَث والطواف مختصّان بيوم النحر، فيكون الأَكل كذلك، ولأَنهما دما نُسُكٍ فيختصان بيوم النَّحْر كالأُضحيةِ. والمراد بالاختصاص من حيث الوجوبُ على قول أَبي حنيفة، وإِلاَّ لو ذبح بعد أَيام النَّحْر أَجزأَ إِلاَّ أَنه تاركٌ للواجب، وقَبْلَها لا يجزاء بالإِجماع. وعلى قولهما كذلك في القَبْلي، وكونه فيها هو السُّنة السّنية.

(لا غَيْرُهُمَا) أَي لا يختص هَدْيُ غير المتعة والقِران بيوم النحر، بل يجوز فيه وفي غيره. أَما هديُ الكفارة فلأَنه وجب لجبر النقصان فكان التعجيل به أَولى. وأَما هَدْيُ التَّطوع فلأَن القربة فيه باعتبار أَنه هَدْي، وذلك يتحقق بالبلوغ إِلى الحرم ولا يتوقف على يوم النحر، لكن الأَفضل ذَبْحه فيه، لأَن معنى القربة في إِراقة الدم فيه أَظهر، وهذا هو الذي في «الأَصل» . وذكر القُدُورِي أَنَّ دم التطوع يختص بأَيام النحر، كدم المتعة والقِرَان لأَنه نُسُك مثله.

(والكُلُّ) أَي وخُصَّ ذَبْحُ كُلِّ هدي تَطَوُّعاً أَوْ غيره (بالحَرَمِ) لقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ}

(2)

في جزاء الصيد، فكان أَصلاً في كلِّ دم وجب كفارةً، وقوله تعالى في دم الإِحصار:{حتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه}

(3)

مع قوله تعالى في الهدايا مطلقاً: {ثُمَّ

(1)

سورة الحج، الآية:(29).

(2)

سورة المائدة، الآية:(95).

(3)

سورة البقرة، الآية:(196).

ص: 738

وتَصَدَّقَ بِجُلِّهِ وخِطَامه، ولا يُعْطِي أَجْرَ الجَزَّارِ مِنْهُ، ولا يُرْكَبُ إِلَّا ضَرُورَةً، ولا يُحْلَبُ.

===

مَحِلُّهَا إِلى البَيْتِ العَتِيقِ}

(1)

. (وتَصَدَّقَ بِجُلِّهِ) أَي لِبْسِ الهَدْي (وخِطَامه) ـ بالكسر ـ ما يُجْعَلُ في أَنْف البعير ونحوه.

(ولا يُعْطِي أَجْرَ الجَزَّارِ مِنْهُ) لما رَوى الجماعةُ إِلاَّ الترمذي عن عليَ رضي الله عنه قال: أَمَرَنِي رضي الله عنه أَنْ أَقُومَ على بَدَنَةٍ وأَقسِم جلودَها وجلالَها، وأَمَرَنِي أَنْ لا أُعطِي الجزارَ منها شيئاً، وقال:«نَحْنُ نُعْطِيه من عِنْدِنا» . ولو تصدق بلحمه على فقير غيرِ الحرم جاز، لأَن الصدقة على كل فقيرٍ قُربةٌ مقصودة، ولإِطلاق قوله تعالى:{وأَطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ}

(2)

خلافاً لمالك والشافعيّ، لأَن الذبح شُرِع في الحرمِ توسعةً على فقرائه، فلا يُتصَدَّق على غيرهم بأَنْ يُحمل إِلى خارج الحرم، فيتصدق على فقرائه.

(ولا يُرْكَبُ) الهدي، لأَنه جعله خالصاً لله تعالى، فلا ينبغي أَنْ يصرِف منها شيئاً لمنفعَةِ نفسه (إِلاَّ ضَرُورَةً) وبه قال مالك، لما روى مُسْلِمٌ من حديث ابن جُرَيج قال: أَخبرني أَبو الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله يُسْأَلُ عن ركوب الهَدْي فقال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ارْكَبْهَا بالمعروفِ إِذا أُلْجِئْتَ إِليها حتى تجِدَ ظهراً» . وأَجاز الشافعي ركوبَها مطلقاً لقوله تعالى: {لَكُمْ فِيها مَنَافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمَّىً}

(3)

، ولقوله صلى الله عليه وسلم للذي رآه يَسُوق بَدَنة:«ارْكَبْها وَيْلَك، أَوْ قال: ويحك»

(4)

.

ولنا ما قدمنا مِنْ قوله تعالى: {ومَنْ يُعَظِّمْ شعائِرَ اللَّهِ}

(5)

والبُدْن منها، قال تعالى:{والبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرَ اللَّهِ}

(6)

وليس ركوبها من التعظيم في شيء. وقد رُوِي أَنَّ الرجل كان أَجْهَد نفسه، فأَمَرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بركوبها إِما مُتَرَحِّماً له بقوله:«ويحك» ، أَوْ مُتَوَعِّداً بقوله:«وَيْلك» ، لئلا يُفْضِي عدمُ ركوبه إِلى هلاكه. ولو نَقَصَ الهَدْي بالركوب، أَوْ حَمَّله متاعاً عليه للضرورة ضَمِن بنقصانه ويتصدق به على الفقراء.

(ولا يُحْلَبُ) لأَن اللبن جزء الهدي، فلا يَنْتَفِعُ به هو ولا الأَغنياء. ولو انتفع به أَوْ

(1)

سورة الحج، الآية:(33).

(2)

سورة الحج، الآية:(28).

(3)

سورة الحج، الآية:(33).

(4)

أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (فتح الباري): 3/ 536، كتاب الحج (25)، باب رُكوب البدن (103)، رقم (1689).

(5)

سورة الحج، الآية:(32).

(6)

سورة الحج، الآية:(36).

ص: 739

وما عَطِبَ أَوْ تَعَيَّبَ بِفَاحِشٍ، ففي الوَاجِبِ أَبْدَلَهُ والمَعِيبُ لَهُ،

===

دفعه إِلى غَنِي ضَمِنَه لوجود التعدي. (وما عَطِبَ) ـ بكسر الطاء ـ أَي هلك من الهدي في الطريق أَوْ قَرُبَ من العَطَب حتى خِيف عليه الموت، أَوْ امتنع عليه السَّيْر (أَوْ تَعَيَّبَ بِفَاحِشٍ) وهو ما يمنع إِجزاء الأُضحية، كذهاب ثُلُث الأُذن، أَوْ العين، أَوْ الذَّنَب (ففي الوَاجِبِ أَبْدَلَهُ) لأَنه في الذِّمة ولا يتأَدَّى بالمَعِيب، (والمَعِيبُ لَهُ)

(1)

لأَنه لم يخرج بتعينه لتلك الجهة عن ملكه، وقد امتنع صَرْفُه فيها فله صَرْفه في غيرها: من بيعٍو أَوْ تَصَدُّقٍ بلحمها. وفي التطوع: نَحَرَهُ وصَبَغَ نَعْلَهُ بدمِهِ وضرب به صفحة سَنَامه لما روى أَصحاب «السنن الأَربعة» من حديث نَاجِيةَ بن جُنْدُب الأَسْلَمِي: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ معه هَدْياً وقال: «إِنْ عَطِبَ فانْحَرْه ثُم اصبغ نَعْلَه في دمِه، ثم خَلِّ بينه وبين النَّاسِ» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

والمراد بالنَّعْل: القلادة وفائدة ذلك إِعْلامُ الناس أَنه هَدْي فيأْكل منه الفقراء دون الأَغنياء، وليس عليه غيرها، لقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَهْدَى بَدَنَةً تَطَوُّعاً فَعَطِبت فليس عليه بَدَلٌ، وإِنْ كانت نَذْراً فعليه البَدَلُ» . ذكره الشيخ في «الإِمام» وسكت عنه. ولا يأْكل هو أَيضاً ولا رُفقاؤه منها ولو كانوا فقراء، لما في مسلم وابن ماجه عن ابن عباس: أَنَّ ذُؤَيباً الخُزَاعي حَدَّثه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يَبْعَثُ بالبُدْن

(2)

معه ثُم يقولُ: «إِنْ عَطِب منها شيء فخشيت عليه موتاً فانحرها ثُم اغمس نَعْلَها في دمها، ثُم اضرِب به صفحتها، ولا تطعمها أَنت ولا أَحَدٌ مِنْ أَهل رفقتك» . وفي روايةٍ لمسلم: وبعث معه بست عشرةَ بدَنَةً.

ولما أَسندَهُ الوَاقِدِي في أَول غزوةِ الحُدَيْبيةِ: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَراد الخروج

فذكر القِصة بطولها، وفيها أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم استعمل على هَدْيه نَاجِيةَ بن جُنْدُب وأَمره أَنْ يتقدمه بها، وقال: وكانت سبعينَ بَدَنةً، وفيها قال نَاجِية: عَطِب معي بعيرٌ من الهَدْي فجئت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالأَبواء فأَخْبَرْتُه، فقال:«انحرها واصبغ قلائدَها من دمها، ولا تأْكل أَنْت ولا أَحَدٌ من رفقتك منها شيئاً، وخَلِّ بينها وبين النَّاس» .

ولما في «مُسْند أَحمد بن حنبل» عن عمرو

(3)

بن خَارجة الثُّمَالي قال: بَعَثَ النبي صلى الله عليه وسلم معي بهَدْي وقال: «(إِذا عَطِب منها شيءٌ فانْحَرْه، ثم اضْرِب نَعْلَه في دَمِه،

(1)

أي: وبقي المَعِيبُ مِلكًا لصاحب الهدي.

(2)

في المطبوع بالهدي، والصواب ما أثبتناه من المخطوط، و"صحيح مسلم" 2/ 963، و"سنن ابن ماجه" 2/ 1036.

(3)

حرِّفت في المخطوط إلى: عمر، والصواب ما أثبتناه من المطبوع و"مسند الإمام أحمد" 4/ 187.

ص: 740

وإِنْ شَهِدُوا بالوُقُوفِ قَبْلَ وَقْتِهِ، قُبِلَتْ،

===

ثم اضرب به صَفْحتَه)

(1)

، ولا تأْكل أَنت ولا أَهلُ رفقتك، وخلِّ بينه وبين النَّاس» ـ أَي الفقراء دون الأَغنياء ـ. وهذا لأَن الإِذن يتناوله مُعَلَّقاً بِشرْط بلوغه محلّه، فينبغي أَنْ لا يَحِلَّ قبل ذلك أَصْلاً، إِلاَّ أَنَّ التصدّق على الفقراء أَفْضَل من أَنْ يتركه جَزَرَاً

(2)

للسِّباع، إِذْ فيه نَوْعُ تَقَرُّب، والتقرُّب هو مقصودُ الربِّ المعبودِ، وهو الغفور الودود.

(وإِنْ شَهِدُوا بالوُقُوفِ قَبْلَ وَقْتِهِ) أَي قَبْلَ يوم الوقوف: بأَنْ شَهِدُوا أَنهم وقفوا يوم التَّرْوية (قُبِلَتْ) شهادتُهم، وعلى أَهْل عرفةَ إِعادةِ الوقوف، لأَن التدارك ممكن إِذا ظهر خطؤهم. وصورة هذه المسأَلة مُشْكِلَة لأَن هذه الشهادة لا تكون إِلاَّ بِأَنْ الهلال لم يُرَ ليلة الثلاثين من ذي القِعدة، بل رُئِي بعدها وكان ذو القعدة تَامَّاً، ومثل هذه الشهادة لا تُقبل لاحتمال كونِ ذي القعدة تسعةً وعشرين. فصورتها بحيث لا (يَتَأَتَّى)

(3)

إِشْكَال فيها: أَنَّ الناس وقفوا ثُم عَلِمُوا بعد الوقوف أَنهم غَلِطوا في الحساب وكان الوقوف يومَ التروية، فإِن هذا المعنى (وهو الغلط في الحساب ـ)

(4)

قبل الوقت بحيث يمكن التدارك، فالإِمام يأْمر الناس بالوقوف، فإِن علم ذلك في وقت لا يمكن تداركه فينبغي أَنْ يُقَال قد تَمَّ حج الناس.

هذا خلاصة كلام المصنف في «شرح الوقاية» ، فتكون الشهادة على هذا بمعنى العِلْم، لكنَّ حَمْلَ العبارة المذكورة على هذا المعنى تَكَلُّفٌ (ظاهرٌ)

(5)

، وأَيضاً الغلط في الحساب من الجَمْع العظيم في غاية الاستبعاد. فلو قيل: إِنه علم ذلك بأَن رجع شهود رؤية الهلال أَوْ أَقَرُّوا أَنهم شهدوا زُوراً لم يَبْعُد.

ويحتمل أَنْ تكون السماء متغيمة في أُفُق مكة في أَول ذي الحجة، وشهد شاهدان أَنهما رَأَيَا الهلال وحُكِم بشهادتهما، ثُم جاءت جماعةٌ كثيرة من موضع آخر كانت السماء مُصْحِيَةً بذلك الموضع، فأَخبروا أَنهم لم يَرَوا الهلال، (وحُكِم بشهادتهما)

(6)

مع اجتهادهم في طلبه والتفحص عن موضعه، ومثل هذه الشهادة وإِنْ كانت على النفي لكنَّ النفي الذي يمكن أَنْ يحيط به علم الشاهد يقبل.

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

جَزَرًا: أي قطعًا. المعجم الوسيط ص 120، مادة (جزد).

(3)

في المطبوع: يتأذى فيها، وما أثبتناه من المخطوط.

(4)

سقط من المطبوع.

(5)

سقط من المطبوع.

(6)

سقط من المطبوع.

ص: 741

لا بَعْدَهُ.

نَذَرَ حَجًّا مَشْياً، مَشَى حَتَّى يَطُوفَ الفَرْضَ.

===

ومثل هذا قد جَعَلَه المصنف في كتاب الشهادة مما يظهر فيه كذب الشاهد، ويحتمل أَنْ يشهدوا بأَنَّ ذا القِعْدَة غُرَّتُه

(1)

يوم الأَحد مثلاً، فكان الناس على أَنْ الغرة يوم الاثنين، فغرة ذي الحجة في زعم الناس يوم الأَربعاء، وفي زعم الذين يشهدون يوم الثلاثاء، فلا يكون شهادة على النفي كما لا يخفى. ولمكان المناقشة في ذلك ذكر صاحب «الهداية»: أَنهم قالوا: ينبغي للحاكِم أَنْ لا يسمع هذه الشهادة، ويقول: قد تمّ حجّ الناس، انْصَرِفُوا، لأَنه ليس فيها إِلاَّ إِيقاعُ الفتنة.

(لا بَعْدَهُ) بأَن شهِدوا أَنهم وقفوا يوم النحر، فإِنَّ شهادتهم لا تُقبل ويجزاء أَهل عرفة حجتهم، والقياس أَنْ لا تُجْزِئهم كما لو شهدوا بالوقوف قبله. والفَرق أَنَّ التدارك فيما إِذا شهدوا بالوقوف قبل وقته ممكن وبعده غير ممكن، وفي الأَمْر بالإِعادة حَرَج، وأَيضاً العبادة قبل وقتها لا تَصِحُّ أَصْلاً وبعده تصِح في الجملة.

ولو شهدوا يوم التروية أَنه يوم عرفة: فإِنْ أَمْكَن وقوف الإِمام مع أَكثر الناس قُبِلت شهادتهم، وكذلك إِنْ أَمكن وقوفه معهم ليلاً أَوْ نهاراً، وإِنْ لم يمكن لا تقبل شهادتهم ويقفون من الغد استحساناً. والشهود كالناس حتى لو لم يقفوا مع الناس ووقفوا بما رَأَوا، فاتهم الحج وعليهم قضاء الحج مِنْ قابل والإِهْلال بِعُمْرة، وذلك لما رُوي أَنه عليه الصلاة والسلام قال:«صَوْمُكُم يومَ تَصُومون، وفِطْرُكم يومَ تُفْطِرون، وعَرَفَتُكُم يومَ تُعَرِّفون، وأَضْحَاكُم يوم تضحون»

(2)

أَي وقت الوقوف بعرفة عند الله هو اليوم الذي يقف فيه الناس عن اجتهاد ورأي أَنه يوم عرفة.

(نَذَرَ حَجَّاً مَشْياً مَشَى) من بيته لأَنه هو المراد بالعُرْف، وقيل: من الميقات ولا يركب (حَتَّى يَطُوفَ) طواف (الفَرْضَ) وهذه رواية «الجامع الصغير» . وفي «المبسوط» : أَنه مُخَيَّرٌ. وعن أَبي حنيفة رحمه الله تعالى أَنَّ مَشْيَهُ مكروهٌ. ووجه رواية «الجامع» أنه (التَزَمَ)

(3)

على صفة الكمال، لأَن المشي أَشقُّ على البدن فيلزمه الإِيفاء، وصار كالنَّاذر صوماً متتابعاً. فإِنْ قيل: فقد كَرِه أَبو حنيفةَ الحج ماشِياً، فكيف يكون صفة كمال؟ قلنا: إِنما كَرِهَهُ إِذا كان مِظنَّة سوء خُلُق الفاعل له، كأن يكون صائماً مع

(1)

الغُرَّةُ من كلِّ شهر: ليلة استهلال القَمَر. المعجم الوسيط ص: 648، مادة (غرّ).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه 3/ 80، كتاب الصوم (6)، باب ما جاء الصوم يوم تصومون (11)، رقم (697).

(3)

في المطبوع: يلزمه، وما أثبتناه من المخطوط.

ص: 742

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

المشي، أو ممن لا يطيق المشي، فيكون سبباً للإِثم من مجادلة الرفيق، والخصومة في الطريق وإلا فلا شك أن المشي أفضل في نفسه، لأنه أقرب إلى التواضع، وأدل على التذلل لربه.

وعن ابن عباس أنه قال لمّا كُفَّ بَصَرُهُ: ما أسفتُ على شيءٍ إلا على أن لم أحج ماشياً، فإن الله تعالى قدم المشاة فقال تعالى:{يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر}

(1)

وعنه صلى الله عليه وسلم «من حج ماشياً كُتبَ له بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم، قيل: ما حسنات الحرم؟ كل حسنة بسبع مئةٍ» .

لا يقال: لا نظير للمشي في الواجبات، ومِن شَرْط صحة النذر أن يكون من جنس المنذور واجباً، على ما ذُكِرَ في كتاب الصوم، لأنا نقول: بل له نظير وهو مشي المكي الذي لم يجد راحلة وهو قادر على المشي، فإنه يجب عليه أن يحج ماشياً ولو ركب أكثر المسافة أراق دماً لإدخال النقص فيما التزمه، ولو ركب أقلها وجب عليه من الدم بحسابه. رزقنا الله التوفيق للوقوف بالتحقيق على ما في بابه والله سبحانه وتعالى أعلم

(2)

.

(1)

سورة الحج، الآية:(27).

(2)

انتهى الجزء الأول من المخطوط.

ص: 743