المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ النِّكَاحِ === كتاب النِّكَاحِ هو في اللغة: حقيقةٌ في الوَطء، مجازٌ في - فتح باب العناية بشرح النقاية - جـ ٢

[الملا على القاري - المحبوبي صدر الشريعة الأصغر]

فهرس الكتاب

‌كِتَابُ النِّكَاحِ

===

كتاب النِّكَاحِ

هو في اللغة: حقيقةٌ في الوَطء، مجازٌ في العقد (لأنه يُتَوَصَّل به إلى الوطء، وقيل: مشترَك بينهما)

(1)

. وفي الشرع: حقيقة في العقد الموضوع لمِلك المُتْعَة، فخرج العقد الموضوع لمِلك الرقبة، وإن كان يَثبت به مِلك المتعة ضمناً، كالبيع والهبة، ولهذا يصح البيع والهبة في محل لا يَحِلّ الاستمتاع به.

وادعى الشافعي أن النكاح في الشريعة يتناول العقد فقط، وليس كذلك، قال الله تعالى:{حتى إذا بَلَغوا النِّكاح}

(2)

أي: الاحتلام، فإن المُحتلِم يرى في منامه صورة الوطء، وقال الله تعالى:{الزاني لا يَنكِح إلا زانيةً}

(3)

والمراد الوطء، وقال الله تعالى:{فإن طلَّقها فلا تَحِلُّ له من بعدُ حتى تَنْكِحَ زوجاً غيرَه}

(4)

أي يطأها، لما في «الصحيح»:«حتى تَذُوقي عُسَيْلَتَه»

(5)

. والمراد به الجماع بالإجماع خلافاً لابن المُسَيَّب. والعقد مستفادٌ من قوله: {زوجاً غيره} وفي الموضع الذي حُمِل على العقد

(6)

إنما هو لدليل اقترن به من ذكرِ العقد، أو خطابِ الأولياء كما في قوله تعالى:{وأَنْكِحُوا الأَيامى منكم}

(7)

، أو لاشتراط إذن الأهل، كما في قوله تعالى:{فانْكِحُوهُنَّ بإذن أهلِهِنَّ}

(8)

.

ثم هو سنَّةٌ حال الاعتدال في أصحّ الأقوال، لقوله صلى الله عليه وسلم «أربعٌ من سُنَنِ المرسَلِين: الحياءُ، والتعطُّر، والسِّواك، والنِّكاحُ». رواه التِّرمِذِيّ وقال: حَسَنٌ غريب،

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

سورة النساء، الآية:(6).

(3)

سورة النور، الآية:(3).

(4)

سورة البقرة، الآية:(230).

(5)

شبَّه لذَّة الجماع بذَوْق العسل، فاستعار لها ذَوْقًا، وإنما أنَّث - أي قال: عُسَيْلَته - لأنَّه أراد قطعة من العسل. النهاية: 3/ 237.

(6)

أي حُمِل لفظ النكاح على العقد.

(7)

سورة النور، الآية:(32).

(8)

سورة النساء، الآية:(25).

ص: 3

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وقوله صلى الله عليه وسلم «النكاحُ سُنَّتي، فمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مِنِّي»

(1)

. أي مِنْ أتْبَاعي في اتِّبَاعي. وقيل: فرض كفاية لقوله تعالى: {فانكِحُوا ما طابَ لكم}

(2)

.

وتعليق الحكم بالعام لا ينفي كونَه على الكفاية، لأن الوجوب في الكفاية على الكلّ، ولقوله صلى الله عليه وسلم «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فإني مُكَاثرٌ بكم الأُمَمَ» . رواه عبد الرزاق، عن سعيد بن أبي هلال مرسلاً. وقوله صلى الله عليه وسلم لعَكَّاف بن وَدَاعة الهِلالي:«أَلَكَ زوجةٌ يا عَكَّاف» ؟ قال: لا، قال:«ولا جارية» ؟ قال: لا، قال:«وأنت صحيح مُوسِرٌ» قال: نعم، والحمد لله، قال:«فأنت إذاً من إخوانِ الشياطين إما أن تكونَ من رُهبان النصاري، فأنت منهم، وإما أن تكونَ مِنَّا، فاصنع كما نَصْنَعُ، وإنَّ من سُنَّتِنا النكاحَ، شِرَارُكم عُزَّابُكُم، وأَرَاذِلُ موتاكم عُزَّابُكُم، ويحك يا عَكَّاف، تَزَوَّجْ» . فقال: يارسول الله، لا أتَزَوَّجُ حتى تُزَوِّجَني مَنْ شئتَ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد زَوَّجْتُكَ على اسم الله والبركةِ كَريمةَ بنتَ كُلْثُومٍ الحِمْيَرِي» . رواه أبو يَعْلَى في «مسنده» ، من طريق بَقِيَّة.

وقيل: واجبٌ على الكفاية، لما أنَّ الثابت بخبر الواحد الظنُّ

(3)

، والآية لم تُسَقْ إلا لبيان العدد المُحَلَّل

(4)

. وعند أصحاب الظواهر: إنه فرض عين على القادر على الوطء، تمسكاً بظاهر الآية والحديث.

والأصح أنه يجب عند التَّوَقَان، ويُكره حال الخوف من الجَور والعدوان، فهو أفضل من التخلِّي للعبادة عندنا، وعَكَسَه مالكٌ والشافعيّ لقوله تعالى:{وسَيِّداً وحَصُوراً}

(5)

، فقد مُدِح يحيى عليه السلام بأنه كان حَصوراً، والحَصُور: الذي لا يأتي النساء مع القدرة على الإتيان.

وحجتنا التمسك بحال النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه حيث اشتغل بالتزوج حتى انتهى العدد المشروع المباح له

(6)

، والاستدلال بحال رسولنا أولى من الاستدلال بحال

(1)

أخرجه ابن ماجه في سننه 2/ 592، كتاب النكاح (9)، باب ما جاء في فضل النكاح (1)، رقم (1846).

(2)

سورة النساء، الآية:(3).

(3)

أي الثابت بالحديثين المارين: "تناكحوا"، و"تزوَّج" يفيدان الظن.

(4)

أي قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم

} سِيقَ لبيان عدد النساء المُحَلَّل الزواج بهن في وقت واحد ولم تُسَق الآية لبيان الوجوب العيني على كل فرد.

(5)

سورة آل عمران، الآية:(39).

(6)

عبارة المخطوط: وحجتنا التمسك بحال النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، وهو اشتغاله بالتزوج حتى أُنهى العدد المشروع المباح له.

ص: 4

يَنْعَقِدُ بإيجابٍ وقَبُولٍ لَفْظُهُمَا ماضٍ كـ: زَوَّجْتُ وتَزَوَّجْتُ أو أمرٌ وماضٍ كـ: زَوِّجْني، فقال: زَوَّجْتُ وإِنْ لَمْ يَعْلَما مَعْنَاه، وَقولِهِما: دادُ ويذيُرفث بلا مِيمٍ بعد دادي وبذيرُفتي كَبَيْعٍ وشِرَاءٍ

===

يحيى، مع أنه كان في شريعتهم العُزْلة أفضل من العِشْرَة، وفي شريعتنا العِشْرَة أفضل من العُزْلة، لقوله عليه الصلاة والسلام:«لَا رهْبَانِيَّة في الإسلام»

(1)

.

هذا، ويستحب مباشرة عقد النكاح في المسجد، وكونه في الجمعة، لِمَا في سنن التِّرْمِذي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَعْلِنُوا هذا النِّكَاحَ واجعلوه في المساجد، واضرِبوا عليه بالدُّفُوف» . أي خارجَه

(2)

. وفي الترمذي والنَّسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فصل ما بين

(3)

الحلال والحرام الدُّفُّ والصوت». قال الفقهاء: المراد بالدُّفِّ ما لا جَلاجِل له.

(يَنْعَقِدُ) أي يرتبط عقد النكاح (بإيجَابٍ) وهو ما يُقَال أوّلاً (وقَبُولٍ) وهو ما يُقال ثانياً (لَفْظُهُمَا) أي صيغة الإيجاب والقبول كلاهما (ماضٍ كـ: زَوَّجْتُ) أو أنكحتُ (وتَزَوَّجْتُ) أو نَكَحت، أو قَبِلتُ، أو رَضِيت. وإنما اختير لفظ الماضي للإنشاء، لأنه أدلّ على الوجود والتحقق، حيث أفاد دخولَ المعنى في الثبوت والوقوع قبل الإخبار

(4)

.

(أو) لفظهما (أمرٌ وماضٍ) أي وُضِع أحدهما للإخبار والآخر للإنشاء (كـ: زَوِّجْني) أو زَوِّج ابنتك (فقال) الآخر: (زَوَّجْتُ). وفي «فتاوى قَاضِيخَان» : ولفظ الأمر في النكاح إيجابٌ، وكذا في الطلاق إذا قالت: طَلِّقني على ألف، فطلَّقها كان تاماً.

(وإنْ لَمْ يَعْلَما) أي العاقدان (مَعْنَاه) أي معنى لفظ ما عقد به من التَّزَوُّج ونحوه.

(وَقولِهِما):

(5)

أي: وينعقد بقول العاقدين: (دَادُ ويذيرُفت)

(6)

بضم الراء (بلا مِيمٍ) أَي ولو بلا ميم (بعد دادي وبذيرُفتي

(7)

كَبَيْعٍ وشِرَاءٍ) أي وكما في عقدهما

(1)

قال العجلوني - رحمه الله تعالى - في كشف الخفاء 2/ 337: قال ابن حجر لم أره بهذا اللفظ لكن في حديث سعد بن أبي وقّاص عند البيهقي: "إن الله أَبدلنا بالرّهبانيةِ الحنيفية السمحة".

(2)

أي اضربوا الدّفُوف خارج المسجد لا في المسجد.

(3)

في المطبوع: الفصل بين، وما أثبتناه من سنن الترمذي والنسائي، وهو لفظ المخطوط أيضًا.

(4)

أي أن القَبول استقر وثبت في نفس المعبِّر قبل التعبير، ثم نطق بهذا القبول بلفظ من ألفاظ المضيّ ليدل على ما كان في نفسه. وهذه الألفاظ إخبارٌ لفظًا إنشاءٌ معنًى.

(5)

عطف على قوله: بإيجاب وقبول.

(6)

كلام فارسي معناه: الإيجاب والقبول.

(7)

كلام فارسي معناه: أعطيت وقبلت.

ص: 5

لا بِقَولِهِما عِنْدَ الشُّهُودِ: ما زن وشوييم. ويصحُّ، بِلَفْظِ نكاحٍ وَتَزْوِيجٍ.

وما وُضِعَ لِتَمْلِيكِ العَيْنِ حالاً. وشُرِطَ سَمَاعُ كُلٍ مِنْهُما، وحُضُورُ حُرَّيْنِ، أو حُرٍّ وحُرَّتَيْنِ،

===

بلفظ الماضي. والفرق بين بعني كذا بكذا، فقال: بِعتُ، لا ينعقد البيع، وبين زَوِّجني فقال: زوجتك حيث ينعقد النكاح، مع أن الأمر ليس فيهما بإيجاب، وإنما هو توكيل، وكلاًّ من: زَوَّجتُ وبِعتُ إيجاب وقبول، أنّ الواحد يتولَّى طرفي عقد النكاح ولا يتولى طرفي عقد البيع، لأن الوكيل في النكاح سفيرٌ محضٌ، وفي البيع أصيلٌ في الحقوق، ولهذا ترجع الحقوق في النكاح إلى الموكِّل، وفي البيع إلى الوكيل. (لا بِقَولِهِما عِنْدَ الشُّهُودِ): أي الشاهدين: (ما زن وشُوييم)

(1)

.

(ويَصِحُّ) عقد النكاح (بِلَفْظِ نكاحٍ) أو تَزَوّجٍ (وَتَزْوِيجٍ) أو إنكاحٍ إجماعاً، لأنها صريحة، واقتصر الشافعي في جوازه عليهما.

(وما) أي بلفظ (وُضِعَ لِتَمْلِيكِ العَيْنِ) كُلِّها (حالاً) كالتمليك، والهِبَةِ، والصَّدَقَةِ، والبيع، والشِّرَاء، لأنها سبب لمِلك المُتْعَةِ في محلَ يَقبلها بواسطة مِلك الرقبة، فيكون من إطلاق السبب وإرادة المُسَبَّب لقوله صلى الله عليه وسلم «مَلَّكْتُكَها بما معك من القرآن»

(2)

، ولقوله تعالى:{وامْرأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}

(3)

، ولأن رجلاً وهب ابنته لعبيد الله بن الحقّ بشهادة شاهدين، فأجازه عليٌّ رضي الله عنه.

قَيَّد الوَضْعَ بتمليك العين، لأن النكاح لا ينعقد بلفظ الإجارة، ولا بلفظ الإعارة على الصحيح. وقَيَّدَ بالحال، لأن النكاح لا ينعقد بلفظ الوصية، لأنها لتمليك العين بعد الموت لا في الحال.

(وشُرِطَ سَمَاعُ كُلٍ مِنْهُما) أي من العاقدين لفظَ الآخر، لأن عدم سماع أحدهما لفظَ الآخر بمنزلة غَيْبته (وحُضُورُ حُرَّيْنِ، أو حُرَ وحُرَّتَيْنِ) وبه قال مالك خلافاً للشافعي، لأن عنده شهادة النساء في غير المال وتوابعه لا تُقبل، وسيأتي بيان ذلك في الشهادة إن شاء الله تعالى. قال في المبسوط: واعتمادنا حديث عمر رضي الله عنه،

(1)

كلام فارسي معناه: نحن زوجة وزوج.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 9/ 131، كتاب النكاح (131)، باب تزويج المُعْسر

(14)، رقم (5087).

(3)

سورة الأحزاب، الآية:(50).

ص: 6

مُكَلَّفَيْنِ مُسْلِمَيْنِ سَامِعَيْنِ معاً لَفْظَهُمَا.

===

حيث أجاز شهادة رجل وامرأتين في النكاح والفُرْقَة.

(مُكَلَّفَيْنِ مُسْلِمَيْنِ) لأن الشهادة ولاية لنفوذ قول الشاهد على غيره، ولا ولايةَ للعبد والصبي والمجنون على غيره، ولا للكافر على المسلم.

وقال أهل المدينة: يجوز النكاح بغير شهود إذا أعلنوا، لأن ابن عمر زَوَّج ولم يُحْضِر شاهدين، وَزوَّج الحسن بن عليّ وابن الزُّبير وما معهما أحد. كذا قال ابن المُنْذِر.

ولنا ما روى الترمذي من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البغايا اللاَّتي يُنْكِحْنَ أنْفُسَهُنَّ بغير بَيِّنةٍ» . ولم يرفعه غير عبد الأعلى في التفسير، ووقفه في الطلاق. وروي أيضاً عنه

(1)

أنه قال: «لا نكاح إلا بِبَيِّنَة» . وروى الدَّارَقُطْنِي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا نكاح إلا بشُهُود» ، وقد قال صلى الله عليه وسلم «لا نِكاحَ إلا بِوَليّ وشَاهِدَي عَدْلٍ، وما كان من نكاحٍ على غير ذلك فهو باطلٌ، فإن تشاجَرُوا فالسلطانُ وَليُّ مَنْ لا وليَّ له» . رواه ابن حِبَّان وقال: لا يصح في ذكر شاهِدَينِ غير هذا الحديث.

(سَامِعَيْنِ معاً لَفْظَهُمَا) أي لفظ العاقدَينِ معاً، فلا ينعقد (بحضور أصمَّيْن، ولا بحضور سامعَين متفرقَين: بأن عَقَدا بحضور واحدٍ ثم بعد غَيبته عقدا بحضور آخر، وبأن عُقِد)

(2)

بحضورهما فسمع أحدهما كلام العاقدين ولم يسمعه الآخر، فأعاد العقد، فسمعه الآخر ولم يسمعه الأول، أو بأن عَقَدا بحضورهما فسمع أحدُهما كلام الزوج والآخر كلَام المرأة، ثم أعادا فسمع كلامَ المرأةِ الذي كان سمع كلام الزوج، وسمع كلامَ الزوج الذي كان سمع كلامَ المرأة.

ووجه المنع في هذه الصورة أنهما عقدانِ لم يَحضُرْ كلَّ واحدٍ منهما شاهدانِ، وقيل: يصح بحضرة الأصَمَّين وأغْرَبَ من زاد: النَّائِمَينِ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا نكاحَ إلا بشهود» ، ولأن السماع هو المقصود من الحضور، ولو سمعا كلَام العاقدَين ولم يعرِفا تفسيرَه، قيل: يصح، والظاهر خلافه.

(1)

أي عن ابن عباس، كما في سنن الترمذي 3/ 412، كتاب النكاح (9)، باب ما جاء لا نكاح إلا ببينة (15). وهو موقوف على ابن عباس. وعبارة المطبوع:"ولأنه عليه السلام قال" والصواب ما أثبتناه من المخطوط.

(2)

سقط من المطبوع.

ص: 7

وصَحَّ عِنْدَ فَاسِقَيْنِ، ولا يَظْهَرُ عِنْدَ الدَّعْوَى. وصَحَّ عِنْدَ ابْنَيْهِمَا أو أحدِهما.

===

(وصَحَّ) النكاح (عِنْدَ فَاسِقَيْنِ) ولو كانا محدودَيْنِ في قذفٍ، غيرَ تائبَين، لأن الفاسق من أهل الولاية القاصرة بلا خلاف، لأن له أَنْ يُزَوِّجَ نفسه، وعبدَه، وأمَتَهُ، فيكون من أهل تحمُّل الشهادة، وإن لم يكن من أهل أدائها، لأن كُلاًّ مِنْ التحمُّل والولاية القاصرة لا إلزام فيه.

(ولا يَظْهَرُ) أَثَرُ شَهَادَتِهِما الدالّ عليها فحوى الكلام (عِنْدَ الدَّعْوَى) لأن أداء الفاسق مردودٌ، والنكاح موقوف على تحمل الشهادة لا على قبولها، فصار العقد بحضور الفاسقَين كالعقد بحضور الأصَمَّينِ، حيث يَصِحُّ ولا تُفيد شهادتهما عند الدعوى، ولم يُجِزِ الشافعيُّ شهادةَ فاسقَين لما قدَّمنا من قوله صلى الله عليه وسلم «لا نكاحَ إلا بِوَليَ وشَاهِدَي عَدْلٍ» ، ولا شهادةَ الأعْمَيَيْنِ في الأصح عنه.

ولنا في انعقاده بشهادة الفاسقَين أصلٌ وهو: أن كلَّ ما يَصْلُح أن يكون قابلاً للعقد بنفسه ينعقد النكاح بشهادته، وكلَّ مَنْ يَصْلُح أن يكون وليًّا في النكاح يَصلح أن يكون شاهداً فيه. وهذا الحديث إِنْ صحَّ مقيَّداً بالعدالة، فالآخَر وهو قوله:«لا نكاح إلا بشهود» وهو الذي ذكره عند قوله: «مُكَلَّفَينِ مُسْلِمَيْن» مُطلقٌ عنها، ونحن نعمل بالمُطْلَقِ والمقيَّدِ جميعاً، مع أنه ذكر العدالة في موضع الإثبات فتقتضي عدالةً ما، وذلك من حيث الاعتقادُ، وفي الحقيقة إن المسألة مبنيَّةٌ على أن الفاسق من أهل الشهادة عندنا، وإنما لم تُقبل شهادته لتمكُّنِ تُهمةِ الكذب، وفي الحضور والسماع لا تَتَمَكَّنُ هذه التهمة، فكان بمنزلة العدل.

وعنده الفاسق ليس من أهل الشهادة أصلاً لنقصان حاله بسبب الفِسق. قلنا: الفسق لا يُخْرِجُهُ من أن يكونَ أهلاً للإمامة والسلطنة، فإن الأئمةَ بعد الخلفاء الراشدين قلَّ ما خَلَوْا عن الفِسق، فالقول بخروجه من أن يكون إماماً بفسقٍ ما، يؤدي إلى فسادٍ عظيم، ومن ضرورة كونه أهلاً للإمامة كونه أهلاً للقضاء، لأن تقلُّد القضاء يكون من الإمام، ومن ضرورة كونه أهلاً للقضاء أن يكون أهلاً للشهادة.

(وصَحَّ عِنْدَ ابْنَيْهِمَا) بأنْ وقعتِ الفُرقةُ بين رجلٍ وامرأة، ثم تزوجا

(1)

بحضور ابنيهما، وبه قال الشافعي في الأصح. (أو) ابْنَي (أحدِهما) أي ابْنَي الزوج، أو ابْنَي الزوجة. قال أبو المكارم: وعطفه على الضمير المجرور بلا إعادة الجار

(2)

مبنيٌّ على

(1)

في المخطوط: تزوجها.

(2)

أي قوله: (أو أحدِهما) عطفًا على: (عند ابنيهما) دون إعادة الجار أي لفظ "عند".

ص: 8

ولا تُقْبَل للقَرِيبِ وصحّ عند ذِميِّين، ولا تُقبل على المسلم. والوكيلُ شَاهِدٌ إنْ حَضَرَ مُوَكِّلُهُ

===

مذهب الكوفيين، وقد ارتكب المصنف ذلك في تصانيفه. قلت: وهو كذلك عند جماعة من البصريين، وهو المذهب المختار عند علماء العربية وعامة القُرّاء كما حُقِّقَ في قوله تعالى:{تَساءَلونَ به وَالأَرْحَامِ}

(1)

بالخفض على قراءة حمزة. وقيل: التقدير: أو عند ابْنَي أحد العاقدين، بحذف المضاف. وأما جَعْلُ الضَّميرِ راجعًا إلى الابنَيْنِ وإرادةُ أن النكاح يَصِحُّ عند أحد الابنَيْنِ وشاهدٍ آخر، فَتَكَلُّفٌ، بل وتَعَسُّفٌ مخالفٌ لصريح كلام المصنف في «شرح الوقاية» .

(ولا تُقْبَل للقَرِيبِ) لأجل التهمة، فإذا عقدا بحضور ابْنَي الزوج، فإِن كان هو المدعي لم تُقْبَل شهادتهما له، وإن كانت الزوجةُ المدعيةَ قُبِلت شهادتهما لها، وإذا عقدا بحضور ابْنَي الزوجة، فإن كانت المُدَّعِيَةَ لم تُقْبَلْ شهادتهما لها، وإن كان المُدَّعِي قُبِلت شهادتهما. وإذا عقدا بحضور ابنيهما الشقيقين لا تُقْبَلُ، سواءٌ كان المدعي هو أو هي. وصح في بعض النسخ: كنكاح مسلم ذِمِّية عند ذِمِّيَّيْنِ.

(وصَحَّ عِنْد ذِمِّيَّيْنِ) كنكاح مسلمٍ ذميةً (ولا تُقْبَلُ) شهادتهما عند الدَّعْوَى (على المسلم) لعدم صحة شهادة الذمي على مسلم، وتُقْبَلُ على الذِّمِّيَّة. وقال محمد وزُفَر: لا يَصِح العقد، لأنه نكاحٌ لا يَصِحُّ إلا بشهود، ولا يصَح بشهادة الكافِرَين كالعقد بين مسلمين، بخلاف أنكحة الكفار، فإنها تنعقد بغير شهود، ولأنها شهادة الكافر على الزوج المسلم بلزوم المهر، وأُجِيب بمنع ذلك، وإنما هي شهادة الكافر على المرأة الكافرة بتمليك المُتْعَة، لأن الشهادة شرط في النكاح لأجل مِلك المُتعة لا لأجل مِلك المال، لأن ملك المال لا يُشترط فيه الشهادة.

(والوكيلُ شَاهِدٌ إنْ حَضَرَ مُوَكِّلُهُ) لأنه أمكنَ جعلُ الموكِّلِ مباشراً للعقد، وكل من أمكن جعله مباشراً لشيء يُجعل مباشراً له حكماً، كالزوج يُجعل واطئاً بالخَلوة الصحيحة، وكالجاهل بالأحكام في دار الإسلام عالماً

(2)

، لتمكُّنه من التعلُّمِ، فإذا وَكَّلَ رجلٌ رجلاً أن يُزَوجه، أو وَكَّلتِ امرأةٌ رجلاً أن يُزَوِّجَها، فعقد الوكيل، بحضرة رجل أو امرأتين، إن كان الموكِّلُ حاضراً صحَّ العقد، لأنه يمكن جعله مباشراً له، فيُجعلُ مباشراً له، ويُجعل الوكيلُ شاهداً، وإن كان الموكِّل غائباً لا يَصِح العقد لعدم صحة جعله مباشراً.

(1)

سورة النساء، الآية:(1).

(2)

أي يُجعل عالمًا.

ص: 9

كالوَليِّ إِنْ حَضَرَتْ المَوْلِيَّةُ بَالِغَةً.

وحَرُمَ أَصْلُهُ وفَرْعُهُ، وفَرْعُ أصْلِهِ القَرِيبِ، وصُلْبِيَّةُ أَصْلِهِ البَعِيدِ، وأمُّ زَوْجَتِهِ

===

(كالوَليِّ إِنْ حَضَرَتْ المَوْلِيَّةُ)

(1)

بفتح الميم، وسكون الواو، وكسر اللام، وتشديد التحتية، اسم مفعول من: وَلِيَ. (بَالِغَةً) أي حال كونها بالغةً، والأولى أن يقول: مُكَلَّفةً، فإن للمجنونة البالغة حكمَ الصبية عند تزويجه لها بحضرة رجل أو امرأتين، حيث ينتقل العقد إليها، ويصير الوَلِيُّ كشاهد.

(وحَرُمَ) في حقِّ التزوج (أَصْلُهُ) أي أصْلُ المتزوِّج، وهي أُمُّهُ، وجدَّته لأمه أو لأبيه وإن علت، إن كان ذكراً، وأبوها وجدُّها لأبيها، أو أمها وإن علا، إن كانت أُنثى. (وفَرْعُهُ) أي بنته وبنت ولده، أعمّ من الذكر والأنثى وإن سَفَل، وابنها وابن ولدها وإن سَفَل، وابن بنتها وإن سَفَلَتْ.

(وفَرْعُ أصْلِهِ القَرِيبِ، وصُلْبِيَّةُ أَصْلِهِ البَعِيدِ) الأصل القريب: الأب والأم، وفرعه: الإخوة والأخوات وأولادهم وإن سفلوا، والأصل البعيد: الأجداد والجَدّات، وصُلْبِيَّتُه: العمة وإن عَلَتْ، والخالة وإن عَلَتْ، يعني من عمة أبيه وخالته، فيَحِلُّ بناتُ الأعمام، والعمات، والأخوال والخالات. والأصل في حرمة ذلك قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُم أُمَّهَاتُكُم وَبَنَاتُكُم وأَخَوَاتُكُم وعَمَّاتُكُم وخَالَاتُكُم وبَنَاتُ الأخِ وبَنَاتُ الأُخْتِ}

(2)

، والجَدَّاتُ أُمَّهاتٌ، وبناتُ الأولاد بناتٌ، إذ الأم الأصل، والبنتُ الفرعُ، فكأنه قال: أُصولُكُم وفُرُوعُكُم، فيكون من المجاز المُرْسَل، أو على قول مَنْ يقول: إن اللفظ الواحد يجوز أن يُرَاد به الحقيقة والمجاز في مَحَلَّين مختلفين، أو نقول: ثبتت حرمة الجدات وبنات الأولاد بالإجماع.

والأخوات أصناف ثلاثة: الأخت لأبوين، ولأب، ولأم. والعمات والخالات تشمل أخوات الأب والأم لأبوين، ولأب ولأم، وبنات الأخ وبنات الأخت يَعمّ بنات الأخ والأخت لأبوين، ولأبٍ، ولأم.

(وأمُّ زَوْجَتِهِ) سواء دخل بزوجته أو لا، وسواء كانت الأمَّ القُرْبَى أو البُعْدى وهي الجدة، لإطلاق قوله تعالى:{وأُمَّهاتُ نِسَائِكْم}

(3)

.

(1)

في المخطوط: موليته.

(2)

سورة النساء، الآية:(23).

(3)

سورة النساء، الآية:(23).

ص: 10

وَبِنْتُها، مَوْطُوءَة،

===

(وَبِنْتُها) أي بنت زوجته، حال كون زوجته (مَوْطُوءَةً) وهو شرطٌ إجماعاً، سواء كانت البنت في حِجْرِه: بأن كانت مع أمها في بيته، وهو شرط عند عليِّ، وإليه ذهب داود، وحُكِي عن مالك، أو لم تكن في حِجْرِه لقوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتي في حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُم}

(1)

. والدخول كنايةٌ على الجِمَاع، وذِكرُ الحِجْر خَرَجَ مَخْرَجَ العادة، أو للتشنيع عليهم لا لتعلّق الحكم به نحو:{أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} في قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضْعَافاً مُضَاعَفَةً}

(2)

، ثم في تحريم البنت على الرجل بعد الخلوة الصحيحة بأُمها من غير الوطء اختلافٌ، فقيل: يثبت، وهو قول أبي يوسف، وهو الأظهر، وعليه الأكثر، وقيل: لا يثبت، وهو قول محمد.

ثم اعلم أنّ حُرْمة أم المرأة والربيبة تثبت بنفس العقد في قول عمر، وابن عباس، ورجع إليه ابن مسعود حين ناظره عمر، وبه أخذ أئمتنا، وفي قول عليَ وزيد بن ثابت لا يثبت إلا بالدخول بالبنت، وبه أخذ محمد بن شُجَاع وبِشْر المَرِيسي، وهو أحد قولي الشافعي، ويستدلون بقوله تعالى:{وأُمَّهاتُ نِسَائِكُم} الآية

(3)

، إذ الأصل أنّ الشيء إذا عُطِفَ على شيء في حكمٍ، وذُكِر في المعطوف شرطٌ، فذا ينصرف إليهما، (فكذا هنا، ذَكَرَ أُمَّ المرأة ثم عَطَف عليها الربائب، ثم شَرَطَ الدخول، فانصرف إليهما)

(4)

.

قال في «المبسوط» : ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَزَوَّجَ امرأةً حَرُمَتْ أمُّها، دَخَلَ بها أو لم يَدْخُلْ، وحَرُمَتْ عليه ابنتُها إن دَخَل بها» . وكان ابن عباس يقول: أم المرأة مُبْهَمَةٌ فأبْهِموا ما أبهم الله فبَيَّنَ أنّ الشرط المذكور، وهو الدخول، ينصرف إلى الربائب دون الأمهات.

واختلفَ الصحابة في أن الحِجْرَ هل يُنْصَبُ شرطاً لهذه الحرمة أو لا؟ فكان عليٌّ يقول: الحِجْرُ شرطٌ لقوله تعالى: {ورَبَائِبُكُم اللاَّتي فِي حُجُورِكُمْ من نسائِكُم اللاَّتي دَخَلتُم بِهِنَّ} ، ولما روي أنه عُرِضَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم رَبِيبةُ بِنتِ أمّ سَلَمَةَ

(1)

سورة النساء، الآية:(23).

(2)

سورة آل عمران، الآية:(130).

(3)

سورة النساء، الآية:(23).

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 11

وزَوْجَةُ أصْلِهِ وَفَرْعِهِ،

===

فقال: «لو لم تكن رَبِيبَتي في حِجْري ما كانت تَحِلُّ لي، أرْضَعَتْني وأباها ثُوَيْبَةُ»

(1)

. فأما عمر وابن مسعود فإنهما كانا يقولان: الحِجْرُ ليس بشرط، وبه أخذ علماؤنا، للحديث الذي رويناه، وإنما ذَكَرَ الحِجْرَ في الآية على وجه العادة لا على وجه الشرط، كما في قوله تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُم فِيهِمْ خيراً}

(2)

ألا ترى أنه تعالى قال: {فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}

(3)

، شَرَطَ للحِلِّ عدمَ الدخول، فذلك دليل على أنه بعد ما دخل بالأم لا تَحِلّ له البنتُ قط، سواء كانت في حِجْرِهِ أو لم تكن.

(وزَوْجَةُ أصْلِهِ) أي أبِيهِ وَجَدِّه، وإن بَعُدَ، سواءٌ كان من قِبَلِ أبيه أو من قِبَل أُمّه، وكذا مَوْطُوءَته، أما الموطوءة فلقوله تعالى:{ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنْ النِّسَاءِ}

(4)

. وأما المعقود عليها عقداً صحيحاً، فللإجماع، ولإقامة ما يُفضي إلى الوطاء مُقَام الوطاء.

(وَ) زوجةُ (فَرْعِهِ) وهي زوجة ابنه وإن سَفَل، لقوله تعالى:{وَحَلَائِلُ أبنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أصْلَابِكُم} وذَكَرَ الأصْلَابَ لإخراج ابن التَّبَنِّي، فإن حليلته لا تَحْرُم، وكذا يَحْرُم الجمع بين الأُختين نِكاحاً وكذا فِرَاشاً

(5)

حتى لا يجمع بين الأُختين وطئاً بمِلك اليمين لإطلاق قوله تعالى: {وأنْ تَجْمَعُوا بين الأُخْتَينِ}

(6)

، فإنه في موضع رفعٍ، عطفاً على المُحَرَّمات، وهو قول عليّ وابن مسعود وعَمَّار بن ياسر، فإنه قال: ما حرَّم الله من الحرائر شيئاً إلا وحَرَّم من الإماء مثله، إلا رجل يجمعهن يريد به الزيادة على الأربع.

وكان عثمان يقول: أحَلَّتهُما آيةٌ وحرَّمَتْهُما آية. يريد بآية التحليل قوله تعالى: {إلا ما مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ} ( 6)، وبآية التحريم قوله:{وأنْ تَجْمَعُوا بين الأُخْتَينِ} . وكان يتوقف في ذلك. قلنا: عند التعارض يترجح جانب الحُرمة لقوله صلى الله عليه وسلم «وما اجْتَمَعَ الحرامُ والحلالُ إلا وغَلَبَ الحرامُ»

(7)

.

(1)

أخرج البخاري في صحيحه قريبًا منه "فتح الباري" 9/ 140، كتاب النكاح (67)، باب وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم" (20)، رقم (5101).

(2)

سورة النور، الآية:(33).

(3)

سورة النساء، الآية:(23).

(4)

سورة النساء، الآية:(22).

(5)

أي إذا تزوّج الرجل امرأة، ومَلك أختَها أمةً، فلا يجوز له الجمع بينهما.

(6)

سورة النساء، الآية:(24).

(7)

مصنف عبد الرَّزَّاق 7/ 199، كتاب الطلاق، باب الرجل يزني بأُم امرأته، رقم (12772).

ص: 12

وكلُّ هَذِهِ رَضَاعًا.

وَفَرْعُ مَزْنِيَّتِهِ

===

(وكلُّ هَذِهِ رَضَاعاً) أي وَحَرُمَ جميعُ المذكورات إذا كُنَّ من الرَّضاع. وفي «شرح الوقاية» : وهذا يشمل عدة أقسام: كبنت الأخت مثلاً، تشمل البنتَ الرَّضَاعِيَّة للأُخت النَّسَبِيّة، والبنتَ النَّسَبِيّة للأُخت الرَّضَاعية، والبنتَ الرَّضاعِيَّة للأُخت الرَّضَاعِية انتهى.

وأصل ذلك قوله تعالى: {وأُمَّهاتُكُم اللاَّتي أرْضَعْنَكُم وأَخَوَاتُكُم من الرَّضَاعَة}

(1)

، وما في «الصحيحين» عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِيدَ على ابنة حمزة

(2)

فقال: «إنها لا تَحِلُّ لي إنها ابنةُ أخي من الرَّضاعة، وإنه يَحْرُمُ من الرَّضَاعة ما يَحْرُمُ مِنْ النَّسَب» .

(وَ) حَرُمَ (فَرْعُ مَزْنِيَّتِهِ) سواء كان الفرع من زناه أو من غيره، فالزنا عندنا يُوجِب حُرمةَ المصاهرة، حتى لو زنى بامرأةٍ حَرُمَت عليه أُمُّها وبنتها، وَحرُمَت الموطوءة على أصوله وفروعه. وعند الشافعي لا يُوجِبها، وعن مالك روايتان، المشهورةُ كمذهبنا. واحتج في «المبسوط» للشافعي بقوله صلى الله عليه وسلم «الحرامُ لا يُحَرِّمُ الحَلَال». كذا رواه ابن عباس. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل عمن يبتغي من امرأة فجوراً ثم تزوَّجَ ابنتها؟ فقال:«لا بأس، لا يُحَرِّمُ الحرامُ الحلالَ» .

ولنا عموم قوله تعالى: {ولَا تنْكِحُوا ما نَكَحَ آبَاؤُكُم من النِّسَاءِ}

(3)

، وقد بَيَّنَّا أن النكاح للوطاء حقيقةً، فتكون الآية نصاً في تحريم موطوءة الأب على الابن، فالتقييد بكون الوطاء حقيقةً في الحلال زيادةٌ، ولا تَثْبُتُ هذه الزيادة بخبر الواحد ولا بالقياس، والدليل عليه أن موطوءة الأب بالمِلك حَرَامٌ على الابن بهذه الآية، فدلّ على أنّ المراد بالنكاح الوطاءُ لا العقدُ.

وما ذهبنا إليه هو قول عمر، وابن مسعود، وابن عباس، في الأصح، وعمرانَ بن حُصَين، وجابر، وأُبَيَ وعائشة، وجمهورِ التابعين: كالحسن البَصْري، والنَّخَعِي، والأَوْزَاعي، وطاوس، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن المُسَيَّب، وسليمان بن يسار، وحَمّاد، والثَّوْرِي، وإسحاق بن رَاهُويَه. والحديث غيرُ مَجْرِيَ على ظاهره، فإن كثيراً

(1)

سورة النساء، الآية:(23).

(2)

أُريد على ابنة حمزة: أي أرادوا له تزوّجه إياها.

(3)

سورة النساء، الآية:(22).

ص: 13

وَمَمْسُوسَتِهِ وَمَاسَّتِهِ وَمَنْظُورٍ إلى فَرْجِهَا الدَّاخِلِ بِشَهْوةٍ،

===

من الحرام يُحَرِّمُ الحلالَ، كما إذا وقعت قطرةٌ من خمرٍ في ماء

(1)

، وكالوطاء بالشبهة، ووطاء الأَمَة المشترَكة، ووطاء الأب جاريةَ الابن، فإن هذا كله حرامٌ حَرَّمَ الحلالَ. هذا لو صح الحديث، لكن حديث ابن عباس مُضَعَّفٌ برواية عثمان ابنعبد الرحمن الوَقَّاصِي، لطعن يحيى بن مَعِين فيه بالكَذِب، ولقول البخاري، والنَّسائي، وأبي داود فيه: ليس بشيء. وذكره عبد الحق عن ابن عمر ثم قال: في إسناده إسحاق ابن أبي فَرْوَة، وهو متروك.

وقد احتج بعض أصحابنا بما روي: «أَنّ رجلاً قال: يا رسول الله إني زَنَيتُ بامرأةٍ في الجاهلية، أفَأَنْكِح ابْنَتَهَا؟ قال: لا أرى ذلك، ولا يَصْلُحُ أنْ تَنْكِحَ امرأةً تَطَّلِعُ من ابْنَتِها على ما تَطَّلِعُ عليه منها»

(2)

. وهو مرسل ومنقطع، وفي سنده أبو بكر بن عبد الرحمن بن أم حكيم. وبما رُوي من طريق ابن وَهْبٍ، عن أبي أيوب، عن ابن جُرَيج: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي تَزوَّجَ امرأةً فَيَغْمِز

(3)

ولا يزيد على ذلك: «لا يَتَزَوَّج ابْنَتَهَا» . وهو مرسل ومنقطع، إلا أن هذا لا يقدح عندنا إذا كانت الرجال ثقات.

ثم كما تثبت حرمةُ المصاهرة بالوطاء، تثبت بالمَسِّ والتقبيل عن شهوة عندنا، سواء كان في الملك أو في غيره، وهذا معنى قوله:(وَ) فرعُ (مَمْسُوسَتِهِ)(وَ) فَرْعُ (مَاسَّتِهِ) سواء كان المس عمداً أو سهواً، أو خطأً أو كَرْهاً، وسواء كان بحائل، ووجد حرارةَ البدن، أو بلا حائل، لأنه استمتاع، فكان كالوطاء. وقال مالك: القُبلة واللَّمس يقومان مقام الوطاء، وخالف الشافعي أيضاً في ذلك حتى لو قَبَّل أَمَتَه ثم أراد أن يتزوج ابنتها يجوز عنده، وكذا لو تزوَّج امرأةً وقَبَّلها بشهوة ثم ماتت، يجوز له أن يتزوج ابنتها عنده.

(وَ) فَرعُ (مَنْظُورٍ إلى فَرْجِهَا الدَّاخِلِ)، ولا يَتَحقَّقُ ذلك إلا إذا كانت

مُتَّكِئَةً (بِشَهْوةٍ) متعلق باللَّمس والنظر على طريق التنازع. وقال الشافعي: لا تثبت الحرمة بالنظر، ومذهب مالك أن النظر للَّذةِ مُحتَمِلٌ لثبوت الحرمة كالقُبلة، ولعدَمِهِ كالتفكُّر.

ولنا ما رواه في «الغاية السَّمْعَانية» عن النبي صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَظَرَ إلى فَرْجِ امرأةٍ

(1)

أي في ماءٍ قليل، وهو ما دون عشرة أذرع بعشرة أذرع.

(2)

لم نجده بهذا اللفظ ولكن أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بلفظ مختلف 7/ 197، حديث رقم (12761).

(3)

غَمَزَ: جَسَّ.

ص: 14

وأصْلُهُنَّ. وَمَا دُوْنَ تِسْعِ سِنينَ لَيسَتْ بِمُشْتَهَاةٍ.

===

بشهوةٍ حَرُمَتْ عليه أُمُّها وابْنَتُها»

(1)

. وعن عمر أنه جَرَّد جاريةً ونظر إليها، ثم استوهبها منه بعض بنيه فقال: إنها لا تَحِلُّ لك. وعن عبد الله بن عمر أنه قال: إذا جامع الرجلُ المرأةَ أو قَبَّلها أو لمسها بشهوة، أو نظر إلى فرجها بشهوة، حَرُمَتْ على أبيه وابنه، وحرمت عليه أُمُّها وابنتها. وعن مسروق أنه قال: بيعوا جاريتي هذه، أما أنِّي لم أُصِبْ منها إلا ما يُحَرِّمها على ولدي من المس والقُبْلَة.

ولأن المس والتقبيل سببٌ يُتَوَصَّل به إلى الوطاء، فإنه من دواعيه ومقدماته، والحرمة تُبنَى على الاحتياط، فيقام سبب الوطاء مقامه.

ولو نظر إلى فرجها من وراء زجاج، أَوْ من وراء ماء بأن كانت في الماء، تثبتُ المصاهرةُ، ولو نَظَرَ فَرْجَها في المرآة لا تثبت، لأنه عَكَسَ فَرْجَها لا حقيقته، ولو نظرت المرأةُ إلى ذَكَر الرجل فهو مثل نظر الرجل إلى فرج المرأة.

وحد الشهوة أن يشتهي بقلبه، ويَتَلَذَّذ به، ويَمِيل أنْ يُوَاقِعَها، ولا يُشترط تَحَرُّكُ الآلة ولا انتشارها، وهو الأصح عند بعضهم، وقيل: يُشْتَرَطَان. وفي «الخلاصة» : وعليه الفتوى. ويعتبر في الشهوة أن تكون عند اللمس والنظر، حتى لو وُجِد بغير شهوة ثم اشتهى بعد الترك، لا تتعلق به الحرمة. ويُشترط أن لا يُنْزِلَ عند اللمس والنظر، حتى لو أنزل لا يثبت حرمة المصاهرة وعليه الفتوى، لأن اللمس والنظر حينئذ ليسا بمُفْضِيَيْنِ إلى الوطاء، وما أثبتنا حرمةَ المصاهرة إلا لإفضائها إلى الوطاء.

(و) حرم (أصْلُهُنَّ) أي أصل مَزْنِيَّتِهِ، وَمَمْسُوسَتِهِ، ومَاسَّتِهِ، ومنظورٍ إلى فرجها.

(وَمَا دَوْنَ تِسْعِ سِنينَ لَيسَتْ بِمُشْتَهَاةٍ) وعليه الفتوى، وأما بنتُ التسع وأكثر، فقد تكون مشتهاةً وقد لا تكون، وهذا يختلف بِعِظَمِ الجُثَّة وصِغَرِها كما في «شرح الوقاية». وفي «شرح الكنز»: بنتُ تسعٍ مشتهاةٌ من غير تفصيل، وبنت خمس وما دونها غير مشتهاة من غير تفصيل، وبنت ستَ وسبعٍ وثمانٍ إن كانت عَبْلَةً ضخمة كانت مشتهاة، وإلا فلا. ولو كَبِرَت المرأة حتى خرجت عن حَدِّ الاشتهاء تُوجِب الحرمةَ، لأنها دخلت تحت حكم الاشتهاء، فلا تخرج بالكِبَرِ، ولا كذلك الصغيرة.

(1)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 170، بلفظ:"إذا نظر الرجل إلى فرج المرأة حَرُمَت عليه أمها وابنتها".

ص: 15

ويُحَرِّم نِكَاحُ امْرَأةٍ وَعِدَّتُهَا نِكَاحَ امْرَأةٍ أيَّتُهُما فُرِضَتْ ذكراً لم تَحِلَّ لَهُ الأُخْرَى، وَوَطْأَهَا مِلْكًا،

===

(ويُحَرِّم) بكسر الراء المشددة، أي ويمنع منعَ تحريم (نِكَاحُ امْرَأةٍ) أي عقدَ أحدٍ عليها (وَعِدَّتُهَا) من طلاق رَجْعِيَ أو بائن، أو عتقٍ، إذا كانت أمَّ ولد (نِكَاحَ امْرَأةٍ) أي عقدها، وهو مفعول يُحَرِّم، وجملة (أيَّتُهُما فُرِضَتْ ذكراً لم تَحِلَّ لَهُ الأُخْرَى) صفة المرأتين (وَوَطْأَهَا) بالنصب عطف على مفعول يُحَرِّم، أي: ويُحَرِّم نكاحُ امرأة وعدتُها أيضاً وَطْءَ امرأة (مِلْكاً) أي من جهة المِلك، إذا كانتا أيتهما فُرِضت ذَكَراً لم تَحِلَّ له الأخرى، فلا يجوز الجمع بين الأختين كما وقع في النص، وعليه الإجماع.

وأما ما في «الهداية» من قوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فلا يَجْمَعَنَّ مَاءَهُ في رَحِم أُختين» . فغير معروف، نعم روى الضحاك بن فيروز الدَّيْلَمِي عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، إني أسْلَمتُ وتحتي أُختان قال:«طَلِّقْ أيَّتَهُما شِئتَ» . أخرجه أبو داود، وعند الترمذي:«اخْتَر أيَّتَهُمَا شئتَ» ، وقال: هذا حديث حسن، وذكر البيهقي في إسناده عن أبي داود أنه حديث صحيح. وأخرجه ابن حِبّان في «صحيحه» .

ولا يُجْمَعُ بين المرأةِ وعَمَّتها، أو خالتها، أو بنت أختها. أو بنت أخيها، وقال عثمان البَتِّي وداود الظاهري: يجوز الجمع بين غير الأختين من المحارم، لقوله تعالى:{وأُحِلَّ لكم ما وراء ذَلِكُم}

(1)

.

ولنا ما روى مسلم مفرّقاً، وأبو داود والترمذي والنَّسَائي مجموعاً من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تُنْكَحُ المرأةُ على عَمَّتِها، ولا العمّةُ على بنت أخيها، ولا المرأةُ على خالتها، ولا الخالةُ على بنت أُختها، ولا تُنْكَحُ الكُبرَى على الصُّغرَى، ولا الصغرى على الكبرى» . كرر النفيَ من الجانبين لتأكيد الحكم، ولدفع تَوَهُّم جوازِ تزوُّجِ العمة على بنت أخيها، والخالة على بنت أُختها، لفضيلة العمة والخالة، كما يجوز تزوج الحرة على الأمة دون العكس.

والمراد بالكبرى: العمة والخالة، وبالصغرى: بنت الأخ وبنت الأخت، والآية مخصوصة من عمومها ببنته وعمته من الرَّضاع، وبالمشركة، فيجوز تخصيصها بخبر الواحد والقياس

(2)

، والمُعْتَدَّة كالمنكوحة، بدليل ثبوت النفقة، والسُّكْنَى، والنَّسَب

(1)

سورة النساء، الآية:(24).

(2)

وهذه مسألة أصولية عند الحنفية وهي: أن العام إذا خُصِّص يجوز تخصيصه بعد ذلك بخبر الآحاد والقياس. انظر لمزيد تفصيل هذا المبحث في كتب أصول الحنفية في مبحث العام المخصوص.

ص: 16

وكَذَا وَطْؤُهَا مِلْكاً وَطْأَهَا نِكَاحاً ومِلْكاً لا نِكَاحَهَا،

===

بالفِراش، والمَنْع من الخروج.

قيَّدَ بقوله: أيَّتهما فُرِضَتْ ذَكَراً لم تَحِلّ له الأخرى، لأنه لو فُرِضت إحداهما ذكراً لم تَحِلّ له الأخرى، ولو فُرِضت الأخرى ذكراً حلت له الأخرى، مثل المرأة وبنت زوجها، أو امرأة أبيها، جاز الجمع بينهما. وقال زُفَر، وابن أبي ليلى، والحسن البصري: لا يجوز، لأن الامتناع ثبت من وجهٍ، فالأحوطُ الحرمةُ، وللجمهور قوله تعالى:{وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم}

(1)

وأن عبد الله بن جعفر جمع بين زينب بنتِ عليَ وزوجتِهِ النَّهْشَلِيّة، ولم يُنْكَر عليه. ذكره البخاري تعليقاً، وأسنده ابن أبي شيبة والدَّارَقُطْنِيّ، وكذا ابن عباس جَمَعَ بين امرأةٍ ورجلٍ وبنتِه من غيرها.

ولا يجوز نكاح أخت مُعْتَدَّتِهِ من الطلاق البائن عندنا كالطلاق الرجعي، وحَكَمَ مالكٌ والشافعي بجوازه، لأنه نكاحٌ يرتفع بينهما علائقه، فيجوز له نكاح أختها كما بعد انقضاء العدة.

ولنا: هذه مُعْتَدَّةٌ على الإطلاق، فليس له أن يتزوج بأُختها كالعدة من طلاق رجعي، ومذهبنا قول عليَ، وابنِ مسعود، وابن عباس ذكره سليمان بن يَسَار عنهم، وبه قال سعيد بن المُسَيَّب، وعَبِيدَة السَّلْمَاني، ومجاهد، والثوري والنَّخَعِي، ورُوي مذهبهما عن زيد بن ثابت، إلا أن أبا يوسف ذكر في «الأمالي» رجوعَ زيدٍ عن هذا القول، وذكر الطحاوي قول زيد الأَخير أنه ليس له أن يتزوجها، وحكى أن مروان شاور الصحابة في هذا، فاتفقوا على التفريق

(2)

بينهما، وخالفهم زيد، ثم رجع إلى قولهم. وقال عَبِيدة: ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء كاجتماعهم على تحريم نكاح الأخت في عِدَّةِ الأخت، والمحافظة على أربع قبل الظهر.

(وكَذَا وَطْؤُهَا) بالرفع، أي: ويحرم وَطْءُ امرأة (مِلْكاً) أي من جهة المِلك (وَطْأَهَا) بالنصب، أي وَطْأ امرأةٍ أُخرى (نِكَاحاً ومِلْكاً) يتميزان، أي من جهتهما، إذا كانت بحيث لو فُرِضت أيّتهما ذَكَراً لم تَحِلّ له الأُخرى، (لا نِكَاحَهَا) بالنصب عطفاً على وطئها، أي لا يُحَرِّمُ وَطْءُ امرأة مِلكاً العقدَ على امرأة أخرى أيَّتهما فُرِضَت ذكراً لم يَحِلّ له الأخرى، لأن العقد ليس بوطاء، وإنما يصير وطئاً عند ثبوت حكمه، وهو حِلُّ الوَطاء، وحكم الشيء يَعْقُبُه.

(1)

سورة النساء، الآية:(24).

(2)

عبارة المخطوط: على أن يفرّق بينهما.

ص: 17

فإنْ نَكَحَهَا لا يَطَأُ واحدةً حتى يُحَرِّمَ الأُخْرَى.

وَصَحَّ نِكَاحُ الكِتَابِيَّةِ

===

(فإنْ نَكَحَهَا) أي عقد عليها (لا يَطَأُ واحدةً) من الموطوءة بالمِلك والمعقود عليها (حتى يُحَرِّمَ الأُخْرَى)، أما المَنكوحةُ فبطلاقها وانقضاء عدتها، وأما المملوكةُ فبعتقِها أو بعتق بعضها، أو بتمليك جميعها أو بعضها، أو بتزويجها، أو بكتابتها، لأنه إن وَطِاء المعقود عليها من غير تحريم المملوكة، كان جامعاً بين الموطوءتين حقيقةً، وإن وَطاء المملوكة من غير تحريم المعقود عليها، كان جامعاً بين موطوءة حقيقة وبين موطوءة حكماً، (وهي المعقود عليها)

(1)

.

(وَصَحَّ نِكَاحُ الكِتَابِيَّةِ) ولو كانت أَمَةً، وفي الأَمَةِ خلافٌ سيأتي. والكِتَابِية: كافرةٌ تعتقد كتاباً سماوياً كصُحُفِ إبراهيم أو غيرها، وإنما صح نكاحها لقوله تعالى:{وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم}

(2)

عطف على الطيبات في قوله تعالى: {اليومَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}

(3)

.

وفي «المبسوط» : قال محمد بن الحسن: بلغنا عن حُذَيفةَ بن اليَمَان أنه تزوَّج يهوديةً. ولو تَزَوَّج كتابية على مسلمة جاز وقَسَمَ بينهما على السواء.

وكان ابن عمر لا يُجَوِّز نكاح

(4)

الكتابية ويقول: هي مُشْرِكة، وقد قال تعالى:{ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}

(5)

. وكان يقول: معنى الآية الثانية

(6)

: واللاَّتي أَسْلَمْنَ من أهل الكتاب

ولسنا نأخذ بهذا، فإن الله عطف المُشْرِكين على أهل الكتاب، فدلّ أن اسم المُشْرِك لا يتناول الكتابيَّ مطلقاً، ولو حملنا الآية الثانية على ما قال ابن عمر لم يكن لتخصيص الكتابية بالذِّكْر معنًى، فإن غيرَ الكتابية إذا أسلمت يَحِلُّ نِكاحُها.

وقد جاء عن كعب بن مالك أنه تَزَوَّج يهودية، وخطب المُغِيرة بنُ شُعبةَ بنتَ النعمان بن المُنْذِر، وكانت تَنَصَّرَتْ فَأبَتْ وقالت: أيُّ رغبة لشيخ أعورَ في عجوز عمياء؟ ولكنْ أردتَ أن تفتخرَ بنكاحي فتقول: تَزَوَّجتُ بنتَ النعمانِ بنِ المُنْذِر فقال:

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

سورة المائدة، الآية:(5).

(3)

سورة المائدة، الآية:(5).

(4)

في المخطوط: تَزَوُّج.

(5)

سورة البقرة، الآية:(221).

(6)

أي قوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} .

ص: 18

والأَمةِ مَعَ طَوْلِ الحُرَّةِ،

===

صدقتِ، وكانت بعد ذلك تدخل عليه فيُكرِمها ويسألها عن حالها فقالت:

*فبينا نَسُوسُ النَّاسَ والأمرُ أمْرُنا ** إذا نحن فيهم سُوْقَةٌ نَتَنَصَّفُ*

*فَأُفَ لدنيا لا يدوم نَعِيمُها ** تَقَلَّبُ تاراتٍ بنا وَتَصَرَّفُ*

وقولها: نَتَنَصَّف أي: نُسْتَخْدَم، والمَنْصَفُ: الخادم.

ولما كان الأمر على ما قُرِّر ذهب عامة المفسرين إلى تفسيرالمحصنات بالعفائف، والعِفَّة ليست بشرط أيضاً، وإنما قَيَّدَ للعادة، ولئن كانت شرطاً فانتفاؤه

(1)

لا يدل على عدم الجواز لما عرفتَ، فثبت الجواز بالنصوص المطلقة، وقوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}

(2)

. وقوله صلى الله عليه وسلم «تناكحو

»

(3)

، وغير ذلك.

(و) صح نكاح (الأَمةِ)(مسلمةً كانت أو كتابية)

(4)

(مَعَ طَوْلِ الحُرَّةِ) أي مع القدرة على نكاح الحرة، بأن يكون له مهرها ونفقتها، لكن بشرط أن لا يكون تحته حُرَّةٌ، فإنه لا يجوز حينئذٍ إجماعاً. وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يجوز تزوّجُ الأمة الكتابية مطلقاً، ولا تَزَوُّجُ الأمةِ المسلمة إذا وَجَدَ طَوْلَ الحرة، لقوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِع مِنْكُم طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ}

(5)

أي: فليتزوج، والمراد بالمحصنات هنا: الحرائر.

ولنا النصوص المطلقة، نحو قوله تعالى:{فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}

(6)

، وقوله تعالى:{وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم}

(7)

، وأما الآية السابقة فقد نقلنا عن ابن عباس أن المراد حال وجود نكاح الحرة، وبه نقول، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم «لا تُنْكَحُ الأَمَةُ على الحُرَّةِ»

(8)

. كذا في «الهداية» . وروى البيهقي عن الحسن:

(1)

حرِّفت في المطبوع إلى: فالشقاوة.

(2)

سورة النساء، الآية:(3).

(3)

أخرجه ابن ماجه في سننه 1/ 599، كتاب النكاح (9)، باب تزويج الحرائر والولود (8)، رقم (1863).

(4)

سقط من المطبوع.

(5)

سورة النساء، الآية:(25).

(6)

سورة النساء، الآية:(3).

(7)

سورة النساء، الآية:(24).

(8)

أخرجه الإمام مالك في موطئه 2/ 536 - 537، كتاب النكاح (28)، باب نكاح الأمة على الحرة (12)، رقم (29).

ص: 19

والمُحْرِمِ وَالمُحْرِمَة

===

رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تُنْكَحَ الأمةُ على الحرة. قال: هذا مرسل إلا أنه في معنى الكتاب، وهو قول جماعة من الصحابة.

وأما قول صاحب «الهداية» : ويجوز تَزَوُّج الحرة عليها لقوله صلى الله عليه وسلم «تُنْكَحُ الحرة على الأمة» ، فرفعه وَهمٌ، وإنما هو موقوف على عَليَ، كما رواه الدَّارَقُطْنِيّ عنه بلفظ: إذا تزوجتَ الحرةَ على الأَمة قَسِّمْ لها يومين وللأَمة يوماً. لأن الأَمة لا ينبغي لها أنْ تُزَوَّجَ على الحرة. ثم قوله سبحانه: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُم}

(1)

. فيد عدم جواز نكاح الأَمة مطلقاً حين لا ضرورة من خشية العَنَت وهو: الخوف على نفسه من الزنا.

(و) صح نكاح (المُحْرِمِ وَ) نكاح (المُحْرِمَة) بالحج أو العمرة، وهو مذهب الثَّوري. وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يَصِحُّ نكاحُ المُحْرِم زوجاً كان أو وَلِيًّا، ولا نكاحُ المُحْرِمة، لِمَا روى الجماعة إلا البخاريَّ من حديث نُبَيْه بن وَهْبٍ: أن عمر بن عُبَيد الله أرسله إلى أبانَ بنِ عثمان بن عفان يسأل، وأبانُ يومئذٍ أميرُ الحجِّ، وهما مُحْرِمان: إني أردت أن أُنْكِح طلحةَ بن عمر ابنةَ شَيبةَ بن جُبَير؟ فقال أبان: سمعتُ أبي عثمانَ يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يَنْكِحُ المُحْرِمُ ولا يُنْكَح» . زاد مسلم وأبو داود في رواية: «ولا يَخْطُب» ، وزاد ابن حِبَّان:«ولا يُخْطَبُ عليه» ، وهما

(2)

محمولان على الكراهة اتفاقاً، فليكن ما قبلها كذلك، ولِمَا في «الموطأ» عن داود بن الحُصَين أن أبا غَطَفَان المُرِّي

(3)

أخبره أن أباه طَرِيفاً تَزَوَّج امرأةً وهو محرم، فردَّ عمر نكاحه.

ولنا إطلاق قوله تعالى: {وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم}

(4)

وصريحُ ما في الكتب الستة من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوَّج مَيْمُونَةَ وهو مُحْرِمٌ. زاد البخاري: وبَنَى بها وهو حلال، وماتت بسَرِف. وهو ظرف للبناء والموت، وهو من أعجب التواريخ

(5)

.

(1)

سورة النساء، الآية:(25).

(2)

أي: الخِطبة، والخِطبة على الخِطبة.

(3)

حُرِّفت في المخطوط إلى: المزني، وهو خطأ، والمثبت هو الصواب انظر الموطأ 1/ 349، وتقريب التهذيب ص 664.

(4)

سورة النساء، الآية:(24).

(5)

وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بالسيدة ميمونة رضي الله عنها بسَرِف، وقدَّر الله أنها ماتت بعد ذلك بسَرِف. فتح الباري 7/ 510.

ص: 20

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وأما ما رواه يزيد بن الأَصَمّ أنه تزوجها وهو حلال، لم يَقْوَ قوةَ هذا، فإنه مما اتفق عليه الستة، وحديث يزيد لم يُخَرِّجه البخاري ولا النسائي، وأيضاً لا يقاوَم يزيدُ بابن عباس حفظاً وإتقاناً، لا سيما وميمونة خالته، فهو أعْرَف بخالته، لِمَا روى الطَّحاوي عن عمرو بن دينار: حدثني ابن شِهاب، عن يزيدَ بن الأصَمّ:(أنه صلى الله عليه وسلم نَكَحَ ميمونة وهما حلالان، قال: فقلتُ للزُّهْرِيّ: وما يُدْرِي ابنَ الأصم؟)

(1)

إنه أعرابي بَوَّال على عَقِبَيْه، أتجعله مثل ابن عباس؟.

وما روي عن أبي رافع أنه صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجها وهو حلالٌ، وبَنَى بها وهو حلال، وكنتُ أنا رسولاً

(2)

بينهما، لم يُخَرَّج في واحد من الصحيحين

(3)

وإن رُوي في «صحيح ابن حِبَّان» ، فلم يبلغ ذلك في درجة الصحة، ولذا لم يقل فيه الترمذي سوى: حديث حسن، قال: ولا نعلم أحداً أسنده غير حَمّاد عن مَطَرٍ

(4)

.

قال بعض المحققين: والحاصل أنه قام رُكْنُ المعارضة بين حديث ابن عباس وحَدِيثَي يزيد وأبان، وحديثُ ابن عباس أقوى منهما سنداً، فإن رَجَّحْنا باعتباره كان الترجيح مَعَنَا، ويَعْضُدُهُ ما رواه الطحاوي عن أبِي عَوَانَة، عن مُغِيرَة، عن أبي الضُّحَى، عن مَسروقٍ، عن عائشة، قالت: تزَوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضَ نسائه وهو مُحْرِمٌ. قال: ونَقَلَةُ هذا الحديث كلهم ثِقاتٌ يُحْتَجُّ بروايتهم، ورواه البَزَّار في «مسنده» عن مسروق، عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم تَزَوَّج ميمونةَ وهو مُحْرِمٌ، واحتجم وهو مُحْرِمٌ.

وإن رَجَّحْنَا بقوة ضَبْطِ الرُّواةِ وفِقههم، فإن الرواة عن عثمان وغيره، ليسوا كمَن روى عن ابن عباسٍ ذلك، فقهاً وضبطاً، كسعيد بن جُبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعِكْرِمة، وجابرِ بن زيد

(5)

. وإن تركناه تساقطا للتعارض وصِرنا إلى القياس، فهو معنا،

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

في المخطوط: الرسول.

(3)

في هامش المخطوط: في نسخة: الصحاح. والصواب ما أثبتناه.

(4)

حُرِّف في المخطوط إلى: مطرف. والصواب ما أثبتناه من المطبوع والترمذي 3/ 200، كتاب الحج (7)، باب ما جاء في كراهية تزويج المُحرِم (23)، حديث رقم (841).

(5)

حرف في المطبوع إلى: جابر بن يزيد، والصواب ما أثبتناه من المخطوط وتهذيب الكمال 15/ 156.

ص: 21

وَحُبْلَى مِن زِنَا،

===

لأنه عقدٌ كسائر العقود التي يُتَلَفَّظُ بها من شراءِ أَمَةٍ للتَّسَرِّي

(1)

وغيره، ولا يمتنع شيء من العقود بسبب الإحرام، ولو حَرُمَ لكان غايته أن يُنَزَّل منزلةَ الوطاء وأثَرِهِ في إفساد الحج، لا في بطلان العقد نفسه

وإن وَفَّقْنَا لدفع التعارض يُحْمَلُ لفظ التَّزَوُّجِ في حديث ابن الأصَمّ على البناء بها مجازاً، لعلاقة السببية العادية، ويُحْمَل قوله صلى الله عليه وسلم «لا يَنْكِحُ المُحْرِم» إما، على نَهْي التَحْريم، والنكاحُ: الوطاءُ والمرادُ بالجملة الثانية

(2)

: التمكينُ من الوطاء، والتذكيرِ

(3)

باعتبار الشخص، أي لا تُمَكِّنُ المُحْرِمةُ زوجَها منه أو على الكراهة جمعاً بين الأدلة، وذلك لأن المُحْرِم في شغل عن مباشرة عقد النكاح، لأنه يَشْغَلُ القلبَ عن الإحسان في العبادة، لما فيه من خِطْبَةٍ، ومُرَاوَدَاتٍ، ودعوةٍ، واجتماعات، ويتضمن تنبيه النفس لطلب الجِمَاع، وهذا مَحْمَلُ قوله:«ولا يَخْطُب» إجماعاً. وقال في «الكافي» : والأوجه أن يقال: الحديث (يُروَى)

(4)

بالنهي مجزوماً، وهو اختيار الخَطَّابي، والنهي يكون للتنزيه وإن رُوي منفيّاً فالنفي يجيء بمعنى النهي.

(وَ) صحَّ نكاحُ (حُبْلَى مِنْ زِنَا) وقال أبو يُوسف وزُفَر: لا يَصِحّ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، لأن الحَبَلَ من الزنا محترم، حتى لا يجوز إسقاطه، فَيَمنعُ صحةَ النكاح، كما يَمْنَعُ الحَبَلُ

(5)

من غيره اتفاقاً

(6)

.

ولنا قوله تعالى: {وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ}

(7)

وإنما يمتنع تزوُّج الحُبْلى من غير الزِّنا لحرمة صاحب الماء، ولا حرمةَ للزاني والخلاف فيما إذا كان الناكحُ غيرَ الزاني، وفيما إذا لم يكن الحملُ ثابتَ النَّسَب من غير الناكحُ، فإنه إذا كان الزاني هو الناكحَ يصح النكاح إجماعاً، (وإذا كان الحَبَلُ ثابتَ النَّسَب من غير الناكح لا يصح النكاح إجماعاً)

(8)

.

(1)

التَّسَرِّي: الجماع. معجم لغة الفقهاء ص 130.

(2)

أي قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يُنْكح".

(3)

أي إذا كان المراد أن المرأة لا تمكِّن زوجها من وطئها وهى محرمة، فلماذا عبَّر بلفظ التذكير فقال:"ولا يُنْكح"؟! الجواب: أن التذكر باعتبار الشخص، أي شخص المحرم أيًّا كان رجلًا أو امرأة.

(4)

سقط من المطبوع.

(5)

عبارة المطبوع: كما يمنعها الحبلى من غيره. وهي خطأ.

(6)

أي إذا حَبِلت امرأة من غيره، فهذا الحَبَل يمنع صحة نكاحه بها؛ لأنَّه حَبَلٌ ليس منه.

(7)

سورة النساء، الآية:(24).

(8)

سقط من المطبوع.

ص: 22

وَلَا تُوطَأُ حَتَّى تَضَعَ. وَمَنْ ضُمَّتْ إلى مُحَرَّمَةٍ،

===

(وَلَا تُوطَأُ) أي ولا يطؤها الزوجُ (حَتَّى تَضَعَ) كيلا يَسقيَ ماؤه زرعَ غيره

(1)

، ولا يلزم من حرمة الواطاء لعارضِ الحَبَل فسادُ النكاح، كما لا يلزم ذلك من حُرمته لعارضِ الحيضِ والنِّفاس. ثم المذكور في «الهداية»: أن حرمة الوطاء لأجل أن يسقي ماؤه زرعَ غيره، ويُفهم منه أن الناكح لو كان هو الزاني يجوز الوطء، وذكر في «الملتقط»: أنه لا يجب النفقة للحُبْلَى من الزِّنى ما لم تضع الحَمْل، لأنه لا يَحِلّ له الاستمتاع بها عند من يُجِيزُ النكاح، سواءٌ كان الحَبَل منه أوْ لا، وإطلاق كلام المتن يُشعر ذلك. ذكره البِرْجَنْدِي. والظاهر أن قوله:«سواءٌ» تعميمٌ لقوله: لا يجب النفقة، لا لقوله: لا يحل له الاستمتاع، فيوافق عبارة «الهداية» الموافِقَة للقياس على ما سبق من الرواية.

وفي «واقعات النَّاطِفِي» : رجل تزوَّج امرأة، فجاءت بسِقْطٍ استبان خَلْقُهُ، إن جاءت به لأقلَّ من أربعة أشهر لم يَجُز النكاح، لأن خَلْقَ الولد إنما يَستَبِينُ في أربعة أشهر، فتعيَّنَ أن الولد من الأول.

ثم ليس الزنا ووطاءُ المولى مانعاً من تزويج الجارية، أما الزنا، فلعدم حُرمة ماءِ الزاني، وأما المولى فلأنها ليست بفِرَاشٍ لمولاها، فإنها لو جاءت بولد لا يَثْبُتُ نسبه بغير دعوة، إلا أنه يُستحب أن يَسْتَبْرِئَها صيانة لمائه، ومَنَعَ زُفَر جواز تزوُّجها حتى تحيض ثلاث حِيَض، بناء على أصله وهو: وجوب العِدَّة للتزوج بعد كل وطاء ولو من زنا. وقال محمد: لا أُحِبُّ أن يطأها قبل الاستبراء، يعني إذا زَوَّجها المولى قبله، لأنه لو تحقق الحَمْلُ يَحْرُم الوطاء، تفادياً عن سقي زَرْعِ غيره، فإذا احتمل وَجَبَ التنزُّهُ احتياطاً، كما لو كان مكانَ النكاح الشراءُ.

(وَ) صَحَّ نكاح (مَنْ ضُمَّتْ) في عقد النكاح (إلى مُحَرَّمَةٍ) بتشديد الراء المفتوحة، بأن ضُمَّت إلى مُحَرَّمَةٍ، أو وَثَنِيَّة، أو ذات زوج، أو مُعْتَدَّةِ الغير، ويَبْطُل نكاح الأُخرى، لأن بُطلان نكاح المُحَرَّمة لا يقتضي بطلانَ نكاح المَضمومة معها في العقد، والفرق بين هذا وبين الجمع بين حُرَ وعبد في البيع، حيث يبطل البيع فيهما، أنّ قبول العقد فيما لا يجوز، شرطٌ في صحة العقد فيما يجوز، وهو شرط فاسد، والبيع يبطل

(1)

وقد جاء النهي عن ذلك في الحديث، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا يحَلُّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءَهُ زَرْعَ غيره". رواه أبو داود 2/ 615، كتاب النكاح (12)، باب في وطئ السبايا (43، 44)، رقم (2157).

ص: 23

لا نِكَاحَ أَمَتِهِ ومَالِكَتِهِ وَلا كَافِرَةٍ غَيْرِ كتَابِيَّةٍ

===

بالشروط الفاسدة، والنكاح لا يبطل بها. وعن النَّخَعي: النكاحُ يَهْدِم الشرط، والشرط يَهْدِم البيع.

ثم المسمَّى بكماله للتي صح نكاحها عند أبي حنيفة. وقالا: يَقْسِم على مهرِ مِثْلِهِمَا فما أصاب التي صح نكاحها لزمه، وما أصاب الأُخرى سقط عنه. وفي «الزيادات»: ولو دخل بالتي لا تَحِلُّ له يلزمه مهرُ مِثلِها، ولا حَدَّ عليه مع العلم بالحرمة عند أبي حنيفة.

(نِكاحُ الشِّغَار)

ويصح عندنا نكاح الشِّغار ـ بكسر الشين ـ، وهو: أَنْ يقول الرجل للرجل: أُزَوِّجُك أُختي على أن تزوِّجني أُختَكَ، على أن يكون مهرُ كلِّ واحد منهما نكاحَ الأُخرى، أو قالا ذلك في ابنتَيْهِما أو أُمَّيْهِما، ولكل واحدة منهما مهرُ مثلها. وأبطله مالك والشافعي لنهيه صلى الله عليه وسلم عن نِكاح الشِّغَار، كما رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة، والنهي يقتضي فسادَ المنهيِّ.

ولنا أن النِّكاحَ لا يَبطل بالشرط الفاسد، واستدلالهما بالنهي غير صحيح، لأن النهي للخُلُوِّ عن المهر، هكذا قال ابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُزَوَّجَ المرأةُ بالمرأة من غير مهرٍ لكلِّ واحدة منهما. وهذا لأن الشِّغَار هو الخُلُوّ في اللغة، يقال: بلدة شَاغِرَة: إذا كانت خَالية من السُّلطان، وإنما أراد به أن تَخْلُوَ المرأة بالنِّكاح عن المهر، وبه نقول.

(لا نِكَاحَ) أي لا يصح للرجل نكاح (أَمَتِهِ) لأن مِلك المُتْعَة ثابتٌ له قبل التزوُّج، فيؤدي إلى إثبات الثابت، إلا إذا كان هناك شبهة الحرية، فيرتفع بهذه القضية.

(و) لا نكاح (مَالِكَتِهِ) لأن النكاح ما شُرِعَ إلا مثمراً ثمراتٍ مشتَركة بين المُتَنَاكِحَين، ولهذا كان لها أن تُطَالب بالوطاء، كما له أن يُطَالبها يالتَّمْكِين، والمملوكيةُ تُنَافي المالِكِيَّة

(1)

، فيمتنع حينئذٍ وقوع ثمرة النكاح على الشركة، ولو نكح العبد بنتَ مولاه جاز، لأنها لا مِلْكَ لها في مال أبيها.

(وَلا) نكاح (كَافِرَةٍ غَيْرِ كِتَابِيَّةٍ) ولا وطؤها بملك اليمين، سواء كانت مجوسية،

(1)

أي كونه زوجًا لها من حقه أن يطالبها، وكونه عبدًا لها ليس له حتى عليها، فلا يصح أن يكون مطالِبًا ومطالَبًا.

ص: 24

وَلا أُخْرَى لِلحُرِّ في عِدَّةِ رَابِعَةٍ ولِلْعَبْدِ فِي عِدَّةِ ثَانِيةٍ.

===

أو وثنية أو صابئة، إن كان الصاباء مَنْ لا كتاب له، بل يعبد الكواكب أو الملائكة، كما قيل عن أبي يوسف ومحمد، لا إن كان نصرانياً يقرأ بالزَّبُور ويُعَظِّم الكواكب كتعظيمنا القِبلة كما قيل عن أبي حنيفة.

أما المجوسية، فلِمَا روى عبد الرزاق، وابن أبي شَيْبة في «مُصَنَّفَيْهما» من حديث قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد بن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلى مجوسِ هَجَر يَعْرِضُ عليهم الإسلام، فَمَنْ أسلم قُبِل منه، وَمن لم يُسْلِم ضُرِبت عليه الجِزْيَة، غير نَاكِحي نسائهم ولا آكِلي ذبائحهم. قال ابن القَطَّان: هو مرسلٌ، ومع إرساله فيه قيس بن مسلم، وهو ابن الربيع، وقد اختُلِف فيه، وهو ممن ساء حفظه بالقضاء.

ورواه ابن سعد في «الطبقات» من طريق ليس فيها قيس، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس هَجَر.

إلى أن قال: «لا تُنْكَح نساؤهم، ولا تُؤكَلُ دبائِحُهُم» . وسيأتي ما فيه من الكلام في باب الجزية إن شاء المَلِك العَلاّم.

وقال داود الظاهري وأبو ثور: يجوز تَزَوُّج المجوسية، لأن المجوس كان لهم كتاب، فَوَاقَعَ مَلِكُهُم أُخْتَهُ ولم يُنْكَرْ عليه، فرُفع كتابهم ونَسُوه وأُجيب بأن العبرة للحال كالوثني من ولد إسمعيل عليه الصلاة والسلام لا يعتبر ذلك فيه الآن. وأما الوثنية فلقوله تعالى:{ولا تَنْكِحُوا المُشْركَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}

(1)

، والمشركة لا تتناول الكتابيةَ لاختصاصها باسم آخر، ألا ترى أن الله سبحانه عطف المشركين على أهل الكتاب بقوله:{لم يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهلِ الكِتَابِ والمُشْرِكِينَ}

(2)

والعطف يقتضي المغايرة.

وقال سعيد بن المُسَيّب، وعطاء، وطاوس، وعمرو بن دينار: يجوز وطاء المشركة بملِكِ اليمين، لورود الأثر بجواز وطاء سبايا العرب. وأُجِيب بأن ما ورد من وطاء سبايا العرب محمولٌ على الوطاء بعد الإسلام، أو هو منسوخ بما تلونا.

(وَلا) يصح نكاح (أُخْرَى لِلحُرِّ في عِدَّةِ رَابِعَةٍ) سواء كانت عدة طلاق رجعي أو بائن، كيلا يصيرَ جامعاً بين خمسٍ حُكْماً. (و) نكاح أخرى (لِلْعَبْدِ فِي عِدَّةِ ثَانِيَةٍ)

(1)

سورة البقرة، الآية:(221).

(2)

سورة البَيِّنة، الآية:(1).

ص: 25

وَلا يَصِحُّ أَمَةٍ عَلى حُرَّةٍ أَوْ فِي عِدَّتِهَا، وَلا حَامِلٍ ثَبَتَ نَسَبُ حَمْلِها،

===

لئلا يصيرَ جامعاً بين ثلاثة حكماً، لأن المُعْتَدَّةَ وإن كانت مُبَانَةً بينونةً غليظةً، نكاحُها باقٍ من وجه لبقاء النَّفَقَةِ، والسُّكْنَى، والمنع من الخروج، واعتبار الفِرَاش، ولذا يثبت نَسَبُ ولدها إذا جاءت به لأقلَّ من سنتين، فصار كما لو تَزَوَّجَ الحُرُّ أُخرى والرابعةُ في مِلك نكاحه، أو تزوج العبد أُخرى والثانيةُ في ملك نكاحه.

(وَلا يَصِحُّ) نكاح (أَمَةٍ) سواء كانت مُدَبَّرَةً أو أمَّ ولدٍ أو مُكَاتَبَة (عَلى حُرَّةٍ أَوْ فِي عِدَّتِهَا) أي عِدَّة الحُرَّة، سواء كانت عِدَّةً عن طلاق رجعي، وهو قولهما، أو عن بائن، وهو قول أبي حنيفة.

لهما ـ وهو قول ابن أبي ليلى ـ: أنّ الحرام إدخال الأمة على الحرة، وهو إنما يتحقق إذا كان مِلكُه باقياً عليها، وهذه مُبَانةٌ فلا يكون متزوجاً عليها، كما لو تزوج أمةً في عدة حرة من نكاح فاسد، أو وطاءٍ بشبهة، ولهذا لو حلف لا يتزوج عليها، فأبانها وتزوج في عدتها، لا يحنث.

ولأبي حنيفة: أن مِلك المُعْتَدَّة عن طلاق بائن باقٍ من وجه، فالاحتياطُ المنعُ، كنكاح المرأة في عدة أُختها، أو في عدة رابعةٍ.

وقال الشافعي: يجوز للعبد أن يتزوج الأمةَ على الحرة. وقال مالكٌ: يجوز تَزَوُّجُ الأمة على الحرة إذا رضيت الحرة.

ولنا ما روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في «مُصَنَّفَيْهِما» عن الحسن قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُنْكَحَ الأمةُ على الحرة. وقال عليٌّ رضي الله عنه: لا تُنْكَح الأمة على الحرة. ونحوُه عن ابن مسعود، رواهما ابن أبي شيبة. وقال جابر بن عبد الله: لا تُنْكَح الأمة على الحرة، وتُنْكَح الحرة على الأمة. رواه عبد الرزاق في «مصنفه» فهذه آثارٌ ثابتة عن الصحابة تُقَوِّي الحديث المُرْسَل (لو لم نقل)

(1)

بِحُجِّيَّتِهِ، فوجب قَبوله. ثم علماؤنا والشافعيُّ قَصَروا العبد على تزوُّج ثنتين. وقال مالك: له أن يتزوج أربعاً. ومذهَبُنا مرويٌّ عن عمر رضي الله عنه قال: لا يتزوج العبدُ أكثرَ من ثنتين.

(وَلا) يصح نكاح (حَامِلٍ ثَبَتَ نَسَبُ حَمْلِها) بأن كانت مَسْبِيَّةً، أو مُهَاجِرَةً ذاتَ حَمْلٍ من حَرْبيَ، روى ذلك محمد عن أبي حنيفة، واعتمده الكَرْخي لحرمة صاحب الماء بسبب ثبوت النَّسَب منه. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة: أن المَسْبِيَّة، أو

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 26

وَلا المُتْعَةِ،

===

المُهَاجِرَة إذا كانت حاملاً من حربيّ يجوز تزوجها، ولا تُوطَأ حتى تضع. واعتمد الطحاوي هذه الرواية.

(حكم نكاح المُتعة)

(وَلا) يصح نكاح (المُتْعَةِ) وصورته: أن يُقال بحضرة الشهود لامرأة خالية عن الموانع: مَتِّعِيني نفسك، أو: أتَمَتَّعُ بِكِ كذا بكذا، ويَذكر مدةً من الزمان، وقَدْراً من المال، فتقول: مَتَّعْتُكَ نفسي. ولا بُدَّ من لفظ التمتع فيه، فرقاً بينه وبين المُوَقَّتِ لِمَا روى مسلم من حديث إياس بن سَلَمَة بن الأكوع قال: رَخَّصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أَوْطَاس في المُتْعَة ثلاثاً، ثم نهى عنها. قال البيهقي: وعام أوْطَاس، وعام الفتح واحد، لأنه بعد الفتح بيسير. انتهى. وأوطاسُ يُصْرَفُ ولا يُصْرف: وادٍ من ديار هَوَازِن بالطائف، فيه قَسَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حُنَين.

وفي كتاب «الناسخ والمنسوخ» للحَازِمي: قد كانت المُتْعَة مباحةً في صدر الإسلام، وإنما أباحها النبي صلى الله عليه وسلم للسبب الذي ذكره ابن مسعود، كما في الصحيحين عن قيس بن أبي حَازِم قال: سمعتُ عبد الله بنَ مسعود يقول: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا نِساءٌ فقلنا: ألا نَسْتَخْصِي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رَخَّص لنا أن تُنْكَحَ المرأةُ بالثوب إلى أجلٍ، ثم قرأ عبد الله:{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ الَا يُحِبُّ المُعْتَدِين}

(1)

، وقراءَةُ عبد الله الآيةَ دَلَّ على أنه كان يَعتقد الإباحةَ مستمرةً كابن عباس، إلا أنه رَجَعَ بقول سعيد بن جُبير كما سيأتي.

وأما ابن مسعود فلعله رجع بعد ذلك أو استمر، لأنه لم يبلغه النهي بالنصّ، أو للسبب الذي ذكره ابن عباس، كما روى الترمذي عن ابن عباس، قال: إنما كانت المُتْعَةُ في أول الإسلام، كان الرجل يَقْدُم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأةَ بِقَدْرِ ما يرى أنه يُقيم، فتَحْفَظُ له مَتَاعَهُ، وتُصْلِحُ له شيئه، أي طبخه ونحوه، حتى إذا نزلت الآية:{إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُم}

(2)

قال ابن عباس: كلُّ فَرْجٍ سواهما حرامٌ، أي سوى الأزواج والسَّرَارِي.

قال الحازمي: ولم يَبْلُغْنَا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم،

(1)

سورة المائدة، الآية:(87).

(2)

سورة المؤمنون، الآية:(6).

ص: 27

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ولذلك نهاهم عنها غيرَ مرة، وأباحها لهم في أوقات مختلفة بحسب الضرورات، حتى حَرَّمها عليهم في آخر سِنِيِّهِ، وذلك في حَجَّة الوداع، فكان تحريمَ تأبيدٍ لا خلاف فيه بين الأئمة وفقهاء الأمصار، إلا طائفة من الشيعة، ويُحكى عن ابن جُرَيج.

وأما ما يُحكى عن ابن عباس فيها، فإنه كان يَتَأَوَّلُ إباحتَها للمُضطَرِّ إليها لِطُول الغُربة وقِلَّة اليَسَار والجِدَّة

(1)

، ثم توقف وأمسك عن الفتوى بها، ثم أسند الحازمي من طريق الخَطَّابِي إلى سعيد بن جُبَير قال: قلت لابن عباس: لقد سارت بِفُتْيَاك الرُّكْبَان وقالت فيها شِعراً قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا:

*قَدْ قُلْتُ للشيخ لَمّا طَالَ مجلسُه ** يا صَاحِ هل لك في فُتْيَا ابن عَبَّاسِ

*هل لكَ في رَخْصةِ الأطراف آنِسَة

(2)

** تكون مثواكَ حين مَصْدَر الناس

المصدَر بفتح الدال، أي: مرجعهم، والرَّخْصَة بالفتح: الناعمة، وصَاحِ: مُرَخَّمُ صَاحِب. فقال: سبحان الله والله ما بهذا أَفتيتُ، وإنما هي كالمَيْتَةِ والدمِ ولحمِ الخنزير، إلا للمُضطر. قال الخَطَّابِي: فهذا يُبَيِّنْ لك أنه سلك فيه مذهبَ القياس، وشَبَّهَهُ بالمضطر إلى الطعام الذي به قِوَام النفس، وبعدمه يكون التَّلَفُ، وإنما هذا من باب غَلَبَةِ الشهوة، وقد تُحْسَم مادتها

(3)

بالصوم والعلاج، فليس أحدهما في حكم الضرورة كالآخر، وهو قياس مع الفارق، فَتَدَبَّر.

أقول: وهذا كله ليس فيه صريح الرجوع لابن عباس عن قوله، ومما يَدُلُّ على بطلان المُتْعَةِ مطلقاً ما في «صحيح مسلم»: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّمها يوم الفتح، وفيه وفي البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم حرَّمها يوم خَيْبَر، والتَّوْفِيقُ أنها نُسِخَتْ مرتين.

قيل: ثلاثةُ أشياءٍ نُسِخَتْ مرتين: المْتْعَةُ، ولُحُوم الحُمُرِ الأهْلِيَّة، والتَّوَجُّه إلى بيت المقدس في الصلاة.

وفي «صحيح مسلم» : «يا أيها الناس إني كنتُ أَذِنْتُ لكم في الاستمتاعِ من النساء، وقد حَرَّمَ الله ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنَّ شيءٌ فَلْيُخَلِّ سبيله، ولا تأخذوا مما آتَيْتُمُوهُنَّ شيئاً.» وفيه أيضاً: أنّ علياً سمع ابن عباس يُلَيِّنُ في المُتْعَةِ،

(1)

الجدَّة: الحظُّ والحُظْوة والرِّزق. القاموس المحيط ص 346، مادة (جد).

(2)

رَخصَة الأطراف: أي ناعمة الأطراف. والمعنى: هل لك في امرأةٍ ناعمة الأطراف تؤنسك.

(3)

عبارة المطبوع: وقد تحسم بما يعدمها بالصوم. وما أثبتناه من المخطوط، وهو الصواب.

ص: 28

وَلا المُوَقَّتِ.

===

فقال: مهلاً يا ابن عباس، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحُمُر الإنْسِيَّة.

وأما قول صاحب «الهداية» : قال مالك: هو جائز، لأنه كان مباحاً فيبقى إلى أن يظهر ناسخه، قلنا: ثبت النسخ بإجماع الصحابة، وابن عباس صَحَّ رجوعه إلى قولهم: فتقرَّرَ الإجماعُ. فما نَقَلَهُ عن مالكٍ ليس مَذْهَبَهُ. وقوله: ثبت النسخ بإجماع الصحابة، فيه أن النسخَ لا يَثبت بالإجماع، وقد ثبت نسخُ نكاح المُتْعَةِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير نِزَاع ولا عبرة بمخالفة الشيعة من أهل الابتداع.

(حكم النكاح الموقَّت)

(وَلا) يصح نكاح (المُوَقَّتِ) وهو نكاح إلى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ طويلة أو قصيرة، وهو مختار شمس الأئمة، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا ذكر مُدَّةً لا يعيش مِثْلُهما إليها صح النكاح، وهذا مختار صاحب «المختلف». وقال زُفَر: يصح النكاح، ويَبْطُلُ التوقيت، لأن معنى النكاح إسقاط حرمة البُضْع

(1)

، والإسقاط لا يَبْطُل بالشروط الفاسدة، فصار كما لو تَزَوَّجها بشرط أنْ يُطَلِّقها بعد شهر.

ولنا أن نكاح المُوَقَّت في معنى نكاح المُتْعة، (فلا يصح، كما لا يَصِح نِكاح)

(2)

المُتْعَةِ، إذ العبرة للمعاني، ألا ترى أنه إذا قال: جعلتُكَ وكيلاً بعد موتي، فإنه يكون وَصِيًّا، ولو قال: جعلتُك وَصِيًّا في حياتي يكون وكيلاً، وكذا الحَوَالة بشرط بقاء الدَّين على الأصيل كفالةٌ، والكفالةُ بشرط براءة الأصيل حَوَالةٌ. ويؤيد هذا ما رُوي عن عمر أنه قال: لا أرى برجل تَزَوَّج امرأةً إلى أَجَلٍ إلا رجمته.

وأما إذا تَزَوَّج بشرط أن يُطَلِّقَ بعد شهر، فقد اشترطَ القاطِعَ للنكاح بعد شهر، وذلك يَدُلُّ على انعقاد النكاح مؤبَّداً، ولو تزوجها على أن يَقْعُدَ معها في النهار دون الليل أو بالعكس، أو تزوَّجها ناوياً أن يَقْعُدَ معها مدةً ولم يَتَلَفَّظ بذلك في صُلْبِ العقد فالنكاح صحيح.

(1)

البُضْعُ: الجِماع، وبُضْع المرأة: فَرْجُها. معجم لغة الفقهاء ص 108.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المخطوط.

ص: 29

‌فَصْلٌ في الأَوْلِيَاءِ والأَكْفَاءِ

نَفَذَ نِكَاحُ حُرَّة مُكَلَّفَةٍ وَلَو مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِلا وَليٍّ،

===

فصل في الأولياء والأكْفَاء

(نَفَذَ نِكَاحُ حُرَّة مُكَلَّفَةٍ) سواءٌ كانت ثَيِّباً أو بكرااً وسواء زَوَّجَتْ نفسَها أو غيرَها (وَلَو مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِلا وَلِيَ) أي: ملابِساً

(1)

بغير وَليّ. وهذا على ظاهر الرِّواية عن أبي حنيفة، ورواية رجوعهما إليه على ما في «مبسوطي» شمس الأئمة وشيخ الإسلام المعروف بخواهر زَادَه.

وكان أبو يوسف أولاً يقول: إن النكاح لا ينعقد إذا كان لها وليٌّ، ثم رَجَع وقال: إنْ كان الزوج كُفُؤاً انعقد، وإلا لم ينعقد، ثم رجع وقال: ينعقد سواءٌ كان الزوج كُفُؤاً أو لم يكن. وعند محمد ينعقد موقوفاً على إجازة الولي. سواءٌ كان الزوج كُفُؤاً أو لم يكن.

وقال مالك: ينعقد إذا كانت خَسِيسةً، وقال الشافعي وأحمد: لا ينعقد النكاح بعبارة النساء، لِمَا رَوَى أبو داود والتِّرمذي وابن مَاجَه، عن ابن جُرَيج، عن سليمان بن موسى، عن الزُّهْريّ، عن عُرْوَة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أيُّمَا امرأةٍ نَكَحَتْ بغير إذْنِ وَلِيِّها، فنِكَاحُها باطلٌ، فنِكَاحُها باطلٌ، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فالمهر بما استَحَلَّ من فرجها ـ أي: لازم ـ فإن اشْتَجَرُوا ـ أي: اختلفوا ـ فالسلطانُ وليُّ من لا وليَّ له» . قال الترمذي: حديث حسن، وقال: قد تَكَلَّم فيه بعض أهل الحديث من جهة أن ابن جُرَيج قال: ثم لَقِيتُ الزُّهرِيَّ فسألته عنه فأنكره فضَعَّفُوا الحديث من أجل هذا. وقال ابن عَدِيّ في «الكامل» في ترجمة سليمان: ثم قال: قال، ابن جُرَيج (فَلَقِيتُ الزُّهريَّ فسألتهُ عن هذا الحديث، فلم يَعْرِفه)

(2)

، فقلت له: إن سليمان حَدَّثَنا به عنك فأثنى عليه خيراً وقال: أخشى أن يكون وَهَمَ عَلَيَّ.

وفي السنن أيضاً عن ابن أبي بُرْدَةَ، عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«لا نكاحَ إلا بوَليَ» . قال الترمذي: هذا حديث فيه اختلاف، وذَكَر وجوهَ الاختلاف.

وفي «سنن الدَّارَقُطْنِيّ» : عن ابن سِيرِينَ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تُزَوِّجُ المرأةُ المرأةَ، ولا المرأةُ نَفْسَها، فإنَّ الزَّانِيَةَ هي التي تُزَوِّجُ نَفْسَها» . ورواه الأوزاعيّ عن ابن سيرين، عن أبي هريرة موقوفاً، وهو أشبه. وفي «سننه» أيضاً عن ابن

(1)

ملابسًا: شرح للباء في قوله: بلا وَلِيّ.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 30

وَلَهُ الاعْتِرَاضُ هُنَا، ورُوي بُطْلانُهُ بِلَا كُفُؤ،

===

مسعود مرفوعاً: «لا نكاحَ إلا بوليَ وشَاهِدَي عَدْلٍ» . إلا أنّ في سند الأول بَكْرَ بن بَكَّار، وفي الثاني عبد الله بن مُحَرَّر

(1)

، وهما ضعيفان.

ولنا قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}

(2)

حيث أسنَدَ النكاح إليها، وقوله تعالى:{أنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}

(3)

، وقوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهِنَّ}

(4)

وما رواه الجماعة إلا البخاري من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الأَيِّمُ أحقُّ بنفسها من وَلِيِّها، والبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ في نفسها، وإذْنُها صُمَاتُها ـ بالضم ـ أو سُكُوتُها» . كما في رواية، والأيِّم، بتشديد التحتية المكسورة: المرأةُ الثَّيِّب التي لا زوج لها، وهي بالغةٌ عاقلةٌ.

ووجه الدَّلالة أنه صلى الله عليه وسلم قَدَّمها على الوَلِيّ بقوله: «أحقُّ بنفسها» .

وأما استدلال الشافعي بقوله: {فلا تَعْضُلُوهُنَّ أنْ يَنْكِحْنَ}

(5)

حيث قال: هذه الآيةُ أبينُ آيةٍ في كتاب الله تَدُلُّ على أن النكاح لا يجوز بغير وليَ، لأنه نَهَى الوليَّ عن المَنْع، وإنما يتحقق المَنْعُ منه إذا كان الممنوعُ في يده، وهو الإنكاح، فمدفوعٌ بأنَّ المرادَ بالعَضْلِ: المَنْعُ حِسًّا بأن يَحْبِسَهَا في بيت، ويَمْنَعَها من أن تَتَزوَّج، إذ معناها الحقيقي النهي عن منعهن من مباشرة النكاح.

(وَلَهُ) أي للوليّ (الاعْتِرَاضُ هُنَا) أي فيما لو زَوَّجَتْ نَفْسَها من غير كُفُوءٍ، بأن يَطْلُبَ من القاضي التفريقَ بينهما لِلُحُوقِ العارِ له بمصاهرة غير الكُفْء، وليس هذا التفريق طلاقاً، بل هو فسخٌ لأصلِ النِّكاح، ولهذا لا يجب عليه شيءٌ إذا لم يدخل، ولو سكت الوليُّ لا يكون ذلك رضاً، ولو خاصم لنفقتها أو لقبض مهرها كان ذلك رضاً، ولو وَلَدَتْ منه، فليس للوليّ حقُّ الفسخ، لئلا يضيع الولد.

(ورُوي بُطْلانُهُ) أي بطلان نِكاحها إذا زَوَّجَتْ نفسَها (بِلَا كُفُؤ) روى ذلك الحسنُ عن أبي حنيفة، وفي «الخَانِيَّة»: هذا أصحُّ وأَحْوَطُ والمختار للفتوى في زماننا،

(1)

حُرِّف في المطبوع والمخطوط إلى: محرز. والصواب ما أثبتناه من "الكاشف" 1/ 592، ترجمة رقم (2944)، و"ميزان الاعتدال" 2/ 500، ترجمة رقم (4591).

(2)

سورة البقرة، الآية:(230).

(3)

سورة البقرة، الآية:(232).

(4)

سورة البقرة، الآية:(234).

(5)

سورة البقرة، الآية:(232).

ص: 31

وَلا يُجْبِرُ وَلِيٌّ بَالِغَةً وَلَوْ كَانَتْ بِكْراً،

===

إذ ليس كل وليَ يُحْسِنُ المرافعة إلى القاضي، ولا كل قاضٍ يَعْدِل، ولذا قيل: الوقوف على باب القاضي في هذا الزمان ذُلٌّ، فَسَدُّ هذا الباب أَولى.

والمطلقة ثلاثاً لو زَوَّجتْ نفسَها من غير كُفُؤ ودخل بها، ثم طَلَّقها لا تَحِلُّ للزوج الأول على ما هو المختار من رواية الحسن.

(وَلا يُجْبِرُ وَلِيٌّ بَالِغَةً وَلَوْ كَانَتْ بِكْراً) وله أن يُجْبِرَ غيرَ البالغة ولو كانت ثَيِّباً، وقال مالك، والشافعي، وأحمد: وهو قول ابن أبي ليلى: يُجْبِر الأبُ والجَدُّ البِكرَ البالغةَ، لأنها جاهلةٌ بأمر النكاح في الجملة، كالبِكْر الصغيرة.

فمدار إجبار الوليِّ عندنا على الصِّغَر، كانت بكراً أو ثَيِّباً، وعندهم على البَكَارَة، كانت صغيرةً أو كبيرةً. ومعنى الإجبار: أن يَنْفُذَ عقدُ وَلِيِّها عليها

(1)

وإن أَبَتّ أو رَدَّتْ. واحتجا بما في «صحيح مسلم» : «الثَيِّبُ أحَقُّ بنَفْسِهما من وَليِّها، والبِكْرُ يَسْتَأْمِرُها أَبُوها في نفسها» . باعتبار أنه خصَّ الثيِّبَ بأنها أحق، فأفاد أنَّ البِكْرَ ليست أحقَّ بنفسها منه، فاستُفِيدَ ذلك بالمفهوم.

ولنا ما رُوِّينا من قوله صلى الله عليه وسلم «والبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ في نَفْسِها، وإذْنُها صُمَاتُها» . وما روى أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنَّسَائي من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنَّ جاريةً بِكراً أتتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكرت أنَّ أباها زَوَّجها وهي كارهةٌ، فَخَيَّرَهَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهذا حديث صحيح، فإنه مُخَرَّجٌ لرجاله في «الصحيحين» .

وما في النسائي عن عبد الله بن يَزيد، عن خَنْسَاء قالت: أنْكَحَنِي أبي وأنا كارهةٌ، وأنا بِكرٌ، فَشَكَوتُ ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال:«لا تُنْكِحْهَا وهي كارهة» . ولكنْ ذكرَ البخاريّ أنها كانت ثَيِّباً قال ابن القطان: وتَزَوَّجَتْ خَنْسَاءُ بمَن هَوِيَتْ، وهو أبو لُبَابَة بن عبد المُنْذِر، صَرَّح به في «سنن ابن ماجه» .

وفي «سنن الدَّارَقُطْنِيّ» عن جابر أن رجلاً زوَّج ابنَتَه وهي بِكرٌ من غير أمرها فَأتتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَفَرَّقَ بينهما. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنّ رجلاً زوَّج ابنتَه بِكراً، فكرِهَتْ ذلك، فردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم نِكاحَها. وفي رواية قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْتَزِعُ النساء من أَزواجِهِنَّ ثيباً وأبكاراً بعد أن يُزَوِّجَهُنَّ الآباءُ إذا كَرِهْنَ ذلك. وصحح الدَّارَقُطْنِيّ إرسال الحديث الأول وَوَصَل الثاني.

(1)

عبارة المطبوع: أن ينفذ العقد وليها عليها.

ص: 32

وَصَمْتُها وَضَحِكُهَا وَبُكَاؤُها بِلا صَوْتٍ: إذْنٌ، وَمَعَهُ رَدٌّ حِينَ اسْتَئْذَانِهِ، أَوْ بُلُوغِ الخَبَرِ

===

وعن ابن عباس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ردَّ نكاح بِكْرٍ وثَيِّبٍ أَنْكَحَهُما أبوهما، وهما كارهتان إلا أنّ الدَّارَقُطْنِي جعله مرسَل عِكْرِمَة. وفي «سنن النسائي» و «مسند أحمد» عن عائشة قالت: جاءتْ فتاةٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبي زَوَّجني ابن أَخِيهِ ليرفع بي خَسِيسَته قال: فجعل الأمرَ إليها، فقالت: أجَزْتُ ما صَنَع أبي، ولكن أردتُ أن تَعْلَمَ النِّسَاءُ أنّ ليس إلى الآباءِ من الأمر شيءٌ.

وهذا يفيد بعمومه أنْ ليس له المباشرةُ حقاً ثابتاً، بل الاستحباب، وفيه دليلٌ من جهة تقريره صلى الله عليه وسلم قولَها ذلك أيضاً، وهو حديثٌ حُجَّةٌ، وحَمْلُهُ على أنَّ ذلك لعدم الكفاءَةِ خلافُ الأصل، مع أن العَرَب إنما يَعتبرون الكفاءة بالنَّسَب، والزَّوْجُ كان ابنَ عَمِّها

(وَصَمْتُها) أي صَمْتُ البِكْر (وَضَحِكُهَا وَبُكَاؤُها بِلا صَوْتٍ: إذْنٌ، وَمَعَهُ) أي مع الصوت (رَدٌّ) لأنه إذا خرج الدمع من عينها من غير صوت البكاء لم يكن رداً، بل هو تَحَزُّنٌ على مُفَارَقَةِ بيت أبوَيها (حِينَ اسْتَئْذَانِهِ) أي وقت استئذانِ الوليّ البِكرَ (أَوْ بُلُوغِ الخَبَرِ) لها مع رسول الوليّ، أو مع فُضُوليَ.

أما كون الصمت من البكر إذْناً، فلِمَا في الكتب الستة من حديث أبي هريرة أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرُ ـ أي يُطْلَب (أمرها)

(1)

صريحاً ـ ولا تُنْكح البِكر حتى تُسْتَأْذَن»، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنُها؟ قال: «أن تَسْكُتَ» .

وأما الضحك فلأنه يحتمل الردَّ والرضاء، فلا يَثْبُتُ واحدٌ منهما للمعارَضة، فيبقى مجرَّدُ السكوت وهو الرضاء، أو لأن الضحك أدلُّ على الرضاء بالتصرف من السكوت، لكن بلا استهزاء لِمَا سَمِعَتْ، والضَّحِكُ (الذي يكون)

(2)

بطريق الاستهزاء معروفٌ بين الناس.

وأما البكاء، فعن أبي يوسف فيه روايتان: في رواية يكون رضاً، لأن البكاء قد يكون عن سرور، وقد يكون عن حُزْنٍ، فلا يَثبت واحد منهما للمعارضة، ويبقى مجردُ السكوت وهو رضًى، وفي رواية: لا يكون رضًى، وهو قول محمد، لأن البكاء غالباً يكون عن حُزْن.

والمختارُ أنه إن كان مع الصِّيَاح يكون دليلاً على الردِّ، وإن كان مع السكوت

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 33

بِشَرْطِ تَسْمِيَةِ الزَّوْجِ لا المَهْرِ.

وَلَوْ اسْتَأْذَنَ غيرُ وَلِيٍّ أَقْرَبَ، فَرِضَاهَا بِالقَوْلِ، كَالثَّيِّبِ، وَالزَّائِلُ بَكَارَتُهَا بِزَناً أوْ غَيْرِ جِمَاعٍ كَالبِكْرِ

===

يكون دليلاً على الرضا.

(بِشَرْطِ تَسْمِيَةِ الزَّوْجِ) على وجه يَحْصُل لها به معرفةٌ. لتُظْهِرَ

(1)

رغبتَها فيه أو عنه. (لا المَهْرِ) أي لا يُشترط تسميةُ المَهْر لها، لأنّ للنكاحِ صحةً بدونه.

(وَلَوْ اسْتَأْذَنَ) البِكْرَ (غيرُ وَلِيَ أَقْرَبَ) بأن كان الأب كافراً، أو عبداً، أو استأذنها وَلِيٌّ غيرُه أولى منه، كالأخ مع الأب (فَرِضَاهَا بِالقَوْلِ) لاحتمال أنَّ سكوتَها لِقِلَّة المبالاة بكلامه، لا لرضاها به.

(كَالثَّيِّبِ) سواء استأذنها وَلِيٌّ أقربُ أو غيره، فإن رضاها بالقول حقيقةً بأن تقول: رَضِيتُ، وحُكْماً بأن تُمَكِّنَ من نفسها

(2)

، أو تَطْلُبَ مهرَها أو نفقتها، لِمَا روينا عن أبي هريرة في الكتب الستة ـ ولا يعارضه ما روى الجماعة إلا البخاري ـ عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِها، والبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نفسها، وإذْنُها صُمَاتُها» . لأن الاستئمار إنما لم يكن مقتضياً للنُّطْقِ في حق البِكر لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: «وإذْنُها صُمَاتُها» ، وأما ما في «الهداية» من قوله صلى الله عليه وسلم «الثَّيِّبُ تُشَاوَر» ، فغيرُ معروف.

(وَالزَّائِلُ بَكَارَتُهَا بِزناً) لم يتكرر، ولا أُقِيمَ عليها به الحدُّ، وأما إذا تكرر منها الزنا، أو أُقِيمَ عليها بسبب الحدُّ، ليس لها حكمُ البِكْرِ اتفاقاً. (أوْ غَيْرِ جِمَاعٍ) كَوَثْبَةٍ، أو حيضة بدُفْعَةٍ، أو جراحة، أو تَعْنِيسٍ وهو: طُولُ مُكْثٍ من غير تَزَوُّج. فالزائلُ مبتدأٌ، بكارتُها مرفوعٌ به على الفاعلية، وخبر المبتدأ.

(كَالبِكْرِ) يعني أنّ مَنْ زالت بكارتها بزناً، أو بغير مُجَامَعَةٍ حُكْمُها حُكْمُ البِكرِ في أنّ سكوتَها عند استئذانها إذنٌ، أما مَنْ زالت بكارتُها بغير الجِمَاعِ فلأنها بكرٌ حقيقةً

(3)

، لأن ما يُصيبها من الجِماع أولُ مصيبٍ لها، إذ البَكَارة عبارةٌ عن أوّل

(4)

الشيء، ومنه يقال لأوّل النهار: بُكْرَة، وأول الثِّمار: بَاكُورَة.

(1)

في المطبوع: يظهر.

(2)

أي بأن تُمكِّن الزوج من نفسها بالوطءِ.

(3)

عبارة المخطوط:

بغير الإجماع فبالإجماع لأنَّه بكر

وهي خطأ.

(4)

في المخطوط: أولية.

ص: 34

وَقَولُهَا: رَدَدتُّ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ: سَكَتِّ. وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلى سُكُوتِهَا،

===

وأما مَنْ زالت بكارتُها بِزِناً، فالمذكور هنا قول أبي حنيفة، وقالا: ـ وهو قول الشافعي في الجديد، وأحمد في رواية ـ لا يكون سكوتُها إذناً لأنها ليست ببِكْر (حقيقة)

(1)

، لأن ما يُصيبها ليس بأول مصيب لها.

ولأبي حنيفة أنّ الشارع جعل سكوتَها رِضاً لا للبَكَارة بل لِعِلَّةِ الحياء، فإن عائشة لَمَّا أَخْبَرَتْ أنها تَسْتَحي قال:«سكوتها رضاها»

(2)

. وعلة الحياء هنا موجودة، بل مع الزيادة. وبعض مشايخنا يقولون في هذين الفصلين: يُكْتَفَى بسكوتها أيضاً، لأنها بكرٌ شرعاً، ألا ترى أنها تدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم «البِكْرُ بالبِكْرِ جلدُ مِئَةٍ»

(3)

، ولكن هذا ضعيفٌ، فإن هذا موجود في الموطوءة بشُبهةٍ ونكاحٍ فاسد، ولا يُكْتَفى بسكوتها اتفاقاً، فعُلِم أن المُعْتَبَر هنا بقاءُ صفة الحياء، لأن الشرع أظهر ذلك الفعلَ عليها حين أَلْزَمَ المَهْرَ والعِدَّةَ، وأثبتَ النَّسَبَ، بخلاف هذه، إذ لم يُعَلِّق به شيئاً من الأحكام، بل أمرها بالسَّتْر على نفسها بقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ أصاب من هذه القَاذُورَات شيئاً فليستتر بستر الله»

(4)

.

(وَقَولُهَا) أي قول البِكْر عند مُخَاصَمَة الزَّوج: (رَدَدتُّ) عند الاستئذان، أو عندما بلغني الخبرُ بالتزويج (أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ) أي قول الزوج:(سَكَتِّ) ولم تَرُدِّي.

وقال زُفَر: قوله أولى، لأنه يَدَّعي الأصل، لأن السكوت أصلٌ والردُّ عارِضٌ.

ولنا أن الزوج يَدَّعي تَمَلُّك بُضْعِها وهي تدفعه، فتكون مُنْكِرةً في المعنى، والقولُ قولُ المُنْكِرِ، كما لو ادَّعَى أصلَ العقد وأنكرتْ هي، وهذا لأن العبرة للمعاني لا للصُّوَرِ والمباني، فإنّ المُوْدَعَ إذا قال: رددتُّ الوديعةَ (وأنكر صاحب الوديعة)

(5)

، كان القولُ قولَه، لأنه يُنْكِر الضمان من حيث المعنى.

(وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ) أي بَيِّنَةُ الزوج (عَلى سُكُوتِهَا) وتُقَدَّمُ

(6)

على بينتها أنها ردت،

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 9/ 191، كتاب النكاح (67)، باب لا يُنْكِحُ الأب وغيره البكرَ والثيبَ إلا برضاها (41)، رقم (5137).

(3)

أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 3/ 1316، كتاب الحدود (29)، باب حد الزنى (3)، رقم (12 - 1690).

(4)

أخرجه الإمام مالك في موطئه 2/ 825، كتاب الحدود (41)، باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا (2)، رقم (12).

(5)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

(6)

أي وتُقدَّمُ بَيِّنَتُه على بَيِّنَتِها.

ص: 35

وَلَا تَحْلِفُ هِيَ إنْ لَمْ يُقِم.

وَلِلْوَلِيِّ إنكاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَلَوْ ثَيِّباً،

===

لأن بَيِّنَتَهُ تُثْبِتُ اللزومَ، والمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النافي، كما هو مُقَرَّرٌ في الأصول (وَلَا تَحْلِفُ هِيَ إنْ لَمْ يُقِم) الزوجُ البَيِّنَة على سكوتها. وعندهما تَحْلِف، وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد، وفي «عيون المذاهب»: وبه يُفْتَى، وفي «فتاوى قاضيخان»: إن الفتوى على قولهما في النكاح.

(وَلِلْوَلِيِّ) أباً كان أو جَدًّا (أو غيرهما)

(1)

(إنكاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَلَوْ) كانت (ثَيِّباً) وقال الشافعي: إن كانت الصغيرة ثَيِّباً، لا يجوز لأحد أن يُزَوِّجها، لأن الثيبَ تُشَاوَر، ولا يُعْتَبَرُ إذنُها قبل البلوغ، فيجب الانتظارُ. وإن كانت بِكراً جاز للأبِ والجدِّ أن يزوِّجها، ولا يجوز ذلك لغيرهما، بناءً على أنّ علة الوِلاية عنده البَكَارةُ، وعندنا عدمُ العقل، أو نقصانُه، لأنه المؤثِّرُ في الولاية على مالها، وعلى نفس الغلام وماله، وعلى المجنونة باتفاق.

واحتج الشافعي بقوله صلى الله عليه وسلم «لا تُنْكَحُ اليتيمةُ حتى تُسْتَأْمَر» ( 1)، واليتيمةُ: الصغيرة التي لا أب لها، وبِأنَّ قُدَامَة بن مَظْعُون زَوَّج بنتَ أخيه عثمان بن مَظْعُون من ابن عمر، فَرَدَّها صلى الله عليه وسلم وقال:«إنها يتيمةٌ، وإنها لا تُنْكَحُ حتى تُسْتَأْمَر»

(2)

.

وأُجيب عن الحديث بأن المراد اليتيمةُ البالغة، قال تعالى:{وآتُوا اليَتَامى أمْوَالَهُم}

(3)

والمراد البالغين، والدليل عليه أنه مُدَّ إلى غاية الاستئمار، وإنما تُستأمر البالغةُ دون الصغيرة. وتأويلُ حديث قُدَامة أنها بلغت فخيَّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها، ألا ترى أنه رُوي عن ابن عمر أنه قال: واللهاِ لقد انْتُزِعَتْ عني بعد أن مَلَكْتُهَا.

هذا، وعَيَّن مالكٌ الأبَ وحدَه للصغير والبِكر، واحتج بأن الولاية على الحرة إنما تَثبت لحاجته، ولا حاجة به

(4)

قبل البلوغ لعدم الشهوة، إلا أنّ ولاية الأب ثبتت نصاً على خلاف القياس، فبقي ما سواه على الأصل.

ولنا قوله تعالى: {وإنْ خِفْتُم ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتَمَى} الآية

(5)

، معناه: في نكاح

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/ 130.

(3)

سورة النساء، الآية:(2).

(4)

أي لا حاجة لثبوت الولاية قبل البلوغ.

(5)

سورة النساء، الآية:(3).

ص: 36

ثم إِنْ زَوَّجَهُما الأبُ أوِ الجَدُّ لَزِمَ، وَفي غَيْرِهِمَا فَسَخَ الصَّغِيرَانِ حِينَ بَلَغَا، أوْ عَلِمَا بِالنِّكَاحِ بَعْدَهُ.

===

اليتامى، وإنما يتحقق هذا الكلام إذا جاز نكاح اليتيمة، وقد نُقِل عن عائشة في تأويل الآية أنها أُنزلت في يتيمة تكون في حِجْرِ وَلِيِّها، يرغب في مالها وجمالها، ولا يُقْسِط في صَدَاقها، فَنُهُوا عن نكاحهن حتى يبلغوا بهن أعلى سُنَّتِهِنَّ في الصَّدَاق

(1)

. وقالت في تأويل قوله تعالى: {في يَتَامَى النِّسَاءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ}

(2)

: إنما نَزَلَتْ في يتيمةٍ تكون في حِجر وَلِيِّها، ولا يرغبُ في نكاحها لِدَمَامَتِها

(3)

، ولا يُزَوِّجُها من غيره لئلا يُشارِكَه في مالها، فأنزل الله هذه الآية، فأمر الأولياء بتزوُّج اليتامى أو بتزويجهن من غيرهم، وذلك دليل جواز تزويج اليتيمة، وقد زوج

رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنةَ عمه حمزةَ من عمر بن أبي سلمة، وهي صغيرة، وقال:«لها الخيارُ إذا بلغت»

(4)

، وقد رُوي عن علي موقوفاً ومرفوعاً:«الإنكاحُ إلى العَصَبات»

(5)

. والآثار في ذلك مشهورة عن عمر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة.

(ثم إنْ زَوَّجَهُما) أي الصغيرَ والصغيرةَ (الأبُ أوِ الجَدُّ لَزِمَ) لأنهما كَامِلَا الرَّأْيِ والشفقة، فيلزم عقدهما على الصغيرين، كما إذا باشراه برضاهما بعد البلوغ.

(وَفي غَيْرِهِمَا) أي غير الأبِ والجد من الأولياء، ولو كان إماماً أو قاضياً، وعند مالك والشافعي وأحمد في غير الأب (فَسَخَ الصَّغِيرَانِ حِينَ بَلَغَا) إن أرادا (أوْ) حين (عَلِمَا بِالنِّكَاحِ بَعْدَهُ) أي بعد البلوغ، لأن العقدَ صدر ممن هو قاصرُ الرأيِ كالأم، أو الشفقةِ كالقاضي، فيثبت لهما الخيار إذا مَلَكَا أنفسَهما، كالأَمة المُزَوَّجة إذا أُعْتِقَتْ وعَلِمَتْ بالزواج.

ولو فُسِخَ النكاحُ بخيار البلوغ، فإن كان قبل الدخول فلا شيء للمرأة، وإن كان بعده فلها المهر كاملاً، ولا يكون طلاقاً، لأنه يَصِحّ من الأُنثى ولا طلاق إليها. ثم هذا عند أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف في الأول، وهو قول ابن عمر وأبي

(1)

في المطبوعة: على سنتهن في الصداقات، والتصويب من المخطوطة وصحيح البخاري (فتح الباري) 8/ 239، كتاب التفسير (65) سورة النساء (4)، باب {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى} (1)، حديث رقم (4574).

(2)

سورة النساء، الآية:(127).

(3)

الدميم: القبيح. مختار الصحاح ص 88، مادة (دمم).

(4)

لم نجده.

(5)

قال ابن حجر في ""الدِّراية" 2/ 62: لم أجده.

ص: 37

وسُكُوتُ البِكْرِ رِضاً هُنَا، وَلَا يَمْتَدُّ خِيَارُهَا إلى آخِرِ المَجْلِسِ وإنْ جَهِلَتْ بهِ، بِخِلَافِ المُعْتَقَةِ. وخِيَارُ الغُلَامِ وَالثَّيِّبِ لَا يَبْطُل بِلا رِضاً صَرِيحٍ أو دَلَالَةً، وَلا يَبْطُل بِقِيَامِهِمَا عَنِ المَجْلِسِ، وَشُرِطَ القَضَاءُ لِفَسْخِ مَنْ بَلَغَ،

===

هريرة، وقال أبو يوسف آخراً: لا خيار لهما، وهو قول عُرْوَةَ بن الزُّبَيْر، فإذا زَوَّجها غيرُ الأب والجدِّ لَزِم النكاح كما لو زوجها الأب والجد.

والجواب ما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا زوج أُمَامَة بنت حمزة قال: «لها الخيارُ إذا بَلَغَتْ»

(1)

.

(وسُكُوتُ البِكْرِ رِضاً هُنَا) أي فيما إذا بلغت وقد عَلِمت بالنكاح، وفيما إذا عَلِمت بالنكاح بعد البلوغ، كما أن سكوتها رِضاً إذا استأذَنَها وهي بِكر بالغةٌ عند تزويجها.

(وَلَا يَمْتَدُّ خِيَارُهَا) أي خيار فسخ البِكر (إلى آخِرِ المَجْلِسِ) بل يَبْطُل بمجرَّد السكوت (وإنْ جَهِلَتْ بِهِ) أي بأنَّ لها الخيارَ بالبلوغ، أو بأنه لا يَمْتَدُّ إلى آخر المجلس إذ جهلها ليس بعذر، لأن الدار دارُ العلم، وهي مُتَفَرِّغةٌ للتعلُّم، وجهلُها لأصل النِّكاح عذرٌ، لأن المولى يَنْفَرِدُ به.

(بِخِلَافِ المُعْتَقَةِ) بعد التزويج، فإن خيارها يمتدُّ إلى آخر المجلس، ويَبْطُل بقيامها، لأن خيارها ثبت بإعتاق المولى، وتُعْذَرُ بالجهل، لأنها لا تتفرغ لتعلم الأحكام، لشغلها بخدمة المولى.

(وخِيَارُ الغُلَامِ) أي الصغير قبل البلوغ (وَالثَّيِّبِ) سواء كانت ثيباً عند التزويج أو عند البلوغ (لَا يَبْطُل بِلا رِضاً صَرِيحٍ) بأن يقول: رَضِيتُ، (أو دَلَالَةً) بأن يفعل ما يدلّ على الرضا من قُبْلَةٍ، أو لمسٍ، أو إعطاء الغلام المهرَ، أو قَبولِ الثيِّبِ، ومطالبتِها بالمهر أو النفقة.

(وَلا يَبْطُل بِقِيَامِهِمَا عَنِ المَجْلِسِ) لِمَا قَدَّمنا. والحاصل: أنها إذا بلغت ثيباً، فَوَقْتُ خيارِها العُمُرُ، لأن سبَبَه عدمُ الرضا، فيبقى إلى أن يُوجدَ ما يَدُلّ على الرضا بالنكاح، وكذا الغلام.

(وَشُرِطَ القَضَاءُ لِفَسْخِ مَنْ بَلَغَ) من صغير أو صغيرة زَوَّجهما غيرُ الأب والجَدِّ، واختارا عند البلوغ فسخَ النكاح، لأن السبب مُخْتَلَفٌ فيه بين العلماء، فمنهم من أبَى،

(1)

لم نجده.

ص: 38

لا مَنْ عَتَقَتْ.

والوَليُّ العَصَبَةُ عَلَى تَرْتِيبِهِم

===

ومنهم من رأى

(1)

، ولأنّ سببَ فسخهما النكاحَ وهو تركُ الوليّ النظرَ، بحكم عدم الشفقة لا يُوقَفُ على حقيقته، فكان ضعيفاً في نفسه، فيتوقف على القضاء، كالرجوع في الهبة، بخلاف خيار المُخَيَّرة، فإن سببه تخييرُ الزوج.

(لا مَنْ عَتَقَتْ) أي لا يُشترط في فسخ نكاح الأمة المزوَّجة إذا عَتَقَتْ وبلغها الخبرُ واختارتْ فسخَ النكاح، قضاءُ القاضي، لأن سبب فسخها زيادةُ المِلك، وهو مقطوعٌ به، لأن الزوج كان يملك مراجعتها في قُرْءَيْنِ، ويَمْلِك عليها تطليقتين، وتنقضي عدتها في حيضتين، وقد زاد ذلك بالعِتق، ويتوارثان بموتِ أحدهما قبل فسخ القاضي، لأن أصل العقد صحيح، والملك الثابت به قد انتهى بالموت.

(والوَليُّ العَصَبَةُ) أي بنفسه، وهو: كلُّ ذَكَر يَتَّصِل بلا تَوَسُّطِ أُنْثَى. (عَلَى تَرْتِيبِهِم) أي في الإرث، والحَجْبِ. فالأقرب يَحْجُبُ الأبعدَ. وتُقَدَّمُ عصبةُ النَّسَب، وأَولاهم الابنُ ثم ابن ابنه، وإن سَفَل، ثم الأب، ثم الجَدّ، وهو أبُ الأبِ، ثم الأخ لأبوين، ثم لأبٍ، ثم بَنُو الإخوة كذلك، ثم الأعمام كذلك، ثم بَنُوهم كذلك، ثم أعمام الأب كذلك.

وفي شرح الطحاوي: أولى الأولياء الأبُ والجدُّ وإن علا، ثم الأخ لأب وأمَ، ثم الأخ لأبٍ، ثم ابن الأخِ لأبٍ وأمٍ، ثم ابن الأخ لأبٍ، وكذلك أولادهم على هذا الترتيب، ثم العمُّ لأبٍ وأمّ، ثم العمُّ لأب، وكذلك أولادهما، ثم عَمّ الأبِ لأبٍ وأمٍ، ثم عمّ الأَبِ لأبٍ، وكذلك أولادهما، ثم عمّ الجَدِّ لأبٍ وأُم، ثم عَمّ الجَدِّ لأبٍ، وكذلك أولادهما.

والجَدُّ مُقَدَّمٌ على الأخ في التزويج عند أبي حنيفة، وسَوَّى صاحباه بينهما فيه، وفي «المبسوط»: الأصح أن الجَدّ مُقَدَّمٌ في قولهم جميعاً، لأن شفقته فوق شفقة الأخ، ولهذا لا يثبت لهما الخيارُ في عقد الجَدّ، كالأب، بخلاف الأخ.

ويُزَوِّجُ المجنونةَ ابنُها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، لأنه عَصَبَتُها، ألا ترى أن الأب معه يَستَحِقُّ السُّدُسَ بالفَرْضِيَّة وقال محمد: يزوجها أبوها، لأن ولاية الأب تَعُمُّ المالَ والنفس، ولا يثبت للابن إلا ولاية في المال، وإن لم يكن واحدٌ من هؤلاء،

(1)

أي ومنهم من رأى الفسخ.

ص: 39

بشَرْطِ حُرِّيَةٍ وَتَكْلِيفٍ، وإِسْلامٍ فِي وَلَدٍ مُسْلِمٍ، ثم الأمُّ، ثُمَّ ذُو الرَّحِمِ الأَقْرَبُ فَالأَقْرَبُ، ثُمَّ مَوْلَى المُوَالَاةِ،

===

فمولى العَتَاقة، الرجلُ والمرأةُ فيه سواء.

(بِشَرْطِ حُرِّيَةٍ وَتَكْلِيفٍ) لأن العبد، والصبي، والمجنون لا ولاية لهم على أنفسهم، فكذا على غيرهم.

(وَإِسْلامٍ فِي وَلَدٍ مُسْلِمٍ) ذكراً كان أو أُنثى، لأن الكافر لا ولاية له على المسلم (لأنها تنفيذ القول على الغير شاء أو أبى، ولا يجوز أن يَنْفُذَ قولُ الكافر على المسلم)

(1)

لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}

(2)

، فإنّ هذا يقتضي نفيَ السبيل من كل وجه، لأن النَّكِرةَ في موضع النفي تَعُمّ، لكنّ السبيلَ ثابتٌ حقيقةً، فيراد به نفيُ السبيل حكماً، كقبول الشهادة، والوِلاية، والقضاء، والوِراثة، وأيضاً يُشترط في وليّ وَلَدِ الكافر أنْ يكون كافراً لقوله تعالى:{والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُم أوْلِيَاءُ بَعْضٍ}

(3)

، ولهذا تُقبل شهادة الكافر على مثله ويتوارثان.

(ثم) أي إذا لم يوجد للصغير وليٌّ عَصَبَةٌ فالولي في التزويج (الأمُّ) عند أبي حنيفة، خلافاً لهما لحديث:«الإنكاحُ إلى العَصَبَات»

(4)

، وحجة أبي حنيفة حديث ابن مسعود في إجازته في تزويجِ امرأتِه ابنَتَها، وأن الأصح أنّ ابنتها لم تكن من عبد الله، وإنما جُوّز نكاحها لولاية الأُمومة.

(ثُمَّ ذُو الرَّحِمِ) وهو هنا كلُّ قريب ليس بعَصَبة ولا أمّ.

(الأَقْرَبُ فَالأَقْرَبُ) فتُقَدَّمُ البنتُ، ثم بنتُ الابن، ثم بنتُ البنت، ثم بنتُ ابن الابن، ثم الأُختُ لأب وأُمَ، ثم لأبٍ، ثم أولادُ الأُمِّ: ذكورُهم وإناثُهم سواء، ثم أولادُهنَّ، ثم الأعمام، ثم العمَّات، ثم الأخوال، ثم الخالات، ثم بناتُ الأعمام. والجدُّ الفاسد

(5)

أولى من الأخت عند أبي حنيفة، وقيل تُقَدَّم الأُخت لأبٍ وأمَ على الأم، لأنها تكون في بعض الأحوال عَصَبَة.

(ثُمَّ مَوْلَى المُوَالَاةِ) على روايتهما عن أبي حنيفة، وهو مَنْ وَالى غيرَه على أنه

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

سورة النساء، الآية:(141).

(3)

سورة الأنفال، الآية:(73).

(4)

تقدم تخريجه ص 37.

(5)

الجد الفاسد: هو الذي دخلت في نسبته إلى الميت أنثى. معجم لغة الفقهاء ص 160.

ص: 40

ثُمَّ قَاضٍ في مَنْشُورِهِ ذلِكَ.

وَالأَبْعَدُ يُزَوِّجُ بِغَيْبَةِ الأَقْرَبِ، مَا لَمْ يَنْتَظِرِ الكُفْءُ الخَاطِبُ خَبَرَهُ. وَعِنْدَ البَعْضِ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ.

===

إن جَنَى، فَأَرْشُهُ

(1)

عليه، وإن مات، فميراثُه له، لأنه مؤخَّرٌ في الإرث عن ذوي الأرحام، فكذا في ولاية النكاح.

(ثُمَّ قَاضٍ في مَنْشُورِهِ) أي في المكتوب الذي له من السلطان بالولاية (ذلِكَ) أي تزويج الصغار، لما رويناه من قوله صلى الله عليه وسلم «السلطانُ وَلِيُّ مَنْ لا وَليَّ له»

(2)

.

(وَالأَبْعَدُ يُزَوِّجُ بِغَيْبَةِ الأَقْرَبِ) وهو مقدَّمٌ على القاضي عندنا، خلافاً لمالك والشافعي، وهو رواية عن بعض أصحابنا، ولا يبطل عقده بمجيء الأقرب، بل تَبْطُل ولايته، لأن الأقرب لعدم الانتفاع به ـ لأجل غَيْبته ـ كالمعدوم، فيتعيَّن مَنْ يَخْلُفُه، وإذا حصل المقصود بِمَنْ يَخْلُفُه لا يبطل بعد حصوله، كَفَاقِدِ الماء إذا تَيَمَّم وصلَّى ثم وجد الماء، لا تبطل صلاته.

والغَيْبَةُ التي يُزَوِّج الأبعدُ فيها هي: (مَا) أي مُدَّةً (لَمْ يَنْتَظِرِ الكُفْءُ الخَاطِبُ خَبَرَهُ) أي خبر الأقرب، وهذا مختار شمس الأئمة السَّرَخْسِي، ومحمد بن الفَضْل، والإِسْبِيجَابي، وصاحب «الهداية» ، لأن الولاية نظريةٌ، ولا نَظَر في ولاية الأقرب على وجهٍ يَفُوتُ بفواته الكُفْءُ.

(وَعِنْدَ البَعْضِ) من المتأخرين كالقاضي أبي علي النَّسَفِيّ، وصَدْر الإسلام البَزّدَويّ، وهو قول محمد بن مُقَاتِل، وسُفْيان الثَّوْرِي، وعليه فتوى الصدر الشهيد والوَلْوَالجيّ. وقال في «الكافي»: وعليه الفتوى. ((أَدْنَى)

(3)

مُدَّةِ السَّفَرِ) وهي ثلاثة أيام ولياليها، واختار القُدُورِيُّ، ومحمدُ بن سَلَمة الغَيْبَةَ المنقطعة، بأن يكون في بلد لا تَصل إليه القافلة في السنة إلا مرةً. وفي «الواقِعات»: أن أكثر المشايخ اختاروا قَدْرَ الشهر، ـ وهو مَرويٌّ عن أبي يوسف ومحمد ـ لا يُجْهَل مكانُه، كما روي عن زُفَر وبعضِ مشايخنا.

ثم من العلماء مَنْ قال: لا يجوز عقد الولِيَّيينِ المُتَساوِيين إلا مجتمعين، والعمل

(1)

الأَرْش: بوزن الفَلْس: ما وَجَبَ من المال في الجناية على ما دون النفس. معجم لغة الفقهاء ص 54.

(2)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 11/ 142.

(3)

ما بين الحاصرتين زيادة من المتن من هامش المطبوع.

ص: 41

[الكَفَاءَةُ في النِّكَاحِ]

وَتُعْتَبَرُ الكَفَاءَةُ في النِّكَاحِ نَسَبَاً،

===

عندنا على أنّ أيَّهما عَقَدَ جاز، فإن زوجها كلٌّ منهما، فالصحة للسابق، فإن لم يُعْلَم، أو وَقَعَا معاً، بَطَلَ لعدم الأولَوِيَّة بالتصحيح، وليس الوصيُّ بوَلِيّ في التزويج عندنا، وقال ابن أبي لَيلى: له ولايةُ التزويج لقيامه مَقَام الأب، ألا ترى أنه قام مَقامه في التصرُّف في المال فكذا في التصرف في النفس. ولكنّا نستدل بما روينا من أن:«الإنكاح إلى العَصَبَات»

(1)

.

(الكَفَاءَةُ في النِّكَاحِ)

(وَتُعتَبَرُ) للمرأة على الرجل (الكَفَاءَةُ) أي المساواة (في النِّكَاحِ) أي في ابتدائه، حتى لو زالت الكفاءة بعد العقد لا يُفسخ النكاح لأجلها، كالمبيع إذا تَعَيَّب عند المشتري

(2)

.

وإنما تُعتبر الكفاءة لِمَا روى أحمد، والنَّسَائي عن عائشة أنها قالت: جاءت فتاةٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبي زَوَّجَني ابن أخيه ليرفع بي من خَسِيسته فجعل الأمرَ إليها، فقالت: إني قد أجزتُ ما صنع أبي، ولكن أردتُ أن تَعلمَ النِّساءُ أنْ ليس للآباء من الأمر شيءٌ. وروى الترمذي في «جامعه» وكذا الحاكم ـ وصححه ـ عن عليّ بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«يا عليُّ، ثلاثٌ لا تُؤَخِّرْهَا: الصلاة إذا أَتَتْ ـ أي حضرت، وفي رواية: آنَتْ، أي حانت ـ والجَنَازة إذا حَضَرَتْ، والأَيِّم إذا وَجَدَتْ لها كُفُؤاً» . بصيغة الغَيبة أو الخطاب، والله تعالى أعلم بالصواب.

(نَسَبَاً) أي من جهة النَّسَب، لأن التفاخر يقع بذلك السبب، وروى محمد في كتاب «الآثار» عن أبي حنيفة، عن رجل، عن عمر بن الخطاب أنه قال: لأَمْنَعَنَّ فُرُوجَ ذواتِ الأحساب، إلاّ مِنْ الأكفاء. والأحْسَابُ: جمع حَسَبٍ: بفتحتين، وهو: ما يَعُدُّه الإنسان من مفاخِر آبائه. ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ إلا الأكفاء، ولا يُزَوِّجُهُنَّ إلا الأولياء، ولا مَهْرَ دون عشرة دراهم» . رواه ابن أبي حاتم عن جابر، وحَسَّنه البَغَوِيّ.

وقوله صلى الله عليه وسلم «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُم وانْكِحُوا الأَكْفَاءَ» ، رُوي من حديث عائشة وعمر

(1)

تقدّم تخريجه ص 37.

(2)

أي إذا تعيب المبيع عند المشتري بعد انعقاد البيع، لا يُرَدّ المبيعُ إلى البائع.

ص: 42

فَقُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ كُفُؤٌ لِبعْضٍ، وَالعَرَبُ بَعْضُهُم كُفُؤٌ لِبعْضٍ،

===

من طُرُقٍ عديدة، فوجب ارتفاعه إلى الحُجِّيَّة بالحُسن، لحصول الظنِّ بصحة المعنى وثبوته، وإن كانت كلها ضعيفة، كما ذكره الزَّيْلَعي في كتاب «الإسعاف بأحاديث الكشَّاف» في سورة النساء.

وقال مالك: لا تُعتبر الكفاءةُ إلا في الدِّين لقوله صلى الله عليه وسلم «الناسُ سَوَاسِية كأسنانِ المُشْطِ، لا فَضْلَ لعربيَ على عجميَ، وإنما الفضل بالتقوى»

(1)

. وقال تعالى: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ ااِ أتْقَاكُم}

(2)

.

قلنا: المرادُ به في حكم العُقْبَى، وكلامُنا في حكم الدنيا وأما قول الكَرْخِي: الأصح عندي أنْ لا تُعتبر الكفاءة في النكاح، لأنها غير مُعتبرةٍ فيما هو أهم منه، وهو الدماء، فَلأَنْ لا تُعتبر في النكاح أولى، فمدفوعٌ بما قَدَّمناه من الأحاديث الدالَّة على اعتبار الأكفاء في النكاح دون الدماء.

(فَقُرَيْشٌ) وهم أولاد النَّضْر بن كِنَانَة (بَعْضُهُمْ كُفُؤٌ لِبَعْضٍ) لأنه صلى الله عليه وسلم زَوَّج ابنته رُقَيَّةَ من عثمان، ولما ماتت زوَّجه أُختَها أُمَّ كُلْثُوم، ولذا قيل له: ذو النُّورَيْن، وعثمان قرشيٌّ أُمويٌّ لا هاشمي. وزَوَّج عليٌّ ابنته (أُمَّ كُلْثُوم بنتَ فاطمة بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر)

(3)

وهو عَدَوِيّ لا هاشمي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم محمدُ بنُ عبدِ الله بنِ عبد المُطَّلِبِ بنِ هاشم بن عَبْدِ مَنَاف بن قُصَيِّ بن كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لُؤَي بن غالب بن فِهْر بن مالك بن نَضْر بن كِنَانة بن خُزَيْمَة بن مُدْرِكة بن إياس بن مُضَر بن نِزار بن مَعَدّ بن عدنان.

وعمر بن الخطاب بن نُفَيل بن عبد العُزَّى بن رِياح بن عبد الله بن قُرْط بن زَرَاحَ ابن عَدِيّ بن كعب.

وعثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شَمْس بن عبد مَنَاف.

(وَالعَرَبُ) من غير قريش (بَعْضُهُم كُفُؤٌ لِبَعْضٍ) ويُستثنى من ذلك بنو بَاهِلة بن قيس بن سعد بن عَيْلان ـ بالعين المهملة ـ وأنهم ليسوا بأكفاء لمن عداهم من العرب لِخِسَّتِهِم عند العرب، وبَاهلة في الأصل اسمُ امرأةٍ من هَمْدَان، نُسِبَ وُلْدُها إليها، وهم

(1)

أخرجه الدَّيْلَمي في "الفردوس بمأثور الخطاب" 4/ 301، رقم (6883) عن أنس بلفظ:"الناس مستوون كأسنان المُشْط، ليس لأحد على أحد فضل إلا بتقوى الله عز وجل".

(2)

سورة الحجرات، الآية:(13).

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

ص: 43

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

معروفون بالخَسَاسة، قيل: كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية، وكانوا يأخذون عظام الميتة يطبخونها ويأخذون دُسُومَاتها، ولذا قيل:

*وَلَا يَنْفَعُ الأصلُ من هاشِمٍ ** إذا كانتِ النَّفْسُ مِنْ بَاهِلة

وقيل أيضاً:

*إذا قيلَ للكلب: يا بَاهِليّ ** عَوَى الكلبُ من شُومِ هذا النَّسَب

ثم اعلم أنّ القرشيين مَنْ جَمَعها أبٌ هو النَّضْر بن كِنَانَة فمن دونه، ومَنْ لم يَنتسب إلا إلى أبٍ فوقَه فهو عربيٌّ غير قرشي، وإنَّما سُمِّيت أولاد النَّضْر قُرَيشاً تشبيهاً بدابَّةٍ في البحر تُدعى قُرَيشاً تأكلُ كلَّ دوابّه، لأنه من أعظم دواب البحر عِزَّةً وفخراً ونَسَباً.

ثم طبقات العرب ستٌّ، فالشَّعْب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العِمَارة، والعِمَارة تجمع البطون، فالبطن تَجْمَعُ الأفخاذ، والفَخِذُ تجمع الفصائل، فخُزَيمةُ شعب، وكِنَانة قبيلة، وقُريش عِمَارة، وقُصَيُّ بطنٌ، وهاشم فَخِذٌ، والعباس فصيلة. وقال صدر الإسلام في «مبسوطه»: والموالِي وهم العجم ليسوا بأكفاء للعرب، وسُمُّوا موالِيَ لأنهم نَصَرُوا العرب على قتال الكفار من أهل الحرب

(1)

، والناصر يُسمى مَوْلى، قال الله تعالى:{وَأنَّ الكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}

(2)

، وإنما كانوا أفضلَ من العجم لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم

والحاصلُ: أنه ليس عربيٌّ كُفُؤاً لقُرَشِيّة، ولا عجمي كُفُؤاً لعربية، لما رواه الحاكم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العرب أكفاءٌ، بعضُهم لبعض، قبيلةٌ بقبيلة ورَجُلٌ برجل، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، قبيلةٌ بقبيلة، ورَجُلٌ بِرَجُلٍ إلا حائك أو حَجَّام» ، لكن في سنده مجهول، ورواه أبو يَعْلَى، وابن حِبَّان، وابن عَدِيّ في «الكامل» بسند فيه عمران بن أبي الفضل، وقد ضعّفه ابن مَعِين والنَّسَائي، وقال ابن حِبَّان: إنه يروي الموضوعات عن الثقات. وروى الدَّارَقُطْنِيّ عن ابن عمر مرفوعاً: «الناسُ أكفاءٌ، قبيلةٌ لقبيلة، وعربيٌّ لعربي، ومولى لمولى، إلا حائكاً أو حَجَّاماً» ، لكن في سنده محمد بن الفضل، وهو مطعون فيه، وبَقِيَّة بن الوليد يُرمَى بالتدليس إذا عنعن الحديث.

وروى البَزَّار في «مُسنده» من طريق خالد بن مَعْدَان، عن مُعاذ بن جَبَل، قال:

(1)

في المخطوط: من أهل العرب.

(2)

سورة محمد، الآية:(11).

ص: 44

وَفي العَجَمِ إسْلَاماً، فَذُو أبَوَيْنِ في الإِسْلَامِ كُفُؤٌ لِذِي آباءٍ فِيهِ،

===

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العَرَبُ بعضُهم أكفاءٌ لبعضٍ، والموالي بعضُهم أكفاءٌ لبعض» ، وسكت عنه، وقال عبد الحق: إن ابن مَعْدان لا يسمع عن معاذ.

وقال بعض المحققين: وبالجملة فللحديث أصلٌ، فإذا ثبت اعتبارُ الكفاءة بما قدمناه، يمكن ثبوتُ تفصيلها أيضاً بالنظر إلى عرف الناس فيما يَحْقِرُونه ويُعَيَّرون به، فَيُستأنس بالحديث الضعيف في ذلك، خصوصاً وبعض طرقه ـ كحديث بقية ـ ليس من الضعيف بذلك، فقد كان شُعْبَةُ معظِّماً لبَقِيَّة، وناهيك باحتياط شُعبة، وأيضاً تعدُّدُ طرق الحديث يرفعه إلى الحسن.

(وَفي العَجَمِ) عطف على مقدَّر فيما سبق، أي: وتُعتبر الكفاءة في نكاح العرب نسباً وفي نكاح العجم (إسْلَاماً) لأنّ به تفاخُرَهم لا بالنَّسَب، وظاهر المتن يدل على أن الكفاءة من حيث الإسلامُ تُعتبر في العجم، ولا تُعتبر في العرب، وعبارة بعض الكتب تَدُلّ على أنها معتبرة في العرب أيضاً، فلعل مرادَه أنّ في العجم لا يُعتبر النَّسَب لأنهم ضَيَّعوا أنسابهم، وكذا الكلام في باقي الصفات الآتية. ذكره البِرْجَنْدِي. والعبارة الأخيرة هي الصحيحة لقوله تعالى:{ولا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حتى يُؤْمِنُوا}

(1)

.

ولعله لم يذكر الإسلام في العرب، لأن الكلام في شروط نِكاح المسلمين، وإنما التفاوتُ بين العرب والعجم: أنّ العرب يَعتبرون النَّسب على ما سَبَقَ مِنْ وَفْقِ الحَسَبِ، والعجم يُعتبر فيهم مراتب الإسلام في تحقيق المَرَام.

والحاصل: أن العرب يُكتفَى فيهم وجود أصل الإسلام من غير مراتبه المذكورة، بخلاف الأعجام، فإنها معتبرة في (إحكام)

(2)

الأحكام، ويَدُلّ عليه تَزَوُّجُهُ عليه الصلاة والسلام بنتَ أبي بكر، وتزويجُ بِنْتَيْه عثمانَ، وفاطمةَ علياً، وتَزَوَّج عمرُ أُمَّ كُلْثُوم بنتَ عليَ (من فاطمة رضي الله عنهم

(3)

.

(فَذُو أبَوَيْنِ) أي من العجم (في الإِسْلَامِ كُفُؤٌ لِذِي آباءٍ فِيهِ) لِوُجُودِ المساواة بينهما، لأن أصل النَّسَب بالأب، وتَمَامَهُ بالجَدِّ، فلا تُعتبر الزيادة، كما لا تُعتبر في

(1)

سورة البقرة، الآية (221).

(2)

ما بين الحاصرتين من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 45

لا ذُو أبٍ كُفُؤاً لَهُمَا، وَلَا مُسْلِمَ بِنَفْسِهِ لَهُ. وَحُرِّيَّةً وهي كَالإِسْلَامِ. ودِيَانَةً فَلَيْسَ فَاسِقٌ كُفُؤاً لِبِنْتِ صَالِحٍ

===

تعريف الشهود

(1)

.

(لا ذُو أبٍ) أي ليس من له أبٌ في الإسلام (كُفُؤاً لَهُمَا) أي لِمَنْ له أبوان فيه، ذكره الشارح. والصواب: لِذِي أبوين ولِذِي آباء في الإسلام، لعدم المساواة. وقال أبو يوسف: هو كُفُوءٌ، وهذا كما قال في تعريف الشهود: إنه يَتِمُّ بذكر الأب. قيل: كان أبو يوسف إنما قال ذلك في موضع لا يُعَدُّ كُفْرُ الجَدِّ عيباً بعد أن كان الأبُ مسلماً، وهما قالاه في موضع يُعَدُّ عيباً، والدليل على ذلك أنهم قالوا جميعاً: إن كفر الأب والجَدّ ليس عيباً في حق العرب، لأنهم لا يُعَيَّرُونَ بذلك. ذكره ابن الهُمَام، وهو مُؤَيِّد لما قدمناه من الكلام.

(وَلَا مُسْلِمَ بِنَفْسِهِ لَهُ) أي وليس مسلمٌ بنفسه كُفُؤاً لذي أبٍ في الإسلام، لعدم المساواة بينهما.

(وَحُرِّيَّةً

(2)

، وهي كَالإِسْلَامِ) فيما ذكرناه من أن ذا أبوين في الحرية كُفُؤٌ لِذِي آباء فيها، وليس ذو أب فيها كُفُؤاً لذي أبوين، خلافاً لأبي يوسف، ولا حُرَّ بنفسه كُفُؤاً لِحُرَ بأبيه.

(ودِيَانَةً) أي تَقْوَى، لأنها من أعلى المفاخر، لأن المرأة تُعَيَّر بفسق زوجها ما لا تُعَيَّر بِضَعَةِ نَسَبِه.

(فَلَيْسَ فَاسِقٌ) وإن لم يَكُنْ مُعْلِناً (كُفُؤاً لِبِنْتِ صَالِحٍ) هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وكذا أحد أعوان الظَّلَمة لا يكون كُفُؤاً لامرأة من أهل البيوتات، إلا أن يكون مَهِيباً في الناس. وعن أبي يوسف: إذا لم يُعْلِن الفاسقُ بفسقه يكون كُفُؤاً لبنت الصالح، وهو قريبٌ من قول محمد: أنّ الفاسق كُفُؤٌ لبنت الصالح، إلا إذا كان مُسْتَخَفًّا به، كأن يَخرُج سكرانَ، ويَلعبَ به الصبيانُ.

وفي «المحيط» : الفتوى على قول محمد، لأنّ التقوى من أمور الآخرة، ولا يَفُوتُ النِّكاح بفواتها.

(1)

إن تعريف الشهود يتمّ بذكر الأب والجدّ، ولا عبرة بالزيادة على ذلك بأن يذكر أبَ الجَدّ، وجَدَّ الجَدِّ

الخ. وهذا قول الطَّرَفين - أبي حنيفة ومحمد -، وقال أبو يوسف: يتم تعريف الشهود بذكر الأب. وسيأتي تفصيل ذلك بعد قليل.

(2)

عطف على قوله متنًا: (إسلامًا).

ص: 46

ومَالاً، فَالعَاجِزُ عَنِ المَهْرِ المُعَجَّلِ والنَّفَقَةِ غَيْرُ كُفُؤ لِلْفَقِيرَةِ، وَالقَادِرُ عَلَيْهِمَا كُفُؤٌ لِلْغَنِيَّةِ.

وَحِرْفَةً، فَحَائِكٌ أو حَجَّامٌ، أو كَنَّاسٌ أو دَبَّاغٌ، ليس كُفُؤاً لِعَطَّارٍ وَنَحْوِهِ.

وإِنْ نَكَحَتِ المَرْأَةُ بِأَقَلَّ مِن مَهْرِهَا

===

هذا، وقال بعض المشايخ: العجميُّ العالم كُفُؤٌ لبنت العربي الجاهل.

(ومَالاً) بأن يَمْلِك من المهر ما تعارفوا تعجيلَه، لأنه بَدَلُ البُضْع، وبأنْ يَكْسِبَ نفقةَ كلّ يوم وما يحتاج إليه من الكِسوة، لأن بذلك يتمّ الازدواج، وهو صحيح على ما في «المُجْتَبَى». وقيل: يُعتبر أن يكون عند العقد مالكاً لنفقة شهر، وقيل: لنفقة ستة أشهر.

(فَالعَاجِزُ عَنِ المَهْرِ المُعَجَّلِ والنَّفَقَةِ غَيْرُ كُفُؤ لِلْفَقِيرَةِ) قال المُصَنِّف: وإنما قال: للفقيرة، لدفعِ مَنْ تَوَهَّم أنه يكون كُفُؤاً لها، ويلزم من كونه غيرَ كُفُؤٍ للفقيرة أن يكون غيرَ كُفُؤ للغنية بالطريق الأولى، وأما الصغيرة التي لا تُطِيقُ الوَطْاءَ، فالعاجز عن النفقه كُفُؤٌ لها، لأنها لا نفقة لها، وكذا لو كان يَجِدُ نَفَقَتَها ولا يجد نفقةَ نفسه يكون كُفُؤاً لها.

(وَالقَادِرُ عَلَيْهِمَا كُفُؤٌ لِلْغَنِيَّةِ) ولو كانت ذاتَ أموالٍ عظيمة، لأن مصالح النكاح تَنتظم بهما.

(وَحِرْفَةً)

(1)

أي صناعة (فَحَائِكٌ، أو حَجَّامٌ، أو كَنَّاسٌ أو دَبَّاغُم، ليس كُفُؤاً لِعَطَّارٍ وَنَحْوِهِ) من بَزَّازَ

(2)

، أو صَرَّافٍ. وهذا قول محمد وروايةٌ عن أبي حنيفة وأبي يوسف، لأن الناس يفتخرون بشرف الصناعة، ويُعَيَّرون بخسيسها. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف عدمُ اعتبار الحِرْفَة، لأنها ليست بلازمةٍ، لأن التَّحَوُّل من خسيسها إلى شريفها ممكنٌ. وفيه: أنّ التعيير باقٍ ولو بَعْدَ التغيير.

وفي «المُحِيط» : أَخَسُّ الناس في الأكفاء أربعة: الحائِكُ، والحَجَّامُ، والدَّبَّاغُ، والكَنَّاسُ، فالحائك كُفُؤٌ للحجَّام، وبعكسه، والدبَّاغُ والكَنَّاس متكافئان، والخامس أخسُّ منهم وهو الذي يَخْدُم الظَلَمة، وإن كان من أعلم الناس وأشرفهم، لأنهم يأكلون أموال الناس وهو يُعينهم.

(وإنْ نَكَحَتِ المَرْأَةُ) كُفُؤاً (بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِهَا) أي من مهر مِثْلِها، بمقدارٍ لا

(1)

عطف على قوله متنا: (ومالًا).

(2)

البزَّاز: بائع القماش. معجم لغة الفقهاء ص 107.

ص: 47

فَلِلْوَليِّ الاعْتِرَاضُ حَتّى يُتِمَّ مَهْرَ مِثْلِهَا، أو يُفَرَّقَ.

[نِكَاحُ الفُضُوليّ]

وَوُقِفَ نِكَاحُ الفُضُولِيّ عَلَى الإِجَازَةِ

===

يُتَغَابَنُ فيه (فَلِلْوَليِّ) أي للعَصَبَة لا لغيره (الاعْتِرَاضُ) وإن لم يكن مَحْرَماً كابن العم عند أبي حنيفة (حَتَّى يُتِمَّ) الزوجُ (مَهْرَ مِثْلِهَا، أو يُفَرَّقَ) بين نفسه وبينها، بأن يُطلِّقها عند القاضي، لأنه مُجتَهدٌ فيه، وكلٌّ من الخصمين يتشبث بدليل، فلا تُقطع الخصومةُ إلا بفصلِ مَنْ له ولايةٌ عليهما.

وتوضيحه: أن هذا النكاح ينعقد صحيحاً في ظاهر الرواية، وتبقى أحكامه من إرثٍ وطلاق إلا أن يُفَرِّقَ القاضي بينهما، والفُرْقَةُ به لا تكون طلاقاً، بل فسخاً، فإن كانت قبل الدخول، فلا مَهْرَ لها، وإن كانت بعده أو مات أحدهما، فلها المُسَمَّى.

وقالا: ليس للوليِّ الاعتراضُ، لأنها تصرَّفَتْ في حقها، لا في حق الوليِّ، فصارت كما لو نُكِحَتْ بمهرِ المِثل ثم وَهَبَتْ للزوج شيئاً منه، وقول محمد هنا يُتَصَوَّر على قوله الذي رجع إليه وهو: أن المرأة تُنْكِح نفسَها بغير وليَ، وعلى قوله الآخَر بأنْ تُصَوَّر المسألة في امرأة أُكْرِهَتْ هي وَوَليُّها على النكاح بأقلَّ من مهر المِثل، ثم زال الإكراه، وهي راضيةٌ ولم يَرضَ الوليُّ، وفي امرأة أذِنَ لها الوليُّ بالنكاح ولم يُقَدَّر لها مَهرُ المثل، فتزوجت بأقلَّ منه.

ثم قيل: له الاعتراض عند أبي حنيفة ما لم تَلِد، وقيل: مطلقاً ولو وَلَدَتْ، إلى أن ترضى به ولو دَلالة كقبض المَهْرِ أو النفقة. ورِضَى بعضُ الأولياء كرِضَى الكلِّ عندنا، ولا يُجِيزه أبو يوسف بمَن لم يرض منهم

(1)

كمالكٍ والشافعي، وهو قول زُفَر.

(نِكَاحُ الفُضُولي)

(وَوُقِفَ نِكَاحُ الفُضُولِيّ) وهو هنا مَنْ أوجبَ النكاحَ أو قَبِل عن غيره بغير إذنه، لأنه عقدٌ صدر من أهله، وهو عاقلٌ بالغٌ مضافاً إلى محله، وهي أنثى من بنات آدمَ، ليست بمَحْرَمٍ، ولا مُعْتَدَّةٍ، ولا مُشْرِكَةٍ، ولا زائدةٍ على العدد المنصوص، فيَصِحُّ ويُوقَف (عَلَى الإِجَازَةِ) ممن عقد عنه، لئلا يَلحقَه الضرر، فإذا أجازه استند إلى أولِّ العقد وصار كأنه أذِنَ في العقد.

روى أبو داود عن عُرْوَةَ، عن أمِّ حَبِيبةَ أنها كانت تحت عُبَيد الله بن جَحْشٍ،

(1)

عبارة المخطوط: لمن لم يرض منهم.

ص: 48

وَيَتَوَلَّى طَرَفَي النِّكَاحِ وَاحِدٌ غَيرُ فُضُوليٍّ.

===

فمات بأرضِ الحَبَشَةِ، فزوَّجها النَّجَاشِيُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعةَ آلافِ درهم، وبعثها مع شُرَحْبِيل، فَقَبِل صلى الله عليه وسلم

(وَيَتَوَلَّى) عندنا ومالك (طَرَفَي النِّكَاحِ) وهما الإيجاب والقَبول (وَاحِدٌ غَيْرُ فُضُولِيَ) سواء كان ذلك الواحد:

وَليًّا من الجانبين، كمن زوَّج ابنَ ابنِه بنتَ ابنه الآخَر بقوله: زوجتُ فلاناً من فلانة.

أو وكيلاً من الجانبين، كمَن وكَّله رجلٌ بالتزويج ووكلته امرأةٌ به أيضاً، فزوَّج أحدَهما بالآخر.

أو وكيلاً من جانب ووليًّا من جانب، كمن وكَّله رجلٌ بأن يُزَوِّجه ابنتَه فزوَّجه بها.

أو أصيلاً من جانب ووكيلاً من جانب، كمن وكَّلته امرأةٌ بأن يزوِّجها من نَفسِه فزوجها

(1)

.

أو أصيلاً من جانب وولياً من جانب، كمن زوَّج بنتَ عمه الصغيرة من نفسه.

وإذا تَوَلّى طَرَفَيْه، فقوله: زَوَّجْتُ، يتضمنُ الشطرَين، فلا يحتاج إلى القَبول. وقال زُفَرُ والشافعي: لا يتولَّى واحدٌ طرفي عقدِ النكاح، كما لا يتولَّى طرفي عقد البيع.

ولنا أن العاقد في النكاح سفيرٌ ومُعَبِّرٌ، ولهذا لا ترجع حقوق النكاح إليه، والواحدُ يَصْلح معبِّراً عن الجانبين، ولذا لا يَستغني عن إضافة العقد إليه، والعاقد في البيع أصيلٌ، ولذا تَرجِع حقوقُ البيع إليه حتى استغنى عن إضافة العقد إليه، والواحدُ لا يَصلح أن يكون أصيلاً من الجانبين، لِتَبَايُنِ الحُقُوقِ المُفْضِية إلى أحكام متضادَّةٍ، بأن يكون مُطالِباً ومُطَالَباً، ومُسَلِّماً ومُسَلَّماً، ومُخَاصِماً ومُخَاصَماً.

ومن أدلَّتنا قوله تعالى: {وَإنْ خِفْتُم ألاّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى}

(2)

أي في نكاح اليَتَامى، فهو دليل على أنّ للوليِّ أنْ يُزَوِّج وَلِيَّتَهُ من نفسه، وكذا قوله تعالى:{وتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ}

(3)

دليلٌ لذلك، وفي الحديث: أنَّ شُرَطَ عليَ رضي الله عنه أَتَوْهُ بشيخٍ مع جاريةٍ، فسأله عن قِصَّتِها؟ فقال: إنها ابنةُ عَمِّي، وإني خَشِيتُ أنها إذا بَلَغَتْ تَرْغَبُ

(1)

في المخطوط: فتزوجها.

(2)

سورة النساء، الآية:(3).

(3)

سورة النساء، الآية:(127).

ص: 49

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

عنِّي فتزوجتُها. فقال: خُذْ بِيَدِ امرأتك.

وقد روى البخاريّ أن عبد الرحمن بنَ عَوْفٍ قال لأُمِّ حَكيم ابنة قَارِظ

(1)

أَتَجْعَلِينَ أَمركِ إِليَّ؟ قالت: نعم، قال: تَزَوَّجْتُكِ. فعقده بلفظ واحد.

وروى أبو داود عن عُقْبَة بن عامر أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «أَتَرْضَى أنْ أُزَوِّجَكَ فلانة» ؟ قال: نعم، وقال للمرأة:«أَتَرْضَيْنَ أن أزوِّجَكِ فلاناً» ؟ قالت: نعم، فزوَّج أحدَهما صاحِبَه، وكان ممن شَهِد الحُدَيْبِيَة.

قَيَّدَ بغير الفُضُولي لأن الفُضُوليَّ لا يتولَّى طَرَفَي النكاح عند أبي حنيفة ومحمد، سواءٌ كان فضولياً من الجانبين، أو فضولياً من جانبٍ، وأصيلاً، أو ولياً، أو وكيلاً من جانب، وأما إذا كان العقد بفُضُولِيَّيْنِ، فجائز عندنا، ويكون موقوفاً كما مَرّ، بخلاف عقد الفُضُوليِّ الواحد ولو بلفظَين، على ما ذكره بعض المحققين.

وكذا التزوج بغائبة لم يَقْبَل عنها أحدٌ، غير صحيح لأن النكاح عقدُ معاوضة محتمِلٌ للفسخ، فكلام الواحد فيه يكون شطرَ العقد، وشطرُه لا يتوقَّف على ما وراء المجلس كما في البيع، بخلاف الطلاق والإعتاق بكذا، فإنه لا يَحتمل الفسخَ بعد وقوعه أصلاً.

وقال أبو يوسف في قوله الأخير: يتولّى الفُضُوليُّ طَرَفَي النكاح ويكون موقوفاً. ولو قالت امرأة لرجل: زَوِّجني، أو قالت: زَوِّجني من رجل، فزوَّجها من نفسه، فالنكاح باطلٌ عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه فُضُوليٌّ من جانبها، لأنه صار بالخطاب معرفة

(2)

، فلا يدخل تحت النكرة.

والحاصل: أنه يجوز النكاح عندنا وعند مالك بفُضُوليَ وأصيلٍ موقوفاً على إجازة من له تنفيذُه، وأبطله الشافعي بناءً على أصله: أن العقود لا تتوقف على الإجازة. وعندنا تتوقف، وهي مسألةٌ معروفة وقد ذُكِرت في أول البيوع. والله تعالى أعلم.

(1)

حرفت في المخطوط إلى: قارض، والصواب ما أثبتناه.

(2)

أي لأن لفظ "رجل" صار معرفة بالخطاب.

ص: 50

فَضلٌ في المَهْرِ وَأَحْكَامِهِ

أَقَلُّ المَهْرِ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ

===

‌فصل في المَهْرَ وَأَحْكَامِهِ

(أَقَلُّ المَهْرِ) عندنا (عَشْرَةُ دَرَاهِمَ) أي وزنها من فِضة مضروبة، أو تِبْرِها، أو ما يُساوي وزن عشرة دراهم من نَقْدٍ أو متاع. قال محمد في «الأصل»: بَلَغَنَا أن أقلَّ المَهْرِ عشرةُ دراهم، عن عليَ وعبد الله بن عمر، وعامر وإبراهيم.

وقال مالكٌ في «الموطأ» : لا أرى أنْ تُنْكَحَ المرأةُ بأقلَّ من رُبُعِ دينارٍ، وهو نصاب السَّرِقة عنده.

وقال الشافعي وأحمد: كُلُّ ما جاز أن يكون ثمناً جاز أن يكون مهراً.

لنا ما روى الدَّارَقُطْنِيّ والبيهقي في «السنن الكبرى» من طُرُقٍ ـ إلا أنها ضعيفة ـ عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا مَهْرَ أقلّ من عشرة دراهم» . وما روى الدَّارَقُطْنِيّ ثم البيهقي في «سُنَنِهما» عن داود الأَوْدِيّ، عن الشَّعْبِيّ، عن عليَ قال: لا تُقطَعُ اليدُ في أقلَّ من عشرة دراهم، ولا يكون المهرُ أقلَّ من عشرة دراهم. إلا أن ابن حِبَّان ضَعَّف الأوْدِيَّ، وأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عن جُوَيبر

(1)

، عن الضحَّاك، عن النَّزَّال بن سَبْرَة، عن علي. فذكره. وجُوَيبر ضعيف. ورواه أيضاً من طريق آخر عن الضحاك ولكن في سنده محمد ابن مروان أبو جعفر، قال الذَّهَبِيُّ: لا يكاد يُعْرَف. انتهى.

ولا يخفى أن تعدد الطرق يَرْقَى إلى مرتبة الحَسَن، وهو كافٍ في الحُجِّيَّة.

وأما ما في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: «الْتَمِسْ ولو خاتَماً من حديد» . وما في التِّرْمِذِي وابن مَاجَه عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز نِكَاح امرأةٍ على نَعْلَيْنِ.

وما في «سنن أبي داود» عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من أعطَى في صَدَاقِ امرأةٍ مِلأَ كَفَّيْهِ سَوِيقاً أو تمراً، فقد استَحَلَّ» أي البُضْعِ، لكن في سنده إسحاق بن جابر بن جبريل، قال عبد الحق: لا يُعَوَّلُ على ما أسنده، وقال الذهبي: إنه لا يُعْرَف، وضَعَّفه الأزدي.

(1)

حُرِّف السند في المطبوع إلى: عن جويز، عن الضحاك، عن البزار بن سيرة. وما أثبتناه من المخطوط، وهو موافق لما في سنن الدارقطني 3/ 200، حديث رقم (349).

ص: 51

فَتَجِبُ العَشَرَةُ إنْ سَمَّى دُونَهَا، وإن سَمَّى غَيْرَهُ

===

فالكلُّ محمولٌ على المُعَجَّل، لأن العادة عندهم كانت تعجيلَ بعضِ المَهْرِ قبل الدُّخول، حتى نُقِلَ عن ابن عباس، وابن عمر، والزُّهْرِيّ، وقَتَادَة: أنه لا يَدْخُلُ بها حتى يُقَدِّمَ لها شيئاً، تمسُّكاً بمنع النبيِّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا عن الدخول على فاطمة حتى يُعْطِيَهَا شيئاً، فقال: يا رسول الله، ليس لي شيءٌ فقال:«أعْطِها دِرْعَكَ» ، فأعطاها درعه، ثم دخل بها

(1)

. ومعلوم أنّ الصَّدَاقَ كان أرْبَعَ مِئةِ درهم فِضةً.

لكنَّ المختارَ الجوازُ قبله، لِمَا في «سنن أبي داود» عن عائشة قالت: أَمَرَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن أُدْخِلَ امرأةً على زوجها قبل أن يُعْطِيَها شيئاً. فَيُحمل المنعُ المذكور على النَّدْبِ، أي يُنْدَبُ تقديم شيء إدخالاً للمَسَرَّةِ عليها، تَأَلُّفاً لقلبها.

وإذا كان ذلك معهوداً، وَجَبَ حَمْلُ ما خالف ما روينا عليه، جمعاً بين الأحاديث وكذا يُحْمَلُ أمْرُهُ بالتماس خَاتَمٍ من حديد، على أنه تقديمُ شيء تَأَلُّفاً، ألا ترى أنه أَمَرَ ذلك الرجلَ بالتماس ما في اليد والصَّدَاقُ يمكن إثباته في الذِّمَّة، فعرفنا أنّ المراد ما يُعَجَّلُ لها باليد، ولَمَّا عَجِزَ قال:«قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشرين آيةً. وهي امْرَأَتُكَ» . رواه أبو داود. وهو محمل رواية: «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ القرآن»

(2)

. فإنه لا يُنَافيه، وبه تجتمعُ الرواية. (هكذا أجاب بعض المحققين)

(3)

. والله تعالى أعلم بحقيقة الحالات.

(فَتَجِبُ العَشَرَةُ) استحساناً (إنْ سَمَّى دُونَهَا) أي أقلَّ منها عيناً أو قيمةً، كثوب يساوي خمسةً، إن دخل بها أو مات عنها، وأمّا إن طلَّقها قبل الدخول، فلها خمسةٌ. وقال زُفَر: يجب مهرُ المِثل إن دخل بها، والمُتْعَةُ

(4)

إن طَلَّقَهَا قبله، وهو القياس، لأن المسمَّى لَمَّا لم يَصِحّ صَدَاقاً شرعاً صار النكاح كالخالي عن التسمية، وفي الخالي عنها يجب مهر المثل، أو بمنزلة ما لو سمى خَمْراً أو خنزيراً.

وأُجيب بأن وجوب العشرة في تسميةِ دُونِها لِحَقِّ الشَّرْعِ، وقد وُجِدَ ما يَدُلُّ على رضا المرأة بها، وهو رضاها بدونها، بخلاف الخالي عن التسمية.

(وإن سَمَّى غَيْرَهُ) أي غير دون عشرة دراهم، وهو عشرة دراهم أو أكثر منها.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه 2/ 596 - 597، كتاب النكاح (12)، باب في الرجل يدخل بامرأته

(34، 35)، رقم (2126).

(2)

أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (فتح الباري) 9/ 190 - 191، كتاب النكاح (67)، باب السلطان ولي

(40)، رقم (5135).

(3)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(4)

مُتْعَةُ الطلاق: سيأتي شرحها عند المصنف ص 56.

ص: 52

فَالمُسَمَّى عِنْدَ مَوْتِ أحَدِهِمَا، أوْ عِنْدَ خَلْوَةٍ صَحَّتْ، وهي: أَنْ لا يوجَدَ مَانِعُ وَطئٍ حِسًا أو شَرْعاً أوْ طَبْعاً، كَمَرَضٍ يَمْنَعُهُ، وصَوْمِ رَمَضَانَ، وصَلَاةِ فَرْضٍ وإحْرَامٍ،

===

(فَالمُسَمَّى) واجب، أي فيجب المسمى (عِنْدَ مَوْتِ أحَدِهِمَا) لأن النكاح يُعْقَد للأبد، وبموت أحدهما تقرَّر ذلك.

(أوْ عِنْدَ خَلْوَةٍ صَحَّتْ) قال ابن المُنْذِر: هو قول عمر، وعليَ، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وجابر، ومعاذ، وقول الشافعي في القديم، وقال في الجديد ـ وهو قول مالك ـ: يجب على الزوج إذا طَلَّق بعد الخَلْوَة من غير وَطاءٍ نصفُ المُسَمَّى، لقوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ} .

(1)

الآيةَ.

ولنا قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُم إلى بَعْضٍ}

(2)

، وحقيقةُ الإفْضَاءِ الدخولُ في الفضاء، وهو المكان الخَالِي، والمَسُّ ليس بوَطاءٍ حقيقةً، وإنما حَمَلاه على الوَطْاء لأنه سببه، فأطلق اسم السبب على المُسَبَّب، وحملناه على الخلوة، لأنه لا يمس امرأةً عادة إلا في الخَلوة الصحيحة، فكان إطلاق اسم المَلْزُوم على اللازم، والمُسَبَّب على السبب، إذِ الخلوةُ الصحيحةُ سببُ المَسِّ ظاهراً.

وما ذكرنا أولى لتَأَيُّدِهِ بالنص، وبما روى مالك في «الموطأ» عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المُسَيَّب: أن عمر بن الخطاب قَضَى في المرأة إذا تَزَوَّجها الرجلُ، أنه إذا أُرْخِيَتِ السُّتُورُ، فقد وَجَبَ الصَّدَاقُ. وبقوله عليه الصلاة والسلام:«مَنْ كَشَفَ خِمَار امرأته، أو نظر إليها، وَجَبَ الصَّداقُ، دَخَل بها أو لم يدخل» . رواه الدَّارَقُطْنِيّ والشيخ أبو بكر الرَّازِي في «أحكامه» ، وبالإجماع فقد حكى الطَّحَاويّ إجماعَ الصحابة في هذه المسألة.

(وهي) أي الخلوة الصحيحة (أَنْ لا يُوجَدَ مَانِعُ وَطاءٍ حِساً أو شَرْعاً أوْ طَبْعاً) لأنَّها قائمة مقام الوَطْاء، فلا بُدّ من عدم المانع منه. (كَمَرَضٍ يَمْنَعُهُ) أي الوطاء بأنْ يكون الرجل مريضاً، أو تكون المرأة مريضةً مرضاً يضر بالزوج إذا وَطئَهَا. وهذا نظير المانع الحسيّ (وصَوْمِ رَمَضَانَ) لأنّ الوطاء فيه موجب للقضاء والكفارة. وقَيَّد به، لأن صوم التطوع، والنَّذْر، والقضاء، والكفارة لا يمنع صحة الخَلْوَة على الصحيح.

(وصَلَاةِ فَرْضٍ) لأنَّ إفسادها موجب للقضاء في الدنيا، والعقاب في العُقْبَى. وقيَّد بالفرض، لأن النافلة والواجبة لا تمنع صحة الخَلْوَة. (وإحْرَامٍ) بحج فرضٍ، أو

(1)

سورة البقرة، الآية:(237).

(2)

سورة النساء، الآية:(21).

ص: 53

وحَيْضٍ ونِفَاسٍ، بِخِلَافِ الجَبِّ والعُنَّةِ والخِصَاءِ

===

نفلٍ، أو بعُمْرَةٍ، لأن إفساد الإحرام موجب للمضيّ فيه، وللقضاء، والدَّم. وهذه الثلاثة نظير المانع الشَّرْعيّ.

(وحَيْضٍ ونِفَاسٍ) نظيران للمانع الطَبْعِيّ، وفيهما أيضاً المانع الشرعيّ. ولو خلا بها، ومعهما أعمى، أو نائم، أو صبيّ يعقل، لا تكون خَلْوَة. لأنَّ الأعمى يَحُسُّ، والنائم يستيقظ ويتناوم. ولو كان معهما صغير لا يعقل، أو مجنون، أو مُغْمَى عليه، فهي خَلْوَةٌ. وقيل: الجنون والإغماء يمنعان. أي لحصول الحياء، أو لاحتمال إفاقتهما في الأثناء. وفي «جوامع الفقه»: جاريتها تمنع صحة الخَلْوَة، وجاريته ليست بمانعة، أي لعدم حيائه منها، وكذا حكم الكلب.

وروى هِشَام عن محمَّد: إنْ خلا بها في بُسْتَانٍ ليس عليه باب، لم تصحَّ الخَلْوَة. ولو خلا بها في السطْحِ، إن كان عليه حِجَابٌ فهو خَلْوَةٌ. ولو خلا بها في قُبَّةٍ، وأرخى السِّتْرَ بينه وبين من في البيت، فهو خَلْوَةٌ. ولو رَدَّتْ أمُّها الباب، ولم تغلقه، وهما في خانٍ

(1)

، والناس قعود في ساحته، إن كانوا متَرَصِّدين لهما في النظر، لا تصحّ الخَلْوَة وإلاَّ تصحُّ.

وفي «الذَّخِيرَة» : أَنَّ أصحابنا أقاموا الخَلْوَة الصحيحة مقام الوطاء في تأكيد جميع المُسَمَّى، ومهر المِثْل إنْ لم يكن مُسَمَّى، وفي ثبوت النَّسَب، وفي وجوب العِدَّةِ والنَّفَقَةِ والسُكْنَى فيها، وفي حُرْمة نكاح أختها، ونكاح رابعة ما دامت العِدَّة، وفي حُرْمة نكاح الأمةِ على الحُّرَة، وفي العِدَّة عن طلاقٍ بائنٍ، وفي مراعاة وقت الطلاق في حقها. ولم يقيموها مقام الوطاء في الإِحْصَان، وفي حُرْمة البنات، حتى لا تَحْرُمُ البنت على رجل عقد على أمها وخلا بها، وفي الإحلال للزوج الأوَّل، وفي الرَّجْعَة، حتى لا يصير مُرَاجِعاً بالخَلْوَة، وفي الميراث، حتى لو مات في عِدَّة الخَلْوَة لا ترث منه. ولو أوقع الطلاق في عِدّة الخَلْوَة، فقيل: لا يقع. وقيل: يقع، وهو الصواب. لأنَّ الأحكام لَمَّا اختلفت في هذا الباب، وجب القول بالوقوع احتياطاً.

(بِخِلَافِ الجَبِّ) وهو قطع الذَّكر والأُنْثَيَيْنِ، فإنَّه ليس بمانع من صحة الخَلْوة عند أبي حنيفة (وَ) بخلاف (العُنَّةِ) وهو كون الرجل لا يقدر على الجِمَاع، أو على جِمَاع البِكْرِ، أو على جِمَاع امرأةٍ معينةٍ. (و) بخلاف (الخِصَاء) وهو قطع الأُنْثَيَيْنِ. وقال أبو يوسف ومحمد: الجَبُّ مانع كالمرض. ولأبي حنيفة إن تزوَّج المَجْبُوبُ

(1)

الخان: الفُنْدُق والحانوت والمَتْجَر. المعجم الوسيط ص 263، مادة (خان).

ص: 54

ونِصْفُهُ بِطَلَاقٍ قَبْلَهَا، وإنْ لَمْ يُسَمِّ فالمُتْعَةُ قَبْلَهَا

===

للاستمتاع لا للإيلاج، وقد سَلَّمَتْ نفسها لذلك، فيستحق كل البَدَل هنالك. وإليه أشار عمر رضي الله عنه بقوله: ما دونهن إذا جاء العَجْزُ من قِبَلِكُمْ.

(ونِصْفُهُ) أي ويجب نصف المُسَمَّى (بِطَلَاقٍ قَبْلَهَا) أي قبل الخَلْوَة الصحيحة، لأنها بمنزلة الوطاء، وقد قال الله تعالى:{وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ}

(1)

أي المطلقات، بأن لا يأخذن شيئًا {أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}

أي الزوج، بأن يعطي الجميع. ولم يُجَوِّزْ علماؤنا والشافعيّ عفو ولي الصغيرة أو المجنونة إسقاطاً، وأجازه مالك.

وهذا راجع إلى الاختلاف في تفسير: {الذي بيده عقدة النكاح} : فعنده هو الأب، وجمهور المفسِّرين قالوا: ـ الذي بيده عقدة النكاح ـ هو الزوج، لأنه إن شاء أمسكها، وإنْ شاء فارقها. ومعنى العَفْو تكملة الصَّداق بها، ويؤيده قوله تعالى:{ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ}

(2)

.

ثم لا مُتْعَة للمطلَّقة قبل الدخول وجوباً ولا استحباباً، على ما ذكره القُدُوريّ في «مختصره» من أنّ المتْعَةَ مستحبةٌ لكلِّ مطلَّقة إلاَّ لمطلَّقة واحدة، وهي التي طلَّقها قبل الدخول وقد سَمَّى لها مهراً. وفي بعض النُّسَخ: ولم يُسمِّ لها مهراً. ومن حكم باستحبابها كصاحب «المَبْسُوطِ» ، و «المُحِيطِ» ، و «المختلف» أرادوا أنه الإِحسان إلى من عجزت عن التَّكسب، وذا مندوب.

(وإنْ لَمْ يُسَمِّ) المهر حال العقد، أو نفاه (فالمُتْعَةُ) واجبة. أو فيجب المُتْعَة إذا حصلت الفُرْقة من قِبَل الزوج (قَبْلَهَا) أي قبل الخَلْوَة الصحيحة، وبه قال الشافعي، لقوله تعالى:{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ}

(3)

فقد أوجب الله المُتْعَة في نكاح ليس فيه فَرْضٌ، وقد وقع الطَّلاق قبل المَسِّ.

وقال مالك: هي مستحبةٌ لقوله تعالى عَقِيبَ الأمر: {حَقًّا عَلَى المُحْسِنِينَ}

(4)

وهم المتطوِّعون. فيكون صارفاً للأمر المذكور إلى النَّدْب. قلنا: لا نِسَلِّمُ قصر

(1)

سورة البقرة، الآية:(237).

(2)

سورة البقرة، الآية:(237).

(3)

سورة البقرة، الآية:(236).

(4)

سورة البقرة، الآية:(236).

ص: 55

ومَهْرُ المِثْلِ بَعْدَهَا.

===

المحسن على المتطوِّع، بل هو أعمُّ منه، ومن القائم بالواجبات أيضاً، فلا ينافي الوجوب، فلا يكون صارفاً للأمر عنه مع ما انضم إليه من لفظ «على» و «حقاً» .

والمُتْعَةُ: دِرْعٌ

(1)

وخِمَارٌ ومِلْحَفَةٌ. وهذا التقدير مرويّ عن عائشة، ورواه البيهقي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن المُسَيَّبِ، والحسن، وعطاء، والشَّعْبِي. وقال مالك في «الموطأ»: ليس للمُتْعَة حدٌ معروفٌ. وقال أحمد: أعلى المُتْعَة خادمٌ ـ أي مملوك ـ وأدناها كِسْوَةٌ يجوز لها أن تصلي فيها. قال الكَرْخَيّ: ويعتبر في المُتْعَة المستحبّة حال الرجل، وفي الواجبات حال الزوجة. لأنها قائمة مقام مهر المِثْل، وفيه يعتبر حاله، فكذا في خَلَفِه.

وفي «الهداية» : الصحيح أنه يعتبر حال الزوج عملاً بالنص، وهو قوله تعالى:{عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلَى المقْتِرِ قَدَرُهُ}

(2)

وهو اختيار أبي بكر الرَّازي. وفي «البَدَائِع» قيل: يعتبر حالهما كالنفقة.

قيَّدنا وجوب المُتْعَةِ بحصول الفُرْقَةِ من جهة الزوج، لأن الفُرْقة إذا حصلت من جهة المرأة كرِدَّتها، وتقبيلها ابن الزوج بشهوة، ورضاعها زوجته الصَّغيرة، وخيارها الفسخ بالبلوغ والإِعتاق، لا يُوجِب المتْعَة.

(و) يجب (مَهْرُ المِثْلِ بَعْدَهَا) أي بعد الخَلْوَة الصحيحة، لأنه يجب هنا بعد الوطاء وهي بمنزلته. والأصح من قولي الشافعي (ومالك:)

(3)

إِنه يجب مهر المِثْلِ بالوطاء إن لم يسمِّ في العقد مهراً، وكذا بعد موت أحدهما. ونفاه مالك والشافعي، لأن المهر خالص حقها فيتمكن من نفيه ابتداءً، كما يتمكن من نفيه انتهاءً. ولأن عمر وعلياً وزيداً قالوا في المُفَوضَة

(4)

: حسبها.

ولنا ما روى أصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذي: حسن صحيح، من حديث عَلْقَمَة قال: سُئِلَ ابن مسعود عن رجلٍ تزوَّج امرأة ولم يفرض لها صَدَاقاً، ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود: لها مثل صَداق نسائها، لا وَكْسَ ولا شَطَط. أي لا

(1)

الدِّرْعُ: قميص المرأة أو ثوب صغير تلبسه الجارية في البيت. المعجم الوسيط ص 280، مادة (درع).

(2)

سورة البقرة، الآية:(236).

(3)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(4)

المُفَوَّضة: هي التي فوَّض الشرع أمر المهر إليها في إثباته إسقاطه. المصباح المنير ص 384، مادة (فوض).

ص: 56

وصَحَّ النِّكاحُ بِلَا ذِكْرِ مَهْرٍ، ومَعْ نَفْيِهِ وبِشَيْءٍ غَيْر مَالٍ مَتَقَوَّمٍ، وبِمَجْهُولِ جِنْسِهِ

===

نقص ولا زيادة. وفي رواية لها الصَّداق كاملاً، وعليها العدَّة، ولها الميراث. فقام مَعْقِل بن سِنان الأشْجَعِيّ فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَرْوَعَ بنت وَاشِقٍ ـ امرأةٍ منا ـ مثل ما قضيت، ففرح بها ابن مسعود.

وفي رواية: فاختلفوا إليه شهراً، أو قال مرات، فقال: أقول فيها: إنّ لها صَدَاقاً كصداق نسائها لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، وإنّ لها الميراث، وعليها العِدَّة، فإن يك صواباً فمن الله، وإن يك خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. فقام ناس من أشْجَع فيهم الجَرَّاح وابن سِنَان فقالوا: يا ابن مسعود نشهد أنَّ نبي الله قضى فينا في بَرْوَعَ بنت وَاشِقٍ، وزوجها هلال بن مُرَّة الأشْجَعِيّ كما قضيت. قال: ففرح بها عبد الله فرحاً شديداً حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم

(وصَحَّ النِّكاحُ بِلَا ذِكْرِ مَهْرٍ) بأن عقدا النكاح ساكتين عن المهر لقوله تعالى: {فانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ}

(1)

، وهو لغة لا يُنْبِاء إلاّ عن الانضمام والازدواج، فيتم بالمتناكحيْن، فلو شرطنا التسمية فيه لزدنا على النَّص. (ومَعْ نَفْيِهِ) بأنْ عقداه على أنَّ لا مهر لقوله تعالى:{ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}

(2)

حيث حكم بصحة الطلاق مع عدم التسمية، وصحة الطلاق يستدعي صحة النّكاح. وهو لا يُنَافي كون المهر يجب شرعاً لقوله تعالى:{وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا}

(3)

. ووافقنا الشافعيّ في المسألتين

(4)

، وخالفنا مالك في الثَّانية

(5)

.

(وبِشَيْءٍ غَيْر مَالٍ مَتَقَوَّمٍ) كأنْ تزوَّج مسلم مسلمة على ميتةٍ، أو دَمٍ، أو على خمرٍ، أو على خنزيرٍ، لأنهما سمَّيا ما لم يصح تسميته، فكان كما لو لم يسمِّيا شيئاً. (وبِمَجْهُولِ جِنْسِهِ) كأنْ تزوَّج على دابةٍ، أو على ثوب، أو على دارٍ، لأنه لَمَّا سمَّى مجهولاً لا يصح عِوَضاً، كان حكمه كما لو لم يسمِّ شيئاً، وذلك لأنَّ الثياب أجناسٌ مختلفةٌ لاختلاف أصولها من القطن والكَتَّان والإِبْرَيْسَم

(6)

، وكذا الدَّابة لأنها

(1)

سورة النِّساء، الآية:(3).

(2)

سورة البقرة، الآية:(236).

(3)

سورة النساء، الآية:(24).

(4)

أي في صحة النكاح بلا ذكر مهر ومع نفيه.

(5)

أي في صحة النكاح مع نفي المهر.

(6)

الإبْرَيْسَم: أحسن الحرير. المعجم الوسيط ص 2، مادة (أبر).

ص: 57

ويَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ كَمَا مَرَّ، أوْ صِفَتِهِ، فالوَسَطُ أوْ قِيمَتُهُ. وَلَوْ كَانَ بِخِدْمَةِ الزَّوْجِ العَبْدِ، تَجِبُ هِيَ،

===

تقع على الخيل، والبغال، والحمير، ونحوها.

(ويَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ) في هذه الصُّور كلها (كَمَا مَرَّ) في قوله: وإن لم يُسَمِّ بعد الخَلْوَة (أوْ صِفَتِهِ) عطف على جنسه أي بمجهول صفته دون جنسه. كأنْ تزوَّجها على عبدٍ، أو فرسٍ، أو ثوبٍ هرويٍّ

(1)

، أو مكيلٍ، أو موزونٍ، غير الدراهم والدنانير مما عُلم جنسه دون صفته.

(فالوَسَطُ) واجب، أو فيجب الوَسَط من ذلك المسمَّى، لأنَّ فيه عدلاً للرجل والمرأة، (أوْ قِيمَتُهُ) أي قيمة الوَسَط وتُجْبَرُ المرأة على قَبُول أيهما دفع الزَّوج، لأنَّ الوسط أصل تسميته، وهو لا يُعْرَف إلاَّ بالقيمة، فصارت أصلاً إيفاءً. ولو بالغ في وصف الثوب، يجب الوَسَط أو قيمته في ظاهر الرواية، لأنَّ الثياب ليست من ذوات الأمثال. (وَلَوْ كَانَ) النِّكاح (بِخِدْمَةِ الزَّوْجِ العَبْدِ) بأن تزوَّج عبدٌ امرأةً بإذن مولاه على خدمته

(2)

مدةً معينةً (تَجِبُ هِيَ) أي الخدمة، لأنه لَمَّا خدمها بإذن مولاه، صار كأنَّه خدم مولاه.

قيَّد بالخدمة، لأنه لو تزوَّج على تعليم القرآن، يجب مهر المثْل، لأنه سمى ما لا يصلح صَداقاً لكونه عبادة، فصار كما لو سمَّى تعليم الإيمان، أو الصلاة، أو الصوم. وقَيَّدَ بالعبد، لأن الحُرَّ إذا تزوَّج على خدمته مدةً معينةً، يجب مهر المِثْل عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقيمة الخدمة عند محمد. وعند مالك، والشافعي: يجب ما سمَّى لها من التعليم والخدمة، واحْتَجَّا بقوله عليه الصلاة والسلام:«زَوَّجْتُكَهَا بما معك من القرآن»

(3)

.

وأُجِيبَ بأنّ الباء للسببية لا للبدلية. وفي شرط رَعْي غنمها روايتان عندنا: فعلى رواية «الأصل» ، و «الجامع» لا يجوز، وعلى رواية ابن سَمَاعَة: يجوز. ويجعل أبو يوسف رحمه الله إعتاقها على أن يتزوَّج بها صَدَاقها، كأن يقول: أعْتَقْتُكِ على أن تُزَوِّجِينِي نفسكِ فقبلت، صحَّ العِتْقُ، وهي بالخيار في تزوّجه، ولا تجبر عليه وإن التزمته، لعدم وجوبه بالالتزام. فإن تزوَّجته ولم يسم لها مهراً، قال أبو

(1)

ثوب هرويّ: منسوب إلى هَرَاة، قرية بخُرَاسان. انظر "المغْرب في ترتيب المُعرب" 2/ 383. مادة (هرو).

(2)

أي: على خدمته للزوجة.

(3)

تقدّمَ تخريجه ص 52، التعليقة رقم:(2).

ص: 58

وَلَوْ كَانَ بِهَذَا العَبْدِ أوْ هَذَا العَبْدِ فَمَهْرُ المِثْلِ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا. ويَجِبُ الأَخَسُّ لَوْ دُونَهُ، والأعزُّ لَوْ كَانَ فَوْقَهُ.

===

يوسف: عتقها صَدَاقها. لِمَا صح أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أعتق صَفِيَّة وجعل عِتْقَها صَدَاقَها. ولأنَّها لو أبت نكَاحه، يجب عليها قيمة نفسها، فإذا تزوَّجته سلَّم لها قيمتها، فكان بدلاً عن بُضْعِها.

وأبو حنيفة ومحمد أوجبا لها مهر مِثْلها، لعدم إمكان جعل رقبتها مهراً، لأنها إن جُعِلَتْ قبل العِتْقِ فهي أَمَتُه، وليس له تزوُّجها، فيستحيل كون رقبتها مهراً لها، وإن جُعِلَتْ مهراً بعد العِتْق فهي حُرَّة، ورقبة الحُرَّة لا تصلح مهراً. والنص قد أَلصق ابتغاء النكاح بالمال بقوله تعالى:{وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بأَمْوَالِكُمْ}

(1)

.

وأما قضية صَفِّية فلا تُلْزِمُ، لأنه عليه الصلاة والسلام كان مخصوصاً بالنكاح بلا مهر لقوله تعالى:{وامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنَّبِيِّ إنْ أرَادَ النَّبِيُّ أنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ}

(2)

وألزمناها قيمتها إن امتنعت من تزوُّجه، فتسعى له فيها، وهي حرة في حالة السِّعاية بالإجماع. ولم يلزمها زُفَرُ بها.

(وَلَوْ كَانَ) النِّكَاحُ (بِهَذَا العَبْدِ) الأبيض (أوْ هَذَا العَبْدِ) الحبشيّ، بأن تزوَّجها على أحدهما، وأحدهما أوْكَسُ

(3)

من الآخر، أو تزوجها على ألفٍ، أو على ألفين. (فَمَهْرُ المِثْلِ) يجب (إنْ كَانَ) مهر المثل (بَيْنَهُمَا) بأن كان أقل من الأعزّ وأكثر من الأخسّ. (ويَجِبُ الأَخَسُّ لَوْ) كان مهر المثل (دُونَهُ) أي الأخسّ. (و) يجب (الأعزُّ لَوْ كَانَ) مهر المثل (فَوْقَهُ) وهذا كله عند أبي حنيفة.

وقالا: يجب الأقل في الأحوال الثلاث، لأنَّ الأقلَّ متيقنٌ والفضل مشكوكٌ فيه، فيجب الأخذ بالمتقين، كما في الخُلْعِ، والإعتاق، والطَّلاق على ألفٍ أو ألفين.

ولأبي حنيفة: أن الواجب بالأصالة في باب النِّكاح مهر المثل لأنه الأعدل إذ المُسَمَّى قد يكون أكثر من قيمة البُضْعِ وقد يكون أقل منها، وإنما يُعْدَلُ عنه

(4)

إذا صحَّت التسمية، وهنا لم تصح لجهالة المسمَّى. والخُلْع، والإعتاق، والطلاق على مالٍ ليس لواحد منها مُوجِبٌ أصليّ يُصَار إليه، فيتعين الأخذ بالمتيقَّن.

(1)

سورة النساء، الآية (24).

(2)

سورة الأحزاب، الآية:(50).

(3)

الوَكْسُ: النقصان. المصباح المنير ص 670، مادة (وَكَسَ).

(4)

أي مهر المِثْل.

ص: 59

وإِنْ طَلَّقَ قَبْل الوَطْئِ، فَنِصْفُ الأَخَسِّ.

وإنْ نَكَحَ بِأَلْفٍ عَلَى أنْ لَا يُخْرِجَهَا، أو بِأَلْفٍ إنْ أَقَامَ بِهَا، وبِألْفَيْنِ إنْ أَخْرَجَ، فإنْ وَفَّى وأقام فألفٌ، وإِلَّا فَمَهْرُ المِثْلِ، لا يُزَادُ عَلَى أَلْفَيْنِ ولا يُنْقَصُ عَنْ ألفٍ.

===

(وإنْ طَلَّقَ قَبْل الوَطْاءِ

(1)

، فَنِصْفُ الأَخَسِّ) باتفاقهم سواء كان مهر المِثْل دون الأخسّ، أو فوق الأعزّ، أو بينهما، لأَن المُتْعَة قبل الدخول كَمهِر المِثْل بعده، ونصف الأخسّ يزيد على المُتْعَة عادةً، فيجب نصفه. (وإنْ نَكَحَ بِأَلْفٍ) وشرط لها مع المسمَّى شيئاً ينفعها كان تزوّجها بألفٍ (عَلَى أنْ لَا يُخْرِجَهَا) من البلد، أو على أنْ لا يتزوَّج عليها، أو على أن يُهْدِي لها هدية.

(أو) نكح بأقلّ، على تقديرٍ، كالإقامة مثلاً، وبأكثرَ على مُقَابِلِهِ من الإخراج، كان تزوُّجها (بِأَلْفٍ إنْ أَقَامَ بِهَا وبِألْفَيْنِ إنْ أَخْرَجَ) أو بألف إن لم يكن له امرأة، وبألفين إن كانت حرّة، أو بألف إن كانت مَولاة

(2)

الأصل، وبألفين إن كانت حرّة، صَحَّ النِّكاح، وإن كان شرطُ عدم التَّزَوُّجِ، وعدم المسافرة فاسداً، لكونه منعاً من الأمر المشروع، لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة.

(فإنْ وَفَّى) بالشرط في المسألة الأولى (وأقام) في المسألة الثَّانية (فألفٌ) لرضاها بذلك (وإلاَّ) أي وإنْ لم يفِ بالشرط في المسألة الأولى، ولم يقم بها في المسألة الثَّانية (فَمَهْرُ المِثْلِ) أمَّا في المسألة الأولى فباتفاقٍ، لأنه سمّى ما لها نفع فيه وقد نفاه، فيجب مهر المثل لعدم رضاها إلاّ به. وأمَّا في المسألة الثانية فعند أبي حنيفة يجب مهر المِثْلِ (لا يُزَادُ عَلَى أَلْفَيْنِ) لأنها رضيت بهما (ولا يُنْقَصُ عَنْ ألفٍ) لأنه رَضِيَ به. وعندهما الشَّرطان معاً جائزان.

فلها الأقل إن أقام بها، والأكثر إن أخرجها، لأنّ كلاً من الإقامة والإخراج مقصودٌ عُرْفاً، واختلافهما كاختلاف النوع. فصار كما لو تزوَّجها على ألفٍ إنْ كانت قبيحة، وعلى ألفين إن كانت جميلة، وكما إذا اشترى أحد الشيئين على أنْ يأخذ أيهما شاء، وعيَّن ثمن كل واحد منهما على التفاوت. ولأبي حنيفة أنَّ الشرط الأول صحيح باتفاق، فتعلَّق العقد به، وصحت التسمية التي معه، والشرط الثاني غير صحيح، لأن الجهالة نشأت منه، والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة، ومهر المثل هو الأصل فوجب الرجوع إليه.

(1)

في المطبوع: الخَلْوة، والمثبت من المخطوط.

(2)

المَوْلَى: العَبْد والمُعْتَق. النهاية 5/ 228.

ص: 60

وإنْ نَكَحَ بِهَذَيْنِ العَبْدَيْنِ وأَحَدُهُمَا حُرٌّ، فَلَهَا العَبْدُ فَقَطْ إنْ سَاوَى عَشْرَةً. وإنْ شَرَطَ البَكَارَة ووُجِدَتْ ثَيِّبًا لَزِمَ الكُلُّ.

وفي النكَاحِ الفَاسِدِ إنْ لَم يَطَأْ لا يَجِبُ شَيْءٌ، وإنْ وَطِيء يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ وَقْتِ الوَطْئِ.

وَمَهْرُ المِثْلِ لا

===

(وإنْ نَكَحَ بِهَذَيْنِ العَبْدَيْنِ وأَحَدُهُمَا حُرٌّ) جملة حالية (فَلَهَا العَبْدُ فَقَطْ إنْ سَاوَى عَشْرَةً) وإنْ لم يساوِ عشرةً فلها كمال العشرة، وهذا عند أبي حنيفة، لأن الإشارة مُعْتَبَرَةٌ عنده، فصار كأنه قال: تزوجتك على هذا الحُرّ، وعلى هذا العبد. وقال أبو يوسف: لها العبد وقيمة الحر لو كان عبداً، لأنهما لو ظهرا حُرَّيْنِ وجبت قيمتهما عنده، فكذا إذا ظهر أحدهما حرًّا. وقال محمد: لها العبد، وتمام مهر المثل إن نقصت عنه قيمة العبد. لأنهما لو كانا حُرَّيْنِ يجب مهر المثل عنده، فكذا إذا كان أحدهما حرًّا. ولأبي حنيفة لأَنَّ العبد يَصْلُح مهراً لكونه مالاً، فيجب، ووجوب المسمَّى المساوي عشرة يمنع وجوب شيء آخر.

(وإنْ شَرَطَ البَكَارَة ووُجِدَتْ ثَيِّباً لَزِمَ الكُلُّ) لأن البَكَارة لا تصير مستحقة بالنكاح.

(وفي النّكَاحِ الفَاسِدِ) كتزوّج الأختين معاً، والتزوّج بغير شهود، وتزوّج الأخت في عِدّة الأخت، وتزوّج المعتدة من الغير، وتزوُّج الخامسة في عدة الرابعة، وتزوُّج الأمة على الحُرَّة (إنْ لَمْ يَطَأْ لا يَجِبُ شَيْءٌ) سواء خلا بها، أو لم يخل، حتى إذا فرَّق القاضي بينهما قبل الدخول، فلا مهر لها، وكذا بعد الخَلْوَة، لأنَّ وجوب المال في النكاح الفاسد ليس للعقد، لعدم صحته. ولهذا كان لكل من الزوجين فسخه قبل الدّخول بغير محضر من الآخر، كما في البيع الفاسد قبل القبض ولا حدَّ للخَلْوَةِ، لوجود الحرمة المانعة من صحتها، وإنما هو

(1)

لاستيفاء منافع البُضْع.

(وإنْ وَطِاء يَثْبُتُ النَّسَبُ) أي نسب الولد، لأنه يُحتاط في ثبوته إحياءً للولد من الضياع. فعند محمَّد (مِنْ وَقْتِ الوَطْاءِ) بشرط أنْ يكون بينه وبين وقت الوضع ستَّة أشهر. قال أبو اللَّيْثِ: وعليه الفتوى. وعندهما: من وقت النكاح كما في النكاح الصحيح، وتثبت العِدَّة تحرُّزاً عن اشتباه النَّسَبِ من وقت التفريق، لأنها وجبت لشبهة النّكاح، ورَفْعُها بالتفريق.

وقال زُفُرُ: من آخر وطاء وَطئها، (وَ) يثبت (مَهْرُ المِثْلِ لا

(1)

أي المهر.

ص: 61

يُزَادُ عَلَى المُسَمَّى. ويُعْتَبَرُ مَهْرُ مِثْلِهَا مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا سِنًّا، وجَمَالاً، ومَالاً، وعَقْلاً، ودِيناً، وبَلَداً، وعَصْراً، وبَكَارَةً، وثِيَابَةً، فَإنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ فَمِنَ الأَجَانِبِ، لا الأمِّ وقَوْمِهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ قَوْمِ أبِيهَا.

===

يُزَادُ عَلَى المُسَمَّى) لأنها أسقطت حقها في الزيادة لرضاها بدونها. وقال زُفَرُ: يثبت مهر المثل، وإن زاد على المسمَّى، كالبيع الفاسد يجب فيه القيمة (وإن زادت على الثمن)

(1)

، ولو لم يكن المهر المسمى، أو كان مجهولاً، يجب مهر المثل بالغاً ما بلغ باتفاقٍ، إلحاقاً لشبهة النكاح بحقيقته.

(ويُعْتَبَرُ مَهْرُ مِثْلِهَا مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا) كأخواتها لأبيها، وعمّاتها وبناتهنّ لقول ابن مسعود: لها مهر مثل نسائها. ولأن مهر المثل قيمة البُضْع، وقيمة الشيء يُعْرَفُ بجنسه، وجنس الإنسان قوم أبيها، وفي بعض النُّسخ: ومهر مثلها مهر مثلها من قوم أبيها،، أي مهر مثلها في الشرع هو مهر مماثِلَتِها من قوم أبيها. (سِنًّا) أي عمراً وقت التَّزوُّج (وجَمَالاً) أي حُسْناً (ومَالاً وعَقْلاً) أي كثرة وقلة (ودِيناً) أي ديانة (وبَلَداً وعَصْراً) أي مكاناً وزماناً (وبَكَارَةً وثِيَابَةً) وأدباً وخُلُقاً، لأن المهر باعتبار هذه الأوصاف يزيد وينقص.

(فَإنْ لَمْ يُوجَدْ) مثلها في تلك الأوصاف (مِنْهُمْ) أي من قوم أبيها (فَمِنَ الأَجَانِبِ) يعتبر مهر مثلها في تلك الأوصاف (لا الأمِّ) أي لا يعتبر في مهر مِثْلِها مِثْلُها من جهة أمِّها (وقَوْمِهَا إنْ لَمْ تَكُنْ) أمها (مِنْ قَوْمِ أبِيهَا) بأن تكون بنت عمّ أبيها، لأن أولاد الخلفاء من الإماء يَشْرُفُون بشرف آبائهم دون أمَّهاتهم.

وفي «المُنْتَقَى» : يُشْتَرَطُ أن يكون المُخْبِرُ بمهر المثل رجلين، أو رجلاً وامرأتين، ويُشْتَرَطُ لفظ الشهادة، فإن لم يوجد على ذلك شهود عدول، فالقول قول الزَّوج مع يمينه، وهو قول ابن أبي لَيْلَى. ويستثني أبو يوسف ما يُسْتَنْكَرُ جداً في العُرْفِ والعادة، وإن اختلفا في التسمية، بأن قال أحدهما: سَمَّينا في هذا العقد مهراً وأنكر الآخر، كان القول للمنكر بالإجماع. وإِن اختلف ورثتهما في قدر المهر، فالقول لورثة الزَّوج عند أبي حنيفة، ولا يُحْكَمُ بمهر المِثْلِ لسقوط اعتباره بعد موتهما عنده. ويستثني أبو يوسف ما يُسْتَنْكَرُ، كما في حال حياتهما.

وجعل محمد اختلاف ورثتهما فيه كاختلافهما في حال الحياة، فقال: القول

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 62

وصَحَّ ضَمَانُ وَليِّهَا مَهْرَهَا ولَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً،

===

لورثة المرأة إلى مهر مثلها، والقول لورثة الزَّوج في الفضل، كما في حال الحياة. وإن اختلف ورثتهما في أصل تسميته، فادَّعَى ورثة الزَّوج أن الزَّوج سمَّى لها، وأنكرها ورثة الزَّوجة، فالقضاء بشيءٍ مُنْتَفٍ عند أبي حنيفة. وأوجبا مهر مثلها في تَرِكَتِه، وهو القياس، لأن مهر المثل وجب بنفس العقد، فكما لا يسقط المُسَمَّى بعد موتهما، فكذلك مهر المثل. ألَا تَرى أن بعد موت أحدهما لا يسقط مهر المثل، وورثة الميِّت يقومون مقامه في ذلك، فكذلك بعد موتهما.

واستحسن أبو حنيفة فقال: لا يُقْضَى بشيءٍ واستدل في «الكتاب» ـ يعني «الأصل» ـ فقال: أرأيت لو ادَّعى ورثة علي رضي الله عنه على ورثة عمر رضي الله عنه مهر أم كلثوم، أكنت أقضي فيه بشيء؟ وهذا إشارة إلى أنه إنما يقول بهذا

(1)

بعد تقادم العهد، لأنه يختلف باختلاف الأوقات، فإذا تقادم العهد، وانقرض أهل ذلك العصر، يتعذر وقوف القاضي على مقدار مهر المثل. وعلى هذا الطريق، إذا لم يكن العهد متقادماً يَقْضي بمهر مثلها. والطريق الآخر، أنّ المستحق بالنِّكاح ثلاثة أشياء: المُسَمَّى وهو الأقوى. والنفقة وهي الأضعف. ومهر المثل وهو المتوسط.

فالمسمَّى لقوته لا يسقط بموتهما، وموت أحدهما. والنفقة لضعفها تسقط بموت أحدهما. ومهر المثل يتردَّد (بين ذلك، فَيَسْقُطُ بموتهما، ولا يسقط بموت أحدهما، لأن ما تردَّد)

(2)

بين أصلين، يوفر

(3)

حظّه عليهما، ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا أنّ مهر المثل هل يسقط بموت أحدهما؟ فيكون ذلك اتفاقاً منهم أنه يسقط بموتهما، والله تعالى أعلم.

(وصَحَّ ضَمَانُ وَليِّهَا مَهْرَهَا ولَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً) وكذا ضمان وليِّه مهرها، لأنّ الوليّ أهل للالتزام، وقد أضاف الضَّمان إلى ما يقبله ـ وهو المهر ـ فيصح. ثم للمرأة أنْ تطالب الوليّ، أو الزوج إلاَّ إذا كان صغيراً، فليس لها أنْ تطالب إلاَّ بعد بلوغه. وفي «شرح الوِقَايَة»: وإنما قال: ولو صغيرة، لأنها إذا كانت صغيرة فمُطَالِبُ المهر ليس إلاَّ وليّها، فيتوهم أنه لا يجوز الضَّمان. لأنه باعتبار الضَّمان يكون مُطَالَباً، فيكون الشخص الواحد مُطَالِباً ومُطَالَباً، لكن لا اعتبار لهذا التَّوهُّم، لأن حقوق العقد في النِّكاح راجعة إلى الأصل، والوليُّ سفير ومعبر.

(1)

في المخطوط: يفوت هذا، والمثبت من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(3)

في المطبوع: فيوفر.

ص: 63

والمُعَجَّلُ والمُؤَجَّلُ إن بُيِّنَا فَذَاكَ، وإِلَّا فالمُتَعَارَفُ. وقَبْلَ أَخْذِ المُعَجَّلِ لَهَا مَنْعُهُ مِنَ الوَطْئِ وَالسَّفَرِ بِهَا، وَلَوْ بَعْدَ وَطْئٍ بِرِضَاهَا بِلَا سقُوطِ النَّفَقَةِ. والسَّفَرُ

===

هذا، ولو زوَّج طفله الفقير، أو عبده، أو مُكَاتَبَهُ لا يلزمه المهر عندنا، وألزم مالك، والشافعي به.

(والمُعَجَّلُ والمُؤَجَّلُ) أي المقدَّم والمؤخَّر من المهر (إن بُيِّنَا) أي عُيِّنَا (فَذَاكَ) أي فما بيّناه هو المعجَّل والمؤجَّل، سواء بينا تعجيل الجميع أو تأجيله مسقطاً أو غيره، أو تعجيل البعض، وتأجيل البعض. (وإلاَّ) وإن لم يبيِّنا (فالمُتَعَارَفُ) فإن كانا في موضع يُعَجَّلُ فيه البعض، ويُؤَجَّلُ الباقي إلى الطَّلاق، أو الموت، يُنْظَرُ كم يكون المعجَّل لمثل هذه المرأة من مثل هذا المهر في متعارف ذلك القوم، فَيُجْعَلُ ذلك مُعَجَّلاً، والباقي مُؤَجَّلاً.

(وقَبْلَ أَخْذِ المُعَجَّلِ) الذي بيَّناه أو تبيَّن بالعُرْف (لَهَا مَنْعُهُ مِنَ الوَطْاءِ وَ) من (السَّفَرِ بِهَا) حتَّى تقبضه ليتعين حقها في البَدَلِ

(1)

، كما تعين حقُّه في المُبْدَل

(2)

. قيَّد بالمعجَّل، لأنها لا تمنع نفسها قبل أخذ المؤجَّل، سواء كان جميع المهر ـ وفيه خلاف أبي يوسف ـ أو بعضه، وسواء كانت المدة قصيرةً أو طويلةً، وسواء كان التَّأجيل في العقد أو بعده. وفي «الخَانِيَّة»: ليس لها الامتناع بعد حلول الأجل أيضاً، لأن العقد لم يوجب لها حقَّ الامتناع في المؤجَّل، فلا يثبت لها بعده.

(وَلَوْ) كان المنع (بَعْدَ وَطْاءٍ) أو خَلْوَة صحيحة (بِرِضَاهَا) وهو قول أبي حنيفة، أو بغير رضاها: بأن تكون مكرهة، أو صبيةً، أو مجنونة، وهو قولهم جميعاً. وقالا: ليس لها منعه بعد الوَطْاء، أو الخَلْوَة برضاها. وفي «الإيضاح»: إنه قول أبي حنيفة أولاً، (بِلَا سُقُوطِ النَّفَقَةِ) أي مع عدم سقوط نفقتها. والمعنى لا يسقط بذلك المنع عن الزَّوج نفقتها، وهذا عند أبي حنيفة، لأن المنع بحقّ، حيث ليس عن نشوز

(3)

. وعندهما: لا نفقة لها.

قال فخر الإسلام في «شرح الجامع الصغير» : كان أبو القاسم الصَّفَّار يفتي في المنع من الوطاء بقول أبي يوسف ومحمد بسقوط النفقة، وفي المنع من السَّفر بقول أبي حنيفة بعدم سقوطها. قال: وهو حَسنٌ في الفُتْيَا. (والسَّفَرُ) هو بالرفع معطوف

(1)

أي المهر.

(2)

أي البُضْع.

(3)

نشزت المرأة من زوجها: عصت زوجها وامتنعت عليه، ونشز الرجل من امرأته: تركها وجفاها. المصباح المنير ص 605، مادة (نشر).

ص: 64

والخُرُوجُ لِلْحَاجَةِ بِلَا إذْنِهِ وبَعْدَ أَخْذِهِ يَنْقُلُهَا، وقِيلَ: لا يُسَافِرُ بِهَا، وبِهِ يُفْتَى.

===

على منعه، أي وقبل أخذ المعجَّل لها السفر (والخُرُوجُ) من منزل الزَّوج (لِلْحَاجَةِ) وزيارة أهلها (بِلَا إذْنِهِ) لأن حَقَّ الحَبْس لحق الاستيفاء منها، وليس له حق الاستيفاء منها قبل الإيفاء لها.

(وبَعْدَ أَخْذِهِ) أي المعجَّل (يَنْقُلُهَا) ويسافر بها حيث شاء، وكذلك إذا كان جميع المهر مؤجَّلاً لقوله تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}

(1)

أي أسكنوهن مكان بعض سُكْنَاكُم بقدر سعتكم

(2)

. فـ: مِنْ للتبعيض، والوُجْدُ: القدرة والغنى. (وقِيلَ: لا يُسَافِرُ بِهَا) إلى غير بلدها الذي نكحها فيه (وبِهِ يُفْتَى). قال الفقيه أبو اللَّيْثِ في «النَّوَازِل» : سُئل أبو القاسم ـ يعني الصَّفَّار ـ عن امرأة يريد زوجها إخراجها من البلد ولم يُوَفِّ لها جميع مهرها قال أبو القاسم: لها أن لا تخرج من بلدها إلى بلد آخر، سواء أَوْفَاهَا المهر، أو لم يُوَفِّها لفساد الزَّمان.

قال أبو اللَّيْث: وبه نأخذ، فكيف لو أدرك أبو القاسم زماننا هذا؟ ثم قال: وقيل لأبي القاسم: أليس يجوز أن يُخْرِجَهَا من المدينة إلى القرية، ومن القرية إلى المدينة؟ قال: ذلك تَبوِئَةٌ وليس بسفر. وإخراجها من بلد إلى بلد سفر، وليس بتَبْوِئَةٍ. أي بمنزلة تحويل من بيت إلى بيت. وفي «فصول الأُسْرُوشَني»

(3)

: قال ظَهِير الدِّين المَرْغِينَانيّ: الأخذ بقول الله تعالى أولى، قال الله تعالى:{أسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُم} . انتهى.

وأُجيبَ بأن قول الفقيه ليس منافياً لقوله تعالى، لأنه تعالى قال:{ولا تُضَارُّوهُنَّ}

(4)

وفي السفر بها بغير رضاها إضرارٌ بها. وأفتى كثير من المشايخ بقول أبي اللَّيْثِ. وقيل: يجوز مطلقاً إنْ أوْفَاها المعجَّل والمؤجَّل أيضاً، وكان مأموناً عليها، وبه أفتى البعض، وهو أقرب إلى التحقيق، والله وليُّ التوفيق.

(1)

سورة الطلاق، الآية:(6).

(2)

في المطبوع: متعتكم، والمثبت من المخطوط.

(3)

في المطبوع والمخطوط: الأستروشني، وهو كذلك في كثير من الكتب الفقهية، والصواب ما أثبتناه. لأنَّه منسوب إلى: أُسْرُوشَنَة، وهى بلدة كبيرة وراء سمرقند. انظر "الأنساب" 1/ 141، و"تهذيب الأنساب 1/ 54، وذكر الحَمَوي في "معجم البلدان"، أن "أسروشنة" بالفتح ثم السكون، وضم الراء، وسكون الواو، وفتح الشين المعجمة، ونون، والأشهر الأعرف أن بعد الهمزة شينًا معجمة أي: "أَشْرُسَنَة" انظر 1/ 177 و 197.

(4)

سورة النساء، الآية:(6).

ص: 65

إنْ بَعَثَ إلَيْهَا فَقَالَتْ: هُوَ هَدِيَةٌ، وَقَالَ: مَهْرٌ، فَالقَوْلُ لَهُ، إِلَّا فِيمَا هُيِّيءَ لِلْأَكْلِ.

‌فَصْلٌ في نكاحِ الرَّقِيقِ والكَافِرِ

نِكَاحُ القِنِّ والمُكَاتَبِ

===

(حكم هديَّة الخِطْبَة)

(إنْ بَعَثَ إلَيْهَا) أي امرأته شيئًا (فَقَالَتْ هُوَ هَدِيَةٌ، وَقَالَ: مَهْرٌ) أو هو من المهر (فَالقَوْلُ لَهُ) مع يمينه، لأن التمليك أُسْتُفِيدَ منه، فكان أعرف بجهته، كما لو أنكر التَّمليك أصلاً، وكان الظاهر أنه يسعى في إسقاط ما في ذمته (إِلاَّ فِيمَا هُيِّاءَ لِلأَكْلِ) كالخبز، والشِوى، واللَّحْم المطبوخ، والفواكه التي لا تبقى بخلاف الحِنْطَة، والعسَل، والسَّمن، والجوز، واللَّوز، لأن الظاهر يكذِّبه، والقول قول من يشهد له الظاهر.

وقال بعض المحقِّقين: والذي يجب اعتباره في ديارنا، أن جميع ما ذكر من الحِنْطَة، والدقيق، والسُّكر، وباقيها يكون القول فيه قول المرأة، لأن المتعارف في ذلك كله إرساله هدية، فالظاهر مع المرأة لا معه، ولا يكون القول له إلاّ في نحو الثِّيَاب، والجارية. وقال الفقيه أبو اللَّيْثِ: المختار أنَّ ذلك الشيء إن كان مما لا يجب على الزَّوج، فالقول قوله، وإن كان مما يجب عليه بعد العقد كالخِمَار والدِّرع

(1)

فالقول قولها، لأن الظاهر يكذِّبه.

وفي «الذَّخِيرَة» : جَهَّزَ بنته وزوَّجها، ثم زَعَمَ أنّ الذي دفعه إليها ماله وكان على وجه العَارِيَّة عِنْدَها، وقالت: هو ملكي جهَّزني به، أو قال الزَّوج ذلك بعد موتها، فالقول قولهما دون الأب، لأن الظاهر شاهد بملك البنت، إذ العادة دفع ذلك إليها بطريق الملك. وحُكِي عن عليّ السُفدِيّ: أنّ القول قول الأب، لأن ذلك يُسْتَفَادُ من جهته. وذكر شمس الأئمة السَّرْخَسِيّ في «السِّيَر الكبير» نحو ذلك. وقال قاضيخان: إن كان الأب من الأشراف والكرام، لا يُقْبَلُ قوله أنَّه عَارِيَّة، وإن كان ممن لا يجهز البنات بمثل ذلك، قُبِلَ قوله. وقال الصدر الشهيد: المختار للفتوى إن كان الأب يدفع جِهَازاً لا عَارِيَّة كما في ديارنا، فالقول قول الزَّوج، وإن كان العُرْف مشتركاً، فالقول قول الأب.

فصلٌ في نِكَاحِ الرَّقِيقِ والكَافِرِ

(نِكَاحُ القِنِّ) وهو العبد الذي ليس فيه حرِّية بوجه، (و) نكاح (المُكَاتَبِ

(1)

الدِّرْعُ: سبق شرحها ص 56، التعليقة رقم (1).

ص: 66

والمُدَبَّرِ والأَمةِ وأُمِّ الوَلَدِ بِلَا إذْنِ السَّيِّدِ مَوْقُوفٌ، إنْ أجَازَ نَفَذَ وإنْ رَدَّ بَطَلَ. وإذَا أَذِنَ بِيعَ القِنُّ لِلمَهْرِ، ويَسْعَى الآخَرَانِ. والإِذْنُ بالنِّكَاحِ يَعُمُّ جَائِزَهُ وفَاسِدَهُ

===

والمُدَبَّرِ والأمةِ وأُمِّ الوَلَدِ بِلَا إذْنِ السَّيِّدِ مَوْقُوفٌ، إنْ أجَازَ) السيد (نَفَذَ وإنْ رَدَّ بَطَلَ)، وأجازه مالك بدون إذنه.

ولنا قوله تعالى: {ضَرَبَ امَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}

(1)

والنِّكاح شيء، فلا يملكه العبد بنفسه. وما روى أبو داود والترمذي ـ وقال: حديث حسن ـ من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيُّما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» . أي زانٍ (دلّ بإشارته أنَّ العقد غير جائز، إذ لو جاز لم يكن بالوطاء زانياً شرعاً)

(2)

. ورواه الحاكم في «المُسْتَدْرَك» وقال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

(وإذَا أَذِنَ) المولى بالتَّزويج لعبده فتزوَّج (بِيعَ القِنُّ لِلمَهْرِ) وكذا المُكَاتَبُ إن عجز عن الكتابة، لأنّ المهر بسبب إذنه ظهر في حقه، وتَعَلَّقَ برقبة عبده، وصار كدين اسْتَدَانه العبد المأذون له في التجارة. ولو بِيعَ القِنُّ مرَّة حيث لم يَفتده سيده، ولم يَفِ ثمنُه بالمهر، لم يُبَعْ ثانياً، بل يُطَالَب بما بَقِيَ بعد العِتْقِ. ولو بيع في النفقة مرةً بِيعَ فيها أخرى، لأن النفقة تجب ساعة فساعة، فلم يقع البيع في جميعها بخلاف المهر. ولو مات العبد سقط المهر والنفقة، لفوات محل الاستيفاء.

(ويَسْعَى الآخَرَانِ) أي المُكَاتَبُ والمُدَبَّرُ، ولا يباعان فيه، لعدم احتمالهما النقل من ملك إلى ملك حال قيام الكتابة والتدبير. فَيُسْتَوْفَى من كسبهما لا من أنفسهما. قَيَّدَ بإذن المَوْلى، لأن العبد، أو المُدَبَّر، أو المُكَاتَب إن تزوَّج بغير إذن المَوْلى، ودخل ثم فرَّق المَوْلى بينهما، لا يُطَالَبُ واحد منهم بالمهر إلاَّ بعد العِتْقِ.

(والإِذْنُ) أي إذن المولى لعبده (بالنِّكَاحِ) سواء عيَّن المرأة، أو لم يعينها (يَعُمُّ جَائِزَهُ وفَاسِدَهُ) عند أبي حنيفة، حتى يباع العبد في مهر النِّكاح الفاسد، فيتوقف تزوّجها ثانياً صحيحاً على الإجازة.

وقالا: يَخصُّ جائزه، وبه قال مالكٌ والشافعي، فلا يباع في مهر الفاسد، بل يُطالب به بعد العتق، ولا يتوقف تزوّجها ثانياً صحيحاً على الإِجازة، لأن المقصود من نكاح العبد عِفَّته، وذلك بالجائز دون الفاسد، لأنه لا يفيد الحِلَّ، وصار كالتوكيل بالنِّكاح حيث يتناول الجائز دون الفاسد. ولأبي حنيفة أن الإذْنَ مطلقٌ فيجري على

(1)

سورة النحل، الآية:(75).

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

ص: 67

ومَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّبْوِئَةُ، ولا نَفَقَة إلَّا بِهَا، ويَطَأُ الزَّوْجُ إنْ ظَفِرَ، ولَهُ إنْكَاحُ عَبْدِهِ وَأمَتِهِ كَرْهاً.

===

إطلاقه، ولا يقيَّد بالصحيح، كالأذن بالبيع. والتوكيل بالنِّكاح إنَّما يقيَّد بالجائز، بدلالة أن مطلوب المُوَكِّل ثبوت الحل.

(ومَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ) إذا كانت قِنًّا، أو مُدَبَّرَة، أو أمَّ وَلَدٍ (لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّبْوِئَةُ) مصدر بوَّأته منزلاً أي أسكنته إياه: وهي أن يُخَلِّي الموْلى بين الأمةِ وبين زوجها، بأن يدفعها إليه ولا يستخدمها. حتى لو كانت الأمَةُ تذهب وتجيء وتخدم مولاها، لا يكون ذلك تَبْوِئَة. وإنَّما لا يجب على المولى إذا زوَّج أمته تَبْوِئَتُها، لأن حقَّه أقوى من حقِّ الزَّوج، وإن حقه في رقبة الأمة واستخدامها، وحق الزَّوج في التمتع بها. وتَبْوِئَتُها يبطل استخدامها، واستخدامها لا يُبْطِلُ التمتع بها. (ولا نَفَقَة) على زوج الأمة المذكورة (إلاَّ بِهَا) أي بالتَّبْوِئَة، لأن نفقته عليها جزاء احتباسها، ولا يوجد احتباسها إلاّ بِتَبْوِئتها.

(ويَطَأُ الزَّوْجُ إنْ ظَفِرَ) بها خالية من خدمة موْلاها. وأمَّا المُكَاتَبة فلها النَّفقة والسُكْنَى، وإن لم يوجد التَّبْوِئة. والفرق بينها وبين الأمَة والمُدَبَّرة وأمّ الولد أن المولى لا يملك استخدام المُكَاتَبَة، فلا تحتاج إلى تَبْوِئَةِ المَوْلى، ويملك استخدامهن فيَحْتَجْنَ إليها. ولو خَدَمَتْه بلا استخدامه مع التَّبْوِئَة لا تسقط نفقتها، وكذا لو استخدمها الموْلى نهاراً، وأعادها إلى بيت الزَّوج ليلاً.

(ولَهُ) أي لِلموْلى (إنْكَاحُ عَبْدِهِ) الذي ليس بمُكَاتَب صغيراً كان أو كبيراً (وَ) إنكاح (أمَتِهِ) كذلك (كَرْهاً) أي بلا رضاهما. وليس معناه أن يحملهما على النِّكاح بضرب أو نحوه، بل أن ينفذ تزويجه عليهما بدون رِضاهما، وهذا ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: لا ينفذ تزويج الموْلى عبده إلاَّ برضاه دون أمَتِهِ، وهو قول الشافعيّ، لأنَّ ما يرد عليه التزويج ـ وهو الاستمتاع ـ مملوك للمولى من الأمة دون العبد، فكان المولى في تزويج العبد كالأجنبيّ من الأمَةِ.

وتوضيحه: أن تزويجه بغير رضاه لا يفيد مقصود النّكاح، لأن الطلاق بيد من له الساق، فيطلِّقُها من ساعته طلباً للفِراق. ولنا أنّ تزويج الموْلى أمته ليس لملكه بُضْعهَا، بل لملكه رقبتها، وذلك ثابت في العبد. ولا يجوز للمولى تزويج المُكَاتَبِ والمُكَاتَبَةِ بغير رضاهما، لأنهما التحقا بالأحرار في حق التَّصرفات.

ص: 68

وخُيِّرَتْ أمَةٌ ومُكَاتَبَةٌ عُتِقَتْ،

===

(وخُيِّرَتْ أمَةٌ) سواء كانت مُدَبَّرَةً أو أمَّ وَلَددٍ زوَّجها الموْلى برضاها أو بدونه. (ومُكَاتَبَةٌ عُتِقَتْ) واحدة منهما سواء كانت تحت حر أو عبد. وقال الشافعيّ: لا خيار للأمة إذا عُتِقَتْ وزوجها حر، وبه قال مالك وأحمد.

ومنشأ الخلاف اختلاف الروايات في حرية زوج بَرِيرَة وعدمها، فما يدل على أنه حرٌ: ما روى الجماعة إلاّ مسلماً من حديث إبراهيم، عن الأسْوَدِ، عن عائشة ـ واللفظ للبُخَاريّ ـ أنها قالت: يا رسول الله إني اشتريت بَرِيرَة لأعتقها ـ أي قصدت شراءها لذلك ـ وإنَّ أهلها يشترطون ولاءها ـ أي لهم ـ فقال: «أعتِقيها، فإنَّما الولاء لمن أعتق» . قال: فاشترتها، فأعتقتها. قال: وخُيِّرَت، فاختارت نفسها، وقالت: لو أُعْطِيتُ كذا وكذا ما كنت معه، أي مع زوجها. قال الأسود: وكان زوجها حراً (ورواه البخاري أيضاً من حديث الحَكَم، عن إبراهيم. وفي آخره قال الحَكَم: وكان زوجها حراً)

(1)

. وأخرج النَّسائيّ عن علقمة، والأَسود أنهما سألا عائشة عن زوج بَرِيرَة، فقالت: كان حراً يوم أُعْتِقَتْ.

وممَّا يدلّ على أنه كان عبداً: ما روى الجماعة إلاَّ مسلماً عن عِكْرَمَة، عن ابن عباس: أن زوج بَرِيرَة كان عبداً أسود يُقَال له مُغِيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للعباس:«ألا تعجب من شدَّة حبّ مُغِيث بَرِيرَة، ومن شدَّة بغض بَرِيرَة مُغِثياً» ، فقال لها عليه الصلاة السلام:«لو راجعتيه» . قالت: يا رسول الله أتأمرني به؟ فقال عليه الصلاة السلام: «إنما أنا شافع» . قالت: لا حاجة لي فيه. وأمَّا ما رواه مسلم وأبو داود والنَّسائيّ عن عائشة أن بَرِيرَة خيَّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان زوجها عبداً. فليس فيه سوى أنه كان عبداً ـ وهو محتمل ـ لأنه كان عبداً قبل العتق فلا يُعَارِض صريح قولها: كان حراً يوم أعتقت. ورواية أبي داود: حين أُعْتِقَتْ.

قال الطَّحَاوي: وإذا اختلفت الآثار وجب التوفيق، فنقول: إنا وجدنا الحرِّية تعقب الرِّق، ولا ينعكس، فيُحْمَلُ على أنه كان حراً عندما خُيِّرَت، عبداً قبله. ولو ثبت أنه عبد، لا ينفي الخيار لها تحت الحرّ، إذ لم يجيء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه إنما خيَّرها لكونه عبداً ـ أي بل إنما خيَّرها لصيرورتها معتوقة ـ لقوله عليه الصلاة السلام لبريرة:«اذهبي فقد عُتِقَ معك بُضْعُكِ» رواه الدَّارَقُطْنيّ.

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

ص: 69

وإنْ نُكِحَتْ بِلَا إذْنٍ فَعُتِقَتْ نَفَذَ بِلَا خِيَارٍ لَهَا. ومَا سَمَّى فَلِلسَّيِّدِ لَوْ وُطِئَتْ فَعُتِقَتْ، وَإنْ عُتِقَتْ أوَّلاً فَلَهَا. وَزَوْجُ الأمَةِ يَعْزِلُ بِإِذنِ سَيِّدِها، والحُرَّهِ بِإِذْنِها.

وإنْ وَطِئ أَمَةَ ابْنِهِ فَوَلَدَتْ، فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وهي أُمُّ وَلدِهِ

===

روى ابن سعد في «الطَّبَقات» عن عامر الشَّعْبيّ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبريرة لَمَّا عُتِقَتْ: «قد عُتِقَ بُضْعُك معك، فاختاري» . فهذا حكمٌ مطلقٌ فلا يقيد بما إذا كان زوجها عبداً. ثم أسند الطَّحَاويّ عن ابن سيرِينَ، والشَّعْبِيّ: تُخَيَّر، حرًّا كان زوجها أو عبداً. وعن طاوس أنه قال: للأَمَةِ الخيار إذا عُتِقَتْ، وإن كانت تحت قُرَشِيّ. وعن مجاهد: تُخَيَّر، وإن كانت تحت أمير المؤمنين. انتهى. ورواه ابن أبي شَيْبَة أيضاً عنهم.

(وإنْ نُكِحَتْ) أمة (بِلَا إذْنٍ) من مولاها (فَعُتِقَتْ نَفَذَ) النِّكاح (بِلَا خِيَارٍ لَهَا) لصدوره من أهله مضافاً إلى محله، وتوقّفه على إذن الموْلى قد زال بالعِتْقِ. وفي «المحيط»: هذا إذا كانت أمة أو مُدَبَّرَة. وإن كانت أم ولد، لا ينفذ النِّكاح، لأنّ العِدَّة وجبت عليها من الموْلى كما أُعتِقَت، والعدة تمنع نفاذ النِّكاح. (ومَا سَمَّى) من المهر (فَلِلسَّيِّدِ لَوْ وُطِئَتْ فَعُتِقَتْ) بعد الوطاء، لأنّ الزَّوج استوفى منافع مملوكة للمولى، فيجب البَدَل.

(وَإنْ عُتِقَتْ أوَّلاً) أي قبل الوَطْاء (فَلَهَا) أي فما سمَّى للمرأة، لأن الزَّوج استوفى منافعَ مملوكةً للأمة، فيجب البَدَل لها.

(وَزَوْجُ الأمَةِ يَعْزِلُ)

أي يجوز أن يعزل عنها عند الوَطاء (بإذن سَيْدها، و) زوجُ (الحُرْةِ) يَعْزِلُ عنها (بِإِذْنِها) وقال أبو يوسف ومحمد: لا يعزل الزَّوج عن الأمة إلاّ بإذنها، لأن لها حقاً في قضاء الشَّهوة، والعَزْل يُخِلُّ به. ولأبي حنيفة: أنَّ العزل لخوف الولد وهو حق الموْلى، والحرَّة دون الأمة. ولو عزل فظهر حَبَلٌ قالوا: إن لم يعد إلى وطئها، أو عاد بعد البول جاز له نفيه، وإلاَّ فلا. ولو عالجت نفسها لإسقاط الحَبَل، جاز ما لم يَسْتَبِنْ شيء من خلقه، وذلك ما لم يَتِمَّ له مئة وعشرون يوماً.

(وإنْ وَطِاء) الأب الحرُّ المسلم (أَمَةَ ابْنِهِ فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ) الأب، وكانت في ملك الابن من وقت الوطاء إلى حين الدعوة (ثَبَتَ نَسَبُهُ، وهي أُمُّ وَلدِهِ) لِمَا روى أبو داود، والترمذي ـ وقال: حديث حسن ـ عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه» . وروى أبو داود، وابن ماجه من حديث عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده: أنَّ رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي مالاً ووالداً، وإن والدي يحتاج إلى مالي، فقال:«أنت ومالُك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم» . انتهى. وإذا كان للأب أن

ص: 70

وَوَجَبَ قِيمَتُهَا لَا مَهْرُهَا، ولَا يَجِبُ قِيمَةُ وَلَدِهَا.

والجَدُّ كَالْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وإِنْ نَكَحَها صَحَّ وَلَمْ تَصِرْ أمَّ وَلَدِه. ويَجِبُ مَهْرُهَا لَا قِيمَتُهَا،

===

يأخذ من مال ابنه نفقته بلا رضاه لصيانة نفسه، كان له أن ينقل ملك جارية ابنه إلى ملك نفسه لصيانة نسله.

(وَوَجَبَ قِيمَتُهَا) والفرق بين هذا، وبين الطعام والكِسْوَة حيث لا يجب قيمتهما إذا استعملهما الأب للحاجة، أن الحاجة إلى الاستيلاد دون الحاجة إلى الطعام والكِسْوَة، فيملك الأب الطعام والكِسْوَة من مال ابنه من غير قيمة، ولا يملك الأمة إلاَّ بقيمتها. ولا فرق بين كون الأب مُعْسِراً أو مُوسِراً، لأن هذا ضمانٌ نُقِلَ، فلا يختلف بالإعْسَار والإيسَار كالبيع، (لَا مَهْرُهَا) أي لا يجب مهرها خلافاً لزُفُر، لأن ملك الأب يثبت في الجارية قبل الوطاء حتى لا يكون الأب زانياً، وحينئذ لم يقع وطاء الأب إلاَّ في ملك نفسه.

(ولَا يَجِبُ قِيمَةُ وَلَدِهَا) لأنَّ الأب لَمّا ملك الجارية بالاستيلاد، كان الولد حادثاً على ملكه، فكان حر الأصل. أمَّا إذا كان الأب عبداً أو كافراً لا تصح دعوته، لأنه لا ولاية لكافر على مسلم ولا لعبد على حر. وكذا إذا أخرجها الولد بعد الوطاء من ملكه، ثم استردّها لا تصح دعوة الأب، لأن ثبوت الملك للأب بطريق الاستناد إلى وقت العُلُوق، فيستدعي ولاية التملك من وقت العُلُوق إلى حين التَّملُّك.

(والجَدُّ) أب الأب (كَالأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ) لقيامه حينئذٍ مقام الأب، وهذا إذا كان العُلُوق بعد موت الأب، حتى لو أتت بولد لأقل من ستة أشهر من موت الأب، فادَّعاه الجدّ لم تصحّ دعوته. (وإنْ نَكَحَها) أي إِنْ تزوج الأب أمَة ابنه (صَحَّ) وقال مالك والشافعيّ: لا يصحّ، لأن للأب شُبْهَة في ملك ابنه بدليل سقوط الحدّ إذا زنى بأمته، ولو ظَنَّ حرمتها، فيكون في معنى من تزوَّج أمة نفسه.

ولنا أن جارية الابن لا ملك للأب فيها ولا حق ملك، لأن ملك الابن فيها من كل وجه بدليل حل وطئه، ونفاذ عتقه، فلا يملكها الأب من وجه، وإلاّ اجتمع ملك شخصين في محل واحد في زمان واحد. وإذا لم يكن للأب فيها حق ملك، جاز له تزوّجها كجارية الأجنبيّ.

(وَلَمْ تَصِرْ أمَّ وَلَدِه) إذا أتت منه بولد خلافاً لزُفَر، وكذا إذا استولدها بنكاح فاسد. لأن انتقالها إلى ملك الأب لصيانة مائه، وقد صار مصوناً بدونه. (ويَجِبُ مَهْرُهَا) لالتزامه بالنِّكاح (لَا قِيمَتُهَا) لعدم ملك الرَّقبة.

ص: 71

والوَلَدُ حُرٌّ بِقَرَابَتِهِ. والطِّفْلُ يَتْبَعُ خَيْرَ الأَبَوَيْنِ دِيناً، وعِنْدَ عَدَمِهِمَا يَتْبَعُ الدَّارَ، والمَجُوسِيُّ شَرٌّ مِنَ الكِتَابِيِّ.

===

(والوَلَدُ حُرٌّ بِقَرَابَتِهِ) لأن الأمة ملك الابن، وولدها من أبيه أخوه، فيتبعها في الملك ويَعْتِقُ عليه. وجعل محمَّد ولد العبد المغرور حرًّا بالقيمة كولد الحرّ المغرور، وهما حكما بِرِقِّهِ. وجه محمد: أن السبب الموجب للحرية الغرور، واشتراط الحرية فيها عند النِّكاح، وهذا يتحقق في الرقيق كما يتحقق في الحرّ، وكما يحتاج الحرُّ إلى حرية الولد، فالمملوك يحتاج إلى ذلك، بل حاجته أظهر لأنه رُبَّما يتطرق به إلى حريّة نفسه. وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: هذا الولد مخلوق من ماء رقيقين فيكون رقيقًا، وهذا لأن الولد متفرع من الأصل، وإنَّما يتفرع لصفة الأصل. وإذا كان الأصلان رقيقين، لا تثبت الحرية للولد من غير عِتْقٍ. وأمَّا إذا كان الزوج حراً، فقد ثبت حرية الولد هناك باتفاق الصحابة بخلاف القياس.

(والطِّفْلُ يَتْبَعُ خَيْرَ الأَبَوَيْنِ دِيناً) لأنّ ذلك أنظر له، فيتبع الأبَ إذا أسلم والأم إذا أسلمت. (وعِنْدَ عَدَمِهِمَا) أي عدم الأبوين بأن وُجِدَ لقيطاً (يَتْبَعُ الدَّارَ) لأن الظاهر أنه من أطفال أهلها. (والمَجُوسِيُّ شَرٌّ مِنَ الكِتَابِيِّ) فالطفل منهما يتبع الكتابيّ، لأن حلَّ الذبيحة وجواز المناكحة من أحكام الإسلام، فيُرَجَّح بهما كما يرجَّح بالإسلام. وإنما لم يقل والكتابيّ خير من المجوسيّ، لأنه لا خير في الكتابي لكن شره أقلُّ من شر المجوسيّ.

(نِكَاحِ الكُفَّارِ)

واعلم أن نكاح الكفَّار أبقاه علماؤنا والشافعي، وأبطله مالك في المشهور عنه، لأن جوازه يفتقر إلى شروط هي معدومةٌ في أنكحتهم، فيجب فسادها، وعنه أنه إنَّما يجوز منه ما لو ابتدؤه بعد الإسلام صحَّ، وإلاَّ فلا.

ولنا قوله تعالى: {وامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ}

(1)

ولولا انعقادُه لَمَا أخبر بأنها امرأته، وقوله صلى الله عليه وسلم «وُلِدتُ مِنْ نكاحٍ لا من سفاحٍ»

(2)

. ولولا صحته لَمَا افتخر به، فنكاحهم جائز عند أبي حنيفة مطلقاً، وإن تزوَّجوا بمحارمهم، حتى يحكم لها بالنفقة إذا طلبت، لأنا أُمِرْنا أن نتركهم وما يدينون. واستثنى صاحباه من الجواز المَحْرَم

(1)

سورة المَسَد، الآية:(4).

(2)

لم نجده بهذا اللفظ، ولكن روى الطبراني في "المعجم الكبير" 10/ 32، رقم (10812) بلفظ:"ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء، وما ولدني إلّا نكاح كنكاح الإسلام" ورواه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 190، ورواه عبد الرّزاق بلفظ:"إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح".

ص: 72

وإِنْ أسْلَمَ المُتَزَوِّجَانِ بِلَا شُهُودٍ أوْ في عِدَّةِ كَافِرٍ مُعْتَقِدَيْنِ ذَلِكَ أُقِرَّا عَلَيهِ،

===

والمُعْتَدَّة، لأنهم تبع لنا في الأحكام، ولكن لا نتعرّض لهم إلاَّ أنْ يُسْلِمُوا أَوْ يَتَرافعوا إلينا لالتزامهم حكمنا حينئذٍ، إلاَّ في قول أبي يوسف الآخر، ذكره في كتاب الطلاق، أنه يفرَّق بينهما إذا عُلِمَ به لِمَا رُوِيَ أنَّ عمر كتب إلى عُمَّاله: أن فرِّقوا بين المجوس وبين محارمهم، وامنعوهم من الزِمْزَمَة إن أكلوا. والزِمْزِمةُ بالكسر: الجماعة من الناس على ما في «الصحاح» .

لكنَّا نقول هذا غير مشهور عنه، وإنما المشهور ما كتب به عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البَصْرِيّ: ما بال الخلفاء الراشدين تركوا أهل الذِّمَّة وما هم عليه من نكاح المحارم واقتناء الخمور والخنازير؟ فكتب إليه: أنهم إنما بذلوا الجزية ليُتْرَكُوا وما يعتقدون، فإنَّما أنت متَّبِعٌ ولست بمبتدع، والسلام.

(وإنْ أسْلَمَ المُتَزَوِّجَانِ بِلَا شُهُودٍ أوْ في عِدَّةِ كَافِرٍ مُعْتَقِدَيْنِ ذَلِكَ أُقِرَّا عَلَيهِ) أي بقي صحيحاً بعد إسلامهما، أو إسلامه لو كانت كِتَابِيَّة. وقال زُفَرُ: نكاح أهل الذمّة بلا شهود، أو في عدّة كافر فاسد. وقال أبو يُوسُف ومحمد: بلا شهود صحيح، وفي عدّة كافر فاسد. لزفر: أنّ أهل الذمّة تبعٌ لأهل الإسلام، وهم لا يجوِّزون نكاحهم بغير شهودٍ، وفي عدّة غير، فكذا أهل الذمّة، إلا أنه لا يتعرض لهم فيه إلاَّ أن يُسْلِمُوا أو يترافَعُوا، فحينئذٍ يفرِّق القاضي بينهم لقوله تعالى:{وأن احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اوَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}

(1)

، ولأنهم بعقد الذمَّة صاروا أُمنَاءَ داراً، والتزموا أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات، فثبت في حقّهم ما هو ثابت في حقّنا.

ألا ترى أن حرمة الرِّبا

(2)

ثابت في حقّهم بهذا الطريق؟ فكذا حرمة النكاح بغير شهود. ولكنَّا نُعْرِض عنهم لمكان عقد الذمّة، لا أَنَّا نُقِرُّهُمْ على ذلك، كما نتركهم وعبادة الأوثان والاشتغال بالنيران على سبيل الإعراض، لا على سبيل التقرير والحكم بصحة ما يفعلون.

ولا نَعْرِضُ عنهم في عقد الرِّبا، لأنه مستثنى من عقد الذمَّة. قال صلى الله عليه وسلم «إلاّ من أرْبَى فليس بيننا وبينه عهد»

(3)

. ويُرْوَى: «عقد» . ولعله مقتبس من قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ

(1)

سورة المائدة، الآية:(49).

(2)

في المطبوع: الزنا، والمثبت من المخطوط.

(3)

قال ابن حجر رحمه الله تعالى في الدراية 2/ 64: لم أجده بهذا اللفظ. وروى ابن أبي شيبة عن مرسل الشعبي: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران - وهم نصارى -: "أن من بايع منكم بالرِّبا فلا ذمة له". وأخرج أبو عبيد في "الأموال" من مرسل أبي المليح الهذلي نحوه مطوّلًا، ولفظه: "ولا يأكلوا =

ص: 73

وفُرِّقَ مُتَزَوِّجَانِ مَحْرَمَانِ ثُمَّ أَسْلَمَا.

وفي إسْلَام زَوْج المَجُوسِيَّةِ أوْ امْرَأَة الكَافِرِ عُرِضَ الإِسْلَامُ عَلَى الآخَرِ، فإنْ أسْلَمَ فَهِي لَهُ وإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا،

===

تَفْعَلُوا فَأذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اوَرَسُولِهِ}

(1)

.

ولهما: أَنْ النِّكاح في العدّة حرامٌ بالإجماع، بخلاف النكاح بغير شهود حيث يجوز عند مالك بشرط الإعلان. مع أنهم لم يلتزموا أحكامنا بجميع اختلافاتها. ولأبي حنيفة: أنّ عدّة الكوافر لا يمكن إثباتها حقًّا للشرع، لأنهم غير مخاطبين بالفروع، ولا حقًّا للزَّوج وهو كافر، لأنه لا يَعتقد العدّة. وفي «النهاية» عن «المبسوط»: إن الاختلاف بينهم إذا وقعت المرافعةُ أو الإسلامُ، والعدَّةُ غير منقضية، وأمَّا بعد انقضاء العدّة فلا يفرَّق باتفاق، أي لعدم تعلُّق حكم شرعيّ.

(وفُرِّقَ مُتَزَوِّجَانِ مَحْرَمَانِ) ـ بفتح الميم والراء ـ كما تزوج مجوسيّ أمه أو ابنته (ثُمَّ أَسْلَمَا) أو أسلم أحدهما، لأن نكاح المحارم بين الكفَّار باطل عند أبي يوسف ومحمد، وكذا عند أبي حنيفة على ما ذكره القُدُورِيّ. ولو لم يُسْلم المَحْرَمان المتزوجان، لا يُفَرَّق بينهما عند أبي حنيفة ما لم يترافعا جميعاً. لأنه لَمَّا جاز في اعتقادهم، لا نتعرض لهم ما داموا عليه، وبمرافعة أحدهما لا يحصل رضى الآخر، فلم يتحقق شرط الالتزام في حقّه، فلا يُحْكَمُ عليه ولا على الرافع لاستلزامه الحكم على غير من التزمه. وعند أبي يوسف: يُفَرَّق بينهما وُجِدَ الترافع أو لا. وعند محمد: يُفَرَّقُ إن وُجِدَ الترافع، ولو من أحدهما، فإنه إذا رفع أحدهما أمره فقد التزم حكم الإسلام، فيتعدى الآخر ضرورة الحكم على الرافع، فيُفَرَّقُ بينهما كما لو أسلم أحدهما.

(وفي إسْلَامِ زَوْج المَجُوسِيَّةِ) أو الوثنيَّة (أو امرأة الكَافِرِ) في ديارنا، مجوسيًّا كان أو وثنياً أو كتابياً (عُرِضَ الإِسْلَامُ عَلَى الآخَرِ، فإنْ أسْلَمَ فَهِي لَهُ) ولا يُتَعَرَّضُ لهما، لأن ابتداء النِّكاح صحيح، فلأن يبقى أوْلى (وإلاَّ) أي وإنْ لم يسلم سواء كان بالغاً أو صبيًّا مميَّزاً (فُرِّقَ بَيْنَهُمَا)، وقال الشافعي: لا يُعْرَض الإسلام وتَبِينُ المرأة في الحال إن كان الإسلام قبل الدخول، ويُفَرَّق بينهما بعد ثلاث حِيَضٍ إن كان بعده لتأكد الملك في الثّاني دون الأوَّل.

= الرّبا، فَمَن أكل منهم الرِّبا فذمتي منه بريئة".

(1)

سورة البقرة، الآية:(279).

ص: 74

وهُوَ طَلَاقٌ إن أبى، ولَا مَهْرَ لَهَا إنْ أَبَتْ إلَّا لِلْمَوْطُوءةِ. وفي دَارِهِمْ تَبِينُ بِمُضِيِّ ثَلَاث حِيَضٍ قَبْلَ إِسْلَامِ الآخَرِ، وتَبِينُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ لا السَّبْيِ.

===

ولنا ما في «الموطّأ» عن ابن شِهَاب: أنّ ابنة الوليد بن المُغِيرَة كانت تحت صَفْوَان بن أُمَيَّةَ، وأَسلمت يوم الفتح وهرب زوجها صَفْوَان، بن أُمَيَّة من الإسلام، فلم يُفَرِّقُ صلى الله عليه وسلم بينه وبين امرأته حتّى أسلم صفوان واستقرت عنده امرأته بذلك النِّكاح.

وذكر الطَّحَاوِي وأبو بكر بن العربي: أنّ عمر بن الخطاب فرّق بين نصرانيَ ونصرانيّةٍ أسلمت بإِبائه عن الإسلام. ومن أدلتنا ما رُوِي أنّ دُهْقَانة

(1)

نهر الملك

(2)

أسلمت، فأمر عمر أنْ يُعْرَض الإسلام على زوجها، فإن أسلم وإلاّ فَرَّقَ بينهما. وأنّ دُهْقَاناً أسلم على عهد عليّ، فعَرَضَ الإسلام على امرأته فأبت، فَفَرَّقَ بينهما. وإنّما يُفَرَّقُ بينهما إذا أبت هي الإسلام لإصرارها على الخبث، والخبيثة لا تصلح للطيّب.

(وهُوَ) أي تفريق القاضي بينهما (طَلَاقٌ) بائنٌ (إن أبى) الزوج، وليس بطلاق إن أبت المرأة. وقال أبو يوسف: ليس بطلاق فيهما. وفائدة الخلاف: عدم انتقاص عدد الطَّلاق بالفُرْقَة عنده، وانتقاصه بها عندهما. (ولَا مَهْرَ لَهَا إنْ أَبَتْ) لوجود الفُرْقَة من قبلها، كالمطاوعة لابن زوجها. (إلاَّ لِلْمَوْطُوءة) فإنّ لها المهر كله لتأكده بالدخول. قيَّد بإبائها، لأن تفريق القاضي بإباء الزَّوج قبل الدخول يوجب نصف المهر.

(وفي دَارِهِمْ) عطف على مقدر يتعلق بإسلام ـ وهو في دارنا ـ أي: وفي إسلام زوج المجوسية، أو امرأة الكافر في دارهم. سواء بَقِيَ الزَّوْجَان فيها، أو خرج أحدهما إلينا وبَقِيَ الآخر (تَبِينُ) المرأة سواء كانت مدخولاً بها، أو غيرها (بِمُضِيِّ ثَلَاث حِيَضٍ قَبْلَ إِسْلَامِ الآخَرِ) إنْ كانت تحيض، وبمضيّ ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض، لأن الحكم بالفُرْقَة لمَّا كان منقطعاً عمَّن في دار الحرب، أُقِيمَ شرط الفُرْقَة ـ وهو مضيّ العدة ـ مقامها.

(وتَبِينُ) الحربيّة من زوجها (بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ) سواء سُبِيَ أحدهما أو لم يُسْبَ، بل خرج إلينا مسلماً، أو ذمياً، أو مُسْتَأْمَناً، ثم أسلم، أو صار ذمياً (لا السَّبْيِ) أي لا تبين بالسَّبي. وقال الشافعي ـ وهو قول مالك ـ: تبين به، ولا تبين بتباين الدَّارين. فلو

(1)

الدُّهقَان: رئيس القرية. المعجم الوسيط ص 300، مادة (دهق).

(2)

حُرِّفت في المطبوع إلى: نهى الملك، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب. ونهر الملك: كورة (أي مدينة) واسعة من نواحي بغداد أسفل من نهر عيسى. مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع 3/ 1406.

ص: 75

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

سُبِيَا معاً لم تَبِنْ عندنا، وتبين عنده. لأنّ زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت من مكة إلى المدينة، وخلَّفت زوجها أبا العاص كافراً بمكة، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه بالنِّكاح الأوَّل.

ولنا: أن مشركي مكة صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحُدَيْبِيَةِ أنّ من أتاه من أهل مكة ردَّه إليهم، ومن أتى أهل مكة من أصحابه فهو لهم. وكتبوا بذلك الكتاب وختموه. فجاءت سُبَيْعَةُ بنت الحَارِثِ الأَسْلَمِيّة بعد الفراغ من الكتاب، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالحُدَيْبِيَة فأقبل زوجها مُسَافِر المَخْزُوميّ، وقيل: صَيْفِي بن الرَّاهِب، وكان كافراً، فقال: يا محمد أُرْدُد عليّ امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منَّا، وهذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد.

فأنزل الله تعالى بياناً بأنّ هذا الشرط إنما يكون في الرجال دون النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُم المُؤْمِنَاتُ مهَاجِرَاتٍ فامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ}

(1)

أي بعقد نكاحهنَّ. فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت، فأعطَى زوجها ما أنفق عليها من المهر، وتزوجها عمر.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَمْتَحِنُ المهاجرة بأن يحلّفها: بالله ما خرجت من بغض زوجٍ، بالله ما خرجت رغبةً من أرضٍ إلى أرضٍ، بالله ما خرجت إلاّ حباً لله ولرسوله.

فقوله سبحانه: {لَا هُنَّ حِلٌ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} يدلُّ على أن تباين الدَّارين يوجب الفُرْقة، وإن لم يوجد سَبْيٌ، وكذا قوله تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أنْ تَنُكِحُوهُنَّ} إذ لو لم يوجب التباين انقطاع النِّكاح، لم يجز للمسلمين أن ينكحوهنَّ، وكذا قوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} إذ لو لم يكن التباين موجباً للفُرْقَة، لزم التمسّك بعقد نكاحهنّ حال كفرهنّ.

ثم المهاجرة تحل بل تُنكح عندنا بلا لزوم عدّة كالمسبيَّة، فإنه يجب استبراؤها ولا يلزمها العدّة اتفاقاً. وقالا ـ وهو قول مالك والشافعي ـ: لا يحل نكاحها قبل انقضاء

(1)

سورة الممتحنة، الآية (10).

ص: 76

وارْتِدَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخٌ عَاجِلٌ، ثُمَّ لِلْمَوْطُوءَةِ كُلُّ مَهْرِهَا ولِغَيْرِهَا نِصْفُهُ لَوْ ارْتَدَّ وَلَا شَيءَ لَوْ ارْتَدَّتْ، وَبقِي النِّكَاحُ إنْ ارْتَدَّا مَعاً، فَأَسْلَمَا مَعاً

===

عدّتها كالحامل، فإنه لا يصح نكاحها قبل الوضع عند الجمهور، وعلى الأصَحّ عند أبي حنيفة.

لهم: أن نُسَيْبَة لمَّا هاجرت، أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتدّ. وله: قوله تعالى: {ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فالله أباح نكاح المهاجرة مطلقاً، فتقييده بما بعد انقضاء العدّة يكون زيادة. وأيضاً قال الله تعالى:{وَلَا تُمْسِكوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} وفي إيجاب العدّة تمسّك بِعِصَم الكافر. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يصحّ نكاح الحامل من المهاجرات، ولكن لا يقربها حتى تضع، لأنه لا حرمة لماء الحربيّ، فهو بمنزلة ماء الزاني، والحَبَل من الزِّنا لا يمنع النِّكاح عنده، ولكن الأوَّل أصحّ، لأن الحبل من الزِّنا لا نسب له، وهذا النَّسب ثابتٌ من الحربيّ.

(وارْتِدَادُ كُلَ مِنْهُمَا) أي من الزَّوجين (فَسْخٌ عَاجِلٌ) عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال الشافعيّ: إنْ لم يدخل بها ففسخٌ عاجلٌ، وإن دخل بها ففسخٌ آجلٌ، يعني إنْ عاد المرتدّ منهما إلى الإسلام في مدة عدّة تلك المرأة لم ينفسخ، وإلاّ انفسخ. وقال محمد: إن كان الارتداد من المرأة فهو فسخٌ، وإن كان من الرَّجل فهو طلاقٌ. فمحمد مرّ على أصله في الإباء، وكذلك أبو يوسف، لأن الإباء عنده فسخٌ عاجلٌ. ووجه الفرق لأبي حنيفة: أنّ الرِّدَّةَ منافيةٌ للنِّكاح لمنافاتها للعصمة، والطَّلاق يستدعي قيام النِّكاح، فلا تكون الفُرْقَة بالرِّدَّة طلاقاً. والإباء تفويت الإمساك بالمعروف، فيجب التَّسريح بالإحسان، ولهذا تتوقف الفُرْقَة بالإباء على القضاء، ولا تتوقف الفرقة بالرِّدَّة عليه.

(ثُمَّ لِلْمَوْطُوءَةِ كُلُّ مَهْرِهَا) سواء ارتدَّ الزَّوج، أو هي، لأنّ الوطاء مؤكِّدٌ للمهر (ولِغَيْرِهَا) أي لغير الموطوءة (نِصْفُهُ لَوْ ارْتَدَّ) الزَّوج، لأنَّ الفُرْقَةَ من قِبَله قبل الدخول (وَلَا شَيءَ لَوْ ارْتَدَّتْ) الزَّوجة، لأَن الفُرْقَة من جهتها قبل الدخول. (وَبقِي النِّكَاحُ إنْ ارْتَدَّا مَعاً فَأَسْلَمَا مَعاً)، وقال زُفَرُ: لا يبقى، وهو القياس. لأن في ردَّتهما ردَّة أحدهما، وهي منافية للنِّكاح.

ووجه الاستحسان: أنهما لم يختلفا في دينٍ ولا في دارٍ، فلا تقع الفُرْقَة بينهما، كما إذا أسلم الزَّوجان الكافران معاً. وإنَّما تركنا القياس لاتفاق الصَّحابة. فإن بني حنيفة

ص: 77

وفَسَدَ إنْ أَسْلَمَ أحَدُهُمَا قَبْلَ الآخَرِ.

===

ارتدّوا بمنع الزكاة، فاستتابهم أبو بكر ولم يأمرهم بتجديد الأنكحة بعد التَّوبة، ولا أحدَ من الصحابة سَوَّاهُ. ولا يُقَال لعلَّ الارتداد من بعضهم كان قبل بعضهم، ولم يُسْتَقلّ بذلك أيضاً، لأن كلّ أمرين لا يُعْرَفُ التاريخ بينهما يجعل كأنّهما وقعا معاً.

(وفَسَدَ) النِّكاح (إنْ) ارتدّا معاً ثُمَّ (أَسْلَمَ أحَدُهُمَا قَبْلَ الآخَرِ) لأن البقاء على الرِّدَّة كإنشائها. فإن كان ذلك قبل الدُّخول، فلا شيء للمرأة إن كان المسلم هو، ولها نصف المهر إن كان المسلم هي. وإنْ كان بعد الدخول فلها المهر كاملاً سواء كان المسلم هي، أو هو.

ولا يصحّ أنْ ينكح مرتدّ مسلمة، ولا مرتدَّة، ولا كافرة أصليَّة. لأنّ النِّكاح يعتمد الملَّة، ولا ملَّة للمرتدّ. فإنه ترك ما كان عليه وهو غير مُقَرَ على ما اعتقده، وكذا حكم المرتدّة.

ولو أسلم حربيّ وتحته خمس نِسْوَة أو أكثر ثُمَّ أسلمن معه، أو أُخْتَان، أو أم وبنت بعقدٍ واحدٍ، بطل النِّكاح عند أبي حنيفة، وأبي يوسف. وإن كان بعقودٍ متفرقةٍ بطل نكاح الخامسة، والثانية من الأختين، وكذا الثانية من الأم والبنت إن لم يكن دخل بها. وخَيَّره محمّد، كمالك، والشافعيّ، وزُفُر في تبقية أيّ أربعٍ شاء منهنَّ، وإحدى الأختين شاء منهما، وإن كان العقد واحداً عيَّن البنت للإِبقاء لصحَّة نكاحها وحرمة أمها بالعقد عليها، إلاَّ أن يكون دخل بالأمّ فحينئذٍ يُفَرَّقُ بينه وبينهما. لأنّ غَيْلَان بن سَلَمَة أسلم وتحته عشرة نِسْوَة وأسلمن معه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم اختر منهنَّ أربعاً، وفارق سائرهنَّ. وقَيْس بن الحَارِثِ أسلم وتحته ثمان نِسْوَةٍ وأسلمن معه، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعاً منهنَّ. والضَّحَاك بن فَيْرُوز الدَّيْلَمِيّ أسلم وتحته أختان، فقال صلى الله عليه وسلم «اختر أيَّتهما شئت»

(1)

.

واستدل (أبو حنيفة)

(2)

وأبو يوسف بقوله تعالى: {وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ}

(3)

والجمع بينهما نكاحٌ حرامٌ بهذا النص، وبنكاح الأولى ما حصل الجمع، (فوقع صحيحاً بحكم الإسلام، وبنكاح الثَّانية حصل الجمع إذ لا)

(4)

سبب هنا سوى

(1)

سنن الترمذي 3/ 436، كتاب النكاح (9)، باب ما جاء في الرجل يُسلم وعنده أختان (34)، رقم (1129) و (1130).

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(3)

سورة النساء، الآية:(23).

(4)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

ص: 78

وكُلُّ الزَّوْجَاتِ في القَسْمِ سَوَاءٌ إلَّا المَمْلُوكَةَ، ولَهَا نِصْفُ الحُرَّةِ

===

الجمع، فتعيَّن الفساد في نكاح من حصل الجمع بنكاحها، فإنّ نكاحها فاسدٌ بحكم الإسلام دون من لم يحصل بنكاحها الجمع.

وإن تزوّجهما في عقدٍ واحدٍ، فالجمع حصل بهما، وليس إبطال نكاح إِحداهما بأولى من الأخرى، فيبطل نكاحهما. وكذلك في نكاح الخمس، الحرمة بسبب الجمع بين ما زاد على الأربع، وإنَّما حصل ذلك بنكاح الخامسة، فصَرْفُ الفساد إليها أوْلى. وإن وقع تزوُّجهنَّ في عقدٍ واحدٍ، فالجمع حصل بهنّ جميعاً.

وأمّا الأحاديث التي رُوِيَتْ فقد قال مَكْحُول: إنّ تلك الأحاديث كانت قبل نزول الفرائض، يعني قبل نزول حرمة الجمع، فوقعت الأنكحة صحيحةً مطلقاً، ولمَّا كانت صحيحةً في الأصل جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك مستثنى من تحريم الجمع.

(وكُلُّ الزَّوْجَاتِ في القَسْمِ) بفتح القاف، أي المبيت عندهنَّ للصُّحبة والمؤانسة لا في المُجَامعة والمحبَّة (سَوَاءٌ) قيَّد بالزَّوجات، لأن السراري

(1)

وأمهات الأولاد لا حقّ لهنَّ فيه. والاختيار في مقدار الدور للزوج، لأن المستحق لهنَّ التسوية دون طريقها، ولا فرق بين ذلك بين القديمة والجديدة، والثيِّب والبِكْر، والمسلمة والكتابيّة، والصحيحة والمريضة، والرَّتْقَاء

(2)

والمجنونة التي لا يُخاف منها، والصغيرة التي يمكن وطؤها، والمُحْرِمَة، والموْلى والمُظاهر عنها.

قال الحاكم: والمَجْبُوب والخَصِيّ والعِّنين في القَسم سواءٌ، وكذلك الغلام الذي يحتلم وقد دخل بامرأته. (إلاَّ المَمْلُوكَةَ) مع الحرَّة بأن تزوَّجها ثمّ تزوَّج الحرّة (ولَهَا نِصْفُ الحُرَّةِ) سواء كانت قِنًّا، أو مُدَبَّرَة، أو مُكَاتَبَة، أو أمّ ولدٍ، لِمَا روى عبد الرَّزَّاقِ، وابن أبي شَيْبَة في «مصنفيهما» ، والدَّارَقُطْنِيّ، والبَيْهَقِيّ في «سننيهما» ، عن عليّ أنه قال: إذا نُكِحَتْ الحرّة على الأمة فلهذه الثلثان، ولهذه الثلث.

وقال مالك والشافعيّ وأحمد: إذا كانت الزوجة الجديدة ثيِّباً أقام عندها ثلاثاً، وإذا كانت بِكْراً أقام عندها سبعاً، ثم يدور بالسَّوية بعد ذلك، لِمَا في مسلم، عن

(1)

السَّرَارِي: جمع السُّرِّيَّة وهي الجارية المملوكة. القاموس الفقهي ص 170.

(2)

الرَّتقَاءُ: رَتقَتْ المرأة: انسدَّت فلا تُؤْتَى. المعجم الوسيط ص 327، مادة (رتق).

ص: 79

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

خالد، عن أبي قِلَابَة عن أنس قال: إذا تزوّج البكر على الثيّب أقام عندها سبعاً، وإذا تزوّج الثيّب على المرأة أقام عندها ثلاثاً. قال خالد: ولو قلت رفعه لصدقت، ولكنه قال: السُّنَّة كذلك. ورواه ابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «للثيّب ثلاثاً، وللبكر سبعاً» . وفي «صحيح مسلم» : عن أمِّ سَلَمَةَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا تزوَّجها أقام عندها ثلاثاً، وقال لها:«ليس بكِ على أهلك هوان، إن شئتِ سَبَّعْتُ لك، وإن سَبَّعْتُ لكِ سَبَّعْتُ لنسائي» . ولأن القديمة قد ألفت صحبته، والجديدة لم تألف فَيُفَضِّلُها بزيادة الصُّحبة، وللبكر زيادة نَفْرَة عن الرِّجال، فَيُفَضِّلُها بسبع ليالٍ.

ولنا إطلاق قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فِوَاحِدَةً أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تَعُولُوا}

(1)

أي أنْ لا تجوروا، وقوله تعالى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلُ}

(2)

معناه لن تستطيعوا العدل والتَّسْوية في المحبة، فلا تميلوا في القَسمِ.

وما روى أصحاب السُّنن الأربعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كان له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشِقِه مائلٌ» . أي ساقط أو مفلوج. وما رواه أيضاً عن عائشة أَنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: اللَّهمَّ هذا قَسْمِي فيما أملك، ولا تلمني فيما تملك ولا أملك». يعني القلب. وهذا مطلقٌ كما ترى، ولأن القَسم من حقوق النِّكاح، وقد ثبت الاستواء في ذلك. والقديمة أولى بالتفضيل، لأنّ الوَحْشَة في جانبها أكثر حيث أدخل عليها من يغيظها.

وفي «مختصر الطَّحَاوي» : وإن كانت له زوجة واحدة حُرَّة فطالبته بالواجب من القَسْم من نفسه، كان عليه أن يُقْسِمَ لها يوماً وليلةً، ثم يتصرف في أمور نفسه ثلاثةَ أيامٍ وثلاثَ ليالي (لأن له أنْ يتزوّج عليها بثلاث حرائر)

(3)

. وإن كانت زوجته هذه أمَةً والمسألة بحالها، كان لها من كل سبعة أيامٍ ليلةٌ، ومن كل سبع ليال يومٌ، (لأن له أن يتزوّج عليها بثلاث حرائر)

(4)

فيكون لكل واحدة منهم من القسم يومان وليلتان، ولها يوم وليلة.

(1)

سورة النِّساء، الآية:(3).

(2)

سورة النساء، الآية:(129).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

ص: 80

وَلَا قَسْمَ في السَّفَرِ

===

رُوِيَ أنّ امرأة جاءت إلى عمر بن الخطاب وعنده كعب بن سُور

(1)

فقالت: يا أمير المؤمنين إنَّ زوجي يصوم النَّهار، ويقوم اللَّيل، وأنا أكره أن أشكوَهُ، فقال لها عمر: نِعْمَ الرَّجل زوجك. فردّدت كلامها ـ أي كرَّرّت ـ وعمر لا يزيدها على ذلك، فقال كعب: يا أمير المؤمنين إنها تشكو زوجها في هجره فراشها، فقال له عمر: كَما فهمت إشارتها فاحكم بينهما، فأرسل إلى زوجها فجاء، فقال لها كعب: ما تقولين؟ فقالت شعراً:

*يا أيَّها القَاضِي الحَكِيمُ أرْشِدُه ** ألْهَى خَلِيلِي عن فِرَاشِي مَسْجِدُه

*زهَّدَهُ في مَضْجِعِي تعبُّدُه ** نَهَارَهُ وَليْلَهُ مَا يَرْقُدُه*

*ولَسْتُ في أمْرِ النِّسَاءِ أحْمِدُه

فقال لزوجها ما تقول؟ فقال شعراً:

*زَهَّدَنِي في فَرشها وفي الكِلَلْ

(2)

** أني امرءٌ أَذْهَلَنِي مَا قَدْ نَزَلْ

* في سُورَةِ النَّمْلِ وفي السَّبْعِ الطُوَلُ ** (وفي كِتَابِ الله تَخْويفٌ جَلَلْ)

(3)

فقال له كعب شعراً:

*إنَّ لَهَا عَلَيْكَ حقاً يَا رَجُل ** نَصِيبَها

(4)

في أربعٍ لمن عَقَلْ*

*فأعْطِهَا ذَاكَ وَدَعْ عَنْكَ العِلَلْ

فقال له عمر: من أين لك هذه؟ قال: لأن الله تعالى أباح للحرِّ أربع زوجات، فلكل واحدة يوم وليلة. فأعجب ذلك عمر، وجعله قاضي البَصْرَة. والكِلَل بكسر الكاف: جمع كِلَّة ـ بكسر وتشديد ـ: وهي الستر الرقيق يُخَاط، كالبيت يتوقَّى فيه من البَقِّ أي البعوض.

(وَلَا قَسْمَ في السَّفَرِ) وهو مذهب مالك، لأنَّ حقهنَّ يسقط بالسفر، ولهذا كان له أنْ لا يستصحب واحدة منهنَّ. قَيَّدَ بالسَّفر، لأن المرض منه أو منهنَّ لا يسقط القسم لِمَا في السُّنن عن عائشة قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النِّساء ـ يعني في مرضه ـ فاجتمعن، فقال: إني لا أستطيع أن أدور بينكنَّ، فإن رأيتنَّ أنّ تأذَنَّ لي فأكون

(1)

حُرِّفت في المطبوع إلى كعب بن سعد، والمثبت من المخطوط وهو الصواب. انظر مصنف عبد الرزاق 7/ 149، كتاب الطلاق، باب حق المرأة على زوجها وفى كم تشتاق؟، رقم (12586 و 12587، 12588).

(2)

سيأتي شرحها قريبًا.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

في المخطوط: تصيبها، والمثبت من المطبوع.

ص: 81

والقُرْعَةُ أوْلَى: ويَصِحُّ تَرْكُ القَسْمِ ويَصِحُّ الرُّجُوعُ.

===

عند عائشة فَعَلْتُنَّ» فأذِنَّ له.

(والقُرْعَةُ أوْلَى) تَطْيِيباً لقلوبِهِنَّ وقال مالك والشافعيّ: واجبة، لِمَا روى الجماعة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيَّتُهُنَّ خرج سهمها، خرج بها.

ولنا: أن القسم في الحَضَرِ لم يكن واجباً عليه صلى الله عليه وسلم فضلاً عن السفر، وإنما كان يقسم تَفَضُّلاً عليهنَّ وتطييباً لقلوبهنَّ، لِمَا في الصحيحين عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم كان يَقْسِمُ لثمانٍ ولا يَقْسم لواحدةٍ. قال عطاء: هي صفية بنت حُيَيْ بن أَخْطَب، ولقوله تعالى:{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ}

(1)

وكان من يؤوي: عائشةَ، وأمَّ سَلَمَةَ، وزيْنَبَ، وحَفْصَةَ. ومن يُرْجي: سَوْدَةَ، وجُوَيْرِيَةَ، وأمَّ حَبِيبَةَ، وصَفِيَةَ، ومَيْمُونَةَ. ذكره المُنْذِري.

(ويَصِحُّ) للمرأة (تَرْكُ القَسْمِ) بأن تهب يومها لصاحبتها، لأن القَسْمَ حقها ولها تركه، ولما في الصحيحين عن عائشة قالت: ما رأيت امرأةً أحبّ إليّ أن أكون في مِسْلاخِها

(2)

من سَوْدَةَ بنت زَمْعَة، من امرأة

(3)

فيها حِدَّة، فلمَّا كَبِرَت قالت: يا رسول الله قد جعلت يومي منك لعائشة. وكان صلى الله عليه وسلم يَقْسِم لعائشة يومين: يومها، ويوم سَوْدَة. وفي «سنن البَيْهَقِيّ» عن هِشَام بن عُرْوَة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَلَّق سَوْدَة، فَلَمَّا خرج إلى الصلاة أمسكت بثوبه وقالت: والله مالي في الرِّجال من حاجة، ولكن أُرِيدُ أن أُحْشَرَ في أزواجك. قال: فراجَعَها، وجعل يومها لعائشة.

(ويَصِحُّ) للمرأة (الرُّجُوعُ) فيم وهبت من قسمها، لأنها أسقطت حقّاً

(4)

لم يجب بعد فلا يكون مُلْزِماً، كالعَارِيَّة يرجع فيها المُعِيرُ متى شاء. ولو أقام رجلٌ عند إحدى امرأتيه شهراً ـ ولو في غير سفرٍ ـ ليس للأخرى مطالبته أنْ يُقِيمَ عندها شهراً. لأن القَسْمَ لا يصير ديناً في الذِّمَّة، ولكنه يأثم فيؤمر باستقبال العدل بينهما. ولو عاد إلى الجَوْر بعد نَهْي القاضي عزَّرَهُ. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصَّواب.

(1)

سورة الأحزاب، الآية:(51).

(2)

في المطبوع: مسلاحها، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 2/ 1085، كتاب الرضاع (17)، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها (14)، رقم (47 - 1463).

والمِسْلَاخ هو الجلد. المعجم الوسيط ص 442، مادة (سلخ). والمعنى: أن أكون أنا هي.

(3)

من امرأة: "من" هنا للبيان واستفتاح الكلام.

(4)

حرّفت في المطبوع إلى: حقه، وفي المخطوط إلى: حقها. والصواب ما أثبتناه من "الهداية" المطبوع مع "فتح القدير" 3/ 303.

ص: 82

‌كِتَابُ الرِّضَاعِ

يَثْبُتُ بِمَصَّةٍ في حَوْلَيْنِ وَنِصْفٍ فَقَطْ

===

كتاب الرَّضَاعِ

بفتح الرَّاء وبكسرها، وفِعْله كَعَلِمَ، وفي لغة نَجْدٍ كَضَرَبَ.

(يَثْبُتُ بِمَصَّةٍ) وهو مذهب جمهور العلماء، حكاه ابن المُنْذِرِ عن عليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن، وابن المُسَيَّب، ومَكْحُول، والزُّهْرِيِّ، وقَتَادَة، والحَكم، وحَمَّاد، ومالك، والأوْزَاعِيّ، (في حَوْلَيْنِ وَنِصْفٍ) فيكون المجموع ثلاثين شهراً، وبه قال أبو حنيفة، وهو مختار صاحب «الهداية» لقوله تعالى:{وحَمْلُهُ وفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً}

(1)

، وظاهر هذه الإضافة يقتضي أن يكون جميع المذكور مدّةً لكلِّ واحدةٍ منهما

(2)

، إلا أنّ الدليل قد قام على أنّ مدَّة الحبل لا يكون أكثر من سنتين، فَبَقِي مدَّة الفِصَال

(3)

على ظاهره. وقال الله تعالى: {فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وتَشَاوُرٍ}

(4)

الآية، فاعتُبِرَ التَّراضي والتَّشاور في الفصال بعد الحولين، وذلك دليل على جواز الإرضاع بعدهما. (فَقَطْ) قيَّد به لأنّ الرِّضاع بعد الحولين ونصف لا يثبت به حرمة سواء فُطِمَ الصبيّ، أو لم يُفْطَم عند أبي حنيفة.

وقال زُفَر: في ثلاث سنين. وعند مالك: في سنتين وأيام. وقالت عائشة وداود: يثبت به ولو بعد البلوغ. وقال أبو يوسف ومحمد: وبه يُفْتَى، كما نصَّ عليه في «العيون» ، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين، ومختار الطَّحَاويّ. ومذهب مالك والشافعي: أَنْ مدّة الرِّضاع سنتان لظاهر قوله تعالى: {والوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}

(5)

ولا زيادة بعد التمام والكمال، وقوله تعالى:{وفِصَالُهُ في عَامَينِ}

(6)

، وقوله صلى الله عليه وسلم «لا رِضَاع بعد الفِصَال» . رواه عبد الرَّزَّاق

(1)

سورة الأحقاف، الآية:(15).

(2)

أي للحمل وللفِصَالِ.

(3)

الفصال: فطام المولود. المعجم الوسيط ص 691، مادة (فصل).

(4)

سورة البقرة، الآية:(233).

(5)

الموضع السابق.

(6)

سورة لقمان، الآية:(14).

ص: 83

أمُومَةُ المُرْضِعَةِ وأُبُوَّةُ زَوْجِ لَبَنِهَا مِنْهُ للرَّضِيع،

===

عن عليّ مرفوعاً وموقوفاً.

ورواه الطَّبَرانيّ بسنده عن عليّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا رضاع بعد فِصَالٍ، ولا يُتْمَ بعد حُلُمٍ» ، وقوله صلى الله عليه وسلم لا رضاع إلاّ ما كان في الحولين» (رواه الدَّارَقُطْنِيّ، ورواه ابن عدي في «الكامل» ولفظه: «لايَحْرُم من الرِّضاع إلاّ ما كان في الحولين»)

(1)

، ووافقه ابن أبي شَيْبَة عن عليّ، وابن مسعود، والدَّارَقُطْنِيّ عن عمر قال:«لا رِضَاع إلاّ في حولين في الصِّغَر» .

وعامة أهل التفسير جعلوا الأجل المضروب للمدتين متوزعاً عليهما. ويؤيده ما رُوِيَ أنَّ رجلاً تزوَّج امرأةً فولدت لستة أشهر، فجيء بها إلى عثمان، فشاور في رجمها، فقال ابن عباس: إنْ خاصمتكم بكتاب الله خَصمتكم، قالوا: كيف؟ قال: إن الله ليقول: {وحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً} وقال: {والوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ، وقال:{وفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فحَمْله ستة أشهر وفصاله حولان، فتركها عثمان.

(أمُومَةُ المُرْضِعَةِ) هذا فاعل يثبت (وأُبُوَّةُ زَوْجِ لَبَنِهَا مِنْهُ للرِّضِيع) اللام متعلقة بـ: يثبت. وقيَّد الزَّوج بكون لبن المُرْضِعَة منه، لأن المرأة لو بانت من رجلٍ وهي ذات لبنٍ منه، فتزوَّجت بآخر وأرضعت بذلك اللّبن ولداً، لم يكن ولداً للثَّاني من الرِّضاع، بل يكون ربيبة منه. حتى جاز لذلك الولد أن يتزوّج بأولاد الثَّاني من غيرها، كما في النَّسب. ولو فُطِمَ الصَّبيّ عن اللّبن، واستغنى بالطعام عنه، ثم أُرْضِعَ في المدَّة فإنه يثبت به الحرمة في ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة لا يثبت، وقيل: لا يُبَاح شربه.

وقال الشافعيّ وأحمد وإسحاق: لا يثبت الرِّضاع إلاّ بخمس رضعات، يكتفي الصّبيّ بكل واحدة منها، لِمَا في «صحيح ابن حبَّان» عن عبد الله بن الزُّبَيْر، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تحرّم المصَّة والمصَّتان، والإِمْلَاجة والإملاجتان» . والمصَّة فعل الرضيع، والإملاجة فعل المرضِع وهو الإرضاع. ورواه مسلم مفرَّقاً في حديثين. وروى مسلم أيضاً عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: أُنْزِلَ في القرآن عشر رضعات معلومات يُحَرِّمْنَ، فَنُسِخَ من ذلك خمسٌ، وصار إلى خمس رضعات، فتُوُفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك.

وروى مسلم أيضاً من حديث أمّ الفضل بنت الحارث قالت: دخل أعرابي على

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 84

فَيَحْرُمَانِ مَعْ قَوْمِهِمَا عَلَيْهِ كَالنَّسَبِ وَفُرُوعُهُ والزَّوْجَانِ عَلَيْهِمَا، وَتَحِلُّ أُخْتُ أخِيهِ

===

رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيتي فقال: يا رسول الله إني كانت لي امرأة فتزوّجت عليها أخرى، فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت الحُدْثَى

(1)

رضعةً أو رضعتين. فقال رسول الله: «لا تُحَرِّمُ الإملاجة ولا الإملاجتان» .

ولنا إطلاق قوله تعالى: {وأمَّهَاتُكُمْ اللاَّتي أرْضَعْنَكُمْ وأخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}

(2)

من غير تقييد بعدد، فاشتراطه فيه زيادة على النَّصّ، وهي لا تثبت بخبر الواحد. وما في «الصحيحين» من حديث ابن عباس وعائشة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يَحْرُم من الرَّضاع ما يَحْرُم من النَّسَبِ» . فلفظ البخاري عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِيدَ

(3)

على ابنة حمزة فقال: «إنها ابنة حمزة» ، فقال:«إنها ابنة لا تحلُّ لي، إنّها ابنة أخي من الرَّضاعة، وإنه يَحْرُمُ من الرَّضاع ما يَحْرُم من النَّسب» . وروى الجماعة إلاّ ابن ماجه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها ـ واللفظ لمسلم ـ:«أنَّ عمَّها من الرَّضاعة ـ يُسَمى أَفْلَحَ ـ استأذن عليها فحجبته، فأَخْبَرَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: لا تحتجبي منه، فإنَّه يَحْرُمُ من الرِّضاعة ما يَحْرُمُ من النّسب» . ولفظ الباقين: «ما يَحْرُمُ من الولادة» .

وأمَّا ما رواه الشافعيّ، فمدفوعٌ بالكتاب كما تقدَّم، أو منسوخٌ بدليل ما رُوي عن ابن عبّاس أنه سُئِلَ عن الرّضاع، وقيل: إنّ النّاس يقولون: لا تُحَرِّمُ الرَّضعة ولا الرَّضعتان، فقال: كان ذلك، فأمّا اليوم فالرضعة الواحدة تحرِّم. وقال ابن مسعود: آل أمرُ الرّضاع إلى أن قليله وكثيره يُحَرِّمُ.

(فَيَحْرُمَانِ) أي المرأة التي أرضعت، والزَّوج الذي لبن الرِّضاع منه (مَعْ قَوْمِهِمَا) وهو أصول المرأة التي أرضعت، وفروعها من ذلك الزَّوج أو غيره، وإِخوتها، وأخواتها، وإِخوة أصولها وأخواتهم، وأصول الزَّوج، وفروعه من تلك المرأة أو غيرها، وإِخوته، وأخواته، وإِخوة أصوله وأخواتهم (عَلَيْهِ) أي على الرّضيع (كَالنَّسَبِ) أي كما يَحْرُم الأم والأب مع قومهما على الولد من النَّسب.

(وَ) يَحْرُم (فُرُوعُهُ) أي فروع الرّضيع (والزَّوْجَانِ) أي زوجته إن كان ذكراً، وزوجها إن كانت أنثى (عَلَيْهِمَا) أي على أبيه وأمه من الرّضاع.

(وَتَحِلُّ أُخْتُ أخِيهِ) من الرّضاع بأن يكون لرجلٍ أخٌ من الرّضاع له أختٌ من

(1)

الحُدْثى: تأنيث الأحْدث، يُريد المرأة التي تزوجها بعد الأولى. النهاية 1/ 351.

(2)

سورة النساء، الآية:(23).

(3)

أُريد على ابنة حمزة: أي أراد أن يتزوَّجها.

ص: 85

كَما في النَّسَبِ. والاحْتِقَانُ بِلَبَنِ المَرْأَةِ وَلَبَنِ الرَّجُلِ وَمَا خُلِطَ بِطَعَامٍ لا يُحَرِّمُ، وَبِغَيْرِهِ تُعْتَبَرُ الغَلَبَةُ، ويُحَرِّمُ الاسْتِعَاطُ وَلَبَنُ البِكْرِ والمَيِّتَةِ.

وإنْ أرْضَعَتْ ضَرَّتَهَا رَضِيعَةً حَرُمَتَا،

===

النسب، فيحلّ لذلك الرَّجل أن يتزوّج بتلك الأخت من النّسب (كَما في النَّسَبِ) أي كما تحلّ أخت أخيه من النّسب، بأن يكون لرجلٍ أخٌ من أب له أختٌ من أمَ، فَيَحِلُّ لذلك الرَّجل أن يتزوّج بتلك الأخت من الأمّ.

(والاحْتِقَانُ) مبتدأ، أي احتقان الرضيع (بِلَبَنِ المَرْأَةِ وَلَبَنِ الرَّجُلِ) نفسه إذا شربه الرضيع (وَمَا خُلِطَ بِطَعَامٍ) سواء طُبِخَ أو لَا، وسواء كان الطعام غالباً أو مغلوباً (لا يُحَرِّمُ) خبر المبتدأ وما عطف عليه، أي لا تثبت الحُرْمة، أمَّا الاحتقان فلأنه ليس بغذاء، وفيه خلاف محمد لأنه يصل إلى الجوف، ولهذا يفسد به الصوم. وأمَّا لبن الرّجل فلأنّه ليس بلبنٍ حقيقةً. وأمَّا المخلوط بالطعام، فالمذكور هنا قول أبي حنيفة.

وقال أبو يوسف ومحمد: إذا كان الخلط بغير الطبخ، وكان اللبن غالباً على الطعام يُحَرِّمُ، كما إذا كان غالباً على الماء والدواء، لأن المغلوب مع الغالب كالمعدوم. ولأبي حنيفة: أن المائع إذا خُلِطَ بغيره يصير تابعاً له، لأن غير المائع أشدّ استمساكاً من المائع، فيصير المقصود ـ وهو التَّغذِّي ـ (بالطَّعام لا باللبن. وقيل: لا تثبت به الحرمة عنده على كل حال، وإليه مال السَّرَخْسِي، وهو الأصحّ، لأن التَّغذي كان)

(1)

بالطعام دون اللبن.

(وَ) ما خلط (بِغَيْرِهِ) أي بغير الطعام سواء كان ماءً، أو دواءً، أو لبنَ شاةٍ أو امرأةٍ أخرى (تُعْتَبَرُ الغَلَبَةُ) لأنّ المغلوب كالمعدوم مع الغالب. وحرَّم به مالك والشافعيّ لأنه موجودٌ فيه حقيقة، وفيه إشكالٌ على قواعدنا أيضاً من حيث إِنْ مصةً واحدةً تُحَرِّمُ، فأي فائدة في اعتبار الغالبية والمغلوبية.

(ويُحَرِّمُ الاسْتِعَاطُ) لأنّ به يصل اللَّبن إلى المعدة على وجه يحصل به الغذاء، وهو مشتقٌّ من السَّعُوط: وهو الدَّوَاء يصبُّ في الأنف. (وَ) يحرم (لَبَنُ البِكْرِ) اتفاقاً (والمَيِّتَةِ) وبه قال مالك، خلافاً للشافعي. ولو ارتضع صبيان لبن بهيمة، لم يكن ذلك رضاعاً، لأن ثبوت الحرمة بطريق الكرامة، وذا مختصٌ بلبن الآدمية. (وإنْ أرْضَعَتْ) امرأة رجلٍ (ضَرَّتَهَا) حال كونها (رَضِيعَةً) بأنْ كان متزوجاً صغيرةً وكبيرةً فأرضعت الكبيرةُ الصّغيرةَ (حَرُمَتَا) على الزَّوج لأنه يصير جامعاً بين أمّ وبنتها رضاعاً، وهو حرامٌ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 86

ولَا مَهْرَ لِلْكَبِيرَةِ إنْ لَمْ تُوطَأْ، ولِلْرَّضِيعَةِ نِصْفُهُ، وَرَجَعَ الزَّوْجُ بِهِ عَلَى المُرْضِعَةِ. إنْ قَصَدَتْ الفَسَادَ.

===

كالجمع بينهما نسباً.

(ولَا مَهْرَ لِلْكَبِيرَةِ إنْ لَمْ تُوطَأْ) لأنَّ الفُرْقَةَ من قِبَلها قبل الدّخول، إلاّ إذا كانت الكبيرة مجنونةً أو مكرهةً أو نائمةً فارتضعتها الصغيرة، كان لها نصف المهر (ولِلْرَّضِيعَةِ نِصْفُهُ) لأنَّ الفُرْقَة قبل الدُّخول لا من قِبَلِها. (وَرَجَعَ الزَّوْجُ بِهِ) أي بنصف المهر الذي للصغيرة (عَلَى المُرْضِعَةِ) أي الكبيرة (إنْ قَصَدَتْ الفَسَادَ) بأن أرضعتها بلا حاجةٍ عالمةً بأنها منكوحةٌ لزوجها، وأنَّ إرضاعها مفسدٌ لنكاحها. ولو أخطأت أو أرادت الخير بأنْ خافت على الرضيع الهلاك من الجوع لم يرجع به عليها. والقول في ذلك قولها إن لم يظهر منها تعمُّد الفساد، لأنه لا يُعْرَفُ إلاّ من جهتها.

ولو أرضعت امرأة الأب زوجة الابن حَرُمَتْ عليه، لأنها تصير أخته لأبيه. ولو أرضعت امرأةٌ صغيرتين تحت رجلٍ حَرُمَتَا عليه، ويرجع على المرأة إن تعمّدت الفساد.

ويثبت الرّضاع عندنا بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، وعند الشافعي يثبت بشهادة أربع نِسْوة، وشهادة المُرْضِعَة إن لم تطلب أجرة. وعند مالك: يثبت برجلٍ وامرأةٍ، وبامرأتين إن كان الرّضاع فاشياً من قولهما قبل العقد، وإلاّ لم يثبت على المشهور. وفي الواحدة فاشياً من قولها: له قولان. وفي انقراد أمّ أحد الزَّوجين، أو أبيه له قولان.

ولو أقرَّ رجلٌ لامرأته، أو لأجنبيّة برضاع أمّ، بأن قال: هذه أختي، أو ابنتي، أو أمّي رضاعاً، أو بنسب: بأن قال: هذه بنتي، أو أختي، أو أمّي نسباً، ثم رجع عن قوله ولو بعد عشر سنين أو أكثر فقال: أوهمت، أو أخطأت، أو نسيت وصدَّقته المرأة صحَّ رجوعه عندنا، وله أن يتزوَّجها إلاّ إذا ثبت عليه، بأن قال: هو حقٌّ كما قلت، ثم تزوّجها فإنه يفرّق بينهما، وهذا استحسان. وفي القياس الجواب: في الفَصْلَيْنِ سواء، وبه قال مالك والشافعيّ، إذ الرجوع عن الإقرار باطلٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 87

‌كِتَابُ الطَّلاقِ

يَقَعُ مِنْ مُكلَّفٍ فقط،

===

كتاب الطَّلَاقِ

اسم مصدرٍ بمعنى التطليق كالسَّلام والكلام، ومنه قوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}

(1)

، ومصدر من طَلُقَت المرأة بالضم كالجَمَال من جَمُلَ، وبالفتح كالفَسَادِ من فَسَدَ.

وهو في اللغة: رَفْع القيد مطلقاً.

وفي الشرع: رفع القيد الثابت شرعاً بالنِّكاح.

قال صاحب «المحيط» : المستعمل في المرأة لفظ التطليق، وفي غيرها لفظ الإطلاق، ولهذا لو قال لامرأته: أنتِ مطلَّقة بتشديد اللام لا يحتاج إلى نيَّة، وبتخفيفها يحتاج إليها. وهو مملوك الزَّوج لقوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(2)

ولقوله صلى الله عليه وسلم «الطَّلاق لمن أخذ بالسَّاق» رواه ابن ماجه. ووصفه أنه محظورٌ نظراً إلى الأصل، ومباحٌ نظراً إلى الحاجة. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبغض الحلال إلى الله الطَّلاق»

(3)

.

(يَقَعُ) الطَّلاق (مِنْ مُكَلَّفٍ) أي من كلِّ زوجٍ عاقلٍ بالغٍ (فقط)، ولا يقع من المولى

(4)

والأب على امرأة عبده، وابنه، ولا من الصَّبيّ والمجنون، والمعتوه: وهو من كان قليل الفهم، مختلط الكلام، فاسد التدبير، إلاَّ أنه لا يضرب ولا يشتم كالمجنون، وقيل: العاقل من يستقيم كلامه وأفعاله إلاّ نادراً، والمجنون ضده، والمعتوه من يستوي ذلك منه. روى ابن أبي شَيْبَة، وعبد الرَّزَّاق في «مصنفيهما» عن عليّ أنه قال: كلّ طلاق جائزٌ إلاّ طلاق المعتوه. وروى ابن أبي شَيْبَة عن ابن عباس أنه قال: لا يجوز طلاق الصّبيّ. وروى عبد الرَّزَّاق عن عليّ قال: لا يجوز على الغلام طلاقٌ حتى يحتلم.

(1)

سورة البقرة، الآية:(229).

(2)

سورة الطلاق، الآية:(1).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه 2/ 631 - 632، كتاب الطلاق (13)، باب في كراهية الطلاق (3)، رقم (2178) ..

(4)

المولى: المالك والسَّيِّد. النهاية: 5/ 228.

ص: 88

وَلَوْ كَانَ سَكْرَانَ

===

وشَمِل قول المصنف: «من مكلف» الأخرس إذا أشار بالطَّلاق، لأن إشارته قائمةٌ مقام العبارة، ويَعُمُّ المُكْرَهَ أيضاً، وهو قول ابن عمر، والشَّعْبِيّ، والنَّخَعِيّ، والزُّهْرِيّ، وقَتَادَة، وأبي قِلَابَة، وسعيد بن جُبَيْر، وابن المُسَيَّب، وشُرَيْح، لِمَا روى محمد بن الحسن بسنده، والعُقَيْلِيّ في كتابه

(1)

من حديث الغازي بن جَبَلة، عن صَفْوَان بن عمْرَان الطَّائِيّ: أن رجلاً كان نائماً. فقامت امرأته فأخذت سكيناً فجلست على صدره فوضعت السكين على حلقه وقالت: لَتُطَلِّقَنِّي أو لأذْبَحَنَّكَ. فناشدها الله، فأبت فطلَّقها ثلاثاً. فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال:«لا قَيْلُولَة في الطَّلاقِ» أي لا إقالة.

ورواه أيضاً عن صفْوَان الأصَمّ الطَّائيّ، عن رجل من الصحابة: أن رجلاً كان نائماً

الحديث. إلاّ أن أبا حاتم، والثَّوْريّ جعل الغازي منكر الحديث في طلاق المكره. قلنا: يتأيد بحديث حُذَيْفَة وابنه حين حَلَّفَهُمَا المشركون، فقال صلى الله عليه وسلم «نَفِي لهم بعهدهم، ونستعينُ اللَّهَ عليهم»

(2)

. فبيَّن أن اليمين طوعاً وكَرْهاً سواء.

فعُلِمَ أن لا تأثير للإكراه في نفي الحكم المتعلِّق بمجرد اللفظ عن اختيار بخلاف البيع، لأن حكمه يتعلق باللفظ، أو ما يقوم مقامه مع الرِّضى، وهو منتفٍ بالإكراه. ورُوِيَ أيضاً عن عمر: أربعٌ مُبْرَمَاتٌ

(3)

مُقْفَلَاتٌ ليس فيهنَّ ردّ يدٍ: أي النِّكاح، والطَّلاق، والعَتَاق، والصَّدقة. وقال مالك والشافعيّ وأحمد: لا يقع طلاق المُكْرَه، وهو مرويّ عن عمر، وابنه، وعليّ، وابن عباس، والزُّبَيْر، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والضَّحَّاك، وعطاء لِمَا روى ابن حِبّان، وابن ماجه، والحاكم ـ وقال: على شرط الشيخين ـ من حديث ابن عباس: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رُفِعَ عن أمتي الخطأ، والنِّسيان، وما أُسْتُكْرِهُوا عليه» . وأُجِيبَ بأنْ المراد به إمَّا حكم الدُّنيا، وإما حكم العُقْبَى، والإجماع على أن المراد حكم الآخرة من المؤاخذة، فلا يراد الآخر معه.

(وَلَوْ كَانَ) المُكَلَّفُ (سَكْرَانَ) بخمرٍ أو نبيذٍ بخلاف بَنْجٍ وأفيونٍ ودواءٍ ولبن الرِمَاك وهي بالكسر: أنثى من الخيل، وبه قال مالك، والثَّوْرِيّ، والأوزَاعِيّ، والشافعيّ، وكذا رُوي عن سعيد بن المُسَيَّب، وعطاء، والحسن، والنَّخَعِيّ، وابن سيرين، ومُجَاهِد، والشَّعْبِيّ، والزُّهرِيّ، وعمر بن عبد العزيز، وسُلَيْمَان بن يَسَار. وروى عنهم ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» . وقد أجاز عمر طلاق السَّكْران بشهادة نِسْوة. وأخرج ابن

(1)

وهو كتاب "الضُّعفاء".

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 341، كتاب الخلع والطلاق، باب صريح ألفاظ الطلاق.

(3)

مُبْرَمَات: أبرم الأمر: أحكمه. المعجم الوسيط ص 52، مادة (برم). وهي في المخطوط: مبهمات.

ص: 89

أوْ عَبْدًا، لا مِنْ سَيِّدِهِ وَنَائِم ٍ

===

أبي شَيْبَة عن عُثْمَان: أنه كان لا يُجِيزُ طلاق السَّكْرانِ. ورُوِيَ عن ابن عباس، وبه قال القاسم بن محمد، وطاوُس، وربيعة بن عبد الرحمن، واللّيث، وأبو ثَوْر، وإسحاق بن رَاهُويَه، وزُفَر، وهو مختار الكَرْخِيّ، والطَّحَاوِيّ، ومحمد بن سَلَمة، وهو أحد قوليْ الشافعيّ، ومختار المُزَنِيّ، وتوقَّف أحمد بن حنبل، فللمانعين لهم: أنّ السَّكْران ليس له قصدٌ صحيحٌ، فلا يقع طلاقه كالصبيِّ والمجنون.

ولنا: ما روى الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلُّ طلاق جائز إلاّ طلاق المعتوه المغلوب على عقله»

(1)

. وقال: هذا حديث لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عطاء بن عَجْلان، وهو ضعيف ذاهب الحديث. ولا يخفى أنّ كونه ضعيفاً عنده لا يستلزم ضعفه عند غيره، بل يَعْتَضِدُ به. ولأنّ السَّكران مكلف لقوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وأَنْتُمْ سُكَارَى}

(2)

ولهذا يجب عليه القِصَاص، وحدّ القذف.

وطلاق المُكَلَّف واقعٌ، والرِّدَّة مبنيةٌ على الاعتقاد، فلم تصح من السَّكران لعدم الاعتقاد منه. ولو أُكْرِه على شرب الخمر فقيل: لا يقع طلاقه، لأنه ليس بمعصية، فصار كالإغماء. وقيل: يقع لأنّ السُّكر حصل بفعل محظور في الأصل، وهو الأصحّ. وقال بعض المحققين: الأوَّل حسنٌ، وهو مختار فخر الإسلام وكثير من مشايخنا، وهو قول مالك والشافعيّ.

(أوْ) كان (عَبْداً، لَا مِنْ سَيِّدِهِ) أي لا يقع الطَّلاق على العبد من سيده لِمَا روى ابن ماجه في «سننه» من طريق ابنِ لَهِيعَة، والدَّارَقُطْنِيِّ من غيره. عن ابن عباس قال: جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله سيدي زوَّجني بأمته، وهو يريد أنْ يُفَرِّقَ بيني وبينها، فصعد النبيّ صلى الله عليه وسلم المِنْبَرَ فقال:«يا أيها النَّاس، ما بال أحدكم يزوِّج عبده من أمته، ثم يريد أن يفرِّق بينهما، إنَّما الطَّلاقُ لمن أخذ بالسَّاق» .

(وَ) الطَّلاق من (نَائِمٍ) لأنه لا اختيار له أصلاً فصار كالمجنون. وفي «الخُلَاصَة» : عن الإمام خَواهرْ زَادَه: النائم إذا طلَّق امرأته في المنام فلمّا استيقظ قال لامرأته: طلَّقتك في النوم لا يقع. أي لأنه إخبار لم يقصد به الإنشاء. وكذا

(1)

نُصَّ في المخطوط على أن أبا داود قد روى الحديث. وهو خطأ، حيث لم يُخَرِّج هذا الحديث أحد من أصحاب الكتب الستة سوى الترمذي، كما ذكره أحمد محمد شاكر في تحقيق سنن الترمذي 3/ 496، كتاب الطلاق (11)، باب ما جاء في طلاق المعتوه (15)، رقم (1191).

(2)

سورة النساء، الآية:(4).

ص: 90

وأحْسَنُهُ طَلْقَةٌ فَقَطْ في طُهْرٍ لا وَطْء فيِهِ، وحَسَنُهُ وَهُوَ السُنِّيّ طَلْقَة لَغَيْرِ المَدْخُول بِهَا وَلَوْ في حَيضٍ

===

لو قال: أجزت ذلك الطَّلاق أي لعدم ثبوته في حقيقة الحال، وإنما هو في عالم الخيال، بخلاف طلاق الفُضُوليّ

(1)

. ولو قال: أوقعت ذلك الطَّلاق يقع، أي بإيقاعه يقظةً لا بطلاقه مناماً. ولو قال: أوقعت ما تَلَفَّظْتُ به حالة النوم لا يقع، أي لعدم تلفُّظه حقيقةً.

(وأحْسَنُهُ) أي أحسن أنواع الطّلاق (طَلْقَةٌ فَقَطْ) أي واحدةٌ (في طُهْرٍ لَا وَطْءَ فيِهِ) أو في حملٍ استبان. قال محمد (في «الأصل»):

(2)

بلغنا عن إبرهيم النَّخَعِيّ، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يستحبون أن لا يزيدوا في الطَّلاق على واحدةٍ حتّى تنقضي العدَّة، وإنّ هذا أفضل عندهم من أن يطلِّق الرَّجل ثلاثاً، عند كل طهرٍ واحدةٌ، ولأنه أبعد من النَّدامة حيث أبقى لنفسه مُكْنَةَ

(3)

التَّدارك بالمراجعة في العدّة، وبتجديد النّكاح من غير تحلل بزوج آخر.

فإن قيل: كيف يكون الطَّلاق حسناً فضلاً عن أن يكون أحسن، وقد روى أبو داود، عن ابن عمر: أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الحلال إلى الله عز وجل الطَّلاق» ؟ أُجيب: بأن الحُسْنَ في بعض أنواع الطَّلاق إنَّما هو بالنسبة إلى البعض الآخر، وذلك لا ينافي كون الطَّلاق نفسه مبغضاً.

فإن قيل: هذا الحديث مُشْكِلٌ لأنّ كون الطّلاق مبغضاً إلى الله منافٍ لكونه حلالاً، إذ كونه مبعضاً يقتضي رجحان تركه على فعله، بل يوجب وجوب تركه، وكونه حلالاً يقتضي مساواة تركه لفعله. أُجِيبَ: بأنّ المراد بالحلال هنا ليس ما استوى فعله وتركه، بل ما ليس تركه بلازمٍ، الشامل للمباح والواجب والمندوب والمكروه. والأظهر أن يُقَال: الطَّلاق حلالٌ في ذاته، وإنّما يبغضه لِمَا يترتب عليه من انجراره إلى المعصية للزَّوجين، أو يقال: أبغض الحلال عند الحاجة الطَّلاق من غيرضرورة.

(وحَسَنُهُ وَهُوَ) المعروف بأنه (السُّنِّيّ) فالأحسن أولى بأن يكون سُنِّيًّا (طَلْقَةٌ) حال كون الطلاق (لَغَيْرِ المَدْخُولِ بِهَا

(4)

وَلَوْ في حَيْضٍ) وقال زُفَر: يكره طلاقها في

(1)

الفُضُوليّ: من لم يكن وليًّا ولا وصيًّا ولا أصيلًا ولا وكيلًا. المعجم الوسيط ص (693)، مادة (فضل).

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

المُكْنَةُ: القدرة والاستطاعة. المعجم الوسيط ص 882، مادة (مكن).

(4)

في المخطوط: الموطوءة، والمثبت من المطبوع.

ص: 91

وَلِلْمَوْطوءَةِ تَفْرِيقُ الثَّلاثِ في أطْهَارٍ لا وَطْءَ فِيهَا فِيمَنْ تَحِيضُ، وأشْهُر في الصَّغِيرَةِ وَالآيِسَة وَالحَامِلِ وَلَوْ بَعْدَ الوَطْءِ. وبِدْعِيّة وَاحِدَةٌ في طُهْرٍ وُطِئَتْ فِيهِ، أوْ حيضِ مَوْطُوءةٍ

===

الحيض كالمدخول بها. وعلماؤنا والشافعيّ لم يحصروا الطَّلاق السُّنِّيّ في الطَّلقة الواحدة، وحصره مالك فيها. ولذا قال:(وَ) حَسَنُهُ حال كونه (لِلْمَوْطُوءَةِ تَفْرِيقُ الثَّلاثِ) طلقاتٍ (في أطْهَارٍ لَا وَطْءَ فِيهَا فِيمَنْ تَحِيضُ)، قيل: يؤخِّر الطَّلقة الأولى إلى آخر الطهر كيلا تتضرر المرأة بتطويل العدّة. وقيل: يطلِّقها عَقِيبَ الطهر كيلا يبتلى بالإيقاع عَقِيبَ الوِّقاع.

(وأشْهُرٍ) عطف على أطهار، أي وتفريق الثلاث في أشهر (في الصَّغِيرَةِ)، (وَ) كذا في (الآيِسَة)

(1)

لإقامة الشَّهر مقام الحيض في حكم عدّتهما، (وَ) في (الحَامِلِ) لأنها لا تحيض فكانت كالصّغيرة والآيِسَة في حقّ إيقاع الطّلاق ابتداءً، وفي حق تفريقه. (وَلَوْ بَعْدَ الوَطْءِ) فيهنّ

(2)

، لأنّ كراهة طلاق ذوات الحيض في الطُّهر بعد الوطء لتوهم الحبل واشتباه العدّة، وهذا غير موجود هنا. وقال محمّد وزُفَر: لا تطلَّق الحامل للسُّنَّة إلاّ واحدةً، لأن الشهر في حقّها ليس من فصول العدّة، فصار كالممتد طهرها.

(وبِدْعِيُّه) أي بِدْعِيُّ الطَّلاق (وَاحِدَةٌ في طُهْرٍ وُطِئَتْ فِيهِ أوْ) في (حيْضِ مَوْطُوءةٍ) أي مدخولٍ بها. لأنّ المبيح للطّلاق هو الحاجة إلى التَّخلص عن النِّكاح، فإن وُجِدَ دليل الحاجة لا يكره ويكون سُنِّيًّا، وإن لم يوجد دليلها كره ويكون بِدْعِيًّا. ورغبة الرّجل في المرأة تقلُّ بعد وطئها وفي حيضها، فإذا طلَّقها بعد الوطء، أو في الحيض، لم يوجد دليل الحاجة إلى طلاقها، لاحتمال أن يكون ذلك لنفرته عنها لا للحاجة للتخلص عن نكاحها. قيَّد بالموطوءة لأن غيرها يطلّق للسُّنَّة في حالة الحيض كما تقدم.

وحاصله: أنَّا مع مالك نجعل الطَّلاق الثّلاث بلفظٍ واحدٍ أو بألفاظٍ في طُهرٍ واحدٍ، وكذا الثنتين في طهرٍ واحدٍ أو بكلمةٍ بِدْعِيًّا، كطلاق الموطوءة حائضاً، فإنه بِدْعِيٌّ اتفاقاً لِمَا روينا. وقال الشافعيّ: ليس في الجمع بكلمةٍ ولا في التَّفريق سنّةٌ، لأنّ

(1)

الآيِسَة: هي التي بلغت سن اليأس، وهو السن التي ينقطع فيها الحيض عن المرأة فتعقم. المعجم الوسيط ص 1062، مادة (يئس).

(2)

أي الأشهر.

ص: 92

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الطَّلاق تصرفٌ مشروعٌ بدلالة وقوعه، وقيام دليل المشروعية ـ وهو أمر الله به ـ ومتى كان مشروعاً لا يكون ممنوعاً للتنافي بينهما. وهذا لأنّ أدنى درجات المشروع أن يكون مباحاً في نفسه، وبين كونه مباحاً ومحظوراً منافاةٌ، بخلاف الطَّلاق في حالة الحيض لأنه مباحٌ له في الأصل لكونه مأموراً به مطلقاً، والحرمة لعارض تطويل العدّة عليها، وبخلاف ما لو طلَّقها في طهر جامعها فيه لأنه يؤدي إلى تلبيس أمر العدّة عليها، لأنها لا تدري أنها حاملٌ فتعتدّ بوضع الحمل، أو حائل

(1)

فتعتدّ بالأقراء، وذلك منعدمٌ إذا طلَّقها في طهرٍ لم يجامعها فيه، سواء أوقع الثلاثَ أو واحدةً. وهذا معنى قولهم: هذا طلاق صادف زمان الاجتناب مع زوال الارتياب.

وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرتَانِ}

(2)

معناه دفعتان، لقولهم: أعطيته مرتين، وضربته مرتين. والألف واللام للجنس، فيقتضي أن يكون كل الطَّلاق المباح في دفعتين، ودفعة ثالثة في قوله تعالى:{فَإنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ}

(3)

، أو في قوله تعالى:{أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسَانٍ} على حسب ما اختلف فيه أهل التفسير. وحديث محمود بن لَبِيد قال: أُخْبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ طلّق امرأته ثلاثاً جميعاً، فقام غضبان فقال:«أَيُلْعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟» حتى قام رجلٌ فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟. رواه النَّسَائي والسَّرَخْسِي.

واللّعب بكتاب الله: ترك العمل به. فدلّ أن مُوقِعَ الثلاث جملةً مُخَالِفٌ للعمل بما في كتاب الله، وأنّ المراد في قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(4)

تفريق الطَّلاق على عدد أقراء العِدّة، ألَا ترى أنّه خاطب الزَّوج بالأمر بإحصاء العدّة، وفائدة التَّفريق، فإنه تعالى قال:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْراً}

(5)

أي يبدو له

(6)

فيراجعها، وذلك عند التّفريق لا عند الجمع.

وحديث عُبَادة بن الصَّامِت أن أباه طلّق امرأة له ألف تطليقة، فانطلق عُبَادة فسأل

(1)

الحائل: كل أنثى لا تحبل. المعجم الوسيط ص 209، مادة (حال). والمقصود هنا: أنها غير حامل.

(2)

سورة البقرة، الآية:(229).

(3)

سورة البقرة، الآية:(230).

(4)

سورة الطلاق، الآية:(1).

(5)

سورة الطلاق، الآية:(1).

(6)

في المطبوع: يبديه، والمثبت من المخطوط.

ص: 93

وَمَا فَوْقَهَا بِلا رَجْعَةٍ بَينَهُ في طُهْرٍ، ويَرْجِعُ إنْ طَلَّقَ في الحَيضِ، فَإِذَا طَهُرَتْ طَلَّقَ إنْ شَاءَ.

===

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بانت بثلاثٍ في معصية الله، وبقي تسع مئة وسبعة وتسعون عدواناً وظلماً إن شاء الله عذَّبه وإن شاء غفر له» . أسنده عبد الرَّزَّاق. وفي «المَبْسُوطِ» : وقد رُوِيَ عن عمر وعليّ وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وعِمْرَان بن حُصَيْن: كراهية إيقاع الثلاث بألفاظٍ مختلفة. وقال الكَرْخِيّ: لا أعرف بين أهل العلم خلافاً أنّ إيقاع الثلاث بألفاظٍ جملةً مكروهٌ، إلاّ قول ابن سيرين، وقوله ليس بحجة.

هذا، والطّلاق البائن أيضاً مكروه عندنا في ظاهر الرِّواية، لأنه لا يحتاج إلى صفة البينونة في الخلاص، مع تفويت مُكْنَةِ المراجعة من غير تزوُّج ثانٍ ـ تحصل له أم لا ـ فيوجب النَّدامة

(1)

. ولا يُكْرَهُ الخُلْع في زمان الحيض، لأنه قد يحتاج فيه إلى المُفَادَاة، وقد قال تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(2)

.

(وَمَا فَوْقَهَا) معطوفٌ على قوله: واحدةٌ، أي فوق الواحدة، سواء كانت ثنتين أو ثلاثاً، جملةً أو مفرقاً (بِلَا رَجْعَةٍ) وبلا تجديد تزوّج، (بَيْنَهُ) أي بين ما فوق الواحدة من الثنتين والثلاث (في طُهْرٍ) ظرف لرجعة، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بالتفريق، والإيقاع جملة يضاده، فيكون مُفَوِّتاً للمأمور به، فيكون بدعة. قيّد بعدم الرَّجعة لأنها لو تخللت بين التطليقتين في طهر لا يكون الطلاق بِدْعيًّا عند أبي حنيفة، ويكون بِدْعِيًّا عندهما. وقيّدنا بعدم تجديد التزوّج، لأن التزوّج لو تخلّل بين التطليقتين لا يكون بِدْعيًّا باتفاق.

(ويَرْجِعُ) استحباباً كما قال القُدُورِيّ، ووجوباً في الأصحّ، عملاً بحقيقة الأمر، ودفعاً للمعصية بالقدر الممكن، ودفعاً للضَّرر عن المرأة بتطويل العِدَّة (إنْ طَلَّقَ في الحَيْضِ فَإِذَا طَهُرَتْ طَلَّقَ إنْ شَاءَ) هكذا ذكره الطَّحَاوِيّ: أنّه يطلّقها في الطهر الذي يلي الحَيْضَة التي طلقها فيها. وذكر محمد في «الأصل» : أنها إذا طَهُرَت من حيضةً أخرى يطلَّقها قبل الجماع إن شاء.

قال الكَرْخيّ: ما ذكره الطَّحاوي قول أبي حنيفة، وما في «الأصل» قولهما.

وجه ما ذكره الطَّحَاويّ ما رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنَّسائي، وابن ماجه، وأحمد، والطَّحاويّ عن سالم، عن ابن عمر: أنه طلَّق امرأته وهي حائضٌ، فذكر ذلك عمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:«مُرْه فلْيُرَاجِعْهَا، ثم ليُطَلِّقْهَا إذا طَهُرَت، أو وهي حاملٌ» .

(1)

عبارة المطبوع: مع تفويت مكنة الرجعة من غير تزوج، لأنه يحصل له أمر فيوجب الندامة.

(2)

سورة البقرة، الآية:(229).

ص: 94

وطَلاقُ الحُرَّةِ ثَلاثَةٌ والأمةِ ثِنْتَانِ، وَلَوْ زَوْجُهُمَا خِلافَهُمَا،

===

قال الطحاوي: أكثر الروايات عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر.

ووجه ما في «الأصل» ما في الكتب الستة، عن ابن عمر: أنه طلَّق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«مُرْهُ فليُرَاجِعْها ثم ليُمْسِكْهَا حتى تَطْهُر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أنْ يطلقها فليطلِّقها طاهراً قبل أن يَمَسَّها، فتلك العدّة التي أمر الله» . أي في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(1)

.

وفي لفظ في «الصحيحين» قال: طَلَّقتُ امرأتي وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«مُره فَلْيُرَاجِعْها حتى تحيض حيضة مُسْتَقْبَلَةً سوى حيضتها التي طلّقها فيها، فإن بدا له أن يطلَّقَها طاهراً من حيضها قبل أن يَمَسَّها، فذلك الطَّلاق للعدّة كما أمر الله» .

(وطَلَاقُ الحُرَّةِ ثَلَاثَةٌ والأمةِ ثِنْتَانِ، وَلَوْ) كان (زَوْجُهُمَا خِلَافَهُمَا) بأن كان زوج الحرّة عبدًا، وزوج الأمة حراً، فعندنا يُعْتَبَرُ عدد الطَّلاق بالنِّساء، وهو قول الثَّوْرِيّ وأحمد وإسحاق، وهو مروي عن عليّ ابن مسعود

(2)

. وعند مالك والشافعيّ بالرِّجال لِمَا روى مالك في «الموطأ» ، والشافعيّ في «مسنده» عنه عن أبي الزِّناد، عن سليمان بن يَسَار، أنَّ نُفَيعاً مُكَاتباً كان لأمِّ سَلَمَة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أو عبداً ـ أي غير مُكَاتَب ـ كانت تحته امرأةٌ حرّةٌ فطلَّقها ثنتين، ثم أراد أن يُرَاجِعَها، فأمره أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأتي عثمان بن عفَّان فيسأله عن ذلك، فلقيه عند الدَّرَج

(3)

آخذاً بيد زيد بن ثابت، فسألهما فابتدراه جميعاً فقالا: حَرُمَتْ عليك، حَرُمَتْ عليك.

وروى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن عثمان، وزيد بن ثابت، وابن عباس أنهم قالوا: الطَّلاق بالرِّجال، والعِدَّة بالنِّساء. وقد يُؤَوَّل على تقدير ثبوته مرفوعاً أن إيقاعه بالرِّجال دون عدده. وأمَّا ما ذكره صاحب «الهداية» من قوله صلى الله عليه وسلم «الطلاق بالرِّجال، والعدَّة بالنِّساء» . فرفعه غير معروف.

ولنا إطلاق ما روى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان» . وفي رواية: «قرآن»

(4)

. ورواه

(1)

سورة الطلاق، الآية:(1).

(2)

وفي المطبوع: ابن عباس، والصواب ما أثبتناه من المخطوط، و"فتح القدير" 3/ 348.

(3)

الدَّرج: موضع بالمدينة. هامش "الموطأ" 2/ 574.

(4)

تثنية قُرْء.

ص: 95

صَرِيحُهُ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِثْلُ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَمُطَلَّقَةٌ، وطَلَّقْتُكِ

===

ابن ماجه من حديث ابن عمر، والحاكم من حديث ابن عبّاس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وكذا الدَّارَقُطْنِيّ، وقال الترمذي: حديث غريب والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم. ووجه غرابته قوله: لا نعرفه مرفوعاً إلاّ من حديث مُظَاهِر بن أَسْلَم، ولا نعرف له في العلم غير هذا الحديث.

قلنا: أخرج له ابن عديّ في «الكامل» حديثاً آخر رواه عن المَقْبُرِيّ، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات في كل ليلة من آخر آل عمران.

فإن قيل: قد ضعَّفه ابن مَعين، وأبو حاتم، والبُخَارِيّ. قلنا: قد وثَّقه ابن حِبَّان، وأخرج الحاكم حديثه هذا عن القاسم، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «طلاق الأمة ثنتان، وقرؤها حيضتان» . ثم قال: مُظَاهِر بن أَسْلَم شيخٌ من أهل البَصْرَة لم يذكره أحدٌ من متقدمي مشايخنا بجرحٍ. فإذاً الحديث صحيح، ولم يخرجاه. ومما يصححه أيضاً عمل العلماء على وَفْقِه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم.

وفي «سنن الدَّارَقُطْنِيّ» : قال القاسم: عَمِل بها المسلمون، وهذا إجماعٌ. وقال مالك: شهرة الحديث بالمدينة تُغْنِي صحة سنده، كذا ذكره الزَّيْلَعِيّ في «شرح الكَنْز». فإن قيل: المراد بالحديث الأمة التي تحت العبد. أُجِيبَ عدّة الأمة لا تختلف بالحرّ والعبد؛ فالتقييد في حقّ الطَّلاق يوجب التقييد في حقّ العدّة، ولم يقل به أحدٌ فكان باطلاً. وأمّا ما روى الشافعيّ عن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عن محمد بن عبد الرَّحمن ـ مولى أبي طلحة ـ عن سليمان بن يَسَار، عن عبد الله بن عُيَيْنَة، عن عمر قال: ينكح العبد امرأتين ويطلِّق تطليقتين، وتعتد الأمة حيضتين. فليس من أدلتنا كما توهّمه الشارح على ما لا يخفى. نعم، في قوله: وتعتدّ الأمة حيضتين استدلالٌ لنا.

وبيانه ما أفحم به عيسى بن أبَان بن صَدَقة الشافعيّ فقال: أيها الفقيه إذا ملك الحرّ على الأمة ثلاث تطليقات كيف يطلِّقها للسُّنَّة؟ فقال: يوقع عليها واحدةً، فإذا حاضت وطَهُرَت أوقع أخرى، فلمَّا أراد أن يقول: فإذا حاضت وطَهُرَت، قال: أمسِك حَسْبُك، فإنّ عدّتها قد انقضت بالحيضتين، فلمَّا تحيّر رجع فقال: ليس في الجمع بِدْعَة ولا في التَّفريق سُنَّة.

(وصَرِيحُهُ) أي صريح الطَّلاق (مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِثْلُ: أَنْتِ طَالِقٌ وَمُطَلَّقَةٌ) بتشديد اللاّم المفتوحة (وطَلَّقْتُكِ) ولا يحتاج إلى نيّة الطَّلاق عن النِّكاح

ص: 96

وتَقَعُ بِهِ رَجْعِيَّةً أبَدًا. وَإنْ ذَكَرَ المَصْدَرَ فَثَلاثٌ إنْ نَوَاهَا، وإلّا فَرَجْعِيَّة.

===

بإجماع الفقهاء إلاّ داود. فلو نوى بشيءٍ من ذلك الطَّلاق عن القيد لا يُصَدّقُ قضاءً، لأنه خلاف الظّاهر، ويُصَدّقُ ديانةً لاحتمال كلامه ذلك.

(وتَقَعُ بِهِ) أي بالصّريح واحدة (رَجْعِيَّةً أبَدَاً) سواء لم ينوِ شيئاً أو نوى واحدةً بائنةً، أو أكثر.

أمّا وقوع الرَّجْعَةِ بالصَّريح فلقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرْتَانِ فإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسَانٍ}

(1)

فأثبت الرَّجْعَةَ بعد الطَّلاق الصَّريح. وأمّا عدم احتماله نيّة الثِّنْتَيْنِ والثَّلاث، فلأنه صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أنْ يراجع امرأته، ولم يستفسره أنه نوى الثَّلاث أم لا، ولو كان الصّريح يحتمل النِّيَّة لاستفسره.

وقال مالك والشافعيّ وزُفَر: يحتمل الصَّريح النِّيَّة لأنه أقوى من الكِتَابَة، وهي تحتملها فكذا هو، ـ وهو قول أبي حنيفة الأوَّل ـ، لأنه إذا صَحَّ نيّة الثَّلاث في قوله: أنتِ بائنٌ، فلأن يصح في قوله: أنتِ طَالِقٌ أوْلَى.

ولنا أنّه نوى ما لا يحتمله لفظه، فلا يُعْمَل بنيّته فتُلْغَى، لأنه قصد باللفظ تجيز ما علَّقه الشَّرْع (بانقضاء العدة)

(2)

عند وجوده بقوله تعالى: {إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}

(3)

، والإجماع على ذلك، فيردّ عليه قصده لاستعجاله ما أخّره الشَّرْع.

(وَإنْ ذَكَرَ المَصْدَرَ) بأن قال: أنتِ الطَّلاق، أو أنتِ طالقٌ الطَّلاق، أو أنتِ طالقٌ طلاقاً أَوْ أَنت طلاقٌ، خلافاً للطَّحاوي في هذه المسألة من حيثُ العددُ (فَثَلَاثٌ) للحرَّة (إنْ نَوَاهَا وإلاّ) أي وإن لم ينوِ الثَّلاث سواء لم ينوِ شيئاً أو نوى ثنتين (فَرَجْعِيَّة) أمّا وقوع الطَّلاق بالمصدر فلأنه يذكر بمعنى طالقٌ أو ذو طلاق، كعدل بمعنى عادل، أو ذو عدل، أو مبالغة كرجل عدل.

وأما صحة نية الثّلاث للحرّة دون الثنتين فلأنّ المصدر جنسٌ يقع على الواحد ويحتمل الكل، فإذا لم ينو شيئاً حُمِلَ على المتيقن منه، وهو الواحد الحقيقي، وإنْ نوى الثَّلاث صحَّت النِّية لأنها كل الطَّلاق، وهو واحد اعتباري، وإن نوى الثنتين لا يصح، لأنه عدد ليس بواحدٍ حقيقي ولا اعتباري إلاّ إذا كانت الزَّوجة أَمَةً، لأن الثنتين كل الطَّلاق في حقها كالثَّلاث في الحرّة. ولا يبعد أن يعتبر الثَّلاث، ويكون الثالث في

(1)

سورة البقرة، الآية:(229).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

سورة البقرة، الآية:(231).

ص: 97

وَصَحَّ إضَافَةُ الطَّلاقِ إلَى كُلِّهَا وإلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الكُلِّ، كَرَأْسُكِ أوْ رَقَبَتُكِ، أوْ رُوحُكِ، أوْ وَجْهُكِ، أوْ فَرْجُكِ، وَإلَى جُزْءٍ شَائِعٍ كَنِصْفُكِ، لا إلَى اليَدِ

===

حقها لغواً كما إذا قال لحرّة: أنتِ طالقٌ أربعاً.

(وَصَحَّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى كُلِّهَا) أي جملتها، كأنتِ طالقٌ (وإِلَى مَا) أي بعض منها (يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الكُلِّ كَرَأْسُكِ) هو بالرفع على الحكاية، أي كقوله: رأسك طالقٌ (أوْ رَقَبَتُكِ) وكذا عُنُقُكِ (أوْ رُوحُكِ) وكذا نفسك (أوْ وَجْهُكِ أوْ فَرْجُكِ) وكذا بدنك وجسدك، لأنّ الطَّلاق يقع بإضافته إلى كلها، فكذلك يقع بإضافته إِلى شيءٍ يُعَبَّرُ به عنه. أمَّا الرأس فإنه يقال: أعتق فلان كذا رأساً أي ذاتاً. وما دام رأسك سالماً أي ذاتك. وأمّا الرَّقبة والعُنُق فلقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}

(1)

أي فتحريرُ مملوكٍ، وقوله تعالى:{فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}

(2)

وأريد به الذَّوات، ولو أريد بها حقيقة العنق لقيل: خاضعة. وأمَّا الرُّوح فلأنه يقال: هلكت روحه، ويراد به نفسه. وأمّا البدن والجسد والنفس فظاهر.

وأمَّا الوجه فلقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ}

(3)

، وقوله سبحانه:{ويَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}

(4)

أي ذاته الكريمة. وأمّا الفرج، فلما يُرْوَى: لعن الله الفروج على السُّروج، أي ذوات الفروج من النساء، كذا ذكره صاحب «الهداية» ، وهو غير معروف بهذا اللفظ. وقد روى أحمد عن ابن عباس:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذوات الفروج أنْ يركبن على السُّروج»

(5)

.

(وَ) صحّ إضافة الطَّلاق (إلَى جُزْءٍ) من المرأة (شَائِعٍ كَنِصْفُكِ) أو ربعك، أو ثلثك، أو جزء من ألف جزءٍ منك، لأن المرأة لا تحتمل التجزاء في حكم الطَّلاق، وذِكْر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله (لَا إلَى اليَدِ) أي لا يصحّ إضافة الطَّلاق إلى جزء غير شائعٍ لا يُعَبَّرُ به عن الكلّ كاليد. فإن قيل: اليد يُعَبَّرُ بها عن الكلّ قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ}

(6)

أي نفسه {وذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}

(7)

أي أنفسكم. أُجِيبَ

(1)

سورة النساء، الآية:(92).

(2)

سورة الشعراء، الآية:(4).

(3)

سورة القصص، الآية:(88).

(4)

سورة الرحمن، الآية:(27).

(5)

أخرجه ابن عدي في "الكامل" 5/ 184.

(6)

سورة المَسَد، الآية:(1).

(7)

سورة آل عمران، الآية:(182).

ص: 98

وَالرَّجْلِ وَالظَّهْرِ، وَالبَطْنِ.

وبَعْضُ الطَّلْقَةِ طَلَقَةٌ، وَاثْنَانِ في اثْنَيْنِ اثْنَانِ. وتَصحُّ نِيَّةُ "مَع" وابْتِدَاءُ الغَايَةِ يَدْخُلُ لا انْتِهَاؤُهَا. ومَا بَيْنَ كـ: مِنْ،

===

بأنَّه غير متعارف حتى لو كان متعارفاً عند قومٍ هو أو أي عضوٍ كان، يقع الطَّلاق. (وَ) لا إلى (الرِّجْلِ) وكذا الدُبُر.

(وَ) لا إلى (الظَّهْرِ، وَ) لا إلى (البَطْنِ) في الأظهر فيهما وقال بعض المشايخ: يصحّ إضافة الطّلاق إليهما. وقال زُفَرُ ـ وهو قول مالك والشافعيّ ـ: يصحّ إضافته إلى ذلك كله. وعلى هذا الخلاف العَتَاق والظِّهَار والإيلاء والعفو عن القصاص. لهم: أنّ الجزء المعين مُستمتَع به بعد النِّكاح، فتصحّ إضافة الطَّلاق إليه، كالجزء الشائع، والجزء الذي يُعَبرُ به عن جميع البدن. ولنا: أنّه إضافة الطَّلاق إلى غير محله فلا يقع، كما لو (أضاف إلى البزاق أو الظُّفْر. ولهذا لو أضاف النِّكاح إلى اليد لا ينعقد، ولو أضافه إلى جزء)

(1)

يُعَبَّرُ به عن الكلّ، ينعقد.

(وبَعْضُ الطَّلْقَةِ طَلَقَةٌ) لأنّ ذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كلّه، صيانةً لكلام العاقل عن الإلغاء (وَاثْنَانِ في اثْنَيْنِ اثْنَانِ) سواء نوى الظرف أو الضَّرب. وقال زُفَر والحسن بن زياد: إن نوى الضَّرب يقع ثلاثاً لعرف الحساب، وهو قول مالك والشافعيّ. (وتَصحُّ نِيَّةُ «مَع») ونِيّة الواو، ويقع الثَّلاث دخل بها أو لم يدخل، لأن كلمة «في» تأتي بمعنى مع كقوله تعالى:{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي}

(2)

، قال بعض أهل التأويل: أي مع عبادي، وقوله سبحانه:{وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الجَنَّةِ}

(3)

ولأنّ الظّرف يقارن المظروف ويتصل به، كما أن المعطوف يقارن المعطوف عليه ويتصل به، وفيه تشديد عليه فتصحّ نيّته.

(وابْتِدَاءُ الغَايَةِ يَدْخُلُ) في الطَّلاق والإقرار عند أبي حنيفة (لا انْتِهَاؤُهَا)، وقال أبو يوسف ومحمد: يدخل ابتداؤها وانتهاؤها. وقال زُفَر: لا يدخل ابتداؤها ولا انتهاؤها. (ومَا بَيْنَ) إذَا ذُكِرَ بعدها غاية (كَـ: مِنْ) في ابتداء الغاية. قيّدنا بما تقدّم، لأنه لو قال: أنتِ طالقٌ ما بين واحدة وثلاث يقع واحدة، يُرْوَى ذلك عن أبي يوسف.

لزُفَر أنه لو قال: بعتك من هذا الحائط إلى هذا الحائط، لا يدخل الحائطان

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

سورة الفجر، الآية:(29).

(3)

سورة الأحقاف، الآية:(16).

ص: 99

وأنْتِ طَالِقٌ في مَكّةَ تَنْجِيزٌ، وفي دُخُولِكِ مَكَّةَ تَعْلِيقٌ.

===

فكذا ههنا. ولهما: أنّ مثل هذا الكلام يراد به الكل، نحو: خذ من مالي من درهم إلى مئةٍ. ولأبي حنيفة: أنه يُرَاد به الأكثر من الأقل، والأقل من الأكثر. يعني أنه متجاوز عن الأقل، ولم يصل إلى الأكثر نحو: سنِّي من ستين إلى سبعين، أو ما بين ستين إلى سبعين. ورُوِيَ أنّ أبا حنيفة رَضِيَ الله تعالى عنه قال لزُفَر: كم سنّك؟ فقال: سنِّي ما بين ستين إلى سبعين. قال: فأنت إذاً ابن تسعٍ فتحَيَّر

(1)

.

فلو قال: أنتِ طالقٌ من واحدة إلى ثنتين، أو ما بين واحدة إلى ثنتين، يقع واحدةٌ عند أبي حنيفة، وثنتان عندهما، ولا يقع شيءٌ عند زُفَر. ولو قال: من واحدةٍ، أو ما بين واحدةٍ إلى ثلاث، يقع ثنتان عند أبي حنيفة ـ وإن نوى واحدة صُدِّق ديانة لا قضاء ـ وثلاثٌ عندهما، وواحدةٌ عند زُفَر.

(وأنْتِ طَالِقٌ في مَكَّةَ) أو بمكة، أو في الدَّار، وإن لم يكن في مكة ولا الدَّار، وكذا في الشَّمس والظلّ، وفي ثوب كذا، وكذا إِذا قال: أنتِ طالقٌ مريضة (تَنْجِيزٌ) أي تطليقٌ في الحال، لأنّ الطّلاق لا اختصاص له بمكانٍ أو ظرفٍ أو وصفٍ دون آخر، لأن المطلّقة في مكانٍ أو ظرفٍ أو وصفٍ مطلّقة في غيره. ولو قال: أردت في دخولك مكة مثلاً، صدق ديانةً لا قضاءً.

ومعنى قولهم صُدِّق ديانةً: أنه لو استَفتى المفتي يُفْتَى على وَفْق ما نوى. ومعنى قولهم: لا يصدق قضاء: أنه لو رُفِعَ إلى القاضي يَحْكُمُ عليه بظاهر كلامه ولا يعلتفت إلى ما نوى لمكان التّهمة.

(وفي دُخُولِكِ مَكَّةَ) كما إذا دخلت مكة، وفي لُبْسِك ثوباً كذا، أو في مرضك أو في صلاتك (تَعْلِيقٌ) فلا تطلق حتى يوجد ذلك الفعل. لأنّ كلمة «في» تدخل على الظَّرف، والفعل هنا ـ وهو الطَّلاق ـ غير صالح للظرفية، فيحمل على المصاحبة كما في قوله تعالى:{فادْخُلِي في عِبَادِي}

(2)

، أو على معنى الشّرط مجازاً لمناسبة بينهما، وهي أنّ الظَّرف سابقٌ على المظروف، كما أنّ الشرط سابقٌ على المشروط. ولو قال: أنتِ طالقٌ إلى الشّتاء، أو إلى رأس الشهر، يقع في الحال عند أبي يوسف، وفي انتهاء الشّتاء أو الشهر عندهما. وإنْ نوى التنجيز يقع في الحال اتفاقاً.

(1)

في المطبوع: فعجز، والمثبت من المخطوط و "شرح العناية على الهداية" 3/ 363، المطبوع على هامش "فتح القدير.

(2)

سورة الفجر، الآية:(29).

ص: 100

وَيَقَعُ عِنْدَ الفَجْرِ في: أنْتِ طَالِقٌ غَدًا، أوْ في غَدٍ. ولا تَصِحُّ نِيَّةُ العَصرِ في الثَّانِي فَقَطْ، ويَقَعُ الآنَ في: أَنْتِ طَالِقٌ أمْسِ. وإنْ نَكَحَ بَعْدَهُ فَلَغْوٌ،

===

(وَيَقَعُ) الطّلاق (عِنْدَ الفَجْرِ في: أنْتِ طَالِقٌ غَداً أوْ في غَدٍ) لأنه وصفها بالطّلاق بالغد، فيقع في أول جزءٍ منه، وهو طلوع الفجر من اليوم الثَّاني، وهو قول الشافعيّ. وقال مالك: يقع في الحال اعتباراً له بإضافته إلى المكان. قلنا: اعتباره بالشرط أولى لكونه معدوماً في الحال، ويوجد في المآل.

(ولا تَصِحُّ) عند أبي حنيفة (نِيَّةُ العَصْرِ) مثلاً (في الثَّانِي فَقَطْ) وعندهما: لا تصحّ في الثّاني كما لا تصح في الأوَّل، وهذا في القضاء. وأمّا في الديانة فتصحّ نيّة العصر في المسألتين عند الجميع. ولأبي حنيفة أنّ غداً يقتضي الاستيعاب نحو: لأصُومَنّ عمري ودهري، وسرت فَرْسَخاً

(1)

وانتظرت يوماً، فإذا نوى البعض كان مجازاً، فلا يُصَدَّق قضاءً إذا كان فيه تخفيف له، وفي غدٍ لا يقتضي الاستيعاب نحو: لأصومنّ في عمري وفي دهري، وسرت في فَرْسَخ، وانتظرت في يومٍ. وإنما وقع الطَّلاق في الجزء الأوّل لضرورة عدم المُزَاحِم، فإذا عُيِّنَ آخر النّهار كان التعيين القصديّ أولى من الضروريّ.

وفي «الأصل» : ولو قال: أنتِ طالقٌ في رمضان، تطلق حين تغيب الشمس من آخر يوم من شعبان، لأنه حينئذٍ يوجد الجزء الأوَّل من رمضان. ولو نوى آخر رمضان، فهو على الخلاف المتقدِّم.

(ويَقَعُ) الطّلاق (الآنَ) أي في الحال (في: أَنْتِ طَالِقٌ أمْسِ) إن نكح فيه أو قبله، لأنه أضاف الطَّلاق في الحال مستنداً إلى أمس، وهو يملك الطّلاق في الحال، ولا يملك الاستناد إلى أمس، فيقع ما يملكه، ويلغو ما لا يملكه. (وإنْ نَكَحَ بَعْدَهُ) أي بعد أمس (فَلَغْوٌ) لأنه أسند الطّلاق إلى زمانٍ لا يملك فيه إيقاعه، فلا يقع. كما لو قال: أنتِ طالقٌ قبل أنْ أتزوّجك، أو قبل أن تولدي، أو وأنا صبيٌّ، أو نائمٌ.

وفي «الجامع الكبير» : ولو قال: أنتِ طَالِقٌ قبل أنّ أتزوّجك إذا تزوّجتك، أو أنتِ طالقٌ إذا تزوّجتك قبل أن أتزوّجك، يقع الطّلاق عند وجود التزوّج بالاتفاق. ولو قال: إذا تزوّجتك فأنتِ طالقٌ قبل أنْ أتزوّجك، لا يقع الطّلاق عند أبي حنيفة ومحمد، ويقع عند أبي يوسف، لأن الطّلاق إذا أُضِيفَ إلى وقتين أحدهما يقبله والآخر

(1)

الفَرْسَخُ: مقياس من مقاييس المسافات، مقداره ثلاثة أميال= 12000 ذراع= 5544 مترًا "معجم لغة الفقهاء" ص 343.

ص: 101

ويقع آخر العُمُرِ في: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ، ويَقَعُ حَالًا في: مَتَى لَمْ أُطَلِّقْكِ وسَكَتَ.

===

لا يقبله، (صحّ ما يقبله)

(1)

وبطل ما لا يقبله. ولهما: أنّ ذكر الفاء رجَّح جهة الشرطية، والمعلّق بالشرط كالمنجز عند وجوده، فصار كأنه قال: عند التزوّج أنتِ طالقٌ قبل أن أتزوّجك، فلا يقع.

(ويَقَعُ) الطّلاق (آخِرَ العُمُرِ) أي في آخر عمر الزّوج أو الزّوجة بأن يبقى منه ما لا يسع صيغة التطليق (في: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ) لأنّه جعل الشّرط عدم الطّلاق، وهو لا يتحقق إلا باليأس من الحياة، ثم إن مات الزّوج لها الميراث إن كان مدخولاً بها، رجعياً كان الطّلاق أو بائناً، ولا ميراث لها إن كانت غير مدخول بها. وهي مسألة الفارِّ. وإن ماتت هي لا يرثها الزّوج إن كان قبل الدّخول أَوْ كان ثلاثاً.

(ويَقَعُ) الطّلاق (حَالاً في:) أنتِ طالقٌ (مَتَى لَمْ أُطَلِّقْكِ) أو متى ما لم أطلِّقك (وسَكَتَ)، لأنّه أضاف الطّلاق إلى زمانٍ خالٍ عن التطليق، وقد وُجْدَ. وكذا يقع حالاً في: أنْتِ طَالِقٌ ما لم أطلّقك، لأن كلمة «ما» تكون للوقت كقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام {مَا دُمْتُ حَيًّا}

(2)

والشّرط كقوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكُ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}

(3)

وهي هنا للوقت، لأن التطليق لا بد له من الوقت.

ولو قال: حين لم أطلِّقك أو زمان لم أطلِّقك، أو حيث لم أطلقَك، ولا نيّة له وسكت، يقع حالاً. ولو قال: زمان لا أطلّقك، أو حين لا أطلّقك لم تطلق حتى يمضي ستة أشهر. لأن كلمة «لم» لقلب المضارع إلى الماضي ونفيه، فإذا سكت وُجِدَ زمانٌ لم يطلّقها فيه. وكلمة «حيث» اسم للمكان، وكم من مكانٍ لم يطلقها فيه فوُجِدَ الشرط. وكلمة «لا» للاستقبال، فلا تقع للحال.

وإنّما قدّرنا بستة أشهرٍ لأنّه أوسط استعمال الحين، لأنه استعمل في الساعة، كقوله تعالى:{حِينَ تُمْسُونَ}

(4)

، وفي ستةِ أشهرٍ كقوله تعالى:{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حينٍ}

(5)

، وفي أَربعين سنة، كقوله تعالى:{حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}

(6)

فيما رُويَ عن ابن

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

سورة مريم، الآية:(31).

(3)

سورة فاطر، الآية:(2).

(4)

سورة الروم، الآية:(17).

(5)

سورة إبراهيم، الآية:(25).

(6)

سورة الإنسان، الآية:(1).

ص: 102

وفي "إِذَا" يُنَوَّى فإنْ لَمْ يَنْوِ فَكَـ: "إِنْ" عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ.

واليَوْمُ للنَّهَارِ

===

عباس. والزّمان كالحين لأنهما في الاستعمال سواء. وإنما قال: وسكت، لأنه لو لم يسكت بل قال: أنتِ طالقٌ موصولاً بقوله: أنتِ طالقٌ متى لم أطلّقك، فإنه لا يقع بقوله: أنت طالقٌ متى لم أطلّق شيءٌ، وإنما يقع بالموصول به وهو أنت طالقٌ.

وقال زُفَر: يقع في هذه الصورة تطليقتان. وفيما لو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً ما لم أطلّقك أنتِ طالقٌ، يقع ثلاثاً، لأنه أضاف الطّلاق إلى زمانٍ خالٍ عنه، وقد وُجِدَ زمانٌ لطيفٌ، وهو وقت قوله: أنتِ طالقٌ قبل أن يفرغ منه. ولنا: وهو وجه الاستحسان أنّ قوله أنتِ طالقٌ هو زمان البِرِّ، وزمان البرِّ لا يدخل في اليمين. ويوضّحه: أن البرَّ مراد الحالف، ولا يتأتى له البرُّ إلا بعد أنْ يجعل هذا القدر مستثنى، وما لا يستطيع الامتناع عنه يجعل عفواً. وأصل المسألة فيما إذا قال: إنْ ركبت هذه الدابة وهو راكبها، فأخذ في النُّزول في الحال، حيث لا يحنَث عندهم، ويحنَث عند زُفَر.

(وفي إِذَا) بأنْ قال: أنتِ طالِقٌ إذا لم أطلّقك، أو إذا ما لم أطلّقك (يُنَوَّى) بتشديد الواو المفتوحة، أي يُسْأَلُ عن نيّته ويعمل بما في طويته، فإن قال: نويت الظّرف ـ وهو الوقت ـ يقع الطّلاق في الحال، وإنْ قال: نويت الشَّرط يقع في آخر العُمُر، لأن لفظ «إذا» يحتملهما لاستعماله فيهما. (فإنْ لَمْ يَنْوِ) شيئاً (فَكَـ:«إِنْ» عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ) لا يَقَعُ الطّلاق إلا آخر العُمُر. وبه قال الشافعيّ، وفي قول أحمد. وكـ: متى عند أبي يوسف ومحمد، فيقع الطّلاق حين سكت، وبه قال مالك، والشافعيّ في الأصحّ، وأحمد في رواية. لأن كلمة «إذا» لا تكون شرطاً إلا في الشّعر كما هو مذهب البصريين من النحاة، ومنه قول القائل:

*واسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بالغِنَى ** وَإذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ

(1)

فَتَجمَّلِ

ولهذا لو قال: إذا شئتِ فأنتِ طالقٌ، لا يخرج الأمر من يدها بالقيام عن المجلس، كما لو قال: متى شئتِ، بخلاف إن شئتِ. ولأبي حنيفة أَنّ «إذا» قد تكون للشرط كما هو مذهب الكوفيين، فإذا كانت هنا للشرط لا تطلق المرأة في الحال، وإن كانت للوقت تطلق فيه. فوقع الشّك في الطّلاق في الحال، فلا تطلق فيه. وإنما لم يخرج الأمر من يدها بالقيام من المجلس في قوله: إذا شئتِ، لأن الأمر صار في يدها بيقين، فلا يخرج بالشكّ.

(1)

الخصاصة: الفقر والحاجة وسوء الحال. المعجم الوسيط ص 238، مادة (خصّ).

ص: 103

مَعَ فِعْلٍ مُمْتَدٍّ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ يَوْمَ يَقْدَمُ زَيْدٌ، ولِلْوَقْتِ المُطْلَقِ مَعَ فِعْل لا يمتدّ، كَأنَتْ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ زَيْدٌ.

===

(واليَوْمُ للنَّهَارِ) وهو من طلوع الشَّمس إلى الغروب، وهذا هو المعنى العُرْفِيّ. وأمّا الشَّرعيّ فهو من طلوع الصبح الصادق إلى غروب جِرْم الشّمس، وكل منهما حقيقيّ. ومعناه المجازي هو مطلق الوقت. (مَعَ فِعْلٍ مُمْتَدَ)، وفي نسخة: يمتدّ. وهو ما يقبل التوقيت (كأَمْرُكِ بِيَدِكِ يَوْمَ يَقْدَمُ زَيْدٌ) فإن الأمر باليد ممتدٌّ لقَبوله التوقيت. وفي «شرح الوقاية» : أَنّ المراد بالامتداد امتدادٌ يمكن أنْ يستوعب النّهار لا مطلق الامتداد، لأنهم جعلوا التكلّم من قبيل غير الممتدّ، ولا شك أنّ التكلّم قد يمتدّ زماناً طويلاً، لكن لا يمتدّ بحيث يستوعب النّهار.

(ولِلْوَقْتِ المُطْلَقِ مَعَ فِعْلٍ لا يمتدّ، كَأَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ زَيْدُ) لأنّ اليوم يطلق ويُرَاد به النّهار، كما في قوله تعالى:{إذَا نُودِيَ للصَّلَاةِ مَنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ}

(1)

ويطلق ويُرَاد به الوقت كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}

(2)

بدليل أنّ من فرّ من الزحف ليلاً أو نهاراً يستحق الوعيد، وكما في قول الشاعر:

*

*فَيَوْمٌ عَلَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا

يُرَادُ مُطْلَقُ الوقت، ومنه قوله تعالى:{وتلْكَ الأَيَامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}

(3)

فيحمل مع الفعل الممتدّ كالصّوم والسّير والرّكوب وتخيير المرأة على النّهار، ومع غير الممتدّ كالطَّلاق والعَتاق على مطلق الوقت رعايةً للمناسبة واستعمال العرف. وهذا التفصيل إذا لم يكن له نيّة. أمّا لو قال في غير الممتدّ: شئت

(4)

النّهار، فإنه يصدق قضاءً، لأنه نوى حقيقة كلامه فيصدق وإن كان فيه تخفيف على نفسه.

قيّد باليوم لأن النّهار لا يكون إلاّ للبياض خاصّةً، والليلَ لا يكون إلاّ للسّواد خاصّةً، سواء كان الفعل ممتدًّا أو غير ممتدّ. واختلفت عباراتهم فيما إذا اعْتُبِرَ الامتداد وعدمه: فمنهم من يعتبره في المضاف إليه اليوم، لأنّ المضاف يحصل له التعريف والاختصاص من المضاف إليه، وهو مختار فخر الإسلام والصّدر الشهيد والعَتَّابيّ حيث اعتبروه في الشرط. ومنهم من يعتبره في الجواب والجزاء، لأنه هو العامل فيه.

(1)

سورة الجمعة، الآية:(9).

(2)

سورة الأنفال، الآية:(16).

(3)

سورة آل عمران، الآية:(140).

(4)

في المخطوط: عيّنت، والمثبت من المطبوع.

ص: 104

وفي: أنْتِ طَالِقٌ ثَلاثًا لِغَيرِ المَدْخُولَةِ، يَقَعْنَ، وبالْعَطْفِ تَبِينُ بالأوَّلِ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ وَقَدَّمَ الشَّرْطَ. ويَقَعُ الكُلُّ إنْ أُخِّرَ الشَّرْطُ.

===

وفي «شرح الكَنْزِ» : والأوجه أنْ يعتبره الممتدّ منهما، وعليه مسائلهم.

(وفي أنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثاً لِغَيْرِ المَدْخُولَةِ يَقَعْنَ) وهو قول عمر وعليّ وابن عباس وأبي هريرة وجمهور العلماء. وقال الحسن البصريّ وعطاء وجابر بن زيد: تقع واحدةً، لأنها تبين بقوله: أنتِ طالقٌ لا إلى عدّة، فيصادفها قوله ثلاثاً وهي بائنٌ فلا يقع به شيءٌ، وصار كقوله أنت طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ. ولنا أنّ الثلاث صفة للطّلاق الذي أوقعه، والموصوف لا يوجد بدون صفته، فصار الكلام واحداً، وصار كقوله: أوقعت عليكِ ثلاث تطليقات.

(وبالْعَطْفِ) نحو: أنتِ طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ، أو بالتكرير من غير عطفٍ نحو: أنتِ طالقٌ طالقٌ طالقٌ (تَبِينُ بالأوَّلِ) وكانت الثنتان فيما لا يملك، وهو قول عليّ وابن مسعود وزيد وإبراهيم. وقال ابن (أبي)

(1)

ليلى: إذا كان في مجلسٍ واحدٍ يقع ثلاث تطليقات، لأن المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة ويجعلها واحداً. وقال مالك، والشّافعيّ في القديم، والأوزاعيّ، واللّيث بن سعد: تطلق ثلاثاً. وقال أحمد: إنْ ذكر بالواو تطلق ثلاثاً وإلاّ تبين بالأوَّل، لأن المذكور بحرف الجمع كالمذكور بلفظ الجمع. ولهم: أنّ المجلس واحدٌ وهو يجمع المتفرقات، فيقع الثلاث.

ولنا: أنّ الواو لمطلق العطف وليس في آخر الكلام ما يغيّر أوّله من شرط أو استثناء وكان كل واحد إيقاعاً على حدة، فتَبِين بالأوَّل، ولم تبق محلاً للثَّانِي لأنها غير معتدّة.

(كَمَا) تَبِين بالأوّل (لَوْ عَلَّقَ وَقَدَّمَ الشَّرْطَ) بأن قال لغير المدخول بها: إن دخلتِ الدّار فأنتِ طالقٌ واحدةً وواحدةً وواحدةً، أو فأنتِ طالقٌ طالقٌ طالقٌ، فإنه يقع بدخولها طلقة واحدة، وهذا عند أبي حنيفة وهو وجه في مذهب الشَّافعِيّ. وقال أبو يوسف ومحمد ومالك وأحمد وربيعة والليث بن سعد وابن أبي ليلى والقاضي أبو الطَّيب ـ من أصحاب الشافعي ـ: يقع الكل.

(ويَقَعُ الكُلُّ إنْ أُخِّرَ الشَّرْطُ) لأنّ آخر الكلام إذا كان فيه ما يغيّر أوله كالشرط، توقف أوّل الكلام على آخره، ولم يكن فيه تعاقب في التعليق، فلا يكون فيه تعاقب

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 105

وفي: أنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، قَبْل واحدةٍ أَوْ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ، يَقَعُ وَاحِدَةٌ في غَيرِ المَوْطُوءَةِ، وفي المَوْطُوءَةِ ثِنْتَانِ، وفي قَبْلِهَا وَبَعْد وَمَعَهَا وَمَعَ اثْنَانِ

===

في الوقوع، وهذا إذا كان تكرار بدون عاطفٍ أو كان العاطف الواو.

وأمّا إذا كان الفاء فقال الكَرْخِيّ والطَّحَاوِيّ: أنّه كالواو. ويقع مع تقديم الشّرط واحدةٌ عند أبي حنيفة والكُلُّ عند أبي يوسف ومحمد.

وقال الفقيه أبو اللّيث في «مختلفه» : يقع واحدة بالاتفاق، لأنّ الفاء للتعقيب وموجبه الترتيب، فيصادفها الثَّانية وهي أجنبية، وهو الصحيح. ولو كان العاطف «ثُمّ» فإنْ كان الشّرط مقدماً ففي المدخول بها تعلَّقت الأولى، ووقعت الثّانية والثّالثة، وفي غيرها تعلّقت الأولى ووقعت الثّانية ولَغَا الثّالثة. وإن كان الشرط مؤخّراً وهي مدخول بها وقعت الأولى والثانية في الحال، وتعلّقت الثّالثة. وإن كان غير مدخول بها وقعت الأولى في الحال ولَغَا ما سواها، وهذا كلُّه عند أبي حنيفة.

وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعيّ وأحمد: يتعلق الثَّلاث بالشّرط، سواء تقدّم أو تأخّر، وقد دخل بها أو لم يدخل. وعند وجود الشَّرط إنْ كانت مدخولة يقع ثلاث وإلا واحدة.

(وفي أنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْل واحدةٍ أَوْ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ، يَقَعُ وَاحِدَةٌ في غَيْرِ المَوْطُوءَةِ، وفي المَوْطُوءَةِ) أي المدخول بها (ثِنْتَانِ) لبقاء المحلّيّة فيها بعد وقوع الأولى، بخلاف غير المدخول بها. (وفي قَبْلِهَا) موطوءة كانت أو غير موطوءة بأن قال: أنتِ طالقٌ واحدةً قبلها واحدةٌ، (وَ) في (بَعْد) بأنْ قال: أنتِ طالقٌ واحدةً بعد واحدةٍ، (وَ) في (مَعَهَا وَ) في (مَعَ) بأنْ قال: أنتِ طالقٌ واحدةً معها واحدةٌ، أو أنتِ طالقٌ واحدةً مع واحدةٍ يقع (اثْنَانِ) أمّا وقوع اثنين في الموطوءة وغيرها بكلمة «مع» فلأنّها موضوعة للقَرْنِ.

وأمّا وقوع واحدة في غير الموطوءة وثنتين في الموطوءة بكلمة «قبل» إذا أضيفت إلى ظاهرٍ، وبكلمة «بعد» إذا أضيفت إلى (ضميرٍ، ووقوع ثنتين في الموطوءة وفي غيرها بكلمة «قبل» إذا أضيفت إلى ضميرٍ، وبكلمة «بعد» إذا أضيفت إلى ظاهرٍ،) فلأنّ كلمة «قبل» و «بعد» إذا أُضِيفَتَا إلى ضميرٍ كانتا في المعنى صفةً لِمَا بعدهما، وإذا أُضِيفَتَا إلى ظاهرٍ كانتا في المعنى صفةً لِمَا قبلهما. فإذا قال: أنتِ طالقٌ واحدةً قبل واحدةٍ كانت القبليّة صفةً للواحدة الأولى (فتبين بها)

(1)

، وغير الموطوءة لم

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 106

وإن أَشارَ بالأصْبَعِ يُعْتَبَرُ عَدُّ المَنْشُورَةِ، وإنْ أَشَارَ بِظُهُورِهَا فَالمَضْمُومَةُ.

وإنْ وَصَفَ الطَّلاقَ بالشدّةِ، أو الطُّولِ، أوْ العَرْضِ، أوْ شِبْهِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذا، فَثَلاثٌ إنّ نَوَاهَا،

===

تبق محلاً للثانية، بخلاف الموطوءة فيقعان فيها.

وإذا قال: أنتِ طالقٌ واحدةً بَعدها واحدةٌ كانت البعديّة صفةً للواحدة الثَّانية، فتبين غيرُ الموطوءة بالأولى، ولم تصر محلاً للثانية، بخلاف الموطوءة فيقعان فيها. وإذا قال: أنتِ طالقٌ واحدةً قبلها واحدةٌ كانت القبلية صفةً للواحدة الثّانية، وليس في وُسْعه تقديمها على الأولى، وفي وسعه إيقاعها في الحال، فيقع ما في وسعه، فيقع ثنتان. وإذا قال: أنتِ طالقٌ واحدةً بعد واحدةٍ كانت البعدية صفة للواحدة الأولى فيقتضي الكلام وقوعها بعد الثّانية، وليس في وسعه ذلك فيقعان جميعًا.

ومذهب مالك كمذهبنا، ومذهب الشافعيّ في «قبل» مع الضمير وجهان: أحدهما أنه لا يقع شيءٌ، والثّاني أنه يقع واحدة، وفي الثلاث صور الأُخَر يقع واحدة.

(وإنّ أَشارَ بالأصْبَعِ) أي ببطون الأصابع إلى عدد الطَّلاق (يُعْتَبَرُ عَدُّ المَنْشُورَةِ) ولا يصدق قضاءً في نيّة المضمومة (وإنْ أَشَارَ بِظُهُورِهَا) بأنْ جعل ظهر الأصابع إلى المرأة وبطنَها إلى نفسه (فَالمَضْمُومَةُ) معتبرةٌ وإن كان في الأصل أنْ تقع الإشارة بالمنشورة، هكذا ذكر شمس الأئمة في «شرح الكافي» عن بعض المتأخرين.

والمذكور في «الظَّهِيرِيّة» وسائر الكتب: أنّ المعتبر المنشورة مطلقاً، حتى لو قال: عَنَيتُ المضمومة لا يُصَدَّقُ قضاءً. ومما يدلّ على اعتبار عدد المنشورة مطلقاً ما رَوَى البُخَارِي ومسلم من حديث جَبَلَة بن سُحَيم أنه قال: سمعت ابن عمر يقول: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا» وخنَس

(1)

الإبهام في الثالثة. ولولا اعتبارُ عدد المنشورة لكان الشهر إحدى وعشرين يوماً لا تسعة وعشرين يوماً.

(وإنْ وَصَفَ الطَّلَاقَ بالشِّدّةِ) بأنْ قال: أنتِ طالقٌ بائِنٌ أو البَتَّةُ، أو أشدَ الطَّلاق، أو أَكبَره، أو أعظَمه، أو أسوأَه، أو أفحشَه، أو أخبثَه، أو طلاق الشّيطان، أو طلاق البدعة، أو ملءَ البيت (أو الطُّولِ أوْ العَرْضِ) أي بهما: بأن قال: أنتِ طالقٌ طلقةً طويلةً أو عريضةً، (أوْ شِبْهِهِ) أي الطّلاق (بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذا) أي على ما ذُكِرَ من الشِّدة أو الطُّولِ أو العرضِ، بأن قال: أنتِ طالقٌ كالجبلِ أو كألفٍ (فَثَلَاثٌ إنّ نَوَاهَا) أي الثَّلاث

(1)

خَنَس: أخّر. المعجم الوسيط ص 259، مادة (خنس). أي أخّر إبهامه وقبضه.

ص: 107

وإلَّا فَبَائِنَةٌ وكِنَايَتُهُ مَا يَحْتَمِلُهُ وغَيْرَهُ فَنَحْو: اخْرُجِي، وَاذْهَبِي، وَقُومِي، يَحْتَمِل رَدًّا. ونحو: خَلِيَّة، بَرِيّة، بَائِنٌ، بَتَّةٌ، حَرَامٌ، يَصْلُحُ سبًّا.

===

(وإلاَّ) أي وإنْ لم ينوِ شَيئاً أو نوى واحدةً أو ثنتين (فَبَائِنَةٌ) واحدة، لأنّ وصف الطّلاق بالشِّدَّة والطول والعرض وتشبيهَه بما يدلّ على ذلك إنّما هو اعتبار أثره، وذلك بكونه بائناً. والبينونة نوعان: خفيفة، وغليظة، فإذا نوى الغليظة صحَّت نيّته، وإذا نوى الثنتين لا تصحّ نِيَّتهما، لأن البينونة جنسٌ يحتمل الأقل والأكثر دون العدد، والثنتان عددٌ.

وقال مالك والشافعيّ وأحمد: إذا قال للمدخول بها: أنتِ طالقٌ بائنٌ يقع رجعياً. لأن قوله: أنتِ طالقٌ صريحٌ وهو رجعي وقوله بائنٌ تغيير

(1)

له فيردُ عليه. ولنا: أنه وصف الطّلاق بما يحتمله فلا يكون تغييراً له بل تبييناً. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعيّ وأحمد في أنتِ طالقٌ كالجبل: يقع رجعية، لأنه يحتمل التشبيه في الوحدة وفي العِظَم، وهو في الوحدة رجعيّة وفي العظم بائنة، فلا تقع البينونة بالشَّك.

ولأبي حنيفة أنّ التشبيه يقتضي زيادة، وذلك بالبينونة. ولو شبَّه الطَّلاق بعدد ما لا عدد له بأن قال: أنتِ طالقٌ كعدد الشمس، وكعدد التراب فهي بائنة في قول أبي حنيفة، لأنّ التشبيه يقتضي ضرباً من الزيادة، ولا يمكن حمله على الزيادة في العدد، فيحمل على الزيادة في الصفة. وقال أبو يوسف: رجعيّة، واختاره إمام الحرمين من الشافعية، لأنّ التشبيه بالعدد فيما لا عدد له لغوٌ فيبقى قوله: أنتِ طالقٌ، وبه يقع رجعيّة. وقال محمد والشافعيّ وأحمد: ثلاثٌ، لأنّ مثل هذا الكلام يراد به الكثرة.

(وكِنَايَتُهُ) وهي لغةً: ضدّ التصريح، والمراد بها عند الفقهاء هنا (مَا يَحْتَمِلُهُ) أي لفظ يحتمل الطَّلاق (وغَيْرَهُ) فيفتقر إلى نيّة في حالة الرِّضا وعدم مذاكرة الطّلاق. وكذا الكتابة المستبينة في لوحٍ بمِدَاد أو في رملٍ ونحوه يحتاج إلى نيّة أو دلالة حال. واحترز بالمستبينة عن الكتابة في الماء والهواء والصخرة الصَّمَّاء ونحوها بلا مَدادٍ، فإنّه لا يقع به شيءٌ وإن نوى. فلو كتب رسالة على رسم الكتابة بأن كتب: أمّا بعد، يا فلانة إذا بلغك كتابي هذا، فأنتِ طالقٌ، فإنه يقع به الطَّلاق، ولا يصدق قضاءً في عدم النيّة، لدلالة الحال في الكلّ.

(فَنَحْو: اخْرُجِي، وَاذْهَبِي، وَقُومِي، يَحْتَمِلُ رَدًّا) لسؤال المرأة الطّلاق بأن يريد تبعيدها عن نفسه، وجواباً لسؤالها الطّلاق بأن يريد اخْرُجِي لأني طلَّقتك، وكذا البواقي (ونحو: خَلِيَّة بَرِيّة بَائِنٌ، بَتَّةٌ، حَرَامٌ، يَصْلُحُ سبًّا) للمرأة بأن يُرَاد خَلِيّةٌ من الخير،

(1)

في المطبوع: تفسير، والمثبت من المخطوط.

ص: 108

ونَحْو: اعْتَدِّي، واسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، أنْتِ وَاحِدَةٌ، أنتِ حُرَّةٌ، اخْتَارِي، أمْرُكِ بِيَدِكِ، وسَرَّحْتُكِ، وفَارَقْتُكِ، لا يحتملهما.

فَفِي الرِّضَاء يَتَوَقَّفُ الكُلُّ عَلَى النِيَّةِ، وَفِي الغَضَبِ الأَوَّلانِ، وَفِي مُذَاكَرَةِ الطَّلاقِ الأوَّلُ فَقَطْ، فإنْ نَوَى الثَّلاثَ يَقَعْنَ وإلّا

===

بَرِيَّةٌ عن الطاعة أو عن المحامد، وبائِنٌ عن الرُّشد والدين، وبَتَّةٌ عن الأخلاق الحسنة، لأن البين والبتّ بمعنى القطع، حرامٌ في الصحبة أو العِشْرة، ويصلح جواباً لسؤالها الطَّلاق: بأن يراد أنت خَلِيَّة لأني طلّقتك وكذا البواقي.

(ونَحْو: اعْتَدِّي، واسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، أنْتِ وَاحِدَةٌ، أنتِ حُرَّةٌ، اخْتَارِي، أمْركِ بِيَدِكِ، وسَرَّحْتُكِ، وفَارَقْتُكِ، لا يحتملهما) أي الردّ لسؤال المرأة، والسَّبّ لها، وإنما يصلح جواباً لسؤالها ومعاني أُخَرَ.

(فَفِي الرِّضَا) وهو أنْ لا يكون غضبٌ ولا مذاكرة طلاقٍ (يَتَوَقَّفُ الكُلُّ عَلَى النِيَّةِ) للاحتمال وعدم دلالة الحال (وَفِي الغَضَبِ) يتوقّف القسمان (الأَوَّلَانِ) على النيّة لأن الأوَّلَ لَمّا احتمل الرَّدّ والثّاني السّبّ، وقع الشّك في الجواب، فلا تطلَّق إلا بالنيّة. (وَفِي مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ) يتوقَّف (الأوَّلُ فَقَطْ) أي ولا يتوقف الأخيران.

أمّا توقف الأول فلأنه لَمّا احتمل الرَّدَّ والجواب، والرد أدْنى من الجواب لأن الرَّدّ دفعٌ والجواب رفعٌ، حُمِلَ عند عدم النِّيَّة على الرَّدِّ. وأمّا عدم توقف الآخرين فلأنّ الظاهر منهما عند مذاكرة الطَّلاق إرادته، فلا يتوقفان عندها على النِّيَّة. والقول قوله في تركها مع يمينه لأنها محتملة، فإن أنكر النِّيَّة في مذاكرة الطَّلاق لم يصدق قضاءً فيما يصلح منها جواباً فقط، ولا يصلح سبًّا ولا ردًّا، أو يصلح جواباً وسبًّا أيضاً، وصُدِّق فيما يصلح جواباً ورداً. وإن أنكرها في حال الغضب لم يصدق فيما يصلح جواباً فقط، ويصدق فيما عداه.

ولا يقع الطَّلاق بكنايتيْ التفويض وهما: اختاري نفسكِ، وأمركِ بيدكِ، إلاّ بإيقاعها بعد التفويض كما سيأتي في محله. وإنما ذُكِرَا مع الكِنَايَات ههنا لاحتمالهما تخييرها في نفسها بالإقامة على النِّكاح وعدمه، واحتمالهما تخييرها في غيره من نفقةٍ أو كِسْوةٍ. فإن اختارت نفسها وأنكر الزّوج قصد الطّلاق، كان القول له مع يمينه، إلاّ إذا كان بعد مذاكرة الطّلاق، أو في حال الغضب، فاختارت نفسها فإنه لا يصدق قضاءً.

(فإنْ نَوَى الثَّلَاثَ) بهذه الألفاظ من الكنايات كلها سوى ثلاثة ألفاظ تذكر بعد ذلك بمنزلة الاستثناء، وسوى لفظ اختاري كما سيأتي (يَقَعْنَ) الثلاث، (وإلاّ) أي وإن

ص: 109

فَبَائِنَةٌ. وفي اعْتَدِّي، واسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّة ويَقَعُ بإسْنَادِ البَيْنُونَةِ والحُرْمَةِ إلَيهِ، لا الطَّلاقِ.

===

لم ينوِ الثَّلاث: بأن لم ينوِ شيئاً، أو نوى واحدة أو ثنتين (فَبَائِنَةٌ) أي فيقع واحدةٌ بائنةٌ. وقال مالك والشافعي وأحمد: يقع بها رجعيٌّ إن لم ينو الثَّلاث. والمسألة مختلفٌ فيها بين الصحابة، فقال عمر وابن مسعود: الواقع بها رجعيّ. رواه عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» ، ومحمد بن الحسن في «آثاره». وقال عليّ وزيد بن ثابت وعامة الصّحابة: الواقع بها بائنٌ. وإنّما لا تصحّ نيته اثنتين عندنا خلافاً لزُفَر، لأن معنى التوحيد مراعىً في ألفاظ الوُحْدَان وذلك بالفردية أو الجنسية، والمثنّى بمعزلٍ منهما.

(وفي اعْتَدِّي) وهو قوله صلى الله عليه وسلم لسَوْدَة حين أراد أن يطلّقها: اعتدّي (واسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ) لأنه بمنزلة التفسير لِمَا قَبْلَهُ (وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ) يقع (رَجْعِيَّة) ولا فرق بين نصب الواحدة وعدمه، لأن العوام، بل بعض الفقهاء الكرام لا يفرِّقون بين وجوه الإعراب. وقال بعض المشايخ: إنْ نصبَ الواحدة تقع رجعيّة وإن لم ينوِ، لأنه نعتٌ لمصدر محذوف، وإنْ رفعها لا يقع شيءٌ وإن نوى، لأنه نعتٌ للمرأة، وإن سَكَّنَ يحتاج إلى النِّيَّة لاحتمال الأمرين. وقيل: يجوز الرفع لكونه نعتاً لطلقة، أي أنتِ تطليقة واحدة، ويجوز النَّصب لكونه نعتاً لمصدر آخر، أي أنتِ متكلمةٌ كلمةً واحدةً، فعلى هذا لا فرق بين الخواصّ والعوام.

(ويَقَعُ) الطَّلاق البائن (بإسْنَادِ البَيْنُونَةِ والحُرْمَةِ إلَيْهِ) بأنْ قال: أنا منك بائنٌ، أو قال: أنا منك حرامٌ ونوى الطّلاق، كما يقع بإسنادهما إلى المرأة (لا الطَّلَاقِ) أي لا يقع بإسناد الطّلاق إليه شيءٌ بأن قال: أنا منكِ طالقٌ وإنْ نوى الطَّلاق، وهو قول أحمد. وقال مالك والشافعيّ: يقع الطَّلاق إذا نَوَاه.

وحجَّتنا في ذلك ما رُوِيَ أن امرأةً قالت لزوجها: لو كان إليّ ما إليك لرأيت ماذا أصنع؟ فقال: جعلت إليك ما إليّ، فقالت: طلَّقتك. فَرُفِعَ ذلك إلى ابن عباسٍ فقال: خَطَّأَ الله نَوَّاها

(1)

، هلاّ قالت: طلّقت نفسي منك. ثم الطّلاق واقعٌ بِـ: لستِ بامرأتي، أو: لستُ زوجك، إنْ نوى الطَّلاق عند أبي حنيفة خلافاً لهما.

ويَلحقُ الطّلاقُ الصريح مثلَه: كـ: أنتِ طالقٌ أنتِ طالقٌ، ويلحق البائنَ أيضاً: كـ: أنتِ بائنٌ أنت طالقٌ، ويلحق البائنُ الصريحَ: كـ: أنتِ طالقٌ أنتِ بائنٌ، ولا يلحق

(1)

أي نيتها. وفي المخطوط: "نواها". وفي هامش المخطوط: "حَطَأ الله

" ومعنى حطأ: ضرب.

ص: 110

‌فَصَلُ في تَفْوِيضِ الطَّلاقِ

تَفْوِيضُ طَلاقِهَا إلَيهَا يَتَقَيَّدُ بِمَجْلِسِ عِلْمِهَا،

===

بائناً مثله: كـ: أنتِ بائنٌ أنتِ حرامٌ. وقد نظم بقوله:

*وكُلُّ طَلَاقٍ بَعْدَ أُخْرَى وَاقِعٌ ** سِوَى بائن مَعْ مِثْلِهِ لا يُعَلَّقُ وهذا عندنا، وعند الشافعيّ لا يلحق البائن الصريح كما لا يلحق البائن حتى لو قال لها بعد الخُلْع: أنتِ بائن لا يقع اتفاقاً. أمّا عندنا فلأنّ البائن لا يلحق البائن، وأمّا عنده فلأن الخُلْعَ فسخٌ في أحد قوليه. ولأنّ الرَّجْعِيّ لا يلحق البائن عنده. ولو قال لها بعد الخُلْع أو الطّلاق على مالٍ: أنتِ طالقٌ يقع عندنا، وعنده لا يقع. له: أنّ هذا تصرفٌ لَم يصادف في محله فيلغو، وهذا لأنّ الطَّلاق شُرِعَ لإزالة ملك النِّكاح، وقد زال بالخُلْع أو الطَّلاق على مالٍ، فلا يقع الطّلاق بعده كما بعد انقضاء العِدّة.

ولنا: قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(1)

يعني الخُلْعَ، ثم قال:{فإنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ}

(2)

والفاء للوصل والتعقيب، فيكون هذا تنصيصاً على وقوع الطلقة الثَّالثة بعد الخُلْع. وعن أبي سعيد الخُدْرِيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «المُخْتَلِعَةُ يلحقها صريح الطَّلاق ما دامت في العدّة» . رواه أبو يوسف في «الأمالي» بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وبه قال ابن مسعود، وعِمْران بن الحُصَيْن، وأبو الدَّرْدَاءِ، وسعيد ابن المُسَيَّبِ، وشُرَيْح، وطَاوسُ، والزُّهْرِيّ، والنَّخَعِيّ، والحَكَمُ، وحَمَّاد، ومَكْحُول، وعطاء، والثَّوْرِيّ، والله تعالى أعلم.

فصلٌ في تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ

(تَفْوِيضُ طَلَاقِهَا إلَيْهَا) بأنْ قَالَ لها: طلِّقي نفسكِ (يَتَقَيَّدُ بِمَجْلِسِ عِلْمِهَا) غائبةً كانت أو حاضرةً، فتطلِّق نفسها ما دامت في مجلسها ذلك، وإنْ قامت منه أو أخذت في عملٍ آخرٍ، خرج الأمر من يدها. وقال مالك في رواية، والشافعيّ في القديم: لا يتقيّد بالمجلس وقال أحمد: لا يتقيد الأمر باليد بالمجلس.

لنا: ما روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن ابن مسعود أنّه قال: إذا ملَّكها أمرها، فتفرقا قبل أنْ ينقضي شيءٌ فلا أمر لها. وما رَوَى أيضاً عن جابر بن عبد الله أنه قال: إذا خيَّر الرَّجل امرأته، فلم تختر في مجلسها ذلك، فلا خيار لها. وما رَوَى أيضاً هو وابن

(1)

سورة البقرة، الآية:(229).

(2)

سورة البقرة، الآية:(230).

ص: 111

إلّا أنْ يَقُولَ: كُلَّمَا شِئْتِ، أَوْ: مَتَى شِئْتِ، أَوْ: إذَا شِئْتِ، بِخِلافِ: إنْ شِئْتِ، وَلا يَرْجِعُ عَنْهُ.

===

أبي شَيْبَة عن عمر بن الخَطَّاب، وعثمان بن عفَّان أنهما قالا: أيما رجلٍ ملَّك امرأته أمرها وخيّرها ثم افترقا من ذلك المجلس، فليس لها خيار وأمرها إلى زوجها. وأسنده ابن أبي شَيْبَة عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد قال به عطاء ومجاهد والشَّعْبِيّ والنَّخَعِيّ والأوْزَاعِيّ وسُفْيَان.

وقال محمد: بلغنا عن عمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وجابر في الرَّجل يخيّر امرأته: أنّ لها الخِيار ما دامت في مجلسها ذلك، فإذا قامت من مجلسها فلا خِيار لها. وقال الزُّهْرِيّ وقَتادة وأبو عُبَيْد بن نصر: يبقى أمرها بيدها في ذلك المجلس، وفي غيره. وحكى صاحب «المُغْنِي» هذا القول عن عليّ كَرَّم الله وجهه.

قلنا: لم تستقر الرواية عن عليّ، إذ قد رُوِيَ عنه كالجماعة، فكان ذلك إجماعاً من الصحابة.

قال البَيْهَقِيّ: وقد تعلَّق بعض مَنْ يجعل لها الخِيار ولو قامت من المجلس بحديث تخيير عائشة، وهو في الصحيحين:«إنّي ذاكرٌ لكِ أمراً، فلا عليكِ أنْ لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويكِ» . وهذا الاستدلال غير ظاهر، لأنّه صلى الله عليه وسلم لم يخيّرها في إيقاع الطَّلاق بنفسها، وإنما خيّرها على أنها إن اختارت نفسها أحدث عليها الطَّلاق، لقوله تعالى:{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}

(1)

. انتهى.

(إلاّ أنْ يَقُولَ: كُلَّمَا شِئْتِ، أَوْ مَتَى شِئْتِ، أَوْ إذَا شِئْتِ) فإنّه لا يتقيّد بمجلس عِلْمها، لأنّ هذه الألفاظ عامةٌ في الوقت، فصار كأنه قال: طلِّقي نفسك أيّ وقت شِئْتِ، وفي كُلَّما شِئْتِ لها أنْ توقع ثلاث طلقاتٍ متفرقاتٍ، وليس لها أنْ توقعها جملةً، لأن «كُلَّمَا» تعمُّ الأفعال والأزمان عموم الانفراد لا عموم الاجتماع، إلاّ أنّ اليمين تنصرف إلى الملك القائم، فلا تملك الإيقاع بعد وقوع الثَّلاث إذا رجعت إليه بعد زوجٍ آخرٍ.

ولو طَلَّقَتْ نفسها ثلاثاً جملةً لا يقع شيءٌ عند أبي حنيفة، ويقع واحدةٌ عندهما، بناءً على أن إيقاع الثلاث إيقاع للواحدة أمْ لا؟ ويؤيد قولهما رميُ الحصيات السبع جملةً حيث يقع عن واحدة اتفاقاً.

(بِخِلَافِ إنْ شِئْتِ) فإنَّه يتقيَّد بمجلس علمها لعدم ما يدلُّ على عموم الوقت. (وَلَا يَرْجِعُ) من فوّض الطّلاق إلى امرأته (عَنْهُ) لأنّ التفويض فيه معنى اليمين، فإنه

(1)

سورة الأحزاب، الآية:(28).

ص: 112

وإلى غَيرِهَا لا يَتَقَيَّدُ ويَرْجِعُ، والمَجْلِسُ إنَّمَا يَخْتَلِفُ بِالقِيَامِ، أو الذَّهَابِ، أوِ الشُّرُوعِ في قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ لا يَتَعَلَّقُ بِمَا مَضَى.

وفُلْكُهَا كَبَيتِهَا، وسَيرُ دَابَّتِهَا كَسَيرِهَا. وَفِي: اخْتَارِي بِنيَّةِ التَّفْوِيضِ فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ، لا يَقَعُ إلّا بَائِنَةً.

===

تعليق طلاق المرأة بتطليقها، واليمين تصرّفٌ لازمٌ فلا يصح الرُّجوع عنها.

(وإلى غَيْرِهَا) عَطْفٌ على «إليها»

(1)

أي وتفويض طلاقها إلى غيرها، سواء كان ضَرَّتها أو شخصاً آخر (لَا يَتَقَيَّدُ) بالمجلس،، لأن ذلك توكيلٌ بالطَّلاق وأمرٌ بإيقاعه، والتوكيل والأمر لا يقتضيان الفور كأمر الشَّارع، وكباقي الوكالات. (ويَرْجِعُ) الزَّوج عنه متى شاء، لأنّه إنّما استعان بغيره ليكون التَّصرُّف له لا عليه، فلو ألزمناه به لحِقَه الضَّرر.

(والمَجْلِسُ إنَّمَا يَخْتَلِفُ بِالقِيَامِ) دون القعود (أو الذَّهَابِ أوِ الشُّرُوعِ في قَوْلٍ) كثيرٍ (أوْ عَمَلٍ) كَثيرٍ (لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا مَضَى) من التفويض، لأنّ ما ذكره دليل الإعراض.

قيّدنا القول والعمل بالكثير، لأنها لو سبَّحت، أو قرأت آيةً، أو أكلت شيئاً يسيراً، أو لَبِسَتْ ثيابها من غير قيام، لم يختلف مجلسها. وقيَّد القول والعمل بعدم التعلّق بالتفويض، لأنها لو دعت أباها للمشورة، أو شهوداً للإشهاد، لم يختلف مجلسها، لأن المشورة لتحرّي الصّواب، والإشهاد للتحرز عن الجحود.

(وفُلْكهَا) أي السَّفينة التي هي فيها وقت علمها بالتفويض (كَبَيْتِهَا) لأنّ جريان الفُلْكِ لا يضاف إلى راكبه، فثبت لها الخيار ما دامت في مجلسها كالبيت (وسَيْرُ دَابَّتِهَا كَسَيْرِهَا) لأنّ سير الدَّابَّة يُضَافُ إلى راكبها، لأنها تسير باختياره، فلو وقفت لم يَبْطُل خيارها، ولو نزلت بطل، وكذا لو ركبت وكانت نازلةً.

(وَفِي: اخْتَارِي بِنيَّةِ التَّفْوِيضِ) قيّد به لأنها تحتمل الأمر باختيار كِسْوة أو مأكل، فلا بد من نيَّة التفويض (فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ) نفسي، أو: أنا اختار نفسي (لَا يَقَعُ إلاّ بَائِنَةً) وكان القياس أنْ لا يقع شيءٌ وإن نوى الطَّلاق، لأنه لا يملك الإيقاع بهذا اللفظ، فلا يملك التفويض به إلى غيره إلاّ أنّ هذا القياس تُرِكَ باتفاق الصحابة على

(1)

صفحة 111، عند قوله:"تفويض طلاقها إليها".

ص: 113

وشُرِطَ ذِكْرُ النَّفْسِ مِنْ أَحَدِهِمَا أوْ قَوْلُهُ: اخْتَارِي اخْتِيَارَةً، فَتَقولُ: اخْتَرْتُ،

===

وقوع الطّلاق وإن اختلفوا في صفته.

وقال الشافعيّ: يقع رجعيٌّ، وهو قول أحمد، لأنه أدنى ما يكون من الاختيار. وقال مالك: يقع ثلاثاً، لأن الثلاث أتمّ ما يكون من الاختيار.

ولنا: أَنّ اختيارها لنفسها إنّما يتحقق بزوال ملك الزَّوج عنها، وزواله إنّما هو بالبينونة، وهي لا تستلزم الثلاث، وليس في اللفظ ما يدلّ عليها، فلا تقع وإن نواها، لأنّ الاختيار لا يتنوع، فَبَقِي مجرد نيّة العدد وهي لا تصح، بخلاف أنتِ بائنٌ، لأنّ البينونة تتنوع.

وفي «جامع الترمذي» : اختلف أهل العلم في الخِيار: فَرُوِيَ عن عمر وعبد الله بن مسعود أنَّهما قالا: إن اختارت نفسها فواحدةٌ بائنةٌ. ورُوِيَ عنهما أيضاً أنّهما قالا: واحدةٌ يملك الرّجعة، وإنْ اختارت زوجها فلا شيء.

ورُوِيَ عن عليّ أنّه قال: إن اختارت نفسها فواحدةٌ بائنةٌ، وإن اختارت زوجها فواحدةٌ يملِكُ الرجعة. وقال زيد بن ثابت: إن اختارت زوجها فواحدة، وإن اختارت نفسها فثلاثٌ. انتهى.

ولنا على أنها إن اختارت زوجها لم يقع شيءٌ ـ وهو قول أكثر أهل العلم ـ ما روى البُخَارِي ومسلم من حديث عائشة قالت: خيّرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم فاخترنا الله ورسوله، فلم يعدَّ ذلك شيئاً. كذا ذكروه وفيه: أنْ ذلك كان تخييراً لا تفويضاً كما تقدّم، والله تعالى أعلم.

(وشُرِطَ ذِكْرُ النَّفْسِ مِنْ أَحَدِهِمَا) متّصلاً أو منفصلاً في المجلس. وقال مالك والشافعيّ وأحمد: لا يُشْتَرَطُ (أوْ قَوْلُهُ: اخْتَارِي اخْتِيَارَةً) أو تطليقة، أو ما يكون كناية عن ذلك في أحد كلامهما (فَتَقُولُ: اخْتَرْتُ) أو: أختار نفسي. والقياس في قولها: أنا أختار نفسي عدم الوقوع كما قال الشافعيّ، لأنه وَعْدٌ، كما لو قال: طلّقي نفسك، فقالت: أنا أطلِّق نفسي، حيث لا تَطْلُقُ.

ووجه الاستحسان أنّ الكلام جُعِلَ جواباً بالسُّنَّة، وهي ما في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: لَمّا أُمِر رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تخيير أزواجه بدأ بي فقال: «إنّي ذاكرٌ لكِ أمراً إلى أن قالت: فقلت: ففي هذا أستأمر أبويّ، فإنّي أريد اللَّهَ ورسولَه والدّارَ الآخرة» . ثم فعل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ الذي فعلت. وفي لفظ لمسلم: كلا، بل أختار الله ورسوله، واعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم جواباً.

وفي المعقول فإنّ المضارع قد يُراد به الحال كما في قول الشاهد: أشهد، وقول الكافر: أشهد أن لا إله إلاّ الله، فإنّه يُرَاد به التحقيق حتى صار به مسلماً، لأنه

ص: 114

وَلَوْ كَرَّرَهَا ثَلاثًا فَاخْتَارَتْ إِحَدَاهَا فَثَلاثٌ. وَلَوْ قَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي، أوْ اخْتَرْتُ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ، فَبَائِنَةٌ. وَلَوْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ بِنِيَّةِ التَّفْوِيضِ، فَطَلَّقَت نَفْسَهَا فَبَائِنَةٌ. وَإنْ نَوَى الثَّلاثَ يَقَعْنَ.

وَفِي: أَمْرُكِ بِيَدِكِ فِي تطلقية، أوْ اخْتَارِي تَطْلِيقَةً فاخْتَارَتْ فَرَجْعِيَّةٌ. وَفِي: أمْرُكِ بِيَدِكِ اليَوْمَ وَغَدًا، يَدْخُل اللَّيلُ،

===

يخبر عن اعتقاده، فكذا هنا، «أنا أختار» حكاية عن اختيارها، بخلاف قولها: أنا أطلّق، لأنه لا يتصوّر أن تكون مطلّقة في حال كونها حاكية.

(وَلَوْ كَرَّرَهَا ثَلَاثاً) بأن قال لها: اختاري اختاري اختاري (فَاخْتَارَتْ إِحَدَاهَا) بغير لفظ التطليق بأنْ قالت: اخترت الأولى، أو الوسطى، أو الأخيرة، أو اخترت اختيارةً، أو باختيارةٍ، أو مرةً، أو بمرةٍ، أو دفعةً، أو بواحدةٍ (فَثَلَاثٌ). قيْدنا بغير لفظ التطليق، لأنها لو قالت: اخترت التطليقة الأولى تطلُق واحدةً باتفاقٍ. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا قالت: اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة تطلق واحدةً. وهو اختيار الطَّحَاويّ.

(وَلَوْ قَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي، أوْ اخْتَرْتُ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ، فَبَائِنَةٌ) كذا في «المَبْسُوطِ» ، و «الجامع الكبير» ، و «الزيادات» ، و «جوامع الفقه» ، وعامة نسخ «الجامع الصغير» سوى «جامع صدر الإسلام» ، فإن فيه ما في «الهداية»: أنه يقع طلقةٌ رجعية اعتباراً لما أتت به من صريح الطّلاق. وفي «الفوائد الظهيرية» : هذا سهوٌ وقع من الكاتب، لأن المرأة تتصرف بحكم التفويض وهو عندنا تطليقةٌ بائنةٌ. وفي «شرح الوِقَاية»: ذكر في «الهداية» أنه يقع واحدة يملك الرّجعة، فقيل: هذا غلطٌ وقع من الكاتب، وقيل: فيه روايتان: إِحداهما: أنه يقع واحدة رجعية، لأن لفظها صريحٌ، والأخرى: أنه بائنةٌ، وهذا أصحّ. انتهى.

(وَلَوْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ بِنِيَّةِ التَّفْوِيضِ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا) بأن قالت: طلّقت نفسي واحدةً، أو اخترت نفسي بتطليقةٍ (فَبَائِنَةٌ) أي فيقع طلقةٌ بائنة (وَإنْ نَوَى) الزَّوج (الثَّلَاثَ) فقالت: اخترت نفسي بواحدةٍ (يَقَعْنَ) لأنَّ الاختيار يصلح جواباً للأمر باليد لكونه تمليكاً كالتخيير، فصار كأنَّهَا قالت: اخترت نفسي بمرةٍ واحدةٍ وبذلك يقع الثلاث. وقال مالك: يقع بالتفويض ثلاثٌ. وقال الشافعيّ وأحمد: رجعيةٌ.

(وَفِي أَمْرُكِ بِيَدِكِ فِي تَطْلِقَيةٍ، أوْ اخْتَارِي تَطْلِيقَةً فاخْتَارَتْ) نفسها (فَرَجْعِيَّةٌ) لأنها تتصرف بِجَعْل الزّوج، وهو إِنما جعل لها تطليقةً صريحةً، والصّريح يعقب الرّجعة.

(وَفِي: أمْرُكِ بِيَدِكِ اليَوْمَ وَغَداً يَدْخُلُ اللَّيْلُ) لأنه لم يتخلل بين الوقتين

ص: 115

وَإنْ رُدَّ في اليَوْمِ لا يَبْقَى بَعْدَهُ. وَإنْ قَالَ: اليَوْمَ وبَعْدَ غَدٍ، يَخْتَلِفُ الحُكْمَانِ. وَفِي: طَلِقي نَفْسَكِ إنْ نَوَى ثَلاثًا يَقَعْنَ، وَإلَّا فَرَجْعِيَّةٌ. وفي: طَلِّقِي ثَلاثًا يَقَعُ، لا فِي عَكْسِهِ.

وَلَوْ أَمَرَ بالبَائِنِ أوْ الرَّجْعِيّ فَعَكَسَتْ يَقَعُ ما أَرَادَ بِهِ.

وَالشَّرْطُ في: أنْتِ طَالِقٌ إن شِئْتِ، مَشِيئَةُ مَنَجَّزَةُ أوْ مُعَلَّقَة بِمَا قَدْ عُلِمَ وِجُودُهُ، لا مَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ

===

المذكورين وقتُ من جنسهما لم يتناوله الأمر، فكان أمراً واحداً (وَإنْ رُدَّ) الأمر من المرأة (في اليَوْمِ لَا يَبْقَى بَعْدَهُ) أي في الغد، كما لا يبقى في آخر النَّهار إذا قال لها: أمرُك بيدكِ اليوم وردّت في أوّله.

(وَإنْ قَالَ:) أمرك بِيدِك (اليَوْمَ وبَعْدَ غَدٍ يَخْتَلِفُ الحُكْمَانِ) السابقان فلا يدخل الليل هنا، وإن ردّ الأمر في اليوم يبقَى بعد الغد خلافاً لزُفَر (وَفِي: طَلِقي نَفْسَكِ إنْ نَوَى ثَلَاثاً) فطلَّقت ثلاثاً: جملةً أو متفرقاً (يَقَعْنَ وَإِلاَّ) أي وإن لم ينوِ ثلاثاً بأن لم ينوِ شيئاً، أو نوى واحدةً أو ثِنتين والمرأة ليس بأَمَةٍ (فَرَجْعِيَّةٌ) أي فيقع طلقةٌ رجعيةٌ (وفي: طَلِّقِي) نفسك (ثَلَاثاً) فطلّقت واحدةً (يَقَعُ) واحدةٌ، وهو قول الشافعيّ وأحمد. وقال مالك: لا يقع شيءٌ، لأنها أتت بغير ما فوّض إليها.

ولنا: أنها ملكت إيقاع الثلاث فتملك إيقاع الواحدة، لأن من مَلَك شيئاً ملك أَيّ جزءٍ من أجزائه (لَا فِي عَكْسِهِ) أي لا يقع شيءٌ في: طلِّقي نفسك واحدةً، فطلّقت ثلاثاً. وهذا عند أبي حنيفة، وهو رواية عن مالك، (وقول زُفَر. وقال أبو يوسف ومحمد: يقع واحدةٌ، وهو قول الشافعيّ وأحمد ورواية عن مالك)

(1)

، لأنها أتت بما تملِكه وزيادة، فيقع ما تملكه وتُلْغَى الزّيادة. لأبي حنيفة: أنها مخالِفة، فكانت مبتدئةً لا مجيبة، وذلك أنّه فوّض إليها واحدة، فأتت بغيرها وهو الثلاث.

(وَلَوْ أَمَرَ بالبَائِنِ أوْ الرَّجْعِيّ فَعَكَسَتْ) بأن قالت: طلّقت نفسي طلقةً رجعيّةً في جواب: طلّقي نفسك طلقةً بائنةً، أو قالت: طلّقت نفسي طلقةً بائنةً في جواب: طلّقي نفسك طلقةً رجعيّةً (يَقَعُ ما أَرَادَ بِهِ) الزَّوج كذا في «الهداية» . والمذكور في «الخِزَانة» : أَنّه إذا عكست لم يقع أصلاً.

(وَالشَّرْطُ في: أنْتِ طَالِقٌ إن شِئْتِ مَشِيئَةٌ مَنَجَّزَةٌ) أي غيرَ معلّقةٍ بشيءٍ بأن تقول: شئت، من غير أنْ تعلِّق (أوْ مُعَلَّقَةٌ بِمَا قَدْ عُلِمَ وِجُودُهُ) نحو شئت إن مضى

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 116

بَعْدُ، كَما لَوْ قَالَتْ: شِئْتُ إنْ شِئْتَ، فَقَالَ: شِئْتُ.

وَفِي: كُلَّمَا شِئْتِ تُطَلِّقُ ثَلاثًا مُتَفَرِّقةً لا بَعْدَ التَّحْلِيلِ. وَفِي: كَيفَ شِئْتِ تَقَعُ بَائِنَةٌ أو ثَلاثٌ إنْ نَوَتْ وَلَمْ تُخَالِفْهَا نِيَّتُهُ، وَإلَّا فَرَجْعِيَّةٌ. وفي: مَا شِئْتِ مِنْ ثَلاثٍ مَا دُونَهَا.

===

أمس، أو إن كانت السّماء فوقنا، لأنّ التعليق بما عُلِمَ وجوده تنجيز. فقوله: الشّرط مبتدأ، ومَشِيئَةٌ خبره، ومعلقةٌ عطفٌ على مُنَجَّزَة، ومنجزةٌ صفةٌ لمشيئة (لَا مَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ بَعْدُ) ذلك كما لو قالت: شئت إن كان كذا، الأمر لم يجاء بعد، و (كَما لَوْ قَالَتْ: شِئْتُ إنْ شِئْتَ، فَقَالَ: شِئْتُ) لأنه علّق الطّلاق بالمشيئة المرسلة، وهي أتت بالمشيئة المعلّقة فلم يوجد الشّرط، فخرج الأمر من يدها لاشتغالها بما لا يعنيها.

(وَفِي) أنتِ طالقٌ (كُلَّمَا شِئْتِ تُطَلِّقُ) المرأة نفسها (ثَلَاثاً مُتَفَرقةً) لا مجتمعة، لأن كلمة كلّمَا تفيد عمومَ الأفعال عمومَ انفرادٍ لا عمومَ اجتماع، ولو طلّقت ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ لا يقع شيءٌ عند أبي حنيفة، ويقع واحدةٌ عند أبي يوسف ومحمد، بناءً على أن إيقاع الثلاث إيقاع للواحدة كما قالا، أو ليس بإيقاع لها كما قال.

(لَا بَعْدَ التَّحْلِيلِ) حتّى لو قال: أنتِ طالقٌ كلَّما شئت، فطلّقت نفسها ثلاثاً متفرقةً ثم عادت إليه بعد زوجٍ آخر، ثم طلّقت نفسها لم يقع شيءٌ، لأنّ التعليق ينصرف إلى الملك القائم، وهذا ملك جديد ليس في كلام الزوج ما يدلُّ على الإضافة إليه، وبهذا قال مالك والشافعيّ في قول.

ولو طلّقت نفسها طلقةً أو طلقتين ثم عادت إليه بعد زوج آخر فلها أنْ تطلِّق بثلاثٍ خلافاً لمحمد، فإنه يقول: إِنها لا تطلِّق إلا ما بقي، بناءً على أنّ الزَّوج يملك بهذا العقد عليها الثّلاث وهو قولهما، أو ما بقي من النّكاح الأوّل وهو قول محمد.

(وَفِي كَيْفَ شِئْتِ تَقَعُ بَائِنَةٌ أو ثَلَاثٌ) وفي نسخةٍ: أو ثلاثاً (إنْ نَوَتْ وَلَمْ تُخَالِفْهَا نِيَّتُهُ) جملة حاليّة، بأن شاءت واحدةً بائنةً ونواها الزّوج (أو لم يكن له نية، أو شاءت ثلاثاً ونواها الزّوج)

(1)

، أو لم يكن له نيّة، لوجود المطابقة بين مشيئتها وإرادته إذا نوى. (وَإلاَّ) أي وإن لم يكن لها نيّة، أو كانت وخالفت نيتُه نيتها، بأن نوت واحدةً ونوى ثلاثاً، أو نوت ثلاثاً، ونوى واحدةً (فَرَجْعِيَّةٌ) أي فتطلق رجعيّة (وفي) طلِّقي (مَا شِئْتِ مِنْ ثَلَاثٍ) لها أنْ تطلِّق (مَا دُونَهَا) واحدةً أو ثنتين، وليس لها أنْ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط حيث استعاض عنه بقوله: وذكر في "المبسوط": أن مذهبنا قول عمر.

ص: 117

‌فَصْلٌ في التَّعْليْقِ

صِحَّةُ شَرْطِ التَّعْلِيقِ المِلْكُ، أوْ الإضَافَةُ إلَيهِ

===

تطلّق ثلاثاً وهذا عند أبي حنيفة، وهو قول الشافعي وأحمد.

وقال أبو يوسف ومحمد: لها أن تطلّق ثلاثاً، لأن «ما» مُحْكَمَةٌ في التعميم، و «من» قد تكون للتبيين فتحمل عليه كطلِّق «من» نسائي مَنْ شِئْتَ، وكل من طعامي ما شِئْتَ. ولأبي حنيفة: أنّ من للتبعيض كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}

(1)

، وللتبيين كقوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ}

(2)

فتيقَّنا التبعيض، وشككنا في التعميم، فلا يثبت بالشك، والله تعالى أعلم.

فصلٌ فِي التَّعْلِيقِ

(صِحَّةُ شَرْطِ التَّعْلِيقِ المِلْكُ) بأن يكون المعلِّق مالكاً لِمَا علّقه في وقت التعليق، كأنْ يقول في التعليق لمنكوحته: إنْ دخلتِ الدَّار فأنتِ طالقٌ. (أوْ الإضَافَةُ إلَيْهِ) أي إلى الملك، بأنْ يعلِّق على نفس الملك نحو: إنْ ملكتُ طلاقك فأنتِ طالقٌ، أو على سببه نحو: إن تزوّجتك فأنتِ طالقٌ. ثم التعليق قد يكون بصريح الشَّرط وهو ظاهر، وقد يكون بمعناه ويشترط حينئذٍ أن تكون المرأة غير معينة نحو: المرأة التي أتزوّجها طالقٌ، بخلاف هذه التي أتزوّجها لأنها لَمّا تَعَرّفَتْ بالإشارة لم يراع فيها صفةُ التزوّج، فَبَقِي قوله: هذه طالقٌ.

وقال الشافعي: لا يصح التعليق المضاف إلى الملك. وقال (مالك)

(3)

في المشهور عنه: إذا لم يسمّ امرأةً بعينها، أو قبيلةً نحو قَرَشِيَّةٍ، أو أرضاً نحو مكيّة، أو نحو هذا، بأن قال: كل امرأةٍ، من غير زيادة وصف هنالك، فليس يلزمه ذلك لِمَا في «الموّطأ» أنّ عبد الله بن مسعود كان يقول فيمن قال: كل امرأة أنكحها فهي طالقٌ، إذا لم يسم قبيلةً أو امرأةً بعينها فلا شيء عليه. قال مالك: وهذا أحسن ما سمعت. انتهى. وهو قول ابن أبي ليلى، لِمَا فيه من باب سد نعمة النِّكاح على نفسه.

وللشافعيّ ما روى أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، عن عامر الأحْوَل، عن عمرو

(1)

سورة التوبة، الآية:(103).

(2)

سورة الحج، الآية:(30).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 118

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ابن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا نَذْرَ لابن آدم فيما لا يملك، ولا عِتْقَ له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك» . قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح، وهو أحسن شيء رُوِيَ في هذا الباب. ولقول ابن عباس، فإنه سُئِلَ عمَّن يقول لامرأة: إن تزوّجتُك فأنتِ طالقٌ، فتلا قوله تعالى:{إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ}

(1)

وقال: شَرَعَ الله الطَّلاق بعد النِّكاح، فلا طلاق قبله. واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم «لا طلاق قبل النِّكاح، ولا عِتق قبل ملكٍ» . رواه ابن ماجه بسنده.

ولنا ما رواه في «الموطّأ» : أن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وابن شِهَاب، وسُلَيْمان بن يَسَار كانوا يقولون: إذا حلف الرّجل بطلاق المرأة قبل أن ينكحها، ثم أثِم ـ أي حنث ـ إنّ ذلك لازمٌ له إذا نكحها، أي قبل الحِنْث.

وروى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن سالم، والقاسم بن محمد، وعمر بن عبد العزيز، والشَّعْبِيّ، والنَّخَعِيّ، والزُّهْرِيّ، والأسود (وأبي بكر بن عبد الرحمن)

(2)

، وأبي بكر بن عَمرو بن حَزْم، وعبد اللهبن عبد الرحمن، ومكحول الشَّاميّ في رجلٍ قال: إنْ تزوّجت فلانةً فهي طالقٌ، أو يوم أتزوّجها فهي طالقٌ، أو كلّ امرأةٍ أتزوّجها فهي طالقٌ. قالوا: هو كما قال. وفي لفظ: يجوز ذلك عليه ـ أي يقع ـ وقد نقل مذهبنا ـ (وهو قول عمر وابنه وابن مسعود)

(3)

ـ أيضاً عن سعيد بن المُسَيَّبِ، وعطاء، وحَمَّاد بن أبي سليمان (وشُرَيْح رحمهم الله ( 3).

وروى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِيّ أنه قال: في رجلٍ قال: كل امرأةٍ أتزوّجها فهي طالقٌ، وكل أمَةٍ أشتريها فهي حرةٌ: هو كما قال. فقال له مَعْمَر: أو ليس قد جاء: «لا طلاق قبل النِّكاح، ولا عِتْق إلاّ بعد الملك» ؟ قال: إنما ذلك أن يقول الرّجل: امرأةُ فلانٍ طالقٌ، وعبدُ فلانٍ حرٌّ.

وأمّا ما في «سنن الدَّارَقُطْنِيّ» عن أبي خالدٍ الوَاسِطِيّ بسنده عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئِلَ عن رجلٍ قال: يوم أتزوّج فلانةً فهي طالقٌ ثلاثاً، قال:«طلَّق ما لا يملك» . فحديثٌ

(1)

سورة الأحزاب، الآية:(49).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 119

وألْفَاظُهُ: إنْ، وإذَا، وإذَا مَا، وَمَتى، ومَتَى مَا، وكُلُّ، وكُلَّمَا

===

باطلٌ. قال صاحب «التّنْقِيح» : وأبو خالدٍ هو عمرو بن خالد وهو وَضَّاع. وقال أحمد ويحيى: كذَّابٌ. وما في «سننه» عن عليّ بن قرين بسنده عن أبي ثَعْلَبَة الخُشَنِيّ قال: قال عَمٌّ لي: اعمل لي عملاً حتّى أزوّجك ابنتي، فقلت: إن تزوّجتها فهي طالقٌ ثلاثاً، ثم بدا لي أنْ أتزوّجها، فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسألته فقال لي: تزوّجها، فإنه لا طلاق إلاّ بعد النِّكاح. قال فتزوّجتها فولدت لي سعداً وسعيداً

(1)

. قال صاحب «التنقيح» : وهذا أيضاً باطلٌ، وعليّ بن قرين كذَّبه يحيى بن مَعِين وغيره. وقال ابن عَدِيّ: يسرِق الحديث.

هذا وما صحّ من الأحاديث محمولٌ على نفي التنجيز لأنه هو الطّلاق، وأمّا المعلّق فليس بطلاقٍ، بل له عرضية أن يصير طلاقاً عند وجود الشّرط. وهذا محملٌ مأثورٌ عن السلف كما قدمناه عن الزُّهْرِيّ. وقد جمع أبو بكر بن العربي الأحاديث وقال: ليس لها أصلٌ في الصِّحَّة، ولهذا ما عمل بها مالك، وربيعة، والأوْزَاعِيّ. فإن قيل: لا معنى لحَمْله على التنجيز لأنه ظاهر يعرفه كل أحدٍ، فوجب حَمْله على التعليق. قلنا: صار ظاهراً بعد اشتهار حكم الشّرع لا قبله، فإنّهم كانوا في الجاهلية يطلّقون قبل التزوّج تنجيزاً ويعدّونه طلاقاً إذا وُجِدَ النِّكاح، فنفاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه الأحاديث. والله سبحانه أعلم.

(وألْفَاظُهُ) أي ألفاظ التعليق المتداولة عند الفقهاء (إنْ، وإذَا، وإذَا مَا، وَمَتى، ومَتَى مَا، وكُلُّ، وكُلَّمَا) وهنا ألفاظٌ أُخَر للشرط لم يبحثوا عنها كثيرَ بحثٍ وهي: مَنْ، ومَا، وكَيْفَما، وأيْنَ، وغير ذلك. وعدّوا كلَّ واحدٍ من ألفاظ التعليق باعتبار أنّ الحكم يتعلّق بالفعل الذي يلي مدخولها نحو: كلُّ مَنْ دخلَتْ منكنَّ الدَّار فهي طالقٌ، فإنه لا تطلُق غير التي تدخل. ثم متى تقدّم الجزاء على الشرط امتنع أنْ يرتبط بحرف الفاء، ومتى تأخَّر عنه وجب أنْ يرتبط به إذا كان واحداً من سبعٍ وهي: طَلَبِيّةٌ، واسميّةٌ، وبجامدٍ، وبما، ولن، وبقد، وبالتنفيس. فلو قال: إن دخلت الدَّار أنتِ طالقٌ، يَتَنَجَّزُ عند محمدٍ وإن نوى التعليق، وهو قول أكثر أصحاب الشافعيّ لعدم ما به التعليق وهو الفاء. ولا يَتَنَجَّزُ عند أبي يوسف، وهو قول أحمد وبعض أصحاب الشافعيّ، لأن ذِكْرَ هذا الكلام لإرادة التعليق، والعبرة بالمعاني دون الألفاظ والمباني.

ولو قال: أنتِ طالقٌ وإن دخلت الدّار يَتَنَجَّزُ اتفاقاً، لأنّ معناه في كل حال،

(1)

في المخطوط: أسعد وسعدًا، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في سنن الدّارَقُطْنيّ 4/ 35، كتاب الورق والخلع والإيلاء وغيره، رقم (97).

ص: 120

وَزَوَالُ المِلْكِ لا يُبْطِلُهُ، فَفِي غَيرِ "كُلَّمَا" إنْ وُجِدَ الشَّرْطُ مَرّةً فِي المِلْكِ يَنْحَلُّ إلَى جَزَاءٍ، وَإنْ وُجِدَ فِي غَيرِ المِلْكِ لا إلَى جَزَاءٍ. وَفِي "كُلَّمَا" يَنْحَلُّ بَعْدَ الثَّلاثِ، فَلا يَقَعُ إنْ نَكَحَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ، إلّا إذَا دَخَلَتْ في التَّزَوُّجِ.

===

وكذا لو قال: أنتِ طالقٌ أنْ دخلت الدَّار ـ بفتح الهمزة ـ، لأنّ أن للتعليل، ولا يشترط وجود العلة. وإن قال لها: إنْ دخلت الدَّار فأنتِ طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ، فدخلت تلك الدَّار، فالواقع واحدةٌ عندنا، أي عند أبي حنيفة. وقالا: ثلاثٌ، كما قال مالك والشّافعيّ، كما لو أخّر الشّرط فقال: أنتِ طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ إن دخلت الدَّار. ولو عطف بحرف الفاء فهو على الخلاف فيما ذكر الكَرْخِيُّ والطَّحَاوِيّ. وذكر الفقيه أبو اللَّيْث أنه يقع واحدةٌ بالاتفاق، لأنّ الفاء للتعقيب وهو الأصحّ.

(وَزَوَالُ المِلْكِ لَا يُبْطِلُهُ) أي لا يبطل التعليق إذا لم يوجد الشّرط: بأن طلّق امرأته دون الثَّلاث وراجعها، ثم وُجِدَ الشرط فإنّه ينزل الجزاء، بل ينحلُّ اليمين لوجود الشّرط وإن لم يكن في الملك. فلو قال: إن دخلتِ الدَّار فأنتِ طالقٌ، ثم طلّقها واحدةً وانقضت عدّتها، ثم تزوّجها فدخلت الدَّار طَلُقَتْ لأنّ التعليق باقٍ لبقاء محله.

(فَفِي غَيْرِ «كُلَّمَا») من ألفاظ التعليق (إنْ وُجِدَ الشَّرْطُ مَرّةً فِي المِلْكِ) المعلَّق فيه ولو بعد عقدٍ ثان فيه (يَنْحَلُّ) التعليق (إلَى جَزَاءٍ) لأنّ غير «كُلَّمَا» من ألفاظ التعليق لا يدلّ على التكرار، وقد وُجِدَ الشَّرط في الملك، فيقع الجزاء المعلّق عليه. (وَإنْ وُجِدَ) الشَّرط مرةً (فِي غَيْرِ المِلْكِ) ينحل التعليق لوجود الشرط (لَا إلَى جَزَاءٍ) لعدم المحليّة. قال ابن المنذر: أجمع مَنْ يُحفظ عنه العلمُ على أنّ الرّجل إذا قال لامرأته: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إن دخلتِ الدَّار، ثم طلَّقها ثلاثاً، ثم نكحت غيره، ثم نكحها الحالف، ثم دخلت الدَّار لا يقع عليها طلاقٌ. ولو أبانها بدون الثّلاث، ثم وُجِدَ الشَّرط انحلت اليمين حتى لو تزوّجها بعد لا يقع شيءٌ. وإن لم يوجد الشّرط في حال البينونة، ثم نكحها لم تنحل عند أبي حنيفة ومالك وأحد أقوال الشّافعيّ، وله قول: لا تعود الصفة بحالٍ. واختاره المُزَنِيّ. انتهى.

(وَفِي «كُلَّمَا» يَنْحَلُّ بَعْدَ الثَّلاثِ فَلَا يَقَعُ) الطَّلاق (إنْ نَكَحَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ) وقال زُفَر: يقع لأنّ «كلما» لعموم الأفعال قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً}

(1)

. ولنا: أنّ التعليق والعموم باعتبار الملك الموجود، وقد زال ذلك الملك فيبطل (إلاّ إذَا دَخَلَتْ) كُلَّمَا (في التَّزَوُّجِ) نحو: كُلَّمَا أَتزوّجُكِ فأنتِ طالقٌ، فإنّ الجزاء يقع إن نكحها بعد زوج آخر، لأنّ انعقاد هذا التعليق على ما يملك عليها من

(1)

سورة النساء، الآية:(56).

ص: 121

وَإنِ اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ الشَّرْطِ، فَالقَوْلُ لَهُ، إلّا مَعَ حُجَّتِهَا. وَفِي شَرْط لا يُعْلَمُ إلّا مِنْهَا نَحو: إنْ حِضْتِ فَأْنْتِ طَالِقٌ وفُلانَةٌ صَدَقَتْ في حَقِّهَا فَقَطْ، فَيُحْكَمُ بَعْدَ ثَلَاثةِ أيَّامٍ بِالطلاقِ في أوَّلِهَا.

وفي: إنْ حِضْتِ حَيضَةً يَقَعُ إذَا طَهُرَتْ. وفي: إن صُمْتِ يَوْمًا إذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، بِخِلافِ إنْ صُمْتِ

===

الطّلاق بالتَّزوُّج، وهو غير محصور.

(وَإنِ اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ الشَّرْطِ فَالقَوْلُ لَهُ) أي للزَّوج لأنه ينكر وقوع الطَّلاق، وهي تدّعيه، والقول قول المُنْكِر. (إلاّ مَعَ حُجَّتِهَا) لأنّها أوضحت دعواها بالبينة.

(وَفِي شَرْطٍ لَا يُعْلَمُ إلاّ مِنْهَا نَحو: إنْ حِضْتِ فَأْنْتِ طَالِقٌ وفُلَانَةٌ) فقالت: حضت، وكذّبها الزّوج (صُدِّقَتْ في حَقِّهَا فَقَطْ) أي ولم تُصَدَّق في حقّ فلانة (فَيُحْكَمُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ بِالطَّلَاقِ) أي بوقوعه (في أوَّلِهَا) أي أول الثَّلاثة. ومذهب الشّافعيّ عند انقضاء يومٍ وليلةٍ، وفي وجهٍ في مذهبه وهو قول أحمد: عند أول رؤية الدَّم. والقياس أنْ لا تُصَدَّق لأنها تدَّعي حِنْث الزّوج، وهو يُنْكره.

ووجه الاستحسان أنها مأمورةٌ بإظهار ما عندها لقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ في أرْحَامِهِنَّ}

(1)

ولو لم يكن قولها فيه مقبولاً لم يكن لأَمْرها به فائدة. وإنما لا تصدق في حقّ فلانة لأنها متَّهمةٌ فيه، ولو صدَّقها الزَّوج طلقت ضَرّتها أيضاً لثبوت الحيض في حقّها بتصديقه. ولَمّا كان أقل الحيض عندنا ثلاثة أيامٍ، فإذا استمر الدمّ إليها عُرِفَ أنه حيضٌ، فتطلق عندها طلاقاً مستنداً إلى أوله. حتى لو كانت غير مدخولٍ بها وتزوّجت عند رؤية الدَّم، صحّ نكاحُها.

(وفي: إنْ حِضْتِ حَيْضَةً) فأنتِ طالقٌ (يَقَعُ) الطَّلاق (إذَا طَهُرَتْ) لأنّ الحيضة اسم للمرّة من الحيض، ولا تحصل إلا بانتهائه وهو الطهر. ولو قال لحائض: إذا حِضْت فأنتِ طالقٌ لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض.

ولو قال لطاهرٍ: إذا طَهُرْتِ فأنتِ طالقٌ لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر. لأنّ اليمين يقتضي شرطاً مستقبلاً، وهذا قد مضى بعضُه وبقي بعضه، وما مضى لا يدخل تحت اليمين فكذا ما بَقِيَ. (وفي: إن صُمْتِ يَوْماً) فأنْتِ طالقٌ فصامت يقع الطّلاق (إذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ) لأنّ ذكر اليوم يدلّ على كمال الصّوم، وذلك بغروب الشّمس (بِخِلَافِ إنْ صُمْتِ) فأنتِ طالقٌ، فإِنها تطلق بأوّل الشّروع في الصّوم لوجود ركن الصّوم وعدم ما يدلَّ على

(1)

سورة البقرة، الآية:(228).

ص: 122

وإن عَلَّقَ طَلْقَةً بِوِلادَةِ ذَكَرٍ وَطَلْقَتَيْنِ بِأُنْثَى، فَوَلَدَتْهُمَا وَلَمْ يَدْرِ الأوَّلَ، طُلِّقَتْ وَاحِدَةً قَضَاءً وَثِنْتَيْنِ تَنَزُّهًا، وَانْقَضَتْ العِدَّةُ بالثَّانِي. وإن عَلَّقَ بِشَيئَيْنِ يَقَعُ الطَّلاقُ إنْ وُجِدَ الثَّانِي في المِلْكِ.

===

كماله.

(وإن عَلَّقَ طَلْقَةً بِوِلَادَةِ ذَكَرٍ وَطَلْقَتَيْنِ بِأُنْثَى) بأن قال: إن ولدتِ ذكراً فأنتِ طالقٌ واحدةً، وإنْ ولدتِ أُنْثَى فثِنْتَيْنِ (فَوَلَدَتْهُمَا وَلَمْ يَدْرِ الأوَّلَ) كأنْ كانت الولادة ليلاً (طُلِّقَتْ وَاحِدَةً قَضَاءً) لتيقُّنِها (وَثِنْتَيْنِ تَنَزُّهاً) أي تباعداً عن الحرمة واحتياطاً حتى لو كانت عنده بتطليقة لا يتزوّجها (وَانْقَضَتْ العِدَّةُ بالثَّانِي) بيقينٍ لأن الحامل تنقضي عدّتها بوضع حملها، فإن ولدت الذَّكر أولاً انقضت عدّتها (بِوضْع الأُنثى، وإن ولدت الأنثى أولاً انقضت عدّتها بوضع)

(1)

الذَّكَر. وفي «الجامع» : لو قال: إن ولدت ولداً فأنتِ طالقٌ، وإن كان الذي تلدينه غلاماً فأنتِ طالقٌ ثنتين، فولدت غلاماً

(2)

يقع الثلاث لوجود الشرطين، لأنّ المطلق موجود في ضمن المقيد، وهو قول مالك والشافعيّ.

(وإنّ عَلَّقَ) الطّلاق (بِشَيْئَيْنِ يَقَعُ الطَّلَاقُ إنْ وُجِدَ الثَّانِي في المِلْكِ) سواء وُجِدَ الأول فيه أو لا، حتّى لو قال: إن كلّمتِ أبا عمرو وأبا زيدٍ فأنتِ طالقٌ ثلاثاً، ثم طلّقها، ثم انقضت عدّتها، فكلّمت أبا عمرٍو، ثم تزوّجها فكلّمت أبا زيدٍ طلّقت ثلاثاً. قيّد بوجود الثّاني في الملك، لأنه لو وُجِدَ في غيره لا يقع الطّلاق باتفاق. سواء وُجِدَ الأوَّلُ في الملك، أو في غيره.

وقال زُفَر: لا بدّ من وجود الأوّل في الملك أيضاً اعتباراً بالثّاني، إذ هما ـ لتوّقف الطّلاق عليهما ـ كشيءٍ واحدٍ. ولو ذُكِرَ الجزاء بين شرطين بغير حرف الواو والفاء، يُجْعَلُ الشّرط الأخير غاية لليمين. ولو ذُكِرَ الجزاء مؤخّراً عن الشّرطين، يُجْعَلُ الشّرط الأوَّل مع الجزاء جزاءً للشّرط الثّاني على التقديم والتأخير إن صلح لذلك بذكر الفاء أو إضماره في الشَّرط الأول في الذّكر، كقوله تعالى:{فإذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ آتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ}

(3)

فإنّ التَّقدير ـ والله تعالى أعلم ـ إن أتين بفاحشةٍ فإذا أحصنّ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب،

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(2)

حيث إن الفرق بين الولد والغلام، أن الولد عامٌّ يشمل الذكر والأنثى في حين يختص الغلام بالذكر دون الأنثى.

(3)

سورة النساء، الآية:(25).

ص: 123

والتَّنْجِيزُ يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ، فَلَوْ عَلَّقَ، ثُمَّ نَجَّزَ الثَلاثَ، ثُمٌ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ التَّحْلِيلِ، ثمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ لا يَقَعُ.

وإنْ وَصَلَ: إنْ شَاءَ اللهُ بِكَلامِهِ بَطَلَ.

===

ومعنى أَحْصَنَّ ـ على قراءة الفتح

(1)

ـ أَسْلَمْنَ، وعلى قراءة الضم: زُوِّجْنَ.

ولو ذُكِرَ الجزاء مقدماً على الشرطين، يُجْعَلُ الشّرط الأخير مقدماً في التقدير، ويكون شرطاً لانعقاد اليمين، والشَّرط السابق شرط الحنْث. فإذا قال: أنت طالقِ إن دخلت الدّار إنْ كلّمتِ زيداً، فإذا كَلَّمَتْ زيداً ينعقد اليمين، ثم إذا دخلت الدّار يقع الطّلاق. ونظيره في التقديم والتأخير قوله تعالى:{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ ايُرِيدُ أنْ يُغْوِيَكُمْ}

(2)

.

(والتَّنْجِيزُ) أي تنجيز الثّلاث (يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ) أي تعليق الثّلاث (فَلَوْ عَلَّقَ) بأنْ قال: إنْ دخلتِ الدَّار فأنتِ طالقٌ ثلاثاً (ثُمَّ نَجَّزَ الثَّلَاثَ) بأن قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً قبل دخول الدّار. (ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ التَّحْلِيلِ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ) بأنْ دخلت الدَّار (لَا يَقَعُ) الطّلاق المعلّق، وهو قول الشّافعيّ الجديد ومالك وأحمد. وقال زُفَر ـ وهو قول الشافعيّ القديم ـ: يقع.

(وإنْ وَصَلَ: إنْ شَاءَ الله بِكَلَامِهِ بَطَلَ) كلامه عند أبي حنيفة ومحمد، وبه قال ابن أبي ليلى وإسحاق، وأبو عُبَيْدَة، وبعض أصحاب الشافعيّ. وقال مالك: لا يبطل الطَّلاق والعَتَاق والصَّدقة، ويبطل اليمين والنَّذْر. وقال أحمد: لا يبطل الطَّلاق خاصةً.

لنا: أنّ موسى عليه السلام قال: {سَتَجِدُني إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً}

(3)

ولم يصبر. وما روى أصحاب السنن الأربعة من حديث أيُّوب السَّخْتِيَانِيّ، عن نافعٍ، عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين فقال: إن شاء اللَّهُ فلا حِنْثَ عليه» . ولفظ أبي داود والنَّسائي: «فقد استثنى» . قال الترمذيّ: حديثٌ حسنٌ. وقد رُوِيَ عن نافعٍ وسالمٍ عن ابن عمر موقوفاً، ولا نعلم أحداً يرفعه (غير أيّوب السَّخْتِيَانيّ. وقال إسماعيل بن إبراهيم: كان أحياناً يرفعه وأحياناً لا يرفعه)

(4)

. انتهى. وهذا كله غير

(1)

قرأ شُعبة، والأخوان (حمزة والكسائي)، وخَلَف، بفتح الهمزة والصاد، وقرأ الباقون بضم الهمزة وكسر الصاد. "البدور الزاهرة" ص 78.

(2)

سورة هود، الآية:(34).

(3)

سورة الكهف، الآية:(69).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 124

‌فَصْلُ في طَلاقِ المَرِيضِ الفَارِّ

مَنْ غَالِبُ حَالِهِ الهَلاكُ كَمَرِيضٍ عَجَزَ عَنْ إقَامَةِ مَصَالِحِهِ خَارِجَ الَبْيتِ، وَمَنْ بَارَزَ أوْ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ لِقِصَاصٍ أوْ رَجْم مَرِيضٌ مَرَض المَوْتِ، فَلَوْ أَبَانَ زَوْجَتَهُ بِغَيرِ رِضَاهَا وَمَاتَ وَلَوْ بِغَيرِ ذَلِكَ السَّبَبِ،

===

قادحٍ

(1)

في الرَّفع لِمَا مرّ من نظائره غير مرّة.

وروى ابن عَدِيّ في «الكامل» عن إسحاق بن أبي يحيى الكَعْبِيّ بسنده عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال لامرأته أنتِ طالقٌ إن شاء الله، أو لغلامه أنت حرٌّ إن شاء الله، أو عليّ المشي إلى بيت الله إن شاء الله، فلا شيء عليه» . إلاّ أنّ الدَّارَقُطْنِيّ وابن حِبّان ضعّفا إسحاق. قيّد بالوصل لأنه لو فصل إن شاء الله عن كلامه لا يبطل كلامه. وأراد بالوصل ما يقابل الفصل غير الضّروريّ، فيشمل الفصل الضّروريّ كالفصل لتنفس أو عُطَاس أو جُشَاء أو ثِقَل لسان.

والعطف في قوله: أنتِ طالقٌ (ثلاثاً وثلاثاً، أو في أنتِ حرّة وحرة إن شاء الله، فاصلٌ عند أبي حنيفة، خلافاً لهما حيث لم يعدّاه فاصلاً كما في قوله: أنتِ طالقٌ) وعبدي حرٌ إن شاء الله، لكون الكلام موصولاً ظاهراً.

فصلٌ في طَلَاقِ المَرِيضِ الفَارّ

(مَنْ غَالِبُ حَالِهِ الهَلَاكُ) مبتدأ (كَمَرِيضٍ عَجَزَ عَنْ إقَامَةِ مَصَالِحِهِ خَارِجَ الَبْيتِ) سواء عَجَزَ عن إقامتها داخل البيت أو لم يعجِز (وَمَنْ بَارَزَ) في الحرب، عطفٌ على مريضٍ (أوْ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ لِقِصَاصٍ أوْ رَجْمٍ) ونحوهما (مَرِيضٌ) خبر المبتدأ (مَرَض المَوْتِ)(احترازٌ عَمَّن أبانها في مرضه ثم صحّ ثم مات)

(2)

ولأنّ الغالب في هذه الأشياء الهلاك.

(فَلَوْ أَبَانَ زَوْجَتَهُ) أي الحرّة المسلمة بأنْ طلّقها طلقةً بائنةً أو ثلاثاً (بِغَيْرِ رِضَاهَا) قيّد به لأنه لو أبانها بأمرها، أو بانت منه باختيارها نفسها بسبب تفويضٍ، أو جَبَ؛ أو عُنَّةٍ، أو خِيار بلوغٍ أو عتقٍ لا ترث، لأنها رضيت بإبطال حقّها (وَمَاتَ) في ذلك المرض، أو في تلك المبارزة، أو ذلك التقديم (وَلَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ السَّبَبِ) بأنْ مات

(1)

في المطبوع: صريح. والمثبت من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 125

وَهِيَ فِي العِدَّةِ تَرِثُ.

===

في ذلك المرض بغيره، وفي تلك المبارزة بمرض، وفي ذلك التقديم بغير القتل أو الرّجم، لأن الموت قد اتصل به في مرضه الذي طلّقها فيه فيكون فارّاً. (وإنما قلنا في ذلك المرض احترازاً عمّن أبانها في مرضه، ثم صحّ ثم مات فإنه لا يكون فارَّاً)

(1)

، خلافاً لزُفَر.

(وَهِيَ فِي العِدَّةِ) قيّد به لأنه لو مات بعد العِدَّة لا ترث. وقال ابن أبي لَيْلَى، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن رَاهُويه، وأبو عُبيد: ترث بعد العِدّة ما لم تتزوج بآخر. وعن مالك واللّيث: وإن تزوّجت بأزواجٍ (تَرِثُ) وفي نسخة: ترثه. وهذا جواب لو، وبه قال مالك كما في الطّلاق الرّجعيّ. وقال الشّافعيّ في الجديد، وأبو ثور، وابن المنذر: لا ترث، وهو القياس. لأن سبب الإرث ـ وهو الزوجية ـ قد ارتفع قبل الموت، فصار كما لو طلّقها قبل الدّخول، أو في الصَّحَّة، ولهذا لو حلف أنه لا زوجة له لا يحنَث.

ولنا أنّ الزَّوجية سبب إرثها، والزّوج قصد إبطالها فيردّ عليه قصده بتأخير عمله إلى انقضاء العِدّة لبقاء بعض الأحكام، بخلاف ما إذا ماتت هي حيث لا يرثها، لأنه رضي بذلك، وبخلاف ما إذا طلّقها بسؤالها لأنها رضيت ببطلان حقّها، واستحساناً لاتفاق الصَّحابة، فقد رُوِيَ أنّ عبد الرّحمن بن عوف لَمّا بَتّ طلاق امرأته ـ تُمَاضِر بنت الأصبغ بن زياد بن الحُصَيْن الكلبيّة

(2)

ـ في مرضه، ومات عبد الرّحمن وهي في العِدّة وَرَّثَها عثمانُ بمحضَرٍ من المهاجرين والأنصار وقال: ما اتَّهَمْتُه، ولكن أَرَدتُ السُّنَّة.

ورُوِيَ عن عمر وعائشة وابن مسعود وابن عُمر وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم: أنّ امرأة الفارّ تَرِثُ ما دامت في العِدّة. وعن إبراهيم: جاء عُرْوَة البَارِقِيّ إلى شُرَيْح من عند عمر بخمس خصالٍ منها: ما إذا طلّق المريض امرأته ثلاثاً ورثته إذا مات وهي في العدّة. وعن الشَّعْبِيّ: أنَّ أمّ البنين بنت عُيَيْنَة بن حصن الفَزَارية كانت تحت عثمان بن عفّان رضي الله عنه ففارقها بعدما حُصِرَ، فجاءت إلى عليّ بعدما قُتِلَ وأخبرته بذلك، فقال: تركها حتى إذا أشرف على الموت فارقها، وورّثها منه. ويشكل هذا بقولهم: لو

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

كذا في المخطوط والمطبوع، وذكر ابن حجر في "الإصابة" 1/ 111، 8/ 33 خلاف هذا فقال: تُمَاضِر بنت الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة بن حُصَين

فتنبَّه.

ص: 126

وَمَنْ هُوَ في صَفِّ القِتَالِ، أوْ حُمَّ، أوْ حُبِسَ لِقَتْلٍ صَحِيحٌ

===

كان محصوراً في حصن لا يكون فاراً.

وعن عائشة: أنّ امرأة الفَارِّ ترث منه ما دامت في العدّة. وعن أبيّ بن كعب: أنها ترث ما لم تتزوّج. وقال ابن سِيرِين: كانوا يقولون ولا يختلفون: من فرّ من كتاب الله رُدّ إليه. يعني هذا الحكم يردّ عليه قصده. ولم يُنْقَلْ عن صحابيّ خلافه، وبه قال النَّخَعِي، والشَّعْبِيّ، وسعيد بن المُسَيَّب، وابن سيرين، وعُرْوَة، وشُرَيْح، وطَاوُس، والثَّوْرِيّ، وابن شُبْرُمة، وحمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، وبمثله يُتْرَك القياس. وابن عوف لم ينكر التوريث حتى رُوِي عن عثمان (أنه)

(1)

عادَهُ فقال: لو مُتَّ ورّثتها منك، فقال: أنا أعلم ذلك، ما طلّقتها فراراً ولا ضِراراً.

وقال ابن أبي ليلى: إنّ عدّتها في حقّ الميراث لا تنقضي حتى إنّ لها الميراث ما لم تتزوّج، فإذا تزوّجت فهي التي رضيت بسقوط حقّها، ولها ذلك كما لو سألته في الابتداء. ولكنّا نقول لَمّا انقضت عدّتها حلّ لها أن تتزوّج، وذلك دليلٌ حكميّ منافٍ للنِّكاح الأوّل، فلا يبقى معه النِّكاح حكماً كما لو تزوّجت. وعلماؤنا شرطوا بقاء عدّتها لإرثها منه، ونفاه مالك وورّثها منه وإن تزوّجت، لإطلاق: مَنْ فرّ مِنْ كتاب الله رُدَّ إليه. قلنا: المرأة الواحدة لا ترث من زوجين بحكم النِّكاح، وما قال

(2)

يؤدي إليه.

ويجعل أبو يوسف العدّة بالأَقراء، لأنّ النِّكاح قد انقطع بالطّلاق قبل الموت، فلزمها أن تعتدّ بثلاث حِيَضٍ، وإبقاء النّكاح في حق الإرث أمرٌ حكميٌّ، فلا يظهر في حقّ تغيير العدّة. وأبو حنيفة ومحمد قدّراها بأبعد الأجلين، لأن نكاحها لها إذا بَقِيَ في حقّ الإرث، فبقاؤه في حقّ العدّة أوْلى لأنها أسرع ثبوتاً منه، ولهذا وجبت دونه في النِّكاح الفاسد.

(وَمَنْ هُوَ في صَفِّ القِتَالِ أوْ حُمَّ) أي حصل له حُمًّى لم يَعْجِز معها مِنْ إقامة مصالحه خارج البيت. فمَنْ مبتدأ، وحُمّ عطفٌ على هو في صفّ القتال، وكذا قوله:(أوْ حُبِسَ لِقَتْلٍ) في حدَ، أو قصاصٍ، أو نزل في مَسْبَعَةٍ ـ وهي أرضٌ كثيرة السَّبُع ـ أو في مخيفٍ من عدوٍ، أو حُصِرَ في حصنٍ أو دارٍ (صَحِيحٌ) خبر المبتدأ، والمراد به

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة يقتضيها السياق.

(2)

أي الإمام مالك.

ص: 127

وَلَوْ تَصَادَقَا في مَرَضِهِ عَلَى طَلاقِهَا، ومُضِيّ عِدّتِهَا، أوْ أبَانَهَا بِأمْرِهَا، ثمَّ أَقَرّ لهَا بَدَيْنٍ، أوْ أوْصَى، فَلَهَا الأَقَلُّ مِنْهُ وَمِنَ الإرْثِ.

وإنْ عَلّقَ بَيْنُونَتَهَا بِشَرْطٍ ووُجِدَ في مَرَضِهِ، تَرِثُ إنْ عَلَّقَ بِفِعْلِهِ أو بِفِعْلِهَا. وَلا بُدَّ لَهَا مِنْهُ

===

صحيحٌ في حقّ الطّلاق حتى لو طلّقها في حال من هذه الأحوال، ومات بذلك السبب وهي في العدّة لا ترث، لأنه لا يغلب في مثل هذا الهلاكُ.

(وَلَوْ تَصَادَقَا) أي الزّوج والمرأة (فِي مَرَضِهِ عَلَى طَلَاقِهَا ومُضِيّ عِدّتِهَا) بأنْ يقول: كنت طلّقتك ثلاثاً في صِحَّتي، وانقضت عدّتك وصدّقته. (أوْ أبَانَهَا بِأمْرِهَا ثُمَّ أَقَرّ لهَا) بعد التّصادق أو الإبانة (بَدَيْنٍ أوْ أوْصَى) بوصيةٍ (فَلَهَا الأَقَلُّ مِنْهُ) أي من كلّ واحد من الإقرار والوصية (وَمِنَ الإرْثِ) وهذا عند أبي حنيفة في المسألتين أعني التّصديق والإبانة، وعند أبي يوسف ومحمد في البائنة. وقال زُفَر: لها جميع ما أقرّ به أو أوصى في المسألتين، وإن تصادقا على الإبانة ومُضِيّ العدّة في زمان الصِّحَّة فأقرّ، أو أوصى لها بشيءٌ فالحكم كما تقدّم عند أبي حنيفة، وحَكَما بصحَّتها كمالك والشَّافعيّ.

(وإنْ عَلَّقَ) الزّوج (بَيْنُونَتَهَا بِشَرْطٍ ووُجِدَ) ذلك الشّرط (في مَرَضِهِ) سواء كان التعليق في الصّحَّة أو في المرض (تَرِثُ إنْ عَلَّقَ بِفِعْلِهِ) سواء كان الفعل ممّا له منه بدّ، أو ممّا لا بدّ منه، لأنه قصد إبطال حقّها بالتعليق وبمباشرة الشّرط في المرض فيردّ عليه. قيّد بالبينونة، لأنه لو علّق الرّجعيّ ورثت في الأحوال الماضية

(1)

كلها إذا مات في عدّتها (أو بِفِعْلِهَا وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ) كالأكل والشُّرب وكلام الأبوين وقضاء الدّين واستقضائه، سواء كان التعليق في الصّحَّة أو في المرض، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف.

وقال محمد ـ وهو قول زُفَر ـ: إذا كان التعليق في الصِّحَّة والشّرط في المرض لا ترث، لأنه لم يوجد من الزّوج صنع بعد تعلّق حقّها بماله، وإنّما المرأة أبطلت حقّها بإتيانها بذلك الفعل. ولهما: أنّ الزّوج ألجأها إلى المباشرة، فينتقل إليه الفعل كما في الإكراه.

وفي مبسوط فخر الإسلام: الصحيح في هذه المسألة قول محمد. قيّد الفعل

(1)

في المخطوط: الآتية، والمثبت من المطبوع.

ص: 128

أوْ بِغَيرِهمَا، وَقَدْ عَلَّقَ فِي المَرَضِ.

‌فَصْلُ [في الرَّجْعَةِ]

تَصِحُّ الرَّجْعَةُ في العدّةِ. وَإنْ أَبَتْ إذَا لَمْ تَبِنْ خَفِيفَةً أوْ غَلِيظَةً بِنَحْوِ: رَاجَعْتُكِ، وبوطئها ومَسِّهَا بِشَهْوَةٍ، وَنَظَرِهِ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ.

===

بكونه لا بدّ لها منه، لأنه لو كان لها منه بدّ لا ترث، سواء كان التعليق والشّرط في المرض، أو كان التعليق في الصّحَّةِ والشَّرط في المرض، لأنها رضيت بالشّرط فصار كما لو طلّقها بسؤالها (أوْ) عَلَّقَ (بِغَيْرِهِمَا) أي بغير فعله وفعلها بأن علّق بينونتها بفعلٍ أجنبيّ أو بمجيء وقتٍ (وَقَدْ عَلَّقَ فِي المَرَضِ) قيّد به، لأنه لو علّق في الصّحّة لا ترث. وقال زُفَر وأحمد والأوزاعيّ (والثَّوْرِيّ)

(1)

: ترث، لأنّ المعلّق بالشّرط كالمُنَجَّزِ عند وجوده، فكان تطليقاً بعد تعلّق حقّها فيردّ عليه لأنه ظلم. ولنا: أنّ المعلّق بالشّرط كالمُنَجَّزِ عنده حكماً لا قصداً، ولا ظلم إلاّ عن قصدٍ، فلا يردّ تصرفه. والله أعلم.

فصلٌ (في الرَّجْعَةِ)

(تَصِحُّ الرَّجْعَةُ) بفتح الرّاء وبكسرها (في العِّدّةِ) لقوله تعالى: {فإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}

(2)

، ولأنّ الرّجعة استدامة ملك النِّكاح، ولا ملك بعد انقضاء العدّة. والدليلُ على بقاء الملك مطلقاً أنه يملك التّصرفات كالظِّهار والإيلاء، وأنّهما يتوارثان، وأنّه يحِل وطؤها بعد الرّجعة، وهي ليست بسبب لحِل الوطاء مقصوداً، حتى لا يُعْتَبر فيها مهرٌ ولا رضاها، وهذا معنى قوله:(وَإنْ أَبَتْ) أي المرأة لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بَرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ}

(3)

أي زمان العدّة، وعليه إجماع أهل العلم (إذَا لَمْ تَبِنْ) لم تصر بائنة (خَفِيفَةً) وهي طلقةٌ بائنةٌ (أوْ غَلِيظَةً) وهي الثلاث في الحرّة. والثنتان في الأمة (بِنَحْوِ: رَاجَعْتُكِ) وارْتَجَعْتُكِ، ورَجَّعْتُكِ، ورددتك، وأمْسَكْتُكِ، ومَسَكْتُكِ، أو رَاجَعْتُ امرأتي إن كانت غائبةً، وهذا صريح الرّجعة.

وأمّا كِنَايتها فنحو: أَنتِ عندي كما كُنتِ، وأنتِ امرأتي إذا نوى الرّجعة (وبوطئها) في فَرْجها أو دُبُرها، وعليه الفتوى. (ومَسِّهَا بِشَهْوَةٍ وَنَظَرِهِ إِلَى فَرْجِهَا) الدّاخل (بِشَهْوَةٍ) قيّد بالفرج لأن النّظر إلى دُبُرها ليس برجعة. وقال مالك

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

سورة البقرة، الآية:(229).

(3)

سورة البقرة، الآية:(228).

ص: 129

وَنُدِبَ إشْهَادُهُ عَلَى الرَّجْعَةِ وإعْلامُهَا بِهَا،

===

وإسحاق: إنْ أراد بالوطاء الرّجعة فهو رجعة. وقال الشافعيّ وأبو ثوّر: لا تكون الرّجعة إلاّ بالقول.

ولنا: أنه بوطئها وبكل فعلٍ يختصّ بالنِّكَاح يكون مستديماً لملك النِّكاح، كَوطاء البائع أَمته إذا كان له الخِيار. ولو لَمَست زوجها بشهوةٍ، أو نظرت إلى فَرْجه بشهوةٍ وعلم الزّوج بذلك وتركها، فهو رجعة. وإن كان ذلك اختلاساً منها لا بتمكينه، فقال السَّرَخْسِيّ وشيخ الإسلام: إِنه رجعة عند أبي حنيفة ومحمد اعتباراً بالمصاهرة، وليست برجعة عند أبي يوسف، لأنّ الرّجعة إنما تكون من جانب الزّوج. ولو تزوّجها في العدّة فَرَجْعَةٌ عند محمد، ولغوٌ عند أبي حنيفة، وعن أبي يوسف روايتان. قال أبو جعفر: وبقول محمد نأخذ. وفي «الينابيع» : وعليه الفتوى.

(وَنُدِبَ إشْهَادُهُ عَلَى الرَّجْعَةِ) بأن يقول لاثنين من المسلمين: اشهدا أنّي راجعت زوجتي، وبهذا قال مالك، والشافعيّ في الأصحّ، وأحمد في رواية. وقال القاضي أبو بكر بن العلاء، وأهل الظّاهر: يجب الإشهاد لقوله تعالى: {وأشْهِدُوا ذَوي عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(1)

حيث أَمر بالإشهاد، والأمر للوجوب.

ولنا: أن النصوص الواردة في الرّجعة ليست مقيّدة بإشهادٍ لقوله تعالى: {فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أو فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوف}

(2)

، وقوله تعالى:{وبُعُولَتُهُنَّ أحَقّ برَدِّهِنَّ}

(3)

، وقوله تعالى:{فإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}

(4)

وقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أنْ يَتَرَاجَعَا}

(5)

، وقوله صلى الله عليه وسلم «مُرْ ابنك فليراجعها»

(6)

. وهو مرويّ عن ابن مسعود وعمّار بن ياسر.

(و) نُدِبَ (إعْلَامُهَا) أي إعلام الرجل المرأة (بِهَا) أي بالرّجعة، لأنها إذا لم تعلم ربّما تزوّجت بآخر بعد انقضاء عدّتها. قال الطَّحَاوِيّ في شرحه: والرجعة على ضربين: سُنِّيٌّ وبِدْعِيٌّ، فالسُّنِّيُّ أن يراجعها بالقول، ويُشْهِدُ على رجعتها ويُعْلِمها، حتى لو

(1)

سورة الطلاق، الآية:(2).

(2)

سورة الطلاق، الآية:(2).

(3)

سورة البقرة، الآية:(228).

(4)

سورة البقرة، الآية:(229).

(5)

سورة البقرة، الآية:(230).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 9/ 345 - 346، كتاب الطلاق (67)، باب قول الله تعالى: {يا أيها النبي

} (1)، رقم (5251).

ص: 130

وَأنْ لا يَدْخُلَ عَلَيْهَا حَتَّى يُؤْذِنَهَا إنْ لَمْ يَقْصِدْ رَجْعَتَهَا.

ومُعْتَدَّةُ الرَّجْعِيِّ تتَزَيَّنُ، وَلَهُ وَطْؤُها، ولا يُسَافِرُ بِهَا حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا.

وصُدِّقَتْ في مُضِيِّ عِدَّتِهَا إنْ أَمْكَنَ، وَفِي بَقَائِهَا

===

راجعها بالقول ولم يُشهد أو أشهد ولم يعلمها كان مخالِفاً للسُّنَّة. وقال الحاكم الشهيد: وإذا كَتَمها الطّلاق، ثم راجعها وكتمها الرّجعة، فهي امرأته، غير أنه قد أساء فيما صنع. ولو راجعها ولم تعلم حتى انقضت عدّتها وتزوّجت بآخر، فهي امرأته ويُفَرَّقُ بينها وبين الثّاني سواء دخل بها، أو لم يدخل.

(وَ) نُدِبَ (أنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا حَتَّى يُؤْذِنَهَا) أي يُعْلِمها بدخوله: بأنْ يخفق نعله أو يتنحنح (إنْ لَمْ يَقْصِدْ رَجْعَتَهَا) لأنّه قد يقع بصره على موضعٍ يصير به مراجِعاً، فيحتاج إلى طلاقها ثانياً فيطوّل عليها العدّة، وتتضرر بامتداد المدّة.

(ومُعْتَدَّةُ الرَّجْعِيِّ تَتَزَيَّنُ) لأنّ النِّكاح قائمٌ إلى انقضاء العدّة، ولهذا يجري التوارث بينهما، وتطلق طلقة أخرى إذا قال: كل امرأة لي طالقٌ. ولأنّ التَّزيّن ربّما كان حاملاً له على الرّجعة وهي مستحبة. (وَلَهُ وَطْؤُهَا) ويكون به مراجعاً. وقال الشّافعيّ: ليس له ذلك. ولنا أنّ الزّوجيّة قائمةٌ لأنه تعالى سمّاه بَعْلاً بقوله تعالى: {وبعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بَرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ}

(1)

ولأنه يملك مراجعتها بالقول من غير رضاها، والأجنبيّ لا يقدر على ذلك. (ولَا يُسَافِرُ بِهَا حَتَّى) يراجعها و (يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا) على سبيل الاستحباب، لأنّ بالإشهاد يَتقرَّر ملك الزّوج اتفاقاً.

وقال زُفَر: يجوز له أنْ يسافر بها، وإن لم يراجعها لأنّ النِّكاح بينهما قائمٌ، فصار كما لو لم يطلّقها. ولنا: قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ}

(2)

الآية في الرّجعي لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(3)

، وقوله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ ايُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْراً}

(4)

.

(وصُدِّقَتْ في مُضِيِّ عِدَّتِهَا إنْ أَمْكَنَ) مُضِيُّها (وَفِي بَقَائِهَا) واخْتُلِفَ في أقل مدّة تُصَدَّق فيها الحرّة الحائض في انقضاء عدّتها: فقال أبو حنيفة: ستون يوماً، وقال أبو يوسف ومحمد: تسعةٌ وثلاثون يوماً، وقال مالك: أربعون يوماً، وقال الشافعيّ: أكثر

(1)

سورة البقرة، الآية:(228).

(2)

سورة الطلاق، الآية:(1).

(3)

سورة الطلاق، الآية:(1).

(4)

سورة الطلاق، الآية:(1).

ص: 131

وتَكْذِيبِهَا إخْبَارَهُ بالرَّجْعَةِ في العِدَّةِ.

وَلا تَحِلُّ حُرَّةٌ بَعْدَ ثَلاثٍ، وَلا أَمَةٌ بَعْدَ ثِنْتَيْنِ، حتى يَطَأَهَا بَالِغٌ أوْ مُرَاهِقٌ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَتمْضِي عِذَةُ طَلاقِهِ

===

منِ اثنين وثلاثين يوماً، وقالت الحنابلة: تسعةٌ وعشرون يوماً. وأمّا أقلّ مدّة تُصدّق فيها الأمَة، فعند أبي حنيفة على تخريج محمد: أربعون يوماً، وعلى تخريج الحسن خمسةٌ وثلاثون يوماً، وعند أبي يوسف ومحمد: أحد وعشرون يوماً.

(و) في (تَكْذِيبِهَا إخْبَارَهُ) أي وصدقت المرأة في تكذيبها إخبار الزّوج بعد العدّة (بالرَّجْعَةِ في العِدَّةِ) بأنّ قال بعد العدّة: كنت راجعت فيها، وكذَّبته.

ويجوز أنْ ينكح الرّجل مبانته في العدّة وبعدها لبقاء المحل، وإنما مُنع الغير من نكاحها في العدّة لاشتباه النَّسَبِ، وهو إنما يكون عند اختلاف المياه، ولا اختلاف ههنا.

(وَلَا تَحِلُّ حُرَّةٌ) لمطلِّقها قبل الدّخول بها أو بعده (بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَلَا أَمَةٌ) لمطلّقها كذلك (بَعْدَ ثِنْتَيْنِ حتّى يَطَأَهَا) ولو بغير إنزالٍ، أو في حيضٍ، أو صومٍ، أو إحرامٍ (بَالِغٌ أوْ مُرَاهِقٌ) وهو القريب من البلوغ. وقيل: الذي تتحرك آلته ويشتهي الجِماع. وقال سعيد بن المسَيَّب: لا يشترط الوطاء، لِمَا في «سنن سعيد بن منصور» ، عن ابن المُسَيَّب قال: النّاس يقولون حتى يجامعها، أمّا أنا أقول إذا تزوّجها نكاحاً صحيحاً فإنها تحلّ للأول. وقد تبعه طائفة من الخوارج واسْتُغرِبَ هذا منه حتى قيل: لم يبلغه الحديث. كما استُغْرِبَ من الحسن اشتراط الإنزال نظراً إلى معنى العُسَيْلَة، وقولهما غير معتبرٌ حتى لو قضى القاضي به لا ينفذ.

(بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ) لا بملك يمين ولا نكاحٍ فاسدٍ، لأن النِّكاح مشروطٌ بالنص، فلا يتناول وطاء المولى وهو مطلق، فلا يتناول الفاسد لأنّ المطلق يحمل على الكامل. وقال الشافعيّ في القديم: الوطاء في النِّكاح الفاسد يحلّ. (وقال مالك وأحمد في رواية: الوطاء في الحيض أو الإحرام لا يحلّ كالنكاح الفاسد)

(1)

. وحتّى (تَمْضِي عِدَّةُ طَلَاقِهِ) أو عدّة موته لقوله تعالى: {فَإنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}

(2)

المراد الطلقة الثّالثة، والثنتان في الأمة كالثلاث في الحرّة، إذ الرِّق مُنَصِّفٌ لِحِل المحل.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سورة البقرة، الآية:(230).

ص: 132

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

والوطاء شرطٌ عند الجمهور لِمَا روى أصحاب الكتب الستة من حديث عائشة قالت: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ طلّق امرأته، فتزوّجت زوجاً غيره فدخل بها، ثم طلقها قبل أنْ يواقعها أتحلُّ لزوجها الأول؟ قال:«لا حتّى يذوقَ الآخَرُ من عُسَيْلَتِها ما ذاق الأوّل» . وفي نسخة: «مثل ما ذاق الأوّل» . وروى أحمد في مسنده، عن مروان عن أبي عبد الملك المَكِيّ

(1)

، عن عبد الله ابن أبي مُلَيْكَة، عن عائشة: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «العُسَيْلَةُ الجِماع» . ورواه الدَّارَقُطْنِيّ في سننه، لكن المَكِّيّ مجهولٌ.

وفي السُّنَن إلاّ أبا داود عنها أيضاً قالت: جاءت امرأة رِفَاعَة القُرَظِيّ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رِفَاعة فطلّقني وبَتّ طلاقي، فتزوّجتُ بعده عبد الرحمن بن الزُّبير، وإنَّ ما معه مثل هُدْبَةِ الثَّوب

(2)

، فتبسَّم صلى الله عليه وسلم وقال:«أتريدين أنْ ترجعي إلى رِفاعة» ؟ قالت: نعم. قال: «لا حتّى تذوقي عُسَيْلَتَهُ ويذوقَ من عُسَيْلَتكِ» . وفي لفظ للبخاري قال: كَذَبَتْ والله يا رسول الله، إنّي لأنفُضُها نفضَ الأديم

(3)

، ولكنها ناشزٌ تريد أن ترجع إلى رِفَاعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإن كان ذلك لا تَحِلِّين له حتّى يذوقَ من عُسَيْلَتِكِ». قال: وكان مع عبد الرحمن ابنان له من غيرها، فقال صلى الله عليه وسلم «بَنُوكَ هؤلاء؟». قال: نعم. فقال لها: هذا، وأنتِ تَزْعُمين ما تزعمين، فوالله لَهُمْ أشبهُ به من الغُراب بالغُراب».

وقد ثبت شرط الدّخول بإشارة النص، وهو أن يحمل النِّكاح على الوطاء حملاً للكلام على الإفادة دون الإعادة

(4)

، إذ العقد استفيد من إطلاق اسم الزّوج

(5)

. وفي «المبسوط» : المقصود منع الزّوج من استكثار الطَّلاق، وذا لا يحصل بمجرد العقد، بل

(1)

في المطبوع: أبي مالك المكي، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته ما في مسند الإمام أحمد 6/ 61.

(2)

هُدْبَة الثوب: الهُدْبَة: هو طرف الثوب الذي لم ينسج، مأخوذ من هُدْبِ العين وهو شعر الجفن، وأرادت أن ذَكَره يشبه الهُدْبة في الاسترخاء أو عدم الانتشار. واستدل به على أن وطء الزوج الثاني لا يكون محللًا ارتجاع الزوج الأول للمرأة إلّا إن كان حال وطئه منتشرًا، فلو كان ذكره أشل - أي يَبِسَ فبطلت حركته أو ضَعُفت - أو كان هو عنينًا، أو طفلًا، لم يَكفِ على أصح قولي العلماء، وهو الأصح عند الشافعية أيضًا. فتح الباري 9/ 465.

(3)

أي أُجْهِدُها وأعرُكها، كما يُفعل بالأديم عند دِباغه. النهاية 5/ 98. والأديم وهو الجلد. المعجم الوسيط ص 10، مادة (أدم).

(4)

في المخطوط: العادة، والمثبت من المطبوع.

(5)

وذلك في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} .

ص: 133

النِّكَاحُ بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ يُكْرَهُ ويُحِلُّ

===

بما فيه من المغايظة للزوّج، ودخول الثَّاني مباحٌ مُبْغَضٌ عند الزّوج الأول، كما أَنّ الاستكثار من الطّلاق مباحٌ مُبْغَضٌ أي عند الله ليكون الجزاء بحسب العمل أي {جزَاءً وِفَاقاً}

(1)

.

وفي «الأصل» : وإذا طلّق الرّجل امرأته ثلاثاً جميعاً، فقد خالف السُّنَّة وهي طالقٌ ثلاثاً، ولا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره، ويدخلَ بها. بلغنا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عليّ، وابن مسعود، وابن عبّاس، وغيرهم، إن دخل بها أو لم يدخل بها ـ أي الزّوج الأول ـ فهو سواء. وعن «المُشْكِلَات»: من طلّق امرأته غير المدخول بها ثلاثاً، فله أنْ يتزوّجها بلا تحليل، وأمّا قوله تعالى:{فإنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ منْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}

(2)

ففي حقّ المدخول بها. انتهى. وهذه روايةٌ مردودةٌ بالغ ابن الهُمَام في تخطئة قائلها، بل قيل: بتكفيره.

وذكر التُّمُرْتَاشِيّ عن «فتاوى الوتري» : أنّ الشيخ الكبير الذي لا يقدر على الجِماع لو أولج بمساعدة اليد لا تحلّ. وفي «العيون» و «الفتاوى الصغرى» : لو خافت أنّ يَظْهَر أمرها على المُحَلِّل تَهَب لبعض من تثق به مالاً يشتري به مراهقاً فيتزوّجها به بشاهدين ويدخل بها، ثم يهَب المشتري المملوك من المرأة فيبطل النِّكاح، وترسل المملوك إلى بلدٍ آخر وتبيعه، فلا يظهر أمرها بوطاء الزَّوج الثّاني.

وذكر التُّمُرْتَاشِيّ أنها إن خافت أن لا يطلّقها المحلِّل فقالت: زوّجتُك نفسي على أنّ أمري بيدي أطلق نفسي كُلَّمَا أردت، فقيل: جاز النِّكاح، وصار أمرها بيدها. ولو كانت المرأة مُفْضَاة

(3)

لا تَحِلُّ للأول بعد دخول الثّاني إلاّ إذا حَبِلت، ليعلم أنّ الوطاء كان في قُبُلِها. ووطاء الذميّ الذميّة يُحِلّها، وبه قال الشّافعيّ وأحمد. وقال مالك: لا يُحِلّها بناءً على فساد أنكحتهم عنده.

(والنِّكَاحُ بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ) بأنْ يقول هو تزوّجتك على أنْ أُحَلِّلَكِ، أو تقول هي تزوّجتُك على أنْ تُحَلِّلَنِي (يُكْرَهُ ويُحِلُّ) بضم فكسر أي يثبت الحِلُّ. قيّد بشرط التحليل، لأنه لو لم يكن بشرطٍ بل كان بنيته لا يكره. قال المَرْغِينَانِيّ: ويُثَاب على ذلك إذا كان قصده به الإصلاح.

(1)

سورة عمّ، الآية:(26).

(2)

سورة البقرة، الآية:(230).

(3)

المرأة المفضاة: هي التي اختلط مسلكاها، يعني مسلك الذكر والغائط، وذلك بتمزّق الغشاء الفاصل بينهما. معجم لغة الفقهاء ص 447.

ص: 134

وإنْ قَالَتْ: حَلَلْتُ، والمُدَّةُ تَحْتَمِلُ، وغَلَبَ عَلَى ظَنّهِ صِدْقُهَا، حَل له نِكَاحُهَا.

===

وقال مالك والشافعيّ وأحمد وأبو يوسف واللّيث وإسحاق وأبو عُبَيْدَ: اشتراط التحليل يُفْسد العقد، ولا تَحِلّ للأول. وقال محمد رحمه الله تعالى: لا يفسد العقد، ولا تحلّ للأوّل. لهم: ما رواه الحاكم في «المستدرك» وصححه، من حديث عمرو بن نافعٍ، عن أبيه أنه قال: جاء رجلٌ إلى ابن عمر رضي الله عنه فسأله عن رجلٍ طلّق امرأته ثلاثاً، فتزوّجها أخٌ له ليحلّها ـ وفي نسخة: ليحَلِّلَها ـ لأخيه هل تحلّ للأوّل؟ قال: لا إِنَّ النِّكاح رغبةٌ، كنّا نعدّ هذا سِفاحاً

(1)

على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

وما روى النَّسائي، وأحمد، والترمذيّ وقال: حديث حسنٌ صحيحٌ، أنه قال صلى الله عليه وسلم «لعن الله المُحَلِّلَ والمُحَلَّل له». وما روى ابن ماجه من حديث ابن عبّاس وعُقْبَة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أخبركم بالتيس المُسْتَعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: «هو المحِلّ ـ، وفي نسخة: المحلل ـ لعن اللَّهُ المحلِّل والمحلَّل له» .

قال عبد الحق (في «الأحكام»: إسناده حسن، وروى أبو داود)

(2)

والترمذيّ، وابن ماجه، عن الحارث، عن عليّ قال: لعن رسول الله المحلِّل والمحلَّل له. ورواه الترمذي والنَّسائي عن ابن مسعود من غير وجهٍ. ورواه أحمد، والبزَّار وابن أبي شَيْبَة، وغيرهم عن أبي هريرة بنحوه سواء.

ولنا: أنّ شرط التَّحليل في النِّكاح شرطٌ فاسدٌ، والنِّكاح لا يفسد بالشُّروط الفاسدة، إلاّ أنّ محمداً لم يثبت الحِلَّ للأوَّل لأنه استعجل ما أخّره الشرع فجُوزِيَ بمنعه. فهذا الحديث يقتضي صحة النِّكاح والحلّ للزّوج الأوّل والكراهة. والجواب عن حديث الحاكم: أنّه ليس بمرفوعٍ فلا يُعَارِضُ المرفوع.

(وإنْ قَالَتْ) المُطَلَّقة ثلاثاً (حَلَلْتُ، والمُدَّةُ تَحْتَمِلُ) بأن ذكرت لكل عِدَّةٍ ما يمكن، وهو شهران عند أبي حنيفة رحمه الله، وتسعة وثلاثون يوماً عندهما (وغَلَبَ عَلَى ظَنّهِ صِدْقُهَا حَلّ له نِكَاحُهَا) لأنّ النِّكاح إما أمرٌ دُنْيَويّ، وقول الواحد فيه مقبولٌ كالوكالة، وإمّا أمرٌ دينيّ وقول الواحد فيه مقبولٌ كالإخبار بطهارة شيءٍ، ونجاسة الماء، ورواية الحديث. وسُئِلَ الصَّفَّار ونجم الدين النَّسَفِيّ عن امرأة سمعت الطَّلاق الثلاث من الزّوج، ولا يمتنع عنها هل يَسَعُها قَتْلُه؟ قالا: يسعها عند إرادة قربانها. وهكذا أفتى السيد أبو الشُّجاع. وقال: الإسبِيجَابِيّ: لا يسعها.

(1)

السِّفَاح: الإقامة مع المرأة من غير زواجٍ صحيح. المعجم الوسيط ص 432، مادة (سفح).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 135

والزَّوْجُ الثَّانِي يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلاثِ، خِلافًا لِمُحَمَّد.

===

(والزَّوْجُ الثَّانِي يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلاثِ) عند أبي حنيفة (وأبي يوسف) حتى لو طلّقها واحدة، وانقضت عدّتها، وتزوّجت بآخر وطلّقها، وانقضت عدّتها منه، ثم تزوّجها الأوّل يملك عليها ثلاثاً إن كانت حرّة، وثِنتين إن كانت أَمة.

(خِلَافاً لِمُحَمَّد) فإنّ عنده لا يهدِم، فيملكها الأوّل إذا عادت إليه بعد زوج بما بَقِيَ من الثلاث. وبه قال مالك والشافعيّ وأحمد وزُفَر لِمَا روى البَيْهَقِيّ في «المعرفة» من طريق الشافعيّ، عن ابن عُيينة (عن الزُّهْرِيّ، عن حُمَيد بن عبد الرحمن بن عَوْف، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتْبَة،)

(1)

وسُلَيْمَان بن يَسَار أنهم سمعوا أبا هريرة يقول: سألت عمر بن الخطّاب عن رجلٍ من أهل البَحْرين طلّق امرأته تطليقة أو تطليقتين، ثم انقضت عدّتها. فتزوّجها غيره، ثم فارقها، ثم تزوّجها الأوّل. قال: هي عنده على ما بَقِي. وروى أيضاً ـ من حديث الحاكم ـ ابن عُيَيْنَة، عن يزيد بن جابر، عن أبيه أنه سمع عليّ بن أبي طالبٍ يقول: هي على ما بَقِي. ونُقِلَ مثله عن أُبيّ بن كعب، وعِمْران بن حُصَيْن.

ولأبي حنيفة وأبي يوسف: ما روى محمد في «الآثار» عن أبي حنيفة، عن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، عن سعيد بن جُبَيْر قال: كنتُ جالساً عند (عبد الله بن)

(2)

عُتْبَة بن مسعود إذ جاءه أعرابي، فسأله عن رجلٍ طلّق امرأته تطليقة أو تطليقتين، ثم انقضت عدّتها وتزوّجت زوجاً غيره فدخل بها، ثم مات عنها أو طلّقها، ثم انقضت عدّتها فأراد الأوّل أن يتزوّجها، على كم هي عنده؟ فالتفت إلى ابن عبّاس وقال: ما تقول في هذا؟ فقال: يَهْدِم الزّوجُ الثّاني الواحدةَ والثِّنتين والثلاث، واسأل ابن عمر. قال: فلقيت ابن عمر فسألته، فقال مثل ما قال ابن عبّاس. قال بعض المحققين: الظاهر ما قال محمد وباقي الأئمة. ولقد صدق قول صاحب «الأسرار» : مسألةٌ اختلف فيها كبار الصحابة (يَعُوز فِقْهُها)

(3)

، ويَصْعُب الخروج عنها.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط. وعَوِزَ الشيء: لم يُوجَد مع الحاجة إليه. المعجم الوسيط، ص 636، مادة (عازه).

ص: 136

‌فصْلٌ [في الإِيلاءِ]

الإِيْلاءُ: حَلِفٌ يَمنَعُ وَطْئَ الزَّوْجَةِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ حُرَّةً، وشَهْرَيْنِ أَمَةً،

===

فصلٌ (في الإيلَاءِ)

(الإِيْلاءُ) في اللغة: اليمين، يقال: آلَى يُؤلي إيلاءً، كأعطى يُعْطي إعطاءً.

وفي الشرع: (حَلِفٌ) بما يوجب الكفارة أو الجزاء (يَمْنَعُ وَطْاءَ الزَّوْجَةِ) مسلمة كانت أو كتابية (أرْبَعَةَ أشْهُرٍ) أو أكثر حال كونها (حُرَّةً)، وإن كانت تحت عبدٍ (وشَهْرَيْنِ) حال كونها (أَمَةً) كوالله لا أقربك أربعة أشهر، أو والله لا أقربك. قيّد بالزوّجة لأنّ الشخص لا يكون مُولِياً من أَمته، لأن قوله تعالى:{لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ}

(1)

لا يتناول إلاّ الزّوجات. ويصحّ الإيلاء من المطلَّقة الرّجعية لقيام الزَّوجية، ولقوله تعالى:{وبُعُولَتُهُنَّ} ، والبعل: الزوج حقيقةً.

وقال مالك والشّافعيّ أَزيد من أربعة أشهر. لنا: أنّ النَّصّ على أربعة أشهر يمنع الزيادة عليها، كالنّصِّ على أربعة أشهرٍ وعشر في عدّة الوفاة، وعلى ثلاثة في عدّة الحياة.

وروى الواحديّ في «أسباب النُّزول» بسنده عن عطاء، عن ابن عبّاس قال: كان إيلاء أهل الجاهليّة السَّنَة والسنتين وأكثر من ذلك، فوقّت الله أربعة أشهرٍ، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بمولٍ. ثم قال سعيد بن المُسَيَّب: كان الإيلاء ضِرَارَ أهل الجاهليّة، كان الرّجل لا يريد المرأة، ولا يحب أن يتزوّجها غيره، فيحلف أنْ لا يقربها أبداً، فكان يتركها كذلك، لا أيّماً

(2)

ولا ذات بعلٍ، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهرٍ، وأنزل:{لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}

(3)

الآية.

وألفاظه صريحٌ نحو: لا أَقْرَبُكِ، لا أجامعك، لا أطؤك، لا أُبَاضِعُك، لا أغتسل منك من جنابة، فلو ادّعى أنه لم يعنِ الجماع لم يُصَدَّقْ قضاءً، وكنايةٌ يحتاج إليها نحو: لا أَمَسُّكِ، لا آتيكِ، لا أغشَاكِ، لا أجمع رأسي ورأسكِ، لا أُضاجعكِ، لا أَقْرَبُ فراشكِ، ويصدّق في عدم النيّة قضاءً.

(1)

سورة البقرة، الآية:(226).

(2)

الأيمّ: العَزَبُ رجلًا كان أو امرأة، تزوّج من قبل أو لم يتزوّج. المعجم الوسيط، ص 35، مادة (أيم).

(3)

سورة البقرة، الآية:(226).

ص: 137

فَإنْ قَرِبَهَا حَنِثَ.

ويَجِبُ الكَفَّارَةُ في الحَلِفِ بالله، وَفِي غَيرِهِ الجَزاءُ، ويَسْقُطُ الإيلاءُ وَإلَّا بَانَتْ بِوَاحِدَةٍ،

===

(فَإنْ قَرِبَهَا) أي وطئها الزَّوج في المدّة، أي في أربعة أشهرٍ في الحُرَّة، وفي شهرين في الأمة (حَنِثَ) لفوات البِّر (ويَجِبُ الكَفَّارَةُ في الحَلِفِ بالله) وهو قول مالك، والشّافعيّ في الجديد، وأحمد، لأنّ هذا النوع من الحَلِف مُوجِبٌ للكفارة عند الحنث.

(وَ) يجب (فِي غَيْرِهِ) أي في غير الحَلِف بالله وهو التعليق (الجَزَاءُ) لتحقق موجبه (ويَسْقُطُ الإيلَاءُ) بإجماع العلماء لانحلال اليمين بالحِنْث.

(وَإلاَّ) أي وإن لم يقربها الزّوج في المدّة (بَانَتْ بِوَاحِدَةٍ) ولا تتوقّف الفُرْقة بينهما على تطليقه إياها، أو تفريق الحاكم بينهما عندنا. وقال مالك، والشافعيّ، وأحمد يُوقَفُ حتّى يطلِّق. والمسألة ذات خلافٍ بين الصّحابة والتابعين. قال البخاري في «صحيحه»: قال لي إسماعيل: حدّثني مالك، عن نافع، عن ابن عمر: إذا مضت المدّة يُوقَفُ حتى يطلِّق. ولا يقع عليه الطّلاق حتّى يطلّق. قال ويُذْكَرُ عن عثمان، وعليّ، وأبي الدرداء، وعائشة، واثني عشر رجلاً من الصحابة.

وقال أبو عيسى الترمذيَّ في «جامعه» : اختلف أهل العلم، فقيل: إذا مضت أربعة أشهرٍ يوقّف فإمّا أنْ يفيء، وإمّا أنْ يطلّق. وهو قول مالك والشافعيّ وأحمد وإسحاق. وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم: إذا مضت أربعة أشهر، فهي تطليقةٌ بائنةٌ. انتهى. وفي «موطّأ محمد بن الحسن»: بلغنا عن عمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، أنهم قالوا: إذا آلى الرّجل من امرأته، فمضت أربعة أشهرٍ قبل أن يفيء، فقد بانت بتطليقةٍ، وهو خاطبٌ من الخُطَّاب. وكانوا لا يروْن أن توقّف بعدها أربعة أشهر.

قال ابن عبّاس في تفسير هذه الآية: {لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ فَإنْ فَاؤُا فَإنّ اغَفُورٌ رحيمٌ وإنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فإنَّ اسَمِيعٌ عَلِيمٌ}

(1)

الفيء: الجماع في الأربعة الأشهر، وعزيمة الطّلاق: انقضاء الأربعة الأشهر، فإذا مضت بانت بتطليقةٍ ولا توقّف بعدها. وكان ابن عباس أعلم بتفسير القرآن من غيره. انتهى كلام محمد.

ثم عندهم الفيء الذي يُؤْمَرُ به الزّوج بعد مُضِيّ المدّة لقوله تعالى: {فإنْ فَاؤُا}

(1)

سورة البقرة، الآية:(226).

ص: 138

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

بحرف التعقيب، وعندنا الفيء في المدّة لقراءة ابن مسعود: فإنْ فَاؤُا فِيهِنَّ، وقراءته لا تتخلّف فيها عن سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم والتقسيم في قوله تعالى:{وإنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} دليلٌ أيضاً على أن الفيء في المدّة، وعزيمة الطَّلاق بعدها، كما في قوله تعالى:{فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أو سَرِحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}

(1)

والإمساك بالمعروف بالمراجعة في العدّة، والتّسريح بالإحسان بتركها حتى يتبين بمُضِيّ العدّة.

ثم عندهم لا يقع إلاّ بتفريق القاضي بينهما، أو بإيقاع الزّوج الطّلاق، لأن الله تعالى قال:{فإنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فإنّ اسَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَهو إشارةٌ إلى أنّ عزيمة الطّلاق بما هو مسموعٌ، وذلك بأحدهما.

ولنا أنّه تعالى ذكر عزيمة الطّلاق بعد ذكر المدّة، وهو إشارةٌ إلى أنَّ ترك الفيء في المدّة عزيمة الطّلاق عند مُضِيّها. وقد رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«عزيمة الطَّلاق مُضِيّ أربعة أشهر»

(2)

. وقد أضافه إلى الزّوج، فدلّ أنّ الطّلاق يتمّ به من غير حاجةٍ إلى قضاء القاضي. ومعنى قوله تعالى:{فإنّ اسَمِيعٌ عَلِيمٌ} لإيلائه عليمٌ بقصد إضراره. وما رواه عبد الرّزّاق في «مصنفه» : حدثنا مَعْمَرُ عن عطاء الخُرَاسَانِيّ، عن أبي سَلَمَة بن عبد الرّحمن أنّ عثمان بن عفّان وزيد بن ثابت كانا يقولان في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقةٌ واحدةٌ، وهي أحقُّ بنفسها، وتعتدّ عدّة المطلّقة. قال: وأَخبرنا مَعْمَرُ، عن قَتَادة: أنّ علياً، وابن عبّاس قالوا: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقةٌ، وهي أحقُّ بنفسها، وتعتدّ عدّة المطلّقة.

وأخرج نحوه عن عطاء، وجابر بن زيد، وعِكْرِمَة، وابن المُسَيَّب، وأبي بكر بن عبد الرّحمن، ومَكحُول. وروى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن ابن عبّاس وابن عمر قالا: إذا آلى فلم يفء حتّى إذا مضت أربعة أشهرٍ، فهي تطليقةٌ بائنةٌ.

وأخرج نحوه ابن الحنفيّة، والشَّعْبِي، والنَّخَعِيّ، ومسروق، والحسن، وابن سِيرين، وقَبِيصَة، وسالم، وأبي سَلَمة.

والحاصل: أَنّ ما رويناه فهو عن الأكابر منهم والفقهاء فيهم، فيكون أرجح وأولى ويسمع الكل لقوله صلى الله عليه وسلم «أصحابي كالنُّجوم بأَيِّهم اقتديتم اهتديتم»

(3)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:(231).

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 379، كتاب الإيلاء، باب من قال: عزم الطلاق ....

(3)

تقدم تخريجه في مقدِّمة الكتاب.

ص: 139

وسَقَطَ الحَلِفُ المُؤَقَّتُ لا المُؤَبَّدُ، فَتَبِينُ بأُخْرَى إنْ مَضَتْ مُدَّةٌ أخْرَى بَعْدَ نِكَاحٍ ثَانٍ بِلا فَيء، ثُمَّ أُخْرَى كَذَلِكَ بَعْدَ ثَالِثٍ، وبَقِي الحَلِفُ بَعْدَ ثَلاثٍ، لا الإيلاءُ، فإنْ قَرِبَهَا كَفَّرَ، وَلا تَبِينُ بالإيلاءِ.

وَلَوْ عَجزَ عَنْ الفَيءِ بِالْوَطْئِ لِمَرَض أحَدِهِمَا أَوْ غَيْرِهِ،

===

(وسَقَطَ الحَلِفُ المُؤَقَّتُ) بأربعة أشهرٍ في الحرّة، وبشهرين في الأمة، لأن اليمين لا تبقى بعد مُضِيّ وقتها. (لا المُؤَبَّدُ) أي فلا يسقط الحَلِفُ المؤبّد نحو: والله لا أقربك، وإن لم يقل أبداً عند أبي حنيفة، خلافاً لهما حيث قالا: لا بد من ذكر الأبد، أو ما يقوم مقامه. وإنّما لم يسقط لعدم ما يبطله من حِنْث أو مُضِيّ وقت.

(فَتَبِينُ بأُخْرَى إنْ مَضَتْ مُدَّةٌ أخْرَى) وهي أربعة أشهرٍ في الحرة، وشهران في الأمة (بَعْدَ نِكَاحٍ ثَانٍ) من الحالف (بِلَا فَيِءٍ) أي بلا قربان (ثُمَّ أُخْرَى) أي ثم تَبين بأُخرى (كَذَلِكَ) أي إنْ مضت المدتان (بَعْدَ) نِكاحٍ (ثَالِثٍ) من الحالف بلا فَيءٍ (وبَقِي الحَلِفُ بَعْدَ) وقوع طلقاتٍ (ثَلَاثٍ) لبقاء اليمين.

وفي «شرح الوقاية» : هذا إن كان الحَلِف بغير طلاقها، وإن كان بطلاقها لا يبقى الحَلِفُ لأنّ التنجيز يُبْطِلُ التّعليق، (لَا الإيلَاءُ) أي ولا يبقى الإيلاء، لأنّه بمنزلة تعليق الطَّلاق بمضيّ الزّمان، فلا يبقى بعد استيفاء الملك كما لو قال: كلما مضى أربعة أشهر فأنتِ طالقٌ.

(فإنْ قَرِبَهَا) بعد زوج (كَفَّرَ) لبقاء اليمين (وَلَا تَبِينُ بالإيلَاءِ) لزواله، فصار كما لو قال لأجنبية: والله لا أَقْرَبُكِ، ثم تزوّجها فإنه لا يكون مُولِياً، وتجب الكفَّارة إذا قَرِبَها. احترز بقوله «بعد نكاحٍ ثانٍ» عن قول أبي سهل البردعي

(1)

قال: إنّ اليمين تنعقد بعد انقضاء أربعة أشهرٍ قبل انقضاء عدّتها، لأن معنى الإيلاء على الأبد هو كلَّمَا مضى أربعة أشهرٍ ما أقربك فيها فأنتِ طالقٌ، ولو قال ذلك لكان الحكم فيه ما بيّنا. والأصحُّ ما ذكره المصنف، وهو قول الكَرْخِيّ لأنّ انعقاد اليمين ابتداءً لاعتبار معنى الإضرار، وهو ليس بموجودٍ في المبانة ما لم يتزوّجها.

(وَلَوْ عَجزَ عَنْ الفَيءِ بِالْوَطْاءِ) من وقت الإيلاء إلى مُضِيّ أربعة أشهرٍ في الحرّة وشهرين في الأمة (لِمَرَض أحَدِهِمَا أَوْ غَيْرِهِ) أي لغير المرض: بأنْ كانت

(1)

كذا في المطبوع والخطوط: البردعي، وفي "فتح القدير" 4/ 46: الشَّرْغِي. ولم نجد له ترجمة!!

ص: 140

فَفَيْؤهُ أنْ يَقُولَ: فِئْتُ إلَيهَا، فإنْ قَدِرَ قَبْلَ المُدَّةِ، فَفَيؤهُ بِالْوَطْئِ.

وفي: وأنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ، إنْ نَوَى الظِّهَارَ أوْ الثَّلاثَ أوْ الكَذِبَ، فَمَا نَوَى. وإنْ نَوَى التَّحْرِيمَ فإيلاءٌ، وَإنْ نَوَى الطَّلاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيئًا فِيهِ، وَكَدا في: كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ، وفي: حلالُ الله عليَّ حرامٌ، وفي: حلالُ المسلمين عليّ حرامٌ: فَبَائِنَةٌ.

===

رَتْقَاءَ، أو صغيرةً، أو في مكان لا يعرفه، أو كان مجبوباً، أو عِنّيناً، أو أسيراً في دار الحرب، أو بينه وبينها مسيرة أربعة أشهرٍ (فَفَيْؤهُ أنّ يَقُولَ: فِئْتُ إلَيْهَا) أو: رجعت إليها، أو: راجعتها، أو: أبطلت إيلاءها. وسقط الإيلاء على المذهب عندنا، ولكن لا يَحْنَث إلاّ بالوطاء.

وقال سعيد بن جُبَيْر: لا يكون الفيء إلاّ بالجماع، وهو مَرْويّ عن أبي ثَوْر، ومختار الطَّحَاوي، وبه قال مالك والشّافعيّ. قيّدنا العجز بكونه من وقت الإيلاء إلى آخر المدّة، لأنه لو آلى وهو قادرٌ على الوطاء ثم عجِزَ عنه، أو آلى وهو عاجزٌ عنه ثم زال عجزه في المدّة، لم يصحّ فيئه باللسان، لأنّ الفيء حَلِفٌ عن الجماع فيشترط فيه العجز المستوعِب للمدّة.

(فإنْ قَدِرَ) على الجماع (قَبْلَ المُدَّةِ) بعد فيئه باللسان (فَفَيْؤهُ بِالْوَطْاءِ) لأنّه قَدِر على الأصل قبل حصول المقصود بحَلِفه، فصار كالمتيمم إذا رأى الماء وهو في الصّلاة. (وفي: وأنْتِ عَلَيّ حَرَامٌ) يرجع إلى نيّته (إنْ نَوَى الظِّهَارَ أوْ الثَّلَاثَ أوْ الكَذِبَ فَمَا نَوَى)، وقال محمّد: إنْ نوى الظِّهار لا يكون مُظَاهِراً لعدم ركن الظِّهار، وهو تشبيه بالمُحَرَّمَة على التأبيد.

ولنا: أنّ هذا اللفظ يحتمل الظِّهار لِمَا فيه من معنى الحرمة فإذا نواه صحّت نيّته. (وإنْ نَوَى التَّحْرِيمَ فإيلَاءٌ) لأنّ تحريم الحلال يمينٌ عندنا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أزْوَاجِكَ والّلهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ الَكُمْ تَحِلَّةَ أيْمَانِكُمْ}

(1)

.

(وَإنْ نَوَى الطَّلَاقَ، أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئاً فِيهِ) أي في: أنتِ عليَّ حرامٌ، (وَكَذَا في: كُلُّ حِلَ عَلَيَّ حَرَامٌ (وفي حلال الله عليَّ حرام، وفي: حلال المسلمين عليَّ حرام)

(2)

فَبَائِنَةٌ) أمّا إن نوى «بأَنتِ عليّ حرامٌ» الطّلاقَ، فإنّ التَّحريم من ألفاظ

(1)

سورة التحريم، الآية:(1 - 2).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 141

‌فَصْلٌ في الخُلْعِ

لا بَأسَ بِالخُلعِ عِنْدَ الحَاجَةِ

===

الكنايات، والواقع بها بائنٌ. وأمَّا إذا لم ينوِ شيئاً فجَعَلَه المتقدّمون إيلاءً، وهو مختار صاحب «مواهب الرحمان» ، وصرفه المتأخِّرون إلى الطّلاق البائن، وهو مختار الفضل، والإسكاف، وأبي بكر بن أبي سعيد، والفقيه أبي جعفر الهِنْدُوَانِيّ. قال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ، لأن العادة جرت أنهم يريدون بهذا اللفظ الطّلاق. والله أعلم.

فصلٌ في الخُلْعِ

وهو بالضمّ لغةٌ في الخَلْع بمعنى النّزع، يقال: خَلَعَ نعله وثوبه.

وشرعاً: أخذ المال بإزاء ملك النّكاح بلفظ الخُلْع. فإنّ الطَّلاق على مالٍ ليس خُلْعاً بل في حكمه من وقوع البينونة لا مطلقاً، وإلاّ يجري فيه الخلاف في أنه فسخٌ. وقيل: إزالة الزّوجيّة ببذل بدَلٍ. (لَا بَأسَ بِالخُلعِ عِنْدَ الحَاجَةِ) لقوله تعالى: {فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيمَا حُدُودَ افَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(1)

، والمراد بالخوف هنا العلم، لأن الخوف من لوازمه. وقيل: الظن، وهو الأظهر. والخطاب للحكام أو لأهل الإسلام، وهذا الشرط خرج مخرج العادة لجواز الخُلْع بدونه.

والمراد بالحدود: ما يلزم الزوجين من مواجب الزّوجيّة، وسمّى ما أعطت فداءً لأنها كالأسير في يده تخلّص نفسها منه. والمعنى: لا جناح على الزّوج فيما أخذ، ولا على المرأة فيما أعطت، ولِمَا في «صحيح البخاريّ» عن ابن عباس: أنّ امرأة ثابت بن قيس أتت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: ثابت بن قيس ما أَعِيب عليه في خُلُقٍ ولا دينٍ، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال صلى الله عليه وسلم «أَتَرُدِّينَ عليه حديقته»؟ قالت: نعم. قال صلى الله عليه وسلم «اقْبَل الحديقةَ وطلِّقْهَا تطليقةً» . (وفي «مصنف ابن أبي شَيْبَة» مكان: «اقبل الحديقة وطلّقهاَ»: فأمره أن يأخذ منها حديقته)

(2)

ولا يزداد.

وقال بكر بن عبد الله المُزَنِيّ: الخُلْع غيرُ جائزٍ، لأنّ الآية السابقة منسوخةٌ بقوله تعالى:{وَإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنْطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً}

(3)

. وأجِيبَ: بأنّ شرط النَّسخ العلم بتأخر الناسخ، وتعذّر الجمع بينهما. ولم

(1)

سورة البقرة، الآية:(229).

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

سورة النساء، الآية:(20).

ص: 142

بِمَا يَصِحَّ مَهْرًا، وَهُوَ طَلاقٌ بَائنٌ

===

يوجدا، إذ يمكن الجمع بحمل عدم الأخذ على سوى الخُلْع وفَقْد رضاها. وقد يقال: إنّ النهيّ متعلق بما إذا أراد الزّوج استبدال غيرها مكانها، والآية الأخرى مُطْلقة، فكيف تكون ناسخةً؟ وقيَّدته الظّاهريّة بما إذا كرهته وخافت أنْ لا يوفيها حقّها وأن لا تُوفِّيه. ومنعته إذا أكرهها هو. وقال قوم: لا يجوز إلا بإذن السّلطان، رُوِيَ ذلك عن ابن سيرين، وسعيد بن جُبَيْر، والحسن. ولَعلّ متمسَّكَهم ظاهرُ قوله تعالى:{فإنْ خِفْتُمْ} على أنّ الضمير للحُكَّام.

(بِمَا يَصِحَّ مَهْراً) أي بجنس ما صَلُح لا بمقداره (وَهُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ) عند جماهير الأئمة من السلف والخلف. وقال أحمد وإسحاق بن رَاهُويَه والشّافعي في القديم: فُرْقَةٌ بغير طلاقٍ. لما رواه الدَّارَقُطْنِيّ عن ابن عبّاس: الخلع فُرْقَةٌ وليس بطلاقٍ، ولما روى عبد الرّزّاق في مصنفه من رواية طاوُس، عن ابن عبّاس أنه قال: لو طلّق رجل امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه، حلّ له أنْ ينكحها. ذكر الله الطَّلاق في أول الآية وفي آخِرها، والخُلْع بينهما بقوله:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}

(1)

إلى أن قال: {فَلَا جُنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ثم قال: {فَإنْ طَلَّقَهَا}

(2)

يعني الثالثة المفاد شرعيتها بقوله تعالى: {أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسَانٍ} فيكون الافتداء غيرَ طلاقٍ، وإلاّ كان أربعاً، والثّاني منتفٍ. ولأن النِّكاح يحتمل الفسخ لأنه يفسخ بخِيار العتق فكذا بالتَّراضي بالخلع، كالبيع في الإقالة.

وعن الحنابلة: لا يقع بالخلع طلاقٌ، بل هو فسخ بشرط عدم نيّة الطّلاق لا يُنْقص عدد الطّلاق. وقال آخرون: يقع ويكون رجعيًّا، فإن راجعها ردّ البدل الذي أخذه. (رواه عبد الرّزاق عن مَعْمَر، عن قَتَادة، عن سعيد بن المُسَيَّب قال: وكان الزّهْرِي يقول ذلك.)

(3)

.

ولنا: ما روى عبد الرّزّاق، وابن أبي شَيْبَة في «مُصنَّفَيهما» ، عن ابن جُرَيْج عن داود بن أبي عاصم، عن سعيد بن المُسَيَّب: أنّ النْبيّ صلى الله عليه وسلم جعل الخُلْع تطليقة. وما روى الدَّارَقُطْنِيّ والبَيْهَقِيّ في سننيهما، وابن عَدِيّ في «الكامل» من حديث عَبَّاد بن كَثِير، عن أيوب، عن عِكْرمة، عن ابن عباس: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل الخُلع تطليقةً بائنةً. لكن عبَّاد بن كثير فيه كلام، إلاّ أنه يَنْجَبِرُ بحديث ابن المُسَيَّب وإن كان مرسلاً، فإن مرسَلَه حُجَّةٌ إجماعاً. ورَوَى مالك، عن هِشَام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن جُهْمان مولى

(1)

سورة البقرة، الآية:(239).

(2)

سورة البقرة، الآية:(240).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 143

وَيَجبُ عَلَيهَا بَدَلُهُ. وكُرِهَ أخْذُهُ إن نَشَزَ، والفَضْلُ إنْ نَشَزَتْ.

===

الأسلميين، عن أم بَكْرَة الأسْلَميّة: أنها اختلعت من زوجها عبدِ الله بن خالد بن أَسد، فأتيا عثمان في ذلك فقال: هي تطليقةٌ.

وروى ابن أبي شَيْبَة بسنده إلى ابن مسعودٍ أنّه قال: لا يكون طلقةً بائنةً إلا في فديةٍ أو إيلاءٍ. وروى نحوه عن عليّ أيضاً: فإذا قالت: اخلعني، أو قالت: طلّقني على ألفٍ مثلاً، فَفَعَلَ ما قالت في المجلس، بانت منه. (وَيَجبُ عَلَيْهَا بَدَلُهُ) ـ بفتح الدّال المهملة لا بسكون المعجمة ـ أي ويجب على المختلعة عوض الخُلْع لأنه واجبٌ بالتزامها.

(وكُرِهَ) للزوج (أخْذُهُ) أي البدل منها (إن نَشَزَ)

(1)

هُوَ وكَرِهها.

وقال مالك: لا يجوز لقوله تعالى: {وإنْ أرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً}

(2)

والقنطار: المال العظيم. ولنا: أنّ النهيّ في الآية لمعنى في غيره، وهو زيادة الإيحاش

(3)

، والنهي لمعنى في غيره لا يعدم المشروعية، كالبيع وقت النّداء يوم الجمعة، يجوز مع الكراهة.

(والفَضْلُ) أي وكُرِهَ للزوج أخذ الزائد على ما أعطاها (إنْ نَشَزَتْ) هكذا قال القُدُورِيّ، وهو رواية «الأصل». وفي «الجامع الصغير»: أَنّ الفضل يطيب له لإطلاق قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(4)

، ودليل «الأصل» وهو الصحيح ما قدّمنا. وما روى ابن أبي شَيْبَة، وعبد الرّزّاق في مصنفيهما، عن حفص، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء قال: جاءت امرأةٌ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها، فقال:«أَتَرُدِّينَ عليه حديقته التي أَصْدَقَكِ» ؟ قالت: نعم وزيادة. قال: «أمّا الزيادة فلا» . وما أخرج الدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» عن حَجَّاج، عن ابن جُرَيْج قال: أخبرني أبو الزُبَيْر: أنّ ثابت بن قيس بن شَمَّاس كانت عنده زينب بنت عبد الله بن أُبيّ ابن سَلُول، وكان أصدقها حديقة وكرهته، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أتردين عليه حديقته التي أعطاكِ»؟ قالت: نعم وزيادة. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أمّا الزِّيادة فلا» .

(1)

نشَرْ بَعْلُها عليها: ضربها وجفاها. مختار الصحاح ص 275، مادة (نشر).

(2)

سورة النساء، الآية:(29).

(3)

الإيحاش: من الوَحْشَة: وهي الانقطاع وبُعْد القلوب عن المودّات. المعجم الوسيط ص 1018، مادة (وحش).

(4)

سورة البقرة، الآية:(240).

ص: 144

وإنْ طَلّقَ بِمَالٍ أوْ عَلَى مَالٍ وَقَعَ بَائِنٌ إنْ قَبلَتْ، وَبِخَمْرٍ أوْ خِنْزِيرٍ لا يَجِبُ شَيءٌ لِلزَّوْجِ وَوَقَعَ بَائِنٌ في الخُلْعِ وَرَجْعِيٌّ فِي الطَّلاقِ.

وَإنْ طَلَبَتْ ثَلاثًا بِألْفٍ وَطلّقَهَا وَاحِدَةً، فَبَائِنَةٌ بِثُلُثِ الألْفِ، وفي عَلَى ألْفٍ رَجْعِيّةٌ بِلا شَيء عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ.

===

وأخرج أيضاً عن عطاء أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يأخذ الرّجل من المُخْتَلَعَة أكثر ممّا أعطاها» . وروى وَكِيع عن أبي حنيفة، عن عَمّار بن عِمْرَان الهَمْدَانِيّ، عن أبيه، عن عليّ أنه كَرِه أن يأخذ منها أكثر ممّا أعطاها. وذكر عبد الرّزّاق عن عليّ: لا يأخذ منها فوق ما أعطاها. وذكر أيضاً: أنّ الرُبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عَفْرَاء: حدّثته أنها اختلعت من زوجها بكل شيءٍ تملكه، فخوصم في ذلك عثمان رضي الله عنه فأجازه، وأمره أنّ يأخذ عِقَاص

(1)

رأسها فما دونه. ورُويَ أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه رُفِعَتْ إليه امرأةٌ نشزت على زوجها، فقال: اخلعها ولو من قُرْطِها

(2)

. فكانت المسألة خلافية بين الصحابة رضي الله عنهم.

(وإنْ طَلّقَ بِمَالٍ) بأنْ قال: طلْقتكِ بألفٍ (أوْ عَلَى مَالٍ) بأنّ قال: أنتِ طالقٌ على ألفٍ (وَقَعَ بَائِنٌ إنْ قَبِلَتْ) ولزمها المال. (وَ) إنْ طلّق المسلم أو خالع (بِخَمْرٍ أوْ خِنْزِيرٍ) أو ميتةٍ أو حرَ (لَا يَجِبُ شَيءٌ لِلزَّوْجِ) لأنّ المُسمّى لا يجب للإسلام، وغيره لا يجب لعدم الالتزام (وَوَقَعَ بَائِنٌ في الخُلْعِ وَرَجْعِيٌّ فِي الطَّلَاقِ) لأنّ الإيقاع معلّق بالقبول، وقد وُجِدَ. ولَمَّا بطل العوض كان العامل في الأوَّل لفظ الخلع وهو كناية، والواقع بها بائنٌ. وفي الثّاني لفظ الطّلاق، وهو يُعْقِب الرَّجعة. وقال مالك وأحمد: رجعيّ. وقال زُفَر: تردّ مهرها. وقال الشّافعي: يجب مهر المثل اعتباراً بالنِّكاح، ويقع طلاقٌ بائنٌ.

(وَإنْ طَلَبَتْ ثَلَاثاً) بأن قالت: طلّقني ثلاثاً (بِألْفٍ وَطلّقَهَا وَاحِدَةً) في المجلس (فَبَائِنَةٌ) فيقع بائنة (بِثُلُثِ الألْفِ) وقال مالك: بالألف. وقال أحمد: بغير شيءٍ. ولنا: أنّ الباء تصحب العِوَض، وهو ينقسم على المعوض، (وفي:) إنْ طلبت ثلاثاً (عَلَى ألْفٍ) فطلّقها واحدةً يقع (رَجْعِيّةٌ بِلَا شَيْءٍ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ) وبالألف عند

(1)

العِقَاص: خيط تُشَدُّ به أطراف الدّوائب - وهي شعر مُقدَّم الرأس -. المعجم الوسيط ص 615، مادة (عقص).

(2)

القُرْطُ: ما يُعَلَّقُ في شحمة الأذن من دُرٍّ أو ذهبٍ أو فضةٍ أو نحوها. المعجم الوسيط ص 727، مادة (قرط).

ص: 145

والخُلْعُ مُعَاوَضَةٌ في حَقِّهَا يَصِحّ رُجُوعُهُا وشَرْطُ الخِيَارِ لَهَا، ويَقْتَصِرُ عَلَى المَجْلِسِ، ويَمِين في حَقِّهِ، حتّى انْعَكسَ الأحْكَامُ، وَالعَبْدُ بِمَنْزِلَتِهَا وَيُسْقِطُ الخُلْع والمُبَارَأَةُ حَقُوقَ النِّكاحِ عَنْهُمَا.

===

مالك، ويقع بائنةٌ بثلث الألف عند أبي يوسف ومحمد والشّافعيّ، (والخُلْعُ مُعَاوَضَةٌ في حَقِّهَا) لدفعها البدل فصار كالبيع (يَصِحّ رُجُوعُهُا) إذا كان الإيجاب منها قبل قبول الزّوج، (و) يصح (شَرْطُ الخِيَارِ لَهَا) عند أبي حنيفة في المسألتين.

(ويَقْتَصِرُ) الخُلْع من جانبها (عَلَى المَجْلِسِ) أي مجلس المرأة عند أبي حنيفة وأصحابه، فلا يتوقّف إيجابها على ما وراءه لو كان غائباً. (ويَمِين في حَقِّهِ) لأنّه يوقع الطّلاق بشرط قبولها. (حتّى انْعَكَسَ الأحْكَامُ) فَلا يصحّ رجوعه، ولا شرط الخيار له، ولا يقتصر على المجلس من جانبه، فيتوقف إيجابه على ما وراء المجلس لو كانت غائبةً.

وقال أبو يوسف ومحمد والشّافعيّ وأحمد: شرط الخِيار لها باطلٌ كشرطه له، لأنّ الخلع من جانبها شرط اليمين وهو الطلاق، وكما لا يصحّ الخيار في اليمين لا يصح في شرطه. ولهذا لو قال: أنتِ طالقٌ إنْ دخلتِ الدّار على أَنك بالخِيار ثلاثة أيام، كان الخيار باطلاً.

ولأبي حنيفة: أنّ الخلع من جانبها بمنزلة البيع، لأنه تمليك مالٍ بعوضٍ، ولهذا لو قالت: اختلعت نفسي منك بكذا ثم رجعت أو قامت من المجلس قبل قَبوله بطل. ولو كان غائباً فبلغه فقبل كان باطلاً.

(وَالعَبْدُ بِمَنْزِلَتِهَا) أي بمنزلة المختلعة، فيصحّ شرط الخيار له عند أبي حنيفة فيما إذا أعتقه مولاه على مالٍ، ويَبْطُل عند أبي يوسف ومحمد لأنّ العتق يمينٌ، وقَبولَ العبد المال شرطٌ له، والخيار لا يصحّ في اليمين، فكذا في شرطها. ولأبي حنيفة: أَنّ ذلك من جانب العبد في معنى البيع، فيصحّ شرط الخيار له كالبيع.

(وَيُسْقِطُ الخُلْعُ) على مالٍ معلومٍ (والمُبَارَأَةُ) وهو أنْ يُبْرِاء كلّ منهما صاحبه. وترك الهمزة منه خطأ كذا في «المغرب» (حَقُوقَ النِّكَاحِ) الواجبة من الجانبين (عَنْهُمَا) فلا يسقط ما لم يتعلّق بالنِّكاح، كثمن ما اشترت من الزّوج، ويسقط ما يتعلّق به، كالمهر والنَّفقة الماضية. قيّدنا به لأنَّه للمختلعة. والمبارأة: النَّفقة والسُكْنَى ما دامت في العدّة، ولا يسقطان إلاّ بالذِّكْر. وقال محمد: لا يُسقِط الخُلع والمُبارأة إلاّ ما سمّيا فقط كمالك والشافعيّ.

ص: 146

وإنْ خَلَعَ الأبُ صَبِيَّتَهُ بِمَالِهَا لَغَا، إلّا في وُقُوعِ الطَّلاقِ، وَكَذَا إنْ قَبِلَتْ، وَعَلى أنَّهُ ضَامِنٌ فَعَلَيه المال.

‌فَصْلٌ [في الظِّهَارِ]

الظِّهَار تَشْبِيهُ مَا يُضَافُ إلَيهِ الطَّلاقُ مِنْ الزَّوْجَةِ بِمَا يَحْرُمُ إلَيهِ النَّظَرُ مِنْ عُضْوِ

===

وأمّا نفقة العدّة فإنْ شُرِطت فيهما تَسقط إجماعاً، وإلاّ لا تسقط إجماعاً. ولو شرطا البراءة من نفقة الولد الصغير ـ أعني مُؤنة الرّضاع ـ فإنْ وقّتا وقتاً كالسَّنة جاز وإلاّ فلا. ولو أبرأته عن النّفقة والسُّكْنَى صحّت البراءة عن النّفقة، ولم تصح عن السُّكنَى لأنّ النَّفقة حقُّها، والسُّكْنَى حقّ الشَّرع، لقوله تعالى:{وَلَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلاّ أنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبيِّنَةٍ}

(1)

فلو أبرأته عن مؤنة السُّكْنَى صحّ: بأن التزمت أُجرة مكانها أو سكنت مِلْكَهَا.

ثم الإبراء عن النَّفقة إِنَّما يصحُّ في ضمن عقد الخُلْع تبعاً للخُلْع إجماعاً، حتى لو أسقطت نفقتها بعد الخلع بإبراء الزّوج عنها لا يصح لعدم استحقاقها إلاّ يوماً فيوماً. (وإنْ خَلَعَ الأبُ صَبِيَّتَهُ بِمَالِهَا لَغَا) ذلك الخلع (إلاّ في) حَقِّ (وُقُوعِ الطَّلاقِ) يعني أنه يلغو في حقِّ المال دون الطَّلاق، وهذا في أصحّ الروايتين، وهو قول الشّافعيّ وأحمد. وفي الرواية الأخرى يلغو في حقّ الطّلاق أيضاً، (وَكَذَا) يَلْغُو الخُلْع في حقّ المال دون الطَّلاق (إنْ قَبِلَتْ) شَرْطَ الزّوج البَدَلَ عليها وهي مُميِّزة تعرف أنّ الخلع سالبٌ والنِّكاح جالبٌ.

(وَعَلى أنَّهُ ضَامِنٌ) ـ عطفٌ على بمالها ـ أي وإِنْ خلع صغيرته على أنّه ضامنٌ لبدل الخُلع (فَعَلَيْهِ المال) أي بذَلُهُ (لا من مالها، والله سبحانه وتعالى أعلم (بالصواب)

(2)

.

فصل (في الظِّهَارُ)

(الظهار) في اللغة: مصدرُ ظاهر امرأته إذا قال لها: أنتِ عَلَيَ كَظَهْرِ أُمّي.

وفي الشرع: (تَشْبِيهُ) المسلم (مَا يُضَافُ إلَيْهِ الطَّلَاقُ مِنْ الزَّوْجَةِ) بأنْ يشبِّهَهَا، أو عضواً يُعَبَّرُ به عنها، أو جزءاً شائعاً منها (بِمَا يَحْرُمُ إلَيْهِ النَّظَرُ مِنْ عُضْوِ

(1)

سورة الطلاق، الآية:(1).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 147

مَحْرَمِهِ، وَهُوَ يُحَرِّمُ وَطْأَهَا وَدَواعِيهِ، حَتّى يُكَفِّرَ

===

مَحْرَمِهِ) وهي المحرّمة عليه مؤبداً بِنَسَبٍ، أو مصاهرةٍ، أو رضاعٍ. قيّدنا بالمسلم لأنه لا ظهار للذّميّ عندنا لظاهر قوله تعالى:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ}

(1)

، ولأن الذِّميّ ليس أهلاً للكفارة. وقال الشافعيّ وأحمد: يصحّ ظهار الذّميّ، وأمّا ظهار الصّبيّ فلا يصحّ إجماعاً. وقيّد بما يضاف إليه الطّلاق لأنه لو قال لامرأته: يدك أو رجلك عليّ كظهر أمّي لا يكون مظاهراً. وقيّد بالزَّوجة لأنه لو قال لأمَتِه لا يكون مظاهراً، لقوله تعالى:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} .

وقال مالك والثَّوْرِيّ: يصحّ ظهار الرجل من أَمته، ومُدَبَّرته، وأمَّ ولده، وهو قول جَمْع كثيرٍ من الصَّحابة والتابعين. واعتبره سعيد بن المُسَيَّب، وعِكْرِمة، وطاوُس، وقَتَادة والزُّهْرِيّ في الموطوءة. وقيّدنا بكون التّحريم على التأبيد لأنه لو قال لامرأته: أنتِ علَيّ كظهر أختكِ لا يكون مظاهراً، لأن حرمة أخت امرأته ما دامت امرأته في عصمته.

(وَهُوَ) أي الظِّهار (يُحَرِّمُ وَطْأَهَا وَدَواعِيهِ) بشهوة كمَسَ وقُبلةٍ بشهوةٍ (حَتّى يُكَفِّرَ) لِمَا روى أبو داود من حديث خَوْلَة بنت ثعلبة

(2)

قالت: ظاهر مني أوْس بن الصّامت، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه وهو يجادلني فيه ويقول:«اتقي الله فإنّما هو ابنُ عمِّك» . فما بَرِحْتُ حتّى أنزل الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اقَوْلَ الَّتي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا}

(3)

الآية، فقال عليه الصلاة والسلام:«يعتق رقبة» . قالت: لا يجد. قال: «فيصوم شهرين متتابعين» . قالت: إنّه شيخٌ كبيرٌ لا يستطيع أنْ يصوم. قال: يُطْعِمُ ستين مسكيناً. قالت: ليس عنده شيءٌ يتصدّق به. قال: «فإني أعينه بِعَرَقٍ

(4)

من تمرٍ». قالت: يا رسول الله وأنا أُعِينه بعَرَقٍ آخر. قال: «أحسنتِ، اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً، وارجعي إلى ابن عمك» .

(1)

سورة المجادلة، الآية:(2).

(2)

ففي المطبوع وسنن أبى داود 2/ 663: خويلة، وفى المخطوط: خولة، وكلاهما صواب. وجاءت تسميتها في "تهذيب الكمال" 35/ 163 بكليهما:(خولة وخويلة).

(3)

سورة المجادلة، الآية:(1).

(4)

حُرِّفت في المخطوطة في هذا الموضع، والمواضع الثلاثة الآتية إلى: الفرق. والصواب ما أثبتناه من المطبوع وسنن أبي داود.

ص: 148

وَفِي: أَنْتِ عَلَيّ كأُمِّي، صَحَّ نِيّةُ الكَرَامَةِ وَالظِّهَارِ وَالطَّلاقِ، فإنْ لَمْ يَنْوِ لَغَا.

وَفِي: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأمّي مَا نَوَى مِنْ ظِهَارٍ أو طَلاقٍ،

===

قال أبو داود: والعَرَقُ: ستون صاعاً. ثم روى عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن أنه قال: العَرَقُ: زِنْبِيلٌ

(1)

يأخذ خمسة عشر صاعاً. وقال أبو داود وغيره: العَرَقُ: مِكْتل

(2)

يسع ثلاثين صاعاً.

وعن الشَّافعيّ وأحمد: أنّ الدَّوَاعي لا تُحْرُمُ لأنّ التّحريم عُرِفَ بالآية، والتَّماسّ فيها كناية عن الجماع. ولنا: أنّ التّماسّ حقيقة في المسّ باليد. والحقيقة أحق بأن تراد، والله تعالى أعلم بالمراد. فإن وقع منه وطاء أو دواعيه استغفر ربه ولا يعود إليه حتى يُكَفِّرَ لِمَا في السنن الأربعة عن ابن عبّاس أنّ رجلاً ظاهر امرأته، فوقع عليها قبل أنْ يُكَفِّرَ، فقال صلى الله عليه وسلم «ما حملك على ذلك»؟ قال: رأيت خَلْخَالَها في ضوء القمر ـ وفي لفظ: بياض ساقيها ـ. قال: «فاعتزلها حتى تكفّر» . وفي لفظ ابن ماجه: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أنْ لا يقربها حتى يكفّر. قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريب صحيحٌ. ورَوَى

(3)

عن سَلَمَة بن صَخْر البَيَاضِيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في المُظَاهِر يُوَاقِع قبل أنْ يُكَفِّر، قال:«كفارةٌ واحدةٌ» . وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ.

(وَفِي: أَنْتِ عَلَيّ كأُمِّي) أو مثل أمي (صَحَّ نِيّةُ الكَرَامَةِ) لأنّ إرادتها بمثل هذا الكلام شائعٌ (وَ) صَحّ نية (الظِّهَارِ) لأنّ التشبيه بجميع الأم تشبيهٌ بظهرها لكنّه ليس بصريحٍ فيفتقر إلى النِّيَّة. (وَ) صحَّ نية (الطَّلَاقِ) لأنّه كناية، كما لو قال: أنتِ عليّ حرامٌ، ونوى به الطَّلاق يكون طلاقاً بائناً.

(فإنْ لَمْ يَنْوِ) شيئاً (لَغَا) في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ووجهٌ في مذهب الشافعيّ. وكان ظهاراً في قول محمد، ورواية عن أبي يوسف، ووجهٌ في مذهب الشافعيّ، وإيلاءً في قول مالك، وأحمد، ورواية عن أبي يوسف.

(وَفِي: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمّي) لزِمه (مَا نَوَى مِنْ ظِهَارٍ) لِمَا فيه من التشبيه بالحرمة (أو طَلَاقٍ) لأنّ أنتِ عليّ حرامٌ من كناياته، فإذا نواه طَلُقَتْ بائناً، ويكون التشبيه بالحرمة للتأكيد دون الإكرام تصريحٌ بالحرمة، كذا قالوا. وفيه بحثٌ إذ لا يَبْعُد

(1)

الزِّنبيل: القُفَّة. المعجم الوسيط ص 388، مادة (زبل).

(2)

المِكْتل: قُفَّة من ورق النخل ونحوه، يُحْمَلُ فيها التمر ونحوه. معجم لغة الفقهاء ص 456.

(3)

أي الترمذي.

ص: 149

فَإنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ فإيلاء عِنْدَ أبِي يُوسُفَ، وَظِهَارٌ عِنْدَ محَمَّدَ.

وَفِي: أَنْتُنَّ عَلَيّ كَظَهْرٍ أمّي، لِنِسَائِهِ، تجِبُ لِكل كفَّارَةٌ. وَهِيَ تَجِبُ بِالْعَوْدِ أي بِالعَزْمِ عَلَى وَطْئِهَا، وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ

===

أن يُراد بالحرام المحترم، فهو من محتملات كلامه، فيصدّق ديانةً إذا ادّعى نيتة.

(فَإنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ) شيئاً (فإيلاءٌ عِنْدَ أبِي يُوسُفَ وَظِهَارٌ عِنْدَ مُحَمَّدَ) وفي «جامع قاضيخان» : والأصحّ أنه ظهارٌ عند الكلِّ، لأن التّحريم المؤكد بالتشبيه ظهارٌ. وكذا ذكره التُّمُرْتَاشِيّ أنه ظهار من غير خلاف. (وَفِي) قوله:(أَنْتُنَّ عَلَيّ كَظَهْرِ أمّي لِنِسَائِهِ يَجِبُ لِكُلَ كفَّارَةٌ) وهو قول الشّافعيّ الجديد كما لو ظاهر مراراً، ولو في مجلسٍ واحدٍ.

وقال مالك، وأحمد، وأبو ثور: يجب كفارةٌ واحدةٌ، ولا يَبْطُل الظِّهار بطلاقها ثلاثاً، حتى لو عادت إليه بعد زوج آخر كان الظِّهار على حاله لا يقرَبها حتى يكفِّر، وكذا بشرائها ـ لو كانت أمةً ـ

(1)

بعد ما ظاهر منها.

(وَهِيَ) أي الكفّارة (تَجِبُ بِالْعَوْدِ أي بِالعَزْمِ عَلَى وَطْئِهَا) وهو ظاهر مذهب مالك، وجعله في «الموطّأ» العزم على الوطاء والإمساك. (ومذهب الشّافعيّ أنَ يمسك عن طلاقها عقِيبَ الظِّهار في زمانٍ يمكنه طلاقها فيه، وفي «الينابيع»:)

(2)

إذا رَضي أنْ تكون مُحرَّمة ولا يعزم على وطئها، لا تجب الكفّارة. ولو عزم ثم ترك العزم، لا يجب أيضاً. فعُلِمَ أنّ الكفّارة لا تجب بمجرد الظِّهار، وهو قول أحمد والصحيح من مذهب مالك.

(وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ) صغيرةٍ أو كبيرةٍ، مسلمةٍ أو كافرةٍ لا مرتدة.

وقال مالك، والشافعيّ، وأحمد: لا تجزاء الكافرة لأنه تحرير في تكفير، فكان الإيمانُ من شرطه كَكفَّارة القتل.

ولنا: أنّ المنصوص عليه الرقبة، وهي اسم لذاتٍ مملوكةٍ من كل وجهٍ وقد وُجِدَت، وليس في النّص ما يبيّن عن صفة الإيمان والكفر، والتقييد بصفة الإيمان يكون زيادة، والزيادة على النّص نسخٌ، فلا يثبت بخبر الواحد ولا بالقياس. ثم قياس المنصوص (على المنصوص)

(3)

باطلٌ عندنا لاستلزامه إعتقاد النقص فيما تولّى

(1)

عبارة المخطوط: كذا بشرائها بعدما ظاهر منها. وعبارة المطبوع: وكذا لو كانت أمةً فتملك بها بعد ما

فدمجنا بينهما.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 150

لا فَائِتَ جِنْسِ المَنْفَعَةِ، كَالْأَعْمَى والمقْطُوعِ يَدَاهُ، أو رِجْلاهُ، أو إبهَامَاهُ، أو يَدٍ وَرِجْلٍ مَنْ جَانِب.

والمَجْنُونِ والمَدَبَّرِ والمُكَاتَبِ أدَّى بَعْضَ بَدَلِهِ ونِصْفِ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ، ثُمّ بَاقِيهِ بَعْدَ ضَمَانِهِ

===

الله بيانه، وذلك لا يجوز. ولا يجوز دعوى التخصيص ههنا لأن التخصيص لما له عموم، والمطلق غير العام.

(لَا فَائِتَ) أي لا عِتقَ فائتِ (جِنْسِ المَنْفَعَةِ) لأنه هالك معنىً (كَالأَعْمَى والمقْطُوعِ يَدَاهُ أوْ رِجْلَاهُ أوْ إبْهَامَاهُ)، لفوات منفعة البطش لأن قوته بإبهاميه (أوْ يَدٍ وَرِجْلٍ مَنْ جَانِبٍ)(لفوات منفعة المشيّ منه لأنه متعذّر عليه. قيّد بالجانب لأنه لو كان من جانبين لا يمنع لاختلال جنس المنفعة دون فواتها)

(1)

.

(و) لَا (المَجْنُونِ) المُطْبَق

(2)

(والمَدَبَّرِ) أي ولا عتق المُدَبَّر لأنه استحقّ الحرّية بوجه وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}

(3)

يقتضي الكمال، وإنشاء الحرية من كل وجه. وكذا حكم أمّ الولد.

(و) لا عتق (المُكَاتَبِ) حال كونه (أدَّى بَعْضَ بَدَلِهِ) لأن إعتاقه حينئذٍ ببدلٍ، وبه لا تتأدى الكفّارة لأنها عبادة، فلا بدّ أن تكون خالصةً، ومتى كان بعضه بعوضٍ لم يكن خالصاً لأنه يكون تجارة، ولأنّ الصّحابة اختلفوا في رقّه بعد أدائه بعض البدل، فكان عليّ رضي الله عنه يقول: يَعْتِق بقدر ما أدّى، وابن مسعود يقول: إذا أدّى قيمة نفسه

(4)

يَعْتِقُ. واختلافهم في رِقِهِ شبهةٌ مانعةٌ من جواز التكفير به.

وقيّد المُكَاتَب بكونه أدّى بعض بدله لأنه لو لم يؤدّ شيئاً جاز عتقه عن الكفّارة عندنا خلافاً لزُفَر، ومالك، والشّافعيّ، وأحمد في رواية. لأنّ الرقبة اسم لذاتٍ مرقوقةٍ عرفاً، والمُكَاتَب كذلك. قال صلى الله عليه وسلم «المُكاتَبُ عبدٌ ما بَقِيَ عليه من كتابته شيءٌ» . رواه أبو داود.

(و) لا عتق (نِصْفِ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ) عن كَفّارته (ثُمّ) عِتق (بَاقِيهِ بَعْدَ ضَمَانِهِ) وقال

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

في المطبوع: المطلق، والمثبت من المخطوط.

(3)

سورة المجادلة، الآية:(3).

(4)

في المطبوع: قيمة بقيته، والمثبت من المخطوط.

ص: 151

وَنِصْفِ عَبدِهِ ثُمّ بَاقِيهِ بَعْدَ وَطْئِهَا. وإنْ عَجَزَ عَنِ العِتْقِ، صامَ شَهْرَيْنِ وِلاءً، لَيسَ فِيهِمَا رَمَضَانُ وَلا الأيّامُ المَنْهِيَّةُ،

===

أبو يوسف ومحمد: تجزئه إن كان مُوسِراً (وَ) لا عتق (نِصْفِ عَبْدِهِ) عن كفّارته (ثُمّ) عتق (بَاقِيهِ بَعْدَ وَطْئِهَا) لأنّ عتق باقي العبد وقع بعد المسيس، والمأمور به هو العتق قبل المسيس، وهذا عند أبي حنيفة، لأن العتق يتجزأ.

وأمّا عند أبي يوسف ومحمد فيجوز لأنّ العتق لا يتجزأ عندهما، فإعتاق بعض العبد إعتاق الكل.

(وإنْ عَجَزَ) المُظَاهِر (عَنِ العِتْقِ) بأنْ لم يملك رقبة ولا ثمنها وقت التكفير وهو قول مالك. وقال أحمد: وقت الوجوب. وللشّافعيّ ثلاثة أقوال: وقت التّكفير، ووقت الوجوب، وأغلظ الحالين

(صَامَ شَهْرَيْنِ وِلَاءً) أي متتابعين لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}

(1)

(لَيْسَ فِيهِمَا) ولا بينهما (رَمَضَانُ وَلَا الأيّامُ المَنْهِيَّةُ) وهي: يوما العيد وأيام التشريق، لأنّ رمضان لا يجوز فيه للصحيح المقيم صيام غيره بالإجماع، وصيام يوم العيد وأيّام التّشريق مَنْهِيٌّ عنه. ولو صام شهرين بالأهَلّة جاز، وإنْ كان كلّ شهرٍ تسعة وعشرين يوماً. وإنْ صام بغير الأهلّة وأفطر لتمام تسعة وخمسين يوماً فعليه الاستقبال

(2)

.

وينقطع التتابع بالمرض عندنا، وعند الشّافعيّ في الجديد. وقال مالك، وأحمد: لا ينقطع كما لا ينقطع بالحيض في كفارة القتل والفطر. وأجيب بأنّ التتابع شرط بالنّص، والغالب أنها تحيض في كل شهرٍ، فكان كالمستثنى. ولو صام شهرين متتابعين ثم قدر على الإعتاق قبل غروب الشَّمس من آخر يوم يجب عليه العتق، وهو قول المُزَنِيّ لقدرته على المُبْدَل قبل فراغه من البدل، وصار صومه تطوعاً. وقال مالك والشّافعيّ وأحمد: لا يلزمه العتق، ولكن يستحب. وفي «خزانة الأكمل»: لا يصوم من له خادم بخلاف المسكن. وقال مالك والشّافعيّ: يصوم من له خادم، واعتبره بالماء المعدّ للعطش. وفرّق الرّازي بينهما في «أحكام القرآن» بأنّ المأمور بإمساكه لعطشه، واستعمالُه محظورٌ عليه بخلاف الخادم. ولو أعتق أجنبيّ عن مُظَاهِرٍ لا يُجْزِئُهُ وإن كان

(1)

سورة المجادلة، الآية:(4).

(2)

أي الاستئناف.

ص: 152

وَإنْ أَفْطَرَ اسْتَأْنَفَ.

وَكَذَا إنْ وَطِئَهَا لَيْلًا عَمْدًا، أوْ يَوْمًا مُطْلَقًا. وَإنْ عَجَزَ أطْعَمَ ستينَ مِسْكِينًا، كُلًّا قَدْرَ الفِطْرَةِ أو قِيمَتَهُ. وَإنْ غَدّاهُمْ وَعَشَاهُمْ وَأَشْبَعَهُمْ، أوْ أعْطَى مَنَّ بُرٍّ ومَنَوَيْ تَمْرٍ أوْ شَعِيرٍ، أوْ وَاحِدًا شَهْرَيْنِ، جَازَ.

===

بأمره لما فيه من إلزام الولاية. وقال أبو يوسف، ومالك، والشّافعيّ تجزئه إِنْ كان بأمره.

(وَإنْ أَفْطَرَ) في الشَّهرين بأَكْلٍ أو شُربٍ أو جِماعٍ غَيرِها (اسْتَأْنَفَ) لفوات التتابع المنصوص عليه (وَكَذَا) استأنف (إنْ وَطِئَهَا) أي الّتي ظاهر منها في الشهرين (لَيْلاً عَمْداً) عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يستأنف (أوْ يَوْماً) وفي بعض النُّسخ أو نهاراً (مُطْلَقاٌ) أي عمداً أو سهواً. واعلم أنّ قيد العمد في وطاء التي ظاهر منها ليلاً وقع في هذا المختصر تبعاً «للهداية» ، وهو فيها قيدٌ اتفافيّ لا يُحْترز به عن شيء، لأنّ العمد والنسيان في الوطاء بالليل سواءً.

(وَإنْ عَجَزَ) المظاهر عن الصوم لِكبَرٍ أو مرضٍ لا يُرْجَى زواله (أطْعَمَ) هو أو نائبه (ستِّينَ مِسْكِيناً) لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فإطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكيناً}

(1)

(كُلاًّ) أي يُطْعِمُ كل مسكين (قَدْرَ الفِطْرَةِ) نصف صاعٍ من بُرَ وهو مُدّان، أو صاعاً من تمرٍ أو شعيرٍ (أو قِيمَتَهُ) لأنّ المعتبر دفع حاجة اليوم عن المساكين

(2)

، فكان كصدقة الفِطْر. وقال الشّافعيّ: يُطْعِم مُدًّا

(3)

من غالب قوت البلد من الحبوب. وقال مالك: يطعم مُدًّا بمُدِّ هشام، وهو مُدّان بمُدِّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال أحمد: يجب من البُرّ مُدٌّ، ومن التّمر والشعير مُدّان.

(وَإنْ غَدّاهُمْ) أي ستِّين مسكيناً (وَعَشَّاهُمْ) أي بأعيانهم (وَأَشْبَعَهُمْ) قليلاً ما أكلوا أو كثيراً. ولا بد من الإِدَام

(4)

إنْ أطعمهم خبز الذُّرَة أو الشعير بخلاف خبز البُرّ. (أوْ أعْطَى) كلّ واحدٍ (مَنَّ بُرَ) وهو: رطْلان: ربع الصّاع

(5)

، على قول أبي حنيفة (ومَنَوَيْ

(6)

تَمْرٍ أوْ شَعِير، أوْ) أعطى (وَاحِداً شَهْرَيْنِ جَازَ) وبه قال مالك. وقال

(1)

سورة المجادلة، الآية:(4).

(2)

في المخطوط المسكين، والمثبت من المطبوع.

(3)

المُدُّ: مكيال= رطلان عند الحنفية= 1.032 ليترًا = 815.39 غرامًا، ويساوي رطلًا وثلثًا عند الأئمة الثلاثة = 0.687 ليترًا= 543 غرامًا. معجم لغة الفقهاء ص 417.

(4)

الإدَام: ما يُسْتَمْرَأُ به الخبز. المعجم الوسيط ص 10، مادة (أدم).

(5)

الصاع: ثمانية أرطال على قول أبي حنيفة. والمَنُّ: رطلان. الموسوعة الفقهية 26/ 305 - 306، ومقداره بالمقياس الحديث:3261.5 غرامًا عند الحنفية، و 2172 غرامًا عند غير الحنفية. انظر "معجم لغة الفقهاء" ص 270.

(6)

تثنية مَنٍّ.

ص: 153

وَفِي يَوْمٍ قَدْرَ الشَّهْرَيْنِ لا.

‌فَصْل في اللعَانِ

===

الشّافعيّ: لا بد من التمليك في الكفارات. ولنا: أنّ المنصوص عليه الإطعام، وحقيقة ذلك في التمكين، والمقصود به سَدّ الخَلَّة

(1)

، وفي التّمليك تمام ذلك، فيتأدّى الواجب بكل واحدٍ منهما. أمّا بالتّمليك فظاهرٌ، وأمّا بالتّمكين فلمراعاة عبارة النص، والدليل عليه أنه شبّهه بطعام الأهل، فقال الله تعالى:{مِنْ أوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ}

(2)

وذلك يتأدّى بالتّمليك تارة، وبالتّمكين أخرى.

هذا، ويجب تقديم الإطعام على المس لاحتمال أنْ يَقْدَر قبله على ما هو واجبٌ قبله، ولا يستأنف الإطعام بالوطاء في خلاله لأنّ النّص فيه مطلقٌ غير مقيّدٌ بما قبل التّماسّ.

(وَفِي يَوْمٍ) أي ولو أعطى واحداً في يومٍ (قَدْرَ الشَّهْرَيْنِ لَا) يجوز إلاّ عن يوم، سواء أعطاه ذلك في يومٍ دفعةً أو على دَفَعَاتٍ، لأنّ الواجب عليه التّفريق الخاص، ولم يوجد، كالحاجّ إذَا رمى الجمرة بسبع حصياتٍ دفعةً واحدةً مجتمعةً لا متفرقةً لا يُجْزِئُهُ إلاّ عن واحدةٍ. لأنّ المعتبر سَدّ الخَلّةَ، وقد اندفعت في ذلك اليوم بما دفعه أولاً، فالصرف إليه بعد ذلك يكون إطعام الطَّاعم فلا يُجْزِئُهُ. وقيل: إذا أعطاه على دفعاتٍ يُجْزِئُهُ، لأنّ التَّمليك أقيم مقام الإطعام، والحاجة بطريق التَّمليك ليس لها نهاية. فإذا فرّق الدّفعات في يومٍ جاز كما في الأيام.

وفي «شرح الوَافِي» : ما ورد في النّص بلفظ الإطعام، فالإباحةُ فيه كافيةٌ، ككفارة الظِّهار والإفطار في رمضان، واليمين، وجزاء الصيد، والفداء. وما ورد فيه بلفظ الإيتاء والفِداء فيُشترط فيه التَّمليك، كالزكاة والصَّدقة، والفِطر، والعُشْر، والحلق عن الأذى في الإحرام، والله سبحانه أعلم بحقائق المرام.

فصلٌ في اللِّعانِ

وهو لغةً: مَصْدرُ لاعَن يلاعِن ملاعنةً ولِعَاناً. وأصل اللَّعْن الطَّرْد والإبعاد. وشريعةً: هو عندنا شهاداتٌ مؤكَّداتٌ بالأيْمان، مقْرونةٌ باللّعن في جانب الرجل، ومقرونةٌ بذكر

(1)

الخَلَّة: الحاجة والفقر. المعجم الوسيط ص 253، مادة (خلّ).

(2)

سورة المائدة، الآية:(89).

ص: 154

مَنْ قَذَفَ بِالزِّنَا زَوْجَتَهُ العَفِيفَةَ،

===

الغضب في جانب المرأة، قائمةٌ مقامَ حدّ القذف في حقه، ومقامَ حدّ الزنا في حقّها.

وقال مالك والشُّافعيّ: إنّه أيْمان مؤكدةٌ بالشهادة، واحتجا بقوله تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِالله}

(1)

، فقوله:{با} مُحْكَمٌ في اليمين، والشهادة تحتمل اليمين، فإنه لو قال: أشهد، كان يميناً، فَحَمَلا المُحْتَمِلَ على المُحْكَم.

ولَنَا قوله صلى الله عليه وسلم «أربعةٌ من النِّساء لا ملاعنة بينهم: النّصرانيةُ تحت المسلم، واليهودية تحت المسلم، والمملوكة تحت الحُرّ، والحُرَّة تحت المملوك» . رواه ابن ماجه والدَّارَقُطْنِيّ من حديث عمرو بن شُعَيْب. ووقفه الأوْزَاعِيّ وابن جُرَيْج على جدّ عمرو بن شُعَيْب.

وقال محمد بن الحسن: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا لعان بين أهل الكفر وأهل الإسلام، ولا بين العبد وامرأته» . فهذا نصٌ على اشتراط أهليّة الشَّهادة فيهما. وفي الآية إشارة إلى هذا فإنّه تعالى قال: {وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلاّ أنْفُسُهُمْ}

(2)

استثنى أنفسهم عن الشهداء فثبت أن الزّوج شاهدٌ لأنّ المستثنى يكون من جنس المستثنى منه، ثم نصّ على شهادته فقال:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهَادَاتٍ با} فنصّ على الشّهادة واليمين.

فقلنا: الرّكن هو الشّهادة المؤكدة باليمين. ولأنّ الحاجة هنا إلى إيجاب الحكم في الطرفين، والذي يصلح لإيجاب الحكم فيهما هو الشهادة دون اليمين، إلاّ أنها مؤكدةٌ باليمين لأنه يشهد لنفسه، والتأكيد باليمين لا تخرجه عن أنْ يكون شهادةً. فقرّر الشّارع الرُّكن في جانبه باللّعن لو كان كاذباً، وبالغضب في جانبها لو كانت كاذبةً. لأنّ الصّادق أحدهما، والقاضي لا يعلم ذلك، فكان اللّعن في جانبه قائماً مقام حدّ القذف، وفي جانبها صار الغضب قائماً مقام حدّ الزنا. وسُمِّيَ الكل لعاناً لِشَرْع اللعن فيها، كالصلاة تُسَمَّى ركوعاً وسجوداً لشرعيتهما فيها أو للتغليب كالعُمَرين، والقمَرين، واللعن من جانب الرّجل وهو مقدّمٌ فيه.

(مَنْ قَذَفَ) أي رمى (بِالزِّنَا) صريحاً (زَوْجَتَهُ) بأنْ قال لها: رأيتك تزنين، أو أنت زانيةٌ، أو يا زانية (العَفِيفَةَ) عن الزِّنا وهي التي لا تكون زانيةً ولا متهمةً بزنىً كمن

(1)

سورة النور، الآية:(6).

(2)

سورة النور، الآية:(6).

ص: 155

وَكُلٌّ صَلُحَ شَاهِدًا، أوْ نَفَى وَلَدَهَا وطَالَبَتْ بِهِ: لاعَنَ.

===

يكون لها ولدٌ لا يكون له أبٌ معروفٌ. والحاصل: أنها تكون ممّن يُحَدُّ قاذِفُها، فلو لم تكن ممّن يُحَدّ قاذفها: بأنْ تزوّجت بنكاحٍ فاسدٍ ودخل بها فيه، أو زنت في عمرها، أو وُطِئَت حراماً بشبهة ولو مرّة، ولا يجري اللّعان بينهما، لأنها في حقّها مقام حدّ القذف، فلا بدّ أنْ تكون مُحْصنةً.

(وَكُلٌّ) من الزّوجين (صَلُحَ شَاهِداً) أي مؤديًّا للشهادة على المسلم، فلا لعان من مجنونٍ ولا محدودٍ في قذفٍ لأنّهما لا يصلحان لأداء الشهادة ولا لتحمّلها، ولا من مملوكٍ وصبيَ لأنهما لا يصلُحان لأداء الشهادة وإنْ صَلُحا لحمّلها، ولا من كافرٍ لأنه لا يصلُح لأداء الشهادة على المسلم وإن صَلُحَ لأدائها على مثله عندنا، لكن مع ذلك يوجب حدّ القذف، لأنّ القذف بالزِّنا لا ينفك عن موجِبه، فإذا خرج من أن يكون موجباً للعان لمعنىً في القاذف كان موجباً للحدّ.

(أوْ نَفَى) الزَّوج (وَلَدَهَا) الذي وُلِدَ في فراشه، أو الذي من غيره عن أبيه المعروف، لأنه يصير بذلك قاذفاً. ولهذا يحدّ من قال لأجنبيّ: لست لأبيك. ولا إعتبار لاحتمال كونه من غيره لشبهةٍ، كما لا يعتبر ذلك فيما لو نفاه أجنبيّ، لأنّ الأصل في النَّسب النِّكاح الصحيح، والفاسد ملحقٌ به. ونفيه عن الفراش الصحيح قذفٌ حتى يظهر المُلْحَق به. وقال الشِّافعيّ لا يصير قاذفاً بالنفي ما لم يقل إِنه من الزِّنا.

(وطَالَبَتْ بِهِ) أي بموجِب القذف لأنّه حقّها لدفع عار الزِّنا عنها كما في حدّ القذف، إلاّ أنّ للولد أنْ يُطَالب في القذف لأنه حقّه أيضاً لاحتياجه إلى نَفْي نَسَبه عمّن ليس هو منه.

(لَاعَنَ) خبر المبتدأ وهو مَنْ قذف، وإنّما يُلاعن لِمَا روى البُخاريّ، ومسلم، ومالك في «الموطّأ» ، وأبو داود، وابن ماجه من حديث ابن شِهَاب عن سَهْل بن سَعْد السَّاعِدِيّ، أن عُوَيْمِر العَجْلَانِيّ جاء إلى عاصم بن عَدِيّ، فقال له: يا عاصم أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ سل لي يا عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها فلمّا رجع عاصم إلى أهله، جاء عُوَيْمِر فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله؟ فقال عاصم: كَرِه رسول الله المسائل التي سألته عنها ـ وفي نسخة سألتها ـ وعابها. فقال له عُوَيْمِر: والله لا أنتهي حتّى أسأله عنها، فأقبل عُوَيْمِر حتّى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وسط النّاس، فقال يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه، أم كيف

ص: 156

يَبْدَأُ الزَّوْجُ فَيَقُولُ أرْبَعًا أشْهَدُ بالله أَنّي صَادِقٌ فِيمَا رَمَيتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا، أو نَفْي الوَلَدِ، وَفِي الخَامِسَةِ: لَعْنَةُ الله عَلَيْهِ إنْ كَانَ كَاذِبًا فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا. ثُمَّ تَقُولُ أرْبَعًا: أشْهَدُ بالله إِنّه كَاذِبٌ فِيمَا رَمَانِي بِهِ، وَفِي الخَامِسَةِ: غَضَبُ الله عَلَيهَا إنْ كَانَ صَادِقًا فِيمَا رَمَانِي بِهِ.

ثُمَّ يُفَرِّقُ القَاضِي بَيْنَهُمَا. فَتَبِينُ بِطَلْقَةٍ ويَنْفِي نَسَبَ الوَلَدِ عَنْهُ

===

يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد أنزل الله عليّ فيكَ وفي صاحبتك قرآناً، فاذهب فأْتِ بها. قال سهل: فتلاعَنَا وأنا مع النّاس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا قال عُوَيْمِرُ: كَذَبْتُ عليها يا رسول الله إنْ أمْسَكْتُهَا، فطلّقها عُوَيْمِر ثلاثاً قبل أنْ يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب: فكانت تلك سُنَّة المتلاعنين.

وصفة اللعان ثابتةٌ بالكتاب: (يَبْدَأُ الزَّوْجُ) لأنّه المُدَّعِي، والحُجَّة تُطلب منه أولاً (فَيَقُولُ أرْبَعاً): أي أربع مراتٍ (أَشْهَدُ بالله) أي أُقسم به (أَنّي صَادِقٌ) أو لَمِن الصادقين (فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا) إن كان رماها بالزِّنا (أو) فيما رميتها به من (نَفْي الوَلَدِ) إنْ كان رماها بنفي الولد (وَفِي الخَامِسَةِ لَعْنَةُ الله عَلَيْهِ إنْ كَانَ كَاذِباً) أو من الكاذبين (فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا) أو نفي الولد، ويشير إليها في كلّ مرّة.

(ثُمَّ تَقُولُ) المرأة (أرْبَعاً: أشْهَدُ بالله أَنّه كَاذِبٌ) أو من الكاذبين (فِيمَا رَمَانِي بِهِ) أي من الزِّنا إنْ كان رماها بالزِّنا، أو فيما رماني به من نفي الولد إن كان رماها بنفي الولد (وَفِي الخَامِسَةِ غَضَبُ الله عَلَيْهَا إنْ كَانَ صَادِقاً) أو من الصّادقين (فِيمَا رَمَانِي بِهِ) من الزِّنا أوْ نفي الولد، وتشير إليه في كل مرّة. وإنّما خُصَّت المرأة بالغضب، لأنّ النِّساء يستعملن اللّعن كثيراً فلا يبالين به بخلاف الغضب.

(ثُمَّ يُفَرِّقُ القَاضِي بَيْنَهُمَا) ولو سألاه أنْ لا يفرِّق (فَتَبِينُ بِطَلْقَةٍ) وتستحق نفقة العدّة كالمعتدّة من طلاقٍ أو فسخٍ، والتّفريق رواية عن أحمد. (ويَنْفِي) القاضي (نَسَبَ الوَلَدِ عَنْهُ) أي عن الزَّوج بأن يقول: قطعت نسب هذا الولد عنه وألزمتُه بأُمّه، بعدما قال: فرّقت بينكما. كذا رُوِيَ عن أبي يوسف. فلو مات أحدهما قَبل التّفريق وَرِثه الآخر، ولو ظاهر منها أو آلى أوْ طلّقها صحّ لبقاء النِّكاح. وقال زُفَر: تقع الفرقة بنفس تلاعنهِما، وهو المشهور من مذهب مالك. ويُرْوَى عن أحمد، وابن عباس لِمَا روى الدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» بإسنادٍ جيدٍ من حديث ابن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» . ولقول عليّ وعبد الله: مضت السُّنَّة أن لا يجتمع المتلاعنان أبداً. رواه الدَّارَقُطْنِيّ أيضاً.

ص: 157

وإنْ أبَى عَنِ اللّعَانِ حُبِسَ حتّى يُلاعِنَ أوْ يُكَذِّب نَفْسَةُ. وَإنْ أَبَتْ حُبِسَتْ حَتَّى تُلاعِنَ أوْ تُصَدِّقهُ.

===

وقال الشّافعيّ: تقع الفُرْقة بلعانه، لأنه لما شهد عليها بالزِّنا أربع مرّات وأكّده باللّعن، فالظاهر أنهما لا يأتلفان، فلم يكن في إبقاء النِّكاح فائدةٌ، كما إذا ارتدّ أحد الزّوجين. وهو يخالف ظاهر الحديث:«المتلاعنان لا يجتمعان»

(1)

، فإنَّ قَبْل لعانها لا يصدق عليهما المتلاعنان. على أنّه يحتمل أنْ لا تلاعن هي فترجم عنده، فلا تفريق ولا اجتماع. وأيضاً في رواية:«المتلاعنان إذا تفرّقا لا يجتمعان» .

ولنا حديث سَهْل بن سَعْدِ السَّاعِدِيّ المتقدّم، وقد رواه أبو داود وقال: فطلّقها ثلاث تطليقاتٍ، فأَنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما صنع عند رسول الله سُنَّة. قال سهل: حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضت السُّنّة بعد في المتلاعنين أنْ يفرَّق بينهما ثم لايجتمعان أبداً. ففي هذه الألفاظ كلها دليلٌ على أنّ الفُرْقة لم تقع باللّعان، والله المستعان. وكذا ما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنّ رجلاً لاعن امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرّق عليه الصلاة والسلام بينهما وألحق الولد بأمّه. وفي رواية: بالمرأة.

(ولم يُرْوَ أنّه عليه الصلاة السّلام فرّق بينهما بعد لعان الرّجل قبل لعان المرأة.)

(2)

وأمّا قول البَيْهَقِيّ في «المعرفة» : أن عُوَيْمِر حين طلّقها ثلاثاً كان جاهلاً بأنّ اللّعان فُرْقَة، فصار كمن شَرَطَ الضَّمان في السّلف، وهو يلزمه شرط أو لم يشرط. فجوابه: أنّ هذا خلاف الظّاهر، والله أعلم بالسّرائر.

(وإنْ أبَى) الزّوج (عَنِ اللّعَانِ حُبِسَ) لامتناعه عن حقَ وجب عليه وهو قادرٌ على أدائه، فيُحْبَس لإيفائه (حتّى يُلَاعِنَ) فَيُوَفِّي ما عليه (أوْ يُكَذِّب نَفْسَهُ) فيحدّ لإقراره على نفسه بالتزام الحدّ. وقال مالك والشّافعيّ وأحمد: إن أبىَ الزّوج عن اللّعان يُحدّ بناءً على أنّ موجَب القذف منه عندهم الحدّ، وعندنا اللّعان، وإذا لاعن الزّوج وجب على المرأة أنْ تلاعن بالنَّص (وَإنْ أَبَتْ حُبِسَتْ) لأنّها امتنعت عن إيفاء حقَ هي قادرةٌ عليها، فتحبس لإيفائها كسائر الحقوق (حَتَّى تُلَاعِنَ) فتُوَفِّي ما عليها (أوْ تُصَدِّقهُ) فيرتفع سبب اللّعان، وإذا صَدّقته نفى القاضي نَسَب ولدها، ولم يحدّها

(1)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 410، كتاب اللعان، باب ما يكون بعد التلاعن ....

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 158

وإنْ كَانَ عَبْدًا أوْ كَافِرًا أوْ كَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، حُدَّ الزَّوْجُ. وَإنْ صَلُحَ وَهِي أَمَةٌ، أَوْ كَافِرَةٌ، أوْ مَحْدُودَةٌ في قَذْفٍ، أو صَبِيَّةٌ، أَو مَجْنْونَةٌ، أو زَانِيَةٌ فَلا حَدّ عَلَيهِ وَلا لِعَانَ.

وَالمُتَلاعِنَانِ لا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَإنْ أَكذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ، وَحَلّ للزّوْجِ نِكَاحُهَا.

===

لأنّ تصديقها ليس إقراراً قصداً بصريح الزِّنا، فلا يعتبر في وجوب الحدّ بل في درئه

(1)

. وما وقع في بعض نسخ القُدُورِيّ: أو تُصدِّقُه فتحدّ، غلطٌ لأنّ الحدّ لا يجب بالإقرار مرّة، فكيف بالتّصديق مرّة وهو لا يجب بالتّصديق أربع مرّات. وقال مالك والشَّافعيّ: لا تحبس المرأة، بل تُرْجم.

(وإنْ كَانَ) الزَّوج لم يَصْلُح شاهداً بأنْ كان (عَبْداً) وهي حرّة (أوْ كَافِراً) وهي مسلمة، وصورته: أنْ يكونا كافرين فَتُسْلم الزّوجة، ويقذِفُها قبل عرض الإسلام (أوْ كَانَ مَحْدُوداً فِي قَذْفٍ) وهي من أهل الشّهادة (حُدَّ الزَّوْجُ) لأنَّه لَمّا تعذّر اللّعان من جهته صير إلى الحدّ لِمَا قدّمنا من أنّه لا ينفك عن موجَبه، ولقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}

(2)

(وَإنْ صَلُحَ) الزَّوْجُ شاهداً (وَهِي أَمَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ) بأن تكون ذمِيّةً (أوْ مَحْدُودَةٌ في قَذْفٍ أوْ صَبِيَّةٌ أَوْ مَجْنْونَةٌ أوْ زَانِيَةٌ فَلَا حَدّ عَلَيْهِ) لعدم إحصانها كما لو قذفها أجنبيّ (وَلَا لِعَانَ) لعدم أهليتها للشّهادة.

(وَالمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَداً) روى ذلك الدَّارَقُطْنِيّ عن عليّ وابن مسعود وابن عبّاس موقوفاً، وأخرجه مرفوعاً من حديث ابن عمر. (وَإنْ أَكْذَبَ) الزّوج (نَفْسَهُ) بعد اللّعان قبل التَّفريق أو بعده (حُدَّ) لإقراره بوجوب الحدّ عليه. قيّدنا الإكْذَاب بكونه بعد اللّعان، لأنه لو كان قبله بعدما أبانها لا حدّ عليه ولا لعان، لأنّ قذفه كان موجِباً للّعان، فلا ينقلب موجباً للحدّ، (ولأنّ المقصود من اللّعان التّفريق، وذلك لا يتأتى بعد البينونة.)

(3)

(وَحَلّ للزّوْجِ) بعد إكذاب نفسه (نِكَاحُهَا) عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف وزُفَر، وهو قول مالك والشّافعيّ: لا يحل لأنهما متلاعنان، وفي الحديث:«المتلاعنان إذا تفرّقا لا يجتمعان أبداً»

(4)

.

(1)

في المخطوط: ردّها، والمثبت من المطبوع.

(2)

سورة النور، الآية:(4).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

مرَّ تخريجه، 158، التعليقة رقم (1).

ص: 159

وَكَذَا إنْ قَذَفَ غَيرَهَا فَحُدَّ، أوْ زَنَتْ فَحُدَّتْ. وَلا لِعَانَ بِقَذْفِ الأَخْرَسِ، وَنَفَي الحَمْلِ، وَبِـ: زَنَيتِ، و: هَذَا الحَمْلُ مِنْهُ، تَلاعَنَا، وَلَمْ يَنْتَفِ الحَمْلُ.

===

(ولهما: أنّ اللّعان شهادةٌ، وهي تبطل بالرجوع)

(1)

. (وَكَذَا) حَلّ نكاحها (إنْ قَذَفَ) الزّوج (غَيْرَهَا) بعد التّلاعن (فَحُدَّ أوْ زَنَتْ فَحُدَّتْ) لأنّ بقاء أهلية اللّعان شرط لبقاء حكمه من عدم اجتماعهما. وقوله: فَحُدّت قيدٌ اتفاقي، لأن زناهما من غير حدّ يسقط به إحصانها، بخلاف القذف فإنه لا يسقط به الإحصان حتّى يُحَدَّ القاذف.

(وَلَا لِعَانَ بِقَذْفِ الأَخْرَسِ وَنَفَي الحَمْلِ) أمّا الأخرس فلأنّ اللعن يتعلّق بالصّريح كحدّ القذف، ولا صريح للأخرس، فقذفه لا يَعْرى عن شبهة، والحدود تسقط بها. وقال مالك، والشّافعيّ، وأبو الخَطَّاب من الحنابلة: يصحّ قذف الأخرس ويلاعن بالإشارة كما يصحّ طلاقه وبيعه وسائر تصرفاته بالإِشارة. ولنا: أنّه لا بُدّ أن يأتي بلفظ الشّهادة في اللعن حتى لو قال: أحلف مكان أشهد لا يجوز، وإشارته لا تكون شهادة. ولا لعان أيضاً لو كانت المرأة خرساء لأنّ قذف الأجنبيّ لها لا يوجب الحدّ لاحتمال أنها تصدّقه، ولأنها عاجزةٌ عن الإتيان بلفظ الشهادة، وهو شرط في اللّعان.

وأمّا عدم اللّعان بنفي الحمل ـ وهو قول أبي حنيفة آخراً وأحمد، والثَّوْرِيّ، والحسن البَصْرِيّ، والشَّعْبِيّ، وابن أبي لَيْلَى ـ فلعدم التَّيقن بقيام الحمل، لاحتمال أنّ ما بها نفخٌ، فلم يكن قذفاً. وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشّافعيّ وأبو حنيفة أولاً: إِنه يلاعن إذا جاءت به لأقلّ من ست أشهرٍ، لأنا تيقنا بقيام الحمل عند نفيه له، فتحقق القذف. ثم لا يجب اللعان في الحال عندنا، وحكم مالك والشّافعيّ باللّعان قبل الوضع، لأنه قذَفها حقيقة بنفي الولد. قلنا: نفيه (لا يكون بدونه ولا يعلم به، فلعله ريحٌ أوْ ماءٌ أو انتفاخٌ. وقيل: يوجبه أبو يوسف في الولادة، ذكره الطَّحاوي)

(2)

، لقصة عُوَيْمِر.

(وَبِـ: زَنَيْتِ، وَ: هَذَا الحَمْلُ مِنْهُ) أي من الزِّنا (تَلَاعَنَا) في الحال لوجود القذف بذكر صريح الزِّنا (وَلَمْ يَنْتَفِ الحَمْلُ) أي نَسَبه باللّعان قبل الوضع. وقال مالك والشَّافعيّ: ينتفي الحمل لأنه عليه الصلاة والسلام نَفَى الولد عن هلال، وكان قَذَفها حاملا .. ولنا: قول ابن الجَوْزِيّ: إنّ أحمد، وابن جَرير أنكرا لِعان هلال بالحمل، وقالا: إنما لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي أمرهما باللّعان ـ)

(3)

لمّا جاء وشهد بالزّنا، ولو كان

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 160

وَمَنْ نَفَى الوَلَدَ زَمَانَ التهنئة، أو زمان شراء آلَةِ الوِلادَةِ صَحَّ، وبَعْدَهُ لا يَصِحُّ، وَلاعَنَ فِيهِمَا.

وَإنْ نَفَى أوّلَ التَّوْأَمَيْنِ وَأَقَرَّ بِالآخَرِ حُدَّ، وَفِي عَكْسِهِ لاعَنَ، وَيَثْبُتُ نَسَبَهُمَا فِيهِمَا.

===

اللّعان بالحمل، لكان الحمل منفيًّا من الزّوج غير لاحقٍ به، أَشْبَهه أو لم يُشْبِهه. وقد قال صلى الله عليه وسلم «إن جاءت به أُحَيْمِر» ـ وفي نُسخة أحمرـ حَمْش السّاقين ـ أي دقيقهما ـ فهو لهلال، وإن جاءت به أسود جعْداً فهو لشَرِيكِ»

(1)

، فجاءت به على النَّعت المكروه.

(وَمَنْ نَفَى الوَلَدَ زَمَانَ التهنئة، أو زمان شراء آلَةِ الوِلَادَةِ) وهو ما يحتاج إليه لأجلها عادة، فإنهما كزمان الولادة. قيل: إِنه مقصورٌ على ثلاثة أيامٍ، وقيل: على يوم أو يومين، وقيل: على سبعة (صَحَّ) نفيه (وبَعْدَهُ لَا يَصِحُّ) نفيه (وَلَاعَنَ فِيهِمَا) لوجود القذف.

وقال أبو يوسف ومحمد: يصحّ نفيه في مدة النِّفاس، وكان القياس أنْ لا يصحّ نفيه إلاّ على فور الولادة، وبه أخذ الشّافعيّ، ولكنَّهما استحسنا جواز تأخّره مدّةً يقع فيها التأمل، لأنّ النّفي يحتاج إليه، كيلا يقع في نفي ولده، أو استلحاق غير ولده، وكلاهما حرامٌ. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت آية الملاعنة:«أيّما امرأة، أدخلت على قوم مَنْ ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخِلها الجنة. وأيّما رجلٍ جَحَد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه الله على رؤوس الأوَّلين والآخرين» . رواه أبو داود، والنَّسائي.

ثم في كلّ موضعٍ لزمه الولد، لا يكون له نفيه بعد ذلك عند الأئمة الأربعة وأصحابهم، (وَإنْ نَفَى أوّلَ التَّوْأَمَيْنِ) وهما الولدان بين ولادتهما أقل من ستة أشهرٍ (وَأَقَرَّ بِالآخَرِ حُدَّ) لأنّه أكذب نفسه بدعوى الثَّاني، لأنّهما خلقا من ماءٍ واحدٍ (وَفِي عَكْسِهِ) وهو ما إذا أقرّ بالأوّل ونفى الثّاني (لَاعَنَ) لأنّه قذفٌ بنفي الثاني (وَيَثْبُتُ نَسَبَهُمَا) أي التَّوأمين (فِيهِمَا) أي في المسألتين لاعترافه بأحدهما، وهما من ماءٍ واحدٍ، والله تعالى أعلم.

(1)

الرواية الأولى: أخرجها البخاري في صحيحه (فتح الباري) 8/ 448 - 449، كتاب التفسير (65) سورة النور (24)، باب {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ

} (1)، رقم (4745).

الرواية الثانية الموضع السابق: باب {يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ

} (3)، رقم (4747).

ص: 161

‌فَصْلٌ في العِنيْن

إنّ أَقَرّ أنّهُ لَمْ يَطَأْ، أَجَّلَهُ الحَاكِمُ سَنَةً قَمَرِيّةً، وَرَمَضَانُ وأيَّامُ حَيضِهَا مِنْهَا، لا مُدَّةَ مَرَضِ أحَدِهِمَا،

===

فصلٌ في العِنِّينِ

وهو لغةً: من لا يريد النِّساء. والأُنثى عِنِّينةٌ، وهي لا تشتهي الرّجل، فَعِيل بمعنى مفعول، كجريح بمعنى مجروح، والاسم منه العُنَّة.

شرعاً: ـ عندنا ـ مَنْ لا يصل إلى النِّساء مع وجود الآلة، أو يصل إلى الثَّيب دون البكر، أو إلى بعض النساء دون بعض، وذلك لمرضٍ به، أو لضعفٍ في خِلْقته، أو لِكبرٍ في سنه، أو لسحرٍ سُحِرَ به، فيكون عِنِّيناً به في حقّ من لا يصل إليها لفوات المقصود في حقّها، كذا ذكره قاضيخان. وسواء يقوم ذَكَرُهُ، أو لم يقم. وعند مالك: العِنِّين من لا يتأتّى بِذَكَرِهِ الجماعُ لصغره. وفي «المحيط» : إذا كانت آلته قصيرةً لا يمكنه إدخالُها داخل الفرج، لا حقّ لها في المطالبة بالتفريق.

(إنّ أَقَرّ) الزّوج (أنّهُ لَمْ يَطَأْ) امرأته بعدما دخل عليها (أَجَّلَهُ الحَاكِمُ) بعد طلبها. حتّى لو وجدته عِنّيناً ولم تطالب مدّةً، لم يبطل حقّها، لأنّ عدم المطالبة ربما يكون للتّجربة والامتحان لا للرّضا. ولأنّها ربّما لا تقدر على الخُصومة في كل زمانٍ. ويعتبر طلبُها إنْ كانت حرّةً، وطلبُ سيّدها إن كانت أمةً. وقال زُفَر: الطلب للأَمة، (سَنَةً قَمَرِيّةً) ابتداؤها من وقت الخُصومة وهو ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة شمسيّة، وهو اختيار السَّرَخْسِيّ وقاضيخان احتياطاً، والأوّل هو الصحيح.

(وَرَمَضَانُ وأيَّامُ حَيْضِهَا مِنْهَا) أي من السنة لأنّ السنة، لا تخلو عنها (لَا مُدَّةَ مَرَضِ أحَدِهِمَا) لأنّ السنة قد تخلو عن المرض، وعلى هذا فتوى المشايخ. وروى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن هُشَيم، عن محمد بن سالم، عن الشَّعْبِيّ أنّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه كتب إلى شُرَيْح أن يُؤَجِّلَ العِنِّين سنةً من يوم يُرْفَعُ إليه، فإن استطاعها أقامها، وإلاّ فخيّرها: فإن شاءت أقامت، وإن شاءت فارقت. وروى أيضاً عن عليّ وابن مسعود والمُغِيرَة بن شُعْبَة: أنّ العِنِّين يُؤَجَّلُ سنةً بألفاظٍ مختلفةٍ.

أمّا الرواية عن عمر، فأَسْندها عبد الرَّزَّاق، وابن أبي شَيْبَة عن سعيد بن المُسَيَّب قال: قضى عمر في العِنِّين أنّ يؤجّل سنةً. قال مَعْمَر: وبلغني أنّ التأجيل من يوم تخاصمه. وزاد ابن أبي شيبة وقال: فإن أَصابها، وإلاّ فرّقوا بينهما، ولها الصَّداق كاملاً. وأسندها محمد بن الحسن في «آثاره»: أخبرنا أبو حنيفة: حدّثنا إسماعيل بن مسلم

ص: 162

فَإنْ لَمْ يَصِلْ فِيهَا فَرَّقَ بَينَهُمَا إنْ طَلَبَتْهُ، فَتَبِين بِطَلْقَةٍ،

===

المَكِّيّ، عن الحسن، عن عمر: أنّ امرأة أتت فأخبرته أَنّ زوجها لا يصل إليها، فأجَّله حولاً، فلما انقضى ولم يصل إليها، فخيَّرها فاختارت نفسها، ففرّق بينهما عمر، وجعلها تطليقةً بائنةً.

وأمّا الرِّواية عن عليّ، فأَسندها ابن أبي شَيْبَة عن الضَّحاك، عن عليّ

(1)

قال: يؤجَّلُ العِنِّين سنةً، فإن وصل إليها وإلاّ فُرِّقَ بينهما. وأسندها عبد الرّزّاق عن يحيى، (عن عليّ) قال: يؤجّل العِنِّين سنةً، فإن أصابها، وإلاّ فهي أحقّ بنفسها. وأمّا الرِّواية عن ابن مسعود، فأسندها ابن أبي شَيْبَة عن حُصَيْن بن قَبِيصَة، عن عبد الله بن مسعود قال: يؤجّل العنّين سنةً فإن جامعها، وإلاّ فُرِّق بينهما. وأُسند عن المُغِيرَة بنحوه.

وإنّما أجّلوه سنةً، لأنّ المرض غالباً يكون لغلبة البرودة، أو الحرارة، أو الرطوبة، أو اليَبُوسة، وفصول السَّنة مشتملة على هذه الأربعة، فعسى أنْ يوافق فصلٌ منها طبعه، فيزول ما به من العارض باعتدال الطبع.

فمتى مضت السَّنة ولم يَزُل، فالظاهر أنّه قد استحكم، وأَنّ حقّها قد فات، فيفرّق بينهما، وهذا معنى قوله:(فَإنْ لَمْ يَصِلْ) الزّوج المرأة (فِيهَا) أي في السَّنة (فَرَّقَ) الحاكم (بَيْنَهُمَا إنْ طَلَبَتْهُ) أي التّفريق لأنه خالص حقّها، فلا بدَّ من طلبها حتى لو لم تطالبه بعد مُضِيّ السّنة التي أجّلها الحاكم لطلبها، لا يَبْطُل حقّها من التّفريق لما قدمنا. ولو تزوّجها بعد تفريق القاضي لم يكن لها خِيار لرضاها بحاله، ولو تزوّج امرأةً أخرى عالمةً بحاله، ففي «الأصل»: لا خيار لها، وعليه الفتوى لِعِلْمها بالعيب، وبه قال أحمد، والشّافعيّ في القديم.

والحاصل: أنّ الزّوج إن وصل إليها ولو مرّةً بقي النّكاح، وإلاّ فالتّفريق بينهما للحاكم. ـي رواية الحسن عن أبي حنيفة بِطَلبها لو كانت حرّة. وظاهر الرِّواية عنه: أنّ التّفريق لها، وبه قالا، لأنّ الشّرع خيرّها عند تمام الحول لدفع الضّرر عنها، فلا يحتاج إلى تفريق القاضي كما إذا خيّرها الزّوج. وأمّا إذا كانت أَمةً فالتّفريق للموْلى عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: للأمة، لأنّ الوطاء حقّها. وعن محمد: قولان.

(فَتَبِين بِطَلْقَةٍ) وهو قول مالك، وقال الشّافعيّ وأحمد: بفسخٍ، لأنّها فُرْقة من جهتها. قلنا: بل هي فُرْقة من جهته، لأنّ فعل القاضي مضافٌ إليه لنيابته منابه لامتناعه

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 163

وَلَهَا كُلُّ المَهْرِ إنْ خَلا بِهَا وَتَجِبُ العِدّةُ.

وَإنْ اخْتَلَفَا وَكَانَتْ ثَيِّبًا أو بِكْرًا، فَنَظَرَتْ النِّسَاءُ وَقُلْنَ: ثَيِّبٌ حَلَفَ، فَإنْ حَلَفَ بَطَلَ حَقُّهَا، وَإنْ نَكَلَ أوْ قُلْنَ: بِكْرٌ أُجِّلَ السَّنَةَ. وَلَوْ أُجِّلَ ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَالتَّقْسِيمُ هُنَا كَمَا مَرَّ. وبَطَلَ حَقُّهَا بِحَلِفِهِ، حَيثُ بَطَلَ حَقُّهَا فِيهِ، كَمَا لَوْ اخْتَارَتْهُ وَخُيِّرَتْ هُنَا، حَيثُ أُجِّلَ ثَمَّةَ.

===

عن الإمساك بالمعروف.

(وَلَهَا كُلُّ المَهْرِ إنْ خَلَا بِهَا) ونصفُه إن لم يخل بها. وقال الشّافعيّ: لا يجب شيءٌ من المهر ولا المتعة. لأنه فسخٌ عنده (وَتَجِبُ العِدَّةُ) وبه قال مالك والشّافعيّ وأحمد، واستشكل المُزَنِيّ مذهب الشافعيّ فقال: كيف يجب عليها العِدّة ولم يصبها، والخلوة ليست كالدّخول عنده. ولأصحابه أجوبةٌ عن ذلك تطلب ممّا هنالك.

(وَإنْ اخْتَلَفَا) في الوصول إليها قبل التأجيل (وَكَانَتْ ثَيِّباً) حين تزوّجها (أو بِكْراً فَنَظَرَتْ النِّسَاءُ) إليها بعد الاختلاف (وَقُلْنَ: ثَيِّبٌ) ويكفي قول الواحدة، والاثنتان أحوط (حَلَفَ) أمّا في المسألة الأولى: فلأنّ المرأة تدّعي استحقاق الفُرْقة عليه، وهو أَنكرها ولأنه متمسكٌ بالأصل ـ وهو السلامة ـ فيكون القول قوله مع يمينه. وأمّا في الثانية: فلأن الثِّيَابة وإنْ ثبتت بقول النِّساء، ليس من ضرورةِ ثبوتِها وصولُ الرّجل إلى المرأة لاحتمال زوال بكارتها بشيءٍ آخر، فيحلف

(فَإنْ حَلَفَ) في المسألتين (بَطَلَ حَقُّهَا وَإنْ نَكَلَ) في المسألتين (أوْ قُلْنَ: بِكْرٌ) فيما إذا كانت بكرًا (أُجِّلَ السَّنَةَ) وقالوا: ويُعرف أنها بكرٌ بأن يدفع في فرجها أصغرُ بيضةٍ، فإن دخلت بلا عنفٍ فهي ثيّبٌ وإلاّ فبكرٌ. وقيل: إن أمكنها أن تبول على الجدار، فَبِكْرٌ وإلاّ فثيّبٌ. وقيل: تكسر البيضة وتصبّ في فرجها، فإن دخل ما فيها فثّيبٌ وإلاّ فبكرٌ.

(وَلَوْ أُجِّلَ ثُمَّ اخْتَلَفَا) في الوصول إليها (فَالتَّقْسِيمُ هُنَا كَمَا مَرَّ) فإن كانت ثيّباً أو بكراً وقالت النِّساء: ثيّب، حلف (وبَطَلَ حَقُّهَا) وهو التَّفريق هنا (بِحَلِفِهِ حَيْثُ) أي في موضع (بَطَلَ حَقُّهَا) وهو التَّأجيل، (فِيهِ) وفي نسخة: ثم، أي فيما إذا كان الاختلاف قبل التَّأجيل، (كَمَا لَوْ اخْتَارَتْهُ) أي كما يَبْطُل حقّ الزّوجة لو اختارت زوجها (وَخُيِّرَتْ) الزّوجة (هُنَا) أي فيما إذا كان الاختلاف بعد التّأجيل، (حَيْثُ أُجِّلَ) الزّوج (ثَمَّةَ) أي فيما إذا كان الاختلاف قبل التّأجيل.

ص: 164

والخَصِيُّ كَالْعِنِّينِ فيِهِ، وَفِي المَجْبُوبِ فَرَّقَ حَالًا بِطَلَبِهَا. ولا يتخيّر أحدهما بِعَيْبِ الآخَرِ.

===

والحاصل: أنّها إذا كانت ثيّباً، فالقول قوله ابتداءً وانتهاءً مع يمينه، فإنْ نَكَلَ في الابتداء لا يُؤَجَّلُ السّنة، وإن نَكَلَ في الانتهاء تخيّر المرأة. وإن كانت بِكْراً بقول النساء يؤجل في الابتداء، وتخيّر في الانتهاء. (والخَصِيُّ) سواء كان مسلولاً: وهو الذي سُلَّت خُصْيتاه، أو موجوءاً: وهو الذي قطعت خُصْيَتاه، كذا قال الشارح. وفي «القاموس»: وَجَأَ: دقّ عُروق خُصْيَيْهِ بين حجرين من غير إخراجهما، أو هو: رضّهما حتى تَنْفَضِخَا، أي تنكسرا.

(كَالْعِنِّينِ فيِهِ) أي التّأجيل لأن الوطاء منه متوقعٌ (وَفِي المَجْبُوبِ) أي مقطوع الذَّكَر (فَرَّقَ حَالاً بِطَلَبِهَا) إذ لا فائدة في التَّأجيل، لأنَّ الوطاء منه غير متوقع.

(ولا يتخيّر أحدهما) أي أحد الزّوجين (بِعَيْبِ الآخَرِ) سوى ما تقدّم. فلا يُفْسَخُ النِّكاح عندنا بجنونٍ وجُذَام

(1)

وبرصٍ به أو بها، وقَرْن ورَتَقٍ بها. والقرْن ـ بسكون الراء ـ: غُدّةٌ غليظةٌ، أو لحمةٌ مرتفعةٌ، أو عظمٌ يمنع سلوك الذَّكَر. والرَّتَقُ ـ بفتحتين ـ: مصدر قولك: امرأة رَتْقَاء: لا يمكن جماعها لارتياق ذلك الموضع ـ أي لانسداده ـ ليس لها خَرقٌ إلا المَبَال.

وأجَازه الزُّهْريّ، وشُرَيْح، وأبو ثور بجميع العيوب كالبيع. وأجازه مالك والشافعي وأحمد لكلّ من الزّوجين بكل من العيوب الخمسة، ولا شيء لها قبل الدّخول، ولها مهر المثل بعده، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج امرأة من بني بياضة فوجد بكَشْحِها

(2)

بياضاً فقال: «الحقي بأهلك»

(3)

. وعن عمر أنه أثبت الخيار للزَّوج بهذه العيوب.

ولأنّ المقصود من النِّكاح قضاءُ الشهوة طبعاً، وثبوت النَّسب شرعاً، وهذه العيوب تُخِلّ به حساً أو طبعاً بخلاف العمى، والشلل، والبَخَر

(4)

، والذَّفَر

(5)

. وأجازه محمد للمرأة بالجنون، والجُذَام، والبرص لدفع الضَّرر عنها كما في الجَبِّ والعُنِّة،

(1)

الجُذَام: عِلّةَ تتأكّل منها الأعضاء وتتساقط. المعجم الوسيط ص 113، مادة (جذم).

(2)

الكَشْحُ: ما بين الخاصرة والضُّلوع. المعجم الوسيط ص 788، مادة (كشح).

(3)

راجع التلخيص الحبير 3/ 292، والمسند 3/ 649، وتاريخ الإسلام (قسم السيرة) ص 597.

(4)

البَخَرُ: الرّائحة الكريهة من الفمّ. المعجم الوسيط ص 41، مادة (بخر).

(5)

الذَّفَرُ: ذَفِرَ الشيء: اشتدت رائحته، طيّبةٌ كانت كالمسك، أو خبيثة كالصُّنَان. المعجم الوسيط ص 312، مادة (ذفر).

ص: 165

‌فَصْلٌ في العِدَّةِ

===

بخلاف جانبه لقدرته على دفع الضّرر عنه بالطّلاق. ولقول عليّ: إذا تزوّج امرأة فوجد بها قَرْناً، أو بَرَصاً، أو جُذَاماً أو جنوناً، فالنِّكاح جائزٌ لازمٌ له، إن شاء طلّق، وإن شاء أمسك. وقول ابنِ مسعود: لا تردّ المرأة من عيوبٍ

(1)

. ونفاه أبو حنيفة وأبو يوسف، وهو قول عطاء، والنَّخَعِيّ وعمر بن عبد العزيز، والأوْزَاعِيّ، والثَّوْرِي، وابن أبي ليلى.

فإنّ تأثير وجود العيب في تفويت تمام الرضا إنما يوجب الرد في عقد يشترط فيه الرضا، ولزوم النكاح لا يتوقّف على تمام الرضا. ألا ترى أنه لو تزوج امرأة بشرط أنها بكرٌ شابَّةٌ جميلة فوجدها ثيباً عجوزاً شوهاء صماء عمياء بَكْماء، لها شِقٌّ مائل، وأنف هائل، ولعاب سائل، وعقل زائل، أو مريضة بالدق والسِّلّ مما لا بُرْءَ منه عند الأطباء، فإنه يجوز بلا شك لأحد من العلماء، وأنه لا يثبت له الخيار وإن فقد رضاه، وعليه الإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان والله المستعان.

والحديث لم يصحَّ لأنه من رواية جميل بن زيد ـ وهو متروك ـ عن زيد بن كعب بن عُجْرة، وهو مجهول لا يُعلم لكعب بن عجرة ولد اسمه زيد، ولو سُلِّم جاز أن يكون ذلك طلاقاً، فإن لفظ: الحقي بأهلك من كنايات الطلاق. وقوله عليه الصلاة والسلام: «فِرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد»

(2)

، ظاهره غيرُ مراد بالاتفاق على إباحة القرب منه، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل مع مجذوم ثقةً بالله وتوكلاً عليه.

فصلٌ في العِدَّة

وهي في اللغة: الإحصاء، ويطلق أيضاً على المعدود.

وفي الشرع: تربصٌ يلزمُ المرأة عندَ زوالِ النكاح أو شُبْهَته.

(وسبب وجوبها عندنا نكاح)

(3)

متأَكّد بالتسليم، أو ما يقوم مَقَامه من خَلوة أو موت.

(1)

في المخطوط: لا تردّ الحرّة من عيبٍ، والمثبت من المطبوع.

(2)

أخرجه البخاري "فتح الباري" 10/ 158، كتاب الطب (76)، باب الجذام (19)، حديث رقم (5707).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 166

العِدَّةُ للحُرَّة تَحيْضُ للطلاق، والفسْخِ ثَلاثُ حِيَض كَوَامِل،

===

(العِدَّة) مبتدأ، ولام (للحُرَّة) متعلقٌ به (تَحيْضُ) نعت لها أو حال عنها (للطلاق) أي لأجل الطلاق عن دخول أو خَلوة، (و) لأجل (الفسْخِ) لخيار بلوغ

(1)

، أو عِتْق، ولمِلْك أحد الزوجين، ولتقبيل ابن الزوج بشهوة، ولارتداد أحدهما، ولعدم الكفاءة، لأنه في معنى الفرقة بالطلاق في وجوب تَعَرُّفِ بَرَاءة الرحم (ثَلاثُ حِيَض) خبر المبتدأ (كَوَامِل) قيّد به لأنه لو طلقها وهي حائض لا يُحتسب بذلك الحيضِ، ولو بقي من الحيضة الثالثة شيء لم تَنْقضِ عِدَّتُها، وذلك لأن الحيضة الواحدة لا تتجزّى. وما وُجِد قبل الطلاق لا يحتسب منها فلا يحتسب ما بقي ضرورة. وبه قال ابن عباس، وشُرَيح، وإبراهيم النَّخَعِي.

وقال مالك والشافعي: ثلاثة أطهار، وهو مروي عن عائشة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، لقوله تعالى:{فَطَلِّقُوهنَّ لِعِدَّتِهنَّ}

(2)

، وقوله تعالى:{والمُطَلَّقاتُ يَتَربَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ ثلاثةَ قُرُوء}

(3)

. وقد عُلِم أنَّ تأنيث العدد يقتضي تذكير المعدود، والطُّهْر هو المذكر لا الحيض، فلو أراد به الحيض لقال: ثلاث قروء.

ولنا أن الاستبراء بحيضة، كما رواه أحمد وأبو داود في سبايا أوطاس، وأصل العِدَّة للاستبراء، فيكون بالحيض. وروى ابن ماجه عن عائشة قالت: أُمِرَت بَرِيْرَةُ

(4)

أنْ تعتدَّ بثلاث حِيَض. ومذهبنا قول الخلفاء الأربعة، والعبادلة، وأُبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبي الدَرْداء، وعُبَادة بن الصامت، وأبي موسى الأشعري، ومعْبَدٍ الجُهَنِي،

وعبد الله بن قيس، وطائفة من التابعين: كسعيد بن المُسيَّب، وابن جُبَيْر، وعطاء، وطاوس، وعِكْرِمة، ومُجاهد، وقَتَادة، والضَّحَاك، والحسن، ومُقَاتِل، وشَرِيك، والثَّوْري، والأوزاعي، وابن شُبْرُمة، والسُّدِّي، وكذا: الأَصْمعي، والكِسَائي، والفرَّاء، والأخْفَشُ. ورواه الطحاوي عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، فتعارضت الرواية عنهما.

قال أحمد بن حنبل: كنت أقول الأطهار، ثم وقفت لقول الأكابر، وفي نسخة: وقفتُ والله ولي التوفيق بقول أهل التحقيق.

(1)

خيار البلوغ: أن يكون لمن زُوِّجَتْ صغيرة خيار الإبقاء على النكاح أو فسخه عند بلوغها. معجم لغة الفقهاء ص 202.

(2)

سورة الطلاق، آية:(1)

(3)

سورة البقرة، آية:(228).

(4)

حرفت "بريرة" إلى "بريدة" في المطبوعة والمخطوطة، والمثبت من سنن ابن ماجه 1/ 671، كتاب الطلاق (10)، باب خيار الأمة إذا أعتقت (29)، رقم (2077).

ص: 167

كأمِّ وَلَدٍ ماتَ مولاها أو أعتَقَها. ومَوْطُوءَةٍ بشُبهةٍ أو نكاح فاسدٍ في الموت والفُرْقَةِ،

===

وعن أبي عبيدة وابن السِّكِّيت: أن القُرءَ يصح للحيض والطهر ولا ينتظمهما جملة، لأن المشترك لا عموم له، والحمل على الحيض أولى عندنا لما رويناه في عِدَّة الأَمَة من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «وقُرؤها حيضتان» ، ولم يقل: طهران، ولا خلاف أن عدة الأمة نِصف عدة الحرة، لأن أثر الرِّقِ في التنصيف لا في تغيير أصل العدة، ولقوله تعالى:{واللائي يَئسنَ من المَحِيْضِ من نِسَائكم إنْ ارْتبْتُم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثةُ أشهرٍ}

(1)

، فأقام الأشهر مُقَام الحِيض دون الأطهار، والنقل إلى البدل إنما يكون عند عدم الأصل، كقوله تعالى:{فلمْ تَجِدُوا ماءً فَتيَمَّمُوا صعيداً طيباً}

(2)

، فهو تنصيص على أن المرادَ بالقُرءِ الحيضُ، ولأن الغَرَضَ في العدَّةِ استبراءُ الرَّحِم، والحيض هو الذي يُستبرأ به الأرحام دون الطهر، ولذا كان استبراء الأَمة بالحيض إجماعاً.

وأما الاستدلال بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

(3)

فلا يصح، لأنه بناء على أن اللام بمعنى «في» ، وهو غير معهود في الاستعمال، ويستلزم تقدُّمَ العدة على الطلاق، أو مقارنته له لاقتضائه وقوعَه في وقت العدة. وقراءة:«لِقَبْلِ عدَّتِهنَّ» في «صحيح مسلم» تنفيه إذ أفادت أن اللام فيه مفيدة معنى استقبال عدتهن، وهذا استعمال محقق من العربية، يقال في التاريخ بإجماع أهل العربية: خرج لثلاث بَقِيَن ونحوه.

وأما التمسك بتأنيث العدد في الآية الأخرى فليس بشيء، لأن الشيء إذا كان له اسمان مُذكَّر كالبُرِّ، ومؤنَّث كالحِنْطة، ولا تأنيث حقيقي، يؤنث عدده إذا أضيف إلى اللفظ المذكر، ويُذكَّر إذا أضيف إلى اللفظ المؤنث.

(كأمِّ وَلَدٍ) أي كما تعتد بثلاث حيض كوامل أم ولد (ماتَ مولاها أو أعتَقَها) وهي ممن تحيض وليست حاملاً، ولا تحت زوج، ولا في عدة زوج، لأنها لو كانت تحت زوج أو في عدة زوج، لم يلزمها من المولى عدة.

(ومَوْطُوءةٍ) أي وكموطوءةٍ (بشُبهةٍ) كما لو زُفَّتْ إليه امرأة فوطئها وهو لا يَعْرِفها (أو نكاحٍ فاسدٍ) كالمؤقت، والنكاح بغير شهود، ونكاح الأخت في عدة أختها، ونكاح الخامسة في عدة الرابعة (في الموت والفُرْقَةِ) أي لأن الوطاء بشبهة كالنكاح الفاسد، والنكاح الفاسد كالصحيح ولا نَفَقَة لها، لأن العدة هنا لِتُعرَف براءةُ

(1)

سورة الطلاق، آية:(4).

(2)

سورة النساء، آية (43).

(3)

سورة الطلاق، آية:(1).

ص: 168

ولِمَنْ لا تحيضُ لِصِغَرٍ أو كِبَرٍ، أو بلغت بالسن ولم تَحِض ثلاثةُ أشهر

===

الرَّحِم لا لقضاء حق النكاح، والحيض هو المعرِّف ولو في الموت.

وقال الشافعي: عِدَّة أُمِّ الولد من مولاها حيضةٌ واحدةٌ وإن كانت لا تحيض (فشهر. وقال مالك: عدتها حيضة واحدة، وإن كانت لا تحيض)

(1)

فثلاثة أشهر، وهو قولُ أحمدَ بن حنبل، لما روى مالك في «الموطأ»: عن نافع، عن ابن عمر: أنه قال: عِدَّة أم الولد إذا هلك عنها سيدها حَيْضة. ولأنها وجبت لتُعْرَف بَرَاءةُ الرحم، فصارت كالاستبراء.

ولنا ما روى محمد بن الحسن في «الأصل» : عن علي، وابن مسعود، وإبراهيم النَّخَعي أنهم قالوا: عدَّة أم الولد ثلاث حِيض. وكذلك روى الحاكم عن علي، وابن مسعود

(2)

، وعطاء. وروى أيضاً أن عمرو بن العاص أمر أم ولدٍ أُعتِقت أن تعتد بثلاث حِيض، وكتب إلى عمر بذلك، فكتب عمر إليه بحُسن رأيه.

(ولِمَنْ لا تحيضُ) أي، والعدة من طلاق أو فسْخ لحرة لا تحيض (لِصِغَرٍ أو كِبَرٍ أو بلغت بالسن ولم تَحِض: ثلاثةُ أشهر) أما التي لا تحيض لكبر فلقوله تعالى: {واللائي يَئِسْنَ من المحيضِ من نِسَائكم إنْ ارْتَبْتُم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثةُ أشهر}

(3)

، ومعنى {إن ارتبتم}: إن أَشكل عليكم حُكْمُهنَّ وجهِلْتُم أمرهن. وأما التي لا تحيض لصغر والتي بلغت بالسن ولم تحض، فلقوله تعالى:{واللائي لم يَحِضْن}

(4)

أي فعدتهن ثلاثة أشهر، فَحُذِفَ لدلالة ما تقدم عليه، والنص يتناول الصغيرة. وعلماؤنا والشافعي أمروا ممتدة

(5)

الطهر بالأَقرَاءِ لا بالتربص لسَنة. وقال مالك: تَرَبَّصُ بعد الطلاق تسعة أشهر ثم تعتد بعدها بثلاثة أشهر، لأن تسعة أشهر هو المدة المعتادة لظهور الحَبَل، فإذا مضت تحقَّقَت براءة الرحم، فتعتد بثلاثة أشهر لصيرورتها في معنى مَنْ لا تحيض.

ولنا أن الاعتداد بالأشهر مختصٌ بالصغيرة والآيسة، وهذه لم يُحكم بإياسها فتكون حائضاً باستصحاب الحال

(6)

، فلا تعتد

(7)

بالأشهر. وعلماؤنا والشافعي أمروا الأَمة الآيسة بشهر ونصف، لإمكان تنصيف

(8)

عدتها بالنسبة إلى الأشهر، فجرينا فيها

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(2)

في المخطوط: ابن سيرين، والمثبت من المطبوعة.

(3)

سورة الطلاق، الآية:(4).

(4)

سورة الطلاق، الآية:(4).

(5)

في المخطوطة: "معتدة" بدل "ممتدة"، وهو تصحيف.

(6)

الاستصحاب: هو الحكم بثبوت أمر في الزمن للاحق بناءً على ثبوته في الزمن السابق. معجم لغة الفقهاء ص 62.

(7)

في المطبوعة: "يعتبر" بدل "تعتد".

(8)

في المخطوطة: "شطر" بدل "تنصيف".

ص: 169

وللموت أَربعة أشهر وعشر، ولأَمةٍ تَحِيضُ: حَيضَتَان.

===

على الأَصل لا بثلاثة أشهر كما قال مالك، واحتج بإطلاق ما تلونا من قوله تعالى:{فعدتهن ثلاثة أشهر}

(وللموت) أي وعدة الحرة لأجل موت زوجها وهي ليست بحامل

(1)

(أَربعة أشهر وعشر) من حين الوفاة لا العلم بها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، مسلمة أو كتابية، تحت مسلم قبل الدخول أو بعده، حراً كان الزوج أو عبداً، حاضت أو لم تحض، لقوله تعالى:{والذين يُتَوفَّونَ منكم ويَذَرُوْنَ أزْوَاجاً يَتَرَبصنَّ بأنْفُسِهِنَّ أربعةَ أشهر وعَشْراً}

(2)

، ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا يحِلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَحِدَّ على مَيِّتٍ فوق ثلاث، إلا على أزواجها أربعة أشهر وعشراً» . والمعتبر عشرة أيام وعشرة ليال من الشهر الخامس عندنا.

وفي «المبسوط» : عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يقول: عدة الحرة لموت زوجها أربعة أشهر وعشر ليال وتسعة أيام، حتى يجوز لها أن تتزوج في اليوم العاشر، لأن العشر في الآية مؤنث لحذف التاء، فيتناول الليالي، ويدخل ما في خلالها من الأيام ضرورة وهي تسعة. وأُجيب بأن ذِكْرَ أحد العددين من الأيام والليالي بعبارة الجمع يقتضي دخول مِثْله مما بإزائه من العدد الآخر، وقد سبق نظير هذا في الاعتكاف.

(و) العدة (لأَمةٍ تحيض) للطلاق والفسخ، سواء كانت قِنًّا، أو مُدَبَّرَة، أو أم ولد، أو مكاتبة، أو معتقة البعض على قول أبي حنيفة (حيضتان) لما روى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طلاقُ الأَمةِ تطليقتان، وعدَّتها حيضتان» . ولأن الرِّقَ مُنَصفٌ لقوله تعالى: {فعليهن نِصفُ ما على المُحْصَناتِ مِنْ العذاب}

(3)

.

لكن الحيضةَ لمَّا لم يُدْر نصفُها لاختلافها بالكثرة والقلة والوقت، جَعَل عدة الأَمة حيضتين، ولأن الحيضةَ لا تتجزاء كالطلقة، فكُمِّلَت، فصارت حيضتين. وقد روى البيهقي، عن الشافعي، عن رجل من ثَقِيف أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: لو استطعت لجعلتها حيضة ونصفاً، فقال رجل: فاجعلها شهراً ونصفاً، فسكت عمر.

(1)

عبارة المخطوطة: "لأجل موت زوجها وهي حايل". ومعنى الحائل: التي لم تحمل سنة أو سنتين. القاموس المحيط ص 1279، مادة (حول). بتصرف.

(2)

سورة البقرة، آية:(234).

(3)

سورة النساء، آية:(25).

ص: 170

ولمن لَمْ تَحِضْ، أو مات عنها زوجها، نِصفُ ما للحُرَّةِ. ولِلْحَامِلِ الحُرَّةِ والأَمَة، وإن مات عنها زوجُها وَضْعُ حَمْلِها

===

قلت: وهذا من كمال حِلْمه مع جمال علمه.

(ولمن) أي ولأمة (لم تحِض، أو مات عنها زوجها نِصفُ ما للحرة) فالتي لم تحض لصغر أو كبر أو بلوغ بالسن شهر ونصف، وللتي مات عنها زوجها شهرانِ وخمسة أيام، لأن كلاً من الثلاثة الأشهر والأربعة الأَشهر وعشرة أيام قابل للتنصيف.

(و) العدة (للحاملِ الحرةِ والأمة وإن مات عنها زوجها) وفي بعض النسخ: وإن مات عنها صبي، يعني بأن ولدت بعد موته لأقل من ستة أشهر (وَضْعُ حَمْلِها) وإن لم يلحق به لعدم مائه، لأن قوله تعالى:{وأُولاتُ الأحْمَالِ أجلُهُنَّ أنْ يَضعْنَ حَمْلَهنَّ}

(1)

. لا فصل فيه بين الحرة والأمة، ولا بين المطلقة والمفسوخة، والمتوفى عنها زوجها والموطوءة بشُبهة، ولا بين الحمل الثابت النَّسَب وغيره. وقال أبو يوسف وزفر: الحامل التي مات عنها الصبي المذكور أربعة أشهر وعشر. وهو رواية عن أبي حنيفة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، لأنه ليس بثابت النَّسَب منه، لكونه صبياً لم يوجد منه المني، الحال أنها ولدت لأقل من ستة أشهر.

وعن علي وابن عباس: تعتد المتوفَّى عنها بأبعد الأَجَلين، فتعتد بأَربعة أشهر وعشر، فيها ثلاث حِيض، لأن قوله تعالى:{وأُولاتُ الأحمَالِ أجلُهنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهنَّ} يوجب العدة بوَضْع الحمل، وقوله تعالى:{والذين يُتَوَفَّونَ منكم ويَذَرُونَ أزواجاً يَتَرَبَّصْنَ بأنْفُسِهِنَّ أربعةَ أشهرٍ وعَشْراً}

(2)

يوجب الأشهرَ فيجمعُ بينهما احتياطاً.

ودليل عامة العلماء ما روى مالك في «الموطأ» : أن عبد الله بن عباس وأبا سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف اختلفا في المرأة تُنْفَسُ بعد وفاة زوجها بليال، فقال أبو سَلَمة: إذا وضعت ما في بطنها فقد حَلَّت. وقال ابن عباس: آخِر الأَجَلين. فقال أبو هريرة: أَنا مع ابن أخي ـ يعني أبا سلمة ـ فأرسلوا كُرَيْباً مولى ابن عباس إلى أُم سَلَمة زَوْج النبيَّ صلى الله عليه وسلم يسألها عن ذلك، فجاءهم فأخبرهم أنها قالت: ولدت سُبَيْعة الأسْلميَّة بعد وفاة زوجها بليالٍ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«قد حَلَلْتِ فانكِحِي مَنْ شئت» . وفي رواية للبخاري: فمَكُثَت قريباً من عشر لياللٍ

وروى الشيخان: أن عمر بن عبد الله بن أرقم دخل على سُبَيْعة بنت الحارث

(1)

سورة الطلاق، آية:(4).

(2)

سورة البقرة، الآية:(234).

ص: 171

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الأسلمية فسألها حديثه، فأخبرته أنها كانت تحت سعيد بن خَوْلة ـ وهو من بني عامر ابن لؤي، وكان ممن شهِد بدراً ـ فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حاملٌ، فلم تلبث أن وضعت حَمْلَها بعد وفاته، فلما فرغت من نِفَاسها تجملَّت للخُطَّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكَك ـ رجل من بني عبد الدار ـ فقال لها: مالي أراكِ متجملة، لعلك ترجين النكاح، والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سُبَيْعة: فلما قال لي ذلك، جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللتُ حين وضعتُ حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي. قال ابن شهاب: ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها، غير أنه لا يَقْربُها زوجها حتى تَطْهُر، وهو قول عمر وابنه.

وفي البخاري أيضاً في تفسير سورة الطلاق، وأواخر البقرة: أن ابن مسعود قال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة؟ لَنَزَلَتْ سورة النساء القُصْرَى بعد الطُّولى: {وأَوْلاتُ الأحْمَالِ أجَلُهنَّ أنْ يَضعْنَ حَمْلَهنَّ}

(1)

ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. بلفظ: من شاء لَاعَنْتُه، لأُنزلت سورة النساء القُصْرَى بعد الأربعة أشهر وعشراً. وأخرجه البزَّار عنه بلفظ: من شاء حالفتُه إنَّ: {وأُوْلاتُ الأحْمَالِ أجَلُهنَّ أنْ يَضعْنَ حَمْلَهنَّ} . نزلت بعد آية المُتوفَّى، فإذا وضعت المتوفى عنها حملَها فقد حلّت.

وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسند أبيه من حديث المُثَنَّى بن الصَّبَّاح

(2)

، والطبري، وابن أبي حاتم عن ابن لَهِيْعَة، والطبري

(3)

وحده عن عبد الكريم ابن أبي المُخَارِق (كلهم)

(4)

عن أُبيّ بن كعب قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم {وأُولاتُ الأحمالِ أجلُهنَّ أنْ يَضعْنَ حَمْلهنَّ} للمطلّقة ثلاثاً أو المتوفى عنها؟ قال: «هي للمطلقة ثلاثاً والمتوفى عنها» . إلا أن المُثَنَّى متروك، والآخران ضعيفان، لكن يقويه ما أسنده عبد الرزاق وابن أبي شيبة في «مصنفيهما» عن الزبير بن العَوَّام: أنه كانت تحته أم كلثوم، وكان فيه شدةُ على النساء فكرهته، فسألته أن يطلقها وهي حامل، فأبى،

(1)

سورة الطلاق، الآية:(4).

(2)

حُرِّفت في المطبوع إلى: المثنى بن صالح، والصواب ما أثبتناه من المخطوطة و"تهذيب الكمال" 27/ 203.

(3)

حُرِّفت العبارة في المخطوطة والمطبوعة إلى: والطبراني، وابن أبي حاتم عن أبي لهيعة، والطبراني .. والصواب ما أثبتناه من "نصب الراية" 3/ 256.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 172

ولمن حَبِلَتْ بعد موت الصبيِّ عدَّةُ الموت، ولا نَسَب في وَجْهَيه. ولامرأةِ الفارِّ للبائن أبعد الأجلين، وللرجعيِّ ما للموت.

ولمن أُعتِقتْ في عدةِ رجعيٍّ، كعِدَّة حُرَّة، وفي عدةِ بائنٍ أو موت كأَمَةٍ

===

فلما ضربها الطَّلْق ألحَّتْ عليه في تطليقة، فطلقها واحدة، وهو يتوضأ، ثم خرج، فأدركه إنسان فأخبره أنها وضعت، فقال: خدعتني خدعها الله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال:«سبقك كتاب الله فيها، خطُبْها» . فقال: لا ترجع إليَّ أبداً.

(و) العدة (لمن حَبِلت بعد موت) زوجها (الصبيِّ) بأن ولدت لستة أشهر فصاعداً من موته، وهذا عند الجمهور، وقيل: أن تلد لأكثر من سنتين (عدَّةُ الموت) أربعة أشهر وعشر للحرة، وشهران وخمسة أيام للأمة، لأنها ليست حاملاً وقت موته، فلا تدخل في قوله:{وأُولاتُ الأحمَالِ أجلُهنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلهنَّ}

(1)

، (ولا نَسَب) ثابت (في وَجْهَيه) أي وَجْهَيْ حَبَلِ امرأة الصبي، وهما: حَبَلها قبل موته، وحَبَلها بعده، لأن النَّسَب يعتمد الماء، ولا ماء للصبي.

(و) العدة (لامرأة الفارّ) وهو الذي طلَّق في مرض موته ونحوه (للبائن) بثلاث حيض أو بواحدة (أبعد الأجلين) من عدَّة الوفاة وعدة الطلاق، بأن تتربص أربعة أشهر وعشراً من وقت الموت، فيها ثلاث حِيض من وقت الطلاق. وقال أبو يوسف: تعتد بثلاثة أقراء، لا أبعد الأجلين، وهو قول مالك والشافعي، لأن العدة وجبت في حياته، فتكون بالأَقراء.

ولنا أن فيما قلناه احتياطاً، فكان أولى:(وللرجعيِّ) عطف على البائن (ما للموت)، لأن النكاح قائم من كل وجه، وقد انقطع بالموت، فتدخل في عموم قوله تعالى:{والذين يُتَوفَّونَ منكم ويَذَرُونَ أزواجاً يَتَرَبَّصْنَ بأنْفُسِهِنَّ أربعةَ أشْهر وعَشْراً}

(2)

.

(ولمن) أي والعدة لأمة (أُعتقتْ في عِدَّةِ رجعيَ، كعدة حرة) فتعتد بثلاث حِيض، أو بثلاثة أشهر من وقت الطلاق، لأن النكاح لم يَزُل عنها بالرجعة، وقد كَمُل مِلك الزوج عليها بالعتق، والطلاق في مِلْكٍ كامل يوجب عدة الحرائر (وفي عدة بائن أو موت كأَمَة) لأن النكاح زال بالبينونة أو الموت، فلم يَكْمُل ملكُ الزوج بالعتق، فلم يقع الطلاق في ملك كامل، فلا تنتقل عدتها إلى عدة الحرائر.

(1)

سورة الطلاق، الآية:(4).

(2)

سورة البقرة، الآية:(234).

ص: 173

وآيِسةٌ رَأَتِ الدَّمَ بعد عدة الأشهر، تستأنف بالحِيَض كما تستأنفُ بالشهور. مَنْ حاضت حيضةً ثم أيست، وعلى مُعْتَدَّة وُطِئت بشبهة عِدَّةٌ أخرى، وتداخلتا، فإذا تمَّ الأولى انقضى بعض الثانية.

===

وقال مالك: لا ينتقل ما يختلف بالرِّق والحرية، ويكون المعتبر فيه حال تقرر الوجوب، كالحدود وهو أحد قولي الشافعي.

(وآيِسةٌ) مبتدأ، أي منقطعةُ دمِ الحيض في سن الإياس وهو: خمسة وخمسون سنة، وعليه الفتوى (رَأَتِ الدَّمَ) على عادتها أو حَبِلت من زوج آخر (بعد عدة الأشهر) أي بعد فراغها (تستأنفُ) خبر المبتدأ، أي تبتداء عدة أخرى (بالحِيَض) بكسر ففتح، ويفسد نكاحها إن كانت تزوجت، لأنه تَبيَّن أنها من ذوات الأَقراء، وهذا هو الصحيح. وفي «النوازل»: إذا تزوجت الآيسة بعد تمام اعتدادها بالأشهر ثم رأت الدم، فالأصح أن نكاحها جائز، قضى القاضي بجوازه أو لم يقض، وتكون عدتها في المستقبل بالحِيض، (كما تستأنف بالشهور) أي اتفاقاً (مَنْ حاضت) من عدتها (حيضة) أو حيضتين (ثم أَيِسَتْ) أي بالسن، تحرزاً عن الجمع بين الأصل والبدل.

(وعلى معتدة) من طلاق أو غيره (وُطِئت بشبهة) كما لو تزوجها وهو لا يعلم أنها معتدة الغير، أو وجدها على فراشها وقال النساء: إنها زوجتك (عدة أخرى) وأما إذا علم أنها امرأة الغير، أو معتدته، فلا تجب العدة، حتى لا يحرم على الزوج وطئها وبه يُفْتى كما في «الذخيرة» (وتداخلتا) أي العدَّتان، فتُحْتَسب بالدم الذي تراه في العِدّة الأخرى من العدتين.

(فإذا تَمَّت الأولى انقضى بعض الثانية) حتى لو كان الوطاء بشبهة بعد حيضة من العدة، لزمها ثلاث حِيض أُخر، لتكون الحيضة الثالثة تكملةً للعدة الثانية، ولو كانت العدة من وفاةٍ فوطئت بشبهة تعتد بالأشهر، وتَحْتَسب بما تراه من الحيض فيها من العدة الثانية تحقيقاً للتداخل بقَدْر الإمكان، وهو قول معاذ بن جبل.

وقال مالك والشافعي وأحمد: إن كانت العدتان من شخص واحد تداخلتا إذا اتفقتا بأن لم يكن إحبالٌ، وكانت من ذوات الأشهر أو الأَقراء، وإن اختلفتا بأن كانت إِحداهما بالحمل، ففي تداخلهما وجهان، وإن كانت العدتان من شخصين لم تتداخلا، لأن العدتين حَقَّان مقصودان لآدميين، فلا تتداخلان، كالدِّيتين، والحدَّين، والمهرين.

ولنا أن المقصود التعرفُ عن فراغ الرحم، وقد حصل بالواحدة فتتداخلان، وإن العدة مجرد أجل، والآجال إذا اجتمعت تنقضي بمدة واحدة، كرجل عليه ديون إلى

ص: 174

وعِدَّة النكاح الفاسِدِ عقيب تفريقِهِ، أو عزمه تَركَ الوطئ. وتنقضي العدة وإنْ جَهِلَتِ. وإن نَكَحَ مُعتدَّتَه من بائنِ وطلَّق قبل الوطء، وجب مهرٌ تامٌ وعِدَّةٌ مستقبَلَة، ولا عِدَّة على ذميَّة طلقها ذِميّ،

===

أجل، فإذا مضى حلّت كلها، وإنما قلنا إنها أجل لقوله تعالى:{وأُولاتُ الأحْمَالِ أجلُهنَّ أنْ يَضَعْنَ حَملهنَّ}

(1)

، وقوله تعالى:{فإذا بَلغْنَ أجَلهنَّ فأمسِكُوهنَّ}

(2)

، وقوله تعالى:{حتى يَبْلُغَ الكتابُ أجله}

(3)

وسمّاه تربصاً وهو الانتظار، وهو يكون بسبب الأجل كالانتظار في المطالبة بالدين إلى انقضاء الأجل.

(وعِدَّة النكاح الفاسِدِ عقيب تفريقِهِ، أو عَزْمه تَركَ الوطاء) بأن يقول: تركتك، أو خلَّيت سبيلك، أو ما يقوم مَقَام ذلك، لا بمجرد العزم أو بعدم المجيء إليها. وقال زفر: من آخر الوطآت، وبه أخذ أبو القاسم الصَّفَّار (وتنقضي العدة وإنْ جَهِلَتِ) المرأة ذلك، بأن لم تعلم وقوع الطلاق أو الموت حتى مضت المدة، لأن العِدَّة أجل وهو لا يشترط العلم بانقضائه.

(وإن نَكَحَ مُعتدَّتَه من بائنٍ) بما دون الثلاث (وطلَّق قبل الوطء، وجب مهرٌ تامٌّ وعدةٌ مستقبَلَة)

(4)

عند أبي حنيفة وأبي يوسف وهو رواية عن أحمد. وقال زفر: يجب نِصف المهر أو المُتْعَة ولا عدة عليها. وقال محمد: نِصف المهر أو المُتْعَة وعليها تمام العدة الأولى، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد.

(ولا عِدَّة) عند أبي حنيفة (على ذميَّة طلقها ذِميّ) لا يعتقد العدة، أو مات عنها. وعنه: أنها لا توطأ إلا بعد حيضة. وعنه: أنها لا تُزَوَّج إلا بعد حيضة.

وقال أبو يوسف ومحمد: تعتد لأن في العدة حقَّ الزوج وإن كان فيها حق الشرع، ولهذا يجب على الصغيرة والكتابية مخاطبة بحقوق العباد

(5)

.

ولأبي حنيفة: أَنْ الذمية غير مخاطبة بالفروع، فلا يجب العدة عليها لحق الشرع وزوجُها غيرُ مُعتقِد للعدة، فلا يجب عليها لحق الزوج. وأما لو اعتقدها وجب عليها العدة اتفاقاً.

(1)

سورة الطلاق، الآية:(4).

(2)

سورة البقرة، آية:(231).

(3)

سورة البقرة، الآية:(235).

(4)

المقصود هنا: الزوجة التي عقد عليها ولم يدخل بها.

(5)

عبارة المطبوع: "والكتابية محافظة لحقوق العباد"، وهو خطأ ظاهر، والمثبت من المخطوط.

ص: 175

ولا حربية خرجت إلينا مُسْلِمةً إلا الحامل.

وتَحِدُّ معتدةُ البائن والموت: كبيرة، عاقلةً، مسلمةً،

===

(ولا) على (حربية) منكوحة (خرجت إلينا مُسْلِمة) أو ذمية ثم أسلمت، أو خرجت مستأمِنة ثم أسلمت، أو صارت ذمية (إلا الحامل) لأن في بطنها ولداً ثابت النسب.

وقال أبو يوسف ومحمد: عليها العدة لأنها فُرْقة بعد الدخول في دار الإسلام بسبب التباين، فيجب العدة كما لو وقعت بسبب آخر نحو: الموت ومطاوعة ابن الزوج.

ولأبي حنيفة أن قوله تعالى: {ولا جُنَاح عليكم أنْ تنكحوهن}

(1)

مطلقٌ، وأَنَّ العدة فيها حق العبد، والحربي مُلحَق بالجمَاد، حتى صار محلاً للتملك، فلا حُرْمة لفراشه.

(تَحِدُّ) بكسر الحاء وضمها، ومصدره الحِدَاد، والأفصح أنه من الإِحداد، أي وتُظْهِر الحُزْن (معتدةُ البائن) بثلاث أو خُلْع، إن كانت حرة، وباثنين أو خلع إن كانت أَمة.

وقال مالك والشافعي: لا تَحِد معتدة البائن، لأن الحِدَاد وجب إظهاراً للتأسف على فوت زوجٍ وفيَ بعهدها إلى مماته، والمبانة قد أوحشها بالإبانة فلا تأسف لموته.

ولنا أنه وجب إظهاراً للتأسف على فَوْت نعمة النكاح الذي هو سبب لصونها وكفاية لمُؤنها، والإبانة فيها ذلك الفوت، ولأنه من أسباب رغبةِ الرجال فيها وهي ممنوعة منهم ما دامت معتدة. ولما أسنده الطحاوي في «آثاره»: عن إبراهيم النَّخَعي أنه قال: المطلقة، والمُخْتَلعة، والمتوفى عنها زوجها، والمُلَاعنة: لا تختضب، ولا تتطيَّب، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً، ولا يخرجن من بيوتهن. وهو ممن أدرك عصر الصحابة وزاحمهم في الفتوى، فيجوز تقليده.

(و) تَحِدُّ معتدة (الموت: كبيرة، عاقلة، مسلمة) فلا حِداد على صغيرة، ولا كافرة، ولا مجنونة.

وقال مالك والشافعي: عليهن الحِدَاد، لأنه لموت الزوج، فيعم النساء كالعِدَّة.

(1)

سورة الممتحنة، آية:(10).

ص: 176

بترك الزينة، ولُبْس المُزَعْفَر، والمُعَصْفرِ، والدُّهنِ، والحِنَّاء، والطِيبِ، والكُحْلِ، إلا بعذر،

===

ولنا أنه عبادة، فلا يجب إلا على المخاطَبين بهذا، ولذا قال صلى الله عليه وسلم «لا يحِلُّ لامرأة تؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ

» الحديث

(1)

، حيث شرط الإيمان بخلاف العدة، فإن فيها حقَّ الزوجية.

(بترك الزينة) أي الحُلِيّ والحرير، (و) بترك (لُبْس المُزَعْفَر والمُعَصْفر) إلا أن يكون خَلَقاً

(2)

لا يحصل به الزينة. وإن لم يكن لها إلا ثوب مصبوغٌ فلا بأس بأن تَلْبَسَه من غير أن تقصِدَ الزينة بِلُبْسه، لأنها لا تجد بداً من سِتر عورتها. وإذا لم تجد سواه فمقصودها السِّتر لا الزينة، والأعمال بالنية.

(و) بترك (الدُّهن) بالأدهان الطيبة باتفاق، وبالزيت والسيرج الخَالِصين خلافاً لمالك وأحمد، (و) بِترْك (الحِنَّاء والطِيْب والكُحْل إلا بعذر) من حِكَّة، أو مرض، أو قَمْل. ولا تمتشط بمُشْطٍ أسنانه ضيقة، لأنه لتحسين الشعر وتزيينه، بخلاف الواسعة. وقال مالك والشافعي وأحمد: تمتشط به.

ودليل وجوب الحِدَاد على المتوفى عنها زوجها ما رواه الجماعة إلا الترمذي عن حفصة، عن أم عَطِية قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يحِل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَحِد على مَيّت فوق ثلاثِ ليال، إلا على زوجٍ أربعة أشهر وعشراً، ولاتلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عَصْبٍ ـ وهو ضرب من البُرد ـ ولا تكتحلُ ولا تمسّ طيباً، إلا إذا طَهُرَت نُبْذَة من قُسْط أو أظفار» . والقُسْط: ضرب من الطيب، وقيل: العود

(3)

. والأظفار: جنس من الطيب لا وَاحِد له من لفظه، كذا في «النهاية»

(4)

. وفي لفظٍ للبخاري ومسلم: وقد رُخِّص للمرأة في طهرها إذا اغتسلت من حيضها في نُبْذَةٍ من قُسْط أو أظفارٍ. وزاد مسلم من حديث حَفْصة: «إلا على زوجها، فإنها تَحِد عليه أربعة أشهر وعشراً» .

وروى أبو داود من حديث أم حَكيم بنت أَسِيد، عن أمها، عن مولاة لها، عن أم سَلَمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في عدتي من وفاة أبي سَلَمة: «لا تمتشطي

(1)

أخرجه البخاري (فتح الباري) 9/ 484، كتاب الطلاق، باب مراجعة الحائض (45)، رقم (5335). وتكملة الحديث:"أن تُحِد فوق ثلاثِ ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا".

(2)

الثوب الخَلَق: أي البالي. "مختار الصحاح" ص 78، مادة (خلق).

(3)

النهاية 4/ 60.

(4)

النهاية 3/ 158.

ص: 177

لا مُعتدَّةُ عِتقٍ ونِكاح فاسدٍ.

ولا تُخطَب معتدَّةٌ إلا تَعْرِيضًا،

===

بالطيب ولا بالحِنَّاء، فإنه خِضَابٌ».

قلت: فبأي شيء أمتشط يا رسول الله، قال:«بالسِّدر تُغَلّفين به رأسك» . وفي الصحيحين من حديث أم سَلَمة قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينَها أفَنَكْحُلها؟ فقال صلى الله عليه وسلم «لا» ـ مرتين أو ثلاثاً ـ كل ذلك يقول: «لا» ثم قال صلى الله عليه وسلم «إنما هي أربعة أشهر وعشر» .

(لا) تَحِد (مُعتدَّة عِتقٍ و) معتدة (نِكاحٍ فاسدٍ) لأن الحِدَاد لإظهار التأسف على فَوَات نعمة النكاح، ولم يَفُتْها ذلك، ولأن زوال الرِّقِ نعمة، فلا يليق به التأسف، بل المناسب له الشكر لما زال

(1)

عنها من أثر الرِّق

(2)

، والنكاحُ الفاسد معصية، فيلزَمُها الشُّكْرُ على فَوْته لا التأسف.

(ولا تُخطَب معتدَّة) مطلقاً، لقوله تعالى:{ولا تَعْزِمُوا عُقْدَة النكاح حتى يَبْلُغَ الكتابُ أجلَه}

(3)

، (إلا تَعْرِيضاً) في المتوفى عنها لقوله تعالى:{ولا جُنَاح عليكم فيما عَرَّضتُم بهِ من خِطْبةِ النساء أو أكْننتُم في أنفسكم عَلِمَ اأنَّكُم سَتَذْكُرُونهنَّ ولكنْ لا تُوَاعِدُوهنَّ سِراً إلا أنْ تقولوا قَوْلاً مَعْرُوفاً}

(4)

، فقوله:{لا تُوَاعِدُوهنَّ سِراً} معناه: لا يأخذ عليها عهداً أو ميثاقاً أن لا تتزوج غيره. أسنده ابن أبي شيبة عن الشَّعبي، ونقله أبو بكر الرازي عن ابن عباس، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد. وقال عبد الرزاق: حدثنا مجاهد عن أبيه، عن ابن عباس في قوله تعالى:{ولكنْ لا تُوَاعِدُوهنَّ سِراً} قال: يقول: إِنكِ من حاجتي. وأما ما في «الهداية:» قال عليه الصلاة والسلام: «السِّرُّ النِّكاح» ، فغير معروف رَفْعه.

وأما المطلَّقة فلا يجوز التعريضُ فيها: أما الرجعية فلقيام الزوجية، وأما البائن فلإفضائه إلى العَدَاوة في مُطلِّقها. والأظهر في مذهب الشافعي: أنه يجوز التعريض في البائن إلحاقاً لها بالمُتوفى عنها.

وصفة التعريض ما روى البخاري في كتاب النكاح: عن ابن عباس في قوله

(1)

عبارة المطبوع: "به التأسف على فوات ما زال عنها".

(2)

في المطبوع والمخطوط: الكفر. والمثبت من هامش المخطوطة.

(3)

سورة البقرة، الآية:(235).

(4)

الموضع السابق.

ص: 178

ولا تَخْرُجُ معتدَّةُ الرَّجعِيّ والبائنِ من بيتها أصلًا.

وتَخْرُجُ مُعْتَدَّةُ الموتِ في المَلَوين، وتبيتُ في منزلها. وتَعْتَدُّ في منزلها وقتَ الفُرْقة والموت، إلا أن تُخْرَج، أو خافت تَلَفَ مالها، أو الانهدامَ، أو لم تَجِدْ كِرَاءَ البيت.

===

تعالى: {ولا جُنَاح عليكم فيما عَرّضتُم به من خِطْبةِ النساء} قال: يقول: إني أريد التزويج، ولَوَدِدتُ أنه تيسر لي امرأةٌ صالحة. وعن القاسم أنه يقول: إِنكِ عليَّ كريمة، وإني فيك لراغب، وإنَّ الله تعالى لسائق إليك خيراً، أو نحو هذا. انتهى.

(ولا تخرُج معتدَّة الرَّجعِيّ والبائن من بيتها أصلاً) أي لا ليلاً ولا نهاراً، لقوله تعالى:{لا تُخْرِجُوهنَّ من بُيوتهنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلا أن يَأتِيْنَ بفاحشةٍ مُبيِّنَة}

(1)

قال النَّخَعي: هي نفس الخروج، وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله. وقال ابن مسعود: هي الزنا، فتخرجُ لإقامةِ الحدِّ، وبه أخذ أبو يوسف. وقال ابن عباس: أن تكون بَذِيَّة اللسان على أحماء زوجها، فتخرج من مسكن الزوج. ثم هذا في الحرة، وأما في الأمة فتخرج لرعاية حق المولى في الخِدمة، إلا أن يُبِوِّءها منزلاً ويترك استخدامها تَفضُّلاً.

(وتخرجُ معتدة الموتِ في المَلَوين) أي في الليل والنهار (وتبيت) أكثر الليل (في منزلها) لأن نفقتَها عليها، فتحتاج إلى الخروج للكَسْب بالنهار وبعض الليل، بخلاف المعتدة عن طلاق، فإن نفقتها على زوجها، حتى لو اختلعت نفسها على نفقتِها، كان لها الخروج نهاراً في رواية لضرورة معاشها. وفي رواية: لا تخرج لأنها أسقطت حقها برضاها. وفي «جامع قاضيخان» : أَنّه الصحيح، كما لو اختلعت على أن لا سُكْنى حيث تسقط مُؤنة السُّكنى، ويلزمها أن تكتري بيت الزوج، وبه كان يُفتي الصَّدْرُ الشهيد. وعن علي، وابن عباس، وجابر، وعائشة: تعتد المُتوفَّى عنها حيث شاءت، وهو قول الحسن وعطاء.

(وتعتد) المعتدة (في منزلها) الذي يضاف إليها بالسكنى (وقت الفرْقة والموت) حتى لو طلقها وهي زائرة وجب عليها أن تعود إلى منزلها فتعتد فيه، (إلا أن تخرج) بأن كان نصيبُها من دار الميت لا يكفيها وأخرجها الوَرَثةُ من نصيبِهم (أو خافت تَلَف مالها، أو الانهدام، أو لم تجد كِرَاء البيت) لأن الواجب يتقيد بالاقتدار مع هذه الأعذار، وقد قال الله تعالى:{فاتَّقوا اما استطعتم}

(2)

.

(1)

سورة الطلاق، الآية:(1).

(2)

سورة التغابن، آية:(16).

ص: 179

ولا بد من سُترَةٍ بينهما في البائن، وإن ضاق المنزلُ عليهما، فالأولى خُروجُه.

وحَسُنَ أن يُجْعَلَ بينهما امرأةٌ قادرةٌ على الحَيلولة.

ولو أَبانَها، أو مات عنها في سفر، وليس بينها وبين مِصْرِها. مسيرةُ سفرٍ، رجعتْ إلى مِصرها،

===

وإنما تعتد في منزلها لما روى مالك في «الموطأ» ، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والطحاوي، والترمذي ـ وقال: حسن صحيح ـ: أَنَّ فُرَيْعة بنتَ مالك أخت أبي سعيد الخُدَري لما قُتل زوجها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أَرجِع إلى أهلي، فإن زوجي لم يترك لي مسكناً يملِكه، ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم» ، قالت: فانصرفتُ حتى إذا كنت بالحجرة أو بالمسجد ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أَمرني فنوديت له، فقال:«كيف قلت؟» قالت: فرددت عليه القصة التي ذكرتُ له من شأن زوجي. قال: «امكُثي في بيتك حتى يبلغَ الكتابُ أجله» . قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً. قالت: فلما كان عثمانُ أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتَّبَعَه.

ثم تعيين المنزل الذي تنتقل إليه عند الضرورة إلى الزوج في الطلاق وأجرته عليه، وإلى المرأة في الوفاة وأجرته عليها. وإذا سكنت منزلاً آخر لا تخرج منه إلا لعذر، لأن الانتقال عن الأول لا يكون إلا عن عذر، فكذا عن الثاني. ولا تخرج إلى صحن دار فيها منازل، لأنه بمنزلة السِّكَّة

(1)

، ولهذا لو أخرج السارق المتاع إليه يُقطع.

(ولا بد من سترة بينهما) إن كان سُكْناها في منزل الزوج (في البائن) بثلاث أو بخلع حَذَراً من الخَلوة بالأجنبية (وإن ضاق المنزل عليهما) أي على المعتدة ومطلِّقِها (فالأولى خروجُه) لا خروجُها، لقوله تعالى:{ولا يَخْرُجْنَ}

(2)

وكذا الحُكْم مع فِسْقه، لأن مُكثَها في منزل الزوج واجب، ومُكثه فيه غير واجبٍ، ولو خرجت هي بعد إبائه جاز، لأن ذلك عذرٌ لها.

(وحَسُنَ أن يجعل بينهما امرأة قادرة على الحَيْلولة) بأن تكون ثقة تحول بينهما، لحصول المُكْثِ في منزل الزوج حينئذ من غير ضرر يلحقها منه، فلا يُحتاج إلى خروج أحدهما.

(ولو أبانها، أو مات عنها في سفر) سواء كان في مَفَازةٍ أو مِصرٍ (وليس بينها وبين مِصرها) أي محلها الذي خرجت منه (مسيرة سفرٍ، رجعتْ إلى مِصرها) سواء

(1)

السكة: الزُّقاق - وهو الطريق الضَّيف نافذًا أو غير نافذ -. المعجم الوسيط 440، مادة (سكَّ).

(2)

سورة الطلاق، الآية:(1). وفي المخطوط: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ} .

ص: 180

وإن كانت تلك من كلِّ جانبٍ، فإن كانت في مفازةٍ خُيِّرت، والعَوْدُ أحمَدُ. وإن كانت في مِصر تعتد ثَمَّةَ، ثم تخرجُ بمَحْرَمٍ.

‌فَصْلٌ [في الحَضَانةِ]

الحَضَانَةُ للأُمِّ

===

كان بينها وبين مَقصِدها مسيرة سفر أو لم يكن، كان معها محرم أو لا، وكانت في مصر أو في مفازة. أما رجوع التي لم يكن بينها وبين مقصِدها مسيرة سفر، فعلى سبيل الأولوية، لتكون عِدَّتها في منزلها، وأما رجوع التي بينها وبين مقصدها مسيرة سفر فعلى سبيل الوجوب، لأن رجوعَها ليس فيه إنشاء سفر، ولأنها تصير بالرجوع مقيمةً، وبالمُضِي مسافرة.

قيد بالإبانة أو الموت، لأنه لو طلقها رجعياً لم تفارِقْه، لأن الزوجية قائمة بينهما (وإن كانت تلك) أي مسيرة السفر (من كل جانب) من جانبي مصرها ومقصِدها (فإن كانت في مفازة خُيِّرت) بين الرجوع والمُضي للضرورة، سواء كان معها وليٌّ أو لا، لأن ما يُخاف عليها في ذلك المكان أعظم مما يُخاف عليها في الخروج منه. وقال السَّرَخْسي: تختار أقربَهما. (والعود أحمَدُ) لتعتد في منزلها.

(وإن كانت في مِصر تعتد ثَمَّة) أي في المِصر عند أبي حنيفة، سواء كان معها محرم أو لا (ثم تخرجُ بمحرم) وقال أبو يوسف ومحمد: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أولاً: إن كان معها مَحْرَم، فلها أن لا تعتد ثَمَّة، وتخرج مع مَحْرَمها.

ولو طلق ذو الخيمة من أهل البادية امرأته وأراد الانتقال بها إلى مكان آخر للماء والكلاء لمواشيه، لا ينقلها لوجوب القرار عليها في موضعٍ طُلِّقت فيه، إلا أن يلحَقها بعدمه ضررٌ بيِّنٌ بتركه، فينقلها حينئذٍ دفعاً له، قال الله تعالى:{وما جعل عليكم في الدِّيْن من حَرَجٍ}

(1)

، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ضَرَرَ ولا ضرار»

(2)

.

فصل (في الحَضَانَة)

(الحَضَانَةُ) وهي تربيةُ الولد الصغير (للأم) بإجماع أهل العلم. وبما روى أبو داود من حديث عَمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو: أن امرأة قالت: يا

(1)

سورة الحج، آية:(78).

(2)

أخرجه ابن ماجه في سننه 2/ 784، كتاب الأحكام (13)، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره (17)، رقم (2340). والإمام أحمد في مسنده 1/ 313.

ص: 181

بلا جَبْرِها. طُلِّقت أو لا ثم أُمِّها وإن عَلَت، ثم أُم أبيه، ثم أُخته لأب وأُم، ثم لأُم، ثم لأب

===

رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحِجْري له حِواء، وإنَّ أباه طلقني وأراد أن ينزِعَه مني. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنتِ أحقُ بهِ ما لم تنكِحي». وفي «مصنف ابن أبي شيبة» عن سعيد بن المسيَّب: أن عمرَ طلق أم عاصم، ثم أتى عليها وفي حِجْرها عاصم، وأراد أن يأخذه منها، فتجاذباه بينهما حتى بكى الغلامُ، فانطلقا إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: مَسْحُها وحِجْرها وريحها خير له منكَ، حتى يَشِبّ الصبي فيختار لنفسه.

وفيه: عن القاسم بن محمد: أن عمر بن الخطاب طلق جميلة بنت عاصم بن ثابت، فتزوجت فجاء عمر فأخذ ابنه، فأدركته الشَّمُوس امرأة

(1)

عاصم الأنصارية ـ وهي أم جميلة ـ فأخذته فترافعا إلى أبي بكر، فقال لعمر: خَلِّ بينها وبين ابنها، فأخذته.

(بلا جَبْرِها) إذا أبت سواء (طُلِّقت أو لا) إلا أن لا يكون له إلا هي، أو لا يقبل غيرها، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك في رواية. وقال مالك في رواية، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح: تُجْبر. واختاره أبو الليث، والهِنْدُوَاني من أصحابنا، لأن ذلك حق الولد، لقوله تعالى:{والوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أولادَهنَّ}

(2)

والمراد به الأمر، وهو للوجوب.

ولنا قوله تعالى: {وإنْ تعاسَرْتُم فستُرْضِعُ له أخرَى}

(3)

وإذا اختلفا فقد تعاسرا (ثم أُمّها) أي ثم لأُم الأم، بأن ماتت الأم، أو تزوجت بغير ذي رَحِم مَحْرم، أو لم تكن أهلاً للحضانة (وإِن علت). وعن أَحمد: أَنَّ أُم الأَب أَحقُّ من أمُ الأُم. وإنما كانت أمُ الأُم أَحق من أُم الأَب لما قدمنا من قضية عمر مع جدة ولده.

(ثم أُم أَبيه) أي ثم لأُم الأَب وإن علت. وقال زفر: الأُخت لأَب وأُم أولى

(4)

، والخالة (للأُم)

(5)

أحق من أمُ الأَب (ثم أُخته) أي أُخت الولد (لأَب وأُم، ثم لأُم، ثم لأب) وبه قال المُزَنِيّ وابن شُرَيح من الشافعية. وقال زفر: يشترك الأخت لأم مع الأخت لأبوين لاستوائهما فيما هو الأصل في الباب، وهو الأُم. والأصح من مذهب

(1)

في المخطوط: ابنة. وفى مصنف ابن أبي شيبة: جميلة بنت عاصم. 5/ 238، كتاب الطلاق، ما قالوا في الرّجل يطلّق امرأته ولها ولد صغير.

(2)

سورة البقرة، آية:(233).

(3)

سورة الطلاق، آية:(6).

(4)

وفي المخطوط: "الأخت للأم".

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 182

ثم خالته كذلك، ثم عَمَّتُه كذلك، بشرطِ حُرِّيتّهن، فلا حقَّ لأَمَة ولا أُمِّ وَلدٍ

===

الشافعي أن الأُخت لأَب أَحق من الأُخت لأُم، وبه قال أحمد اعتباراً بقوَّة الميراث.

ولنا أن الاعتبار بالأحق بالحضانة وهي الأُم أولى، وجِهَة الأبوة تصلح للترجيح، فكانت مرجِّحة، (ثم خالته) أي خالة الولد (كذلك) أي تقدم التي للأب والأم على التي للأم، والتي للأُم على التي للأب، هكذا ذكر في كتاب النكاح في الأصل.

وفي كتاب الطلاق: تُقَدَّم الخالة على الأُخت للأَب، لأن الخالة بمنزلة الأم، لما روى البخاري في حديث عمرة القضاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخالةُ بمنزلةِ الأم» ووجه الرواية الأخرى أن الاعتبار بقرب القرابة، والأخت أقرب من الخالة بمنزلة، لأنها ولد الأب، والخالة ولد الجد. ولقوله عليه الصلاة والسلام:«الخالة والدةٌ» . رواه الطبراني في «معجمه» ، وأبو داود في «سننه» عن علي بلفظ:«الخالةُ أُمّ» .

وفي «مسند إسحاق بن رَاهُويَه» عن علي قال: لما خرجنا من مكة أتتنا بنتُ حمزة تنادي: يا عم يا عم، فتناولتها بيدها، فدفعتها إلى فاطمة، فقلتُ: دونك بنت عَمِّك، فلما قدمنا المدينة اختصمنا فيها أنا وجعفر وزيد بن حارثة، فقال جعفر: بنت عمي وخالتُها عندي ـ يعني أسماء بنتَ عُمَيْسَ. وقال زيد: بنت أخي ـ أي في المؤاخاة. وقلت: أنا أخذتها وهي بنت عمي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما أنت يا جعفر: أشبهت خَلْقي وخُلُقي، وأما أنت يا علي فمني وأنا منك، وأما أنت يا زيد فأخونا ومولانا، والجارية عند خالتها، فإنَّ الخالة والدة» . قلت يا رسول الله: ألا تتزوجها قال: «ابنة أخي من الرَّضاعة» . انتهى. وكان ذلك في عُمرةِ القضاء.

وروى ابن المبارك في كتاب «البر والصلة» بسنده عن الزهري قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العم أب إذا لم يكن دونه أب، والخالة والدةٌ إذا لم تكن دونها أم» . والحديث يدل على أن لها في الجملة حقاً هنالك، ولا نزاع في ذلك. وقال مالك والشافعي: تُقدَّم الخالةُ من الأَب على الخالة من الأُم كما قالا في الأُخت.

(ثم عَمته كذلك) لأب وأم، ثم لأم، ثم لأب. وفي «المحيط»: وأما بناتُ الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، فبِمَعْزِل عن حق الحضانة، لأن قرابتهن لم تتأكد بالمحرمية. وفي «البدائع»: لا حق للرجال من قِبَلِ الأم (بشرط حريتهن) لأن غير الحرة مشغولة بخدمة المولى، فلا تتفرغ للولد، فإن كان الصغير في الرِّق، فحضانته لمولاه، ولا يفرق بينه وبين أُمه، وإن كان حراً فحضانته لأقربائه الأحرار.

(فلا حق لأَمَةٍ ولا أُمِّ ولد) ولا لمدَبَّرة ولا لمكاتَبة في ولدها قبل الكتابة. وأما

ص: 183

والذِّمِّيةُ كالمُسْلمةِ حتى يعقِلَ دِيْنًا. وبنكاحِ غيرِ محْرَمٍ سَقَط حقُّها، وبمحْرَم لا، كأُمٍّ نكحت عمَّه، وجدة جدَّه.

ويعودُ الحق بزوالِ نكاح سقط به، ثم للعصبَاتِ على ترتيبهم، لكن لا تُدْفع صبيةٌ إلى عَصَبةٍ غير مَحْرمٍ، كمولى العَتَاقة، وابن العمِّ

===

ولدها زمن الكتابة فداخل في كتابتها تبعاً لها. (والذمية) كتابية كانت أو مجوسية في ولد المُسلم (كالمسلمة) لأن الشفقة لا تختلف باختلاف الدِّين (حتى يعقِلَ) الصغير (ديْناً) أو يُخاف عليه أن يألف الكفر، فإنه ينْزع منها. وقال الشافعي وأحمد: لا حضانة للذمية، وهو رواية عن مالك.

(وبنكاحِ غيرِ محْرَمٍ) من الصغير من لها الحضانة (سقط حقُّها) من الحضانة لحصول الضرر للصغير، فإن زوج الأم ينظر إليه شَزْراً، وينفق عليه نَزْراً، ويتبَرَّم بمكانه ضرراً، فلا نَظَر في الدفع إليها خطراً. قال ابن المنذر: أجمع على هذا أهل العلم إلا الحسن. وهو رواية عن محمد، واحتجا بأنه صلى الله عليه وسلم دفع بنتَ حمزة إلى خالتها وكانت متزوجةً بجعفر، وهو غير محرم منها، وإذا لم يمنع ذلك الاستحقاق ابتداءً فالأولى أن لا يمنعه بقاءً. وللجمهور قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم:«أنت أحقُّ به ما لم تنكحي»

(1)

.

(وبمحْرَم لا) أي بنكاح مَحْرمٍ لا يسقط حقُها من الحضانة (كأُم نكحت عمَّه) أي عَمَّ الصغير (وجَدَّةٍ) نكحت (جدَّه) وخالة نكحت عمَّه أو أخاه من أبيه، وعمة نكحت خاله أو أخاه من أمه، لانتفاء الضرر حينئذ عن الصغير (ويعودُ الحق) من الحضانة (بزوالِ نكاح سقط به) حقُ الحضانةِ لزوال المانع مع قيام السبب، كالنَّاشِزة تسقط نفقتُها بالنشوز، وإذا زال بعَوْدِها إلى منزل الزوج عادت، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك في رواية.

(ثم) الحضانة (للعصَبَاتِ) بعد النساء (على ترتيبهم) في الإرث، يقدّم الأب، ثم الجد وإن علا، ثم الأخ لأَب وأُم، ثم لأب، ثم ابن الأخ لأب وأم، ثم لأب وإن سَفَل، ثم العم لأب وأم، ثم لأب وإن علا، ثم ابن العم لأب وأم، ثم لأب وإن سَفَل، ثم مولى العَتَاقة، (لكن لا تُدْفع صبيةٌ إلى عَصَبةِ غير مَحْرمٍ، كمولى العَتَاقة

(2)

، وابن العمِّ) تحرُّزاً عن الفتنة.

(1)

أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 207.

(2)

مولى العَتَاقة: أي الشخص الذي أعتق عبده، ويسمى معتِقًا. معجم لغة الفقهاء ص 469. بزيادة.

ص: 184

ولا فاسقٍ مَاجِنٍ ولا يُخيَّر طِفْلٌ.

===

وإذا لم يكن له عصبة يُدفع إلى الأخ لأم، ثم إلى ولده، ثم العمّ لأُم، ثم إلى الخال لأبوين، ثم لأب، ثم لأم، لأن لهؤلاء ولاية عند أبي حنيفة رحمه الله.

ثم التَّدْبير

(1)

في ذلك إلى القاضي يدفعه إلى ثقةٍ تَحْضُنُه حتى يستغني.

(ولا) إلى (فاسقٍ مَاجِنٍ) وهو مَنْ لا يبالي قولاً ولا فعلاً، لأنه غير مأمون عليها، ولا إلى غير مأمونة أيضاً من النساء. وفي «المبسوط»: لو اجتمعت إخوة أو أعمام في درجة، فأولاهم أكثرهم صلاحاً وورعاً، فإن استَوَوا فأكبرهم سِناً (ولا يُخيَّر طِفْلٌ) غلاماً كان أو جارية. وقال الشافعي: يُخير في سبعٍ أو ثمانٍ.

وقال أحمد: في سبع، لما روى أصحاب «السنن الأربعة»: من حديث هلال بن أُسامة، عن أبي مَيْمُونة سُليم ويقال: سلمان مولى من أهل المدينة، رجل صدق، قال: بينما أنا جالس مع أبي هريرة جاءته امرأة فارسية معها ابن لها، وقد طلقها زوجها، فقالت: يا أبا هريرة ورطنت بالفارسية ـ أي: تكلَّمَتْ بلسان أهل الفرس من العجم ـ زوجي يريد أن يذهب بابني فقال أبو هريرة: استهما عليه ـ أي اقترعا ـ ورطن لها بذلك. فجاء زوجها، فقال: مَنْ يُحاقُّني ـ بتشديد القاف، أي ينازعني في ولدي ـ فقال أبو هريرة: اللهم إني لا أقول هذا إلا أني سمعت امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قاعد عنده، فقالت يا رسول الله: إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عِنَبَة وقد نفعني. فقال صلى الله عليه وسلم «استهما عليه» ، فقال زوجها: مَنْ يُحَاقُّني في ولدي، فقال صلى الله عليه وسلم «هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيِّهما شئت» . فأخذ بيد أمه، فانطلقت به. وعِنَبة مفردة الأعناب.

وروى أبو داود في الطلاق، والنسائي في الفرائض من حديث عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن جده رافع بن سِنان: أنه أسلم وأبتِ امرأتُه أن تُسْلم، فجاء بابن لهما صغير لم يبلغ، فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب ههنا، والأم ههنا ثم خَيَّره، وقال:«اللهم اهده» ، فذهب إلى أبيه.

ولنا ما روى مالك في «الموطأ» من حديث يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد قال: كانت عند عمر امرأة من الأنصار فولدت له عاصماً، ثم فارقها عمر، فركب عمرُ يوماً إلى قُباء، فوجد ابنه يلعب بفِناء المسجد، فأخذه بعضُدِه فوضعه بين

(1)

المُدبِّر: الرقيق الذي عُلِّق عِتقُه على موت سيده. معجم لغة الفقهاء ص 418.

ص: 185

والأمُّ والجَدَّةُ أحقُّ به حتى يأكلَ ويشرَبَ، ويَلْبَسَ، ويستنجِيَ وَحْدَهُ، وبالبنتِ حتى تَحيضَ. وعن محمد حتى تُشتَهى،

===

يديه على الدابة، فأدركته جدة الغلام فنازعته إياه، فأقبلا حتى أتيا أبا بكر، فقال عمر: ابني، وقالت المرأة: ابني. فقال أبو بكر: خلِّ بينه وبينها، فما راجعه عمر الكلام. ورواه البيهقي وزاد: ثم قال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تُوَلَّه والدة عن ولدها» ، وفي نسخة:«على ولدها» . وقوله: «لا تولَّه» بضم ففتح فتشديد لام مفتوحة: أي لا تُخير. ولأنه طفل غير رشيد ولا عارف بمصلحته، فلا يعتمد اختياره كسائر تصرفاته.

وأجيب عن حديث حُميد بأنه وفق ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم لاختيار الأنظر له، فلا يقاس عليه غيره. وعن حديث أبي هريرة بأنه صلى الله عليه وسلم أمرهما بالاستهام: وهو متروك بالإجماع، فكذا التخيير، بدليل قول الصِّدِّيق لعمر فتدبر. وبأن قولها:«إن زوجي» ، يدل على أنها كانت غير مُطلَّقة، وبأن قولها: قد سقاني من بئر أبي عِنبَة يدل على أنه كان بالغاً، لأنها بئرٌ بالقُرْب من المدينة لا يتأتى الاستقاء منها إلا للبالغ، وهو ينفرد بالسُّكنى، فيكون عند أيهما أَراد. والحاصل: أنه حكاية حالٍ فلا يُحتج بها.

(والأم والجدة أحق به) أي بالصبي (حتى يأكل ويشرَب، ويلبَسَ، ويستنجِيَ وحدَهُ) وقدّر الخصّافُ ذلك بسبع سنين، اعتباراً للغالب وعليه الفتوى. وعند مالك الأم أحق بالغلام حتى يحتلم. وعند الشافعي يُخيّر الولد في سبع أو ثمان، فإذا اختار الغلام أُمَّه كان عندها بالليل، وعند الأب بالنهار. وأما البنت فتكون عند مَنْ اختارته ليلاً ونهاراً. وقال أحمد وإسحاق: يُخير الولد في سبع، فإذا اختار أحدهما وسُلِّم إليه، ثم اختار الآخر فله ذلك وردَّ إليه، فإن عاد فاختار الأول أُعيد إليه هكذا.

وأما المعتوه فلا يُخيَّر ويكون عند الأم، لأنها أشفقُ عليه، وإنما كان للأب أن يأخذ عاقلاً متميزاً لأنه يحتاج إلى التخلّق بأخلاق الرجال وآدابهم في الأحوال، والأب أقدر على ذلك من الأم والجدة، ولو امتنع الأب عن أخذه أُجبر، لأن نفقته عليه.

(وبالبنت) عطف على «به» أي والأم والجدة أحق بالبنت (حتى تحيض) لأنها قبل الحيض تحتاج إلى معرفة آداب النساء من الغَزْل، والطبخ، والغسل. والأم والجدة أقدر على ذلك، وبعد الحيض تحتاج إلى الصيانة، والأب أقدر عليها، وإلى التزويج وهو إِلى الأَب دونهما.

(وعن محمد) في «نوادر هشام» : (حتى تُشتَهى) وبنت إحدى عشر سنة تُشتهى في قولهم جميعاً. وقال أبو الليث: بنتُ تسع سنين، وعليه الفتوى. وقال مالك:

ص: 186

وهو المعتبرُ لفسادِ الزَّمان، وغيرهما حتى تُشتهى.

ولا تسافرُ مُطَلَّقةٌ بوَلدها إلَّا إلى وطَنِها الذي نَكَحها فيهُ وهذا للأُم فقط.

‌فَصْلٌ في ثُبُوتِ النَّسَبِ

أقلُّ مُدَّة الحملِ ستة أشهر

===

الأم أحق بالبنت حتى تُنْكَح ويَدخل بها الزوج وإن حاضت.

(وهو) أي قول محمد (المعتبر لفساد الزمان) على ما في «غياث المفتي» (وغيرهما) أي غير الأم والجدة من الأخوات، والخالات، والعَمَّات أحقُّ بالبنت (حتى تُشتهى) وفي «الجامع الصغير»: حتى تستغني كما في الصبي، والأول هو الصحيح.

(ولا تسافر مُطَلَّقةٌ) انقضت عدَّتها (بوَلدها) لما في ذلك من الإضرار بالأب (إلا إلى وطنها الذي نكحها فيه) لأنه التزم المقام فيه عرفاً وشرعاً. لما روى ابن أبي شيبة وأبو يَعْلى المَوْصِلي في «مسنده» : أن عثمان صلى بمنى أربعاً ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تأهّل في بلدة فهو من أهلها، يصلي صلاة المقيم، وإني تأهلتُ منذ قدمت مكة» (وهذا) السفر بالولد (للأم فقط) فليس لغيرها أن تسافر به إلا بإذن أبيه، ولا له أن يسافر به في مدة الحضانة لغيره، لأن في ذلك ضرراً بالحاضنة وإبطالاً لحقها. وقال مالك والشافعي وأحمد: للأب ذلك.

فصلٌ في ثُبُوتِ النَّسَبِ

(أقلُ مُدَّة الحملِ ستةُ أشهر) باتفاق العلماء، ولأن الولد يُنْفخ فيه الروح عند مضي أربعة أشهر، ويتم خَلْقُه بعد ذلك في شهرين، لحديث ابن مسعود في الأربعين

(1)

. وقد رُوي أنَّ عبدَ الملك بن مروان وُلد لستة أشهر. ولما قدمنا أن رجلاً تزوج امرأةً فولدت لستة أشهر، فهمَّ عثمان أن يرجمَها، فقال ابن عباس: أما إِنها لو خاصمَتكم بكتاب الله لَخَصَمَتْكُم، قال الله تعالى:{وحَمْلُه وفِصَالُه ثلاثون شَهْراً} في الأحقاف

(2)

، وقال الله تعالى:{وفِصَالُه في عامين}

(3)

فإذا ذهب للفصال عامان لم يبق للحمل إلا ستُةُ أشهر، فَدَرأ عثمانُ الحد، وأثبَتَ النَّسب من الزوج. وهكذا رُوي عن علي. فإقدَامُ عثمان على إقامة الحد يدل على أنه لا يكون أقلَّ من ستةِ أشهر.

(1)

أي "الأربعين النووية" الحديث الرابع.

(2)

سورة الأحقاف، الآية:(15).

(3)

سورة لقمان، الآية:(14).

ص: 187

وأَكْثرُها سنتان،

===

(وأَكْثَرُها) أي أكثر مدة الحمل (سنتان) وهو قول الثَّوري، والضحَّاك بن مُزاحِم، وأحمد في رواية، لما رَوى الدارقطني والبيهقي في سُنَنَيهما من حديث عائشة: أنها قالت: ما تزيدُ المرأة في الحمل على سنتين، قدر ما يتحول ظل عمود المِغْزل، وهو محمول على السماع، لأن مثلَه لا يُدرك بالرأي. وهذه العبارة مَثَلٌ في القِلَّة، لأن ظِل عمود المِغْزل حال الدوران أسرعُ زوالاً من سائر الأظلال. وقال عبَّاد بن العَوَّام: أكثرُ مدة الحمل خمس سنين. وقال الزهري: ستُ سنين. وقال ربيعة: سبع سنين. وقال أبو عُبيد: ليس لأقصاه حد. وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنهما: أَربع سنين، لأن الضحَّاك ولدته أمه لأربع سنين بعدما نبتت ثَنْيتاه وهو يضحك، فسمِّي ضَحَّاكاً.

ولما روى الدَّارقطني والبيهقي عن الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: أي حديث عن عائشة أنها قالت: لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل، فقال: سبحان الله مَنْ يقول هذا، هذه جارتنا امرأة محمد بن عَجْلان امرأة صدق، (وزَوْجُها رَجُلُ صِدْق)

(1)

حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة: كل بطن في أربع سنين.

وأخرج الدارقطني عن هاشم بن يحيى المُجَاشِعي قال: بينما مالك يوماً جالس إذ جاءه رجل، فقال: يا أبا يحيى ادع الله لامرأة حُبلى منذ أربع سنين، قد أصبحت في كرب شديد. فغضب مالك وأطبق المصحف، ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أنَّا أنبياء، ثم قرأ، ثم دعا وقال: اللهم إن كان في بطن هذه المرأة ريح فأخرجه عنها الساعة، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها بغلامٍ، فإنك تمحو ما تشاء وتُثْبِت وعندك أمّ الكتاب، ثم رفع مالك يده ورفع الناس أيديهم، وجاء رجل إلى الرجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرجل، فما حطّ مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جَعْد قَطَط ابن أربع سنين، قد استوت أسنانه ما قطعت سِرَاره. وجَعْد قَطَط: أي شديدُ الجُعُودة.

وأجيب بأن الأحكام تُبنى على العادة الظاهرة، وبقاء الولد في البطن أكثر من سنتين إن ثبت في غاية النُّدرة، فلا يُبنى عليه حكم، مع أنه حكاية حال فيها احتمال أن يكون الولد منها، أو من غيرها، أو كان في بطنها ريح قبل حَمْلها ونحو ذلك، فإن

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 188

فيثبتُ نسبُ ولدِ معتدَّةِ الرَّجْعي، وإن جاءت به لأكثرَ مِن سَنتين ما لم تُقِرَّ بمضي العدَّةِ فَتَثْبُت الرَّجعةُ، ولأقلَّ منهما لا.

ومبتُوتَةٍ ولدَتْه لأقل منهما

===

الضحَّاك ونحوه ما كانوا يعرفون ذلك من أنفسهم، وكذلك غيرهم، لأن ما في الرَّحم لا يعلمه إلا الله. وأما دعاء مالك فيما هو مفروغ عنه منهيٌ عنه، وكان ظهور الغلَام من الأمور الاتفاقية في المقام أو أنه من الكرامات وخوارق العادات، والله تعالى أعلم بحقائق الأمور والحالات.

(فيثبت نسبُ ولد معتدة الرجعي، وإن جاءت به لأكثرَ من سنتين) من وقت الطلاق، أما إن جاءت به لأقل من ستة أشهر، فلأنه كان موجوداً وقت الطلاق، فكان من عُلوقٍ قبله، وتَبِين بالوضع لانقضاء عدَّتها به بوضع الحمل. وأما إن جاءت به لأكثر من ستة أشهر وأقل من سنتين، فلوجود العُلوق في النكاح أو في العِدَّة، وتَبين من زوجها، لانقضاء عدتها بوضع الحمل. وأما إن جاءت به لأكثر من سنتين، فلأن العُلوق بعد الطلاق، فيحمل على أنه راجعها، إذ الظاهر من حال المسلم أنه لا يزني.

فإن قيل: لانتفاء الزنا وَجْهٌ غير هذا، وهو أن تكون تزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها، فيكون الولد منه.

أجيب بأن البقاء أسهل من الابتداء، فكان الحمل على أن زوجها راجعها أولى من الحمل على أنها تزوجت بآخر. انتهى.

وفيه أنه مع احتمال كون الولد من غيره، فكيف يُحكمُ بثبوت نسبه، ولعل هذا احتمال في ثبوت النسب خوفاً من تضييع الولد.

(ما لم تُقِر بِمُضِيّ العِدة) في مدة تحتمل. وأما لو أقرت بِمُضِيِّها ثم جاءت لستة أشهر أو أكثر من وقت الإقرار لم يثبت نَسَبه، لاحتمال حدوث الحبل بنكاح جديد، بخلاف ما لو جاءت به لأقل من ستة أشهر، حيث ثبت نَسَبُه لظهور كَذِبِها (فتثبت الرجعة) إن جاءت به لأكثر من سنتين، لأن العُلوقَ بعد الطلاق، والظاهر أنه منه لانتفاء الزنا عن المسلم، فيصير بالوطء مراجِعاً. (ولأقل منهما) أي من السنتين (لا) أي لا تثبت الرجعة لاحتمال العُلوق قبل الطلاق واحتماله بعده، فلا يصير مراجِعاً بالشك.

(ومبتُوتَةٍ) بالجر عطف على المعتدة، أي ويثبت نَسَب ولدِ مبتوتة (ولدَتْه لأقل منهما) أي من سنتين من وقت الطلاق، لأنه يحتمل الوجود عند الطلاق، فيحمل عليه

ص: 189

لا لتَمَامِهما إلا بِدعْوة، ويُحمَلُ على وَطئِها بشبْهةٍ في العدَّةِ إذا جَحَدَ ولادَة زوجتِه، تثبتُ بشهادةِ امرأةٍ.

===

احتيالاً في ثبوت النسب (لالاِلتَمَامِهما) لثبوت الحمل بعد الطلاق، ووطءِ المبْتُوتة حرامٌ (إلا بِدِعْوة) لأنه التزمه. ثم في رواية: يشترط تصديق المرأة. وفي رواية: لا يشترط (ويُحمَلُ على وَطئِها بشبْهةٍ في العدَّةِ) واعتُرِض بأن الزوج إذا وطِء بشبهةٍ معتدَّتَه من طلاق ثلاث، أو على مالٍ، فأتت بولد لا يثبت نسبه وإن ادَّعاه. نص على ذلك في كتاب الحدود.

(إذا جَحَدَ) الرجلُ (ولادَة زوجته تثبتُ) الوِلادة (بشهادة امرأة) وأما النَّسَب فيثبت بالفِرَاش، حتى لو نفاه يُلاعن. وإذا جَحَدَ ولادة معتدَّة، فثبوتُها بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، أو بوجود حَبَل ظاهر، أو اعترافه بالحَبَل، أو تصديق الوَرَثة عند أبي حنيفة. وقالا: لا يُكتفى بشهادة حرة مسلمة ثقة، كتعيين الولد بالحرة الثقة اتفاقاً. وأما الطلاق المُعلَّق بالولادة فلا يقع بشهادة امرأة واحدة على الولادة عند أبي حنيفة إِذا لم يكن حَبَلٌ ظاهر. وعندهما: يقع بشهادتهما

(1)

، لأن الطلاقَ حكمٌ متعلِّقٌ بالولادة، وشهادة المرأة حجة في إثبات الولادة، لقول حذيفة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة. رواه الدارقطني.

ولقول الزُّهري: مضت السُّنة أنه تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرُهن من ولادة النساء وعيوبهن. وتجوز شهادة القَابلة وحدها في الاستهلال، وامرأتان فيما سوى ذلك. رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة. فكذا فيما يتعلق بالوِلادة. ولعل هذا الحكم مقتَبَسٌ من عموم قوله تعالى:{ولا يَحِلُ لهنَّ أنْ يَكْتُمنَ ما خَلَقَ افي أرحامِهنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ با واليومِ الآخرِ}

(2)

فإنه إن لم تُقبل شهادتهُن، يكون إظهارهن عبثاً في حَقّهِنَّ.

ولأبي حنيفة: أنها ادعت الحِنْث، فلا يثبت إلا بحجة، وشهادة النساء ضرورية في حق الولادة، فلا يظهر في حق الطلاق، لأنه ليس من ضروريات الولادة، إذ الطلاق ينفك عنها في الجملة وإن صار من لوازمها هنا.

ثم إقرار الزوج بالحَبَل كافٍ لوقوع الطلاق المُعلَّق على الولادة من غير الشهادة إذا قالت: ولدت وصَدَّقها

(3)

الزوج، وعندهما يشترط شهادة القابلة.، لأنه حكم متعلق

(1)

وفي المخطوط: لشهادتهما.

(2)

سورة البقرة، آية:(228).

(3)

في المخطوط: "وكذبها" بدل "وصدقها".

ص: 190

‌فَصْلٌ في النَّفَقَةِ والكِسْوةِ والسُّكنَى

تجبُ النفقةُ والكِسوةُ والسُّكْنَى على الزَّوْج. ولو كان صغيرًا لا يقدِرُ على الوطء للعِرْس مسلمةً أَو كافرةً، كبيرةً أو صغيرةً، تُوطأ

===

بالولادة، فلا يثبت عند المنازعة بلا حجة، وشهادتها حجةٌ فيها. لما روينا. وله أن الإقرارَ بالحبل إقرارٌ بما يفضي إليه وهو الولادة.

فصلٌ في النَّفَقَةِ والكِسْوة والسُّكْنى

وأسباب النفقة ثلاثة: الزَّوْجية، والقَرَابة، والمِلْك.

(تجبُ النفقةُ والكِسوةُ والسُّكْنى على الزوج) بالإجماع، وبالكتاب، وهو قوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِه}

(1)

، وقوله سبحانه وتعالى:{وعلى المَوْلُودِ له رِزْقُهنَّ وكِسْوَتُهنَّ بالمعْرُوف}

(2)

أي على مَنْ يُولد له وهو الوالد، وقوله تعالى:{أَسْكِنُوهنَّ مِنْ حيث سَكَنْتُمْ من وُجْدِكُم}

(3)

. وبالسُّنَّة وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في حديث جابر الطويل على ما رواه مسلم وأبو داود: «استوصوا بالنساء خيراً فإنهنَّ عَوَانٌ ـ أي أُسرَاء لكم ـ اتخذْتُموهنَّ بأمانة الله، واستَحْللتُم فُرُوجهنَّ بكلمة الله، وإنَّ عليهنَّ أنْ لا يُوطِئنَ فُرُشَكُم أحداً، وأن لا يأذنَّ في بُيوتكم أحداً تكرهونه، فإذا فَعلْن ذلك فاضرِبُوهنَّ ضرباً غير مُبَرِّحٍ، وإنَّ لَهنَّ عليكم نفقتَهنَّ وكِسْوتَهنَّ بالمعروف» . (ولو كان) الزوج (صغيراً لا يقدِرُ على الوطء) خلافاً لمالك.

ولنا أنَّ العجز من قِبَله، فكان كالمجبوب، (للعِرْس) متعلقٌ بتجب، وهو متناولٌ لمَن مَنَعت نَفْسَها قبل الدخول حتى تقبِضَ المعجّل وهو قولهم، أو بعده وهو قول أبي حنيفة (مسلمة) كانت (أو كافرة) أي ذمية، لإطلاق النصوص، غنية أو فقيرة (كبيرة أو صغيرة توطأ) أي قابلة لأن توطأ وإن لم تزف إليه في ظاهر الرواية، وعليه الفتوى. وأما غيرهما ممن لا قدرة له على وطئها، فلا نفقة لها سواء كانت في منزل الزوج أو لم تكن.

وقال الشافعي ـ وهو الأصح في مذهبه: لها النفقة وإن كانت في المهد لإطلاق النصوص.

(1)

سورة الطلاق، الآية:(7).

(2)

سورة البقرة، آية:(233).

(3)

سورة الطلاق، الآية:(6).

ص: 191

بِقَدْرِ حالِهِما، فتجبُ في المُوسِرِيْن نفقَةُ اليَسَار، والمُعْسِرِين نفقةُ الإِعسَار. وفي المُوسِرِ والمُعسِرَة وعَكْسه بين الحَالين

===

ولنا: أن النفقة لاحتباس مستحق بعقد النكاح ينتفع به الزوج في الجماع ودواعيه، والصغيرة لا تصلُح لذلك، حتى لو كانت مُشتهاة يمكن جماعها فيما دون الفرج، وجبت نفقتُها.

(بِقَدْرِ حالهما) أي حال الزوج والمرأة. وهذا اختيار الخصَّاف، وعليه الفتوى، وهو قول أحمد (فتجبُ في المُوسِرِيْن نفقة اليَسَار) أي الغنى والسَّعَة، (و) في (المُعْسِرِين نفقة الإِعسَار)

(1)

أي الفقر والقناعة (وفي المُوسِرِ والمُعسِرَة وعكسه) وهو المُعسِرُ والمُوسِرَة (بين الحالين) أي دون نفقة اليَسار وفوق نفقة الإعسار بلا إسراف ولا تقتير، إذ خير الأمور أَوسطها. قال الله تعالى:{والذين إذا أنفَقُوا لم يُسْرِفُوا ولم يَقْتُروا وكان بين ذلك قَوَاماً}

(2)

.

ثم كما تفرض لها قدر الكفاية من الطعام، فكذلك من الإدام، لأن الخبز لا يُتُناول عادة إلا مأدُوماً. وجاء في تأويل قوله تعالى:{من أوسَطِ ما تُطْعِمونَ أهْلِيْكم}

(3)

أن أعلى ما يُطعم الرجل أهله الخبزُ واللحم، وأوسطَهُ الخبزُ والزيت، وأدناه الخبز واللبن. وأما الدُّهن فلا يُستغنى عنه خصوصاً في ديار الحَرِّ، فهو من أصل الحوائج كالخبز. وقال الشافعي: بقدْر حال الزوج، وهو اختيار الكَرْخي.

وفي «الذخيرة» و «المبسوط» : أَنه ظاهر الرواية، لقوله تعالى:{وعلى المُوْسِعِ قَدَرُه وعلى المُقْتِرِ قَدَرُه}

(4)

، وقوله سبحانه:{ليُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِه ومَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُه فَلْينفِقْ مما آتاه الله لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إلا ما آتاها سيَجْعلُ الله بعد عسرٍ يسراً}

(5)

، ولأنها لمّا زوجت نفسها من معسرٍ فقد رضيت بنفقة المُعْسِرِين.

وقال مالك: بقدر حال المرأة، لما روى الجماعة إلا الترمذي من حديث عائشة: أن هنداً بنت عُتْبة قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

في المطبوع: "العسار".

(2)

سورة الفرقان، الآية:(67).

(3)

سورة المائدة، الآية:(89).

(4)

سورة البقرة، الآية:(236).

(5)

سورة الطلاق، الآية:(7).

ص: 192

ولو في بيتِ أَبِيها، أو مَرِضت في بيتِ الزَّوْج، لا لناشِزَةٍ خَرَجَت من بيتِه،

===

«خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف» .

ولنا أن الكتاب يقتضي أنها بِقَدْر حال الزوج. وحديث هند يقتضي أنها بقدر حال المرأة، فقلنا: إنها بقدر حالهما عملاً بالدليلين. لكن قد يقال: إن الحديث ليس فيه دلالة على إِعسار الزوج وإيسار المرأة، بل على إيساره و (بخله)

(1)

عليها بحسب اقتداره.

هذا، وتجب النفقة أيضاً (ولو) كانت هي (في بيت أبيها) ولم يطلب الزوج انتقالها إلى منزله، لإطلاق النصوص. وعن أبي يوسف ـ: وهو اختيار القُدُورِيّ وبعض المتأخرين من علماء بلخ ـ: أنها لا تستحق النفقة حتى تُزَفَّ إلى منزل الزوج، وكأنهم بَنَوا أمرها على العرف.

(أو مَرِضت في بيت الزوج) بأن زُفَّت إليه صحيحة فمرضت في بيته. والقياس: أن لا نفقة لها إذا كان ذلك المرضُ مانعاً من الجماع. ووجه الاستحسان: أنه يَستأنِسُ بها ويتمتع بمسها، ومانع المرض عارض، فأشبه الحيض. وفي قوله: في «بيت الزوج» إيماءٌ إلى أنها لو مرِضت ثم سلَّمت نفسها، لا تجبُ النفقة، لأن التسليمَ لم يصح، وهو مروي عن أبي يوسف، قالوا: وهو حسن.

(لا) تجب النفقة (لناشِزَةٍ خرجت من بيته) الذي تسكن معه فيه، أو مُنِعت من الدخول إلى منزلها الذي يسكن معها فيه بغير حق. أما إن خرجت لأنه لم يعْطِها المهر المعجَّل أو لأنه ساكنٌ في مغصوبٍ، أو منعتهُ من الدخول إلى منزلها الذي يسكنُ معها فيه لاحتياجها إليه، وكانت سأَلته أن يحوِّلها إلى منزله، أو يكتري لها منزلاً آخر ولم يفعل: لم تكن ناشزة. وإنما اعتبر في الناشزة عدم الإقامة في المنزل، لأن الظاهرَ أنه يقدر على وطء المقيمة، لأن البكرَ لا تُوطأ إلا كَرْها.

والدليلُ على وجوب النفقة وإن كان مُطْلقاً، لكن خرجت الناشزة بِدَلالة النص. وهو قوله تعالى:{واهْجُرُوهُنَّ في المَضَاجِعِ}

(2)

حيث أُمِر بمنع حقها من الصحبة التي هي مشتركة بينهما، فأولى بمنع النفقة التي هي مختصة لها. ومن اللطائف أنه قيل لشُرَيْح: هل للناشزة نفقة؟ فقال: نعم، فقيل: كم؟، فقال: جِرَابٌ من تراب.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سورة النساء، الآية:(34).

ص: 193

ومحبُوسةٍ بِدَيْن، ولا مَرِيضةٍ لم تُزفّ ومغصوبةٍ كَرْهًا وحاجَّة لا معه.

ولو كانت معه فَلها نفقةُ الحَضَرِ لا السَّفَر ولا الكِرَاء.

وعليه موسِرًا نَفَقةُ خادمٍ واحدٍ لها فقط، لا مُعْسِرًا

===

(و) لا (محبُوسةٍ بِدَيْن) عليها، سواء كانت تقدِر على قضائه أو لا (ولا مريضة لم تُزفّ) إلى الزوج لعدم الاحتباس والاستمتاع. وفي «الذخيرة»: ولو مرِضت في منزلها فلها النفقة، لأنها غير مانعةٍ نفسها من الزوج بغير حق، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن تُحمل الثانيةُ على مرضٍ غير مانعٍ من الجماع. (و) لا (مغصوبةٍ كَرْهاً) وعليه الفتوى. وكذا لا نفقة لامرأة معتدة لوطءٍ وقع بشبهة، لاحتباسها عنه لمانع من جهتها.

(و) لا (حاجَّةٍ) أي لا تجب على الزوج نفقةُ امرأتِه الحاجّة مَعَ غيره إن كان محَرماً لها (لا معه) وهذا عند أبي حنيفة ومحمد، خلافاً لأبي يوسف: حيث لها عنده نفقة الحَضَرِ (ولو كانت) حاجَّة (معه فَلها نفقةُ الحَضَرِ) اتفاقاً، بأن يعتبر قِيمة الطعام فيه، (لا) نفقة (السفر) لأن زيادةَ القيمة في السفر يسقط بما حَصَلَ لها من المنفعة به (ولا الكِرَاء) لأن المُستَحقَّ هو النفقة وليس الكراء منها.

وقال الشافعي: إن حجت بغير إذن زوجها فرضاً أو نفلاً فلا نفقة لها، وبإذنه إن ذهب معها فلها النفقة، وكذا إن لم يذهب في أظهر القولين. وقال أحمد: إن أحرمت من المِيْقَاتِ فلها النفقة، وقيل: لا.

(وعليه موسِراً) إذا كانت امرأته حرة (نفقةُ خادمٍ واحدٍ لها فقط) عند أبي حنيفة، ومحمد، ومالك، والشافعي، وأحمد. وقال أبو يوسف: نفقة خادمين: أحدهما لداخل البيت، والآخر لخارجه. ثم الخادم إن كان مملوكاً لها استحقَّ النفقةَ عندهم، وإن كانت حرة ومملوكة لغيرها اختُلف فيه. ولا يبلغ نفقة خادمها نفقتها. حتى قالوا: يُفرض لخادمِها أدنى ما يُفْرض لها على الزوج المُعْسِر.

وفي «الذخيرة» : إن لم يكن لها خادم فليس عليه نفقتُه، وهو ظاهر الرواية، وقول أحمد، وأكثر أصحاب الشافعي. وفي «نوازل أَبي الليث»: أنّ المرأة إذا كانت تقدِر على خدمة نفسها تُجبر عليها. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : أنها إذا كانت من ذوي الأقدار، ولها خدم كثير، تجب عليه نفقةُ خادمين.

(لا معسراً) أي ليس عليه نفقة خادمها إذا كان معسراً، وهو رواية الحسن عن

ص: 194

في الأَصَحِّ. ولا يفرَّقُ بينهما لعجْزِهِ عنها، وتُؤمَرُ بالاستِدَانةِ عليه،

===

أبي حنيفة. وقوله: (في الأصح): احترز به عن قول محمد: إنه تجب عليه نفقة خادمها إذا لم تكتف بخدمة نفسها، كما لو كان موسراً. ووجه الأول: أن استعمال الخادم لزيادة التنعم

(1)

، فيعتبر في حال اليسار دون الإعسار، ولأن المُعسر يلزمه أدنى الكفاية، والمرأة قد تكتفي بخدمة نفسها كذا قرر الشُّرَّاح. وفيه: أن رواية محمدٍ محمولةٌ على ما إذا لم تكتف بخدمة نفسها، ورواية غيره محمولة على ما إذا كانت تكتفي بخدمة نفسها، فلا تعارض.

(ولا يفرَّقُ بينهما لعجْزِهِ عنها) أي عن النفقة الراتبة والكِسوة (وتُؤمر) المرأة (بالاستدانة عليه) أي على الزوج، بأن تأخذ الطعام على أن تقضي ثمنَه من مال الزوج. وفائدة هذا الأمر ـ مع فَرْض القاضي لها النفقة ـ أن يمكِّنَها أنْ تُحيل ربَ الدين على الزوج، وأنّ ترجع بالدَّيْن على تركته إن مات، وهذا عندنا، وهو قول عطاء بن يَسَار، والحسن البصري، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن شُبْرُمة، وحمَّاد بن سليمان، والظاهرية.

وأجاز التفريق مالك والشافعي وأحمد إذا طَلبَتْه، لقوله تعالى:{فإمسَاكٌ بمعروفٍ أو تَسْرِيحٌ بإحسَانٍ}

(2)

والإمساك بالمعروف أن يوفيها حقها من المهر والنفقة، فإذا عَجَزَ عن ذلك تعين التَّسْريح، إذ المستحِقُّ عليه أحد الأمرين، فإذا تعذر أحدهما تعيَّن الآخر. ألا ترى أنه إذا عَجَزَ عن الوصول إليها بسبب الجَبِّ

(3)

أو العُنَّةِ

(4)

، يفرّقُ بينهما لفوات الإمساك بالمعروف بل أولى، لأن حاجتها إلى النفقة أظهرُ من حاجتها إلى قضاء الشهوة، وهذا كنفقة العبد والأمة فإنها مُستحقَّة عليه بالملك، فإذا تعذرت أجبره القاضي على إزالة المِلك بالبيع. وقيل لسعيد بن المسيَّب: أتفرق بين العاجز عن النفقة وبين امرأته، فقال: نعم، فقيل له: إنه سنةٌ، فقال: نعم. والسُّنَّة إذا أُطلقت يُفهم منها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مذهب مالك: يُفرَّق بينهما بالطلاق. ومذهب الشافعي وأحمد: يفرق بفسخ.

ولنا قوله تعالى: {وإنْ كان ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرةٍ}

(5)

. وهو مُطْلق في كل

(1)

عبارة المطبوع: "أن استعماله لزيادة

" والمثبت من المخطوطة.

(2)

سورة البقرة، آية:(229).

(3)

المجبوب: مقطوع الذَّكَر. معجم لغة الفقهاء ص 405.

(4)

العُنَّة: مصدر عُنَّ الرجل عُنَّةً: عَجِز عن الجماع لمرض يصيبه. معجم لغة الفقهاء ص 323.

(5)

سورة البقرة، آية:(280).

ص: 195

ومَنْ فُرِضَت لعَسَاره فأيَسَر تمّم نَفَقةَ يَسَارِه إنْ طَلبَت.

وتسقطُ في

===

مُعْسِر بحق، وقوله تعالى:{وأنكِحُوا الأيَامَى منكم والصَّالِحين من عِبَادِكُم وإمائِكم إنْ يكونوا فُقَراءَ يُغْنِهم امِنْ فَضْلِهِ}

(1)

حيث جعل الفقر غير مانع من النكاح ابتداءً، فَلأَن يكون غير مانع منه بقاءً أولى، وقوله سبحانه:{لا يُكلِّفُ انَفْساً إلا ما آتاها سَيَجْعلُ ابعد عُسْرٍ يُسْراً}

(2)

حيث دل على أن مَنْ لم يقدر على النفقة لم يُكلَّفْها، فلا يفرَّق لعجزه عنها، ولأن في التفريق إبطال مِلك الزوج، وفي الأمر بالاستدانة تأخير حقها وهو أهون له، فكان أولى وأحسن.

وفي «شرح المختار» : المعسِرة إذا كان زوجها مُعسِراً ولها ابن مِنْ غيرِ موسِر، أو أخ موسر، فنفقتها على زوجها، ويؤمر الابن أو الأَخ بالإنفاق عليها، ويرجع به على الزوج إذا أيسر، ويُحْبَس الابن أو الأخ إذا امتنع، لأن هذا من المعروف.

وفي «شرح الوقاية» : وأصحابنا لما شاهدوا ضرورة الناس إلى التفريق، لأن دَفْع الحاجة الدائمة لا يتيسر بالاستدانة ـ والظاهر أنها لا تجد من يقرضها وغِنى الزوج في المال أمر مُتَوهم ـ استحسنوا أن ينصب القاضي نائباً شافعي المذهب يفرق بينهما. انتهى.

ثم العجز عن النفقة إنما يظهر في حق الزوج الحاضر، وأما الغائبُ غَيْبةً منقطعةً إذا لم يُخلِّف نفقة ورفعت أمرها إلى حاكم شرعي وفرق بينهما، فقال مشايخ سمرقند: جاز تفريقه، لأنه قضى في فصلين مُجْتهدٍ فيهما: أحدهما: التفريق بالعجز عن النفقة، والآخر: القضاء على الغائب. وقال صاحب «الذخيرة» : الصحيح أنه لا يصح قضاؤه، لأن العجزَ لا يُعرف في حال الغَيْبةِ، لجواز أن يكون قادراً، فإذا رُفع هذا القضاء إلى قاضٍ آخر فأمضاه، فالصحيح أنه لا ينفذ، لأن هذا القضاء ليس في فصلٍ مجتهد فيه إِذْ العجز لم يثبت. انتهى. والمشهور في مذهب الشافعي: أنه لا يفرّق بين المرأة وبين زوجها الغائب، ولو غاب عنها مدة طويلة ولم يترك لها نفقة، وإنما يُنسَب هذا إلى الحنابلة. والله سبحانه أعلم.

(ومَنْ فُرِضَت) النفقة (لعَسَاره فأيسر تمّم) وفي بعض النسخ: أتم (نفقة يَسَاره إنْ طلبت) المرأة، ومن فرضت ليساره فأعسر، فعليه نفقة عَسَاره، لأن القضاء بالنفقة كان باعتبار حالهما، وقد تبدلت حاله، فتبدلت بتبدلها. (وتسقط) نفقة الزوجة (في

(1)

سورة النور، الآية:(32).

(2)

سورة الطلاق، الآية:(7).

ص: 196

مدة مَضَت، إلا إذا سَبَق فَرْضُ قاضٍ، أو رضيا بشيءٍ، فتجبُ لما مضى ما داما حَيَّينِ، فإن مات أحَدُهما، أو طَلَّقَها قبلَ قَبْض سَقَط المفروض، إلا إذا استدانَت بأَمْر القاضي. ولا تُستردُ معجلة مُدَّةً. مات أحدهما قَبْلَها ونفقةُ عِرسِ القِنّ عليه، يُباع فيها مرة بعد أخرى،

===

مدة مضت) لم ينفق عليها الزوج فيها، سواء كان غائباً أو حاضراً وامتنع من الإنفاق (إلا إذا سبق فَرْضُ قاضٍ، أو رضيا بشيء) بأن اتفقت مع الزوج على مقدارٍ، (فتجب لما مضى) من هاتين المسألتين (ما داما حيَّينِ، فإن مات أحدهما، أو طلقها) الزوج (قبل قبض) النفقة، وبعد فرض القاضي، أو التراضي على شيء (سَقَط المفروض) وكذا ما تراضيا عليه، لأن الصِّلة لا تتم إلا بالقبض. وعندهما: لا يسقط، لأن الأعواضَ لا تسقط قبل القبض.

(إلا إذا استدانت بأمر القاضي) فإنه لا يسقط. ذكر ذلك الحاكم الشهيد في «مختصره» ، وذكر الخصَّافُ: أنه يسقط. والصحيح الأول، لأن استدانتها بأمر القاضي بمنزلة استدانة الزوج بنفسه، وهو لا يسقط بموت أحدهما فكذا هذه. وقال مالك والشافعي وأحمد في رواية: تصيرُ النفقة الماضية ديناً بلا قضاءٍ وتراض كالمهر.

ولنا أنها صِلة بقدر الكفاية جزاء على الاحتباس، كرزق القاضي في بيت المال، فلا بد من التسليم كالهبة، أو التأكيد بقضاء أو تراضٍ، بخلاف المهر فإنه مطلق.

(ولا تُسترد) نفقةٌ أو كسوةٌ (معجلة مُدَّةً، مات أحدهما) أو كلاهما (قبلها) أي قبل مضي المدة، سواء كانت تلك النفقة قائمة، أو هالكة، أو مستهلكة. وقال محمد والشافعي وأحمد: يحتسب لها بنفقة ما مضى، وترد ما بقي من النفقة إن كانت قائمة وقيمتَها إن كانت مستهلكة

(1)

، ولا ترد إن كانت هالكة بالاتفاق، لأنها أخذت مالاً لمقصود الزوج، ولم يحصل له، فكان له أن يسترده، كما لو عجَّل لها نفقة ليتزوجها، فماتت قبل ذلك. كذا في «الذخيرة» .

(ونفقةُ

(2)

عِرُسِ القِنّ)

(3)

أي العبد الذي لا حرية فيه بوجه (عليه) أي على القِنِّ إذا تزوج بإذن مولاه (يباع فيها مرة بعد أخرى) حتى لو اجتمع عليه نفقة بعدما بِيْع مرة، بِيْع ثانياً وكذا ثالثاً، إِلى ما لا يتناهى، إلا أن يفديه مولاه لأنها دين في ذمته،

(1)

عبارة المخطوط: ترد ما بقي إن كانت قائمة أو هالكة أو مستهلكلة

، والمثبت عبارة المطبوع.

(2)

العِرْس: امرأة الرَّجل. "مختار الرَّجل" ص 178، مادة (عرس).

(3)

القِنُّ: العبد الرقيق الكامل الرَّق. معجم لغة الفقهاء ص 370 بتصرف.

ص: 197

وفي دَيْن غيرها يُبَاع مرة واحدةً. وتَجِبُ سُكناها في بيتٍ ليس فيه أحدٌ من أَهْلِهِ، ولو ولدَه من غيرها إلَّا برضَاها. وبيتٌ مفردٌ مِن دَار له غَلَقٌ كَفَاها.

===

وقد ظَهَر وجوبُه في حق المولى فيتعلق برقبته، كدين التجارة في العبد المأذون. ولما كان حَقُّها في النفقة لا في عين الرَّقبةِ كان للسيد أن يفديه، ولو مات العبد سقطت النفقة، وكذا المهر، لفوات محل الاستيفاء، كالعبد الجاني، وكذا لو قتل في الصحيح. قيد بالقن، لأن المدبَّر

(1)

، وولد أم الولد

(2)

لا يباع، بل يسعى

(3)

وكذا المكاتَب

(4)

ما لم يعجِز. وقيدنا بإذن المولى، لأنه إذا تزوج بغير إذنه لا يباع فيها. وقال الشافعي: لا يباع القِنُّ في نفقة عِرسِه، ويثبت لها الخِيار في الفُرقة. وقال أحمد: لا يباع، ونفقتُها على سيده، وفي رواية: في كسبه.

(وفي دَيْن غيرها) أي غير النفقة كالمهر (يُبَاع) القِنُّ (مرة واحدةً) إذا عجِز عن أدائه ولم يَفْدِه مولاه. والفرق أن دين النفقة يتجدد في كل زمان، فيكون ديناً آخر حادثاً بعد البيع، ولا كذلك سائر الديون. وقد تقدم: أن الأمة والمُدبَّرة وأم الولد لا تجب لها النفقة على زوجها إلا بالتبْوِئة

(5)

. وأما المكاتَبة فهي في يد نفسها، وليس لمولاها أن يستخدمها، فكانت كالحرة في استحقاق النفقة على الزوج إذا لم تحبس نفسها منه ظالمة.

(وتجب سُكناها) أي سكنى المرأة على الزوج (في بيتٍ) بالمِلْك، أو الإجارة، أو الإعارة، أو بالوقف عليه، (ليس فيه أحدٌ من أهله) ساكن معها (ولو) كان (ولدَه من غيرها) لأن السكنى حقها، فلا يشترك معها غيرها، كالنفقة (إلا برضاها) لأن لها إسقاطَ حقها.

(وبيتٌ مفردٌ من دار له) أي لذلك البيت (غَلَقٌ) ومرافق (كَفَاها) لحصول

(1)

المُدَبَّر: الرقيق الذي عُلِّقَ عِتْقه على موت سيده، ومثاله قول السيد لعبده: إن مِتُّ فأنت حُرٌّ. معجم لغة الفقهاء ص: 418.

(2)

أُمُّ الولد: الأمة التي حملت من سيدها وأتت بولد. معجم لغة الفقهاء ص: 88.

(3)

السعي: أن يكلف العبد الحمل ليؤدي به عن نفسه إذا أُعتق بَعْضُهُ ليعتق ما بقي. القاموس الفقهي ص 173.

(4)

المُكَاتَبُ: الرقيق الذي تمَّ عقد بينه وبين سيده على أن يدفع له مبلغًا من المال نجومًا (مُقَسَّطًا)

ليصير حُرًّا. معجم لغة الفقهاء ص: 455.

(5)

التَّبْوئة: هي أَن يخلِّي المَوْلى بين الأَمة وبين زوجها ويدفعها إليه ولا يستخدمها. أَما إِذا كانت تذهب وتجيءَ وتخدُم مولاها لا تكون تبوئة. "رد المحتار" 2/ 376.

ص: 198

وله منعُ والدَيها وولَدِها مِن غيرِه من الدُّخولِ عليها، لا من النَّظر إليها وكلامِها متى شاؤا.

وقيل: لا يَمنعُ من الخروجِ إلى الوَالِدَين، ولا مِن دُخُولِهما عليها، كُلَّ جُمُعة، وفي مَحْرَمٍ غيرهما كل سنة، وهو الصحيح.

وتُفرَض نفقةُ عِرْسِ الغائبِ وطِفله وأبويه في مالٍ له، من جِنْس حقِّهم فقط عند مُوْدَعٍ أو مُضارِبٍ، أو مديونٍ إن أقرَّ بِهِ وبالنكاح،

===

مقصودها (وله منعُ والدَيها وولَدِها من غيره من الدخول عليها) لأن البيت له، فله المنع من الدخول فيه (لا من النظر) أي ليس له منعهم من النظر (إليها و) لا من (كلامها متى شاؤا) حذراً من قطيعة الرحم بما لا ضرر عليه فيه.

(وقيل: لا يمنعُ) الرجلَ امرأَتَه (من الخروج إلى الوالدين ولا) يمنعُ والديها (من دخولهما عليها، كل جُمُعة، وفي مَحْرَمٍ غيرهما) أي غير الوالدين لا يمنع من دخوله عليها (كل سنة وهو الصحيح) احترز به عن قول محمد بن مُقَاتل الَّرازي: لا يمنعُ المَحْرَم كل شهرٍ. وعلى هذا خُرُوجِها لزيارة عمتها أو خالتها. وعن الحسن: لا يَمنعها عن زيارة الأقارب في كل شهرين أو ثلاثة، ولا يمنعْ محارِمَها من الدخول عليها كلَ جُمُعة.

(وتُفرَض نفقةُ عِرْسِ الغائب و) نفقة (طِفله و) نفقة (أبويه في مالٍ له) أي للغائب (من جِنْس حقِّهم) بأن يكون ذلك المال طعاماً أو دراهم، أو دنانير، أو ثياباً من جنس ما يكسى به، لأن نفقتَهم واجبة بدون القضاء، فكان القضاء إعانة لهم، لا إيجاباً مبتدأً، إذ القضاء على الغائب مُمتنعٌ (فقط) أي ولا يُفرض نفقة غير من ذُكِر من المحارم، لأن نفقتَهم لا تجب إلا بالقضاء للاختلاف فيها، إذ عند الشافعي: لا تجب النفقة لغيرهم، ولا تُفرضُ نفقة من ذُكِر أيضاً إذا كان المال من غير جنس حَقِّهم، بأن كان عُرُوضاً

(1)

، لأنه يحتاج إلى القضاء بالقيمة، أو إلى البيع، وذلك لا يجوز على الغائب.

(عند مُوْدَعٍ) هذه صفة ثالثةٌ لمالٍ، أو حال ثانية. والظرف الأول وهو «له» صفة لمال. (أو مُضاربٍ، أو مديونٍ إن أقرَّ بِهِ) أي بالمال (وبالنكاح) وبطِفْلِه وأبويه. قيَّد به لأن أحداً منهم لو أنكر المال أو النكاح، فأقامت المرأةُ البينةَ على ذلك، لا يَفْرض لها

(1)

العُرُوض: هي ما عدا النقود، والحيوانات، والمكيلات، والموزونات، كالمتاع والقماش. المجلة، مادة:(131). وانظر القاموس الفقهي ص 247. ومعجم لغة الفقهاء ص 309.

ص: 199

أو عَلِمَ القاضي ذلك، ويُحلِّفُها أنه لم يُعطِها النفقةَ، ويُكْفِلُها، لا بإقامةِ بينةٍ ليفرِض عليه، ويَأمُرها بالاستدانة. ولا يقضي بالنكاح.

وقال زفر: يقضي بالنفقة لا بالنِّكَاح. وعَملُ القضاةِ اليومَ على هذا للحاجةِ ولمُطَلَّقةِ الرَّجْعيِّ، والبائن، والمفرَّقة بلا معصيةٍ، كخيار العِتْقِ والبُلوغ والتفريقِ، لعدم الكفاءة النفقةُ والسُّكْنَى،

===

القاضي، لأن بيِّنَتَها لا تُقبل، لأن أحداً منهم ليس خصماً عن الغائب في إثبات الزوجية، ولا المرأةُ خصماً في إثبات حقوق الغائب في ماله. وإذا ثبت في حقه تعدّى إلى الغائب (أو عَلِمَ) عطف على أَقر، أي أو إن علم (القاضي ذلك) أي المال، والنكاح، والنَّسَب، لأن علمَه حُجةٌ يجوز القضاء به في محل ولايته.

(ويُحلِّفُها) أي القاضي المرأة (أنه) أي الزوج (لم يُعطِها النفقةَ ويُكْفِلُها) أي ويأخذ منها كفيلاً أيضاً، لاحتمال أنها استوفتِ النفقة، أو طلقها الزوج وانقضت عدتها.

(لا بإقامة بينةٍ) على النكاح، ولا إن لم يُخلِّف مالاً، فأقامت بينة، أي لا يَفْرض القاضي للمرأة النفقة إذا أنكر المُودَعُ، أو المُضَارِبُ، أو المديون النكاح، فأقامت البينة عليه، أو أنكر المال، فأقامت البينَةَ عليه (ليفرض عليه) أي على الغائب (ويأمرَها بالاستدانة) عليه. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، الآخر وقول محمد. والأصح قَبُوله البينَةَ، وهو قولهما الأول، وبه قال زفر.

(ولا يقضي بالنكاح) لأن في ذلك قضاءً على الغائب (وقال زفر: يقضي بالنفقة لا بالنكاح، وعمل القضاة اليوم على هذا) الذي قال زفر: (للحاجة) والرِّفقِ بالناس. ولا تحتاج المرأة على قول زفر إلى إقامة البينة أنه لم يترك لها نفقة (ولمطلقة الرجعي، والبائن، والمفرَّقة بلا معصية، كخيار العِتْقِ والبُلوغ والتفريق لعدم الكفاءة) أو بإسلام المرأة وإباء الزوج، أو باللعان، أو بالإِيلاء، أو بالعُنَّة، أو بالجَبِّ (النفقةُ والسُّكْنَى)، وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور: لا نفقة للمطلقة ثلاثاً أو على عِوَضٍ إلا إذا كانت حاملاً فبالإجماع لقوله تعالى: {وإنْ كُنَّ أولاتِ حَمْلٍ فَأنفِقُوا عليهنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

(1)

.

ثم دليلهم ما روى الجماعة إلا البخاري من حديث الشَّعبي عن فاطمة بنتِ قَيْس قالت: طلقني زوجي ثلاثاً، فخاصمتُه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لي سُكنى

(1)

سورة الطلاق، الآية:(6).

ص: 200

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ولا نفقة، وأمرني أن أعتدَّ في بيت ابن أم مَكْتُوم. وعند النَّسَائي فيه من حديث سعيد ابن يزيد الأحْمَسي: حدثنا الشَّعبي به: إنما النَّفقة والسُكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة. وفي مسلم: أن أبا عمرو بن حَفْص بن المُغِيْرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام، وعَيَّاش بن أبي ربيعة بنفقة فسَخِطَتْهَا، فقالا: لا والله ليس لك نفقة إلا أن تَكُوني حاملاً، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتْ له قولَهُما، فقال:«لا نفقة لك» . وزاد أبو داود: «إلا أن تَكُوني حاملاً» .

ولنا إطلاق قوله تعالى: {أسْكِنُوهنَّ مِنْ حيثُ سَكَنْتُم من وُجْدِكُم}

(1)

، وما روى مسلم من حديث أبي إسحاق قال: حدَّث الشَّعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا سُكنى لها ولا نفقة» . فأخذ الأسود كفاً من حصى ـ وفي نُسخة: حَصْبَاء ـ فَحَصَبَه به وقال: ويْلَك تُحدِّث بمثلِ هذا. قال عمر: لا نتركُ كتابَ الله ولا سنةَ نبينَا بقولِ امرأة، لا ندري أحفظتْ أم نسيت، لها السُّكْنى والنفقة، قال الله تعالى:{ولا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهنَّ}

(2)

الآية. فقد أخبر أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لها النفقة والسكنى، ولا ريب في أن قول الصحابي:«من السنة كذا» رَفْعٌ، فكيف إذا كان قائله عمر.

وقد صرح

(3)

البيهقي والدارقطني بزيادة قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «للمطلقة ثلاثاً النفقة والسكنى» . وقال إبراهيم كان عمرُ إذا ذكر عنده حديث فاطمة قال: ما كُنَّا نغيِّر في دِيننا بشهادة امرأة. فهذا شاهدٌ على أنه كان الدِّينُ المعروف المشهورُ عندهم وجوب النفقة والسكنى. فَنُزِّل حديثُها من ذلك بمنزلةِ الشَّاذ. والثِّقة إذا شذ لا يُقبل ما شذ فيه. ويُصرح بهذا ما في مسلم من قول مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، سنأخذ بالعِصمة التي وجدنا الناس عليها، والناس إذ ذاك هم الصحابة.

وروى مسلم أيضاً من حديث عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت في فاطمة: لا خير أن لها في ذِكْر هذا، تعني قوله: لا سُكنى لك ولا نفقة. وفي لفظ للبخاري: قالت: ما لفاطمة أَلا تتقي الله، تعني في قولها: لا سُكْنى لك ولا نفقة. وعنها: أنها قالت لفاطمة: إنما أخرجك هذا للسان، يعني أنها إنما

(1)

سورة الطلاق، الآية:(6).

(2)

سورة الطلاق، الآية:(2).

(3)

في المطبوع: "خرّج" بدل "صرح".

ص: 201

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

استطالت على أحْمَائها، وكَثُر الشر بينهم، فأخرجها عليه الصلاة والسلام لذلك. ويقوي ثبوته عن عائشة احتجاج ابن المسيَّب به، وهو معاصر لها، وأعظم متتبِعٍ لأقوال من عاصره من الصحابة حفظاً ودراية على ما في أبي داود من حديث ميمون بن مِهْران قال: قدِمتُ المدينة فَدُفِعت إلى سعيد بن المسيَّب، فقلت: فاطمة بنت قيس طُلِّقت، فخرجت من بيتها؟ فقال: تلك امرأة فَتَنَتِ الناس، كانت لَسِنَةً، فَوُضِعَتْ على يد ابن أم مكتوم.

وهذا هو المناسب لمنصبه، فإنه لم يكن لينسُبَ إلى صحابية ذلك من عند نفسه. وفي الحديث: أن سليمان بن يَسَار قال: خروج فاطمة إنما كان من سُوء الخُلُق. وممن ردّه زوجها أسامة بن زيد حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا ذكرت فاطمة شيئاً من ذلك، يعني من انتقالها في عدّتها، رماها بما في يده. رواه عبد الله بن صالح من حديث الليْث بن سعد بسنده. فهذا لم يكن إِلاَّ لعلمه بأنه غلط منها، أو لِعِلْمه بخصوص سببه

(1)

من اللَّسَنِ أو ضيقِ المكانْ.

وممن رده: زيد بن ثابت، ومروان بن الحكم. ومن التابعين: ابن المسيَّب، وشُرَيْح، والشَّعْبي، والحسن، والأسود بن يزيد، وممن بعدهم: الثوريُّ وأحمد بن حنبل وخلقٌ كثير من بعدهم.

وقال الطحاوي: إن الله تعالى لما بيَّن بقوله: {يَأيها النَّبيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء} الآية

(2)

، أن للمطلقة السُّكنى، ونهاها عن الخروج، ونهى الزوج عن إخراجها، من غير تفرقة بين المطلقة للسُنَّة التي لا رَجْعَة عليها، وبين التي عليها الرجعة. وجاءت فاطمة وروت التفرقة بينهما على خلاف ما رُوي عن عمر، وما جاء به الكتاب صحّ احتجاج عمر وبطل حديثها.

فإن قيل: المراد بالآية المطلقة رجعياً لقوله تعالى في آخرها: {فإذا بَلَغْنَ أجَلَهنَّ فأمسِكُوهُنَّ بمعروفٍ أو فارِقُوهنَّ بمعروف}

(3)

وهو حكم الرجعة دون البائن. أُجيب بأن صدرَ الآية عام وآخرَها خاص ببعض ما تناوله الصدر، وذلك لا يُبْطِل عمومَه. ونظير ذلك قوله تعالى:{والمُطلَّقاتُ يَتَرَبَصنَّ بأنْفُسِهنَّ ثلاثةَ قُروء}

(4)

فإِنه عام في البائن

(1)

في المطبوع: "سيئة" بدل "سببه".

(2)

سورة الطلاق، الآية:(1).

(3)

سورة الطلاق، الآية:(2).

(4)

سورة البقرة، آية:(228).

ص: 202

لا لمُعتدَّة الموتِ والمفرَّقة بمعصية كالرِّدة.

وتقبيلِ ابن الزَّوْج ورِدَّةِ مُعتدَّة الثلاثِ تُسقِطُ النَّفَقةَ، لا مَكيِنهَا ابنَهُ.

ونفقةُ الطِّفل فقيرًا على أبيه،

===

والرجعي ولم يبطل عمومه بآخر الآية الخاص بالرجعي، وهو قوله تعالى:{وبُعُولَتُهنَّ أحقُّ بِرَدِّهنَّ في ذلك}

(1)

،

(لا لمُعتدَّة الموتِ) أي لا نفقة لها، لأن احتباسها لحق الشرع لا لحق الزوج، فإن التربُّصَ منها عبادة، ولهذا لا يراعى فيها التعرُّف عن براءة الرَّحِم بالحيض مع إمكانه. وعن الشافعي في وجوب السكنى قولان: أحدهما: عدم الوجوب، وهو اختيار المُزَنِيّ. وثانيهما: الوجوب، وهو قول مالك. (والمفرَّقة) أي ولا نفقة للمفرَّقة بينها وبين زوجها (بمعصية) منها (كالرِّدة، وتقبيلِ ابن الزوج) بأَنْ قَبَّلَتْه بالشهوة في عصمة أبيه، أو عدته من الرجعي، لأنها حبست نفسها بغير حق، فصارت كالنَّاشِزة، بل أشدَّ منها لإزالتها النكاح بالكلية، بخلاف المفرَّقة بغير معصية، كخيار العتق والبلوغ، وعدم الكفاءة، لأنها حبست نفسها بالحق، وذلك لا يُسقِط النفقة، كما إذا مَنَعت نفسها لاستيفاء مهرها.

(ورِدَّة مُعتدَّة الثلاثِ تُسقِطُ النفقة لا تَمِكينُها) أي لا يُسْقط النفقة تمكين معتدة الثلاث (ابنه) أَي ابن الزوج، لأنه لا أثر حينئذٍ للرِّدة. إلا أنَّ المرتدة تُحْبَس لتتوب، ولا نفقة للمحبوسة، بخلاف الممكِّنَةِ ابن زوجها.

(ونفقةُ الطِفل) حال كونه (فقيراً على أبيه) لأنه تعالى أوجب نفقة النساء على الرجال لأجل أولادهن، لقوله تعالى:{وعلى المَوْلُودِ له رِزْقُهنَّ وكِسْوتُهنَّ بالمعروف}

(2)

لأن ترتب الحكم على الوصف يُشعر بالعِلِّيَةِ، فَلأَن تجب نفقة الأولاد أولى. والمولود له هو الأب، ولأنه تعالى أوجب على الأب نفقة طِفله من اللبن وغيره وقت الرضاع بقوله:{فإن إرْضَعْنَ لكم فآتوهنَّ أجُورَهُنَّ}

(3)

، فيجب بعده بجامِع الفقر والعَجْز.

ونفقة الإرضاع على الأب لا يشاركه فيها أحد، فكذا نفقة الأولاد الصغار،

(1)

سورة البقرة، الآية:(228).

(2)

سورة البقرة، الآية:(233).

(3)

سورة الطلاق، الآية:(6).

ص: 203

لا يشارِكُه أحدٌ كنفقةِ أبوية وعِرْسِه.

وليس على أُمِّه إرضاعُهُ إلا إذا تعينَتْ، ويستأجِرُ الأب مَنْ يُرْضِعُهُ عندها. ولو استأجَرَها مَنْكُوحَةً له أو معتدةً من رَجعي لتُرْضِعَه، لم يَجُزْ وفي المَبْتُوتةِ روايتان.

===

وكذا يجب عليه نفقة طِفلٍ ابنهِ فقيرين (لا يشاركه)

(1)

أي الأب في نفقة طِفْله (أحد) من الأم ونحوها (كنفقة) أي كما لا يشاركه أحد في نفقة (أبويه وعِرْسه) وعن أبي حنيفة أن نفقة الطفل على الأب والأم أثلاثاً بحسب ميراثهما. قيد بالأب لأن الجد والأم يشاركهما غيرهما، لأن نفقة الطفل عليهما على قَدْر ميراثهما في ظاهر الرواية. وبه قال أحمد. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنها على الجد وحدَه، وهو قول الشافعي.

(وليس على أُمه إرضاعُهُ) قضاءً، لأنه من النَّفقة وهي على الأب. قيدنا بالقضاء لأن عليها إرضاعه ديانةً، كخدمة البيت من الكَنْسِ، والطبخ، والخَبز (إلا إذا تعينَتْ) بأن لم يوجد غيرها، أو وجد ولم يقبله الطفل، أو كان الأب مُعسِراً، فإنها تُجبرُ على إرضاعه صِيَانة للولد عن الضياع. وأوجب مالك على الأم إرضاع ولدها بلا أُجرة إذا كانت تحته، أو طُلِّقت رجعية ولا مانع، كأن تكون عالية القدر.

ولنا أن الإرضاع كالنفقة، ونفقة الصغير على الأب دون الأم، فكذا الإرضاع، وربما لا تقدر عليه لعذر بها، فلو أُجبِرَت تضررت، وقد قال الله تعالى:{لا تُضَارَّ والدةٌ بِوَلَدِهَا}

(2)

أي بإلزامها الإرضاع مع كراهتها. كذا قرّروه، والظاهر أن الأعذار تمنع الإجبار من غير خلاف للإضرار.

(ويستأجِرُ الأب مَنْ يُرْضِعُهُ عندها) إن أرادت ذلك، لأن لها الحضانة (ولو استأجَرَها) أي الأب الأمَّ حال كونها (مَنْكُوحَةً له أو معتدةً من رَجعي لتُرْضِعَه لم يَجُزْ) لأن الإرضاع مُستَحَقَ عليها ديانة بقوله تعالى:{والوَالِدَاتُ يُرضِعنَ أولادَهنَّ حَوْلَيْنِ}

(3)

واستئجار الشخص لأمر مُستَحقَ عليه لا يجوز. وأجازه الشافعي، لأنها كالأجنبية بالنسبة إلى هذه الأعمال، ولذا لو امتنعت عنه لم تُجبر عليه، فيصح إجارتها نفسَها، كما يصح لإرضاع ولد له من غيرها.

(وفي) استئجار الأم (المبتوتة) المعتدة (روايتان) الجواز، لأن النكاح قد زال فالتحقت بالأجانب، وعدمه وهي رواية الحسن عن أبي حنيفة، لأن العِدَّةَ من أحكام

(1)

في المخطوط: "لا يشركه".

(2)

سورة البقرة، آية:(233).

(3)

سورة البقرة، آية:(233).

ص: 204

وَلإِرضاعِهِ بعد العِدّة صحّ، وهي أَحقُّ من الأَجنبية إِلا أَن تَطلُبَ زيادةَ أَجرٍ.

ونفقةُ البنتِ بالغةً والابنِ زَمِنًا على الأبِ خاصَّةً، وبه يُفتى. وعلى المُوسِر يَسَارَ الفِطْرَةِ

===

النكاح، ولهذا يجب لها النفقة والسُّكنى، ولا يجوز للزوج أن يدفع الزكاة إليها، ولا أن يشهد لها.

(وَلإِرضَاعِهِ) عطف على لِتُرضعه، أي ولو استأجرها (بعد العِدّة) لإرضاع ابنه منها، أو لابنه من غيرها وهي في نكاحه (صَحَّ)، لأن الإرضاع ليس بمُستَحقَ عليها (وهي) أي الأم بعد العدة (أَحق من الأَجنبية) لأنها عليه أشفق، ولبنها له أوفق

(1)

، وهي به أرفق، فكانت أحق (إلا أن تطلبَ) الأم (زيادة أجر) على الأجنبية دفعاً للضرر عن الأب، أو تكون الأجنبية ترضعه بغير أجر والأم بأجر، لقوله تعالى:{لا تُضَارَّ وَالدةٌ بِوَلَدِهَا ولا مُوْلُودٌ له بِوَلَدَهِ}

(2)

. قالوا: مُضارَّة الأب إلزامه الزيادة على أجرة الأجنبية، وقد قال الله تعالى:{وإن تَعَاسَرْتُم فَستُرضعُ له أخرى}

(3)

.

(ونفقةُ البنت بالغةً) ليس لها زوج (والابن) بالغاً (زَمِنَاً) إذا كانا فقيرين، وكذا إذا كان أعمى، أو ذاهِبَ العقل فقيراً، أو طالبَ علم لا يهتدي إلى الكَسْب، أو من ذوي البيوت وأبناء الكِرَام، أو لا يجد من يستأجر، فهو عاجزٌ. قال الحَلْواني: ورأيت في موضع أن هذا إن كان بهم رشد (على الأب خاصة) لأنه لا يشاركه أحد في مؤنة رضاعهما صغيرين، فكذا في نفقتهما كبيرين (وبه يُفتى)، ومختار الخَصَّاف وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة: أنها تجب أثلاثاً: ثلثان على الأب وثلث على الأم.

(وعلى المُوسِر يَسَارَ الفِطْرَة) وهو أن يَملِكُ نِصَاباً من أي مال كان، فاضلاً عن حاجته الأصلية، لأنه المعتبر لوجوب المواساة في الشرع ولو كان كسوباً، وهذا عند أبي يوسف. وعند محمد: تقدير اليَسَار هنا بأن يَفضُلَ عن نفقته ونفقة عياله شهراً إن لم يكن من أهل الحِرَف، وعن نفقتِهِ ونفقة عِيَاله كل يوم إن كان من أهلها، حتى لو اكتسب درهماً كل يوم وكفاه بعضه يجب صرف باقيه إلى قريبه. قال صاحب «التحفة»: قول محمد أرفق.

وجعل في «الهداية» الفتوى على قول أبي يوسف. وعند الشافعي بأن يَفضُلَ عن قُوتِهِ وقوت عياله ما يُصرف إلى قريبه.

(1)

في المطبوع: "أرفق".

(2)

سورة البقرة، آية:(233).

(3)

سورة الطلاق، الآية:(6)

ص: 205

نفقةُ أصولِهِ الفقراء بالسَّويَّة بين الابنِ والبنتِ، ويُعتبر فيها القُربُ والجُزئيةُ، ففي مَنْ له بنتٌ وابنُ ابنٍ على البنتِ، وفي ولدِ بنتٍ وأخٍ على ولدِهَا.

ونفقةُ كلِ ذي رحمٍ مَحْرَمٍ صغيرٍ، أو بالغةٍ فقيرةٍ،

===

(نفقةُ أصولِهِ الفقراء) من أبويه، وأجداده، وجدّاته من الطرفين وإن عَلَوا، (بالسَّويَّة بين الابن والبنت) في ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنها بالتفاوت على الذكر مِثْل حظِ الأنثيين على قياس الميراث، ونفقة ذوي الأرحام، وبه قال الشافعي وأحمد. والأول أصح لأن استحقاق الأبوين النفقةَ باعتبار حق المِلك لهما في مال الولد، لقوله عليه الصلاة والسلام:«أنت ومالُك لأبِيْك»

(1)

. وهو في الذَّكَر والأنثى سَواء، ولهذا ثبت لهما هذا الاستحقاق مع اختلاف المِلَّة وإن انعدم التوارث بسبب اختلاف المِلَّة.

(ويُعتبر فيها) أي في نفقةِ الأصول. وفي بعض النُسخ: «فيه» ، أي في هذا النوع من النفقة (القُرب والجُزئية) لا الإرث، ولهذا يجب مع اختلاف الدين.

(ففي مَنْ له بنتٌ وابنُ ابنٍ) كلها (على البنت) للعلتين، (وفي ولد بنت وأخ على ولدها) قال الحَلْواني: لو كان الأب قادراً على الكسب لا يُجبر الابن على نفقته، لأنه غني باعتبار كسبه. وقال السَّرَخْسِيُ: قيل: وهو ظاهر الرواية إذا كان الابن قادراً على الكسب، لا تجب نفقتُه على الأب. وإذا كان الأب قادراً على الكسب تجب نفقته على الابن، لأن معنى الأذى في الكدِّ والتعب أكثر منه في التأفيف المنهيّ عنه في حق الأبوين حيث قال الله تعالى:{فلا تَقلْ لهما أُفَ}

(2)

. وأما الأجداد والجدات فإنهم كالآباء والأمهات، ولأنهم تسببوا لإحيائه، فاستوجَبُوا عليه الإحياء، كالأبوين. وإنما شُرِطَ الفقر لأنهم لو كانوا موسرِينَ لا يجبُ نفقتُهم عليه، إذ الأصل أن نفقة الإنسان في ماله.

(و) على الموسِرِ (نفقةُ كلِ ذي رحمٍ مَحْرَمٍ صغيرٍ) فقير أو كبير عاجز عن الكسب (أو بالغة فقيرة) حتى يكون نفقة الصغيرة على الأم والجد أثلاثاً، ونفقة الأخ المعسر على أخواته المتفرِّقات المُوسِرَات أخماساً، لأن في قوله تعالى:{وعلى الوَارِثِ مثلُ ذلك}

(3)

إشعاراً باعتبار المِقدَار، ولأن الغُرْم بالغُنْمِ. وشُرِطَت المحرمية

(1)

أخرجه ابن ماجه في سننه 2/ 769، كتاب التجارات (12)، باب ما للرجل من مال ولده (64)، رقم (2291).

(2)

سورة الإسراء، الآية:(23).

(3)

سورة البقرة، آية:(233).

ص: 206

أو ذَكَرٍ زَمِنٍ، أو أعمى، على قدْرِ الإِرْثِ،

===

لقراءة ابن مسعود: «وعلى الوارِثِ ذي الرَّحِمِ المَحْرَم مثلُ ذلك» فقيِّدَ المطلق به، إذ قراءته لا تنزل عن رواية، ومن يكون محتاجاً من الوارثين يُجعل في حكم المعدوم (أو ذَكَرٍ زَمِنٍ، أو أعمى: على قدْرِ الإرث).

وعند الشافعي لا يجب غير نفقة الوِلاد، فلا تجب النفقة لغير الوالدين والمولودين، لأن استحقاق الصِّلة عنده باعتبار الولاد دون القرابة، حتى لا يَعْتِقُ أحدٌ على أحد إلا الوالدان والمولودون عنده. وجعل قَرَابة الإخوة كقرابة بني الأعمام، وحمل قوله تعالى:{وعلى الوارِثِ مِثْلُ ذلك}

(1)

على نفي المُضارَّة دون النفقة. وهو مروي عن ابن عباس. وقيل: المراد بالوارث وارث الأب، وهو الصبي نفسُه. والمعنى: أنه مات أبوه وورثه، وجبت أجرة رضاعه في ماله إن كان له مال، وإن لم يكن له مال أجبرتِ الأم على إرضاعه. وقيل: المراد به الباقي من الأبوين من قوله صلى الله عليه وسلم «واجْعَلْه الوَارِثَ مِنَّا»

(2)

.

وأجيب بأن الإشارة بذلك للبعيد، وهو هنا وُجوبُ الرزق والكسوة على الأب. ونفي المُضارَّة لا يختص بالوارث، بل يجب على غيره أيضاً، فلا تحمل الآية عليه، بدليل قول عمر وزيد، فإنهما قالا:{وعلى الوَارِثِ مِثْلُ ذلك} من النفقة.

ثم اعلم أن مالكاً قصر النفَقَة على الصُلْبيّ، أي قريب الوِلاد بلا واسطة، حتى لا يجب عنده نفقةُ جِدَ ولا جدّةٍ، ولا ولد ولد، بل يجبُ على الأب نفقة ولده المحصور (الفقير)( 2) على قدر حاله حتى يحتلم، عاقلاً غير زَمِنٍ بما يمنع التكسّب. وعلى الولد كبيراً كان أو صغيراً، ذكراً كان أو أنثى: نفقة أبويه الفقيرين، صحيحين كانا أو زَمِنَيْن، مسلمين أو كافرين، لأن إنفاقَه على من يثبت بينه وبين جزئية بلا واسطة، كأنه إِنفاقٌ

(3)

على نفسه، فيجب بخلاف غيره.

وقال ابن أبي ليلى: تجب النفقة على كل وارث مَحْرماً كان أو غير محرم. واستدل بظاهر قوله تعالى: {وعلى الوَارِثِ مِثْلُ ذلك} .

ولنا ما قدّمنا من قراءة ابن مسعود: «وعلى الوَارِثِ ذي الرَّحِمِ المَحْرَمِ مِثْلُ ذلك» فقيَّدَ المطلق به، ولأنه الذي يَحرُم قطعُه. ومنعُ النفقةِ مع يَسَار المنفقِ يؤدي إلى قطيعة

(1)

سنن الترمذي 3/ 493 - 494، كتاب الدعوات (45)، باب (79)، رقم (3502).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

في المطبوع: إِنفاقه، وما أَثبتناه من المخطوط.

ص: 207

ويُعْتبرُ أهليةُ الإرْث لا حقيقَتُه، فنفقةُ مَنْ له خالٌ وابنُ عمِّ على الخالِ، ولا نفقَةَ مع الاختلافِ دِيْنًا إلا للزوجةِ والأصولِ والفُروعِ،

===

الرَّحِمِ، وهي من الملاعِنِ، قال الله تعالى:{أولَئكَ الذيْنَ لَعَنَهم الله}

(1)

وقد ورد: «الرَّحِمُ معلقةٌ بالعرش تقول: مَنْ وصلني وَصَلَه الله، ومَنْ قَطَعَني قَطَعَه الله» . رواه مسلم عن عائشة.

وشَرطَ الصِّغر أو الفقر أو

(2)

الزَّمَانَة لتحقق العجز، فإِن هذه الأمور أمَارَةُ الحاجة. وروى الطبراني بإسناد حسن من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اليد العُليا أفضل من اليد السُّفلى، وابدَأْ بِمَنْ تَعُول: أُمَّكَ، وأَباكَ، وأختكَ وأخاك، وأدنَاك فأدناك» . وهو في «الصحيحين» وغيرهما بنحوه من حديث حكيم بن حِزَام. وروى الطبراني في «الأوسط» من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أنفق المرءُ على نفسِهِ، وأهله، وولده، وذي رَحِمِهِ وقَرَابَتِهِ، فهو له صدقة» .

(ويعتبر) في نفقة ذي الرحم المحرم (أهلية الإرث لا حقيقته) لأن حقيقة الإرث لا تُعلم إلا بعد الموت، وحينئذٍ تسقط النفقة، (فنفقة مَنْ له خالٌ وابن عم على الخال) لأنه ذو رحم محرم، يمكن أن يرث ممن له النفقة بناءً على توريث ذوي الأرحام، بأن يموت ابن العم قبله. وإِن استويا في المَحْرَميَّةِ والأهليةِ للإرث تَرَجَّحَ مَنْ كان وارثاً في الحال، فلو كان له عم وخال، أو عم وعمة، تجب النفقة على العم، لاستوائهما في المحرمية، وتَرَجَّحَ العمُّ بكونه وارثاً في الحال بالنسبة إلى العمة والخال.

(ولا نفقَةَ) تجب (مع الاختلافِ دِيْناً إلا للزوجة والأصول) الأبوين، والأجداد، والجدَّات (والفروع) الولد وولد الولد. أما الزوجة فلأن نفقتَهَا لاحتِبَاسها بحقٍ مقصودٍ بعقدِ النِّكَاح، وذلك يَعتَمِدُ صحةَ العقدِ دونَ اتحاد المِلة. وأما الأصول والفروع فلأن نفقتهم باعتبار الجُزئية، وجُزءُ المرء في معنى نفسه، وكما لا يُمنع نفقَةَ نفسِهِ بكفره، لا يُمنع نفقَةَ جزئِه إلا أنهم إذا كانوا حَربِيّين لا تجب نفقتهم على المسلم وإن كانوا مستأمَنين، لأنا نُهينا عن بِرِّهم، لقوله تعالى:{إنَّما يَنْهَاكُم اعن الذين قَاتَلُوكُم في الدِّيْن}

(3)

الآية.

(1)

سورة النساء، الآية:(9).

(2)

عبارة المخطوط: "وشرط الصغير والفقير

".

(3)

سورة الممتحنة، الآية:(9).

ص: 208

ولا مع الفقرِ إلا لها وللفُرُوعِ، ولا للغنِيِّ إلَّا لها.

وباع الأبُ عَرْضَ ابنِهِ لا عَقَارَه لنفقتِهِ،

===

وكان القياسُ في حق الوالدين والولد أنْ لا يثبت استحقاق النفقة مع اختلاف المِلة، لأن استحقاقَها بطريق الصِّلة كنفقة الأقارب، ولكنهم استحسنوا وأوجبوا على الولد المسلم نفقة أبويه الذِّميين، لقوله تعالى:{وصَاحِبْهُما في الدنيا مَعرُوفاً}

(1)

وليس من المُصاحبةِ بالمعروف أن يتقلب في نِعم الله تعالى ويدعهما يموتان جُوعاً وعُرْياً. والأجداد والجدَّات من قِبَل الأب والأم بمنزلة الأبوين في ذلك، لأن استحقاقَهم باعتبار الوِلاد

(2)

، وبمنزلة استحقاق الأبوين.

(ولا) نفقة تجب (مع الفقر) وفي بعض النُسخ: ولا على الفقير (إلا لها) أي الزوجة. (وللفُرُوعِ) الصغار. وقيل: إذا كان فقيراً زَمِناً أو أعمى، تجب نفقة أولاده في بيت المال كنفقته. (ولا) نفقة تجب (للغني إلا لها) أي للزوجة، لأن نفقتَها جزاءُ احتباسِها، وهو موجود في «الغُنْية» .

(وباع الأب) عند أبي حنيفة لنفقتِهِ بقَدْر حاجته (عَرْض ابنه)

(3)

الكبير الغائب، لأنه إذا كان حاضراً لايبيع الأب عَرْضه اتفاقاً، وإذا كان صغيراً يبيعه اتفاقاً. والمراد بالعَرْض هنا ما يُنقل (لا عَقَارَه) أي لا يبيع الأب عَقَار ابنه (لنفقتِهِ) متعلق بـ: باع. والقياس أن لا يبيعَ العَرْض أيضاً إذا كان الابن كبيراً، وهو قول أبي يوسف ومحمد، لأن ولاية الأب زالت ببلوغ الابن رشيداً، إلا فيما يبيعُه تحصيناً له، فللوصي وللأب بيع عُرُوض الابن الغائب تحصيناً لماله، وبيعه هنا ليس للتحصين، بل لنفسه وليس له هذه الوِلاية. ألا تَرى أنَّ النفقَةَ لا تكون أوجب من سائر الديون. وليس لأب بيع شيء من مَتَاع ولده في دين له عليه، ولا يقضي القاضي بذلك أيضاً، لأن فيه قضاءً على الغائب، فكذا في النفقة واستحقاق الأم النفقة، كاستحقاق الأب، وهي لا تبيع عُرُوض الولد في نفقتِها فكذا هو.

ولأبي حنيفة ـ وهو وجه الاستحسان ـ أن للوالِدِ أن يتملَّك مال ابنه عند الضرورة، ونفقة نفسه منها. ولأن ولاية التصرُّف وإن زالت بالبلوغ عن عقل، فولاية الحِفْظ ثابتة، لأن ولاية الحفظ تثبت لمن لا يثبت له ولاية التصرف، كالوصي في حقِ

(1)

سورة لقمان، الآية:(15).

(2)

حرفت في المطبوع إلى: "الولاء".

(3)

الحَرْض: بوزن الفَلْس: المتاع. وكل شيء عَرْضٌ إلا الدراهم والدنانير، فإنها عين. مختار الصحاح ص 178، مادة (عرض).

ص: 209

لا لِدَين له عليه سواها، ولا الأمُّ تبيع مالَه لنفَقَتِها. وضَمِنَ مُودَعُ الابنِ لو أَنْفقها على أبويه بلا أَمْرِ قاضٍ، لا الأَبوان لو أنفقا مالَهُ عندهما.

وإذا قُضِي بنفقةِ غير العِرْس ومَضَت

===

الوارثِ الكبيرِ الغائب له ولاية الحِفظ وبيع العُرُوض، فالأب بذلك أحق لأنه أشفق، وبيعُ العُرُوض من الحفظ لأنه يُخشى عليه من التَّوَى

(1)

، وحفظ الثمن أيسر وأيمن، وبعد البيع يصيرُ الثمن من جنس حقه، فله أن يأخذ منه قدْر النفقةِ. وإنما لا يبيع العَقَار لأنه مُعدٌّ للانتفاع به مع بقائه، ويحصل مقصود الأب من النفقة باستغلاله، فلا يجوز له بيعه إلا بكمال الوِلاية، وهو عند صِغَرِ الولد أو جُنُونه.

(لا لِدَين) أي لا يبيعُ الأب عَرْض ابنه لأجل دين (له) أي للأب (عليه) أي على الابن (سواها) أي سوى نفقة الأب، إذ لا ضرورة في ذلك (ولا الأم تبيع مالَه) أي مال الابن مطلقاً (لنفقتها) لأن تَمَلُّك مال الابن مخصوص بالأب، لقوله صلى الله عليه وسلم «أنْتَ ومالُكَ لأبيك»

(2)

. وفي «الذخيرة» : أن في الأقضية جواز بيع الأبوين عَرْض ابنهما. وهكذا ذكر القدوري في شرحه، بل ينبغي أن تكون هي بالجواز أولى لِضَعْفِها وكمال حاجتها، ولقوله صلى الله عليه وسلم «أمكَ، ثم أمك، ثُمَّ أباك، ثم الأقرب فالأقرب»

(3)

.

(وضَمِنَ) قضاءً لا ديانة (مُودَعُ الابن لو أنفقها) أي الوَدِيْعة (على أبويه بلا أمر قاضٍ) لتصرفه في مال غيره بدون إذنه، بخلافِ ما إذا أمره القاضي لعموم ولايته. وإذا ضَمِنَ لا يرجع على القابض، لأنه مَلَكَ بالضمان، فَظَهَرَ أنه كان متبرعاً. وإنما قلنا: إنه لا يضمن ديانة، حتى كان له أن يَحلِف بعد موت المودِع أنه لا حق لورثته قِبَلَه، لأنه لم يُردْ بذلك غيرالإصلاح. وفي «النوادر»: إذا لم يكن في مكان يمكن استطلاع رأي القاضي لا يضمن استحساناً، وقد قالوا في رجلين كانا في سفرٍ فأُغمي على أحدهما، فأنفقَ رفيقُه عليه من ماله، أو مات فَجَهَّزَه صاحبه من ماله، لم يضمن استحساناً. (لا الأبوان) أي لا يضمن الأبوان (لو أنفقا ماله) وديعة (عندهما) لأن نفقتَهُما واجبةٌ على الابن بدون القضاء، فاستوفيا حقَّهُما.

(وإذا قُضِي بنفقةِ غير العِرْس) وهم: الولد والوالدان، وذوو الأرحام (ومضت

(1)

التَّوَى: الهلاك. مختار الصحاح ص 33، مادة (توى). بتصرف.

(2)

أخرجه ابن ماجة في سننه 2/ 769، كتاب التجارات (12)، باب ما للرجل من مال ولده (64)، رقم (2291).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 1974، كتاب البر والصة والآداب (45)، باب برّ الوالدين. (1)، رقم (2 - 2548) بلفظ:"أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك".

ص: 210

مدةٌ سَقَطَت، إلا أنْ يَأذنَ القاضي بالاستدانة.

ونفقةُ المَمْلوكِ على سيِّدهِ، فإن أبى كَسَبَ وأنفَقَ، وإن عَجَزَ عنه أُمِرَ بِبيعِهِ.

===

مدة سقطت) وبه قال الشافعي وأحمد، لأن نفقة هؤلاء لكفاية الحاجة، فتسقط بحصولها، (إلا أن يأذن القاضي) لِمَنْ له النفقة (بالاستدانة) على الغائب واستدان عليه، لأن للقاضي ولايةً عامة، فصار إذنه كإذن الغائب. ولو ضاعت نفقة مُعجَّلة أو كِسْوة لذوي الأرحام، يفرض لهم مرة بعد أخرى، لتحقق حاجتهم، ولو ضاعت نفقة أو كِسوة للزوجة لا تفرض لها نفقة أخرى، لعدم اعتبار الحاجة في حقها، ولهذا تجب النفقة لها مع غناها، وبعكس هذا لو بقيت النفقةُ المفروضة في مدةٍ بعد المُدة، تُفرض للزوجات ولا تفرض لذوي الأرحام. ولو عجّل نفقةَ مدةٍ ثم مات أحدهما قبل المدةِ، يسترد في الزوجات عند محمد دون الأقارب.

(ونفقةُ المملوك) ذكراً كان أو أنثى، مدبَّراً أو أمّ ولد، لا مكاتَباً لالتحاقه بالأحرار (على سيِّدهِ) للإجماع، ولقوله صلى الله عليه وسلم «هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليُطعِمْه مما يأكل، وليُلْبِسه مما يَلْبَس، ولا تُكلِّفُوهم ما يَغْلِبُهم، فإن كلَّفْتُموهُم فأعينُوهم» . رواه الشيخان، وزاد أبو داود:«من لم يُلائمكم منهم فَبِيعُوه، ولا تُعذِّبوا خَلْق الله» . ولأن نفعَه له، والغُرْمُ بالغُنْم.

(فإن أبى) السيد عن الإنفاق عليه (كَسَبَ) المملوك (وأنفَقَ) على نفسه، نظراً له ببقاءِ نفسِه، ولسيِّده ببقاء مِلكه، (وإن عَجَزَ عنه) أي عن الكسب: بأن كان صغيراً، أو زَمِناً، أو أعمىً، أو جاريةً لا يُؤجر مِثْلُها. (أُمِرَ ببيعه) إن كان قِنًّا، لأن المملوك من أهل الاستحقاق، وفي بيعه إيفاءُ حقِّه بدون إبطال حق المولى، لقيام ثمنه خَلَفاً عنه، بخلاف المدبَّر وأمِّ الولد، حيث يُجبر على الإنفاق عليهما إذا عَجَزا عن الكسب، لأنهما عاجزان ولا يقبلان النقل من ملكه، ومنفعتُهما له فيُجبر على نفقتِهما، وبخلاف سائر الحيوانات حيث لا يُجبر على بيعها، ولا على الإنفاق عليها، لأنها ليست من أهل الاستحقاق. والمَقْضِي له لا بد أن يكون من أهله، ولكنه يُفتى فيما بينه وبين الله تعالى بأن ينفق عليها أو يبيعها، ويكون آثماً معاقباً في جهنم بحبسها عن البيع مع عدم الإنفاق عليها.

ففي الحديث: «امرأة دخلتِ النار في هِرةٍ حبستها حتى ماتت، لا هي أطلقتها فتأكُل من خَشَاش الأرض

(1)

، ولا هي أطعمتْها»

(2)

. وعن أبي يوسف: أنه يُجبر، وهو

(1)

الخَشَاس: الحشرات. مختار الصحاح ص 74، مادة (خشش).

(2)

أخرجه البخاري (فتح الباري) 6/ 356، كتاب بدء الخلق (59)، باب إِذا وقع الذباب في شراب أحدكم (16)، رقم (3318) بلفظ مختلف قليلًا.

ص: 211

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

قول مالك والشافعي. وغاية ما فيه أن يتصور فيه دعوى حُسْبة، فَيُجبِرهُ القاضي لترك الواجد.

ويُقوِّيه ما في حديث يَعْلى بن مُرَّة الثَّقَفي على ما رواه البغوي: بينا نحن نسير مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ مررنا ببعير يُسْنَى عليه

(1)

، فلما رآه البعيرُ جَرْجَرَ ـ أي صَوَّت ـ ووضَع جِرَانه ـ وهو بكسر الجيم: مُقدَّم عُنُقِه ـ فوقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أين صاحبُ هذا البعير» ؟ فجاء فقال: «بِعْنِيه» فقال: لا بل أهَبه لك يا رسول الله، فقال:«لا، بِعْنِيْه» قال: لا بل نهَبه لك يا رسول الله، وإنه لأهل بيتٍ ما لهم معيشة غيره، فقال:«أما إذ ذكرت هذا من أمره، فإنه شَكَى كثرة العمل، وقِلَّة العَلَفِ، فأحسنوا إليه» .

وأما غير الحيوان، كالعَقَار، والزرع، والشجر، فيُكره له أن لَا ينفق عليها حتى تفسد، للنهي عن تضييع المال. ولو كان عبدٌ بين رجلين يُجبَرَان على نفقته. وفي الدَّابة لا يجبران، فلو طَلَب أحدهما من القاضي أن يأمره بالنفقة عليها حتى لا يكون متطوعاً، فالقاضي يقول للآبي: إما أن تبيع نصيبك من الدابة، أو تنفق عليها رِعاية لجانب الشريك، هكذا ذكره الخَصَّاف. وفي «المحيط»: يُجبر صاحبه، لأنه لو لم يُجبر لتضرر الشريك. ولو امتنع المولى من الإنفاق على عبده، فتناول من مال سيده، فله ذلك إن كان عاجِزاً عن الكسب، أو قادراً عليه ونهاه عنه، وإلا فليس له ذلك. ولو أعتق عبداً زَمِناً أو صغيراً سقطت نفقته، ويجب في بيت المالِ، لأنه ليس بينهما مَحرميَّة، والله تعالى أعلم.

(1)

يُسْنَى عليه: يُستَقَى من البئر. المصباح المنير ص: 111، مادة:(سنا) ..

ص: 212

‌كِتَابُ العَتَاقِ

===

كتاب العَتَاق

هو بفتح العين، العِتق والحرية وكذا العَتَاقة.

وفي الشرع: قوةٌ حُكمية يَصيرُ بها المرءُ أهلاً للشهادة والوِلاية، وإثبات هذه القوة يُسمى إعتاقاً، فلا يَتَجَزَّى كالعِتقِ والرِّقِ، لقوله صلى الله عليه وسلم «من أعتَقَ شِقْصاً له في عبدٍ، فَخَلاصُهُ عليه في ماله إن كان له مال، وإن لم يكن له مالٌ قُوِّم عليه فاستسعى العبد به غير مَشْقُوقٍ عليه» . رواه الستة في كتبهم. وهذا عند أبي يوسف ومحمد.

وعند أبي حنيفة: هو إزالة المِلْك عن المملوك، فيَتجزاء عنده، وكذا الكتابةُ والتَّدْبيرُ، فإنهما يتجزيان عنده، لأنهما من فُرُوعه. وذلك لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم «من أعتَقَ شِركاً له في عبد، وكان له مالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ العبدِ، قُوِّم العبدُ عليه قِيمَةَ العدل، فأَعْطَى شُركاءَهُ حِصَصَهُم وعَتَقَ عليه العبدُ، وإلا فَقَدْ عَتَق مِنه ما عَتَقَ» . رواه الستة من حديث ابن عمر.

وقول البخاري: قال أيوب: لا أدري أشيءٌ قاله نافع أو شيءٌ في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني قوله: «وإلا فَقَد عَتَقَ منه ما عَتَق» ، لا يضر إذ الظاهر، بل الواجب أنه منه، إذ لا يجوز إدراجُ مثل هذه عن غير نَصَ قاطع في إفادة أنه ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن في الحديث عِلةٌ قادحةٌ، كما أجاب عنه بعض المحققين.

وهو مندوب إليه بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {وما أدْرَاكَ ما العَقَبةُ فَكُّ رَقَبةٍ} إلى قوله: {أولئِكَ أصحابُ المَيْمَنَةِ}

(1)

.

وأما السنة: فما في الكتب الستة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيما امرء مسلم أعتق رقبةً مؤمنةً، أعتق الله بكلِ عُضوٍ منها عضواً من أعضائه من النار، حتى الفَرْج بالفَرْج» . وروى الترمذي ـ وقال: صحيح غريب ـ عن أبي أُمَامَة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرء مسلم أعتَقَ امرأً مسلماً، استنقذ الله بكل عضوٍ منه عضواً من النار» ،

(1)

سورة البلد، الآيات:(12 - 18).

ص: 213

وهو يَصِحُّ مِنْ حَرٍ مُكلَّفٍ بِصَريْح لَفْظِهِ بِلا نِيّة: كـ: أنت حرٌ، أو مُعتقٌ، أو: عَتِيقٌ، أو: أعتقتُك، أو: مُحَرَّرٌ، أو: حَرَّرتُك، أو هذا مَوْلاي،

===

وفي لفظ: «من أعتق رقبةً مؤمنةً أعتقَ الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النار، حتى الفَرْج بالفَرْج» .

وروى الترمذي ـ وقال: صحيح غريب ـ عن أبي أُمَامَة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيُّما امرء مسلمٍ أعتَقَ امرأً مسلماً كان فِكَاكه من النار، يُجزاء كل عضو منها عضواً منه، وأيُّما امرء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار، يُجزاء كل عضو منهما عضواً منه» . وفي لفظ لأبي داود وابن ماجه: عن كعب بن مُرَّة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيُّما رجل مسلمٍ أعتَقَ رجلاً مسلماً، كان فِكَاكه من النار، وأيُّما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة، كانت فكاكها من النار» . وفي قوله صلى الله عليه وسلم «أعتق الله بكل عضو» إيْمَاءٌ إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن العتق يتجزاء.

وأما الإجماع: فإنه ليس لأحد في استحبابه النزاع.

(وهو) أي الإعتاق (يَصِحُّ مِنْ حَرٍ) لأن المملوك لا مِلْك له، والعتقُ لا يقع إلا في الملك (مُكلَّفٍ) أي عاقلٍ بالغٍ ولو كافراً لأن العتقَ تبرُّع، وليس واحد من الصبي والمجنون بأهل له. ولهذا لو قال البالغ: أعتقت وأنا صبي، أو قال المفيقُ من جنونه: أعتقتُ وأنا مجنون، لم يقع عتق، لإسناده إلى حالة منافية. وكذا لو قال الصبي: إذا بلغت، أو المجنون: إذا أفقت فعبدي حرٌ، لأنه ليس بأهل لقول ملزم، وإنما لم يقل في ملكه كما قال غيره، لأن عِتقَ مِلك الغير موقوف على إجازة المالك. ومراده ما يصح، سواء كان نافذاً أو موقوفاً، ثم مال العبد وقت العتق لمولاه عند الجمهور. وقال الحسن، وعطاء، والنَّخَعي، ومالك، وأهل المدينة: للعبد.

(بِصَريْح لَفْظِهِ) وهو لفظ يدل على العتق بالوَضْع، (بِلا نِيّة، كأنت حرٌ، أو معتَقٌ، أو عَتِيقٌ، أو أعتقتُك، أو مُحَرَّرٌ، أو حَرَّرتُك) لأن هذه الألفاظ موضوعة للإعتاق شرعاً وعرفاً، فلا يفتقر إلى نية. ولو قال: أردت الكذب، أو أنه حر من العمل صُدِّق دِيَانة ـ لأنه مُحْتَمَل كلامه ـ لا قضاءً، لأنه خِلاف الظاهر. (أو هذا مَوْلاي)(أو هذه مولاتي)

(1)

لأنه وصف لولاية العَتَاقة السفلى، فَيَعْتِقُ من غير نية، لأن المَوْلى لا يكون هنا بمعنى المَوَالي في الدين، لأنه مجازٌ لا دليل عليه، ولا بمعنى الناصر، لأن المالك لا يستنصر بمملوكه، ولا بمعنى ابن العم، لأن الكلام في العبد المعروف

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 214

أو: يا مَوْلاي، و: رأسُكَ حُرٌّ ونَحْوُه، مما عُبِّر به عن البَدَنِ وبكنَايِتهِ إنْ نوى، كـ: لا مِلك لي عليك، و: لا سبيل ولارِقّ، و: خرجتَ عن ملكي، وخَلَّيتُ سبيلَك،

===

النَّسَب، ولا بمعنى المُعْتَق، لأن إضافته إليه في العبودية ينافي ذلك، فالتحق بالصريح، فلم يحتج إلى النية. ولو قال: عنيت به المَوَالي في الدين، أو الكذب، يُصدَّق دِيَانة للاحتمال، لا قضاءً لمخالفة الظاهر.

(أو يا مَوْلاي) وإن لم ينو به العتق، لأن نداءه بهذا الوصف يقتضي ثُبُوتَه. وإثباتُه من جهته ممكن، فيثبت تصديقاً له، وكذا لو قال: يا عَتِيق، أو يا حر، إلا إن كان اسمه وناداه به، لأن مراده حينئذٍ الذات دون الوصفِ

(1)

، حتى لو ناداه بلفظ آخر بمعناه عَتَق.

مثل أن يكون اسمه حراً فيقول: يا عتيق أو بالعكس، إذ الأَعلام لا تتغيَّر فيعتبر إخباراً عن الوصف. وشرط زفر النية في «يا مولاي» ونحوه. وبه قال مالك والشافعي، لأن هذا اللفظ في موضع النداء يراد به الإكرام لا التحقيق، كقوله: يا سيدي، يا مالكي، وأنا عبدك ونحو ذلك، فإنه لا يعتِق بلا نية، فكذا إذا قال: يا مولاي.

ولنا أن الكلام محمولٌ على حقيقته ما أمكن، وحقيقة قوله: يا مولاي أن يكون له عليه وَلاء، وقد تعيّن المُعتَقُ لذلك، فالتحق بالصريح، بخلاف نحو: يا سيدي، فإنه ليس فيه ذكر ما يختص بإعتاقه إياه، فكان إكراماً محضاً.

(ورأسُكَ حُرٌ ونحوه مما عُبِّر به عن البَدَنِ) كالوجه، والرأس، والرقبة. وأما الفَرْج فيختص بالأمة لقوله صلى الله عليه وسلم «لعن الله الفُروجَ على السُّروجِ»

(2)

، لأن التحرير يقعُ في جملة الأعضاء، فلا بد من الإضافة إليها، أو إلى ما يُعبر به عنها، حتى لو أضافه إلى غير ذلك، كاليد والرجل لا يقع عندنا، خلافاً لمالك، والشافعي، وأحمد، وهو قول زفر. وقد مرت المسألة في الطلاق.

(وبِكنَايتِهِ) عطف على «بصريح لفظه» . وكناية العتق لفظ غير موضوع له يحتمله وغيره (إنْ نوى) الإعتاق، قَيَّد به، لأن أحد المُحتَمَلين لا يتعين إلا بالنية إزاحة للاشتباه والاحتمال، (كـ: لا مِلك لي عليك، ولا سبيل) لي عليك أو إليك (ولا رِقّ) لي عليك، (وخرجت عن ملكي، وخَلَّيتُ سبيلَك) لأن كلاً من هذه الأشياء يكون بالبيع، وبالكتابة، وبالعتق، والمُحتمِلُ لا يتعينُ فيه جهة بلا نية، فلا يعتق بدونها.

(1)

عبارة المطبوع: "لأن مراده حينئذ دون الوصف".

(2)

قال الإِمام ابن حجر في الدراية 2/ 71: لم أَجده، والذي وجدناه من حديث ابن عبّاس رَفَعه:"نهى ذوات الفُرُوج أن يركبن السروج". أَخرجه ابن عَدِي بإِسناد ضعيف.

ص: 215

ولأمتِهِ: قد أطلقتك، وبـ: هذا ابني للأصْغَرِ والأكْبَرِ، لا بـ: يا ابني و: يا أخي،

===

(ولأمتِهِ) وكذا لعبده (قد أطلقتك) لأنه بمنزلة: خلَّيتُ سبيلك (وبـ: هذا ابني) عطف على «بصريح لفظه» أو على قوله: بكنايته، كما صرح به المصنف في «شرح الوقاية» . وإنما ذكر حرف الباء لئلا يُتَوَهم أنه عطف على أَمثلة الكناية كما صرح به فيلزم حينئذ أنه كناية وليس كذلك، لأنه لو كان كناية لاحتاج إلى النية، وهو غير محتاج إليها (للأصْغَرِ) سناً من مالكه (والأكْبَرِ) سناً منه.

أما الأصغر إذا كان يولد مِثْلُه لمثله ولم يكن ثابت النسب من غيره، فلأنه ثَبَتَ نسبُه منه، فَيَعْتِقُ عليه وإن لم ينو، وإذا كان لا يولد مثله لمثله، أو كان ثابت النسب من غيره، فلأن الحرية لازمة للبنوة إلا أن تكون الأُم أَمة الغير. والإقرار بالشيء إقرار بلوازمه، فيكون هذا مجازاً عن الحرية فيعتِق وإن لم ينو، لأن المجاز متعين. وأما الأكبر فالمذكور قول أبي حنيفة، وأما عندهما: فلا يعتق لأنه محال، فَيُردّ كما لو قال: أعتقتك قبل أن أخلق، أُو قبل أن تُخْلق.

ولأبي حنيفة: أنه صحيح بمجازه، فيصار إليه وإن كان مستحيلاً بحقيقته، كمن حَلَفَ لا يأكل من هذه النخلة، فإنه ينصرف إلى ما يخرج منها. والإعتاق قبل الخَلْقِ إعتاقٌ قبل المِلْك، فيستحيل بالكلية. وعلى هذا الخلاف لو قال للأصغر: هذا أبي، أو هذه أمي. وفي «الذخيرة»: لو قال لغلامه: هذا عمي، أو هذا خالي يعتِق، ولو قال: هذا أخي لا يعتِق في ظاهر الرواية، لأن اسم الأخ يطلق على الأخ في الدين، قال الله تعالى:{إنَّما المؤمنونَ إخوَة}

(1)

، وعلى الأخ في القبيلة قال الله تعالى:{وإلى عادٍ أخَاهُم هوداً}

(2)

، وكذا لا يعتق بـ: هذه بنتي في الأظهر. ولو قال: هذا ابني من الزنا يعتِق، ولا يثبت نَسَبُه لقوله عليه الصلاة والسلام:«الولدُ للفِرَاش وللعاهِرِ الحَجَر»

(3)

.

(لا) يعتق (بـ: يا ابني و: يا أخي) على ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه يعتق، والظاهر الأول، لأن المقصود بالنداء استحضار المُنادَى، فإن كان بوصف لا يمكن إثباته من جهة المُنادِي نحو: يا ابني كان لمجرد الإعلام دون تحقيق الوصف لتعذره، لأنه لا يمكن إثبات البنوة بالنداء، سواء خُلق من مائه أو من ماء غيره،

(1)

سورة الحجرات، الآية:(10).

(2)

سورة هود، الآية:(50).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 4/ 292، كتاب البيوع (34)، باب الحلال بيّن والحرام بيّن (2) رقم (2053). ومسلم 2/ 1080، كتاب الرضاع (17)، باب الولد للفراش (10)، رقم (36 - 1457).

ص: 216

و: لا سُلْطَانَ لي عليك.

ولفظُ الطَّلاق وكِنَايتُه مع نية العتق، و: أنت مثلُ الحُرِّ، بخلاف: ما أنت إلَّا حُرٌّ.

===

للقطع بأنه إذا خُلق من مائه لا تثبت الابنِيَّة إلا بذلك التخلق من ذلك الماء، لا باللفظ وإن كان بوصف يمكن إثباته من جهته نحو: يا حر، كان لإثبات ذلك الوصف.

(ولا سلطان) عطف على يا ابني، أي ولا بلا سلطان (لي عليك) عندنا وإن نوى بها العتق، لأن السلطان عبارة عن اليد، وقد يبقى الملك دون اليد. كما في المكاتَب، بخلاف قوله: لا سبيل لي عليك، لأن نفيَه مطلقاً بانتفاء الملك. وتوضيحه أن السلطان عبارة عن اليد وهو ينتفي بالكتابة، والرهن والإجارة، فلا يفيد نفيه نفي الملك، فلا يعتق، وإن نوى بخلاف: لا سبيل لي عليك، لأن للمولى سبيلاً على مملوكه وإن خرج من يده بالكتابة، لأنه يطالب ببدلها، حتى لو انتفى عنه ذلك بالبراءة عَتَق، فيفيد نفي السبيل ونفي الملك وذلك بالعتق أو بغيره، فإذا نواه صح وعتق.

قال أبو بكر الرَّازي: خَرَجَ الشيخ أبو الحسن الكَرْخي من الدنيا والفرقُ بين السبيلِ والسلطانِ مُشكلٌ عليه، وقد عرفتَه. وقال بعض مشايخنا: يعتِق إن نواه كما قال مالك والشافعي وأحمد، (لأن المِثْلَ يُستعمل للمشاركةِ في بعض المعاني عُرْفاً، فلا يتعين للحرية إلا بالنية)

(1)

.

(ولفظ الطلاق) أي ولا يعتِق بلفظ الطلاق صريحه (و) لا (كِنَايته) ولو (مع نية العتق) وهو قول مالك ورواية عن أحمد. وقال الشافعي: يعتق بهما، وبه قال أحمد في رواية، لأن النكاح فيه معنى الرِّق. وقد ورد مرفوعاً:«النِّكاحُ رِقٌ»

(2)

، فيستعار أحدهما للآخر. ولأنه يُستباح بكل واحد منهما الوطء في محله.

ولنا: أنه نوى ما لا يحتمله لَفْظُه، فهو كما لو قال لها: كلي واشربي ونوى العتق. (وأنت) أي ولا بـ: أنت (مثلُ الحُرّ) لأن لفظ المِثْل يُستعمل للمُشاركة في بعض المعاني وللمشاركة في كلها، فوقع الشكُ في الحرية، فلا يعتِق. وقيل: إذا نوى العتق يَعتِقُ، كما لو قال لامرأته: أنت مثلُ امرأة فلان، وقد كان فلان آلى منها، فإنه يكون مولياً. (بخلاف ما أنت إلاَّ حُرٌّ) حيث يعتق، لأن الاستثناء من النفي إثبات على وجه التأكيد، فكان في هذا إثبات الحرية بأبلغ وجه.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

لم نجده.

ص: 217

ومَنْ مَلَكَ ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه أو أعتق لوجه الله تعالى، أو للشيطان، أو للصَّنَم، أو مُكْرَهًا، أو سَكْرَان،

===

(ومَنْ مَلَكَ ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ) أي ذا قرابة (منه) بسبب الرَّحِم. ومَحْرَمٍ صِفةُ ذا، وجَرَّه للجوار، كذا في «شرح الوقاية» . ولا فرق في هذا بين كون المالك صبياً أو مجنوناً، أو كون المملوك صغيراً أو كبيراً، مسلماً أو كافراً في دار الإسلام، لإِطْلاقِ قوله عليه الصلاة والسلام:«مَنْ مَلَكَ ذا رَحِمٍ مَحْرمٍ منه عَتَقَ عليه» . رواه النسائي عن ضَمْرة بن ربيعة الرَّمليّ، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن عمر مرفوعاً، وضَعَّفه بسبب انفراد ضَمْرة به عن سفيان. وصححه عبد الحق وقال: ضَمْرة ثقة، وإذا أسند الحديث ثقة لا يضر انفرادُه، ولا إرسال من أرسله، ولا وَقْف من وقفه. وصوَّب ابن القطان كلامه.

قيد بالرحم لأن المَحْرَم بلا رَحِمٍ كابنه من الرضاع لا يعتِق عليه اتفاقاً، وكذا المَحْرم بطريق المُصاهرة كأم الزوجة وبنتها الربيبة. وقيد بالمَحْرَمِ لأن الرحم بلا محرم كابن عمه لا يعتِق اتفاقاً. وقال الشافعي: لا يعتِق غير قرابةِ الوِلاد لأن العِتق على المِلك ثبت في قرابة الولاد على خلاف القياس لمكان الجُزئية، فلا يُلحق بها ما هو أنزل منها. وقال مالك: يعتق قرابة الوِلاد والإِخوة والأخوات، لأن العتق على المالك من أقوى صلات المملوك، فيختص هذا بأقرب القرابات وهي الوِلادة والأُخوة. وقال الأوزاعي: يعتِقُ كل ذي رحم ولو لم يكن مَحْرماً.

وبمذهبنا قال أحمد، والحسن البصري، وجابر بن زيد، وعطاء، والشَّعبيّ والزهري وحمَّاد، والحَكَم، والثوري، والنَّخَعي، والليث. وروي عن عمر وابن مسعود ولا يُعرف لهما مخالفٌ في الصحابة. والدليل: قوله عليه الصلاة والسلام: «من مَلَكَ ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه فهو حر» . رواه أحمد، وأبو داود، الترمذي، وابن ماجه، والحاكم في «مستدركه» عن سَمُرَة

(1)

. وفي «النهاية» لابن الأثير: وبه قال أكثر أَهل العِلْم من الصحابة والتابعين، وإليه ذهبَ أبو حنيفة وأصحابُه وأحمد.

(أو أعتق) عطف على مَلَك (لوجه الله تعالى أو للشيطان أو للصَّنَم) لأن العتق صَدَر من أَهْله في محله، فيعتبر وتلغو تسمية جهته، (أو) أعتق حال كونه (مُكْرَهاً أو سَكْرَان) في الأصح لوجود ركن العِتق من الأهل في المحل، كما في

(1)

حرفت في المطبوع إلى "ضمرة"، والتصويب من المخطوط. وسنن أبي داود 4/ 259 - 260، كتاب العتق (28)، باب فيمن ملك ذا رحم محرم (7)، رقم (3949). وسنن الترمذي 3/ 646، كتاب الأحكام (13)، باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم (28)، رقم (1365).

ص: 218

أو أضاف عِتقه إلى مِلك، أو شرط ووُجِدَ، عَتَق، كعبد لِحَرْبي خَرَجَ إلينا مُسْلمًا.

والحمْلُ يَتْبعُ أُمَّه في المِلْكِ والرِّق، وفي العِتقِ، وفُروعِهِ،

===

الطلاق. وخَالَفَنَا في المكرَه مالك والشافعي وأحمد.

(أو أضاف عِتقه إلى مِلك) نحو إن مَلكتُ عبداً فهو حر وبه قال مالك. وخَالَفَنَا فيه الشافعي وقد بينا ذلك في كتاب الطلاق. (أو) إلى (شرط) نحو: إن قَدِمَ فلانٌ فأنت حرٌ (ووُجِدَ) ذلك الشرط (عَتَق) أي عليه، ليكون في الخبرِ ضمير عائدٌ على المبتدأ الذي هو:«مَنْ مَلَك» وإنما عتق في التعليق إذا وُجد الشرط، لأن العِتق إسقاط، فيجري فيه التعليق، وهذا لا خلاف فيه.

(كعبد) أي كعتقِ عبد (لِحَرْبي خَرَجَ إلينا مسلماً) لما روى أبو داود في الجهاد، والترمذي في المناقب وقال: حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث رِبعي بن خِراش ـ بكسر المهملة والمعجمة ـ عن علي قال: خرج عُبْدَانٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحُدَيْبية قبل الصلح، فقال مواليهم: يا محمد، والله ما خرجوا إليك رَغَبةً في دينِكَ، وإنما خَرَجوا هَرَباً من الرِّقِ، فقال ناس: صدقوا يا رسول الله، ردَّهم إليهم، فغضِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«ما أراكم تَنْتَهون يا معشرَ قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رِقَابكم على هذا» . وأبى أن يردهم وقال: «هم عُتَقاءُ الله سبحانه وتعالى» .

وروى عبد الرزاق في «مصنفه» في الجهاد عن مَعْمر، عن عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان النَّهْدِي، عن أبي بَكْرة: أنه خَرَجَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصِر أهل الطائف بثلاثة وعشرين عبداً، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم الذين يقال لهم: العُتَقاء. وأبو بَكْرَة اسمه: نُفَيْع، كُنِّي بأبي بَكْرة لأنه نَزَل بُكْرَة النهار، وقيل: لأنه نَزَلَ بِبَكَرة.

(والحمْلُ يتبع أمه) ولا ينعكس حُكْمُه (في المِلْكِ) وهو تَمكُّن الشخص من التصرف فيه، (و) في (الرِّق) وهو الذي جعله الله تعالى جزاء الاستنكاف عن طاعة الحق، (وفي العِتقِ و) في (فروعه) أي فروع العتق وهي: الكتابة، وأمومية الولد، والتَّدبير، لأن الحَمْل وإن كان مخلوقاً من ماء أمه وأبيه، لقوله تعالى:{مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يخرُجُ مِنْ بينِ الصُّلْبِ والتَّرَائبِ}

(1)

إلا أنَّ كون هذه أُمَّهُ يقيني في الجملة، دون كون هذا أباه. ومن هنا لمَّا سمع عبد الله بن سلام قوله تعالى:{الذين آتَيْنَاهُمْ الكِتَابَ يعرفونَه كما يعرِفُونَ أبناءَهُم}

(2)

قال: «لَمَعرِفتي بمحمد صلى الله عليه وسلم أشد من معرفتي بابني.

(1)

سورة الطارق، الآية:(6 - 7).

(2)

سورة البقرة، الآية:(146).

ص: 219

إلا أن وَلَدَ الأمة من مَوْلاهَا حرٌ.

‌فَصْلٌ في عِتْقِ البَعْضِ وغَيْرِهِ

إن أعتَقَ بَعْضَ عبدِه صَحَّ، وسَعَى فيما بقي، وهو كالمكاتَب بِلا ردٍّ إلى الرِّق لو عَجَزَ.

وقالا: عَتَقَ كُلهُ

===

قال عمر: كيف ذلك، فقال: أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حق من الله تعالى، وقد نَعَتَه في كتابنا، ولا أدري ما تصنع النساء، فقال عمر: وفقك الله فقد صدقت».

ولهذا المعنى يثبت نسب ولد الزنا والملاعنة من أمُه دون أبيه، فكان ماء الأم أولى بالاعتبار. ومذهب الشافعي أن المُدَبَّرة إذا ولدت من نكاح أو زنا لا يصير ولدها مدبّراً، وإن الحامِلَ إذا دُبِّرت صار ولدها مدبَّراً. وعن أحمد وجابر بن زيد، وعطاء: لا يتبعها ولدها في التدبير، حتى لا يُعتَق بموت سيدها. واعتبروه بالتعليق بدخول الدار، وللجمهور القياس على تبعيته لأم الولد.

(إلا أنَّ وَلَدَ الأمة من مَوْلاهَا حرٌ) لأنه مخلوق من مِائِهِ فيعتِقُ عليه، ولا يعارضها ماء الأمة، لأن ماءَها مملوك له، بخلاف أمَة الغير، لأن ماءَها مملوك لسيدها، فتحققت المعارضة فرجحنا جانبها بما تقدم. والزوج قد رضي بِرِقِّ ولدها حيث أقدم على نكاح الأمة بعلمه به، بخلاف ولد المَغْرور

(1)

، لأن الوالد لم يرض به. ولو تزوج هاشمي أَمة فأتت بولد فهو رقيق تبعاً لأُمه، هاشمي تبعاً لأبيه، لأن النسب للتعريف، وحال الرجال مكشوفة دون النساء.

فصلٌ في عِتقِ البعضِ وغَيْرِه

(إن أعتَقَ) مولى (بعض عبده) سواء عيّن ذلك البعض بأن قال: رُبُعُك حر، أو أبهمه بأن قال: بعضُك حر (صَحَّ) عند أبي حنيفة، ولَزِم المولى تفسير المبهم بأنه: نِصفه، أو ثُلثه، أو نحوه (وسَعَى) العبدُ لمولاه (فيما بقي) لأن ماليةَ بعضه احتُبِست عنده، فيسعى لفكِ رقبتِهِ. والاستسعاء: أن يؤاجره ويأخذ قيمة ما بقي من أُجرتِه، (وهو كالمكاتب) في أنه لا يجوز بيعه ولا هبته. ويخرج إلى العِتق بسعايته، إلا أنه (بِلا ردّ إلى الرِّق لو عَجَزَ).

(وقالا:) إن أعتق بعضَ عبده (عَتَقَ كُلهُ) ولا يستسعيه، وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد، وقَتادة، والثوري، والشَّعبي. وعلى هذا الخلاف تدبيرُ البعض، لأنه

(1)

ولد المغرور: هو ما إذا تزوَّج حرٌّ امرأةً على أنها حرة فإذا هي أمة، فأَولاده منها أحرار وعليه قيمتهم لمولاها. الاختيار 4/ 22.

ص: 220

ولو أعتَقَ شريكٌ حَظَّهُ أعتق الآخر، أو اسْتَسْعاه، أو ضَمِنَ المُعتِق قِيْمة حَظِّه لا مُعْسِرًا. والوَلاءُ لهما إن أعتَقَ أو استسعى، وللمعتِق إن ضَمِنَهُ ورَجَعَ به على الَعْبدِ.

قالا: له ضمانُه غنيًا، والسِّعايةُ فقيرًا فقط، والوَلاءُ للمعتِقِ في الوجهين.

===

نوع من الإعتاق.

لهم أن مُوجبَ الإعتاق إزالة الرِّق، وهو لا يتجزأُ باتفاق، وكذا إزالته فصار كالطلاق، والاستيلاد، والعفو عن القصاص.

ولأبي حنيفة وهو قول الحسن البصري، والمَرْوي عن علي: أن موجب الإعتاق إزالة المِلك، والمِلك يتجزأ ثبوتاً كشراء نصف عبد، وزوالاً كبيعه. وأما نفس الإعتاق فلا يتجزأ بالاتفاق.

(ولو أعتَقَ شريكٌ حَظَّهُ) أي نصيبَه (أعتق الآخر) حظه إن شاء لقيام مِلْكه (أو اسْتَسْعاه) أي العبد، لاحتباس ماليته عنده أو دَبَّره، لأن التدبير نوعُ عتِقٍ، أو كاتبه، لأن الكتابة استسعاء. (أو ضَمِنَ المُعتِق) حال كونه موسراً (قِيْمة حَظِّه) أي حظ الآخر يوم العتق، لأنه جنى على نصيبه بما مَنَعَه من التصرف فيه، بما عدا الإعتاقَ وتوابعه (لا معسِراً) أي لا يضمن المعتِق حال كونه معسراً، بل إن شاء الآخر أعتق لبقاء ملكه، وإن شاء استسعى لاحتباس ماليته عند العبد، وله ولاء نصيبه لوجود عتقِهِ من جهته. ويعتبر اليَسَار يوم الإعتاق، وهو: أن يملِكَ قيمة نصيب الآخر خارجاً عن المشغول بحاجته الأصلية.

(والوَلاءُ لهما) أي للمعتِقِ وللآخر (إن أعتَقَ) الآخر (أو استسعى) لصدور العتق من جهتهما (وللمعتِق) وحده (إن ضَمِنَهُ) الآخر لصدور العتق كله من جهته، لأنه ملك نصيب الآخر بأداء ضَمَانِه (ورَجَعَ) المعتِقُ (به) أي بما ضمنه (على العبد) لقيامه بأداء الضمان مَقَام الآخر، وقد كان للآخر الاستسعاء (وقالا: له) أي للآخر (ضمانه) أي تضمين المعتِق حال كونه (غنياً)(من غير رجوع على العبد)(والسَّعاية) حال كونه (فقيراً فقط)(أي وليس له السعاية حال كونه غنياً)

(1)

(والوَلاءُ للمعتِقِ في الوجهين) لحصول عتق العبد كله من جهته.

ومبنى هذا الخلاف على أصلين:

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 221

ومن مَلَك ابنَهُ مع آخَرَ عَتَقَ حِصَّتُه ولم يضمن. وقالا: ضمن غنيًا إلا في الإرث: وإن قال لعبدَيْه: أحَدُكُما حُرٌ، فخرج واحدٌ ودخل ثالثٌ، فأعاد ومات بلا بيان، عَتَقَ ممَّن ثَبَتَ ثَلاثةُ أربَاعِه، ومن كلٍّ من غيرِه نِصفُه

===

أحدهما: أن الحرية تثبت في الكل بعتق بعضه عندهما، ولا تثبت عنده وقد بيناه فيما قدمنا.

وثانيهما: أن يَسَار المعتِقِ لا يمنعُ السِّعاية عند أبي حنيفة، ويمنعها عندهما، لما روى أصحاب الكتب الستة من حديث سعيد بن أبي عَرُوْبة، عن قَتَادة، عن النَّضْر بن أنس، عن بشِير بن نَهِيكٍ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أعتق شِقْصاً له في عبدٍ، فَخَلاصُهُ في ماله إنْ كَانَ لَهُ مالٌ، فإن لم يَكُنْ لَهُ مالٌ اسْتُسعِيَ العبدُ غيرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» . ووجه الدلالة أنه قِسْم، والقِسْمَةُ تنافي الشركة في الإعتاق.

ولأبي حنيفة: أن ماليةَ نصيبِهِ احتُبِست عند العبد، فله أن يُضَمِّنَه، غير أنَّ العبد فقير فيسعى.

(ومن مَلَك ابنه مع) مالك (آخر) بشراءٍ، أو هِبة، أو صدقة، أو وصية، أو إرث. وصورته: أن تموت امرأة ولها عبد، وهو ابن زوجها ويرثها أخوها وزوجها (عَتَقَ حصته) أي زال مِلْكه عنها (ولم يضمن) لشريكه سواءٌ علم الشريك أنه ابنه أو لم يعلم، لأن هذا ضمان إفساد في ظاهر الرواية، فيدار الحكم على سببه.

(وقالا: ضمن) الأب حال كونه (غنياً) وسعى الابن حال كونه فقيراً (إلا في الإرث)

(1)

فإن الأب لا يضمن باتفاقهم (وإن قال لعبدَيْه) في صحته: (أحدكما حُر، فخرج واحدٌ) منهما (ودخل ثالث فأعاد) أي كرره وقال: أحدكما حُر (ومات) المَوْلى (بلا بيان) لمراده (عَتَقَ ممن ثَبَتَ) وأُعيد عليه القول (ثَلاثةُ أربَاعِه، ومن كل من غيره) وهو الذي خرج والذي دخل (نِصفُه) لأن الإيجاب الأول دائرٌ بين الخارج والثابت، فيتنصَّفُ بينهما، والإيجاب الثاني دائرٌ بين الثابت والداخل، فيتنصَّف بينهما، لكنَّ النصفَ الذي أصاب الثابت شائع فيه، فما أصاب النصف الذي عَتَق بالإيجاب الأول لغا، وما أصاب النصف الفارغ وهو الربع بقي، فيعتِق ثلاثة أرباعه ونصف كل من الداخل والخارج.

(1)

جاء في هامش المخطوط: صورته: امرأة ماتت ولها عبد - هو ابن زوجها - فتركت الزوج والأخ، فورث الأب نصف ابنه، فعتق عليه، لا يضمن حصة أخيها اتفاقًا، لأن الإرث ضروري لا اختياري للأب في ثبوته.

ص: 222

وعند محمد: عَتَقَ رُبْعُ مَنْ دَخَلَ.

وإن قال في - مرضِهِ ولم يُجز وارث -: جعل كل عبد سبعة وعتق ممن ثبتَ ثلاثة، ومن كلٍ مِنْ غيره سهمان. وعند محمد: جُعل كل ستة وعتق ممن خرج سهمان، وممن ثبت ثلاثة، وممن دخل سَهمٌ، وسعى كل في الباقي.

===

(وعند محمد عَتَق رُبْع مَنْ دخل) لأن الإيجاب الثاني لما أَوْجب عِتْقَ الرُبْع من الثابت أوجبه من الداخل، لأنه متنصّف بينهما.

وأجيب بأن في الثابت مانعاً من عتق النصف بالإيجاب الثاني، ولا مانع في الداخل.

والحاصل: أنَّ الثابت يَعْتِق منه ثلاثة أرباعه باتفاق، والخارج يعتق منه نصفه باتفاق، والداخل يعتق منه نصفه عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ورُبْعه عند محمد.

(وإن قال) ذلك (في مرضِهِ) ومات بلا بيان (ولم يُجِزْ وارثٌ) ولا مال سوى العبيد الثلاثة وقيمتهم متساوية (جعل كل عبد سبعة) من الأسهم متساوية عند أبي حنيفة وأبي يوسف، كسهام العتق عندهما ليصيرَ المجموع أحداً وعشرين، فيستقيم الثُّلث والثُّلثانْ لأن العِتقَ في المرض وصية وهي من الثلث (وعَتَق ممن ثبت ثلاثة) أسهم (ومن كلٍ مِنْ غيره سَهمان، وعند محمد جُعل كل) من العبد (ستة) كسهام العتق عنده، ليصير المجموع ثمانية عشر فيستقيم الثلث والثلثان (وعَتَق ممن خرج سهمان، وممن ثبت ثلاثة، وممن دخل سَهمٌ وسعى كل) من الثابت وغيره في كل من مسألتي الصحة والمرض (في الباقي) منه باتفاق.

ولو أعتق عبيده الثلاثة في مرض موته وليس له مال غيرهم عتق من كل منهم ثلثه، وسعى في ثلثيه من قيمته للورثة إذا لم يجيزوه، لأنهم لما اشتركوا في سببه بإيقاعه عليهم، لم يَجُز حِرْمَان بعضهم، بل يُوزَّع بينهم بالسوية ولا يُقرع بينهم عندنا كما قال مالك والشافعي. واحتجا بحديث عِمران بن حُصَيْن:«أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزَّأهم أثلاثاً، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة» . رواه الجماعة إلا البخاري. وهذا الحديث صحيح لكن علماءنا لم يقبلوه لانقطاعه باطناً. وقد عُلم أنَّ ما صح سنده جاز أن يضعَّف بعلة قادحة. ومن العِلَلِ: مخالفة الكتاب والسنة المشهورة، وكذا مخالفة العادة القاضية بخلافه.

ص: 223

والوطءُ والموتُ بيانٌ في طلاقٍ مُبهَمٍ، كبيعٍ وموتٍ، وتَدْبيرٍ، واستِيلادٍ وهِبَةٍ، وصدقةٍ مُسَلَّمَتَين في عتقٍ مُبهمٍ

===

قالوا: فهذا الحديث يخالف نص القرآن بتحريم الميسر، فإنه من جنسه، لأن حاصله تعليق المِلك أو الاستحقاق بالحظر، والقُرْعة من هذا القبيل، لأنها توجب استحقاق العِتق إن ظهر كذا، وعدمه إن ظهر كذا. وأما قضاء العادة بخلافه، فإنها قاضية بنفي أن واحداً يملِكُ ستة أعبدٍ ولا يملك غيرهم من درهم، ولا ثوب، ولا فَلْس، ولا دابة، ولا دار يسكنها، ولا شيء قليل ولا كثير.

فوجب رَدُّ هذه الرواية لهذه العلة الباطنة، ولذا أجمع على عدم الإقراع عند تعارض البينتين ليعمل بأحدهما، وعلى عدمِهِ أيضاً عند الخبرين. ونحن لا ننفي شرعية القُرعة في الجملة، بل نثبتها شرعاً لتطييب الفؤاد، ودفع الضغائن والأحقاد، ودفع التنازع المنجر إلى الفساد فيما بين العباد.

كما أقرع صلى الله عليه وسلم بين نسائه ليسافر بمن خرجت قُرعتها نفياً لاتهام تخصيص

(1)

بَعْضِهنَّ على بعض.

والحاصل: أنها إنما تستعمل في المواضع التي يجوز تركها فيها، فإما أن يتعرف بها الاستحقاق بعد اشتراكهم في سببه (فأولى منه ظاهر التوزيع، لأن القرعة قد تؤدي إلى حِرْمان المستَحِقّ بالكلية)

(2)

فإن العتق إذا كان شائعاً فيهم، يقع في كل منهم منه شيء، فإذا جمع الكل في واحد فقد حُرِم الآخر بَعْضَ حقّه. هذا زبدة كلام بعض المحققين، والله تعالى أعلم بحقائق اليقين.

(والوطءُ والموتُ بيانٌ في طلاقٍ مُبهَمٍ) كما إذا قال الرجل لامرأتيه: إذا جاء غد فإحداكما طالق، فوطء إحداهما أو ماتت، ثم جاء الغد، فإن غير الموطؤة وغير الميتة تتعين للطلاق. أما كون الوطء بياناً في الطلاق المبهم، فلما سيأتي. وأما كون الموت بياناً فيه، فلأن الميتة لم تبق بالموت محلاً للطلاق، فتتعين الأخرى له.

(كبيع) أي كما يكون البيان ببيع صحيح، أو فاسد مع القبض، أو بشرط الخيار (وموت، وتدبير، واستيلاد، وهِبَة، وصدقة مُسَلَّمَتَين) أي مقبوضتين (في عتقٍ مُبهمٍ) حتى لو قال لأَمتيه: إِحداكما حرة، أو قال: إذا جاء غد فإحداكما حرة، ثم حَصَلَ في إحداهما واحد من هذه الأشياء، فإن التي لم يحصل فيها ذلك تتعين للعتق. أما الموت فلأنه أخرج محله عن أن يكون محلاً للعِتق، فتتَعين الأخرى له. وأما البيع

(1)

عبارة المطبوع: "قرعتها لأنها تخصص

". والمثبت من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 224

دون وطءٍ فيه.

والشهادةُ بالعتق المُبْهم باطلةٌ، لا الطلاقِ المُبْهَم.

‌فَصْلٌ في الحَلِفِ بالعِتْقِ وبه على مَال

ويَعتقُ بـ: إنْ دَخَلْتُ الدارَ فكُلُّ عَبدٍ لي يومئذٍ حرٌّ، مَنْ له حين دَخَل، مَلَكه وقت الحَلِفِ أوْ لا، وبلا "يومئذ"،

===

وباقي التصرفات فلأن نفاذها يستلزم قيام مِلك اليمين، فصار كما لو صرح بأنها المملوكة (دون وطء فيه) أي ليس الوطء في العتق المبهم بياناً، وهذا عند أبي حنيفة، وبه قال أحمد.

وقال أبو يوسف ومحمد: يكون بياناً في العتق المبهم، كالطلاق، وبه قال الشافعي ومالك في رواية.

(والشهادة) على أحد (بالعتق المبهم) أي بأنه أَعتق أَحدَ عبديه أو أَمتيه في صحته (باطلة) أي مردودة وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: مقبولة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد. قيّد بالعِتق المبهم، لأن الشهادة بالعتق المعين مقبولة باتفاق. وقيدنا المبهم بكونه في الصحة، لأنه لو شهد أنه أعتق أحد عبديه في مرض موته يقبل استحساناً، لأن العِتق في مرض الموت وصية، ولأن عتق المبهم في المرض يشيع فيهما بالموت حتى يعتق من كل واحد منهما نصفه، فيكون كل واحد خصماً (لا الطلاق المبهم) أي لا يبطل الشهادة على رجل بأنه طلق إحدى نسائه، بل يُجبر على تعيين إحداهن باتفاق. والله أعلم.

فصلٌ في الحَلِفِ بالعِتْقِ وبِهِ على مَالٍ

(ويَعتِقُ بـ: إنْ دَخَلْتُ الدارَ) ونحوه (فكُلُ عَبدٍ لي يومئذٍ حرٌ، مَنْ) تعين هو (له حين دَخَل) الدار ولو ليلاً سواء (ملكه وقت الحَلِفِ أوْ لا) كما تَطلُق: بِـ: إنْ دخلتُ الدار، فكل امرأة لي حينئذٍ طالق، مَنْ هي امرأته حين دخل الدار، سواء كانت امرأته وقت الحَلِفِ أوْ لا. وهو قول مالك ورواية عن أحمد في العتق دون الطلاق، لأن الشرع مُتشوِّفٌ للعتق، ولذا حرَّض عليه دون الطلاق، فإِنَّه مبغوض له.

ولنا أن المعتبر قيامُ المِلك وقت الدخول، لأن معنى «يومئذ» يوم إذ دخلت الدار، فحذف منه (الفعل وعوض منه)

(1)

التنوين. (وبلا يومئذ) بِأن قال: إن دخلتُ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 225

مَنْ له وقتَ حَلِفِهِ فقط، لا الحملُ كل مملوك لي ذكرٌ حرٌ.

ومَنْ أُعتِقَ على مال أو به، فَقَبِلَ، عَتَقَ، والمالُ دَيْنٌ عليه.

والمُعَلَّقُ عِتقُه بالأداءِ مأذونٌ، إن أدَّى عَتَقَ، لا مكاتَبٌ

===

الدار فكل عبد لي أو أملِكه حر، يعتق (مَنْ) هو (له وقتَ حَلِفِهِ فقط) أي، ولا يعتق من هو له بعد الحَلِفِ، لأن قوله: أملِكه للحال، وكذا كل مملوك لي، لأن اللام للاختصاص، وهو مملوك له في الحال. وإلا لكان هو وغيره سواء، فيكون الجَزَاء عِتق مَنْ هو في مِلكِه في الحال، إلا أنه لما دخل الشَّرطُ عليه تأَخَّر إلى وجود الشرط.

(لا الحمل) أي لا يعتق حمل الأمة الذَّكر (بكل مملوك لي ذكرٌ حرٌ) سَواء ولد لستة أشهر من وقت القول أو لأقل منها. قيد بالذَّكر لأن المالك لو لم يَذْكُره تعتِق الأم، فيعتِقُ الولد تبعاً لها (ومَنْ أُعتِقَ) بصيغة المفعول (على مال) مثل أن يقولَ سيدٌ لعبده: أنت حر على ألف (أو) أُعتَقَ (به) أي بمال، مثل أن يقولَ: أنت حرٌ بأَلف (فَقَبِلَ) العبد (عَتَقَ) ولزمه المال، لأن هذا معاوضة، فيثبت حكمها بالقَبُول للحال

(1)

، كما في البيع والنِّكاح (والمال دَيْن عليه) يصح به الكفالة، لأنه يسعى فيه وهو حر، بخلاف بدل الكِتَابة، حيث لا تصح به الكفالة، لأنه يسعى فيه وهو عبدٌ والمَوْلى لا يستوجب على عبده دَيناً.

(والمُعلَّقُ عِتقُه بالأداء) بأن قال له سيده: إن أدَّيت إليّ كذا، فأنت حرٌ (مأذون) له في التجارة، لأنه لا يتمكن من الأداء إلا بالاكتساب، وهو: إما بالشَّحذ

(2)

أو بالتجارة، ويمتنع أن يراد الشِّحَاذَة والتكَدِّي للخَسَاسة

(3)

، فيتعين التجارة للنفاسة (إن أدى عَتَقَ) لوجود الشرط.

(لا مكاتَبٌ) أي ليس المعلق عِتقُه بالأداءِ مكاتباً، ولهذا لو مات وترك وفاءً، كان المالُ لمولاه ولا يؤدَّى عنه. ولو مات المولى فالعبدُ رقيقٌ يُورَث عنه مع ما في يده من أكسابه. ولو كانت أمةً فولدت ثم أدت لم يَعتِق ولدها. ولو حطّ المال أو أبرأ المَولى لم يعتق. ولو كان مكاتباً لكان الحكم على العكس. واعلم أنه لا يقتصر في قوله «إذا أديت» على المجلس، لأن «إذا» تستعمل للوقت بمنزلة «متى» ويقتصر عليه في قوله: إن أديت، في ظاهر الرواية.

(1)

وفي المطبوع: "للمال" بدل "للحال".

(2)

حرفت في المطبوع إلى: "بالشحنة"، والمخطوط إلى:"بالشحذة".

(3)

عبارة المطبوع: "أن يراد الشحاذة للخساسة".

ص: 226

وفي أَنْت حرٌ بعد موتي بألفٍ، إن قَبِلَ بعد موتهِ وأعتقه الوارث، عَتَقَ، وإلا لا.

وإن حرَّرَه على خدمَتِهِ سنةً، عَتَقَ. ويخدُمُه سنةً، فإنْ مات قَبْلها يجبُ قيمتُه.

وعند محمد: قِيمة خدمتِهِ.

‌فَصْلٌ في التَّدبيِر والاسْتِيلادِ

مَنْ أُعتِقَ بعد موتهِ مطلقًا، أو إلى مُدةٍ غَلَبَ موتُه قَبْلها:

مُدَبَّرٌ لا يُباعُ ولا يُوهبُ،

===

(وفي أنت حرٌ بعد موتي بألفٍ) أو على ألف (إن قَبِلَ) العبدُ (بعد موتِهِ) أي موت مولاه (وأعتقه الوارث) أو الوصي، أو القاضي (عَتَقَ وإلا لا) أي وإن لم يقبل العبدُ بعد موت مولاه، بل قَبِل قَبْله، أو قَبِلَ بعده ولم يُعتِقه الوارث، ولا الوصي، ولا القاضي: لم يعتق.

(وإن حرره) مولاه (على خدمَتِهِ) أي على أن يخدُمَه (سنةً) مثل أن يقول: أنتَ حرٌ على أن تخدُمني سنة، فقبل (عَتَقَ) لأن هذا عِتقٌ على عِوضٍ، والعِتقُ على عوض يقع بالقَبُول قبل الأداء (ويخدُمُه سنةً) قيده بعلى، لأنه لو قال: إن خدمُتني سنةً، لا يعتِق إلا بعد خِدمة سنة، حتى لو خَدَمه أقل منها أو أعطاه مالاً عن خِدْمته لا يعتق. وكذا لو قال: إن خدمتني وأولادي سنة، فمات بعضُ أولاده لا يعتِقُ. والفرقُ أنّ كلمة «إن» للتعليق، و «على» للمعاوضة.

(فإنْ مات) مَوْلاه، أو مات هو (قَبْلها) أي قبل الخِدْمة (يجب قيمته) عند أبي حنيفة وأبي يوسف (وعند محمد:) يجبُ (قِيمة خدمتِهِ)

(1)

.

فصل في التَّدْبيرِ والاستيلاد

(مَنْ أُعتِقَ) بصيغة المجهول، و «مَنْ» نَكِرَة مَوْصُوفة مبتدأ (بعد موتِهِ) أي موت سيده (مطلقاً) كإنْ قال له: أنت حرٌ بعد موتي (أو) مقيداً (إلى مُدةٍ غَلَبَ موتُه) أي موتُ سيده (قَبْلها) كإن مِتُّ إلى مِئَةِ سنة، فأنت حر، ومثل المَوْلى لا يعيش إليها غالباً (مُدَبَّر) خبر المبتدأ (لا يباعُ ولا يُوهبُ) ولا يخرج عن ملِك مولاه إلا إلى الحُرِّية. وبه

(1)

لمحمد رحمه الله أنه معاوضة المال بما ليس بمال، لأن نفس العبد ليست بمال في حقه، إذ لا يملك نفسه. ولهما أنه معاوضة مال بمال، لأن العبد مال في حق المولى، وكذا المنافع مال بإيراد العقد عليها. انتهى من حاشية إلياس الرومي على النقاية 1/ 712.

ص: 227

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

قال مالك.

وقال الشافعي وأحمد وداود: يُباع عند الحاجة، وكذا يُوهب ويُتَصدَّق به. لما رواه الشيخان من حديث عمرو بن دينار عن جابر: أن رجلاً من الأنصار أعتق غلاماً له عن دُبُر ـ لم يكن له مالٌ غيره ـ فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: «مَنْ يشتريه مني؟» ، فاشتراه نُعيم بن عبد الله بِثَمان مِئة درهم، فدفعها إليه. وأخرجه النسائي وقال فيه: وكان محتاجاً، كان عليه دين، فباعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«اقض بها ديْنَك» . ولحديث جابر هذا ألفاظٌ كثيرةٌ. وروى أبو حنيفة بسنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم باع المُدبَّر.

ولنا أن قوله تعالى: {أوْفُوا بالعُقُودِ}

(1)

، وما روى الدارقطني من حديث عَبيدة ابن حسان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المدبَّر لا يُباع ولا يُوهب، وهو حر من ثُلُثِ المال» . وقد رواه حمَّاد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر من قوله، وهو الصحيح لثقة حمَّاد وضَعْفِ عَبيدة.

والحاصل: أنه ضُعِّف رَفْعُه وصُحِّح وقفه، فعلى تقدير الرفع لا إشكال، وعلى تقدير الوقف فقول الصحابي حينئذٍ لا يعارضه النص البتة

(2)

، لأنه واقعةُ حالٍ لا عموم لها، وإنما يعارضه أن لو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يباع المدبَّر. فإن قلنا بوجوبِ تقليدِهِ فظاهرٌ، وأما عند عدم تقليده يجب أن يحمل على السماع، لأن منْعَ بيعه مع بقاء الرِّق على خلاف القياس، فيحمل على السماع، فبطل ما قيل: حديث ابن عمر لا يصلح لمعارضة حديث جابر. وأما قول صاحب «الهداية» أن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «المدبَّر: لا يُباع، ولا يُوهب، ولا يُورث وهو حر من الثُلُثِ» ، فقوله:«ولا يورث» غير معروف.

وأجيْبَ عن حديث جابر بجوابين:

أحدهما: أنه حكايةُ فِعْلٍ، فلا عموم له، فيكون مَحْمولاً على المُدبَّر المقيد، وهو يجوز بيعُه عندنا، إلا إنْ بيَّنُوا أنه كان مدبراً مطلقاً، وهم لا يقدرون على ذلك. وكونُه لم يكن له مال غيره ليس بعلة لجواز بيعه، لأن المذهب عندنا: أنه يسعى في قيمته، لما روى عبد الرزاق في «مصنفه» عن زياد الأعرج عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل أعتق عبده عند الموتِ وترك ديناً، وليس له مالٌ قال:«يُسْتَسْعى في قيمته» . ثم روى

(1)

سورة المائدة، الآية:(1).

(2)

حرفت في المطبوع إلى: "السنة".

ص: 228

ويُستخدَمُ ويُستأجَرُ، والمُدبَّرة تُوطأ وتُنْكَحُ. وإن مات سيدُهُ من ثُلثِ مالهِ، وسعى فيما زاد. وإن استغرقَ المدبَّرُ دْينَه، ففي كُلِّه.

===

عن علي نحوه سَواء. والمُرْسل يشده هذا الموقوف ويعضُدُه.

وثانيهما: أنه محمولٌ على بيع الخِدْمة والمنفعة دون الرقبة. لما روى الدارقطني عن عبد الغفار بن القاسم عن أبي جعفر قال: ذُكِرَ عنده أن عطاءً وطاوساً يقولان عن جابر في الذي أعتقه مولاه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعتَقَه عن دُبُر، فأمره أن يبيع ويقضي دينه، فباعه بثمانِ مِئَةِ درهم. قال أبو جعفر: سمعت الحديث من جابر إنما أذِن في بيع خِدْمته. انتهى. قال الدارقطني: وأبو جعفر هذا وإن كان من الثقات إلا أنَّ حديثَه مرسل. والجواب عليه

(1)

: أن المُرسل حجةٌ عند الجمهور، وهو كفاية في بيان المعنى اتفاقاً كما لا يخفى.

فإن قيل: عبد الغفار يُرْمى بالكذب وكان من غُلاةِ الشيعة. أُجيب بأن ابن القطان قال في كتابه: إنه مرسل صحيح، لأنه من رواية عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَمي

(2)

عن أبي جعفر وهو ثقة.

(و) المدبَّر (يُستخدَمُ ويُستأجَرُ والمُدبَّرة) زيادة على ذلك (تُوطأ) وقال الزهري ومالك في رواية: لا توطأ. وقال الأوزاعي: إن كان لا يطأها قبل التدبير لا يَطَأُها بعده (وتنكح) لأن مِلك المولى ثابت له، وبه تستفاد هذه التصرفات من غير إبطال حق العبد. وولد المُدبَّرة مدبَّر، على ذلك نُقِلَ إجماع الصحابة كذا في «الهداية» .

(وإن مات سيدُهُ) عَتَقَ (من ثُلثِ مالهِ) أي مالِ سيده من التَّرِكة يوم موته فإن كان الثُلُثُ مساوياً لقيمته أو أزيدَ منها، عَتَق المدبّرُ كله. وإن كان أنقصَ منها عتَقَ منه بَحسابِه، أي بقدر ثُلُث التَّرِكة مَجَّاناً (وسعى فيما زاد) أي على ما انعتق منه، وهو ما بقي من قيمتِهِ مدبراً. أما عتِقُ المدبَّرِ من الثُلُثِ فلحديث ابن عمر السابق. وأما سعيه فيما زاد على ما عتق منه، فلأن المدبر كالمُوصَى إليه، وهو لا يَسْلَم له شيء إلا إذا سَلِمَ للورثة ضِعْفُه.

(وإن استغرق المدبَّرُ دَينَه) أي دينَ مولاه (ففي كله) أي في جميع قيمته

(1)

في المخطوط: "عنه" بدل "عليه".

(2)

حرفت في المطبوع إلى: "العذرمي" وفى المخطوط إلى: "الوزي"، والتصويب من "تقريب التهذيب" ص 363، رقم (4184).

ص: 229

وإن قال: إن مِتُّ في مرضي هذا، صح بيعُه، وإن وُجد الشرط عَتَقَ، كالمدبَّرِ. وأمةٌ ولدتْ من سيِّدِها فادَّعى، أو مِنْ زوجٍ فَمَلَكَها أُمُّ ولده، وحكمُها كالمُدبَّرَة،

===

يسعى، لأن الدَّين مقدمٌ على التبرع، ولا يمكن نقضُ العِتق حقيقةً، فيجب نقضه معنىً بردِّ قيمته فيسعى في قيمته (وإن قال: إن مِتُّ في مرضي هذا) أو في سفري هذا، أو في هذا الشهر، أو في هذه السنة، أو إلى عشر سنين (صح بيعُه) وما يوجب انتقالَه عن ملك مولاه قبل وجود الشرط، لأن الموتَ على تلك الحالةِ لمّا لم يكن كائناً لا محالَةَ، لم ينعقد السبب للحال، فبقي كسائر التعليقات، (وإن وُجد الشرط) وهو موت المَوْلى على الوصف الذي ذكره لانعقاد السبب مآلاً (عَتَقَ) من الثُلُثِ (كالمدبَّرِ) اتفاقاً.

(وأَمةٌ ولدتْ من سيدها) مبتدأ موصوف (فادَّعى) سيدُها ولدَها (أو من زوجٍ فَمَلَكَها) زوجها (أُمُّ ولده) خبر المبتدأ، وأم الولد يَصدُقُ لغةً على الزوجة وغيرها ممن لها ولد. وعرفاً يختص بالأَمة التي يثبتُ نسبُ ولدها من مولاها. وقال مالك والشافعي: لا تصير الأمة أم ولدٍ إذا مَلَكَها زوجُها بعد ما ولدت منه بِرِقَ (وحكمُها) عند الجمهور (كالمُدبَّرَة) فيما سبق.

وقال بِشر المَرِيسي وداود الأصفهاني: يجوز بيعُها ولا تعتِق بموت مولاها، لما روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث جابر:«بِعْنَا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمرُ نَهَانَا عن ذلك فانتهينا» . وقال ربيعة بتعجيل عتقِها، لما روى ابن ماجه والحاكم في «مستدركه» ـ وسكت عنه ـ من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أعتَقَها ولَدُها» . وقال ابن القطَّان في كتابه: وقد روي بإسناد جيد عن ابن عباس قال: لما ولدتْ ماريةُ إبراهيمَ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أعتَقَهَا وَلَدُها» .

واستدل الجمهور بما روى أبو داود من حديث سَلَامة بنت مَعْقِل امرأة من خارجة قيس غَيْلان قالت: قدم بي عمي في الجاهلية فباعني من الحُبَاب بن عمرو، فولدتُ له عبد الرحمن، ثم هلك فقالت امرأته: والله الآن تباعين في دَينهِ، فأتيت

رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ وَلِيُّ الحُبَاب؟» فقيل: أخوه أبو اليَسَر كعب بن عمرو، فبعث إليه فقال:«أعتقوها فإذا سَمِعْتم برقيقٍ قَدِمَ عليَّ، فأتوني أُعَوِّضكم» . قالت: فأعتقوني، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق، فعوضهم غلاماً.

ص: 230

إلا أنها تَعتِقُ عند موته من كلِّ مالِهِ ولم تَسْع لِدَيْنِهِ.

===

وبما روى مالك في «الموطأ» عن عمر أنه قال: «أيُّما وَلِيْدةٍ وَلَدَتْ من سيدها فإنه لا يبيعها، ولا يهبُها، ويستمتع بها ما عاش، فإذا مات فهي حرة» .

وبما رواه ابن ماجه عن ابن عباسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيُّما أمةٍ وَلَدَتْ من سيِّدها فهي حرةٌ بعد موته» . ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يُخرِّجاه. وفي رواية أبي يَعلى المَوْصِلي: «أيُّما أمةٍ وَلَدَتْ من سيدها، فإنها حرة إذا مات، إلا أن يَعْتِقَها قبل موته» . وروى الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع أمهاتِ الأولاد وقال: «لا يُبعْنَ، ولا يُوهبنَ، ولا يُورثْنَ، يستمتع بها سيدُها ما دام حياً، فإذا مات فهي حرة» .

وأجابوا عن حديث أم إبراهيم بأنَّ ظاهِرَه تَنُجِيْزُ الحرية، وهو خلاف الإجماع، فيثبت به حق الحُرية إعمالاً للحديث بقدر الإمكان. قال الخطابي: وقد ثبت أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّا مَعَاشِرَ الأنبياءِ لا نُورَثُ، ما تركْنَاه صدقة»

(1)

.

ولو جَاز بيعُ أم الولد لَبِيْعت مارية وصار ثمنُها صدقةً. انتهى. وعن حديث جابر بأنه يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَشْعُرْ ببيعهم إيَّاها، ولا يكون حجةً إلا إذا عَلِمَ به وأقرهم عليه، ويُحتمل أن يكون ذلك أول الأمر، ثم نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلم به أبو بكر لقصرِ مُدة خلافتِهِ، واشتغاله بأُمور المسلمين من حرب مُسَيْلِمة وأهل الرِّدَّة، ثم نهى عنه عمر لمَّا بلغه نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم عنه. كما قيل في حديث جابر في المتعة الذي رواه «مسلم»: كنا نستمتع بالقبضة من التمرة والدقيق الأيامَ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى نهانا عنه عمر.

ومما يدل على انعقاد الإجماع على عدم بيعهن في أيام عمر ما رواه عبد الرزاق في «مصنفه» : أخبرنا مَعْمَرُ، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عَبيدة السَّلْماني قال: سمعت علياً يقول: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أنْ لا يُبَعْن، ثم رأيت بعد أن يُبَعْنَ. قال: فقلت له: رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إليَّ من رأيك وحدَك في الفرْقة، قال: فضحك عليٌ كرم الله وجهه.

(إلا أنها) أي أم الولد (تعتِق عند موته) أي موت سيدها (من كل مالِهِ ولم تَسع لديْنِهِ) لما قدمنا من إطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «أعتَقَهَا ولدُها» ، وقوله: «فإنها

(1)

الجزء الأول من الحديث أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 463، والجزء الثاني أخرجه مسلم في "صحيحه" 3/ 1377 - 1378، كتاب الجهاد (32)، حكم الفئ (15)، رقم (49 - 1757).

ص: 231

ولا يثبتُ نَسَبُ الولد إلا بِدِعْوة، ثم بلا دِعوةٍ، لكن ينتفي الولدُ بالنَّفْي.

===

حرة بعد موته» (ولا يثبت نَسَبَ الولد)

(1)

من سيِّدها المعتَرِفِ بوطئها (إلا بِدِعوة) بكسر الدال على ما هو المشهور، أي بدعوى أن ولدها منه. وبه قال الثوري، والشَّعْبي، والحسن البصري. وقال مالك والشافعي وأحمد: يثبت نَسَبه إذا أقر بوطئها وإن عَزَلَ عنها، إلا أن يدَّعِي أنه استبْرَأَهَا بعد الوطء بحيضة، لأنه لما ثَبَتَ النسب بعقد

(2)

النكاح فَلأَن يثبت بالوطء وهو أكثر إفضاءً أولى.

ولنا ما روى الطحاوي عن ابن عباس: أنه كان يأتي جارية، فحملت فقال: ليس مني، إني أتيتها إتياناً لا أريد به الولد ـ يعني كان يعزِل عنها ـ وعن زيد بن ثابت: أنه كان يطأ جاريةً فارسيةً ويعزل عنها، فجاءت بولد، فأعتق الولد وجلدها. وعنه: أنه قال لها: مِمَّنْ حملتِ؟ قالت: منك، قال: كذبتِ ما وصل إليك ما يكون منه الحمل، ولم يلتزمه زيد مع اعترافه بوطئها.

(ثم) إن جاءت بولدٍ بعد الاعتراف بالأوّل يثبتُ نَسَبهُ (بلا دِعوة) لأنه لما ادَّعى الأولَ تعين الولد مقصوداً فيها، فصارت فِراشاً له، كالمقصود عليها بالنكاح، ولهذا لو أعتقها، أو مات عنها، يلزمها العِدَّة (لكن ينتفي الولدُ بالنفي) أي بمجرد نفيه بلا لِعَان، لأن فراشها ليس بقوي، ولهذا يَملِكُ المَوْلى نقله بالتزويج، بخلاف المنكوحة حيث لا ينتفي ولدها إلا باللعان لتأكد فراشها، ولذا لا يملك الزوج نقلها بالتزويج. وفي «المبسوط»: إنما يملكُ السيد نفيَه إذا لم يقض القاضي، أو لم يتطاول الزمان، لأن قضاء القاضي مُلزم، وتطاول الزمان دليل الاعتراف.

واعلم أن هذا كلَّه في القضاء، وأما في الدِّيَانة فإن كان وطِئَها وحصَّنَها، أي حِفظَها عما يوجب رِيْبة الزنا ولم يعزِل عنها لَزِمَه أن يعترِفَ به ويدَّعيه، لأن الظاهرَ أنَّ الولدَ منه. وإن عَزَلَ عنها أو لم يحصنها جاز له أن ينفيه، لأن هذا الظاهر عارَضَهُ ظاهرٌ آخر.

وعن أبي يوسف: لو وطِئها ولم يستبرئها بعد ذلك، فجاءت بولد، فعليه أن يدَّعيَه، سواءٌ عَزَلَ عنها أو لم يعزل، حصنها أو لم يحصن، تحسيناً للظن بها، وحملاً لأمْرِها على الصلاح ما لم يتبين خلافه.

(1)

في المخطوط: "ولا يثبت نسب ولد الأمة".

(2)

في المطبوع: "بعد" بدل "بعقد".

ص: 232

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وعن محمد: لا ينبغي أن يدَّعي ولدها إذا لم يعلم أنه منه، ولكنه ينبغى أن يعتِق الولد ويستمتع بها، ويعتِقها بعد موته، لأن استلحاقَ ما ليس منه حرامٌ شرعاً، فَيحْتاط من الجانبين. وقد ذكر صاحب «الإيضاح» هاتين الروايتين بلفظ الاستحباب، فقال: قال أبو يوسف: أحبُّ إليَّ أن يدَّعيَه. وقال زفر: أحبُّ إليَّ أن يعتق الولدَ. قلت: وهذا هو الأحوط

(1)

في هذا الباب، والله أعلم بالصواب.

ولو ادّعى ولدَ أمةٍ مُشْتَرَكةٍ، ثبت نَسَبُه منه، وصارت كلُّها أُمَّ ولد له، ولزمه نصف قيمته لشريكه يوم العُلُوق، موسِراً كان أو معسراً، ويضمن نِصف عُقْرها

(2)

، لوقوع الوطء في نصيبِ شريكِهِ في غير المِلْك، إذ الملك يثبت حكماً للاستيلاد في نصيبه فيعقّب، ولا يضمن قيمة الولد، لأنه عَلِقَ (حُرَّ الأصل)

(3)

، إذ النَّسَب يثبت مستنداً إلى وقت العُلُوق، والضمان وجب حين العُلوق، فيحدث الولد حرّ الأصل

(4)

على ملكه ولم يَعْلَق شيء منه على ملك شريكه.

وإن ادَّعيا معاً ثبت نسبه منهما، وصارت أمَّ ولدهما، وتقاصَّا

(5)

في عُقْرها لعدم الفائدة في أخذ كل منهما ثم ردّه إلى الآخر، إلا أن يكونَ نصيبُ أحدهما أكثر، فيأخذ الزائد. وورث الولدُ من كل منهما إرث ابن مُؤاخذة لهما بزعمهما، وورثا منه إرث أب واحد، لأن أباه إنما هو أحدهما، لكنه غير معلوم، فوزِّع ميراثُ الأب عليهما.

ولو مات أحدهما كان ميراثُه للباقي منهما، ولا يعتبرُ عندنا قول القائفِ

(6)

في إلحاقِهِ بأحدهما.

واعتبره مالك والشافعي ومَنَعَا ثبوت النسب من اثنين، لأن ثبوتَ نسب مولود من الولد بكونه مخلوقاً من مائه، ونحن نتيقن أنه غير مخلوق من ماء رجلين، لأن كلَّ واحدٍ منهما أصل للولد، كالأم بمنزلة البيضِ للفَرْخ، والحبِّ للحنطة، فكما لا يُتصور فرخٌ واحد من بيضتين، وسنبلةٌ واحدةٌ من حبتين، فكذلك لا يُتصور ولد واحد ماءين، وهذا لأن وصول الماءين إلى الرحم في وقت واحد لا يُتصور، وإذا وصل ماءُ

(1)

عبارة المطبوع: "وهذا قول أحوط في هذا

"، والمثبت عبارة المخطوطة.

(2)

العُقر: ما يجب للمرأة من المال (الصَّداق) إذا وُطِئت في نكاح غير صحيح، ولم يكن الوطء موجبًا للحد. معجم لغة الفقهاء ص 318.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(5)

المقاصة بين شخصين: طرح كل واحد ماله على الآخر مما عليه له. معجم لغة الفقهاء ص 451.

(6)

القائف: الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود والوالد. معجم لغة الفقهاء ص 353.

ص: 233

‌فصلٌ في الوَلاءِ

===

أحدهما إليه ينسدُ فمه، فلا يخلط إليه الثاني.

فإذا تعذر القضاء بالنَّسب منهما جميعاً، يُرجع إلى قول القائف. لما روت عائشة دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسروراً فقال: «يا عائشة ألم تَرَي أن مُجَزِّراً المُدْلِجِيَّ دخل وعندي أسامة بن زيد، فرأى أسامةَ وزيداً وعليهما قَطِيفةٌ

(1)

وقد غطَّيا رؤوسهما، وبَدَتْ أقدَامُهُما، فقال: هذه أقدامٌ بعضُها من بعض». أخرجه الستة في كتبهم. قال أبو داود: وكان أُسامة أسود، وكان زيدٌ أبيض. وروى عبد الرزاق بسنده: أنَّ رجلين اختصما في ولد، فدعا عمر القافة، وافتدى في ذلك ببصيرة القافة وألحقه بأَحَد الرجلين.

ولنا ما رواه البيهقي عن مبارك بن فَضَالة، عن الحسن، عن عمر: في رجلين وطِئا جارية في طهر واحد، فجاءت بغلام فُرُفِعَا إلى عمر، فدعا له بثلاثة من القافة، فاجتمعوا على أنه أخذ الشَّبَه منهما جميعاً، وكان عمر قائفاً، فقال: قد كانت الكلبة يتردّد عليها الأَسود، والأَصفر، والأَغرّ

(2)

، فتؤدي إلى كل كلب شَبَهه، ولم أكن أرى هذا في الناس، حتى رأيت هذا، فجعله عمر لهما يرثهما ويرثانِه، وهو للباقي منهما. وروى الطحاوي في «آثاره» عن سِمَاك ـ مولىً لآل مخزوم ـ قال: وقع رجلان على جارية في طُهر واحد، فَعَلِقت الجارية، فلم يُدر من أيهما هو، فأتيا علياً رضي الله عنه، فقال: هو بينكما يرثكما وترثانِه، وهو للباقي منكما. ورواه عبد الرزاق: أخبرنا سفيان الثوري، عن قابوس بن أبي ظَبْيان عن علي نحوه.

فصل في الوَلاءِ

وهو بفتح الواو والمد مشتقٌ من الوِلَايَةِ وهو المقاربة.

وفي الشرع: عبارة عن عَصَبةٍ مُتَرَاخية عن عُصوبةِ النَّسبِ، يرث بها المُعتِق، ويلي أمر النكاح، والصلاة عليه، وهو نوعان: وَلاءُ عَتَاقةٍ، ويُسمّى ولاءَ

(1)

القطيفة: دثارٌ - أي الثوب الخارجي - مخمل. المغرب في ترتيب المعرب 2/ 187، مادة (قطف).

(2)

هكذا في المطبوع، والأغر: الأبيض من كل شيء. القاموس المحيط ص 577، مادة (غرر). وفي المخطوط:"الأتمر"، ومعناه: ما فيه نُمْرَةٌ - النُّكْتَةُ من أي لون كان - بيضاء وأخرى سوداء. القاموس المحيط ص 627، مادة "نمر". والمثبت أصح.

ص: 234

من عَتَقَ بإعتاقٍ، أو بفَرْعٍ له، أو بمِلْك قَرِيبِه إِيَّاه، فَوَلاؤُه لسيِّدِه، وإن شَرَطَ عدمه.

ومن أعتَقَ أَمَةً زوجُها قِنٌّ، فله ولاءُ الوَلَدِ،

===

نِعمة، قال الله تعالى:{وإذ تقولُ للذِي أنْعَمَ الله عليه} (أي بالإسلام {وأنعمت عليه}

(1)

أي بالعتق وهو زيد بن حَارِثة. وولاء الموالاة، قال الله تعالى:{والذين عَقَدَتْ أيمانُكُم فآتُوهُم نَصِيْبَهُم}

(2)

، سنذكر بيان مَوْلى المُوالاة. وإنما ذَكَرَ المصنفُ ولاء العَتَاقة فقط، لأنه أكثر وأقوى فقال:

(من عَتَقَ) أي حصل له عِتقٌ وخلاصٌ من رِقَ (بإعتاق، أو بفَرْعٍ له) أي الإعتاق، كالكتابة والتَّدْبير والاستيلاد (أو بمِلْك قريبه إياه، فَوَلاؤُه لسيده) ذكراً كان أو أنثى، مفرداً أو غيره.

(وإن شَرَطَ عدمه) أي نفى ولاية لسيده. لما روى أصحاب الكتب الستة من حديث عائشة: أنها لما اشترت بَرِيْرَة اشترط أهلها أن يكون ولاؤها لهم، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«أعتقيها، فإنما الوَلاءُ لمن أعتَقَ» وهو بعمومه يتناول جميع أفراده.

وما رواه الشافعي في «مسنده» عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف القاضي ـ يعقوب بن إبراهيم ـ عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الوَلاءُ لُحْمَةٌ كلُحْمة النَّسَب، لا يُباع ولا يُوهب» . وله طرق أُخر، منها: ما رواه الطبراني عن عبد الله بن أبي أَوْفَى. ومنها: ما رواه الحاكم في «مستدركه» ، والبيهقي عن ابن عمر. وفي رواية أحمد والطبراني عن ابن عباس:«الولاء لمن أعتَقَ» ، وفي رواية الشيخين، والثلاثة عن عائشة:«الولاء لمن أعطى الوَرِقَ، ووَلِيَ النِّعمة» .

(ومن أعتَقَ أَمَةً زوجها قِنٌّ)

(3)

فولدت لأقل من نِصف حَوْل من وقت الإعتاق، أو لأكثر منه (فله) أي للمعتِقِ (ولاءُ الولد) لأن أباه قِنٌّ لا ولاء له، وقد دخل هو مع الأم في عتقها لاتصاله بها حين العتق أو بعده، فيتبعها في الوَلاءِ إلا أنَّ ولاءها لا ينتقل في الأقل من نِصف الحَوْل أبداً، لأنا تيقنا بوجود الولد وقت العتق، فلا ينتقل ولاؤه عن مولى الأم.

(1)

سورة الأحزاب، الآية:(37).

(2)

سورة النساء، الآية:(33).

(3)

عبارة المطبوع (ومن أعتق أمتَه وزوجُها قِنٌّ). القِنُّ: الرقيق الكامل الرِّق، إذا لم يحصل فيه شيء من أسباب العتق أو مقدماته، كالمكاتبة والتدبير. معجم لغة الفقهاء ص 370.

ص: 235

فإن أُعتِقَ جَرّ وَلاءَ ابنه إلى قَوْمِه، إن كان بين إعتاقِ الأم وولادَتِهَا أكثرُ من نِصْفِ حَوْل. والمُعتِقُ عَصَبَةٌ، قدَّمَ النَّسَبيةَ عليه، وهو على ذي الرَّحِم،

===

(فإن أُعتِقَ) القِنُّ بعد الأُمِّ (جَرّ) القِنُّ (ولاء ابنه إلى قومه) أي مواليه (إن كان بين إعتاق الأم وولادتها أكثرُ من نِصف حَوْل) لأنه وقت الإعتاق لم يتيقن به، فلم يعتق قصداً بل تبعاً، بخلاف الأول. وهذا إذا لم تكن معتدة، لأنها لو كانت معتدةً وولدتْ لأكثر من ستة أشهر من وقت العتق، ولأقل من سنتين من وقت الفِرَاق، لا ينتقل ولاؤه، لأنه كان موجوداً عند عتق الأم، ولهذا ثبت نَسَبُه.

فقد روى مالك في «الموطأ» عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أن الزبير بن العَوَّام اشترى عبداً فأعتقه وللعبد بَنُوَن من امرأة حُرَّة، فقال الزبير: هم مَوَاليَّ، وقال موالي أُمِّهم: هم موالينا، فاختصموا إلى عثمان بن عفان، فقضى للزبير بولائهم. وهذا لأن الولاء لُحْمَةٌ كلُحمةِ النسب، وهو إلى الآباء. وكما أن النسب يكون للأُمِّ

(1)

عند الضرورة ثم ينتقل عنها إلى الأب كولد الملاعنة يُنسب إلى أُمه، ثم إذا أكذب الأب نفسه انتقل عنها إلى أبيه، فكذلك الوَلاء يكون لموالي الأم عند الضرورة، ثم ينتقل عنهم عند زوالها إلى موالي الأب.

(والمُعتِقُ عَصَبَةٌ) بنفسه يأخذ ما بقي من أصحاب الفروض إن وُجِدوا، وجميعَ المال إذا فقدوا، لأنه أحيا العبد بالإعتَاقِ، فأشبه إحياءَ الأب بالوِلادة. (قدَّمَ) العصبة (النَّسَبية عليه) وهم: مَنْ لا فرض له، ولا يدخل في نسبته إلى الميت أُنثى (وهو) أي المعتِق قُدِّم (على ذي الرَّحِم) وفي بعض النُسخ: ذي الرَّحِمِ المَحْرَم، وهو من خطأ الناسخ. وإنما قدَّمَ المعتِقَ على ذي الرحم لما روى النسائي وابن ماجه من حديث

عبد الله بن شداد، عن ابنه حمزة بن عبد المطلب قال: مات مولىً لي وترك ابنة له، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله بيني وبين ابنته، فجعل لي النصف ولها النصف.

وفي «مسند الدارمي» عن الحسن: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل، فقال: إني اشتريت هذا فأَعْتِقه، فما ترى فيه؟ قال:«هو أخوك ومولاك (قال: ما ترى في صحبته؟ قال:) إن شكرك فهو خير له وشر لك، وإن كفرك فهو شر له وخير لك» ، قال: فما ترى في ماله؟ قال: «إن مات ولم يَدَع وارثاً فتملك ماله»

(2)

. وفي رواية عبد الرزاق قال:

(1)

في المطبوع: للابن، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه من المخطوط.

(2)

الذي في سنن الدارمي 2/ 468، كتاب الفرائض (21)، باب الولاء (31)، رقم (3012):"إن مات ولم يترك عصبة فأنت وارثه". والذي في المخطوط: "ولم يدع وارثًا فلك ماله" وما بين الحاصرتين منه.

ص: 236

فإن مات السيدُ ثم المعتَقُ، فولاؤُه لأَقْرَبِ عصبةِ سَيِّده على الترتيب. ولا وَلاءَ للنِّساء إلا ما أَعْتقْن.

===

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لم يكن له عَصَبةٌ فهو لك» . وروى عبد الرزاق في «مصنفه» عن مَعْمَر، عن قَتادة: أن زيد بن ثابت كان يُورِّث الموالي دون ذوي الأرحام. وعمر وابن مسعود كانا يورثان ذوي الأرحام دون الموالي.

(فإن مات السيدُ ثم المعتَقُ، فولاؤُه) أي إرثه (لأقرب عصبة سيده على الترتيب) الذي يُذكر في الفرائض، لقول عمر، وعلي، وابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبي مسعود الأنصاري، وأسامة بن زيد: الوَلاء للكُبْر. وبه أخذ علماؤنا. وكان شُريح يقول: الوَلاءُ بمنزلة الملك. وفي نُسخة بزيادة: المال. وفائدة هذا الاختلاف أن ميراث المعتَق (بالولاء بعد المعتِقِ)

(1)

يكون لابن المعتِق دون بنته عندنا. وعند شريح بين الابن والبنت، للذكر مثل حظ الأُنثيين.

وهذا معنى قول الصحابة: الوَلاءُ للكُبْر، أي للقرب. وتفسيره: أن رجلاً لو أعتق عبداً ثم مات وترك ابنين، ثم مات أحدهما وترك ابناً، ثم مات، فميراثه لابن المعتِقِ لِصُلْبه دون ابن ابنه، لأن ابن المعتِقِ لِصُلبه أقرب إليه من ابن ابنه، ولهذا كان أحق بميراثه، فكذلك بالإرث لولائه.

(ولا ولاء للنساء إلا ما أعتقن) كما في الحديث في «شرح الوقاية» عبارة هذا الحديث: «ليس للنساء من الولاءِ إلا ما أعتقْنَ، أو أعتَقَ من أعتقن، أو كاتبن أو كاتب من كاتبن، أو دبَّرْن أو دبَّر من دبَّرن، أو جرَّ ولاء مُعتقِهنَّ» . أو معتَقِ مُعتِقِهنَّ. انتهى. وهذا ليس بموجود في كتب الحديث، وإنما فيها ما روى البيهقي عن علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت: أنهم كانوا يجعلون الوَلاء للكُبْر من العصبة ولا يورِّثون النساء من الولاء إلا ما أعتَقْن أو أعتَقَ مَنْ أعتقن. وما روى ابن أبي شيبة عن الحسن أنه قال: «لا يرث النساء من الولاء إلا ما أعتقْنَ أو أعتَقَ من أعتقن. وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال: «لا يرث النساء من الولاء إلا ما أعتقْنَ أو كاتبْنَ» . ورُوي نحوه عن ابن سيرين، وابن المسيَّب، وعطاء، والنَّخَعي.

والحاصل: أن هذا الحديث لا يثبت رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكن قال في «المبسوط» : والحديث وإن كان شاذاً، فقد تأكد بما اشتهر من أقاويل الكبار من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. وزبدة كلامه أنه في حكم المرفوع ومقامِهِ، إذ لا

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 237

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

يُتَصوَّر مثله من الرأي وأحكامه.

ولو مات المعتَقُ ولم يترك إلا ابنةً المعتِقُ، فلا شيء لها في ظاهر الرواية وتُوضع تركته في بيت المال. وأفتى بعض المشايخ بدفع المال إليها لا بطريق الإرث، بل لأنها أقرب الناس إلى الميت، فكانت أولى من بيت المال، وليس في زماننا بيت المال منتظماً بحسن الحال.

ولو أسلم رجلٌ على يد رجل ووالاه

(1)

أو والى غيره على: أنه يرثه إذا مات ويَعقِلُ عنه إذا جنى، صح هذا الولاء عندنا، ويعقل عنه إذا جنى جنايةً موجبها المال، ويرثه إن لم يكن له وارث.

ونفاه مالك والشافعي لأن الإرث متعلق بالقرابة، أو الزوجية بالنص، أو بالعتق بالحديث ولم يوجد واحد منها.

ولنا قوله تعالى: {والذين عَقَدَتْ أيمانُكم فآتُوهُم نَصيبَهم}

(2)

أي نصيبهم من الميراث. والمراد به الموالاة. وما في «السنن الأربعة» عن تميم الدَّاري قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما السُّنَّةُ في الرجل يُسلم على يد رجل من المسلمين؟ قال: «هو أولى الناس بمحْيَاه ومماتِهِ» . ورواه الحاكم في «المستدرك» وقال: على شرط مسلم. وما روى ابن أبي شيبة في الدِّيات: أن رجلاً أتى عمر فقال: إن رجلاً أسلم على يدي، فمات وترك ألف درهم، فخرجت منها فقال: أرأيت لو جنى جنايةً على مَنْ يكون؟ قال: عليَّ، قال: فميرَاثُه لك. يعني الغُنْمَ بالغُرْم. وما في «المبسوط» من حديث زياد عن علي: أن رجلاً من ـ أهل الأرض ـ أي ـ البادية ـ أتاه يواليه فأبى عليٌّ ذلك، فأتى ابن عباس فوالاه. ومن حديث مسروق أن رجلاً من أهل الأرض والى ابن عم له وأسلم على يديه فمات وترك مالاً، فسأل ابن مسعود عن ميراثِهِ، فقال: هو لمولاه، ويؤخر مولى الموالاة في الميراث عن ذوي الرَّحِمِ، يعني لو كان له عمة أو خالة أو غيرهما من ذوي الأرحام، يكون أولى منه، لأن الموالاة عقدهما (ولا يلزم غيرهما)

(3)

، وذووا الأرحام وَرَثَتُهُ بنصِّ الكتاب

(4)

.

(1)

يقصد مولى المولاة، وهو: أن يقول مجهول النسب لرجل معروف النسب: أنت وليّ، ترثني إذا مت، وتعقل عني إذا جنيت. معجم لغة الفقهاء ص 468.

(2)

سورة النساء، الآية:(33).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

في المطبوع وهامش المخطوط: "الكلام" بدل "الكتاب".

ص: 238

‌كِتابُ المُكاتَب

الكِتابةُ: إعتاقُ المَملُوكِ يدًا حالًّا، ورقبةً مآلًا

===

كتاب المُكَاتَب

(الكِتابة) وكذا المُكَاتبة والكِتَاب مصدر كاتَبه.

وشرعاً: (إعتاق المَملُوكِ يداً حالاً) أي تصرفاً في الحال (ورقبة مآلاً) أي باعتبار المآل. ولذا قيل: المُكاتب طار من ذُل العبودية ولم ينزل بساحة الحرية. ومنه قوله تعالى: {والذين يَبتَغُون الكِتَاب مِمَّا مَلَكتْ أيمَانُكم فكاتِبُوهم إن عَلِمْتُم فيهم خَيْراً}

(1)

، والأمر للندب عند عامة العلماء. وعن الحسن: ليس ذاك بعزم، إن شاء كاتب وإن شاء لم يكاتب. وعن عمر: هي عَزْمة من عَزَمات الله. وقوله: {خيراً} أي قدرةً على إيفاء ما تعاقدا عليه. وقيل: تكسُّباً وأمانة. وقيل: صلاحاً ودِيانة. وبُني على صيغة المفاعلة، لأن الرجلَ يقول لمملوكِهِ: كاتبتُك على ألف درهم. ومعناه: كتبتُ لك على نفسي أن تَعْتِقَ مني إذا وفَّيتَ بالمال، وكتبتَ لي على نفسك أن تَفِي بذلك. أو كتبتُ عليك الوفاءَ بالمال، وكتبتَ عليَّ العِتْقَ في المآل.

واختلف الصحابة رضي الله عنهم في وقت عِتقِ المكاتَب، فكان ابن عباس يقول: كما أخذ الصحيفة من مولاه يَعتِق. يعني بنفس العقد، لأن الصحيفةَ عند ذلك تكتب، فكأنه جعل الكِتَابة واردةً على الرقبة، كالعتق بِجُعْل يعتق بالقبول وهو غريم للمولى (فيما عليه من بدَل الكتابة. وكان ابن مسعود يقول: إذا أدى قيمة نفسِهِ عَتق وهو غريم للمولى)

(2)

في الفضل فكأنه اعتبر وصول قدر مالية الرقبة إلى المولى، ليندفع به الضرر عنه. وكان علي يقول: يعتِق بقدر ما أدى، فكأنه اعتبر البعض بالكل، وهو بناء على قوله: يُعتِق الرجل من عبده ما شاء. وكان عثمان، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وعائشة يقولون: هو عبد ما بقي عليه درهم.

وبه أخذ جمهور الفقهاء وقالوا: لا يعتق ما لم يؤد جميع البدل. والأصل فيه ما رواه عَمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كاتب عبده على مئة أُوقِيَّة فأداها إلا عشر أواق فهو رقيق» . رواه أصحاب «السنن الأربعة» بألفاظ

(1)

سورة النور، الآية:(33)

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 239

فإن كاتب قِنَّهُ ولو صغيرًا يَعْقِل بمال حالٍّ، أو مُنَجَّمٍ، أو مُؤجِّل، أو قال: جعلتُ عليك ألفًا تؤديها نُجُومًا، أوّلُها كذا، وآخِرُها كذا، فإن أديتَه فأنت حرُّ، وإن عَجزْتَ فقِنٌّ، وقَبِلَ العبدُ، صَحّ، وخَرَج من يدِه

===

متقاربة. والأُوقِيّة: أربعون درهماً

(1)

.

(فإن كاتب) السيد (قِنَّه ولو) كان القِنُّ (صغيراً يَعْقِل) أي العقد، لأن الكتابة لا بد فيها من القَبُول، ومن لا يعقلُ العقدَ ليس بأهل له (بمال حالّ) أي معجل، مثل: كاتبتُكَ بمِئةٍ حالة، (أو) بمالٍ (مُنجَّمٍ) أي مقسط، مثل: كاتبتك بمئة تؤدي بها كل شهر كذا، (أو) بمال (مؤجل) مثل، كاتبتك بمئة تؤديها بعد شهر

(2)

(أو قال: جعلتُ عليك ألفاً تؤديها نُجُوماً) متفرِّقة: (أَوّلُها كذا، وآخرها كذا، فإن أديتَه فأنت حر، وإن عَجزْتَ فقِنٌّ، وقَبِلَ العبدُ، صَحّ) العقد. هذا جوابُ الشرطِ الأول. وقيد بالقبول، لأن هذا إلزام، فلا بد من التزامه وهو بالقبول. والقياس عدم الصحة، لأن للسيد أن يضرب على عبده ما شاء من المال فيما شاء من المدة. وقوله بعد ذلك:«إن أديته فأنت حر» تعليق للعِتقِ بأداء المال، وهو لا يُوجَب الكتابة. ووجه الاستحسان: أن العبرة للمعاني دون الألفاظ والمباني، وقد أتى بمعنى الكتابة وتفسيرها هنا فتنعقد.

وقال مالك والشافعي: لا يجوز كتابة الصغير ولا الكتابة الحالّة. أما الأول: فلأن الصغير ليس بأهل للتصرف، وهذا بناءً على ما ذهب إليه من أن الإذن للصبي في التجارة لا يجوز. وأما الثاني: فلأنه عاجز عن تسليم معقود عليه، لأنه مملوك لا يقدر على شيء، وفي زمانٍ قليلٍ

(3)

لا يمكنه التحصيل.

ولنا إطلاق قوله تعالى: {والذيْنَ يَبتَغُونَ الكِتَابَ مما مَلَكتْ أيْمَانُكم}

(4)

فإِنه يتناول المعجَّل والمؤجَّل، والكبير والصغير الذي يتأتى منه طلبُ الكتابة. ولأن البدل في الكتابة معقود به، كالثمن في البيع. والقدرة على تسليم الثمن ليس بشرط لصحة العقد ولإمكان فرضه المال والتصدق عليه في الحال.

(وخرج) القِنُّ إذا صحت كتابته (من يده) أي يد سيده. ليتفرغ لتحصيل البدل، ولهذا ليس له منعه من الخروج والسفر وإن شرط ذلك في كتابته

(1)

درهم الفضة يساوي 2.975 غرامًا، وعلى هذا فأوقية الفضة 119 غ. معجم لغة الفقهاء ص 97.

(2)

في المخطوط: "عشر" بدل "شهر".

(3)

عبارة المخطوط: "وفي زماننا القليل".

(4)

سورة النور، الآية:(33).

ص: 240

دون مِلْكِه، وعتق مَجَّانًا إن أعتِقَ وغَرِمَ السيدُ العُقْرَ إن وَطِىَء مكاتبَتَه والأَرْشَ إن جنى عليها، أو على وَلَدِها، أو مالِهَا.

وصحَّت على حيوانٍ ذَكَرَ جِنْسَه فقط،

===

(دون مِلْكِه) أي لم يخرج من ملك سيده لما روينا. ولأنها عقدُ المعاوضة، والمبادلة ومبناها على المعادلة، ولهذا إذا عَجَزَ عن أداء بدل الكتابة يصير قِنًّا.

ولا يجب على السيد حطُّ شيء من البدل عنه، وهو قول مالك. وأوجبه الشافعي، والأصح عنه: أنه يكفي ما يقع عليه الاسم، لظاهر قوله تعالى:{وآتُوهُم مِنْ مالِ االذي آتَاكُم}

(1)

إذ مطلق الأمر للوجوب، وهو قول عثمان رضي الله تعالى عنه.

ولنا: أنه عقد معاوضة فيعتبر بسائر المعاوضات، حيث يكون العقدُ موجِباً للبدل لا لإسقاطه، إذ الشيء لا يتضمن ضدهُ والأمر في الآية للندب دون الحتم، فإنه معطوف على الأمر المذكور في قوله تعالى:{فَكَاتِبُوهم} ( 1) وذا ندبٌ، فكذا هذا، لأن حُكمَ المعطوف حكمُ المعطوف عليه. وذكر الكَلْبي أن المراد دَفْع الصدقة إلى المكاتبين، فيكون خطاباً للناس بصرف الصدقة إليهم، ليستعينوا بذلك على أداء بدل المكاتبة، كما قال الله تعالى في بيان صَرْف الصدقات:{وفي الرِّقَابِ}

(2)

أي في فَكِّها. والمراد: المكاتبون، والدليل عليه أنه قال:{من مال الله} والمضافُ إلى الله مطلقُ الصدقة.

(وعَتَق) المكاتب (مجّاناً) أي بلا عِوَض (إن أُعتِقَ) لأنه ما التزم البدلَ إلا ليحْصُلَ له العتق، وقد حصل. (وغَرِمَ السيد العُقْر) بالضم: دِيَةُ الفرجِ المغصوب، وصداق المرأة كذا في «القاموس». وقال بعض الشراح: أي قدر ما تُستأجر به المرأة على الزنا لو كان الاستئجار حلالاً (إن وطاء مكاتبَتَه) لاختصاص المكاتب بمنافعه وأكسابِهِ (والأَرْشَ) أي وغَرِمَ المولى أيضاً أرْشَه، أي دِيَتَه (إن جنى) السيد (عليها، أو على ولدها، أو مالها) أي إن تعدّى على مالها ضمِنه، لأنه بعقد الكتابة صار كالأجنبي منها، ومنفعة بُضعِها ملحقة بجُزئها، فيجب عليه العُقر بوطئها، وينتفي الحَدُّ للشُّبهة.

(وصحت) الكتابة (على حيوانٍ ذَكَرَ جنسه فقط) أي ولم يذكر نوعه، ولا

(1)

سورة النور، الآية:(33).

(2)

سورة البقرة، الآية:(177).

ص: 241

ويؤدي الوَسَطَ أو قيمتَه، وفَسدَتِ على قيمتِهِ وعلى خَمْرٍ، أو خِنزير من المُسلمِ. وصحَّ للمُكاتبِ البيعُ والشراءُ والسَّفرُ وإنكاحُ أَمَتِه، وكِتَابةُ قِنِّه.

وله ولاؤُه إنْ أدَّى بعد عتِقِه، ولسيدِهِ إن أدى قَبْلَه، لا

===

وصفه، كعبد أو جارية، لأن الكتابة مبنية على المساهلة، فلا تفسد بيسير من الجهالة، كالنكاح، وصارت كجهالة الأجل في الكتابة (ويؤدي الوَسَطَ) من ذلك الحيوان (أو قيمتَه) والخيار للعبد.

(وفَسدَتِ) الكتابة (على قيمتِهِ) أي قيمة القِنِّ، لأنها مجهولةُ القدر لاختلافها باختلاف

(1)

المقوِّمِينَ، ومجهولة الجنس لأنها تعتبر بجنس الثمن، وهو النقدان، ولم يتعين واحد منهما، فكانت جهالة فاحشة، فصارت كما إذا كاتبه على ثوب أو دابة (وعلى خَمْرٍ، أو) على (خِنزير من المسلم) لأن واحداً منهما ليس بمتقوَّم في حق المسلم، فلا يصير مستحقًّا له بالتسمية. وتسميةُ ما ليس بمتقوَّم فيما يحتاج إلى تسمية البدل، تُوجب فساد العقد كالبيع، بخلاف النكاح حيث لا يفسُدُ بتسمية أحدهما، لأنه لا يحتاج لصحته إلى تسمية البدل، حتى يجوز بلا تسميته.

(وصح للمُكاتب البيعُ والشراءُ) لأن تحصيل المال بهما غالباً (والسَّفرُ) لأنهما قد لا ينفعان في الحضر وإن شرط عليه المولى عدَمَه استحساناً، لأنه شرط مخالف لما اقتضاه العقد من مالكيّته يداً (وإنكاح أمته) لاكتسابه مهرَهَا وسقوط نفقتِها عنه، بخلاف تزويج المكاتبة نفسَها، لأن ملك المولى قائمٌ فيها يمنعها من الاستيلاد

(2)

والاستقلال، ولأن فيه تَعييبَها، وقد تَعجِزُ فيكون في ذلك ضررٌ على المولى (وكِتَابةُ قِنِّه) استحساناً لأنها من الاكتساب، فيملكها كالبيع، بخلاف الإعتاق على المال، فإنه إثبات الحرية للحال، وهو لا يقدر على ذلك. وبه قال مالك خلافاً لزفر والشافعي، وهو القياس، لأنها تَؤُول إلى العتق، وهو ليس من أهله، كالإعتاق على مال.

(وله) أي للمكاتب (ولاؤُه) أي ولاء قِنِّه الذي كاتبه (إن أدى) ذلك القنُّ كتابته (بعد عتِقِه) لأن الوَلاء لمن أعتَقَ، وهو أهلٌ للولاءِ عند عِتقِ قِنِّه بالأداء، ومِلْكُه فيه تام، فيثبت له (ولسيدِهِ) أي لسيد المكاتب ولاؤه (إن أدى قَبْلَه) أي قبل عتق المكاتَبِ، لأنه لما تعذر جعل المكاتب مُعتَقاً لعدم أهليته للإعتاق، خَلَفَه فيه أقرب الناس إليه وهو مولاه، كالعبد المأذون إذا اشترى شيئاً لا يَمْلك، لعدم أهليته، ويخلفه فيه مولاه (لا

(1)

عبارة المطبوع: "لأنها مجهولة القدر لاختلاف المقومين

".

(2)

حرفت في المطبوع إلى: "الاستبداد".

ص: 242

تَزَوُّجُه ولا هبتُه ولو بِعِوضٍ ولا تَصَدُّقه، إلا بيَسير، وتكفُّلُهُ، وإقراضُه، وإعتاقُ عَبْدِه، وبَيْعُ نَفْسِ عَبْدٍ منه، وإنكاحُه، والأبُ، والوصِيُّ في رقيقِ الصَّغير كالمكاتَب.

وإذا عَجَزَ عن أداءِ نَجْم، إن كان له وجهٌ سيصلُ إليه لا يُعَجِّزه الحاكم، ويُمْهِله إلى ثلاثة أيام، وإلّا عَجَّزَه، وفَسَخَها بِطَلبِ سَيِّدِه أو سيدُه برضاه،

===

تَزَوُّجُه) لا يصح للمكاتب أن يتزوج بغير إذن مولاه، لأنه ليس من الاكتساب، لما فيه من شَغْلِ ذمتِهِ بالمهر والنفقة، ولأنه مملوكه رقبةً (ولا هبتُه ولو بِعِوضٍ) لأنها تبرُّع ابتداءً، وهو لا يملكه.

(ولا تَصَدُّقه) لأنه تبرع مَحْض (إلا بيَسير) لأن ذلك من ضرورات التجارة، إذ لا يجد بُداً من ضيافة وإعارة ليجتمع عليه التجارة. ومن ملك شيئاً، مَلَكَ ما هو من توابِعِه وضرورته، (و) لا (تكفُّلُهُ) بمال أو نفس، (و) لا (إقراضُه) لأنهما تبرعٌ محض، وليسا من ضرورات التجارة ولا من الاكتساب، (و) لا (إعتاقُ عبده) ولو بمال، لأنه إسقاط المِلْك عن العبد بدين في ذمته وهو مفلس، فليس من باب الاكتساب، ولأنه فوق الكتابة. والشيء يتضمن ما دونه لا ما فوقه ولا مِثْله (و) لا (بَيْعُ نفس عبد منه) لأنه عِتقٌ بمال (و) لا (إنكاحُه) أي تزويج عبده، لأنه تعييب له ونقص لماله بلزوم المهر والنفقة.

(والأب والوصي في رقيق الصغير كالمكاتب) في هذه التصرفات، فيملِكان تزويجَ أمتِه وكتابَة عبده، لأن في ذلك نَظَراً له، ولا نَظَرَ في سواهما والولاية نظرية. ولأنهما يملِكان الاكتساب للصغير كما يملِكه المكاتب، وهذا من الاكتساب (وإذا عَجَزَ) المكاتب (عن أداء نَجْم إن كان له وجهٌ سيصلُ إليه) منه شيء، بأن كان له دين يَقبِضُه، أو مال يَقْدُم عليه (لا يُعَجِّزه الحاكم) بطلب مولاه (ويُمْهِله إلى ثلاثة أيام) لأن السُّنَّة في الكتابة التأجيل والتيسير، والثلاث هي ضُرِبَتْ لإيلاء الأعذار، كإِمهال الخصم للدفع، والمديون للقضاء، ولا يُزاد عليها.

(وإلا) أي وإن لم يكن له وجه سيصل (عَجَّزَه) الحاكم في الحال (وفَسَخَها بطلب سيده أو) فسخها (سيدُه برضاه) أي رضا المكاتب، لأن الكتابة تقبل الفسخَ بلا عذر بالتراضي، فمع العذرِ أولى. وقيل: يُعَجِّزُه مولاه بدون رضاه، لتحقق العَجْزِ وتوهم التحصيل. وقال أبو يوسف: لا يُعَجِّزُه حتى يتوالى عليه نجمان، لأنه عقد إرفاقٍ، حتى كان أحسنه مؤجله. وحالةُ الوجوبِ بعد حُلول نجم، فلا بد من إمهال مدة استيساراً، وأولى المدة ما اتفق عليه العاقدان. ولقول علي رضي الله عنه: إذا تتابع

ص: 243

وعاد رِقُّه.

وما في يدِهِ لِسيِّدِه، فإن مات وقضى البَدَلَ من مالِهِ، وحُكِم بموتِهِ حُرًا والإرثُ منه، وعَتَقَ بَنِيْه وُلِدُوا في كتابَتِهِ أو شَرَاهم، أو كُوتِبَ هو وابنُه، صغيرًا أو كبيرًا بِمرَّةٍ، وطَابَ لسيِّدِه إن أَدَّى إليه

===

على المكاتب نجمان، فلم يؤد نجومه عاد

(1)

في الرِّق. رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» والبيهقي في «سننه» (وعاد رِقُّه) أي أحكامه كما كانت، لأن الكتابة قد انفسخت (وما في يده لسيده) لأنه ظهر أنه كَسْبُ عبده.

(فإن مات) المكاتب عن وَفَاءٍ لم تُفسَخ كتابتُه، لأنها عقدُ معاوضةٍ لا يُفسخ بموت أحد المتعاقدين، وهو المولى، فلا تُفسخ بموت الآخرِ (وقضى البَدَلَ) أي بدل الكتابة (من مالِهِ، وحُكم بموتِهِ حُراً) لأن البَدَلَ بموته انتقل إلى تَرِكَتِه كسائر الديون، فإذا أدى منها صار كأدائه بنفسه قبل الموت (والإرث منه) أي وحُكم بإرث ورثتِهِ منه ما بقي من ماله (وعَتَقَ بَنِيْه) أي وحُكم بِعِتقِ أَولاده حال كونهم (وُلِدُوا في كتابته أو) حال كونهم (شَرَاهم أو) حال كونه (كُوتِبَ هو وابنه، صغيراً) لأن هؤلاء يتبعونهم في الكتابة، فيتبعونه في عتقها، (أو) حال كونه كوتب هو وابنه (كبيراً بمرة) أي بكتابة واحدة، لأنهما صارا باتحاد الكتابة كشخص واحد، فإذا حكم بعتق أحدهما في وقت، حكم بعِتْقِ الآخر فيه.

والحاصل: لا تبطلُ الكتابةُ عندنا بموت المكاتَب قبل أداء البدل. وهو قول علي وابن مسعود، خلافاً لمالك والشافعي. وهو قول زيد بن ثابت، وعائشة، وابن عمر. أخرج البيهقي عن الشَّعْبي قال: كان زيد بن ثابت يقول: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، لا يرثُ ولا يُورث. وكان علي يقول: إذا مات المُكاتبَ وترك مالاً، قُسِم ما ترك على ما أدى وعلى ما بقي، فما أصاب ما أدى فلورثته، وما أصاب ما بقي فلمواليه. وكان عبد الله يقول: يؤدي إلى مواليه ما بقي من مكاتَبتِهِ، ولورثته ما بقي. ورَوى ابن يونس في «تاريخ مصر» بسنده إلى قَابُوس بن أبي المُخَارِق

(2)

قال: كنت عند محمد بن أبي بكر وهو على مصر والٍ لعلي بن أبي طالب، فكتب إلى علي في مكاتب مات وترك مالاً، فكتب إليه علي: خذ منه بقية مُكاتبتِهِ فادفعها إلى مواليه، وما بقي فَلِعصبتِهِ.

(وطَابَ) ما أدى المكاتب (لسيِّدِه) الذي ليس بمَصْرِف للصدقة (إن أدى إليه

(1)

في المخطوط: "ردّ" بدل "عاد".

(2)

قال ابن حجر في التقريب ص 449: قابوس بن مُخارق،

ويقال: ابن أَبي المُخارق

ص: 244

من صَدَقةٍ، فعَجَزَ.

ولا تنفَسِخُ بموت السَّيِّدِ وأدَّى البدلَ إلى ورَثته على نُجومِهِ، وإن أعتَقَه بعضُهم لا يصح، وإن أعتقوه عَتَقَ مجّانًا.

===

منْ صَدَقةٍ) تصدَّق بها عليه (فعَجَزَ) لأن المِلْك قد تبدُّل، وتَبَدُّلُ الملكِ كتبدلِ العين. أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بَرِيْرَة حيث قال في اللحم الذي تُصدِّق به عليها:«هو لها صَدَقَةٌ ولنا هدية»

(1)

، وصار كالفقير يموت عن صدقة أخذها، حيث تطيب لوارثه الغني، وكالفقير إذا استغنى حيث يَطيْبُ له ما أَخذه من الزكاة حالة الفقر، وكابن السبيل إذا أخذ الصدقَةَ ثم وصل إلى ماله ومعه شيء منها، حيث يَطيبُ له، لأن المُحَرَّمَ على الغني هو الأخذ، وهو ليس بموجود ممن أخذ حالة الحاجة ثم استغنى. ولو أباح الفقير للغني أو الهاشمي عينَ ما أخذه من الزكاة لا يَطيبُ له، لأن المِلْك لم يتبدَّل.

(ولا تنفَسِخُ) الكتابة (بموت السيد) لأنها حقُ العبد، فلا تبطلُ بموت سيده كالتدبير، وأُمُوميَّة الولد، وأجل الدَّين إذا مات الطالب (وأدى) المكاتب (البدل إلى ورثته على نجومه) لأن النجوم أجل الكتابة، وهو حق المطلوب، فلا يبطل بموت الطالب، كأجل الدَّين بخلاف موت المطلوب، لأن ذمته خَرِبت وانتقل الدين إلى تركته وهو عين. وهذا إذا كاتبه وهو صحيح، وأما إذا كاتبه وهو مريض فلا يَصِحُ تأجيله إلا من الثلث.

(وإن أعتَقَه) أي المكاتب (بعضُهم) أي بعض الورثة (لا يصح) لأنه لم يَملِكْه، إذ لم يقبل النقلَ من مِلك إلى ملك، ولا عِتقَ بدون المِلْك (وإن أعتقوه عَتَقَ مجّاناً) والقياس: أن لا يعتِق، لأنهم لم يملكوه، ولهذا لا يكون للإناث منهم الولاء فيه، ولو ملكوه لكان الولاء لهنَّ. ووجه الاستحسان: أنّ هذا إبراءٌ عن بدل الكِتَابة، لأنه حقُهم، وقد جرى فيه الإِرث، أو إقرار بالاستيفاء منه، فتبرأ ذمته فيعتق، كما لو أبرأه المولى عن بدل الكِتَابة كله. ويشترط أن يُعتِقُوه في مجلسٍ واحدٍ، حتى لو أعتَقَه بعضهم في مجلس وبعضهم في مجلسٍ آخر لم يَعتِقْ على الصحيح.

(1)

أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 2/ 1144 - 1145، كتاب العتق (20)، باب إنما الولاء لمن أعتق (2)، رقم (14 - 1504).

ص: 245

‌كِتَابُ الأَيْمَانِ

===

كتاب الأيْمَان

اليمين في اللغة: القوةُ، ومنه قوله تعالى:{لأخَذْنَا منه باليمينِ}

(1)

، والجَارِحةُ، ومنه قوله تعالى:{وأصحاب اليمين}

(2)

، والحَلِفُ، ومنه قوله تعالى:{إنَّهم لا أيْمانَ لهم}

(3)

.

وفي الشريعة: تقوية الخبَرِ بذكر الله، أو بالتعليق. وسببها: قصدُ الحالف إظهارَ صِدْقه في قلب السامع، أو حمل نفسه على الفعل أو الترك. وشرطها: كونُ الحالف مكلفاً. ورُكنها: اللفظ الذي ينعقد به اليمين. وحكمها: البَرُّ حال بقاءِ اليمينِ، والكفَّارة عند فوات البَرِّ. وهي نوعان: يمين بالله، ويمين بغيره.

فالأُولى مشروعة بالكتاب، وهو قوله تعالى حكاية:{وتَااِ لأكِيْدَنَّ أصنامَكُم}

(4)

و {تَااِ لقدْ آثَرَكَ اعلينا}

(5)

. وبالسنة وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «والله لأغزون قريشاً»

(6)

، وبالإجماع.

وكذا بغير «الله» مشروعة: وهي تعليق الجزاء بالشرط، نحو: إنْ دخلتِ الدارَ فأنتِ طالقٌ أو فأنتَ حرٌ وما أشبه ذلك، لأنه التزمَ حُكماً بالشرط وله ولاية إلزامه

(7)

. وهو ليس بيمين وصفاً وإنَّما سُمِّيَ يميناً في عرف الفقهاء لحصول ما هو المقصود باليمين بالله، من الحمل على الشرط أو المنع عنه، فكان يميناً. حتى لو حلف أن لا يحلِفَ فعلَّق بالطلاق ونحوه يحنَث. والحَلِفُ بغير الله مكروه لقوله عليه الصلاة والسلام:«من حَلَفَ بغير الله فقد أَشْرك» . رواه أحمد والترمذي والحاكم في «مستدركه» عن ابن عمر.

(1)

سورة الحاقة، الآية:(45).

(2)

سورة الواقعة، الآية:(27).

(3)

سورة التوبة: الآية: (12).

(4)

سورة الأنبياء: الآية، (57).

(5)

سورة يوسف: الآية: (91).

(6)

سنن أَبي داود 3/ 589، كتاب الأَيمان والنذور (21)، باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت (7)، رقم (3285).

(7)

عبارة المطبوع: "لأنه التزام حكم بالشرط وله ولاية الالتزام".

ص: 246

هي ثلاثٌ: فحَلِفُه على فِعْلٍ أو تَرْكٍ ماضٍ، كاذبًا عمدًا، غَمُوسٌ، يأثمُ به. وظانًّا أنه حقٌّ، وهو ضِدُّه لغوٌ، يُرجى عَفْوُه

===

(هي) أي اليمين التي اعتبرها الشارع ورتب عليها الأحكام (ثلاثَ:) وإلا فمطلق اليمين أكثر من الثلاث، كاليمين على الفعل الماضي صادقاً. والمراد بترتب الأحكام عليها ترتُّبَ المُؤاخذة على الغَمُوس، وعدَمَها على اللغو، والكفارة على المُنعقدة.

(فَحَلِفُه) مبتدأ (على فِعْلٍ) أراد به المصدر أعم من أن يكون قائماً بالعقلاء أو بغيرهم، نحو: واللَّهِ لقد هَبَّتِ الريح (أو تَرْكٍ) أي عدمِ فعلٍ (ماضٍ). وفي «الإيضاح» و «التحفة» : أن اليمين الغَمُوس يكون على الحال أيضاً، نحو: والله ما لهذا عليَّ دينٌ، وهو يعلمُ خلافَه. والتحقيق أنه داخلٌ في ماضٍ حكماً.

(كاذباً عمداً) حالان من الضمير في حَلِفِه (غَمُوسٌ) خبر المبتدأ. وسميت هذه اليمين غموساً لانغِماس صاحبها في الإثم، ثم في النار (يأثم به) أي بهذا الحلف، لما روى البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكَبَائرُ: الإشراك بالله، وعقوقُ الوالدينِ، وقتلُ النَّفْس، واليمينُ الغَمُوس» . وروى ابن حِبَّان في «صحيحه» من حديث أبي أُمَامَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حَلَفَ على يمينٍ هو فيها فَاجرٌ ليقتَطِعَ بها مال امرءٍ مسلمٍ حَرَّم الله عليه الجنة، وأدخله الله النار» .

ورواه الشيخان من حديث ابن مسعود بلفظ: «لقي اللَّهَ وهو عليه غضبان» . وروى أبو داود من حديث عِمران بن حُصَيْن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حَلَف على يمينٍ مَصْبُورةٍ كاذباً فليتبوأ بوجهه مقعده من النار» . والمَصْبُورة: اللازم من جهة الحكم، ذكره الخطَّابي. وفي «الصحاح»: تبوأت منزلاً، أي نَزَلْت. وأما ما في «الهداية» من قوله عليه الصلاة والسلام:«من حَلَفَ كاذباً أدخَلَه الله النارِ» فغيرٌ معروفٍ.

(وظانّاً) عطفٌ على كاذباً، أي حَلِفُه على فِعْلٍ أو تَرْكِ ماضٍ حالَ كونِه ظاناً (أنه حقٌ، وهو ضِدُّه) أي غير حقٍ (لغوٌ) رُوِي هذا عن ابن عباس وعن زُرَارة بن أبي أوْفَى. وفي «المعرفة» للبيهقي: نحوه عن عائشة قالت: هو حَلِفُ الرجل على علمه، ثم لا يجده على ذلك. وفي «مصنف عبد الرزاق» نحوه عن مجاهد قال: هو أنَّ الرجل يَحلِفُ على الشيء يرى أنه كذلك، وليس كذلك. وهو أيضاً قول مالك. (يُرجى عفوه) كذا قال محمد، وعبارته: فهذه يمينٌ نَرجُو أن لا يُؤاخِذَ الله بها صاحبها.

ص: 247

وعلى آتٍ مُنعَقِدَةٌ.

وكفَّر فيه فقط إن حَنِثَ

===

فإن قيل: ما معنى تعليق نفي المؤاخذةِ بالرجاء. وعدم المؤاخذة باللغو منصوصٌ عليه لقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ باللغوِ في أيْمَانِكم}

(1)

؟.

أجيب بأن المنصوصَ عليه عدم المؤاخذة بما هو لغو في نفس الأمر، والمعلقُ بالرجاء عدم المؤاخذة بما هو لغو على هذا التفسير، لأنه قيل في تفسير اللغو أقوال أُخر. فروى البخاري في «صحيحه» عن هشام بن عروة عن عائشة في قوله تعالى:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اباللغوِ في أيْمَانِكُم} قالت: هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله. وهو رواية عن أبي حنيفة وقول محمد والشافعي. ورُوِي عن الشافعي أنه فسّر اللغو بالخالي عن القصد، سواء كان في الماضي أو الآتي، بأن قصد التسبيح، فجرى على لسانه اليمين.

وحكى محمد عن أبي حنيفة أن اللغو ما يجري بين الناس من قولهم: لا والله، وبلى والله. لما روى أبو داود عن عطاءٍ قال: قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هو كلام الرجل في بيته: كـ: لا والله: وبلى والله» . وتأويله عندنا فيما يكون خبراً عن الماضي، فإن اللغو ما يكون خالياً عن الفائدة. والخبرُ الماضي خالٍ عن فائدة اليمين التي هي الحظر أو الإيجاب، فكان لغواً. فأما الخبرُ في المستقبل فإن عَدِمَ القصد لا يَعْدَم فائدة اليمين. وقد ورد الشرع بأن الهزل والجِدّ في اليمين سواء. وقال الشَّعبي ومَسْرُوق: اليمين اللغو أن يحلِفَ على (معصية فيتركها لاغياً بيمينه. وعن سعيد بن جُبَيْر: هو الرجل يحلف على)

(2)

الحَرَام بأن يُحَرِّمَ على نفسه ما أحلَّ الله له من قولٍ أو عملٍ، فلا يُؤَاخِذُ اللهاُ بتركه. وعن النّخَعي والحسن: أن الرجل يحلِف على الشيء ثم ينسى.

(وعلى) فعل أو ترك (آتٍ) أي مستقبل (مُنعَقِدَةٌ) وإعادةُ «على» لطول الفصل. وهذا أولى مما قال في «شرح الوقاية» . ولو قال: وآت بلا لفظ «على» ليكون عطفاً على ماضٍ، لكان أولى كما لا يخفى.

(وكفَّر فيه) أي في الحَلِفِ على آت (فقط) أي ولم يُكفِّر في الغَمُوس (إن حَنِثَ) لأن الكفارة لرفع الذنب الحاصل بالحِنْث، وذنبُه حصل بأصل يمينه، فيجب

(1)

سورة البقرة، الآية:(225).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 248

ولو سَهْوًا أو كَرْهًا، حَلَفَ أو حَنِثَ.

===

عليه التوبة والاستغفار. وقال الشافعي: يُكفِّر في الغموس أيضاً وهو قول الزهري، لقوله تعالى:{لا يُؤَاخِذُكُمْ اباللغو في أيْمانِكُم ولكنْ يُؤَاخِذُكُمْ بما كُسَبتْ قُلوُبكم} والغَمُوسُ مكسوبةٌ بالقلب.

ولنا قوله تعالى: {ولكنْ يُؤَاخِذُكُمْ بما عقَّدتُم الأَيمانَ فكفَّارَتُه إطعامُ عَشَرَةِ مساكين}

(1)

حيث رُتِّبَت الكفارة على المعقودةِ والغموس غير معقودة. ومذهبنا قول ابن مسعود، وابن عباس، وابن المُسيَّب، والحسن البصري، والأوزَاعِي، والثوري، والليث، وأبي عُبيد، ومالك، وأحمد. وقد روى الإمام أحمد في «مسنده» بإسناد جيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل قال فيه:«خمسٌ ليس لهنَّ كفارة: الشرك بالله، وقتلُ النفس بغير حق، ونَهْبُ مؤمن، والفِرارُ من الزَّحف، ويمينٌ صابرةٌ يقتطع بها مالاً بغير حق» . ويؤكده قول ابن مسعود: كُنّا نَعُدُّ اليمين الغموس من الأيْمَان التي لا كفارة فيها.

(ولو سَهْواً) وفي معناه النسيان، بل أولى (أو كَرْهاً) بخلاف النائم، فإنه لا يصح يمينه كما في «المجمع» (حَلَفَ أو حَنِثَ) خلافاً لمالك والشافعي وأحمد في الحَلِفِ بطريق السهو أو الإكراه. وخلافاً للشافعي في أصح القولين، ولأحمد في رواية في الحنث بطريق السهو أو الإكراه، لقوله عليه الصلاة والسلام:«رُفِعَ عن أمتي الخطأُ والنِّسيانُ وما استُكْرهوا عليه»

(2)

.

ولنا أن الشرط هو الفعلُ وقد وجد. والفعل الحقيقي لا يصير معدوماً بالنسيان والإكْرَاه، ولقوله عليه الصلاة والسلام حين حَلّف المشركون صفوان وابنه:«نَفِي لهم بعهدهم، ونستعينُ الله عليهم» ، فبين أن اليمينَ طوعاً وكَرهاً سواء.

وقوله: «رُفِعَ» محمول على رفع الإثم، وهو لا يقتضي عدم الكفَّارة كما حُقق في فعل الخطأ والنسيان في الصلاة، ومحظورات الإحرام. ويُتَصور النسيان في الحلف بأن حلف أن لا يحلف، فنسي فحلف. وأما السهو فمعناه الخطأ، كأن يريد أن يقول: اسقني الماء، فيقول: والله لا أشرب الماء. وأما ما في «الهداية» من قوله عليه الصلاة والسلام: «ثلاث جِدُّهن جِدّ وهَزلُهن جِدّ: النكاح، والطلاق، واليمين» فغير معروف. وإنما المعروف ما رواه أصحاب «السنن الأربعة» من حديث أبي هريرة، وحسنه الترمذي

(1)

سورة المائدة، الآية:(89).

(2)

لم نجده بهذا اللفظ، وأقرب لفظٍ وجدناه: ما أخرجه ابن ماجه في سننه 1/ 659، كتاب الطلاق (10)، رقم (2043) عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".

ص: 249

والقَسَمُ بالله أو باسم من أسمائه: كالرحمنِ، والرحيمِ، والحقِّ، أو بصفةٍ يُحلفُ بها من صفاته: كعِزَّةِ الله، وجلاله، وكبريائه، وعظمته، وقدرته، لا بغير الله كالنبي، والقرآن، والكعبة، ولا بِصِفَةٍ لا يُحلف بها عرفًا كرحمتِهِ، وعلمه، ورضائه، وغضبه، وسخطه، وعذابه.

===

وصححه الحاكم بلفظ: «النكاح والطلاق والرجعة» . وقد رواه ابن عَدِي فقال: «الطلاق والنكاح والعتَاق» .

(والقَسَمُ بالله) أي ثابت بهذا اللفظ الشريف (أو باسم من أسمائه) المنيفة (كالرحمن، والرحيم، والحق) والخالق، والذي لا إله إلا هو رب السماوات والأرض ورب العالمين، سواء تعارف الناس الحَلِفَ به أو لم يتعارفوا (أو بصفة يُحلف بها) عرفاً (من صفاته: كعزة الله، وجلاله وكبريائه، وعظمته، وقدرته) المراد بالاسم هنا اللفظ الدال على الذات مع صفة، وبالصفة اللفظ الدال على الصفة دون الذات.

(لا بغير الله) أي لا يصح القَسَمُ بغير الله (كالنبي، والقرآن، والكعبة) لحديث ابن عمر المتفق عليه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إنَّ الله تعالى نَهَاكم أن تحلِفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فلْيَحْلِف بالله أو ليصْمُت» . وأما ما في «الهداية» من قوله عليه الصلاة والسلام: «من كان منكم حالفاً فليحلفْ بالله أو ليذرْ» فغير معروف بهذا اللفظ. ولعل نَهْيَه مأخوذ من قوله تعالى: {فلا تجعلوا أنداداً}

(1)

، وقد ورد:«مَنْ حَلفَ فليَحْلِف برب الكعبة» . رواه أحمد والبيهقي.

(ولا بصفة لا يُحلف بها عرفاً كرحمتِهِ، وعلمه، ورضائه، وغضبه، وسخطه، وعذابه) وهو اختيار مشايخ ما وراء النهر، وهو الأصح. لأن مبنى الأيمان على عُرْفِ أهل الزمان. والحَلِفُ بها غير متعارف، ولأن الرحمةَ قد يراد بها أثرها وهو الجنة، قال الله تعالى:{ففي رحمةِ اهم فيها خالدون}

(2)

. والغضب والسَّخط يراد بهما النار، فيكون حالفاً بغير الله.

وقال مالك: لا ينعقد اليمينُ بصفات الفعل، وبه قال أحمد في رواية، لأن اليمينَ ينعقد لحُرْمة اسم الله تعالى، ومع الاشتراك لا حرمة له. وفي «المبسوط»: قال مشايخنا العراقيون: الحَلِفُ بصفاتِ الذات كالقدرة، والعظمة، والعزة، والجلال، والكبرياء يمين،

(1)

سورة البقرة، الآية:(22).

(2)

سورة آل عمران، الآية:(107).

ص: 250

وقوله: لعَمْرُ الله، وَايْمُ الله، وعَهْدِ الله، وميثاقِهِ،

===

والحَلِفُ بصفات الفعل كالرحمة، والسَّخط، والغضب، والرضاء لا يكون يميناً. وقالوا: صفة الذات: ما يجوز أن يُوصَف بها ولا يجوز أن يوصف بضدها، كالقدرة. وصفة الفعل: ما يجوز أن يوصَف بها وبضدها كالرضا، فإنه تعالى يرضى بالإيمان ولا يرضى بالكفر. انتهى. واتفقوا على أنه لا يُحلف بعلمه، إما لأنه غير متعارَف، وإما لأن العلم يُذكر بمعنى المعلوم.

وفي «المحيط» : لو قال: يعلم الله أنه فعل كذا ولم يفعله يُكْفَر، لأنه وصفَ الله تعالى بالعلم بوجود شيء قبل وجوده، فصار كما لو وَصَفَه بالجهل. والأصح: أنه لا يُكْفر، لأنه قصد بهذا الكلام إثبات صدقِهِ في خبره لا وصف الله به. ويجوز أن يحلف بجميع أسمائه وإن لم يتعارف الناس بها على الصحيح، لأن اليمين باسم الله ثبت بقوله عليه الصلاة والسلام:«من كان حالفاً فليحلف بالله»

(1)

، والحلفُ بسائر أسمائه حَلِفٌ بالله. وما ثبت بالنص أو بدلالته لا يراعى فيه العُرْف. وقال بعضهم: كل اسم لا يسمى به غير الله، كالرحمن فهو يمين، وما يسمى به غير الله كالحكيم، والعليم، والقادر، والرحيم، فإن أراد به يميناً فهو يمين، وإن لم يردْ به يميناً لا يكون يميناً.

(وقوله) مبتدأ (لعَمْرُ الله) أي لبقائه، وهو بفتح العين أذ لا يُستعمل في القسم بضمها، وهو مبتدأ خبره محذوف تقديره: قسمي أو يميني. قال الله تعالى: {لعَمْرُكَ إنَّهم لفي سَكْرتِهم يعمهون}

(2)

، (وَايْمُ الله) وهو عند الفرَّاء جمع يمين، فأَصْلُه أَيْمُن سقطت نونُهُ وهمزتُه في الوصل للتخفيف. وعند سِيْبَوَيْه: كلمة اشتُقت من اليمين، ساكنة الأول فاجتلبت الهمزة للنطق به. وقيل: أيم صلة أي زائدة، والمعنى والله، وهو حلف متعارف بها. فقد قال صلى الله عليه وسلم حين طعن الناس في إمارة أسامة بن زيد:«إن كنتم تطعنون في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وَأَيم الله إنْ كان لخليقاً بالإمارة» . رواه البخاري.

(وعَهْدِ الله وميثاقِه) وكذا ذمته وأمانته. والواو في هذه الألفاظ للقسم، فما بعدها

(1)

صحيح البخاري (فتح الباري) 11/ 530، كتاب الأَيمان والنذور (83)، باب لا تحلفوا بآبائكم (4)، رقم (6646).

(2)

سورة الحجر، الآية:(72).

ص: 251

وأُقسِم، وأَحَلِفُ، وأَشهد، وإن لم يَقُل: باللهِ، وعليَّ نَذْرٌ، أو يمينٌ، أو عهدٌ وإن لم يُضَف إلى الله.

وإن فَعَلَ كذا فَهُو كَافِرٌ، وإن لم يَكْفُر علَّقَهُ بماضٍ أو آتٍ،

===

مجرور بها. وقال الشافعي: لا يكون هذا النوع يميناً إلا بالنية. ولنا أنَّ العهد غلب استعماله في اليمين، والميثاق، والذمة. والأمانة بمعناه، ويدل عليه قوله تعالى:{وأوفوا بِعَهْدِ الله إذا عَاهدْتُم}

(1)

ثم قال: {ولا تَنْقُضُوا الأَيمانَ بعد تَوْكِيْدِها} ( 1). لكن قد ورد: «من حَلَفَ بالأمانَةِ فليس مِنّا» . رواه أبو داود عن بُرَيْدَة.

(وأُقسِم، وأَحلف، وأَشهد، وإن لم يقل: بالله) الواو في هذا وما بعده للعطف لا للقسم، لأن الحالف يقول: أُقسِمُ لأفعلنَّ. وقال زفر والشافعي: لا يكون يميناً إلا إذا قال: بالله، نوى اليمينَ أو لم ينوه. (وعليَّ نَذْرٌ) وقال مالك: لا يكون يميناً إلا إذا قال: بالله، ونوى اليمين.

ولنا ما في السنن من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر نذراً لم يُسمِّه، فكفارتُه كفارةُ يمين» . وأما ما في «الهداية» من قوله عليه الصلاة والسلام: «من نَذَر وسَمى فعليه الوفاء بما سَمَّى» فغير معروف.

(أو) عليَّ (يمين أو) عليَّ (عهدٌ وإن لم يُضَف إلى الله) لأن معناه عليَّ موجب يمين وموجب عهد (وإن فَعَلَ كذا فَهُو كَافِرٌ) وقال مالك والشافعي وأحمد في رواية: لا يكون يميناً، لأنه علق بالفعل ما هو معصية، فصار كما لو قال: إن فعلت كذا فأنا زان.

ولنا أن تعليقَ الكفرِ بفعلٍ، تحريمٌ لذلك الفعل، وتحريم الحلال يمين كما سيأتي. والفرق بين هو كافر وبين هو زان أنه لا يكون زانياً عند الله بمجرد قوله: هو زان، ويكون كافراً بقوله: هو كافر. فقول القائل: إن فعل كذا فهو كافر يمينٌ.

(وإن لم يَكْفُر) سواء (علقهُ بماضٍ أو آتٍ) رُوِيَ ذلك عن أبي يوسف. وقال محمد بن مقاتل: يَكْفُر إذا علقه بماضٍ، لأنه علق الكفر بموجود، والتعليق بالموجود تنجيز، فصار كما لو قال ابتداءً: هو كافر. والصحيح أنه إِذَا كان عالماً أنه يمين لا يَكفُر فيهما، وإن كان جاهلاً أو عنده أنه يكفر في الماضي أو بمباشرة الشرط في المستقبل

(1)

سورة النحل، الآية:(91).

ص: 252

وسَوْكَنْدِ ميخُورَمْ بَخْدَايْ قَسَمٌ، وحقًا، وحقّ الله، وحُرْمَته وسَوْكَنْد خُورَمْ بَخُدَاي يابطلاق زن، وإن فعله فعليه غَضَبُه، أو سخطُه، أو لعنتُه، أو أنا زانٍ، أو سارقٌ، أو شاربُ خَمْر، أو آكِلُ ربًا.

===

يَكفر فيهما، لأنه لما أقدم على الفعل وعنده أنه يَكفر، فقد رضي بالكفر. وكذا لو قال: إنْ فَعَل كذا فهو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الله، أو من النبي، أو من الإسلام، أو من القرآن، أو من القبلة، أو الكعبة، كان يميناً عندنا، ونفاه مالك والشافعي لما تقدم.

ولنا ما رُوِي عن ابن عباس أنه قال: من حلف بالتهود والتنصر فهو يمين. وأما ما في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: «من حَلَفَ على يمين بمِلّة غير الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال» . فالظاهر أنه خَرَج مَخرَج الغالب، فإن الغالب ممن يحلف بمثل هذه الأيمان أن يكون من أهل الجهل لا يُعْرف منه إلا لزومُ الكفر على تقدير الحِنْث، لا من أهل العلم والخبر، فإن تمّ هذا وإلا فهي شاهد لمن أطلق القول بكفره.

(وسَوْكَنْدِ ميخُورَمْ بَخُدَايْ) أي أقسم بالله بلسان الفارسي، وكذا الحكم بسائر ألسنة العجم (قَسَمٌ) هذا خبر المبتدأ الذي هو قوله: لعَمْرُ الله وما عُطف عليه (وحقاً) أي قوله: حقاً (وحق الله وحرمته وسَوْكَنْد خُورَمْ بَخُدَاي) أي بصيغة الاستقبال (يابطلاق زن) يعني سَوْكَنْد خُورَمْ بطلاق زن (وإن فعله) أي كذا (فعليه غَضَبُه) أي غضب الله (أو سخطُه، أو لعنتُه) أو حرم الله عليه الجنة أو عذَّبه بالنار (أو أنا زانٍ، أو سارق، أو شارب خمر، أو آكل رباً) أي لا يكون قَسَماً. أما حقاً فلأنه يراد به تحقيق الوعيد، وأما حق الله فلأنه يراد به واحدُ الحقوق، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ:«هل تدري ما حقُّ الله على عباده»

(1)

.

وأما الغضب والسَّخط واللعنة، فلأنه يرادُ بها آثارُها وهي النار، ولأنه دعاء على نفسه، قال الله تعالى:{ويَدْعُ الإنسانُ بالشَّرِ دَعَاءَه بالخير}

(2)

. ولأن واحداً من هذه الأمور لم يْتعارف الحَلِفُ به. وقيد بحق الله لأنه لو قال: والحق يكون قسماً، لأنه من أسمائه سبحانه. وأما قوله: أنا زان ونحوه فلعدم استلزام وجود الشرط وجودَ ما فعله جزاء من الزنا ونحوه، لتوقفه على فعل مستأنف.

(1)

هو جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 10/ 397 - 398، كتاب اللباس (77)، باب إرداف الرجل خلف الرجل (101)، رقم (5967).

(2)

سورة الإسراء، الآية:(11).

ص: 253

وحُرُوفُ القَسَمِ: الواو، والباء، والتاء. وقد تُضمَر: كـ: اللهِ لأفعلنَّ.

===

(وحُرُوفُ القَسَمِ: الواو، والباء، والتاء) كقوله: واللَّهِ، وباللَّهِ، وتالله. لأن كل ذلك معهودٌ في الأَيمان ومذكور في القرآن، قال الله تعالى:{والله رَبِّنا ما كُنّا مشركين}

(1)

، {يَحْلِفون بالله ما قالوا}

(2)

، {تاالله تفتؤُ تَذْكُرُ يُوسُفَ}

(3)

. وأصل هذه الحروف الباء، ولذا تدخل على الظاهر والمضمر نحو بالله، وبه. ويجوز إظهار الفعل معها نحو: حلفت بالله، وأُقسِمُ بالله. والواو ملحَقَة بها، ولهذا لا تدخل على المُضمَر، ولا يجوز إظهار الفعل معها. والتاءُ ملحقة بالواو وتدخل على لفظة «الله» خاصة. ورواية تَرَبَّ

(4)

الكعبة شاذة.

(وقد تُضمَر) حروف القسم (كـ: الله لأفعلن) وفي نُسخة: لا أَفعله. وينصب الاسم حينئذٍ على إسقاط الخافض واتصال فعل الحلف به كقوله تعالى: {واختَار مُوسَى قَوْمَه}

(5)

وهو أكثر استعمالاً، أو يُخفض على إضمار الخافض وبقاء أثره، وهو قليل شاذ. وحُكِيَ الرفع أيضاً نحو: الله لأفعلنّ على إضمار المبتدأ أو خبره وهو الأولى، لأن الاسم الكريم أعرَفُ المعارِفِ، فهو أولى بكونه مبتدأ، والتقدير: الله قسمي، أو قسمي اللهاُ لأفعلن. ولو قال: واللهاِ والرحمنِ يكون يمينين، إلا أن يريد تِكرار الأول في ظاهر الرواية، وعليه أكثر المشايخ.

وروى الحسن عن أبي حنيفة يكون يميناً واحداً وبه أخذ مشايخ سمرقند. ولو قال: والله والله فهو يمينان كذا ذكروه، وفيه أنه أولى بأن يصلح ثانِيه للتأكيد مما قبله. ولو قال: والله ووالله فيمينٌ واحد استحساناً. ولو قال: والله لا أكلمك والله لا أكلمك فيمينان. وروى الحسن إن نوى بالثاني الخبر عن الأول صُدِّق ديانة.

هذا، وإن وصل إن شاء الله بحلِفِهِ بَرّ، لما روينا في الطلاق من قوله عليه الصلاة والسلام:«من حَلَفَ على يمينٍ فقال: إن شاء الله فقد استثنى» . رواه أبو داود والنسائي والحاكم في «مستدركه» عن ابن عمر. وكذا إذا نَذَرَ وقال: إن شاء اللهاُ مُتَّصِلاً لا يلزمه شيء.

قال محمد: بلغنا ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر، وكذا قال موسى

(1)

سورة الأنعام، الآية:(23).

(2)

سورة التوبة، الآية:(74).

(3)

سورة يوسف، الآية:(85).

(4)

حرفت في المطبوع إلى: "برب الكعبة".

(5)

سورة الأعراف، الآية:(155).

ص: 254

[كَفَّارةُ اليَمِينِ]

وكفارته: عِتقُ رقبةٍ، أو إطعامُ عشرة مساكين - كما هي في الظِّهار - أو كِسْوَتُهم، لكلٍ ثوبٌ يستُر عامَّة بَدَنِه،

===

عليه السلام: {سَتَجِدُنِي إن شاء اللَّهُ صابراً}

(1)

ولم يصبر، ولم يُعدّ مُخْلِفاً لوعده. والاتصال شرط عمل الاستثناء في الإبطال، فلو انقطع بتنفّس أو سعال ونحوه لا يضر. وعن ابن عباس أنه كان يُجَوِّز الاستثناء المنفصل إلى ستة أشهر، وقيل: إلى سنة لقوله تعالى: {واذْكُرْ رَبَّك إذا نَسِيْتَ}

(2)

أي: إذا نسيتَ الاستثناء موصولاً فاستثن بمفصول.

ورُوِي أن محمد بن إسحاق صاحب «المغازي» كان عند المنصور، فكان يقرأ عنده المغازي وأبو حنيفة كان حاضراً، فأراد أن يغري الخليفة عليه، فقال: إن هذا الشيخ يخالفُ جدَّكَ في الاستثناء المنفصل، فقال: أَبَلَغَ مِنْ قدرك أن تخالف جدي؟ فقال: إن هذا يريد أن يُفسدَ عليك مُلكك، لأنه لو جاز الاستثناء المنفصل، فبارك الله لك في عُهُودِكَ إذاً، فإن الناس يُبَايِعونك ويَحلِفون، ثم يخرجون ويستثنون، ثم يخالفون ولايخشَون، فقال: نِعْمَ ما قلت، وغضب على محمد بن إسحاق وأخرجه من عنده.

وأما تأويل قوله تعالى: {واذْكُر رَبَّك إذا نَسِيْتَ} أي إذا لم تَذْكُر إن شاء الله في أول كلامك فاذكره في آخره موصولاً به. كذا ذكره بعضهم. وعندي أنه خاصٌ بما بين العبد وربه في نحو قوله: {إني فاعلٌ ذلك غَداً}

(3)

ولم يستثن نسياناً، فمتى جاء في ذكره ينبغي أن يستثنىِ ولو في آخِر عمره مرةً. وقيل: المعنى اذكر ربَّك إذا نسيت غيره ولو نفسك، فإن كمال الذكر هو الفَناءُ والاستغراق في نحو شهود المذكور المعبَّر عنه بكمال الحضور.

(كَفَّاَرة اليَمِينِ)

(وكفارته) أي كفارة القَسَم واحد من ثلاثة. ويتعينُ بفعل العبد أَحدها (عِتقُ رقبة) أي عبد أو أَمة (أو إطعامُ عشرة مساكين كما هي في الظِّهَار) الظاهر أنه قيد للأَخير، ويُحتمل أن يكون لهما. وفي نُسخة: كما هما في الظهار، أي كالعِتْق والإطعام في كفارة الظهار. وقد تقدم أنه يطعم كل مسكين نِصف صاعٍ من بُرّ، أو صاعاً من غيره. (أو كِسْوَتُهم لكل) من العشرة (ثوبٌ يستُر عامة بَدَنِه) قميص أو إزار

(1)

سورة الكهف، آية:(69).

(2)

سورة الكهف، آية:(24).

(3)

سورة الكهف، الآية:(23).

ص: 255

فلمْ تَجُز السَّرَاويل، فإن عَجَزَ عنها وقتَ الأداءِ، صامَ ثلاثةَ أيامٍ وِلاءً بلا حِنْثٍ.

===

ورداء، أو قَبَاء أو كِسَاء على الصحيح. وفي «المحيط»: وهو ظاهر الرواية. وفي «المبسوط» : أدنى الكِسوة ما يجوز فيه الصلاة، وهو مرويٌ عن محمد رحمه الله.

(فلمْ تجز السَّرَاويل) أي فقط، وإلا فهو جائزٌ مع انضمام الرداء اتفاقاً. وعن محمد: لا يجوز السراويل للمرأة، لأن المعتبر رد العُرْي بقدر ما تجوز به الصلاة. والسراويل تجوز فيه الصلاة للرجل دون المرأة. وقال مالك والليث: أدناها للرجل ثوب، وللمرأة ثوبان: درع وخِمار. والمراد بالدرع القميص. وقال الشافعي: ما يُطلق عليه اسم الكسوة: كالسراويل، والإزار والمِقْنَعَة

(1)

، والطَّيْلَسَان

(2)

. وعن ابن عمر لا يجزاء أقل من ثلاثة أثواب: قميص، وإزار، ورداء. وعن أبي موسى الأشعري: ثوبان. وذلك لقوله تعالى: {فَكفَّارتُه إطعامُ عَشَرةِ مساكينَ من أوْسَطِ ما تُطْعِمُون أهلِيْكُم أو كِسْوتُهم أو تحريرُ رَقَبةٍ}

(3)

ففي الآية بدأ بالإطعام لأنه أهون على الأنام، فيكون تَرِّقياً في الكلام. وعكَس الفقهاءُ إيماءً إلى بيان الأفضل، فتأمل.

(فإن عَجَزَ عنها) أي عن العِتق والإطعام والكسوة. وفي نُسخة: فإن عَدِمها (وقتَ الأداء) وعند الشافعي: وقت الوجوب (صام ثلاثة أيام وِلاء) أي متتابعات. وقال مالك والشافعي في قول واحد في رواية: يُخير بين التتابع وعدمه، لإطلاق قوله تعالى:{فمنْ لمْ يَجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيام} .

ولنا قراءة ابن مسعود: «فصيامُ ثلاثةِ أيام مُتتابعات» وهي كالخبر المشهور، فإنه إنما يقْرَأ سماعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت قراءته كالرواية المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم فصحت الزيادة والتقييد بها.

ولم تَجُزْ الكفّارة (بلا حِنْثٍ) أي لم تُجزاء قبل الحنثِ، سواء كانت بالمال أو بالصوم.

وقال مالك وأحمد: تُجزاء. وقال الشافعي: إن كانت بالمال تُجزاء، وإن كانت بالصوم لا تجزاء

(4)

، (وفي وجه تجزاء)

(5)

.

(1)

المِقْنَعَة: ما تسترُ به المرأة وتُغطيه. معجم لغة الفقهاء ص 454.

(2)

الطَّيلسان: ضرب من الأوشحة يُلبس على الكتف، أو يحيط بالبدن، خال من التفصيل والخياطة، أو هو ما يعرف بالعامية المصرية بالشال. المعجم الوسيط ص 561، مادة (طلس).

(3)

سورة المائدة، الآية:(89).

(4)

وحاصل المسألة: أن اليمين عند الشافعي سبب الكفارة والحنث شرط، فتجوز الكفارة بعد تحقق السبب، وعند الحنفية الحنث سبب لوجوب الكفارة، واليمين شرط، لأن اليمين انعقدت للبر، فلا يكون سببًا للكفارة، لأن أدنى درجات السبب أن يكون مفضيًا إلى الحكم وطريقًا إليه، واليمين مانعة فكيف يكون سببًا. حاشية إلياس الرومي على النقاية 1/ 734. هامش فتح باب العناية، من مطبوعة باكستان.

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 256

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وكان ابن عمر وسليمان وأبو الدرداء يُكفِّرُون قبل الحنث، وكذلك الحسن وابن سيرين. رواه ابن أبي شَيبة. وذلك لما روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من حَلَفَ على يمينٍ فرأى غيرها خيراً منها، فليُكفِّر عن يمينه وليأت الذي هو خير» ، وكلمة الفاء للتعقيب. وما روى أبو داود بسند صحيح من حديث عبد الرحمن بن سَمُرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يا عبد الرحمن إذا حَلَفتَ على يمينٍ فرأيت غيرها خيراً منها، فكفِّر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير» ،. وكلمة «ثُم» للتراخي.

ولنا أن الكفارة لِسَتْر الجناية ولا جناية قبل الحنث، لأن عقدَ اليمينِ بدون الحنثِ ليس بذنبٍ إجماعاً، لأنه أَمْرٌ مشروع، فإن في عقدِ اليمين تعظيمَ اسم الله تعالى، والمشروع لا يوصف بالذنب، وإنّما الذنبُ في هتك حرمة اسم الله تعالى بالحنث، فاستحال

(1)

التكفير قبل الحنث كالطهارة قبل الحدث، فلا يصح كفارة اليمين قبل الحنث، كما لا يصح كفارة القتل قبل الجرح.

وأجيب عما رَوَوْا بأنه يقتضي وجوب تقديم الكفارة على الحِنْث، ولا قائل به. وبأن الحديث الأول معارَضٌ برواية مسلم له أيضاً بلفظ:«فليأت الذي هو خير وليُكفِّر عن يمينه» . ورُوي في الصحيحين فيهما بالتقديم والتأخير من حديث أبي هريرة، وعبد الرحمن بن سَمُرة، وعديّ بن حاتم. وبأن الفاء الجزائية تفيد تعقيب ما قبلها في الجملة، كما حُقِّق في قوله تعالى:{إذا قُمتُم إلى الصلاة فاغْسِلُوا وُجُوهَكُم وأيدِيَكُم}

(2)

والواو تدل على الجمعية، فلا دلالة على تقديم أحد الجزأين على الآخر، كما في: ادخلِ السوق فاشترِ لحماً وفاكهةً، فإنّ المقصود تعقيب دخول السوق لكل من الأمرين.

وأما الحديث الثاني فمعارَضٌ بما أخرجه الإمام أبو محمد قاسم بن ثابت بن حزم السَرَقُسْطي في كتاب «غريب الحديث» عن أبي حازم عن أبي هريرة: أن رجلاً أَعْتَمَ عنده ـ أي أمسى ـ فسأل صِبْيَتُه أُمَّهُم الطعام، فقالت: حتى يجيء أبوكم، فنام الصِّبْيَة، فجاء أبوهم فقال: أَشْهَيْتِ

(3)

الصِّبْيَة؟، فقالت: لا، كنت أنتظر مجيئك،

(1)

في المطبوع: "فكان" بدل "فاستحال".

(2)

سورة المائدة، الآية:(6).

(3)

في المخطوط اشتهيت. والصواب ما أثبتناه.

ص: 257

ومَنْ حَلَفَ على معصيةٍ، كعدمِ الكلامِ مع أبَويْهِ، حَنِثَ وكفَّرَ

===

فَحَلَفَ أن لا يَطْعَمَ، ثم قال بعد ذلك: أيقظيهم وجيئي بالطعام، فسمى الله وأكل، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي صنع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من حَلَفَ على يمينٍ فرأى غيرها خيراً منها، فليأته ثم ليكفِّر عن يمينه» . قال السَرَقُسْطي: أَشْهَيْتِ الصبية: أي أطعمتهم شهوتهم. و «ثم» قد تجيء للتشريك في الحكم ولا تقتضي الترتيب، كما في قوله عز وجل:{وبَدَأ خَلْق الإنسان من طِيْنٍ ثم جَعَلَ نَسْلَه}

(1)

الآية، كذا في «القاموس» .

فإن قيل: تعليلكم وتأويلكم مَرْدودان لمخالفتهما النصَّ، وهو قوله تعالى:{ولكن يُؤَاخِذُكُمْ بما عَقَّدتُم الأيْمَان فكفارتُه} الآية، والفاء للوصل والتعقيب، فيقتضي جواز التكفير بعد اليمين متصلاً بها، وكذا قوله:{ذلك كفارةُ أيْمَانِكُم إذا حَلَفتُم}

(2)

، رتَّبها على الحَلِفِ لا على الحنث.

قلنا: الحِنث مضمرٌ في النص، بدلالة ما قلنا في قوله تعالى:{فمنْ كان منكم مَرِيضاً أو على سَفَر فَعِدَّةٌ من أيامٍ أُخَر}

(3)

، ويدل عليه قراءة ابن مسعود:«إذا حلفتم وحنثتم» .

(ومَنْ حَلَفَ على معصيةٍ كعدمِ الكلامِ مع أبَويْهِ) أو أحدهما (حَنِثَ) أي ينبغي أن يحنَثَ في الحال (وكفَّرَ) في الحال بالصوم والمال، لما روينا من الحديث، فإن ظاهرَه يقتضي وجوب الحِنْث إذا لم يكن المحلوفُ عليه معصية، وكان الحِنْثُ خيراً من البِرِّ، فأولى أن يجب عليه الحنثُ إذا كان معصية.

والحاصل: أنه يجب البرُّ في الحَلِفِ على فِعْل الفرض وتَرْك المعصية، ويجب الحنث في عكسه، لقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ أن يطيعَ الله فليُطعْه، ومَنْ حَلَفَ أن يعصيه فلا يعْصِه» ويرجَّح البر في الحَلِفِ على فعل المباح، لقوله:{واحفَظوا أيْمَانَكم} (2) أي عن الحنث. ويرجَّح الحنث في الحلِفِ على ترك فعل القُرْبة لقوله عليه الصلاة والسلام: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرها خيراً منها، إلا كفّرت

(1)

سورة السجدة، الآية:(7).

(2)

سورة المائدة، الآية:(89).

(3)

سورة البقرة، الآية:(184).

ص: 258

ولا كفارة في حَلِفِ كافرٍ وإن حَنِثَ مُسْلِمًا.

مَنْ حَرَّمَ مِلكَه لا يَحْرُم عليه، وإن استَبَاحَه كفَّرَ

===

عن يميني وأتيتُ الذي هو خير». رواه الشيخان، وفي لفظ:«أتيت الذي هو خير وكفَّرت عن يميني» . ولعل معنى: «كفرت عن يميني» في اللفظ الأول: نويت التكفير عن يميني، أو قدم للاهتمام. والله تعالى أعلم بحقيقة المرام.

ثم اليمين في الحديث بمعنى المقسم عليه، فذُكرَ الكل وأُريد البعض. وقيل: ذكر اسم الحال وأُريد المحل، لأن المحلوف عليه محل اليمين.

(ولا كفارة في حَلِفِ كافر وإن حَنِثَ مُسْلِماً) وقال الشافعي: يلزمه الكفارة بالمال دون الصوم إذا حنث كافراً، لأنه أهل لليمين، ولهذا يُستحلف في الدعاوى والخصومات.

ولنا قوله تعالى: {فَقَاتِلوا أئمةَ الكفرِ إنّهم لا أيْمَانَ لهم}

(1)

ولأنه ليس بأهل لليمين، لأن المقصود منها البِرُّ تعظيماً لاسم الله تعالى، والكافر ليس من أهله، لأنه هتك حرمة اسم الله تعالى بإصراره على الكفر، والتعظيم مع الهتك لا يجتمعان.

(ومَنْ حَرَّمَ) على نفسه (مِلكَه) من طعام، أو ثوب، أو أَمة، أو غير ذلك (لا يَحْرُم عليه) لأن ذلك قلب المشروع، ولا قدرة له عليه (وإن استَبَاحَه) أي عامله معاملة المباح، بأن أكل الطعام، أو لبس الثوب، أو وطء الأمة (كفَّرَ) كفارة يمين. وكذا لو قال: طعام فلان، أو ثوبه، أو أمته عليَّ حرام، فهو يمينٌ، لأن ظاهِرَه الإنشاء، إلا أن يريد به الإخبار عن الحرمة.

وقال مالك والشافعي: لا كفارة عليه، لأنه ليس بيمين إلا في حق الجواري، والنساء في معناهن، فيقتصر على مورده في لزوم الكفارة، لأن تحريمَ الحلال قلبُ المشروع، واليمين عقد مشروع، فلا ينعقد بلفظٍ هو قلب المشروع كقلبه

(2)

، وهو تحليل الحرام، ولأن ذا ليس إلى العبد، فإن المُحلِّل والمحرِّم هو الله سبحانه، فيلغو.

ولنا قوله تعالى: {يا أيها النبيُّ لم تُحرِّم ما أحلَّ اللَّهُ لك تَبْتَغي مرضاتَ أزْواجِكَ وا غفورٌ رحيمٌ قد فَرَضَ الكم تَحِلَّة أيْمَانِكُم}

(3)

وسبب نزول هذه الآية ما في

(1)

سورة التوبة، الآية:(12).

(2)

في المخطوط: "كعكسه" بدل "كقلبه".

(3)

سورة التحريم، الآية:(1 - 2).

ص: 259

‌فَصْلٌ في الحَلِفِ في الفعلِ أو التَّركِ مِن الدُّخولَ والخُرُوجِ وغَيْرِهما

مَنْ حَلَفَ لا يدخلُ بيتًا يحنَثُ بدخول صُفَّة،

===

البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم شَرِبَ عند زينبَ بنت جحشٍ عسلاً، فعلمت به عائشة فتواصت هي وحفصة أيَّةٌ، وفي رواية: أيَّتُنا، دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلْتقل: إني أجدُ منك ريحَ المَغَافِير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال:«لا بل شربت عسلاً عند زينب ولن أعود» . وفيه أيضاً عن عائشة أن التي سقته العسلَ حفصة، وأَن التي تواصت هي وإياها سَوْدَة والمغافير: بالغين المعجمة، جمع مُغفُور بضم الميم والفاء: صَمْغُ بعضِ الشجر يُحَلُّ بالماء وله رائحة كريهة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَكره أن يُوجد منه الروايح، فصدَّق عليه الصلاة والسلام القائلة له ذلك من أزواجه، وحرَّم العسل على نفسه.

وقال الخطَّابي: والأكثر على أن الآية إنما نزلت في تحريم مارية القُبطية حين حرَّمها على نفسه. وذلك أنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة، وعلمت بذلك حفصة، فقال لها: اكتمي عليَّ وقد حرمت مارية على نفسي، فأخبرت به عائشة، وكانتا متصادقتين. وقيل: خلا بها في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها، فلم تكتم، فطلقها واعتزل نساءه إِلى شهرٍ ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية. انتهى. والأول أولى بالاعتبار، لأنه رواية صاحب القضية، وصاحب البيت أدرى بما فيه، فالتمسك به ظاهر، وكذا بالثاني لأن العبرة بعموم اللفظِ لا بخصوصِ السببِ، ولأن التحريم المضاف إلى الجواري لما ثبت يميناً بهذه الآية، فكذا التحريمُ المضاف إلى سائر المباحات دلالة. فإن قيل: روي أنه قال: «والله لا أذوقه» فلذلك سُمِّي تحريماً ولزمته التَّحِلة.

أُجيب بأنه لم يُذكر في الآية ولا في الحديث الصحيح، فلا يجوز أن يُحكم به، ويُقيَّدُ به حُكْمُ النص.

فصلٌ في الحَلِفِ في الفعلِ أو الترك من الدخول والخروج وغيرهما

(مَنْ حَلَفَ لا يدخلُ بيتاً) وهو ما أُعد للبيتُوتة (يحنَث بدخول صُفَّة) لأنها تُبنى للبيتُوتة فيها في بعض الأوقات، فصارت كالبيت الصيفي. قال شمس الأئمة: إلا

ص: 260

لا الكعْبَةِ أو مسجدٍ، أو بِيعَة، أو كنيسةٍ، أو دِهليز، أو ظُلَّةِ باب دار، كما في: لا يَدْخُل دارًا، فَدَخَلَ دارًا خَرِبَةً. وفي: هذه الدار، يَحنثُ إنْ دَخَلَهَا مُنهدمةً صحراءَ، أو بعدما بُنيت أخرى، أو وَقَف على سَطْحِها.

وقيل: في عُرفنا لا يَحْنَثُ، كما لو جُعلت مَسْجدًا، أو بُستانًا، أو بيتًا، أو دَخَلَها بعد هدم الحمّام،

===

أن ينوي بيتاً غير الصُّفة، فيُصدَّق ديانة، لأنه خصَّ العام بنيتِهِ. (لا الكعْبَة) أي لا يحنَث بدخول الكعبة (أو مسجد، أو بِيْعَة) وهي معبد النصارى (أو كنيسة) وهي معبد اليهود (أو دِهليز) بكسر الدال: وهو ما بين الباب والدار (أو ظُلَّة باب دار) وهي الساباط

(1)

الذي يكون على باب الدار، لأن واحداً من هذه الأشياء لم يُبْنَ للبيتوتة، فلا يكون بيتاً.

(كما) أي مثل ما لا يحنث (في: لا يدخل داراً) وكذا بيتاً، بل أولى (فَدَخَلَ داراً خَرِبَةً) لأن الدار وإن كانت اسماً للعَرْصة أدير عليها الحائط، إلا أنَّ البناء كالصُّفَّة فيها. ولذا يقال: دار عامرة، ودار غامرة. والصِّفة في المنكَّر من كل وجه معتبرة، ليحصل بها تمييزه، فتعلقت اليمين بدار موصوفة لصفة، فلا يحنثُ بعد زوال تلك الصفة.

(وفي:) لا يدخل (هذه الدارَ، يَحنثُ إنْ دَخَلَهَا مُنهدمةً صحراءً، أو بعدما بُنيت أخرى) لأن الدار هنا معينةٌ والصِّفة في المُعينِ إذا لم تكنْ باعثةً على اليمينِ غير معتبرة، لعدم الاحتياج إليها وتعين الموصوف بدونها، فتعلقت اليمينُ بذاتِ الدار دون صفتها.

(أو وقف) عطف على دَخَلَها، أي ويحنَث إن وقف (على سطحها) لأن سطح الدار منها، ولذا لا يجوز الوقوف للحائض والجُنب على سطح المسجد، وبه قال بعض الشافعية.

(وقيل: في عُرفنا) أي في عرف العَجَم (لا يحنَث كما) أي مثل ما لا يَحْنَث (لو جُعلت) الدارُ التي حلف على دخولها (مسجداً، أو بُستاناً، أو بيتاً) أو نهراً، لأن اسمها تَبَدَّل، وَتَبَدُل الاسم كتبدل العين، فبقاء الاسم دليل بقاء المُسمَّى، وزوالُه دليل زواله.

(أو دَخَلَها) أي الدار (بعد هدم الحمّام) الذي جعلته الدار، سواء بقي صحراء

(1)

الساباط: سَقِيفة تحتها مَمرّ. المُغْرِب في ترتيب المعرب 1/ 379، مادة (سبط).

ص: 261

و: كهذا البيت ودخله مُنْهدِمًا صحراء، أو بعدما بُني بيتًا آخَرَ، أو هذه الدارُ، فوقف في طاقِ الباب لو أُغلِقَ كان خارجًا، أو: لا يَسْكُنُها وهو ساكنُها، أو: لا يَلبَسه وهو لابِسُه، أو: لا يَرْكبه وهو رَاكبه، فأخَذَ في النُّقْلة ونَزَع ونَزَل بلا مُكثْ، أو لا يدخلُ، فقَعَدَ فيها إلا أن

===

أو جُعل دارًا أخرى، لأنه بالانهدام لم يَعُد له اسم الدار، وعودُه له ببنائه دارًا أخرى مُنزَّل مَنْزِلَة اسم آخر، نظرًا إلى تبدُّلِ السبب.

(و: كهذا البيت) أي وكما لا يَحْنَث إذا حَلَفَ لا يدخل هذا البيت (ودخله) حالَ كونِهِ (منهدمًا صحراءَ) لزوال اسم البيت عنه، فإنه لا يُبات فيه حينئذ، ولو بقيت الحيطان دون السقف يحنَث، لأنه يبات فيه (أو) دَخَلَه (بعدما بُني بيتًا آخر) لأن اسم البيت لما عاد إليه بعد زواله عنه بالانهدام، صار بمنزلة اسم آخر، (أو) لا يدخل (هذه الدار) أو هذا البيت (فوقف في طاق الباب) للمحلوف عليه أو عتبة له وكان الباب بحيث (لو أُغلِقَ كان) ذلك الواقف (خارجًا) عن الدار أو البيت، فإنه لا يحنَث، لأن غَلْقَ باب الدار أو البيت لإحراز ما فيهما، فما كان داخلًا عنه فهو فيهما، وما لا فلا.

وفي «الكافي شرح الوافي» : لو حلف لا يدخل بيت فلان ولا نية له، فدخل في صحن داره لم يحنَث حتى يدخل البيت. قال: وهذا في عرفِهِم، أي المتقدمين، وأما في عُرفنا فالدار والبيت واحد، فيحنث إن دخل صحن الدار، وعليه الفتوى.

(أو: لا يسكنها) أي الدار (وهو ساكنها، أو: لا يَلبَسه) أي الثوب (وهو لابسه، أو: لا يَرْكبه) أي المركوب (وهو رَاكبه فأخَذَ) أي فشرع فورًا (في النُّقْلة) عن الدار (ونَزَع) الثوب (ونَزَل) عن الدابة (بلا مُكثٍ) لا يحنث. وقال زُفَر: يحنث لوجود الشرط، وهو تحققه بعد فراغ حَلِفِه من السُّكنى واللُّبس والرُّكوبِ وإن قلّ.

ولنا أنّ اليمين تعقدُ للبِرَّ، فيُستثنى منها زمان تحققه بعد فراغ حَلِفِه من السكنى، لأن مواضع الضرورة مستثناة عن قواعد الشرع. وهذا لأن البِرَّ مأمور به، والحنثَ منهيٌ عنه لقوله تعالى:{واحفظُوا أيْمَانَكم}

(1)

. والظاهر أن يَقصِدَ المأمور به. قيد بقوله: بلا مُكث، لأنه لو مَكَثَ ساعة على حاله حَنِثَ، وبه قال مالك والشافعي وأحمد.

(أو: لا يدخلُ) هذه الدار وهو فيها (فقَعَدَ فيها) ولو أيامًا لا يحنث (إلا أن

(1)

سورة المائدة، الآية:(89).

ص: 262

يَخرُجَ ثم يَدْخُل.

وفي: لا يَسْكُنُ هذه الدارَ لا بد من خروجِهِ بأَهْلِه ومَتاعِهِ أَجْمَع، حتى يَحْنَث بوَتَدٍ بَقِيَ،

===

يَخرُجَ ثم يدخل) استحساناً، لأن الدخول مما لا يمتد، فإنه الانتقال من خارج إلى داخل، فلا يكون لدوامه حكم الابتداء. والدليل عليه قوله تعالى:{فَلَا تَقْعد بعد الذِّكْرَى}

(1)

أي لا تَمْكُث قاعداً. وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النظرةَ، فإن الأولى لك والثانية عليك»

(2)

، بخلاف السُّكنى، واللُّبْس، والركوب، والقعود، والقيام والنظر ونحو ذلك مما يمتد، فإنه يكونُ لِدوامه حكم الابتداء. والقياس أن يَحنَثَ، وهو قول الشافعي، لأن للدوام حكم الابتداء، حتى لو نوى بالدخول الدوامَ صحت نيته، ولو لم يكن له حكمَ الابتداء لما صحت.

(وفي: لا يسكن هذه الدار) أو المَحَلَّة، أو هذا البيت (لا بد) عند أبي حنيفة (من خروجه بأهله ومَتاعِهِ أجمع، حتى يَحنث بوَتَدٍ بَقِيَ) وبه قال أحمد. وقال مشايخنا: لا يحنَث ببقاء نحو الوتد والمِكْنَسَة، لأنه لا يُعد به ساكناً. وعند أبي يوسف: لا بد من خروجه بأهله وأكثر مَتَاعهِ وعليه الفتوى. كذا في «المحيط» و «الفوائد الظهيرية» ، لأن نَقلَ الكلِ قد يتعذرُ، وببقاء الأقل لا يُعد ساكناً. وعند محمد: لا بد من خروجه بأهله ومتاعه الذي يقوم به ضَرُورَاتُهُ، لأن بقاءَ ما وراءَ ذلك ليس بِسُكْنى. وفي «شرح المجمع»: واستحسنه المشايخ وعليه الفتوى، وهو أصح ما يُفتى به من التصحيحين كما ذكره الطرابلسي.

وقال أبو الليث

(3)

: إن سَلَّم داره بإجارة أو رد المستأجر إلى المؤجِر لا يحنَث، سواء اتخذ داراً في موضع آخر أو لم يتخذ، لأنه لم يبق ساكناً. ولو كان في طلب مسكن آخر وترك الأمتعة فيها أياماً لا يَحنَث في الصحيح، لأن طلب المنزل من عمل النُّقلة، فصارت مدة الطلب مستثناة بحكم العرف إذا لم يُفرط في الطلب. وبه قال مالك والشافعي وأحمد.

وفي لا يدخل دار زيد ولا نية له حَنِث بالدخول (في المستأجرة

(1)

سورة الأنعام، الآية:(68).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه 2/ 610، كتاب النكاح (12)، باب ما يؤمر به من غض البصر (43)، رقم (2149).

(3)

وفى المخطوط: أَبو اليسر.

ص: 263

بخلافِ المِصْرِ والقَرْيةِ.

وحَنِث في لا يَخرُجُ لو حُمِلَ وأخرِج بأمرِهِ، لا إن أُخرجَ بلا أمرِهِ، مُكْرَهًا أو راضيًا. ومِثلُه لا يدخل أَقسَامًا وحكمًا. ولا في: لا يخرجُ إلّا إلى جنازةٍ.، إن خَرَجَ إليها ثم أتى إلى أَمرٍ آخر.

===

والمستعارة عندنا كالمملوكة. وخصّه مالك والشافعي بالدخول)

(1)

في المملوكة أو لا. وفي لا يدخل دار فلان وله دار يسكنها ودار غَلَّة، فدخل دار الغَلَّة لا يَحْنَث. وفي لا يدخل دار فلانة فدخل دارها وزَوْجُها يسكنها لا يحنَث، لأن الدار تُنسب إلى الساكن. ذكره الزَّيلعي.

وشرط أبو يوسف للحنث إضافتها إليه وقت الحَلِفِ، كوقت الشرط، لأن أفهام الناس تقع على ما في مِلكِهِ يوم اليمين والحنث جميعاً في العادة.

واكتفيا لحنثه بدخوله داراً يملِكُها بعد اليمين، لأنه عَقَد بيمينه على دار غيرِ مشارٍ إليها فلا يختص بالموجودة في الحال كما في قوله: لا أكلم عبد فلان، أو لا آكُل طعامه، أو لا ألبَس ثوبه. وأما ما ذكر من العادة فغير مستمرة، بل هي مشتركة.

(بخلافِ المِصْر والقَرْيةِ) فإنه لو حلف لا يسكن هذا المصر فخرج منه وترك أهله ومتاعه فيه لا يَحْنَث فيما رُوي عن أبي يوسف. ونَقله أبو الليث في «أماليه» ، لأنه لا يعد ساكناً فيها، لأن الرجل قد يكون ساكناً في مصرٍ وله في مصرٍ آخر أهل ومتاعٌ. والقرية قيل بمنزلة الدار، وقيل بمنزلة المصر، وهو المختار. (وحَنِث في لا يَخرُجُ لو حُمِلَ وأخرِج بأمرِهِ) لأن فعلَ المأمور يُضاف إلى الآمر، فصار كما إذا ركب دابة فخرجت (لا) يحنثُ (إن أُخرجَ بلا أمرِهِ) سواء كان (مُكْرَهاً) أي غير راضٍ (أو راضياً) لأنه لم يوجد منه خروج لا حقيقةً ـ وهو ظاهر ـ ولا حكماً، لأنه لم يأمر به. وبه قال الشافعي في الأصح وأحمد في رواية.

(ومِثلُه) أي ومثل «لا يخرج» (لا يدخل أَقسَاماً) بفتح همزة، جمع قِسم بكسر أوله وهي ثلاثة بأمره وبلا أمره مكرهاً أو راضياً (وحكماً) وهو الحنث في الأول وعدمه في الآخرين. (ولا) يَحنَثُ (في لا يخرجُ إلا إلى جنازة، إن خَرَجَ إليها) وفي نُسخة: فخرج يريدها (ثم أتى إلى أَمرٍ آخر) لأن الخروج هو الانفصال من الباطن إلى الظاهر

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 264

وحنِث في: لا يخرجُ إلى مكَّة، فخَرَجَ يُريدُها ورَجَعَ، لا في: لا يأتها حَتّى يدخُلَها. وذَهَابُه كخروجِهِ في الأَصحِّ. وفي: ليأتين مَكَّةَ ولم يأتِها، لا يحنَثُ إلا في آخِر حياتِه.

وحنِث في: ليأتينَّه غدًا إن استطاع، إن لم يأته بلا مانعٍ، كَمَرَضٍ، أو

===

وهو موجود بالنسبة إلى الجنازة دون الأمر الآخر، فإن الموجود في حقه الإتيان، وهو الوصول، وهو ليس بخروج، والدوام على الخروج ليس بخروج أيضاً لعدم امتداده.

(وحنِث في لا يخرجُ إلى مكّة، فخَرَجَ يُريدُها) وجاوز عمران مِصرِه (ورَجَعَ) لتحقُّقِ الشرط وهو الخروج إلى مكة، وإنما قيدنا بمجاوزة العمران، لأنه لو رجع قبل مجاوزتها لا يحنث، لأن الخروج (إلى مكة سفر، وهو لا يتحقق إلا بمجاوزة العمران، وذلك لأن الخروج)

(1)

انفصال عن الداخل إلى الخارج. وإذا انفصل عن وطنه قاصداً مكة فقد خرج إليها. قال الله تعالى: {ومَنْ يَخْرجْ من بيتِهِ مُهاجِراً إلى اورسوله} الآية

(2)

، والمراد بها من مات قبل وصوله إليه (لا) يحنت (في) حَلِفِهِ (لا يأتيها) أي مكة (حَتّى يدخُلَها) لأن الإتيان هو الوصول قال الله تعالى:{فأْتِيَاهُ فقولا إنَّا رَسُولا ربك}

(3)

.

(وذَهَابه كخروجِهِ) فإذا حلف لا يذهب إلى مكة، فخرج يريدها حَنِثَ (في الأصح) وهو قول محمد بن سَلَمة. وقال نصر بن يحيى: هو كإتيانِهِ، فلا يحنَث حتى يدخلَها لقوله تعالى:{اذْهَبَا إلى فِرْعونَ إنَّه طَغَى فَقَولا له}

(4)

، ووجه الأول قوله تعالى:{إنما يُريدُ الله ليُذهِبَ عنكُمُ الرِّجْسَ أهلَ البيتِ}

(5)

ليُزِيله. وإذا كان الإذهاب بمعنى الإزالة، كان الذَّهاب بمعنى الزَّوال. وهذا الاختلاف إذا لم يَكُنْ له في الذهاب نية، فإن نوى الخروجَ أو الإتيانَ فعلى ما نوى، لأنه مُحتَملُ كلامِهِ.

(وفي: ليأتين مكة ولم يأتها) ومضى عليه مدة (لا يحنَث إلا في آخر حياته) لأن شرطَ الحنث فوتُ الإتيان، وهو لا يتحقق إلا في آخر جزء الحياة، لأن البِرَّ مرجوٌ ما دَام حياً.

(وحَنِثَ في: ليأتينه غداً إن استطاع) إتيانه (إن لم يأته بلا مانع كمرض أو

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سورة النساء، الآية:(100).

(3)

سورة طه، الآية:(47).

(4)

سوة طه، الآية:(43 - 44).

(5)

سورة الأحزاب، الآية:(33).

ص: 265

سلطان، ودُيِّنَ نِيَّة الحقيقة. وشُرِطَ للبِرِّ في: لا تَخْرُج إلا بإذنه، لكل خروجٍ إذنٌ، لا في: إلا أن آذَنَ،

===

سلطان) لأن الاستطاعة في العُرْف سلامَةُ الأسباب، والآلات، وارتفاعُ الموانع الحسيَّة، فينصرف اللفظ إليها عند الإِطلاق، ومن ذلك قوله تعالى:{وعلى النَّاسِ حِجُّ البيتِ مَنْ استطاعَ إليه سبيلاً}

(1)

وفسّره النبي صلى الله عليه وسلم بِمِلك الزَّاد والرَّاحلة. وقوله سبحانه: {وأعِدُّوا لهم ما استطعتم مِنْ قُوَّة}

(2)

وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم بالرمي.

(ودُيِّنَ نِيَّةَ الحقيقة) أي صُدِّق دِيَانة إن قال: نويت حقيقة الاستطاعة، وهي القدرة الحقيقية التي يُحدثها الله تعالى للعبد حال قصد اكتسابه الفعل، بعد سلَامةِ الأسباب والآلات، ولا تكونُ إلا مقارِنَةً للفعل. قال الله تعالى:{ولَنْ تَستطِيعُوا أنْ تَعدِلُوا بين النساء}

(3)

، {فما أسْطعاعُوا أن يَظهرُوه وما استطاعوا له نَقْباً}

(4)

وإنما صُدِّق دِيَانةً لأنه نوى محتمل كلامه لا قضاءً، لأنه نوى خلاف الظاهر. وفي رواية صُدِّق قضاءً أيضاً لأنه نوى حقيقة كلامه، وهذا بناء على أنه إذا نوى حقيقة كلامه والظاهرُ لا يخالفه، يُصدَّق دِيَانة وقضاءً، وإن كان يُخالفها ففي تصديقه قضاءً روايتان.

(وشُرِطَ للبِرِّ في: لا تَخْرُج) امرأته (إلا بإذنه، لكل خروجٍ إذنٌ) حتى لو خرجت بإذنه مرة، ثم خرجت مرة أخرى بلا إذنه يحنث، لأنه استُثني من المحلوف عليه خروجاً ملصوقاً بالإذن، فكل خروج لا يكون كذلك فهو داخل في اليمين.

والحيلة في ذلك أن يقول لها: كلما أردت الخروج فقد أذنت لك. ولو قال: أردت إلا بإذني مرةً صُدِّق دِيَانةً، لأنه نوى محتمل كلامِهِ، لا قضاءً لأن فيه تخفيفاً عليه (لا في) لا تخرج (إلا أن آذن) أي لا يُشترط لكل خروج إذن في: لا تخرج إلا إن أَذِن، حتى لو خرجت بإذنه مرة، ثم خرجت مرة أخرى بلا إذنه لا يحنث، لأن:«إلا أن» بمعنى حتى فيما يتوقت، قال الله تعالى:{إلا أن يُحاط بكم}

(5)

، أي حتى يُحاط بكم.

ألا ترى أنه لا يَستقيمُ إظهار المصدر هنا، بخلاف إلا بإذني، فإنه يستقيم أن

(1)

سورة آل عمران، الآية:(97).

(2)

سورة الأنفال، الآية:(60).

(3)

سورة النساء، الآية:(129).

(4)

سورة الكهف، الآية:(97).

(5)

سورة يوسف، الآية:(66).

ص: 266

وللحِنْث في: إن خَرَجْتِ، وإن: ضَرَبْتِ لمُريْدةِ خروج، أو ضربِ عبدٍ، فِعْلُهُما فورًا. وفي: إن تغديتُ، بعد تَعَالَ تغَدَّ معي، تَغَدِّيهِ معه.

===

يقول: إلا خُروجاً بإذني، فعرفنا أنه (صفة المستثنى. وهنا لو قال: إلا خروجاً إن أذن لك، كان كلاماً مختلاً، فعرفنا أنه)

(1)

بمعنى التوقيت، فإن قيل: يشكل هذا بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلُوا بيوتَ النبيِّ إلا أن يُؤْذَنَ لكم}

(2)

فإنَّ الإذن لا بد منه في الدخول إلى بيت النبي في كل مرة.

وأجيب بأن ذلك ثبت بآخر الآية وهو قوله تعالى: {إن ذلكم كان يُؤذي النبيَّ} والإيذاء موجود في كل مرة، أو بدليل آخر من الأُصول، وهو أن الدخول في ملك الغير بغير إذنه حرام. ولو قال: أردت إلا أن آذن كل مرة صُدق ديانةً وقضاءً، لأن في ذلك تشديداً عليه.

(وللحِنْث) عطف على للبِرِّ، أي وشرط للحنث (في: إن خرجت وإن ضربت) فأنت طالق (لمُريْدة خروج) في الأولى (أو ضربِ عبدٍ) في الثانية (فِعْلُهُما) أي فعل الخروج وفعل الضرب (فوراً) أي في الحال، وهو في أصل اللغة مصدر فارت القِدْر إذا غَلَت، استُعيرت للسرعة والحالة التي لا لبث فيها، حتى لو جلست ثم خرجت أو تركت ضَرْب العبدِ، ثم ضربته لم يحنث، لأن مرادَ المتكلِّمِ الخروجُ والضربُ في تلك الحالة، فيتقيد بها. والاعتبار بالعرف.

(وفي إن تغديت) عطف على في إن خرجت. أي وشُرط للحنث في: إن تغديتُ، من غير أن يقول: معك أو معه، فعبدي حر (بعد) قول القائل (تَعَالَ تَغَدَّ معي، تغدّيه معه) فوراً.

وقال زفر ومالك والشافعي: لا يشترط، لأنه عقد يمينَه على مطلق الغداء. ولنا أنه عقد كلامه على غداءٍ معين وهو الغداءُ المدعو إليه الذي بين يديه، لأن كلامه خرج مَخْرَج الجواب. والغداءُ في السؤال معين وكذا في جوابه. وقد تفرد بإظهار هذه اليمين الفورية أبو حنيفة. وكان الناس يقولون: اليمين على نوعين: مطلقة، ومؤقتة بوقت، فاستنبط أبو حنيفة من العرف هذه، وهي مطلقةٌ لفظاً مؤقتةٌ معنًى. وقيل: إنما أخذها من حديث جابر بن عبد الله وابنه حين دعيا إلى نُصرة إنسان، فحلفا أن لا ينصراه، ثم نصراه بعد ذلك ولم يحنثا.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سورة الأحزاب، الآية:(53).

ص: 267

وكفى مُطْلَقُ التعدّي إنْ ضَمَّ اليومَ. وَمرْكَبُ المأذون ليس لمولاه في حَقِّ الحَلِفِ، إلا إذا لم يكن عليه دَينٌ مُستغرِقٌ، ونواه.

ويُقيَّدُ الأكلُ من هذه النَّخْلةِ بِثَمَرِها،

===

(وكفى) في الحنث (مطلق التعدّي إن ضَمَّ اليومَ) بأن قال: إن تغديت اليومَ فعبدي حرٌ بعد قول القائل: تعال تغدّ معي، لأنه لما زاد على الجواب كان مبتدئاً لا مجيباً حذراً عن إلغاء الزيادة، فإن قيل: إن موسى عليه السلام زاد في الجواب حين سئل عن العصا ولم يُجعل مبتدئاً بل جعل مُجيباً. أُجيب بأن السؤال في الآية لما كان بـ: «ما» وهي تقع للسؤال عن الذات، والسؤال عن الصفات، جمع بينهما عليه الصلاة والسلام في الجواب ليكون مجيباً على كل تقدير.

(ومَرْكَبُ) العبد (المأذون ليس لمولاه في حق الحَلِفِ) فلا يحنث مَنْ حَلَفَ لا يَركبُ مركب فلان، وهو سيد له عبيد، فركب الحالف مركب عبده المأذون.

(إلا إذا لم يكن عليه دينٌ مُستغرِقٌ) لرقبته وكسبه، بأن لم يكن عليه دين أصلاً، أو كان دين لا يستغرق (ونواه) أي والحال أنه قد نوى الحالف مركب المأذون، فإنه يحنَث حينئذٍ وهذا عند أبي حنيفة، لأن الملك عنده للعبد إذا كان عليه دين مستغرق فلا يدخل في يمينه نواه أو لا، وللمولى إذا لم يكن عليه دين مستغرق لكنه يضاف إلى العبد، فيدخل إن نواه. وقال أبو يوسف: يحنث في الوجوه كلها إذا نواه، لأن الملك عنده للمولى إلا أنَّ الإضافة إليه قد اختلَّت لإضافته إلى العبد عُرفاً، فلا يدخل إلا بالنية. وقال محمد: يحنث في الوجوه كلها وإن لم ينو، لأن العبد وما في يده لمولاه. وبه قال مالك والشافعي وأحمد.

قيد بالمأذون لأن مركب المكاتب ليس مركباً لمولاه بالاتفاق.

(ويُقَيّدُ الأكل) في: لا آكل (من هذه النخلة) ولها ثمر (بثمرها) فيحنث بطلْعِها وبُسرها ورُطَبِها ودِبسها الذي يسيل منه، وبه قال الشافعي وأحمد. وأما لو لم يكن للنخلة ثَمَرٌ، فيتقيد الأكل بثمنها، إذ النخلةُ لا تُؤكل، فتعذر العملُ بالحقيقة، فيصير إلى المجاز، لكن شُرِط أن لا يتغير بصنعةٍ حَادِثَة، فلهذا لا يحنثِ بخَلها والدِّبس المطبوخ منها، لأن ذا مضاف إلى فعل حادث، فلم يبق منسوباً إلى الشجر، فلم يصح أن يدخل في المجاز.

والكَرْم في معنى النخلة، فيحنَث بعنَبِه، وعصِيره، وزبِيبِه، دون دِبسه المطبوخ

ص: 268

وهذا البُرَّ بأكله قَضْمًا، وهذا الدقيقِ بأكل خُبْزِهِ، فلا يَحنَثُ لو استفَّه كما هو.

وأكلُ الشِّواءِ باللَّحْم، والطبخِ بما طُبِخَ من اللَّحْم، والرأسِ برأسٍ يُكْبَسُ في التَّتَانير، ويُبَاعُ في مِصْرِه.

===

منه.

(وهذا البُرّ) أي ويُقَيَّد الأكل من هذا البر (بأكله قَضْماً) وهو الأكل بأطراف الأسنان، فلا يحنث بأكل خبزه ولا سَويْقِهِ، وهذا عند أبي حنيفة، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو يوسف: يحنَث بخبزه لا بسويقه. وقال محمد: يحنث بهما. وأما القَضْم فَيْحنَث به عند الكل إلا أحمد. وفي «الفوائد الظهيرية» : إن هذا الخلاف إذا لم يكن له نية، فأما إذا نوى فيمينُه على ما نوى باتفاق، لأنه نوى حقيقة كلامه أو محتَمَله.

(وهذا الدقيق) أي ويقيد الأكل من هذا الدقيق (بأكل خبزه) وعصيدته، لأن عينَ الدقيق غير مأكول، فانصرف يمينه إلى ما يُتخذ منه، وبه قال مالك وأحمد (فلا يَحنثُ لو استفَّه كما هو) لأن الحقيقة مهجورة في الاستعمال عادة، فسقط اعتبارها. وقيل: يحنث لأنه أكل الدقيق حقيقة. والصحيح: أنه لا يحنَث إلا إن نواه، فإنه يحنَث به لا بِخُبْزِهِ.

(وأكلُ الشواء) هو بالرفع عطف على الأكل. أي ويقيد أكل الشواء (باللحم) لأنه المتبادر دون البيض المشوي، أو الباذنجان، أو الجوز، وهو قول أحمد، إلا أن ينوي كل مشوي، فتصح نيته لأن فيه تشديداً عليه (والطبخِ) عطف على الشواء، أي ويُقَيّدُ أكل الطبخ (بما طُبِخَ من اللحم) لأنه المفهوم في العرف، ولا بُدَّ أن يُطبخ بالماء، لأن المقلي اليابس لا يُسمى طبيخاً، (ولو أكل الخبز بالمَرَقة التي طُبخ فيها اللحم يحنث، لأنها تُسمى طبيخاً)

(1)

وفيها أجزاء اللحم.

(والرأسِ) أي ويُقَيّد أكل الرأس (برأسٍ يُكبس في التنانير) أي يُدخل فيها (ويباع) ذلك الرأس المتعارف (في مصره) أي في بلده من الإبل والبقر والغنم. وكان أبو حنيفة أولاً يقول: إذا حلف لا يأكل رأساً يحنث برأس الغنم والإبل والبقر، ثم رجع وقال: يحنَث برأس البقر والغنم خاصة. وقالا يحنَث برأس الغنم خاصة، وهذا اختلاف عصرٍ وزمانٍ لا اختلاف حجة وبرهان. كان العرف في زمانه أولاً في الثلاثة، ثم في

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

ص: 269

والشَّحْمِ بشحمِ البطن، والخُبزِ بخبز البُرّ والشَّعير، لا خُبزِ الأرُزّ ببلدٍ لا يُعتادُ.

والفاكهةِ بالتُّفَّاح، والمِشْمِش، والبِطِّيخ، لا العِنَب والرُّمَّان والرُّطَبِ والقِثَّاء والخِيَار.

===

البقر والغنم، وفي زمانهما في الغنم خاصة.

وفي زماننا يفتى بحسب العادة كما ذكره المصنف، لأن كل رأس ليس بمراد للقطع بعدم إرادة رأس نحو الجراد والعصفور، فوجب الرجوع إلى العرف لأنه الأصل في مسائل الأَيمان. وعند الشافعي يمينه على ما يباع منفرداً عن بدنه ولحمه. وعند مالك وأحمد على رأس كل حيوان من الغنم والصيد والطير والحيتان. وهذا إذا لم ينو نوعاً، فإن نوى فيمينه على ما نوى بالإجماع، وعلى هذا الخلاف الشواء.

(والشَّحْمِ) أي ويقيد أكل الشحم (بشحمِ البطن) حتى لو أكل شحم الظهر، وهو الذي خالطه لحمه لم يحنَث وهذا عند أبي حنيفة. وهو قول مالك والشافعي في الأصح. وقال أبو يوسف ومحمد: يحنث بشحم الظهر أيضاً، وهو وجه في مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد. وكذا الخلاف في الشحم المختلط بالعظم، والشحم على ظاهر الأَمعاء. ويؤيد قول صاحبيه أن الله تعالى استثنى شحم الظهور من الشَّحم حيث قال:{ومن البقر والغنم حَرَّمنا عليهم شُحومَهُما إلا ما حَمَلَت ظُهُورُهما أو الحَوَايا أو ما اختَلَط بعَظْم}

(1)

وحقيقة الاستثناء أن يكون المُستثنى من جنس المستثنى منه.

(والخُبز) أي ويقيد أكلُ الخبزِ (بخبز البُرّ والشَّعير) لأنه هو المعتاد في غالب البلاد. وقال مالك والشافعي: يحنث بأي خبز كان (لا خبز الأرُزّ) بفتح الهمزة وضم الراء وتشديد الزاي على أشهر لغاته، وفيه لغات أُخر خمس. أي لا يقيد أكل الخبز بخبز الأرُزّ ولا بخبز الذرة (ببلد لا يُعتاد) فيه، أما لو كان ببلد يعتاد خُبز الأَرُز كطُبرستان أو خبز الذرة (كزَبِيد، يحنث به. وكذا لو كان من أهل بلد لا يعتادون أكل خبز الشعير، لا يحنث ولو اعتادوا أكل خبز الذرة والدُّخْن)

(2)

كأهل الحجاز واليمن يحنث بأكله. (والفاكهةِ) أي ويقيد أكل الفاكهة (بالتفاح، والمِشْمِش، والبطِّيخ) والخوخ، والتين، والسفرجل، والكُمَّثْرى ونحو ذلك (لا العنب) أي لم يقيد أكلَ الفاكهة بالعنب (والرُّمَّان والرُّطَب والقِثَّاء والخِيَار).

(1)

سورة الأنعام، الآية:(146).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط. والدُّخْن: نبات له حَبٌّ صغير أملس كحَبِّ السَّمسِم "المعجم الوسيط" ص 276، مادة (دخن).

ص: 270

والشُّرْبُ من نهرٍ بالكَرْع منه، فلا يحنَثُ لو شرب منه بإناءٍ، بخلاف الحَلِفِ من مائه.

===

وقال أبو يوسف ومحمد: العنب والرُّمان والرطب فاكهة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد. والأصل أن الفاكهة اسم لما يُتفكه به قبل الطعام أو بعده، زيادة على الغذاء الأصلي. وهذا المعنى موجود في التفاح وأخواته، فيحنث بها، وغير موجود في القِثاء والخِيَار لأنهما من البقول، وأما العنب والرمان والرطب فهم يقولون: معنى التفكه موجود فيها، فإنها من أعز الفواكه، والتنعم بها فوق التنعم بغيرها. وأبو حنيفة يقول: إن العنب والرطب يؤكلان للغذاء حتى يُكْتفى بهما في بعض المواضع. والرُّمان قد يُستعمل للدواء فنقصت الثلاثة في معنى التفكه وهو التنعم. قال الله تعالى: {انقلبوا فَكِهِيَن}

(1)

أي متنعمين، فلا يتناولها مطلقُ اسمه.

ألا ترى أن يابس هذه الأشياء ليس من الفواكه، فالزبيب والتمر من الأقوات، وحبُّ الرُّمان من التوابل. والفاكهة لا يَختلفُ رطبها ويابسها في معنى التفكه، ولذا قال شمس الأئمة: البِطيخ ليس بفاكهة، لأن ما لا يكون يابسه فاكهة فرطبه كذلك، كالتين والمِشمِش والخوخ. وأيضاً أنه سبحانه عطفها على الفاكهة في آية وعطف عليها الفاكهة في أخرى، والعطف يقتضي المغايرة. قال الله تعالى:{فيهما فاكهةٌ ونخلٌ ورُمَّان}

(2)

، وقال الله تعالى:{وعِنَباً وقَضباً وزيْتوناً ونَخْلاً وحدائقَ غُلباً وفاكهةً وأبًّا}

(3)

وهذا إذا لم يكن له نية، فإن نوى فيمينه على ما نوى بالإجماع. وفي «المحيط»: العبرة للعُرْف فما يؤكل عادة على سبيل التفكه، ويُعد فاكهة في العرف يدخل في اليمين، وما لا فلا.

(والشُرْبُ) بالرفع عطف على الأكل، أي ويقيد الشرب إذا حَلَفَ لا يشرب (من نهرٍ) كدِجلة (بالكَرْع منه) وهو تناول الماء بالفم من موضعه كما تتناول الدابة، (فلا يحنَث لو شرب منه بإناء) وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: يحنث به كالكرع. وهذه المسألة مبنيةٌ على أنَّ الأَولى اعتبار الحقيقة المستعملة وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، أو عموم المجاز المتعارف، وهو قولهما.

(بخلاف الحَلِفِ) لا يشرب (من مائه) حيث يحنث بالشرب منه بإناء أو بغيره

(1)

سورة المطففين، الآية:(31).

(2)

سورة الرحمن، الآية:(68).

(3)

سورة عبس، الآيات:(28 - 31).

ص: 271

وتحليفُ الوالي رجلًا لِيُعلِمَه بكل داعرٍ أتى بحالِ ولايتِه والضَّرْبُ والكِسْوة، والكلام، والدخول عليه بالحياة

===

اتفاقاً، لأنه بعد الاغتراف منسوب إلى ذلك النهر وهو الشرط. ونظير المسألتين ما لو حلف لا يشرب من هذا الكوز، فصب الماء الذي فيه في كوز آخر وشرب منه حيث لا يحنث باتفاق. ولو قال: من ماء هذا الكوز يحنث باتفاق.

(وتحليفُ الوالي) بالرفع عطف على الأكل، أي ويقيد تحليفُ الوالي (رجلاً لِيُعلِمَه بكل داعرٍ) بدال مهملة، أي مفسد فاجر (أتى) إلى البلد (بحال ولايته) متعلق بـ: يُقيَّد، وإنما يتقيد الحَلِفُ بذلك لأن غرض المُستحلِف دفعُ شر الدَّاعر وغيره بالضرب ونحوه، فلا يفيد إعلامه بعد زوال ولايته، لعدم قدرته على ذلك. وعن أبي يوسف: أنه لا يقيد بحالِ ولايته. وإعلامه بعد عزله مفيدٌ أيضاً لاحتمال أن يتولى بعد ذلك، فيؤدِّب الدَّاعر، أو أنه يَسعى في تأديبه عند من له الولاية، وبه قال الشافعي في قول واحمد في روايه.

(والضرب) أي ويُقيد الضرب. (والكِسْوة، والكلام، والدخول عليه بالحياة) أي بحياة المحلوف عليه، حتى لو فعل به هذه الأشياء بعد موته لم يحنث الحالف، لأن هذه الأشياءَ لا تتحقق في الميت من الحالف، لأن الضرب هو الفعل المؤلم، ولا يتحقق في الميت الإيلام. والمراد بالكلام الإفهام وأنه يختصُ بالحيّ من الأنام، وبالكِسْوة عند الإِطلاق التمليك، ولا تمليك من الميت. وإن نوى به الستر صح، لأنه محتملُ كلامِهِ، فلو كفَّنه حنث. وبالدخول الزيارة عرفاً في موضع يجلس فيه للزيارة والتعظيم، حتى لو لم يقصده بالدخول بأن دخل على غيره أو لحاجة أُخرى لا يكون دخولاً عليه.

فإن قيل: روى البخاري من حديث أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر أمر بأربعةٍ وعشرين رجلاً من صَناديد قريش فقُذِفُوا في طَوِيّ من أطواءِ بدر خَبيثٍ مُخْثٍ، وكان إذا ظَهَرَ على قومٍ أقام بالعَرْصة ثلاث ليالٍ، فلما كان ببدر اليومَ الثالثَ أمرَ براحِلتهِ، فَشُدَّ عليها رحلُها ثم مشى وتبعه أصحابه، وقالوا: ما نَرَى يَنْطلِقُ إلا لبعض حاجته، حتّى قام على شَفَةِ الرَّكِيِّ، فجعل يُناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، أيسرُّكم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنّا قد وجدنا ما وَعَدَنا ربُّنا حقاً، فهل وجدْتُم ما وعد ربكم حقاً؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تُكلمُ من أجسادٍ لا أرواح لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسُ محمدٍ بيدِه ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم» . والطَوِيّ: بفتح المهملة وكسر الواو وتشديد الياء: البئر المطوية بالحجارة. والرَّكي:

ص: 272

لا الغُسْل.

والقريبُ بما دون الشَّهْر في ليقضين دَيْنَه إلى قريب، والشَّهْر بعيدٌ

===

على وزنه: البئر.

أجيب بأن عائشة تقول: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «ما أنتم بأسمع منهم» ما أنتم بأعلم منهم مستدلَّة بقوله تعالى: {إنك لا تُسمع المَوْتَى}

(1)

{وما أنت بمُسمعٍ مَنْ في القُبور}

(2)

ولو سُلِّم فذلك من خصوصيات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قتادة: أحياهم الله تعالى حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتحسيراً وتنديماً، كذا ذكره بعضهم. والأظهر أنهم يسمعون، لكنهم على الرد ما يقدرون، ولذا سُنَّ في مقبرة المسلمين التسليم عليهم والقراءة لديهم، لكن مبنى العُرف على سماع من (يكون حياً)

(3)

شأنه الاستطاعة على رد الكلام. قال الشارح: فإن قيل: الميت يزار، قلنا: لا بل قَبْرُه. قال عليه الصلاة والسلام: «كنت نَهَيتُكم عن زيارة القبور فَزُوروها»

(4)

.

ولو دخل عليه وهو نائمٌ لا يكون زائراً، فههنا أولى. ولا يخفى أنه ورد:«من زارني ميتاً فكأنما زارني حياً»

(5)

. والتحقيق: أن الزيارة للقبور ظاهراً ولأَصحابها باطناً لما سبق من السلام والكلام. وأما قوله: لو دخل عليه وهو نائم لا يكون زائراً، فمحمول على العُرف وإلا فلا شك أنه قصد الزيارة وحصل له أجرها. ففي الأثر المشهور:«خير الزيارة فَقْد المزور» .

(لا الغُسْل) أي لا يقيد الغُسْل بالحياة في حَلِفِه لا يغسل، وكذا الحمل والمسّ لا يتقيد بحال حياته لتحقق الكل في حال حياته ومماته. ولو حلف ليضربنَّه بالسوط حتى يموت أو حتى يقتله يراد به (أشدُّ الضرب، لأنه المراد في العرف، وليضربنه بالسيف حتى يموت أو يقتله)

(6)

الحقيقةُ وهو الموت. والله سبحانه أعلم.

(والقريب) أي ويقيد القريب (بما دون الشهر في) حَلِفِهِ (ليقضين دَيْنَه إلى قريب، والشهر بعيد) ولم يقدرهما الشافعي وأحمد بشيءٍ لوقوعهما على القليل

(1)

سورة النمل، الآية:(80).

(2)

سورة فاطر، الآية:(22).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

أخرجه ابن ماجه في سننه 1/ 501، كتاب الجنائز (6)، باب ما جاء في زيارة القبور (47)، رقم (1571).

(5)

سنن الدارقطني 2/ 278، كتاب الحج، باب المواقيت، رقم (192). (5)

(6)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 273

وما اصْطُبِغَ به فإدامٌ، وكذا المِلْحُ لا الشِّواء.

===

والكثير، وإنما حَكَما بحنثِه إذا مات قبل أن يقضيه مع التمكن. ولعلهما أخذا من قوله تعالى:{إلى أجلٍ قريب}

(1)

.

ولنا أن كلاً منهما أمر إضافي فيعتبر فيهما العُرْف، وهو بما قلنا، إلا إذا كانت له نيةٌ فيُحمل عليه (وما اصْطُبِغَ به) بصيغة المفعول، أي غُمس فيه كالخل، والزيت، والمَرَق (فإدام) يحنث به إذا حلف لا يأكل بإدام

(2)

.

(وكذا الملح لا الشِّواء) قال ابن الأنباري: الإدام ما يُطَيِّبُ الخبز ويُصلِحُه ويَلَتذُّ به الآكل، وهو يعم المائع وغيره. وأما الصِّبْغ فمختص بالمائع وهو ما يغمس فيه الخبز ويلوث به. وفي «النهاية»: وحاصل ذلك على ثلاثة أوجه: فالخل، والزيت، واللبن، والعسل، والزّبد وأمثالها مما يُصبغ به إدامٌ بالإجماع. والبِطيخ، والعنب، والتمر وأمثالها مما يؤكل وحده غالباً ليس بإدام باتفاق. واختلفوا في الجُبن، والبيض، واللحم، فجعلها محمد إداماً، وهو رواية عن أبي يوسف. وأبو حنيفة رحمه الله غير إدام، وهو رواية عن أبي يوسف أيضاً.

ولمحمد أنها تؤكل مع الخبز غالباً، فكانت تبعاً له، ولأبي حنيفة أن حقيقة التبعية بالاختلاط، وعدم الأكل وحده. ووافق محمداً مالك والشافعي واختاره أبو الليث، لأن الإدام مُشتق من الموادمة وهي الموافقة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمُغيرة حين خطب امرأةً: «انظر إليها، فإنه أحْرَى أنْ يُؤْدَم بينكما»

(3)

، أي يوافق. فما يُؤكل مع الخبز غالباً فهو موافقٌ له، فيكون إداماً. ويؤيده ما رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال:«سيد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم» وقال: «سيد إدامِكم اللحم» ، رواه ابن ماجه

(4)

. والجوزُ واللوزُ والبقلُ وسائر الفواكه ليس مما يُؤكل مع الخبز، فليس إداماً، إلا إذا تَعَارف أهل بلد أكلها تبعاً للخُبز، كأكل أهل الحجاز الكُرَّاث مع الخبز، وأهل مصر البصل معه، وهذا إذا لم تكن له نية وأما إذا كانت،

(1)

سورة المنافقون، الآية:(10).

(2)

عبارة المخطوط: "

إِذا حلف لا يأتدم".

(3)

أخرجه الترمذي في سننه 3/ 397، كتاب النكاح (9)، باب ما جاء في النظر إلى المخطوطة (5)، رقم (1087).

(4)

لفظ الحديث عند ابن ماجه في السنن 2/ 1099، كتاب الأطعمة (29)، باب اللحم (27)، رقم (3305):"سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم".

ص: 274

لا يَحْنثُ في: لا يأكلُ من هذا البُسر فأكله رُطَبًا، أو من هذا الرُّطَب، أو اللَّبن، فأكله تمرًا، أو شِئرَازًا أو بُسْرًا، فأكل رُطَبًا، أو لحمًا فأكل سمكًا أو لحمًا أو شحمًا، فأكل أَلْيَةً.

===

فعلى ما نوى بالإجماع.

(ولا يَحْنثُ في) حَلِفِهِ (لا يأكلُ من هذا البُسر فأكله رُطَباً، أو) لا يأكلُ (من هذا الرُّطب، أو اللبن فأكله) أي أكل ذلك الرُّطب حال كونه (تمراً، أو) أكل ذلك اللبن حال كونه (شِيْرَازاً) وهو اللبن الخاثرُ إذا استُخْرِجَ ماؤه، لأن صفة البُسرية والرُّطبية واللبنية داعية إلى اليمين، فتُقيدُ بها، لأن الأصل أن كل ما دلّ على صفة، إن كانت داعيةً إلى اليمينِ تُعتبر في المُعرَّف والمُنكَّر، وإن كانت غير داعيةٍ تُعتبر في المُنكَّر دون المُعرَّف، (أو) لا يأكل (بُسْراً فأكل رُطباً)(أو لا يأكل رُطباً فأكل بُسراً)

(1)

لأنه لم يأكل المحلوف عليه.

(أو) لا يأكل (لحماً فأكل سمكاً) لأنه خلاف العرف، إلا أن يَنْويَهُ، وكذا كل ما يعيشُ في الماء، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد. والقياسُ أن يحنث، وهو قول مالك ورواية عن أحمد، لأن الله تعالى قال:{لحماً طَرِياً}

(2)

والمراد به لحم السمك إجماعاً. وقد استدل الثوري أيضاً بالآية لمن استفتاه فيمن حَلَفَ لا يأكل لحماً، فأكل سمكاً، فجاء إلى أبي حنيفة رحمه الله فأخبره فقال: ارجع إليه فَسْأَله فيمن حلف لا يجلسُ على بساط، فجلس على الأرض فسأله فقال: لا يحنث، فقال: أليس الله تعالى قال: {والله جَعَلَ لكم الأرض بِسَاطاً}

(3)

فقال سفيان: كأنك السائل الذي سألني أمسِ، قال: نعم، فقال: سفيان: لا يحنث في هذا ولا في الأول، فرجع عن ذلك القول، فظهر أن تمسك أبي حنيفة إنما هو بالعرف.

((أو) لا يأكل (لحماً

(4)

) أو) لا يأكل (شحماً فأكل ألْيَةً) لأنها نوع ثالث، فإنها لا تُستَعمل استعمال اللحوم ولا استعمال الشحوم، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. وقال بعضهم: هي لحم، وبعضهم: هي شحم، وهو قول أحمد. وفي «المحيط»: حلف لا يأكلُ لحم الشاة، فأكل لحم العنز، وهو الأنثى من المَعِز، لا

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سورة النحل، الآية:(14).

(3)

سورة نوح، الآية:(19).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 275

ولا في: لا يشتري رُطبًا، فاشترى كِبَاسةَ بُسر فيها رُطَب. وحَنِث لو حلف: لا يأكل رُطَبًا أو بُسرًا، أو لا رُطبًا ولا بُسرًا، فأكلُ مُذَنِّبًا. أو: لا يأكل لحمًا، فأكل كَبِدًا، أو كَرِشًا، أو لحمَ خنزير، أو إنسان.

===

يحنث. وقال أبو الليث: يحنث سواء كان الحالف مصرياً أو قروياً، وعليه الفتوى. انتهى. وفيه نظر لا يخفى. (ولا) يحنث (في لا يشتري رُطباً، فاشترى كِبَاسة بُسر) بكسر الكاف: عنقود النخل، أي عِذْقه (فيها رطب) لأن ما اشتراه غير ما حلف عليه والقليل تبعٌ للكثير.

(وحنث) عند أبي حنيفة رحمه الله (لو حلف لا يأكل رُطباً أو) لا يأكل (بُسراً، أو لا) يأكل (رُطباً ولا بُسراً، فأكل مُذَنِّباً) بكسر النون. وقال أبو يوسف وهو قول الإصطخري: لا يحنث إذا حلف لا يأكل رطباً فأكل بُسراً مذنِّباً، أو حلف لا يأكل بُسراً فأكل رُطباً مُذَنِّباً، لأن الرطب المُذنِّب لا يسمى بُسراً عرفاً، والبُسر المُذنِّب لا يُسمى رطباً عرفاً وهو المُعتبرُ في الأيمان، ولأن المغلوبَ في مقابلةِ الغالبِ كالمعدوم.

ولأبي حنيفة وهو قول الشافعي وأحمد: إنْ أَكل الرُطب المذنِّب أو البُسر المذنِّب فهو آكل بسر أو رطب، فيحنث به وإن كان قليلاً. ولهذا لو ميَّزه فأكله لا يحنث إجماعاً. وجعل صاحب «الهداية» قول محمد مع أبي يوسف ـ وفي أكثر الكتب ـ أنه مع أبي حنيفة. وقيل: رُوي عن محمد الحِنْث وعدمه. والرُّطب المذنِّب ما يكون في ذَنَبِه قليل بسر، والبُسر المذنِّب عكسه.

(أو لا يأكل لحماً) عطف على: لا يأكل رُطباً، أي وحنث لو حلف لا يأكل لحماً (فأكل كَبِداً) أو طحالاً (أو كَرِشاً) والأصح في مذهب الشافعي أنه لا يحنث، وبه قال أحمد، لأن لهذه الأشياء أسماء تخصها، فلا تكون لحماً عرفاً. ولنا أنها لحم حقيقة، فإن نُموها من الدم، وتستعمل استعمال اللحم. وفي «المحيط»: هذا في عُرف أهل الكوفة، وفي عرفنا لا يحنث، لأنها لا تُعدّ لحماً، ولا تُستعمل استعمال اللحوم.

(أو) أكل (لحم خنزير، أو) لحم (إنسان) حنث وبه قال مالك وأحمد والشافعي في وجه، لأنه لحم حقيقة وإن كانت حراماً كالمغصوب. واليمينُ ينعقدُ على الحرام منعاً وحملاً، وإن وجب الحِنثُ في الحمل، بخلاف النذر بالمعصية، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا نَذْر في معصية الله»

(1)

. ونقل الزَّاهِدي عن العَتَّابي: أنه لا

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 1262 - 1263، كتاب النذر (26)، باب لا وفاء لنذر في معصية الله .. (3)، رقم (8 - 1641).

ص: 276

والغَدَاء: الأكلُ من طُلوع الفجر إلى الظهر، والعَشَاءِ منه إلى نِصف الليل، والسَّحُور منه إلى الفجر.

وفي: إن لبِستُ، أو أكلتُ، أو شربتُ، ونوى عينًا لم يُصدَّق أصلًا. ولو ضَمّ ثوبًا، أو

===

يحنث، لأن أكله ليس بمُتَعارف، ومبنى الأيمان على العرف. وقال: هو الصحيح. وفي «الكافي» : وعليه الفتوى. وما قيل: من أنّ العرف العملي لا يُقَيِّدُ اللفظ، فغير صحيح.

ولو أكل لَحْمَ الأَلية قيل: يحنث، وبه قال الشافعي وأحمد، وقيل: لا يحنث، وبه قال مالك. ولو أكل الرأس والأكارع يحنَث، وبه قال الشافعي في الأصح وأحمد في رواية. ولو أكل القلب يحنَث، وبه قال الشافعي في وجه، والله تعالى أعلم.

(والغَدَاء) أي وأكل الغداء (الأكل من طُلوع الفجر إلى الظهر، والعَشَاءِ) أي وأكل العَشَاءِ الأكل (منه) أي من الظهر (إلى نِصف الليل، والسَّحور) الأكل (منه) أي من نصف الليل (إلى الفجر) وإنما قدّرنا مضافاً لما في «المغرب» من أنّ الغداء: اسم لطعام الغدوة، والعَشَاء بالفتح والمد: اسم لطعام العشي، فلا يصح تفسيره بالأكل إلا إذا كان بمعنى المأكول. وأما السّحور فإن كان بضم السين فهو اسم للأكل في ذلك الوقت، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، وإن كان بفتحها فهو اسم لما يُؤكل، فيحتاج إليه.

وأما العِشاء بكسر العين فيراد به ما بعد الظهر، لما في الصحيحين من رواية أبي هريرة: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشاء، وفُسِّرت بأنها الظهر في بعض الروايات. وفي «شرح الطحاوي» للإِسبيجابي: وقت الغداء من طلوع الشمس إلى وقت الزوال، ووقت العشاء منه إلى أن يمضيَ أكثر الليل، ووقت السّحور من مُضي أكثره إلى طلوع الفجر، ثم قال: هذا في عرفهم، وأما في عرفِنَا: فوقت العِشاء من بعد العصر. انتهى. ولا يَبعُد أن يحمل يمين كل أحد على ما عُرِف من عادته، إذ قد يَختلفُ العُرف فيما بين أهل بلدته. ولو أكل اللقمتين أَوْ أكثر لا يحنث، حتى يأكل أكثر من نصف الشِّبَع، وبه قال الشافعي.

(وفي: إن لبِستُ، أو أكلت، أو شربت، ونوى عيناً) أي ثوباً معيناً، أو طعاماً معيناً، أو شراباً معيناً (لم يُصدَّق أصلاً) أي لا قضاءً ولا دِيَانة. وقال الشافعي: يُصدَّق ديانة وهو رواية عن أبي يوسف، ومختار الخَصَّاف. (ولو ضَمّ ثوباً) في إن لبستُ (أو

ص: 277

طعامًا، أو شرابًا دُيّن.

وتَصوُّر البِرِّ شَرْطُ صحةِ الحَلِف، خلافًا لأبي يوسف، فمَن حَلَف لأشربنَّ ماءَ هذا الكُوْز اليومَ، ولا ماءَ فيه أو كان فصُبَّ في يومه، لا يحنثُ. وإن أَطْلق عن الوقتِ فكذا في الأَوَّل دون الثاني. وفي نحو لَيَصْعَدَنَّ السماء، أو لَيَقْلِبَنَّ هذا الحجرَ، ذهبًا أو لَتَقْتُلَنَّ فلانًا عالمًا بِموتهِ انعقدَ لتصوُّرِ البِرِّ،

===

طعاماً) في إن أكلت (أو شراباً) في إن شربت (دُيّن) أي صُدِّق دِيَانة، لأن النَّكرة في حيز الشرط تَعم، فتصح نية التخصيص، ولا يُصدَّق قضاءً لأنه نوى خلاف الظاهر، وهو العموم، وفيه تخفيف عليه.

(وتَصوُّر البرِّ شَرْطُ صحة الحَلِف) عند أبي حنيفة ومحمد، وهو قول مالك، ووجه في مذهب الشافعي (خلافاً لأبي يوسف) وهو وجه في مذهب الشافعي، لأن محلَ اليمين خبرٌ في المستقبل قَدَر الحالف أو عَجَز. ولأبي حنيفة محل اليمين المعقودة خبرٌ فيه رجاء الصدق، لأنها تعقدُ للحظر أو الإيجاب، أو لإظهار معنى الصدق، وذلك لا يتحققُ فيما ليس فيه رجاء الصدق (فمَنْ حَلَف لأشربنَّ ماء هذا الكُوْز اليوم، ولا ماء فيه) سَواء عَلِمَ أنَّ فيه ماءً أو لم يعلم (أو كان) عطف على لا ماء، أي أو حلف لأشربنَّ ماء هذا الكوز اليوم وكان فيه ماء (فصب في يومه لا يحنث) عند أبي حنيفة ومحمد، لاستحالة البرِّ أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن البرَّ في المؤقت يجب أن يكون في آخر الوقت، وهو مستحيل فيه. ويحنث عند أبي يوسف في آخر جزء من أجزاء ذلك اليوم، حتى يجب عليه الكفّارة إذا مضى ذلك اليوم.

(وإن أطلق عن الوقت) بأن قال: لأشربنَّ ماء هذا الكوز بدون ذكراليوم (فكذا في الأول) أي لا يحنث فيما إذا لم يكن في الكوز ماء عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، لأن اليمين لم ينعقد لاستحالة البرَّ للحال، ويحنث عند أبي يوسف (دون الثاني) وهو ما إذا كان في الكوز ماء فصب، فإنه يحنث فيه باتفاق. أما عند أبي يوسف فظاهر، وأما عندهما فلأن البرَّ يجبُ عليه، كما فرغ من اليمين فإذا صب بعد ذلك فقد فات البرُ، فيحنث حينئذ، كما لو مات الحالف والماء باق.

(وفي) الحَلِفِ على ممكن غير واقع بحسب العادة (نحو لَيَصْعدنَّ السماء، أو لَيَقْلِبن هذا الحجر ذهباً، أو ليقتُلنَّ فلاناً عالماً بموته) لأنه حينئذٍ يُراد قتله بعد إحياء الله تعالى، وهو ممكن غير واقع (انعقد) يمينُه (لتصوُّر البِرِّ) في الجُملة، فإِنَّ الصعودَ إلى

ص: 278

وحَنِث للعَجْزِ، وإن لم يَعِلم فلا.

ومَدُّ شعرها وخَنْقُها، وعصُّها كضربها. وقُطنٌ مَلَكه بعد: إنْ لبِسْتُ من غَزْلِكِ فهديٌ، فَنَزَلتْه ونُسِجَ ولبِسَ هديٌ. وخاتَمُ ذهب حَلْيٌ لا خاتمُ فضة

===

السماء ممكنٌ، لأن الملائكة يصعدون، وكذا صَعِدَ بعضُ الأنبياء، وكذا يحوّلُ الحجرَ ذهباً بتحويل الله تعالى، وكذا قتل فلان الذي علم بموته بأن يعيد الله تعالى فيه الحياة (وحنث) عَقِيبها إن كانت اليمينُ مطلقةً، وإن كانت مؤقتة فعند مُضيّ ذلك الوقت (للعجز) الثابت عادة، كما إذا مات الحالفُ، وهو وجه في مذهب الشافعي، لأنه مستحيل عادة، فأشبَه المستحيلَ حقيقةً.

(وإن لم يعلم) بموته (فلا) ينعقدُ يمينُه، لأنه حينئذٍ يُراد به قتلُه مع تلك الحياة. ولمّا كان ميتاً كان قتلُه مع تلك الحياة ممتنعاً. وقال زفر: لا ينعقدُ اليمينُ في المسألتين إلحاقاً للمستحيلِ عادةً بالمستحيل حقيقة، للعجز عن تحقيق البرِّ في الصورتين. (ومدُّ شعرها) أي المرأة (وخنْقُها، وعصُّها كضربها) يحنث به إذا حَلَفَ لا يضربُها، لأن الضرْبَ اسم لفعل مؤلم وقد حصل، وبه قال أحمد. وقال الشافعي: لا يحنث. وقال مالك: يحنث به، وبما يؤلم قلبَها: من سبّ أو شتمٍ. وقيل: هذا مقيَّدٌ بحال الغضب، بخلاف حال الملاعبة، لأن ذلك حينئذٍ ممازحة.

(وقُطنٌ) مبتدأ (مَلَكه بعد) قوله: (إنْ لبِسْتُ من غَزْلِكِ فهديٌ) أي فهو صدقة على فقراء مكة (فَغَزَلتْه ونُسِجَ ولبِسَ هديٌ) خبر مبتدأ، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو قول الشافعي. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يكون هَدْياً إلا إذا غَزَلته من قطن في مِلْكِه يوم الحلف.

(وخاتمَ ذهبٌ حَلْي) بفتح وسكون: ما يُلبس للزينة، وجمعه حُلِيّ بضم فكسر فتشديد ياء. فحنث بلبسه إذا حَلَفَ لا يَلبَسُ حُلِياً، لأنه لا يُستعمل إلا للتزين، ولذا لا يحلُ للرجل، فكان كاملاً في معنى الحُلي، فدخل تحت اسمه (لا خاتَم فضة) أي ليس خاتم الفِضة بِحُلي، لأنه يُستعمل لغير التزيُّن، ولهذا حلّ للرجال، فلم يكن كاملاً في معنى الحُلي، فلم يدخل في مطلق اسمه. وفي «جامع قاضيخان»: قال مشايخنا إذا كان خاتم الفضة مصنوعاً على هيئة خاتم الرجال، بأن لم يكن فيه فص، حتى لو كان فيه فص حنث. انتهى. ولعله مقيدٌ بِفَصَ فيه زينة، وإلا فقد ثبت في شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خاتَمه له فَصٌّ.

ص: 279

وعندهما عقدُ لؤلؤٍ لم يُرصَّع حُلِيٌّ، وبه يُفْتَى.

ومن حَلَفَ لا ينامُ على هذا الفِرَاش، فَنَامَ على قِرَامٍ فوقه، حَنِثَ، لا مَنْ جَعَل فوقه فراشًا آخر، أو حَلَفَ لا يَجلِسُ على الأرض، فجلس على بِساطٍ، أو حصيرٍ.

ولو حالَ بينَه وبينها لباسه حنِثَ، كمن حَلَفَ لا

===

(وعندهما) وكذا عند مالك والشافعي وأحمد (عقدُ لؤلؤٍ) وياقوتٍ، وَزَبَرْجَدٍ، وزُمُردٍ وبَلَخْش

(1)

(لم يُرصّع) أي لم يركب بذهب وفضة (حُليّ) يحنث بلُبْسه إذا حلف لا يَلبَس حُلياً (وبه يُفْتَى) لأن التَّحلي به على الانفراد معتاد، ولقوله تعالى:{وتَسْتَخْرِجونَ منه حِلْيَةً تلبَسُونَها}

(2)

. وإنما يُستخرج من البحر اللؤلؤ. وقال أبو حنيفة: لا يَحنث، لأن العادة لم تَجْرِ بالتحلِّي باللؤلؤ ونحوه إلا مرصَّعاً، والمعتبر في اليمين العُرف لا الحقيقة. ولعل هذا اختلافُ عصر وزمانٍ لا حجةٍ وبرهان، فكان في زمانه لا يُتَحلَّى به إلا مرصعاً، وفي زمانهما تُعورِف التحلي بالسَّاذج

(3)

منه كالمُرَصَّع، ولهذا كان المفتى به قولهما.

(ومن حَلَفَ لا ينامُ على هذا الفِرَاش، فَنَامَ على قِرَامٍ) بكسر القاف: سِتْرٌ فيه رقم ونقش (فوقه) أي فوق الفراش (حَنِثَ) لأن القِرام تبعٌ للفِراش، فيُعدّ بنومه عليه نائماً على الفِرَاش (لا) يحنثُ (مَنْ جَعَل فوقه) أي فوق الفراش (فراشاً آخر) لأنه لا يعد نائماً على الفراش الأسفل. وقال أبو يوسف: يحنَث، وبه قال الشافعي، لأنه نائم عليهما حقيقة وعرفاً. وصار كمن حلف لا يكلم فلاناً فسلَّم على جَمْع هو فيهم.

ولنا أنّ مثل الشيء لا يكون تبعاً له، فانقطعت النِّسبة عن الفراش الأول، فكان نائماً على الثاني، وصار كمن فرش ثوباً على فراش حرير، فقعد عليه حيث لا يحرم عليه، ويؤيده أيضاً قوله:(أو حَلَفَ) أي ولا يحنَث مَنْ حلف (لا يَجلِسُ على الأرض فجلس على بِساطٍ أو حصيرٍ) فوقها، لأنه لا يُسمى جالساً على الأرض عادة (ولو حالَ بينه وبينها لباسه حنِثَ) لأن لباسَه تبع له، فلا يعتبر حائلاً (كمن حَلَفَ لا

(1)

قال الزَّبِيدي في "تاج العروس" 17/ 70: "بَذَخْشَان، ويقال: بَذَخْشُن، وهذه بلدة في أعلى طَخَارسْتَان، والعامة يسمُّونها بَلَخْشَانَ، بينها وبين بلخ ثلاث عشرة مرَحلة

وفي جبالها معادِن البَلَخْشِ واللّازَوَرْدِ.

(2)

سورة فاطر، الآية:(12).

(3)

السَّاذج: الخالص غير المشوب وغير المنقوش. المعجم الوسيط ص: (424).

ص: 280

يجلسُ على هذا السرير، فجلس على بِسَاط فوقه، بخلاف جُلوسِهِ على سرير آخر فوقه. ولا يفعلْه يقعُ على الأبد، ويفعَلْه على فعله مرةً.

وبـ: عليَّ المَشي إلى بيتِ الله، أو إلى الكعبةِ يجبُ حجٌ أو عمرةٌ مشيًا، ويجبُ دمٌ إن رَكِبَ، ولا شيء بـ: عليّ الخروجُ أو الذهابُ إلى بيتِ اللهِ،

===

يجلسُ على هذا السرير، فجلس على بِسَاطٍ فوقه) فإنه يحنث، لأنه يُعدّ جالساً على السرير عادة (بخلاف جُلوسِهِ على سرير آخر فوقه) فإنه لا يحنَث، لأنه لا يُعد جالساً على السرير الأسفل (ولا يفعلْه يقعُ على الأبد) أي آخر عُمُرِه، لأنه نفى الفعلَ مطلقاً، فيقتضي عدمه في جميع العمر، ضرورة عموم النفي، إذ وجوده في جزء منه ينافي العدم في جميعه.

(ويفعَلْه) يقع (على فعله مرةً) واحدةً، لأن الفعل يقتضي مصدراً مُنكّراً، والنَّكرةُ في النَّفي تعم، وفي الإثبات تخص. والواحد هو المُتَيقَّن لعدم اقتضائه التكرار.

وإنما يحنث بوقوعِ اليأس عن الفعل، وذا بهلاك الفاعل أو محل الفعل (وبـ: عليَّ المَشي إلى بيت الله، أو إلى الكعبة) أو إلى مكة، وقول الشارح: أو بمكة ليس في محله: ولعله بكة فتصَحَّفَت على النُّساخ (يجبُ حجٌ أو عمرةٌ مشياً) وبه قال مالك وأحمد والشافعي في قول. والقياس أن لا يجب عليه شيء لأنه التزم المشي وهو ليس بقُربة مقصودة، والنذر بما ليس بقربة مقصودة غير لازم. ووجه الاستحسان أن هذه العبارة كنايةٌ عن إِيجاب الإحرام شرعاً، فصار كما لو قال: عليّ الإحرام بحجةٍ أو عُمرةٍ ماشياً.

(ويجبُ دمٌ إن رَكِبَ) لما روى الحاكم في «مستدركه» وقال: صحيح الإسناد عن الحسن، عن عِمران بن حُصين قال: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المُثْلة، وقال:«إن من المثلة أن ينذرَ الرجلُ أن يحج ماشياً، فمن نذر أن يحجَ ماشياً فليُهد هدياً. وروى أحمد في «مسنده» عن عِكْرمة عن ابن عبّاس: أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«إن الله عز وجل غنيٌ عن نذر أختك لتركب وتلهد بدنة» . وقد سبق تحقيق هذا البحث في كتاب الحج.

(ولا شيء بـ: عليّ الخروج أو) عليّ (الذهاب) أو السفر، أو المُضي، أو السير (إلى بيت الله) باتفاق أئمتنا، لأن التزام الإحرام بهذه الأَلفاظ غير متعارف. وقال الشافعي وأحمد، وهو رواية أشْهَب عن مالك: يلزمه الحج والعمرة كما في: عليّ

ص: 281

أو المَشْيُ إلى الحرامِ، أو المسجدِ الحرامِ، أو الصَّفَا والمَرْوةِ.

ولا يَعتِق عبدٌ قيل له: إن لم أحجّ العامَ فأنت حُرٌّ، فَشَهِدا بِنَحْرِهِ بكوفة.

حَنِثَ بصومِ سَاعةٍ في: لا يصوم،

===

المشيُ إلى مكة، (أو المشي) أي ولا شيء بـ: عليّ المشي (إلى الحرام أو) إلى (المسجد الحرام) عند أبي حنيفة، لأن التزام الإحرام غير متعارف بهذا الكلام. وقال أبو يوسف، ومحمد، ومالك، والشافعي، وأحمد: يلزمه الحج والعُمرة، لأن الحرم والمسجد الحرام شامل للبيت، فكان ذكرُه كذكرِهِ.

(أو) إلى (الصفا والمروة) أو بقعة أخرى من الحرم كالمُزدلفة، وعرفات ومنى باتفاق أئمتنا. وبه قال مالك لما تقدم. وقال الشافعي وأحمد وأَصْبَغ من المالكية: يلزمه المشيُ إليها بحج أو عمرة. ولو نَذَر المشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى المسجد الأقصى لا شيء عليه، وهو قول الشافعي في «الأم». وقال مالك وأحمد: ينعقد نذره، وهو قول الشافعي، لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تُشدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا»

(1)

. ولنا أنهما لا يُقصدَان بالنُّسك، فأشبها سائر المساجد. والمقصود من الحديث تخصيص القُربة وفضيلتها في هذه المساجد.

(ولا يَعتِق) عند أبي حنيفة وأبي يوسف (عبد قيل له) أي قال السيد له: (إن لم أحجّ العامَ فأنت حر) ثم قال السيد: حججت، وأنكر العبد وأتى بشاهدين (فَشَهِدا بِنَحْرِهِ) أي بأن السيد نحر أضحية (بكوفة) وقال محمد: يعتق، لأن هذه شهادة قامت على أمر معلوم وهو التضحية، ومن ضرورته انتفاء الحج، فيتحققُ الشرط. ولهما: أن هذه شهادة على النفي، فلا تقبل، كما شهدا أنه لم يحج.

(وحَنِثَ بصومِ سَاعةٍ) ثم أفطَرَ (في: لا يصوم) لوجود الشرط وهو الإمساك عن المفطرات مع النية على قصد التقرب، فإذا أصبح صائماً فقد وجد ذلك. ولذا يقال: صام فلان ساعة ثم أفطر. ووجود الإفطار بعد ذلك لا يرفع الحِنْث المتقرر.

وفي «شرح الوقاية» : فإن قلت: الصوم الشرعي: هو صوم اليوم، واللفظ إذا كان له معنى لغوي ومعنى شرعي يُحمل على المعنى الشرعي. قلت: الشرع قد أطلقه على

(1)

أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 2/ 1014، كتاب الحج (15)، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (95)، رقم (511 - 1397).

ص: 282

لا لو ضمّ يومًا أو صومًا حتى يَتمّ يومًا. وبركعةٍ في: لا يُصلي، لا بما دونها، ولو ضمَّ صلاةً فَبِشَفعٍ، لا بأقل. وبولد ميْتٍ في: إن ولدت فأنت كذا. وعَتَقَ الحيُّ في: إن ولدْتِ فهو حرٌ، إن ولدْتِ ميتًا ثم حيًّا. وفي: لَيَقْضِيَنَّ دينَه اليومَ وقضاه زُيُوفًا، أوَ نَبَهْرَجةً،

===

ما دون اليوم في قوله تعالى: {أتمو الصيامَ إلى الليل}

(1)

. انتهى. ولا يخفى أن الصيام الشرعي لكونه مغياً إلى الليل لا يتم بدون اليوم. (لا) أي لا يحنث (لو ضمّ يوماً أو صوماً) أي بأن حَلَفَ لا يصومُ يوماً، أو لا يصومُ صوماً (حتى يتم يوماً) لأنه في الأول ذكر اليومَ وهو صريح في تقدير المدة، وفي الثاني أكَّد الصومَ، ينصرف إلى الكامل، وهو الصوم المعتبر شرعاً، وبه قال مالك والشافعي وأحمد.

(و) حَنِثَ (بركعة في: لا يصلي) واختلف المشايخ فقال بعضهم: يحنث بالسجدة، وقال بعضهم: برفع الرأس منها (لا بما دونها). والقياس أن يَحنَثَ بالافتتاح اعتباراً بالشروع في الصوم. ووجه الاستحسان أن الصلاة عبارة عن: القيام، والقراءة، والركوع، والسجود، فما لم يتحقق كلها لم يُسم صلاة، ألا ترى أنه لا يقال: صلى رُكوعاً ولا سجوداً، وإنما يقال: صلى ركعة. (ولو ضم صلاة) بأن حَلَفَ لا يُصلي صلاة (فَبِشَفعٍ) يحنث (لا بأقل) لأنه أكّد الصلاة، فتنصرف إلى الكاملة، وأقلها عندنا ركعتان للنهي عن البُتيراء. وقال الشافعي في قول، وأحمد في رواية: يحنث بركعة، لأن الركعة الواحدة صلاة عندهما، وقالا أيضاً: يحنث بالشروع، لأنه يُسمى مصلياً.

(و) حنث (بولد ميْتٍ في: إن ولدت فأنت كذا) لأن الولد الميْتَ ولدٌ حقيقةً وعرفاً وشرعاً، ولهذا تنقضي به العدة، ويكون الدم الذي بعده نِفاساً، وتصير الأمة به أمَ ولدٍ (وعَتَقَ الحي) عند أبي حنيفة (في: إن ولدْتِ فهو حرٌ إن ولدْتِ ميتاً ثم حيًّا) وقال أبو يوسف ومحمد: لا يعتق، لأن الشرط قد تحقق بولادة الميت، فتنحل اليمين لا إلى جزاء، لأن الميتَ ليس بمحلٍ للحُرية وهي الجزاء. ولأبي حنيفة رحمه الله: أنه لما جعل الحريةَ وصفاً للمولودِ، تقيد اليمينُ بولادةِ الحيّ، نظراً إلى هذا الوصف، إذ الميت لا يقبله. وأن الحياة تثبتُ فيه مقتضىً، صوناً لكلام العاقل عن اللغو، ألا ترى أنه لو قال: إن ولدْتِ ولداً ميْتاً فهو حر كان لغواً.

(وفي لَيَقْضِيَنَّ دينَه اليومَ) كلمة «في» متعلقةٌ بالفعل المتأخِرِ، وهو قوله الآتي:«بَرَّ» (وقضاه زُيُوفَاً أو نَبَهْرَجةً) الزُّيوف: ما زيّفه بيت المال، ولكنه يروج فيما بين

(1)

سورة البقرة، الآية:(187).

ص: 283

أو مُستَحقَّة، أو باعه به شيئًا وقبضَه، بَرَّ. ولو كان سَتُّوقة أو رَصَاصًا أو وهب له لا.

وفي: لا يقبِضُ دَينَه درهمًا دون درهمٍ، حَنِثَ بقبضِ كُلِّه متفرقًا، لا بِبَعْضِه دُوْنَ باقيه

===

التجار. والنَّبَهْرجة: ما يُبهرِجُه التُّجار. والمُسامحُ منهم يتجوَّزه، والمُسْتقضي منهم لا يتجوَّزه لغشٍ فيه.

(أو) قضاه (مُستحقة) للغير (أو باعه) أي المديون الدائن (به) بدينه (شيئاً وقبضَه) أي الدائنُ ذلك الشيء (بَرَّ) في يمينه، لأن الزُّيوفَ والنَّبَهْرجةَ دراهم حقيقة، إلا أنها معيبة، والعَيْب لا يُعدِمُ الجنسية، ولهذا لو تجوّز بهما صار مُستوفياً، وكذا لو تجوّز بهما في رأس مال السَّلَم وبدل الصرف يجوز، ولولا أنهما من جنس حقه لما جاز، ولأن قبضَ الدراهمِ المُستحقة صحيح، حتى لو أجازه المستحق في الصرف والسلم بعد الافتراق جاز، ولأن قضاء الدَّين طريقه المُقاصّة، وقد تحققت بمجرد البيع. وهذا لأن الديون تُقضى بأمثالها. وقال الشافعي: يبر في النَّبهرجةِ والزُّيوفِ، ولا يبر في البيع.

وقال مالك: لا يبر فيهما، ويبر في البيع إن كان بقيمة حقه، ويحنثُ إن كان بأقل منها.

(ولو كان) الذي قضاه بأن ظَهَرَ المدفوع (سَتُّوقة) بفتح السين، أردأ من النَّبهرجة (أو رُصاصاً) بضم أوله

(1)

(أو وهب له) أي وهب الدائنُ الدين للمديون (لا) يبر، لأن السَّتُّوقة والرُّصاص ليسا من جنس الدراهم، ولهذا لو تَجَوَّز بهما لم يجز إلا برضا الآخر بطريق الاستبدال. ولو تَجَوَّز بهما في الصرف والسَّلَم. لا يجوز لحرمة الاستبدال فيهما، حتى لو افترقا يَبطُل العقد والتَّجوُّز لغوٌ، لأن القضاءَ فعل المديون، والهبة إسقاط من رب الدين، فلا قضاء.

(وفي: لا يقبِضُ دَينَه درهماً دون درهمٍ، حَنِثَ بقبضِ كُلِّه متفرقاً) لوجود شرط الحِنْثِ، وهو قبضُ الكل بوصف التَّفرقة، لأنه أضاف القبضَ إلى دينٍ مُعرَّف بالإضافة إليه، فيتناول كله (لا ببعضه) أي لا يحنثُ بقبض بعضِ دينه (دُوْنَ باقيه) حتى يقبِضَه، لعدم وجود الشرط، وهو قبضُ الكل بوصف التَّفرقة إذا لم يَقبض باقيه، ووجود الشرط إذا قبض باقيه، فإذا قبضَ بعضه في أول النهار وبعضه في آخره حِنث

(1)

الذي في لسان العرب 7/ 41 و "تاج العروس" 17/ 596، (رصص) خلاف هذا الضبط، حيث ضبطاها بالفتح، فاقتضى التنبيه.

ص: 284

أو كُلّه بوزنين لم يَتَخلَّلهما إلا عَمَلُ الوزن.

ولا في إن كان لي إلا مئة، فكذا ولم يملك إلا خمسين، ولا في لا يَشَمُّ ريْحَانًا إن شمّ وردًا أو ياسمينًا والبَنَفسج والورد على الوَرَقِ.

===

لوجود الشرط (أو كله) أي ولا يقبض كله (بوزنين) أو أكثر (لم يتخللهما) عمل (إلا عمل الوزن)، وقال زفر: يحنث في هذه الصورة لوجود التفريق حقيقةً.

ولنا أن هذا لا يُعد تفريقاً في العادة، فصار كمن حلف لا يَلبَسُ هذا الثوب، وهو عليه، فنزعه في الحال، ولأنه قد يتعذرُ وزنُ الكلِّ دُفعة واحدة، فيصير هذا القَدْر مستثنى من اليمين.

(ولا) يحنث (في إن كان لي إلا مئة) أو غير مئة، أو سوى مئة (فكذا) أي فعبده حر مثلاً (ولم يملك إلا خمسين) أو ما هو دون المئة، لأن المقصود من هذا اليمين في العُرْف نَفْيُ ما زاد على المئة، فلا يحنث بِمِلكها أو بِمِلك بعضها. (ولا) يحنث (في لا يَشَمُّ ريحاناً إن شمّ ورداً أو ياسميناً) لأن الرَّيحان اسم لما تكون لساقه رائحة طيبة، والورد لما تكون لورقه رائحة طيبة لا لساقه، والياسمين ليست لساقه رائحة طيبة كذا في «المبسوط» .

وقيل: «لا يحنث بشم الورد والياسمين لأنهما من جملة الأشجار. والريحان اسم لما ليس له شجر، ألا ترى أن الله تعالى قال:{والنَّجمُ والشَّجرُ يسجدان} إلى قوله: {والحبَّ ذُو العَصْفِ والرَّيْحَان}

(1)

فقد جعل الرَّيحان غيره، فعرفنا أن ما له شجر ليس بريحان وإن كان له رائحة طيبة. (وكذا في العرف لا يُطلق اسم الرَّيحان على الورد والياسمين، وإنما يُطلق على ما نبت من بَذْر وله رائحة طيبة مما لا شجر له)

(2)

.

(والبَنَفسج) بفتح الباء (والورد) محمولان (على الوَرَقِ) لا على دهنهما، حتى لو حلف لا يشتري بَنفسجاً أو ورداً ولا نية له فاشترى ورقَهما يحنث، ولو اشترى دهنهما لا يحنث للعرف. وقيل: يختص الحِنْثُ بشراء دُهنه، والياسمين كالورد لا يتناول الدُّهن، لأن دُهنه لا يُسمى ياسميناً بل زنبقاً.

(1)

سورة الرحمن، الآية:(12).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 285

‌فَصْلٌ في حَلِفِ القَوْلِ

حنث في: لا يكلِّمُه إن كلّمه نائمًا، بشرطِ إيقاظِه

===

فصلٌ في حَلِفِ القول

(حنِث في: لا يكلِّمُه إن كلّمه نائماً) وبه قال الشافعي وأحمد ومالك في رواية (بشرط إيقاظه) أي بتكليمه، لأن النائم كالغائب، فإذا لم ينتبه كان بمنزلة من ناداه من بعيد، بحيث لا يَسمعُ صوتَه فلا يحنث، وإذا انتبه علمنا أنه أسمعه صوتَه، فيكون مكلِّماً له، فإن ناداه نائماً بحيث يسمع لو كان منتبهاً لا يحنث في الأظهر. وقيل: هو على الخلاف، فعند أبي حنيفة يحنث لأنه يجعلُ النائمَ كالمنتبه، وعندهما لا يحنث.

ولو كتب إليه كتاباً، أو أرسل إليه رسولاً لا يحنث، وبه قال الشافعي في الجديد واختاره المُزَنيّ، لأنه لا يُسمى كلاماً في العُرف. وقال مالك وأحمد والشافعي في القديم: يحنث، لأن الله تعالى استثنى الرسالة من الكلام فقال:{وما كان لبَشرٍ أن يُكلِّمَه الله إلا وحياً أو مِنْ وراء حجابٍ أو يُرسلَ رسولاً}

(1)

والاستثناء إخراج من الجنس. وأُجيبَ بأن مبنى الأَيمان على العرف. والآية جاز أن يكون الاستثناء فيها منقطعاً.

ولو ناداه المحلوفُ عليه فقال: لبيك، يحنث. ولو سلّم في الصلاة والمحلوف عليه معه فيها، قيل: إن كان المحلوف عليه على يمينه لا يحنث، وإن كان على يساره يحنث

(2)

، لأن الأولى واقعة في الصلاة، بخلاف الثانية. وقيل: لا يحنث في المسألتين وهو الصحيح، لأنه من أفعال الصلاة وليس بكلام عُرفاً. وإن كان الحالف مقتدياً فعلى هذا التفصيل عندهما. وعند محمد يحنث، سواء كان على يمينه أو يساره، بناء على أنه يخرج بسلامِ الإمام عنده، وبه قال مالك. والأظهر عند الشافعي أنه يحنث بالسلام في الصلاة على أي حال كان إلا أن لا ينويه. ولو قرع المحلوف عليه الباب فقال (الحالف

(3)

): من هذا، يحنث. ولو فتح عليه في الصلاة لا يحنث، وخارجها يحنث، كذا أطلقوه. والظاهر أنه يُقيد بما إذا نوى الفتح دون القراءة.

(1)

سورة الشورى، الآية:(51).

(2)

عبارة المخطوط: "وإن كان على يساره يحنث وعن محمد لا يحنث في التسليمتين

".

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

ص: 286

وفي: لا يُكلمه إلا بإذنه، إن أذِنَ ولم يعلم به فكلَّمه.

وفي: لا يكلمُ صاحبَ هذا الثوب، فَبَاعه وكَلَّمه. وفي: لا يُكَلِّم هذا الشاب فكلَّمه شيخًا. وفي: هذا حُرٌّ إن بِعْتُه أو اشتريته، إن عَقَد بالخِيار

===

(و) حَنِثَ (في لا يُكلمه إلا بإذنه، إن أذِنَ ولم يعلم به فكلَّمه) وهو قول مالك وأحمد ووجه في مذهب الشافعي، لأن الإذن من الأذان وهو: الإعلام لغةً، قال الله تعالى:{وأَذَانٌ من اورسولهِ}

(1)

أي إعلام. أو من الوقوع في الإذن، وكل ذلك لا يتحقق إلا بعد العلم. وقال أبو يوسف في رواية: لا يحنث، وهو الأظهر من مذهب الشافعي، لأن غرضه أن لا يكلِّمَه إلا برضاه

(2)

فرضي ولم يعلم الحالف، فكلمه لا يحنث، فكذا هذا. وأُجيب بأن الرضا من أعمال القلب فيتم به، ولا كذلك الإذن.

(و) حَنِثَ (في: لا يكلمُ صاحبَ هذا الثوب، فَبَاعه وكَلَّمه) لأن الإنسان لا يُعادي لمعنى في ثوبه، فتعلقت اليمين به. وصار كما لو قال: لا أكلم هذا وأشار إلى صاحب الثوب، كذا قاله الشارح. وفيه أن الإنسان قد يعادي لمعنى في ثوبه، بأن لبس مغصوباً أو حريراً أو نحو ذلك، إلا أنه يحنث، لأنه ببيعِهِ لا يخرجُ عن كونِهِ صاحبَ الثوب في الجملة، على أن مَبْنَى الأيمان على عُرْف الأزمان.

(و) حَنِثَ (في: لا يكلم هذا الشاب فكلَّمه) وقد صار (شيخاً) أو كهلاً، لأن الوصف المذكور ليس بداعٍ إلى اليمين، ولا يَصلُح مانعاً من الكلام، فيلغو ويتعلق اليمين بالذات.

(و) حَنِثَ (في هذا حر إن بعته) مشيراً إلى عبده، فعتق ببيعِهِ بيعاً فاسداً، أو موقوفاً، أو بالخيار لنفسه، وبه قال مالك والشافعي في وجه، لوجود شرط العتق الذي هو البيع. وقال أحمد: لا يعتق. وأما إن باعه بيعاً لازماً أو باطلاً لم يعتق. أما في الباتِّ فلأنه كما تم البيع زال الملك، (والجزاء لا ينزل في غير الملك)

(3)

، وأما في الباطل فلعدم الشرط وهو البيع، إذ الباطل ليس ببيع. (أو) هذا حرٌّ إن (اشتريته، إن عقد) شِرَءاه (بالخيار) لنفسه، وبه قال أحمد والشافعي في وجه. وقال مالك: لا يعتِق وهو

(1)

سورة التوبة، الآية:(3).

(2)

عبارة المطبوع: لا يكلمه إلا برضاه، وهو لو حلف لا يكلمه إلا برضاه فرضي

وما أثبتناه عبارة المخطوط، وهو الصواب.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 287

وفي: إن لم أَبِعْه فكذا، فأعَتَق أو دبَّر.

وبِفِعْل وكيلِهِ في حَلِفِ النِّكاح، والطَّلاق، والخُلع، والعِتقِ، والكتابةِ، والصُّلْحِ عن دمِ عمدٍ، والهبةِ، والصَّدقةِ، والقرْضِ، والاستقراض، والإيداعِ، والاستيداعِ، والاستعارة، والإعارة، والذَّبْح، وضَرْب العبد، وقضاءِ الدين وقبضِه، والبناءِ، والخياطة، والكِسوة، والحمل، لا في البيع والشراء، والإجارةِ، والاستئجارِ، والصُّلحِ عن مال، والخُصومةِ، والقِسمةِ، وضَرْب الولد.

===

وجه في مذهب الشافعي.

(و) حَنِثَ (في إن لم أبعه فكذا، فأعتق أو دبَّر) لأن الشرط قد تحقق وهو عدم البيع لفوات محله، كما لو مات الحالف أو العبد، ولا خلاف فيه على الصحيح. (و) حَنِثَ (بفعل وكيلِهِ في حَلِفِ النكاح، والطلاق، والخُلع، والعِتقِ، والكتابةِ، والصلحِ عن دمِ عمدٍ، والهبةِ، والصدقة، والقرْضِ، والاستقراض، والإيداعِ، والاستيداعِ، والاستعارة، والإعارة، والذبح، وضرب العبد، وقضاءِ الدين وقبضه، والبناءِ، والخياطة، والكِسوة، والحمل) لأن ما كان من هذه الأشياء حكمياً أي غير حسي، كان الوكيل فيه سفيراً ومعبِّراً، ولذا لا يُستغنى عن إضافتها إلى الموكِّل، ولو باشَرَه بغير إِذنه لا ينفذ عليه، فصارت مباشرة الوكيل كمباشرته.

وما كان منها حسياً كذبح الشاة وضَرْب العبد، فإن المالك له ولاية ذلك ومنفعته راجعةٌ إليه، فيُجعل مباشِراً، إذ لا حقوقَ لهذا الفعل ترجع إلى المأمور. ولو قال الحالف في الحكمي: نويت أن لا أفعل ذلك بنفسي صُدِّق دِيَانةً، لأنه نوى محتمل كلامِهِ، لا قضاءً، لأنه نوى خلاف الظاهر وهو العموم. ولو قاله الحالف في الحسي صدق دِيَانةً وقضاءً، لأن النسبة إلى الأمر باعتبار السبب

(1)

مجاز، فإذا نوى الفعل بنفسه فقد نوى حقيقة كلامه.

(لا في البيع) أي لا يحنثُ بفعل وكيله في حلف البيع (والشراء، والإجارةِ، والاستئجارِ، والصُّلحِ عن مال، والخُصومةِ، والقِسمةِ، وضرب الولد) لأن الفعل لم يوجد من الموكل حقيقةً ـ وهو ظاهرٌ ـ ولا حكماً، ولهذا لم ترجع الحقوق إليه، بل إلى الوكيل. فلو قال: نويت أن آمر به غيري حَنِثَ بالتوكيل أيضاً، لأنه شدّد على نفسه. ولو كان مِثلُ الحالف لا يُباشر هذه الأشياء يحنث بالأمر، لأن اليمينَ يتقيد

(1)

في المخطوط: "التسبب" بدل "السبب".

ص: 288

ولا في: لا يتكلمُ فقرأ القرآنَ، أو سبَّح، أو هَلَّل، أو كَبّر في صلاِته أو خارجها. ويوم أُكَلِّمُه على المَلَوين. وصحَ نِيَّةُ النهار، وليلة أُكَلِّمُه على الليل. وإلا أنْ للغايةِ كحتّى،

===

بالعرف وبمقصودِ الحالف. والفرق بين ضرب العبد وضرب الولد أنّ الضربَ فعلٌ حِسيٌ لا يحكم بنقله عن الوكيل إلى الموكِّل إلا إذا صح التوكيل. وصحة التوكيل تكون في الأموال، فيصح في العبد دون الولد، ألا ترى أنَّ من حلف لا يضرب رجلاً حراً، فأمر به فضُرِبَ لا يحنث، لأنَّه لا يَمْلِكُ ضربه، فلا يصحُ أمره، إلا أن يكون الآمر قاضياً أو والياً، لأنهما يملكان ضَرْب الأحرار حداً أو تعزيراً.

(ولا) يحنث (في) حلفه (لا يتكلمُ فقرأ القرآن، أو سبح، أو هلل، أو كبر في صلاته) اتفاقاً (أو خارجها) وهو اختيار شيخ الإسلام خواهر زاده وقول أحمد، لأنه لا يُعد متكلماً في العُرف بل قارئاً. والقرآن كلام الله تعالى، قال الله تعالى:{حتى يسمعَ كلامَ الله}

(1)

أو مسبحاً أو مهللاً، أو مكبِّراً. ولا في الشرع، لقوله صلى الله عليه وسلم «إنَّ الله يُحدِث من أمره ما يشاء، وإنّ مما أحدثَ أنْ لا يُتَكلَّم في الصلاة» . متفق عليه. واختار القُدُوري: أنه إذا قرأ في الصلاة لا يحنث، وإذا قرأ خارجها يحنث. وقال الشافعي: لا يحنث بقراءة القرآن في الصلاة وخارجها، ويحنث بالتسبيح، والتهليل، والتكبير في الصلاة وخارجها.

(ويوم أُكَلِّمُه) محمولٌ (على المَلَوين) أي الليل والنهار لما تقدم في كتاب الطلاق من أن اليوم إذا قُرِن بغير ممتد يُراد به مطلق الوقت، ومنه قوله تعالى:{ومن يُولِّهم يومئذٍ دُبُرَه}

(2)

(وصحَ نِيَّةُ النهار) دِيَانةً وقضاءً، لأنه نوى الحقيقة المستعملة. وعند أبي يوسف: لا يصح قضاءً، لأنه نوى التخصيص في كلامه، وفيه تخفيفٌ عليه. (وليلة أُكَلِّمُه على الليل) خاصة، لأن الليل ضد النهار، قال الله تعالى:{وهو الذي جَعَلَ اللَّيْل والنَّهار خِلْفَةً}

(3)

والنهار مختصٌ بزمانِ الضوء، فيكون الليلُ مختصاً بزمان الظلمة. (وإلا أنْ للغاية كحتّى) لأن حقيقة «إلا» للاستثناء وهو متعذر فيها هنا مع أن لعدمِ مجانسةِ ما بعدها لما قبلها، وبين الاستثناء والغاية مناسبة من حيث إِنْ ما بعدهما مخالفٌ لما قبلهما.

(1)

سورة التوبة، الآية:(6).

(2)

سورة الأنفال، الآية:(16).

(3)

سورة الفرقان، الآية:(62).

ص: 289

ففي: إن كلَّمتُه إلا أنْ يَقْدُمَ زيدٌ، أو حتى، حَنِثَ إن كلَّمه قبل قُدُومِهِ.

وفي: لا يُكلِّم عبدَه أو امرأته أو صديقَه، أو لا يدخل دَارَه إن زالت إضافَتُه وكلّمَه، لا يحنَث في العبد.

أَشار إليه بهذا أولًا، وفي غيره إن أشار بهذا حَنِثَ، وإلا فلا. وحينٍ وزمانٍ بلا نية نِصفُ سَنة، نَكَّرَ أو عَرَّف

===

(ففي إن كلَّمتُه إلا أنْ يقدم زيد أو حتى) يقدم زيد (حَنِثَ إن كلَّمه قبل قُدُومِهِ) لا إن كلَّمه بعد قدومه، لأن اليمينَ باقيةٌ قبل الغاية ومنتهية بعدها (وفي لا يكلم عبده) أي عبد فلان أو عبد نفسه (أو امرأته أو صديقه) بخلاف قوله: زوجة فلان أو صديقه كما في «المبسوط» ، (أو لا يدخل داره) أو لا يأكل طعامه، أو لا يلبَس ثوبه، أو لا يركب دابته (إن زالت إضافته) ببيعِ العبد والدارِ ونحوهما، وبطلاق المرأة، وعداوة الصديق (وكلّمَه، لا يحنَث في العبد) ونحوه مما هو مُشتملٌ على إضافة مِلكٍ، كالدار في لا يدخل داره، والطعام في لا يأكل طعامه.

(أَشار إليه بهذا أولاً) لأن شرط الحِنث كلامه لعبد مملوكٍ لمن أضيف إليه ولم يوجد. أما إذا لم يُعيِّن العبد بإشارته أو غيرها فظاهر وهو وفاقاً، وأما إذا عَيَّنه فلأَن العبد لسقوط منزلته لا يُعادى لذاته، بل لِمَنْ أضيف إليه، فتكون الإضافة فيه معتبرة، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد وزُفَر: يحنث في المعيَّن، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، لأن الإشارة لقطعها شركة الأغيار أبلغ من الإضافة، فاعتبرت ولغت الإضافة، وانعقدت اليمينُ على ذات العبد. (وفي غيره) أي وفي غير العبد مما هو مشتمل على إضافة نسبة كامرأته وصديقِهِ (إن أشار بهذا) أو بهذه أو عَيّن (حَنِثَ) لأن الحرَ يُهجر لذاته (وإلا) أي لم يشر ولم يُعين (فلا) أي فلا يحنث، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يحنث.

(وحينٍ وزمانٍ بلا نية نِصفُ سَنة) سواء (نَكَّرَ) بأن قال: لا أكلمُه حيناً أو زماناً (أو عَرَّف) بأن قال: لا أكلمُه الحين أو الزمان، وبه قال أحمد. وقال مالك: سنة. وقال الشافعي: أدنى مدة، وهو ساعة، لأنه المُتيقَّن.

ولنا أن الحين يطلق على الساعة، قال الله تعالى:{فسبحانَ احِينَ تُمسونَ وحينَ تُصبحونَ}

(1)

(وبه أخذ الشافعي)

(2)

. وعلى أربعين سنة، قال الله تعالى: {هل

(1)

سورة الروم، الآية:(17).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 290

ومعها ما نوى. والدَّهْر لم يُدْر مُنكَّرًا، وللأبد معرَّفًا، وأَيام مُنكَّرة ثلاثةٌ، وأيام كثيرة، والأيام، والشهور عشرة.

وفي: أَوّلُ عبدٍ أشتريه حرٌّ، إنْ اشترى عبدًا عتَقَ، وإن اشترى

===

أَتَى على الإنسانِ حينٌ من الدَّهر}

(1)

والمراد بالإنسان آدم، وبالحين أربعون سنة، وهي مدة كونِه مُلقى بين مكة والطائف، حال كونه من طين إلى أن تنفخ فيه الروح، وفسره بعضهم بِسَنة، وبه أخذ مالك.

وعلى ستة أشهر. قال الله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلها كلّ حين}

(2)

قال سعيد بن جُبير، وقَتَادة، والحسن، وهو رواية عن ابن عباس: هي النخلة تمكث من الأطلاع إلى الأصرام ستة أشهر، فحملناه عليه لأنه الوسط، فإِنَّ خيرَ الأمور أوسطها، والزمان بمعناه.

(ومعها) أي ومع النية (ما نوى) مُنكَّراً أو معرَّفاً، لأنه نَوى محتملَ كلامه. (والدهر لم يُدْر) عند أبي حنيفة، أي تتوقف فيه حال كونه (مُنكَّراً) قال: لا أدري ماهو في حكم التقدير، لأن الدهر مخالف للحين والزمن، إذ مُعَرَّفِهِ يقع على الأبد، بخلاف الحين والزمان، فلم يلحق بهما قياساً. والعُرف لم يعرف استمراره لاختلاف في الاستعمال، قال الله تعالى:{وما يُهلِكُنا إلا الدَّهر}

(3)

، وقال صلى الله عليه وسلم «لا تَسبُوا الدهر، فإِنَّ الله هو الدهر»

(4)

أي خالقه فكان مجملاً، والتوقف في المجمل علامة كمال العلم

(5)

. وعندهما: يحمل المنكر على ستة أشهر. وعند مالك: على سنة. وعند الشافعي: على أدنى مدة.

(وللأبد) أي جميع العمر (معرَّفاً) باتفاق إذا لم يقترن بِنِيّة، لأنه تعالى قال:{هل أتى على الإنسانِ حِيْنٌ من الدَّهر} (3) فقد جعل الحينَ جُزءاً من الدهر، فيبعد أن يُسوّى بينهما في التقدير. (وأَيام مُنكَّرة ثلاثة) لأنها أَقلّ الجمع المُنكَّر. ولو حلف لا يتزوج نساءً، ولا يشتري عبيداً يقع على الثلاثة بلا خلاف. (وأيام كثيرة، والأيام، والشهور) والسِّنون، والجُمع، والدّهور، والأزمنة (عشرة) عند أبي حنيفة. وعندهما: أيام كثيرة والأيام كلاهما سبعة، والشهور ستة، والسِّنون وغيرها للأبد.

(وفي أول عبد أشتريه حر، إنْ اشترى عبدًا عتَقَ) وهو ظاهر (وإن اشترى

(1)

سورة الإنسان، آية:(1).

(2)

سورة إبراهيم، الآية:(25).

(3)

سورة الجاثية، الآية:(24).

(4)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 299.

(5)

عبارة المخطوط: "علامة علم الكمل".

ص: 291

عبدين ثُمَّ آخَر، فلا أصلًا، فإن ضُمَّ وحده عَتَقَ الثالثُ. وفي: آخِر عبدٍ، إن اشترى عبداً ومات لم يعتِق، فإن اشترى عبدًا ثم آخر، ثم مات عَتَقَ الآخَرُ يوم شَرَى من كلِّ ماله.

وعندهما: يوم مات من ثُلُثه. ولا يصيرُ الزوج فارًا لو علَّق الثلاث به، خِلافًا لهما. وبـ: كلِ عبدٍ بشَّرني بكذا، فهو حرٌّ، عَتَقَ أوّلُ

===

عبدين) معاً (ثم آخر، فلا أصلاً) أي فلا يَعتِقُ واحدٌ منهما، لأن الأول اسم لمفرد سابق، وهو موجود في المسألة الأولى دون الثانية (فإن ضمّ) كلمة (وحده) بأن قال: أول عبد اشتريه وحده فهو حر، فاشترى عبدين معاً ثم آخر وحده (عَتَقَ الثالثُ) لأن معنى وحدَه منفرد، والثالثُ متصفٌ بهذه الصفة وهي الانفراد في الشراء. (وفي آخر عبدٍ) أشتريه فهو حر (إن اشترى عبداً ومات) المشتري (لم يعتِق) العبدُ لأنه ليس بآخر عبد، فإن الآخر لا بد له من سابق ولا سابق لهذا.

(فإن اشترى عبداً ثم آخر، ثم مات) المشتري (عتق الآخر) لاتصافِهِ بالآخرية، لأن له سابقاً. وهذا الحكم ظاهرٌ، وإنما ذَكَرَه ليَبنِي عليه قوله:(يوم شَرَى) يعني أنَّ عِتقَه يكونُ من يوم الشراءِ، لاستناد العتق إليه (من كل ماله) إن كان الشراءُ في الصحة، وهذا عند أبي حنيفة. (وعندهما:) عتق (يوم مات من ثُلُثه) سواء كان الشراءُ في الصحة أو في المرض، لأن الآخرية ـ وهي الشرط ـ تثبت بعدم شراء غيره بعده. وهذا يتحقق عند موت السيد فيفتقر العِتقُ على زمان موته. ولأبي حنيفة أن الآخرية تثبت للثاني كما اشتراه، إلا أنّ هذه الصفة يعرض عليها الزوال، لاحتمال شراء غيره بعده، فإذا مات ولم يوجد من يُبطلها، تبين أنه كان آخراً منذ اشتراه، فيعتق من ذلك الوقت.

(ولا يصيرُ الزوج فاراً) عند أبي حنيفة، فلا ترث منه (لو علق الثلاث به) أي بالآخر بأن قال: آخرُ امرأةٍ أتزوجها فهي طالقٌ ثلاثاً، فتزوج امرأة، ثم أخرى في صحته ثم مات، لأن طلاقها عنده يستند إلى وقت تزوُّجِها، ثم إن كان دخل بها فلها مَهر للدخولِ بشُبهة، ونِصْفُ مهر للطلاقِ قبل الدخول، وعدتها بالحِيَضِ، ولا حِدَاد عليها (خِلافاً لهما) فإنّ عندهما يكون الزوج فاراً، فترث منه، لأنها تطلق في آخر حياته، ولها مهر واحد، وتعتدُّ بأبعد الأجلين من عدة الطلاق والوفاة، ولو كان الطلاقُ رجعياً تعتدُّ بعدةِ الوفاة، وعليها الحِدَاد.

(وبكل عبدٍ بشَّرني بكذا فهو حر) الباء في بـ: كل تتعلق بقوله: (عَتَقَ أول

ص: 292

ثلاثةٍ بشَّروه، متفرقين، والكلُ إنْ بشروه معًا.

وسَقَطَ بشراءِ أبيه لكفارتِهِ هي، لا بشراء عبد حَلَفَ بعتقه، ولا مستولدة بنكاح عَلَّقَ

===

ثلاثة) مِثْله، وكان الأظهر أن يقول: أول جماعة (بشَّروه) أي من عبيده (متفرقين) لأن البِشَارة اسم لخبر سار صدق، ليس للمبشَّر به علم، سُمِّي بذلك لأن بَشَرَة الوجه تتغير به، وتقيدت بالسَّار من العرف (والكلُ) عطف على الأول أي وعتقَ الكل (إنْ بشروه معاً) لتحقق البِشَارة منهم، قال الله تعالى:{وبَشَّرُوه بِغُلامٍ عليمٍ}

(1)

فنسبها إلى جماعة، ولو كان التعليق على الإِخبار مكان البِشارة بأن قال: كل من أخبرني، والباقي بحاله عتق الكل.

وذلك لما رُوي أنه صلى الله عليه وسلم مر بابن مسعود وهو يقرأ القرآن فقال: «من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أُنْزِلَ، فليقرأ بقراءةِ ابن أم عبد»

(2)

فابتدر إليه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بالبِشَارة، فسبق أبو بكر، فكان ابن مسعود يقول: متى ذكره: بشَّرني أبو بكر وأخبرني عمر.

(وسَقَطَ بشراءِ أبيه لكفارتِهِ هي) أي كفارته، وهي فاعلُ سقط، فكان الأولى أن يقول: ويسقط بشراء إبيه كفارة ابنه، وكذا حكم كلِّ ذي رحمٍ محرمٍ منه. وقال زفر، ومالك، والشافعي، وأحمد: لا تسقط وهو القياس، وهو قول أبي حنيفة أولاً، فصاحباه معه في قوله الآخر. ووجهه أنَّ الشارعَ جعل شراء القريب إعتاقاً، لما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن يجزي ولدٌ والدَه إلا أن يجدَه مملوكاً فيشتَريْه فيعتِقَهُ» ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الابن قادرٌ على إعتاق الأب، فيكون قادراً تصديقاً له عليه الصلاة والسلام فيما أخبر.

ولا يقدِرُ على إعتاقه قبل الشراء، لعدم الملك ولا بعده، لأنه يَعتِقُ به عليه، فيكون نفس الشراء إعتاقاً، فإذا نوى بالشِّراء الكفَّارة يصير إعتاقاً عنها، فيصح ويجزيه، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يشترط غير الشراء، فإذا اشترى أباه بنية الكفارة كانت النية مُقَارِنَةً لعلةِ العتق، فيعتق عنها.

(لا) أي لا تسقط (بشراء عبد حَلَفَ بعتقه) إذا نوى بالشراء كفارته، لأن النيةَ لم تَقترن بعلةِ العتق، وهي اليمين. (ولا) بشراء (مستولدة بنكاح) حال كونه (عَلَّقَ

(1)

سورة الذاريات، الآية:(28).

(2)

أخرجه ابن ماجه في سننه 1/ 49، المقدمة، رقم (138). والإمام أحمد في مسنده 1/ 7.

ص: 293

عِتْقها عن كفارته بشرائها. وتَعتِقُ بـ: إِنْ تسرَّيتُ أمةً فهي حرة، من تسرَّاها وهي مِلكه يومَ حَلَف، لا مَنْ شَرَاها فتسرَّاها.

وَعَتَقَ بـ: كلّ مملوكٍ لي حرٌّ، أمهاتُ أولادِهِ ومُدَبَّرُوه وعبيدُه، لا مكاتَبُوه إلا بنيَّتِهم بـ: هذا حرٌ، أو: هذا وهذا لعبيده ثالِثُهم. وخُيِّرَ في الأُوْليين كالطَّلَاقِ.

ولَامٌ دَخَلَ على فعل يقع عن غيره كبيعٍ، وشراءٍ، وإجارة، وخياطةٍ، وصياغة وبناء

===

عتقها عن كفارته بشرائها) بأن قال لأمة غيره التي استولدها بنكاحه: إنّ اشترَيتُك فأنت حرةٌ عن كفارة يميني، ثم اشتراها، فإنها تعتق لوجود الشرط، ولا يجزئه عن الكفارة، لأن حريتَها مستحقة بالاستيلاد، فلا تضاف إلى اليمين من كل وجه (وتَعتِقُ بـ: إِنْ تسرَّيتُ أمةً فهي حرة، مَنْ تسرَّاها وهي مِلكُه يومَ حَلَف) وبه قال مالك والشافعي وأحمد. ويثبت التَّسَري عندنا بالتحصين، وهو منعها من الخروج، وتبوئتها ليلاً مع الوطء، وهو وجه في مذهب الشافعي، وفي وجه ثانٍ بالوطء مع الإنزال والتحصين، وفي وجه ثالث بالوطء وحده، وبه قال أحمد. وقال أبو يوسف: يشترط مع الوطء طلب الولد، حتى لو وطء وعزل عنها لا تكون سُرِّيَّة عنده.

(لا مَنْ شَرَاها) بعد قوله: إن تَسرَّيتُ أَمة فهي حرة، (فتسرَّاها)، وبه قال مالك والشافعي وأحمد. وقال زُفَر: تعتق لأن التسري لا يصح إلا في المِلك فذِكرُ التسرَّي كذكره. (وَعَتَقَ بكلِ مملوكٍ لي حرٌّ أمهاتُ أولادِهِ ومُدَبَّرُوه وعبيدُه) لأنه تَمَلَّكَهم رقبةً ويداً (لا مكاتبوه) أي لا يعتق بكلِّ مملوكٍ لي حرٌّ مكاتبوه (إلا بنيتِهم) لأن مِلكَ المولى فيهم ناقصٌ، لخروجه عن ملكه يداً، فلا يدخلون في مطلق المملوك وهو الكامل إلا بالنية.

(و) عتق (بهذا حرٌ أو هذا وهذا) بالواو (لعبيده ثالِثُهم) في الحال (وخُيِّرَ في الأُوْليين كالطلاق) بأن قال لنسائه: هذه طالق أو هذه وهذه، حيث تطلق الثالثة ويُخير في الأُوْليين، لأن الكلام لإيجاب الإعتاق في أحد الأوليين، وتشريكُ الثالث فيما سِيْقَ له الكلام، فصار بمنزلة أحدهما حر. وهذا، فالمعطوف عليه هو المأخوذُ من صدر الكلام لأحد المذكورين بالتعيين.

(ولَامٌ دخل على فعل) أي تعلق بفعل (يقع عن غيره) أي غير فاعله، بأن كان مما يجري فيه النيابة والتوكيل، وهو كل فعل يُملك بالعقد (كبيع، وشراء، وإجارة، وخياطة، وصياغة) وفي نُسخة بالموحدة، وفي أخرى بالنون والعين المهملة (وبناء

ص: 294

اقتضى أمْرَهَ لِيَخُصَّه به، فلم يحنَث في: إن بعتُ لك ثوبًا، إنْ باعَه بلا أمرِهِ، مَلَكَه أو لا. وإن دخل على عينٍ أو فعلٍ لا يقعُ عن غيره كأكل، وشُرب، ودخول وضرب الولد اقتضى ملكه، فحنِثَ في: إن بِعتُ ثوبًا لك، إن باعَ ثوبَه بلا أمره. وفي كل عِرْس لى فكذا، بعد قول عِرْسِه: نَكَحْتَ عليَّ، طلُقت هي، وصح نِيَّةُ غيرها دِيَانةً.

===

اقتضى) ذلك اللام (أمره) أي توكيله بالفعل (ليخُصَّه به) لأن اللام للاختصاص، وأقوى وجوهه المِلك، فإذا دخلت على الفعل أوجبت ملكَه، وذا بأن يفعله بأمره ليقع ذلك الفعل له (فلم يحنث في: إن بعتُ لك ثوباً، إنْ باعَه بلا أمرِهِ) من المخاطب سواء (مَلَكَه) المخاطب (أو لا) لأن تقدير الكلام: إن بعتُ ثوباً بأمرك، ولم يوجد الأمر.

(وإن دخل على عينٍ أو) على (فعل لا يقعُ عن غيره) وهو كل فعل لا يُملك بالعقد (كأكل، وشُرب، ودخول وضَرْبِ الولدِ، اقتضى) دخول اللام (ملكه) ذلك العين لا أمره بالفعل (فحنث في: إن بِعتُ ثوباً لك، إن باعَ ثوبَه بلا أمره) من المخاطب وكذا حَنِثَ في: إن أكلت لك طعاماً وأكل طعامه بلا أمره، سواء علم به أو لا، لأن اللام لما دخلت على العين أوجبت ملكه، ولما دخلت على الفعل الذي لا يقع عن غيره أوجبت أيضاً مِلك العين، لأن هذا الفعل لمّا كان مما لا يُملك بالعقد، وجب صَرْف اللام فيه إلى ما يُملك بالعقد، وهو العين، وقيّد الضرب بالولد لأن ضرب العبد يحتمل النيابة والوكالة، فصار نظير الإجارة دون الأكل والشرب.

(وفي كل عِرْس لي فكذا، بعد قول عِرْسِه: نَكَحْتَ عليَّ، طلُقت هي) أي عِرْسُه، يعني أن مَنْ قالت امرأتُه: تزوجت عليّ، فقال: كل امرأة لي طالق تطلق امرأته. وعن أبي يوسف أنها لا تطلق، لأن كلامه خرج جواباً لكلامها، فيتقيد به، وكلامها كان في تزويج غيرها، ولأنه قَصَدَ إِرضاءها وذلك بطلاق غيرها، فيتقيد به. وفي «جامع السَّرَخْسِي»: قول أبي يوسف أصح عندي.

ووجه الظاهر، وهو قول مالك والشافعي وأحمد أن العمل بالعموم واجبٌ ما أمكن، وقد أمكن ههنا فيعمل به، وذلك أنه زاد على الجواب، إذ جوابه أن يقول: إن فعلتُ فهي طالق، فكان ذلك مبتدئاً. وجاز أن يكون فائدتها إيحاش المرأة وإغضابها وإلحاق الغيظ بها، حين اعترضت عليه فيما أحله الشرع له. (وصح نيةُ غيرها دِيَانة) لأنه نوى محتمَل كلامِهِ، لا قضاءً لأنه نوى تخصيصَ العامّ وهو خلاف الظاهر. والله تعالى أعلم بحقائق الظواهر والضمائر.

ص: 295

بسم الله الرحمن الرحيم

‌كِتَابُ البَيْعِ

هُوَ

===

كتاب البَيْعِ

اعلم أنّ المقصود من بيان كتاب البيع بيانُ الحلالِ الذي هو بيعٌ

(1)

شرعاً، والحرام الذي هو الرِّبا، ونحوه من العقود الفاسدة. ولهذا قيل لمحمد رحمه الله تعالى: ألا تصنِّف شيئاً في الزُّهد؟ فقال: قد صنّفت كتاب البيع.

ومراده: بَيَّنْتُ فيه ما يَحِلُّ وما يَحْرُم. وليس الزُّهد إلاّ اجتناب الحرام، والرغبة في الحلال، كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم حيث ذكر الرّجل يُطيل السّفر، أشعثَ أغبرَ يقول: يا ربُّ، يا ربُّ، ومَطْعَمُهُ حرامٌ، ومَشْرَبُه حرامٌ، وملبسُه حرامٌ، وغُذِّي بالحرام، فأنّى يُسْتَجَابُ لذلك؟

(2)

ثمَّ (هُوَ) في اللّغة مشتركٌ بين إخراج الشيء عن المِلْكِ بمالٍ، وبين ضِدّه، وهو إدخال الشيء في الملك بمالٍ. ومن هذا القبيل حديث:«لا يَبِعْ أحدُكم على بيع أخيه»

(3)

، أي: لا يشتري على شرائه. كذا في «الصّحاح» . ولا يَبْعُد أن يكون البيع في الحديث على بابه. وهو يتعدّى إلى المفعول الثّاني بنفسه، وبحرف الجر نحو: بعتُ هذا فلاناً، وبعته منه.

وكذا لفظ الشِّراء مشتركٌ بين فعل المشتري وفعل البائع، ومنه قوله تعالى:{وَشَرَوهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}

(4)

، أي: باعوه. وهذا إذا كان الضمير للإخوة، وأمّا إذا كان للسَّيَّارة

(5)

، فالشراء على بابه. وكذا قوله تعالى:{ولَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ}

(6)

، أي: باعوا حظّها أو اشتَرَوه.

(1)

في المخطوط: يقع، والمثبت من المطبوع.

(2)

أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 2/ 703، كتاب الزكاة (12)، باب الترغيب في الصدقة

(18)، رقم (65 - 1015).

(3)

أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (فتح الباري) 4/ 353، كتاب البيوع (34)، باب لا يبيع على بيع أخيه

(58)، رقم (2139).

(4)

سورة يوسف، الآية:(20).

(5)

السَّيَّارة: القافلة. المعجم الوسط ص (467)، مادة (سار).

(6)

سورة البقرة، الآية:(102).

ص: 296

مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ بِتَرَاضٍ. وَيَنْعَقِدُ بإيجَابٍ وَقَبُولٍ،

===

وأمّا قوله تعالى: {إنّ اللَّه اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}

(1)

فعلى حقيقته، وكذا قوله تعالى:{أوَلَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ}

(2)

، أي: استبدلوه واختاروه عليه.

وفي الشَّرع: (مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ) أي على وجه التمليك (بِتَرَاضٍ) لقوله تعالى: {إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}

(3)

.

وهو عقدٌ مشروعٌ بقوله تعالى: {وَأحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}

(4)

؛ وبالسُّنَّة وهي كثيرةٌ شهيرةٌ؛ وبإجماع الأمّة على جوازه، وأنّه أحد أسباب المِلك، وبأنّه صلى الله عليه وسلم بُعثَ والنَّاس يتبايعون فأقرّهم عليه حتى قال: «يا معشر التُّجَّار إنْ بيعكم هذا يحضره اللّغو والكذب، فشُوبُوه

(5)

بالصَّدقة»

(6)

. وقد باع واشترى بمباشرة وتوكيلٍ.

وقد صحّ عند أرباب السِّيَر أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم اتَّجر لخديجة، لكن قبل البعثة بخمسة عشر سنة، فإنه بُعِثَ على رأس الأربعين، وخرج تاجراً إلى الشام لخديجة لَمّا بلغ خمساً وعشرين سنةً، قبل أنْ يتزوّجها بشهرين وخمسةٍ وعشرين يوماً. وكان أبو بكر تاجراً في البَزِّ، وعمرُ في الطَّعام، وعثمانُ في الَبزِّ

(7)

والتَّمْر، وعبّاس في العطر. ومن هنا قال أصحابنا: أفضل الكسب بعد الجهاد التِّجارة، ثُمَّ الزِّراعة

(8)

، ثُمَّ الصّناعة. وعندي أنّ أفضلها الكتابة.

(وَيَنْعَقِدُ) البيع (بإيجَابٍ) أَي: إثباتٍ؛ والمراد به ما يُذْكَر أولاً من كلام المتعاقدين، لأنه يُثِبتُ خِيار القبول للآخر. (وَقَبُولٍ) وهو ما يُذْكَر آخِراً من كلامهما، أو ما يقوم مَقَامه من قبض المبيع، كما لو قال: بعتك هذا بدرهمٍ، فقبضه المشتري ولم يقل شيئاً.

والمعنى أنه ينعقد بمجموع الإيجاب والقَبُول، ولا بدَّ أن يكون أحدهما يدلّ

(1)

سورة التوبة، الآية:(111).

(2)

سورة البقرة، الآية:(175).

(3)

سورة النساء، الآية:(29).

(4)

سورة البقرة، الآية:(275).

(5)

شاب الشيء بالشيء: خلطه به. المعجم الوسيط ص (499). مادة (شاب).

(6)

أخرجه أبو داود في سننه 3/ 620 - 621، كتاب البيوع (17)، باب في التجارة يخالطها الحلف واللغو (1)، رقم (3326).

(7)

البَرُّ: نوعٌ من الثياب. المعجم الوسيط ص (54)، مادة (بز).

(8)

في المخطوط: الحراثة، والمثبت من المطبوع.

ص: 297

وبِلَفْظَيْ مَاضٍ، وَبِتَعَاطٍ مُطْلقًا. وَإذَا أَوْجَبَ وَاحِدٌ، قَبِلَ الآخَرُ كَلَّ المَبِيعِ بِكُلِّ الثَّمَنِ أَوْ تَرَكَ،

===

على الإيجاب كـ: أعطيتك، و: جعلت لك هذا بكذا، والآخر على القَبول كـ: أخذت، و: رضيت، و: أجزت.

ويُشْتَرطُ سماع المتعاقدين كلامَهما (وبِلَفْظَي ماضٍ)

كـ: بعتُ، و: اشتريتُ. وإنما شُرِطَ الماضي فيهما لأنّ البيع إنشاء تصرفٍ، والإنشاء يُعْرَفُ بالشَّرع، لأنّ الواضع لم يضع له لفظاً خاصّاً؛ والشَّرعُ يَستعمل فيهِ اللّفظَ الذي وُضِعَ للإخبار عن الماضي، لأنه يستدعي سَبْقَ المُخْبَر عنه ليكون الكلام صحيحاً، فكان الماضي أدلَّ من غيره على تحقّق الوجود، فكان أشبهَ

(1)

بالإنشاء المحصِّل للوجود.

(وَبِتَعَاطٍ) أي: وينعقد أيضاً بمعاطاةٍ وهي ههنا إعطاء البائع المبيعَ للمشتري على وجه البيع والتَّمليك، وإعطاء المشتري الثمنَ للبائع كذلك، بلا إيجابٍ وقَبُولٍ.

(مُطْلقاً)، أي: سواء كان المبيع خسيساً، وهو: ما تكون قيمته دون نصاب السَّرِقة، أو نفيساً وهو: ما تكون قيمته مثل نصابها أو أكثر، وبه قال الخُرَاسَانِيُّونَ. وقال الكَرْخِيّ والعِرَاقِيُّونَ: ينعقد به في الخسيس للعادة دون النفيس لعدمها. وأُجِيبَ: بأنّ جواز أصل البيع إنَّما هو باعتبار الرِّضا من الجانبين، إلاّ أنّ الرِّضا لَمّا كان باطنياً، أُقِيمَ الإيجاب والقَبُول مُقَامه لدلالتهما عليه، والتعاطي أدلّ عليه منهما، لأنهما قد يوجدان بغير رضاهما أو أحدهما.

ومذهب الشَّافعيّ وأحمد: أنّ البيع لا ينعقد بالتَّعاطي، لأنّ الأفعال لا دلالة لها بالوضع على مقاصد النّاس. لكن قد يُقَال: إنّ في القرائن من الفوائد ما تدلّ على المقاصد.

وقال مالك: ينعقد بكل ما يعدّه النّاس بيعاً، لأنّ المقصود المبادلةُ بالرّضا، فمتى حصلت ثبت حكم البيع، ولأنّ الشّارع لم يَثْبُتْ عنه اشتراطُ اللفظ، فوجب الرّجوع إلى العُرْفِ المعروف الذي هو التّعاطي مطلقاً.

واخْتُلِفَ في التّعاطي بأحد الجانبين مع بيان الثمن، والأظهرُ جوازه لتعارف النّاس عليه، وكذا بدون بيان الثمن إذا كان معلوماً. قال الطَّرَابُلْسِيّ: وهو الصحيح. وقد أشار محمد في «الجامع الصغير» إلى أنّ تسليم المبيع يكفي.

(وَإذَا أَوْجَبَ وَاحِدٌ) من المتعاقدين البيع (قَبِلَ الآخَرُ)، واحداً كان الآخر أو متعدّداً، (كَلَّ المَبِيع بِكُلِّ الثَّمَنِ أَوْ تَرَكَ)، وليس للعاقد إن كان واحداً، ولا لواحدٍ إن

(1)

في المطبوع: أنسب، والمثبت من المخطوط.

ص: 298

إلّا إذَا بَيَّن ثَمَنَ كُلٍّ. وَمَا لَمْ يَقْبَلْ بَطَلَ الإيجَابُ، إنْ رَجَعَ المُوجِبُ، أوْ قَامَ أحَدُهُمَا، وَإذَا وُجِدَا لَزِمَ.

===

كان العاقد متعدّداً، أن يقبل في بعض المبيع ببعض الثمن لتفرُّق الصَّفْقَةِ عليه، فإنّ رضاء المُوجِبِ ببيع ذلك البعض وحدَه غيرُ معلومٍ، والرضا بِبَيْع المجموع ليس رضا ببيع بعضه وحدَه، إذ قد يَضُمُّ الرَّديء إلى الجيّد ويبيعهما جميعاً معاً، فيفوت غرضُه.

(إلاّ إذَا بَيَّنَ) المُوجِبُ (ثَمَنَ كُلَ) ممّا قَبِلَ الآخر وما ترك، لأنّ ذلك دليلٌ على رضاه بالتفريق، ولأنّ الإيجاب حينئذٍ في معنى إيجابات متعدّدة. أمّا إذا كرَّر في البيان لفظ البيع، بأنْ قال: بعتك هذين بألفٍ: بعت هذا بخمس مئة، وبعت هذا بخمس مئة، فباتفاقٍ. وأمّا إذا لم يكرر بأن قال: بعتك هذين بألفٍ: كلَّ واحدٍ بخمس مئة، فعند أبي يوسف ومحمد جاز، خلافاً لأبي حنيفة. والمختار قولُهما. وكذا جاز إذا رَضِي الآخر في المجلس إن كان المبيع ممّا ينقسم الثّمن عليه بالأجزاء، كعبدٍ واحدٍ، أو مكيلٍ، أو موزون.

(وَمَا لَمْ يَقْبَلْ) الآخر (بَطَلَ الإيجَابُ، إنْ رَجَعَ المُوجِبُ)، مشترياً كان أو بائعاً، (أوْ) إنْ (قَامَ أحَدُهُمَا) أي أحد العاقدين عن المجلس. أمّا إن رجع المُوجِب، فلأنّ الإيجاب لَمَّا لم يُفِد حكم البيع بدون القَبُول، كان للموجب أن يرجع قبله لخُلُوِّ رجوعِهِ عن إبطال حقّ غيره، فإذا رجع بَطَلَ إيجابه. وأمّا إنْ قام أحد العاقدين عن المجلس، فلأنّ القيام دليل الرّجوع، ولهما ذلك قبل القَبول، لأنه لو لم يثبت الخيار، يلزمه حكم العقد من غير رضاه، وهذا يسمى خيارَ القَبول.

(وَإذَا وُجِدَا) أي الإيجاب والقبول في البيع الصحيح (لَزِمَ) ولا خيار لواحدٍ من العاقدين. وبه قال مالك، وهو رواية عن أحمد، ومختارُ النَّخَعِيّ والثَّوْري. قال شارح: وقال الشافعيّ: لا يلزم، بل لأحدهما الخيار ما دام المجلس، وبه قال أحمد.

لنا ما روى مالك من حديث ابن عمر أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاماً، فلا يبعه حتَّى يستوفِيَه» . ووجه الدلالة أنّه صلى الله عليه وسلم عبَّر عن المنع من البيع باستيفاء المبيع، فإذا استوفى جاز البيع، سواء استوفى في المجلس أو بعده. والبيعُ لا يجوز إلاّ بعد ثبوت الملك. وقوله عليه الصلاة السلام لحَبَّان بن مُنْقِذ ـ وكان يُغْبَنُ

(1)

في البيع ـ: «إذا ابتعت فقل: لا خِلَابة، وليَ الخيارُ ثلاثةَ أيامٍ»

(2)

. والخِلابة بكسر الخاء المعجمة:

(1)

غبنه في البيع: غلبه ونقصه - أي خَدَعَه -. المعجم الوسيط ص 642 و 644، مادة (غبن).

(2)

أخرجه الدارقطني في سننه 3/ 55 - 56. كتاب البيوع، رقم (220).

ص: 299

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الخداعة. فإنّه يدلّ على لزوم البيع بالإيجاب والقبول؛ ولأنّ في إثبات الخيار لأحد المتبايعين إبطالُ حقّ الآخر، وهو غير جائزٍ لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا ضَرَرَ ولا ضِرَار»

(1)

، ولأنّ البيع عقد معاوضة، فيلزم بالإيجاب والقبول كالنِّكاح.

وأمّا ما رواه أصحاب الكتب السِّتَّة ـ واللفظ للشيخين ـ عن نافع، عن عبد الله ابن عمر أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«البَيِّعَانِ كلّ واحدٍ منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرّقا، إلاّ بيع الخيار (أو يكون بيعهما بيعَ خيار)»

(2)

. وفي لفظ لهما: «إذا تبايع المتبايعان بالبيع، فكلَّ واحدٍ منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرّقا» ، أو قال:«يكون بيعهما على الخِيَار، فإذا كان بيعهما على خيار فقد وَجَبَ» .

فقال محمد بن الحسن ـ وهو منقول عن إبراهيم النَّخَعِيّ ـ: مُؤَوَّلٌ بأنّ المراد بالخيار فيه خيار القَبول. فإنّ أحدهما إذا أوجب كان لكلَ منهما قبل القبول الخيارُ، ما داما في المجلس ولم يأخذْ أحدُهما في عملٍ آخر. وفي لفظ الحديث إشارةٌ إليه، فإنهما متبايعان حالةَ البيع حقيقةً. وعلى هذا، فالتفرّق بالأقوال لا بالأبدان، كما في قوله تعالى:{وَإنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ}

(3)

. فإنّ الزَّوج إذا طلّق امرأته على مالٍ تحصل الفُرْقة بقبولها. وقال أبو يوسف: مُؤَوَّلٌ بأنّ المراد بالتفرُّقِ فيه التفرُّقُ بالأبدان بعد الإيجاب قبل القَبُول. انتهى.

والمراد بقوله: «إلاّ بيع الخيار» (أي: إلاّ المتبايعين بيع الخيار، أو)

(4)

إلاّ إذا تبايعا بيع الخيار. والمعنى أن يقول أحدهما لصاحبه: اختر، فيقول: اخترتُ، فيكون هذا إلزاماً للبيع، وَيَسْقُطُ خيارُهما، وإن كان المجلس قائماً.

وحَمَلَ بعضهم الخيارَ على خيار الشّرط، وهو بعيد لرواية الترمذيّ:«البَيِّعانِ بالخيار ما لم يَتَفَرَّقَا أو يختار» . وفي لفظ: «أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر» ، بدل «أو يختار» . وكان ابن عمر إذا اشترى شيئاً وأحبّ أن يكون له، فَارَقَ صاحبه فمشى قليلاً، ثم رجع، فَحُمِلَ على التفرّق بالأبدان. ويدلّ عليه زيادة أبي داود والترمذيّ: «ولا يَحِلّ

(1)

أخرجه ابن ماجه في سننه 2/ 784، كتاب الأحكام (13)، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره (17)، رقم (2340) و (2341).

ومعنى قوله: "لا ضرر": أي لا يضُرُّ الرجل أخاه فينقصه شيئًا من حقه. ومعنى قوله: "لا ضِرار": أي لا يُجَازيه على إضراره بإدخال الضَّرَر عليه. النهاية 3/ 81.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المخطوط، وهو في البخاري.

(3)

سورة النساء، الآية:(130).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 300

وَيُعْرَفُ المَبِيعُ بالإشَارَةِ، لا بِذِكْرِ القَدْرِ والْوَصْفِ، إلّا في السَّلَم،

===

له أن يفارق صاحبه خشيةَ أن يستقيله»، أي: خشية أنْ يفسخ العقد.

ولنا إطلاق قوله تعالى: {يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}

(1)

، وهذا عقدٌ قبل التخيير، وقوله تعالى:{لا تأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلاَّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}

(2)

، وبعد الإيجاب والقَبول تَصدُق تجارةً عن تراضٍ، غيرَ متوقفة على التخيير. فقد أباح الله تعالى أكل المشتري قبل التخيير. وقوله تعالى:{وَأشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}

(3)

أَمْرٌ بالتَّوثُّق بالشَّهادة لئلا يقع التَّجاحد في البيع، فلو ثبت الخيار وعَدِمَ اللُّزوم قبله، لزم إبطال هذه النصوص.

قال بعض المحققين: ولا مخلص له من هذا إلاّ أن يمنع لزومَ العقد قبل الخيار ويقول: إنما يُعرف لزومه شرعاً، وقد اعتُبِر فيه اختيار التّراضي بعد الإيجاب والقَبُول بالأحاديث التي رويناها. ثم قال: ولا مخلص لنا إلاّ بتسليم إمكان اعتبار الخيار في لزومِ العقد، وادّعاء أنه غير لازمٍ من الحديث المذكور بناءً على أن حقيقة المتبايعين المتشاغلان بأمر البيع، لا مَنْ تَمَّ البيع بينهما وانقضى، لأنه مجاز. والمتشاغلان يعني المتساومَيْنِ، يصدق عليهما عند إيجاب أحدهما قبل قبول الآخر، فيكون ذلك هو المراد، وهذا هو خيار القَبول.

(وَيُعرَفُ المَبِيعُ بالإشَارَةِ)(إليه، أي)

(4)

: إذا كان محسوساً، (لا بِذِكْرِ القَدْرِ والْوَصْفِ)، أي: لا حاجة بذكرهما حينئذٍ. والمعنى: يُشْتَرَطُ لصحة البيع معرفةُ المبيع بما ينفي جهالته، قطعاً للمنازعة. فإن كان حاضراً يُكْتَفى بالإشارة، لأن بها كفايةً في التَّعريف، فإذا قال: بعتك هذه الصُّبْرَة

(5)

من الحِنْطَة، أو هذه الثياب ـ وهي مجهولة العدد ـ بهذه الدَّراهم، ـ وهي مرئية له ـ فَقَبِل، جاز البيع ولَزِم، لأن البّاقي جهالة القدر، وهي لا تضرّ لعدم منعها من التَّسليم والتَّسلُّم.

(إلاّ في السَّلَمَ) فإن المبيع فيه لا بدّ من معرفة قدره ووصفه، على ما يجيء في بابه

(6)

، إن شاء الله سبحانه.

وحاصله أنّ المبيع إذا كان غائباً، فإن كان مما يُعْرَف بالأُنْمُوذَجِ

(7)

: كالكَيْلِي

(1)

سورة المائدة، الآية:(1).

(2)

سورة النساء، الآية:(29).

(3)

سورة البقرة، الآية:(282).

(4)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(5)

الصُّبْرَة: الكومَة. المعجم الوسيط ص (506)، مادة (صبر).

(6)

صفحة 82.

(7)

الأنمُوذَجُ: المِثَال الذي يُعمل عليه الشيء كالنموذج. المعجم الوسيط ص 31، مادة (الأنموذج).

ص: 301

وَالثَّمَنُ بِأَحَدِهِمَا.

وَيَصِحُّ البَيْعُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ بِأَجَلٍ مَعْلومٍ، وَلَا يَضُرُّ الجُزَافُ إلاّ في الجِنْسِ بِالجِنْسِ.

===

من الحبوبَ، والوَزْنِيّ من السَّمْنِ والعسل، والعدديّ المتقارب: كالجوز واللّوز، فرؤية بعضه كرؤية كله. وإن لم يعرف به كالثياب والدَّواب، فلا بد من ذكر جميع أوصافه، قطعاً للمنازعة. وله خيار الرُّؤية، ويشترط معرفة قدر الثَّمن ووصفه لو كان في الذِّمة، إذا اختلف نقد البلد، قطعاً للمنازعة، لا معرفة قدر الثَّمن المشار إليه ووصفه، إذ الإشارة أبلغ أسباب التعريف.

ونفينا تعيين النقدين المضروبين في البيع، فيجوز للمشتري دفع غير المعيَّن في العقد عندنا. وعيّنه زُفَر، ومالك، والشَّافعيّ بالتعيين في عقود المعاوضة وفسوخها كما يتعين في الهبة، والشَّركة، والوكالة، والغصب، والصّدقة.

(وَ) يعرَف (الثَّمَنُ بِأَحَدِهِمَا) أي بالإشارةَ أو بذكر القدر والصفة. فيعرَف بالإشارة إنْ كان معيناً بها، وبذكر القدر والصفة إن لم يكن.

(وَيَصِحُّ البَيْعُ بِثَمَنٍ حَالَ) وهو الأصل (وَمُؤَجَّلٍ بِأَجَلٍ مَعْلومٍ) لإطلاق قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ}

(1)

، ولِمَا في البخاري عن عائشة من أنّه صلى الله عليه وسلم اشترى طعاماً من يهوديّ إلى أجلٍ ورهنه درعاً له من حديد. وفي لفظٍ للصحيحين: طعاماً بنسيئةٍ

(2)

. ولقوله عليه الصلاة والسلام (في السَّلم)

(3)

: «من أسلف في تمر، فليسلف في كيلٍ معلومٍ ووزن معلومٍ، إلى أجلٍ معلوم»

(4)

. وعلى ذلك انعقد الإجماع.

(وَلَا يَضُرُّ الجُزَافُ) بتثليث الجيم، والضم أشهر، وهو البيع بالحَدْس

(5)

، أو بالظّن بلا كيلٍ ولا وزنٍ، وهو فارسيّ مُعَرَّب كَزاف بالكاف العَجَمّية (إلاّ في) بيع (الجِنْسِ بِالجِنْسِ) لِمَا روى الجماعة إلاّ البخاريّ من حديث عُبَادة بن الصامت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبرّ بالبُرّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثلٍ، سواءً بسواءٍ، يداً بيدٍ، فإذا اختلفت هذه

(1)

سورة البقرة، الآية:(275).

(2)

يقال باعه بنسيئةٍ أي بتأخير. المعجم الوسيط ص 916 مادة (نسأ).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

أخرجه الستة، وانظر تخريجه من كلام الشارح في فصل السَّلَم ص (375).

(5)

الحَدْس: إدراك الشيء إدراكًا مباشرًا. المعجم الوسيط ص 161، مادة (حدس).

ص: 302

وَمُطْلَقُ الثَّمَنِ يُحْمَلُ عَلَى الأرْوَجِ، فَإنْ اسْتَوَى رَوَاجُ النُّقُودِ فَسَدَ إنْ اخْتَلَفَتْ مَالِيَّتُهَا.

وَإنْ بيعَ ذُو أفْرَادٍ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَذَا، فَإِنْ لَمْ تَتَفَاوَتْ صَحَّ في وَاحِدٍ، وإلّا فَلَا أصْلًا.

===

الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيدٍ». ولأنّ الجهالة في الجُزَافِ غير مانعةٍ من التَّسليم، فلا يضرّ كجهالة القيمة، بأنْ اشترى شيئاً بدرهمٍ ولم يدر قيمته. وإنّما امتنع الجُزَاف في الجنسِ بالجنس لِمَا فيه من احتمال الرِّبا، واحتماله ملحقٌ بحقيقته احتياطاً. وفي «الذَّخيرة»: أنّ هذا الاستثناء إذا كان شيئاً يدخل تحت الكيل ـ وأدناه نصف صاع ـ، وأمَّا إذا كان قليلاً لا يدخل تحته، فيجوز بيعه بجنسه جُزَافاً.

(وَمُطْلَقُ الثَّمَنِ) وهو الذي لم يُقَيَّد في صلب العقد، أو في المجلس بوصفٍ، ولا بنقدِ بلدٍ نحو عشرة دراهم (يُحْمَلُ عَلَى الأرْوَجِ) أي أغلب ما يُتَعَامل به في كلِّ البلد سواء استوت ماليّة النقود، أو اختلفت، لأنّ ما غلب التعامل به معلومٌ بالعرف، والمعلوم بالعرف كالمعلوم بالنَّص. (فَإنْ اسْتَوَى رَوَاجُ النُّقُودِ فَسَدَ) البيع (إنْ اخْتَلَفَتْ مَالِيَّتُهَا) لأنّ مثل هذه الجهالة يفضي إلى المنازعة. وأمّا لو استوت الماليّة والرَّواج جاز البيع.

(وَإنْ بيعَ ذو أفْرَادٍ كُلَّ وَاحِدٍ) منها (بِكَذَا) درهماً، (فَإِنْ لَمْ تَتَفَاوَتْ) تلك الأفراد بأنْ بيعت صُبْرةٌ

(1)

: كل قفيزٍ

(2)

بدرهمٍ، أو بيع ثوبٌ: كل ذراعٍ بدرهمٍ (صَحَّ) البيع (في وَاحِدٍ) عند أبي حنيفة، وفي الكلّ عند أبي يوسف ومحمد، وبه يُفْتَى. وهو قول مالك والشَّافعيّ وأحمد، لأنّ المبيع معلومٌ بالإشارة فلا يحتاج إلى معرفة قدره، وما فيه من الجهالة لا يضرُّ لأن رفعها بيدهما بأنْ يكيلا الصُّبْرَة في المجلس.

ولأبي حنيفة أنّ الثمن مجهولٌ لأن جملة الأفراد غير معلومةٍ، فيكون ما بإزائها من الثمن مجهولاً إلاّ أنّ الأقلّ ـ وهو الواحد ـ معلومٌ، فيصحّ البيع فيه ويفسد فيما عداه، إلاّ أن ترتفع الجهالة بتسمية جميع الأفراد، أو بالكيل في المجلس.

(وإلاّ) أي وإنْ تفاوتت الأفراد في القيمة كما لو باع غنماً كلّ شاةٍ بدرهمٍ (فَلَا) يصحّ البيع (أصْلاً)،

أي لا في جملة الأفراد، ولا في واحدٍ منها، وهذا عند أبي حنيفة. وأمّا عندهما فيصحّ في الكلّ، وهو قول مالك والشَّافعيّ وأحمد، والوجه ما

(1)

سبق شرحها ص (301) التعليقة رقم (5).

(2)

القفيز: مكيال كان يُكَال به قديمًا، ويختلف مقداره في البلاد، ويعادل بالتقدير المصري الحديث نحو ستة عشر كيلو جرامًا. المعجم الوسيط. ص 751 مادة (قفز).

ص: 303

وَإنْ بَاعَ صُبْرَةً عَلى أنَّهَا مِئَةُ صاعٍ بِمِئَةٍ، فإنْ نَقَصَ أَخَذَ المُشْتَرِي بالحِصَّةِ أوْ فَسَخَ، وَإنْ زَادَ فَللبَائِعِ. وَفِي المَذْرُوع أخَذَ الأَقَلَّ بِكُلِّ الثّمَنِ أوْ تَرَكَ، والأكْثَرُ لَهُ. وَإنْ قَالَ: كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، فَبِالْحِصَّةِ فِيهمَا.

وَصَحَّ بَيْعُ البُّرِ فِي سُنْبُلِهِ،

===

مرّ إلاّ أنّ الأفراد هنا متفاوتة، فلا يجوز البيع في واحدٍ منها عند أبي حنيفة بخلاف الصُّبْرَة.

(وَإنْ بَاعَ صُبْرَةً) أي كُوْمة طعامٍ بلا كيلٍ ولا وزنٍ (عَلىَ أنَّهَا مِئَةُ صاعٍ

(1)

بِمِئَةٍ) درهم، (فإنْ نَقَصَ) المبيع عن المئة (أَخَذَ المُشْتَرِيِ) الموجود (بالحِصَّةِ) لأنّ الكيل ذو جزءٍ، والثمن ينقسم على أجزاء المبيع، (أوْ فَسَخَ) البيع لأنّ الصَّفقة لَمَّا تفرّقت عليه لم يتمّ رضاؤه بالموجود، وبه قال مالك والشّافعي وأحمد. (وَإنْ زَادَ) على المئة (فَللبَائِعِ) ما زاد، لأنّه باقٍ على ملكه، فإنّ البيع وقع على قدرٍ معينٍ، وما يكون كذلك لا يتناول غيره.

(وَفِي المَذْرُوع) بأنْ باع ثوباً على أنّه عشرة أذرعٍ بعشرةٍ، فوجد المشتري الثوب أقل من ذلك، (أَخَذَ) المشتري (الأقَّلَ بِكُلِّ الثّمَنِ أوْ تَرَكَ) لأنّ الذّراع وصفٌ للمذروع، والثمن لا ينقسم على الأوصاف، فكان كلُّ الثمن مقابَلاً بكل العين، غير أنّه ثبت الخيار للمشتري، لأنّه فاته وصفٌ مرغوبٌ فيه، وقع عليه العقد. (والأكْثَرُ لَهُ) أي للمشتري، ولا خيار للبائع، لأن الزّائد هنا صفة، فكان هذا بمنزلة ما إذا باع بشرط أنّه معيب، فإذا هو سليمٌ.

(وَإنْ قَالَ):

بعتك هذا الثوب على أنّه عشرة أذرعٍ (كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ) فوجده المشتري أقلّ أو أكثر (فَبِالْحِصَّةِ)،

أي فيأخذ الكلّ بالحصّة (فِيهمَا) أي في الزّيادة والنقصان، وله الترك، لأنَّ الذِّراع وإنْ كان وصفاً، إلاّ أنه يصلح أن يكون أصلاً لأنه يُنتفع به بانفراده، فإذا سُمِّي له ثمنٌ صار أصلاً، وإنما كان الخيار للمشتري لتفرّق الصّفْقة عليه في النقصان، ولزيادة الثمن في الزِّيادة. وعن الشافعي في القديم قولان: أحدهما: يصحّ العقد وله الخيار كمذهبنا، والآخر: لا يصحّ.

(وَصَحَّ بَيْعُ البُّرِ فِي سُنْبُلِهِ) وهو قول مالك وأحمد والشافعيّ في القديم، وقال في الجديد: لا يصحّ، لأنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر

(2)

، وهذا منه، لأنه لا يدري قدر

(1)

الصَّاعُ: مقداره عند الحنفية: 3261.5 غرامًا، وعند غير الحنفية: 2172 غرامًا. معجم لغة الفقهاء ص 270.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 3، 1153، كتاب البيوع (21)، باب بطلان بيع الحصاة، والبيع الذي فيه غرر، رقم (4 - 1513). وبيع الغرر: بيع ما يجهله المتبايعان، أو ما لا يُوثق بتسلّمه، كبيع السمك في الماء، أو الطير في الهواء. المعجم الوسيط ص 648، مادة (غر).

ص: 304

والبَاقِلاءِ وَنَحْوِهِ في قِشْرِهِ الأوَّلِ،

===

الحبّ. وأُجِيبَ بأنّ ذلك محمولٌ على نحو بيع الطير في الهواء، والسمك في الماء. وفي «المبسوط»: أو على بيعه في السُنْبُلِ قبل أنْ يشتدّ.

(و) صحّ بيع (البَاقِلاءِ) بكسر القاف وتشديد اللاّم مقصوراً، وبتخفيفها ممدوداً (وَنَحْوِهِ) ممّا له قشران كالسِّمْسِم، والأرز، والحِمِّص الأخضر وسائر الحبوب المغلَّفة، والجوز واللّوز والفَسْتُق والبندق (في قِشْرِهِ الأوَّلِ)، وفي نُسخة: في قشره الخارج، وإنّما قال: الأوّل، لأنّ فيه خلافاً للشَّافِعيّ، أمّا في قِشره الثَّاني فيجوز إجماعاً.

والمنصوص عن الشّافعيّ في بيع البَاقِلاء الأخضر أنّه لا يجوز. وقال مالك وأحمد وكثير من أصحاب الشَّافِعيّ: يجوز، وكذا الجوز واللّوز الرَّطِبَان، وأمّا اليابس منهما فيجوز بلا خلاف.

لنا ما روى الجماعة إلاّ البخاريّ عن نافع عن ابن عمر «أنّ النبِيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السُّنْبُلِ حتى يبيضّ ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري» . يقال: زهى النّخلُ يزهو إذا بدت فيه الحمرة أو الصُّفرة. وما في «الصحيحين» عن أنس أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثِّمار حتّى يبدوَ صلاحُها، وعن بيع النَّخل حتّى يزهو، قيل: ما يزهو؟ قال: «يَحْمَارُّ أو يَصْفَارّ» .

وفي زكاة البُخَاريّ، عن ابن عمر أنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثَّمر حتى يبدوَ صلاحُها، وكان إذا سُئِلَ عن صلاحها قال:«حتى تذهب عاهتها» . وما روى أبو داود والترمذيّ وابن ماجه من حديث حَمَّاد بن سَلَمَة، عن حُمَيْد، عن أنس أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسودّ، وعن بيع الحبّ حتى يشتدّ. قال الترمذيّ: حديثٌ حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه مرفوعاً إلاّ من حديث حمّاد بن سَلَمة. ورواه ابن حِبّانِ، في «صحيحه» ، والحاكم في «مستدركه» ، وقال: صحيح على شرط مسلم. وفي رواية: عن بيع الحبِّ حتّى يفرك. وقال البيهقي: إنْ كان بكسر الرّاء بإسناد الإفراك إلى الحبّ، وهو الأشبه، وافق قوله: حتى يشتدّ، وإن كان بفتح الرّاء على ما لم يُسَمَ فاعله، خالفه واقتضى تنقيته عن السُّنْبُلِ حتّى يجوز بيعه.

ووجه الدّلالة أنّ حكم ما بعد الغاية يخالف حكم ما قبلها، فظاهر الحديث يقتضي الجواز عند وجود الغاية. وعند الشّافعي لا يجوز حتى يخرج البُّرُ من سُنْبُلِه والباقلاء من قِشره الأوّل.

قلنا: إنّه مالٌ مُنْتَفَعٌ به، لأنْه يُدَّخر في سنبله قال الله تعالى: {فَمَا حَصَدْتُمْ

ص: 305

وبَيْعُ ثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا، أوْ قَدْ بَدَا، ويَجِبُ قَطْعُهَا. وَشَرْطُ تَرْكِهَا عَلَى الشَّجَرِ يُفْسِدُ البَيْعَ

===

فَذَرُوهُ في سُنْبُلِهِ}

(1)

فيجوز بيعه فيه، وبيع نحو الباقلاء في القشر كالشعير في سنبله. فإن قيل: يجوز بيع النّخل قبل الزَّهو عندكم، ومقتضى ما استدللتم به من الحديث أنه لا يجوز أُجِيبَ بأنّه محمولٌ على بيع التّمر على النَّخْل بشرط التَّرك إلى أن يحمرّ أو يصفرّ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «أرأيت لو أذهَبَ اللَّه الثمرةَ، بم يستحلّ أحدكم مال أخيه»

(2)

؟ إذ الإذهاب إنّما يُتوهَّم إذا اشتراه قبل الإدراك بشرط التّرك. أو محمولٌ على السَّلَم، يعني لا يجوز السَّلَمُ فيه حتّى يوجد بين النّاس بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «إذا منع الله الثَّمر، فبم يستحلّ أحدكم مال أخيه»

(3)

؟ فيكون دليلاً لنا على اشتراط وجود المُسْلَمِ فيه من حين العقد إلى حين الحلول.

(و) صَحّ (بَيْعُ ثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا) وقال مالك، والشَّافعيّ، وأحمد، وشمس الأئمة السَّرَخْسِيّ، وخَواهِرْ زَادَه من أصحابنا: لا يجوز. والحيلة في جوازه أن يُبَاع مع الشجرة فيكون تبعاً لها، والأصحّ الجواز عندنا لأنه منتفَع به في المال، فصار كبيع الطفل والجحش. (أوْ قَدْ بَدَا) صلاحها، وهذا بلا خلافٍ بين العلماء، وإنما الخلاف في تفسير بُدُوِّ صلاحها، فعندنا على ما في «المَبْسُوطِ»: هو أنْ يُؤمَنَ العاهة والفساد، وعلى ما في «الخُلَاصَة» عن «التجريد»: أنْ يكون منتفعاً به. وعند الشَّافعيّ: هو ظهور النُّضج ومباداء الحلاوة.

(و) إذا صحّ بيع الثّمرة (يَجِبُ) على المشتري (قَطْعُهَا) في الحال ليتفرّغ ملك البائع عن ملكه، كبيع الشجرة دون الثّمر، وهذا إذا اشتراها مطلقاً، أو بشرط القطع.

(وَشَرْطُ تَرْكِهَا) أي الثَّمرة (عَلَى الشَّجَرِ) وترك الزّرع في الأرض (يُفْسِدُ البَيْعَ).

أمّا إذا لم يَبْدُ صلاحها، أو بدا ولم يَتَنَاهَ عظمها، فباتِّفاق. وأمّا إذا تناهى عظمها فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يفسد، لأنه شرطٌ لا يقتضيه العقد، وهو شَغْل ملك الغير، أو لأنّه مشتملٌ على منهيٍ عنه، وهو صفقةٌ في صفقةٍ، لأنه إجارةٌ في بيع إن كان للمنفعة حصّةٌ من الثَّمن، وإعارةٌ في بيعٍ إن لم تكن لها. وقال محمد: لا يفسد

(1)

سورة يوسف، الآية:(47).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 4/ 398، كتاب البيوع (34)، باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها

(87)، رقم (1298)، ومسلم 3/ 1190، كتاب المساقاة (22)، باب وضع الحوائج (3)، رقم (15 - 1555).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 4/ 398، كتاب البيوع (34)، باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها

(87)، رقم (2198).

ص: 306

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

استحساناً. وهو قول مالك والشَّافعيّ وأحمد ومختار الطحاويّ لتعامل الناس به من غير نكير.

وفي «الأسرار» : الفتوى على قول محمد. وفي «التُّحْفَةِ» : الفتوى على قولهما، لأنّ التّعامل لم يكن بشرط التّرك، وإنْ كان بالإذن بالتّرك من غير شرط. انتهى. وفي «الذَّخِيَرةِ»: قال أبو الليث: المخلص في طريق الإذن (أن يأذن)

(1)

للمشتري في التّرك على أنه متى رجع عن الإذن كان مأذوناً له في التّرك بإذنٍ جديدٍ.

واحتجّ لنا بعض المحققين بما روينا من قوله عليه الصلاة والسلام: «من اشترى نخلاً قد أُبِّرَتْ

(2)

فثمرتها للبائع، إلاّ أنْ يشترطَ المبتاع»

(3)

. فجعلُه للمشتري بالشّرط يدلّ على جواز بيعه مطلقاً، لأنه لم يقيّد دخوله في البيع عند اشتراط المبتاع بكونه بدا صلاحه. واعْتُرضَ عليه بأنّ النّزاع في جواز بيعه مستقلاً لا تبعاً، لأنه لا خلاف فيه. واحتجّ أيضاً بما في «موطأ مالك» عن عَمْرَةَ بنت عبد الرحمن قالت: ابتاع رجلٌ ثمر حائطٍ

(4)

في زمن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فعالجه وقام عليه حتّى تبيّن له النّقصان، فسأل ربّ الحائط أن يضع به أو يُقِيله، فحلف لا يفعل، فذهبتْ أمّ المشتري

(5)

إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك. فقال: «تألَّى

(6)

أن لا يفعل خيراً»، فسمع بذلك ربّ الحائط فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: هو له. ولولا صحة البيع لم تترتب الإقالة عليه.

وأمّا النهي المذكور فهم قد تركوا ظاهره، فإنهم جوّزوا البيع قبل أن يبدو صلاحها بشرط القطع. وهذه معارضة صريحة لمنطوقه، فقد اتَّفقنا على أنه متروك الظاهر.

هذا، وإذا رضي البائع ببقائها يطيب الفضل في الثّمرة للمشتري، لأنه حصل له

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

أَبَرَ النخل: لَقَّحَهُ. المعجم الوسيط. ص 2، مادة (أَبَرَ).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 4/ 401، كتاب البيوع (34)، باب من باع نخلًا قد أُبِّرَت (90)، رقم (2204)، ومسلم في صحيحه 3/ 1172، كتاب البيوع (21)، باب من باع نخلًا عليها ثمر (15)، رقم (77 - 1543)، بلفظ: "من باع نخلًا قد أُبِّرَت

" الحديث.

(4)

الحائط: البُستان. المعجم الوسيط. ص 208، مادة (حاط).

(5)

في المخطوط: فذهب المشتري، والمثبت من المطبوع وهو الصواب، لموافقته لما في موطأ الإمام مالك 2/ 621، كتاب البيوع (31)، باب الجائحة في بيع الثمار والزرع (10)، رقم (15).

(6)

في المخطوط والمطبوع: يأبى، والمثبت هو الصواب لموافقته لما في الموطأ (الموضع السابق) ومعنى تألّى: حلف. النهاية (1/ 62).

ص: 307

كاسْتِثْنَاءِ قَدْرٍ مَعْلُومٍ.

‌فَصْلْ

[فِي خِيَارِ الشَّرْطِ]

صَحَّ خِيَارُ الشَّرْطِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَهُمَا

===

بطريقٍ مباحٍ، وإن لم يرض وتركها المشتري، تصدّق بما زاد من ذات الثّمرة، لحصول الزّيادة بمعنى من الشجر بلا إذن المالك، فلا يطيب له.

وتُعرف الزّيادة بالتقويم يوم البيع والتقويم يوم الإدراك، فالزيادة تفاوت بينهما. وإن تركها بعدما تناهى عظمها، لم يتصدّق بشيء، لأنها زادت جودة بتغير الطعم واللون، وذا من أثر الشمس والقمر لا ذاتاً.

(كاسْتِثْنَاءِ قَدْرٍ) كما يَفْسُدُ البيع باستثناء مقدارٍ (مَعْلُومٍ) من الثمر، مقطوعةً أو غير مقطوعةٍ، لأنه ربَّما لا يبقى شيء بعد المستثنى، فيخلو العقد عن الفائدة، بخلاف ما إذا استثنى نخلاً معيناً، لأنّ الباقي معلومٌ بالمشاهدة. وفي «المواهب»: لو باع الثمرةَ واستثنى منها أرطالاً معلومةً صحَّ البيع في ظاهر الرواية، لأن الأصل أن ما جاز إفراده بالعقد جاز استثناؤه من العقد، كما لو استثنى جزءاً مُشاعاً، وما لا يجوز إفراده بالعقد لا يصحّ استثناؤه منه، كما لو استثنى عضواً من الشّاة ونحوها. وقيل: يفسد، وهو رواية الحسن، واختارها الطّحاويّ لجهالة ما بقي من بعد الاستثناء.

فصلٌ

(في خِيَارِ الشَّرْطِ)

(صَحَّ) بالإجماع (خِيَارُ الشَّرْطِ)، والقياس أنْ لا يصحّ، لِمَا فيه من الغَرَر، ولظاهر نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيعٍ وشرطٍ

(1)

، إلاّ أنّ النَّص ورد به، وهو ما رواه ابن ماجه في «سننه»: أنّ حَبَّان بن مُنْقِذ بن عمرو كان رجلاً قد أصابته آمَّةٌ

(2)

في رأسه فكسرت لسانه، وكان لا يدع على ذلك التِّجارة، فكان لا يزال يُغْبَنُ، فأتى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال:«إذا أنت بايعت فقل: لا خِلَابة، ثم أنت في كلّ سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليالٍ، فإذا رضيت فأمسكها، وإن سخِطت فارددها على صاحبها» . وحَبَّان بفتح المهملة وتشديد الموحدة، ومُنْقِذ بالمعجمة، والخِلابة بكسر المعجمة: الخداعة.

(لِكُلَ مِنْهُمَا) أي لكل من البائع والمشتري، (وَلَهُمَا) أي معاً، ولغيرهما بإذنهما.

(1)

أخرجه الطبراني في الأوسط 4/ 530، حديث رقم (4361)، والحاكم في "معرفة علوم الحديث"، ص 128.

(2)

الآمَّة: الشجة بلغت أم الرأس. المعجم الوسيط. ص 27، مادة (أمم).

ص: 308

ثَلَاثَةَ أَيّامٍ أوْ أقَلَّ، لا أكْثَرَ.

===

وأفسد زُفَر العقد بالخيار لغير العاقد، وهو القياس.

(ثَلَاثَةَ أَيّامٍ أوْ أقَلَّ) بالنصب فيهما على الظرفية.

وقال سُفْيَان الثَّوْرِيّ، وابن شُبْرُمَة: يجوز الخيار للمشتري لا للبائع، لأنّه ثبت على خلاف القياس، فَيُقْتَصَرُ على مورد النّص وهو المشتري، لِمَا أخرجه الحاكم وسكت عنه، عن ابن عمر قال: كان حَبَّان بن مُنْقِذ رجلاً ضعيفاً، وكان قد سُفِعَ في رأسه مأمومةً ـ أي ضُرِبَ ـ فجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثة أيّامٍ فيما اشتراه، وكان قد ثقل لسانه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بع ـ أي اشتر ـ فقل: لا خِلَابة» ، وكنت أسمعه يقول: لا خِدابة لا خِدابة. يعني بإبدال اللام دالاً، لِثَقلِ لسانه، وبتكراره لإظهار بيانه. وكان يشتري الشيء ويجيء به إلى أهله فيقولون له: إنّ هذا غالٍ، فيقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خَيَّرني في بيعي. أي: شرائي.

وأجيب بأنّ خيار الشّرط إنّما جاز لحاجة النَّاس إليه لدفع الغبن بالتأمل والتفكر، وذلك يستوي فيه البائع والمشتري، على أنّ لفظ ابن ماجه:«إذا بايعت» ، وهو يشتمل البيع والشراء. بل رواه البخاري في «تاريخه الأوسط»:«إذا بعت فقل: لا خِلابة» . والأصل كونه على بابه، وإن جاز البيع بمعنى الشِّراء كما تقدّم.

(لا أكْثَرَ) أي لا يصحّ خيار الشّرط أكثرَ من ثلاثة أيّام، وهذا عند أبي حنيفة، وهو قول زُفَر والشّافعي. وقال مالك: مدّةُ الخيار ما يمكن اختيار المبيع في مثله، ويختلف باختلاف الأشياء، فإن كان المبيع مما لا يبقى أكثر من يومٍ كالفاكهة لم يجز فيه أن يشترط أكثر من يوم، وإن كان فيه صفةٌ لا يمكن الوقوف عليها في ثلاثة أيّام، يجوز أن يشترط فيه أكثر من ثلاثة أيّام، لأنه شُرِعَ للحاجة إلى التأمّل، وهي تندفع بذلك.

وقال أبو يوسف ومحمد وأحمد: يصح أكثر من ثلاثة أيّام إذا كان مدّةً معلومةً، كالتّأجيل في الثمن، سواء طالت أو قصرت، ولحديث ابن عمر أنَّه أجاز الخيار إلى شهرين. ولأبي حنيفة: أنّ شرط الخيار يثبت بالحديث على خلاف القياس، فلا يزاد على المدّة المذكورة فيه، وذلك أنّ التقدير الشَّرعي إمّا أنْ يمنع النقصان والزيادة كما في الحدود، أو يمنع أحدَهما كأقلِّ الحيض وأكثره، وهو ههنا لا يمنع النقصان بالإجماع، فيمنع الزّيادة، وإلاّ لم يكن له فائدة. ولأنّه صلى الله عليه وسلم ضرب الثلاثة لمن كان في غاية ضعف المعرفة، ولم يزد عليها.

ص: 309

إلّا أنّه يَجُوزُ إنْ أَجَازَهَ في الثَلَاثَةِ، وَكَذَا إنْ شَرَطَ أنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلى ثَلَاثَةٍ أوْ أكَثْرَ فَلَا بَيْعَ.

وَلَا يَخْرُجُ مَبِيعٌ عَنْ مِلْكِ بَائِعِهِ مَع خِيَارِهِ، فَهُلْكُهُ في يَدِ المُشْتَرِي بالقِيَمة

===

(إلاّ أنّه) أي البيع بشرط الخيار إذا كان أكثر من ثلاثة أيّام (يَجُوزُ إنْ أَجَازَهَ) من له الخيار (في الثَلَاثَةِ) وقال الشّافعي وزُفَر: لا يجوز، لأنّ البيع انعقد فاسداً لفساد الشرط الثابت فيه، فلا ينقلب صحيحاً بإسقاطه، كما لو باع درهماً بدرهمين، ثم أسقطَ الدّرهم الزائد، وكما لو نكح امرأة وتحته أربعة نسوة، ثم طلّق الرابعة. ولأبي حنيفة: أنه بإجازته في الثَّلاثة أسقطَ المُفسد قبل تقرّره، فصار كما لو باع جذعاً في سقف ثم نزعه وسلّمه. وفي «المحيط»: شرط الخيار أبداً، أو مطلقاً، أو مؤقتاً بوقتٍ مجهولٍ فاسدٌ خلافاً لمالك وأحمد.

(وَكَذَا) يجوز البيع (إنْ شَرَطَ أنَّهُ) أي المشتري (إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلى ثَلَاثَةِ) أيّام (أوْ أكَثْرَ فَلَا بَيْعَ) بينهما. أمّا إلى ثلاثة، فعند علمائنا الثلاثة، وأمّا إلى أكثر من الثلاثة، فعند محمد فقط، لكن إن نقد في الثَّلاثة صحَّ عند الثلاثة. والقياس أن لا يجوزَ البيعُ بهذا الشّرط، وهو قول زُفَر ومالك والشَّافعيّ وأحمد، لأنه بيع شُرِط فيه إقالةٌ فاسدةٌ لتعلّقها بشرطٍ وهو عدم نقد الثمن في ثلاثة أيّام، فلا يجوز كالبيع بشرط إقالة صحيحة بل أوْلى.

ولنا أنّه في معنى خيار الشرط في الحاجة والمقصود، لأنه يتخيرّ في الثلاثة بين الفسخ والإمضاء، وشرط الخيار جُوِّزَ لهذا المقصود. وفي «المُجْتَبَى»: ولو قال بعد البيع: جعلتك بالخيار ثلاثة أيّام، صحَّ بالإجماع. ولو زاد على الثلاثة أو أطلق، فسد البيع عند أبي حنيفة وزُفَر والشَّافعي، كالشرط الفاسد إذا لحق بالبيع الصحيح. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز كما في شرط الخيار.

(وَلَا يَخْرُجُ مَبِيعٌ عَنْ مِلْكِ بَائِعِهِ مَعْ خِيَارِهِ) أي مع أنّ الخيار لبائعه، لأنه باشتراطه الخيار له لم يتمّ رضاه، ولا يخرج المبيع عن ملك مالكه إلا بعد تمام رضاه. ولهذا ينفذ عِتقُ البائع ويملك التصرف فيه دون المشتري، وإن قبضه بإذن البائع.

وفي مذهب الشافعي ثلاثة أوجه: أحدها كمذهبنا، وهو قول مالك. وثانيها: أن المِلك ينتقل بنفس العقد، وهو قول أحمد. وثالثها: أنه موقوفٌ، فإن أمضى البيع تبيّن أن الملك قد انتقل بنفس العقد، وإن فسخ تبيّن أنه لم ينتقل.

فإذا عرفت ذلك (فَهُلْكُهُ) أي فهلاك المبيع (في يَدِ المُشْتَرِي) في مدّة خيار البائع يوجب ضمانَة (بالقِيَمة)، لأنّ البائع ما رَضِيَ بقبضة إلاّ بجهة العقد، والمقبوض

ص: 310

كَالمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. وَيَخْرُجُ مَع خِيارِ المُشْتَرِي، فَهُلْكة في يَدِهِ بالثَّمَنِ كَتَعَيُّبهِ، لَكِنْ لَا يَمْلِكُهُ المُشْتَرِي،

===

بجهة العقد يكون مضموناً بالقيمة (كَالمَقْبُوضِ عَلَى سَوْم الشِّرَاءِ)

(1)

إذا لم يكن مثلياً وهلك في يد المشتري، لأنّ الأصل هو الضمان بالقيمة، وإنما يُعْدَل عنه عند تمام البيع، ولم يوجد. وهذا قول مالك، والوجه المشهور في مذهب الشّافعي. وفي وجه آخر يَضمَنه بالثمن، وهو قياس قول أحمد.

قيَّد بالهلاك لأنه لو تعيَّب في يد المشتري، كان البائع بالخيار، إن شاء ألزم البيع، وإن شاء فسخه، وضمن المشتري النقصان، لأنه مضمون عليه بجميع أجزائه كالمغصوب. ولو تعيب في يد البائع، فإن تعيّب (بفعله ينتقض البيع بقَدْرِهِ، وتسقط حِصَّته من الثمن، وإن تعيّب)

(2)

لا بفعله، فالمشتري إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء فسخ كما في البيع المطلق عن خيار الشرط. وقيّد الهلاك بكونه في يد المشتري، لأنه لو كان في يد البائع انفسخ البيعُ بلا شيء كالبيع المطلق.

(وَيَخْرُجُ) المبيع عن ملك بائعه (مَع خِيارِ المُشْتَرِي) لأنّ البيع من جهة بائعه لازمٌ، إذ الخيار شُرِعَ نظراً لمن هو له، فيعمل في حقّه دون الآخر. وفي مذهب الشَّافعيّ هنا أيضاً ثلاثة أوجه كما فيما إذا كان الخيار للبائع على ما تقدّم. (فَهُلْكُهُ في يَدِهِ) أي فضمان هُلْكِ المبيع في يد المشتري (بالثَّمَنِ كَتَعَيُّبهِ) أي كضمان تعيب المبيع في يد المشتري بعيب لا يرتفع في مدّة الخيار، فإنه بالثمن، سواء تعيّب بفعله أو بفعل غيره أو بآفة سماويّة. وقال زُفَر والشَّافِعيّ ـ في قولٍ: ضمانه بالقيمة كما لو كان الخيار للبائع. قيّدنا العيب بكونه لا يرتفع في مدة الخيار، لأنه لو كان يرتفع فيها كان على خياره، فإن ارتفع فيها فله الفسخ بعد ارتفاعه. وإن لم يرتفع لزم العقد لتعذّر الرّد.

(لَكِنْ لَا يَمْلِكُهُ المُشْتَرِي) عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يملكه، وهو قول مالك وأحمد والشَّافِعيّ، لأنه لو لم يملكه لكان خارجاً من ملك البائع لا إلى

(1)

وبيان ذلك أن المساوم إنما يلزمه الضمان إذا رضي بأخذه بالثمن المسمى على وجه الشراء، فإذا سمّى الثمنَ البائعُ، وتسلّم المساوم الثوب على وجه الشراء، يكون راضيًا بذلك، كما إذا سمّى هو - المساوِمُ - الثمن وسلّم البائع يكون راضيًا بذلك، فكأن التسمية صدرت منهما معًا. بخلاف ما إذا أخذه على وجه النظر، لأنه لا يكون ذلك رضى بالشراء بالثمن المسمى، فلو قال له البائع: هذا الثوب لك بعشرة دراهم، فقال: هاته حتى أنظر فيه، أو قال: حتى أُرِيَهُ غيري، فأخذه على هذا، فضاع، لا شيء عليه. ولو قال: هاته، فإن رضيتُه أخذتُه، فضاع فهو على ذلك الثمن. "ردّ المحتار على الدرّ المختار" 4/ 50.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 311

فَلَا تَثْبُتُ أَحْكَامُ المِلْكِ كَعِتْقِ قَرِيبِهِ وَنَحْوِهِ.

والفَسْخُ لَا يَعْملُ إلّا أنْ يَعْلَمَ صَاحِبُهُ في المُدَّةِ

===

مالك، ولم يعرف هذا بالشرع.

ولأبي حنيفة أنّ الثمن لم يخرج عن ملك المشتري، لأنّ الخيار يعملُ في حقّ من هو له، فلو دخل المبيع في ملكه لدخل بلا عوضٍ، ولاجتمع في ملكه العوضُ وعِوَضُه

(1)

، ولم يعرف هذا في الشّرع. وعُرف فيه الخروج عن ملك شخص لا إلى مالك في صور منها: ما إذا اشترى متولّي أمر الكعبة عبداً لخدمتها، فإنه يخرج عن ملك مالكه ولا يدخل في ملك أحد، ومنها: مال التركة إذا استغرقه الدّين، فإنه يخرج عن ملك الميت ولا يدخل في ملك الورثة، (ولا الغرماء)

(2)

، ومنها الوقف على ما سيجيء إن شاء الله تعالى.

(فَلَا تَثْبُتُ أَحْكَامُ المِلْكِ) للمشتري إذا كان الخيار له عند أبي حنيفة لعدم ملكه (كَعِتْقِ قَرِيبِه) بأن اشترى قريبه بالخيار، فإنه لا يعتِقُ في مدّته عند أبي حنيفة، ويعتق عندهما. (وَنَحْوِه) أي ونحو القريب في العتق بالشِّراء، وهو العبد الذي كان مشتريه بشرط الخيار قال: إن ملكتُ عبداً فهو حرّ، فإنه لا يعتق في مدّة الخيار عند أبي حنيفة، ويعتق عندهما. وإنّما قلنا أن مشتريه قال: إن ملكت، لأنه لو قال: إن اشتريت، يعتق في المدّة باتفاقٍ، أمّا عندهما فلوجود الملك، وأمّا عند أبي حنيفة فلأن المعلّق بالشرط كالمطلق عند وجود ذلك الشرط، وهو لو أطلق العتق بعد شرائه بالخيار، يعتق.

(والفَسْخُ) أي فسخ من له خيار الشّرط بالقول، سواء كان بائعاً أو مشترياً أو أجنبياً، (لَا يَعْملُ) عند أبي حنيفة ومحمد (إلاّ أنْ يَعْلَمَ صَاحِبُهُ) أي صاحب الفاسخ، وهو العاقد الذي لا خيار له (في المُدَّةِ) أي مدة الخيار، سواء كان غائباً أو حاضراً. وقال أبو يوسف: يعمل وإن لم يعلم صاحبه، وهو قول مالك والشَّافعيّ وأحمد، لأن من له الخيار مسلّطٌ على الفسخ من جهةِ مَنْ لا خيار له، فلا يتوقف فسخه على علمه كالإجازة، وصار كالوكيل بالبيع فتصرّف فيما وُكِّلَ، وإن لم يعلم مُوَكِّله.

ولهما

(3)

: أنّ من لا خيار له قد يلحقه الضَّرر إذا فَسخ بغير علمه مَنْ لَهُ الخيار، فإنّ الخيار إذا كان للبائع ومضت المدّة يَظنّ المشتري أنّ البيع تمّ بناءً على الظاهر، فيتصرّف في المبيع، ثم يظهر أنه مِلكٌ لغيره، فيلحقه الضمان بالهلاك. وإذا كان

(1)

في المطبوعة: ومعوضه.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

أي لأبي حنيفة ولمحمد القائلين بعدم إعمال الفسخ إلا بعلم صاحبه.

ص: 312

بِخِلَافِ الإجَازَةِ، وَيَسْقُطُ الخِيَارُ بِمُضِيّ المُدَّةِ.

وَمَا يَدُلَّ عَلَى الرِّضَى: كالْرّكُوبِ، وَالوَطْئِ، وَشِرَاءِ أَحَدِ الثَّوْبَيْنِ، أو أحَدِ الثَّلَاثَةِ، عَلَى أنْ يُعَيِّن أحَدًا، صَحّ، لَا فِي الأكْثَرِ

===

للمشتري، فالبائع لا يطلب لسلعته مشترياً بناءً على أن البيع تمّ بِمُضِيّ المدّة، فإذا أخبره المشتري بعد ذلك أنه كان فسخ العقد تضرّر. وقال الكَرْخِيّ: وعلى هذا الخلاف خيار الرؤية، بخلاف خيارُ العيب، فإنه لا يصحّ فسخه بدون علم صاحبه باتفاقٍ.

(بِخِلَافِ الإجَازَةِ) فإنها تعمل وإن لم يعلم صاحب المجيز، لأنه لا ضرر فيها عليه إذ العقد لازمٌ من طرفه. قيّدنا الفسخ بكونه بالقول لأنه لو كان بالفعل بأن أعتق أو وطاء أو باع

(1)

، فإنّ العقد ينفسخ وإن لم يعلم صاحبه، لأنّ فسخه حينئذٍ حكمي، وهو لا يشترط فيه العلم كعزل الوكيل. وقَيَّد علم صاحبه بكونه في المدّة، لأنه لو كان بعدها، بأن فسخ حال غيبته، ومضت المدَّة قبل علمه، تمّ العقد.

ثم اعلم أنّه يثبت الخيار لكلّ من العاقد والمشروط له من غير العاقدين

(2)

، فإن أجاز أحدهما البيع وفسخ الآخر، يُعتبر الأسبق منهما، ردّاً كان أو إجازة، لأنّ السابق إن كان ردّاً انفسخ العقد، والمفسوخ لا يُجَاز، وإن كان إجازة انبرم، وبعد انبرامه لا ينفرد أحد العاقدين بفسخه، فإن وُجِدَا معاً، فالفسخ أحقّ على الأصحّ. وقيل: تصرف العاقد أحقّ.

(وَيَسْقُطُ الخِيَارُ بِمُضِيّ المُدَّةِ) لأنه لا يثبت إلاّ فيها، فيكون مقدَّراً بمُضِيها. (وَمَا) أي وبفعل ما (يَدُلَّ عَلَى الرِّضَى كَالْرُّكُوبِ) في الدّابة إذا كان له منه بدٌّ، أما ركوبها لينظر إلى سيرها فلا يُبْطِلُ خياره، لأنه لا بدّ له منه للامتحان. (وَالوَطْاءِ) أي كالوطاء في الأَمةِ، لأنه لا يَحِلّ في غير الملك. (وَشِرَاءِ أَحِد الثَّوْبَيْنِ أو أحَدِ الثَّلَاثَةِ، عَلَى أنْ يُعَيِّنَ) المشتري (أحَداً) أي واحداً، ويشاء في ثلاثة أيّام. (صَحّ) ويسمّى هذا خيار التعيين. وقال زُفَر والشَّافعي رحمهما الله: لا يصحّ.

(لَا فِي الأكْثَرِ) أي لا يصحّ شراء أحدٍ أكثرَ من ثلاثة على أن يعين واحداً، لأنّ الحاجة تندفع بالثلاثة لاشتمالها على الجيّد والرديء والوسط.

(1)

هذا إذا كان خيار الشرط للبائع. وأما إذا كان خيار الشرط للمشتري فصورته ما إذا كان الثمن عينًا، فيتصرف فيه المشتري تصرف المُلاك. "رد المحتار على الدر المختار" 4/ 55.

(2)

وصورته: لو شرط أحد المتعاقدين البائع أو المشتري الخيار لأجنبي، صح وثبت الخيار لهما - أي لأحد العاقدين وللأجنبي - فإن أجاز أحدهما أو نقض صح إن وافقه الآخر. وإن أجاز أحدهما وعكس الآخر، فالأسبق أولى كما يبينه الشارح. ولمزيد من التفصيل انظر "رد المحتار" 4/ 57.

ص: 313

وَشِرَاءُ عبْدَيْنِ بالْخِيَارِ في أحَدِهِمَا، صَحَّ إنْ فَصَّلَ الثَّمَنَ، وَعَيَّن مَحَلَّ الخِيَارِ. وَفَسَدَ البَيْعُ في الأوجُه البَاقِيَةِ.

وَعَبْدٍ مَشْرِيٍّ بِشَرْطِ كَتْبِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ، أَخَذَ بِثَمَنِهِ أوْ تَرَكَ. وَيُوَرَّثُ خِيَارُ التَّعْيِيِن والعَيْبِ، لَا الشَّرْطِ والرُّؤْيَةِ.

‌فَصْلٌ

[فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ]

صَحَّ شَراءُ مَا لَمْ يَرَهُ،

===

(وَشِرَاءِ عبْدَيْنِ) وكذا بيعهما (بالْخِيَارِ في أحَدِهِمَا، صَحَّ إنْ فَصَّلَ) البائع (الثَّمَنَ وَعَيّنَ مَحَلَّ الخِيَار) لأنّ المبيع معلومٌ، والثَّمن معلومٌ. قيّد بالعبدين، لأنّ شراء الكَيْلِيّ والوَزْنِيّ، أو العبد الواحد على أنّه بالخيار في نصفه جائز، سواء فصّل الثمن أو لم يفصّل، لأنّ النّصف من الشيء الواحد لا يتفاوت.

(وَفَسَدَ البَيْعُ في الأَوجُه البَاقِيَةِ) وهي ما إذا لم يفصّل الثَّمن ولم يعيّن محل الخيار، أو فصّل ولم يعّين، أو عيّن ولم يفصّل، لجهالة الثَّمن والمبيع في الأول، وجهالة المبيع في الثاني، وجهالة الثَّمن في الثّالث.

(وَعَبْدٍ مَشْرِيًّ) كمَرْمِيّ اسم مفعول من الشراء. وفي نسخة: مشترىً. (بِشَرْطِ كَتْبِهِ) أي بشرط أنه كَاتِبٌ (وَلَمْ يُوجَدْ) الشَّرط، (أَخَذَ) المشتري ذلك العبدَ (بِثَمَنِهِ أوْ تَرَكَ) وهو قول الشّافعيّ، لأن الكِتَابة وصفٌ مرغوبٌ فيه، فيُسْتَحَقُّ بالشرط، ويثبت بفواته الخيار للمشتري، لأنه لم يرض بالعبد دونه، ويُكْتَفَى بأدنى ما يُطْلَقُ عليه اسم الكاتب لوجود الشرط. نصّ عليه محمد في «الزيادات» ، وهو قول الشّافعي.

(وَيُوَرَّثُ خِيَارُ التَّعْيِيِنِ و) خيار (العَيْبِ) أي يثبت كل منهما ابتداء لوارثٍ: هو له ـ لاستحقاقه ـ المطالبةُ بعده. (لَا الشَّرَطِ) أي لا يورّث خيار الشرط، (و) لا خيار (الرُّؤْيَةِ).

وقال مالك والشَّافعيّ: يورّث خيار الشّرط، لأنه حقّ في المبيع فيجري فيه الإرث كخيار العيب وخيار التعيين. ولنا: أنّ خيار الإنسان لا ينتقل إلى غيره بل ينقطع بموته، وإنما يورّث ما يحتمل الانتقال، وأمّا خيار العيب فإنّ المورِّث استحق المبيع سليماً فكذا وارثه. وخيار التعيين فإنه يثبت للوارث ابتداءً في ضمن اختلاط ملكه بملك البائع. وتوضيحه أن الثابت بالشَّرط لا يورَّث ويسقط، ولكنه وَرِثَ المبيع مجهولاً مختلطاً بملك الغير، فيثبت له خيار التعيين ابتداءً، كمن اختلط ماله بمال رجلٍ يثبت له خيار التعيين.

فصلٌ

(في خيار الرؤية)

(صَحَّ شَراءُ مَا لَمْ يَرَهُ) سواء ذُكِرَ وصفه أو لم يُذْكَر، كمن اشترى زيتاً في

ص: 314

وَلِمُشْتَريهِ خِيَارُهُ عِنْدَهَا إلى أنْ يُوجَدَ مُبْطِلُهُ،

===

زِقَ

(1)

، أو بُرّاً في عِدْلٍ

(2)

، أو دَرَّةً

(3)

في حُقَّةٍ

(4)

، أو ثوباً في كُمَ واتَّفقا على أنّه موجودٌ في مِلكه ولم يَرَ المشتري شيئاً من ذلك. (وَلِمُشْتَريهِ خِيَارُهُ) أي خيار ما لم يره. وفي نسخة: الخيار. (عِنْدَهَا) أي عند الرُّؤية (إلى أنْ يُوجَدَ مُبْطِلُهُ) أي مبطل خيار الرُّؤية، وهو ما يدلّ على الرِّضا. وقال الشافعيّ: لا يَصِحّ شراء ما لم يره إن لم يكن جنسه معلوماً للمشتري، وإن كان معلوماً يجوز على قوله القديم، ولا يجوز على قوله الجديد. واختار كثيرٌ من الشَّافعية الجواز منهم القَفَّال. وعن مالك الجواز وعدمه. وقال بعض أصحابه: لا يصحّ بلا ذِكْر صفةٍ ولا تقدُّم رؤيةٍ.

لهما في عدم الجواز: نهيُه عليه الصلاة والسلام عن بيع الغَرَر

(5)

. والغَرَرُ ما يكون مستورَ العاقبة، وهو موجودٌ فيما لم يره، ونهيُه عليه الصلاة والسلام عن بيع ما ليس عند الإنسان

(6)

. والمراد ما ليس بحاضرٍ مَرْئِيَ للمشتري، لإجماعنا على أنّ المشتري إن كان رآه، فالعقد جائز وإن لم يكن حاضراً عند العقد.

ولنا العمومات المجوِّزة للبيع مثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}

(7)

وما رواه ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» والدَّارَقُطْنِيّ والبَيْهَقِيّ في «سُنَنَيْهِما» مرسلاً: حدَّثنا إسماعيل بن (عَيّاش، عن)

(8)

أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن مَكْحُول رفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«من اشترى شيئاً لم يره، فله الخيار إذا رآه، إنْ شاء أخذ، وإن شاء ترك» . قال الدَّارَقُطْنِيّ: أبو بكر بن أبي مريم ضعيفٌ.

وأُجِيبَ: بأن تضعيف ابن أبي مريم لجهالة عدالته، لا يُنَافي علم غير المضعِّف بها

(9)

. وقد رواه أيضاً الحسن البَصْرِيّ، وسَلَمَةُ بن المُحَبَّق عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وروى الدَّارَقُطْنِيّ مسنداً عن دَاهِرِ بن نوحٍ، عن عمر بن إبراهيم بن خالد الكُرْدِيّ، عن وَهْب

(1)

الزِّقُّ: وعاء من جلدٍ يجز شعره ولا يُنْتَف للشراب وغيره. المعجم الوسيط. ص 396، مادة (زَقْ).

(2)

العِدْلُ: نصف الحِمْل يكون على أحد جنبي البعير. المعجم الوسيط. ص 588، مادة (عدل).

(3)

الدَّرة: اللَّبَن. المعجم الوسيط. ص 279، مادة (دَرَّ).

(4)

الحُقَّةُ: وعاء صغير ذو غطاء، المعجم الوسيط. ص 188، مادة (حق).

(5)

مر تخريجه صفحة 304، تعليق رقم (2).

(6)

أخرجه أبو داود في "سننه" 3/ 768 - 769، كتاب البيوع والإجارات (22)، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده (68)، رقم (3503)، بلفظ:"لا تبع ما ليس عندك".

(7)

سورة البقرة، الآية:(275).

(8)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع، وهي موافقة لما في سنن الدَّارقُطني 3/ 4، كتاب البيوع. رقم (5).

(9)

أي إن مَنْ ضعَّفه لجهالة عدالته، لا يعني أن غيره لم يعلم عدالته.

ص: 315

وَإِنْ رَضِيَ قَبْلَهَا، لا لِبَائِعِهِ.

===

اليَشْكُرِيّ، عن ابن سيرين، عن أبي هُرَيْرَة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«من اشترى شيئاً لم يره، فهو بالخيار إذا رآه» .

قال الكُرْدِيّ: وأخبرني الفُضَيْل بن عِيَاض، عن هِشَام، عن ابن سيرين

(1)

، عن أبي هُرَيْرَة عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله. قال عمر وأخَبرني القاسم بن الحكم، عن أبي حنيفة (عن الهَيْثَم)

(2)

، عن ابن سيرين، عن أبي هُرَيْرَة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمثله. لكن قال الدَّارَقُطْنِيّ: وعمر بن إبراهيم هذا يَضَعُ الأحاديث، ولم يروه غيره، أي مسنداً، وإنّما يُعْرَف هذا عن ابن سيرين من قوله. وقال ابن القَطَّانِ في كتابه: والراوي عن الكُرْدِيّ دَاهِر بن نوح، وهو لا يُعْرف، ولعلَّ الجِنَاية منه.

هذا، وتأويل النَّهي عن بيع ما ليس عند الإنسان: بيع ما ليس في ملكه، بدليل قصة الحديث. قال حكِيمُ بن حِزَام: فقلت يا رسول الله يأتيني الرَّجل يطلب مني بيعةً ليست عندي، فأبيعها منه، ثُمَّ أدخل السُّوق فأستجيدها، فأشتري بها، فأسلِّمُها إليه. فقال صلى الله عليه وسلم:«لا تبع ما ليس عندك»

(3)

. والنهي عن بيع الغرر ينصرف إلى ما لا يكون معلوم العين: كالطير في الهواء، والسمك في الماء.

إذا عُرِفَ هذا فيخيّرُ المشتري فقط (وَإِنْ) كان (رَضِيَ قَبْلَهَا)«إنْ» هذه وصلية أي: وللمشتري أنْ يردّ المبيع عند الرُّؤية وإن رَضِيَ قبل الرّؤية، بأنْ قال بعد تمام العقد: رضيت بذلك المبيع على أي وصفٍ كان، لأنّ هذا الخيار تعلّق ثبوته بالرّؤية فكان عدماً قبلها، (فلا يصحّ إسقاطه قبلها)

(4)

. ثمَّ لا رواية في الرَّدِّ قبل الرّؤية، واختَلَف فيه المشايخ فقيل: لا يملكه المشتري كالإجازة، وقيل: يملكه، وهو ظاهر مذهب أصحابنا.

(لا لِبَائِعِهِ) أي لا خيار لبائع ما لم يره. وكان أبو حنيفة أولاً يقول: (له الخيار)

(5)

قياساً على المشتري، ثمّ رجع إلى أنّه لا خيار له. لِمَا روى الطّحَاوِيّ والبَيْهَقِيّ عن عَلْقَمَة بن أبي وَقَّاص: أنّ طَلْحَةَ اشترى من عثمان مالاً، فقيل لعثمان: إنك قد غُبِنْتَ فقال عثمان: لي الخيار لأني بعت ما لم أره. قال طلحة: لي الخيار لأني اشتريت

(1)

في المخطوط: شُبْرُمَة. والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لِمَا في سنن الدارقُطْنِي، 3/ 4 - 5، كتاب البيوع، رقم (10).

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط، وهي صحيحة لموافقتها لما في سنن الدَّارقُطْنِيّ (الموضع السابق).

(3)

مرّ تخريجه صفحة 315، تعليق رقم (5).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 316

وَيُبْطِلُهُ وَخِيَارَ الشَّرْطِ تَعَيُّبُهُ وَتَصَرُّفٌ يُوجِبُ حَقًّا لِغَيْرِهِ: كَالْبَيْعِ بِلَا خِيَارٍ، قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَبَعْدَهَا. وَمَا لَا يُوجِبُهُ: كَالْبَيْعِ بِخِيَارٍ، وَمُسَاوَمَةٍ، وَهِبَةٍ بَلَا تَسْلِيم، يُبْطِلُ بَعْدَهَا فَقَطْ.

وَيُعَتَبَرُ رُؤْيَةُ المَقْصُودِ كَوَجْهِ الأمَةِ،

===

ما لم أره. فحكَّما بينهما جُبَيْرَ بن مُطْعِم، فقضى أنّ الخيار لطلحة، ولا خيار لعثمان، (وكان ذلك بمحضر من الصحابة)

(1)

، فقد اتَّفقوا على جواز الشِّراء.

(وَيُبْطِلُهُ) أي ويبطل خيار الرُّؤية (وَ) يبطل (خِيَارَ الشَّرْطِ) أيضاً (تَعَيُّبُهُ) أي المبيع بتعد أو غيره عند المشتري دفعاً للضَّرر عن البائع، لأنّه خرج عن ملكه سليماً، فلا يعود إليه معيباً. (وَتَصَرُّفٌ) من المشتري، وهو بالرفع عطف على تعيبه (يُوجِبُ) ذلك التّصرف (حَقّاً لِغَيْرِهِ كَالْبَيْعِ بِلَا خِيَارٍ) والإعتاق والتّدبير والرّهن والإجارة (قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَبَعْدَهَا) أَمّا قبل الرّؤية، فلتعذّر الفسخ في هذه التّصرفات لوقوعها صحيحة لابتناء صحتها على قيام الملك، وقد وُجِدَ، وبعد صحتها لا يمكن رفعها، وأمّا بعد الرّؤية لأنها دليلٌ على الرضا.

(وَمَا) أي وتصرف من المشتري، وهو مبتدأ صفته (لَا يُوجِبُهُ) أي لا يوجب حقّاً لغير المشتري (كَالْبَيْعِ بِخِيَارٍ وَمُسَاوَمَةٍ) بعدها، أي كمساومة لسلعة، وهو عرض المبيع للبيع (وَهِبَةٍ بَلَا تَسْلِيم يُبْطِلُ) خيار الرّؤية خبر المبتدأ (بَعْدَهَا) أي بعد الرّؤية لوجود ما يدلّ على الرضا، (فَقَطْ) أي ولا يبطل خيار الرّؤية قبلها، لإنها لا تزيد على صريح الرضا، وهو لا يبطل خيار الرّؤية قبلها.

إلاّ أنّه إذا تعلّق به حقّ الغير، صار ذلك الحقّ مانعاً من الفسخ، ولاحقّ هنا.

ويُبْطِلُ خيار الرّؤية أيضاً قبضُ المبيع بعد الرُّؤية، لأنه يدلّ على الرّضا، لأنه مؤكدٌ لحكم العقد فشابه البيع. ثم اعلم أنّ قوله: كالبيع بلا خيارٍ، يعني للبائع، سواء كان بلا خيارٍ أصلاً، أو بخيارٍ للمشتري أو لغيره، لأنّ البيع حينئذٍ من جانبه باتٌ لازمٌ. وإنّ قوله: كالبيع بخيار، يعني للبائع، لأنّ البيع من جانبه حينئذٍ غير باتٍ، وإنّ قوله في المسألة الأولى الرّؤية، وبعدها منصوب (يبطله، كما إنّ قوله في مقابلها: بعدها فقط منصوبٌ)

(2)

يبطل.

(وَيُعَتَبَرُ رُؤْيَةُ المَقْصُودِ) لأنه بها يحصل العلم بالمبيع، ولا يشترط رؤية غيره، ولا يُكْتَفَى بها وحدها حتّى لو رأى سائر أعضائه دون ما هو المقصود، كان باقياً على خياره (كَوَجْهِ الأمَةِ) والعبد، وإنّما كان المقصود في الرقيق وجهه، لأن سائر

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 317

والدَّابَّةِ، وَكَفَلِهَا، ومَوْضِعِ عَلَمِ المُعْلَمِ، وَظَاهِرِ غَيْرِهِ، وبُيُوتٍ مَقْصُودَةٍ وَنَظَرِ وَكِيلِهِ بِالشِّرَاءِ أوْ القَبْضِ، لَا نَظَرُ رَسُولِهِ. وَجَسُّ الأعْمَى وَشَمُّهُ وَذَوْقُهُ، وَوَصْفُ العَقَارِ عِنْدَهُ.

===

الأعضاء فيه تبعٌ لوجهه، لأنّ القيمة فيه تتفاوت بتفاوته مع التّساوي في سائر الأعضاء.

(والدَّابَّةِ) أي، ووجهها (وَكَفَلِهَا)

(1)

هذا هو الصحيح. وقال محمد: يكفي رؤية الوجه اعتباراً بالرقيق. وقال بعض المشايخ، وهو مذهب الشَّافعي: لا بدّ: من رؤية الوجه والكَفَل والقوائم، وأما فيما يُطعَم من السَّمنِ والعسل ونحوهما فلا بد من الذَّوق، لأنّ العلم بما هو المقصود لا يحصل إلاّ به.

(ومَوْضِعِ

(2)

عَلَمِ

(3)

) الثوب (المُعْلَمِ) لأنّ ماليَّتَه تتفاوت بحسبه (وَظَاهِرِ غَيْرِهِ) أي غير المُعْلَم لأنّ برؤية ظاهره يُعْلَمُ حال البقية، إذ لا تتفاوت أطراف الثّوب الواحد إلاّ يسيراً، وذا غير معتبر. وأطلق المصنّف، وهو مقيدٌ بما إذا كان مطويّا. وفي «المحيط»: قيل: هذا في عرفهم، أمّا في عرفنا فما لم ير الباطنَ لا يسقط خياره. وعند الشّافعيّ لا بدّ من نشره ورؤية كلّه في قولٍ، وهو قول زُفَر لأنْه ليس بمثلي، فلا يُعْرَفُ كله بدون ذلك.

(وبُيُوتٍ) في الدّار (مَقْصُودَةٍ) هذا قول زُفَر وهو الأصحّ، لأنّ بيوتها تختلف بالشتوية والصيفية، والعُلْوية والسُّفلية. وعامة الروايات على أنه يكفي رؤية صحن الدَّار دون بيوتها، وكذا رؤية خارجها، وهو مبنيّ على عادة أهل الكوفة في ذلك الزَّمان. فإنّ دُورهم كانت على نمطٍ واحدٍ لا تختلف إلاّ بالكبر والصغر، وبكونها جديدة أو عتيقة، وذلك يظهر برؤية خارجها، وأمّا اليوم فلا بدّ من النظر إلى داخلها لتفاوت بيوتها ومرافقها. وفي «المُحِيط»: وبعضهم شرط رؤية الكلّ، وهو الأظهر كما قال الشّافعيّ.

(وَ) يعتبر (نَظَرُ وَكِيلِهِ بِالشِّرَاءِ أوْ القَبْضِ لَا نَظَرُ رَسُولِهِ) أمّا نظر وكيله بالشراء فباتفاقٍ، وأمّا نظر وكيله بالقبض فعند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: الوكيل بالقبض والرسول سواء، وللمشتري أن يردّه إذا رآه. (وَ) يعتبر (جَسُّ الأعْمَى) فيما يُعْرَفُ بالجسّ كشاة اللّحم (وَشَمُّهُ) فيما يُعْرَفُ بالشَّمِّ كالمسك وماء الورد (وَذَوْقُهُ) فيما يُعْرَفُ بالذَّوقِ. (وَ) يُعْتَبَرُ (وَصْفُ العَقَارِ) للأعمى (عِنْدَهُ) أي عند العَقَار.

(1)

الكَفَلُ: العَجُزُ للإنسان والدّابَة. المعجم الوسيط. ص 793، مادة (كفل)، والعَجُزُ: مؤخر الشيء. المعجم الوسيط. ص 585، مادة (عجز).

(2)

في المطبوع: موضوع، والمثبت من المخطوط.

(3)

العَلَمُ: رسمٌ في الثوب. المعجم الوسيط. ص 624، مادة (علم).

ص: 318

وَمَنْ رَأَى شَيْئًا ثُمَّ شَرَى، فَلَهَ الخِيَارُ إنْ تَغَيَّرَ، وَالقَوْلُ لِلْبَائِعِ في عَدَمِ تَغَيُّرِهِ، وَلِلْمُشْتَرِي في عَدَمِ رُؤْيَتِهِ.

‌فَصْلْ

[فِي خِيَارِ العَيْبِ]

وَلِمُشْتَرٍ وَجَدَ بِمَشْرِيِّهِ عَيْبًا نَقَّصَ ثَمَنَهُ عِنْدَ التُّجَّار رَدُّهُ، أوْ أَخْذُهُ بِثَمَنِهِ كُلِّه.

===

(وَمَنْ رَأَى شَيْئاً ثُمَّ شَرَى) ما رآه بعد مدّة (فَلَهَ الخِيَارُ إنْ تَغَيَّرَ) المُشْتَرَى، لأنّ تلك الرُّؤية لم تقع مُعلِمة بأوصافه، فصار كأنه لم يره. قيّد بتغيره لأنه لو لم يتغيّر لم يكن له الخيار، لأنّ العلم بأوصافه حاصلٌ له بالرُّؤية السابقة، وقد رَضِيَ به ما دام على تلك الصفة.

(وَالقَوْلُ لِلْبَائِعِ) مع يمينه (في عَدَمِ تَغَيُّرِهِ) إن اختلفا في تغيّره وكانت المدّة قريبة يُعلم أنّه لا يتغيّر في مثلها، لأنّ الأصل بقاء ما كان على حاله، فلا يصدّق المشتري في دعوى التغيّر إلاّ ببينةٍ، إلاّ إذا بعدت المدّة بأن رأى أمةً شابةً، ثمَّ اشتراها بعد عشرين سنة، لأنّ الظاهر يشهد له (وَ) القول (لِلْمُشْتَرِي) مع يمينه (في عَدَمِ رُؤْيَتِهِ) إن اختلفا فيها لأنّها أمرٌ حادثٌ، والمشتري ينكره، فيكون القول له. ولو اشترى شيئاً مُغيَّباً في الأرض، كالجزر والفُجل والبصل والثوم وأصول الزَّعْفَرَان وما أشبه ذلك، يجوز، وبه قال مالك وأحمد، وله الخيار إذا رأى جميعه. ورؤية بعضه لا تبطل خياره عند أبي حنيفة، لأنّ هذه الأشياء تتفاوت بالصغر والكبر، والجودة والرداءة. وقال أبو يوسف ومحمد: رؤية بعض أحد هذه الأشياء كرؤية كلّه، لأنّ بعض الواحد منها يستدلُّ به في العادة على جميعه، فصارت كالمكيل والموزون والعددي المتقارب.

فصلٌ

(في خِيَارِ العَيْبِ)

(وَلِمُشْتَرٍ) خبر مقدم (وَجَدَ بِمَشْرِيِّهِ) أي بمشتراه (عَيْباً نَقَّصَ) بفتح القاف المشدّدة (ثَمَنَهُ عِنْدَ التُّجَّار) يعني وقبضه غير عالم بالعيب (رَدُّهُ) مبتدأ الخبر المقدّم (أوْ أَخْذُهُ) بصيغة المصدر، أي أخذ المشتري (بِثَمَنِهِ (كلّه)

(1)

) قيّد النقص بكونه عند التّجار، لأنّ المرجع في معرفة ذلك إليهم. وفي «الذَّخيرة»: كلّ شيءٍ إذا رجع إلى أهل صنعته يعدُّونه عيباً، فهو عيبٌ وإن لم يُوجب نقصاً في العين ولا في منافعها، لأنّه عندهم يوجب نقص ثمنه. نظيره الظُّفَر الأسود إن كان يُنقِص الثمن، فهو عيبٌ كما في

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

ص: 319

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الأتراك. وإن كان لا ينقصه، فليس بعيب كما في الحبش. وإنّما كان للمشتري الخيار بالعيب، لأنّ مطلق العقد يقتضي السَّلامة، فعند فواتها يتخيّر المشتري كي لا يتضرّر بلزوم ما لا يرضى به. وإنما لم يكن له أنْ يأخذه ويأخذ النقصان لتضرّر البائع، لأنه ما رَضِيَ بزوال المبيع عن ملكه إلاّ بكلّ الثمن.

وفي «البخاري» : ويُذْكَرُ عن العَدّاء بن خالد قال: كتب لي النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «هذا ما اشترى محمدٌ رسول الله من العَدَّاء بن خالد، بيعَ المُسْلِم المُسْلِمَ، لا داءَ ولا خِبْثَة ولا غَائِلَه، ثم قال البخاري: وقال قتادة: الغائلة: الزِّنا والسَّرقة والإباق. وروى ابن شاهين في «المعجم» عن أبيه قال: حدّثنا عبد العزيز بن معاوية القُرَشِيّ قال: حدّثنا عَبَّاد بن ليث قال: حدّثنا عبد الحميد بن وَهْبٍ قال: قال لي العدَّاء بن خالد بن هَوْذَة: ألا أقرأ لك كتاباً كتبه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟: «هذا ما اشترى العدّاء بن خالد بن هَوْذَة من محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً أو أمة، لا داء ولا غَائِلة ولا خِبْثَة، بيع المُسلِم المسلِمَ» . ففي هذا الحديث أنّ المشتري العدّاء، وفي الأول أنه النّبي صلى الله عليه وسلم. وصحّح في «المُغْرِب» أنّ المشتري كان العدّاء.

وتعليق البخاري إنّما يكون صحيحاً إذا لم يكن بصيغة التمريض

(1)

كـ: يُذْكَرُ، بل بنحو قوله: وقال قتادة. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «بيع المسلم المسلم» دليلٌ على أنّ بيعَ المُسلمِ المُسلمَ ما كان سليماً. ويدلّ عليه قضاؤه بالرَّد فيه على ما في «سنن أبي داود» من حديث عائشة رضي الله عنها: أنّ رجلاً ابتاع غلاماً فأقام عنده ما شاء الله أن يُقيم، ثم وجد به عيباً فخاصمه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فردَّه، فقال الرجل: يا رسول الله قد استغلّ غلامي فقال عليه الصلاة والسلام: «الخراج بالضَّمان»

(2)

. وفسّر الخَطَّابيّ الدَّاء بما يكون في الرقيق من الأدواء التي يُرَدُّ بها، كالجنون والجُذَام

(3)

ونحوهما. والخِبْثَة: ما كان خبيث الأصل مثل أنْ يُسْبَى من له عهد. يقال: هذا سبيٌّ خِبْثَةٌ إذا

(1)

اختصر المؤلف الكلام على معلقات البخاري بشكل موهم، وقد فصَّل ابن حجر الكلام عليها في "النكت. على كتاب ابن الصلاح" 2/ 599 - 600. فانظره إذا شئت.

(2)

الخَراج بالضَّمان: يريد بالخراج ما يحصل من غلة العين المُبْتَاعة عبدًا كان أو أمة أو مِلْكًا، وذلك أن يَشْتَرِيَهُ فَيَسْتَغِلَّهُ زمانًا، ثم يَعْثُر منه على عيب قديم لم يُطْلعه البائع عليه، أو لم يَعْرفهُ، فله رَدَّ العين المبيعة وأخذ الثَّمن، ويكون للمشتري ما استغله، لأن المبيع لو كان تَلِف في يده لكان من ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء. النهاية 2/ 19.

(3)

الجُذام: عِلّة تتأكل منها الأعضاء وتتساقط. المعجم الوسيط. ص 113، مادة (جذم).

ص: 320

والإبَاقُ والبَوْلُ في الفِرَاشِ، وسَرِقَةُ صَغِيرٍ يَعْقِلُ عَيْبٌ، وَبَالِغٍ عَيْبٌ آخَرَ.

===

كان ممن يَحْرُم سبيه، وهذا سبيٌّ طِيَبَةٌ ـ بوزن حِبَرَة

(1)

ـ ضِدّه. ومعنى الغائلة: ما يَغْتال حقّك من حيلة، وما يُدَلّس عليك في المبيع من عيب. وتفسير الدّاء يوافق تفسير أبي يوسف (له. وأما أبو حنيفة، ففسّره فيما رواه الحسن عنه بالمرض في الجوف والكبد والريّة. وفسَّر أبو يوسف)

(2)

الغائلة بما يكون من قبيل الأفعال كالإباق والسَّرقة، وهو قول الزَّمْخَشِريِ الغائلة: الخَصْلة التي تغول المالَ، أي تُهْلِكه من إباق وغيره. والخِبْثَة هو الاستحقاق، وقيل: هو الجنون.

(والإبَاقُ والبَوْلُ في الفِرَاشِ وسَرِقَةُ صَغِيرٍ يَعْقِلُ) أي يمّيز (عَيْبٌ) لأنّ هذه الأشياء توجب نقصان القيمة عند التُّجَّار، كالسعال القديم لدلالته على داءٍ مَسْتَحْكِمٍ، كالشَّعْرِ والماء في العينٍ لأنه يُضْعِفُ البصر. وقيّد الصَّغير بالعقل، لأنّ الذي لا يعقل لا يكون ذلك عيباً منه. وقيّد السَّرقة بالصغير تبعاً «للوقاية» ، وهو قيْدٌ في الجميع. ولو قال: والسَّرقة من صغير يعقل لكان أولى. وقد تكلّف بأنّ اللاَّم في الإباق والبول للعهد، أي إباق الصغير وبوله. ويقدر بخمس سنين.

ثم الإباق عيبٌ باتفاقٍ إن خرج الآبق من البلد إلى غير مولاه، سواء أبق من المولى أو ممن كان عنده بإجارة أو إعارة أو وديعةٍ أو غصبٍ، وهو يعرف منزله ويقوى على الرُّجوع إليه. وإن لم يخرج من البلد اختلف المشايخ، والأشبه أن يقال: إن كانت البلدة كبيرة، كمصر وَسَمرْقَنْد يكون عيباً، وإن كانت صغيرة بحيث لا يخفى عليه أهلها وبيوتها، لا يكون عيباً كالحرمين الشريفين. ولا فرق في السَّرقة بين أنْ يكون من المولى أو من غيره، إلاّ إذا سرق من المولى شيئاً يُؤكَلُ، فإنّ التقصير من المولى حيث أحوجه إلى ذلك، إلاّ إذا سرقه لبيعه أو ليعطي غيره، ولو سرق نحو الفَلْس والفلسين، لا يكون عيباً.

(وَ) من (بَالِغٍ عَيْبٌ آخَرُ) حتَّى لو سرق عند البائع قبل بلوغه ثم سرق عند المشتري بعد بلوغه، لا يردّ بهذا العيب، (ولو سرق عند كل منهما قبل بلوغه، أو سرق عند كل منهما بعد بلوغه يردّ به)

(3)

، ولو اشتُرِي بشرط البراءة، لأنّ سبب هذه الأشياء يختلف باختلاف الصغر والكبر، واختلاف الأسباب دليلُ اختلاف المسببات. فالبول في الفراش في الصغر لضعف المَثَانة، وفي الكبر لافَةٍ في القوة الماسكة. والإباق في الصغر لحب اللعب. والسَّرقة فيه لقلة المبالاة، وهما في الكبر لخبثٍ في الطباع،

(1)

الحِبَرَةُ: ثوب من قطن أو كتان مخطط كان يصنع باليمن. المعجم الوسيط. ص 152 مادة (حبر).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 321

وَجُنُونُ الصَّغِيرِ عَيْبٌ أبَدًا، وَالبَخَرُ، والذَّفَرُ، والزِّنَا، وَالتَّوَلُّدُ مِنْهُ عَيْبٌ فِيهَا لَا فِيهِ. والكُفْرُ عَيْبٌ فِيهِمَا. والتَّزَوُّجُ عَيْبٌ فِيهِمَا،

===

فراراً من عمل الخدمة في الإباق، ورغبةً في المال في السَّرقة.

(وَجُنُونُ الصَّغِيرِ) عند البائع ولو ساعةً، وقيل: أكثر من يومٍ وليلةٍ، وقيل: المُطْبِق دون غيره (عَيْبٌ أبَداً) هكذا قال محمد. ومعناه عند جمهور المشايخ سواء وُجِدَ عند المشتري في حال الصّغر أو الكبر، لأن الثّاني عينُ الأوّل، فإن السبب متّحدٌ وهو آفة في الدّماغ. وقيل معناه سواء وُجِدَ عند المشتري أو لم يوجد، وإلى هذا مال الحَلْوَانِيّ وشيخ الإسلام خَواهِرْ زَادَهَ، وهو رواية «المُنْتَقَى» ، وظاهر مذهب مالك والشافعي وأحمد. وقال جمهور المشايخ، وهو الصحيح والمذكور في «الأصل» و «الجامع الكبير»: لا يردّ بالجنون عند البائع حتّى يعاود عند المشتري، لأنّ الآفة التي هي سببه قد لا تتمكن فتزول، وقد تتمكن فلا تزول. ولأنّ الله تعالى قادرٌ على إزالة تلك الآفة كسائر الآفات، فلم يكن من ضرورة وجودها مرّةً وجودها دائماً. وجنون الكبير أيضاً عيبٌ، ويشترط معاودته في يد المشتري عند الجمهور.

(وَالبَخَرُ) بفتح الموحدة والمعجمة: نَتْنُ رائحة الفم (والذَّفَرُ) بالمعجمة والمهملة والفاء رائحةٌ مؤذيةٌ تحت الإبط (والزِّنَا) أي فعله (وَالتَّوَلُّدُ مِنْهُ عَيْبٌ فِيهَا) أي في الأَمَةِ، لأن ذلك يخل بالمقصود منها والبخر والذَّفر يخل بالقرب للخدمة، والزنا بالاستفراش، والتولّد من الزِّنا يخلّ بطلب الولد (لَا فِيهِ) أي ليست هذه الأشياء عيباً في العبد، لأنّ الغالب طلب استخدامه من العبد إلاّ إذا كان البخر والذفر فاحشاً، أو يكون الزِّنا عادةً له بأن يقع منه أكثر من مرتين، لأنّ ذلك يُخلُّ بالاستخدام، لأنه يترك حاجة مولاه ويذهب في متابعة هواه.

(والكُفْرُ عَيْبٌ فِيهِمَا) أي في الأمة والعبد، لأنّ طبع المسلم ينفِر عن صُحْبة الكافر للعداوة الدينية. ولو اشتراه على أنّه كافرٌ، فإذا هو مسلمٌ فلا خيار له، لأنّ الإسلام زوال عيب الكفر، فصار كما لو اشتراه معيباً فإذا هو سليمٌ، فإنّه لا خيار بالإجماع. وقال الشّافعيّ وأحمد: له الخيار، لأنّه وجده على خلاف ما شرطه، وربَّما يتعلَّق له بهذا الشّرط غرضٌ مثل أن يستخدمه في محقّرات الأمور، ولا يستجيز من نفسه أن يستخدم المسلم فيها.

(والتَّزَوُّجُ عَيْبٌ فِيهِمَا) أمّا في الأمة، فلِفَوات غرضِ الاستمتاع، وأمّا في العبد،

ص: 322

والحَبَلُ عَيْبٌ في الأمةِ. والاسْتِحَاضَةُ، وارْتِفَاعُ حَيْضِ بِنْتِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً عَيْبٌ.

وَإنْ ظَهَرَ عَيْبٌ قَدِيمٌ بَعْدَمَا مَاتَ أوْ أَعَتْقَهُ مَجانًا، أوْ دَبَّرَةُ، أوْ اسْتَوْلَدَ، رَجَعَ بالنُّقْصَانِ،

===

فلوجوب المهر والنفقة عليه. (والحَبَلُ عَيْبٌ في الأمةِ) لأنّه ينقص ماليتها لا في البهيمة لأنّه يزيدها (والاسْتِحَاضَةُ) عَيْبٌ (وارْتِفَاعُ حَيْضِ بَنْتِ سَبْعَ عَشرَة سَنَةً) أي عدمه وانقطاعه (عَيْبٌ) قيّد بسَبعَ عَشرة، لأنه أقصى زمن البلوغ عند أبي حنيفة. أمّا كون الاستحاضة عيباً، فلأنها لِداءٍ في عروق المرأة. وقد أشار إلى ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال لفاطمة بنت أبي حُبَيْش حين سألته وكانت تُستحاض:«إنّ ذلك عِرْق، وليس بالحيضة» . وأمَّا عدم الحيض في البالغة فلداءٍ في باطنها، إذ العادة الأصليّة في النِّساء اللاتي جُبِلْنَ على السّلامة أن يَحِضْنَ في أوانه (وَيَطْهُرْنَ في أوانه)

(1)

، فإذا كان بخلافه كان لداءٍ في الباطن وإنّما يُعْرَفُ هذا بقول الأمة، لا طريق لمعرفة ذلك إلاّ هذا.

(وَإنْ ظَهَرَ) لِلمُشْتَري (عَيْبٌ قَدِيمٌ) أي كان عند البائع (بَعْدَمَا مَاتَ) المبيع (أوْ) بعدما (أَعَتقَهُ) المشتري غير عالم بالعيب عِتْقَاً (مجّاناً) أي ليس على مالٍ، (أوْ) بعدما (دَبَّرَهُ أوْ اسْتَوْلَدَ رَجَعَ بالنّقْصَانِ) لأنّه استحقّ المبيع بوصف السّلامة، فصار كما لو تعيّب عنده. أمّا الموت، فلأنّ الملك ينتهي به والامتناع حُكْمِيّ لا بفعله

(2)

. وأمّا الإعتاق، فالقياس فيه أن لا يرجع وهو قول زُفَر، (لأنّ امتناع الرّد فيه بفعله، ووجه الرُّجوع وهو الاستحسان، وقول الشّافعي وأحمد: أنّ الإعتاق إنهاء المِلك، لأنّ الآدميّ لم يخلق محلاً للملك، وإنّما يثبت فيه على خلاف الأصل مؤقتاً بالإعتاق. والشيء يتقرر بانتهائه، فيصير الملك كأنّه باقٍ والرّدّ متعذّرٌ، ولهذا يثبت الوَلاء بالعتق وهو من آثار الملك، فبقاؤه كبقاء الملك)

(3)

.

قيّدنا العتق بكونه قبل (العلم)( 3) بالعيب، لأنه لو كان بعده لا يرجع بالنُّقصان، لأنّ إقدامه على الإعتاق يدلّ على رضاه بالعيب. وقيده بكونه مجّاناً لأنّه لو كان على مالٍ لم يرجع. وأمّا التَّدبير والاستيلاد فلأنّهما بمنزلة الإعتاق. وطريق معرفة النُّقصان: أن يُقوَّم وبه عيب ويقوّم بلا عيبٍ، فإن كان تفاوتٌ ما بين القيمتين العُشْر، رجع بعشر

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

المقصود أن امتناع الرّد بأمر حكمي - وهو الموت - لا بفعل المشتري إذ لا صنع له فيه.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 323

لَا بَعْدَمَا أعْتَقَ عَلَى مَالٍ، أو كَاتَبَهُ، أو قَتَلَهُ، أَوْ بَعْدَمَا أَكَلَ بَعْضَهُ، أوْ أَكَلَ كُلَّهُ، أوْ لَبِسَ فَتَخَرَّقَ.

===

الثمن، وعلى هذا.

(لَا بَعْدَمَا أعْتَقَ) أي لا يرجع المشتري بالنُّقصان إن ظهر عيبٌ قديمٌ في المبيع بعدما أعتق (عَلَى مَالٍ) أو بعدما (كَاتَبَهُ أو) بعدما (قَتَلَهُ، (أَوْ بَعْدَمَا أَكَلَ بَعْضَهُ؛)

(1)

أوْ) بعدما (أَكَلَ كُلَّهُ، أوْ) بعدما (لَبِسَ) الثّوب (فَتَخَرَّقَ)، أمّا الإعتاق على مالٍ فلأنّه أزال ملكه عنه بعِوض، فصار كالبيع وهو فيه لا يرجع، فكذا هذا. وعن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف والشّافعيّ وأحمد أنه (يرجع، لأنّه)( 1) إنهاءٌ للملك وإن كان بعوضٍ، فكان كالعتق مجّاناً، ولهذا ثبت فيه الوَلاء والكِتَابة كالإعتاق على مالٍ لحصول العوض فيها. وأمّا القتل فالمذكور ظاهر الرِّواية، وعن أبي يوسف ومحمّد معه في رواية «اليَنَابِيع»: أنّه يرجع، وبه قال الشّافعيّ وأحمد، لأنّ المقتول مات بأجله، فكأنّه مات حَتْفَ أنفه، ولأنّ قتل المولى لا يتعلّق به حكمٌ دنيويّ من قصاص أو دِيَةٍ، فصار كالموت حَتْفَ الأنف، وإنّما يتعلق به حكم أخروي من استحقاق العقاب إذا كان بغير حقٍ.

ووجه الظاهر أنّ القتل فعلٌ مضمونٌ، إذ لو باشره في ملك غيره ضمن، لقوله عليه الصلاة والسلام:«ليس في الإسلام دَمٌ مُفْرَجٌ»

(2)

أي مهدرٌ. وإنّما سقط ضمانه عن المولى لأجل أنّه ملكه، فكان ذلك السقوط في معنى عوضٍ سُلِّمَ له، وصار كأنّه باعه به بخلاف الإعتاق، فإنه لا يوجب الضمان لا محالة، كإعتاق المُعْسِر عبداً مشتركاً. وأمّا أكل الكلِّ، ولبس الثّوب فالمذكور هنا قول أبي حنيفة. والقياس أنْ يرجع بالنُّقصان، وهو قولهما ومذهب الشّافعيّ وأحمد، وبه أخذ الطَّحَاوِيّ.

وفي «الخُلَاصَةِ» : وعليه الفتوى، لأنّه فَعَل بالطعام والثوب ما يقصد بشرائهما ويعتاد فيهما، فأشبه الإعتاق بخلاف القتل والإحراق ونحوهما من الاستهلاك، فإنّه ليس غرضاً معتاداً من الشِّراء. ووجه قول أبي حنيفة ـ وهو الاستحسان ـ أنّ الرَّدَّ تعذّر بفعلٍ مضمونٍ، فأشبه البيع والقتل. وإنّما سقط عنه الضَّمان لأجل أنه ملك. وأمَّا أكل بعض الطَّعام فالمذكور قول أبي حنيفة، وهو أنّه لا يرجع بنقصان ما أكل وما بَقِيَ اعتباراً بالكلّ، ولا يردّ الباقي لأنّ الطَّعام كشيءٍ واحدٍ فلا يردّ بعضُه بالعيب

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

لم نجده في المصادر المتوفرة بين أيدينا.

ص: 324

وَبَعْدَمَا حَدَثَ عَيْبٌ رَجَعَ بِهِ، إلّا أَنْ يَأْخُذَهُ البَائِعُ كَذَلِكَ، مَا لَمْ يَخْتَلِطَ بِمِلْكِ المُشْتَرِي، فَلَا يَرْجِعُ إنْ بَاعَ قَبْلَهُ لَا بَعْدَهُ.

===

دون البعض، كما لو باع البعض.

وعندهما يرجع بالنُّقصان في الكلِّ، وليس له أن يَرُدَّ البَّاقي، لأنّ أكل الكلّ لا يمنع الرُّجوع عندهما، فالبعض أولى والطعام كشيءٍ واحدٍ، فلا يردّ بعضه بالعيب. وفي «شرح الطَّحَاوي»: أنّ الرُّجوع بنقص الكلّ قول أبي يوسف، والردّ والرُّجوع قول محمد. وفي «قاضيخان»: وعليه الفتوى، ولو باع بعض الطَّعام منعنا الرّجوع بنقص الباقي منه، كالزَّائل عن ملكه، فإنّه لا يرجع بنقصه. وأجازه زُفَر لِمَا قدّمناه في بيع نصف العبد. وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يَرُدُّ الباقي من الطعام ويرجع بنقصان عيب ما باعه اعتباراً للنقص بالكلّ، وبهذه الرواية يُفْتَى، واختارها الفقيه أبو جعفر، والفقيه أبو اللّيث لأنّ التبعيض لا يَضُرّه.

(وَبَعْدَمَا حَدَثَ) عطفٌ على ما بعدما مات، أي وإن ظهر عيبٌ قديمٌ بعدما حدث (عَيْبٌ) عند المشتري، كما لو ظهر عيبٌ بالثوب بعدما قطعه (رَجَعَ) المشتري (بِهِ)، أي بالنُّقصان لأنّ في ردّه إضراراً بالبائع، فإنّه خرج عن ملكه سليماً ويعود إليه مَعيباً (إلاّ أَنْ يَأْخُذَهُ البَائِعُ كَذَلِكَ) أي معيباً، فإنّ المشتري لا يرجع بالنّقصان، لأنّ البائع رَضِي بالضَّرر، بل يتخيّر المشتري بين أن يأخذه ولا يرجع بشيءٍ، وبين أن يردّه (مَا لَمْ يَخْتَلِط بِمِلْكِ المُشْتَرِي).

وقيدّ به، لأنّه إن اختلط بمِلْكِ المشتري كما لو قطع الثوب وخاط فاختلط بخيطه، أو صبغه أحمر أو أصفر أو أسود وهو قولهما، لأنّ السواد عندهما زيادة، وعند أبي حنيفة نقصان، فاختلط بصَبْغة. أو لتّ السّويق

(1)

بسمن فاختلط بسمنه، ثم ظهر عيبٌ، فإن بائعه لا يأخذه بل يرجع مشتريه بنقصانه، إذ الفسخ في الأصل بدون الزِّيادة لا يمكن، لأنّها لا تنفك عنه، ومع الزّيادة لا يمكن لأنّ العقد لم يرد عليها، والفسخ لا يرد إلاَّ على ما ورد عليه العقد.

والفرق بين ما اختلط بملك المشتري، وبين ما لم يختلط: أَنّ امتناع الردّ فيما لم يختلط لحقِّ البائع فيقدر على إسقاطه، بخلاف ما اختلط فإنه لحقِّ الله، وهو شبهة الرِّبا.

(فَلَا يَرْجِعُ) المشتري (إنْ بَاعَ) بعد حدوث العيب عنده (قَبْلَهُ)، أي قبل الاختلاط بملكه، لأنّه صار حابساً له بالبيع، لأنّ الردّ غير ممتنع بأن رَضِيَ البائع به (لَا بَعْدَهُ) أي ويرجع المشتري إن باع بعد الاختلاط بملكه، لأنه غير حابسٍ للمبيع بالبيع

(1)

السَّويق: طعامٌ يُتَّخذ من مدقوق الحنطة - القمح - والشعير. المعجم الوسيط. ص 465، مادة (سوق).

ص: 325

وَبَعْدَ كَسْرِ الجَوْزِ رَجَعَ بالنُّقْصَانِ في المُنْتَفَعِ بِهِ، وبِالْكُلِّ في غَيْرِهِ.

وَإذَا ادَّعَى الإبَاقَ أَثْبَتَ بِالبَيِّنَةِ، أوْ نُكُولِ

===

لامتناع الردّ قبله بالاختلاط.

ثم اعلم أنّ الزِّيادة في المبيع على نوعين: متصلة ومنفصلة. والمتّصلة نوعان: متولِّدة كالسِّمَن والجَمَال، وهي لا تمنع الرد بالعيب في ظاهر الرواية، لأن فسخ العقد فيها ممكنٌ، لأنّها تبعٌ محضٌ باعتبار التولّد والاتصال. ومتّصلة غير متولّدة كالصِّبْغ، وهي تمنع الردّ بالعيب اتفاقاً. والمنفصلة نوعان: متولّدة كالولد والثمر، وهي تمنع الردّ بالعيب، إذ لا سبيل إلى فسخها قصداً، لأنّ العقد لم يرد عليها، ولا تبعاً لانقطاع التبعيَّة بالانفصال. وغيرُ متولّدة من المبيع كالكسب، وهي لا تمنع الردّ بالعيب، بل يفسخ العقد في الأَصل ويسلّم الكسب للمشتري لأنه متولد من المنافع، وهي غير مبيعة بحالٍ.

(وَ) إن ظهر عيبٌ قديمٌ (بَعْدَ كَسْرِ الجَوْزِ) ونحوه من اللّوز والفُسْتُقِ والبُنْدُقِ والبَيْضِ (والبِطِّيخ)

(1)

والقِثَّاء

(2)

والخِيارِ (رَجَعَ) المشتري (بالنُّقْصَانِ في المُنْتَفَعِ بِهِ) ولم يردّه إلاّ برضاء البائع، لأنّ الكسر عيبٌ حدث عنده. وقال مالك وأحمد في رواية: لا يردّه، ولا يرجع بالنُّقصان لأنّه ليس من البائع تلبيس، فإنّه لا يعلم ما في باطنه. وأمّا لو ظهر العيب قبل الكسر فلا يرجع بالنُّقصان، لأنّه دليل الرِّضى بالعيب. (و) رجع (بِالْكُلِّ) أي كلّ الثمن (في غَيْرِهِ) أي في غير المنتفع به، كالقرع إذا وجده مُرّاً، لأنه ليس بمالٍ فكان البيع فيه باطلاً. وهذا كلُّه إذا وجد الكلّ فاسداً.

وأمّا إذا وجد البعض فاسداً، فإن كان قليلاً صحّ البيع استحساناً، لأنّ الكثير من الجوز لا يخلو عن قليلٍ فاسدٍ، فصار كالتراب في الحنطة، وفي القياس يفسُد، لأنّ الثمن لم يفصّل. والقليل ما لا يخلو عنه الجوز والبيض عادة كالواحد والاثنين أو الثلاثة في المئة، وإن كان الفاسد كثيراً لا يصحّ في الكلّ ويرجع بكل الثمن عند أبي حنيفة لجمعه في العقد بين ما له قيمة وما لا قيمة له، فصار كالجمع بين حرّ وعبدٍ. وعندهما يصحّ العقد فيما إذا كان صحيحاً. وقيل: يفسُد العقد في الكلّ إجماعاً، لأنّ الثمن لم يفصّل، فيكون بيعاً بالحِصّة ابتداءً.

(وَإذَا ادَّعَى) المشتري (الإبَاقَ)، أو السَّرقة، أو البول في الفراش ممّا لا يعلم إلاّ بالتَّجربة والاختبار، وأنكر البائع أنّ هذا العيب وجد عند المشتري (أَثْبَتَ) المشتري أولاً أنه أَبَقَ عنده حتّى ينتصب البائع خصماً له (بِالبَيِّنَةِ) متعلّق بـ: أثبت (أوْ نُكُولِ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

القِثَّاء: نوعٌ من البطيخ، نباتي قريب من الخيار لكنه أطول. المعجم الوسيط ص 715، مادة (أقْئأ).

ص: 326

البَائِعِ عَنِ الحَلِفِ عَلَى العِلْمِ، ثُمَّ بَرْهَنَ عَلَى أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَ البَائِعِ، أَوْ حَلَّفَهُ أنّهُ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَمَا أَبَقَ قَطُّ، أو مَا لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِهَذِهِ الدَّعْوَى.

وَلَا ثَمَنَ عَلَى المُشْتَرِي إِذَا ادَّعَى العَيْبَ حَتَّى يَتَبَيَّن عَدَمُهُ. وَمُدَاوَاةُ المَعِيبِ وَرُكُوبُهُ في حَاجَتِهِ يَكُونُ رضًا، لا لِرَدِّهِ، أوْ سَقْيِهِ، أوْ شِرَاءِ عَلَفِهِ! ولا بُدَّ لَهُ مِنْهُ.

===

البَائِعِ عَنِ الحَلِفِ عَلَى العِلْمِ) أي على أنه ما يعلم أنه أَبَقَ عند المشتري، لأنّ هذا تحليفٌ على فعل غير الحالف وهو العبد، فلا يكون على البتّ. وهذا ـ أعني تحليف المشتري للبائع ـ قول أبي يوسف ومحمد، لأنّ المشتري ادّعى عليه ما لو أقرّ به لزِمه، فإذا أنكر، له أنْ يحلّفه رجاء النكول كما في سائر الدَّعاوى.

واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة رحمه الله، فقال بعضهم: يُحَلَّفُ عنده أيضاً. وقال بعضهم: لا يُحَلَّف وهو الصحيح، لأنّ الحَلِف إنما يترتب على دعوى صحيحة. ولا تصِح الدَّعْوَى إلاّ من خصمٍ، ولا يصير المشتري خصماً إلاّ بعد قيام العيب عنده، (ولم يثبت عنده)

(1)

.

(ثُمَّ بَرْهَنَ) المشتري أيضاً (عَلَى أَنَّهُ أَبَقَ عِنْدَ البَائِعِ) لاحتمال أنّه حدث عند المشتري، فلا يستحقّ الرَّدَّ على البائع (أَوْ حَلَّفَهُ) أي المشتري البائع (أنّهُ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ) إليه (وَمَا أَبَقَ قَطُّ أو مَا لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِهَذِهِ الدَّعْوَى) ولا يحلّفه بالله ما أبق عندك قطّ، لاحتمال أنّه أي باعه وقد كان أبق عند غيره، وبه يردُّ المشتري عليه. (وَلَا ثَمَنَ عَلَى المُشْتَرِي) أي لا يُجبر المشتري على دفع الثَّمن (إِذَا ادَّعَى العَيْبَ) لاحتمال أن يكون صادقاً في دعواه، فلو قضى عليه بدفع الثمن ربّما ظهر العيب فاستردّ الثمن من البائع وانتقض القضاء. (حَتَّى يَتَبَيَّنَ عَدَمُهُ) أي عدم العيب: بأن يحلف البائع أنّ هذا العيب لم يكن فيه.

(وَمُدَاوَاةُ المَعِيبِ وَرُكُوبُهُ) يعني إذا داوى المشتري المَعيب بعد العلم بالعيب أو ركبه (في حَاجَتِهِ)، أو تصرّف فيه بما يدلّ على الرِّضا، كالعرض على البيع، والإجارة، واللُّبس، والسُّكْنَى، والرَّهن، والكِتَابَة، والاستخدام مرّة ثانية (يَكُونُ) ذلك (رضاً) ولا خلاف فيه لأحد. ثمّ عند الشّافعيّ يبطل خيار الرّدّ بتأخيره من غير عذرٍ. وعندنا لا يبطُل ما لم يوجد منه تصرّف يدلّ على استبقاء الملك. (لا لِرَدِّهِ) أي ليس ركوب المشتري المعيب رضاً به إذا كان لردّه على بائعه (أوْ سَقْيِهِ أوْ شِرَاءِ عَلفِهِ) حال كون المشتري (ولا بَدَّ لَهُ مِنْهُ) أي من الرّكوب، إمّا لصعوبة

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 327

وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَوَجَدَ بِأحَدِهِمَا عَيْبًا رَدّهُ خَاصَةً، إنْ قَبَضَهُمَا، وإلّا أَخَذَهُمَا أَوْ رَدَّهُمَا، كَمَا فِي الكَيْلِيّ وَالْوَزْنِيّ.

وَإنْ قَبَضَ -ولو اسْتُحِقَّ البَعْضُ- لَمْ يَرُدَّ البَاقِي، بِخِلَافِ الثَّوْبِ.

===

انقياد المعيب، أو لعجز المشتري عن المشي: بأن كان مريضاً أو شيخاً كبيراً. وهو قيّد في السقي، وفي شراء العلف، لأنّ الرّكوب للردّ لا يكون رضاً كيف كان لكونه سبباً للردّ.

(وَلَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَوَجَدَ بِأحَدِهِمَا عَيْباً رَدّهُ خَاصَةً إنْ قَبَضَهُمَا). وقال زُفَرُ والشّافعيّ في قول: ليس له أن يردّ المعيب وحدَه، لأنّ فيه تفريق الصّفقة، وهو لا يخلو عن تضرّر البائع بردّ المَعيب وحده، لأنّ العادة جرت بضمّ الجيد إلى الرديء. ولنا أنه تفريق بعد تمام الصَّفقة لأنها تمّت بالقبض، لأنّ خيار العيب لا يمنع تمامها فيكون الفسخ بعد القبض في ملك المشتري من كل وجه، فيقتصر الرّدّ على ما فيه علة وهو المعيب.

وإنّما وضع المسألة في عبدين، لكونهما ممّا يُنْتَفَعُ بأحدهما دون الآخر. فلو اشترى شيئين لا ينتفع بأحدهما دون الآخر كنعلين أو خُفَّيْنِ فوجد في أحدهما عيباً بعد قبضهما، فإنّه يردّهما أو يمسكهما باتفاقٍ، لأنهما في الصورة شيآن، وفي المعنى والمنفعة شيءٌ واحدٌ، والمعتبر هو المعنى دون الصورة والمبنى. ولو قال المشتري فيما يمكن إفراد أحدهما بالانتفاع عن الآخر: أَنا أمسك المعيب وآخذ النقصان، ليس له ذلك، لأنّه لمّا رضي بالمعيب فات حقّه في وصف السّلامة، فلم يكن له المطالبة بالنُّقْصان.

(وإلاّ) وإن لم يقبضهما بل قبض أحدهما وظهر أنّ به أو بالآخر عيباً (أَخَذَهُمَا أَوْ رَدَّهُمَا)، وليس له أنْ يأخذ السليم ويردّ المعيب، لأنّ في ذلك تفريقَ الصّفقة قبل تمامها، لأنّ تمامها بقبضهما لكونه مفيداً لملك التّصرف فيهما، ومؤكداً لملك رقبتهما (كَمَا فِي الكَيْلِيّ وَالْوَزْنِيّ) أي كان كما إنّ من شرى ما يكال، أو ما يوزن من نوعٍ واحدٍ، فوجد ببعضه عيباً، فإنّه يردّه كلّه أو يأخذه كلّه، وليس له أنْ يأخذ السليم ويرّد المعيب سواء كان قبل القبض أو بعده.

(وَإنْ قَبَضَ) الكَيْلِيّ أوْ الوَزْنِيّ (وَلَوِ اسْتُحَقَّ البَعْضُ) منه (لَمْ يَرُدَّ البَاقِي) لأنّ الشّركة فيهما ليست بعيب، إذ التَّبعيض فيهما لا يضرّ، والاستحقاق لا يمنع تمام الصَّفقة، لأنّ العقد حقّ العاقد وتمامه برضاه وقد وُجِدَ، لا برضى المالك. قدّم القبض على استحقاق البعض لأنّ البعض لو استحقّ قبل القبض، كان للمشتري أن يردّ الباقي لتفرّق الصّفقة عليه قبل تمامها (بِخِلَافِ الثَّوْبِ) فإنّ مشتريه إذا قبضه واستحقّ منه

ص: 328

وَصَحَّ إنْ بَرِئَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَإنْ لَمْ يَعُدَّهَا.

===

بعضه، له خيار الرَّدّ في الباقي، لأنّ الشَّركة فيه عيبٌ عُرْفاً وقد كانت وقت البيع قبل ظهور الاستحقاق.

(وَصَحَّ) البيع (إنْ بَرِاءَ) فيه البائع (مِنْ كُلِّ عَيْبٍ) أي إن باع بشرط البراءة من كل عيبٍ، وليس للمشتري أن يردّه بعيبٍ (وَإنْ لَمْ يَعُدَّهَا) أي العيوب، والأصَحُّ في مذهب الشَّافعيّ. ويروى عن مالك: أنّه لا يَبْرَأ في غير الحيوان، ويَبْرَأ في الحيوان ممّا لا يعلمه، دون ما يعلمه لِمَا رُوِيَ: أنّ ابن عمر باع عبداً من زيد بن ثابت بشرط البراءة فوجد به عيباً، فأراد ردّه فلم يقبله ابن عمر، فترافعا إلى عثمان، فقال عثمان لابن عمر: أتحلف أنّك لم تعلم بهذا العيب؟ فقال: لا. فردّه عليه.

والفرق بين ما لا يعلمه وما يعلمه، وبين الحيوان وغيره: أنّ كتمان ما يعلمه تلبيسٌ، بخلاف ما لا يعلمه، وإنّ الحيوان قلّ ما ينفكّ عن عيبٍ خَفِيّ أو ظاهر، فيحتاج البائع فيه إلى شرط البراءة من كل عيبٍ ليثقَ بلزوم العقد، بخلاف غير الحيوان. وقال أحمد في رواية، وهو قول الشّافعيّ: لا يبرأ البائع عن العيب، فإنّ خيار العيب ثابتٌ بالشّرع، فلا ينتفي بالشرط كسائر مقتضيات العقد.

ولنا: أنّ الإبراء إسقاط، ولهذا جاز بلا قبول، كالطّلاق والعتَاق والجهالة في الإسقاط لا تفضي إلى المنازعة، فلا تكون مفسدة. ويدخل في البراءة من كل عيبٍ العيبُ الموجود عند العقد، والحادث بعد العقد قبل القبض في ظاهر الرواية عن أبي يوسف رحمه الله، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أيضاً. وقال محمد: لا يدخل الحادث، وبه قال أبو يوسف رحمه الله أيضاً، وزُفَر ومالك والشافعيّ، لأنّ البراءة تتناول الثّابت فتنصرف إلى الموجود عند العقد.

هذا، والمُصَرَّاة، وهي النّاقة أو الشّاة يُحْقَنُ اللبن في ضَرْعِهِا أياماً لِيُرَى أنها كثيرة اللّبن، إذا بيعت، لا تردّ عندنا. وردّها مالك والشَّافعيّ مع لبنها إن كان باقياً، أو مع صاعٍ من تمرٍ لفقده، لِمَا روى أبو هُرَيْرَة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تَلَقَّوا الرُّكبان لبيعٍ، ولا يَبِع بعضُكم على بيع بعضٍ، ولا تَنَاجَشوا

(1)

، ولا يَبِع حاضرٌ لبادٍ، ولا تُصَرُّوا

(1)

النَّجْش: هو أن يمدح السِّلْعة ليُنْفَقها ويُرَوِّجَها أو يزيد في ثمنها وهو لا يريد شراءها، ليقع غيره فيها. النهاية 5/ 21.

ص: 329

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النَّظَرَيْن

(1)

بعد أن يَحْلُبَهَا إن رَضِيَها أمْسَكَهَا، وإنْ سَخِطَها ردَّها وصاعاً من تمر»، متّفقٌ عليه.

وفي روايةٍ لمسلم وأبي داود: «مَنْ اشترى شاةً مُصَرَّاةً فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردّها ردّ معها صاعاً من طعامٍ ـ أي تمر ـ لا سَمْراء

(2)

». وفي روايةٍ لأبي داود: «مَنْ اشترى غنماً مُصَرَّاةً احتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سَخِطَهما ففي حلبتها صاعٌ من تمرٍ» . فجعلاها عيباً وأثبتا له الخيار إذا تبيّن بعد الحلب خلافُ ما تحلُبه، تمسكاً بهذا الحديث.

واحتجّ لنا بعض مشايخنا بقوله عليه الصلاة السّلام: «البيِّعَان بالخِيار ما لم يتفرّقا

(3)

». وقال بعضهم: التَّصْرِيَةُ ليست بعيبٍ، وليس للمشتري ولاية الرّدّ بسببها من غير شرطٍ لأنّ البيع يقتضي سلامة المبيع، وبقلة اللّبن لا تفوت صفة السَّلامة، واللّبن ثمرةٌ وبعدمها لا تَنْعَدِمُ السّلامة، فبقلتها أولى.

قال: وإنّما ترك أصحابنا العمل بحديث أبي هريرة هنا لمخالفته الكتاب، وهو قوله تعالى:{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}

(4)

، والسُّنَّة المشهورة الموجبة لإيجاب القيمة عند تعذّر المِثْل صورةً، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من أعتق شِقْصاً

(5)

له في عبد، قُوِّم عليه نصيب شريكه إنْ كان مُوسِراً»

(6)

الحديث، ولمخالفته الإجماع المنعقد على وجوب المِثْل والقيمة عند فوات العين وتعذّر الرَّدّ. قال: ولا بِدْعَ

(7)

في ردّ حديثه عند مخالفة الأصول، فإنّه قريبٌ من المتواتر أنّه لَمَّا روى الوضوء مما مستّهُ النَّار، قال له ابن عبّاس رضي الله عنهما: إنّا نتوضأ بالماء السخين، أنتوضأ منه؟ ولما روى: من أصبح جُنُباً فلا صوم له. قالت عائشة: نحن أعلم بذلك منه. وكذلك ردّ عليه عليّ رضي الله عنه.

(1)

بخير النَّظَرين: أي خير الأمرين له، إما إمساك المبيع أو رَدّه، أيُّهما كان خيرًا له واختاره فَعَله، النهاية 5/ 77.

(2)

السَّمْراء: الحنطة. النهاية 2/ 399.

(3)

تقدم تخريجه ص 300.

(4)

سورة البقرة، الآية:(194).

(5)

الشِّقْصُ: النَّصيب. المعجم الوسيط. ص 489، مادة (شقص).

(6)

أخرج البخاري معناه في صحيحه (فتح الباري) 5/ 137، كتاب الشركة (47)، باب الشركة في الرقيق (14)، رقم (2503).

(7)

في المطبوع: لا ينفع، والمثبت من المخطوط.

ص: 330

‌فَصْلْ

[في البَيْعِ الصَّحِيْحِ وَالبَاطِلِ والفَاسِدِ والمَكْرُوْهِ]

بَطَلَ بَيْعُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كالدَّمِ، وَالمَيْتَةِ، والحُرِّ، وأتْبَاعِهِ.

===

وشرط عيسى بن أَبان فِقْه الراوي لتقديم الخبر على القياس، واختاره أبو زيد الدَّبُوسِيّ، وخرَّج عليه حديث المُصَرَّاة، وتابعه أكثر المتأخرين.

ونفاه الكَرْخِيّ ومَن تابعه من أصحابنا وقبلوا خبر كلّ عدلٍ ضابطٍ وقدّموه على القياس، ومنعوا أيضاً أنّ أبا هُرَيْرَة لم يكن فقيهاً، وقالوا: بل كان فقيهاً وكان يُفْتِي في زمن الصَّحابة، وما كان يُفْتِي في زمانهم إلاّ فقيهٌ مجتهدٌ، مع أَنّه كان من المُتَبحِّرين من عِلْيَةِ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال إسحاق الحَنْظَلِيّ ثبت عندنا في الأحكام ثلاثة آلاف من الأحاديث: روى أبو هريرة منها ألفاً وخمس مئة. وقال البُخَارِيّ: روى عنه سبع مئة نفرٍ من أولاد المهاجرين والأنصار. وقد روى جماعة من الصحابة عنه، فلا وجه لردّ حديثه بالقياس؛ وهذا غاية التحقيق والله وليّ التوفيق.

والمختار فيه: الرُّجوع بالنقص على رواية شرح الطَّحَاويّ، يعني أنّه لَمّا امتنع الرّدّ بسبب الزِّيادة المنفصلة منها يرجع بحصّة النُّقصان من الثَّمن، ولا يرجع على رواية «الأَسْرَار» ، لأنّ اجتماع اللّبن في الضَّرْع وجمعه لا يكون عَيْباً، ولأنه مُغْتَرٌّ بكبر ضَرْعِها لا بقول البائع. ووجه المختار: أنّ الموجود من التَّصْرِية غرورٌ منه للمتشري بالفعل، حيث تزداد رغبته في شرائها، فاغتراره بواسطة هذا الفعل كاغتراره بقول البائع: إنّها حلوبٌ غزيرةُ اللبن. وإنّما صَحّ البيع بناءً على أنّ شرط كونها حلوباً لا يُفسِد البيع، لأنّه شرطُ وصفٍ مرغوبٍ فيه، وهو رواية الطَّحَاوِي، والله سبحانه أعلم.

فصلٌ

(في البَيْعِ الصَّحِيح، وَالبَاطِلِ، وَالفَاسِدِ، وَالمَكْرُوه)

(بَطَلَ بَيْعُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ) سواء كان ثمناً أو مثمَّناً لانعدام ركن البيع، وهو مبادلة المال بالمال (كالدَّمِ وَالمَيْتَةِ) والتُّرَابِ (والحُرِّ وأتْبَاعِهِ) من أمّ الولد والمكاتَب الذي لم يرض، فإنّ الذي رَضِيَ يجوز بيعه على أظهر الرِّوايتين عن أبي حنيفة ـ ومعه الشَّافعي ـ والمُدَبَّرالمطلق، فإنّ المقيّد يجوز بيعه عندنا. وعند مالك والشَّافعيّ وأحمد: يجوز بيع المطلق أيضاً.

ص: 331

وَبَيْعُ مَالٍ غَيْرِ مُتَقَوَّم كَالْخَمْرِ وَالخِنْزِيرِ بالثَّمَن. وَبَيْعُ قِنٍّ ضُمَّ إلى حُرّ، وَذَكِيَّةٍ ضُمَّتْ إلى مَيْتَةٍ، وَإنْ سَمَّى ثَمَنَ كُلٍّ.

وصَحَّ في قِنٍّ ضُمَّ إلى مُدَبَّرٍ أوْ إلى قِنِّ غَيْرِهِ بِحِصَّتِهِ، كَمِلْكٍ ضُمَّ إلى وَقْفٍ.

===

(وَ) بَطَلَ (بَيْعُ مَالٍ غَيْرِ مُتَقَوَّم) في حقّ الإسلام (كَالْخَمْرِ وَالخِنْزِيرِ بالثَّمَن) وهو الدّراهم والدّنانير حالاً أو مؤجلاً، لأنّ الدَّراهم والدّنانير غير مقصودةٍ، وإنَّما هي وسائل. فإذا كانت عوضاً لغير المتقوّم كان غيرُ المتقوّم هو المقصود، وفي ذلك إعزازٌ له، وقد أمر الشارع بإهانتهِ. وكذا إذا باعهما بما ثبت في الذِّمة من مكيلٍ أو موزونٍ. وأمّا لو باعهما بِالعَرْض

(1)

، فالبيع فاسدٌ لعدم تَعَيُّنِهمَا مَبِيعين، وسيأتي.

والفرق بين الباطل والفاسد: أنّ الباطل هو الذي لا يكون صحيحاً بأصله (وذلك لفوات ركنه، فلا يفيد المِلْك أصلاً)

(2)

، والفاسد هو الذي يكون صحيحاً بأصله لا بوصفه، فيفيد الملك بالقيمة عند القبض. وفي «الإيضَاحِ»: لو نفي العوض وقال: بعتك هذا بغير ثمنٍ، يبطل، ولو قال: بعتك هذا، وسكت عن الثمن، يفسد، لأنّ البيع يقتضي المعاوضة، فعند السكوت يحمل على قيمته، فصار كأنه قال: بعته بقيمته، وهي مجهولة فيفسُد.

(وَ) بَطَل (بَيْعُ قِنٍ ضُمَّ إلى حُرّ وَ) بيع (ذَكِيَّةٍ) أي مذبوحة شرعية (ضُمَّتْ إلى مَيْتَةٍ) حتف أنفها. وأمّا التي خُنِقَتْ أو جُرِحَتْ في غير موضع الذّبح كما هو عادة بعض الكفّار، وذبائح المجوس فمالٌ، إلاّ أنها غيرُ متقوّمةٍ كالخمر والخنزير (وَإنْ سَمَّى ثَمَنَ كُلَ) وهذا عند أبي حنيفة، وقول الشَّافعي، وروايةٌ عن أحمد. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن سمّى ثمن كلّ واحدٍ منهما جاز في القِنِّ والذَّكَيَّةِ، وإلاّ فلا. وبه قال الشَّافعيّ في قولٍ، وأحمد في روايةٍ. ومتروك التّسمية عامداً كالميتة عندنا، لأنّ حرمته منصوصٌ عليها، فلا يجوز العقد فيما ضُمَّ إليه، ولا ينفذ بيعه بالقضاء.

(وصَحَّ) البيع (في قِنَ ضُمَّ إلى مُدَبَّرٍ) أو أم ولدٍ أو مُكاتَبٍ. وقال زُفَرُ: لا يصحّ. (أوْ) ضُمَّ (إلى قِنِّ) شخصٍ (غَيْرِهِ) أي غير البائع (بِحِصَّتِهِ) أي حصّة القِنّ من الثمن. وعند زُفَر: لا يصحّ. (كَمِلْكٍ) أي كما صحّ بيع ملك (ضُمَّ إلى وَقْفٍ) وقيل: لا

(1)

العَرْض: المتاع، وكل شيء فهو عرض سوى الدراهم والدنانير فإنها عين. معجم لغة الفقهاء ص 309.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 332

وَفَسَدَ بَيْعُ العَرْضِ بَالخَمْرِ وَعَكْسُهُ.

ولَا يَجُوزُ بَيْعُ المُبَاحَاتِ قَبْلَ أنْ تُمْلَكَ، وَمَا لَا قُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلّا بِحِيلةٍ أوْ بِضَرَرٍ، ولا مَا فِيهِ غَرَرٌ كَحَمْلٍ في بَطْنٍ، وَلُؤلُؤٍ في صَدَفٍ، وَلَبَنٍ في ضَرْعٍ،

===

يصحّ في الملك، وهو عند مالك، والشّافعيّ في قولٍ، وأحمد في رواية، لأنّ الوقف محرّر عن المِلْك والتمليك، فصاركقِنّ ضُمَّ إلى حرّ. وفي «نوادر الفقيه أبي اللَّيْثِ»: والأصحّ أنّ البيع يجوز في الملك لأنّ الوقف مالٌ، ولهذا ينتفع به انتفاع الأموال، وإنّما لا يباع لأجل حقَ تعلّق به، وذلك لا يوجب فساد العقد فيما ضُمَّ إليه، كالمُدَبَّر ونحوه، بخلاف المسجد، حيث يبطُل العقد فيما ضُمَّ إليه لأنّه ليس بمالٍ، ولهذا لا ينتفع به انتفاع الأموال، فصار كالحرّ.

(وَفَسَدَ بَيْعُ العَرْضِ

(1)

بَالخْمَرِ) ونحوها مما هو مالٌ غير متقوَّم (وَعَكْسُهُ) وهو بيع الخمر ونحوها بالعَرْضِ. في «شرح الوقاية» : أي البيع فاسدٌ في العَرْضِ حتّى يجب قيمته عند القبضِ، ويُملك هو بالقبض، لكن البيع في الخمر باطلٌ حتّى لا يملك عين الخمر.

(ولَا يَجُوزُ بَيْعُ المُبَاحَاتِ قَبْلَ أنْ تُمْلَكَ) لأنّها وقت البيع غير مملوكةٍ للبائع. (وَ) لا بيع (مَا لَا قُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلاّ بِحِيلة) كسمك لم يُصَد، أو صِيْدَ وأُرْسِل، وهو لا يعود، فلو قبضه البائع وسلمه قالوا: ينبغي أن يكون على الروايتين في تسليم الآبق بعد بيعه، بناءً على أنّه باطلٌ أو فاسدٌ.

(أوْ) إلاّ (بِضَرَرٍ) كجذعٍ في سقفٍ، وذراعٍ من ثوبٍ يضرّه القطع، سواء ذُكِرَ موضع القطع أو لم يذكر. ولو قطع البائع الجذع، أو قطع الثوب وسلّم قبل الفسخ عاد صحيحاً لزوال المانع من الصّحة. وقيّد القدرة على تسليمه بالحيلة، لأنها لو كانت بغير ذلك: كما لو صاد السمك وألقاه في حظيرة صغيرة، بحيث يمكن أخذه منها بلا حيلة، جاز البيع لأنه مقدورُ التسليم، وكذا لو اجتمع فيه بنفسه وسدّ المدخل جاز، وإلاّ فلا

(2)

.

(ولا) بيع (مَا فِيهِ غَرَرٌ كَحَمْلٍ) أي جنين (في بَطْنٍ، وَلَؤلُؤٍ في صَدَفٍ، وَلَبَنٍ في ضَرْعٍ) لِمَا روى ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخُدْرِي أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتّى تضع

(3)

. وما روى الشَّافعيّ بسنده عن ابن عبّاس أنّه كان

(1)

تقدم شرحها الصفحة السابقة التعليقة رقم (1).

(2)

انظر لمزيد تفصيل "فتح القدير" 6/ 49.

(3)

في المطبوع: بيع، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لِمَا في سنن ابن ماجه 2/ 74. =

ص: 333

وَمَا تُفْضِي جَهَالَتُهُ إلى المُنَازَعَةِ. وَلَا المُزَابَنَةِ -وَهِيَ: بَيْعُ تَمْرٍ مَجْذُوذٍ بِمِثْلِهِ عَلَى النَّخْلِ خَرْصًا-، وَالمُحَاقَلَةِ

===

ينهى عن بيع اللّبن في ضَرْع الغنم، والصوف على ظهرها.

قال البَيْهَقِيّ: ورُوِيَ مرفوعاً، والصحيح أَنّه موقوفٌ. ولقول ابن عبّاس: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حتّى تُطْعَم، ولا يباع صوفٌ على ظهر غنم، ولا لبنٌ في ضَرْعٍ. رواه الطّبرانِيّ والدَّارَقُطْنِيّ مرفوعاً، وأبو داود موقوفاً عليه. قيل: لا تباع أصواف الغنم على ظهورها، ولا ألبانها في ضروعها.

وفي «شرح الوقاية» : ذكروا لِلّبن في الضَّرْع علتين: أحدهما: أنه لا يُعْلَمُ لبنٌ، أَوْ دَمٌ، أو ريحٌ، وهذا يقتضي بطلان البيع، لأنه مشكوك الوجود فلا يكون مالاً. والأخرى: أن اللّبن يوجد شيئاً فشيئاً فيختلط ملك المشتري بملك البائع.

هذا، ولا يجوز بيع النَّتاج أيضاً، وهو أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها وهو حَبَلُ الحَبَلَةِ، لِمَا في «مصنف عبد الرَّزَّاق» عن ابن عمر، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه نهى عن بيع المَضَامِينِ، والمَلَاقِيحِ، وحَبَلِ الحَبَلَةِ، قال: والمضامين ما في أصلاب الإبل. والملاقيح: ما في بطونها. وحبل الحبلة: ولد ولد هذه النَّاقة. وفي «الموطأ» : أخبرنا ابن شهابٍ، عن سعيد بن المُسَيَّبِ أنه قال: لا ربا في الحيوان، وإنّما نهى في الحيوان عن ثلاثة: عن المَضامِينِ، والمَلَاقِيح، وحَبَل الحَبَلَةِ. فالمضامين: ما في بطون إناث الإبل. والملاقيح: ما في ظهور الجمال. وفي الصحيحين عن ابن عمر: أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حَبَلِ الحَبَلَةِ. وكان بيعاً يبتاعه أهل الجاهلية، كان الرّجل يبتاع الجَزُور إلى أن (تُنْتَج الناقة، ثم)

(1)

تُنْتَج التي في بطنها.

(وَ) لا بيع (مَا تُفْضِي جَهَالَتُهُ إلى المُنَازَعَةِ) كصوفٍ على ظهر الغنم، لأنّه يفضي إلى التَّنازع في موضع القطع. وكلّ بيعٍ يفضي إلى التَّنازع، فهو فاسدٌ. (وَلَا) يجوز بيع (المُزَابَنَةِ) وهو من إضافة الأعمّ إلى أخصّه، ويسميها بعض المتأخرين إضافة بيانية (وَهِيَ بَيْعُ تَمْرٍ مَجْذُوذٍ) أي مقطوع (بِمِثْلِهِ عَلَى النَّخْلِ خَرْصاً) أي تقديراً وحَزْراً، (وَ) لَا (المُحَاقَلَةِ) وهي بيع الحِنْطَةِ في سنبلها بمثل كيلها،

= كتاب التجارات (12)، باب النهي عن شراء ما في بطون الأنعام وضروعها وضربة الغائص (24)، رقم (2196).

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط، وهي صحيحة لموافقتها لِمَا في صحيح مسلم 3/ 1153، كتاب البيوع (21)، باب تحريم بيع حبل الحبلة (3)، رقم (6 - 1514).

ص: 334

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

لِمَا روى مسلم عن زيد بن أبي أُنَيْسَة قال: حدّثنا أبو الوليد المَكِّيّ وهو جالسٌ عند عطاء بن أبي رباحٍ عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُحَاقَلَة، والمُزابَنَةَ، والمُخَابَرَةِ. والمُحَاقَلَةُ: أن يباع الحقل بكيلٍ من الطعام معلومٍ. والحقل: هو الزَّرع إذا تشعَّب قبل أن يغلظ سوقه. والمَزَابنَةُ: أن يباع النخل بأوساقٍ

(1)

من التمر. والمَخَابَرَةُ: أن يزرع الأرض على الثلث، أو الربع، وأشباه ذلك. قال زيد: قلت لعطاء بن أبي رباح: أسمعت جابر بن عبد الله يذكر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.

وقال الشَّافعيّ: يجوز بيع المَزَابَنَةِ فيما دون خمسة أوسق، لِمَا في الصحيحين عن داود بن الحُصَيْن، عن أبي سفيان، عن أبي هُرَيْرَة: أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم رخصّ في بيع العرايا بَخْرصِها فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق ـ شكّ داود ـ قال: دون خمسة أو في خمسة. وروى مسلم عن سهل بن أبي حَثْمَةَ

(2)

: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثَّمَرِ بالتَّمْرِ، وقال:«ذلك الرِّبا تلك المُزَابَنَةُ» ، إلاَّ أنّه رخَّص في بيع العَريَّةِ: النُخْلة والنَّخلتين يأخذها أهل البيت بِخَرْصِهَا كيلاً. وفي لفظٍ: رخّص في العَرِيَّةِ: أن يؤخذ بمثل خَرْصها تمراً، يأكل أهلها رُطَباً. ورواه الطَّحاويّ أيضاً بطرقٍ مختلفةٍ، وقال: وقد جاءت هذه الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواترت الرُّخصة في بيع العرايا، فقبلها أهل العلم جميعاً، ولم يختلفوا في صحة مجيئها ولكنهم تنازعوا في تأويلها. انتهى.

والشَّافعي ذهب إلى ظاهره من الاستناد، وعنه في الخمسة أوْسُق قولان: أحدهما الجواز، وهو منقول المُزَنِيّ عنه، وهو الأظهر. والآخر عدمه، وهو مختار المُزَنِيّ ومذهب أحمد، لأنّ النّهي عن المزابنة محقق، والرُّخصة في خمسة أوْسُقٍ مشكوكٌ فيها.

ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: «التَّمْرُ بالتَّمْرِ مِثْلاً بمثلٍ»

(3)

، وما على النَّخل ثَمَرٌ، فلا يجوز بيعه بالتَّمْرِ إلاّ كذلك. وأمّا العَرِيَّةُ التي فيها الرُّخصة فهي العَطِيّةُ دون البيع، وبه قال

(1)

الأوساقُ: جمع الوَسقُ: مكيال قدره حِمْلُ بعير، أو ستون صاعًا = 165 ليترًا. معجم لغة الفقهاء ص 502.

(2)

حُرِّفَتْ في المطبوع إلى ختمة، وفي المخطوط إلى خيثمة. والصواب ما أثبتناه لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1170، كتاب البيوع (21)، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا (14)، رقم (67 - 1540).

(3)

أخرجه الترمذي 3/ 541، كتاب البيوع (12)، باب (23)، رقم (1240).

ص: 335

وَالمُلَامَسَةِ، وَإلْقَاءِ الحَجَر، وَالمُنَابَذَةِ، ولا المَرَاعِي

===

مالك. وتفسيرها أن يهب الرُّجل ثمرة نخلةٍ من بستانه لإنسانٍ ثم يشقّ عليه الدُّخول في بُسْتَانِهِ كلّ يومٍ، ولا يرضى بالخُلْف في الوعد، والرّجوع في الهبة، فيعطيه مكان ذلك تمراً مجذوذاً بالخَرْص ليدفع ضرره عن نفسه. وهذا جائزٌ عندنا، لأنّ الموهوب لا يصير ملكاً للموهوب له ما دام متصلاً بملك الواهب، فما يعطيه من التّمر لا يكون عوضاً بل هبةً مبتدأة، وإنّما سُمِّيَ بيعاً مجازاً لأنَّه في صورته. ثمّ ذلك المرويّ اتُّفِقَ أنه كان أقل من خمسة أوْسُقٍ أو خمسةَ أوْسُقٍ، فظنّ الرَّاوي أنّ الرُّخصة مقصورةٌ على ذلك القَدْر.

وقال قومٌ: العرايا: أنْ يكون له النّخلة أو النَّخلتان في وسط النّخل الكثير لرجلٍ آخر، وكان أهل المدينة يخرجون وقت الثِّمار إلى حوائطهم

(1)

بأهليهم، فيضرّ ممرّ

(2)

صاحب النَّخلة صاحب النّخل الكثير، فرخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعْطِي صاحبَ النُخلة خرص ماله من ذلك تمراً لينصرف عنه ويَخْلُصَ التّمر كله له. وهذا مرويّ عن مالك، والتأويل الأول قول أبي حنيفة رحمه الله. قال الطَّحَاوِيّ، وهو أنسب وأولى ممّا قال مالك، لأنّ العَرِيَّة إنَّما هي العَطِيَّة.

(وَ) لا بيع (المَلَامَسَةِ، وَ) لا بيع (إلْقَاءِ الحَجَر، وَ) لا بيع (المُنَابَذَةِ) لأنّ في كلّ واحدٍ من هذه البِياعات تعليق الملك بالخطر، وفيه معنى القمار. وقد كان في الجاهلية يتساوم الرَّجلان السّلعة فإذا لمسها المشتري، أو نبذها إليه البائع، أو وضع المشتري عليها حصاةً لزم البيع. فالأوّل الملامسة، والثاني المنابذة، والثالث إلقاء الحجر. روى مسلم والبخاري من حديث أبي سعيد الخُدْرِيّ: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المُلَامَسَةِ، والمُنَابَذَةِ في البيع. والملامسة: لمس الرّجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقبله إلا بذلك. والمنابذة: أن ينبذ الرّجل إلى الرّجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظرٍ ولا تراضٍ.

(ولا) بيع (المَرَاعِي) أي الكلأ النّابت في أرضٍ غير مملوكةٍ، أو في أرض البائع بدون تسبُّب منه. أمّا لو تسبّب بأن سقى الأرض، أو هيأها للإنبات، جاز له بيع كلائها لأنّه ملكه، حتّى لو احتشّه إنسانٌ بغير إذنه كان له استرداده. وقال بعضهم: لا يجوز بيعه لأنه ليس بملكه، لأنّ الشَّركة فيه ثابتةٌ بالنّص، فلا تنقطع بدون الحيازة. وتهيئة الأرض للإنبات ليست بحيازةٍ، وكونه نابتاً في أرضه لا يقطع شركتهم عنه، ولا

(1)

الحوائط: جمع حائط: البستان.

(2)

في المخطوط: مجيء، والمثبت من المطبوع.

ص: 336

وَلا إجَارَتُهَا، ولا النَّحْلَةِ إلّا مَعَ الكُوَّارَاتِ، وَلَا أَجْزَاءِ آدَمِيٍّ،

===

يصيّره مملوكاً له، فلم يستفد المشتري بهذا العقد شيئاً لم يكن له، فيبطل. والنّص قوله عليه الصلاة والسلام:«المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء، والكلأ، والنّار» . رواه أحمد وأبو داود. والمراد بالماء الذي في الأنهار والآبار لا ما أُخِذَ وجُعِلَ في إناءٍ فإنّه محرزٌ يجوز بيعه. وبالكلأ ما نبت في أرضٍ غير مملوكةٍ، وما نبت في أرضٍ مملوكةٍ بلا إنبات ربّ الأرض، لأنّ ربّ الأرض لا يكون محرزاً له بكونه في أرضه. ومعنى إثبات الشّركة في النّار الانتفاع بضوئها، والاستدفاء بها، وتجفيف الثياب بها. أمّا إِذا أراد أن يأخذ الجمر، فليس له ذلك إلاّ بإذن صاحبها. ذكره القُدُورِيّ.

(وَلا إجَارَتُهَا) أي ولا يجوز إجارة المراعي التي هي الكلأ، لأن إجارتها تقع على استهلاك عين غير مملوكةٍ، وتلك الإجارة غير جائزةٍ كما استأجر بقرة ليشرب لبنها لا يصحّ، لأنّ محل الإجارة المنافع لا الأعيان. فالإجارة على استهلاك عينٍ مباحةٍ أولى. والحيلة في إجارة المراعي في الأرض المملوكة: أن يستأجر موضعها من الأرض ليضرب فيه فسطاطاً

(1)

، أو ليجعله حظيرة لغنمه، فتصحّ الإجارة، ويبيح له صاحب المَرْعَى الانتفاع بالمَرْعَى فيحصل مقصودها.

(ولا) بيع (النَّحْلَةِ إلاّ مَعَ الكُوَّارَاتِ) ـ بضم الكاف وتشديد الواو ـ، وفي الصحاح كُوَّارات النَّحل: عسلها في الشَّمع. أمّا عدم جواز بيع النّحل وحده فعند أبي حنيفة رحمه الله، وأبي يوسف رحمه الله. وقال محمد ومالك والشَّافعيّ وأحمد: يجوز بيعه وحده إذا كان مجموعاً، لأنه حيوان يُنْتَفَعُ به ويُتَمَوّلُ، فيصح بيعه وإن لم يؤكل كالبغل والحمار. ولهما: أنّه من الهوامِّ، فلا يصحّ بيعه كالُزّنْبُور. وفي «الذَّخيرة»: الفتوى على قول محمد.

(وَلَا) بيع (أَجْزَاءِ آدَمِيِ) لكرامته، فلا يجوز بيع شعر الإنسان لأنه جزؤه، ولا بيع لبن المرأة ولو في قدحٍ، حرّةً كانت أو أمة، ولا يضمن متلفه. وقال الشَّافعيّ: يجوز حرةً كانت أو أمةً ويضمن متلفه، لأنّه مشروبٌ طاهرٌ كلبن الشّاة. وقال أبو يوسف: إن كانت أمةً يجوز، وإن كان حرّةً لا يجوز اعتباراً للَّبن بأصله لكونه متولِّداً منه.

ولهما

(2)

أنه جزء الآدميّ بدلالة أنّ الشّرع أثبت به حرمة الرضاع بمعنى البعضيّة، والآدمي بكلّ أجزائه مكرمٌ مَصونٌ عن الابتذال والامتهان بالبيع إلاّ فيما حلّ فيه الرّق، والرّق لا يحلّ اللبن، لأنَّه ضعفٌ حكميٌّ، فيختصّ بمحلّ القوة التي هي ضدّه، وهو

(1)

الفُسْطَاطُ: بيت يُتَّخذ من الشعر. المعجم الوسيط. ص 688.

(2)

أي لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.

ص: 337

وَلَا أجْزَاءِ الخِنْزِيرِ إلّا شَعْرَهُ، ولا جِلْدِ المِيْتَةِ قَبْلَ دَبْغِهِ، وَلَا دُودِ القَزِّ ولا بَيْضِهِ خِلَافًا لَهُمَا. ولا العُلْوِ بَعْدَ سُقُوطِهِ، وَلَا شَخْصٍ عَلَى أنَّهُ أَمَةٌ وَهُوَ عَبْدٌ.

===

الحيّ، ولا حياة في اللَّبن لأنه جمادٌ. وليس حلّه على الإطلاق، بل باعتبار حاجة الطفل لأنّه لا يتعدّى بغيره حتّى لو استغنى عنه، لم يبح شربه. حتّى لا يجوز صبّه في عينٍ رَمِدَةٍ

(1)

عند بعض أصحابنا.

(وَلَا) بيع (أجْزَاء الخِنْزِيرِ) لنجاسة عينه، فلا يصحّ بيع شيء منه إهانةً له كالخمر (إلاّ شَعْرَهُ) لِيُنتفعَ به للخرز للضرورة. (ولا) بيع (جِلْدِ المِيْتَةِ قَبْلَ دَبْغِهِ) لحرمة الانتفاع به لقوله عليه الصلاة والسلام:«لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ» وهو اسم لغير المدبوغ، وأمّا بعد الدبغ فَيُبَاعُ ويُنْتَفَعُ به لطهارته، لِمَا في «صحيح مسلم» عن ابن عبّاس قال: تُصُدِّقَ على مولاةٍ لِميمُونةَ بشاةٍ فماتت فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هَلاّ أخذتم إهابَها فدبغتموه فانتفعتم به» . فقالوا: إنها ميتةٌ. فقال: «إنّما حَرُمَ أكْلُهَا» .

(وَلَا) بيع (دُودِ القَزِّ) بتشديد الزاي، لأنه من الهوام كالزّنبور والحيّة والعقرب، (ولا) بيع (بيضه) لأنه غير منتفع به باعتبار ذاته بل باعتبار غيره، وذلك معدوم في الحال، وفي وجوده خطر في المآل. (خِلَافاً لَهُمَا) قال محمد: يجوز بيع دود القز وبيضه، وهو قول (مالك)

(2)

والشَّافعي وأحمد، واختيار الصدر الشهيد، وعليه الفتوى اعتباراً بالعادة. وقال أبو يوسف: يجوز بيع دود القز إن ظهر فيه القز تبعاً له وإلاّ لا، واضطرب قوله في بيض الدُّود.

(ولا) بيع (العُلْوِ بَعْدَ سُقُوطِهِ) بأن كان عُلْوٌ لرجلٍ وسُفْلٌ لآخر، فسقطا أو سقط العُلْوُ وبَقِيَ السُفْلُ فباع صاحب العُلْوِ موضع العُلْوِ لأنّ هذا البيع لم يصادف المحل، لأنّ محل البيع المال، والثابت لصاحب العُلْوِ بعدالانهدام حقّ التَّعلّي، وحقّ التّعلّي ليس بمالٍ لأنه يتعلّق بهواء السّاحة، وهو ليس بمالٍ. قيّد ببعد السقوط لأن بيع العُلْوِ قبل السُّقوط جاز باعتبار البناء القائم.

(وَلَا) بيع (شَخضٍ عَلَى أنَّهُ أَمَةٌ وَهُوَ عَبْدٌ) ولا على أنّه عبدٌ وهو أَمَةٌ، والقياس أن يجوز، وهو قول زُفَر، لأنّ هذا اختلاف وصف الذكورة والأنوثة، واختلاف الوصف يوجب الخِيار للمشتري دون الفساد، فصار كما لو اشترى كبشاً فإذا هو نعجةٌ أو بالعكس. أو عبداً على أنه خبازٌ فإذا هو كاتبٌ أو بالعكس. ولنا: أنّ تفاوت الأغراض بين النوعين ملحقٌ باختلاف الجنسين، لأنّ المقصود من البيع حصول الانتفاع

(1)

رَمَدَت العين: هاجت وانتفخت. المعجم الوسيط ص 371 مادة (رمد).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 338

وَشِراءُ مَا بَاعَ بأقلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ ثَمَنِهِ الأوَّل،

===

بالمبيع على غرض المشتري، فإذا لم يحصل غرضُه ولا أكثره فكأنّه لم يحصل أصلاً. وهذا إذا كان الوصف متفاحشاً، إذ قلة التفاوت لا تُفسد البيع، كما إذا اشترى كبشاً فظهر نعجةً، فإنّ المقصود من الكلّ الأكل، لكنهما مختلفان وصفاً فقلّ التّفاوت.

(وَشَراء مَا بَاعَ) أي ولا يجوز شراء البائع لنفسه أو لغيره من المشتري، أو من وكيله، أو من وارثه ما باع بثمنٍ حال أو مؤجلٍ بنفسه أو بوكيله (بأقلّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ ثَمَنِهِ الأوَّل) إن كان المبيع لم ينقص ذاته، واتّحد الثمنان جنساً. وقال الشّافعيّ: يجوز، لأن الملك تمّ بقبض المبيع، فصار شراء البائع بأقلّ كشراء غيره به، وكشرائه بمثل الثَّمن الأوَّل أو بأكثر منه.

ولنا: ما روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن مَعْمَر والثَّوْرِيّ عن أبي إسحاق السَّبِيعِيّ، عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة فسألتها امرأةٌ فقالت: يا أمّ المؤمنين، كانت لي جاريةٌ فبعتها من زَيْدِ بن أرْقَم بثمان مئةٍ إلى العطاء، ثم ابتعتها منه بست مئةٍ، فنقدته الست مئة وكتبت عليه ثمان مئة. فقالت عائشة: بئس ما اشتريتِ، وبئس ما اشترى. أخبري زَيْدَ بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ أنْ يتوب. فقالت المرأة لعائشة: أرأيت إن أخذتُ رأس مالي ورددت عليه الفضل؟ فقالت عائشة: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}

(1)

.

فهذا الوعيد الشديد دلّ على فساد هذا العقد. وإلحاق هذا الوعيد بهذا الصنع الأكيد لا يَهْتَدِي إليه العقل، فدلّ ذلك على أنها قالته سماعاً.

وقال ابن الجَوْزِيّ: قالوا: العَالِيةُ امرأةٌ مجهولةٌ لا يُقْبَلُ خبرها. قلنا: بل هي معروفةٌ جليلة القدر ذكرها ابن سعد في «الطبقات» . فقال: إنّ العالية بنت أنفع بن شُرَاحيل امرأة أبي إسحاق السَّبِيعِيّ سمعت من عائشة. وجعل في «مسند أبي حنيفة» : البائع إلى العطاء زيدَ بنَ أرقم، والمشتريَ بست مئةٍ المرأةَ. وهو في «سنن أبي داود» عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم (بالعِينَةِ)

(2)

، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذُلاً لا ينزعه

(1)

سورة البقرة، الآية، (275).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، وإثباته الصواب لموافقته لما في سنن أبي داود 3/ 740 - 741، كتاب البيوع والإجارات (22)، باب [في] النهي عن العِيْنة (54)، رقم (3462).

ص: 339

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

حتّى ترجعوا إلى دينكم». وروى أحمد بن حنبل في كتاب «الزّهد» بإسنادٍ ـ قال ابن القَّطان: رجاله ثقات ـ عن ابن عمر قال: أتى علينا زمانٌ وما يرى أحدنا أنّه أحق بالدّينار والدرهم من أخيه المسلم، ثم أصبح الدينار والدرهم أحبَّ إلى أحدنا من أخيه المسلم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إذا ضنّ النّاس أي بخلوا بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعِينَة، واتّبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أدخل الله، عليهم ذُلاً لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم» .

وَالعِينة بالكسر: بيع السلعة بثمن مؤجّلٍ ثم شراؤها بأنقص منه حالاً، ولأن الثّمن لا يدخل في ضمان البائع قبل قبضه، فإذا عاد إليه المبيع بالصّفة التي خرج بها عن ملكه فصار بعض الثمن قصاصاً ببعضه وبَقِيَ فضلٌ بلا عوضٍ، فكان ذلك ربح ما لم يضمن، وهو حرام بالنّص.

قيّد الشراء بكونه بأقلّ مما باع، لأنه لو كان بمثله أو أكثر منه جاز، لأنّ الفضل في الأكثر يحصل للمشتري والمبيع داخل في ضمانه. وقيّد بكونه قبل نقد الثَّمن، لأنه لو كان بعده جاز. وقيَّدنا بكون الشراء من المشتري منه أو من وارثه، لأنّ المشتري لو باعه من رجلٍ أو وهبه لرجلٍ أو أوصى به لرجلٍ، ثم اشتراه البائع الأول من ذلك الرّجل جاز، لأن اختلاف سبب الملك كاختلاف العين. وقيّدنا بكون المبيع لم ينقص، لأنّه لو تعيّب في يد المشتري، فباعه من البائع بأقل من الثمن جاز، لأنّ ما نقص من الثمن بمقابلة العيب الحادث، فكان البائع مشترياً ما باع بمثل الثمن الأول معنًى.

وقيّدنا النقصان بكونه في الذَّات، لأنّه لو كان في القيمة: بأن تغيّر سعره لم يجز شراؤه بأقل ممّا باع، لأنّ تغيّر السعر غير معتبرٍ في حقّ الأحكام كما في حقّ الغاصب. وقيّدنا باتحاد الثمنين جنساً، لأنّه لو اشتراه بجنسٍ آخر غير جنس الثمن الأوّل جاز وإن كان الثّمن الثاني أقلّ، لأن الرّبح لا يظهر عند اختلاف الجنس، والدّينارُ جنس الدّرهم هنا وفي الشُفْعَةِ خلافاً لزُفَر.

وشراء من لا تصحُّ شهادته للبائع وهو ولده ووالده وزوجته ومُكَاتَبُه فهو كشراء البائع بنفسه. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز غير العبد والمُكَاتَب لتباين الأملاك، بخلاف العبد، لأنّ كسبه لمالكه، وبخلاف المُكَاتَب لأن للسيد في

ص: 340

وَلَا شِرَاءُ مَا بَاعَ مَعَ شَيْءٍ لَمْ يَبِعْهُ بِثَمَنِهِ الأوَّلِ فِيمَا بَاعَ، وَزَيْتٍ عَلَى أنْ يُوزَنَ بِظَرْفِهِ ويُطْرَحَ لِلظَّرْفِ كَذَا رَطْلًا، بِخِلَافِ شَرْطِ طَرْحِ وَزْنِ الظَّرْفِ.

===

كسبه حقَّ الملك، فكان تصّرفه كتصرّفه. ولأبي حنيفة أنّ شراء هؤلاء كشراء البائع بنفسه لاتصال منافع الأملاك بينهم، وهو نظير الخلاف في الوكيل بالبيع إذا عقد مع هؤلاء. وشراء المُوَكِّلِ بأقلّ مما باع وكيله لا يجوز، لأنّ وكيله لمّا باع بإذنه صار كأنّه باع بنفسه، ثم اشترى بأقلّ، وشراء الوكيل بأقلّ. ممّا باع لنفسه أو لغيره بأمره

(1)

قبل نقد الثّمن لا يجوز.

أمّا شراؤه لنفسه، فلأنّ الوكيل بالبيع أصيلٌ في الحقوق، فكلُّ هذا شراء للبائع من وجهٍ، والثابت من وجهٍ كالثابت من كلّ وجهٍ في باب الحُرُمَاتِ. وأمّا شراؤه لغيره بأمره، فلأنّ شراء المأمور واقعٌ له من حيث الحقوق، فكان هذا شراء ما باع لنفسه من وجهٍ. وشراء البائع من وارث المشتري بأقلّ مما اشتراه المُوَرِّثُ لا يجوز لقيام الوارث مقام المُوَرِّث، بخلاف شراء وارث البائع بأقلّ مما باع مُوَرِّثه، فإنّه يجوز.

(وَلَا) يجوز (شَرِاءُ مَا بَاعَ مَعَ شَيْءٍ) متعلقٌ بشراءٍ (لَمْ يَبِعْهُ) ـ صفةٌ لشيءٍ ـ (بِثَمَنِهِ الأوَّلِ) ـ متعلّقٌ بشراء ـ وكذا (فِيمَا بَاعَ) يعني أنّ مَنْ باع أمةً بخمس مئةٍ مثلاً، وقبضها المشتري ثم اشتراها منه وأَمَة أخرى معها قبل نقد الثّمن بخمس مئة، فإنّ الشراء في التي لم يبعها منه صحيحٌ، لأنه لم يفسد فيها، وفي الأخرى وهي التي باعها منه باطلٌ، لأنّه لا بدّ أن يجعل بعض الثَّمن بمقابلة التي لم يبعها منه، فيكون مشترياً للأخرى بأقلّ ممّا باع ضرورةً.

(وَزَيْتٍ) أي ولا يجوز شراء زيت ونحوه (عَلَى أنْ يُوزَنَ) الزَّيت (بِظَرْفِهِ ويُطْرَحَ لِلظَّرْفِ)

(2)

كلّ مرةٍ (كَذَا رَطْلاً) إلاّ أن يكون ذلك وزنه. لأنّ هذا شرطٌ مخالفٌ لِمَا يقتضيه العقد، لأنّه يقتضي أن يُطْرَحَ عنه مقدار وزن الظَّرْف، أيَّ مقدارٍ كان، فإذا شرط أن يُطْرَحَ عنه مقدارٌ معينٌ، وكان ذلك الظَّرْف أنقص من ذلك المقدار أو أكثر منه، كان ذلك الشَّرط مخالفاً لمقتضى العقد، ولأحد العاقدين فيه نفعٌ، لأَنَّ ذلك المقدار إِنْ كان أَكثر من وزن الظرّف، فللمشتري فيه نَفْعٌ، وإنْ كان أقلّ من وزنه، فللبائع فيه نفعٌ. (بِخِلَافِ شَرْطِ طَرْحِ وَزْنِ الظَّرْفِ) فإنّ الشِّراء يجوز، لأنّه شرطٌ يوافق مقتضى العقد، لأنّه يقتضي طَرْح وزن الظَّرْفِ، وما يوافق مقتضى العقد يؤكده

(1)

أي بأمر المُوَكِّل.

(2)

الظَّرْفُ: الوِعَاءُ. المعجم الوسيط. ص 575، مادة (ظرف).

ص: 341

وَالبَيْعُ بِشَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ العَقْدُ، وَفِيهِ نَفْعٌ لأحَدِهِمَا، أوْ لِمَبِيعٍ يَسْتَحِقُّ،

===

ولا يفسده.

(وَالبَيْعُ) أي ولا يجوز البيع (بِشَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ العَقْدُ) احترز به عمّا يقتضيه، كشرط الملك للمشتري في المبيع، وشرط تسليم المبيع، وشرط حبس المبيع لاستيفاء الثَّمن، وشرط انتفاع المشتري بالمبيع، لأنّ هذا كله يثبت بمطلق العقد، فلا يزيده الشَّرط إلاّ تأكيداً (وَفِيهِ نَفْعٌ لأحَدِهِمَا) ـ جملة حاليةٌ ـ أمّا البائع: فكما لو باع شيئاً بشرط أن يقرضه المشتري درهما، أو يهدي إليه هديةً، أو باع داراً على أن يسكنها شهراً.

وأمّا المشتري: فكما لو اشترى ثوباً على أن يقطعه البائع ويخيطه قَبَاءً

(1)

أو قميصاً.

(أوْ) فيه نفعٌ (لِمَبِيعٍ يَسْتَحِقُّ) أي يكون أهلاً للاستحقاق على غيره بأن يكون آدمياً، كبيع عبد بشرط أنْ لا يبيعه المشتري، لأنّ العبد يعجبه أن لا تتناوله الأيدي. واحترز بهذا عمّا لو اشترى دابةً، أو ثوباً. بشرط أنْ لا يبيعه المشتري فإنّ الشرط باطلٌ، والبيع صحيحٌ في ظاهر المذهب. وعن أبي يوسف: أنّ البيع فاسدٌ.

وجه الظاهر: أنّه لا مطالب لهذا الشّرط، فكان لغواً، ولا بدَّ من تقييد الشّرط بكونه لا يلائم العقد احترازاً عمّا يلائمه كالبيع بشرط أن يعطي المشتري بالثمن رهناً أو كفيلاً، فإنّ البيع لا يفسد. ولا بدّ أيضاً من تقييد ما لا يلائم العقد بأنّ الشّرع لم يرد بجوازه، فإنّ ما ورد بجوازه لا يفسد، كالبيع بشرط الخيار أو الأجل، وكذا ما تعارف النّاس عليه كشراء نعلٍ على أن يَحْذُوَه

(2)

، أو يُشَرِّكَه

(3)

البائع، فإنّ البيع لا يفسد استحساناً للتعامل، وهو حجةٌ يترك بها القياس. وإنّما لا يجوز البيع بشرط لا يقتضيه العقد لنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع وشرط

(4)

. إلاّ أنّ ما ذكرناه من الشُّروط الجائزة مستثنى من هذا النَّهي، فَبَقِي ما عداه داخلاً تحته، ولأنّ الثّمن مقابَل بجميع المبيع، والشَّرط زيادةٌ لا يقابلها شيء من العوض. فأشبه الرِّبا، ولأنّه ذريعةٌ إلى وقوع النِّزاع، فيعرى معه العقد عن مقصوده.

روى الطَّبَرَانِي في «معجمه الأوْسَطِ» عن عبد الله بن أيوب المقري، عن محمد بن سليمان الذُّهْلي، عن عبد الوارث بن سعيد قال: قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شُبْرُمَة، فسألت أبا حنيفة عن رجلٍ باع بيعاً وشرط

(1)

القَبَاءُ: ثوب يُلْبس فوق الثياب أو القميص، المعجم الوسيط. ص 163، مادة (قبى).

(2)

حذا النَّعْل: قدّرها وقطعها على مِثَالٍ. المعجم الوسيط. ص 163، مادة (حذا).

(3)

أشرك النَّعْلَ: جعل لها شراكًا، والشِّرَاكُ سيرُ النَّعْلِ على ظهر القدم. المعجم الوسيط ص 480. مادة (شرك). والسَّيْرُ من الجلد: ما يُقَدُّ منه مستطيلًا، المعجم الوسيط ص 467، مادة (سير).

(4)

مر تخريجه ص 308، تعليق رقم (1) وسيذكر المؤلف الرواية كاملة عند الطبراني بعد أسطر.

ص: 342

وَلَا بِشَرْطِ الإعْتَاقِ، وإلى أَجَلٍ جُهِلَ. وَصَحَّ إنْ أسْقَطَ قَبْلَ الحُلُولِ.

===

شرطاً. فقال: البيع باطلٌ والشرط باطلٌ. ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته فقال: البيع جائزٌ، والشرط باطلٌ. ثم أتيت ابن شُبْرُمَة فسألته فقال: البيع جائزٌ والشرط جائزٌ. فقلت: سبحان الله ثلاثةٌ من فقهاء العراق اختلفوا في مسألةٍ واحدةٍ. فأتيت أبا حنيفة فأخبرته. فقال: ما أدري ما قالا: حدّثني عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيعِ وشرطٍ. البيع باطلٌ، والشرط باطلٌ. ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته. فقال: ما أدري ما قالا: حدّثني هِشَام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة أنَّها قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اشتري بَرِيرَة فأعتقها. البيع جائزٌ، والشرطُ باطلٌ. ثم أتيت ابن شُبْرُمَة فأخبرته. فقال: لا أدري ما قالا: حدّثني مِسْعَر بن كِدَام، عن مُحَارب بن دِثَارٍ، عن جابر قال: بعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقةً وشرط لي حملانها إلى المدينة. البيع جائزٌ، والشرطُ جائزٌ.

(وَلَا) يجوز بيع الرَّقيق (بِشَرْطِ الإعْتَاقِ) وقال مالك: يجوز. وهو روايةُ الحسن عن أبي حنيفة، وقول للشافعي

(1)

، وأَصحّ الروايتين عن أحمد. (وإلى أَجَلٍ) عطفٌ على شرطَ، أي لا يجوز البيع بثمن غير معين إلى أجلٍ (جُهِلَ) كالحصاد، والدِّيَاس

(2)

، وقدوم الحاج، لأنّ هذه الأشياء تتقدّم وتتأخرّ لكونها من أفعال العباد تثبت بحسب ما يبدو لهم، فكان التأجيل بها يفضي إلى المنازعة. والآجال شرعت بالأوقات، قال الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنَّاسِ}

(3)

. (قيدنا بالثمنٍ غير المعيّن، لأنّ تأجيل المبيع المعيّن يفسد البيع سواء كان الأجلُ مجهولاً أو معلوماً، وكذا تأجيل الثَّمن)

(4)

المعيَّن لأَنه مبيع، وكذا تأجيل العقد لكونه خلاف موجب العقد وهو التأبيد. ولو باع مطلقاً ثم أجّل الثّمن إلى هذه الأوقات صحّ لأن هذا تأجيل الدّين والجهالة في الدّين محتملةٌ، بخلاف ما إذا اشترط في أصل العقد، لأنّ العقد لا يحتمل فيه الجهالة.

(وَصَحَّ) البيع (إنْ أسْقَطَ) الأجل المجهول (قَبْلَ الحُلُولِ) كما لو أسقط الأجل إلى الحصاد مَنْ هو حقّه، وهو المشتري قبل أن يأخذ النّاس في الحصاد. وقال زُفَر والشَّافعيّ: لا يصحّ لأنه انعقد فاسداً فلا ينقلب جائزاً. ولنا إنّ المفسد فيما نحن فيه خارجٌ عن صلب العقد، وقد سقط قبل تقرره فينقلب العقد جائزاً، وهو قول

(1)

في المخطوط الشافعي، والمثبت من المطبوع وهو الصواب. انظر شرح السنة 8/ 153.

(2)

الدِّياس: هو دوس الحب بالقدم لينقشر. "رد المحتار" 4/ 119.

(3)

سورة البقرة، الآية:(189).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 343

وإنْ قَبَضَ المُشْتَرِي المَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا بِرِضَا بَائِعِهِ صَرِيحًا أوْ دَلَالَةً، كَقَبْضِهِ في مَجْلِس عَقْدِهِ، -وَكُلٌّ مِنْ عِوَضَيْهِ مَالٌ، مَلَكَهُ- وَلَزِمَهُ مِثْلُهُ حَقِيقَةً أوْ مَعْنَى. فإنْ كَانَ الفَسَادُ بِشَرْطٍ زَائِدٍ،

===

مشايخ العراق. وقال غيرهم: إن العقد انعقد موقوفاً، وبالإسقاط تبيّن أنّه كان جائزاً، وهو الصحيح، لأنّ فساد العقد باعتبار إفضائه إلى المنازعة، وقبل مجيء الأجل لا منازعة.

(وإنْ قَبَضَ المُشْتَرِي المَبِيعَ بَيْعاً فَاسِداً) وكان قبضه (بِرَضَا بَائِعِهِ صَرِيحاً) أي رضاً صريحاً كَاقْبِضْهُ أو خُذْهُ أو تَسَلَّمْهُ، وهذا قبل الافتراق أو بعده (أوْ دَلَالَةً) قبل الافتراق (كَقَبْضِهِ) بحضرة البائع (في مَجْلِس عَقْدِهِ وَكُلٌّ مِنْ عِوَضَيْهِ) أي البيع (مَالٌ) ـ جملة حالية ـ (مَلَكَهُ) أي المشتري المبيع ملكاً خبيثاً بالقيمة. وقال مالك والشّافعيّ وأحمد: لا يملكه لأنّ البيع الفاسد محظورٌ لكونه منهياً عنه، والنهيَّ يقتضي التَّحريم، والملك نعمة لكونه ذريعةً إلى قضاء المآرب ووسيلةً إلى درك المطالب، والنعمة لا تُنَاط بالمحظور لاشتراط الملاءمة بين المناط والمُناط به.

ولنا: إنّ ملزوم الملك وهو البيع تحقّق، فيتحقّق الملك لأنّ البيع الفاسد بيعٌ حقيقةً لصدور ركنهِ وهو مبادلة المال بالمال بالتَّراضي من أهله، فإنّ أهل الشيء مَنْ يكون قادراً عليه لتندفع به حاجته، مضافاً إلى محل قابلٍ لحكمه إذ الكلام فيه، فيترتب حكمه وهو الملك، ونعمة الملك ما انيطت بالمحظور بل بالبيع، وهو غير محظور، إنّما المحظور ما يتصل به من الشرط الفاسد ونحوه كما في البيع وقت النِّداء، فإنّ النّهي ورد فيه لمعنى غير البيع، وهو الاشتغال عن السَّعْي بسبب البيع.

(والاشتغال عن السعي غير البيع)

(1)

، وإنّما شرط أنْ يكون كل من عِوَضَيْهِ مالاً ليثبت ركن البيع، وهو مبادلة المال بالمال. ويشترط أيضاً أن لا يكون للبائع خِيار الشَّرط، لأن شرط الخِيار يمنع الملك في البيع الجائز، ففي الفاسد أولى. وإنّما لم يحِلّ وطاء الجارية، ولا أكل الطَّعام لأنّ في كل منهما إعراضاً عمّا هو واجب عليه، وهو الرّدّ.

(وَلَزِمَهُ) أي المشتري (مِثْلُهُ حَقِيقَةً) أي صورةً (أوْ مَعْنًى) وهو قيمته يوم القبض، لأنه به يدخل في ضمانه. وعند محمد: يوم التلف، لأنّه به يتقرَّر عليه. وإنّما لزم المشتري مثلُه لأنّه مضمونٌ بالقبض كالغصب، والمثل صورةً ومعنى لا يكون إلاّ فيما هو من ذوات الأمثال، وهو أعدل من المِثْل معنًى، فلا يُصَار إليه مع إمكان الأوَّل.

(فإنْ كَانَ الفَسَادُ) لجهالة الأجل أو (بِشَرْطٍ زَائِدٍ) فيه نفعٌ لأحد العاقدين،

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 344

فَلِمَنْ لَهُ الشَّرْطُ فَسْخُهُ، وإلَّا فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا.

فَإِنْ خَرَجَ مِنْ مِلْكِ المُشْتَرِي، أوْ بَنَى فِيهِ، فَلَا فَسْخَ، وَطَابَ لِلْبَائِعِ رِبْحُ ثَمَنِهِ بَعْدَ التَّقَابُضِ، وَلَا لِلْمُشْتَرِي رِبْحُ مَبِيعِهِ فَيَتَصَّدقُ بِهِ.

===

وكانت العين باقيةً (فَلِمَنْ لَهُ الشَّرْطُ) وهو المنتفع به (فَسْخُهُ) بحضرة صاحبه لأنّ منفعة الشّرط لمّا كانت عائدةً إليه، كان الفسخ له دون الآخر، لأن في فسخ الآخر إبطال حقّ من له منفعة الشَّرط، وهو تصحيح العقد بإبطال ذلك الشَّرط، وهذا عند محمد. وقالا: لكلّ واحدٍ من المتعاقدين الفسخ لأنّه حقّ الشّرع، فانتفى اللّزوم عن العقد.

(وإلاَّ) أي وإن لم يكن الفساد لشرطٍ زائدٍ بل كان في صلب العقد: بأن كان في أحد العِوَضَيْنِ كما لو باع درهمين بدرهم أو ثوباً بخمرٍ (فَلِكُلّ مِنْهُمَا) أي من العاقدين فسخه بعد القبض، لأنّ إعدام الفساد واجبٌ حقاً للشّرع، وقبل القبض لكن بمْحضَرٍ من الآخر، لأنّ البيع الفاسد قبل القبض لمّا لم يُفِد الملك كان فسخه أمتناعاً عن القبض، وإنّما توقّف على حضور الآخر لأنه إلزام موجب الفسخ، فلا يلزمه إلاّ بعلمه.

(فَإِنْ خَرَجَ) المبيع بيعاً فاسداً (مِنْ مِلْكِ المُشْتَرِي) ببيعٍ صحيحٍ، أو بهبةٍ وتسليمٍ، أو بعتقٍ (أوْ بَنَى) المشتري (فِيهِ) أو غرس، أو اتخذه مسجداً (فَلَا فَسْخَ) لأنّ المشتري ملك المبيع بالقبض فينفذ تصرّفه فيه، وينقطع حقّ البائع من الاسترداد، سواء كان تصرّفاً لا يحتمل النقض كالإعتاق، أو يحتمله كالبيع، لأنّ بهذه التصرّفات تعلّق حقّ العبد، وبالبيع الفاسد تعلّق حقّ الشّرع وهو الفسخ، فيغلب حقّ العبد ـ لحاجته ـ على حقّ الشّرع لغناه.

قيدّ الخروج بكونه من الملك، لأنّ المشتري لو أجّر المبيعِ، أو أنكحه لم ينقطع حقّ الفسخ، لأنّ النِّكاح لا يمنع فسخ البيع، فَيُفْسَخُ وتُرَدّ الأمة على البائع، والنِّكاح على حاله. والإجارة تفسخ بالأعذار، ودفعُ الفساد عذرٌ. وقال مالك والشّافعيّ وأحمد: لا ينقطع حقّ الفسخ بشيءٍ من ذلك. وقال أبو يوسف ومحمد: لا ينقطع بالبناء والغرس بل ينقض ويردّ المبيع على صاحبه.

(وَطَابَ لِلْبَائِعِ ربْحُ ثَمَنِهِ) أي ثمن المبيع بيعاً فاسداً إذا كان دراهم أَوْ دنانير (بَعْدَ التَّقَابُضِ) ـ متعلّقٌ بربح ـ (وَلَا لِلْمُشْتَرِي) أي ولا يطيب للمشتري (رِبْحُ مَبِيعِهِ) أي مبيعِ البيع الفاسد بعدالتَّقابض (فَيَتَصَّدقُ) المشتري (بِهِ) أي بربحه، حتّى لو اشترى أمةً شراءً فاسداً بألِفِ درهمٍ وتقابضا وربح كلّ واحدٍ منهما فيما قبض، طاب

ص: 345

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

للبائع ما ربح في الثَّمن، ولم يطب للمشتري ما ربح في الأَمة. والفرق أنّ الأَمة ممّا يتعينّ، فيتعلَّق العقد بعينها فيتمكن الخَبَثُ في ربحها فيتصدق به، والدراهم والدنانير لا تتعّينان في العقود، فلا يتعلّق العقد بعينها، فلا يتمكن الخَبَثُ في ربحهما.

هذا، والبيع الباطل لا يُفِيد الملك بالقبض ولو كان بإذنٍ من المالك، ولا ملك التّصرّف، لأنّه (يُبْنَى على الملكِ، والملكُ)

(1)

يُبْنَى على العقد الصحيح أو القبض في العقد الفاسد. ثُمَّ المقبوض في البيع الباطل أمانةٌ عند أبي حنيفة، لأنّ العقد باطلٌ، والباطل غير مُعتبرٍ والقبض بإذن المالك، فيكون أمانةً. وقالا: إنّه مضمونٌ بالقيمة لو كان قيمياً، وبالمِثْل لو كان مثلياً إذا هلك عند المشتري، كالمقبوض في البيع الفاسد، والمقبوض على سَوْم الشراء. هذا وإذا اشترى مَكِيلاً كالتّمر، أو موزوناً كالسمن كيلاً ووزناً حَرُمَ عليه بَيْعه وأكله، أو شيءٍ منه حتّى يكيله أو يزنه.

وأصله أن الأموال ثلاثة أنواع: مقدّرات، كالمكيلات والموزونات، والعدديات المتقاربة، والمَذْرُوَعات؛ فإن اشترى شيئاً منها مشاراً إليها مجازفةً صحَّ التصرفُ فيه بعد القبض، لأنه معلوم بالإشارة، وإن اشترى شيئاً منها بشرط كيلٍ أو وزنٍ أو ذرعٍ أو عد، فإن لم يقبض بَطَلَ التّصرف فيه، وبعد القبض لم يجز التّصرف في المكيل والموزون، لنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان: صاعُ البائع، وصاعُ المشتري، فيكون لصاحبه الزيادة، وعليه النقصان. رواه البزَّار عن أبي هُرَيْرَةَ.

والنهي عن البيع يقتضي الفساد إذا كان لمعنى في البيع، وقد وُجِدَ إذ البيع يتناول ما يجوز به الكيل والوزن، وهو مجهولٌ، فربَّما يزيد أو ينقص، فما لم يكل لنفسه أو يزن لا يمتاز المبيع عن غيره، فكان المبيع مجهولاً فيفسد البيع. ولأنّ أصل القبض شرط جواز التّصرّف في المبيع، فكان تمام القبض شرطاً أيضاً. والكيلُ والوزن فيما بيع كيلاً ووزناً من تمام القبض، لأنّ القَدْر المقصود عليه فيما بيع كيلاً ووزناً حتّى يلزمه ردّ الزيادة إن زاد، ونقص الثّمن بحِصته إن نقص. والقبض غير معتبرٍ لتوهم الزّيادة والنقصان.

ولا معتبر بكيل البائع قبل البيع وإن كان يحضره المشتري، لأن الشرط صاع البائع والمشتري، ولم يوجد. ولو كاله البائع (بعد البيع)( 1) بحضرة المشتري، قيل: لا يكفي لظاهر ما روينا. والصحيح أنه يكفي، وعليه الجمهور، إذ الغرض منه إعلام

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 346

وَكُرِهَ النَّجَشُ وَالسَّوْمُ عَلَى سَوْمِ غَيْرِهِ، إذَا رَضِيَا بِثَمَنٍ. وَتَلَقِّي الجَلَبِ المُضِرُّ بأَهْلِ البَلَدِ، وَالحَاضِرِ لِلْبَادِي زَمَانَ القَحْطِ،

===

المبيع وافرازه، وذا حاصلٌ بالكيل مرةً. والحديث محمولٌ على بيع العين ممّا كان مكيلاً مكايلة بعدما اشتراه فإنه يحتاج إلى كيلين والعددي المتقارب كالجوز والبيض، كالموزون في أظهر الرّوايتين عن أبي حنيفة. وقالا: هو كالمذروع، وهو رواية عنه إذ لا يجري الرِّبا بين المعدودَين كما لا يجري بين المذروعيْن.

(وَكُرِهَ)(وهو رواية)

(1)

عندنا وعند الشَّافعيّ (النَّجَشُ) ـ بفتح النون والجيم ويسكن ـ وهو أن يزيد في الثَّمن ولا يريد الشّراء بل يُرَّغِبُ غيره. (وَ) كُرِهَ (السَّوْمُ) أي سوم الشخص السلعة وهو طلبها بالثمن (عَلَى سَوْمِ غَيْرِهِ إذَا رَضِيَا)

(2)

أي ربّ السّلعة والذي سام أولاً (بِثَمَنٍ) قيّد به لأنّهما لو لم يرضيا بثمنٍ فلا بأس به، لأنّه بيع مَنْ يزيد. (وَ) كُرِهَ (تَلَقِّي الجَلَبِ) أي المجلوب وهو ما يُجَاء به من بلد إلى بلد للتّجارة (المُضِرُّ بأَهْلِ البَلَدِ) قيّد بأهل البلد لأنّ الذي لا يضرّ بهم لا بأس به إلاّ إذا لُبِّسَ السعر على الجالبين.

(وَ) كُره بيع (الحَاضِرِ لِلْبَادِي زَمَانَ القَحْطِ) وهو أن يجلب البادي السلعة فيأخذها الحاضر ليبيعها له بعد وقتٍ بأعلى من السعر الموجود وقت الجلب. وقيل: هو أن يجيء البادي بالطعام إلى المِصْرِ فلا يتركه السمسار الحاضر يبيعه (بنفسه، بل يتوكّل عليه ويبيعه)

(3)

، ويغلّي على النَّاس السعر. وإنّما نُهِيَ عنه لأنّه لو تركه يبيعه بنفسه لربّما رخَّص السّعر. وقيل: هو أنْ يكون أهل البلد في قحطٍ وهو يبيع من أهل البدو طَمَعاً في الثَّمن الغالي، وعلى هذا فاللام بمعنى مِنْ

(4)

.

روى الشيخان من حديث أبي هُرَيْرَةَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن تَلَقِّي الرُّكْبَان، وأن يبيع حاضرٌ لبادٍ، وأن تسأل المرأة طلاق أختها، وعن النَّجَشِ، والتَّصْرِيَةِ

(5)

، وأن يَسْتَامَ الرُّجل على سوم أخيه. ورويا أيضاً عن طَاوُس، عن ابن عبّاس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتلقّى الركبان، وأن يبيع حاضرٌ لبادٍ. قال: قلت لابن عباس: ما قوله

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

صورته: أن يعرض رجلٌ على المشتري سلعته بثمن، فيقول آخر: عندي مثلها بأقل من هذا الثمن. المصباح المنير، ص 297، مادة (سوم).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

المقصود أن اللام في كلمة للبادي - حسب التعريف الأخير - بمعنى من، فتصبح العبارة: وكُرِه بيع الحاضر من البادي.

(5)

التَّصْرِيَة: هو أن لا تُحْلَب الناقة أو البقرة أو الشاة أيامًا حتى يجتمع اللبن في ضرعها، فإذا حلبها المشتري استغزرها، النهاية 3/ 27 بتصرف.

ص: 347

وَالَبْيَعُ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَتَفْرِيقُ صَغِيرٍ عَنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ،

===

حاضرٌ لبادٍ؟ قال: لا يكون له سمساراً.

(وَ) كُرِهَ (الَبْيَعُ وَقْتَ النِّدَاءِ) للجمعة، لقوله تعالى:{وَذَرُوا البَيْعَ}

(1)

، ولأنّ فيه إخلالاً بالواجب وهو السعي إذا قعدا للبيع أو وقفا له. قيل: ولو تبايعا وهما يمشيان، لا بأس به، وهذا مُشْكِل فإنّ الله تعالى قد نهى عن البيع مطلقاً. ثم المعتبر هو النِّداء الأول إِذا وقع بعد الزَّوال على المختار. وإنّما كُرِهَ البيع في جميع هذه الصور ولم يفسد خلافاً لمالك، لأنّ النهي عنها لمعنًى مجاورٍ للبيع لا في صلبه، ولا في شرطِ صحته. والنهي الوارد لمعنى مجاورٍ لا يقتضي الفساد، بل يقتضي الكراهة.

(وَ) كره تحريماً (تَفْرِيقُ صَغِيرٍ) أي غير بالغٍ (عَنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ) سواء كان صغيراً أو كبيراً، بِبَيْعٍ وغيره، لِمَا روى الترمذي في البيوع وفي السِّيَر، ـ وقال: حسنٌ غريبٌ ـ عن أبي أيُّوب الأنْصَارِيّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من فرّق بين والدة وولدها، فرّق اللهاُ بينه وبين أحبّته يوم القيامة» .

ورواه أحمد في «مسنده» بزيادة قصّة فيه ولفظه: عن أبي عبد الرحمن الحُبُليّ قال: كنّا في البحر وعلينا عبد الله بن قَيْس الفَزَارِيّ، ومعنا أبو أيُّوب الأنصاريّ، فمرّ بصاحب المَقَاسِم وقد أقام السبيّ، فإذا امرأةٌ تبكي فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: فرّقوا بينها وبين ولدها، فانطلق أبو أيوب فأتى بولدها حتّى وضعه في يدها، (فانطلق صاحب المَقَاسم إلى عبد الله بن قيس فأخبره)

(2)

، فأرسل إليه عبد الله بن قَيْس فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من فرّق

». الحديث.

وفي «المعرفة» للبَيْهَقِيّ بسنده، عن جَعْفَرِ بن محمد، عن أبيه، عن جده، أنّ أبا أُسَيْد جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْيٍ من البحرين فنظر عليه الصلاة والسلام إلى امرأة منهنّ تبكي فقال:«ما شأنُكِ؟» قالت: باع ابني، فقال عليه الصلاة والسلام لأبي أُسَيْد:«أَبِعْتَ ابنها» ؟ قال: نعم. قال: «فيمن» ؟ قال: في بني عَبْس. فقال عليه الصلاة والسلام: «اركب بنفسك فَأْتِ به» .

وروى الدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» عن أبي موسى قال: لعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من فرّق

(1)

سورة الجمعة، الآية:(9).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 348

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

بين الوالدة وولدها، وبين الأخ وأخيه. وروى ابن ماجه والترمذي ـ وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ ـ، عن عليّ ابن أبي طالب، قال: وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين، فبعت أحدهما، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا عليّ ما فعل غلاماك؟» . فأخبرته، فقال:«ردّه ردّه» . وفي «سنن الدَّارَقُطْنِي» «والمستدرك» عن عليّ قال: قَدِمَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فأمرني ببيع أخويْن فبعتهما وفرّقت بينهما، ثم أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:«أدركهما فارتجعهما وبعهما جميعاً، ولا تفرّق بينهما» . قال الحاكم: صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرّجاه. ولأنّ الصغير يَستأنس بالصغير وبالكبير، والكبير يُشفق على الصغير ويقوم بحوائجه للشفقة الثابتة من قرب القرابة، ففي التفريق بينهما إيحاش الصغير وترك الترحّم عليه، وهو منهيٌّ عنه.

ثم المنع من التّفريق معللٌ بالصّغر والقرابة المُحَرِّمَة للنِّكاح، فلا يدخل فيه الكبيران، لأنّ كل واحدٍ منهما يقوم بحوائجه ولا يستأنس بالآخَر عادةً، بل ربّما يتأذّى به. ولأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فرّق بين مارية وسيرين، وكانتا أمَتَيْنِ أختيْن كبيرتيْن. وسيرين بالسين المهملة على ما ذكره ابن الهُمَام. ولا مَحْرَمٌ غيرُ قريبٍ كامرأة الأب، ولا قريبٌ غيرُ مَحْرَمٍ كابن العمّ، ولا الزوجان وإن كانا صغيرين لعدم هذه القرابة. ولو اجتمع مع الصغير عددٌ من أقاربه، لا يُفَرَّقُ بينه وبين أحدٍ سواء اختلفت جهة القرابة كالعمّ والخال، أو اتّحدت كخالين عند أبي يوسف، لأنه يَسْتَوحِشُ بفراق الكلّ. وقيل: لو اتّحدت الجهة يُتْرَكُ واحدٌ ويُفَرِّقُ بينه وبين الباقي إن شاء. أمّا لو اجتمع مع أبويه، فلا يفرّق بينه وبين واحدٍ منهما، لأنه لا يُسْتَغْنَى بأحدهما عن الآخر.

وفي «شرح الوافي» : مَسْبِيَّةٌ معها صبيّ ادّعت أنه ابنها، لا يثبت نسبه منها لأنها تحمل النَّسب على الغير، ولا يُفَرَّقُ لأنّ قول الواحد مقبولٌ في الديانات خصوصاً فيما يُبْنىَ على الاحتياط.

وإذا وقع تفريق بين صغيرٍ وذي رَحمٍ مَحْرَمٍ منه ببيع، نفذ في الكلِّ عند أبي حنيفة ومحمد، وهو قول للشافعيّ. وعن أبي يوسف: لا يجوز في قرابة الولاد لقوتها، ويجوز في قرابة غيرها لضعفها، وهو الأصحّ في مذهب الشّافعيّ. وقال مالك: لا يجوز في الأمّ فقط، وعن أبي يوسف أيضاً، وهو قول أحمد: لا يجوز في الكلّ، لأنّ الأمر بالردّ في الحديث السابق لا يكون إلاّ في البيع الفاسد، وهو قول الحسن بن زياد. وذكر الطَّحَاويّ قول محمد مع أبي يوسف. وذكره الكَرْخِيّ مع أبي حنيفة رحمه الله.

ولأبي حنيفة رحمه الله: أنّ ركن البيع صَدَر من أهله مضافاً إلى محله فينفذ،

ص: 349

لَا بَيْعَ مَنْ يَزِيدُ.

===

والنهي عن بيع أحدهما لمعنى مجاورٍ للبيع غير متصلٍ به، وهو الإضرار بالصغير، فلا يفسُد العقد كالنهيّ عن السَّوْم على سَوْم غيره.

(لَا بَيْعَ مَنْ يَزِيدُ) أي لا يكره، لِمَا روى أصحاب «السنن الأربعة» ، عن أنس بن مالك: أنّ رجلاً من الأنصار أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال:«أما في بيتك شيءٌ» ؟ قال: بلى، حِلْسٌ ـ أي كساء ـ نَلْبَسُ بعضه ونبسط بعضه، وقَعْبٌ ـ أي قدح ـ نشرب فيه الماء. قال:«ائتني بهما» ، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«مَنْ يشتري هذين؟» فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال: «من يزيد على درهم» مرتين أو ثلاثاً ـ قال رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه فأخذ الدّرهمين فأعطاهما الأنصاريّ. وقال:«اشترِ بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخر قَدُوماً فائتني به» ، فأتاه به فشدّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عُوداً بيده ثمّ قال:«اذهب فاحتطب وبع، ولا أرَينَّك خمسة عشر يوماً» . فذهب الرّجل يحتطب ويبيع، فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هذا خيرٌ لك من أن تجيء المسألةُ نُكْتَةً في وجهك يوم القيامة» .

قال الزَّيْلَعِيّ في «شرح الكنز» : ومن مشايخ بُخَارَى مَنْ جعل بيع الوفاء، كبيع المُكَره، منهم الإمام ظهير الدّين، والصدر الشهيد حُسَام الدِّين، والصدر السعيد تاج الإسلام. وصورته: أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذه العين بدينٍ لك، على أَني متى قضيت الدّين فهو لي. فجعلوه فاسداً باعتبار شَرْط الفسخ عند القدرة على إيفاء الدين، فيفيد الملك عند اتصال القبض وينقض بيع المشتري كبيع المُكْره، لأنّ الفساد باعتبار عدم الرِّضا فكان حكمه كحكم بيع المكره في جميع ما ذكرنا.

ومنهم مَنْ جعله رهناً، منهم: السيد الإمام أبو شجاع، وعليّ السُّغْدِيّ، والإمام القاضي الحسن المَاتُرِيدِي. قالوا: لَمّا شرط عليه أخذه عند قضاء الدين كان بمعنى الرّهن، لأنه هو الذي يُؤْخَذُ عند قضاء الدّين، والعبرة في العقود للمعاني دون الألفاظ، حتّى جُعِلَت الكَفَالَة بشرط براءة الأصيل حَوَالَة، وبالعكس كفالة، والاستصناع عند ضَرْب الأجل سَلَماً، فإذا كان رهناً لا يملكه ولا ينتفع به. وأيّ شيءٍ أُكِلَ من زوائده يضمن ويستردّه عند قضاء الدين. ولو استأجره البائع، لا تلزمه أجرته، كالرّاهن إذا استأجر المرهون وانتفع به وسقط الدين بهلاكه، فيثبت به جميع أحكام الرّهن. ومن

ص: 350

‌فَصْلْ الإِقَالَةُ

الإقالَةُ فَسْخٌ في حَقِّ المُتَعَاقِدَيْنِ، فَتَبْطُلُ بَعْدَ وِلَادَةِ المَبِيعَةِ، وبَيْعٌ في حَقِّ الثَّالِثِ، فَيَجِبُ بِهَا الشُّفْعَةُ.

===

مشايخ سَمَرْقَنْد من جعله بيعاً جائزاً مفيداً بعض أحكامه، منهم الإمام نجم الدين النَّسَفِيّ، فقال: اتّفق مشايخنا في هذا الزَّمان فجعلوه بيعاً جائزاً مفيداً لبعض الأحكام ـ وهو الانتفاع به ـ دون البعض، وهو البيع لحاجة النّاس إليه ولتعاملهم فيه، والقواعد قد تترك بالتعامل. وجوّز الاستصناع لذلك، وقال صاحب «النهاية»: وعليه الفتوى.

ومن المشايخ من جعله باطلاً واعتبره بالهازل. وقال في «الكافي» : والصحيح أنّ العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهناً، ثم ينظر إِنْ كانا اشترطا الفسخ في البيع، فسد البيع وإن لم يذكرا ذلك في البيع، وتلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء أو بالبيع الجائز. وعندهما: هذا البيع عبارة عن بيعٍ غير لازمٍ فكذلك. وإن ذكرا البيع من غير شرطٍ ثم ذكرا الشرط على وجه الميعاد جاز البيع، ويلزمه الوفاء بالميعاد، لأنّ المواعيد قد تكون لازمةً.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العِدَةُ دينٌ»

(1)

. فيجعل هذا الميعاد لازماً لحاجة النّاس إليه. وقال جلال الدين في «حواشي الهداية» : وصورته أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذه العين بألفِ درهمٍ على أني لو دفعت إليك ثمنك تدفع العين إليّ. ثم قال: ويُسمّى هذا بيع الوفاء، وهذا البيع موجودٌ في المِصْر يُتَعَامَلُ به ويسمّونه بيع الأمانة. والله تعالى أعلم.

فصلٌ الإقَالَةُ

(الإقالَةُ) مندوبة لِمَا في «سنن أبي داود وابن ماجه» ، عن أبي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ أقال مسلماً بيعتَهُ، أقال اللهاُ عثرتَه» . زاد ابن ماجه: «يوم القيامة» . وفي رواية البَيْهَقِيّ: «من أقال نادماً» . وهي تصح بايجابٍ كـ: أقلتك، وقَبُولٍ في المجلس من الآخر، وبتعاطٍ أيضاً. (فَسْخٌ في حَقِّ المُتَعَاقِدَيْنِ) عند أبي حنيفة إلا أن لا يمكن جعلها فسخاً (فَتَبْطُلُ) الإقالة (بَعْدَ وِلَادَةِ المَبِيعَةِ) بعد القبض، لأنّ الزّيادة المنفصلة تمنع الفسخ بخلاف المتَّصلة عند أبي حنيفة رحمه الله (وَبَيْعٌ) جديدٌ (في حَقِّ الثَّالِثِ) إنْ وُجِدَ كالشفيع، (فَيَجِبُ بها) أي بالإقالة (الشُّفْعَةُ) للشفيع

(1)

أخرجه الطبراني في المعجم الصغير ص 179.

ص: 351

وَصَحَّتْ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الأوّلِ، وإنْ شَرَطَ غَيْرَ جِنْسِهِ، أوْ أكْثَرَ مِنْه، وكذا الأَقلّ، إِلَّا إِذَا تَعَيَّبَ.

===

الذي سُلِّمَ الشُّفْعَة في البيع لأنه ثالثٌ، وكذا الاستبراء في إقالة الأَمة.

وقال أبو يوسف، والشافعيّ في القديم، ومالك: بيع في حقّ الكل بعد القبض (إلاّ إذا تعذّر جعلها بيعاً، بأن كانت قبل القبض في المنقول، أو كانت بعد هلاك أحد العِوَضيْن في المقايضة، فيجعلها أبو يوسف)

(1)

فسخاً إلاّ إذا تعذّر جعلُها فسخاً بأن تقايلا قبل القبض في المنقول على خلاف الجنس أو المقدار، فتبطل الإقالة، لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز، والفسخ يكون بالثَّمن الأوّل وقد سمّيا ثمناً آخر، فتبطل الإقالة ويبقى البيع الأول على حاله.

وقال محمد والشّافعي في الجديد، وزُفَرُ: فسخٌ في حقّ الكلّ إن كانت بالثّمن الأوّل أو بأقلّ، إلاّ إذا تعذَّر جعلها فسخاً (بأن تقايلا بعد القبض بالثّمن الأول بعد الزِّيادة المنفصلة، أو تقايلا بعد القبض بخلاف جنس الثَّمن الأوّل، فيجعل بيعاً إلاّ إذا تعذّر جعلها بيعاً بأن تقايلا قبل القبض في المنقول على خلاف الجنس أو المقدار)، فتبطل الإقالة ويبقى البيع على حاله.

(وَصَحَّتْ) الإقالة (بِمِثْلِ الثَّمَنِ الأوّلِ) جنساً وقدراً (وإنْ شَرَطَ غَيْرَ جِنْسِهِ) كما لو كان الثَّمن دراهم وأقال على دنانير، لأنّ غير جنس الثَّمن ليس ثابتاً في المفسوخ ورفع ما ليس ثابتاً محالٌ، فيكون تسمية غير جنس الثَّمن في الإقالة شرطاً فاسداً، والإقالة لا تبطل بالشُّروط الفاسدة، (أوْ) إنْ شَرَطَ (أكْثَرَ مِنْه) أي من الثَّمن لأنّ الزِّيادة يتعذّر الفسخ عليها، لأنّها لم تكن ثابتة في المفسوخ، فيكون تسميتها شرطاً فاسداً فيلغو. وهذا يؤيد قول أبي حنيفة ومحمد: أَنّ الإقالة فسخٌ، إذ لو كانت بيعاً لبطلت بالشرط الفاسد كالبيع.

(وكذا) تصحُّ الإِقالة بِمثل الثمن الأَوّل وإِن شَرَط (الأَقلّ)، فلو تقايلا بخمس مئة والمبيع بحاله لم يتعيّب وكان الثمن أَلفاً صحت الإِقالة بأَلف، لأَنه لا يمكنُ تصحيحُهما بخمس مئة فيبطُل ذكر الخمس مئة، وتبقى الإِقالة، فيجب على البائع ردّ الأَلف على المشتري (إِلاَّ إِذا تعيَّب) المبيع: بأَن حدث به عيبٌ عند المشتري، فإنّ الإقالة تصحّ بالأقلّ حينئذٍ ويكون المحطوط من الثَّمن بإزاء العيب، وهذا كله عند أبي

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 352

وَلَمْ يَمْنَعْهَا هَلَاكُ الثَّمَنِ بَلْ هَلَاكُ المَبِيعِ، وَهَلَاكُ بَعْضِهِ يَمْنَعُ بِقَدرِهِ.

‌فَصْلْ

[فِي التَّوْلِيَةِ والمُرَابَحَةِ]

التَّوْلِيَةُ أنْ يَشْتَرِطَ في البَيْع أنّهُ بِمَا شَرَى،

===

حنيفة. وأمّا عندهما، ففي أكثر من الثّمن يكون بيعاً، لأن البيع أصلٌ عند أبي يوسف وكان جعلها بيعاً ممكناً، وبالزيادة ظهر قصد البيع فيجعل بيعاً عند محمد، وكذا في أقلّ من الثّمن يكون بيعاً عند أبي يوسف لأنّه الأصل عنده، وفسخاً بالثّمن الأوّل عند محمد لأنه سكوت عن بعض الثَّمن الأوَّل، وهو لو أقال وسكت عن الثَّمن الأوَّل يكون فسخاً، فهذا أحقّ.

(وَلَمْ يَمْنَعْهَا) أي الإقالة (هَلَاكُ الثَّمَنِ بَلْ) يمنعها (هَلَاكُ المَبِيعِ) لأنّ الإقالة رفع البيع، ورفعه يستدعي قيامه، وقيامه بالمبيع دون الثّمن. ولهذا لو هلك المبيع قبل القبض يبطل البيع، ولو هلك الثمن قبله لا يبطل. (وَهَلَاكُ بَعْضِهُ) أي المبيع (يَمْنَعُ) من الإقالة (بقدره) اعتباراً للجزء بالكلّ، فتجوز الإقالة في الباقي، ويمتنع في الهالك. ولو باع بشرط الإقالة، إذا ردّ البائع الثَّمن عند أكثر المشايخ له حكم الرَّهن، فلا يباح للمشتري أن ينتفع به بدون إذن البائع، ويسقط الدّين بهلاكه. وعند بعض المشايخ: هو باطلٌ لأنّه تلاعب.

وقال نجم الدين النَّسَفِي: اتّفق مشايخنا في هذا الزَّمان على جوازه لحاجة النّاس إليه وتعاملهم به، والقواعد قد تترك بالتعامل كما في الاستصناع. وفي «النهاية»: وعليه الفتوى. وفي «الخَانِيَّة» : الصحيح أنّ العقد إن كان بلفظ البيع لا يكون رهناً، ثم ينظر فإنْ ذُكِرَ الشرط فيه يفسد، وإن ذُكِرَ قبله أو بعده على وجه المواعدة يصحّ العقد، ويلزم الوفاء بالعهد لحاجة الناس.

فصلٌ

(في التَّوْلِيَةِ والمُرَابَحَةِ)

(التَّوْلِيَةُ) لُغَةً: جعل الشيء والياً لغيره.

وشرعاً: (أنْ يَشْتَرِطَ) البائع (في البَيْعِ أنّهُ بِمَا شَرَى) أَي بقدره وجنسه لا بنفسه، لأنّ نفس ما شرى به صار ملكاً للبائع الأوَّل، فلا يمكن البيع به إلاّ إذ صار ملكاً للمشتري. ولو قال:«بما قام عليه» بدل قوله: «بما شرى» ، لكان أولى، لأنّ الصبغ

ص: 353

والمُرَابَحَةُ بِهِ مَعَ فَضْلٍ. وشَرْطُهُمَا شِرَاؤُهُ بِمِثْلِيّ.

وَلَهُ ضَمُّ أُجْرَةِ القِصَارَةِ وَالحَمْلِ وَنَحْوِهِمَا،

===

والقِصَارة ونحوهما يُضَمُّ إلى الثَّمن الأوّل (والمُرَابَحَةُ بِهِ) أي بما شرى، فهي أن يشترط البائع في البيع أنّه بما شرى (مَعَ فَضْلٍ) وأمّا إذا كان بأقلّ من الثَّمن فوضيعةٌ. وهما بيعان جائزان لتعامل النّاس بهما من غير نكير، ولِمَا روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» ، عن مَعْمَر، عن رَبِيعَة ابن أبي عبد الرّحمنِ، عن سعيد بن المُسَيَّبِ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«التَّوْلِيَةُ، والإقَالَةُ، والشَّرِكَةُ سواءٌ لا بأس به» . وروى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» ، عن الحسن وابن سيرين وطاوس أنهّم قالوا: التَّوْلِيَةُ بيعٌ.

وفي البخاري عن عائشة أنّ أبا بكرٍ قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: خذ بأبي أنت وأمي (يا رسول الله)

(1)

إحدى راحلتيّ هاتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بالثَّمن» . وفي «سيرة ابن إسحاق» : فلمّا قرّب أبو بكر رضي الله عنه الرَّاحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم أفضلهما، ثم قال: اركب فداك أبي وأمي يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أركب بعيراً ليس لي» . فقال: هي لك يا رسول الله. قال: «لا، ولكن بالثَّمن الذي ابتعتها به» . قال: كذا وكذا، قال:«أخذتها بذلك» . قال: هي لك يا رسول الله، فركبا وانطلقا.

وفي «طبقات ابن سعد» : وكان أبو بكر قد اشتراهما من نَعَمِ بني قشير بثمان مئة درهمٍ، فأخذ إحداهما وهي القصوى

(2)

. ولأنّ شرائط الجواز متحقّقة فيهما، وقد مسّت الحاجة إليهما، لأن غير الفَطِن في الشِّراء يحتاج إلى أنْ يعتمد على فعل الماهر فيه، فيشتري عنه بمثل ما اشترى وبزيادة ربحٍ، لئلا يُغْبَنَ بأكثر ممّا لو لم يعتمد على فعله، ولهذا كان مبناهما على الأمانة والاحتراز عن التّهمةِ والخيانة، إذ لو لم يبنيا على ذلك فات المقصود.

(وشَرْطُهُمَا) أي المُرَابَحِةِ والتّوْلِيَةِ، وكذا الوضيعة (شِرَاؤُهُ) أي شراء البائع المبيع (بِمثْلِيّ) أي كيليّ، أو وزنيّ، أو عدديّ متقارب، (وَلَهُ) أي للبائع (ضَمُّ أجْرَةِ القِصَارَةِ وَالحَمْلِ وَنَحْوِهِمَا) أي نحو القِصَارة ممّا زاد في عين المبيع، ونحو الحمل مما زاد في قيمته، لأنّ ما زاد في عين الشيء أو في قيمته ملحقٌ به.

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط وهي صحيحة لموافقتها لما في صحيح البخاري (فتح الباري) 7/ 230 - 231، كتاب مناقب الأنصار (63)، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة (45)، رقم (3905).

(2)

قصا البعير والشاة قطع من طرف أذنه. مختار الصحاح، ص 225، مادة (قصا). فالقصواء: مقطوعة الاُذُن.

ص: 354

وَيَقُولُ: قَامَ عَلَيّ بِكَذَا، فَإنْ ظَهَرَ خِيَانَتُهُ في المُرَابَحَةِ أَخَذَهُ بِثَمَنِةِ أوْ رَدَّهُ. وَفي التَّوْلِيَةِ حُطَّ. وَعِنْدَ أبِي يُوسُفَ حُطَّ فِيهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ خُيِّرَ فِيهِمَا.

‌فَصْلْ فِي الرّبَا

الرِّبَا

===

وإنّما كان الحمل مما يزيد في قيمة المبيع، لأنّ القيمة تختلف باختلاف المكان فيضمّ أجر الفَتْل والطِّرَاز والصَّبْغ والغسل والخياطة ونحوها. والأَصل أَنَّ ما جرى عُرْف التجّار على إِلحاقه برأس المال يُلحق به، وما لا فلا. وأَما أُجرة الدَّلاّل

(1)

فلا تضم اتفاقاً، وتضم نفقة المبيع وكسوته لا نفقة المشتري على نفسه في سفره من وقت شرائه للمبيع. وقيّد بالأُجرة لأَنه لو فعل القصارة أو الحمل أَوْ نحوهما بيده لا يُضم.

(وَيَقُولُ: قَامَ عَلَيّ بِكَذَا) ولا يقول: شريت بكذا، تحرّزاً عن الكذب، إذ المُشْتَرى به ما ذُكِرَ ثمناً في العقد. ((فَإنْ ظَهَرَ خِيَانَتُهُ في المُرَابَحَةِ))

(2)

بإقرار البائع أو بالبينة أو بنكوله عن اليمين وقد ادّعاها المشتري (أَخَذَهُ) أَي المبيع (بِثَمَنِهِ) كلّه (أوْ رَدَّهُ) بالفسخ.

(وَ) إنْ ظهر له خيانةٌ (في التَّوْلِيَةِ حُطَّ) قَدْر الخيانة من الثَّمن ولا يُفْسَخ، هذا عند أبي حنيفة، (وَعِنْدَ أبِي يُوسُفَ حُطَّ فِيهِمَا) أي في المُرَابَحَةِ والتَّوّلِيَةِ، وهو قول الشّافعي في «المختصر» وأحمد (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ) وهو قولٌ للشَّافعيّ (خُيِّرَ فِيهِمَا) بين الأخذ بكل الثَّمن والفسخ. ولو اشترى بألفٍ مؤجَّلَةٍ، وباع بربح مئة، أو باع توليةً بلا بيانٍ، خُيِّرَ المشتري بين أخذه بكلّ الثَّمن وبين رَدّه اتفاقاً.

وفي «المُحِيطِ» : من اشترى شيئاً وصار مغبوناً غبناً فاحشاً، له أن يردّه على البائع بحكم الغبن. وقال القاضي أبو عليّ النَّسَفِيّ: فيه روايتان عن أصحابنا ويُفْتَى برواية الرَّدِّ رفقاً بالناس. وكان صدر الإسلام أبو اليُسْر يفتي بأنّ البائع إن قال للمشتري: قيمة متاعي كذا، أو قال: متاعي يساوي كذا، فاشترى بناءً على ذلك فظهر بخلافه، له الرّدّ بحكم التغرير. وإن لم يقل ذلك، فليس له الرّدّ. وبعضهم لا يفتون بالرّدّ بكلّ حالٍ. والصحيح أن يُفْتَى بالرّدّ إذا وُجِدَ التغرير، وبدونه لا يُفْتَى. والله تعالى أعلم.

فصلٌ في الرِّبا

(الرِّبَا) لغةً: الفضل والزيادة. يقال هذا يربو على هذا، أي يفضُل، ومنه قوله

(1)

الدلّالُ: من يجمع بين البَيِّعَين. المعجم الوسيط. ص 294، مادة (دل).

(2)

عبارة المخطوط: (فإن ظهر) للمشتري (خيانة) من البائع (في مرابحة) بإقرار

والمثبت من المطبوع.

ص: 355

فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ شُرِطَ لأحَدِ المُتَعَاقِدَيْنِ في المُعَاوَضَةِ.

===

تعالى: {وَمَا آتَيتُمْ مِنْ رباً لِيَرْبُوَا في أمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ}

(1)

، وسُمِّيَ المكان المرتفع رَبوةً لفضله على سائر البقاع.

وشرعاً: (فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ) أي لا يقابله عوض في معاوضة مالٍ بمالٍ (شُرِطَ لأحَدِ المُتَعَاقِدَيْنِ في المُعَاوَضَةِ).

في «شرح الوِقَاية» : أي فَضْلَ أحد المتجانسين على الآخر بالمعيار الشرعيّ، أي الكيل والوزن. فَفَضْل قَفِيزَي

(2)

شعيرٍ على قفيز بُرَ لا يكون رباً، وكذا فضل عشرة أذرعٍ من الثوب الهروي

(3)

على خمسة أذرعٍ منه لا يكون رباً. وقال: خالٍ عن عِوَضٍ، ليحترز عن بيع كُرِّ

(4)

بُرَ وكُرّ شعيرٍ بكُرّي بُرَ وكُرّي شعيرٍ، فإن للثاني فضلاً عن الأول، لكنّه غير خالٍ عن العوض بصرف الجنس إلى خلاف الجنس. وقال: شُرِطَ لأحد المتعاقدين، لأنه لو شُرِطَ لغيرهما لا يكون رباً. وقال: في المعاوضة، لأنّ الفضل الخالي عن العوض الذي في الهبة ليس برباً. انتهى.

وفي «جمع العلوم» : الرِّبا شرعاً: عبارة عن عقدٍ فاسدٍ وإن لم يكن فيه زيادة، لأنّ بيع الدّرهم بالدّرهم نَسَاءً ربا وإن لم يتحقق فيه الزِّيادة. أقول: ولا يبعد عدّ النَّساء زيادةً مجازاً.

ثم ثبوت حرمة الرّبا بالكتاب نحو قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا}

(5)

. وبالسَّنَّةِ نحو ما رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن مسعود: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الرّبا ومُؤْكِلَهُ وشاهدَه وكاتِبَه. وبإجماع الأَمَّة. قال الإِسْبِيجَابِيّ: اتفقوا على أنه إذا أنكر ربا النَّسَاء يكفر، واختلفوا في ربا الفضل، فإن ابن عباس لا يرى الرّبا إلاّ في النَّسِيئة. وعنه أنه رجع إلى قول غيره.

والحاصل:

أنّ الأصل في حُرمة الربا قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}

(6)

، ومعناه اللُّغَويّ: الذي هو مطلق الفضل. والزيادة ليست مراداً بالإجماع،

(1)

سورة الروم، الآية:(39).

(2)

سبق شرحها ص (303)، التعليقة رقم:(2).

(3)

ثَوْبٌ هَرَوِيّ، بالتحريك، ومَرْويّ. بالسكون: منسوبٌ إلى هَرَاة ومَرْو: قريتان معروفتان بخراسان. "المُغْرِب" 2/ 383.

(4)

الكُّرُّ: مكيال لأهل العراق، أو ستون قفيزًا، أو أربعون إرْدَبًّا وهي تساوي عند الحنفية 1978.56 ليترًا = 2348.280 كيلو غرامًا من القمح، وعند غير الحنفية 1978.56 ليترًا = 2420.64 كيلوغرامًا. معجم لغة الفقهاء. ص 379.

(5)

سورة آل عمران، الآية:(130).

(6)

سورة البقرة، الآية:(275).

ص: 356

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

فكان النَّصُ مجملاً وقد ورد بيانه بقوله عليه السلام: «الذَّهب بالذَّهبِ، والفضةُ بالفضة، والبُرُّ بالبُرِّ، والشعيرُ بالشعير، والتَّمرُ بالتَّمر، والملحُ بالملح، مثلا بمثلٍ، سواءً بسواءٍ، يداً بيدٍ، فإن اختلفت هذه الأصنافُ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيدٍ» . رواه الستة من حديث عُبَادة بن الصَّامت إلاّ البخاريّ. وأخرجه مسلمٌ عن أبي سعيد الخُدْرِيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء، وزاد بعد قوله:«يداً بيدٍ» : «فمن زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخِذُ والمُعْطِي فيه سواءٌ» . والتقدير في هذه الرِّواية: بيعوا مثلاً بمثل.

وروى محمد بن الحسن في أول بيوع «الأصل» قال: حدّثنا أبو حنيفة عن عَطِيّة العَوْفِي، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الذَّهبُ بالذَّهب مثلاً بمثلٍ يداً بيدٍ، والفضل ربا، والفضةُ بالفضة. مثلاً بمثلٍ، يداً بيدٍ، والفضل ربا» ، وهكذا إلى آخر الأشياء الستة. فالتقدير بيعها مثلاً بمثلٍ، أو يباع مثلاً بمثلٍ، وهو خبرٌ بمعنى الأمر بل آكَدٌ منه تحقيقاً لمعنى البيع.

وفي روايةٍ لأبي داود عن عُبَادة بن الصَّامت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذّهبُ بالذّهب تِبْرُها

(1)

وعَيْنُها، والفضة بالفضة تِبْرُها وعَيْنُها، والبُرُّ بالبُرِّ مُدْيٌ بمُدْيٍ

(2)

، (والشعيرُ بالشعير مُدْيٌ بمُدْيٍ)

(3)

، والتَّمْرُ بالتَّمْر مُدْيٌ بمُدْي، والملحُ بالملح مُدْيٌ بمُدْيٍ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما يداً بيد، وأمّا نسيئةً فلا، ولا بأس ببيع البُر بالشعير، والشعير أكثرهما يداً بيدٍ، وأمّا نسيئة فلا». وفي «القاموس»: المُدْيُ: ـ بضم ـ مكيال الشام ومصر، وهو غير المُدّ، جمعه أمْدَاء

(4)

.

وبرواية الطَّحَاويّ عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذَّهبَ بالذَّهب ولا الوَرِقَ

(5)

بالوَرِقِ، ولا البُرَّ بالبُّرِ، ولا الشعيرَ بالشعير، (ولا التّمرَ بالتّمر)

(6)

، ولا الملحَ

(1)

التِّبْرُ: فُتَات الذهب أو الفضة قبل أن يُصَاغا. المعجم الوسيط. ص 81، مادة (تبر).

(2)

المُدْيُ: مكيال لأهل الشام يسع خمسة عشر مَكُّوكًا، والمكُّوك: صاع ونصف ما يعادل عند الحنفية 4.89 ليترًا، وعند غيرهم 4.15 ليترًا. النهاية (4/ 310) ومعجم لغة الفقهاء ص 456.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط والمطبوع، وإثباته الصواب لموافقته لما في سنن أبى داود 3/ 643 - 646، كتاب البيوع والإجارات (22)، باب في الصَّرْفِ (12)، رقم (334).

(4)

في المطبوعة: أمداد وهو خطأ. انظر القاموس المحيط ص 1719، مادة (مدى).

(5)

الوَرِقُ: الفضة. المصباح المنير، ص (655)، مادة ورق.

(6)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، وإثباته الصواب لموافقته لما في شرح معاني الآثار 4/ 76.

ص: 357

وَعِلَّتُهُ القَدْرُ، أي: الكَيْلُ أوْ الوَزْنُ، مَعَ الجِنْسِ.

===

بالملح إلاّ سواءً بسواءٍ، عيناً بعينٍ، ولكن بيعوا الذَّهبَ بالوَرِقِ، والوَرِقَ بالذَّهب، والبُرَّ بالشعير، والشعيرَ بالبُرِّ، والتّمرَ بالمِلْح، والمِلْحَ بالتّمر، يداً بيدٍ كيف شئتم». وقد اتّفق القائسون أنّ الحكم ليس مقصوراً على الأشياء الستة بل النَّص معلّلٌ بالاتفاق خلافاً لداود الظاهري نافي القياس، وعثمان البَتِّيّ. لكن اختلفوا في العلّة، فقال علماؤنا:

(وَعلَّتُهُ) أي علَّة وجوب المساواة وحرمة الفضل، أو علة كون المال رِبَوِيّاً (القَدْرُ: أي الكَيْلُ أوْ الوَزْنُ مَعَ الجِنْسِ) فَلَا ربا فيما لا يدخل تحت كَيلٍ أو وزنٍ، كالحَفْنَةِ من القمح، والذَّرَّة من الذَّهب، ولا في مكيلٍ أو موزونٍ مع خلاف جنسه، وبه قال أحمد في رواية.

وقال مالك: علَّتُه الاقتيات والإدّخار مع الجنس، لأنّه صلى الله عليه وسلم خَصَّ بالذّكر كل مقتاتٍ ومُدَّخَرٍ. وقال الشّافعيّ في القديم: علته الطُّعم مع الكيل أو الوزن؛ وفي الجديد: علته الطُّعم في الأشياء الأربعة، والثَّمنيّة في الذَّهب والفضة، والجنسية شرطٌ لا تعمل العلّة بدونه، وبه قال مالك وأحمد في رواية، لِمَا روى مسلم من حديث مَعْمَر بن عبد الله أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«الطَّعَامُ بالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ» .

وفي رواية «لا تبيعوا الطَّعامَ بالطَّعام إلاّ مِثْلاً بمثلٍ» ، وفي رواية:«إلاّ سواءً بسواءٍ» . ونَصبهما على الحال. ووجه الدَّلالة: أن الطَّعام مشتقٌ من الطعم ومتى ترتّب الحكم على اسمٍ مشتقٍ كان مأخذ الاشتقاق علّة له. والطَّعْمُ بالفتح: ما يؤدِّيه الذَّوق من حلاوةٍ ومرارةٍ وما بينهما. وبالضمّ: الطَّعام.

ولنا ما رُوِّينَا عن أبي سعيد الخُدْري وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذّهبُ بالذّهب، والفِضَّةُ بالفضة» إلى أن قال: «مِثْلاً بِمِثْلٍ

» الحديثَ. ووجه الدَّلالة أنّه صلى الله عليه وسلم أوجب المماثلة في الجنس الواحد تتميماً للفائدة في حقّ العاقديّن، إذ لو كان أحدُ العِوَضَيْن أقلّ من الآخر لكانت الفائدة تامّة لأحد العاقديْن دون الآخر. والمماثلة باعتبار الصورة القَدْرُ، وباعتبار المعنى الجِنْسُ.

وروى الشيخان عن سعيد بن المُسَيَّب أنّ أبا سعيد الخُدْرِيّ وأبا هُرَيْرَة حدّثاه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سَوَادَ بن غَزِيَّة وأمّره على خَيْبَرَ. فَقَدِمَ عليه بتمرٍ جَنِيبٍ ـ يعني طيبِ ـ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَكُلُّ تمر خَيْبَرَ هكذا» ؟ قال: لا والله يا رسول الله إنّا نشتري الصَّاع بالصَّاعين، والصَّاعين بالثلاثة من الجَمْعِ. فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تفعل، ولكن بع

ص: 358

وَالبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالمِلْحُ كَيْلِيٌّ، والذَّهَبُ وَالفِضَّةُ وَزْنِيُّ، وَغَيْرُهَا عَلَى العُرْفِ. فَإِنْ وُجِدَ الوَصْفَانِ حَرُمَ الفَضْلُ والنَّسَاءُ،

===

هذا، واشترِ بثمنه من هذا، وكذلك الميزان». انتهى. والجَمْعُ: تمرٌ رديءٌ مخلوطٌ.

وفي رواية لهما: قال أبو سعيد: جاء بلالٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بتمر بَرْنِي

(1)

. فقال: «من أين هذا» ؟ قال: كان عندنا تمرٌ رديءٌ فبعت منه صاعين بصاعٍ. فقال: «أوْهِ

(2)

عينُ الرِّبا. لا تفعل، ولكن إذا أردت أنْ تشتري التمر فبعه ببيع آخر، ثم اشتر به. ووجه الدَّلالة أنه اشترط في الجنس المماثلة، وهي لا تتحقق إلاّ بالكيل (أو الوزن)

(3)

، ثم (قاس عليه الميزان، أي ما يدخل تحت الوزن. لكن)

(4)

قال البيهقي: الأشبه أنّ قوله: «وكذلك الميزان» من قول أبي سعيد. انتهى.

والظاهر أنّه مرفوعٌ لِمَا في الصحيحين: «لا تفعل بِع الجَمْع بالدّراهم، ثم ابتع بالدّراهم جَنِيباً» . وقال: «في الميزان مثل ذلك» . فإنّ ضمير «قال» إمّا إليه صلى الله عليه وسلم، فهو ظاهرٌ، وإمّا إلى أبي سعيد، فيُفِد أنه نقل في الميزان مثلما نقل في المكيال. والله تعالى أعلم بالأحوال. وفي «الكفاية»: اختلاف الجنس يعرف باختلاف الاسم والمقصود. فالحِنْطَة والشعير جنسان عندنا وعند الشافعي لكونهما مختلفين اسماً ومعنًى. وعند مالك جنسٌ واحدٌ.

(وَالبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالمِلْحُ كَيْلِيٌّ) وإن ترك النّاس الكيل فيه (والذَّهَبُ وَالفِضَّةُ وَزْنِيّ) وإن ترك النّاس الوزن فيه (وَغَيْرُهَا) أي غير المذكورات. وفي نسخة أُخْرَى: وغيرهما، أي غير ما ذكرناه من كَيْلِيّ ووزنيّ (عَلَى العُرْفِ) يُبْنَى عملاً بالأدنى عند عدم الأقوى. وعن أبي يوسف: أنّ العُرْفَ يعتبر فيهما أيضاً، لأنّ النّص فيهما إنّما كان لأنّه العادة في ذلك الوقت، فكانت العادة هي المنظور إليها، وقد تبدَّلت، فلو باع حِنْطَةً بجنسها متساوياً وزناً، أو ذهباً بجنسه متساوياً كيلاً لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد، وإن تعارفوا ذلك، لتوهُّمِ الفضل على ما هو المعيار فيه، كما لو باعه مجازفةً.

(فَإِنْ وُجِدَ الوَصْفَانِ) أي القَدْر والجنس (حَرُمَ الفَضْلُ والنَّسَاءُ) بوجود علّة حرمتهما، فلا يجوز بيعُ الجَصِّ بمثله متفاضلاً لوجود الكيل مع الجنس، ولا بيع

(1)

البَرْنِيُّ: نوعٌ من أجود التَّمر. المصباح المنير، ص 45.

(2)

أوْهِ: كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتّوجّع. النهاية (1/ 82).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 359

فإنْ عَدِمَا حَلَّا. وإنْ وُجِدَ أحَدُهُمَا حَرُمَ النَّسَاءُ فَقَطْ.

وَلَا يَجُوزُ الكَيْلِيُّ بِمْثِلهِ إلّا مُتَسَاويًا كَيْلًا، وَالوَزْنِيُّ إلَّا مُتَسَاويَا وَزْنًا.

===

الحديدِ بمثله متفاضلاً لوجود الوزن مع الجنس (فإنْ عَدِمَا) أي فُقِد الوصفان (حَلاَّ) أي الفضل والنَّسَاءِ لعدم علّة حرمتهما مع أنّ الأصل الإباحة.

(وإنْ وُجدَ أحَدُهُمَا) أي أحد الوصفين بأن وُجِدَ القَدْر دون الجنس كالحِنْطة بالشعير، أو الجنس دون القَدْر كثوبٍ هَرَوِيّ

(1)

بجنسه، وحيوانٍ بجنسه، (حَرُمَ النَّسَاءُ فَقَطْ) أي دون الفضل. فحرمة ربا الفضل بالوصفين، وحرمة ربا النَّسَاءِ بأحدهما. وقال مالك: لا يجوز بيع حيوانٍ باثنين من جنسه يُقْصَدُ بهما أمرٌ واحدٌ من ذبحٍ وغيره. وقال الشّافعيّ: ما عدا الذّهبَ والفضّةَ والمأكولَ والمشروبَ لا يَحْرُمُ فيه شيء من جهة الرِّبا. ولنا: ما روى أحمد في «مسنده» عن جابر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الحيوان اثنان بواحدٍ لا بأس به يداً بيدٍ، ولا يصْلُحُ نَسَاء» . وفي رواية: «لا خَيْرَ فيه نَسَاء» .

(وَلَا يَجُوزُ) بيع (الكَيْلِيّ بِمْثِلِهِ إلاّ مُتَسَاوياً كَيْلاً) وإن تعارفوا فيه الوزن، (وَ) لا (الوَزْنِيّ) بمثله (إلاّ متساوياً وَزْناً) وإن تعارفوا فيه الكيل، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عُبَادة:«مِثْلاً بمثلٍ، سواءً بسواءٍ» . ووجه الدّلالة: أنه صلى الله عليه وسلم شرط في جواز بيع المَكِيل بجنسه، والموزون بجنسه المساواة بما اعتبر فيه من القدر، وحصول المساواة بغير ذلك لا تعرف بها المساواة في ذلك، فلا يجوز، كما لو باع مجازفةً. ويكفي التَّعيين في بيع المال الرِّبَوي بمثله، ولا يُشْتَرَطُ التَّقابض قبل التَّفرق عندنا، وشرَطه مالك والشافعيّ كالصَّرْف لِمَا روينا من قوله:«يداً بيد» . والمراد به القبض، وإنما كنّى عنه بها لأنها آلته. ولأنّه المراد في النقدين، فكذا في غيرهما. ولأنّه إذا لم يقبض في المجلس يتعاقب القبض، وللنقد مَزِيّة على غيره، فتتحقق شبهة الرِّبا، وهي مانعةٌ كالحقيقة، كما في الحالّ والمؤجَّل.

ولنا أنّه باع عيناً بعينٍ فلا يُشْتَرَطُ فيهما التّقابض، كما لو باع ثوباً بثوبٍ أو بثوبين وافترقا لا عن قبض. وهذا لأنّ المطلوب من العقد التّمكن من التصرّف، وذا يترتّب على التّعيين. غير أنه

(2)

في النقود لا يتحقّق إلا بالتقابض. فاشتراطه

(3)

في الصَّرْف للتعيين لا لنفسه، وغير النقود يتعيّن بالتعيين، فلا حاجة إلى التَّقابض. والمراد من قوله صلى الله عليه وسلم:«يداً بيدٍ» ، عيناً بعين، إذ اليد آلة التّعيين فلم يكن حَمْلُه على القبض

(1)

سبق شرحها ص (356)، التعليقة رقم:(3).

(2)

أي التمكن من التصرّف.

(3)

أي التقابض.

ص: 360

وَالجَيِّدُ والرَّدِيءُ سَوَاءٌ.

وَجَازَ بَيْعُ حَفْنَةٍ بِحَفْنَتَيِنْ، وَفَلْسٌ بِفَلْسَيْنِ بأَعْيَانِهِمَا.

===

أولى، بل حمله على هذا أحقّ، لِمَا في رواية عُبَادة بن الصَّامت «عيناً بعينٍ» . وتَعَاقُب القبض لا يعتبر (تفاوتاً)

(1)

في المالية عُرْفاً بخلاف الحالّ والمؤجَّل، لكن ما في «الصحيحين» عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذَّهبُ بالوَرِقِ رباً إلاّ هاءَ وهاءَ، والبُرُّ بالبُرِّ رباً إلاّ هاءَ وهاءَ

» الحديثَ، يُرَجَّح حَمْله على القبض؟ كيف ومعنى هاءَ: خُذْ، وهو من أسماء الأفعال، ومنه قوله تعالى:{هَاؤُمُ اقْرَؤُا كِتَابِيَه}

(2)

، كذا حققّه بعض المتأخرين.

(وَالجَيِّدُ والرَّدِيءُ سَوَاءٌ) لإطلاق الحديث، ولحديث:«جيدها ورديئها سواءٌ»

(3)

، لأنّ الجودة لا يجوز الاعتياض عنها لأنّ بيع قَفيزِ حِنْطةٍ جيدةٍ بقَفيزِ حنطةٍ رديئةٍ ودرهمٍ لا يجوز بالإجماع. وما لا يجوز الاعتياض عنه بالبيع، لا يكونُ مالاً متقوّماً كالخمر.

(وَجَازَ بَيْعُ حَفْنَةٍ) من كيليّ (بِحَفْنَتَيْنِ) وتفاحةٍ بتفاحتين، وبيضةٍ ببيضتين، وجَوزةٍ بجوزتين، وتمرةٍ بتمرتين، لانعدام علة الرِّبَا بانعدام جزئها وهو القَدْر، إذ المراد بالمماثلة القدر بالنّص، ولا تقدير في الشَّرع بحفنة ولا حفنتين. ولذا يُضمن الحَفنة والحفنتان بالقيمة عندنا، كما لو باع ما دون نصف صاعٍ بما دون نصف صاعٍ جاز، لأنّه لا تقدير في الشّرع بما دون نصف الصَّاع. بخلاف ما دون نصف صاعٍ بنصف صاعٍ أو أكثر، فإنّه لا يجوز إلاّ مثلاً بمثلٍ لوجود القدر من أحد الجانبين، لوقوع التقدير بنصف الصاع في الشرع، كما في صدقة الفطر. وعند مالك والشّافعيّ وأحمد: لا يجوز ذلك إلاّ في روايةٍ عن مالك، ورواية عن أحمد، وروى المُعَلَّى عن محمد أنّه كَرِه التَّمرة بالتَّمرتين، وقال: كلُّ شيءٍ حَرُمَ في الكثير، فالقليلِ منه حرام. وإلى هذه الرواية مال بعض المحققّين.

(وَ) جاز (فَلْسٌ بِفَلْسَيْنِ بأَعْيَانِهِمَا) أي الفَلْسُ والفَلْسَيْن بأنْ كان كلٌّ من الفَلْسِ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

سورة الحاقة، الآية:(19).

(3)

قال الزيلعي في "نصب الراية" 4/ 37 قلت: غريب - ويقصد بغريب أنه لم يجده - ويؤخذ معناه من إطلاق حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم: "الذهب بالذهب، الفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والآخذ والمعطي فيه سواء".

ص: 361

وَالَّلحْمُ بِالحَيَوَانِ وَالدَّقيقُ بِجِنْسِهِ كَيْلًا،

===

والفَلْسِيْنِ معّيناً، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وبه قال مالك والشّافعيّ في الأصحّ. وعند محمد وأحمد: لا يجوز، كبيع درهمٍ بدرهمين. قيّد بأعيانهما، لأنهما لو كانا أو أحدهما بغير عينه لم يجز بالاتفاق. أمّا إن كانا بغير أعيانهما فلأنه بيع الكالاء بالكالاء، أعني النسيئة بالنسيئة، وهو منهيٌ عنه، وأمّا إن كان أحدهما بغير عينه فلأنّ الجنس بانفراده يُحَرِّمُ النَّسَاء.

(وَ) جَازَ (اللحْمُ بِالحَيَوَانِ) من غير جنسه، ومن جنسه أيضاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف والمُزَنِيّ من أصحاب الشّافعيّ. وقال محمد: لا يجوز إذا كان من جنسه إلاّ إذا كان اللحمُ أكثرَ ممّا في الحيوان، ليكون اللّحمُ مُقَابَلاً باللحم والزائدُ مُقَابَلاً بالسَّقَطِ

(1)

، لأنّه لو لم يكن كذلك لتحقّق الرِّبا من حيث زيادةُ السَّقَطِ، أو من حيث زيادةُ اللّحم، وصار كَبَيْع دُهن السِّمْسم بالسِّمْسم، فإنه لا يجوز إلاّ بطريق الاعتبار.

وقال مالك والشافعي (وأحمد)

(2)

: لا يجوز بجنسه أصلاً، لا بطريق الاعتبار ولا بغيره، ومذهب مالك وأَحمد أَنّه يجوز بغير جنسه، والأَصحّ في مذهب الشَّافعيّ أنه لا يجوز بغير جنسه، لعموم النهي فيما روى مالك في «الموطأ» ، وأبو داود في «المراسيل» عن سعيد بن المُسَيَّب: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللَّحم بالحيوان، وهو مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:«إذا اختلفت الأنواع، فبيعوا كيف شئتم»

(3)

دليل مالك وأحمد.

ولأبي حنيفة أنّه بيع موزونٍ بغير موزون فيصحّ كيفما كان، كما لو باع الثوب بالقطن، وهذا لأنّ الحيوان ليس بموزونٍ بل هو عدديٌّ متفاوتٌ. والمراد بالنهي في حديث ابن المُسَيَّب ما إذا كان أحدُهما نسيئةً، لِمَا في «السنن الأربعة» عن سَمُرَة بن جُنْدُب: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً. قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأخرج عن الحَجَّاج بن أَرْطَاة، عن أبي الزُبَيْر، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحيوان اثنين بواحد لا يصحّ نَسَاءً ولا بأس به يداً بيدٍ» . وقال: حديثٌ حسن.

(وَ) جاز (الدَّقيقُ بِجِنْسِهِ) والنُّخَالة بجنسها (كَيْلاً) ونصّ الشّافعيّ في القديم

(1)

السَّقَطُ: أحشاء الذبيحة كالكَرِش والمصران، المعجم الوسيط. ص 436، مادة (سقط).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

سبق تخريجه من عند الشارح ص (357).

ص: 362

والرُّطَبُ بالرُّطَبِ، وَبالتَّمْرِ،

===

والجديد: أنه لا يجوز بيع الدقيق بالدقيق (كيلاً)

(1)

. وحكى البُوَيْطِي والمُزَنِيّ عن الشَّافعي جوازه، وهو مذهب أحمد. وقيّد بالكيل لأنّ بيع الدقيق بالدقيق وزناً لا يجوز، لأنّ الدقيق كيليّ، ولهذا لا يجوز بيع الحِنْطة بالدقيق وزناً، ولو كان وزنياً لجاز.

(و) جاز (الرُّطبُ بالرُّطَبِ) اتفاقاً (وَ) كذا التَّمْرُ بالتَّمْرِ والرُّطب (بالتَّمْرِ) وعكسه مِثْلاً بمثلٍ وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز بيع الرُّطَب بالتَّمر، وهو قول مالك والشَّافعيّ وأحمد، لِمَا روى مالك في «المُوَطأ» عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سُفْيَان، عن زيد بن أبي عَيَّاش، عن سعد بن أبي وَقَّاص أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن شِرى التّمر بالرُّطَبِ، فقال صلى الله عليه وسلم:«أينقص الرُّطَب إذ يَبِس» ؟ قالوا: نعم. فنهاه عن ذلك. ومن طريق مالك رواه أصحاب «السنن الأربعة» ، وقال الترمذيّ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

فأفسد صلى الله عليه وسلم البيع، وأشار إلى أنّ العلّة النُّقصان عند الجفاف، وبه تبيّن أن شرط جواز العقد المماثلة في أَعدل الأحوال، وهو ما بعد الجفاف وذا لا يُعْرَفُ بالمساواة كيلاً في الحال، لأنّ قَفِيز الرُّطَب ربّما يصير نصف قفيز عند الجفاف. وكان ذلك كبيع الدّقيق بالحِنْطَة حيث لا يجوز للتّفاوت بعد الطَّحن. ولأبي حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم حين أُهْدِيَ له رُطَبٌ:«أَكُلُّ تمر خَيْبَر هكذا» ؟ فسمّى الرُّطَب تمراً، كذا قيل. وهو إنما يتمّ في الجملة إذا كان المهدي رُطَباً، وليس كذلك بل كان تمراً، لِمَا في «الصحيحين» أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أَخا بني عَدِيّ الأنصاري، فاستعمله على خيبر. فَقَدِمَ بتمرٍ جَنِيبٍ، فقال صلى الله عليه وسلم:«أَكُلُّ تمر خَيبرَ هكذا» ؟ فقال: لا

الحديثَ.

وله أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عُبَادَة بن الصَّامت: «والتّمر بالتّمر مثلاً بمثلٍ، والملح بالملح مثلاً بمثلٍ، سواءً بسواءٍ، يداً بيدٍ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم»

(2)

وذلك إنّ الرُّطَب إن كان تمراً جاز البيع بأوّل الحديث، وهو قوله:«التَّمر بالتَّمر» ، وإن كان غير تمرٍ فبِآخِره وهو قوله:«إذا اختلفت هذه الأصنافُ، فبيعوا كيف شئتم» .

وهذا حسنٌ في باب المُناظرة لدفع الخصم، كما قال أبو حنيفة حين دخل بغداد، وكانوا أشدّاء عليه لمخالفته الخبر، فسألوه فأجاب بما تقدّم فأورد عليه الحديث السابق، فقال: هذا الحديث دائرٌ على زيد ابن أبي عَيَّاشٍ، فهو مِمَّنْ لا يُقبل حديثه. وقد أُجِيبَ بأنّه على تقدير صحة السند فالمراد منه النسيئة، لِمَا في «سنن أبي

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

سبق تخريجه عند الشارح ص (357).

ص: 363

وَالعِنَبُ بِالزَّبِيبِ، وَالبُرُّ رَطْبًا أوْ مَبْلُولًا بِمِثْلِهِ أوْ باليَابِسِ المُنْقَعِ، وَالتَّمْرُ والزَّبِيبُ المنْقَعُ بالمُنْقَعِ مِنْهُمَا مُتَسَاوِيًا. وَلَحْمُ حَيَوَانٍ بِلَحْمِ حَيَوَانٍ آخَرَ مُتَفَاضِلًا. وَكَذَا اللّبَنُ،

===

داود» عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن عبد الله بن يزيد: أنّ أبا عَيّاش أخبره أنه سمع سعد بن أبي وَقّاص يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرُّطب بالتّمر نسيئةً. وكذا رواه الطّحاوي. وإذا صحّت الزِّيادة يجب قَبولها على المختار عند المحدثين، وإن كان الأكثر لم يروها لكن قد ردّ ترديده بين كونه تمراً أو لا، بأنّ ههنا قسماً ثالثاً، وهو كونه من الجنس، ولا يجوز بيعه بالآخر، كالحِنْطَةِ المَقْلِيّة بغير المَقْلِيّة لعدم تسوية الكيل بينهما، فكذا الرُّطب بالتَّمر لا يسوِّيهما الكيل، وإنما يسوّى في حال اعتدال البدلين وهو أن يَجِفَّ.

وأبو حنيفة يمنعه ويعتبر التّساوي حال العقد، وعروض النَّقص بعد ذلك لا يمنع. لكن فيه أنّ التعليل في مَعْرِض النّص غير مقبول. وأمّا ما ذكره الشارح بأنّ التفاوت بين الرُّطَب والتَّمر بأصل الخلقة فيكون ساقط الاعتبار، كالتفاوت بين الجيد والرديء، ففي غاية من السقوط.

(وَ) جاز (العِنَبُ بِالزَّبِيبِ) عند أبي حنيفة خلافاً لمَن تقدّم، والوجه ما بيّنَّاه في الرُّطب والتّمر من الجانبين. وقيل: لا يجوز اتفاقاً كالحِنْطَة المَقْلِيّة بغير المَقْلِيّة.

(وَ) جاز (البُرُّ) حال كونه (رَطْباً) أي غير يابسٍ، (أوْ) حال كونه (مَبْلُولاً بِمِثْلِهِ أوْ باليَابِسِ المُنْقَعِ) فيجوز البُرّ الرَّطْب بمثله وباليابس، والبُرُّ المبلول بمثله وباليابس. (وَ) جاز (التَّمْرُ) المُنْقَعُ (والزَّبِيبُ المنْقَعُ) اسم مفعول من أنقعه في الخابية إذا ألقاه فيها ليبتلّ ويخرج منه الحلاوة، واسم الشراب: نقيعٌ (بالمُنْقَعِ مِنْهُمَا) أي بمثله وباليابس «فمن» هنا بمعنى الباء، أي جاز بيع التّمر المُنْقَعِ بمثله وباليابس، والزبيب المُنْقَعِ بمثله وباليابس (مُتَسَاوِياً) وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، لأنّهما يعتبران التَّساوي في الحال، إذ التّساوي شرط صحة العقد، فيشترط عند العقد لا بعده، إلاّ أنّ أبا يوسف ترك هذا الأصل في بيع الرُّطَبِ بالتمر لحديث سعد، ففي الباقي على أصله. وقال محمد: لا يجوز بشيء من ذلك، لأنه يَعتبرُ المماثلة في أعدل الأحوال، وهو حال اليُبْس، ولم يوجد في هذه الصُّورة.

(وَ) جاز (لَحْمُ حَيَوَانٍ بِلِحْمِ حَيَوَانٍ آخَرَ) ولو غير جنسه (مُتَفَاضِلاً وَكَذَا اللّبَنُ) أي جاز لبن حيوان بلبن حيوانٍ آخر من غير جنسه متفاضلاً. وعن الشافعيّ: إن اللّحمين واللَّبَنَيْنِ جنسٌ واحدٌ لاتحاد المقصود منهما، وهو التغذّي والتَّقوِّي. وظاهر مذهبه وهو

ص: 364

وَكَذَا خَلُّ الدَّقَلِ بِخَلِّ العِنَبِ، وَشَحْمُ البَطْنِ بِالأَلْيَةِ أوْ بِاللَّحْمِ، وَالخُبْزُ بِالبُرِّ والدَّقيقِ،

===

اختيار المُزَنِيّ: أنّ اللّحوم أجناسٌ مختلفةٌ كمذهبنا، وكذا الأصحّ من مذهبه في الألبان أنها أجناسٌ مختلفةٌ، لأنّ أصولها مختلفةُ الأجناس، حتّى لا يُضَمُّ بعضها إلى بعضٍ في الزكاة، ومختلفةُ الأسماء باعتبار الإضافة كدقيق البُرّ مع دقيق الشعير، ومختلفةُ المقصود فإنّ بعض الناس يرغب في بعض اللُّحوم والألبان دون البعض، وقد ينفعه البعض ويضرّه البعض.

وقال مالك: اللحوم ثلاثة: الطيور، والدّواب أهليتها ووَحْشَيّتها، والبَحْرِيَات. وبه قال أحمد في إحدى الرِّوايات. وعنه روايتان أخريان كقولي الشافعيّ.

قيّد الحيوان بكونه من غير الجنس، لأنّه لو كان من الجنس كلحم البقر بلحم الجاموس، ولبن البقر بلبن الجاموس لم يجز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، لأنهما جنس واحدٌ، ولهذا يُضَمُّ أحدهما إلى الآخر في الزكاة، وكذا لحم المَعْزِ والضَّأْن

(1)

ولبنهما، ولحم العِرَاب

(2)

والبُخْت

(3)

ولبنهما، بخلاف شعر المعز وصوف الغنم، فإنهما جنسان لاختلاف الصورة والمقصود.

(وَكَذَا) جاز (خَلُّ الدَّقَلِ) وهو نوع من التمر رديء (بِخَلِّ العِنَبِ) متفاضلان لاخْتلاف أصليهما. وإنّما خُصَّ خَلُّ الدَّقَل بالذِّكر مع أَنّ الحكم في خلّ كلّ تمر مع خل العنب واحد، لأنّهم كانوا يجعلون الخلّ من الدَّقَل. (وَ) جاز (شَحْمُ البَطْنِ بِالأَلْيَةِ

(4)

أوْ بِاللَّحْمِ) وكذا عكسه متفاضلاً سواء كانت من أجناس أو من جنسٍ واحدٍ من الحيوان، لأنهما أجناسٌ مختلفةٌ لاختلاف الأسامي والصّور والمقاصد كالشَّعر والصُّوف.

(وَ) جَازَ (الخُبْزُ بِالبُرِّ والدَّقيقِ) متفاضلان لأنّ الخبز عدديّ، وهو قول محمّد أو وزنيّ وهو قول أبي يوسف، والبُرّ كيليّ بالنّص وكذا الدّقيق لأنه جزؤه، فلم يجمعهما القَدْر من كل وجهٍ. وعن أبي حنيفة: أنّه لا يجوز، وبه قال الشَّافعيّ وأحمد، لأن في الخبز أجزاء الدّقيق، وذلك يورث شبهة المجانسة. والفتوى على الجواز.

(1)

الضَّأنُ: ذو الصوف من الغنم. المعجم الوسيط ص (532)، مادة ضأن.

(2)

العِرَابُ: خيلٌ أو جمال عِرَاب: كرائم سالمة من الهِجنة، وخيل عِرَاب: خلاف البراذين: - الخيول التركية -، وإبِل عراب: خلاف البَخَاتي - الإبل الخراسانية -. معجم لغة الفقهاء ص 308.

(3)

البُخْت: الإبل الخراسانية. المعجم الوسيط. ص 41، مادة (بخت).

(4)

الأَلْيَةُ: العَجِيزة. المعجم الوسيط. ص 25، مادة (ألى). والعَجُز: مؤخر الشيء. المعجم الوسيط. ص 585، مادة (عجز).

ص: 365

وَإنْ كَانَ أَحَدُهُمَا نسِيئةً. لَا البُرُّ بالدّقيقِ أوْ بالسَّوِيقِ، وَلَا الدَّقِيقُ بالسَّوِيقِ، مُتَفَاضِلًا أوْ مُتَسَاوِيًا. وَلَا يَجُوزُ السِّمْسِمُ بِالحَلِّ إلّا أنْ يَكُونَ الحَلُّ أكْثَرَ مِمَّا في السِّمْسِمِ.

وَيُسْتَقْرَضُ الخُبْزُ وَزْنًا لا عَدَدًا.

===

(وَإنْ كَانَ أَحَدُهُمَا) أي جاز إن لم يكن أحد البَدَلَيْنِ الذين هما الخبز والبُرّ أو الخبز والدّقيق نسيئةً، وإن كان أحدهما (نِسَيَئةً) أمّا إن كان البُرّ هو النَّسيئة، فالجواز باتفاقٍ لإمكان ضبطه. وإن كان الخبز هو النَّسيئة، فعند أبي يوسف إذا ذكر وزناً معلوماً. ونوعاً معلوماً، وعليه الفتوى لحاجة النَّاس إليه.

(لَا البُرُّ) أي لا يجوز البُرُّ (بالدّقيقِ أوْ بالسَّوِيقِ) أي بدقيق البُرّ أو سويقه متفاضلاً أو متساوياً. أمّا متفاضلاً، فلأنّ كلّ واحدٍ من الدّقيق والسَّويق بُرٌّ من وجهٍ وإن اخْتُصَّ باسم، لأن كلّ واحدٍ منهما من أجزاء البُرّ، لأنّ الطَّحن لم يعمل إلا تفريق الأجزاء، والمجتَمِع لا يصير بالتّفريق جنساً آخر. وأمّا متساوياً، فلأنّ المعيار فيه الكيل، وهو غير مستوٍ بينهما وبين البُرّ لاكتنازهما وتخلخل البُرِّ؛ ويجوز عند مالكٍ وأحمد في روايةٍ بيع البُرِّ بالدّقيق وبالسَّويق كيلاً ووزناً.

(وَلَا الدَّقِيقُ بالسَّوِيقِ) أي دقيق البُرّ بسويقه (مُتَفَاضِلاً أوْ مُتَسَاوِياً) وهذا عند أبي حنيفة لبقاء المجانسة من وجهٍ، إذ السَّويق أجزاء حِنْطة مَقْليّة، والدّقيق أجزاء حِنْطة غير مَقْليّة.

وبيع الحِنْطة المقليّة بغير المقليّة لا يجوز بحالٍ، فكذا بيع الدّقيق بالسّويق. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز الدّقيق بالسّويق كيفما كان، لأنّهما جنسان مختلفان لاختلاف اسميهما والمقصود منهما، لأنّ أحدهما يصلح لِمَا لا يصلح له الآخر. فإن الدّقيق يصلح للخبز والعصيد ونحوهما، ولا يصلح لشيء من ذلك السّويق، بل يلّت بالسّمن أو العسل ويؤكل.

(وَلَا يَجُوزُ السِّمْسِمُ بِالحَلِّ) ـ بفتح الحاء المهملة ـ وهو دُهْن السمسم المسمّى بالشَّيْرَج (إلاّ أنْ يَكُونَ الحَلُّ أكْثَرَ مِمَّا) أي من حَلّ أو من الذي (في السِّمْسِمِ) ليكون قدر الحَلّ بمثله والزائد بالثُّفْل

(1)

، وكذا بيع الزَّيتون بزيته، والجوز بدُهنه، واللبن بسمنه، والسمن بزبده، والعنب بعصيره على ما في «الهداية» وغيره. وعند مالك والشّافعي وأحمد لا يجوز أصلاً.

(وَيُسْتَقْرَضُ الخُبْزُ وَزْناً لا عَدَداً) وهذا عند أبي يوسف في «الكافي» ، وعليه

(1)

الثُّفْل: ما يتبقى من المادة بعد عصرها. المعجم الوسيط ص: 97 مادة: (ثفل).

ص: 366

وَلَا ربًا بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ، وَبَيْنَ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ في دَارِهِ.

===

الفتوى، لأنّه موزونٌ فيُعْلَمُ بالوزن لا بالعدد لتفاوت آحاده قدراً فلا يتحقَّق التّساوي. وعند أبي حنيفة لا يجوز مطلقاً وإن وزناً، فهو متفاوتٌ بتفاوت الخبز والخبّاز والتَّنُورِ والتقدّم والتأخر. والاستقراض إنّما يصحّ في المِثْليّ لأنّ من شرطه القدرة على أداء مِثْل المُسْتَقْرَضِ، وقد فات شرطُ صحّته فلا يصحّ. وأجاز محمد بالعدد أيضاً للتعامل، والقياس يُتْرَكُ بالتَّعامل كما في الاستصناع.

وفي مذهب الشَّافعي وجهان في استقراض الخبز: أحدهما كقول أبي حنيفة، وهو الأصحّ. والثاني الجواز وزناً وعدداً، وبه قال أحمد وهو اختيار ابن الصَّبَّاغ لحاجة النّاس إليه.

(لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب)

(وَلَا رباً بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ) لأنّ العبد وما في يده لسيده، هذا إذا لم يكن مأذوناً مديوناً. وكذا لا رباً بين السّيد وأمّ ولده، ولا بين المُدَبَّر وسيده، لأنْ كسب كلّ واحدٍ منهما لسيده بخلاف المُكَاتَب، لأنّه صار كالحرّ يداً وتصرّفاً.

(وَ) لا رباً (بَيْنَ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيّ في دَارِهِ) أي دار الحرب.

وقال أبو يوسف ومالك والشّافعيّ وأحمد: يقع بينهما الرِّبا لإطلاق النّصوص الواردة. ولأبي حنيفة ومحمد: إنّ مال أهل الحرب مباحٌ في دارهم، فكان المُرَابي آخذاً بالرِّبا مالاً مباحاً بلا غدرٍ فيصحّ.

والمراد بالنصوص: الرِّبا في مالٍ محظورٍ، ومالِ الحربي في دار الحرب غير محظورٍ بخلاف المُسْتَأْمَنُ منهم، لأنَّ ماله صار محظوراً بِقَدْر الأمان. وما رواه مكحول عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا ربا بين المسلمِ والحربي في دار الحرب» . ذكره محمد بن الحسن.

وأسند البُيْهَقِيّ في «المعرفة» في كتاب السِّيَر عن الشّافعيّ قال: قال أبو يوسف: إنّما قال أبو حنيفة هذا، لأنّ بعض المشيخة حدثنا عن مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا ربا بين أهل الحرب» . وأظنه قال: «وأهل الإسلام» . قال الشّافعي: وهذا حديثٌ ليس له ثباتٌ، ولا حجّة فيه. وقال في «المَبْسُوطِ»: هذا مرسلٌ، ومكحول ثقةٌ، والمرسل من مثله مقبولٌ، والله تعالى أعلم.

ص: 367

‌فَصْلْ [في بَيْعِ المَنْقُولِ]

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مُشْتَرىً مَنْقُولٍ قَبْلَ قَبْضِهِ،

===

فصلٌ في بيع المنقول

(وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مُشْتَرى مَنْقُولٍ قَبْلَ قَبْضِهِ) لأنّ فيه غرراً، وهو انفساخ العقد بهلاكه. قيّد بالمنقول لأنّ بيع العقار يجوز قبل قبضه، لأنّه لا يُتوهم انفساخ العقد فيه بالهلاك وهو مقدور التّسليم. وقال محمد وزُفَرُ والشَّافعي: لا يجوز أيضاً، لأنّه مبيعٌ لم يقبض، فلا يصحّ بيعه كالمنقول. وقال أحمد: لا يجوز بيعه قبل القبض إن كان مكيلاً، أو موزوناً، أو معدوداً، وإلاّ جاز. وقال مالك: تجوز جميع التصرفات إن كان غير طعامٍ، لأنّه صلى الله عليه وسلم قال في الطّعام:«يداً بيدٍ»

(1)

. وقبل القبض لا يتأتى ذلك. ولما روى هو عن نافع، عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من ابتاع طعاماً، فلا يبعه حتّى يستوفيه»

(2)

.

ولنا ما روى أبو داود، وابن حِبّان في «صحيحه» ، والحاكم في «مستدركه» وصححه عن عبد الله بن عمر قال: ابتعت زيتاً في السُّوق ـ أي اشتريته ـ فلما استوجبته لقيني رجلٌ، فأعطاني فيه ربحاً حسناً، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجلٌ من خلفي بذراعي فالتفت، فإذا هو زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رَحْلِكَ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أنّ تباع السِّلع حيث تبتاع حتّى يحوزها التّجار إلى رحالهم.

وعن حَكِيم بن حِزَام قال قلت: يا رسول الله إني رجلٌ أبتاع هذه السّلع وأبيعها، فما يحل لي منهما وما يَحْرُمُ؟ قال:«لا تَبِيعَنَّ شيئاً حتى تقبضه» . رواه الطَّحَاوِيّ عن حَكِيم بن حِزَام قال: قلت: أشتري طعاماً فأربح فيه قبل أن أقبضه، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«لا تبعه حتى تقبضه» . وفي «الصحيحين» عن ابن عبّاس: الذي نهى عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو الطَّعام قبل أنْ يقبض، قال: ولا أحسب كل شيءٍ إلاّ

(1)

هذا جزء من حديث أخرجه مسلم 3/ 1211، كتاب المساقاة (22)، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا (15)، رقم (81 - 1587) ولفظه: "

والبر بالبر، والشعير بالشعير

إذا كان يدًا بيد".

(2)

أخرجه البخاري (فتح الباري) 4/ 344، كتاب البيوع (34)، باب الكيل على البائع والمعطي (51)، رقم (2126).

ص: 368

وَصَحَّ التَّصُرُّفُ في الثَّمَن قَبْلَهُ، وَصَحّ الحَطُّ عَنْهُ وَالمَزِيدُ فيهِ -إنْ بَقِيَ المَبِيعُ- وَفي المَبِيعِ، لَكِنّ الشَّفِيعَ يأْخُذُ بالأَقَلِّ. وَصَحَّ تَأجِيلُ كُلِّ دَيْنٍ

===

مثله. انتهى.

والتخصيص على الشيء لا ينفي الحكم عمّا عداه. قيّد بالبيع، لأنّ المشتري لو وهبه، أو تصدّق به، أو أقرضه قبل قبضه يصحّ على الأصحّ، وهو قول محمد خلافاً لأبي يوسف. وقيّد بالمشتري لأنّ بيع المهر، أو الميراث، أو بدل الخُلْع، أو بدل العِتْق قبل القبض جائزٌ اتفاقاً، لأنّ العقد لا ينفسخ بِهَلاكه.

(وَصَحَّ التَّصُرُّفُ) أي تصرّف البائع (في الثَّمَن قَبْلَهُ)، أي قبل قبضه (وَصَحّ الحَطُّ عَنْهُ)، أي عن الثَّمن بأن نَقَّصَ منه. (وَ) صحَّ (المَزِيدُ فِيهِ) أي الذي زيد في الثَّمن على أنّ المزيد اسم مفعولٍ، أو الزِّيادة فيه على أنه مصدرٌ ميميٌّ سواء كان ذلك من المشتري أو من أجنبي، وسواء كان من جنس المزيد أو من غير جنسه (إنْ بَقِيَ المَبِيعُ) هذا شرطٌ لصحة الزِّيادة. والمراد ببقاء المبيع: بقاؤُه محلاً للمقابلة في حقّ المشتري حقيقةً، بأن لم يبعه المشتري ولم يتصدّق به ولم يهبه، أو وهبه ولم يسلّم، حتى لو باعه أو تصدّق به أو وهبه وسلّم: لا تصحّ الزِّيادة. وعن محمد تصحّ لبقاء المبيع، كذا في «المحيط» .

(وَ) صحَّ المزيد (في المَبِيعِ) عطفٌ على فيه. أي وصحّ المزيد في المبيع سواء بقي المبيع أو هلك، ويكون لذلك المزيد حِصةٌ من الثّمن، حتّى لو هلك قبل قبضه سقط لحصته شيء من الثّمن، والأصل أنّ الزيادة والنُّقصان يلحقان بأصل العقد عندنا، فيصير العقد كأنّه ورد على ذلك القَدْر. وعند زُفَر والشَّافعيّ: لا يلحقان به بل يكونان هبةً مبتدأةً. قيّد زيادة الثّمن ببقاء المبيع، لأنّ الزّيادة تغيير العقد من وصفٍ مشروعٍ إلى وصفٍ مشروعٍ، فيستدعي قيام العقد، وقيامه بقيام المعقود عليه.

(لَكِنّ الشَّفِيعَ يأْخُذُ) العَقَار الذي حُطَّ من ثمنه والذي زيد فيه (بالأَقَلِّ) فيأخذ بما بقي في الحطّ وبدون الزِّيادة في المزيد، لأنّ حقّ الشّفيع تعلّق بالعقد الأوَّل، ولا يملك العاقدان التّصرّف فيه بما يرجع إلى إضراره، فلم تظهر الزّيادة في حقّه وظهر الحطّ فيه.

(وَصَحَّ تَأجِيلُ كُلِّ دَيْنٍ) وسواء ثبت في الذّمة بعقدٍ أو باستهلاكٍ، حتّى لو باع شيئاً

ص: 369

إلّا القَرْضَ.

[بَابُ الحُقُوقِ]

وَيَدْخُلُ البِنَاءُ وَالمَفَاتِيحُ والعُلْوُ والكَنِيفُ في بَيْعِ الدَّارِ

===

بثمنٍ حال ثمّ أجَّله أجلاً معلوماً صار مؤجلاً، لأنّ الحلول حقّ البائع فله إسقاطه بتأجيله تيسيراً على من عليه الثّمن، ولأنّه يملك إسقاط المطالبة مطلقاً بالإبراء، فلأَن يملك إسقاطها مدة معينةً بالتَّأجيل أولى. ولو أجّله إلى أجلٍ مجهولٍ، فإنْ كانت الجهالة فاحشةً كهبوب الرّيح لا يصحّ، وإنْ كانت متعارفة كالحمل والدِّيَاس

(1)

يصحّ كما في الكفالة

(إلاّ القَرْضَ) وهو ما ثبت في الذّمة باستقراضٍ، فإنّه لا يصحّ تأجيله حتى لو أجلّه مدةً معلومةً عِنْد الإقراض أوبعده لا يثبت الأجل وله المطالبة في الحال. وقال مالك: يصحّ تأجيل القرض كسائر الديون. وقال الشّافعيّ: لا يجوز

(2)

تأجيل غير القرض كالقرض.

ولنا: أنّ القرض إعارةٌ وتبرّعٌ ابتداءءً ولهذا يصحّ بلفظ الإعارة، ومعاوضةٌ انتهاءً حتّى يلزمه ردّ مثله. فعلى اعتبار الابتداء لا يلزم التأجيل فيه كالإعارة، فإنّ المُعير وإنْ وقّت الإعارة، له أن يستردّها من ساعته، إذ لا جبر في التبرّع. وعلى اعتبار الانتهاء لا يصحّ التأجيل فيه لأنه مبادلة الدارهم بِمْثلِها نسيئةً، وهو حرامٌ.

(بَابُ الحُقُوقِ)

(وَيَدْخُلُ البِنَاءُ وَالمَفَاتِيحُ) المتصل أَغلاقها به (والعُلْوُ والكَنِيفُ

(3)

في بَيْعِ الدَّارِ) لأنّ العَرْصَةَ

(4)

أصلٌ في الدَّار لقرار البناء عليها. وإنّما دخل البناء وما اتّصل به في بيع الدّار بطريق التبعية لاتصاله بالعَرْصَة اتّصال قرار. فما لا يكون متَّصلاً بالبناء لا يدخل في بيع الدَّار إلاّ إذا جرى العرف أنّ البائع يسامح به، فإنّه يدخل بلا ذكرٍ، فيدخل العُلْو بلا ذكرٍ لاتّصاله بالبناء، ولا يدخل المِفْتاح في القياس لأنّه غير متّصلٍ بالبناء، فصار كثوبٍ موضوع في الدَّار، ويدخل في الاستحسان، إذ العادة أنّ البائع لا يمنعه عن المشترى بل يسلّمه مع الدّار إليه.

ولا يدخل الباب الموضوع ولا القفل ومفتاحه، ويدخل السُلَّم المتصل بالبناء، ولو كان من خشبٍ، ولا يدخل غير المتّصل إلاّ في عرف أهل مصر فإِنْه يدخل، ذكره الزَّيْلَعِيُّ. ويدخل الحجر الأَسفل من الرَّحى، وبه قال مالك والشَّافعيُّ وأحمد،

(1)

سبق شرحها ص (343)، التعليقة رقم (2).

(2)

في المخطوط: لا يصح، والمثبت من المطبوع.

(3)

الكنِيفُ: المرحاض. المعجم الوسيط ص 801، مادة (كنف).

(4)

العَرْصَةُ: ساحة الدار. المعجم الوسيط. ص 593، مادة (عرص).

ص: 370

لا الظُّلَّةُ، إِلَّا بِذِكْرِ كُلِّ حقٍ هُوَ لَهَا، أَوْ بِمَرَافِقِهَا، أَوْ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا.

والشَّجَرُ، لا الزَّرْعُ في بِيْعِ الأَرْضِ، وَلَا الثَّمَرُ في بَيْعِ الشَّجَرِ، ولا العُلْوُ في بَيْعِ بَيْتٍ إِلَّا بِشَرْطِهِ،

===

ويدخل الحجر الأعلى منها استحساناً، وهو الأَظهر في مذهب الشَّافعيّ.

(لا الظُّلَّةُ) أي لا تدخل الظُّلَّةُ في بيع الدَّار وهي: السُّدَّة التي فوق الباب على ما في «المغرب» ، أو السَّابَاط

(1)

الذي يكون أحد طرفيه على الدار والطرف الآخر على دار أخرى أو على أسطوانات في السِّكَّة على ما في «جامع قاضيخان» .

(إِلاَّ بِذِكْرِ كُلِّ حقٍ هُوَ لها) أي للدار، (أو: بِمَرَافِقِها) أي بذكر مرافقها، وهي حقوقها ومنافعها، (أو بكل قليلٍ) أي بذكر كلِّ قليلٍ (وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا) وهذا عند أَبِي حنيفة، وعندهما تدخل الظُّلَّة إن كان مفتحها في الدَّار لأَنها حينئذٍ من توابع الدَّار، فصارت كالكنيف والعُلْو. ولأبي حنيفة: أَنْ الظُّلَّة تابعةٌ للدَّار من حيث إِنّ قرار أحد طرفيها على بناء الدَّار، وليست بتابعة، لها من حيث إِنّ قرار طرفها الآخر على غير بنائها، فلا تدخل بلا ذكر الحقوق وتدخل بذكرها عملاً بالشبهين.

(و) يدخل (الشَّجَرُ) في بيع الأرض بلا ذكره صغيراً كان أو كبيراً ممَّا يُثْمِرُ أو ممَّا لا يُثْمِرُ (لا الزَّرْعُ) أي لا يدخل الزَّرع (في بِيْعِ الأَرْضِ) بلا ذكره، والفرق بينهما: أَنَّ اتصال الشَّجر بالأَرْض للقرار فكان كالبناء، واتصال الزَّرع بها لا للقرار فكان كالمتاع. وإنّما دخل الجنين في بيع أمه من غير ذكر، مع أنّ اتّصاله ليس للقرار، لأنْه جزءٌ منها.

(وَلَا) يدخل (الثَّمَرُ) وهو بالمثلثة (في بَيْعِ الشَّجَرِ) إِلاَّ بشرطه سواء كان لذلك الثَّمر قيمة وقت البيع أو لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم: «من باع عبداً وله مال، فماله للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع. ومن باع نخلاً مؤبّراً

(2)

، فالثَّمرة للبائع إِلاَّ أن يشترط المبتاع». رواه أصحاب الكتب السَّتة. ولأنَّ اتصال الثَّمر بأصله وإن كان اتصال قرار كاتّصال الشجر بالأرض، إلاّ أنّ قطع الثَّمر له غايةٌ معلومةٌ، فصار في حكم المقطوع. ويقال للبائع: اقطع الثمر وسلِّم الشَّجر. وكذا إذا بيعت الأَرض وبها زرعٌ، يؤمر البائع بالحصاد والتسليم. وقال مالك والشَّافعي وأحمد: يترك الثَّمر حتّى يظهر صلاحه، ويترك الزَّرع حتّى يستحصد، لأنّ الواجب هو التّسليم المعتاد، ولم تجرِ العادة بقطع الثَّمر قبل بُدُوِّ صلاحه، ولا حصاد الزَّرع قبل استحصاده، وصار كما لو مضت مدَّة الإجارة وفي الأرض زرعٌ لم يدرك.

(وَلَا) يدخل (العُلْوُ في بَيْعِ بَيْتٍ) فوقه بيتٌ (إِلاَّ بِشَرْطِهِ) لا تبعاً ولا بذكر ما ذُكِرَ، لأَنَّ البيت اسم لمُسْقفٍ له دَهْليزٌ ويصلح للبيتوتة فيه، والشيء لا يكون تبعاً

(1)

السَّابَاط: سقيفة بين حائطين تحتها طريق. معجم لغة الفقهاء، ص 238.

(2)

سبق شرحها ص (307)، التعليقة رقم:(2).

ص: 371

وَلَا بَيْعِ مَنْزِلٍ إِلَّا بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ كَالطَّرِيْقِ والشِّرْب وَالمَسِيلِ، وَتَدْخُلُ.

وَيُؤْخَذُ الوَلَدُ إن اسْتُحِقَّتْ أُمُّهُ بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ أقَرَّ بِهَا، لَا.

===

لمثله ولا من حقوقه ومرافقه.

(وَلَا) في (بَيْعِ مَنْزِلٍ) فوقه بيت تبعاً (إِلاَّ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ) من الحقوق والمرافق، لأَنَّ المنزل اسمٌ لما يشتمل على: بيوتٍ وصحنٍ مُسْقَفٍ ومطبخ. والدار اسمٌ لما يشتمل على: بيوتٍ ومنازل وصحن غير مُسْقَفٍ، فكانت الدَّار أعمَّ منها لاشتمالها عليها، فاستتبعت العلو وإن لم يذكر الحقوق، لأنَّها اسمٌ لكل ما أدير عليه الحائط، والعُلْوُ مِمَّا أدير عليه الحائِطُ فيدخل.

والبيت اسمٌ لما يبات فيه والعلو مثله بلا تفاوتٍ، والشيء لا يستتبع مثله، وليس من أجزائه

(1)

وتوابعه ليدخل بذكر التوابع، والمنزل دون الدَّار وفوق البيت، فله منزلة بين المنزلتين. فتَوَفَّر على الشَّبَهَين حظهما، فيدخل العلو فيه تبعاً بذكر التَّوابع عملاً بشَبَهِهِ بالدَّار، ولا يدخل بدونه عملاً بشَبَهِهِ بالبيت.

وفي شرح «الوافي» قالوا: هذا على عرف أهل الكوفة، وأمَّا على عرفنا، فيدخل العُلْو في الكلِّ، سواء باع باسم البيت أو المنزل أو الدَّار.

(كَالطَّرِيقِ) أي كما لا يدخل الطَّريق في بيع ما له طريق (والشِّرْبِ) في بيع ما له شِرْبٌ (وَالمَسِيلِ) في بيع ما له مسيلٌ إلا بذكر الحقوق أو الموافق، لأنّ كلّ واحدٍ منهما تبعٌ للمبيع من حيث إنّه خارجٌ عن حدوده ويقصد للانتفاع به فيه، وأصلٌ من حيث إنّه يُتَصَوَّرُ بدون المبيع. فكان تبعاً من وجهٍ دون وجهٍ، فلا يدخل إلاّ بذكر ما ذكر عملاً بالشبهين.

(وَتَدْخُلُ) هذه الثلاثة في الإجارة من غير ما ذكر، لأنّ الإجارة لم تشرع إلاّ للانتفاع، وهو لا يتحقق فيما له طريقٌ أو شِرْبٌ أو مَسيل إلاّ بطريقه أو شِرْبه أو مَسِيلِهِ. بخلاف البيع، فإنّه شُرِعَ لملك الرّقبة والانتفاع من ثمراته.

(وَيُؤْخَذُ الولد) الذي ولدته الأمَةُ عند المشتري لا بالاستيلاد (إن اسْتُحِقَّتْ أُمُّهُ بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ) استُحقّت بأن (أقَرَّ) المشتري (بِهَا) لمدعيها (لَا) أي لا يؤخذ الولد، بل تؤخذ أمّه وحدها. ويدخل في البيع ملبوس الغلام والجارية لو كان خسيساً، للعُرْف، ولا يدخل لو كان نفيساً إلاّ بالشرط لعدم العُرْف.

(1)

في المطبوعة أجزاء، والمثبت من المخطوط.

ص: 372

[بَيْعُ الفُضُولي]

وَلِمَالِكٍ بَاعَ غَيْرُهُ مِلْكَهُ فَسْخُهُ، وَلَهُ إجَازَتُهُ إنْ بَقِيَ العَاقِدَانِ وَالمَبِيعُ، وَكَذَا إنْ بَقِيَ الثَّمَنُ عَرْضًا،

===

(بَيْعُ الفُضُولي)

(وَلِمَالِكٍ بَاعَ غَيْرُهُ) بالرفع فاعل باع (مِلكَهُ) بالنصب على أنه مفعول باع أي ملك المالك. والمعنى: إذا باع شخصٌ ملك غيره انعقد بيعه، وبه قال مالك، وهو بيع الفُضُوليّ، ولمالكه (فَسْخُهُ) أي فسخ البيع، وهو مبتدأ خبره الظرف المقدّم.

(وَلَهُ) أي للمالك (إجَازَتُهُ إنْ بَقِيَ العَاقِدَانِ) والمقعود له وهو المالك (وَالمَبِيعُ وَكَذَا إنْ بَقِيَ الثَّمَنُ) حال كونه (عَرْضاً)

(1)

لأنّه مبيع من وجهٍ. وقال الشّافعيّ في الجديد، وأحمد في روايةٍ: لا ينعقد لأنّه أضاف ذلك المبيع إلى محلٍ لا ولاية له عليه، لأنّها تكون بالملك المطلق للتّصرفات، أو بإذن المالك الذي له ولاية التّصرّف، ولم يوجد واحدٌ منهما فيلغو.

والتّصرّف الشرعيّ كما يتوقّف على الأهل والمحل، يتوقّف على الولاية الشرعية، فإذا فاتت لا ينعقد. ولأنّ بيع الآبق لا ينعقد مع كونه مملوكاً لعدم القدرة على تسليمه، فما لا يملكه البائع أولى. ولنا ما رُوِيَ عن عُرْوَة وغيره: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دفع إلى عُرْوَة البَارِقِيّ ديناراً ليشتري به شاةً للأُضْحِيَةِ، فاشترى به شاتين وباع إحداهما بدينارٍ، وجاء بشاةٍ ودينارٍ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام:«بارك الله لك في صَفْقة يمينك»

(2)

. ووجه الدّلالة: أنّ عُرْوَة باع الشاة الثانية من غير إذن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أجازه عليه الصلاة والسلام.

وروى الطَّبرانِيّ في «معجمه» والترمذيّ في «جامعه» مثل هذا عن حَكِيم بن حِزَام: إلاّ أنّ حكيماً أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ليشتري به أُضْحية، فاشترى أضْحِيةً، بدينارٍ فباعها بدينارين، ثم اشترى أضحية بدينارٍ (وجاءه بدينارٍ)

(3)

وأضحيةٍ، فتصدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدّينار ودعا له بالبركة. ولأنَّ هذا تصرّف صدر من أهله، لأنّه عاقلٌ بالغٌ، مضافاً إلى محله لأنّه مالٌ متقوّمٌ، ولا ضرر في انعقاده على المالك، لأنّه مخيّرٌ، فإن رأى فيه مصلحةً أجازه وإلاّ فسخه، فينعقد ويتوقّف نفوذه

(1)

العَرْض: المتاع. أو كلُّ شئٍ سوى الدراهم والدنانير. المعجم الوسيط. ص 594، مادة (عرض).

(2)

أخرجه الترمذي 3/ 559، كتاب البيوع (12)، باب (34)، رقم (1258)، وقد أثبت في المخطوط بدل "صفقة يمينك" صفقتك وفي المطبوع، صنعتك. والصواب ما أثبتناه.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 373

وَهُوَ مِلْكٌ لِلْمُجِيزِ وأمَانَةٌ عِنْدَ بَائِعِهِ، وَلَهُ فَسْخُهُ قَبْلَ الإجَازَةِ. وَجَازَ إعْتَاقُ المَشْتَرِي مِنَ الغَاصِبِ لَا بَيْعُهُ، إنْ أُجِيزَ بَيْعُ الغَاصِبِ.

===

على إجازة المالك، بل فيه نفعٌ له حيث سقط عنه مؤنة طلب المشتري وقرار الثمن.

وفيه نفع العاقد من حيث صيانةُ كلامه عن الإلغاء، وفيه نفع المشتري. فتثبت القدرة الشَّرعية تحصيلاً لهذه الوجوه على أَنْ الإذن ثابتٌ دلالةً، لأنّ كلّ عاقلٍ راضٍ بتحصيل التّصرّف النافع له. وكذا كل ما له مجيزٌ حالة وقوعه من العقود والفسوخ والنِّكاح والطَّلاق، فهو على الخلاف، وإن لم يكن له مجيزٌ حالة العقد لا يتوقّف ويقع. وإنّما شُرِطَ بقاء العاقدَيْن والمعقود عليه وله، لأنّ الإجازة تصرّفٌ في العقد فيفتقر إلى قيامه، وقيامه بقيام هذه الأشياء.

وخَصَّ المصنف بيع الفُضُولِيّ بالحكم، لأنّ شراءه لا يتوقّف على الإجازة، بل إن وجد نفاذاً على الفُضُولي نفذ عليه، وإن لم يجد نفاذاً عليه بأن كان محجوراً عليه يتوقّف. وقال الشّافعيّ في القديم: يتوقّف كالبيع، وبه قال مالك وأحمد في روايةٍ. ولنا: أنّ الثَّمن في الشِّراء لازمٌ لذِمَّة المشتري بالتزامه فينفذ. بخلاف البيع، فإنّ قيامه بالمبيع وهو ملك لغيره، ويتضرر بلزوم العقد فيه، فيتوقّف على رضاه. ولم يفرّق بينهما صاحب «المواهب» حيث قال: ويجوز تصرف الفُضُوليّ من الإيجاب والقَبول عندنا.

(وَهُوَ) أي الثَّمن إذا أجاز المالك البيع (مِلْكٌ لِلْمُجِيزِ) وهو المالك (وأمَانَةٌ عِنْدَ بَائِعِهِ) وهو الفُضُوليّ لأنّه حينئذٍ بمنزلة الوكيل، لأنّ الإجازة اللاحقة بمنزلة الوكالة السابقة. (وَلَهُ) أي للبائع الفُضُوليّ، (فَسْخُهُ) أي البيع (قَبْلَ الإجَازَةِ) دفعاً للحقوق عن نفسه، بخلاف الفُضُوليّ في النِّكاح، فإنه ليس له الفسخ قبل الإجازة، لأنّ الحقوق لا ترجع إليه، لأنّه سفيرٌ محضٌ، فإذا حصل منه العقد انتهى أمره فصار كأجنبيّ.

(وَجَازَ إعْتَاقُ المَشْتَرِي مِنَ الغَاصِبِ) إن أجيز بيع الغاصب (لَا بَيْعُهُ) أي لا يجوز بيع المشتري من الغاصب (إنْ أُجِيزَ بَيْعُ الغَاصِبِ) يعني مَنْ اشترى عبداً من الغاصب فأعتقه ثم أجاز المولى ذلك الشّراء جاز العتق، وإن باعه المشتري فأجاز المولى الشَّراء الأول لم يجز الشراء الثاني، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.

وقال محمّد وزُفَر، وهو روايةٌ عن أبي يوسف رحمهم الله: لا يجوز العتق أيضاً، وهو القياس وقول مالك والشّافعيّ. وهذه ثانية المسألتين اللّتين جرت المحاورة فيهما بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.

وقال أبو يوسف لمحمد: رويت لك إنّ العتق باطلٌ عند أبي حنيفة رحمه الله، وقال محمد: رويت لي أنّ العتق جائزٌ عنده. وحاصل الخلاف راجعٌ إلى أنّ إعتاق المشتري من الغاصب موقوفٌ عند أبي حنيفة وأبي يوسف

ص: 374

‌فَصْلْ [في السَّلَمِ]

يَصِحُّ السَّلَمُ فِيمَا يُعْلَمُ قَدْرُهُ، وَوَصْفُهُ،

===

رحمهما الله على أن ينفذ الشِّراء بإجازة المالك، وباطلٌ عند محمد رحمه الله، لأنّ الإعتاق لا يصحّ إلاّ في الملك الكامل للمُعْتَقِ لِمَا روى أبو داود، والترمذي في الطّلاق ـ وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ـ عن عَمْرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاقَ له فيما لا يملك» . ولأبي حنيفة رحمه الله وهو وجه الاستحسان: أَنّ ملك المشتري من الغاصب ثبت موقوفاً بتصرفٍ مطلقٍ موضوعٍ لإفادة الملك، فيتوقف الإعتاق بتوقّفه، وإذا نفذ نفذ بحقوقه.

فصلٌ (في السَّلَمِ)

(يَصِحُّ السَّلَمُ)؛ وهو لغةً: السَّلَف.

وشرعاً:

اسمٌ لعقدٍ يوجب المِلك في الثَّمن عاجلاً، وفي المُثَمَّنِ آجِلاً.

وهو مشروعٌ على خلاف القياس لكونه بيعَ معدومٍ، ولكنّه جائزٌ بالكتاب لِمَا روى الحاكم في «المُسْتَدْرَك» في تفسير سورة البقرة ـ وقال: صحيح على شرط الشيخين ـ عن ابن عبّاس أنه قال: أشهد أَنّ السَّلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحلّه الله تعالى في الكتاب، وأذِنَ فيه. قال الله تعالى:{يَا أيُّهَا الذّيِنَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فَاكْتُبُوهُ}

(1)

الآية.

ورواه الشَّافعيّ في «مسنده» بالسّند، وهو ما أخرجه الأئمة السّتة في كتبهم عن أبي المِنْهَال، عن ابن عبّاس قال: قدم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة والناس يُسْلِفُونَ في التّمر السّنة والسنتين والثلاث. فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أسلف في تمرٍ

(2)

، فليُسلف في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ». وما أخرجه البخاري عن عبد الله بن أبي أوْفَى أنه قال: إنّا كنّا لَنُسْلِف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما في الحِنْطَة، والشَّعير، والتّمر، والزبيب. وبالإجماع فإنّ الأمّة أجمعت على جواز السَّلم لحاجة النّاس وضرورتهم إليه.

وإنّما يصحّ السَّلم (فِيمَا يُعْلَمُ قَدْرُهُ، وَوَصْفُهُ) بكيلٍ أو وزنٍ، أو ذراعٍ، أو عدَ، بخلاف ما لا يُعْلم قدره ووصفه بكيلٍ، حيث لا يصحّ السَّلم فيه، لحديث ابن عبّاس.

(1)

سورة البقرة، الآية:(282).

(2)

في المخطوط: "في شيء"، وهي رواية أخرى أخرجها البخاري عن ابن عباس. (فتح الباري) 4/ 429، كتاب السلم (35)، باب السَّلم في وزنٍ معلومٍ (2)، رقم (2240).

ص: 375

كالْمَكِيلِ والمَوْزُونِ مُثَمَّنًا، والمَذْرُوعِ كالثَّوْبِ مُبَيِّنًا طُولَهُ وَعَرْضَهُ وَرُقْعَتَهُ، وَالمَعْدُودِ مُتَقَارِبًا،

===

ولأنّ ما لا يعلم قدره ووصفه مجهولٌ جهالةً تُفْضِي إلى المنازعة، فلا يصحّ السّلم فيه، وذلك (كالْمَكِيلِ) نحو البُرّ والشّعير وسائر الحبوب وغيرها. ولو أسلم في الحنطة وزناً اخْتُلِفَ فيه، والفتوى على جوازه لتعامل النّاس.

(والمَوْزُونِ) نحو الدُّهن (مُثَمَّناً) قيَّد به لأنّ الموزون الثّمن، وهو الدّارهم والدّنانير، لا يكون مُسْلماً فيه، لأنّه ثمنٌ. والمُسْلَم فيه مبيعٌ فلا يكون ثمناً. فعلماؤنا والشّافعي حصروا جواز الموزون بالمُثَمَّن

(1)

منه، وعَمَّمه مالك لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام:«ووزنٍ معلوم» ، ولأنّه يمكن ضبط النَّقدين بالصفة، فيجوز السّلم فيها.

ولنا: أنْهما خُلِقَا أثماناً، والمُسْلَم فيه مبيعٌ، والنّص مقَّيدٌ به، لأنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان.

ولو أسلم في الثَّمن بأن أسلم حنطة أو عروضاً في أحد النّقدين يكون باطلاً عند ابن أبَان، وبيعاً صحيحاً بثمنٍ مؤجّلٍ عند أبي بكر الأعْمَش حملاً لكلام العاقلين على الصِّحة، وهو إنّهما قصدا مبادلة الحنطة بالدّراهم. وقول ابن أبَان أصحّ، لأن المعقود عليه هو المُسْلَم فيه. وهذا الخلاف إذا اسلم غير شيءٍ من النقدين في أحدهما، وأمّا إذا أسلم أحدهما في الآخر، فإنه لا يجوز بالإجماع، لأنّ القدر بانفراده يحرّم النَّسَاء.

(والمَذْرُوعِ) أي وكالمذروع (كالثَّوْبِ مُبَيِّناً طُولَهُ وَعَرْضَهُ وَرُقْعَتَهُ) أي رِقته وغِلَظه، لأنَّ مقدار المالية في الثياب يعلم بذكر هذه الأشياء، والتّفاوت بغيرها يسير فلا يضرّ، لأنه لا يُفْضي إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلّم، وهذا في غير الحرير. وأمّا في الحرير، فلا بدّ فيه من ذكر الوزن أيضاً، لأنّ قيمة الثوب منه يختلف باختلاف وزنه. وفي «المُجْتَبَى»: والقياس أنّه لا يجوز السَّلم في المذروعات لتعذّر ثبوتها في الذِّمة، ولهذا لا يضمن بالمثل في الاستهلاك كالجواهر، لكن تُرِكَ ذلك بإجماع الفقهاء. وفي «الخُلَاصَة»: ولو أطلق ذكر الذِّراع فله ذراعٌ وسط.

(وَالمَعْدُودِ) أي وكالمعدود (مُتَقَارِباً) وهو ما لا يتفاوت آحاده في القيمة

(1)

في المخطوط: بالثمن، والمثبت من المطبوع.

ص: 376

فَيَصِحُّ في السَّمَكِ المَلِيحِ لَا في الحَيَوَانِ

===

ويُضْمَنُ بالمثل كالجوز والبيض، لأنّهما معلوما القَدْرِ بالعدد، والتّفاوت بين آحادهما بالصغر والكبر ساقط الاعتبار فيما بين النّاس. قيّد بالمتقارب لأنّ المتفاوت كالبطيخ والرمان والسَّفَرْجَل لا يصحّ فيه السلم عدداً لتفاوت آحاده في القيمة (فَيَصِحُّ) السَّلم (في السَّمَكِ) أي في الصِّغار واخْتُلِفَ في الكبار (المَلِيحِ) أي الذي قُدِّدَ

(1)

ومُلِّحَ، وإنَّما يصحّ السَّلم فيه بالوزن لا بالعدد، لتفاوت آحاده بالكبر والصغر. قيّد بالمليح لأنّ الطّري لا يصحّ السّلم فيه في غير حينه، لأنّه منقطعٌ من أيدي النّاس حتى لو كان في حينه جاز السَّلم فيه. وقيل: لا فرق بين الطَّريّ والمَلِيح. وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: لا يصح فيهما.

(لَا في الحَيَوَانِ) أي لا يصح السّلم في الحيوان، وهو قول الثَّوْرِيّ والأَوْزَاعِيّ، وقال الشّافعيّ وأحمد: يصحّ، وهو قول مالك إلاّ في الخَلِفاتِ ـ وهي: الحوامل من النُّوق ـ فإنّها مجهولةٌ لِمَا روى أبو داود في («سننه»، وأحمد بن حنبل)

(2)

في «مسنده» ، والبزَّار في «مسنده» ، والحاكم في «مستدركه» ، وقال: صحيحٌ على شرط مسلم ـ عن عبد الله بن عمرو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أنْ يجهّز جيشاً فَنَفِدَتْ الإبل. فأمره أن يأخذ من قلائص

(3)

الصّدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة.

و «من» ههنا بمعنى «على» كما في روايةٍ، نحو قوله تعالى:{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القَوْمِ الّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}

(4)

، ولأنّه مبيعٌ معلوم الصّفة، فيجوز السَّلم فيه، كالثياب؛ واعْتُرِضَ بما رواه ابن حِبّان في «صحيحه» ، وعبد الرّزّاق في «مصنفه» من حديث ابن عبّاس، وأصحاب السنن الأربعة من حديث سَمُرَة بن جُنْدُب: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً. وأُجيبِ بأنّه محمولٌ على أن يكون النَّسَاء في الحيوان من الطرفين.

وأمّا ما في «آثار الطَّحاويّ» بسنده إلى أبي رافعٍ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بَكْراً

(5)

، فقدِمَتْ عليه إبلٌ من إبل الصّدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرّجل بَكْره، فرجع إليه أبو رافعٍ فقال: لم أجد فيها إلاّ جَمَلاً خِيَاراً

(1)

قَدَّدَ اللَّحم: قطعه طولًا وملَّحة وجفَّفه في الهواء والشمس. المعجم الوسيط. ص 718، مادة (قد).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

القلائص: جمع القَلُوص وهي من الإبل: الفتية المجتمعة الخَلْق، وذلك من حين تُركب إلى التاسعة من عمرها. المعجم الوسيط. ص 755، مادة (قلص).

(4)

سورة الأنبياء، الآية:(77).

(5)

البَكْرُ: الفتي من الإبل. النهاية 1/ 149.

ص: 377

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

رَباعِياً

(1)

فقال: «أعطه إيّاه إن خيار الناس أحسنهم قضاءً» . فمحمولٌ على القرض.

ولنا: ما أخرجه الحاكم في «مستدركه» ـ وقال: صحيح الإسناد ـ والدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» عن عِكْرِمة، عن ابن عبّاس أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السَّلف في الحيوان. وما رواه محمد في «الآثار» عن أبي حنيفة رحمه الله، عن حَمّاد بن أبي سُلَيْمَان، عن إبراهيم النَّخَعِيّ قال: دفع عبد الله بن مسعود إلى زيد بن خُوَيلدة البَكْرِيّ

(2)

مالاً مضاربةً، فأسلم زيد إلى عِتْرِيس

(3)

بن عُرْقُوب الشَّيْبَانِيّ في قلائص، فلمّا حلّت أخذ بعضاً وبقي بعض. فأعسر، عِتْرِيس وبلغه أنّ المال لعبد الله، فأتاه يسترفقه، (فقال عبد الله: اَفَعَلَ زيد؟ قال: نعم)

(4)

، فأرسل عبد الله إلى زيد وقال: اردُدْ ما أخذت وخذ رأس مالك، ولا تُسْلِمَنّ مالنَا في شيءٍ من الحيوان.

ولأن الحيوان يتفاوت آحاده تفاوتاً فاحشاً. فإنّك ترى عبدين أو أمَتَيْنِ متفقين في الأوصاف المشروطة، ومع ذلك، باختلاف الصَّباحة، والملاحة، والفصاحة، والكِيَاسة، وحسن السيرة، والصورة، يساوي أحدهما ألفاً والآخر ألوفاً. قال (الشاعر):

*أَلاَّ رُبَّ فَرْدٍ يَعْدِلُ الألْفَ زَائِداً ** وأَلْفٍ تَرَاهُمْ لا يُسَاوُونَ وَاحِداً

فلا يجوز السَّلم فيه كالجواهر، بخلاف الثياب، فإنها بصنع العبد، وهي إنّما تُصْنَع بآلةٍ، فإذا اتّحدت الآلة والصانع لم يبق إلاّ التفاوت اليسير، وهو لا يضر. وحديث عبد الله بن عمرو السّابق، قال ابن القطّان في كتابه: إنّه ضعيفٌ مضطربُ الإسناد. وبيَّنه، فلا يُحتجّ به.

ولا يصحّ السَّلم في اللّحم عند أبي حنيفة، ولو منزوعَ العظم، على الأصحّ في الروايتين عنه. ويصحّ عندهما كمالك والشَّافعيّ مطلقاً، إِنْ بيّن جنسه ونوعه، وسِنَّه، وصفته، وموضعه، وقدره، كشاةٍ خَصِي ثَنِيّ

(5)

سمينٍ من الجنب، كذا رطلٍ بكذا، يصحّ. كما يصحّ في الأَلْية، والشَّحم، والسَّمك وزناً، وبه يُفْتَى.

(1)

رَباعِيًا: يقال للذَّكر من الإبل إذا طلعت رَباعيته رَباعٌ، وذلك إذا دخل في السنة السابعة، النهاية 2/ 188.

(2)

في المخطوط والمطبوع: زيد بن خويلد البكري. والصواب ما أثبتناه من "الآثار" لمحمد بن الحسن ص 343، باب السلم في الحيوان. حديث رقم (744). ويقال له: زيد بن خليدة. كما قال ابن حبان في "الثقات". وقال ابن حجر في "الإيثار بمعرفة رواة الآثار": ولعل البكري تصحيف من اليشكري، واليشكري هو الصواب. انتهى. ص 45 من نسخة بخط المؤلف ابن حجر رحمه الله.

(3)

حُرِّف في المخطوط والمطبوع إلى "عريس"، وكتب في هامش المخطوط:"عريش". كلاهما خطأ، صوابه. ما أثبتناه من "الآثار" الموضع السابق. و "الإصابة" 5/ 104، القسم الثالث، وقال فيه ابن حجر. لا يصح له صحبة.

(4)

ما بين الحاصرتين من "الآثار"(الموضع السابق).

(5)

الثَّنيّ: كل ما سقطت ثنِيَّتُه. والثَّنِيَّةُ: إحدى الأسنان الأربع التي في مقدم الفم، ثنتان من فوق وثنتان من تحت. المعجم الوسيط. ص 102 مادة (ثنى).

ص: 378

وأَطْرَافِهِ، وَجُلُودِهِ، وَالجَوَاهِرِ، وَلَا بِصَاعٍ وَلَا ذِرَاعٍ مُعَيَّنَيْنِ لَمْ يُدْرَ قَدْرُهُ.

[شروط السَّلَم]

وشُرُوطُهُ بَيَانُ جِنْسِهِ، كَبُرٍّ. وَنَوْعِهِ، كَسَقِيَّةٍ. وَصِفَتِهِ كَجَيِّدٍ. وَقَدْرِهِ

===

(وَأطْرَافِهِ) أي ولا يصحّ السَّلم في أطراف الحيوان، كالرؤوس، والأكارِع، وهي جمع كُرَاع: وهو ما دون الرُّكبة في الدَّواب، وبه قال الشَّافعيّ في الأظهر، لأنّها عددية متفاوتة. قيل: هذا قول أبي حنيفة، وأمّا عندهما فيجوز كما في اللَّحم، وقيل: لا يجوز باتفاقٍ.

(وَجُلُودِهِ) أي ولا يصحّ السَّلم في الجلود عدداً غيرَ مُبَيَّن الطُّول والعرض والصِّفة. إذ التفاوت بين رأس ورأسٍ، وكُراعٍ وكُرَاعٍ معتبرٌ فيما بين النّاس، ويُمَاكِسُون

(1)

لأجله. ولو أسلم في الرؤوس والأكارِع وزناً اختلفوا فيه. وقال مالك والشافعيّ وأحمد رحمهم الله في روايةٍ: يجوز السَّلم في الجلود، والرؤوس والأكارِع عدداً ووزناً، لأنّها معلومة القدر والصّفة بالذّكر، ولأنّ الجلود في معنى الثياب لأنّها يُتخذ منها الفرو والخِفَاف.

قيَّدنا بالعدد غير المُبَيَّن الطول والعرض والصفة، لأنّ السَّلم فيها وزناً، يجوز، وكذا عدداً إذا بيّن طولها وعرضها.

(وَالجَوَاهِرِ) أي ولا يجوز السَّلم في الجواهر لأنّها عددية متفاوتة لتفاوت آحادها في الماليّة بالصغر والتدوير، بخلاف اللآلي الصِّغار التي تباع وزناً، فإنّها يصحّ السَّلم فيها لأنّها تُعلم بالوزن.

(وَلَا بِصَاعٍ) أي ولا يصحّ السّلم بمكيالٍ (وَلَا ذِرَاعٍ مُعَيَّنَيْنِ لَمْ يُدْرَ قَدْرُهُ)،

لأنّ القدرة على التَّسليم وقت وجوبه شرطٌ، وهي لا تتحقّق إلاّ ببقاء ما عيّنه من المكيال والذّراع إلى وقت التَّسليم، وبقاؤه غير معلومٍ لاحتمال أنّه يضيع فيقع النِّزاع، وإنّما جاز البيع بهما لأنّ السَّلم يتأخر فيه التَّسليم، فيكون الضياع محتملاً بخلاف البيع.

(شُرُوط السَّلَمِ)

(وشُرُوطُهُ) أي السَّلم. وفي بعض النسخ: وشرطه (بَيَانُ جِنْسِهِ) أي جنس المُسْلَم فيه (كَبُرَ) أو شعيرٍ. (وَ) بيان (نَوْعِهِ كَسَقِيَّةٍ) بفتح فكسر فتشديد التحتيّة، أي حنطة مَسْقِيّة سَيْحاً

(2)

. (وَ) بيان (صِفَتِهِ كَجَيِّدٍ، وَ) بيان (قَدْرِهِ) ككذا كيلاً بمكيالٍ معروفٍ، أو كذا وزناً بميزان معروفٍ، لأنّ المُسْلَم فيه قد يختلف بالجنس والنوع والصّفة والقدر، فلا بدّ من بيان هذه الأشياء لقطع المنازعة.

(1)

مَاكَسَه في البيع: طلب منه أن ينقص الثمن. المعجم الوسيط. ص 881، مادة (مكس).

(2)

السّيْح: الماء الجاري. القاموس المحيط ص 288، مادة (ساح). والمقصود هنا: المسقية بماء جارٍ، لا بماء السماء.

ص: 379

وَأجَلِهِ، وأقَلُّهُ شَهْرٌ. وَقَدْرِ رَأسِ المَالِ في الكَيْلِيّ، وَالوَزْنِيّ، وَالعَدَدَيّ. وَمَكَانِ إيفَاءِ مُسْلَمٍ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ.

===

(وَ) بيان (أجَلِهِ) فلا يجوز السّلم في حالَ ولا مؤجّلٍ بأجلٍ مجهولٍ. وقال الشّافعيّ: يجوز السّلم في الحالّ، وبه قال عطاءٌ وأبو ثور، واختاره ابن المُنْذِر، لأنّه مبادلة مالٍ بمالٍ فلا يكون الأجل فيه شرطاً كالبيع. ولنا: ما مرّ من قوله عليه الصلاة والسلام: «من أسلف في شيءٍ فليُسْلف في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ»

(1)

. (وأقَلُّهُ) أي أقلّ الأجل في السّلم (شَهْرٌ) كذا رُويَ عن محمد، وهو الأصحّ، وعليه الفتوى.

(وَ) من شروط السَّلم بيان (قَدْر رَأسِ المَالِ في) رأس المال (الكَيْلِيّ، وَ) في رأس المال (الوَزْنِيّ، وَ) في رأس المال (العَدَدَيّ). ولو قال: وقدر رأس المال الكيليّ

إلى آخره لكان أولى. ثم ما ذكره إن كان رأس المال عند العقد غيرَ مشارٍ إليه فباتفاقٍ، وإن كان مشاراً إليه، فعند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما. حتّى لو قال: أسلمت

(2)

إليك هذه الدَّراهم في كُرِّ

(3)

بُرّ، ولم يبيّن وزن الدَّراهم. أو قال: أسلمت إليك هذا البُرَّ في مَنّ

(4)

زعفران ولم يبيَّن قدر البُرّ، لا يصحّ عنده، ويصحّ عندهما. وأمّا رأس المال الذِّراعي إذا كان مشاراً إليه عند العقد، لا يُشْتَرطُ بيانُ قدره باتفاق.

(وَ) من شروطه بيان (مَكَانِ إيفَاءِ مُسْلَمٍ) أي مُسْلَمٍ فيه (لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ)

(5)

وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وَوَجْهٌ في مذهب الشَّافعيّ. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يشترط مكان الإيفاء، ولكنْ إِنْ شرطا مكاناً صحّ، وإن لم يُشْتَرط يتعيّن مكان العقد، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أولاً، والأصحّ في مذهب الشَّافعي، لأنّ التسليم وجب بالعقد، فيتعيّن له مكان العقد كما في البيع.

ولأبي حنيفة رحمه الله: إنَّ تعيّن مكان العقد إمّا بالتعيين صريحاً أو بضرورة وجوب التّسليم في الحالّ، ولم يوجد واحدٌ منهما بخلاف البيع، فإنه

(1)

سبق تخريجه عند الشارح ص (66).

(2)

في المطبوع: سلَّمت، والمثبت من المخطوط.

(3)

سبق شرحها ص (356)، التعليقة رقم:(4).

(4)

المنُّ: مكيال سعته رطلان عراقيان، أو أربعون إستارًا = 815.39 غرامًا. معجم لغة الفقهاء ص 460.

(5)

المُؤنَةُ: القوت. المعجم الوسيط. ص 69، مادة (مأن).

ص: 380

وَقَبْصِ رَأْسِ المَالِ قَبْلَ الافْتِرَاقِ شَرْطُ بَقَائِهِ،

===

واجب التّسليم في الحالّ، فيتعيّن له موضع بالعقد. وقيّد المُسْلَم فيه بأن يكون لحمله مُؤْنة، لأنه لو لم يكن كذلك، كالمسك والزَّعْفَران، والكَافُورِ القليلة لا يحتاج فيه إلى بيان الإيفاء عندهم، لأنّ قيمته لا تختلف باختلاف المكان.

(وَقَبْصِ رَأْسِ المَالِ) أي مال السَّلَم (قَبْلَ الافْتِرَاقِ) أي افتراق العاقدين بالأبدان (شَرْطُ بَقَائِهِ) خبرٌ لمبتدأ مقدمٍ، أي شرط بقاء السَّلم صحيحاً، وبه قال الشّافعيّ. ولهذا صحّ السَّلم مع تأخير التّسليم إلى آخر المجلس. ولو مكثا إلى الليل، أو سارا فَرْسَخاً

(1)

، أو نام أحدهما. وجوّز مالك تأخيره اليوم واليومين والثلاث بشرط. وقيل: لا يجوز، فإنْ أخَّر أكثر بغير شرطٍ فقولان. ولا فرق بين كون رأس المال ممّا لا يتعيّن كالنُّقود، أو ممّا يتعيّن كالعروض. أمّا إن كان ممّا لا يتعيّن فلئلا يفترقا عن دينٍ بدينٍ، وهو بيع الكالاء بالكالاء، أي النّسيئة بالنّسيئة، لِمَا رواه ابن أبي شَيْبَة، وإسحاق بن رَاهُويَه، والبزَّار في «مسانيدهم» من حديث موسى بن عُبَيْدة، عن عبد الله بن دِينارٍ، عن ابن عمر، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ولفظ البزَّار ـ قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وعن بيع الكالاء بالكالاء، وعن بيع عاجلٍ بآجلٍ» .

فالغرر: أن تبيع ما ليس عندك. والكالاء بالكالاء: دينٌ بدينٍ. والعاجل بالآجل: أن يكون له عليك ألف درهمٍ مؤجّلةً، فيتعجّل عنها بخمس مئة. وأمّا إن كان من العروض، فلأنّ السَّلم أَخْذُ عاجلٍ بآجل، والمُسْلَم فيه آجلٌ، فوجب أنْ يكون رأس المال عاجلاً، ليكون حُكْمُه على وَفْق اسمه. ولو أبى المُسْلَم إليه قبض رأس المال أُجْبِرَ عليه.

ومِن شروط السَّلم: وجود المُسْلَم فيه من وقت العقد إلى وقت التَّسليم، حتّى لو كان موجوداً حال العقد، معدوماً وقت التّسليم لا يجوز بالإجماع. ولو كان معدوماً حال العقد موجوداً وقت التّسليم، أو معدوماً بينهما لا يجوز عندنا، وهو قول الأوْزَاعِيّ. والمعتبر وجوده في السّوق الذي يُبَاع فيه في ذلك المصر. وقال مالك والشّافعيّ: يُشْتَرط وجوده حال حلوله فقط.

ولنا: ما رواه أبو داود وابن ماجه ـ واللفظ له ـ عن أبي إسحاق، عن النَّجْرَانيّ

(2)

(1)

الفَرْسَخ: مقياس من مقاييس المسافات، مقداره ثلاثة أميال = 12000 ذراع = 5544 مترًا. معجم لغة الفقهاء ص 343.

(2)

في المطبوع: رجلٍ بحراني، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في سنن ابن ماجه 2/ 767، كتاب التجارات (12)، باب إذا أسلم في نخل بعينه لم يطلع (61)، رقم (2284).

ص: 381

فَلَوْ كَانَ دَيْنًا وعَيْنًا بَطَلَ في حِصَّةِ الدَّيْنِ. وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في رَأْسِ المَالِ، والمُسْلَم فِيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ

===

قلت لعبد الله بن عمر: أُسْلِمُ في نخلٍ قبل أنْ يُطْلِع؟ قال: لا. قلت: لِمَ؟ قال: إن رجلاً أسلم في حديقة نخلٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يُطْلِع النخل، فلم يُطِلْع النخل شيئاً ذلك العام، فقال المشتري: أؤخرك حتى يُطْلِعَ. فقال البائع: إنّما بعتك النّخل هذه السنة. فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للبائع: أَخذ من نخلك شيئاً»؟ قال: لا. قال: «بم تستحلّ ماله؟ اردد عليه ما أخذت منه، ولا تُسْلِمُوا في نخلٍ حتى يبدوَ صلاحُه» . وفيه مجهولٌ كما علمت.

وما في البخاري عن أبي البَخْتَرِي قال: سألت ابن عمر عن السّلم في النّخل، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يصلح، وعن بيع الوَرِق نسأً بناجزٍ. وسألت ابن عبّاس عن السّلم في النّخل، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النّخل حتَّى يُؤْكَلَ منه.

فقد ثبت عن هذين الصّحابيين الكبيرين في العلم والتتبع أنهما فَهِمَا من نهيه عن بيع النّخل حتّى يصلح، بيعَ السّلم، فقد دلّ الحديث على اشتراط وجوده عند العقد، والاتفاق على اشتراطه عند المَحَلّ

(1)

.

(فَلَوْ كَانَ) رأس المال (دَيْناً وعَيْناً) من جنس واحد: بأن أسلم مئة درهم نقداً، ومئة درهم ديناً على المُسْلَم إليه في الكُرِّ

(2)

(بَطَلَ) السّلم (في حِصَّةِ الدَّيْنِ) لأنّه دين بدينٍ، وصحّ في حصة النقد لوجود قبض رأس المال في المجلس. وقال زُفَر: يشيع الفساد ويبطُل العقد في حصة العين أيضاً، لأنّ هذا الفساد في صلب العقد. (وَلَا يَجُوزُ) أي لا يصحّ (التَّصَرُّفُ في رَأْسِ المَالِ) قبل قبضه، (وَ) لا التَّصرُّف في (المُسْلَم فيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ) باستبدالٍ، أو توليةٍ، أو شركةٍ، أو إقالةٍ بخلاف ارتهانٍ أو حَوالةٍ.

أمّا في رأس المال، فلأنّ قبضه في المجلس حقّ الله تعالى، وفي التَّصرّف فيه قبل قبضه تعرّض لتفويت ذلك. وأمّا في المُسْلَم فيه، فلما أخرجه أبو داود، وابن ماجه والترمذي في «عِلَله الكبير» ـ وقال: لا أعرفه إلاّ من هذا الوجه، وهو حسنٌ ـ عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أسلم في شيءٍ، فلا يصرِفْه إلى غيره» . وما روى عبد الرَّزّاق في «مصنفه» عن مَعْمَر، عن قَتَادة، عن ابن عمر أنه قال: إذا أسلفت في شيءٍ، فلا تأخذ إلاّ رأس مالك أو الذي أسلفت فيه.

(1)

المقصود من المحل هنا: حلول الأجل. انظر لمزيد تفصيل "فتح القدير" 6/ 213.

(2)

سبق شرحها ص (356)، التعليقة رقم:(4).

ص: 382

[فَصْلْ فِي الاسْتِصْنَاع]

وَالاسْتِصْنَاعُ بأجَلٍ سَلَمٌ، تَعَامَلُوا فِيهِ أوْ لَا،

===

ولو أسلم في رُطَبٍ فأخذ مثله تمراً، أو بالعكس، صحّ عند أبي حنيفة رحمه الله، نظراً إلى التَّساوي في الحال، ولم يصحّ عندهما نظراً إلى التَّفاوت في المآل. ولو أخذ دقيقاً، أو سَوِيقاً، أو مَقْلِيّاً عن بُرّ، أو أخذ دقيقاً عن سويقٍ أو بالعكس لا يصحّ لاختلاف الجنس فكان استبدالاً. وإن تقايلا عقد السَّلم مَنَعْنَا ربَّ السّلم شراء شيءٍ من المُسْلَم إليه برأس المال استحساناً. ولم يمنعه زُفَر قياساً، لأنه لمّا بطل السَّلم بقي رأس المال ديناً في ذمته، فيصحّ الاستبدال به كسائر الديون.

ولنا قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أسلم في شيءٍ، فلا يصرفه إلى غيره» . رواه أبو داود، والترمذي وحسَّنه. ورواه الدَّارَقُطْنِيّ عن إبراهيم بن سعيد الجَوْهَرِيّ، ولفظه:«فلا يأخذ إلاّ ما أسلم فيه، أو رأس ماله» .

(فصلٌ في الاستصناع)

(والاسْتِصْنَاعُ) استفعالٌ من الصنع، وهو العمل من نحو خُفَ وَطَسْتٍ. وصورته: أن يقول لخفّافٍ: اخرز لي خُفّاً من أديمك

(1)

يوافق رجلي، ويريه رجله بكذا (بأجَلٍ) يضرب مثله للسَّلم (سَلَمٌ) فيعتبر فيه شروطُ السَّلَم سواء (تَعَامَلُوا فِيهِ) كالخفاف (أوْ لَا) كالثياب. وقال أبو يوسف ومحمد: هو فيما تعاملوا فيه استصناعٌ، لأنه بلفظه فيحمل عليه، ويكون ذلك الأجل للاستعجال لا للاستمهال، بخلاف ما لم يتعاملوا فيه لأنّه استصناعٌ فاسدٌ، فيحمل على السَّلم الصحيح.

ولأبي حنيفة: أنّ الاستصناع يحتمل السَّلم، فكان حَمْلُه عليه أولى، لأنّ جوازه بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وجواز الاستصناع بالتّعامل. وقيّدنا الأجل بكونه يُضْرب مِثْلُه للسَّلم، لأنّه لو قال: على أن يفرغه غداً، أو بعد غدٍ لا يكون سَلَماً، لأنّ ذكر المدة حينئذٍ للفراغ من العمل للمطالبة. وقال زفر والشَّافعيّ: لا يصحّ الاستصناع، وهو القياس، لأنّه لا يمكن تجويزه إجارةً، لأنه استئجار على العمل في ملك الآخر إذ الأديم ملك الصانع. ولا بيعاً لأنه بيع ما ليس عنده، ولا سلماً لفقد شرائطه، ولكن جوّزناه استحساناً بالتّعامل الراجع إلى الإجماع العملي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم بلا نكيرٍ، والتّعامل بهذه الصفة أصلٌ مندرجٌ في قوله عليه الصلاة والسلام: «لا

(1)

الأديم: الجلد. المعجم الوسيط. ص 10، مادة (أدم).

ص: 383

وَبِلَا أَجَلٍ فِيمَا يُتَعَامَلُ فِيهِ بيعٌ، فَيُجْبَرُ الصَانِعُ عَلَى العَمَلِ وَلَا يَرْجِعُ الآمِرُ. والمَبِيعُ هُوَ العَيْنُ لا عَمَلهُ، فَلَوْ جَاءَ بِمَا صَنَعَهُ غَيْرُهُ، أوْ هُوَ قَبْلَ العَقْدِ، فأخَذهُ صَحَّ، ولا يَتَعَيَّن لَهُ بِلَا اخْتِيَارِهِ، فَصَحَّ بَيْعُهُ قَبْلَ رُؤْيَةِ الآمِرِ.

مَسَائِلُ شَتَّى

وَصَحَّ بَيْعُ الكَلْبِ والسِّباع، عُلِّمَتْ أوْ لَا.

===

تجتمع أمتي على ضلالة»

(1)

.

(وَ) الاستصناع (بِلَا أَجَلٍ فِيمَا يَتَعَامَلُ) النّاس (فِيهِ بيعٌ) لا عِدَةٌ. وكان الحاكم الشهيد يقول: الاستصناع مواعدة، وإنّما ينعقد بالتّعاطي إذا جاء به الصانع مفروغاً منه، ولهذا ثبت الخيار لكل منهما. والصحيح عند الجمهور أنه بيعٌ، لأنّ محمداً سمَّاه شراءً، وذكر فيه القياس والاستحسان، وفصّل بين ما فيه تعامل وبين ما لا تعامل فيه. والمواعدة تجوز قياساً واستحساناً في الكلّ. قيل: وحكم الحاكم أحكم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

لكن الصحيح أنه بيعٌ (فَيُجْبَرُ الصَانِعُ عَلَى العَمَلِ) ولو كان مواعدة لما أجبر (وَلَا يَرْجِعُ الآمِرُ) عنه، ولو كان مواعدة لكان له الرّجوع.

(والمَبِيعُ) في الاستصناع هو (العَيْنُ لا عَمَلهُ) أي عمل الصانع. وقال أبو سعيد الَبرْدَعِي: عمله، نظراً إلى أن الاستصناع مشتقٌ من الصنع وهو العمل. وقد أشار المصنف إلى ما يدلّ من الفروع على أنّ المبيع في الاستصناع العينُ بقوله:

(فَلَوْ جَاءَ بِمَا صَنَعَهُ غَيْرُهُ) قبل العقد أو بعده، (أوْ) بما صنعه (هُوَ قَبْلَ العَقْدِ) الظرف متعلقٌ بـ:«صَنَعَهُ» المقدّر (فَأَخَذَ)

(2)

الآمر العين (صَحَّ) ولو كان المعقود عليه عمله لم يصحّ وبقوله: (ولا يَتَعَيَّنُ لَهُ) أي للآمر (بِلَا اخْتِيَارِهِ) إذ الذي يدخله خيارُ الرُّؤية بيعُ العين لا بيع العمل (فَصَحَّ) للصانع (بَيْعُهُ قَبْلَ رُؤْيَةِ الآمِرِ) أي المستصنع لعدم تعيّنه حينئذٍ، لأن تعيّنه باختيار الآمر، واختيار الآمر بعد رؤيته. ولا يثبت للمستصنع خيار الرّؤية إذا جاء به الصانع على الصفة المشروطة عند أبي حنيفة خلافاً لهما.

مَسَائِلُ شَتَّى

(وَصَحَّ بَيْعُ الكَلْبِ) ولو كان عَقوراً

(3)

(والسِّباعِ عُلِّمَتْ أوْ لَا) وشرط (شمس)

(4)

(1)

أخرجه الترمذي في سننه 4/ 405، كتاب الفتن (31)، باب ما جاء في لزوم الجماعة (7)، رقم (2167).

(2)

في المطبوع: فأخذه. كما أثبتناه في المتن أعلى الصحيفة، وأثبتنا لفظ "أخذ"، من المخطوط ليتناسب مع الشرح. فاقتضى التنبيه.

(3)

الكلب العَقُور: المتوحش الجارح. معجم لغة الفقهاء. ص 318.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 384

والذِّمِّيُّ في البَيْعِ كَالْمُسْلِمِ، إلّا في الخَمْرِ وَالخِنْزِيرِ، فَهُمَا كَالخَلِّ وَالشَّاةِ في عَقْدِنَا. وَدرهَمٌ نُثِرَ فَوَقَعَ في ثَوْبِ رَجُلٍ فَهُوَ لَهُ، إنْ أعَدَّهُ لَهُ أوْ كَفَّهُ، وإلّا

===

الأئمة لجواز بيع الكلب ونحوه أن يكون مُعَلَّماً أو قابلاً للتّعليم. وقال الشّافعي: لا يصحّ بيع الكلب مطلقاً، لأنّه نجس العين كالخنزير، وكذا عندنا في روايةٍ، وهو قول أحمد وبعض أصحاب مالك، والمشهور من مذهبه الجواز. وأمّا اقتناء الكلب لصيدٍ أو لحفظ الزّرع أو المواشي أو البيوت فجائزة بالإجماع. لهم: ما روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الأنصاريّ: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البَغِيِّ

(1)

، وحُلْوَان الكاهن»

(2)

. ولنا: ما روى أبو حنيفة في «مسنده» عن الهَيْثَم، عن عِكْرَمَةَ، عن ابن عبّاس قال: رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمن كلب الصيد.

(والذِّمِّي في) أحكام (البَيْعِ كَالْمُسْلِمِ) لأنّه مكلفٌ بموجب المعاملات، فما جاز للمسلم من البِياعات جاز له، وما لا فلا، كالرِّبا (إلاّ في الخَمْرِ وَالخِنْزِيرِ فَهُمَا) في عقد الذِّمِّيّ (كَالخَلِّ وَالشَّاةِ في عَقْدِنَا) فيكون الخمر عندهم مِثْلياً والخنزير قيمياً، لما روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن سفيان الثَّوْريّ، عن إبراهيم بن عبد الأعْلى الجُعْفِيّ، عن سُوَيْد بن غَفَلة قال: بلغ عمر بن الخطَّاب أنّ عُمَّاله يأخذون الجِزْية من الخمر، فناشدهم ثلاثاً. فقال له بلال: إنهم ليفعلون ذلك. قال: فلا تفعلوا، ولُّوهم بيعها، فإن اليهود حُرِّمَت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها.

ورواه أبو عُبَيْد في «كتاب الأموال» ، وقال: كانوا يأخذون من أهل الذِّمة الخمر والخِنزير في جزية رؤوسهم، وخَراج أراضيهم بقيمتها، ثم يتوّلى المسلمون بيعها. فهذا الذي أنكره بلال ونهى عنه عمر. ورخّص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أهل الذِّمة المتولين بيعها، لأنها مالٌ لهم وليس بمالٍ للمسلمين. انتهى.

وسُوَيْد بن غَفَلة، بفتح المعجمة والفاء: أبو أميّة الجُعْفِيّ، وُلِدَ عام الفيل، قَدِمَ المدينة حين دفنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، سمع من أبي بكر وعمر.

(وَدرهَمٌ نُثِرَ فَوَقَعَ في ثَوْبِ رَجُلٍ فَهُوَ لَهُ) أي الدرهم للرجل (إنْ أعَدَّهُ) أي أعدّ الرجل الثوب (لَهُ) أي لوقوع الدّرهم، (أوْ) إن (كَفَّهُ) أي جمع الرّجل الثوب بعد وقوع الدرهم فيه، لأن الحكم لا يُضاف إلى السبب الصالح إلاّ بالقصد، وقد وُجِدَ ما يدل عليه وهو إعداد الثوب أو جمعه. (وإلاّ) أي وإن لم يعدّ الرجل الثوب ولم يجمعه على

(1)

مهر البَغِيِّ: أجرة الفاجرة. المصباح المنير، ص 582، مادة (مهر).

(2)

حُلْوان الكلاهن: هو ما يُعْطاه من الأجر والرِّشوة على كَهَانَتِهِ. النهاية 1/ 435.

ص: 385

فَلِلآخِذِ، وَاعْتُبِرَ بِهِ سَائِرُ المُبَاحَاتِ.

[فَصْلْ في الصَّرْف]

الصَّرْفُ بَيْعُ الثَّمَنِ بالثَّمَنِ جِنْسًا بِجِنْسٍ، أوْ بِغَيْرِ جِنْسٍ. وَيُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ قَبْلَ الافْتِرَاقِ،

===

الدرهم (فَلِلآخِذِ) أي فالدرهم لآخذه لأنّه مباحٌ سبقت يده.

(وَاعْتُبِرَ) ـ أنت، أو هو بصيغة المجهول الماضي ـ (بِهِ) أي بهذا الذي قلناه في الدّرهم الذي نثر (سَائِرُ المُبَاحَاتِ) فلو أفرخ طير أو باض في أرض رجلٍ، إن كانت أرضه مهيّأة لذلك فهو له، وإلاّ فلآخذه، بخلاف ما لو عَسَل النحل في أرضه، فإنه يملك عسله وإن لم يعدّ أرضه، لأنّ العسل ممّا يحصُل من الأرض فيكون تبعاً لها كالشجر النابت فيها والتراب المجتمع بجريان الماء فيها، ولهذا يجب في العسل العُشْر إذا أُخذ من الأرض العُشْرِية.

(فَصْلٌ في الصَّرْفِ)

(الصَّرْفُ) لغةً: النقل والرّدّ، قال الله تعالى:{ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}

(1)

، وسُمِّيَ به لأنه يحتاج فيه إلى نقل بَدَلَيْهِ من يدٍ إِلى يدٍ.

وشرعاً: (بَيْعُ الثَّمَنِ) أي المخلوق للثمنية وهو الذّهب والفضة مطلقاً (بالثَّمَنِ جِنْساً بِجِنْسٍ) كذهبٍ بذهبٍ، أو فضةٍ بفضةٍ، فيشترط فيه التّساوي وزناً، وإن اختلفا جودةً وصياغةً لِمَا تقدّم من إهدار الشّارع اعتبار الجودة عند المقابلة بالجنسِ. (أوْ) جنساً (بِغَيْرِ جِنْسٍ) كذهبٍ بفضةٍ أو فضةٍ بذهبٍ، فلا يشترط فيه التّساوي وزناً بل جاز فيه التّفاضل لقوله عليه الصلاة والسلام:«فإذا اختلفت هذه الأصنافُ، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيدٍ»

(2)

.

(وَيُشْتَرَطُ) في الصَّرْف سواء كان بالجنس أو بغيره (التَّقَابُضُ) من الطرفين باليد لا بالتخلية (قَبْلَ الافْتِرَاقِ) بالأبدان بإجماع العلماء، ولما روى مالك في «الموطّأ» عن عمر أنّه قال: لا تبيعوا الذَّهب بالذّهب إلاّ مِثْلاً بمثلٍ، ولا تبيعوا الوَرِقَ بالذّهب أحدهما غائبٌ والآخر حاضرٌ

(3)

، وإن استنظرك أن يلج بيته فلا تنظره إلاّ يداً بيدٍ، هاتِ وهاتِ، إنّي أخشى عليكما الرِّبا.

(1)

سورة التوبة، الآية:(127).

(2)

سبق تخريجه عند الشارح ص (357).

(3)

في المخطوط: ناجزٌ، والمثبت من المطبوع.

ص: 386

وَإنْ وَقَعَ فى البَعْضِ صَحَّ فِيهِ فى إنَاءِ فِضَّةِ وصَارَ مُشْتَرَكًا. وَكَذَا في السَّيْفِ المُحَلَّى إنْ خُلِّصَتْ الحِلْيَةُ بِلَا ضَرَرٍ.

وَيُصْرَفُ القَبْضُ إلى ثَمَنِهَا،

===

(وَإنْ وَقَعَ) التَّقَابُض (في البَعْضِ صَحَّ) العقد (فِيهِ) أي في ذلك البعض، وبطل في الباقي (في إنَاءِ فِضَّةٍ) أي حال كون ذلك البعض في إناء الفضة. يعني أَنْ من باع إناء فضةٍ وقبض بعض ثمنه ثم افترقا، بطل البيع فيما لم يقبض ثمنه وصحّ فيما قبض، (وصَارَ) الإناء (مُشْتَرَكاً) بينهما لأنّ هذا العقد صرْفٌ كلّه، والتّقابض في المجلس شرطٌ في الصرف، وقد وُجِدَ في البعض دون البعض، فيصحّ فيما وجد فيه، ويبطل فيما لم يوجد، وهذا الفساد طاراء لأنّه لعارض الافتراق لا عن قبضٍ، فلا يتعدّى إلى ما لم يوجد فيه. قيّد البعض بكونه في إناء، لأنّه لو كان في نُقْرة

(1)

لم يكن الحكم لزوم اشتراكهما، لأنّ النُّقْرة تتبعض بلا ضررٍ بخلاف الإناء. وليس الصحة في بعض الإناء الذي نقد ثمنه، والبطلان في بعضه الذي لم ينقد ثمنه من تفريق الصَّفْقة، لأنّ هذا تفريقٌ من جهة الشَّرع باشتراط القبض، فصار كهلاك أحد العبدين.

(وَكَذَا) يصحّ العقد (في السَّيْفِ المُحَلَّى) إذا بِيع وَوَزْنُ حليته مثلاً خمسون بمئة، ونقد المشتري خمسين (إنْ خُلِّصَتْ الحِلْيَةُ بِلَا ضَرَرٍ وَيُصْرَفُ القَبْضُ إلى ثَمَنِهَا) أي ثمن الحِلْيَة وإن لم يبيّن أنّه ثمنها، لأنّ قبض حصة الحِلْية واجبٌ في المجلس لحق الشّرع، وقبض حصة السيف غير واجبٍ فيه، والتَّسليم مطلقٌ. فيجعل المنقود من حصة الحلية، لأنّ الظاهر من حال المسلم العاقل أن يؤدي الواجب ولا يُخِلَّ به.

وكذا لو قال: خذ هذه الخمسين من ثمنهما، لأنّ المثنّى قد يعبّر به عن الواحد كما في قوله تعالى:{يَخُرْجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ}

(2)

والمراد أحدهما، لأنّهما يخرجان من المالح لا من العذب. وفي قوله تعالى:{نَسِيَا حُوتَهُمَا}

(3)

والنّاسي صاحب موسى بدليل {فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ}

(4)

، وفي قوله تعالى:{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}

(5)

والداعي كان موسى عليه السلام. وفي قوله عليه الصلاة والسلام لمالك ابن الحُوَيْرِث وابن عمّ له: «إذا سافرتما

» أي إذا كنتما في سفر، (وفي روايةٍ:

(1)

النُّقْرَةُ: القطعة المذابة من الذهب أو الفضة. "المغرب في ترتيب المعرب" 2/ 321.

(2)

سورة الرحمن، الآية:(22).

(3)

سورة الكهف، الآية:(61).

(4)

سورة الكهف، الآية:(63).

(5)

سورة يونس، الآية:(89).

ص: 387

وَإنْ لَمْ يُقْبَضْ شَيْءٌ بَطَلَ فيها، وإنْ لَمْ تُخَلَّصْ، بَطَلَ أصْلًا.

===

«إذا سافرتم)

(1)

فأذّنا وأقيما»

(2)

. والمراد أحدهما، فيحمل ما نحن فيه على ذلك نظراً إلى ظاهر حال المسلم هنالك. بخلاف ما لو صرّح وقال: خذها من ثمن السيف، فإِنّ الظاهر حينئذٍ عارضه التَّصريح بخلافه.

(وَإنْ) افترقا و (لَمْ يُقْبَضْ شَيْءٌ) والحال أَنّ الحِلْية تتخلص بلا ضررٍ (بَطَلَ) العقد (فيها) أي في الحِلْية، لأنّ العقد فيها صرف، وقد فات شَرْطُه وهو القبض في المجلس. قيّد البطلان بكونه في الحِلْية، لأن العقد حينئذٍ يصحّ في السيف لأنه مقدورٌ على تسليمه، ويمكن إفراده بالبيع لكونه يتخلّص بلا ضررٍ، كالطَّوق والأمة. فأمّا إذا بِيعت أمةٌ مع طوْقٍ بنقدٍ ونسيئةٍ، فسد العقد فيهما عند أبي حنيفة، وفي الطوق عندهما. (وإنْ لَمْ تُخَلَّصْ) الحلْية إلاَّ بضررٍ، والحال أَنه لم يُقْبَضْ شَيءٌ (بَطَلَ) العقد (أصْلاً) أي في الحِلْية وفي السيف. أمّا في الحِلْية، فلِفَقْد شرط الصَّرْف وهو القبض في المجلس، وأمّا في السيف فَلِتَعَذُّر تسليمه بدون الضّرر.

ولو باع درهمين وديناراً بدرهمٍ ودينارين جاز بأن يُصْرفَ كلّ جنسٍ بخلاف جنسه تصحيحاً للعقد، كما لو باع كُرَّ

(3)

بُرَ وكُرَّ شعيرٍ بِكُرَّيْ بُرّ وكُرَّيْ شعير. وأفسده الشَّافعي وزُفَر.

ولو باع ما غالبه فضةٌ أو ذهبٌ بخالصه لم يجز إلاّ متساوياً وزناً، لأنّ العبرة للغالب، فكان كل منهما له حكم خالصه، ولهذا لا يستقرض إلاّ وزناً. ولو باع ما غالبه غش بآخر من جنسه متفاضلاً جاز، ويكون الغِش في كل واحدٍ منهما متقابلاً بالخالص الذي في مقابله، لكن بشرط التَّقابض قبل الافتراق لوجود الفضّة أو الذّهب في الكلِّ من الجانبين مع عدم التخلّص إلاّ بضرر.

ولو باعه بخالصة من فضة، أو ذهب لا يجوز إلاّ أن يكون الخالص أكثر ممّا في غالب الغِش منه، كبيع الزيتون بالزيت، والشَّيْرَج

(4)

بالسِّمْسِم. ويجوز التبايع والاستقراض برائج المغشوش وزناً إن كان رواجه به، أو عدّاً إن راج به، أَوْ بهما إن راج بهما، لأنّ المعتبر فيما لا نصّ فيه العادةُ، والله تعالى أعلم.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه 1/ 399، كتاب الصلاة (2)، باب ما جاء في الآذان في السفر (37)، رقم (205).

(3)

سبق شرحها ص (356)، التعليقة رقم (4).

(4)

في المخطوط السيرج، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لِمَا في "تاج العروس" 6/ 62، مادة (شرج).

ص: 388

‌كِتَابُ الشُّفْعَةِ

هي تَمَلُّكُ العَقَارِ عَلَى مُشْتَرِيهِ جَبْرًا بِمِثْلِ ثَمَنِهِ. وَتَثْبُتُ بِقَدْرِ رُؤوسِ الشُّفَعَاءِ، لَا المِلْكِ لِلخَلِيطِ في نَفْسِ المَبِيعِ. ثُمَّ لِلْخَلِيطِ في حَقِّ المَبِيعِ كَالشِّرْبِ

===

كتاب الشُّفْعَةِ

(هي) لغةً: الضم، ومنه الشفع في الصلاة لِضَمِّ ركعةٍ إلى أخرى. والشفع هو ضد الوتر. والشفيع لانضمام رأيه إلى رأي المشفوع له في الطلب، وشفاعة المذنبين لأنّها تضمهم إلى الفائزين.

وشرعاً: (تَمَلُّكُ العَقَارِ عَلَى مُشْتَرِيهِ جَبْراً بِمِثْلِ ثَمَنِهِ) الذي اشتراه به، لِمَا في «صحيح مسلم» عن جابرٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشُّفْعَةُ في كلّ شِرْكٍ: (في أرض، أو)

(1)

رَبْعٍ

(2)

، أو حائطٍ

(3)

لا يَصْلُحُ أن يبيع حتّى يعرض على شريكه فيأخذ أوْ يدع، فإن أَبَى فشريكه أحقّ به حتّى يُؤْذِنَهُ».

(وَتَثْبُتُ) الشّفعة (بِقَدْرِ رُؤوسِ الشُّفَعَاءِ) عندنا (لَا) بقدر (المِلْكِ) كما قال مالك والشّافعيّ في الجديد، وأحمد في روايةٍ. فلو كانت دار بين ثلاثة: لأحدهم نصفها، والآخر ثلثها، والآخر سدسها، فباع صاحب النّصف نصيبه وطلب الشريكان الشّفعة، فإنّ القاضي يقضي بها نصفين عندنا لكل واحدٍ نصفٌ، وأثلاثاً عندهم: لصاحب الثلث ثلثان، ولصاحب السدس ثلث. لأنّ الشّفعة من حقوق الملك لكونها لتكميل المنفعة، فيقدر بقدره، كالربح، والغلة، والولد، والثّمرة.

ولنا: إنّ التّساوي في سبب الاستحقاق يوجب التّساوي في الاستحقاق، والشّركاء متساوون في سبب الشّفعة، ولهذا لو انفرد واحدٌ منهم أخذ الكلّ وإنّ قلّ نصيبه، فيستوون في الاستحقاق، كما لو استوت الأنصباء والربح ونحوه متولّدات من الملك فيستحقّ بقدره، (لِلخَلِيطِ) متعلّق بـ:«تثبت» (في نَفْسِ المَبِيعِ) متعلّق بالخليط وهو الشريك الذي لم يقاسم، ولو كان ذمياً لمساواة المسلم في سببها، وهو أمر دنيوي وهما فيه سواء. (ثُمَّ لِلْخَلِيطِ) أي الشريك (في حَقِّ المَبِيعِ كَالشِّرْبِ) ـ بكسر المعجمة ـ وهو النصيب في الماء، ومنه قوله تعالى:

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط والمطبوع، والصواب إثباته لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1229، كتاب المساقاة (22)، باب الشفعة (28)، رقم (135 - 1608).

(2)

الرَّبْعُ: المنزل ودار الإقامة. النهاية (2/ 189).

(3)

الحائط: البُستان، المعجم الوسيط. ص 208، مادة (حاط).

ص: 389

والطَّرِيقِ خَاصَّيْنِ، كَشِرْبِ نَهْرٍ لا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَطَرِيقٍ لا يَنْفُذُ، ثُمَّ لِجَارٍ مُلَاصِقٍ، بَابُهُ في سِكَّةٍ أخْرَى.

===

{لَهَا شِرْبٌ ولَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}

(1)

.

(والطَّرِيقِ) أي وكالممر (خَاصَّيْنِ) حال (كَشِرب نَهْرٍ لا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ) بضمتين جمع سفينة (وَطَرِيقٍ لا يَنْفُذُ) وقيل: مفوّضٌ إلى المجتهد في كل عصر.

(ثُمَّ لِجَارٍ مُلَاصِقٍ) و (بَابُهُ في سِكَّةٍ أخْرَى) قيّد به لأنه لو كان بابه في سكة الدّار لكان خليطاً في حقّ المبيع. والحاصل أنّها له وإن كان بابه في سكة أخرى، أو للجار المقابل في السكة الغير النافذة. فعندنا الشّفْعة لكل واحدٍ من هذه الثلاثة على هذا الترتيب، وهو قول سفيان الثَّوْرِيّ، وعبد الله بن المبارك كما ذكر التّرمذي في «جامعه». وقال مالك والشّافعيّ وأحمد: لا شُفْعَة للجار لِمَا روى البخاري عن أبي سَلَمَة، عن جابر بن عبد الله قال: قضى رسول الله بالشفعة في كلّ ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصُرِفَت الطُّرق، فلا شفعة. وفي رواية «الشُّفْعة فيما لم يقسم» إلى آخره. وفي لفظ له: إنّما جعل النّبي صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود

الحديثَ. ولأنّ الشُّفْعة تثبت على خلاف القياس لما فيها من تملّك مال الغير بغير رضاه، فيقتصر على مورد النّص، وهو ما لم يقسم.

ولنا: ما في البخاري عن أبي رَافِعِ أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «الجار أحقّ بسَقَبِهِ» . وما روى أبو داود في البيوع، والترمذي في الأحكام وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنَّسائي في الشروط (عن قَتَادة)

(2)

عن الحسن، عن سَمُرَة

(3)

أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «جار الدّار أحقُّ بدار الجار أو الأرض» . ورواه أحمد في «مسنده» ، والطَّبَرَانِيّ في «معجمه» ، وابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» ، وفي بعض ألفاظهم:«الجار أحقُّ بشفعة الدَّار» . وفي رواية لأبي داود في «سننه» عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجار أحقّ بشفعة جاره، يُنْتَظَرُ بها وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحداً» . فإن قيل: المراد بما رويتم الجار الذي يكون شريكاً، لِمَا أخرجه البُخَاري عن عمرو بن الشَّرِيد قال: وقفت على سعد بن أبي وقّاصٍ، فجاء المِسْور بن مَخْرَمَةَ فوضع يده على إحدى مَنْكِبيّ، إذ جاء أبو رَافعٍ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا سعد ابْتَعْ مني بَيْتَيَّ في

(1)

سورة الشعراء، الآية:(155).

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط، وهي صحيحة لموافقتها لما في سنن الترمذي 3/ 650، كتاب الأحكام (13)، باب ما جاء في الشفعة (31) - رقم (1368).

(3)

حُرِّفت في المطبوع والمخطوط إلى: عن الحسن بن سَمُرَة، والصواب ما أثبتناه. من مصادر التخريج.

ص: 390

ويَطْلُبُهَا

===

دارك. فقال سعد: والله ما أبتاعُهما. فقال المِسْور: والله لتَبْتَاعَنَّهُمَا. فقال سعد: والله لا أزيدك على آربعة الآفٍ مُنجَّمةً أو مُقَطَّعَةً. قال أبو رافعٍ: لقد أُعْطِيتُ بها خمس مئة دينارٍ، ولولا أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«الجارُ أحقُّ بِسَقَبِهِ» ما أعْطَيْتُكها بأربعة آلافٍ، وأنا أُعْطَى بها خمس مئة دينارٍ، فأعطاها إيّاه.

أجيب بأنّ هذا مُعَارَضٌ بما أخرجه النَّسائيّ وابن ماجه عن عمرو بن الشَّرِيد، عن أبيه أنّ رجلاً قال: يا رسول الله: أرضي ليس فيها لأحدٍ شِرْكٌ ولا قِسْمٌ إلاّ الجُوَار، فقال:«الجار أحقّ بِصَقَبهِ» . وفي غريب الحديث: الصَقَبُ بفتحتين: ما قَرُب من الدَّار، والسين لغة في الصاد. وأُجِيبَ عن حديث جابر: بأنّ تخصيص ما لم يقسم بالذّكر لا يدلُّ على نفي الحكم عمّا عداه، وقوله:«إذا وقعت الحدود وصرفت الطُّرق فلا شفعة» ، من كلام الرّاوي، فلا يكون حجةً في عدم استحقاق الشُّفعة للجار مع ما روينا من مرفوع الأخبار. ولو سلّم أنه من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم فمعناه: لا شفعة بسبب القسمة دفعاً لتوهم أنّ القسمة تثبت بها الشفعة كالبيع، لما فيها من معنى التمليك من كلّ واحدٍ من الشريكين للآخر.

وفي «معاني الآثار» : إن قيل: لِمَ أوْجَبْتَ الشّفعة على هذا الترتيب ولم تَجْعَلْهَا لهم جميعاً إذا حضروا وطلبوا؟ قيل: لأنّ الشّريك في المبيع خليطٌ فيه وفي الطريق، فمعه من أسباب الشفعة مثلما مع الشريك في الطريق، وسبب آخر ليس مع الشريك في الطريق

(1)

، فكان أولى منه ومع الشّريك في الطريق شركةٌ فيها ومُلازَقةٌ

(2)

للمبيع، ومع الجار ملازقة للمبيع فقط، فكان الشّريك في الطريق أولى من الجار. وفي «شرح مختصر القُدُورِيّ»: ولو سلّم الشريك في المبيع الشفعة وجبت للشريك في الطريق، فإن سلّمها وجبت للجار.

(ويَطْلُبُهَا) أي ويطلب الشفيع الشفعة لأنّها حقٌّ ضعيفٌ يبطل بالإعراض، فلا بدّ فيه من الطلب بما يفهم منه طلب الشُّفعة، ولو كان ماضياً في الأصحّ كـ: طلبت الشفعة إذا طلبها، أو: أنا طالبها، وهو اختيار الفقيه أبي جعفر، والفقيه أبي الليث، والشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل، لأنّ الاعتبار للمعنى. وقال بعضهم: يقول: أطلب الشفعة وآخذها، ولا يقول: طلبتها وأخذتها. فإن قال ذلك بطلت شفعته لأنّ ذلك كذبٌ محضٌ. قلنا: يُذكر للحال عرفاً كبعت واشتريت.

(1)

وهو اختلاط ملكه بالشيء المبيع. شرح معاني الآثار 4/ 124.

(2)

في المخطوط ملازمة، والمثبت من المطبوع.

ص: 391

في مَجْلِسِ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ، وَهُوَ طَلَبُ مُوَاثَبَةٍ، ثُمَّ يُشْهِدُ عَلَى طَلَبِهِ عِنْدَ العَقَارِ أوْ ذِي يَدٍ مِنْ بَائِعٍ، أوْ المُشْتَرِي، فَإِنْ أخَّرَ أحَدَهُمَا بَطَلَتْ.

ثُمَّ يَطْلُبُ عِنْدَ القَاضِي، وَبَتأْخِيرِه شَهْرًا تَبْطُلُ عِنْدَ مُحَمّدٍ، وَبِهِ

===

(في مَجْلِسِ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ) ليعلم بذلك عدم إعراضه عنه، وهذا عند أبي حنيفة إذا أخبره رجلان، أو رجل وامرأتان، أو عدل. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إذا أخبره واحدٌ، حراً كان أو عبداً، وصبياً كان أو امرأةً. وهي نظير اختلافهم في عزل الوكيل. وقوله: في مجلس علمه بالبيع رواية هشام عن محمّد أنّه يشترط الطلب في مجلس العلم، إن طلب فيه صحّ، وإن قام عنه قَبْلَه بطلت، وبه أخذ الكَرْخِيّ. وفي ظاهر الرواية: كما علم بالبيع من غير مهلة، واختارها العامة، سواء كان عنده أحد أو لم يكن، لقوله عليه الصلاة والسلام «الشُّفعة كحلّ العِقَال» . رواه ابن ماجه في «سننه» عن ابن عمر.

(وَهُوَ) أي طلب الشفيع في مجلس علمه (طَلَبُ مُوَاثَبَةٍ) سُمِّي به للدلالة على غاية التعجيل، حتّى كأنّ الشفيع ليثب ويطلب. روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن شُرَيْح أنّه قال: إنما الشّفعة لمن واثبها.

(ثُمَّ يُشْهِدُ) الشفيع (عَلَى طَلَبِهِ).

قال قاضيخان: إذا صدر منه طلب المواثبة يحتاج إلى طلب الإشهاد. (وإنما سُمّى الثاني طلب الإشهاد)

(1)

لأنّ الإشهاد شرط، بل ليمكنه إثبات الطلب عند إنكار الخصم. وكيفية هذا الطلب: أنْ ينهض من مجلس علمه، ويُشْهِدَ على طلبه، (عِنْدَ العَقَارِ) لتعلّق الحق به. (أوْ) عند (ذِي يَدٍ مِنْ بَائِعٍ) بأن كان لم يسلّم العقار إلى المشتري، لأن له حينئذٍ يداً فكان خصماً. (أوْ) عند (المُشْتَرِي) ولم يكن ذا يد، لأنّ الملك له. ويقول الشفيع: إنّ فلاناً اشترى هذه الدار وأَنا شفيعُها وكنت طلبت الشفعة، وأَنا الآن أطلبها فاشهدوا على ذلك.

(فَإنْ أخَّرَ) الشفيع (أحَدَهُمَا) أي أحد هذين الطلبين (بَطَلَتْ) الشفعة. أمّا الطلب الأوّل فلأن مجرد السكوت فيه ساعةً دليل الإعراض، ودليلُ الشيء كصريحه. وأمّا الطلب الثّاني فلأن مدتَه مقدرةٌ بالتمكن منه نفياً للضرر عن المشتري.

(ثُمَّ يَطْلُبُ) الشفيع (عِنْدَ القَاضِي) ويسمّى طلب الخصومة، وبتأخيره لا يبطل طلب الشُّفعة عند أبي حنيفة رحمه الله، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله. وفي «الهداية» ، «والكافي»: وعليه الفتوى. (وَبَتأْخِيرِه شَهْراً) من غير عذر مرضٍ أو حبسٍ. وفي نسخة: وتأخيره شهراً (تَبْطُلُ عِنْدَ مُحَمّدٍ) وهو قول زُفَر، واختيار الكَرْخِي (وَبِهِ) أي بقول محمد

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 392

يُفْتَي.

فَإِذَا طَلَبَ سَأَلَ القَاضِي الخَصْمَ، فَإنْ أَقَرَّ بِمِلْكِ مَا يَشْفَعُ بِهِ، أوَ نَكَلَ عَنِ الحَلِفِ عَلَى العِلْم بأنّهُ مَالِكُهُ، أوْ بَرْهَنَ الشَّفِيعُ، سَأَلَهُ عَنِ الشِّرَاءِ، فَإِنَّ أقَرَّ بِهِ، أوْ نَكَلَ عِنِ الحَلِفِ، أوْ بَرْهَنَ الشَّفِيعُ، قَضَى لَهُ بِهَا،

===

(يُفْتَى) اليوم. والمعنى: أنّ تصحيح صاحب «الذخيرة» والمُفْتِي قاضيخان في «جامعه الصغير» أصحّ من تصحيح غيرهما.

(فَإِذَا طَلَبَ) الشفيع عند القاضي (سَأَلَ القَاضِي الخَصْمَ) عن ملك الشفيع ما يشفع به، فإن أنكر الخصم أنه مِلْكه كلّف القاضي الشفيع بإقامة البيّنة على أنه ملكه. وقال زُفَر ـ وهو رواية عن أبي يوسف ـ لا يكلّف على ذلك، لأنّ اليد دليل الملك. فإن عجز الشفيع عن إقامة البيّنة استحلف القاضي الخصم عند أبي يوسف أنّه ما يعلم أنّ الشفيع مالك لما يطلب به الشفعة، (وعند محمد استحلفه على البتات، فيحلف بالله ما الشفيع بمالكٍ لِمَا يطلب به الشّفعة)

(1)

.

(فَإنْ أَقَرَّ) الخصم (بِمِلْكِ) الشفيع (مَا يَشْفَعُ بِهِ أوَ نَكَلَ) الخصم (عَنِ الحَلِفِ عَلَى العِلْمِ) على أحد (القولين)

(2)

(بأنّهُ) أي الشفيع (مَالِكُهُ) أي مالك لما يشفع، به (أوْ بَرْهَنَ الشَّفِيعُ) على ملكه (لِمَا شفع، ثبت ملكه لما)( 2) يشفع به وحينئذٍ (سَأَلَهُ) أي القاضي الخصم (عَنِ الشِّرَاءِ) فإن أنكر، أَمَر القاضي الشفيع بإقامة البينة، فإن عجز الشَّفيع عن البينة استحلف الخصم إن كان المشتري: بالله ما اشتريت هذه الدّار، وإن كان البائع: بالله مابعت هذه الدّار (فَإِنَّ أقَرَّ) الخصم (بِهِ) أي بالشّراء (أوْ نَكَلَ عِنِ الحَلِفِ أوْ بَرْهَنَ الشَّفِيعُ) على الشِّراء (قَضَى) القاضي (لَهُ) أي للشفيع (بِهَا) أي بالشُّفعة لثبوتها.

وينبغي للقاضي قبل سؤال الخصم أن يسأل الشفيع عن موضع الدّار من مصرها، ومحلّتها، وحدودها، لأنه ادعى حقاً فيها، فصار كما لو ادّعى ملك رقبتها. فإذا بيّن (سأله هل قبض المشتري الدّار أم لا؟ لأنه إذا لم يقبضها لا تصحّ دعواه على المشتري حتّى يحضر البائع، فإذا بيّن)(1) سأله عن سبب شفعته، وحدود ما يشفع به. لأنّ الناس يختلفون فيه، فلعلّ دعواه سبب غير صالحٍ، أو لعله محجوبٌ بغيره. فإذا بيّن سبباً صالحاً وأنه غير محجوب بغيره سأله متى علم؟ وكيف صنع حين علم؟ لأنّ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 393

فَلَزِمَهُ إحْضَارُ الثَمَّنِ، وَيَحْبِسُ الدّارَ لَهُ.

وَلَا يَسْمَعُ البَيِّنَةَ عَلَى بَائِعٍ حَتَّى يَحْضُرَ المُشْتَرِي، فَيَفْسَخُ بِحُضُورِهِ، وَيَقْضِي بِالشُّفْعَةِ وَالعُهْدَةِ عَلَى البَائِعِ.

وَلِلشَّفِيعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَالعَيْبِ، وَإنْ شَرَطَ المُشْتَرِي البَرَاءَةَ مِنْهُ.

===

الشّفعة تبطُل بطول الزّمان، وبالإعراض وبما يدلّ عليه، فإذا بيّن سأله عن طلبه الإشهاد كيف كان؟ وعند من أشهد؟ وهل كان الذي أشهد عنده أقرب من غيره؟ فإذا بيّن ولم يخلّ بشيءٍ من الشروط، تمّت دعواه، فيسأل الخصم حينئذٍ كما مرّ.

(فَلَزِمَهُ) أي إذا قضى القاضي بالشُّفعة لزم الشفيع (إحْضَارُ الثَمَّنِ) من غير مهلةٍ (وَيَحْبِسُ) المشتري (الدّارَ لَهُ) أي لأجل الثَّمن حتّى يدفعه الشفيع إليه (وَلَا يَسْمَعُ) القاضي (البَيِّنَةَ عَلَى بَائِعٍ) لم يسلّم العَقَار إلى المشتري (حَتَّى يَحْضُرَ المُشْتَرِي فَيَفْسَخ) القاضي البيع (بِحُضُورِهِ وَيَقْضِي بِالشُّفْعَةِ) لأنّ الملك للمشتري واليد للبائع والقاضي يقضي بهما للشفيع، فلا بدّ من حضورهما.

قيّد بالبائع، لأنّ المشتري الذي سلّم البائع إليه العَقَار إذا خاصمه الشفيع لا يشترط في سماع البيّنة عليه حضور البائع، لأنّ حكم العقد في حقّ البائع قد انتهى بالتسليم إلى المشتري، فصار البائع كأجنبيٍ آخر. وقيّدنا البائع بكونه لم يسلّم العقار إلى المشتري، لأنّ الذي سلّمه إليه لا يسمع القاضي البيّنة عليه أصلاً، ولا يكون خصماً للشفيع. وفي قوله:«فيفسخ بحضوره» إشارةٌ إلى علّةٍ أخرى، وهي أنّ البيع إذا كان ينفسخ في حقّ المشتري، فلا بد من حضوره ليقضي بالفسخ عليه.

(وَالعُهْدَةِ) أي ويقضي بعهدة الحقوق فيما أخذ الشفيع بمخاصمة البائع (عَلَى البَائِعِ) فعليه التّسليم وضمان الثّمن عند الدَّرَك

(1)

. وقال الشّافعي: العهدة على المشتري سواءٌ أخذها من يد البائع أو المشتري، لأنّ حقوق العقد عنده ترجع إلى المالك.

(وَلِلشَّفِيعِ) إذَا قضى القاضي له بالشّفعة ولم يكن رأى المبيع (خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَ) له إذا وجد به عيباً خيار (العَيْبِ) فيردّ إن شاء (وَإنْ شَرَطَ المُشْتَرِي) للبائع (البَرَاءَةَ مِنْهُ) من العيب، لأن الأخذ بالشُّفعة بمنزلة الشِّراء. ألا ترى أنه مبادلة مالٍ بمالٍ؟ فيثبت للشفيع فيه خيار الرّؤية والعيب كما في الشراء، ولا يسقط مَا لَهُ من خيار الرّؤية برؤية

(1)

الدَّرَك: ما يأخذه المشتري من البائع رهنًا بالثمن خوفًا من استحقاق المبيع. معجم لغة الفقهاء، ص 208.

ص: 394

والقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ، وَبَيِّنَةُ الشَّفِيعِ أَحَقُّ مِنْ بَيِّنَتِهِ.

وَلَوِ ادّعى المُشْتَرِي ثَمَنًا، وَبَائِعُهُ أَقَلَّ مِنْهُ، أخَذَ بِقَوْلِهِ قَبْلَ القَبْضِ، وَبَقَوْلِ المُشْتَرِي بَعْدَهُ، وَفي حَطِّ بَعْضِ الثَّمَنِ، أوْ في زِيَادَتِهِ بِأَقَلِّهِما، وَفي حَطِّ الكُلِّ بالكُلِّ.

وَفي الشِّرَاء بِثَمَنٍ مِثْلِيٍّ بِمْثِلهِ،

===

المشتري، ولا ما له من خيار العيب بشرط المشتري للبائع البراءةَ منه، لأنه لا يملك إسقاط حقّ الشّفيع.

(والقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي) أي إذا اختلف مع الشفيع (في الثَّمَنِ) لأنّ الشفيع يدّعي استحقاق العَقَار عليه عند نقد الأقلّ وهو ينكر، والقول قول المنكر مع يمينه (وَبَيِّنَةُ الشَّفِيعِ) إذا أقام كلّ منهما بيّنة على صحة قوله (أَحَقُّ مِنْ بَيِّنَتِهِ) أي المشتري وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: بيّنة المشتري، أحقّ، لأنها أكثر إثباتاً، فصارت كبيّنة البائع إذا اختلف مع المشتري في قدر الثَّمن. ولهما: أنه لا تنافي بين البيّنتين في حقّ الشّفيع لاحتمال أنّه اشترى مرةً بالأقلِّ ومرةً بالأكثر، وللشفيع أن يأخذ بأيّهما شاء.

(وَلَوِ ادّعى المُشْتَرِي ثَمَناً، وَ) ادّعى (بَائِعُهُ) ثمناً (أَقَلَّ مِنْهُ أخَذَ) الشفيع العَقَار (بِقَوْلِهِ) أي بقول البائع (قَبْلَ القَبْضِ) أي قبل قبض البائع الثّمن، لأنّ الثّمن إن كان كما قال البائع فظاهر، وإن كان كما قال المشتري فقد حطّ البائع من الثمن، والحطّ عن المشتري حطٌّ عن الشفيع. قيّد ما ادّعاه البائع بكونه أقلّ مما قال المشتري، لأنّه لو كان أكثرَ تَحَالَفَا وترادّا، وأيهما نكل ظهر أَنّ الثَّمن ما يقوله الآخر، فيأخذها الشفيع بذلك لأنّ النكول بمنزلة الإقرار ممّا يدعيه صاحبه، وإن حلفا فسخ القاضي العقد بينهما وأخذها الشفيع بما قال البائع، لأنّ فسخ البيع لا يوجب بطلان حقّ الشفيع، كما لو ردّ عليه بعيب بقضاء قاضٍ.

(وَ) أخذ الشَّفيع العَقار (بَقَوْلِ المُشْتَرِي بَعْدَهُ) أي بعد قبض البائع الثّمن، (وَ) أخذ الشفيع (في حَطِّ بَعْضِ الثَّمَنِ) سواء كان الحطّ قبل أخذ الشفيع أو بعده (أوْ في زِيَادَتِهِ) أي زيادة المشتري الثَّمن (بِأَقَلِّهِما) متعلّق بـ «أخذ» . وإنّما أخذ فيهما بالأقلّ، لأنّ الحطّ من الثمن والزيادة فيه يلتحقان عندنا بأصل العقد، إلاّ أنّ الزِّيادة لا تظهر في حقّ الشفيع لتضرّره بها، وتظهر في حقّ المشتري لولايته على نفسه.

(وَ) أخذ الشفيع (في حَطِّ الكُلِّ بالكُلِّ) لأنّ حطّ الكل لا يلتحق بأصل العقد، إذ لو التحق به لكان هبةً أو بيعاً بلا ثمنٍ وهو فاسدٌ، ولا شفعة فيهما. (وَ) أخذ الشفيع (في الشِّرَاء بِثَمَنٍ مِثْلِيَ) كيليّ، أو وزنيّ، أو عدديّ متقارب (بِمْثِلهِ) الباء

ص: 395

وَفي بِثَمَنِ غَيْرِهِ بِقِيمَةِ الثَّمَنِ. فَفِي عَقَارٍ بِعَقَارٍ، أُخِذَ كُلٌّ بِقِيمَةِ الآخَرِ، وَفِي ثَمَنٍ مُؤَجّلٍ بِحَالٍّ، أوْ طَلَبَ في الحَال، وَأَخَذَ بَعْدَ الأَجَلِ.

وَفي بِنَاءِ المُشْتَرَى وَغَرْسِهِ بالثَّمَنِ وَقِيمَتِهِمَا مَقْلُوعَيِنْ، أوْ كُلِّفَ المُشْتَري قَلْعَهُمَا، وَلَيْسَتْ إلّا في بَيْعٍ أوْ في هِبَةٍ بِعِوَضٍ، وَلَا في شَجَرٍ، وَلَا في ثَمَرٍ بِيعَا قَصْدًا،

===

الأولى متعلقة بالشراء، والثانية بـ:«أخذ» المقدّر.

(وَ) أخذ الشفيع (في) الشّراء (بِثَمَنِ غَيْرِهِ) أي غير المثلي (بِقِيمَةِ الثَّمَنِ) لأنّ الشرع جعل للشفيع ولاية التّملّكَ على المشتري بمثل ما يملك به. والمثل نوعان: كامل: وهو صورة ومعنًى، وقاصر: وهو المِثْل معنًى. والمثليّ من النوع الأول، وغيره من النوع الثّاني، فيراعى في أخذ الشُّفعة ذلك كما في الاتلاف.

(فَفِي) شراء (عَقَارٍ بِعَقَارٍ أُخِذَ كُلٌّ) من العقارين بالشفعة (بِقِيمَةِ الآخَرِ) لأنّ كلاً منهما ثمن للآخر وهو من ذوات القيمة.

(وَفِي ثَمَنٍ) أي وأخذ الشفيع في بيع عَقارٍ بثمنٍ (مُؤَجّلٍ بِحَالَ) كل من الجارين متعلّقٌ بـ: «أخذ» المقدّر (أوْ طَلَبَ) الشفعة عطف على أخذ المقدّر (في الحَالِ) بتخفيف اللام بمعنى الوقت (وَأَخَذَ بَعْدَ الأَجَلِ) الذي وقع العقد عليه حتّى لو لم يطلب (في الحال بطلت)

(1)

شفعته، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف أخيراً. (وَ) أخذ الشفيع (في بِنَاءِ المُشْتَرَى وَغَرْسِهِ بالثَّمَنِ وَقِيَمتِهِمَا) أي البناء والغرس (مَقْلُوعيْنِ أوْ كُلِّفَ المُشْتَري قَلْعَهُمَا) وعند أبي يوسف رحمه الله: لا يكلّفه ولكنه إن شاء أخذ بالثمن وقيمة البناء والغرس مقلوعين، وإن شاء ترك.

(وَلَيْسَتْ) الشّفعة (إلاّ في بَيْعٍ) أي بسبب بيعٍ (أوْ في هِبَةٍ بِعِوَضٍ) أي مصاحبة بعوضٍ فلا شفعة في دارٍ تزوّج الرجل عليها، أو خالع المرأة بها، أو استأجر بها داراً أو غيرها، أو صالح بها عن دمِ عمدٍ، أو أعتق عليها عبداً. وقال الشّافعيّ: يجب فيها الشّفعة لأنّ كلاً منها عقد معاوضة فثبتت الشُّفعة في العَقار المملوك بسببه كالبيع. ولنا: أنّها تملكات بسببٍ لا يثبت فيها خيار الشرط، فلا يجب فيها الشّفعة، كالملك بالهبة المحضة، والوصية، والميراث.

(وَلَا في شَجَرٍ) عطفٌ على ما قبله بالمعنى، أي ولا شفعة في نكاحٍ، ولا خلع إلى أخر العقود التي ليست ببيع ولا هبةٍ بعوضٍ (وَلَا في ثَمَرٍ) بالمثلثة (بِيعَا) أي الشجر والثمر (قَصْداً) أي بدون أرضٍ، فإنهما لو بيعا معها كان فيهما الشفعة تبعاً لها. وكذا لا

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 396

وَلَا في البَيْعِ بِخِيَارٍ إلّا بَعْدَ سُقُوطِهِ، وَلَا في البَيْعِ الفَاسِدِ إلّا بَعْدَ سُقُوطِ فَسْخِهِ، وَلَا في رَدٍّ بِخِيارٍ إلّا خِيَارِ عَيْبٍ بِلَا قَضَاءٍ، وَلَا لِمَنْ بَاعَ أوْ بِيعَ لَهُ، أو ضَمِنَ الدَّرَكَ،

===

شفعة في بناءٍ بِيع قصداً، وفيه الشفعة لو بيع مع الأرض، لأنّ هذه الأشياء نقلية، ولا شفعة في نقليّ لأن الشفعة إنّما وجبت في العَقَار، لدفع ضرر سوء الجوار على الدّوام. والملك في النقليّ لا يدوم مثل دوامه في العقار كما أشار إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:«اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة» . فإنّ جار البادية يتحوّل

(1)

.

(وَلَا) شفعة (في البَيْعِ) بسبب البيع (بِخِيَارٍ) للبائع، لأنّ خِياره يمنع خروج المبيع عن ملكه (إلاّ بَعْدَ سُقُوطِهِ) أي سقوط الخيار بأن أسقط البائع، لأنّ المانع من خروج المبيع عن ملكه قد زال، فصار البيع كأنّه وقع لازماً من الأصل. قيدّنا الخيار بكونه للبائع كما هو الظاهر من البيع بخيار، لأنّ خيار المشتري يوجب الشّفعة. أمّا عند أبي يوسف ومحمد فلأنّ المشتري صار مالكاً. أمّا عند أبي حنيفة رحمه الله فيخرج المبيع عن ملك البائع، وحقّ الشفعة. يعتمد انقطاع حقّ البائع لا ثبوت الملك للمشتري، حتّى لو أقرّ البائع بالبيع وأنكر المشتري تجب الشفعة.

(وَلَا) شفعة (في البَيْعِ) أي في عَقار البيع (الفَاسِدِ) أمّا قبل قبض المبيع، فلعدم زوال الملك عنه. وأمّا بعد قبضه، فلاحتماله للفسخ، لأن كلّ واحدٍ من المتعاقدين بسبيلٍ من فسخه، إذ فسخه حقّ الشّرع، وفي إثبات الشّفعة إسقاط حقّ فسخه، وفي إسقاط حقّ فسخه تقرير فساده (إلاّ بَعْدَ سُقُوطِ فَسْخِهِ) فإن باعه المشتري من آخَر فإنّ فيه الشفعة، لأنّ امتناع حقّ الشفعة إنّما كان لثبوت حقّ الفسخ وقد سقط، فصار كما لو كان في البيع خِيار البائع فأسقطه.

(وَلَا) شفعة (في رَد) أي بسبب ردّ عقار (بِخِيارٍ) سواء كان خيار رؤية أو شرط أو عيب (إلاّ) في ردَ بسببِ (خِيَارِ عَيْبٍ بِلَا قَضَاءٍ) لأنّ الشّفعة ثبتت فيه خلافاً لزُفَر (وَلَا) شفعة (لِمَنْ بَاعَ) سواء كان وكيلاً أو أصيلاً، لأنّ أخذه بالشفعة سعيٌّ في نقض ما تمّ به، وهو الملك للمشتري، وسعيُ الإنسان في نقض ما تمّ به مردودٌ.

(أوْ بِيعَ لَهُ) أي ولا شفعة لمن بيع لأجله وهو المُوَكِّلُ بالبيع، لأنّ تمام البيع له، إذ لولا توكيله لَمَا جاز ذلك البيع.

(أو ضَمِنَ الدَّرَكَ) أي ولا شفعة لمن ضمن عن البائع ما يلحقه في ذلك البيع،

(1)

أخرجه النسائي في سننه 8/ 275، كتاب الاستعاذة (50)، باب الاستعاذة من جار السوء (44)، رقم (5517)، بلفظ:"تَعَوَّذوا بالله من جار السوء في دار المقام، فإن جار البادية يتحوَّل عنك".

ص: 397

بَلْ لِمَنْ شَرَى أو اشْتُرِيَ لَهُ.

[مُبْطِلاتُ الشُّفْعَةِ]

وَيُبْطِلُهَا تَسْلِيمُهَا بَعْدَ البَيْعِ لَا قَبْلَهُ، وَالصُلْحُ مَعَ بُطْلَانِهِ، وَمَوْتُ الشَّفِيعِ لَا المُشْتَرِي، وَبَيْعُ مَا يَشْفَعُ بِهِ قَبْل القَضَاءِ.

===

لأنّ في ضمانه تقريراً للبيع فكان كالبائع. (بَلْ) الشّفعة (لِمَنْ) أي الشفيع (شَرَى أو اشْتُرِيَ لَهُ) وأجاز، لأنّ الشّفعة تبطل بإظهار الشّفيع الرّغبة عن المشفوع، ولا تبطل بإظهار الرّغبة فيه. وفي الشراء إظهار الرّغبة فيه، فلا يكون إبطالاً للشّفعة. وفي البيع إظهار الرغبة عنه، فيكون إبطالاً لها. وفائدة ذلك أنه لو كان المشتري أو الموكَّل بالشِّراء شريكاً في الدَّار ولها شريك آخر، فلكل منهما الشفعة. ولو كان هو شريكاً وللدار جارٌ، فلا شفعة للجار.

(مُبْطِلاتُ الشُّفْعةِ)

(وَيُبْطِلُهَا) أي الشفعة (تَسْلِيمُهَا بَعْدَ البَيْعِ) لأنّ الشفيع أسقط حقّه بعد تقرر سببه (لَا قَبْلَهُ) أي لا يُبطِل الشفعة تسليمُها قبل البيع، لأنّه أسقطها قبل وجود سببها إن كان سببها البيع، وقبل وجود شرطه إن كان سببها اتصال الأَملاك، والبيع شرطه، وهو الصحيح. (وَ) يبطلها (الصُلْحُ) أي صلح الشفيع عن شفعة على عَوِضٍ (مَعَ بُطْلَانِهِ) أي بطلان الصلح، لأنّه أسقطها باختياره فيردّ العوض لأنّه أخذه بغير استحقاقٍ، لأنّ المال لا يستحقّ إلا بمقابلة ملك، وحقّ الشفعة ليس بملك بل حقّ تملُّكٍ، فلا يصحّ الاعتياض عنه.

(وَ) يُبْطِلُها (مَوْتُ الشَّفِيعِ) بعد البيع قبل القضاء بالشفعة، ولا ينتقل حقّ الأخذ بالشفعة إلى وارثه. وقال مالك والشّافعيّ: ينتقل لأنّه حقّ ثبت لإزالة الضَّرر عن المال فكان موروثاً. ولنا: أَنّ حقّ الشفعة حقُ تملكٍ وهو وصفٌ قائمٌ بالشفيع، فلا ينتقل إلى وارثه بعد موته.

قيّدنا بـ: قَبْل القضاء بالشفعة، لأنّ موت الشفيع لو كان بعد القضاء قبل نَقْد الثّمن وقبض المبيع لا يُبْطِلُ شفعته والبيع لازمٌ لوارثه (لَا المُشْتَرِي) أي لا يُبْطِل الشّفعةَ موتُ المشتري، لأنّ المُسْتَحَقَّ باقٍ، وبموت المُسْتَحَقّ عليه لم يتغير الاستحقاق، بخلاف موت المُسْتَحِقّ وهو الشفيع، لأنّ السبب الذي يأخذ به وهو ملكه زال بموته، والثابت للوارث جُوَارٌ أو شركةٌ حادثة بعد البيع فلا تستحقّ به الشفعة.

(وَ) يُبطلها (بَيْعُ) الشّفيع (مَا يَشْفَعُ بِهِ) بلا خِيار للبائع (قَبْل القَضَاءِ) له

ص: 398

وشفَعَ حِصَّةَ أحَدِ المُشْتَرِينَ لَا أَحَدِ البَاعَةِ. فإن سَلَّمَ شَرَاءَ زَيْدٍ، فَظَهَرَ شِرِاءُ غَيْرِهِ. أوْ الشَّراءَ بِأَلْفٍ فَظَهَرَ بِأَقَلَّ، أوْ بِمِثْلِيّ، لَا تَسْقُطُ. لَا إنْ ظَهَرَ بِقِيمِيّ قِيمَتُهُ ألْفٌ أوْ أكَثَرُ.

===

بالشّفعة، لأن الاستحقاق بالجِوار أو بالشركة، وقد زال قبل التملك. قيّدنا بعدم خِيار البائع، لأنّ الشفيع لو باع ما يشفع به على أنه بالخِيار لا تبطل شفعتُه، لأنّ ملكه لم يَزل فوجد سبب الشفعة وهو الاتصال بملكه.

(وشَفَعَ) أي أخذ الشفيع بالشفعة (حِصَّةَ أحَدِ المُشْتَرِينَ) من بائعٍ واحدٍ، لأن هذا الأخذ ليس فيه ضرر التفريق لقيام الشفيع مقام المأخوذ حصته. والصحيح أن لا فرق بين قبل القبض وبعده. (لَا أَحَدِ البَاعَةِ) أي ولا يأخذ الشفيع حصّة أحد البائعين من مشترٍ واحدٍ، بل إمّا أن يأخذ المشفوع كلّه أو يترك كلّه، لأنّ في أخذ حصة أحد الباعة إضراراً بالمشتري بتفريق الصَّفْقة عليه.

(فإِن سَلَّمَ)، أَي إِذا أخبر بأَن المشتري زيدٌ فسلّم (شَرَاءَ زَيْدٍ فَظَهَرَ شِرِاءُ غَيْرِهِ، أوْ) بلغه أَنّ الثمن ألف فسلّم (الشَّراءَ بِأَلْفٍ فَظَهَرَ) أَنَّه (بِأَقَلَّ أوْ بِمِثْلِيّ)، قيمته ألفٌ أو أكثر (لَا تَسْقُطُ) الشفعة.

أَمّا إذا ظهر أنّ المشتري غير زيدٍ فلتفاوت النّاس في الجوار والشركة، وأمّا إذا ظهر أنّ الثمن أقل أو أنه مِثْليّ فلأنّ تسليمه في كثرة الثّمن لا يدلّ على تسليمه في قِلَّته، وتسليمه في أحد الجنسين لا يكون تسليماً في الآخَر إذ رُبّما يتعذّر عليه ما سلّم فيه ويسهل عليه الآخَر.

(لَا إنْ ظَهَرَ) أنّ الشراء (بِقِيِميّ قِيمَتُهُ ألْفٌ أوْ أكَثَرُ) فإن شفعته تسقط، لأنه إنما يأخذ القيميّ بقيمة دراهمٍ أو دنانير. ولو بلغه أنّ المشتري زيدٌ فظهر أنّه زيدٌ وعمرٌو فله أن يأخذ نصيب عمرو، لأنّ التسليم لم يوجد في حقّه. ولو باعها إلاّ ذراعاً من جانب الشفيع بطول الحد الذي يليه امتنعت الشفعة لانقطاع الجوار، وهذه حيلةٌ لإسقاط الشفعة.

وإن ابتاع سهماً منها ثم ابتاع بقيتها تجب الشفعة في السهم الأوّل فقط، لأنّ الشَّفيع جارٌ إلاّ أن المشتري في الثّاني شريكٌ، لأنه حين اشترى الباقي كان شريكاً بشراء الجزء الأوّل، واستحقاق الشفيع الجزء الأوّل لا يبطل شفعة المشتري في الجزء الثّاني قبل الخصومة، لكونه في ملكه بعد فيتقدّم على الجوار. وإن ابتاعها بثمنٍ غالٍ ثم دفع ثوباً عن الثَّمن يؤخذ بالثَّمَن لا بالثوب، لأنّه عقدٌ آخر والثمن هو العوض عن الدّار. وهذه حيلة لتقليل الرّغبة في الشفعة، وهي تعم الجوار والشركة،

ص: 399

‌كِتَابُ القِسْمَةِ

هِيَ تَعْيِينُ الحَقِّ الشَائِع. وَغَلَبَ فِيَها الإفْرَازُ في المِثْلِيّ،

===

والله تعالى أعلم.

كتاب القِسْمَةِ

(هِيَ) لغةً: اسمٌ للاقتسام. وشرعاً: (تَعْيِينُ الحَقِّ الشَائِع). وجوازها بالكتاب والسُّنَّةِ وإجماع الأمة. أمّا الكتاب تلويحاً فقوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ}

(1)

، وتصريحاً قوله تعالى:{واعْلَمُوا أنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}

(2)

الآية. ولا يُعلم الخُمْس من الأربعة أخماس إلاّ بالقسمة، وقوله سبحانه {ونَبِّئْهُمْ أنْ المَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ}

(3)

الآية، {وَلَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}

(4)

، والمناوبة في الشِّرْب قِسمةٌ فيه.

وأمّا السُّنَّة فإنه صلى الله عليه وسلم قسَم غنائم خَيْبَر بخَيْبَر، وغنائم أوْطَاس بأَوطاس، وغنائم بني المصُطَلِق بمياههم. وروى أبو داود والتِّرمذي وابن ماجه عن عبد الله بن محمّد بن عُقَيْل

(5)

، عن جابر بن عبد الله أنّ امرأة سعد بن الرّبيع قالت: يا رسول الله، إن سعداً هلك وترك ابنتين وأخاه، فعمد أخوه بقبض ما ترك سعد، وإنّما تنكح النّساء على أموالهن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ادعي إليّ أخاه» . فجاء، فقال:«ادفع إلى ابنتيه الثلثين، وإلى امرأته الثُّمن، ولك ما بقي» . وأمّا الإجماع فلتوارث الأمة القسمة من غير نكير أحد من الأئمة.

ثُمَّ سببها طلب أحد الشّركاء الانتفاع بنصيبه بالخصوص على الخلوص، ويشتمل على الإفراز والمبادلة في المِثْلِيَّات والقِيْمِيَّات، لأن ما يجتمع لأحدهما بعضه كان له، وبعضه كان لصاحبه فهو يأخذه عوضاً عمّا بقي من حقّه في نصيب صاحبه فكان مبادلةً وإفرازاً.

(وَغَلَبَ) على المبادلة (فِيَها الإفْرَازُ) أي تَميُّز عينِ حقّه (في المِثْلِيّ) وهو الكيليّ، والوزنيّ، والعدديّ المتقارِب، لعدم التّفاوت بين أبعاض كلّ من هذه الأمور،

(1)

سورة الزخرف، الآية:(32).

(2)

سورة الأنفال، الآية:(41).

(3)

سورة القمر، الآية:(28).

(4)

سورة الشعراء، الآية:(155).

(5)

حُرِّفت في المطبوع والمخطوط إلى محمد بن عتيك. والصواب ما أثبتناه لموافقته لِمَا في سنن الترمذي 4/ 361، كتاب الفرائض (27)، باب ما جاء في ميراث البنات (3)، رقم (2092).

ص: 400

والمُبَادَلِةُ في غِيْرِ المِثْلِيّ. فَيَأْخُذُ كُلٌّ حِصَّتَهُ بِغَيْبَةِ صَاحِبِهِ ثَمَّةَ لَا هُنَا.

وَنُدِبَ نَصْبُ قَاسِم يُرْزَقُ مِنْ بَيْتِ المَالِ لِيَقْسِمَ بَيْنَهُمْ بِلَا أجْرٍ، وَإنْ نُصبَ بِأَجْرٍ صَحَّ، وَهُوَ عَدَدُ الرَّؤُوسِ.

===

لأنّ ما يأخذه الشريك مِثْل حقّه صورةً ومعنى، فأمكن أن يُجْعَل عين حقّه كما في القرض وقضاء الدين.

(و) غلب فيها (المُبَادَلِةُ في غِيْرِ المِثْلِيّ) وهو الثياب، والحيوان، والعَقَار لوجود التّفاوت بين أبعاضها، فلا يمكن أن يُجْعَلَ كأنّه أخذ عين حقّه (فَيَأْخُذُ كُلٌّ) من الشّركاء (حِصَّتَهُ بِغَيْبَةِ صَاحِبِهِ) يعني شريكه. وفي بعض النسخ: بغيبة الآخر (ثَمَّةَ) أي في المثلي، وهو بفتح المثلثة: اسم إشارة للمكان. ولو كانت القسمة فيه مبادلة لم يؤخذ لعدم العلم برضا صاحبه، لأنّ رضا العاقدين شرطٌ للمبادلة، (لَا هُنَا) أي لا يأخذ أحدٌ من الشّركاء في غير المثليّ حصته بغيبة صاحبه. ولو كانت القسمة فيه إفرازاً لكان له ذلك.

(وَنُدِبَ نَصْبُ قَاسِم) بين النّاس (يُرْزَقُ مِنْ بَيْتِ المَالِ لِيَقْسِمَ بَيْنَهُمْ بِلَا أجْرٍ) لأنّ منفعتها تعود إلى العامة، فيكون كفايته من بيت المال، كنفقة القضاة والمقاتلة والمُفْتِينَ (وَإنْ نُصِبَ) قاسمٌ (بِأَجْرٍ) على المتقاسمين (صَحَّ) لأنّ النفع لهم، والأول أوفق للناس

(1)

وأبعد عن التهمة، (وَهُوَ) أي الأجر إذا نُصِّبَ قاسمٌ بأجر (عَدَدُ الرَّؤُوسِ) عند أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قدر الأنصباء عند أبي يوسف ومحمد والشّافعيّ رحمهم الله، وهو رواية أبي حنيفة رحمه الله، لأنه مُؤْنَةٌ للملك فيقدر بِقَدْره كأجرة الكيّال، والوزّان، وحفر البئر المشتركة، ونفقة المملوك المشترك. وهذا لأنّ منفعة نصيب صاحب الكثير أكثر من منفعة صاحب القليل، والغُرْم بالغُنْم.

ولأبي حنيفة رحمه الله: أَنْ الأجر مقابل للتميز، وأَنّه لا يتفاوت. وربّما يصعب الحساب بالنظر إلى القليل وقد ينعكس الأمر، فيتَعذَّرُ اعتبارُهُ فيتعلّق الحكم بأصل التميز. وأجرة حفر البئر بمقابلة نقل التراب ونفقة المملوك لابقاء الملك، وحاجة صاحب الكثير إلى ذلك أكثر من حاجة صاحب القليل. وأمّا أجرة الكيّال، والوزّان، فقال بعض المشايخ: هو على الخلاف إن كان الكيل والوزن للقسمة، لأنّ الكيّال والوزّان بمنزلة القاسم، وإن لم تكن لها بأن اشتريا مكيلاً، أو موزوناً مجازفةً أثلاثاً، أو أرباعاً، وأمرا إنساناً بكيله ليصير الكلّ معلوم القدر، فالأجر بقدر الأنصباء، لأنّ

(1)

في المخطوط: أرفق بالناس، والمثبت من المطبوع.

ص: 401

وَيجِبُ كَوْنُهُ عَدْلًا، عَالِمًا بِهَا، وَلَا يُعَيَّنُ واحدٌ، وَلَا يَشْتَرِكُ القُسَّامُ.

وَقُسِمَ بِطَلَبِ أَحَدِهِمْ إنْ انْتَفَعَ كُلٌّ بِحِصَّتِهِ، وَبِطَلَبِ ذِي الكَثِيرِ فَقَطْ إنْ لَمْ يَنْتَفِعْ الآخَرُ لِقِلَّةِ حِصَّتِهِ.

وَلَا يُقْسَمُ إلّا بِطَلَبِهِمْ إنْ تَضَرَّرَ كُلٌّ لِلْقِلَّة،

===

الأجر في الكيل والوزن للعمل وهو لصاحب الكثير أكثر.

(وَيجِبُ كَوْنُهُ) أي القاسم (عَدْلاً) ديِّناً أميناً (عَالِماً بِهَا) أي بالقسمة، لأنّه يعتمد على قوله، وذا بالعدالة والأمانة، ولا بدّ من قدرته على القسمة وهي بالعلم بها.

(وَلَا يُعَيَّنُ) قاسمٌ (واحدٌ) إذا كان الأجر على المتقاسمين، لأنّه يتحكّم بالزّيادة على أجر مثله فيتضرّر به النّاس. (وَلَا يَشْتَرِكُ القُسَّامُ) لئلا يتواضعوا على مغالاة الأجر فيحصل الإضرار بالنّاس، بخلاف ما إذا (لم)

(1)

يشتركوا، فإنْ كل قاسم يسارع حينئذٍ إلى الأجر اليسير حذراً من الفوت فيرخص الأجر.

(وَقُسِمَ بِطَلَبِ أَحَدِهِمْ) جبراً على الآبي (إنْ انْتَفَعَ كُلٌّ) منهم (بِحِصَّتِهِ) لأنّ في القسمة تكميلَ المنفعة فكانت حقاً لازماً فيما يقبلها بعد طلب أحدهم. (وَ) قسم (بِطَلَبِ ذِي الكَثِيرِ فَقَطْ إنْ لَمْ يَنْتَفِعْ الآخَرُ) أي ذو القليل (لِقِلَّةِ حِصَّتِهِ) كذا ذكر الخَصَّاف. ووجهه: أَنْ صاحب الكثير مُنْتَفِعٌ بنصيبه فاعْتُبر طلبه، وصاحب القليل غير مَنْتَفِعٍ بنصيبه فلم يُعْتَبَرُ طلبه.

وتوضيحه أن الأوّل يطلب من القاضي أن يخصّه بالانتفاع بملكه، ويمنع غيره من الانتفاع بملكه، وهذا طلب انصاف لا تعنت، فعلى القاضي أن يجيبه إلى ذلك. ولا يُعْتَبر تضرّر الآخَر، لأنه يريد أنْ ينتفع بملك شريكه، وله أنْ يمنع غيره من الانتفاع بملكه. وأما الثّاني فمتعنتٌ في طلب القسمة، والقاضي يجيب المتعنت بالرَّدّ. وتَعَذُّر الانتفاع بنصيبه لِقِلته لا لمعنى من جانب صاحب الكثير. ثمّ العكس والإطلاق روايتان، والأصح الأول كما في «المبسوط» وغيره.

(وَلَا يُقْسَمُ) المشترك فيه بين المشتركين

(2)

(إلاّ بِطَلَبِهِمْ) كلِّهم (إنْ تَضَرَّرَ كُلٌّ) أي كل واحدٍ منهم (لِلّقِلَّة) أي لقلة حصته، لأنّ الجبر على القسمة لتكميل المنفعة، وفي هذه القسمة تفويتها. وإنما جازت بطلبهم لأنّ الحق لهم وهم أعرف لشأنهم.

وفي «شرح الكَنْزِ» : لكن القاضي لا يباشر ذلك وإن طلبوا منه، لأنّ القاضي لا يشتغل بما لا فائدة فيه، ولا سيما إذا كان فيه ضرر أو إضاعة مالٍ، لأنّ ذلك حرامٌ،

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

في المطبوع: الشريكين. والمثبت من المخطوط.

ص: 402

وَلَا الجِنْسَانِ، وَالرَّقِيقُ، وَالجَوَاهِرُ، وَالحَمَّامُ إلّا بِرِضَاهُمْ. وَدُورٌ مَشْتَرَكَةٌ، أوْ دَارٌ وَضَيْعَةٌ، أو دَارٌ وَحَانُوتٌ، قُسِمَ كُلٌّ وَحْدَهَا،

وَصَحَّتْ بالتَّرَاضِي

===

ولا يمنعهم من ذلك لأن القاضي لا يمنع مَنْ أقدم على إتلاف ماله.

(وَلَا) يُقْسَمُ (الجِنْسَانِ) من العروض، (وَ) لا (الرَّقِيقُ)، (وَ) لا (الجَوَاهِرُ)، (وَ) لا (الحَمَّامُ) وفي معناه البئر والرَّحى (إلاّ بِرِضَاهُمْ) أمّا الجنسان فلأنّه لا اختلاط بينهما، فلا تقع القسمة فيهما تميزاً بل معاوضة، وسبيلها التّراضي دون جبر القاضي. وأمّا الرّقيق فقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشّافعيّ رحمهم الله: يقسم لاتحاد الجنس وكون التفاوت في القيمة

(1)

، وهو لا يمنع صِحة القسمة كما في الإبل والغنم، ولذا يقسم الرقيق في الغنيمة بين الغانمين كسائر الأموال.

ولأبي حنيفة: أَنّ التّفاوت في الرّقيق أظهر منه في الأجناس المختلفة، فإنها قد تتفاوت في المالية، والرقيق يتفاوت تفاوتاً فاحشاً. ثمَّ قسمة الجبر لا تجري في الأجناس المختلفة فكذا في الرقيق، وهذا لأنّ حق الغانمين في المالية دون العين، حتّى كان للإمام بيعها وقسمة ثمنها بينهم، فكان المعتبر إيصال مقدار من المالية إلى كلّ واحدٍ.

وأمّا شركة الملك فحقّ الشُّركاء في العين والمالية، وللإمام حقّ التمييز بالقسمة على طريق المعادلة وليس له ولاية المعاوضة. فإذا تعذّر اعتبار المعادلة هنا بطريق التمييز لا يثبت للقاضي ولاية الإجبار على القسمة. وأمّا الجواهر فلأنّ جهالة الجواهر أفحش من جهالة الرّقيق. وأمّا الحمَّام ونحوها من البئر والرّحى والحائط بين دارين، فلأنّ القسمة لتكميل المنفعة، وإذا لم يبق كل نصيبٍ مُنَتفعاً به بعد القسمة انتفاعاً مقصوداً، لا يتحقق معنى القسمة، فلا يقسم القاضي. بخلاف التَّراضي لالتزامهم الضرر.

(وَدُورٌ) سواء كانت في مِصْر أو مصرين، وهو مبتدأ (مَشْتَرَكَةٌ) ـ بفتح الراء ـ صفته (أوْ دَارٌ وَضَيْعَةٌ، أو دَارٌ وَحَانُوتٌ) عطف، والخبرُ (قُسِمَ كُلٌّ) أي كل واحدة (وَحْدَهَا) ولم يجمع نصيب أحدهم في أحدها. أمّا الدّار والضيعة، والدّار والحانوت فبالاتفاق لاختلاف الجنس. وأمّا الدّور فما ذُكِر قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: تُقْسَمُ الدّور بعضها في بعضٍ إذا كانت في مصرٍ واحدٍ، وكانت القسمة خيراً لهم.

(وَصَحَّتْ) قسمة الدُّور المشتركة وما ذُكِرَ معها (بالتَّرَاضِي) على جمع نصيب أحد الشُّركاء في أحدها، لأنّ في القسمة معنى المبادلة فتصحّ بالتّراضي كسائر

(1)

في المخطوط: القسمة. والمثبت من المطبوع.

ص: 403

إلّا عِنْدَ صِغَرِ أَحَدِهِمْ. وَقُسِمَ نَقْليٌّ يَدَّعُونَ إِرْثَهُ بَيْنَهُمْ، وَعَقَارٌ يَدَّعُونَ شِرَاءَهُ أوْ مِلْكَهُ مُطْلقًا، فَإِنِ ادَّعَوا إرْثَهُ عَنْ زَيْدٍ لا، حَتَّى يُبَرْهِنُوا عَلَى مَوْتِهِ وعَدَدِ وَرَثَتِهِ، وَلَا إنْ بَرْهَنُوا أَنَّهُ مَعَهُمْ، حَتَّى يُبَرْهِنُوا أَنَّهُ لَهُمْ، وَلَا إنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْهُ مَعَ الَوارِثِ الطِفْلِ، أوْ الغَائِبِ

===

المعاوضات. (إلاّ عِنْدَ صِغَرِ أَحَدِهِمْ) فلا يصحّ إلاّ بأمر القاضي، لأنّ تصرّف الصغير لا ينفذ ولا ولاية لهم عليه.

(وَقُسِمَ نَقْليٌّ) أي منقولٌ (يَدَّعُونَ إِرْثَهُ بَيْنَهُمْ) لأنّ في القسمة نظراً لاحتياجه إلى الحفظ، ولأنه مضمونٌ على مَنْ وقع في يده. (وَ) قُسمَ (عَقَارٌ) في أيديهم (يَدَّعُونَ شِرَاءَهُ) في ظاهر الرواية، (أوْ مِلْكَهُ مُطْلقاً) بأن لم يذكروا كيفية انتقاله إليهم في الأصحّ، لأنّ القضاء بالقسمة فيه يقتصر عليهم ولا يتعدَّى إلى غيرهم إذا لم يُقرّوا أَنّ أصل الملك لغيرهم، (فَإنّ ادَّعَوا إرْثَهُ) أي العَقَار الذي في أيديهم (عَنْ زَيْدٍ) مثلاً بأن ذكروا مُوَرثهم (لا) أي لا يقسم العَقَار الذي ادّعَوا إرثه (حَتَّى يُبَرْهِنُوا) أي يقيموا البيّنة (عَلَى مَوْتِهِ وعَدَدِ وَرَثَتِهِ) وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله.

وقالا: يقسم القاضي العَقار بينهم بأقرارهم ويكتب ذلك في صك القسمة، لأنّه في أيديهم، واليد دليل الملك وقد أخبروا بالإرث من أبيهم. والأصل في إخبار المسلمِ الصدقُ، ولا منازع لهم فيما أخبروا، فيثبت المُخْبَرُ به. فإذا سألوا القاضي أن يقسم بينهم ملكهم فعليه أن يجيبهم إلى ذلك، تمكيناً لكل واحدٍ منهم من الانتفاع بنصيبه، كما في المنقول الموروث، والعَقَار المشترى. والبيّنة إنّما تكون على المُنكِر، ولا مُنْكر هنا ولا منازع لهم، فلا يفيد البيّنة. ولكن يذكر القاضي في كتاب القسمة أَنّها وقعت منه باعترافهم ليتذكر بالنظر فيه أَنّ حُكْم القسمة مقتصرٌ عليهم غير متعدٍ إلى غيرهم، حتّى لا يكون ذلك قضاء على شريك آخَر لهم، ولا على مالكٍ لها.

ولأبي حنيفة رحمه الله أَنْ المّيت يصير مقضيّاً عليه بقسمة القاضي، وقولهم ليس بحجة عليه فلا بدّ من إقامة البيّنة ليثبت بها القضاء على الميت، ويصير بعضهم مدعياً والبعض الآخر خصماً له عن الميّت.

(وَلَا) يُقْسم العَقَار (إنْ بَرْهَنُوا أَنَّهُ مَعَهُمْ) أي في أيديهم (حَتَّى يُبَرْهِنُوا أَنَّهُ لَهُمْ) أي ملكهم، لاحتمال أن يكون في أيديهم وهو ملك لغيرهم.

(وَلَا) يُقْسَم العَقَار بإقرار الحاضرين (إنْ كَانَ) جميعه أو (شَيْءٌ مِنْهُ مَعَ الَوارِثِ الطِفْلِ، أوْ) مع (الغَائِبِ) لأنّ في هذه القسمة قضاءً على الغائب، أو الصغير بإخراج شيءٍ ممّا في يده من غير خصمٍ حاضرٍ عنه. ولا فرق في هذا الفصل بين إقامة البيّنة وعدمها في الصحيح. ولو كان الحاضر كبيراً وصغيراً نَصَبَ القاضي عن الصغير وصياً وقسَم إذا أقيمت البيّنة، لأن للقاضي ولاية نصب الوصي عن الصغير، ووصي الصغير

ص: 404

وَلَا يُدْخِلُ الدَّراهِمَ في القِسْمَةِ إلّا بِرِضَاهُمْ.

وَإنْ وَقَعَ مَسِيلُ قِسْمٍ أوْ طَرِيقُهُ في قِسْمٍ آخَرَ، صُرِفَ عَنْهُ إنْ أمْكَنَ،

===

قائم مقامه، فكأنّ الصغير بالغٌ حاضرٌ.

وكيفية القسمة أن يصوّر القاسم ما يقسمه على القِرْطَاس ليمكنه حفظه، ويعدّله أي يسوّيه على السهام بأن ينظر إلى أقلّ السهام فيجزئه عليه، حتّى إن كان الأقل ثلثاً جعله أثلاثاً، وإن كان سُدُساً جعله أسداساً. ويُذْرِعُه ليعرف قَدْره، ويقوّم البناء، إذ ربّما يحتاج إليه، ويقرر كل نصيب بطريقه وشِرْبه، حتّى لا يكون لنصيب أحدهم تعلُّقٌ بنصيب الآخر. ويلقّب الأنصباء بالأوّل، والذي يليه بالثَّاني، والذي يليه بالثَّالث وعلى هذا. ثمّ يكتب أسامي الشّركاء في بطاقات ويطوي كلّ بطاقةٍ ويجعلها في قطعةٍ من طين، ثمّ يدلكها بين كفيه حتى تصير مستديرةً كالبندقة، ثم يُقرع، فمَن خرج اسمه أولاً فله السهم الأوّل، ومن خرج اسمه ثانياً فله السهم الثّاني.

(وَلَا يُدْخِلُ) القاسم (الدَّراهِمَ) التي ليست من الشركة (في القِسْمَةِ) لأنّ القسمة من حقوق الشركة ولا شركة في الدّراهم، لأنّ الجنسين المشتركين لا يقسمان فكيف بغير المشتركين (إلاّ بِرِضَاهُمْ) لِمَا في القسمة من معنى المبادلة، فيجوز دخول الدّراهم فيها بالتّراضي دون جبر القاضي.

وصورته: دارٌ بين جماعةٍ أرادوا قسمتها وفي أَحد الجانبين فضل بناء وأراد بعض الشُّركاء أن يكون عوض البناء دراهم، وأراد الآخر أنْ يكون عوضه من الأرض فإنه يجعل عوضه منها. ولا يكلَّف الذي يقع البناء في نصيبه أن يردّ بأدائه دراهم إلاّ إذا تعذر فحينئذٍ له ذلك، لطلبهم القسمة منهم وعدم إمكانها بدون الدّراهم. واختار محمد قسمة السُّفْلِ والعُلْوِ المجردين بالقيمة، وبه يُفْتَى، يعني يقوّم كل واحدٍ على حدة ويقسم بالقيمة، لأنهما صارا كالجنسين فلا يمكن التعديل إلاّ بالقيمة.

وفي رواية عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجعل السُّفْل ضعف العُلْو لما شاهد من عادة أهل الكوفة في تفضيل السُّفْل على العُلْو. وسوّى أبو يوسف رحمه الله بينهما، فجعل ذراعاً من السُّفل بذراعٍ من العُلْو، لَمَّا رأى في بغداد من التسوية بينهما في منفعة السُّكْنى. قلنا: بعض البلدان يكون قيمة العُلْو فيها أكثر من قيمةِ السُّفْل كما بمكة وبمصر، وفي بعضها يكون بالعكس كما في الكوفة. وفي كل موضع يكثر فيه الندى يختار العُلْو على السُّفْل، وفي كل موضع يشتدّ البرد ويكثر الريح يختار السُّفل على العلو، وربّما يختلف باختلاف الأوقات فلا يمكن اعتبار المعادلة إلاّ بالقيمة.

(وَإنْ وَقَعَ) في القسمة (مَسِيلُ قِسْمٍ) بكسر فسكون، أي نصيب (أوْ طَرِيقُهُ في قِسْمٍ آخَرَ) لم يشترط في القسمة (صُرِفَ عَنْهُ إنْ أمْكَنَ) صرفه لإمكان تحقّق

ص: 405

وَإلّا فُسِخَتْ.

وإنْ أقَرَّ بالاسْتِيفَاءِ ثُمَّ ادَّعَى أنّ بعضَ حِصَّتِهِ وَقَعَ في يَدِ صَاحِبِهِ غَلطًا، صُدِّقَ بِالحُجَّةِ. وَشَهَادَةُ القَاسِمَيْنِ حُجَّةٌ.

وَفُسِخَتْ إن اسْتُحِقَّ بَعْضُ مُشَاعٍ في الكُلِّ، لَا بَعْضٌ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا، بَلْ يَرْجِعُ.

[أَحكام المُهَايأَة]

وَصَحَّتِ المُهَايَأةُ

===

معنى القسمة، وهو قطع الشركة وتكميل المنفعة من غير المضرة (وَإلاّ) أي وأن لم يمكن صرفه عنه (فُسِخَتْ) القسمة، واستؤنفت على وجهٍ يمكن لكل واحدٍ أن يجعل لنفسه مَسِيلاً وطريقاً، لأنها وقعت مختلّة لبقاء الاختلاط وعدم حصول المقصود بها.

(وإنْ أقَرَّ) أحدهم (بالاسْتِيَفاءِ) أي بأن استوفى حِصَّته (ثُمَّ ادَّعَى أنّ بعضَ حِصَّتِهِ وَقَعَ في يَدِ صَاحِبِهِ غَلطاً صُدِّقَ) في دعواه لكن (بِالحُجَّةِ) لأن القسمة بعد تمامها عقدٌ لازمٌ، فمدَّعِي الغلط فيها يدّعى لنفسه حقَّ فسخها بعد ما ظهر سبب لزومها، فلا يقبل قوله إلا بالبيّنة. فإن لم يكن له بيّنة يستحلف الشركاء لأنهم لو أقرّوا بذلك لزمهم، فإذا أنكروا حلفوا عليه رجاء النكول منهم. فمن حلف منهم لم يكن عليه سبيل، ومن نكل جُمِعَ بين نصيبه ونصيب المدّعي وقُسِم ذلك بينهما على قدر نصيبهما، لأنّ الناكل كالمقر، وإقرار المقرّ حجةٌ عليه دون غيره.

(وَشَهَادَةُ القَاسِمَيْنِ) الذين توليا القسمة على أحد المقسوم عليهم أَنّه استوفى نصيبه (حُجَّةٌ) أي مقبولةٌ، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا تقبل، وهو قول مالك والشّافعي وأبي يوسف أولاً. وسواء في ذلك قاسِما القاضي وغيرهما.

(وَفُسِخَتْ) القسمة (إن اسْتُحِقَّ بَعْضُ مُشَاعٍ في الكُلِّ) أي كلّ الأنصباء، لأنها لو بقيت لتضرر المستحقّ بتفرّق ملكه في الأنصباء (لَا بَعْضٌ) أي لا تفسخ القسمة إِنْ استحقّ بعض شائع (مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا بَلْ يَرْجِعُ) بقسمته في نصيب شريكه، وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: تفسخ القسمة. وذكر أبو سليمان قول محمد مع أبي يوسف، وذكره أبو حفص مع أبي حنيفة، وهو الأصحّ. وأمّا استحقاق بعض معين فلا خلاف في عدم الفسخ.

(أَحكام المهايأَة)

(وَصَحَّتِ المُهَايَأةُ) أي قسمة المنافع، وهي مفاعلة بإبدال المهمزة ألفاً من

ص: 406

في سُكْنى هَذَا بَعْضًا مِنْ دَارٍ، وَهَذَا بَعْضًا، وَخِدْمَةِ عَبْدٍ: هَذَا يَوْمًا، وَهَذَا يَوْمًا، كَسُكْنَى بيتٍ صَغِيرٍ، وَعَبْدَيْنِ: هَذَا هَذَا العَبُد، والآخَرُ الآخَر.

===

التهيئة أو التهيؤ. كأن أحدهما يهيءّ الدّار مثلاً لانتفاع صاحبه. أو يتهيأ للانتفاع بها إذا فَرَغ صاحبه. وهي جائزةٌ لما رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام قَسَم في غزوة بدر كل بعير بين ثلاثة نفرٍ، وكانوا يتناوبون في الرُّكوب.

والتهايؤ على وجوهٍ: تهايؤٌ (في سُكْنى هَذَا بَعْضاً مِنْ دَارٍ، وَهَذَا بَعْضاً) منها. وهو جائزٌ بالاتفاق، لأنّ القسمة على هذا الوجه جائزةٌ فكذا التهايؤ عليه. (وَ) تهايؤٌ في (خِدْمَةِ عَبْدٍ هَذَا يَوْماً، وَهَذَا يَوْماً، كَسُكْنَى بِيتٍ صَغِيرٍ) هذا يوماً، وهذا يوماً.

وهو جائزٌ بالاتفاق أَيضاً، لأنّ التهايؤ قد يكون من حيث الزّمانُ، وقد يكون من حيث المكانُ والأول متعيّن هنا.

(وَ) تهايؤٌ في (عَبْدَيْنِ هَذَا) أي هذا السيد له (هَذَا العَبْد، والآخَرُ) أي والسيد الآخر له العبد (الآخَر) وهو جائزٌ عند أبي يوسف ومحمد، لأنّ القسمة على هذا الوجه (جائزة)

(1)

جبراً من القاضي وبالتّراضي، فكذا المهايأة. وقيل: لا تصحّ عند أبي حنيفة وهو مروي عنه، لأنّ الرقيق لا يجري فيه جبر القاضي على القسمة عنده. والأصحّ أَنها تصحّ عنده من القاضي، لأنّ منافع الرّقيق من حيث الخدمَة، فلا تتفاوت، بخلاف أعيان الرقيق فإنها تتفاوت تفاوتاً فاحشاً. ولو طلب أحدُهما القسمة، والآخَرُ المهايأة يقسم.

واعلم أنّ التهايؤ قد يكون في الدّار الواحدة والدّارين، وفي العبد الواحد والعبدين، وفي الدّابة الواحدة وفي الدَّابتين، من حيث المنفعةُ، أو من حيثُ الاستغلال. فإنْ كان في غلّة دارٍ أو دارين، أو خدمة عبد أو عبدين، أو سُكْنى دار أو دارين يصحّ اتفاقاً. وإن كان في غلّة عبدٍ أو غلّة بغلٍ لا يصحّ اتقافاً. وإن كان في غلّة عبدين، أو غلّة بغلين، أو ركوب بغلٍ أو بغلين، لا يصحّ عند أبي حنيفة خلافاً لهما. قال أبو المكارم: فهذه اثنتا عشرة مسألة في ست منها تصحّ المهايأة اتفاقاً، وفي اثنتين لا تصحّ اتفاقاً، وفي الأربعة خلافٌ. انتهى.

وكذا لا تصحّ المهايأة في ثمر شجر، أو لبن غنم على أن يأخذ كلّ واحدٍ منهم طائفة يستثمرها، أو طائفة يرعاها وينتفع بألبانها، لأنها تختصّ بالمنافع دون الأعيان. فالضرورة تتحقّق في المنافع، لأنّه لا يمكن قسمتها بعد وجودها لسرعة فنائها

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 407

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وانقضائها. وهذه أعيانٌ باقيةٌ يمكن قسمتها فلم تتحقق الضرورة.

والحيلة أنْ يبيع حِصّته من الآخر ثم يشتري كلّها بعد مضيّ نوبته، أو ينتفع باللبن بوزنٍ معلومٍ استقراضاً لنصيب صاحبه. نعم هو قرض المشاع، لكنّه جائزٌ، والله أعلم.

ص: 408

‌كِتَابُ الهِبَة

هِيَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ بِلَا عِوَضٍ. وَتَصِحُّ بـ: وَهَبْتُ وَنَحَلْتُ وَنَحْوِهِمَا.

بِـ وَتَتِمُّ بِالْقَبْضِ في مَجْلِسِهَا، وَلَوْ بِلَا إذْنٍ. وَبَعْدَهُ بِإذْنٍ

===

كتابُ الهِبَةِ

(هِيَ) لغةً: مصدرٌ محذوف الأول معوَّض عنه هاء التأنيث، وأصله وَهَب، كالعِدَةِ والوَعْد. ومعناها: إيصال ما ينفع، مالاً كان أو غيره. قال الله تعالى:{وَهَبْ لَنَا من لَدُنْكَ رحمةً}

(1)

، {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلياً}

(2)

.

وشرعاً: (تَمْلِيكُ عَيْنٍ) فخرج الإعارة والإجارة لأنها تمليك منفعة (بِلَا عِوَضٍ) فخرج البيع لأنّه تمليك عين بعوضٍ.

ودليل مشروعيتها قوله تعالى: {فَإنْ طِبْنَ لَكَمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً}

(3)

أباح الأكل بالوصف الحميد. وما روى البخاري في «صحيحه» من حديث أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لو دعيت إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت، ولو أُهْدِيَ إليّ ذراعٌ أو كُرَاعٌ لقبلت» . وذراع اليد معروفٌ، والكُراع بالضم: مستدق السّاق من البقر والغنم. وما روى مالك في «الموطأ» مرسلاً عن عطاء بن عبد الله الخُرَاسَانِيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصافحوا يذهب الغِلُّ، وتهادوا تحابُّوا وتذهب الشحناء» . والغِلُّ بالكسر: الغِش والحسد والحقد. والشحناء: العداوة.

(وَتَصِحُّ) الهبة (بـ: وَهَبْتُ وَنَحَلْتُ وَنَحْوِهِمَا) مِنْ: أعطيتك، وأطعمتك هذا الطعام، وأعْمَرْتُك هذا الشيء، وجعلته لك عُمْرَى

(4)

. وذلك لأنّ النُّحْل والعطية يستعملان في التّمليك بغير عِوَضٍ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكلَّ ولدك نَحَلْته مثل هذا» ؟ قال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فارجعه» . رواه الستة عن النُّعْمَان بن بشير. وروى الجماعة إلاّ البخاري: «مَنْ أَعْمَرَ رجلاً عُمرَى فهي له ولعَقِبِهِ» . فقد قطع قوله حقّه فيها: «وهي لمَنْ أَعْمَرَ ولعَقِبِهِ» .

(وَتَتِمُّ بِالْقَبْضِ في مَجْلِسِهَا وَلَوْ بِلَا إذْنٍ) استحساناً، (وَ) بالقبض (بَعْدَهُ) أي بعد مجلسها (بِإذْنٍ). وقال مالك: يثبت الملك قبل القبض بمجرد الإيجاب والقبول،

(1)

سورة آل عمران، الآية:(8).

(2)

سورة مريم، الآية:(5).

(3)

سورة النساء، الآية:(4).

(4)

العُمْرَى: أعْمَرْتُه الدار عمرى: أي جعلتها له يسكنها مدة عمره، فإذا مات عادت إليّ، وكذا كانوا يفعلون في الجاهلية، فأَبطل ذلك وأَعلمهم أَن مَنْ أُعْمِرَ شيئًا في حياته فهو لورثته من بعده. النهاية 3/ 298.

ص: 409

ولا تَصِحُّ في مُشَاعٍ يُقْسَمُ.

===

وبه قال أبو ثور والشَّافعي في القديم، وعلى هذا الخلاف الصدقة.

ولنا، وهو قول الشّافعي في الجديد وأكثر الفقهاء: ما روى مالك في «الموطأ» في كتاب القضاء عن ابن شِهَاب، عن عُرْوَة، عن عائشة أنها قالت: إنّ أبا بكر كان نَحَلَها جُذَاذ عشرين وَسْقاً بالعالية، فلمّا حضرته الوفاة قال: ما من النّاس أحد أحبّ إليّ غِنَى بعدي منكِ، ولا أعزّ عليّ فقراً منكِ، وإني كنت نَحَلْتُك جُذَاذ عشرين وَسْقاً

(1)

فلو كنت حُزْتِيهِ كان لكِ فإنّما هو اليوم مال وارثٍ، وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله. وفي رواية: يا بُنَيّة إني كنت نحلتك نحلاً من خيبر، وإنّي أخاف أن أكون آثرتك على ولديّ فإن لم تكوني حُزْتِيهِ فرديه على ولديّ. فقالت: لو كانت لي خيبر بُجِذَاذِها لرددتُها.

والِجُذَاذ بضم الجيم وبكسرها وبمعجمتين: ما قطع من الشيء. وما روى عبد الرّزّاق في «مصنفه» عن عمر بن الخطّاب أَنه قال: لا نُحْل إلاَّ لمن حازه فَقَبَضَه. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: أيما رجلٍ نحل من قد بلغ الحوز فلم يدفعه إليه فتلك النّجْلة باطلةٌ. وأَما ما في «الهداية» : لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تجوز الهبة إلا مقبوضة» فغير معروف.

(ولَا تَصِحُّ) الهبة (في مُشَاعٍ يُقْسم) أي يحتمل القسمة، سواء وهبه من شريكه أو من غيره. قيّد به لأنّ المُشاع الذي لا يحتمل القِسمة، تصحّ هبته. ثم كلّ شيءٍ يضرّه التبعيض ويوجب نقصاناً في ماليته لا يحتمل القسمة كعبدٍ واحدٍ، ودابةٍ واحدةٍ، والبيت الصغير، والحمّام الصغير، وما ليس كذلك يحتملها.

وقال مالك والشّافعيّ وأحمد: تصحّ هبة المشاع سواء احتمل القسمة أو لا، لقوله تعالى:{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلاّ أنْ يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ الذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}

(2)

، فإِنّه يقتضي بعمومه أنّ الصَّدَاق إذا كان عيناً يتنصّف بالطَّلاق قبل الدخول، ويُنْدَبُ كل واحدٍ من الزَّوجين إلى ترك الكلّ للآخَر، وذلك هبة المُشاع. ولِمَا في «صحيح البخاري» من أنّ وفد هوازن لمّا جاءوا يطلبون من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليهم ما غَنِمَه منهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم» . وهذه هبة مشاعٍ.

وأُجِيبَ عن الآية: بأنّ العفو حقيقة في الدَّيْنِ دون العين، وإسقاط الدّين جائزٌ، مشاعاً كان أو غير مشاعٍ، لأنه غير محتاج إلى القبض. وفي العين كلّ واحدٍ منهما مندوبٌ إلى العفو عندنا، ولكن بأن يهَب نصيبه لصاحبه بعد القِسمة، وليس في الآية

(1)

سبق شرحها ص (335)، التعليقة رقم:(1).

(2)

سورة البقرة، الآية:(237).

ص: 410

فإنْ قَسَمَ وَسَلَّمَ صَحَّ. وَكَذَا هِبَةُ لَبَنٍ في ضَرْعٍ، وَنَحْوِهِ، وَلَا دَقِيقٍ في بُرّ وَإنْ طُحِنَ وَسُلِّمَ.

===

ما يمنع ذلك. وعن حديث وفد هَوَازِن: بأن ذلك كان بعد القسمة. واعتمادنا في المسألة على إجماع الخلفاء الراشدين، فقد رُوِّيَنا عن أبي بكر ما مرّ آنفاً. وعن عمر أنه قال: ما بال أحدكم يتصدّق على ولده بصدقةٍ لا يَحُوزْها ولا يقسمها، يقول: إن أنا مِتُّ كان له، وإن مات هو رجعت إليّ. وايم الله لا يتصدّق منكم رجلٌ على ولده بصدقةٍ لم يَحُزْها ولم يقسمها ثم مات إلاّ صارت إرثاً لورثته. وهكذا نُقِلَ عن عثمان، وعن علي: مَنْ وهب ثلث كذا، أو ربع كذا، لا يجوز حتّى تقاسم.

(فإنْ قَسَمَ) الكلَّ قبل التّسليم (وَسَلَّمَ) أي الجزء الموهوب (صَحَّ) عقد الهبة، لأنّ تمام الهبة بالقبض وعنده لا شيوع، والمؤثّر هو الشيوع عند القبض لا عند العقد، حتّى لو وهب الكلّ وسلّم النصف لا يجوز. ولو وهب النصف (ثم النصف)

(1)

الآخر وسلم الكلّ جاز.

(وَكَذَا) أي وكهبة المشاع في عدم الصّحة (هِبَةُ لَبَنٍ في ضَرْعٍ، وَ) هبة (نَحْوِهِ) من صوف على ظهر غنمٍ، وزرعٍ أو نخلٍ في أرضٍ، وتمرٍ في نخلٍ، فإنّها لا تصحّ لأنّها متصلةٌ بملك الواهب اتصال خِلْقَةٍ فكانت بمنزلة المشاع الذي يحتمل القسمة، فلا تتمّ الهبة فيها بدون الإفراز والحِيَازة، فإن فصلت عن ملك الواهب وقبضها الموهوب له تصحّ، لأنّ امتناع الجواز لاتصال الموهوب بملك الواهب مع إمكان فصله منه، وقد زال ذلك الاتصال.

(وَلَا) تصحّ هبة (دَقِيقٍ في بُرّ وَإنْ طُحِنَ) البر (وَسُلِّمَ) الدّقيق، ولا دهن في سِمْسِم، ولا سمن في لبنٍ وإن اسْتُخْرِجَ وسُلِّم، لأنّ الموهوب معدومٌ وهو ليس بمحلٍ للملك، بخلاف المشاع الذي يحتمل القسمة، لأنّه محلٌ للتمليك، وبخلاف اللبن في الضَّرع ونحوه، لأنه بمنزلة المشاع، وامتناع الجواز فيه ليس لكونه معدوماً بل لاتصاله بملك الواهب.

وخلاصة الفرق بين المسألتين: أَنَّ اللبن ونحوه موجودٌ بصورته عند العقد بخلاف الدّقيق، فإنه إنّما يوجد بالطحن وكذا السمن والخلّ

(2)

.

ولا تصحّ هبة الدين لغير المديون لعدم تصوّر القبض إلاّ إذا أمره بقبضه له وكالةً، ثم بقبضه لنفسه، فحينئذٍ تصحّ لوجود القبض. وتتوقف هبة الدين للمديون على

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

في المطبوع: النخل، والمثبت من المخطوط.

ص: 411

وَهِبَةُ مَا مَعَ المَوْهُوبِ لَهُ تَامَّةٌ، كَهِبَةِ الأبِ لِطِفْلِهِ وَقَبْضُهُ عَاقِلًا، وَقَبْضُ مَنْ يُرَبِّيهِ وَهُوَ مَعَهُ، وَالزَّوْجِ بَعْدَ الزِّفَافِ مُعْتَبَرٌ في هِبَةِ الأجْنَبِيِّ لَهَا.

===

قَبوله، فإن قَبِله امتنع الرُّجوع فيه، لأنّه سقط عنه. وإِن قال: لا أقبلها

(1)

، فالدَّينُ عليه بحاله. وأمّا الإبراء فيتمّ من غير قبوله، ولكن للمديون أن يردّ قبل موته. وعن زفر: إنه سّوى بينهما، وقال: تتمّ الهبة والإبراء قبل القبول. ولو قال: إن أديت نصفه فلك نصفه، أو أنت بريءٌ من النصف الباقي، كان الإبراء باطلاً.

(وَهِبَةُ مَا) مبتدأ مضاف إلى «ما» ، أي: شيءٍ أو الشيء الذي (مَعَ المَوْهُوبِ لَهُ) صفة «ما» أو صِلتها (تَامَّةٌ) خبر المبتدأ، يعني: أَنْ هبة الوديعة للمودَع، والعَارِيَّة للمستعير، والمغصوب للغاصب غير محتاجة إلى قبضٍ جديدٍ، لأن الموهوب حينئذٍ في يد الموهوب له حقيقةً، فلا يحتاج إلى قبضٍ آخر (كَهِبَةِ الأبِ) أي كما أَنَّ هبة الأب (لِطِفْلِهِ) تامّة بالعقد، ولا تحتاج إلى قبضٍ جديدٍ.

ولا فرق بين ما في يده أو يد مودَعه، لأنّ يد المودَع كيد المودِع بخلاف ما إذا كان مرهوناً أو مغصوباً. وكذا هبة الأمّ لطفلها إذا كان في عيالها والأب ميتٌ (ولا وصي له)

(2)

، لأنّ قبض الأمّ بمنزلة قبض الأب لو كان حياً، وكذا كلّ مَنْ يعوله كالعمّ والأخ، لأنّ هذا مَحْضُ نفعٍ للطفل، ولأنه لما كان له تأديبه وتسليمه في حرفة، كان له التصرّف النافع فينفرد بتمليكه، ويملكه بمجرّد الهبة إذا كان في يده كما في الأب.

(وَقَبْضُهُ) مبتدأٌ، أي قبض الطفل ما وُهِبَ له (عَاقِلاً) أي مميزاً، حال (وَقَبْضُ مَنْ يُرَبِّيهِ) قريباً كان أو أجنبيّاً (وَهُوَ مَعَهُ) أي والحال أَنّ الطفل في حِجْر من يربّيه، (وَ) قبض (الزَّوْجِ) ما وُهِبَ لزوجته الصغيرة (بَعْدَ الزِّفَافِ) بكسر الزاي، وهو الذّهاب بها إلى بيت الزّوج (مُعْتَبَرٌ) هذا خبر المبتدأ الذي هو قبضه وما عطف عليه. وقد وَهِم من قال: إن قبضه مجرورٌ عطفاً على هبة الأب.

(في هِبَةِ الأجْنَبِيِّ) متعلَّق بمعتبر (لَهَا) أي للمرأة. وفي نسخةٍ: له، أي للطفل، وهو أظهر. وفي بعض النسخ لم يقع فيها معتبر، فيكون قبضه حينئذٍ مجروراً بالعطف على هبة الأب، وفي هبة الأجنبي في محل النصب على الحال من قبض. وقال الشّافعيّ: لا يصحّ قبض الصغير لنفسه وإن كان عاقلاً وهو القياس، لأنه لا يعتبر بعقله قبل البلوغ، لأنّ الولاية عليه لا تزول عنه قبله.

ولنا، وهو وجه الاستحسان: أَنَّ عدم اعتبار عقله قبل البلوغ للنظر له، ودفع الضرر عنه، وذلك فيما كان متردّداً بين النفع والضَّرر. وأمّا النّفع المحض فيعتبر عقله

(1)

في المخطوط: (أقبلها) بسقوط لام النفي. والمثبت من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 412

وَصَحَّ هِبَةُ اثْنَيِنْ دَارًا لِوَاحِدٍ وعَكْسُهُ، لا كَتَصَدُّقِ عَشَرَةٍ عَلَى غَنِيَّيْنِ. وَصَحَّ عَلَى فَقِيرَيْنِ.

[الرُّجُوعُ عَنِ الهِبَةِ]

ويَصِحُّ الرُّجُوعُ عِنْهَا بِتَرَاضٍ أوْ حُكْمِ قَاضٍ.

===

فيه ويلحق بالبالغ كما في كسبه للمباحات. وأمّا قبض من يُرَبّي الطفل إذا وهب له أجنبيّ، فلأنّ له عليه ولايةً معتبرةً. ألا ترى أنه لا يتمكن أجنبيّ آخر من نزعه منه، فيملك ما يتمحّض نفعاً في حقّه.

وأمّا قبض الزّوج بعد الزِّفاف ما وهب أجنبيٌّ لزوجته الصغيرة، فلأنّه حينئذٍ له عليها ولاية لكونه يعولها، ولأنّها لمّا زُفَّت إليه أقام الأب الزّوج مقام نفسه في حفظها وحفظ مالها، وقَبْضُ الهبة من باب الحفظ. ولكن لا تنعدم ولاية الأب بهذا، حتّى لو قبض لها صحَّ أيضاً لقيام ولايته.

(وَصَحَّ هِبَةُ اثْنَيْنِ دَاراً لِوَاحِدٍ) أي لشخصٍ واحدٍ، فاللاّم متعلّقة بهبة. وإنّما تصحّ لأنّهما سلّماها جملةً، (وهو قبضها جملةً)

(1)

، ولا شيوع في ذلك. (وعَكْسُهُ) وهو هبة واحدٍ داراً لاثنين (لا) أي لا تصحّ، وهذا عند أبي حنيفة وزُفَر. وقال أبو يوسف ومحمد: تصحّ (كَتَصَدُّقِ عَشَرَةٍ) أي كما لا يصحّ لواحدٍ أن يتصدّق بعشرةٍ (عَلَى غَنِيَّيْنِ، وَصَحَّ) له التصدّق بها (عَلَى فَقِيريْنِ) وهبتها لهما، وهذا عند أبي حنيفة في رواية «الجامع الصغير». وعندهما: تصح على غَنِيَّيْنِ أيضاً. ويأمر أبو يوسف بقسمة ما وهبه لابنه وبنته أنصافاً لا أثلاثاً كما أمر به محمد، لأنّ تخصيص أحدهما بهبة شيءٍ مكروهٌ، والعدلُ التّسوية.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَنْ وهب لأحد ولديه دون الآخر: «لا تُشْهِدْنِي على جَورٍ» . والعدل عند أبي يوسف أنْ يجعل لكل واحدٍ مثل الآخر، وعند محمد أن يجعل الثلثين للابن والثلث للبنت، لأنّ الشّرع جعل ميراثهما كذلك فكان هو العدل. وله: إن العدل هو التّسوية لغةً، والإنصاف من النصف فيُصار إليه. ولو قال: جميع مالي أو ما أملكه لفلانٍ، كان هذا هبة له.

(الرُّجُوعُ عَنِ الهِبَةِ)

(ويَصِحُّ) لِمَنْ وهب هبة لأجنبيّ (الرُّجُوعُ عِنْهَا بِتَرَاضٍ أوْ حُكْمِ قَاضٍ) لكن بكراهةٍ. وقال مالك والشّافعي وأحمد في ظاهر مذهبه: لا يصح الرّجوع في الهبة إلاّ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 413

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

للوالد فيما وهب لولده. لهم: ما روى أصحاب السنن الأربعة ـ وقال الترمذيّ: حديثٌ حسنٌ ـ عن ابن عبّاس وابن عمر أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلّ لرجلٍ أنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً (أو يهب هبةً)

(1)

فيرجع فيها، إلاّ الوالد فيما يُعطِي لولده. ومَثَلُ الذي يُعْطِي العطيّة ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل، فإذا شَبِع قاء ثمّ عاد في قيئه». وما رواه الجماعة إلاّ الترمذي من حديث أبي هريرة، وابن عبّاس، وابن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«العائد في هبته كالعائد في قَيئه» . وعنه أيضاً: «العائدُ في هبته كالكلب يعود في قيئه» . ولأنّها عقد تمليك فيلزم كالبيع. وإنما ثبت حقّ الرّجوع للوالد، لأنّ إخراجه عن ملكه لم يتمّ، لأن الولد من كسب الوالد.

ولنا: ما روى ابن ماجه من حديث أبي هُرَيْرَة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الرجل أحقّ بهبته ما لم يُثَب منها» ، أي لم يعوض عنها. وأخرجه الدّارَقُطْنِيّ في «سننه» ، وابن أبي شَيْبَةَ في «مصنفه» ، ورواه الحاكم في «مستدركه» من حديث ابن عمرَ قال: صحيح على شرط الشيخين. ورواه الطَّبَرَانِيّ في «معجمه» من حديث ابن عبّاس، ولفظه: أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ وهب هبةً فهو أحقُ بهبته ما لم يُثَب منها، فإن رجع في هبته فهو كالذي يقيء ثم يأكل قيئه» . وما روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن سُفْيَان، عن منصور، عن إبراهيم قال: قال عمر: من وهب هبةً لذي رحمٍ، فليس له أنْ يرجع فيها. ومن وهب لغير ذي رحمٍ، فله أن يرجع فيها إلاّ أنْ يُثَاب منها.

وأُجيب عمّا رَوَوْهُ بأنّ المراد نفي الاستبداد بالرّجوع، أي لا ينفرد أحدٌ بالرُّجوع في هبته من غير قاضٍ، ولا تراضٍ إلاّ الوالد إذ احتاج إلى ذلك، فإنه ينفرد بالأخذ لحاجته. ويسمّى ذلك رجوعاً باعتبار الظاهر وإن لم يكن رجوعاً في الحكم. أو المراد: لا يحلّ له الرُّجوع ديانةً ومروءةً لا أنّه لا يحلّ له قضاءً وحكومةً، كقوله عليه الصلاة والسلام:«لا يحلّ لرجلٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت شبعان، وجاره إلى جنبه طاوياً»

(2)

، أي لا يليق ذلك ديانةً ومروءةً وإنْ كان جائزاً قضاءً وحكومةً.

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط وهي صحيحة لموافقتها لرواية أبي داود 3/ 808 - 810، كتاب البيوع والإجارات (22)، باب الرّجوع في الهبة (81)، رقم (3539)، ورواية المطبوع بدون هذه الزيادة موافقة لرواية الترمذي، كتاب الولاء والهبة (32)، باب ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة (7)، رقم (2132).

(2)

ورد الحديث بروايات متعددة في المستدرك للحاكم 2/ 12، والبيهقي في الشعب 8/ 31، رقم (566)، والطبراني في معجمه الكبير 12/ 154، 1/ 259 - أقربها إلى الرواية المذكورة رواية الطبراني في "معجمه الكبير" 1/ 259 عن أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما آمن بي من بات شبعانًا وجاره جائعٌ إلى جنبه وهو يعلم به".

ص: 414

وَيَمْنَعُهُ زَيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ، وَمَوْتُ أحَدِهِمَا، وَعِوَضٌ أُضِيفَ إلَيْهَا وَلَوْ مِنْ أَجْنَبِيّ،

===

ولأنّ التشبيه بالكلب لاستقباح الرُّجوع واستقذاره لا لحرمته. ويؤيّد ذلك ما روى البخاري: أنّ عمر

(1)

لمّا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراء فرسٍ حَمَلَ عليه

(2)

في سبيل الله، قال عليه الصلاة والسلام:«لا تبتعه ولا تَعُدْ في صدقتك، فإنّ العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئة» ، فكما لم يكن التشبيه بالكلب موجباً لحرمة ابتياع ما تصدّق به، لم يكن التشبيه بالكلب موجباً لحرمة الرُّجوع في الهبة. وشرطنا في صحة الرُّجوع تراضيهما أو حكم القاضي، لأنّه لو استردّها بغير ذلك كان غاصباً، حتّى لو هلكت في يده يضمن قيمتَها للموهوب له.

(وَيَمْنَعُهُ) أي الرُّجوع في الهبة سبعةُ أشياءَ أحدها: (زَيَادَةٌ) في نفس الموهوب (مُتَّصِلَةٌ) كالغرس والبناء في الأرض الموهوبة، والسّمن المورث زيادة في قيمة الموهوب، إذ لا وجه للرَّجوع بدون الزِّيادة لعدم الانفصال ولا معها، لأنّ الرّجوع إنّما يصحّ للموهوب، والزّيادة ليست بموهوبةٍ. قيّد بالزيادة، لأنّ النقصان لا يمنع. وقيّدها بالمتصلة، لأنّ المنفصلة لا تمنع، كما لو كانت الهبة أمةً فولدت عند الموهوب له من زوجٍ أو فُجُور، لأنّ الرّجوع في الأصل دون الزِّيادة ممكنٌ. وقيّدنا بكونها في نفس الموهوب، لأنّها لو كانت في قيمته كقراءةٍ أو كتابةٍ ونحوهما لا تمنع، لأنها حينئذٍ لرغبة النّاس فيه، إِذْ العين بحالها.

(وَ) ثانيها: (مَوْتُ أحَدِهِمَا) أي الواهب والموهوب له. أمّا موت الموهوب له، فلأنّ الملك قد انتقل إلى وارثه، فكأنّه انتقل في حال حياته. وأمّا موت الواهب فلأنّ وارثه لم يهَب، والرُّجوع إنما هو للواهب.

(وَ) ثالثها: (عِوَضٌ أُضِيفَ إلَيْهَا) أي إلى الهبة. ولا بدَّ أن يذكر لفظاً يعلم الواهب منه أَنّ ذلك عوض هبته، كأنْ يقول: هذا عوض هبتك، أو جزاؤها، أو بدلها، أو في مقابلتها. (وَلَوْ) كَانَ العوض (مِنْ أَجْنَبِيّ) لأنّه لإسقاط حقّ الرُّجوع في الشّرع فيصحّ من الأجنبيّ، كبَدَل الخُلْع. وأمّا لو لم يضف العوض إلى الهبة: بأن وهب للواهِب شيئاً (ولم يقل هذا عوض هبتك أو نحوه)

(3)

كان ذلك هبةً مبتدأة لا تعويضاً،

(1)

حُرِّفَت في المخطوط والمطبوع إلى ابن عمر، والصواب ما أثبتناه لموافقته لما في صحيح البخاري (فتح الباري) 5/ 235، كتاب الهبة (51)، باب لا يحلّ لأحدٍ أن يرجع في هبته وصدقته (30)، رقم (2623).

(2)

حمل عليه: تصدّق به، فتح الباري (5/ 236).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 415

وَخُرُوجُهَا مِنْ مِلْكِ المَوْهُوبِ لَهُ، وَالزَّوْجِيَّةُ وَقْتَ الهِبَةِ، وَالقَرَابَةُ المَحْرَمِيَّةُ، وَهَلَاكُ المَوْهُوبِ.

وَضَابِطُهَا حُرُوفُ: دَمْعٍ خَزِقَه.

===

فكان لكل واحدٍ منهما الرُّجوع.

وفي «المَبْسُوطِ» : وهذا سواء كان العوض قليلاً، أو كثيراً، من جنس الهبة، أو من غير جنسها. ويشترط في العوض شرائط الهبة من القبض، والإفراز، وأن يكون من غير مال الهبة، خلافاً لزفر إذ ملك الموهوب له تمّ في الهبة بالقبض فالتحق بسائر أمواله. ولنا: أَنّ الواهب ما قصد بهبته تحصيل ذلك البعض منها، لأنّه كان سالماً له، بل قصد إلى عوضٍ آخر. وإنّ حقّه من الرّجوع كان ثابتاً في الكلّ، فإذا وصل إليه بعضه لا يسقط حقّه في الباقي.

(وَ) رابعها: (خُرُوجُهَا) أي الهبة (مِنْ مِلْكِ المَوْهُوبِ لَهُ) ببيعٍ أو هبةٍ أو وَقْفٍ، لأنّ تبدّل الملك كتبدّل العين، وقد تبدّل الملك بتجدّد السبب.

(وَ) خامسها: (الزَّوْجِيَّةُ وَقْتَ الهِبَةِ) لأنّ هبة أحد الزَّوجين للآخر تحقّق ما بينهما من الأُلفْة والمودة، فكان المقصود منها الصلة وقد (حصل)

(1)

.

قيّد بوقت الهِبَة، لأنّه لو تزوّجها بعدما وهب لها كان له الرّجوع، ولو تزوّجها بعدما وهبت له، كان لها الرّجوع. ولو وهب لزوجته أو وهبت له ثم أبانها، فليس له ولا لها الرُّجوع.

(وَ) سادسها: (القَرَابَةُ المَحْرَمِيَّةُ) لِمَا روى الدَّارَقُطْنِيّ والبَيْهَقِيّ في «سُننهما» ، والحاكم في «مستدركه» ـ. وقال: صحيحٌ على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه ـ عن عبد الله بن جعفر، (عن عبد الله)( 1) بن المبارك، عن حَمَّاد بن سَلَمة، عن قَتَادة عن الحَسَن، عن سَمُرَة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«إذا كانت الهبة لذي رَحِمٍ مَحْرِم لم يرجع فيها» . وقال الإمام: رواة هذا الحديث كلهم ثقات. ولأنّ المقصود منها مع القريب المحرم صلة الرَّحم وقد حصل، وفي الرّجوع قطعها فلا يرجع.

(وَ) سابعها: (هَلَاكُ المَوْهُوبِ) لأن الرّجوع في شيءٍ يستدعي قيام المرجوع فيه، وهلاكُه ينافيه. ولو ادّعى الموهوب له هلاكه صدّق بلا حَلِفٍ، لأنّه منكرٌ لوجوب الرّدّ عليه، فأشبه المودَع.

(وَضَابِطُهَا):

أي ضابط الأمور السبعة التي تمنع الرُّجوع (حُرُوفُ: دَمْعٍ خَزِقَه)

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 416

وهو فَسْخٌ مِنَ الأَصْلِ لَا هِبَةً لِلْوَاهِبِ. وَهِيَ بِشَرْطِ العِوَضِ هِبَةٌ ابْتِدَاءً، فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهَا، وتَبْطُلُ بالشُّيُوعِ. وَبَيْعٌ انْتِهَاءً، فَتُرَدُّ بِالعَيْبِ والرُّؤْيَةِ، وَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ وَإِنْ اسْتَثْنَى الحَمْلَ ثُمَّ وَهَبَهَا صَحَّتْ. وإنْ دَبَّرَهُ ثُمَّ وَهَبَهَا لَا.

[أحكام العُمْرى]

وَصَحَّت العُمْرَى، وَهِيَ: جَعْلُ دَارِهُ لَهُ مُدَّةَ عُمُرِهِ بِشَرْطِ أنْ تُرَدَّ إذَا مَاتَ، وَبَطَلَ الشَّرْطُ.

===

فالدّال: الزّيادة. والميم: موت الواهب، أو الموهوب له. والعين: العوض. والخاء: الخروج عن ملك الموهوب له. الزاي: الزّوجية. والقاف: القرابة. والهاء هلاك الموهوب.

(وَهُوَ) أي الرّجوع في الهبة سواء كان بالقضاء أو بالتّراضي (فَسْخٌ مِنَ الأَصْلِ) فيعود الملك القديم ولا يشترط فيه قبض الواهب: ويصحّ في الشائع. (لَا هِبَةً) أي ليس الرجوع بهبةٍ مبتدأةٍ (لِلْوَاهِبِ) كما قال زُفَر، إذا كان الرّجوع بتراضيهما. (وَهِيَ) أي الهبة (بِشَرْطِ العِوَضِ هِبَةٌ ابْتِدَاء، فَيُشْتَرَطُ قَبْصُهَا. وتَبْطُلُ بالشُّيُوعِ) كالهبة بلا عِوضٍ (وَبَيْعٌ انْتِهَاءً فَتُرَدُّ بِالعَيْبِ والرُّؤْيَةِ وَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ) كالبيع المحض. وقال زُفَر: بيعٌ ابتداءً وانتهاءً. وفي «جامع المَحْبُوبِيّ» : هذا إذا ذكر بكلمة «على» ، أمّا لو ذكر بحرف الباء بأن قال: وهبتك هذا الثوب بألف درهم وقَبِله الآخر، يكون بيعاً ابتداءً وانتهاءً بلا خلاف.

(وَإنْ اسْتَثْنَى) الواهب (الحَمْلَ ثُمَّ وَهَبَهَا) أي الأمة، بأن قال: هذه الأمة إلاّ حملها هبةٌ لك (صَحَّتْ) الهبة فيهما وبطل الاستثناء، وعند أحمد وأبي ثور: تصحّ الهِبة في الأمة دون الولد ولا يبطل الاستثناء، لأنّه تبرّعٌ بالأم دون الولد، فأشبه العتق واستثناء الولد المنفصل. وأُجيب بأنّ الحمل كالجزء، فلا يصحّ الهبة في الأم بدونه، بخلاف الولد المنفصل. وما ذكر من العتق ممنوعٌ عندنا. (وإنْ دَبَّرَهُ) أي الحمل (ثُمَّ وَهَبَهَا) أي الأمة (لَا) أي لا تصحّ الهبة.

(أَحكام العُمْرى)

(وَصَحَّت العُمْرَى: وَهِيَ جَعْلُ دَارِهُ لَهُ) أي الآخر (مُدَّةَ عُمُرِه) أي عُمُر الآخر (بِشَرْطِ أنْ تُرَدَّ) الدَّار (إذَا مَاتَ) ذلك الآخر. وصورتها أن يقول: أعْمَرْتُك داري هذه، أو هي لك عُمْري ما عِشْتَ، أو مدّة حياتك، أو ما حييتَ، فإذا مِتَّ فهي رَدّ عليّ (وَبَطَلَ الشَّرْطُ) وهو ردُّ الدَّار إذا مات المُعْمَرُ. وبهذا قال الشافعيّ في الجديد، وأحمد، وهو قول ابن عبّاس وابن عمر، ورُوِيَ عن عليّ وشُرَيْح ومجاهد وطاوس والثوْرِيّ.

ص: 417

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وقال مالك، والليث، والشّافعيّ ـ في القديم ـ: العُمْرَى تمليك المنافع دون العين، فيكون للمُعْمَر السُكْنَى، فإذا مات رُدَّت إلى المُعْمِر لأنّها عَارِيَّة مؤقتةٌ. وإن قال: له ولعقبِه، كانت سكناها لهم، فإذا انقرضوا عادت إلى المُعْمِر لأنّ هذا تمليكٌ مؤقتٌ، وتمليك العين لا يتأقّت، ولِمَا في «صحيح مسلم» عن جابر قال: إنما العُمْرَى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبِك، فأمّا إذا قال: هي لك ما عشتَ، فإنها ترجع إلى صاحبها. قال مَعْمَر: كان الزّهْري يُفْتِي به. وعن ابن الأعْرَابِيّ: لم يختلف العرب في العُمْرَى والرُّقْبَى على أَنَّها ملك أربابها، ومنافعها لمن جعلت له.

ولنا: ما روى الشيخان عن أبي سَلَمَة، عن جابر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: العُمْرَى لمن وُهِبَتْ له». وفيهما عن أبي هريرة مرفوعاً: «العُمْرَى جائزةٌ» . وما روى مسلم عن أبي الزُّبَيْر، عن جابر قال: أَعْمَرَت امرأةٌ بالمدينة حائطاً لها ابناً لها. ثم تُوُفِّي، وتوفيت بعده وترك ولداً وله إخوةٌ بنون للمُعْمِرَة، فقال ولد المُعْمِرة: رجع الحائط إلينا. وقال بنو المُعْمَر: بل كان لأبينا حياتَه وموتَه. فاختصموا إلى طارقٍ مولى عثمان. فدعا جابراً، فشهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالعُمْرى لصاحبها، فقضى بذلك طارقٌ. ثم كتب إلى عبد الملك فأخبره بذلك، وأخبره بشهادة جابر، فقال عبد الملك: صدق جابرٌ. فأمضى طارقٌ ذلك الحائط لبني المُعْمَر حتّى اليوم. وما في «صحيح مسلم» أيضاً عن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسِكوا عليكم أموالكم ولا تُفسِدوها، فإنّه من أعْمَر عُمْرى فإنها للذي أُعْمِرَهَا حياً وميِّتاً ولِعَقِبِهِ» .

وما في «سنن أبي داود» عن عُرْوَة، عن جابر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«من أعمر عُمْرَى، فهي له ولعقبِه يرِثُها مَنْ يرثه من عقِبه» . وفيها أيضاً عن طارق المَكِيّ، عن جابر قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأةٍ من الأنصار أعطاها ابنها حديقةً من نخلٍ فماتت، فقال ابنها: إنّما أعطيتها حياتها، وله اخوةٌ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«هي لها حياتَها وموتَها» . قال: كنت تصدّقت بها عليها، قال:«ذلك أبعد لك» . قال ابن القَطَّان: (يقال)

(1)

: إسناده كلهم ثقات. وطارق المَكِّيّ هو قاضي مكّة مولى عثمان بن عفان، وهو ثقةٌ. قال أبو زُرْعَة: ورواه أحمد بسندٍ كل رجاله ثقات، وهو: حدّثنا رَوْحٌ: حدّثنا سُفْيَان الثَّوْرِيّ، عن حُمَيْد بن قَيْس، عن محمد بن إبراهيم، عن جابر: أنّ رجلاً من الأنصار أعطى أُمّه حديقةً من نخلٍ حياتَها، فماتت، وله إخوةٌ، فقالوا: نحن فيه شَرْعٌ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 418

[أَحْكَامُ الرُّقْبَى]

وَلَا تَصِحُّ الرُّقْبَى، وَهِيَ: إنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَهِيَ لَكَ.

وَالصَّدَقَةُ لَا تَصِحُّ إلّا بالْقَبْضِ، وَلَا في شَائِعٍ يُقْسَمُ. وَلَا عَوْدَ فِيهَا.

===

سَوَاءٌ، فأبى، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها بينهم ميراثاً. وأمّا قول ابن الأعرابيّ: إنها عند العرب تمليك المنافع، فلا يضرّ لأنّ الشارع نقلها إلى تمليك الرَّقبة.

(أَحكام الرُّقبى)

(وَلَا تَصِحُّ الرُّقْبَى) عند أبي حنيفة ومحمد، وهو قول مالك (وَهِيَ) أن يقول شخصٌ لآخر: أرقبتك هذه الدَّار، أو هي لك رُقْبَى، أو هي لك حياتَك على أني (إنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَهِيَ لَكَ) وإنْ مِتَّ قبلي فهي لي. وسُمِّيت بذلك لأنّ كلّ واحدٍ يَرْقُب موت صاحبه. وقال أبو يوسف: يصحّ، وهو قول الشّافعي وأحمد، لأنّها تشتمل على شرط ردّ الدّار بعد الموت، فيكون بمنزلة العُمْرَى. ولما في «سنن أبي داود» عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العُمْرَى جائزةٌ لأهلها، والرُّقبْى جائزةٌ لأهلها» . وفيها عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أعمر شيئاً فهو لمُعْمِره حياتَه ومماتَه، ولا ترقبوا. فمن أرقب شيئاً، فهو سبيلُه» . وفي «سنن النَّسائي» عن ابن عبّاس مرفوعاً: «مَنْ أعمر عُمْرَى فهي لِمَنْ أعمرها جائزةٌ، ومَنْ أرقب رُقْبَى فهو لِمَنْ أرقبها جائزةٌ» . وفيها، وفي ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعاً:«لا عُمْرَى ولا رُقْبَى، فَمَنْ أعمر شيئاً أو أرقبه، فهو له حياتَه ومماتَه» .

ولنا: أنّه تعليق التمليك بالخطر وهي موت المُمَلِّك، وذلك باطلٌ. وإذا لم يصحّ عند أبي حنيفة ومحمد يكون عَارِيَّةً، لأنّ هذا العقد يتضمن إطلاق الانتفاع. وقد حكم الإتْقَانِيّ شارح «الهِدَاية» بصحة قول أبي يوسف لِمَا روينا من الأخبار.

(وَالصَّدَقَةُ لَا تَصِحُّ إلاّ بالْقَبْضِ) لأنّها تبرُّع كالهِبة، (وَلَا) تصحّ (في شَائِعٍ يُقْسَمُ) لِمَا مرّ في الهبة (وَلَا عَوْدَ فِيهَا) لأنّ المقصود بها الثَّواب، وقد حصل، بخلاف الهبة، فلا رجوع في الهبة لفقير استحساناً. (وفي القياس يرجع لأنه ملكه بطريق الهبة، وفي أسباب الملك الغنيّ والفقير سواء، كالبيع وغيره. ووجه الاستحسان: أَنّ)

(1)

المقصود بها الثَّواب دون العوض، إذ لو كان قصده العوض لاختار للهبة من يكون أقدر على آدائه. ولَمَا اختار الفقير مع عجزه عن آدائه، فعرفنا أنّ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 419

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

مقصوده الثّواب وقد ناله. ولو تصدّق على غنيّ لا يعود استحساناً. والقياس أن يعود، وبه قال بعض أصحابنا، لأنّ الصّدقة في حقّ الغنيّ هبةٌ، لأنّها إنّما يقصد منها العوض دون الثّواب، كما أَنَّ الهبة في حقّ الفقير صدقةٌ، لأنّها إنّما يقصد منها الثواب دون العوض. ووجه الاستحسان: أَنْ لفظ الصّدقة ممّا يدلّ على أنّه لم يَقْصِد العوض، ومراعاة لفظه أولى من مراعاة حال التملك.

ثُمَّ التصدّق على الغنيّ قد يكون قربةً استُحِقّ بها الثواب، لكونه غنياً يملك نصاباً وله عيالٌ كثيرةٌ، والنّاس يتصدّقون على مثل هذا لِنَيْل الثواب. ألا ترى أنّ عند اشتباه الحال يتأدّى الواجب من الزكاة بالتصدّق عليه، ولا رجوع فيه بالاتفاق، فكذلك عند العلم بحاله لا يثبت له حقّ الرّجوع عليه. ثم الصّدقة فيما يُقْسَمُ، وكذا الهبة على غنيين باطلةٌ عند أبي حنيفة. وقالا: جائزةٌ. وكذا الصّدقة على فقيرين باطلةٌ في رواية «الأصل» عن أبي حنيفة. وفي رواية «الجامع الصغير» : إذا تصدّق على محتاجيْن بعشرة دراهمٍ، أو وهبها لهم جاز. قيل: وهو الصحيح. ولو تصدّق بها على غنيَّيْن أو وهبها، لم يجز. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز كله، والله أعلم بالصواب.

ص: 420

‌كِتَابُ الإِجَارَةِ

هِي بَيْعُ نَفْعٍ مَعْلُومٍ بِعِوَضِ، كَذَا، دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ.

===

كتاب الإجَارة

(هِي): لُغَةً: اسمٌ للأَجْرِ مِنْ أجَرَ يَأْجِرُ ـ بكسر الجيم وضمها

(1)

ـ وهو العِوض. قال الله تعالى: {لو شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرَاً}

(2)

، وسُمِّي الثوابُ أَجْرًا لأَنه سبحانه عوض العبد به.

وشرعاً: (بَيْعُ نَفْعٍ مَعْلُومٍ) غيرِ حرام كالغناء والنوح، ولا عبادةٍ كالأَذان وقراءة القرآن (بِعِوَضٍ، كَذَا) أَي معلومٍ (دَيْنٍ) كالنقود والمَكِيل والموزون (أَوْ عَيْنٍ) كالثِيَاب والدَّوَابِّ. ويُشْترطُ كونُ العِوض معلوماً، لقوله عليه الصلاة والسلام:«مَنْ استأَجَرَ أَجِيْرَاً فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» . رواه محمد بن الحسن في «الآثار» عن أَبي حنيفة، عن حَمَّاد، عن إبراهيم، عن أَبي سعيدٍ، وأَبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وفي روايةِ عبد الرزاق له:«فَلْيُسَمِّ له أَجْرَه» . وفي لفظٍ: «فَلْيُبَيِّن» . ولأن الجهالة في المعقود عليه وبدَلِه تُفْضي إِلَى المُنازعة، كجهالةِ المُثَمَّن والثَّمَن في البيع.

وهي جائِزةٌ بالإِجْمَاع

(3)

. وبقولِهِ تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوْهُنَّ أُجُورَهُنَّ}

(4)

، وقوله تعالى:{عَلَى أَنْ تَأَجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَج}

(5)

. وبما رَوَى الشيخان من حديث ابن عباس: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وأَعْطَى الحَجَّامَ أَجْرَهُ. ومن حديث عائشةَ في الهجرة قالت: استأجَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأَبو بَكْرٍ رَجُلاً من بني الدِّيل هادياً خِرِّيتَاً وهو على دِين كفار قريش، فدفعا إِليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال .. الحديث. والخِرِّيت ـ بكسر المعجمة وتشديد الراء وتحتية ساكنة فمثناة: الماهر بالهداية. ومن حديث أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَعْطُوا الأَجَيْرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» . رواه البخاري وابن ماجه.

ومحل عقد الإِجارة عِنْدنا المنافعُ، وهو قول مالك وأَحمد وأَكثر أَصحاب الشافعي. وقال بعضُ أَصْحابه: العين، لأَنها الموجودة، والعقد يضاف إِليها.

ولنا أَنْ المعقودَ عليه هو المُسْتَوْفَى بالعقد، وذلك المنافع لا الأَعيان، وإِضافة

(1)

من باب ضرب ونصر.

(2)

سورة الكهف، الآية:(77).

(3)

الأولى أَن يقدِّم الاستدلال بالكتاب والسُّنَّة.

(4)

سورة الطلاق، الآية:(6).

(5)

سورة القصص، الآية:(27).

ص: 421

ويُعْلَمُ النَّفْعُ بِذِكْرِ المُدَّةِ وإِنْ طَالَتْ، لَكِنْ في الوقْفِ، لا تَصِحُّ فوق ثلاث سِنِيْن. وبِذِكْر العَمَلِ كَصَبْغِ ثَوْبٍ، وبِإِشَارَةٍ كَنَقْل هذا إلى ثَمَّةَ.

ولا تَجِبُ الأُجْرَةُ بالعَقْدِ،

===

العَقْد إِلَى العَيْن لأَنَّهَا مَحْلُّ المنفعة. وعند مالك وهو مذهب الشافعي وأَحْمَد يجعل المنافع المعدومة موجودةً حُكْمَاً ضرورةَ تصحيح العَقْد. ومِنْ فروع كون المنافع كالأَعْيَان عند مالك والشافعي، وعدمه عندنا: أَنه لو آجَرَ ما استأجره بأَكْثَر مِمَّا استأجر يتصدَّقُ بالفَضْل عندنا إِنْ اتحد الجِنْس في الأُجْرَتَيْن، لأَنَّه رِبْح ما لم يُضْمن فيملكه خبيثاً فيؤمر بالتصدقِ به. وعندهما يَطِيب له، لأَنه لما قبض العين دخلت المنفعة في مِلْكه، فيملك بدَلها بالغاً ما بَلَغ.

(ويُعْلَمُ النَّفْعُ بِذِكْرِ المُدَّةِ) أَي بيانها (وإِنْ طَالَتْ) على المذهب، لأَن المدة إِذَا كانت معلومةً كَان قَدْرُ المنفعة معلوماً إِذَا كانت المنفعة لا تتفاوت، كالدُّور للسُّكْنَى، والأَرَاضي للزراعة (لَكِنْ في الوقْفِ) الذي لم يشترط الواقف مدة الإِجَارة (لا تَصِحُّ) المدة الطويلة عند مشايخ بَلْخ، كَيْلَا يدّعي المستأجر المِلك والمدة الطويلة (فوق ثلاث سِنِيْن) وهو المختار. وقيل: تصح ولكْن يرفع إِلى الحاكمِ حتى يُبْطلها، وبه يُفْتي الفقيه أبو الليث. والحيلة في تصحيح أَكثر من ثلاث سنين أَنْ تُرفع إِلى حاكمٍ يصححها. وإمَّا لو شرَط الواقف مدة اتُّبِع شرطُهُ طَالَتِ المدة أَوْ قصرت.

(وبِذِكْر العَمَلِ) أَي ويُعْلَم النفع بِذِكْر العمل تَارةً (كَصَبْغِ ثَوْبٍ) أَحمر أَوْ أَصفر، أَوْ خياطة قَباء

(1)

أَوْ نحوه، أَوْ حَمْل قَدْر معلومٍ مسافةً معلومةً، إِذَا بَيَّنَ الثوب، ولونَ الصبغ وقَدْرَهِ، وجنس الخياطة، والمحمول، إِذْ بذلك تصير المنفعةُ معلومةً.

(وبِإِشَارَة) تارةً (كَنَقْل هذا) الطعام (إلى ثَمَّةَ) أَي ذلك المقام، لأَنه إِذَا رأَى ما ينقله وعلِم الموضع الذي ينقل إِليه، كانت المنفعة معلومةً فيصح العقد.

(فصل متى تجب الأُجرة)

(ولا تَجِبُ الأُجْرَةُ) أَي لا تملك (بالعَقْدِ) سواءٍ كانت عَيْنَاً أَوْ دَيْنَاً، كذا ذكر محمد في:«الجامع» . وذكر في الإِجَارة: إِنْ كانت عيناً لا تملك بالعقد، وإِنْ كانت دَيْناً تملك به، وتكون بمنزلةِ الدَّيْن المؤجل. وعامَّة المشايخ على ما في «الجامع» .

(1)

القَباء: ثوبٌ يُلْبَس فوق الثياب ويتمنطق عليه - أَي يوضع له نطاق، أي حِزَام - معجم لغة الفقهاء ص 355 بتصرف.

ص: 422

بَل بِتَعْجِيْلِهَا أَو بشَرْطِهِ، أَو باسْتِيفَاءِ النَّفْعِ، أَو التَّمَكُّن مِنْه، فَتَجِبُ لِدَارٍ قُبِضَتْ ولَمْ يَسْكُنْهَا، وتَسْقُطُ بالغَصْبِ بَقَدْرِ فَوْتِ تَمَكُّنَهِ.

وللمُؤْجِرِ طَلَبُ الأُجْرَةِ للدَّارِ والأَرْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ، وللدَّابَّةِ لِكُلِّ مَرْحَلةٍ، وللقِصَارة والخِيَاطَةِ إِذَا

===

وقال الشافعي وأَحمد: تملك بنفس العقد، ويجب تسليمها عند تسليم الدَّار والدَّابَّة إِلى المستأجر (بَلْ) تملك الأُجْرة (بِتَعْجِيْلِهَا) أَي بتقديمها ودفعها إِليه، (أَوْ بشَرْطِهِ) أَي بشَرط تعجيلها في العقد (أَوْ باسْتِيفَاءِ النَّفْعِ) تحقيقاً للتسوية، (أَوْ التَّمَكُّن مِنْه) أَي مِنْ استيفاء النفع إِقامةً للتمكن مِنْ الشيء مُقَام ذلك الشيءِ.

(فَتَجِبُ) الأُجرة (لِدَارٍ قُبِضَتْ ولَمْ يَسْكُنْهَا) لأَنَّ تسليم عين المنفعة لَمَّا لم يُمْكن، أُقِيْم تَسليمُ محلِّهَا مُقَامهَا، إذ التَّمَكُنُ مِنْ الانتفاع يَثْبُت به.

(وتَسْقُطُ) الأُجْرة (بالغَصْبِ) من المستأجر (بَقَدْرِ (فَوْتِ)

(1)

تَمَكُّنهِ) حتى إِنْ فَات تمكُّنُهُ في جميع المدة سقطت جميع الأُجْرة، وإِنْ فات

(2)

في بعضها سقَط بحسابه، لأَن تسليم المحل إِنَّمَا أُقيم مُقام تسليم المنفعة للتمكن من الانتفاع، فإِذَا فات التمكن فَات التسليم وانفسخ العَقْد بقدر ذلك الفوات وسقَطَ مِنْ الأُجْرَة بقَدْره، ذكَره صاحب «الهداية» .

وذكر الفضلي والقاضي فخر الدين في «الفَتَاوى» : أَنَّ الإِجارة لا تَنْفسخ، ولكن تسقط الأُجْرة ما دامت في يد الغاصِب، وكذا إِذَا غرِقت الأَرْضُ قبل زَرْعها. وإِنْ اصْطَلَمَتْهُ

(3)

آفَةٌ سماويةٌ لزِمه الأَجرُ تامًّا في رواية محمد، لأَنه زرعها. وقيل: يلزمه أَجر ما مضى من المدة فقط. وبه يُفْتى إِنْ لم يتمكن من زرع مِثْله في الضرر ثانياً. ذكره قاضيخان، وبه قال شيخ الإِسلام المعروف بخَواهِر زاده.

(وللمُؤْجِرِ طَلَبُ الأُجْرَةِ للدَّارِ والأَرْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ) لأَنه منفعةٌ مقصودةٌ، إِلاَّ أَنْ يبيِّن وقتَ الاستحقاق في العقدِ فيكون بمنزلةِ التأجيل، (و) له طَلَبُ الأَجر (للدَّابَّةِ لِكُلِّ مَرْحَلةٍ

(4)

) لأَنها سيرٌ مقصود، (و)(له)(1) طَلَبُ الأَجْر (للقِصَارة والخِيَاطَةِ إِذَا

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

أَي التمكن.

(3)

الاصطِلام: الاستئصال. مختار الصحاح ص 154، مادة (صلم).

(4)

المَرْحلة: قدرها 44352 مترًا. معجم لغة الفقهاء ص 421.

ص: 423

تَمَّتْ، وللخُبْزِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ التَّنُّوْرِ، فإِذَا احْتَرَقَ بَعْدَما أُخْرِجَ، فَلَهُ الأَجْرُ، وقَبْلَهُ لا. ولا غُرْمَ فِيْهِمَا.

===

تَمَّتْ) لأَن العمل في البعض غيرُ مُنْتَفَعٍ به فلا يستوجِب به أَجْراً. وقال أبو حنيفة ـ أَوْلاً ـ وهو قول زُفَرَ: لا يجِب شيءٌ من الأُجرة إلاَّ بعد استيفاء جميع المنفعة، سواء كان العقد على المُدَّة، كما في إِجَارة الدَّار والأَرْض، أَوْ على قَطْع المسافة، كما في كَرْي

(1)

الدابة إِلى مكة، أَوْ على العمل، كما في القِصَارة والخياطة والصِّبَاغة.

وإنْ كانت حِصة ما اسْتُوْفي مِنْ العَمَل معلومةً، سواء عمِل في غير بيت المستأجر، أَوْ في بيته على ما في «التجريد» ، و «الهداية» ، ويطلبه القَصَّار والخَياط بعد الفراغ لو عمل في بيته. ثُم رجع وقال: إِنْ وقعت الإِجارة على المدة، أَوْ على قَطْع المسافة يجِب إيفاء الأَجر بحِصَّة ما اسْتُوفِي مِنْ المنافع إِذَا كان لِما اسْتُوفيَ حِصَّةٌ مَعْلومَةٌ من الأَجَر، ففي الدار يجب الإيفاء يوماً فيوماً، وفي قَطْع المسافة مرحلةً فمرحلةً. وفي الإِجارة التي تنعقد على العَمَل ـ ويبقَى للعامل أثرٌ في العين ـ لا يجِب إِيفاء الأَجر إلاَّ بعد إيفاء العمل كله، ويستحق (حِصَّة)

(2)

ما خاط لو عمل في بيت المستأجر على ما هو المشهور، كما في «المبسوط» وغيره، فإنه حينئذٍ كالدار والدابة.

(و) للمُؤجِر طلب الأَجر (للخُبْزِ) بالضم ويجوز فتحه (بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ التَّنُّوْرِ) لأَن تمامه بذِلك (فإِذَا احْتَرَقَ) الخبز (بَعْدَما أُخْرِجَ) من التنور من غير فِعْلِهِ (فَلَهُ الأَجْرُ) لوجود تمام العمل. (و) إِذَا احترق (قَبْلَهُ) أَي قبل إِخْراجه مِنْ التنور (لا) أَي لا أَجر له لعدم وجود تمام العمل. وفي «النِّهاية» : إنَّ رواياتِ الكتب من «المبسوط» ، و «الذخيرة» ، و «المغني» ، و «الجامع» لفخر الإِسلام، و «قاضيخان» ، والتُّمُرْتَاشِي، و «الفوائد الظهيرية»: أَنَّ العامل في بيت المستأجر يستحق الأَجْر بِقَدْر عملِهِ، حتى لو سرَق الثوب فله من الأَجر بِقْدر عمله، لأَنَّ كل جزءٍ من العمل يصير مُسلَّماً إِلى صاحب الثوب بالفراغ منه. وفي «الهداية»: أَنه لا يستحق الأَجر إِلا بالتَّمَامِ.

(ولا غُرْمَ فِيْهِمَا) أَي في حالتي الاحتراق بعدَ الإِخراج وقبْلَه على الأَجير، لأَنه لم توجد منه جناية، وهذا عند أَبي حنيفة. وعندهما: على الأَجير الغُرْم، لأَنه أَجِير مشترك، والعين في يده مضمونةٌ عندهما. هكذا حكى القُدُورِي الخلاف في شرحه. وفي «شَرْح الوافي»: ولا ضمان عليه بالهلاك عند الكلِّ: أَمَّا عند أَبي حنيفةَ فلأَنَّه لم

(1)

كمن استأجر سيارة من مكة إلى المدينة، فتكون الإِجارة على المسافة لا على الوقت.

(2)

في المطبوعة: خاصة، وما أَثبتناه من المخطوطة.

ص: 424

وللطَّبْخِ بَعْدَ الغَرْفِ، ولِضَرْبِ اللَّبِنِ بَعْدَ إِقَامَتِه.

ويَحْبِسُ العَيْنَ للأَجْرِ مَنْ خَلَطَ مِلْكَهُ بِهَا كالصَّبَّاغ، فإِنْ حُبِسَ فَضَاعَ فلا غُرْمَ ولا أَجْرَ له، بِخِلَافِ الجَمَّالِ. ولِمَنْ أُطْلِقَ له العَمَلُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ،

===

يَهْلِك مِنْ عمله، وأَمَّا عندهما فلأَنه هلَك بعد التسليم.

(و) للمُؤجِر طلب الأَجر (للطَّبْخِ) للوليمة (بَعْدَ الغَرْفِ) أَي إِخْراج المَرَقة من القِدْر إِلى القِصَاع. قيدنا «بالوليمة» ، لأَنه لو استأجره لِطَبْخ قِدْرٍ خاصَ بعينه لا يكون الغرف عليه، وكذا في المحيط والإِيضاح. والأَصل في ذلك العرف.

(و) للمُؤَجِر طلب الأَجر (لِضَرْبِ اللَّبِنِ) بكسر الموحدة (بَعْدَ إِقَامَتِه) أَي تَسْويته عند أَبي حنيفة، وبعد تشريجه ـ أي جعل بعضه على بعض ـ عندهما، لأنَّ تشريجه من تمام عمله إِذْ لا يُؤمَن الفساد قبله، ولأَنه هو الذي يتولاه عادةً، والمعتاد كالمشروط. ولأَبي حنيفة أَنْ العمل قد تَمَّ بالإِقامة، والتشريج عمل زائدٌ، كالنقل إِلى موضع العمارة. وثمرة الخلاف تظهر فيما إِذَا فسَد بمطر ونحوه بعدما أَقامه: فعنده يجب الأَجْر، وعندهما لا يجب إِلاَّ إِذَا كان شَرَّجه.

(ويَحْبِسُ العَيْنَ للأَجْرِ مَنْ خَلَطَ مِلْكَهُ بِهَا) أَي بالعين (كالصَّبَّاغ) ومَنْ له أَثر فيها، كالقَصَّار، لأَن المعقود عليه وصْفٌ قائمٌ في الثوب، فله حقُّ الحَبْس لاستيفاء بدله، كما في البيع.

(فإِنْ حُبِسَ فَضَاعَ فلا غُرْمَ) عند أَبي حنيفة، لأَنه غير مُتَعَدَ في الحبس، وقد كانت العين أَمَانةً في يده قبل الحبس (فبقيت)

(1)

أمانةً بعده (ولا أَجْرَ له) لهلاك المعقود عليه قبل التسليم. وعند أَبي يوسف ومحمد كانت مضمونةً قبل الحبس فكذا بعده، لكنه بالخِيار إِنْ شاء ضَمَّنه قيمتَهُ غير معمول ولا أَجْرَ له، لأَن العمل لم يَصِر مُسَلَّمَاً إِليه، وإِنْ شاء ضَمِن قيمته معمولاً وله الأَجر، لأَن المبيع صار مُسَلَّمَاً إِليه تقديراً بوصول قيمته إِليه، فصار كما لو صار مسلَّمَاً إِليه حقيقةً.

(بِخِلَافِ الجَمَّالِ) ـ بالجيم أَوْ المهملة ـ وكل صانع ليس لِعَمَله أَثَرٌ في العين (ولِمَنْ) أَي لأَجِيرٍ (أُطْلِقَ له العَمَلُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ) لأَن المُسْتَحَقَّ عَمَلٌ في ذمته،

(1)

في المطبوع: فتعين، وما أَثبتناه من المخطوط.

ص: 425

فإِن قَيَّدَ بِيَدِهِ لا. ولأَجِيرٍ المجيءُ بِعِيَالِهِ، إِنْ مَاتَ بَعْضُهُم وجَاءَ بِمَنْ بَقِيَ، أَجْرُهُ بِحِسَابِهِ.

وحَامِلُ كِتَابٍ أَوْ زادٍ إِلى زَيْدٍ بأَجْرٍ، إِنْ رَدَّهُ لِمَوْتِهِ، لا شَيءَ لَهُ.

===

فله إِيفاؤه بنفسهِ وبغيره، فصار كإِيفاء الدَّيْن

(1)

(فإِن قَيَّدَ بِيَدِهِ) بَأَنْ قال له: على أَنْ تعمل بيدك، أَوْ بنفسك (لا) أَي لا يَستعمل غيره، لأن المعقود عليه عَمَلٌ بعينه فيستحقّ عليه، كالمنفعة في محل بعينه.

(ضوابط الإِجارة الجائزة)

(ولأَجِير المجيءُ بِعِيَالِهِ) الضمير

(2)

للمستأجِر، و «الباء» متعلقة بمجيء وهو مجرور بإِضافة أَجير إِليه، والَلَام متعلقة بمحذوف خبر مُقَدَّم. وقوله:(إِنْ مَاتَ بَعْضُهُم وجَاءَ بِمَنْ بَقِيَ) شَرْطٌ مُعْتَرِضٌ بين الخبر والمبتدأ وهو (أَجْرُهُ بِحِسَابِهِ) والجملة جواب الشرط، يعني مَنْ استأجر رجلاً ليذهب إِلى البصرة ويجيء بعياله ـ وهم معلومون ـ فذهب فوجد بعضهم قد ماتوا، فجاء بِمَنْ بَقِي، فله أَجْرُهُ بحسابِه، لأَنَّ الأَجْر مقابَلٌ بجملتهم، وقد أَوْفَى الأَجِيْرُ بعضَ المعقود عليه فيستحق من العِوض بقَدْرِه.

(وحَامِلُ كِتَابٍ) مبتدأ مضاف (أَوْ زادٍ إِلى زَيْدٍ بأَجْرٍ) الجارَّان متعلقان بـ: «حَامل» (إِنْ رَدَّهُ) أي الكتاب، أَوْ الزاد (لِمَوْتِهِ) أَي لأَجْل موت زيدٍ (لا شَيءَ لَهُ) جواب الشرط، والشرط وجوابه خبرُ المبتدأ. والمعنى: أَنَّ مَنِ استأجر رجلاً ليذهب بطعامٍ إِلى فلان بالبصرة، فذهب إِليها فوجده ميتاً، أَوْ لَمْ يجِده، أَوْ وجده ولم يدفع إِليه شيئاً بل ردّ به، فلا أَجْر له. وعند زُفَر له الأَجْر، لأَنه

(3)

بمقابلة الحَمْل للبصرة وقد وَفَّى به وَجَنَى بِرَدِّه، فلا يسقط بجنايتِهِ حَقّه من أُجْرَته. ولهم أَنّ المعقود عليه هنا هو نَقْل الطعام إِلى البصرة، وقد نقضه بِرَدِّهِ.

ومَنِ استأجر رجلاً ليذهب بكتابه إِلى فلانٍ بالبصرة ويجيء بجوابه، فذهب فوجده ميتاً فَرَدَّ الكتاب فلا أَجر له، وهذا عند أَبي حنيفة وأَبي يوسف. وقال محمد: له أَجر الذهاب، وهو قول مالك والشافعيّ. وذكر الفقيه أَبو اللَّيث قول أَبي يوسف مع قول محمد. لمحمد

(4)

أَنه أَوْفَى بعض المعقود عليه دون البعض، فيستحق الأَجْر

(1)

أَي يجوز للمَدِين أَن يَفي الدين عن نفسه، ويجوز أَداء غيره عنه - أَي المدين -.

(2)

أَي: "الهاء" في كلمة "بعياله".

(3)

أَي الأَجْر.

(4)

أَي وَوَجْه قول محمد.

ص: 426

وصَحَّ اسْتِئْجَارُ دَارٍ أَوْ دُكَّانٍ بِلَا ذِكْرِ ما يَعْمَلُ فِيْهِ، وَلَهُ كُلُّ عَمَلٍ سِوَى مُوْهِنِ البِنَاءِ. لا اسْتِئْجَارُ أَرْضٍ حَتَّى يُسَمِّيَ ما يُزْرَعُ أَوْ مَا يَعُمُّهُ، وَتَكُوْنَ الأَرْضُ خَالِيَةً عَنِ الزِّرَاعَةِ. فإنِ استَأَجَرَهَا للبِنَاءِ، أَو الغَرْسِ صَحَّ،

===

بِقَدْر ما أَوفى. ولهما أَنَّ الأَجْر مقابَلٌ بِنَقْل الكتاب إِذْ هو أَمْرٌ مقصودٌ بين الناس، أَوْ وسيلةٌ إِلى المقصود ـ وهو العلم بما فيه ـ فإِذا رَدَّه فَقد نقضه فيسقط الأَجْر. وأَما لو وجده غائباً فترك الكتاب هناك لِيُوْصَل إِليه، فله أَجْرُ الذَّهاب إِجْماعاً، لأنه أَتى بما في وُسْعِه. وفي «المحيط»: وكذا لو استأجر رسولاً ليبلِّغَ رسالته إِلى فلانٍ ببغداد، فلم يجد فلاناً وعاد، فله الأَجر لِقَطْع المسافة، لأَنه الذي في وُسِعه لا الإِسماع.

(وصَحَّ اسْتِئْجَارُ دَارٍ أَوْ دُكَّانٍ) أَوْ حانوتٍ (بِلَا ذِكْرِ ما يَعْمَلُ) المستأجِر (فِيْهِ) والقياس أَنْ لا يصْح، لأَن المقصود من الدار والدُّكَّان الانتفاع، وهو قد يكون بالسُّكْنى وقد يكون بوضْعِ الأَمْتِعة، فينبغي أَنْ لا يجوز ما لم يُبَيِّنْ ما يعمل فيها، كالأَراضي للزراعة، والثياب لِلُّبْس. ووجه الاستحسان أَنَّ العمل المتعارَفَ فيها السُكْنى، والمتعارَف كالمشروط، فينصرف العَقْد إِلى السُّكْنى، بِخلاف الأَرْض والثياب فإِنهما يختلفان باختلاف المزروع واللابس.

(وَلَهُ) أَي للمُستَأجِر في السُكْنَى فيها (كُلُّ عَمَلٍ) للإطلاق، ككسر الحطب، وغَسْلِ الثياب، لأَن السُكْنَى لا تتم (إِلاَّ)

(1)

بذلك فتكون من توابعها. وفي «المبسوط» و «الذَّخيرة» : إِنَّما يكون له رَبْط الدَّوَابِّ إِذا كان فيها مَوْضعٌ مُعَدٌّ لذلك، وأَما إِذا لم يكن فليس له ذلك. (سِوَى مُوْهِنِ البِنَاءِ) نحو الحِدَادة، والقِصَارة، والطَّحْن بالدَّابة دون اليد، لأن فيه ضرراً ظاهراً فيتقيَّد العقد بما وراءه دلالةً.

والحاصل: أَنْ كُلَّ عَملٍ يُفْسِد البناء أَوْ يُوْهِنُه فذلك لا يصيرُ مُسْتَحَقًّا له بِمُطْلَقِ العَقْدِ إِلاَّ أَنْ يشترط، وما لا يُوْهِنُ فهو مُسْتَحقٌّ بِمُطْلق العَقْد.

(لا اسْتِئْجَارُ أَرْضٍ) أَي لا يَصِحُّ استئجارُ أَرْضٍ (حَتَّى يُسَمِّيَ ما يُزْرَعُ) فيها، لأَنَّهَا تُسْتَأجر للزراعة وغيرها، وما يُزْرَع فيها متفاوتٌ في الضرر، فلا بدَّ من التعيين لئلا تَقَعَ المنازعةُ، (أَوْ) يُسَمِّي (مَا يَعُمُّهُ) أَي يَعُمّ ما يزرع في الأَرض، بأَنْ يَذْكر أَنه يزرع ما يشاء فيها، لأَنه إِذا سَمَّى ما يعُمه ارتفعت الجهالة المُفْضِية إِلى المنازعة (وَ) حتى (تَكُوْنَ الأَرْضُ خَالِيَةً عَنِ الزِّرَاعَةِ) لأَنها لو كانت مشغولةً بها لم يكن المعقود عليه مقدورَ الاستيفاء منها. (فإِنِ استَأجَرَهَا) أَي الأَرْضَ (للبِنَاءِ، أَوْ الغَرْسِ صَحَّ) لأَنَّ ذلك

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 427

وإِذَا انْقَضَتِ المُدَّةُ سَلَّمَهَا فَارِغَةً، إِلَّا أَنْ يَغْرَمَ المُؤجِرُ قِيمتَهُ مَقْلُوْعًا. وَيَتَمَلَّكَهُ بِلا رِضَا المُسْتَأَجِرِ إِنْ نَقَصَ، وإِلَّا فَبِرِضَاهُ، أَوْ يرْضَى بِتَرْكِهِ فَيَكُوْنُ البِنَاءُ أَو الغَرْسُ لِهَذَا، والأَرْضُ لِهَذَا.

والرَّطْبة كالشَّجَرَةِ، وضَمِنَ الحِصَّةَ بالزِّيَادَةِ على حِمْلٍ ذُكِرَ إِنْ أَطَاقَتْ، وَكُلَّ القِيْمَةِ إِنْ لَمْ تُطِق.

===

منفعةٌ تُقْصَد مِنْ الأَرْضِ، فكان كاستئجارها للزراعة.

(وإِذَا انْقَضَتِ المُدَّةُ) أَي مُدَّة الإجارة (سَلَّمَهَا) أَي يلزم المستأجِر أَنْ يُسَلِّم الأَرْض إِلى مالِكِهَا ((فَارِغَةً) مِنَ البِنَاء والغَرْس بِأَنْ يُجبر على قَلْعِهِ، لأَن تقدير المدة في الإِجارة يقتضي التفريغ عند انقضائها، وليس للبناء والغرس مدةٌ معلومةٌ ينتهيان

(1)

إِليها، فيكون كاشتراط القَلْع عند انقضاء المدة عُرْفَاً ودلالةً، بخلاف ما لو انقضت مدةُ الإِجارة وفي الأَرض زرع لم يدرك حيثُ يترك بأَجْر المِثْل في يدهِ إِلى أَنْ يستحصدَه، لأَنَّ لِبُلوغ الزَّرْع غَايَةً معلومةً فكان في التأَخِيْر بأجْر المِثْل مراعاة للحَقَّيْن.

(إِلاَّ أَنْ يَغْرَمَ المُؤجِرُ قِيمتَهُ) أَي قيمة البناء أَوْ الغرس (مَقْلُوْعاً) لأَن في ذلك نظراً لهما (وَيَتَمَلَّكَهُ) هو بالنَّصْب عَطْفٌ على يغرم (بِلا رِضَا المُسْتَأجِرِ إِنْ نَقَصَ) الأَرْضَ القَلْعُ، لأَنَّ فيه دَفْعَ الضرر عن المُؤجِر (وإِلاَّ) أَي وإِنْ لَمْ يُنْقِص القلعُ الأَرض (فَبِرِضَاهُ) أَي فيتملكه المُؤجِرُ برِضَا المتسأجر (أَوْ يرْضَى) عطف على يغرم، أَي أَوْ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى المُؤجِرُ (بِتَرْكِهِ) أَي تَرْكِ البناء أَوْ الغَرْس، لأَن الحَقَّ لربِّ الأَرض فإِذَا رَضِيَ بِاستمرارِ البناء أَوْ الغرس بأَجر أَوْ بغير أَجْر كان له ذلك (فَيَكُوْنُ البِنَاءُ أَوْ الغَرْسُ لِهَذَا) أَي المستأجِر (والأَرْضُ لِهَذَا) وهو المُؤجِر، وهو واضحٌ.

(والرَّطْبة) ـ بفتح فسكون ـ القَضْب، وهي بالفارسية إِسْفِسْت (كالشَّجَرَةِ) أَي حُكْمُهَا، لأَنها لا يُعْلَمُ لانتهائها غاية (وضَمِنَ) المُستأجر (الحِصَّةَ بالزِّيَادَةِ على حِمْلٍ) ـ بالكسر ـ (ذُكِرَ) من عقد الإِجارة، يعني استأجر دَابَّةً ليحمِل عليها مِقْدَاراً معيناً من نوعٍ مُعَيَّن، فحَمَل أَكثر مِمَّا سمَّى فعَطِبَتْ، ضَمِن ما زاد (إِنْ أَطَاقَتْ) دَابةٌ مثلها ذلك الحمل، لأَنها عَطِبت بما هو مأذونٌ فيه، وبما هو ليس بمأَذونٍ فيه فانقسم عليهما.

(وَ) ضَمِن (كُلَّ القِيْمَةِ إِنْ لَمْ تُطِق) دَابةٌ مثلُهَا ذلك، لعدم الإِذْن فيه، أَصْلاً

(1)

في المطبوع: يتهايآن، المثبت من المخطوط.

ص: 428

‌فَصْلُ [فيما يُفْسِدُ الإجَارَة]

يُفْسِدُهَا شُرُوطٌ تفْسِدُ البَيْعَ.

===

لخُرُوجِهِ عن العادة. قَيَّد بِكَوْن الإِجارة على حمل، لأَنها لو كانت على ركوب شخصٍ معينٍ فأَردفه آخر فعَطِبت الدابة ضَمن نِصْفَ قيمتها، سواء كان أَخف أَوْ أَثْقَل، لأَن تلَفَ الدابةِ من الركوب لا ينشأُ من الثِّقْل، إِذْ رُبَّ ثقيل يحسِن الركوب فلا يضر ثِقْله بالدابة، وخفيفٍ لا يحسنه فَيَضُرُّ بها، ولأَنَّ الآدمي لا يُوزن فاعتبر فيه العدد. وهذا إِذا كانت الدابة تُطِيق حمل اثنين، حتى لو كانت لا تطيقُ ذلك ضَمِن كلَّ قيمتها.

وإِنْ قَيَّد الدابةَ براكبٍ، والثوب بِلُبْس لابسٍ مُعَيَّن، فخالف

(1)

إِلى غيره ضَمِن القيمةَ إِنْ أُتْلِف، لتفاوت النَّاس في الركوب واللبس. ومثلُهُ كُلُّ ما يختلف باختلاف المستعمِل. ولا يعتبر التَّعْين فيما لا يختلف بالمُسْتَعْمِل، فلو شرَط سُكْنى واحِدٍ بِعَيْنه في الدار، جاز للمستأجِر أَنْ يُسْكِنَ غيره فيها. والتلف برد الدابة بأَن يجذِب لِجَامها إِلى نفسه لتقف ولا تجري، أَوْ الضَّرْب بلا إِذْنٍ صريحٍ، يُوجِب الضمان عند أَبي حنيفة، كهلاك الدابة المستعارة، والعبد المُسْتَأجَر بالضَّرْب. وهما

(2)

قيَّداه بغير المعتاد، كمالك والشافعيّ.

وصح استئجار الجمل ليحمل عليه مَحْمِلاً

(3)

وراكبين إِلى مكَّةَ المُشرَفة مثلاً. ويتعين المَحْمِل المعتاد في عُرْف البلاد، ويستحب مشاهدة الجَمَّال المَحمِل، لأَنه أَبعد عن الجهالة، وبه قال مالك. وشرطَ الشافعيُّ المشاهدة، وهو القياس، لأَنه مجهولٌ فيؤدي إِلى المنازعة.

ولنا: وهو الاستحسان، أَنَّ المقصود هو الراكب وهو معلومٌ، والمَحْمِل تابعٌ، وما فيه من الجهالة تزول بالصَّرْف إِلى المعتاد، وكذا إِذا لم يَرَ الفراش وما يتعلق به. وصَحَّ لزادٍ معلوم إِلى مكانٍ معلومٍ، ويجوز عوض ما نقص منه، خلافاً لبعض أَصحاب الشافعي.

فصل (فيما يُفسِد الإجارة)

(يُفْسِدُهَا) أَي الإِجارة (شُرُوطٌ تُفْسِدُ البَيْعَ) وهي الشروط التي لا يقتضيها

(1)

أَي الراكب واللابس.

(2)

أَي الصاحبان.

(3)

المَحْمِل: الهودج، وهو مَرْكَب يُرْكَب عليه على البعير. معجم لغة الفقهاء ص 414.

ص: 429

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

العقد الذي وقعت فيه، لأَن الإِجارة في المنافع بمنزلة البيع في الأَعيان، ولذا تُقَال

(1)

وتُفْسَخُ.

والشروط التي لا يقتضيها البيعُ تُفْسِدُه، فكذا الشروط التي لا تقتضيها الإِجارة تُفْسِدها. وذلك كاشتراط (مَرَمّة)

(2)

الدار، وإِدخال جِذْع في سقفها. وتَفْسُد أَيضاً بجهالة المعقود عليه، كما لو استأجر أَرضاً ولم يذكر أَنه يزرعها، أَوْ أَي شيء يزرعها، وكذا بِجَهالة المُدَّةِ فيما تعلم المنفعة بها، كالدُّور لاستلزامها جهالةَ قَدْر المنفعة، وكذا بجَهالة الأَجر لأَنه كالثَّمَن في البيع، وكذا بِجَعْلِه

(3)

من جِنْس منفَعَةِ المستأجِر، كاستئجار دار للسُّكْنى بسُكْنَى دار أُخرى، ولُبْس ثوبٍ بلُبْس آخر. وعند الشافعي يجوز، لأَن المنافع كالأَعيان عنده، ومبادلة العين بالعين بجنسه أَوْ بخلاف جنسه صحيحةٌ عند المساومة.

ولنا ما حُكِي أَنْ ابن سَمَاعة كَتَب إِلى محمدٍ وقال: لم لا يجوز إِجارة سُكْنى دارٍ بِسُكْنَى دار؟ فكتب محمدٌ في جوابه: إِنك أَطلْتَ الفِكْرة، (وأَصَابَتْكَ الحَيرة)

(4)

وجالست الجُبَّائي وكانت منك زَلة. أَما عَلِمْت أَنَّ إِجارة سُكْنى دار بِسُكْنى دارٍ كبيع القُوْهِيّ

(5)

بالقُوْهِيّ نسيئَةً؟ بيانه أَنَّ المعقود عليه ما يَحدث من المنفعة وذا غير موجود في الحال، فإِذا اتَّحَد الجنس كان كمبادلة شيء بجنسه نسيئةً، والجنس بانفراده يُحَرِّمُ النَّساء

(6)

عندنا، بخلاف ما إِذا اختلف الجنس، لأَن النَّساء في الجنس المُخْتَلِف ليس بحرام، كما لو أَسلم قُوهِيّاً في مَرْوِيّ.

فإِن قيل: عند اختلاف النَّوع؟ إِنْ لَم يفسد لهذا المعنى يفسد لمعنًى آخَر، وهو أَنَّ بَيع الدين بالدَّين حرامٌ للنَّهْي عن الكَالِئ

(7)

بالكَالِئ. قيل: الذي تصحَبه الباء هو المعقود عليه، وأُقيم المحل مُقام المنفعة وهي عين، فيصير الآخر بمنزلة الثمن، فلا يكون غير العين بغير العين، بل يكون عيناً بدين، فذلك جائز.

(1)

الإقالة: إقالةُ العقدِ أَو البيعِ: فَسْخُهُ برضا المتعاقدين. معجم لغة الفقهاء ص 81.

(2)

في المطبوع: مراصة، وما أَثبتناه من المخطوط. والمَرَمَّة: متاع البيت. المعجم الوسيط ص 374، مادة (رمَّ).

(3)

أَي الأَجْر.

(4)

في المطبوع: وأَصبت الخبرة، وما أَثبتناه من المخطوط.

(5)

القُوْهِيّ: ضربٌ - أَي نوعٌ - من الثيابِ بِيض [منسوب إلى قُوهستان]. المعجم الوسيط ص 768، مادة (قوَّه).

(6)

النَّسيئة: نسأَتُ الشئَ وأَنسأتُهُ أَي أَخَّرتُهُ، فالنَّسيئة: التأخير. معجم لغة الفقهاء ص 479.

(7)

الكَالِئ: الدَّيْن. معجم لغة الفقهاء ص 375.

ص: 430

فيَجِبُ أَجْرُ المِثْل لا يُزَادُ عَلَى المُسَمَّى.

وصَحَّ إِجَارَةُ دارٍ كُلَّ شَهُرٍ بكذا، بلا بَيَانِ المُدَّةِ في وَاحِدٍ فَقَط، وفي كُلِّ شَهْرٍ يَسْكُنُ في أَوَّلِهِ.

وإِنْ سَمَّى أَوَّل المُدَّة فَذَاكَ، وإِلَّا فَوَقْتُ العَقْدِ. فَإِنْ كَانَ حِيْنَ يَهِلُّ

===

(فيَجِبُ أَجْرُ المِثْل لا يُزَادُ عَلَى المُسَمَّى) وقال مالك وَزُفَر والشافعي وأَحمد: في الإِجارة الفاسدة يَجِب أَجْرُ المِثْل بَالغاً ما بلغ إِلا إِذا لم يُسَمَّ الأجر أَوْ جهل كله، كَتَسْمية ثوبٍ ما، أَوْ بعضه كتسمية مئة دِرْهَم، أَوْ ثوب ما فحينئذٍ يَجِب الأَجْرُ بالِغَاً ما بلغ. ولو استأجر حِماراً إِلى مَكَّةَ ولم يُسَمِّ ما يَحْمِله عليه، فحمل الحَمل المعتاد وبلغها، وجب المسمى لا أَجْرُ المِثل كما قال زُفَر.

(وصَحَّ إِجَارَةُ دارٍ كُلَّ شَهُرٍ بكذا، بلا بَيَانِ المُدَّةِ في) شهرٍ (وَاحِدٍ) لِتَعذُّرِ العمل بالعموم (فَقَط) أَي ولا يصح في غير الشهر إِلاَّ أَنْ يُسَمِّي جملة معلومةً من الشهور، فيصح فيها للعِلم بالمدة، وبه قال الشافعي في «الإملاء» وأَحمد، واختاره الإِصطَخري. وإِذا (تَمَّ)

(1)

الشهر كان لكلِ واحدٍ منهما فَسْخ، الإِجارة ـ لانتهاء العقد الصحيح ـ من غير محضَر صاحبه على قول أَبي يوسف، وبمحضره على قول أَبي حنيفة ومحمد. وقيل: لا تُفسخ إِلاَّ بِمَحْضر صاحبه بالاتفاق. وقال الشافعيّ في الأَصح الإِجارة باطلةٌ، لأَن المدة مجهولةٌ. وقال مالك: الإِجارة صحيحةٌ، وكلما مَضَى شَهْرٌ استُحقّ الأَجر، لأَن المنافع مقدَّرةٌ بتقدير الأَجر فلا يحتاج إِلى ذِكْر المدة.

(و) صحت أَيضاً (في كُلِّ شَهْرٍ يَسْكُنُ في أَوَّلِهِ) ولم يكن للمُؤجِر أَنْ يُخْرجه إِلى أَنْ ينقضي إِلاَّ بِعُذْر، وبه قال أَحمد، لأَنه بهذَا (القَدْر)

(2)

من السُكْنَى صار معلوماً فيتم العقد فيه فكان كالبيع بالمُعَاطَاة

(3)

. والمراد بأَوَّل الشهر أَوَّله عُرْفَاً، وهو الليلة الأُولى من الشهر ويومُها، وهو ظاهر الرواية، وبه يُفْتَى.

(وإِنْ سَمَّى أَوَّل المُدَّة فَذَاكَ) أَي فما سَمَّى أَوَّلَهَا (وإِلاَّ) أَي وإِنْ لَم يُسَمِّ أَوَّل المدة (فَوَقْتُ العَقْدِ) هو أَوَّلُهَا، لأَن الأَوقات لما تَسَاوَتْ بالنسبةِ إِلى ذلك العقد تَعَيَّنَ الزمان الذي يَعْقُبه، (فَإِنْ كَانَ) العقد (حِيْنَ يَهِلُّ) أَي يُبْصَرُ الهلال بصيغة المجهول،

(1)

في المطبوع: لم يتم، وما أَثبتناه من المخطوط.

(2)

في المطبوع: الحقد، وما أَثبتناه من المخطوط.

(3)

بَيْع المُعَاطاة: أَن يناول المشتري الثمنَ للبائع فيناوله البائعُ السلعةَ دون النُّطق بالإِيجاب والقَبُول. معجم لغة الفقهاء ص 437.

ص: 431

اعتبر الأَهِلَّة. وإِلَّا فالأَيَّامُ كالعِدَّةِ.

وإِجارَةُ الحَمَّامِ والحَجَّام

===

والمراد اليوم الأَول من الشهر (اعتبر الأَهِلَّة) في شهور السنة كلها، لأَنها هي الأَصل في الشهور. قال تعالى:{يَسْأَلُونك عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِي مَوَاقِيْتُ لِلنَّاسِ}

(1)

، (وإِلاَّ) أَي وإِنْ لم يكن العقد حين يهل بأَنْ كان في أَثناء الشهر (فالأَيَّامُ) أَي فالمعتبر في شُهور السنة كلّها الأَيام، وهذا عند أَبي حنيفة، وهو روايةٌ عن أَبي يوسف، وقول للشافعي، ورواية عن أَحمد.

وعن محمدٍ وهو روايةٌ عن أَبي يوسف وقول للشافعيّ ورِوَايةٌ عن أَحمد، الشهر الأَول بالأَيام ويُكْمَل من الشهر الأَخِيْر والباقي بالأَهِلة، لأَن الأَصْل في اعتبار الشهور الأَهلة، والأَيام يصار إِليها ضرورة، أَلا ترى إِلى قوله عليه الصلاة والسلام:«صُومُوا لِرُؤيتِهِ، وأَفْطِرُوا لِرُؤيتِهِ، فإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّة شَعْبَان»

(2)

، والضرورةُ في الأَول من الشهور، فَيُكْمَل من أَيام الشهر الأَخِير ويعتبر فيما بينهما بالأَصْل.

ولأَبي حنيفة أَنه لما وجب تتميم الأَول بالأَيامِ قبل ابتداء الثاني، وجب تتميمه من الثاني لأَنَّه متصل به، فابْتُدِاء الثاني بالأَيام ضرورةً، وهكذا إِلى آخِرِ المدة (كالعِدَّةِ) أَي كما يُعْتَبر في العدة إِذا كانت بالشهور: الأَهِلة إِذا كان ابتداءُ العدة حين يهل الهِلَالُ، والأَيام إِذَا كان ابتداؤها في أَثناء الشَّهر.

(و) صح (إِجارَةُ الحَمَّامِ والحَجَّام) أَما الحَمَّام فلتَعَارُفِ الناس، وقد رَوَى الحاكم في «مُسْتَدْرَكِهِ» عن عبد الله بن مسعود أَنه قال:«ما رآه المُسْلِمُون حَسنَاً فهو عند الله حسن» . وما فيها من الجهالة ساقطٌ لمكان الضرورة. وأَما الحَجَّام فمنع أَحمدُ إِجارَتَه، لما أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عن رافع بن خَدِيْج أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«كَسْبُ الحَجَّام خَبِيْثٌ» .

ولنا ما رَوى الشيخان عن ابن عباس: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وأَعطى الحَجَّامَ أَجْرَه. زاد البخاري في لفظ: ولو كانَ حَرَامَاً لم يُعْطِهِ. وفي لفظٍ: لو عَلِم كَرَاهَتَهُ لم يُعْطِهِ. ولِمُسْلِم: ولو كان سُحْتَاً

(3)

لم يُعْطِهِ. وذلك أَنَّه كما لا يَحِل لأَحدٍ أَكْلُ الحرامِ

(1)

سورة البقرة، الآية:(189).

(2)

صحيح البخاري (فتح الباري) 4/ 119، كتاب الصوم (30)، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذا رأَيتم الهلال فصوموا،

" (11)، رقم (1909).

(3)

السُّحْت: المال الحرام وما خَبُث من المكاسب. معجم لغة الفقهاء ص 242.

ص: 432

والظِّئْرِ بِأَجْرٍ مُعَيَّنٍ وبِطَعَامِهَا وكِسْوَتِهَا. ولِلْزَّوْجِ وَطْؤُهَا، لا في بَيْتٍ المُسْتأَجِر. وله في نِكَاح ظَاهِرٍ فَسْخُهَا إِنْ لَمْ يَأَذَن لَهَا، لا إِنْ أَقَرَّتْ بِنِكَاحِهِ. ولأَهْلِ الصَّبِيِّ فَسْخُهَا إِن مَرِضَتْ أَوْ حَبِلَتْ،

===

لا يَحِل له دَفْعُهُ إِلى غَيْرِهِ ليأَكله. وكره كَسْبَه عثمانُ وأَبو هريرة والحسن والنَّخَعِي لما روينا، (ولِمَا)

(1)

في «مُسند» أَحمد: أَنْ مُحَيِّصة سأَل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن كَسْبِ الحَجَّام له، فنهاه، فلم يزل يُكَلِّمه حتى قال: «اعلفه نَاضِحك

(2)

، وأَطْعِمه رقيقك».

(و) صح إِجارة (الظِّئْرِ) أَي المُرْضِع (بِأَجْرٍ مُعَيَّنٍ) والقياس أَنه لا يصح كإِجارة البقرة أَوْ الشاة لِشُرْبِ لبنها، وإِجارة البُسْتان ليأكل ثمرَهُ، إِلاَّ أَنها صحت لقوله تعالى:{فإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوْهُنَّ أُجُورَهُنَّ}

(3)

والمرادُ

(4)

بعد الطلاق، ولأَنَّ ذلك كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم فأَقَّرَّهم عليه. ولإِجماع الأُمة على ذلك، (وبِطَعَامِهَا وكِسْوَتِهَا) ولها الوسط، وهذا عند أَبي حنيفةَ ومالك وأَحمد.

وقال أَبو يوسف ومحمد: لا يجوز. وبه قال الشافعيُّ، لجهالة الأُجْرة.

(ولِلْزَّوْجِ) أَي زوج الظئر (وَطْؤُهَا) وهو قول الشافعي وأَحمد. وقال مالك: ليس له ذلك إِلاَّ برضاء المستأجِر، لأَنه قد ينقص اللبن، وقد يقطعها بالحَبَل. ولنا أَنَّ الوطاءَ حَقُّ الزوج قبل عقد الإِجارة، فلا يتمكن المستأجِر من إِسْقاطه، ولا يسقط لأَمْر مشكوكٍ فيه. (لا في بَيْتٍ المُسْتأجِر) أَي ليس لزوج الظِئْر وطؤها في بيت المستأجِر، لأَن بيته حقه، فليس للزوج فعل ذلك فيه إِلاَّ بإِذنه.

(وله) أَي لزوج الظئر سواء كان ممن يَشِينُه

(5)

أَنْ تكون امرأَته ظِئْراً أَوْ لا (في نِكَاح ظَاهِرٍ) أَي معلوم من غير إِقْرار (فَسْخُهَا) أَي فسخ الإِجارة (إِنْ لَمْ يَأذَن) أَي الزوج (لها) أَي للظئر في الإِجارة، لأَن الإِرْضاع يُنْقِص من جمالها وفي ذلك إِضْرارٌ به، فله أَنْ يمنعها منه كما يمنعها من التطوعات، (لا

(6)

إِنْ أَقَرَّتْ) الظئر (بِنِكَاحِهِ) لأَن عقد الإِجارة قد لَزِمها، وقولها غير مقبول في حق المستأجِر.

(ولأَهْلِ الصَّبِيِّ) أَي أَوليائه (فَسْخُهَا) أَي الإِجارة (إِنْ مَرِضَتْ) الظئر (أَوْ حَبِلَتْ)

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

النَّاضِح: الدابة يستقى عليها. معجم لغة الفقهاء، ص 472.

(3)

سورة الطلاق، الآية:(6).

(4)

أَي والمراد من الآية: "فإِن أَرضعن لكم" أَي بعد الطلاق.

(5)

شَانَه: أَي عَابه. المعجم الوسيط ص 504، مادة (شَانَه).

(6)

أَي لا يكونُ للزوج فَسْخ الإِجارة.

ص: 433

وعَلَيْهَا غَسْلُ الصبيّ وثِيَابِهِ، وإِصْلَاحُ طَعَامِهِ ودَهْنُهُ. وعَلَى أَبِيْهِ الأَجْرُ وثَمَنُهَا. فإِنْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ، أو غَذَّتْهُ بِطَعَامٍ وَمَضَتِ المُدَّةُ، فَلَا أَجْرَ لَهَا.

[حُكْمُ الإجارةِ على العباداتِ]

ولا تَصِحُّ للعِبَادَاتِ: كالأَذَانِ والإِمَامَةِ وتَعْلِيم القُرْآنِ.

===

لأَنَّ لبن المريض والحامل يضر الصغير.

(وعَلَيْهَا) أَي الظِّئْر (غَسْلُ الصبيّ و) غَسْل (ثِيَابِهِ) من البول والغائط ونحوهما (وإِصْلَاحُ طَعَامِهِ ودَهْنُهُ) ـ بالفَتْحِ

(1)

ـ للعُرْف، على أَنَّ الظئر هي التي تتولى ذلك فصار كالمشروط. والأَصل أَنَّ الإِجارة إِذا وقعت على عملٍ فما كان من توابع ذلك العمل ولم يشترط في الإِجارة على الأَجِيْر، فالمرجع فيه (للعُرْف

(2)

). (وعَلَى أَبِيْهِ) أَي أبِ الصبي (الأَجْرُ) أَي أَجْر الظئر (وثَمَنُهَا) أَي ثمن ثيابه وطعامه وما يغسل وما يُدَّهن به، لأَنَّها من نفقته (فإِنْ أَرْضَعَتْهُ) أَي الصبي (بِلَبَنِ شَاةٍ أَوْ غَذَّتْهُ) ـ بتشديد المعجمة ـ أَي ربته (بِطَعَامٍ وَمَضَتِ المُدَّةُ) أَي مدة الإجارة (فَلَا أَجْرَ لَهَا) وبه قال مالك والشافعيّ وأَحمد.

(حكم الإجارة على العبادات)

(ولا تَصِحُّ) الإِجارة (للعِبَادَاتِ) في «شرح الوافي» والمذهب عندنا أَنَّ كلَّ طاعة يختص بها المسلم، فالاستئجار عليها باطل (كالأَذَانِ)، والحج (والإِمَامَةِ وتَعْلِيم القُرْأَنِ)، وتعليم الفقه، وهو نص أَحمد، وقول عَطَاء، والضَّحَّاك، والزُّهْرِي، والحسن، وابن سِيرين، وطاوس، والنَّخَعي، والشَّعْبِي.

وقال مالك، والشافعيّ، وأَحمد في روايةٍ: تصح في كل ما لا يتعين على الأَجير فعله، كالاستئجار لبناء المسجد، حتى لو تَعيَّن الإِفتاء أَوْ الإِمامة على واحدٍ لا تصح إِجارته، لأَنه عليه الصلاة والسلام زَوَّج رجلاً بما معه من القرآن. وإِذا جاز تعليم القرآن عِوضاً في بابِ النكاح، جاز في باب الإِجارة. ولأَنَّ أَبا سعيد الخُدْرِي رَقَى بفاتحة الكتاب وأَخَذ قَطِيعاً من الغنم، واقتسمه هو وأَصحابُهُ بِأَمْر النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَحَقَّ ما أَخَذْتُم عليه أَجْرَاً كتابُ الله»

(3)

. ولأَنه يجوز أَخْذُ الرِّزق

(1)

أَي بفتح الدال في كلمة "دَهنه".

(2)

في المطبوع: العُرْف، وما أَثبْتناه من المخطوط.

(3)

أَخرجه الإمام البخارى في صحيحه (فتح الباري) تعليقًا، 4/ 452، كتاب الإِجارة (37)، باب ما يُعْطى في الرُّقْية (16).

ص: 434

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

(عليه)

(1)

من بيت المال، فيجوز الأَجْر عليه فإِنه بمعناه، ولأَنه قد يحتاج إِلى الاستنابة في الحج عَمَّن وجب عليه وَعَجَز عن فِعْله ولا يوجد مُتَبَرِّعٌ به.

ولنا ما رَوَى أَحمد وإِسحاق بن رَاهُويه، وابن أَبي شَيْبَة، وعبد الرزاق من حديث عبد الرحمن بن شِبْل قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقْرَؤا القرآنَ ولا تأَكلوا به، ولا تَجْفُوا

(2)

عنه، ولا تَغْلُوا

(3)

فيه، ولا تَسْتَكْثِرُوا

(4)

به». وما رَوَى أَبو داودِ وابنُ ماجه عن عُبادة بن الصَّامت قال: عَلَّمْتُ ناساً من أَهل الصُّفَّةِ

(5)

القرآن وأَهْدَى إِليَّ رَجُلٌ منهم قوساً. فقلت: لَيْسَت بِمَالٍ، وأَرْمِي بِهَا في سَبِيْلِ الله. فسأَلتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:«إِنْ أَردت أَنْ يُطوِّقَكَ اللَّهُ طَوْقَاً مِنْ نارٍ فاقْبَلْها» . وفي رواية: فَقُلْتُ: ما تَرَى فيها يا رسولَ الله؟ فقال: «جمرة بين كتفيك تقلّدتَها أَوْ تعلقتَها» .

وَرَوَى أَصحابِ «السُّنن الأَربعة» بِطُرُق مختلفة، فَلَفْظ أَبي داود والنَّسائي عن عثمان ابن أَبي العاص قال: قلت: يا رسولَ الله، اجعلني إِمَامَ قومي، قال: أَنْتَ إِمَامُهُمْ، واتَّخِذ مُؤذِّنَاً لا يأَخذُ على أَذَانِهِ أَجْرَاً». وروى الترمذي في «جامعه» مُسْنَداً إِلى الحسن، عن عثمان بن أَبي العاص قال: إِنَّ آخِرَ ما عَهِدَ إِليَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم «أَنْ اتَّخِذ مُؤذِّنَا لا يأَخذُ على أَذَانِهِ أَجْرَاً» .

وحديث التزويج ليس فيه تصريح بأَنَّ التعليم صَدَاق، فَلَعَلَّهُ زَوَّجَهَا إِيَّاه بغيرِ صَدَاقٍ إِكراماً له كما زوَّجَ أَبَا طَلْحَة أُمَّ سُلَيْم على إِسْلَامِه. فإِنَّ النكاح يصح بدون ذِكْر المهر، ومع ذلك يجب مَهْر المِثْل وتكونُ:«الباء»

(6)

مكان «اللام» ، أي «لِمَا» معك من القرآن، أو لعل المرأَة وهبتها له باعتبار ذلك.

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

لا تَجْفُو عنه: أَي لا تبعدوا عن تلاوته. فيض القدير 2/ 64.

(3)

تَغْلُوا فيه: أَي تجاوزوا حدّه من حيث لفظُهُ أَو معناه، بأَن تتأَولوه بباطل. أَو المراد لا تبذلوا جهدكم في قراءته وتتركوا غيره من العبادات. فيض القدير 2/ 64.

(4)

لا تستكثروا به: أَي لا تجعلوه سببًا للإكثار من الدنيا. فيض القدير 2/ 64.

(5)

أَهْل الصُّفَّة: هم فقراء المهاجرين ومَنْ لم يكن له منهم منزلٌ يَسْكُنُه، فكانوا يأوُون إِلى موضع مُظَلَّل في مسجد المدينة يسكنُونُه. النهاية 3/ 37.

(6)

أَي الباء في كلمة "بما" الواردة في الحديث.

ص: 435

ويُفْتَى اليَّوْمَ بِصِحَّتِهَا.

‌فَصْلٌ [في حُكمُ الإجارةِ على المَعَاصي]

ولا للمَعَاصِي: كالغِنَاءِ

===

ومعنى قوله: «أَحَقُّ ما أَخَذْتُمْ عليه أَجْراً كِتَابُ الله» الجِعَالة

(1)

في الرُّقْيَة، لأَنَّ ذلك في سياق جزاء الرّقْية، ودائرة الجِعَالة أَوْسع من دائرة الإِجارة. ولهذا تجوز مع جهالة العمل والمدة دون الإِجارة، أَوْ أَنَّ المأَخوذَ منه قطيعَ الغنم كان كافراً غير مُسْتأَمِن فجاز أَخْذُ ماله. أَوْ أَنَّ حق الضيف واجبٌ ولم يضيفوهم. أَوْ أَنْ الرُّقْية ليست بقراءةٍ مَحْضة، فجاز أَخْذ الأُجْرة عليها.

وأَما الرزق مِنْ بيت المال فيجوز لِمَنْ يتعدَّى نَفْعُه، لأَنَّ بيت المال من مصالح المسلمين فجرى مجرى الوَقْف عليهم، بخلاف الأُجرة. وأَما الاستنابة عن الحجِّ فللآمِر ثوابُ الإنفاق، وبه يسقط الفَرْض عنه فيكونُ أُجْرةً للخِدْمة، أَوْ لِقَطْع المسافة. وعلى تقدير أَنَّ الأَفعال تَقَعُ عن الآمِر لا تكون إِجارَةً على الحج، بل إِنْفَاقَاً عن النَّائِبِ.

(ويُفْتَى اليَّوْمَ بِصِحَّتِهَا) أَي الإِجارة على الأَذَان والإِمامة وتعليم القرآن، لأن المتقدِّمِينَ إِنَّما مَنَعُوا منها لرغبة الناس في زمانهم في فِعْلها احتساباً، وفي مجازاة فاعلها بالإِحْسان بلا شَرْط. وفي هذا الزمان قد زال المعنيان، ففي عدم صحة الإِجارة عليها تَضْيِيعُهَا، ولا يَبْعُد أَنْ يختلف الحكم باختلاف الأَزْمِنة، أَلا ترى أَنَّ النِّسَاءُ كُنَّ يَخْرجن إِلى الجماعات في زمنه عليه الصلاة والسلام وأَبي بكر حتى مَنَعَهن عُمَرُ عن ذلك.

وفي: «الهداية» : وبعض مشايخنا استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم، وعليه الفتوى. وفي «النهاية»: يُفْتى بجواز الاستئجار على تعليم الفقه أَيضاً في زماننا. وفي «المجمع» : وقيل: يُفْتَى بجوازِهِ، أَي الاستئجار على التعليم والإِمامة والفقه. وفي «الذخيرة» و «الروضة»: عن بعض أَصحابنا يجوز في زماننا للإِمام، والمؤذن، والمعلم أَخْذُ الأُجرة.

فصل (في حكم الإجارة على المعاصي)

(ولا) تصح الإِجارة (للمَعَاصِي، كالغِنَاءِ) لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «(إِنْ)

(2)

الغِنَاءَ

(1)

الجِعَالة: هي التزامُ عوضٍ معلوم على عمل معيّن بقطع النظر عن فاعله، كقوله: مَنْ ردّ عليّ حصاني فله كذا .. معجم لغة الفقهاء ص 164.

(2)

سقط من المطبوع.

ص: 436

والنَّوْحِ، ولا لعَسْبِ التَّيْس، ولا إِجارَةُ المُشَاع إِلَّا مِنْ الشَّرِيْكِ، ولا إِجَارَة ُالرَّحَى بِبَعْضٍ دَقِيْقِه

===

يُنْبِتُ النفاقَ في القَلْبِ». رواه أَبو داود. وكذا سائر الملاهي، كالمِزْمَار، والطبل لغير الغزو، لما في «سُنن أَبي داود» عن نافع قال: سَمِعَ ابن عمر مِزْماراً فوضع أُصبعيه في أُذُنَيْه ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافعُ هل تَسْمع شيئاً؟ قال: قلت: لا. قال: فرفع أُصبعيه من أُذَنَيْه وقال: كُنْتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِع مثل هذا، فصنع مثل هذا ..

(والنَّوْحِ) لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَب الخُدودَ، وشَقَّ الجُيْوب

(1)

، ودَعَا بِدَعْوى الجاهلية». رواه البخاري. وفيه أَيضاً عن أَبي موسى: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِاء من الصَّالِقةِ، والحَالِقَةِ، والشَّاقَّة. الصالقة: التي ترفع صوتها بالبكاء والنَّوْح. والحالقة: التي تَحْلِق رأَسها في المصيبة. والشَّاقَّة. التي تشق ثوبها في تلك الحالة. وذلك لأَنَّ عَقْد الإِجَارة يستحق به تسليمُ المقعود عليه شرعاً، فلا تُستحق على أَخْذ ما يكون به عاصياً، لئلا تصير المعصية مضافة إِلى الشريعة.

(ولا) تصح الإِجارة (لعَسْبِ التَّيْس) وهو نَزْوه

(2)

على الإِناث، لما رَوى البخاري وأَبو داود والترمذي والنَّسائي عن ابن عمر: أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن عَسْبِ التَّيْس. وفي «مُسْند» أَحمد: نهى عن ثَمَنِ عَسْبِ الفَحْل.

(ولا) تصح (إِجارَةُ المُشَاع

(3)

إِلاَّ مِنْ الشَّرِيْكِ) على الأَصح عند أَبِي حنيفة، وهو قول زُفَر وأَحمد، سواء كان مِمَّا يُقْسَم، كالأَرض، أَوْ لا، كالعبد. وقال أَبو يوسف ومحمد ومالك والشافعيّ: يجوز من غير الشريك أَيضاً إِنْ بَيَّنَ نَصيبه، وإِلاَّ فلا تصح على الصحيح، ويتهايآن

(4)

فيه، ويُجْبَرانِ على ذلك، لأَن هذا عقد معاوضة فيجوز في المُشَاع، كالبيع. وفي «المغني»: والفتوى اليوم على قولهما في إِجارة المُشاع، والحيلة في جوازها على قول الكل: أَنْ يرفع العقد إِلى قاضٍ يحكم به.

(ولا إِجَارَةُ الرَّحَى بِبَعْضِ دَقِيْقِه) أَي دقيق ذلك المستأجِر على طَحْنِهِ، فإِنْ

(1)

الجُيوب: جَيب القميص ونحوه: ما يُدخَل منه الرأَسُ عند لُبسه. معجم لغة الفقهاء ص 169.

(2)

نَزْوُه على الإناث: نَزَوْت على الشئ إِذا وَثَبتُ عليه، والمراد حَمْله عليها للنَّسْل. النهاية 5/ 44.

(3)

المُشَاع: سَهْمٌ مُشاعٌ، وشائعٌ أَي: حِصةٌ من شئ غير مقسوم. معجم لغة الفقهاء ص 430.

(4)

المهايأَة: الاتفاق على قسمة المنافع على التعاقب، فتكون العين المشتركة لهذا شهرًا ولهذا شهرًا مثلًا. معجم لغة الفقهاء ص 466.

ص: 437

ونَحْوِهَا. ولا الجَمْعُ بَيْنَ الوَقْتِ والعَمَلِ.

===

طَحَن فالدقيقُ لِرَبِّ المطحون، وللطاحن أَجْرُ المِثْل. (و) لا إِجارة (نَحْوِهَا) من الإِجارات، كإِجارة الحَمَّال لِحَمْل الطعام بِقَفِيْز

(1)

منه، فإِنها لا تجوز، فإِن حَمَله فله أَجْرُ مِثْله لا يجاوز القَفِيْز. أَمَّا فساد الإِجارة فَلِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِي والبَيْهَقِي في «سننهما» ، وأَبو يَعْلى المَوْصِلي في «مسنده» عن أَبي سعيد الخُدْرِي قال: نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن عَسْبِ الفَحْلِ، وعن قَفيز الطَّحَان. وفي «الهداية»: هو أَنْ يستأْجِرَ ثَوْراً ليطحن له طحنةً بِقَفِيزٍ من دقيقها. وأَما وجوب أَجْر المِثْل، فلأَنه سلم (له)

(2)

المعقود عليه. وأَما أَنه لا يجاوز (بالأَجْر)

(3)

المُسَمَّى، فلأَن الإِجارة لما فَسَدَت وجب الأَقلُ من المُسَمَّى مِنْ أَجْر المِثْل لرضاه بِحَطِّ الزيادة.

(فصل في حكم الجمع بين الوقت والعمل في الإجارة)

(ولا) يصح (الجَمْعُ) في الإِجارة (بَيْنَ الوَقْتِ والعَمَلِ) بدون حرف الظرف، كما لو استأْجر رجلاً ليخبز له عشرة أَقْفِزة اليوم بِدِرْهَم، وهذا عند أَبي حنيفة. وقالا: يصح، لأَن المعقود عليه العمل، وذِكْر الوقت للاستعجال لا لِتَعْلِيق الحقِّ، به، حتى لو فرغ منه في نصف النهار كان الأَجر له كاملاً، ولو لم يفرغه في اليوم كان عليه عمله إِلى الغد.

ولأَبي حنيفة أَنْ ذِكْر الوقت دليل كون المنفعة معقوداً عليها، وذِكْر العمل دليل كونه معقوداً عليه. ونَفْع المستأْجِر في الثاني ونَفْع الأَجِيْر في الأَول ولا ترجيح لأَحدهما على الآخَر، لأَن كل واحدٍ منها يقع معقوداً عليه في باب الإِجارة، فصار المعقود عليه مجهولاً جهالةً تُفْضِي إِلى المنازعة: بأَنْ يقول المستأْجِر إِذا فَرَغ الأَجِيْر من العمل في أَثناء النهار: منافعك في بقية المدة حَقِّي باعتبار تسمية الوقت، وأَنا أَستعمِلُك. ويقول الأَجِيْر إِذا لم يَفْرُغ من العمل عند مُضي اليوم: قد انتهى العقد بانتهاء المدة؛ والجهالة المُفْضية إِلى المنازعة مُفْسِدة.

وإِنَّما قلنا: بدون حَرْف الظرف، لأَنه رُوِي عن أَبي حنيفة أَنه قال: إِذا قال: «في اليوم» تصح الإِجارة، لأَن «في» للظرف لا للمُدَّة، فكان المعقود عليه العمل، بخلاف اليوم فإِنه للمدة، وقد سبق نظيره في الطَّلاق.

(1)

القَفيز: مِكيالٌ قديم يختلف باختلاف البلاد. والقفيز الشرعي = 12 صاعًا، وهو ما يساوي 39138 غرامًا من القمح عند الحنفية. معجم لغة الغقهاء ص 368.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

في المطبوع الأجر، وما أَثبتناه من المخطوط.

ص: 438

‌فَصْلْ [ضَمَانُ الأَجِيرِ]

الأَجِيْرُ المُشْتَرَكُ لا يَسْتَحِقُّ الأَجْرَ إِلَّا بالعَمَلِ، ولَهُ أَنْ يَعْمَلَ للعَامَّةِ، كالقَصَّار ونَحْوِهِ. ولا يَضْمَنُ ما هَلَكَ في يَدِهِ وإِنْ شُرِطَ عليه الضَّمَانُ،

===

(حكم إِجارة بيته للمعصية)

وإِجارة مُسْلِم بيته ليباعَ فيه خَمْرٌ أَوْ نفسه لحملها، مَكْرُوهٌ عند أَبي حنيفة، وفاسِدٌ عندهما. لأَن الحمل سببٌ للمعصية فكانت معصية، والعَقْد على المعصية لا يصح، وقد لَعَن النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الخمر منهم: حاملها. وله أَنَّ العَقْد وَاقِعٌ على الفِعْل، وأَنه معلومٌ فيصح العقد فيه، والمعصية والحرام هو الشرب والبيع، وهو منفصل عَمَّا وقع عليه العقد فلم يوجد الفسادُ فيه، بل الكراهة، لأَن اللعن متعلق به لِمَعْنىً جاوره، كالبيع وقتَ النداء، والله أَعلم.

فصل (ضَمَانُ الأَجِيرِ)

(الأَجِيْرُ المُشْتَرَكُ): وهو مَنْ لا يجب عليه أَنْ يختص بواحدٍ من الناس (لا يَسْتَحِقُّ الأَجْرَ إِلاَّ بالعَمَلِ)، كخياطة هذا الثوب، أَوْ صَبْغه لأَن المعقود عليه حقيقة العمل أَوْ أَثَرُهُ (ولَهُ أَنْ يَعْمَلَ للعَامَّةِ،) أَي لكل أَحَدٍ، لأَن منافعه غير مستحقة لواحِدٍ (كالقَصَّار

(1)

ونَحْوِهِ) وذلك لأَن المعقود عليه إِذا كان هو العمل أَوْ الوصف الذي يحدث في العين بعمله، لا يمتنع عليه أَنْ (ينقل)

(2)

مثل ذلك العمل لغيره، لأن ما استحقه أَولاً في حكم الدَّيْن في ذمته، ولهذا سُمِّي مُشْتَرَكَاً، لأَن له أَنْ يعمل لِمَنْ شاء، ولم تَصِر منافعه مستحقة لواحدٍ.

(ولا يَضْمَنْ ما هَلَكَ في يَدِهِ) من غير تَعَدَ منه، (وإِنْ) كان (شُرِطَ عليه الضَّمَانُ). والمعنى: أَنْ المتاع في يده أَمانةٌ عند أَبي حنيفة، لحصول القبض بإِذنه لمنفعةٍ وهي إِقامة العمل فيها له، فلا تكون مضمونةً عليه، كالمودَع. وبه أَخَذَ زُفَر، والحسن بن زياد، وأَحمد وإِسحاق والمُزَنِي والشافعي في قول، وهو القياس، سواء هلك بِأَمْرٍ يمكن التحرز عنه، كالسرقة والغَصْب، أَوْ بِأَمرٍ لا يمكن التحرز عنه، كالحريق الغالب، والغارة الغالبة، والمكابرة

(3)

. وقال أَبو يوسف ومحمد: إنه مضمون عليه إِنْ

(1)

القصَّار: المُبيِّض للثياب. وكان يُهيِّأ النسيج بعد نَسْجِه ببلِّه ودقِّه بالقَصَرَة - القطعة من الخشب - "المعجم الوسيط" ص 739، مادة (قصر).

(2)

في المطبوعة: يتقبل، وما أَثبتناه من المخطوطة.

(3)

المكابرة: المغالبة على الأهل أو المال، ونحو ذلك، معجم لغة الفقهاء ص 455. وعَبَّر في "الهداية" بـ:"العَدُوّ المكابر". وهو أوضح. انظر "فتح القدير" 8/ 62.

ص: 439

بل بِعَمَلِهِ، إِلَّا الآدَّمِي إِنْ لَم يَتَجَاوَز المُعْتَادَ.

‌فصل [في أحكام الأجير الخاص]

والأَجِيْرُ الخَاصُّ يَسْتَحِقُّ بِتَسْلِيْمِ نَفْسِهِ مُدَّتَهُ وإِنْ لَمْ يَعْمَل، كالأَجِيْرِ لِرَعْي الغَنَم.

===

هلك بأَمرٍ يمكن التحرز عنه، لأَنَّ علياً رضي الله تعالى عنه كان يُضَمِّنُ الصَّاغة والصُّنَّاع، وقال: لا يصلح للناس إِلا ذلك. رواه البيهقي من طريق الشافعي، وحكاه في «الهداية» عن عمر أَيضاً. واختار المتأَخرون من أَصحابنا الصلح عن النصف بكل حال، وأَفتوا به عملاً بأَقوال الصحابة والفقهاء بِقَدْر الإِمكان، كذا في «جامع الفُصُولَيْن» وغيره.

(بل) يضمن ما تَلِف (بِعَمَلِهِ) كتخريق الثوب من دقِّ القَصَّار، وفساد المحمول من زلق الحامل، أَوْ من انقطاع الحبل الذي يشد به المُكَارِي الحَمْل، أَوْ غرق السفينة وأَمتعتها من مَدِّ الملاح أَوْ معالجته، لأن ذلك من جناية يده، وبه قال مالك، وأَحمد، والشافعيّ في قول. ورُوي عن عمر، وعلي، وعبيد الله بن عُتْبة، وشُرَيْح، والحسن، والحاكم. وقال زُفَر والشَّافعِيّ في قول: لا يضمن. ورُوي عن عطاء وطاوس: لو غَرِقت من ريح، أَوْ موج، أَوْ صدم جبل وتلف ما فيها، لا يضمن عند أَبي حنيفة، ويضمنه عند صاحبيه بناءً على ضمان الأَجِير المشترك وعدمه.

(إِلاَّ الآدَمِي) فإِنَّ الأَجِيْرَ لا يضمن إِذا غرِق في السفينة من مَدّ الملاح لها، أَوْ سقط من الدَّابةِ بِسَوْق المُكَارِي، أَوْ عَطِبَ بحجامة الحجَّام أَوْ فَصْده

(1)

، لأن الآدمي لا يضمن بِالعَقْدِ بل بالجناية (إِنْ لَمْ يَتَجَاوَز) الأَجِير في علمه فيه المَوْضِعَ (المُعْتَادَ) قَيَّد به لأَن كلاً من الحَجَّام والفصاد يضمن الآدمي إِذا تجاوز في عملهِ الموضع المعتاد.

فصل (في أَحكام الأجير الخاص)

(والأَجِيْرُ الخَاصُّ يَسْتَحِقُّ) الأُجْرة (بِتَسْلِيْمِ نَفْسِهِ مُدَّتَهُ) أَي مُدَّة العقد (وإِنْ لَمْ يَعْمَل) أَوْ عَمِل ونقص العمل (كالأَجِيْرِ) شَهْراً للخِدْمة، أَوْ (لِرَعْي الغَنَمِ) وقد يسمى أَجِيْرَاً وَحْداً

(2)

لأنه لا يمكنه في تلك المدة أَنْ يعمل لغير المستأْجِر، لأن العقد وَرَدَ

(1)

الفَصْد: شقُّ الوريد وإِخراج شيء من دمه بقصد التداوي. معجم لغة الفقهاء ص 346.

(2)

أي أجيرًا منفردًا.

ص: 440

ولا يَضْمَنُ ما هَلَكَ في يَدِهِ أَوْ بِعَمَلِهِ.

وإِنْ رَدَّدَ الأَجْرَ بِتَرْدِيْدِ العَمَلِ يَجِبِ أَجْرُ مَا عَمِلَ.

وإِنْ رَدَّدَ في عَمَلِهِ اليَوْمَ أَو غَدًا، فَلَهُ ما سَمَّى إِنْ عَمِلَ اليَوْمَ، وأَجْرُ مِثْلِهِ إِنْ عَمِلَ غَدًا، فَلَا يَتَجَاوَزُ المُسَمَّى.

===

على منافِعِه، وذِكْرُ العمل لِصَرْف المنفعةِ المستحقَة إِلى تلك الجهة. وفي «الذخيرة»: لو استأْجره يوماً ليعمل في الصحراء فَمَطَرت السماء بعدما خرج الأَجِيْر إِلى الصحراء لا أَجْر له، لأَنَّ تسليم النفس في ذلك العمل لم يوجد لمكان العذر، وبه كان يُفْتِي المَرْغِينَاني.

(ولا يَضْمَنُ) أَي الأَجِيْر الخَاصّ (ما هَلَكَ في يَدِهِ) بالإِجْماع، (أَوْ بِعَمَلِهِ) المعتاد، وهو قول مالك، وأَحمد، وظاهر مذهب الشافعي. (وإِنْ رَدَّدَ الأَجْرَ بِتَرْدِيْدِ العَمَلِ) بِأَنْ رَدَّدَ بين نوعي عمل، أَوْ بين دَارَيْن، أَوْ بين مسافتين، أَوْ حَمْلَتَين على دَابةٍ، كأَنْ قال: إِنْ خِطْتَ هذا الثوب فارسياً فَبِدِرْهم، وإِنْ خِطْته رُوميّاً فبدرهمين؛ أَوْ إِنْ صَبَغْته بِعُصْفُر فَبِدِرْهم، وإِنْ صبغته بِزْعْفَران فبدرهمين؛ أَوْ قال: إِنْ سكنتَ هذه الدار شهراً فبخمسة، وإِنْ سَكنتَ الأُخْرَى فبعشرة، أَوْ قال: إِنْ سِرْت على هذه الدابة إِلى الكُوفة فبكذا، أَوْ إِلى البَصْرة فبكذا، أَوْ قال: إِنْ حَمَلتَ عليها إِلى كذا قِنْطَاراً من حديد فبكذا، أَوْ مِنْ قُطن فبكذا (يَجِبِ أَجْرُ مَا عَمِلَ) وكذا إِنْ رَدَّدَ بين ثلاثة. وإِن رَدَّدَ بين أَرْبَعَةٍ لم يَصْح. والأَصل في ذلك البيع.

وقال مالك، والشافعي والثَّوْرِي وأَبو ثَوْر: لا يصح العَقْد ويجب أَجْرُ المِثْل إِذا عَمِل وهو القياس، لأنه عَقْد معاوضة لم يتعين فيه العِوض ولا المعوض فلم يصح، كما لو قال: بِعْتُك هذا بِدِرْهم، أَوْ هذا بِدِرْهَمَيْن. ووجه الاستحسان أَنَّ الإِجارة يجب الأَجْر فيها بالعمل، وعند العمل ما يلزمه من البدل مَعْلُومٌ، فلا تبقى جهالته لا في المعقود عليه ولا في بَدَلِه، بخلاف البيع فإِنَّ الثمن فيهِ يجب بنفس العقد، فإِذا لم يكن مَعْلُومَاً في العقد يَفْسُد.

(وإِنْ رَدَّدَ) الأَجْر (في عَمَلِهِ اليَوْمَ أَوْ غَدًا) كَأَنْ قال: إِنْ خِطتُهُ اليوم فَبِدِرْهَم، وإِنْ خِطْتُهُ غداً فبنصف درهم. فقال أَبو حنيفة: الشرط الأول جائز، والثاني فاسد (فَلَهُ) أَي للأَجِيْر (ما سَمَّى إِنْ عَمِلَ اليَوْمَ) لصحة شرطه (وأَجْرُ مِثْلِهِ إِنْ عَمِلَ غَدَاً) لفساد شرطه (فَلَا يَتَجَاوَزُ المُسَمَّى) لتراضيهما عليه. وقال أَبو يوسف ومحمد: الشرطان جائزان، فَلَهُ ما سَمَّى في عمل اليوم إِنْ عَمِل فيه، وما سَمَّى له في عَمِل الغد

ص: 441

ولا يُسَافِرُ بِعَبْدٍ مُسْتَأَجَرٍ لِلخِدْمَةِ إِلَّا بِشَرْطِهِ.

‌فصلْ [في فَسْخُ الإِجَارَةِ]

تُفْسَخُ الإِجارة بِعَيْبٍ أَخَلَّ بِالنَّفْع، كَدَبَرِ الدَّابَّةِ. فَلَوْ انتَفَعَ بالمَعِيْبِ، أَو أُزِيْلَ العَيْبُ، سَقَطَ خِيَارُهُ.

===

إِنْ عَمِله في الغد. وقال زُفَر: الشرطان فَاسِدَانِ، وله أَجْرُ المِثْل في عمل اليوم إِنْ عَمِلَه في اليوم، وفي عَمَل الغد إِنْ عَمِله في الغد، وهو قول مالك، والشافعيّ، وأَحمد، والثَّوْرِي، وأَبي ثَوْر، وإِسحاق، وهو القياس.

(ولا يُسَافِرُ بِعَبْدٍ مُسْتَأْجَرٍ) مِنْ مولاه (لِلخِدْمَةِ إِلاَّ بِشَرْطِهِ) أَي السفر في العقد، أَوْ رضاً فيما بعده، لأن خدمة السفر تشتمل على زيادة مشقة فلا يشتملها إِطلاق الخِدْمة، ولِهَذَا جُعِل السفر عُذْراً في فسخ الإجارة فلا بد من اشتراطه، كإِسكان الحدَّاد والقَصَّار في الدار.

ولو سافر به فهلك ضَمِنه لمولاه لأنه صار غاصِبَاً، ولو رَدَّه إِلى مولاه سَالِمَاً لا أَجْر له عندنا، خِلافاً لمالك والشافعي وأَحمد، لأَن الأَجْر والضَّمَان عندنا لا يجتمعان. ثُم الخِدْمَة مِنْ السَّحَر إِلى أَنْ ينام النَّاس بعد العشاء عَمَلاً بالعُرْف فيهما.

فصلٌ (في فَسْخ الإِجارة)

(تُفْسَخُ) الإِجارة (بِعَيْبٍ) حدث أَوْ ظهر (أَخَلَّ بِالنَّفْع، كَدَبَرِ

(1)

الدَّابَّةِ) ومَرَض العبد للخدمة، لأَن المعقود عليه في باب الإِجارة هو المنافع، وهي توجد شيئاً فشيئاً، فما وُجِد من العيب يكون حادثاً قبل القبض بالنسبة إِلى المنافع الآتية، فيُوْجِبُ الخيار، كما إِذا حدث في المَبيع قبل القبض.

(فَلَوْ انتَفَعَ) المستأْجِر (بالمَعِيْبِ، أَوْ أُزِيلَ العَيْبُ سَقَطَ خِيَارُهُ) لأَنه بالانتفاع رَضِي بالعيب، فيلزمه جميعُ البدل كما في المبيع. أَما إِذا لم يكن مُخِلاًّ، به كما لو سقط حائط من الدار لا يخل بالسُّكْنَى لم يكن للمستأْجر الفَسْخُ، ويفهم منه أَنَّ العيب المُفَوِّت لِنَفْس المنفعة تنفسخ به الإِجارة من باب أَوْلَى، كخراب الدار، وبه كان يُفْتي شمس الأئمة السَّرَخْسِي، وشيخ الإِسلام خواهر زاده.

وقال بعض الأَصحاب: تنفسخ إِجارة الدَّار بمجرد الخراب، وهو قول مالك والشافعي وأَحمد، لأن المعقود عليه ـ وهو المنافع المخصوصة ـ فات قبل القبض فصار (كَفَوْت)

(2)

المبيع قبل القبض، وكموتِ العبد المستأْجَر، والأَول أَصح، لأَن

(1)

الدُّبَر: الجُرْح الذي يكون في ظهر البعير. النهاية 2/ 97.

(2)

في المطبوع: كموت، وما أَثبتناه من المخطوط.

ص: 442

وبِخِيَارِ الشَّرْطِ، والرُّؤيةِ، والإِجارة بالعُذْرِ، وهُوَ: لُزُوْمُ ضرَرٍ لَمْ يُستحقَّ بالعَقْد، كسُكونِ وَجَعِ ضِرْسٍ استُؤجِر لِقَلْعِهِ، ولُحُوقِ دَيْنٍ لا يُقْضَىِ إِلا بِثَمَن ما آجَرَ، وسَفَرِ مُسْتأَجِرِ عَبْدٍ للخِدْمَةً مُطْلَقًا، أَو في المِصْر، وإِفلاس مُسْتَأجِرِ دُكَّانٍ لِيَتَّجِرَ فِيْهِ، وخَيَّاطٍ استأَجَرَ عبدًا لِيَخِيْطَ عَمَلَهُ، وبَدَاءِ مُكْتَرِي الدَّابَةِ مِنْ سَفَرِهِ، بِخِلاف بَدَاء المُكَارِي، وتَرْكِ خِيَاطَة مُسْتأَجِرِ عَبْدٍ لِيخيط. لِيَعْمَلَ في الصَّرْفِ،

===

المنافع فاتت على وجه يُتصور عودُها، فأَشبه إِباق (العبد)

(1)

قبل القبض. وقد رَوى هشام، عن محمد: أَنه لو استأَجر بيتاً فانهدم فبناه المُؤجِر وأَراد المستأْجِر أَنْ يسكنه في بقية المدة، فليس له أَنْ يمنعه من ذلك. وكذا ليس للمستأْجِر أَنْ يمتنع منه، وهذا صريح في أَنها لا تنفسخ بمجرد الخراب. وأَما إِذا انهدمت المستأْجَرة فإِنه يجوز له أَنْ يَفْسخ الإِجارة ويخرج منها وإِنْ كان المُؤجِر غائباً، فإِن بناها قبل الفسخ فكما تَقَدَّم.

(و) تفسخ الإِجارة (بِخِيَارِ الشَّرْطِ، و) خيار (الرُّؤيةِ) خلافاً للشافعي فيهما. (و) تفسخ (الإِجارة بالعُذْرِ: وهُوَ) أَي العُذْر (لُزُوْمُ ضَرَرٍ لَمْ يُستحقَّ بالعَقْد، كسُكونِ وَجَعِ ضِرْسٍ استُؤجِر) شخص (لِقَلْعِهِ ولُحُوق دَيْنٍ) للمؤجِر (لا يُقْضَى) ذلك الدَّيْن (إِلا بِثَمَن ما آجَرَ) من دار أَوْ دكان (وسَفَرِ مُسْتأْجِرِ عَبْدٍ) استأجره (للخِدْمَة مُطْلَقَاً) أَي غير مقيدة بمكان (أَوْ في المِصْر) لأَن خدمة السفر أَشَقُّ، فلا تنتظمها الخدمة المطلقة فضلاً عن المقيَّدة بالمصر، وفي منع المستأْجِر من السفر ضررٌ لم يستحق بالعقد.

(وإِفلاس مُسْتَأجِرِ دكانٍ لِيَتَّجِرَ فِيْهِ و) إِفلاس (خَيَّاطٍ) يشتري الثياب ويخيطها ليبيعها (استأجَرَ عبداً لِيَخِيطَ) له فَتَرَكَ ذلك الخياط (عَمَلَهُ) لأَجل إِفلاسه.

(وبَدَاء) بالمَدّ، أَي ظهور رأَي (مكتري الدَّابَةِ) سافر عليها (مِنْ سَفَرِهِ) أَي بدل سفره، «فمن» بمعنى بدل كما في قوله تعالى:{أَرَضِيْتُمْ بالحيوةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرِة}

(2)

، متعلقة بِبداء، وإِنما كان هذا عذراً لأَن المستأجِر ربما كان يسافر للحج فذهب وقته، أَوْ لِطَلَبِ غريمه فحضر، أَوْ للتجارة فافتقر (بِخِلاف بَدَاء المكاري) من سفره، فإِنه ليس بعذرٍ لإمكان أَنْ يبعث الدوابَّ مع أَجيره، (و) بخلاف (تَرْكِ خِيَاطَة مُسْتأجِرِ عَبْدٍ لِيخيط لِيَعْمَلَ) ذلك المستأجِر (في الصَّرْفِ) أَي في صَرْف النقود، واللام الثانية متعلقة «بِتَرْك» ، وإِنما لم يكن هذا عذراً لإمكان أَنْ يخيط الغلام في ناحية.

(1)

في المطبوع: المبيع: وما أَثبتناه من المخطوط.

(2)

سورة التوبة، الآية:(38).

ص: 443

وبَيْعِ مَا آجَرَهُ. وتَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ العَاقِدَيْنِ، إن عَقَدَهَا لِنَفْسِهِ،

===

(و) بخلاف (بَيْعِ) المُؤجِر (مَا آجَرَهُ) فإِنه ليس بعذرٍ لإِمْكان استيفاء المستأجر المنافع، والعين على ملك المشتري كما يستوفيها، والعين على ملك البائع في ظاهر الرواية لعدم منافاته لحقِّه. وقيل: يفسخه كالإِجارة، وإِنما الخيار للمشترِي: إِنْ شاء فسخ البيع، وإِنْ شاء صبر إِلى انقضاء الإِجارة وأَخذ المبيع، وإِن أَجاز المستأجِر البيع تبطل إِجارته فيما بقي من المدة، لسقوط حَقِّه في ضِمْن إِجازته عقداً ليس له، بخلاف إِجازته الإِجارة، لأَن العقد وقع له لوقوعه على مِلْكه. وأَما لو آجَر ما آجَره في مدة المستأجر فسخ عقده إِنْ شاء، لاستحقاقه المنفعة دونه، أَوْ (أَجاز)

(1)

واستحق الأَجر، لأَن عقده صار كعقد الفُضولي لصيرورته أَجنبياً عن المنفعة في مدة المستأجر.

وقال الشافعي: لا تفسخ الإِجارة بالعذر، لأَن المنافع عنده بمنزلة الأَعيان، فكانت الإِجارة كالبيع، وهو يُفْسخ بالعيب لا بالعذر، فكذا الإِجارة، وبه قال مالك، وأَحمد وأَبو ثَوْر.

ولنا أَنَّ العذر في الإِجارة، كالعيب في المبيع قبل القبض، لأَن المعقود ـ عليه وهي المنافع ـ لا تصير مقبوضة إِلا بالاستيفاء، والبيع يفسخ بالعيب الحاصل قبل القبض، فتنفسخ الإِجارة بالعذر. والجامع بينهما عَجْز العاقد عن المُضي في موجب العقد، إِلاَّ بضررٍ زائدٍ لم يُستحق بالعقد.

وفي «الجامع الصغير» : وكلُّ ما ذكرنا أَنه عُذْرٌ فإِن الإِجارة فيه تنتقض، وهذا يشير إِلى أَنه لا يحتاج فيه إِلى قضاء القاضي، لأَنه بمنزلة العيب في المبيع قبل القبض، فينفرد العاقد بالفسخ. وفي «الزيادات»: أَنْ الأَمر يرفع إِلى الحاكم ليفسخ الإِجارة، لأَنه فصل مجتهد فيه فيتوقف على قضاء القاضي، كالرجوع في الهِبة. قال شمس الأَئمة: وهو الأَصح. ومنهم مَنْ قال: إِذا كان العذر ظاهراً انفسخت، وإِلا يفسخها القاضي. قال «قاضيخان» و «المحبوبي»: وهو الأَصح، والعذر الظاهر مثل الاستئجار لقلع الضرس فيسكن الوجع، أَوْ لطبخ الوليمة فتخالع المرأَة.

(وتَنْفَسِخُ) الإِجارة (بِمَوْتِ أَحَدِ العَاقِدَيْنِ إِنْ عَقَدَهَا لِنَفْسِهِ) وبه قال الثوري والليث. وقال مالك والشافعي وأَحمد وأَبو ثَوْر وإِسحاق: لا تنفسخ، ويقوم وارثُهُ

(1)

في المطبوع: أَجازه، وما أَثبتناه من المخطوط.

ص: 444

فإِن عَقَدَهَا لِغَيْرِهِ فَلا، كالوَكِيْلِ، والوَصِيِّ، وَمُتَوَلِّي الوَقْفِ.

فلو قَالَ لِغَاصِبِ دَارِهِ: فَرِّغْهَا وإِلَّا فَأُجْرَتُهَا كُلَّ شَهرٍ كذا، فسكت ولم يُفْرِغ المُسَمَّى.

===

مقامه، سواء مات أَحدهما أَوْ كلاهما، لأَن المنافع عندهم كالأَعيان، والعقد على العين لا يبطل بموت أَحدِ العاقِدَيْن، فكذا العقد على المنافع. وعندنا عقد الإِجارة ينعقد ساعةً فساعة بحسب حدوث المنفعة، فإِذا مات المُؤجِر بطلت، لأَن المستحقَّ بالعقد المنافع التي تحدث على ملكه وقد فات ذلك بموته، لأن الدار تنتقل إِلى وارثه ومنفعتها تحدث على ملكه، وإِذا مات المستأجر لو بقي العقد بعد موته لبقي على أَنْ يَخْلُفَه الوارث فيه، فتكون المنفعة المجردة موروثةً، وهي لا تورث.

(فإِن عَقَدَهَا) أَحد العاقدين ـ الإِجارة ـ (لِغَيْرِهِ فَلا) تنفسخ الإِجارة بموته لبقاء المستحِقّ (والمستحَق)

(1)

حتى لو مات المعقود له بطلت لما ذكرنا (كالوَكِيْلِ) يعقدها لمُوكِّله (والوَصِيِّ) يعقِدها لمَحْجُورِهِ (وَمُتَوَلِّي الوَقْفِ) يعقِدها للوقف. ولو مات أَحد المستأجرَين أَوْ المؤجِرَين بطلت الإِجارة في نصيبه، وبقيت في نصيب الآخر في ظاهر الرواية. وقال زُفَرُ ـ وهو روايةٌ عن أَبي حنيفة ـ: تبطُل في نصيب الحي أَيضاً، لأَنها إِجارة المُشاع.

ولنا أَنْ عدم الشيوع شرطُ صحة العقد في الابتداء لا في الانتهاء. فلو مات المُكَارِي

(2)

في بعض الطريق فللمستأجِر أَنْ يركب إِلى المكان الذي جعله غاية السير

(3)

، حتى لو ماتت الدابة لم يضمنها لوقوع الركوب بحكم الإِجارة، ولو استقبل المُكَارِي في الطريق لصوصٌ لم يمكنه دَفْعُهم، وعلم أَنه إِنْ لم يطرح الحمل أَخذوا الدابة والحمل فطرح الحمل، وَفَرَّ بدابَّته لم يضمن، لأَنه لا يُعد مُقصِّراً في مثل هذه الحالة، كما لا يضمن الراعي لو ذبح

(4)

ما خاف موتَه، في المختار للفتوى.

(فلو قَالَ) المالك (لِغَاصِبِ دَارِهِ: فَرِّغْهَا وإِلاَّ) أَي وإن لم تفرغها (فَأُجْرَتُهَا كُلَّ شَهْرٍ كذا، فسكت ولم يُفْرِغ يَجِبُ المُسَمَّى) لأَن قوله و: «إِلاَّ فأُجْرَتُهَا كُلَّ شهر

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

المُكَارِي: الذي يُؤَجِّرُ الدَّوَابَّ ونحوها. معجم لغة الفقهاء ص 455.

(3)

في المطبوع: التسريح، والمثبت من المخطوط.

(4)

عبارة المطبوع: لو ذبح فطرح ما خاف، والمثبت من المخطوط.

ص: 445

وصَحَّ الإجارَةُ، وفَسْخُهَا، والمُزَارَعَةُ، والمُسَاقَاةُ، والوَكَالَةُ، والكَفَالَةُ، والمُضَارَبَةُ، والقَضَاءُ، والإِمَارَةُ، والإِيْصاءُ، والوَصِيَّةُ، والطَّلاقُ، والعَتَاقُ، والوَقْفُ، مُضَافَةً إِلى مُسَتَقْبَلٍ، لا البَيْعُ وِإجَازَتُهُ وفَسْخُهُ، والقِسْمَةُ، والشَّرِكَةُ، والهِبَةُ، والنِّكَاح، والرَّجْعَة، والصُّلْحُ عن مالٍ، وإِبراءُ الدَّيْنِ.

===

كذا» إِيجابٌ معلق على عدم التفريغ، والإِجارة يصح تعليقها بالشرط، وسكوت الغاصب مع عدم تفريغه رضاءٌ بذلك الإِيجاب وقبولٌ له.

(وصَحَّ الإِجارَةُ، وفَسْخُهَا، والمُزَارَعَةُ، والمُسَاقَاةُ، والوَكَالَةُ، والكَفَالَةُ، والمُضَارَبَةُ، والقَضَاءُ، والإِمَارَةُ، والإِيْصاءُ، والوَصِيَّةُ، والطَّلاقُ، والعَتَاقُ، والوَقْفُ، مُضَافَةً إِلى) زمان (مُسَتَقْبَلٍ).

أَما الإِجارة فلأَنها تمليكُ المنافع، وهي تحدث ساعةً فساعة، فتكون مضافةً. وأَما فسخها فمعتبرٌ بها. وأَما المزارعة والمساقاة فكلٌ منهما إِجارة. وأَما الوكالة والمُضاربة فلأَنهما من باب الإِطلاق، كالعتق والوقف، والطلاق. وأَما الكفالة (فإِنها)

(1)

التزام المال ابتداءً فيجوز إِضافتها وتعليقها بالشرط، كالنذر.

وأَما القضاء فلأنه من باب الإِمارة، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما أَمَّرَ زيدَ بنَ حارثة في غزوة مُؤتة:«إِنْ قُتِل زيدٌ فجعفر، وإِنْ قُتِل جعفرُ فعبد الله بنُ رَوَاحَة»

(2)

. وأما الإِيصاء والوصية فلأَن الإِيصاء توكيل بالتصرف بعد الموت، والوصية تمليك بعده.

(لا البَيْعُ) أَي لا تصح إِضافة البيع إِلى زمان مستقبل. (وإِجَازَتُهُ) عند الفضولي (وفَسْخُهُ والقِسْمَةُ، والشَّرِكَةُ، والهِبَةُ، والنِّكَاح، والرَّجْعَة، والصُّلْح عن مالٍ، وإِبراء الدَّيْنِ) لأن هذه العشرة تمليكات للحال، فلا تضاف إِلى الاستقبال.

هذا، ولا يضمن الأَجِيْر لحفظ الخان والسوق ما سُرِق منهما في الصحيح، لأَنه يحرس الأَبواب. أَما الأَموال فمحفوظةٌ بالبيوت، وهي في يَد ملاكها، وهو قولُ الفقيه أَبي جعفر، وأَبي بكر البَلْخِي. وقال غيرهما من المشايخ في حارس السوق: يضمن، لأَنه بمنزلة الأَجِيْر المشترك. ويضمن الخَاتِن بِقَطْع الحَشَفَة مع الجلد نصف الدية إِنْ مات، لأَنه مات من سريان جُرْحٍ مأَذُونٍ فيه، وهو قطع الجلدة، وغَيْرِ مأَذونٍ، وهو قَطْع الحشفة. وإِنْ لم يمت ضَمِن كل الدية، لِقَطْعِهِ ما لم يؤذن له. وإِنْ قطع بعضها ولم يمت فعليه حكومةُ عَدْل. ولو شرط عليه، وعلى الفَصَّاد، والحَجَّامِ العمل

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

أَخرجه الإمام أَحمد في مسنده 1/ 256.

ص: 446

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

السالم دون الساري لا يصح الشرط. ويلزم الحَمَّالَ إِدخالُ الحمل إِلى البيت، لأَنه من تمام العمل ولا يلزمه الصعود (به)

(1)

إِلى السطح ونحوه إِلاَّ بالشرط في العقد، لكونه أَمراً زائداً.

ويلزم مُؤجِرَ الدار فِعْلُ ما يُخِلّ تَرْكُه بالسُّكْنَى، كالعِمارة، وإِصلاح الميزاب، وغَلْق الباب، وستر السطح والسُّلَّم، ويلزمه إِخراج ما في المخرج ـ وهو موضع قضاء الحاجة ـ ولو كان امتلاؤه من المستأْجر، لأَنها من جملة منافع السُّكْنى، فإِن أَبى لا يُجبر على إِخراجه، لأَن الإِنْسان لا يجبر على أَنْ يجعل ملكه فيما لا ينتفع به، ويجوز لساكنها الخروج منها حينئذٍ لإخلاله بالانتفاع بها، ولو أَخرجه هو يكون متبرعاً، ولا يحسب له من الأَجر إِنْ فعله بغير إِذن المالك، وهذا إِذا لم ير هذه العيوب وقت الإِجارة، فإِن رآها حينئذٍ فلا خِيار له لرضاه بالعيب.

ولا يضمن دَلالٌ دَفَع المتاع إِلى مَنْ يشتريه لينظره، فذهب به من بين يديه ولم يَظْفَر به، للإِذن له عادةً بالدفْع لِمَنْ يريدُ الشِّرَى، ولم يقصِّر في الحِفْظ حيث لا يلتهي عنه بغيره، وكذا لا يضمن إِذا سُرِق ثمن المتاع منه. وإنْ عَيَّن المستأْجِر له مكان القبر ليحفر فيه فحفر في غيره لم يستحق عليه شيئاً، لعدم إِتيانه بما أُمر به، وإِنْ لم (يكن)( 1) يذكر مكانه، ولا وصفه انصرف إِطلاقه إِلى مقبرة محلته، والمعتاد من صفته إِلى العمق والوسع، واستحق الأَجر إِنْ فعل كذلك، لأَن المطلق ينصرف إِلى المتعارف الأَعم. والله تعالى أَعلم.

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 447

‌كِتَابُ العَارِيَّةِ

هي: تَمْلِيْكُ نَفْعٍ بِلَا عِوَضٍ.

وتَصِحُّ بـ: أَعَرْتُكَ وَمَنحتُكَ، وأَطْعَمْتُكَ أَرْضِي،

===

كتاب العَارِيَّةِ

(هي) لُغَةً: ـ بالتشديد، وتخفَّف ـ منسوبة إِلى العَارِ، لأَن طلبها عارٌ وعيبٌ، على أَنَّ أَصل العار العرر.

وشَرْعَاً: (تَمْلِيْكُ نَفْعٍ بِلَا عِوَضٍ) فخرج تمليك العين، كالبيع والهِبَة، وتمليكُ النفع بِعِوَض، كالإِجارةِ. وقال الكَرْخِي: هي إِباحة الانتفاع، لا تمليك المنفعة، وهو قول الشافعيّ وأَحمد، لأَن المستعير لا يملك الإِجارة من غيره، ومَنْ ملك شيئاً ملك تَمْلِيكَهُ مِنْ غيرِهِ بِعِوَض.

ولنا أَنَّ المستعير إِنما لا يملك الإِجارة لما فيها من الضرر بالمُعِير، لأَنه مَلَّكَ المستعير المنافِعَ على وَجْهٍ يتمكن من الاسترداد متى شاء، فلو مَلَكَ المستعيرُ الإِجارة لم يتمكن المُعِيْرُ من ذلك

(1)

.

(فصلٌ في مشروعية العارية)

وهي مشروعةٌ بالكتاب: وهو قوله تعالى: {ويَمْنَعُونَ المَاعُونَ} ، فإِنه سبحانه وتعالى ذَمَّ على منع الماعون الذي هو عدم إِعارته، فتكون إِعارته محمودة. وبالسنة: وهي ما رَوَى البخاري عن أَنس قال: كان فَزَعٌ بالمدينة فاستعارَ النبيُّ فَرساً من أَبي طَلْحَة ـ يقال له المندوبُ ـ فَرَكِبَهُ فلمَّا رجع قال: «ما رأَينا مِنْ شيءٍ، وإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرَاً» ـ أَي الفرس سريعاً كجريان البحر ـ. وبالإِجماع: فإِنَّ الأُمة أَجمعت على جوازها، وإِنما اختلفوا في كونها مستحبةً وهو قول الأكثر، أَوْ واجبة وهو قول البعض.

(فصل في الأَلفاظ التي تجوز بها العارية)

(وتَصِحُّ بـ: أَعَرْتُكَ) لأنه صريحُهَا (وَمَنحتُكَ) ثوبي هذا، لأَن أَصل المنح: أَنْ يُعْطِي الرَّجُل آخَر ناقةً أَوْ شاةً لِيَشْرَبَ لَبَنها، ثُم يردها إِذا فَرَغ، فَرُوعِيَ فيه أَصْل الوَضْع، وحُمِلَ على العارِيَّة إِذا لم يُرِد به الهبة. (وأَطْعَمْتُكَ أَرْضِي) لأَن الإِطعام إِذا أُضِيفَ إِلى

(1)

أَي الاسترداد متى شاء.

ص: 448

وحَمَلْتُكَ عَلَى دَابَّتِي هَذِهِ، وأَخْدَمْتُكَ عَبْدِي، ودَارِي لك سُكْنَى، وعُمْرِي سُكْنَى. ويَرْجِعُ المُعِيْرُ مَتَى شَاءَ.

ولا تُضْمَنُ بلا تَعَدٍّ إِنْ هَلَكَت،

===

ما يُطْعَم كالأَرْض يُراد به أَكْل غَلَّتها، إِطلاقاً لاسم المحل على الحال. (وحَمَلْتُكَ عَلَى دَابَّتِي هَذِهِ) لأَنه يقال في العُرف: حَمَل فلانٌ فلاناً على دابته إِذا أَعاره إِيَّاها، وإِذا وهبه إِيَّاهَا، فإِذا نوى أَحدَهما صَحَّت نيتُه، وإِذا لم يَنْو حُمِل على الأَدْنَى، لئلا يلزم الأَعلى بالشَّك.

(وأَخْدَمْتُكَ عَبْدِي) لأَنَّ هذا إِذْنٌ في استخدامه، وهي عَارِيَّة. (ودَارِي لك سُكْنَى) أَي من جهة السُّكْنَى. فَدَارِي: مبتدأَ، ولك: خبره، وسُكْنى (تمييز)

(1)

عن النسبة

(2)

إِلى المخاطب، لأَن قوله:«لك» يحتمل أَنْ يكون له رقبتها، وأَن يكون له منفعتها. وقوله: سُكْنى محكمٌ في المنفعة، فهو مُعَيِّنٌ للثاني بِحُكْم التفسير فيكون عَارِيَّةً. (وعُمْرِي سُكْنَى) أَي دَارِي لك عُمُرِي سُكْنَى، يقال: أَعْمَرَهُ الدَّار: أَي قال له: هي لك مُدّة عُمُرِك، والعُمْرَى: اسم منه، فيصير معناه: جَعَلْتُ سُكْنَاهَا لك مدة عُمُرك.

(ويَرْجِعُ المُعِيْرُ مَتَى شَاءَ) سواء كانت العاريّة مطلقةً أَوْ مؤَقتةً، لأَن المنافع تَحْدُث شيئاً فشيئاً، وثبوت المِلْك فيها بحسب حدوثها، فالرجوع

(3)

بالنسبة إِلى المنافع التي لم تحدث، فيكون امتناعاً عن تمليكها، وله ولاية ذلك.

(حكم ضمان العارية)

(ولا تُضْمَنُ بلا تَعَدَ إِنْ هَلَكَت) وبه قال مالك والثَّوْري والأوْزَاعي، ورُوِي عن علي، وابن مسعود، والحسن، والنَّخَعِي، والشَّعْبِي، وعمر بن عبد العزيز، وشُرَيْح. وقال الشافعيّ رحمه الله: إِنْ هلكت من الاستعمال المعتاد لا يَضْمن، وإِنْ هلكت من غيره يضمن.

وحاصل الخلاف أَنَّ العارِيَّة أَمانةٌ مطلقاً عندنا لا وقت استعمالها فقط كما قاله الشافعيّ رحمه الله؛ وهو قول ابن عباس، وأَبي هريرة، وعطاء، وإِسحاق، لقوله عليه الصلاة والسلام:«أَدِّ الأَمانة إِلى مَنِ ائتمنك ولا تَخُنْ مَنْ خَانَك» . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب. وقوله عليه الصلاة والسلام: «على اليد ما أَخَذَتْ حتى تؤديه» .

(1)

في المطبوع: تميز، وما أَثبتناه من المخطوط.

(2)

لأَن اللام في كلمة: "لك"، تفيد: معنى الملك، ومعنى المنفعة - أَي منفعة الرقبة - فكلمة:"سُكْنى" صرفت وميَّزت المعنى من الملك إِلى المنفعة.

(3)

أَي رجوع المُعير عن عارِيّتِهِ بالنسبة إِلى المنافع التي لم تحدث لا إِلى المنافع الحادثة - السابقة -.

ص: 449

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

رواه ابن أَبي شيبة. ولما روى أَبو داود والنَّسائي عن صَفْوان بن أَمية أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم استعار منه درعاً يوم حُنَين، فقال: أَغَصْبَاً يا محمدُ؟ قال: «بل عاريَّةٌ مضمونةٌ» .

ولنا ما رَوى أَبو داود والترمذي ـ وقال: حديث حسن ـ عن أَبي أُمامة قال: سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الله قد أَعْطَى كلَّ ذِي حَقَ حَقَّه، فلا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» إِلى أَنْ قال: «العارِيَّةُ مُؤَدَّاة، والمنحة مَرْدُوْدَةٌ» . وما في «مصنف عبد الرَّزَّاق» عن عمر بن الخطاب قال: العارِيَّةُ بمنزلة الوَدِيعةِ، لا ضمان فيها إِلاَّ أَنْ يَتَعَدَّى. وعن علي: ليس على صاحب العَارِيَّةِ ضَمَانٌ.

الحديثان اللَّذان رَوَوْهُمَا أَولاً إِنما يقتضيان وجوب رَدِّ العَيْن ولا كلام فيه، وإِنما الكلام في وجوب ضمانِ القيمة بعد هلاكِها، وما رَوَوْه من حديث صَفُوان مُعَارَضٌ بما روى أَحمد في «مسنده» ، والحاكم في «مستدرَكِه» ـ وسكت عليه ـ وابن حبَّان، عن ابن عباس: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من صَفْوان بن أُمية دروعاً وسلاحاً في غزوة حُنَيْن، فقال: يا رسول الله أَعاريَّةٌ مؤداة؟ قال: «نعم عاريَّة مؤداة» .

ويُجابُ عنه بأَنّه عليه الصلاة والسلام أَخَذَ دروع صَفُوان بغير رضاه، ولذا قال:«أَغَصْبَاً يا محمد» ، لأَنه صلى الله عليه وسلم كان مُحْتَاجاً إِلى السلاح، فكان الأَخذ له حلالاً ولكن بِشَرْط الضَّمان، كأَخْذ طعام الغير في حال المَخْمَصة

(1)

. وقيل: المراد ضمان الرد بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: «إِذا أَتَتْك رُسُلي فأَعْطِهِم ثلاثين بعيراً وثلاثين درعاً، قال: فقلت: يا رسول الله. أَعاريَّةٌ مضمونةٌ، أَوْ عاريَّةٌ مؤداة؟ قال: «بل مؤداة» . رواه أَبو داود، والنَّسائي، وابن حِبَّان في «صحيحه». وقيل: كان هذا منه عليه الصلاة والسلام اشتراطاً للضمان على نفسه.

وعندنا المُسْتعير لا يضمن بالشرط، ولكنَّ صَفوان كان يومئذٍ حربياً، ويجوز بين المسلم والحَرْبي من الشرائط ما لا يجوز بين المسلمين. وقيل: المستعير وإِنْ كان لا يضمن لكن يضمن بالشَّرط، كالمودَع، على ما ذكره في «المُنْتَقَى». وقيل: إِنما (قال)

(2)

ذلك تَطْيِيباً لِقَلْب صَفْوان على ما رُوي: أَنه هَلَكَ بعضُ تلك الدُّروع، فقال صلى الله عليه وسلم:«إِنْ شِئت غَرِمناها لك، فقال: لا فإِنما (أنا) اليوم أَرغب في الإِسلام مما كنت يومئذٍ»

(3)

. ولو كان الضَّمَان واجباً لأَمَره بالاستيفاء أَوْ الإِبراء.

(1)

المَخْمصة: الجُوع والمجاعة. النهاية 2/ 80.

(2)

في المطبوعة: كان، وما أَثبتناه من المخطوطة.

(3)

أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" 3/ 409 - 410، كتاب العارية (46)، باب تضمين العارية (1)، رقم (5778)، ورقم (5779)، و (5780). ووما بين الحاصرتين منه. وقد رواه المؤلف هنا =

ص: 450

ولا تُؤجَر، فإِنْ آجَرَهَا فَعَطِبَتْ، ضَمَّنَهُ المُعِيْرُ. ولا يَرْجِعُ المُسْتَعِيْرُ أَو المْستأَجِر، ويَرْجِعُ على مُؤجِرِه إِنْ لَمْ يَعْلَم أَنَّهُ عارِيَّةٌ.

ويُعَارُ مَا اخْتَلَفَ اسْتِعْمَالُهُ أَو لا، إِنْ لَمْ يُعَينِّ مُنْتَفِعًا، وما لا يَخْتَلِفُ إِنْ عَينًّ. وكَذَا المُؤجَر،

===

(فصل في حكم إِجارة وإِعارة العاريَّة)

(ولا تُؤجَر) العارِيَّة لأَنها غير لازمة في الأَصل، والإِجارة لازمةٌ، وأَجازها مالك. وكذا لا تُرْهَنُ العاريَّة اتفاقاً، لأَن الرهن لازِمٌ وهي غير لازمة (فإِنْ آجَرَهَا) المستعيرُ (فَعَطِبَتْ ضَمَّنَهُ) أَي المستعيرَ (المُعِيْرُ) لأَنه صار غاصباً بِتَعَدِّيه، (ولا يَرْجِعُ المُسْتَعِيْرُ) على أَحَدٍ، لأَنه ظهر أَنه آجَرَ مِلْك نفسه، (أَوْ) ضَمَّنَ المُعِيْرُ (المْستأْجِر) لأَنه قبض ملكه بغير إِذنه فكان كالمستأْجِر من الغاصب.

(ويَرْجِعُ) المستأْجِرُ (على مُؤْجِرِه

(1)

إِنْ لَمْ يَعْلَم أَنَّهُ عارِيَّةٌ) لكونه مغروراً من جهة مُؤْجِرِهِ دَفْعَاً لِضَرر الغرور عن نفسه. وأَما إِذا علم أَنه عَارِيَّة فلم يرجع، لأَن المُؤجر حِينئذٍ لم يكن منه غرور، فصار كالمستأْجِر من الغاصب إِذا كان عَالِمَاً بالغَصْب.

(ويُعَارُ) من العاريَّة (مَا اخْتَلَفَ اسْتِعْمَالُهُ) باختلاف المستعمِل. كركوب الدَّابة ولُبْسِ الثوب (أَوْ لا) أَي لم يختلف، كالحمل على الدابة، والاستخدام، والسُّكْنَى (إِنْ لَمْ يُعَيِّن) المُعِير (مُنْتَفِعاً) وبه قال مالك والشافعي رحمهما الله في وَجْهٍ، لأَن العارِيَّة تمليك المنافع وقد صدرت مطلقةً، وللمالك أَنْ يملِّك غيره. والأصح في مذهب الشافعي، وهو قول أَحمد، أَنها لا تُعَار بناءً على أَنَّ الإِعارة إِباحة المنافع، والمباح له ليس له أَنْ يُبِيح لغيره.

(و) يُعَار من العارية (ما لا يَخْتَلِفُ) استعماله (إِنْ عَيَّنَ) المُعِير مَنتفِعَاً، لأن التقييد بالمنتفع فيما لا يختلف استعماله لا يفيد لعدم التفاوت، بخلاف ما يختلف استعماله، لأَن المُعير رضي بذلك المُعَيَّن دون غيره (وكَذَا المُؤجَر): بفتح الجيم: أَي حُكْمه حُكْم المُعَار، إِنْ لم يُعَيِّن المُؤجِرُ المنتفع، فللمُسْتأْجر أن يُعيره، سواء اختلف استعماله أَوْ لا، وإِنْ عَيَّن لا يُعير إِلاَّ ما لا يختلف استعماله، لأن الإِجارة تمليك المنافع

= بالمعنى. قال أبو داود: وكان - أي صفوان - أَعاره قبل أن يُسْلِم ثم أسلم. انتهى. سنن أَبي داود 3/ 824 كتاب البيوع والإجارات (22)، باب في تضمين العارية (88)، رقم (3563) ..

(1)

أَي بالضمان.

ص: 451

فَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً، أَو استأْجَرَهَا مُطْلَقًا، له أَن يَحْمِلَ ويُعِيرَ، ويَرْكَبَ ويُرْكِبَ، وأَيًّا فَعَلَ تَعَينًّ وضَمِنَ بِغَيْرِهِ.

وإِنْ أَطْلَقَ الانْتِفَاعَ في الوَقْتِ والنَّوْعِ، انْتَفَعَ مَا شَاءَ، أَيَّ وقتٍ شَاءَ. وإِنْ قَيَّدَ ضَمِنَ بالخِلَافِ إِلى شَرٍّ فَقَطْ.

وكذا تَقْييدُ الإِجارة بِنَوْعٍ أَوْ قَدْرٍ،

===

كالإِعارة، إِلاَّ أَنَّ الإِجارة بِعوَض، والإِعارة بلا عِوض.

(فَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً، أَوْ استأْجَرَهَا مُطْلَقَاً) أَي من غير تَعْيين انتفاعٍ أَوْ مُنْتَفِعٍ ((له أَنْ)

(1)

يَحْمِلَ ويُعِير) للحمل (ويَرْكَبَ) ـ بفتح الياء والكاف ـ (ويُرْكِبَ) ـ بضم الياء وكسر الكاف ـ عملاً بالإطلاق (وأَيّاً فَعَلَ) من الحَمْل والركوب والإِركاب (تَعَيَّنَ) في الصحيح، فليس له أَنْ يفعل غيره. (وضَمِنَ بِغَيْرِهِ) إِنْ عَطِبَت، لأَن ما وقع أَوّلاً تَعَيَّنَ مُرَاداً بالعقد، فصار كأَنَّهُ منصوصٌ عليه.

(وإِنْ أَطْلَقَ) المُعِير (الانْتِفَاعَ في الوَقْتِ) متعلق بـ: «أَطلق» ، (و) في (النَّوْعِ) والقدر (انْتَفَعَ) المُستعير (مَا شَاءَ) من أَنواع الانتفاع (أَي وقتٍ شَاءَ) عَمَلاً بالإِطلاق. (وإِنْ قَيَّدَ) المعير الانتفاع بوقتٍ كيومٍ أَوْ جمعةٍ أَوْ مكانٍ، كطريق مَكَّةَ أَوْ نوع منفعة أَوْ بهما (ضَمِنَ) المستعير (بالخِلَافِ إِلى شَرَ) عملاً بالتقييد (فَقَطْ) أَي ولا يضمن بالخلافِ إِلى خير ولا إِلى مساوٍ، لأن الإِذن بالشيء إِذْنٌ بما يساويه وبما هو خيرٌ منه، كَمَنْ استعار دابَّةً ليحمل عليها قَفِيزاً من هذه الحنطة، فَحَمَّلَهَا قَفِيزاً

(2)

من حِنْطةٍ أُخْرى، أَوْ حَمَّل مثل ذلك شعيراً، وهذا استحسانٌ. ويضمن قياساً، لأَنه مخالِفٌ، فإِنَّ عند اختلاف الجنس لا تعتبر المنفعة والمضرة. أَلا ترى أَنَّ الوكيل بالبيع بأَلفِ دِرْهم إِذا باع بأَلف دينارٍ لم يَنْفُذ بَيْعُه. ووجه الاستحسان أَنَّه لا فائدة للمالك في تعيين الحِنطة، فإِنَّ مقصوده دَفْع زيادة الضرر عن دابته، ومِثْلُ كَيْل الحِنطة من الشعير يكون أَخَفَّ على الدَّابة.

(وكذا تَقْييدُ الإِجارة بِنَوْعٍ أَوْ قَدْرٍ)، أَوْ وَقْتٍ، أَوْ مكان فإِنْ وافق المستأْجر، أَوْ خالف إِلى مِثْل، أَوْ إِلى خيرٍ لا يضمن، وإِنْ خَالف إِلى شرَ يضمن. واختلفوا في إِيداع المُسْتَعِيْر، فقال جماعة منهم الكَرْخي: ليس له ذلك، مستدلين بمسأَلة الجامع: وهي أَنْ المستعير إِذا بعث العارية إِلى صاحبها على يد أَجنبي فهلكت في يده يضمن

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من هامش المطبوع.

(2)

تقدم شرحها ص 303، تعليق رقم (2).

ص: 452

وَرَدُّهَا إِلى إِصْطَبْلِ مَالِكِهَا أَو مَعَ عَبْدِهِ أَو أَجِيْرِه مُسَانَهَةً أَو مُشَاهَرَةً، أَو مع أَجِيْرِ رَبِّهَا، أَو عَبْدِهِ، يَقُوْمُ عَلَى دَابَّةٍ أَو لا، تَسْلِيْمٌ.

===

المستعير (العارية)

(1)

، وليس ذلك منه إِلا إِيداعاً. قال الباقِلاَّني: وهذا القول أَصَحّ لأَنَّ، الإِيداع تَصَرُّفٌ في ملك الغير ـ وهو العين ـ بغير إِذنه قصداً، بخلاف الإِعارة فإِنَّها تَصَرُّفٌ في المنفعة قَصْدَاً، وتسليم العين من ضروراته فافترقا.

وأَكثرهم على أَنَّ له ذلك، منهم: مشايخ العراق، وأَبو الليث، وأَبو بكر محمد بن الفضل، وبرهان الأَئمة، لأَن الإِيداع دون الإِعارة، لأَن العين وديعة عند المستعير في العاريَّة، فإِذا ملك الأَعلى فأَوْلى أَنْ يَمْلِك الأَدنى. قال ظَهِيرُ الدِّين المَرْغِينَاني: وعليه الفتوى. ومسأَلة الجامع محمولة على ما إِذا كانت العاريَّة مؤقتةً فمضت مدتها ثُم بعثها مع الأَجنبي، لأَنه بإِمساكها بعد مُضِي المدة

(2)

يصير متعدِّياً حتى إِذا هَلكت في يده يضمن، فكذا إِذا تركها في يد أَجنبي.

(وَرَدُّهَا) ـ مبتدأَ ـ أَي رد المُسْتَعِير الدابَّة (إِلى إِصْطَبْلِ مَالِكِهَا)، أَي مَرْبط الدَّابة (أَوْ مَعَ عَبْدِهِ) أَي عبد المستعير (أَوْ أَجِيْرِه مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً أَوْ مع أَجِيْرِ رَبِّهَا)، أَي رَبِّ الدابة (أَوْ) مع (عَبْدِهِ) سواء كان (يَقُوْمُ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ لا) يقوم عليها (تَسْلِيْمٌ) خبر المبتدأَ. والقياس أَنْ يَضْمن المستعير إِذا رَدَّ الدابة إِلى إِصْطبل مالكها فهلَكت، أَوَ ردَّ العَبْدَ المُسْتَعار إِلى دار مالِكه فتَلِف، وهو قول الشافعي وأَحمد، لأَن الواجب عليه الرَّدُّ إِلى المالك أَوْ نائبه ولم يوجد فيضمن، كما في الوديعة، والمغصوب، والمرهون، فإِنه لا يبرأُ فيها إِلاَّ بالتسليم إِلى المالك دون الرد إِلى داره اتفاقاً ..

وَوَجْهُ الاستحسان أَنه أَتى بالتسليم المتعارَف، لأَن ردَّ العَواري إِلى دُور مُلاكِهَا متعارَف، كآلة البيت، والناس يحفظون دوابهم في مرابطها، وهو لو سلَّمها إِلى مالكها لرَدَّهَا إِلى إِصطبلها. وقيل: هذا في زمانهم، وأَما في زماننا فلا يبرأُ إِلاَّ بالتسليم إِلى يد صاحبها. وأَما عبد المستعير أَوْ أَجِيره مسانهةً أَوْ مشاهرةً فلأَنه من عيالِ المستعير، وله رَدُّهَا بيد مَنْ في عياله، كما للمودَع، لأَن حِفْظ الوديعة بهم.

وأَما الأَجير بالمياومة فلا يُعَدّ من العيال. وأَما أَجير ربِّ الدَّابة أَوْ عبده فقياس قول الشافعي رحمه الله أَنه يضمن، كما في الوديعة. ووجه مذهبنا ـ وهو قول أَحمد ـ أَنَّ مَالِكَ الدابة راضٍ به عادةً، والأَصْل أَنَّ مَؤُنة الرد على مَنْ وقع القبض له، لأَن «الخَراج بالضمان»

(3)

والرَّد واجب. ولقوله عليه الصلاة والسلام: «على اليَدِ ما أَخَذَتْ

(1)

في المطبوع: الجارية، وما أثبتناه من المخطوط.

(2)

وفي المخطوط: العدة.

(3)

أخرجه أبو داود في السنن 3/ 777 - 779، كتاب البيوع (22)، باب فيمن اشترى عبدًا فاستحمله

(71)، رقم (3508).

ص: 453

كَرَدِّ مُسْتَعَارٍ غَيْرِ نَفِيْسٍ إِلى دَارِ مَالِكِهِ، بِخِلَافِ رَدِّ الوَدِيْعَةِ والمَغْضُوب إِلى دار مَالِكِهَا.

وعَارِيَّةُ النَّقْدَيْنِ، والمَكِيْل، والمَوْزُوْنِ، والمَعْدُودِ، قَرْضٌ. وصَحَّ إِعارةُ الأَرْضِ للبِنَاءِ، والغَرْس، وَلَهُ أنْ يَرْجِعَ عَنْهَا ويُكَلِّفُ قَلْعَهُمَا. وضَمِنَ مَا نَقصَ بالقَلْعِ

===

حتى تُؤدِّيَهُ»

(1)

. فإِذا ثبت هذا تتضح هذه المسائل.

(كَرَدِّ مُسْتَعَارٍ غَيْرِ نَفِيْسٍ) كفَأَسٍ وغِرْبَال ونحوهما (إِلى دَارِ مَالِكِهِ) فإِنه يكون تسليماً لمالكه اتفاقاً، لأَن الدار في يد مالكها فكان الرَدُّ إِليها رَدَاً إِليه. وأَما النَّفِيس كالمصحف والجوهر، فلا يسلَّم في العادة إِلاَّ إِلى يد مالكه، (بِخِلَافِ رَدِّ الوَدِيْعَةِ، والمَغْصُوب إِلى دار مَالِكِهَا) فإِنه لا يكون تسليماً له. أَما الوديعة فلأَن المالك رضي بِحِفْظ المودَع دون غيره، وأَما المغصوب فلأَن الغاصب مُتَعَدَ بإِثبات يده في المغصوب وإِزالة يد مالكه، فلا بد له من إِزالة يده وإِثبات يد مالكه، وذلك بحقيقة التسليم إِلى مالكه.

(وعَارِيَّةُ النَّقْدَيْنِ، والمَكِيل، والمَوْزُونِ، والمَعْدُودِ) المتقارِب إِذا أُطلقت الإِعارة (قَرْضٌ) وتسميتها عاريَّةً مجازٌ، لأَن الإِعارة تمليك المنافع، ولا يمكن الانتفاع بهذه الأشياء إِلاَّ باستهلاك عينها فاقتضى (إِعارتها)

(2)

تمليكها، وذلك بالهِبَة أَوْ القَرْض، والقَرْض أَدْنَاهما فيثبت. وأَما لو استعار دَرَاهِم ليعاير بها ميزاناً، أَوْ ليزينَ بها دُكَّانَاً فإِنَّ ذلك إِعارةٌ لا قرضٌ، وتكون له المنفعة المسمَّاة.

(وصَحَّ إِعارةُ الأَرْضِ للبِنَاءِ، والغَرْس) لأَنَّ كلاً منهما (له)( 2) منفعةٌ معلومةٌ تملك بالإِجارة فتملك بالإِعارة، بل أَولى لأَنها تَبَرُّعٌ.

(وَلَهُ) أَي للمُعِير (أَنْ يَرْجِعَ عَنْهَا) بعد أَنْ يَبْني المستعير أَوْ يغرِس، لأَن عقد الإِعارة غير لازم (ويُكَلِّفُ)(المعيرُ)( 2) المستعير (قَلْعَهُمَا) أَي البناء والغرس، لأَنه شَغَل أَرضه بهما. (وضَمِنَ) المعيرُ للمستعير (مَا نَقصَ) البناء والغرس (بالقَلْعِ) بِأَنْ يُقَوَّم قائماً غير مقلوع، لأَن القلع غير مستحق قبل الوقت. ذَكَرَه في «شرح الكنز» . والمعنى بكم (تُشْترى)

(3)

بشرط قيامهما إِلى المدة المضروبة. وفي «القُدُوري» : إِذا كانت قيمتهما وقت مُضي المدة المضروبة عشرةَ دنانير مثلاً، وحين قلعهما ثمانيةً، يرجع

(1)

أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 47.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

في المطبوع: يشتريان، وما أَثبتناه من المخطوط.

ص: 454

إِن وَقَّتَّهَا وَرَجَعَ قَبْلَهُ، وكُرِهَ الرُّجُوْعُ قَبْلَهُ.

ولَوْ أَعَارَ للزَرْع لا يَأَخُذُ حَتَّى يُحْصَدَ، وَقَّتَ أَو لا.

وأُجْرَةُ رَدِّ المُسْتَعَارِ، والمُسْتَأْجَرِ، والمَغْصُوب على المستعير، والمُؤجِر، والغَاصِب.

===

بدينارين. وفي «المبسوط» يتملكهما به، إِلاَّ أَنْ يرفعهما المستعير ولا يُضَمِّنُهُ قيمتهما، فله ذلك لأَنه ملكه.

(إِنْ وَقَّتَهَا) المعير (وَرَجَعَ قَبْلَهُ).

وقال زُفَر: لا يضمن، لأَن التوقيت، والإِطلاق فيها سواء، لبطلان التأَجيل في العَوَارِي. ولنا أَنْ المعير بالتوقيت غارٌّ للمستعير، لأَنه نَصَّ على تَرْك الأَرض في يده وقرار بنائه وغرسه فيها المدة التي سَمَّاها، وللمغرور أَنْ يدفع الضرر عن نفسه بالرجوع على الغَارِّ.

(وكُرِهَ) للمُعير إِنْ كَانَ وَقَّتها (الرُّجُوْعُ) عن الإِعارة (قَبْلَهُ) أَي قبل الوقت الذي وَقَّتَها به. لأَن فيه خُلْفَ الوعد. قَيَّد الضمان بالمؤقتة، لأَن المُعِير لا يضمن للمستعير شيئاً من البناء أَوْ الغرس إنْ لم يوقت، لأَن المستعير حينئذٍ مغترٌّ لا مغرور، لأَنه اعتمد الإِطلاق في العَقْد. وقال مالك: ليس له الرجوع متى شاء، لأَنه غير متعدَ فيه، فلا يكون لصاحب الأَرض أَنْ يأَخذها ما لم يُفْرغْهَا المستعير.

قلنا: الأَرض على ملك صاحبها والعارِيَّة لا يتعلق بها لزوم. وقال ابن أَبي ليلى: البناء للمُعير، ويضمن قيمته مبنياً لصاحبه، لأَن دَفْع الضرر من الجانبين واجبٌ، وإِنما يندفع بهذا.

قلنا: صاحب الأَرض لم يرض (بالتزام)

(1)

قيمة البناء، ففي إِلزامه ضرر عليه، فلا يصار إِليه بدون تحقق الضرورة ولا ضرورة ههنا، لأَن دفع البناء وتمييز مِلْك أَحدهما عن الآخر مُمْكن.

(ولَوْ أَعَارَ) أَرْضَاً (للزَرْع لا يَأَخُذُ) المعير الأَرض (حَتَّى يُحْصَدَ) الزرع (وَقَّتَ أَوْ لا) لأَن للزرع نهايةً معلومةً فيترك إِليها بأَجْرِ المِثْل مراعاةً للحَقَّين، فكان أَولى من القَلْع. (وأُجْرَةُ رَدِّ المُسْتَعَارِ، والمُسْتَأْجَرِ، والمَغْصُوب على المستعير، والمُؤجِر، والغَاصِب) لما تقدم

(2)

. والله سبحانه وتعالى أَعلم بالصواب وإِليه المرجع والمآب.

(1)

في المطبوع: التزام، وما أَثبتناه من المخطوط.

(2)

في الكلام لفٌّ ونَشْرٌ مرتب، يعنى أَن أُجْرة المُسْتعار على المستعير لأَنه قبضه لمنفعة نفسه، والردّ واجب عليه والأُجرة مؤنة الردّ، فتكون عليه. وأُجُرة ردّ المستأْجر على المؤجِر، لأَن المنفعة =

ص: 455

‌كِتَابُ الوَديعَة

هي أَمَانَةٌ تُرِكَتْ للحِفْظِ، وضَمَانُهَا كالعَارِيَّةِ.

===

كتاب الوَدِيْعَةِ

(هي) لغةً: فَعِيلة بِمَعْنَى المفعولة، مشتقةٌ مِنْ الوَدْع وهو التَّرْك، وقد جاء في الحديث:«لَيَنْتَهِيَنَّ قومٌ عن وَدْعِهِمُ الجَمَاعَاتِ»

(1)

أَي عَنْ تركِهَا، وقراء قوله تعالى:«ما وَدَعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى»

(2)

، بتخفيف الدَّال، أَي ما تركك وما أَبغضك.

وشَرْعَاً: (أَمَانَةٌ تُرِكَتْ للحِفْظِ) مالاً كان أَوْ غيره، بشرط أَنْ يكون قابلاً لإِثبات اليد ليمكن حِفْظه، حتى لو وُدِع الآبق أَوْ المال الساقط في البحر لم تصح. وكونِ

(3)

المودَع مُكَلَّفاً، لوجوب الحِفْظ عليه.

(مشروعية الوديعة)

وشرعية الإِيداع بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهْلِهَا}

(4)

، وأَداء الأَمانة لا يكون إِلاَّ بعدها

(5)

. ولأَن قبول الوَدِيعة من باب الإعانة، وهي مندوبةٌ، لقوله تعالى:{وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى}

(6)

. وقوله عليه الصلاة والسلام: «واللَّهُ في عَوْنِ العبدِ ما دام العَبْدُ في عَوْن أَخِيْهِ»

(7)

.

(وضَمَانُهَا كالعَارِيَّةِ) فلا يضمن إِنْ هَلَكت من غير تَعَدَ، لما روى ابن ماجه في «سُننه» عن عَمْرو بن شُعَيب، عن أَبيه، عن جَدِّه: أَنْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَوْدَعَ وَدِيْعةً

= تحققت للمؤجر معنىً حيث سلَّم له الأُجرة، والردّ غيرِ واجب على المستأْجِر، وإِنما وجب عليه التمكين والتخلية. وأُجرة ردّ المغصوب على الغاصب، لأَن الردّ واجب عليه دفعًا للضرر عن المالك، فتكون مؤنة الرد عليه. انتهى من حاشية محمود بن إلياس الرومي، هامش فتح باب العناية 2/ 128.

(1)

سنن ابن ماجه 1/ 260، كتاب المساجد (4)، باب التغليظ في التَّخلف عن الجماعة (17)، رقم (794).

(2)

وهي قراءة شاذة. انظر: البدور الزاهرة ص 344.

(3)

أَي ويشترط كَوْن المودَع

(4)

سورة النساء، الآية:(58).

(5)

أَي بعد الوَديعة.

(6)

سورة المائدة، الآية:(2).

(7)

صحيح مسلم 4/ 2074، كتاب الذِّكر والدُّعاء (48)، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (11)، رقم (38 - 2699).

ص: 456

ولَهُ حِفْظُهَا بِنَفْسِهِ وبِمَنْ في عِيَالِهِ، وإِن نُهي. والسَّفَرُ بِهَا عِنْدَ عَدَمِ النَّهْي والخَوْفِ،

===

فلا ضمان عليه». وقال مالك رحمه الله: «إِذا سُرقت الوديعة من عند المُودَع ولم يُسرق له معها مالٌ، يَضْمن للتهمة. قلنا: هو مُتَبرِّعٌ في حفظها لصاحبها، والتبرع لا يوجِب ضماناً على المتبرع، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس على المُسْتَوْدَع غير المُغِلّ ضمان»

(1)

. والمُغِلّ: الخائن، والإِغْلال: الخيانة.

(ولَهُ) أَي للمودَع (حِفْظُهَا) أَي الوديعة (بِنَفْسِهِ وبِمَنْ في عِيَالِهِ) من زوجته، وولده، ووالدَيْه، وأَجِيره الخَاصّ الذي استأَجره مشاهرةً، أَوْ مسانهةً. والعبرة في هذا الباب للمساكنة لا للنَّفقة. (وإِن

(2)

نُهي) عن حِفْظها بهم. وقال الشافعي رحمه الله: ليس للمودَع أَنْ يدفعها إِلى مَنْ في عياله، لأَن مالكها رَضِي بِحِفْظه لا بِحِفْظ غيره.

ولنا أَنْ الواجب عليه أَنْ يَحْفظها حِفْظ مال نفسه، وهو يحفظه بعياله، لأَن المودَع لا يمكنه ملازمةُ بيته لحفظ الوديعة، ولا استصحابها معه في خروجه، فلم يكن له بُدٌّ من حِفْظها بِمَنْ في عياله. وفي «الذخيرة»: الدَّفْع إِلى مَنْ في العيال إِنَّما يجوز إِذا كان أَمِينَاً، ولو دفعها المودَع إِلى أَمينٍ من أُمَنائه ليس في عياله يجوز، وعليه الفتوى.

(و) للمودَع (السَّفَرُ بِهَا) أَي بالوديعة وإِن كان لها حمل (و)

(3)

مُؤْنة (عِنْدَ عَدَمِ النَّهْي) من صاحب الوَدِيعة (و) عدم (الخَوْفِ) بأَن كان الطريق أَميناً لا يقصد فيه أَحدٌ بسوءٍ غالباً، ولو قصده يمكنه دَفْعُهُ بنفسه أَوْ برفقته. وقال أَبو يوسف رحمه الله: له السَّفَرُ بها إِنْ كانت المسافة قصيرةً، وإِنْ كانت طويلةً فليس له ذلك فيما له حمل ومُؤْنَة. وقال محمد رحمه الله: ليس له السفر بها فيما له حمل ومؤنة، إِذْ الظاهر من حال صاحبها أَنه لا يرضى بها، وصار كالوكيل بالبيع ليس له السفر بالمبيع، وإِن سافر به ضَمِن.

وقال الشافعي رحمه الله: ليس له ذلك مُطْلقاً، لأَنَّ المتعارَف هو الحفظ في الأَمصار دون المفازات والأَسفار. وقال مالك رحمه الله: ليس له ذلك إِذا قدر أَنْ يردها على صاحبها، أَوْ وكيله، أَوْ الحاكم، أَوْ أَمينه. ولأَبي حنيفة رحمه الله أَنه أَمَرَه بالحفظ من غير تقييد فلا يتقيد بمكانٍ دون مكان، كما لا يتقيد بزمان دون زمان.

(1)

أخرجه الدارقطني في سننه 3/ 41، كتاب البيوع.

(2)

"إن" وصلية.

(3)

في المطبوعة: أَو، وما أَثبتناه من المخطوطة.

ص: 457

ولوْ حَفِظَ بِغَيْرِهِم ضَمِنَ، إِلَّا إِذَا خَافَ الحَرْق أو الَغَرق، فَوَضَعَهَا عِنْدَ جَارِهِ أَو في فُلْكٍ آخَر.

فإِنْ حَبَسَهَا بَعْدَ طَلَبِ رَبِّهَا قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيم، أَو جَحدها، أَوْ خَلَط بِمَالِهِ حَتَّى لا يَتَمَيَّز،

===

قَيَّد «بعدم النهي وعدم الخَوْف» ، لأَن المودَع ليس له السفر بالوديعة إِذا نهاهُ رَبُّهَا عنه بِلا خلافٍ بين العلماء.

(ولوْ حَفِظَ) المودَع (بِغَيْرِهِم) أَي بغير نَفْسِهِ وعياله (ضَمِنَ) لأن المالك رضي بيده لا بيد غيره، والأَيدي تختلف بالأَمانة (إِلاَّ إِذَا خَافَ) المودَع على الوديعة (الحَرْق) بأَن وقع حريق في داره (أَوْ) خاف عليها (الغَرَق) بأَن كان في السفينة وهبت الريح (فَوَضَعَهَا عِنْدَ جَارِهِ) في خوف الحرق (أَوْ في فُلْكٍ آخَر) في خوف الغَرَق فإِنه لا يَضْمن، لأَنْ فِعْله هذا تَعَيَّنَ للحفظ فصار مَأَذوناً له دلالةً.

وفي «النهاية» : عن محمد: أَنْ المودَع إِذا دفع الوديعة إِلى وكيله وليس في عياله، أَوْ دفع إِلى أَمين من أُمنائه مِمَّنْ يثق به في مالهِ وليس في عياله، لا يضمن، لأَنَّه حَفِظَهَا مِثْل ما يحفظ ماله، ولا يجب عليه أَكثر من ذلك. ثم قال: وعليه الفتوى. وعزاه إِلى التُّمُرْتَاشِي، وهو إِلى الحَلْوَانِي، ثُم قال: وعن هذا لم يشترط في «التحفة» الحِفْظ بالعيال، بل قال: ويلزم المودَع إِذا قَبِل الوديعة حِفْظها على الوجه الذي يحفظ ماله.

(فإِنْ حَبَسَهَا) أَي المودَع ـ الوديعة ـ (بَعْدَ طَلَبِ رَبِّهَا) حال كون المودَع (قَادِرَاً عَلَى التَّسْلِيم، أَوْ جَحدها) مع ربِّها، سواء أَقَرَّ بها بعد الجحود أَوْ لا. قيدنا الجُحُود بكونه مع رب الوديعة، لأَنه لو كان مع غيره بأَن قال له أَجنبي: أَعندك وديعةٌ لفلان؟ فقال: ليس لفلان عندي وديعة، لا يضمن، خلافاً لِزُفر، وهو يقول: الجحود سبب الضَّمَان، سواء كان عند المالك أَوْ غيره، كالإِتلاف حقيقةً. ولنا أَنَّ الجحود عند الأَجنبي من باب الحِفْظ، لأَنه يقطع طمع الطامعين عنها، وبه قال مالك، والشافعي، وأَحمد.

(أَوْ خَلَط) المودَع الوديعة (بِمَالِهِ حَتَّى لا يَتَمَيَّز) كالحِنْطة بالحِنْطة، أَوْ تَعَسَّر تميزه، كالحِنْطة بالشعير، وكخلط المائع بغير جنسه: مثل خَلْط الزيت بالشَّيرَج

(1)

. وأَسْنَد الخَلْط إِلى المودَع، لأَنها لو اختلطت بماله بغير فعله كان شريكاً لصاحبها بالاتفاق، وسيذكر المصنف هذا. وقيد الخلط بعدم التميز، لأنه لو خَلَطها وكان

(1)

الشَّيرَج: الدُّهن الأَبيض. المغرب 1/ 436، وتاج العروس 6/ 62. مادة (شرج).

ص: 458

أَو تَعَدَّى فَلَبِسَ، أَوْ رَكِبَ، أَوْ حَفِظ الوَدِيْعَةَ في دَارٍ أُمِرَ بِهِ في غَيْرِهَا، أَو جَهَّلَهَا عِنْدَ المَوْتِ، ضَمِنَ، وِإنْ أَزَالَ التَّعَدِّي زَالَ ضَمَانُهُ.

وإِن اختلطت بِلَا فِعْلِهِ اشْتَرَكَا، ولا يَدْفَعُ إِلى أَحَدِ المودِعينَ قِسْطَهُ بِغَيْبَةِ الآخَرِ، ولأحَدِ المودِعين دَفْعُهَا إِلى آخر فيما لا يُقْسَم،

===

يتيسر تميزها، كما لو خلط الدراهم البيض بالسود، والدراهم بالدنانير، والجوز باللوز، لم ينقطع حَقُّ المالك بالاتفاق، لتمكنه من الوصول إِلى عين ملكه بالإِخراج.

(أَوْ تَعَدَّى فَلَبِسَ) الثوب المودَع (أَوْ رَكِبَ) الدابة المودَعة (أَوْ حَفِظ الوَدِيْعَةَ في دَارٍ أُمِرَ بِهِ) أَي بالحفظ (في غَيْرِهَا، أَوْ جَهَّلَهَا) ـ بتشديد الهاء الأُولى ـ أَي لم يبين أَنها وديعةٌ (عِنْدَ المَوْتِ ضَمِنَ) مثلها لو مثليَّةً، وقيمتها لو قيميَّةً. هذا

(1)

جواب الشرط الذي هو: «فإِن حَبَسَهَا» وما عطف عليه، وخَيَّرَاهُ بين المشاركة والتضمين.

(وإِنْ أَزَالَ) المودَع (التَّعَدِّي) بأَن ترك لبس ثوبِ الوديعة، أَوْ ركوب دابَّتها (زَالَ ضَمَانُهُ). وقال الشافعي: لا يزول، وبه قال مالك في روايةٍ، وأَحمد، (وإِن اختلطت) الوديعة بِمَال المودَع (بِلَا فِعْلِهِ) كما لو انشق الكيس في صندوقه فاختلطت بِدَرَاهِمِه (اشْتَرَكَا) بِقَدْر ملكهما، ولا يضمن المودَع لعدم الصنع منه. وهذه شركة أَملاك حتى لو هلك بعضها هلك من مالهما، ويُقْسَمُ الباقي بينهما على قَدْر ما كان لِكُلَ منهما.

(ولا يَدْفَعُ) المودَع (إِلى أَحَدِ المودِعينَ قِسْطَهُ) من الوديعة (بِغَيْبَةِ الآخَرِ) ولو دفعه بغيبته يضمن، وهذا عند أَبي حنيفة، وهو مَرْوِيٌّ عن عليَ رضي الله عنه، وفيه حكِاية (وهي)

(2)

: أَنْ رَجُلَيْن دَخَلا حَمَّاماً وأَوْدَعَا عِنْدَ الحَمَامي أَلْفَاً، فخرج أَحدُهُمَا وطلبها منه وأَعطاه إِيَّاهَا وذهب، ثُم خرج الآخَر فطالبه بها، فتحير الحمامي، فذهب إِلى أَبي حنيفة رحمه الله تعالى فقال له أَبو حنيفة رحمه الله تعالى: قل له: كلاكما أَوْدَعتماني، فلا أُعْطِيك حتى يحضرَ صاحبُك، فانقطع الرجل وترك الحمامي.

وقال أَبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي رحمهم الله تعالى: يدفع إِليه قِسْطه ولا يضمن، سواء كان من ذوات الأَمثال، أَوْ من ذوات القِيَم عِنْدَ بعض المشايخ، والصحيح أَنْ الاختلاف فيما هو من ذوات الأَمثال، وفيما عداه، كالثياب والدواب والعبيد ليس للحاضر أَنْ يأَخذ نصيبه بالاتفاق.

(ولأحَدِ المودِعين دَفْعُهَا إِلى آخر فيما لا يُقْسَم) كالعبد والثوب والحيوان، لأَن

(1)

أَي كلمة "ضَمِن" في المتن.

(2)

في المطبوعة، روى، وما أَثبتناه من المخطوطة.

ص: 459

ودَفْعُ نِصْفِهَا فِيْمَا يُقْسَم.

وضَمِنَ دَافِعُ الكُلِّ لا قَابِضُهُ. ولا اعتِبارَ للنَّهْي عن الدَّفْع إِلى مَنْ لا بُدَّ لَهُ مِنْ حِفْظِهِ، ولا عَنْ الحِفْظِ في بَيْتٍ مِن دَارٍ، إِلَّا أَنْ يكونَ به خَلَلٌ ظَاهِرٌ.

===

المالك رضي بيد كل منهما على كلها، لأَنه أَودعهما مع عِلْمه بأَنهما لا يجتمعان الليل والنهار على حفظها (ودَفْعُ نِصْفِهَا فِيْمَا يُقْسَم) لأَن المالك لما أَودعهما مع علمه أَنهما لا يقدران على ترك اشتغالهما ولا يجتمعان في مكان واحد للحفظ، كان راضياً لقسمتها، وحفظ كل واحد منهما للنصف دلالةً. والثابت بالدلالة كالثابت بالنص.

(وضَمِنَ دَافِعُ الكُلِّ) إِلى الآخَرِ عند أَبي حنيفة رحمه الله تعالى. وقالا: لا يضمن دافع الكل إِلى الآخَرِ فيما يحتمل القسمة، كما لا يضمن فيما لا يحتملها، لأَن المالك رضي بأَمانتهما. (لا قَابِضُهُ) أَي لا يضمن عند أَبي حنيفة رحمه الله تعالى قابضُ الكُلِّ لتعديه بالقبض، لأنه مودَع المُوِدع، ومودَعُ المودِع لا يضمن عنده

(1)

.

(ولا اعتِبارَ للنَّهْي) أَي لِنَّهْي رَبِّ الودِيعة المودَع (عن الدَّفْع إِلى مَنْ لا بُدَّ لَهُ) للمودَع (مِنْ حِفْظِهِ) كَأَنْ قال: لا تدفعها إِلى امرأَتك، أَوْ أَحَدٍ من عيالك، فإِن هذا الشرط مفيدٌ، إِذْ قد يأمن الإِنسان الرجل على ماله ولا يأَتمن عليه عياله، إِلاَّ أَنه إِنما يلزم مراعاته بحسب الإِمكان، فإِذا لم يكن الحفظ بدونه صار النَّهْي عن الدفع إِليه كالنَّهْي عن حِفْظِهِ، فكان مناقضاً لأَصله فيبطل، فلا يضمن إِذا هلكت، استحساناً. ويضمن في القِياس، لأَنه اسْتَحْفَظَ (مَنْ اسْتُحْفِظَ)

(2)

منه، ويؤيد وجه القياس قوله تعالى:{ولا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ}

(3)

والمراد النِّساء، فإِذا كان هو منهياً عن دَفْع مال نَفْسه

(4)

إِلى امرأَته، فما ظنك في مال غيره وَوَجْه الاستحسان ما تقدم، والله أَعلم.

(ولا) للنَّهْي (عَنْ الحِفْظِ في بَيْتٍ مِنْ دَارٍ) لأَن البيتين في دار واحدة قلما يختلفان في الحرز، فصار الشرط غير مفيد فلا يعتبر، كما لو قال: احفظها بيمينك دون يسارك، أَوْ: في هذه الصندوق في هذا البيت فحفظها في صندوق آخر (إِلاَّ أَنْ يكونَ به) أَي بذلك البيت الذي نهى عنه (خَلَلٌ ظَاهِرٌ) فإِنَّ النَّهْي معتبرٌ حينئذٍ، وكذا

(1)

لمزيد تفصيل انظر "فتح القدير" 7/ 460 - 461.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

سورة النساء، الآية:(5).

(4)

في المطبوعة: نفس ماله، وما أَثبتناه من المخطوطة.

ص: 460

ولَوْ أَوْدَعَ المُوْدَعُ فَهَلَكَتْ، ضَمِن الأَوَّل.

ولَوْ أَوْدَعَ الغَاصِبُ ضَمَّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ.

===

إِذا نهاه عن الحِفْظ في دار أُخْرى اعتبر النَّهْيّ، حتى لو خالف ضَمِن.

(ولَوْ أَوْدَعَ المُوْدَعُ) الوديعة عند مَنْ ليس في عياله (فَهَلَكَتْ ضَمِن) المالك (الأَوَّل) عند أَبي حنيفة رحمه الله تعالى، وعندهما ضَمَّن أَيّهما شاء، كما قال مالك والشافعيّ. (ولَوْ أَوْدَعَ الغَاصِبُ) المَغْصُوبَ فَهَلَكَ (ضَمَّنَ) المالك (أَيَّهُمَا شَاءَ) باتفاقهم. ثُم مودَع الغَاصِب إِنْ لم يعلم أَنه غَاصِبٌ يَرْجِع إِلى الغَاصِب قولاً واحِداً، وإِن علم فكذا في الظاهر. وحكى أَبو اليُسْر أَنه لا يرجع، وإِليه أَشار شمس الأَئمة.

ثُم اعلم أَنَّ الإِيداع يكون بالإِيجاب والقبول تارةً: كَأَوْدَعْتُكَ هذا المال، وقول الآخر: قبلت، وبالدلالة أَخرى

(1)

، كوَضْع المتاع عند الغير وهو ساكِتٌ، لأَنه يُعَدُّ قَبُولاً عُرْفَاً. ولو وَضَعَه عند جماعةٍ يتعين له حافِظاً آخرهُمْ قياماً وانصرافاً. ولا ضمانَ على مَنْ دَفَع ما عنده من الأَمانة إِلى سلطان جائرٍ هَدَّدَه على دَفْعهِ إِليه بِقَطْع يده، أَوْ ضربه خمسينَ سَوْطاً، لعدم قدرته على دَفْعِه، فلم يكن مُقَصِّراً في حفظه، والله سبحانه أَعلم.

(1)

أَي وبالدلالة تارة أخرى.

ص: 461

‌كِتَابُ الغَصْبِ

هُوَ أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ عَلَنًا، بِلَا إِذْنِ مَالِكِهِ، يُزِيْلُ يَدَهُ.

فلا غَصْبَ في العَقَار، حَتَّى لَوْ هَلَكَ في يَدِهِ لا يَضْمَنُ،

===

كتاب الغَصْب

(هُوَ) لغةً: أَخْذ الشيء ظُلْمَاً، أَوْ قَهْرَاً، مالاً كان أَوْ غيره. وقد سُمِّي المغصوبُ غَصْبَاً تسميةً للمَفْعُوْلِ بالمَصْدر.

وشَرْعاً: (أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوَّمٍ مُحْتَرَمٍ عَلَنَاً بِلَا إِذْنِ مَالِكِهِ، يُزِيلُ يَدَهُ) أَي على وَجْهٍ يزيل ذلك الأَخْذُ يدَ مالك المال عن المال، حتى كان استخدام العبد بغير إِذن مالكه، ولُبْس الثوب، والحمل على الدابة، غصباً بالاتفاق، لقصر يد المالك عنها وإِثْبات يده عليها، دون الجلوس على بساط غيره وفراشه بلا نقل عن محله.

فخرج بالأَخْذِ ما صار مع المغصوب بغير صنع الغاصب، كما لو غَصَب دابةً فتبعتها أُخْرى، فإِنه لا يضمنها. وبالمال نحو الميتة والحر، وبالمتقوَّم الخمر. وبالاحترام مال الحربي، وبالعلن السرقة، وبعدم إِذْن المالِك الوديعةُ، والعارية، والمستأجَر، والموهوب ونحوها. وقوله:«يزيل يده» للاحتراز عن أَخْذِ العَقار لعدم تحقق إِزالة اليد فيه، لأَنها إِنما تكون بالنقل والتحويل. ولأَن الغَصْب عندنا إِزالة اليدِ المُحِقَّة عن العين بإِثبات اليد المبطلة، أَوْ قصرها ومنعها عنه. وعند مالك والشافعي: إِثْبات اليد المبطَلة من غير شرط إِزالة المُحِقَّة.

وفائدة الخلاف تظهر في زوائد المغصوب، كالولد، وثمرة البستان، والسِّمَن، والجمال، فإِنها غير مغصوبة عندنا فلا تكون مضمونةً، سواء كانت متصلةً أَوْ منفصلة إِلاَّ بالتعدي عليها بالإتلاف، أَوْ المنع بعد طلب المالك. وأَما بدونهما فلا تكون مضمونةً لعدم إِزالتها وقصر يده عنها، لانعدام ثبوتها عليها، ومغصوبة عنده

(1)

فتكون مضمونة لإثبات اليد المُبْطِلة.

(فلا غَصْبَ في العَقَار) لما تقدم مِنْ أَنَّ الغَصْبَ فيما يُنْقل (حَتَّى لَوْ هَلَكَ) العَقار بآفةٍ سماويةٍ، أَوْ انهدم بناء الدار بسيل (في يَدِهِ) أَي يد آخِذِه قَهْرَاً من مالكه (لا يَضْمَنُ) وهذا عند أَبي حنيفة، وأَبي يوسف رحمهما الله تعالى. وقال محمد: في

(1)

أَي عند الإمام مالك.

ص: 462

وما نَقَص بِفِعْلِهِ يُضْمَنُ.

واسْتِخْدَامُ العَبْدِ غَصْبٌ، لا جُلُوْسُهُ عَلَى البِسَاطِ.

===

العَقار الغَصْب، ويضمن بالهلاك في يد آخِذه قَهْراً عن مالكه، وهو قول أَبي يوسف أَولاً، وبه قال مالك والشَّافعيّ وأَحمد، لأَنه أَثبت يده على وَجْهٍ تضمن تفويت يد المالك عنه، فانعقد ذلك سبباً للضمان، كما في المنقول.

ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أَنَّ الغَصْبَ إِزَالَةُ اليد المُحِقَّة بإِثبات اليد المبطلة، لأَن الواجب ضَمَانُ جَبْرٍ فيعتمد التفويت، وإِزالة يد المالك إِنَّما تكون بالنقل والتحويل، وذا لا يتصور في العَقَار، وإِنما يتصور فيه منع المالك عنه، ومنع المالك تَصَرفٌ فيه لا في المحل. وصار كما لو بَعُدَ المالك عن مواشيه حتى تَلِفَتْ بذلك.

وأَمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ غَصَبَ شِبْرَاً مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ تعالى يومَ القيامةِ مِنْ سَبْع أَرَضين»

(1)

، فلا يدل على أَنه يتحقق فيه الغَصْب الموجِب للضَّمَان، كإِطلاق لفظ البيع على بيع الحر في حديث:«مَنْ باع حراً» . قال ابن الأَثير: طوقه من سبع أَرضين: أَي يخسف الله به الأَرض فتصير البقعةُ المغصوبة منها في عُنُقه كالطَّوْق. ويؤيده أَنه في روايةٍ للبخاري: «خسف به إِلى سَبْع أَرضين» . وفي «مسند ابن أَبي شيبة» : «من غصب شِبْرَاً من أَرْضٍ جاءته إِسْطَامَاً في عنقه» . والإِسْطَام: كالحَلَق من الحديد. وقيل: هو أَنْ يُطَوَّقَ حَمْلَهَا يومَ القيامة، أَي يُكَلَّفه، فيكون من طوق التكليف لا من طَوْق التقليد.

هذا، والحديث المذكور هو حجتنا في ذلك، فإِنه صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ جزاء غاصب العَقار الوعيد في العُقْبَى ولم يذكر الضمان في الدنيا، فذلك دليلٌ على أَنَّ المذكور جميع جزائه، ولو كان الضمان واجباً لكان الأَوْلى أَنْ يُبَيِّنَهُ، لأَنَّ الحاجة إِليه أَمْسّ.

(وما نَقَص) العَقار (بِفِعْلِهِ) أَوْ بِسُكْنَاه في الدار وزرعه في الأَرض (يُضْمَنُ) عندهم جميعاً، لأَنَّ هذا إِتلافٌ، والعقار يُضْمن بالإِتلاف اتفاقاً، كما إِذا نقل ترابه، لأنه فِعْلٌ في العين. وجاز أَنْ لا يضمن بالغَصْب، ويضمن بالإِتلاف كالحُرِّ.

(واسْتِخْدَامُ العَبْدِ) والحَمْلُ على الدابةِ (غَصْبٌ، لا جُلُوْسُهُ) أَي ليس جلوس الجالس (عَلَى البِسَاطِ) الذي لغيره غَصْبَاً له، لأَنه بجلوسه عليه لم يفعل فيه شيئاً يكون به مزيلاً لِيَدِ مالكه، وبسط البِسَاطِ فِعْلُ مالكه. فتبقى يده فيه ما بقي أَثَرُ فعله،

(1)

أَخرجه الإِمام مسلم في صحيحه 3/ 1230، كتاب المساقاة (22)، باب تحريم الظلم وغصب الأَرض وغيرها (30)، رقم (137 - 1610)، مع اختلاف يسير في اللفظ.

ص: 463

وحُكْمُهُ الإِثْمُ لِمَنْ عَلِمَ، وَرَدُّ العَيْنِ قَائِمَةً، والغُرْمُ هَالِكَةً.

ويَجب المِثْلُ في المِثْلِيِّ، كالمَكِيل، والمَوْزُونِ، والعَدَديِّ المُتَقَارِبِ. فإِن انْقَطَعَ المِثْلُ فَقِيْمَتُهُ يَوْمَ يَخْتَصِمَان، وفي غَيْرِ المِثْلِيِّ قِيْمَتُهُ يَوْمَ الغَصْبِ، كالعَدَدِي المُتَفَاوِت.

فإِن ادَّعَى الهَلَاكَ حُبِسَ حتى

===

بخلاف استخدام العبد، والحمل على الدابة، فإِنه بالتصرف فيهما أَثبت يده عليهما، وذلك موجِبٌ لِقَصْر يد مالكهما عنهما.

(حُكْم الغَصْب)

(وحُكْمُهُ) أَي الغَصْب (الإِثْمُ لِمَنْ عَلِمَ) أَنْ ذلك الفعل غَصْب وأَقدم عليه بإِجماع الأُمة (وَرَدُّ العَيْنِ) في مكان غَصْبِهِ حال كونها (قَائِمَةً، والغُرْمُ) حال كونها (هَالِكَةً) لِمَنْ علم. ولِمَنْ لا يعلم: بأَن ظَنَّ أَنَّ المأخوذ مالُه، أَوْ اشترى عَيْنَاً فاسْتُحِقَّت، لأَن هذا حق العبد، وهو لا يتوقف على العلم والقصد بالإِجماع. أَما رَدُّ العين، فلقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يَحِلُ لأَحدٍ أَنْ يَأخذَ متاعَ أَخِيْهِ لاعِبَاً، أَوْ جَادّاً، فإِنْ أَخَذَهُ فَلْيَرُدَّهُ إِليه»

(1)

. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَه»

(2)

. وأَما غُرْمه، فلأَنه يقوم مقام عينه عند العجز عنها، فإِن نقص ضَمِن اعتباراً للجزء بالكل.

(ويَجب) على الغاصب إِذا عَجَز عن رَدّ العين المغصوبة بِهلاكها في يده بفعله أَوْ بفعل غيره (المِثْلُ في المِثْلِيِّ، كالمَكِيل، والمَوْزُونِ، والعَدَدي المُتَقَارِبِ) لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}

(3)

. وقال زفر: عليه ضمان قيمته.

(فإِن انْقَطَعَ المِثْلُ) عن أَيدي الناس بانتهائه، كالرُّطَب ونحوه، (فَقِيْمَتُهُ) تَجِبُ (يَوْمَ يَخْتَصِمَان) عند أَبي حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى وبعض أَصحاب الشافعي. وقال أَبو يوسف رحمه الله تعالى: يوم الغَصْب. وقال محمد: يوم الانقطاع. وبه قال أَحمد وبعض أَصحاب الشافعي رحمه الله تعالى (وفي غَيْرِ المِثْلِي) تجب (قِيْمَتُهُ يَوْمَ الغَصْبِ، كالعَدَدِي المُتَفَاوِتِ) والثياب والدَّواب.

(فإِن ادَّعَى) الغاصب (الهَلَاكَ حُبِسَ) لأن الهلاك لِعَارِضٍ، والأَصل عَدَمُهُ (حتى

(1)

أَخرجه الإمام أَبو داود في سننه 5/ 273، كتاب الأَدب (40)، باب مَنْ يأخذ الشيء على المزاح (85)، رقم (5003).

(2)

تقدم تخريجه ص 454، التعليقة رقم (1).

(3)

سورة البقرة، الآية:(194).

ص: 464

يُعلم أَنه لو بقي لظهر، ثُم قُضِي عَلَيْهِ بالبَدَلِ. والقَوْلُ فِيْهِ للغَاصِب إِنْ لَمْ يُقِمِ حُجَّةً عَلَى الزِّيَادَةِ، فإِنْ ظَهَرَ وقِيْمَتُهُ أَكْثَرُ وَقَدْ ضَمِنَ بِقَوْلِهِ، أَخَذَهُ المَالِكُ وَرَدَّ بَدَلَهُ، أَوْ أَمْضَى الضَّمَانَ. وإِنْ ضَمِنَ لا بِقَوْلِهِ فَهُوَ لِلغَاصِبِ.

===

يعلم أَنه) أَي المغصوب (لو بقي لظهر ثُم قُضِي عَلَيْهِ بالبَدَلِ) لأَن الحق متعلق بالعين، وللناس أَغراض في الأَعيان فلا يقبل قول الغاصب في هلاكها حتى يحصل به

(1)

غلبة ظن: إِما بإِقامة بينة، وإِما مُضِيِّ مدة. ومدَّةُ ذلك موكولةٌ إِلى رَأي القاضي، فإِذا عَلِم الهَلاكَ سَقَط رَدُّ عَيْنه، ولزم رَدُّ بَدَلِه. وهذه المسأَلة تدل على أَنْ الموجِبَ الأَصلي رَدُّ العين.

(والقَوْلُ فِيْهِ) أَي في البدل (للغَاصِب) مع يمينه (إِنْ لَمْ يُقِم) المالكُ (حُجَّةً عَلَى الزِّيَادَةِ) لأَن المالك يَدَّعِي الزيادة في القيمة على الغاصب بلا حجة، وهو ينكرها، والقول قول المُنْكِر مع يمينه. ولو أَقام الغاصب البينةَ لا تقبل لأَنها تنفي الزيادة، والبينة على النَّفْي لا تُقْبَل.

(فإِنْ ظَهَرَ) المغصوب (وقِيْمَتُهُ أَكْثَرُ) مِمَّا ضَمِن الغاصب (وَقَدْ ضَمِنَ) الغاصب (بِقَوْلِهِ) أَي بقول نفسه مع يمينه (أَخَذَهُ المَالِكُ وَرَدَّ بَدَلَهُ) لأَن رضاه بهذا القَدْر لم يتم، لأَنه كان ادَّعِى الزيادة، وإِنَّما أَخذ دونها لعدم البينة له عليها. (أَوْ أَمْضَى الضَّمَانَ) وكذا لو ظهر المغصوبُ، وقيمتُهُ مِثْلُ ما ضَمِنه الغاصب، أَوْ دونه على الأَصح. وقال الكَرْخِي: لا خِيار للمالك في المِثْلِ والدُّون، لأَنه توفر عليه بدل مِلْكه بكماله.

(وإِنْ) ظهر المغصوبُ، وقيمتُهُ أَكْثَرُ مِمَّا ضَمِن الغاصب، وقد (ضَمِنَ) الغاصِبُ (لا بِقَوْلِهِ) بل بِقَوْل المالك، أَوْ بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا، أَوْ بِنُكُول الغاصب عن اليمين (فَهُوَ لِلغَاصِبِ) ولا خيار للمالك، لأَنه رَضِي بالمبادلة فيه بهذا القدر حيث ادعاه ولم يدع زيادة عليه، وبه قال مالك. وعند الشافعي وأَحمد له الخِيار لعدم زوال ملكه عندهما عنه

(2)

، ولقوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تكونَ تجارةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم}

(3)

فاللَّهُ تعالى جعل أَكْلَ مال الغير قسمين: قسم بالباطل، وقسم بالتجارة عن تراضٍ. وهذا ليس بتجارةٍ عن تراض، فيكون أَكْلاً بالباطل. والمَعْنَى فيه أَنْ الغَصْب عُدْوانٌ مَحْضٌ، لأَنه ليس فيه شبهةُ الإِباحة بوجهٍ ما،

(1)

أَي بالحبس.

(2)

أَي عن المغصوب.

(3)

سورة النساء، الآية:(29).

ص: 465

وإِنْ آجَرَ المَغْصُوبَ، أَو الأَمَانَةَ، أَو رَبِحَ الغاضب بالتصرُّف فيهما، تَصدَّقَ، إِلا أَنْ يَكُوْنَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيْرَ لَمْ يُشِر إِلَيْهِمَا أو أَشار وَنَقَدَ غَيْرَهُمَا.

===

فلا يكون موجِبَاً للمِلْك.

ولنا أَنْ المالك مَلَك بَدَل المغصوب بكماله، رَقَبَةً ويداً، فوجب أَنْ يزول مِلْكُهُ عن المُبْدَل إِلى مِلك مَنْ وجب عليه البَدَل، إِذا كان المُبدل محلاً للنقل من مِلْك إِلى مِلْك، دَفْعَاً للضرر عنه وتحقيقاً للعدل، كما في سائر المبادلات. وأَما الآية ففيها بيان أَنَّ الأَكل بالتجارة عن تراضٍ جائزٌ، لا أَنْ يكون الجواز مقصوراً عليه. ثُم معنى التجارة مُنْدَرِجٌ هنا من وجه، فإِن المالك هنا مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَصْبِر حتى تظهر العين فيأخذها، فحين طالبه بالقيمة مع عِلْمه أَنَّ من شرطه انعدامَ مِلْكه في العين، فقد صار راضياً بذلك. لأَن مَنْ طَلَبَ شيئاً لا يتوصل إِليه إِلا بِشَرْطٍ، كان راضياً بالشرْط كما يكون راضياً بِمَطْلُوبه.

(وإِنْ آجَرَ) الغَاصِبُ العبد (المَغْصُوبَ، أَوْ) آجَر الأَمينُ العبد (الأَمَانَةَ، أَوْ رَبِحَ الغاصب) أَوْ الأَمين (بالتصرُّف فيهما) أَي في المغصوب والأَمانة: بأَن اشترى الغاصِب أَوْ المودَع بأَلْفِ الغَصْبِ أَوْ الوَدِيْعَة أَمَةً، فباعَهَا بأَلفين (تَصَدَّقَ) المُؤجِر بالأُجرة، والرابح بالربح عند أَبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى، خلافاً لأبي يوسف رحمه الله تعالى.

(إِلا أَنْ يَكُوْنَا) أَي المغصوب والأَمانة اللَّذَين رَبِح الغاصب والأَمين بالتَّصَرُّفِ فيهما (دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيْرَ لَمْ يُشِر) المُتَصَرِّف (إِلَيْهِمَا) عند التصرف فيهما، سواء أَشار إِلى غيرهما، أَوْ لم يُشِر إِلى شيءٍ، (أَوْ أَشار) إِليهما (وَنَقَدَ غَيْرَهُمَا) فإِنَّه يَطِيْبُ له الرِّبح، لأَن الدراهم والدنانير لا تتعينان بالإشارة. والإشارة إِذا كانت لا تفيد التعيين يستوي وجودها وعدمها، بخلاف ما لو أَشار إِليهما ونَقَد منهما، لأن الإشارة تتأَكد بالنقد من المشار إِليه فيتحقق الخُبْث، (و)

(1)

بخلاف ما لو كان عَرْضاً

(2)

ونحوه، لأن العقد يتعلق بعينه، حتى لو هلك قبل القبض يبطُل البيع فيتحقق الخُبْث.

وقال فخر الإسلام: قال مشايخنا: لا يَطِيب بِكُلِّ حال أَنْ يتناول من المُشْتَرَى قبل أَنْ يضمن، وبعد الضمان لا يَطِيْبُ الربح بِكُلِّ حالٍ، وهو المختار لإِطلاق الجواب في «الجامِعَيْن» ، ومضاربة «المبسوط» بقوله: يتصدق بجميع الرِّبْح.

(1)

سقط من المطبوعة.

(2)

في المطبوعة: عِوضًا، وما أَثبتناه من المخطوطة.

ص: 466

وإِن غَصَبَ وغَيَّرَ فَزَالَ اسْمُهُ وأَعْظَمُ مَنَافعِه، ضَمِنَهُ ومَلَكَهُ بِلَا حِلٍّ قَبْل أَداء بَدَلِهِ، كَذَبْح شاةٍ وطَبْخِهَا، أَو جَعْلِ صُفْرٍ إِنَاءً،

===

وحاصله أَنه متى استفاد بالحرام مِلْكَاً من طريق الحقيقة ـ وهي فيما يَتَعَيَّن ـ، أَوْ الشُّبْهَةِ ـ وهي فيما لا يتعين ـ يَثْبُتُ الخُبْث، ولا يثبت في الدراهم إِذا استفاد بها الربح إِلاَّ الشبهة، لأَنه إِذا أَشار إِليها لم يتعيَّن إِلا في حكم جواز العقد لمعرفة القَدْر والنقد، وإِذا نقد منها استفاد به سلامة المُشْتَرَى. وإِذا أَشار فيما لا يتعين ولم ينقد استفاد بالإِشارة جواز العقد لمعرفة القَدْر والنقد. وإِذا نقد ولم يُشِر استفاد سلامة المشترى، فأَما أَنْ تصيرَ عينها عوضاً فلا، فثبت أَنه لا يثبت إِلاَّ الشبهة، وقد استوت الوجوه في الشبهة فاستوت في الخُبْث.

(وإِن غَصَبَ وغَيَّرَ) المغصوب (فَزَالَ اسْمُهُ) أَي اسم المغصوب (وأَعْظَمُ مَنَافعِه ضَمِنَهُ) الغاصب (ومَلَكَهُ بِلَا حِلَ) للانتفاع به (قَبْل أَداء بَدَلِهِ، كَذَبْح شاةٍ وطَبْخِهَا) أَي كَمَنْ غَصَب شاةً فذبحها وطبخها، أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ زَرَعَهَا (أَوْ جَعْلِ صُفْرٍ) أَي وكَجَعْلِ نُحْاسٍ (إِنَاءً) وحديدٍ سَيْفاً. وقال مالك والشافعيّ: لا ينقطع حَقُّ المالك، وبه قال أَحمد وأَبو يوسف رحمهما الله تعالى في رواية.

وفي «غاية البيان» : أَسْتَقْبِحُ أَنْ يجيءَ رَجُلٌ (مُعْدم)

(1)

إِلى كُرِّ

(2)

حِنطة لإِنْسان فيطحنه، ثُم يَهَبهُ لابن له صغيرٍ ولا يكون لِرَبِّ الطعام على الدقيق سبيل. قال: وأُخَالِفُ أَبا حنيفة رحمه الله تعالى في هذا، وأَجْعَله بالخِيار إِنْ شاء ضَمَّنه مِثْلَ حنطته ودفع إِليه الدقيق، وإِن شاء أَخذ ذلك الدقيق ولم يُضَمِّنْهُ شيئاً. وكذلك إِنْ وهبه الغاصبُ، أَوْ باعه، أَوْ تَصَدَّق به، فإِنَّ ذلك باطِلٌ، ولرب الطعام أنْ يأخذَهُ بعينه، وكذلك لو غَصَب لَحْمَاً فشواه أَوْ طبخه.

قَيَّد «بتغيير الغاصب للمغصوب» لأَنه لو تَغَيَّر بنفسه كأَنْ صَار العِنَبُ زَبيباً، فإِنَّ المالك بالخِيار إِنْ شَاءَ أَخذه وإِنْ شاء ضَمَّن الغاصب. وقَيَّد «بزوال الاسم» لأَنْ مَنْ غَصَب شاةً وذبحها لم يَزُل اسم الشاة عنها ـ إِذْ يُقال: شاةٌ مذبوحةٌ ـ فمالِكُهَا بالخِيار: إِنْ شاء ضَمَّن الغاصبَ قيمتها وسَلَّمَهَا له، وإِن شاء ضَمَّنه نقصانها، لأَن ذبحها استهلاك من وَجْهٍ دون وَجْه، فيتخير المالك. وقَيَّد «بـ: أَعْظَم المنافع» لأَنه لو لم يكن الزائل أَعظمها، كَخَرْقِ الثَّوْب فَاحِشَاً أَوْ يَسِيْرَاً، فإِنَّ ضمان

(1)

في المطبوعة: مقدم، وما أَثبتناه من المخطوطة.

(2)

الكُرُّ: مكيال لأَهل العراق قَدْرُه ستون قفيرًا، وهو ما يساوي 2348.280 كيلو غرامًا عند الحنفية. معجم لغة الفقهاء ص 379.

ص: 467

بِخِلَافِ الحَجَرَيْنِ فَهُمَا للمَالِك بلا شيءٍ.

ولَوْ خَرَقَ ثَوْبًا وفَوَّتَ بَعْضَ عَيْنِهِ، أَو بعضَ نَفْعِهِ، طَرَحَهُ المَالِكُ عَلَيْهِ وأَخَذَ قِيْمَتَهُ، أَو أَخَذَهُ وضَمِنَ نُقْصَانَهُ.

===

المغصوب لا يتعين، كما سيذكره المصنف.

ثم القياس ـ وهو قول زُفَر، وروايةُ أَبي الليث عن أَبي حنيفة رحمهم الله تعالى ـ أَنَّ للغاصب الانتفاعَ بهذا المغصوب قبل أَداء بَدَله، لأَن مِلْكه حدث بكسبه، والمِلْك مُبِيحٌ للتصرف، ولهذا لو وَهَبَهُ أَوْ باعه صَحَّ.

وَوَجْه الاستحسان مَا روى أَبو داود رحمه الله تعالى في «سُننه» في أَول البيوع عن عاصم بن كُلَيْب، عن أَبيه عن رَجُلٍ من الأَنصار قال: خرجنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في جَنَازةٍ، فرأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو عَلَى القَبْر يوصِي الحَافِرَ: أَوْسِع مِنْ قِبَلِ رِجْلَيه، أَوْسِع مِنْ قِبَل رَأْسِهِ، فلما رجع استقبله داعي امرأَة فجاء، فجيء بالطعام فوضع يده، ثُمَّ وضع القوم أَيديهم فَأَكَلُوا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فيه. ثُمَّ قال: «إِني أَجد لحم شاة أَخذت بغير إِذن أَهلها. فقالت المرأَة: يا رسول الله، إِني أَرسلتُ إِلى البقيع، ليُشْتَرى لي شاةٌ فلم أَجِد، فأَرسلت إِلى جار لي قد اشترى شاةً أَنْ يرسلها إِليَّ بثمنها فلم يوجد، فأَرسلت إِلى امرأَته فأَرسلت إِليَّ بها.

فقال صلى الله عليه وسلم: «أَطعميه الأُسارى» .

فأَفاد هذا الأمرُ بالتَّصَدُّق زوالَ مِلْك المالك وحُرْمَةَ الانتفاع للغاصب قبل الإِرْضاء، ولأَن في إِباحة الانتفاع قبل إِرضاء المالك فتحاً لِبَابِ الغصب، فيَحْرُم حسماً لمادة الفساد، والله رؤوف بالعباد.

ونفاذ بيعه وهبته مع الحرمة لقيام الملك بجهة محظورة، كما في ملك الفاسد. ولو أَدَّى الغاصب المالك البدَل أُبيح له التناول، لأَن حق المالك صار مُوفّىً بالبدل فتحقق بينهما مبادلة بالتراضي، وكذا لو أَبرأَه، لأَن حقه يسقط بالبراءة، وكذا لو ضَمِنه المالك أَوْ الحاكم لوجود الرضاء منه، لأَن الحاكم لا يضمنه إِلا بعد طلبه فكان راضياً به.

(بِخِلَافِ الحَجَرَيْنِ) الذهب والفضة، فإِنَّ جَعْلهما إِناءً، أَوْ دنانير، أَوْ دراهم لا يزيل مِلْك مالكهما عنهما (فَهُمَا للمَالِك بلا شيءٍ) للغاصب عند أَبي حنيفة، ومالك، والشافعي وأَحمد رحمهم الله تعالى. وقال أَبو يوسف ومحمد: يَمْلِكهما الغَاصِب وعليه مِثْلُهما.

(ولَوْ خَرَقَ) الغاصب (ثَوْبَاً) خَرْقاً فاحشاً: بأَن نَقَص ربع قيمته، أَوْ أَبطل عامة منفعته (وفَوَّتَ بَعْضَ عَيْنِهِ، أَوْ بعضَ نَفْعِهِ، طَرَحَهُ المَالِكُ عَلَيْهِ) أَي على الغاصب (وأَخَذَ قِيْمَتَهُ) لأَنه استهلكه مِنْ وَجْهٍ، (أَوْ أَخَذَهُ) المالكُ (وضَمِنَ) الغاصب (نُقْصَانَهُ)

ص: 468

وفي الخَرْقِ اليَسِيْرِ ضَمِنَ ما نَقَصَ.

ومَنْ بَنَى في أَرْضِ غَيْرِهِ، أَو غَرَسَ، أُمِرَ بالقَلْعِ والرَّدِّ.

ولِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَ قِيْمَةَ بناءٍ أَو شَجَرٍ أَمَرَ بِقَلْعِهِ إِن نَقَصَت بِهِ.

وإِنْ حَمَّرَ ضَمَّنَهُ أَبْيَضَ، أَو أَخَذَهُ وغُرِّمَ ما زَادَ الصَّبْغ،

===

لأَنه لم يخرج عن أَنْ يكونَ صَالِحَاً لِمَا كان صَالِحَاً له، وإِنما تَمَكَّنَ النقصان في قيمته فَيَضْمَن الغاصب ذلك النقصان. (وفي الخَرْقِ اليَسِيْرِ) وهو ما لا يَفُوت به شيءٌ من المنفعة، وإِنَّما يحصل به نُقْصَانٌ في المالية بسبب الجودة (ضَمِنَ) الغاصب (ما نَقَصَ) الثَّوْب، وكان الثوب لِمَالِكِه، لأَن العين قائم من وجه، وإِنما دخله عيب.

(ومَنْ بَنَى في أَرْضِ غَيْرِهِ، أَوْ غَرَسَ) فيها (أُمِرَ بالقَلْعِ والرَّدِّ) أَي بِقَلْع البناء والغرس، وَرَدِّ الأَرض، لقوله صلى الله عليه وسلم:«ليس لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» . رواه أَبو داود، والترمذي، والنَّسائي رحمهم الله تعالى، وصَحَّحَهُ في «المُغْرِب» بتنوين عِرْق: لِذِي عِرْقٍ ظالم، وهو الذي يَغْرِس في الأَرْض غَرْسَاً على وجه الاغتصاب، وَوَصْف العِرْق بالظلم الذي هو صفةُ صاحِبِه مَجَازٌ. قال الأَكْمل: وقد رُوِي بالإِضافة: أَي ليس لعِرْقِ غاصبه ثبوتٌ، بل يؤمر بِقَلْعه. وفي «الصحاح»: العِرْق الظالم: أَنْ يجيء الرجل إِلى أَرض قد أَحياها غيرُهُ فيغرس فيها، أَوْ يزرع لِيَسْتَوْجِبَ به الأَرض.

(ولِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَ قِيْمَةَ) البناء أَوْ الغرس فيضمن قيمة (بناءٍ أَوْ شَجَرٍ أَمَرَ بِقَلْعِهِ) أَي قيمة مستحَقَ للقلع. لأَن حقه في المقلوع: بأَن يعتبر قيمةَ الأَرض بدون الشجر أَوْ البناء عشرة دنانير مثلاً، ومع الشجر. أَوْ البناء المستحق قلعه خمسة عشرة، فيضمن له خمسة دنانير (إِنْ نَقَصَت) الأرض (بِهِ) أَي بالقلع أَوْ النقص. لأَن في ذلك نظراً للجانبين ودفعاً للضرر عنهما، فيملكه صاحبها عليه بقيمته، أَوْ يأَمره برفعه. ولا شيء له بنقص أَرضه لرضاه به. وإِن لم تنقص به يُخَيَّر صاحب الشجر بين قلعه ودَفْعه إِليه مما ذكرنا من قيمته. ولو جلس على ثوب غيره فقام غير عالم بجلوسه عليه فانشق منه، ضَمِن له نصف نقصه في ظاهر الرواية. وقيل: كله، كما لو شقَّه بجذبه من يد مالكه.

(وإِنْ حَمَّرَ) غاصب الثوب، أَوْ صَفَّره، أَوْ لَتَّ غاصب السويق بسمن (ضَمَّنَهُ) مالك الثوب قيمة ثوب (أَبْيَضَ) ومالك السويق مثل السويق، وسلَّم الثوب المصبوغ والسويق الملتوت للغاصب (أَوْ أَخَذَهُ وغُرِّمَ ما زَادَ الصَّبْغ) والسمن. وقال الشافعيّ وأَحمد: لمالك الثوب أَنْ يملكه ويأَمر الغاصب بإِزالة الصبغ بالغسل بالقدر الممكن،

ص: 469

وإِنْ سَوَّدَ ضَمَّنَهُ أَبْيَضَ، أَو أَخَذَهُ، ولا شيءَ لِلْغَاصِب.

وإِنْ بَاعَ أَو أَعْتَقَ ثُمَّ ضَمِنَ، نَفَذَ البَيْعُ لا العِتْقُ.

===

ويضمِّنه نقصان الثوب إِنْ انتقص بذلك، لأَنه متعد في الصبغ، والتمييز ممكن، بخلاف السمن في السويق لتعذر التمييز.

ولنا أَنْ الصبغ مالٌ متقوَّم، كالثوب. وغَصْب الغاصب لا يسقِطُ حرمة ماله، فيجب صيانة مالهما ما أَمكن، وذا بإِيصال معنى مال أَحدهما إِليه وإِبقاء حقِّ الآخر في عين ماله كما قلنا. والجواب في اللَّتِّ كالجواب في الصبغ، إِلاَّ أَنْ السويق والسمن مِنْ ذوات الأَمثال، والثوب والصَّبْغ من ذوات القِيَم. ولو كان الثوب ينقص بالحُمْرة: كأَنْ كانت قيمته بدونها ثلاثينَ دِرْهماً، فصارت بها عشرين، فعن محمد ينظر إِلى ثوب تزيد فيه الحمرة، فإِن كانت الزيادة خمسة يأخذ رَبُّ الثوب ثوبه وخمسة دراهِمَ من الغاصب، لأَن صاحب الثوب استوجب عليه نقصان قيمة ثوبه عشرة دراهمَ، واستوجب عليه الغاصب قيمة صبغه خمسة، فالخمسة قِصَاص، ويرجع عليه بما بقي، وهي خمسة.

(وإِنْ سَوَّدَ) الغاصب الثوب (ضَمَّنَهُ) المالكُ قيمة ثوب (أَبْيَضَ، أَوْ أَخَذَهُ، ولا شيءَ لِلْغَاصِب) في مقابلة الصباغة عند أَبي حنيفة، وعندهما التسويد كالتحمير. وهذا الخلاف مبنيٌّ على أَنْ السواد عنده نقصانٌ، وعندهما زيادةٌ. وقيل: هذا اختلاف زمان، فأَبو حنيفة أَجاب على ما شاهد في عصره من عادة بني أُمية، وهي عدم لُبس السواد، وهما أَجابا على ما شاهدا في عصرهما من عادة بني العباس، وهي لُبس السواد. وقيل إِنْ كان المغصوب ثوباً ينقص السواد من قيمته، فالجواب ما قاله أَبو حنيفة، وإِن كان يزيد السواد في قيمته فالجواب ما قالا. وهذا تفصيلٌ حسنٌ لا ينبغي العدول عنه.

(وإِنْ بَاعَ) الغاصب (أَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ ضَمِنَ) القيمة (نَفَذَ البَيْعُ لا العِتْقُ) وبه قال أَحمد في رواية، لأَن الملك الناقص لا يكفي لثبوت العتق، ويكفي لنفاذ البيع. وقال مالك والشافعي وأَحمد ـ في رواية ـ: لا ينفذ بَيعُه، ولأَن عتقه كتصرفات الفضولي، وإِعتاق المشتري من غاصبٍ عبداً نافذٌ عند أَبي حنيفة وأَبي يوسف بإِجازة المالك بيع الغاصب، هكذا يرويه محمد عن أَبي يوسف عن أَبي حنيفة كما ذكره قاضيخان في شرحه.

وقال أَبو سليمان: وكذا سمعنا من أَبي يوسف رواية عن أَبي حنيفة رحمه الله تعالى: أَنه لا ينفذ عِتْقُه. ووجه الاستحسان أَنَّ هذا بيعُ فضولي، فيكون موقوفاً، فبإِجازته

ص: 470

وزَوَائِدُ الغَصْبِ مُتَّصِلَةً أَو مُنْفَصِلَةً، لا تُضْمَنُ إِنْ هَلَكَتْ إِلَّا بالتَّعَدِّي أَو المَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ. وخَمْرُ المِسْلِمِ وخِنْزِيْرُهُ، وَمَنَافِعُ الغَصْبِ لا تُضْمَنُ،

===

ينفذ من حين العتق، فينفذ إِعتاقه لمصادفة

(1)

ملكه. وكذا بتضمينه قيمته في رواية. وخالفنا زفر وأَبطل محمد إِعتاق المشتري كمالك والشافعي، وهو القياس، لأَن هذا عتقٌ تَرَتَّبَ على عِتْقٍ تَوَقَّفَ نفوذُهُ لحق المالك، فلا ينفذ بنفوذ العقد، كما لو حرره الغاصب وضمنه.

(وزَوَائِدُ الغَصْبِ) أَي المغصوب حال كونها (مُتَّصِلَةً) كالسمن والجمال (أَوْ مُنْفَصِلَةً) كالولد وثَمَر البستان أَمانةٌ في يد الغاصب (لا تُضْمَنُ إِنْ هَلَكَتْ، إِلاَّ بالتَّعَدِّي) أَي بتعدِّي الغاصب: بإِتلافه، أَوْ بِذَبْحِه، أَوْ أَكْله، أَوْ بَيْعِه وتسليمه (أَوْ المَنْعِ) أَي منع الغاصب (بَعْدَ الطَّلَبِ) أَي طلب المالك، وبه قال مالك. وقال الشافعيُّ وأَحمد: زوائد المغصوب مضمونة.

(وخَمْرُ المُسْلِمِ) مبتدأ (وخِنْزِيْرُهُ) عطف، سواء كان المُتْلِف مسلماً أَوْ ذِمِّياً لا يضمنان، لأَنهما ليسا بمتقوَّمَيْن في حق المسلم. قيد «بالمسلم» لأَن خمر الذِّمِي أَوْ خنزيره يضمن، وهو قول مالك، سواء كان المتلِف ذمياً أَوْ مسلماً إِلاَّ أَنْ المسلم لا يضمن الخمر بمثلها، لأَنه لا يملك تمليكها، بل بقيمتها. وقال الشافعي وأَحمد: لا يضمن خمر الذمي ولا خنزيره سواء كان المتلِف مسلماً أَوْ ذمياً.

(وَمَنَافِعُ الغَصْبِ) أَي المغصوب، عطف آخر (لا تُضْمَنُ) خبر المبتدأ، والمعنى لا تكون منافعه مضمونةً عندنا، سواء كان استوفاها بالسُّكْنى والركوب مثلاً، أَوْ عَطَّلها: بأَنْ أَمسكها مدةً ولم يستعملها ثم رَدَّهَا. وحكم الشافعي بضمانها، وكذلك مالك أَيضاً، وصَوَّبه ابن الحاجب.

وقال ابن القاسم: لا تُضْمن إِنْ عَطَّلَهَا، وإِن استغل أَوْ استعمل تضمن على المشهور عنه، وَرُوِي إِلاَّ في العبيد والدوابِّ، وَرُوي لا تضمن مطلقاً. وحجتنا في ذلك حديث عُمر وعلي رضي الله عنهما، فإِنهما حَكما في ولد المغرور أَنه حُرٌّ بالقيمة، وأَوجبا على المغرور

(2)

رَدَّ الجارية مع عُقْرها

(3)

، ولم يوجبا قيمة الخدمة، مع علمهما أَنْ المغرور كان يستخدمها، ومع طلب المُدَّعِي لجميع حقه، فلو كان

(1)

حُرِّفَت في المطبوعة إلى: "لمصاونة"، والصواب ما أثبتناه من المخطوط.

(2)

المغرور هو: من تزوَّج امرأةً على أنها حُرَّة، ثم تبينَّ له أنها أَمَةٌ. فسُمِّي مغرورًا لكونه غُرِّر به.

وصورة المسألة هنا: أن رجلًا تزوَّج امرأة على أنها حرة، فتبين له أنها أمة بعد أن ولدت له ولدًا، فرفع أمره لسيدنا عمر وعلي رضي الله عنهما: ليحكما - في أمره. وقد مرّ رواية ثانية في ولد المغرور في الجزء الأول ص 668. وإن تفصيل المسألة في "الاختيار لتحليل المختار" 4/ 22.

(3)

العُقْر: ما يجبُ للمرأَةِ من المالِ (الصَّداق) إِذا وُطِئت في نِكاحٍ غير صحيح، ولم يكن الوطء موجِبًا للحدّ. معجم لغة الفقهاء ص 318.

ص: 471

بِخِلَاف السَّكَرِ والمُنَصَّفِ والمِعْزَفِ، فَتَجِبُ قِيْمَتُهُ لا لِلَّهْوِ.

===

ذلك واجباً لما حلَّ السكوت في بيانه، وبيان العُقْر منهما لا يكون بياناً لقيمة الخدمة، لأَن المستوفى بالوطاء في حكم جزء من العين ولهذا يتقوم عند الشبهة بخلاف المنفعة.

والمعنى فيه: أَنْ المنفعة ليست بمالٍ متقوم فلا يُضمن بالإتلاف، كالخمر والميتة. وإِذا كان المغصوب وَقْفَاً، أَوْ مالَ يتيمٍ، أَوْ مُعَدًّا للاستغلال، يضمن في اختيار المتأَخرين؛ قالوه صوناً لحقوق الضعفاء والمساكين عن أَطماع الجائرين، ولا بدع في اختلاف الأحكام باختلاف أَحوال الأَنام.

(بِخِلَاف السَّكَرِ) ـ بفتحتين ـ وهو النِّيء: هو ماء الرُّطَب إِذا اشتد، (و) بخلاف (المُنَصَّفِ) وهو ما إِذا ذهب نصفه بالطبخ من ماء العنب، (و) بخلاف (المِعْزَفِ) ـ بكسر الميم وفتح الزاي ـ وهو آلة اللهو، كالطُّنْبُور

(1)

والمِزْمَار، فإِنها تضمن بالإتلاف عند أَبي حنيفة، ويجوز بيعها. وقالا: لا تضمن، ولا يجوز بيعها، وهو قول مالك وأَحمد. وعند الشافعيّ فيه تفصيل. ثُم قيل: الخلاف في الدُّفِّ والطبل اللَّذَيْن يضربان للهو. وأَما طبل الغزاة والدُّفُّ الذي يباح ضَرْبُهُ للعُرْس فإِنهما يُضمنان بالإِتلاف بلا خلاف.

لهما أَنَّ هذه الأَشياء مُعَدَّةٌ للمعصية فبطل تقومها كالخمر، وأَنَّ إِتلافها أَمَر الشارع به، لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرَاً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ»

(2)

، وإِنكارها باليد إِتلافها، وهو لو أَتلفها بأَمر أُولي الأمر لا يضمن فبأَمر الشارع أَوْلى. ولأَبي حنيفة رحمه الله تعالى أَنه أَتلف مالاً ينتفع به من وجه سوى اللهو، ولا تبطُل قيمته لأَجل اللهو، كالأَمة المُغَنِّية.

(فَتَجِبُ قِيْمَتُهُ) أَي قيمة كُلِّ واحدٍ من السَّكَر، والمُنَصَّف، والمِعْزَف (لا لِلَّهْوِ) كما في الجارية المغنية، والكبش النطوح، والحمامة الطَّيّارة، والديك المقاتل، فإِنه تجب قيمتها غير صالحة لهذه الأُمور. وفي «الجامع الصغير» لِصَدْر الإِسلام: الفتوى في عدم الضمان على قولهما، لكثرة الفساد بين الناس، حتى ذكر

(1)

الطُّنبُور: آلة من آلات اللَّهو والطَّرَب ذات أَوتار. معجم لغة الفقهاء ص 293.

(2)

أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 1/ 69، كتاب الإيمان (1)، باب بيان كون النهي عن المنكر

(20)، رقم (78 - 49).

ص: 472

ومَنْ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ، أَو فَتَحَ قَفَصَ طَائِرٍ لا يَضْمَنُ.

ومَنْ سَعَى بِغَيْرِ حَقٍّ، أَو قَالَ مَعَ حَاكِم يُغَرِّمُ: إِنَّه وَجَدَ مَالًا فَغَرَّمَهُ، يَضْمَنُ.

===

الصدر الشهيد أَنَّ البيت يهدم على مَنْ اعتاد الفِسْق وأَنواع الفساد، وأَنه لا بأس بالهجوم على بيت المفسدين، وبإِراقة العصير قبل أَنْ يشتد على مَنْ اعتاد الفِسْق.

(ومَنْ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ) لغيره (أَوْ فَتَحَ قَفَصَ طَائِرٍ) لغيره فذهب ذلك العبد، أَوْ الطائر عَقِيب ذلك الفعل (لا يَضْمَنُ) عند أَبي حنيفة وأَبي يوسف، وبه قال الشافعي في قولٍ، وقال في قولٍ آخَر يَضْمن، وهو قول مالك وأَحمد. وعن محمد يضمن في الطائر، سواء طار من فوره (أَوْ)

(1)

مَكَثَ ساعةً ثُم طار، لأَن الطائر مجبولٌ على النِّفَار. ولهما أَنه توسط فعل فاعل مختار، وهو العبد والطائر. قيدنا: ـ بالذهاب عقيب الفتح ـ لأَنه لو مَكَث ساعةً ثُم ذهب، لا يضمن عندنا وعند الشافعيّ، خلافاً لمحمد في روايةٍ، ولمالك وأَحمد.

(ومَنْ سَعَى) برجل إِلى سلطان (بِغَيْرِ حَقَ أَوْ قَالَ مَعَ حَاكِم) صفته أَنه (يُغَرِّمُ) على سبيل الاحتمال (إِنَّه وَجَدَ مَالاً) هذه الجملة مقول قال، والضمير المنصوب في «إِنه» عائد إِلى المقول عنه المفهوم من الكلام (فَغَرَّمَهُ) أَي غرم ذلك الحاكمُ المقول عنه (يَضْمَنُ) ذلك الساعي والقائل زجراً له، وهذا عند محمد، وعليه الفتوى. وقال أَبو حنيفة وأَبو يوسف: لا يضمن، لأَنه توسط فعل فاعل مختار، وهو السلطان والحاكم. والله تعالى أَعلم.

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 473

‌كِتَابُ الرَّهْنِ

هُوَ حَبْسُ مَالٍ مُتَقَوَّمٍ بِحَقٍّ يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْهُ، كَالدَّيْنِ.

===

كتاب الرَّهْن

(هُوَ) لغةً: حَبْسُ الشَّيءِ، أَيِّ شيءٍ كَانَ، بأَيِّ سَبَبٍ كان. قال الله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِيْنَةٌ}

(1)

.

وشرعاً: (حَبْسُ مَالٍ مُتَقَوَّمٍ بِحَقَ يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْهُ) أَي استيفاء الحق من المَرْهُون (كَالدَّيْنِ) فإِنه يمكن أَخْذُهُ من المرهون: بأَن يباع، بخلاف العين، لأَن الصورة مطلوبةٌ فيها ولا يمكن تَحْصِيْلُهَا مِنْ شيءٍ آخر.

(مشروعية الرهن)

والأصل في مشروعية الرَّهن قوله تعالى: {وإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ ولم تَجِدُوا كَاتِبَاً فَرِهَانٌ مَقْبُوْضَةٌ}

(2)

قراءة الجمهور بكسر الراء: جَمْع رَهْن ـ بفتحها ـ، كَعِبَاد جَمْع عَبْد. وقرأَ ابن كثير وأَبو عمرو:«فَرُهُنٌ» ـ بضم الراء والهاء ـ على أَنه جَمْع رَهْن، كَسُقُف في جمع سَقْف، أَوْ جمع رِهَان، وهو جمع رهن. وهذا أَمرٌ بصيغة الخبر معطوفٌ على قوله:«فاكْتُبُوه»

(3)

، أَوْ على قوله:{وأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم}

(4)

، وأَدنى ما يَثْبُت بصيغةِ الأَمر الجَوازُ.

وما أَخرجه الشيخان عن الأَسود، عن عائشة: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اشترى مِنْ يهوديّ طعاماً إِلى أَجَلٍ، ورَهَنَهُ دِرْعَاً له مِنْ حَدِيدٍ. وما أَخرجه الترمذيّ ـ وقال: حديث حسن صحيح ـ والنَّسائي وابن ماجه، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: قُبِض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وإِنَّ دِرْعَهُ مَرْهونٌ عِنْدَ رَجُلٍ يهوديَ على ثلاثين صَاعَاً

(5)

مِنْ شَعِيرٍ، أَخَذَهُ لِعِيَالِه. وما رواه أَبو داود ـ وقال: هو عندنا صحيح ـ أَنه صلى الله عليه وسلم قال: «لَبَنُ الدَّرِّ يُحلب بنفقته إِذا كان مرهوناً، والظَّهْرُ يُرُكَب بنفقته إِذا كان مَرْهوناً، (و)

(6)

على الذي يَحْلُب ويَرْكَب

(1)

سورة المدّثر، الآية:(38).

(2)

سورة البقرة الآية: (283).

(3)

في المطبوع: فاكتبوها، وما أَثبتناه من المخطوط.

(4)

سورة البقرة، الآية:(282).

(5)

الصَّاع: وحدة من وحدات المكاييل، ومقداره عند الحنفية = 2172 غرامًا. معجم لغة الفقهاء ص 270.

(6)

في المطبوع: أَو، وما أَثبتناه من المخطوط، وهو الصواب.

ص: 474

وَيَنْعَقِدُ بإِيْجَابٍ وقَبُولٍ، ويَلْزَمُ إِنْ سُلِّمَ مَحُوزًا،

===

النَّفقةُ». وإِجماع الأُمة فإِنهم مِنْ لَدُن زمنه صلى الله عليه وسلم إِلى الآن يرهَنُون ويرتهنون من غير مُنْكِر، ولا مُخَالِف.

ثُم الرَّهْن جائزٌ في السفر والحَضَر. وحكى صاحب «الكشاف» عن مجاهد والضحاك أَنهما لم يُجَوِّزَاه إِلاَّ في السفر، أَخْذاً بظاهر الآية. ولنا ما أَخْرَجَهُ البخاري في البيوع عن قَتَادَةَ عن أَنس أَنه قال: ولقد رَهَن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دِرعاً له بالمدينة عند يهوديّ، وأَخذ منه شعيراً لأَهله. ولأَن كل عَقْدٍ جازَ في السفر جاز في الحضر، أَصله البيع، وإِنما خُصَّ السَّفَر في الآية بالذِّكْر، لأَن الغالب أَنْ الإِنْسان لا يتمكن فيه من الكتابة والإِشهاد فيستوثق بالرهن، بخلاف الحضر.

(وَيَنْعَقِدُ) أَي الرَّهْن (بإِيْجَابٍ وقَبُولٍ) لأَنه عَقْدٌ فلا بد فيه منهما كغيره من العقود، وعليه عامة المشايخ. وقيل: الركن مُجَرَّدُ الإِيجاب، والقَبُول شَرْطٌ. وأَما القبض ـ فقال بعض أَصحابنا ـ شَرْط الجواز. والجمهور على أَنه شَرْط اللُّزوم، ولذا قال:(ويَلْزَمُ) أَي ويتم عَقْد الرَّهن بالقبض، وهو معنى قوله:(إِنْ سُلِّمَ) المرهون إِلى المُرْتَهِن

(1)

، فالضمير

(2)

في «يلزم» عائِدٌ إِلى الرَّهن بمعنى العقد المخصوص

(3)

، وفي «سُلِّم» عائدٌ إِليه بمعنى المرهون، هذا إِنْ كان

(4)

بصيغة المجهول، وإِن كان بصيغة الفاعل فالضمير فيه للراهن.

وقال مالك: يلزم الرَّهن بنفس العقد، كالبيع. ولنا أَنه تعالى وصف الرَّهن بأَنها مقبوضةٌ، والنكرة إِذا وُصِفت عَمَّت. فتقتضي الآية أَنَّ كل رهنٍ مشروع هو بهذه الصفة، ولأَن المصدر إِذا ذُكِر بحرف الفاء في موضع الجزاء يُراد به الأَمر، كقوله تعالى:{فَضَرْبَ الرِّقَابِ}

(5)

فكان هذا الأمْر بهذه الصفة، فينتفي جوازُه بدونها. (مَحُوزَاً) أَي مقسوماً، واحترز به عن رَهْن مُشَاعٍ

(6)

، فإِنه لا يجوز عندنا، خلافاً لمالك والشافعي، وسيأتي.

(1)

وهو الذي يَأْخذُ الرَّهْن.

(2)

أي الضمير المقدّر.

(3)

فيكون معنى العبارة: ويلزم عقد الرَّهْن إِن سلَّم الراهنُ الرَّهْنَ إِلى المُرْتَهِن.

(4)

أَي الفعل "سلّم".

(5)

سورة محمد، الآية:(4).

(6)

المُشَاع: حِصَّةٌ مقدَّرة غير مُعَيَّنة ولا مُفْرَزَة. معجم لغة الفقهاء ص 430.

ص: 475

مُفْرَغًا، مُمَيَّزًا. والتَّخْلِيَةُ تَسْلِيْمٌ كَمَا في البَيْعِ. وضَمِنَ بِأَقَلَّ مِنْ قِيْمَتِهِ ومِنَ الدَّيْن، فَلَو هَلَكَ -وهُمَا سواءٌ- سقَطَ دَيْنُهُ، وإِنْ كَانت قِيْمتُهُ أَكْثَرَ فالفَضْلُ أَمَانَةٌ، وفي أَقَلَّ سَقَطَ مِنْ دَيْنِهِ بِقَدْرِهِ، وَرَجَعَ المُرْتَهِنُ بالفَضْلِ،

===

(مُفْرَغَاً) عن الراهن ومتاعه، واحترز به عن المشغول بأَحدهما، فلو رَهَن داراً وسَلَّمها وهو أَوْ متاعُهُ فيها لا يلزم عقد الرهن، حتى يُسَلِّمها ثانياً بعد خروجه أَوْ متاعه عنها (مميَّزاً) أَي غير مُتَّصِل بغيره اتصالَ خِلْقة، واحترز به عن رَهْن الثمر على الشجر دون الشجر، لأَن المرهون إِذا اتصل بغير المرهون اتصالَ خِلْقة صار كالمُشاع.

(والتَّخْلِيَةُ) مبتدأ، أَي تخلية الراهن بين المَرْهون والمُرْتَهِن في الرَّهن

(1)

، بِرَفْع المَوَانِع عن القبض (تَسْلِيْمٌ) للمرهون، لأَن القبض في الرهن بِحُكْم عَقْدٍ مشروعٍ فَيَكْفِي فيه التَّخْلِية (كَمَا في) قبض (البَيْعِ) في ظاهر الرواية. وعن أَبي يوسف وأَحمد أَنَّ التسليم في المنقول لا يكون إِلاَّ بالنقل.

(وضَمِنَ) المُرْتَهِنُ الرهن (بِأَقَلَّ مِنْ قِيْمَتِهِ ومِنَ الدَّيْن)«مِنْ» فيهما

(2)

لبيان الأقل، ولو قال:«بالأقل من قيمته ومِن الدَّين» لكان أَفضل، فتأَمل فإِنه مَوْضِعُ الزلل. (فَلَو هَلَكَ ـ وهُمَا

(3)

سواءٌ ـ، سَقَطَ دَيْنُهُ) لأَنه صَار مُسْتَوْفِيَاً له حُكْماً.

(وإِنْ كَانت قِيْمتُهُ أَكْثَرَ) من الدَّين (فالفَضْلُ) على الدَّيْن (أَمَانَةٌ، وفي) ما لو كان قيمته (أَقَلَّ) من الدَّين (سَقَطَ مِنْ دَيْنِهِ بِقَدْرِهِ) لأَن الاستيفاء بِقَدْر المالية (وَرَجَعَ المُرْتَهِنُ بالفَضْلِ) وعند الشافعي وأَحمد الرَّهْن كله أَمانَةٌ في يد المرتَهِن لا يسقط شيءٌ من الدَّين بهلاكه، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الدَّارقطني: «لا يَغْلَق

(4)

الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الذي رَهَنَهُ، له غُنْمُه وعليه غُرْمُهُ».

ورواه ابن حِبَّان في «صحيحه» ، والحاكم في «مُسْتَدْرَكه» وصححه. وأَخرجه أَبو داود في «مراسيله» عن سعيد بن المسيَّب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال

(5)

: وقوله: «وله غُنْمُه وعليه غُرْمُهُ» من كلام سعيد (لعله عن)

(6)

الزهريّ. وقال: هذا هو الصحيح. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق في «مصنفه» عن ابن المسيَّب أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَغْلَق الرهن مِمَّنْ رهنه» .

(1)

أَي في عقد الرَّهن.

(2)

أَي قوله في المتن: "من قيمته ومن الدين".

(3)

أَي الدَّين والقيمة.

(4)

سيأْتِي شرحها عند المؤلف الصفحة التالية.

(5)

أَي أَبو داود.

(6)

في المطبوع: نقل عنه، وما أَثبتناه من المخطوط.

ص: 476

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وادَّعَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ معنى: «لا يَغْلَق الرهن» ـ بالمعجمة ـ لا يصير الرهن مضموناً بالدَّين. ومعنى: «له غُنْمُه» للراهن الزائد، ومعنى «عليه غُرْمه» أَي على الراهن هلاكه. وعند مالك: إِنْ تَلِفَ بِأَمْرٍ ظاهرٍ ـ كموت وحريق ـ أَمانة

(1)

، وإِلاَّ لا، وكذا إِنْ كان الرَّهن من الأَموال الظاهرة، كالحيوان والعَقار، يكونُ أَمانةً، لعدم التهمة عند دَعْوى الهلاك غَالِبَاً.

وإِن كان من الأَموال الباطنة، كالنقدين والحُلِيّ والعُروض، يكون مضموناً بتمام قيمته للتهمة.

وقال زفر: الرَّهْن مضمونٌ بقيمته ـ أَي بتمامها ـ مطلقاً. فلو رَهَن ثوباً قيمتُهُ عشرةٌ بعشرةٍ فهلَك عند المرتَهِن، سقط دَيْنُه، وإِن كانت قيمة الثوب خمسةً، رجع المرتَهِن على الراهن بخمسةٍ، وإِنْ كان قيمتُهُ خَمسةَ عَشَرَ، فالفضلُ أَمانةٌ عندنا، وعند زُفَر يرجع الراهنُ على المرتَهِن بخمسةٍ.

له

(2)

ما رَوَى عبد الرزاق، وابن أَبي شيبة في مُصَنَّفَيْهِمَا عن عليَ أَنه قال: الراهِنُ والمرتَهِنُ يَتَرَادَّانِ الفَضْل بينهما في الرَّهْن. وما روى البَيْهَقِيّ عن عليَ: إِذا كان الرَّهْنُ أَفْضَلَ مِنْ القَرْض، أَوْ كانَ القَرْضُ أَفْضَلَ من الرَّهْن ثُم هلك، يَرُدَّانِ الفَضْل.

ولنا ما أَخرج البيهقي عن عمرَ أَنه قال ـ في الرجل يرتَهنُ الرَّهْنَ ويضيع: إِنْ كان أَقَلَّ مِمَّا فيه رَدَّ عليه تمامَ حَقِّه، وإِن كان أَكثرَ فهو أَمينٌ. وما رَوى ابن أَبي شيبة عن محمد بن الحنفية عن عليَ أَنه قال: إِذا كان الرَّهنُ أَكثرَ ممَّا رهنَ به فهلك، فهو بما فيه، لأَنَّه أَمينٌ في الفَضْل وإِذا كان أَقَلَّ مِمَّا رهن به فهلك، رَدَّ الراهنُ الفَضْلَ.

وما رُوِي أَيضاً عن عُمَرَ أَنه قال: إِذا كان الرَّهنُ أَكثر ممَّا رهن به فهو أَمين في الفضل، وإِذا كان أَقلَّ ردّ عليه. وما رُوي أَيضاً عن محمد بن الحنفية عن عليَ قال: إِذا كان أَقلَّ ردَّ الفَضْل، وإِنْ كان أَكثرَ فهو بِمَا فيه. وما رَوى أَبو داود في «مراسيله» ، وابن أَبي شيبة في «مصنفه» عن ابن المبارك عن مصعب بن ثابت قال: سمعت عطاءً يُحَدِّث أَنَّ رَجُلاً رَهَنَ رجلاً فَرَسَاً فَنَفَقَ

(3)

في يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرتَهِن:«ذَهَبَ حَقُّكَ» . ولا يجوز أَنْ يُقال: ذهب حَقُّكَ في الحبس، لأَنَّ هذا مِمَّا لا يُشْكل.

وفي «مراسيله» أَيضاً عن عليًّ بن سهل الرَّملي: حدثنا الوليد: حدثنا الأوْزَاعي، عن عطاء، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«الرَّهْنُ بما فيه» . قال ابن القَطَّان: مُرْسَلٌ صحيح. وما في آثار الطحاوي ـ بسند صحيح ـ عن أَبي الزِّناد قال: أَدْرَكْتُ

(1)

أَي فيكون أَمانةً، أَو فهو أَمانةٌ.

(2)

أَي لِزُفر.

(3)

نَفَقَت الدَّابة: أَي ماتت. النهاية 5/ 99.

ص: 477

ويَحْفَظ كالوَدِيْعة.

وَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ كالغَصْبِ، ولا يَصِحُّ فِيهمَا رَهْنٌ، وِإجَارَةٌ، وإِعَارَةٌ، وِإيْدَاعٌ. وفي المُؤجَرِ الأَوَّلُ،

===

مِنْ فقهائنا الذين يُنْتَهَى إِلى أَقوالهم، منهم: سعيد بن المسيّب، وعروة بن الزُّبَير، والقاسم ابن محمد، وأَبو بكر بن عبد الرحمن، وخَارِجَةُ بن زيد، وعبيد الله، في مشيخة سواهم مِنْ نُظَرَائهم أَهل فِقْه (وصلاح وفَضْل يُذْكَر بالجمع من أَقاويلهم في كتابه على هذه الصفة أَنَّهم)

(1)

قالوا: الرَّهن بِما فيه إِذا هلك وعميت قيمته. ويرفع ذلك منهم الثقة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (قالوا: الرَّهنُ بما فيه)

(2)

، ولم يفهم أَحَدٌ من قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يَغْلق الرهن» نَفْيَ الضمان على المرتَهِن. وذَكَر الكَرْخي عن السلف، كطاوس وإِبراهيم وغيرهما أَنهم اتفقوا أَنَّ المراد به: لا يحبس الرَّهن عند المرتهن احتباساً لا يمكن فكاكه: بأَن يصير مملوكاً للمرتَهِن.

وأُجِيب عَمَّا رَوَوهُ أَنْ المراد بالتَرَادِّ الذي أَخذ به زُفَر الترادُّ حالة البيع، أَي إِذا باع المرتَهِن الرَّهْن يَردُّ ما زاد على الدين، فإِن كان الدين زائداً يردُّ الراهن. وعن أَبي يوسف أَنْ معنى الحديث الذي رواه الدَّارقطني: أَنْ الفَضْل في قيمة الرَّهن لربه، ولا يكون مضموناً ولا يُغْلَق، وإِن كان فيه نُقْصَان رَجَعَ المرتَهِن بالفضل.

وأَمَّا معنى «لا يَغْلَق الرَّهن» فقال ابن الأَثِيْر: يقال غَلِق الرَّهن يَغْلَق غلوقاً، إِذا بَقِي في يد المرتَهِن لا يَقْدِرُ راهِنُهُ على تخليصه. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يَغْلَق الرهن بما فيه» أَنه لا يستحقه المرتَهِن إِذا لم يستفكه صاحبه، وكان هذا من فِعْل الجاهلية أَنَّ الراهن إِذا لم يُؤَدِّ ما عليه في الوقت المَعَيَّن مَلَك المرتَهِن الرَّهْن، فأَبطله الشرع. ذكره الزُّهْري.

(ويَحْفَظ) المرتَهِنُ الرهن (كالوَدِيْعة) فيحفظه بنفسه، وزوجته، وولده، وخادمه على ما تقدم (وَإِنْ تَعَدَّى) المرتَهِن على الرهن (ضَمِنَ) جميع قيمته (كالغَصْبِ) فعليه رَدُّ ما زاد على الدَّين، لأَن الزيادة على قَدْر الدين أَمانة في يده، والأَمَانات تُضْمَن بالتعدي.

(ولا يَصِحُّ فِيهمَا) أَي الرَّهْن والوديعة (رَهْنٌ، وإِجَارَةٌ، وإِعَارَةٌ، وإِيْدَاعٌ) أَما الإِجارة والإِعارة فلأَن كُلاًّ من المرتَهِن والمودَع ليس له الانتفاع بالرَّهن والوديعة، فليس له تَسْلِيْط غَيرِهِ على ذلك. وأَما الرَّهْن والوديعة فلأَن كُلاًّ من الراهن والمودَع رضي بِيَدِ المُرتَهِن والمودَع دون غيره.

(و) لا يصح (في المُؤجَرِ الأَوَّلُ) وهو الرَّهْن، لأَن المستأْجِر لا يملك عَيْنَ

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 478

وفي المُعَارِ الأَوَّلَانِ.

ولا يَبْطُلُ الرَّهْنُ لو فَعَلَ، لَكْن يُضْمَنُ كَمَا مَرَّ. وَجَعْلُ الخَاتَمِ في الخِنْصَرِ تَعَدٍّ، وفي أُصْبَعٍ أُخْرَى حِفْظٌ.

وإِذَا طَلَبَ دَيْنَهُ أُمِرَ بإِحْضَارِ رَهْنِهِ، إِلَّا إِذا وُضِعَ عِنْدَ عَدْلٍ، فَيُسَلِّمُ كُلَّ

===

المؤجَر، فلا يملك تسليط غيره بالاستيفاء منه. (و) لا يصح (في المُعَارِ الأَوَّلَانِ) وهما الرَّهن والإِجارة، لأَنهما لاِزمان، والإِعارة غيرُ لازمة، بل للمُعِير أَنْ يرجع فيها متى شاء. (ولا يَبْطُلُ الرَّهْنُ لو فَعَلَ) المِرْتَهِن شيئاً من هذه الأَمور الأَربعة التي ذَكَر أَنها لا تصح في الرهن والوديعة، لأَنها تصرّفٌ من المرتَهِن والرَّهْن لا يَبْطُلُ بتصرفه (لَكْن يُضْمَنُ) الرهن (كَمَا مَرَّ) لحصول التعدي فيه من المرتَهِن.

(وَجَعْلُ الخَاتَم في الخِنْصَرِ) اليُمْنَى أَوْ اليُسْرى (تَعَدَ) لأَنه يستعمل كذلك عادةً، والمرتَهِن غير مأَذون له في الاستعمال ولو كان متَضمِّنَاً للحفظ. إِذْ هو مأذونٌ بمجردِ الحِفْظ (و) جعل الخاتم (في أُصْبَعٍ أُخْرَى) غير الخِنْصِر (حِفْظٌ) من الرَّجل، لأَنه لا يُلْبس كذلك عادةً، فكان ذلك من الحفظ دون الاستعمال. والمراد ـ بعدم الضمان فيما يُعَدّ حفظاً لا استعمالاً ـ أَنْ لا يُضْمن ضمانَ الغصب، لا أَنْ لا يُضْمن أَصلاً، لأَن الرهن مضمونٌ بالدَّين فيسقط بهلاكِهِ الأَقلُّ من قيمته ومن الدين.

ولو قال المشتري للبائع: أَمسك هذا الثوب حتى أُوفِيَك الثمن، يكون رَهْنَاً عندنا، كـ: أَمْسِكْه بِدَيْنِك، أَوْ أَمْسكه بمالك، لأَن هذا كلام يُؤَدِّي معنى الرَّهن، وهو الحَبْس الدائم إِلى وَقْت الفِكَاك، والعبرة في العقود للمعاني وإِن اختلفت المَبَاني. وجعله أَبو يوسف وزُفَر أَمانةً، كمالكٍ والشافعي. لأَن قوله:«أَمسك» يَحتمل الرهنَ والإِيداعَ، والإِيداعُ أَقلّ الأَمْرَين فَيُحْمل عليه، بخلاف: أَمسك بِدَينك لتعيّن جهة الرهن حيث قابله الدَّين.

(وإِذَا طَلَبَ) المرتَهِن من الراهن (دَيْنَهُ أُمِرَ) المرتَهِن (بإِحْضَارِ رَهْنِهِ) أَوَّلاً، لأَن قبض الرهن استيفاء. فلو أُمِر الراهنُ بقضاء الدَّيْن قبل إِحضار المرتَهِن الرَّهْنَ ربما هلك الرَّهن بعد ذلك، أَوْ كان هالكاً قبل ذلك، فيصير المرتَهِنُ مستوفياً دَيْنَهُ مرتين.

(إِلاَّ إِذا) كان الرَّهن (وُضِعَ عِنْدَ عَدْلٍ) وغاب ذلك العَدْلُ ولم يدر أَين هو، أَوْ كان العَدْل أَوْدَع الرَّهْن عند مَنْ في عياله وغاب العَدْلُ، وطلب المرتَهِنُ دَيْنَهُ، والذي عنده الرَّهْنُ يقول: أَوْدَعني فلانٌ ولا أَدري لِمَنْ هو؟ فإِن الراهن حينئذٍ يُجْبَر على قضاء الدَّيْن ولا يكلف المرتَهِن بإِحضار الرهن، ولا يؤخر قضاء الدين إِلى إِحضاره، ولا يتراخى قبض الدين بسببه، (فَيُسَلِّمُ) الراهن المرتَهِن، بعد إِحضار المرتَهِن الرَّهن (كُلَّ

ص: 479

دَينِهِ ثُمَّ رَهْنَهُ إِنْ طَلَبَ في غَيْرِ بَلَدِ العَقْدِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلرَّهْنِ مُؤْنة حَمْلٍ، وعَلَيْهِ مُؤَنُ حِفْظِهِ، وَعَلَى الرَّاهِن مُؤَنُ تَبْقِيَتِه.

وجُعْلُ الآبق ومُدَاوَاةُ الجُرْحِ مُنْقَسِمٌ عَلَى المَضْمُوْنِ والأَمَانَةِ.

===

دَينِهِ) لَتَعَيّن حَقِّه، كما تعين حَقّ الراهن بإِحضار الرهن، تحقيقاً للتسوية، (ثُمَّ) يسلِّم المرتَهِن للراهن (رَهْنَهُ) كما في المَبِيع والثمن، فإِنَّ البائع يُحْضِر المبيع، ثُم المشتري يُسلم الثَّمن أَوَّلاً، وكذا يؤمر المرتَهِن بإِحضار الرَّهْن أَوَّلاً.

(إِنْ طَلَبَ) دينه (في غَيْرِ بَلَدِ العَقْدِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلرَّهْنِ مُؤْنة حَمْلٍ) لأَن الأَمكنة فيما لا مؤنة فيه سواء، وأَما إِذا كان له مؤنة لم يكلف المرتَهِن إِحضار الرهن، لأَنَّ عين الرهن أَمانة عنده، فلا يكون عليه الرَّدّ، بل يكون عليه التسليم بمعنى التخلية، وليس النقل من بلد إِلى بلدٍ آخر من التسليم في شيءٍ، فصار ساقطاً عنه بِحُكْم العَقْد، فلا يصير عُذْراً في تأخير الدَّيْن، ولكن يَحْلف المرتَهِن بالله ما هَلَكَ الرَّهْن إِنْ طَلَبَ الراهِن الحَلِف، لأَنه غائِبٌ فيحتمل الهلاك فيبطُل الدين، فإِذا حَلَف أَعطاه دَيْنَه، ولا يُلْزَم المرتَهِن تمكينَ الرَّاهن مِنْ بيع الرَّهْن لإيفاء الدين من ثَمَنِهِ، لأَن حُكْم الرهن الحَبْس الدائم إِلى أَنْ يقضيه دَيْنَه.

(وعَلَيْهِ) أَي على المرتَهِن (مُؤَنُ حِفْظِهِ) أَي حِفْظ الرهن، كأُجرة البيت الذي فيه الرهن، في ظاهر الرواية، وكذا أُجرة حافظ، لأَن الإِمساك حَقُّه، والحفْظ واجبٌ عليه، فيكون عليه مَؤُنته (وَعَلَى الرَّاهِن مُؤنُ تَبْقِيَتِه) بضم الميم (وفتح الهمزة)

(1)

جمع مؤنة ـ وذلك سواء كان في الرهن فضل أَوْ لم يكن، لأَن الرهن باقٍ على ملكه فيكون ما يبقيه عليه

(2)

، لأَنه مُؤَنة مِلْكه كما في الوديعة، وهذا كنفقة مأكله، ومشربه، وكسوة الرقيق، وأَجرة راعيه، وسَقْي البستان، وكَرْي النهر، وتلقيح نخيله وجُداذه

(3)

، (وأمثال)

(4)

ذلك حتى تجهيزه بعد الموت ودفنه.

(و) أَما (جُعْلُ

(5)

الآبق) لرادِّه، (و) ثمن (مُدَاوَاةُ الجُرْحِ) ومعالجة المرض، وفداء أَرْش

(6)

جناية الرَّهْن، فهو (مُنْقَسِمٌ عَلَى المَضْمُوْنِ والأَمَانَةِ) فما هو حِصَّةُ

(1)

في المطبوع: وفتحها، وما أَثبتناه من المخطوط.

(2)

أَي ما يبقى الرَّهن على الراهن.

(3)

الجُذاذ: بالضم: القطع المستأصل، وبالفتح: فصل الشيء عن الشيء. القاموس المحيط، ص 423، مادة (جذَّ).

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(5)

تقدم شرحها ص 436، تعليق رقم (1).

(6)

الأَرْش: ما وجب من المال في الجناية على ما دون النَّفْس. معجم لغة الفقهاء ص 54.

ص: 480

‌فَصلْ [في رَهنِ المُشاع]

لا يَصِحُّ رَهْنُ مُشَاعٍ، وتَمْرٍ عَلَى نَخْلٍ دُوْنَه، وزَرْعِ أَرْضٍ، أَو نَخْلِهَا دُوْنَهَا، والحُرِّ وفُرُوعهِ.

===

المضمون فعلى المرتَهِن، وما هو حِصَّة الأَمانة فعلى الراهن، ونمنع نحن ومالك تَصُّرفَ الراهن في الرهن ولو كان بلا ضَرَرٍ يحصل فيه، كَسُكْنَى الدار، وركوب الدابة، إِلاَّ بإِذن المرتَهِن، كما لا يجوز للمرتَهِن أَنْ ينتفع به بدون إِذنه اتفاقاً.

وأَجاز الشافعيُّ انتفاع الراهن بالرَّهْن إِنْ لم يضر بالمرتَهِن. ولو أَكل المرتَهِن نماءه، كاللبِن، والثمر، والولد بإِذنٍ من الراهن لم يسقط شيء من دَيْن المُرتَهِن، لأَنه أَتْلَفه بإِذن مالكه، ويرجع بحِصَّة النماء إِنْ هلك الأصل عنده، فيقسم الدَّين على قيمة النماء الذي أَكله، وعلى قيمة الأَصل، فما أَصاب النماء منه أَخذه المرتَهِن من الراهن، لأنه تَلِف على مِلْك الراهن بِفِعْل المرتَهِن، والفعل حَصَل بتسليطٍ من قِبَلِه فصار كأَنه أَخَذَه وأَتْلَفَه، فكان مضموناً عليه، فيكون للمرتَهِن حِصّةٌ من الدَّين. والله تعالى أَعلم.

فصل (في رهن المُشاع)

(لا يَصِحُّ رَهْنُ مُشَاعٍ) سواء كان فيما يُقْسم أَوْ فيما لا يُقْسَم، وسواء رَهَنَهُ الرَّاهن مِنْ شَريكه أَوْ غيرهِ وسلمه كلَّه إِليه، وعند مالك والشافعي صحيح. (و) لا يصح رَهْن (تَمْرٍ عَلَى نَخْلٍ دُوْنَه) أَي دون النَّخْل. (و) لا رهن (زَرْعِ أَرْضٍ، أَوْ) رهن (نَخْلِهَا) أَي نخل الأَرض (دُوْنَهَا) أَي دون الأَرض، لأَن المرهون مُتَّصِلٌ بما ليس بمرهون اتصال خلقةٍ، فكان بمنزلة المُشاع. وكذا لا يجوز رَهْنُ أَرضٍ دون نَخْلِهَا، أَوْ دون زَرْعِهَا، ولا رهنُ نَخْل دون ثمره، إِذْ لا يمكن قَبْض المرهون وَحْدَه فصار كالمُشَاع.

(و) لا يصحُ رَهْنُ (الحُرِّ وفُرُوعهِ) أَي المُدَبَّر

(1)

، وأُم الولد

(2)

، والمُكَاتَب

(3)

، لأَن موجَب الرهن ثبوتُ يد الاستيفاء، وهو لا يتصور من هذه الأَعيان لقيام

(1)

المُدَبَّر: الرقيق الذي عُلِّق عتقُهُ على موتِ سيده، ومثاله قولُ السيد لعبده: إِنْ مِتُّ فأَنت حرٌّ. معجم لغة الفقهاء ص 418.

(2)

أُم الولد: الأَمةُ التي حملت من سيدها وأَتت بولد. معجم لغة الفقهاء ص 88.

(3)

المكاتَب: الرقيق الذي تمَّ عقدٌ بينه وبين سيده على أَن يدفع له مبلغًا من المال نُجومًا - أَي متفرقًا متتابعًا - ليصيرَ حُرًّا. معجم لغة الفقهاء ص 455.

ص: 481

ولا بالأَمَانَاتِ. والمَبِيعِ في يَدِ البَائِعِ والقِصَاصِ.

وصَحَّ بِعَيْنٍ مَضْمُوْنَةٍ بالمِثْلِ أَو بالقِيْمَة، وبالدَّيْنِ ولو مَوْعُودًا، بأَن رَهَنَ لِيُقْرِضَهُ كذا، فَهُلْكُهُ في يَدِ المُرْتَهِن عَلَيْهِ بِمَا وَعَدَ،

===

(المانع)

(1)

. (ولا) يصح الرَّهن (بالأَمَانَاتِ) كالودائع، والعواري، ومال المضاربة

(2)

، ومال الشركة، لأَن موجب الرهن ثبوت يد الاستيفاء للمرتَهِن وحق صاحب الأَمانة في العين مقصورٌ عليه، واستيفاء العين في عين أُخرى غير ممكن.

وحاصله أَنَّ الرَّهْن لا بد فيه من الضمان، ليقع مَضْمُوناً ويتحقق استيفاء الدين منه، ولا ضمان في الأمانات. (و) لا (المَبِيع في يَدِ البَائِعِ) لأَنه ليس بمضمون بِمِثْلٍ ولا بقيمةٍ، لكن يسقط بهلاكه الثمن الذي هو حق البائع، ويُسمى هذا مضموناً بغيره. (و) لا (القِصَاصِ) سواء كان في نَفْسٍ أَوْ فيما دونها، لِتَعَذُّر الاستيفاء من الرهن.

(وصَحَّ) الرَّهْن (بِعَيْنٍ مَضْمُوْنَةٍ) عند الهلاك (بالمِثْلِ)، إِنْ كانت مِثْلِيَّةً (أَوْ بالقِيْمَة) إِنْ كانت قِيْميَّةً، ويُسمى هذا مضموناً بنفسه، وذلك كالمغصوب، والمهر، وبَدَل الخُلْع

(3)

، والصلح عن دَم العمد، لأَن واحداً من هذه الأَشياء إِنْ كان باقِياً وجب تَسْلِيْمُهُ، وإِن كان هَالِكَاً وجب مِثْلُهُ أَوْ قِيْمَتُهُ، فكان الرهن بها رهناً بما هو مضمونٌ، فيصح عندنا وعند مالك. ولم يُجِزه الشافعيّ إِلاَّ بِدَيْنٍ لَازِمٍ لعدم إِمكان استيفاء العين من المرهون.

(و) صح الرهن (بالدَّيْنِ ولو مَوْعُوداً: بأَن رَهَنَ) رهناً (لِيُقْرِضَهُ كذا فَهُلْكُهُ) بالرفع مبتدأ، أَي فهلاك الرهن، وصفته (في يَدِ المُرْتَهِن) قبل أَنْ يقرضه (عَلَيْهِ) خبره، أَي على المُرْتَهِن (بِمَا وَعَدَ) به إِنْ كان مُسَاوِياً لقِيمة الرَّهْن أَوْ أَقل، وأَما إِذا كان أَكثر فلا يكونُ مضموناً بالدَّيْن بل بالقيمة.

وصورته أَنْ يقول: رَهنْتُكَ هذا لِتُقْرِضَنِي أَلْف درْهم، فقبض الواعد

(4)

الرهن وهلَك في يده قبل أَنْ يُقْرِضه أَلفاً، فإِنه يهلك مضموناً على المُرْتَهِن، حتى يجبُ عليه تسليمُ الأَلْفِ إِلى الراهن بعد هلاكه، لأَن الموعود جُعِل هنا كالموجود باعتبار الحاجة، فكان حَاصِلاً بعد القرض حُكْمَاً، إِذْ الظاهر أَنَّ الخُلْف لا يجري في الوعد، فكان مُفْضياً إِلى الوجود غالباً، بخلاف الرهن بالدَّرَك: وهو أَنْ يأخذ المُشْتَري من

(1)

في المطبوع: المنع، وما أَثبتناه من المخطوط.

(2)

المُضَاربة: عقد شركة يكون فيها المالُ من طرفٍ والعمل من طرفٍ آخر، والربح بينهما على ما شرطا، والخسارة على صاحب المال، وتُسمى القِراض. معجم لغة الفقهاء ص 434.

(3)

الخُلْع: طلاقُ الرجل زوجَتَهُ على مالٍ تَبْذُلُه له. معجم لغة الفقهاء ص 199.

(4)

أَي المرتَهِن.

ص: 482

وبِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، وثَمَنِ الصَّرْفِ، والمُسْلَمِ فِيْهِ، فإِنْ هَلَكَ في المَجْلِسِ، فَقَد أُخِذَ، وإِن افْتَرَقَا قَبْلَ نَقْدٍ وهَلَك، بَطَلَا.

ويَتِمُّ الرَّهْنُ بِقَبْضِ عَدْلٍ، شُرِطَ وَضعُهُ عِنْدَهُ. ولا أَخْذَ لأَحَدِهِمَا منه، وهُلْكُهُ مَعَهُ هُلْكُ رَهْنٍ، فإِنْ وَكَّلَ العَدْلَ أَو غيرَهُ بِبَيْعِهِ صَحَّ. فإِنْ شُرِطَ في الرَّهْن لَمْ يَنْعَزِل بِالعَزْلِ

===

البائع رهناً بالثمن خوفاً من استحقاق

(1)

المبيع، فإِنه باطلٌ، إِذِ الظاهر أَنْ البائع يبيع مال نفسه.

(و) صح الرَّهن (بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ

(2)

، وثَمَنِ الصَّرْفِ، والمُسْلَمِ فِيْهِ) خلافاً لِزُفَر (فإِنْ هَلَكَ) الرهن المذكور (في المَجْلِسِ) أَي مجلس العقدِ (فَقَد أُخِذَ) أَي تَمَّ العقد، وأَخَذَ المرتَهِنُ الرهن المذكور، يعني فصار المرتَهِنُ مستوفياً حَقَّه بهلاك الرهن عنده، وتَم الصرف، والسَّلَم، لوجود القبض حُكْمَاً (وإِن افْتَرَقَا) أَي المتعاقدان في الصَّرْف والسَّلَم (قَبْلَ نَقْدٍ) أَي نقد رأس المال وثمن الصرف. (و) قَبْل (هَلَك) أَي (هلاك)

(3)

الرهن برأسِ المال وثمن الصرف (بَطَلَا) أَي السَّلَم والصَّرْف، لفوات القبض حقيقةً وحُكْمَاً. أَما الرَّهْن بالمُسْلَم فيه فلا يبطل إِنْ افترقا قبل النقد والهلاك.

(ويَتِمُّ الرَّهْنُ بِقَبْضِ عَدْلٍ شُرِطَ) في عقد الرهن (وَضعُهُ) أَي وَضْع الرهن (عِنْدَهُ) أَي العدل. وقال زُفَر وابن أَبي لَيْلَى: لا يَتِم (ولا أَخْذَ لأَحَدِهِمَا) أَي الراهن والمرتَهِنْ (منه) أي من العَدْل لتعلّق حقّ الراهن في الحِفْظ بيده وتعلق حق المرتهن. به استيفاءً ولا يُمَلَّكُ أَحَدَهُمَا لإِبطال حَقِّ الآخر (وهُلْكُهُ) أَي هلاك الرهن (مَعَهُ) أَي العَدْل (هُلْكُ رَهْنٍ) فيهلك في ضمان المُرْتَهِن، لأَن يَدَ العَادِل في حق المالية يَدُ المرتَهِن، والمالية هي المضمونة.

(فإِنْ وَكَّلَ) الراهن (العَدْلَ) أَوْ المرتهن (أَوْ غيرَهُ بِبَيْعِهِ) أَي المرهون عند حلول الدين (صَحَّ) التوكيل، لأَنه وَكَّلَهُ بِبَيْع مالِه، والرهن شُرِعَ وثيقةً لجانِب الاستيفاء، وبالتوكيل يصيرُ جانب الاستيفاء أَوثقَ، فكان التَوكيل بالجواز أَحَقّ (فإِنْ شُرِطَ) الوكالة (في) عقد (الرَّهْن) فليس للراهن أَنْ يعزِلَ الوكيل، وإِن عزله (لَمْ يَنْعَزِل بِالعَزْلِ) سواء كان الوكيلُ العَدْلَ أَوْ المُرْتَهِنَ أَوْ غيرَهما، لأَنه لَمَّا شُرِط في ضمان العَقْد صار وَصْفَاً

(1)

الإستحقق: ظهورُ كونِ الشيءِ حَقًّا واجِبًا أَداؤه للغير. معجم لغة الفقهاء ص 59.

(2)

بَيْع السَّلَم: بَيْع السِّلْحة الآجِلة الموصوفة في الذِّمة بثمنٍ مقبوضٍ في مَجْلِس العقد. معجم لغة الفقهاء ص 249.

(3)

في المطبوع: هلك، وما أَثبتناه من المخطوط.

ص: 483

وبِمَوْتِ أَحَدٍ إِلَّا بِمَوْتِ الوَكِيْلِ.

وإِذَا حَلَّ الأَجَلُ والرَّاهِنُ أَو وَارِثُه غَائِبٌ، أُجْبِرَ الوَكِيْلُ عَلَى البَيْعِ، كَوَكِيْلٍ بالخُصُوْمَةِ غَابَ مُوَكِّلُهُ، وأَبَاهَا. وإِذَا بَاعَ العَدْلُ فالثَّمَنُ رَهْنٌ فَهُلْكُه كَهُلْكِهِ.

===

مِنْ أَوصافه فيلزم كأَصْلِهِ، لأَن حُكْم التبع لا يفارق الأَصْل.

(و) لم ينعزل (بِمَوْتِ أَحَدٍ) راهناً كان أَوْ مُرْتَهِنَاً، لأَن التوكيل متى صار لازِمَاً تَبَعاً للرهن يبقى ببقائه، ولا يَبْطُل الأَصل بموتها فيبقى التبع في ضمنه (إِلاَّ بِمَوْتِ الوَكِيْلِ) والرهن على حاله، فإِن التوكيل الواقع في عقد الرهن بِبَيْع المرهون يَبْطل، ولا يقوم وارِثُ الوكيل ولا وَصِيُّه مقامه، لأَن المُوَكِّل رضي برأَي الوكيل لا برأي غيره. ويبيع الوكيل ـ ولو بغيبة ورثةِ الراهن ـ للإِيفاء كما في حال حياة الراهن بغير مَحْضَرٍ منه، فإِن لم يكن للراهن وَصيٌّ أَمر القَاضِي ببيعه وإِيفاء الدين مِنْ ثمنه نَظَراً للجانبين.

(وإِذَا حَلَّ الأَجَلُ والرَّاهِنُ أَوْ وَارِثُه غَائِبٌ) وأَبَى الوَكِيْلُ الذي وَكَّلَه الراهن بالبيع في عقد الرهن أَنْ يبيعه (أُجْبِرَ الوَكِيْلُ عَلَى البَيْعِ) للزوم التوكيل، سواء شرطاه في عقد الرهن أَوْ بعده. وكيفية الإجبار أَنْ يَحْبِسَهُ القاضي أَياماً لبيعه، ولا يَفْسُد البيع بهذا الإِجبار، لأَنه إِجبارٌ لْحَقَ فكان كَـ: لَا إِجبار، فإِن لَجَّ بعد الحبسِ فالقاضي يبيع عليه (كَوَكِيْلٍ بالخُصُوْمَةِ غَابَ مُوَكِّلُهُ) وطلب المُدَّعي الخصومة (وأَبَاهَا) الوكيل، فإِنه يُجبر على الخُصومة، لأَن المُدَّعِي إِنَّما خَلَّى سبيل الخصم اعتماداً على وكيله، وفي عدم مخاصمته إِبطالُ حَقِّه. والجامع أَنْ في امتناع الوكيل في كُلَ من المسأَلتين تفويتَ الحق على صاحبه.

(وإِذَا بَاعَ العَدْلُ) الرَّهْنَ (فالثَّمَنُ) وإِن كان غيرَ مقبوضٍ (رَهْنٌ) لأَن الرهن لَمَّا خرج عن الرهنية بصيرورته للمُشْتَري، انتقلت الرهنية إِلى ثمنه (فَهُلْكُه) أَي ثمن الرهن (كَهُلْكِهِ) أَي الرهن في سقوط الدين به، لقيامه مقامه.

ويصح رهن الذهب والفضة وكذا المَكِيل والموزون، لأَنهما محل الاستيفاء فيكون محلاً للرهن بالثمن، فإِن رهنت بجنسها هلكت بِمِثْلِها من الدَّين وزناً، والجودة ساقطةٌ عند أَبي حنيفة إِذا تفاوتا فيها، إِذْ لا عبرة بجودةٍ في الأَموال الربوية عند المقابلة في جنسها، فيصير مستوفياً لْحَقِّه باعتبار الوزن دون الجودة.

وهما اعتبراها فيضمن القيمة من خلاف جنسه ويكون رهناً مكانه، لأَنه لو صار مُسْتوفِياً لتضرر.

فلو رهن قلبَ فضةٍ وزنُه عشرة، وقيمته ثمانية بعشرة فهلك، فهو بالعشرة عند أَبي حنيفة، اعتباراً للوزن، وبه وفاء الدين. وضمَّنا المرتهن قيمته ذهباً وجعلاها رَهْنَاً

ص: 484

‌فَصْل [في التصُّرف بالرَّهن والجناية عليه]

وَقَفَ بَيْعُ الرَّاهن رَهْنَهُ، فإِنْ أَجَازَ مُرْتَهِنُهُ أَوْ قَضَى دَيْنَهُ نَفَذَ، وصَارَ ثَمَنُهُ رَهْنًا. وإِنْ لَمْ يُجِزْ وفَسَخَ -لا يَنْفَسِخُ في الأَصَحِّ-، وصَبَرَ المُشْتَرِي إِلى فَكِّ الرَّهْنِ، أَوْ رَفَعَ إِلى القَاضِي لِيَفْسَخَ.

وصَحَّ عَتَاقُهُ

===

مكانه، لأَنه لو صار مُستوفياً كُلَّ الدَّيْن باعتبارِ الوزن لبطل حق المرتَهِن في الجودة فيتضرر به، ولو صار مستوفياً من دَيْنِهِ ثمانية اعتباراً للقيمة (لصار)

(1)

مستوفياً ثمانيةً بعشرةٍ من حيث الوزنُ فيكون رِباً. فلهذه الضرورة صرفا إِلى التضمين من خلاف جنسه، وقالا: ينقض الاستيفاء وجعل كأَنه لم يهلك، ولأَنه كما يجب مراعاة حَقِّه في الوزن، يجب مراعاة حَقِّه في الجودة مهما أَمكن.

فصل (في التصرف بالرهن والجناية عليه)

(وَقَفَ بَيْعُ الرَّاهن) أَي لزوم بيعه (رَهْنَهُ) بغير إِذن المرتَهِن على إِجازته، إِذْ المرتَهِن على إِجازَتِه، إِذْ لا يَجُوز بيعُ أَحَد العاقدين بلا إِذن صاحبه: أَما المرتَهِنُ فلعِدم مِلْكِه، وأَما الراهن فَلِتَعَلُّقِ حَقِّ المرتَهِن بماليته (فإِنْ أَجَازَ مُرْتَهِنُهُ) البيع (أَوْ قَضَى) الراهن (دَيْنَهُ نَفَذَ) البيع، لأَن المُقْتَضِي لنفاذه موجودٌ وهو التصرف الصادر عن الأَهْل في المحل، وعدم نفاذه إِنما هو لتعلقِّ حق المرتَهِن بالرهن لاستيفاء دَيْنِه، وقد زال ذلك بإِجازته أَوْ أَخْذِه دَيْنَه.

(و) إِذا نَفَذَ البيع بإِجازة المرتَهِن (صَارَ ثَمَنُهُ رَهْنَاً) وإِن لم يشترط ذلك على الصحيح (وإِنْ لَمْ يُجِز) المرتهن بيع الرهن (وفَسَخَ، لا يَنْفَسِخُ) البيع (في (الأَصَحِّ))

(2)

بل يبقى موقوفاً حتى لو افْتَكَّهُ الراهنُ كان للمشتري سبيل عليه، فإِذا لم يَنْفَسِخ (و) بقي موقوفاً (صَبَرَ المُشْتَرِي إِلى فَكِّ الرَّهْنِ) لِيُسَلَّم له المبيع، لأَن المنافع على شرف

(3)

الزوال (أَوْ رَفَعَ) الأَمر (إِلى القَاضِي لِيَفْسَخَ) البيع بِحُكْمِ العجز عن التسليم، لأَن ولاية الفسخ إِلى القاضي.

(وصَحَّ) أَي نَفَذَ (عَتَاقُهُ) أَي إِعتاق الراهن موسِراً كان أَوْ مُعْسِراً، (وتدبيره)

(4)

(1)

في المطبوع: فصار، وما أَثبتناه من المخطوط.

(2)

في المطبوع: الأَصل، وما أَثبتناه من المخطوط.

(3)

أَشرَف عليه: أَي قاربه. المعجم الوسيط ص 479، مادة (شرفت).

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 485

واسْتِيلادُهُ رَهْنَهُ. فإِنْ فَعَلَهَا غَنِيًّا، فَفِي دَيْنِهِ حَالًّا، أَخَذَ الدَّيْنَ، وفي المُؤَجَّلِ قِيْمَتَهُ رَهْنًا إِلى مَحِلِّ أَجَلِهِ. وإِنْ فَعَلَهَا مُعْسِرًا، ففي العِتْق، سعى العَبْدُ في أَقَلَّ مِنْ قِيْمَتِهِ ومِنَ الدَّيْنِ، ورَجَعَ عَلَى سَيِّدِهِ. وفي أُخْتَيْه سَعَى في كُلِّ الدَّيْنِ

===

رهنه (واسْتِيلادُهُ

(1)

رَهْنَهُ) وهو قول الشافعي. وعنه لا ينفذ العِتْق مطلقاً، لأَنه تَصَرُّفٌ لا في حَقِّ المُرْتَهِن بالإِبطال، فكان مردوداً كالبيع. وأَما تدبير الراهن العبدَ المرهون فيصح بالاتفاق. وإِذا صح التَّدْبير والاستيلاد خرج المُدَبَّر وأُم الولد عن الرهنية لبطلان المَحلِّية، لأَن استيفاء الدين لا يصح منهما (فإِنْ فَعَلَهَا) أَي الراهن العتق، والتدبير، والاستيلاد حال كونه (غَنِيَّاً، فَفِي دَيْنِهِ) أَي دَيْن المرتَهِن حال كونه (حَالاًّ، أَخَذَ) المُرْتَهِن (الدَّيْنَ) لا قيمة الرهن، إِذْ لا فائدة في أَخْذِهِ القيمةَ مع حلول الدَّيْنِ، لأَنها من جنس الدين استيفاءً له.

(وفي) دَيْنه (المُؤَجَّلِ) أَخَذَ المرتَهِن (قِيْمَتَهُ) أَي قيمة الرهن (رَهْنَاً) مكانه (إِلى مَحِل أَجَلِهِ) أَي الدَّيْن، لأَن تَصَرُّفَ الراهن وإِنْ صادف مِلْكه إِلاَّ أَنه تَعَدَّى إِلى حقِّ المرتَهِن، فيجب ضمانُهُ ويكون رَهْنَاً مكانَه دفعاً للضرر عن المرتَهِن، فإِذا حَلَّ الدَّيْن اقتضى المرتَهِن بِحَقِّهِ إِنْ كان من جنس دَيْنِه، لأَن الغريم له أَنْ يستوفي دَيْنَه من مال غريمه إِنْ ظَفَر به وهو من جنس حقه، وَرَدَّ الفضل لانتهاء حُكْم الرَّهْن بالاستيفاء.

(وإِنْ فَعَلَهَا) حال كونه (مُعْسِراً، ففي العِتْق، سعى العَبْد في أَقَلَّ مِنْ قِيْمَتِهِ ومِنَ الدَّيْنِ) وقضى به الدَّيْن إِنْ كان حالاًّ، ووضعه رهناً عنده إِنْ كان مؤجلاً، فإِذا حَل الدَّيْن قضى به (ورَجَعَ) العبد بِما أَدَّى (عَلَى سَيِّدِهِ) حال كونه غَنِيًّا، لأَنه سَعَى في دَينٍ على سيده بإِلزام الشَّرْع له فكان مُضْطَرّا في قضائه. ومَنْ قَضِى دين غيرِه وهو مضطرٌ في قضائه يرجع عليه بما قضى عنه.

(وفي أُخْتَيْه) أَي أُختي العِتق، وهما مسأَلتا التدبير والاستيلاد عليه (سَعَى) المُدَبَّر والمستولدة إِذا كان المَوْلَى مُعْسِراً (في كُلِّ الدَّيْنِ) لأَن كسبهما مملوكٌ للمَوْلى فكان قادراً على أَداء الدَّيْن به، وهو لو كان قادراً على أَداء الدين بمالٍ آخَر أُمِر بقضائه منه، فكذا إِذا كان قادراً عليه بكسبهما. بخلاف المُعْتَقِ حيث يَسْعَى في الأَقل من الدَّين ومن القيمة، لأَن كسبه خَالِصُ حَقِّه فلا يُجبر على أَنْ يَقْضِي به دَيْن سيده، ولكن لما سُلِّمت له مالية رقبته، وهي مشغولةٌ بْحَقِّ المرتَهِن، لَزِمه السِّعَاية

(2)

في

(1)

الاستيلاد: وطءُ الأَمة المملوكة ابتغاء الولد منها. معجم لغة الفقهاء ص 67.

(2)

الاستسعاء: الطَّلَبُ من الرقيق الذي أُعتِق بعضه الكسبَ ليفك ما بقي منه في الرِّق. معجم لغة الفقهاء ص 61.

ص: 486

ولا رُجُوْعَ.

وإِتْلَافُهُ رَهْنَهُ كإِعْتَاقِهِ غَنِيًّا. وأَجنبيٌّ أَتْلَفَهُ ضَمَّنَهُ مُرْتَهِنُهُ، وَكَانَ رَهْنًا مَعَهُ.

وَرَهَنٌ أَعَارَهُ مُرْتَهِنُهُ رَاهِنَه، أَو أَحَدُهُمَا بإِذْنِ صَاحِبِه آخَرَ، سَقَطَ ضَمَانُهُ، ولِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَرُدَّهُ رَهْنًا.

وإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ قَبْل رَدِّهِ فالمُرْتَهِنُ أَحَقُّ مِنْ غُرَمَائِهِ.

ومُرْتَهِنٌ أُذِنَ باسْتِعْمَالِ رَهْنِهِ: إِنْ هَلَكَ

===

قَدْرها (ولا رُجُوْعَ) من المدبَّر والمستولدة بما يؤديان قبل العِتْق على المولى بعد يَساره، لأَنَّهما يؤديان من كسبهما وهو ملك المولى، بخلاف (المُعْتق)

(1)

حيث يرجع لأَنه يؤدِّي من مِلْك نَفْسه.

(وإِتْلَافُهُ) أَي الراهن (رَهْنَهُ) بأَن استهلكه (كإِعْتَاقِهِ) أَي الراهن العبدَ المرهون حال كونه (غَنِيًّا) فإِن كان الدَّين حالاًّ أَخذ منه، وإِن كان مؤجلاً أَخذ قيمة الرهن، وجُعِلت رهناً مكانه إِلى حلول أَجَلِه، لأَن الراهن أَبْطَلَ حَقَّ المرتَهِن من الوثيقة، ولا يمكن استدراك حَقّه إِلا بِجَعْل قيمة الرَّهن رهناً مكانه.

(وأَجنبيٌّ) مبتدأ صفته (أَتْلَفَهُ) أَي الرهن، والخبر (ضَمَّنَهُ) أَي الأَجنبي (مُرْتَهِنُهُ) قَدْرَ قيمته يوم الإِتلاف (وَكَانَ رَهْنَاً مَعَهُ) أَي عند المُرْتَهِن، لأَنه أَحق بعين الرَّهْن حال قيامه، فكذا بما قام مقامه حال هلاكِه.

(وَرَهَنٌ) مبتدأ، صفته (أَعَارَهُ مُرْتَهِنُهُ رَاهِنَه) وقبضه الراهن (أَوْ) أَعارَهُ (أَحَدُهُمَا) أَي الراهن أَوْ المرتَهِن (بإِذْنِ صَاحِبِه) إِنساناً (آخَرَ) وقبضه ذلك الآخر (سَقَطَ ضَمَانُهُ) خبر المبتدأ، (و) كذا (لِكُلَ مِنْهُمَا) أَي الراهن والمرتَهِن إِذا أَعَار أَحَدُهُمَا الرهن إِنساناً آخَرَ (أَنْ يَرُدَّهُ رَهْنَاً) كما كان، لأَن لكلَ منهما فيه حَقًّا محترماً.

(وإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ قَبْل رَدِّهِ) أَي الرهن إِلى المرتَهِن (فالمُرْتَهِنُ أَحَقُّ) بالرهن (مِنْ) باقي (غُرَمَائِهِ) لأَن عقد الرهن باقٍ في غير حكم الضمان حال الإعارة، وكونه غير مضمون على المرتَهِن حال الإِعارة لا يدل على أَنه غير مرهون في تلك الحالة، فإِنَّ وَلَد الرهن مرهونٌ وهو غيرُ مضمون.

(ومُرْتَهِنٌ) مبتدأ، صِفَتُهُ جَمْلَةُ (أُذِنَ) له

(2)

(باسْتِعْمَالِ رَهْنِهِ)، وجملة (إِنْ هَلَكَ)

(1)

في المطبوع: العتق، وما أَثبتناه من المخطوط.

(2)

أَي الراهِنُ.

ص: 487

قَبْلَ عَمَلِهِ أَوْ بَعْدَهُ، ضَمِنَ، وحَالَ عَمَلِهِ لا.

وصَحَّ استعارَةُ شيءٍ لِيُرْهَنَ، فإِنْ أَطْلَقَ أَوْ قَيَّدَ يَجْرِي عَلَيْهِ، فإِنْ خَالَفَ وهَلَكَ ضَمِن القِيمَةَ،

===

أَي الرهن (قَبْلَ عَمَلِهِ أَوْ بَعْدَهُ ضَمِنَ) خبر المبتدأ. أَما قَبْلَ العمل فَلِبقاء يد المرتَهِن قيبقى ضمانُه. وأَما بَعْدَ العمل فلارتفاع يد العاريَّة فيعود ضمانُهُ، وصار كالمرتَهن الخالص عن الإِذْن بالاستعمال. (و) إِنْ هلك (حَالَ عَمَلِهِ لا) يضمن، لثبوت يد العاريَّة بالاستعمال، وهي مخالفةٌ ليد الضمان.

(وصَحَّ استعارَةُ شيءٍ لِيُرْهَنَ) لأَن المالك رَضِي بِتعلق دين المستعير بماله، وهو يملك ذلك، كما يملك تعلُّقَه بذمته بالكَفَالة

(1)

، ولأَن الرهن للاستيفاء، وللمالك أَنْ يأْذن للمستعير في إِيفاء دَيْنه. (فإِنْ أَطْلَقَ) المُعِيْرُ (أَوْ قَيَّدَ) بِقَدْرٍ، أَوْ جِنْسٍ، أَوْ مُرْتَهِن، أَوْ بَلَدٍ (يَجْرِي) الرَّهْن (عَلَيْهِ) أَي على الإِطلاق في المطلق، وعلى التقييد في المقيد، ففي الإِطلاق للمستعير أَنْ يرهن بالقليل والكثير بأَيِّ جِنْسٍ كان، لأَن الإِطلاق واجبُ الاعتبار خُصوصاً في الإِعارة، لأَنْ الجهالة فيها لا تُفضي إِلى المنازعة.

وفي التقييد «بالقَدْر» ليس للمستعير أَنْ يرهَن بأَكثر مِمَّا سَمَّى، إِذْ ربما لا يَرْضى المُعِيْرُ إِلاَّ بأَنْ يكونَ مِلْكُهُ محبوساً بما يتيسر قضاؤه عليه، أَوْ على المستعير دون ما يتعسر عليهما، ولا بأَقل مِمَّا سَمَّى، إِذْ ربما يكون غَرَضُ المُعِير أَنْ يصير المرتَهِنُ عند الهلاك مستوفياً للأَكثر، ليرجع هو على المستعير بذلك. وفي الأَقل مِمَّا سَمَّى يفوتُ ذلك الغرض فيكون مخالفاً فيضمن، إِلاَّ إِذا عَيَّن له أَكثر من القيمة فَرَهَنَهُ بأَقل وهو مِثْل القيمة فإِنه لا يضمن، لأَنه خالف إِلى خير، لأَن أَداء الأَقل أَيسر مِنْ أَداء الأكثر، وغَرَضُهُ من الرجوع عليه بالكثير حاصلٌ، لأَنه لا يرجع إِلاَّ بِقَدْر القيمة، لأَن الاستيفاء لم يقع إِلا به.

وفي التقييد «بالجنس» ليس للمستعير أَنْ يرهَن بجنسٍ غيرهِ، إِذْ قد يتيسر على المُعير أَداء جنسٍ دون جنس، وكذا لو سَمَّى له أَنْ يرهن من رجل بعينه ليس له أَنْ يرهن مِنْ غيره، لأَن الناس متفاوتون في الحِفْظ وأَداء الأَمانة. وكذا لو قال: ارهنه بالكوفة؛ ليس له أَنْ يرهَنه بالبصرة. لأَن الإنسان قد يرضى بأَنْ يكون مالُهُ في بَلَدٍ دون بلد، لأَن الأماكن تتفاوت في الحِفْظ.

(فإِنْ خَالَفَ) المُستعيرُ (وهَلَكَ) الرَّهن (ضَمِن) المستعير (القِيْمَةَ) أَي قيمة

(1)

الكفالة: ضمُّ ذِمَّةِ الكفيل إِلى ذمَّة الأَصيل في المطالبة بالحق. معجم لغة الفقهاء ص 382.

ص: 488

وإِنْ وَافَقَ وهَلَكَ فَقَدْرُ دَيْنٍ أَوْفَاهُ مِنْه.

ولا يَمْتَنِعُ المُرْتَهِنُ إِذَا قَضَى المُعِيرُ دَيْنَهُ، وفَكَّ رَهْنَهُ، وَرَجَعَ عَلَى الرَّاهِن.

ولو هَلَكَ مَعَ الرَاهِنِ قَبْلَ رَهْنِهِ، أَوْ بَعْدَ فَكِّه، لا يَضْمَنُ.

وجِنَايَةُ الرَّاهِنِ عَلَى الرَّهْنِ مَضْمُونَةٌ،

===

الرَّهن، لأَنه تَصَرَّفَ في مِلْك غيره على وَجْهٍ لم يأْذن له فيه، فصار غَاصِبَاً. وإِذا ضَمِن المستعيرُ القيمة تَمَّ عقد الرهن بينه وبين المرتَهِن، لأَن المستعير مَلَكه بأَداء الضمان، فتبين أَنه كان رهن ملك نفسه، وإِن شاء المُعير ضمن المرتهن فلا يتم عقد الرهن بين الراهن والمرتَهِن، فيرجع المُرْتَهِن على الراهن بما ضَمِن وبالدين. أَما بالدَّيْن فظَاهِرٌ، وأَما بما ضَمِن فلأَن الرَّاهنَ وَرَّطَه في ذلك، وصار كما لو مات العبد المرهون ثُم استحق وضمن المستحق المرتَهِن.

(وإِنْ وَافَقَ) المُسْتَعِيْر المُعير، بأَنْ رَهَنَ المُسْتعارَ فيما سَمَّى المُعير (وهَلَكَ) الرهن عند المرتَهِن (فَقَدْرُ دَيْنٍ) أَي فعلى المستعير مقدارُ دَين (أَوْفَاهُ مِنْه) أَي من المستعار، فإِنْ كانت قيمةُ الرهن مِثْلَ الدَّيْن أَوْ أَكثر فقد استوفى المرتَهِنُ منه كل الدين، فيضمن المستعيرُ للمُعِير مثل الدين في الصورتين، لأَن المستعير قضى دَيْنَه من مال المُعِير. ومَنْ قَضَى دَيْنَه مِنْ مالِ غَيْرِهِ ضَمِنَ له قَدْرَ دَيْنه، ولا يضمن المُستعير القيمة، لأَنه ليس بِمُتَعَدَ. وإِنْ كانت قيمةُ الرهن أَقَلَّ من الدين ذهب من الدين بِقَدْر قيمة الرهن، وعلى الراهن للمرتَهِن بقية دينه، وعليه للمعير قيمِةُ الرَّهْن لأَنه قَضَى قَدْرها من الدَّيْن بمال المعير، وكذا إِنْ أَصاب الرهن عيبٌ نَقَص قيمته، ذهب من الدَّيْن بحسابه، ووجب على الراهن مِثْله للمعير.

(ولا يَمْتَنِعُ المُرْتَهِنُ إِذَا قَضَى المُعِيْرُ دَيْنَهُ وفَكَّ رَهْنَهُ) أَي المعير، لأَن المعير محتاجٌ إِلى ذلك لتخليص مِلْكه (وَرَجَعَ) المُعِير (عَلَى الرَّاهِن) بما أَدَّى، لأَنه قضى دَيْن الراهن مضطراً فلا يكون متبرِّعَاً. قيد «بالمعير» لأَن الأجنبي إِذا قضى الدَّيْن فللمرتَهِن أَنْ يمتنع، لأَنه متبرِّعٌ لأَنه لا يسعى في تخليص مِلْكِهِ.

(ولو هَلَكَ) المُستعار (مَعَ الرَاهِنِ) أَي عنده (قَبْلَ رَهْنِهِ أَوْ بَعْدَ فَكِّه لا يَضْمَنُ) الراهن، لأَنه لم يصر به قاضِيَاً لدَيْنه ولا لشيءٍ منه بهذا الهلاك، وقضاء الدَّيْن أَوْ شيء منه بهلاك الرهن المستعار هو الموجِب لضمانه.

(وجِنَايَةُ الرَّاهِنِ عَلَى الرَّهْنِ مَضْمُونَةٌ) لأَن الرهن تعلق به حق المرتَهِن، وتَعَلُّقُ حَقِّ غيرِ المالك بالمالِ يَجْعَلُ المالِكَ كالأَجنبي، أَلا تَرَى أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الوَرَثَةِ بمال

ص: 489

وَجِنَايَةُ المُرْتَهِنِ تُسْقِطُ مِنْ دَيْنِهِ بِقَدْرِهَا، وجِنَايَةُ الرَّهْنِ عَلَيْهِمَا وعَلَى مَالِهِمَا هَدْرٌ.

وَنمَاءُ الرَّهْنِ رَهْنٌ، لَكِنْ يَهْلِك بِلا شيءٍ. وإِنْ هَلَكَ الأَصْلُ وبَقِي هو، فُكَّ بِقِسْطِهِ:

===

المريض يمنع نفوذ تَصَرُّفِهِ فيما زاد على الثُلث. ثُم المُرْتَهِن إِنْ كان دَيْنُهُ حالاً يأخذ الضمان بِدَيْنه إِنْ كان مِنْ جِنْس حَقِّه، وإِنْ كان دَيْنُهُ مؤجلاً يحبسه بالدَّيْن، فإِذا حَلَّ أَخَذَهُ بِدَيْنه إِنْ كان من جِنْس حَقِّه، وإِلاَّ حبسه حتى يَسْتَوفيَ دَيْنَه.

(وَجِنَايَةُ المُرْتَهِنِ) على الرهن (تُسْقِطُ مِنْ دَيْنِهِ بِقَدْرِهَا) لأَن جناية المرتَهِن على الرهن مضمونةٌ، لأَن الرَّهن مِلْك مالكه، وقد تَعَدَّى عليه المرتَهِنُ فيضمنه مالكه، فيسقط من دَيْنه قَدْرُ قيمة الجناية بحكم عقد الرهن، وما زاد عليه يضمن بالإِتلاف، كالمودَع إِذا أَتلف الوديعة.

(وجِنَايَةُ الرَّهْنِ عَلَيْهِمَا) أَي على الراهن والمرتَهِن، إِذا كانت موجِبة للمال: بأَن كانت خطأً في النَّفْس، أَوْ فيما دونها، (و) جنايته (عَلَى مَالِهِمَا هَدْرٌ). وقالا: جنايةُ الرهن على المرتَهِن معتبرة، وهو مذهب مالك والشافعي وأَحمد. قيدنا «الجناية» بكونها موجِبة للمال، لأَن الجناية الموجبة للقِصَاص يُستحقّ بها دَمُهُ، والمولى من دم مملوكه كأَجنبي، إِذْ لم يدخل في ملكه إِلا من حيثُ الماليةُ.

وأَما جناية الراهن على مال المرتَهِن فلا تعتبر بالاتفاق إِنْ كانت قيمته والدين سواء، إِذْ لا فائدة في اعتبارها، لأَنه لا يتملك بها العبد لاستيفائها بالدَّين، وتَمَلُّكه بها هو الفائدة، وإِن كانت قيمته أَكثر من الدَّين فعن أَبي حنيفة أَنها تُعتبرُ بقدر الأمانةِ، لأَن ذلك الفضل ليس في ضمانه، وعنه أَنها لا تعتبر، لأَن الفضل وإِنْ لم يكن مضموناً فحكم الرهن فيه ثابِتٌ وهو الحبس بالدَّيْن فصار بمنزلةِ المضمون. وأَما جِناية الرهن على ابن الراهِن أَوْ ابن المرتَهِن فمعتبرة على الصحيح، حتى يدفع بها أَوْ يفدي.

(ونَمَاءُ الرَّهْنِ) كولده، ولَبَنِهِ، وصوفه، وثمرته للرَّاهن، لأَنه متولِّدٌ من مِلْكه، وهو (رَهْنٌ) مع أَصله، لأَنه تَبَعٌ له، بخلاف الغلة والكسب لأَنه لا يكون رهناً معه، وعند أَحمد يكون رهناً معه وعند مالك الولد فقط، وعند الشافعي لا في الكل (لَكِنْ) إِنْ هَلَكَ النماء في يَدِ المرتَهِن (يَهْلِكُ بِلا شيءٍ) فلا يسقط به شيءٌ من الدَّيْنِ، لأَنه تَبَعٌ لأَصله، والأَتباع لا قسط لها مِمَّا يقابل أَصْلَهَا، لأَنها لا تدخل تحت العقد على سبيل القصد، لأَن اللفظ لا يتناولها.

(وإِنْ هَلَكَ الأَصْلُ وبَقِي هو) أَي النَّماء (فك بِقِسْطِهِ) من الدَّيْن، لأَنَّ النَّمَاء يصير

ص: 490

يُقْسَمُ الدين عَلَى قِيْمَتِهِ يَوْمَ الفَكِّ، وعَلَى قِيْمَةِ الأَصْلِ يَوْمَ القَبْضِ، وتَسْقُطُ حِصَّةُ الأَصْل من الدين.

وتَبْدِيْلُ الرَّهْنِ والزِّيَادَةُ فِيه يَصِحُّ، وفي الدَّين لا.

ولو هلك الرَّهْنُ بعد الإبراء هَلَكَ بلا شيءٍ،

===

مقصوداً بالانفكاك، والتبع (يُقَابِلُهُ)

(1)

قسطٌ مما يقابل أَصْلَه مقصوداً (يُقْسَمُ الدَّيْن عَلَى قِيْمَتِهِ) أَي قيمة النماء (يَوْمَ الفَكِّ) لأَنه بالفَكِّ صَارَ مقصوداً (عَلَى قِيْمَةِ الأَصْلِ يَوْمَ القَبْضِ) لأَن الرَّهْن إِنَّما يصير مضموناً بالقبض، فيعتبر قيمته وقت اعتباره، كما يعتبر قيمة النماء وقت اعتباره (وتَسْقُطُ حِصَّةُ الأَصْل من الدَّيْن) لأَنها تقابل الأَصل. ولو أَذِن الراهن (للمُرْتَهِنْ)

(2)

في أَكل زوائد الرهن بأَن قال: (مهما)

(3)

زاد فَكُلْهُ، فَأَكله فلا ضمان عليه، ولا يسقط شيءٌ من الدَّيْن، لأَنه أَتلفه بإِذن الراهن وإِباحته، والإِباحة يجوز تعليقها بالشَّرْط بخلاف التمليك.

(وتَبْدِيْلُ الرَّهْنِ) بأَنْ رَهَن عبداً يساوي أَلفاً بأَلِفٍ، ثُم أَعْطَى عبداً آخَر ـ قيمتُهُ أَلفٌ ـ مكان الأَول (والزِّيَادَةُ فِيه) أَي في الرهن: بأَن رَهَن ثوباً بعشرةٍ قيمتُهُ عَشرةٌ، ثم زاد الراهن ثوباً آخَر ليكونَ رَهْنَاً مع الأول بتلك العشرة (يَصِحُّ، و) الزيادة (في الدَّيْن) بأَن رَهَن عبداً بأَلفٍ، ثُم حَدَث للمرتَهِن على الراهن دَيْنٌ آخَر بشراءٍ، أَوْ استقراض فجعلا الرهن بالدَّيْن القديم رهناً به، وبالحادث (لا) أَي لا يصح، بل يكون كل الرهن بالدين السابق فقط. أَما التبديل فجائِزٌ اتفاقاً.

وأَمَّا الزيادة فتجوز في الرهن عند أَبي حنيفة وصاحِبَيْه، ولا تجوز في الدَّيْن عند أَبي حنيفة ومحمد وهو القياس، ويجوز عند أَبي يوسف في الدَّيْن أَيضاً. ثُم إِذا صحَّتِ الزيادة في الرهن ـ وتسمى هذه الزيادة قصدية ـ بقسم الدين على قيمة الأوَّل يوم قَبْضِه، وعلى قيمة الزيادة يوم قبضها، لأَن كلَّ واحدٍ منهما له دخل في ضمان المرتَهِن يوم قَبْضِه فكان هو المعتبر.

(ولو هلك االرَّهْن)

في يد المرتهن (بَعْدَ الإِبْرَاءِ) أَي إِبراء المرتَهِن الراهن من الدَّيْن، أَوْ بعدما وهب المرتَهِن للراهن الدَّيْن مِنْ غير مَنْع المُرْتَهِن الرهن بعد الإِبراء (أَوْ الهِبَة)

(4)

(هَلَكَ بِلا شَيءٍ) على المرتَهِن استحساناً. وقال زُفَر: يضمن المرتَهِنُ قيمتَهُ

(1)

في المطبوع: يقابل مما، وما أَثبتناه من المخطوط.

(2)

في المطبوع: المرتهن، وما أَثبتناه من المخطوط.

(3)

في المطبوع: مما، وما أَثبتناه من المخطوط.

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 491

لا بعد القبض، أو الصُّلْحِ، أو بَعْدَ الحَوَالَةِ، فَيَرُدُّ مَا قَبَضَ ويُبْطِلُ الحَوَالَةَ، وكذلك لو تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لا دَيْنَ لهُ ثُم هَلَكَ الرَّهْنُ، هَلَكَ بالدَّيْنِ.

===

للراهن، وهو القياس. وأَما لو منعه المرتَهِن بعد الإبراء والهبة ثُم تَلِفَ في يده، فيضمن قيمته اتفاقاً، لأَنه بالمَنْع صار غَاصِبَاً.

(لَا بَعْدَ القَبْضِ) أَي لا يَهْلِك الرهن بلا شيءٍ لو هلك في يد المرتهن بعد استيفاء الدين من الراهن، أَوْ من المتبرع عنه، بل يَهْلِك بالدَّيْن، ويجب على المرتَهِن رَدُّ ما قبض من الدَّيْن إِلى مَنْ قبض منه وهو الراهن أَوْ المتبرع، (أَوْ) هلك بعد (الصُّلْحِ) أَي صُلْح المرتَهْنِ الراهنِ بالدَّيْن على عَيْنٍ، أَوْ هلك بعد اشترائه منه عَيْنَاً، لأَن هذا استيفاء، (أَوْ) هلك (بَعْدَ الحَوَالَةِ) بعد أَنْ أَحَال الراهِنُ المرتَهِنَ على غيره، بل يهلِك بالدَّيْن، لأَن الحَوَالَة لا تُسْقِط الدَّيْن.

(فَيَرُدُّ) المرتَهِنُ (مَا قَبَضَ) في ذلك كُلِّه ويهلك الرهن بالدَّيْن (ويُبْطِلُ الحَوَالَةَ، وكذلك لو تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لا دَيْنَ لَهُ ثُم هَلَكَ الرَّهْنُ هَلَكَ بالدَّيْنِ) وقيل: الصواب أَنه لا يَهْلِك مضموناً، والله سبحانه أَعلم.

ص: 492

‌كِتَابُ الكفَالَة

هي: ضَمُّ ذِمَّة إِلى ذِمَّةِ في المُطَالَبَةِ، لا في الدَّيْنِ، وهُوَ الأَصَحُّ.

===

كتاب الكَفَالَة

(هِي) لُغةً: مطلق الضَّمِّ، قال الله تعالى:{وكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}

(1)

أَي ضمها إِلى نفسه لِيُرَبِّيَهَا، وقال عليه الصلاة والسلام:«أَنا وكَافِلُ اليتيمِ كَهَاتَيْن» . وفي روايةٍ: «أَنا وكَافِلُ اليتيم في الجَنَّةِ هكذا» ، وأَشار بأُصْبَعَيْهِ.

رواه مسلم، والنَّسائي، والترمذي عن سَهُل بن سعد السَّاعدي.

وشَرعَاً: (ضَمُّ ذِمَّة) الكفيل (إِلى ذِمَّةِ) المكفول (في المُطَالَبَةِ، لا) كما قال بعض المشايخ ـ وهو مذهب الشافعي ـ: إِنَّها ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلى ذمة (في الدَّيْنِ) بأَن يثبت الدين في ذِمَّةِ الكفيل ولا يسقط عن ذِمَّةِ المَكْفُول، لأَن التزام المُطالبة يَبتني على التزام أَصْل الدَّيْن، فيثبت الدَّيْن في ذِمَّةِ الكَفِيْل مع بقائه في ذِمَّةِ المكفول، ولا يُستوفَى إِلاَّ مِنْ أَحدهما، كالغاصب، وغاصب الغاصب، فإِنَّ كُلَّ واحدٍ منهما ضامن القيمة، وحق المالك في قيمةٍ واحدةٍ، واختياره تضمينَ أَحدهما يوجِبُ براءة الآخَر. وقال مالك: الأَصيل يبرأُ عن الدَّيْن بالكَفَالَة كما في الحَوَالَةِ.

(وهُوَ) أَي كون الكَفَالة ليست ضَمَّ ذِمَّةٍ إِلى ذِمَّة في الدَّيْن (الأَصَحُّ) لأَن جَعْلَ الدَّيْن الواحِدِ في حُكْم دَيْنَيْنِ قلب للحقيقة، فلا يُصار إِليه إِلاَّ عند الضرورة، ولا ضرورة هنا، لأَن التوثيق يحصل بتعدد المُطَالِب.

ثُم رُكْنُ الكَفَالة: الإِيجاب والقَبول عند أَبي حنيفة ومحمد. وقال أَبو يوسف ـ آخِراً ـ ومالك وأَحمد، وهو قولُ الشافعي: يَتِمُّ بالكفيل، وُجِدَ القَبولُ أَمْ لا. واختلف على قول أَبي يوسف، فقيل: تصح من الكفيل موقوفةً على إِجازة الطالِب، وقيل: نافذة، وللمطالِب حَقّ الرد.

وحُكْمُهَا ثبوت المطالبة على الكفيل مع الأَصيل عند عامة الفقهاء. وعن مالك

(1)

سورة آل عمران، الآية:(37).

ص: 493

وهِي: إِمَّا بالنَّفْسِ. وَتنْعَقِدُ بـ: كَفَلْتُ بنفسه، وِبمَا صحَّ إِضافة الطَّلاقِ إِليه، وَكَذَا بـ: ضمِنْتُه، أَوْ: هُوَ عَلَيّ، أَو: إِليَّ،

===

وأَبي ثَوْر لا يُطَالَب الضامن إِلاَّ إِذا تَعَذَّرَ مطالَبَةُ المضمون. وقال ابن أَبي لَيْلَى، وابن شُبْرُمَة، وداود، وأَبو ثور: ينتقل الحَقُّ إِلى ذِمَّةِ الكفيل فلا يُطَالَبُ الأَصيل أَصلاً، كما في الحَوَالة.

وشَرْعِيَّةُ الكَفَالة ثابتةٌ بالكتاب، قال الله تعالى ـ حكايةً عَمَّن قبلنا لا في مَعْرِض الإِنْكار ـ:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ جِمْلُ بَعِيْرٍ وأَنا بِهِ زَعِيْمٌ}

(1)

أَي كفيل، وهي لُغَةُ أَهل المدينة. وبالسنة: وهي ما روى أَبو داود والترمذي من حديث ابن عباس: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العاريَّةُ مؤادة، والمنحة مردودةٌ، والدَّيْن مقضيٌّ، والزعيم غارم» . وبالإِجماع فإِنَّ الإِمة اتفقت على جواز الضمان، وإِنما اختلفوا في فُرُوع فيه.

(وهِي: إِمَّا) كَفالة (بالنَّفْسِ) وإِن تعددت الكفلاء بها، وهي جائزة لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم:«الزعيم غارم» ، فإِنه يفيد مشروعية الكَفالة بنوعيها.

(وَتَنْعَقِدُ) الكفالة بالنفس (بـ: كَفَلْتُ) أَوْ تكفَّلت (بنفسه،) أَوْ بدنه أَوْ جسده (وبِمَا صَحَّ إِضافةُ الطَّلَاقِ) والعَتاق (إِليه) وهو ما عبر به عن البدن حقيقةً لغويةً، كالنفس، والجسد، أَوْ عُرْفِيةً، كالروح والرأَس والوجه والرقبة على ما مَر في الطلاق. وتنعقد بجزءٍ شائعٍ، كنصفه، أَوْ ثُلُثه، وجزئه، وجزء منه، لأَن النفس الواحدة في حق الكفالة بها لا تتجزأْ، إِذْ المستحق بكفالتها إِحضارها، وإِحضار جزئها الشائع دون كُلِّهَا لا يمكن، فصار ذكره كَذِكْر كلها، بخلاف اليد والرِّجْل، لأَنه لا يعبر بهما عن البدن، ولهذا لا يقع الطلاق والعَتاق بهما.

وقال الشافعي: تَنْعَقِدُ الكفالة أَيضاً بجزءٍ لا يمكن فَصْلُه، كالقلب والكَبدِ، وبه قال أَحمد في روايةٍ. وقال مالك: بِكُلِّ عُضْوٍ من البدن، فلو قال: كفلت بعينه، كانت كَفالةً بالنَّفْس عنده، وهو وَجْهٌ في مَذْهب الشافعي وأَحمد.

(وَكَذَا) تنعقد كَفَالَةُ النفس (بـ: ضَمِنْتُه)، لأَنه موجَب عقد الكَفالة، إِذْ بها يصير الكفيل ضَامِنَاً للتسليم، والعقد ينعقد بموجبه، كالبيع ينعقد بلفظِ التمليك (أَوْ: هُوَ عَلَيّ)، لأَن كلمة «علي» للالتزام، فكأَنه قال: أَنا مُلْتَزِمٌ تَسْلِيمَه (أَوْ:) هو (إِليَّ،)

(1)

سورة يوسف، الآية:(72).

ص: 494

أَوْ: أَنا بِهِ زَعِيمٌ، أَو: قَبِيل.

ولا جَبْرَ عَلَيهَا في حَدٍّ، وقِصَاصٍ

===

لأَن «إِليَّ» ههنا بمعنى عليَّ، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَرَك مالاً فَلِوَرَثَتِهِ، ومَنْ تَرَكَ كَلا

(1)

فإِلينا». رواه الشيخان في الفرائض من حديث أَبي هريرة. ولا يبعد أَنْ يكون تقدير الحديث: فإِلينا مَرْجِعُه (أَوْ: أَنا بِهِ زَعِيم) لما تقدم (أَوْ: قَبِيل) لأَنُه بِمَعْنَى الكَفِيل، وسُمِّي الصَكُّ قَبَالَةً

(2)

لأَنه يحفظ الحَقَّ كالكفيل. ولا تنعقد الكفالة بـ: أَنا ضامنٌ لمعرفته، لأَن موجَب الكفالة التزامُ التسليم وهو ضمن المعرفة لا التسليم، فصار كالتزامه دلالته عليه.

(ولا جَبْرَ عَلَيهَا) أَي لا إِلْزَام للحاكم على الكَفالة بالنَّفْس (في حَدَ، و) لا في (قِصَاصٍ) بأَن يكون المَكْفُول به نفس مَنْ عليه حَدٌّ أَوْ قِصَاص، وهذا عند أَبي حنيفة، وأَحمد، والشافعيّ في قول. وقال أَبو يوسف ومحمد: يُجْبر عليها في حَدِّ القَذْف، وفي حَدِّ القِصَاص، وهو قول مالك والشافعي في المشهور. لأَن الكفالة بالنفس مشروعةٌ، وتسليم النفس واجِبٌ على الأَصِيْل في دَعْوى الحَدِّ والقِصَاص، فصحت الكفالة بها فيهما، كما في دعوى المال، بخلاف الحدود الخالصة لله تعالى، لأن الكفالة شُرعت وثيقةً لنا، كيلا يفوت حَقُّنَا والله تعالى غَنِيٌّ عن ذلك، وبخلاف نفس الحَدِّ أَوْ القِصَاص، لأَنه لا يمكن استيفاؤه من الكفيل.

ولأَبي حنيفة أَنْ الكفالة للاستيثاق، ومَبْنَى الحَدِّ والقِصَاص على الدَّرْء، فلا يجبر المطلوب على الكفيل فيهما بخلاف سائر الحقوق، فإِنها لا تسقط بالشُّبُهَات فيليق الاستيثاق بها. قيَّد «بالجَبْر» لأَن المطلوب بِحَدَ أَوْ قِصَاص لو سمح بالكفيل للطالب من غير جبرٍ عليه صَحَّ. وقيد «بالحَدِّ والقصاص» لأَن التعزير

(3)

يصح فيه الجبر على إِعطاء الكفيل بالنفس، لأَنه مَحْضُ حَقِّ العبد، ولهذا يثبت بالشُّبْهة، وبالشهادة على الشهادة، ويُحلف فيه كالأَموال.

وعن المَرْغِينَاني: ليس الجَبْر هنا الحبس، ولكن أَمْرُهُ بالملازمة، وليست الملازمة المنعَ من الذهاب، ولكن أَنْ يذهب الطالب مع المطلوب فيدور معه أَيْنَما دار كيلا يتغيب، فإِذا انتهى إِلى باب الدار وأَراد الدخول يستأْذنه الطالب في الدخول، فإِن أَذِنَ له يدخل معه ويسكن معه حيث يسكن. وإِنْ لم يأْذن له يحبسه الطالب في

(1)

الكلُّ: العيال، النهاية 4/ 198.

(2)

القَبَالَة: وثيقةٌ يلتزم بها الإِنسانُ أَدَاء عَمَل، أَو دَيْن، أَو غير ذلك. المعجم الوسيط ص 712، مادة (قَبَل).

(3)

التعزير: ما يقدره القاضي من العقوبة على جريمةٍ لم يَرِد في الشَّرْع عقوبةٌ مقدرةٌ لها. معجم لغة الفقهاء ص 136.

ص: 495

ويَلْزَمُهُ إِحْضَارُ المَكْفُولِ بِهِ مُطْلَقًا، أَو في وَقْتٍ عُيِّن إِنْ طَلَبَ المَكْفُولُ لَهُ، فإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ حَبَسَهُ الحاكِمُ.

وبَرِئَ بِمَوْتِ مَنْ كَفَل به،

===

باب داره، ويمنعه من الدخول كيلا يتغيب بالخروج من مَوْضِعٍ آخر.

(ويَلْزَمُهُ) أَي الكفيل بالنفس (إِحْضَارُ المَكْفُوْلِ بِهِ مُطْلَقاً)، وهو الذي لم يتعين

(1)

وقتُ إِحضاره إِذا طلب المكفول له إِحضاره، رعاية لما التزمه (أَوْ) إحضار المكفول به (في وَقْتٍ عُيِّن) إِحضاره (إِنْ طَلَبَ المَكْفُولُ لَهُ) إِحضاره فيه. هذا قيد في المسأَلتين.

والحاصل أَنْ المكفولَ به الذي لم يعين وقت إِحضاره يلزم الكفيلَ إِحضارهُ في أَي وقت طلب المكفولُ (له)

(2)

إِحضاره، (كالدَّين الذي لم يَؤَجَّل)

(3)

. وإِن المكفول به الذي بَيَّنَ وقت إِحضاره، يلزم إِحضاره إِنْ طلب المكفول له في ذلك الوقت أَوْ بعده، كالدين المؤجل إِذا طلب صاحبُهُ عند حُلول الأَجَل، أَوْ بعده. ولا يلزم الكفيلَ إِحضارُه إِنْ طلبه المكفول له قَبْل الوقت الذي عَيَّنَهُ لأَنه لم يلتزم ذلك، لكن لو سَلَّمَه له بطلبه أَوْ بدونه قبل الوقت الذي عَيَّنَهُ بَرِاء، لأَن الأَجل حَقُّ الكفيل فيملك إِسقاطه.

(فإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ) أَي الكفيل، المكفول به في مسأَلتي الإطلاق والتعيين (حَبَسَهُ الحاكِمُ) لأَنه امتنع عن إِيفاء ما وجب عليه بالتزامه فصار ظالِمَاً. لكن لا يحبسه أَوَّل مرةٍ، لأَن الحبس عقوبة ظلم ولم يظهر ظلمه، إِذْ لَعَلَّه ما درى بِمَاذا يُدَّعى عليه، فَيُمْهَل حتى يظهرَ مُطْلُه. ولو غاب المكفول به ولم يعلم الكفيلُ مكانه لا يطالب به إِنْ صدقه المطالِب، لأَنه عاجزٌ فصار كالمديون إِذا ثبت إِعْسَارُه. وفي «الإيضاح»: هذا يعني حبس الحاكم الكفيل إِنْ لم يحضر المكفول به، إِذا لم يظهر عجزه، أَما إِذا ظهر فلا معنى للحبس، إِلاَّ أَنه لا يحال بينه وبين الكفيل فيلازمه ويطالبه، ولا يحول بينه وبين أَشغاله، كالمُفْلِس إِذا أَخرجه القاضي من الحبس.

(وبَرِاءَ) الكفيل من الكفالة بالنَّفْس (بِمَوْتِ مَنْ كَفَل به) لأَن الكفيل تَبَعٌ للمكفول في سقوط ما عليه، والذي على المكفول (هنا)

(4)

حضوره، وقد سقط عنه

(1)

وفي المخطوط: يعين.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(4)

في المطبوع: هذا، وما أَثبتناه من المخطوط.

ص: 496

وَبِتَسْلِيْمه، حَيْثُ يُمْكِنُهُ مَخَاصَمَتُهُ،

===

بموته فيسقط إِحضاره عن كفيله، وبهذا قال أَحمد، وهو وَجْهٌ في مذهب الشافعي، والوجه الآخَر ـ وهو الأَصح في مذهبه ـ: أَنَّ الكفيل يطالَبُ بإِحضاره ما لم يدفن إِذا أَراد المكفولُ له إِقامةَ الشهادة على صورته. وهل يطالبَ بما عليه؟ فيه وجهان: أَصحهما لا يطالب، وبه قال أَصحابنا، وأَحمد والشعبي، وشُرَيْح، وحَمَّاد. وقال مالك، والليث: يلزمه ما عليه، وبه قال ابن شُرَيْح من أَصحاب الشافعي.

(وَ) براء الكفيل أَيضاً

(1)

من الكَفالة (بِتَسْلِيْمه) أَي تسليم الكفيل مَنْ كَفَل به إِلى المَفْكول له، وتسليم مَنْ يَقوم مقام الكفيل ـ وهو وكيله ـ، ومَنْ هو سفيرٌ عنه ـ وهو رسوله ـ كتسليم الكفيل، لأَن فعلهما كَفِعْلِهِ (حَيْثُ يُمْكِنُهُ) أَي في مكانٍ يمكن المكفول له (مَخَاصَمَتُهُ) أَي مخاصمة المكفول به، لأَنه أَتى بما التزمه، وهو تسليم المكفول به في مكانٍ يحصل فيه المقصود، ولا حاجة إِلى إِبقاء الكفالة، لأَنه لا يلزم تسليمه أَلاَّ مرةً واحدةً.

أَما لو سَلَّمه في بَرِّيةٍ أَوْ سَوَاد

(2)

لم يبرأَ، لأَنه لا يقدر على المخاصمة فيها لعدم الحاكم. ولو سَلَّمه في السِّجن وقد حبسه غير الطالب لا يبرأُ الكفيل. وقال مالك:(يبرأُ. وقال)

(3)

أَحمد: إِنْ كان في سجن القاضي الذي يرفع الحكم إِليه يبرأ وإِلا فلا. ولو سَلَّمه في مصرٍ آخر غير الذي عينه في الكفالة بَرِاءَ عند أَبي حنيفة وبعض أَصحاب أَحمد، ولم يبرأ عند أَبي يوسف ومحمد، وبه قال مالك والشافعي وأَحمد.

ثم التسليم يكون بالتخلية بينه وبين الطالب وذلك برفع الموانع. وبقوله له: سَلَّمْتُ إِليك بِحُكْم الكَفالة، حتى لو لم يقل ذلك لم يبرأ، لأَن التسليم قد يكون بغير حكم الكفالة، فلا بد مِنْ أَنْ يقول ذلك إِلاَّ إِذا سَلَّمه بعد الطلب، لدلالة الطلب على أَنْ التسليم بِحُكْم الكَفَالة. ولو سلم الكفيلُ المكفول به إِلى الطالب فأَبى أَنْ يقبله، يجبر على القبول، ويترك

(4)

قابضاً بالتخلية، كالغاصب إِذا رَدَّ المغصوب أَوْ قيمته، والمديون إِذا قضى الدَّيْن.

(1)

وفي المخطوط: الضامن.

(2)

حرِّفت في المطبوع إلى سوداء، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب. والسواد في البلد: قراه، يقال: خرجوا إلى سواد المدينة: وهو ما حولها من القرى والريف، ومنه سواد العراف. "المعجم الوسيط" ص 461 مادة:(ساد).

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(4)

في المخطوط: وينزل.

ص: 497

وبِتَسْلِيمه نَفْسَه هُنَا، وإن شَرَطَ تَسْلِيمَهُ عِنْدَ القَاضِي.

وإِنْ ماتَ المَكْفُول لَهُ فَلِوَصِيِّه أَو وارِثِهِ مُطَالَبَتُهُ بهِ، وإِنْ كَفَل بِنَفْسِه عَلَى أَنَّه إِنْ لم يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيهِ المَالُ، صَحَّ. فإِن لَمْ يُسَلِّم غَدًا، ضَمِنَ المَالَ ولَمْ يَبْرَأَ من كَفَالَتِهِ بالنَّفْسِ. وإِنْ مَاتَ المَكْفُولُ عَنْهُ ضَمِنَ المَالَ.

===

(و) بَراءَ أَيضاً من الكفالة (بِتَسْلِيمه) أَي المكفول به (نَفْسَه) إِلى المكفول له (هُنَا) أَي حيث يُمَكَّن المكفول له مخاصمة المكفولِ به لحصول المقصود. ولا بد أَنْ يقول عند تسليم نفسه: سَلَّمت إِليك بِحُكْم الكفالة، لما قدمنا (وإِن شَرَطَ تَسْلِيْمَهُ عِنْدَ القَاضِي)«إِنْ» للوَصْل بالمسأَلتين السابقتين. وإِنما بَرِاء بالتسليم عند غير القاضي مع شرط التسليم عنده، لأَن المقصود هو التسليم على وجه يتمكن المكفول له من إِحضاره إِلى مجلس الحكم وقد وجد. وقيل: لا يبرأ في زماننا إِذا شَرَط تسليمَه في مجلس القاضي فسلم في غيره مما يمكن مخاصمته فيه، كالسوق، وهو قول زُفَر، وبه يُفْتَى، لأَن أَكثر النَّاس في زماننا يُعِينُون المطلوب على الامتناع من الحضور إِلى مجلس القاضي للعناد وغلبة الفساد، فكان التقييد بمجلس القاضي مفيداً.

(وإِنْ ماتَ المَكْفُول لَهُ) لم تَبْطُل الكَفالة (فَلِوَصِيِّه أَوْ وَارِثِهِ مُطَالَبَتُهُ بهِ) أَي مطالبة الكفيل بالمَكْفُول به، لأَن وَصِيَّهُ قائِمٌ مقامه في استيفاء حقوقه، ووارِثُه خليفتُه فيها، بخلاف الكفيل بالنفس حيثُ تَبْطُل الكفالة بموته، لأَن التسليم منه لا يمكن، ووارثه ووصيه لا يقومان مقامه إِلاَّ فيما له، والكفالة عليه.

(وإِنْ كَفَل بِنَفْسِه عَلَى أَنَّه) أَي الكفيل (إِنْ لم يُوَافِ بِهِ) أَي بالمكفول بنفسه إِلى الطالب (غَدًا فَعَلَيْهِ المَالُ) الذي على المكفول (صَحَّ) هذا العقد بما اشتمل عليه مِنْ كفالتي النفس والمال. وقال مالك والشافعي: لا يصح (فإِن لَمْ يُسَلِّم) الكفيل المكفول بنفسه إِلى الطالب (غَداً) مع قدرته (ضَمِنَ) الكفيل (المَالَ) لوجود الشرط، (ولَمْ يَبْرَأْ من كَفَالَتِهِ بالنَّفْسِ) إِذْ لا منافاة بين الكفالتين، ولهذا لو كفل بهما جميعاً صحت، وقد صحت الكفالة بالنفس فلا يبرأ منها إِلاَّ بالموافاة بها ولم توجد.

(وإِنْ مَاتَ) أَوْ جُنَّ (المَكْفُولُ عَنْهُ) اللام للعهد، والمعهود هو المكفول بنفسه الذي شرط كفيله أَنه إِنْ لم يواف به غداً فعليه ما عليه من المال، (ضَمِنَ) الكفيل (المَالَ) لتحقق الشَّرْط، وبرِاء من الكَفَالة بالنفس لموت المكفول بنفسه.

ص: 498

وإما بالمال، فَتَصِحُّ وإِنْ جُهِلَ المَكْفوْلُ بِهِ إِذَا صَحَّ دَيْنُهُ، نَحْو: كَفَلْتُ بِمَا لَكَ عَلَيهِ، أَو بِمَا يدْرَكُ في هذا البَيْعِ، أَوْ عَلَّقَ الكَفَالَةَ بِشَرْط مَلاِئم نحو: ما بايعت فُلانًا، أَو مَا ذَابَ لَكَ عَلَيهِ، أَو مَا غَصَبَكَ. وإِنْ عَلَّقَ بِمجَرَّدِ الشَرْطِ فَلا، كـ: إن هَبَّتِ الرِّيْحُ.

===

(وإِمَّا بِالمَالِ،) عَطْفٌ

(1)

على «إِمَّا بالنفس» (فَتَصِحُّ) الكفالة (وإِنْ جُهِلَ المَكْفُوْلُ بِهِ إِذَا صَحَّ دَيْنُهُ) قيد به احترازاً عن بدل الكِتابة

(2)

، لأَنه ليس بِدَيْنٍ صحيحٍ، لأَن الدَّيْن الصحيح لا يسقط إِلاَّ بالأَخْذِ أَوْ الإِبْرَاء، وبدل الكتابة يسقط بغيرهما: وهو عَجْزُ المكاتَب، أَوْ لِثُبُوْتِهِ في ذِمَّةِ المكاتَب مع المُنَافي، لأَنه عندما بَقِي عليه دِرْهَمٌ والمولى لا يستوجب على عبده دَيْنَاً إِلاَّ أَنه لحاجته إِلى العِتْق يثبت الدَّيْن، فكان ثَابِتَاً في حَقِّه لا في حق صِحَّة الكفالة. وقال الشافعي ـ في الجديد ـ والثوري، والليث، وابن أَبي لَيْلَى، وابن المُنْذِر: لا يصح ضمانُ المجهول، لأَن الضمان التزام مال فلا يصح إِذا كان المال مجهولاً، كالثمن في البيع.

ولنا قوله تعالى: {ولِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيْرٍ وأَنَا بِهِ زَعِيْمٌ}

(3)

، وحِمْلُ البعير يختلف باختلاف البعير (نَحْو: كفلت بِمَا لَكَ عَلَيْهِ) وهُوَ لا يعلم كم له عليه (أَوْ بِمَا يُدْرَكُ في هذا البَيْعِ) وهو لا يعلم ما يدركه فيه، وهذه كفالة الدَّرَك وهي جائزةٌ بالإِجماع. والدَّرَك: التبعة، يُسَكَّنُ ويُحَرَّك.

(أَوْ عَلَّقَ الكَفَالَةَ) عطف على «جهل المكفول به» ، أَي وتصح الكفالة بالمال إِنْ عَلَّقها الكَفِيْل (بِشَرْطٍ مَلائِم نحو: ما بايعت فُلَانَاً) فَعَلَيَّ ثمنه (أَوْ مَا ذَابَ) أَي وجب وثبت، مُسْتَعَارٌ من ذَاب الشَّحْم (لَكَ عَلَيْهِ) أَي على فلان فَعَلَيّ (أَوْ مَا غَصَبَكَ) فُلانٌ فعليّ. قيد «بفلان» إِشارة إِلى أَنْ المكفولَ عنه يجب أَنْ يكون معلوماً، لأَن جهالته تمنع صحة الكفالة نحو: ما غَصَبَكَ أَحدٌ فَعَلِيّ. وقيد الشرط «بالملائم» لأَن غيرَه لا يصح تعليق الكفالة به، وفسروا الشرط الملائم بما يكون شرطاً لوجوب الحق: كإِن استُحِق المبيع، أَوْ شرطاً لإمكان الاستيفاء: كإِنْ قدِم زيدٌ، وهو مكفول عنه، أَوْ شَرْطَاً لِتَعَذُّرِ الاستيفاء: كإِنْ غاب عنِ البلد.

(وإِنْ عَلَّقَ) الكفيل الكفالة (بِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ) أَي بِشَرْطٍ غير ملائم (فَلَا) أَي فلا تصح الكفالة ولا يجب المال، ذكره قاضيخان وغيره (كـ: إِنْ هَبَّتِ الرِّيْحُ) أَوْ: إِنْ جاء

(1)

وهي الفقرة التي تقدم ذكرها ص 494.

(2)

بَدَلُ الكتابة: اسم مصدر بمعنى المكاتَبة، وهي عَقْدٌ بين الرقيق ومالكه على مالٍ يؤدّيه الرقيق لِمَالِكه على أَقساطٍ، فإذا أَدَّاها فهو حُرٌّ. معجم لغة الفقهاء ص 377.

(3)

سورة يوسف، الآية:(72).

ص: 499

وإِنْ كَفَل بما لك عليه ضَمِنَ ما قَامَتْ بِهِ بِيِّنَةٌ، وإِنْ لَمْ تَقُمْ، فالقَوْلُ للكفيلِ. وَلَوْ أَقَرَّ صُدِّقَ الأَصِيْلُ في الزِّيادة عَلَى نَفْسِهِ فَقَط. فإِذَا طَالَبَ الدَّائِنُ أَحَدَهُمَا فَلَهُ مُطَالبَةُ الآخَرِ.

وتَصحُّ بِأَمْرِ الأَصِيلِ وبِلا أَمْرِهِ

===

المطر، أَوْ: إِنْ دخل زيدٌ الدار. ولو جعل الأجل في الكفالة إِلى هبوب الريح ونحوه، ولا يصح التأْجيل، وتصح الكفالة ويجب المال حالاً. وعند الشافعي وأَحمد لا تصح الكفالة. ثُم مذهب الشافعي: أَنْ تعليق الكفالة بالشرط لا يصح مطلقاً، لأَنه تعليقُ المال بالخطر.

ولنا الإِجماع على صحة الكفالة بالدَّرَك، وهي مضافة إِلى سبب الوجوب بالاستحقاق، وقوله تعالى:{ولِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيْرٍ وأَنا بِهِ زَعِيْمٌ}

(1)

حيث علق الكفالة بِشَرْط مجيء الصُّواع

(2)

، وشريعة مَنْ قبلنا ـ إِذا قَصَّ الله علينا بلا إِنكار ـ شَرِيعةٌ لنا. ثُم الكفالة بالنفس كالكفالة بالمال في جواز تعليقها بِشَرْطٍ ملائمٍ، وعدم جوازه بِشَرْطٍ غير ملائِمٍ، وجواز تأْجليها إِلى أَجلٍ معلومٍ وبمجهولٍ جهالةً يسيرةً، كالتأَجيل إِلى العطاء، وإِلى قدوم الحاج، لا إِلى هبوب الريح ونحوه، فإِن أَجَّل إِليه بطل الأجل دون الكفالة، ولزِم تسليم النفس في (الحال)

(3)

.

(وإِنْ كَفَل بما لك عليه ضَمِنَ ما قَامَتْ بِهِ بِيِّنَةٌ) لأَن الثابت بالبينة كالثابتِ بالعِيان (وإِنْ لَمْ تَقُمْ) بيّنةٌ (فالقَوْلُ للكفيلِ) في قَدْر مَا أَقَرَّ به، لأَنه مُنْكِرٌ للزيادة، والقول قول المُنْكِر مع يمينه (وَلَوْ أَقَرَّ) الأَصيل بأَكثر مِمَّا أَقَرَّ الكفيل (صُدِّقَ الأَصِيْل في الزِّيادة عَلَى نَفْسِهِ) لأَن له ولايةً عليها (فَقَط) أَي لا يُصَدَّق على الكفيل، إِذْ لا ولاية له عليه.

(فإِذَا طَالَبَ الدَّائِنُ أَحَدَهُمَا) أَي الأَصيل أَوْ الكفيل (فَلَهُ) أَي للدائن (مُطَالبَةُ الآخَرِ) لأَن الكفالة ـ كما مَرَّ ـ ضَمُّ ذِمةٍ إِلى ذِمةٍ في المطالبة، وذلك يقتضي قيام المطالبة الأُولى لا البراءة عنها، إِلاَّ إِذا شرط البراءة عنها، فإِن الكفالة حينئذٍ تكون حوالةً اعتباراً للمعنى، كما أَنَّ الحَوَالة بِشَرْطِ أَنْ لا يبرأَ بها المُحِيل تكون كفالةً.

(وتَصِحُّ) الكفالة (بِأَمْرِ الأَصِيْلِ وبِلَا أَمْرِهِ) لأَنَّها تَصَرُّفٌ من الكفيل في نفسه بالتزام أَنْ يطالبه الدائن، ولا ضرر على الأَصِيل في ذلك، فإِن أَمَرَ الأَصِيْل الكفيل

(1)

سورة يوسف، الآية:(72).

(2)

صُوَاع المَلِك: إِناء يُشْرَبُ به ويُكالُ به. مفردات أَلفاظ القرآن ص 499.

(3)

في المطبوع: المال، وما أَثبتناه من المخطوط.

ص: 500

وإِنْ لُوْزِمَ لازَمَ أَصِيْلَهُ، وإن حُبِسَ حَبَسَهُ. وإبْرَاؤهُ وتَأْجيلُهُ يَسْرِي لا عَكْسُهُ.

فإن صَالَحَ الكَفِيلُ عَنْ أَلِفِ عَلَى مِئةٍ، بَرِئَ وَرَجَعَ بِهَا، وعَلَى جِنْسٍ آخَرَ بالأَلْفِ، وعَنْ مُوْجَبِ الكَفَالَةِ لا يَبْرأُ الأَصَيْل.

ولا يَصِحُّ تَعْلِيقُ البَرَاءَةِ عَنْهَا بِشَرْط كَسَائِرِ البَرَاآتِ، ولا الكَفَالَةُ بالحُدُودِ

===

بالكفالة، رجع الكفيل بالكفالة عليه بعد أَدائه بِمَا ضَمِنَهُ، سواءٌ أَدى بما ضَمِنه أَوْ أَدَّى خِلَافَهُ، حتى لو كفل بأَلفٍ جيادٍ وأَدَّى أَلفاً زُيوفاً

(1)

برضاءِ الطالب رجع بالجياد، ولو كفل بأَلْفٍ زُيوفاً وأَدَّى جِيَاداً يرجع بالزيوف. أَما رُجُوعه على الآمِر فلأَنه أَدَّى دَيْنَهُ بِأَمْرِه فيرجع به عليه، وأَما بِمَا ضَمِنه فلأَن رجوعَه بِحُكْم الكفالة، فكان بِمَا دَخَل تحتها. (وإِنْ لُوزِمَ) الكفيل بالمال من جهة الدائن (لَازَمَ) الكفيل (أَصِيْلَهُ،) حتى يخلِّصه (وإِن حُبِسَ) الكفيل (حَبَسَهُ) أَي حبس الكفيلُ أَصيلَه، لأَن ما لَحِقَه إِنَّما هو من جهته فيعامله بمثله.

(وإِبْرَاؤهُ) أَي إِبراء الدائن الأَصيل (وتَأْجيلُهُ) أَي تأَخير الدَّين عن الأَصيل (يَسْرِي) أَي إلى الكفيل، لأَن الكفيل ليس عليه إِلاَّ المطالبة، وهي تَبَعٌ للدَّيْن فتسقط بسقوطه وتتأَخَّر بِتأَخُّرِه (لا عَكْسُهُ) أَي ليس إِبراء الكفيل أَوْ تأَجيله عنه يَسْرِي إِلى الاَّصِيل، لأَن ما على الكفيل فَرْعٌ لِمَا على الأَصيل، وسقوط الفَرْع وتَأَجِيله لا يوجِب سقوطَ الأَصْل أَوْ تأَجيله.

(فإِن صَالَحَ الكَفِيْلُ) الدائن (عَنْ أَلِفٍ عَلَى مِئةٍ بَرِاءَ) الأَصِيْل، لأَن الكَفِيْل أَضَاف الصُّلْح إِلى الأَلف التي على الأَصِيل، فَبَرِاءَ الأَصِيل وبَرِاءَ الكفيل أَيضاً، لأَن براءة الأَصِيل تُوْجِب براءة الكفيل (وَرَجَعَ) الكفيل على الأَصِيل (بِهَا) أَي بالمئة إِنْ كفل بِأَمْرِهِ، لأَنها القَدْر الذي أَوفاه. (و) إِنْ صالح الكفيل عن أَلْفٍ (عَلَى جِنْسٍ آخَرَ) رجع على الأَصِيل (بالأَلْفِ) لأَن الصلح بِجِنْسٍ آخَرَ مبادلةٌ بالدَّيْن، فيملك الكَفِيلُ الدَّيْن فيرجع بكُلِّه على الأَصِيل. وقال مالك والشافعي وأَحمد: يَرْجع بالأَقل من الدَّيْن ومن قيمة ما دَفَعَ، (و) إِنْ صالح الكفيل الدائن (عَنْ مُوْجَبِ الكَفَالَةِ لا يَبْرَأُ الأَصَيل) لأَن هذا إِبراء الكفيل وحْدَه، لأَن موجَب الكفالة ليس إِلا مطالبة الكفيل.

(ولا يَصِحُّ تَعْلِيْقُ البَرَاءَةِ عَنْهَا) أَي عن الكفالة (بِشَرْطٍ) لأَن في الإبراء عنها معنَى التَّمْلِيك، فلا يُقْبَلُ التَّعْلِيقُ (كَسَائِرِ البَرَاآتِ، ولا) تصح (الكَفَالَةُ بالحُدُودِ

(1)

الزائف من الدراهم: هي الدراهم الرديئة التي يردّها بيت المال ولا يقبلها لِعِلَّة فيها. معجم لغة الفقهاء ص 235.

ص: 501

والقِصَاص وبِالمَبِيع، بِخِلافِ الثَّمَنِ. وبالمَرْهُوْنِ، والأَمَانَاتِ كالوَدِيعَةِ، والعَارِيَّةِ، والمُسْتَأَجَرِ، ومَالِ المُضَارَبَة، والشرِكَةِ، وبالحَمْلِ عَلَى دَابَّةٍ مُسْتأَجَرَةٍ لِلْحَمْلِ لا عَبْدٍ كذا. وعَنْ مَيِّتٍ مُفْلِسٍ،

===

والقِصَاصِ) لأَن الكفالة إِنَّما تصح بما تَجْرِي النيابة في إِيفائه، والنيابة لا تَجْرِي في العقوبات، لأَن الغرض مِنْ شَرْعها زَجْرُ المفسدين عن الفساد، وهو لا يتحقق إِذا أُقيم على غير الجاني. (و) لا تصح الكفالة (بِالمَبِيع) عن البائع، لأَنه قبل القَبْض مضمونٌ بغيره، وهو الثَّمَن، أَلا ترى أَنه لو هلك لا يجب على البائع شيءٌ بل يُفسخ البيع، والمضمون بغيرِه مضمونٌ بِوَجْهٍ دون وجه، فلا تَصِحُّ الكفالة به للشَكِّ (بِخِلَافِ الثَّمَنِ) فإِنه تصح الكفالة به عن المُشْتَرِي، لأَنه دَيْنٌ كسائر الدُّيون.

(و) لا تصح الكفالة (بالمَرْهُوْنِ) لأَنه مضمونٌ بغيره، وهو الدَّيْن، يَسْقُط به إِذا هلك (والأَمَانَاتِ) لأنها غيرُ مضمونةٍ أَصْلاً (كالوَدِيْعَةِ، والعَارِيَّةِ، والمُسْتَأْجَرِ، ومَالِ المُضَارَبَة، والشَّرِكَةِ) وعند أَبي يوسف ومحمد العَيْنُ في يَدِ الأَجِيْر المُشْتَرَك مضمونةٌ، فتصح الكفالة بها عندهما (و) لا (بالحَمْلِ عَلَى دَابَّةٍ مُسْتأْجَرَةٍ لِلْحَمْلِ) معينةٍ، و (لا) بخدمة (عَبْدٍ كذا) أَي مُسْتَأْجَرٍ للخدمة مُعَيَّنٍ، لأَن الكفيل عاجِزٌ عن تسليم العبد والدَّابة، لكونهما مِلْك غيره. قيدهما «بالتَّعيين» إِذْ لو كانا غَيْرَ مُعَيَّنين صحت الكفالة فيهما، لأَن المستحق حينئذٍ الحَمْلُ على دابةٍ، وخدمةُ عَبْدٍ، ويقدر الكفيل على إِيفاء ذلك: بأَن يحمل على دابة نفسه، ويخدُم بِعَبْد نَفْسِه.

(و) لا تصح الكفالة (عَنْ مَيِّتٍ مُفْلِسٍ) أَي لم يترك مالاً ولا كفيلاً عنه وعليه دَيْنٌ، سواء كان الكفيل أَجْنبياً أَوْ وارِثاً، وهذا عند أَبي حنيفة. وقال أَبو يوسف، ومحمد، ومالك، والشافعي وأَحمد: تصح، لأَنه عليه الصلاة والسلام أُتي بِجَنَازَةِ أَنْصَارِي، فقال:«هَلْ على صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ؟» فقالوا: نَعْم، دِرْهَمَان، أَوْ دِيْنَارَان. فقال:«صَلُّوا عَلَى صاحِبِكُم» . فقال أَبو قَتَادة: هو عليَّ ـ وفي روايةٍ: «هما عليَّ يا رسول الله، ـ فَصَلَّى عَلَيْه»

(1)

. ولو لم تصح الكفالة لَمَا صَلَّى عليه بعدها. ولأَنها كفالةٌ بِدَيْنٍ واجبٍ فتصح كما لو كانت في حياته، ولأَن الدَّيْن لا يسقط إِلاَّ بالإيفاء أَوْ الإِبراء، أَوْ انفساخ سبب الوجوب، وبالموت لم يتحقق شيءٌ من ذلك، ولهذا يؤاخذ به في الآخِرة، ولا يبرأُ كفيله في حياته بموته. ولو تبرع إِنسانٌ بقضائه صح.

ولأبي حنيفة أَنْ الكفالة عن الميت المُفْلِس كَفَالَةٌ بِدَيْنٍ سَاقِط، والكفالة بِدَيْنٍ

(1)

أَخرجه أَبو داود في سننه 3/ 638 - 639، كتاب البيوع والإِجارات (22)، باب في التشديد في الدَّين (9)، رقم (3343).

ص: 502

ولا بِلا قَبُولِ الطَّالِبِ في المَجْلِسِ، إِلَّا إِذَا كفل عَنْ مُوَرِّثِهِ في مَرَضِهِ مَعَ غَيبَةِ غُرَمَائهِ، وبِمَالِ الكِتَابَةِ والعُهْدةِ

===

ساقط باطلة، لأَن صحة الكفالة تقتضي قيام الدَّيْن في حق أَحكام الدنيا ليتحقق معنى الكفالة، التي هي ضَمُّ الذِّمة إِلى الذِّمة في المطالبة، وإِنما لم يبرأْ بِمَوْتِهِ كفيله في حياته، لأَنه كان خَلَفه في الاستيفاء منه، فَجُعِلَ الدَّيْن باقياً في حَقّه، كما لو كان للميت مالٌ. وصح التبرع بقضائه، لأَن صحة تمليك المال لا يتعلق بوجود الدَّيْن، والحديثُ يحتمل أَنْ يكون إِقراراً بكفالةٍ سابقةٍ، فإِنَّ لفظ الإِقْرار والإِنشاء في الكفالة سواءٌ، ولا عموم لحكاية الفعل، ويحتمل أَنْ يكون وَعْداً لا كفالةً، وكان امتناعه عليه الصلاة والسلام من الصلاة عليه ليُظْهِر طريق قضاء ما عليه، فلما ظهر بالوعد، صَلَّى عليه.

(ولا) تصح الكفالة سواءٌ كانت بالنفس أَوْ بالمال (بِلَا قَبُولِ الطَّالِبِ في المَجْلِسِ) أَي مجلس العَقْد، وهذا عند أَبي حنيفة ومحمد. وقال أَبو يوسف: تصح. واختلف المشايخ على قوله، فقيل: عنده تصح بِوَصْف التوقف، حتى إِنْ رَضِي به الطالب بعد القيام من المَجْلس نفذ، وإِنْ لم يرض به بطل. وقيل: بِوَصْف النفاذ، ورِضَى الطالب ليس بشرطٍ عنده، وهو الأصح.

إِلاَّ أَنْ للطالب حَقَّ الرَّد (إِلاَّ) في مسأَلة واحدةٍ، وهي (إِذَا كفل) وَارِثٌ (عَنْ مُوَرِّثِهِ في مَرَضِهِ) بأَن قال مريض لِوَارِثِه: تَكَفَّل عني بما عَلَيّ مِنْ الدَّيْن لِغُرَمَائِي، فتكَفَّل عنه (مَعَ غَيْبَةِ غُرَمَائِهِ) وكان القياس على قولهما أَنْ لا تصح الكفالة في هذه المسأَلة أَيضاً، لأَن الطالب غير حاضر، ولأَن الصحيح لو قال هذا لِوَارِثِهِ فَضَمِنَه، لم يصح، فكذا المريض.

ووجه الاستحسان أَنَّ هذا إِنَّما يصح بطريق الوصية من المريض لِوَارِثِه أَنْ يَقْضِي دَيْنَه، لا بطريق الكفالة عنه، ولهذا صح وإِن لم يُسم المَريض الدَّيْن ولا رَبّ الدَّيْن، لأَن الجهالة لا تمنع صحة الوصية. وقالوا: إِنما تَصِحُّ إِذا كان له مَالٌ. ولو قال المريض لأَجنبي: تَكَفَّل عني بِمَا عَلَيّ مِنْ الدَّيْن،. فَتَكفَّل عنه، اختلف المشايخ: فقيل: لا تصح، وقيل: تصح.

(و) لا تصح الكفالة (بِمَالِ الكِتَابَةِ) وهو قول أَكثر أَهْل العِلمْ، وعن أَحمد في روايةٍ تصح (والعُهْدةِ) ـ بالجر ـ أَي ولا تصح الكفالة بالعهدة. وصورتُهَا: أَنْ يشتري عبداً فيضمن له آخِرَ عُهْدَتِه. وإِنما لم يصح ذلك لأَن العُهْدة اسمٌ يقع على الصَّكِّ القديم، وهو مِلْك البائع ولا يلزمه تسليمُه، فإِنْ ضَمِن الكفيل بتسليمه إِلى المُشْتَرِي فقد ضَمِن ما لا يَقْدِرُ عليه، ويقع على العَقْد، وعلى حقوقه، وعلى

ص: 503

والخَلاصِ. ولا ضَمَانُ المُضَارِبِ الثَّمَنَ، والوَكِيلِ بِالبَيعِ لِمُوَكِّلِهِ، وأَحَدِ البَائِعَيْنِ حِصَةَ صَاحِبِهِ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ بَاعَاهُ بِصَفْقَةٍ.

وَصَحَّ كَفَالَةُ الخَرَاج

===

الدَّرَك

(1)

، وعلى خِيار الشَّرْط

(2)

، فبطلت كَفالته للجهالة، بخلاف الدَّرَك، فإِنَّ كفالته صحيحةٌ بالإِجماع، لأَنه عبارةٌ عن ضمان الثمن عند استحقاق المبيع، وهو أَمْرٌ، معلومٌ مَقْدُور التسليم (والخَلَاصِ) أَي ولا تصح الكفالة بالخلاص، وهذا عند أَبي حنيفة. وعندهما تصح.

وهذا الخلاف مبنيٌ على تفسيره: فعندهما: هو تَخْلِيص البائع إِنْ قَدَرَ عليه، ورَدُّ ثمنه إِنْ لَمْ يَقْدِر، وهذا ضمان الدَّرَك في المعنى. وعنده: تخليصُ المبيع عن المستحق، وتسليمُه إِلى المشتري، والكفيل لا يَقْدِرُ على ذلك، لأَن المستحِقّ لا يُمَكِّنه منه. ولو كفل بتخليص المبيع أَوْ رَدِّ الثمن صح، لأَنه كفل بما يمكنه الوفاء، وهو تسليم المبيع إِنْ أَجاز المستحِق، ورَدُّ الثمن إِنْ لم يُجِز.

(ولَا) يصح (ضَمَانُ المُضَارِبِ الثَّمَنَ) أَي ثمن سلعة المضاربة لربِّ المال، (و) لا ضمان (الوَكِيْلِ بِالبَيْعِ) الثمن (لِمُوَكِّلِهِ) لأَن الضمان التزامُ المطالبة، وهي للوكيل والمضارب، لأَنها من حقوق البيع، وهما عاقدان له، وحقوق البيع لا ترجع إِلاَّ على العاقد، فلو صَحَّ ضمان الثمن منهما، لكان كُلٌّ منهما ضامناً لنفسه، وأَنه لا يجوز.

(و) لا يصح ضمان (أَحَدِ البَائِعَيْنِ حِصَّةَ صَاحِبِهِ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ) مثلاً (بَاعَاهُ بِصَفْقَةٍ) لأَنه بضمانها شَائِعَاً يصيرُ ضَامِنَاً لِنَفْسِه، إِذْ ما مِنْ جزءٍ يؤدِّيه المشتري إِلاَّ وهو مُشْتَرَكٌ بينهما، وضمان الإِنسان لنفسه بَاطِلٌ، وبضمانها مُعَيّنَاً يصيرُ قَاسِمَاً للدَّيْن قبل قبضه، حيثُ مَيَّزَ نصيبَ صاحبه عن نصيبه. وقسمةُ الدَّيْن قبل قبضه باطلةٌ، لأَن القِسْمة إِقرارٌ وحيازةٌ: بأَن يصير حَقُّ كل واحدٍ منهما في حَيِّز على حِدَة، ولا يُتَصوَّرُ هذا إِلاَّ في حِسِّي، والدَّيْن ليس بِحِسِّي. قيد بصَفْقة، لأَنهما لو بَاعَاهُ بِصَفْقتين: بأَن سَمَّى كُلُّ واحِدٍ منهما لنفسه ثمناً، ثُم ضَمِن أَحَدُهما للأَخَر، صَحَّ ضمانُهُ، إِذْ لا شَرِكة بينهما، لأَن نصيب كُلِّ واحدٍ منهما ممتازٌ عن نصيب الآخر.

(وَصَحَّ كَفَالَةُ الخَرَاجِ) أَي ضمانه كما في نسخة. والمراد به الخَراج الموظف، كما في بعض شروح «الهداية» ، لأَنه دَيْنٌ لازِمٌ يُحْبس به، ويُلازم لأَجْله، ويَمْنَعُ وجوب

(1)

الدَّرَك: ما يأْخذه المشتري من البائع رهنًا بالثَّمن خوفًا من استحقاق المبيع. معجم لغة الفقهاء ص 208.

(2)

خيارُ الشَّرط: وسببه: أَن يشترط أَحد المتعاقدين أَو كلاهما أَن يكون له حق فسخ العقد إِلى مدّة معينة. معجم لغة الفقهاء ص 202.

ص: 504

والنَّوَائِبِ والقِسْمَةِ، وإِنْ كَانَتْ بِغَيرِ حَقٍّ. ومَالٌ لا يَجِبُ عَلَى عَبْدٍ حَتَّى يُعْتَقَ حَالٌّ عَلَى مَنْ كَفَلَ بِهِ مُطْلَقًا

===

الزكاة، ويطالب به أَشد المطالبة، فكان كسائر الديون، بخلاف الزكاة حيث لا يصح ضمانُهَا وإِنْ كانت دَيناً مطالباً به، لأَن الواجب فيها فِعْلٌ هو عبادةٌ، والمال محلٌ لإقامتها، ولهذا لا تُسْتَوْفَى مِنْ تركة مَنْ هي عليه بلا وصيةٍ، كما تُسْتَوْفى سائر الديون.

(و) صح كفالة (النَوَائِبِ) جَمْعُ نائبة، وهي ما ينوب الإِنسان ويُطالب به: إِما بحقَ: كأُجْرَةِ الحارس المشتَرَك، وكَرْي

(1)

النهر المشترك، وما وظفه الإمام عند الحاجة إِلى تجهيزِ جيشٍ لقتال المشركين، أَوْ إِلى فِدَاءِ أُسارى المسلمين في وقت خلوِّ بيت المال، وهذا النوع تصح الكفالة به بالاتفاق، لأَنه مالٌ مضمونٌ.

وإِما بغير حق: كالجِبَايَات التي تؤخذ على غير ما ذكرنا، وهذه لا تصح الكفالة بها عند صدر الإِسلام البَزْدَوِي، وفي مذهب مالك والشافعي وأَحمد، لأَنَّ الكفالة التزامُ المطالبة بما على الأَصيل شرعاً، ولا شيء من هذه على الأَصيل كذلك. وتصح عند فخر الإسلام عليّ البَزْدَويّ، وشمس الأَئمة وقاضيخان، لأَنها في حق المطالبة فوق سائر الديون، والعبرة في باب الكفالة للمطالبة، لأَنها شرعت لالتزامها، ولهذا قالوا: مَنْ قام بتوزيع هذه النوائب على المسلمين بالقِسْط يُؤجر وإِن كان الأَخْذُ ظُلْمَاً. وقالوا: إِنْ مَنْ قضى نائبة غيره بأَمره رجع عليه وإِن لم يشترط الرجوع، كَمَنْ قضى دين غيره بأَمره. وقال المصنف: والفتوى على الصحة كما في الديون الصحيحة. وقال الطرابلسي: المذهب عدم صحتها.

(و) صَحَّ كفالة (القِسْمَةِ) وهي حصة الواحد من النوائب (وإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ حَقَ) قَيْدٌ للمسأَلتين، وإِنما صح ضمانها لأَن كل واحدٍ مطالب بنفسه محبوس به. وقيل: المراد بها النائبة الموظفة في كلِّ شهر، أَوْ نحوه، وبالنوائب ما ينوب من غير توظيف بل يلحق أَحياناً، ويحتمل أَنْ يقع ويحتمل أَنْ لا يقع.

(ومَالٌ) مبتدأ (لَا يَجِبُ عَلَى عَبْدٍ حَتَّى يُعْتَقَ) صفته، والخبر (حَالٌّ عَلَى مَنْ كَفَلَ بِهِ مُطْلَقَاً) أَي من غير تسميةِ حلول ولا تأجيل. أَما لو كَفَلَ بذلك المال مؤجلاً تَأَجَّلَ في حَقِّه، لأَنه التزم المطالبة به مؤجلاً فيلزمه كذلك. وقَيَّد «بعدم الوجوب على العبد حتى يعتِق» لأَنه محل الاشتباه، بخلاف المال الذي يجب على العبد في

(1)

كَرَى النهر: حفره. مختار الصحاح، ص 237 مادة (كرى).

ص: 505

وبَطَلَ دَعْوَى ضَامِنِ الدَّرَكِ وشَاهِدِ كَتَبَ: شهِدَ بذلك على صَكٍّ كُتِبَ فيه: بَاعَ مِلْكَهُ، بِخِلافِ شَاهِدٍ كَتَبَ: شَهِدَ عَلَى إِقْرَارِ العَاقدَينِ.

===

الحال، كدين الاستهلاك عيانا، ودين لزم بالتجارة بإِذن المولى، فإِن كفَالة الكفيل به مطلقاً تصح، ويكون على الكفيل به مطلقاً في الحال بلا شبهة (وبَطَلَ دَعْوَى ضَامِنِ الدَّرَكِ) أَنَّ الدار المبيعة مِلْكُهُ، لأَن كفالته بالدَّرَكِ ـ وهو رَدُّ الثَّمن عند استحقاق المبيع ـ تَسْلِيْمٌ للمبيع وتصديق بأَنه ملك البائع، فدعواه بعد ذلك أَنْ المبيع مِلْكُهُ سَعْيٌ في نَقْض ما تَمَّ من جهته فلا تسمع، ولهذا لو كان شَفِيْعَاً تبطل بضمان الدَّرَك في البيع شُفْعَتُهُ.

(و) بطل دعوى (شَاهِدٍ) على البيع أَنْ المبيع مِلْكه، وقد كان ذلك الشاهد (كَتَبَ: شَهِدَ بذلك على صَكَ كتب فيه: بَاعَ مِلْكَهُ) أَوْ كُتِب فيه: باعه وهو يَمْلِكُه، أَوْ باعه بَيعَاً باتّاً نَافِدَاً، لأَن في شهادته بذلك اعترافاً بأَنَّ الملك للبائع، ودعواه المبيعَ بعد ذلك نَقْضٌ له (بِخِلَافِ) دعوى (شَاهِدٍ) أَنْ المبيع ملكه، وقد كان (كَتَبَ) على صك كُتِبَ فيه: باع فلانٌ ملكه (شَهِدَ عَلَى إِقْرَارِ العَاقدَيْنِ) فإِنَّ دعواه: أَنَّ المبيع مِلْكه لا تَبْطُل، لأَن هذه الشهادة ليس فيها اعترافٌ من الشاهد بالملك للبائع، إِذْ البيع قد يوجد من غير المالك.

ولو أَمر المكفول عنه كفيله أَنْ يعيَّن عليه ثوباً ففعل، يكون الثوب للكفيل والربح عليه. وتفسير المسأَلة: أَنْ المكفول عنه أَمر الكفيل ببيع العِينَة، وهو مكروهٌ لما فيه الإِعراض عن مبرة الإِقراض، وقد قيل: إِيَّاك والعينةَ فإِنها لعينةٌ. وهو مخترِعُ أَكلة الربا، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«إِذا تبايعتم بالعِينة، واتَّبعتم أَذناب البقر ذللتم، وظهر عليكم عدوكم»

(1)

. والمراد باتباع أَذناب البقر: الاشتغال بالزراعة والإِقبال عليها. وبالعِينَة: أَنْ يأَتي المحتاج إِلى رَجُلٍ يستقرض منه عشرة دراهم مثلاً، فلا يرغب الرجل في الإِقراض طمعاً في إِصابة الفضل الذي لا ينالُهُ بالقَرْض، فيقول له: أَبِيْعُك هذا الثوب وقيمته عشرةٌ باثني عشر إِلى أَجَلٍ لتبيعه في السوق بعشرة، فيحصل ربحٌ لي درهمين. سُمِّي عينةً لأَن المُقْرِض أَعرض عن القرض إِلى بيع العين.

فإِذا ثبت هذا فنقول الشراء يقع للكفيل، لأَنه لم يصر وكيلاً عنه بالشراء، لأَنه لم يقل: تعين لي ثوباً وإِنَّما قال: تعين عليَّ، وهي كلمة ضمان لا كلمة توكيل. ومعنى

(1)

أخرجه أبو داود في سننه 3/ 740 - 741، كتاب البيوع والإِجارات (22)، باب في النهي عن العينة (54)، رقم (3462).

ص: 506

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الضمان هنا أَنْ يقول المديون للضامن: اشتر لي ثوباً لتبيعه في السوق فتقضي بثمنه الدين، فإِن أَمكنك أَنْ تبيعه بمثل (ما ابتعته)

(1)

فبها ونعمت، وإِن لم يكن كذلك إِلاَّ بخسران فذاك عليَّ، غَيْرَ أَنَّ هذا الضمان باطل، لأَنه إِنَّما يصح بما هو مضمونٌ على غيره، وخسرانُ درهمين غير مضمون على أَحد فبطل ضمانه، كمن يقول لآخَرَ؛ بايع في هذا السوق، على أَنْ كل خسران يصيبك فأَنا ضامِنٌ له، والله تعالى أَعلم بالصواب.

(1)

في المطبوع: البيعة، وما أَثبتناه من المخطوط.

ص: 507

‌كِتاب الحَوَالة

هِي إِثْبَاتُ دَيْنٍ عَلَى آخَرَ، مَعَ عَدَمِ الدَّيْنِ عَلَى المُحِيلِ بَعْدَهُ. فَهِي بِشَرْطِ عَدَمِ بَرَاءَتِهِ كَفَالَةٌ، وهَذِهِ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الأَصِيلِ حَوَالَةٌ.

وتَصِحُّ بِلا دَينٍ للمُحْتَالِ على المُحِيلِ، وبِهِ،

===

كتاب الحَوَالة

(هِي) لغةً: اسم من الإِحالة، وأَصل تركيبها يدل على الزوال والنقل، ومنه التحويل: وهو نَقْل الشيءِ من محل إِلى محل. قال الله تعالى: {لا يَبْغُوْنَ عَنْهَا حِوَلَا}

(1)

.

وشرعاً: (إِثْبَاتُ دَيْنٍ عَلَى آخَرَ مَعَ عَدَمِ) ذلك (الدَّيْنِ) أَي مع نفي بقائه (عَلَى المُحِيْلِ بَعْدَهُ) أَي بعد ذلك الإثْبَاتِ. وقيل: الحَوَالَةُ نَقْلُ الدَّيْن مِنْ ذِمةٍ إِلى ذِمَةٍ، وهو الأَظهر الأَخصر. والأَصْلُ فيها الإِجْماع

(2)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:«مَطْلُ الغني ظُلْم، ومَنْ أُحِيْلَ على مليء ـ أَي ثِقة غني ـ فَلْيَحِلْ ـ أَي فليقبل الحَوالة» ـ. رواه أَحمد، وابن أَبي شيبة من حديث أَبي هريرة. ورواه الشيخان بِلَفْظِ: وإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكْم على مليء فليتبع». ورواه أَحمد عن ابن عمر أَيضاً، ولفظه:«مَطْلُ الغني ظلم، وإِذا أُحِلْتَ على مليء فاتْبَعْهُ» . وهذا الأَمر للنَّدْبِ عند أَكثر أَهْل العلم، وعند أَحمد للوجوب.

(فَهِي) أَي الحَوَالة (بِشَرْطِ عَدَمِ بَرَاءَتِهِ) أَي براءة المُحِيل (كَفَالَةٌ،) لأَن ذلك معنى الكفالة. والعبرة للمعاني دون المباني، فله أَنْ يطالِب المُحِيل (وهَذِهِ) أَي الكفالة (بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الأَصِيْلِ حَوَالَةٌ) لأَن ذلك معنى الحَوَالة، فليس له أَنْ يطالب الأَصِيل.

(وتَصِحُّ) الحَوَالة (بِلَا دَينٍ للمُحْتَالِ على المُحِيْلِ) فإِن قيل: كيف يصح هذا والحَوَالة لا بُدَّ فيها مِنْ الدَّيْن، لأَنه مأخوذٌ في تعريفها، ولا يكون دَيْن المُحِيْل على المُحَال عليه، لأَنَّ الحَوالة توجد بدونه، كالحَوالة بدراهم وديعة للمحيل عند المحال عليه فيكون دين المُحَال على المُحِيل؟ أُجيب بأَنه يصح أَنْ يكون المُحْتَال وكيلَ رَبِّ الدَّيْن أَوْ رسوله، ويجوز أَنْ يكون في كلام المصنف مضافٌ مُقَدَّر، أَي «بِلا ذِكْر دَيْن» .

(و) تصح (بِهِ) أَي بِدَيْنٍ للمُحْتَال على المُحِيل (بأَنْ يكون المحتال ربّ

(1)

سورة الكهف، الآية:(108).

(2)

الأَولى أَن يقول: الأَصل فيها قوله تعالى: ....

ص: 508

وبرِضَاهُمَا وَرِضى المُحْتَالِ عَلَيهِ. فَيَبْرَأُ المُحِيلُ مِن الدَّيْنِ، إِلَّا أَنْ يَتْوَى بِمَوْتِ المُحْتَالِ عَلَيه مُفْلِسًا، أَو حَلِفِهِ مُنْكِرَ الحَوَالَةِ لا بَينَةَ عَلَيهَا

===

الدَّين، أَوْ بِذِكْر دَيْن للمحتال على المُحِيْل)

(1)

. وفي «الينابيع» : ويشترط في المُحال به أَنْ يكون ديناً، (وأَن يكون)

(2)

لازماً، فلا تصح بَبَدلِ الكِتَابة وما يجري مجراه، لأَنه دينٌ تسميةً لا حقيقةً. وأَما وجوب الدَّيْن على المُحِيل قبل الحَوَالة فليس بِشَرْطٍ لصحة الحَوَالة.

(و) تصح الحَوَالة (بِرِضَاهُمَا) أَي المُحْتَال والمُحِيْل (وَرِضَى المُحْتَالِ عَلَيْهِ) سواء كان عليه دَيْن للمُحِيل أَمْ لا. أَما المُحْتَال فلأَن الدَّيْن حَقُّه، والذمم مُتفاوتةٌ، فلا بُدَّ من رضاه. وأَما المُحْتال عليه فَلأَنَّ الدَّيْن يلزمه، فلا بد مِنْ التزامه. والأَصح في مذهب الشافعي أَنْ لا حاجة إِلى رِضَاه إِذا كان المُحَال به دَيْن المُحِيل، وهو قول مالك وأَحمد، لأَن الحق للمُحِيل فله أَنْ يَسْتَوفيه بنفسه وبغيره.

وأَما المُحِيل ـ وهو المديون ـ فيشترط رِضاه لصحَّةِ الحَوالة على ما ذكره القُدُوري، ولا يشترط لصحتها على ما في «الزيادات» ، وإِنما يشترط للرجوع عليه، أَوْ لسقوط دَيْنه على المحتال عليه، لأَن الحوالة فيها نَفْعُه وهو سقوط ما عليه من الدَّين، فصار كالمكفول عنه، حيث تصح الكَفالة بلا رضاه. ووجه الأَوَّل ـ وهو قول مالك والشافعي ـ أَنَّ للمحيل إِيفاءَ الحقِّ من حيث شاء، ولا يتعين عليه شيءٌ من الجهات، وفي صحة الحَوالة بدون رضاه يتعين ذلك عليه قَهْراً.

(فَيَبْرَأُ المُحِيْلُ مِنْ الدَّيْنِ) إِذا تَمَّ عَقْدُ الحَوَالة عند عامة العلماء. وقال زُفر: لا يبرأُ اعتباراً بالكفالة، إِذْ كل واحدٍ منهما عقد تَوَثُّقٍ بحق المطالبة. ولنا أَنَّ الأَحكام الشرعية ثبتت على وَفْق المعاني اللغوية، ومعنى الحوالة في اللغة: النقل. وهو يستدعي زوال المنقول عن المحل المنقول منه، فيكون معناها الشرعي زوالَ الدَّين عن ذمة المحيل. وقيل: يبرأُ المُحيل من المطالبة دون الدين.

(إِلاَّ أَنْ يَتْوَى) ـ على زنة يَسْعَى ـ أَي يَهْلِك دَيْن المحتال، فلا يبرأ المُحيل بتمام عقد الحَوالة، وذلك (بِمَوْتِ المُحْتَالِ عَلَيه مُفْلِسَاً) بأَنْ لم يترك مالاً، ولا دَيناً على أَحد، ولا كفيلاً (أَوْ حَلِفِهِ) أَي بيمين المحتال عليه حال كونه (مُنْكِرَ الحَوَالَةِ) حال كونه (لا بَيِّنَةَ عَلَيْهَا) وفي نسخة: ولا بينة عليها للمحتال، ولا للمحيل، لأَن هلاك دينِ المحتال يتحقق بكلِّ واحدٍ من الموت والحَلِف المذكورَيْن.

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 509

وقالا: وبِأنْ فَلَّسَهُ القَاضِي.

وتَصِحُّ بِلا شيءٍ عَلَى المُحْتَالِ عَلَيهِ، وبِدَراهِمِ الوَدِيْعَةِ - وَيْبَرأُ بِهَلاكِهَا - والمَغْضُوبَةِ، وَلَمْ يَبْرَأَ بِهَلاكِهَا

===

(وقالا:) أَي أَبو يوسف ومحمد: يتحقق التَّوَى بِموتِ المحتال عليه، وبِحَلِفِهِ، المذكورين كما قال أَبو حنيفة رحمه الله (وبِأنْ فَلَّسَهُ القَاضِي) أَي حكم بإِفلاسه قبل موتِه بَعْدَ ماحبسه، لأَنه عجز عن الأَخذ منه بتفليس الحاكم، وقطعه عن ملازمته عندهما، فصار كعجزه عن الاستيفاء بالجحود، أَوْ موته مُفْلِساً. ولأَبي حنيفة أَنْ الدين ثابتٌ في نفسه، وتَعَذُّر الاستيفاء لا يوجِب الرجوع، أَلا ترى أَنه لو تعذَّرَ بِغَيْبة المحتال عليه لا يرجع على المحيل ولأَن المال غادٍ ورائحٌ، فقد يصبح المرء فقيراً ويُمْسِي غنياً وبالعكس.

وقال الشافعي: لا يرجع المحتال على المحيل وإِن تَوِي دين المحتالِ بِمَوتٍ أَوْ غيره، وهو قول أَحمد، والليث، وأَبي ثور، وابن المُنْذِر. وعنِ أَحمد إِذا كان المحال عليه مُفْلِساً ولم يعلم الطالب ذلك، فله الرجوع إِلاَّ أَنْ يرضى بعد العِلم، وبه قال مالك، لأَن الإفلاس في المُحَال عليه عَيْبٌ فكان له الرُّجوع، كما لو اشترى سلعةً فوجدها مَعِيبةً.

(وتَصِحُّ) الحَوالة (بِلَا شيءٍ) للمُحِيل (عَلَى المُحْتَالِ عَلَيْهِ) وهو إِحدى صورتي الحَوالة المطلقة، والصورة الأُخرى أَنْ يكون للمُحيل على المحتال عليه دَيْنٌ أَوْ له في يده عين، ولا يقيد الحَوالة بشيءٍ منهما (وبِدَراهِمِ الوَدِيْعَةِ) عطف على بلا شيءٍ (وَيْبَرأُ) المحتال عليه (بِهَلَاكِهَا) أَي هلاك دراهم الوديعة، أَوْ استحقاقها، لأَن الحَوالة مقيدة بها، وهو لم يلتزم التسليم إِلاَّ منها، فلا يلزم التسليم من غيرها (والمَغْصُوبَةِ) أَي وبالدراهم التي غصبها المُحال عليه من المُحيل.

(وَلَمْ يَبْرَأ) المحتال عليه (بِهَلَاكِهَا) أَي المغصوبة، بل تَبْقَى الحَوالة متعلقةً بمثلها حقيقةً أَوْ مَعْنىً، لأَن الحَوالة إِذا هلك (المحال)

(1)

به المغصوب تتعلق بِمْثِله في المِثْلي

(2)

، وبقيمته في القِيْمي

(3)

، لأَن المغصوب إِذا هلك يهلِك إِلى خَلَف، وهو الضمان، فكان قائماً معنىً فلا تَبْطُل الحَوالة بهلاكها، فلا يبرأُ المُحال عليه، بخلاف الوديعة، فإِنها تهلك لا إِلى خَلَف، لأَنها أَمانةٌ، وبالحَوالة لم تخرج عن ذلك، وهلاكُ الأَمانة لا يوجِب الضَّمان. قيد عدم البراءة من المغصوبة «بهلاكها» لأَن

(1)

في المطبوع: المحتال، وما أَثبتناه من المخطوط.

(2)

المِثْلي: ما يمكنُ الحصولُ على مِثْله بسهولةٍ ويُسْر. معجم لغة الفقهاء ص 404.

(3)

القيمي: ما ليس له مِثْلٌ متداولٌ بين الناس. معجم لغة الفقهاء ص 374.

ص: 510

وبِدَينٍ عَلَيهِ، فَلا يُطَالِبُهُ إِلَّا المُختَالُ. وفي المُطْلَقَة، للمُحِيلِ الطَّلَبُ أَيضًا. ولا تَبْطُلُ بأَخْذِ مَا عَلَيهِ.

وتُكَرْهُ السُّفْتَجةُ، وهِي: إِقْرَاضٌ لِسُقُوطِ خَطَرِ الطريق.

===

المحال عليه يبرأُ باستحقاقها، لأَنها به وصلت إِلى مالكها، ووصول المغصوب إِلى مالكه يوجِب براءة غاصبه.

(وبِدَيْنٍ عَلَيْهِ) عطف على بدراهم (فَلَا يُطَالِبُهُ) أَي المحتال عليه في هذه الحوالات المقيدة (إِلاَّ المُحْتَالُ) لا المحيل، لأَن حق المحتال تعلق بتلك الأُمور، كالرهن، فلو ملك المحيل المطالبة لبطل حقُّ المحتال، وهو لا يجوز (وفي المُطْلَقَة للمُحِيلِ الطَّلَبُ أَيْضَاً) أَي كما أَنه للمحتال، والظاهر في العبارة تقديم كلمة «أَيضاً» ليكون بجنب ما يتعلق به (عين)

(1)

المُحيل. وإِنما يكون له الطلب لأَن حقَّ المحال لم يتعلق بدين ولا بعين، بل بذمَّة المُحال عليه. (ولا تَبْطُلُ) الحوالة (بأَخْذِ) المُحيل (مَا عَلَيْهِ) أَي على المحتال عليه من الدين، أَوْ ما عنده من العين المودَعة، أَوْ المغصوبة، كما لا تَبْطُل بهلاكه.

(حكم السُّفتَجة)

(وتكره السُّفْتَجةُ) ـ بضم مهملة، وسكون فاء، وفتح فوقانية، فجيم ـ تعريب سُفْته: أَي شيءٍ مُحْكَم. وفي الشرع: (وهِي إِقْرَاضٌ لِسُقُوطِ خَطَرِ الطريق) وسُمِّي بها هذا القرض لإحكام أَمره. وصورته: أَنْ يدفع شَخْصٌ دراهمَ أَوْ دنانيرَ قَرْضاً ليدفعها إِليه في بلد آخَر، ليستفيد المُقْرِض بذلك الإِقراض سقوطَ خطر الطريق.

وإِنما كُرِهت لما روى الحارث بن أَبي أُسامة في «مسنده» : عن حَفْص بن حمزة، عن سَوَّار بن مصعب، عن عُمارة الهَمْداني قال: سمعت عَلِيّاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ منفعةً فهو ربا» . وروى ابن أَبي شيبةَ عن أَبي خالد الأَحمر عن حجاج عن عطاء قال: كانوا يكرهون كُلَّ قَرْضٍ جَرَّ منفعةً.

وفي «المبسوط» : وإِن لم تكن المنفعةُ مشروطةً ولم يكن عُرْفٌ على ذلك فلا بأس به، حتى لو قضاه أَجودَ مِمَّا قبضه ولم يكن ذلك مشروطاً ولا عُرْفاً فلا بأس به، والله سبحانه وتعالى أَعلم.

(1)

في المطبوع: اعنى، وما أَثبتناه من المخطوط.

ص: 511

‌كِتَابُ الوَكَالَةِ

هي تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ إِلى غَيرِهِ.

===

كتاب الوَكَالَة

(هي) لغةً ـ بفتح الواو وكسرها ـ: الحفظ، ومنه الوكيل في أَسماء الله الحسنى بمعنى الحافظ، كما قال الله تعالى:{حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيْل}

(1)

، ولذا قالوا: إِذا قال: وكلتك بمالي، أَنه يملك به الحفظ فقط. وبمعنى الموكول إِليه الأَمر فمعناها التفويض والاعتماد، ومنه التوكل، قال الله تعالى:{عليه تَوَكَّلْنَا وعَلَى افَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُوْنَ}

(2)

.

وشَرعَاً: (تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ) في البيع والشراء ونحوهما مِنْ إِنسانٍ (إِلى غَيْرِهِ) وإِقامته فيه مُقام نفسه.

(مشروعية الوَكالة)

ومشروعيتها بالكتاب، وهو قوله تعالى حكايةً:{فابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرقِكُمْ هَذِهِ إِلى المَدِينَةِ}

(3)

، فإِنَّ ما قَصَّ الله تعالى علينا عن الأُمم الماضية من الأَحكام بلا إِنكار يكون حُكْمَاً لنا. وبالسنَّة، وهي ما رَوى الترمذي أَنه صلى الله عليه وسلم بعث مع حَكيم بن حِزَام بدينارٍ ليشتريَ له به أُضحية، فاشتراها بدينارٍ وباعها بدينارين، فرجع واشترى أُضحية بدينارٍ وجاء بدينارٍ إِلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فتصدَّقَ به النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم، ودعا له أَنْ يُباركَ له في تجارته.

وروى أَبو داود والترمذي وابن ماجه وأَحمد مثل هذا، وبعث أَيضاً مع عُرْوَةَ البَارِقِي بدينارٍ ليشتري له أُضحيةً أَوْ شاةً فاشترى شاتين، فباع إِحداهما بدينار فأَتاه بشاةٍ ودينارٍ، فدعا له في بيعه، فكان لو اشترى تُراباً لربح فيه. وقد وَكَّلَ صلى الله عليه وسلم بالتزويج عمرو ابن أَبي سَلَمة، كما رواه أَحمد، والنَّسائي عن أُم سَلَمة: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما بَعَث إِليها وخَطَبها قالت: ليس أَحدٌ من أَوليائي شاهدٌ، فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس أَحدٌ من أَوليائك شاهدٌ ولا غائبٌ يَكْرَهُ ذلك. فقالت لابنها: يا عمرُ قُم فزوِّج النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فزوجه.

(1)

سورة آل عمران، الآية:(173).

(2)

سورة إبراهيم، الآية:(12).

(3)

سورة الكهف. الآية: (19).

ص: 512

وشَرْطُهُ أَنْ يَمْلِكَهُ المُوَكِّلُ ويَعْقِلَهُ الوَكِيلُ ويَقْصِدَهُ.

وصَحَّ تَوْكِيِلُ الحُرِّ البَالِغِ، أَو المَأَذُوْنِ مِثْلِهِمَا، وَصَبِيًّا عَاقِلًا وَعَبْدًا مَحْجُوْرَيْنِ.

وتَرْجِعُ الحُقُوقُ إِلى مُوَكِّلِهِمَا

===

قال الحافظ: كان لعمرَ من العمر ثلاث سنين يوم تزوجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ومات صلى الله عليه وسلم وله في العمر سبع سنين. وقد صح أَنَّ علياً وَكَّل عقيلاً (بن أَبي طالب)

(1)

وبعدما أَسَنَّ، عبدَ الله بنَ جعفر. فقد روى البيهقي عن عبد الله بن جعفر قال: كان عليٌ يكره الخصومة، فكان إِذا كانت له خصومةٌ وَكَّل فيها عقيل بن أَبي طالب، فلما كبر عقيلٌ وَكَّلَنيه. وبالإِجماع.

(وشَرْطُهُ) أَي عقد الوكالة أَوْ التفويض المذكور (أَنْ يَمْلِكَهُ) أَي التصرف (المُوَكِّلُ) بأَن يكون حراً بالغاً أَوْ مأذوناً، (و) أَنْ (يَعْقِلَهُ) أَي التصرف (الوَكِيْلُ) بأَن يعرف أَنْ الشراء جَالِبٌ للمبيع وسَالِبٌ للثمن، ويعرف الغبن اليسير من الفاحش الكثير، (و) أَنْ (يَقْصِدَهُ) أَي الوكيل: بأَن يقصد بمباشرة السبب ثبوتَ حُكْمِهُ، أَوْ الربح، حتى لو تصرَّف فيما وُكِّل به من غير قَصْد أَوْ بقصد الهزل لا يقع ذلك التصرف للمُوَكِّل.

(وصَحَّ تَوْكِيْلُ الحُرِّ البَالِغِ أَوْ المَأْذُوْنِ مِثْلهمَا) لأَن الموكِّل مالك والوكيل أَهْل له. والمراد بالمأْذون: الصبي العاقل الذي أَذِن له الولي، والعبد العاقل الذي أَذِن له المَوْلى، (وَصَبِيًّا) عطف على مثلهما (عَاقِلاً) لِمَا يَمْلِكُهُ (وَعَبْداً مَحْجُوْرَيْنِ) لأَن الصبي العاقل ينفُذُ تصرُّفه بإِذْن وليه في مِلْك نفسه، فينفُذُ تصرفه في ملك غيرهِ بتوكيله. والعبد العاقل يملك التصرُّف على نفسه حتى صَحَّ طَلاقُهُ وإِقرارُهُ بالحدود، فيصح تصرّفُه في حق غيره بتوكيله. وقال الشافعي: لا يصح توكيل الصبيّ، وله في العبدِ المَحْجور قولان.

(وتَرْجِعُ الحُقُوقُ إِلى مُوَكِّلِهِمَا) لأَنها لَمَّا تَعَذَّر رجوعها إِليهما لإضرار الصبي المبعد من المضار وإِضرار سيد العبد رجعت إِلى أَقرب الناس إِلى هذا التصرف وهو المُوَكِّل، إِلا أَنْ الحقوق تلزم العبد المحجور بعد العِتْق، لأَن المانع حق المولى وقد زال بالعتق ولا يلزم الصبي بعد البلوغ، لأَن المانع حَقُّه، وحق الصبي لا يَبْطُل بالبلوغ

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 513

بِكُلِّ مَا يَعْقِدُهُ بِنَفْسِهِ، وبِالخُصُوْمَةِ في كلِّ حَقٍّ، وبإِيفائِهِ واسْتِيفَائِهِ، إِلَّا في حَدٍّ وَقِصَاصٍ بِغَيبَةِ مُوَكِّلِهِ.

وتَرْجِعُ الحُقُوقُ إِلى الوَكِيلِ

===

(بِكُلِّ مَا يَعْقِدُهُ بِنَفْسِهِ) الباء الأُولى متعلقة «بتوكيل» ، والثانية «بيعقد» عطف على الأُولى (وبِالخُصُوْمَةِ في كلِّ حَقَ) حَدّاً كان أَوْ قِصَاصاً، أَوْ غيرهما، لأَن المُوكِّل يملك مباشرةَ ذلك بنفسه، فيملك تفويضه إِلى غيره (وبإِيفائِهِ) أَي بإِعطائه كل حق (واسْتِيْفَائِهِ) أَي أَخْذ كل حق (إِلاَّ في حَدَ) لِقَذْفٍ أَوْ سرقة (وَقِصَاصٍ بِغَيْبَةِ مُوَكِّلِهِ) عن المجلس. قيد بها لأَن التوكيل باستيفائهما في حضرة المُوكِّل جائزٌ اتفاقاً.

وقال مالك والشافعي وأَحمد: يجوز التوكيل باستيفاء القصاص وحدّ القذف في غَيبة الموكِّل، لأَنه حق العبد، ويجوز استيفاؤه في حضوره، وكذا في غيبته.

ولنا أَنهما يسقطان بالشبهة، وشبهة عَفو الموكِّل الغائب ممكنةٌ، إِذْ العفو مندوبٌ إِليه، قال الله تعالى:{وأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ للتقوى}

(1)

، والعبرة بعموم اللفظ، وقال عز وجل:{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُو كَفَّارَةٌ لَهُ}

(2)

وحال الغائب غير معلومٍ فلعله عفا والوكيل لا يشعر، بخلاف الحاضر فإِنَّ حاله بِعَدم العَفُو معلومٌ، وقد يحتاج إِلى التوكيل لعدم هدايته إِلى الاستيفاء، أَوْ لأَن قلبه لا يحتمل ذلك، بخلاف الاستيفاء في غَيبة الشهود، لأَن رجوعهم نادر، والأَصل فيهم الصدق فلا يكون احتمال رجوعهم في الغَيبة شبهة. ويصح التوكيلُ بإِثبات الحَدِّ والقصاص عند أَبي حنيفة. وقال أَبو يوسف: لا يصح التوكيل بإِثبات حدِّ الزِّنا، وحدِّ شُرْبِ الخمر اتفاقاً.

ويُشْتَرط في التوكيل بالخصومة عند أَبي حنيفة رِضَى الخصم، إِلاَّ أَنْ يكون الموكِّل مريضاً، أَوْ غائباً مُدة السفر، أَوْ امرأَة مُخَدَّرَة

(3)

. وقالا: لا يشترط رِضَى الخصم. قيل: الخلاف في الصحة، والصحيح أَنه في اللزوم. وفي «شرح الوافي»: أَنْ المتأَخرين اختاروا الفتوى: أَنَّ القاضي إِذا عَلِم من الخصم التعنت في إِباء الوكيل لا يُمكِّنه من ذلك، ويقبل التوكيل من المُوكِّل. وإِنْ عَلِم من الموكِّل القصد إِلى إِضْرار الخصم بالتوكيل لا يقبل منه التوكيل إِلا برضاء الخصم، وهو اختيار شمس الأَئمة السَّرَخْسِي.

(وتَرْجِعُ الحُقُوقُ إِلى الوَكِيْلِ) في عقد لا يحتاج الوكيل فيه إِلى ذِكْر المُوكِّل،

(1)

سورة البقرة، الآية:(237).

(2)

سورة المائدة، الآية:(45).

(3)

المُخَدَّرَة: التي تلزَم بيتها (خدرها) ولا تظهر على الرِّجال. معجم لغة الفقهاء ص 415.

ص: 514

في بَيعٍ وشِرَاءٍ، وإجارةٍ، وصُلْحٍ عَنْ إِقْرَارٍ.

فيُسَلِّمُ المَبِيعَ وَيَقْبِضُهُ، وثَمَنَ مَبِيعِهِ، وعَلَيهِ ثَمَنُ مَشْرِيِّهِ، ويُخَاصِمُ في الاسْتِحْقَاقِ، والعَيبِ، وشُفْعَةِ مَا اشْتَرَى وهُوَ في يَدِهِ.

ويَثْبُتُ المِلْكُ للمَوَكِّلِ ابتِدَاءً، فَلا يعَتِقُ قَرِيبُ وَكِيلٍ بِشِرَائِهِ، وإلى المُوَكِّلِ في نِكَاحٍ، وخُلْعٍ، وصُلْحٍ عن إِنكارٍ، أَو دَمِ عَمْدٍ، وعِتْقٍ عَلَى مَالٍ، وكِتَابَةٍ، وتَصَدُّقٍ، وهِبَةٍ، وإعارَةٍ، وإيداعٍ، ورَهْنٍ، وإقْرَاضٍ.

فَلا يُطَالَبُ وَكِيلُ الزَّوْجِ بالمَهْرِ، ولا وَكِيْلُهَا بِتَسْلِيمِهَا، ولا

===

فيرجع إِلى الوكيل (في بَيعٍ وشِرَاءٍ، وإِجارةٍ، وصُلْحٍ عَنْ إِقْرَارٍ) إِذْ يَكْفِي أَنْ يقول الوكيل: بعت، واشتريت، وآجَرْت، وصالحت. وقال مالك والشافعي وأَحمد: تَرْجع الحقوق إِلى الموكِّل (فَيُسَلِّمُ) الوكيل (المَبِيْعَ) في الوكالة بالبيع (وَيَقْبِضُهُ) في الوكالة بالشراء.

(و) كذا يقبض الوكيل (ثَمَنَ مَبِيْعِهِ) في الوكالة بالبيع (وعَلَيْهِ) أَي على الوكيل بالشراء (ثَمَنُ مَشْرِيِّهِ) بالوكالة بالشراء (ويُخَاصِمُ في الاسْتِحْقَاقِ

(1)

، و) في (العَيْبِ، و) في (شُفْعَةِ مَا اشْتَرَى وهُوَ في يَدِهِ) قيد به لأَن الوكيل بالشراء بعد التسليم إِلى مُوكِّلِهِ لا يفعل شيئاً من ذلك إِلاَّ بِأَمْرٍ جديدٍ، لانتهاء حُكْم الوكالة بالتسليم.

(ويَثْبُتُ المِلْكُ للمَوَكِّلِ ابتِدَاءً) خِلَافَةً وبدلاً عن الوكيل، باعتبار التوكيل السابق لا أَصالةً (فَلَا يعتِقُ قَرِيْبُ وَكِيْلٍ بِشِرَائِهِ) بطريق الوكالة، لأَن الوكيل لم يملكه، وكذا لا يفسد نكاح منكوحته إِذا اشتراها، لأَنه لم يملكها.

(وإِلى المُوَكِّلِ) أَي وترجع الحقوق إِلى الموكِّل في كل عَقْدٍ يحتاج الوكيل فيه إِلى ذِكْرِ الموكِّل، وذلك (في) عقد (نِكَاحٍ، وخُلْع، وصُلْحٍ عن إِنكارٍ أَوْ دَم عَمْدٍ، وعِتْقٍ عَلَى مَالٍ، وكِتَابَةٍ، وتَصَدُّقٍ، وهِبَةٍ، وإِعارَةٍ، وإِيداعٍ، ورَهْنٍ، وإِقْرَاضٍ) لأَن الوكيل في هذه العقود سفيرٌ مَحْض، والسفير حَاكٍ قول غيره، ومَنْ حَكى قول غيره لا يلزمه حُكْم ذلك القول، كَمَنْ حَكَى قَذْف غيره فإِنه لا يكون قاذِفاً، ومَنْ حَكى كُفْر غيره، فإِنه لا يكون كافراً.

(فَلَا يُطَالَبُ) بفتح اللام (وَكِيْلُ الزَّوْجِ بالمَهْرِ) ـ الباء فيه وفيما بعده متعلقة بـ: يُطَالب (ولَا) يطالَب (وَكِيْلُهَا) أَي وكيل المرأَة بالنكاح (بِتَسْليمِهما، ولا) وكيلها

(1)

أَي إذا استُحق المبيع من المشتري يرجع بالثمن على الوكيل. حاشية محمود بن إلياس الرومي على النُّقَاية. هامش فتح باب العناية 2/ 173.

ص: 515

بِبَدَلِ الخُلْعِ.

وللمُشْتَرِي مَنْعُ الثَّمَنِ مِنْ مُوكِّلِ بَائِعِهِ، فإِنْ دَفَعَ الثَّمَنَ إِلَيهِ صَحَّ، ولم يُطَالِبِ الوَكِيلَ ثانِيًا.

‌فصلٌ [في الوَكَالَةِ بالبَيعِ والشِّراءِ]

لا يَصِحُّ بَيْعُ الوَكِيلِ وشِرَاؤهُ مِمَّنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ له،

===

بالخُلْعِ (بِبَدَلِ الخُلْعِ) لأَن ذلك من حقوق النكاح والخُلْع، والحقوق فيهما لا ترجع إِلى الوكيل. (وللمُشْتَرِي مَنْعُ الثَّمَنِ مِنْ مُوكِّلِ بَائِعِهِ) لأَنه أَجنبي من حقوق البيع. وقال مالك والشافعي وأَحمد: لا يمنعه، لأَن الحقوق ترجع في البيع عندهم إِلى الموكِّل (فإِنْ دَفَعَ) المشتري (الثَّمَنَ إِلَيْهِ) أَي موكِّل بَائِعِهِ (صَحَّ ولم يُطَالِبِ) ـ بكسر اللام ـ (الوَكِيْلَ ثَانِيَاً) لأن نفس الثمن المقبوض حَقُّ المُوكِّل وقد وصل إِليه، ولا فائدة في أَخْذِهِ منه ثُمَّ دَفْعِهِ إِلى الوكيل ليدفعه إِلَيْهِ.

فصل (في الوَكَالَةِ بِالبَيْعِ وَالشِّرَاءِ)

(لا يَصِحُّ بَيْعُ الوَكِيْلِ وشِرَاؤهُ مِمَّنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ له) عند أَبي حنيفة، وهو قول الشافعي، وَوَجْهٌ في مذهب أَحمد. وقال أَبو يوسف ومحمد: يصح بَيْعُه بمثل القيمة، وبالغُبْنِ اليسير، لأَنه في حُكْم المِثْل إِلاَّ مِنْ عبده ومكاتَبه، لأَن التوكيل مطلقٌ ولا تهمة، إِذْ الأَمْلاك متباينة، والمنافع منقطعة، فصار البيع منهم كالبيع من أَجنبي، وصار الوكيل كالمُضَارِب، بخلاف العبد، لأَن ما في يده لمولاه، وبخلاف المكاتَب لأَن لمولاه حقاً في كَسْبه، وبخلاف الغُبْن الفاحش لأَنه ليس في حُكْم المِثْل.

ولأبي حنيفة أَنَّ مواضع التهم مستثناة من الوكالة، والوكيل يتهم في العقد مع هؤُلاء، ولأَن كل واحدٍ منهم ومن الوكيل ينتفع بمال الآخَرِ عادةً، فكان مالُ كلِّ واحدٍ منهم كـ: مال الوكيل، فصار الوكيل بائعاً أَوْ شارياً من نفسه، بخلاف المُضَارِب، فإِنه كالمتصرف لنفسه. وعلى هذا الخلاف الإجارةُ والصَّرْفُ والسَّلَم ونحوها.

ثم المرادُ من عدم جواز البيع لهؤلاء عند أَبي حنيفة في مطلقِ الوكالة، حتى لو قَيَّد الوكالة بتعميم المشيئة جاز بيع الوكيل منهم اتفاقاً، بخلاف البيع من نفسه، أَوْ

ص: 516

وصَحَّ بَيعُ الوَكِيلِ بِمَا قَلَّ أَو كَثُرَ، والعَرْضِ والنَّسِيئَةِ، وبَيعُ نِصْفِ ما وُكِّلَ بِبَيعِهِ، وأَخْذُهُ رَهْنًا أَو كَفِيلًا بالثَّمَنِ إِنْ ضَاعَ في يَدِهِ، أَو تَوِيَ مَا عَلَى الكَفِيلِ.

ويُقَيَّدُ شِرَاءُ الوَكِيل بِمِثْلِ القِيمةِ، وبزِيَادةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فيها وهي: ما قَوَّم به مُقَوِّم.

===

من ابن صغير له حيث لا يجوز وإِنْ قَيَّد بتعميم المشيئة، لأَنه يؤدي إِلى تَضَادِّ الأَحكام: بأَنْ يكون مُخَاصِمَاً في العيب ومُخَاصَمَاً (عنه)

(1)

. وفي «الذخيرة» : ولو باع الوكيل من هؤلاء بأَكثر من القيمة يجوز بلا خلاف.

(وصَحَّ بَيْعُ الوَكِيلِ) بالبيع إِذا لم يقيد (بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، والعَرْضِ) أَي وبالعَرْض (والنَّسِيْئَةِ) أَي وبالأَجل، ولو كان آجِلاً غير متعارَف، كخمسين سنة، وهذا عند أَبي حنيفة. وقالا: يصح بالغُبْن اليسير دون الفاحش، وبالدراهم والدنانير دون العُروض، وبالأَجل المتعارَف. وقال مالك والشافعي وأَحمد: يصح بثمن المِثْل، وبنقد البلد حالاًّ، فإِنْ كانت النقود مختلفة يعتبر الأغلب.

(و) صَحَّ للوكيل (بَيْعُ نِصْفِ ما وُكِّلَ بِبَيْعِهِ) مُطلقاً، أَما إِذا لم يكن في تفريقه ضَرَرٌ كالحنطة والشعير فباتفاق، وأَما إِذا كان في تفريقه ضررٌ كالعبد فعند أَبي حنيفة خلافاً لهما، وهو قول الشافعي وأَحمد.

(و) صح (أَخْذُهُ) أَي أَخْذ الوكيل (رَهْنَاً)، بالثمن (أَوْ كَفِيْلاً بالثَّمَنِ) فلا يضمن (إِنْ ضَاعَ) الرهن (في يَدِهِ أَوْ تَوِيَ) أَي هلك (مَا عَلَى الكَفِيْلِ) لأَن الهالك في يده كالهالك في يد الموكِّل، أَلا ترى أَنَّ الوكيل لو استوفى الثمن حقيقةً وهلك في يده يهلِك على الموكِّل.

(ويُقَيَّدُ شِرَاءُ الوَكِيْل) بالشراء (بِمِثْلِ القِيْمةِ وبِزِيَادةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فيها)، فلا يُلزم المُوَكِّل بما شَرَاه وكيله بزيادةٍ على القيمة لا يُتغابن فيها، وهي الزيادة الفاحشة (وهي) أَي الزيادة التي يتغابن فيها (ما قَوَّم به مُقَوِّم) أَي ما يدخل تحت تقويم المقومين عند اختلافهم. قال شيخ الإِسلام في «جامعه»: وهذا التحديد فيما لم يَكُنْ له قيمة معلومة في البلد، كالعبيد والدوابِّ، فأَما ما له قيمةٌ معلومةٌ، كالخبز واللحم فإِن الوكيل إِذا زاد لا ينفُذ على الموكِّل وإِن كانت الزيادة كالفَلْس

(2)

ونَحْوه، لأَن ما يدخل تحت تقويم المقوِّمين هو فيما يحتاج فيه إِلى تقويمهم، وهذا لا يحتاج.

(1)

سقط من المطبوع.

(2)

الفَلْس: هو من الأَوزان الدقيقة، ويساوي 0.00082 غرامًا. معجم لغة الفقهاء ص 350.

ص: 517

وَيَتَوقّفُ شِرَاءُ نِصْفِ ما وُكِّلَ بِشِرَائِهِ عَلَى شِرَاءِ البَاقِي.

ولو رُدَّ مَبِيعٌ عَلَى وَكِيلٍ بعَيبٍ رَدَّهُ عَلَى آمِرِهِ، إِلَّا وَكِيلٌ أَقَرَّ بِعَيبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَلَزِمَه ذَلِكَ. وإِنْ بَاعَ نَسَاءً وَقَال: قَدْ أَطْلَقَ الآمِرُ، فقال: أَمَرْتُكَ بِنَقْدٍ، صُدِّقَ الآمِرُ. وفي المُضَارَبَةِ المُضَارِبُ. وَلا يَصِحُّ تَصَرُّف أَحَدِ الوَكِيلَيْنِ وَحْدَهُ

===

(وَيَتَوقَّفُ شِرَاءُ نِصْفِ ما وُكِّلَ بِشِرَائِهِ) أَي كله (عَلَى شِرَاءِ البَاقِي) فإِن شرى الباقي لَزِم النصف، وإِن لم يشتره لم يلزم (ولو رُدَّ مَبِيعٌ عَلَى وَكِيْلٍ بِعَيْبٍ) متعلق بردّ السابق (رَدَّهُ) الوكيل (عَلَى آمِرِهِ إِلاَّ وَكِيْلٌ أَقَرَّ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ) في تلك المدة، يعني أَنْ مَنْ وَكَّل رجلاً بِبيع شيءٍ فباعه وسَلَّمَه وقبض الثمن أَوْ لم يقبض، فوجد المُشْتَرِي به عيباً: إِنْ كان لا يحدثُ مِثْلُه في تلك المدة، وردَّه بقضاءٍ ببينةٍ، أَوْ بنكولٍ، أَوْ بإِقرار من الوكيل، فإِنَّ للوكيل أَنْ يردَّه على الآمِر، وإِن كان يَحْدُث مِثْله وردَّه ببينة أَوْ بإِباءٍ عن يمين فكذلك، وإِن ردَّه بإِقرارٍ لم يردَّه على الآمِر (وَلَزِمَهُ ذَلِكَ) المبيع، لأَن الإِقرار حجة قاصرة فتظهر في حق المُقِرِّ دون غيره، وهو غير مضطر إِليه، إِذْ يمكنه السكوت والنُّكُول.

(وإِنْ بَاعَ) الوكيل (نَسَاءً) أَي إِلى أَجل (وَقَال: قَدْ أَطْلَقَ الآمِرُ) أَوْ قال لم يبين (فقال:) الأَمِر (أَمَرْتُكَ بِنَقْدٍ، صُدِّقَ الآمِرُ) لأَن الأَمْر مُستفادٌ من جهته، وقد يكون مطلقاً، وقد يكون مقيداً، ولا دلالة على أَحدهما فكان القول قوله مع اليمين، كما لو أَنكر أَصل الوكالة.

وعن مالك: إِنْ كانت السلعةُ قائمةً صُدِّق الآمِرُ. وقال أَحمد: القول للآمِر. (وفي المُضَارَبَةِ) إِذا قال ربُّ المال: أَمرتك بالنَّقْد، وقال المضارِب: أَطْلَقْتَ، أَوْ لم تبيّن شيئاً، صُدِّق (المُضَارِبُ) لأَن الأَصل في المُضَارَبة الإِطلاق والعموم، والقول قول المتمسك بالأَصل.

(وَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ أَحَدِ الوَكِيْلَيْنِ وَحْدَهُ) لأَن المُوكِّل راضٍ برأيهما لا برأْي أَحدهما. فإِذا انفرد أَحدُهُمَا بطل غَرَضُه. وهذا إِذا وكَّلَهما بِكَلامٍ واحدٍ، حتى لو وكَّلهما على التعاقب، جاز لأَحدهما أَنْ ينفرد بالتصرف، لأَنه رضي برأْي كُلِّ واحدٍ منهما على الانفراد وقتَ توكيله، بخلاف الوصيَّين إِذا أَوْصَى كُلّ واحدٍ منهما بكلام على حِدَة، حيث لا يجوز لأَحدهما أَنْ ينفرد بالتصرف على الأَصح، لأَن حكم الوصية يثبت بالموت، فعنده صارا وَصِيَّين، وحكم الوكالة يثبت بالتوكيل، فإِذا كان كُلُّ واحدٍ منهما بِعَقْدٍ، استوى كُلٌّ منهما بالتصرف.

ص: 518

إِلَّا في خصومةٍ وَرَدِّ وديعةٍ، وقضاءِ دَيْنٍ، وطَلاقٍ، وعِتْقٍ لم يُعَوَّضَا.

ولا يَصِحُّ بَيعُ عَبْدٍ أَو مُكَاتَبٍ، أَو ذِمّي، مَالَ صغيره المُسْلِم، وشِرَاؤهُ، والأَمْرُ بِشِرَاءِ الطَّعَامِ عَلَى البُرِّ في دَرَاهِمَ كَثِيرَةٍ، وعَلَى الخُبْزِ في قَلِيْلَةٍ، وعَلَى الدَّقِيقِ في مُتَوَسِّطَةٍ، وفي مُتَّخِذِ الوَلِيمَةِ عَلَى الخبْزِ.

===

وفي «الذخيرة» : لو باع أَحَدُهما والآخَرُ حاضرٌ يجوز، ولو كان الآخرُ غائِبَاً فأَجاز لم يَجُز عند أَبي حنيفة (إِلاَّ في خصومةٍ وَرَدِّ وديعةٍ، وقضاءِ دَيْنٍ، وطَلَاقٍ، وعِتْقٍ لم يُعَوَّضَا) وقال زُفَر والشافعي وأَحمد: لا يصح تَصَرُّفُ أَحد الوكيلين وَحْدَه في الخصومة.

قيد الوديعة «بالردّ» لأَن الوكيلين بقبض الوديعة لو قبض أَحدُهما بغير إِذن صاحبه يضمن، لأَن الموكِّل شَرَط اجتماعهما على القبض ولم يوجد، فصار قابضاً بغير إِذن المالك. فإِن قيل: ينبغي أَنْ يضمن النصف، لأَنه مأَمورٌ بقبض النصف. أُجيب بأَنه مأمورٌ بِقَبْض النصف مع صاحبه لا بدونه. وقيد الطلاق والعتق بأَنهما «لم يعوَّضَا» لأَنهما إِذا كانا بِعِوَضٍ كالبيع.

(ولا يَصِحُّ بَيْعُ عَبْدٍ أَوْ مُكَاتَبٍ، أَوْ ذِمّي، مَالَ صغيره المُسْلِم، و) لا (شِرَاؤُهُ) بماله، لأَن المكاتَب عَبْدٌ ما بَقِي عليه دِرْهَمٌ، والعبد لا ولايةَ له، قال الله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مثلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شيءٍ}

(1)

، والكافر لا ولايةَ له على المسلم، قال الله تعالى:{ولَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ للكافِرِيْنَ على المُؤمِنِيْنَ سَبِيْلاً}

(2)

. قيد الذمي لا للاحتراز عن الحربي، لأَنه في هذا الحُكْمِ مِثْلُهُ، بل عن المرتد، لأَن ولايته على أَولاده وأَمواله موقوفةٌ، فإِنْ أَسلم جُعِل كَأَنه لم يَزَل مُسْلِمَاً فينفُذ تصرفُهُ، وإِن مات أَوْ قُتِلَ على رِدَّتِهِ تَبْطُل لِتَقرُّر جهة انقطاع الولاية.

(والأَمْرُ بِشِرَاءِ الطَّعَامِ) يقع على الحنطة ودقيقها بناءً على العرف والعادة. وقيل: يقع (عَلَى البُرِّ في دَرَاهِمَ كَثِيْرَةٍ)، وهي عشرة فما فوقها (وعَلَى الخُبْزِ في) دراهم (قَلِيْلَةٍ)، وهي الثلاثة (وعَلَى الدَّقِيْقِ في) دراهم (مُتَوَسِّطَةٍ)، وهي ما بين الكثيرة والقليلة (وفي مُتَّخِذِ الوَلِيْمَةِ) يقع (عَلَى الخُبْزِ) وإِنْ كثرت الدراهم. والفارق في ذلك العُرْف وقرائن الأَحوال. وقال بعض مشايخ ما وراء النهر: الطَّعام في عُرْفنا ما

(1)

سورة النحل، الآية:(175).

(2)

سورة النساء، الآية:(141).

ص: 519

وصَحَّ الأَمْرُ بِشِرَاءِ حِمَارٍ، ودَارٍ إن ذَكَرَ ثَمَنَهَا ومَحَلَّتَهَما، وشَيءٍ عُلِمَ جِنسُهُ مِنْ وَجْهٍ، وذُكِرَ ثَمَنٌ، أَو عيَّن نوعًا، لا إِنْ فَحُشَ جَهَالَةُ جِنْسِهِ، كالرَّقِيقِ والثَّوْبِ والدَّابة.

وصُدِّقَ الوَكِيل في: شَرَيْتُ عَبدًا لِلآمِر فمات، وقال الآمِر: لِنَفْسِكَ. إِنْ دَفَعَ الأمِرُ الثَّمَنَ،

===

يمكن أَكْلُهُ من غير إِدَام

(1)

، كاللحم المطبوخ أَوْ المَشْوي دون الحِنْطة ودقيقها. قال الصدر الشهيد: وعليه الفتوى.

(وصَحَّ الأَمْرُ بِشِرَاءِ حِمَارٍ) وفرسٍ، وبغلٍ، وشاةٍ، وثَوْبٍ هَرَوِيَ ونحوها، لأَن الجنس صار معلوماً بالتسمية، وإِنما الجهالة في الوصف، وهي يسيرةٌ، وقد ثبت أَنه عليه الصلاة والسلام وَكَّل بشِراءِ شاةٍ للأُضحية. (و) الأَمر بشراءِ (دَارٍ إِنْ ذَكَرَ ثَمَنَهَا ومَحَلَّتَهَما) لأَن الدار تختلف اختلافاً فاحشاً بِحسب الأَغراض، والمرافق، والجيران، والمحال، والبلدان فيتعذر الامتثال، فإِن سُمِّي الثمن والمَحَلّة صارت معلومةً عادةً وبقيت الجهالة يسيرةً.

(و) بشراء (شَيءٍ عُلِمَ جِنسُهُ مِنْ وَجْهٍ وذُكِرَ ثَمَنٌ، أَوْ عيَّن) ذلك الشيءَ (نوعاً) أَي من جهة النوع، فلو وَكَّلَه بشراء عبدٍ لا يصح، لأَنه يشمل أَنواعاً ففحشت الجهالة. فإِن سَمَّى الثمن أَوْ عَيَّن النوع، كَتُرْكِي وحَبَشِي، صح التوكيل، (لا إِنْ فَحُشَ) أَي لا تصح الوكالة بشراء شيءٍ فَحُشَ (جَهَالَةُ جِنْسِهِ) وإِنْ ذُكر الثمن (كالرَّقِيْقِ والثَّوْبِ والدَّابَّة) لأَن الثوب يتناول أَجناساً شتى من الأَطلس

(2)

إِلى الكساء.

والدَّابة في اللغة: اسمٌ لما يَدِبُّ، وفي العرف: للفرس، والحمار، والبغل. والرقيقُ يَشْمَل الذَّكَر والأُنثى، وهما من بني آدم جنسان مختلفان. وتسمية الثمن لا تُزيل هذه الجهالة، إِذْ يوجد بما سَمَّى واحدٌ من كل جنس، ولا يُعرف مراد الآمر، والأمر بما لا يَقْدِر المأمورُ على الامتثال به باطل، إِلا أَنْ يُفَوِّض الموكِّلُ الأَمْرَ إِلى رأي الوكيل: بأَن يقول له: اشتر لي بأَلفٍ ثياباً، أَوْ دَوَابَّ، أَوْ أَشياءَ، أَوْ ما شئت، أَوْ ما رأَيت، أَوْ أَدنى شيءٍ حضرك، أَوْ ما يوجد، أَوْ ما يَتَّفِق، لأَن في التعميم دلالةً على التفويض إِلى رأيه.

(وصُدِّقَ الوَكِيْلُ) بشراءِ عبدٍ بغير عينه (في: شَرَيْتُ عَبْداً لِلآمِر فمات، وقال الآمِر:) شريته (لِنَفْسِكَ إِنْ) كان (دَفَعَ الآمِرُ الثَّمَنَ) إِلى الوكيل، لأَنه حينئذٍ أَمينٌ على

(1)

الإدام: ما يؤكلُ مع الخبزِ لِتطيبه. معجم لغة الفقهاء ص 51.

(2)

الأَطْلَس: الثوب الخَلَق [البالي]. لسان العرب 6/ 124. مادة: (طلس).

ص: 520

وإلَّا فالآمِرُ.

وللوَكِيلِ حَبْسُ المَبِيعِ مِنْ آمِرِهِ لِقَبْضِ، ثَمَنِهِ. وإِنْ لَمْ يدفع، فإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الحَبْسِ، سَقَطَ الثَّمَنُ. وليس للوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَيْنٍ شِرَاؤُهُ لِنَفْسِهِ، فإنْ شَرَى بِخِلافِ جِنْسِ ثَمَنٍ سُمِّيَ، وَقَعَ لَهُ.

===

الثمن، وقد ادَّعى الخروج عن عهدة الأَمانة على الوجه الذي أَمره به، فكان القول قوله. ولا فرق بين العبد المُعَيَّن وغيرِ المعيَّن، فتنكيرُه في المتن وقع اتفاقاً (وإِلاَّ) أَي وإِن لم يدفع الآمِر الثمن إِلى الوكيل (فالآمِرُ) هو المُصَدَّق، لأَن الوكيل يَدَّعِي الثَّمن على المُوَكِّل، وهو مُنْكِر فيكون القول قوله.

والتقييد بالموت احترازٌ عَمَّا إِذا كان العَبْدُ حَيّاً، فإِنه إِنْ كان غَيْرَ معيَّن وكان الثمن منقوداً فالقولُ للوكيل اتفاقاً، لأَنه أَمين، وإِن لم يكن منقوداً فكذلك عندهما، لأَنه يملك استيفاء الشراء فلا يتهم في الإخبار عنه. وعند أَبي حنيفة القول للموكِّل، وإِن كان العبد مُعَيّنَاً فالقول للوكيل إِجماعاً، سواء كان الثمن منقوداً أَوْ لا. وفي «الذخيرة»: إِنَّ قول الأَمين مُعْتبرٌ مع اليمين.

(وللوَكِيْلِ حَبْسُ المَبِيْعِ) الذي أُمر بشرائه (مِنْ آمِرِهِ لِقَبْضِ ثَمَنِهِ) إِنْ دفع الوكيل الثمن إِلى بائعه (وإِنْ لَمْ يدفع) وعند زُفَر ليس له حقُّ الحبس أَصلاً، لأَن يده كيدِ الموكِّل حُكْمَاً (فإِنْ هَلَكَ) في يد الوكيل (بَعْدَ الحَبْسِ سَقَطَ الثَّمَنُ) عند أَبي حنيفة ومحمد، قَلَّتْ قيمتُهُ أَوْ كَثُرَت، وهو ضمان المبيع إِذا هلك في يد البائع. وعند زُفَر يضمن ضمان الغَصْب، لأَنه صار غاصِباً بِحَبْس ما ليس له حَبْسُه، فيضمن جميع قيمته إِنْ كان قِيْميّاً.

وعند أَبي يوسف ضمان الرهن حتى إِنْ كان فيه وفاءٌ بالثمن يسقط الثمن، وإِن لم يكن فيه وفاءٌ يرجع الوكيل بالفضل على الموكِّل، لأَنه مضمونٌ بالحبس للاستيفاء، كالرهن. ولهما أَنَّ الوكيل مع الموكِّل كالبائع مع المشتري، وهلاك المبيع في يد البائع يسقط الثمن، فكذا هذا. قيد الهلاك «ببَعْد الحبس» لأَنه قبل الحبس تقرر الثمن على الموكِّل.

(وليس للوَكِيْلِ بِشِرَاءِ عَيْنٍ) أَي مُعَيّن (شِرَاؤُهُ لِنَفْسِهِ) حتى لو شَرَى لنفسه، (فهو لموكِّله، سواء نوى عند العقد الشراء أَوْ صرّح به بأَنه يشتري لنفسه)

(1)

. (فإِنْ شَرَى) الوكيل (بِخِلَافِ جِنْسِ ثَمَنٍ سُمِّيَ) أَوْ بِأَكْثَر مِمَّا سُمِّي (وَقَعَ) الشراء (لَهُ) أَي

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 521

‌فصل [في أحْكَامِ التَّوكيلِ بالخُصُومة]

للوَكِيْلِ بالخُصُوْمَةِ القَبْضُ، ويُفْتَى الآنَ بِخِلافِهِ، وللوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ الخُصُومَةُ، لا بِقَبْضِ العَيْنِ، وتُقْصَرُ يَدُ الوَكِيْلِ بِقَبْضِ العَبْدِ وَنَقْلِ المَرْأَةِ، إِنْ أَقَامَ الحُجَّةَ عَلَى البَيْعِ، والطَّلاقِ

===

للوكيل، لأَنه خالفَ أَمْر الآمِر فنفذ عليه، إِلاَّ أَنْ ينوي وقت الشراء للآمِر، أَوْ يُضِيفه إِلى مالِ الآمِر. ولو وُكِّل بشراءِ عشرة أَرطالِ

(1)

لحمٍ بدرهم، فاشترى به عشرين رَطلاً مما يباع منه عشرة بدرهم، فللموكِّل النصف بحصته عند أَبي حنيفة، وأَلزما الكل بالدرهم كمالك والشافعي، لما روينا أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَعطَى عُرْوة البارقي ديناراً ليشتري به أُضحيةً أَوْ شاةً، فاشترى شاتين، فباع إِحداهما، فأَتاه بِشاةٍ ودينارٍ، فدعا له بالبركةِ في بَيْعِه.

فصل (في أَحكام التوكيل بالخصومة)

(للوَكِيْلِ بالخُصُوْمَةِ) والتقاضي (القَبْضُ)، سواء كانت الخصومة في عينٍ أَوْ دينٍ، وهو وجهٌ في مذهب الشافعي، لأَن التوكيل بالشيء توكيلٌ بإِتمامه، وإِتمامُ الخصومة والتقاضي بالقبض. (ويُفْتَى الآنَ بِخِلَافِهِ) وهو أَنْ الوكيل بالخصومة ليس له القبض. أَفتى بذلك الصدر الشهيد وكثير من مشايخ بَلْخ، وهو قول زُفر، ومالك، والشافعي، وأَحمد، لأَن مَنْ يُؤَمَّن على الخصومة قد لا يؤمن على المال، لظهور الخيانة في هذا الزمان.

(وللوَكِيْلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ الخُصُومَةُ) عند أَبي حنيفة والشافعي (في قولٍ، وأَحمد)

(2)

في روايةٍ. وقال أَبو يوسف ومحمد: لا يكون خصماً، وهو روايةُ الحسن عن أَبي حنيفة، والأَصح من مذهب الشافعي، وظاهر الرواية عن أَحمد.

(لَا بِقَبْضِ العَيْنِ) فإِن الوكيل بقبضها ليس له الخصومة اتفاقاً (وتُقْصَرُ يَدُ الوَكِيْلِ) أَي الذي وُكِّل (بِقَبْضِ العَبْدِ) مِمَّنْ هو في يده، فالباء متعلقة بالوكيل (وَنَقْلِ المَرْأَةِ) أَي وتُقْصر يدُ الوَكِيل بنقل المرأَة (إِنْ أَقَامَ) الذي في يده العبد (الحُجَّةَ عَلَى البَيْعِ، و) أَقامت المرأَة الحُجة على (الطَّلَاقِ) بأَن أَقام الذي في يده

(1)

الرطل العراقي= 407.5 غرامًا، وهو المراد بكلام الفقهاء عند كلامهم على أَوزان غير الفضة.

معجم ص لغة الفقهاء ص 223.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 522

بِلا ثُبُوْتِهما.

وَصحّ إِقْرَارُ الوَكِيلِ بالخُصُومَةِ عِنْدَ القاضي لا عِنْدَ غَيْرِهِ. وللمُوَكِّلِ عَزْلُ وَكِيلِهِ، وَوَقَفَ عَلَى عِلْمِهِ.

===

العبدُ بينَةً عَلَى أَنَّ الموكِّل باع العبد منه، وأَقامت المرأَة بينةً على أَنْ الموكِّل طَلَّقَهَا، (بِلَا ثُبُوْتِهما)، أَي: ولا يثبت البيع والطلاق.

(وَصحّ إِقْرَارُ الوَكِيْلِ) أَي الذي وُكِّل (بالخُصُومَةِ) على موكِّله، سواء كان وكيلاً للمُدَّعِي أَوْ للمُدَّعَى عليه (عِنْدَ القاضي)، متعلق بإِقرار، (لا عِنْدَ غَيْرِهِ) أَي لا يصح إِقرار الوكيل بالخصومة عند غير القاضي، وهذا عند أَبي حنيفة ومحمد. وقال أَبو يوسف: يصح إقراره عند غير القاضي أَيضاً. وقال زُفَر والشافِعيّ وأَحمد وابن أَبي لَيْلَى: لا يصح في الوجهين، وهو القياس، لأَنه أَتَى بِضِدِّ ما أَمَرَهُ به.

(وللمُوَكِّلِ عَزْلُ وَكِيْلِهِ) عن الوكالة متى شاء، لأَن الوكالة حَقُّه وله أَنْ يُسقطه. ولو قال الموكِّل لوكيله: كُلما عزلتُك فأَنت وكيلي، لا يملك عزلَه، لأَنه كلما عزله تجددت الوكالة له. وقيل: ينعزل بقوله: كلّما وكلتك فأَنت معزولٌ. وقيل: يملك عَزْله بأَن يقول: عزلتك عن جميع الوَكالات، فينصرف ذلك إِلى المعلّق والمنجَّز

(1)

. والصحيح أَنْ يقول إِذا أَراد عَزْله، وأَن لا تَنْفُذ الوَكَالة بعد العزل: رَجَعْتُ عن المُعَلَّقة، وعَزَلْتُك عن المنجَّزة، لأَن ما لا يكون لازماً يصح الرجوع عنه، والوكالة منه، فَكُلٌّ مَنْ الرجوع عن المعلقة والعزل عن المنجزة صحيحٌ.

(وَوَقَفَ) عَزْل الموكِّل وكيلَه (عَلَى عِلْمِهِ) فما دام لم يبلغه، هو على وكالته، وتصرُّفه جائزٌ. ويُشترطُ في مُبَلِّغهِ عند أَبي حنيفة إِذا لم يكن رسولَ المُوكِّل أَنْ يكون عدلاً أَوْ مستورَين، بخلافهما حيث اكتفيا بواحدٍ، وإِن لم يكن عدلاً، كالرسول إِليه، فإِنه لا يشترط فيه العدالة اتفاقاً. وقال الشافعي: ـ في الأَصح ـ ومالك في رواية، (وأَحمد في رواية)

(2)

: لا يتوقف عَزْل الوكيل على عِلمه، لأَن الموكِّل بعزل الوكيل مُسْقِطٌ لحق نفسه، فصار كالطلاق والعَتاق، فإِنه يجوز بدون عِلْم المرأَة والعبد.

ولنا أَنْ في عزله بدون علمه إِضراراً به، لأَنه ربما يتصرف بناءً على أَنه وكيلٌ

(1)

حرِّفت في المطبوع إلى الملنجزة، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 523

وتَبْطُلُ الوَكَالَةُ بمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وجُنُوْنِهِ مُطْبِقًا، ولَحَاقِهِ بِدَارِ الحَرْبِ مُرْتَدًّا، وكَذَا بِعَجْزِ مُوَكِّلِهِ مُكًاتَبًا، وحَجْرِهِ مَأَذُوْنًا، وافْتِرَاقِ الشَّرِيْكَين، وإِنْ لَمْ يَعْلَم به

===

ويَنْقُدُ الثمن من مال الموكِّل، أَوْ يسلم المبيع فيضمنه. ولو عزل الوكيلُ نَفْسَهُ بغير علم الموكِّل لا ينعزل، وعند الشافعي وأَحمد ومالك في روايةٍ: ينعزل. وعن مالك إِنْ كان في عزله ضررٌ على موكِّله لا ينعزل بدون علمه.

(وتَبْطُلُ الوَكَالَةُ) التي ليست بلازمة (بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وجُنُوْنِهِ مُطْبِقَاً) ـ بكسر الباء ـ أَي مستوعباً، من أَطبق الغيمُ السماء إِذا استوعبها، (ولَحَاقِهِ) أَي وبِلَحاق أَحدهما (بِدَارِ الحَرْبِ مُرْتَدّاً). قيَّد الجنون «بالإطباق» ليكون كالموت، لأَن قليله كالإِغماء. وحَدُّ الجنون المُطْبِق شَهْرٌ عند أَبي يوسف، لأَنه يَسقط به الصوم، وعنه أَكثر من يوم وليلةٍ، لأَنه تسقط به الصلوات الخمس. وعند محمد حَوْلٌ كَامِلٌ وهو الصحيح، لأَن استمراره حولاً مع اختلاف فصوله آيةُ استحكامه، ولأَن ما دون الحَوْل لا يمنع وجوب الزكاة فلا يكون في معنى الموت.

والمراد «بِلَحاقه مرتداً» إِذا حكم الحاكم به، لأَن لَحَاقه لا يثبت إِلاَّ بِحُكْم الحاكم، وحينئذٍ تبطُل الوَكالة باتفاقهم. وأَما قَبْل الحُكْم فموقوفةٌ عند أَبي حنيفة، لأَن تصرفاتِ المرتد عنده موقوفةٌ فكذا وَكالته. فإِن أَسلم نفذت، وإِن قُتِل أَوْ لَحِق بِدَار الحربِ بَطَلَت، ونافدةٌ عندهما، لأَن تصرفاته نافذةٌ فلا تبطُل الوكالة، إِلاَّ أَنْ يموت أَحدهما، أَوْ يُقْتَلَ على ردَّتِهِ، أَوْ يُحكم بلُحوقه. وقيَّدنا الوكالة بالتي «ليست بلازمة» لأَن اللازمة المشروطة في عقد الرهن لا تَبْطُل بهذه الأُمور.

(وكَذَا) تبطل وَكَالة الوكيل (بِعَجْزِ مُوَكِّلِهِ) حال كونه (مُكَاتَبَاً) بأَن وكَّل مكاتَبٌ وكيلاً ثم عَجَزَ. (وحَجْرِهِ) أَي وكذا تَبْطُل وكالة الوكيل بالحجر على موكِّله حال كونه (مَأْذُوْنَاً) بأَن وَكَّل مأْذونٌ وكِيلاً، ثُم حَجَرَ على ذلك المأْذون وَلِيُّهُ. وهذا في الوكيل بالعقود، أَوْ الخصومات. وأَما الوكيل بقضاء الدين أَوْ اقتضائه فلا ينعزل بِعَجْزِ المكاتَبِ ولا بِحَجْر المأذون.

(وافْتِرَاقِ الشَّرِيْكَيْنِ) أَي وكذا تَبْطُل وكالة الوكيل بافتِراق المتشاركين، إِذا وَكَّلا أَوْ أَحَدُهما (وكيلاً)

(1)

فيما هو من شركتهما. (وإِنْ لَمْ يَعْلَم به) أَي بما ذكر من

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 524

وَكِيلُهُمْ. وتَصَرُّفِ المُوَكِّلِ فيما وُكِّلَ بِهِ.

===

العجز، والحجر، والافتراق (وَكِيْلُهُمْ)، لأَن بقاء الوكالة يعتمد قيام الآمِر، وقد بطل بِعَجْز الموكِّل والحجر عليه والافتراق، فكان عزلاً حُكْمياً بهذه الأَشياء فلا يتوقف على العلم بها.

(وتَصَرُّفِ المُوَكِّلِ) ـ بالجر ـ أَي وكذا تَبْطُل الوكالة بتصرف المُوكِّل (فيما وُكِّلَ بِهِ) تَصَرُّفاً يعجز الوكيل عن الامتثال به: مثل أَنْ يُوكِّل ببيع عَبدٍ ثم يبيعه، أَوْ يُدَبِّرهُ (أَوْ يُكَاتِبهُ)

(1)

أَوْ يعتقه بنفسه، وكما لو وَكَّل وكيلاً بطلاق امرأَته فطلقها الموكِّل ثلاثاً أَوْ واحدةً وانقضت عِدَّتُهَا، بطلت الوكالة، لِعَجْزِ الوكيل عن الامتثال. ولو تزوجها الموكِّل بعد ذلك ليس للوكيل أَنْ يطلِّقها، وإِن كان للموكِّل ذلك، لأَن تطليقها حينئذٍ بسببٍ جديدٍ وهو حاصل للموكِّل دون الوكيل. والله أَعلم.

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 525

‌كِتَابُ الشَّركَةِ

هِي ضَرْبَانِ: شَرِكةُ مِلْكٍ: وهي أَنْ يَمْلِكَ اثْنَانِ عَينًا. وكُلٌّ كأَجْنَبِيّ في مَال صَاحِبِهِ. وشَرِكَةُ عَقْدٍ، ورُكْنُهَا: الإِيْجَابُ والقَبُوْلَ.

وشَرْطُهَا أَنْ لا يُعَيَّن لأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ مِنْ الرِّبْحِ

===

كتاب الشَّرِكَة

(هِي) لُغَةً: الخَلْط، ويُطلق على عقد الشركة وإِن لم يوجد فيه اختلاط (النَّصيبين)

(1)

، لأَن العقد سبب له.

وشرعاً: (ضَرْبَانِ) أَي نوعان: (شَرِكَةُ مِلْكٍ: وهي أَنْ يَمْلِكَ اثْنَانِ) أَوْ أَكثر (عَيْنَاً) بإِرْثٍ، أَوْ بشراءٍ، أَوْ باستيلاءٍ، أَوْ بِهِبَةٍ أَوْ بصدقةٍ، أَوْ بوصيةٍ، أَوْ باختلاط مالهما بلا صُنْعٍ من أَحدهما، أَوْ بِصُنْع منه، خَلْطَاً يمتنع معه التمييز، كالبُرِّ مع البُرّ، أَوْ بِعُسْرٍ

(2)

كالبُرّ مع الشعير.

(وكلٌّ) من الشريكين في هذه الشَّركة (كأَجْنَبِيّ في مَال صَاحِبِهِ) فلا يجوز له أَنْ يتصرف فيه إِلاَّ بإِذنه، ويجوز له أَنْ يبيع نصيب نفسه من شريكه، ومن غيره بغير إِذن شريكه، إِلا في صورة الخلط أَوْ الاختلاط: فإِنه لا يجوز إِلاَّ بإِذن شريكه.

(وشَرِكَةُ عَقْدٍ، ورُكْنُهَا الإِيْجَابُ والقَبُوْلَ) بأَن يقول أَحدهما: شاركتك في كذا وكذا، ويقول الآخر: قَبِلْت. (وشَرْطُهَا) أَي شركة العقد (أَنْ لا يُعَيَّنَ لأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ مِنْ الرِّبْحِ) لأَن هذا التعيين قد يقطع الشركة: بأَن لا يبقى بعد تلك الدراهم رِبْحٌ يشتركان فيه. قال ابن المُنْذِر: ولا خلاف فيه لأحد.

(مشروعية الشَّرِكة)

ومشروعية الشركة بالكتاب، وهو قوله تعالى:{فَهُمْ شُرَكَاءُ في الثُّلُثِ}

(3)

، وقوله سبحانه وتعالى:{وإِنَّ كَثِيْرَاً من الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}

(4)

، والخلطاء: الشركاء. وبالسُّنَّة، وهو ما رَوى أَبو داود في «سُننه» ، والحاكم في «مستدرَكِه» ـ وصححه ـ عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى:

(1)

فِي المطبوع: النصيب، وما أَثبتناه من المخطوط.

(2)

أي: أَو يتميَّز بِعُشرٍ.

(3)

سورة النساء، الآية:(12).

(4)

سورة ص، الآية:(24).

ص: 526

وهِي أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:

[شَركَةُ المُفَاوضَة]

مُفَاوَضَةٌ: وهِي شَرِكَةُ مُتَسَاوِيَيْن مَالًا وحُرِّيَّةً ودِيْنًا،

===

أَنا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْن مَا لَمْ يَخُن أَحَدُهُمَا صَاحِبَه، فإِذا خَانَ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا»، أَي تبرأَت عنهما وعن المعاونة معهما. وبإِجماع الأُمة على جوازها. وبالمعقول وهو: أَنها طريق الفضل المشروع بقوله تعالى: {وابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}

(1)

، أَي من رزقه، وبالمعاملة مع خَلْقِه.

(وهِي) أَي شركة العقد (أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:)

(شَركَةُ المُفَاوَضَة)

الأول: (مُفَاوَضَة) مشتقة من التفويض، إِذْ كل واحدٍ منهما يُفَوِّض التصرف إِلى صاحبه على الإِطلاق. (وهِي شَرِكَةُ مُتَسَاوِيَيْن مَالاً) أَي من جهة المال، والمراد مال يصلح لرأْس مال الشركة، كالدراهم والدنانير، بخلاف العُرُوض

(2)

والعَقار والدّيون، حيث لا يُشترط (فيه) التساوي، ولا يُعتبر التفاضل فيه.

(وحُرِّيَةً) أَي من جهة الحرية، فلا تنعقد المفاوضة بين حُرَ وعبدٍ، ولا بين عَبْدَين، لأَن العبد لا يملك التصرف. ولو قال:«تَصَرُّفَاً» ـ كما في بعض النُّسَخ ـ بدل حرية، أَوْ زاد (حِلْمَاً)

(3)

ـ أَي عَقْلاً، كما في «الوقاية» ـ لكان أَحسن، لأَن المفاوضة لا تنعقد بين صغيرٍ وبالغ، ولا بين صغيرين. وإِنما شَرَط الحرية والبلوغ، لأَن الصبيَّ والعبد لا يملكان التكفل لكونه تبرعاً ابتداءً، وهو شَرْطٌ في هذه الشرِكة.

(ودِيْنَاً) أَي من جهة الدِّين، وهو المِلَّة. فلا تنعقد المفاوضة بين مسلم وكافرٍ، وهذا عند أَبي حنيفة ومحمد، خلافاً لأَبي يوسف. وتنعقد بين الكتابي والمجوسي، لأَن الكُفْر كله مِلَّة واحدة عندنا. وقال مالك، والشافعي، وأَحمد: لا تجوز شركة المفاوضة، وهو القياس، لأَنها تضمنت الوَكَالَة بمجهول الجنس، والكفالةَ

(1)

سورة الجمعة، الآية:(10).

(2)

العُرُوض: جمع العَرْض، وهي المتاع، وكل شيء فهو عَرْض سوى الدراهم والدنانير فإنها عَيْن.

معجم لغة الفقهاء ص 309.

(3)

في المطبوع: حكمًا، وما أَثبتناه من المخطوط.

ص: 527

وتَتَضَمَّنُ الوَكَالَةَ والكَفَالَةَ. ومُشْتَرَى كُلٍّ لَهُمْا، إِلَّا طَعَامَ أَهْلِهِ وكِسْوَتَهُمْ.

وكُلُّ دَيْنٍ لَزِمَ أَحَدَهُمَا بِمَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَة، كالشِّرَاءِ ونَحْوِهِ، ضَمِنَهُ الآخَرُ. وإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا، أَو وُهِبَ لَهُ مَا تَصِحُّ فيه الشرِكَةُ، وَقَبَضَ، صار عِنَانًا. وفي العُرُوض والعَقَارِ بَقِي مُفَاوَضَةً.

===

بمجهولٍ، وكلٌّ بانفراده فاسد.

ووجه الاستحسان أَنْ الناس تعاملوا بها من غير نكير، والقياسُ يُترك بالتعامل كالاستصناع، ودخول الحمام، لأَن التعامل بلا نكير كالإِجماع.

(وتَتَضَمَّنُ) المفاوضةُ (الوَكَالَةَ والكَفَالَةَ) لِتُحَقَّقَ الشركة في كل ما شراه أَحدهما، وتثبت المساواة بينهما في المطالبة بثمنه. (ومُشْتَرَى كُلَ) من شريكَي المفاوضة (لَهُمَا) لأَن كل واحد منهما قائمٌ مقام صاحبه في التصرف، فكان شراؤه كشرائه (إِلاَّ طَعَامَ أَهْلِهِ) أَي أَهْل كُلَ، (وكِسْوَتَهُمْ) أَي كسوة أَهْل كُلَ، فإِنها تكون له خاصة، وكذا استئجار كلَ ما يسكنه أَوْ ما يركبه لحج أَوْ غيره، وشراؤه إِداماً

(1)

ليأَكله، أَوْ أَمَةً ليطأَها، لأَن كل واحدٍ منهما عَالِمٌ حين العقد بحاجة نفسه إِلى ذلك، ولا يقصد أنه شريكه، فكان مستثنى دلالة، والاستثناء الثابت بالدلالة كالاستثناء الثابت بالمقالة. وحُكْمُ طعامِ كُلَ وكسْوَتِهِم حُكْمُ طعام أَهله وكسوتهم.

(وكُلُّ دَيْنٍ لَزِمَ أَحَدَهُمَا بِمَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ، كالشِّرَاءِ ونَحْوِهِ) من البيع والاستئجار (ضَمِنَهُ الآخَرُ) لأَنه كفيله. وأَما ما لا تصح

(2)

فيه الشركة، كالجِناية، والنكاح، ونفقة الزوجات والأَقارب، والصلح عن دم عَمْد، ونحوها، فلا يَضْمنه الآخَرُ، لأَن كل واحدٍ منهما لم يلتزم إِلاَّ دَين التجارة، وهذه الأَشياء ليست من التجارة.

(وإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا أَوْ وُهِبَ لَهُ) أَوْ تُصُدِّق عليه (مَا تَصِحُّ فيه الشَّرِكَةُ) كالدراهم والدنانير والفُلُوس

(3)

النافقة، (وَقَبَضَ) ذلك، (صار) عَقْدُ المفاوضة (عِنَانَاً)، لأَن المساواة فيما يصلح لرأَس مال الشركة ابتداءً وبقاءً شَرْطٌ في المفاوضة، وقد فاتت بقاءً لعدم مشاركة الآخَر له في الإرث والهِبة، لأَنه إِنما يشاركه فيما يحصل بسبب التجارة أَوْ ما يشبهها، وليست المساواة شَرْطَاً في العِنان، فانقلب عقد المفاوضة إِليها.

(وفي العُرُوضِ والعَقَارِ) أَي وفي إِرْثِ أَحدهما للعُرُوض والعَقَار أَوْ هبتهما له (بَقِي) العقد (مُفَاوَضَةً) ولم ينقلب عِناناً، لأَن عدم المساواة فيهما لا يمنع المفاوضة ابتداءً فكذا بقاءً.

(1)

الإِدام: ما يؤكل مع الخُبز لتطييبهِ. معجم لغة الفقهاء ص 51.

(2)

في المطبوع: يصلح، وما أَثبتناه من المخطوط.

(3)

الفَلْس: نوعٌ من النقود المضروبة من غير الذهب والفضة قيمتها سدس درهم. معجم لغة الفقهاء ص 350.

ص: 528

[شَركةُ العِنان]

وعِنَانٌ: وهي شَرِكَةٌ فِي كُلِّ تِجَارَةٍ، أَو نَوْعٍ. وتَصِحُّ بِبعْضِ مَالِهِ مَعَ فَضْلِ مَالِ أَحَدِهِمَا، وتَسَاوِي مَالَيهِمَا مَعَ تَفَاوُتِ الرِّبْحِ، وكَوْنِ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ، والآخَرِ دَنَانِيرَ، وبِلا خَلْطٍ.

وكُلٌّ مُطَالَبٌ بِثَمَنِ مَشْرِيِّهِ لا غَيرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيْكِهِ بِحِصَّتِهِ إِن أَدَّاهُ مِنْ مَالِهِ.

===

(شركة العِنان)

(و) الوجه الثاني من شَرِكة العقد (عِنَانٌ) بكسر أَوّله (وهي شَرِكَةٌ فِي كُلِّ تِجَارَةٍ، أَوْ) في (نَوْعٍ) من أَنواع التجارة. مأْخوذ مِنْ: عَنَّ له كذا: أَي عَرَض، لأَنه عَرَض لهما شيءٌ فاشتركا فيه، كما ذكره ابن السِّكِّيت. أَوْ من: عِنان الفرس، إِذْ كل منهما جعل عِنَان التصرف في بعض ماله إِلى صاحبه، كما قاله الكِسَائي والأَصْمَعِي. أَوْ لأَنه يجوز أَنْ يتفاوتا في المال والربح كما يتفاوت العِنان في يد الراكب حالة الميل والإِرخاء، كما في «المُغْرِب» و «المبسوط» .

(وتَصِحُّ) شركة العِنان (بِبَعْضِ مَالِهِ) أَي مال أَحد الشريكين (مَعَ فَضْلِ مَالِ أَحَدِهِمَا) لأَن الحاجة قد تَمَسّ إِلى ذلك مع عدم اقتضاء لفظها المساواة في مال الشركة. (و) تصح مع (تَسَاوِي مَالَيْهِمَا مَعَ تَفَاوُتِ الرِّبْحِ) بينهما، وعكسه: وهو تساوي الربح بينهما مع تفاوت مَالَيْهِمَا، وبه قال أَحمد. وقال زُفر ومالك والشافعي: لا تصح.

(و) تصح مع (كَوْنِ أَحَدِهِمَا) أَي أَحد المَالَيْن (دَرَاهِمَ، والآخَرِ دَنَانِيْرَ) وقال زُفَر والشافعيّ: لا تِصح. (و) تصح (بِلَا خَلْطٍ) وبه قال مالك وأَحمد، إِلاَّ أَنَّ مالِكَاً شَرَط أَنْ تكون أَيديهما عليه: بأَن يُجْعلا في حانوت لهما، أَوْ في يد وكيل لهما. وقال زُفَر والشافعي: لا تصح، فإِن الخلط عندهما مشروط. ومعنى قوله «بِلَا خَلْط»: أَنْ الخَلْط ليس بشرطٍ. عندنا، لا أَنه لا يجوز الخلط كما يُوْهِمُ ظاهرُ العبارة.

(وكُلٌّ) مِنْ شريكي العِنان (مُطَالَبٌ بِثَمَنِ مَشْرِيَّهِ) اسم مفعول من الشراء، كالمَرْمِيّ من الرمي (لَا غَيْرَ) أَي لا غير مشريه، فلا يُطالب بِمَشْرِيِّ الآخر، لأَن هذه الشركة لا تتضمن الكفالة. (ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيْكِهِ بِحِصَّتِهِ) من الثمن (إِنِ أَدَّاهُ مِنْ مَالِهِ) أَي من مال نفسه، لأَنه وكيل بالشراء من جهة شريكه، والوكيل بالشراء إِذا نَقَدَ

ص: 529

ولا تَصِحَّان إِلَّا بالنَّقْدَيْن، والفُلُوْسِ النَّافِقَةِ، والتِّبْرِ، والنُّقْرَة، إِن تَعَامَل النَّاسُ بِهِما، وبالعَرْض بعد أَنْ بَاعَ كُلٌّ نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصفِ عَرْضِ الآخَرِ.

وهَلاكُ مالِهِا، أَو مالِ أَحَدهما قَبْلَ الشِّرَاءِ يُفْسِدُهَا، وهُوَ عَلَى صَاحِبِهِ

===

الثمن من مال نفسه يرجع على المُوَكِّل، أَما لو كان الأَداء مِنْ مال الشركة، فلم يرجع على شَرِيْكِه.

(ولا تَصِحَّان) أَي المفاوضة والعِنَان (إِلاَّ بالنَّقْدَيْن) من الذهب والفضة المضروبَين (والفُلُوْسِ النَّافِقَةِ)، أَي الرائجة، لأَنها حينئذٍ أَثمان، كالنقدين. (والتِّبْرِ) أَي وبالتبر: وهو ذَهَبٌ غير مضروب، (والنُّقْرَة) وهي فضة غير مضروبة (إِنْ تَعَامَل النَّاسُ بِهِما) في ظاهر المذهب وهو الأَصح، كما في «الهداية» . بناءً على أَنهما بمنزلةِ العُروض، فلا يصلحان لرأْس مال الشركة ومال المضاربة. وقيل: تجوز بهما الشَّرِكة مُطْلَقَاً، لأَنهما خُلِقَا ثَمَنَيْنِ، فتصح الشَّرِكة بهما تَنْزِيْلاً للتعامل بهما منزلة الضَّرْب المخصوص.

(و) تصح المفاوضة والعِنَان (بالعَرْض بعد أَنْ بَاعَ كُلٌّ) من الشريكين (نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ عَرْضِ الآخَرِ) إِنْ تَساويا قيمةً، وإِن اختلفا: بأَن تكون قيمةُ أَحدهما أَلفاً، وقيمةُ الآخَرِ أَلْفَيْنِ، يبيع صاحب الأَقَلِّ ثُلُثَي عَرْضِهِ بثُلُث عَرْضِ الآخَر، فيكون كُلٌّ من العَرْضَيْن مُشْتَرَكاً بينهما أَثْلَاثَاً. والقصد أَنْ يصير العَرْض مشتركاً بينهما أَولاً شركةَ ملك، حتى لا يجوز لكل واحدٍ منهما حينئذٍ أَنْ يتصرف في مِلْك الآخَر، ثُم يعقدان عَقْد الشركة مُفَاوَضةً أَوْ عِنَانَاً، فيصير العَرْض رأْس مال شركة المفاوضةِ والعِنان، ويجوز لكل واحدٍ منهما حينئذٍ أَنْ يتصرف في نصيب الآخَر.

وهذه حيلةٌ لِمَنْ أَراد الشرِكَة مفاوضةً أَوْ عِنَانَاً، وهذا هو المختار تبعاً للقُدُوري، وشيخ الإِسلام، وصاحب «الذَّخِيْرة» والمُزَني من أَصحاب الشافعي.

وقال شمس الأَئمة وصاحب «الهداية» : إِنه لا يجوز عَقْدَ شَرِكة، لما تقدم أَنَّ العُروض لا تصلح رأَس مال الشَّركة لبقاء الجهالة في رأَس المال، والربح عند القِسْمة. ولا يَخْفى ضعفه لما تَبَيَّن من زوال جهالتها. ثم التقييد بالنِّصف وقع اتفاقاً على ما قررنا. وقيل: لتصح المفاوضة، فإِنَّ شَرْطَها التساوي، والأَظْهَر أَنْ يبيع كُلُّ وَاحِدٍ منهما نصفَ ماله بِنِصْفِ مال الآخَر وإِن تفاوتت قيمتهما، حتى يصير المال بينهما نصفين.

(وهَلَاكُ مَالِهِا) مبتدأَ، أَي مال الشركة قبل أَنْ يشتريا شيئاً، وفي بعض النسخ:«مالهما» أَي مال الشريكين اللَّذَيْن عقدا به الشركة، ويؤيده قوله:(أَوْ مالِ أَحَدهما قَبْلَ الشِّرَاءِ يُفْسِدُهَا) خبر المبتدأَ، (وَهُوَ) أَي هلاك مال أَحدهما (عَلَى صَاحِبِهِ) إِنْ هلك

ص: 530

قَبْلَ الخَلْطِ في يَدِ أَيِّهِمَا هَلَكَ، وبَعْدَ الخَلْطِ عَلَيهِما. ولِكُلٍّ أَنْ يُبْضِعَ ويُوْدِعَ ويُضَارِبَ ويُوَكِّلَ، والمَالُ في يَدِهِ أَمَانَةٌ.

===

(قَبْلَ الخَلْطِ في يَدِ أَيِّهِمَا هَلَكَ). أَما إِنْ هَلَك في يد صاحبه فَظاهِرٌ، وأَما إِنْ هلك في يد الآخَرِ، فلأَنه أَمانةٌ في يده، لأَن كلاًّ منهما أَمِيْنٌ في رأَس مال صَاحِبِه، (و) هلاكُ مال أَحدهما (بَعْدَ الخَلْطِ عَلَيْهِما) لأَنه لا يتميز، فَجُعِل من مالهما.

(ولِكُلَ) من شريكَي مفاوضةٍ وعِنان (أَنْ يُبْضِعَ) أَي يُعْطِي مال الشركة لِمَنْ يَتَّجِرُ فيه (بغير شيء)

(1)

، لأَن لِكُلَ أَنْ يستعمل مَنْ يَتَّجِر مِنْ مال الشركة بِأَجْرٍ، فبغير شيءٍ أَوْلى. (و) أَنْ (يُوْدِعَ) أَي يدفع مال الشركة وَدِيعةً، لأَن للشريك أَنْ يدفع مال الشركة لِمَنْ يحفظه بِأَجْرٍ، فَلأَنْ يدفعه لِمَنْ يحفظه بلا أَجْرٍ ـ وهو المودَع ـ أَوْلَى.

(و) أَنْ (يُضَارِبَ) أَي يدفع المال لِمَنْ يَتَّجِرُ فيه بِجُزْءٍ معلومٍ من الربح، لأَن المُضَارِب يصيرُ بالدَّفْع إِليه مودَعَاً، وبالتصرف في المال وكيلاً، وبالربح أَجِيراً.

هذا، وللشريك أَنْ يفعل في مال الشركة هذه الأَشياءَ على الانفراد، فكذا على الاجتماع، وهذه روايةُ «الأَصل» وهو الأَصح. (و) أَنْ (يُوَكِّلَ) مَنْ يتصرف في مال الشركة بالبيع والشراء، لأَن ذلك من عادة التجَّار والشركة مُنْعَقِدَةٌ، وهذا استحسانٌ. وفي القياس ليس له ذلك، لأَنَّ كل واحدٍ منهما وكيل صاحبه، وليس للوكيل أَنْ يُوَكِّلَ غيرَه، لأَن المُوَكِّل إِنما رَضِيَ رَأْيَه دون رَأَي غَيْرِه.

(والمَالُ) في كلَ من شركة المفاوضة والعِنان (في يَدِهِ) أَي يد كلَ من الشريكين (أَمَانَةٌ)، لأَنه قَبَضَه بإِذْن صاحبه لا على وجه المبادلة والوثيقة، فكان كالوديعة، حتى لا يضمنه إِلاَّ بالتعدي، وبيعِ المال وضيعةً

(2)

وإِنْ شرط الفَضْل في الربح، لقول عَليَ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: الرِّبْح على ما شَرَطَا، والوضيعة على قَدْرِ المالين.

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

عبارة المخطوط والمطبوع: "الوضيعة"، وما أثبتناه أوفق للمعنى. وبيع الوضيعة: البيع برأْس المال ووضع شيءٍ معلومٍ منه. معجم لغة الفقهاء ص 505.

ص: 531

[شَركَةُ الأَعْمَالِ]

وشَرِكَةُ الصنائع والتَّقَبُّل: وهِي: أَنْ يَشْتَرِكَ صَانِعَانِ كَخَيَّاطَيْنِ أَو خَيَّاطٍ وصَبَّاغٍ، ويَتقَبَّلا العَمَلَ بِأَجْر بَينَهُمَا، صَحَّتْ وإِنْ شَرَطَا العَمَلَ نِصْفَيْنِ والمالَ أَثْلاثًا.

وَلَزِمَ كُلًّا عَمَلٌ قَبِلَهُ أَحَدُهُمَا، ويُطَالِبُ الأَجْرَ، وَيَصِحُّ الدَّفْعُ إِلَيْه. والكَسْبُ بَينَهُمَا وإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا.

===

(شَرِكةُ الأَعْمَالِ)

(و) الوجه الثالث مِنْ أَوْجُهِ الشَّرِكَة (شَرِكَةُ الصنائع و) تُسمى شركة (التَّقَبُّل:) وشركة الأَعمال (وهِي: أَنْ يَشْتَرِكَ صَانِعَانِ) مُتَّفِقَا الصَّنعة (كَخَيَّاطَيْنِ أَوْ) مختلفاها نحو (خَيَّاطٍ وصَبَّاغٍ، ويَتَقَبَّلَا العَمَلَ بِأَجْرٍ بَيْنَهُمَا صَحَّتْ) هذه الشركة إِنْ شرطا المساواة في العمل، وفي المال المستفاد منه، وهو الأُجرة.

(وإِنْ شَرَطَا العَمَلَ نِصْفَيْنِ، والمَالَ) المستفاد منه (أَثْلَاثاً) لِجَوَازِ أَنْ يكون قيمة عمل أَحَدهما أَكثر، وهذا استحسانٌ، والقياس أَنْ لا يجوز، وهو قول زُفَر، لأَن الضَّمان بِقَدْر العمل، فالزيادة عليه رِبْحُ ما لم يَضْمن. وقال الشافعي: لا تصح شركة الصنائع، وهو إِحدى الروايتين عن زُفَر. وقال مالك ـ وهو رواية عن زُفَر ـ: لا يجوز اشتراك مختلفَي الصَّنعة، ولا اشتراك متفقَيهما في مكانين

(1)

.

(وَلَزِمَ كُلاًّ) من الشريكين (عَمَلٌ قَبِلَهُ أَحَدُهُمَا) لأَن كُلَّ واحدٍ مُتَقَبِّلٌ لِنَفْسِهِ أَصَالَةً، ولشريكه وكالةً (ويُطَالِبُ) أَي كلٌّ (منهما)

(2)

(الأَجْرَ) الذي لم يَتَقَبَّل، (وَيَصِحُّ الدَّفْعُ) أَي دفع الأُجرة (إِلَيْه) أَي إِلى الآخَرِ (والكَسْبُ بَينَهُمَا) على ما شَرَطَا (وإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا) أَما الذي عمل فظاهرٌ، وأَما الذي لم يعمل فلأَنه لما لَزمه العمل بالتقبل وكان ضامِنَاً له، استحق الأَجر بالضمانِ ولَزِمَ العمل.

(1)

في المطبوع: مكان، والصواب ما أثبتناه من المخطوط، و "بداية المجتهد" 2/ 255.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 532

[شَرِكةُ الوُجُوهِ]

وشَرِكَةُ الوُجُوهِ: وهي: أَنْ يَشْتَرِكَا بِلا مَالٍ لِيَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا ويَبِيعَا، فَتَصِحُّ مُفَاوَضَةً، ومُطْلَقُهَا عِنَانٌ. وكُلٌّ وَكِيلٌ للآخَرِ، فإِن شَرَطا مُنَاصَفَةَ المُشْتَرَى، أَوْ مُثَالَثَتَهُ، فالرِّبْحُ كَذِلِكَ. وَشَرْطُ الفَضْلِ بَاطِلٌ.

===

(شَرِكَةُ الوُجُوهِ)

(و) الوجه الرابع من أَوجه شركة العَقْد (شَرِكَةُ الوُجُوهِ: وهي أَنْ يَشْتَرِكَا بِلَا مَالٍ لِيَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا ويَبِيْعَا) وما ربحاه يكون بينهما، وسُمِّيت بها، لأَنها (إِنَّما)

(1)

يشتري بها مَنْ له وَجْهٌ عند الناس، وهي جائزةٌ عندنا باعتبار ما فيها من الوكالة، فإِنَّ توكيل كُلِّ واحد منهما صاحِبَه بالشراء، على أَنْ يكون المُشْتَرَى بينهما نِصفين أَوْ أَثلاثَاً صحيحٌ، فكذا الشرط الذي يتضمن هذه الوكالة.

(فَتَصِحُّ) شَرِكَة الوُجُوه (مُفَاوَضَةً) إِذا نَصَّا على المفاوضة واجتمعت فيها شرائطها. (ومُطْلَقُهَا عِنَانٌ) لأَن العِنان معتادٌ بين الناس، والمطلق ينصرف إِلى المعتاد والمتعارَف.

(وكُلٌّ) منهما (وَكِيْلٌ للآخَرِ) فيما يشتريه. قيل: لا حاجة إِلى هذا، لأَن هذه الشركة إِما مفاوضةٌ، وإِما عِنانٌ، وقد تبيَّن أَنَّ كُلاًّ منهما في ذلك وكيلُ الآخَر، وإِذا كانت مفاوضةً كان كلٌّ منهما كَفِيلاً للآخر أَيضاً.

(فإِن شَرَطا مُنَاصَفَةَ المُشْتَرَى) بينهما (أَوْ مُثَالَثَتَهُ، فالرِّبْحُ كَذِلِكَ) أَي يكون بينهما مناصفةً في صورة مناصفة المُشْترى، ومثالثةً في صورة مثالثة المُشْتَرى.

(وَشَرْطُ الفَضْلِ) في الربح (بَاطِلٌ) أَي إِذا شُرِطَ أن تكون حصةُ ربْح أَحَدِهِمَا زائدةً على قَدْر مِلْكه، فهذا الشرط باطل، فإِن الربح يكون على قَدْر المِلْك في المُشْتَرى، فكان الزائد عليه ربحَ ما لم يضمن، وهو غيرُ جائزٍ، وإِنما جاز في العِنان ذلك باعتبار جواز زيادة العمل من أَحَدِهما، وهذا الاعتبار إِنما يجوز إِذا كان المال معلوماً، كما في المضاربة والعِنان، وهنا ليس كذلك.

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 533

[ما لا تَصِحُّ فيهِ الشَّرِكةُ]

ولا تَصحُّ الشَّرِكَةُ في أَخْذِ المُبَاحَاتِ، فَخُصَّتْ بِمَنْ أَخَذَهَا، ونُصِّفَتْ إِنْ أَخَذَاهَا، وللمُعَيِّنِ وصَاحِبِ العُدَّةِ أَجْرُ المِثْل، ولا يُزَاد عَلَى نِصْفِ القِيمَةِ عِنْدَ أَبي يُوْسُفَ، خِلافًا لِمُحَمَّدٍ. والرِّبْحُ في الفَاسِدَةِ عَلَى قَدْرِ المَالِ.

===

(مَا لا تَصحُّ فيهِ الشَّرِكَةُ)

(ولا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ في أَخْذِ المُبَاحَاتِ) كالاحتطاب، والاحتشاش، والاصطياد، والاستقاء، واجتناء الثّمار من الجبال والبوادي، وأَخْذ جواهر المعادن، وأَخْذ الجِصّ

(1)

والملح من المواضع المباحة، والتقاط السنبلة ونحوها، لأَن الشركة تتضمن الوكالة، والوكيل يملكه بالأَخْذ بدون أَمره، فلا يصح نائباً عنه.

وقال مالك وأَحمد: تصح لأَنها شركة الأَبدان، ولما روى أَبو داود عن ابن مسعود أَنه قال: اشتركت أَنا وسعد

(2)

وعَمَّار يَوْمَ بَدْر، فلم أَجاء أَنا وعَمَّار بشيءٍ، وجاء سعدٌ بِأَسِيرَيْن، فأَشْرَك بَيْنَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم. والجواب أَنْ الغنائم مشتركةٌ بين الغانمين، فلا يصح اختصاص أَحد بسبب الشركة فيها، وتشريكُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بين ابن مسعود وصاحبيه في الأَسيرين يحتمل أَنْ يكون بإِزاء نصيبهم من الغنيمة، لا لعقد الشركة التي وقعت بينهم. وقيل: غنائم بَدْر كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصةً، فله أَنْ يدفعها إِلى مَنْ شاء، فيحتمل أَنْ يكون دَفْعُ الأَسِيْرَيْن لهم لذلك.

(فَخُصَّتْ) المباحات إِذا لم تصحَّ الشَّركة فيها (بِمَنْ أَخَذَهَا) لوجود سبب الاستحقاق منه، (ونُصِّفَتْ إِنْ أَخَذَاهَا) لاستِوائهما في سبب الاستحقاق. (وللمُعَيِّنِ) خبر مقدَّم إِنْ اشتركا في الاحتطاب منه على أَنْ يقطع أَحَدُهما ويجمع الآخر (وصَاحِبِ العُدَّةِ) إِنْ اشتركا في الاستقاء على أَنْ العمل مِنْ أَحَدِهما، والدابة والراوية من الآخَر. (أَجْرُ المِثْل) ـ المبتدأَ

(3)

ـ (ولا يُزَاد عَلَى نِصْفِ القِيْمَةِ عِنْدَ أَبي يُوْسُفَ) لأَنه رضي به لرضاه بنصف المسمى، كما لا يزاد على المسمى في الإِجارة الفاسدة (خِلَافَاً لِمُحَمَّدٍ) فإِنه قال: لا بد من أَجر المِثْل، لأَن المُسَمَّى مجهولٌ والرِّضَى بالمجهول لَغْوٌ، فيسقط، وقد استوفى منافعه بعقد فاسد فيكون له أَجْرُ مِثْله بَالِغَاً ما بلغ.

(والرِّبْحُ في) الشركة (الفَاسِدَةِ عَلَى قَدْرِ المَالِ) وإِنْ شرط الفضل، لأَن الربح تَبعٌ للمال فيقدر بقدره.

(1)

الجِصّ: ما تطلى به البيوت من الكلس. معجم لغة الفقهاء ص 164.

(2)

في المطبوع: أبو سعد، والصواب ما أثبتناه لموافقته لسنن أبي داود 3/ 681، كتاب البيوع والإجارات (22)، باب في الشركة على غير رأس المال (29) رقم (3388).

(3)

مبتدأ مؤخَّر، خبره تَقدّم عليه، وهو:"للمُعَيِّن".

ص: 534

[فيما تَبْطُلُ به الشَّرِكَةُ]

تَبْطُلُ الشرِكَةُ بالمَوْتِ، والجُنُونِ، واللَّحاقِ بِدَارِ الحَرْبِ مُرْتَدًّا.

[تَزْكيَةُ أحَدِ الشُّركَاء عن بَعْضِهم]

وَلَمْ يُزَكِّ أَحَدُهُمَا مَالَ الآخَرِ بِلا إِذْنِهِ، فإِنْ أَذِنَ كلٌّ، فَأَدَّيَا وِلاءً، ضَمِنَ الثَّانِي للأَوَّلِ، وإِنْ أَدَّيَا مَعًا، ضمِن كُلٌّ قِسْطَ غَيرِهِ.

===

(فيما تبطل به الشركة)

(وتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ بالمَوْتِ، والجُنُوْنِ، واللَّحاقِ بِدَارِ الحَرْبِ مُرْتَدّاً) لأَن الشركة تَقْتَضِي الوكالة، وهي تَبْطُل بكل من هذه الأُمور، وإِذا بطلت الوكالة بطلت الشركة إِذْ لا بد لها منها، وسواء علم الشريك بموت صاحبه أَوْ لا.

(تَزْكِيَةُ أَحَدِ لشُّرَكَاءِ عن بَعْضِهِمْ)

(وَلَمْ يُزَكِّ أَحَدُهُمَا مَالَ الآخَرِ بِلا إِذْنِهِ) لأَن كلَّ واحدٍ منهما ليس بِنَائِبٍ عن صاحبه في الزكاة بل في التجارة، وأَداء الزكاة ليس منها. (فإِنْ أَذِنَ كُلٌّ) لصاحبه بأَنْ يؤديَ الزكاة عنه (فَأَدَّيَا وِلَاءً) أَي على التَّوالِي (ضَمِنَ الثَّانِي للأَوَّلِ) عِنْد أَبي حنيفة، علم بأَداء الأول أَوْ لا. وعندهما إِنْ علم بأَداء صاحبه ضَمِنَ وإِلاَّ لا، كذا أَشار في كتاب الزكاة. وفي «الزيادات»: عندهما لا يضمن، عَلِم بأَداء شريكه أَمْ لا، وهو الصحيح عندهما، (وإِنْ أَدَّيَا مَعَاً ضَمِن كُلٌّ قِسْطَ غَيْرِهِ) عَلِم أَوْ لم يعلم عند أَبي حنيفة. وعندهما لا يضمن إِنْ لم يعلم. والله سبحانه وتعالى أَعلم.

ص: 535

‌كِتَابُ المُضَارَبَةِ

هِي عَقْدُ شَرِكَةٍ في الرِّبْحِ بِمَالٍ مِنْ رَجُلٍ وعَمَلٍ مِن آخَرَ

===

كتاب المُضاربة

(هِي) لغةً: مفاعلةٌ من الضَّرْب في الأَرض بمعنى

(1)

السير (فيها)

(2)

، قال الله تعالى:{وآخَرُوْنَ يَضْرِبُونَ في الأَرْضِ يَبْتَغُوْنَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}

(3)

أَي يسافرون للتجارة ونحوها، سُمِّي بها لأَن العامل فيها يسير في الأَرض غالباً لطلب الربح، ولأَن المضارِب يستحق (الرِّبح)

(4)

لِسَعْيهِ وعمله، فهو شريكٌ في الربح، ورأَسُ ماله الضَّرْبُ في الأَرض والتصرف. وأَهْلُ المدينةِ يُسَمُّون هذا العقد مقارضةً من القَرْض بمعنى القَطْع، فصاحب المال قَطَع قَدْراً من ماله عن تَصَرُّفه، وجعل التصرف فيه إِلى العامل بهذا العقد، فَسُمِّي به.

وشرعاً: (عَقْدُ شَرِكَةٍ في الرِّبْحِ بِمَالٍ مِنْ رَجُلٍ وعَمَلٍ مِنْ آخَرَ).

(مشروعية المضاربة)

وهي مشروعةٌ بإِطلاق الآية لأَن سفر الإِنسان للتجارة قد يكون بمالِ نفسه وقد يكون بمال غيره. ولأَن من الناس من هو صاحب مال ولا يهتدي إِلى التصرف، ومنهم مَنْ هو بالعكس، فشُرعت المضاربة لانتظام مصالح الناس. وقد بُعِث النبيُّ صلى الله عليه وسلم والناس يتعاملون بها فأَقَرَّهم عليها. وبالسُنَّة، وهي ما روى ابن ماجه مرفوعاً:«ثلاثٌ فيهنَّ البَّرَكَةُ: البيعُ إِلى أَجَل، والمُقَارَضَةُ، وخَلْطُ البُرِّ بالشَّعِيْر، لِلْبَيْتِ لا للبَيْعِ» .

ولعمل الصحابة. وهو ما روى مالك في «الموطأ» : أَنَّ عبد الله وعبيد الله ابنَي عمر بن الخطاب خرجا إِلى العراق، فأَعطاهُما أَبو موسى الأَشعري من مال الله، على أَنْ يبتاعا به متاعاً ويبيعاه بالمدينة ويؤديا رأَس المال لأَمير المؤمنين والربح لهما، فلما قَدِما المدينةَ رَبِحَا، فقال عمر: أَكُلّ الجيشِ أَسْلَفَهُ كما أَسْلَفَكُمَا؟ فقالا: لا، فقال: ابنا

(1)

في المطبوع: يعني، وما أثبتناه من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

سورة المزمّل، الآية:(20).

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوعة.

ص: 536

[حُكْمُ المُضَارَبَةِ]

وهي إِيدَاعٌ أَوَّلًا، وتَوْكِيْلٌ عِنْدَ عَمَلِهِ وشَرِكَةٌ إِنْ رَبِحَ، وغَصْبٌ إِنْ خَالَفَ،

===

أَمير المؤمنين فَأَسْلَفَكُمَا، أَدِّيا المال ورِبْحَه، فراجعه عبيد الله وقال: ما ينبغي هذا يا أَميرَ المؤمنين، لو هلك المال أَوْ نَقَص لضَمِنَّاه، فقال لعمر بعضُ جلسائه: لو جعلته قِراضاً، فأَخذ عمرُ المال ونَصَّفَ ربحه وأَعطاهما النصف.

وفي «المبسوط» و «المعرفة» للبيهقي: أَنَّ عمر أَعطى مال يتيم مضاربة، وكان يعمل به في العراق. وأَن عثمان أَعطى مالاً مقارَضةً

(1)

. وأَن ابن مسعود أَعطى زيد بن خُلَيْدَة مالاً مقارضةً. وأَن العباس كان إِذا دفع مالاً مضاربةً اشترط على صاحبه أَنْ لا يسلك به بحراً، ولا ينزلَ به وادياً، ولا يشتري به ذات كَبِدٍ رَطْبة

(2)

، فإِن فعل فهو ضامنٌ، فَرُفِع الشرطُ إِلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأَجازه.

لكن ضعَّفَه البيهقي بسنده. وفيه وفي الدَّارقطني بسند صحيح: أَنْ حَكيم بنَ حِزَام صاحِبَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان إِذا دفع مالاً مضاربةً شرط مثل هذا.

وتنعقد المضاربة بقوله: دفعتُ هذا المال إِليك مضاربةً أَوْ مقارضةً أَوْ معاملة، لأَنه صريحُها. أَوْ: خُذه واعمل بِهِ على أَنَّ لك نصفَ الربح، لأَنه بمعناه.

(حكم المضاربة)

(وهي إِيْدَاعٌ أَوَّلاً) أَي قبل عمله، لأَن المضارب (قبض)

(3)

المال بإِذن مالكه لا على جهة المبادلة والوثيقة. وفي «شرح الطحاوي» : والحيلة في أَنْ يصير المال مضموناً على المضارب: أَنْ يقرض جميع المال من المضارب إِلاَّ درهماً واحداً، ويُسَلِّمه إليه، ثم يعقد شركة عِنان

(4)

، على أن يكون رأس مال المُقْرِض درهماً، ورأَسُ مال المستقرض جميعَ ما استقرضه، على أَنْ يعملا جميعاً والربح بينهما، ثُم يعمل فيه بعد ذلك المستقرض خاصةً، فإِن هلك في يده فالقَرْض عليه، وإِن ربح فالربح بينهما.

(و) هي (تَوْكِيْلٌ عِنْدَ عَمَلِهِ) لأَنه يعمل لرب المال بأَمره، ولهذا يرجع بما لحقه من العُهْدَة عليه كالوكيل. (و) هي (شركةٌ) في الربح (إِنْ رَبِحَ) لتحَصُّله بالمال والعمل. (و) هي (غَصْبٌ إِنْ خَالَفَ) المضارب لوجود التعدي منه على مال غيره، وبه

(1)

سبق الكلام عليه صفحة 87، تعليق رقم (1).

(2)

ذات كبد رطبة: أي كل كبد حيّة، والمراد رطوبة الحياة، فتح الباري 5/ 42.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(4)

تقدم شرحها في كتاب الشركة ص 529.

ص: 537

وبِضَاعَةٌ إِنْ شُرِطَ كُلُّ الرِّبْحِ للمَالِكِ، وقَرْضٌ إِنْ شُرِطَ للمُضَارِبِ، وإجارَةٌ فَاسِدةٌ إِنْ فَسَدَتْ، فَلا رِبْحَ لَهُ بَلْ أجر مثل عَمَلِهِ، رَبحَ أَو لا.

ولا يُزَادُ عَلى مَا شُرِط

===

قال مالك والشافعيّ وأَحمد وأَكثر أَهل العلم. وعن علي والحسن والزُّهْري أَنه لا ضمان على مَنْ شَارَك

(1)

في الربح.

(و) هي (بِضَاعَةٌ إِنْ شُرِطَ كُلُّ الرِّبْحِ للمَالِكِ) لأَن المضارِب لَمَّا لم يَطْلُب لعمله بدلاً، وعملُهُ لا يتقوَّمُ إِلاَّ بالتسمية، كان وكيلاً متبرِّعَاً، وهذا معنى البضاعة، فكأَنَّه (نَصَّ)

(2)

عليها.

(و) هي (قَرْضٌ إِنْ شُرِطَ) كله (للمُضَارِبِ) لأَن المضارب لا يستحق الربح كله إِذا صار رأَسُ المال مِلْكَاً له، لأَن الربح فَرْعُ المال، فكان تمليكُ المال مقتضىً هنا، لكنَّ لفظ المضاربة يقتضي رَدَّه، فكان قرضاً لاشتماله على معنيين، ولأَن القَرْض أَدْنَى من الهبة، فكان بالاعتبار أَوْلى لكونه أَقل ضرراً.

وقال مالك: هي في الصورتين مضاربةٌ صحيحةٌ، لأَنه إِذا (شَرَطا)

(3)

لأحدهما كلَّ الربح فكأَن الآخر وَهَبَ له نصيبه. وأُجيب بأَن الربح حال العقد معدوم، والهبة لا تصح عند عدم الموهوب. وقال الشافعي وأَحمد: إِذا قال: خذه مضاربةً والربح لي أَوْ لك، تفسد المضاربة، لأَنها تقتضي أَنْ يكون الربح بينهما، فإِذا شُرِط اختصاصه بأَحدهما فسدت، كما لو شُرِط الربحُ كلُّه في شركة العِنان

(4)

. وأُجيب بأَنه لما ثبت حكم الإِبضاع

(5)

أَوْ القَرْض انصرف العقد إِليه وصار كأَنه قال: خذه بضاعةً أَوْ قَرْضَاً.

(و) هي (إِجارَةٌ فَاسِدَةٌ إِنْ فَسَدَتْ) لأَن الواجِب له حينئذٍ في مقابلة عَمَلَه أَجْرُ المِثْل، كالإِجارة الفاسدة، (فَلَا رِبْحَ لَهُ) أَي للمُضَارِب (بَلْ) له (أَجْرُ مثل عَمَلِهِ) سواء (رَبِحَ أَوْ لا) وبه قال الشافعي وأَحمد في رواية، لأَن الأَجْر يجب بتسليم المنافع أَوْ العمل، وقد وُجِدَ العمل فيجب له أَجر المِثْل. وعن أَبي يوسف لا أَجْر له إِذا لم يَرْبح، وبه قال مالك ـ في روايةٍ ـ وبعضُ أَصحاب أَحمد اعتباراً بالمضاربة الصحيحة، فإِنه إِذا لم يربح فيها لا يستحق شيئاً، والفاسد من العقود يأَخذ حُكْم صحيحه.

(ولَا يُزَادُ) في أَجْر العمل للمُضَارِب (عَلى مَا شُرِط) من الربح عند أَبي

(1)

في المطبوع: شورك، وما أَثبتناه من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

في المطبوع: شرط، وما أَثبتناه من المخطوط.

(4)

تقدم شرحها في كتاب الشركة ص 529.

(5)

الإِبضاع: وَضْع السلعة عند آخر ليبيعها دون أن يأَخذ على ذلك أَجرًا. معجم لغة الفقهاء ص 39.

ص: 538

خِلافًا لِمُحَمَّد، ولا يُضْمَنُ المَالُ فِيهَا، كَمَا في الصَّحِيحَةِ. ولا تَصِحُّ إِلَّا بِمَالٍ تَصِحُّ بِهِ الشَّرِكَةُ، ولا بِتَسْلِيمِهِ إِلى المُضَارِبِ وشُيوعِ الرِّبْحِ بَينَهُمَا.

وللمُضَارِب في مُطْلَقِهَا أَنْ يَبِيعَ بِنَقْدٍ ونَسِيئَةٍ، إلَّا بأَجَلٍ لَم يُعْهَد، وأَنْ يَشْتَريَ ويُوَكِّلَ بِهِمَا، ويُسَافِرَ يُبْضِبعَ ولو لِرَبِّ المَالِ.

===

يوسف، لأَنه رضي به (خِلَافاً لِمُحَمَّد) فإِنه قال: له أَجْر المِثْل ولو زاد على ما شُرِط.

(ولا يُضْمَنُ المَالُ فِيْهَا) أَي في المضاربة الفاسدة بالهلاك (كَمَا) لا يضمن (في) المضاربة (الصَّحِيْحَةِ). قال الطحاوي: هذا قول أَبي حنيفة، خلافاً لهما. وقال أَبو جعفر الهِنْدُوَاني: لا يضمن المال في المضاربة الفاسدة عند الكل. قال الإسْبِيجَابي: وهو الأَصح، لأَن المال في يد المضارب أَمانةٌ، سواء صَحَّت المضاربة أَوْ فسدت، لأَن رب المال لما قصد أَنْ يكون المال عنده مضاربةً قصد أَنْ يكون أَميناً، وله ولاية ذلك.

(ولا تَصِحُّ) المضاربة (إِلاَّ بِمَالٍ تَصِحُّ بِهِ الشَّرِكَةُ) لأَنها عقد شركة في الربح، فلا تصح إِلا بما تصح به الشركة. وقد مَرّ ما تصح به الشركة في كتابها. (ولا) تصح المضاربة إِلاَّ (بِتَسْلِيْمِهِ) أَي المال (إِلى المُضَارِبِ) لأَن يده على المال يدُ أَمانة، فلا تتِمُّ المضاربة إِلاَّ بتَسْلِيمه، كالوديعة.

(وشُيوعِ الرِّبْحِ) أَي ولا تصح المضاربة إِلاَّ بشيوعه (بَيْنَهُمَا) أَي بين ربِّ المال والمُضَارِب، لأَن عدم شيوعه بينهما: بأَنْ سَمَّيَا منه لأَحدهما دراهم أَوْ دنانير، يؤدي إِلى قطع الشركة فيه، على تقدير أَنْ لا يُزَاد على المُسَمَّى.

(وللمُضَارِب في مُطْلَقِهَا) وهو غير مُقَيَّدٍ بزمانٍ أَوْ مكانٍ أَوْ غيرهما (أَنْ يَبِيْعَ بِنَقْدٍ ونَسِيْئَةٍ) لأَنها من صُنْع التجار. وقال مالك والشافعيّ وأَحمد ـ في رواية ـ: لا يبيع بالنسيئة إِلاَّ بإِذْن رَبِّ المال، (إِلاَّ بأَجَلٍ) هذا مستثنى من النسيئة، (لَمْ يُعْهَد) أَي عند التجار، لأَنهم العمدة في هذا الباب.

(وأَنْ يَشْتَريَ و) أَنْ (يُوَكِّلَ بِهِمَا) أَي بالبيع والشراء، (و) أَنْ (يُسَافِرَ) وأَنْ (يُبْضِعَ ولو لِرَبِّ المَالِ) المراد بالإِبضاع هنا مجردُ الاستعانة لا ما هو المتعارَف: من أَنْ يكون المالُ للمُبْضِع والعمل من الآخَر. ولمَّا صح استعانة المضارب بالأَجنبي

ص: 539

ولا تَفْسُدُ هي به.

ويُودِعَ، ويَرْهَنَ، ويَحْتَالَ بالثَّمَن على الأَيْسَر والأَعْسَرِ.

ولا يُقْرِضُ ولا يَستَدِيْنُ إلَّا بإِذْنِ المَالِكِ. ولا يُضَارِبُ ولا يَخْلِطُهُ بِمَالِهِ إلَّا بِهِ أَو بـ: "اعْمَلْ بِرَأيِكَ"، فَلَوْ قِيلَ هَذَا وقَصَّرَ، أَو حَمَلَ بِمَالِهِ، تَبَرُّعٌ. بِخِلافِ مَا إِذا صَبَغَ أَحْمَرَ!

===

فلأَن يصح استعانته بربِّ المال ـ وهو أَشْفَقُ عليه ـ كان أَوْلى. (ولا تَفْسُدُ هي) أَي المضاربة (به) أَي بإِبضاع المضارِبِ رَبَّ المال. وقال زُفَر: تَفْسُد.

(و) أَنْ (يُودِعَ و) أَنْ يَرْتَهِن و (يَرْهَنَ و)(أَنْ يُؤجِر و)

(1)

أَنْ يستأْجر وأَنْ (يَحْتَالَ) أَي يقبل الحَوالة

(2)

(بالثَّمَن على الأَيْسَر والأَعْسَرِ) لأَن هذا كله مِنْ صُنْع التجار في تجارتهم، والعقد مطلق، ولا يحصل المقصود منه ـ وهو الربح ـ إِلا بالتجارة، فيتناول ما هو مِنْ صنع التجار في تجارتهم. وعن أَبي يوسف أَنه لا يسافر به إِلا بإِذن، وبه قال الشافعيّ وأَحمد ـ في روايةٍ ـ: لأَن فيه تعريضَ المال للهلاك بلا ضرورة.

(ولا يُقْرِضُ) إِلا بإِذْنٍ، لأَن الإقراض تَبَرُّعٌ وليس من ضروريات التجارة فلا يملكه المضارب. وإِن قيل له: اعمل برأَيك. كما لا يملك الهِبة والصدقة. (ولا يَسْتَدِيْنُ) لما في الاستدانة من شغل ذِمَّة المالك (إِلاَّ بإِذْنِ المَالِكِ) لأَن المنع حقُّ المالك وله تَرْكُهُ. (ولا يُضَارِبُ) إِلاَّ بإِذْن المالك، أَوْ بـ: اعمل برأيك. (ولا يَخْلِطُهُ) أَي مال المضارَبة (بِمَالِهِ إِلاَّ بِهِ) أَي بإِذن المالك. وفي نسخة: بإِذنه، أَي صريحاً (أَوْ بـ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ) لأَن شيئاً من المضاربة والخلط لا تتوقف عليه التجارة، فلا يدخل في مطلق المضاربة، ولكنه جهةٌ تتميزُ فيدخل في العقد عند وجود الدلالة على دخوله، وهو إِذْن رب المال، أَوْ قوله: اعمل برأيك.

(فَلَوْ قِيْلَ) للمضارب (هَذَا) أَي اعمل برأيك، فاشترى المضارِب ثياباً (وقَصَّرَ

(3)

أَوْ حَمَلَ

(4)

بِمَالِهِ تَبَرُّعٌ

(5)

) لأَن هذا استدانةٌ على ربِّ المال، وهو لا يملكها بهذا المقال (بِخِلَافِ مَا إِذا صَبَغَ) بماله (أَحْمَرَ) فإِنه يصير شريكاً بما زاد الصِّبْغ، لأَنه

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

الحَوالة: نَقْلُ الدَّين من ذمَّة المُحِيل إِلى ذِمَّة المُحَال عليه. معجم لغة الفقهاء ص 187.

(3)

أَي قصَّر بماله.

(4)

أَي حمل المتاع بماله.

(5)

أَي فهو تبرعٌ، حيث تكون لفظة "تبرعٌ" خبرًا لمبتدأ محذوف.

ص: 540

ولا يُجَاوِزُ بَلَدًا وسِلْعَةً وَوَقْتًا وَشَخْصًا عَيّنه المَالِكُ، فإنْ جَاوَزَ ضَمِنَ، ولَهُ رِبْحُهُ.

لا يُزَوِّجُ عَبدًا أَو أَمَةً، ولا يَشْتَري مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ المالِ، ولو شَرَى فللمُضَارِبِ، ولا مَنْ يَعْتِقُ عليه، إِنْ كانَ رِبْحٌ ضَمِنَ، وإنْ لَمْ يَكُنْ رِبْحٌ صَحَّ.

ونَفَقَةُ مُضَارِبٍ عَمِلَ في مِصْرِهِ في مَالِهِ، وفي سَفَرِهِ: طعامُهُ وشرابُه وكِسْوَتُهُ، وأُجْرَةُ خَادِمِهِ، وغَسْلُ ثِيَابِهِ، ورَكُوْبُهُ،

===

مالٌ قائمٌ، فإِذا بِيْع الثوبُ كان للمضارِب حِصّةُ الصِّبْغ، وكانت حصةُ الثوب الأبيض على المضاربة.

(ولا يُجَاوِزُ) المُضَارِب (بَلَدَاً وسِلْعَةً وَوَقْتَاً وَشَخْصَاً عَيَّنه المَالِكُ) وخَصَّ التصرف به، وبه قال أَحمد. وقال مالك والشافعيّ: إِذا شرط المالك أَنْ لا يشتري إِلاَّ من رجل بعينِهِ، أَوْ سلعة بعينها، أَوْ ما لا يَعُم وجوده، لا تصح المضاربة. وإِنما قيد «بلداً» لأَنه لو عيَّن سوقاً لا يتقيَّدُ به، إِلاَّ إِذا صرَّح بالنهي، بأَن قال: لا تعمل في غير هذا السوق، لأَنه صرح بالحَجْر. (فإِنْ جَاوَزَ) المضارب شيئاً من ذلك (ضَمِنَ) لأَنه صار غاصِبَاً بالمُخَالِفَة (ولَهُ رِبْحُهُ) لأَنه مَلَكَهُ بالضمان.

(ولا يُزَوِّجُ) المضاربُ (عَبْدَاً أَوْ أَمَةً) من مال المضاربة، لأَنه ليس من عمل التجارة. وعن أَبي يوسف أَنه يزوج الأَمة إِذْ يستفيدُ به المَهْرَ.

(ولا يَشْتَري) المضارب (مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ المَالِ) لقرابةٍ أَوْ يمينٍ

(1)

. (ولو شَرَى) مَنْ يعتق على ربِّ المال (فللمُضَارِبِ) أَي فالمُشْتَرَى للمُضَارِب. (ولا) يشتري (مَنْ يَعْتِقُ عليه) أَي على المضارب (إِنْ كانَ رِبْحٌ) في المال، وإِن كان ربحَ المضارب. (ولو فَعَل) شراءَ مَنْ يَعْتق عليه (ضَمِنَ) لأَنه يصير مشترياً لنفسه فيضمن بالنقد من مال المضاربة.

(وإِنْ لَمْ يَكُنْ) في المال (رِبْحٌ) بأَن لم يكن في قيمة العبد المُشْتَرَى زيادةٌ على رأَس المال (صَحَّ) شراءُ المضارب مَنْ يعتق عليه للمضاربة، لأَنه لا مِلك له فيه.

(ونَفَقَةُ مُضَارِبٍ) مبتدأ مضاف (عَمِلَ في مِصْرِهِ) صِفة (في مَالِهِ) خبر المبتدأ (وفي سَفَرِهِ) عطف على «في مصره» ، أَي ونفقةُ مضارِبٍ عَمِل في سفر (طعامُهُ وشرابُه) دون دوائه في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة:(أَنَّ)

(2)

ثمن الدواء في مال المضاربة، ولهذا كانت نفقةُ المرأَة على الزَّوْج، ودوائها في مالِهَا. (وكِسْوَتُهُ وأُجْرَةُ خَادِمِهِ وغَسْلُ ثِيَابِهِ ورَكُوْبُهُ) ـ بفتح الراء ـ مركوبه ومعطوف على

(1)

كأَن يقول ربُّ المال: إن اشتريت فلانًا فهو حر.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 541

كِرَاءً وشراءً، وعَلَفُهُ في مَالِهِا بِالمَعْرُوْفِ. وضَمِنَ الفَضْلَ.

ومَا دُوْنَ سَفَرٍ يَغْدُو إِليه، ولا يبيتُ بِأَهْلِهِ، كالسَّفَرِ، فإِنْ رَبح أَخَذَ المَالِكُ ما أَنْفَقَ ثُمَّ قَسَمَ البَاقِي.

وإِنْ دَفَعَ المُضَارِبُ مُضَارَبَةً بِلا إِذْنٍ، ضَمِنَ عِنْدَ عَمَلِ الثَّانِي، وقِيلَ: عِنْدَ رِبْحِهِ. وصَحَّ إِنْ شُرِطَ لِعَبدِ المَالِكِ شيءٌ لِيحْمَلَ مَعَ المُضَارِبِ.

===

طعامه. وطعامه وما عطف عليه بيانٌ لنفقة المضارب في سفره (كِرَاءً وشراءً) تمييزان لنسبة الركوب إِليه.

(وعَلَفُهُ) أَي عَلَف رَكوبه (في مَالِهِا) أَي مال المضاربة، هذا خبرُ «ونفقة مضارب في سفره» (بِالمَعْرُوْفِ) الشائع فيما بين التجار (وضَمِنَ الفَضْلَ) أَي الزيادة على المعروف. وقال الشافعيّ وأَحمد: نفقته في السفر في مال نفسه.

(ومَا دُوْنَ) مسافة (سَفَرٍ) إِنْ كان بحيث (يَغْدُو إِليه ولا يَبِيْتُ بِأَهْلِهِ، كالسَّفَرِ) فيكون نفقته إِنْ عَمِل فيه في مال المضاربة، لأَن خروجه لأَجلها فصار محبوساً لها، وإِنْ كان بحيثُ يغدو إِليه ويبيت بِأَهله، كالمِصْر، فيكون نفقته في مال نفسه، لأَن أَهل المِصْر يتَّجرون في السوقِ ويبيتون في منازلهم.

(فإِنْ رَبِحَ) المضارب (أَخَذَ المَالِكُ) من الربح (ما أَنْفَقَ) المضارب من رأَس المال حتى يُتِمَّه (ثُمَّ قَسَمَ البَاقِي) لأَن رأَس المال أَصل، والرِّبْحَ مبنيٌّ عليه، ولا يسلم الفرع حتى يسلم الأَصل، ولأَن ما ذهب للنفقة هالك، والهلاك في المضاربة يُصْرف إِلى الربح.

(وإِنْ دَفَعَ المُضَارِبُ) المال إِلى غيره (مُضَارَبَةً بِلَا إِذْنٍ) من ربِّ المال لم يضمن عند الدفع بل (ضَمِنَ عِنْدَ عَمَلِ الثَّانِي)، ربح أَوْ لم يربح، وهذا قول أَبي يوسف ومحمد وهو ظاهر الرواية. (وقِيْلَ:) لا يضمن عند عَمَلِ الثاني بل ضمن (عِنْدَ رِبْحِهِ) وهو رواية الحسن عن أَبي حنيفة. وقال زُفر: يضمن عند الدفع عَمِل أَوْ لم يَعْمل، وهو روايةٌ عن أَبي يوسف، وقول مالك، والشافعيّ، وأَحمد.

(وصَحَّ) عقد المضاربة (إِنْ شُرِطَ لِعَبْدِ المَالِكِ شيءٌ) من الربح (لِيَعْمَلَ مَعَ المُضَارِبِ) بأَن شَرَطَ أَنْ يكون ثلثُ الربح للمالك، وثلثُهُ لعبده، وثلثُهُ للمضارب. ثم إِذا صحت المضاربة يكون للمولى ما شرط للعبد إِنْ لم يكن عليه دين، وإِن كان عليه دين فهو للغرماء. وإِنما قال:«عبد المالك» مع أَنَّ الحكم في عبد المضارب كذلك عند شرط العمل ـ دفعاً لما يُتَوَهَّم أَنْ يد العبد للمولى، فلم يحصل التخلية، بخلاف شرط العمل على المالك، فإِنه يمنع التخلية لبقاء يد المالك على المال فيمنع صحة المضاربة.

ص: 542

وتَبطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، ولَحَاقِ المَالِكِ مُرْتَدًّا. ولا يَنْعَزِلُ إِذَا عَزَلَهُ حَتى يَعْلَمَ بِعَزْلِهِ، فَلَوْ عَلِمَ فَلَهُ بَيعُ عَرْضِهَا، ثُمَّ لا يَتَصَرَّفُ في ثَمَنِهِ، ولا في نَقْدٍ نَضَّ مِن جِنْسِ رَأَسِ مَالِهِ، ويُبدِّلُ خِلافَهُ بِهِ.

===

وإِنما قال: «ليعمل» لأَنه إِذا لم يشترط عمل العبد فالمشروط للعبد يكون للمولى مطلقاً، لأَن العبد لم يشترط العمل له وليس له رأْس المال، فيكون للمولى. ذكره في «الذخيرة» .

(وتَبْطُلُ) المضاربة (بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا) لأَنه توكيلٌ، وهو يبطل بموت الوكيل أَوْ المُوكِّل (ولَحاقِ المَالِكِ) بدار الحرب (مُرْتَدًّا) لأَنه موتٌ حكماً، ولذا يُقسم ماله بين ورثته، ويُعتق مُدَبَّره

(1)

وأُمّ ولده

(2)

. قَيَّد «باللَّحَاق» لأَن مجرد الارتداد لا يُبْطِل تصرف المضارب عند أَبي حنيفة، بل يوقفه على النفاذ بالإِسلام، أَو البطلان بالموت أَوْ القتل. وقيَّد اللَّحاق «بالمالك» لأَن لَحَاق المضارب مرتدّاً لا يُبْطِل المضاربة عندهم، لأَن تصرفات المرتد إِنما تتوقف عند أَبي حنيفة للتَّوقف في أَملاكه، ولا ملك للمضارب في مال المضاربة فبقيت المضاربة على حالها.

(ولا يَنْعَزِلُ) المضارب (إِذَا عَزَلَهُ) ربُّ المال (حَتَّى يَعْلَمَ) المضارب (بِعَزْلِهِ) لأَنه وكيلُ من عزله قبله. وعزل الوكيل قصداً يتوقف على علمه، لأَنه نَهْي، والأَحكام المتعلقة بالأَمر والنهي لا يؤثر فيها الأَمر والنهي إِلا بعد العلم، ودليلهُ أَوامر الشرع ونواهيه، وهذا إِذا كان العزل قصدياً، فلو كان العزل حُكْمياً كالموت، فلا يُشترط علم المضارب، كما في الوكالة.

(فَلَوْ عَلِمَ) بعزله بعدما صار مال المضاربة عَرْضاً (فَلَهُ بَيْعُ عَرْضِهَا) لأَن حَقَّه ثَبَتَ في الربح، (وإِنما يظهر بالقسمة، وقسمة الرِّبح)

(3)

على أَنْ يَنِضَّ رأَس المال، أَي يتحول عَيْنَاً بَعْد أَنْ كان متاعاً، كذا في «القاموس» .

(ثُمَّ لا يَتَصَرَّفُ في ثَمَنِهِ) بأَن يشتري به شيئاً آخر (ولا في نَقْدٍ نَضَّ) ـ بفتح النون وتشديد المعجمة ـ أَي حصل (مِنْ جِنْسِ رَأَسِ مَالِهِ) لأَن التصرف في العَرْض

(4)

ببيعه بعد العزل إِنما كان لضرورة ظهور الربح، ولا ضرورة ههنا. (ويُبَدِّلُ) المضارب بعد العزل (خِلَافَهُ) خلاف جنس رأَس المال (بِهِ) أَي بجنس رأَس المال، وبه قال الشافعيّ وأَحمد.

(1)

المدبَّر: الرقيقُ الذي عُلّق عِتْقُه على موتِ سيّده، ومثاله قولُ السيد لعبده: إن مت فأَنت حر. معجم لغة الفقهاء ص 418.

(2)

أُم الولد: الأَمة التي حملَتْ من سيدها وأَتت بولد. معجم لغة الفقهاء ص 88.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(4)

العَرض: المتاع = السلع التجارية. معجم لغة الفقهاء ص 309.

ص: 543

ولَوِ افْتَرَقَا، وفي المَالِ دَيْنٌ، لَزِمَهُ طَلَبُهُ، إِنْ كَانَ رِبْحٌ، وإِلَّا يُوكِّلُ المَالِكَ بِهِ.

والبَيَّاعُ والسِّمْسَارُ يُجْبَرَانِ عَلَيهِ، وَمَا هَلَك صُرِفَ إِلى الرِّبْح أَوَّلًا.

إِنْ قَالَ المَالِكُ: عَيَّنْتُ نَوْعًا، صُدِّقَ المُضَارِبُ إِنْ جَحَدَ.

===

(ولَوِ افْتَرَقَا) من المضاربة (وفي المَالِ دَيْنٌ لَزِمَهُ) أَي المضاربَ (طَلَبُهُ) أَي طَلَبَ الدَّيْن، (إِنْ كَانَ ربح) لأَن المضارب كان كالأَجِير، وحِصَّتُه من الربح كالأُجرة وقد سلمت له، فيُجبر على إِتمام العمل. (وإِلاَّ) أَي وإِنْ لم يكن رِبْحٌ لا يلزمه طلب الدين، لأَنه وكِيْلٌ مَحْض، والوكيل متبرعٌ، (والمتبرع)

(1)

لا يُجبر على إِتمام ما تَبَرَّعَ به.

لكن (يُوكِّلُ) المضارب (المَالِكَ بِهِ) أَي بطلب الدَّيْن، لأَن حقوق العقد تتعلق بالعاقد، وهو ههنا المضارب، فلم يكن لربِّ المال المطالبة بالديون التي فيما عقده المضارب إِلا بتوكيل من المضارب، فيؤمر المضارب بتوكيله كيلا يضيع حقه.

وقال مالك والشافعي وأَحمد: يَلزم المضارب طلب الدين، لأَنه بعقد المضاربة التزم ردَّ رأَس المال على صفته، فيلزمه أَنْ ينِضَّهُ كما لو كان في المال ربح، وكذا سائر الوكلاء (بالبيع، وسائر المستبضِعِين لا يُجبر أَحدهما بعد العزل على طلب الثمن إِذا امتنع في تقاضيه، ولكن يُجبر على أَنْ يحيل ربّ المال بالثمن على المشتري)

(2)

.

(والبَيَّاعُ) أَي الدَّلال (والسِّمْسَارُ) ـ بكسر السين الأولى ـ المتوسط بين البائع والمشتري، فارسي (مُعَرَّب)

(3)

(يُجْبَرَانِ عَلَيْهِ) أَي على طلب الثَّمن، لأَنهما يعملان بأُجرة عادةً، فكان ذلك بمنزلة الإِجارة الصحيحة. (وَمَا هَلَك) من مال المضاربة (صُرِفَ إِلى الرِّبْح أَوَّلاً) لأَن الربح تابعٌ لرأْس المال لتصور وجود رأَس المال بدون الربح، بخلاف العكس فينصرف الهالك إِليه كما يَصْرِف الهالك من مال الزكاة إِلى العَفْو

(4)

دون النصاب، لأَن العفو تبعٌ للنصاب.

(وإِنْ قَالَ المَالِكُ: عَيَّنْتُ نَوْعَاً، صُدِّقَ المُضَارِبُ) مع يمينه (إِنْ جَحَدَ) التَعْيين: بأَن قال: ما سميتَ لي تجارةً بعينها، أَوْ قال: عَمَّمْتَ التجارة في الأَنواع كلها. وقال زُفر: صُدِّق رَبُّ المال، لأَن الإِذْن مستفادٌ منه، كما في الوَكالة.

ولنا أَنَّ الأَصْل في المضاربة العموم دون الخصوص، وفي الوكالة الخصوص

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(4)

العفو: الفَضْل. المُغرب ص 71، مادة (عفو).

ص: 544

وإن ادَّعَى كُلٌّ نَوْعًا، صُدِّقَ المَالِكُ، وكذا إِنْ قَالَ: بضاعةٌ أَو وديعةٌ، وقال: مُضاربةٌ، أَو قرضٌ.

===

دون العموم، والقول قولُ المتمسك بالأَصل.

(وإِن ادَّعَى كُلٌّ) مِنْ المالك والمضارب (نَوْعَاً صُدِّقَ المَالِكُ) مع يمينه، لأَنهما اتفقا على الخصوص.

والإِذْن مستفادٌ من جهة المالك، واعتبار قول مَنْ يُستفاد الإِذن من جهته أَحَقُّ من غيره، والبينة بيِّنَةُ المضارب لاحتياجه إِلى نَفْي الضمان، (وكذا) يُصَدَّق المالك مع يمينه (إِنْ قَالَ:) رب المال (بضاعةٌ أَوْ وديعةٌ، وقال:) ذو اليد (مُضاربةٌ) لأَنه يُنْكر دعوى الربح (أَوْ) قال: (قرضٌ) لأَنه ينكر دَعْوَى التمليك، والله تعالى أَعلم ..

ص: 545

‌كِتَابُ المُزَارَعَةِ

هِي عَقْدُ الزَّرْعِ بِبعْضِ الخَارِجِ. ولا تَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حنيفةَ رحمه الله.

===

كتاب المُزَارَعَةِ

(هِي) لغةً: مفاعلةٌ من الزراعة، وهي إِنْبَاتٌ، لقوله تعالى:{أَأَنتُم تَزْرَعُونَهُ}

(1)

ونسبتُها إِلى غيره سبحانه مجاز من إِسناد الفعل إِلى السبب، وهو الحراثة، وهي: إِثارة الأرض للزراعة، وما يُسْتَنْبَتُ بالبَذْرِ يُسَمَّى زَرْعَاً أَيضاً تسمية بالمصدر، وإِنما عَبَّر عنها بالمفاعلة التي تقتضي الفعل من الجانبين لأَن الإِعانة على الفعل من إِعطاء البَذْر والآلة بمنزلة الفعل، كالمُضَارَبة.

وتُسمى المزارعة مُخَابرةً أَيضاً، من الخُبْرة، وهي النصيب، أَوْ من خَيْبر لأَنها أَوَّل ما دُفِعَت إِليهم.

وشرعاً: (عَقْدُ الزَّرْعِ بِبَعْضِ الخَارِجِ) منه. (ولا تَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حنيفةَ رحمه الله فإِن وقعت يجب على صاحب البَذْر أَجْرُ المِثْل للعامل ولرب الأرض، والغلة له لأَنها نماءُ مِلْكه. وإِنَّما لا تصح عنده لما أَخرجه مسلمٌ، عن ثابت بن الضَّحَّاك: أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن المزارعة وأَمَرَ بالمؤاجرة، وقال:«لا بأَس بِهَا» . وما رواه ابن أَبي شيبة عن ثابت بن الحجَّاج، عن زيد بن ثابت قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُخَابَرة، قلت: وما المُخَابَرةُ؟ قال: أَنْ تَأَخُذَ الأَرْض بِنِصْفٍ أَوْ ثُلْثٍ أَوْ رُبُعٍ. ولقول ابن عمر: كُنَا نُخَابِرُ ولا نرى بذلك بأَساً، حتى زعم رافعُ بنُ خَدِيْج أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها، فَتركْنَاهَا من أَجل ذلك.

وعن عطاء عن جابر بن عبد الله: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُخَابَرةِ، والمحَاقَلةِ، والمُزَابَنَةِ. قال عطاء: فَسَّرَهَا لنا جابر فقال: أَما المخابرة: فالأَرض البيضاء يدفعُهَا الرجلُ إِلى الرجل، فيُنفق فيها فيأْخذُ من الثَّمر. والمحاقلةُ: بَيْعُ الزَّرْعِ القائم بالحبِّ كَيْلاً. والمُزَابَنَةُ: بَيع الْرُّطَبِ في النَّخْلِ بالتَّمْرِ كَيْلاً. رواهما مسلم.

وفي «سُنن أَبي داود» أَنَّ رَافِعَ بنَ خَدِيج قال: كنا نُخَابِرُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَذَكَر أَنْ بعضَ عمومته أَتاه فقال: نَهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أَمْرٍ كان لنا نافعاً، وطواعيةُ

(2)

اللَّهِ ورسوله أَنفْعُ (لَنا، و)

(3)

قال: قلنا وما ذاكَ؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كانت له أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخاه، ولا يُكَارِيها بِثُلُثٍ، ولا رُبْع، ولا بِطَعام

(1)

سورة الواقعة، الآية:(64).

(2)

وفي المخطوط: داعية.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 546

وَصَحَّتِ عِنْدَهمَا،

===

مُسَمَّى». ولأَن المزارعة استئجارٌ بأَجْرٍ مجهولٍ أَوْ معدومٍ، وكلّ منهما مُفْسِدٌ، ولأَنها استئجارٌ بِبعضِ ما يخرج من العمل، فيكون في معنى قفيزِ

(1)

الطحَّان: وهو أَنْ يستأْجر رجلاً لِيَطْحَنَ له كُرَّ

(2)

حنطةٍ بقفيزٍ من دقيقها.

وأَما ما أَخذه النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهل خَيبرَ فإِنما كان خَراجَ مقاسمةٍ بطريق المَنِّ

(3)

والصلح، وذلك جائزٌ بدليلِ أَنه عليه الصلاة والسلام لم يُبَيّن لهم المدة، ولو كانت مزارعةً لَبَيَّنَهَا، لأَن المزارعة لا تجوز عند مَنْ يُجِيزها إِلاَّ بِبَيان المدة.

وقال أَبو بكر الرازي: ومِمَّا يَدُلُّ على أَنَّ ما شُرِطَ عليهم من نصف الثمر والزرع كان على وَجْه الجزية، أَنه لم يَرِدْ في شيءٍ من الأَخبار أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَخذ منهم الجزيةَ إِلى أَنْ مات، ولا أَبو بكر إِلى أَنْ مات، ولا عمرُ إِلى أَنْ أَجلَاهم، ولو لم يكن ذلك جزيةً لأَخذ منهم الجِزيةَ حين نزلت آيةُ الجزية.

والحيلة عنده: أَنْ يستأْجِر ربَّ البَذْرِ (و)

(4)

العَامِلَ بأَجْرٍ مَعلومٍ إِلى مدةٍ معلومةٍ، فإِذا مضت المدةُ يعطيه بعضَ الخارج عما وجب له مِنْ الأَجر في ذمته، سواء حصل الخارج أَوْ لا، فيجوز ذلك بِرِضَاهُمَا، كالدَّيْن إِذا أَعطى عنه خلاف جنسه.

(وَصَحَّتِ) المِزارعة (عِنْدَهُمَا) لما أَخرجه الجماعة إِلاَّ النَّسائي عن نافع، عن ابن عمر: أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَل أَهْلَ خيبرَ بشرطِ ما يَخْرج منها: من ثَمَرٍ، أَوْ زَرْعٍ. وفي لفظٍ: لما فُتِحَتْ خيبرُ، سأَل اليهودُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقِرَّهم فيها على أَنْ يعملوا على نِصْف ما يخرج منها: من التَّمْر، والزَّرْعِ. فقال عليه الصلاة والسلام:«نُقِرُّكُمْ فيها على ذلك ما شئنا» . وفي لفظٍ لأَبي داود عن ابن عباس: فلما كان حين يُصْرَمُ

(5)

النَّخْلُ بعث إِليهم عبد الله بن رَوَاحَة فَحَزَرَ

(6)

عليهم النَّخْل ـ وهو الذي يسميه أَهل المدينة الخَرْص

(7)

ـ فقال: في ذِه كذا وكذا، قالوا: أَكْثَرْتَ علينا يا ابنَ

(1)

القَفِيز: مكيالٌ قديمٌ يختلف باختلاف البلاد، وهو يساوي عند الحنفية 39138 غرامًا. معجم لغة الفقهاء ص 368.

(2)

الكُرُّ: مكيال لأهل العراق قدره ستون قفيزًا، وهى تساوي عند الحنفية 2348.280 كيلو غرامًا. معجم لغة الفقهاء ص 379.

(3)

المَنّ: أن يترك الأمير الأسير الكافر ولا يأخذ منه شيئًا. التوقيف على مهمات التعاريف ص 680.

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(5)

الصِّرام: قَطْع الثَّمَرة واجتناؤها من النَّخْلة. النهاية 3/ 26.

(6)

في المطبوعة: فخرز، وما أثبتناه من المخطوطة.

(7)

خَرَص النخلةَ إذا حَزَر ما عليها من الرُّطَبِ تَمْرًا ومن العنب زبيبًا، فهو من الخَرْص: الظنّ. النهاية 2/ 22.

ص: 547

وبه يُفْتَى،

===

رَوَاحَة، قال: فأَنا إِليَّ حَزْرُ النَّخْلِ، وأُعطِيكم نِصْفَ الذي قلت، قالوا: هذا الحَقُّ، وبه تقومُ السماءُ والأَرْضُ، قد رضينا أَنْ نأَخذ بالذي قلت. وفيه عن جابر: فَخَرَصَهَا أَربعين أَلْفَ وَسْقٍ

(1)

، ولمَّا خَيَّرهم أَخذوا التَّمْرَ وعليهم عشرونَ أَلْفَ وَسْقٍ.

وعن عَمرو بنِ دينارٍ قال: قلتُ لِطَاوُس: لو تَرَكْتَ المُخَابَرةَ فإِنهم يَزْعُمُون أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عنها، قال أَي عَمْرُو ـ يعني يا عمُرو ـ إِني أُعطِيهم وأُعينُهُم وأَنَّ أَعْلَمَهُمْ ـ يعني ابن عباس ـ أخبرني أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عنها، وإِنَّما قال: لأَن يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ من أَنْ يَأَخُذَ عليه خَرْجَاً مَعْلُومَاً. متفق عليه. وعن عُروَةَ بن الزُّبَيْر قال: قال زَيْدُ بنُ ثابت: يغفر اللَّهُ لِرَافِع بنِ خَدِيج، أَنا واللَّهِ أَعْلَمُ بالحديثِ منه، أَتاه رجلانِ قد اقتتلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنْ كان هذا شأْنَكُم فلا تُكْرُوا المَزارِع» . رواه أَبو داود.

وأَما ما فيه من قوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ لم يَذَرِ المُخَابَرَةَ فَلْيُؤذِن بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ ورسوله» ، فمحمولٌ على قول رافع: كُنَّا أَكثرَ أَهل المدينة حَقلاً، وكان أَحدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ فيقول: هذه القطعةُ لي، وهَذِهِ لك، فرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِه، ولم تُخْرِج ذِه، فنهاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.

وقد قال أَبو جعفر: ما بالمدينةِ أَهْلُ بيتِ هجرةٍ إِلاَّ يَزْرَعُونَ على الثُّلْثِ والرُّبُعِ. زَارَعَ عليٌّ، وسعد ابن مالك، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقَاسِم، وعُروة، وآل أَبي بكر، وآل عمر، وابن سيرين. وعامَل عمرُ الناسَ على أَنه: إِنْ جاءَ عمرُ بالبذر مِنْ عِنْدِهِ فله الشَّطْرُ، وإِن جاؤوا بالبَذْرِ فلهم كذا. رواه البخاري.

ولأَنها عقدُ شركةٍ بين المال والعمل، فيجوز كما في المضاربة، والجامعُ الحاجةُ، لأَن صاحب الأَرض قد لا يَقْدِر على العمل، والقادر على العمل قد لا يَجِد الأَرض، فَمَسَّت الحاجةُ إِلى المزارعة لتنتظم مصلحتُهما وتحصل منفعتُهما من الرَّيْع، كما أَنَّ مَنْ له مالٌ قد لا يهتدي إِلى التجارة، ومَنْ يهتدي إِلى التجارة قد لا يكون له مالٌ، فَمَسَّت الحاجةُ إِلى المضاربة.

(وبِهِ) أَي وبقولهما في المزارعة (يُفْتَى) لحاجةِ الناس إِليها، وتعامُلِ الناس بها، والقياس يُتْرَك بالتعامل كما في الاستصناع. وقد أَجازها الخلفاء الراشدون، وعُمْدةٌ من الأَنصار والمهاجرين.

وأَما ما رواه من النَّص عن النهي فمُؤَوَّلٌ، فإِنهم كانوا يشترطون فيها شيئاً معلوماً

(1)

الوَسْق: مكيالٌ قَدْرُه 165 ليترًا. معجم لغة الفقهاء ص 502.

ص: 548

بِشَرْطِ صلاحِيَةِ الأَرْضِ للزَّرْع، وَأَهْلِيَّةِ العَاقِدَيْنِ، وذِكْرِ المُدّةِ، ورَبِّ البَذْرِ، وجِنْسِهِ، وقِسْطِ الآخَرِ، والتَّخْلِيَةِ بَينْ الأَرْضِ والعَامِلِ، وشُيُوْعِ الحَبِّ.

فَتَفْسُدُ إِن شُرِطَ مَا يُنَافِيه، كَرَفْعِ البَذْرِ أَو الخَرَاجِ، ثمَّ قِسْمَةُ البَاقِي،

===

من الخارج لربِّ الأَرض وهو مفسد للعقد، كما لو دفع الغنمَ ونحوَهَا إِلى مَنْ يرعاها ويَخْدُمُهَا بنصف الزوائد التي تحدث منها، فلذا نُهُوا عنها.

ثُم اعلم أَنَّ أَبا حنيفة فَرَّع مسائل المزارعة والمعاملة على أُصولهما لمَّا علم أَنَّ الناس لا يأخذون بقوله فيهما، كذا في «الفصول العمادية» . والأظهر أنَّ صِحَّة المزارعة روايةٌ عنه والمسائلُ متفرّعة عليها إِلاَّ أَنه اختار فسادها، وأَخَذَ أَصحابُهُ بروايةِ صحتها (بِشَرْطِ صَلَاحِيَّةِ الأَرْضِ للزَّرْعِ) لأَن المقصود هو الربح، وهو لا يحصل بدونه (وَأَهْلِيَّةِ العَاقِدَيْنِ) وهما: ربُّ الأَرض، والمُزَارِع: بأَن يكون كلُّ واحدٍ منهما حرّاً عاقِلاً بالغَاً أَوْ عَبداً أَوْ صبيًّا مأْذونَين. وهذا الشرط لا اختصاص له بهذا العقد، بل جميعُ العقودِ كذلك.

(وذِكْرِ المُدَّةِ) لأَن العقد يَرِدُ على منفعةِ ربِّ الأَرض إِنْ كان البَذْرُ من جهة العامل، وعلى منفعة العامل إِنْ كان البذر من جهة ربِّ الأرض، والمنفعة هنا لا يُعْرف مقدارُهَا إِلا بِبَيان المدة، فكان معياراً للمنفعة. ويُشترط في المدة: أَنْ لا تكون أَقلَّ مِمَّا يمكن فيه الزراعة، وأَن لا تكون لا يعيشُ إِلى مِثْلها أَحَدُهُما غَالِبَاً، وهو المختار للفتوى، على ما في «الخِزانة» . وعند محمد بن سَلَمة لا يُشترط بيانُ المدة، ويقع ما لم يُبَيّن فيه المدة على سنةٍ واحدةٍ، وبه أَخذ الفقيهُ أَبو الليث. وفي «الفتاوى المنصورية»: الفتوى على ما قاله محمد بن سَلَمة.

(ورَبِّ البَذْرِ) أَي وذَكَرَهُ بتسميتِهِ لأَنه المستأْجِر. (و) ذكر (جِنْسِهِ) أَي جنس البذر ليصيرَ الأَجْرُ معلوماً، لأَنه منه. (و) ذكر (قِسْطِ الآخَرِ) وهو غيرُ ربِّ البذر، لأَنه أُجرةُ عَملِهِ أَوْ أَرْضِهِ. (والتَّخْلِيَةِ) أَي ويشترط التخلية (بَيْنَ الأَرْضِ والعَامِلِ) ليتمكن من العمل، فلو شُرِط عمل ربِّ الأَرض مع العامل لا يصح، لفَوَاتِ التخلية. (وشُيُوْعِ الحَبِّ) الخارج بين العاقدَيْنِ لتحقق المعنى المقصود من المزارعة وهو الشَّرِكَة، لأَنها تنعقد إِجارةً في الابتداء وشركةً في الانتهاء.

(فَتَفْسُدُ) المزارعة (إِنْ شُرِطَ مَا يُنَافِيه) أَي يُنَافي شيوع الحَبِّ الخارج (كَرَفْعِ البَذْرِ) أَي رفع ربِّ البِذْر من الخارج ثُم قسمة الباقي. (أَوْ) رفع (الخَرَاجِ) من الأَرض الخراجية خَراجاً مُوَظَّفَاً، (ثُمَّ قِسْمَةُ البَاقِي) لجواز أَنْ لا يخرج من الأَرض

ص: 549

وَكَذَا إِنْ شُرِطَ التِّبْنُ لِغَيرِ رَبِّ البَذْرِ، وصَحَّ للآخَرِ، أَو لَمْ يَتَعَرَّضْ.

ولا تَصِحُّ إلَّا أَنْ تكون الأَرضُ والبَذْرُ لأَحَدٍ، والبَقَرُ والعَمَلُ لآخَرَ، أَو تَكُوْنَ الأَرْضُ لِوَاحِدٍ والبَاقِي لآخَرَ، أَو العَمَلُ لَهُ والبَاقِي للآخَرِ.

وإِذَا صَحَّت فالخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ، ولا شَيءَ للعَامِلِ

===

إِلا القَدْر المرفوع. قيدنا بكون الخَراج

(1)

«مُوَظَّفَاً» لأَنه لو كان مُقاسمةً كالربع أَوْ الخمس لا تَفْسُد المزارعةُ، كما لو شُرِطَ رَفْع

(2)

العُشْر وقسمة الباقي، لأَن هذا الشرط لا يؤدي إِلى قطع الشركة.

(وَكَذَا) تفسد المزارعة (إِنْ شُرِطَ التِّبْنُ لِغَيْرِ رَبِّ البَذْرِ) ثُم قسمة الحَبِّ، لأَن هذا الشرط يؤدي إِلى قَطْع الشَّرِكة إِذا لم يخرج إِلاَّ التبن، لأَن استحقاق غير صاحب البَذْر إِنَّما هو بالشِرط.

(وصَحَّ) عقد المزارعة إِنْ شُرِط التِّبن (للآخَرِ) أَي لربِّ البَذْر، لأَن ذلك حُكْمُ عَقْد المزارعة (أَوْ) إِنْ (لَمْ يَتَعَرَّضْ) للتِّبْن لاشتراطهما الشركةَ فيما هو المقصود ـ وهو الحب ـ، والتِّبْن لصاحب البَذْر لا يحتاج في أَخذه إِلى شَرْطٍ، لأَنه نماءُ بَذْرِه. وقال مشايخ بلخ: التِّبْن بينهما، اعتباراً للتصرف فيما لم يَنُصَّ عليه المتعاقدان، ولأَنه تَبَعٌ لِلْحَبِّ، والتَّبَعُ يكونُ بِشَرْط الأَصل.

(ولا تَصِحُّ) المزارعة (إِلاَّ أَنْ تكون الأَرْضُ والبَذْرُ لأَحَدٍ) أَي لواحِدٍ من العاقِدَين (والبَقَرُ والعَمَلُ لآخَرَ) لأَن البقر آلة العمل، (أَوْ) إِلاَّ أَنْ (تَكُوْنَ الأَرْضُ لِوَاحِدٍ والبَاقِي لآخَرَ) لأَن صاحب البَذْر حينئذٍ يكون مُستأْجِراً للأَرض بِأجْرٍ معلومٍ من الخارج فيجوز، كما (لو)

(3)

استأْجرها بِدراهم في الذمة. (أَوْ) إِلاَّ أَنْ يكون (العَمَلُ لَهُ) أَي لَوَاحِدٍ (والبَاقِي للآخَرِ) لأَن صاحب البَذْر حينئذٍ يكون مستأْجِراً للعامل وحدَهُ بأُجْرَةٍ معلومةٍ من الخارج، فيجوز.

(وإِذَا صَحَّتِ) المزارعة (فالخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ) لصحة الالتزام (ولا شَيءَ للعَامِلِ

(1)

الخَراج: ما تأخذه الدولة من الضرائب على الأرض المفتوحة عنوةً - أَي بالقوة - أَو الأَرض التي صالح أَهلُهَا عليها. والخراج على نوعين:

أَ - خراج وظيفة: الضريبة المقطوعة المفروضة على الأرض.

ب - خراج مُقاسمة: الضريبة المأْخوذة من إِنتاج الأَرض بنسبة معينة. معجم لغة الفقهاء ص 194.

(2)

في المطبوع: دفع، وما أَثبتناه من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 550

إِنْ لَمْ يَخْرُج. ويُجْبَرُ مَنْ أَبَى عن المُضِيِّ إِلَّا رَبَّ البَذْرِ، [فإِنْ أَبَى] بَعْدَما كَرَبَ العَامِلُ، يَجِبُ أَنْ يَستَرضِي.

وإِنْ فَسَدَتْ فالخَارِجُ لرَبِّ البَذْرِ، ولِلآخَرِ أَجْرُ مِثْلِهِ، ولا يُزَادُ عَلَى مَا شَرَطَ.

وتَبْطُلُ بِمَوتِ أَحَدِهِمَا،

===

إِنْ لَمْ يَخْرُج) شيء من الزرع، لأَن الشَّرِكَة إِنَّما هي في الخارج فلا يُستحقُّ غَيْرُه، بِخِلَاف ما إِذا فسدت، فإِن الواجب حينئذٍ أَجْرُ المِثْل.

(ويُجْبَرُ مَنْ أَبَى) أَي امتنع (عنِ المُضِيِّ) لأَنها عقدُ إِجارة، ويُجبر عليه مَنْ أَبَى عن المُضِي فيه (إِلاَّ رَبَّ البَذْرِ) لأَنه لا يمكنه المضي في العقد إِلاَّ بضررٍ يلزمه، وهو إِلقاءُ بَذْرِهِ على الأَرْض، ولا يدري هل يخرج أَمْ لا، فلا يُجبر عليه، وصار كَمَنْ استأْجر أَجيراً لِهَدْمِ داره ثُم امتنع، ولو امتنع الأَجِيْرُ أُجْبِر على العمل، لأَن المزارعة تنعقد إِجارةً، والإِجارةُ عَقْدٌ لازِمٌ يُفْسخ بالعُذْر عندنا، وهو

(1)

يتحقق هنا (مِنْ جهةِ ربِّ البذْر لا)

(2)

من جهة العامل.

(فإِنْ أَبَى

(3)

) ربُّ البَذْر عن المضي في العقدِ، والبَذْرُ من قِبله (بَعْدَ ما كَرَبَ العَامِلُ) الأَرض، أَي قَلَبَهَا للحَرْث (يَجِبُ) عليه ديانَةً (أَنْ يَسْتَرْضِي) أَي يسترضي العامِلَ: بأَن يعطيه أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ، لأَنه غَرَّه في ذلك. ولا يَجِب عليه قضاءً، لأَن عمله إِنما يتقوَّم بالعقد وقد قوَّمه بجزءٍ من الخارج، ولا خارج.

(الآثار المترتبة على فساد الإجارة)

(وإِنْ فَسَدَتْ) المزارعة (فالخَارِجُ لرَبِّ البَذْرِ) لأَنه نماء مِلْكه (ولِلآخَرِ أَجْرُ مِثْلِهِ) مِنْ عَمَلٍ أَوْ أَرْضٍ (ولا يُزَادُ عَلَى مَا شَرَطَ) لأَنه رَضِي بِسُقوطِ الزَّائد عليه، وهذا عند أَبي حنيفة وأَبي يوسف. وقال محمد: عليه أَجْرُ مِثْله بَالِغَاً ما بلغ.

(وتَبْطُلُ) المزارعة (بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا) أَي أَحد العاقِدَيْن إِذا عقدَهَا لنفسه، اعتباراً بالإِجارة، سواءً كان قبل الشروع في العمل أَوْ بعده، وهذا على إِطلاقه (هو القياس. و)

(4)

في الاستحسان إِذا مات أَحدهما وكانت المدة ثلاثَ سنين مثلاً، وقد نبت الزرع في السنة الأُولى، يبقى عقدُ الإِجارة حتى يُستحصد ذلك الزرع، ثُم

(1)

أَي لزوم العقد.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

في المطبوع: فأَبَى، وما أَثبتناه من المخطوط.

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 551

وتُفْسَخُ بِدَيْنٍ مُحْوِجٍ إِلى بَيعِهَا. فإنْ مَضَتِ المُدَّةُ وَلَمْ يُدْرَكِ الزَّرْعُ، فَعَلَى العَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ نَصيبِهِ مِنَ الأَرْضِ حَتَّى يُدْرَكَ.

ونَفَقَةُ الزَّرْعِ عَلَيهَما بالحِصَصِ، كَأَجْرِ الحَصَّادِ ونَحْوِهِ. فإِنْ شُرِطَ عَلَى العَامِلِ، صَحَّ عِنْدَ أبي يُوْسُفَ رحمه الله،

===

يَبْطُل في الباقي من السنتين، لأَن في إِبقاء العقد مراعاةً للحَقَّيْن فيعمل العامل أَوْ ورثته إِلى أَنْ يُحصد الزرع، ويُقسم على ما شرطاه.

(وتُفْسَخُ بِدَيْنٍ) لاحقٍ لربِّ الأَرض (مُحْوِجٍ إِلى بَيْعِهَا) لأَنها تُفْسخ بالأَعْذَار، وهذا عذرٌ كما في الإِجارة. ولا يطالبه العامل إِذا كَرَبَ الأَرض أَوْ حَفَر النهر بشيءٍ، لأَن المنافع إِنَّما تقوَّم بالعقد، وهو إِنما قُوِّم بالخارج، وإِذا لم يكن خارجٌ لم يجب شيءٌ، وهذا إِذا لم ينبت الزرع، وأَما إِذا نبت فلا تباع الأَرض في الدَّيْن حتى تُسْتَحْصَدَ، لأَن في بيعها قبل ذلك إِبطالُ حَقِّ المزارع، وفي تأْخِير بَيْعِهَا حتى يُستحصد الزرع تأْخيرُ حق الغرماء، والتأْخير أَهون من الإِبْطَال.

(فإِنْ مَضَتِ المُدَّةُ) المشروطة في المُزارعة (وَلَمْ يُدْرَكُ الزَّرْعُ فَعَلَى العَامِلِ) لصاحب الأَرض (أَجْرُ مِثْلِ نَصِيْبِهِ مِنَ الأَرْضِ حَتَّى يُدْرَكَ) الزرع ويُستحصد، فلا يجوز لربِّ الأَرْض أَنْ يأْخذ الزرع بَقْلاً، لما فيه من إِضرار المزارع، فأَما إِذا أَراد المزارع أَنْ يأْخذه بَقْلاً فلربِّ الأَرض أَنْ يفعله، ويكون بينهما أَوْ يعطيه قيمةَ نصيبِهِ أَوْ ينفق على الزرعِ ويرجع بما ينفقه في حصة المزارع، كذا في «الهداية» .

(ونَفَقَةُ الزَّرْعِ) مِنْ أَجْرِ السَّقْي. ونحوه، وكذا مُؤنة حِفْظه بعد انقضاء مدة المزارعة (عَلَيْهما بالحِصَصِ) أَي بِقَدْر الحصص (كَأَجْرِ الحَصَّادِ ونَحْوِهِ) من الرِّفاع

(1)

والدِّياس

(2)

والتَّذْرِية

(3)

، لأَن عقد المزارعة يوجِب على العامل عَمَلاً يحتاج إِليه إِلى انتهاء الزرع، وهذه الأَشياء بعد انتهائه، وهو حينئذٍ مالٌ مشترك بينهما، فيجب عليهما على قَدْر مِلْكِهِمَا.

(فإِنْ شُرِطَ) أَجْر الحصَّاد ونحوه (عَلَى العَامِلِ صَحَّ عِنْدَ أَبي يُوْسُفَ رحمه الله،

(1)

الرِّفاع: رَفْع الزرع بعد الحصاد إلى الجُرْن. والجُرْن: هو الموضع الذي يُدَاس فيه البُرّ ونحوه، وتجفّف فيه الثمار. المعجم الوسيط ص 361، مادة رفع. وص 119 مادة:(جرن).

(2)

الدِّياس: وَطءُ الزرع بقوائم الدوابّ أَو بآلةٍ حتى ينفصل الحبُّ عن التِّبْن، معجم لغة الفقهاء ص 211.

(3)

التَّذْرِية: من ذَرَا الحبَّ أَي نَقَّاه في الرِّيح. المعجم الوسيط ص 311، مادة (ذرا).

ص: 552

وبِهِ يُفْتَى.

===

وبِهِ يُفْتَى) وهذا اختيار مشايخ بَلْخ. قال شمس الأَئمة: وهو الأَصح في ديارنا، يعني لتعامل الناس بها، كذا في «الهداية» .

وفسد في ظاهر الرواية، وهو القياس، وهذا بخلاف ما إِذا شرطا على ربِّ الأَرض، فإِنه مُفْسِدٌ بالاتفاق لعدم العُرف، وكذا إِذا شَرَطا الجُذَاذَ

(1)

على العامل، أَوْ الحَصَادَ على غير العامل لا يجوز بالاتفاق لعدم التعامل. وعن نُصَيْر بن يحيى، ومحمد بن سَلَمة (أَنَّ)

(2)

هذا كله يكون على العامل، شُرِط عليه أَمْ لا، بِحُكْم العُرْف. قال شمس الأَئمة السَّرَخْسي: هذا هو الصحيح في ديارنا، كذا في «فتاوى قاضيخان» ، والله أَعلم.

(1)

جَذَّه: أَي كَسَرَه وقطعه. مختار الصحاح ص 41، مادة (جذذ).

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 553

كِتَابُ المُسَاقَاةِ

هِي دَفْعُ الشَّجَرِ إِلى مَن يُصْلِحُهُ بِجُزْءٍ مِنْ ثمَرِهِ، وهِي كالمُزَارَعَةِ. وإِنَّما تَصِحُّ بلا ذِكْرِ المُدَّةِ، وَتَقَعُ عَلَى أَولِ ثَمَرٍ يَخْرُجُ. وإِدْرَاكُ بَذْرِ الرَّطْبَة كَإدْرَاكِ الثَّمَرِ، وذِكْرُ مُدَّةٍ لا يَخْرُجُ الثَّمَرُ فِيهَا يُفْسِدُهَا،

===

كِتَابُ المُسَاقَاةِ

(هِي) لغةً: مفاعلة من السَّقْي.

وشرعًا: (دَفْعُ الشَّجَرِ إِلَى مَنْ يُصْلِحُهُ بِجُزُءٍ) معلومٍ شائعٍ، كما في المزارعة. (مِنْ ثَمَرِهِ) أَي ما هو المقصود منه، فيتناول الرَّطْبَةِ والفُوَّة

(1)

والزَّعْفَران وغيرهما. وفي إطلاق الشجر دَفْعٌ لما ذهب إليه الشافعيُّ من أنَّ المساقاة مخصوصةٌ بالنَّخيل والكرم، لأن جوازها بالأَثر إنما ورد في النخل والكرم. ولنا أَنَّ جوازها للحاجة، وهي تَعُمُّ الكلَّ، ولأَن الأَصل في النصوص التعليل لا سيما على أصله، وتُسَمَّى أيضًا المعاملة بِلُغَةِ أَهل المدينة.

(وهِيَ كالمُزَارَعَةِ) في أَنها فاسدةٌ عند أَبي حنيفة رحمه الله، وجائزةُ عندهما، وهو قول ابن أبي ليلى، والفتوى على قولهما.

وشروطها عندهما شروط المزارعة، إلَّا أنَّها إذا امتنع أَحَدُهُمَا عن المُضِي يُجبر،

لأَنه لا ضرر عليه في المُضِيِّ، بخلاف المزارعة حيث لا يُجبر صاحب البَذْرِ. (وإنَّما

تَصِحُّ بلا ذِكْرِ المُدَّةِ) استحسانًا (وَتَقَعُ عَلَى أَوَّلِ ثَمَرٍ يَخْرُجُ) لأن الإدراك الثمر وقتًا

معلومًا قَلَّما يتفاوت، [هذا]

(2)

إذا لم تُعَيَّن المدة، لأن تَنَاوُلَ العقد أول ثمرة متيقن، وفيما وراءه شكٌ فلا يَثْبُت.

(وَإِدْرَاكُ بَذْرِ الرَّطْبَة) مبتدأَ خَبَرُهُ (كَإِدْرَاكِ الثَّمَرِ) فتصح المساقاة عليه بلا ذكر المدة، وتقع على أول رَطْبَة تخرج، لأن له نهايةَ معلومةَ، بخلاف الزرع لأن ابتداءه يختلف خريفًا وشتاءَ وربيعًا، والانتهاء مَبْنِيُّ على الابتداء فتفحُشُ الجهالة.

(وذِكْرُ مُدَّةٍ) يُتَيَقَّنُ أَنَّه (لا يَخْرُجُ الثَّمَرُ فِيْهَا يُفْسِدُهَا) أَي المساقاة، للتيقن

(1)

الفُوَّة: عُروق يُصبغ بها. مختار الصحاح، ص 216، مادة (فوا).

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 554

فإِنْ لَمْ يَخْرُج فِيهَا، فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ المِثْل.

ولا تَصِحُّ إِنْ أُدْرِكَ الثَّمَرُ وَقتَ العَقْدِ كالمُزَارَعَةِ. وإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا والثَّمَرُ نِيْءٌ يَقُوْمُ العَامِلُ عَلَيهِ أَو وَارِثُهُ.

ولا تُفْسَخُ إلَّا بِعُذْرٍ، وَكَوْنُ العَامِلِ مَرِيْضًا لا يَقْدِرُ عَلَى العَمَلِ، أَو سَارِقًا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى سَعَفِهِ أَو ثَمَرِهِ، عُذْرٌ.

ودَفْعُ فَضَاءٍ

===

بفوات المقصود، وهو الشركة في الثَّمَرِ، بخلاف مُدةٍ قد يَخْرُجُ الثمر فيها وقد لا يخرج، لعدم التيقن بفوات المقصود.

(فَإِنْ لَمْ) الثمر (فِيْهَا) وخرج بعدها (فَلِلْعَامِل أَجْرُ المِثْل) لأَن الخطأَ تَبَيَّن في المدَّةِ المسماة فَيَفْسُدُ العقد، كما لو علم ذلك في الابتداء. وأما إذا لم يَخْرُجُ شيءٌ أَصْلًا فلم يفسد العقد، بل وقع صحيحًا ولا شيء لِوَاحِدٍ منهما على صاحبه، لأن عدم خروج الثَّمَرِ أَصْلًا لآفةٍ سماويةٍ فلم يتبين الخطأ في المدة.

(ولَا تَصِحُّ) المساقاة (إِنْ أَدْرِكَ الثَّمَرُ وَقْت العَقْد) وصار بحيث لا يزيد بالعمل. وتصح إن لم يكن كذلك (كالمُزَارَعَةِ) فإنها لا تصح إن أُدرك الزرع واستُحْصِد، وتصح قبل ذلك، لأن العامل إنما يستحق بظهور أثر عمله، ولا أَثر لعمله بعد إدراك الثمر أو الزرع.

(وإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا) والثمر نِيءٌ أَوْ مضت مدتها (والثَّمَرُ نِيْءُ) وهو بكسر النون وتحتية ساكنة بعدها همزة وقد يدغم، أَي غيرُ نضيج (يَقُوْمُ العَامِلُ عَلَيْهِ أَوْ وَارِثُهُ) إِلى أَنْ ينتهي الثمر، كما في المزارعة، يعني إِذا كان الثمر غيرَ مُدْرَكٍ، فإِن مات ربُّ الأَرض فَلِلْعَامِلِ أَنْ يقومَ عليه، كما كان قبله إِلى أَنْ يدرك الثمر، ولو كره وَرَثَةُ ربِّ الأَرض فيبقى العقد دفعاً للضرر عنه. وإِن مات العامل فلورثَتِهِ أَنْ يقوموا عليه ولو كَرِهَ رَبُّ الأَرض، إِذْ فيه النظر من الجانبين.

(ولا تُفْسَخُ) المساقاةُ (إِلاَّ بِعُذْرٍ) لأَنها إِجارة، والإِجارة تُفْسَخُ بالعذر (وَكَوْنُ العَامِلِ مَرِيْضَاً لا يَقْدِرُ عَلَى العَمَلِ أَوْ) كون العامل (سَارِقَاً يُخَافُ مِنْهُ عَلَى سَعَفِهِ

(1)

) أَي سَعَفِ رَبِّ الأُصول (أَوْ ثَمَرِهِ، عُذْرٌ) خبر المبتدأ الذي هو «كون العامل» .

(ودَفْعُ فَضَاءٍ) مبتدأ مضاف، والفضاء ـ بفاء معجمة ـ أَرضٌ بيضاءُ غيرُ مغروسة

(1)

السَّعْف: أَغصان شجر النخيل اليابسة ما دامت بأَوراقها. معجم لغة الفقهاء ص 244.

ص: 555

لِغَرْسِهِ، ويَكُوْنُ الأَرْضُ والشجَرُ بَينَهُمَا، لا يَصِحُّ. فلِلْعَامِلِ قِيْمَةُ غَرْسِهِ وأَجْرُ عَمَلِهِ.

===

(لِغَرْسِهِ) أَي ليغرس كما في نسخة، والمعنى: ليغرس ذلك الآخَرُ فيها شجراً. (ويَكُوْنُ الأَرْضُ والشَّجَرُ بَيْنَهُمَا) أَي بين رَبِّ الأَرض والغارس نِصْفَين، (لا يَصِحُّ) لاشتراط العامل الشركة فيما كان موجوداً قبلها لا بعمله، وهو الأَرْض، فيفسد.

(فلِلْعَامِلِ قِيْمَةُ غَرْسِهِ وأَجْرُ عَمَلِهِ) أَي أَجر مِثْل عمله فيما عمل، أَما قيمة الغَرْسِ لِتَعَذُّر رَدِّه بعينه لاتصاله بالأَرض، وقد غرسه برضاه، وأَما أَجر مثل عمله، لأَنه طلب عوضاً عن عمله ولم يسلم له ذلك، فيجب أَجر المِثل.

وأَما ما ذكره الشارح تَبَعَاً للماتن في التعليل: من أَنه في معنى قَفِيْز

(1)

الطحان إِذْ هو استئجارٌ ببعض ما يخرج عن عمله، وهو نصف الأَشجار

(2)

، فنوقش فيه بأَن مطلق المعاملة في معنى قَفيز الطحان، وجُوِّزَتْ على خلاف القياس بالحديث، وهذا إِذا كان الغرس للعامل، فإِن كان الغَرْس لربِّ الأَرض فعليه أَجر المِثل فقط، وإِنما قال:«الأَرض والشجر بينهما» ، لأَنه لو شرط أَنْ يكون الشجر والثمر بينهما جاز. ذَكَره في «فتاوى قاضيخان» . والله تعالى أَعلم.

(1)

تقدم شرحها ص 303، تعليق رقم (2).

(2)

في المطبوع: الاستئجار.

ص: 556

‌كتَابُ إحْيَاءِ المَوَاتِ

هي: أرضٌ بِلا نَفْعٍ لانْقِطَاعِ مَائِهَا ونَحْوِهِ، ولا يُعْرَفُ مَالِكُهَا، بَعِيدَةٌ عن العَامِرٍ، لا يُسْمَعُ صَوْتٌ مِنْ أَقْصَاه. مَنْ أحْيَاهُ مَلَكَهُ إِنْ أَذِنَ لَهُ الإِمَامُ.

===

كتاب إِحْيَاءِ المَوَاتِ

(هي) أَي الموات (أَرْضٌ بِلا نَفْعٍ لانْقِطَاعِ مَائِهَا) في أَرضٍ لا تُزْرَعُ إِلاَّ بِمَاءِ الأَنْهَار أَوْ الآبار (ونَحْوِهِ) مِنْ غَلَبَةِ الماء عليها، أَوْ كونها سَبْخَةً

(1)

، أَوْ نَازَّةً

(2)

، أَوْ تَعَذَّرَ زَرْعُهَا لكثرة الشجر أَوْ الحجر أَوْ الرمل فيها. وسُمِّيت بذلك تشبيهاً لها بالحيوان الميت في عدم الانتفاع به.

(ولَا يُعْرَفُ مَالِكُهَا) عَطْفٌ على «بلا نفع» ، وفي بعض النسخ:«لا يعرف» بلا «واو» ، فهو صِفَةٌ ثانيةٌ لأَرض، أَي غير مملوكةٍ لمسلم ولا ذِمِّي. وعدمُ معرفة مالكها: إِما بأَن لا يكون لها مالك في الإِسلام، وهو حقيقةُ الموات، وإِما بأَن يكون لها مالك فيها ولا يُعرف، فليس هذا بحقيقةِ الموات، وإِنما حُكْمه حكم الموات حيث يَتَصَرَّف فيه الإِمام كما يتصرف في الموات.

فلو ظهر المالك بعد ذلك أَخَذَهَا وضمن له مَنْ زَرْعَهَا إِنْ نَقَصَتْ بالزراعة، وإِلاَّ فلا شيء عليه، وهو المختار للفَتْوى.

(بَعِيْدَةٌ عن العَامِرِ

(3)

) وحدُّ بُعْدِها أَنْ تكون بحيث (لا يُسْمَعُ) فيها (صَوْتٌ مِنْ أَقْصَاه) أَي أَقصى العامر ومنتهاه، وهذا عند أَبي يوسف رحمه الله، لأَن الظاهر أَنَّ ما يكون قريباً من العامر لا ينقطع ارتفاق

(4)

أَهْلِهِ عنه، فيدور الحكم بالإِحياء على البعد. وعند محمد يُشترط في الموات انقطاع الارتفاق حقيقةً، وإِن كان الموات قريباً من العامر. واعتمد شمس الأَئمة السَّرَخْسي على قول أَبي يوسف رحمه الله.

(مَنْ أَحْيَاهُ) أَي عمره (مَلَكَهُ) مُسْلِمَاً كان أَوْ ذِمِّيَاً، لأَنهما لا يختلفان في سبب المِلْك (إِنْ أَذِنَ لَهُ الإِمَامُ) في إِحيائه حتى لو أَحياه بغير إِذْن الإِمام لا يملكه، وهذا عند أَبي حنيفة رحمه الله. وقالا: يملكه مَنْ أَحياه، أَذِن له الإِمام أَوْ لم يأَذن، وبه قال مالك

(1)

السَّبْخَةُ: أَرضُ ملحٍ ونزٍّ لا تكاد تُنبت. المعجم الوسيط ص 413، مادة (سَبَخَ).

(2)

النَّزُّ: ما يتحلَّب من الأَرض من الماء. مختار الصحاح ص 272، مادة (نزز).

(3)

العامِر من الأَرض: ما يُنْتَفع به بوجهٍ من وجوه الانتفاع، كالغرس والزرع والبِنَاء. معجم لغة الفقهاء ص 302.

(4)

الارتفاق: ارتَفَقَ به أَي انتفع واستعان. المعجم الوسيط ص 362، مادة (رَفَقَ).

ص: 557

ومَنْ حَجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يُعْمرهَا ثَلاثَ حِجَجٍ دَفَعَهَا الإِمَامُ إِلى غَيرِهِ.

===

والشافعي رحمهما الله لما أَخرجه الترمذي ـ وقال: حديث حسن صحيح ـ عن جابر ابن عبد الله أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَحيا أَرضاً ميتةً فهي له» . ولقوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ أَعْمَرَ أَرضاً ليستْ لأَحد فهو أَحقُّ بها» . رواه البخاري من حديث عائشة، ولفظ أَبي يَعْلَى عنها: «مَنْ أَحْيَا أَرْضَاً ميتةً فهي له، وليس لِعِرْقِ

(1)

ظَالِمٍ حَقٌّ». وهكذا رواه أَبو داود والترمذي والنَّسائي من حديث سعيد بن زيد.

وفي رواية الطبراني عن فَضَالَة بنِ عُبَيْد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأَرْضُ أَرْضُ اللَّهِ، والعبادُ عبادُ اللَّهِ، مَنْ أَحْيَا أَرْضَاً مواتاً فهي له» . ولأَنه مالٌ مباحٌ سبقت يدُهُ إِليه فيملكه، كما في الحطب والصيد.

ولأَبي حنيفة رحمه الله ما روى الطبراني من حديث معاذ: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس للمرءِ إِلاَّ ما طابَتْ نَفْسُ إِمَامِهِ به» . ولأَن ما يتعلق به حقُّ جماعة المسلمين لا يختص به واحدٌ دون واحدٍ إِلاَّ بإِذن الإِمام، أَصله الرزق من بيت المال. والقياس على الحطب والصيد ليس بتام، لأَن الإِمام. لا يملك أَنْ يأْمر واحداً دون واحد بالحطب والصيد، لكن الحديث فيه ضعيف، وعلى تقدير صحته فإِنه لا دلالة للأَعم على الأَخص.

ولو تركها بعد الإِحياء وزرعها غيره، قيل: الثاني أَحق بها، لأَن الأَول ملك استغلالها دون رقبتها، والأَصح أَنْ الأَول أَحقُّ بها، لأَنه مَلَكَ رقبتها بالإِحياء فلا تخرج عن ملكه بِتَرْكها.

(ومَنْ حَجَرَ أَرْضَاً) أَي وضع حجراً أَوْ شيئاً للإِعلام بأَنه قصد إِحياءها، مأَخوذٌ من الحَجَر بفتح الجيم، لأَن الغالب أَنْ يكون ذلك بالأَحجار، أَوْ بسكون الجيم بمعنى المنع

(2)

، (وَلَمْ يُعْمرهَا ثَلَاثَ حِجَجٍ) ـ بكسر الحاء ـ أَي سنين (دَفَعَهَا الإِمَامُ إِلى غَيْرِهِ) لأَن الدفع للأَول إِنما كان ليُعْمِرَهَا فتحصل المنفعة للمسلمين من العُشْر والخَرَاج، فإِذا لم يُعْمِرها يدفعها الإِمام إِلى غيره ليحصل ذلك، والتقدير بثلاثِ حِجج لما روى مسلمٌ في كتاب الخَرَاج عن الحسن بن عُمارة، عن الزُّهْري، عن سعيد بن المُسَيَّب قال: قال عمر رضي الله عنه: مَنْ أَحيا أَرضاً ميتةً فهي له، وليس للمُحْتَجِرِ

(3)

حقٌّ بعد ثلاث سنين.

وروى حُمَيْد بن زَنْجُويَهْ النَّسائي

(4)

في كتاب «الأَموال» عن عَمْرو بن شُعَيْب

(1)

هو أن يَجِيءَ الرَّجلُ إلى أرض قد أَحياها رجلٌ قبله فيغرس فيها غَرْسًا غَضبًا ليستوجِب به الأَرضَ. النهاية 3/ 219.

(2)

في المطبوع: الجمع، وما أَثبتناه من المخطوط.

(3)

المُحْتَجِر: مَن حَدَّد أرضًا ليُحْيِيَهَا. معجم لغة الفقهاء ص 409.

(4)

حُرِّفت في المطبوع والمخطوط إلى: والنسائي. والصواب ما أثبتناه من "الكاشف" للذهبي 1/ 354.

ص: 558

ومَنْ حَفَرَ بئرًا في مَوَات بالإِذْنِ، فَلَهُ حَرِيْمُهَا: لِلْعَطَنِ النَّاضِحِ أَرْبَعُوْنَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ في الأصَحِّ، وللْعَيْنِ خَمْسُ مِئةٍ كَذَلِكَ. ولَهُ مَنْعُ غَيرِهِ، فإنْ حَفَرَ في منتهاه فَلَهُ الحَريمُ ثَلاث جَوَانِبَ.

===

أَنْ النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم أَقْطَعَ أُناساً من جُهَيْنَة أَرْضَاً فعطَّلوها، فأَخذها قومٌ آخرون فَأَحْيَوْهَا فخاصم فيها الأَولون إِلى عمر بن الخطاب، فقال: لو كانت قطيعةً مني أَوْ من أَبي بكر لم أَرْدُدْهَا، ولكنها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال: مَنْ كان له أَرضٌ فعطَّلَها ثلاث سنين لا يَعْمُرُها فعمرها غيرُه، فهو أَحقُّ بها.

(ومَنْ حَفَرَ بِئْرَاً في مَوَاتٍ بالإِذْنِ) من الإِمام عند أَبي حنيفة رحمه الله تعالى، وبغير الإِذن أَيضاً عندهما (فَلَهُ حَرِيْمُهَا) أَي ما حولها (لِلْعَطَنِ) وهي التي يُنْزع منها الماءُ باليد. (النَّاضِحِ) وهي التي ينزع الماء منها بالبعير (أَرْبَعُوْنَ ذِرَاعَاً مِنْ كُلِّ جَانِبٍ في الأَصَحِّ).

واحترز به عن قول بعضهم «أَربعون ذراعاً من الجوانب الأَربعة من كل جانب عشرة» . وقال أَبو يوسف ومحمد: إِنْ كان البِئْرُ للعَطَن فَحَريمُهَا

(1)

أَربعون ذراعاً، وإِن كان للناضح فستونُ ذِرَاعًا لما أَخرجه ابن ماجه في «سُننه» من حديث عبد الله بن مُغَفَّل: أَنْ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «مَنْ حَفَرَ بِئْرَاً فله أَربعونَ ذِرَاعَاً عَطناً

(2)

لماشِيتِهِ».

(ولِلْعَيْنِ خَمْسُ مِئةٍ كَذَلِكَ) أَي من كل جانب، على الأَصح، وهو قول الزُّهْري. وقيل: خمس مِئة من الجوانب الأربعة: من كُلِّ جانب مئةٌ وخمسةٌ وعشرون ذراعاً. وفي بعض نسخ القُدُوري: حَرِيْمُ العين ثَلَاثُ مئة ذراع، وعليها اعتمد الأَقْطَع، وهو قول سعيد بن المُسَيَّب.

(ولَهُ مَنْعُ غَيْرِهِ) أَي غير حافر البئر أَوْ العين من الحَفْرِ فيه، أَي فيما ذُكِر من حريم البئر وحريم العين. (فإِنْ حَفَرَ) غيرُهُ (في منتهاه) أَي منتهى حريم الأول بإِذن الإمام عِنْده، أَوْ بلا إِذْن عندهما (فَلَهُ) أَي فللذي حَفَرَ المنتهى (الحَرِيْمُ) من الحَفْر الذي حفر (ثَلاث جَوَانِبَ) دون الجانب الذي يلي ملك الأَول لِسَبْقِ مِلْكِه فيه. ولو ذهب ماء الأَوَّل إِلى الثاني فلا شيء عليه، لأَنه غير مُتَعَدَ في فعله، فصار كَمَنْ بَنَى حَانوتاً بجنب حانوتِ غيره فكسد الأوَّل بسببه.

(1)

حَرِيمُ العين أَو البئر: ما يحيط بهما، يملكه مَن يملِكهَما، معجم لغة الفقهاء ص 179.

(2)

العَطَنُ: بُروك الناقلة للاستراحة بعد الشرب. المَعْطَن: مبرك الإِبل ومربض الغنم حول الماء. معجم لغة الفقهاء ص 315.

ص: 559

وللقَنَاةِ حَريمٌ بِقَدْرِ ما يُصْلِحُهَا، وَلا حَريمَ للنَّهْرِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ.

‌فَصْلٌ [في الشِّرْب]

الشِّربُ هُو نَصِيبُ المَاءِ،

===

(وللقَنَاةِ) وهي مجرى الماء تحت الأَرض (حَرِيْمٌ بِقَدْرِ ما يُصْلِحُهَا) ولم يُقَدَّر بشيءٍ يمكن ضَبْطُهُ (وَلَا حَرِيْمَ للنَّهْرِ) عند أَبي حنيفة رحمه الله، لا في الأَموات ولا في غيره (إَلاَّ بِبَيِّنَةٍ) أَي حُجة شرعية أَوْ دلالة عُرْفية، كطينٍ مُلقى على مُسَنَّاته

(1)

، أَوْ شجرٍ مغروسٍ فيها له، وكونها أَرْفَع مِنْ الأَرض. وقال أَبو يوسف ومحمد: له مُسنَّاة يمشي عليها ويلقي عليها طِيْنَه، وبه قال مالك والشافعيّ.

وفي «الجامع الصغير» : نهر لرجلٍ إِلى جنبه مُسَنَّاة ولآخر خلف المُسَنَّاة أَرض، وليس لأَحدهما عليها غرس ولا طين ملقى لصاحب النهر وتنازعا، فهي لصاحب الأَرض عند أَبي حنيفة رحمه الله تعالى. وقالا: لصاحب النهر حريم له يلقي طينه وغير ذلك. وهذا يكشف الخلاف في هذه المسأَلة.

هذا، وحَرِيْمُ الشجرة خمسة أَذْرُع مِنْ كلِّ جانب لما روى أَبو داود عن أَبي سعيد الخُدْري قال: اختَصَمَ إِلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رجلان في حريم نخلة، فأَمر بها فذُرعت

(2)

فوُجِدَتْ سبعةَ أَذْرُع ـ وفي روايةٍ: فوجدت خمسةَ أَذْرع ـ فقضى بذلك. وفي لفظٍ له: قَضَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حَرِيْمِ النخلة طُولَ عَسِيْبِهَا. ورواه الطحاوي في «آثاره» ولفظه: اختصم رجلانِ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم في نخلة، فقطع منها جريدة، ثُم ذرع بها النخلة، فإِذا فيها خمسة أَذرع، فجعلها حريمها. وفي «مستدرك الحاكم» عن عُبادةَ بنِ الصامت: أَنَّ النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم قضى في النخلة: أَنْ حَرِيْمها مبلغ جريدها.

فصل (في الشِّرْبِ)

(الشِّرْبُ) بكسر الشين المعجمة (هُو نَصِيْبُ المَاءِ) أَي نصيبٌ من الماء، فالإِضافة بمعنى «من» نحو: خاتم حديد، وهذا معناه اللغوي.

وأَما الشرعي: فهو الانتفاع بالماء سَقْيَاً للمَزَارِع أَوْ الدَّواب، ومنه قوله تعالى:

(1)

المُسَنَّاة: سدٌّ يُبنى لِحَجز الماء خلفه، فيه فوهات لمرور الماء منها، يفتح منها بغدر الحاجة. معجم لغة الفقهاء ص 429.

(2)

ذَرَع الثوب: أي قَاسَه بها - أي بالأَذرع -. القاموس المحيط ص 925، مادة (ذرع).

ص: 560

والشَّفَة شُرْبُ بَنِي آدَمَ والبَهَائِمِ. ولكُلٍّ حَقُّهَا وَحَقُّ سَقْي الدَّوَابِّ إِنْ لَمْ يَخَف تَخْرِيبَ النهرِ، فِي كُلِّ مَاءٍ لَم يُحْرَز بإنَاءٍ.

وحَقُّ الشِّربِ، ونَصْبُ الرَّحَى، إِلَّا إِذا أَضَرَّ بالعَامَّةِ، أَو خُصَّ النَّهْرُ بِغَيرِهِ، أَي: دَخَلَ في المَقَاسِم.

===

{لها شِرْبٌ ولَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}

(1)

. وخَصَّه المصنفُ بالنوع الأَول ولذا قال: (والشَّفَة شُرْبُ بَنِي آدَمَ) بضم الشين (والبَهَائِمِ) يقال هم أَهل الشَّفَة، أَي: الذين لهم حقُّ الشِّرْب بِشفاههم.

(ولِكُلَ) أَي ولكل واحدٍ من بني آدم (حَقُّهَا) أَي حق الشَّفَة (وَحَقُّ سَقْي الدَّوَابِّ) أَي إِذا كانت له دابَّةٌ (إِنْ لَمْ يَخَف تَخْرِيْبَ النَّهْرِ) أَما لو خِيْف تخريبُهُ بالدوابِّ لكثرتها فلم يكن لهم حَقُّ سَقْيِهَا، لأَن أَصل الحقِّ له على الخصوص، وإِنما أَثبتناه لغيره ضرورةً، فلا معنى لإِثباته على وجه يتضررُ صاحبه، إِذْ به تَبْطُل منفعتُهُ.

(فِي كُلِّ مَاءٍ لَمْ يُحْرَز بإِنَاءٍ) سواء في ذلك الأَنْهَار الكبار، والصغار، والآبار. أَما الأَنْهَار العظام كَدِجْلَة، والفُرَات والنِّيل وسَيْحُون وجَيْحُون، فلأَنها ليس لأَحد فيها يَدٌ على الخصوص. وأَما الأَنهار المملوكة، والآبار، والحياض، فلأَنها لا توضع للإِحراز، والمباح لا يُملك إِلا به، فصار الماء فيها كالصيد إِذا سكن في أَرض إِنسانٍ حيث لا يُمْلَك إلاَّ بأخذه.

(و) لكل أَحَدٍ في الأَنهار الكِبَار (حَقُّ الشِّرْبِ) ـ بكسر المعجمة ـ بأَن يحفر منها نهراً إِلى أَرضه (ونَصْبُ الرَّحَى) لأَن الانتفاع بالأَنهار كالانتفاع بالشمس والقمر، لا يُمنع منه على أَي وجهٍ كان، والأَنهار العظام مباحةُ الأَصل، لأَن قهر الماء يمنع قهر غيره. (إِلاَّ إِذا أَضَرَّ بالعَامَّةِ) لأَن دَفْعَ الضرر عنهم واجبٌ، وذلك بأَن يكون مَيْلُ الماء إِلى الأرْض التي تُسقَى، أَوْ إِلى الرَّحَى التي تُنْصَب، وتُكْسَر حافَّةُ النهر، فتغرق الأَراضي والقرى.

(أَوْ خُصَّ النَّهْرُ) بصيغة المجهول، أَي اختص (بِغَيْرِهِ) أَي بغير مَنْ يريد أَنْ ينصب عليه رَحى ويسقي منه أَرضاً (أَي دَخَلَ في المَقَاسِم) حين قسم الإِمام، لأَن الماء متى دخل في المقاسم انقطعت الشركة في الشرب ونحوه عنه مِمَّنْ لم يدخل في قسمته، إِذْ لو بقيت لم يكن مختصاً.

والأصل في هذا الباب ما أَخرجه ابن ماجه في «سُننه» عن ابن عباس، والطبراني في «مُعجمه» عن ابن عمر أَنَّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال:

(1)

سورة الشُّعراء، الآية:(155).

ص: 561

وكَرْيُ نَهْرٍ لَمْ يُمْلَك مِنْ بَيتِ المَالِ، فإنْ لَم يَكُنْ فِيهِ شَيءٌ، فَعَلَى العَامَّةِ، وكَرْيُ نَهْر مُلِكَ على أَهْلِهِ، مِنْ أَعْلاهُ.

===

«المسلمونَ شُرَكَاءُ في ثلاثٍ: الماءِ والكلأ والنَّارِ» . ورواه أَبو داود، (وزاد)

(1)

ابن ماجه: «وثَمَنُهُ حَرَامٌ» ، والمراد بالماء: ما ليس بِمُحْرَز، وبالكلأ: الحشيش الذي يَنبت بنفسه من غير أَنْ يزرعه أَحدٌ أَوْ يسقيَهُ، وإِن كان في أَرض غيره، وبالنار الاستضاءة والاصْطِلاء، أَي الاستدفاء والإِيقاد من لَهَبِهَا في الصحراء لا الجمر لأَنه ملكه. والمراد بالشركة شَرِكَةُ إِباحة لا شركةُ مِلْك.

وما روى أَبو يوسف في «كتاب الخَراج» : حدثنا المُعَلَّى بنُ كثير، عن مَكْحُوْل أَنْ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال:«لا تَمْنَعُوا كلأً، ولا ماءً ولا ناراً، فإِنَّه متاعٌ للمُقْوِين، وقُوتٌ للمُسْتَضْعَفِيْن» . والمُقْوِين: المسافرين، كذا قاله ابن عباس ومجاهد والضَّحَّاك في قوله تعالى:{وَمَتَاعَاً للمُقْوِين}

(2)

.

(وكَرْيُ نَهْرٍ لَمْ يُمْلَك) أَي حَفْره (مِنْ بَيْتِ المَالِ) لأَن ذلك لمصلحةِ عامةِ المسلمين، وبيت المال الخَرَاجي مَعَدٌّ لمصالحهم (فإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيْهِ) أَي في بيت المال (شَيءٌ) يكفيه، ومن جملة بيت المال ما في أَيدي الملوك، والوزراء، والأُمراء من آلات الذهب والفضة. وفي حَلَق نسائهم من الجواهر ونحوها (فَعَلَى العَامَّةِ) كَرْيُه. يُجْبِرُهم الإِمام على ذلك، لأَن في تركه ضرراً، وقَلَّمَا يُنْفق العامة على المصالح باختيارهم، إِلا أَنَّ الإِمام يُخْرِج له مَنْ يُطِيقه

(3)

، ويجعل مُؤنته على المياسير الذين لا يطيقونه بأَنفسهم

(4)

، كما في تجهيز الجيوش

(5)

.

(وكَرْيُ نهر مُلِكَ على أَهْلِهِ) لأَن منفعته لهم على الخصوص، فتكون مُؤنته عليهم، لأَن الغُرْم بالغُنْم، ومَنْ أبى أُجْبر. وقيل: لا يجبر إِلاَّ إِذا كان مُشْتَركَاً وأَبى أَحَدُ شركائه، وإِلاَّ فلا معنى للإِجبار مع تَرْك حَقِّهم بالاختيار، (مِنْ أَعْلَاهُ) خبرٌ ثانٍ لكَرْي نهر مُلِكَ لبيان كيفية كَرْيه، أَي من أَوله لأسفله.

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

سورة الواقعة الآية: (73).

(3)

أَي من الرِّجال الأشِدّاء الذين يستطعون حفره.

(4)

أَي الذين لا يقوَوْن على حفره بأَنفسهم.

(5)

فإِن الإمام يُخرج من كان يُطيق القتال، ويجعل تجهيزهم على الأَغنياء غير القادرين على القتال.

العناية على الهداية 9/ 15 في هامش فتح القدير بتصرف.

ص: 562

مِنْ جَاوَزَ مَنْ أَرْضِهِ بَرِئَ. وصَحَّ دَعْوَى الشِّرْبِ بِلا أَرْضٍ.

ولَوْ اخْتَصَمَ قَوْمٌ في شِرْبٍ بينهم، قُسِمَ بِقَدْرِ أَرَاضِيهِمْ، ومُنِعَ الأَعْلَى مِنْ سَكْرِ النَّهْرِ، وإِنْ لم يَشْرَبْ بِدُوْنِهِ إلَّا بِرِضَاهُم، وكُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ نَصْبِ رَحىً ونحوِه، لا في مِلْكِهِ، بِحَيْثُ لا يَضُرُّ بالنَّهْرِ وَلا بِالمَاءِ،

===

(ومَنْ جَاوَزَ) أَي الكَرْي (مِنْ أَرْضِهِ) هكذا في النسخ بزيادة «من» ، وزيادتها وإِن صحت بعد الشرط على قول أَبي عليَ الفارسي إِلاَّ أَنْ مجرورها يُشترط أَنْ يكون نكرةً، وهو هنا معرفة فكان حَقّه أَنْ يقول:«ومَنْ جَاوَزَ أَرضه» ، ولا يبعد أَنْ يقال بالتضمين، فالتقدير ومَنْ تَعدَّى مِنْ أَرضه (بَرِاءَ) من الكَرْي، وهذا عند أبي حنيفة والفتوى عليه، ذَكَرَهُ قاضيخان.

وقالا: هو عليهم جميعاً، من أول النهر إِلى آخِرِه بِحصص الشِّرْكِ

(1)

والأَرضين. وتوضيحه: أَنْ الشركاء في النهر إِذا كانوا عشرةً، فعند أَبي حنيفة مُؤنة الكَرْي عليهم جميعاً من أَول النهر أَعشاراً إِلى أَنْ يجاوز أَرض أَحدهم، فحينئذٍ يكون مُؤنة الكَرْي على الباقين اتساعاً إِلى أَنْ يجاوز أَرضاً أُخرى، ثُم يكون على الباقين أَثماناً وعلى هذا النقصان إِلى أَخِر النهر.

وعندهما المُؤنة عليهم أَعشاراً مِنْ أَول النهر إِلى آخِره، لأَن كلَّ واحدٍ ينتفع بالأَسفل كما ينتفع بالأَعلى لاحتياجه إِلى تسييل ما فضل من الماء، فإِنه إِذا سَدَّ ذلك فاض على أَرضه فيفسد زرعه، فيتبين أَنْ كل واحدٍ منهم ينتفع بالنهر من أَوله إِلى آخِره، فإِذا استووا في الغُنْم استَوَوا في الغُرْم.

(وصَحَّ دَعْوَى الشِّرْبِ بِلَا أَرْضٍ) استحساناً، والقياس أَنْ لا يصح (ولَوْ اخْتَصَمَ قَوْمٌ في شِرْبٍ بينهم قُسِمَ بِقَدْرِ أَرَاضِيْهِمْ) لأَن المقصود من الشِّرب الانتفاع بِسَقْي الأَرض فيتقدر بِقَدْرها (ومُنِعَ الأَعْلَى مِنْ سَكْرِ النَّهْرِ) أَي سَدِّه على الأَسفل حتى يشرب حصته (وإِنْ لَمْ يَشْرَبِ) الأَعلى (بِدُوْنِهِ) أَي بدون السَّكْر، لما فيه مِنْ إِبطال حقِّ الأَسفل مدة السَّكْر (إِلاَّ بِرِضَاهُمْ) أَي برضاء شركائهم على أَنَّ الأَعلى يَسْكُر النهر حتى يشرب بحصته، أَوْ عَلَى أَنْ يَسْكُر كُلُّ واحدٍ منهم في نوبته، لأَن الحق لهم وقد رضوا بتركه.

(و) منع (كُلٌّ مِنْهُمْ) أَي من الشركاء في النهر (مِنْ نَصْبِ رَحى ونحوِه

(2)

، لا في مِلْكِهِ) وهو ما يكون بطن النهر وحافتاه له وللآخَر التسييل، لأَن ذلك تَصَرُّفٌ في مِلْك نَفْسِه (بِحَيْثُ لا يَضُرُّ بالنَّهْرِ) من كَسْر حَافَّتِهِ (وَلَا بِالمَاءِ) مِنْ تَغَيُّرِه عن سَنَنِهِ

(1)

اسم من الشَّرِكَة.

(2)

في المخطوط: ونحوه من شَقِّ نهر، ونصب دالية وجسر

ص: 563

وعن التغيير مِمَّا كَانَ عَلَيهِ قَدِيْمًا.

والشِّرْبُ يُورَث، ويُوصَىَ بالانتفاع به، ولا يُبَاع بِلا أَرْضٍ إلَّا عِنْدَ مَشَايخِ بَلْخٍ. وكَذَا الإِجارةُ والهِبةُ والصَّدَقَة.

ومَنْ سَقَى مِنْ شِرْبِ غَيرِهِ يَضْمَن، لا مَنْ سَقَى أَرْضَهُ فَنَزَّت أَرضُ جَارِهِ.

===

الذي كان يجري عليه. (وعن التغيير) أَي ومنع كل من الشركاء عن التغيير (مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَدِيْمَاً) لأَن شَرَّ الأُمور مُحْدَثَاتُهَا كما ورد.

(والشِّرْبُ يُورَث، ويُوصَى بالانتفاع به، ولا يباع بِلَا أَرْضٍ إِلاَّ عِنْدَ مَشَايِخِ بَلْخ) فإِنهم أَجازوا بَيْع الشِّرْب، يوماً أَوْ يومين، لأَن أَهل بلخ تعاملوا على ذلك لحاجتهم إِليه.

(وكَذَا الإِجارة والهِبة والصَّدَقَة) أَي، وكما لا يُباع الشِّرْب إِلاَّ تَبَعَاً للأَرْضِ لا يُؤجَر، ولا يُوهب، ولا يُتَصَدَّق به إِلا تَبَعاً للأَرْض إِما للجهالة، أَوْ للغرور. أَوْ لأنه ليس بمالٍ متقوّم، أَوْ لعدم الملك فيه للحال، أَوْ لعدم إِمكان تسليمه.

(ومَنْ سَقَى) أَرضه (مِنْ شِرْبِ غَيْرِهِ يَضْمَن) لأَنه أَتلف شِرْب غيره باستعماله لأَرضه، وهذا اختيار فَخر الإِسلام رحمه الله تعالى.

وقال الإِمامُ المعروف بخَوَاهر زَادَه: لا يَضمن، لأَنه ليس بمالٍ متقوّم.

(لا) أَي: لا يضمن (مَنْ سَقَى أَرْضَهُ) أَوْ شَجَرَهُ (فَنَزَّت أَرضُ جَارِهِ) أَوْ سالَ مِنْ مائها في أَرض جاره فَغَرِقت، لأَنه بسببٍ غَيْر مُتَعَدَ، لأَن له أَنْ يملأَ أَرضه ويسقيها، والسبب إِنما يضمن إِذا تَعَدَّى، وفِعْلُهُ في أَرضه ليس بِتَعَدَ، كما لو أَوْقَد ناراً في داره فأَحرق دار جاره، فإِنه إِنْ أَوقد مثل العادة لا يضمن، وإِن أَوقد بخلافها يضمن، إِلا أَنَّ مَنْ حفر بئراً في أَرضه لا يضمن، ما عَطِب منها، ومَنْ حفر بئراً في الطريق يضمن.

قالوا: وهذا إِذا سقى أَرضه سقياً معتاداً: بأَن سقاها قدر ما يتحمله عادةً. وأَما إِذا سقاها سقياً لا تتحمله فإِنه يضمن. وكان الشيخ الإمام إِسماعيل يقول: إِنما لا يضمن بالسقي المعتاد إِذا كان محقاً فيه، بأَن سقى أَرضه في نوبته مقدار حصته، وأَما إِذا سقاها في غير نوبته، أَوْ فى نوبته زيادة على حقه وحصته، فإِنه يضمن لوجود التعدي في السبب، والله تعالى أَعلم.

ص: 564

‌كِتَابُ الوَقْفِ

هُوَ حَبْسُ العَيْنِ عَلَى مِلْكِ الوَاقِفِ، والتَّصَدُّقُ بِالمَنْفَعَةِ كَالعَارِيَّةِ.

وَعِنْدَهُمَا هُوَ حَبْسٌ عَلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلا يَزُولُ مِلْكُ المَالِكِ عِنْدَ أَبي حَنِيفَةَ رحمه الله إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ حَاكِمٌ، وإلّا فِي مَسجِدٍ بُنِيَ وَأُفْرِزَ بِطَرِيقِهِ، وَأَذِنَ لِلْنَّاسِ بالصَّلاةِ فِيهِ، وَصَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَسْلِيمُهُ إلَى المُتَوَلِّي وَقَبضُهُ

===

كتاب الوَقْفِ

(هُوَ) لغةً: الحبس، ويقال للموقوف تسميةً للمفعول بالمصدر. ويُجْمَع على أوقاف كوقتٍ وأوقات. ولا يقال أوقفه إلاّ في لغةٍ رديئةٍ.

وشرعاً: (حَبْسُ العَيْنِ عَلَى مِلْكِ الوَاقِفِ والتَّصَدُّقُ بِالمَنْفَعَةِ، كَالعَارِيَّةِ) وهذا عند أبي حنيفة (وَعِنْدَهُمَا: هُوَ حَبْسٌ) للعين (عَلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى) وقيل: الفتوى على قولهما.

(فَلَا يَزُولُ مِلْكُ المَالِكِ عِنْدَ أَبي حَنِيفَةَ رحمه الله قيل: أصل هذا أَنّ الوقف لا يجوز عنده، وهو المذكور في الأصل. وقيل: (يجوز)

(1)

عنده ولا يلزم بمنزلة العَارِيَّة فَيُوَرَّثُ ويُرْجَعُ عنه ويُبَاع (إِلاَّ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ حَاكِمٌ) ولاّه الإمام، فإنّه حينئذٍ يزول ملك الواقف عنه لقضائه في أمرٍ مجتهدٍ فيه. وصورة الحكم أن يُسَلِّم الواقف وقفه إلى المُتَوَلّي، ثم يريد أن يرجع بعلّة عدم اللّزوم، فيختصمان إلى القاضي فيقضي باللّزوم.

(وإلاّ فِي مَسْجِدٍ بُنِيَ وَأُفْرِزَ بِطَرِيقِهِ) أي مُيِّزَ به عن غيره بتعيّنه (وَأَذِنَ لِلْنَّاسِ بالصَّلَاةِ فِيهِ) أي إذناً عاماً (وَصَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ) فإنّه أيضاً يزول مِلْكه عنه، لأنّه جعله خالصاً لله تعالى. وشَرَطَ الإفراز، لأنّه لا يَخْلُص لله إلاّ به، والإذن بالصلاة لأنّ التَّسليم لا بدّ منه عند أبي حنيفة ومحمد، وهو

(2)

في المسجد بذلك، لأنّه في كل شيءٍ بحسبه. واكتفى بصلاة الواحد، لأنّ فعل الجميع متعذّرٌ فاشترط الأقلّ، ولأنّ المسجد موضع السجود، ويحصل بفعل الواحد.

(وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تسليمُه) أي الوقف (إلَى المُتَوَلِّي وَقَبْضُهُ) أي قبض المتولّي

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

أي التَّسليم.

ص: 565

شرْطٌ. وَعِنْدَ أَبَي يوسفَ يَزُولُ بِنَفْسِ القَوْل،

===

(شَرْطٌ) في زوال ملك الواقف عنه، لأنّه تَقَرّبَ إلى الله تعالى بماله فيتوقّف جوازه على التَّسليم، كالصّدقة بالعين.

(وَعِنْدَ أَبَي يُوسُفَ يَزُولُ) ملك الواقف (بِنَفْسِ القَوْل) وهو قول الشَّافعيّ وأكثر أهل العلم، لأنّه إسقاطٌ للملك، كالإعتاق. وبقول أبي يوسف ومحمد أنّ ملك الواقف يزول لا إلى مالك، بل يرجع إلى مالك الأملاك وخالق الأفلاك، وبه قال عامة الفقهاء، وهو الأصحّ من مذهب الشّافعيّ وأحمد. وللشَّافعيّ قول، وهو رواية عن أحمد: أنه ينتقل إلى ملك الموقوف عليه إن كان أهلاً للملك لامتناع السائبة

(1)

. وقال مالك: لا يزول الوقف عن ملك الواقف، لكن لا يباع ولا يورّث ولا يوهب، وهو قول آخر للشّافعيّ.

والأصل في جوازه ما رواه محمد بن الحسن في «الآثار» ، وأصحاب (الكتب)

(2)

الستة في سننهم، عن نافع، عن ابن عمر قال: أصاب عمر بِخَيْبَرَ أرْضاً فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم (يستأمره فيها)

(3)

، فقال:(يا رسول الله)

(4)

إنّي أصبت أرضاً بِخَيْبَر لم أُصِبْ مالاً قطُّ أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال:«إنْ شئت حَبَسْتَ أصلها وتَصدَّقْتَ بها» . (قال)( 4): فتصدّق بها عمر، أنّه لا يُبَاع أصلها، ولا (يُوْهَبُ)

(5)

: في الفقراء، والقُرْبَى، والرِّقاب، وفي سبِيل الله، (وابن السبيل)( 4)، والضَّيْف. لا جُنَاح على من وَلِيَها أَنْ يأكل منها بالمعروف، أو يُطْعِم منه صديقاً غير مُتَمَوِّلٍ فيه

(6)

. وفي لفظٍ:

(1)

السَّائبة: المُهْمَلَةُ التي كانت تسيَّب في الجاهلية لنَذْرٍ ونحوه. المعجم الوسيط ص 466، مادة (ساب).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إِثباته لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1255، كتاب الوصية (25)، بَاب الوقف (4)، رقم (15 - 1632). ومعنى يستأمره: يستشيره.

مختار الصحاح ص 10. مادة (أمر).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(6)

اللفظ المتفق عليه عند البخاري ومسلم: عن نافع عن ابن عمر قال: أصاب عمر أرضًا بخَيبَر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها. فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخَيبَر لم أصِبْ مالًا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرُني به؟ قال:"إن شئت حبست أصلها وتصدَّقت بها". قال: فتصدَّق بها عمر، أنه لا يُبَاع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورَث، ولا يوهب. قال: فتصدَّق عمر في الفقراء، وفى القُربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله وابن السبيل، والضيف، لا جُنَاح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يُطْعِمَ صديقًا، غير مُتَمَوّلٍ فيه. وقد رواه الشارح هنا بالمعنى جمعًا بين الروايات.

ص: 566

فَصَحَّ عِنْدَهُ وَقْفُ المُشَاعِ،

===

«غير مُتَأثِّلٍ

(1)

مالاً». وفي بعض طرق البخاري: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تصدّق بأصله، لا يباع، ولا يوهب، ولا يُورَث، ولكن يُنْفَقُ من ثمره» فتصدّق به عمر.

وفي «الإسْعَاف» : ما حدّث به الخصَّاف عن محمد بن عمر الوَاقِدِيّ قال: قُتِل مُخَيْريق على رأس اثنين وثلاثين شهراً من مُهَاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوصى إن أُصِيبَ فأمواله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها عليه الصلاة والسلام وتصدّق بها، وهي سبعة حوائط

(2)

بالمدينة (الأعراف ـ وقيل

(3)

): الأعواف ـ والصَّافية، والدَّلَال، والمِيثَب، وبُرقة، وحَسناء، ومَشْرَبَة أمّ إبراهيم، سُمِّيت بها لنزول أمّ إبراهيم فيها.

وما حدّث عنه أيضاً: أن أبا بكر وعثمان وعلياً وجمعاً من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأزواجه حَبسوا على نحو ما حبس عمر رضي الله عنه، فكان هذا إِجماعاً فِعْلياً منهم على صحته ولزومه.

قال في «المَبْسُوط» : وقد استبعد محمد قول أبي حنيفة في «الكتاب» ، وسمّاه تحكّماً على النّاس من غير حجّة، فقال: ما أخذَ النّاس بقول أبي حنيفة وأصحابه إلاّ بتركهم التحكّم على النّاس. فإذا كانوا هم الذين يتحكَّمون على النّاس بغير أثرٍ ولا قياس ولم يقلِّدوا هذه الأشياء فكيف يُقَلَّدُونَ؟

(4)

، ولو جاز التقليد لكان من مَضَى قبل أبي حنيفة مثل الحسن البَصْرِيّ، وإبراهيم النَّخَعِيّ أحرى أنْ يُقَلَّدُوا. ولم يُحْمَدْ على ما قاله. وقيل: بسبب ذلك انقطع خاطره فلم يتمكن من تفريع مسائل الوقف حتّى خاض في الصُّكوك، واستكثر أصحابه (من بعده من تفريع) مسائل الوقف كالخصَّاف وهلال

(5)

، والله تعالى أعلم بالحال.

ولأبي حنيفة ما أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» في الفرائض عن عِكْرِمة، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حبس في فرائض الله» . وفي نسخة: «عن فرائض الله» أي لا مال يحبس بعد موت المالك عن القسمة بين ورثته. ورواه ابن أبي شَيْبَةَ عن عليّ موقوفاً. وقال ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» : عن شُرَيْح أنّه قد جاء محمد صلى الله عليه وسلم ببيع الحبس.

إذا عرفت ذلك (فَصَحَّ عِنْدَهُ) أي عند أبي يوسف (وَقْفُ المُشَاعِ)

وبه قال مالك والشّافعيّ، لأنّ القسمة من تمام القبض، والقبض ليس عنده بشَرطٍ فكذا تتمته.

(1)

مُتَأثِّل: أَثّل مالًا: ادّخره ليستثمره. المعجم الوسيط ص 6، مادة (أثل).

(2)

الحوائط: جمع حائط وهو البُستان. المعجم الوسيط ص 208، مادة (حاط).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

في المخطوط: يَعْتَدُّون، والمثبت من المطبوع. وهي من كلام الشارح. راجع المبسوط 12/ 28.

(5)

انتهى كلام المبسوط. 12/ 28، وما بين الحاصرتين منه.

ص: 567

وَجَعْلُ الغَلَّةِ وَالوِلايَةِ لِنَفْسِهِ.

وَشَرْطُهُ أَنْ يَستَبدِلَ بِهِ

===

ولم يصحّ عند محمد، لأنّ أصل القبض عنده شرطٌ، فكذا ما يتمّ به. وهذا الخلاف فيما يحتمل القسمة، وأمّا ما لا يحتملها، كالحمّام فإن وقفه يجوز مع الشيوع، كالهبة والصّدقة، إلاّ في المسجد والمقبرة، فإنّه لا يتمّ مع الشيوع مطلقاً بالاتفاق، لأنّ بقاء الشّركة فيهما يمنع الخلوص لله تعالى.

وفي «الذَّخِيرَة» مشايخ بَلْخ أخذوا بقول أبي يوسف في وقف المُشَاع، ومشايخ بُخَارى أخذوا بقول محمد.

(وَ) صَحَّ عند أبي يوسف (جَعْلُ الغَلَّةِ) أي غلّة الوقف كلّها أو بعضها لنفسه، لأنّ المقصود من الوقف القُربة، وفي صرف الغلّة إلى نفسه ذلك. فقد ورد:«أنّ نفقة المرء على نفسه صدقةٌ»

(1)

، ولا يصحّ على قياس قول محمد رحمه الله تعالى، وهو قول مالك والشّافعيّ، واختاره هلال.

وفي «فتاوى قَاضِيخَان» : ذكر الصَّدر الشهيد أنّ الفتوى على قول أبي يوسف ترغيباً للناس في الوقف. انتهى. وهو قول أحمد، وابن أبي ليلى، وابن شُبْرُمة، والزُّهْرِيّ، وابن شُرَيْح من أصحاب الشّافعيّ، وبه أخذ مشايخ بَلْخ. ويؤيّده أنّه إذا بنى خاناً

(2)

، أو سِقَايَةً، أو جعل أرضَه مقبرة وشرط أن يَنْزِل في الخان أو يَشْرَب من السِّقاية أو يُدْفن في المقبرة، فإنّه جائز اتفاقاً.

(وَ) صحّ عن الواقف جعل (الوِلَايَة) على الوقف (لِنَفْسِهِ) باتفاقهما، لأنّ شرط الواقف معتبر فيراعى كالنَّص، إلاّ أنه عند محمد يسلمه ثم يكون له الولاية، لأنّ التَّسليم شرط عنده، ولو لم يشترط الواقف الولاية لأحدٍ فهي له عند أبي يوسف. وقال محمد: لا تكون له بل للقاضي، لأنّه لمّا ترك الشرط في ابتداء الوقف خرج الأمرُ من يده وصار أجنبياً. ولأبي يوسف: أنّ المتولّي إنّما يستفيد الولاية من جهته بشرطه، ويستحيل أن لا يكون له ولايةٌ، وغيره يستفيد الولاية منه، ولأنّه أقرب النّاس إلى الوقف، فيكون أولى بولايته، كمن اتّخذ مسجداً فإنّه أولى بعمارته.

ولو شَرَطَ الولاية لنفسه وكان غير مأمونٍ على الوقف، فللقاضي أن ينتزعه من يده نظراً للفقراء، كما له أن يُخْرِج الوصي نظراً للضُّعفاء.

(وَ) صحّ عند أبي يوسف (شَرْطُهُ) أي شرط الواقف (أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ) أي

(1)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 7/ 391، باب في الزهد (71)، رقم (10709)، بلفظ:"نفقة الرجل على نفسه وأهله وصديقه وبهيمته له فيها أَجر".

(2)

الخان: الفُنْدُق، أو الحانوت، أو المتجر. المعجم الوسيط. ص 263، مادة:(خان).

ص: 568

أرْضًا أخْرَى إِذَا شَاءَ، وَتَرْكُ ذِكْرِ مَصْرِفٍ مُوَبَّدٍ، فَإِذَا انْقَطَعَ صُرِفَ إِلَى الفُقَرَاءِ.

وَصَحَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقْفُ مَنْقُولٍ فِيهِ تَعَامُلٌ، كَالْمُصْحَفِ وَنَحْوِهِ،

===

بالوقف (أرْضاً أخْرَى إِذَا شَاءَ) ويكون وقفاً مكانَه. والقياس أن لا يصحّ الوقف ولا الشرط، وهو قول الشّافعيّ وأحمد، لأنّه شرطٌ منافٍ لمقتضى الوقف فكان إبطالاً له. ووجه الاستحسان: أنّ فيه تحويلَ الوقف إلى ما يكون خيراً منه أو مثله، فكان تقريراً للوقف لا إبطالاً له، واختاره الخصَّاف وهلال.

ولو باعه بغبنٍ فاحشٍ لا يصحّ في قول أبي يوسف وهلال. وعند محمد وأهل البَصْرة، وهو وجهٌ عن أحمد: أنّ الشرطَ باطلٌ، والوقف جائزٌ، لأنّ هذا شرط يمنع من زوال الملك قربةً إلى الله تعالى، ويتمّ الوقف بدونه فكان فاسداً، كما لو شرط أن يصلّي في المسجد قومٌ دون قومٍ، فإنّ الشّرط باطلٌ، ووقف المسجد صحيحٌ. وأمّا إذا لم يشرطه الواقف، لا يملكه إلاّ القاضي العالم العامل إذا رآه مصلحةً لئلا يتطرّق إلى أوقاف المسلمين جَوْر قضاة (السُّوء، كما هو الغالب على قضاة)

(1)

زماننا.

وفي «شرح الوقاية» : لا منافاة بين صحة الوقف وبين الاستبدال عند أبي يوسف، فإنّه يجوز الاستبدال في الوقف من غير شرط إذا ضَعُف عن الرَّيع

(2)

. ونحن لا نُفْتِي به فقد شاهدنا في الاستبدال من الفساد ما لا يُعدّ ولا يُحْصَى.

(وَ) صَحَّ عند أبي يوسف (تَرْكُ ذِكْرِ مَصْرِفٍ مُوَبَّدٍ) بأن ذكر جهةً تنقطع، وبه قال مالك والشّافعيّ في قولٍ وأحمد. في روايةٍ، (فَإِذَا انْقَطَعَ صُرِفَ إِلَى الفُقَرَاءِ) وبه قال مالك وأحمد في روايةٍ، والشّافعيّ في قولٍ. وله قول آخر: يُصْرَفُ إلى أقارب الواقف المحتاجين، وهو رواية عن أحمد. وعن أحمد: يوضع في بيت المال.

وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يصحّ الوقف حتّى يَذكُرَ مصرفاً مؤبّداً. وقيل: التَّأبيد شرطٌ بالاتفاق، إلاّ أنّ أبا يوسف لا يشترطُ ذكر التأبيد لأنّ لفظة الوقف والصدقة مُنْبِئَةٌ عنه، ومحمد يشترط لأنّ الوقف صدقةٌ بالمنفعة أو بالغلَّة، وذلك قد يكون مؤقتاً وقد يكون مؤبّداً، فمطلقه لا ينصرف إلى المؤبّد. وفي «المُحيط»: لو قال: أرضي هذه صدقةٌ موقوفةٌ، أو محررةٌ، أو محبوسةٌ ولم يذكر التَّأبيد صَحَّ الوقف عند الكلّ.

(وَصَحَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقْفُ مَنْقُولٍ فِيهِ تَعَامُلٌ كَالْمُصْحَفِ وَنَحْوِهِ) من كتب العلم وغيرها، كالفأس، والقَدُوم، والمِنْشَار، والقِدْرِ، والجِنَازة

(3)

وثيابها وما يُحتاج

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

الرّيع: المرجوع والغلة. المعجم الوسيط. ص 386، مادة:(راع).

(3)

الجنَازة: الميت على السَّرير، فإذا لم يكن عليه الميت فهو سريرٌ ونعشٌ. مختار الصحاح ص 48، مادة:(جنز)، والمعنى الثاني هو المقصود.

ص: 569

وَعَلَيهِ الفَتْوِى.

===

إليه من الأواني في غسل الموتى والكُرَاع

(1)

والسِّلاح (وَعَلَيْهِ الفَتْوِى) وهو قول عامة المشايخ، ومنهم شمس الأئمة السَّرَخْسِيّ.

وأما وقف السّلاح والكُرَاع فيجوز اتفاقاً لِمَا في زكاة «الصحيحين» عن أبي هريرة قال: بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطّاب على الصّدقة فمنع ابن جميل وخالد والعبّاس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يَنْقِم ابن جميلٍ إلاّ أنّه كان فقيراً فأغناه الله تعالى، وأمّا خالد فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أدراعه

(2)

وأعتُدَه

(3)

في سبيل الله تعالى، وأمّا العبّاس عمّ رسول الله فهي عليه ومثلها»

(4)

.. ثم قال: «أما شعرت أنّ عمّ الرّجل صِنْو

(5)

أبيه»؟. والمراد بالكُرَاع: الخيل، ويدخل في حكمه الإبل، (لأنّ العرب)

(6)

تجاهد عليها وتحمل عليها السِّلاح.

ورُوِيَ أنّه اجتمع في خلافة عمر ثلاث مئة فرسٍ مكتوبٍ على أفخاذها حَبْسٌ في سبيل الله. وعند أبي حنيفة لا يصحّ، وعند أبي يوسف (يصح)

(7)

تبعاً للعَقَار، كالبقر والعبيدِ الأَكَرَة

(8)

فيه، وسائر آلة الحراثة، وفي الكُرَاع والسِّلاح.

لأبي حنيفة: أنّ شَرْط صحة الوقف التأبيد، ولا تأبيد في المنقول. ولأبي يوسف: أنّ النّص ورد في الكُرَاع والسِّلاح فيقتصر عليه. ولمحمّد: أنّ القياس قد يترك بالتعامل كما في الاستصناع، لأنّ التعامل أقوى من القياس، فإنّه بمنزلة الإجماع.

وأكثر فقهاء الأمصار على قول محمّد. وفي «القِنْيَة» عن «المحيط البُرْهَانِي» : وقف مئة دينارٍ على مرضى الصُّوفية يصحّ، ويدفَعُ الذَّهب إلى إنسانٍ مضاربةً ليستغلها

(1)

الكُرَاعُ: اسمٌ يَجْمَعُ الخيْل. مختار الصحاح ص 237، مادة:(كرع).

(2)

الأدراع: الدّرع: الزَّرَدِيَّة: وهي قميصٌ من حلقات من الحديد متشابكة، يلبس وقاية من السلاح. المعجم الوسيط. ص 280، مادة:(درع).

(3)

حُرِّفت في المطبوع والمخطوط إلى أعْقُدَه، والصواب ما أثبتناه لموافقته لما في صحيح البخاري (فتح الباري) 3/ 331، كتاب الزكاة (24)، باب: قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (49)، رقم (1468)، والأعْتُد: جمع عَتَد، ووقع في رواية مسلم "أعتاده" وهو جمع أيضًا، قيل: هو ما يعدّه الرجل من الدّواب والسِّلاح. فتح الباري 3/ 333.

(4)

جاء في رواية مسلم 2/ 676 - 677، كتاب الزكاة (12)، باب: في تقديم الزكاة ومنعها (3)، رقم (11 - 983)، "وأمّا العبّاس فهي عليّ، ومثلها معها".

(5)

الصِّنْوُ: النَّظير والمثل. المعجم الوسيط ص 526.

(6)

ما بين الحاصرتين ساقطٌ من المطبوع.

(7)

ما بين الحاصرتين ساقطٌ من المخطوط.

(8)

الأَكَرَة: جمع الأكّار وهو الحَرّاث. مختار الصحاح، ص 8، مادة:(أكر).

ص: 570

وَلا يُمْلكُ الوَقْفُ وَلا يُتَمَلَّكُ، لَكِنْ يَجُوزُ قِسْمَةُ المُشَاعِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.

وَيَبدَأُ مِن ارْتِفَاعِ الوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ إِنْ وَقَفَ عَلَى الفُقَرَاءِ، وَإنْ وَقَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ وآجَرَهُ للفقراء، فَهِي في مَالِهِ. فَإنْ امْتَنَعَ، أَوْ كَانَ فَقِيرًا، آجَرَهُ الحَاكِمُ وعمّره بأُجْرَتِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ الحاكم إلَى مَصْرِفِهِ.

وَنِقْضُهُ يُصْرَفُ إلى عِمَارَتِهِ أوْ يُدَّخَرُ

===

ويصرف الربح.

(وَلَا يُمْلَكُ الوَقْفُ) إذا صحّ لانحباسه، وإن كان على أولاد الواقف، لأنّ الموقوف عليه لا حقَّ له في العين بل في الغلَّة (وَلَا يُتَمَلَّكُ) لقوله عليه الصلاة والسلام لعمر:«تَصدّق بأصلها، لا يُبَاع ولا يُوهب»

(1)

. وكذا لا يُرهن لعدم إمكان استيفاء الدّين منه، ولا يُعَار لعدم جواز تمليك منفعة مَجَّاناً (لَكِنْ يَجُوزُ قِسْمَةُ المُشَاعِ) بين المُلاّك

(2)

(عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) ومالك والشَّافعيّ وأحمد إذا طلب الشَّريك القسمة. وقال أبو حنيفة: لا تجوز القسمة ويتهايئون

(3)

. قيَّدنا بالملاَّك إذ لا يجوز قسمة الوقفِ بين مصارفِهِ باتفاق الأصحاب.

(وَيَبْدَأُ مِنْ ارْتِفَاعِ الوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ إِنْ وَقَفَ عَلَى الفُقَرَاءِ) شَرَطَ الواقف أو لم يشرط، لأنّ قصد الواقف صرف الغلّة على التَّأبيد، ولا يتَأتى ذلك إلاّ بعمارة الوقف، والفقراء ليس لهم شيء حتّى يعمّروا به. وأقرب أموالهم غلّةً الوقفُ، فيعمّر منها.

(وَإِنْ وَقَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ وَآجَرَهُ للفقراء فَهِي) أي العمارة (في مَالِهِ) أي مال ذلك المعيَّن لأنّه يمكن مطالبته، وتكون العِمَارة بقدر ما يبقى الموقوف على الصّفة التي وُقِفَ عليها.

(فَإِنْ امْتَنَعَ) المعيّن (أَوْ كَانَ فَقِيراً آجَرَهُ) أي الوقفَ (الحَاكِمُ) لذلك المعيّن أو لغيره بقدر عمارة الوقف على الصّفة التي وقفها الواقف، ولا يُزَاد على ذلك إلاّ برضا ذلك المعيّن. وكذا إن كان وَقْفاً على الفقراء لا يزيد على ذلك في الأصحّ. (وعمّره بأُجْرَتِهِ ثُمَّ رَدَّهُ الحاكم إلَى مَصْرِفِهِ) لأنّ في ذلك رعايةً لحقّ الواقف وحقّ الموقوف عليه. ولا يُجْبَرُ الممتنع على العِمَارة لما فيها من إتلاف ماله.

(وَنِقْضُهُ) بكسر النون، أي منقوضه (يُصْرَفُ إلى عِمَارَتِهِ) إن احتاج (أوْ يُدَّخَرُ

(1)

تقدم تخريجه من قبل الشارح ص (566).

(2)

في المطبوع: "الأملاك"، والمثبت من المخطوط.

(3)

المُهايأة: الاتفاق على قسمة المنافع على التعاقب، فتكون العين المشتركة لهذا شهرًا ولهذا شهرًا مثلًا. معجم لغة الفقهاء، ص 466.

ص: 571

لِوَقْتِ الحَاجَةِ إليها. وَإنْ تَعَذَّرَ صَرْفُهُ إِلَيهَا بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ إِلَيْهَا. وَلا يُقْسَمُ بَين مَصَارِفِهِ.

===

لِوَقْتِ الحَاجَةِ إليها) (أي إلى العِمَارة)

(1)

، وفي بعض النسخ: إليه أي إلى النِّقْض (وَإِنْ تَعَذَّرَ صَرْفُهُ) أي النِّقْض (إِلَيْهَا) أي إلى العِمَارة (بِيعَ) النِّقْض (وَصُرِفَ ثَمَنُهُ إِلَيْهَا) إقامة للبدل مُقام المُبدل.

(وَلَا يُقْسَمُ) النِّقْض ولا ثمنه (بَيْنَ مَصَارِفِهِ) أي مصارف الوقف، وهم المستحقّون له، لأنّه جزءٌ من العين ولا حقّ للموقوف عليهم فيها، وإنّما حقّهم في المنفعة، والعين حقّ الله تعالى فلا يُصْرَف إليهم. ولذا لا يباع بعض الوقف لعمارة باقيه في الأصحّ، لخروجه بكل أجزائه عن قابلية الملك.

وقيل: يجوز لِعَود الثَّمن القائم مُقام ما بيع إليه. ولا يُعيد أبو يوسف المسجد ملكاً لبانيه أو وارثه بخراب ما حوله والاستغناء عنه، لأنّه إسقاطٌ منه، فلا يعود إلى ملكه، وخالفه محمد وحَكَمَ بعوده إلى بانيه أو إلى وارثه، لأنّه عيّنه لنوع قُربة وقد انقطعت، وصار كحصير المسجد إذا استُغْنِي عنه، إلاّ أنّ أبا يوسف يقول في الحصير أنّه يُنْقَل إلى مسجدٍ آخر على الصحيح من مذهبه، أو يبيعها القيّم لأجل المسجد.

ويجوز توسعة المسجد من الطريق عند ضيقه وسعة الطريق، وكذا عكسه، لأنّ كلاًّ منهما للمسلمين. وكذا توسعته من وقفه عند الحاجة بإذن القاضي، ومِن مِلْكِ الغير أيضاً بقيمته، ولو كُرْهاً عند الحاجة إليها، بأن يضيق على النّاس دفعاً للضَّرر العام، ويجبر الخاص بالقيمة. وهذا وإذا شرط الواقف لإجارته مدّة لا يزاد عليها، وإلاّ فالمختار أن لا يزيد في الدُّور على سَنَة وفي الأراضي

(2)

على ثلاث سنين.

ولا يؤجر إلاّ بأجر المثل، ولا ينقض

(3)

الإجارة إن زادت الأجرة في المدّة بكثرة الرَّغْبة، بخلاف غلو السعر. ولا يؤجره الموقوفُ عليه إلاّ بولاية له عليه، أو نيابة من المتولّي أو القاضي. ولا تفسخ الإجارة بموت المؤجر، متولياً كان أو قاضياً. وضمن منافعَه بالغصب في المختار، وكذا (منافع)( 1) مال الأطفال والمعدِّ للاستغلال، وهي اختيار المتأخرين دفعاً للمفسدين عن ضرر المستضعفين.

وتجوز الشَّهادة بالتَّسَامع والشهرة، لإثبات أصل الوقف المتقادِم في الأصحّ، كما لا يُسمع شرطه وجهته بالتّسامع في الصَّحيح.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

في المخطوط: الضياع، والمثبت من المطبوع.

(3)

في المخطوط: ينقص، والمثبت من المطبوع.

ص: 572