المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الكَراهيةِ ما كُرِهَ حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَلَمْ يَتَلَفَّظ بِهِ لِعَدَمِ - فتح باب العناية بشرح النقاية - جـ ٣

[الملا على القاري - المحبوبي صدر الشريعة الأصغر]

فهرس الكتاب

‌كتاب الكَراهيةِ

ما كُرِهَ حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَلَمْ يَتَلَفَّظ بِهِ لِعَدَمِ القَاطِعِ، وَعِنْدَهُمَا إِلَى الحَرَامِ أقرب.

الأَكْلُ فَرْضٌ إِنْ دَفَعَ بِهِ هَلاكَهُ، وَمَأْجُورٌ عَلَيهِ إنْ مَكَّنَهُ مِنْ صَلاِتهِ قَائِمًا وَمِنْ صَوْمِهِ، وَمُبَاحٌ إلى الشِّبَعِ لِيَزِيدَ قُوَّتَهُ.

===

كتاب الكَرَاهِيَةِ

بتخفيف الياء، أي المكروهات، وهي أعمّ من أن تكون كراهةَ تحريم أو تنزيه، وقد يَذْكُرُ فيها المباحُ لدفع توهّم كونه مكروهاً، ويَذْكُر الغرضَ لِتَعْلَمَ أن تركه حرام. ولقّبه القُدُورِيّ بالحظر والإباحة. ولقّبه بعضهم بكتاب الزُّهد والورَع.

(مَا كُرِهَ) أي كل مكروهٍ تحريماً (حَرَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَلَمْ يَتَلَفَّظ بِهِ) أي بالحرام، بل عدل عنه إلى لفظ المكروه (لِعَدَمِ القَاطِعِ) الدَّال على حرمته، فهو يُسمِّي ما ثبت حرمته بدليل قطعي حراماً، وما ثبت بدليلٍ غير قطعيّ من خبر آحاد أو قول صحابيّ، أو غير ذلك، مكروهاً. فنسبة المكروه إلى الحرام كنسبة الواجب إلى الفرض، وهذا في كراهة التَّحريم، أمّا كراهة التَّنزيه فهي في مقابلة السُّنة.

(وَعِنْدَهُمَا) أي عند أبي حنيفة وأبي يوسف ما كره ليس بحرامٍ، بل (إِلَى الحَرَامِ أقْرَبُ) وهذه في المكروه التّحريميّ، وأمّا التَّنزيهيّ فإلى الحِلِّ أقرب اتفاقاً.

(الأَكْلُ فَرْضٌ) وكذا الشُّرب لقوله تعالى: {كُلُوا واشْرَبُوا}

(1)

بشرط أن يكون حلالاً لقوله تعالى: {كُلُوا من طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}

(2)

(إِنْ دَفَعَ) الأكل (بِهِ هَلَاكَهُ) حتّى لو جوّع نفسه رياضةً حتّى مات، أو امتنع عن أَكْلِ المَيْتة حال المَخْمَصَةِ

(3)

حتّى مات، مات عاصياً.

(وَمَأْجُورٌ عَلَيْهِ) أي أَجْرَ الواجب أو السّنة بالزّيادة على قدر الرَّمق وما دون الشِّبَع (إنْ مَكَّنَهُ مِنْ صَلاتِهِ قَائِماً، وَ) إن مَكَّنَه (مِنْ صَوْمِهِ) فرضاً. (وَمُبَاحٌ إلى الشِّبَعِ لِيَزِيدَ قُوَّتَهُ) في التّصرفات الدنيوية.

وأمّا الزِّيادة لقوة الطاعة والعبادة فمستحبٌّ. وقد أغرب العَيْنِيّ في «شرح تحفة الملوك» حيث قال: ومباحٌ، وهو أدنى الشِّبع بنية أن يتقوى به على العبادة. قال: وهذا

(1)

سورة البقرة، الآية:(60).

(2)

سورة البقرة، الآية:(172).

(3)

المخْمَصَةُ: المجاعة. المعجم الوسيط. ص 256، مادة:(خمص).

ص: 3

وَحَرَامٌ فَوْقَهُ إِلّا لِقَصْدِ قُوَّةِ صَوْمِ الغَدِ، أَوْ لِئَلَّا يَستَحِي ضَيفُهُ.

===

القسم لا أجر فيه ولا وزر، ولكن يُحاسب فيه حساباً يسيراً، ولو كان من حِلّ لقوله تعالى:{ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}

(1)

.

(وَحَرَامٌ فَوْقَهُ) أي فوق الشِّبع لضرره وإسرافه الممنوع. لقوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا}

(2)

ولِمَا في «شُعَبِ الإِيمان» عن عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يشتري غلاماً فألقى بين يديه تمراً فأكل الغلام فأكثر. فقال عليه الصلاة والسلام: «إن كثرة الأكل شُؤْمٌ» ، فأمر بِرَدِّه. ولقوله عليه الصلاة والسلام:«إنّ أكثر النَّاس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة» . رواه ابن ماجه.

(إِلاّ لِقَصْدِ قُوَّةِ صَوْمِ الغَدِ) بأن يأكل أوّل الليل أو آخره زيادة على الشبع (أَوْ لِئَلاَّ يَسْتَحِي ضَيْفُهُ) فيمتنع عن الأكل لأجله. قيل: وكذا لا يجوز الأكل فوق الشِّبع تطييباً لخاطر مُضيفِهِ. ثم التنوّع

(3)

بأنواع الفاكهة مباحٌ، لقوله تعالى:{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}

(4)

أي مستلذّاته، وترك المداومة عليه أفضل له، لظاهر قوله تعالى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا واسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}

(5)

.

وقد أغرب صاحب «تحفة الملوك» وشارحه العَيْنِيّ في هذا المحل مسائل لا تطابق ما ذكروه من دلائل. منها قوله: والجمع بين أنواع الأطعمة حرامٌ. لأنّ ذلك إسراف وهو حرامٌ، لقوله تعالى:{وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} ، ومنها قوله: وكذا وضع الخبز على المائدة أضعاف ما يحتاج إليه الآكلون، فإنه إسرافٌ فيكون حراماً، ومنها قوله: وكذا رفع الخبز على الخِوَان

(6)

حرامٌ. لما رُوِيَ عن قَتَادة عن أنس قال: ما علمت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أكل في سَكُرُّجَةٍ

(7)

قطُّ ولا خُبِزَ له مُرَقَّق، ولا أكل على خِوَانٍ. ومنها قوله: وكذا وضع الخبز تحت القَصْعَةِ ليستقيم حرامٌ، لأنّ في ذلك استخفافاً وقد أمُرنا بتكريمه، وكذا مسح الأصابع والسّكين بالخبز، ووضع المِمْلَحَة عليه، وأكل وجهه خاصة.

ولا يخفى غرابته، لأنّ أمثال ذلك خلاف الأولى، وغايته أنْ يكون كراهةَ تنزيهٍ،

(1)

سورة التكاثر، الآية:(8).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(31).

(3)

في المخطوط: التنعّم، والمثبت من المطبوع.

(4)

سورة البقرة، الآية:(172).

(5)

سورة الأحقاف، الآية:(20).

(6)

الخِوَانُ: ما يؤكل عليه. المعجم الوسيط ص 263، مادة:(خان).

(7)

السّكُرُّجَةُ: إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأُدْم. المعجم الوسيط ص 439، والأدْمُ: هو ما يُستَمرَأُ به الخبز. المعجم الوسيط ص 101، مادة:(أدم).

ص: 4

وَحَلّ اسْتِعْمَالُ المُفَضَّضِ مُتَّقِيًا مَوْضِعَ الفِضَّةِ، وَالأَحْجَارِ

===

وأمّا كونه محرّماً أو كراهة تحريم فلا دلالة فيه فيما ذكره، فتأمّل فإنه موضع زللٍ.

(وَحَلّ) عند أبي حنيفة (اسْتِعْمَالُ المُفَضَّضِ) أي المرصّع بالفضّة وكذا المُضَبَّب، وهو المشدود بها حال كون المستعمِل (مُتَّقِياً) أي مُجْتَنِباً (مَوْضِعَ الفِضَّةِ) فيتقي في الشرب موضع الفم، وقيل: وموضع اليد في الأخذ، ويتقي في السَّرير والسَّرْج والكُرْسِيّ موضع الجلوس. وكذا إذا جعل ذلك في نَصْل

(1)

السيف أو السِّكين أو قبضتهما ولم يضع يده في موضع الذَّهب والفضَّة. وكذا المُفَضَّض من اللِّجام والرِّكَاب

(2)

. وكذا الثوب فيه كتابةٌ بذهب أو فِضَّة لا يكره عند أبي حنيفة لأنّ موضع التّضْبيب

(3)

تابعٌ لغيره، فلا يكره. وصار كالجُبّة المكفوفة بالحرير، والثوب المُعْلَم بالحرير، والفَصّ المُسَمَّر بمسمار الذَّهب، والعِمَامة المُعْلَمَة بالذَّهب.

وقال أبو يوسف: يكره ذلك، لأنّ من استعمل إناءً كان مستعملاً لكل جزءٍ منه، فيكره المضبب مع اتّقاء موضع الفضّة، كما يكره مع استعمال موضعها. وقول محمد يروى مع أبي (حنيفة ويروى مع أبي)

(4)

يوسف، وعلى هذا الخلاف إذا جعل ذلك في السّقف أو في المسجد، أو جعل حلقة المرآة من الذّهب أو الفضّة، أو جعل المصحف مذهّباً أو مفضّضاً. وهذا كله إذا كان يخلص منه شيء. وأمّا الذي لا يخلص منه شيء كالمُمَوَّه فلا بأس به إجماعاً لأنّه مستَهلَك فلا عبرة ببقاء لونه.

(وَالأَحْجَارِ) أي وحلّ استعمال الأحجار الثّمينة للإباحة العامة في قوله تعالى: {هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فَي الأرْضِ جَمِيعاً}

(5)

. وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ التِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}

(6)

لا الذهب، أي لا يحلُّ استعمال الحُلِيِّ الذهب والفضة للرجال، لما أخرجه الجماعة إلاّ البخاري من حديث عبد الله بن جُبَيْر أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التَّختُّم بالذَّهب. وأخرج الترمذي (والنَّسائي)

(7)

عن أبي موسى الأشعري أنّ رسول

(1)

النَّصْل: حديد الرُّمْح والسَّهم، والسكين. المعجم الوسيط ص 927، مادة:(نصل).

(2)

الرِّكاب: للسرْج: ما توضع فيه الرِّجل. المعجم الوسيط ص 218، مادة:(ركب).

(3)

التَّضبيب: إلباس الإناء المكسور ونحوه الحديد ونحوه. معجم لغة الفقهاء ص 133.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(5)

سورة البقرة، الآية:(29).

(6)

سورة الأعراف، الآية:(32).

(7)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته. لوجوده عند النّسائي في السنن 8/ 575، كتاب الزينة (48)، باب: تحريم لُبس الذّهب (76)، رقم (5280)، ولفظه:"إنّ الله عز وجل أحَلّ لإناث أمتي الحرير والذهب، وحَرّمه على ذكورها".

ص: 5

إلَّا خَاتَمٍ وَمِنْطَقَةٍ، وحِلْيَةِ سَيفٍ مِنْهَا،

===

الله صلى الله عليه وسلم قال: «حُرِّمَ لباس الحرير والذّهب على ذكور أمتي، وأُحِلَّ لإناثهم» .

(إِلاَّ خَاتَمٍ) بالجر على البدل (وَمِنْطَقَةٍ

(1)

وحِلْيَةِ سَيْفٍ مِنْهَا) أي من الفضة. أمّا الخاتم فلما أخرجه الجماعة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اتّخذ خاتماً من فضة له فَصٌّ حبشيٌّ ونقش فيه: محمد رسول الله. وفي لفظٍ: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى بعض الأعاجم فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلاّ بخاتم. فاتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه محمد رسول الله، فكان في يده حتّى قُبِضَ، وفي يد أبي بكر حتى قُبِضَ، وفي يد عمر حتّى قُبِضَ، وفي يد عثمان حتّى سقط منه في بئر أَرِيس فأمر بها فنزعت فلم يقدر عليه.

والعبرة للحلقة، لأن قوام الخاتم بها دون الفَصّ. ويَجعلُ الرَّجلُ في لبسه الفَصّ إلى باطن الكف، بخلاف المرأة لأنّه للتزيين في حقها. ويُستحب للقاضي والسلطان ونحوهما ممن يحتاج إلى الختم، والأفضل لغيرهم تركه. وأمّا المِنْطَقَة فلما في «عيون الأثر» لأبي الفتح اليَعْمُرِي، ويُقَال له: ابن سَيِّد الناس: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان له مِنْطَقة من أَديمٍ مَبْشُورٍ ـ أي مشقورٍ ـ ثلث حلقها وإبْزيمُهَا وطرفها فضّة. والإبْزِيمُ: الذي في رأس المِنْطَقَة ونحوها.

وأمّا السيف فلما أخرجه أبو داود والترمذي والنَّسائي عن أنس قال: كانت قَبِيعَةُ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة. (وفي لفظ للنِّسائي: كان نعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة، وقبيعة سيفه، وما بين ذلك حَلَقٌ من فضة. وفي لفظ: كان حلية سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة)

(2)

.

وأخرج الطَّبَرَاني في «معجمه» عن مرزوق الصقيل

(3)

، أنّه صقل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الفَقَار، وكانت له قَبِيعة من فضةٍ وحَلَقٍ من فضّةٍ. والقبيعة بقاف فموحدة ثم تحتية ثم مهملة على وزن سفينة: ما على طرف مَقْبِضِ السيف من فضة أو حديد.

وأخرج عبد الرَّزاق في «مصنفه» عن جعفر بن محمد قال: رأيت سيف

(1)

المِنْطقة: ما يشدُّ به الوَسَط. المعجم الوسيط ص 931، مادة:(نطق).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

في المخطوطة: الصقلي. وما أثبتناه الصواب لموافقته لما في "مجمع الزوائد" 5/ 271.

ص: 6

وَمِسْمَارُ ذَهَبٍ في الخَاتَم.

===

رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمته من فضة، ونعله من فضة، وبين ذلك حَلَق من فضة، وهو عند هؤلاء يعني بني العباس.

وأخرج البَيْهَقِيّ عن عثمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر أنه تقلد سيف عمر يوم قتل عثمان فكان محلّى. قلت: كم كانت حليته؟ قال: أربع مئة (درهم)

(1)

.

قيّدنا الذهب والفضة بالحُلِيّ، لأنّه لا يحل للرِّجال ولا للنساء استعمال آنية الذهب والفضة بالأكل والشرب وغيرها، كاستعمال المِلْعَقة من أحدهما، والاكتحال بِمِيل أو من مُكْحُلَة من أحدهما، والادّهان بدهن في إناء من أحدهما لعموم النهي. وفي رواية أمّ سَلَمة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«الذي يشرب في آنية الفضة إنما يُجَرْجِرُ في بطنه نار جهنم» . رواه الشيخان. ومعنى يجرجر: يُرَدِّدُ، وفي رواية مسلم:«من شرب في إناءٍ من ذهب أو فضة» . وفي أخرى له: «إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب» .

وفي الكتب الستة من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: استسقى حُذَيْفَةُ، فسقاه مجوسيّ في إناء فضة فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تلبَسوا الحرير ولا الدِّيبَاج

(2)

، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صِحَافِها فإنّها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة».

وكذا يَحْرُم كلُّ استعمال كالأكل بملعقة الفضة، والاكتحال بميلها، واتخاذ المُكْحُلَة والمرآة، والدواة من الفضة، وما أشبه ذلك من الاستعمال. ورُوِيَ عن عليّ رضي الله عنه (أنه قال) (1) : صنعت طعاماً فدعوته عليه الصلاة والسلام، فجاء فرأى في البيت تصاوير، فرجع. رواه ابن ماجه. لأنّ إجابة الدعوة سنة، ورؤية المنكر بدعة.

(وَ) حلّ (مِسْمَارُ ذَهَبٍ في الخَاتَم) أي في ثَقْبٍ فَصِّه، لأنه تابع (له)(1) ، فصار كالعَلَم في الثوب. وجوّز محمد شدّ السِّنِّ التي يخاف سقوطها بالذهب كالفضة، وكاتخاذ الأنف من الذهب. وعنهما: الجواز وعدمه.

أمّا الجواز فلما في «السنن» سوى ابن ماجه عن عبد الرحمن بن طَرَفة: أنّ جده

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

الديباج: هو الثياب المتخذة من الإبرَيْسَم. النهاية 2/ 97. والإبْرَيسَم: هو أحسن الحرير. المعجم الوسيط ص 2.

ص: 7

وَلا يَتَخَتَّمُ بحديد وصُفْرٍ وحَجَرٍ،

===

عَرْفَجَة بن سعد أُصِيب أَنفُه يومٍ الكُلاب، فاتّخذ أنفاً من وَرِق

(1)

فأنتن عليه، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفاً من ذهب. وفي «معجم الطَّبَرَانِيّ» بسنده إلى هِشَام بن عُرْوَة، عن عبد الله بن عمرو: أَنَّ أباه سقطت ثنيّته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يشدّها بذهب. وفي «معجم الصحابة» لابن قَانِع بسنده إلى هشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عبد الله بن عبد الله بن أُبِيّ بن (أبِي)

(2)

سلول قال: اندقّت ثنيّتيّ يوم أحد، فأمرني النبيّ صلى الله عليه وسلم أن اتّخذ ثنية من ذهب.

وأمَّا عدمه عنهما، فلأنّ الأصل فيهما التحريم، والإباحة للضرورة، وقد اندفعت بالفضة، وهي الأدنى فبقي الذهب على التحريم، والضرورةُ لم تندفع في الأنف دونه حيث أنتن. كذا ذكره بعض الشُّراح، وفيه أنّ نصه صلى الله عليه وسلم ابتداءً باتخاذ الثنيَّة من ذهب يأبى عن ذلك، فالمعتمد أن يقال مهما تندفع الضرورة بالفضة، فلا يجوز بالذهب اعتباراً للأخفّ، حيث جوّزوا خاتم الفضة دون خاتم الذهب، والله أعلم.

(وَلَا يَتَخَتَّمُ) أي ولا يجوز للرجل والمرأة أن يتختَّم (بحديد وصُفْرٍ) أي نحاس أصفر، لما أخرجه أبو داود والترمذي والنَّسائي عن عبد الله بن بُرَيْدَة، عن أبيه قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من حديدٍ فقال: «ما لي أرى عليك حِلْيَة أهل النار» ؟ ثم جاء وعليه خاتم من شَبَهٍ فقال: «ما لي أجد منك ريح الأصنام» ؟ فقال: يا رسول الله من أي شيء أتّخذه؟ قال: «اتّخذه من وَرِق ولا تُتُمّه مثقالاً» . زاد الترمذي: قبل التعليم

(3)

، ثم جاءه وعليه خاتم من ذهب فقال:«ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة» ؟ وقال: «صُفْرٍ» عوض «شَبَهٍ» . انتهى. والشَّبه بحركة وبكسر: النحاس الأصفر.

(وحَجَرٍ) كاليَشْبِ

(4)

المشهور باليَشْمِ

(5)

ويقال له: البلور.

واعلم أنه وقع في «الجامع الصغير» : ولا يتختم إلاَّ بالفضة. قال شمس الأئمة السَّرَخَسِيّ في «شرحه» : ولظاهر هذا اللفظ، يعني بطريق الحصر، كره بعض مشايخنا التختم باليَشْبِ، والأصحّ أنه لا بأس بذلك، وأنّ مراده كراهة التختم بالذهب

(1)

الوَرِق: الفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة. المعجم الوسيط ص 1026، مادة:(ورق).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

لم نجد هذه الزيادة عند الترمذي!

(4)

اليَشْبُ: نوعٌ غير نَقِيّ من السِّلكيات ذات التَّبلور الكاذب، لونها في العادة أحمر أو بُنيّ أو أصفر، ويندر أن يكون أخضر، وبعض أنواعه ذو خطوط جميلة مختلفة الألوان وصالح للزينة. المعجم الوسيط ص 1065.

(5)

اليَشْمُ: مصطلح عام يشمل مجموعة من المعادن الصَّلْدة التي تتدرج ألوانها من الأبيض تقريبًا إلى الأخضر الأدكن، وتتكون من سلكيات الكلسيوم والمغنسيوم غير المتبلورة. المعجم الوسيط.

ص: 8

وَلا يلبسُ الرَّجُلُ حَرِيرًا إلَّا قَدْرَ أَرْبَعَةِ أصابع،

===

والحديد على ما ورد به الأثر. وأمّا اليَشْبُ ونحوه فلا بأس بالتختم به كالعقيق، فقد ورد أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم تختم بالعقيق.

ثم اللبس من الحلال فرض أيضاً لقوله سبحانه: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}

(1)

، لأنّه لا يقدر على أداء الصلاة إلاّ بستر العورة، ولأنّه يجب عليه ستر عورته عن غيره، ولأنّ خلقته لا تحتمل الحر والبرد، فيحتاج إلى ذلك بالكسوة، فصار نظير الطعام والشراب. ويستحب ستر غير العورة، لقوله عليه الصلاة والسلام:«إنّ الله يحب أنْ يرى أثر نعمته على عبده» . رواه الترمذي.

(وَلَا يَلْبَسُ الرَّجُلُ حَرِيراً إلاّ قَدْرَ أَرْبَعَةِ أصابِعٍ) عرضاً، فإنه حلال لما أخرجه مسلم عن قَتَادة، عن الشَّعْبي، عن سُوَيد بن غَفَلة أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجَابِيَة فقال: نهى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلاّ موضع أصبعين، أو ثلاث، أو أربع. (ولما في «الصحيحين» عن ابن عمر بن الخطاب رأى حُلّة سِيَراء

(2)

عند باب المسجد فقال: يا رسول الله فلو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما يلبَسُ الحرير في الدنيا من لا خَلاق

(3)

له في الآخرة»

الحديثَ.

وقد روي عن ثلاثة عشر من الصحابة منهم عليّ بن أبي طالب بأسانيد متّصلة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً فجعله في شماله ثم قال:«إن هذين حرامٌ على ذكور أمتي حلّ لإناثهم» . وعن أبي موسى الأشعري أنه عليه الصلاة والسلام أحلّ الذهب والفضة والحرير للإناث من أمته وحرّم على ذكورها. رواه أحمد والنَّسائي والترمذي وصححه)

(4)

. ولما في «صحيح مسلم» عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر ـ أنّها أخرجت إليَّ جُبَّة

(5)

طَيَالِسَة كِسْرَوَانِيّةً لها لِبْنَة

(6)

دِيبَاج وفَرْجَاها

(1)

سورة الأعراف، الآية:(31).

(2)

السِّيَراءُ: ضربٌ من البُرُود فيه خطوط صُفْر. أو ثوب مسيرٌ فيه خطوط من القَز. المعجم الوسيط ص 467، مادة:(سار).

(3)

في المخطوط: يصير، والصواب المثبت لموافقته لما في "الصحيحين"، ومعنى الخَلَاق: الحظ والنصيب من الخير. المعجم الوسيط ص 252. مادة: (خلق).

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(5)

عبارة المخطوط والمطبوع: أنها خرجت ولها طيالسة والمثبت هو الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1641، كتاب اللباس والزينة (37)، باب: تحريم استعمال إناء الذهب.

(2)، رقم (10 - 2069).

(6)

اللبنَةُ: بنيقة القميص: المعجم الوسيط. ص 814، مادة:(لبن). والبنيقة: الزِّيق يخاط في جيب =

ص: 9

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

مكْفُوفَان بالدِّيبَاج

(1)

. فقالت: كانت هذه عند عائشة رضي الله عنها فَلما قُبِضَتْ أخذتها وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يلبَسُها. فنحن نَغْسِلُها لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بها.

(ولفظ البخاري في كتاب «المُفْرَد في الأدب» : فأَخْرَجَتْ له أسماء جُبَّة من طَيَالِسة عليها لِبْنَة شبر من ديباج، وإنّ فرجيْها مكفوفان به، فقالت: هذه جُبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبسها للوفد والجمعة. وروى عمر أنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن لَبُوس الحرير، قال:«إلاّ هكذا» ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم السَّبَّابة والوُسْطَى وضمهما. رواه أحمد والشيخان. وفي معنى العَلَم

(2)

: الحرير المنسوج بالذهب. ويَحْرُم لِبْنَة الحرير والديباج، وهي قطعة منهما تُعْلَمُ في جيب القميص والجبة)

(3)

.

وروى محمد في «الآثار» عن أبي حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم أنّ عمر بن الخطاب بعث جيشاً ففتح الله عليهم وأصابوا غنائم كثيرة، فلما أقبلوا وبلغ عمر أنهم قد دَنَوْا، خرج بالناس ليستقبلهم، فلمّا بلغهم خروج عمر بالناس لبسوا ما معهم من الحرير والدِّيباج، فلمّا رآهم عمر غضب فأعرض عنهم، (ثم قال: أَلقُوا ثياب أهل النار)

(4)

، فلمّا رأوا غضب عمر أَلْقَوْها ثم أقبلوا يعتذرون، فقالوا: إنما لبسنا لنريك ما أفاء الله علينا. قال: فَسَرَّني ذلك عن عمر، ثم رخص في العَلَم الأصبع والأصبعين والثلاث والأربع. قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة.

وكذا الثوب المنسوج بالذهب، لا يكره إذا كان قدر عرض أربع (أصابع)

(5)

، ولعلّ الحكمة في جواز هذا القدر القليل من اللبس والاستعمال، لِيَعْلَمَ العبدُ به ما أعدّ الله له في الآخرة من لدنه، فيرغب فيما يكون سبباً لتحصيله. والتِّكَّة

(6)

من الحرير والقَبّ

(7)

منه لا يحل للرجل، لأنه استعمال تام.

= القميص، تثبت به الأزار. المعجم الوسيط ص 71، مادة:(بنق). والزيق: ما يُكفّ به جيب القميص. المعجم الوسيط ص 409، مادة:(زيق).

(1)

سبق شرحها ص (7)، التعليقة رقم:(2).

(2)

العلَمُ: رسمٌ في الثوب. المعجم الوسيط ص 624، مادة:(علم). وهي ساقطة من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين أورده الشارح في المخطوط قبل قول الماتن: وما حلّ نظره حلّ مسُّه، ص (296).

(4)

ما بين الحاصرتين من "الآثار". ص 366، باب اللباس من الحرير والشهرة والخز. حديث رقم (846).

(5)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(6)

التّكَّةُ: رباط السراويل. المعجم الوسيط ص 86، مادة:(تكَّ).

(7)

القَبّ: ما يستبطن القميص من الرِّقَاع. المعجم الوسيط ص 709، مادة:(قبّ).

ص: 10

وَيَتَوَّسَّدُهُ وَيَفْرُشُهُ، وَيَلْبَسُ ماسُدَاهُ إبْرِيْسَمُ ولُحْمَتُهُ غَيرُهُ،

===

ويستحبّ لبس الثياب الجميلة للتجمُّل والتزيُّن وإظهار نعمة الله تعالى لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ}

(1)

الآية. ولقوله تعالى: {قَدْ أنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً}

(2)

وهو لباس الزِّينة. ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إنّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» . رواه الترمذي. وقد رُوِيَ أن أبا حنيفة ارتدى بِرِداء قيمته أربع مئة دينار. وأمّا إذا لبس الزِّينة للتفاخر وإظهار التكاثر، فهو حرامٌ ليس فيه كلام.

(وَيَتَوَسَّدُهُ) أي يجوز أن يجعل الحرير وسَادة أي مِخَدَّة (وَيَفْرُشُهُ) ويستر به بابه عند أبي حنيفة، وقالا: يكره للعمومات، ولأنّه من زِيّ المترفهِين، وهيئة المتنعمين من الكفار والفجار، وقد ذمهم الله تعالى بقوله:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَوتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}

(3)

، وبقولهما قال مالك والشَّافعيّ، وهو الصحيح لِمَا في «صحيح البخاري» عن ابن أبي ليلى عن حُذَيْفَةَ قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ نشرب في آنية الذَّهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليهما.

ولأبي حنيفة: ما أخرجه ابن سعد في «الطبقات» في ترجمة ابن عباس، عن راشد مولى لبني

(4)

عامر قال: رأيت على فراش ابن عباس مِرْفَقة حرير. وما أخرجه عن مؤذن بني وداعة قال: دخلت على ابن عباس وهو متّكيء على مِرْفَقَةِ

(5)

حرير، وسعيد بن جُبَيْر عند رجليه وهو يقول: انظر كيف تحدِّث عني فإنك حفظت عني كثيراً.

(وَيَلْبَسُ) الرجل (ماسُدَاهُ) بضم أوله وهو طوله (إبْرِيْسَمُ) بكسر الهمزة والراء وفتح السين المهملة الحرير (ولُحْمَتُهُ) بضم لامه أي عرضه (غَيْرُهُ) أي غير إبْرِيْسَم، من قطن وكَتان وصوف. ويستوي فيه الحرب وغيره لما روى عبد الرَّزاق في «مصنفه» عن وَهْب بن كَيْسَان أنه قال: رأيت ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبَسون الخز: سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأنس بن مالك. والخَزّ: هو المُسَدَّى بالحرير. ولما في «سنن أبي داود» عن خُصَيْف، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: إنما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الثوب المُصْمَت

(6)

من الحرير.

فأمّا العَلَم من الحرير وسُدَى الثّوب فلا بأس به، ولأنّ الثوب إنّما يصيرُ ثوباً

(1)

سورة الأعراف، الآية:(32).

(2)

سورة الأعراف، الآية:(26).

(3)

سورة الأحقاف، الآية:(20).

(4)

في المطبوع: ابن عامر، والمثبت من المخطوط.

(5)

المِرْفَقَةُ: ما يُرتفق عليه من مُتكإٍ أو مِخدَّة. المعجم الوسيط ص 362، مادة:(رفق).

(6)

المُصْمتَ: الخالص لا يخالطه غيره، المعجم الوسيط ص 522، مادة:(صمت).

ص: 11

وَعَكْسَهُ في حَرْبٍ فَقَطْ. وَكُرِهَ إلْبَاسُ الصَّبِيّ، ذَهَبًا أوْ حَرِيرًا.

[تَحدِيدُ عَوْرَةِ المرَأةِ والرَّجُلِ]

وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجُلِ وَالمَرْأَةُ مِنَ المَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، سِوَى ما بَين السُّرَةِ إلى الرُّكْبَةِ،

===

بالنسج وهو يتم باللُّحْمَة، فكانت هي المعتبرة دون السُّدَى. وقال أبو يوسف: لا أرى بأساً بحشو القز، لأنّ الثوب ملبوس والحشو غير ملبوس.

(وَ) يلبس (عَكْسَهُ) وهو ما لحمته إبْرِيْسَم وسُدَاه غيره (في حَرْبٍ فَقَطْ) أي ولا يُلبس في غيرها. وأمّا الخالص فلا يُلبس في الحرب عند أبي حنيفة، ويلبس عندهما، وهو قول مالك والشّافعيّ، لأنّه أرفع للسلاح وأهيب للعدو. ولأبي حنيفة: أنّ النصوص الناهية عن لبسه لم تفصّل بين حال وحال، ورفع السلاح والهيبة يحصلان بالمخلوط الذي لحمته حرير.

وأمّا ما في «كامل ابن عَدِيّ» عن الحكم بن عُمير

(1)

، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: رخَّصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في لباس الحرير عند القتال. فقد أعلّه عبد الحق بعيسى من رواته، وقال: إنه ضعيف عندهم، بل متروك. وفي «طبقات ابن سعد»

(2)

بسنده إلى الحسن قال: كان المسلمون يلبسون الحرير في الحرب. انتهى. وهو على تقدير صحته قابل للتأويل كما لا يخفى.

(وَكُرِهَ إلْبَاسُ

(3)

الصَّبِيّ ذَهَباً أوْ حَرِيراً) لأنّ الصبي يُمْنَعُ ممّا لا يجوز له في الشرع إذا كبر ليألف ذلك. ألا ترى أنّه إنّما نمنعه من شرب الخمر ونأخذه بالصوم والصلاة؟ خلافاً لمالك والشَّافعيّ لعدم كونه مخاطَباً.

(تَحَدِيدُ عَوْرَةِ الَمْرأَةِ والرَّجُلِ)

(وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجُلِ وَ) تنظر (المَرْأَةُ مِنَ المَرْأَةِ وَ) من (الرَّجُلِ) الأجنبيّ إذا أمنت الشَّهوة (سِوَى ما بَيْنَ السُّرَّةِ إلى الرُّكْبَةِ) أمّا نظر الرّجل من الرّجل فيما عداهما، فلأنّ السرة ليست بعورة. لِمَا روى أحمد في «مسنده» ، وابن حِبّان في «صحيحه» ، والبيهقيّ في «سننه» عن ابن عَوْن، عن عُمير بن إسحاق

(4)

قال: كنت

(1)

في المخطوط: الحكم بن عمر، والصواب ما أثبتناه من المطبوع، و "لسان الميزان" 2/ 632.

(2)

في المطبوع: ابن سعيد، والمثبت من المخطوط.

(3)

في المخطوط: لباس. والمثبت من المطبوع.

(4)

حُرِّفَ السند في المطبوع إلى: عن ابن عَوْف، عن عمر بن إسحاق، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في مسند الإمام أحمد 2/ 426.

ص: 12

وَمِنْ مَحْرَمِهِ وَمِنْ أَمَةِ غَيرِهِ إِلَى مَا وَرَاءِ الظَّهْرِ والبَطْنِ

===

أمشي مع الحسن بن عليّ في بعض طرق المدينة فلقينا أبا هريرة فقال للحسن: اكشف لي عن بطنك ـ جُعِلتُ فداك ـ حتّى أُقَبِّل حيث رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يُقَبِّل قال: فكشف عن بطنه فقبَّل سرته، ولو كانت من العورة لما كشفها الحسن ولا قَبَّلَها أبو هريرة.

وما تحت السُّرة إلى الركبة عورة، لِمَا مرَّ في شروط الصلاة.

وأمّا نظر المرأة فلوجود المجانسة بين المرأتين، وانعدام الشهوة غالباً من الطرفين كما في نظر الرجل (من الرّجل)

(1)

إذا لم يكن أمردَ صبيحاً

(2)

. ولا ينظر إليه بعين الشهوة وأمّا نظرها من الرجل فلأنّ الرجل يعمل في شغله متجرداً غالباً، فلو لم يجز لها النظر (إليه)

(3)

لضاق الأمر على الناس. وفي كتاب الخُنْثَى من «الأصل» : إنّ نظر المرأة إلى الرجل الأجنبيّ بمنزلة نظر الرجل إلى محارمه، فلا يجوز لها أن تنظر إلى البطن والظهر لأنّ النظر إلى خلاف الجنس أغلظ. وعلى الرواية الأُولى يجوز وهو الأصحّ.

ولو نظرت المرأة إلى ما يجوز

(4)

لها النظر منه وفي قلبها شهوة، أو فى أكثر رأيها أنها تَشتهي، أو شكَّت في ذلك استُحبّ لها أنْ تغضّ بصرها، بخلاف الرجل إذا نظر من المرأة إلى ما يجوز له النظر منها وهو الوجه والكف، فإنّه يغضّ بصره حتماً مع خوف الشهوة، لقوله عليه الصلاة والسلام:«كَتَبَ الله على ابن آدم نصيبه من الزنا، يُدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر»

الحديثَ. رواه مسلم.

(وَمِنْ مَحْرَمِهِ) أي وينظر الرجل من مَحْرَمِهِ، وهي مَنْ لا يجوز المناكحة بينه وبينها على التأبيد بنسبٍ أو سببٍ، من رضاع أو مُصَاهرة بنكاحٍ أو سِفَاحٍ. (وَمِنْ أَمَةِ غَيْرِهِ) قِنّاً

(5)

كانت أوْ مُدَبَّرَة

(6)

أوْ مُكَاتَبة

(7)

أوْ أمّ وَلَد

(8)

(إِلَى مَا وَرَاءِ الظَّهْرِ والبَطْنِ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

في المخطوط: حسينًا، والمثبت من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

عبارة المطبوع: لو نظرت المرأة إلى ما لا يجوز، والمثبت من المخطوط.

(5)

القِنُّ: الرقيق الكامل الرِّق، إذا لم يحصل فيه شيء من أسباب العتق أو مقدماته، كالمكاتبة والتدبير ونحو ذلك. معجم لغة الفقهاء ص 370.

(6)

المُدَبَّرَةُ: الرقيق الذي عُلّق عتقه على موت سيده، ومثاله قول السيِّد لعبده: إن متُّ فأنت حُرّ، معجم لغة الفقهاء ص 418.

(7)

المُكاتَبَةُ: الرقيق الذي تمَّ عقدٌ بينه وبين سيده على أن يدفع له بلغًا من المال نجومًا ليصير حُرًّا. معجم لغة الفقهاء ص 455.

(8)

أمّ الولد: الأمة التي حملت من سيدها وأتت بولد. معجم لغة الفقهاء ص 88.

ص: 13

والفَخِذِ. وَالرُجُل مِنَ الأَجْنَبِيةِ والسَّيِّدَةِ إِلَى الوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ.

===

والفَخِذِ) أي ما عدا هذه الأشياء. أمّا المَحْرَم فلقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ}

(1)

الآية. والمراد ـ والله تعالى أعلم مواضع زينتهنّ، وما عدا البطن والفخذ مواضع الزينة. وقد قال عليّ وابن عباس: الزينة هي الكحل والخَاتَم. رواه الطَّبَرانيّ والبيهقي. فالمراد بها موضعهما وهو الوجه والكف. وفي رواية عنه: إلاّ ما ظهر منها قال: الوجه والكفان، وهذا عن عائشة.

وأمّا أَمَةُ غيره فلأنّ الأَمَة تخرج لحوائج مولاها، وتخدُم أضيافه وهي في ثياب مهنتها، فصار حالها خارج البيت في حق الأجانب كحال المرأة داخله في حق محارم الأقارب، فلا يحل النظر إلى بطنها وفرجها، خلافاً لما يقوله محمد بن مُقَاتِل: أنه يباح ما دون السرة إلى الركبة، وحُجَّتُه قولُ ابن عباس: من أراد أن يشتري جارية فلينظر إليها إلاّ موضع المِئزر، ولتعامل أهل الحرمين.

وأمّا الخَلْوَة بها والسفر بها فقيل: يباح كما في المحارم، وإليه مال شمس الأئمة السَّرَخْسِيّ، لأنّ المولى قد يحتاج أن يبعثها في حاجته إلى بلدة أخرى ولا تجد مَحْرَماً ليسافر معها. وقيل: لا يباح لعدم الضرورة، وإليه مال الحاكم الشهيد لقوله عليه الصلاة والسلام:«لا يَبيتَنَّ رجل عند امرأة إلاّ أن يكون ناكحاً أو ذا رحم» . رواه مسلم. وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يَخْلُوَنّ رجلٌ بامرأة فإن الشيطان ثالثهما» . رواه ابن حِبّان في «صحيحه» .

وقد ذكر أبو بكر الرَّازِيّ في «أحكام القرآن» عن ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب أنهم تأوَّلوا

(2)

: قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ}

(3)

على الإماء. قلت: ويؤيده الإجماع عليه في قوله: {إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}

(4)

.

(وَ) ينظر (الرَّجل مِنَ الأَجْنَبِيَّةِ و) من (السَّيِّدَةِ إِلَى الوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ) لأنها محتاجة إلى إبداء ذلك لحاجتهما إلى الإشهاد وإلى الأخذ والإعطاء، ومواضع الضرورة مستثناة من قواعد الشرع. والقدم كالوجه في رواية الحسن كما ذَكَرَه الطَّحَاوِيُّ، لأنها تحتاج إلى إبداء

(5)

قدمها إذا مشت حافية أو منتعلة، وقد لا تجد

(1)

سورة النور، الآية:(31).

(2)

في المطبوع: يقولون، والمثبت من المخطوط.

(3)

سورة النور، الآية:(31).

(4)

سورة المعارج، الآية:(30).

(5)

في المطبوع: بدء، والمثبت من المخطوط.

ص: 14

وشُرِطَ الأَمْنُ عَنِ الشَّهْوَةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالقَضَاءِ، وَالشَّهَادَةِ، وَإِرَادَةِ النِّكَاحِ، وَالشِّرَاءِ، والمُدَاوَاةِ. وينظر إِلَى مَوْضِعِ المَرَضِ بَقْدرِ الضَّرُورَةِ.

الخَصِيُّ ونَحْوُهُ

===

خُفّاً في (كل)

(1)

وقتٍ. وأمّا ما ذكرَه في «الهداية» عن عليّ: مَنْ نظر إلى محاسن امرأةٍ أجنبيةٍ عن شهوة صبَّ الله في عينيه الآنُك

(2)

يوم القيامة». فالمعروف من هذا الحديث: «من استمع إلى حديث قوم وهم كارهون صُبَّ في أذنيه الآنُك يوم القيامة» . وهو حديث صحيح رواه البخاري.

(وشُرِطَ) في (حِلِّ)

(3)

النظر (الأَمْنُ عَنِ الشَّهْوَةِ) فإنّ مَنْ لم يأمن لم يحل النظر احترازاً عن الوقوع في الحرام (إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ) أي أدائها لضرورة إحياء حقوق النَّاس. وقَيَّدنا بأدائها لأنّ النظر لتحمّلها لا يباح مع الشهوة على الأصحّ، لأنه يوجد من لا يشتهي فلا ضرورة.

(وَ) إلاّ عند (إِرَادَةِ النِّكَاحِ) لإطلاق ما أخرجه النَّسائي والترمذي ـ وقال: حديث حسنٌ، ـ عن المُغِيرَةِ بن شُعْبَة أنه خطب امرأةً فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:«انظر إليها فإنه أحرى أن يُؤْدَمَ بينكما» . أي أن تدوم المودة بينكما. وقد رُويَ من طُرُقٍ. وأخرج مسلم عن أبي حَازِم، عن أبي هريرة قال: خطب رجلٌ امرأةً من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب فانظر إليها، فإن في عين الأنصار شيئاً» . ولأن المقصود إقامة السنة لا قضاء الشهوة.

(وَ) إلاّ عند (الشِّرَاءِ) أي شراء الأمة، لأَنّه في معنى إرادة النِّكاح. (وَ) إلاَّ عند (المُدَاوَاةِ) بقدر الحاجات.

(وَيَنْظُرُ) الرجل الطبيب (إِلَى مَوْضِعِ المَرَضِ بَقْدرِ الضَّرُورَةِ) وصار كنظر الخافِضَة

(4)

والختَّان إلى موضع الخَفْضِ والخِتَان

(5)

، ويجوز للرجل النظر إلى موضع الاحتقان من الرجل عند الضرورة، لأنّه مداواة. (والخَصِيُّ ونَحْوُهُ) من المجبوب

(6)

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

الآنكُ: هو الرصاص الأبيض. النهاية 1/ 77.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

في المخطوط: الخافض، والمثبت من المطبوع. والخَفْضُ: هو قطع الجلدة العالية المشرفة على فرج المرأة. معجم لغة الفقهاء ص 198.

(5)

الخِتَان: في حقّ الرجل: قطع القُلْفَة، وفي حق المرأة: قطع بعض جلدةٍ عاليةٍ مشرفةٍ على الفَرْج. معجم لغة الفقهاء ص 193.

(6)

المجبوب: الجبُّ: قطع الذَّكر = قطع العضو التناسلي من الذكر. معجم لغة الفقهاء ص 159.

ص: 15

كَالفَحْلِ، وإلَى كُلِّ أَعْضَاءِ مَنْ يَحِلُّ بَينَهُمَا الوَطْءُ.

===

والمُخَنَّث (كَالفَحْلِ)

(1)

الخالص في حكم النظر لأنهم ذكور حقيقة، ولقول عائشة: الخِصَاءُ مُثْلَة فلا يُبيح ما كان حراماً قبله. ذكره في «المَبْسُوط» . وقيل: هو أشد الناس جماعاً، فإنه لا تَفْتُر آلته بالإنزال، وكذا المجبوبُ لأنّه قد يُسْحَقُ (فَيُنْزِل)

(2)

. وإن كان مجبوباً قد جفّ ماؤُه، فقد رخّص بعض مشايخنا في حقه الاختلاط بالنساء لوقوع الأمن من الفتنة. وقد قال تعالى:{أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ}

(3)

فقيل: هو المجبوب الذي جفّ ماؤُه، والأصحّ أنه لا يحل له ذلك لعموم النصوص.

وكذا المخنث في الرديء من الأفعال، لأنه كغيره من الرجال، بل هو من الفُسَّاق فيُنَحَّى عن النساء. فأما إذا كان في أعضائه لين، وفي لسانه تكسّر ولا يشتهي النساءَ، ولا يكون مخنثاً في الرديء من الأفعال، فقد رخَّص بعض مشايخنا في ترك مثله مع النساء، وهو أحد تأويلي

(4)

قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعينَ} . وقيل: المراد الأَبله الذي لا يدري ما يصنع بالنساء وإنّما همته بطنه.

والأصحّ أن نقول: إنه من المتشابِه، وقوله:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}

(5)

محكمٌ فنأخذ بالمحكم ونقول: كل من كان من الرجال لا يحلّ لها أن تبدي موضع الزينة الباطنة بين يديه، ولا يحلّ له أن ينظر إليها إلاّ أن يكون صغيراً، فحينئدٍ لا بأس

(6)

به، لقوله تعالى:{أَوِ الطِّفْلِ الذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء} كذا ذكره بعض علمائنا.

والأظهر أنه ليس من المتشابه ولو اختُلف في معناه، فإنّ مآل الكل إلى اشتراط عدم الشهوة، كما هو منصوص عليه في قوله سبحانه:{غَيْرَ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أو الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} ، ولا يبعد أَنْ يكون الموصول نعتاً للرجال والأطفال، والله تعالى أَعلم بالأَحوال.

(وإلَى) أي ينظر الرجل ولو بشهوة إلى (كُلِّ أَعْضَاءِ مَنْ يَحِلُّ بَيْنَهُمَا الوَطْءُ) وهي زوجته وأَمته، لأنّ ما فوق النظر من المسيس والغشيان يباح له، فالنظر أولى، ولقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ

(1)

الفَحْلُ: غير الخَصِيّ من الذكور. معجم لغة الفقهاء ص. 34.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

سورة النور، الآية:(31).

(4)

في المخطوط: تأويل، والمثبت من المطبوع.

(5)

سورة النور، الآية:(30).

(6)

في المطبوع: لا يؤمر به، والمثبت من المخطوط.

ص: 16

ومَا حَلَّ نَظَرُهُ حَلَّ مَسُّهُ.

===

فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مِلُومِينَ}

(1)

، ولِمَا في «السنن الأربعة» عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده معاوية بن حَيْدَة قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال:«احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو ما ملكت يمينك» . قال: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ لو كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يَرَينَّها أحد فلا تَرَيَنَّها». قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خالياً؟ قال:«فالله أحق أن يَسْتَحْيِىَ منه الناسُ» . وحسّنه الترمذي. ورواه الحاكم وصحح إسناده.

وفي «معجم

(2)

الطَّبَرانيّ» بسنده إلى سعد

(3)

بن مسعود الكندي، قال: أتى عثمان بن مَظْعُون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إِني أستحي أن يرى أهلي عورتي. قال:«ولِمَ وقد جعلكم الله لهم وجعلهم الله لكم» ؟ قال: أكره ذلك. قال: «فإنهنّ يَرَيْنَهُ مني وأراه منهن» . قال: أنت يا رسول الله؟ قال: «أنا» . قال: فمن بعدك إذاً يا رسول الله؟ فلما أدبر عثمان قال صلى الله عليه وسلم: «إن ابن مظعون لحَيِيٌّ سِتِّير» .

وأمّا حديث عائشة: أنه ما رأى مني ولا رأيته منه

(4)

ـ يعني الفرج ـ، كما رواه الترمذي في «الشمائل» ، فلعله من خصائصها. وكان ابن عمر يقول: الأولى أن ينظر ليكون أبلغ في تحصيل معنى اللذة. وروى ابن عَدِيّ عن ابن عباس مرفوعاً: «أنه يورث العمى» . وضُعِّفَ. وأمّا قول صاحب «الهداية» : لأن ذلك ـ يعني النظر إلى العورة ـ يورث النسيان لورود الأثر، فغير معروف.

(وَمَا حَلَّ نَظَرُهُ حَلَّ مَسُّهُ) لتحقق الحاجة إلى ذلك في المخالطة مع قِلةِ الشهوة في المحارم، وهذا في غير نظر المرأة من الأجنبيّ، ونظر الرجل من الأجنبية، حتى لا يجوز للرجل مسّ وَجْه الأجنبية ولا كفيها، ويجوز له مسّ ما ينظر من محارمه، إلاّ إذا خاف عليها أو على نفسه الشهوة، فإنه حينئذٍ لا يمسّها ولا ينظر إليها، ولا يخلو بها. ولا بأس بالمسافرة بها، فإن احتاجت إلى الإركاب والإنزال ولم يمكنها الركوب بنفسها، فلا بأس بأن يمسّ من وراء ثيابها، ويأخذ ظهرها وبطنها دون ما تحتهما إن أَمن الشهوة، وإن خافَها عليها، أو على نفسه، أو ظنّ أو شكّ أجتنب ذلك بجهده.

(1)

سورة المعارج، الآيتين:(29، 30).

(2)

في المخطوط: مسند، والمثبت من المطبوع.

(3)

في المخطوط: سعيد، والصواب ما أثبتناه من المطبوع، و "المعجم الكبير" 9/ 25، رقم (8318).

(4)

في المخطوط: ولا رأيت فرجه، والمثبت من المطبوع. ولفظ الترمذي في الشمائل ص 192، باب ما جاء في حياء رسولِ الله صلى الله عليه وسلم (49)، رقم (352):"قالت عائشة: ما نظرت إلى فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قالت: ما رأيْت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط".

ص: 17

وَإذَا حَدَثَ مِلْكُ أمةٍ وَلَوْ بِكْرًا، أَو مُشْتَرَاةً، مِمَّنْ لا يَطَؤهَا، حَرُمَ وَطْؤُهَا وَدَوَاعِيهِ حَتَّى تَستَبْرِئ بِحَيضَةٍ بَعْدَ

===

وأمّا عبد المرأة فكالأجنبيّ عندنا، وجعل مالك والشافعي نظره إليها، كنظر الرجل إلى ذات محارمه، لقوله تعالى:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}

(1)

، ولا يجوز أن يُحْمَل على الإماء، لأنّهن دخلنَ في قوله:{أو نسائهنَّ} ( 1).

قلنا: المراد بالنص الإماء للتأكيد (والمبالغة)

(2)

، لما في «مصنف ابن أبي شَيْبَة» عن سعيد بن المُسَيَّب أنه قال: لا تَغُرَّنَّكُمْ الآية، إنّما عُنِيَ به الإماء ولم يُعْنَ به العبيد. وعن الحسن أنه كره أن يدخل المملوك على مولاته بغير إذنها.

ولا يكره الرَّتِيمَة: وهي خيط يربط في الأصبع أو الخاتم، ليتذكر به الحاجة، لأنه من عادات العرب، قال الشاعر:

*إِذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَاتُنَا فِي نُفُوسِكُمْ

فَلَيْسَ بِمُغنٍ عَنْكَ عَقْدُ الرَّتَائِمِ

وقد روى أبو يَعْلَى المَوصِلِيّ، عن سالم بن عبد الأعلى، عن نافع، عن ابن عمر أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أشفق من الحاجة أن ينساها ربط في أصبعه خيطاً ليذكرها. إلاَّ أن في سنده ضعفاً.

ويجوز أن يعزل عن امرأته بإذنها، وعن أمته بدونه. أمّا الأول فلما في «سنن ابن ماجه» عن عمر بن الخطاب أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يعزل عن الحرّة إلا بإذنها. وأمّا الثاني فلما في «صحيح مسلم» عن جابر قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل فقال:«اعزل إن شئت، فإنه سيأتيها ما قُدِّرَ لها» . فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حملت. قال: «قد أخبرتك أنها سيأتيها ما قُدِّرَ لها» .

والأولى أن (لا)( 2) ينظر كل منهما إلى عورة صاحبه، وكان ابن عمر يقول: الأولى أن ينظر إلى فرج امرأته حال الوقوع، ليكون أبلغ في تحصيل اللّذة. قلت: والطبائع مختلفة.

(وَإِذَا حَدَثَ مِلْكُ أمةٍ) بشراءٍ، أو هبةٍ، أو إرثٍ، أو وصيةٍ، أوْ غيرها (وَلَوْ بِكْراً) أو صغيرةً (أَوْ مُشْتَرَاةً مِمَّنْ لَا يَطَؤُهَا

(3)

) بأن اشتراها من محرمها، أو من امرأة، أو من مال صبيّ (حَرُمَ وَطْؤُهَا وَدَوَاعِيهِ) من اللَّمْسِ وغيره (حَتَّى تَسْتَبْرِاء بِحَيْضَةٍ بَعْدَ

(1)

سورة النور، الآية:(31).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

في المطبوع: يطأ. والمثبت من المخطوط.

ص: 18

القَبضِ، فِيمَنْ تَحِيضُ، وَبِشَهْرٍ في ذَاتِ شَهْرٍ، وَبِوَضْعِ الحَمْلِ في الحَامِل.

وَرُخِّصَ حِيلَةُ إِسْقَاطِهِ إنْ عَلِمَ عَدَمَ وَطْء بَائِعِهَا فِي هَذا الطُّهْر،

===

القَبْضِ فِيمَنْ تَحِيضُ، وَبِشَهْرٍ في ذَاتِ شَهْرٍ) لآيسٍ أو صغيرة (وَبِوَضْعِ الحَمْلِ في الحَامِل) لما أخرجه أبو داود والحاكم ـ وقال: صحيحٌ على شرط مسلم ـ عن أبي سعيد الخُدْرِيّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أَوْطَاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» . وفي لفظ لأبي داود: «ولا يحلّ لامراءٍ يؤمن بالله واليوم الآخر (أن)

(1)

يسقي ماءَه زرعَ غيره، ولا يحل لامراءٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السَّبي حتَّى يستبرئها».

وفي «مصنف ابن أبي شيبة» عن عليّ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُوطأ الحامل حتى تضع، أو (الحائل)

(2)

حتّى تستبراء بحيضة. وحرم دواعي الوطء (كما)

(3)

في الظهار لأنها قد تفضي إليه، وما يفضي إلى الحرام حرام، بحديث الراعي حول الحمى. وإنّما حلّ الدّواعي في الحيض والصوم، لأنّ الوطء حَرُم في الحيض لمعنى الأذى، وذلك لا يوجد في الدواعي، ولأنّ الصوم قد يمتد إلى شهر فيؤدي إلى الحرج، كذا قالوه. والأولى أن يقال: إنه استفيد من الأحاديث الواردة فيهما.

(وَرُخِّصَ حِيلَةُ إِسْقَاطِهِ) أي الاستبراء (إنْ عَلِمَ عَدَمَ وَطْءِ بَائِعِهَا فِي هَذا الطّهْر) اعلم أنّ أبا يوسف رخَّص الحيلة وخالفه محمد وكرهه، لأنّ الفرار من الأَحْكام الشرعية ليس من أخلاق المؤمنين، فيكره له اكتساب سبب الفرار. ولأبي يوسف: أن هذا مَنْعٌ عن وجوب الاستبراء ورَفْع لثبوته، فلا تكره الحيلة في إسقاطه كما لا يكره في إسقاط الرِّبا. وأخذ المشايخ بقول أبي يوسف إن عَلِمَ المشتري عدم وَطْءَ البائع لها في ذلك الطهر، وبقول محمد إن علم وَطْءَ البائع لها فيه.

وعن أبي يوسف: أنه إذا تيقّن بفراغ رحمها من ماء البائع فليس عليه استبراء. قلنا: إن هذه حكمة الاستبراء، والحُكْمُ

(4)

يتعلق بالعلة لا بالحكمة، لبطونها

(5)

، تيسيراً للعامة.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط والمطبوع، وهو في "سنن أبي داود" 2/ 614.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والحائل: هي الأنثى التي لا تحمل، ضد الحامل. معجم لغة الفقهاء ص 171.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

في المطبوع: الحكمة، والمثبت من المخطوط.

(5)

أي لخفائها.

ص: 19

وَهِيَ إِنْ لَمْ تَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةً، أَنْ يَنْكِحَهَا ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا. وَإنْ كَانَتْ، أَنْ يُنْكِحَهَا لآخَرَ ثُمَّ يَشْتَرِيَ، أوْ يَقْبِضَ ثمَّ يُطَلِّقَ.

وَمَنْ فَعَلَ بِشَهْوَةٍ إِحْدَى دَوَاعِي الوَطْءِ بِأَمَتَيْهِ، لا يَجْتَمِعَانِ نِكَاحًا، حَرُمَ عَلَيهِ وَطْؤُهُمَا بِدَوَاعِيهِ حَتى يُحَرِّمَ إحداهما.

وَكُرِهَ تَقْبِيلُ الرَّجُلِ وَعِنَاقُهُ في إزار وَاحِدٍ.

===

(وَهِيَ) أي الحيلة (إِنْ لَمْ تَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةً أَنْ يَنْكِحَهَا) أي يتزوّجها قبل الشِّراء (ثُمَّ يَشْتَرِيهَا) كذا في «الهداية» . وَشَرَطَ بعضهم أن يقبضها قبل الشِّراء، وقيل: يتزوّجها ويطؤها ثم يشتريها.

(وَإِنْ كَانَتْ) تحته حرّة (أَنْ يُنْكِحَهَا) أي يزوّجها البائع قبل الشراء أو المشتري قبل القبض (لآخَرَ) يثق به أو يشترط أن يكون أمرُها بيده (ثُمَّ يَشْتَرِيَ) المشتري إن كان الإنكاح قبل الشِّراء (أَوْ يَقْبِضَ) المشتري إن كان بعد الشراء قبل القبض (ثُمَّ يُطَلِّقَ) ذلك الزّوج أو مَنْ أَمْرُها بيده. ومن الحيلة: أن يشتريها ويقبضها فيكاتبها ثم يَفْسَخ العقد برضاها، لأنّ بعقد الكتابة حَرُمَت عليه، ثم بعجزها صارت كالمطلقة قبل الدخول، وهذا سهل الوصول.

(وَمَنْ فَعَلَ بِشَهْوَةٍ إِحْدَى دَوَاعِي الوَطْءِ) وهي القُبْلة، واللمس، والنظر إلى الفرج (بِأَمَتَيْهِ) حال كونهما (لَا يَجْتَمِعَانِ نِكَاحاً، حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهُمَا بِدَوَاعِيهِ حَتَّى يُحَرِّمَ إحداهما) بتمليك كلها أو بعضها، أو بإنكاحها نكاحاً صحيحاً أو إعتاقها كلها أو بعضها، لأنّ الجمع بين الأختين المملوكتين لا يجوز وَطْأً

(1)

، لإطلاق قوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}

(2)

لأنّ المراد به الجمع بينهما وطأً وعقداً، لأنه معطوفٌ على المُحَرَّمات وطأً وعقداً، ولا يعارِض هذا قولَه تعالى:{إلاّ مَا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ}

(3)

، لأنّ الترجيح للمُحَرِّم، ولأنه استثناء من المحصنات من النساء، والمراد بها: المَسْبِيّات.

وكذا لا يجوز الجمع بينهما في الدواعي، لأنّ النص مطلق فيتناولها، أو لأنّ الداعي إلى الوطء بمنزلته في التحريم، ويستحب لمن أراد بيع أمته الموطوءة أن يستبرئها لاحتمال أن يكون علقت منه، ولا يستبرئها المشتري فيثبت النسب، وأوجبه مالك صوناً لمائه.

(وَكُرِهَ) للرجل (تَقْبِيلُ الرَّجُلِ) في فمه أو شيء منه (وَعِنَاقُهُ في إِزار وَاحِدٍ) ولو

(1)

في المطبوع: وطؤهما، والمثبت من المخطوط.

(2)

سورة النساء، الآية:(23).

(3)

سورة النساء، الآية:(24).

ص: 20

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

بلا شهوة عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف: لا بأس بذلك عند عدم الشهوة، لما أخرجه الحاكم في «المستدرك» ـ وقال: إسناده صحيحٌ لا غبار عليه، ـ من حديث ابن عمر قال: وجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب إلى بلاد الحبشة، فلمّا قَدِم منها اعتنقه النبيّ صلى الله عليه وسلم وقبَّل بين عينيه، فصار كالمصافحة. وتقبيل يد العالم (العامل)

(1)

، والسلطان العادل للتبرك.

أمّا المصافحة فلقوله عليه الصلاة والسلام: «إن المؤمن إذا لَقِيَ المؤمن فسلّم عليه، وأخذ بيده تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر» . رواه الطَّبَراني في «معجمه الأوسط» . وقوله عليه الصلاة والسلام: «ما من مسلمَين يلتقيان فيتصافحان إلاَّ غُفِرَ لهما قبل أن يفترقا» . رواه أبو داود والترمذي. وأمّا قول صاحب «الهداية» عنه عليه الصلاة والسلام: «مَنْ صافح أخاه المسلم وحرك يده تناثرت ذنوبه» . فقوله: «حرك يده» غير معروفٍ.

وأمّا التقبيل فلقول ابن عمر كنّا في سَرِيّة من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنونا من النبيّ صلى الله عليه وسلم فقبَّلنا يده. رواه أبو داود والترمذي. ولقول صَفْوَان بن عسَّال: إن قوماً من اليهود قبّلوا يد النبيّ صلى الله عليه وسلم ورجله. رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأما ما قيل من أن حديث جعفر محمولٌ على ما قَبْلَ التحريم، فغير ظاهر، بل ينبغي أن يُخصّ جواز المعانقة بالقادم من السفر، والله تعالى أعلم.

وروى الطَّحَاوِيّ أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن المكاعمة، (وعن المكامَعة)

(2)

.

وفي «الجامع الصغير» : ويكره أن يُقَبِّل فمَ الرجل أو يده أو شيئاً منه أو يعانقه. وذكر الطَّحاويّ: أنّ هذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا بأس بالتقبيل والمعانقة. وقالوا الخلاف فيما إذا لم يكن عليهما غير الإزار، وأمّا إذا كان عليهما قميص أو جُبَّة فلا بأس بالإجماع، وهو الذي اختاره الشيخ أبو مَنْصُور المَاتُرِيدِيّ.

ثم لا بأس بتقبيل يد العالم والسلطان العادل على سبيل التبرُّك، وكذا تقبيل يد الأبوين والشيخ والرجل (الصالح)(1) . وما يفعله الجهّال من تقبيل يد نفسه إذا لقي

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط. وسيأتي شرحها من المؤلف في الصفحة التالية.

ص: 21

وَكُرِهَ بَيعُ العَذِرَةِ خَالِصةً، وَصَحَّ مَخْلُوطةً، وَالانْتِفَاعُ بِهَذِهِ. وَبَيعُ السِّرْقيِن، وَخِصَاءُ البَهَائِمِ لا الآدَمِيّ،

===

غيره فمكرُوهٌ، وما يفعلون من تقبيل الأرض بين يدي السلطان والمشايخ فحرامٌ، والفاعل الرَّاضي به آثم، لأنّه يُشْبِه عبادة الأوثان.

وذكر الصدر الشهيد: أنّه لا يكفر بهذا السجود، لأنّه يريد به التحية، فَفُهِمِ منه أنّه لو سجد للتعظيم كَفَر كما صرَّح به السَّرَخْسِيّ. ولهما ما روى ابن أبي شَيْبَةَ وعبد الرَّزَّاق في «مصنفيهما» من حديث عامر الحَجْري قال: سمعت أبا رُكَانَة ـ وفي نسخة صحيحة: أبا رَيْحَانَة ـ صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم واسمه سَمْعُون ـ بالمهملة أو المعجمة ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مكامعة أو مكاعمة

(1)

المرأة المرأة ليس بينهما شيء، وعن (مكامعة أو)

(2)

مكاعمة الرجل الرجل ليس بينهما شيء. قال أبو عُبَيْد القاسم بن سلاَّم: والمكاعمة: أن يلثم الرجل فاه صاحبه. (والمكامعة أن يضاجع الرجل صاحبه)( 2) في ثوب واحدٍ.

وفي «سنن» الترمذي عن أنس قال: (قال)( 2) رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أَيَنْحَنِي له؟ قال:«لا» ، قال: أفيلتزمه ويقبّله؟ قال: «لا» ، قال: فيأخذه بيده ويصافحه؟ قال: «نعم» . ويمكن الجمع بأن نهي التقبيل محمولٌ على تقبيل الفم، ونهى العِنَاق على غير القادم أو على ما كان بإزارٍ واحدٍ.

أمّا الانحناء للسلطان أو غيره فمكروهٌ، ويَحْرُم تقبيل الأرض بين يدي العالم والشيخ أو السلطان للتحية، وأما السجود فحرامٌ، واختلف في كونه كفراً.

(وَكُرِهَ بَيْعُ العَذِرَةِ خَالِصَةً وَصَحَّ) بيعها (مَخْلُوطةً) بمنزلة زيت خالطه نجاسة (وَ) جَازَ (الانْتِفَاعُ بِهَذِهِ) أي بالمخلوطة، لأنّ العادة لم تجر بالانتفاع بخالص العَذِرَةِ وجرت بالمخلوطة. وفي «شرح الكنز»: والصحيح عن أبي حنيفة أنّ الانتفاع بالعَذِرَةِ الخالصة جائز. (وَ) صح (بَيْعُ السِّرْقينِ)

(3)

لأنه يُنتفع به ويُدّخر لوقت الحاجة، فإنه يُلقى في الأرض لاستكثار الزّرع.

(وَ) جَازَ (خِصَاءُ البَهَائِمِ) لأنّه صلى الله عليه وسلم ضحى بكَبشين مَوْجُوءَيْنِ، أي خَصِيَّيْنِ، ولأن لحمها يطيب به. (لَا الآدَمِيّ) أي ولا يجوز خصاء الآدمي لأنه تمثيل به وهو حرام.

(1)

في المطبوع: مكاعمة، والمثبت من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

السَّرْقِينُ: الزِّبل. معجم لغة الفقهاء ص 243.

ص: 22

وَإنْزاءُ الحَمِيرِ عَلَى الخَيلِ، وَسَفَرُ الأَمَةِ وَأُمِّ الوَلَدِ بِلا مَحْرَمٍ.

وصَحَّ بَيعُ العَصِيرِ مِنْ مُتّخِذِهِ خَمْرًا. وَكُرِهَ اسْتِخْدَامُ الخَصِيِّ،

وَ

===

(وَ) جاز (إِنْزاء

(1)

الحَمِيرِ عَلَى الخَيْلِ) لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ركب البغلة، وهي من إنزاء الحمير على الخيل، ولو كان هذا الفعل حَرَاماً لمَا ركبها، لِمَا في ركوبها من فتح بابه كذا ذكروه. وفيه بحثٌ، إذ لا يلزم من ركوبها جواز الإنزاء، فقد روى أبو داود والنَّسائي عن عليّ قال: أُهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة فركبها فقلت: لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون» . ولعلّ علماءنا حملوه على كراهة التنزيه وجوّزوه.

(وَ) جاز (سَفَرُ الأَمَةِ وَأُمِّ الوَلَدِ بِلَا مَحْرَمٍ) لأنّ الأجانب مع الإماء فيما يرجع إلى النظر والمس بمنزلة المحارم، فكما يجوز للحرة أن تسافر مع المَحْرَم، فكذا يجوز للأمة أن تسافر مع الأجنبي، وأُمّ الولد أَمَةٌ لقيام الملك فيها، وإن امتنع بيعها، وكذا المُكَاتَبة لأنها مملوكة رقبةً، وقد تقدّم اختلاف المشايخ في اختيارهم. وفي «النهاية» معزياً إلى شيخ الإسلام: هذا في زمانهم لغلبة أهل الصلاح، وأمّا في زماننا فلا، لغلبة أهل الفساد.

((وصَحَّ

(2)

) بَيْعُ العَصِيرِ مِنْ مُتّخَذِهِ خَمْراً) لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ}

(3)

، ولأنّ المعصية لا تُقام بعينه باقياً على حاله، بل بعد تغيره وصيرورته أمراً آخر ممتازاً عن العصير بالاسم والخاصة، بخلاف بيع السلاح في أيام الفتنة، فإنّ المعصية تقام بعينه. كذا ذكروه.

وينبغي أن يكون مكروهاً لكونه سبباً لتحصيل المعصية، ولقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثم وَالعُدْوَانِ}

(4)

ولذا منعه مالك والشّافعيّ.

ويَحْرُم على المسلم أخذ دَيْنه من ثمن خمر باعها مسلم لا ذمي، لأنّ بيع المسلم الخمرَ باطل، إذْ لا قيمة للخمر في حق المسلمين، فلم ينعقد البيع، وإذا لم ينعقد لم يجب الثمن فلم يملكه، ولا يحل لربِّ الدَّين أَخْذُه. وأمّا بيع الذميّ الخمرَ فصحيحٌ، لأنها مال في حقّه فيملك الثمن فيصحّ أخذه.

(وَكُرِهَ اسْتِخْدَامُ الخَصِيِّ) لأن في استخدامه حثاً على هذا الصنع الحرام. (وَ)

(1)

الإنْزَاءُ: من أنزى الفحل: إذا جعله يثب على الأنثى. معجم لغة الفقهاء ص 92.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

سورة البقرة، الآية:(275).

(4)

سورة المائدة، الآية:(2).

ص: 23

إِقْراضُ بِقَّالٍ شَيئًا يَأَخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ، وَاللَّعِبُ بِالنَّرْدِ والشّطْرَنْجِ، وَالغِنَاءُ، وَكُلُّ لَهْوٍ.

===

كره (إِقْراض بِقَّالٍ شَيْئاً يَأَخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ)

(1)

لأنه إذا ملَّكه الدرهم فقد أقرضه إيّاه، وقد شرط أن يأخذ منه ما يريد حالاً

(2)

(حالاً)

(3)

، وله في ذلك نَفْع، فيصير في معنى القرض الذي جرّ نفعاً، وهو منهيّ عنه. وإن أودعه إيّاه ثم أَخَذ منه ما شاء مفرّقاً لا يكره.

(وَ) كُرِه (اللعِبُ بِالنَّرْدِ) إجماعاً (والشِّطْرَنْجِ) وفيه خلاف يأتي. (وَ) كره (الغِنَاءُ) وهي الممدودة بمعنى التَّغَنِّي بالأنغام الموسيقية ونحوها، (وَكُلّ لهْوٍ) أي لعب مُشْغل عن الفرض.

أمّا النَّرْد، فلما أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود عن سليمان بن بُرَيْدَة عن أبيه بُرَيْدَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لعب بالنَّرْدَشير فكأنما

(4)

صبغ يده في لحم خنزير (ودمه)»

(5)

. وليس فيه ذكر الشِّطْرَنْج الذي ذكره في «الهداية» . وروى مالك وأحمد وابن ماجه بلفظ: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» . وأمّا الشِّطْرَنْجُ، فلما أخرجه العُقَيْلي في «ضعفائه» عن أبي هريرة قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم يلعبون بالشِّطْرَنْج فقال: «ما هذه الكُوبَة؟ أَلَم أنْهَ عنها؟ لعن الله من يلعب بها» . والكُوبَة: النَّرد. ولما رواه ابن حِبَّان في «ضعفائه» عن وَاثِلَة بن الأسْقَع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله عز وجل في كل يوم ثلاث مئة وستين نظرة لا ينظر فيها إلى صاحب الشاه» . يعني الشطرنج.

وأمّا الغناء فلقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ}

(6)

وفُسِّر بالمُغَنِّين

(7)

، وقد كتبتُ في هذه المسألة رسالة مستقلة.

واستعمال الملاهي محرمة بالاتفاق، وطبل الغزاة والدُّفّ في العرس مستثناة للإذن فيهما شرعاً. وسئل أبو يوسف: أيكره الدُّف في غير العرس تضربه المرأة للصبي

(1)

وصورة المسألة: أن رجلًا فقيرًا له درهم يخاف عليه التلف لو بقي في يده، وليس له فلوس حتى يشتري بها ما منحت له من الحاجة كل ساعة، فيعطي الدرهم إلى البقّال ليأخذ منه ما يحتاج إليه بحسابه: جزأ فجزأ، حتى يستوفي ما يقابل الدرهم.

(2)

في المطبوع: مالًا، والمثبت من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

في المطبوع: فكأنها، والمثبت من المخطوط.

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع، وأثبتناه من المخطوط وصحيح مسلم 4/ 1770، كتاب الشعر (41) باب: تحريم اللعب بالنردشير (1)، رقم (10 - 2260).

(6)

سورة لقمان، الآية:(6).

(7)

في المخطوط: المغنيات، والمثبت من المطبوع.

ص: 24

وَجَعْلُ الغُلِّ في عُنُقِ عَبْدهِ، بخلاف التَّقييد، وَاحْتِكَارُ قُوتِ البَشَرِ وَالبَهَائِم في بَلَدٍ يَضُرُّ بِأَهْلِهِ،

===

في غير فسقٍ؟ قال: لا، فأمّا الذي يجيء منه الفاحشة

(1)

كالغناء فإني أكره.

وأمّا اللهو فلما أخرجه الحاكم في «المُسْتَدْرَكُ» ـ وقال: حديث صحيحٌ على شرط مسلم ـ، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«كل شيء من لهو الدنيا باطلٌ إلاّ ثلاثة: انتضالك بقوسك، وتأديبك فرسك، وملاعبتك أهلك، فإنّهن من الحقّ» . وفيه دلالة على أنّ الشِّطْرَنْج لعب باطل كما يدل عليه صيغة الحصر في لهو الحقّ.

وأباح الشَّافعيّ اللعب بالشِّطْرَنْج إذا لم يكن قمار، ولا إخلال بشيء من الواجبات، إذ فيه تشحيذ الخواطر وتزكية الأفهام. قال سهل بن محمد الصُّعْلُوكِي رئيس أصحاب الشافعي: إذا سَلِمَتْ اليد من الخسران، والصلاة من النسيان، واللسان من الهَذَيَان، فهو أدبٌ بين الخلاّن، ولو أكثر منه رُدَّت شهادته. وفي «المُجْتَبَى»: قول الشافعي رواية عن أبي يوسف.

ولنا: أنه لهو يصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة غالباً، فيكون حراماً كالخمر والميسر، ولأن فيه معنى النرد والأربعة عشر

(2)

، ثُم إن قامر به تسقط عدالته، وإن لم يقامر به وكان متأوّلاً ولم يصدّه ذلك عن الصلاة لا تسقط. ولم ير أبو حنيفة بالسلام عليهم بأساً لشغلهم عمّا هم فيه، وكرهاه تحقيراً لهم. ويؤيّدهما ما رُويَ أن علياً رضي الله عنه مرّ بقومٍ يلعبون بالشِّطْرَنْج فلم يسلِّم عليهم فقيل له (في)

(3)

ذلك، قال: كيف أسلّم على قومٍ يعكفون على أصنامٍ لهم؟ ذكره العَيْنِيّ.

(وَ) كره من سيدٍ (جَعْلُ الغُلِّ في عُنُقِ عَبْدهِ) لأنه عقوبة أهل النار فيكره كالإحراق بها (بخلاف التَّقييد) لأنّه سنة المسلمين في السفهاء، فلا يكره في العبد تحرزاً عن إباقه. (وَ) كره كراهة تحريم (احْتِكَارُ قُوتِ البَشَرِ وَالبَهَائِمِ) كالحِنْطَةِ والشعير والتبن (في بَلَدٍ يَضُرُّ بِأَهْلِهِ) لما أخرجه مسلم عن مَعْمَر بن عبد الله العَدَوِي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«لا يحتكر إلاَّ خاطاءٌ» أي مذنبٌ.

وأخرج ابن ماجه في «سننه» ، وأبو يَعْلَى المَوْصِلِي في «مسنده» عن عمر بن

(1)

عبارة المطبوع: فأما الذي محى عنها الوحشة. والمثبت عبارة المخطوط.

(2)

لعبه من ألعاب اليهود. انظر "الكفاية" 8/ 498 مطبوع بحاشية "فتح القدير". وانظر "البحر الرائق" 8/ 236.

(3)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

ص: 25

لا غَلَّةَ أرْضِهِ، وَمَجْلُوبَةٍ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ، وَتَسْعِيرُ الحاكِم، إلّا إذَا تَعَدَّى الأرْبَابُ عَنْ القِيمَةِ فَاحِشًا.

===

الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجالب مرزوقٌ والمحتكر ملعونٌ» . أمّا لو لم يضرّ بهم بأن كان المِصْرُ كبيراً لا يُكره، لأنه حابسٌ لملكه من غير إضرار غيره. وقال أبو يوسف: كل ما أضرّ بالعامة فهو احتكار ولو كان ثياباً (أو دنانير)

(1)

أو دراهم.

ثم إذا قَصُرَت المدّة لا يكون حبس القوت احتكاراً لعدم الضرر، بخلاف ما إذا طالت لتحققه. وحدّ المدّة الطويلة أربعون يوماً لما أخرجه أحمد وابن أبي شَيْبَة والبزَّار والحاكم في «المستدرك» عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد براء من الله وبراء الله منه. وأيّما أهل عَرْصة

(2)

بات فيهم امرؤٌ جائعٌ، فقد برئت منهم ذمة الله». وقيل: المدّة المضروبة للمعاقبة في الدنيا، بأن أمره القاضي ببيع (ما فضل عن قوته وقوت أهله سَنَةً، فإن لم يفعل يعزّر، ويبيع القاضي بنفسه عنهم،)

(3)

هو الصحيح. وأمّا الإِثم فيحصُل وإنْ قَصُرَت.

(لا غَلَّةَ أرْضِهِ) أي لا يكره احتكار الشخص غَلْة أرضه. ينبغي أن يقيّد بما لم يزد على نفقة سنة. (وَ) لا (مَجْلُوبَةٍ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ) وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يكره أن يحبس ما جَلَبَه من بلد آخر لإطلاق ما روينا.

(وَ) كره (تَسْعِيرُ الحاكِم) لما أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي ـ وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ـ من حديث أنس قال: قال النَّاس: يا رسول الله، غلا السعر فسعّر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله هو المسعّر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحدٌ منكم يطالبني بمظلمةٍ من دمٍ ولا مالٍ» . ولأنّ الثمن حقّ المُلاك، فلا ينبغي للإِمام أن يتعرض (عليهم في)

(4)

حقّهم.

(إلاّ إذَا تَعَدَّى الأرْبَابُ) أي أرباب السلع (عَنْ القِيمَةِ) تعدّياً (فَاحِشاً) بأن باعوا بضعف القيمة وعجز السلطان عن صيانة حقوق المسلمين إلاّ بالتَّسعير، فإنه يسعّر لما فيه من رفع الضرر (العام)( 4) ولكن بمشورة أهل الرأي. ثم إذا سعّر الحاكم وباع رجلٌ بأكثر ممّا سعّر به جاز عند أبي حنيفة مطلقاً، لأنه لا يرى الحَجْر على الحرّ، وفي

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

العرصة: البقعة الواسعة بين الدور لا بناء فيها. المعجم الوسيط ص 593، مادة:(عرص).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع، حيث جاءت العبارة فيه على النحو التالى: بأن أمره القاضي ببيعه عنهم.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 26

وَقُبِلَ قَوْلُ فَرْدٍ كَيْفَمَا كَانَ في المُعَامَلاتِ، فَإِنْ قَالَ كَافِرٌ: شَرَيتُ اللَّحْمَ مِنْ مُسْلِمٍ، أوْ كتابِيّ، حَلَّ أَكْلُهُ، وَ: مِنْ مَجُوسِيّ حَرُمَ.

وَشُرِطَ العَدْلُ في الدِّيَانَاتِ كَالخَبَرِ عَنْ نَجَاسَةِ المَاءِ،

===

إبطال بيعه نوع حَجْرٍ عليه. وعندهما يجوز إذا لم يكن التَّسعير على قوم بعينهم، لأنه لا يكون حَجْراً بل فتوى، فإنهما لا يريان الحَجْر على (قومٍ)

(1)

مجهولين.

ومن باع بما سعّره الإمام صحّ، لأنه غير مُكْرَه على البيع، كذا في «الهداية». وفي «المحيط» و «شرح المختار»: أن البائع إذا كان يخاف إذا نقض

(2)

(أن يضربه الإمام)

(3)

لا يحل للمشتري ذلك، لأنّه في معنى المكرَه. والحيلة أن يقول المشتري له: بعني بما تحب، فبأيّ شيءٍ باعه يحلّ.

ولو خاف الإمام على أهل مصر الهلاك أخذ الطعام من المحتكرين وفرّقه، فإذا وجدوا (سعة)( 3) ردّوا مثله، وليس هذا من الحَجْر بل من دفع الضرر كما في حال المَخْمَصَة

(4)

. وكذا يَحْرُم تلقِّي الجَلَب في بلد يضرّ بأهله، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تَتَلَقَّوُا الرُّكبان

(5)

، ولا يبع حاضرٌ لبادٍ»

(6)

. رواه الشيخان، وفي لفظ لمسلم:«لا تلقَّوا الجَلَب، فمن تلقّاه فاشتراه، فأتى سيده السوق فهو بالخيار» .

(وَقُبِلَ قَوْلُ فَرْدٍ كَيْفَمَا كَانَ) أي عدلاً كان أو فاسقاً، مسلماً كان أو كافراً، حرّاً كان أو عبداً، ذكراً كان أو أنثى (في المُعَامَلَاتِ) كالوكالات والمضاربات والإذن في التجارات، لأنّه يكثر وجودها بين الناس، والعدل عزيز الوجود، فلو شُرِطَ فيها أمرٌ زائدٌ لأدّى إلى الحَرَج.

(فَإِنَّ قَالَ كَافرٌ: شَرَبْتُ اللَّحْمَ مِنْ مُسْلِمٍ أوْ كِتَابِيّ حَلَّ أَكْلُهُ وَ) إن قال: (مِنْ مَجُوسِيّ حَرُمَ) بخلاف ما إذا قال: هذا حلال أو حرام، فإنّه لا يقبل قوله.

(وَشُرِطَ العَدْلُ في الدِّيَانَاتِ كَالخَبَرِ عَنْ نَجَاسَةِ المَاءِ) وعن حلّ الطعام وحرمته،

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

في المخطوط: نقْص، والمثبت من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

سبق شرحها ص (3)، التعليقة رقم:(3).

(5)

تلقِّي الرُّكبان: هو أن يستقبل الحَضَريُّ البدويَّ قبل وصوله إلى البلد، ويخبره بكساد ما مَعَه كذبًا ليشتري منه سلعته بالوَكْس، وأقل من ثمن المثل. النهاية: 4/ 266.

(6)

لا يبع حاضرٌ لبادٍ: الحاضر: المقيم في المدن والقرى. والبادي: المقيم بالبادية. والمنهي عنه أن يأتي البدويّ. البلدة ومعه قوتٌ يبغي التسارع إلى بيعه رخيصًا، فيقول له الحضري: اتركه عندي لأغالي في بيعه. النهاية 1/ 398 - 399.

ص: 27

وَفِي الفَاسِقِ وَالمَسْتُوَرِ تَحَرَّى

===

لأنه لا يكثر وقوعها كثرةَ وقوع المعاملات، فيشترط فيها الإسلام والعدالة. ففي المخبِر العدل بنجاسة الماء لا يتوضأ به لعدم التهمة، وفي الكافر يتوضأ به للتهمة. (وَفِي الفَاسِقِ وَالمَستُوَرِ تَحَرَّى) فإن كان أكبرُ رأيه أنّه صادق تيمَّم ولم يتوضأ به لترجّح جانب الصّدق بالتَّحرّي، والأحوط أن يريق الماء ثم يتيمّم. وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب يتوضأ به و (لا)

(1)

يتيمم لترجُّح جانب الكذب بالتحرّي.

ولو أخبرها ثقةٌ أنّ زوجها الغائب مات أو طلّقها ثلاثاً، أو أخبرها غير ثقة ومعه كتاب بطلاقها ولم تدرِ أنه منه، إلاّ أنها تحرّت فترجّح عندها صدقه، جاز الاعتداد والتزوّج. ولو أخبرها أن أصل نكاحها كان فاسداً، أو زوجها كان أخاها من الرَّضاع لم يسعها أن تتزوّج بقوله، وإن كان ثقة، لأنّ في هذا الفصل أخبرها بخبر مُسْتَنْكَرٍ وقد ألزمها الحكم بخلافه، وفي الأوَّل أخبرها بخبر محتملٍ، وهو أمر بينها وبين ربّها، فلها أن تعتمد ذلك الخبر وتتزوّج.

ويُقْبَلُ قول الصَّبيِّ والقِنِّ

(2)

في الهدية والإذن له في التجارة، لأن الهدايا تبعث على يد هؤلاء عادةً، فلو لم يقبل قولهم لأدّى إلى الحرج. والعبد يُحْتَاج في الأسواق والأمصار البعيدة ولا يمكنه استحضار الشهود إلى تلك المواضع، فلو لم يُقْبَل قوله في الإذن لتحرّج الناس في المعاملة مع العبيد.

(مَسَائِلُ شَتَّى)

ومّما ينبغي أن يُلحق بهذا الكتاب مسائلُ شتّى ممّا يناسب هذا الباب. فقد قال علماؤنا: لا بأس بتعشير المصحف ونَقْطِهِ وشَكْلِهِ في زماننا. وأصل الرواية أنه يُكْره التعشير والنَّقْط في المصحف لقول ابن مسعود: جرِّدُوا القرآن، ولا تُلْحِقُوا به (ما)

(3)

ليس منه. رواه ابن أبي شَيْبَة. وله معنيان: أحدهما: جرّدوه في التلاوة ولا تخلطوا به غيره، وثانيهما جرّدوه في الخط من التعشير والنَّقْط.

وفي زماننا لا بدّ لغالب الناس من الدلالة، فبالتعشير تحفظ الآي، وبالنَّقْط يحفظ التصحيف، وبالشكل يحفظ الإعراب، فيكون بِدَعاً مستحسنة، وقد صحّ عن ابن مسعود: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. ويجوز تحليته لِمَا فيها من تعظيمه، وكذا نقش المسجد وتزيينُه بماء الذهب ونحوه، لكن لا من غَلّة وقفه حتى لو فُعِلَ منها ضُمِنَ. ثم هو قُربة في الأصحّ لما فيه من تعظيم بيت الله، ولظاهر قوله

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

سبق شرحها ص (13)، التعليقة رقم:(5).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 28

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}

(1)

. وقيل: مكروه لأنّه من الأمور المبتدعة.

ويكره في المسجد عمل الدنيا كخياطة وكتابة بأجرة (لما)

(2)

ورد: أنّ المساجد إنما بنيت للصلاة، إلاّ لضرورةٍ بأن لم يجد مكاناً غيره، وكان قوته من صنعته. ولا يكره عندنا دخول الذميّ المسجد الحرام، وكرهه الشّافعيّ لقوله تعالى:{إنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَام بَعْدَ عَامِهِمْ هَذا}

(3)

، ولأنّ الكافر لا يخلو عن جنابة.

وأُجيبَ بأنّه محمولٌ على منعهم أَنْ يدخلوه طائفين عراةً، أو مستولين، وعلى أهل الإسلام مستعلين، وبأنّ النجاسة محمولةٌ على خبث عقائدهم، وكرهه مالك في كل مسجد اعتباراً بالمسجد الحرام لعموم العلة وهي النجاسة.

ولنا: ما في «سنن أبي داود» عن عثمان بن أبي العاص أنّ وفد ثقيف لمّا قدموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم أنزلهم المسجد ليكون أرقّ لقلوبهم، فاشترطوا عليه أنْ لا يُحْشَرُوا

(4)

ولا يُعْشَرُوا

(5)

ولا يُجَبَّوا

(6)

. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكم أنْ لا تُحْشَروا ولا تُعْشَروا، ولا خير في دين ليس فيه ركوع» . والتجبية بالجيم والموحدة وضع اليدين على الركبتين. وفي «مراسيله» عن الحسن أنّ وَفْدَ ثقيف أتوْا رسول الله، صلى الله عليه وسلم فضرب

(7)

لهم قُبْة في مؤخر المسجد لينظروا صلاة المسلمين، فقيل له: يا رسول الله أتنزلهم

(8)

في المسجد وهم مشركون؟ قال: «إن الأرض لا تتنجس بابن آدم» .

ويَحْرُم بيع أراضي مكة عند أبي حنيفة خلافاً لهما، ولا يَحْرُم بيع أبنيتها اتفاقاً، لأن البناء ملك لمن بناه، ألا ترى أنه لو بنى في المستأجر، أو في الوقف صار البناء له وجاز له بيعه؟.

ولا يكره عيادة الذِّمي لقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَم يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ}

(9)

ولِمَا في «صحيح البخاري» عن أنس قال: كان غلامٌ يخدُم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه

(1)

سورة التوبة، الآية:(18).

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

سورة التوبة، الآية:(28).

(4)

أي لا يُنْدَبُون إلى المغازي، ولا تُضْرب عليهم البعوث. النهاية 1/ 389.

(5)

أي لا يؤخذ عشر أموالهم. النهاية (3/ 239).

(6)

لا يُجَبَّوْا: معناه: لا يصلوا، وأصل التجيبة أن يقوم الإنسان على قيام الراكع. النهاية 1/ 238 بتصرف.

(7)

في المطبوع: فضربوا، والمثبت من المخطوط.

(8)

في المطبوع: أنزلتهم، والمثبت من المخطوط.

(9)

سورة الممتحنة، الآية:(8).

ص: 29

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

فقال له: «أسلم» فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال: أطِعْ أبا القاسم. فأسلم فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار» . واختلفوا في عيادة الفاسق والمبتدع، والأصحّ أنه لا بأس بهذا لأنه مسلم.

قيل: ويحرم قوله في الدعاء: أسألك بِمَعَقْدِ

(1)

العز من عرشك، وقد رُوِيَ بتقديم القاف على العين، فلا يجوز اتفاقاً لاستحالة معناه على الله سبحانه وتعالى. ورُوِيَ بَعكسه، فكذا يحرم، لأنه يوهم تعلّق العزّ بالعرش، والعرش حادثٌ وما يتعلّق به يكون حادثاً، والله سبحانه متعالٍ عن تعلّق عزّه بالحوادث، فإنّ عزّه قديم كذاته وسائر صفاته. وعن أبي يوسف: أنه لا بأس به، وبه أخذ الفقيه أبو الليث.

قيل: ويحرم أن يقول في دعائه: بحقّ فلانٍ، نبيّاً كان أو وليّاً، أو بحقّ البيت أو المشعر الحرام، لأنه لا حقّ للخلق على الله، لكن قد يقال: إنه لا حقّ لهم وجوباً من أصله، لكنّ الله سبحانه جعل لهم حقّاً من فضله

(2)

، أو يراد بالحقّ الحرمة والعظمة، فيكون من باب الوسيلة، وقد قال الله تعالى:{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ}

(3)

وقد عُدَّ من آداب الدعاء: التوسل بالأنبياء والأولياء على ما في «الحصن الحصين» : وجاء في رواية: «اللهم إني أسألك بحقّ السائلين عليك، وبحقِّ ممشايَ إليك، فإني لم أخرج أَشَراً

(4)

ولا بَطَراً». الحديث

(5)

.

ولا يكره قبول هدية طعام العبد التّاجر لما رُوِيَ من طرق في قصة إسلام سَلْمان أنّ النّبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلّم قَبِل هديته وأكل منها، بخلاف هدية النقدين والثياب على يده

(6)

لعدَم ورود نصَ وعُرْفٍ بذلك، فبقي على أصل القياس في المنع.

وكره أن يجعل الرَّاية في عنق العبد وهي: طوق من حديد مسمّر بمسمار عظيم يمنعه من أن يحرّك رأسه، وهو معتادٌ بين الظَّلمة لأنه عقوبة أهل النَّار فيكره، كالإحراق بها، وحلّ قيده لأنه سنة المسلمين في السفهاء وأهل الدعارة، فلا يكره في العبد تحرزاً عن إباقه وصيانةً لماله.

(1)

في المخطوط: بمقعد، والمثبت من المطبوع. والمَعْقِد: موضع العَقْد أي ما عُقِدَ من البناء، يقال: عقد البناء: إذا ألصق بعض حجارته ببعض بما يمسكها فأحكم إلصاقها. المعجم الوسيط. ص 614، مادة:(عقد).

(2)

في المطبوع: فضلًا، والمثبت من المخطوط.

(3)

سورة المائدة، الآية (35).

(4)

الأَشَرُ: البطر، وقيل: أشدّ البطر. النهاية 1/ 51.

(5)

أخرجه ابن ماجه في سننه 1/ 256، كتاب المساجد والجماعات (4)، باب: المشي إلى الصلاة (14)، رقم (778).

(6)

كذا العبارة في المطبوع والمخطوط، ولم يتبين لنا وجه تصحيحها.

ص: 30

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وحلّت الحُقْنَة للتداوي لما في السنن الأربعة عن أُسَامة بن شَرِيك قال: أتيت النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلّم وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير، فسلمت ثم قعدت، فجاء الأعراب من ههنا ومن ههنا فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: «تَدَاوَوْا، فإنّ الله لم يضع داءً إلاّ وضع له دواءً إلاّ الهَرَم» . ولفظ أحمد في «مسنده» : «فإن الله لم يُنْزِل داءً إلاّ أنزل له دواءً إلاّ الموت» . قالوا: يا رسول الله فما أفضل ما أُعْطي العبد؟ قال: «خلقٌ حسنٌ» .

ولا يجوز استعمال المُحَرّم في الحُقْنَة وغيرها كالخمر ونحوها، لأنّ التّداوي بالمحرّم حرامٌ. ثم التداوي بالحلال جائزٌ لا واجبٌ، فمن ترك المعالجة فمات لم يمت عاصياً لأنه ليس في ترك المعالجة إهلاك النفس، إذ ربّما يصحّ من غير معالجة وربّما لا تنفعه المعالجة.

(ويجب على من رأى منكراً أن ينهى عنه، لو قَدِرَ عليه، ولو لم يفعل مَثُلَ

(1)

، لأنّه)

(2)

يجب عليه ترك المنكر والنهي عنه، فإذا ترك أحدهما لا يسقط عنه الآخر.

وينهى الإمام مَنْ أظهر الفسق في داره، فإن لم يكفَّ، حبسه أو ضربه سياطاً أو أزعجه منها

(3)

ردعاً له وزجراً عن ارتكاب الفواحش.

ويَحْرُم على المغنّي والنائحة أخذ المال المشروط على الغناء والنوح، لأنّه أجرٌ على معصيةٍ بخلاف غير المشروط فإنّه تبرُّع، لكنه يكره لأنه وسيلةٌ إلى فعله.

ولا بأس بدخول الحمّام للرجل والمرأة إذا اتَّزَرَ وغضَّ البصر لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنها ستُفتح لكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتاً يقال لها الحمَّامات، فلا يدخُلَنَّها الرّجال إلا بالأُزُرِ، وامنعوها النساء إلاّ مريضة أو نُفَسَاء» . رواه أبو داود وغيره. وكره غَمْز

(4)

الأعضاء في الحمّام، لأنه فعل المُتَرفِّهين إلاّ لتعبٍ ونحوه من الأوجاع، فإن فيه منفعة وتخفيفاً.

وكره الجلوس على القبور لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها»

(5)

. وقوله: «لأن يجلس أحدكم على جمرةٍ فتحرق ثيابه حتى تخلص إلى جلده خيرٌ له من أن يجلس على قبرٍ»

(6)

.

(1)

مَثُل: زال عن موضعه. القاموس المحيط ص 1364، مادة:(مثل).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

أي من الدار، والمعنى أقلعه وقلعه منها، المعجم الوسيط ص 393، مادة:(زعج).

(4)

في المخطوط: غمض، والمثبت من المطبوع، والغَمْزُ: العصر والكبْس باليد. النهاية 3/ 385.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 668. كتاب الجنائز (11)، باب النهي عن الجلوس على القبر (33)، رقم (97 - 972).

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه 2/ 667، كتاب الجنائز (11)، باب النهي عن الجلوس على القبر (33)، رقم (96 - 971).

ص: 31

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ويكره الإشارة إلى الهلال عند رؤيته لأنّه من عادة الجاهلية كانوا يفعلونه تعظيماً له، أمّا إذا أشار إليه ليريه صاحبه فلا (بأس به)

(1)

.

ولا بأس بإسقاط حَمْل لم يستبن شيء من خلقه لأنّه مضغة بعدُ، ولا حكم لها، إلاّ أنه مكروه بغير ضرورة. ويُقْطَع حملٌ ميتٌ اعتَرَض في بطن حامل، خِيفَ عليها الموت منه، إذا لم يَخْرُج إلاّ به، لأنه ليس للميت حرمة بالنسبة إلى الحيّ. وأمّا إذا اعترض الولد في (بطن)( 1) الحامل وقت الولادة وخيف

(2)

على الحامل، ولم يمكن إخراج الولد إلاّ بقطعه، بأن تُدخِل القابلة يدها إلى داخل الفرج فتقطعه بآلة ونحوها، فلا يُقْطَع لأنّ موتها موهومٌ، فبأمرٍ موهومٍ لا يجوز إتلاف آدميّ حيّ محقق. ويُشَقّ من الجانب الأيسر بطن من ماتت فاضطرب الولد فيه وعُلِمَت حياته، ولو بغلبة الظن لما قدمنا، وقد فعل أبو حنيفة ذلك وعاش الولد.

وكذا يُشَقُّ بطن من ابتلع دُرَّةَ

(3)

غيرِهِ ومات مفلساً، لأنّ حق صاحب الدُّرَّة مقدّمٌ على احترام بطن من مات جانياً، وقيل: لا يشق لإمكان الوصول إليه بعد تفسّخه، ودُفِعَ بأنّه يلزم تأخير حقّه وقد لا يعيش إليه. ولو دفنت الحامل وقد أتى على الولد سبعة أشهر وكان يتحرّك في بطنها، فرؤيت في المنام أنها تقول: وَلَدتُ، لا يشقّ لأنّ الظاهر موته، ذكره العَيْنِيّ.

ولا بأس بثقب أُذُن الصغيرة لأنّه للزينة فصار كالخِتَان. ويجوز الحِجامة والفِصادة

(4)

عند الحاجة، وربّما يجب لِمَا صحّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم احتجم، والفِصَادة مثلها، ولأنّهما للتَّداوي وهو مأذونٌ فيه شرعاً.

ويجب على كل مكلّف تعلّم ما يحتاج إليه لإقامة الفرائض والواجبات، ولمعرفة العقد الصحيح من غيره في المعاملات والحلال من الحرام من المأكولات والمشروبات لقوله عليه الصلاة والسلام: «طلب العلم فريضةٌ على كل مسلم ومسلمة

(5)

، وواضع العلم عند غير أهله كمقلّد الخنازير الجوهرَ واللؤلؤَ والذهب».

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

في المخطوط: صعب، والمثبت من المطبوع.

(3)

الدُّرَّةُ: هي اللؤلؤة العظيمة الكبيرة. المعجم الوسيط. ص 279، مادة:(درّ).

(4)

الفِصادة: فصد المريض: أخرج مقدارًا من دم وَرِيده بقصد العلاج. المعجم الوسيط. ص 690، مادة:(فصد).

(5)

قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"، ص 442: تنبيه: قد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث: "ومسلمة"، وليس لها ذكر في شيء من طرق وإن كان معناها صحيحًا. انتهى. وليست موجودة عند ابن ماجه. انظر الحديث رقم (26). في سنن ابن ماجه.

ص: 32

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

رواه ابن ماجه. وقوله: «تعلّموا الفرائض والقرآن، وعلّموا الناس فإني مقبوضٌ» . رواه الترمذي. ويكره تعلّمه للمُبَاهاة والمُمَارَة

(1)

وطلب المال والجاه لقوله عليه الصلاة والسلام: «من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو لِيُمَارِي السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النَّار» . رواه الترمذي وابن ماجه. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من تعلّم عِلماً ممّا يبتغى به وجه الله لا يتعلّمه إلاّ ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة» . يعني ريحها. رواه أبو داود. وقد ورد أن ريحها يشمّ من قدر خمس مئة عام.

ويجب على العالم التعليم إلى حدّ التفهيم لقوله عليه الصلاة والسلام: «مِنْ سُئِلَ عن علم عَلِمَه ثم كتمه أُلْجِمَ يوم القيامة بلجام من النار» . رواه الترمذي. وإنما يلزمه التفهيم لأنه لا يوجد بدونه التعليم. ويستحب تعلّم علم يكون وسيلة إلى معرفة الكتاب والسنة، ويباح علم لا يضرّ ولا ينفع كالتواريخ والأشعار والأنساب، ويَحْرُم علم السحر والمنطق والكلام والهيئة والنجوم إلاّ قدر ما يعرف به الوقت والقِبْلة.

ويجب الكسب من الحلال بقدر كفاية نفسه وعياله وقضاء دينه، لقوله تعالى:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أي بالتجارة، {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ}

(2)

أي بالزراعة. ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» . رواه ابن ماجه. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «طلب كسب الحلال فريضة بعد الفريضة» . رواه البيهقي في «شعب الإِيمان» . ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إنّ أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها: أن يموت رجلٌ وعليه دين لا يدع له قضاءً» . رواه أبو داود.

ويستحب الزيارة لمواساة الفقراء ومجاراة الأقرباء فإنه أفضل من التخلّي للعبادات لكون منفعته متعدّية ولقوله عليه الصلاة والسلام: «السَّاعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يقوم الليل ويصوم النهار» . رواه ابن ماجه. وفي رواية له: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي القرابة اثنتان: صِلَةٌ وصدقةٌ» .

(1)

في المطبوع: المجاراة، والمثبت من المخطوط.

(2)

سورة البقرة، الآية:(267).

ص: 33

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ويباح للتجمّل والتنعّم حين يبني البنيان

(1)

، وينقش الحيطان، ويشتري السَّراري والغلْمان لقوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}

(2)

ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَ المال الصالح للرجل الصالح»

(3)

. ويكره التفاخر والتكاثر ولو كان من حلَ لقوله تعالى: {ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر}

(4)

ولقوله عليه الصلاة والسلام: «التجار يحشرون فجاراً إلاّ من اتقى وبرّ وصدق» . رواه الترمذي وغيره، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

وأفضل الكسب: الجهاد لما ورد في فضله من الكتاب والسنة، ولأنّ فيه إعلاء كلمة الله تعالى قصداً والكسب فضلاً، ثم التجارة لقوله صلى الله عليه وسلم:«التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين» . رواه الترمذي والدَّارَقُطْنِي وابن ماجه. ثم الزِّراعة لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير، أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، إلاّ كان له به صدقة» . رواه البخاري.

ومنهم من فضّل الزراعة على التجارة لأنها أعمّ نفعاً، وعندي: أنّ الكتابة أفضل منهما لاشتمالها على العلم والنّفع المتعدّي والصدقة الجارية، ثم الصناعة لقوله عليه الصلاة والسلام:«ما أكل أحدٌ طعاماً قطٌ خيراً من أن يأكل من عمل يديه، وإن نبيّ الله داود كان يأكل من عمل يديه» . رواه البخاري.

ويلزم العاجز عن الكسب سؤاله من الناس، فإنه كسب مثله، فإن عجز عن السؤال واشتدّ جوعه وجب على من علم به أن يُطْعِمَه أو يدلّ عليه من يطعمه لما روينا من قوله عليه الصلاة والسلام: «وأيُّما أهل عَرْصَةٍ

(5)

بات فيهم امرؤٌ جائعٌ، فقد برئت منهم ذمة الله». أخرجه أحمد وغيره عن ابن عمر مرفوعاً.

ويكره إعطاء السائل في المسجد إلاّ إذا لم يتخطّ رقاب الناس ولم يمش بين يدي المصلين، في القول المختار، فقد رُوي أنهم كانوا يسألون في المساجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى رُوي أنّ عليّاً تصدّق بخاتمه في الصلاة فمدحه الله تعالى:

(1)

عبارة المطبوع: حين بني البيت، والمثبت من المخطوط.

(2)

سورة الأعراف، الآية:(32).

(3)

مسند الإمام أحمد 4/ 197.

(4)

سورة التكاثر، الآية:(1، 2).

(5)

سبق شرحها ص (26)، التعليقة رقم:(2).

ص: 34

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

{إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ والَّذِينَ آمِنْوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}

(1)

. وأما إذا تخطَّى رقابهم أو تعدّى إمامهم، فمكروه لأنه أعانه على أذى الناس حتى قيل: هذا فَلْسٌ (لا)

(2)

يكفّره سبعون فَلْساً.

ثم اعلم أنّه يَحْرُم التسبيح والتكبير والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام عند عمل محرّمٍ كما، إذا سبّح أو كبَّر أو هلّل أو صلّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم في مجلس الفسق واللهو، فهو حرامٌ يأثم فيه، وكذلك التاجر إذا فتح متاعه لمشتريه وسبَّحَ وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأراد بذلك إعلام المشتري جودة متاعه، وكذلك الفُقَّاعِي

(3)

يقول عند فتح كوز الفُقَّاع: لا إله إلا الله، أو يقول: صلّى الله على النبيّ أو نحو ذلك، لأنّه يأخذ (به)

(4)

ثمناً ويرغب المشتري هنالك. كذا في «شرح تحفة الملوك» للعَيْنِيّ. ومن هنا يُفهم أن بالأولى يَحْرُمُ ذِكْرُ اللَّه أو النبيّ مع الرَّباب كما هو شأن الأعراب، أو مع الزَّمَّارة كما هو شِعَار السَّيَّارة

(5)

من شُحَّاذ أهل اليمن في السوق وأبواب أرباب التجارة.

ثم قال: ويجب منع الصوفية الَّذين يَدَّعون الوَجْد والمحبة عن رفع الصوت وتمزيق الثياب عند سماع الغناء، مع أنّ ذلك حرامٌ عند سماع القرآن، فكيف

(6)

عند سماع الغناء الذي هو حرام؟ خصوصاً في هذا الزمان الذي اشتهر فيه الفسق، وظهرت فيه أنواع البدع، واشتهرت فيه طائفة تَحَلَّوا بحِليةِ العلماء وتَزَيَّوا بزيّ الصُّلحاء، والحال أنّ قلوبهم ممتلئة من الشهوات الكاسدة، والأهواء الفاسدة. فالعجب منهم أنهم يدّعون محبة الله ويخالفون سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيصفقون بأيديهم، ويضربون بأرجلهم، وَيَصْعَقُون بأفواههم، ويُظْهِرُونَ (ما ليس في قلوبهم، ويتحرَّكون)

(7)

بحركات مختلفة في أبدانهم، والأزباد تنزل من أشداقهم، حتى (إنّ)(4) الجهّال والحَمْقَى من العامة

(1)

سورة المائدة، الآية:(55).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

الفُقَّاعي: بائع الفُقَّاع: وهو شراب يتخذ من الشعير يُخَمَّر حتى تعلوه فُقَّاعاته. المعجم الوسيط ص 698، مادة:(فقع).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(5)

السَّيَّارة: القافلة. المعجم الوسيط ص 467، مادة:(سار).

(6)

في المطبوع: فضلًا عنه، والمثبت من المخطوط.

(7)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 35

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

يعتقدونهم ويلازمونهم (ويقصدونهم)

(1)

، ويعطونهم ويَنْسُبون أنفسهم إليهم، وينفقون (عليهم)

(2)

، أعاذنا الله من شرّهم وشرّ ما لديهم.

ولا يحلّ قَبول هدية أمراء الجَور وسائر الظلمة، إلاّ إذا عُلِمَ أنّ أكثر مالهم حلال بأن كان صاحب تجارة أو زراعة، فلا بأس به لأنّ أموال الناس لا تخلو عن قليل حرام فالمعتبر الغالب، وكذا طعامهم. وهذا بالنسبة إلى الأغنياء، وأمّا الفقراء، فلهم أن يأخذوا من أموال الأمراء، لأنّ غالب أموالهم (من)

(3)

بيت المال، ومَصْرِفه الفقراء. وهذا طريق الفتوى، والأحوط امتناعه للتقوى. وفي «تُحْفة الملوك»: رجلٌ يتردد إلى الظلمة ليدفع شرهم عنه، فإن كان مفتياً أو مُقْتَدىً به لا يحلّ له ذلك، لأن دفع شرهم عنه ممكن بغير التردد، ولأن فيه إهانةً للعلم وأهله، وإن كان غير مُقْتَدى به فلا بأس بتردده إليهم ليدفع شرهم عنه.

وأمّا إذا تردد لأجل أن يُصيب منهم، فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن أناساً من أمتي سيتفقّهون في الدين، ويقرؤون القرآن، ويقولون: نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونَعْتَزلُهُم بديننا، ولا يكون ذلك، كَما لا يُجْتَنَى من القَتَاد إلاّ الشوك، كذلك لا يُجْتَنَى من قربهم

(4)

إلاّ الخطايا

(5)

». رواه ابن ماجه. والقَتَاد بفتح القاف والتاء ثالث

(6)

الحروف: ضربٌ من العِضاه وهي جمع عِضَة: وهي شجرة من شجر الشوك ليس فيه غير الشوك.

وكان ابن عباس وابن عمر يقبلان هديّة المختار، وكان أبو ذر وأبو الدَّرْداء لا يُجَوِّزَان ذلك حتّى رُوِيَ أنّ أميراً أهدى إلى أبي ذر مئة دينار فقال: هل أهدى لكل مسلم مثل هذا؟ فقيل: لا، فردَّها وقال:{كَلاَّ إِنّها لَظَى نَزَّاعَةً للشَّوَى}

(7)

ولا يبعد أن يُحمل أخذ ابنيْ عباس وعمر على نية تفريقه على الفقراء، وإنّهم (يعلمون أنهم) لو لم يأخذوه لأعطى الأغنياء أو لم يُعطِ لأحدٍ شيئاً من الأشياء. فلأَخْذِهم

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

زيادة منا يقتضيها السياق.

(4)

في المخطوط دنياهم، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في سنن ابن ماجه 1/ 93 - 94، المقدمة، باب: الانتفاع بالعلم والعمل به (23)، رقم (255).

(5)

هذه الكلمة تفسير راوي الحديث: محمد بن الصَّبَّاح. انظر سنن ابن ماجه وقد مر تخريجه في التعليقة السابقة.

(6)

في المخطوط: قالت، والمثبت من المطبوع.

(7)

سورة المعارج، الآيتين (15، 16).

ص: 36

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وجهٌ، وإن كان الامتناع عن أخذهم أوجه، لأنه أبعد من الرِّيبة وأشدّ على الظالم في مقام الإهانة.

(أمور الفِطْرَة)

ويُسَنُّ قصّ الشارب، وتقليم الأظافر، ونَتْف الإبط، وحلق العَانَة، فإنّها من الفطرة وسنن الخليل عليه الصلاة والسلام الوارد فيها قوله تعالى:{وَإِذَا ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}

(1)

، وقد فعلها نبينا صلى الله عليه وسلم وأمر بها. وفي حديثٍ: «قَصُّ (الشارب وتقليم)

(2)

الظفر، ونتف الإبط، وحلق العانة يوم الخميس، والغسل والطيب واللباس يوم الجمعة». رواه الدَّيْلَمِيّ عن عليّ.

قال الطَّحَاوِيّ في «شرح الآثار» : وقص الشارب حسنٌ، وهو أن يأخذ منه حتى ينتقص عن الطرف الأعلى من الشَّفَة العليا. وأجاز بعضهم حلقه لقوله عليه الصلاة والسلام:«أَحفوا الشارب وأَعفوا اللِّحى» . وفُسِّرَ الإحفاء بالاستئصال، ودُفِعَ بأنه ورد:«قُصُّوا الشارب واعفوا اللِّحى»

(3)

كما رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو تفسيرٌ للإحفاء. ولأنّه عليه الصلاة والسلام لم يُحفظ عنه أنّه حلق شاربه، بل قد ورد:«قصّوا الشوارب مع الشفاه» . رواه الطَّبرَانيّ عن الحكم بن عمرو. وحَسَنٌ تَرْكُ قَصِّه مع بقاء أَظْفاره في الجهاد ليكون أهيب في عين العدو، والأَظْفَارُ سلاح عند الاحتياج به.

وسُنَّ الخِتَان للرجال وهو من الفطرة، وعُدَّ مَكْرُمَةً للنساء لحصول الكرامة لهنَّ به عند أزواجهنّ، وقُدِّرَ وقته بسبع سنين، وهو مختار أبي اللَّيث، أو تسعٍ أو عشرٍ. وقيل: بما يطابق المراد بالبلوع. ويُتْرَك لو وُلِد شبيهاً بالمختون، أو أسلم كبيراً وخيف عليه منه. وإن تركه أهل بلد قوتلوا عليه لأنّه من شعائر الإسلام فصار كالأذان.

وتجوز المسابقة بالخيل والبغال والحمير والإبل والأقدام، والرمي بالنَّبْلِ. والأصل فيه، حديث أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«لا سَبَق إلاّ في خُفَ أو نَصْلٍ أو حافرٍ» . رواه أحمد والأربعة، والمراد بالخُفِّ: الإبل، وبالنَّصْلِ: الرمي، وبالحافر: الفرس والبغل والحمار. قال الخطَّابيّ: الرواية الصحيحة بفتح الموحدة وهو ما يجعل من المال رهناً على المسابقة

(4)

، وبالسكون مصدر سَبَقْتُه أسبقه. وعن أبي هُرَيْرَةَ أيضاً

(1)

سورة البقرة، الآية:(124).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 1/ 222، كتاب الطهارة (2)، باب خصال الفطرة (16)، رقم (52 - 259).

(4)

عبارة المطبوع: ما يحصل من المال هنا على المسابقة والمثبت عبارة المخطوط.

ص: 37

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

قال: كانت المسابقة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخيل والرِّكَاب

(1)

والأرجل.

وحلّ الجُعْل من أحد الجانبين بأن يقول أحدهما لصاحبه: إن سبقتني فلك كذا، وإن سبقتك فلا شيء لي. أو من شخصٍ ثالثٍ لأسْبَقِهما بأن يقول: من سبق منكما دفعت إليه ديناراً. وحَرُمَ من الجانبين لأنه يصير قماراً إلاّ أن يوجد محلِّل بينهما، ويكون فرسه كفؤاً لفرسيهما. ويشترط أنّه إنْ سبقهما أخذ منهما الجُعْل، وإن سبقاه لا شيء لهما عليه لخروجه حينئذٍ عن القمار

(2)

. ويُلحق بالمسابقة بِجُعْل طالبان اختلفا في مسألة ورجعا إلى الشيخ لِيَفْصِلَ بينهما فيها، لأنّه لمّا جاز في الأفراس لمعنى يرجع إلى الجهاد يجوز هنا للحث على الاجتهاد

(3)

في طلب العلم، لأنّ الدِّين كما يقوم بالجهاد يقوم بالعلم والاجتهاد.

ثم رمي السهم له فضائل كثيرة لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}

(4)

وَرَدَ تفسيرها عنه عليه الصلاة والسلام: «ألَا إنَّ القُوَّة الرمي ثلاث مرات» . وقد ورد: «إنّ الله لَيُدْخِل بالسهم الواحد ثلاثةً الجنةَ: صانعه يحتسب في صَنْعَتِهِ الخير، والراميَ به، والمُمِدَّ به»

(5)

. رواه ابن ماجه. وفي رواية له: «من رمى بسهم فبلغ سهمه العدو، أصاب أو أخطأ، فيعدل رقبةً» . وفي رواية له أيضاً: «من تعلّم الرمي ثم تركه فقد عصى» .

وأما الجوز الذي يلعب به الصبيان يوم العيد فيُؤْكَلُ، لأنّ ابن عمر كان يشتري الجوز للصبيان وهم يلعبون به ثم يأكله معهم. كذا ذكره العَيْنِيّ، ثم قال: إذا لم يُقَامِرُوا. انتهى. وهذا صورةً ليس فيه قمار متعارف كما لا يخفى، وإلاّ فلا يحلّ له من البالغين، فكيف من

(1)

الرِّكاب: الإبل المركوبة. المعجم الوسيط ص 368، مادة:(ركب).

(2)

ولمزيدٍ من التفصيل والإيضاح نذكر ما ورد في رد المحتار 5/ 258. قال: صورته أن يقال: إن سبقهما أخذ منهما ألفًا أنصافًا، وإن لم يسبق لم يعطهما شيئًا، وإن سبق كل منهما الآخر فله مئة من مال الآخر. فلا يعطيهما شيئًا إن لم يسبقهما ويأخذ منهما الجُعْل إن سبقهما. ويجوز أن يعكس التصوير أخذًا وإعطاءً. وفيما بينهما أيهما سبق أخذ من صاحبه ما شرط له، وإن سبقاه وجاءا معًا فلا شيء لواحد منهما، وإن سبق المحلل مع أحدهما ثم جاء الآخر، فلا شيء على من مع المحلل، بل له ما شرطه الآخر له، كما لو سبق ثم جاء المحلل ثم جاء الآخر، ولا شيء للمحلل. انتهى.

(3)

في المطبوع: الجهاد، والمثبت من المخطوط.

(4)

سورة الأنفال، الآية:(60).

(5)

في المطبوع: المبذل به، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في سنن ابن ماجه 2/ 940، كتاب الجهاد (24)، باب: الرمي في سبيل الله (19)، رقم (2811). والمُمِدّ به: الذي يقوم عند الرامي فيناوله سهمًا بعد سهم، أو يرد عليه النبل من الهدف. "النهاية في غريب الحديث" 4/ 308.

ص: 38

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الصبيان مع كون أكثرهم

(1)

غير مالكين؟ وكذا حكم البيض الذي يلعبون به في العيد وغيره.

وتُضْرَب الدَّابة على النِّفار دون العِثَار، لأنّ العثار يكون من سوء إمساك الرَّاكب اللِّجَام، والنِّفار من سوء (خلق)

(2)

الدابة فتؤدب عليه. ولما في «كامل ابن عَدِيّ» عن ابن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «اضربوا الدَّواب على النِّفار، ولا تضربوها على العِثَار» . ورَكض الدَّابة

(3)

ونَخْسُهَا

(4)

كما يفعله الدّلاَّلون

(5)

مكروه، وكذا إذا كان بطريق اللهو، لأنّه تعذيب الحيوان بلا غرضٍ صحيحٍ. بخلاف الفرار من العدو والكرار عليه.

ويُستحب القَيْلُولَة

(6)

في شدة الحر لأنّه وقت انتشار الشياطين، وقد ورد:«قيلوا فإن الشيطان لا يَقِيل»

(7)

.

ويحرم لبس الأحمر والمُعَصْفَر

(8)

لما في «سنن أبي داود والترمذي» عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: مرّ رجل وعليه ثوبان أحمران فسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يردّ عليه.

وفي «سنن أبي داود» عنه أيضاً قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعَلَيَّ ثوبٌ مصبوغٌ بعُصْفُر مُوَرَّداً فقال: «ما هذا» ؟ فعرفت ما كره، فانطلقت فأحرقته. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«ما صنعت» ؟ قلت: أحرقته. قال: «أفلا كسوتَه بعض أهلك؟ فإنه لا بأس به للنساء» .

وفي «صحيح مسلم» عنه أيضاً قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين مُعَصْفَرَيْن فقال: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تَلْبِسْهَا

(9)

». وفي رواية: قلت: أَغْسِلُهُمَا؟ قال: «بَلْ أحْرِقْهُما»

(10)

وهذا مبالغة في النهي لِمَا تقدّم. وروى أبو داود

(1)

في المطبوع: أكبرهم، والمثبت من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

رَكَضَ الدّابة: أي ضرب جنبيها برجله أو برجليهِ ليحثّها على السير. المعجم الوسيط ص 369، مادة (ركض).

(4)

نَخَس الدّابة: طعن مؤخَّرها أو جنبها بالمنخاس للتنشط. المعجم الوسيط ص 909، مادة (نخس).

(5)

الدّلال: من يجمع بين البَيِّعَيْنِ. المعجم الوسيط ص 294، مادة (دَلَّ).

(6)

القَيْلُولَة: نومة نصف النهار. المعجم الوسيط. ص 771 مادة: (قيل).

(7)

أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" 1/ 45، رقم (28).

(8)

تَعَصْفَرَ: انصبغ بالعُصْفُر. والعُصْفُر: نباتٌ صيفيّ من الفصيلة المركبة أنبوبية الزهر، ويستعمل زهره تابلًا، ويُستخرج منه صبغ أحمر يُصْبَغ به الحرير ونحوه. المعجم الوسيط. ص 605، مادة (عَصْفَر).

(9)

في المطبوع: إن هذين من ثياب الكفار فلا تلبسهما. وفي المخطوط: هذه بدل هذين مع إسقاط من. والصواب ما أثبتناه لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1647، كتاب اللباس والزينة (37)، باب: النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر (4)، رقم (27 - 2077).

(10)

صحيح مسلم 3/ 1647، كتاب اللباس والزِّينة (37)، باب: النهي عن لبس الرجل الثوب =

ص: 39

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

والترمذي عن عليّ أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن لبس المُعَصْفَر. وأمّا لبس الأخضر فمستحبٌ لقول أبي رِمْثة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان أخضران. أخرجه أبو داود والترمذي، وللنَّسائي: وعليه بُرْدَان أخضران. ونُدِبَ لبس البياض (أو السواد)

(1)

لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنّ أحسن ما زرتم الله به

(2)

في قبوركم ومساجدكم البياض». رواه ابن ماجه.

وفي رواية للترمذي والنَّسائي: «البَسُوا من ثيابكم البياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفِّنوا فيها موتاكم» . وأمّا لبس السواد فجائز لقول سعد بن أبي وقَّاص: رأيت رجلاً على بغلةٍ بيضاء على رأسه عِمامة سوداء، وقال: كسانيها عليه الصلاة والسلام. رواه أبو داود. وقال عمرو بن أُميَّة: كأنّي أنظر الساعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عِمَامة سوداء، وقد أرخى طرفها بين كتفيه. أخرجه النَّسائي وابن ماجه. وقد دخل النّبي عليه الصلاة والسلام مكة يوم الفتح وهو متعمِّم بعمامة سوداء. رواه الترمذي في «شمائله» .

ولا ينبغي أن يُظَاهِر بين جُبَّتيْن أو أكثر في الشتاء إذا اكتفى بدون ذلك، لأنّه يغيظ المحتاجين وطريق المتجبّرين (من المتكبرين)

(3)

، ونُدِب إرسال ذَنَبِ العمامة بين الكتفين قدر شبر، وقيل: إلى وسط الظهر، وقيل: إلى موضع الجلوس.

والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: «عليكم بالعمائم فإنها سيماء الملائكة، وأرخوها خلف ظهوركم» . رواه البيهقي في «شعب الإيمان» . وقوله عليه الصلاة والسلام: «فرقُ ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس» . رواه الترمذي. وقول ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتمّ سدل عِمامته بين كتفيه. رواه الترمذي وقال: حسنٌ غريبٌ. وعن عبد الرحمن بن عوف: عمَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسدلها بين يديّ ومن خلفي. رواه أبو داود.

= المعصفر (4)، رقم (28 - 2077).

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

في المطبوع إن أحسن ما زرتم إليه في قبوركم

إلخ، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في سنن ابن ماجه 2/ 1081، كتاب اللباس (32) باب: البياض من الثياب (5)، رقم (3568).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 40

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ويُكره الترجيع

(1)

بقراءة القرآن واستماعه، لأنه تشبّه بفعل الفسقة. وقيل: لا بأس به إذا لم يُخْرِج الحرف عن حَدِّه، والمدّ عن قَدْرِ مدّه لما ورد:«زيِّنوا القرآن بأصواتكم» . رواه أحمد وجماعة، وصححه الحاكم عن البراء، وزاد الحاكم في رواية عنه:«فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً» . وفي رواية: «زيِّنوا أصواتكم بالقرآن»

(2)

.

وكره رفع الصوت عند قراءة القرآن وعند الجنازة وحين الزَّحف على العدو وحين الوعظ، لأنّه يُذهب الهيبة والخشوع. ويَحْرُم قيام التالي للقرآن، وكذا الراوي للحديث، للدَّاخل عليه، لأن فيه نوع إهانة له بإعراضه عنه وإقباله على من ليس له عليه حقّ، إلاّ لأستاذه الذي علّمه أو لأبيه، لما لهما عليه من حقّ الإكرام وزيادة الاحترام.

والقراءة عند القبور مكروهةٌ عند أبي حنيفة، وتجوز عند محمد لقوله عليه الصلاة والسلام:«اقرؤا يس على موتاكم» . رواه أبو داود.

وتَحرم الغِيبة والنميمة والكذب إلاّ للخديعة في الحرب لقوله عليه الصلاة والسلام: «الحرب خَدْعة»

(3)

، والصلح بين اثنين، ولإرضاء أهْله لأنه من باب إصلاح ذات البين. قال الله تعالى:{لَا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}

(4)

وورد: «ليس الكذَّاب الذي يُصْلِحُ بين النّاس، ويقول خيراً ويَنْمِي

(5)

خيراً»

(6)

. قال ابن شهاب: ولم أسمع يُرَخَّصُ في شيءٍ ممّا يقول الناس كذبٌ إلاّ في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، (وحديث الرجل امرأته)

(7)

وحديث المرأة زوجها. رواه مسلم. ولدفع الظالم عن ظلمه لأنّه نهيٌّ عن

(1)

التَّرْجيع: ترْديد القراءة. النهاية: 2/ 202.

(2)

أخرجه الطبراني في معجمه الكبير 11/ 81 - 82، رقم (11113).

(3)

صحيح البخاري تعليقًا (فتح الباري) 6/ 157، كتاب الجهاد (56)، باب الحرب خدعة (157).

(4)

سورة النساء، الآية:(114).

(5)

نَمَيْتُ الحديث: بلَّغته على وجه الإصلاح وطلب الخير. النهاية (5/ 121).

(6)

صحيح البخاري (فتح الباري) 5/ 299 كتاب الصلح (53)، باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس (2)، رقم (2692). وصحيح مسلم 4/ 2011، كتاب البر والصلة والآداب (45)، باب: تحريم الكذب، وبيان المباح منه (27)، رقم (101 - 2605)، واللفظ له. ولفظ البخاري:"ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا".

(7)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في صحيح مسلم 4/ 2011، كتاب البر والصلة والآداب (45)، باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه (27)، رقم (101 - 2605).

ص: 41

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

المنكر، وأخذٌ على يد الظالم.

ويكره التعريض بالكذب لأنّه كذب في الظاهر إلاّ عند الضرورة كـ: أكلتُ ـ يعني أمس ـ جواباً لمن دعاه إلى الأكل لأنّه صادق في قصده.

ولا غِيْبَةَ لفاسقٍ مُعْلِنٍ ولا لغير معيّن، ولا لظالمٍ يُؤذي النّاس بقوله أو فعله، ولا يأثم السَّاعي به إلى السلطان ليزجره بل يثاب عليه، لأنه من باب النهيّ عن المنكر، والمنع عن الظلم.

والحاصل: أنّ الكلام إمّا مستحب كالأذكار، وإمّاحرامٌ كالكذب والغيبة والنميمة، وإمّا مباحٌ كضروريات الإنسان من قوله: قم واقعد ونحو ذلك. وأمّا ما لا يعنيه فتركه مستحبٌ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن من حسن (إسلام)

(1)

المرء تركه ما لا يعينه»

(2)

.

واخْتُلِفَ هل يُكْتَبُ المباح: فقيل: لا أصلاً لقول ابن عباس: إن الملائكة لا تكتب إلاّ ما كان فيه أجرٌ أو وِزْرٌ. وقيل: يُكْتَبُ ذلك لظاهر قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}

(3)

فقيل: يكتب ذلك عليه ثم ينسخ متى قوبل عليه باللوح المحفوظ كلَّ اثنين وخميس، فما كان فيه جزاءُ خيرٍ أو شرَ ثبت، وما لم يكن كذلك مُحِيَ لقوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أمُّ الكِتَابِ}

(4)

ولقوله: {إنّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}

(5)

. وقيل: يكتب ويُنْسخ يوم القيامة، لأنّه يوم الحساب والجزاء إمّا بالثواب أو بالعقاب. والله أعلم بالصواب.

وينبغي لحافظ القرآن أن يختمه في ثلاثة أيام أو في أسبوع أو في شهر أو في أربعين يوماً، فإنّ نسيان القرآن من الكبائر.

ويتقدّم الشاب العالم على الشيخ العابد الجاهل لقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}

(6)

وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ}

(7)

وقوله عليه الصلاة والسلام: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» . رواه الترمذي عن أبي أُمَامة. وقوله: «فضل حملة القرآن على من لم

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه 4/ 483، كتاب الزهد (14)، باب (11)، رقم (2317).

(3)

سورة ق، الآية:(18).

(4)

سورة الرعد، الآية:(39).

(5)

سورة الجاثية، الآية:(29).

(6)

سورة الزمر، الآية:(9).

(7)

سورة المجادلة، الآية:(11).

ص: 42

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

يحمله كفضل الخالق على المخلوق». رواه الدَّيْلَمِيّ عن ابن عباس.

ويُسَنُّ السلام، وجوابه فرض كفاية لقوله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}

(1)

وثواب هذه السُّنَّة أفضل من الفرض الذي هو جوابه، لأنها سببٌ له، ولدلالته

(2)

على التواضع لقوله عليه الصلاة والسلام: «الباداء بالسلام بريءٌ من الكبر» . كذا في «شُعَب الإيمان» .

ولا يُسَلِّم وقت الخُطبة والتلاوة لئلا يُخِلّ بالاستماع، وكون القاضي في المحكمة حال كونه يحكم هيبة واحتشاماً، وبهذا جرى الرسم. ويجب الردّ إلاّ على القاضي والخطيب لأنّ وجوبه على من يُسَن السلام عليه، وكذا لا يجب على من جلس يفقّه تلامذته أو يُقْرِئُهم القرآن، لأنّه جلس للتعليم لا لردّ التسليم. ويسلّم الرَّاكب على الرَّاجل لقوله عليه الصلاة والسلام:«يسلّم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير» . متفقٌ عليه. ويسلّم الرجل على المرأة لأنه عليه الصلاة والسلام مرّ على نِسْوَةٍ فسلّم عليهنّ. رواه الأمام أحمد.

ويجيب الذِّميَّ إذا سلّم بقوله: وعليك، لما في «الصحيحين» عن ابن عمر

(3)

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سلّم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السَّام عليك، فقولوا: وعليك» . ولا يبدؤه بالسَّلام لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تبدؤا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» . رواه مسلم.

ويجب كفايةً تشميت العاطس الحامد بـ: يرحمك الله، لأحاديث وردت بذلك، وإن تكرر منه في مجلس يستحبّ إلى الثلاث، ولو زاد يقول: عافاك الله، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمن زاد:«الرجل مزكوم»

(4)

. ويُجيب هو بقوله: «يهدينا الله ويهديكم ويصلح بالكم»

(5)

أو: «يغفر الله لنا ولكم»

(6)

على ما ورد في الخبر.

(1)

سورة النساء، الآية:(86).

(2)

عبارة المطبوع: لأنها السبب البادي بالسلام وله دلالة على التواضع، والمثبت عبارة المخطوط.

(3)

في المطبوع: عن عمر، والمثبت من المخطوط. وهو الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 4/ 1706، كتاب السلام (39)، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب السلام، وكيف يرد عليهم (4)، رقم (8 - 2164).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه 4/ 2292 - 2293، كتاب الزهد والرقائق (53)، باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب (9)، رقم (55 - 2993).

(5)

أخرجه البخاري بلفظ: "يهديكم الله

". صحيح البخاري (فتح الباري) 10/ 608، كتاب الأدب (78)، باب إذا عطس كيف يُشمت (126)، رقم (6224).

(6)

الطبراني في معجمه الكبير 7/ 66 - 67، رقم (6369).

ص: 43

‌كِتاب الأشرِبةِ

حَرُمَ الخَمْرُ، وَهِيَ: النِّيء

===

كتاب الأَشْرِبَةِ

هي جمع الشَّراب وهو لغةً: ما يُشْرَب. وهنا ما يُشْرَبُ ويُسْكِرُ (حَرُمَ الخَمْرُ) لقوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ والأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}

(1)

الآية. ولإجماع الأمة، ولصحيح الأخبار وهي كثيرة منها ما في «الصحيحين» عن أنس بن مالك قال: كنت ساقي القوم، يوم حُرِّمت الخمر في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلاّ الفَضِيخ

(2)

البُسْر

(3)

والتمر، فإذا منادٍ ينادي، فقال لي أبو طلحة، اخرج فانظر، فخرجت فإذا منادٍ ينادي: ألا إنّ الخمر قد حُرِّمَت. قال: فَجَرَتْ في سكك المدينة، فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهْرِقْهَا فخرجت فَأَهَرَقْتُها.

وفي «صحيح مسلم» عن عبد الرَّحْمن بن وَعْلَة

(4)

قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر فقال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديقٌ من ثقيفٍ أو من دَوْسٍ فَلَقِيَهُ يوم الفتح براوية

(5)

خمر يهديها إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا فلان، أما علمتَ أنّ الله حرَّمها» ؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال: اذهب فبعها. فقال (له رسول الله صلى الله عليه وسلم

(6)

: «يا فلان، بماذا أمرتَه» ؟ قال: أمرته أن يبيعها. فقال: «إنّ الَّذي حرَّم شربها حرَّم بيعها» . فأمر بها فأُهْرِقَتْ

(7)

في البطحاء.

(وَهِيَ): أي الخمرُ هو (النِّيء)

(8)

بكسر النون في أوله وبهمزة في آخره وقد

(1)

سورة المائدة، الآية:(90).

(2)

الفضيخ: شراب يتَّخذ من البُسْر من غير أن تَمَسَّه النار. المعجم الوسيط ص 692، مادة:(فضخ).

(3)

البُسْر: تمر النخل قبل أن يُرْطِبَ. المعجم الوسيط ص 56، مادة:(بسر).

(4)

حُرِّفت في المخطوط إلى عبد الرحمن بن دعلة، والمثبت من المطبوع وهو الصواب، لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1206، كتاب المساقاة (22)، باب: تحريم بيع الخمر (12)، رقم (68 - 1579).

(5)

الراوية: المزادةُ فيها الماء. المعجم الوسيط، ص 384، مادة (روى). والمزادة: وعاءٌ يُحْمل فيه الماء في السفر. المعجم الوسيط ص 409، مادة (زاد).

(6)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(7)

في المخطوط: فأفرغت، والمثبت من المطبوع.

(8)

النيءُ: كل شيء شأنه أن يعالج بِطبخ أو شيء فلم ينضج. المعجم الوسيط ص 966، مادة (نوى).

ص: 44

مَنْ مَاء عِنَبٍ غَلا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بالزَّبَدِ، وَإنْ قَلَّتْ، كالطِّلاءِ، وَهُوَ: ماءُ عِنَبٍ طُبِخَ فَذَهَبَ أَقَل مِنْ ثُلُثَيْهِ، وغَلِظَا نَجَاسَةً.

===

يُدْغَم (مَنْ مَاء عِنَبٍ غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بالزَّبَدِ، وَإِنْ قَلَّتْ) الخمر وإن كانت قطرة. فإنّ حُرْمَتَها غير معللة بالسُّكْر ولا موقوفة عليه. وبعض المعتزلة أنكر حرمة عينها، وزعم أن السُّكْر حرامٌ إذ به يحصل وقوع العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله. وذلك باطلٌ مخالفٌ للكتاب والسنّة وإجماع الأمة، فكان كفراً منهم. وهذا لأنّ الله تعالى سمّاها رجساً، وهو اسم للحرام النجس عيناً بلا شبهة.

ولم يَشترط أبو يوسف ومحمد القذفَ بالزَّبد، وهو قول مالك والشَّافعيّ وهو الأظهر، لأنّ اللذّة المطربة والقوة المسكرة تحصل بالاشتداد، وهو المؤثِّر في إيقاع العداوة والصدّ عن ذكر الله. والقذف بالزَّبد صفاءٌ لا تأثير له في السُّكْر.

ولأبي حنيفة: أنّ الغليان بداية الشِّدَّة وقذف الزَّبد كمالها، إذ به يتميّز الصافي عن الكدِر. وأحكام الخمر قطعيّةٌ كالحدِّ وإكفارِ المستحلّ وحرمةِ البيع، فيناط بالكمال. وقيل: يؤخذ في حرمة الشرب بمجرد الاشتداد احتياطاً، فينبغي أن يؤخذ في الحد والتكفير بقذف الزَّبد احتياطاً.

(كالطِّلَاءِ) أي كما حَرُمَ الطِّلاء (وَهُوَ) بكسر الأول (مَاءُ عِنَبٍ طُبِخَ فَذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ) كذا في «الهداية» . وفي «المحيط» : الطلاء: اسم للمُثَلَّث وهو ماء عنب طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وصار مسكراً. وفي «الصحاح» مثل (ما في)

(1)

«المحيط» لكن من غير ذكر الإسكار. ويدخل في تفسير المُصنِّف (المُنَصَّفُ)

(2)

وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب نصفه إلا أن يقال: مراد المصنِّف: ما ذهب أقلّ من ثلثيه وأكثر من نصفه فلا يدخل. لكن المراد لا يَدفع الإيراد.

ثم كل ذلك عندنا حرامٌ إذا غلا واشتدّ وقذف بالزَّبد، وإن لم يقذف فهو على الخلاف لأنه رقيق مُلِذٌّ مُطْرِب يدعو قليله إلى كثيره، فيحرم شربه دفعاً للفساد المتعلّق به كالخمر. وأمّا البَاذِق فاسم لذاهبِ ما دون النصف، فأظهر الروايتين عن أبي حنيفة أنّه بمنزلة المُنَصَّف في حكم البيع والحد، وعنه في رواية أخرى أنه أَلحق ذلك بالخمر في أنه لا يجوز بيعه كذا في «المبسوط» .

(وغَلِظَا) أي الخمر والطِّلاء (نَجَاسَةً) أي من جهة النجاسة.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقطٌ من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 45

وَحَرُمَ نَقِيعُ التَّمْرِ أي السَّكَرُ، وَنَقِيعُ الزّبيبِ نِيئَيْنِ، إِذا غَلا وَاشْتَدَّ. وَحُرْمَةُ الخَمْر أَقْوَى، فَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا فَقَطْ.

وَحَلّ المُثَلَّثُ العِنَبِيّ مُشْتَدًّا،

===

(وَحَرُمَ نَقِيعُ التَّمْرِ أي السَّكَرُ) بفتحتين (وَنَقِيعُ الزّبِيبِ نِيئَيْنِ) تثنية النِّيء. (إِذا غَلَا) كلّ واحدٍ منهما (وَاشْتَدَّ).

وعند أبي حنيفة: وإذا قذف بالزَّبد. وقال شَريك بن عبد الله: السَّكَر حلالٌ لقوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً}

(1)

ذكره في موضع المِنَّة وهي لا تتحقّق بالمُحَرَّم، فأوجب إباحته.

ولنا: إجماع الصحابة على حرمة ذلك، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«الخمر من هاتين الشجرتين»

(2)

. والنص محمولٌ على ما قبل التحريم فيكون منسوخاً، وهو مذهب الشَّعبيّ والنَّخَعِيّ. وفي «مصنف ابن أبي شَيْبَة» عن إبراهيم قال: قال عبد الله: السَّكَرُ خَمْرٌ. وفيه عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عمر أنه سُئِلَ عن السَّكَر فقال: الخمر.

وقيل: السَّكَرُ: نبيذٌ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طُبِخَ حتّى ذهب ثلثاه، ثم تُرِكَ حتّى اشتدّ. وهو حلالٌ عند أبي حنيفة إلى حدّ السُّكْر، ويحتج بهذه الآية، ويحمل السَّكَر المذكور في الآية على هذا. وعن الشيخ أبي مَنْصُور المَاتُرِيدِي: معناه: تتخذون من الحلال الخالص ما هو حرامٌ كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلَالاً}

(3)

. وأمّا نقيع الزبيب فحرامٌ عندنا خلافاً للأَوْزاعَي.

(وَحُرْمَةُ الخَمْر أَقْوَى) لأنّها قطعيّة (فَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا فَقَطْ) أي ولا يكفر مستحلّ واحدٍ من الثلاثة الأُخر، لأنّ حرمتها اجتهادية، ويُحَدّ شاربها ولو قطرة، ولا يحدّ شارب واحد من الثلاثة الأخر حتى يَسْكر.

(وَحَلّ المُثَلَّثُ العِنَبِيّ) وهو ما طُبخَ من ماء العنب حتّى ذهب ثلثاه. (مُشْتَدّاً) لأنه لغلظه لا يحصل بشرب قليله الفساد، ولا يدعو قليله إلى كثيره بخلاف الخمر.

قال البخاري: ورأى عمر وأبو عُبَيْدَة ومُعَاذ شرب الطِّلاء على الثلث. وروى النَّسائي شربه عن أبي موسى. وقال أبو داود: وسألت أحمد عن شرب الطِّلاء إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فقال: لا بأس به. قلت: إنهم يقولون: إنه يُسْكِر قال: لو كان يسكر لما أحلّه عمر.

(1)

سورة النحل، الآية:(67).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 1573، كتاب الأشربة (36)، باب بيان أن جميع ما ينبذ .... (4)، رقم (13 - 1985). ونصّ الحديث:"الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة".

(3)

سورة يونس، الآية:(59).

ص: 46

وَنَبِيذُ التَّمْرِ والزبيبِ مَطْبُوخًا أَدْنَى طَبخَةٍ، وَإنْ اشْتَدَّ. إذَا شَرِبَ مَا لَمْ يُسْكِرْ بِلا نِيَّةِ لَهْوٍ وَطَرَبٍ،

===

وفي «المبسوط» عن داود بن (أبي هند)

(1)

قال: قلت لسعيد بن المُسَيَّب: الطِّلاء الذي كان يأمر عمر باتخاذه الناسَ ويسقيهم منه كيف كان؟ قال: يُطبخ العصير حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. وقال الأوْزَاعِيّ: المُنَصَّفُ والبَاذِق مباحٌ، وهو قول بعض أصحاب الظواهر وبعض المعتزلة.

(وَ) حلّ (نَبِيذُ التَّمْرِ والزَّبيبِ مَطْبُوخاً أَدْنَى طَبْخَةٍ) بأن طُبِخَ حتّى نَضِجَ (وَإِنْ اشْتَدَّ، إذَا شَرِبَ مَا لَمْ يُسْكِرْ بِلَا نِيَّةِ لَهْوٍ وَطَرَبٍ) بل بنية تقوِّي، لما روينا أن رجلاً شرب نبيذاً من قِرْبَة

(2)

عمر

(3)

فسكر، فضربه الحد، فقال: إنما شربت من قِرْبَتك فقال له عمر: إنما جلدناك لسكرك. وأنّ رجلاً شرب من إداوة

(4)

عليّ نبيذاً بصِفِّين فسكر، فضربه الحد ثمانين. ولما في «آثار محمد بن الحسن»: أخبرنا أبو حنيفة، عن سليمان الشَّيْبَانيّ

(5)

، عن ابن زياد أنّه أفطر عند عبد الله بن عمر، فسقاه شراباً فكأنّه أخذ منه، فلمّا أصبح غدا إليه فقال: ما هذا الشراب؟ ما كدت أهتدي إلى منزلي. فقال ابن عمر: ما زدناك على عجوة وزبيب.

ولقول عليّ رضي الله عنه: طاف النبيّ صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة أسبوعاً، ثم استند إلى حائطٍ من حيطان مكة، فقال:«هل من شربة» ؟ فأُتِيَ بقَعْبٍ

(6)

من نبيذٍ، فذاقهُ فقطَّبَ

(7)

وردَّه إليه. فقام رجل من آل حاطب فقال: يا رسول الله، هذا شراب أهل مكة، قال: فصَبَّ عليه الماء ثم شرب ثم قال: «حُرّمت الخمر بعينها

(8)

والسَّكَر

(9)

من كلَ». رواه العُقَيْلي عن محمد بن الفُرات، وأعلّه به. ورواه أيضاً عن عبد الرحمن بن بِشْر الغَطَفَاني عن عليّ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأشربة عام

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في "تقريب التهذيب" ص 200.

(2)

القِرْبَة: ظرْف من جلد يُخْرَزُ من جانب واحد، وتستعمل لحفظ الماء أو اللبن ونحوهما. المعجم الوسيط ص 723، مادة:(قرب).

(3)

عبارة المطبوع: أن رجلًا شرب نبيذًا من تمرٍ. والمثبت عبارة المخطوط.

(4)

الإداوة: إناء صغير يُحمل فيه الماء. المعجم الوسيط ص 10، مادة:(أدا).

(5)

في المخطوط: سليمان بن الشيباني، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في "تقريب التهذيب" ص 255.

(6)

في المطبوع: يقصب، والمثبت من المخطوط، والقَعْبُ: قدحٌ ضخمٌ غليظ. المعجم الوسيط ص 748، مادة:(قعب).

(7)

قَطّب أي قبض ما بين عينيه كما يفعله العَبُوس. النهاية 4/ 79.

(8)

في المطبوع: بيعها، والمثبت من المخطوط.

(9)

قال ابن الأثير: السَّكَر: بفتح السين والكاف: الخمر المعتصر من العنب، هكذا رواه الأثبات، ومنهم من =

ص: 47

والخليطان،

===

حجة الوداع فقال: «حرَّم الله الخمر بعينها والسَّكَر من كلّ شراب» . ثم قال: وعبد الرحمن هذا مجهولٌ في الرواية والنسب وإنّما يروي عن ابن عباس من قوله. ورواه النَّسائي موقوفاً عليه من طرق.

(وَ) حلّ (الخَلِيطَانِ) وهو أن يُجْمَعَ التمر والزبيب، أو الرطب والبُسْر ويُطْبَخَ أدنى طبخة ويترك إلى أن يغلي ويشتدّ. فإن قيل: أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزبيب والتمر، والبُسْر والتمر، وقال:«نبيذ كل واحد منهما على حِدَتِه» . أُجِيبَ: بأنّه محمولٌ على شدّة العيش توسعة على النَّاس. روى هذا محمد في «الآثار» عن أبي حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم قال: لا بأس بنبيذ خليط التمر والزبيب، وإنّما كره لشدّة العيش في الزمن

(1)

الأول، كما كُرِهَ السَّمن واللحم، وكما كره الإِقران

(2)

. وأمّا إذا وسّع الله على المسلمين فلا بأس به.

وحرَّمه مالك والشافعيّ لما قدمنا، ولما في الكتب الستة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه نهى أن يُنْبَذَ الزبيب والتمر جميعاً، ونهى أن يُنْبَذَ البُسْر والرُّطَب جميعاً. وفيها أيضاً سوى الترمذي عن عبد الله بن أبي قَتَادَة، عن أبيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن خليط الزَّبيب والتمر، وعن خليط البُسْر والتمر، وعن خليط الزَّهو

(3)

والتمر، وقال:«انتبذوا كلّ واحدٍ على حِدّةٍ» . وعن مسلم عن (أبي سعيد)

(4)

الخُدْرِيّ قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخلط بُسْراً بتمرٍ، أو زبيباً بتمرٍ، أو زبيباً ببُسْرٍ وقال:«مَنْ شَربَ منكم النبيذ، فليشربه زبيباً فرداً، أو تمراً فرداً، أو بسراً فرداً» .

ولنا ما قدمنا، (وما)

(5)

في «كامل» ابن عَدِيّ عن أمّ سُلَيْم وأبي طَلْحَة أنهما كانا يشربان

(6)

نبيذ الزبيب والبسر يخلطانه، فقيل له: يا أبا طلحة، إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا قال: إنّما نهى عن العَوَز في ذلك الزّمان كما نهى عن الإقران. وفي

= يرويه بضم السين وسكون الكاف، يريد حالة السَّكْران، فيجعلون التحريم للسُّكْر لا لنفس المُسْكِر. فيجعلون التحريم للسُّكْر لا لنفس المُسْكِر فيُبيحون قليله الذي لا يُسكر. والمشهور الأول. النهاية 2/ 383.

(1)

في المخطوط: الرمي، والمثبت من المطبوع.

(2)

الإقران: هو أن يُقْرِن بين التمرتين في الأكل. النهاية 4/ 52.

(3)

الزّهْو: البسر المتلوِّن. المعجم الوسيط. ص 405، مادة:(زها)، والبُسر سبق شرحها ص 44، التعليقة رقم:(3).

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع والمخطوط، واستدرك من صحيح مسلم.

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(6)

في المطبوع: يشتريان، والمثبت من المخطوط.

ص: 48

وَنَبِيذُ العَسَلِ، والتِّيِن، وَالبُرِّ، والشَعِيرِ، والذُّرَةِ، وَإنْ لَمْ يُطْبَخْ، بِلا نِيَّةِ لَهْو وَطَرَبٍ.

===

«سنن أبي داود» عن صَفِيَّة بنت عَطيّة قالت: دخلت مع نسوة من عبد القيس على عائشة فسألناها عن التمر والزبيب. فقالت: كنت آخذ قبضة من (تمرٍ وقبضته من)

(1)

زبيب، فأُلقيه في إناء فأمرُسُهُ، ثم أسقيه النبيّ صلى الله عليه وسلم.

(و)(حلّ)

(2)

(نَبِيذُ العَسَلِ والتِّينِ وَالبُرِّ والشَعِيرِ والذُّرَةِ) وسائر الحبوب (وَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ بِلَا نِيَّةِ لَهْوٍ وَطَرَبٍ) بل للتقوي لِمَا روى مسلم وغيره أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنب» وفي لفظٍ (لمسلمٍ)

(3)

: «الكرمة والنخلة» . والمراد بيان الحكم، لأنّ الخمر حقيقةٌ في ماء العنب.

ولم يُشترط في نبيذ العسل وما عُطِف عليه الطبخُ، لأنّ قليله لا يدعو إلى كثيره. ثم حلّ ذلك (في) قول أبي حنيفة وأبي يوسف، فلا يحدّ شاربه وإن سكر منه ولا يقع طلاقه كالنائم وذاهب العقل بالبِنج وبلبن الرِّمَاك، وهو بكسر، جمع رمكة وهي الفرس الأنثى. وقال محمد، وهو قول مالك والشافعي: كل ما أسكر كثيره حَرُم قليله من أي نوعٍ كان. ويحدّ السكران منه ويقع طلاقه، كما في سائر الأشربة المحرّمة. والفتوى في زماننا على قول محمد حتى يحدّ مَنْ سَكِرَ من الأنبذة المتّخذة من الحبوب والعسل والتين واللبن، لأنّ الفُسَّاق يجتمعون عليها ويقصدون اللهو بشربها والسكر بها، ولِمَا في «صحيح مسلم» من قوله عليه الصلاة والسلام:«كل مسكرٍ خمرٌ، وكل مسكرٍ حرامٌ» . وفيه وفي «مسند أحمد» و «صحيح ابن حِبّان» : «كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكل خمرٍ حرامٌ» .

ولِمَا في مسلم عن جابر: أنّ رجلاً قَدِمَ من اليمن فسأل النّبيّ عليه الصلاة والسلام عن شراب يشربونه بأرضهم من الذُّرة يقال له: المِزْر فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أوَ مُسْكِرٌ هو» ؟ قال: نعم. قال (رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

: «كل مسكر حرامٌ، إنَّ على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينه الخبال

(5)

». وفي «الصحيحين» عن عائشة

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع، فاستدركناه من المخطوط وسنن أبي داود 4/ 102، كتاب الأشربة (25)، باب في الخليطين (8). رقم (3708).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع وإثباته الصواب حيث أخرج مسلم الحديث في صحيحه 3/ 1573 - 1574، كتاب الأشربة (36)، باب: بيان أن جميع ما ينبذ

(4)، رقم (15 - 1985).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1587، كتاب الأشربة (36)، باب: بيان أن كل مسكر خمر .. (7)، رقم (72 - 2002).

(5)

طينة الخَبَال: يفسِّرها قوله صلى الله عليه وسلم إجابة عن سؤاله عنها قال: "عَرَق أهل النار، أو عصارة أهل النار".=

ص: 49

وَخَلُّ الخَمْر وَلَوْ بِعِلاجٍ،

===

قالت: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البِتْع ـ وهو نبيد العسل ـ فقال: «كل شراب أسكر فهو حرامٌ» . وفي «سنن أبي داود» و «ابن ماجه» و «الترمذي» عن النعْمَان بن بَشَير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من الحِنْطَة خمراً، وإن من الشعير خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن العسل خمراً» . وفي «سنن النَّسائي وابن ماجه» من حديث عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«ما أسكر كثيره فقليله حرام» . وهكذا رواه الدَّارَقُطْني عن عليّ مرفوعاً.

وفي «سنن أبي داود والترمذي» عن عائشة أنها سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: كلُّ مسكرٍ حرامٌ، وما أسكر الفَرَق

(1)

منه فَمْلءُ الكف منه حرامٌ». وفي لفظ الترمذيّ: «الحَسْوَة

(2)

منه حرامٌ». ولَمَّا ذُكِرَ لابن المبارك حديث ابن مسعود رضي الله عنه في كل مسكرٍ، وهي الشربة التي أسكرتك قال: حديثٌ باطلٌ. وفي «المبسوط» : ولأنّ المُثَلَّث بعدما اشتدّ خمرٌ، لأنّ الخمر إنما سُمِّيَ بهذا الاسم لمخامرته العقل، وذلك موجودٌ في سائر الأشربة المسكرة، وقد سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم خمراً.

ولو سمّاه أحد من أهل اللغة خمراً لكان يستدلّ بقوله على إثبات هذا الاسم، فإذا سمّاه صاحب الشرع ـ وهو أفصح العرب ـ أولى. وأبو حنيفة وأبو يوسف أوجبا الحد بالسكر من الأشربة المذكورة في الصحيح عنهما، لما روينا عن عمر وعليّ، ولقطع مادة مَفَاسد لازمة للسُّكْر منها.

(وَ) حلَّ (خَلُّ الخَمْر وَلَوْ بِعِلَاجٍ) من إلقاء خَلَ أو ملحٍ فيها ليصير خَلاًّ، لإطلاق ما أخرجه الجماعة إلاّ البخاري من حديث جابر قال: قال رسول الله صلّى اللَّه تعالى عليه وسلّم: «نِعْمَ الإِدَام

(3)

الخَلُّ» وقال مالك والشافعي: لا يحلّ تخليل الخمر ولا أكل الحاصل منه لِمَا أخرجه مسلم قال: سُئِلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخمر: أتتخذ خَلاًّ؟ قال: «لا» . وأخرج أيضاً عن أنس أنّ أبا طلحة سأل النبيّ عليه الصلاة والسلام عن أيتام ورثوا خمراً. قال: «أَهْرِقْهَا» . قال: أفلا نجعلها خَلاًّ؟ قال: «لا» . ولأنّ الصحابة أهرقوها

(4)

حين نزلت آية التحريم، ولو جاز التخليل لنبّه عليه الصلاة والسلام عليه

= صحيح مسلم 3/ 1587، كتاب الأشربة (36)، باب بيان أن كل مسكر خمر

(7)، رقم (72 - 2002).

(1)

الفَرَق: مِكْيَال سعته ثلاثة أصوع = 10.086 ليترًا = 9784.5 غرامًا عند الحنفية، و 8.244 ليترًا = 6516 غرامًا عند غيرهم. معجم لغة الفقهاء ص 344.

(2)

في المطبوع: فالجرعة، وفي المخطوط، فالحسوة. والصواب ما أثبتناه لموافقته لما في سنن الترمذي 4/ 259، كتاب الأشربة (27)، كاب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام (3)، رقم (1866).

(3)

الإِدَام: ما يُسْتَمْرَأُ به الخبز. المعجم الوسيط ص 10، مادة:(أدم).

(4)

في المخطوط: أراقوها، والمثبت من المطبوع.

ص: 50

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

كما نبّه أهلَ الشاة الميتة على دباغ إهابها.

وفي «مسند أحمد» عن ابن عمر قال: أمرني صلى الله عليه وسلم أن آتيه بِمُدْيَةٍ

(1)

، (قال)

(2)

فأتيته بها، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زِقَاق

(3)

الخمر، فشقّ ما كان من ذلك الزِّقاق بحضرته، ثم أعطانيها وأمر أصحابه أن يمضوا معي ويعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلّها فلا أجد فيها زقّ خمرٍ إلاّ شققته ففعلت، فلم أترك في أسواقها زِقّاً إلا شققته. وأجاب الطَّحاوي بأن ذلك محمولٌ على التغليظ والتشديد بدليل أنه ورد في بعض طرقه الأمر بكسر الدِّنَان

(4)

فيما روى الدَّارَقُطْنِيّ والطَّبَرَانيّ (في «معجمه»)

(5)

. وبدليل ما روى أحمد في «مسنده» عن ابن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم شقّ زِقاق الخمر بيده في أسواق المدينة.

وهذا صريحٌ في التغليظ، لأنّ فيه إتلاف مال الغير، إذ قد كان يمكن إراقة الدِّنان والزِّقاق وتطهيرها، ولكن قصد بإتلافها التشديد ليكون أبلغ في الرَّدع. قلت: ويؤيّده ما رواه البيهقي كما تقدّم عن أحمد وفيه: فقال الناس: إنّ في هذه الزِّقاق منفعةٌ يا رسول الله. قال: «أجل، ولكن إنّما أفعل ذلك غضباً لله لِمَا فيه من سخطه» . وفي «مسند أبي يَعْلى الموصِلِي» عن جابر بن عبد الله قال: كان رجل يحمل الخمر من خَيْبَر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين. فحمل منها بمالٍ فَقَدِمَ فلقيه رجل من المسلمين فقال: إنّ الخمر قد حرّمت فوضعها حيث انتهى على تلٍ، وسجَّاها

(6)

بأكسيةٍ، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بلغني أنّ الخمر قد حرّمت. قال: «أجل» . قال: فهل لي أن أردّها على من ابتعتها منه؟ قال: «لا» قال: أفأهديها إلى من يكافئني منها؟ قال: «لا» قال: فإنّ فيها (مالاً)

(7)

ليتامى في حِجْري. قال: «إذا أتانا مال البحرين فأتنا نعوِّض أيتامك من مالهم» ، ثم نادى بالمدينة، فقال رجلٌ: يا رسول الله الأوعية يُنْتَفع بها. قال: «فحُلُّوا أَوْكِيَتَها»

(8)

، فانصبّت حتى استقرت في بطن الوادي.

(1)

المُدْيَةُ: الشَّفْرة الكبيرة. المعجم الوسيط ص 859.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

الزِّقُّ: وعاءٌ من جلدٍ يجز شعره ولا يُنْتَف، للشراب وغيره. المعجم الوسيط ص 396، مادة:(زقّ).

(4)

الدَّنُّ: وعاءٌ ضخم للخمر ونحوها. المعجم الوسيط ص 299، مادة:(دَنّ).

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(6)

سجَّى: غطّى. المعجم الوسيط ص 418، مادة:(سجا).

(7)

ما بين الحاصرتين ساقطٌ من المخطوط.

(8)

الوِكَاء: الخيط الذي تُشَدُّ به الصُّرَّة أو الكيس وغيرها. المعجم الوسيط ص 1055، مادة (وكى).

ص: 51

وَالانْتِبَاذُ في الدُّباءِ والحَنْتَمِ.

===

ومن أدلتنا: ما في «سنن الدَّارَقُطْنِيّ» عن فَرَج بن فُضَالة عن يحيى بن سعيد، عن عَمْرَة، عن أمّ سَلَمَة أنّها قالت: كان لنا شاة نحتلبها ففقدها

(1)

النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «ما فعلت شاتكم» ؟ قالوا: ماتت. قال: «أفلا انتفعتم بإهابها» ؟ فقلنا: إنها ميتة فقال صلى الله عليه وسلم: «إن دباغها يَحِلُّ، كما يَحِلُّ خَلُّ الخمر» . إلاّ أنّه قال: تفرّد به فَرَج بن فُضَالة (عن يحيى)

(2)

وهو ضعيفٌ يروي عن يحيى بن سعيد أحاديث عدة لا يُتابَع عليها. وفي «المعرفة» للبيهقي عن المُغِيرة بن زياد

(3)

، عن أبي الزُّبَيْر عن جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«خيرُ خَلِّكم خَلُّ خَمْرِكم» . ثم قال: تفرّد به المُغِيرَة عن أبي الزُّبَيْر وليس بالقوي. قال: وإن صحّ فهو محمولٌ على ما إذا تخلّل بنفسه وكذا أيضاً حديث فرج بن فُضَالة. قلت: ولا يخفى بُعْد هذا الحمل.

وفي «المبسوط» : حجتنا ما رُوِىَ أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «أيُّما إهاب دُبِغَ فقد طَهُرَ، كالخمر تُخَلَّلُ فتَحِلّ» . ولا يقال: قد روي: «كالخمر تخلّل» أي تخلّل فتحلّ»، لأنّ الروايتين كالخبرين فيُعمل بهما. ثم إذا صارت خلاًّ يطهر ما يوازيها من الإناء، وأمّا أعلاه وهو الذي انتقص منه الخمر فقيل: يطهر تبعاً. وقيل: لا يطهر لأنّه تنجس بإصابة الخمر، ولم يوجد ما يوجب طهارته فبقي نجساً. ولا تَحِلُّ هذه الأشربة الأربعة بالطبخ بعد اشتدادها، لأنه لاقىَ عيناً حراماً فلا يفيد الحلّ فيه كطبخ لحم الخنزير، وهذا لأنه ليس للنار

(4)

تأثيرٌ في إثبات الحلّ ولها تأثير في ثبوت صفة الحرمة فيه.

ثم بيع غير الخمر من هذه الأشربة جائزٌ عند أبي حنيفة ومضمونة بالإتلاف، لأنها شرابٌ مختلفٌ في إباحة شربها بين العلماء، فيجوز كالمُثَلَّثِ، وهذا لأنه ليس من ضرورة حرمة التناول حرمة البيع، وقالا: لا يجوز بيعها كمالك والشافعيّ، وهو الأظهر لأنّ عينها محرّم التناول فلا يجوز بيعها كالخمر.

(وَ) حَلَّ (الانْتِبَاذُ في الدُّبَّاءِ) وهو القَرْع (والحَنْتَمِ) وهو الجَرّة الخضراء، والمَزَفَّتِ، وهو الظرف

(5)

المَطْلِيّ بالزفت، وكذا النَّقِير وهو المنقور (من الخشب)

(6)

(1)

في المطبوع: فقصدها، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في سنن الدَّارَقَطْنيّ 1/ 49، كتاب الطهارة، باب الدباغ، رقم (28).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

حُرِّفت في المطبوع إلى المغيرة بن زيادة، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته "تقريب التهذيب" ص 543.

(4)

في المطبوع: للشارب فيه، والمثبت من المخطوط.

(5)

الظرْفُ: الوعاء. المعجم الوسيط ص 575، مادة:(ظرف).

(6)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 52

وَحَرُمَ شُرْبُ دُرْدِيّ الخَمرِ، والامْتِشَاطُ بِهِ.

===

لما روى الجماعة من حديث بُرَيْدَةَ (أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال)

(1)

: «إنّي نهيتكم عن الظروف فإنّ ظرفاً لا يُحِلُّ شيئاً ولا يُحَرّمه، وكلُّ مسكرٍ حرامٌ» . وفي رواية: «كنت نهيتكم عن الأشربة إلاّ في ظروف الأَدَم

(2)

، فاشربوا في كلّ وعاءٍ غير أن لا تشربوا مسكراً». وفي لفظ لمسلم:«كنت نهيتكم عن الظُّروف، والظُّروف لا تُحِلُّ شيئاً ولا تحرّمه، وكلّ مسكر حرام» .

وفي «سنن أبي داود» عن بُرَيْدَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهنّ: نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن زيارتها تَذْكِرَة، ونهيتكم عن الأشربة أن تشربوا إلاّ في ظروف الأَدَم، فاشربوا في كلّ وعاء غير أن لا تشربوا مسكراً، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تأكلوها بعد ثلاث، فكلوا واستمتعوا بها في أسفاركم» .

(وَحَرُمَ شُرْبُ دُرْدِيّ

(3)

الخَمرِ) لأنّ فيه أجزاء الخمر فكان حراماً ونجساً (والامْتِشَاطُ بِهِ) لأنّه انتفاع به، والانتفاع بالنجس حرامٌ. ولا يُحَدُّ شاربه بلا سكر، لأنّ وجوب الحدّ للزجر، والزاجر إنما يُشْرَعُ فيما تميل الطباع إليه، ولا تميل الطباع إلى شِرْب الدُّرْدِيّ، بل تعافه وتنفر عنه، فأشبه غير الخمر من الأشربة التي لا حدّ فيها إلاّ بالسُّكْر، ويكره الاحتقان بالخمر وإقطارها في الإحليل

(4)

لأنه انتفاع بالنجس المُحَرَّم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

الأَدَمُ: جمع الأديم وهو الجلد. المعجم الوسيط ص 10، مادة:(أدم).

(3)

الدُّرْدريّ: الخميرة التي تُتْرك على العصير والنبيذ ليتخمّر، وأصله ما يَرْكد في أسفل كل مائعٍ كالأشربة والأدهان. النهاية (2/ 112).

(4)

الإحْلِيل: مخرج البول. ومخرج اللبن من الثديّ والضرع. المعجم الوسيط ص 194، مادة (حلّ).

ص: 53

‌كِتَابُ الذَّبائِحِ

حَرُمَ ذَبِيحَةٌ لَم تُذَكَّ.

وذَكَاةُ الضَّرُورة: جَرْحٌ أَيْنَ كَانَ مِنَ البَدَنِ، وَالاخْتِيَارِ: ذَبْحٌ بَين الحَلْقِ واللَّبَّة.

وَعُرُوقُهُ: الحُلْقومُ، والمَرِيءُ، والوَدَجَان.

===

كتاب الذَّبَائِحِ

(حَرُمَ ذِبِيحَةٌ لَم تُذَكَّ) لقوله تعالى: {حُرِّمْتُ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخَنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ والمَنْخَنِقَةُ

(1)

وَالمَوْقُوذَةُ

(2)

والمُتَرَدِّيَة

(3)

والنَّطِيحَةُ

(4)

وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ مَا ذَكَّيْتُمْ}

(5)

أي أدركتم ذبحها. والمراد بالذبيحة: ما من شأنها أن تُذْبَح، ليتناول حرمة ما ليس بمذبوح، كالمُتَرَدِّية والنَّطيحة ونحوهما، وحرمة عضوٍ قُطِعَ من الحيوان، وليخرج السمك والجراد.

وذَكَاةُ الضَّرُورَةِ: (جَرْحٌ أَيْنَ كَانَ مِنَ البَدَنِ وَ) ذكاة (الاخْتِيَارِ ذَبْحٌ بَيْنَ الحَلْقِ واللَّبَّةِ) أي الصدر لما رُوي أنّه عليه الصلاة والسلام بعث منادياً ينادي في مجامع مِنَى: أَلا إنّ الذَّكاة في الحلق. رواه الدَّارَقُطْنِيّ.

(وَعُرُوقُهُ) أي عروق الذبح (الحُلْقُومُ) وهو مجرى النَّفَس، سواء كان الذبح في وسطه أو في أعلاه أو في أسفله بعد أن يكون فيه، حتى لو ذبح أعلى من الحلقوم أو أسفل منه يَحْرُم، لأنّه ذبح في غير المذبح، ذكره في «الواقعات» ، وفي بعض الفتاوى ما يخالف ذلك وهو أنّه سُئِلَ عن ذبح شاة فبقيت عقدة الحلقوم فقال: يجوز أكلها سواء بقيت العقدة ممّا يلي الرأس أو ممّا يلي الصدر.

(والمَرِيءُ) بفتح الميم وكسر الرَّاء وهو مجرى الطَّعام والشراب، وهو رأس المَعِدَة والكَرِش اللازم بالحلقوم:(والوَدَجَان) وهما مجرى الدّم. وفي «الهداية» الحلقوم. مجرى العَلَف: والمريء: مجرى النفس، وهذا موافق لما في «مبسوط»

(1)

المنخَنِقَةُ: الميتة بمنع الهواء عنها. معجم لغة الفقهاء ص 463.

(2)

المَوْقوذة: المقتولة بضربة عصا أو حجر. معجم لغة الفقهاء ص 469.

(3)

المُتَرَدِّيَةُ: الشاة ونحوها، الميتة بالسقوط من مكانٍ مرتفع. معجم لغة الفقهاء ص 402.

(4)

النَّطِيحة: الشاة التي ضربتها شاة أخرى برأسها أو بقرونها فماتت من ذلك. معجم لغة الفقهاء ص 482.

(5)

سورة المائدة، الآية:(3).

ص: 54

وَحَلَّ بِقَطْعِ أيّ ثَلاث مِنْهَا، فَلَمْ يَجُزْ فَوْقَ العُقْدَة،

===

شيخ الإسلام خَوَاهِرْ زَادَه وهو: المريء: عرق أحمر هو مجرى النَّفس. ولِمَا في «الكشاف» : الحلقوم: مدخل الطّعام والشراب، والأول أصحّ وقد ذكره القُدُّوري في «شرح مختصر الكَرْخِيّ» ، ويؤيده قوله تعالى:{فَلَوْلَا إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُوم}

(1)

ولِمَا في ديوان الأدب وهو: المريء: الذي يدخل فيه الطعام والشراب، ونحوه في «المُغْرِب» ، وإنّما كانت عروق الذَّبح هذه الأربعة لأنّ قطع الوَدَجَيْنِ لإنهار الدّم والحلقوم والمريء للتعجيل عليه.

(وَحَلَّ) الذَّبح (بِقَطْعِ أيّ ثَلَاثٍ مِنْهَا) عِنْدَ أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف أولاً، ثم رجع إلى أنه لا بدّ من قطع الحلقوم والمريء وأحد الوَدَجين. وعن محمد: أنّه لا بدّ من قطع أكثر كلّ واحد من الأربعة، وهو رواية عن أبي حنيفة، لأنّ كلّ فرد منها أصل بنفسه لانفصاله عن غيره، وقد ورد الأمر بقطعه، ولأبي يوسف: أنّ المقصود من قطع الوَدَجين إنهار الدّم فينوب أحدهما عن الآخر. ولأبي حنيفة: أنّ الأكثر يقام مقام الكلّ في كثير من الأحكام، ويحصل بأيّ ثلاث منها إنهار الدّم كذا ذكروه، وفيه أنّ أكثر الشيء يقوم مقام كله لا أكثر الأشياء، وبهذا يتبيّن أنّ الأظهر قول محمد.

ثم المعتمد أن الذَّبح الاختياري يتعيّن بين الحلقوم واللَّبَّة وهي المَنْحَر تحت العقدة على ما صرّح به في ذبائح «الذخيرة» : أنّ الذَّبح إذا وقع أعلى من الحلقوم لا يحلّ، وكذا في فتاوى أهل سَمَرقَنْد لأنه ذبح في غير المذبح. والأصل في ذلك قول عمر وابن عباس: الذكاة في الحلق واللَّبَّة. رواه عبد الرَّزاق في «مصنفه» . وفي «سنن الدَّارَقُطْنِيّ» عن سعيد بن سلام العَطَّار: حدّثنا عبد الله بن بُدَيْل الخُزَاعي عن الزُهْرِي، عن سعيد بن المُسَيَّب، عن أبي هُرَيْرَة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدَيْل بن وَرْقَاء (الخُزَاعِيّ)

(2)

على جملٍ أورق

(3)

يصيح في فجاج منى: ألا إنّ الذكاة في الحلق واللَّبَّة. ثم قال: وسعيد بن سلاَّم يحدّث بالبواطل متروك. وقال في «التنقيح» : هذا إسناد ضعيف بالمرّة، وسعيد بن سلام أجمع الأئمة على ترك الاحتجاج به، وكذَّبه ابن نُمَيْرٍ، وقال البخاري: يذكر بوضع الحديث.

إذا عرفت هذا (فَلَمْ يَجُزْ) الذَّبح (فَوْقَ العُقْدَة) أي عقدة الحلقوم بأن يكون

(1)

سورة الواقعة، الآية:(83).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في سنن الدارقطني 4/ 283، كتاب الأشربة وغيرها، باب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك رقم (45).

(3)

الأورق من الإبل: ما في لونه بياضٌ إلى سواد. المعجم الوسيط ص 1026، مادة:(ورق).

ص: 55

وَقِيلَ: يَجُوزُ. وَحَلّ بِكُلِّ مَا فِيهِ حِدَّةٌ إلَّا سِنًّا وَظُفْرًا قَائِمَتَيْنِ.

===

الذبح بينهما وبين الرأس (بل لا بدّ أن يكون)

(1)

تحت العقدة بأن يكون الذَّبح بينهما وبين اللَّبَّة، لأنّه لم يحصل حينئذٍ قطع واحدٍ من الحلقوم والمريء. والأصحاب وإن اشترطوا قطع الأكثر فلا بدّ عندهم من قطع الحلقوم أو المريء. وقال مالك: لا بدّ من قطع الأربع. (وَقِيلَ: يَجُوزُ) سواء بقيت (العقدة)

(2)

مما يلي الرأس أو مما يلي الصدر. شرط في الذبح أن يكون حلالاً خارج الحرم في حق الصيد.

(وَحَلّ) الذَّبح (بِكُلِّ مَا فِيهِ حِدَّةٌ) ولو كان لِيطَةً بكسر اللام: وهي قشر القصب، أو مَرْوَةً وهي الحجر الحادّ لِمَا في «سنن أبي داود والنَّسائي» عن عَدِيّ بن حاتم، قلت: يا رسول الله، أرأيت أحدنا يصيب صيداً وليس معه سكّين، أيذبح بالمَرْوَة وشِقَّة العصا؟ قال «امْرِ الدَّم بما شئت، واذكر اسم الله» . وفي رواية لمسلم: «أفْرِ

(3)

الأوداج بما شئت، واذكر اسم الله عليه».

وفي «مصنف (ابن)

(4)

أبي شَيْبَة» عن رافع بن خَدِيْج قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذَّبح باللِّيطَة قال: «كل ما أفْرَى الأوداج إلاّ سنّاً وظُفْراً» . وهذا معنى قوله: (إلاَّ سنّاً وَظُفْراً قَائِمَتَيْنِ) وقال الشَّافعيّ: لا يجوز بهما الذَّبح سواء كانتا قائمتين أو غير قَائمتين لِمَا رواه الستة عن عَبَايَة بن رِفَاعَةَ بن رَافع بن خَدِيج

(5)

عن جدّه، أنّه قيل: يا رسول الله إنا نكون في المغازي وليس معنا مُدَى أفنذبح بالقصب؟ قال: «ما أنهر الدَّم وذُكِر اسم الله عليه فَكلْ، ليس الظَّفْر والسِّن، أمّا الظُّفْر فمُدَى الحبشة، وأمّا السِّنْ: فعظم» . أخرجوه مختصراً ومطولاً وفي رواية: «فكلوا ما لم يكن سنّاً أو ظفراً وسأحدثكم عن ذلك، أمّا السِّن فعظمٌ، وأمَّا الظُّفْر فمُدَى الحبشة» .

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

امْرِ الدم: أي أَسِلْهُ وأجْرِه. خطّابي. في هامش سنن أبي داود 3/ 250.

(3)

أفْرَى: أصل الفَرْي: القطع. النهاية (3/ 442).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(5)

حُرِّفت في المخطوط إلى عبادة بن رفاعة، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقه لما في صحيح مسلم 3/ 1558، كتاب الأضاحى (35)، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدَّم

(4)، رقم (20 - 1968).

ص: 56

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

قال ابن القطَّان في كتابه: هذا حديث برواية مسلم من حديث سفيان الثَّوري عن رافع بن خَدِيج قال: كنا

الحديث. وقال: والشك في قوله أمّا السِّن: هل هو من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم أو لا؟ فقد رواه أبو داود عن أبي الأحوص عن سعيد بن مَسْرُوق، ـ (والد سفيان)

(1)

ـ عن عَبَاية بن رِفَاعة

(2)

بن رافع عن أبيه عن جده رافع بن خَدِيج قال: أتيت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله إنّا نلقى العدو غداً وليس عندنا مُدَىً أفنذبح بالمَرْوَةِ وشقة العصا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أنهر الدَّم وذُكِر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنّاً أَوْ ظُفْراً» .

قال رافعٌ: سأحدثكم عن ذلك: أمّا السِّن فعظمٌ، وأمّا الظُّفْر فمُدَى الحبشة. قال: فهذا كما ترى فيه بيان قوله (أمّا السن من كلام رافع وليس في حديث مسلم نصّ أن قوله)

(3)

: «أمّا السّن» من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم فبيّنه أبو الأحوص من قول رافع لأنه محتمل فيه. قال: وليس لأحدٍ أن يقول: أخطأ أبو الأحوص إلاّ كان لآخر أن يقول: أخطأ مخالفه لأنّه ثقة، كذا في التخريج باختصار. والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام لم يفصل بين القائم وغيره فدل على عدم جواز الذبح بهما مطلقاً.

ولنا ما أخرج البخاري أيضاً عن كعب بن مالك أن جاريةً لهم كانت ترعى بِسَلْعٍ

(4)

فأبصرت بشاةٍ من غنمها موتاً، فكسرت حجراً فذبحتها. فقال لأهله: لا تأكلوا حتى آتيَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسأله، أو حتّى أُرسل إليه (من يسأله)

(5)

، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بعث إليه، فأمر النبيُ صلى الله عليه وسلم بأكلها.

وإذا صلح الحجر آلة للذَّبح لمعنى الجرح، فكذا الظُّفر والسِّن المنزوعان

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في "تقريب التهذيب" ص 241.

(2)

حُرِّفت في المخطوط إلى عبادة بن رفاعة، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في سنن أبي داود 3/ 247، كتاب الأضاحي (16)، باب [في] الذبيحة بالمروة (15، 14)، رقم (2821).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

في المطبوع بسلم، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في صحيح البخاري (فتح الباري) 9/ 630 - 631، كتاب الذبائح والصيد (72)، باب ما أنهر الدّم من القصب والمَرْوة والحديد (18)، رقم (5501). وسَلْع: جبل معروف بالمدينة. فتح الباري 9/ 630.

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع والمخطوط. وهي في صحيح البخاري. حديث رقم (5501).

ص: 57

وَكُرِهَ النَّخْعُ وَالسَّلْخُ قَبْلَ أن تَبْرُدَ، وَكُلُّ تَعْذِيبٍ بِلا فَائِدَةٍ.

===

بخلاف غير المنزوع، فإنه يوجب الموت بالثقل مع الحدة، فتصير الذبيحة في معنى المُنْخَنِقَة. نعم، يكره الذبح بالمنزوع لِمَا فيه من زيادة الضّرر بالحيوان كما لو ذبح بشفرة كليلة. وحديث عَبَايَة

(1)

يُحْمَل على القائمتين توفيقاً بين الأحاديث، ولأنّ الحبشة يحدّدون أسنانهم، ولا يقلِّمون أظفارهم، ويقاتلون بالخدش والعضّ.

(وَكُرِهَ النَّخْعُ) وهو بنون ومعجمة فمهملة أن يبلغ بالسكين النُّخاع وهو بضم النون والكسر والفتح: عِرْقٌ أبيض في جوف عظم الرقبة (يمتدّ إلى الصلب)

(2)

لما أخرجه الطَّبَرَانِيّ والبَيْهَقِيّ عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الذبيحة أن تُفْرَسَ قبل أن تموت، وفي غريب الحديث: الفَرْس: أن تذبح الشاة فتنخع. وقيل: معنى النَّخْع: أن يمدَّ رأسه حتى يظهر مذبحه. وقيل: أن يكسر عنقه قبل أن يسكن اضطرابه، وكل ذلك مكروهٌ لِمَا فيه من زيادة تعذيب الحيوان وقد نُهِينَا عنه.

(وَ) كره (السَّلْخُ قَبْلَ أن تَبْرُدَ وَكُلُّ تَعْذِيبٍ بِلا فَائِدَةٍ) كقطع الرأس وجرّ ما يريد ذبحه إلى المذبح. ثم الكراهة في هذه لمعنى زيادة الألم قبل الذبح أو بعده فلا يوجب التحريم، بل يوجب التّنزيه لما أخرجه الجماعة عن شدّاد بن أوْس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبِحَة، وليحدّ أحدكم شَفْرتَهَ وليُرِحْ ذبيحته» . و «على» في الحديث بمعنى اللام وعلى مقدّرة فيه أي: كتب عليكم بمعنى أوجب.

وأخرج الحاكم في «المُسْتَدْرَك» وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين عن ابن عبّاس أنّ رجلاً أضْجعَ شاتاً يريد أن يذبحها وهو يحدّ شفرته فقال (له)

(3)

النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أتريد أن تميتها موتتين؟ هلا حَدَدْتَ شفرتك قبل أن تُضْجِعَهَا» . والشفرة هي: السكين العظيم. وفي «سنن ابن ماجه» عن ابن عمر، قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تحدّ الشِفَار وأنْ توارى عن البهائم. وقال: «إذا ذبح أحدكم فليجهز» أي ليسرع.

(1)

حُرِّفَت في المخطوط إلى عبادة، وفي المطبوع إلى هباية. والصواب ما أثبتناه.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

في المخطوط: إلى، والمثبت من المطبوع.

ص: 58

[شرُوطُ الذَّابِحِ]

وَشُرِطَ كَوْنُ الذَّابِحِ: مُسْلِمًا، أوْ كِتَابِيًّا، أَوَ امْرَأةً، أو مَجْنُونًا، أوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ، أَوْ أَقْلَفَ، أَوْ أَخْرَسَ، لا مَنْ لا كتابَ لَهُ، وَلا مُرتَدًّا،

===

(شُرُوطُ الذَّابِحِ)

(وَشُرِطَ كَوْنُ الذَّابِحِ مُسْلِماً) لقوله تعالى: {إلاّ مَا ذَكَّيْتُمْ}

(1)

(أوْ كِتَابِيّاً) ولو كان الكتابيّ حربياً لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أوتُوا الكِتَاب حِلٌّ لَكُمْ}

(2)

والمراد مذكّاهم لإطلاق قوله تعالى: {إلاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} لأنّ مطلق الطعام غير المذكّى يَحِلّ من أي كافرٍ كان بالإجماع، ويشترط أن لا يذكر الكتابي عند الذبح غير الله، حتى لو ذكر المسيح أو عُزَيْراً لا تحلّ ذبيحته.

(أَوَ) ولو كان الذابح (امْرَأةً) لِمَا تقدّم، (أو مَجْنُوناً) إذ لا يشترط التكليف بغير الإسلام في حقّه (أوْ صَبيَّاً يَعْقِلُ) كما في سائر أفعاله من الصلاة والصوم ونحوهما من العبادات والمعاملات، ويضبط الذّبيحة والتسمية. (أَوْ أَقْلَفَ

(3)

أَوْ أَخْرَسَ) وَلَوْ كِتَابياً لإطلاق ما تلونا من قوله إلاّ ما ذكيتم أيّها المؤمنون، ولأن عذر المجنون والأخرس أبين من عذر الناسي، فأقيمت الملّة مقام التسمية في حقّ الناسي، ففي حقّ المجنون والأخرس أولى.

(لَا مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ) أي وشُرِطَ أن لا يكون الذابح غير كتابي مجوسيّاً أو وَثنياً، أمّا المجوسيّ فلما أخرجه عبد الرزَّاق وابن أبي شَيْبَة في «مصنفيهما» عن عليّ أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس هَجَر يعرض عليهم الإسلام، فمن أسلم قُبِلَ منه، ومن لم يُسْلِم ضَرَبَ عليه الجزية، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم.

(ولأنّه لا يدّعي التوحيد فانعدمت منه الملّة اعتقاداً، كما في المسلم، ودعوى، كما في الكتابي)

(4)

.

وأمّا الوثني فلأنه مثل المجوسيّ في عدم دعوى التوحيد.

(وَلَا مُرْتَدّاً) لأنه لا ملة له إذ لا يُقَرُّ على ما انتقل إليه، ولهذا لا يجوز نكاحه بخلاف اليهوديّ إذا تنصّر، والنَّصرانيّ إذا تهوّد، والمجوسيّ إذا تنصّر أو تهوّد، فإنه

(1)

سورة المائدة، الآية:(3).

(2)

سورة المائدة، الآية:(5).

(3)

الأقلف: الذي لم يُخْتَن. معجم لغة الفقهاء ص 84.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط. ومعنى العبارة: أن المجوسي ليس له ملّة التوحيد لا اعتقادًا كما عند المسلم، ولا ادعاءً كما عند الكتابي.

ص: 59

وَتَارِكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا.

===

يُقَرُّ على ما انتقل إليه عندنا، فيعتبر ما هو عليه عند الذبح ولو تَمجَّس اليهودي أو النّصرانيّ لا تحلّ ذكاته لأنه لا يقرّ على ذلك.

ويشترط بالتسمية في ذكاة الاختيار أن يقصد أنها للذَّبيحة. ولو سمّى ولم تحضره النية حلّت، لأنه أتى بالتسمية، وظاهر حاله أنها للذبيحة فتقع عنها، ولو سمّى لابتداء الفعل كسائر الأفعال لا تحلّ الذبيحة. ويشترط أن يسمّي حالة الذبح لقوله تعالى:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ}

(1)

وهذه الحالة حالة النحر وحالة الذبح أختها، فيكون مثل هذا الحكم لها.

وأن يذبح عقيب التسمية قبل أن يتبدّل المجلس، فلو سمّى واشتغل بعملٍ آخر من كلامٍ قليلٍ، أو شرب ماءٍ، أو أكل لقمةٍ أو تحديد شفرةٍ ثم ذبح تحلّ الذبيحة، وإن كان بعملٍ كثيرٍ لا تحلّ، لأن في إيقاع الذّبح متّصلاً بالتسمية بحيث لا يتخلّل بينهما شيءٌ حرجاً فأقيم المجلس مقام الاتّصال.

ولا تُؤكَل

(2)

ذبيحة المُحْرِم الصيدَ، لأن فعله فيه غير مشروع وذبيحته غير الصيد تؤكل، لأن فعله مشروع. وما ذُبح من الصيد في الحَرَم حرامٌ ولو ذبحه حلالٌ، لأنّه منهي عنه فلا يكون مشروعاً، وكذا يَحْرُم لو صِيْد خارج الحَرَم ثم أُدْخِل فيه فذبح خلافاً للشَّافعيّ.

(وَ) لا (تَارِكَ التَّسْمِيَةِ عَمْداً) مسلماً كان أو كتابياً؛ (وبه قال مالك)

(3)

وقال الشافعيّ رحمه الله: يحلّ متروك التسمية عمداً لأنها عنده سنة، ولما رواه الدَّارَقُطْنِيّ عن مروان بن سالم، عن الأوْزَاعِيّ، عن يحيى بن (أبي)

(4)

كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هُرَيْرَةَ قال: سأَل رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم: الرجل منا يذبح وينسى أن يسمّي الله؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اسم الله على كل مسلم» . وفي لفظ: «على فم كل مسلم» . قلنا: مروان بن سالم ضعيفٌ ضعَّفه الدَّارَقُطْنِيّ وابن القطَّان وابن عدي وأحمد والنَّسائي على ما في «المحيط» ، وأمّا ما رواه أبو داود في «المراسيل» عن عبد الله بن داود، عن ثور بن يزيد، عن الصَّلت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أولم يذكر» . فقد قال ابن القطَّان فيه مع الإرسال: إنّ الصَّلْت السَّدُوسِيّ لا يُعْرَف

(1)

سورة الحج، الآية:(36).

(2)

في المخطوط: ولا تَحِلُّ.

(3)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في سنن الدارقطني 4/ 295، كتاب الأشربة وغيرها، باب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك، رقم (94).

ص: 60

وَإنْ نَسِيَ التَّسمِيَةَ صَحَّ.

===

له حال ولا يعرف بغير هذا الحديث، ولا روى عنه غير ثَوْر بن يزيد.

ولنا: إطلاق قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللَّه عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}

(1)

أي وإن الذي لم يذكر اسم الله عليه حرام، لأنّ الفسق هو الخروج عن الطاعة، وإنّ مطلق النهي يقتضي التَّحريم. وما أخرجه أصحاب الكتب الستة عن عَدِيّ بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إني أُرْسِلُ كلبي وأجد معه كلباً آخرَ لا أدري أيّهما أخذه قال: «لا تأكل فإنك إنّما سمّيت على كلبك ولم تسمّ على الكلب الآخر» . ووجه الدّلالة على أنه علّل الحرمة بترك التسمية عمداً.

(وَإِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ صَحَّ) لأنّ النسيان مرفوع الحكم عن الأمة بقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان»

(2)

. ولأنّ في اعتباره حرجاً لأن الإنسان كثير النسيان، والحرج مرفوعٌ في الشرع، وفي المسألة خلاف مالك مستدلاًّ بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام لعديّ:«إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله عليه» . وقوله عليه الصلاة والسلام: (له)

(3)

أيضاً: «إذا أرسلت كلبك وسمّيت، فأخذ فقتل، فَكُل»

(4)

إذ لا فصل فيه، فيفيد الحرمة بحالة العمد زيادةً على النص، فيجري مجرى النسخ، وقد سبق الجواب عنه.

ووقت التسمية في غير الصيد عن الذبح لقوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صواف}

(5)

وهي حالة النحر، وفي الصيد عند الرمي أو إرسال الجارح، لأنَّ التكليف بحيب الوسع. وفي الخلاصة: ولو ذبح ولم يظهر الهاء في باسم الله: غن قصد ذكر اسم الله يحل، [وإن ل يقصد أو قصد ترك الهاء الهاء لا يحل]

(6)

. ولو ذبح المنخنقة، أو الموقوذة وهي المصروبة بنحو خسب أو حجر، أو حجر، أو المتردية التي تردت من علة او بئر،

(1)

سورة الأنعام، الآية:(121).

(2)

قال في "اللآلئ": لا يوجد بهذا اللفظ، وأقرب ما وجد ما رواه ابن عدي في "الكامل" عن أبي بكرة بلفظ:"رفع الله عن هذه الأمة ثلاثًا: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه" قال وعده ابن عدي من منكرات جعفر بن جسر. وأخرج ابن ماجه عن ابن عباس يرفعه قال: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ورواه ابن حبان عنه يرفعه. كشف الخفاء 1/ 433.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

أخرجه البخاري (فتح الباري) 9/ 610، كتاب الذبائح والصيد (72)، باب الصيد إذا غاب .. (8)، رقم (5484).

(5)

سورة الحج، الآية:(36)،

(6)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 61

وَإنْ عَطَفَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ غَيْرَهُ نَحْوُ: باسْمِ اللهِ واسْمِ فلان.

وَكُرِهَ إِنْ وَصَلَ وَلَمْ يعْطِفْ نَحْوُ: باسْمِ اللَّهِ اللهمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فلانٍ.

===

أو النطيحة التي نطحتها أخرى أو التي شق

(1)

الذئب بطنها وفيها حياة خفيفة حلَّت، ظاهر الرواية، وتحل ذبيحة علم حياتها قبل الذبح وإن لم تتحرك ولم يخرج منها دم لأنَّ سبق الحياة قرينة على أن الموت حصل بالذكاة، وإن لم يعلم بسبق حياتها، فلا بدّ من وجود أحدهما وهو الحركة أو خروج الدّم ليُعلم بقاء الحياة عند الذكاة.

وحَرُمَ الدَّم المَسْفُوح لقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}

(2)

وكره أن يأكل من الشاة الحَيَا وهو الرحم والخُصْية، والغُدَّة، والمَثَانة وهي موضع البول والمَرَارَة، وهي التي فيها المِرَّة لما في "سنن البَيْهَقِي" وغيره أنه عليه الصلاة والسلام كان يكره من الشاة إذا ذبحت سبعاً: الدَّم، والمرارة، والذكر، والأُنثَيْين، والحَيَا، والغُدَّة والمثانة.

(و) حَرُم المذبوح (إنْ عَطَفَ عَلَى اسْمِ اللهِ غَيْرَهُ) موصولاً به على سبيل الشركة (نَخوُ، باسمِ اللهِ واسم فُلان) أو باسم الله وفلان، أو باسم الله وبمحمدٍ، لأنه أهلّ، لغير الله، لأنَّ العطف للتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا يعتبر بالإعراب، لأنَّ كلام الناس اليوم لا يجري عليه، وفي "النوازل" سُئِلَ أبو نصر عن رجلٍ ذبح شاةً فقال: باسم الله واسم فلان: قال: سمعت محمد بن سلمة قال: سمعت إبراهيم بن يوسف يقول: يصير ميتة. وقال محمد بن نصر

(3)

: لا تصير ميتة إذ لو صارت ميتة لصار الرجل كافراً. انتهى.

ولا يخفى أنه لا ملازمة، لأن عدم التكفير إنما هو لعدم اعتقاده الشركة، والحكم بالميتة لصورة التشريك، فرجع الحكم في كل منهما إلى الأحوط في بابه.

(وَكُرِهَ إِنْ وَصَلَ وَلَمْ يَعْطِفْ نَحْوُ، باسْمِ اللهِ اللهِ تَقَبَّل من فُلَانٍ) لأنَّ الشركة لم توجد، فلم يكن الذبح لغير الله فلا يَحْرُم، ولكن يكره لوجود القرآن في الصورة فَيْنَزَّه لكمال الاحتياط. وفي «النوازل»: ولو قال: باسم الله ومحمد رسول الله بالخفض لا يحل. وقال بعضهم: هذا إذا كان يعرف النحو، والأوجه أن لا يعتبر الإعراب بل يحرم مطلقاً بالعطف، لأنَّ كلام الناس اليوم لا يجري عليه، وأما إذا قال: باسم الله ومحمد رسول الله بالنصب أو الرفع فيكره، وإذا قال: باسم الله محمدٍ

(1)

في المخطوط ثقب، والمثبت من المطبوع.

(2)

سورة الأنعام، الآية (145).

(3)

حُرِّفت في المخطوط إلى محمد بن نصير، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في "تقريب التهذيب"، ص 510.

ص: 62

وَحَلَّ إِنْ فَصَلَ صُورَة وَمَعْنَىً، كالدُّعَاءِ قَبْلَ الإِضْجَاعِ وَالتَّسْمِيَةِ.

ونُدِبَ نَحْرُ الإبِلِ، وَكُرِهَ ذَبْحُهَا، وَفِي البَقَرِ والغَنَمِ عَكْسُهُ.

===

رسول الله بالجر فيحرم المذبوح لأنه أهل به لغير الله. وقد قال الله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}

(1)

ولقول ابن مسعود: جَرِّدُوا التَّسْمِيَة.

(وَحَلَّ إِنْ فَصَلَ صُورَةً وَمَعْنَىً كالدُّعَاءِ قَبْلَ الإِضْجَاعِ وَ) الدعاء قبل (التَّسْمِيَةِ) أو بعد الذَّبح لعدم القِرَان أصلاً بأن يقول: اللَّهم تقبّل من فلانٍ كما رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يذبح أضحيته قال: «اللهم هذا منك ولك، إن صلاتي ونُسُكي» إلى «وأنا من المسلمين، بسم الله والله أكبر»

(2)

.

وأخرج الحاكم في «المستدرك» وقال: حديثٌ صحيحٌ عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحَّى اشترى كبشين أمْلَحَيْن أقْرَنَيْنِ، فإذا خطب وصلّى ذبح أحد الكبشين بنفسه بالمُدْية (وفي نسخة بالمدينة)

(3)

ثم يقول: «هذا عن أمتي جميعاً ممّن شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ» ، ثم أتى بالآخر فذبحه وقال:«اللَّهم هذا عن محمدٍ وآلِ محمدٍ» ، ثم يطعمهما المساكين ويأكل هو وأهله منهما، فمكثنا سنين وقد كفانا الله الغُرْم

(4)

والمؤنة ليس أحد من بني هاشم يضحّي. والكبش الأملح: هو الأغبر الذي فيه بياض وسواد.

ثم الشرط هو الذِكْر الخالص حتّى لو قال عند الذبح: اللَّهم اغفر لي، واكتفى به لا تحلّ الذبيحة، لأنّه دعاء. ولو قال: سبحان الله، والحمد لله يريد به التسمية حلّت. وذكر الحَلْوانيّ: أنه يستحب أن يقول: بسم الله الله أكبر، لأن ذكر الواو يقطع فور التسمية يعني وفورها أولى. وأمّا ما في «الهداية» لقول ابن مسعود: جرِّدوا التسمية. فالمعروف عنه جرِّدوا القرآن. (ونُدِبَ نَحْرُ الإبِلِ) وهو قطع العروق في أسفل العنق عند الصدر، لأنه فيها أيسر، لأن العروق مجتمعة في المنحر. (وَكُرِهَ ذَبْحُهَا) لأنه خلاف السنة، وإنما حلَّ لحصول المقصود وهو تسييل الدم والتعجيل (وَفِي البَقَرِ والغَنَمِ عَكْسُهُ) فندب

(1)

سورة المائدة، الآية:(3).

(2)

أخرجه أبو داود في السنن 3/ 230 - 231، كتاب الضحايا (16)، باب ما يستحب من الضحايا (4، 3)، رقم (2795).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

في المطبوع: العزم، والمثبت من المخطوط. ومعنى الغُرْمُ ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر بغير جنايةٍ منه أو خيانةٍ. المعجم الوسيط ص 651، مادة:(غرم).

ص: 63

وَكَفَى الجَرْحُ في نَعَمٍ تَوَحَّشَ، أَوْ سَقَطَ في بِئْرٍ وَلَمْ يُمْكِنْ ذَبْحُهُ، لا في صَيدٍ استَأنسَ.

وَلا يَحِلُّ جَنِينٌ مَيِّتٌ وُجِدَ فِي بَطْنِ أُمهِ،

===

ذبحهما لأن الذبح فيهما أيسر، وكره نحرهما لأنه خلاف السنة، لأنه صلى الله عليه وسلم نحر الإبل وذبح البقر والغنم. وقد قال الله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أي الجَزُور وقال: {إنّ ايَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرةً}

(1)

وقال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}

(2)

أي مذبوحٍ وهو كَبشٌ سمينٌ.

وكذا كره الذّبْح

(3)

من القفا وبه قال الشَّافعيّ. وحكم مالك بحرمة العكس لما سبق. وذبح القفا لمخالفة المشروع، وصار كالجرح في غير محل الذبح، ولنا: ما روينا من قوله عليه الصلاة والسلام: «ما أنهر الدَّم وذكر اسم الله عليه فكلوه»

(4)

ولأنّ المقصود تسييل الدّم وهو حاصل.

(وَكَفَى الجَرْحُ في نَعَمٍ تَوَحَّشَ أَوْ سَقَطَ في بِئْرٍ وَلَمْ يُمْكِنْ ذَبْحُهُ) ولا نحره. وقال مالك: لا يحلّ بذكاة الاضطرار في الوجهين، لأنّ ذلك نادرٌ ولا عبرة للنادر في الأحكام قلنا: إذا وقع لا بدّ من اعتباره، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ لها أوابد

(5)

كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا»

(6)

قاله في بعيرٍ ندّ فرماه رجلٌ بسهم. (لا في صَيْدٍ اسْتَأْنَسَ

(7)

) لأنّ ذكاة الاضطرار إنّما يُصَار إليها عند العجز عن ذكاة الاختيار والعجز متحقّقٌ في الأول دون الثاني.

(وَلَا يَحِلُّ) أي ويحرم (جَنِينٌ مَيِّتٌ وُجِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) سواء أشعر أو لم يُشْعر، وهذا عند أبي حنيفة وزُفَر، والحسن بن زياد، وهو قول إبراهيم والحكم بن عُيَيْنَة لقوله تعالى:{وَالْمُنْخَنِقَةُ}

(8)

ولقوله عليه الصلاة والسلام لِعَدِيّ بن حاتم: «إذا وقعت رميتك في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري أن الماء قتل أو سهمك»

(9)

فقد حَرُم الأكل

(1)

سورة البقرة، الآية:(67).

(2)

سورة الصافات، الآية:(107).

(3)

في المطبوع: المذبوح، والمثبت من المخطوط.

(4)

سبق تخرجه عند الشارح، ص (56).

(5)

الأَوَابِدُ: جمع آبدةٍ وهي التي قد تأبّدَت أي توحَّشَت ونفرت من الإنس. النهاية (1/ 13).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 9/ 638، كتاب الذبائح والصيد (72)، باب ما ند من البهائم فهو بمنزلة الوحش (23)، رقم (5509).

(7)

في المطبوع مستأنس، والمثبت من المخطوط.

(8)

سورة المائدة، الآية:(3).

(9)

أخرجه مسلم في صحيحه 3/ 1531، كتاب الصيد والذبائح (34)، باب الصيد بالكلاب .. (1) رقم (7 - 1229).

ص: 64

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

عند وقوع الشك في سبب زهوق الرُّوح، وذلك موجود في الجنين، فإنه لا يدري أنه مات بذبح الأم أو باحتباس نفسه. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا تمّ خلقه حلّ وبه قال الشافعيّ، لِمَا أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ عن أبي سعيد الخُدْرِيّ أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ذكاةُ الجنين ذكاةُ أُمِّه» وهذا لفظ الترمذي، ولفظ أبي داود: وقال قلنا يا رسول الله، ننحر الناقة، ونذبح البقرة أو الشاة وفي بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال:«كلوه إن شئتم، فإن ذكاته من ذكاة أمّه» . ورواه الدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» من حديث ابن مسعود وابن عباس وزاد: «أَشْعَرَ أو لم يُشْعِر»

(1)

. وأسنده الحاكم في «المُسْتَدْرَك» باللفظ الأول من حديث ابن عمر وأبي أيوب وأبي هُرَيْرَة، وأسنده البزار من حديث أبي أُمَامة وأبي الدَّرْداء.

وأجِيب بأن معنى الحديث: كذكاة أمّه، والتشبيه بهذا الطريق كثيرٌ، ومنه قوله تعالى:{وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّموَاتُ والأَرْضُ}

(2)

ويدلّ على هذا أنّه رُوِيَ «ذكاةَ أمه» بالنصب، أي يذكَّى ذكاةً مثل ذكاة أمّه. والتحقيق أنّ هذا التأويل إنّما يصحّ في الرواية بالنصب إذا كان المنزوع حرف الكاف كقوله تعالى:{وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب}

(3)

، ويحتمل بالباء أيضاً، لكن إن جعلناه الكاف لم يحلّ الجنين، وإن جعلناه الباء يحلّ، ومتى اجتمع الموجِب للحلّ والموجِب للحرمة يُغَلَّب المُوجِب للحرمة. وعلَّل إبراهيم النَّخَعِيّ فقال: ذكاةُ نفسٍ لا تكون ذكاة نفسين، وبسط الكلام عليه في «المبسوط» .

وزبدة

(4)

كلام أبي حنيفة: أنّ الله حرّم الميتة وشرط الذكاة بقوله: {إلاّ مَا ذَكَّيْتُمْ}

(5)

فيحرم الجنين الميت بنصّ الكتاب، وما رُوِيَ لا يعارض الدليل القطعي في فصل الخطاب، وفيه أنه عليه الصلاة السلام مبيّن للكلام. فإن قيل: لو لم يحلّ أكله بذكاة أمّه لَمَا حلّ ذبح أمه، لأنّ في ذبحها إضاعته، وقد نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. أُجِيبَ بأنّ موته ليس بمُتَيَقَّن، بل يرجى إدراكه حياً فيذبح، فلا يَحْرُم ذبح أُمِّه. ويكره ذبح الحامل المُقْرِب: وهي التي قَرُبَتْ ولادتها، لأنّ في ذلك ترك التحرُّم

(6)

.

(1)

أي: نبت شعره أم لم ينبت.

(2)

سورة آل عمران، الآية:(133).

(3)

سورة النمل، الآية:(88).

(4)

في المطبوع: وزيد في كلام أبي حنيفة، والمثبت من المخطوط.

(5)

سورة المائدة، الآية:(3).

(6)

في المطبوع: الجزم!

ص: 65

وَلا يَحِلُّ ذُو نَابٍ أَوْ ذُو مَخْلَبٍ مَنْ سَبُعٍ أو طَيرٍ، وَلا يَحِلُّ الحَشَرَاتُ، وَلا الحَمِيرُ الأَهْلِيَّةُ، وَلا البِغَالُ، وَلا الخَيلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ،

===

(وَلَا يَحِلُّ ذُو نَابٍ أَوْ ذُو مَخْلَبٍ مَنْ سَبُعٍ) بيان لذي نابٍ (أو طَيْرٍ) بيان لذي مَخْلَبٍ لما أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السِّباع، وعن أكل كل ذي مخلب من الطير. والفقرة الأولى أخرجها الجماعة عن أبي ثَعْلَبة. وفي رواية لمسلم: «كلُّ ذي نابٍ من السباع حرامٌ.

والسَّبُعُ: كل مُخْتَطِف مُنْتَهِبٍ جارحٍ قاتلٍ عادٍ في العادة، فذو النَّاب من السِّباع: الأسد، والذئب والنَّمِر والفهد والثعلب والضَّبُع والكلب والسِّنَّوْرِ

(1)

البري والأهلي، وذو المخلب من الطير: الصقر والبازي

(2)

والنسر والعُقَاب

(3)

والشاهين

(4)

. والمؤثِّر في الحرمة الإيذاء: وهو طوراً يكون بالناب، وطوراً يكون بالمخلب، أو الخُبْث: وهو قد يكون خِلْقة كما في الخنزير، وقد يكون عارضاً كما في الجَلاَّلة. ومعنى التحريم تكريم بني آدم لئلا يتعدّى شيء من هذه الأوصاف الذَّميمة إليهم بالأكل.

(وَلَا يَحِلُّ الحَشَرَاتُ) والهوامُّ والزنابير واليَرْبُوع

(5)

والقُنْفُذ وغيرها، لأنّها من الخبائث وقال الله تعالى:{وَيُحْرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ}

(6)

ولأنّ الطباع السليمة تستخبثها. (وَلَا الحَمِيرُ الأَهْلِيَّةُ وَلَا البِغَالُ) اتفاقاً (وَلَا) يحل (الخَيْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) أي يكره أكل لحمه لِمَا أخرجه أبو داود والنَّسائي وابن ماجه عن خالد ابن الوليد قال: نهى صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل والبغال والحمير. وهذا لفظ ابن ماجه، وأمّا لفظ أبي داود قال: غزوْت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت اليهود فَشَكوا أنّ الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم فقال: «لا يحلّ أموال المعاهدين إلاّ بحقّها، وحرامٌ عليكم الحمير الأَهْليّة وخيلها وبغالها، وكلّ ذي نابٍ من السباع، وكلّ ذي مخلبٍ من الطير» . ورواه الواقدي في «المغازي» مثل أبي داود ثم قال: ثبت عندنا أنّ خالداً لم

(1)

السِّنَّوْرُ: حيوان أليفٌ من خير مآكله الفأر. المعجم الوسيط ص 454، مادة:(سَنِرَ).

(2)

البازي: جنسٌ من الصُّقور الصغيرة أو المتوسطة الحجم، تميل أجنحتها إلى القِصَر، وتميل أرجلها وأذنابها إلى الطول. المعجم الوسيط ص 55، مادة:(بزى).

(3)

العُقَاب: طائر من كواسر الطَّيْر قويّ المخالب، مُسرولٌ، له منقار قصير أعقف، حادُّ البصر. المعجم الوسيط، ص 613، مادة:(عقب).

(4)

الشاهين: طائر من جوارح الطير وسباعها، ومن جنس الصقر، المعجم الوسيط، ص (498).

(5)

اليربوع: حيوانٌ صغير على هيئة الجُرَذ الصغير، وله ذنبٌ طويلٌ ينتهي بخصلة من الشعر، وهو قصير اليدين طويل الرّجلين. المعجم الوسيط ص 325، مادة:(ربع).

(6)

سورة الأعراف، الآية:(157).

ص: 66

وَلا الضَّبُعُ،

===

يشهد خيبر وأسلم قبل الفتح هو وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة أول يومٍ من يوم صفر سنة ثمان.

وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس بأكل الخيل لِمَا أخرجه البخاري في غَزْوَة خيبر، ومسلم في الذبائح عن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خَيْبَر عن لحوم الحُمر الأهلية، وأَذِن في لحوم الخيل وفي لفظٍ للبخاري: ورخص في لحوم الخيل. وعُورِضَ بحديث خالدٍ، وأُجيب: بأنّ حديث جابر صحيح، وحديث خالد فيه كلامٌ. ولحم الخيل مكروه تحريماً في رواية عن أبي حنيفة، فإن قوله في «الجامع الصغير»: أكره لحم الخيل، يدلّ على أنه كراهة تحريم لِمَا رُوِيَ أنّ أبا يوسف قال لأبي حنيفة: إذا قلتَ في شيء أكرهه فما رأيك فيه؟ قال: التحريم.

وفي ظاهر الرواية مكروه تنزيهاً، وبه قالا، وهو الصحيح لما قدمناه، ولما في الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر قالت: نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه. وفي روايةٍ: أكلنا لحم فرسٍ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكره. ولقول جابر بن عبد الله: إنَّهم ذبحوا يوم خَيْبَر الحمير والبغال والخيل فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحمير والبغال، ولم ينههم عن الخيل. رواه الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيحٌ على شرط مسلم. ولم يخرجاه.

وأمّا ما احتجّ في «المبسوط» وغيره بقوله تعالى: {والخَيْلَ والبِغَالَ والحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}

(1)

فقال: قد منّ الله على عباده بما جعل لهم من منفعة الركوب والزينة في الخيل، ولو كان مأكولاً لكان الأولى بيان منفعة الأكل، لأنها أعظم المنافع وبه بقاء النفوس، ولا يليق بذكر الحكيم ترك أعظم وجوه المنفعة وذكر ما دون ذلك في مقام المِنَّة، ألا ترى أنّه تعالى في الأنعام ذكر الأكل بقوله:{وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}

(2)

. انتهى. فلا دليل فيه إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالباً أن لا يقصد غيره أصلاً، ويدلّ عليه أن الآية مكيّة، وعامة المفسرين والمحدثين على أن الحمر الأهلية حرِّمت يوم خيبر.

(وَلَا الضَّبُعُ) وهو قول سعيد بن المُسَيَّب والثَّوْرِيّ لأنّه ذو ناب ولما في «سنن الترمذي» عن ابن جَزْء قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الضَّبُع فقال: «أَوَ يأكلُ الضَّبُعَ أحدٌ فيه خير» . رواه ابن ماجه ولفظه: «ومن يأكل الضبع» ؟ وحلّ عند

(1)

سورة النحل، الآية:(8).

(2)

سورة النحل، الآية:(5).

ص: 67

وَلا اليَرْبُوعُ، وَلا يَحَلُّ الغُرَاب الَّذِي يَأكلُ الجِيَفَ، وَلا حَيَوَانٌ مَائِيٌّ،

===

الشافعيّ وأحمد وإسحاق لِمَا في «سنن التَرمِذي وابن ماجه والنَّسائي» عن عبد الرَّحْمن بن أبي عَمّار قال: سألتُ جابراً عن الضَّبُع أصيدٌ هي؟ قال: نعم، قلت: آكلها؟ قال: نعم، قلت: أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. ورواه الحاكم في «مستدركه» عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الضَّبُع صيدٌ، فإذا أصابه المُحْرِم ففيه كبشٌ مسنٌ ويؤكل» . وقال: حديثٌ صحيحٌ

(1)

ولم يخرّجاه. وقال مالك: يكره أكلها. والمكروه عنده: ما أثم بأكله ولا يقطع بتحريمه.

(وَلَا اليَرْبُوعُ) لأنّه من الحشرات، وفيه خلاف الشافعيّ وأحمد، ولنا: ما روى أحمد وإسحاق بن رَاهُوَيه وأبو يَعْلَى المَوْصِلِيّ عن عبد الله بن يزيد السَّعْدِيّ قال: سألت سعيد بن المُسَيَّب: أن أُناساً من قومي يأكلون الضَّبُع؟ فقال: إنّ أكلها لا يحلّ وكان عنده شيخٌ أبيضُ الرّأس واللحية، فقال ذلك الشيخ: يا عبد الله ألا أخبرك بما سمعت أبا الدَّرْدَاء يقول فيه؟ قلت: نعم. قال: سمعت أبا الدَّرْداء يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كلّ ذي خَطْفة ونَهبة ومُجَثَّمة، وكل ذي نابٍ من السِّباع. فقال سعيد: صدق. والمُجَثَّمَة بتشديد المثلثة المفتوحة: كلّ حيوان يُنْصَب ويُرْمَى ليقتل، إلاّ أنها تكثر في الطير والأرانب وأشباه ذلك. يَجْثَم الأرض يلزمها ويلزق بها، وجُثُوم الطير بمنزلة برُوك الإبل.

(وَلَا يَحِلُّ الغُرَاب الَّذِي يَأْكُلُ الجِيَفَ) لأنّه بأكلها صار كسباع الطير، وأمّا غراب الزرع فحلال كما سيأتي (وَلَا) يَحِلُّ (حَيَوَانٌ مَائِيٌّ) لقوله تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ}

(2)

وما سوى السَّمك خبيثٌ، فقد أخرج أبو داود والنَّسائي عن عبد الرحمن ابن عثمان القُرَشي: أنّ طبيباً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضِفْدع يجعلها في الدواء فنهى عن قتلها. ورواه أحمد وإسحاق وأبو داود الطَّيَالِسِي في «مسانيدهم» والحاكم في «مستدركه» وقال: صحيحُ الإسناد. قال: المُنْذِرِيّ فيه دليلٌ على تحريم أكل الضِفْدَع، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله. والنهيّ عن قتل الحيوان إمّا لحرمته كالآدَميّ، وأمّا لتحريم أكله كالصُّرَد

(3)

، والضِفْدع ليس بمحترمٍ فكان النهي منصرفاً إلى أكله.

(1)

في المطبوع: حسنٌ، والصواب ما أثبتناه من المخطوط، و"مستدرك الحاكم" 1/ 453.

(2)

سورة الأعراف، الآية:(157).

(3)

الصُّرد: طائر أكبر من العصفور ضخم الرأس والمنقار يصيد صغار الحشرات، وربما صاد العصفور.

المعجم الوسيط ص 512، مادة:(صرد).

ص: 68

سِوَى سَمَكٍ لَمْ يَطْفُ.

وَحَلَّ الجَرَادُ وَأَنْوَاعُ السَّمَكِ بلا ذَكَاةٍ،

===

(سِوَى سَمَكٍ لَمْ يَطْفُ) من طفا إذا علا. وفي «الجامع الصغير» : إن وُجِدَ السَّمك ميتاً على وجه الماء وبطنه من فوق لم يُؤْكل لأنّه طاف، وإن كان ظهره من فوقٍ، أُكِلَ، لأنّه ليس بطافٍ أي لم يعلُ على الماء. قيّد به لأنّ السمك الطافي يكره أكله عندنا، لما أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما ألقاه البحر أو جَزَر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه» . وهو حجة على مالك والشّافعيّ في إباحتهما الطافي. وجزر بجيم فزاي فراء: انكشف. وفي رواية: «فحسر» : وهو بمعناه. وروى ابن أبي شَيْبَة وعبد الرَّزاق في «مصنفيهما» كراهة أكل الطّافي عن جابر بن عبد الله (وعلي)

(1)

وابن عباس وابن المُسَيَّب وأبي الشَّعْثَاء والنَّخَعَي وطاوس والزُّهْرِيّ.

(وَحَلَّ الجَرَادُ) أي إجماعاً (وَأَنْوَاعُ السَّمَكِ) أي من الجِرِّيث

(2)

والمارماهي

(3)

ونحوهما ما عدا الطافي، فإنّه مكروهٌ عندنا (بلا ذَكَاةِ) لِمَا أخرجه الشَّافعيّ وأحمد وابن ماجه في كتاب الأطعمة من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُحلّت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدّمان: فالكبد والطِحَال» .

وأطلق مالك والشّافعيّ (في حلّ حيوان البحر، وقيل: عند الشّافعي)

(4)

: إنْ أُكِل مثله في البرّ حلّ وإلا فلا كالكلب والحمار، وفي الخنزير البحري قولان في مذهب مالك. لهما على إطلاق الحلّ قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً}

(5)

من غير فصلٍ وقوله عليه الصلاة والسلام: «هو الطهور ماؤُه، الحِلُّ ميتَتُه»

(6)

.

وما في «الصحيحين» عن جابر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّرَ علينا أبا عُبَيْدَه نتلقّى عيراً لقريش، وزودنا جِرَاباً

(7)

من تمرٍ لم يجد لنا غيره، فكان أبو عُبَيْدة يعطينا

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

الجِرِّيث: السمك. القاموس المحيط، ص (213).

(3)

المارماهي: سمك في صورة الحية. الدر المختار شرح تنوير الأبصار بهامش رد المحتار 5/ 195.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(5)

سورة المائدة، الآية:(96)

(6)

أخرجه الترمذى - عن أبي هريرة - 1/ 100 - 101، كتاب الطهارة (1) باب: ما جاء في ماء البحر أنه طهور (52)، رقم (69).

(7)

الجرَاب: وِعاء الزّاد. مختار الصحاح ص 42، مادة:(جرب).

ص: 69

وَغُرَابُ الزَّرْعِ، والعَقْعَقُ مَعَهَا.

===

تمرةً تمرةً فكنا نمصّها كما يمصّ الصغير، ثم نشرب عليه من الماء فتكفينا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الَخَبطَ

(1)

ثم نبلّه بالماء فنأكله. قال: فانطلقنا على ساحل البحر فألقى لنا البحر دابة يقال لها العَنْبَر. قال أبو عُبَيْدَة: ميتة ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا. قال: فأقمنا عليه شهراً، ونحن ثلاث مئة حتّى سَمِنّا. ولقد كنا نغترف الدّهن من وَقْبِ عينية بالقِلال، وأخذ أبو عبيدة ثلاثة رجال فأقعدهم في وقب

(2)

عينه وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامه، ثم رحَّل أعظم بعير معنا فمرّ من تحتها. وتزوّدنا من لحمه وشائق، فلمّا قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال:«هو رزقٌ أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا» ؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكله. والوشائق، جمع الوَشِيقة: وهي اللحم يُغلى إغْلَاءَةً ثم يُقَدَّد ويُحْمَل في الأسفار، وهو أبقى قَدِيدٍ يكون.

ولنا: ما قدّمنا من الحديث المفصّل، وأن المراد طعام البحر المالح المقدّد من السمك (وبميتته ما لَفَظَه ليكون موته مضافاً إلى البحر لا ما مات فيها. وحل السمك)

(3)

بلا ذكاة كالجراد لما في «مصنف عبد الرزَّاق» : أخبرنا سفيان الثّوريّ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ قال: الحيتان والجراد ذُكيّ كله. وأخرج عن عمر: الحوت ذكيّ كله، والجراد ذكيّ كله. وعن أبي هاشم الأَيْلِي عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«كلّ دابة من دواب البر والبحر ليس لها دم ينعقد فليس لها ذكاة» . وعن أحمد في الجراد: إذا قتله البرد لم يؤكل.

وملخص مذهب مالك: إن قُطِعَ رأسه حلّ وإلاّ فلا.

(وَ) حلّ (غُرَابُ الزَّرْعِ) لأنه يأكل الحب دون الجِيَف، وليس من سباع الطير. (والعَقْعَقُ)

(4)

بفتح العَينين (مَعَهَا) أي مع الذّكاة، وهذا عند أبي حنيفة، لأنّه يأكل الحب والجِيَف فأشبه الدَّجاج. وقال أبو يوسف: يكره لأنّ غالب مأكوله النجاسة.

ويحرم الضَّبّ

(5)

والثعلب خلافاً لمالك والشّافعيّ فيهما. أمّا الضَّبُّ فلما في

(1)

الخَبَط: ما سقط من ورق الشجر بالخَبْط والنَّفض. المعجم الوسيط ص 216، مادة (خبط).

(2)

الوَقْبُ: كل نُقْرة في الجسد. المعجم الوسيط، ص 1048، مادة:(وقب).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

العَقْعَقُ: طائر له ذنب طويل ومنقار طويل. المعجم الوسيط ص 616.

(5)

الضَّبُّ: حيوان من جنس الزواحف، غليظ الجسم خشنه، وله ذنبٌ عريض حَرِش أعقد. المعجم =

ص: 70

وَحَلَّ الأَرْنَبُ.

===

«الصحيحين» عن خالد بن الوليد أنّه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة ـ وهي خالته ـ فوجد عندها ضَبّاً مَحْنُوذاً

(1)

فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الضَّبّ فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخْبِرْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قَدَّمْتُنَّ له. قُلْنَ: هو الضَّبُّ يا رسول الله. فَرَفَعَ يده، فقال خالدٌ: أحرامٌ الضَّبُّ يا رسول الله؟)

(2)

: قال: لا؟ ولكن لم يكن بأرضِ قومي، فأجِدُني أعافُه (قال خالد)

(3)

: فأجْتَرَرْتُهُ فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فلم يَنْهَنِي. وفيهما أيضاً عن ابن عمر قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم سعد، فذهبوا يأكلون من لحم فنادتهم امرأة من بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لحم ضبّ فأمسكوا. فقال عليه الصلاة والسلام: «كلوا وأطعموا فإنّه حلالٌ» (أو قال)

(4)

: «لا بأس به، ولكنّه ليس من طعامي» .

وأمّا الثعلب فكأنه ملحق بالضَّبُع عندهما، ولنا إطلاق ما روينا في أول الفصل من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السَّبُع. وما في «سنن أبي داود» عن عبد الرَّحمن بن شِبْل أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضَّب.

(وَحَلَّ الأَرْنَبُ) عندنا وسائر الأئمة، لِمَا في البخاري عن أنس بن مالك قال: أَنْفَجْنَا أرنباً

(5)

بِمَرِّ الظهران، فسعى القوم فلَغِبوا

(6)

فأدركتها، فأخذتها فأتيت بها إلى أبي طلحة. فذبحها وبعث بوَرِكها ـ أو قال بفخذها ـ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، قلت: وأكل منه. وفي «سنن النَّسائي» عن أبي هريرة قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرنبٍ قد شواها، فوضعها بين يديه فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأكل وأمر القوم أن يأكلوا. وزاد في لفظ (وقال)

(7)

: «إني لو اشتهيتُها أكلتُها» .

ولحم الفرس مكروه عند أبي حنيفة، وكراهته كرامة لأنه للجهاد آلة، وفي أكله قِلَّتُها. وقالا: مباحٌ كسائر الأئمة. وفي قاضيخان: أنّ لبنه يكره كلحمه، وفي

= الوسيط ص 532، مادة:(ضبَّ).

(1)

المَحْنُوذ: المشوي. المعجم الوسيط ص 202، مادة:(حنذ).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع، فاستدركناه من المخطوط، وصحيح مسلم 3/ 1543 - 1544، كتاب الصيد والذبائح (34)، باب: إباحة الضب (7) رقم (44 - 1946).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(5)

أَنْفَجْنَا أرنبًا: أثرناها. النهاية 5/ 88. وانظر "فتح الباري" 9/ 661 - 662.

(6)

لغب: تعب. المعجم الوسيط ص 830، مادة:(لغب).

(7)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

ص: 71

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

«شرح الكنز» : لبن الرَّمَكَة

(1)

حلال بالإجماع. ويَحْرُم شرب لبن الأُتُن

(2)

لأنّ اللبن يتولّد من اللحم فصار مثله. ويَحْرُم شرب أبوال الإبل، وهذا عند أبي حنيفة. وعند أبي يوسف: يجوز للتّداوي. وعند محمد: يباح مطلقاً، وبه قال مالك: ويَحْرُم أكل لحم الإبل والبقر الجلاّلة، لأنها تتغير وكذا شرب لبنها لأنه يتولّد من لحمها. وفي «المُنْتَقَى»: الجلاّلة: هي التي تغيّرت وأنتنت فوجد منها رائحة خبيثة. وأمّا الدجاجة المُخَلاَّة فلا يَحْرُم أكلها، لأنّها لا تتغير كذا ذكره بعضهم. فإن حبست الجلاّلة في مكانٍ وعُلِفَتْ حلّت. وكان أبو حنيفة لا يوقّت لحبسها ويقول: تُحْبَس حتى تطيب ويذهب نَتْنُهَا، وهو قولهما. كذا في «التتمة». وقيل: يقدّر في الإبل أربعين (يوماً)

(3)

، وفي البقر عشرين، وفي الشاة بعشرة أيامٍ، وفي الدجاجة بثلاثة أيام.

ولو وقع ما نثر من السُّكَّر والدّراهم في حِجْر رجلٍ فأخذه غيره حلّ له، لأنه مباح، والمباح لمن سبق يده إليه، إلاّ أن يكون الأول قد تهيّأ له أو ضمّه إلى نفسه، لأنّه بذلك يملكه، ثم التهيئة هل هي جائزة؟ فعن محمد جازت إذا كان أَذِنَ فيها صاحبُها، فقد صحّ أنه عليه الصلاة والسلام نحر يوم النحر

(4)

خمسة أبْقُرٍ وقال: «من شاء فليقطع»

(5)

.

ويحرم أكل التراب والطين لورود النهي، ولأنه يورث الإصفرار ووجع المَثَانة. ويسنّ للنساء خضاب اليد والرِجْل، ويحرم على الرجال، وكذا يحرم أن يخضب أيدي الصبيان وأرجلهم. ولا بأس بخضاب الرأس واللحية بالحناء والوَسْمَةِ

(6)

للرجال والنساء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أحسن ما غيّرتم به الشيب الحناء والكتَم»

(7)

. رواه ابن ماجه.

وإن أردت تفصيل المحرمات والمباحات من الحيوانات فعليك بكتابنا المسمى بـ: «بهجة الإنسان في مهجة الحيوان» . والله المستعان في كل مكان وزمان. والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

الرَّمَكَة: الفرس البِرْذَوْنة تتخذ للنسل. المعجم الوسيط ص 373، مادة (رمك).

(2)

الأُتُن: جمع أتان وهو الحمارة. المعجم الوسيط ص 4، مادة:(أتن).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

في المطبوع: النهب، والمثبت من المخطوط.

(5)

لم نجده في المصادر المتوفرة بين أيدينا.

(6)

الوَسْمَة: شجرٌ كاليمن يُخضب بورقه الشعر أسود. النهاية 5/ 185.

(7)

الكَتَمُ: هو نبتٌ، يخلط مع الوَسْمة، ويصبغ به الشعر، أسود، النهاية 4/ 150.

ص: 72

‌كتابُ الأُضْحِيَةِ

هِيَ: شَاةٌ مِنْ فَرْدٍ، وَبَقَرَةٌ أَو بَعِيرٌ مِنْهُ إِلَى سبعَةٍ، إِنْ لَمْ يَكُن لِفَردٍ أَقَلُّ مِنْ سُبعٍ. وَيُقْسَمُ اللّحْمُ وَزْنًا لا جُزَافًا، إلّا إذَا ضُمَّ مَعَهُ مِنْ أكَارِعِهِ أوْ جِلْدِهِ.

وَصَحَّ اشِترَاكُ سِتّةٍ في بَقَرَةٍ مَشْرِيَّةٍ لأُضْحِيَةٍ، وَذَا قَبْلَ الشِّرَاءِ أَحَبُّ.

===

كتاب الأُضْحِيَةِ

(هِيَ) لغةً ما يضحّى به.

وشرعاً: (شَاةٌ) تذبح يوم الأَضحى (مِنْ فَرْدٍ) أي شخصٍ واحدٍ (وَبَقَرَةٌ أَوْ بَعِيرٌ مِنْهُ) أي من فردٍ (إِلَى سَبْعَةٍ) والقياس أن لا يجوز إلاّ عن فردٍ، لأنّ الإراقة واحدةٌ وهي القُربة إلاّ أَنَّ تركناه لِمَا أخرجه الجماعة إلاّ البخاري عن جابر قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحُدَيْبِيَةِ البَدَنَة عن سبعةٍ، والبقرة عن سبعة. وإنّما قال إلى سبعة لأنّ كلاًّ منهما يجوز عن ستة وأقل، لأنه إذا جاز عن سبعة فما دونها أولى. ولا يجوز عن ثمانية أخذاً بالقياس فيما لا نصّ فيه، لكن أخرج الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ غريب، والنَّسائي وأحمد، وابن حبّان في صحيحه عن ابن عباس قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقر سبعة، وفي الجَزُور عشرة. (إِنْ لَمْ يَكُنْ لِفَرْدٍ) منهم (أَقَلُّ مِنْ سُبْعٍ) قيّد به لأنه لو كان لأحدهم أقلّ من سُبْعٍ لا يجوز عن الكل لانعدام القُربة في البعض.

(وَيُقْسَمُ اللَّحْمُ) بينهم (وَزْناً) لأنّه موزون عرفاً (لا جُزَافاً) إذ لا يتحقق التَّساوي ويدخل فيه شائبة الرِّبا. (إلاّ إذَا ضَمَّ مَعَهُ مِنْ أَكارِعِهِ أوْ جِلْدِهِ) ليكون في كل جانب شيءٌ من اللحم وشيء من الأكارع، أو يكون في كل جانب لحم وأكارع، وفي آخر لحم وجلد. وإنما يجوز إذا كان ذلك صرفاً لكل جنس إلى خلافه.

(وَصَحَّ اشْتِرَاكُ سِتّةٍ في بَقَرَةٍ مَشْرِيَّةٍ لأُضْحِيَةٍ) بأن اشترى شخصٌ بقرةً يريد أن يضحّي بها عن نفسه ثم اشترك فيها معه ستة. وقال زفر: لا يصحّ وهو القياس، لأنّ إعدادَها للقُربة يمنع عن بيعها تموّلاً. (ووجه)

(1)

الاستحسان أنه قد يجد بقرة يشتريها، ولا يجد شركاءَ وقت الشراء، فكانت الحاجة ماسة إلى ذلك دفعاً للحَرَج. (وَذَا) أي الاشتراك (قَبْلَ الشِّرَاءِ أَحَبُّ) ليكون أبعد عن الخلاف وعن صورة الرجوع في القُربة.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 73

وَيُضَحِي الأَبُ أوْ الوَصِيُّ مِنْ مَالِ طِفْلٍ غَنِيٍّ، فَيَأكلُ الطِفْل مِنْهُ، وَمَا يَبقَى يبدَلُ بِمَا يُنْتَفَعُ بِعَينِهِ.

وَأَوَّلُ وَقتهَا بَعْدَ صَلاةِ العَيدِ إِنْ ذَبَحَ في مِصْرٍ،

===

وعن أبي حنيفة أنه يكره الاشتراك بعد الشراء.

واعلم أنّ الأضحية واجبةٌ عندنا على كلّ حرَ مسلمٍ، مقيمٍ، موسرٍ، فجر يوم النَّحر وتِلْوَيه، وقالا سنة في رواية، كمالك والشّافعي، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من رأى هلال ذي الحِجة منكم وأراد أن يضحّي فليمسك عن شعره وأظفاره» . رواه الجماعة إلاّ البخاري. والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ثلاثٌ هنَّ عليّ فرائض، وهي لكم تطوعٌ: الوتر، والنحر، وصلاة الأضحى» . رواه أحمد في «مسنده» ، والحاكم في «مستدركه» وسكت عنه.

ولنا إطلاق قوله تعالى: {وَانْحَرْ} أي الأضحية، والأمر للوجوب، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من كان له سَعَةٌ ولم يضحِّ فلا يَقْرَبَنَّ مصلاّنا» . رواه أحمد، وابن أبي شَيْبَة، والحاكم وقال: صحيحُ الإسناد ولم يخرِّجاه.

وما في «السنن الأربعة» عن ابن عَوْن عن أبي رَمْلَة: حدّثنا مِحْنَف بن سُلَيْم

(1)

قال: كنّا وقوفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفاتٍ. قال: «يا أيها النَّاس على كلِّ أهل بيتٍ في كل عام أُضْحِيَةٌ وعَتِيرةٌ

(2)

، أتدرون ما العتيرةُ؟ وهي التي يقول الناس أنها الرّجبيّة». انتهى. والعَتِيرة منسوخة، فالأضحية باقية على وجوبها، فيذبح عن نفسه شاةً، أو سُبْع بَدَنة، ولا يذبح عن طفله الفقير في ظاهر الرواية، ولا يجب عن طفله الغني من ماله في أصحّ ما يُفْتَى به كما في «شرح الوافي». قال بعض مشايخنا: على الأب أو الوصي أن يذبح من ماله عند أبي حنيفة.

وهذا معنى قوله: (وَيُضَحِّي الأَبُ أوْ الوَصِيُّ مِنْ مَالِ طِفْلٍ غَنِيَ) وفي «الهداية» : أنه الأصحّ. (فَيَأْكُلُ الطِفْل مِنْهُ وَمَا يَبْقَى يُبْدَلُ بِمَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ) كالخفّ والثوب، لا بما ينتفع باستهلاكه كالخُبز، ونحوه.

(وَأَوَّلُ وَقْتِهَا بَعْدَ صَلَاةِ العَيدِ إِنْ ذَبَحَ في مِصْرٍ) لِمَا رواه البخاري من حديث أنس أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «مَنْ ذبح قبل الصلاة فليعد، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تمّ نُسُكه» . وما أخرجه الشيخان عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن

(1)

حُرِّفت في المطبوع إلى علف بن سُلَيْم، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في سنن الترمذي 4/ 83 - 84، كتاب الأضاحي (17)، باب:(18) رقم (1518).

(2)

العتيرة: ذبيحة كانوا يذبحونها لآلهتهم في الجاهلية. المعجم الوسيط ص 582، مادة:(عتر).

ص: 74

وَبَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إنْ ذَبَحَ فِي غَيرِهِ. وَآخِرُهُ قُبَيلَ غُرُوبِ اليَوْمِ الثَّالِثِ.

===

أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلّي ثم نرجع فَننْحَر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سُنَّتَنَا، ومن ذبح قبلُ، فإنما هو لحم قدّمه لأهله ليس من النُّسُك في شيء». وفي «سنن أبي داود»: فقام أبو بُرْدَة بن نِيَار

(1)

فقال: يا رسول الله، لقد نَسَكْتُ قبل أن أخرج إلى الصلاة وعرفت أنّ اليوم يومُ أكلٍ وشربٍ، فَتَعجَّلْت (فأكلتُ) وأطعمت أهلي وجيراني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تلك شاةُ لحمٍ» فقال: إن عندي عَنَاقاً

(2)

جَذَعَةً

(3)

، وهي خير من شاتَيْ لحم فهل تجزاء عني؟ فقال: «اذبحها ولا تصلح

(4)

لغيرك». كذا في «المواهب» .

وفي الشُمُنِّي: أخرج الشيخان عن البراء بن عازب قال: ضحَّى خالي أبو بُرْدَة قبل الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تلك شاة لحم» . فقال: يا رسول الله إنّ عندي جَذَعة من المَعْز، فقال:«ضحِّ بها ولا تصلح لغيرك، من ضحَّى قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تمّ نُسُكُه وأصاب سُنَّة المسلمين» .

(وَبَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إنْ ذَبَحَ فِي غَيْرِهِ) أي في غير مِصْره، والمُعْتَبَر في ذلك مكان الأضحية، حتّى لو كانت في السَّواد والمضحِّي في المِصْر يجوز وقت الفجر، ولو كانت في المِصْر والمضحّي في السواد لا يجوز إلاّ بعد الصلاة، لأنها تسقط بالهلاك قبل مُضِيِّ أيام النَّحْر، كالزكاة تسقط بهلاك النِّصاب فيعتبر فيها مكانُ المحل، وهو المال لا مكان الفاعل كالزكاة، بخلاف صدقة الفطر حيث يعتبر فيها مكانُ الفاعل، لأنّها تتعلّق به في الذِّمة.

(وَآخِرُهُ قُبَيْلَ غُرُوبِ اليَوْمِ الثَّالِثِ) من أيام النحر لِمَا روى مالك في «الموطّأ» عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: الأضحى يومان بعد يوم الأضحى. وقال مالك: بلغني أن عليّ بن أبي طالب كان يقول مِثْل ذلك.

فإن لم يصلِّ الإمام ذبح هو والناس بعد الزَّوال، وعند الشَّافعيّ: إذا مضى من الوقت مقدار ما يصلِّي فيه صلاة العيد عادة، جازت الأضحية بعد ذلك، لأنهم لو صلّوا جازت

(1)

حُرِّفت في المطبوع إلى أبي بريدة بن تيار، وفي المخطوط إلى أبي بردة بن دينار. والصواب ما أثبتناه لموافقته لما في سنن أبي داود 3/ 234، كتاب الضحايا (10)، باب: ما يجوز من السِّنِّ في الضحايا (5، 4)، رقم (2800)، وما بين الحاصرتين منه.

(2)

العَنَاقُ: الأنثى من أولاد المعز والغنم من حين الولادة إلى تمام الحول. المعجم الوسيط ص 632، مادة:(عنق).

(3)

الجَذَعة: من الغنم ما كان عمره أكثر من ستة أشهر. معجم لغة الفقهاء ص 161.

(4)

لفظ المطبوع والخطوط: ولم يصلح. وما أثبتناه لفظ البخاري. حديث رقم (5556).

ص: 75

وَاعْتُبِرَ الآخِرُ لِلفَقْرِ وَضِدِّه والولادَةِ وَالمَوْتِ.

وَكُرِهَ الذَّبْحُ فِي اللَّيلِ، وَيَقْضِي النَّاذِرُ وَفقيرٌ شَرَى الأُضْحِيَةَ بَتَصُّدقِها حَيَّةً، والغَنِيُّ بِتَصَدُّقِ قِيمَتِهَا، شَرَى أَوْ لا.

وصَحَّ الجَذَعُ مِنَ الضَّأنِ والثَّنِيُّ فَصَاعِدًا مِنْ غَيرِهِ، وَهُوَ: ابن حَوْلٍ مِنَ الضَّأنِ والمعزِ، و: حَوْلَين مِنَ البَقَر، وَ: خَمسٍ مِنَ الإبِلِ. وتُذْبَحُ الثَّوْلاءُ والجَمَّاءُ

===

الأُضحِيَة، فلا يتغير ذلك بتأخير الإمام الصلاة كما لو زالت الشمس. قلنا: الواجب مراعاة الترتيب المنصوص، وما بَقِيَ وقت الصلاة فمراعاة الترتيب ممكنٌ بخلاف ما بعد الزوال، فقد خرج وقت صلاة العيد بزوال الشمس في هذا اليوم، فلهذا يجوز التضحية بعده.

(وَاعْتُبِر الآخِرُ) أي آخر وقت النَّحر (لِلفَقْرِ وَضِدِّه) الغنى (والولَادَةِ وَالمَوْتِ) فإن كان إنسان غنياً (في أوّل الوقت فقيراً)

(1)

في آخره لا يجب عليه، (وإن كان فقيراً في أوله غنياً في آخره يجب عليه)( 1)، وإن وُلِدَ في اليوم الآخِرِ، (يجب)( 1) وإن مات فيه لا يجب، كما اعتبر آخر وقت الصلاة في حقّ الحيض والطُّهْر، وآخر وقت المسح على الخفين في حقّ السفر والإقامة.

(وَكُرِهَ الذَّبْحُ فِي اللَّيْلِ) لاحتمال الغلط (وَيَقْضِي النَّاذرُ) أن يضحِّي بهذه الشاة إذا لم يضحِّ حتّى مضت أيام النَّحر (وَ) يقضي (فقيرٌ شَرى الأُضحِية) ولم يضحِّ حتى مضت الأيام (بتصدُّقها حيَّةً) الباء تتعلق بيقضي (و) يقضي (الغَنِيُّ) إذا مضت الأيام (بِتَصَدُّقِ قِيمَتِهَا) سواء (شَرَى) الأضحية (أَوْ لا) وإن تعَيَّبت قبل إضجاعها للذَّبح ـ وهي لغني ـ بَدَلَهَا بغيرها لعدم إجزائها عنه بخلاف الفقير، فإنه ليس عليه أضحية وإنما لزمته بالتزامه في هذا المحلّ بعينه، ولهذا لو هلكت لم يلزمه شيء.

(وصَحَّ الجَذَعُ مِنَ الضَّأنِ) وهو عند الفقهاء ما تم له ستة أشهر (والثَّنِيُّ فَصَاعِداً مِنْ غَيْرِهِ) لِمَا أَخرجه مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَذْبَحُوا إِلاَّ مُسِنَّةً

(2)

إلاّ أن يُعْسُر عليكم فتذبحوا جَذَعَة من الضأن». (وَهُوَ) أي الثَّنِيُّ (ابن حَوْلٍ مِنَ الضَّأنِ والمَعْزِ و) ابن (حَوْلَيْنِ مِنَ البَقَر وَ) ابن (خَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ) ويدخل في البقر الجاموس، لأنه في جنسه.

(وتُذْبحُ) في الأُضحية (الثَّوْلاءُ) وهي المجنونة و (الجَمَّاءُ) وهي التي لا قَرْن

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

المُسِنَّة من البقر: ما جاوز السنتين. معجم لغة الفقهاء ص 429.

ص: 76

وَالجَرْبَاءُ، لا عَجْفَاءُ وَعَرْجَاءُ لا تَمْشِي إلى المَنْسِكِ.

وَمَا ذَهَبَ أكثَرُ مِنْ ثُلْثِ أُذُنِهَا، أو عَينهَا، أو أَلِيَتِهَا، أو ذَنَبِهَا. وإنْ مَاتَ أَحَدُ سَبْعَةٍ وَقَالَ وَرَثتُهُ: اذْبَحُوها عَنْهُ وَعَنْكُمْ، صحَّ. كَبَقَرَةٍ عَنْ أُضْحِيَةٍ وَمُتْعَةٍ وَقِرَانٍ.

وإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ كَافِرًا، أوْ مُرِيدًا اللَّحْم لا،

===

لها، لأن القرن لا يتعلّق به مقصود، والخَصِيُّ لأنّ لحمه أطيب، ولما روى أبو داود وابن ماجه من حديث عائشة وأبي هُرَيْرَة وأبي رافع وأبي الدَّرْدَاء أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح يوم النّحر كَبْشَين أقْرَنَيْنِ أمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَينِ. ورُوِيَ: مُوجَأَينِ.

قال ابن المُنْذِر: أي منزوعي الأُنْثَيَيْنِ، قاله أبو موسى الأصبهاني. وقال الجَوْهَرِيّ: الوِجَاء بالكسر والمد: رضُّ عرق الأُنْثَيْين. وقال ابن الأثير: منهم من يرويه بغير همزة، فيكون من وَجَيْتُه وَجْيَاً.

(وَ) تذبح (الجَرْبَاءُ) إن كانت سمينة ولم يتلَف جلدها، لأنه لا يُخِلّ بالمقصود (لَا عَجْفَاءُ)

(1)

أي لا تذبح في الأضحية عَجْفَاء.

(وَ) لا (عَرْجَاء) بحيث (لا تَمْشِي إلى المَنْسِكِ) أي المذْبَح لِما أخرجه أصحاب السنن الأربع، ومالك في «الموطّأ» من حديث البراء بن عازب قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أربعٌ لا يجوز في الضحايا: العَوْراءُ البيِّنُ عَوَرها، والمريضة البيِّنُ مرضُها، والعَرْجاء البين ظَلْعُها

(2)

، والكَسِيرة

(3)

التي لا تُنْقِي». بمثناة فوقية مضمومة، فَنُون ساكنة، فقاف مكسورة، أي بلغ بها العَجَف إلى حدَ لا يكون في عظامها نِقْيٌ أي مخ. وقال مالك والترمذي عوض الكسيرة: العجفاء.

(وَ) لا (مَا ذَهَبَ أكثَرُ مِنْ ثُلْثِ أُذُنِهَا أو عَيْنِهَا أو أَلْيَتِهَا أو ذَنَبِهَا) وهكذا عند أبي حنيفة، ويُرْوى عنه الرُّبْع والثُّلث. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا بَقِيَ أكثر من النصف أَجزأَه اعتباراً للحقيقة، وهو اختيار أبي اللَّيْث. وفي كون النصف مانعاً روايتان عنهما.

(وإنْ مَاتَ أَحَدُ سَبْعَةٍ) اشتركوا في بقرةٍ أو بعيرٍ للأُضحية (وَقَالَ وَرَثَتُهُ: اذْبَحُوها عَنْهُ وَعَنْكُمْ صَحَّ) والقياس أن لا يصحَّ وهو رواية عن أبي يوسف (كَبَقَرَةٍ) أي كما يصحّ بقرة (عَنْ أُضْحِيَةٍ وَمُتْعَةٍ وَقِرَانٍ) لاتحاد المقصود وهو القربة وإن اختلفت جهاتها. (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ) أي أحد السبعة (كَافِراً أوْ مُرِيداً اللَّحْم لَا) أي

(1)

العجفَاء: الهزيلة. المعجم الوسيط ص 586، مادة:(عجف). بتصرف.

(2)

ظَلَعَ: عَرَج وغمز في مشيه. المعجم الوسيط ص 576، مادة:(ظلع).

(3)

في المخطوط: الكبيرة، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في سنن أبى داود 3/ 235 - 236، كتاب الضحايا (10)، باب ما يكره من الضحايا (6، 5)، رقم (2802).

ص: 77

وَيَأكلُ مِنْهَا. وَيُؤْكِلُ وَيَهَبُ مَنْ يَشَاءُ. وَنُدِبَ التَّصَدُّقُ بِثُلُثِهَا، وَتَرْكُهُ لِذِي عِيَالٍ تَوْسِعَةً عَلَيهِمْ.

وَالذَّبْحُ بِيَدِهِ إنْ أحْسَنَ

===

لا يصحّ عن أحدٍ، لأنّ الكافر ليس من أهل القُربة، وقَصْدُ اللحم ينافيها. وإذا لم يقع البعض قربة لم يقع الكلّ، إذ الإراقة لا تجزي في حقّ القربة.

(وَيَأْكُلُ) المضحّي (مِنْهَا) أي من أضحيته (وَيُؤْكِلُ) أي يطعم الأغنياء والفقراء (وَيَهَبُ مَنْ يَشَاءُ) لما روى مسلم عن أبي سعيد الخُدْرِيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أهل المدينة لا تأكلوا لحمَ الأضاحي فوق ثلاث» . فشَكَوْا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ لهم عيالاً وحَشَماً وخَدَماً فقال: «كلوا وأطعموا واحْبِسُوا وادَّخروا» . وروى البخاري عن سَلَمة بن الأكْوَع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ضحّى منكم فلا يُصْبِحَنَّ

(1)

بعد ثالثةٍ وفي بيته منه شيء». فلمّا كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله نفعل كما فعلنا عام الماضي؟ قال: «كلوا وأطعموا وادّخروا، فإنّ ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تُعينوا فيها» .

ولأنّه لَمّا جاز أكل المضحِّي منها وهو غني، جاز أن يُؤْكِلَ الغنيّ.

(وَنُدِبَ التَّصَدُّقُ بِثُلُثِهَا) لأنّ الجهات ثلاثة: الأكل والادخار والإطعام، لما ذكرنا من الأحاديث، فانقسمت الأضحية عليها أثلاثاً، والإطعام: التصدّق لِما في رواية «تصدّقوا»

(2)

بدل: «أطعموا» ولقوله تعالى: {وأَطْعِمُوا القَانِعَ والمُعْترَّ}

(3)

والقانع: السائل، يقال: قَنَعَ قُنوعاً كمنع: إذا سأل وخضع، وقَنِع قناعة كفرح: إذا رضي بما عنده وبما يُعْطَى من غير سؤال. والمعترّ المعترض بغير السؤال، أو المراد بالقانع: الرَّاضي، وبالمعترّ: المعترض بالسؤال، وهو الأظهر.

(وَ) نُدِبَ (تَرْكُهُ) التصدّق (لِذِي) أي لصاحب (عِيَالٍ تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ) هذا كلّه في الأضحية السنة والواجبة بغير النذر، وأمّا الواجبة بالنذر فليس لصاحبها أن يأكل شيئاً منها، ولا أن يُطْعِم الأغنياء، سواء كان الناذر غنياً أو فقيراً، لأنّ سبيلها التصدّق، وليس للمتصدّق أن يأكل من صدقته ولا أن يُطعم منها غنياً.

(وَ) ندب للمضحِّي (الذَّبْحُ بِيَدِهِ إنْ أحْسَنَ) الذبح لأنه قربة، والأَولى في القُربةِ

(1)

حُرِّفَت في المخطوط إلى يُضَحِّي، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في صحيح البخاري (فتح الباري) 10/ 24، كتاب الأضاحي (73)، باب: ما يؤكل من لحوم الأضاحى، وما يتزَوَّدُ منها (16)، رقم (5569).

(2)

ترتيب مسند الإمام الشافعي 1/ 162، رقم (473).

(3)

سورة الحج، الآية:(36).

ص: 78

وَإلَّا أَمَرَ غَيرَهُ، وَكُرِهَ ذَبْحُ كتَابِيٍّ. وَيَتَصَدَّقُ بِجِلْدِهَا أَوْ يَعْمَلُهُ آلَةً مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ بَاقِيًا، فَإِنْ بِيعَ بِغَيرِ ذَلِكَ يَتَصَدّق بِثَمَنِهِ.

===

التي تَقْبَل النيابة أن يتولاّها صاحبها بنفسه. وقد نحر النبيّ عليه الصلاة والسلام ثلاثاً وستين بَدَنة بيده الشريفة في حجة الوداع عدد سنيّ عمره الكريم.

(وَإِلاَّ) أي وإن لم يحسن بيده (أَمَرَ غَيْرَهُ) بذبحها. وينبغي أن يشهَدَها بنفسه لِمَا روى الحاكم في «مستدركه» ، والبيهقيّ في «سننه» ، والطَّبَرانيّ في «معجمه» ، عن عِمْرَان بن حُصَيْن أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة:«قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه يُغْفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه، وقولي: إنّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مَنْ المُسْلِمِينَ» . قال عِمْرَان: قلت: يا رسول الله، هذا لك ولأهل بيتك خاصّة أم للمسلمين عامة؟ فقال: بل للمسلمين عامة». وفي «المُسْتَدْرَك» عن أبي سعيد الخُدْرِيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لفاطمة)

(1)

: «قومي إلى أُضْحِيَتِك فأشهديها، فإن لكِ بأول قطرة تَقْطُر من دمها أن يُغْفَر لكِ كلُّ ما سلف من ذنوبك» . فقالت فاطمة: يا رسول الله هذا لنا أهل البيت خاصة أو لنا وللمسلمين عامة؟ قال: «لا بل لنا وللمسلمين» .

(وَكُرِهَ ذَبْحُ كِتَابِيَ) الأضحية لأنّ ذبحها قربة والكتابيّ ليس من أهلها، لكن لو أَمره صاحبها فذبحها جاز، لأنه من أهل الذكاة. (وَيَتَصَدَّقُ بِجِلْدِهَا) لأنّه جزءٌ منها (أَوْ يَعْمَلُهُ آلَةً) يستعمل في البيت كالنِّطْع

(2)

والجِرَاب

(3)

والغِرْبال، لأن الانتفاع بها غير مُحَرَّم، ولأنّه يجوز الانتفاع باللحم، فكذا بالجلد أو بِبَدَله. (مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ بَاقِياً) لأنّ للبدل حكمَ المُبْدَلِ.

قيّد بقوله: باقياً لأنّه لا يبدل بما ينتفع به مُسْتَهْلَكاً، كالخلِّ والملح والأبازير

(4)

اعتباراً بالبيع بالدَّراهم. والمعنى فيه أنه يُصْرَف على قصد التموّل (فَإِنْ بِيعَ) الجلد (بِغَيْرِ ذَلِكَ) أي غير ما ينتفع به باقياً (يَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ) لأنّ القربة انتقلت إلى بدلها، واللَّحم بمنزلة الجلد في الصحيح. وأمّا ما رواه الحاكم ـ وقال: صحيحُ الإسناد ولم يخرّجاه ـ في تفسير سورة الحج عن الأَعرج، عن أبي هُرَيْرَةَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

النِّطْعُ: بساط من الجلد. المعجم الوسيط ص 930، مادة:(نطع).

(3)

الجِرَاب: وعاءٌ يحفظ فيه الزّاد ونحوه. المعجم الوسيط ص 114، مادة:(جرب).

(4)

الأبازير: جمع البَزْر وهو كُل حبّ يُبْذر للنَّبات. القاموس المحيط ص 445، مادة:(بزر).

ص: 79

وَلَوْ غَلِطَ اثْنَانِ وَذَبَحَ كَلٌّ شَاةَ صَاحِبِهِ، صَحَّ بِلا غُرْمٍ. وَصَحَّ التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ الغَصْبِ، لا الوَدِيعَةِ وضَمِنَهُمَا.

===

باع جلد أضحية فلا أضحية له». وكذا رواه البيهقيّ في «سننه» فيفيد كراهة البيع، لأنه جائز لقيام الملك والقدرة على التَّسليم.

(وَلَوْ غَلِطَ اثْنَانِ وَذَبَحَ كَلٌّ) منهما (شَاةَ صَاحِبِهِ صَحَّ) عنهما (بِلَا غُرْمٍ) عليهما خلافاً لزُفَر، وهو القياس، لأنّه ذبح شاة غيره بغير أمره، ويضمن كلّ منهما شاة الآخر عنده. ووجه الاستحسان: أنها تعيّنت للأضحية، والإذن حاصلٌ دلالة، لجِري العادة بالاستعانة بالغير في أمر الذبح، وإذا صحّ الذبح عنهما يأخذ كلٌّ منهما أضحيته، إن كانت باقيةً، ولا يضمن الآخر لأنّه بمنزلة وكيله ويحلّل كل منهما صاحبه (إن كان كلّ منهما أكل ما ذبحه، لأنّ صاحبها لو أطعمه الكلَّ جاز، وإن كان غنياً فكذا إذا حلّله منه)

(1)

وإن تشاحّا كان لكل منهما أن يُضمِّن صاحبه قيمة لحمه، ثم يتصدّق بتلك القيمة لأنها بدلٌ عن لحم الأضحية، فصار كما لو باع (أضحيته فإنه يجب عليه أن يتصدّق بالثمن، وهذا لأن التضحية لمّا وقعت عن المالك كان)

(2)

اللحم له.

(وَصَحَّ التَّضْحِيَةُ بِشَاةِ الغَصْبِ) وضَمِن قيمتها، ولم يصحّ عند زفر، وهو قول الأئمة الثلاثة لأنه حين ضحّى بها لم يكن مالكها. ولنا: أنه ملكها عند أداء الضمان مستنداً إلى الغصب السابق فكانت التَّضحية واردةً على ملكه (لَا الوَدِيعَةِ) أي لا تصحّ التضحية بشاة الوديعة لأنها لا تصير ملكه إلاّ بعد الذبح، فكانت التضحية في غير ملكه.

(وضَمِنَهُمَا) أي شاة الغصب والوديعة لحصول التعدّي منه بالذبح، وضمانهما بالقيمة. وكُره الانتفاع بلبن الأضحية وجزُّ صوفها قبل الذبح، لأنّه أعد للقربة بجميع أجزائها، فلا ينبغي أن يَصْرِف شيئاً منها إلى حاجة نفسه، لأنّه في معنى الرُّجوع عن الصدقة بخلاف ما بَعْد الذبح، لأنّ القُرْبة أقيمت بالذبح، والانتفاع بعد إقامة القربة مطلقاً كالأكل. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 80

‌كِتَابُ الصَّيدِ

يَحِلُّ صَيدُ كُلِّ ذِي نَابٍ وَمِخْلَبٍ، بِشَرْطِ عِلْمِهِمَا

===

كتاب الصَّيْدِ

الصيد مصدرٌ بمعنى الاصطياد، ويُطْلَق على المَصِيد تسميةً للمفعول بالمصدر. والاصطياد حلالٌ في غير الحَرَم ولغير المُحْرِم. والصيد يحلّ إن كان مأكولاً، لقوله تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}

(1)

والأمر للإباحة، وقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}

(2)

.

(يَحِلُّ صَيْدُ كُلِّ ذِي نَابٍ وَ) ذي (مِخْلَبٍ) أي يحلّ الاصطياد بكل منهما، لقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مِكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ}

(3)

فقوله: وما عَلَّمتم عطفٌ على الطَّيِّبَات، على أنّ «ما» موصولة أي وحَلّ لكم صيد ما علَّمتم، أو «ما» شرطية وجوابها فكلوا. والجوارح: الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والفهد والنَّمِر والعُقَاب

(4)

، والصَّقْر، والبازي

(5)

.

والمكلِّبُ: مؤدِّب الجوارح ومُضْرِيهَا

(6)

لصاحبها، ورائضها لذلك بما عُلِّم من الحِيَل وطرق التأديب واشتقاقه من الكلب، لأنّ ذلك أكثر ما يكون في الكلاب، أو لأنّ السَّبُعَ يسمى كلباً. واستثنى الخنزير، فإنّ الاصطياد به لا يجوز بالإجماع لنجاسة عينه.

(بِشَرْطِ عِلْمِهِمَا) أي علم ذي ناب وذي مِخْلَبٍ بأخذ الصيد لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} ، ولقوله عليه الصلاة والسلام (لأبي)

(7)

ثعلبة: «ما صِدت بكلبك المعلَّم فذكرتَ اسم الله عليه فَكُل، وما صدت بكلبك غيَرِ معلَّمٍ، فأدركت ذَكَاته فكل» . رواه أحمد والبخاري.

(1)

سورة المائدة، الآية:(2).

(2)

سورة المائدة، الآية:(96).

(3)

سورة المائدة، الآية:(4).

(4)

سبق شرحها ص (66)، التعليقة رقم:(3).

(5)

سبق شرحها ص (66)، التعليقة رقم:(2).

(6)

أضْراه: عَوَّده. مختار الصحاح ص 160، مادة (ضرا).

(7)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، وإثباته من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في صحيح البخاري (فتح الباري) 9/ 604، كتاب الذبائح والصيد (72)، باب: ما أصاب المِعْراض بعرضه (3)، رقم (5478).

ص: 81

وَجَرْحِهِمَا، وَإِرْسَالِ مسلِمٍ أوْ كتَابِيّ مُسَمِّيًا، عَلَى مُمْتَنِعٍ

===

(وَ) بشرط (جَرْحِهِمَا) في أي موضعٍ كان لتحقّق الذكاة الاضطرارية ولتوافق أصل المعنى اللغوي من الجراحة في الجوارح، وإن كان نُقِل الجَرْح إلى معنى الكَسْب، ومنه قوله تعالى:{وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}

(1)

. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يشترط، وهو قول الشَّعْبي لإطلاق قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}

(2)

من غير قيدٍ بالجرح. وقيل: هذا رجوع منهما إلى تأويل الجوارح بالكواسب، كما قال الله تعالى:{وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} أي كسبتم.

ولنا: أنَّ لها تأويلًا آخر وهو أن يكون جارحًا بنابه أو بِمخْلَبِهِ ويمكن حمله عليها، فيشترط أن يكون من الكواسب التي تجرح لتعمل بالجرح بيقين. والأصل عند أهل التأويل أنَّ اللفظ إذا كان له تأويلات مختلفة وأمكن الجمع بينها يقال بجميعها كما في قوله تعالى:

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا}

(3)

قيل في تفسيره: مسلمًا، وقيل: مخلصًا، وقيل: حاجًّا

(4)

، فنقول بجميعها بخلاف المشترك.

ووجه الظاهر أيضًا أن المقصود إخراج الدّم المسفوح، وهو بالجرح عادة، وأقيم الجرح مقامه كما في الذكاة الاختيارية والرمي بالسهم، ولأنَّه لو لم يجرحه صار مَوْقُوذة

(5)

وهي محرّمة بالنّص.

(وَ) بشرط (إِرْسَالِ مُسْلِمٍ أَوْ كِتَابِيّ) لأنّ ذا الناب والمِخْلَب بمنزلة آلة الذبح، ولا يحصل بمجرد الآلة بل باستعمالها، وذلك فيهما بالإرسال. والكتابي أهلٌ للذكاة الاختيارية، فيكون أهلًا للاضطرارية بخلاف المجوسيّ والوثنيّ والمرتدّ.

(مُسَمِّيًا) أي حال كون المسلم أو الكتابيّ مسمّيًا عند الإرسال، فمتروك

التَّسمية عامدًا لا يحلّ، وناسيًا يحلّ لما بيناه في الذبائح لقوله تعالى:{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ}

(6)

، ولقوله عليه الصلاة والسلام لِعَدِيّ بن حاتم:"إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه، فإن أمسك فأدركته حيًا فاذبحه، وإن أدركتَه قد قُتِلَ ولم يأكل منه فكله، فإنَّ أخذَ الكلب ذكاة". رواه أحمد والشيخان.

(عَلَى مُمْتَنِعٍ). متعلّق پارسال. واحترز به عن الإرسال على غير الممتنع بقوائمه أو

(1)

سورة الأنعام، الآية:(60).

(2)

سورة المائدة، الآية:(4).

(3)

سورة النحل، الآية:(120).

(4)

في المطبوع خارجًا، والمثبت من المخطوط.

(5)

سبق شرحها ص (54)، التعليقة رقم:(2).

(6)

سورة المائدة، الآية:(4).

ص: 82

مُتَوَحِّشٍ يُؤْكَلُ، وَأن لا يُشَارِكَ المُعَلَّم مَا لا يَحِلّ صَيدُهُ، وَلا تَطُولَ وَقْفَتُهُ بَعْدَ الإِرْسَالِ.

وَيُعْلَمُ المُعَلَّمُ: بِتَرْكِ أكلِ الكَلْبِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَرُجُوعِ البَازِي بِدُعَائِهِ،

===

بجناحيه، فلو أخذ الكلب ونحوه صيدًا قد قيّد في شبك، أو سقط في بئرٍ، أو أثخنه آخَرُ لم يحِلَّ بمجرد جرحه إيّاه، لأنَّه خرج بهذه العوارض عن الامتناع. (مُتَوَحِّشٍ) احترز به عن المُسْتَأْنس (يُؤْكَلُ) لأنَّ الكلام فيما يحلّ أكله بالصيد، فلا بدّ أن يكون ممَّا يؤكل.

(وَ) بشرط أن لَا يُشَارِكَ المُعَلَّمَ مَا لَا يَحِلّ صَيْدُهُ) وهو كلب غير معلَّم، أو کلبُ مجوسيّ، أو كلبٌ لم يُرْسل للصيد، أو كلبُ أرسل وتَرَكَ التسمية عليه عمدًا لما أخرجه أصحاب الكتب الستة عن عديّ بن حاتم، قال: قلت: يا رسول الله: إني أُرسل كلبي فأجدُ معه كلبًا آخر لا أدري أيهما أخذه؟ فقال: "لا تأكل فإنّما سمّيت على كلبك، ولم تسمّ على كلبٍ آخر". وفي لفظ: "إذا أرسلت كلبك فسمّيت فأخذ فقتلَ فكُلْ، وإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نَفْسِهِ". وفي لفظٍ: قلت: يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلّمة فيُمْسِكْنَ عليَّ وأَذْكر اسم الله، فقال:"إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله فكُلْ ما أمسك عليك". قلت: وإن قتلْنَ؟ قال: [إن قتلن]

(1)

ما لم يشركه كلبٌ ليس معه". وفي رواية لأحمد والشيخين: "إذا أرسلت کلبك، فاذكر اسم الله عليه، فإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره وقد قتل، فلا تأكل، فإنَّك لا تدري أيهما قتله». ولأنَّه اجتمع الإباحة والحرمة فغلبت الحرمة.

(وَ) بشرط أن (لَا تَطُولَ وَقْفَتُهُ) أي توقف ما أرسل (بَعْدَ الإِرْسَالِ) لأنه إذا طال وقوفه بعد الإِرسال لم يكن اصطياده مضافاً إلى الإرسال.

(وُيُعْلَمُ) أي يُعْرَفُ (المُعَلَّمُ) بالصيد في نحو الكلب والبازي

(2)

(بِتَرْكِ أَكْلِ الكَلْبِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَرُجُوعِ البَازِي بِدُعَائِهِ) عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، لأن علامة التعلّم ترك ما هو مألوف عادةً، والبازي متوحّشٌ متنفّرٌ، فكانت الإجابة علامة تعلُّمه، ولو بمرّة، والكلب ألوفٌ لا يترك الأكل عادةً، فكان علامةُ تعلّمه تَرْكَ أكله.

وإنّما قُدّر بثلاث مراتٍ، لأنه ربّما يترك الأكل لشِبَعه، فقدّر له مدّة ضربت للاختبار كما في مدّة الخيار. وعند أبي حنيفة رحمه الله: لا يثبت التعلّم إلاّ بأن يَغْلُب على الظن أنّه تعلّم، ولا يقدّر بشيء، لأنّ المقادير تُعْرَفُ بالنص لا بالاجتهاد، ولا نصّ فيفوّض إلى رأى المُبْتَلى به، ورواية الحسن عنه كقولهما.

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط، وهي صحيحة لموافقتها لما في صحيح مسلم 3/ 1529، كتاب الصيد والذبائح (34)، باب الصيد بالكلاب المعلّمة (1)، رقم (1 - 1929).

(2)

سبق شرحها ص (66)، التعليقة رقم:(2).

ص: 83

فَإنْ أكَلَ بَعْدَ تَرْكِهِ ثَلاثًا، تَبَيَّنَ جَهْلُهُ. وَلا يُؤْكَلُ مَا قَدْ صَادَ وَبَقِيَ في مِلْكِهِ، وَلا مَا بِصَيْدِهِ حَتَّى يَتَعَلَّمَ.

وَشَرْطُ الحِلِّ بِالرَّمْيِ التَّسْمِيَةُ، والجَرْحُ، وأَنْ لا يَبعُدَ عَنْ طَلَبِهِ إِنْ غَابَ مُتحَامِلًا سَهْمَهُ،

===

(فَإِنْ أكَلَ) الكلب (بَعْدَ تَرْكِهِ ثَلَاثاً تَبَيَّنَ جَهْلُهُ) عندهما (وَلَا يُؤْكَلُ مَا قَدْ صَادَ) قبل أكله (وَبَقِيَ في مِلْكِهِ) أي ملك مالكه من الصائد وغيره، سواء لم يكن مُحرزاً بأن كان في المفازة

(1)

بعدُ، وهذا بالاتفاق، أو كان محرزاً، وهذا عند أبي حنيفة. وأمّا عندهما: فيؤكل، لأنّ الأَكل لا يدلّ على الجهل فيما تقدّم، لأنّ الحرفة تُنْسَى بخلاف غير المحرز، لأنه صيدٌ من وجهٍ لعدم الإحراز، فَحَرُم احتياطاً.

ولأبي حنيفة: أنّ أكل الكلب علامة الجهل من الابتداء، لأن الحرفة لا تُنْسى أَصْلُها، فإذا أكل تبين أنه إنّما كان ترك الأكل للشِّبع لا للتعلّم. ولو شرب الكلب من دم الصيد ولم يأكل منه حلّ، لأنّه ممسك عليه، وهذا غاية علمه حيث شرب ما لا يصلح لصاحبه، وأمسك عليه ما يصلح له.

(وَلَا) يؤكل (مَا يَصَيْدُهُ) الكلب (حَتَّى يَتَعَلَّمَ) فإذا ترك ثلاثاً لا يؤكل الأول ولا الثاني اتفاقاً، ولا الثالث عندهما خلافاً لأبي حنيفة. وأمّا إن أكل البازي ونحوه منه فلا يَحْرُم اتفاقاً لما رُوِيَ عن ابن عبّاس في البازي: يَقْتل الصيد، ويأكل منه قال: كُلْ.

(وَشَرْطُ الحِلِّ) مبتدأ (بِالرَّمْيِ) أي بالحادِّ، وهو متعلّق بالحِلّ والخبر (التَّسْمِيَةُ) وهذا عندنا، وبه قال مالك. وذلك لأنّ الرمي، كالذبح لكون السهم آلةً، ولقوله عليه الصلاة والسلام لِعَدِي:«إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله عليه، فإن وجدته قد قتل فكُلْ، إلاّ أن تجده قد وقع في ماءٍ» . رواه الشيخان وزاد مسلم: «فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» ؟

(والجَرْحُ) أي وشرط حلِّه بالجراحة ليتحقق معنى الذكاة (وَأَنْ لَا يَبْعُدَ عَنْ طَلَبِهِ إِنْ غَابَ) الصيد حال كونه (مُتَحَامِلاً سَهْمَهُ) لِمَا روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» ، والطَّبَرانيّ في «معجمه» ، عن أبي رَزِين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصيد يتوارى عن صاحبه قال:«لعلّ هوامَّ الأرض قتلَتْه» .

وروى عبد الرَّزَّاق نحوه عن عائشة مرفوعاً بلفظ: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بظبْيٍ قد أصابه بالأمس وهو ميت فقال: يا رسول الله عرفت فيه سهمي، وقد رميته

(1)

المفازة: الصحراء. المعجم الوسيط ص 706، مادة:(فاز).

ص: 84

فَإنْ أدْرَكَهُ المُرْسِلُ أَوْ الرَّامي حَيًّا ذَكّاهُ.

فَإنْ تَرَكَهَا عَمْدًا حَرُمَ،

===

بالأمس. فقال: «لو أعلم إنّ سهمك قتله أكلته، ولكن (لا)

(1)

أدري وهوامُّ الأرض كثيرة». وفي «مراسيل أبي داود» عن الشَّعْبِيّ أن أعرابياً أهدى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ظَبْياً فقال: «من أين أصبت هذا» ؟ قال: رميته فطلبته فأعجزني حتى أدركني المساء فرجعت، فلمّا أصبحت اتّبعت أثره فوجدته في غارٍ، وهذا مِشْقَصِي

(2)

فيه أعرفه»، قال:«بات عنك الليلة فلا آمَنُ أن يكون هامَّةٌ أعانتك عليه فلا حاجة لي فيه» . هذا ولكنه يخالف صريح ما في مسلم وأحمد وأبي داود والنَّسائي عن أبي ثَعْلَبَة الخُشَنِيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يدرك صيده بعد ثلاث قال: «كُلْ ما لم يُنْتِنْ» .

وكذا ما في «صحيح البخاري» ومسلم والنَّسائي عن عدي بن حاتم: «وإن رميتَ بسهمِك فاذكر اسمَ الله، فإن غاب عنك يوماً فلم تجد فيه إلاّ أثرَ سَهْمِك فَكُلْ إن شئت، وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» ؟. وفي مسلم عنه أيضاً أنه قال: يا رسول الله يرمي أحدنا الصيد فيقتفي أثره اليومين أو الثلاثة ثم يجده ميتاً وفيه سهمه (أيأكل)

(3)

قال: «يأكل إن شاء» . وفي سنن الترمذي والنَّسائي عنه أيضاً قال: قلت: يا رسول الله إنَّا أهل صيد، وإنّ أحدنا يرمي الصيد فيغيب عنه الليلة والليلتين، فيبتغي الأثر فيجده ميتاً. قال:«إذا وجدت السهم فيه ولم تجد أثر غيره، وعلمت أنّ سهمك قتله فكله» . ولا شك أنّ الصريح مقدّم على الظاهر في الاستدلال، اللَّهم إلاّ أن يقال: إنّ الظاهر حاظرٌ، وهو مقدّمٌ على المبيح.

(فَإِنْ أدْرَكَهُ المُرْسِلُ أَوْ الرَّامي حَيّاً ذَكّاهُ) لأنه قَدِر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل، لأنّ المقصود هو الإباحة، وهي لا تثبت قبل موته. (فَإِنْ تَرَكَهَا) أي الذكاة (عَمْداً حَرُمَ) لأنّه ميْتَةٌ، لأنّ الواجب فيه الذكاة الاختيارية ولم يفعل، وهذا إذا تمكّن من ذبحه ولم يذبحه، أو لم يتمكن، وفيه من الحياة فوق ما في المذبوح في ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنّه يحِلّ، وهو قول الشافعيّ. لأن ذكاة الاضطرار بدلٌ عن ذكاة الاختيار، وما لم يقدِر على الأصل لا يسقط حُكْمُ البدل. وهنا لم يقدر على الأصل فصار كالمتيمم إذا وجد الماء وبينه (وبينه)

(4)

سَبُعٌ أو عدوٌ. وأمّا إذا لم يتمكّن من ذبحه وكان فيه من الحياة بقدر ما في المذبوح، بأن لم

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

المِشْقَصُ: سهمٌ ذو نصْلٍ عريضٍ. المعجم الوسيط ص 489، مادة (شقص).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط في المخطوط.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 85

كَمَا إِذَا قَتَلَهُ مِعْرَاضٌ بِعَرْضِهِ، أَوَ بُنْدُقَةٌ ثَقِيلَةٌ ذَاتُ حِدَّةٍ، أوْ رُمِيَ فَوَقَعَ في مَاءٍ، أَوْ عَلَى سَطْحٍ ثُمَّ عَلَى الأَرْضِ.

===

يبق إلاّ مضطرباً اضطراب المذبوح، فإنه يحِلّ اتفاقاً، لأنّ هذا القدر من الحياة لا يعتبر، فكان ميتاً حكماً، وإذا كان ميتاً حكماً لا يكون محلاً للذبح.

قال الصدر الشهيد: إن هذا وِفاق، وقيل: هو قولُهما. وعند أبي حنيفة لا تحِلّ إلاّ إذا ذكَّاه بناءً على أنّ الحياة الحقيقية معتبرةٌ عنده غير معتبرةٍ عندهما. وقال بعض المشايخ: إن لم يتمكن لفقد الآلة لم يُؤْكَل اتفاقاً، لأنّ التقصير

(1)

من قِبَلِهِ حيث لم يحمل آلة الذكاة معه، وإن لم يتمكن لضيق الوقت لم يؤكل عندنا. وقال حسن بن زياد، ومحمد بن مُقَاتل: يحِلّ استحساناً، لأنّه لم يقدر على الأصل لِضِيق الوقت، فبقيت ذكاة الاضطرار مُوجِبة للحلّ. وبالاستحسان أخذ الإمام فخر الدين قاضيخان.

ولنا: أنه بالوقوع في يده لم يَبْقَ صيداً فلم يُعْتبر حُكْمُ ذكاة الاضطرار فيه، وصار كما لو خنقه الكلب ولم يَجْرَحْه.

(كَمَا) حرم الصيد (إِذَا قَتَلَهُ مِعْرَاضٌ) وهو السهم الذي لا ريش له (بِعَرْضِهِ) متعلّق بقتل، وإنّما حرم لما روى أصحاب الكتب الستة عن عَدِي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إني أرمي بالمِعْراض الصيدَ فأَصيد، قال:«إذا أصاب بحدِّه فَكُلْ، وإذا أصاب بِعَرْضِهِ فقتل فلا تأكل، فإنه وقِيذٌ»

(2)

.

(أَوَ) قتله (بُنْدُقَةٌ ثَقِيلَةٌ ذَاتُ حِدَّةٍ) لأنّ البُنْدُقة تَكْسِر ولا تَجْرَح، فكانت كالمِعْراض، ولأنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن الخَذْفِ

(3)

وقال: «إنها لا تصيد ولكنها تكسر السِّنَّ، وتفقأُ العين» . رواه أحمد والشيخان. قيّد بالثقيلة لأنها لو كانت خفيفة ذات حدّة لم يحرم لتيقن الموت بالجَرْح. والأصل هنا أن الموت إن حصل بالجَرْح بيقين يؤكل، وإن حصل بالثِّقَل أو شكّ فيه لا يؤكل فيه حتماً أو احتياطاً.

(أوْ رُمِيَ فَوَقَعَ) الصيد (في مَاءٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ ثُمَّ عَلَى الأَرْضِ) لاحتمال أنه مات بغير الرمي إِذْ كلٌّ من الماء والسقوط من عُلُوَ مهلكٌ، أمّا الماء فلما روينا من قوله عليه الصلاة والسلام:«إلاّ أن يجده قد وقع في ماء» . وأمّا المُتَرَدِّي فلقوله تعالى:

(1)

في المخطوط: التفقّد. والمثبت من المطبوع.

(2)

الوَقِيذُ: الذي يُغْشَى عليه لا يُدْرَى أميِّتٌ هو أم حَيٌّ. المعجم الوسيط ص 1048، مادة:(وقذ).

(3)

الخَذْفُ: هو رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سبَّابتيك وترمى بها، أو تتخذ مِخْذَفَة من خشب ثم ترمي بها الحصاة بين إبهامك والسبابة. النهاية 2/ 16.

ص: 86

وَيُعْتَبَرُ الزَّجْرُ فِيمَا لَمْ يُرْسِلْ، وَلَوْ اجْتَمَعَا يُعْتَبَرُ الإِرْسَالُ. وَإنْ أخَذَ غَيْرَ مَا أُرْسِلَ إِلَيهِ حَلَّ، كَصَيدٍ رُمِيَ فَقُطِعَ عُضْوٌ مِنْهُ، لا العُضْوُ.

فَإنْ قُطِعَ أَثْلاثًا وَأكثرُهُ مَعْ عَجُزِهِ، أوْ قُطِعَ نِصْفُ رَأْسِهِ أوْ أكثَرُهُ، أوْ قُدَّ بِنِصْفَيْنِ، أُكُلَ كُلُّهُ.

===

{وَالمُتَرَدِّيَة}

(1)

، وأمّا الواقع على الأرض ابتداءً أُكِلَ استحساناً، لأنّه لا يمكن الاحتراز عنه، إذ في اعتباره سدّ باب الاصطياد.

(وَيُعْتَبَرُ الزَّجْرُ) وهو الإغراء بالصياح عليه، والانزجار: إظهار زيادة الطلب (فِيمَا) انفلت الجارح و (لَمْ يُرْسِلْ) فإنّ الزَّجر عند عدم الإِرسال أقيم مقام الإِرسال، لأن انزجاره عَقِيب زجره دليلٌ على طاعته، فإن لم يرسل الكلب أحدٌ وزجره مسلم فانزجر فأخذ الصيد حلّ، ولو زجره مجوسيّ فانزجر فأخذ الصيد حَرُم.

(وَلَوْ اجْتَمَعَا) أي الإِرسال والزَّجر مِنْ مُسْلِمٍ وَمَجُوسِيّ. أو مُحْرِمٍ أو مرتدَ أو تاركٍ التسمية عمداً (يُعْتَبَرُ الإِرْسَالُ) لأنّ الفعل يُرفع بما فوقه أو مِثْلُه، لا بما هو دونه. والزجر دون الإِرسال لكونه بناء عليه. (وَإِنْ أخَذَ) المُرْسَل (غَيْرَ مَا أُرْسِلَ إِلَيْهِ حَلَّ) لأنه لا يمكن تعليمه على وجهٍ يأخذ ما عيّنه لأخذه، فسقط اعتباره.

(كَصَيْدٍ) أي كَحِلّ صيدٍ (رُمِيَ فَقُطِعَ عُضْوٌ مِنْهُ) لوجود الجَرْح (لا العُضْوُ) أي: لا يَحِلّ العضو، لأنه ميتة لِمَا أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ عن أبي واقدٍ اللَّيْثِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما قُطِعَ عن البهيمة وهي حيةٌ فهو ميتةٌ» . زاد الترمذي: قال: قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم يَجُبُّونَ

(2)

أسْنِمَةَ الإبل ويقطعون أَلْيَات الغنم، فقال صلى الله عليه وسلم:«ما قُطع من البهيمة وهي حيةٌ فهو ميتةٌ» . وفي «المستدرك» عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن قطع أليات الغنم وجبّ أَسْنِمَة الإبل، فقال:«ما قطع من حي فهو ميتٌ» . وقال: حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

(فَإنْ قُطِعَ) الصيد (أَثْلَاثاً، وَأَكْثَرُهُ مَعْ عَجُزِهِ، أوْ قُطِعَ نِصْفُ رَأْسِهِ، أوْ أكثَرُهُ، أوْ قُدَّ) أي شُقَّ (بِنِصْفَيْنِ أُكِلَ كُلُّهُ)، لأن المُبَان منه في الصُّوَر الثلاث حيّ صورةً لا حُكْماً، إذ لا يتوهم بقاء الحياة فيه، وصار كما لو أُبين رأسه في الذكاة الاختيارية، وذلك أنّ فيه من الحياة بقدر ما في المذبوح. ولهذا لو وقع في الماء وبه هذا القدر من الحياة، أو تردّى من جبلٍ أو سطحٍ، لا يَحْرُم.

(1)

سورة المائدة، الآية:(3).

(2)

الجَبُّ: القطع. النهاية 1/ 233.

ص: 87

وَإنْ رَمَى صَيدًا، فَرَمَاهُ آخَرُ، فَقَتَلَه، فَهُوَ للأَوَّلِ وَحَرُمَ، وَضَمِنَ الثَّاني له قِيمَتَهُ مَجْرُوحًا إنْ كانَ الأَوَّلُ أثْخَنَهُ، وَإلَّا فَلِلْثّانِي، وَحَلَّ.

وَيُصَادُ مَا يؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَمَا لا يُؤكَلُ.

===

(وَإِنْ رَمَى صَيْداً فَرَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَه فَهُوَ للأَوَّلِ وَحَرُمَ) لاحتمال موته بالرمي الثاني، وهو ليس بذكاة له، لوجود القدرة على الذكاة الاختيارية. (وَضَمِنَ الثَّاني له) أي للأَوَّل (قِيمَتَهُ مَجْرُوحاً إنْ كانَ الأَوَّلُ أثْخَنَهُ) بأن أخرجه عن حيّز الامتناع، لأنه أتلف صيْداً مملوكاً للأوَّل، لأنّه مَلَكَه بالرمي المثخن، وقيمة المُتْلَف يعتبر يوم الإتلاف، فيلزمه قيمته ناقصاً بجراحة الأوّل، كما لو أتلف عبداً مريضاً أو شاةً مجروحة، فإنه يضمن قيمته ناقصاً بالمرض أو الجُرْح.

(وَإِلاَّ) أي وإنْ لم يُثْخِنْهُ الأول (فَلِلْثّانِي) أي فالصيد للثاني، لأنه هو الصائد له وهو صيد بعدُ، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الصيد لمن أخذه، لا لمن أثاره

(1)

» رواه ابن حمدون في «التذكرة» من حديث أبي هريرة. (وَحَلَّ) لأنه ذُكِّيَ ذكاةً اضطرارية، وهو حينئذٍ ممّا يذَّكى به.

(وَيُصَادُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ) لإطلاق الآية، ولأنّ صيد ما لا يؤكل سببٌ للانتفاع بجلده أو شعره أو ريشه أو لاستدفاع شرّه، وكل ذلك مشروع، والله تعالى أعلم.

(1)

في المطبوع: أثره، والمثبت من المخطوط.

ص: 88

‌كِتَابُ اللَّقيطِ واللُّقَطَةِ والآبِقِ

رَفْعُهُ أَحَبُّ، وَإنْ خِيفَ هَلاكُهُ يجبُ

===

كتاب اللَّقِيطِ واللُّقَطَةِ والآبِقِ

اللَّقِيط لغةً: فعيلٌ بمعنى مفعول، من لقَطَه إذا رفعه من الأرض. وعُرْفا: غَلَب على الصبيّ المنبوذ، لأنه بصدد أن يُلْقَطَ.

وشرعاً: مولودٌ حيّ طرحه أهله خوفاً من العَيْلة

(1)

أو فراراً من تهمة الزِّنا. سُمِّي بما يؤول أو بما هو مشرفٌ عليه كقوله عليه الصلاة والسلام: «من قَتَل قتيلاً فله سَلَبُهُ

(2)

»

(3)

. ومضيِّعُه آثمٌ، ومحرزه غانمٌ، لِمَا في إحرازه

(4)

من إحياء النفس، وفي إهماله من التسبب لهلاكها. وقد قال الله تعالى:{من أَجَل ذلك كَتَبنْاَ على بني إسرائيلَ أنَّه مَنْ قتَل نفساً بغيرِ نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنَّما قَتَلَ النَّاسَ جميعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}

(5)

.

ولذا (رَفْعُهُ) أي اللَّقيط (أَحَبُّ) من تركه إن لم يُخَف هلاكُه بأن كان في مِصْرٍ، لما في رَفْعِه من التَّرحُّم، وفي تركه من عدمه. (وَإِنْ خِيفَ هَلَاكُهُ) بأن كان في مَفَازَةٍ أو بئرٍ أو مَسْبَغَة

(6)

(يَجِبُ) صيانةً له عن الهلاك وجوبَ فَرْض الكفاية لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى}

(7)

لحصول المقصود بالبعض.

وقال مالك والشَّافعيّ وأحمد: رَفْعُه إن لم يُخَف هلاكُه فرضُ كفاية لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى} ، وإنْ خيف فرضُ عينٍ، كمن رأى أعمى يقع في البئر فإنه يُفَترض عليه حِفْظه من الوقوع. كذا ذكروه، وفيه أنّ هذا إذا كان هناك

(1)

العَيْلة: الفاقة. مختار الصحاح ص 195، مادة:(عيل).

(2)

السَّلَبُ: هو ما يأخذه أحد القرْنين في الحرب من قِرْنِه مما يكون عليه ومعه من صلاح وثياب ودابة وغيرها. النهاية (2/ 387). والقرنُ: الكفء والنظير في الشجاعة والحرب. النهاية (4/ 55).

(3)

صحيح البخاري (فتح الباري) 6/ 247 كتاب فرض الخمس (57)، باب من لم يُخمس الأسلاب

(18)، رقم (3142). وصحيح مسلم 3/ 1370 - 1371، كتاب الجهاد والسير (32)، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل (13)، رقم (41 - 1751).

(4)

في المطبوع: إبرازه، والمثبت من المخطوط.

(5)

سورة المائدة، الآية:(32).

(6)

أرضٌ مَسْبَعَةٌ: أي ذاتٍ سباع. مختار الصحاح ص 120، مادة:(سبع).

(7)

سورة المائدة، الآية:(2).

ص: 89

كاللُّقَطَةِ.

وَهُوَ حُرٌّ إلّا بحُجَّةِ رِقّهِ، وَنَفَقَتُهُ وَجِنَايَتُهُ فِي بَيتِ المالِ، وَإِرْثُهُ لَهُ.

===

شخصٌ واحدٌ، فظاهرٌ أنه يصير فرض عينٍ عليه إجماعاً. وأمّا إذا كان جماعةٌ فلا شكّ أنّه فرضِ كفايةٍ إن خيف هلاكه، وإلاّ فيستحبُّ. (كاللُّقَطَةِ) فإنّ رفعها أحبُّ من تركها إن لم يخَف ضياعها، أو من نفسه عليها. وواجبٌ إن خاف ضياعها، ومكروهٌ إن خاف من نفسه عليها.

وقال بعض التابعين: يحِلّ رفعها، والأفضل تركها، وبه قال أحمد. وعن الشَّافعيّ إذا لم يأمن عليها وجب رفعها لقوله تعالى:{والمُؤْمِنُونَ والمؤمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}

(1)

وإذا كان المؤمن ولي المؤمن وجب عليه حِفْظُ ماله. وقال مالك: إن كانت شيئاً له بالٌ فرفْعُه أحبُّ، لأن فيه حفظَ مال المسلم، فكان أولى من تضييعه.

(وَهُوَ) أي اللَّقيط (حُرٌّ إلاّ بحُجَّةِ رِقّهِ) لأنّ الأصل في بني آدم الحرية، ولقضاء عليّ رضي الله عنه في اللقيط أنه حرٌ، وقرأ هذه الآية {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}

(2)

. رواه البيهقي.

(وَنَفَقَتُهُ وَجِنَايَتُهُ فِي بَيْتِ المالِ وَإِرْثُهُ لَهُ) أي يوضع فيه. أمّا الإرث والأَرْش

(3)

فلأنّ الخَراج بالضمان. وأمّا النفقة فَلِما روى مالك في «الموطّأ» في كتاب الأقضية عن ابن شِهَاب الزُّهْرِيّ، عن سُنَيْن

(4)

أبي جميلة ـ رجلٌ من بني سُلَيْم ـ أنّه وُجِد منبوذاً في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: فجئت به إلى عمر، فقال: ما حملك على أخذ هذه النَّسَمَة

(5)

؟ قال: وجدتها ضائعةً فأخذتها. فقال له عَرِيفُهُ: يا أمير المؤمنين إنه رجلٌ صالحٌ قال: أكذلك؟ قال: نعم. فقال عمر: اذهب به فهو حُرٌّ (ولك ولاؤه)

(6)

، وعلينا نفقته. وفي «المُغْرِب»: عريفه: الذي بينه وبينه معرِفة.

وفي رواية عبد الرَّزَّاق فقال له: عسى الغَوَيْرُ أَبْؤُساً. وهو مَثَل مضروب

(7)

لمن

(1)

سورة التوبة، الآية:(71).

(2)

سورة يوسف، الآية:(20).

(3)

الأرْشُ: هو الذي يأحذه المشتري من البائع إذا اطَّلع على عيب في المبيع. وأَروش الجنايات والجراحات من ذلك، لأنها جابرة لها عما حصل فيها من النقص. النهاية (1/ 39).

(4)

حُرِّفت في المخطوط إلى سفين، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في موطأ الإمام مالك 2/ 738، كتاب الأقضية (36)، باب: القضاء في المنبوذ (20)، رقم (19).

(5)

النَّسَمَةُ: النَّفْس والروح. النهاية (5/ 49).

(6)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط والمطبوع. وهو في "الموطأ".

(7)

في المطبوع: معروف، والمثبت من المخطوط.

ص: 90

وَلا يُؤْخَذُ مِنْ آخِذِهِ، وَنَسَبُهُ مِنْ مُدّعِيهِ وَلَوْ رَجُلَيِنْ، أَوْ مِمَّنْ يَصفُ مِنْهُمَا عَلامَتَهُ، أَوْ عَبْدًا وَكَانَ حُرًّا، أوْ ذِمّيًا وَكَانَ مُسْلِمًا، إنْ لَمْ يَكُنْ في مَقَرِّهِم

===

يكون باطنُه بخلاف ظاهره. وأول من تكلم به الزَّبَاءُ الملكة حين رأت الصناديق فيها الرِّجال، وقد أُخبرت أن فيها الأموال، فلمّا أحست بذلك أنشأت شعراً هذه آخِرُه، فصار كلامها مثلاً. وكأن عمر ظنَّ أنّ هذا الرّجل جاء إليه بولده يزعم أنّه لقيطٌ ليستوفي منه نفقته، فلذا ذَكَر هذا المَثَل.

(وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ آخِذِهِ) إلاّ بإذْنِهِ لسَبْقِه. ولو دفعه إلى غيره ليس له أن يستردّه منه، لأنه رضي بإسقاط حقّه. (وَ) يثبت (نَسَبُهُ) استحساناً (مِنْ مُدّعِيهِ وَلَوْ) كان مدعيه (رَجُلَيْنِ) ليس أحدهما المُلْتَقِط ولا سبقت دعوته. (أَوْ مِمَّنْ يَصفُ مِنْهُمَا عَلَامَتَهُ) لأنّ الظاهر شاهدٌ له. وإنّما ثبت نَسَبُه من اثنين لاستوائهما في دعوى ما فيه نفعٌ له. وعندنا: يثبت النسب من اثنين في باب الاستيلاد

(1)

إذا استويا في الحُجَّة. وأمّا لو كان أحدهما المُلْتَقِط أو سبقت دعوته لكان أولى، لترجّح المُلْتَقِط باليد، وسابق الدّعوى بثبوت حقّه في زمانٍ لا منازع له فيه إلاّ إذا أقام الآخر البيِّنة، لأنها أقوى.

وقال الشّافعيّ وأحمد: يعتبر قول القَافَة

(2)

إذا ادَّعاه اثنان ولم يبيّنا، سواء وصف أحدهما علامةً أو لم يصف، أو بيّنا وتعارضا، وإذا اشتبه على القَافَةِ (يقرع ولو ألحقته القافة)

(3)

بهما عند أحمد. ولو ادّعاه امرأتان يثبت منهما عند أبي حنيفة كالرجلين، وعندهما: لا يثبت، لأن ثبوت النَّسب من المرأة متعلّق بحقيقة الولادة، وولادته عنهما محال. (أَوْ) كان مدعيه (عَبْداً) لأنّ في ثبوت نسبه له نفعاً (وَكَانَ حُرّاً) لأنّ المملوك قد تلد له الحرَّةُ ولداً، فيكون تبعاً لأُمه (أوْ) كان مدعيه (ذِمّياً وَكَانَ مُسْلِماً إنْ لَمْ يَكُنْ في مَقَرِّهِمْ) أي مقّر أهل الذِّمة بإن وُجِدَ في قرية من قرى المسلمين، أو في مسجدٍ. أمّا إذا وُجِدَ في مقرّهم، بأن وجد في قرية من قراهم، أو في بِيعةٍ

(4)

أو كنيسةٍ كان ذمياً.

وفي «المبسوط» : ولو وجده مسلم في مكان المسلمين ولم يدَّعه أحد، يُحكم بإسلامه، وبه قال مالك وأحمد والشَّافعيّ. ولو وجده كافرٌ في مكان (أهل الكفر يحكم بكفره حتى لا يصلّى عليه إذا مات. ولو وجده كافر في مكان)

(5)

المسلمين

(1)

الاستيلاد: وطء الأمة المملوكة ابتغاء الولد منها. معجم لغة الفقهاء ص 67.

(2)

القَافَةُ: جمع القائف: وهو من يُحْسن معرفة الأثر وتتبُّعه. المعجم الوسيط ص 766، مادة:(قاف).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

البِيعةُ: مَعْبد النصارى. المعجم الوسيط ص 79. مادة: (باع).

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 91

وَمَا شُدَّ عَلَيهِ لَهُ، صُرِفَ إِلَيهِ.

وَلِلْمُلْتَقِطِ قَبْضُ هِبَتِهِ وَتَسْلِيمُهُ في حِرْفَةٍ، لا إِنْكَاحُهُ، ولا تَصرُفُ مَالِهِ وَلا إِجَارَتُهُ.

===

أو مسلم في مكان الكفَّار ففي كتاب اللقيط: العبرة للمكان في الفصلين لسَبْقهِ، ولأنّ المسلم لا يضع ولدَه في البِيعة، والكافر لا يضع ولده في المسجد. وفي رواية ابن سَمَاعَة عن محمد: العبرة للواجد لقوة اليد. وفي رواية: الاعتبار للإسلام نظراً للصغير أو للزِّيّ كما في اختلاط موتانا بموتاهم في الحرب. وفي «المبسوط» : إنّ أسْلَمَ الروايات اعتبارُ الإسلام، لأنّه يَعْلُو ولا يُعْلَى.

(وَمَا شُدَّ) أي رُبط من المال (عَلَيْهِ) أي على اللّقيط أو على دابة هو عليها (لَهُ) أي للَّقيط اعتباراً للظاهر في دفع دعوى الغير ولليد في الملك، وأصله القميص الذي عليه. (صُرِفَ إِلَيْهِ) أي إلى مصالح اللقيط بأمر القاضي، لأنه مالٌ ضائعٌ، وللقاضي ولاية صرف مثله إليه. وقيل: بغير إذن القاضي، لأنّه للَّقيط ظاهراً، فاندفعت يد الغير عنه فبقي المال ضائعاً، فيُصْرَفُ في مصالحه على أنّه له أو لبيت المال، أو لأنّه للقيط ظاهراً. وله ولاية الإنفاق وشراء ما لا بدّ له كالطعام والكِسوة، ولأن الظاهر أن واضعه إنّما وضع ذلك المال معه ليُنْفِق عليه منه. والبناء على الظاهر جائزٌ ما لم يظهر خلافه، وهو مصدَّق في نفقة مثله عليه، لأنّه أمينٌ يُخْبرُ عمّا هو محتمل. ويكون وجوب الضمان عليه فيقبل قوله فيه، كمن دفع مالاً إلى إنسان وأمره أن يُنْفِقَ على عياله، فإنه يقبل قوله في نفقة مِثْلهم.

(وَلِلْمُلْتَقِطِ قَبْضُ هِبَتِهِ) وصدقته لأنه نفعٌ محضٌ له (وَتَسْلِيمُهُ في حِرْفَةٍ) أي صناعة، لأنّه من باب تأديبه، لأنّ من اشتغل بعمل قَلَّما يشتغل بالفساد (لَا إِنْكَاحُهُ) أي ليس للملتقط إنكاح اللقيط ذكراً كان أو أنثى، لانعدام سبب الولاية من القرابة والملك والسلطنة. (ولا تَصَرُّفُ مَالِهِ) لما قدمناه (وَلَا إِجَارَتُهُ) في الأصحّ. ويصحّ صلح الإمام عن دمه بالدِّيَة، لأنّه نفعٌ للمسلمين لا عفوه، لأنه إبطال حقِّ مسلمٍ.

ويمنعه أبو يوسف من استيفاء القصاص لأنه استيفاء لوليه وهو مجهولٌ، وأجازا له استيفاءَه لقوله عليه الصلاة والسلام:«السلطان ولي من لا ولي له»

(1)

. والمولى إذا كان مجهولاً لا يكون ولياً، لأنّه لا ينتفع به مع جهالته فالتحق وجوده بعدمه.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه 2/ 568، كتاب النكاح (12)، باب في الولي (18، 19)، رقم (2083).

ص: 92

[فَصْلٌ في اللُّقَطَةِ]

وَاللُّقَطَةُ: أمَانَةٌ إنْ أَشْهَدَ عَلَى أَخْذِهِ ليرُدَّها عَلَى رَبِّهَا، وَإلَّا ضَمِنَ إن جَحَدَ المَالِكُ أَخْذَهُ لِلرَّد.

===

(فَصْلٌ في اللُّقَطَةِ)

(وَاللُّقَطَةُ) بضم اللاّم وفتح القاف، ويُسكَّن: المال الملقوط (أمَانَةٌ) سواء (في الحِلِّ والحَرَم، وسواء كانت)

(1)

متاعاً أو بهيمةً. ونُدِبَ رفعها لمن يثق من نفسه الأمانة، وهو قول علمائنا وعامة الفقهاء، لأنه لو تركها لا يأمن أن تصل إليها يدٌ خائنةٌ فيكتمها عن مالكها، ولأنّه يلتزم أداء الأمانة في رفعها، والتزام أداء الأمانة تَعَرَّضٌ بمنزلة المثوبة قال الله تعالى:{إنّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا}

(2)

وامتثال الأمر سببٌ لمنال الأجر.

والمُتَقَشِّفَةُ يقولون: لا يحلّ له أن يرفعها لأنه أخذ مال الغير بغير إذن صاحبه، وذلك حرامٌ شرعاً. وبعض المتقدمين من الأئمة التابعين كان يقول: يحلّ له أن يرفعها، والترك أفضل، لأنّ صاحبها إنّما يطلبها في الموضع الذي سقطت منه إذا فقدها، فإذا تركها وجدها صاحبها فيها، ولأنّه لا يأمن على نفسه أن يطمع فيها بعد رفعها، فكان معرِّضاً نفسه للفتنة. قلنا: نعم، لكن الحكم لغلبة الظنّ، والأفضل مراعاة الطرفين.

(إنْ أَشْهَدَ) الآخِذ (عَلَى أَخْذِهِ) أنه أخذها (ليرُدَّها عَلَى رَبِّهَا) ذَكَر الضمير باعتبار المأخوذ ثم أنَّثَهُ باعتبار اللُّقَطَة رعاية لمعناها تارةً ولمبناها أخرى، وهذا نوع تفنُّنٍ في العبارة. وإنما كانت أمانة لأنّ أخذها على هذا الوجه مأذونٌ فيه شرعاً، فلا تكون مضمونة. وَشُرِطَ الإشهاد لما روى إسحاق بن رَاهُويه في «مسنده» عن عِيَاض بن حَمَّاد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أصاب لُقَطَةً فليُشْهِدْ ذا عدل ثم لا يكتم ولْيُعَرِّفَنَّهَا سنةً، فإن جاء صاحبها، وإلاّ فهو مال الله يؤتيه مَنْ يشاء» . قالوا: ويكفي في الإشهاد أن يقول: من سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ لُقَطَةً فدلُّوه عليّ (وَإِلاَّ) أي وإن لم يشهد وادّعى أنّه أخذها للردّ (ضَمِنَ) عند أبي حنيفة ومحمد (إن جَحَدَ المَالِكُ أَخْذَهُ لِلرَّدِّ).

وقال أبو يوسف: لا يضمن، لأن صاحبها يدّعي سبب الضمان وهو يُنكر، فكان القول قوله كما في الغصب، وهو قول مالك والشّافعيّ (وأحمد)

(3)

، لأنّ الإشهاد غير

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

سورة النساء، الآية:(58).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 93

وَعُرِّفَتْ في مَكَانٍ وُجِدَتْ، وَفي المَجَامِعِ مُدَّةً لا تُطْلَبُ بَعْدَهَا.

وَمَا لا يبقَى إلَى أَنْ يُخَافَ فَسَادُهُ،

===

واجب عندهم، بل مستحب.

وحاصله أَنَّ الإشهاد شرطُ الأمانة عند أبي حنيفة ومحمد، ويَكتَفِي أبو يوسف ليكون أمانة، بقصد ردّها إلى مالكها، كمالك والشافعي، وهو رواية عن محمد. والقول قوله في ذلك بيمينه. ولهما: أنّه أقر بسبب الضَّمان، وهو أخذ مال الغير بغير إذنه وادّعى ما يبرئه، وهو الأَخْذ لمالكه، فلا يصدّق، كمن أخذ مال الغير وهلك في يده ثم ادّعى أن صاحبه أودعه إيّاه حيث لا يصدّق إلاّ بحجّة.

وفي «الخَانِية» : وهذا الاختلاف فيها إذا أمكنه الإشهاد، وأمّا إذا لم يمكنه عند الرفع، أو خاف أنّه لو أشهد يأخذها منه ظالمٌ فتركَ الإشهاد فلا يضمن بالاتفاق، لأن ترك الإشهاد (لا)

(1)

يدل على أنه أخذها لنفسه إلاّ عند القدرة على الإشهاد. وقيّد بجحود المالك، لأنه لو صدّقه لا يضمن بالاتفاق، لأن تصديقه حجّة عليه كالبينة.

ولو أشهد عند الأخذ وعرَّفها ثم ردّها (إلى موضعها)

(2)

لا يضمن بالاتفاق كذا قاله الشارح. والصواب أنه في ظاهر الرواية. وتوضيحه أنه إذا أعاد اللُّقَطَةَ إلى موضعها الذي وجدها فيه بعدما أخذها ليعرّفها براء من ضمانها. ولو هلكت أو استهلكها رجلٌ قبل أن يصل إليها صاحبها، لأنّ أخذها لم يكن سبباً لوجوب الضمان عليه، وكذلك ردّها إلى مكانها إذ قد يأخذها لِيُعَرِّف صفتها حتّى إذا سمع إنساناً يطلبها دلّه عليها، وقد يأخذها ليردّها إلى مالكها ثم يُحسّ في نفسه عجزاً أو طمعاً فيردّها إلى مكانها، فلهذا لا يضمن شيئاً، وإنما الضمان على مستهلكها.

وفي «مختصر الحاكم» : إن ردّها بعدما حوّلها يضمن، لأنّه بالتحويل التزم حفظها، وبالردّ صار مضيّعاً لها ولا كذلك قبل التحويل. بخلاف ما إذا لم يُشْهِد حيث لا يبرأ من الضمان اتفاقاً، لأن الظاهر أنه أخذها لنفسه فلا يبرأ بغير الردّ على صاحبها.

(وَعُرِّفَتْ) ما يبقى ـ على سبيل الوجوب ـ (في مَكَانٍ وُجِدَتْ) بأن نادى إني وجدت لُقَطَة لا أدري مالكها، فليأت مالكها أو لِيَصِفَهَا لأَرُدَّهَا عَلَيه (وَ) عُرِّفَ أيضاً (في المَجَامِعِ)

(3)

لأن ذلك أقرب إلى الوصول إلى صاحبها (مُدَّةً لا تُطْلَبُ بَعْدَهَا) وهو يختلف باختلاف اللُّقَطَة في قيمتها. (وَ) عُرِّفَ (مَا لَا يَبْقَى إلَى أَنْ يُخَافَ فَسَادُهُ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

في المخطوط: الجامع، والمثبت من المطبوع.

ص: 94

ثُمَّ تُصُدِّقَ.

===

ثُمَّ تُصُدِّق) لأنّ في التَّصَدّق بها عِوضاً آجِلاً وهو الثواب في العقبى، أو عاجلاً وهو الضمان في الدنيا. وروى محمد عن أبي حنيفة: إن كانت أقلّ من عشرة دراهمٍ عرّفها أياماً على حسب ما يرى، وإن كانت عشرة فصاعداً

(1)

عرّفها حولاً. وروى الحسن عن أبي حنيفة أن يُعَرِّفَ مئتين فما فوقها حولاً اعتباراً بالزكاة، ويعرِّف العشرة فما فوقها شهراً، وما دونها إلى ثلاثة دراهم أياماً عشرة أو شهراً، ويُعَرِّفَ الثلاثة إلى الدرهم جمعة أو ثلاثة، والدرهم يوماً، والفَلْس بالنظر يَمْنَةً ويَسْرَةً.

وقدّر محمد في «الأصل» مدّة التعريف بالحول من غير تفصيل بين الكثير والقليل، وهو قول مالك والشّافعيّ وأحمد، لِمَا روى الشيخان عن زيد بن خالد الجُهَنِيّ قال: سأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللُّقَطَةِ فقال: «عَرِّفْهَا سنةً، ثم اعرف عِفَاصها ووكَاءَها، (فإن جاء أحدٌ يخبرك بها، وإلاّ فَاسْتَنْفِقْهَا)

(2)

(فإن جاء صاحبها فأدِّها إليه»)

(3)

.

والعِفَاص: الوعاء الذي يكون فيه النفقة من جلدٍ أو خِرقة ونحوها. والوِكَاء: الذي يُشَدُّ به الكيس وغيره. والصحيح أن شيئاً من هذه التقادير ليس بلازمٍ، وإن تفويض التقدير إلى رأي الآخِذِ، لإطلاق حديث مسلم عن أُبَيّ بن كعبٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في اللقطة: «عرِّفها، فإن جاء أحد يخبرك بعددها

(4)

ووعائها وَوِكَائِها فأعطها إيّاه، وإلاّ فاستمتع بها». وفي رواية:«وإلاّ فهي كسبيل مالك» . وأخرجه عن زيد بن خالد أيضاً. وفيه: «فإن جاء صاحبُها فَعَرَف عِفَاصَها وعددَها ووكاءها فأعطها إياه، وإلاّ فهي لك» .

ولأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد زاد على السَّنَةِ ونقص منها. أمّا الزيادة فلِمَا في «الصحيحين» من حديث أبيّ بن كعب: أنه وجد صُرَّةً فيها مئة دينارٍ، فأتى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له:«عرِّفها حولاً» ، فعرَّفها فلم يجد من يعرِفها ثم أتاه. فقال له:«عرِّفها حولاً» . فعرَّفها فلم يجد من يعرفها. فقال له: «احفظ

(5)

وعاءها وعددها». الحديث.

وأمّا النُّقْصان فلما في «مصنف عبد الرَّزاق» وغيره عن أبي سعيد الخُدْرِيّ: أنّ

(1)

عبارة المطبوع: وإن كانت عشرة أو أكثر، والمثبت عبارة المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته ما في صحيح البخاري، (فتح الباري) 5/ 80، كتاب اللقطة (45)، باب: ضالة الإبل (2)، رقم (2427). ولفظ مسلم:"ثم اسْتَنْفِقْ بها".

(3)

ما بين الحاصرتين لفظ مسلم.

(4)

في المطبوع: بقدرها، والمثبت من المخطوط.

(5)

في المخطوط: أعرفه، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته ما في صحيح مسلم 3/ 1350، كتاب اللقطة (31)، رقم (9 - 1723).

ص: 95

فإنْ جَاءَ رَبُّهَا، إِنْ شَاءَ أَجازَ أَو ضَمِنَ الآخِذُ.

===

عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وَجَد ديناراً في السوق. فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم (فقال: «عَرِّفْهُ ثلاثة أيام» . قال: فعرَّفه ثلاثة أيام، فلم يجد من يعرِفه، فرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

فأَخْبَره، فقال:«شأنك به» قال: فباعه عليّ، فابتاع منه بثلاثة دراهم شعيراً، وبثلاثة دراهم تمراً، وقضى ثلاثة دراهم، وابتاع بدرهم لحماً، وبدرهم زيتاً، وكان الدينار بأحد عشر درهماً، فلمّا كان بعد ذلك جاء صاحبه فعرَّفه، فقال عليّ: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم (فأكلته)

(2)

فانطلق صاحب الدّينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال لعليّ: «ردَّه إليه» ، فقال: قد أكلته. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للرجل: «إذا جاءنا شيءٌ أدّيناه إليك» . ورواه أبو داود ولم يذكر فيه ثلاثة أيام.

فعُلِمَ أنّ التقدير بالسَّنَةِ ليس بعلّةٍ لازمةٍ في كل شيء، وإنما يُعرِّف مدّةً يتوهم أن صاحبها يطلبها، وذلك يختلف باختلاف المال وكثرته. وأمّا ما ورد من التقييد بالسنة فلعلّه لكون اللُّقَطَة المسؤول عنها كانت تقتضي ذلك، أو لأنّ الغالب في اللُّقَطَة أن يكون كذلك. ولو كانت اللُّقَطَة شيئاً يُعْلَمُ أنّ صاحبه لا يطلبه، كالنَّواةِ وقِشْر الرُّمان، يكون إلقاؤه إباحةً حتى جاز الانتفاع به من غير تعريف، ولكنه يبقى على ملك مالكه، لأنّ التمليك من المجهول لا يصحّ وملك المبيح لا يزول بالإباحة.

قال شيخ الإسلام: ولو كانت متفرِّقة فجمعها الآخِذ ليس للمالك أَخْذُها بعد جمعها، لأنها تصير ملكاً له به. وكذا الجواب في التقاط السنابل بعد الحصاد وبه كان يُفْتِي الصدر الشهيد.

(فإِنْ جَاءَ رَبُّهَا) بعد التصدّق بها (إِنْ شَاءَ أَجازَ) التصدّق بها ولو بعد هلاكها، لأنّ التصدّق لم يحصل بإذنه فيتوقف على إجازته. والملك يثبت للفقير فيها قبل الإجازة فلا تتوقّف الإجازة فيها على قيام المحل. ولا فرق بين أن يتصدّق بأمر القاضي أو بغير أمره على الصحيح.

(أَوْ ضَمِنَ الآخِذُ) أي آخذ اللُّقطة لأنّه سلّم مالاً إلى غير صاحبه بغير إذنه إلاّ أنه بإباحةٍ من جهة الشرع. وهذا لا ينافي الضمان حقاً للعبد كما في تناول مال الغير حال المَخْمَصَة

(3)

. وإن شاء ضَمَّنَ الفقير إن كانت اللُّقَطة هلكت في يده، لأنه قبض ماله بغير إذنه، ولا يرجع الفقير على المُلْتَقِطِ بما لِحِقه من الضمان كما لا يرجع الملتقط على الفقير، وإن كانت قائمةً أخذها، لأنها عين ماله، وبه قال مالك والثوريّ والحسن بن صالح.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

سبق شرحها ص (3)، التعليقة رقم:(3).

ص: 96

وَمَا أَنْفَقَ عَلَيهَا بِلا إِذْنِ حَاكِمٍ تَبَرُّعٌ، وَبِإذْنِهِ دَيْنٌ عَلَى رَبِّهَا.

وَآجَرَ القَاضِي مَا لَهُ مَنْفِعَةٌ وَأَنْفَقَ عَلَيهَا كَالآبِقِ، وَمَا لا مَنْفَعَةَ لَهُ، أَذِنَ بِالإِنْفَاقِ إِنْ كَانَ الإِنْفاقُ أَصْلَحَ، وَإِلَّا بَاعَ.

وَلِلْمُنْفِقِ حَبْسُهَا لأَخْذِ النَّفَقَةِ، فَإنْ هَلكَتْ بَعْدَ الحَبْسِ سَقَطَتْ، فَإِنْ بَيَّن مُدَّعِيهَا عَلامَتَهَا

===

وقال الشَّافعيّ وأحمد: إذا لم يجاء ربها بعد التعريف، مَلَكَها الملتقط بحكم القرض، فصارت كسائر أمواله، غنياً كان الملتقط أو فقيراً، لما في حديث مسلم السابق عن أبيّ بن كعب في رواية:«وإلاّ فهي كسبيل مالك» .

ولنا: ما أخرجه البزَّار في «مسنده» والدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن اللُّقطة فقال: «لا تحلّ اللُّقَطَة، فمن التقط شيئاً فليعرّفه سنةً، فإن جاء صاحبها فليردّه إليه، وإن لم يأتِ فليتصدّق به. فإن جاء فليُخيّره بين الأجر وبين الذي لهُ» . (وَمَا أَنْفَقَ) الملتقط (عَلَيْهَا) على اللُّقَطَة وكذا حكم اللقيط (بِلَا إِذْنِ حَاكِمٍ تَبَرُّعٌ) لقصور ولايته عن ذمة المالك، وصار كما لو قضى دين غيره بغير أمره (وَبِإِذْنِهِ) أي الحاكم (دَيْنٌ عَلَى رَبِّهَا) لأنّ للحاكم ولاية في مال الغائب نظراً له، وقد يكون النظر في الإنفاق (وَآجَرَ القَاضِي مَا) أيّ شيئاً (لَهُ مَنْفِعَةٌ) من البهائم (وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا) من أجرتها، لأنّ في ذلك إبقاءً للعين على ملك المالك من غير إلزام الدَّين عليه. (كَالآبِقِ) كما أنّ الآبِق يُفْعَل به ذلك.

(وَمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ أَذِنَ) القاضي (بِالإِنْفَاقِ) عليه (إِنْ كَانَ الإِنْفاقُ أَصْلَحَ) وجعل النفقة دَيناً على مالكه، لأنّ القاضي نُصب ناظراً لمصالح الناس، وفي هذا نظر لجانب المالك بإبقاء عين ماله ولجانب الملتقط بالرُّجوع (وَإِلاَّ) أي وإن لم يكن الإنفاق أصلح بأن كانت النفقة تستغرق قيمة اللُّقطة (بَاعَ) القاضي اللُّقَطة وأمر بحفظ ثمنها إبقاءً لها معنىً عند تعذّر إبقائها صورةً. قالوا: وإنما يأذن بالإنفاق يومين أو ثلاثة على قَدْر ما يرى رجاءَ أن يَظْهَر مالكها، فإن لم يظهر أمر ببيعها لأنه لا نظر في الإنفاق مدّة مديدةً.

(وَلِلْمُنْفِقِ حَبْسُهَا لأَخْذِ النَّفَقَةِ) لأنها حَييَتْ بنفقته فصار المالك كأنّه استفاد الملك من جهته فأشبه المبيع (فَإِنْ هَلكَتْ) اللُّقطة (بَعْدَ الحَبْسِ سَقَطَتْ) النَّفَقَة التي حُبِسَتْ لأجلها لأنها تصير بالحبس كالرَّهن.

(فَإِنْ بَيَّنَ مُدَّعِيهَا) أي اللُّقَطَة (عَلَامَتَهَا) كأن سمّى الدارهم أو الدنانير وعددها

ص: 97

حَلَّ الدَّفْعُ، وَلا يَجبُ بِلا حُجَّةٍ.

وَيَنْتفَعُ بِهَا فَقِيرًا، وَإلَّا تَصَدَّقَ بِهَا، وَلَوْ عَلَى أصْلِهِ وَفَرْعِهِ وعِرْسِهِ.

===

ووكاءها (حَلَّ الدَّفْعُ) أي جاز دفعها إليه (وَلَا يَجِبُ) الدَّفع (بِلَا حُجَّةٍ) وهو قول الشّافعيّ. وقال مالك وأحمد وأبو داود وابن المُنْذِر: يجب الدفع بالعلامة، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق:«فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها، فأعطه إيّاها» .

ولنا أنه مدّعٍ وعلى المدّعي البيّنة، والعلامة لا تدلّ على أنّها له، إذ قد يقف الإنسان على علامةٍ في مال صديقه، ولا يقف على علامةٍ في مال نفسه. والأمر في قوله عليه الصلاة والسلام:«فأعطه إيّاها» للإباحة، ولو دفعها بالعلامة يأخذ من صاحبها كفيلاً بلا خلافٍ لاحتمال أن يجيء غيره ويقيم البيّنة أنّها له، فيضمن ولا يمكنه الرّجوع على الذي أخذها لخفائه، ولو دفعها بالعلامة فجاء آخر وأقام بيّنة أنّها له، فإن كانت قائمةً أخذها، وإن كانت هالكةً ضَمن أَيَّهُما شاء لتعدّيهما بالدفع والأخذ، ورجع الملتقط على الآخِذ ولا يرجع الآخِذ على أحد.

(وَيَنْتَفِعُ) الملتقط (بِهَا) حال كونه (فَقِيراً، وَإِلاَّ) أي وإن لم يكن الملتقط فقيراً (تَصَدَّقَ بِهَا وَلَوْ عَلَى أصْلِهِ وَفَرْعِهِ وعِرْسِهِ)

(1)

لحصول المقصود بالكلّ وهو التصدّق على المحتاج. ولو التقط العبد شيئاً بغير إذن مولاه يجوز عندنا وعند مالك وأحمد والشّافعيّ في قولٍ، فإن أتلفه طُولب ربُّهُ بقضاء الدين أو بالبيع، سواء أتلفه قبل التعريف أو بعده، وبه قال أحمد والشافعي (في وجهٍ)

(2)

. وعند مالك إن أتلفه قبل التعريف يؤمر المولى بالدفع أو الفداء، وإن أتلفه بعد التعريف يُطالب العبد بعد العتق، لأنّ الشرع أذن له في الانتفاع فكان ضماناً يخصّه، فلا يظهر في حق المولى.

ويُلْتَقَطُ إبلٌ وبقرٌ وغنمٌ ونحوها وجوباً إن خِيف ضياعها على مالكها من خيانة، أو لكونها في مَضْيَعَةٍ

(3)

وإلاّ نَدْباً لما في الصحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ قال: لما فتح الله تعالى على رسوله مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إنّ الله حبس عن مكة الفيل وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنّها لم تحلّ لأحدٍ قبلي، وأنّها أُحِلَّت لي ساعةً من نهارٍ، وأنّها لا تحِلُّ لأحدٍ بعدي فلا يُنَفَّرُ صيدُها، ولا يُخْتَلَى شوكُها،

(1)

العِرْسُ: الزَّوْج، يقال: هو عِرْسُهَا، وهى عِرسُهُ. المعجم الوسيط ص 592، مادة:(عرس).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

المَضْيَعَةُ: المفازة المنقطعة يضيع فيها الإنسان وغيره. المعجم الوسيط ص 547، مادة:(ضاع).

ص: 98

وَنُدِبَ أَخْذُ الآبِقِ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيهِ. وَتَرْكُ الضَّالِّ، قِيلَ: أَحَبُّ،

===

ولا تَحِلُّ ساقطتُها إلاّ لمنشدٍ»

الحديث.

وفي الكتب الستة عن زيد بن خالد الجُهَنِيّ قال: جاء رجلٌ فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن اللُّقَطة فقال: «اعرف عِفَاصها ووِكَاءَها ثم عرّفها سنةً، فإن جاء صاحبها وإلاّ فشأنك بها» . قال: فَضَالَّةُ الغنم؟. قال: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» . قال: فَضَالَّةُ الإبل؟ قال: «ما لك ولها؟ معها سِقاؤها وحِذَاؤها تَرِد الماء وترعى الشجر، فَذَرْهَا حتى يلقاها ربّها» . ولهذا منع مالك من التقاط الإبل في الصحراء. وحمَلَه مشايخنا على ما لم يخف ضياعها من يدٍ خائنة، بدليل قوله:«حتى يلقاها ربّها» .

ويحلّ أخذ التُّفاح والكُمَّثْرَى

(1)

من الأنهار الجارية بين البساتين، لأن هذا ممّا يفسد لو تُرِكَ، وكذا أخذ ما لا يبقى من الثِّمار الواقعة تحت الأشجار في غير الأمصار على القول المختار، لأنه يعلم أنّ مالكه لا يطلبه عادةً.

ولو سَيَّبَ صيدَه أو دابته لهُزَالها، فأخذها غيره وأصلحها، بأن داواها وعلفها وسقاها حتى صارت ممّا يُنْتَفَعُ بها، فإن قال عند التسييب: جعلتها لمن أخذ، ليس له أن يأخذها منه، لأن التمليك من المعلوم صحيح والزيادة تمنع من الرُّجوع. وإن لم يقل ذلك جاز له أخذها لِمَا قَدَّمنا من عَدَمِ جواز التمليك من المجهول. ولو أُخِذَ نعله ووجد غيره مكانه لا يملكه لعدم تمليكه من مالكه، ويصير كاللُّقطة في الحكم لاحتمال أن يكون لغير مَنْ أخذه.

(وَنُدِبَ أَخْذُ الآبِقِ) وهو المملوك الذي فرّ من مالكه قصداً، اسم فاعل من أَبَق، ومنه قوله تعالى:{إِذْ أَبَقَ إلَى الفُلْكِ المَشْحُونِ}

(2)

(لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ) أي قدر على أخذه وحفظه إلى أن يوصله إلى سيده، لِمَا فيه من إحياء ماله ونفعه، ولا خلاف في ذلك بين العلماء.

(وَتَرْكُ الضَّالِّ) وهو المملوك الذي ضلّ الطريق إلى منزل مولاه (قِيلَ: أَحَبُّ) وقيل: يُنْدَبُ أخذه كالآبق. ووجه الأول وهو الفرق، أنَّ الضَّال لا يبرح مكانه (فيجده مالكه)

(3)

ولا كذلك الآبق. ثم آخِذ الآبق يأتي به إلى السلطان، لأنه لا يَقْدِر على حفظه بنفسه عادةً، بخلاف اللَّقِيط واللُّقَطة، وهذا اختيار السَّرَخْسِيّ.

وقال الحَلْوَانِيّ: الآخذ بالخيار، إن شاء حفظه، وإن شاء دفعه إلى الإمام، وكذا

(1)

الكُمَّثْرَى: يُسَمَّى الإنجاص في الشام، ويُسَمَّى البرقوق في مصر. المعجم الوسيط ص 797، مادة:(كَمثَرَ).

(2)

سورة الصافات، الآية:(140).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 99

وَلِرَادِّهِ مِنْ مُدَّة سَفَرٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَإنْ لَمْ يَعْدِلها، إِنْ أشْهَدَ أَنه أَخَذَهُ لِلْرَّدِّ.

===

واجد الضَّال. وإذا دُفِعَ الآبق إلى السلطان يحبسه تعزيراً له في إباقه، وإذا دُفِعَ الضَّال إليه لا يحبسه لعدم ما يوجبه. ولأنّ الآبق لا يُؤْمن عليه الإباق ثانياً بخلاف الضَّال، ولهذا لا يؤجره إن كان له منفعة وينفق عليه من بيت المال، دَيْناً على مالكه. وإذا طالت المدة ولم يجاء صاحبه باعه وحفظ ثمنه.

وفي «المَبْسُوطِ» : لو حبس السلطان الآبق فجاء واحدٌ، وأقام بيّنةً أنه له، يحلف بالله ما بعته ولا وهبته، ثم يدفَعُه إليه، لأنه يحتمل أنه باعه أو وهبه، ولا يعرف الشهود ذلك. قلت: وينبغي أن يحلِّفَه ثانية بأنه: ما أعتقته، لوجود احتمال عتقه. ولو دفعه بإقرار العبد بلا بيّنة يأخذ كفيلاً، ويجوز الدفع بإقراره لأن العبد في يد نفسه فيعتبر إقراره كما لو ادّعى الحرية.

(وَلِرَادِّهِ) أي الآبق (مِنْ مُدَّة سَفَرٍ) وهي ثلاثة أيامٍ فصاعداً (أَرْبَعُونَ دِرْهَماً) ولو كان أمَّ ولدٍ

(1)

أو مُدَبَّراً

(2)

في حياة المولى لأنهما مملوكان له بخلاف المُكَاتَب

(3)

، لأنّه أحقّ بمكاسبه، وبخلافهما بعد حياة المولى، لأنّ أمّ الولد تعتِق بموته فتكون حرّة ولا جُعْلَ

(4)

في ردّ الحرّ، وكذا المُدَبَّر إن خرج من الثلث، وكذا إن لم يخرج عندهما، لأنّه حرٌّ عليه دين، لأنّ العتق لا يتجزّاء عندهما، ومكاتبٌ عند أبي حنيفة، ولا جُعلَ في المُكَاتَب. (وَإِنْ لَمْ يَعْدِلها) أي لم يعدل الآبق الأربعين بأن كانت قيمته أقلّ منها، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يُقْضَى له بقيمته إلاّ درهماً ليُسَلَّمَ للمالك شيءٌ تحقيقاً للفائدة، وهو رواية عن أبي حنيفة. ولأبي يوسف أنه ورد التقدير بها، فلا ينقص عنها.

(إِنْ أشْهَدَ أَنه أَخَذَهُ لِلْرَّدِّ) قيّد به، لأن الإشهاد شرطٌ في أخد الآبق على الآخذ عند أبي حنيفة ومحمد كما في اللُّقطة، وعند أبي يوسف ومالك والشَّافعيّ وأحمد ليس بشرطٍ. ثم القياس أن لا شيء (عليه)

(5)

لرادّه إلاّ بشرط أن يقول: كلُّ من ردّ عليّ آبقي فله كذا، وهو قول الشّافعيّ والنَّخَعِيّ وبعض أصحاب أحمد، لأن الرادّ تبرّع بمنافعه في ردّه على سيده، وهو لو تبرّع بمنافعه في ردّ غيره من أعيان ماله، أو في ردّ

(1)

سبق شرحها ص (13)، التعليقة رقم:(8).

(2)

سبق شرحها ص (13)، التعليقة رقم:(6).

(3)

سبق شرحها ص (13)، التعليقة رقم:(7).

(4)

الجُعْلُ: ما يُجعَلُ على العمل من أجر أو رِشْوَة. المعجم الوسيط ص 126، مادة (جعل).

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 100

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الضّال، لا يستوجب الأجر إلاّ بشرطٍ، فكذا هذا. وقال مالك: له أَجْر مِثْله بقدر تعبه إن كان ممّن شأنه طلب الآبق

(1)

وإن لم يكن فله نفقته عليه.

وعن أحمد: إنْ ردّه من المِصْر فله عشرة دراهم، وإن ردّه من خارجه، سواء ردّه من مدّة سفر أو لا فله أربعون درهماً.

ولنا أنّ الصحابة قد اتفقوا على الجُعْلِ وإن اختلفوا في مقداره. فإنّ محمداً روى عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، عن سعيد بن مَرْزُبَان، عن أبي عمرو الشَّيْبَانِيّ قال: كنت قاعداً عند ابن مسعود فجاءه رجلٌ فقال: إنّ فلاناً قَدِم بإباقٍ من الفيُّوم

(2)

فقال (القوم)

(3)

أصاب أجراً، فقال عبد الله: وجُعْلاً إن شاء من كل رأسٍ أربعين درهماً. وروى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن سفيان الثّوريّ، عن أبي رَبَاح، عن أبي عمرو الشَّيْبَانِيّ قال: أصبت غِلْمَاناً أُبَّاقاً بَالِغِين، فذكرت ذلك لابن مسعود، فقال: الأجر والغنيمة. فقلت: هذا الأجر، فما الغنيمة؟ قال: أربعون درهماً من كل رأس.

وأخرج ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن قَتَادة وأبي هاشم أنّ عمر قضى في جُعْل الآبق بأربعين درهماً. وروى أيضاً (عن وَكِيع، عن سُفْيان، عن أبي إِسْحاق قال: أُعْطِيَتْ الجُعْلُ زمن معاوية أربعين درهماً، وروى أيضاً)

(4)

عن سعيد بن المُسَيَّب أنّ عمر جَعَل في جُعل الآبق ديناراً، أو اثني عشر درهماً. وروى أيضاً عن عليّ أنه جَعَل في جُعْل الآبق ديناراً، أو اثني عشر درهماً. وروى هو وعبد الرَّزَّاق عن عمرو بن دَينَار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في العبد الآبق الذي يؤخذ خارج الحرم بدينار أو عشرة دراهمٍ.

والمفهوم عن خارج الحرم في المتبادر

(5)

القُرْب، لا قدر مسيرة سَفَرٍ عنه، ولهذا رُوِيَ عن عمّار بن ياسر: إن أخذه في المصر فله عشرة، وإن أخذه خارج الحرم فله أربعون. ولعلَّه اعتبر الحرم كالمكان الواحد، على أنَّ المروي عن ابن مسعود أقوى من الكل فرجَّحناه، وإنّما يؤخد بالأقلّ إذا ساوى الأكثر في القوة.

وفي «المبسوط» ولأنّ الرادّ يحتاج إلى معالجةٍ ومُؤْنة في ردّه،

(1)

في المطبوع: الإباق، والمثبت من المخطوط.

(2)

في المطبوع: القوم، والمثبت من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(5)

في المطبوع: اعتبار، والمثبت من المخطوط.

ص: 101

وَمِنْ أَقَلَّ مِنْهَا بِقِسْطِهِ، فَإِنْ أَبَقَ لَمْ يَضْمَنْ، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ فَلا شيء لَهُ وَضَمِنَ إنْ أَبَقَ مِنْهُ.

===

وقلما يرغب الناس في التزام ذلك حِسْبَةً، ففي إيجاب الجُعْل له ترغيبٌ له في ردّه وإظهارٌ للشكر من المردود إليه لإحسان الردّ.

ثم إنّ الشافعي استحسن برأيه في هذه المسألة من وجه فقال: لو أنّ المولى خاطب قوماً فقال: من ردّ منكم عبدي فله كذا فردّه أحدهم، استوجب ذلك المُسَمَّى، وهذا شيءٌ يأباه القياس، لأنّ العقد مع المجهول لا ينعقد، وبدون القبول كذلك. ولا شكّ أنّ الاستحسان الثابت باتفاق الصحابة خيرٌ من الاستحسان الثابت برأيه إذ الشريعة قامت بفتواهم إلى آخر الدَّهر، وليس لأحدٍ أن يظنّ بهم إلاّ أحسن الوجوه، ولكنه بحرٌ عميقٌ لا يقطعه كل سابحٍ ولا يصيبه كل طالبٍ.

(وَمِنْ أَقَلَّ مِنْهَا) ولرادّ الآبق من أقل مدّة سفرٍ (بِقِسْطِهِ) اعتباراً للأقل بالأكثر، (فَإِنْ أَبَقَ) من رادّه أو مات عنده (لَمْ يَضْمَنْ) لأنّه أمانة في يده، وهذا إذا أشهد (فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ فَلَا شَيء لَهُ) من الجُعْلِ، لأنّ ترك الإشهاد أَمارة أنّه أخذه لنفسه عند أبي حنيفة ومحمد (وَضَمِنَ إنْ أَبَقَ مِنْهُ) لأنه ليس بأمانة في يده. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

ص: 102

‌كِتَابُ المَفْقُودِ

هُوَ غَائِبٌ لَم يُدْرَ أَثَرُهُ، حَيٌّ في حَقّ نَفْسِهِ. فَلا تُنْكَحُ عِرْسُهُ، وَلا يُقْسَمُ مَالُهُ، وَلا تُفْسَخُ إِجَارَتُهُ.

وَيُقِيمُ القَاضِي مَنْ يَقْبِضُ حَقَّهُ، وَيَحْفَظُ مَالَهُ، وَيَبِيعُ مَا يَخَافُ فَسَادَهُ، وَيُنْفِقُ عَلَى وَلَدِه وَأبَوَيْهِ وَعِرْسِهِ.

===

كتاب المَفْقُودِ

(هُوَ) لغةً: مفعولٌ من فقدت الشيء: غاب عَنِّي، وشرعاً:(غَائِبٌ لَمْ يُدْرَ أَثَرُهُ) أي موضعه ولا حياته ولا موته مع جَدِّ أهله في طلبه. وحكمه أنّه (حَيٌّ في حَقّ نَفْسِهِ) استصحاباً للحال. (فَلَا تُنْكَحُ عِرْسُهُ) ولا يفرّق بينه وبينها، لأنّ النِّكاح حقّه، وهو حيٌّ في حقّ نفسه، والتفريق بالإيلاء لدفع الظلم، ولا ظلم من المفقود. (وَلَا يُقْسَمُ مَالُهُ) لأنه حيّ في حقّ نفسه، فكذا في ماله لأنّه تبعٌ له. (وَلَا تُفْسَخُ إِجَارَتُهُ) لأن الاستصحاب يصلح لإبقاء ما كان، وهذا منه.

(وَيُقِيمُ القَاضِي مَنْ يَقْبِضُ حَقَّهُ وَيَحْفَظُ مَالَهُ) لأنّ القاضي نُصِبَ ناظراً لكل عاجزٍ عن النظر لنفسه، والمفقود بهذه الصفة بل أقوى. وفي نصب الحافظ لماله نظرٌ، له فصار كالصبيّ والمجنون. (وَيَبِيعُ مَا يَخَافُ فَسَادَهُ) لأنّه لمّا تعذّر حفظه له بصورته، كان النظر له في حفظه بمعناه وهو ثمنه. أمّا ما لا يَخاف فساده فلا يبيعه، لأنّ القاضي لا ولاية له على الغائب إلاّ في حفظ ماله.

(وَيُنْفِقُ عَلَى وَلَدِه وَأَبَوَيْهِ وَعِرْسِهِ) لأنّ الأصل أنّ كلَّ من يستحقّ النَّفقة في ماله حال حضرته بغير قضاء القاضي، يُنْفَقُ عليه من ماله عند غيبته، لأنّ القضاء حينئذ يكون لإعانته، وكلُّ من لا يستحقها في حضرته إلاّ بالقضاء لا يُنْفَقُ عليه في غيبته، لأنّ النفقة حينئذٍ بالقضاء، وهو على الغائب ممتنع. فمن الأول: الوَالِدان والأولاد الصِّغار والإناث الكبار والذكور الزَّمْنَى

(1)

الكبار. ومن الثاني: الأخ والأخت والعمّ والعمّة والخال والخالة. وإذا لم يكن للمفقود مالٌ وطلبت الزوجة من القاضي أن يقضي لها بالنفقة عليه، كان أبو حنيفة يقول: يُجيبها إلى ذلك، وهو قول إبراهيم ثم رجع إلى قول شُرَيْح. وقال: لا يجيبها إليه، ووجه قوله الأول: حديث هِنْد

(2)

. ووجه قوله الآخر: إن نفقة الزّوجة لا تصير ديناً إلاّ بقضاء القاضي، وليس له أن يوجّه

(1)

الزَّمَانَةُ: مرضٌ يدوم زمانًا طويلًا. المعجم الوسيط ص 256، مادة:(زمن).

(2)

ونصه عن عائشة قالت: إن هندًا بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس =

ص: 103

مَيْتٌ في حَقِّ غَيرِهِ، فَلا يَرِثُ مِن غَيرِهِ، أي يُوقَفُ قِسْطُهُ مِن مَالِ مُوَرِّثِهِ إِلَى تِسْعِينَ سَنَةً.

فَإنْ ظَهَر حَيًّا فَلَهُ ذَلِكَ، وَبَعْدَهَا يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ في مَاله يَوْمَ تَمَّتْ المُدَّةُ.

===

القضاء

(1)

على الغائب، وهذا إذا كان النّكاح معلوماً له. وإن أرادت إثباته بالبيّنة لم يسمعها القاضي عندنا خلافاً لزُفَر.

(مَيْتٌ في حَقِّ غَيْرِهِ، فَلَا يَرِثُ مِنْ غَيْرِهِ) لأنّ بقاءه حيّاً باستصحاب الحال، وفي توريثه من غيره إثباتُ ما لم يكن، والاستصحاب لا يصلح لذلك. ولمّا كان قوله: فلا يرِث ظاهراً في نفي التوريث أصلاً فسَّرَه بقوله: (أي يُوقَفُ قِسْطُهُ مِنْ مَالِ مُوَرِّثِهِ إِلَى تِسْعِينَ سَنَةً) من يوم وُلِدَ على المفتى به، لأنّ الغالب في زماننا عدم الحياة إلى تسعين إلاّ نادراً، والنادر لا عبرة به.

وروى الحسن عن أبي حنيفة مئة وعشرين سنةً. وعن أبي يوسف مئة سنة. وظاهر الرِّواية: التقدير بموت الأقران في بلده. والمختار أنّ ذلك مفوّضٌ إلى رأى الإمام إذ يختلف باختلاف الأشخاص، فإنّ المَلِكَ العظيم إذا انقطع خبره يغلب على الظنّ في أدنى مدّة أنه مات، لا سيما إذا دخل في مَهْلَكَةٍ

(2)

. واقتصر مالك على أربعة أعوام واحتج بما رواه في «الموطّأ» عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيد بن المُسَيَّب أنّ عمربن الخطاب رضيالله عنه قال: أيُّما امرأة فقدت زوجها فلم تَدْر أين هو؟ فإنها تنتظر أربع سنين ثم تعتدّ أربعة أشهرٍ وعشراً ثم تحِلّ. ورواه عَبد الرَّزَّاق في «مصنفه» وزاد: إِنْ بَدَا لَهَا.

قلنا: تربُّصُها أربعُ سنين كان قول عمر في الابتداء، ثم رجع إلى قول عليّ: إنها امرأة ابْتُلِيَتْ، فَلْتبْصِر حتى يأتيها موتٌ أو طلاقٌ. رواه عبد الرَّزَّاق، وقال أيضاً: أخبرنا ابن جُرَيْج قال: بلغني عن ابن مسعود أنه وافق عليّاً على أنها تنتظر أبداً. وروى ابن أبي شيبة عن أبي قِلَابَة وجابر بن زيد والشَّعْبِيّ والنَّخَعِيّ كلّهم قالوا: ليس لها أن تتزوج حتى يتبيّن موته.

(فَإِنْ ظَهَر) المفقود (حَيّاً فَلَهُ ذَلِكَ) القسط الموقوف له (وَبَعْدَهَا) أي بعد التسعين سنةً (يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ في) حقّ (مَاله يَوْمَ تَمَّتْ المُدَّةُ) لأن هذا موت حكمي

= يعطيني ما يكفيني وَوَلدي إلّا ما أخذت منه، وهو لا يعلم! فقال:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 9/ 507، كتاب النفقات (66)، باب إذا لم ينفق الرجل، فللمرأة أن تأخذ .. (9). رقم (5364).

(1)

عبارة المطبوع: وليس لها أن يؤاخذ القاضي على الغائب، والمثبت عبارة المخطوط.

(2)

المَهْلَكَةُ: المفازة. وقد سبق شرحها ص (84)، التعليقة رقم:(1).

ص: 104

فَتَعْتَدُّ عِرْسُهُ لِلْمَوْتِ، وَيُقْسَمُ مَالُهُ بَين مَنْ يَرِثَهُ الآنَ، وَفِي مَالِ غَيْرِهِ مِن حِينِ فَقْدِهِ، فَرُدَّ مَا وُقِفَ لَهُ إلى مَنْ يَرِثُ الغَيرَ عِنْدَ مَوْتِهِ.

===

والحكم معتبر بالحقيقي (فَتَعْتَدُّ عِرْسُهُ لِلْمَوْتِ) من ذلك الوقت.

(وَيُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ مَنْ يَرِثَهُ الآنَ) أي في ذلك الوقت كأنه مات فيه مُعَايَنَة (وَ) يحكم بموته (فِي) حقّ (مَالِ غَيْرِهِ مِنْ حِينِ فَقْدِهِ) لأنّه ميت في حقّ غيره في ذلك الوقت حُكْماً، فكأنه مات فيه عِيَاناً (فَرُدَّ مَا وُقِفَ لَهُ) أي للمفقود (إلى مَنْ يَرِثُ الغَيْرَ عِنْدَ مَوْتِهِ) أي موت ذلك الغير، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 105

‌كِتَابُ القَضَاءِ

أَهْلُهُ أَهْلُ الشَّهَادَةِ، وَيَصِحَّانِ مِنَ الفَاسِقِ، لَكِنْ لا يُقَلَّدُ وَلا يُقْبَلُ. وَلَوْ فَسَقَ العَدْلُ يُعْزَلُ، وَقِيلَ: يَنْعَزِلُ. وَمَنْ أَخَذَهُ بِالرِّشْوَةِ لا يَصِيرُ قَاضِيًا،

===

كتاب القَضَاءِ

هو لغةً: الفَرَاغ عن الأمر، ومنه قوله تعالى:{قُضِيَ الأَمْرُ}

(1)

.

وشرعاً: إلزام الحكومات، وفصل الخصومات، وقطع المنازعات. وهو فرض كفاية بالإجماع، فإن لم يصلح للقضاء إلاّ واحدٌ تعيّن عليه.

(أَهْلُهُ أَهْلُ الشَّهَادَةِ) أي يُشترط فيمن يفوَّض إليه القضاء أن يكون من أهل الشهادة، يعني: حرّاً مكلفاً مسلماً، وذلك لأنّ ولاية القضاء كالفرع لولاية الشهادة، إذ حكم القضاء يُبتنى على حكم الشهادة.

(وَيَصِحَّانِ) أي الشَّهادة والقضاء (مِنَ الفَاسِقِ) لأنّ العدالة فيهما شرط الأولوية، لأن السلف أجازوا حُكْمَ مَنْ تغلّب من الأمراء وجار، ولولا صحته لما فعلوا ذلك. وفي «وسيط الغزالي»: اجتماع هذه الشرائط من الاجتهاد والعدالة وغيرهما متعذِّر في عصرنا لِخُلوّ العصر

(2)

عن المجتهد والعَدْل، فالوجه تنفيذ قضاء كلّ مَنْ ولاّه سلطانٌ ذو شوكة، وإن كان جاهلاً فاسقاً. (لَكِنْ) ينبغي أنّه (لَا يُقَلَّدُ) الفاسق القضاء (وَلَا يُقْبَلُ) إذا شهد، لأنّ الفاسق لا يُؤْمن، لقلة مبالاته بواسطة فِسْقه.

(وَلَوْ فَسَقَ) القاضي (العَدْلُ) بأخذ الرِشْوَة أو بغيره كالزنا وشرب الخمر (يُعْزَلُ) أي يستحقّ العزل في ظاهر المذهب، وعليه مشايخ بخارى وسَمَرْقَنْد. ومعنى يستحق العزل: أنّه يجب على السلطان عزله. (وَقِيلَ: يَنْعَزِلُ) بمجرد الفسق ولا يصحّ قضاؤه بعد ذلك، كما لا تقبل شهادته، وهو قول مالك والشّافعيّ (وأحمد)

(3)

. واختاره الكَرْخِيّ والطَّحَاوِيّ وعليّ الرَّازي صاحب أبي يوسف، وهو اختيارٌ حسنٌ لعدم ائتمان الفاسق على حقوق النَّاس.

(وَمَنْ أَخَذَهُ) أي القضاء (بِالرِّشْوَةِ لا يَصِيرُ قَاضِياً) وكذا لا ينفذ قضاؤه في الأمر الذي أخذ الرِّشْوَة لأجله. قال القاضي فخر الدين: أجمعوا أنه إذا ارتشى لا ينفذ قضاؤه فيما ارتشى، وقال: إذا أَخَذَ القضاء بالرِّشْوَة لا يصير قاضياً، ولو قضى لا ينفذ

(1)

سورة يونس، الآية:(41).

(2)

عبارة المطبوع: متعذّر في عصر يخلو عن المجتهد، والمثبت عبارة المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 106

وَالاجْتِهَادُ شَرْطٌ للأَوْلَوِيَّةِ.

===

قضاؤه، كذا في «الكافي» .

وفي «أدب القاضي» للصدر الشهيد: أنّ الرِّشْوَة على أربعة أوجه: منها ما هو حرامٌ للآخذ والمعطي، وهو الرِّشْوة في تقلّد القضاء، فإنه لا يصير قاضياً. ومنها ما يأخذه القاضي على القضاء وهو حرامٌ من الجانبين أيضاً، ولا ينفذ قضاؤه ولو كان بحقّ. ومنها ما دَفَعَها لخوف على نفسه أو ماله، وهذه حرامٌ على الآخذ لا الدَّافع. ومنها ما دفعها ليستوي حاله عند السلطان، وهذه تحِلّ لدافع لا لآخذ.

(وَالاجْتِهَادُ شَرْطٌ للأَوْلَوِيَّةِ) عندنا في الأصح، وهو ظاهر الرواية لا شرط الصحة، لما رُوِيَ أنّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام قلّد عليّاً قضاء اليمن حيث لم يبلغ حدّ الاجتهاد. فقد روى أبو داود عن عليّ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً فقلت: يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء، فقال:«إنّ الله سيهدي قلبك، ويُثَبِّتُ لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضيَنَّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبيّن لك القضاء» ، قال: فما زلت قاضياً وما شككت في قضاء بعدُ. خلافاً (لزُفر)

(1)

ومالك والشّافعيّ وأحمد، وهو نصّ محمد في «الأصل»: أنّ المقلِّد لا يجوز أن يكون قاضياً، لأنه مأمورٌ بالقضاء بالحقّ، ولا أمر بلا قدرة، ولا قدرة بلا علم.

ولنا: أنّ المقصود من القضاء، وهو إيصال الحقّ إلى مستَحِقِّه، يحصل بفتوى غيره، والمراد بالعلم ليس ما يقطع بصوابه، بل ما يظنه المجتهد، فإنه لا قطع في مسائل الفقه غالباً، فإذا قضى بقولٍ مجتَهَدٍ فقد قضى بذلك العلم وهو المطلوب، ولكن إذا وُجِدَ في الرَّعيّة عدلٌ عالمٌ لا يحلّ تولية من ليس كذلك، بل لا يصحّ تولية الجاهل الفاسق في رواية «النوادر» عن أئمتنا الثلاثة، كسائر أقوال أصحاب المذاهب. واختارها الطَّحاوي لقوله عليه الصلاة والسلام:«مَنْ استَعمل رجلاً على عِصَابَةٍ، وفي تلك العصابة مَنْ هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسولَه وجماعة المسلمين» . رواه الحاكم من حديث ابن عبّاس. وأخرجه الطَّبَرَانِيّ عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَلَّى من أمر المسملين شيئاً، فاستعمل عليهم رجلاً وهو يعلم أنّ فيهم من أولى بذلك، وأعلم منه بكتاب الله وسنة رسوله، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» .

وأصحّ ما قيل في حدّ المجتهد أن يكون قد حوى عِلْمَ الكتاب ووجوه

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 107

وَلا يَطْلُبُ، وَإنَّما يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَثِقُ عَدْلَهُ.

===

معانيه، وعِلْمَ السُّنَّةِ بطرقها ومتونها ووجوه معانيها، وكذا علم الآثار المنقولة عن الصحابة، وما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه، وأن يكون عالماً بالقياس وعُرف النَّاس.

(وَلَا يَطْلُبُ) القضاء لا بقلبه ولا بلسانه إلاّ إذا لم يكن غيره يصلح للقضاء، فإنه يُفترض عليه صيانةً لحقوق المسلمين، كصلاة الجنازة إذا تعيّن واحد لإقامتها يفترض عليه. وقال بعض أصحاب الشّافعيّ: إن كان خامل الذِّكْر ولو وُلِيَ القضاء لاشتهر وانتفع الناس بعلمه، أو لم يكن له كفاية ولو وُلِيَ صار مكفياً من بيت المال، يستحب له الطلب.

والأصل في ذلك ما أخرج البخاري عن النبي عليه الصلاة والسلام أنّه قال: «يا عبد الرحمن بن سَمُرَة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعْطِيْتَها

(1)

عن مسألة وُكِلْتَ إليها، وإن أعطيتَها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها». وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل القضاء وُكِلَ إلى نفسه، ومن أُجْبِرَ عليه نزل إليه مَلَك يُسَدِّدُهُ» . وإنما وُكِلَ إلى نفسه لأنه اعتمد على نفسه

(2)

وورعه، بخلاف من أُكْرِهَ، فإنه اعتصم بالله وحِفْظِهِ.

وقيل: يَحْرُمُ الدُّخول فيه إلاّ أن يُكره عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام:«من جُعِلَ على القضاء فقد ذُبِحَ بغير سكين» . رواه أصحاب السنن من حديث أبي هُرَيْرَة، وحسَّنه الترمذي. ورواه ابن عدي في «الكامل» عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:«من اسْتُقْضِيَ فقد ذُبِحَ بغير سكين» . وفي «صحيح مسلم» عن أبي ذرَ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «يا أبا ذر إني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيم» .

(وَإِنَّما يَدْخُلُ فِيهِ) أي القضاء (مَنْ يَثِقُ عَدْلَهُ) أي يعتمد عدل نفسه، صيانةً لحقوق العباد، وإخلاءً للعالَم عن الفساد. وأمّا من يخاف على نفسه العجز عنه، أو لا يأمن على نفسه الظلم، فيكره له الدُّخول في القضاء. وذلك لأنّ عليّاً لما امتَحَنَ قاضياً قال: ما صلاح الأمر؟ قال: الورع، قال: ما فساده؟ قال: الطمع. فقال: حُقَّ لك أنّ تقضي. وعن عمر أنّه قال: إذا كان في القاضي خمس خصالٍ فقد كَمُل، وإن كان فيه أربع ولم تكن واحدة ففيه وَصْمَة، وإن كان فيه ثلاثة، ولم تكن فيه اثنتان ففيه وَصْمَتَان، قيل: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: (علمٌ)

(3)

بما كان قبله. ـ وهو إشارة

(1)

في المخطوط: أديتها، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في صحيح البخاري، (فتح الباري) 13/ 124، كتاب الأحكام (93)، باب من سأل الإمارة وُكِلَ إليها (6) رقم (7147).

(2)

في المخطوط: علمه، والمثبت من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 108

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

إلى ما بُيّن في حق المجتهد ـ وقال: نُزْهَةٌ عن الطمع، وحِلمٌ على الخصم، واستخفاف الملامة من الناس ـ يعني لا ينبغي للقاضي فيما يفصل من القضاء (أن يخاف)

(1)

الملامة من الناس، فإنّه إذا خافها يتعذّر عليه القضاء بالحق ـ.

وهذا لأنه لا بد أن ينصرف أحدُ الخصمين من مجلسه شاكياً يلوم القاضي مع أصدقائه على ما كان منه، فإذا تفكَّر القاضي واشتغل بالتعرّض علن الآئمةِ يتعذّر عليه فصل القضاء، ولعله مقتَبَسٌ من قوله تعالى:{يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}

(2)

. وقيل: ومع هذا يستحبّ أن يعتذر للمقضي عليه ويبيّن له وجه قضائه لديه، وأَنّ الحكم في الشرع يقتضي القضاء عليه صيانةً لعرضه من نسبة الجَور إليه.

قال

(3)

: ومشاورة أولي العلم. وفيه دليل على أنّ القاضي وإن كان عالماً ينبغي له أن لا يدع مشاورة العلماء. قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}

(4)

وقال عز وجل: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}

(5)

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشورةً لأصحابه، وكان عمر يستشير الصحابة مع كمال فقهه، حتى كان إذا رُفِعَت إليه حادثةٌ قال: ادعوا لي عليّاً، ادعو لي زيدَ بن ثابت، ادعوا لي أُبيّ بن كعب، وكان يستشيرهم ثم يفصل بما اتفقوا عليه.

وفي «سنن أبي داود» عن بُرَيْدَةَ

(6)

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجلٌ عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجلٌ عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار» . وفي «صحيح ابن حِبَّان»

(7)

عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُؤْتَى بالقاضي العدل يوم القيامة فَيلْقَى من شدّة الحساب ما يتمنى أنّه لم يقض بين اثنين في تمرةٍ» .

وأَخرج الحاكم عن ابن عبَّاس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من وَلِيَ عشرة فَحَكَم

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سورة المائدة، الآية:(54).

(3)

أي أمير المؤمنين عمر، وهي الخصلة الخامسة.

(4)

سورة آل عمران، الآية:(159).

(5)

سورة الشورى، الآية:(38).

(6)

عبارة المخطوط: وفي سنن أبي بردة قال:

والمثبت عبارة المطبوع وهي الصواب.

(7)

حُرِّفت في المطبوع إلى ابن عباس، والمثبت من المخطوط.

ص: 109

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

بينهم بما أحبّوا أو كرهوا، جيء به يوم القيامة مغلولةٌ يده إلى عُنُقِه، فإن حكم بما أنزل الله ولم يرتشِ في حكم، ولم يَخُن

(1)

، فكَّ الله عنه غُلَّه، وإن حكم بغير ما أنزل الله وارتشى في حكمه وخان فيه، شُدَّت يساره إلى يمينه ثم رُمِيَ في جهنم».

ولهذا اجتنبه أبو حنيفة وصبر على الضرب والسجن حتى مات فيه. وقال: البحر عميق فكيف أَعْبُرُه بالسباحة؟ فقال أبو يوسف: البحر عميق، والسفينة وثيق، والملاّح عالم. فقال أبو حنيفة: كأني بك قاضياً. وقد اجتنبه كثير من السلف. وقُيِّدَ محمد بن الحسن نيفاً وثلاثين يوماً ليتقلّده. وقال مكحول: لو خُيِّرتُ بين ضرب عنقي وبين القضاء لاخترت ضرب عنقي. رواه النَّسائي عنه.

هذا، ويصحّ تقلّده ولو من السلطان الجائر وأهل البغي، لأنّ بعض الصحابة تقلّدوه من معاوية بعد ما أظهر الخلاف مع عليّ وكان الحق مع عليّ في نوبته. وبعض التابعين تقلّدوه من الحجَّاج وكان جائراً، فقد قال الحسن في حقّه: لو جاء كلّ أمة بخُبَثَائها وجئنا به لغلبناهم. ولكن إنما يجوز التقلّد من السلطان الجائر إذا مكّنه من القضاء

(2)

بحقّ، وأما إذا لم يمكّنه فلا، لأن المقصود لا يحصل بالتقلّد منه. ويصحّ تولية المرأة عندنا، وأبطلها مالك والشّافعيّ، لأن المرأة ناقصة العقل ليست أهلاً للخصومة مع الرجال في محافل الحكومة. وقد قال عليه الصلاة والسلام:«لن يفلح قومٌ وَلَّوا أمرهم امرأة» . رواه البخاري.

والجواب: أن ما ذكر غاية ما يفيد منع أن تُستقضى وعدم حلّه. والكلام فيما لو وَلّيت ـ وأثم المقلِّد بذلك ـ وحَكَّمَهَا

(3)

خصمان، فقضت قضاء موافقاً لدين الله، أكان ينفذ أم لا؟ لم ينهض الدليل على نفيه بعد موافقته ما أنزل الله إلاّ أن يثبت شرعاً سَلبُ أهليتها، وليس في الشرع سوى نقصان عقلها. ومعلوم أنه لم يصل إلى حدّ سلب ولايتها بالكلية، أَلا ترى أنها تصلح شاهدةً وناظرة في الأوقاف ووصيةً على اليتامى، مع أنّ عقل بعض النساء أقوى من عقول كثيرٍ من الرجال.

وفي «أدب القاضي» للصَّدر الشهيد: للسلطان أن يَعْزِل (القاضي)

(4)

بِرِيبةٍ وبغير

(1)

في المخطوط: لم يَحِقْ، والمثبت من المطبوع.

(2)

في المطبوع: القرباء، والمثبت من المخطوط.

(3)

في المخطوط: أو كلها، والمثبت من المطبوع.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 110

وَمَنْ قُلِّدَ القَضَاءَ سَأَلَ دِيوَانَ قَاضٍ قَبْلَهُ، وَلا يَعْمَلُ في المَحْبُوسِ بِقَوْلِ المَعْزُولِ، وَكَذَا فِي غَلَّةِ الوَقْفِ وَالوَدِيعَةِ، إلّا إذَا أَقَرَّ ذُو اليَدِ بِالتَّسْلِيمِ مِنْهُ. وَيُقْرِض مَالَ اليتيمِ.

===

رِيبة.

أمّا بريبة فظاهر، وأمّا بغير ريبة فلما رُوِيَ عن أبي حنيفة: أنّ القاضي لا يُتْرَكُ على القضاء إلاّ حولاً، لأنه متى اشتغل بالقضاء أكثر من سنة نسي العلم. وقال الشافعي وأحمد: يجوز عزله بخلَلِه. وقال مالك: بشكوى أحد، ولو عزله بغير خللٍ منه لا ينعزل، فإن كان أحدٌ صالحٌ أفضلَ منه جاز عزله، وإن كان دونه أو مثله، فإن كان لتسكين فتنةٍ أو لمصلحةٍ أخرى جاز عزله. والقضاة والولاة لا ينعزلون بموت السلطان بلا خلاف، ولو عَزَل القاضي نفسه ينعزل.

(وَمَنْ قُلِّدَ القَضَاءَ سَأَلَ) أي طلب (دِيوَانَ قَاضٍ قَبْلَهُ) وهو الخرائط التي فيها نُسخ السجلات وغيرها من الصكوك والمحاضر ونصب الأوصياء والقَيِّم في أموال الوقف وتقدير النفقات. وهذا لأنّ القاضي يكتب نسختين إحداهما في يد الخصم والأخرى تكون في يد القاضي، ربّما يحتاج إليها لمعنىً من المعاني، وما في يد الخصم لا يؤمن عليه من الزيادة والنقص. فيبعث القاضي عدلين أو عدلاً واحداً ليقبض ديوان القاضي المعزول بحضرته أو بحضرة أمينه.

(وَلَا يَعْمَلُ) القاضي المتولي (في المَحْبُوسِ) المِنْكِر (بِقَوْلِ المَعْزُولِ) بل بالبيّنة فإن لم يكن بيّنه نادى: من له حقّ على فلانٍ فليحضر مجلس القضاء، فإن لم يحضر أحد خلَّى سبيله وأخذ منه كفيلاً، وإنّما لا يعمل بقول المعزول، لأنّ قوله حينئذٍ شهادةٌ، وشهادة الفردِ ليست بحجَّة لا سيما إذا كانت على فعلِ نفسه.

(وَكَذَا فِي غَلَّةِ الوَقْفِ وَالوَدِيعَةِ) لا يعمل بقول المعزول: إنَّ وديعة فلان دفعتُها إلى هذا الرجل، وهو منكرٌ، بل يعمل بالبيَّنة (إلاّ إذَا أَقَرَّ ذُو اليَدِ بِالتَّسْلِيمِ مِنْهُ) أي بالأخذ من المعزول، لأنّ ذا اليد أقرَّ بأن اليد كانت للمعزول. ولو كان المال في يد المعزول يُقبل إقراره فيه، فكذا إذا كان في يد مُودِعِه، لأن يد المودَع كيد المودِع.

(وَيُقْرِضُ) القاضي (مَالَ اليَتِيمِ) وكذا مال الغائب، لأنّ في إقراضه مصلحةً لليتيم ونحوه، وهي بقاء ماله محفوظاً، ويكتب الصَّكُّ تذكرةً للحقّ. قيّد بالقاضي، لأن الوصيّ لا يقرض مال اليتيم لعجزه عن الاستخلاص، فربّما يجحد

(1)

المستقرض ولا يجد شهوداً يوافقونه على أداء الشهادة، ولو وَجَدَ فلا كلّ بيّنة تُعَدَّل،

(1)

في المطبوع: يجد، والمثبت من المخطوط.

ص: 111

وَالجَامِعُ أَوْلَى لِجُلُوسِهِ الظَّاهِرِ.

===

ولا كلّ قاضٍ يَعْدِل. وفي الجُثُوِّ بين يدي القاضي ذُلٌّ فكان إضراراً بالصغار بهذا الاعتبار، وكذا الأب في أظهر الروايتين. ولو أخذ الأب مال الابن قرضاً لنفسه قالوا: يجوز، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز.

ويجوز للقاضي أن يحكم بعلمه عندنا كما يحكم بعلمه بعد ثبوت البيّنة، وهو قول للشّافعيّ ورواية عن مالك وأحمد. وقال الشافعي في قول ومالك وأحمد في ظاهر مذهبه: لا يَحْكم لأنّه يُتَهم في الحكم بعلمه، كالحكم لولده.

ولو رأى شيئاً قبل أن يقلَّد القضاء أو في غير مصره الذي هو قاضيه، لا يحكم عند أبي حنيفة ومالك، ويحكم عند أبي يوسف ومحمد والشَّافعيّ في قول، وأحمد في رواية، لأن العلم حاصلٌ له كعلمه في حال قضائه أو في مصره. ولأبي حنيفة: أنه عِلم شهادةٍ لا عِلم قضاء، فلا يصير موجِباً إلاّ بلفظ الشهادة والعدد.

(وَالجَامِعُ) الذي في وسط البلد (أَوْلَى) من داره (لِجُلُوسِهِ الظَّاهِرِ) وهو الجلوس الذي يأتي الناس فيه لقطع الخصومات، كيلا يشتبه مكانه على الغرباء وبعض المقيمين في البلد.

والحاصل: أنّ جلوسه للحكم في أَشهر الأماكن ومجامع الناس بلا حاجبٍ ولا بوّابٍ أفضل، ولو جلس في أي مكان شاء جاز. وقال الشَّافعيّ: يكره الجلوس في المسجد للقضاء، لأنه يحضره المشرك وهو نجس، والحائض وهي ممنوعة عن دخوله.

ولنا: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى في المسجد الجامع، وكذلك الصحابة والتابعون لما في الصحيحين عن سَهْل بن سَعْد في قصة اللِّعَان: أنّ رجلاً قال: يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً إلى أن قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهدٌ. ولما أخرجه الجماعة إلاّ الترمذي عن كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حَدْرَدٍ ديناً كان عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجْف حُجْرَتِهِ فنادى:«يا كعب» ، قال:(لبّيك)

(1)

يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر

(2)

من دَينك. قال كعب: قد فعلت يا رسول الله، قال:«قم فاقضه» .

والسَِّجْف بفتح السين وكسرها: السِّتْر. وفي البخاري: ولَاعَنَ عمر عند منبر النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقضى شُرَيْح والشَّعْبِيّ ويحيى بن يَعْمُر في المسجد. وقضى مروان على

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط. وهي صحيحة لموافقتها لما في صحيح مسلم 3/ 1192، كتاب المساقاة (22). باب: استحباب الوضع من الدين (4)، رقم (20 - 1558).

(2)

في المطبوع: الشغر، والمثبت من المخطوط. وهو الصواب.

ص: 112

وَلا يَقْبَلُ هَدِيَّةً إِلّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، أو مِمَّنْ اعْتَادَ مُهَادَاتَهُ قَبْلَ القَضَاءِ قَدْرًا عُهِدَ إِذا لَمْ يَكنْ لَهُمَا خصُومَةٌ.

===

زيد بن ثابت باليمين عند المنبر.

وأخرج ابن سعد في «الطبقات» عن رَبِيعَة بن أبي عبد الرحمن أنه رأى أبا بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم يقضي في المسجد عند القبر، وكان على القضاء بالمدينة في ولاية عمر بن عبد العزيز. وأخرج أيضاً عن سعيد بن مسلم بن فاتك قال: رأيت سعد بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عَوْف يقضي في المسجد، وكان قد وُلِّيَ قضاء المدينة. وأمّا استدلال صاحب «الهداية» بقوله عليه الصلاة والسلام:«إنّما بُنيت المساجد لذكر الله والحُكْم» (فقوله: والحكم)

(1)

غير معروفٍ، وإنما المحفوظ في مسلم حديث أنس في بول الأعرابي في المسجد قال أنس: ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال: «إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القَذَر، إنّما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن» .

ولأنّ القضاء عبادةٌ فيجوز إقامتها في المسجد كالصلاة، ونجاسة المشرك في اعتقاده فلا يُمنع من دخوله، والحائض تُخْبِر بحالها، فيخرج القاضي إليها، أو تبعث من يفصل بينها وبين خصمها، كما إذا كانت الخصومة في دابة. ويستحب له أن يقعد مع أهل العلم ويُجْلِسهُمْ قريباً منه للمشورة، وكذا أهل العدل للشهادة بخلاف الأعوان، فإنّ بُعدَهم أولى لحصول الهيبة.

ولا يقضي في حال شُغْلِ قلبه بشيء، فلا يقضي وهو: غَضْبَان، أو فَرْحَان، أو جائع، أو عَطْشَان، أو مهموم، أو نَعْسَان، أو حاقن، أو متألّم من حَرَ، أو بردٍ. وينبغي أن يتّخذ مترجماً ثقةً ليُبَيِّن له ما لا يعرفه من لسان الخصم، لأنه عليه الصلاة والسلام أمر زيد بن ثابت أن يتعلّم العبرانية. وكان يترجم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمّن كان يتكلم بين يديه بتلك اللغة، وكذا يتّخذ كاتباً أميناً عدلاً صالحاً وَرِعاً.

(وَلَا يَقْبَلُ) القاضي من أحدٍ (هَدِيَّةً) وهي ما تُعْطَى لأجل المحبة (إِلاّ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ) لأنه من صلة الرحم (أو)

إلاّ (مِمَّنْ اعْتَادَ مُهَادَاتَهُ قَبْلَ القَضَاءِ) لقوله عليه الصلاة والسلام: «تَهَادَوا تَحَابُّوا»

(2)

(قَدْراً عُهِدَ) من ذلك المهدي حتى لو زاده عليه لا يَقْبَل الزِّيادة (إِذا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا) أي لذي الرّحم المَحْرَم ولمن اعتاد الإهداء للقاضي قبل القضاء (خُصُومَةٌ) حتى لو كان لأحدهما خصومة لا يقبل القاضي هديته ما دامت

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط". 7/ 234، حديث رقم (7240).

ص: 113

وَلا يَحْضُرُ دَعْوَة إِلَّا عَامَّةً.

وَيُسَوِّي بَين الخَصْمَيْنِ جُلُوسًا وَإقْبَالًا، وَلا يُسَارُّ أَحَدَهُمَا، ولا يُضِيفُهُ،

===

الخصومة، لأنها حينئذٍ لأجل القضاء فيكون من الرِّشْوَة.

(وَلَا يَحْضُرُ) القاضي (دَعْوَةً) لأحدٍ ولو كان صاحبها ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ من القاضي (إِلاَّ) دعوة (عَامَّةً) لتحقق التهمة في الخاصة وانتفائه في العامة.

وفي «الكفاية» : لو كان صاحب الدّعوة خصماً لا يحضر القاضي دعوته ولو كانت عامة، والخاصة هي التي لو علم صاحبها أنّ القاضي لا يحضرها لا يصنعها. وقيل: ما كانت لغير عُرسٍ أو خِتَانٍ، والعامة خلافها. وأجاز له محمد حضور دعوة قريبه الخاصة كالعامة، وعيادة المريض وشهادة الجنائز إذا لم يكن لهم ولا عليهم دعوى. وأبو حنيفة وأبو يوسف منعاه منها لمكان التهمة.

(وَيُسَوِّي) القاضي (بَيْنَ الخَصْمَيْنِ جُلُوساً) بين يديه غير متربِّعَين ولا مُقْعِيَيْنِ

(1)

ولا مُحْتَبِيَيْنِ

(2)

ويكون بينهما وبين القاضي قدر ذراعين، ولا يُقْعِدُ أحدهما من الجانب اليمين والأخر من الجانب اليسار، لأنّ جانب اليمين أفضل والقلب إليه أميل. يفعل ذلك مع الشريف والضعيف والأب والابن والخليفة والرَّعية.

وإذا سوّى بينهما وحكم بالحقّ ولكنه يجد في قلبه الميل إلى أحدهما فلا بأس به، لأن ذلك لا قدرة له عليه كما في القَسْم بين النِّساء (وَإِقْبَالاً) أي توجّهاً والتفاتاً لقوله عليه الصلاة والسلام:«من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فَلْيُسوِّ بينهم في المجلس في الإشارة والنظر، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر من الآخر» . رواه إسحاق بن رَاهُويه في «مسنده» من حديث أم سلمة. وأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من ابتُلِيَ بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لَحْظِه وإشارته ومقعده» . ورُوِىَ عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري: أن آس

(3)

بين الناس في عدلك ووجهك ومجلسك، حتى لا يطمع شريفٌ في حَيْفِكَ

(4)

، ولَا يَيْأَسَ ضعيف من عدلك.

(وَلَا يُسَارّ أَحَدَهُمَا) أي لا يكلّمه سرّاً (ولا يُضِيفهُ) أي لا يصنع القاضي لأحدهما ضيافةً. قيّد بالأحد لأنه لو سارَّهما معاً أو أضافهما معاً لا بأس به، كذا قاله

(1)

أقْعَى في جلوسه: جلس على أَلْيتيه ونصب ساقيه وفخِذيه. المعجم الوسيط ص 750، مادة:(قعى).

(2)

في المطبوع: مختبئين، والمثبت من المخطوط. ومعنى احْتَبَى: جلس على أَلْيتيه وضمّ فخِذيه وساقيه إلى بطنه بذراعيه ليستنِدَ. المعجم الوسيط ص 154، مادة:(حبا).

(3)

آسى بينهما: سَوَّى. المعجم الوسيط ص 18، مادة:(أسا).

(4)

الحَيْفُ: حاف عليه: جار وظلم. المعجم الوسيط ص 212، مادة:(حاف).

ص: 114

وَلا يَضْحَكُ، وَلا يَمْزَحُ مَعَهُ، وَلا يُشِيرُ إِلَيهِ، وَلا يَلَقِّنُهُ حُجَّةً، وَلا يُلَقِّنُ: أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا. وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ فِيمَا لا تُهْمَةَ فِيهِ.

وَيَحْبِسُ الخَصْمَ مُدَّةً رَآهَا مَصْلَحَةً

===

الشارح. وفي جواز مسارَّاتهما معاً نظرٌ ظاهرٌ، إذ لا يخلو عن تهمة ورِيبَة لكلّ منهما.

(وَلَا يَضْحَكُ) مع أحدهما (وَلَا يَمْزَحُ مَعَهُ) بل ولا معهما، لأنّ كلاًّ منهما يُذْهِبُ مهابة القضاء (وَلَا يُشِيرُ إِلَيْهِ) لأنه بذلك يجتريء الخصم لديه (وَلَا يَلَقِّنُهُ حُجَّةً) لأن فيه تهمةً وكسراً لقلب الآخر، وربّما أدّى إلى ترك حقّه (وَلَا يُلَقِّنُ) القاضي الشهادة بقوله:(أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا) لأنّ فيه إعانة أحد الخصمين. (وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ فِيمَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ) لأنّ الشاهد قد يهاب مجلس القاضي فيُحْصَرُ

(1)

، فكان في تلقين الشاهد إحياءٌ للحقّ.

(وَيَحْبِسُ) القاضي (الخَصْمَ مُدَّةً رَآهَا مَصْلَحَةً) ليظهر ماله

(2)

إن كان يخفيه. وقيل: شهراً، وهو اختيار الطَّحَاوِيّ، لأن ما زاد في حكم الآجل، وما دونه في حكم العاجل. وقيل: بشهرين. وقيل: ثلاثة. وقيل: أربعة إلى ستة أشهر، روايات عن أبي حنيفة. والصحيح ما في المتن، لأن من الأشخاص من يرى حبسه في زمان طويل أيسر من إعطاء ما عليه من مال قليل.

وصِفة الحبس أن يكون في موضع ليس فيه فراشٌ ولا وِطَاءٌ

(3)

، ولا يدخل عليه أحدٌ يستأنس به، ولا يخرج لجماعة (ولا لجمعة)

(4)

ولا لجنازة. ولو أعطى كفيلاً، ولا لموت قريبٍ إلاّ إذا لم يوجد من يجهّزه. ولو مرض مرضاً أضناه لا يخرج إن كان له من يَخْدُمه، ولو احتاج إلى الجماع لا يُمْنَع من دخول امرأته أو جاريته عليه، إن كان في السجن موضع يستره، لأنّ اقتضاء شهوة الفرج كاقتضاء شهوة البطن. وقيل: يمنع، لأنّ الوطيء من فضول الحوائج.

والحبس ثابتٌ بالكتاب وهو قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ}

(5)

والمراد بالنفي: الحبس. وبالسنة فإنه حبس عليه الصلاة والسلام رجلاً في تهمةٍ. رواه أبو داود، وزاد الترمذي والنَّسائي، ثم خلَّى عنه. ولم يكن في عهده عليه الصلاة والسلام

(1)

حَصِرَ: مُنِعَ من شيءٍ عجزًا أو حياءً. المعجم الوسيط ص 178. مادة: (حصر).

(2)

في المطبوع: حاله، والمثبت من المخطوط.

(3)

الوِطَاءُ: المِهَاد الوطيء. المعجم الوسيط، ص 1041، مادة:(وَطِئ). والمِهَاد: الفراش. المعجم الوسيط ص 889، مادة:(مهد).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(5)

سورة المائدة، الآية:(33).

ص: 115

بِطَلَبِ وَلِيِّ الحَقِّ، إن امْتنَعَ المُقِرُّ عَنِ الإيفَاءِ، أَوْ ثَبَتَ الحَقُّ بِالبَيِّنَةِ فِيمَا لَزِمَهُ بِعَقْدٍ، كَالْكفَالَةِ، أوْ بَدَلِ مَالٍ حَصَلَ لَهُ.

وَفِي نَفَقَةِ عِرْسِهِ، وَفِي نَفَقَةِ وَلَدِهِ، لا في دَيْنِهِ، وَفِي غَيْرِهَا لا، إِذَا ادَّعَى فَقْرَهُ، إِلّا إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِضِدِّهِ.

===

وعهد أبي بكر سجن، وإنّما كان يحبس في المسجد أو الدِّهْلِيز

(1)

بالرَّبط، حتى اشترى عمر داراً بمكة بأربعة آلاف درهمٍ فاتخذه مَحْبَساً. وقيل: بل لم يكن في زمن عمر ولا عثمان إلى زمن عليّ، فبنى سجناً وسمّاه نافعاً، فانفلت الناس منه فبنى آخر وسمّاه مَحْبَساً (بِطَلَبِ وَلِيّ الحَقّ) حبسه، لأنه يحبس لأجل حقّه فلا بدّ من طلبه (إن امْتَنَعَ) المديون (المُقِرُّ عَنِ الإيفَاءِ) بعدما أمر القاضي له بالأداء (أَوْ ثَبَتَ الحَقُّ بِالبَيِّنَةِ فِيمَا لَزِمَهُ) متعلّق بـ: يحبس (بِعَقْدٍ) متعلّق بلزم (كَالْكَفَالَةِ) لأنّ التزامه المال باختياره دليلٌ على يَسَاره ظاهراً، إذ العاقل لا يلتزم ما لا يَقْدِرُ على أدائه.

(أوْ بَدَلِ مَالٍ) عطفٌ على بعقد، أي وفيما لزمه بدل مال (حَصَلَ لَهُ) كثمن المبيع وبدل القرض، لأن دخول المال في يده مُثْبِت لغناه (وَفِي نَفَقَةِ عِرْسِهِ) المقدّرة، لأنّه بالامتناع عن الإنفاق عليها صار ظالماً (وَفِي نَفَقَةِ وَلَدِهِ) لأنها لإحيائه (لَا في دَيْنِهِ) أي لا يحبس الوالد في دينٍ عليه لولده، لأنّ الحبس عقوبةٌ فلا يقع من الولد على والده إكراماً له، وكذا الوالدة والجدّ والجدّة، وإن عَلَوْا كالحدود والقصاص، إلاّ إذا أبى من الإنفاق عليه طفلاً. وكذا كلّ من وجبت عليه نفقته من جدّ أو جدّة، لأنها تسقط بمُضِيّ الوقت، فلو لم يحبس عليها تفوت بخلاف سائر الديون.

(وَفِي غَيْرِهَا) أي غير هذه الأشياء كضمان المُتْلَفات وأَرْش الجنايات، ونفقة الأقارب (لَا) أي لا يَحْبِس القاضي الخصم (إِذَا ادَّعَى فَقْرَهُ) لعدم وجود أَمارة تدلّ على غناه (إِلاّ إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ) من المدّعي (بِضِدِّهِ) أي بضد فَقْر الخصم وهو غناه. فلو قال بغناه، لكان أظهر في مدَّعاه.

والمعنى: فحينئذٍ يَحْبِسه بقدر ما يرى، لأنه مدّعي الفقر، وهو متمسك بالأصل إذ الآدمي حين يولد لا مال له، فكان القول له ما لم يكذبه الظاهر، كما فيما لزم بعقدٍ أو بدل مالٍ. واختيار الخَصَّاف وهو مروي عن الأصحاب: أن القول لمن عليه الدين، سواء كان بدل مالٍ أو لا، لأنّ الفقر أصلٌ والغنى عارضٌ فاحتيج إلى إثباته. ثم بعد ذلك يسأل القاضي جيرانه وأهل الخبرة به عن ماله احتياطاً لا حتماً، فإن شهد شاهدان عنده أنه قادرٌ على قضاء الدين أبَّدَ حبسه، وإن لم يظهر له مال بأن قالوا: إنه ضيق

(1)

الدِّهْليز: المدخل بين الباب والدَّار. المعجم الوسيط ص 300.

ص: 116

وَإذَا شَهِدُوا عَلَى حَاضرٍ، حَكَمَ وَكَتَبَ بِهِ، وَهُوَ السِّجِلُّ، وَعَلَى غَائِبٍ لا،

===

الحال، أطلقه لقوله تعالى:{وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ}

(1)

ولو رأى أنْ يسأل عنه قبل مُضِيِّ مدّة الحبس كان له ذلك.

وأمّا السؤال قبل الحبس وقَبول بيّنة الإعسار، فعن محمد يقبل، وبه أفتى محمد بن الفضل وإسماعيل بن حمّاد بن أبي حنيفة، وهو قول الشّافعيّ. والأكثر أنها لا تقبل قبل الحبس، وهو قول مالك، وهو الأصح. فإنَّ بيّنةَ الإعسار بيِّنةٌ على النفي، فلا تقبل حتى تتأيّد بمؤيِّد، وبعد مضي المدّة تأيّدت، إذ الظاهر أنه لو كان له مالٌ لم يتحمل ضيق السجن وَمرَازِئَهُ

(2)

.

ولو طلب المديون يمين المدَّعي أنه لا يعلم أنه مُعِسرٌ حلّفه، فإن نكل أطلقه ولو قبل الحبس، وإن حلف حبسه. ولغريمه ملازمته بعد خروجه من الحبس، وأخذ فضل كسبه عند أبي حنيفة لعدم تحقّق القضاء بالإفلاس عنده إِذْ المال غادٍ ورائحٌ. ولأن وقوف الشهود على عسرته من حيث الظاهر، فيصلح لدفع الحبس عن المديون لا لإبطال حقّ الغريم في الملازمة. ومَنَعَاه من ملازمته وأَخْذ فضل كسبه، لأن القضاء بالإفلاس يصحّ عندهما، فتثبت العسرة فتجب النَّظِرَة إلى أن يقيم بيّنة على أنه اكتسب مالاً يفي بدينه كلّه أو بعضه، فحينئذٍ يؤمر بحبسه. وتُقَدَّم بيّنة اليَسار على بيّنة العِسار، لأنها تُثْبِتُ أمراً عارضاً.

(وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى) خصمٍ (حَاضِرٍ حَكَمَ) القاضي لوجود الحُجَّة (وَكَتَبَ بِهِ) أي بحكمه (وَهُوَ) أي هذا المكتوب (السِّجِل وَ) إن شهدوا (عَلَى غَائِبٍ لا) أي لا يحكم القاضي، لأنّ القضاء على الغائب لا يجوز، وكذا للغائب عندنا إلاّ أن يكون له وكيلٌ عنه أو وصيٌّ ولو من جهة القاضي. وجوَّز مالكٌ والشافعي القضاء عليه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«البيّنةُ على المدَّعي، واليمين على من أنكر»

(3)

. فاشتراط حضور الخصم زيادة عليه بلا دليل.

ولنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ حين استقضاه علي اليمن: «لا تقضِ لأحد الخصمين بشيء حتى تسمع كلام الآخر، (فإنك إذا سمعت كلام الآخر)

(4)

علمت كيف تقضي». رواه أحمد وأبو داود وغيرهما.

(1)

سورة البقرة، الآية:(280).

(2)

في المخطوط: مرارته، والمثبت من المطبوع. ومعنى المَرْزِئَة: المصيبة. المعجم الوسيط ص 341، مادة:(رزأ).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه 3/ 626، كتاب الأحكام (13)، بابَ ما جاء في أن البينة

(12)، رقم (1341).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 117

بَلْ يَكْتُبُ كِتَابًا حَكِيمًا لِيَحْكُمَ المَكْتُوبُ إِلَيهِ، إلّا في حَدٍّ وَقَوَدٍ، فَيَقْرَأُ القَاضِي عَلَى الشُّهُودِ، وَيَخْتِمُ عِنْدَهُمْ، وَيُسَلَّمُ إِلَيهِم. وَعِنْدَ أَبي يُوسُفَ يَكْفِي. وَعَنْهُ أَنّ الخَتْمَ لَيسَ بِشَرْطٍ.

ثُمَّ المَكْتُوبُ إلَيهِ لا يقبله إلَّا بِحُضُورِ الخَصمِ وَالبَيِّنَةِ، عَلَى أنّه كتابُ فُلان، قَرَأَهُ عَلَينا، وَخَتَمَهُ وَسَلَّمَهُ،

===

وفي نفوذ القضاء على الغائب روايتان: ذكر شمس الأئمة وشيخ الإسلام أنه ينفذ.

(بَلْ يَكْتُبُ كِتَاباً حَكِيماً لِيَحْكُمَ) القاضي (المَكْتُوبُ إِلَيْهِ) وهذا الكتاب هو نقل الشهادة في الحقيقة، لأن القاضي الكاتب لم يحكم بالشهادة، وإنّما نقلها إلى المكتوب إليه ليحكم بها، ولهذا يحكم المكتوب إليه برأيه، وإن خالف رأى الكاتب، بخلاف السِّجِل فإنه ليس لأحد أن يخالفه ولا أن ينقض حكمه إذا كان في فصلٍ مجتَهَدٍ فيه أو متفقٍ عليه (إلاّ في حَدَ وَقَوَدٍ) فلا يكْتُب فيهما كتاباً حكمياً.

وقال مالك وأحمد: يكتب فيهما، لأنّ الاعتماد على الشهود. ولنا: أن في كتاب القاضي شبهة وهما لا يثبتان معهما. وفي ظاهر الرِّواية: أن كتاب القاضي لا يُقْبَل في المنقولات لأنها تحتاج إلى الإشارة إليها عند الدَّعوى والشهادة بخلاف العَقار وغيره من الحقوق، لأنها تعرف بالوصف. وعن محمد: أنه يُقْبَل في جميع ما ينقل، وعليه الفتوى وعمل المتأخرين، وبه قال مالك وأحمد والشافعي في قولٍ.

(فَيَقْرَأُ القَاضِي) الكتاب (عَلَى الشُّهُودِ) الذين ينقلون الكتاب إلى القاضي المكتوب إليه، ويشهدون لديه أنّ هذا كتابٌ إلى فلان القاضي أو يعلمهم بما فيه، لأنهم يشهدون عند الثاني ولا شهادة بدون العلم، وهي بأحد هذين الطريقين. (وَيَخْتِمُ عِنْدَهُمْ) أي بحضرتهم كيلا يتوهم تغييره، وهذا شرطٌ عند أبي حنيفة ومحمد والشَّافعيّ ومالك وأحمد في رواية (وَيُسَلَّمُ إِلَيْهِمْ) على قول أبي حنيفة ومحمد وإلى المدَّعِي على قول شمس الأئمة، وهو المختار للفتوى.

(وَعِنْدَ أَبي يُوسُفَ يَكْفِي) أن يُشْهِدَهم أنّ هذا كتابه وخَتْمه، وبه قال مالك في روايةٍ، (وَعَنْهُ أَنّ الخَتْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ) فسهّل في ذلك لما ابتلي بالقضاء، واختاره شمس الأئمة السَّرَخْسِيّ، وما قاله أبو حنيفة ومحمد أحوط.

(ثُمَّ) القاضي (المَكْتُوبُ إلَيْهِ لَا يقبله

(1)

إلاّ بُحضُورِ الخَصْمِ وَالبَيِّنَةِ) أي وإلاّ بالبيّنة عند أبي حنيفة ومحمد (عَلَى أنّه كِتَابُ فُلَانٍ قَرَأَهُ عَلَيْنا وَخَتَمَهُ وَسَلَّمَهُ) لئلا يكون الكتاب زُوراً. وقال أبو يوسف: يَقبل القاضي المكتوب إليه بلا بيّنة، ولكن لا يعمل به إلاّ بالبيّنة.

(1)

في المطبوع: يقبل، والمثبت من المخطوط.

ص: 118

فَيَفْتَحُهُ وَيَقْرَؤُهُ، وَيُلْزِمُهُ مَا فِيهِ، إِنْ بَقِيَ الكَاتِبُ قَاضِيًا.

وَلا يَعْمَلُ بِهِ غَيرُهُ إلّا إذا كَتَبَ بَعْدَ اسمِهِ: وَإلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيهِ مِنْ قُضاةِ المُسلِمِينَ. وَعِنْدَ أَبي يُوسُفَ: إنْ كَتَبَ هَذَا ابْتِدَاءً، يُقْبَلُ.

وَإنْ مَاتَ الخَصْمُ يَنْفُذُ عَلَى وَارِثِهِ. وَالمَرْأَةُ تَقْضِي إلّا في حَدٍّ وَقَوَدٍ.

وَلا يَستَخْلِفُ قَاضٍ قَاضِيًا،

===

(فَيَفْتَحُهُ) القاضي (وَيَقْرَؤُهُ) على الخصم (وَيُلْزِمُهُ مَا فِيهِ) إذا ثبتت عدالة الشهود عنده، بأن كان القاضي الأول كتب عدالتهم، أو كان المكتوب إليه يعرفهم بالعدالة، أو سأل من يعرفهم من الثقات فزكَّاهم.

(إِنْ بَقِيَ الكَاتِبُ قَاضِياً) قيّد به لأن الكتاب يبطل بموت الكاتب وعزله، وبكونه لم يبق أهلاً للقضاء: بأن جُنّ أو ارتدّ أو قذف فَحُدَّ، أو عَمِي قبل وصول الكتاب إلى الثَّاني أو بعد وصوله قبل أن يقرأه. وقال أبو يوسف (والشافعيّ)

(1)

وأحمد: لا يَبْطُل.

(وَلَا يَعْمَلُ بِهِ) أي بالكتاب (غَيْرُهُ) أي غير المكتوب إليه وإن مات المكتوب إليه أو عُزِلَ، بل يبطل

(2)

(إلاّ إذا كَتَبَ بَعْدَ اسمِهِ): أي اسم المكتوب إليه (وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ المُسْلِمِينَ) وقال الشّافعيّ وأحمد: يعمل به وإن لم يكتب ذلك (وَعِنْدَ أَبي يُوسُفَ إنْ كَتَبَ هَذَا) أي إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين (ابْتِدَاءً) بأن كتب من فلانٍ ابن فلانٍ (ابن فلانٍ) إلى كلّ من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكّامهم (يُقْبَلُ) وبه قال الشافعي وأحمد، واستحسنه كثيرٌ من المشايخ تسهيلاً للأمر على النّاس. وقال أبو حنيفة: لا يُقْبل أخذاً بالاحتياط (وَإِنْ مَاتَ الخَصْمُ يَنْفُذُ) الكتاب (عَلَى وَارِثِهِ) لقيامه مقامه.

(وَالمَرْأَةُ تَقْضِي) لأنها من أهل الشهادة، فتكون من أهل القضاء، إذ كل منهما من باب الولاية. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يفلح قوم وَلَّوْا أمرهم امرأة»

(3)

يدلّ على نقصان حال ذلك القوم لا على عدم جواز توليتها، وقد سبق تحقيقه

(4)

. (إلاّ في حَدَ وَقَوَدٍ)

(5)

لعدم جواز شهادتها فيهما.

(وَلَا يَسْتَخْلِفُ قَاضٍ قَاضِياً) لأنّه قُلِّدَ القضاء دون أن يُقَلِّدَه لغيره، ولأنّ الإمام

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

أي: لا يعمل به بل يبطل.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

سبق تخريجه من قِبَل الشارح ص (110).

(5)

القَوَدُ: القصاص. المعجم الوسيط ص 765، مادة:(قاد).

ص: 119

وَلا يُوَكِّلُ وَكِيلٌ وَكِيلًا، إِلّا مَنْ فَوِّضَ إِلَيهِ ذَلِكَ، فَفِي المُفَوَّضِ نَائِبُهُ لا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ وَمَوْتِهِ مُوَكَّلًا، بَلْ هُوَ نَائِبُ الأَصلِ، وَفِي غَيرِهِ إِنْ فَعَلَ نَائِبُهُ عِنْدَهُ، أَوْ أَجَازَ هُوَ، أَوْ كَانَ قَدَّرَ الثَّمَنَ، وَبـ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ، يُوَكِّلُ.

والقَضاءُ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ عَلَى خِلافِ مَذْهَبِهِ، نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا، لا يَنْفُذُ.

===

رَضِيَ بقضائه دون غيره (وَلَا يُوَكِّلُ وَكِيلٌ وَكِيلاً) لأن الموكِّل إنما رضي بتصرّفه دون غيره (إِلاّ مَنْ فُوِّضَ إِلَيْهِ ذَلِكَ) أي إلاّ القاضي المفوَّض إليه الاستخلاف، والوكيل المفوَّض إليه التوكيل، بخلاف المأمور بإقامة الجمعة، فإنه يجوز له الاستخلاف فيها، وإن لم يُفَوَّض إليه ذلك، لأنّه لما فَوِّضَ إليه الجمعة مع علمه أن العوارض المانعة من إقامتها قد تعتريه ولا يمكن انتظار إذن الإمام الأعظم لضيق الوقت، كان الإذن بإقامتها إذناً بالاستخلاف فيها دلالة.

(فَفِي المُفَوَّضِ) إليه الاستخلاف والتوكيل (نَائِبُهُ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ وَمَوْتِهِ مُوَكَّلاً) في «شرح الوقاية» : إنما قال مُوَكَّلاً، لأن في الوكالة ينعزل الوكيل بموت مُوَكِّلِهِ، فأراد أن يصرّح بأن الوكيل ههنا لا ينعزل بموت مُوَكِّلِهِ، لأنه في الحقيقة ليس نائبه بل هو نائب الأصل. أمّا في القضاء فلأنّ النائب لا ينعزل بموت المَنُوب، فخَصَّ الموكِّل بالذكر للاشتباه، ولا اشتباه في باب القضاء فلم يذكره. (بَلْ هُوَ نَائِبُ الأَصْلِ) إلاّ أنه في التوكيل ينعزل بموت الأصل، وفي القضاء لا ينعزل. وقال الشَّافعيّ وأحمد: إذا عَزَلَ القاضي المُفَوَّض إليه نائبَه ينعزل، لأنه كوكيله، والمُوَكِّل يملك عزل وكيله. ولنا: أنه لمّا صحّ الاستخلاف من جهة الإمام كان نائباً عن الإمام، ولم يملك المفوَّض إليه عزله إلاّ أن يقول الإمام: وَلِّ من شئت واستبدل من شئت.

(وَفِي غَيْرِهِ) أي غير المفوَّض (إِنْ فَعَلَ نَائِبُهُ عِنْدَهُ) أي بحضرته (أَوْ أَجَازَ هُوَ) ما فعل نائبه في غيبته (أَوْ كَانَ) المُوَكَّل الأوَّل (قَدَّرَ الثَّمَن) في الوكالة صحّ. أمّا إذا فعل بحضوره ففعله ينتقل إليه، وأمّا إذا أجاز فعلَه فلأنه صار كأنه فعله. وأمّا إذا فعل بالثمن الذي قدَّر الأول فلحصول المقصود باستعمال رأيه في تقدير الثمن (وَبـ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ يُوَكِّلُ) الوكيل لإطلاق التفويض إلى رأيه.

(والقَضاءُ) أي قضاء القاضي (فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِ) أي (رأيه)

(1)

(نَاسِياً أَوْ عَامِداً لا يَنْفُذُ) عند أبي حنيفة ومحمد، وبه قال مالك والشّافعيّ وأحمد، وعليه الفتوى، لأنه زاعِمٌ فساد قضائه فيؤاخذ بزعمه. وقال أبو حنيفة: إن كان

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 120

وَعَلَى وِفَاقِهِ يُجْعَلُ المُخْتَلَفُ فِيهِ مُجْمَعًا عَلَيهِ، فَإنْ عُرِضَ عَلَى آخَرَ يُمْضِهِ، إلَّا فِيمَا خالَفَ الكِتَابَ، أو السّنَّةَ المَشْهُورَةَ، أَوْ الإِجْمَاعَ.

===

ناسياً يَنْفُذ، وإن كان عامداً ففيه روايتان. ووجه النَّفاذ أنه ليس خطأ بيقين، لأن كل مجتَهِد لا يُقطع بصواب اجتهاده، وبه كان يُفْتِي الصدر الشهيد والمَرْغِينَانِيّ. وفي «الذَّخيرة»: الخلاف في نفاذ القضاء، وقيل: في حِلِّ الإقدام عليه.

وقال بعض المحققين: والوجه في هذا الزمان أن يُفْتى بقولهما، لأن التارك لمذهبه عمداً لا يفعله إلاّ لهوى باطلٍ لا لقصدٍ جميلٍ، وأمّا النَّاسي فلأَنّ المقلِّد ما قلّده إلاّ ليحكم بمذهبه لا بمذهب غيره، وهذا كله في القاضي المجتهد، وأمّا المقلِّد فإنما ولاّه ليحكم بمذهب أبي حنيفة مثلاً، فلا يمكن المخالفة فيكون معزولاً بالنسبة إلى ذلك الحكم.

(وَعَلَى وِفَاقِهِ) أي القضاء على وِفَاق رأي القاضي (يُجْعَلُ المُخْتَلَفُ فِيهِ مُجْمَعاً عَلَيْهِ) لأنّ الخلاف الموجود قبل القضاء يرتفع (به كما يرتفع)

(1)

بإجماع العلماء على قولٍ بعد اختلافهم على قولين في العصر الذي قبله.

(فَإِنْ عُرِضَ عَلَى) قاضٍ (آخَرَ يُمْضِهِ) سواء كان على رأيه أو على خلافه، لأن القضاء متى لاقى مُجْتَهداً فيه يَنْفُذُ ولا يُنْقض باجتهادٍ آخر، لأنّ اجتهاد الثاني كاجتهاد الأول، وقد ترجَّح الأول باتصال القضاء به فلا يُنقض بما دونه. وشرطه أن يكون القاضي عالماً باختلاف العلماء حتّى لو قضى في فصلٍ مُجْتَهدٍ فيه وهو لا يعلم بذلك لا يجوز قضاؤه عند عامتهم، ولا يمضيه الثاني، كذا في «النهاية» عن «المحيط». وقال شمس الأئمة: إنه ظاهر الرواية.

(إلاّ فِيمَا خالَفَ الكِتَابَ) أي ظاهره (أوْ السّنَّةَ المَشْهُورَةَ) أي ما قاربت المتواترة (أَوْ الإِجْمَاعَ) أي اتفاق الأئمة، فإنه لا يَنفُذُ قضاؤه ولا يُنْفِذُ قاضٍ آخر له، لأنه يكون حكماً بلا دليل فيكون باطلاً ولا يعود بالتنفيد صحيحاً. فَمُخالفُ الكتابِ. كالحكم بحلِّ متروك التسمية عمداً، ومخالف السنة المشهورة: كالحكم بحلِّ المطلّقة ثلاثاً بمجرد عقد الزوج الثاني، ومخالف الإجماع: كالحكم ببطلان قضاء القاضي في المجتهدات. والمراد بالإجماع: ما ليس فيه خلاف يَستند إلى دليلٍ شرعيّ (وعُدَّ من ذلك: القضاء بشاهدٍ ويمينٍ)

(2)

وبصحة نكاح المتعة، وبعدم وقوع الطلاق الثلاث جملةً، وبعدم وقوع الطلاق على حُبْلى أو حائض أو قبل الدّخول، وبيع أمّ الولد

(3)

من

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

سبق شرحها ص (13)، التعليقة رقم:(8).

ص: 121

وَإنْ كَانَ نَفْسُ القَضَاءِ مُخْتَلَفًا فِيهِ يَصِيرُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بِإِمْضَاءِ آخَرَ.

وَالْقَضَاءُ بِحُرْمَةٍ أَوْ حِلٍّ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَوْ بِشَهَادَةِ زُورٍ، إِذَا ادَّعَاهُ بِسَبَب مُعَيٍّن.

===

هذا القبيل عند محمد خلافاً لهما.

(وَإِنْ كَانَ نَفْسُ القَضَاءِ مُخْتَلفاً فِيهِ) مثل القضاء على الغائب، وقضاء المحدود في القذف بعد التوبة، وقضاء الفاسق قبل التوبة. (يَصِيرُ مُجْمَعاً عَلَيْهِ بِإِمْضَاءِ) قاضٍ (آخَرَ) لأن محلّ الخلاف لم يوجد قبل القضاء، بل وُجِدَ بعده فلا بدَّ من قضاءٍ آخر للترجيح.

(وَالْقَضَاءُ بِحُرْمَةٍ أَوْ حِلَ يَنْفُذُ ظَاهِراً وَبَاطِناً) أي عند الله (وَلَوْ بِشَهَادَةِ زُورٍ) وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف أولاً. وقال محمد وأبو يوسف آخِراً كمالك والشَّافعي وأحمد: لا ينفذ بالزور إلاّ ظاهراً وعليه الفتوى، كما لو كان الشهود عبيداً أو محدودين في قذفٍ أو كفاراً، والمشهود له يعلم بحالهم دون القاضي، أو كما لو قضى القاضي بنكاح الرَّجل على امرأةٍ منكوحةٍ أو معتدّة لغيره، وكما في الأملاك المرسلة.

(إِذَا ادَّعَاهُ بِسَبَبٍ مُعَيّنٍ) قيّد به لأن القضاء بحلَ وحرمةٍ في المدَّعى بلا سببٍ لا يَنْفُذُ إِلاّ ظاهراً بالاتفاق. ثم معنى النفاذ ظاهراً: أن تسلّم المرأة نفسها له بقول القاضي: سلِّمي نفسك فإنه زوجك، والنفاذ باطناً: أن يحلّ له وطؤها ويحلّ لها التمكين فيما بينهما وبين الله تعالى.

ولنا: أن القضاء لقطع المنازعة، وقد عُهِدَ نفوذ القضاء بمثل ذلك في الشرع، ألا ترى أنّ التفريق باللعان ينفذ باطناً وأحدهما كاذبٌ بيقينٍ؟ وكذا إذا اختلف المتبايعان وتحالفا يَفسخ القاضي بينهما البيع، فينفذ الفَسْخ باطناً حتى يحلّ للبائع وطاءُ الجارية المبيعة، فكذا في باقي الفسوخ والعقود، وأمّا العبيد والكفار والمحدودون في القذف، فيمكن الوقوف عليهم بخلاف الشهود الزور.

وعدم النَّفاذ في الحكم بنكاح منكوحة الغير أو معتدّته لفوات شرط الحكم لا لِزُور الشهود، إذ شرط الحكم أن يكون في محلّ قابلٍ له، ومنكوحة الغير ومعتدّته ليست بمحلٍ للنكاح، وإنما لم ينفذ باطناً في المدّعي بلا سببٍ، لأن في أسباب الملك تزاحماً إذ الملك تارةً يثبت بالشِّراء وتارةً بالإرث وغيره، وليس تعيين بعض أولى من بعض. وإثبات الملك مطلقاً من غير سببٍ ليس في وسع البشر بخلاف المدَّعي بسببٍ معينٍ، كالبيع والشراء والإجارة والنِّكاح والإقالة والفُرْقة بطلاقٍ أو غيره. وفي الهبة والصدقة روايتان.

احتجّ أبو حنيفة بما رُوِيَ أنّ رجلاً ادّعى على امرأةٍ نكاحاً بين يديّ عليّ كرّم

ص: 122

وَلا يَقْضي عَلَى غَائِبٍ إِلَّا بِحَفْرَةِ نَائِبِهِ حَقِيقَةً أَوْ شَرْعًا، كَوَصِي القَاضِي، أَوْ حُكْمًا، بأنْ كَانَ مَا يَدَّعِي عَلَى الغَائِبِ، لا مَحَالَةَ، سَبَبًا لِمَا يَدَّعِي عَلَى الحَاضِرِ، لا إنْ كَانَ شَرْطًا.

===

الله وجهه وأقام شاهدين فقضى عليّ بالنكاح بينهما. فقالت المرأة: إن لم يكن بدّ يا أمير المؤمنين فزوِّجني منه، فإنه لا نكاح بيننا. فقال عليّ: شاهِداكِ زوَّجاكِ. فقد طلبت منه أن يعفّها عن الزِّنَا بأن يعقد النكاح بينهما فلم يُجِبْها إلى ذلك، ولو لم ينعقد العقد بينهما بقضائه لما امتنع من تجديده عند طلبها ورغبة الزوج فيها، وإنما لم يجبها لذلك لترجيح قول الشهود على قولها واتهامها بالكذب

(1)

، إذ مثله لا يقضي إلاّ بشهودٍ عدولٍ.

ولهم قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّام لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

(2)

فقد نهى الله عن أكل مال الغير بالباطل محتجّاً بحكم الحاكم، فهو تنصيصٌ على أنه وإن قضى القاضي له بالشراء بشهادة الزُّور لا يحلّ له تناوله، ويكون ذلك منه أكلاً بالباطل. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنما أنا بشرٌ وإنكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعضٍ، فاقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيتُ له بشيءٍ من حقّ أخيه فلا يأخذنَّه، فإنما أَقْطَعُ له قطعةً من نارٍ» . متفقٌ عليه.

(وَلَا يَقْضِي) القاضي (عَلَى غَائِبٍ) لما سبق (إِلاّ بِحَضْرَةِ نَائِبِهِ حَقِيقَةً) وهو وكيله (أَوْ) نائبه (شَرْعاً كَوَصِي القَاضِي أَوْ) نائبه (حُكْماً بأنْ كَانَ مَا يَدَّعِي عَلَى الغَائِبِ لَا مَحَالَةَ) أي بيقين (سَبَباً لِمَا يَدَّعِي عَلَى الحَاضِرِ) كما لو ادّعى عيناً في يد غيره أنه اشتراها من فلانٍ الغائب، وأقام البيّنة على ذي اليد بعد إنكاره، وقضى به. ثم حضر الغائب وأنْكر، لا يُلْتَفَتُ إلى إنكاره. وأمّا احتمال السببية، كما إذا قال لامرأةٍ: إنّ زوجك الغائب وكَّلَنِي بأن أحملك إليه فأقامت البيّنة أنّه طلّقها ثلاثاً، فإنه لا يقضي بالطلاق على الغائب، لأنه يحتمل أن يكون وكيلاً بالحمل بعده (في العدّة)

(3)

وأن يكون وكيلاً بالحمل قبله، فلما كان سبباً من وجه (دون وجهٍ)

(4)

يقضي بقصر يد الوكيل ولا يقضي بالطلاق، كذا في «الفصول العِمَادية» .

(لَا) أي لا يكون الحاضر نائباً عن الغائب (إنْ كَانَ) ما يَدَّعِي على الغائب (شَرْطاً)

(1)

في المطبوع: الكتاب، والمثبت من المخطوط.

(2)

سورة البقرة، الآية:(188).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 123

وَصَحَّ تَحْكِيمُ الخَصْمَين

===

لِمَا يدَّعي على الحاضر، كما لو قال رجلٌ لامرأته: إن طلّق فلانٌ امرأته فأنت طالقٌ، ثم برهنت المرأة على أنّ فلاناً طلّق امرأته وفلانٌ غائبٌ لا يُقبل منها، ولا يُحْكم بوقوع الطّلاق عند عامة المشايخ. بخلاف ما لو قال: إذا دخل فلان الدَّار فأنت طالقٌ، وبرهنت على دخول فلانٍ وهو غائبٌ، حيث يُقْبَل ويُحْكم بوقوع الطَّلاق، لأنّ هذا ليس بقضاء على الغائب، إذ ليس فيه إبطال حقّ له. وأفتى بعض المتأخرين بقبول البيّنة ووقوع الطلاق في المسألة الأولى، منهم فخر الإسلام، لأن دعوى المدَّعي كما تتوقف على السبب تتوقف على الشرط، والأصحّ خلافه، وبه كان يُفْتِي المَرْغِينَانِيّ.

وقال الشّافعيّ: يجوز الحكم على الغائب عن البلد وعن مجلس الحكم إذا كان مستتراً في البلد قولاً واحداً، وبه قال مالك وأحمد. وللشّافعي في الغائب عن مجلس الحكم غير مستتر في البلد قولان: أصحّهما: أنه لا يحكم بدون حضوره، (وبه قال مالك وأحمد: لأنّ في المستتر تضييعَ الحقوق وفي غيره لا)

(1)

. والثاني: أنه يحكم عليه لوجود الحجّة وظهور الحقّ.

ولنا: أن القضاء لقطع المنازعة، ولا منازعة بدون الإنكار ولم يوجد. وأمّا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان:«خذي من ماله ما يكفيكِ ووَلَدَكِ بالمعروف»

(2)

. فلم يكن قوله عليه الصلاة والسلام قضاءً على أبي سفيان، بل كان فتوى لها.

(وَصَحَّ تَحْكِيمُ الخَصْمَيْنِ) لقوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا}

(3)

. ولعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحكيم سعد بن مُعَاذ في بني قُرَيْظَةَ بسَبْي ذَراريِّهم وقتل مقاتليهم كما في الصحيح. ولِمَا قال أبو شُرَيْحٍ: يا رسول الله إنّ قومي إذا اختلفوا في شيء أَتَوني فحكمت بينهم فَرَضِيَ عني الفريقان، فقال صلى الله عليه وسلم:«ما أحسن هذا» . رواه النَّسائي. ورُوِيَ أنه كان بين عمر وأُبَيّ بن كعب منازعةٌ في نخلٍ، فحكَّما بينهما زيد بن ثابت. فأتياه فخرج زيد وقال لعمر: هلاَّ بعثت إليّ فأتيتك يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: في بيته يُؤتَى الحَكَم فدخلا بيته فألقى لعمر وِسَادة، فقال عمر: هذا أول جورك، وكانت اليمين على عمر، فقال زيد لأُبيّ: لو أعفيت أمير المؤمنين، فقال عمر: عن يمين لزمتني، فقال أُبَيّ: نُعفي أمير المؤمنين ونَصْدُقُه. ولأنّ لهما ولاية على أنفسهما، فصحّ تحكيمهما.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 9/ 507، كتاب النفقات (66)، باب إذا لم ينفق الرجل

(9)، رقم (5364).

(3)

سورة النساء، الآية:(35).

ص: 124

مَنْ صَلَحَ قَاضِيًا في غَيرِ حَدّ وَقَوَدٍ، وَلَزِمَهُمَا حُكْمُهُ وَإخْبَارُهُ بِإِقْرَارِ أحَدِهِمَا، وَبِعَدَالَةِ شَاهِدٍ حَالَ وِلايَتِهِ. وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ حُكْمِهِ، فَإِنْ رَفَعَ حُكْمَهُ إلى قَاضٍ أَمْضَاهُ إن وَافَقَ مَذْهَبَهُ.

وَلا يَصِحُّ القَضَاءُ وَالشَّهَادَةُ لِمَنْ بَينَهُمَا وَلاءٌ أوْ زَوْجِيَّةٌ. وَصَحَّ الإيصاءُ بِلا عِلْمِ الوَصِيّ، لا التَّوْكِيلُ.

===

(مَنْ صَلَحَ قَاضِياً) لأن المحكِّم بينهما بمنزلة القاضي، فيُشْتَرَطُ فيه ما يُشْتَرَط في القاضي. ويُشْتَرَطُ في نفوذ حكمه أن يكون (في غَيْرِ حَدّ وَقَوَدٍ) لأنه لا ولاية لهما على دمهما، ولهذا لا يملكان إباحته، فلا يصحّ تحكيمهما فيه. والحدود بمنزلة (الدم)

(1)

(وَلَزِمَهُمَا حُكْمُهُ) إذا حكم بالبيّنة أو الإقرار أو النُّكول، لأنه صدر عن ولاية شرعية عليهما. ثم بالعزل لا يبطل حكمُه كالقاضي (وَإِخْبَارُهُ) أي وصحّ إخبار الحكم (بِإِقْرَارِ أحَدِهِمَا) بأن يقول: إنك أقررت عندي بكذا، ذكره في «الخِزَانة» (وَبِعَدَالَةِ شَاهِدٍ) بأن يقول: قام عليك بيّنةٌ لهذا بكذا، وعُدِّلُوا عندي وقد حكمت عليك به لهذا. وإنما يلزمهما إخباره بذلك (حَالَ وِلَايَتِهِ) فإن إخباره حال ولايته قائمٌ مَقَام شهادة رجلين. قيل: ولكن لا يُفْتَى به لئَلا تَذهب مهابةُ منصب القضاء. أمّا لو أخبر بذلك حال عزله فلا يصدَّق لانقضاء الولاية.

(وَلِكُلَ مِنْهُمَا) أي المُحَكَّمين. (أَنْ يَرْجِعَ) عن تحكيمه (قَبْلَ حُكْمِهِ) أي حكم الحاكم، لأنه مقلَّد من جهتهما، فكان لهما عزلُه قبل أن يحكم بينهما، كما أن المقلَّد من جهة الإمام له أن يعزله قبل أن يحكم بين الناس. (فَإِنْ رَفَعَ حُكْمَهُ إلى قَاضٍ أَمْضَاهُ إن وَافَقَ مَذْهَبَهُ) إذ لا فائدة في نقضه ثم إبرامه. أمّا لو خالفه، فلم يُمْضِهِ إن شاء، بخلاف حكم القاضي إذا خالف مذهب قاضٍ ورُفِعَ إليه، حيث يمضيه وجوباً، لأنّ القاضي المُوَلَّى من جهة الإمام له ولاية على الناس، فكان قضاؤه حجّة على الكلِّ بخلاف المُوَلَّى من الخصمين، فإنه لا ولاية له على غيرهما. وفائدة إمضاء القاضي حكم الموافق لمذهبه أن لا يكون لقاضٍ آخَر يرى خلافه نَقْضُه إذا رُفِعَ إليه، لأن إمضاءه بمنزلة قضائه ابتداءً.

(وَلَا يَصِحُّ القَضَاءُ) توليةً وتحكيماً (وَ) لا (الشَّهَادَةُ لِمَنْ بَيْنَهُمَا وَلَاءٌ أوْ زَوْجِيَّةٌ) للتُّهْمَةِ. وأما لو كان القضاء والشهادة عليهم صحّا لعدم التُّهْمَة.

(وَصَحَّ الإِيصَاءُ بِلَا عِلْمِ الوَصِيِّ لَا التَوْكِيلُ) بلا علم الوكيل. فلو باع الوصيّ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 125

وَشُرِطَ خَبَرُ عَدْلٍ أَوْ مَستُورَيْنِ بِعَزْلِ الوَكِيلِ، وَعِلْمُ السَّيِّدِ بِجِنَايةِ عَبدِهِ، وَالشَّفِيعِ بِالبَيعِ، وَالبِكْرِ بالنِّكَاحِ، وَمُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِر بالشَّرَائِعِ، لا لِصِحَّةِ التَّوْكِيلِ.

وَقُبِلَ قَوْلُ قَاضٍ عالمٍ عَدْلٍ: قَضَيتُ بِهَذَا، وَجَاهِلٍ عَدْلٍ، إنْ بَينَّ سَبَبَهُ لا غَيرِهِمَا.

===

شيئاً من التركة قبل علمه صحّ بيعه، ولو تصرّف الوكيل فيما وُكِّلَ به قبل علمه لم يصحّ تصرّفه.

(وَشُرِطَ) عند أبي حنيفة (خَبَرُ عَدْلٍ أَوْ مَسْتُورَيْنِ بِعَزْلِ الوَكِيلِ وَعِلْمُ السَّيِّدِ بِجِنَايةِ عَبْدِهِ وَ) علم (الشَّفِيعِ بِالبَيْعِ وَ) علم (البِكْرِ بالنِّكَاحِ وَ) علم (مُسْلِمٍ) في دار الحرب (لَمْ يُهَاجِرْ بالشَّرَائِعِ).

وقال أبو يوسف ومحمد: لا يشترط إلاّ التمييز، والأصحّ في حقّ المسلم الذي لم يهاجر أن يَقْبَل خبر الفاسق، حتى تجب عليه الأحكام بخبره، لأنّ المُخْبِرَ له مبلِّغٌ ورسولٌ، وفي الرسول لا تشترط العدالة، كما في رسول الوليّ إلى البكر بالتزويج. (لَا لِصِحَّةِ التَّوْكِيلِ) أي لا يشترط خبر عدلٍ أو مستورين لصحة التوكيل، حتّى لو أعلم الوكيلَ واحدٌ غيرُ عدل صحّ توكيله، لأنه من المعاملات وليس فيه إلزام، فلا يُشْتَرَطُ فيه إلاّ التمييز.

(وَقُبِلَ قَوْلُ قَاضٍ عالمٍ عَدْلٍ: قَضَيْتُ بِهَذَا) من غير بيان سبب القضاء، لأن عدالته تمنعه من المَيْل إلى الرِّشْوة، وعلمه يمنعه من الغلط في الحكم، (وَجَاهِلٍ) عطفٌ على عالمٍ، أي: وقُبِل قول قاضٍ جاهلٍ (عَدْلٍ إنْ بَيَّنَ سَبَبَهُ) على وجه التَّبَرُّع بأن قال في الزِّنا بإقرار: استفسرت المقرّ كما هو المعروف فيه، وحكمت برجمه. وقال في السرقة: ثبت بالحجّة عندي أنه أخذ نصاباً من حِرْزِ لا شبهة فيه، لأنّ عدالته تمنعه من الخيانة، وتبينه السبب يمنع من الغلط، فإذا قَبِلَ قولهما يُعْمَلُ وِفْقَ أمرهما من قتلٍ وقطع وغيرهما.

(لَا) يقبل قول (غَيْرِهِمَا) وهو العالم الفاسق، والجاهل الفاسق، لتهمة الخطأ للجهالة، وتهمة الخيانة لعدم العدالة، وهذا الذي ذكره المصنِّف مختار أبي منصور المَاتُرِيدِيّ.

وفي «الجامع الصغير» لم يقيّد بعلم ولا بعدالة، وهو ظاهر الرواية، لأن طاعة أولي الأمر واجبةٌ، وفي تصديق القاضي طاعته. ثم رجع محمد عن هذا وقال: لا يؤخذ بقوله إلاّ أن تُعَايَنَ الحُجَّة، أو يشهد بذلك القاضي العدل، لأن قوله يحتمل الغلط

ص: 126

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

والخطأ، والتدارك غير ممكن، وحرمة النفس عظيمةٌ، والحدود تندراء بالشبهة. واستحسن المشايخ هذه الرواية لفساد الحال في أكثر القضاة. ولا بأس برزق القاضي لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة (لمَّا أسلم عَتَّاب بن أُسَيْد استعمله على مكة)

(1)

حين خروجه إلى حُنَيْن. فقام للناس بالحج تلك السنة، وهي سنة ثمان، ولم يزل عَتَّاب أميراً على مكّة حتّى قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأقرّه أبو بكر عليها، فلم يزل عليها إلى أن مات وكانت وفاته فيما ذكره الوَاقِدِيّ يوم مات أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قال: ماتا في يوم واحدٍ.

ورُوِيَ عن عمرو بن عَوْفٍ قال: سمعت عَتَّاب بن أُسَيْد يقول: وهو يخطب مسنِداً ظهره إلى الكعبة يحلف: ما أصبت في عملي الذي بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ ثوبين كسوتهما مولاي كَيْسان. وقد ذكر الأصحاب: أنه عليه الصلاة والسلام فرض لعَتَّاب بن أُسَيْد أربعين أوقِيَّةً في السَّنَةِ. والأُوقِيَّةُ: أربعون درهماً.

وتكلَّموا في أيّ مالٍ رزقه، ولم يكن يومئذٍ الدواوين، ولا بيت المال. فإنّ الدواوين وُضِعَتْ في زمن عمر. فقيل: إنَّما رزقه من الفيء ممّا أفاء الله، فقيل: من المال الذي أُخِذَ من نَصَارَى نَجْرَان. وقيل: من الجزية التي أخذها من مجوس هَجَر

(2)

. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض له كل يوم درهماً. وكان شُرَيْح أخذ على القضاء أجراً. والله سبحانه أعلم.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

هَجَر: قرية قرب المدينة. معجم البلدان 5/ 393.

ص: 127

‌كِتَابُ الشَّهَادَةِ

هِي إِخْبَارٌ بِحَقٍّ للْغَيرِ عَلَى آخَرَ، وَتَجِبُ بِطلبِ المُدَّعي،

===

كتاب الشَّهَادَةِ

(هِي) لُغةً: إِخبارٌ بشيء عن مشاهدة وَعِيَانٍ، لا عن تخمين وحُسبان.

وشرعاً: (إِخْبَارٌ بِحَقَ لِلْغَيْرِ) أَي إِخبار صدقٍ بإِثبات حقَ لغير المخبِر (عَلَى آخَرَ) احترز به عن الإِقرار، فإِنه إِخبار بحقَ لغير المُخبَر على المُخبِر. وسببها في حقّ التحمل: المشاهدة أَوْ السَّماع، وفي حق الأَداء: طلب المُدَّعي.

وركنها استعمال لفظ الشهادة (بلفظ الشهادة)

(1)

، لأَن النصوص وردت بهذه اللفظة فتقيد

(2)

بها. وتكون عند القاضي، لأَن المقصود منها القضاء بها. وشروطها كثيرة: منها: أَنْ يكون حراً، عاقلاً، بالغاً، مسلماً، عَدْلاً باجتناب الكبائر وعدم الإصرار

(3)

على الصغائر، لقوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهدَاءِ}

(4)

والمَرْضِيُّ هو العدل، وقوله عز وجل:{وأَشهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(5)

. وحكمها: وجوبُ الحكم على القاضي بما ثبت بها. وفي «المبسوط» : والقياس يأَبى كون الشهادة حجةً مُلزمة، لأَنها خَبرٌ يحتمِلُ الصدق والكذب، والمُحْتِمل لا يكون حجة، إِلا أَنّ هذا القياس تُرك بالنصوص والإِجماع.

(وَتَجِبُ بِطلبِ المُدَّعي) لقوله تعالى: {ولا يأْبَ الشُّهدَاءُ إِذا ما دُعُوا}

(6)

. وقوله تعالى: {ولا تَكْتُموا الشهادة ومَنْ يَكْتُمْهَا فإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}

(7)

وهاتان الآيتان وإِن كانتا نهتا

(8)

عن الإباء والكتمان، إِلا أَنّ النهي عن الشيء أَمرٌ بضِدِّه إِذا كان له ضد واحد. وإِنما خَص القلبَ بالإِثم لأَنه رئيسُ الأَعضاء، والمُضْغَة التي إِذا صَلَحَتْ صَلَح الجسد كله، وإِذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسدُ كله، كما ورد في الصحيح

(9)

.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

عبارة المطبوعة: " .... وردت بهذا اللفظ فتنفذ بها".

(3)

حرفت في المخطوطة إلى: "الإحراز".

(4)

سورة البقرة، الآية:(282).

(5)

سورة الطلاق، الآية:(2).

(6)

سورة البقرة، الآية:(282).

(7)

سورة البقرة، الآية:(283).

(8)

في المخطوطة: "نهيًا" بدل "نهتا".

(9)

صحيح البخاري (فتح الباري) 1/ 126، كتاب الإِيمان (2)، باب فضل من استبرأ لدينه (39)، رقم (52).

ص: 128

وسَترُهَا في الحدود أَفضل، ويقول في السرقة: أَخَذَ لا سَرَقَ.

ونِصَابُهَا للزنا أَربعةُ رجالٍ،

===

ثم أَداء الشهادة إِنما يجبُ إِذا كان الشاهدُ قريباً من مجلس القضاء، أَوْ بعيداً بحال لو حضر مَجْلِسَ الحُكْم وشَهِدَ، يمكنه الرجوع إِلى أَهله في يومه، لأَنه لا ضرر عليه حينئذٍ في حُضوره وقد قال الله تعالى:{ولا يُضَارَّ كَاتِبٌ ولا شَهِيْدٌ}

(1)

. وفي «المُجتبى» : تَحَمُّلُ الشهادةِ فرضٌ على الكفاية كأَدائها وإِلا لضاعت حقوق الناس، وعلى هذا كتابة الكاتب، لقوله تعالى:{ولا يَأْبَ كاتبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ}

(2)

إِلا أَنه يجوز أَخذ الأُجرة على الكتابة، ولا يجوز على الشهادة فيمن تعيَّن عليه أَداؤها بإِجماع الفقهاء، وفيمن لم يتعين عليه أَيضاً عندنا، وبه قال الشافعي في قول. وقال في آخر: يجوز لعدم تعيُّنه عليه.

(وسَترُهَا) أَي الشهادة (في الحدود أَفضل) من إِظهارها لما في «الصحيحين» من حديث أَبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال: «مَنْ سَتَرَ مسلماً سَتَرَهُ اللَّهُ في الدنيا والآخرة»

الحديث، ولأَنه عليه الصلاة والسلام لَقَّنَ المقرَّ بالزنا والمقرَّ بالسرقة لدرء الحد عنه، فإِن قيل: هذا معارَض بقوله تعالى: {ولا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}

(3)

. وتقييدُ المطلقِ من الكتاب لا يجوز بخبر الواحد. وأُجيب بأَن الآيةَ محمولة على الشهادة في حقوقِ العبادِ بدليل سِيَاقِهَا وهي آية المداينة، وبالإِجماع، وبقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِيْنَ يُحِبُّوْنَ أَنْ تَشِيْع الفَاحِشَةُ}

(4)

الآية، وإِنَّما اخْتَصت بذلك الحدود، لأَنها حقُ اللَّهُ تعالى، وهو غني عن كل شيء كريمٌ لطيف بعباده، بخلاف غيرها فإِنها حق العبد وهو محتاج شحيح.

(ويقول) الشاهدُ (في السرقة: أَخَذَ) إِحياء لحق المسروق منه (لا سَرَق) محافظة على الستر، لأَن الشهادَةَ بالمال واجبة إِنْ طلب المدّعي، والستر في الحدود أَفضل. وفي قوله: أَخذ مراعاة الأمرين. (ونِصَابُهَا) أَي الشهادة (للزنا أَربعةُ رجالٍ) فلا يقبل فيه شهادة النساء، لقوله تعالى:{لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}

(5)

وقوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شهداء}

(6)

، وقوله: {واللاَّتِي يَأْتِيْنَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسِآئِكُمْ فاسْتَشْهُدوا

(1)

سورة البقرة، الآية:(282).

(2)

سورة البقرة، الآية:(282).

(3)

سورة البقرة، الآية:(283).

(4)

سورة النور، الآية:(19).

(5)

سورة النور، الآية:(13).

(6)

سورة النور، الآية:(4).

ص: 129

وللقَوَدِ وباقي الحدود: رجلان، وللبَكَارة، والولادة، وعيوبِ النساء - فيما لا يَّطلع عليه الرجالِ -: امرأَةٌ.

===

عَلَيْهنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}

(1)

والتاءُ لا تدخلُ على العدد إِلا إِذا كان معدُودُه مذكَّراً. وعن عطاء وحمَّاد: لو شهد ثلاثةُ رجال وامرأَتان في الزنا قُبِلوا لإطلاق قوله تعالى: {أَربعةً منكم} .

ولنا ما روى ابن أَبي شيبة في «مصنفه» عن حفص عن حجاج عن الزُّهري أَنه قال: مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أَنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود.

والحاصل:

أَنْ الله سبحانه يحبُ السِّتر على عباده ولا يرضى بإِشاعة الفاحشة، ولهذا جعل النسبة إِلى هذه الفاحشة في الأَجانب موجِبةً للحدّ، وفي الأزواج موجِبة للِّعان، بخلاف سائر الفواحش ليستر بعضهم على بعض.

(و) نصابها (للقَوَدِ وباقي الحدود رجلان) لقوله تعالى: {واسْتَشْهِدُوا شَهِيْدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}

(2)

مع ما روينا عن الزُّهري. وقال الحسن البصري: لا يُقبل في القتل إِلا أَربعةٌ كالزنا.

(و) نصابها (للبَكَارة، والولادة، وعيوبِ النساء ـ فيما لا يَطلع عليه الرجال ـ: امرأَةٌ) والأَصل في ذلك قوله تعالى: {ولا يَحِلُ لِهنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ في أَرْحَامِهِنَّ}

(3)

. وقال الشافعي: يشترط الأربع، وهو قول عطاء، لأَن كلَّ امرأَتين مقام رجل واحد، والحجة (شهادة)

(4)

رجلين لا رجل واحد. وقال مالك: يشترط اثنتان، وهو قول الثوري، لأَنه لما سقط اعتبارُ الذكورة بقي العدد معتبراً.

ولنا ما رواه مُجَاهد، وسعيد بن المسيَّب، وابن جُبَيْر، وعطاء، وطاوس، عنه عليه الصلاة والسلام أَنه قال:«شهادةُ النِّساء جائزةٌ فيما لا يستطيعُ الرجال النظر إِليه»

(5)

. وما روى عبد الرزاق في «مصنفه» عن ابن جُريج وعن الزهري أَنه قال: مضت السنة أَنه تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادات النساء وعيوبِهِنَّ. ووجه الدلالة أَنْ النِّساء جمعٌ مُحلى باللام من غير عهد، فيكون للجنس، فيَصْدُق بالأقلّ كما في قوله تعالى:{لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}

(6)

فيتناولُ الأَقلَّ.

وما روى أَيضاً في «مصنفه» عن إِبراهيم بن أَبي يحيى، عن إِسحاق، عن

(1)

سورة النساء، الآية:(15).

(2)

سورة البقرة، الآية:(282).

(3)

سورة البقرة، الآية:(228).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(5)

رواه محمد بن الحسن في "الأصل" بسنده عن مجاهد وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح. انظر بُغْية الأَلمعي ص 51، كتاب الشهادات. (وهو مطبوع في آخر المجلد الرابع من "نصب الراية").

(6)

سورة الأحزاب، الآية:(52).

ص: 130

ولغيرها رجلان، أَو رجلٌ وامرأَتان.

وشُرِطَ للكُلِّ العَدَالةُ، ولفظُ الشهادة. ويَسأَل القاضي عن حالِ الشاهدِ عندهما مطلقًا، وبه

===

الزهري: أَنْ عمر بن الخطاب أَجاز شهادة امرأَة في الاستهلال ـ أَي صياح الصبي عند الولادة ـ ولا تُقبل شهادة النساء على استهلال الصبي عند أَبي حنيفة في حق الإِرث، وتقبل في حق الصلاة. وقال أَبو يوسف ومحمد: تقبل في حق الإرث أَيضاً، وبه قال مالك والشافعي وأَحمد لحديث علي رضي الله عنه أَنه أَجاز شهادةَ القابلة في الاستهلال.

(و) نصابها (لغيرها) أَي لغير الشهادة على الأُمور التي تقدم نِصَابها، وهو الحقوق (رجلان، أَوْ رجلٌ وامرأَتان) سواء كان الحق مالاً أَوْ غير مالٍ، كالنكاح، والطلاق، والوكالة، والوصية، والعَتاق، والرجعة، والنَّسب. وقال الشافعي ومالك وأَحمد في رواية: لا تُقبل شهادةُ النساء مع الرجال إِلا في الأموال وتوابعها كالإِجارة، والكفالة، (والأجل)

(1)

، وشرط الخيار. ولذا يكفي في النكاح ونحوه رجل وامرأَتان عندنا. ومنع مالكٌ والشافعي انعقاده بحضرة رجل وامرأَتين. ولنا ما رُوِيَ أَنْ عمر وعلياً رضي الله عنهما أَجازا شهادة النساء مع الرجال في النكاح والفُرقة.

(وشُرِطَ للكل العَدَالة) وفي «الذخيرة» : وأَحسن ما قيل في تفسيرها ما نُقِل عن أَبي يوسف: وهو أَنْ يكون مجتنباً عن الكبائر ولا يكون مُصراً على الصغائر، فيكون صلاحُهُ أَكثرَ من فساده، وصوابُهُ أَكثرَ من خطائه. وإِنما شرطت العدالة لقوله تعالى:{وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(2)

(ولفظُ الشهادة) حتى لو قال الشاهد: أَعلم أَوْ أَتيقن، لا تُقبل شهادته، لأَن النصوص الواردة فيها لم ترد إِلا بلفظ الشهادة، والإشهاد، قال الله تعالى:{وأَقيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}

(3)

، وقال:{وأَشْهِدُوا إِذا تَبَايَعْتُمْ}

(4)

، وقال:{واسْتَشْهِدُوا شَهِيْدَيْنِ من رِجَالِكُمْ}

(5)

.

(ويَسأَل القاضي عن حالِ الشاهدِ عندهما) أَي عند أَبي يوسف ومحمد (مطلقاً) أَي في سائر الحقوق والدعاوى

(6)

، سواء طعنَ الخصمُ أَوْ لم يطعن (وبه

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سورة الطلاق، الآية:(2).

(3)

سورة الطلاق، الآية:(2).

(4)

سورة البقرة، الآية:(282).

(5)

سورة البقرة، الآية:(282).

(6)

حُرِفت في المطبوع إِلى: الدواعي.

ص: 131

يُفتَى. وكفى السؤالُ سِرًّا في زمانِنِا.

===

يُفتى) لكثرة الفساد في هذا الزمان بين العباد، وهو قول الشافعي وأَحمد. وقال مالك: يجب عليه السؤال إِذا شك وإِن سكت الخصم، إِلا أَنْ يُقر بِعَدَالَتِهِمَا، لأَن القضاء مبنيٌ على الحجة وهي شهادة العُدُول. وقال أَبو حنيفة: يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم، ولا يَسأَل عنه حتى يَطْعُن الخصمُ، إِلا في الحدود والقِصاص، لأَنهما يُدْرَآن بالشُبْهة ويُحْتاط لإسقاطهما، فيستقصى في كل منهما ابتداءً من غير طعن من خصم، رجاءَ أَنْ يسقط.

ولما روى ابن أَبي شيبة في «مصنفه» عن عمرو بن شعيب، عن أَبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عُدُولٌ بعضهم على بعض إِلا محدوداً في قذف» وفي نُسخة: «إِلا في فِرْية» . ومثله عن عمر رضي الله عنه. وهذا من صاحب الشرع وخليفته أَقوى من تعديل المزكِّي. وقيل: هذا اختلاف عصر وزمان، لأَن أَبا حنيفة كان في القرن الثاني وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَهله بالخير والصلاح حيث: قال: «خيرُ القرونِ قَرْنِي ثم الذين يَلُونهم، ثم الذين يَلُونهم»

(1)

وأَبا يوسف ومحمد كانا بعده، وقد تغيرَّت أَحوالُ الناس وكثرت الخيانات والكذب في الشهادات، كما أَخبر عنهم صلى الله عليه وسلم أَنه يفشو الكذب فيهم

(2)

.

(وكفى السؤالُ سِراً في زمانِنِا) تحرزاً عن الفتنة. وكيفيته أَنْ يبعثَ القاضي مع المُعدِّل المستورة، وهي: رُقعة فيها اسم الشاهد، ونسبُه، وحِلْيتُه

(3)

، ومسجده الذي يُصلي فيه، ومحلَّتُه، وسوقُه إِنْ كان سوقياً، فيسأَل جيرانَه وأَصدقاءه، فمن عَرَفه بالعدالة يكتب تحت اسمه في كتاب القاضي أَنه عدلٌ جائز الشهادة، ومن عَرَفه بالفسق لا يذُكر حالَه احترازاً عن الهتك، بل يقول: الله أَعلم، إِلا إِذا عدَّلَه غيره وخاف أَنْ يحكم القاضي بشهادته، فحينئذٍ يُصَرِّحُ بحاله. ومن لا يُعْرَف حالُهُ يُكتبُ تحت اسمه أَنه مستور، ويَرُدُّ المُعدِّلُ المستورةَ إِلى القاضي سراً.

(1)

أَخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 7/ 3، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (62)، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (1)، رقم (3650 و 3651)، ولفظه:"خير أَمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". و: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".

(2)

وكأَنه يريد قوله صلى الله عليه وسلم: "أَوصيكم بأَصحابي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يَلونهم، ثم يفشُوا الكذب حتى يحلفَ الرجُلُ ولا يُسْتحلَف، ويَشهَدَ ولا يُستَشْهَد .. ،" أَخرجه الترمذي 4/ 404، كتاب الفتن (31)، باب ما جاء في لزوم الجماعة (7)، رقم (2165).

(3)

حُِلْيَة الإنسان: بضم الحاء وكسرها: صفته وما يُرَى منه من لونٍ وغيره. "العناية" بهامش "فتح القدير" 6/ 458.

ص: 132

والاثنانِ أَحْوَطُ في التَّزْكيةِ، وفي ترجمةِ الشاهد، وفي الرسالة إِلى المُزكِّي.

ولا يُشْتَرَطُ الإِشهادُ إِلا في الشهادةِ على الشَّهادةِ، ولا يَشْهدُ منْ رأَى خَطَّه ولم يَذْكُرْ شَهَادَتَه،

===

وتزكيةُ العلانيةِ أَنْ يَجمعَ القاضي بين المزكِّي والشهود

(1)

في مجلس القضاء، فيسأَل المزكي عن الشهود بحضرتهم:(أَهؤلاء عدول مقبولو الشهادة ليزكيهم أَوْ يجرحهم، وفيه نفي شبهة تعديل غيرهم)

(2)

.

وكانت التزكية في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام وأَصحابه علانية، لأَن المُعدِّل كَان لا يَتَوقى عن الجرح، ولا يخاف من المُدَّعي، ولا من الشهود، لأَنهم كانوا مُنقادين للحق ولا يُقَابِلُونه بالأذى لو جَرَحَهم، ووقع الاكتفاء بتزكية السِّر في زماننا وتركت تزكية العلانية، لأَنها بلاءٌ وفتنةٌ، إِذْ الشهود والمُدَّعي يُقَابِلون الجارح بالأَذى والإضرار.

(والاثنان أَحوط في التزكية) أَي تزكيةُ السر، أَما في تزكية العلانيةِ فالعدد شرط بالإِجماع، لأَن معنى الشهادة فيها أَبْين، فإِنها تختصُ بمجلس القضاء (وفي ترجمةِ الشاهد) أَي ترجمة المُترجِم عن الشاهد (وفي الرسالة) أَي رسول القاضي (إِلى المُزكِّي) ويجوز الواحد عند أَبي حنيفة وأَبي يوسف، وبه قال مالك وأَحمد في رواية. وعند محمد والشافعي: يُشترط في التزكيةِ ما يُشْتَرط في الشهادة من العدد ووصفِ الذكورة، حتى يُشترط في تزكية شهود الزنا أَربعة ذكور، وفي غيره من الحدود والقصاص رجلان.

(ولا يُشترطُ الإِشهاد إِلا في الشهادةِ على الشهادة) فإِنها لا تجوز إِلا إِنْ أَشهده عليها، فمن رأَى الغصب، أَوْ النهب، أَوْ القتل، أَوْ الجرح، أَوْ السرقة، أَوْ سمع الإِقرار بمال أَوْ منفعة، أَوْ البيع، أَوْ الإِجارة، أَوْ النكاح، أَوْ الهبة، أَوْ حُكم قاض، جاز له أَنْ يَشْهدَ (به)

(3)

، وإِن لم يُشْهَدْ عليه، لأَنه عَلِم بما هو مُوجِبٌ بنفسه عِياناً، وذا مطلقٌ للأَدَاء، قال الله تعالى:{إِلاْ مَنْ شَهِدَ بالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُوْنَ}

(4)

وإِذا سمعَ شاهداً يشهدُ بشيء لم يَجز له أَنْ يشهدَ على شهادته إِلا أَنْ يُشهِده.

(ولا يشهدُ مَنْ رأَى خَطَّه ولم يذكرْ شَهَادَتَه) لأَن الخطَّ يُشبه الخط، وكذا لا يروي راوٍ وجد بخطه أَوْ بخط غيره أَنه قرأَ على فلان، أَوْ سمع كذا حتى يذكر

(1)

في المخطوط: "يجمع القاضي بين المزكِّي وبين المزكَّى وبين الشهود .. ".

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين زيادة من "الهداية". انظر "فتح القدير" 6/ 462.

(4)

سورة الزخرف، الآية:(86).

ص: 133

ولا بالتَّسَامُعِ إِلا في النَّسبِ، والموتِ، والنِّكَاح، والدُّخُول، وَوِلايَةِ القاضي، وأنّ هذا وقفٌ على كذا، لا على شُرُوطِهِ إِذا أَخبر رَجُلان، أَو رجلٌ وامرأَتان.

ويشهدُ رائي جالس مجلِسَ القضاء يَدخُلُ عليه الخُصوم أَنه قاضٍ، ورائي رجل وامرأَة يَسكنان بيتًا وبينهما انبساطُ الأزواج، أَنها عِرْسُهُ، ورائي سوى الَّرقِيِق في يدِ مُتصرِّفٍ كالَمُلَّاك، أَنه ملكُهُ،

===

الرواية، وهذا عند أَبي حنيفة. وقال أَبو يوسف ومحمد: يجوز لكلٍ أَنْ يعمل بالخط، وبه يُفتى. لأَن الظاهر أَنه خطُّه، والعمل بالظاهر واجب. وعن أَبي يوسف يجوز للراوي دون الشاهد. (ولا) يشهدُ (بالتسامُعِ) لأَن الشهادةَ لا تجوز إِلا عن علم، والتسامع لا يُفِيْدُه (إِلا في النَّسبِ، والموتِ والنِّكَاح، والدخول) بزوجته (وولاية القاضي) إِذا أَخبره بذلك من يثقُ به استحساناً.

(وأَنّ هذا وقفٌ على كذا) فإِنه يَشهد بالتسامع (لا على شُرُوطِهِ) فإِنه لا يشهدُ بالتسامع على شرائط الوقف، وعليه الفتوى. وفي «المُجتبى» و «المختار»: أَنها تقبل على شرائط الوقف أَيضاً. وكان القياس أَنْ لا تجوز الشهادةُ بالتسامع في المسائل المذكورة. ووجه الاستحسان أَنْ هذه الأمور تختصُ بمعاينة أَسبابها خواصٌّ من الناس، وتَتَعلق بها أَحكام، فلو لم تُقبل الشهادةُ فيها بالتسامع لتعطلت أَحكامُهَا، بخلاف البيع ونحوه. وقال مالك والشافعي وأَحمد: لا تُقبلُ الشهادةُ بالتسامع في الدخول، لأَنه مما يُعايَن، كما في الشهادة على الزنا. قلنا: الزنا فاحشةٌ فلا (يحتال)

(1)

في إِثباتها بخلاف الدخول.

(إِذا أَخبر) بلفظ الشهادة (رجلان، أَوْ رجل وامرأَتان) عدولٌ. وهذا شرطٌ لجواز شهادة الشاهدِ بالتسامُعِ في المسائل المذكورة، وإِنما شُرِطَ فيه ذلك ليحصُلَ لَهُ نوعُ عِلْمٍ، وهو أَقلُ نِصَابٍ يفيدُ العلم الذي يُبْنى عليه الحكم في المعاملات.

(ويشهدُ رائي جالس مجلِسَ القضاء) مفعول مطلق، أَوْ فيه لرائي (يَدخل عليه الخصوم أَنه قاضٍ، ورائي رجل وامرأَة يَسكنان بيتاً وبينهما انبساط الأزواج أَنها عِرْسه، ورائي) شيء (سوى الرقيق في يدِ مُتصرفٍ كالمُلاك أَنه مِلْكُهُ) وإِنما قال: سوى الرقيق، لأن الآدمي له يدٌ على نفسه، فيدفع يدَ غيره.

حتى إِذا ادعى أَنه حرُّ الأَصل فالقول له، فاليد لا تعتبرُ فيه، وكذا لا يعتبر فيه التصرف وهو الاستخدام، لأَن الحر قد يَخْدُمُ غيرهُ. هذا إِذا كان الرقيق بالغاً أَوْ صغيراً يعبر عن نفسه، أَما إِذا كان صغيراً لا يُعبر عن نفسه فهو كالدابة والمتاع.

(1)

في المطبوع: "يحتاج" بدل "يحتال".

ص: 134

لكن إِن قال: شهادتي بالتَّسَامُع، أَو بِحُكْمِ اليَدِ، بَطَلَتْ.

ومَنْ شَهِدَ أَنه حَضَرَ دفنَ زيدٍ، أَو صلَّى عليه، قُبِلْت. وهذا عِيانٌ.

‌فصل [مَن تُقْبَل شَهَادَتُهُ ومن لا تُقْبَل]

وتُقبل الشهادةُ من أَهلِ الأَهواء

===

وقيد اليدَ بالمتصرف كالمُلاك ليتحقق دليل المِلك بالاتفاق، فإِن الخَصَّاف قال: دليل المِلك اليد مع التصرف. وهو قول مالك والشافعي وابن حامد الحنبلي، لأَن اليد تتنوع إِلى مِلك، ونيابة، وضمان. ولنا أَنْ اليد أَقصى ما يُستدل به على المِلك. إِذْ هي مرجع الدلائل في أَسباب المِلك كلها، فيُكتفى بها. والمذهب عندنا عدمُ شرطِ التصرف لجواز الشهادة لذي اليد.

وعن أَبي يوسف وهو رواية عن محمد: أَنه يُشترطُ مع ما ذكر أَنْ يقع في قلبه أَنه له، ليحصلَ له نوعُ عِلمٍ، لأَن الشهادة بلا علم لا تجوز لقوله عليه الصلاة والسلام:«إِذا عَلِمْتَ مثلَ الشمسِ فاشهد وإِلا فَدع»

(1)

. ولذا قيل: لو رأَى دُرة ثمينةً في يد كنّاس، أَوْ كتاباً في يد جاهلٍ وليس في آبائه من هو أَهل لذلك، لا يسعه أَنْ يشهد له. وأُجيب أَنّ اليد أَقوى أَسباب ظن المِلك، ولهذا يقضي القاضي به لأَجْلِها.

(لكن) ينبغي للشاهد أَنْ يُطلق في أَداء الشهادة، ولا يقول: إِنها بالتسامع حتى (إِنْ قال: شهادتي بالتسامع، أَوْ بحكم اليد: بطلت) لأَنه قد أَقر بأَنه شَهِدَ بغير علم، ولأَنَّ القاضي إِنما يُلزم بالشهادة إِذا كانت عن عِيان أَوْ عن إِطلاق لاحتمالها المشاهدة، فيحمل عليها، أَما إِذا كانت عن تسامعٍ أَوْ رؤية في يد فإِنها لا تزيدُهُ علماً فلا يجوز له أَنْ يحكم بها (ومَنْ شَهِدَ أَنه حَضَرَ دفن زيد أَوْ صلى عليه: قُبِلْت) شهادته لأَنه شهد عن علم (وهذا عِيانٌ) حتى لو فسّر للقاضي قَبِلَ هذا.

فصل (مَنْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ ومن لا تُقْبَل)

(وتُقبل الشهادةُ من أَهلِ الأَهواء) وهو جمع هوىً، بمعنى مَيَلان النَّفْس إِلى ما يَسْتلذ به الطبع من غير داعية الشرع. قال الله تعالى: {أَفرأَيْتَ مِنْ اتَّخَذَ إِلهَهُ

(1)

رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس مرفوعًا بلفظة ورواه الديلمي عنه بلفظ: "يا ابن عباس لا تشهد إلا على أمر يضئ لك كضياء الشمس". ورواه الطبراني والديلمي أيضًا عن ابن عمر. وقال النجم بعد أن عزاه بلفظ الترجمة للسخاوي: لا يُعرف بهذا اللفظ. وأقول: بل لا يظهر المراد منه، فتأمل. كشف الخفاء 2/ 72.

ص: 135

إِلا الخَطَّابِيّة، ومِنَ الذِّميِّ على مِثِلِه وإن تَخَالَفَا مِلَّةً، وعلى المسُتَأْمَن

===

هَوَاه}

(1)

، وقال تعالى:{ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ}

(2)

سمُّوا بذلك لمتابعتِهم أَنفسَهُم ومخالفتهم أَهل السنةِ والجماعة. وإِنما قُبِلَت شهادتهم لأن فسقَهم من حيث الاعتقادُ، وما أَوقعَهم فيه إِلا التعمقُ والغلوُ في الدين. والفاسق إِنما تُرَد شهادتُه لتُهمة الكذب، وقد قال عليه الصلاة والسلام:«لا شهادة لمُتَّهَم»

(3)

. والفسق من حيث الاعتقادُ لا يدل على الكذب.

(إِلا الخَطَّابِيّة) وهم قوم من الرَّوَافض يُنْسبَون إِلى ابن الخطَّاب محمد بن وَهْب الأَجدع، يَسْتَجِيْزُون أَنْ يشهدوا للمدعي إِذا حلف أَنه محق، ويقولون: المسلمُ لا يحلفُ كاذباً، فباعتقادهم هذا تمكنتِ الشبهةُ في شهادتهم. وقيل: لأَنهم يعتقدون أَنْ من ادَّعى منهم شيئاً على غيره، يجب أَنْ يشهدَ له بقيتُهم. وفي «شرح الأقطع»: إِنهم قومٌ يُنْسَبون إِلى الخطَّاب رجل خرج بالكوفة وحارب عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان يَزعمُ أَنّ علياً الإله الأَكبر، وجعفراً الصادق الإله الأصغر. وكان أَظهرَ الدعوةَ إِلى جعفر فتبرَّأَ منه ودعا عليه فقتِلَ هو وأَصحابه، قَتَلَهُ عيسى وصَلَبَه بالكنائس.

وأَما غيرهم: فمنهم من يُكفِّر بالذنب كالخوارج، ومنهم من يُخرج المُذْنب عن الإِيمان ولا يدخله في الكفر كالمُعتزلة، وذلك يكون أَقوى اجتناباً عن الكذب حذراً من الخروج عن الدين، كمن تناول المُثَلَّث

(4)

أَوْ متروكَ التسميةِ عمداً معتقِداً إِباحتَه، فإِنه لا يصير به مردود الشهادة.

وشرط في «الذخيرة» : أَنْ يكون هوىً لا يُكَفَّر به صاحبه كالمُجسِّمة. وفي «النهاية» : أَصول أَهل الهوى ستة: الجَبْرُ، والقَدَر، والرَّفْض، والخُرُوج، والتِّشْبيه، والتَّعْطِيل. وكل واحد ينقسم إِلى اثني عشر فرقة. وقال مالك: لا تقبل شهادة أَحد من أَهل الأهواء لأَنه أَغلظ وجوه الفسق. وقال أَحمد: لا تقبل شهادة ثلاثة من أَهل الأهواء القَدَرِيةَ والجَهْمِية، والرَّافِضة.

(و) تقبل (من الذِّمي على مثله) أَي على ذمي آخر (وإِن تخالفا ملة) كالتهود والتنصر (و) من الذمي (على المستأَمَن) وقال مالك والشافعي: لا تقبل لأَن الله تعالى

(1)

سورة الجاثية، الآية:(23).

(2)

سورة القصص، الآية:(50).

(3)

لم نجده.

(4)

المُثَلَّثُ: من عصير العنب: ما طبخ حتى ذهب ثُلثاه. المغرب في ترتيب المعرب 1/ 119، مادة (ثلث).

ص: 136

ومن المُستَأْمَنِ على مثلِهِ، إِن كانا من دار، ومِن عَدُوٍّ بسبب الدِّينِ، وممن اجتنبَ الكبائرَ، ولم يُصرَّ على الصغائِرِ، وغلبَ صوابُهُ.

===

قال: {وأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(1)

وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}

(2)

والكافر ليس بعدلٍ ولا بمرضي ولا منا، فصار كالمرتد حيث لا تقبلُ شهادته على مثله ولا على غيره. ولنا ما أَخرجه ابن ماجه في «سننه» عن مجاهد، عن الشَّعْبي، عن جابر بن عبد الله: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم أَجاز شهادة أَهلِ الكتاب بعضهم على بعض. وإِذا قُبِلَ الذمِي عند اتحاد الملة قُبِل عند اختلافها، إِذْ لا قائل بالفصل، إِلا أَنَّ مجاهداً فيه مقال.

وما في «سنن أَبي داود» بهذا الإِسناد جاءت اليهود برجل وامرأَة منهم زنيا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«ائتوني بأَعلم رجلين منكم» . فأَتوه بابني صُورِيا، فَنَشَدهما كيف تَجِدان أَمر هذين في التوراة؟ قالا: نجد فيها إِذا شهد أَربعة منهم أَنهم رأَوا ذَكَرَه في فَرْجها كالمِيل في المُكحُلة رجما. قال: «فما يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجمُوهما؟» قالا: ذهب سلطانُنا فكرهنا القتل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود فجاء أَربعة فشهدوا أَنهم رأَوا ذَكَرَه في فَرْجها كالمِيل في المُكحُلة، فأَمر النبي صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِهِمَا. وأَسند الطحاوي إِلى الشعبي عن جابر

(3)

وفيه أَنه صلى الله عليه وسلم قال: «ائْتوني بأَربعة منكم يشهدون» .

(و) تقبلُ (من المستأمن على مثلِهِ) قيد به لأَنه لا ولاية له على الذِّمي، لأَن الذِّميَ أَعلى حالاً منه، لأَنه من أَهل دارنا فلا تقبل شهادته عليه (إِنْ كانا من دار) وأَما لو كانا من دارين كالتركي والرومي، لا تقبل، لأَن اختلاف الدار يقطع الولاية، ولهذا لا يتوارثان (و) تقبل (من عدو بسبب الدين) لأَن معاداته من ديانته فيدل على عدالته (و) تُقبل (ممن اجتنبَ الكبائرَ ولم يُصِرَّ على الصغائِرِ وغلبَ صوابُهُ) على خطائه وصلاحُه على فساده، إِذْ العدل من كان كذلك على ما نُقل عن أَبي يوسف.

والحاصل:

أَنْ ارتكابَ الكبيرةِ يُوجب سقوطَ العدالةِ، وارتكابَ الصغيرةِ لا يُوجبِ سقوطها، لأَن ارتكابَ الكبيرةِ يَدُل على تهاونِ مرتكبها في الدين، والمتهاونُ لا يمتنعُ من شهادة الزور. وارتكاب الصغيرة لا يَدُل على التهاون في الدين إِلا أَنْ يُصرَّ عليها، لأَن الصغيرةَ تصيرُ بالإصرار كبيرة، كذا في «الذخيرة» .

(1)

سورة الطلاق، الآية:(2).

(2)

سورة البقرة، الآية:(282).

(3)

عبارة المطبوع: و "أَسند الطحاوي كذلك والشعبي عن جابر" والمثبت من المخطوط.

ص: 137

والأَقْلَفِ، والخَصيّ وَوَلدِ الزِّنَا، والعُمَّالِ،

===

(و) تقبل من (الأَقْلَفِ) وهو الذي لم يُختن، لأَن ذلك لا يُخل بالعدالة، وهذا إِذا كان عن عذر، وهو الكِبَر وخوفِ الهلاك، وأَما إِذا كان من غير عذر فإِن شهادَته لا تُقبل، لأَنه مُسْتَخِفٌّ بالخِتَان، ومع الاستخفاف به لا يكون عدلاً.

ثم الخِتَانُ للذكور واجبٌ عند الشافعي وأَحمد. وعندنا وعند مالك سنة، وهو قول الشافعي. ولم يقدِّر أَبو حنيفة مُدَّته بشيء، لأَن التقديرَ لم يرد في الكتاب ولا في السُّنة. وطريقُ معرفةِ التقادير السماعُ. وقدّرها المتأَخرون بسبع سنين إِلى عشر. وقيل: اليوم السابع من ولادته، أَوْ بعد السابع إِنْ احتمل الصبي ذلك. وعند بعض أَصحاب الشافعي لا يُختن حتى يصيرَ ابنَ عشر.

(و) تقبل من (الخَصِيّ) لما روى ابن أَبي شيبة في «مصنفه» عن ابن عُلَيّة، عن ابن عوف، عن ابن سيرين: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم أَجاز شهادةَ علقمة الخَصِيِّ على ابن مظعون. وفي «حلية أَبي نُعيم» : حدثنا إِسماعيل بن مسلم، عن أَبي المتوكل بن الجارود، عن أَبيه: أَنه شهد على قُدَامة أَنه شرب الخمر. فقال عمر: هل معك شاهد آخر؟ قال: لا، قال: يا جارود ما أَراك إِلا مجلوداً. قال: يشربُ ختنُك الخمرَ وأُجلد أَنا فقال علقمة الخَصِيُّ لعمر: أَتجوز شهادة الخَصِي؟ قال: وما بال الخَصِيِّ لا تقبل شهادته. قال: فإِني أَشهد أَني رأَيته يَتَقيَّؤُها، فقال عمر: ما قاءها حتى شربها، فأَقامه ثم جلده. كذا رواه الشارح مرسلاً. وروى غيره عن عمر موقوفاً. ولأَنه قُطع منه عضو ظلماً، فصار كما لو قطعت يده.

(و) تقبل من (ولد الزنا) لأَن فِسق الوالدين (لا يوجب فِسق الولد)

(1)

، ككفرهما. وأَما حديث:«ولد الزنا شر الثلاثة» ، فباطل لا أَصل له، وعلى تقدير ثبوته يُحمل على غالب حاله. وقال مالك: لا تقبل شهادته في الزنا للتهمة، لأَنه يحب أَنْ يكون غيرُه مثله. وأُجيب بأَن العدل لا يحب ذلك والكلام فيه.

(و) تقبل من (العمال) أَي عمال السلطان، وهم الذين يأْخذون الحقوقَ الواجبة: كالخَراج، والجِزْية، والصدقات، لقوله تعالى:{والعَامِلِيْنَ عَلَيْهَا}

(2)

، ولأَن بعض الصحابة كانوا عُمَّالاً، لأَن العمل ليس بفسقٍ، وإِنما الفسقُ الظلم. وقيل: هم الأُمراء.

وفي «شرح الوافي» : هذا في زمانهم، لأَن الغالبَ عليهم الصلاح، وأَما في

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سورة التوبة، الآية:(60).

ص: 138

لا منْ أَعْمَى، ومَمْلُوكٍ، ومَحْدُودٍ في قَذْفٍ وإن تَابَ، إلَّا مَنْ حُدَّ في كُفْرِهِ فَأَسْلَم.

===

زماننا فلا تقبل شهادةُ العمال لغلبة ظلمهم.

وتقبل شهادة الإنسان لأَخيه، وعمّه، وأَبويه، رضاعاً، وامرأَة ابنه، وزوج بنته، وأَصل امرأَته وفرعها، لأَن الأَملاك بينهم متميِّزة، والأيادي متغيرة

(1)

.

(لا من أَعمى) أَي لا تُقبل الشهادة من أَعمى. وقال زُفَر وهو رواية عن أَبي حنيفة: تُقبل فيما يجري فيه التسامع، وبه قال مالك والشافعي وأَحمد، وكذا أَبو يوسف، وهو قول النَّخَعي، والحسن البصري، وسعيد بن جُبير، والثَّوري، لأَن الحاجة في ذلك إِلى السماع، ولا خلل من الأعمى في ذلك. وأَما شهادته في الحدود والقصاص فلا تقبل بالإِجماع. وفي «المبسوط»: ولا تجوز شهادة الأخرس، لأَن الأداء يختص بلفظ الشهادة، وهي لا تتحقق منه. وقال الشافعي: في الأَصح تقبل إِذا كان له إِشارة مفهومة.

(و) لا من (مملوك) لأَن الشهادة من باب الولاية، وهو لا يلي على نفسه، فأَولى أَنْ لا يليَ على غيره، (و) لا من (محدودٍ في قَذْفٍ وإِنْ تاب) أَي أَظهرَ توبتَه وكذَّب نفسه في قذفِه. وقال مالك والشافعي وأَحمد: تقبل لقوله تعالى: {ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدَاً وأَولئك هُمُ الفَاسِقُونَ إِلاَّ الذينَ تَابُوا}

(2)

فإِنّ الاستثناء إِذا تعقب جُملاً بعضُها معطوفة على بعض ينصرف إِلى الكل، كقول القائل: امرأَته طالقٌ وعبده حرٌ، وعليه الحجّة إِلا أَنْ يدخل الدار، فإِن الاستثناء ينصرف إِلى جميع ما تقدم.

ولنا أَنْ قوله تعالى: {ولا تَقْبَلوا لهم شَهادةً أَبداً} معطوف على قوله: {فاجلِدُوهم} والعطفُ للاشتراك، فيكون رد الشهادة من حد القذف. والحد لا يرتفع بالتوبة، ولا نُسلِّم أَنَّ الاستثناء في الآية يَعقُب جُملاً بعضها معطوف على بعض، لأَنه يعقب جُملة:{وأَولئك هم الفَاسِقُونَ} وهي جُملةٌ مستأْنفة، لأَن ما قبلها أَمرٌ ونهيٌ، فلم يَحسُنُ عطفها عليه، بخلاف المثال، فإِن الجمل كلها فيه إِنشائية معطوفة، فيتوقف كلها على آخرها، حتى إِذا وجد المغيّر تغير الكل. وقال ابن عباس: التوبةُ فيما بينه وبين الله، فأَما نحن فلا نقبلُ شهادَته. وعن إِبراهيم وشُرَيْح مثله.

(إِلاَّ مَنْ حُدّ في كُفْرِهِ فَأَسْلَم) فإِنّ شهادتَه تُقبل بعد الإسلام. (و) لا من

(1)

في المخطوط: "متخيرة" بدل "متغيرة".

(2)

سورة النور، الآية:(4).

ص: 139

وعَدُوٍّ بسَبَب الدُّنْيَا، وسَيِّدٍ لعبده ومُكَاتَبِهِ وشَرِيْكِهِ فِيمَا يَشْتَرِكَانِهِ.

ومُخنَّث

===

(عدوَ بسبب الدنيا) لأَنه لا يُؤمَنُ من التَّقَوُّلِ على عدوه، (و) لا من (سيدٍ لعبده) قِنًّا كان، أَوْ مدبَّراً، أَوْ أَمْ ولد. (و) لا (مكاتَبه) لأنه شهادة لنفسِهِ من وجهٍ (و) لا لشريكٍ من (شريْكه)(فِيْمَا يشترِكَانِهِ) لأَنها شهادةٌ له من وجه.

قيد «بما يشتركانه» لأَنها تُقبل في غيره لانتفاء التُّهمة. كان حقه أَنْ يقول: ولأحد الزوجين للآخر، كالأصل لفرِعِه وبالعكس وإِن بَعُدا، لما أَخرجه ابن أَبي شيبة وعبد الرزاق عن شُرَيح أَنه قال: لا تجوز شهادةُ الابن لأبيه، ولا الأب لابنه، ولا المرأَة لزوجها، ولا الزوج لامرأَته، ولا الشريك لشريكه في شيء بينهما. لكن في غيره يجوز، ولا الأجيرُ لمن استأجَرَه، ولا العبد لسيده.

وروى ابن أَبي شيبة عن سفيان وإِبراهيم مثله. وقد أَسنده الجَصَّاص

(1)

ـ وهو أَبو بكر الرَّازي الذي شهد

(2)

له أَكابر المشايخ أَنه كبير في العلم ـ فقال: حدثنا صالح بن رُزَيق ـ وكان ثقةً ـ قال: حدثنا مروان بن معاوية الفَزَارِي، عن يزيد (بن زياد الشَّامي، عن الزُّهري، عن عُروة عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:)

(3)

لا تجوز شهادة (الوالد لولده، ولا)

(4)

الولد لوالده، ولا المرأَة لزوجها، ولا الزوج لامرأَته، ولا العبد لسيده، ولا السيد لعبده، ولا الشَّريكُ لشريكه، ولا الأجيرُ لمن استأجره».

قيل: المراد بالأَجير التلميذ الخاص الذي يَعُدُّ ضررَ أَستاذه ضرر نفسه، ونفعَه نفعَ نفسه. وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: «ولا القانع بأَهل البيت

»

(5)

الحديث. وقَبِل الشافعي شهادةَ أَحد الزوجين للآخر، لأَنه ليس بينهما بعضية، والزوجية قد تكون سبباً للتنافر والعداوة، وقد تكون سبباً للميل والمحبة، وهي نظير الأخوة أَوْ دونها، فإِنها تحتمل الفسخ والقطع، والأخوة لا تحتملُ. والجواب أَنْ التعليل في مَعْرِضِ النص غير مقبول.

(و) لا من (مخنَّث)،

وهو المتشَبِّهِ بالنساء في لين الكلام وتكسُّرِ الأَعضاء

(1)

حرِّف في المخطوط والمطبوع إلى: "الخَطَّاف" والصواب المثبت، لأن نسبة الجَصَّاص: الرازي، ونسبه الخصاف: الشيباني.

(2)

في المطبوع. "عهد" بدل "شهد".

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(5)

أَخرج قريبًا منه أَبو داود في سننه 4/ 24، كتاب الأقضية (23)، باب من ترد شهادته (16)، رقم (3600) ولفظه: "

ورد شهادة القانع لأهل البيت

". والقانع: السائل والمستطعم، وأَصل =

ص: 140

يفعلُ الرَّدِيء، ونَائِحَةٍ، ومُغَنِّيَةٍ ومُدْمِن الشُّربِ على اللَّهْو، ومَنْ يَلعَبُ بالطيور، أَو الطُّنْبُور، أَو يُغَني للناس، أَو يَرْتَكِبُ ما يُحَدُّ به،

===

(يفعل الرَّديء) وهو تمكين الرجال منه. وأَما مَنْ لم يفعل الرديء فتقبلُ شهادته. (و) لا من (نائحة، و) لا من (مغنِّية) لأَن رفعَ المرأَة صوتَها حرامٌ. وفي «الذخيرة» : ولم يرد بالنائحة التي تنوحُ في مصيبتها، بل التي تنوح في مصيبة غيرها، لأَنها لا تُؤمَن أَنْ ترتكبَ شهادةَ الزورِ لأجل المال، فكان حق الماتن أَنْ يقيدهما بأُجرة، (و) لا من (مُدمن الشُّرب) من الخمر والسَّكَر وغيرهما من المحرمات (على اللهو) وإِنما اشتُرط الإدمان وهو المداومة، ليكون ذلك ظاهراً منه، فإِن مَنْ شرب الخمر سراً ولا يَظْهَرُ ذلك منه، لا تسقط عدالته، وإِنْ كان شِرْبُها كبيرةً

(1)

.

وإِنما تسقطُ عدالته إِذا كان يَظهرُ ذلك منه، أَوْ يخرج وهو سَكران ويلعب به الصبيان، فإِنه لا يَحترز عن الكذب عادة، كذا في «الخانية» و «شرح الوافي». والصواب ما في «النهاية» عن «الذخيرة»: أَنْ المراد به الإدمان في النية، بأَن يشرب، ومن نيته أَنْ يشربَ بعد ذلك إِذا وجده.

والحاصل:

أَنّ المراد به مَنْ شربَ ولم يتبُ فإِنه فاسق. ومما يدل عليه قولهم: ولا تقبلُ شهادةُ من يجلس في مجالس الفجور والشرب، وإِن لم يشرب، لأَنه يتشبه بهم، ولم يحترز من أَنْ يَظْهَرَ عليه ما يظهرُ عليهم، فلا يحترز عن شهادة الزور. ثم قيدّ باللَّهو احترازاً عمن شرب لِغَصِّ لقمةٍ في حلقه.

(و) لا (مَنْ يَلْعبُ بالطُّيور) لما في «سنن أَبي داود» عن أَبي هريرة: أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأَى رجلاً يتبعُ حَمَامة فقال: «شيطانٌ يتبعُ شيطانه» ، (أَوْ الطُّنْبُور) لأَنه من اللهو المحظور. وفي قوله:«يَلْعبُ» إِيماءٌ إِلى أَنه لو أَخذ طيوراً في بيته للاستئناس لا يكون مسقطاً للشهادة، لأَن اتخاذَ الحمامِ في البيوتِ للاستئناس مباح.

(أَوْ) مَنْ (يُغْنِّي للناس) لأَنه يجمعُ الناسَ على اللهو واللعب، فلا يمتنع عادةً من إِتيان المحارم والكذب. أَما لو كان لإزالة الوحشةِ عن نفسِهِ من غير أَنْ يُسْمِع غيرَه فلا بأْس على الصحيح. ثم إِنشادُ الشِّعر إِنْ كان فيه وعظٌ وحكمة، فجائز بالاتفاق، وإِن كان فيه ذكر امرأَة غير معينةٍ أَوْ معينة وهي ميتة فلا بأَس به. وفي المعينةِ الحية يُكْرَه.

(أَوْ) مَنْ (يَرْتكبُ ما يُحدّ به) لأَنه فاسق لا يُؤمَن من الكذب والزور، وقد قال

= القنوع السؤال، ويقال: إِن القانع المنقطع إِلى القوم لخدمتهم، ويكون في حوائجهم كالأجير والوكيل ونحوه. الخطابي على هامش سنن أَبي داود.

(1)

في المطبوع: شَرِبَها كثيرًا. وما أثبتناه الصواب. انظر "العناية" بهامش "فتح القدير" 6/ 481.

ص: 141

أَو يَدْخُلُ الحَمَّامَ بلا إِزَارٍ، أَو يَأكُلُ الرِّبَا، أَو يُقَامِرُ بالنَّردِ والشِّطْرَنْجِ، أَو تَفوتُهُ الصلاةُ بهما، أَو يَبُوْلُ على الطرِيقِ، أَو يأكلُ فيِهِ، أَوْ مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ.

ولا تُقْبلُ الشهادةُ على جَرْحٍ مُجَرَّدٍ، وهو: ما يُفْسِّقُ الشاهدَ ولم يُوْجِبْ حقًّا للشَّرْعِ، أَو لِلْعَبْد، مثل: هو فاسق، أو آكِلُ الرِّبا، أَو أَنه استأجرهم.

===

الله تعالى: {يا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}

(1)

، والأَمر بالتوقفِ يَمنعُ العمل بالشهادة، (أَوْ) مَنْ (يَدْخُل الحَمَّام بلا إِزَارٍ) لأَنه يَرتكِبُ محرماً، وهو كشفُ العورة، (أَوْ) مَنْ (يأَكل الربا، أَوْ يُقَامِر بالنَّرْد والشِّطْرَنْج، أَوْ) من (تَفُوتُهُ الصلاة بهما) لأَن ذلك كله حرام. وشَرَطَ محمدٌ في «الأصل» أَنْ يكون آكل الربا اشتُهِرَ به، لأَن الإنسان قَلَّما يخلو عن مباشرة عقد فاسد، وذلك رباً، بخلاف أَكل مال اليتيم، حيث لا يُشترطُ فيه ذلك، لأَن التحرز عنه ممكن.

ثم اللعِبُ بالنَّرد بمجرده يُسقط الشهادة، لما روى أَبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أَنه مَنْ لعب بالنَّرْدَشِيْر فقد عصى أَبا القاسم» . واللعب بالشِّطْرَنْج يُسْقِطُها إِذا اقترن بالقِمَار، أَوْ بفوتِ الصلاة، أَوْ بكثرةِ الحَلِف، وأَما إِذا لم يقترن بشيء من هذه الأمور، فإِنه عند مالك والشافعي يباح مع الكراهة، وعندنا وعند أَحمد يَحْرم، فكان حق الماتن أَنْ يقول: أَوْ يَلْعَبُ بالنَّرْدِ أَوْ يُقَامِرُ بالشِّطْرَنْج.

(أَوْ) مَنْ (يَبُوْل على الطريقِ، أَوْ) من (يأكل فيه)، لأَنه إِذا كان لا يستحي عن مثل ذلك لا يستحي عن الكذب، فيُتهم في الشَّهادة (أَوْ مَنْ يُظْهِرُ سَبّ السَّلَفِ) وهم الصحابة والتابعون ومَن اقتفى أَثرهم في الدين.

(ولا تُقْبلُ الشهادةُ على جَرْحٍ مجردٍ وهو) أَي الجَرْح المُجَّرد (ما يُفْسِّقُ الشاهدَ ولم يُوْجِبْ حقاً للشرع، أَوْ للعبد، مثل: هو) أَي الشاهد (فاسقٌ، أَوْ آكل الربا) أَوْ شاربُ خمر، أَوْ زانٍ، أَوْ قاتل نفسٍ، أَوْ شاهد زور.

(أَوْ أَنه) أَي المدَّعي (استأْجرهم) أَي الشهود، أَوْ أَنهم أَقروا أَنهم شَهِدوا بالزور، أَوْ أَنهم أَقروا أَنَّ المُدَّعي مبطِلٌ في هذه الدعوى، أَوْ أَنهم أَقروا أَنْ لا شهادةَ لهم على المُدَّعى عليه في هذه الحالة، لأَن الشهادة إِنما تُقبل على ما يدخُلُ تحت حكم القاضي وفيما وسعه إِلزامه، ومجردُ الفسق ليس كذلك، لأَن الفاسقَ يرتفعُ فِسقه بالتوبة، ولعله تاب في مجلِسِه أَوْ قبله، فلا يتحققُ الإلزام. ولأَنها إِشاعة الفاحشة من غير ضرورة، وإِشاعة الفاحشة فِسْق، لقوله تعالى: {إِنَّ الذِيْنَ يُحِبُّوْنَ أَنْ

(1)

سورة الحجرات، الآية:(6).

ص: 142

وتُقْبَلُ على إِقرار المُدَّعِي بفسقِهم، وعلى أَنهم عبيدٌ، أَو أَنّهم شَارِبو خَمْرٍ، أَو قَذَفَةٌ، أَو أَنهم شرَكاءُ المُدَّعِي، أَو أَعطاهم الأجرةَ لها من مالي، أَو دَفَعْتُ إِليهم كذا لِئَلَّا يشَهدوا عليَّ.

وشُرِطَ موافقةُ الشهادة للدَّعوى، كاتفاق الشَّاهِدَينِ لَفْظًا ومعنىً عند أَبي حنيفة. فَتُرَدُّ في أَلفٍ وأَلفين،

===

تَشِيْعَ الفَاحِشَةُ في الذِيْنَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ}

(1)

، فإِن قيل: فيها ضرورة، وهي منع الظالم عن الظلم. أُجيب بأَنه لا ضرورة فيها لإِمكان إِخباره القاضي سراً حتى يَرُدَّ شهادَتَهما.

(وتُقْبَلُ) الشهادةُ (على إِقرار المدعي بفسقِهم) لأَنهم ما أَظهروا الفاحشة، بل شَهِدُوا على إِظهار غيرهم، فلا يوجب ذلك فسقَهم، (و) تُقبل (على أَنهم عبيد) لأَن فيها إِثبات حقّ الرِّق، (أَوْ) على (أَنّهم شاربو خمر) ولم يتقادم، لإِثباتهم الحد. قيدنا بعدم التقادُمِ، لأَنه لو تقادَم لا تُقبل لعدم الحد، (أَوْ) على أَنهم (قَذَفةٌ) بفتح المعجمة جمع قَاذف. وهذا إِذا كان المقذوفُ يدّعي القذف لتعلَّق الحد بهم، (أَوْ) على (أَنهم شركاء المدَّعي) لإثباتهم حق الشركة، (أَوْ) على أَنه (أَعطاهم الأُجرة لها) أي للشهادة (من مالي) الذي كان في يده وطلب استرداده، لأَنه خصمٌ في ذلك، (أَوْ) على أَني (دَفَعْتُ إِليهم كذا) من المال (لئلا يشَهدوا عليَّ) وقد شهدوا، وطالبهم بردِّ ذلك المال، لأَنهم أَخصام في ذلك.

(وشُرِطَ) في قَبُوْل الشهادة (موافقةُ الشهادة للدّعوى) وهذا في حقوق العباد، لأَن الشهادة في حقوق الله تعالى واجبةٌ على كل أَحد، فكان كل واحد فيها خصماً في إِثباتها. وحقوقُ العبد تتوقف على مطالبَتِهِ أَوْ مطالبةِ من يقوم مَقَامَهُ. فلو ادعى داراً إِرثاً أَوْ شراءً، فشهدا بملكٍ مطلق لا تُقْبل، لأنهما شهِدا بأَكَثر مما ادّعى، لأنه ادّعى ملكاً حادثاً، وشهدا بملكٍ قديم، لأَن المِلْكَ المطلقَ يثبُتُ من الأَصل حتى يَستحِقّ المدعي به الزوائد. ولو ادعى ملكاً مطلقاً وشهدا بملك بسبب معين تُقبل، لأَنهم شهدوا بأَقلَ مما ادعاه، فلم يخالف شهادتهما الدعوى، بخلاف الأول.

(كاتفاق الشاهدين) أَي كما شُرِط اتفاقُهما (لَفْظَاً ومعنىً عند أَبي حنيفة) واكتفيا بالمعنى كمالك والشافعي، (فتردُّ في أَلف وأَلفين) أَي شهادة أَحد الشاهدين بأَلف والآخر بأَلفين. وتقبل عند أَبي يوسف ومحمد على الأقل إِذا كان المُدّعي يَدّعي الأكثر. وبه قال الشافعي في وجه، وأَحمد في روايةٍ لأَنهما اتفقا على الألف

(1)

سورة النور، الآية:(19).

ص: 143

ويَثْبُتُ في أَلفٍ وأَلفِ ومئةٍ، الأَوَّلُ عند دعوى الأكثر إِنْ قَصَدَ المالَ لا العَقْدَ، فتُقْبَلُ في عتقٍ بمالٍ، وصُلْح عن قَوَدٍ، ورهنٍ، وخُلْع إِنْ ادّعى مَنْ له المالُ.

والإِجارة بيعٌ في أَوَّلِ المُدَّةِ،

===

وتفرد أَحدهما بالزيادة، فيثبت ما اجتمعا عليه دون ما تفرد به أَحدهما.

ولأبي حنيفة أَنهما اختلفا بلفظين غير مترادفين، فاختلفا معنى وحصل على كل واحد منهما شاهد واحد، أَلا ترى أَنه لو شهد أَحدهما أَنه قال لامرأَته: أَنت خليّة، وشهد الآخر بأَنه قال لها: أَنت بريّة لا يثبت شيء وإِن اتفق المعنى. وفي «النهاية» : إِنْ كانت المخالفة بينهما في اللفظ دون المعنى تقبل، نحو: أَنْ يشهدَ أَحدُهما على الهبة، والآخر على العَطِيَّة، لأَن اللفظ ليس بمقصود في الشهادة، بل المقصودُ ما صار اللفظ عَلَماً عليه، فإِذا وجدت الموافقةُ في ذلك لا تضرُ المخالفةُ فيما سواه، وكذا إِذا شهد أَحدهما بالنكاح والآخر بالتزويج.

(ويَثْبُتُ في أَلفٍ وأَلفٍ ومئةٍ، الأَوَّلُ عند دعوى الأَكثر) لاتفاق الشاهدين على الأقل لفظاً ومعنىً، لأَن المئة عطفٌ على الألف، والعطف يقررُ الأول، ولأن المعطوفَ غيرُ المعطوف عليه، فكانا كلمتين «وأَلفان» كلمة واحدة. فإِن قيل: لو ادعى أَلفين وشهدا بأَلف تُقبل اتفاقاً، مع أَنْ شَرطَ صحةِ القضاء الموافقةُ بين الشهادة والدعوى ولم يوجد. أُجيبَ بأَن الاتفاق في اللفظ بين الدعوى والشهادة ليس بشرطٍ على حسب الاتفاق في اللفظ بين شهادتي الشاهدين (إِنْ قَصَدَ) المدعي (المال لا العَقْدَ) أَما لو قصد العقد، فالشهادة باطلةٌ، لأَن العقدَ يختلفُ باختلاف الثمن، فكان هناك عقدان لم يَتِمّ نصابُ الشهادة على واحد منهما، فإِن ادعى الشراء مثلاً، فشهد أَحدهما على الشراء بأَلف والآخر بأَلف ومئة لا يثبتُ الشراءُ لاختلاف المشهود به. ولا فرقَ بين أَنْ يدّعي المُدّعي الأقل والأكثر.

(فتُقْبَلُ) شهادة أَحدهما بأَلف والآخَر بأَلف وخمس مئة (في عِتقٍ بمالٍ، وصُلْحٍ عن قَوَدٍ، ورهنٍ وخُلْعٍ إِنْ ادّعى من له المال) بأَن ادّعى في العتق المولى، وفي الصُلح وليّ المقتول، وفي الرهن المُرتهن، وفي الخُلعِ الزوج، لأَن قَصْدَ كل منهم إِلى المال، فكان كمدّعي الدين.

قيد بكون المُدَّعي مَنْ له المال، لأَنه لو كان الآخَر وهو العبدُ في العتق، والقاتلُ في الصلح، (والراهنُ في الرهن)

(1)

، والمرأَةُ في الخُلع، كان القصد إِلى إِثبات العقد، فكانت الشهادة باطلة.

(والإِجارة بيعٌ في أَول المدة) وهو إِنما يقصد فيه إِلى إِثبات العقد، سواء كان

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

ص: 144

ومالٌ بعدها. ويَثْبُتُ النِّكَاحُ بأَلف، ولَزِمَ الجَرُّ في الإرث بقوله: مات مُوَرِّثُه وتَرَكَهُ ميراثًا له، أَو: مات وذا ملْكهُ، أَو في يَدِهِ، فإن قال: كان لأبيه أَوْدَعَه، أَو أَعارَهُ مَنْ في يده، جاز بلا جرٍّ.

===

المدَّعي المُؤجِر أَوْ المُستأْجر، وسواء كانت الدعوى بأَقل المالين أَوْ بأَكثرهما (ومالٌ بعدها) أَي بعد المدة فيثبت ما اتفق عليه الشاهدان وهو الأقل، أَما لو كان المُدَّعي هو الآجر، فإِنه لا حاجة حينئذٍ إِلى إِثباتِ العقد، وأَما إِنْ كان المُستأْجر، فلأن ذلك منه اعترافٌ بمال الإِجارة، فيجب عليه ما اعترف به من غير حاجةٍ إِلى اتفاق الشاهدين أَوْ اختلافهما، وهذا إِذا كان المُدعي يدعى الأكثر، وإِن كان يدعي الأقل لا تُقبل شهادة من يشهد بالأكثر، لأَن المدعي يكذبه.

(ويَثْبُتُ النكاح بأَلف) يعني بأَقل المالين، سواء ادعى الزوج أَوْ المرأَة عند أَبي حنيفة، خلافاً لهما كمالك والشافعي فإِنّ عندهما تبطل الشهادة ولا يُقضى بشيء، لأَن الحاجة إِلى إِثباتِ العقد والنكاح بأَلف غير النكاح بأَلف وخمس مئة. ولأبي حنيفة أَنْ المال في النكاح تابع للأصل فيه، وهو الحِل والازدواج والملك، ومن حُكْم التَّبَعِ أَنْ لا يُغَيِّر الأصل، فيبقى العقد سالماً عن الاختلاف، فيلزم، ويُقضى بالأَقل مما وقع فيه الاختلاف وهو المال، كما في الدَّين، ويستوي فيه أَنْ يكونَ المُدعي الزوج أَوْ المرأَة.

ثم الأَصل أَنْ المشهود به إِنْ كان قولاً كالبيع، فاختلاف الشاهدين بالمكانِ أَوْ بالزمان لا يمنعُ الشهادة، لأَن القولَ مما يعاد. وإِن كان المشهودُ به فعلاً: كالغصب والقتل والجرح، أَوْ قولاً والفعلُ شرطٌ كالنكاح. فإِنه قول، وحضور الشاهدين فعلٌ، فاختلافُ الشاهدين بالزمان أَوْ المكان يمنعها.

(ولزم الجرّ)(أَي أَنْ يجر الشاهد)

(1)

(في) دعوى (الإرث) الميراث إِلى المدَّعي (بقوله) في الشهادة لمن ادعى شيئاً في يد غيره: إِنه ميراثه من أَبيه (مات (مُوَرِّثُه)

(2)

وتركه ميراثاً له، أَوْ مات وذا مِلْكُه) وقت الموت، لثبوت الانتقال ضرورةً (أَوْ) مات وذا (في يده) لأَن اليدَ المجهولة عند الموت تنقلبُ يدَ مِلك بواسطةِ الضمان، إِذا مات مجهّلاً لتركه الحفظ. والمضمونُ يملِكُه الضامن، ولأَن الظاهرَ من حال من حضره الموت أَنْ يُبينَ ما كان عندَه من الودائع والمغصوب، فإِذا لم يبين فالظاهر أَنه مِلكه (فإِن قال:) الشاهدُ في دعوى الإرث: (كان لأبيه أَودَعَه، أَوْ أَعاره) أَوْ آجره أَوْ رهنه، أَوْ غصبه منه (مَنْ في يده، جاز بلا جرّ) لأَن إِثباتَ يد من يقوم مقَامَه يُغني عن إثباتِ المِلك وقتَ الموت، فاكتُفِي به عن ذِكْر الجَرِّ.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 145

وتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ على الشَّهَادةِ إِلا في حَدٍّ وقَوَدٍ. وشُرِطَ لها تعذُّر حُضُورِ الأصل بموتٍ، أَو مَرَضٍ، أَو سَفَرٍ، وشهادةُ عددٍ عن كُلِّ أَصل.

لا تَغَايُر فَرْعَي هذا وذَاك. ويقول الأصل: اشْهَدْ على شَهَادَتِي أَنِّي أَشهدُ بكذا،

===

(وتُقبل الشهادة على الشهادة إِلا في حَدَ وقَوَدٍ). وقال مالك: تُقبل في كل الحقوق، وبه قال الشافعي في الأصح، لأَن الفروعَ عدول نقلوا شهادةَ الأصول، فالحُكْم بِشَهادةِ الأصول. وصار الفروع كالتُّرجُمَان. ولنا أَنْ القياس أَنْ لا تجوز الشهادة على الشهادة، لأَن الأخبار إِذا تداولَتْها الألسنة، تمكّن فيها شبهةُ النقصان والزيادة، وإِنما جَوَّزْنَاها استحساناً لحاجة الناس، وإِنما لا يجوز في حدَ وقَوَدٍ لأَنهما يُدْرآن بالشبهة. وفي الشهادة على الشهادة شبهة من حيث البَدَليّة. وأَجازها مالك والشافعي فيهما، نظراً لحقِّ العبد.

(وشُرِطَ لها) أَي للشهادة على الشهادة (تعذُّر حضور الأصل بموتٍ أَوْ مَرَضٍ) لا يستطيع معه الحضور إِلى مجلِسِ القضاء (أَوْ سفرٍ) مسيرة ثلاثة أَيام فصاعداً، لأَن جَوَازها للحاجة. وهي عند عجز الأصل، وهو يتحققُ بهذه الأشياء. وعن أَبي يوسف: أَنه إِنْ كان في مكان لو غَدَا لأداء الشهادة لا يَستطيع أَنْ يبيتَ في أَهله، صح الإِشهادُ إِحياءً لحقوق العباد ودفعاً للحَرَجِ عن الشاهد، لأَن في بيتوتتهِ عند غير أَهله حرجاً في حقه، وبه قال الشافعي في قول وأَحمد في رواية، وأَخذ به أَبو الليث وكثيرٌ من المشايخ، وذكره محمد في «السِّير الكبير». وفي «الذخيرة» عن محمد: أَنه يجوز كيف ما كان حتى لو كان الأصلُ في زاوية المسجدِ والفرعُ في زاوية أَخرى من ذلك المسجد تُقبل.

(و) شُرط (شهادةُ عدد) رجلين أَوْ رجل وامرأَتين (عن كل أَصل) لما روى عبد الرزاق في «مصنفه» عن علي أَنه قال: لا يجوز على شهادة الميت إِلا رجلان. ولفظ «الهداية» عن علي: لا تجوز على شهادة رجل إِلا شهادة رجلين. وما روى ابن أَبي شيبة في «مصنفه» عن الشَّعبي أَنه قال: لا تجوز شهادةُ الشاهِدِ على الشاهد حتى يكونا اثنين.

(لا) أَي لا يُشترط (تَغَايُر فرعي هذا) الأصل (و) فرعي (ذَاك) الأصل. حتى لو أَشهد أَحد الأصلين على شهادتِهِ شاهدين، وأَشهدهما الآخَرُ بعينِهما على شهادته جاز. وقال الشافعي في وجه: لا يجوز إِلا أَربع على كل أَصل شاهدان. ولا يكفي شهادةُ فردٍ على شهادة أَصل، وشهادة فردٍ آخر على شهادة الأصل الآخر، إِلا على قول الحسن البصري، وعثمان البَتِّي، وابن أَبي ليلى، والعنبري.

(ويقول الأصل) في إِشهاد الفرع: (اشهد على شهادتي أَني أَشهدُ بكذا) لأَنَّ

ص: 146

والفَرْعُ عند الحاكم: أَشهد أَن فلانًا أَشْهَدَني على شهادته بكذا، وقال لي: اشْهَدْ على شهادتي بذلك.

وصَحَّ تَعْدِيلُ الفَرْعِ الأصلَ، وأَحَدُ الشاهِدَين الآخرَ. وإِنكارُ الأصل يُبْطلُ شهادَةَ الفَرع. ومَنْ أَقرَّ أَنه شَهِدَ زُوْرًا، شُهِّرَ ولم يُعَزَّرْ.

===

الفرع كالغائب عن الأصل، فلا بدُ من التَّحميل والتوكيل له، ومن أَنْ يشهدَ الأصلُ عنده كما يشهدَ عند القاضي لينقله إِلى مجلس القضاء.

(و) يقول (الفَرْعُ) في أَداء الشهادة (عند الحاكم: أَشهد أَنْ فلاناً أَشهدني على شهادته بكذا، وقال لي: اشهد على شهادتي بذلك) لأَنه لا بد من ذِكْر (شهادَتِهِ، وذِكْر)

(1)

شهادةِ الأصل، وذكر التحميل، وهو يحصل بهذا. وفيه خمس شِيْنَات. (وصح تعديلُ الفَرْعِ) أَي تزكية الشاهد الفَرْع (الأصلَ و) تعديل (أَحد الشاهدَينِ الآخَرَ) بأَن شهد شاهدان في واقعةٍ، فزكّى أَحدهما الآخر، لأَنه من أَهل التزكية، فكانت تزكيته كتزكية غيره.

(وإِنكارُ الأصل يُبطل شهادَة الفَرع) لأَن التحميل شرط، وهو لم يثبت للتعارض بين خبر الفروع وخبر الأصول (ومَنْ أَقر أَنه شَهِدَ زُوْراً) أَوْ شهد بقتلِ رجلٍ أَوْ موته، ثم جاء ذلك الرجل حياً (شُهِّر) في الأسواق (ولم يُعزَّرْ) بضرب ولا يحبس عند أَبي حنيفة. وعُزِّر بالضربِ والحبس عند أَبي يوسف ومحمد وباقي العلماء، على قدر ما يراه القاضي، حتى يُظهر توبَتَه. ثم التَّشْهِيْرُ لإعلام الناس حتى لا يعتمدوا شهادتَهَ بعد ذلك. والتعزير لارتكاب كبيرة، فشهادةُ الزور من أَعظمِ الكبائر، فإِنها عدلت الشرك بالله تعالى في قوله سبحانه:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّوْرِ}

(2)

وفيه إِشارة إِلى عِظَم حُرمة المسلم، فقد جعل الله الشهادةَ عليه بالزور كالشهادةِ على ذاتِهِ بالزور.

والحاصل:

أَنْ شاهدَ الزُّوْرِ يُعَزَّر بالاتفاق، سواء اتصل القضاء بشهادتِهِ أَوْ لم يتصل، لأَنه ارتكبَ كبيرةً اتصل ضَرَرُها بالمسلمين، وليس فيها حدٌ مُقدَّرٌ، فيعزَّرُ زجراً له، إِلا أَنهم اختلفوا في كيفية تعزيره، فقال أَبو حنيفة: بِتَشْهِيْرِهِ فقط. وقال غيره: بضربه وحبسه، لما روى ابن أَبي شيبة في «مصنفه» عن أَبي خالد، عن حجاج، عن مكحول، عن الوليد بن أَبي مالك أَنْ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إِلى عُمّاله بالشام في شاهد الزور: يضرب أَربعين سَوْطاً، ويُسحَّم وجهه، ويُحْلَق رأْسه، ويُطال

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سورة الحج، الآية:(30).

ص: 147

‌فَصْل [في الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَةَ]

لا رجوعَ عنها إِلا عند قاضٍ،

===

سجنه. ومعنى يُسَحَّم بالحاء المهملة والمعجمة

(1)

: يُسَوَّد، من الأَسْحَم وهو الأَسْوَد. وهذا الأثر دليل على إِثبات الضرب. ونفي قول أَبي حنيفة، إِلا أَنهما لا يقولان بالتَّسْحِيم. ومحمد لا يقول بتبليغ التعزير إِلى أَربعين.

ولأبي حنيفة ما روى محمد في «الآثار» : عن ابن أَبي الهيثم عن مَنْ حَدَّثه عن شُريح: أَنه كان إِذا أَخذ شاهد زور، فإِن كان من أَهلِ السوق، قال للرسول: قل لهم: إِنْ شُرَيْحَاً يقرؤكم السلام ويقول لكم: إِنّا وجدنا هذا شاهد زُور فاحذروه، وإِن كان من العرب أَرسل به إِلى مسجدِ قومِهِ أَجمعَ ما كانوا، فقال للرسول مثل ما قال في المرة الأُولى.

فإِن قيل: أَبو حنيفة لا يرى تقليدَ التابعي. أُجيب: بأَنه لم يذكرْ فعلَ شُريح مستدِلاً به، وإِنما ذكره لبيان أَنه لم يسَتْبدّ

(2)

بهذا القول، بل سبقه إِليه غيره، أَوْ استدلاله إِنما هو بتجويز الصحابة فعل شُرَيح، فإِنه كان قاضياً في زمن عُمر وعلي، ومثل هذا التَّشهير لا يخفى على الصحابة الذين كان هو في زمنهم. وأَما حديث عمر فمحمول على السياسة. ولو قال: غلِطْتُ، أَوْ نسيتُ، أَوْ أَخطأت، أَوْ رُدت شهادتي لتهمة، أَوْ مخالفةٍ بين الدّعوى والشهادة، أَوْ بين الشهادتين، لا يُعزَّر.

والرجال، والنساء، وأَهل الذمة: في حكم شهادة الزور سواء، ولو تاب بعد ذلك وشهد قالوا: إِنْ كان فاسقاً تُقبل، لأَن الذي حَمَلَه على الزور فِسْقُه وقد زال. وقدر بعضهم مدة ذلك بستة أَشهر وبعضهم بسنة، لأَن بِمُضِيِّ الزمان يتغير حال الإنسان، والله المستعان. والصحيح أَنه مفوض إِلى رأَي القاضي. وإِن كان عدلاً أَوْ مستوراً لا تُقبل شهادتُهُ أَبداً لأَن عدالته لا تُعتمد. وروى الفقيه أَبو جعفر عن أَبي يوسف: أَنها تُقبل، وبه يُفتى.

فصلٌ (في الرُجُوْعِ عن الشَّهَادة)

(لا رجوع عنها) أَي لا يصَح الرجوعُ عن الشهادة (إِلا عند قاضٍ) أَيُّ قاضٍ كان، لأَن الرجوعَ عن الشهادة فسخٌ لها، فيختص بما اختصت به، وهو كونها عند قاضٍ كفسخ البيع، حيث يُشترط فيه ما يُشترط في البيع: من قيام

(1)

أي: يُسَحَّم، بالحاء، أو: يُسَخَّم، بالخاء. وكلاهما بمعنى واحد وهو: يُسَوَّد. انظر "القاموس المحيط" ص 1446. مادة: (سحم) و (سخم). وروي في "مصنف ابن أبي شيبة" بلفظ: "يُسَخَّم" بالخاء المعجمة. 10/ 541، كتاب الحدود، من رخص في حلقه وجزِّه [أي الرأس]، رقم (8692).

(2)

في المطبوع "يستدل" بدل "يستبدّ".

ص: 148

فإِن رَجَعَا عنها قَبل الحُكْم سَقَطَتْ، ولم يَضْمَنَا، وبعده لم يُفسخ، وضَمِنَا ما أَتْلَفَاهُ بها، إِذا قَبَضَ مُدَّعَاه.

فإِن رَجَعَ أَحَدُ ثلاثةٍ لم يَضْمَنْ، فإن رَجَعَ آخَرُ ضَمِنَا نصفًا، وإِنْ شَهِدَ رجلٌ وعَشْرةُ نِسوةٍ ثم رجعوا، فعَلَى الَّرجُلِ سُدُسٌ عند أَبي حنيفة، وعلى النِّسوة خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، ونِصْفٌ عندهما،

===

المبيع، ورضى المتابعين، ولأَن الرجوع عن الشهادة توبةٌ عما ارتكب من قول في مجلس القضاء، فتكون توبته بالرجوع كذلك، هكذا في «الهداية» و «الكافي» أَخذاً من «المبسوط». ويؤيده ما ورد أَنه صلى الله عليه وسلم قال:«إِذا أَحدثت ذنباً، فأَحْدِث لله توبةً، السِّرُّ بالسر، والعلانيةُ بالعلانية»

(1)

. (فإِن رجعا عنها قبل الحُكْم سقطت) لأَن الحق إِنما يثبت بالقضاء، والقاضي لا يقضي بكلام متناقض.

(ولم يَضْمَنَا) لأَنهما لم يُتلفا شيئاً على المُدَّعي ولا على المدعى عليه (و) إِنْ رجعا عنها (بعده) أَي بعد الحكم (لم يُفسخ) الحكم لأَن آخِر كلامهم في الدلالة على الصدق مثلُ أَوله، وقد ترجّح الأولُ باتصال القضاء به (وضَمِنَا ما أَتلفاه) للمشهود عليه (بها) أَي بشهادتهما لإقراراهم على أَنفسهم بسبب الضمان، والتناقض لا يمنع الإقرار. (إِذا قَبَضَ) المدَّعي (مُدَّعَاه) دَيناً كان أَوْ عيناً، لأَن الإتلافَ يتحقق بقبض المُدعي، وفي ذلك لا يتفاوت الحكم بين العين والدين (والعبرة للباقي لا للراجع)

إذ لولا ذلك لوجبَ الضمانُ، مع بقاء مَنْ يقومُ الحقُ بشهادته، بأَن بقي النصاب.

(فإِن رجع أَحد ثلاثة) شهدوا بحق، وقضى القاضي به وقبضَه المُدعي (لم يضمن) لأَن شهادة الشاهدين تكفي لثبوت الحق في غير الزنا والكلام فيه، فصار الحق مُستحِقاً بهما. وقال أَحمد: يضمنُ ثُلُثَ الحق، وبه قال الشافعي في قول، ومالك في رواية.

(فإِن رجع آخَرُ ضَمِنَا) أَي الراجعُ أَولاً والراجع ثانياً (نصفاً) لأَنه بقي من الثلاثة واحد، فبقي ببقائه نصف الحق (وإِنْ شَهِدَ رجلٌ وعَشْرة نِسوة ثم رجعوا، فعلى الرجلِ سدسٌ عند أَبي حنيفة وعلى النِّسوة خمسة أَسداس) وبه قال مالك والشافعي وأَحمد (ونصف عندهما) وعلى النسوة النصف الآخر، وبه قال أَبو العباس ـ من أَصحاب الشافعي ـ لأَن النِّسوة وإِن كَثُرَتْ يُقَمْنَ مُقَام الرجل الواحد، ولذا لا تُقبل شهادتهنَّ إِلا إِذا شَهِدَ معهنَّ رجلٌ، فكان الثابتُ بشهادتهن نصفَ المال وبشهادة الرجل النصف الآخر، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم في نقصان عقل النساء: «عَدَلَتْ شهادةُ اثنتين

(1)

عزاه في "كنز العمال" إلى الديلمي، عن أنس، وعند الرجوع "لمسند الفردوس" لم نجده. انظر كنز العمال 4/ 220، رقم (10248).

ص: 149

وإِن رَجَعْنَ فقط فعليهنَّ نِصْفٌ، وضَمِنَ الفَرْعُ إِن رَجَعَ هو والأصلُ والمُزكِّي، لا شاهدُ الإحصان، وشاهِدَا اليمين، لا الشَّرْطِ إِذا رجعوا.

===

منهنَّ بشهادة رجل»

(1)

.

(وإِن رَجَعْنَ) أَي النِّسوة العشرة (فقط) أَي ولم يرجع الرجل (فعليهنَّ نصفٌ) من الحق اتفاقاً، لأَنه بقي مَنْ يبقى به نِصْفُ الحق، وهو حقُّ الرجل، وبه قال الشافعي في قول. وقال أَحمد والشافعي في قول آخر: عليهن خمسةُ أَسداس بناءٍ على أَنَّ العبرة للراجع، وكذلك إِنْ رجعَ الرجلُ وحده عليه نصفُ الحقِ لبقاء من يقوم بالنصف. (وضَمِنَ الفرع إِنْ رجع هو والأصل) عند أَبي حنيفة وأَبي يوسف، لأَن القضاء وقع بشهادة الفروع، فكانوا مباشرين والأصول مُتَسبِّبين، وإِذا اجتمع المباشرُ والمُتسببُ كان الضمانُ على المباشر.

وعند محمد: المشهودُ عليه بالخِيار إِنْ شاء ضَمَّنَ الأصول وإِن شاء ضَمَّن الفروع، لأَن القضاء وقع بشهادة الفروع، من حيث إِنْ القاضي عاين شهادتهم وشهادة الأصول من حيث إِنْ الفروع نائبون عنهم، وناقلون لشهادتهم بأَمرهم، فيتخير في تضمين أَي الفريقين شاء. والجهتان متغايرتان، لأَن شهادة الأصول على أَصل الحق، وشهادة الفروع على شهادة الأصول، فلا يُجمع بينهما في التضمين بل يُجعل كل فريقٍ كالمتفرد. ولو رجع شهود الأصل بأَن قالوا: لم نُشْهِد الفروعَ على شهادتنا، أَوْ أَشهدناهم وغلِطنا لا يضمنون. وقال محمد: يضمن شهود الأصل.

(و) ضَمِنَ (المُزكِّي) إِذا رجع عند أَبي حنيفة. وقالا: لا يضمن (لا شاهدُ الإحصان) أَي لا يضمنُ شهود الإحصان إِذا رجعوا وهو قول للشافعي ورواية عن مالك، سواء رَجَعُوا مع الشهود أَوْ وحدَهم. وقال زفر وأَحمد والشافعي في قول ومالك في رواية: يضمنون، لأن الزنا صار موجِباً للرجم بقولهم، فكان في معنى علة العلة. ولنا أَنّ الإحصان شرط محضٌ لا يضافُ الحكمُ إِليه، كما تقرر في الأصول.

(و) ضمن (شاهدا اليمين) أَي التعليق (لا الشرط) أَي لا يضمن شاهدا وجود الشرط (إِذا رجعوا) أَي شاهدا اليمين وشاهدا وجود الشرط، فلو شهدا بتعليق العِتق أَوْ الطلاق قبل الدخول بشرط، وشهد آخَران بوجود الشرط فقضى القاضي ثم رجعوا

(1)

أَخرجه مسلم في صحيحه 1/ 86 - 87، كتاب الإيمان (1)، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات

(34)، رقم (132 - 79)، بلفظ:"أَمَّا نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجلٍ".

ص: 150

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

كلهم، ضمنَ شهودُ اليمين قيمةَ العبد ونصف المهر، لا شهودُ وجود الشرط. وقال زفر: يضمنون لأن التَّلَف حصل بشهادة الفريقين جميعاً، ولو رجع شهود الشرط وحدَهم، بأَن كانت اليمين ثابتة بالإقرار ضمِنوا عند بعض المشايخ، وإِليه مال فخر الإسلام. والصحيح أَنْ شهودَ الشرط لا يضمنونَ بحال، وإِليه مال شمس الأئمة السَّرَخْسِيّ، والله تعالى أَعلم.

ولو رجعوا بعدما شَهِدوا بِقصاص ضمِنُوا الدِّيَة وإِن قالوا: تعمدنا الكذب، ولا يقتص منهم عندنا. وبه قال مالك. وحَكَم الشافعي بالقِصاص ومعه أَشهب المالكي إِنْ قالوا: تعمدنا، وصاروا كالمُكْرَه، لأَن كل واحد قاتلٌ تسبباً.

ولنا أَنْ القِصَاصَ جزاءُ مباشرة الفعل، ولم يوجد منهم القتلُ مباشرةً، لأنها بفعل الولي، بخلاف المكرَه، لأَن المُكرَه صار آلةً للمُكْرِه، فأَضيفَ فعله إِليه، لأَن اختيارَه فاسدٌ واختيارَ المُكْرِه صحيح، على أَنه إِنْ لم يقطع النسبة بالكلية، فلا أَقلّ من أَنْ يُورث الشبهة، وهي مانعة للقَوَد، بخلاف الدِّية، لأَن المال يثبت مع الشبهة، والله سبحانه وتعالى أَعلم.

ص: 151

‌كِتَابُ الإقْرَارِ

إِخبارٌ بحقٍّ لآخَرَ عليه. وحُكمه ظُهُورُ المُقَرِّ به لا إِنْشَاؤُهُ، فصحّ الإقرَار بالخَمْر للمُسْلِمِ، لا بطلاق وعِتْقٍ مُكْرَهًا، فلو أَقَرَّ حُرٌّ مُكَلَّفٌ بحقٍّ، صَحَّ ولو مجهولًا،

===

كتاب الإِقْرَارِ

هو لغةً: إِفعال مِنْ قَرّ الشيءُ: ثَبَتَ.

وشَرْعَاً: (إِخبارٌ بحقَ لآخَرَ عليه) فخرجت الشهادة، فإِنها إِخبار بحق لآخَر على غيره، والدَّعْوى فإِنها إِخبار بحق نفسه على آخر. (وحُكمه): أَي الإقرار (ظهور المُقَرِّ به) أَي لَزِمَ على المُقرِّ ما أَقر به، لوقوعه دليلاً على صدق المُخبَرِ به. قال الله تعالى:{كُونُوا قوَّامِيْنَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}

(1)

والشهادةُ على نفسه هو الإقرار، وقال عز وجل:{بِلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيْرَةٌ}

(2)

أَي شاهدة بالحق. وقد رَجَم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإِقراره على نفسه بالزنا (لا إِنشاؤه) لأن الإقرار إِخبارٌ بوجود المُقَرِّ به، والإخبار إِظهار المُخبِرِ بلسانه للمُخْبَرِ به لا إِيجادُهُ له (فصحّ الإقرَار بالخَمْر للمُسْلِمِ) ولو كان الإقرار إِنشاءً لَمَا صَحّ، لأَن المسلمَ لا يَصِحُ له تمليك الخمر.

(لا بطلاق) أَي لا يصح الإقرار بطلاق (وعِتْقٍ مُكْرَهاً) ولو كان إِنشاءً صح، لأَن طلاق المُكْرَه وإِعتاقَه واقعان عندنا. وإِنمّا خَصّ الطلاق والعَتاق بالذكر مع أَنْ كلَّ إِقرارٍ مع الإكراه غير صحيح، لأَنه أَراد أَنْ يُبيِّنَ أَنّ الإقرار ليس بإِنشاء.

(فلو أَقر حرٌ مكلفٌ بحقٍ صَحَّ ولو) كان الحق (مجهولاً) لأن جهالة المُقَرِّ به لا تمنع صِحَّةَ الإقرار، لأَن الحق قد يَلزمه مجهولاً، بأَن أَتلَف ما لا يَدْرِي قيمته، أَوْ جَرَح جِرَاحَة لا يدري أَرْشَهَا

(3)

، أَوْ يبقى عليه بقية حساب لا يعرف قدرها، وهو محتاج لإبراء ذمته بالإيفاء أَوْ (بالإرضاء)

(4)

، بخلاف الجهالةِ بالمُقرِّ له، سواءٌ تفاحشت بأَن قال: عليّ أَلف درهم لواحد من الناس، أَوْ لم يتفاحش على الأصح، بأَن قال: عليّ أَلف لأحد هذين، لأَن المجهولَ لا يصلح مُستحِقاً، إِذْ لا يمكن الجبرُ على البيان من غير تعيين المدَّعي.

(1)

سورة النساء، الآية:(135).

(2)

سورة القيامة، الآية:(14).

(3)

الأرْش: ما وجب من المال في الجناية على ما دون النفس. معجم لغة الفقهاء ص 54.

(4)

في المطبوع: "بالإيصاء" بدل "بالإرضاء".

ص: 152

ولَزِمَه بيانُهُ بما له قِيْمةٌ. والقولُ له إِن ادّعى المُقَرُّ له أَكثرَ منه.

ولا يُصَدَّقُ في أَقَلَّ من درهم في: عليَّ مالٌ، ومن النِّصَابِ في: مالٍ عظيمٍ، من ذهب أَو فِضةٍ، ولا من خمسٍ وعشرين من الإِبِلِ، ولا من قَدْر النِّصَاب قيمةً غير مالِ الزكاة.

وفي: دَرَاهِمَ ثَلاثة، و: دَرَاهِمَ كَثيرةٍ عَشْرةٌ،

===

ولو كان المُقَرُّ عليه مجهولاً بأَن قال: لك على أَحدنا أَلف درهم، لا يصح اتفاقاً، لأَن المقضي عليه مجهول، ذكره في «النهاية» . قيد بالحر لأن المراد صحة الإقرار مطلقاً، والعبد المحجورُ عليه يتأَخر إِقراره بالمال إِلى ما بعد العتق.

وعن أَحمد أَنْ إِقرار العبد بالحدّ والقِصاص فيما دون النفس يصح، وبالقصاص في النفس يتبعُ به بعد العتق. وبه قال زفر، والمُزَنيّ، وداود، وابن جَرِيْر الطبريّ، لأَن به يسقطُ حقُّ سيده، فأَشبه الإقرار بقتل الخطأ. وقيد بالمكلف لأَن إِقرار المجنون (والمعتوه)

(1)

والصبي العاقل لا يصح لانعدام أَهلية الالتزام، والنائم والمُغمى عليه كالمجنون لعدم التميُّز. وإِقرار السَّكَران من مُحرّم يلزم، إِلا فيما يقبل الرجوع كالحدود الخالصة لله تعالى، والسُّكْر إِنْ كان بطريق مبيح، كالشُّرْبِ مُكْرَها لا يلزم من إِقراره شيء.

(ولَزِمَه) أَي المُقِر (بيانُهِ) أَي المجهول، حتى لو امتنع عن البيان أُجبر عليه (بما لَهُ قِيْمةٌ) لأنه أَخبر بإِقراره عن الوجوب في ذمته، وما لا قيمة له لا يجب فيها، فكان رجوعاً (والقولُ له) أَي للمُقِر مع يمينهِ (إِنْ ادّعى المُقَرُّ له أَكثرَ منه) لأَن المُقِر هو المُنِكر.

(ولا يُصدَّق) المُقِر (في أَقل من درهم في: عليّ مالٌ) لأَنه لا يُعد مالاً عرفاً (و) لا في أَقل (من النِّصَاب) أَي نصاب الزكاة (في مالٍ عظيمٍ من ذهبٍ أَوْ فِضةٍ) لأَن النصاب مالٌ عظيمٌ، حتى اعتُبِرَ صاحبه غنياً في الشرع، ووجب عليه مُوَاسَاة الفقراء.

وقال الشافعي وأَحمد: يُقْبلُ تفسيرُه بالقليلِ والكثير.

(ولا) في أَقل (من خمسٍ وعشرين) في: عليّ مالٌ عظيمٌ (من الإِبِلِ) لأَنها أَدنى نصاب منها يجبُ فيه من جنسِهِ (ولا) في أَقل (من قَدْر النِّصَاب قيمةً) في: عليّ مالٌ عظيم من كذا، مشيراً إِلى مال (غير مالِ الزكاة).

(و) لزمه (في دراهم ثلاثة) لأَنه أَقل الجمعِ الصحيح، فصار متيقَّناً به والزائد عليه مشكوك فيه. (و) لزمه في (دراهم كثيرة عَشْرةٌ) عند أَبي حنيفة، ومئتان

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 153

و: كذا درهمًا دِرْهَمٌ، و: كذا كذا أَحَد عَشَر، وكذا وكذا أَحد وعشرون. ولو ثَلَّثَ بلا واو، فأَحَدَ عَشَر، ومع واو فمئةٌ وأَحَدٌ وعِشرون، وإِن رَبَّع زِيدَ أَلفٌ.

و: عَلَيَّ وقِبَلِي إِقرارٌ بِدَينٍ، وَصُدِّقَ إِن وَصَلَ به: وهو وَدِيعةٌ، وإِن فَصَلَ لا. و: عندي أَو معي ونَحْوُهُ أَمَانَةٌ. وقوله لِمُدَّعِي الأَلف: اتَّزِنْها، أَو قَضَيتُكَها ونحوهما، إِقرارٌ.

===

عندهما، لأَن صاحبَ النصاب مكثر، حتى وجب عليه مواساة غيره، بخلاف ما دونه. ولأبي حنيفة أَنْ العشرة أَقصى ما يُذكر بلفظ الجمعِ، أَلا ترى أَنه يقال: عَشَرةُ دراهم، ثم يقال: أَحد عشر درهماً، فكان هو الأكثر من حيثُ اللفظُ فيصرف إِليه.

(و) لزمه في (كذا درهماً درهمٌ) لأَن كذا مُبهم ودرهماً تفسير له، (و) لزمه في (كذا كذا أَحد عَشَر و) في (كذا وكذا أَحد وعشرون) لأن هذه الكلمات مبهمة، فيجبُ حَمْلُهَا على نظيْرِهَا من المفسر، وأَقل عددين يُذكران من غير حرف عطف بينهما: أَحد عشر وبحرف عطف أَحد وعشرون (ولو ثَلَّثَ بلا واو فأَحد عَشَر) لأنه لا نظير له، فلا يُزاد على الأول، (ومع واو فمئةٌ وأَحد وعِشرون) لأَنه أَقلُ ثلاثة أَعداد، بين كل اثنين فيها حرف عطف (وإِن رَبَّع زِيدَ أَلفٌ) لأَنه أَقل أَربعة أَعداد، بين كل اثنين فيها حرف عطف.

(وعَلَيَّ وقِبَلِي إِقرارٌ بدَين) لأن كلمة عليّ للوجوب، وكلمة قبل للضمان. يقال: قَبِلَ فلانٌ عن فلانٍ أَي ضمن. وإِنما يكون المال واجباً ومضموناً إِذا كان دَيناً في الذمة (وَصُدِّقَ) من قال: عليّ أَوْ قبلي (إِنْ وَصَلَ به) قوله: (وهو وديعةٌ) لأنه يحتملُه مجازاً، لأَن الحفظَ واجبٌ على المُودِعِ، فيجوز تفسيرُه به متصلاً، (وإِن فَصَلَ لا) أَي لا يُصدَّقُ، لأَنه يُقررُ حكمَه بالسكوت، فلا يجوز تغييرُه بعد ذلك كسائر المغيرات في الاستثناء والشرط. (وعندي أَوْ معي ونحوه) كـ: في بيتي، وفي كيسي، وفي صُنْدوقي (أَمانة) لأن ذلك إِقرار بكون الشيء في يده، وذلك يتنوع إِلى مضمون وأَمانة، فيثبت أَقلُّهما، وهو الأمانة.

(وقوله لمدعي الأَلف: اتَّزنها) بتشديد التاء أَمْرٌ من الاتزان، افتعال من الوزن (أَوْ قَضَيْتُكَها ونحوهما) كانتقِدْها أَوْ أَجِّلْنِي بها، أَوْ اقعد فاقبِضْها (إِقرار) لأن الهاء كنايةٌ عن المذكور في الدعوى في جميع ذلك، فصار كأَنه أَعاد المُدَّعى وهو الألف، فيكون إِقراراً بها. وأَما لو لم يكن فيها ضميرٌ لا يكون إِقراراً، لأنه لا دليلَ على انصرافها إِلى المال المذكور، فيكون كلاماً مبتدأَ فلا يلزمه شيءٌ. وقال الشافعي وأَحمد في اتَّزن وانتقد: إِنه ليس بإِقرار، وبه قال بعض أَصحاب مالك، لأنه

ص: 154

و: مئةٌ ودِرهمٌ، أَو: وثلاث أَثواب، دراهمُ وثيابٌ. وفي: مئةٌ وثوبٌ أَو ثوبان يُفَسِّرُ المئة.

===

يحتمل الإقرار ويحتمل الاستهزاءَ والمبالغة في الجُحود، فلا يكون إِقراراً بالشك.

(و) قوله: (مئة ودرهم،) أَوْ مئة (وثلاث أَثواب) يلزم به في الأول مئة كلها (دراهم و) في الثاني مئة كلها (ثياب وفي) قوله: (مئة وثوب، أَوْ) مئة و (ثوبان يفسر المئة) والقياسُ أَنْ يُرجَع في تفسير المئة إِليه في الكل، لأن المعطوفَ غيرُ المعطوف عليه، فلا يكون مُفَسِّراً له، فبقيت المئة على إِبهامها، كما في عطف الثوب عليها. ووجه الاستحسان أَنْ الدراهم يَكثُر استعماله، فاستَثْقَلوا تكرارَه واكتفَوا بذكره مرةً، وكذا كلُ ما يكثرُ استعماله ويثبتُ في الذِّمَّةِ من المكِيْلِ والموزونِ، وإِنما لزم مئة ثوب في مئة وثلاث أَثواب، لأَن الأثواب لم تذكَّر بحرف العطف، فانصرفت إِلى الجميع. ولزم تفسير المئة في مئة وثوب أَوْ وثوبان، لأن الثوب لا يُكال ولا يُوزن ولا يَكْثُر استعماله، فبقي على الأصل.

ولو أَقر بسهم من دار فهو سُدس عند أَبي حنيفة. وأَصل المسأَلة في الوصايا: إِذا أَوصى له بسهمٍ من مالهِ ينصرفُ عنده إِلى السدس، أَخذاً بقول ابن مسعود، واحتج بقول إِياس بن معاوية وجماعة من أَهلِ اللغة: أَنْ السَّهْمَ هو السدس. وأَمَرَا بالبيان لأن السهم يتناول القليل والكثير، فإِن سهماً من سهمين يكون النصف ومن العشرة يكون عُشراً، فهو والجزءُ والنصف

(1)

سواء. ولو أَقر بشرك في عبدٍ يوجب أَبو يوسف الشَّطر، لأن الشركَ المُنَكَّرَ عبارةٌ عن النصف، قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّموات}

(2)

وقال: {وما لَهُمْ فِيْهِما مِنْ شِرْكٍ}

(3)

أَي من نصيب، ولأن لفظ الشركة يقتضي المساواة قال الله تعالى:{فإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ في الثُلُثِ}

(4)

.

وأَوجب محمد البيان. ولو أَقر بخمسة في خمسة وَعَنَى المعيّة، لَزِمَه عشرة، لأَنه بَيَّنَ أَنه استعمل «في» بمعنى «مع» ، أَوْ بمعنى واو العطف، وفيه تشديدٌ عليه، فيصح بيانُهُ. وإِن عنى الحساب أَوْجَبْنَا خمسة، لا خمسة وعشرين كما قال زفر، وهو قول

(1)

في المخطوط: "النصيب" بدل "النصف".

(2)

سورة فاطر، الآية:(40).

(3)

سورة سبأَ، الآية:(22).

(4)

سورة النساء، الآية:(12).

ص: 155

والإقرارُ بدابّةٍ في إِصْطَبلٍ يَلْزمُهَا فقط، وسيفٍ جَفْنُهُ وحَمَائِلُهُ.

وصَحَّ إِقرارُهُ بالحَمْلِ،

===

الحسن، إِذْ العادةُ حاكمةٌ بأَن هذه العبارة يراد بها خمسة وعشرون، فصار للخمسةِ والعشرين عبارتان: إِحداهما وَصْفية والأخرى عُرفية، فيلزم بإِحداهما ما يلزم بالأُخرى. لكنا نقول: إِنْ حسابَ الضرب في الممسوحات لا في الموزونات، مع أَنْ عمل الضرب في تكثير الأجزاء لا في زيادة المال، وخمسة دراهم وزناً وإِن كثرتْ أَجزاؤها، لا تصير أَكثر من خمسة.

وفي «المبسوط» : يلزمه على قول زفر عشرةٌ، لأن «في» بمعنى «مع». قال الله تعالى:{فادْخُلِي في عِبَادِي}

(1)

فيُحمل على هذا تصحيحاً لكلامه، قلنا:«في» للظرف حقيقةً، والدراهمُ لا تكون ظرفاً للدراهم، وجعلُه بمعنى «مع» مجاز، والمجاز قد يكون بمعنى («مع» وقد يكون بمعنى)

(2)

«على» ، قال تعالى:{ولأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذوعِ النَّخْلِ}

(3)

وليس أَحدهما أَولى من الآخر، فبقي المعتبر حقيقة كلامه، فيلزمه عشرة بأَول كلامه ويلغو آخره.

ولو أَقر بدينٍ لزمه وإِن قال: كنتُ كاذباً في الإقرار ـ لأنه رجوعٌ ـ فلا يصحُ لتعلُّقِ حقِ المُقر له به. ويرى أَبو يوسف تحليفَ المُقَر له على أَنْ المُقِرَّ لم يكن كاذباً فيما أَقر لك به، ولست بمبطلٍ فيما تدعيه عليه، وبه يُفتى لجريان العادة بين الناس أَنهم يكتبون صك الإقرار ثم يأَخذون المال.

(والإقرار بدابّةٍ في إِصْطَبْلٍ) وهو بيت الدواب (يَلْزمُهَا) أَي الدابة (فقط) أَي ولا يلزمُ الإِصطبل وهذا عند أَبي يوسف وأَبي حنيفة، لأن غير المنقولِ لا يُضمن بالغصب عندهما. وعلى قياسِ قولِ محمد أَنه يضمن، ويلزمه الدابة والإِصطبل (وسيف) أَي الإقرار بسيف يلزم (جَفْنه) أَي غِمُد السيف (وحمائله) وهي جمع حِمَالة بكسر الحاء، وهو العِلاقة. وإِنما يلزمه ذلك لأن السيف اسم يطلق على مجموع النَّصْل والجَفْن والحِمَالة.

(وصح إِقراره) أَي الرجل (بالحَمْلِ) بأَن يُقِرَ بحمل جاريةٍ أَوْ شاةٍ لرجل، لأن هذا الإقرار له وجهٌ صحيح، وهو أَنْ يكون أَوصى به رجل ومات، وأَقر وارثه بأَن هذا الحَمل لفلان، فيحمل عليه وإِن لم يُبين السبب، وهذا باتفاق. وقال الشافعي في قولٍ

(1)

سورة الفجر، الآية:(29).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

سورة طه، الآية:(71).

ص: 156

وله، إِنْ بَيَّن سببًا صالحًا، فإِنْ وَلَدَتْ لأقلَّ مِن نِصْفِ حَوْلٍ، فَلَه ما أَقَرَّ به، وإن أَقرَّ بشرطِ الخِيَارِ صَحَّ وبَطَلَ شَرْطُهُ.

واستثناءُ كَيلِيٍّ أَو وَزْنِيٍّ من دَرِاهِمَ صَحَّ قِيمَةً،

===

نقلَه المُزَنيّ عنه: إِنْ أَطلق لا يصح، وفي قول: يصح وهو الأصح، وبه قال أَحمد. قال مالك: يصح إِنْ تُيُقِّن بوجودِ الحمل عند الإقرار (وله) أَي وإِقراره للحمل (إِنْ بَيَّنَ) المُقِرّ (سبباً صالحاً) بأَن قال: أَوصى له به فلان، أَوْ مات أَبوه وتركه ميراثاً له، وهو قيد للإقرار له. وإِنما قيد به لأنه إِنْ بين فيه سبباً غيرَ صالح، بأن قال: بَاعني أو أَقْرَضَني، لا يصح الإِقرار، وإن لم يبين سبباً لم يصح عند أَبي يوسف.

وقيل: أَبو حنيفة معه، وبه قال الشافعي (في قولٍ)

(1)

ويصحُ عند محمد وبه قال مالك، وأَحمد، والشافعي في الأصح، لأن هذا إِقرار صَدَرَ عن أَهله، فيجبُ إِعمَالُه، ويُحْملُ على السببِ الصالحِ تصحيحاً لكلام العاقل. ولأبي يوسف: أَنْ الإقرار المطلق ينصرف إِلى الكامل، وهو الإقرار بسبب التجارة وهو البيع ونحوه، فصار كأَنه فسره به.

(فإِنْ ولدتْ) أَمّ الحمل المُقَرّ له (لأقل من نِصْفِ حَوْل) من وقت الإقرار (فَلَه) أَي فللحمل (ما أَقر به) له، لأنه كان موجوداً وقتَ الإقرار بِيَقِيْنٍ (وإِن أَقرّ بشرطِ الخِيَارِ) بأَن أَقر لرجل بأَلف قرض، أَوْ غَصْب، أَوْ وَدِيْعَة، أَوْ عَاريَّة قائمة أَوْ مُسْتَهْلَكَة، على أَنه بالخيار ثلاثة أَيام (صح) الإقرار لوجود الصفة المُلْزمَةِ، وهي قوله: عليّ، ونحوه.

(وبَطَلَ شَرْطُهُ) لأن الإقرار إِخبارٌ ولا مَدْخَل للخِيار في الإخبار، لأن الخبرَ إِنْ كان صادقاً فهو واجبُ العمل به، اختاره أَوْ لم يخْتَرْه، وإِن كان كاذباً فهو واجبُ الرد، فلا يتغير باختياره وعدم اختياره. وإِنما تأْثيره في العقودِ لتتغير به صفة العقد ويتخيرُ به بين فسخِهِ وإِمضائه كذا في «العناية» . وهذا إِذا كان المُقَرّ به لا يقبل الخِيار كما في الصور المذكورة، وأَما إِذا كان يقبل، كما إِذا أَقر أَنه باع أَوْ اشترى شيئاً على أَنه بالخيار ثلاثة أَيام أَوْ أَقل، فإِنه يصح الإقرار والخيار جميعاً.

(واستثناء كَيْلِيّ أَوْ وَزْنِيّ من دراهم) بأَن قال له: عليّ أَلف درهم إِلا قفيزَ حنطة أَوْ إِلا ديناراً (صَحَّ قِيْمَة) أَوْ بطريق القيمة، فيلزمه أَلف درهم إِلا قيمة القَفِيز أَوْ الدينار، وهذا عند أَبي حنيفة وأَبي يوسف.

وقال محمد وزفر وأَحمد: لا يصحُّ، لأن الاستثناء إِخراجُ ما لولا الاستثناء لكان داخلاً، وهذا لا يُتصور في خلافِ الجنس. ولأبي حنيفة أَنْ الكَيْلي والوَزْني جنسُ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 157

لا استثناءُ التابع، كالبناءِ والفَصِّ والنَّخْلِ. ودينُ صحَّتِهِ مطلقًا، ودينُ مَرَضَهِ بسببٍ فيه، وعُلِمَ بلا إِقرارٍ، سَوَاءٌ. وقُدِّما على ما أَقرَّ به في مرضِهِ، والكلُّ على الإرث، وإن شَمِل مالَه.

===

الدراهم في المعنى، من حيث إِنها تَثْبت في الذمة حالاً ومؤجَّلاً، ويجوز استقراضُهَا وإِذا كانت في المعنى جنساً لها، جاز استثناؤها منها.

قيد بالكَيْلي والوَزْنِي لأنه لا يصح في غيرهما باتفاق الأصحاب، وهو قول أَحمد. وقال الشافعي: يصح، وبه قال مالك. فعندنا لو قال له: عليّ مئة درهم إِلا ثوباً لا يصح الاستثناء، وعنده يُبين قيمةَ الثوبِ فإِن استغرقت المئة بطَل الاستثناء في قول، وبه قال مالك، وفي قول يلغو تفسيره، ويجب أَنْ يُبيِّنَ ثوباً لا يستغرقُ قيمة المئة.

(لا) أَي لا يَصِحُ (استثناءُ التابعِ) من المتبوع (كالبناءِ) من الدار، بأَن أَقر بدار واستثنى بناءها (والفَصِّ) من الخاتَم، بأَن أَقر بخاتَم واستثنى فَصَّه (والنَّخْلِ) من البستان، بأَن أَقرَّ ببستان واستثنى نخْلَه. وقال مالك والشافعي وأَحمد: يصح لأنه أَخرج ما تناوله اللفظ معنىً، فصار كما لو قال: إِلا ثُلُثَها، أَوْ رُبُعَهَا، أَوْ بيتاً منها.

ولنا أَنْ الاستثناء إِخراج ما تَنَاوله صدر الكلام نصاً، وصدْر الكلام إِنما يتناول هذه الأشياء تبعاً، بخلاف البيت، فإِن الدار تتناوله نصاً، إِذْ الدار تشتمل البيتَ، ولهذا لو استُحِقّ البيتُ في بيعِ الدار سقطت حصته من الثمن. ويبطل إِقرارٌ وصل به: إِنْ شاء الله، فلو قال: لزيد عليّ أَلف درهم إِنْ شاء الله لم يلزمه شيء، لأن التعليقَ بمشيئةِ الله إِبطالٌ عند محمد، فيبطلُ قبل انعقاده بتحكُّم

(1)

. وعند أَبي يوسف تعليق بشرطٍ لا يوقَفُ عليه فكان إِعداماً من الأصل.

(ودينُ صحته) مبتدأ مضافٌ (مطلقاً) أَي سواء علم بسببه وهو بمعاينة الشهود ببيِّنة أَوْ بالإقرار (ودينُ مَرَضهِ) مرض الموت (بسببٍ فيه) أَي في المرض كالنفقة وثمن الأدوية (وعُلِمَ) السببُ (بلا إِقرار) كالاستقراض في مرضه بمُعاينة الشهود، أَوْ الشراء، أَوْ الاستئجار، أَوْ التزوج (سَوَاء) أَي مستويان في الرُتبة، فلا يقدَّمُ أَحدهما على الأخر في الاستيفاء من التركة، هو خبر المبتدأَ وما عطف عليه (وقُدِّما على ما أَقرَّ به في مرضِهِ) ولم يُعلم إِلا بالإقرار، وبه قال النَّخَعي والثوري.

(و) قُدِّم (الكلُّ على الإرث وإِن شَمِل) الكل (مالَه) وقال الشافعي: دَيْن الصحة ودَيْنُ المرض الذي لا يُعلم إِلا بالإقرار سواء، وبه قال مالك، والخِرَقي، والتميمي من أَصحاب أَحمد، لاستواء سببهما وهو الإقرار الصادر عن عَقْل ودِيْن، ومحل للوجوب:

(1)

وفي المطبوع: "بحكم".

ص: 158

ولا يَصح أَنْ يَخُصَّ غَريمًا بقضاء دَينهِ، ولا إِقرَارة لِوَارثه إِلا أَنْ يصَدِّقَهُ البقيَّة، فَيَبطُلُ إِن ادَّعى بُنوَّتَه بَعْدَه،

===

وهو الذِّمةُ القابلةُ للحقوق.

ولنا: أَنْ الإقرار لا يُعتبرُ إِذا كان فيه تُهمة إِبطال حق الغير، وفي إِقرار المريض بما ليس من التبرعات كالبيع، والنكاح، والإتلاف تُهْمَة إِبطال تعلق دَيْن الصِّحة بماله، بخلاف المعروف السبب بمُعاينة الشهود، فإِنه لا تُهْمَة فيه.

(ولا يَصح) للمريض (أَنْ يَخُصَّ غَرِيْمَاً) من غُرماء الصحة أَوْ المَرَضِ (بقضاء دينه) لأن ذلك فيه إِبطالُ حقّ الباقين، إِلا أَنْ يكون ذلك الدينُ ثمناً بشيءٍ اشتراه بمثل قيمتِهِ، أَوْ يكون قرضاً لزمه في مرضه بالبَيِّنة، لأن هذا ليس بإِيثار ولا إِبطال للحق، لأنه حَصَّلَ مثل ما نَقَد، وحقُّ الغُرماء متعلقٌ بمعنى التركة لا بالصورة، فإِذا حصل له مثلُه معنىً لم يعد ذلك تفويتاً. وعند مالك والشافعي يختص مطلقاً، والله تعالى أَعلم.

(ولا) يصح (إِقرَارهُ لِوَارِثِه) وبه قال أَحمد والشافعي في قول، ويصح في الأصح من مذهبه، لأنه إِظهارُ حقٍ ثابت، لترجُّحِ جانب الصدق فيه، فصار كالإقرار لأجنبي وبوارثٍ آخر وبوديعةٍ مُستهلكةٍ للوارث. وقال مالك: يصح إِذا لم يُتهم، ويَبْطُلُ إِذا اتُّهم، كمن له بنت وابن عم، فأَقر لبنته. ولنا: ما أَخرجه الدارقطني في «سننه» عن جعفر بن محمد، عن أَبيه، عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا وصيةَ لوارث، ولا إِقرار له بدينٍ» ، وما رُوِيَ أَنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته عام حجة الوداع:«إِنْ الله أَعطى كُلَّ ذِي حق حقه، فلا وصية لوارث ولا إِقرار بالدين»

(1)

.

لكن قال شمس الأئمة في «المبسوط» : إِنْ هذه الزيادة شاذةٌ غيرُ مشهورة، وإِنما المشهور قول ابن عمر: إِذا أَقر الرجلُ بدين في مرضه لرجل غير وارث فإِنه جائزٌ، وإِن أَحاط ذلك بماله، وإِن أَقر لوارث فهو باطل، إِلا أَنْ يُصدِّقه الورثة. وبه أَخذ علماؤنا، فإِن قول الواحد من فقهاء الصحابة عندنا مقدمٌ على القياس، ولأن في إِقرارِهِ إِيثارَ بعضِ الورثة بماله بعدما تعلق حقُّ جميعهم به، فلا يجوز لما فيه من إِبطال حق البقية، كالوصية. قيد بالوارث لأن إِقراراه للأجنبي يصح وإِن شَمِلَ المال.

(إِلا أَنْ يُصدِّقه البقيةُ) أَي بقية الورثة، لأن عدم الصحة كان لحقِّهم، فإِذا صَدَّقُوه فقد أَقروا بتقدُّمِهِ عليهم (فَيَبْطُل) الإقرار (إِنْ ادَّعى بُنوَّتَه) أَي بنوة الأجنبي (بَعْدَه) أَي بعد الإقرار له ويثبت النسب. وبه قال أَحمد والشافعي في قول.

(1)

أخرجه الترمذي في السنن 4/ 376، 377، كتاب الوصايا (28)، باب ما جاء لا وصية لوارث (5)، رقم (2120).

ص: 159

لا إِنْ نَكَحَ. ولو أَقر بِبنُوَّة غلام جُهِلَ نَسَبُهُ، ويُولَدُ مِثْلُه لِمِثْلِهِ، وصَدَّقَهُ الغُلامُ، ثَبَتَ نَسَبُه، وشُرِطَ تصديقُ الزَّوْج، أو شَهَادَةُ قابلةٍ في إِقرارها بالولد. ولو أَقر بنسبٍ من غير وِلادٍ، لا يصحُ، ووَرِثُ إِلا مع وارث.

===

(لا إِنْ نَكَحَ) أَي لا يبطل الإقرار لأجنبيةٍ إِنْ نكحها بعد إِقراره لها. وبه قال أَحمد في الأصح، والشافعي في القديم، ومالك. وقال الشافعي في الجديد وأَحمد في رواية: يَبْطُل، لأن اعتبار كونِ الوارثِ وارثاً حالَ الموتِ لا حال الإقرار كالوصية. ولنا: وهو الفرق أَنْ البنوَّة تستند إِلى وقتِ العُلُوْقِ، فتبين أَنه أَقر لابنه فلا يصح، والزوجية تقتصر على زمان التزوج، فكان إِقراره لأجنبية. ويُؤخر الإرث عن الدين المُقَرِّ به في المرض، لقوله تعالى:{مِنْ بعدِ وصيةٍ يُوصَى بها أَوْ دَيْن}

(1)

، ولأن قضاءَ الدَّيْنِ من الحوائج الأصلية، لأن به دفع الحائل بينه وبين الجنة العليّة. وحقُ الورثة يتعلق بالتركة بشرط الفَرَاغ عن الحاجة، ولهذا يقدم تجهيزُه وتكفينُه وتدفينُه.

(ولو أَقر) المريضُ أَوْ غيره (ببنُوَّة غلامٍ جُهِلَ نسبه، ويولدُ مِثْلُه) أي مثل الغلام (لمثله) أي لمثل المُقِرِّ، (وصَدَّقه الغلام، ثبت نسبه) وقال مالك: إِنْ تيقَّن الناسُ أَنه ليس ولده لا يثبت، كما إِذا كان الغلامُ سِنْدياً والرجل فَارِسياً. ولنا: أَنَّ النسبَ يُحتالُ لإثباته، فيثبت إِذا أَمكن، وفي هذه الصورة يُمكن. قيد بمجهولِ النَّسَبِ، لأن معرفته تمنعُ ثبوتَه من غيره. وبكونه يولد مِثلُهُ لِمِثْلِهِ لئلا يكون مكذباً في الظاهر. وبتصديق الغلام، لأن المسأَلة في غلام يُعبر عن نفسه، فلا بد من تصديقه، لأنه في يد نفسه، حتى إِذا كان صغيراً لا يعبر عن نفسه فلا يعتبر تصديقه. كذا في «الكافي» و «الهداية» وغيرها. وإِذا ثَبَتَ نسبُه شارَكَ الورَثة في الميراث، لأن ذلك من ضرورات ثبوت النسب.

(وشُرِطَ تصديقُ الزَّوْج) امرأَته أَوْ معتدته (أَوْ شَهَادَةُ قابلةٍ في إِقرارها) أَي المرأَة (بالولد) لأن إِقرار المرأَة لا يُقبل على الزوج، فلا بُد من تصديقهِ. وقول القابلة حجة في تعيين الولد. والنسب يثبت بالفراش. (ولو أَقر بنسبٍ من غير وِلَادٍ) أَي أُبَّوة أَوْ بُنُوة، كإِن أَقر بأَخ أَوْ عم (لا يصحُ) إِلا بالبيِّنة، لأن فيه حَمْلَ النَّسَبِ على الغير.

(ويَرِثُ إِلا مع وارث) معروف قريب أَوْ بعيد، فإِنه أَولى بالميراث من المُقَرِّ له، لأنه لما لم يثبتْ نسبُهُ منه لم يزاحم الوارثَ المعروف النَّسبِ. وإِن لم يكن له وارثٌ استحقّ المُقَرِّ له ميراثه. لأن للمُقِر ولايةَ التصرُّفِ في مال نفسه عند عدم الوارث. أَلا ترى أَنْ له أَنْ يوصي بجميع ماله، فكذا له أَنْ يجعله لهذا المُقَرِّ له.

(1)

سورة النساء، الآية (12).

ص: 160

ومن أَقرّ بأَخ وأَبوُهُ مَيتٌ شارَكَهُ في الإرثِ بلا نَسَبٍ، ولو أَقرّ أَحَدُ ابْنَيْ مَيْتٍ، له على آخرَ دَينٌ، بِقَبضِ أَبيه نِصْفَهُ، فلا شيء له، والنصفُ للآخر.

===

(ومن أَقرّ بأَخ وأَبوه مَيْتٌ شاركه في الإرث بلا نسب) أَي ولا يثبت نسبه، لأن إِقراره يُضَمَّن شيئين: حَمْل النسبِ على الغير ولا ولاية له عليه، فلا يثبتُ إِلا بالبيِّنة؛ والاشتراك في المال وله ولاية عليه فيثبُت.

(ولو أَقرّ أَحد ابني ميت له على) شخصٍ (آخَر دين) هذه الجملة صفة ميت (بقبض أَبيه نصفه) أَي نصف الدَّيْن (فلا شيء له) أَي للابن المُقِرّ (والنصف للآخر) وهو الابن المُنْكِر، لأن الإقرار باستيفاء الميتِ الدينَ إِقرارٌ بالدين على الميت، لأن المقبوضَ غيرُ الدين، فيكون مضموناً على القابض ديناً في ذمته فيتقاصّان

(1)

، فإِن كذَّبه أَخوه لا يُصدق عليه وينفذ في حقه خاصة، فوجب على الميت النِّصْفُ على زعمه.

والدين مقدمٌ على الميراث وقد استغرق نصيبَه، فلا يأخذ منه شيئاً، وصار كما لو أَقر على الميت بدين آخر وكذبه أَخوه. وصح إِقراره بالدين لأجنبي وإِن استغرق ماله، لما روى محمد في «الأصل» عن ابن عمر أَنه قال: إِذا أَقر الرجل في مرضه بدين لرجل غير وارثٍ، فإِنه جائز وإِن أَحاط ذلك بماله ولا يُعرف له مخالف.

وعلماؤنا والشافعي جعلوا الطَّلْق ـ وهو: وجعُ الوِلَادة ـ كمرض الموت في حق الأحكام، لأن الموتَ يَنْدُر في غير حالة الطَّلْق، ويوجد فيها كثيراً، والحكم مبنيٌ على ما كَثُر لا على ما ندر، لا بعدما تَمَّ لها ستة أَشهر من حين الحمل كما قال مالك، واحتج بأَن ولادتها حينئذٍ متوقَّعةٌ ساعة فساعة، وهي قد تموت بها، فتُوَطِّنُ نفسها على الهلاك، وتبادرُ إِلى ما يتبادر إِليه المرض.

وإِذا خِيْف الموت على المَسْلُول، وهو المريض مرض السِّل، أي: الدَّقِّ

(2)

ونحوه من الأمراض التي يطول ويعتاد الإنسان بها، كانت الهبة ونحوها من ثلثِ مالِهِ لكونه مريضاً، والله أَعلم.

(1)

التقاص: جَعْل الغريمين ما لأحدهما على الآخر قِبَل ما عليه له. معجم لغة الفقهاء ص 140.

(2)

في المطبوع: السّل والدق. وفي المخطوطة: السّل أي: الدق. والأولى حذف كلمة "الدق". لأن السل لغة لا يأتى بمعنى الدَّقّ.

والسّل: قُرحة تحدث في الرِّئة أو ذات الجنب. القاموس المحيط ص 1312 مادة (سلل).

ص: 161

‌كِتَابُ الدَّعْوَى

هي إِخْبَارٌ بحقٍّ له على غيره.

والمُدَّعي: مَنْ لا يُجْبَرُ على الخُصُومَةِ، والمُدَّعَى عليه من يُجْبَرُ. وهي إِنما تَصِحُّ بذكِر شيءٍ عُلِم جِنْسُه وقَدْرُهُ،

===

كتاب الدَّعْوَى

(هي) لغةً: بمعنى الدعاء، قال الله تعالى: {دَعْوَاهم فِيْهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ

وآخِرُ دَعْوَاهم أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ}

(1)

.

وشرعاً: إِضافة الشخص الشيءَ إِلى نفسه حال المنزاعة، على ما قاله شيخ الإسلام، والمَحْبُوبي. ويقال: ادَّعى زيد على عمرو، فزيد المُدَّعي وعمرو المُدَّعى عليه، والمال المُدَّعى، والمُدَّعى به خطأٌ، والمصدر: الادِّعَاء، افتعال مِنْ دعى. والدعوى على فَعلى: اسم منه، وأَلِفُها للتأنيث، فلا تُنَوَّن، ويقال: دعوى باطلة أَوْ صحيحة، وجمعها دَعَاوَى ـ بفتح الواو ـ لا غير، كفتوى وفتاوى، كذا في «الكافي» .

وشَرْطُ صِحَّتها مجلسُ القضاء، فلا يصح في غيره، حتى لا يستحق على المُدَّعى عليه جوابه. وحكمها وجوبُ الجوابِ على المُدَّعى عليه. وقال المصنف:(إِخْبَارٌ) من الشخص (بحقٍ له على غيره) فاحترز بقوله: «له» عن الشهادة فإِنها إِخبار بحق لآخر، وبقوله:«على غيره» عن الإقرار، فإِنه إِقرار بحق لآخر على نفسه. ولما كان معرفةُ الفرق بين المُدَّعي والمُدَّعى عليه من أَهم ما يُحتاج إِلى معرفته في هذا الكتاب عرفهما بقوله:(والمُدَّعي: مَنْ لا يُجْبَر على الخصومة) إِذا تركها (والمُدَّعى عليه من يُجبر) عليها إِذا تركها. وقيل: المُدَّعي: مَنْ لا يَسْتحَقُّ إِلا بحجة كالخارج، والمُدَّعى عليه: مِنْ يَستحِقُّ بقوله من غير حجة، كصاحب اليد. وقيل: المُدَّعي: مَنْ يلتمسُ غير الظاهر، والمُدَّعى عليه: مَنْ يتمسك بالظاهر.

(وهي) أَي الدعوى (إِنما تَصِحُّ بذكِر شيءٍ عُلِم جِنْسُه) أَي جنس المُدَّعَى، بأَن يقال: حنطة مثلاً (وقَدْرهُ) بأَن يقال: كذا كيلاً، لأن فائدة الدَّعوى الإلزام بواسطة الإشهاد، ولا يتحقق الإشهاد ولا الإلزام في المجهول. وفي «شرح الوقاية»: هذا في

(1)

سورة يونس، الآية:(10).

ص: 162

وأَنه في يد المُدَّعَى عليه.

وفي المَنْقُول يزيد: بغير حَقٍّ، وفي العَقَار لا تَثْبُتُ اليدُ إِلا بحُجَّةٍ، أَو عِلمِ القاضي، والمُطَالبةُ به وإِحْضَاره إِن أَمْكَنَ، ليُشيرَ إِليهِ المُدَّعي والشاهِدُ والحَالِفُ، وذِكْرُ قيمتِهِ إِنْ تَعَذَّرَ، والحُدُودِ الأربعةِ أَو الثلاثةِ في العَقَار،

===

دعوى الدَّين لا في دعوى العين، فإِن العين إِنْ كانت حاضرةً تكفي الإشارة، بأَنَّ هذا مِلْكٌ لي، وإِن كانت غائبةً يجب أَنْ يصفَها ويذكُرَ قيمتها. انتهى. وقيل: لا يُشترطَ ذكرُ القيمة، وإِليه مال القاضي فخر الدين وصاحب «الذخيرة». وكذا ذُكِر في عامة الكتب: أَنه يسمع دعواه بدون القيمة، لأن الإنسان ربما لا يَعْرِفُ قيمة ماله، فلو كلف بياناً لتضرَّر به.

(وأَنه في يد المُدَّعى عليه) هذا عطف على «ذكر شيء» ، وإِنما شُرط ذلك في الدعوى لأن المُدَّعى عليه لا يكون خصماً إِلا إِذا كانت العين في يده. (وفي المَنْقُول يزيد: بغير حق) إِذْ الشيءُ قد يكونُ في يد غير المالِكِ بحق، كالرهن في يد المرتهن، والمبيع في يد البائع لأجل الثمن. وفي «شرح الوقاية»: وهذه العلة تشتمل العَقَار أَيضاً، فلا أَدري ما وجه تخصيصِ المنقولِ بهذا الحكم، ووجَّهَه بعضٌ بوجوه وردَّها غيرهم. (وفي العَقار لا تثبت اليد إِلا بحُجَّة، أَوْ عِلم القاضي) ولا يثبت بتصادقهما أَنه في يد المُدَّعى عليه، بخلاف المنقول فإِنه يثبتُ بذلك. والفرق بينهما أَنْ اليدَ في العَقَار غير مشاهدة، ولعله في يد غيرهما، واتفقا على ذلك ليكونَ لهما ذريعةٌ إِلى أَخذِهِ بِحُكم الحاكم، فشرط الحُجَّة أَوْ علم القاضي لنفي التُّهْمَة. واليد في المنقول معاينةٌ فلا حاجة إِلى اشتراط ذلك. وفيه أَنَّ العلة مشتركةٌ والمعاينةَ ممنوعةٌ، فلا يظهرُ وجه الفرق هناك.

(والمطالبةُ به) عطفٌ على «أَنه في يد المُدَّعى عليه» ، أَوْ على ما عطف عليه. وإِنما كان ذكرُ المطالبة لا بد منه في صِحَّة الدعوى لأن المطالبةَ حقُهُ، فلا بد من طَلَبِهِ (وإِحضاره) عطف على ذكر شيء. وإِنما تصح بإِحضار المُدَّعى (إِنْ أَمكن ليُشير إِليه المُدَّعي والشاهد والحالف) لأن الإعلامَ بأَقصى ما يمكنُ شرطٌ وذلك بالإشارة فيما يمكن إِحضاره (وذِكْرُ قيمتِهِ إِنْ تَعَذَّرَ) إِحضاره، بأَن كان هالكاً أَوْ غائباً ليصيرَ المُدَّعى معلوماً، لأن الشيءَ يُعلم بقيمته، لأنها مِثْلُه معنىً.

(و) ذِكْرُ (الحدودِ الأربعة) وبه قال زفر كمالك والشافعي، لأن التعريف لا يَتِم إِلا بها (أَوْ الثلاثة) عندنا لأن للأكثر حُكم الكل (في العَقَار) فإِنه يُعرف

ص: 163

وأَسماءِ أَصحابِهَا ونسبِهِم إِلى الجَدِّ.

وإِذا صَحَّتْ سَأَلَ القَاضِي الخَصمَ عنها، فإِن أَقرَّ أَو أَنْكَرَ، وسَأَلَ المُدَّعي بَيِّنَةً، فأَقام، قَضَى عليه. وإِن لم يُقِمِ البَيِّنَةَ حَلَّفَهَ، إِنْ طَلَبَهُ خَصْمُهُ، فإِنْ نَكَلَ مرةً، أَو سَكَتَ بلا آفَةٍ وقَضَى بالنُّكُوْلِ صَحَّ وعَرَضَ اليمينَ ثلاثًا، ثم القضاءُ أَحْوَطُ.

===

بحدوده، وقد تَعذَّر تعريفُه بالإشارة لتعذُّر نقلهِ إِلى مجلس الحُكْم (و) ذكرُ (أَسماءِ أَصحابِهَا ونَسَبِهِمْ) ليتَميَّزُوا عن غيرهم (إِلى الجد) لأن تمام التعريف به، وهذا إِنْ لم يكن مشهوراً، وأَما إِنْ كان مشهوراً فلا يلزمُ ذكرُ الجدّ لحصولِ المقصود.

(وإِذا صحت) الدَّعوى (سأَل القاضي الخصمَ) وهو المُدَّعى عليه (عنها) أَي عن الدعوى التي ادعاها، لينكشفَ له وجه الحكمُ فيها، لأن القضاء بالبينةِ يخالفُ القضاء بالإقرار (فإِن أَقرَّ) الخصمُ (أَوْ أَنكر وسأَل) القاضي (المُدَّعي بَيِّنَةً) بأَن قال له: أَلك بينة؟ (فأَقام) البينةَ (قَضَى) القاضي (عليه) لوجود الحجة المُلزمة للقضاء في الوجهين. وروى أَصحاب الكتب الستة عن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبينَ رجلٍ من اليهود أَرض، فجحدَني، فقدمت إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي صلى الله عليه وسلم:«أَلَكَ بَيِّنةٌ» ؟ قلت: لا، فقال لليهودي:«أَتحلف» ؟ قلت: يا رسول الله إِذاً يَحلِفُ ويذهبُ مالي، فأَنزَلَ اللَّهُ:{إِنَّ الَّذِيْنَ يَشْتَرُوْنَ بِعَهْدِ اللَّهِ وأَيْمَانِهِمْ ثَمَنَاً قَلِيْلاً}

(1)

الآية.

(وإِن لم يُقِمِ البينَة حَلَّفَهَ) القاضي (إِنْ طلبه) أَي الحَلِف (خصمُه) لأن اليمين حقُّهُ فلا بد من طلبِه، (فإِن نَكَلَ مرةً) بأَن قال: لا أَحلفُ (أَوْ سَكَتَ بلا آفَةٍ) من طَرَشٍ أَوْ خَرَسٍ (وقضى) القاضي (بالنُّكُوْلِ، صَحَّ)، لأن النكولَ دل على كونه مُقِرَّاً، إِذْ لولا ذلك لأقْدَمَ على اليمين أَداءً للواجب، ودفعاً للضرر عن نفسه، لأن اليمينَ واجبةٌ عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم:«اليمين على المُدَّعى عليه»

(2)

(وعَرَضَ اليمينَ) على المُدَّعى عليه (ثلاثاً) يقول في كل مرةٍ: إِني أَعرِضُ عليك اليمينَ، فإِن حلفتَ وإِلا قضيتُ عليك.

(ثم القضاءُ) بعد ذلك (أَحْوَطُ) لما فيه من المبالغةِ في الإنذار، فهو نظيرُ إِمهال المُرْتَدّ ثلاثةَ أَيام في أَنه مستحب. فعرضُ اليمينِ مُبتدأ، والقضاء عطف عليه، وأَحوط: خبر المبتدأ. وهذا عند الجمهور، وقيل: عند أَبي حنيفة ندب، وعنهما أَنه حتم. ثم القائل بعد الدَّعوى عليه: لا أُقر ولا أُنكر، يُحبس عند أَبي حنيفة حتى يُقر أَوْ

(1)

سورة آل عمران، الآية:(77).

(2)

أَخرجه مسلم في صحيحه 3/ 1336، كتاب الأقضية (30)، باب اليمين على المدعى عليه (1)، رقم (1 - 1711).

ص: 164

ولا تُرَدّ اليمينُ على مُدَّعٍ، وإِنْ نَكَلَ خصمُه،

===

يُنكر، إِذْ لا تحليف مع قوله: لا أُنكر، لقوله صلى الله عليه وسلم:«واليمين على من أَنكر»

(1)

. وقالا: يحلف، كمالك والشافعي، لأنَّ قَوْلَيه لمَّا تَعَارَضَا تَسَاقَطَا، فصار كالساكِتِ.

وفي «المُجْتبى» : يُشترط أَنْ يكونَ القضاءُ على فور النكول عند بعض المشايخ. وقال الخَصَّاف: لا يشترط، حتى لو استمهلَهُ

(2)

بعد العَرْض يوماً أَوْ يومين أَوْ ثلاثاً فلا بأْس به، وهو قول مالك والشافعي وأَحمد. وفي «الفصول»: لو كان الاستحلاف عند غير القاضي، كان المُدَّعي على دعواه، لأن المعتبرَ يمينٌ قاطعة للخصومة، وهي اليمينُ عند القاضي. والفتوى على سماعِ البينة بعد يمين الخصم. وإِنما نأخذ في ذلك بفعل عمر رضي الله عنه، فإِنه جَوَّز قَبُول بَيِّنَة المُدَّعي بعد حَلِفِ المُدَّعى عليه، وبقول شُرَيْح: اليمينُ الفاجرةُ أَحق بالرَّدِ من البينة العادلة.

(ولا تُرَدّ اليمينُ على مُدَّعٍ، وإِنْ نَكَلَ خصمُه). وقال مالك والشافعي: لا يُقضى بالنكول، بل بردّ اليمين على المُدَّعي، لأن النكولَ يحتملُ التورع عن اليمين الكاذبة والترفع عن الصادقة، كما فعله عثمان، ويُحْتمل أَنْ يكون لاشتباه الحال، ومع هذا الاحتمال لا يكون حجة. ويمين المُدَّعي دليل الظهور، كما كانت يمين المُدَّعى عليه، فيصار إليه.

ولنا ما في الصحيحين عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يُعطى الناسُ بدَعْوَاهم لادَّعى رجالٌ أَموالَ قوم ودماءَهم، لكنَّ البَيِّنَةَ على المُدَّعِي واليمين على المُدَّعى عليه» . وفي رواية: «اليمينُ على من أَنكر» . وفي رواية البيهقي عن ابن عمرو

(3)

بلفظ: «المدعى عليه أَولى باليمين، إِلا أَنْ تقوم عليه البينة» .

ووجه الدلالة أَنه صلى الله عليه وسلم قَسَم، والقِسْمةُ تنافي الشركة، فدل على أَنْ جنس الأيمان في جانب المُدَّعى عليه، ولا يمين في جانب المُدَّعي، إِذْ الألف واللام لاستغراق الجنس، فمن جَعَلَ بعض الأيمان حجة للمُدَّعي فقد خالف هذا الحديث الذي تلقته

(1)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10/ 252.

(2)

حرفت في المطبوع إِلى: "اشهد".

(3)

في المطبوع: ابن عمر. والمثبت من المخطوط وهو الصواب الموافق لما في سنن البيهقي 10/ 256، كتاب الدعوى والبينات، باب المتداعين يتداعيان

فالبيهقي أورده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه. وجَدُّه هنا هو عبد الله بن عمرو. انظر تفصيل الكلام حول رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده في "بُلغة الأريب" للزَّبيدي، ص 190، والتتمة عليه لشيخنا الفاضل عبد الفتاح أبو غدّة رحمه الله ص 210.

ص: 165

ولا يَحْلِفُ في نِكِاحٍ ورَجْعةٍ، وفَيْءِ إِيلاء، واستيلادٍ، ورِقٍ، وَنسَبٍ، ووَلاءٍ، وحَدٍ، ولِعَانٍ،

===

(الأمة)

(1)

بالقَبُول، حتى صار في حيز التواتر. وقد ادعى بعضُ أَهل الأصول أَنه مخالفٌ لقوله تعالى:{واسْتَشْهِدُوا شَهِيْدَيْنِ من رِجَالِكم}

(2)

الآية فيكون مردوداً. وروى ابن أَبي شيبة في «مصنفه» عن سالم أَنْ ابن عمر باع غلاماً له بثلاث مئة درهم، فوجد به المشتري عيباً، فخاصمه إِلى عثمان فقال له عثمان: تحلف أَنك بعته بالبَرَاءة، فأَبى أَنْ يحلفَ، فردّه عثمان عليه.

وَرَوَى أَيضاً عن ابن أَبي مُلْيكة عن ابن عباس أَنه أَمره أَنْ يستحلف امرأَة، فأَبت أَنْ تحلفَ، فأَلزمها. وَرَوَى أَيضاً عن الحارث قال: نكل رجلٌ عند شُرَيْح عن اليمين، فقضى شريحٌ عليه، فقال الرجل: أَنا أَحلف، فقال شُرَيْح: قد مضى قضائي. ويُبْتَنَى على هذا امتناع

(3)

القضاء بشاهد ويمين. وقال مالك والشافعي وأَحمد: يقضى بهما، لما روى مسلم عن ابن عباس أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشاهدٍ ويمين. وأُجيبَ بأَنه منقطع. وقال الترمذي في «علله الكبير»: سأَلت محمداً عن هذا الحديث، فقال: إِنْ عمرو بن دينار لم يسمعه من ابن عباس، ولو سُلِّم فمِثْلُ هذه العبارة لا تفيدُ العمومَ، لأن الحجةَ في المحْكِيِّ لا في الحكاية، إِذْ المحكيُّ قد يكونُ خاصاً.

(ولا يَحِلِفُ) عند أَبي حنيفة (في نِكِاحٍ) بأَن ادّعى رجل على امرأَة أَنه تزوجها وأَنكرت أَوْ بالعكس (و) لا في (رجعةٍ) بأَن ادّعى بعد الطلاق وانقضاء العدة أَنه راجع فيها وأَنكرته أَوْ بالعكس (و) لا في (فَيْء) بفتح فاء فسكون ياء فهمز، أَي رجوع (إِيلاء) بأَن ادّعى بعد مدة الإيلاء أَنه فاء إِليها في المدة وأَنكرت أَوْ بالعكس (و) لا في (استيلاد) بأَن ادّعت أَمة على مولاها أَنها أَمُ ولد له وهذا ابنه منها فأَنكر المولى، ولا يتأَتَّى العكس، لأن المَوْلى إِذا ادَّعى أَنها أَمُ ولد يثبت الاستيلاد بإِقراره ولا يُلْتَفَتُ إِلى إِنكارها (و) لا في (رقٍ) بأَن ادّعى رجلٌ على مجهولٍ أَنه عبدُهُ أَوْ ادّعى المجهولُ ذلك.

(و) لا في (نَسَبٍ) كإِن ادّعى رجلٌ على آخر أَنه ولدُهُ (و) لا في (وَلاءٍ) بأَن ادّعى رجلٌ على آخر أَنْ له عليه ولاء عَتَاقٍ أَوْ مُوَالاة أَوْ بالعكس (و) لا في (حدٍ) بأَن ادّعى على آخر ما يوجب الحد وأَنكر (و) لا في (لعانٍ) بأَن ادّعت امرأَة على زوجها

(1)

في المخطوط: "الأئمة"، وهو ساقط من المطبوع، والمثبت من المحققين، وهو أَولى بالمعنى وأوفق.

(2)

سورة البقرة، الآية (282).

(3)

في المطبوعة: "التنازع" بدل "امتناع".

ص: 166

إِلَّا إِذا ادّعى في النكاح والنَّسَب مالًا، كَمَهْرٍ ونَفَقَة وإِرثٍ.

وحَلَفَ السَّارِقُ، وضَمِنَ إِنْ نَكَلَ، ولم يُقْطَعْ، والزَّوجُ إِذا ادّعتْ طلاقًا، فَيثبُتُ إِنْ نَكَلَ نِصْف المَهْر أَو كله. وكذا مُنْكِرُ القَوَدِ، فإنْ نَكَلَ في النَّفْسِ، حُبِسَ حتى يُقِرَّ أَو يَحْلف، وفِيمَا دُوْنَهَا يُقْتَصُّ.

وإِنْ قال: لي بَينَةٌ حاضرة، وطَلَبَ حَلِفَ الخَصْمِ لا يُحلَّفُ. ويُكَفِّلُ بِنَفْسه ثلاثةَ أَيامٍ.

===

أَنه قَذَفَهَا بما يُوجب اللِّعان وأَنكر. وقال أَبو يوسف ومحمد: يَحْلِفُ في ذلك كلِّه إِلا في الحد واللعان. وقال الشافعي: يحلف في حدِّ القذفِ والقِصَاصِ، ولا يحلف في باقي الحدود. وقال مالك وأَحمد: لا يجري التحالف فيما لا يثبت إِلا بشاهدين.

وفي «جامع قاضيخان» و «الواقعات» و «الفصول» : الفتوى على قولِهِما، وهو اختيار فخرِ الإسلام. قيل: وهو اختيار المتأخرين.

(إِلاَّ إِذا ادّعى في النكاح والنسب مالاً، كمهر ونفقةٍ وإِرثٍ) فإِنه يحلِفُ اتفاقاً (وحَلَفَ السَّارِقُ، وضَمِنَ إِنْ نَكَلَ ولم يُقْطَعْ) لأن مُوْجبَ فعله شيئان: أَحدهما: الضمان، وهو يَجِبُ مع الشبهة، فيجب بالنكول. وثانيهما: القطع وهو لا يجبُ مع الشبهة، فلا يجب بالنكول (و) حَلَفَ (الزوجُ إِذا ادّعت) المرأَة (طلاقاً) لأن مقصودها المالُ، والاستحلاف يجري في المال بالاتفاق (فيثبتُ إِنْ نكل نِصْف المهر) إِنْ ادّعت الطلاقَ قبل الدخول (أَوْ كله) إِنْ ادّعت الطلاق بعد الدخول.

(وكذا) يَحْلِفُ (منكرُ القَوَد، فإِن نَكَلَ في النفسِ حُبِسَ حتى يُقرَّ أَوْ يحلف) ولا يُقتص منه، وبه قال أَحمد. وقال مالك والشافعي وأَحمد في رواية: يُقتصُّ منه بعد حَلِفِ المُدَّعي (وفِيْمَا دُوْنَهَا) أَي دون النفس (يُقْتصّ) وبه قال مالك والشافعي بعد حلف المُدَّعي وأَحمد في رواية. وقال أَبو يوسف ومحمد: يجبُ عليه الأَرْش

(1)

في النفس وفيما دونها.

(وإِنْ قال) المُدَّعي: (لي بينةٌ حاضرةٌ، وطَلَبَ حَلِفَ الخَصْمِ لا يحلف) عند أَبي حنيفة. وقال أَبو يوسف: يحلِف. ومحمدٌ مع أَبي حنيفة في رواية، ومع أَبي يوسف في أَخرى. وهذا الخلاف إِذا كانت البينةُ حاضرةً في المِصْر غائبةً عن مجلِسِ الحكم، حتى لو كانت غائبةً عن المِصْر، يَحْلِفُ بالاتفاق، أَوْ كانت في مجلس الحُكْم، لا يحلِف اتفاقاً.

(ويُكَفِّلُ) أَي يقيمُ كفيلاً (بنفسه ثلاثة أَيام) كي لا يُغيِّبَ

(1)

الأَرْشُ: دية الجراحة. المعجم الوسيط ص 13، مادة (أَرش).

ص: 167

فإن أَبَى، لازَمَه والغَرِيْبَ قَدْرَ مجلسِ الحُكْمِ.

ولا يُكفِّلُ إِلا إِلى آخر المَجْلِس.

والحَلِف بالله تعالى لا بالطلاقِ والعَتَاق. فإن أَلحَّ الخَصْمُ قيل: صَحَّ بِهِمَا في زماننا.

===

نفسه، فيضيع حق المُدَّعي. والقياس أَنْ لا يُكَفِّل قبل إِقامة البينة، لعدم تعلق حقِ المُدَّعي حينئذٍ، وهو مذهب الشافعي. والتقديرُ بثلاثةِ أَيام مرويٌ عن أَبي حنيفة، وهو الصحيح. وعن أَبي يوسف: التقديرُ بما بين مجلسي القاضي.

أَما لو قال: ليس له بينةٌ، أَوْ: شُهُودي غُيَّبٌ، لا يُجْبَرُ الخصمُ على إِقامة الكفيلِ، لأن الغائب كالهالك، والاستحلاف في الحال ممكن.

ولو قال: لا بينة لي عليه ولا شهادة، ثم أَقام المُدَّعي البينةَ أَوْ شهد الشاهدُ قُبِلَت في الأصح، لإمكان التوفيق: بأَن كان له شهودٌ لا يَعلمُ بهم، أَوْ تَذَكَّرَهم بعد ما نسيهم، أَوْ تذكَّرَ الشاهدُ. وقيل: لا يقبلُ لظاهِرِ التناقض. ولو باع عَقَارَاً وقَرِيْبُهُ حَاضرٌ يعلم البيعَ، ثم ادّعَاه لا يَسمع دعواه، لأنه بسكوتِهِ أَولاً صار مصدِّقاً على صحة البيع، وبدعواه ثانياً يصير متناقضاً.

(فإِن أَبى) الخصمُ أَنْ يقيمَ كفيلاً بنفسه (لَازَمَه) المُدَّعي، أَي دار معه حيث سار، كيلا يغيبَ، فيذهب حقُهُ (و) لازم (الغَرِيْبَ قَدْرَ مجلسِ الحُكْمِ) أَي إِلى أَنْ يقوم القاضي من مجلِسِه.

(ولا يُكفِّلُ) الغريب (إِلا إِلى آخِر المجلس) لأن في أَخذ الكفيل منه وفي الملازمة له أَكثر من مجلس القاضي إِضراراً له بالمنع عن سفره (والحَلِف بالله تعالى لا بالطلاق والعَتَاق) لما في الصحيحين من حديث ابن عمر أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان حالفاً فليحلف بالله أَوْ ليَصْمُت» . وفي رواية أَبي داود وغيره: أَنه صلى الله عليه وسلم قال: «إِنْ الله نَهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بآبائكم، فمن كان حَالِفَاً فليحلف بالله أَوْ ليسكت» .

(فإِن أَلحّ الخصمُ) أَي أَكدَّ وبالغ (قيل: صح) التَّحْلِيْفُ (بهما في زماننا) لقلة مُبالاة الناس باليمين بالله تعالى وكثرةِ الامتناع عن الحَلِفِ بالطلاق والعتاق، لكن إِنْ نَكَلَ لا يُقضى عليه بالنكول، لأنه امتنع عما هو منهيٌ عنه شرعاً، ولو قُضِيَ عليه بالنكول لا يَنْفُذ. ولو طلب المُدَّعى عليه تحليفَ الشاهد أَوْ المُدَّعي: أَنه لا يعلمُ أَنْ الشاهدَ كاذبٌ، لا يُجيبُه القاضي، لأنا مأمورون بإِكرام الشهود والمُدَّعي لا يجبُ عليه اليمين، لا سيما إِذا أَقام بينةً.

ص: 168

ويُغلِّظُ بصِفَاتِهِ تَعَالى، لا بالزَّمَانِ والمَكانِ.

وحُلِّف اليَهُودِيُّ بالله الذِي أَنْزَلَ التْوَرَاةَ على مُوسَى، والنَّصْرانيُّ بالله الذِي أَنْزَلَ الإنْجِيلَ على عِيسَى، والمَجُوسِيُّ بالله الذِي خَلَقَ النَّارَ، والوَثَنِيّ بالله، ولا يُحلّفُ في معابِدِهم.

===

(ويُغلِّظُ) اليمينَ (بصِفَاتِهِ تَعَالى) مثل: والله الذي لا إِله إِلا هو، عالمُ الغيبِ والشهادَةِ، هو الرحمن الرحيم، الذي يعلمُ من السِّرِّ ما يَعْلم من العلانية ما لفلانٍ هذا عليك ولا قِبَلَك هذا المال الذي ادّعاه، وهو كذا وكذا، ولا شيء منه؟ ويزيد على هذا التغليظ إِنْ شاء وله أَنْ ينقص منه. ويحترزُ عن عطف بعض الأسماء على بعض، لئلا يتكرر عليه اليمين. ولو غَلَّظَ عليه فَنَكَلَ عن التغليظ وحلف من غير تغليظ، لا يُقضى عليه بهذا النكول، لأن المقصودَ الحلفُ بالله تعالى، وقد حصل.

(لا بالزَّمَان) أَي لا يغلِّظُ اليمينَ بالزمان، كبعد العصر يوم الجمعة (والمكان) كمِنْبر النبي صلى الله عليه وسلم والحَجَر الأسود. وبه قال أَحمد والشافعي في قولٍ. وقيل: يُستحب التغليظُ بالزمان وبالمكان، وبه قال مالك فيما ليس بمال ولا القصد منه المال، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يَحْلِفُ أَحدٌ عند مِنْبري هذا على يمينٍ آثمةٍ، ولو على سواك أَخضرٍ، إِلاّ تبوَّأَ مقعده من النار، أَوْ وجبت له النار» . رواه مالك وأَبو داود. ولنا قوله صلى الله عليه وسلم: «اليمين على من أَنكر»

(1)

. فالتخصيصُ بالمكان والزمانِ لُزوماً زيادة عليه.

(وحُلِّف اليهوديّ بالله الذي أَنزل التوراة على موسى، والنَّصراني بالله الذي أَنزل الإنجيل على عيسى) لما روى أَبو داود عن أَبي هريرة أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لليهود: «أَنشدكم بالله الذي أَنْزَلَ التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على مَنْ زَنَى؟» ، ولأن اليهود يعتقدون نبوةَ موسى، والنَّصارى نبوةَ عيسى، فيُغلِّظُ على كل واحد منهما بذكر المُنْزَل على نبيِّه. (و) حُلِّف (المجوسيّ بالله الذي خَلَقَ النارَ) لأنه يعظمُهَا فيخاف بِذِكْرها. ذكره محمد في «الأصل» كما في «الهداية» . وذكر الخَصَّاف أَنه لا يُحَلَّف المجُوسي إِلا بالله وهو اختيار بعض المشايخ، لأن في ذكر النار مع اسم الله تعالى تعظيماً لشأنها، وما ينبغي أَنْ تُعظَّم، بخلاف الكتابين، فإِنَّ كُتُبَ اللهاِ مُعَظَمة.

(و) حُلِّف (الوَثَنِيّ بالله) لأن الكَفَرَة بأَسرهم يُقِرُّون بالله تعالى، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّموات والأرْضَ لَيَقُوْلُنَّ اللَّهُ}

(2)

.

(ولا يُحلّف) أَحدٌ منهم (في معابِدِهم) لأن فيه تعظيمها، ولأن القاضي لا يَحْضُرها، لأنه ممنوعٌ من دُخولها.

(1)

سبق تخريجه ص 165، التعليقة رقم:(1).

(2)

سورة لقمان، الآية:(25).

ص: 169

ويُحَلّفُ على الحاصِلِ نحو: بالله ما بينكما بَيعٌ قَائِمٌ، أَو: نِكَاحٌ قَائِمٌ في الحَالِ، أَو: ما هي بَائِنٌ مِنْكَ الآنَ، لا على السبب نحو: بالله ما بِعْتَهُ ونَحْوُهُ، إِلا أَنْ يَتَضَرَّرَ المُدَّعي، فَيَحْلِفُ على السبب، كَدَعوى شُفْعةٍ بالجوار، فإِنَّه يَحْلِفُ على مَذْهَبِ الشافعي أَنه لا يَجب الشُّفْعَةُ، وكذا في سببٍ لا يَتَكَرَّرُ، كعبدٍ مُسْلمٍ يَدَّعِي عِتقه على مُوْلاهُ، وفي الأَمَةِ والعَبدِ الكافِرِ على الحاصل.

ويُحلف على العِلْم مَنْ وَرِث شيئًا فادَّعَاهُ آخَرُ، ويُحَلَّفُ على البَتَاتِ إِنْ وَهَبَ له أَو اشتَرَاهُ.

===

(ويُحَلَّفُ على الحاصِلِ) عند أَبي حنيفة ومحمد في البيع، والنكاح، والطلاق، والغصب (نحو: بالله ما بينكما بيع قائم، أَوْ نكاح قائم في الحال، أَوْ ما هي بائن منك الآن) أَوْ ما يجب عليك رَدُّه الآن (لا على السبب) أَي لا يحلف على السبب، كما قال أَبو يوسف بأَن يقولَ في البيع (نحو: بالله ما بعته ونحوه) بأَن يقول في النكاح: بالله ما نكحت، وفي الطلاق: بالله ما طلَّقت، وفي الغصب: بالله ما غصبت.

(إِلا أَنْ يتضرَّر المُدَّعي، فيحلفُ على السبب) أَي باتفاق (كَدَعوى شُفَعةٍ بالجِوار، فإِنه) أَي المُدَّعى عليه ربما (يحلفُ على مذهب الشافعي أَنه لا تَجبُ الشفعة) بالجوار، فيصدَّقُ يمينهُ، فيكون في تحليفه على الحاصل تَرْكُ النَّظَر في جانب المُدَّعي.

(وكذا) يحلف على السبب باتفاق (في سببٍ لا يتكررُ، كعبد مسلم يدَعي عِتْقَه على مولاه، وفي الأَمة) الكافرة (والعبد الكافِرِ) إِذا ادّعى أَحدهُما العتقَ على مولاه، وأَنكر يُحَلَّفُ (على الحاصل) لأن الرِّق يتكررُ في الأمة بالسبي بعد الردة والالتحاق بدار الحرب، وفي العبدِ الكافرِ بالسبي بعد نقض العهد والالتحاق بدار الحرب، ولا يتكررُ في العبد المسلم، إِذْ لا يُقبل منه في الارتداد بعد السَّبْي إِلا الإسلام، أَوْ القتل.

(ويُحلف على العِلْم مَنْ ورث شيئاً فادّعاه آخر) ولا يُحلف على البتاتِ، لأن الوارِثَ لا يعلمُ بما فعل المُورِّث (ويُحَلَّف على البتاتِ إِنْ وَهَبَ له) شيء (أَوْ اشتراه) فادّعاه آخر، لأن الشِّراء وقَبُول الهبةِ سببٌ لثبوتِ المِلك بالاختيار، ولو لم يعلم أَنَّ العينَ ملكُ البائع أَوْ الواهبِ لما باشَرَ الشِّراء باختياره، ولا قَبِلَ الهبةَ، بخلاف المِلك في الإرث، فإِنه ثبت للوارث جبراً ولا عِلْم له بحال ملك المُوَرّث. والأصل في ذلك أَنّ اليمينَ إِنْ كانت على فِعْلِ الغير فهي على العِلْم، وإِن كانت على فعل النفس فهي على البتات.

ص: 170

وصَحّ فِدَاءُ الحَلِفِ والصُّلْحُ عنه.

‌فصل في التحالف

ولو اختلفا في قَدْرِ الثَّمَن أَو المَبِيع، حَكَمَ لِمَنْ بَرْهَنَ، وإِن بَرْهَنَا فَلِمُثْبِتِ الزيادة، وإِنْ اختلفا فيهما، فحُجَّةُ البائع في الثمن، وحُجَّةُ المُشْتَرِي في المَبِيع،

===

(وصَحّ فِدَاءُ الحَلِفِ والصلح عنه) وليس له أَنْ يستحلفه بعد ذلك، لأنه سقط حقه من اليمين بأَخذ بدلها. خَصّ الفِداء والصُّلْح لأنه لو اشترى يمينَه منه لا يصح، وله أَنْ يستحلفَه، لأن الشراءَ عقدُ تمليك المال، واليمين ليست بمال. وقد رُوِيَ عن عثمان أَنه ادُّعِيَ عليه أَربعون درهماً، فأَعطى شيئاً وافتدى من يمينه ولم يَحْلِف. وعن حذيفة أَنه افتدى مِنْ يمينه بمال. ولأنه لو حَلَفَ يقع في القيل والقال، فإِن الناسَ بين مصدقٍ ومكذب، فإِذا افتدى من يمينه فقد صان عرضه وهو حسن. وروى عبد الرزاق في «مصنفه» عن مَعْمَر قال: سُئل الزُّهري عن الرجل يقع عليه اليمين فيريد أَنْ يفتدي من يمينه، فقال: كانوا يفعلون ذلك. وقد افتدى عبيد السهام وكان من الصحابة يمينه بعشرة آلاف، وذلك في إِمارة مروان والصحابةُ بالمدينة كثير.

ومن ظَفِرَ بجنسِ حقه أَخذَه بلا استئذان ولا حُكْم قاضٍ، لأن الديون تُقضى بأَمثالها، فكأَنه عينُ حقِّه، ولو ظَفِرَ بخلاف جنسه لا يأخذه عندنا إِلا بإِذن أَوْ حُكْم قاضٍ لاختلافهما حقيقة. وأَجازه مالك والشافعي لاتحادِهما في جنسِ المالية.

فصل في التحالف

كما في نُسخَة (ولو اختلفا في قَدْرِ الثمن) بأَن ادّعى البائع أَكثر مما اعترف به المشتري (أَوْ) اختلفا في قَدْر (المبيع) بأَن اعترف البائع بِقَدْر منه، وادّعى المشتري أَكثر من ذلك القَدْر (حَكَمَ لمن بَرْهَن) لأنه نوّر دَعواه بالبينة (وإِن برهنا) أَي أَقام كلُ واحدٍ منهما بيِّنَة على ما ادّعاه (فَلِمُثْبِتِ الزيادة) لأن البينة للإثبات، ولا معارضة في قَدْر ما اتفقا عليه ولا في الزيادة، ولأن البينةَ على الأقل وإِن نفت الزيادة، لكن الشهادة على النفي غير مسموعة، وزيادة الثقة مقبولة، كما أَنها حجة في الرواية.

(وإِنْ اختلفا فيهما) أَي في قَدْر الثمن وقدر المبيع (فحجةُ البائع في الثمن) أَولى (وحُجة المشتري في المبيع) أَولى نظراً إِلى زيادة الإثبات. أَما لو كان الاختلاف في جنس الثمن بأَن قال البائع: بعتك هذه الجارية بعبدك هذا، وقال المشتري: إِنما اشتريتها منك بمئة دينار، وأَقاما البينة لزم المشتري البيع بالعبد، فتقبل بينة البائع دون المشتري، لأن حقَ المشتري في الجارية ثابت باتفاقهما، وإِنما

ص: 171

وإِنْ عَجَزَا رَضِيَ كلٌّ بزيادة يدّعيها الآخر وإِلا تحالفا، وحَلفَ المشتري أَوّلًا

===

الاختلاف في حق البائع، وبينتُهُ تُثبتُ الحقَ لنفسه في العبد، وبينةُ المشتري تنفي ذلك، والبينة للإثبات دون النفي (وإِنْ عَجَزَا) في الصور الثلاث عن إِقامة البينة، قيل للمشتري فيما إِذا كان الاختلاف في قدر الثمن: إِما أَنْ ترضى بالثمن الذي ادّعاه البائع وإِلا فسخنا البيعَ، وقيل للبائع فيما إِذا كان الاختلاف في قدر المبيع: إِما أَنْ تُسلِّم ما ادعاه المشتري من القَدْر وإِلا فسخنا البيع. وإِنما يقال لهما ذلك لأن المقصود قطع المنازعة، وهذا طريق فيه، إِذْ ربما لا يرضيان بالفسخ، فإِذا عَلِما به يتفقان.

(رضي كلٌ بزيادة يدّعيها الآخَر) فذلك هو المطلوب (وإِلا) أَي وإِنْ لم يرض كلٌّ بزيادة يدعيها الآخر (تحالفا) أَي حَلَفَ كلُ واحدٍ منهما على دعوى الآخر، بأَن يحلفَ البائع بالله ما باعه بما ادعاه المشتري، ويحلف المشتري بالله ما اشتراه بما ادّعاه البائع. والمعنى فيه أَنّ اليمينَ يجب على المُنْكر وهو النافي، فيحلف على هيئة النفي إِشعاراً بأَن الحَلِفَ وجب عليه لإنكاره. وإِنما وَجَبَ على البائع والمشتري جميعاً لأن كلاً منهما منكرٌ، لأن الخلافَ إِنْ كان في قَدْر الثمن وقَدْر المبيع، فيكون كل منهما منكِراً ظاهراً، وإِنْ كان في أَحدهما فواحدٌ منهما يدّعي زيادة البدل والآخرُ ينكره، والمنكِر منهما يدّعي وجوبَ تسليم البدلِ على صاحبه عند تسليمه المُبْدَل، والآخر يُنكره فصارا مُدَّعِيَين ومنكِرين.

(وحَلفَ المشتري أَوّلاً) وهو قول محمد، وأَبي يوسف آخِراً، وهو رواية عن أَبي حنيفة وقولٌ زفر والشافعي في وجه، لأن المشتري أَشدهما إِنكاراً لأنه يُطالَبُ أَولاً بالثمن فينكر، فيكون بادئاً بالإنكار، ولأن إِنكار البائع مبني على إِنكاره.

وقال أَبو يوسف أَولاً يُبدأَ بيمين البائع، وهو قول مالك والشافعي وأَحمد في الأصح، لما أَخرجه أَصحاب «السنن الأربعة» ، أَنْ عبد الله بن مسعود باع للأشعث بن قيس رقيقاً من رقيقِ الخُمْس بعشرين أَلف درهم، فأَرسل عبد الله إِليه في ثمنهم، فقال: إِنّما أَخذتُهم بعشرة آلاف، فقال عبد الله: إِنْ شئتَ حدّثْتُكَ بحديثٍ سمعتُهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِذا اختلف المتبايعان ليس بينهما بينة، فالقول ما يقول رَبُّ السِّلعة أَوْ يتتاركان»

(1)

. وأُجيب بأَن المنذري قال: قد رُوِيَ هذا الحديث من طرقٍ عن ابن مسعود، وكلها لا يثبت. وقال ابن الجوزي في «التحقيق» أَحاديث هذا الباب فيها مقال. ودُفع هذا الجواب بأَن صاحب «التنقيح» قال: والذي يَظْهَر أَنْ

(1)

أَخرجه أَبو داود في سننه 3/ 780 - 783، كتاب البيوع والإجارات (22)، باب إذا اختلف البَيِّعان والمبيع قائم (72)، رقم (3511).

ص: 172

وفَسَخَ القاضي البيعَ.

ومَنْ نَكَلَ لَزِمَه دَعْوَى الآخَر، ولا تَحَالُفَ في الأَجَلِ والخِيَار، ولا في قَبْض بعضِ الثَّمَن.

وحَلَّفَ المُنْكِرَ، ولا بعد هلاكِ المَبِيعِ، وحَلَّفَ المُشتري،

===

حديث ابن مسعود بمجموع طرقه له أَصل، بل حديث حسن يُحتج به، لكن في لفظه اختلاف، ويدل على هذا أَنْ مالكاً أَخرجه في «الموطأ». قلت: وذكره محمد في «موطئه» .

(وفسخ القاضي البيعَ) بينهما بطلب أَحدهما. وقيل: ينفسخُ بنفس التحالف وهو الأصح من مذهب الشافعي، (ومن نَكَلَ) منهما (لَزِمَه دعوى الآخَر) يعني بقضاء القاضي، لأنه بنكولِهِ صار مقرَّاً أَوْ باذلاً، فلم تبق دَعْوَاه معارِضةً لدعوى الآخر، فلَزِمَ القولُ بثبوت دعوى الآخر (ولا تحالُفَ في الأجل، و) لا في شرط (الخِيَار، ولا في قبض بعض الثمن) ولا في مقدار الأجل، ولا في قَدْر الشرط، ولا في الرهن، ولا في شرط الضمان (وحَلَّفَ المُنْكِرَ) لأن ثبوتَ هذه الأشياء لعارض. والقول لمُنكر العارض مع يمينه. وبه قال أَحمد. وقال زُفر ومالك والشافعي: يتحالفان.

(ولا) تحالف إِذا اختلفا في قَدْر الثمن وهو دَيْن (بعد هلاكِ المبيعِ) في يد المشتري عند أَبي حنيفة وأَبي يوسف (وحَلَّفَ المُشتري) وبه قال مالك في رواية، وأَحمد في رواية. وعند محمد: يتحالفان، ويُفسخ البيع على قيمة الهالك، وهو قول الشافعي وبه قال مالك في رواية، وأَحمد في رواية، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إِذا اختلف المتبايعان تحالفا، وترادَّا»

(1)

. وهذا النص وإِن كان مطلقاً يقيدُ بحال قيام السلعة، بقرينة التراد أَوْ المراجعة، إِذْ المراد به ترادُّ العِوضين لا ترادُّ العقد، لأنه لا يُتصور ذلك. ولأبي حنيفة وأَبي يوسف قوله صلى الله عليه وسلم:«إِذا اختلف المتبايعان والسلعةُ قائمة تحالفا وترادَّا» . وقوله: «والسلعة قائمة» مذكور على وجه الشرط، والمُطلق يُحْمَلُ على المقيد إِذا وردا في حادثة واحدة وحكم واحد.

وعلى هذا الخلاف إِذا خَرَجَ المبيعُ عن مِلْك المشتري ببيعٍ أَوْ غيره، أَوْ صار بحالٍ لا يمكنُ رده بدون رضاه، وهذا إِذا كان الثمنُ دَيناً بأَن كان دراهم أَوْ دنانير، أَوْ مكيلاً، أَوْ موزوناً موصوفاً في الذِّمة، فإِن كان عيناً كان البيعُ مقايضةً، يتحالفا اتفاقاً،

(1)

أخرجه ابن ماجه في سننه 2/ 737، كتاب التجارات (12)، باب البيعان يختلفان (19)، رقم (2186).

ص: 173

ولا بعد هلاكِ بعضِهِ، إِلا أَنْ يَرْضَى البائعُ بِتَرْكِ حِصَّة الهالِكِ.

ولو اختلفا في بَدَلِ الإجَارةِ أَو المَنْفَعَةِ تَحَالَفَا، كما في البَيعِ. والمَنْفَعَةُ كالمبيع، والبَدَلُ كالثَّمَنٍ، وبعد قَبْضِها لا، وبعد قبضِ بعضِهَا تحالفا، وفُسِخَتْ فيما بَقِيَ، والقَولُ للمستأجِرِ فيما مَضَى.

===

لأن المبيعَ قائمٌ، لأن كل واحد من العوضين مبيعٌ من وجه، وذلك كافٍ لصحة التحالف، كما هو كاف لصحة الإقالة.

(ولا) تحالُفَ إِذا اختلفا (بعد هلاكِ بعضِهِ) أَي بعض المبيعِ بعد قبض الجميع عند أَبي حنيفة، كما لو باع عبدين صفْقةً واحدةً ثم هلك أَحدهما عند المشتري بعد قبضهما. وقال أَبو يوسف: يتحالفان في القائم ويُفسخ العقد فيه، والقول قول المشتري في قيمة الهالك. وقال محمد: يتحالفان عليهما ويُفسخ العقد فيهما ويُردُّ القائم وقيمة الهالك، لأن هلاك كل السلعة لا يمنع التحالف عنده، فهلاك بعضها أَولى. ولأبي يوسف: أَنْ امتناعَ التحالُفِ للهلاك، فيتقدَّرُ بِقَدْرِه. ولأبي حنيفة: أَنَّ التحالفَ لا يمكنُ في القائم إلاّ على اعتبار حصتِهِ من الثمن، فلا بد من القِسمْةِ على قيمتهما، والقيمةُ تُعرف بالحَزْر والظن، فيؤدي إِلى التحالُفِ مع الجهل، وذا لا يجوز.

(إِلا أَنْ يرضى البائعُ بترك حِصة الهالِكِ) فيتحالفان، لأن الثمنَ حينئذٍ يكون كلُّه بمقابلة القائم، ويخرجُ الهالك عن العقد، ويصير كأَنّ العقدَ وقع على القائم. (ولو اختلفا في بدلِ الإجارة) وهو الأجرة (أَوْ) اختلفا في (المنفعة) قبل استيفائها:(تحالفا) وترادا (كما في البيع، والمنفعةُ) في الإجارة (كالمبيع، والبدلُ) فيها (كالثمن).

وإِن وقع الاختلاف في البدل بُداء بيمين المُستأجر، لأنه منكِرٌ لوجوبِ الأُجرة، وإِنْ وقع في المنفعة بُدِاء بيمين المُؤجر، لأنه منكِرٌ لوجوبِ المنفعة، وأَيهما نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوى صاحبِه، فأَيهما أَقام البيِّنةَ قُبِلت، ولو أَقاماها، فبيِّنةُ المُؤجر أَولى إِنْ كان الاختلاف في الأُجرة، وبينةُ المُستأْجر أَولى إِنْ كان الاختلاف في المنافع، وإِن كان الاختلاف فيهما قُبِلَتْ بينةُ كُلِ واحد منهما فيما يدعيه.

(وبعد قبضها) أَي المنفعة (لا) أَي لا يتحالفان، لأن فائدة التحالُفِ الفسخ، والمنافعُ المستوفاة لا يمكنُ فسخُ العقد فيها، فكان القولُ قول المُستأْجر مع يمينه، لأنه هو المُسَتَحقُّ عليه (وبعد قبضِ بعضِهَا تحالفا وفُسِخت) الإِجارة (فيما بقي، والقولُ للمستأْجِرِ فيما مَضَى) لأن عقد الإِجارة ينعقد ساعة فساعة، فيصير في كل جزءٍ من المنفعة كأَنه ابتدأَ العقد عليه، بخلاف البيع، فإِنه ينعقدُ دُفعةً واحدةً، فإِذا تعذَّر في

ص: 174

وإِن اختلفَ الزوْجَان في مَتَاعِ البَيعِ، فلها ما صَلُح لها، وله ما صَلُح له، إِلا إِن كانت المرأَةُ ممن تبيعُ ما يَصْلُحُ للرِّجَال أَو ما صَلُح لهما.

وإن مات أَحَدُهُمُا، فالمُشْكِلُ للحَيّ، وإن كان أَحَدُهُما عبدًا، فالكُلُّ للحُرِّ في

===

البعض تعذَّر في الكُلّ.

(وإِن اختلفَ الزوجان في متاعِ البيع فلها) أَي للمرأَة (ما صَلُح لها) كالدِّرع

(1)

والخِمَار والمِلْحَفة

(2)

، لأن الظاهرَ شاهدٌ لها، إِلا أَنْ يكونَ الرجلُ ممن يبيع ما يصَلُح للنساء، فلا يكونُ لها لتعارض الظاهرين. (وله) أَي للزوج (ما صَلُح له) كالعِمَامَة والقوس والدِّرع

(3)

والمِنْطَقة

(4)

لأن الظاهر يشهد له (إِلا إِنْ كانت المرأَةُ ممن تبيعُ ما يصلُح للرجال، أَوْ ما صَلُح لهما) كالآنية، والفَرْش، والأمتعة، والرَّقِيْق، والعَقَار، والمواشي، والنقود، لأن المرأَة وما في يدها في يد الزوج. والقولُ في الدعاوى لصاحب اليد، بخلاف ما يختصُ بها، لأنه يعارضه وهو أَقوى من اليد، ولا فرق بينهما إِذا كان الاختلاف في حال قيام النكاح أَوْ بعد الفُرْقة.

(وإِن مات أَحدهما) واختلف ورثتُهُ مع الآخر (فالمُشكِلُ) وهو ما يصلُح للرجال والنساءِ (للحيّ) سواء كان الرجل أَوْ المرأَة، لأن اليدَ له دون الميت، وهذا عند أَبي حنيفة. وقال أَبو يوسف: للمرأَة ما يُجهّز به مثلُها والباقي للزوج مع يمينه، ولورثته بعد الموت، لأن الظاهر أَنْ المرأَة تأْتي بالجِهَاز وهو أَقوى من ظاهر الزوج، والباقي لا معارض لظاهره. والطلاق والموت سواء، لقيام الورثة مَقام مورثهم. وقال محمد: للرجل أَوْ لورثته.

وقَسَّم زُفَرُ بين الرجل والمرأَة فيما يصلُح لهما، وحَكَم في الباقي مِثْل أَبي حنيفة. وعنه: المتاعُ كله بينهما نِصفان، وهو قول مالك والشافعي، لاستوائهما في الدعوى واليد. وقال ابن أَبي ليلى: الكل للرجل، ولها ثيابُ بدنها. وقال الحسن البصري: الكلُّ لها إِلا ثيابَ بدنه، ولعل وجه نظرهما أَنْ يكونَ المحلُ للرجل والمرأَة.

(وإِن كان أَحدهما عبداً) مكاتَباً أَوْ مأْذوناً له في التجارة (فالكل للحر في

(1)

الدِّرع: درع المرأَة: ما تلبسه فوق قميصها. معجم لغة الفقهاء ص 208.

(2)

المِلْحَفة: مُلاءة تلبسها المرأَة فوق ثيابها. معجم لغة الفقهاء ص 458.

(3)

الدّرع: ما يلبسه المحارب من قميص، معجم لغة الفقهاء ص 208.

(4)

المِنطقة: ما يُشد به الوسط. معجم لغة الفقهاء ص 464. وهو ما يعرف اليوم بالحزام.

ص: 175

الحياة، وللحَيِّ بَعْدَ المَوْتِ.

وسَقَطَ دَعْوَى المِلْكِ المُطْلقِ، إِنْ بَرْهَنَ ذو اليد أَنَّ المُدَّعَى وَدِيعَةٌ، أَو عَاريَّةٌ، أَو رَهْنٌ، أَو مُؤجرٌ، أَو مغصوب من زيد.

وحُجَّةِ الخَارِجِ في المِلكِ المُطْلَق أَحق من حُجَّة ذِي اليد، وإنْ وقَّتَ أَحَدُهُما فقط.

===

الحياة) أَي حياتهما، لأن يدَ الحر أَقوى، فإِنها يد مِلكٍ بخلاف يد العبد (وللحيّ) منهما (بعد الموت) أَي موت أَحدهما، لأنه لا يد للميت، فَخَلَت يد الحي عن المعارِض (وسَقَطَ دعوى المِلك المُطلق) أَي اندفعت خصومةُ مدَّعيه في العين القائمة (إِنْ بَرْهَنَ ذو اليد أَنْ المُدّعَى) ـ بفتح العين ـ (وديعةٌ، أَوْ عاريّة، أَوْ رهن، أَوْ مُؤجَر، أَوْ مغصوب من زيد) وبه قال مالك وأَحمد والشافعي في الأظهر. وقال ابن شُبْرُمة: لا يسقط، وبه قال الشافعي أَيضاً، لأنه تعذَّر إِثبات المِلك للغائبِ لعدمِ الخصم عنه وسقوط الدَّعوى، وهو رَفْع الخصومة بناء عليه.

ولنا: أَنه يثبت ببيِّنته أَنّ العينَ وصلت إِليه من يد الغائب، وأَنّ يدَه ليست يد خصومة، فصار كما لو أَقر المُدَّعي بذلك، أَوْ أَثبتَ ذو اليد إِقراره به. قيدنا بكون العين قائمة في يد المُدَّعى عليه لأنها لو كانت هالكة، لا تندفعُ الخصومة بهذه الدعاوى. وقيد بالوديعة وأَخواتها لأنه لو برهن على أَنه مبيعٌ له من الغائب لم تندفع الخصومة، لأنه لما زعم أَنْ يدَه يدُ مِلْك اعترف بكونه خصماً، وتُسمَّى هذه المسأَلة مخَمَّسَة كتاب الدَّعوى، لأن فيها خمس صور من دعوى الوديعة والعاريّة وغيرهما. وقَيَّد بدعوى الملك المطلق، لأنه لو قال: غَصَبَه مني، وقال ذو اليد: أودَعَنيِه فلان، وبرهن على ذلك، لا تندفع الخصومة، لأن ذا اليد هنا خَصْمٌ باعتبار دعوى الفعل عليه، وفيه لا يمكنه الخروج عن الدعوى بالإحالة على غيره.

(وحُجة الخارج) اليد (في المِلك المطلق أَحقُّ) وأَولى (من حُجة ذِي اليد) وبه قال أَحمد. وقال مالك والشافعي: حُجَة ذي اليد أَحق لاعتِضَادِهَا باليد.

ولنا: أَنْ البيِّنةَ شُرعت للإثبات، وبينةُ الخارج أَكثر إِثباتاً، لأنه لا مِلك له على المُدَّعَى بوجه، وذو اليد له ملك عليه باليد، فكانت بينته أَقل إِثباتاً من بينة الخارج. قيد بالمطلق لاستوائهما في المقيد بالسبب، وهذا إِنْ وقَّتا أَوْ لم يوقِّتا باتفاق (وإِن وقَّت أَحدهما فقط) فعند أَبي حنيفة ومحمد. وقال أَبو يوسف: وهو رواية عن أَبي حنيفة: حُجة ذي اليد الموقَّت أَولى من حُجَةِ الخارج الذي لم يوقِّت، لأن من وقَّت

ص: 176

ولو بَرْهَن خارجانِ، قُضِيَ لهما نِصْفَيْن، ولو بَرْهَنَ خارِجانِ في نِكَاحٍ سقطا، وهي لِمَنْ صدَّقَتْهُ، فإن أُرِّخا، فالسابقُ أَحقُّ.

وإنْ أَقَرَّتْ لِمَنْ لا حُجَّةَ له، فهي له، فإن بَرْهَنَ الآخَرُ قُضِيَ له، وإنْ بَرْهَنَ أَحَدُهُما وقُضِي له، ثم بَرْهَنَ الآخَرُ، لم يُقْض له،

===

أَولى مِمَّنْ لم يوقِّت، كما في دعوى الشراء إِذا أُرِّخت إِحدى البينتين ولم تُؤرخ الأخرى.

(ولو بَرْهَن خارجان) على عين في يدِ غيرهما: كل منهما يَزعم أَنها له، ولم يذكرا سببَ الملك ولا تأرِيخهِ (قُضِيَ لهما) بذلك المُدَّعَى (نِصْفَيْن) لعدم أَولوية أَحدهما على الآخر. وقال مالك في رواية، والشافعي في القديم، وأَحمد في رواية: تساقطت البينتان، لأنها تعارضتا ولا مرجح لأحدهما، فصارتا كالدليلين إِذا تعارضا من غير ترجيح. وعن الشافعي: يُقْرِعُ بينهما، لما روى الطبراني في «معجمه الأوسط» من حديث سعيد بن المسيَّب عن أَبي هريرة أَنْ رجلين اختصما إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء كل واحدٍ منهما بشهودٍ عدولٍ في عدةٍ واحدة، فساهم بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«اللهم اقض بينهما» . ورواه عبد الرزاق في «مصنفه» مرسلاً.

ولنا ما روى ابن أَبي شيبة في «مصنفه» عن أَبي الأحوص، عن سِمَاك، عن تميم ابن طَرَفَة: أَنْ رجلين ادَّعيا بعيراً فأَقام كلُ واحدٍ منهما البينةَ أَنه له، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم به بينهما. وما أَخرجه أَبو داود في «سننه» ، وأَحمد في «مسنده» ، والحاكم في «مستدركه» ـ وقال: صحيح على شرط الشيخين، وقال المنذري: رجالُ إِسناده كلُّهم ثِقات ـ عن هَمَّام، عن قَتَادة، عن سعيد بن أَبي بُرْدة، عن أَبيه، عن جده أَبي موسى الأشْعري: أَنّ رجلين ادّعيا بعيراً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث كل واحد منهما بشاهدين، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين. وحديث القُرْعة كان في الابتداء ثم نُسِخَ. بَيَّنَ ذلك الطحاوي.

(ولو بَرْهَنَ خارِجانِ في نكاح) بأَن ادّعى كل واحد نكاح امرأَة وأَقام عليه بينة (سقطا) ولم يقض بواحدةٍ من البينتينِ لِتعذُّر العمل بهما، لأن المحلَ لا يقبلُ الاشتراك (وهي) أَي المرأَة (لمن صدَّقته) لأن النِّكاح مما يُحكم فيه بتصادق الزوجين. قيد بالخارجين لأن اليد على المرأَة بالدخول بها أَوْ بنقلها دليلٌ على سبْقِ العقد عليها، وهذا إِذا لم تُؤرَّخ البينتان (فإِن أُرِّخا، فالسابقُ) تاريخاً (أَحقُّ) بالمرأَة، لأن الثابتَ بالبينة كالثابت بالمُعاينة (وإِنْ أَقرت) المرأَة بالزوجية (لِمَنْ لا حُجَة له فهي له) لتصادُقهما على النكاح، وهو يثبتُ بتصادق الزوجين عليه.

(فإِن بَرْهَنَ الآخر) أَي الذي لم تُقّر له (قُضِيَ له) لأن البينةَ أَقوى من الإقرار (وإِنْ برهن أَحدهما) على امرأَة أَنها زوجته (وقُضِى له، ثم برهنَ الآخَر لم يُقْض له)

ص: 177

إِلا إِذا ثَبَتَ سَبقُهُ.

كما لم يُقضَ بحُجَّةِ الخارج على ذي يدٍ ظَهَرَ نِكَاحُهُ، إِلا إِذا أَثبتَ سَبقَهُ.

وإن بَرْهَنَا على شِرَاءِ شيءٍ من ذي يَدٍ، فَلِكُلِّ نِصْفُهُ بِنِصْفِ، أَو تَرْكُهُ.

ولو تَرَكَ أَحَدُهُما بَعْدَ ما قُضِي له، لم يَأْخُذِ الآخَرُ كُلَّه.

والشِّرِاءُ أَحَق من هِبَةٍ، وصَدَقَةٍ، ورَهْنٍ مع قَبضٍ. والشِّرَاءُ والمهُر سَوَاءٌ،

===

لأن القضاءَ الأول قد صح فلا يُنْقَض بما هو مِثْله فضلاً عما هو دونه، لاتصال البرهان الأول بالقضاء دون الثاني.

(إِلا إِذا ثبت سبقه) أَي سَبْقُ الآخر، بأَن وَقَّتَ الشهود سابقاً، لأنه ظَهَرَ الخطأ في الأول بيقين (كما لم يُقض بحُجةِ الخارج) اليد، (على ذي يد ظهر نكاحُهُ) بنقلها إِلى بيته، أَوْ بالدخول بها، لأن ذلك فيه دلالة على سبْقِ عقدِهِ عليها (إِلا إِذا أَثبتَ سبْقَه) أَي سبق الخارج، لأن التصريحَ فوق الدلالة، فلا يعتبر معه.

(وإِن برهنا على شراءِ شيء من ذي يد، فلكلٍ نصفُهُ بنصفِ) أَي بنصفِ الثمن (أَوْ تركه) أَي ترك النصف وأَخذ كل الثمن، لاستوائهما في السبب وتعذُّر القضاء بكلِّه لكل واحد منهما، وبه قال مالك في رواية والشافعي في قول، وقال في قول آخر: يُقْرَع، وبه قال أَحمد في رواية، وعن الشافعي أَيضاً تسقط البيِّنَتَانِ ويُرجع إِلى البائع، فإِن صدَّق أَحدهما سُلِّم ذلك الشيء له.

(ولو تَرَكَ أَحدهما) البيع واختار الفسخ (بعدما قُضِي له) بأَخذ نصفِهِ أَوْ تركه (لم يأْخذ الآخر كله) لأن القاضي لمّا قَضَى بالمبيعِ بينهما تضَّمن قضاؤه فسخَ العقدِ في حق كل واحد منهما في النصف، فلا يعود إِليه إلا بتجديد العقد. قيد ببعد القضاء لأنه لو ترك قبل القضاء (كان للآخر أَنْ)

(1)

يأْخذ الجميع، لأن ببينتَه أَثبتت أَنه اشترى الكلَّ، وإِنما لم يرجع إِلى النصف لضرورة القضاء ولم يوجد.

(والشراء أَحق من هبةٍ) مع قبضٍ (و) من (صدقةٍ) مع قبض (و) من (رهن مع قبض) يعني: إِذا ادّعى واحدٌ شراءً من شخصٍ وآخَرُ هبةً وقبضا، أَوْ صدقةً وقبضا، أَوْ رهناً وقبضا من ذلك الشخص وأَقام كلٌّ منهما بينةً ولا تاريخ معهما، فالشراءُ أَولى لكونه معاوضةً من الجانبين، يثبتُ به الملك في المُعَوَّض والعِوض. والبينات تُرَجّح بكثرةِ الإثبات.

(والشرَاءُ والمَهُر سَوَاء) يعني: إِذا ادّعى واحدٌ شراء شيء من آخر، وادّعت امرأَة

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 178

وكذا الغَصْبُ والوَدِيْعَةُ. ولا يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الشُّهُودِ.

ولو ادّعى أَحدُ خَارِجَيِنْ نِصْفَ دَارٍ، والآخَرُ كلَّها، فالرُّبُع للأول. وقالا: الثلثُ، والباقي للثاني، وإن كانت مَعَهُما فهي للثاني: نصفٌ بالقضاء، ونِصْفٌ لا بِهِ.

ولو بَرْهَنَ خَارِجانِ على نتَاج دابَّةٍ وأَرَّخا، قُضِيَ لِمْن وَافَقَ تأْرِيخُهُ سِنَّها،

===

أَنه تزوجها عليه، فليس أَحدهما أَحقّ به من الآخَر، ويُقضى به بينهما، وهذا عند أَبي يوسف. وقال محمد: الشراء أَولى، وعلى الزوج قيمةُ ذلك الشيء (وكذا الغَصْبُ والودِيْعة) سواء. حتى لو كان عينٌ في يد رجل، فأَقام رجلان عليه البَيِّنةَ، أَحدهما بالغصب والآخر بالوديعة، يُقضى بها بينهما نِصفين، لأن الوديعة تصيرُ غصباً بالجحود.

(ولا يُرَجَّح بكثرَةِ الشهُودِ) فلو أَقام أَحد المُدَّعيين أَربعةً والآخر اثنين فهما سواء، لأن كلَّ واحدٍ من البَيِّنتين لا يُوجِب إِلا الظن، وبه قال أَحمد والشافعي في الجديد، ومالك في المشهور. وقال الأوزاعي: يرجح، وهو قول الشافعي في القديم ومالك في رواية، لأن القلب إِليهم أَميل، وعن مالك أَيضاً يُرجّح بزيادة العدالة.

(ولو ادّعى أَحدُ خارجين نِصْفَ دار والآخر كلَّها، فالرُّبُع للأول) عند أَبي حنيفة (وقالا: الثلث) للأول (والباقي للثاني) على القولين. لهما أَنّ مُدعي الكل يدَّعي النصفين والآخر يدّعي النصف الواحد، وليس لشيء واحد ثلاثة أَنصاف، فيُقْسَم بينهما أَثلاثاً على قَدْر حقهما، وهذا طريق العَوْل. ولأبي حنيفة أَنْ مُدعي الكل لا يُنَازِعُه أَحدٌ في النصف، فيُسلم له نصف من غير منازعة، ثم استوت منازعتهما في النصف الآخر، فيكون بينهما، وهذا طريق المنازعة.

(وإِن كانت) الدار (معهما) أَي في أَيديهِمَا، (فهي) كلها (للثاني) وهو مُدَّعي الكل (نصفٌ بالقضاء ونصف لا به) وهو رواية عن أَحمد. وقال مالك والشافعي وأَحمد في رواية: تبقى الدار في يدهما، كما كانت لترجح بينة صاحب اليد باليد.

(ولو برهن خارجان على نَتَاج دابة)

(1)

تنازعاها، بأَن أَقام كلٌّ منهما بينةً على أَنها نَتَجَتْ عنده (وأَرَّخا، قُضي لمن وافق تأْريخه سنَّها) لأن الحال شهدت له. ولا فرق بين أَنْ تكون الدابة في يدهما، أَوْ في يد أَحدهما، أَوْ في يد

(1)

النَّتَاج: نتاج الحيوان: ولده. معجم لغة الفقهاء ص 474.

ص: 179

وإن أَشْكَلَ فلهما، وذو اليد المستعملُ، كمن لبَّن، واللابسُ لا آخِذ الكُم، والراكب لا آخذ اللِّجَام، ومَنْ في السَّرْج لا رَدِيفُه، وذوُ الحِمْلِ لا من عَلَّقَ كُوْزَهُ.

ومَنْ اتصَلَ الحائِطُ بِبِنَائِهِ اتصَالَ تَربيعِ، أَو وضع عليه الجِذْعَ،

===

ثالث، لأن الحالَ لا تختلف في ذلك. قيد بالتاريخ لأن النزاع لو كان في النَّتاج من غير تاريخ لكانت الدابةُ لذي اليد، إِنْ كانت في يد أَحدهما. ولهما: إِنْ كانت في يدهما أَوْ في يد ثالث (وإِن أَشْكل) موافقةُ سن الدابة للتاريخين، بأَن لم يتبين موافقتُهُ ولا مخالفته (فلهما) أَي فالدابة لهما، لأن أَحدهما ليس بأَولى بها من الآخر. وهذا إِذا كانت في يد أَحدهما أَوْ كانا خارجين بأَن كانت في يد ثالث.

وإِن كانت في يد أَحدهما قُضِي بها له، لأنه لما أَشْكَلَ الأمرُ سَقَطَ التاريخان، فصار كأَنهما لم يؤرِّخا. ولو خالف سنُ الدابة التاريخين بطلتِ البينتان، لأنه ظَهَرَ كَذِبُ الفريقين، فتُترك في يد من كانت في يده. هكذا ذكر الحاكم وبعض المشايخ، والأصح أَنهما لا تَبْطُلان، بل يُقضى بها بينهما إِنْ كانا خارجين، أَوْ كانت في أَيدهما. وإِن كانت في يد أَحدهما قُضي بها لذي اليد. هكذا ذكر محمد وهو استحسان، ويؤيده رواية جابر بن عبد الله أَنْ رجلين تداعيا دابةً، فأَقام كل واحد البينةَ أَنها دابته نَتَجَتْها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يده.

(وذو اليد) هو (المستعملُ، كمن لبَّن) بتشديد الموحدة، أَي ضرب اللَّبن، حتى لو ادعى رجل أَنْ أَرضاً في يده، وادعى الآخر فيها ذلك، ولم يبرهن واحد منهما، ولكن عَمِلَ فيها أَحدهما: بأَن بنى، أَوْ ضرب لبِناً، أَوْ حفر بئراً، قُضي له، لأن التمكن من الاستعمال دليل اليد في ظاهر الأحوال. قيدنا بأَنه لم يبرهن واحد منهما، لأنهما لو برهنا قُضي بها لهما، ولو برهن أَحدهما قُضي له، لأن اليدَ حق مقصودٌ فلا يثبت عند القاضي بمجرد الدعوى، بل لا بُدَّ من البينة أَوْ الاستعمال، لأن التمكن منه دليل اليد.

(واللابسُ) بالرفع عطف على المستعمل (لا آخذ الكُم، والراكب لا آخذ اللجام، ومن في السَّرْج لا رديفُه، وذوُ الحِمل لا مَنْ علق) عليه (كُوْزه) فلو تنازعا في قميصٍ، وأَحدُهُما لابِسُه والآخر متعلق بكُمه، أَوْ في دابة وأَحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها، أَوْ أَحدهما راكبٌ في سَرْجها والآخر رديفٌ له، أَوْ في بعير وأَحدهما له حِمل عليه والآخر علق عليه كوزه: كان القميصُ لِلابِس، والدابة للراكب.

(ومَنْ اتصل الحائط ببنائه) عطف على المستعمل (اتصالَ تربيع) لا اتصال ملازقة، بأَن يتداخل لَبِنُ البناءِ المُتَنَازَع فيه في لَبِنِ جِدَارِه، ولَبِنُ جدارِه في لَبِنِ البناءِ المتنازع فيه (أَوْ وضع) عطف على ما اتصل (عليه) أَي على الحائط (الجذع) لأن اتصال التربيع لا يكون إِلا عند البناء، فدل على أَنّ بانيها واحد، وصاحب الجذع

ص: 180

ولا اعتبار لوضع خَشَبَاتٍ علَيه، وجالسُ البِسَاط، والمُتَعَلِّقُ به سَوَاءٌ، وكذا مَنْ معه ثوبٌ وطَرَفُهُ مع آخَرَ، وذو بَيتٍ مِن دارٍ كَذِي بُيوت في حقِ ساحتِهَا.

===

صاحب استعمال (والآخر صاحب تعلق)

(1)

فصارا كمتنازعين في دابة لأحدهما عليها حمل وللآخر كوز معلَّق. وقال الشافعي وأَحمد: لا ترجيح بوضع الجذع، لأن الوضع يحتمل أَنْ يكون عن ملك وأَن يكون عن استعارة أَوْ غصب ولا ترجيح بالمحتمل.

ولنا أَنّ واضعَ الجذع مستعملٌ للحائط بالوضع، والاستعمال يد، وعند التعارض القولُ لصاحب اليد.

(ولا اعتبار لوضع خشباتٍ عليه) أَي على الحائط، حتى لو تنازعا في حائط ليس لأحدهما عليه شيء وللآخر عليه خشبات كان بينهما، لأن تلك الخشبات للاستظلال، فصار كما لو كان لأحدهما على الحائط ثوب مبسوط، ولا شيء عليه للآخر.

(وجالس البِسَاط) وقع مثل هذه العبارة في «الوقاية» وكأنَّ النُّساخ حذفوا منها حرف «على» ، أَي وجالس على البساط (والمتعلقُ بهِ) أَي بالبساط (سواء) أَي مستويان في اليد فهو بينهما نِصفان (وكذا مَنْ معه ثوبٌ وطَرَفُه مع آخَر) سواء في اليد، حتى لو تنازعا يكون بينهما نصفين، لأن يدَ كل واحد منهما ثابتة في الثوب، إِلا أَنَّ يد أَحدهما ثابتة في الأكثر وذلك لا يوجِبُ الترجيح، لأنه بالقوة لا بالكثرة، فصار كما لو تنازعا في دابة ولهما عليها حمل على التفاوت: لأحدهما مَنٌ

(2)

وللآخر مئة منَ، فإِنّ الدابة بينهما نصفين.

(وذو بيتٍ من دار كذي بُيوت) منها (في حقِ ساحتِهَا) وهي عَرْصَة

(3)

في الدار وبين يديها، فلو تنازعا في الساحة كانت نصفين، نصف لذي البيوت ونصف لذي البيت لاستوائهما في استعمال تلك الساحة بالمرور فيها، ووضع الأمتعةِ، وصب الوَضوءِ، وكسر الحطب، فصار نظير الطريق، يستوى فيه صاحب الدار والمنزل والبيت، بخلاف ما لو تنازعا في الشُّرْبِ، حيث يُقْسَم بينهما على قدر أَراضيهما، لأنه يحتاج إِليه لأجل سقي الأرض فيقدر بقدْرِهَا.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

المَنُّ: مكيال سعته رطلان عراقيان = 815.39 غرامًا. معجم لغة الفقهاء ص 460.

(3)

العَرْصة: ساحة الدار. المعجم الوسيط ص 593، مادة (عَرص).

ص: 181

‌فَصْلٌ [في دَعْوَى النَّسَبِ]

مبيعةٌ وَلَدَتْ لأقلَّ من نِصْفِ حَوْلٍ مُنْذُ بِيعَتْ، فادّعى البائعُ الوَلَدَ، ثَبَتَ نسبُهُ منه، وأُمِّيَّتُهما، ويُفْسَخُ البَيعُ. ولو ادّعاه بعد عِتْقِهَا ثَبَتَ نَسَبُه، ويَرُدُّ حِصَّتَهُ من الثمن.

===

فصلٌ (في دعوى النسب)

أَي في دعوى النَّسَب، كما في نُسخة (مبيعةٌ وَلَدَتْ لأقلَ من نصف حول منذ بِيعت، فادّعى البائع الولدَ، ثَبَتَ نسبُهُ منه) استحساناً. وإِن ادّعاه المُشتري معه (و) ثبت (أُمِيَّتُها) أَي كون المبيعة أَمَّ ولد له (ويفسخ البيع). والقياس، وهو قول زُفر والشافعي: أَنْ لا يثبتَ نَسَبُه ولا تصحَ دعوتُهُ، إِلا أَنْ يُصدِّقه المشتري، لأن البائعَ اعترف بالبيع بأَن الولدَ عبدٌ، فكان في دعواه مناقضاً وساعياً في نقض ما تم من جهته وهو البيع، وصار كما لو ادّعى التدبيرَ

(1)

أَوْ الإِعتاق قبل البيع وكذَّبَه المشتري.

ووجه الاستحسان أَنْ مبنى النسب على الخفاءِ، فيُعفى فيه التناقض، فتقبل دعوته إِذا تُيقِّنَ العُلوقُ في مِلْكه، وذلك بالولادة لأقلَ من ستة أَشهر، لأنه بمنزلة إِقامة البِّينَةِ، بخلاف دعوى الإعتاق والتدبير بعد البيع، فإِنه فِعْلُ نَفْسِهِ، فلا يخفى عليه، فلا يُعفى فيه التناقض.

وإِذا صحت دعوى البائع استندت إِلى وقت العُلُوقِ، وتبيَّن أَنه باع أَمَّ ولده وهو باطلٌ فَيرَدُ الثمن لأنه قبضَه بغير حق. (ولو ادّعاه) أَي ادّعى البائعُ الولدَ (بعد عتقِهَا) أَي عتق المشتري أَمته (ثَبَتَ نسبُه) لأن الولد هو الأصل في النسب والأمَّ تبع له، أَلا ترى أَنها تضاف إِليه فيقال: أَمْ ولد، وتستفيدُ الحرية من جهته. والمانع من ثبوت النسب ـ وهو هنا العتق ـ لم يقم به بل بأُمِّه، فلذا لم يمتنع النسب فيه وامتنع في أُمه، فصار كولد المغرور فإِنه حر وأُمّهُ أَمةٌ لمولاها. وفي «النهاية»: إِنْ ولد المغرور هو ولدُ الذي تزوج امرأَة على أَنها حُرَّة فبانت مملوكة.

(ويرُدُّ حِصتَه من الثمن) بأَنْ يَقْسِمَ الثمن على قيمة الولد وقيمة أُمه، فما أَصاب الولدَ يردُّه البائع إِلى المشتري، وما أَصاب الأم لا يرده، ولا تصير الجاريةُ أَمَّ ولد للبائع، لأنه ثبت فيها ما لا يحتمل الإبطال وهو العتق والولاء، وكذا الحكم فيما إِذا دبَّرها لما ظهر فيها من آثار الحرية، وهو امتناع التمليك.

(1)

المُدبَّر: الرقيق الذي عُلِق عتقُه على موت سيده. معجم لغة الفقهاء ص 418.

ص: 182

ولا تُعْتَبَرُ دِعْوَة المُشترِيِ ولا البَائع بعد مَوْتِ الوَلَدِ أَو عِتْقِهِ، وكذا لو وَلَدَتْ لأكْثَرَ من نِصْفِ الحَوْلِ، أَو أقلَّ من سَنَتَين، إِلا إِذا صدَّقه المُشْتَريِ، وَلِسَنَتَيِن أَو أَكثرَ، وهي أمُّ وَلِدِهِ نِكَاحًا، إِن صَدَّقهُ المشتري.

===

(ولا تعتبر دِعوة المشتري) بكسر الدال

(1)

(ولا) دِعوة (البائع بعد موت الولد أَوْ عتقه) لأنه بالموت قد استغنى عن النسب، فتعذر إِثباتُهُ فيه، وبالإعتاق ثَبَتَ الولاءُ فيه، وهو كالنسب لا يمكنُ إِبطاله كما لا يمكن إِبطال النسب.

(وكذا) لا تعتبر دِعوة البائع (لو وَلَدَتْ لأكثرَ من نصفِ الحول، أَوْ أَقل من سنتين) من وقت البيع فلا يثبتُ النسبُ، لاحتمال أَنْ يكون العلوقُ بعد البيع (إِلا إِذا صدَّقه المشتري) فيثبتُ النسب من البائع للتصادق ويبطل البيع، ويكون الولدُ حراً والأم أُمُّ ولد. (ولسنتين أَوْ أَكثرَ) يثبت النسب (وهي أُمُ ولده نكاحاً إِنْ صَدَّقهُ المشتري) حملاً لحاله على الصلاح ولقول المشتري على الصدق. ولا يَبْطُل البيع لأنا تيقنا أَنّ العُلوق لم يكن في مِلك البائع، وإِذا لم يكن العلوقُ في مِلك البائع كانت دعوتُه دعوة تحرير وهو غير مالك، وغير المالك ليس بأَهل للتحرير، فلا تصح دعوة التحرير منه، فلم يعتق الولد ولم تَصِرْ أُمُّه أُمَّ ولد. قيد بتصديق المشتري، لأنه لو لم يُصَدِّقه لم تصح الدعوة للبائع، لأنه لم يوجد اتصال العُلوق بملكه يقيناً.

ولو أُخبرت امرأَةٌ بموت زوجها فاعتدَّت وتزوجت وجاءت بولد، ثم جاء الزوج الأول، فالولد للأول في رواية عن أَبي حنيفة، سواء جاءت به لأقلَّ من ستة أَشهر منذ تزوجها الثاني، أَوْ لأكثر من ذلك إِلى سنتين، أَوْ أَكثر، لأنه صاحبُ الفراشِ الصحيح، فإِنّ خبرَ موتِهِ لا يُفسدُ فِرَاشه. والزوج الثاني صاحبُ فراشٍ فاسد، ولا معارضة بين الصحيح والفاسد، بل الفاسد مدفوع بالصحيح، والمرأَة مردودة إِلى الزوج الأول، والولد ثابت النسب منه. وعن عبد الكريم الجُرْجَاني عن أَبي حنيفة: أَنْ الولد للثاني وهو قول ابن أَبي ليلى، لأن الفراش الفاسد يُثبِت النسب كالفراش الصحيح، ثم الثاني أَقرب إِليها يداً والولد مخلوق من مائه حقيقة، فيترجحُ جانبُهُ بالقرب واعتبار الحقيقة.

وفيه حديث الشَّعبي ذكره محمد في «الكتاب» : وهو أَنْ رجلاً من جُعفى زَوَّج ابنته من عبيد الله بن الُحرِّ ثم مات، ولحق عبيد الله بمعاوية، فزوج الجاريةَ أَخوتُهَا، فجاء ابن الُحرِّ فخاصم زوجها إِلى علي، فقال عليّ: أَما إِنك المحال علينا

(1)

الدِّعْوَة: بالكسر في النَّسَب. مختار الصحاح ص 86، مادة (دعا).

ص: 183

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

عدونا، فقال: أَيمنعني ذلك من عدلك؟ قال: لا، كذبا، فقضى بالمرأَة له، وقضى بالولد للزوج الآخَر. إِلا أَنّ أَبا حنيفة قال: الحديث غيرُ مشهورٍ، فلا يُترك به القياس الظاهر، ولو ثبت وجب القول به.

وقال أَبو يوسف: الولد للأول إِنْ جاءت به لأقل من نصف سنة من حين العقد الثاني، وإِن جاءت به لستة أَشهر فصاعداً منذ تزوجها الثاني فهو من الثاني، سواء ادَّعَياَه أَوْ نفياه، لأن النكاح الفاسد يلحقُ بالصحيح في حكم النسب، فباعتراض الثاني على الأول ينقطع الأول في حُكْم النَّسَب ويكون للثاني.

والتقديرُ بأَدنى مدة الحمل اعتباراً للفاسد بالصحيح، وإِنما قلنا إِنْ الأول ينقطع بالثاني، لأنها بدخول الثاني بها تحرُم على الأول وتلزمها العدة من الثاني. ووجوب العدة ليس إِلا لصيانةِ الماء في الرحم، فلو لم يكن النسب بحيثُ يثبتُ من الثاني لم يكن لوجوب العدَّةِ عليها من الثاني معنى.

وقال محمد: هو للأول إِنْ جاءت به لأقلَ من سنتين منذ دخل بها الثاني، وللثاني إِنْ جاءت به لأكثر من سنتين منذ دخل بها، لأن وجوب العدة عليها من الثاني بالدخول لا بالنكاح، والحرمةُ إِنما ثبتت على الأول بوجوب العِدَّة من الثاني، فكانت حرمتُهَا عليه بهذا السبب كحرمتها عليه بالطلاق.

والتقدير بأَدنى مدة الحمل عند قيام الحمل، ولا حَدَّ بينهما، فالعبرة للإمكان، فإِذا جاءت به لأقل من سنتين منذ دخل بها الثاني، يُتوهم أَنْ يكون هذا من عُلوقٍ كان قبل دخول الثاني بها في حال حلِّها للأول، فكان النسبُ من الأول، وإِذا جاءت لأكثر من سنتين منذ دخل بها الثاني عُلِم أَنْ العُلوق لم يكن قبل دخوله، فكان النسبُ من الثاني، وكذا الخلاف لو ادعت الطلاق واعتدت فتزوجت، والزوج الأول جاحد لذلك إِذْ كلاهما في المعنى سواء، والله تعالى أَعلم بالصواب.

ص: 184

‌كِتَابُ الصُّلْحِ

هو عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ. وصَحَّ بإقرار وسُكُوتٍ وإنكارٍ،

===

كتاب الصُّلْح

(هو) لغةً اسم للمُصالحة، بمعنى المُسالمة، وأَصله من الصَّلاح: وهو استقامة الحال، ضِدُّ الفساد.

وشرعاً: (عقد يرفع النزاع) أَي المُنازعة بين الخصمين.

(وصح) الصلح (بإِقرار) أَي مع إِقرار، (و) مع (سكوت) بأَن لا يُقِرّ ولا يُنكر، (و) مع (إِنكار) وبه قال مالك وأَحمد. وقال الشافعي: لا يصح إِلا مع الإقرار، لأن المُدَّعى عليه يدفع المال لدفع الخصومةِ، وذلك مع غير الإقرار رشوة، ولما روى أَبو داود في «سننه» ، وابن حِبَّان في «صحيحه» من حديث أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصَلْح جائزٌ بين المسلمين إِلا صُلحاً أَحَلَّ حَرَامَاً، أَوْ حرَّم حلالاً» . ورواه الترمذي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المُزَني، عن أَبيه، عن جده.

ووجه الدِّلالة أَنّ الصُلْحَ مع إِنكار أَوْ سكوت أَحل حراماً أَوْ حرم حلالاً، لأن المُدَّعي إِنْ كان مُحِقّاً كان أَخذه المدَّعى به حلالاً له قبل الصُّلْح وحراماً عليه بعده، وإِن كان مُبْطلاً كان أَخذ المال على الدعوى الباطلة حراماً عليه قبل الصلح حلالاً بعده.

ولنا إِطلاق قوله تعالى: {والصُّلْحُ خَيْرٌ}

(1)

، وإِطلاق أَول الحديث السابق. وأَما آخِرُه فمعناه أَحلَّ حراماً لعينه، كالصلح على خمر، أَوْ حَرَّم حلالاً لعينه: كصلح المرأَة زوجها على أَنْ لا يَطأَ ضَرَّتها. وهذا أَولى في معناه، لأن الصلح مع الإقرار في العادة يقعُ على بعض الحق، فما زاد على المأْخوذ إِلى تمام الحق كان حلالاً للمُدَّعي أَخذه قبل الصلح وقد حَرُم بالصلح وكان حراماً على المُدَّعى عليه قبل الصلح وقد حل بالصلح. ولأن الصلحَ عن إِنكار أَوْ سكوت صلحٌ بعد دعوى صحيحة فيُقْضَى بجوازه، لأن المُدَّعي يأْخذه عوضاً عن حقه في زعمه وهو مشروع، والمُدَّعى عليه يدفعه لدفع الخصومة عن نفسه وهو أَيضاً مشروع. لأن المال خُلق لصيانة الأنفس عن المهالك والمفاسد، ودفعُ الضرر أَمرٌ جائز.

نقل أَبو الليث عن أَبي يوسف جواز المصالحة، وفي نُسخة: المصانعة، وهي

(1)

سورة النساء، الآية:(128).

ص: 185

فالأَوَّلُ كَبَيعٍ، إِن وقع عن مالٍ بمالٍ ففيه الشُّفْعَةُ والخِياراتُ، ويُفْسِدُهُ جهالةُ البَدَلِ.

وما استُحِقَّ مِنَ المُدَّعَى، رَدَّ المُدَّعي حِصَتَّه من العِوَضِ، وما استُحِقَّ من البَدَلِ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ من المُدَّعَى. وكإجارة إِنْ وَقَعَ عن مالٍ بمنفعة، فيُشترطُ التَّوقِيتُ فِيِه،

===

الرِّشوة للأوصياء في أَموال اليتامى، وبه يُفتى، وإِليه الإشارة بقوله تعالى:{أَمَّا السَّفِيْنَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِيْنَ يَعْمَلُوْنَ في البَحْرِ فأَردْتُ أَنْ أَعِيْبَهَا}

(1)

حيث أَجاز التَّعْييبَ مخافةَ أَخذ المتغلِّب، كذا في «أَحكام الصِّغار» ، وفي «المحيط»: لو رشى لدفع خوفه على نفسه، أَوْ ماله، أَوْ خوفاً على نسائه، أَوْ أَعطى مالاً لشاعر لا بأْس به، يعني صيانة لِعِرْضِه (فالأَوَّل) وهو الصلح مع الإقرار (كَبَيعٍ إِنْ وقع عن مال بمال) لوجود معنى البيع فيه، وهو مبادلة المال بالمال بالتراضي (ففيه) إِنْ كان عَقَارَاً (الشُّفْعة، و) فيه (الخِيارات) الثلاثة، وهي: خِيار العيب، وخيار الشرط، وخيار الرؤية، لأن هذه الأشياء من أَحكام البيع.

(ويُفْسِدُهُ جهالةُ البدل) وهو ما وقع عليه الصلح، لأن البيعَ يَفْسُدُ بالجهالة المفضية إِلى المنازعة. قيد بالبدل لأن جهالتَه هي المفضية إِلى المنازعة في الصلح، لأن المصالَحَ عنه لا يحتاج في الصلح إِلى تسليمه، فلا تضره الجهالة، بخلاف المُصالَحِ عليه، ولهذا لو كان البدلُ غيرَ مقدورِ التسليمِ يَفسدُ الصلح، ولو كان المُصَالح عنه كذلك لا يفسد، لأنه لا يحتاجُ إِلى تسليمه، وكذا يفسد البدل بجهالة الأجل إِذا جعل مؤجلاً (وما استُحِق من المُدَّعى) أَي المصالح عنه (رد المُدَّعي حِصَتَه من العوض) أَي البدل إِنْ كلاً فكلاً وإِن بعضاً فبعضاً (وما استُحِق من البدلِ رجع) المُدَّعي على المُدَّعى عليه (بحصته من المُدَّعى) إِنْ كلاً فبالكل وإِن بعضاً فبالبعض، لأن كل واحد منهما عوضٌ عن الآخر، وهذا حكم المعاوضة.

(وكإِجارة) عطف على كبيع، أَي والصلحُ عن إِقرار كإِجارة (إِنْ وقع عن مالٍ بمنفعة) لوجود معنى الإجارة، وهو تمليك المنفعة بمال، والاعتبار في العقود للمعاني. والأصل في الصلح أَنْ يُحمل على أَشبهِ العقود له فتجري فيه أَحكامه. (فيُشترط التوقيت فيه) أَي في الصلح الواقع عن مال بمنفعة، وهذا إِذا كانت المنفعةُ تُعلم بالتوقيت، كالخدمة وسُكنى الدار. قيدنا به لأنه لو كانت لا تُعلم به، كما لو صالح

(1)

سورة الكهف، الآية:(79).

ص: 186

ويَبْطُلُ بموتِ أَحَدِهِما في المُدَّة، والآخَرَان مُعَاوَضةٌ في حَقِّ المُدَّعي، وفِدَاءُ يمينٍ وقَطْعُ نِزَاع في حَق الآخَرِ، فلا شُفعةَ في صُلْحٍ عن دارٍ، بل في الصُّلْحِ على دارٍ.

===

عن مالٍ على نقلِ هذا الشيء من ههنا إِلى ثَمَّة لا يُشترط التوقيت. (ويَبْطُل) الصلح (بموتِ أَحدِهِما في المدة) وبهلاكِ المنفعةِ قبل الاستيفاء، حتى لو صالح عن دعوى دار على سُكنى دار، أَوْ خدمة عبد سنة، أَوْ ركوب الدابة إِلى بغداد، أَوْ لبس هذا الثوب شهراً، ثم مات المُدَّعي أَوْ المُدَّعى عليه، أَوْ هلك محلُ المنفعة، فإِن كان قبل استيفاء شيء من المنفعة بطل الصلح فيعود إِلى الدعوى. وإِن كان بعد استيفاء بعضها بطل بقدْر ما بقي ورجعت دعواه بقدرِهِ.

وهذا قول محمد وهو القياس، لأن هذا الصلح إِجارة، وهي تَبْطُل بواحد من هذه الأشياء. وقال أَبو يوسف: إِنْ مات المُدَّعى عليه لا يبطل الصلح ويستوفي المُدَّعي المنفعة، وإِن مات المُدَّعي فكذلك في خدمةِ العبد وسُكنى الدار. ويقومُ الوارث مَقَامَه ويبطل في ركوب الدابة ولبس الثوب، لأن الصُلح لقطعِ المنازعة، وفي إِبطال الصلح بموت أَحدهما إِثارَتهَا بينهما، والناس متفاوتون في الركوب واللبس، فلا يقوم الوارث فيه مَقَامَ المورِّث للضرر الذي يلحقُ المالك.

(والآخَرَان) وهما الصلح مع إِنكار أَوْ سكوت (معاوضةٌ في حق المُدَّعي) لأنه يأخذُ بدلَ الصلح على أَنه عِوضٌ في زَعْمِهِ (وفداءُ يمينٍ وقطعُ نِزَاعٍ في حق الآخر) وهذا في الإنكار ظاهر، لأن بالإنكار تَبَيَّن أَنَّ ما يُعطيه لقطع الخصومةِ وفِداءِ اليمين، وكذا في السكوت، لأنه يحتمل الإقرار والإنكار، وعلى تقدير الإقرار يكون عِوَضَاً، وعلى تقدير الإنكار لا يكون، فلا يثبتُ كونه عوضاً بالشك.

ويجوزُ أَنْ يختلفَ حكمُ العقدِ وغيره في شخصين، كما في الإقالة، فإِنها فسخٌ في حقِ المتعاقدين بيعٌ في حق ثالث، وكالخلع فإِنه معاوضةٌ من جانب المرأَة يمينٌ من جانب الزوج، وكالنكاح فإِنه حِلٌّ في حق المتناكحَين تحريمٌ مؤبَّدٌ في حق أَصولهما، وكالجهة الواحدة في تحري القوم عند اشتباه القِبلة، فإِنها قِبْلَة في حق مَنْ وقع تَحَرِّيه عليها دون الآخر.

(فلا شُفعةَ في صلح عن دار) مع سكوت أَوْ إِنكار، لأنه يعتقدُ أَنها دارُه، باقية على مِلكه، فإِن ما يدفعه إِلى المُدَّعي ليس بعوضٍ عنها وإِنَّما هو لافتداءِ اليمين وقطع الخصومة (بل) الشفعةُ (في الصلحِ على دار) لأن المُدَّعي يأْخذها عوضاً عن المال، فكانت معاوضةً في حقه وإِن كان المُدَّعى عليه يُكذِّبهُ، فصار كما لو قال: اشتريتُ

ص: 187

وما استُحِقّ من المُدَّعَى، فكما مَرَّ، وما استُحِقّ من العِوَضِ رَجَعَ إِلى الدَّعْوَى.

ولو صَالَحَ على بَعْضِ دَارٍ يَدَّعِيها لم يَصِحَّ. وحيِلَتُهُ أَن يَزِيدَ في البَدَلِ شيئًا، أَو يُبرِئَ عن دعوى الباقي.

وصَحّ الصُّلْحُ عن دَعْوى المالِ، والمَنْفَعِةِ،

===

هذه الدار من فلانٍ وفلانٌ يُنكر، حيث يأخذُها الشفيعُ بالشفعةِ (وما استُحِقّ)

(1)

في الصلح مع سكوت وفي الصلح مع إِنكار (من المُدَّعَى) وهو بفتح العين، و «مِنْ» بيانٌ لما (فكما مر) في الصلح مع إِقرار، من أَنْ المُدَّعي يردُ حِصَته من العِوضِ، لأن المُدَّعى عليه لم يدفع العِوضَ إِلا لدفعِ الخصومةِ عن نفسه، فإِذا ظَهَرَ الاستحقاق في الجميع، تبين أَنْ لا خصومة للمُدَّعي، فبقي العوِضُ في يده غير مشتمل على غرضه، فيسترده، وإِذا ظهر في بعضه تبين أَنْ لا خصومة له في ذلك البعض، فخلى العِوَض فيه عن الغرضِ الذي هو العوض.

(وما استُحِقّ من العِوَضِ رَجَعَ) المُدَّعي (إِلى الدعوى) في الكل إِنْ استحق الكل، وفي قَدْر المستحق إِنْ استُحق البعض، لأن المُدَّعي ما ترك الدَّعوى إِلا ليُسَلَّم له البدل، فإِذا لم يُسلَّمِ له رجع بالمُبْدَلِ وهو الدعوى. (ولو صَالَحَ على بعض دار يدعيها) بأَن صالحه على بيت معلوم منها (لم يصِحَّ) الصلح، وهو على دعواه في الباقي، لأن بعض الشيءِ لا يصلح عِوضاً عن كله. وبه قال مالك وأَحمد، وهو وجه في مذهب الشافعي.

(وحيلتُهُ) أَي حيلة جوازِ هذا الصُّلح (أَنْ يزيد) المُدَّعى عليه (في البدلِ شيئاً) ثوباً أَوْ درهماً، حتى يكون ذلك الشيءُ عوضاً عن الباقي في يده (أَوْ يُبراءَ) من الإبراء، بصيغة المفعول أي يُبرأ المدَّعى عليه، أو بصيغة الفاعل أي يبراء المُدَّعي المُدَّعى عليه (عن دعوى الباقي) بأَن يقول له المُدَّعي: أَبرأَتُك أَوْ برئتُ من دعوى هذه الدار، لأن الإبراء عن دعوى العين جائز.

(وصَحّ الصُلح عن دَعَوى المالِ) بمال وبمنفعة أَما بمنفعةٍ فلأنه في معنى الإجارة، وأَما بمال فلأنه بمعنى البيع في حقهما إِنْ وقع مع إِقرار، وفي حق المُدَّعي إِنْ وقع مع سكوت أَوْ إِنكار، وافتداء اليمين في حق الآخر.

(و) صح الصلح عن دعوى (المنفعةِ) بمال وبمنفعة، كإِن ادّعى في دار سكنى

(1)

الاسْتِحقاق: ظهور كون الشيء حقًّا أَداؤه للغير. معجم لغة الفقهاء ص 59.

ص: 188

والجِنَاية في النَّفْسِ، وما دونها عَمْدًا أَو خَطَأً، والرِّقِ، ودَعْوَىَ الَّزْوجِ النِّكاحَ، وكان عِتْقًا بمالٍ وخُلْعًا.

ولم يَجُزْ عن دَعْوَاها النِّكَاح

===

سنةً وصيةً من رَبِّ الدار، فَجَحَدَه الوارث أَوْ أَقر به وصالحَه عن شيء جاز، لأن أَخذَ العوض عن المنفعةِ جائزٌ بالإِجارة، فكذا بالصلح، لكن لا يجوز بالمنفعة عن المنفعة، إِلا إِذا كانا مختلفِي الجنس، كما لو صالح عن السُّكنى على خدمة العبد، أَوْ زِراعة الأرض، أَوْ لبس الثياب. أَما إِنْ اتحد جنسهما كما لو صالح عن السُّكْنى على السُّكْنى، أَوْ عن الزراعة على الزراعة، فإِنه لا يجوز لأن المنفعة لا يجوز استئجارها بجنسها، ويجوز بخلاف جنسِهَا من المنافع، فكذا الصلح.

(و) صح الصلح عن دعوى (الجِنَايةِ في النفس وما دونها عَمْداً أَوْ خطأَ) سواء كان مع إِقرار أَوْ سكوت أَوْ إِنكار. أَما العمدُ في النفس فلقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِي لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيءٌ فاتِّبَاعٌ بالمَعْرُوفِ وأَدَاءٌ إِليه بإِحْسَانٍ}

(1)

، فإِن معناه عند ابن عباس والحسن والضحاك: فمن أُعطي له وهو وليُّ القتيلِ من دم أَخيه أَي من جهةِ المقتول شيءٌ من المال بطريق الصلح. ونكَّرَه لأنه مجهولُ القدْر، فإِنه يُقدَّرُ بما تراضيا عليه. {فاتباع بالمعروف}

أَي فَلِولِيِّ القتيل اتباعُ المُصَالِح ببدل الصلح على حُسْنِ معاملة. {وأداء}

، أَي وعلى المُصَالِحِ أَداءٌ إِلى وليّ القتيل بإِحسان.

وأَما الخطأُ في النفس فلأَن موجبه المال، فيصير بمنزلةِ البيع، إِلا أَنه لا يصح الزيادة على قدر الدِّية إذا وقع الصلح على أحد مقادير الدية، كما لا يجوز الصلح على أَكثر من الدين من جنسه في دعوى الدَّين للربا، بخلاف الصلح عن القَوَدِ حيث تصح الزيادة فيه، لأن القَوَدَ ليس بمال. وأَما ما دون النفس فمعتبرٌ بالنفس، فيُلحق ما يُوْجِبُ القِصاصَ فيه بالعمد في النفس وما يُوْجِبُ المال فيه بالخطأ فيها.

(و) صح الصلح عن دعوى (الرِّقِ) بأَن ادّعى رجلٌ على آخَر أَنه عبدُه (و) عن (دعوى الزوج) على امرأَة (النكاح) والمرأَةُ تُنْكِرُه (وكان) الصلح عن الرق (عتقاً بمال) في حق المُدَّعي (و) عن النكاح (خُلْعَاً) في حق الزوج، لأنه أَمكن تصحيحُ الصلح فيهما بهذا الاعتبار، والصلح يجب حَمْلُهُ على أَقرب العقود إِليه وأَشبَهِهَا به احتيالاً لتصحيح تصرف العاقل ما أَمكن.

(ولم يَجُز) الصلحُ (عن دعواها) أَي المرأَةُ (النكاح) لأن بذل الزوجِ المالَ

(1)

سورة البقرة، الآية:(178).

ص: 189

ولا عَنْ دَعْوَى حَدٍّ، وبَدَلِ صُلْح هو كَبَيعٍ على الوَكِيلِ، وما ليس كَبَيع كالصُّلْحِ عن دَمِ عَمْدٍ، أَو على بَعْضِ دَيْنٍ يدَّعِيهِ على المُوَكِّل.

وإن صَالَحَ فُضُوْليٌّ وضَمنَ البدلَ، أَو أَضافَ إِلى مَالِهِ، أَو أَشَارَ إِلى نَقْدٍ، أو عَرْضٍ، أو أَطْلَقَ ونَقَدَ، صَحَّ.

وإن لم يَنْقُدْ، إِن أَجَازَهُ المُدَّعَى عليه جاز، ولَزِمَ البَدَلُ،

===

على ترك الدعوى إِنْ كان فُرْقةً فالزوجُ لا يُعطي العِوضَ في الفُرْقَة، وإِن لم يكن فُرْقة فالحال على ما كان قبل الدعوى، وهي باقيةٌ على دعواها، فلا يكون ما أَخَذَتْهُ عوضاً عن شيء فلا يجوز. وفي بعض نُسخ القُدُوري: إِنْ الصلح جائز، ووجهُهُ أَنْ يُجعل بذل الزوجِ المال لها زيادة في مهرها، فيصير كأَنه زادها (في مهرها)

(1)

، ثم خالَعَها على أَصل المهر دون الزيادة، فيسقط المهرُ غير الزيادة (ولا عَنْ دَعَوْى حدٍ) كأَن أَخذ رجل زانياً، أَوْ سارقاً، أَوْ شاربَ خمر لرفعه إِلى الحاكم، فصَالَحَه المأْخوذ على مالٍ أَنْ لا يرفعه إِلى الحاكم، فالصلح باطلٌ، ويَردُّ ما أَخذه منه، لأن ذلك حقُّ الله تعالى لا حقُّ الآخذ، والاعتياضُ عن حقِّ الغير لا يجوز.

(وبدلُ صُلحٍ) مبتدأ مضاف (هو كبيع) صفة صلح، بأن كان عن مال (على الوكيل) خبر المبتدأ، وإنما كان هذا البدلُ على الوكيل لأن الحقوقَ في البيع ترجع إِلى الوكيل، ومن جُمْلَتِهَا دفعُ البدل (وما ليس) أَي وبدل صلح ليس (كَبَيْعٍ، كالصلحِ عن دمِ عمدٍ، أَوْ على بعض دينٍ يدَّعِيْهِ على المُوَكِّل) لأن هذا الصلح إِسقاط محضٌ، فكان الوكيل فيه سفيراً ومعبِّراً، فلا يكون البدل عليه كالوكيل بالنكاح، إِلا أَنْ يُضمِّنَه، فإِنه حينئذٍ يُؤاخَذُ به لضمانه لا لعَقد الصلح.

(وإِن صَالَحَ فُضُوْليٌّ) بأَن صالح رجلٌ عن آخر بغير أَمره (وضمن البدلَ أَوْ أَضافَ إِلى ماله) بأَن قال: صالحتُك على عبدي فلان. (أَوْ أَشار إِلى نقدٍ) بأَن قال: على هذا الألف (أو عَرْض) بأن قال: على هذا الثوب (أَوْ أَطلق ونَقَدَ) بأَن قال: على أَلف وسلمها إِليه (صح) الصُّلْح في جميع هذه الصور، لأن الحاصلَ للمُدَّعى عليه البراءة، والساقِطُ يتلاشى ويضمحلُّ، فاستوى الفضولي والمُدَّعى عليه.

(وإِن) أَطلقَ و (لم يَنْقُد) بأَن قال: صالحتك على أَلف فهو موقوف (إِنْ أَجازه المُدَّعى عليه جاز) لأن نفع الصلح ـ وهو رفعُ الخصومةِ ـ حاصل له (ولَزِمَ البدلُ) المُدَّعى عليه لالتزامه إِياهُ باختياره.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 190

وإلا رُدَّ.

وصُلْحُهُ على جِنْس مَا لَهَ عليه أَخذٌ لبعض حَقِّهِ وحطٌّ لِبَاقِيِه، لا مُعَاوَضَة.

فَصَحَّ عن أَلفٍ حالٍ على مِئَة حَالَّةٍ، أَو على أَلف مُؤَجَّل، أَو عن أَلفٍ جِيَادٍ على مئَةٍ زُيُوفٍ.

ولَمْ يَصِحَّ عن دَرَاهِمَ على دَنَانِيرَ مُؤَجَّلَهٍ، أَو عن أَلفٍ مُؤَجَّلٍ على نِصْفِهِ حالًا، أَو عن أَلفٍ سُودٍ على نِصْفِهِ بِيضًا.

===

(وإِلا) أَي وإِنْ لم يُجزه المُدَّعى عليه (رُدَّ) لأن المُصَالِحَ هنا ـ وهو الفُضُوليّ ـ لا ولاية له على المطلوب، فلا ينفُذُ تصرفه عليه (وصلحه على جنس مَا لَهَ) وهو بفتح اللام (عليه أَخذٌ لبعض حقهِ وحطٌّ لباقيه) لأن تصرفَ العاقلُ يُتحرى لتصحيحه ما أَمكن، وقد أَمكن ذلك فيُحمل عليه (لا معاوضة) لإفضائه إِلى الربا.

(فصح) الصلح (عن أَلفٍ حالَ على مئةٍ حالَّة) فكان إبراءً له من تسع مِئة (أَوْ على أَلف مؤجل) وصار كأَنه أَجَّل نفس الحق، إِذْ لا يمكن جعلُه معاوضةً، لأن بيعَ الدراهم بمثلها نسيئة لا يجوز. (أَوْ عن أَلفٍ جياد) عطف على أَلف حال (على مئة زيوف) وصار كأَنه أَسقط بعض حَقِّه وصفته.

(ولم يَصِح) الصلح (عن دراهم على دنانير مؤجلة) إِذْ لا وَجْه لصحَّة ذلك سوى المعاوضة، وبيع الدراهم بالدنانير نَسَاءً لا يجوز، ولا يمكنُ حَمْله على التأْخير لأن الدنانير غير مستحَقة بعقد المداينة (أَوْ عن أَلفٍ مؤجلٍ على نصفه حالاً) لأن الحالَّ خير من المؤجل، (والمستَحَقُّ هنا بعقد المداينة هو المؤجل)

(1)

، فيكون تعجيل الخمس مئة التي كانت مؤجلةً بمقابلة الخمس مئة المحطوطة، وذلك اعتياض عن الأجل، وهو حرَام، أَلا ترى أَنْ ربا النَّساء حرام لشبهةِ مبادلةِ المال بالأجل، فلأَن يحرم حقيقته أَولى، وبه قال مالك والشافعي وأَحمد وأَكثر العلماء.

(أَوْ عن أَلفٍ سُودٍ على نصفهِ بِيْضَاً) لأن البيضَ غير مُستحَقَّةٍ هنا بعقد المداينة وهي زائدة وصفاً، فيكون هذا الصلح معاوضة أَلف بخمس مئة وزيادة وصف وهو ربا، بخلاف ما لو صالح على قدر الدَّين وهو أَجود، لأنه معاوضة المِثْل بالمِثْل ولا معتبر بالجَوْدة لأنها ساقطة الاعتبار في الأموال الربوية، إِلا أَنه يشترط القبض في المجلس لأنه صرف.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 191

ومَنْ أُمِرَ بأَداءِ نِصْفِ دَيْنٍ عليه غدًا، على أَنه بريءٌ مِمَّا زَادَ، إِنْ قَبِلَ بَرِئَ، وإِنْ لم يَفِ عَادَ دَيْنُهُ.

ولو عَلَّقَ صريحًا، كـ: إِن أَدَّيتَ إِليَّ كذا، فأَنت بريءٌ من الباقي، لا يَصِحُّ. ولو صَالحَ أَحدُ رَبَّيْ دَينٍ عن نِصْفِهِ على ثوبٍ اتَّبَعَ شَريكُهُ غرِيمَه بنصْفِهِ، أَو أَخَذَ نِصْفَ الثوب من شريكِهِ.

===

(ومَنْ أُمِرَ) بصيغة المجهول (بأَداء نصف دَيْن عليه غداً، على أَنه بريءٌ مما زاد) على النصف. (إِنْ قَبِلَ بَرِاءَ) مما زاد على النِصف إِنْ وفَّى بأَن أَدى نصفَ الدين في الغد براء (وإِنْ لم يف عاد دَينُهُ) كما كان ولم يبرأْ مما زاد على النصف، وهذا عند أَبي حنيفة ومحمد لأنه إِبراءٌ مقيدٌ بالشرط. وقال أَبو يوسف: بَرِاء مما زاد (على النصف)

(1)

لأنه إِبراءٌ مطلق.

(ولو علق صريحاً، كإِن أَديتَ) أَوْ إِذا أَديت أَوْ متى أَديت نصف الدين (إِليَّ كذا، فأَنت بريءٌ من الباقي لا يصحُّ)، لأنه تعليقٌ بالشرط صريحاً، وتعليق البَرَاءةِ بالشرط باطلٌ لما فيها من معنى التمليك. والفرقُ بين التقييد والتعليق إِما من حيث اللفظ: فإِن التقييدَ لا يُستعمل فيه لفظُ الشرط صريحاً وفي التعليق يُستعمل، وإِما من حيث المعنى: فإِن تقييد الإبراء بالشرط يحصُل به الإبراء في الحال، بشرط وجود ما قيد به، وفي التعليق لا يحصُل في الحال لأن المعلق بالشرطُ يُعدُّ معدوماً قبله، فكان التعليقُ بمنزلةِ الإضافة إِلى وقت الشرط.

(ولو صالح أَحدُ رَبَّيْ دينٍ عن نِصْفِهِ) أَي نصف الدَّيْن (على ثوبٍ اتَّبَعَ شَريكهُ غريمَه بنصْفِهِ) أَي نصف الدين لأن نصيبَه باقٍ في ذِمَّة الغريم، فإِن القابضَ قبض نصيبَ نفسِهِ (أَوْ أَخذ نِصْفَ الثوب من شريكِهِ) لأن له حقَّ المشاركة، إِلا أَنْ يضمنَ له شريكُهُ رُبُعَ الدَّين، لأن حقه في ذلك. قيد المصالح عنه بكونِهِ دَيناً، لأنه لو كان عيناً مشتركة لاختص المصالِحُ ببدل الصلح، وليس لشريكه أَنْ يشارَكَه فيه لكونه معاوضةً من كل وَجْه، لأن المصالَحَ عنه مالٌ حقيقةً، بخلاف الدَّيْن. وقيد المصالح عليه بكونه ثوباً، لأنه لو صالَحَه على جنسِهِ لشاركه فيه أَوْ رجع على المَدِين.

وقال البِرْجَنْدي: وإِنّما قال: على ثوب لأنه لو وقعت المُقاصَّة

(2)

بدَينِهِ السابق لا

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(2)

المقَاصَّة: المقاصة بين شخصين: طرح كل واحد ماله على الآخر مما عليه له. معجم لغة الفقهاء ص 451.

ص: 192

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

يرجعُ الشريكُ الآخَر عليه. وقال أَبو المكارم: أَما ذِكْرُ الثوبِ فاتفاقيٌّ، إِذْ لو صالح عن نصيْبِهِ على جنس الدين كان للساكت اتباعُ غريمه بنصفِهِ الباقي، أَوْ اتباع شريكه بنصف المصالَح عليه. ولو قال سراً: لا أُقرُّ بما لَكَ عليه حتى تؤخِّرَه عني أَوْ تَحُطَّ، ففعل، صح

(1)

، لا عن إِكراه، لأنه بهذا لا يصيرُ مَكرَهاً، لأنه يمكنه دفع هذا بإِقامة البينة أَوْ الاستحلاف لينكُل. أَلا ترى أَنْ الصُلْحَ عن الإنكارِ يجوزُ ولا يتحققُ فيه معنى الإكراه لما قدمناه، والله تعالى أَعلم.

(1)

عبارة المخطوط: "أَو تحط منه بعضه، ففعل جاز عليه، إذ الحط صدر عن المالك

".

ص: 193

‌كتاب الحُدُود

والحدُّ عقوبة مُقَدَّرَةٌ، تَجِبُ حقًّا لله تعالى. فلا تعزيز ولا قِصَاصَ حَدًّا.

والزِّنَا وَطْءٌ في قُبُلٍ خالٍ عن مِلكٍ

===

كتاب الحُدُوْد

(الحدُّ) لغةً: المنع. ويُسمى التعريفُ الجَامِعُ المانعُ حداً لأنه يجمعُ معاني

(1)

الشيءَ ويمنعُ دخولَ غيرِهِ فيه. وشرعاً: (عقوبةٌ مقدرةٌ تجبُ حقاً لله تعالى) لأنها تمنعُ من ارتكابِ أَسبابها. وحدود الله أَيضاً محارِمُهُ، لأن العبادَ ممنوعون من اقترابها، قال الله تعالى: ({تلك حدودُ افلا تَقْرَبُوُهَا}

(2)

، وهي أَيضاً أَحكامه، لأنها تمنع من التجاوز عنها، قال عز وجل:)

(3)

{تلك حدودُ اللَّهِ فلا تَعْتَدُوها}

(4)

.

وإِنما كان الحدُ حقاً لله لأنه شُرِعَ لمصلحةٍ تعود إِلى الناس كافة، فحدُّ الزنا لحفظِ الأنساب، وحدُّ القذْفِ لحفظ الأعراضِ، وحدُّ السرقة لحفظِ الأموال.

والمقصودُ الأصليُ من شَرْعِ الحدِّ هو انزجارُ النفوسِ عن شهواتِهَا غير الشرعية، والردعُ عما يتضررُ به العباد، وصيانة دار الإسلام عن الفساد.

وأَما الطُّهْر عن الذنب فليس بحكمٍ أَصلي لإقامة الحدِّ، لأنه لا يحصل إِلا بالتوبة. قال الله تعالى في حق قُطَّاعِ الطريق:{ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيَا ولَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيْمٌ إِلاَّ الّذِيْنَ تَابُوا من قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عليهم فاعْلَمُوا أَنّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ}

(5)

، ولهذا يُقام الحدُّ على الكافر، ولا طُهْرَ له، وعلى كُرْهٍ ممن أُقيم عليه.

(فلا)(تعزيزَ ولا قصاصَ حداً) أَما التعزيز

(6)

فلعدم التقدير، وأَما القصاص فلأنه يجب حقاً للعبد، ولهذا أَجاز العفو عنه والاعتياض منه.

(والزنا) أَي الموجِب للحد، وهو بالقصر وقد يمد (وطءٌ في قُبُلٍ خالٍ عن ملكٍ

(1)

في المطبوع: "ما في" بدل "معاني".

(2)

سورة البقرة، الآية:(187).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(4)

سورة البقرة، الآية:(229).

(5)

سورة المائدة، الآيتان:(33 و 34).

(6)

التعزير: ما يقدّره القاضي من العقوبة على جريمة لم يرد في الشرع عقوبةٌ مقدرة عليها. معجم لغة الفقهاء ص 136.

ص: 194

وشُبْهَتِهِ. ويَثْبُتُ بشهادةِ أَربعةٍ بالزِّنَا،

===

وشبهتِهِ) كمعتدة البائنِ الثلاث. قال صاحب «الهداية» : ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: («ادرؤا الحدودَ بالشبهات». رواه ابن عَدِي بهذا اللفظ، والمعروف:)

(1)

«ادرؤا الحدودَ عن المسلمينَ ما استطعتم» . رواه أَحمد وغيره. ولا بد من تقييد الوطاء بكون الموطوءةِ مُشتهاة، ليخرج وطءُ البهيمةِ والتي لا تُشْتهى لموت أَوْ صغرٍ، وبكون الواطء مكلفاً طائعاً ليخرج المجنونُ والصبي والمُكْرَه، وبالقُبُلِ لأن الزنا يختص به عند أَبي حنيفة وأَلحقا به الدُّبر، فرتَّبا على الإيلاج فيه الحد، لما سيأتي.

(ويَثْبُتُ) الزنا ثبوتاً ظاهراً عند القاضي (بشهادةِ أَربعةٍ) لا بمجردِ علم القاضي، لأن علمَه ليس بحجةٍ في هذا، لأن الحدودَ تندفع بالشُبهة والتُّهْمة، وإِن كان القِيَاسُ أَنه حجةٌ، كما قاله أَبو ثور والشافعي (بالزنا) لا بالوطء ولا بالجماع، لأن لفظ الزنا هو الدال على فعلِ الحرام والفاحشةِ، كما قال الله تعالى:{ولَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سِبْيَلاً}

(2)

والوطءُ والجماعُ محتملان. وشُرِط في الشهود أَنْ يكونوا أَربعةً، لقوله تعالى:{واللاتي يَأتِيْنَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}

(3)

وقوله: {والّذين يَرْمُوْنَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بأَربعةِ شُهَدَاءَ}

(4)

.

وذلك لأن الله تعالى يحبُ الستر على عبادِهِ. وفي اشتراطِ الأربعة يتحقق معنى الستر، إِذْ وقوف الأربعةِ على هذه الفاحشة في غاية من النُّدْرة. ويُشترط اتحادُ مجلس شهادتهم، وبه قال مالك، وأَحمد، والأوزاعي، والحسن بن صالح، حتى لو شَهِدُوا بالزنا متفرقين يُحَدُّون حدَّ القذف، ومجلسُ شهادتِهِم هو ما دام الحاكم جالساً. ولا يُشترط عند الشافعي اتحادُ مجلِسِهم لإطلاق قوله تعالى:{فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}

(5)

وللاعتبار بسائر الحقوق.

ولنا قول عمر: ولو جاءَ مثلُ ربيعةَ ومُضَر فُرَادى لجلدتُهم، ولأن قولَ الواحد قبل قول غيره يقعُ قذفاً، وكذا الثاني والثالث، فلا ينقلب شهادةً. ولو كان الزوجُ أَحدَهم تُقبل عندنا، ولا تُقبل عند الشافعي، لأن فيه تُهمة. ولنا أَنه يُعَيَّرُ بزنا امرأَته، فكان أَبعد عن التهمة، وصار كشهادةِ الوالد على زنا ولده.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سورة الإسراء، الآية:(32).

(3)

سورة النساء، الآية:(15).

(4)

سورة النور، الآية:(4).

(5)

سورة النساء، الآية:(15).

ص: 195

فيسأَلُهم الإمامُ: ما هو؟ وكيف هو؟ أَين زنا؟ ومتى زنا؟ وبمَنْ زنا.

فإِن بَيَّنُوا وقالوا: رأَينا كالمِيل في المُكْحُلَةِ، وعُدِّلوا سِرًّا وعلَنًا، حَكَمَ بِهِ، وبإقرَارِه أَربعًا

===

(فيسأَلُهم) أَي فإِذا شَهِدُوا سأَلهم (الإمام) أَوْ نائبه في الأحكام (ما هو) أَي عن ماهيةِ الزنا، لأنه قد يُطلق على كل فعل حَرَامٍ بالنسبة إِلى النساءِ، ففي الحديث:«إِنْ العينَانِ لتزْنِيَانِ وزِنَاهُمَا النَّظَر، وإِن اليَدَيْن لتزنيان وزناهما البَطْش، وإِن الرجلَين لتزنيان وزناهما المشيُ، والفرجُ يصدِّق ذلك أَوْ يُكذبه»

(1)

.

(و) يسأَلهم (كيف هو) أَي عن كيفيته، لئلا يكون ما شهدوا به وقع منه وهو مُكْرَه، أَوْ تماسّ بالفرجين لا إِيلاج، (و) يسأَلهم (أَين زنا) أَي عن مكانِهِ، لأن الزاني في دار الحرب أَوْ البغي لا يُحد.

وعند الشافعي يُحد. ولنا ما رواه البيهقي عن الشافعي قال: قال أَبو يوسف: حدثنا بعض مشايخنا عن مكحول عن زيد بن ثابت قال: لا تقام الحدود في دار الحرب مخافَة أَنْ يلحقَ أَهلُهَا بالعدو. وروى الترمذي والنسائي عن بُسْر بن أَرطاة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تُقطع الأيدي في السفر» . ولفظ الترمذي: في الغزو. وأَما قول صاحب «الهداية» : ولنا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُقام الحدود في دار الحرب» فرفعُهُ غيرُ معروف.

(و) يسأَلُهم (متى زنا) أَي عن زمانه، لأن الزنا المتقادِم، أَوْ في حال الصِّبى أَوْ الجنون لا يُوجب الحد. ومدة التقادم شهر في الأصح. (و) يسأَلهم (بمن زنا)، لئلا تكون زوجته أَوْ جاريته، أَوْ جارية ابنه، أَوْ موطوءة بشُبهة لا يعلمون بها.

(فإِن بيَّنُوا) ما سأَلهم عنه (وقالوا: رأَينا) الرجل زنا بها (كالمِيل في المُكْحُلة) وهو بضمتين: وعاء الكُحل (وعُدِّلوا سراً وعلَنَاً) أَما عند مَنْ لا يَكْتَفِي بظاهرِ العدالة في غير الحدود من الحقوق فهو ظاهر، وأَما عند من يَكْتَفِي فهو احتيال في درء الحدود منه احتياطاً

(2)

(حَكَمَ بِهِ) أَي بالزنا أَوْ بالحد. قيد ببيان الشهود ما سأَلوا عنه، لأنهم لو لم يبيِّنُوا بأَن لم يزيدوا على قولهم: زنا، لا يُحدُّ المشهودُ عليه للشبهة، ولا الشهود لأنهم شهدوا بالزنا، وسؤالهم إِنما هو للاحتياط، حتى لو وصفُوه بغير وصفِهِ يُحدَّون، ثم القاضي يحبسُ المشهودَ عليه بالزنا حتى يسأَل عن الشهود.

(وبإِقراره) أَي ويثبتُ الزنا بإِقرار الزَّاني بأَنه زنا، حراً كان أَوْ عبداً (أَربعاً) أَي

(1)

أَخرجه الإمام أَحمد في المسند 2/ 343.

(2)

عبارة المخطوط: "فهو احتيال في درء الحد ودفعه احتياطًا

".

ص: 196

في أَربعةِ مجالس، رَدَّهُ الإمامُ كَلَّ مَرَّةٍ،

===

أَربع مراتٍ (في أَربعةِ مجالس) من مجالسِ المُقرّ، فإِن الإقرار قائمٌ به فيعتبرُ مجلِسُهُ دون مجلسِ القاضي، (رده الإمام كلَّ مرةٍ) أَي من المرات الثلاث، فإِنه إِذا أَقر مرةً رابعة لا يرده بل يقبله فيسأَله كما مَرَّ من الأمور الخمسة. إِلا متى زنا، لأن التقادم لا يمنع الإقرار. وقيل: يسأَله لاحتمال أَنْ يكون في زمن الصِّبَى أَوْ الجنون. ثم اختلاف مجالس المُقرّ في الزنا شرطٌ عندنا خلافاً لأحمد وابن أَبي ليلى، فإِنهما قالا: لا يشترط اختلاف مجالس المقرّ، وإِنما يُشْتَرط العدد اعتباراً للإقرار بالشهادة. ولنا ما سيأْتي من حديث مَاعِز الأسْلَميّ وهو بكسر مهملة فزاي.

وفي «الإيضاح» : ينبغي للإِمام أَنْ يزجره عن الإقرار ويُظْهِر الكراهة له، فقد روى أَبو داود والنَّسائي وأَحمد في «مسنده» عن يزيد بن نُعَيْم بن هَزَّال عن أَبيه قال: كان ماعزُ ابن مالك يتيماً في حَجْرِ أَبي فأَصاب جاريةً من الحي، فقال له أَبي: ائْت رسول الله فأَخبِرْه بما صنعت لعلَّه يستغفر لك، وإِنما يريد بذلك رجاء أَنْ يكون له مخرج فأَتاه

(1)

فقال: يا رسول الله إِني زنيتُ (فأَقم عليّ كتاب الله)، فأَعرض عنه، فعاد حتّى قالها أَربع مراتٍ.

فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنك قد قلتها أَربع مراتٍ، فبمن؟» قال: بفلانة. قال: «هل ضاجعتها؟» قال: نعم. قال: «هل باشرتها؟» قال: نعم. قال: «هل جامعتها؟» قال: نعم. فأَمر به أَنْ يُرْجم (فأُخرج إِلى الحَرَّة)

(2)

، فلمَّا وجد مسّ الحجارة خرج يشتدّ، فلقيه عبد الله بن أُنَيْس فنزع له بَوظِيْف

(3)

بعيرٍ فقتله. وذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «هلاّ تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه» . وزاد فيه أَحمد: قال هشام: فحدَّثني يزيد بن نُعَيْم عن أَبيه أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين رآه: «والله يا هزَّال لو كنت سَتَرْته بثوبك لكان خيراً لك ممّا صنعت به» .

وروى أَيضاً أَبو داود والنَّسائي من حديث أَبي هريرة قال: جاء الأسلميُّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه أَنه أَصاب امرأَة حراماً أَربع مراتٍ، كل ذلك يُعْرض عنه. فأَقبل في الخامسة فقال:«أَنِكْتَها؟» (قال: نعم)

(4)

، قال: «حتى غاب ذلك منك في

(1)

في المطبوع: فاتبعه والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في سنن أبي داود 4/ 573 - 576، كتاب الحدود (37)، باب رجم ماعز بن مالك (24)، رقم (4419).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط والصواب إثباته.

(3)

وظيف البعير: خُفُّه، وحوله كالحافر للفرس. النهاية 5/ 205.

(4)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط، وهي صحيحة لموافقتها لما في سنن أبي داود 4/ 580، كتاب الحدود (37)، باب رجم ماعز بن مالك (24)، رقم (4428).

ص: 197

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ذلك منها»؟ قال: نعم. قال: «كما يغيب المِرْوَد

(1)

في المُكْحُلَة، والرِّشَاءُ

(2)

في البئر؟» قال: نعم. قال: «فهل تدري ما الزنا؟» قال: نعم، أَتيت منها حراماً مثلما يأَتي الرجل من امرأَته حلالاً. قال:«فما تريد بهذا القول؟» قال: أَريد أَنْ تطهرّني، فأَمر به فرُجِمَ.

وفي «صحيح مسلم» عن بُرَيْدة قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إِذْ جاء ماعز بن مالك فقال: يا رسول الله إِني زنيت وإِنما

(3)

أَريد أَنْ تطهرَّني. فقال له صلى الله عليه وسلم: «ارجع» . فلما كان الغد، أَتاه أَيضاً فاعترف عنده بالزنا، فقال له:«ارجع» . ثمّ عاد الثالثة فاعترف عنده بالزنا، ثم رجع الرابعة فاعترف. فأَمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فحُفِرَ له حفرةٌ فجُعِلَ فيها إِلى صدره، ثمّ أَمر الناس فرجموه. قال بُرَيْدة: كنا نتحدث ـ أَصحاب نبي الله ـ أَنْ ماعزاً لو جلس في رَحْله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يطلبه، وإِنما رجمه بعد الرابعة.

وقال مالك والشافعي: يكفي في الإقرار مرَّة واحدة لما روى الشيخان من حديث أَبي هريرة وزَيْد بن خالدِ الجُهَنِيِّ: أَنْ رجلاً من الأعراب أَتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أَنْشُدُك الله إِلاَّ قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر ـ وهو أَفقه منه ـ: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل» . قال: إِنْ ابني هذا كان عَسِيفاً على هذا ـ أَي أَجيراً له ـ فزنى بامرأَته، وإِني أُخْبِرْت أَنْ على ابني الرجم، فافتديت منه بمئة شاةٍ ووليدةٍ

(4)

: فسأَلت أَهل العلم، فأَخبروني: أَنَّ على ابني جلد مئة وتغريب عام، وأَن على امرأَة هذا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والذي نفسي بيده لأقْضِيَنَّ بينكما بكتاب الله، أَمّا الوليدة والغنم فردٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عامٍ. واغْدُ يا أُنَيْس إِلى امرأَة هذا، فإِن اعترفت فارجمها» . قال: فغدا عليها، فاعترفت، فأَمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرُجِمَت.

(ووجه الدلالة أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم

(5)

عَلَّق رجمها باعترافها، ولم يشترط الأربع. وروى مسلم عن بُرَيْدَة قال: أَتت امرأَة من غَامِدٍ من الأزْد فقالت: يا رسول الله طَهِّرْنِي. فقال: «وَيْحَكِ ارجعي فاستغفري الله وتُوبي» . قالت: أَتريد أَنْ تَرُدَّنِي كما

(1)

المِرْوَدُ: الميل من الزجاج أَو المعدن يُكْتَحَلُ به. المعجم الوسيط ص 381، مادة (رود).

(2)

الرِّشاء: حبل الدَّلو، ونحوها. المعجم الوسيط ص 348، مادة (رشا).

(3)

عبارة المطبوع: إِنى تبت وأَنا أَريد

والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1323 كتاب الحدود (29) باب من اعترف على نفسه بالزنا (5)، رقم (23 - 1695).

(4)

الوليدة: الجارية والأَمَة وإن كانت كبيرة. النهاية 5/ 225.

(5)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

ص: 198

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

رددت ماعزاً؟. قال: «وما ذاك؟» قالت: إِني حُبْلَى من زنا. فقال لها: «حتى تضعِي ما في بطنكِ؟» قال: فَكَفَلَهَا رجلٌ من الأنصار حتى وضعت. ثم أَتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغَامِدِيّة. فقال: «إِذاً لا نرجمها ونَدَع ولدها صغيراً ليس له من يُرْضِعُهُ» . فقام رجلٌ من الأنصار فقال: إِليْ رضاعه يا رسول الله، فرجمها.

قالوا: وإِنما ردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ماعزاً أَربعَ مْراتٍ، لأنه صلى الله عليه وسلم ظنَّ أَنْ في عقله شيئاً، لا لكونه شرطاً، في وجوب الحدّ.

وقد جاء في «صحيح مسلم» عن جابر بن سَمُرَة قال: أُتِيَ رسول صلى الله عليه وسلم برجلٍ قصيرٍ أَشعثَ

(1)

، ذي عضلاتٍ، عليه إِزارٌ، وقد زنى. فردّه مرتين، ثم أَمر به فرُجِمَ. والعَضَلة بفتحتين: كل لحمة صلبة.

وفيه أَيضاً عن أَبي سعيد الخُدْرِي: «أَنه اعترف بالزنا ثلاث مراتٍ. قالوا: وهذا يُضْعِفُ القول باشتراط الأربع. وأُجيب عن حديث العَسِيف بأَنْ معناه: «واغدُ يا أُنَيْس على امرأَة هذا، فإِن اعترفت» الاعتراف المعهود بالردّ أَربع مراتٍ. وأَمّا حديث الغامدية، فالجواب عنه أَنْ الراوي قد يختصر الحديث، ولا يلزم من عدم الذِّكْر عدمُ الوقوع. وأَيضاً فقد ورد في «مسند البزَّار»: أَنه ردَّها أَربع مراتٍ.

وأَمّا قولهم: أَنه صلى الله عليه وسلم ردّ ماعزاً أَربع مرّاتٍ لأنه ظنّ أَنْ بعقله شيئاً، فالجواب عنه: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم سأَل عن عقله بعد اعترافه الرابعة، لما في الصحيحين من حديث جابر ابن عبد الله: أَنْ رجلاً من أَسلم جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزِّنا فأَعرض عنه، ثم اعترف فأَعرض عنه، حتّى شهد على نفسه أَربع شهادات. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:«أَبك جنونٌ؟» قال: لا. قال: «فهل أُحْصِنْتَ؟» قال: نعم، فأَمر به فرُجِمَ. زاد البخاري: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيراً، وصلّى عليه. انتهى.

ولو كان التكرار أَربعة إِنما هو لاختبار عقله لَمَا كان في السؤال عنه بعد الرابعة فائدةٌ، وكيف وقد ورد أَنه صلى الله عليه وسلم ردّه بعد أَنْ أُخْبِرَ بعقله فيما رواه مسلم من حديث بُرَيْدَة

(2)

: أَنْ ماعزاً أَتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّه، ثم أَتاه الثانية من الغد فردَّه، ثم أَرسل إِلى قومه:«هل تعلمون بعقله بأساً؟» فقالوا: ما نعلمه إِلا وَفيّ العقل من صالحينا. فأَتاه

(1)

شَعِثَ الشعر: تغيَّر وَتَلَبَّدَ لقلّة تعهده بالدُّهن. المصباح المنير ص 314، مادة (شعث).

(2)

حُرِّفت في المطبوع إِلى: أَبي بُرَيْدة، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1323، كتاب الحدود (29)، باب من اعترف على نفسه بالزنا (5)، رقم 23 - 1695).

ص: 199

فإِنْ بَيَّن حُبِّبَ تَلْقِينُهُ رُجُوْعَهُ، بِـ: لَعَلَّكَ لَمَسْتَ وَنَحْوه،

===

الثالثة، فأَرسل إِليهم أَيضاً يسأَل عنه، فأَخبروه: أَنه لا بأْس به ولا بعقله. فلمَّا كان الرابعة حَفَرَ له حُفَرَةً فرجمه.

وفي «مسند أَحمد» ، و «مصنف» ابن أَبي شَيْبَة عن عبد الرحمن بن أَبْزَى، عن أَبي بكر أَنه قال: أَتى ماعز بن مالك النبيّ صلى الله عليه وسلم فاعترف وأَنا عنده مرّةً فردّه، ثم جاء فاعترف عنده الثانية فردّه، ثم جاء فاعترف عنده الثالثة، فردّه، فقلت له: إِنْ اعترفت الرابعة رجمك. قال: فاعترف الرابعة فحبسه، ثم سأَل عنه، فقالوا: لا نعلم به إِلاَّ خيراً، فأَمر به فرُجِمَ. وهذا صريح الدلالة على اشتراط الأربع لكن في إِسناده جابراً الجُعْفِيّ.

وأَما قولهم: جاء في الصحيح: أَنه صلى الله عليه وسلم ردّه مرتين أَوْ ثلاث مرّات، فالجواب عنه أَنه ردّه مرتين بعد مرتين، واختصره الراوي، يدلّ على ذلك ما رواه أَبو داود والنَّسائي من حديث سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عبّاس قال: أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بماعزِ بن مالك، فاعترف مرتين، فقال:«اذهبوا به» ، ثم قال:«ردوه» . فاعترف مرتين حتّى اعترف أَربعاً، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«اذهبوا به فارجموه» . فتبين من هذا أَنْ المرتين المذكورتين في «الصحيح» من الأربع، وكذا رواية الثلاث. وتتفق بذلك الأحاديث، والله تعالى أَعلم.

ولا يُعْتبر إِقراره عند غير القاضي ممّن لا ولاية له على إِقامة الحدود ولو كان أَربع مراتٍ، حتّى لا تُقْبل الشهادة عليه بذلك، لأنه إِنْ كان منكراً فقد رجع عن إِقراره، وإِن كان مقرّاً فلا تُعْتَبر الشهادة بالإقرار مع الإقرار. ولو أَقرّ بالزنا مرتين، وشهد عليه أَربعة لا يحدّ عند أَبي يوسف. وقال محمد: يُحَدّ لأن هذا الإقرار ليس بحجَّة، فلا يعتدّ به، فبقيت الشهادة وحدها حُجَّة فتُقْبل. ولأبي يوسف: أَنْ الإقرار موجودٌ حقيقةً، لكنه غير مُعْتَبرٍ شرعاً، فأَورثت حقيقتُه شبهةً، والحد يُدْرأ بالشبهة. ولا شبهة أَنّ حجَّة محمد أَقوى، فإِن الشهادة إِذا كانت وحدها حجّة فكيف يُورِث بتأْكيد إِقراره شبهة.

(فإِنْ بَيَّنَ) أَي المقِرُّ ما مرّ أَنه يُسْأَلُ عنه (حُبِّبَ) أَي نُدِبَ (تَلْقِينُهُ رُجُوْعَهُ، بِـ: لَعَلَّكَ لَمَسْتَ وَنَحْوِهِ) وهو لعلك قبَّلْت، لعلّك وطئت بشبهةٍ، لما في «المستدرك» عن حَفْص بن عمر العَدَني: حدّثنا الحكم بن أَبان، عن عِكْرِمة، عن ابن عبَّاس: أَنَّ ماعزاً أَتى إِلى رجلٍ من المسلمين فقال له: إِني أَصبت فاحشةً، فما تأَمرني؟. فقال له: فاذهب إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك، فأَتى النبي صلى الله عليه وسلم فأَخبره، فقال له:«لعلَّكَ قَبَّلتها» . قال: لا. قال: «أَمسستها؟

(1)

». قال: لا. قال: «فعلت بها كذا ولم

(1)

في المخطوط: لمستها، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لرواية الحاكم في المستدرك 4/ 361 - 362.

ص: 200

فإِن رَجَعَ قَبْلَ حَدِّهِ أَو وَسَطَهُ خُلِّي، وَإلَّا حُدَّ.

وَهُوَ لِلْمُحْصَنِ، أَي: لِحُرٍّ مُكَلَّف مُسْلِمٍ، وَطِئ بِنِكَاحٍ صَحِيح، وَهُمَا بِصِفَةِ الإِحْصَانِ، رَجْمُهُ في فَضَاءٍ حَتى يَمُوْتَ.

===

يكن؟» قال: نعم. قال: «اذهبوا وارجموه» . ولفظ البخاري: «لعلَّك قبَّلت أَوْ غمزت أَوْ نظرت» . قال: لا. قال: «أَفَنِكْتَهَا» ؟ قال: نعم، فعند ذلك أَمر برجمه.

(فإِن رَجَعَ قَبْلَ حَدِّهِ، أَوْ وَسَطَهُ

(1)

، خُلِّيَ) أَي تُرِكَ، وهو قول الشافعيّ وأَحمد ورواية عن مالك. وعنه وهو قول ابن أَبي ليلى: أَنه لا يُخَلّى، لأن الحدّ وجب بإِقراره، فلا يبطل بعد ذلك بإِنكاره إِذا وجب بالشهادة، وصار كالقَود وحد القذف. وعنه: إِنْ ذكرَ لإقراره تأويلاً بأَن قال: حَسِبْتُ المفاخذة زنا، خُلّي. (وَإِلاَّ) أَي وإِن لم يرجع (حُدَّ) وإِنما يُخَلَّى إِذا رجع قبل كمال الحدّ، لأن الرجوع يحتمل الصدق كالإقرار، وليس أَحد يكذبه فيه فتتحقّق الشبهة في الإقرار بخلاف ما فيه حقّ العبد ـ وهو القصاص والقذف ـ لوجود من يكذّبه فيه.

وعلماؤنا والشافعيّ اعتبروا الإقرار من ذميّ بالزنا بذمية حتى يُحَدُّ به، ولا يعتبره مالك. ولا تَحَدُّ امرأَة بظهور حَبَلٍ بها من غير بَعْلٍ لها، لأن احتمال كونه من نكاحٍ صحيحٍ أَوْ فاسدٍ شبهةٌ دارئةٌ للحدّ. وحدَّها مالك لِمَا سيأَتِي من قول عليّ: أَيما امرأَةٍ جيءِ بِهَا وبها حَبَلٌ أَوْ اعترفت، فالإمام أَول مَنْ يرجم، (ولأن ظهوره بلا زوج دليلُ زناها، فلو ادعت أَنه من نكاحٍ لا تقبل عنده، لأنه

(2)

) خلاف الظاهر.

(وَهُوَ) أَي الحدّ (لِلْمُحْصَنِ) بفتح الصاد وكسرها (أَي لِحُرَ مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ) وفي الذمي خلافٌ يأَتي (وَطِاء) امرأَةً قبل الزنا (بِنِكَاحٍ صَحِيْح وَهُمَا بِصِفَةِ الإِحْصَانِ) أَي قبل هذا الوطاء ـ والجملة حالية ـ حتى لو وطاء بنكاحٍ صحيحٍ ـ وهو بصفة الإحصان ـ كافرةً أَوْ مملوكةً أَوْ مجنونةً أَوْ صبيّةً، أَوْ وهو بغير صفة الإحصان مسلمةً حرَّةً بالغةً عاقلةً لا يكون مُحْصَنَاً. فقوله: هو لِلْمحْصَن مبتدأ خبره قوله: (رَجْمُهُ في فَضَاءٍ حَتَّى يَمُوْتَ).

أَمّا الحرّية، فلأن الإحصان يطلق عليها. قال الله تعالى:{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ}

(3)

أَي ما على الحرائر بإِجماع

(1)

وَسَطَهُ: أي وسط الرجم.

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(3)

سورة النساء، الآية:(25).

ص: 201

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الأُمة، وقال الله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ}

(1)

أَي الحرائر، ولأنها ممكَّنة من النكاح الصحيح المغني عن الزنا بخلاف الأَمة. وأَمّا التكليف، فلأَن العقل والبلوغ شرط الأهلية للعقوبات كلِّها. وأَمّا التزوج بنكاحٍ صحيحٍ، فلأن الإحصان يُطْلَق عليه، قال الله تعالى:{والمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ}

(2)

أَي والمنكوحات، وقال:{فإِذَا أُحْصِنَّ}

(3)

أَي تزوَّجن، ولأن به التمكّن من وطاء الحلال. وأَمّا الوطاء فلقوله صلى الله عليه وسلم:«الثَّيِّبُ بالثيب»

(4)

الحديث، والثُّيُوبَة لا تُعْتَبر بغير وطاءٍ، ولأنه بإِصابة الحلال تنكسر شهوته فيستغنى عن الزنا.

والمُعْتَبَر إِيلاج الحَشَفَة بحيث يجب الغُسْل، ولا يُشْتَرَط الإنزال. وشُرِطَ أَنْ يكون بنكاحٍ صحيحٍ، لأن الجماع في النكاح الفاسد لا يصير به مُحْصَنَاً، لأنه نوع من الوطء الحرام، فلا تتم النعمة به ويثبت الإحصان برجلٍ وامرأَتين عندنا، وما قصرنا ثبوت الإحصان على شهادة الرِّجال كمالك والشافعيّ وزُفَر.

وإِنّما كان حدّ المُحْصَن الرجم لِمَا في حديث جابر المتقدّم أَنه صلى الله عليه وسلم سأَل ماعزاً: «هل أَحصنت؟» قال: نعم. فأَمر برجمه

(5)

. ولما روى الشيخان من حديث ابن عباس: أَنْ عمر بن الخطاب خطب فقال: إِنْ الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحقّ، وأَنزل عليه الكتاب، فكان فيما أَنزل عليه آية الرجم فقرأَناها (وعقلناها)

(6)

وَوَعَيْنَاهَا. ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأَخشى إِنْ طال بالناس الزمان أَنْ يقول قائلٌ: ما نجد آية الرجم في كتاب الله. فَيَضِلُّوا بترك فريضةً أَنزلها الله، فالرجم حقّ على من زنى من الرجال والنساء إِذا كان مُحْصَنَاً إِنْ قامت البيِّنة، أَوْ كان الحَبَل أَوْ الاعتراف، (وايم الله، لولا أَنْ يقول الناس: زاد عمر في كتاب لله لكتبتها)

(7)

.

(1)

سورة النساء، الآية:(25).

(2)

سورة النساء، الآية:(24).

(3)

سورة النساء، الآية:(25).

(4)

أَخرجه الإمام مسلم في صحيحه 3/ 1316 - 1317، كتاب الحدود (29)، باب حدّ الزنا (3)، رقم (13 - 1690).

(5)

سبق تخريجه من قبل الشارح ص 199.

(6)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1317، كتاب الحدود (29)، باب رجم الثيّب في الزنا (4)، رقم (15 - 1691).

(7)

ما بين الحاصرتين زيادة غير موجودة في الصحيحين، وإنما أَخرجها أَبو داود في سننه 4/ 572 - 573، كتاب الحدود (37)، باب في الرجم (23)، رقم (4418)،.

ص: 202

يبدأ بِهِ شُهُوْدُهُ،

===

وخالف الشافعي في اشتراط الإسلام في الإحصان، وهو رواية عن أَبي يوسف لِمَا في الكتب الستة ـ مختصراً ومطوَّلاً ـ من حديث ابن عمر أَنَّ اليهود جاؤوا إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكروا له: أَنْ رجلاً منهم وامرأَةً زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأْن الرجم؟» قالوا: نفضحهم ويُجْلَدون، فقال عبد الله بن سَلَام: كذبتم، إِنَّ فيها الرجم، فأَتوا بالتوراة فنشروها، فجعل أَحدهم يده على آية الرَّجم وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سَلَام: ارفع يدك. فرفعها فإِذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدقت يا محمد، فيها آية الرجم. فأَمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا.

ولنا ما روى ابن إِسحاق بن رَاهُوْيَه من حديث ابن عمر أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أَشرك بالله فليس بمُحْصَن» . قال إِسحاق: ـ رفعه مرَّة ـ، فقال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقفه مرّةً، ومن طريق إِسحاق بن رَاهُويه رواه الدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» ، ثم قال: لم يرفعه غير إِسحاق، والصواب أَنه موقوفٌ. وفي روايةٍ أَخرى عنه: «لا يُحَصِّن المُشْرك

(1)

بالله شيئاً». وروى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» أَنه صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك لَمّا أَراد أَنْ يتزوج يهودية: «لا تتزوجها، فإِنها لا تُحْصِنْك» . والجواب عن رَجْمِه صلى الله عليه وسلم لليهوديين أَنه كان بحكم التوراة، والكلام فيه بحكم الإسلام.

(يَبْدأُ بِهِ) أَي بالرجم (شُهُوْدُهُ) لأن الشاهد قد يتجاسر على أداء شهادة كاذباً، ثم إِذا آل آمره إِلى القتل يمتنع عنه، فكان في بدئهم احتيالٌ لدرء الحدّ. وأُمِرنا به لقوله صلى الله عليه وسلم:«ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم» . رواه أبو داود وأَبو يَعْلى المَوْصِلي

(2)

. وفي «سنن ابن ماجه» : «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً» .

وفي «سنن الترمذي» : «ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإِن كان له مَخْرجٌ فخلُّوا سبيله، فإِن الإمام أَنْ يُخْطِاءَ في العفو خيرٌ له من أَنْ يُخْطِاء في العقوبة» . وقال مالك والشافعي، وأَحمد وأَبو يوسف في روايةٍ: لا يُشْتَرط بداية الشهود، لكن يستحبّ حضورهم وبدايتهم بالرميّ اعتباراً بالجلد. وأُجيب بأَن كلّ واحدٍ لا يُحْسِن الجَلْد فرُبَّما يقع مُهْلِكاً، والإهلاك غير مُسْتَحَقّ، ولا كذلك الرجم فإِنه إِتلافٌ.

(1)

لفظ المخطوط: "لا يحصن الشرك بالله شيئًا". والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في سنن الدَّارقطني 3/ 146، 147 كتاب الحدود والديات وغيره، رقم (197).

(2)

في المطبوع: رواه أبو داود وأبو يعلى، وفي المخطوطة: رواه أبو يعلى، وهو الصواب لأننا لم نجده في سنن أبي داود، ولم يَعْزه المخرِّجون إِلى سنن أبي داود.

ص: 203

فإِن أَبَوا، أَو غَابُوا، أَوْ مَاتُوا، سَقَطَ. ثُمَّ الإمَامُ، ثُمَّ النَّاسُ. وَفِي المُقِرِّ يَبدَأُ الإمَامُ ثُمَّ النَّاسُ.

===

(فإِن أَبَوا) أَي الشهود كلّهم أَوْ بعضهم من البداية بالرجم (أَوْ غَابُوا أَوْ مَاتُوا سَقَطَ) الرجم لفوات الشرط، وهو بداية الشهود، لكن لا يقام الحدُّ عليهم، لأنهم ثابتون على الشهادة، وإِنما امتنعوا عن مباشرة القتل، وذلك لا يكون رجوعاً، فإِن الإنسان قد يمتنع عن القتل بحقَ. كذا في «المبسوط» .

(ثُمَّ الإمَامُ) إِنْ حضر، فإِنه لا ينبغي التقدم عليه إِلا بإِذنه (ثُمَّ النَّاسُ) فإِنه يُسْتَحَبّ للإمام أَنْ يأَمر جِماعة المسلمين أَنْ يَحْضُروا إِقامة الحد من الرَّجم والجلد لقوله تعالى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ}

(1)

وعن ابن عباس يكفي واحدٌ، وبه قال أَحمد، وقال عطاء وإِسحاق: اثنان، وقال الزُّهْرِيّ: ثلاثة، وقال الحسن البصري: عشرة. وعن الشافعيّ ومالك: أَربعة. وفي «الإيضاح» : لا بأْس لكل مَنْ رمى أَنْ يتعمّد (القتل، لأنه المقصود من الرجم إِلاّ إِذا كان المرجوم مَحْرماً من الراجم، فإِنه يستحبّ أَنْ لا يتعمّد)

(2)

قتله.

(وَفِي المُقِرِّ) أَي في رجمه (يَبْدَأُ الإمَامُ) بالرّجم (ثُمَّ النَّاسُ) وقال مالك والشافعيّ وأَحمد: لا يُشْتَرَط بداية الإمام ولكن يستحبُّ. ولنا: ما روى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» عن عبد الله بن إِدْرِيْس، عن يزيد عن عبد الرحمن بن أَبي ليلى: أَنْ علياً كان إِذا شهِد عنده الشهود على الزنا: أَمر الشهود أَنْ يرجموا، ثم رجم هو، ثم رجم الناس. وإِذا كان بإِقرارٍ: بدأَ هو فرجم، ثم رجم الناس بعده.

وروى أَيضاً عن أَبي خالدٍ الأحمر، عن الحجَّاج، عن الحسن بن سعد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن عليّ أَنه قال في امرأَة رجمها: أَيها الناس، إِنْ الزنا زِنَيان: زنا سرٍ، وزنا علانيةٍ، فزنا السر: أَنْ يشهد الشهود، فيكون الشهود أَول من يرمي، ثم الإمام، ثم الناس. وزنا العلانية: أَنْ يظهر الحَبَل أَوْ الاعتراف، فيكون الإمام أَول مَنْ يرمي. قال: وفي يده ثلاثة أَحجارٍ فرماها بحجرٍ فأَصاب صِمَاخها

(3)

، فاستدارت ورمى الناس.

وفي «سنن أَبي داود» من حديث ابن أَبي بكرة

(4)

عن أَبيه: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم رجم

(1)

سورة النور، الآية:(2).

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(3)

الصِّمَاخ: قناة الأُذن التي تفضي إِلى طبلته. المعجم الوسيط ص 522، مادة (صَمَخ).

(4)

حُرِّفْت في المطبوع إِلى: أَبي بكرة، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في سنن أَبى داود 4/ 590، كتاب الحدود (37)، باب المرأَة التي أَمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها من جُهَيْنَة (24)، رقم (4443).

ص: 204

وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ.

===

امرأَةً، فحفر لها إِلى الثَّنْدُوَةِ

(1)

. قال أَبو داود: وحُدِّثْتُ عن عبد الصمد بن عبد الوارث بإِسناده نحوه، وزاد: ثم رماها بحصاةٍ مثل الحِمِّصة. وقال: «ارموا واتقوا الوجه» ، فلما طَفِئَت

(2)

، أخرجها فصلّى عليها.

وفي «سنن البيهقي» عن الأجلح

(3)

عن الشَّعْبِيّ قال: جيء بِشُرَاحَة الهَمْدَانية إِلى عليّ بن أَبي طالب، فقال لها: لعلّ رجلاً وقع عليكِ وأَنت نائمةٌ، قالت: لا. قال: لعلَّه استكرهك. قالت: لا. قال: لعل

(4)

مولاك زَوَّجك من هؤلاء فأَنتِ تَكْتُمِيْنَهُ. يُلَقِّنُها لعلّها تقول: نعم، فأَمر بها فَحُبِسَتْ، فلمّا وضعت ما في بطنها أَخرجها يوم الخميس فضربها مئة وحفر لها يوم الجمعة في الرَّحَبَة، وأَحاط الناس بها وأَخذوا الحجارة، فقال: ليس هكذا الرَّجم، إِذاً يصيب بعضكم بعضاً، صفُّوا كصف الصلاة: صف خلف صف، ثم قال: أَيها الناس، (أُّيما امرأَةٍ جيء بها وبها حَبَلٌ أَوْ اعترفت، فالإمام أَول من يرجم ثم الناس.)

(5)

(وأَيُّما امرأَةٍ جيء بها، أَوْ رجل زاني، فشَهِدَ عليه أَربعة بالزِّنا، فالشهود أول مَنْ يَرْجم، ثم الإِمام، ثم النَّاس)،

(6)

ثم رجمها ثم أَمرهم فرجم صفٌ ثم صفٌ ثم قال: افعلوا بها ما تفعلون بموتاكم».

ورواه أَحمد في «مسنده» عن يحيى بن سعيد، عن مجاهد، عن الشعبيّ قال: كان لشُرَاحَة زوجٌ غائبٌ بالشام وإِنها حملت، فجاء بها مولاها إِلى عليّ فقال: إِنْ هذه زنت فاعترفت، فجلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وحفر لها إِلى السُّرَّة ـ وأَنا شاهدٌ ـ ثم قال: إِنْ الرجم سنةٌ سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو شهد على هذه أَحدٌ لكان أَول من يرميها الشاهد، ليشهد ثم يُتْبع شهادَتَه حَجَرُهُ، ولكنها أَقرَّتْ فأَنا أَول من يرميها، فرماها بحجرٍ ثم رمى الناس وأَنا فيهم. قال: فكنت والله ممَّن قتلها.

(وَغُسِّلَ) المرجوم (وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ) لما روى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» في كتاب الجنائز عن أَبي معاوية، عن أَبي حنيفة، عن عَلْقَمَةَ بن مَرْثَد، عن ابن

(7)

(1)

الثَّنْدُوَةُ: الثَّدْي. المعجم الوسيط ص 101.

(2)

طَفِئَتْ: أَي ماتت. المعجم الوسيط ص 559، مادة (طفيء).

(3)

في المطبوع: الأجلع. والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في سنن البيهقي 8/ 220، كتاب الحدود، باب من اعتبر حضور الإمام والشهود

(4)

في المطبوع: لعل مولاك زوجك، وفى المخطوط: لعل زَوْجَك. وهو الصواب لموافقته لما في سنن البيهقي 8/ 220، كتاب الحدود، باب من اعتبر حضور الإمام والشهود

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع، وهو موافق لما في السنن الكبرى للبيهقي 8/ 220.

(6)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع والمخطوط. انظر السنن الكبرى للبيهقي 8/ 220.

(7)

حُرِّفت في المطبوع إلى أبي بُرَيْدة، والمثبت من المخطوط.

ص: 205

وَلِغَيرِ المُحْصَنِ جَلْدُهُ مِئَةً وَسَطًا بِسَوْطٍ لا ثَمَرَةَ لَهُ.

===

بُرَيْدَة، عن أَبيه بُرَيْدَة قال: لمّا رُجِمَ ماعز قالوا: يا رسول الله ما نصنع به؟ قال: «اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم من الغسل والكفن والحَنُوطِ والصلاة عليه» . وروى الجماعة إِلاّ البخاري من حديث عِمْرَان بن حُصَيْن أَنْ امرأَة من جُهَيْنَة أَتت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهي حُبْلَى من الزنا فقالت: يا نبيّ الله أَصبتُ حدّاً فأَقمه عليّ، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم وَلِيَّها فقال:«أَحسن إِليها فإِذا وضعت فأتني بها» . ففعل، فأَمر بها النبيّ صلى الله عليه وسلم فشُدَّتْ عليها ثيابها، ثم أَمر بها فرُجِمَت، ثم صلَّى عليها. فقال له عمر: تصلِّي عليها با نبي الله وقد زنت، فقال:«لقد تابت توبةً لو قُسِمَت بين سبعين من أَهل المدينة لَوَسِعَتْهُمْ، وهل وَجَدْتَ توبةً أَفضل مِنْ أَنْ جادت بنفسِها لله» . ولأَنه قتلٌ بحقَ فصار كالمقتول بالقصاص.

(وَلِغَيْرِ المُحْصَنِ) عطف على للمحْصَن، أَي وحدُّ الزِّنا لغير المُحْصَن (جَلْدُهُ مئةً وَسَطَاً) أَي ضرباً مؤلماً غير جارحٍ (بِسَوْطٍ لا ثَمَرَةَ لَهُ) قيل الثمرة: العقدة، وقيل العَذَبة: وهي ذنبه. والأول أَصحّ، لأن الثمرة إِذا ضرب بها يصير كل ضربة ضربتين، كذا في «الإيضاح». والأظهر أَنْ كلاهما ممنوعٌ لما سيأْتي. والدليل على أَنْ حدّ غير المحصن الجلد قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ والزانِي فاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}

(1)

وقد نُسِخَتْ في حقّ المُحْصَن بما سبق، فبقيت في حق غيره. ولعلّ تقديم الزانية، لأنها لو لم تُطْمِعْه لم يطمع. وروى ابن أَبي شَيْبة في «مصنفه» عن عيسى بن يونس، عن حَنْظلة السَّدُوسي قال: سمعت أَنس بن مالك يقول: كان يؤمر بالسوط فتُقطع ثمرته، ثم يُدَقُّ بين حجرين حتى يَلِين، ثم يضرب به. قلنا لأنس: في زمان مَنْ كَانَ هذا؟ قال: في زمن عمر بن الخطاب.

وفيه وفي «مصنف عبد الرَّزَّاق» عن ابن مسعود: أَنْ رجلاً جاء بابن أَخ له إِليه، فقال له: إِنه سكران. فقال: تَرْتِرُوه ومَرْمِزُوهُ ـ أَي حرِّكُوه ـ واستَنْكهُوه

(2)

. ففعلوا، فرفعه إِلى السجن، ثم جاء من الغد ودعا بسوطٍ، ثم أَمر بثمرته فدُقَّت بين حجرين حتى صارت دِرَّةً، ثم قال للجلاّد: اجلد وارفع يدك، وأَعطِ كل عضو حقّه. وفي «مصنفيهما» و «موطأ أَبي مصعب» عن مالك، عن زيد بن أَسلم: أَنّ رجلاً اعترف على نفسه بالزنا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوطٍ، فأُتِيَ بسوطٍ مكسورٍ فقال:«فوق هذا» ، فأُتي بسوطٍ جديدٍ لم تقطع ثمرته، فقال:«بين هذين» ، فأُتي بسوطٍ قد رُكِّب به ولَانَ، فأَمر به فجُلِدَ، ثم قال: «أَيها الناس قد آن لكم أَنْ تنتهوا عن حدود الله، فمن أَصاب من

(1)

سورة النور، الآية:(2).

(2)

انظر "القاموس المحيط" ص 455، مادة (تَرَّ). وص 675، مادة (مزز).

ص: 206

وَتُنْزَعُ ثِيَابُهُ إِلا الإزْارَ. ويُفَرَّقُ عَلَى بَدَنهِ إِلَّا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وفَرْجَهُ،

===

هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله، فإِنه من يُبْدِ لنا صَفْحَته نُقِمْ عليه كتاب الله».

(وَتُنْزَعُ ثِيَابُهُ) لأن المقصود إِيصال الألم إِليه، وهو بنزع الثياب أَتمّ، وبه قال مالك. ويؤيّده أَنه عبرّ عن الضربة بالجَلْدة للإيماء إِلى إِيصالها بالجِلْدَة، نظراً إِلى أَصل المادة. وقال الشّافعيّ وأَحمد: يُتْرَك عليه قميصٌ أَوْ قميصان، لأن الأمر بالجلد لا يقتضي التجريد (إِلاّ الإزَارَ) فإِنه لا يُنْزَع، لأن في نزعه كشف عورته. وقول صاحب «الهداية»: لأن علياً كان يأمر بالتجريد في الحدود غريبٌ، بل في «مصنف عبد الرَّزَّاق» عن عليّ أَنه أُتي برجلٍ في حدَ فضربه وعليه كساءٌ قَسْطلاني قاعداً. وفيه أَيضاً عن الشعبيّ قال: سأَلت المُغِيرة بن شُعْبَة عن المحدود أَتُنْزَعُ ثيابه عنه؟ قال: لا، إِلاّ أَنْ يكون فَرْواً أَوْ حشواً. وفيه أَيضاً عن ابن مسعود قال: لا يَحِلُّ في هذه الأُمَّة تجريدٌ ولا مَدٌّ

(1)

ولا غُلٌّ

(2)

.

(ويُفَرَّقُ) الجلد (عَلَى بَدَنِهِ) لأن جمعه في عضوٍ واحدة قد يُفْضِي إِلى التَلَف، والجَلْد زاجرٌ لا متلِفٌ (إِلاّ رَأْسَهُ) لئلا يؤدي إِلى زوال سمعه أَوْ بصره أَوْ شمّه (وَ) إِلا (وَجْهَهُ وفَرْجَهُ) ومقَاتِله لئلا يؤدي إِلى هلاكه، لما روى ابن أَبي شَيْبَة وعبد الرَّزَّاق في «مصنفيهما» عن عليّ أَنه أُتِي برجلٍ سكرانٍ أَوْ في حدَ فقال للجلاّد: اضرب وأَعطِ كلّ عضوٍ حقّه، واتقِ الوجه والمذاكير. ولعموم ما رواه الشيخان عن أَبي هُرَيْرَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذا ضرب أَحدكم فليتقِ الوجه» . وقال أَبو يوسف آخِراً: يضرب الرأْس سوطاً، لِمَا روى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» عن وَكِيْعٍ، عن المَسْعُودي، عن القاسم: أَنْ أَبا بكرٍ أُتِي برجلٍ انتفى من أَبيه، فقال أَبو بكر للجلاّد: اضرب الرأْس، فإِن الشيطان في الرأس.

وأُجيب بأَنّ المسعودي ضعيفٌ، ولكن يقوِّيه ما في «مسند الدَّارميّ» عن سليمان بن يَسَار: أَنْ رجلاً يُقُال له صَبِيغ قَدِمَ المدينة فجعل يسأَل عن متشابه القرآن، فأَرسل إِليه عمر، وقد أَعَدَّ له عراجين

(3)

النخل، فأُتِيَ به فقال له: من أَنت؟ قال: أَنا

(1)

المدُّ: سيأتي شرحها قريبًا في الصفحة التالية.

(2)

الغُلُّ: طَوْق من حديد أو جلد يُجعل في عنق الأَسير أَو المجرم أو في أَيديهما. المعجم الوسيط ص 660، مادة (غلّ).

(3)

العُرْجون: ما يحمل التمر، وهو من النخل كالعنقود من العنب. المعجم الوسيط ص 592، مادة (عرج).

ص: 207

قَائِمًا في كُلِّ حَدٍّ بِلا مَدٍّ. وَلِلْعَبْدِ نِصْفُهَا.

وَلا يَحُدُّ سَيِّدٌ بِلا إِذْنِ الإمَامِ،

===

عبد الله صبيغ، فأَخذ عمر عُرْجوناً من تلك العراجين فضربه على رأَسه، وقال: أَنا عبد الله عمر، وجعل يضربه حتى أَدمى رأَسه. فقال: يا أَمير المؤمنين حسبك، قد ذهب الذي كنت أَجد في رأَسي. وفي «الذَّخِيْرة» عن أَبي يوسف: لا يضرب البطن ولا الصدر، لأنه مُهْلِكٌ، واختاره بعض المشايخ.

(قَائِمَاً في كُلِّ حَدَ) لأن مبنى الحدود على الشهرة لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المَؤمْنِيْنَ}

(1)

والقيام أَبلغ فيها (بِلَا مَدَ) أَي من غير أَنْ يُلْقى على الأرض ويمدّ رجلاه. وقيل: معناه من غير أَنْ يمدّ الضارب يده فوق رأَسه. وقيل: من غير أَنْ يمدّ السوط على العضو عند الضرب ويجره. وبلا ربطٍ أَيضاً ولا مسك

(2)

إِلا أَنْ يعجزه، لأن ذلك كلّه زيادة على المستَحَقّ عليه وهو الجلد.

(وَلِلْعَبدِ) والأولى وللمملوك (نِصْفُهَا) أَي نصف المئة جلدة لقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ}

(3)

والمراد به الجلد، لأن الرجم لا يتنصَّفُ، أَوْ لعدم الإحصان لفقد شَرْطِه وهو الحرية. فإِذا ثبت النصف في الإماء للرِّق ثبت في العبيد دلالةً، إِذْ النص الوارد في أَحد المثلين

(4)

واردٌ في الآخر.

(وَلَا يَحُدُّ سَيِّدٌ) عبده وأَمَته (بِلَا إِذْنِ الإمَامِ) وقال مالك والشّافعيّ وأَحمد: له أَنْ يَحُد، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أَبي هُرَيْرَة قال: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة إِذا زنت ولم تحصن. قال: «(إِذا زنت)

(5)

فاجلدوها، ثم إِنْ زنت فاجلدوها، ثم إِنْ زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير». قال ابن شِهَاب: لا أَدري أَبعد الثالثة أَوْ الرابعة؟ والضفير: الحَبْل. وفي رواية: «إِذا زنت أَمة أَحدكم فتبيّن زناها فليجلدها ولا يُثرِّب عليها، ثم إِذا زنت فتبيّن زناها فليجلدها ولا يُثرِّب عليها، ثم إِذا زنت الثالثة فتبيّن زناها فليبعها ولو بضفير» . أَي ولو بحَبْلٍ من شعرٍ، كما في روايةِ. ومعنى لا

(1)

سورة النور، الآية:(2).

(2)

في المطبوع: مس، والمثبت من المخطوط.

(3)

سورة النساء، الآية:(25).

(4)

عبارة المخطوط: الوارد في إِحدى المسأَلتين، والمثبت عبارة المطبوع.

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، وإثباته الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1320، كتاب الحدود (29)، باب رجم اليهود، أَهل الذمة، في الزنى (6)، رقم (32 - 1703).

ص: 208

وَلا تُنْزَعُ ثِيَابُهَا إِلَّا الفَرْو وَالْحَشْو. وَتُحَدُّ جَالِسَةً، وَجَازَ الحَفْرُ لَهَا لا لَهُ.

===

يُثَرِّب عليها: لا يُعيُّرها. وقيل: لا يبالغ في جلدها بحيث يُدْمِيْهَا.

ولنا ما روى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» عن الحسن أَنه قال: أَربعة إِلى السلطان: الصلاة، والزكاة، والحدود، والقضاء. وروى أَيضاً عن عبد الله بن مُحَيْرِيز

(1)

أَنه قال: الجمعة والحدود والزكاة والفَيْءُ إِلى السلطان. وروى أَيضاً عن عطاء الخُرَسَانيّ أَنه قال: إِلى السلطان الصلاة

(2)

والجمعة والحدود. وعن ابن مسعود وابن عباس وابن الزُّبَيْر موقوفاً

(3)

ومرفوعاً: حقّ الإمام أَربعة، وفي روايةٍ: أَربعة إِلى الولاة: الحدود، والصدقات، والجمعات، والفيء وأَمّا التعزيز فإِنه من حقوق المِلْك، والغرض منه التأْديب، و (هو)

(4)

سبب زيادة ماليته فيكون للمولى كأَدب الدَّواب. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فليجلدها» : فليكن سبباً لجلدها بالمرافعة إِلى الإمام أَوْ نائبه.

(وَلَا تُنْزَعُ ثِيَابُهَا) لأن في نزعها كشف عورتها (إِلاّ الفَرْو وَالْحَشْوُ) وهو الثوب الذي حُشِيَ بين بطانته وظِهارتِهِ بالقطن، لأنهما يمنعان وصول الألم، وسترُها يحصُل بدونهما (وَتُحَدُّ) أَي تضرب المرأَة (جَالِسَةً) لأنه أَستر لها (وَجَازَ الحَفْرُ لَهَا) أَي للمرأَة في الرجم وهو أَحسن لِمَا فيه من الستر، ولما في حديث الترمذي أَنه صلى الله عليه وسلم رجم امرأَة فحفر لها إِلى الثَّنْدُوَة

(5)

. ولِمَا في مسلم من رواية بُرَيْدَة في حديث الغَامِدِيّة: ثم أَمر بها فحفر لها إِلى صدرها، ثم أَمر الناس فرجموها.

(لَا لَهُ) أَي لا يجوز الحفر للرجل في الرجم لما في «صحيح مسلم» من حديث أَبي سعيد الخُدْرِيّ قال: لمّا أَمر النبيّ صلى الله عليه وسلم برجم ماعز بن مالك، خرجنا به إِلى البقيع فما أَوثقناه ولا حفرنا له، ولكنه قام لنا فرميناه بالعظام والمَدَر

(6)

والخَزَف، فاشتدَّ فاشتددنا خلفه حتى أُتي عُرْضَ الحَرَّة، فانتصب لنا فرميناه بجَلامِيد

(7)

الحَرَّة حتى سكت. كذا ذكر. ولكن تقدّم ما في «صحيح مسلم» عن بُرَيْدَة أَنه صلى الله عليه وسلم

(1)

حُرِّفَتْ في المطبوع إلى: عبد الله بن محيرز، والمثبت من المخطوط.

(2)

في المخطوط: الزكاة، والمثبت من المطبوع.

(3)

في المطبوع: أَو، والمثبت من المخطوط.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(5)

في المطبوع: إلى السرة. والمثبت من المخطوط، والحديث لم نجده عند الترمذي وهو في سنن أبي داود 4/ 590، كتاب الحدود (37)، باب في المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها

(24) رقم (4443). والثَندُوة: تقدم شرحها ص 254، تعليق رقم (6).

(6)

المَدَرُ: الطين المتماسك. النهاية 4/ 309.

(7)

الجَلْمَدُ: الصَّخر. المعجم الوسيط ص 131.

ص: 209

ولا جَمْعَ بين جَلْدٍ ورَجْمٍ،

===

بعد اعتراف ماعز أُمر فَحُفِر له حفرة فُجِعل فيها إِلى صدره، ثم أمر الناس فرجموه. فإِذا تعارض الحديثان، (وهما صحيحان)

(1)

، دلّ على جواز كلَ من الحفر وعدمه له.

(ولا جَمْع) يعني في المُحصَن (بين جَلْد ورجم) وهو قول مالك والشافعي وأحمد في رواية، وقال وفي روايةٍ أَخرى: يجمع، وهو قول داود ومختار ابن المُنْذر من الشافعية، لَمَا روى مسلم من حديث عُبَادة بن الصَّامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني، قد جعل الله لهنّ سبيلاً: البِكْرُ بالبِكْرِ جلد مئةٍ ونفي سنةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ جلد مئةٍ والرجم» . وتقدّم ما روى البيهقي في «سننه» عن عليّ أَنه جمع بين الجلد والرجم.

ولنا ما تقدّم من حديث ماعز والغامدية أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم رجمهما ولم يجلدهما، (وحديث أُنَيْس أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم أَمره برجم المرأَة ولم يأْمره بجلدها)

(2)

. ولو كان الجمع حدًّا لما تركه، ولأنه لا فائدة في الجلد مع الرَّجْم، لأن الحدّ شُرِعَ زاجراً، وزجره بالجلد لا يتأَتّى مع رجمه، وزجر غيره يحصل برجمه، إِذْ هو أَبلغ العقوبات الواردة. ففي الزائدة لا يتفرّع الفائدة، ولذا لو تكرّر من شخصٍ ما يوجب الحد يُكْتَفَى بحدٍ واحدٍ لعدم الفائدة في الباقي، لأن المقصود ـ وهو الزجر ـ يَحْصُل بالأوّل.

وأَجيب عن حديث عُبَادة بجوابين:

أَحدهما:

أَنه منسوخٌ، قال الحازمي في كتابه: روى حديث ماعز جماعةٌ كَسَهْل ابن سعد، وابن عباس ونَفَرٍ تأَخّر إِسلامهم. وحديث عُبَادة كان في أَوّل الأمر، وبين الزمانين مدة. وقال المُنْذِري في «مختصره»: ذهب إِلى الجمع بين الجلد والرجم عليٌّ (وأُبِيّ)

(3)

وابن مسعود والحسن. وقال أَبو بكر وعمر والزُّهْرِيّ والنَخَعيّ وأَبو حنيفة، ومالك، والشافعيّ، والأوْزَاعِيّ، وسفيان: أَنَّ الثَّيِّب عليه الرجم دون الجلد. ورأَوا حديث عُبَادة منسوخاً، وتمسَّكوا بأَحاديث تدلَّ على النسخ منها حديث العَسِيف أَخرجه الشيخان عن أَبي هريرة وفيه:«فإِن اعترفت فارجمها» ، (فاعترفت فرجمها)

(4)

. وهذا الحديث آخِرُ الأمرين، لأن رواية أَبي هُرَيْرَة وهو متأَخّر الإسلام، ولم يتعرّض للجلد فيه.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 210

وَلا جَلْدٍ وَنَفْي إِلَّا سِيَاسَةً.

===

وثانيهما:

أَنْ معناه الثيب بالثيب جلد مئةٍ إِنْ كانا غير مُحْصَنين، والرجم إِنْ كانا مُحْصَنين. والواو فيها نظيرتها في قوله تعالى:{أُوْلي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}

(1)

وما رَوَوه من أَنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم جمع بين الجلد والرجم في رجلٍ، محمولٌ على أَنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم بإِحصانه، فَجَلَدَه ثم علم بإِحصانه فرجمه. يدلَّ على ذلك ما أَخرجه أَبو داود والنَّسائي عن ابن وَهْب قال: سمعت ابن جُرَيْج يُحَدِّثُ عن أَبي الزُّبير، عن جابر: أَنْ رجلاً زنى فأَمر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فَجُلِدَ، ثم أُخْبِرَ أَنه قد كان أُحْصِنَ، فأَمر به فرُجِمَ.

(وَلَا جَلْدٍ) أَي ولا جمع في غير المحصن بين جلد (وَنَفْي إِلاَّ سِيَاسَةً) وتعزيزاً لا حدّاً. وقال الشافعيّ وأَحمد والثوريّ والأوْزَاعِيّ: يجمع بينهما حدّاً. وقال مالك: يجمع بينهما في الرجل دون المرأَة، وفي الحر دون العبد. ومن نُفِيَ حُبِسَ في الموضع الذي يُنْفَى إِليه. وقال الشافعيّ وأَحمد: يُنْفَى العبد نِصْفَ السَّنة. لهم ما روى البخاري من حديث زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه أَمر في مَنْ زَنَا ولم يُحْصَن بجلد مئةٍ وتغريب عامٍ. قال ابن شِهاب: وأَخبرني عُرْوَة بن الزُّبَيْر: أَنْ عمر بن الخطَّاب غرَّب ثم لم يزل تلك السنة. وروى أَيضاً من حديث أَبي هريرة أَنْ النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام، وبإِقامة الحد عليه.

وما روى الترمذي من حديث نافع، عن ابن عمر: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرّب وأَن أَبا بكر ضرب وغرّب، وأَن عمر ضرب وغرّب. ولنا قوله تعالى:{الزَّانِية والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مئةَ جَلْدَةٍ}

(2)

من غير تعرّض للتغريب، فلا يكون من موجَب الزنا. وإِنّ في التغريب تعريضَ المرأَة للزنا، لأنها كلمّا تباعدت عن الأقارب قلّ حياؤها من الأجانب، فرُبَّما اتخذت الزنا من المكاسب، ولأن سفر المرأَة بغير مَحْرَمٍ حرامٌ، ولا ذنب للمَحْرَم حتى يُنْفَى معها.

ولا يُقَاس على المهاجرة من دار الحرب، لأنها لا تقصد سفراً وإِنما تطلب الخلاصَ حذراً، حتى لو وصلت إِلى جيشٍ من المسلمين لهم مَنَعة لا يجوز لها أَنْ تخرج من عندهم وتسافر. وكذا في العبد والأَمة حقّ المولى في الخدمة، وهو مقدّم على حقِّ الشرع فلا يفصل بينهما وبين مولاهما.

وما رَوَوه كان بطريق السياسة دون الحدّ، لِمَا روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِيّ، عن ابن المُسَيَّب قال: غرَّب عمرُ ربيعةَ بن أُمية بن خلف في

(1)

سورة فاطر، الآية:(1).

(2)

سورة النور، الآية:(2).

ص: 211

وَيُرْجَمُ المَرِيْضُ وَلا يُجْلَدُ إِلَّا بَعْدَ البُرْءِ. وَتُرْجَمُ الحَامِلُ بَعْدَ الوَضْع،

===

الشراب إِلى خَيْبَر، فلحِق بهرقل فتنصَّر. فقال عمر: لا أُغرِّب بَعْدَه مسلماً. وروى أَيضاً عن أَبي حنيفة، عن حمَّاد بن أَبي سليمان، عن إِبراهيم النَّخَعِيّ قال: قال ابن مسعود في البكر يزني بالبكر: يُجلدان

(1)

مئةً ويُنفيان سنةً، قال: وقال عليٌّ: حَسْبُهُما من الفتنة أَنْ يُنفيا. ورواه أَيضاً بهذا السند محمد بن الحسن في «الآثار» ، فأَخذنا بقول عليّ كرَّم الله وجهه، لأنه أَقرب إِلى رفع الفتنة ورفع الفساد، والله رؤوفٌ بالعباد.

(وَيُرْجَمُ المَرِيْضُ) لأن الرجم متلِفٌ فلا يتأَخّر بسبب المرض (وَلَا يُجْلَدُ إِلاَّ بَعْدَ البُرْءِ) لئلا يفضي به الجلد إِلى التَلَف، وهو إِنما شُرِعَ زاجراً لا متلفاً. ولذا لا يُقَام حدّ الجلد في شدّة الحرّ، ولا في شدّة البرد. ولو كان مَنْ وجب عليه الحدّ ضعيفاً لا يُرْجى برؤه، وخيف عليه هلاكه يجلد جلداً خفيفاً بِقَدْر ما يحمله.

(وَتُرْجَمُ الحَامِلُ بَعْدَ الوَضْع) لأن جنينها لا يستحقّ الرجم لعدم الجناية منه، وتُحْبَس حتّى تلد إِنْ ثبت زناها بالشهادة، ولا تحبس إِنْ ثبت بالإقرار. وعن أَبي حنيفة رحمه الله: أَنْ الرجم يؤخّر إِلى أَنْ يستغني ولدها عنها إِذا لم يكن له أَحدٌ يُرَبِّيه. روى مسلم عن بُرَيْدَة قال: جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إِني قد زنيت فطهرِّني، وإِنه ردّها، فلمّا كان الغد قالت: يا رسول الله (لِمَ تَرُدُّني؟)

(2)

لعلك تريد أَنْ تَرُدَّني كما رَدَدتَ ماعزاً، فوالله إِني لحُبْلَى. قال: «إِمّا لا

(3)

، فاذهبي حتّى تلدي». فلمّا ولدت أَتته (بالصبيّ في خِرْقة. قالت: هذا قد ولدته.

قال: «اذهبي فأَرضعيه حتى تَفْطِمِيه» . فلما فَطَمَتْه أَتته) بالصبيّ في يده كِسْرَة خبزٍ فقالت: هذا يا رسول الله قد فطمته، وقد أَكل الطعام. فَدَفَع الصبيّ إِلى رجلٍ من المسلمين، ثمّ أَمر بها فحُفِرَ لها إِلى صدرها، وأَمر الناس فرجموها.

ورواه أَيضاً عن عَلْقَمَة بن مَرْثَد، عن سليمان بن بُرَيْدَة، عن أَبيه إِلى أَنْ قال: فقال لها: «اذهبي حتى تضعي ما في بطنك» . فكفلها رجلٌ من الأنصار حتى

(1)

في المطبوع: يحدان، والمثبت من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1323، كتاب الحدود (29)، باب من اعترف على نفسه بالزنا (5)، رقم (23 - 1695).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته، ما في صحيح مسلم (الموضع السابق).

(3)

في المخطوط: أَما الآن، والمثبت من المطبوع وهو الصواب. وإِما لا: كلمة ترد في المحاورات كثيرًا، وأَصلها: إن وما ولا، فأَدغمت النون في الميم، وما زائدة في اللفظ لا حكم لها، ومعناها: إِن لم تفعل هذا فليكن هذا. النهاية 1/ 72. فيصبح المعنى: إذا أبيتِ أَن تستري على نفسك وتتوبي وترجعي عن قولك فاذهبي حتى تلدي، فترجمين بعد ذلك ..

ص: 212

وَتُجْلَدُ بَعْدَ النِّفَاسِ.

وَيُدْرَأُ الحَدُّ بِالشُّبهَةِ في الفِعْلِ، أَي: ظَنِّ غَير الدَّلِيلِ دَلِيلًا، كَأَمَةِ أَبَوَيْهِ وزَوْجَتِهِ، فَلا يُحَدُّ إِنْ ظَنَّ أَنّهَا تَحِلُّ.

===

وضعت، ثم أَتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلّم فقال: قد وضعت الغَامِدِيَّة. قال: «إِذاً لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له مَنْ يرضعه» . فقام رجلٌ من الأنصار فقال: إِليَّ رَضاعُهُ يا رسول الله. قال: فرجمها. وهذا يقتضي أَنه رجمها حين وضعت، والأوّل يقتضي أَنه تركها حتى فطمت ولدها، ويتقوّى الثاني بما أَخرجه مسلم من رواية عِمْرَان ابن حُصَيْن، وفيه أَنه عليه الصلاة والسلام رجمها بعد أَنْ وضعته. وقال بعضهم: يحتمل أَنْ تكونا امرأَتين إِحداهما وُجِدَ لولدها كفيلٌ، والأخرى لم يوجد له كفيل، فوجب إِمهالها حتّى يستغني ولدها.

(وَتُجْلَدُ) الحامل (بَعْدَ النِّفَاسِ) لأنه نوع مرضٍ، فَيُنْتَظَرُ البُرْء منه بخلاف الرجم، لأن التأْخير فيه لأجل الولد وقد انفصل.

(وَيُدْرَأُ الحَدُّ بِالشُّبْهَةِ في الفِعْلِ أَي: ظَنِّ غَيْرِ الدَّلِيْلِ دَلِيْلاً) وتسمَّى شبهة اشتباه، أَي شبهة في حقّ من حصل له اشتباه، وإِنما يدرأ الحدّ بالشبهة لِمَا قدَّمناه مرفوعاً

(1)

ولما روى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» عن عمر بن الخطاب أَنه قال: لأن أَعطِّل الحدود بالشبهات أَحبُّ إِليّ من أَنْ أَقيمها بالشبهات. وروى أَيضاً عن مُعَاذ وعبد الله بن مسعود وعُقْبَة بن عامر أَنهم قالوا: إِذا اشتبه عليك الحد فادرأه.

(كَأَمَةِ أَبَوَيْهِ) وإِن عَلَياَ (و) أَمة (زَوْجَتِهِ)، لأن اتصال الأملاك بين الأصول والفروع مظنةُ اعتقاد أَنْ للفرع وطاء أَمة الأصل، ولأن الزوج يعدُّ غنياً بمال زوجته، قال الله تعالى:{وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}

(2)

أَي بمال خديجة، فأَورث ذلك شبهة كون مال الزوجة مالاً للزوج.

وتكون شبهة الفعل في مطلقته ثلاثاً، وهي في العدة (بائنٍ بالطلاق على مالٍ وهي في العدّة)

(3)

، وفي أَمّ ولدٍ أَعتقها مولاها وهي في العدة، وفي جارية المولى في حق عبده، وفي الجارية المرهونة في حق المرتَهِن. وبه قال الشافعيّ رحمه الله في قولٍ، وقال في قولٍ: لا يسقط الحدُّ عن المرتَهِن، وبه قال أَحمد.

(فَلَا يُحَدُّ) الوَاطِاء في هذه الصور (إِنْ ظَنَّ أَنّهَا) أَي الموطؤة (تَحِلُّ) قيّد به،

(1)

انظر ص 195.

(2)

سورة الضحى، الآية:(8).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 213

وفي المَحَلِّ، أَي: بِقِيَامِ دَلِيلٍ نَافٍ للحُرْمَةِ ذَاتًا كَأَمَةِ ابْنِهِ، وَمُعْتَدَّةِ الكِنَايَاتِ،

===

لأنه لو قال ظننت أَنها لا تَحِلّ لي يُحدّ، لأن المحل خالٍ عن الملك وحقّه، فكان زنا حقيقةً، وإِنما يسقط الحد لمعنى راجع إِليه وهو الظن، ولهذا لو جاءت بولدٍ لا يثبت نسبه وإِن ادّعاه. وحكم زُفَر بحدّه، لأنه وطاءٌ حرامٌ في غير الملك وشبهته، ولا اعتبار للتأْويل الفاسد.

(و) يُدْرَأُ الحدّ بالشبهة (في المَحَلِّ أَي بِقِيَامِ دَلِيْلٍ نَافٍ للحُرْمَةِ ذَاتَاً) والمعنى: أَنا لو نظرنا إِلى الدليل مع قطع النظر عن المانع يكون نافياً للحرمة (كَأَمَة ابْنِهِ) يعني وإِن سفل، والأوّل كأَمة ولده. والدليل النافي للحرمة: ما رواه ابن ماجه بإِسنادٍ ـ قال ابن القطَّان: صحيحٌ، وقال المنذري: رجاله ثقات ـ من حديث جابر: أَنْ رجلاً قال: يا رسول الله إِنْ لي مالاً وولداً، وإِن أَبي يريد أَنْ يجتاح مالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَنت ومالُكَ لأبيك» .

(وَمُعْتَدّةِ الكِنَايَاتِ) والدليل فيها قول عمر وابن مسعود وآخرين: أَنْ الواقع بالكنايات رجعيّ، وأَصله (ما في «آثار محمد بن الحسن»: أَخبرنا أَبو حنيفة، عن حمَّاد، عن إِبراهيم النَّخَعي:)

(1)

أَنْ عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود كانا يقولان في المرأَة إِذا خيّرها زوجها فاختارته: فهي امرأَته، وإِن اختارت نفسها فهي تطليقةٌ (واحدةٌ)

(2)

وزوجها أَملك بها. وفي «مصنف عبد الرَّزَّاق» عن الشَّعْبِيّ أَنهما قالا: إِنْ اختارت زوجها فلا بأْس، وإِن اختارت نفسها فهي واحدةٌ، وله عليها الرجعة. وفيه أَيضاً: أَخبرنا الثوريّ عن حمّاد، عن إِبراهيم، عن عمر في الخليّة، والبريّة، والبتّة، والبائنة هي واحدةٌ، وهو أَحقُّ بها.

قال: وقال عليّ: هي ثلاث، وقال شُرَيْح: له ما نوى. (وفيه عن زيد بن ثابت أَنه قال في رجلٍ جعل أمَرَ امرأَته بيدها)

(3)

، فطلقت نفسها ثلاثاً قال: هي واحدةٌ. وعن جابر بن عبد الله: إِذا خيّر الرجل امرأَته فاختارت نفسها فهي واحدةٌ. وفي «آثار محمد ابن الحسن» : أَخبرنا أَبو حنيفة عن (حَمَّاد عن)

(4)

إِبراهيم النَخَعيّ: أَنْ زيد بن ثابت كان يقول: إِذا اختارت زوجها فلا شيء وهي امرأَته، وإِن اختارت نفسها فهي ثلاثة، وهي حرامٌ عليه حتى تنكح زوجاً غيره. وكان عليّ بن أَبي طالب يقول: إِذا اختارت زوجها

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 214

وَالمَبِيعَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فلا يُحَدُّ وَإنْ أَقَرَّ بِالحُرْمَةِ.

وَحُدَّ بِوَطْئِ أَمَةِ أَخِيهِ وَعَمِّهِ، وأَجْنَبِيَّة وَجَدَهَا في فِرَاشِهِ، وَإنْ هُوَ أَعْمَى. لا إِن زُفَّتْ وَقُلْنَ: هِي زَوْجَتُكَ.

===

فهي واحدة، والزوج أَملك بها، وإِن اختارت نفسها فهي واحدةٌ، وهي أَملك بنفسها.

(وَالمَبِيْعَةِ قَبْلَ التَّسْلِيْمِ) والدليل فيها كونها في يد البائع بحيث لو هلكت انتقض البيع، فإِن ذلك دليل الملك، ويكون شبهة المحل في الجارية المشتركة بينه وبين غيره، ولوجودِ مِلْكه في بعضها. (فلَا يُحَدُّ وَإِنْ أَقَرَّ بِالحُرْمَةِ) لأن الشبهة إِذا كانت في المحل يثبت فيه الملك (من وجهٍ)

(1)

، فلم يبقَ اسمُ الزنا، فيمتنع الحدّ على التقادير كلها. ويثبت النسب إِنْ ادَّعاه، لأنَّ النَّسَب يعتمد قيام الملك أَوْ الحق في المحل.

(وَحُدَّ بِوَطْاءِ أَمَةِ أَخِيْهِ وَعَمِّهِ) وكل مَحْرَمٍ غير الولاد، ولو قال: ظننت أَنها تَحِلّ، لأنه لا انبساط بين هؤلاء في مالهم، فلا يستند ظَنُّهُ إِلى دليل. فإِن قيل: ما باله لو سرق من بيت هؤلاء لا يقطع؟ أُجيب: بأَن الحِرْز لم يتحقّق في حقّه لدخوله في بيتهم بلا استئذانٍ، والقطع دائرٌ مع هتك الحِرْز ولم يوجد. والحدُّ دائرٌ مع الزنى، وقد وجد، ويندراء بالحِلِّ أو شبهته ولم يوجد، ألا ترى أن الضيف إِذا سرق من المضيف لا يقطع؟ وإِذا زنى بجاريته يُحَدُّ؟

(و) بوطاء (أَجْنَبِيَّةٍ وَجَدَهَا في فِرَاشِهِ) وإِن قال: ظننت أَنها امرأَتي، لأن ظنّه لم يستند إِلى دليل، لأن امرأَته لا تشتبه عليه بعد طول الصحبة، وقد ينام في فراشها غيرها من المحارم والمعارف. وقال الشافعيّ وأَحمد: لا حدَّ عليه إِنْ ظنَّ أَنها امرأَته أَوْ أَمَته قياساً على من زُفَّتْ إِليه، وعلى من شرب شراباً على ظنّ أَنه ليس بخمرٍ، حيث لا يُحَدُّ. وأُجِيْبَ: بالفرق بأَنه لا يميّز بين المرأَة وغيرها في أَول وهلة، ولا بين الخمر وغيرها إِلاّ بالشرب.

(وَإِنْ هُوَ) أَي وإِن كان الذي وجدها على فراشه (أَعْمَى) لأنه يقدر على التميز بالسؤال أَوْ بغيره من الحركات والهيئات، فكان كالبصير، إِلاّ إِذا دعا زوجته فأَجابته أَجنبيّةٌ وقالت: أَنا زوجتك، أَوْ قالت: أَنا فلانةٌ ـ باسم امرأَته ـ فوطئها فلا يُحَدُّ، لأن ظنَّه استند إِلى دليلٍ شرعي وهو الإخبار. ولو أَجابته ولم تقل: أَنا زوجتك، ولا أَنا فلانةٌ يحدّ لعدم ما يوجِب السقوط.

(لا إِنْ زُفَّتْ) أَي لا يحدّ بوطاء أَجنبيّة بُعِثتْ إِليه (وَقُلْنَ) أَي النسوة التي معها: (هِي زَوْجَتُكَ) وكان تزوّج امرأَة ولم يدخل بها بعد، لأنه اعتمد دليلاً شرعياً في

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 215

وَلا يُحَدُّ الخَلِيفَةُ، ويُقْتَصُّ وَيُؤْخَذُ بِالْمَالِ.

===

موضع الاشتباه وهو الإخبار، إِذْ المرء لا يميّز بين زوجته وغيرها في أَول وهلة. وعليه مهرها وعليها العدة، ويثبت نسب ولدها منه.

وقد سُئِلَ أَبو حنيفة عن أَخوين تزوجا أَختين فَزُفَّتْ كل واحدة إِلى زوج أَختها فقال: ليطلق كلُّ واحدٍ زوجته، ثم يتزوّج مَنْ وطِئها. وقال سفيان الثَّوري: على كل واحدٍ منهما المهر، وعلى كل واحدة العدة، فإِذا مضت عدتها دخل بها زوجها. فقال أَبو حنيفة: ما قلتُ أَحسن. أَرأَيت لو صبر كلّ واحدٍ منهما حتّى مضت العدة، أَما كان يبقى في قلب كل منهما شيء لدخول أَخيه بامرأَته؟ فإِذا طلّق كلٌّ زوجته قبل الدُّخول والخلوة، لا تجب العدة، فإِذا طلّق بعد ذلك فعدتها ممّن دخل بها، لا تمنعه من نكاحها، ولم يبق في قلب كلّ منهما شيء.

(وَلا يُحَدُّ الخَلِيْفَةُ) وهو الإمام الذي ليس فوقه إِمام لا في زنا، ولا في شرب خمرٍ، ولا في قذفٍ، لأن الحدود حقّ الله تعالى، وهو نائبه والمقيمُ لها، فلا يمكنه أَنْ يقيمها على نفسه، لأنها لا تقع مؤلمة، فلا تكون زاجرة، والمقصود من الحدود الزجر. وكذا لو أَمر غيره بإِقامتها عليه لا تقع مؤلمة، لأنه يهابه. والظاهر أَنه يُرْجَم، والله أَعلم. (ويُقْتَصُّ) منه (وَيُؤْخَذُ بِالْمَالِ) لأن القِصَاص والأموال من حقوق العباد فيستوفيهما صاحبهما بنفسه أَوْ بالاستعانة بالمسلمين، ولا يُشْتَرَط فيهما القضاء بخلاف حدّ القذف، فإِن المغلَّب فيه حقّ الشرع عندنا، وحقّ العبد عند الشافعيّ، فحكمه حكم ما هو حقّ الشرع خالصاً.

ثم اعلم أَنه لا يحدّ بزنا في دار الحرب أَوْ البغي عندنا، وحكم مالك والشافعي بحدّه لإطلاق الآيات الواردة في حدّ الزاني وقطع السارق وجلد القاذف، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«أَقيموا حدود الله في السفر والحضر، على القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائمٍ» . رواه أَبو داود في «المراسيل» . وقال: رويناه بإِسنادٍ موصولٍ في «السنن» .

ولنا ما روى محمد في كتاب «السير الكبير» عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال: «من زنا أَوْ سرق في دار الحرب وأَصاب بها حدّاً ثم هرب فخرج إِلينا، فإِنه لا يُقَام عليه الحدّ» . وما روى البيهقي عن الشافعيّ قال: قال أَبو يوسف رحمه الله: حدثنا بعض أَشياخنا عن مكحول، عن زيد بن ثابت قال: لا تُقامُ الحدودُ في دار الحرب مخافةَ أَنْ يلحق أَهلها بالعدو.

قال: وحدَّثنا بعض أَصحابنا عن ثور بن يزيد، عن حكيم بن عُمَيْر أَنْ عمر بن الخطاب كتب إِلى عُمَيْر

(1)

بن سعد الأنصاري وإِلى عمّاله: أَنْ لا تقيموا الحدود

(1)

حُرِّفت في المخطوط إِلى: عمر، والمثبت من المطبوع.

ص: 216

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

على أَحد من المسلمين في أَرض الحرب حتى يخرجوا إِلى أَرض المصالحة. وروى الأخير ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» قال: حدثنا ابن المبارك، عن أَبي بكر بن أَبي مريم، عن حكيم بن عُمَيْر به، وزاد: لئلا تحمله حميّة الشيطان أَنْ يلحق بالكفار. وفيه أَيضاً: حدّثنا ابن المبارك، عن أَبي بكر بن عبد الله بن أَبي مريم، عن حُمَيد بن عُقْبة بن رومان: أَنْ أَبا الدَّرْدَاء: نهى أَنْ يُقَام على أَحدٍ حدٌّ في أَرض العدو.

وفي «سنن أَبي داود» و «الترمذي» و «النَّسائي» عن بُسْر بن أَرْطَاة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تُقْطَع الأيدي في السفر» . ولفظ الترمذي: «في الغزو» . وقال: هذا حديثٌ غريبٌ، والعمل عليه عند بعض أَهل العلم، منهم الأوْزاعي يَرَوْن أَنْ لا يُقَام الحدُّ في الغزو بحضرة العدوِّ مخافة أَنْ يلحق من يُقَام عليه الحدُّ بالعدو، (فإِذا رجع الإمام إِلى دار الإسلام أَقام عليه الحدّ، ونفينا الحد عن)

(1)

مُكَلَّفَةٍ، زنا بها غيرُ مكلف، فلا تُحد عندنا. وأُثبته زفر كمالك والشافعي، وهو رواية عن أَبي يوسف رحمهم الله. وحُدَّ لو كان الأمر بالعكس، بأَن زنا مكلف بغير مكلفة، وهذا بإِجماع الأمة.

وواطاء محرَّمةٍ بعد العقد عليها والعلم بالحرمة يُعزَّر عند أَبي حنيفة رحمه الله، وحكما بالحد كمالك والشافعي. وقال صاحب «الأسرار»: كلامهما أَوضح، أَي فهو واضح. وواطاء مُسْتَأْجَرَتِهِ للزنا بها، يُعزَّر عند أَبي حنيفة، وحكما بالحدِّ كمالك والشافعي.

واللائط يُعزَّر عند أَبي حنيفة رحمه الله، ويُسجن حتى يموت أَوْ يتوب، فصار كما لو أَتى امرأَته في الموضع المكروه منها، أَوْ أَتى عبده أَوْ بهيمةً أَوْ أَجنبيةً في غير السبيلين منها، وحكما بالحد كمالك والشافعي رحمهم الله، لما في «مُعجم الطبراني» ، عن جابر قال: سمعت سالم بن عبد الله، وأَبان بن عثمان، وزيد بن حسن يذكرون أَنْ عثمان أُتي برجلٍ قد فَجَرَ بغلامٍ من قريش معروف النسب، فقال عثمان: وَيْحَكُم، أَين الشهود، أَحصنَ؟ قالوا: تزوج امرأَة ولم يدخل بها بعد، فقال عليٌ لعثمان: لو دخل بها لحَلَّ عليه الرَّجْمُ، فأَما إِذا لم يدخل بها فأَجْلِدُه الحدَّ.

قال أَبو أَيوب: أَشهد أَني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الذي ذكر أَبو الحسن، فأَمر به عثمان فجلد مئة، وما أَخرجه البيهقي عن عطاء بن أَبي رباح قال: أُتي ابن الزبير بسبعة في لواطة: أَربعة منهم قد أُحصنوا، وثلاثة لم يُحْصَنُوا، فأَمر بالأربعة فرُضخوا بالحجارة، وأَمر بالثلاث فضربوا الحدّ، وابن عباس وابن عمر في المسجد.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 217

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وأَمّا ما رواه أَبو داود والترمذي من قوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ وَجَدْتُمُوْه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . وفي لفظٍ: «فارجموا الأعلى والأسفل» . فمحمولٌ على هذا المقيّد. وفي قولٍ لمالك والشافعي: يرجمان بكل حالٍ، ولأنه في معنى الزنا بل أَقبح. ولأبي حنيفة رحمه الله: أَنه ليس بزنا، فلا يثبت فيه حدُّه، وذلك لأن الصحابة قد اختلفوا في موجَبه: فمنهم من أَوجب فيه التحريق بالنار، ومنهم من قال: يُهْدَم عليه الجدار، ومنهم من قال: يُنَكَّس

(1)

من مكانٍ مرتفعٍ مع اتباع الأحجار. ولو كان زناً لَمَا اختلفوا، كذا ذكره بعض المحققين.

ثم ذكر

(2)

ما نُقِلَ عن الصحابة فقال: روى البيهقي في «شُعَبِ الإيمان» من طريق ابن أَبي الدنيا بسنده أَنّ خالد بن الوليد كتب إِلى أَبي بكر أَنه وجد رجلاً في بعض (نواحي)

(3)

العرب يُنْكَح كما تُنْكَح المرأَة، فجمع أَبو بكر الصحابة فسأَلهم، فكان من أَشدهم في ذلك قولاً عليّ رضي الله عنه قال: هذا ذنبٌ لم تعص به إِلاّ أُمةٌ واحدةٌ صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أَنْ تُحرِّقَه بالنار، فاجتمع رأَي الصحابة على ذلك.

وروى الواقدي في كتاب «الرِّدة» بسنده وقال: كتب خالد إِلى أَبي بكرٍ الصديق: أُخبرك أَني أُتِيْتُ برجلٍ قامت عندي البيّنة أَنه يُوْطَأُ في دُبُره كما تُوْطأُ المرأَة، فدعا أَبو بكرٍ الصحابة واستشارهم فيه، فقال له عمر وعليّ: احرِقْه بالنار، فإِنْ العرب تأْنفُ أَنفاً لا يأْنفه أَحدٌ غيرهم. وقال غيرهما: اجلدوه. فكتب أَبو بكرٍ إِلى خالدٍ أَنْ احرقه بالنار، فَحَرَقه.

وروى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» عن أَبي نَضْرَة قال: سُئِلَ ابن عباس ما حدُّ اللوطي؟ قال: ينظر إِلى أَعلى بناءٍ في القرية ـ فيُرْمَى منه مُنَكَّسَاً ثم يتبع بالحجارة. وكأَن مأْخذهم هذا أَنْ قوم لوطٍ أُهْلِكُوا بذلك حيث حُمِلَت قراهم ونُكِّسَت بهم. ولا شكٌ في اتباع الهديم

(4)

بهم وهم نازلون. انتهى.

والظاهر أَنْ عذابهم كان مُرَكَّباً من التنكيس، وإِمطار الحجارة عليهم. ثمّ إِنْ أُرِيْدَ من التعزير ما ذُكِرَ في بابه، فلا شكّ أَنه ليس قولَ أَحد من الصحابة، وإِنما هو إِحداث قول آخر، فإِنه لا يجوز، فتعيّن ما قال صدر الشريعة: إِنْ عند أَبي حنيفة رحمه الله يعزّر بأَمثال هذه الأمور، والله تعالى أَعلم.

(1)

نكسه: قَلَبه على رأَسه. القاموس المحيط ص 746، مادة (نكلس).

(2)

أي أَبو حنيفة.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

الهديم: كلٌّ ما تهدُم فسقط. المعجم الوسيط ص 977، مادة (هدم).

ص: 218

‌فَصْلٌ في حدِّ القَذْفِ

مَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا، أَي: حُرًّا مُكَلَّفًا مُسْلِمًا عَفِيْفًا عَنِ الزِّنَا بِصرِيْحِهِ،

===

فصلٌ فِي حَدِّ القَذْفِ

وهو لغةً: الرمي، ومنه قوله تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ}

(1)

.

وشرعاً: الرمي بالزنا بمعنى الطعن

(2)

فيه. وهو من الكبائر إِجماعاً لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِيْنَ يَرْمُوْنَ المُحْصَنَاتِ الغَافِلَاتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا في الدُّنْيَا والآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ}

(3)

، ولقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين وغيرهما:«اجتنبوا السَّبْعَ الموبقات ـ أَي المهلكات ـ. قيل، وما هُنَّ يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حَرَّم الله، وأَكل الرِّبا، وأَكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المُحَصَنَات الغافلات المؤمنات» .

(مَنْ قَذَفَ) وهو (مكلَّفٌ)

(4)

حرٌ أَوْ عبدٌ (مُحْصَنَاً أَي حُرًّا) وعن داود: أَنه يُحَدُّ قاذفُ العبد. (مُكَلَّفَاً) وأَحمد في رواية لا يشترط البلوغ، بل يشترط أَنْ يكون بحيث يجامع.

(مُسْلِمَاً) وعن ابن المسيَّب وابن أَبي ليلى: يحدّ قاذف الذمية التي لها ولدٌ مسلمٌ (عَفِيْفَاً عَنِ الزِّنَا) أَي معروفاً بكفّ نفسه عنه، غير متهم به، لأن غير العفيف لا يلحقه شَيْنٌ بالقذف، وكذا قاذفه صادقٌ فيه. (بِصَرِيْحِهِ) أَي بصريح أَيِّ لسانٍ كان من عربيّ وفارسيّ ونَبَطِيّ، وهو متعلَّق بـ: قذف. واحترز به عمّا لو قذف بلفظ الجماع، أَوْ المباضعة حراماً، أَوْ بالتعريض بأَن قال لرجلٍ: ما أَنا بزانٍ، أَوْ: ما أُمِّي بزانيةٍ، فإِنه لا يحدّ (عندنا)

(5)

، وبه قال سفيان وابن شُبْرُمة والحسن بن صالح والشافعيّ وأَحمد في روايةٍ.

وقال مالك وأَحمد رحمهم الله في رواية: يُحَدُّ لِمَا روى مالك في «الموّطأ» عن أَبي الرِّجال محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النّعْمَان الأنصاري، عن أُمِّه عَمْرَة بنت عبد الرحمن: أن رجلين استبَّا في زمن عمر بن الخطاب، فقال أَحدهما للآخر: والله ما أَبي بزانٍ، ولا أَمي بزانيةٍ، فاستشار في ذلك عمرُ بن الخطاب، فقال قائلٌ:

(1)

سورة الأنبياء، الآية:(18).

(2)

عبارة المطبوع: الرمي بالزنا لمعنى القذف. والمثبت من المخطوط.

(3)

سورة النور، الآية:(23).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 219

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

مَدَح أَباه وأُمَّه، وقال آخَرون: قد كان لأبيه وأُمِّه مدحٌ غير هذا، نرى أَنْ تجلدَه الحد، فجلده عمرُ إِلى ثمانين.

ولنا ما رواه الشيخان من حديث أَبي هُرَيْرَة: أَنْ أَعرابياً قال: يا رسول الله إِنْ امرأَتي ولدت غلاماً أَسودَ. قال: «هل لك من إِبل؟» قال: نعم. قال: «ما أَلوانها؟» قال: حُمْرٌ. قال: «فهل فيها من أَوْرَق» ؟ ـ أَي: ما في لونه بياض وسواد ـ، قال: إِنْ فيها لَوُرْقَاً

(1)

. قال: «فأَنَّى أَتاها ذلك؟» قال: لعله نزعه عِرْق

(2)

. قال: «وكذلك هذا الولد لعله نزعه عِرْقٌ» . وترجم عليه البخاري: باب إِذا عَرّض بنفي الولد. وزاد في لفظٍ: وإِني أَنكرته، يعرّض بأَنه ينفيه.

وما روى أَبو داود والنَّسائي من حديث ابن عباس قال: جاء رجلٌ إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إِنْ امرأَتي لا تمنع يد لامسٍ. قال: «غَرِّبْهَا»

(3)

ـ بتشديد الرَّاء

(4)

المكسورة أَي اجعلها غريبة

(5)

، يعني: طلّقها، كما في بعض الروايات ـ قال: أَخاف أَنْ تتبعها نفسي، قال:«فاستمتع بها» . وفي روايةٍ: «فأَمسكها» . وقوله: لا تمنع يد لامسٍ، كنايةٌ عن زناها.

وأَيضاً إِنْ الله تعالى فرَّق بين التعريض بالخِطبة في العدة فأَباحه، وبين التصريح بها فمنعه، حيث قال:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيْمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ في أَنْفُسِكُمْ}

(6)

الآية، فليفرّق بينهما بالقذف أَيضاً. وأَنه تعالى أَوجب حدّ القذف بصريح الزنا، فلم يكن لنا إِيجابه بكنايةٍ إِلحاقاً لها به دلالةً، لأن الكنايات والتلويح دون التصريح لما فيها من الاحتمال، والله تعالى أَعلم بحقائق الأحوال.

ثم القذف إِمّا بصريحه: يا زاني، يا عاهر، يا ابن الزاني، يا ابن الزانية. (أَوْ)

(1)

في المطبوع: أَورق، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 2/ 1137، كتاب اللعان (19) رقم (18 - 1500).

(2)

المعنى أَنه يحتمل أن يكون في أَصولها ما هو باللون المذكور فاجتذبه إِليه فجاء على لونه. فتح الباري 9/ 443 والمراد بالعرق الأصل من النسب، شبهه بعرق الشجرة. فتح الباري 9/ 444.

(3)

حُرِّفت في المخطوط إِلى عزِّبها، والمثبت من المطبوع لموافقته لما في سنن أَبي داود 2/ 541 - 542، كتاب النكاح (12)، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء (3)، رقم (2049). ولموافقته أَيضًا لما في سنن النسائي 6/ 169، كتاب الطلاق (27)، باب ما جاء في الخلع (34)، رقم (3464).

(4)

في المخطوط: الزاي، والمثبت من المطبوع.

(5)

في المخطوط: عزبه، والمثبت من المطبوع.

(6)

سورة البقرة، الآية:(235).

ص: 220

أَوْ بِـ: لَسْتَ لأَبِيكَ، أَوْ: لَسْتُ بِابْنِ فُلانٍ، في غَضَبٍ، وَهُوَ أَبُوْهُ، حُدَّ ثَمَانِينَ سَوْطًا، كَحَدِّ الشُّرْبِ.

والطَّلَبُ بِقَذْفِ المَيِّتِ: لِلْوَالِدِ والوَلَدِ وَوَلَدِهِ،

===

بدلالة كالقول (بِـ: لَسْتَ لأَبِيْكَ) إِذا كانت أُمه مُحْصَنة. قيّدنا به، لأن هذا في الحقيقة قذفٌ لأُمه، فإِنه إِذا لم يكن من أَبيه كان من غيره، ولا نكاح لغير أَبيه على أُمه، فكان في نفي نسبه من أَبيه قذف أُمه بالزنا. (أَوْ: لَسْتُ بِابْنِ فُلَانٍ في غَضَبٍ) مشاتمةً، وهو قيد في هذه المسأَلة والتي قبلها (وَهُوَ) أَي فلانٌ (أَبُوْهُ) جملة حالية.

(حُدَّ ثَمَانِينَ سَوْطَاً) لقوله تعالى: {وَالَّذِيْنَ يَرْمُوْنَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوْهُمْ ثَمَانِيْنَ جَلْدَةً}

(1)

، والمراد الرمي بالزنا بإِجماع العلماء. وفي الآية إِشارة إِليه حيث شرط أَربعة شهداء، فإِن ذلك من خصائص الزنا. ثُمَّ النص وإِن ورد في المحصَنات إِلاّ أَنْ المحصَنين أَيضاً كذلك، لأن المعنى وهو دفع العار يَشْمَلهما، فكان النص متناولاً لهم دلالة، وعليه الإجماع. وخصَّهُنَّ، لأن القذف في الأغلب يقع بهن.

(كَحَدِّ الشُّرْبِ) في الكمية: وهو ثمانون سوطاً، وفي الثبوت: وهو الإقرار أَوْ شهادة رجلين. قيَّد بكون فلان أَباه، لأنه لو كان جَدَّه لا يحدّ. وقيّد بالغضب كما في بعض النُّسخ وهو الصحيح، لأنه لو كان في رضى لا يحدّ، لأن في حال الرضا يُحْتمل أَنْ يُرَاد بهذا اللفظ المعاتبة، بمعنى: أَنت لا تشبه أَباك في الكرم والمروءة.

وفي «المبسوط» : وكذا لو قال: إِنك ابن فلانٍ، وهو غير أَبيه في حال المشاتمة، لأن مقصودَه نَفْيُ نَسَبه من أَبيه، ونسبة أُمه إِلى الزنا، بخلاف حالة الرضا، لأن مراده: إِنْ أَخلاقك تشبه أَخلاق فلانٍ، (فكأَنك ابنه، وإِنما خصّ الحكم بلست بابن فلان)

(2)

لأنه لو قال: لست بابن فلانةٍ، وهي أُمه، أَوْ قال: لست بابن فلانٍ، ولا بابن فلانةٍ، وفلانٌ أَبوه وفُلانةٌ أُمهُ، لا يحدُّ لا في حالة الرضا ولا في حالة الغضب، لأنه ليس فيه قذف أُمه لا لفظاً ولا اقتضاء، لأن نَفْيه عن أُمِّه نَفْيٌ لولادتها له، ونَفْيُ ولادتها له نَفْيٌ للوطاء عنها، وفي نفي الوطاء نفي الزنا، بخلاف ما إِذا لم يقل: ولا ابن فلانةٍ، فإِنه نفاه عن الوالد فقط

(3)

، وولادة الولد ثابتة عن أُمِّه، فصار كأَنه قال: أَنت ولد الزنا.

(والطَّلَبُ بِقَذْفِ المَيِّتِ لِلْوَالِدِ) وإِن علا (والوَلَدِ وَوَلَدِهِ) وإِن سَفَل، لأن العار

(1)

سورة النور، الآية:(4).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

في المطبوع: فقد، والمثبت من المخطوط.

ص: 221

وَلَوْ مَحْرُوْمًا.

وَلا يُطَالِبُ أَحَدٌ سَيِّدَهُ، ولا أَبَاهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ، وَلَيسَ فِيهِ إِرْثٌ وعَفْوٌ وَعِوَضٌ.

===

يلحَق هؤلاء لمكان الجزئية، فكان القذف متناولاً لهم. ويدخل في عبارته ولد البنت، وهو قول أَبي حنيفة وأَبي يوسف. وقال محمد: ليس له أَنْ يطلب، لأنه منسوبٌ إِلى أَبيه لا إِلى أُمه، فلا يلحق بزنا أَبي أُمه عارٌ. ولهما: أَنْ العار يلحقه لثبوت النسب من الطرفين.

(وَلَوْ) كَانَ (مَحْرُوْمَاً) من الإرث كولد الولد مع الولد، (والولد)

(1)

الكافر والعبد، خلافاً لِزُفَر في الجميع. وقال مالك والشافعيّ: الطلب لوارث الميت، وهو مبني على أَنْ الغالب فيه عنده حقّ العبد فيورَث. وعندنا: حق الله تعالى، فلا يُورَث. (وَلَا يُطَالِبُ أَحَدٌ سَيِّدَهُ ولا أَبَاهُ) وإِن علا (بِقَذْفِ أُمِّهِ) ولا أُمّ أُمِّه وإِن علت بقذف أَبيه، وبه قال الشافعيّ وأَحمد ومالك في رواية، لأن السيد لا يُعَاقب بسبب عبده، والوالد لا يُعَاقب بسبب ولده، ولذا لا يُقَاد من الوالد إِذا قَتَلَ ولده، ولا من السيد إِذا قتل عبده.

(وَلَيْسَ فِيْهِ إِرْثٌ) خلافاً للشافعيّ (و) لا (عَفْوٌ) من المقذوف عن القاذف خلافاً لمالك والشافعيّ وأَحمد، لكن عندنا لو عفى المقذوف لا يُحَدُّ القاذف لتركه الطلب لا لصحة العفو. حتّى لو عاد وطلب يحدّ (وَ) لَا (عِوَضٌ) أَي اعتياض

(2)

خلافاً للشافعي وأَحمد.

ولا خلاف في أَنْ في حدّ القذف حقّين: حقّ الشرع، وحقّ العبد. أَما حقّ العبد فلأنه شُرِعَ لصيانة عرض العبد ولدفع العار عن المقذوف، وهو الذي ينتفع به على الخصوص، ولذا يشترط فيه الدَّعوى، ولا يَبْطُل بالتقادم، ويُقَيِّمُه القاضي بِعِلْمه، ويقدّم استيفاؤه على سائر الحدود، ولا يَبْطُل بالرَّجم، ولا يصحّ الرجوع عنه بعد الإقرار. وأَما حقّ الشرع فلأَنَهُ شُرِعَ زجراً للمفسدين، ولذا لا يباح القذف بالإباحة، ويستوفي حدَّه الإمامُ دون المقذوف، ويجري فيه التداخل حتّى لو قَذَف واحدٌ (أَحداً)

(3)

مراتٍ أَوْ جماعةً مرّة كان عليه حدٌّ واحدٌ.

فَغَلَّب مالك والشافعيّ وأَحمد حقّ العبد لحاجته وغِنَى الشرع، إِذْ هو الأصل فيما اجتمع فيه الحقَّان. وغَلَّبنا حقّ الشرع نظراً للمقصود منه وهو إِخلاء العالَم عن الفساد الذي هو حقّ الله. وما للعبد من الحقّ يتولاه مولاه ولا كذلك العكس، لأنه لا

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

الاعتياض: أَخذ العِوَض وهو البدل. معجم لغة الفقهاء ص 86.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 222

وَفِي: يَا زَانِي، فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ، حُدَّا. وَلِعِرْسِهِ، حُدَّتْ، وَلا لِعَانَ. وَإِنْ قَالَتْ: زَنَيتُ بِكَ، هُدِرَا.

===

ولاية (للعبد)

(1)

في استيفاء حق الشرع إِلا بالنيابة، وإِنما يقدّم حقّ العبد فيما لم يمكن الجمع بين الحَقَّين، وهنا أَمكن فلا حاجة إِليه. وقال صدر الإسلام أَبو اليَسَر في «مبسوطه»: الصحيح أَنْ المغلَّب فيه حقّ العبد كما قال الشافعي، لأن أَكثر الأحكام تدلّ عليه. وقد نصّ محمد في «الأصل»: على أَنْ حدّ القذف حقّ العبد كالقصاص، إِلاّ أَنه فوَّض (إِقامته)

(2)

إِلى الإمام، لأن كلّ أَحدٍ لا يهتدي لإقامة الجلد.

(وَفِي: يَا زَانِي فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ) وفي بعض النُّسخ: لا، بل أَنت (حُدَّا) أَي البادي بالقول والمجيب له، لأن كلّ واحدٍ منهما قاذفٌ. أَمّا البادي فظاهرٌ، وأَمّا المجيب، فلأن معنى كلامه أَنت الزاني، لأن كلمة بل للإضراب عن المتبوع، وصَرْف الحكم إِلى التابع، وقد يُؤتْى بلا معها لتأْكيد ذلك فيصير قاذفاً. (وَلِعِرْسِهِ) أَي ولو قال لامرأَته: يا زانية، فقالت. بل أَنتَ، أَوْ: لا، بل أَنْتَ (حُدَّتْ وَلَا لِعَانَ)

(3)

لأنهما قاذفان، وقذفها إِياه يوجب الحدّ، وقذفه إِيَّاها يوجب اللعان، فيبدأُ بالحدّ، لأن في البداءة به فائدة، وهي إِبطال اللعان، لأن المحدود في القذف لا يُلَاعِن، وفي البداية باللعان لا يبطل حدّها، لأن حدّ القذف يجري على الملاعنة، واللعان في معنى الحدّ فيحتال لدرئه.

وفي «المبسوط» : لو قال لامرأَته: يا زانية بنت الزانية صار قاذفاً لها ولأمها، وقذفها يوجِب اللِّعان، وقذف أَمها يوجب الحد، فإِذا طلبته هي وأَمها بُدِاءَ بالحدّ لِمَا في البداية به إِسقاط اللعان. (وَإِنْ قَالَتْ:) العِرْس في جواب قول زوجها: يا زانية (زَنَيْتُ بِك هُدِرَا) أَي بطل قول الزوج والعِرْس. وفي بعض النُّسخ: هَدْرٌ، أَي بطل هذا القول، فلا حدّ ولا لعان، لأنه يحتمل أَنها أَرادات قبل النكاح فيكون تصديقاً (له بأَنها زنت فيسقط اللعان لتصديقها)

(4)

إِياه، ويجب عليها الحدُّ، لأنها قذفته ولم يصدّقها.

ويحتمل أَنها أَرادت حال النِّكاح، أَي زناي هو الذي كان معك بعد النكاح، لأني ما مكّنت أَحداً غيرك، ولا حصل مني فِعْل الزِّنا، وهو المراد في مثل هذه الحالة، لأنه أَغضبها وأَذاها فتُغْضِبُهُ وتؤذيه متمسكة بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ لَا يَنْكحُهَا

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

اللِّعان: شهادة مؤكدة باليمين المقرونة باللعن، قائمة مقام حدّ القذف في حق الزوج، ومقام حدّ الزنا في حق الزوجة. معجم لغة الفقهاء ص 392.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 223

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

إِلاّ زَانٍ}

(1)

فلا تكون مصدّقة له ولا قاذفة، فلا يجب عليها الحدّ، ويجب اللعان بقذفه لها. فقد وجب كلّ واحدٍ من القذف واللعان في حالٍ دون حالٍ، فلا يجب واحدٌ منهما بالشكّ. وبقولنا قال أَحمد. وقال مالك: تحدّ لأنها قذفت زوجها بالزنا ولم يصدّقها فيه. وقال أَشْهَب: إِلاّ أَنْ تقول قلت ذلك مجاوبةً ولم أُرد قذفاً ولا إِقراراً.

وفي «المبسوط» : لو قال لأجنبية: يا زانية، فقالت: زنيت بِكَ، لا يُحَدّ الرجل لتصديقها إِيَّاه، لأن المقذوف متى صَدّق القاذف سقط الحدّ، وتُحَد المرأَة لقذفها له، ولا يُحَدُّ بِنَفْيه عن جدّه، لأنه صادقٌ في كلامه، وكذا بنسبته إِليه أَوْ إِلى عمه

(2)

أَوْ خاله أَوْ زوج أُمه، لأن كلّ واحدٍ منهم أَبٌ. قال الله تعالى:{كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ}

(3)

، وقال:{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْش}

(4)

قال (المفسرون)

(5)

: هما خالتُه وأَبوه. وقال صلى الله عليه وسلم: «الخال والد مَنْ لا والد له» . رواه في «الفردوس» . وقال الله تعالى: {قَالُوا نُعَبُد إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيْمَ وإِسْمَاعِيْلَ وإِسْحَاقَ}

(6)

وكان إِسماعيل عَمّاً ليعقوب عليه السلام.

ولا يحدّ بـ: يا ابن

(7)

ماء السماء، لأن الناس يذكرون هذا لقصد المدح، فماء السماء لُقِّبَ به عامر بن حارثة بن الغِطْرِيف

(8)

الأزدي، لأنه وَقْتَ القحط كان يُقِيم ماله مُقَام القَطْرِ، فهو كماء السماء عطاءً وجوداً. وقد لُقِّبَ بماء السماء أَيضاً للحُسْن والصفاء، وبه لُقِّبَتْ أُم ابن المنذر بن امراء القيس لذلك، وقيل لولدِها بنو ماء السماء. قال زُهَيْر:

*وَلَازَمْتُ المُلُوْكَ مِنْ آل نَصْرٍ ** وَبَعْدَهُمُ بَنِي ماءِ السَّمَاءِ

ولا يُحَدّ بقذف امرأَةٍ لم يُدْرَ أَبو ولدها. وما جعلنا مصدّق القاذف قاذفاً إِلاّ إِذا زاد على تصديقه: هو كما قلت، وجعله زُفَر قاذفاً بدون الزيادة، لأنه صدّقه فيما قال، والتصديق في القذف قذفٌ. ولنا أَنه لم يصرّح بنسبته إِلى الزنا، وتصديقه إِياه محتملٌ

(1)

سورة النور، الآية:(3).

(2)

في المطبوع: أَمه، والمثبت من المخطوط.

(3)

سورة الأعراف، الآية:(27).

(4)

سورة يوسف، الآية:(100).

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(6)

سورة البقرة، الآية:(133).

(7)

عبارة المخطوط: ولا يحد بابن ماء السماء، والمثبت عبارة المطبوع.

(8)

حرِّفت في المخطوط إلى: العطريف. والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقة لما في "الأعلام" للزركلي 3/ 250.

ص: 224

‌فَصْلٌ في حَدِّ الشُّرْبِ

مَنْ أُخِذَ بِرِيحِ الخَمْرِ، أَوْ سَكْرَانَ زَائِلَ العَقْلِ بِنَبِيذٍ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ مَرَّةً صَاحِيًا، أَوْ شَهِدَ بِهِ رَجُلانِ،

===

لجواز أَنْ يكون في الزنا وغيره، فلا يحدّ بالاحتمال، بخلاف ما لو زاد: هو كما قلت، فإِنه ليس فيه احتمال غيره. واختلاف الشاهدين في زمان القذف أَوْ مكانه غير مانعٍ من قَبُول الشهادة عند أَبي حنيفة، وردّها صاحباه، كما لو اختلفا في قذفه بالعربية والعجمية.

فصلٌ في حَدِّ الشُّرْبِ

(مَنْ أُخِذَ بِرِيحِ الخَمْرِ) حالة الأخذ وإِن زالت رائحتها قبل الوصول إِلى الحاكم لبعد الطريق (أَوْ) أُخِذَ (سَكْرَانَ زَائِلَ العَقْلِ) هذا بيان للسكران في حقّ الحدّ، وتفسيرٌ له على قول أَبي حنيفة، وهو مَنْ لا يعرف الرجال من النساء، ولا الأرض من السماء، لأن الحدّ عقوبةٌ فاعتبرت النهاية في سببه احتيالاً لدرئه، ويؤيّد ذلك قوله تعالى:{يَأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}

(1)

حيث عبَّر عن الصحو بالعلم بالقول، فكان السُكْر الذي هو ضدّه عدم العلم بذلك. وإِنما قلنا في حقّ الحدّ، لأن السُّكْرَ في حق الحرمة عند أَبي حنيفة اختلاط الكلام أَخذاً بالاحتياط في الحرمة.

وقال أَبو يوسف ومحمد ومالك والشَّافعي وأَحمد: السكران مطلقاً أَي في حقّ الحدّ، وفي حقّ الحرمة: هو الذي يختلط في كلامه بحيث يصير يَهْذي، ويختلط جِدُّه بهزله، ولا يستقر على شيء في جوابٍ ولا خطابٍ. قال في «المَبْسُوط»: وإِليه مال أَكثر المشايخ واختاروه للفتوى، لأنه هو المتعارف، ولقول عليَ كرَّم الله وجهه: فإِنه إِذا شرب سَكِر، إِلى آخره. وعن ابن الوليد قال: سأَلت أَبا يوسف عن السَّكْران الذي عليه الحدّ. قال: أَنْ يُسْتَقَرأَ: «قل يأَيها الكافرون» فلا يقدر على قراءتها، فقلت: لِمَ عيَّنت هذه السورة، وربّما أَخطأَ في قراءتها الصاحي؟ فقال: لأن تحريم الخمر نزل فيمن شرع في قراءتها فلم يستطع، أَي بل قرأَ: أعبد ما تعبدون.

(بِنَبِيْذٍ) متعلق بالسكران والمراد نبيذٌ محرَّم (أَوْ أَقَرَّ بِهِ مَرَّةً) وقال أَبو يوسف وزُفَر: مرتين في مجلسين (صَاحِيَاً) قيّد به، لأن إِقرار السكران بالشُّرب لا يُعْتَبر لقوة احتمال الكذب في كلامه، فلا يُعْتَبر فيما يندرِاءُ بالشبهة (أَوْ شَهِدَ بِهِ رَجُلَانِ) لا

(1)

سورة النساء، الآية:(43).

ص: 225

وَعُلِمَ شُرْبهُ طَوْعًا،

===

رجلٌ وامرأَتان (وَعُلِمَ شُرْبُهُ طَوْعَاً) قيّد بالطوع، لأن الشرب إِكراهاً أَوْ ضرورةً لا يُوجب الحدّ. وإِنّما قيّدنا النبيذ بالمحرّم، لأنه الذي يُحَدّ عندنا من كثيره وهو ما أَسكر، لا من قليله وهو ما لا يسكر، وبه قال النَّخَعِي وأَبو وائل. وقال مالك والشّافعيّ وأَحمد والأوزاعيّ والحسن وقَتَادة وعمر بن عبد العزيز: يُحَدُّ في قليله وكثيره كالخمر. وقال أَبو ثَوْر: من شرِبَه متأَوِّلاً، فلا حدّ عليه، لأنه مختلف فيه، فأَشبه النكاح بلا وليّ.

ولنا ما روى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» : أَنْ عمر بن الخطاب ساير

(1)

رجلاً في سفرٍ ـ وكان صائماً ـ فلما أَفطر أَهوى إِلى قِرْبةٍ

(2)

لعمر معلّقة فيها نبيذٌ، فشرب منها فسكر، فضربه عمر الحدّ. فقال: إِنّما شربت من قِرْبتك، فقال له عمر: إِنما جلدتك لسُكْرك. وشرب رجلٌ من إِدَاوَة

(3)

عليّ رضي الله عنه (نبيداً)

(4)

بِصِفِّين فسَكِر، فضربه الحدّ ثمانين.

وفي «سنن الدَّارَقُطْنِيّ» عن ابن عمر: أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ برجلٍ قد سَكِر من نبيذ تمر فجلده. وفي «مسند ابن رَاهُويَه» عنه أَيضاً قال: أُتِي النبيّ صلى الله عليه وسلم بسكران فضربه الحدّ، وقال له:«ما شرابُك؟» قال: تمرٌ وزبيبٌ. فقال: «لا تخلطوهما جميعاً، يكفي أَحدهما من صاحبه» .

وفي «الجامع» للمَحْبُوبي: السُّكْر من هذه الأشربة المتّخذة من الحبوب كالحِنْطَة والشعير والذرة والعسل والفِرْصَاد ـ وهو التوت الأسود ـ وغيرها حرامٌ بالاتفاق، لأن السُّكْر من البَنْج

(5)

حرامٌ، مع أَنه مأْكولٌ غير مشروبٍ، فمن المشروب أَولى. وبعض المشايخ قال: في زماننا الفتوى على من سَكِر من البَنْج يقع طلاقه، ويحدّ لِفُشو هذا الفعل بين الناس.

واعلم أَنه يحدّ لشُرب الخمر ولو قطرةً، لقوله عليه الصلاة والسلام:«مَنْ شرب الخمر فاجلدوه» ، إِلى أَنْ قال:«فإِن عاد الرابعة فاقتلوه» . رواه أَصحاب السنن من حديث معاوية، ولفظه من حديث أَبي هريرة:«إِذا سَكِر فاجلدوه» .... الحديث. ورواه النَّسائي عن ابن عمر وجابر وغيرهما من أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باللفظ الأوَّل. وروى

(1)

ساير: أَي سار معه وجاراه. المعجم الوسيط ص 467 مادة (سير).

(2)

القِرْبَةُ: ظرف من جلدٍ يُخْرَز من جانبٍ واحدٍ. وتستعمل لحفظ الماء أَو اللبن ونحوهما. المعجم الوسيط ص 723، مادة (قرب).

(3)

الإدَاوَة: إِناءٌ صغير يُحْمل فيه الماء. المعجم الوسيط ص 10.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(5)

البَنْج: جنس نباتات طيبة مخذرة. المعجم الوسيط، ص 71، مادة بنج.

ص: 226

يُحَدُّ صَاحِيًا.

===

البزَّار في «مسنده» عن ابن إِسحاق: أَنه صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بالنُّعْمَان قد شرب الخمر ثلاثاً، فأَمر به فضُرِبَ، فلمّا كان الرابعة: أَمر به فجُلِدَ الحدّ، فكان نسخاً.

(يُحَدُّ) إِذا كان بالغاً عاقلاً، وهذا خبر المبتدأْ الذي هو مَنْ أُخِذ، أَي يحدّ الحرُّ ثمانين سوطاً، والعبدُ نصفها، وبه قال مالك وأَحمد في روايةٍ، واختاره ابن المُنْذِر (صَاحِيَاً) وهو قول مالك والشافعي (وأَحمد)

(1)

ليحصل المقصود من الحدّ وهو الانزجار، ولأن عمر حدّ الذي شرب من قِرْبته بعد الإفاقة كما رواه عبد الرَّزَّاق. وقال الشافعيّ وأَحمد في روايةٍ: يُحَدُّ الحر أَربعين والعبد نصفها، ولو ضُرِبَ قريباً من ذلك بأَطرافِ الثياب والنعال كفى على الأصحّ عنده، ولو رأَى الإمام أَنْ يجلده ثمانين جاز على الأظهر، وفي وجهٍ يتعيّن الجلد بالسياط. روى البخاري في «صحيحه» من حديث السائب بن يزيد قال: كنّا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإِمرة أَبي بكر، وصدراً من خلافة عمر، فنقوم إِليه بأَيدينا ونعالنا وأَرديتنا حتّى كان آخر إِمرة عمر، فجلد أَربعين، حتّى إِذا عَتَوا أَوْ فسقوا جلد ثمانين.

وروى مسلم من حديث أَنس بن مالك: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم أُتِي برجلٍ قد شرب الخمر فضربه بجريدتين نحو الأربعين، وفعله أَبو بكر، (فلمَّا كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن بن عَوْف: أَخفُّ الحدود ثمانون، فأَمر به عمر)

(2)

. وفيه عن أَنس أَيضاً: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، ثم جلد أَبو بكر أَربعين.

فلمّا كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى. قال: ما ترون في جلد الخمر، فقال عبد الرحمن بن عَوْف: أَرى أَنْ تجعله (ثمانين)

(3)

كأَخف الحدود. قال: فجلد عمر ثمانين. وروى مالك في «الموطأ» عن ثور بن زيد الدِّيْليّ

(4)

، عن عمر بن الخطاب: أَنه استشار في الخمر (يشربها الرجل)

(5)

. فقال له عليّ بن أَبي طالب:

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، وإِثباته الصواب، لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1330، كتاب الحدود (29)، باب حدّ الخمر (8)، رقم (35 - 1706).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، وإِثباته الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1330، كتاب الحدود (29)، باب حد الخمر (8)، رقم (36 - 1706).

(4)

حُرِّفَت في المخطوط إِلى: ثَوْر بن يزيد الديلمي، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في موطأ الإمام مالك 2/ 482، كتاب الأشربة (42)، باب الحد في الخمر (1)، رقم (2).

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته.

ص: 227

لا بِمُجَرَّدِ الرِّيْحِ أَوْ التَّقَيؤ، أو السُّكْرِ، ولا إنْ رَجَعَ عن الإقرار، ومَنْ شَهِدَ بحَدٍّ مُتقَادِمٍ قريبًا من إمَامٍ رُدَّ،

===

نرى أَنْ تجلده ثمانين، فإِنه إِذا شرب سَكِر، وإِذا سَكِرَ هَذَى، وإِذا هَذَى افترى (وعلى المفتري ثمانون)

(1)

فجلد عمر في الخمر ثمانين. وفي «مصنف عبد الرَّزَّاق» : أَخبرنا سفيان الثوري، عن عوف

(2)

، عن الحسن: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر ثمانين.

(لا بِمُجَرَّد الرِّيْح) أَي لا يحدّ من لم يوجد منه إلاّ ريح الخمر (أَوْ) لم يوجد منه إلاَّ (التقيؤ)

أي تقيؤ الخمر لاحتمال أنه شربها مُكْرَهاً أو مضطراً (أو) لم يوجد منه إِلاّ (السُّكْرِ) لاحتمال أَنه سكر من مباحٍ. وقال مالك، وهو روايةٌ عن أَحمد: يحدُّ من وُجِدَ منه رائحة الخمر، لأن رائحتها منه تدلّ على شربها، فصار كإِقراره بالشرب.

وأُجيب: بأَن رائحتها وإِن دلت على شربها، إِلاّ أَنه يحتمل أَنْ يكون مكرهاً أَوْ مضطراً، والحدُّ لا يجب بالشرب إِلاّ إِذا عُلِمَ أَنه طائعٌ غير مضطرٍ. (وَلَا إِنْ رَجَعَ) أَي ولا يحد المقرّ إِنْ رجع (عَنْ الإقْرَارِ) بالشرب قبل الحد، أَوْ في وسطه، لأنه خالص حقّ الله، فيعمل الرجوع فيه كالزنا، بخلاف حدّ القذف والقصاص لأنهما من حقوق العباد. (وَمَنْ شَهِدَ بِحَدٍ مُتَقَادِمٍ) أَي حدّ كان، حال كونه (قَرِيْبَاً مِنْ إِمَامٍ رُدَّ) خلافاً لمالك والشافعيّ وأَحمد في روايةٍ اعتباراً بالشهادة في حقّ العباد.

ولنا ما ذَكَر محمد في «الأصل» عن عمر أَنه قال: أَيُّما شهودٍ شهدوا على حدَ لم يشهدوا عند حضرته، فإِنما شهدوا على ضِغْن، فلا شهادة لهم. ولأن الشاهد متى عاين الزنا ونحوه فهو مخيّرٌ بين حِسْبَتَيْن: حِسْبَة آداء الشهادة ليقام الحدّ فيحصل الانزجار، قال الله تعالى:{وَأَقِيْمُوا الشَّهَادَة}

(3)

، وحِسْبة السَّتر على المسلم بالامتناع عن الشهادة، فإِن الشرع ندبنا إِلى الستر بقوله تعالى:{إِنّ الَّذِيْنَ يُحِبُّوْنَ أَنْ تَشِيْعَ الفَاحِشَةُ}

(4)

الآية، وقوله عليه الصلاة والسلام:«مَنْ ستر على مسلمٍ ستره الله في الدنيا والآخرة»

(5)

. فتأْخير هذه الشهادة مع إِمكان أدائها إِنْ كان للستر فيتهم بأَنه

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة غير موجودة في الموطأ.

(2)

في المخطوط: عن عون، والمثبت من المطبوع وهو الصواب، لما في مصنف عبد الرزَّاق 7/ 379 باب حد الخمر، رقم (13547).

(3)

سورة الطلاق، الآية:(2).

(4)

سورة النور، الآية:(19).

(5)

أخرجه الترمذي في سننه 4/ 26، كتاب الحدود (15)، باب ما جاء في السَّتْر على المسلم (3)، رقم (1425).

ص: 228

إلا في قذفٍ، وَضَمِنَ السَّرِقَةَ، وإن أَقَرَّ به حُدَّ، وَهُوَ للشُّرْبِ بِزَوَالِ الرِّيْح،

===

إِنما أَقدم عليها بعد ذلك لضغينة أَوْ عداوة فتردّ، وإِن كان لا للستر فهو فسق (لأن أَداء الشهادة واجبٌ، وتأخير الواجب فسقٌ)

(1)

وشهادة الفاسق مردودة، ولهذا قلنا في حق العباد. وإِذا طلب المدَّعي من الشاهد أَداء الشهادة، فأَخّر بلا عذرٍ ثم أَدّى، لا تقبل شهادته مع إِمكانه (إِلاّ في) حدّ (قَذْفٍ) فإِنه لا يردّ، لأن تأْخيرها فيه لعذر شرعي، وهو عدم الدَّعوى، لأن الدعوى شرطٌ في حدّ القذف كسائر حقوق العباد.

(وَضَمِنَ) السارق بالشهادة المتقادمة (السَّرِقَةَ) أَي المسروق، لأن التقادم يمنع الشهادة في حقّ الحدّ للتهمة، ولا يمنعها في حقّ المال، لأن المال يثبت مع الشبهة

(2)

، فصار كما لو شهد رجل وامرأَتان بالسرقة حيث يضمن السارق المال ولا يقطع. (وَإِنْ أَقرَّ به) أَي بحدَ متقادِم (حُدَّ). وقال زُفَر: لا يُحَدّ اعتباراً بالشهادة. وأُجِيْبَ: بأَن الشهادة قد تُهَيِّجُهُ عليها عداوةٌ حادثة، بخلاف الإقرار لانتفاء تُهمِة الضغينة فيه، لأنه لا يعادي نفسه، ولأن الإقرار لا يَبْطُل بالتهمة والفسق.

(وَهُوَ) أَي التقادم (للشُّرْبِ) من خمر أَوْ غيرها (بِزَوَالِ الرِّيْح) عند أَبي حنيفة وأَبي يوسف، وبِمُضِي شهرٍ عند محمد كما في الحدود. لهما ما روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» ، والطَّبَرَانِي في «معجمه» ، وإِسحاق بن رَاهُويه في «مسنده» ، عن أَبي ماجد الحنفي قال: جاء رجلٌ بابن أَخٍ له سكران إِلى عبد الله بن مسعود، فقال عبد الله: تَرْتِرُوه ومَزْمِزُوه واستنكهوه، ففعلوا فرفعه إِلى السجن، ثم دعا به من الغد ودعا بسوطٍ ثم أَمر (به فدُقَّت)

(3)

ثمرته بين حجرين حتى صارت دِرَّةً

(4)

، ثم قال للجلاّد اجلد، (وأَرجع يدك)

(5)

، وأَعط كل عضوٍ حقّه. والتَرْتَرَة بمثناتين فوقيتين وراءين مهملتين: التحريك، وكذا المَزْمَزَة بزائين معجمتين.

والحاصل: أَنَّ بقاء ريح الخمر والنبيذ شرطٌ لإقامة الحدّ عند أَبي حنيفة وأَبي يوسف، إِلاَّ أَنْ ينقطع لبعد مسافة عن الإمام، لقول ابن مسعود. ونفى محمد اشتراط بقائه كمالك والشافعيّ، وهو الصحيح، لإطلاق ما رُوِّينا من قوله عليه الصلاة والسلام:

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

في المطبوع: الشهادة، والمثبت من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

الدِّرَّةُ: السَّوْط. المصباح المنير ص 192، مادة (درّ).

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 229

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

«مَنْ شرب الخمر فاجلدوه»

(1)

، وقوله:«إِذا سَكِرَ فاجلدوه»

(2)

. ولأن وجود الرائحة لا يصلح دليلاً، إِذْ قد يتكلف لزوالها مع بقاء الخمر، وقد يوجد رائحة الخمر من غير خمرٍ كما قيل:

*يَقُولُوْنَ لِي: إِنَّكَ شَرِبْتَ مُدَامَةً

(3)

** فَقُلْتُ لَهُمْ: لَا بَلْ أَكَلْتُ سَفَرْجَلَا

وقيل:

*سَفَرْجَلَةٌ تحْكِي ثَدْيَ النَّوَاهِدِ ** لَهَا عَرْفُ

(4)

ذي فِسقٍ وصُفْرَةُ زَاهِدِ

فظهر أَنْ رائحة الخمر تلتبس بغيرها، فلا يُنَاط شيء من الأحكام بوجودها ولا بعدمها. ولو سلّمنا أَنها لا تلتبس على ذوي المعرفة، فلا موجِب لتقييد العمل بالبيّنة بوجودها، لأن المعقول تَقَيُّد قبولها بعدم التهمة، والتهمة لا تتحقّق في الشهادة بوقوعها بعد ذهاب الرائحة بل بتأْخير الأداء تأْخيراً يعدّ تفريطاً، وذلك منتفٍ في تأْخير يومٍ ونحوه، وبه تذهب الرائحة.

ومحل النزاع في عدم قبول الشهادة عند عدم الرائحة، وليس في أَثر ابن مسعود شهادةٌ مُنِعَ من العمل بها لعدم الرائحة وقت أَدائها، بل ولا إِقرارٌ، وإِنما فيه أَنه حدّه بظهور الرائحة بالتَرْتَرَة المَزْمَزة، وإِنما فَعَله لأن بالتحريك تظهر الرائحة من المعدة التي كانت خفيت، وكان ذلك مذهبه، ويدلّ عليه ما في الصحيحين عنه: أَنه قرأَ سورة يوسف، فقال رجلٌ: ما هكذا أُنْزِلَت، فقال عبد الله: والله لقد قرأْتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أَحسنت فبينا هو يكلّمه إِذْ وجد منه رائحة الخمر، فقال أَتشرب (الخمر)

(5)

وتكذب بالكتاب؟ فضربه الحدّ. وروى الدَّارَقُطْنِيّ بسندٍ صحيحٍ عن السائب بن يزيد، عن عمر بن الخطاب، أَنه ضرب رجلاً وجد منه ريح الخمر.

والحاصل أَنْ حده عند وجود الريح مع عدم البيّنة أَوْ الإقرار لا يستلزم اشتراط الرائحة مع أَحدهما. ثم هو مذهب بعض العلماء منهم مالك، وهو قولٌ للشافعي (وروايةٌ عن أَحمد)

(6)

، والأصحّ عن الشافعي وأَكثر أَهل العلم نفيه. هذا ملخص كلام بعض أَهل التحقيق، والله ولي التوفيق.

(1)

سبق تخريجه من قِبَل الشارح ص 226.

(2)

سبق تخريجه من قِبَل الشارح ص 226.

(3)

المُدَامة: الخمر. المعجم الوسيط ص 305، مادة (دام).

(4)

العَرْفُ: الرائحة مطلقًا. المعجم الوسيط ص 595، مادة (عرفه).

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(6)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 230

ولِغَيْرِهِ بِمُضِيّ شَهْرٍ، فَإِنْ شَهِدَ بِزِنَا وَهِيَ غَائِبَةٌ حُدَّ، وَبِسَرِقَة من غائبٍ لا.

ونُصِّفَ حَدُّ العبد. وَيَكْفِي حَدٌّ بِجِنَايَاتٍ اتحَدَ جِنْسُهَا.

===

(ولِغَيْرِهِ) أَي الشُّرب (بِمُضِيّ شَهْرٍ) عند أَبي يوسف ومحمد، وبالتفويض إِلى رأي القاضي عند أَبي حنيفة. وقيل: يقدّر بنصف الشهر، والأول أَصحّ، وهو رواية عن أَبي حنيفة. (فَإِنْ شَهِدَ) على رجلٍ (بِزِنَا) بفلانةٍ أَوْ أَقرّ رجلٌ أَنه زنا بفلانَةٍ (وَهِيَ غَائِبَةٌ) أَوْ أَقرّ بالزنا بمجهولةٍ (حُدَّ) ذلك الرجل باتفاق الأئمة. (وَ) إن شهد على رجلٍ (بسرقة من غائبٍ لا) أي لا يقطع.

(ونُصِّف حَدُّ العبد) فيجلد في الزنا خمسين، وفي غيره أَربعين لقوله تعالى:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ}

(1)

(أَي من الجلد)

(2)

والآية وإِن كانت في الإماء إِلاّ أَنه يُعْرَف منها حُكْم العبد بطريقِ الدِّلالة.

(وَيَكْفِي حَدٌّ) واحدٌ (بِجِنَايَاتٍ اتحَدَ جِنْسُهَا) فمن قذف جماعةً بكلمةٍ واحدةٍ بأَن قال: يا زناة، أَوْ بكلمات متفرقةٍ بأَن قال: يا زيد أَنت زانٍ، ويا عمرو أَنت زانٍ، ويا خالد أَنت زانٍ، لا يُقَام عليه إِلاّ حدٌ واحدٌ. وكذا مَنْ زنى مراراً، وشرب مراراً يكفيه حدٌّ واحدٌ، وبه قال مالك، والثَّوْرِيّ، وابن أَبي لَيْلَى، والشَّعْبِيّ، والزُّهْرِيّ، والنَّخَعِي وقَتَادة وحمَّاد وطاوس، وأَحمد في روايةٍ. وقال الشافعيّ: إِنْ قذف جماعةً بكلماتٍ، أَوْ واحداً مرات بزناً متعددٍ، يجب لكل قذف حدٌّ، وبه قال أَحمد في روايةٍ بناءً على أَنْ الغالب في حدّ القذف عنده حقّ الآدمي، فلا يتداخل كالديون والقصاص، بخلاف ما لو قذفهم بكلمةٍ واحدةٍ حيث يتداخل في القديم دون الجديد، أَوْ قذف واحداً مرات بزناً واحدٍ حيث يتداخل.

وعندنا الغالب في حدّ القذف حقّ الله تعالى، فيكون مُلحَقاً بحدّ الزنا والشرب. وأَمّا الجناياتُ المختلفةُ الجنس فلا تتداخل إِجماعاً، لأن المقصود من كل جنسٍ غير مقصود من الآخر، فحدّ الزنا لصيانة الأنساب، وحد السرقة لصيانة الأموال، وحد الشرب لصيانة العقول، وحد القذف لصيانة الأعراض. فلو قذف وزنا وسرق وشرب يُقَام عليه لكل واحدٍ حَدُّه، ولا يوالي بين حَدَّين خِيفةَ هلاكه بل ينتظر حتى يبرأَ من الأوّل، ويبدأَ بحدّ القذف، لأن فيه حقّ العبد، ثم الإمام مخيّر إِنْ شاء بدأَ بحدِّ الزنا، وإِن شاء بالقطع لاستوائهما في القوة إِذْ هما ثابتان بالكتاب، ويؤخّر حدّ الشرب، لأنه أَضعف منهما. ولو كان مع هذه جراحة توجب القصاص بدأ بالقصاص، لأنه حقّ العبد، ثم حدّ القذف، ثم الأقوى فالأقوى، والله تعالى أَعلم بالصواب.

(1)

سورة النساء، الآية:(25).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 231

‌فَصْلٌ في التَّعْزِيرِ

وَأَكْثَرُ التَّعْزِيْرِ تِسْعَةٌ وَثَلاثوْنَ سَوْطًا،

===

فصلٌ فِي التَّعْزِيْرِ

وهو تأديبٌ دون الحد مشتقٌ من العَزْر بمعنى الردع والزجر. وهو مشروعٌ بالكتاب، قال الله تعالى:{وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيْلاً}

(1)

أَمر بضرب الزوجات تهذيباً وتأَديباً. وبالسنة وهو ما رواه محمد بن الحسن مرسلاً (عن الضَّحَّاك بن مزاحم، والبيهقي)

(2)

عن النّعْمَان بن بشير: «من بلغ حدًّا، في غير حدَ، فهو من المعتدين» . وقال عليه الصلاة والسلام في الصبيان: «اضربوهم لعشرةٍ»

(3)

. لترك الصلاة، وبإِجماع الصحابة.

وهو قد يكون بالكلام العنيف، وقد يكون بتحريك

(4)

الأُذُن، وبالصفع وبالضرب. (وَأَكْثَرُ التَّعْزِيْرِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُوْنَ سَوْطَاً) عند أَبي حنيفة، وخمسٌ وسبعون سوطاً عند أَبي يوسف في ظاهر الروايات عنه، وهو قول ابن أَبي ليلى. وفي روايةٍ: تسعٌ وسبعون. وقول محمد ذكره بعضُهم مع أَبي حنيفة، وبعضهم مع أَبي يوسف.

والأصل في هذا ما أَخرجه البيهقيّ عن النُّعمان بن بشير ـ وقال: المحفوظ أَنه مرسلٌ ـ أَنه صلى الله عليه وسلم قال: «من بلغ حدّاً، في غير حدّ، فهو من المعتدين» . أَي من أَتى حدّاً في موضعٍ لا يجب فيه الحدّ، فهو من المعتدين، فلزم أَنْ لا يبلغ به حدّاً. إِلاّ أَنْ أَبا حنيفة اعتبر أَدنى الحدِّ، وهو (حدُّ)

(5)

العبد، وأَقلّه أَربعون، لأن مطلق الحدّ يتناوله، وأَبو يوسف اعتبر حدَّ الأحرار، لأنهم الأُصول، وأَقلُّه ثمانون، فينقص عنه سوطاً في رواية هشام عنه، وهو القياس، وبه قال زُفَر، وفي روايةٍ: خمسة، وهو مأْثور عن عليّ فقلّده.

ولأن أَقصى حدّ الأحرار مئة، وأَقصى حدّ العبد خمسون، فوجب أَنْ يُحَدَّ نصف كل واحدٍ منهما، وذا خمسة وسبعون. وقال مالك: لا حدّ لأكثر التعزير، فيجوز للإمام عنده أَنْ يزيد في التعزير على الحدّ إِذا رأَى المصلحة في ذلك، ولا يَبْعُد أَنْ يعمل

(1)

سورة النساء، الآية:(34).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط. والصواب ما أثبتناه من المطبوع لما في الآثار ص 307 باب التعزيز، رقم (610)، وسنن البيهقي 8/ 327، كتاب الأشربة .. ، باب ما جاء في التعزيز

(3)

أخرجه البيهقي في سننه 2/ 229، كتاب الصلاة، باب عورة الرجل.

(4)

في المخطوط: بتحريك، والمثبت من المطبوع ومعنى عرك الجلد ونحوه: دلكه. المعجم الوسيط ص 596، مادة (عرك).

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 232

وَأَقَلُّهُ ثَلاثَةٌ.

وصَحَّ حَبْسُهُ مَعْ ضَرْبِهِ، وَضَرْبُهُ أَشَدُّ، ثُمَّ للزِّنَا، ثُمَّ لِلْشُّرْبِ، ثُمَّ لِلْقَذْفِ،

===

بقول أَبي حنيفة في العبيد، وبقول أَبي يوسف في الأحرار.

(وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ) هكذا ذكره القُدُورِيّ، وكأَنه يرى أَنْ ما دون الثلاثة لا يقع به الزجر. وذكر التُمُرْتَاشي عن السَّرَخْسِيّ: أَنه ليس فيه شيءٌ مقدّر، بل مفَوَّضٌ إِلى رأْي القاضي، لأن المقصود منه الزَّجر، وأَحوال الناس مختلفة فيه: فمنهم من ينزجر بالنصيحة، ومنهم مَنْ يحتاج إِلى اللَّطمة، ومنهم مَنْ يحتاج إِلى الضَّرْب، ومنهم من يحتاج إِلى الحبس. وفي النهاية: تعزير أَشراف الأشراف ـ وهم العلماء والعلوية ـ بالإعلام، وهو أن يقول له القاضي: بلغني أنك تفعل كذا؛ وتعزيز الأَشراف وهم الأمراء والدَّهَاقِين

(1)

: بالإعلام والجرّ إِلى باب القاضي والخصومة في ذلك؛ وتعزير الأوساط وهم السُّوقة: بالإعلام والجر والحبس. وتعزير الأَخِسّة: بهذا كلّه والضرب.

وسُئِلَ الهِنْدُواني عن رجلٍ وجد رجلاً مع امرأَته أَيحل له قتله؟ قال: إِنْ كان يعلم أَنه ينزجر بالصياح والضرب بما دون السلاح لا يحلّ له قتله، وإِن علم أَنه لا ينزجر بذلك حلّ له قتله، وإِن طاوعته المرأَة حلّ له قتلها أَيضاً.

وعن أَبي يوسف: يجوز للسلطان أَنْ يعزِّر بالمال (مثل أَموال البغاة فليُحفظ)

(2)

. وقال أَبو حنيفة ومالك والشافعيّ وأَحمد: لا يجوز. ثم التعزير فيما شُرِعَ فيه واجبٌ إِذا رآه الإمام، وبه قال مالك وأَحمد. وقال الشافعيّ: ليس بواجبٍ. ولنا أَنه زاجرٌ مشروعٌ، فيجب كالحدّ.

(وصَحَّ حَبْسُهُ مَعْ ضَرْبِهِ) إِذا رأَى الإمام فيه مصلحة. (وَضَرْبُهُ) أَي ضرب التعزير (أَشَدُّ) من ضرب الحدود، لأن ضرب التعزير خُفِّفَ من حيث الكميةُ

(3)

، فلا يخفَّف من حيث الكيفيةُ لئلا يؤدي إِلى فوت المقصود الذي هو الزجر بالكلية. وفي «المحيط»: أَنْ محمداً ذكر في حدود «الأصل» : أَنْ التعزير يفرَّق على الأعضاء، وذكر في أَشربة «الأصل»: أَنْ ضرب التعزير يكون في موضع واحدٍ.

(ثُمَّ) الحدّ (للزِّنَا) لأنه ثابتٌ بالكتاب بخلاف حدّ الشرب، فإِنه بقول الصحابة كما تقدّم (ثُمَّ) الحدّ ((لِلْشُّرْبِ ثُمَّ) الحدّ)

(4)

(لِلْقَذْفِ) لأن جناية الشرب بلا شُبْهة

(1)

الدُّهْقَان: رئيس القرية، رئيس الإقليم، القوي على التصرف مع شدة خبرة، من له مال وعقار، التاجر. المعجم الوسيط ص 300، مادة (دَهْقن).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

في المطبوع: العدد، والمثبت من المخطوط.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 233

وَهُوَ بِقَذْفِ مَمْلُوْكٍ أَوْ كَافِرٍ بِزِنًا، ومُسْلِمٍ بِـ: يَا فَاسِقُ، يَا كَافِرُ، يَا سَارِقُ، يا مُخَنَّثُ، وأَمْثَالُهُ. لا بِـ: يَا حِمَارُ.

===

لمشاهدة الشرب مع الرائحة، وجناية القذف بشبهة، وهي احتمال كون القاذف صادقاً. وقال مالك: كلّها سواءٌ، لأن المقصود من جميعها واحدٌ، وهو الزجر، فيجب تساويها في الوصف. وقال أَحمد: أَشدّ الضرب الحدُّ للزنا، ثم الحدُّ للقذف، ثم الحد للشرب، ثم التعزيز، لأن الله تعالى خصّ الزنا بمزيد التأْكيد لقوله تعالى:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأَفَةٌ في دِيْن اللَّهِ}

(1)

ولا يمكن جَعْلُ ذلك في العدد، فيتعين جعله في الصِّفة، وحدّ القذف فيه حقّ الآدمي، وحد الشُّربَ مَحْضُ حقّ الله تعالى.

(وَهُوَ) أَي التعزير (بِقَذْفِ مَمْلُوْكٍ)(لغيره)

(2)

(أَوْ كَافِرٍ بِزِنَاً) لأن هذه جناية قذف، وقد امتنع الحدّ لعدم الإحصان، فيجب التعزير. (و) بقذف (مُسْلِمٍ بِـ: يَا فَاسِقُ، يَا كَافِرُ، يَا سَارِقُ، يا مُخَنَّثُ وأَمْثَالُهُ) وهي: يا خَائِنٌ، أَي: يا ناكث العهد، يا ابن القَحْبَة

(3)

، وهي كلمة مُوَلَّدة، والقِحَاب: سعال الخيل والإبل، وربّما يجعل للناس. يا يهوديّ، يا نصرانيّ، يا ابن النصرانيّ، يا من يلعب بالصبيان، يا آكل الرِّبا، يا شارب الخمر، يا دَيُّوث، يا فاجرٌ، يا منافقٌ، يا لصٌ، يا زِنْديقٌ، يا خبيثٌ، يا قَرْطَبان، يا مأوى الزواني أَوْ اللصوص، يا حرامٌ زاده، يا موسوسٌ، يا أَبله، يا أَحمق. لأنه آذاه بإِلحاق الشَّيْن به إِذا لم يُثبت هذه الأشياء، فيعزّره القاضي بما يراه.

قال ثعلب: القَرْطَبان: لم أَره في كلام العرب، ومعناه عند العامة: الذي يرضى بدخول الرِّجال على نسائه، وكذلك الدَّيُّوث. ولو قال: يا لوطيّ يُسْأَل عن نيته، فإِن أَراد أَنه من قوم لوطٍ، فلا شيء عليه. وإِن أَراد أَنه يَعْمل عمل قوم لوطٍ إِما فاعلاً أَوْ مفعولاً، فعليه الحدّ عند أَبي يوسف ومحمد كمالك والشافعيّ وأَحمد والحسن والنَّخَعِي والزُّهْرِيّ وأَبي ثور، لأنه قذفه بما يُوجِب الحدَّ عندهم، فصار كما لو قذفه بالزنا. وعند أَبي حنيفة لا حدّ عليه ويعزّر، لأنه قذفه بما لا يوجِب الحدّ عنده، وبه قال قَتَادة وعطاء، والصحيح أَنه إِنْ كان في غضب يعزّر.

(لا بِـ: يَا حِمَارُ) يا كلبُ، يا خنزيرُ، يا تيسُ، يا ثورُ، يا بقرُ، يا حيةُ، يا بِغَاء

(4)

،

(1)

سورة النور، الآية:(2).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

القَحْبَة: البَغِيُّ. المعجم الوسيط ص 716، مادة (قحب).

(4)

بغت المرأَة بِغَاء فجرت. المعجم الوسيط ص 65، مادة (بغى).

ص: 234

وَقِيْلَ: إِلَّا لِعَالِمٍ أَوْ عَلَوِيٍّ. وَمَنْ حُدَّ أَوْ عُزِّرَ فَمَاتَ، هُدِرَ دَمُهُ. وإن عَزَّرَ زَوْجٌ عِرْسَهُ،

===

يا مؤاجِرة

(1)

، يا ولد الحرام، يا عَيَّار

(2)

، يا ناكس

(3)

، يا منكُوس

(4)

، يا سُخَرَة، يا ضُحْكَة، يا ابن الأسود، وأَبوه ليس كذلك، لأن المقذوف لا يلحقه شَيْنٌ بهذا الكلام، وإِنما يَلْحَق القاذف إِذْ كل أَحد يعلم أَنْ المقذوف آدمي وليس بكلبٍ ولا حمارٍ، وأَن القاذف كاذبٌ في ذلك.

وحكى الهِنْدُوَاني أَنه يعزَّر في زماننا بنحو يا كلب يا خنزير، لأنه يُرَاد به الشتم، وهو رواية عن أَبي يوسف في «الأمالي» . وعدم التعزير في الكلب والخنزير ونحوهما هو ظاهر الرواية عن علمائنا الثلاثة.

(وَقِيْلَ: إِلاَّ) إِذا قاله (لِعَالِمٍ أَوْ عَلَوِيَ) فإِنه يعزّر لأنه يعدّ شيْنَاً في حقّهم، ويلحقهم الأذى به. واسْتُحْسِنَ هذا في «الهداية» و «الكافي» .

(وَمَنْ حُدَّ أَوْ عُزِّرَ فَمَاتَ هُدِرَ دَمُهُ) وبه قال أَحمد. وقال مالك: إِذا ضربه تعزيراً مثله. وقال الشّافعيّ: لا يهدر، وفي محل الضمان عنه قولان: أَحدهما: بيت المال، لأنه عاملٌ للمسلمين، فيكون غُرْم عمله عليهم. والثاني: عاقلة الإمام لأن الضرب غير متعيّن في التعزير، فيكون فعله مباحاً، فيتقيّد بشرط السلامة ولم توجد، فيجب على عاقلته كالمرور في الطريق.

ولنا: أَنْ الإمام مأْمورٌ بِالحدِّ والتعزيز

(5)

، وفعل المأمور لا يتقيّد بشرط السلامة كما في الفَصَّاد

(6)

والحَجَّام

(7)

إِذا لم يتجاوزا الموضع المعتاد، بخلاف المرور في الطريق، فإِنه غير مأْمورٌ به، ولأن فعل الإمام بأَمر الشرع، فيكون منسوباً إِلى الآمر، فكأَنه مات حتف أَنفه، فلا يضمن. (وَإِنْ عَزَّرَ زَوْجٌ عِرْسَهُ)

(8)

على تَرْك الزينة، أَوْ

(1)

المؤاجِر: مأخوذة من آجَرت الأمة البَغِيَّة نَفْسَها مؤاجرة: أباحت نفسها بأجرٍ. لسان العرب 4/ 10، مادة (أجر).

(2)

العَيَّار: الذي يُخَلّي نفسه وهواها لا يردعها ولا يزجرها. المعجم الوسيط ص 639، مادة (عير).

(3)

الناكس: المطأطئ رأَسه من ذل. المعجم الوسيط ص 952، مادة (نكس).

(4)

المَنْكُوس: المقلوب، يقال ولدٌ منكوس: خرجت رجلاه قبل رأَسه عند وضعه. المعجم الوسيط ص 952، مادة نكس.

(5)

عبارة المطبوع: أَن الإمام مأمور به، والمثبت عبارة المخطوط.

(6)

فصد المريض: أَخرج مقدارًا من دم وريده بقصد العلاج. المعجم الوسيط ص 690، مادة (فصد).

(7)

حجم المريض: عالجه بالحجامة، وهي امتصاص الدم بالمِحْجم. المعجم الوسيط ص 158، مادة (حجم).

(8)

العِرْسُ: الزوج، يقال: هو عُرْسها، وهي عِرْسه. المعجم الوسيط ص 592، مادة (عرس).

ص: 235

لا.

===

الإجابة إِذا دعاها إِلى فراشه، أَوْ على الخروج من بيته فماتت (لا) أَي لا يُهدر دمها بل يضمن، لأن تعزيره إِيّاها على هذه الأشياء مباحٌ ترجع منفعته إِليه لا إِليها، فيتقيّد بشرط السلامة. وعلى هذا ينبغي أَنْ لا يَضْرِب امرأَته على ترك الصلاة، أَوْ على ترك غُسل الجنابة، لأن منفعة ذلك عائدةٌ إِليها. وقد ذكر الحاكم: أَنه لا يضرب امرأَته على ترك الصلاة، ويضرب ابنه عليها.

فإِن قيل: إِذا جامع امرأَته فماتت من الجِماع، أَوْ أَفضاها لا يجب شيءٌ عند أَبي حنيفة ومحمد رحمهما الله مع أَنْ جِمَاعَه مباحٌ، ولم يقيّداه بشرط السلامة. أُجِيْبَ: بأَنه قد ضمن المهر بذلك الجِماع، فلو وجب عليه شيءٌ أَيضاً لزم وجوب ضمانين في مقابلة مضمونٍ واحدٍ، وهو منافع البُضْع، وذلك لا يجوز.

ولو أَدّب المعلم الصبيّ فمات منه، يضمن عندنا، وعند الشافعيّ، و (قال)

(1)

مالك وأَحمد: لا يضمن الزوج ولا المعلِّم في التعزير، ولا الأب في التأْديب، ولا الجدّ، ولا الوصي إِذا ضربه ضرباً معتاداً. ولو ضربه ضرباً شديداً لا يُضْرَب مِثْلُه في التأْديب يضمن بإِجماع الفقهاء، والله تعالى أَعلم بالصواب.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 236

‌كِتَابُ السَّرِقةِ

هِيَ أَخْذُ مُكَلَّفٍ خُفْيَةً قَدْرَ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ مَضْرُوْبَة، مَمْلُوْكًا مُحْرَزًا، بِلا شُبْهَةٍ بِمَكَانٍ أَوْ حَافِظٍ

===

كتاب السَّرِقَةِ

هي لغةً: أَخذ الشيء من الغير على وجه الخُفْيَة، ومنه قوله تعالى:{إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ}

(1)

. وشرعاً: (هِيَ أَخْذُ مُكَلَّفٍ) أَي عاقلٍ بالغ (خُفْيَةً) في الابتداء والانتهاء إِذا كان الأخذ نهاراً، وفي الابتداء لا غير إِذا كان ليلاً حتّى لو دخل بالليل خُفْيةً وأَخذ المال مجاهرةً يقطع، لأن اعتبار الخُفْيَة بالليل في الانتهاء يؤدي إِلى عدم القطع في أَكثر السرقات الليلية، إِذْ أَكثرها تصير مقاتَلَة في الانتهاء، بخلاف النّهار في المِصْر، لأن الغَوْث يلحقه فيه، وما بين العِشاءين كالنهار في الأصحّ (قَدْرَ عَشْرَةِ دَرَاهِمٍ مَضْرُوْبَةٍ) جيدة في الأصح. وروى الحسن عن أَبي حنيفة رحمه الله: أَنْ المضروب وغير المضروب سواءٌ، ويعتبر وزن كل عشرة سبع مثاقيل

(2)

كما في الزكاة، أَوْ ما يبلغ قيمته وزن عشرة دراهم بقول رجلين عدلين، لأنه من باب الحدود.

(مَمْلُوْكَاً) ذلك القدر، احترازٌ عن نحو حصير المسجد وأَستار الكعبة ممّا ليس بمملوكٍ للعباد، ولا بدّ من قيد لا شركة له فيه ولا شبهة. (مُحْرَزَاً) أَي محفوظاً، احترازاً عن نحو باب الدّار والزرع الذي لم يحصد. (بِلَا شُبْهَةٍ) احترازٌ عن المُحْرَز المصاحب لشبهة، كالمأْخوذ من بيت ذي الرَّحِم المَحْرَم (بِمَكَانٍ) سواء أَمكن الدُّخول فيه كالبيت والدَّار والخيمة أَوْ لا كالجُوالِق

(3)

.

(أَوْ حَافِظٍ) كالجالس عند ماله في الطريق أَوْ في المسجد، حتى لو سرق شيئاً من تحت رأَس نائم في الصحراء أَوْ في المسجد يقطع. وقال الحسن وداود وابن بنت الشافعيّ: ليس للسرقة نصابٌ مقدّرٌ لإطلاق الآية، ولما روى الشيخان عن أَبي هُرَيْرَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله السارق يسرقُ البيضةَ فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» .

وأُجيب عن الآية بأَنها مقيّدة بالنصاب كما هي مقيّدة بالمال، وبأَنّ الحديث

(1)

سورة الحجر، الآية:(18).

(2)

المِثْقَال: من وحدات الوزن، ويختلف مثقال الذهب عن مثقال الأشياء الأخرى. فمثقال الذهب= 72 حبة= 4.24 غرامًا ومثقال الأشياء الأخرى= 80 حبة= 4.5 غرامًا. معجم لغة الفقهاء ص 404.

(3)

الجُوالِق: وعاءٌ من صوف أَو شعر أَو غيرهما، وهو عند العامة: شُوال. المعجم الوسيط ص 148.

ص: 237

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

قال فيه البخاري: قال الأعمش: كانوا يَرَوْن أَنه بيض الحديد، والحبل كانوا يروْن أَنْ منه ما يساوي دراهم. وقال مالك وأَحمد: نصاب السرقة ربع دينارٍ، أَوْ ثلاثة دراهمٍ. وقال الشافعيّ والأوزاعي والليث: ربع دينارٍ لِمَا روى الشيخان عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنه قال: «لا تقطع يد السارق إِلاّ في ربع دينارٍ فصاعداً» . لكن قال مالك وأَحمد: الثلاثة دراهم قدر ربع دينار، لأن صرف الدينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان باثني عشر درهماً، ولما في «الصحيحين» عن ابن عمر: أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مِجَنَ

(1)

قيمته ثلاثة دراهم.

وفي «الموطأ» من حديث عَمْرة ابنة عبد الرحمن: أَنْ سارقاً سرق في زمن عثمان بن عفَّان أُتْرُجَّة

(2)

، فأَمر بها عثمان فقُوِّمت بثلاثة دراهمٍ من صرف اثني عشر درهماً بدينارٍ، فقطع عثمان يده. قال مالك: أَحبّ ما يجب فيه القطع إِلى ثلاثة دراهم سواء اتَّضع الصرف أَوْ ارتفع، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قطع في مِجَنّ قيمته ثلاثة دراهم، وقطع عثمان في أُتْرُجَّة قيمتها ثلاثة دراهم، وهذا أَحب ما سمعته.

وفي «مسند أَحمد» عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال:«اقطعوا في ربع دينارٍ، ولا تقطعوا فيما هو أَدنى من ذلك» . فكان ربع الدينار يومئذٍ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهماً. ولنا ما روى الطَّبَرَاني قال: حدَّثنا محمد بن نوح بن حرب: حدَّثنا خالد ابن مِهْرَان: حدثنا أَبو مُطِيْع البَلْخِيّ، عن أَبي حنيفة رحمه الله، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن (أَبيه، عن)

(3)

عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال:«لا قطع إِلاَّ في عشرة دراهمٍ» .

وما أَخرجه الطَّحَاوِي في «شرح الآثار» عن أَمْ أَيمن أَنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تُقْطَعُ يد السارق إِلاَّ في حَجَفَة» أَي مِجَنَّة كما في نسخةٍ، وقوِّمت يومئذٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينارٍ أَوْ عشرة دراهم.

ورواه الطَّبَرَانِيّ في «معجمه» أَيضاً. وهو حديثٌ إِمّا منقطعٌ أَوْ مرسلٌ، ولكنه يتقوَّى بغيره من الأحاديث المرفوعة والموقوفة، فمن المرفوعة: ما أَخرجه أَبو داود في «سننه» من حديث عطاء، عن ابن عباس قال: قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يد رجلٍ في مِجَنَ

(1)

المِجَنُّ: هو التُّرْس. النهاية 1/ 308.

(2)

الأُتْرُجَّة: ثمر - فاكهة - كالليمون الكبار، وهو ذهبي اللون، ذكي الرائحة، حامض الماء. المعجم الوسيط ص 4.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط و "المعجم الأوسط" 7/ 198، رقم 7142. فاستدركناه من المطبوع، و "نصب الراية" 3/ 359، و"الدراية" 2/ 108.

ص: 238

فَإنْ أَقَرَّ بِهَا مَرَّةً،

===

قيمته (دينار أَوْ)

(1)

عشرة دراهمٍ. ورواه النَّسائي في «سننه» ، والحاكم في «مستدركه» وقال: صحيحٌ على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه، ثم قال: وشاهِدُه حديث أَمْ أَيمن أَنها قالت: لم تقطع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلاّ في ثمن المِجَنِّ، وثمنه يومئذٍ دينارٌ. وروى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» في كتاب اللُّقطة عن المَثَنَّى بن الصَّبَّاح، عن عمرو بن شُعَيْب، عن سعيد بن المُسَيَّب، عن رجل من مُزَينة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما بلغ ثَمَنَ المِجَنّ، قُطِعَتْ يدُ سارقه» . وكان ثمن المِجَنّ عشرة دراهم.

ومن الأحاديث الموقوفة: ما روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» ، عن الثوريّ، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قال ابن مسعود: لا تقطع اليد إِلاّ في دينارٍ أَوْ عشرة دراهمٍ. وهو مرسلٌ، لأن القاسم لم يسمع من ابن سمعود. وروى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» عن يحيى بن زيد وغيره، عن الثَّوريّ، عن عَطِيّة بن عبد الرحمن، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: أُتِي عمر بن الخطاب برجلٍ سرق ثوباً، فقال لعثمان: قَوِّمه، فقوَّمه ثمانية دراهمٍ، فلم يقطعه. وهذا يدلّ على انتساخ ما في «الصحيحين» ، ولأن الأخذ بالأكثر في هذا الباب أَوْلى احتيالاً لدرء الحدّ.

(فَإِنْ أَقَرَّ) اللِّص (بِهَا) أَي بالسرقة (مَرَّةً) عند أَبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وهو قول أَكثر العلماء. ومرتين عند أَبي يوسف وأَحمد وابن أَبي ليلى وزُفر. وعن أَبي يوسف رحمه الله في مجلسين مختلفين، لأنه حدّ فيعتبر عدد الإقرار فيه بعدد الشهادة كالزنا. ولِمَا روى أَبو داود عن أَبي أُمَيَّة المَخْزُوْمِيّ أَنه عليه الصلاة والسلام أُتِي بلصٍ قد اعترف (ولم يوجد معه متاع)

(2)

فقال له: «ما إِخَالُكَ سرقت» . قال: بلى، فأَعادها عليه مرتين أَوْ ثلاثة، فقُطِع.

ولهما: الإقرار مرّة مُظْهِرٌ فيُكْتَفَى به كما في القصاص وحد القذف، والتكرار في الشهادة يفيد تقليل تهمة الكذب، ولا تهمة في الإقرار، فلا فائدة في تكراره. فإِن قيل: يحتمل أَنْ يرجع، فيكون للتكرار فائدة وهي الثبوت. أُجيب: بأَن باب الرجوع (في حقّ الحد)

(3)

لا ينسد بالتكرار، والرجوع في حقّ المال لا يصحّ، لأن صاحب الحقّ يكذّبه. وأَما حديث المخزومي فلا يدلّ على اشتراطه مرتين بل على أَنه عليه

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في سنن أَبي داود، 4/ 548 كتاب الحدود (37)، باب ما يقطع فيه السارق (12)، رقم (4387).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في سنن أَبي داود 4/ 543، كتاب الحدود (37) باب في التلقين في الحد (9)، رقم (4380).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 239

أَو شَهِدَ رَجُلانِ وسَأَلَهُمَا الإمَامُ: مَا هِيَ؟ وَكَيْفَ؟ وَمَتَى؟ وَأَينَ كَانَتْ؟ وَكَمْ سَرَقَ؟ وَمِمَّنْ سَرَقَ؟ وَبَيَّنَاها، قُطِعَ.

وإِنْ تَشَارَكَ جَمْعٌ وَأَصَابَ كُلًّا قَدْرُ نِصَابٍ قُطِعُوا. وَإنْ أَخَذَ بَعْضُهُمْ.

===

الصلاة والسلام احتاط

(1)

في الدرء، وهو مستحب، أَوْ على جواز تلقين الرجوع. وقد ذكر بِشْر رجوع أَبي يوسف إِلى قولهما.

(أَوْ شَهِدَ) عليه (رَجُلَانِ) فيهما شرائط الشهادة، لأنه من الحدود فلا يقبل فيه إِلا شهادة الرجال كما بيّن في كتاب الشهادة. (وسأَلهما) أَي الشاهدين، وفي نسخة وسأَلهم أَي المقرّ والشاهدين. (الإمَامُ) أَوْ نائبه (مَا هِيَ) أَي السرقة، لأنها يطلق على استماع كلام الغير سراً قال الله تعالى:{إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ}

(2)

، وعلى عدم اعتدال الركوع والسجود، قال عليه الصلاة والسلام: «إِنْ أَسوأَ الناس من يسرق من صلاته (لا يتم ركوعَها ولا سجودها)

(3)

»

(4)

. ولأنه ربما يتوهم أَنها لا تحتاج إِلى الخُفْيَة كما في السرقة الكبرى.

(وَكَيْفَ) كانت سرقته ليعلم أَنه أَخرج، أَوْ ناول آخر من خارج، أَوْ أَدخل يده من النَّقْب أَوْ من الطَّاق وأَخذ (وَمَتَى) كانت ليعلم أَنها متقادمة أَوْ لا، لأن القطع لا يُقَام مع تقادم الشهادة عندنا (وَأَيْنَ كَانَتْ) لأنه لا قطع على من سرق في دار الحرب (وَكَمْ سَرَقَ) لأن النِّصَاب شرطٌ ليعلم أَنْ المسروق كان نِصَابَاً أَوْ أَقل (وَمِمَّنْ سَرَقَ) لجواز أَنْ يكون المسروق منه ذا رحم مَحْرَم، أَوْ أَحد الزوجين، أَوْ أَحد الشريكين.

(وَبَيَّنَاها) أَي الشاهدان، أَوْ المُقِرّ والشاهد، هذه الأشياء إِلاّ زمان السرقة في حقّ المقرّ، لأن تقادم العهد لا يمنع صحة الإقرار بها كما في «المبسوط» و «المحيط». وقَبِل القاضي شهادتهما (قُطِعَ) هذا جواب قوله: فإِن أَقرّ إِلى آخره، وإِنما يسأَل الإمام عن هذه الأشياء احتيالاً للدرء كما في الحدود. فإِن بيّن الشاهدان هذه الأشياء، ولا يعرف القاضي حالهما حبسه حتى يسأَل، لأنه صار متَّهماً بارتكاب جريمة، ولا يمكن التوثيق بالتكفيل إِذْ لا كفالة في الحدود.

(وإِنْ تَشَارَكَ جَمْعٌ) في السرقة (وَأَصَابَ كُلاًّ قَدْرُ نِصَابٍ) وهو عشرة دراهم أَوْ ما يساويها (قُطِعُوا) جميعاً (وَإِنْ أَخَذَ بَعْضُهُمْ) سواء خرجوا معه، أَوْ بعده في فوره أَوْ

(1)

في المطبوع: احتال، والمثبت من المخطوط.

(2)

سورة الحجر، الآية:(18).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 310. والدارمي 1/ 350، كتاب الصلاة (2)، باب في الذي لا يتم الركوع والسجود (78)، رقم (1328).

ص: 240

[فَصْلٌ فيما يُقْطَعُ فيه وما لا يُقْطَع]

لا بِتَافِهٍ يُوْجَدُ مُبَاحًا في دَارِنَا، كَخَشَبٍ، وَحَشِيشٍ، وَسَمَكٍ، وَصيْدٍ،

===

خرج هو بعدهم في فورهم. والقياس أَنْ يُقطع الحامل وحده، وهو قول زُفَر، لأن السرقة تمّت به وحده، أَوْ الإخراج تحقّق به. ولنا: أَنْ عادة السُّرَّاق إِذا كانوا جماعة أَنْ يتولّى بعضهم الأخذ والباقون الدفع عنهم، فلو لم يعتبر الكل سارقين لأدّى ذلك إِلى انسداد باب السرقة. أَمّا لو أَصاب كُلا أَقلُّ من نصابٍ، لا يُقْطَع واحدٌ منهم، وبه قال الشافعي والثوري وابن المَاجِشُون المالكي. وقال مالك وأَحمد وأَبو ثور يقطع الكل، لأن سرقة النصاب فعلٌ موجب للقطع، فيسَاوي فيه الواحد والجماعة كالقصاص.

ولنا أَنْ كلّ واحدٍ يقطع بجنايته، والجناية الموجبة للقطع سرقة النصاب، ولم يوجد في هذه الحالة بخلاف القصاص، فإِنّ فعلَ كلّ واحدٍ جنايةٌ موجبة للقصاص، لأن جرح كل واحدٍ صالحٌ لزهوق الروح.

(فَصْلٌ فيما يُقْطَعُ فيه وما لا يُقْطَع)

(لَا بِتَافِهٍ) أَي لا يقطع السارق بأَخد تافهٍ وهو شيءٌ حقيرٌ خسيسٌ (يُوْجَدُ مُبَاحاً في دَارِنَا) وقال مالك والشافعيّ وأَحمد وأَبو ثور يتعلَّق القطع بسرقة كل مال يبلغ قيمته نصاباً إِلاّ التراب والسِّرْقِيْن

(1)

، وهو رواية عن أَبي يوسف، لأنه سرق مالاً متقوَّماً من حِرْزٍ لا شبهة فيه.

ولنا ما روى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» و «مسنده»

(2)

عن عبد الرحيم ابن سليمان، عن هشام بن عروة، عن عائشة قالت: لم تكن يد السارق تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه. وزاد في «مسنده» : ولم تقطع في أَدنى من ثمن حَجَفَة

(3)

أَوْ تُرس. (كَخَشَبٍ وَحَشِيْشٍ) وقَصَبٍ فارس (وَسَمَكٍ) طرياً كان أَوْ غيره (وَصَيْدٍ) بحرياً أَوْ برياً، لأن الشركة العامة التي كانت في هذه الأشياء قبل الإحراز تثبت شبهة، والحدود تندراء بالشبهة.

وروى عبد الرَّزَّاق، وابن أَبي شَيْبَة في «مصنفيهما»: أَنْ عمر بن عبد العزيز أُتِي

(1)

الشَّرْقين: السِّرْجين: الزِّبْلُ. المعجم الوسيط ص 425، مادة (سَرْجَنَ).

(2)

هذه عبارة الزيلعي في "نصب الراية" 3/ 360، وتبعه عليها الكمال بن الهُمَام في "فتح القدير" 5/ 128. وكذلك مُلّا علي هنا.

قال ابن حجر: ومنهم - أي من المُحَدِّثين - مَن صنَّف على الأبواب والمسانيد معًا كأبي بكر بن أبي شيبة. اهـ. الرسالة المستطرفة ص 7. فالظاهر أنه يسمى "المصنف" و "المسند". والله أعلم.

(3)

الحَجَفَة: التُّرْس من جلود بلا خشب ولا رباط من عصب. المعجم الوسيط ص 158، مادة (حجف).

ص: 241

أَوْ يَفْسُدُ سَرِيْعًا، كَلَبَنٍ وَلَحْمٍ وَفَاكِهَةٍ رَطْبَةٍ، وثَمَرٍ عَلَى شَجَرٍ، وَبِطِّيْخٍ وَزَرْع لَمْ يُحْصَدْ،

===

برجلٍ سرق دجاجةً، فأَراد أَنْ يقطعه، فقال له سَلَمَة بن عبد الرحمن: قال عثمان لا قَطَعَ في الطير. ورَفْعُه كما في «الهداية» غير معروف. وروى ابن أَبي شَيْبَة أَيضاً أَنْ عمر بن عبد العزيز أُتِي برجلٍ قد سرق طيراً، فاستفتى في ذلك السائب بن يزيد فقال: ما رأَيت أَحداً قطع في طيرٍ، وما عليه في ذلك قطع، فترك عمر.

(أَوْ يَفْسُدُ سَرِيْعَاً) عطف على ما يوجد مباحاً، وكان الأولى أَنْ يقول أو ما يفسد ليعطف على تافه، لأن ما يفسد قد لا يكون تافهاً (كَلَبَنٍ وَلَحْمٍ) وكذا ما هو مهياً للأكل كالخبز على ما في «الإيضاح» و «شرح الطحاوي» ، بخلاف ما لم يكن مهيأَ للأكل كالحِنْطة والسكر، فإِنه يقطع فيه إِجماعاً، وهذا في غير سَنَة القحط، وأَما فيها فلا قطع في الطعام، سواء كان ممن يتسارع إِليه الفساد أَوْ لا، وسواء كان مُحْرَزاً أَوْ لا، لأنه يسرق عن ضرورة جوع، والضرورة تبيح تناول مال الغير بقدر الحاجة، فَمَنَع ذلك القطع. وروى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن سُفْيَان الثَّوْرِيّ، عن رجلٍ، عن الحسن: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم أُتِي برجلٍ سرق طعاماً فلم يقطعه. قال سفيان: هو الطعام الذي يفسد من نهاره كالثَّرِيْد

(1)

واللحم. وروى أَبو داود في «مراسيله» عن الحسن البصري: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا قطع في الطعام» وذكره عبد الحق في «أَحكامه» من جهة أَبي داود، ولم يعلله بغير الإرسال، وأَقرّه ابن القَطَّان على ذلك.

(وَفَاكِهَةٍ رَطْبَةٍ) يدخل فيها الرُّطَب والعنب دون الزبيب والتمر (وثَمَرٍ عَلَى شَجَرٍ وَبِطِّيْخٍ وَزَرْعٍ لَمْ يُحْصَدْ) لعدم وجود الإحراز، وإِن كان في حائط

(2)

. روى أَبو داود والنَّسائي وابن ماجه عن عمرو بن شُعَيْب، عن أَبيه، عن جدّه عبد الله بن عمرو (ابن العاص)

(3)

أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الثَّمْر المعلّق فقال: «من أَصاب بفيه من ذي حاجةٍ غير متَّخذٍ خُبْنَة، فلا شيء عليه، ومن سرق منه شيئاً بعد أَنْ يؤويه الجَرِين فبلغ ثمن المِجَنّ فعليه القطع» .

والخُبْنَة: بضم المعجمة وسكون الموحدة فَنُونٌ: ما يؤخذ في طرف الثوب. والجَرِيْن بالجيم: المِرْبَد: وهو الموضع الذي يُلْقى فيه الرُّطَب لِيَجُف.

ولما رواه مالك في «الموطأ» أَنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا قطع في ثمر

(1)

الثَّرِيْدُ: يقال ثردت الخبز: وهو أن تَفُتَّه ثم تَبُلَّه بمرقٍ. المصباح المنير ص 32، مادة ثرد.

(2)

الحائط: البستان، المعجم الوسيط ص 208، مادة (حاط).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في سنن أَبي داود 4/ 551، كتاب الحدود (37)، باب ما لا قطع فيه (13)، رقم (4390).

ص: 242

وأَشْرِبَةٍ مُطْرِبَةٍ، والآتِ لَهْوٍ، وَصَلِيبٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَبَابِ مَسْجِدٍ، وَمُصْحَفٍ وَصَبِي حُرٍّ، وَلَوْ مُحَلَيَيِن، وَعَبْدِ إِلّا الصَّغِيرِ،

===

معلّق، ولا في حَرِيسة جبلٍ

(1)

، فإِذا آواه المُراح أَوْ الجَرِيْن فالقطع فيما بلغ ثمن المِجَنّ». وقطع مالك والشافعي بالمذكورات، وهو رواية عن أَبي يوسف رحمه الله.

(وأَشْرِبَةٍ مُطْرِبَةٍ) أَي مسكرة، وأَما غير المطربة كالخلّ فيقطع فيه، لأنه لا يتسارع إِليه الفساد، كذا في «الإيضاح» . وإِنما لا يقطع في الشراب، لأنه إِنْ كان حلواً فهو ممّا يتسارع إِليه الفساد، وإِن كان مرّاً، فإِن كان خمراً، فلا قيمة له، وإِن كان غيرها فللعلماء في تقوّمه اختلافٌ، فلم يكن في معنى ما ورد به النص، وهو المال المتقوّم بالإجماع.

(وآلَاتِ لَهْوٍ) كَدُفَ وطبل وبَرْبَط

(2)

ومزمار وطُنْبُوْر

(3)

. أَمّا عند أَبي حنيفة فلعدم تقوّم هذه الأشياء حتى لا يضمن متلفها، وأَمّا عند غير أَبي حنيفة ـ القائل بتقوّمها ـ فلأن أَخذها يتناول النهي عن المنكر وهو مباح، فأَورث شبهة.

ولو كان الطبل أَوْ الدُّف لغير اللهو اختلف المشايخ، فقال بعضهم: يقطع سارقه، لأنه مباحٌ، وقال بعضهم: لا يقطع، لأنه يصلح للهو، فأَورث شبهة. (وَصَلِيبٍ) وهو تمثال يعبده النصارى (مِنْ ذَهَبٍ) أَوْ من فضة، وشِطْرَنْجٍ وهو بكسر الشين المعجمة وبفتح، وكذا النَّرد. وقال الشافعيّ: يقطع.

(وَبَابِ مَسْجِدٍ) لعدم الإحراز فصار كباب الدار بل أَولى، لأن باب الدّار يُحْرَز به ما فيها بخلاف باب المسجد، ولهذا لا يقطع بسرقة متاعه. وقال الشافعيّ (وابن القاسم ـ صاحب مالك)

(4)

ـ وأَبو ثَوْر وابن المُنْذِر: يقطع بسرقة باب المسجد، لأنها سرقة نصاب محرز بحِرْز مثله، وكذا بسرقة باب الدار، وبه قال أَحمد في روايةٍ. وأُجِيْبَ: بأَنه لا مالك له من جهة العباد فلا قطع فيه كحصير المسجد وقناديله. ولا قطع في أَستار الكعبة عندنا، وبه قال أَحمد، وهو الأصحُ في مذهب الشافعي، لأنه ليس له مالك معين فأَشبه مال بيت المال.

(وَمُصْحَفٍ وَصَبِي حُرَ وَلَوْ) كان المصحف والصبي (مُحَلَييْنِ وَعَبْدٍ إِلاّ الصَّغِيْرِ) وقال مالك والشافعي وأَبو ثور وابن المنذر وأَحمد في روايةٍ وأَبو يوسف في روايةٍ: يقطع في المصحف، لأنه مال متقوّم ومحرز، فإِن ورقه كان مالاً متقوّماً، وقد

(1)

حريسة الجبل: أي ليس فيما يُحْرَس بالجبل إذا سُرِقَ قطع، لأنه ليس بحرز. النهاية 1/ 367.

(2)

البَرْبَطَ: العُود. المعجم الوسيط ص 46.

(3)

الطُّبُور: آلة من آلات اللعب واللهو والطرب، ذات عنق وأَوتار. المعجم الوسيط ص 567.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 243

وَدَفْتَرٍ، إِلّا دَفْتَرِ الحِسَابِ.

وَلا في كَلْبٍ، وَفَهْدٍ، وخِيَانَةٍ، ونَهْبٍ،

===

ازدادت ماليته بما كتب فيه وبجلده، ولهذا يصحّ بيعه وشراؤه.

ولنا أَنْ آخذه يتأَوّل

(1)

القراءة فيه، أَوْ النظر لإزاحة إِشكالٍ وقع له، والقطع يُدْرأُ بالشبهة. وقال مالك والشَّعْبِيّ: يقطع بسرقة الحرّ الصغير، لأنه غير مميّز، فأَشبه العبد الصغير. ولنا: أَنْ الحرّ ليس بمالٍ، وما عليه تبعٌ له. وهذا الخلاف في صبيّ لا يمشي ولا يتكلّم، حتى لو كان يمشي ويتكلّم ويميّز لا يقطع سارقه إِجماعاً، لأنه في يد نفسه وله يد على ما هو تابعٌ له، فكان أَخذه خداعاً لا سرقة. وقال ابن المنذر: أَجمع أَهل العلم على قطع سارق العبد الصغير إِذا لم يعبّر عن نفسه ولم يميّز، وإِن كان يعبّر ويميِّز فلا قطع بالإجماع.

(وَدَفْتَرٍ) سواء كان فيه علم الشريعة أَوْ الشعر أَوْ اللغة، لأن المقصود من دفاتر هذه الأشياء ما فيها، وهو ليس بمالٍ (إِلاّ دَفْتَرِ الحِسَابِ) وقال مالك والشافعيّ وأَحمد يقطع في الدفاتر كلّها سواء كانت فيها علوم الشريعة أَوْ غيرها إِذا بلغت قيمتها نِصاباً (لأنها مال متقوّم يبلغ قيمته نصاباً)

(2)

، فيدخل في عموم الآية. (وَلَا في كَلْبٍ وَفَهْدٍ) لأن جنسهما مباح الأصل، ولأن اختلاف العلماء في مالية الكلب أَورث شبهة، ولو كان على كلب طَوْق ذهبٍ ونحوه لا يقطع، لأنه تبعٌ له كالصبيّ الحرّ إِذا كان عليه حُلِيّ.

(و) لَا في (خِيَانَةٍ) وهي الأخذ ممّا في يده على وجه الأمانة (و) لا في (نَهْبٍ) وهو الأخذ على وجه العلانية والقهر في بلدة أَوْ قرية، لِمَا أَخرجه أَصحاب «السنن الأربعة» عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال:«ليس على خائنٍ ولا مُنْتَهِبٍ ولا مُخْتَلِس قطعٌ» . قال الترمذي: حديث حسنٌ صحيحٌ، وسكت عنه عبد الحقّ في «أَحكامه» ، وابن القطَّان بعده، فهو صحيحٌ عندهما.

وعن أَحمد: يقطع جاحد العَارِيَّة، وبه قال إِسحاق بن راهُويَه

(3)

لما أَخرجه مسلم عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِيّ، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: كانت امرأَة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأَمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. وأُجِيْب بأَن ذكر العَارِيّة في هذا الحديث وقع لقصد التعريف لا لأنه سبب للقطع، فإِنها كانت كثيرة الاستعارة والجحد حتّى عُرِفَت به واستمرت على ذلك حتى سرقت، فأَمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، بدليل الأحاديث التي صُرِّح فيها بالسرقة. وقيل: الحديث منسوخٌ بما رُوِّيْنَا من

(1)

في المطبوع: يتناول، والمثبت من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

في المطبوع: الحاكم، والمثبت من المخطوط.

ص: 244

ونَبْشٍ، ومَالِ عَامَّةٍ، ولَهُ فِيْهِ شَرِكَة، وَمِثْلِ حَقِّهِ حَالًا أَوْ مُؤَجَّلًا،

===

حديث جابر. وقيل: إِنْ قطعها كان سياسةً لتكرر ذلك الفعل منها.

(و) لا في (نَبْشٍ) أَي نبش قبر وأَخذ كفن منه، وهذا عند أَبي حنيفة ومحمد، وهو قول ابن عباس والثوري والأوزاعي ومكحول والزهري والشافعي في القديم. وقال أَبو يوسف ومالك والشافعي في الجديد وأَحمد وأَبو ثور والحسن والشَّعْبِيّ والنَّخَعَي وقَتَادَة وحمّاد وعمر بن عبد العزيز: يقطع النَّبَّاش، لما روى البيهقي في «المعرفة» عن البراء بن عازب عن أَبيه أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من نبش قطعناه» ، وضعَّفه. وروى أَيضاً عن عائشة أَنها قالت:«سارق أَمواتنا كسارق أَحيائنا» . وفي «تاريخ البخاري» قال هُشَيم: حدَّثنا سهيل قال: شهدت ابن الزُّبَيْر أَنه قطع نبَّاشاً. ولأنه سرق مالاً متقوَّماً يبلغ نِصَاباً من حِرْز مثله، فوجب القطع به اعتباراً بسائر أَنواع الحرز.

ولنا ما روى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» عن عيسى بن يونس، عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِيّ قال: أُتِي مروان بقوم يختفون ـ أَي ينبُشون القبور ـ فضربهم ونفاهم والصحابة متوافرون. وروى أَيضاً عن حفص عن أَشعب، عن الزُّهرِي قال: أُخِذَ نبَّاش في زمن معاوية، وكان مروان على المدينة، فسأَل مَنْ بحضرته من الصحابة والفقهاء، فأَجمع رأْيهم على أَنْ يُضْرَب أَسواطاً ويُطَاف به. ولا يخفى أَنْ كلاً من الأثرين حكاية حالٍ، وهما احتمال أَخذه قبل إِخراج الكفن أَوْ بعده ولم يكن مقدار النصاب، فلا يتم الجواب. وأَمّا حديث:«لا قطع على المُخْتَفِي» وهو النَّبَّاش بلغة أَهل اليمن، فهو غريبٌ غير معروفٍ.

(و) لا في (مَالِ عَامَّةٍ) أَي عامة المسلمين، وبه قال الشافعي، وأَحمد والنَّخَعَي والشَّعْبِيّ والحَكَم. وقال مالك وحمّاد وابن المنذر: يقطع لظاهر الآية، ولأنه سرق مالاً محرزاً. ولنا: ما روى ابن ماجه في «سننه» من حديث ابن عباس: أَنْ عبداً من رقيق الخُمْس سَرَق من الخمس، فَرُفِع ذلك إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه، وقال:«مال الله سرق بعضه بعضاً» . كذا ذكروه. وفيه أَنْ العبد من جملة المال وقطعه يضرّه، فلا يُقَاس عليه غيره (و) لا في مالٍ (لَهُ) أَي للسارق (فِيْهِ شَرِكَةٌ) بأَن سرق أَحد الشريكين من حِرْز الآخر مالاً مشتركاً بينهما، وهو الأصح في مذهب الشافعيّ وقول أَحمد. وقال مالك، وهو قول الشافعيّ: إِذا سرق من نصيب الشريك قدر نِصَابٍ يقطع، لأنه أَخذ ملك غيره من حِرْزه.

(وَ) لا في (مِثْلِ حَقِّهِ) في الجنس (حَالاً) كان حقّه (أَوْ مُؤَجَّلاً) والقياس أَنْ يقطع في المؤجّل، لأنه لا يباح له أَخذه قبل الأجل، فصار كمن لا دين له. ووجه

ص: 245

وَلَوْ بِمَزِيْدٍ.

ومَا قُطِعَ فِيهِ وَهُوَ بِحَالِهِ، ومَالِ ذِي رَحِم، مَحْرَمٍ مِنْ بَيْتهِ،

===

الاستحسان: أَنْ المؤجّل ثابتٌ في الذمة كالحالّ، والتأْجيل لتأْخير المطالبة. (وَلَوْ بِمَزِيْدٍ) أَي ولو كان المأْخوذ زائداً على حقّه، لأنه يصير شريكاً في ذلك المال بمقدار حقّه فتتحقق الشبهة. قَيّدَ بمثل الحقّ، لأنه لو كان له عليه دراهم فسرق منه عروضاً يقطع، لأنه ليس له الاستيفاء منه إِلاّ بيعاً بالتراضي. وعن أَبي يوسف: لا يقطع، وهو وجهٌ في مذهب الشافعي، لأن له أَنْ يأْخذه عند بعض العلماء قضاءً من حقّه لوجود المجانسة باعتبار صفة المالية، فأَورث ذلك شبهة.

ولو كان حقه دراهم فسرق منه دنانير، قيل: يقطع، لأنه ليس له ولاية الأخذ، وبه قال مالك وأَحمد في روايةٍ والشافعي في وجهٍ. وقيل: لا يقطع، لأن النقود جنسٌ واحدٌ كما في الزكاة والنفقة. وفي «المحيط» و «المبسوط»: هو الصحيح، وبه قال الشافعيّ في الأظهر.

(وَ) لا في (مَا قُطِعَ فِيْهِ) وفي نسخة: «به» ، أَي ولا قطع في سرقةِ شيءٍ كان السارق سرقه قبل ذلك وقُطِعَ لأجله (وَهُوَ) أَي المسروق (بِحَالِهِ) وأَمّا لو تغيّر حاله بأَن كان غزلاً فقُطِع فيه ثم ردّه إِلى صاحبه فنسجه ثم سرقه، فإِنه يقطع ثانياً. والقياس أَنْ يُقْطَع فيما هو بحاله أَيضاً، وهو رواية عن أَبي يوسف، وبه قال مالك والشافعيّ وأَحمد، لأن السرقة الثانية أَقبح لوجود الإقدام عليها مع سبق الزاجر عنها، فكانت أَحقّ بإِيجاب القطع.

(و) لا في (مَالِ ذِي رَحِم، مَحْرَمٍ) أَوْ مال غيره (مِنْ بَيْتِهِ) أَي بيت ذي الرحم المَحْرَم، وقال مالك وأَبو ثور وابن المنذر والخِرَقي

(1)

من أَصحاب أَحمد: يقطع الولد إِذا سرق من أَحد أَبويه وإِن علا، لأنه لا حقّ للولد في مال أَبويه، ولهذا يحدّ إِذا زنى بجاريتهما، ويقتل إِذا قتلهما فصار كأَجنبي.

ولنا أَنْ البعضيّة توجب البُسُوطة

(2)

في المال، والإذن في الدخول في الحِرْز، ولهذا يَمْنَع الوِلادُ قَبولَ شهادة أَحدهما لصاحبه، فصار كالأب لا كالأجنبي. وقال مالك والشافعيّ وأَحمد: يقطع بسرقة ذي رَحِم مَحْرَم غير الولاد إِلحاقاً لهذه القرابة بقرابة بني الأعمام.

ولنا أَنها ملحقة بقرابة الولاد في وجوب الصون عن القطيعة، والقطع في السرقة يفضي إِلى القطيعة، فوجب صونها عنه. أَمّا لو سرق مال ذي رَحِم مَحْرَمٍ من

(1)

حُرِّفت في المطبوع إلى: المزني، وما أثبتناه من المخطوط.

(2)

بسط الشيء: نشره. القاموس المحيط ص 850، مادة (بسط).

ص: 246

وَلا مِنْ زَوْجٍ، وَعِرْسٍ، وَسَيِّدِهِ، وَعِرْسِهِ، وزَوْجِ سَيِّدَته، ومُكَاتبِهِ، ومُضِيْفِهِ، ومَغْنَمٍ، وَحمَّامٍ،

===

غير بيته فيقطع اتفاقاً، لوجود الحرز بلا شُبْهة. (وَلَا مِنْ زَوْجٍ وَ) لا من (عِرْسٍ) أَي ولا قطع بسرقة الزوجة من حِرْز زوجها الخاص به، ولا بسرقة الزوج من حرز زوجته الخاص بها. وللشافعيّ ثلاثة أَقوال: قولٌ بالقطع كمالك وأَحمد، وقول بعدمه، وهو رواية عن أَحمد، وقولٌ بقطع الزوج بسرقة مال زوجته، وعدم قطع الزوجة بسرقة مال زوجها، لأن لها حقّاً في ماله وهو النفقة، ولا حقّ له في مالها. ولنا أَنْ بين الزوجين بسوطة في المال عادة.

(وَ) لا من (سَيِّدِهِ) أَي ولا قطع على من سرق من مال سيّده (وَ) لا من (عِرْسِهِ) أَي عِرْس سيده (و) لا من (زَوْجِ سَيِّدَته) لوجود الإذن بالدُّخول عادةً فانعدم الحِرْزُ. وقال مالك وأَبو ثور: يقطع في الأخيرين لعدم استحقاقه النفقة في مالها بخلاف السيد. وقال داود: يقطع بسرقة مالِ سيده أَيضاً لعموم الآية. ولنا ما روى السائب بن يزيد قال: شهدت عمر وقد جاء عبد الله بن عمر الحَضْرَمِيّ بغلامٍ له فقال: غلامي هذا سرق فاقطعه، فقال عمر: ماذا سرق؟ فقال: سرق مرآة لامرأَتي قيمتها أَوْ ثمنها ستون درهماً، فقال عمر: أَرسله لا قَطْع عليه، خادمكم سرق متاعكم. ولم يخالفه أَحد من الصحابة فكان إِجماعاً. ويخصّ به عموم الآية.

(و) لا من (مُكَاتِبِهِ)

(1)

أَي ولا قطع على مولى سرق من مُكَاتَبِه، لأن له في كسبه حقّاً (و) لا من (مُضِيْفِهِ) أَي ولا قطع على ضيف سرق من مضيفه، لأن البيت لم يبق حِرْزاً في حقّه لكونه مأْذوناً له في دخوله، فيكون فعله خيانةً لا سرقةً. وقال مالك والشافعيّ وأَحمد في روايةٍ: إِنْ سرق من الموضع الذي أَنزله فيه، أَوْ من الموضع الذي لم يُحْرَز عنه لا يقطع، وإِن سرق من موضع حُرِزَ عنه يقطع.

(و) لا من (مَغْنَمٍ) وهو الموضع الذي فيه يجمع الغنيمة أَوْ المال الذي غُنِمَ ولم يُقْسَم بعد، وبه قال الشافعي وأَحمد. وقال مالك وابن المنذر: يقطع وهو نظير السرقة من مال عامة المسلمين خلافاً ودليلاً. ولنا على هذه خصوصاً ما روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن الثَّوْرِيّ، عن سِمَاك بن حرب، عن أَبي عُبَيْد بن الأبرص، وهو يزيد بن دِثَار قال: أُتِي عليٌّ برجلٍ سرق من المغنم فقال: له فيه نصيبٌ وهو خائنٌ فلم يقطعه. وكان قد سرق مِغْفراً

(2)

(وَ) لا من (حمّامٍ) في الوقت الذي جرت العادة بدخوله لِمَا روى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» بعد أَنْ قال: باب: الرجل يدخل

(1)

المُكَاتَبُ: كاتب السيد العبد: كتب بينه وبينه اتفاقًا على مالٍ يقسطه له، فاٍذا ما دفحه صار حُرَّا.

فالسيد مُكاتِب والعبد مُكَاتَب. المعجم الوسيط ص 774، مادة (كتب).

(2)

المِغْفَرُ: زردٌ يُنْسج من الدّروع على قدر الرأَس، يُلبس تحت القلنسوة. المعجم الوسيط ص 656،=

ص: 247

وبَيْتٍ أُذِنَ في دُخِولِهِ.

وَلا إِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنَ الدَّارِ، أَوْ نَاوَلَ مَنْ هُوَ خَارِجٌ، أَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ في بَيْتٍ وأَخَذَ،

===

الحمَّام فيسرق، بسنده عن أَبي الدَّرْدَاء أَنه سُئِلَ عن سارق الحمَّام فقال: لا قطع عليه. وظنه البيهقي بالتخفيف، فرواه بالتصحيف

(1)

.

(و) لا من (بيتٍ أُذِنَ في دُخِولِهِ) لوجود الإذن عادةً في الأول وحقيقةً في الثاني، فاختلّ الحِرْز فيهما. وفي «العيون»: يقطع السارق من الحمّام في وقت الدخول فيه إِذا كان له حافظٌ على قول أَبي حنيفة، وبه قال مالك والشَّافعيّ وأَحمد في روايةٍ وأَبو ثور وابن المُنْذِر. ولا يقطع على قول أَبي يوسف ومحمد، وبه أَخذ أَبو الليث والصدر الشهيد. وفي شرح «الوافي»: وعليه الفتوى، وهو ظاهر المذهب، وبه قال شمس الأئمة وقاضيخان، وهو الصحيح.

(وَلَا إِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ) أَي ولا قطع إِنْ لم يخرج السارق المسروق (مِنَ الدَّارِ) لأن الدَّار بما فيها في يد صاحبها في المعنى، وهي كلها حِرْزٌ واحدٌ، فلا بدّ من إِخراج المسروق منها ليتحقّق الأخذ من كلِّ وجهٍ.

(أَوْ) إِنْ (نَاوَلَ مَنْ هُوَ خَارِجٌ) يعني إِذا نَقَبَ اللص ودخل وأَخذ المال وناوله آخر من خارج، لا قطع على واحدٍ منهما، لأن القطع يجب لهتك الحِرْز والإخراج، ولم يوجد في حقّ واحدٍ منهما، لأن الخارج لم يوجد منه الهتك، والداخل لم يوجد منه الإخراج. وأَمّا إِخراج يده فقد بطل باعتراض يد الآخر عليه وقال مالك: إِنْ كانا متعاوِنَيْن قُطِعَا، وإِن انفرد كلّ واحدٍ بفعله دون اتفاقٍ بينهما لم يُقْطَعَا. وقال الشافعي: يفرد الخارج الآخذ بالقطع، وبه قال أَحمد. ولو وضع الداخل المال عند النَّقْبِ ثم خرج وأَخذه لم يذكره محمد، والصحيح أَنه لا يقطع. وقال مالك والشافعي وأَحمد: يقطع. ولو كان في الدار نهر جارٍ، فرمى بالمتاع في النهر ثم خرج وأَخذه، إِنْ خرج بقوة الماء لا يقطع، وقال في «النهاية» معزياً إِلى «المبسوط»: إِنْ الأصحّ أَنه يقطع، وبه قال مالك والشافعي وأَحمد.

(أَوْ) إِنْ (أَدْخَلَ) أَي ولا قطع على من نقب بيتاً وأَدخل (يَدَهُ في بَيْتٍ وأَخَذَ) وعن أَبي يوسف في «الإملاء» .: أَنه يقطع، وهو قول مالك والشافعيّ وأَحمد، لأنه أَخرج المال من الحِرْز وهو المقصود، فصار كما لو أَدخل يده في جيب غيره أَوْ

= مادة (غفر).

(1)

أَي رواه بلفظ حَمَام بدل حمَّام.

ص: 248

أَوْ طَرَّ صُرَّةً خَارِجَةً مِنْ كُمٍّ، أَوْ سَرَقَ جَمَلًا مِنْ قِطَارٍ، أَوْ حِمْلًا.

وقُطِعَ إِنْ حَفِظَهُ رَبُّهُ، أَوْ نَامَ عَلَيه،

===

كمّه أَوْ في صندوقه وأَخذ. ولنا: أَنْ السرقة هتك الحِرْز على الكمال مع إِخراج المال، والكمال في هتك حرز البيوت دخولها بخلاف الصندوق، فإِن الممكن فيه إِدخال اليد فيتمّ الهتك به مع الإخراج. ولنا أَيضاً: قول عليّ رضي الله عنه: اللِّص إِذا كان ظريفاً لا يقطع، قيل: وكيف ذلك؟ قال: أَنْ ينقب البيتَصفوان بن أُمِيّة فيُدْخِل يده ويخرج المتاع من غير أَنْ يَدْخُلَه.

(أَوْ) إِنْ (طَرَّ) أَي ولا قطع إِنْ شقّ (صُرَّةً خَارِجَةً مِنْ كُمَ) لأن الرباط من خارج، فبالطرّ يتحقّق الأخذ من الظاهر فلم يوجد هتك الحِرْز. والمراد هنا بالصُّرَّة بعض الكُمّ المشدود فيه الدراهم. قيّد الصُّرَّة بكونها خارجة من الكم، لأنه لو طرّ صُرَّةً داخلةً فيه يقطع، لأن الرباط في الداخلة من داخل، فبالطرّ يتحقّق الأخذ من الحِرْز وهو الكُمّ. وقيّد بالطرّ، لأنه لو حلّ يقطع إِنْ كان الرباط خارج الكمّ، لأنه يأَخذ الدراهم من داخله. ولا يقطع إِنْ كان من داخل الكم، لأنه يأْخذها من خارجه. وعن أَبي يوسف أَنه يقطع في الأحوال كلها، لأن المال محرزٌ بالكمّ إِذا كانت الصُّرَّة داخلة، وبصاحب الكم إِذا كانت خارجة.

(أَوْ) إِنْ (سَرَقَ) أَي ولا يقطع إِنْ سرق (جَمَلاً مِنْ قِطَارٍ) وهو الإبل على نسقٍ واحدٍ (أَوْ) إِنْ سرق (حِمْلاً) من أَحمال قطارٍ. وقال مالك والشافعيّ وأَحمد: يقطع، لأنه محرزٌ بالحافظ وهو القائد أَوْ السائق أَوْ الراكب إِذا لم يكن نائماً، فإِن كان نائماً عليه لم يقطع. ولنا أَنه ليس بمحرز قصداً فيتمكّن فيه شبهة العدم، وذلك لأن كلاًّ من القائد والسائق والراكب يقصد قطع المسافة ونقل الأمتعة دون الحفظ.

(وقطع) سارق الجمل أَوْ الحمل من القطار (إِنْ حَفِظَهُ رَبُّهُ) لوجود قصد الحفظ منه، فكان محرزاً بالحافظ (أَوْ) إِنْ (نَامَ عَلَيه) أَي على الجمل والحمل، لأن ذلك حِرْزٌ له بالحافظ. وروى أَبو داود والنَّسائي وابن ماجه وأَحمد في «مسنده» من غير وجهٍ عن أَنه طاف بالبيت وصلّى، ثم لفّ رداءً (له من بُرْدٍ

(1)

)

(2)

فوضعه تحت رأْسه فنام، فأَتاه لص فاسْتَلَّه من تحت رأْسه فأَخذه، فأُتِي به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إِنْ هذا سرق ردائي. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أَسرقت رداء

(1)

البُرْدُ: كساءٌ مُخَطَّط يُلْتَحف به. المعجم الوسيط ص 48، مادة (برد).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، وإثباته الصواب لموافقته لما في سنن النَّسائي 8/ 439 - 440، كتاب السارق (46)، باب ما يكون حرزًا وما لا يكون (5)، رقم (4896).

ص: 249

أَوْ شَقَّ الحِمْلَ وأَخَذَ شَيئًا، أَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ في صُنْدُوقٍ، أَوْ كُمٍّ، أَوْ أَخْرَجَ مِنْ مَقْصُوْرَةِ دَارٍ فِيهَا مَقَاصِيرُ إِلى صَحْنِهَا، أَوْ سَرَقَ صَاحِبُ مَقْصُوْرَةٍ مِنْ أُخْرَى، أَوْ أَلْقَى شَيئًا فِي الطَّرِيْقِ ثُمَّ أَخَذَهُ، أَوْ حَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ فَسَاقَهُ وَأَخْرَجَهُ.

[فصلٌ في كَيفِيَّةِ القطع]

تُقْطَعُ يَمِيْنُ السَّارِقِ مِنْ زَنْدِهِ

===

هذا؟» (قال: نعم)

(1)

قال: «اذهبا به فاقطعا يده» . فقال صفوان: ما كنت أَريد أَنْ تقطع يده في ردائي، فقال له:«فلو كان قبل أَنْ تأْتيني به» .

(أَوْ) إِنْ (شَقَّ) اللص (الحِمْلَ وأَخَذَ شَيْئَاً) يبلغ نِصَابَاً، لأن الجَوالِق

(2)

حزرٌ (أَوْ) إِنْ (أَدْخَلَ يَدَهُ في صُنْدُوقٍ أَوْ كُمَ) أَوْ جَيْبٍ، لأن هذه الأشياء حِرْزٌ لِمَا فيها (أَوْ) إِنْ (أَخْرَجَ) السرقة (مِنْ مَقْصُوْرَةِ) أَي حجرةِ (دَارٍ فِيْهَا مَقَاصِيْرُ إِلى صَحْنِهَا) أَي صحن الدار، وذلك كمدرسة ونحوها (أَوْ) إِنْ (سَرَقَ صَاحِبُ مَقْصُوْرَةٍ) أَي حجرة من مقاصير دار كبيرة (مِنْ) مقصورةٍ (أُخْرَى) أَي من مقاصير تلك الدَّار، لأن لكل مقصورة باباً وغَلَقاً على حِدَة.

(أَوْ) إِنْ (أَلْقَى) السارق (شَيْئَاً) يبلغ نِصَاباً (فِي الطَّرِيْقِ ثُمَّ أَخَذَهُ) وبه قال مالك والشافعيّ وأَحمد، وقال زُفَر: لا يقطع. (أَوْ حَمَلَهُ) أَي السارق المسروق (عَلَى حِمَارٍ) ونحوه (فَسَاقَهُ وَأَخْرَجَهُ) وبه قال مالك والشافعيّ وأَحمد، لأن سير الحمار مضافٌ إِلى السارق لسوقه إِياه. قيّده بالسوق، لأن الحمار لو خرج بنفسه لا يقطع السارق، لأن للبهيمة اختياراً.

(فصلٌ في كَيْفِيَّةِ القطع)

(تُقْطَعُ يَمِيْنُ السَّارِقِ) أَمّا القطع فلقوله تعالى: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما}

(3)

. وأَمّا اليمين فلقراءة ابن مسعود: فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا، وهي مشهورةٌ، فكانت بمنزلة خبرٍ مشهورٍ، فيقيّد إِطلاق الكتاب به.

(مِنْ زَنْدِهِ) وهو مَوْصِل

(4)

طرف الذراع من الكف. وقالت الخوارج: (مِنْ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط والمطبوع.

(2)

سبق شرحها ص 237، التعليقة رقم:(3).

(3)

سورة المائدة، الآية:(38).

(4)

في المطبوعة: "مَفْصِل" والمثبت من المخطوط. وهو الموافق لما في "القاموس" ص 364 مادة (زند). وكلاهما صواب.

ص: 250

وَتُحْسَمُ، ثُمَّ رِجْلُهُ اليُسْرَى إِنْ عَادَ، فَإِنْ عَادَ ثَالِثًا لَا، بَلْ يُسْجَنُ حَتّى يَتُوْبَ.

===

مَنْكِبِه، إِذْ اليد)

(1)

من المَنْكِب. ولنا أَنْ النص أَمَرَ بقطع اليد، وهي تُطلق من المَنْكب، ومن المِرْفق، ومن الرُّسْغ في اللغة والشرع، وقد تبيّن أَنْ المراد بها في الآية من الرسغ بعمله صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة، وانعقد عليه الإجماع. ولأن هذا القدر متيقّن به، وفي الحدود يؤخذ بالمتيقّن احتياطاً. وقد روى الدَّارَقُطْنِيّ في «سننه»: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم أَمر بقطع الذي سرق رداء صفوان من المَفْصِل. وروى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» عن رجاء بن حَيْوَة: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قطع رجلاً من المَفْصِل. وهو حديثٌ مرسلٌ. ورُوِيَ أَيضاً عن عمر وعليّ أَنهما قطعا من المَفْصِل.

(وَتُحْسَمُ) أَي تُكْوَى لينقطع الدَّم بأَن تغمس في الدهن الذي أُغْلِيَ لِمَا روى الحاكم في «المستدرك» من حديث أَبي هُرَيْرَة، وقال: صحيحٌ على شرط البخاري ومسلم: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم أُتِي بسارقٍ سرق شَمْلَة

(2)

فقال عليه الصلاة والسلام: «مَا إِخالُهُ سرق» . فقال السارق: بلى يا رسول الله فقال: «اذهبوا به فاقطعوه، ثم احْسِمُوه، ثم ائْتُوْنِي به» . فقُطِعَ ثم (حُسِمَ ثم)

(3)

أُتِيَ به فقال: «تب إِلى الله» . قال: تبت إلى الله. قال: «تاب الله عليك» . (ثُمَّ) تقطع (رِجْلُهُ اليُسْرَى إِنْ عَادَ) ثانياً بالإِجْماع، وهو من الكعب. وقال أَبو ثور والرافضة: من نصف القدم من معقِدِ الشِّرَاك.

(فَإِنْ عَادَ) وسرق (ثَالِثَاً لا) أَي لا يقطع (بَلْ يُسْجَنُ حَتّى يَتُوْبَ) وقال مالك والشافعيّ: إِنْ سرق ثالثاً تقطع يده اليسرى، وإِن سرق رابعاً تقطع رجله اليمنى لعموم الآية، فإِن هذا سارقٌ له يد فتقطع بظاهر النص، وتعيين اليمين ابتداءً لا يُبْطل محلية اليسرى، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«إِذا سرق السارق فاقطعوا يده، فإِن عاد فاقطعوا رجله، فإِن عاد فاقطعوا يده، فإِن عاد فاقطعوا رجله» . رواه الدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» ، وفي سنده الواقدي وفيه مقالٌ.

وفي «سنن أَبي داود» عن جابر قال: جيء بسا سرق، قال:«اقطعوه» . قال: فقُطِعَ، ثم جيء به الثالثة فقال:«اقتلوه» . فقالوا: يا رسول الله، إِنما سرق، قال:«اقطعوه» . ثم جيء به الرابعة فقال: «اقتلوه» . قالوا: يا رسول الله، إِنما سرق. قال:«اقطعوه» . ثم جيء به الخامسة فقال: «اقتلوه» ارقٍ إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اقتلوه» . فقالوا: يا رسول الله، إِنما سرق. فقال:«اقطعوه» ، قال: فقُطِعَ، ثم جيء به الثانية فقال:«اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله، إِنم. قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه ثم اجتررناه فأَلقيناه في بئرٍ،

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

الشَّمْلَة: كِساء من صوف أَو شعر يتغطّى به ويتلفَّف به. المعجم الوسيط ص 495، مادة (شمل).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 251

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ورمينا عليه الحجارة. وقال النَّسائي: حديثٌ منكرٌ.

وأَخرج هو في «سننه» عن الحَارِث (بن حَاطِب)

(1)

اللَّخْمِيّ: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم أُتِي بلصٍ فقال: «اقتلوه» . قالوا: يا رسول الله، إِنما سرق، قال:«اقطعوا يده» . فقُطِعَتْ، ثم سرق فقُطِعَتْ رجله، ثم سرق على عهد أَبي بكر حتى قُطِعَتْ قوائمه كلّها، ثم سرق الخامسة فقال أَبو بكر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أَعلم بهذا حين قال: «اقتلوه» . ورواه الطَّبَرَانِيّ، والحاكم في «مستدركه» وقال: صحيحُ الإسناد. وروى الدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» ، والطَّبَرَانِيّ في «معجمه» عن عصمة

(2)

بن مالك قال: سرق مملوكٌ أَربع مرّاتٍ والنبيّ صلى الله عليه وسلم يعفو عنه، ثم سرق الخامسة فقطع يده، ثم السادسة فقطع رجله، ثم السابعة فقطع يده، ثم الثامنة فقطع رجله وقال: عليه الصلاة والسلام: «أَربعٌ بأَربعٍ» .

وروى مالك في «الموّطأ» عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أَبيه أَنْ رجلاً من اليمن أَقطعُ اليد والرِّجْلِ قَدِمَ، فنزل على أَبي بكر الصديق، فشكا إِليه أَنْ عامل اليمن ظلمه، فكان يُصَلّي من الليل، فيقول أَبو بكر: وأَبيك

(3)

، ما ليلُك بليل سارقٍ. ثمّ إِنهم فقدوا عِقداً لأسماء بنت عُمَيْس ـ امرأَة أَبي بكر الصديق ـ فجعل الرجل يطوف معهم ويقول: اللهم عليك بمن بَيَّتَ أَهل هذا البيت الصالح ـ فوجدوا الحُلِيَّ عند صائغٍ زَعَمَ أَنْ الأقطع جاءه به، فاعترف الأقطع، أَوْ شُهِدَ عليه به. فأَمر به أَبو بكرٍ، فقُطِعَتْ يده اليُسرى. وقال أَبو بكر: لَدُعَاؤه (على نفسه)

(4)

أَشدّ (عندي)

(5)

عليه من سرقته.

ولنا ما روى محمد بن الحسن في كتاب «الآثار» عن أَبي حنيفة، عن عمرو بن مُرَّة، عن عبد الله بن سَلَمَة، عن عليّ بن أَبي طالب قال: إِذا سرق السارق قُطِعَتْ يده اليمنى، فإِن عاد قُطِعَتْ رجله اليسرى، فإِن عاد ضَمَّنْتُهُ السجن حتى يُحْدثَ خيراً، إِني لأستحي من الله أَنْ أَدعه ليس له يدٌ يأْكل بها ويَسْتَنْجِي بها، ورِجلٌ يمشي عليها. ومن طريق محمد رواه الدَّارَقُطْنِيّ. وروى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن الشَّعْبِيّ قال:

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، وإِثباته الصواب لموافقته لما في سنن النسائي 8/ 465، كتاب السارق (46)، باب قطع الرجل من الساق بعد اليد (14)، رقم (4992).

(2)

حُرِّفت في المطبوع إِلى علقمة بن مالك، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في سنن الدارقطني 3/ 137 - 138، كتاب الحدود والديات وغيرها رقم (171).

(3)

في المخطوط: يبكي، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في موطأ الإمام مالك 2/ 835 - 836، كتاب الحدود (41)، باب جامع القطع (10)، رقم (30).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط. وهو في "الموطأ" 2/ 835 - 836.

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع والمخطوط. وهو في "الموطأ" 2/ 835 - 836.

ص: 252

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

كان عليّ لا يقطع إِلاّ اليد والرجل، وإِن سرق بعد ذلك سجنه، ويقول: إِني لأستحي من الله أَنْ لا أَدع له يداً يأْكل بها ويَسْتَنْجِي بها. وقول ابن عباس كقول عليّ رواه ابن أَبي شَيْبَة.

وأَخرج البيهقي عن عبد الله بن سَلَمة، عن عليّ أَنه أُتِي بسارقٍ فقطع يده، ثم أُتِيَ به فقطع رجله، ثم أُتِي به فقال: أَقطع يده، فبأَيّ شيءٍ يتمسَّح؟ وبأَيّ شيءٍ يأَكل؟ أَقطع رجله، على أَي شيء يمشي؟ إِني لأستحي من الله، ثم ضربه وخلّده في السجن.

وفي «تنقيح ابن عبد الهادي» عن أَبي سعيد المَقْبُرِيّ قال: حضرت عليّ بن أَبي طالبٍ وقد أُتِي برجلٍ مقطوع اليد والرجل قد سرق، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعه يا أَمير المؤمنين. قال: أَقتله إِذاً، وما عليه القتل بأَيّ شيءٍ يأكل الطعام؟ بأَي شيءٍ يتوضَّأُ للصلاة؟ بأَي شيءٍ يغتسل من جنابته؟ بأَي شيءٍ يقوم على حاجته؟ فردّه إِلى السجن أَياماً، ثم استخرجه فاستشار أَصحابه، فقالوا مثل قولهم الأول، وقال لهم مثلما قال أَوّل مرّة فجلده جلداً شديداً، ثم أَرسله.

وروى ابن أَبي شَيْبَة عن أَبي خالد، عن حجّاج، عن سِمَاك، عن بعض الصحابة: أَنْ عمر استشارهم في سارقٍ، فأَجمعوا على مثل قول عليّ. ورُوِيَ أَيضاً عن أَبي أُسَامة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن مكحول: أَنْ عمر قال: إِذا سرق فاقطعوا يده، ثم إِنْ عاد فاقطعوا رجله، ولا تقطعوا يده الأخرى، وذروه يأكل بها ويَسْتَنْجِي بها، ولكن احبسوه عن المسلمين. وأَخرج عن النَّخَعِيّ قال: كانوا يقولون: لا يترك ابن آدم مثل البهيمة ليس له يدٌ يأكل بها ويستنجي بها. انتهى.

ولعلهم حملوا قطع النبيّ عليه الصلاة والسلام وأَبي بكر على السياسة، كما حملوا قتله في الخامسة عليها إِجماعاً. ثم رأَيت بعض المحققين ذكر أَنه لا شكّ في ثبوت هذه المرويات، وهي تستلزم نسخ مَرويِّ الإتيان على أَرْبَعَةِ السارق

(1)

، على تقدير ثبوته، أَوْ أَنه كان لمعنى زائدٍ في السارق بدليل أَمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتله من أَول سرقة. انتهى. ولا يبعد أَنْ يكون مَأْخَذ المُرْتَضِي هو قياس السرقة الصغرى بالكبرى حيث اقتصر فيها مع عِظَم جُرْمها

(2)

على قطع أَيديهم وأَرجلهم من خلاف.

(1)

أي هذه المرويات تستلزم نسخ ما روي من قطع الأعضاء الأربعة للسارق: اليدان والرجلان، على تقدير ثبوت روايات قطع الأعضاء الأربعة. وقد فصَّل الزيلعيُّ الكلام عليها في "نصب الراية" 3/ 368 الحديث التاسع، و 3/ 371 - 373، وبين أنها أحاديث ضعيفة، وأقواها ما رواه الحاكم وقال عنه صحيح الإسناد. انظر المستدرك 4/ 382.

(2)

عبارة المطبوع: مع عظم حرمتها، والمثبت عبارة المخطوط.

ص: 253

وَشُرِطَ خُصُوْمَةُ المَالِكِ، أَوْ ذِي يَدٍ حَافِظٍ كَالمُوْدَعِ وَنَحْوِهِ.

وَمَا قُطِعَ بِهِ، إِنْ بَقِيَ رُدَّ، وإِلّا لا يَضْمَنُ

===

(وَشُرِطَ) في قطع السارق (خُصُوْمَةُ المَالِكِ) وطلبه القطع، وبه قال الشافعي وأَحمد. وقال مالك وأَبو ثور وابن المنذر وابن أَبي لَيْلَى وأَبو بكر الحَنْبَلِي: لا يُشْتَرَط، لأن القطع حقّ الله كحد الزِّنا. ولنا أَنْ مع عدم الخصومة والمطالبة تتمكّن شبهةُ أَنْ مالكه أَباحَه، أَوْ وقفه على المسلمين، وشبهة إِذن الدُّخول في الحِرْز، فاعْتُبِرَت المخاصمة والمطالبة دفعاً لذلك. أَمّا الزنا فلا يباح بالإباحة، فلا تتمكّن فيه هذه الشبهة. وعلى هذا الخلاف لو غاب المالك عند القطع، فعندنا وعند الشافعيّ وأَحمد: لا يقطع، وعند مالك ومن ذُكِرَ معه: يقطع. (أَوْ) خصومة (ذِي يَدٍ حَافِظٍ كَالمُوْدَعِ وَنَحْوِهِ) وهو المستعير والمستأْجر والمضارب والمُرْتَهِن والأب والوصيّ ومتولي الوقف، فإِن السارق يقطع بخصومة هؤلاء عند علمائنا الثلاثة. وقال الشافعيّ: لا حقّ في الخصومة لغير المالك والوكيل والمودِع والمُرْتَهِن.

(وَمَا قُطِعَ) السارق (بِهِ، إِنْ بَقِيَ) ولو في يد من باعه السارق أَوْ وهبه

(1)

له (رُدَّ) إِلى المالك إِجماعاً، ويبطل البيع أَوْ الهبة إِنْ كان، لأنه بالسرقة لم يزل عن ملكه، ومن وجد عين ماله (فهو)

(2)

أَحقّ به (وإِلاّ) أَي وإِن لم يبق ما قُطِعَ السارق به سواء هلك أَوْ اسْتُهْلِكَ (لا يَضْمَنُ) وقال الشافعي وأَحمد وأَبو ثور والنَّخَعِيّ وحمّاد والحسن وإِسحاق والليث

(3)

: يضمن في الحالتين، فيجب على السارق ردّ قيمة المسروق إِنْ كان قيميّاً، وردّ مثله إِنْ كان مثلياً لعموم قوله تعالى:{فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}

(4)

ولقوله عليه الصلاة والسلام: «على اليد ما أَخذت حتى تَرُدَّ»

(5)

.

وقال علماؤنا والثوريّ: لا يجتمع الضمان مع القطع، بل إِنْ ضمنه المالك قبل القطع سقط القطع، وإِن قطعه سقط الضمان، وبه قال عطاء وابن سيرين وابن شُبْرُمة والشعبيّ ومكحول. وقال مالك: إِنْ كان السارق مُعْسِرَاً لا ضمان عليه، وإِن كان مُوْسِرَاً يضمن نظراً للجانبين.

ولنا ما روى النَّسائي ولكن بإِسنادٍ فيه مجهول عن عبد الرحمن بن عَوْف: أَنْ

(1)

في المطبوع: أَو رهنه، والمثبت من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

حرفت في المطبوع إلى "البشر" والمثبت من المخطوط.

(4)

سورة البقرة، الآية:(194).

(5)

أخرجه ابن ماجه في سننه 2/ 802، كتاب الصدقات (15)، باب العارية (5)، رقم (2400).

ص: 254

وَمَعْصُوْمٌ، قَطَعَ الطَّرِيْقَ عَلَى مَعْصُومٍ، فَأُخِذَ قَبْلَ أَخْذِ مَالٍ وَقَتْلٍ، حُبِسَ حَتَّى يَتُوْبَ،

===

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَغْرَم صاحب سرقة إِذا أُقِيْمَ عليه الحدّ» .

قال النَّسائي: هذا مرسل وليس بثابتٍ. وأَخرجه الدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» بلفظ: «لا غُرْم على السارق بعد قطع يمينه» . قال: والمِسْوَر لم يُدْرِك عبد الرحمن بن عَوْف، فإِن صحّ إِسناده فهو مرسلٌ، وقد تقدّم أَنْ الإرسال غير قادح عندنا بعد ثقة الرواي وأَمانته. وروى الحسن عن أَبي حنيفة وجوبَ الضمان في المُسْتَهْلَك.

(وَمَعْصُوْمٌ) أَي مسلمٌ أَوْ ذميٌّ، وهو مبتدأ صفته (قَطَعَ الطَّرِيْقَ) بصيغة الفاعل (عَلَى مَعْصُومٍ فَأُخِذَ) بصيغة المجهول عطف على قطع (قَبْلَ أَخْذِ مَالٍ وَقَتْلٍ حُبِسَ) أَي بعد التعزير، وهو خبر المبتدأ (حَتَّى يَتُوْبَ) أَي يَظهر فيه سِيماء الصالحين. وقال النَّخَعِي وقَتَادة وعطاء وأَحمد: يُشَرَّد

(1)

قاطع الطريق من الأمصار، وقال طائفةٌ من أَهل العلم، وهو مرويٌّ عن ابن عباس: يُنْفَى من بلده إِلى بلدٍ غيره. وقال مالك وابن سُرَيْج

(2)

من أَصحاب الشافعيّ: يُحْبَس في البلد الذي يُنْفَى إِليه. ولنا أَنْ ظاهر الآية يدلّ على النفي من جميع الأرض، وهو لا يمكن، ونفيه عن بلده لا يحصل به المقصود، وهو كَفّ أَذاه عن الناس، ونفيه من (دار)

(3)

الإسلام إِلى دار الحرب فيه تعريضه للرِّدَّة وصيرورته حرباً لنا، فقلنا المراد بنفيه من الأرض دفع شره بالحبس، إِذْ الحبس يعدّ خارجاً من الدنيا كما قال الشاعر:

*خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلِهَا ** فَلَسْنَا مِنَ الأَحْيَاءِ فِيْهَا وَلَا المَوْتَى

ثم لقطع الطريق شرائط منها: أَنْ تكون لهم شوكةٌ ومَنَعَةٌ وقوةٌ، سواء كانت بالسلاح، أَوْ بالعصا الكبيرة، أَوْ بالحجر أَوْ بغيره، وإِن كان واحداً.

ومنها: أَنْ يكون ذلك منهم خارج المِصْر بعيداً عنه، حتّى إِنْ كان في المصر، أَوْ بقرب منه، أَوْ بين قريتين لا يكون قَطْعَاً للطريق، خلافاً لمالك والشافعيّ وتوقّف أَحمد. وعن أَبي يوسف: أَنهم إِنْ كانوا في المصر ليلاً، أَوْ فيما بينه وبين المصر أَقل من مسيرة سفر، يجري عليهم أَحكام القُطَّاع، وعليه الفتوى لمصلحة الناس.

ومنها: أَنْ يكون المأْخوذ قدر النصاب، وبه قال الشافعيّ وأَحمد. وقال مالك وأَبو ثور وابن المنذر: لا يشترط النِصَاب لعموم الآية.

ومنها: أَنْ يكون القُطَّاع كلّهم أَجانب من المال، ويكون كلّهم من أَهل وجوب

(1)

في المخطوط: يسترد، والمثبت من المطبوع.

(2)

حرف في المطبوعة والمخطوطة إلى: "ابن شريج" والصواب المثبت، وهو أحمد بن عمر بن سُرَيج البغدادي، انظر ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى 3/ 21.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 255

وإِنْ أَخَذَ، وَنَصِيبُ كُلِّ نِصَابٌ، قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ مِن خِلافٍ، وَإنْ قَتَلَ بِلا أَخْذِ مالٍ قُتِلَ حَدًّا، ومَعَهُ قُتِلَ أَوْ صُلِبَ أَوْ قُطِعَ، ثُمَّ قُتِلَ أَوْ صُلِبَ.

===

القطع، حتى لو كان واحد منهم من أَصحاب المال، أَوْ ذا رحم مَحْرَم منهم، أَوْ صبياً أَوْ مجنوناً، لا يجب عليهم القطع، لأن الجناية واحدةٌ، فالامتناع في حقّ البعض امتناعٌ في حق الباقين، خلافاً لأبي يوسف ومالك والشافعيّ وأَحمد. ولو كان فيهم امرأَة ففي روايةٍ تقطع، وبه قال مالك والشافعيّ وأَحمد، والأصحّ أَنها لا تقطع.

ومنها: أَنْ يُؤْخَذُوا قبل التوبة، حتّى لو أُخِذوا بعدها وبعد ردّ المال سقط عنهم الحدّ، ولا خلاف فيه، ولكن لا يسقط القصاص وضمان المال الهالك.

(وإِنْ أَخَذَ) مالاً لمسلمٍ أَوْ ذميّ سواء جرح أَوْ لا (وَنَصِيْبُ كُلَ نِصَابٌ، قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ) بأَن قطع يده اليمنى ورجله اليسرى لئلا يفوت جنس المنفعة. (وَإِنْ قَتَلَ بِلَا أَخْذِ مالٍ قُتِلَ حَدًّا) لا قصاصاً حتّى لا يعفو الوليّ (و) إِنْ قتل (مَعَهُ) أَي مع أَخذ المال (قُتِلَ أَوْ صُلِبَ) حيًّا في ظاهر الرواية ثلاثة أَيام، ويُبْعَج بطنه برمحٍ حتّى يموت، أَي يشقّ.

(أَوْ قُطِعَ) يده ورجله من خلافٍ (ثُمَّ قُتِلَ أَوْ صُلِبَ) كما ذكرناه، وهذا موافقٌ لـ:«جامع البَزْدَوِي» . وفي «الهداية» : وصلب «بالواو» وكلٌّ منهما للإمام فعله، ثم يُنْزَل بعد ثلاثة أَيّام ويُخَلَّى بينه وبين أَهله ليدفنوه، لأنه لو تُرِكَ لتغيّر وتأَذّى الناس به. وقيل: يرى أَبو يوسف تركه مصلوباً حتّى يسقط ليكون أَبلغ في الاعتبار، وقال محمد: يُقْتَل أَوْ يُصْلَب ولا يُقْطَع.

وفي عامة المباسيط وشروح الجامع، أَبو يوسف مع محمد، وبه قال الشافعي وأَحمد في روايةٍ ومالك إِنْ كان ذا رأي. وعن أَبي يوسف: أَنْ الإمام لا يَتْرك الصلب، لأنه المنصوص عليه، والمقصود منه التشهير ليرتدع به غيره، وبه قال الشَّافعيّ وأَحمد. وعن الطَّحَاوِيّ: أَنه يقتل ثم يصلب توقياً عن المُثْلَة، وبه قال الشافعي وأَحمد. والأصل في ذلك قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الّذِيْنَ يُحَارِبونَ اللَّهَ ورَسُوْلَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسَادَاً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهُم وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌّ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيْمٌ إِلاّ الَّذِيْنَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنّ اللَّهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ}

(1)

أَي يحاربون أَولياء الله على حذف مضافٍ.

ثم المراد منه ـ والله تعالى أَعلم ـ التوزيع على الأحوال، لأن الجنايات

(1)

سورة المائدة، الآيتان:(33 و 34).

ص: 256

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

متفاوتة، والحكمة تقتضي أَنْ يتفاوت جزاؤها. وإِنما لم يذكر أَنواع الجناية، لأنها معلومةٌ، فكان بيان جزائها أَهم، وبه قال الشافعي واللّيث وإِسحاق وحمّاد وقَتَادة وأَصحاب أَحمد وَرُوِيَ عن ابن عباس. وقال ابن المُسَيَّب وعطاء ومجاهد والحسن والضَّحَّاك والنَّخَعِيّ وأَبو ثور وداود: إِنْ الإمام مُخَيّرٌ فيه لظاهر النص.

وذكر التُمُرْتَاشِي: أَنْ الأحوال عندنا خمسٌ:

الأولى: تخويفٌ فقط، وفي هذا: يُعَزّروا أَدنى التعزير، ويُحْبَسوا حتى يتوبوا.

والثانية: أَخذ المال، فإِن أُخِذُوا قبل التوبة قطِّعت أَيديهم وأَرجلهم من خلافٍ، وردُّوا المال إِنْ كان قائماً، ولم يَضْمَنُوه إِنْ كان هالكاً.

والثالثة: أَنْ يجرحوا لا غير، وفيه: القصاص فيما يجري فيه القصاص، والأرْش

(1)

فيما لا يجري فيه، واستيفاء ذلك لصاحب الحقّ.

والرابعة: أَنْ يأخذوا المال ويجرحوا، وفي هذا: القطع من خلافٍ فقط، ولا حكم للجرح عندنا، لأن حكم ما دون النفس عندنا حكم المال، فيسقط ضمانه مع القطع.

والخامسة: أَنْ يأخذوا المال ويقتلوا، أَوْ يقتل أَحدهم معصوماً بسلاحٍ أَوْ غيره، والإمام هنا مخيّرٌ كما ذكرنا في المتن، والله سبحانه أَعلم.

(1)

الأرْشُ: دِية الجراحة. المعجم الوسيط ص 13، مادة (أَرش).

ص: 257

‌كِتَابُ الجِهَادِ

وَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ إنْ هَجَمَ الكُفَّارُ، فَتَخْرُجُ المَرْأَةُ وَالعَبْدُ بِلا إِذْنٍ، وَفَرْضُ كِفَايَة بَدْأً

===

كتاب الجِهَادِ

هو لغةً: مصدر جَاهَدَ مُجَاهَدَةً، ومنه قوله تعالى:{وَجَاهدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}

(1)

، وهو أعمُّ من المُقَاتَلة لحديث:«رجعنا من الجهادِ الأصغر إلى الجهاد الأكبر»

(2)

.

وشرعاً: دعاءٌ إلى الدين الحق، وقِتالٌ مع مَنْ لا يَقْبله. ويُسمّى: كتاب السِّيَر، لأنّه يُبيّن فيه سيرة المُسْلِمِينَ في مُعَاملتهم

(3)

أهلَ الحرب، وأهلَ الذِّمة، والمُستأمَنين

(4)

.

(وَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ إنْ هَجَمَ الكُفَّارُ) على بلدٍ وصار النَّفيرُ عاماً، وَلَا يَتَهَيَّأ دفعهم إلا بالكلّ (فَتَخْرُجُ المَرْأَةُ وَالعَبْدُ بِلَا إِذْنٍ) من الزّوج والسيد، لأن حق الزوج والمولى لا يظهر في حقِ فروضِ الأعيان، كالصلاة والصيام، ولذا يخرجُ الولد بغير إذن والديه، والمديونُ بغير إذن دائنه. وفي غير هذه الحالة لا يخرجان إلاّ بإذنهما. وكذا في كل سفرٍ فيه مشقة، لأنّ الإشفاقَ على الولد مضرٌ بوالديه، وعلى المديون يَضُر بدائنه. والأصل في ذلك قوله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وجَاهِدوا بأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبِيل اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

(5)

أي اخرجوا إلى الجهاد شباباً وشيوخاً، أو رُكباناً ومشاةً، أو عُزّاباً ومناكحين

(6)

، أو أغنياءَ وفقراءَ.

(وَفَرْضُ كِفَايَةٍ بَدْأً) أي ابتداءً، وهو أن يبدأَ المسلمون الكفارَ بالمُحاربة كلّ

(1)

سورة الحج، الآية:(78).

(2)

قال العجلوني في "كشف الخفاء" 1/ 424: الحديث في "الإحياء". قال العراقي: رواه البيهقي بسند ضعيف عن جابر.

(3)

في المخطوط: مقاتلهم، والمثبت من المطبوع.

(4)

المستأْمن: من أُعطي الأمان الموقَّت على نفسه، وماله، وعرضه، ودينه. معجم لغة الفقهاء ص 426.

(5)

سورة التوبة، الآية:(41).

(6)

في المخطوط: متأَهلين، والمثبت من المطبوع.

ص: 258

إِنْ قَامَ بِهِ بَعْضُ سَقَطَ عَنْ البَاقِينَ، وإلّا أثِمُوا.

===

سنة (إِنّ قَامَ بِهِ بَعْضٌ) من المسلمين (سَقَطَ عَنْ البَاقِينَ) لحصول المقصود (وإلاّ) أي وإن لم يَقُمْ به البعض (أَثِمُوا) أي أثم كلٌّ من المسلمين بتركه، لأنه فرضٌ عليهم.

وفي «الذَّخِيرَة» : عند النَّفِيرِ العام يصيرُ فرضَ عينٍ على مَنْ يَقرُب من العدو وهم يقدرون على الجهاد. وأمّا مَنْ عَدَاهُمْ ممن بَعُدَ، ففي حقّهم فرض كفاية إذا لم يُحتج إليهم، فإذا احتِيجَ إليهم بأن عَجَزَ القريب أو تكاسل ولم يجاهد، يصيرُ فرضَ عينٍ على من يَلِيْهم ثم وثم، إلى أن يُفرضَ على جميع أهل الإسلام شرقاً وغرباً على هذا التدريج، كالصلاة على الميت، تجب على أهل محلَّتِهِ، ولا تجب على بعيدٍ من الميت، إلا إذا علم أنّ أهل الميت يُضَيِّعُون أو عاجِزُونَ عن إِقَامَتِهَا.

وقال ابن المسيَّب: الجهاد ابتداءً فرضُ عينٍ. وقال الثوري: ليس بفرضٍ، وقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُم القِتَالُ}

(1)

للنّدب، كقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ}

(2)

.

ولنا قوله تعالى: {لَا يَسْتَوي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وِالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى}

(3)

، ولو كان فرضَ عينٍ لذمّ تاركَه ولم يَعِد بالحُسنى. وأيضاً كان الصحابة يغزو بعضهم ويقعد بعضهم، ولو كان فرْضَ عينٍ لما قعدوا. وروى أبو داود أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «لا تزالُ طائفةٌ من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرينَ على من نَاوأَهُمْ

(4)

حتى يقاتلَ آخرُهم المسيح الدجال».

وفي المتفق عليه: «والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيبُ أنفُسُهم أن يتخلَّفوا عني، ولا أجدُ ما أحملهم عليه ما تخلَّفْتُ عن سريّة تغزو في سبيل الله» . وفيه أيضاً: «من جَهَّز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خَلَف غازياً في أهله بخيرٍ فقد غزا» . ولأن المقصود منه إِعلاءُ كلمةِ اللَّه وقهرُ أعدائه، وذلك يحصل بالبعض، كصلاة الجنازة وردّ السلام، وعليه انعقد إجماع العلماء الأعلام.

وفي «المبسوط» و «الذَّخِيرَة» : كان صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر مأموراً بالصفح عن

(1)

سورة البقرة، الآية:(216).

(2)

سورة البقرة، الآية:(180).

(3)

سورة النساء، الآية:(95).

(4)

ناوَأهم: أي نَاهَضَهم وعاداهم. النهاية 5/ 123.

ص: 259

لا عَلَى صَبِيٍّ، وَعَبْدٍ، وَامْرَأَةٍ، وَأَعْمَى، وَمُقْعَدٍ، وَأَقْطَع. فَيُحَاصِرُهُم، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ،

===

المشركين والإِعراض عنهم، لقوله تعالى:{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ}

(1)

، وقوله:{وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ}

(2)

ثم أُمِرَ بالدعاء إلى الدِّين بالموعظة والمُجَادَلَةِ الحسنة بقوله تعالى: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بَالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

(3)

.

ثم أمر بالقتال إذا كانت البُداءة منهم بقوله سبحانه وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بَأْنَّهُمْ ظُلِمُوا}

(4)

أي أُذِنَ لهم في الدَّفع، ثم أُمر بالقتال ابتداءً في بعض الأزمان، وهو غير الأشهر الحُرُم لقوله تعالى:{فَإِذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُم فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُّمُوهُمْ}

(5)

، ثم أُمر بالقتال في الأزمان كلها وفي الأماكن بأسرها بقوله تعالى:{قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}

(6)

، وقوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ}

(7)

، {وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً}

(8)

ومما يدلّ على أنَّ تحريم القتال في الأشهر الحُرُم منسوخٌ أنه عليه الصلاة والسلام حاصر الطائف لعشرٍ بَقَيْنَ من المحرم، والمُحاصرةُ نوع من المقاتلة.

(لَا عَلَى صَبِيَ) أي لا يفترض الجهادُ على صبيّ لضَعْف بُنيتِهِ (وَعَبْدٍ وَامْرَأَةٍ) لتقدّم حقّ المولى والزّوج، ولضعف بنية المرأة (وَأَعْمَى وَمُقْعَدٍ وَأَقْطَعٍ) لعجزهم. والشيخُ الكبير في معناهم، لقوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيرُ أُولي الضَّرَر والمُجَاهِدُونَ}

(9)

، وقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ}

(10)

، (فَيُحَاصِرُهُمْ) الإمامُ أو نائبُه إذا دخل أرضَهم (وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ) وجوباً أو ندباً لما سيأتي، فإن أجابوا كفّ عنهم، لما في «الصحيحين» عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتّى

(1)

سورة الحجر، الآية:(85).

(2)

سورة الحجر، الآية:(94).

(3)

سورة النحل، الآية:(125).

(4)

سورة الحج، الآية:(39).

(5)

سورة التوبة، الآية:(5).

(6)

سورة البقرة، الآية:(193).

(7)

سورة التوبة، الآية:(29).

(8)

سورة التوبة، الآية:(36).

(9)

سورة النساء، الآية:(95).

(10)

سورة الفتح، الآية:(17).

ص: 260

وَإنْ أَبَوْا، فَإِلَى الجِزْيَةِ، فَإِنْ قَبِلُوا، فَلَهُمْ مَا لَنَا، وَعَلَيهِم مَا عَلَينَا.

فَإِنْ أَبَوْا يُقَاتِلُهُمْ بِمَا يُهْلِكُهُمْ،

===

يقولوا: لا إله إلاّ الله، فمن قالها عَصَمَ مني ماله ونفسه إلا بحقِّهِ، وحسابهُ على الله». وروى أحمد وعبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن سفيان الثوري، عن ابن أبي نَجِيح، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ما قاتَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً حتّى دعاهم إلى الإِسلام.

(فَإِنْ أَبَوْا) عن الإِسلام (فَإِلَى الجِزْيَةِ) أي فيدعوهم إلى قَبُول الجزية، لما رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أمَّرَ أميراً على جيشٍ أو سريّةٍ أمره به. وهذا إن كانوا ممّن تُقبل منهم الجزية، وأمّا مَنْ لا تقبل منهم كالمرتدينَ وعبدة الأوثان من العرب الذين لا يُقبل منهم إلا الإسلام، فلا فائدة في دعائِهِم إلى الجزية. (فَإِنْ قَبِلُوا) إعطاء الجزية، (فَلَهُمْ مَا لَنَا) وليس معناه أنه يجب عليهم من العبادات وغيرها ما يجبُ علينا، لأنّ الكفارَ لا يخاطبون بالعبادات عندنا، (وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا) أي إذا تعرَّضنا لدمائهم وأموالهم، أو تعرّضوا لدمائنا وأموالنا، لقول عليّ: من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا، ودِيَتُه كدِيَتِنَا. رواه الدَّارَقُطْنِيّ، وفي إسناده أبو الجَنُوب

(1)

. وأمّا في «الهداية» لقول عليّ: إنما بذلوا الجزية ليكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا. فلا يعرف بهذا اللفظ.

(فَإِنْ أَبَوْا) من قَبُول الجزية (يُقَاتِلُهُمْ) أي الإمام (بِمَا يُهْلِكُهُمْ) من رميٍ بِمَنْجَنِيقٍ، وتحريقٍ بنارٍ، وتغريقٍ بماءٍ، ولو كان معهم مسلم. وقال مالك والشافعيّ وأحمد: إذا عَلِمَ أَنّ فيهم مسلماً وأنه يتلفُ بهذا الصُّنعِ، لم يَحِلّ، إلا إن يَخْاف انهزامَ المسلمين إذا لم يفعل. ولنا: أنه لو اعتبر هذا المعنى لانسد باب القتال معهم، لأن حصونَهم ومدائنهم قلّ ما يخلو عن مسلم، وأما لو غلب على حصنهم وكان فيهم ذميٌّ مجهولٌ لا يُعرف بعينه، فلا يجوز قتل العام. ولو تَتَرَّسُوا بأُسارى من المسلمين أو بصبيانٍ منهم لم يَكُفَّ عنهم، ويقصدُهم دون مَنْ تَتَرَّسُوا به، لأنه يَلْزمُنَا التمييز فعلاً إن قَدَرنا عليه، وإلاّ يلزمُنَا نيتُه، إذ الطاعة بحسب الطاقة، ولا ديَة علينا ولا كفارةَ فيما أصبنا منهم، لأن الجهاد فرضٌ، فيمنع كون الفعل تعدياً.

وقال مالك والشافعيّ وأحمد: إن لم تدعُ الضرورةُ إلى رميهم لم يجز رميهم.

هذا، وقال الواقدي في «كتاب المغازي»: قال سلمان الفارسي: يا رسول الله

(1)

حُرِّفت في المخطوط إِلى: أَبو الحبوب، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في سنن الدَّرَاقُطنِيّ 3/ 147 - 148، كتاب الحدود والدِّيات وغيره، رقم (200).

ص: 261

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

أرى أن تَنْصِبَ عليهم المَنْجَنِيق، فإنا كنّا بأرض فارس ننصب المجانيق على الحصون، فنُصيب من عدونا، فإن لم يكن منجنيق لطال المقام، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمل منجنيقاً بيده، فنصبه على (حصن)

(1)

الطائف. والمَنْجَنِيق: بفتح الميم وتُكسر ـ آلة يُرمى بها الحجارة، معرَّبة، وقد تُذكَّر. فارسيتها: مَنْ: جه نيك، أي ما أجودني.

وروى الجماعة إلاّ البخاري عن سليمان بن بُرَيْدَةَ عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سريّةٍ أوصَاه في خاصَّته بتقوى الله وبمن تبعه من المسلمين خيراً ثم قال: «اغزُوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزُوا ولا تَغُلُّوا

(2)

، ولا تَغدِرُوا، ولا تُمَثِّلوا

(3)

، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيتَ عدوك من المشركين فادْعُهم إلى ثلاث خصالٍ ـ أو خلالٍ ـ فَأَيَّتُهن أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم: ادْعُهم إلى الإِسلام، فإن أجابوك فاقبلْ منهم وكُفّ عنهم، ثم ادعُهمْ إلى التَّحَوُّلِ من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنَّهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم.

فإن أبَوا أنْ يَتَحَوَّلُوا منها، فأَخْبِرْهُم أنَّهم يَكُونونَ كأعراب المسلمين، يَجْرِي عليهم حُكمُ اللَّهِ الذِي يَجري على المؤمنين، ولا يكونُ لهم في الغنيمة والفَيْءِ شيءٌ إلا أن يُجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أَبَوْا فَسَلْهُمُ الجزية، فإن هم أجَابُوك فاقبلْ منهم وكُفّ عنهم، فإن هم أبَوا فاسْتَعِنْ بالله وقاتِلهم، وإذا حاصَرْتَ أهل حصن فَأَرادوكَ أنْ تجعلَ لهم ذمة اللَّهِ وذمة نبيهِ، فلا تجعلْ لهم ذمةَ اللَّهِ وذِمةَ نبيه، ولكن اجعلْ لهم ذمَّتَكَ وذِمَّةَ أصحابك، فإنكم إن تُخْفِرُوا

(4)

ذمتكم وذمة أصحابكُمْ أهونُ من أن تُخْفِرُوا ذمة الله وذِمةَ رسوله، وإذا حاصرتَ أهلَ حِصنٍ فأرادوكَ أنْ تُنزِلَهُمْ على حكم الله، فلا تُنزِلهُم على حكم الله، ولكن أنْزِلهُمْ على حُكْمِكَ، فإنك لا تَدرِي أتُصيبُ حُكْمَ اللَّه فيهم أم لا. (ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم»)

(5)

.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

الغُلُول: هو الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة. النهاية 3/ 380.

(3)

مَثَّلْتُ بالقتيل: جدعت أَنفه، أَو أَذنه، أَو مذاكيره، أَو شيئًا من أَطرافه. النهاية 4/ 294.

(4)

أَخفرت الرجل: نقضت عهده وذِمَامه. النهاية، 2/ 52.

(5)

ما بين الحاصرتين زيادة لم ترد إِلّا عند أَبى داود 3/ 83 - 85، كتاب الجهاد (15)، باب في دعاء المشركين (82)، رقم (1612).

ص: 262

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

فلو نَزَلَ أهلُ حصنٍ على حُكْمِ الله يجيز أبو يوسف القَتْلَ والاسترقاق، والتحرير ذمة لنا، وعيَّن محمد التحرير، لأن الإنزال على حكم الله لا يجوز عنده لما روينا، ففي قوله

(1)

: وإن أخطأ الإمامُ وأنزلهم على حكم الله، ينبغي له أن يَعْرِضَ عليهم الإسلام، فإن أجابوا لذلك فبها، وإن أبَوْا يَضرِبُ عليهم الجزيةَ وعلى أراضيهم الخَرَاج

(2)

، ولا يقتلُهم ولا يسترقُهم. ولأبي يوسف أنهم أهل حربٍ، وحكمُ اللَّهِ فيهم معلوم. وما رُوِيَ كان في ابتداء الإسلام، ولمَّا استقرّ الشرعُ على هذه الثلاثة عُلِمَ حُكمُ الله فيهم، وهو أحد هذه الثلاثة، ولكن للإمام خيارُ التَّعيين.

وروى أحمد في «مسنده» والحاكم في «مستدركه» عن سَلْمان أنه انتهى إلى حِصْنٍ أو مدينة فقال لأصحابه: دعوني أدْعُهم كما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُمْ، فقال لهم: إنّما كنتُ رجلاً منكم فهداني الله للإسلام، فإن أسلمتُم فلكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فأدوا الجِزْية وأنتم صاغرون، فإن أبيتم نَابَذْنَاكُمْ على سواء، إن اللَّهَ لا يحبّ الخائنين. فعلَ ذلك بهم ثلاثةَ أيام، فلما كان في اليوم الرابع أمر الناس فغزُوا إليها وفتحوها.

وروى الستّةُ قوله عليه الصلاة والسلام لمُعاذ حين بَعَثه إلى اليمن: «إنك تَقْدُم على قومٍ أهل كتابٍ فادعُهم إلى شهادةِ أنْ لا إله إلاّ الله، فإن أسلموا فبها، وإن لم يُسلموا فادعهم إلى الجزية»

الحديث.

ولا يجوز أن يُقاتِل من لم تبلغه الدعوة إلى الإسلام إلا بعد أن يَدْعُوهم، ولو قاتلهم قبل الدعوةِ أَثِمَ، ويُستحبُ أنْ يدعو به من بَلَغته الدعوة مبالغةً في الإنذار إلاّ إذا عَلِم أنّهم بالدعوة يَستعدون أو يحتالون بحيلة أو يَتَحَصَّنون، لأن الدعوةَ مستحبةٌ ودفعُ الضرر واجبٌ. وفي «المحيط»: بلوغُ الدعوة إمّا حقيقةً أو حكماً بأن استفاض شرقاً وغرباً، أنهم إلى ماذا يُدْعَوْن، وعلى ماذا يُقاتَلون، فأقيم ظهورُ الدعوة مُقامها في حق كل مشركٍ، لما روى الشيخان عن ابن عَوْف قال: كتبتُ إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فكتبَ إليَّ إنما كان ذلك في أول الإسلام، قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المُصْطَلِق وهم غارّون ـ أي غافلون ـ وأنعامهم تُسقى على الماء،

(1)

في المخطوط: وفي أَوله، والمثبت من المطبوع.

(2)

الخَرَاجُ: ما تأْخذه الدولة من الضرائب على الأرض المفتوحة عَنوةً، أَو الأرض التي صالح أَهلها عليها. معجم لغة الفقهاء ص 194.

ص: 263

وَقَطَعَ شَجَرَهُمْ وَزَرْعَهُمْ، بِلا غَدْرٍ وَغُلُولٍ، وَمُثْلةٍ،

===

فقتل مقاتِلَتَهم، وسبى ذَرَاريهم

(1)

، وأصاب يومئذٍ جُوَيْرِيَةَ بنت الحارث.

(وَقَطَعَ شَجَرَهُمْ وَزَرْعَهُمْ) أي يقاتلهم بما يُهلكهم وبقطعهما. وعن الشافعي في قول، وأحمد في روايةٍ: أنه لا يَفعل بهم ذلك إلاّ إذا كانوا يفعلونه بنا. ولنا ما روى أصحاب الكتب الستة عن اللَّيْث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ نَخَل بني النَّضِير وحرَّق، وهي البُوَيْرة بالتصغير، وفيها نزلت: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِيْنةٍ

(2)

أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا}

(3)

الآية. وفيها يقول حسّان بن ثابت شعراً:

*وَهَانَ على سُراة بني لُؤَيّ ** حريق بالبُوَيْرة مستطير

وفي «المحيط» : ينبغي للإمام إذا تيقّن بالفتح بدون التغريق والتحريق أن لا يفعل (بِلَا غَدْرٍ) أي يُقاتلهم بلا خِيانَة ونقضِ عهدٍ. وفي «المحيط» : وهذا بعد الظَّفَر وإعطاء الأمان، وأمّا قبلهما فلا بأس به، يعني لقوله عليه الصلاة والسلام:«الحرب خَدْعة»

(4)

.

وأما قول صاحب «الهداية» : ولا بدّ من النَّبْذ تحرزاً عن الغدر، لقوله عليه الصلاة والسلام:«في العهود وفاء لا غدر» . فَرَفْعُهُ غير معروفٍ، وأنّه من كلام عمرو بن عَبَسَة، كما رواه سُليم بن عامر قال: كان بين معاوية والروم عهد، وكان يسير في بلادهم حتّى انقضى العهد، فأغار عليهم، فإذا رجلٌ على دابة أو فَرَسٍ وهو يقول: الله أكبر وفاء لا غدر، وإذا هو عمرو بن عَبَسَة، فسأله معاوية عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ كان بَيْنه وبين قومٍ عهدٌ فلا يَحُلَّنَّ عهداً، ولا يَشُدَّنَّه حتى يَمْضي أمَدُه أو ينبذَ إليهم على سَوَاء» ؟ قال: فرجع معاوية بالناس. رواه أبو داود والنَّسائي، والترمذي وهذا لفظه، وقال: حسنٌ صحيحٌ.

(وَ) بلا (غُلُولٍ) وهو: السرقة من المَغْنَم (وَ) بلا (مُثْلةٍ) بالضم، وهي كقطع عضوٍ وتسويد وجه، وقد سبق النهي في حديث بُرَيْدَة عن هذه الأشياء

(5)

. فإن قيل:

(1)

الذراريّ: النساء والصغار. المعجم الوسيط ص 310، مادة (ذرّ).

(2)

اللِّينة: كلُّ نوع من أَنواع النَّخْل سوى العجوة. المعجم الوسيط ص 850، مادة (لان).

(3)

سورة الحشر، الآية:(5).

(4)

أَخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 6/ 158، كتاب الجهاد (56)، باب الحرب خدعة (157)، رقم (3030).

(5)

مرّ الحديث ص 262.

ص: 264

وَقَتْل عَاجِزٍ عَنِ القِتَالِ، إلّا مَلِكَةً، أَوْ ذا رَأْي

===

روى الشيخان في كتاب الحدود عن أنس أن نفراً من عُكْل ثمانية، وفي لفظ: أن ناساً من عُريْنة قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام واسْتَوخَمُوا

(1)

الأرض وسَقِمَت أبدانهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«ألا تخرجونَ مع راعينا في إبله فتُصيبُون من أبوالها وألبانها» ، قالوا: بلى يا رسول الله، فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها، فَصَحُّوا، ثم مالوا على الرُّعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام، واستاقوا ذَوْد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي إبله ـ فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فبعث في أثرِهِم، فَأُتِيَ بهم، فقطع أيديَهم وأرجلَهم، وَسَمَل

(2)

أعينَهم وتركهم في الحرَّة حتى ماتوا. وفي لفظ: أُلقُوا في الحرة يَسْتَسْقُون فلا يُسقون، ولم يَحْسِمْهُمْ حتى ماتوا. وفي لفظٍ: فَقَطَعَ أيديَهم وأرجلهم، ثم أمر بمسامير فأحميت ثم كحّلهم بها، وفي لفظٍ: وتركهم بالحَرَّة يعضدون الحجارة.

وهذا يدلّ على جواز المُثْلة. أجيب بأنه محمولٌ على النَّسخ، فإن في آخر الحديث قال قتادة: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعد ذلك يُحث على الصدقة ويَنْهَى عن المُثْلة، وفي لفظٍ لهما: قال قتادة: فحدثني محمد بن سِيرين أن ذلك كان قبل أن تُنَزّل الحدود. وفي لفظٍ للبيهقي: قال أنس: فما خطبَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا خُطبة إلا نهى فيها عن المُثْلة. وممن قال بنسخه الشافعي. وروى الوَاقِدِي في كتاب «المغازي» عن إسحاق عن صالح مولى التَّوْأَمة عن أبي هريرة قال: لما قطع النبي صلى الله عليه وسلم أيدي أصحاب اللِّقاح وأرجلَهم وسَمَل أعينَهم نزلت هذه الآية: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}

(3)

إلى آخر الآية فلم تُسْمَل بعد ذلك عين.

قال: وحدّثني أبو جعفر قال: ما بعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بعثاً إلا نَهَاهُمْ عن المُثْلَة. أو محمولٌ على أنه فعل بهم ما فعلوا بالرِّعاء، وقد جاء مصرّحاً به عند مسلم عن أنس قال: إنما سَمَلَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعينَ أولئك لأنهم سَمَلُوا أعينَ الرِّعاء. وروى ابن سعد في خبرهم: أنهم قطعوا يد الرَّاعي ورجله وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات. وعلى هذا ما فُعِل بهم ليس بمُثْلة، فإنَّ المُثْلة ما كان ابتداءً من غير جزاءٍ.

(وَ) بلا (قَتْلِ عَاجِزٍ عَنِ القِتَالِ) كالصبيّ، والمجنون، والأعمى، والمرأة، والشيخ الذي لا يقدر على الصِّياح عند التقاء الصَّفين (إلاّ مَلِكَةً) أو مقاتلاً (أَوْ ذا رأي

(1)

اسْتَوْخموا: أَي استثقلوها، ولم يوافق هواؤها أَبدانهم. النهاية 5/ 164.

(2)

سمل العين: فَقَأهَا بمسمارٍ أَو حديدة مُحْماةٍ. المعجم الوسيط ص 450، مادة (سمل).

(3)

سورة المائدة، الآية:(33).

ص: 265

في الحَرْبِ، أو ذَا مَالٍ يَحُثُّ بِهِ، وَأبٍ كَافِرٍ، وَإِخْرَاجِ مُصْحَفٍ وَامْرَأَةٍ إلا في جَيشٍ يُؤْمَنُ.

===

في الحَرْبِ، أو ذَا مَالٍ يَحُثُّ بِهِ) على القتالِ لتعدي ضررهم، إلاّ أنّ الصبيّ والمجنون يقتلان، ما داما يقاتلان. وغيرهما لا بأس بقتله بعد الأسر، لأنه من أهل العقوبة. وروى الجماعة إلاّ ابن ماجه عن نافع، عن ابن عمر: أن امرأةً وُجِدَت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولةً. فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.

وفي لفظ للشيخين: فأنكر قتل النساء والصبيان. وروى أبو داود عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «انطلقوا باسم الله وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأةً، ولا تَغُلُّوا، وضُمُّوا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إنّ الله يحب المحسنين» . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل دُرَيد

(1)

بن الصِّمَّة يوم حُنَيْن. وكانوا أحضروه ليدبّر أمرهم، وكان ابن مئة وعشرين سنة. وقيل: كان ابن مئة وستين. وقيل: كان أعمى أيضاً.

(وَ) بلا قتل (أبٍ كَافِرٍ) أي ابتداءً لقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}

(2)

وليس من المعروف فيهما أن يقتلهما. قيّد بالبَدْأ لأن الابن له قتل أبيه الكافر (إذا قصد قتله بحيث)

(3)

لا يمكنه دفعه إلاّ بالقتل، لأن مقصود الابن حينئذٍ الدفع. ألا ترى أن الأب المسلم لو شهر سيفه على ابنه بحيث لا يمكن للابن دفعه إلاّ بقتله؟ له أن يقتله فالكافر أولى. ولو كان الأب والابن في سفَرٍ وعطشا، ومع الابن ماء يكفي ولأَحدهما، للابن أن يشربه وإن كان الأب يموت عطشاً، فكذا ههنا وحكم الأم والجدّ والجدّة كالأب.

ولو كان الكافر أخاً للمسلم المجاهد كان له أن يقتله ابتداءً بخلاف الباغي إذا كان أخاً للطائع حيث لا يجوز للطائع قتله باتفاقٍ. وعند الشّافعي: يكره له أن يقتل ذا رحمٍ مَحْرَمٍ، وفي ذي رحمٍ غير مَحْرَمٍ وجهان: أحدهما يكره، والآخر لا يكره. ومذهب مالك وأحمد كمذهبنا. ولا يكره للأب قتل ابنه الكافر ابتداءً، وعند الشافعي يكره.

(وَ) بلا (إِخْرَاجِ مُصْحَفٍ وَامْرَأَةٍ إلا في جَيْشٍ يُؤْمَنُ) فيه عليهما، لأن الغالب

(1)

حُرِّفت في المطبوع إلى: زيد. والمثبت من المخطوط وهو الصواب لما في "تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 185.

(2)

سورة لقمان، الآية:(15).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 266

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

حينئذٍ السلامة، والغالب كالمتحقق بخلاف الجيش الذي لا يؤمن فيه عليهما وهو السريّة لأن في إخراجهما تعريض المصحف للاستخفاف، وتعريض المرأة للفساد والضياع. وقد روى الجماعة إلاّ الترمذي عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن (إلى أرض العدو)

(1)

. وفي لفظ لمسلم عنه أيضاً: قال: قال عليه الصلاة والسلام: «لا تُسافروا بالقرآن، فإني لا آمن أن يناله العدو» . ويجوز للعجائز أن يخرجن في العسكر العظيم لإقامة عملٍ يليق بهن كالطبخ والسَّقي والمداواة، لأن خروج النساء مع النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مشهورٌ. ولا يباشِرْنَ القتال، لأنه يدلّ على ضَعْفِنَا إلاّ للضَّرُورَة.

وكُرِه الجُعْل

(2)

، إن وُجِدَ للمسلمين فيء، فليس للإمام أن يضرب الجُعْل على الناس للذين يخرجون إلى الجهاد، وهذا لأنه يشبه الأجرة على الطاعة، وتمحّض الأجرة حرامٌ، فما أشبهها يكره. ولأن بيت المال مُعَدٌ لنوائب المسلمين، وهذا من جملتها، فعلى الإمام كفايتهم منه.

وأمّا إن لم يُوجَد فيءٌ فلا بأس بتقوية القاعد المجاهد لقول ابن عبّاس أنه عليه الصلاة والسلام استعار من صفوان بن أميّة أَدْرُعاً وسلاحاً في غزوة حُنَيْن فقال: يا رسول الله أَعَارِيَّةٌ مُؤَدّاةٌ؟ قال: «نعم» . رواه أحمد والحاكم وقال: حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم ولم يُخَرِّجاه

(3)

. ورواه ابن حِبَّان في «صحيحه» عن صفوان بن أُمَيَّة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين بعيراً وثلاثين دِرْعاً. قال: قلت: أَعَارِيَّةٌ مُؤَدّاةٌ يا رسول الله؟ قال: «نعم» .

وكان عمر يُغْزِي العَزَبَ

(4)

عن ذي الحليلة

(5)

، ويأخذ فرس المقيم فيعطيه

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط، وهى صحيحة لموافقتها لما في صحيح مسلم 3/ 1490، كتاب الإمارة (33)، باب النهي أَن سافر بالمصحف إلى أَرض الكفار إذا خيف وقوعه بأَيديهم (24)، رقم (92 - 1869).

(2)

الجُعْل: ما جُعِل على العمل من أَجرٍ أَو رِشوَة. المعجم الوسيط ص 126، مادة (جعل).

(3)

عبارة المخطوط: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجه، وعبارة المطبوع: حديث صحيح على شرط البخارى ومسلم ولم يخرِّجاه. والصواب ما أثبتناه من المستدرك 2/ 47.

(4)

في المطبوع: الأعزاب، والمثبت من المخطوط. معنى العَزَب: من لا زوج له، رجلًا كان أَو امرأَة. المعجم الوسيط ص 598، مادة (عزب).

(5)

الحليلة: الزوجة. المعجم الوسيط ص 194، مادة (حَلَّ). أي يفضل في الغزو العزاب على المتزوجين.

ص: 267

وَيُصالِحُهُمْ إِنْ كَانَ خَيرًا، وَبِمَالٍ عِنْدَ الحَاجَةِ

===

المسافر. رواه ابن أبي شَيْبَة والواقدي، ولأنه إعانة على البِرّ، وجهاد بالمال وكلاهما منصوصان.

وأحوال الناس في الجهاد تتفاوت، فمنهم من يقدر (عليه)

(1)

بالنفس والمال لقدرته عليهما، ومنهم من يقدر عليه بالنفس بُقوَّتِهِ دون المال لفقده، ومنهم من يقدر عليه بماله دون النفس لعجزه. فيجهّزُ الغنيُّ بماله الفقيرَ القادر، حتّى يكون الخارج مجاهداً بنفسه، والقاعد بماله. والمؤمنون كالبنيان يَشُدُّ بعضهم بعضاً.

(وَيُصَالِحُهُمْ) بلا مالٍ على مدّة يراها (إِنْ كَانَ) الصُّلْح (خَيْراً) للمسلمين لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}

(2)

وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة على أن يضعوا الحرب عشر سنين كما روى ذلك أبو داود. وكان في ذلك نظرٌ للمسلمين، لأنه كان بين (أهل)

(3)

مكة وبين أهل حُنَين مواطأةٌ، أي موافقة، وفي نسخة: مُؤَاخاةٌ.

(وَ) يصالحهم (بِمَالٍ) يؤخذ (منهم)

(4)

للمسلمين (عِنْدَ الحَاجَةِ) لأنه لمّا جازت المصالحة بغير مالٍ، فبالمال أولى. وقيّد بالحاجة، لأنه لو لم يكن لهم حاجة لا يجوز، لأنه ترك الجهاد صورةً ومعنىً، ولقوله تعالى:{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَونَ}

(5)

. ثم المأخوذ من المال يُصْرَف مصارف الجزية، إذا لم ينزل المسلمون بساحتهم بل أرسلوا رسولاً، لأنه مأخوذٌ بقوة المسلمين كالجزية، وأمّا إذا نزلوا بدار الحرب وأحاطوا بهم ثم صالحوهم على مال، فهو غنيمة يخمِّسها الإمام ويَقْسِم الباقي بينهم لكونه مأخوذاً بالقهر.

ولو حاصر العدوّ المسلمين، وطلبوا الصلح بمالٍ يأخذونه من المسلمين، لا يفعل ذلك (الإمام)

(6)

، لما فيه من إعطاء الدَّنيّة وإلحاق المذلة بالمسلمين، إلاّ إذا خاف الهلاك، لأن رفع الهلاك بأي طريق أمكن واجبٌ.

وقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب أن يصرف الكفّار عن المسلمين بثلث ثمار المدينة كلَّ سنة. فقال سعد بن مُعَاذ، وسعد بن عَبَادة: يا رسول الله، إنْ كان هذا عن

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

سورة الأنفال، الآية:(61).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(5)

سورة محمد، الآية:(35).

(6)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 268

وَنَبَذَ إِنْ كانَ هو أَنْفَعَ. وَيُقَاتِلُهُمْ قَبْلَ نَبْذٍ إنْ خَانُوا.

وَصُولِحَ المُرتَدُّ بِلا مَالٍ، وَإنْ أُخِذَ لا يُرَدُّ. وَلا يُبَاعُ سِلاحٌ وَحَدِيدٌ وَخَيلٌ مِنْهُمْ، وَلَوْ بَعْدَ صُلْحٍ.

===

وحي فامض بما أُمِرْتَ بِهِ، وإن كان رأياً رأيته، فقد كنّا في الجاهلية لم يكن لنا ولا لهم دين، وكانوا لا يُطْعَمُون من ثمار المدينة إلاّ شراءً أو قِرَىً، فإذا أعزّنا الله وبعث فينا رسوله نعطيهم الدَّنيَّة لا نعطيهم إلاّ السيف. فقال عليه الصلاة والسلام:«إني رأيت العرب رَمَتْكُم عن قوسٍ واحدٍ فأحببت أن أصرفهم عنكم، فإن أبيتم ذلك فأنتم وذاك»

(1)

.

(وَنَبَذَ) أي طرح الإمام أو نائبه صلحهم (إِنْ كانَ هو) أي النبذ (أَنْفَعَ) لأنّ المصلحة لمّا تبدّلت كان النبذ جهاداً صورةً ومعنىً، وتركه تَرْك الجهاد صورةً ومعنىً. ثم لا بدّ من إعلامهم بالنبذ لقوله تعالى:{وَإِمّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِينَ}

(2)

أي على سواءٍ منكم ومنهم في العلم بذلك، وتحرّزاً عن الغدر، لقوله عليه الصلاة والسلام:«لكلّ غادرٍ لواء يوم القيامة يُعْرَف به» . رواه أحمد والشيخان.

(وَيُقَاتِلُهُمْ قَبْلَ نَبْذٍ إنْ خَانُوا) لأن النبذ لنقض العهد، وقد انتقض. وتوضيحه أنه يقاتلهم بلا نبذ إن خان مَلِكُهم أو أحدٌ منهم بعلمه، لأنه عليه الصلاة والسلام غزا قريشاً بلا إنذارٍ إليهم لمّا نقضوا العهد الذي جُعِل بينه وبينهم في عام الحديبية.

(وَصُولِحَ المُرْتَدُّ بِلَا مَالٍ) وكذا الباغي، لأن الإسلام من المرتدّ مرجوٌّ، وكذا الرجوع إلى الحقّ من الباغي، فجاز

(3)

تأخير القتال عنهم طمعاً فيه إذا كان في التأخير مصلحةٌ للمسلمين كما في أهل الحرب، وإ نما لا يؤخذ منهم مالٌ، لأن أخذه يشبه أخذ الجزية من جهة أنّ كلاًّ منهما في مقابلة ترك القتال، وهم لا يُقْبَل منهم الجزية فكذا هذا. (وَإِنْ أُخِذَ) المال من المرتدّ على الصلح (لَا يُرَدُّ) عليه، لأنّ أموالهم غير معصومة فجاز أخذها ابتداء بغير رضاهم، ولأنّ في الرَّدِّ عليهم معونةً لهم.

(وَلَا يُبَاعُ سِلَاحٌ وَحَدِيدٌ وَخَيْلٌ مِنْهُمْ) لما روى الطَّبراني في «معجمه» ، والبَيْهَقِي في «سننه» عن عِمْران بن حُصَيْن أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السلاح في الفتنة. ولأنّ فيه تقوية لهم على الحرب (وَلَوْ) كان البيع (بَعْدَ صُلْحٍ) لأنّ

(1)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" 6/ 28، رقم (540) بلفظ قريب، وقال الهيثمى في "مجمع الزوائد" 6/ 133: ورجال البزار والطبراني فيها محمد بن عمرو، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات.

(2)

سورة الأنفال، الآية:(58).

(3)

في المطبوع: فجاء، والمثبت من المخطوط.

ص: 269

وَصَحَّ أَمَانُ حُرٍّ وَحرَّةٍ،

===

الصلح على شرف النقض أو الانقضاء، ولا يُمْنَعُ أحدٌ من إدخال الطعام والثياب بلادهم. والقياس أن يُمْنَعَ، لأن فيه تقويتهم إلاّ أنا تركناه، لما رواه البَيْهَقي في «دلائل النبوة» عن أبي هُرَيْرَةَ فذكر قصة إسلام ثُمَامة في آخرها. فقال: إني والله ما صبوت ولكن أسلمت وصدّقت محمداً وآمنت به، والذي نفسُ ثُمَامة بيده لا تأتيكم حبةٌ من اليَمَامة ما بقيت حتى يأذن فيها محمدٌ صلى الله عليه وسلم. وانصرف إلى بلده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثُمَامة يخلِّي إليهم حمل الطعام، ففعله عليه الصلاة والسلام.

ولو شرطوا (في الصلح)

(1)

أن يردّ عليهم الإمام من جاء منهم مسلماً بطل الشرط عندنا، وبه قال مالك. وقال الشافعي وأحمد في رواية: يجب الوفاء به في الرجال دون النساء، لأن سُهَيْلاً شرط على النبيّ صلى الله عليه وسلم في صلح الحُدَيْبِيَة أنّ من جاء منهم يردّه إليهم. ولنا: قوله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلى الكُفَّارِ}

(2)

والشرط الذي (وقع)

(3)

في صلح الحُدَيْبِيَة انتسخ بما تلونا، لأنّه كان شاملاً للذكور والإناث.

(وَصَحَّ أَمَانُ حُرَ وَحُرَّةٍ) لكافرٍ أو لجماعةٍ أو لأهل حصنٍ أو مدينة مؤبداً أو مؤقتاً، لما روى البخاري في الجهاد ومسلم في الحج من حديث عليّ بن أبي طالب قال: ما كتبنا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ القرآن، وما في هذه الصحيفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المدينة حَرَمٌ، فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى مُحْدِثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفاً

(4)

ولا عَدْلاً

(5)

، وذمة المسلمين واحدةٌ يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفاً ولا عَدْلاً». والذِّمة: العهد، وأدناهم: أقلّهم، وهو الواحد من الدُّنُوِّ. وفسَّره محمد: بالعبد، فجعله من الدناءة. وأخفرته: إذا نقضت عهده وغدرت به.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سورة الممتحنة، الآية:(10).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

الصَّرْف: التوبة، وقيل النافلة. النهاية 3/ 24.

(5)

العَدْل: الفِدْية. وقيل الفريضة. النهاية 3/ 24.

ص: 270

وَإِنْ كَانَ شَرًّا نَبَذَ وَأدَّبَ. وَلَغَا أَمَانَ ذِمِّيٍّ وَأَسِيرٍ وَتَاجِرٍ مَعَهُمْ.

وَمَنْ أسْلَمَ ثَمَّةَ ولَم يُهَاجِرْ إِلَينَا.

وَأَمَانَ صَبِيٍّ وعَبْدٍ مَحْجُورَيْنِ وَمَجْنُونٍ.

===

أما أمان الحرّ، فلأنه من أهل القتال ومنعة الإسلام. وأمّا أمان الحرّة، فلما في «الصحيحين»: أنّ أمَّ هاناء قالت: يا رسول الله زعم ابن أمِّي عليّ بن أبي طالب أنه قاتلٌ رجلاً أجَرْتُهُ، فلانٌ ابن هُبَيْرَة، فقال عليه الصلاة والسلام:«قد أجرنا من أجَرْتِ، وأَمَّنَّا من أمَّنْتِ» . وفي «معجم الطَّبَراني» عن أنس بن مالك أنّ زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أجارت أبا العاص، فأجاز النبيّ صلى الله عليه وسلم جوارها. وأنّ أمّ هاناء بنت أبي طالب أجارت عَقِيلاً، فأجاز النبيّ صلى الله عليه وسلم جوارها. وقال:«يجير على المسلمين أدناهم» .

(وَإِنْ كَانَ) أمان الحرّ أو الحرّة (شَرّاً نَبَذَ) الإمام أو نائبه الأمان رعايةً لمصلحة المسلمين، وتحرّزاً عن الغدر. (وَأدَّبَ) الحرّ والحرّة لاستبداده برأيه في الحرب دون الإمام، بخلاف ما إذا كان الأمان خيراً حيث لا يُؤَدَّبُ واحدٌ منهما، لأنه ربما تفوت (المصلحة)

(1)

بالتأخير فيكون معذوراً (وَلَغَا أَمَانَ ذِمِّيَ) لأنه يُتَّهم لكونه يوافقهم اعتقاداً، ويميل إليهم فساداً إلاّ إذا أمره مسلمٌ أنْ يُؤَمِّنَهم فيجوز أمانه، لزوال ذلك المعنى برأي المسلم. وعن مالك: يصحّ أمانه، لأن له ذمة فكان تابعاً للمسلمين، والمشهور عنه: أنه لا يصحّ. (وَ) لغا أمان (أَسِيرٍ وَ) أمان (تَاجِرٍ) مسلمٍ (مَعَهُمْ وَ) أمان (مَنْ أسْلَمَ ثَمَّة) أي في دار الحرب (ولَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا) لأن هؤلاء مقهورون تحت أيديهم فلا يخافونهم، والأمان إنَّما يكون من الخوف.

ولغا أمان مسلمٍ إذا دخل عسكرَ أهل الحرب في دار الإسلام وأمِنَهُمْ، لأنه مقهورٌ بمنعتهم. وشُرِط صيرورة دار الإسلام دار الحرب: زوال الأمن من المسلمين على أموالهم وأنفسهم، واتِّصال الدَّار بالدّار بلا فصلٍ بينهما، وظهور أحكام الكفر فيها عند أبي حنيفة. واكتفيا بالشرط الثالث في صيرورتها دار حربٍ، كعكسه وهو صيرورة دار الحرب دار الإسلام، فإنه بظهور أحكام الإسلام فيها من غير شرطٍ آخر.

(وَ) لغا (أَمَانَ صَبِيَ و) أمان (عَبْدٍ مَحْجُورَيْنِ) عن القتال (وَ) أمان (مَجْنُونٍ) لأن قول الصبيّ والمجنون لا يعتبر كما في الطلاق والعتاق. وقال محمد: يصحّ أمان الصبيّ المحجور، وهو قول مالك وأحمد، قيّد بكونه محجوراً عن القتال، لأنه لو

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 271

‌فَصلٌ في المَغْنَم وقِسْمَتِهِ

ما فُتِحَ عَنْوَةً، قَسَمَهُ الإمَامُ بَيْنَ الجَيْشِ، أَوْ أَقَرَّ أَهْلَهُ بِجِزْيَةٍ وَخَرَاج

===

كان مأذوناً له فيه، فالأصحّ أنه يصحّ أمانه اتفاقاً.

وقال محمد أيضاً: يصحّ أمان العبد المحجور عن القتال، وهو قول أبي يوسف فيما ذكر الكَرْخِيّ، وقول مالك والشافعي وأحمد لقوله عليه الصلاة والسلام:«ذمة المسلمين واحدةٌ، يسعى بها أدناهم»

(1)

. ولما روى عبد الرَّزَّاق وابن أبي شيبة في «مصنفيهما» عن مَعْمَر، عن عاصم بن سليمان، عن فُضَيل

(2)

بن يزيد الرَّقاشي قال: شهدت قريةً من قرى فارسٍ يقال لها: شاهرتا، فحاصرناها شهراً حتى إذا كنّا ذات يومٍ وطمعنا أن نصبِّحهم انصرفنا عنهم عند المقيل، فتخلّف عبدٌ منا فاستأمنوه. فكتب إليهم في سهمٍ أماناً ثم رمى بها إليهم، فلما رجعنا إليهم خرجوا في ثيابهم ووضعوا أسلحتهم. فقلنا: ما شأنكم؟ قالوا: آمَنْتُمونا. وأخرجوا إلينا السهم فيه كتاب أمانهم. فقلنا: هذا عبدٌ، والعبد لا يقدر على شيءٍ. قالوا: لا ندري عبدكم من حرّكم، وقد خرجنا بأمانٍ، فكتبنا إلى عمر رضي الله عنه، فكتب (عمر)

(3)

: إن العبد المسلم من المسلمين، وأمانه أمانهم.

ولأبي حنيفة وأبي يوسف: أن الأمان جهادٌ معنىً، وهو محجورٌ عليه عن الجهاد، فيكون محجوراً عليه عن الأمان. وحديث الفُضَيل محمولٌ على المأذون له في القتال دون المحجور عليه، والله تعالى أعلم.

فصل ـي المَغْنَمِ وَقِسْمَتِهِ

(ما فُتِحَ) من البلاد والأراضي (عَنْوَةً) أي قهراً (قَسَمَهُ الإمَامُ بَيْنَ الجَيْشِ) كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض خَيْبَر كما سيأتي (أَوْ أَقَرَّ أَهْلَهُ بِجِزْيَةٍ) على رؤوسهم (وَخَرَاج) على أَراضيهم، كما فعل عمر بسواد العراق في جماعةٍ من الصحابة كما سيجيء.

وقيل: الأوّل هو الأولى عند حاجة الغانمين، والثاني عند عدم حاجتهم ليكون

(1)

أَخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 12/ 41 - 42، كتاب الفرائض (85)، باب إِثم من تبرأَ من مواليه (21)، رقم (6755).

(2)

وفي المخطوطة: فضل. وما أثبتناه الصواب لموافقته لما في "مصنف عبد الرزاق" 5/ 222.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع وهو في "المصنف" الموضع السابق.

ص: 272

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

عُدَّةً في الزمان الآتي. وقال الشافعي وأحمد: يَقْسِم الأراضي ولا يتركها في أيديهم. وقال مالك في المشهور عنه: وهي وقفٌ على مصالح المسلمين، وعنه: أن الإمام يقسمها كمذهب الشافعي، وعنه: أنه مخيّر كمذهبنا.

ولنا: ما روى البخاري في «صحيحه» عن أسلم أنّ عمر قال: والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس (بَبَّاناً)

(1)

ليس لهم شيء، ما فُتِحَت عليَّ قرية إلاّ قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيْبَر، ولكني أتركها لهم خِزانة يقتسمونها. وما في «الموطأ»: أخبرنا زيد بن أسلم، عن أبيه قال: سمعت عمر يقول: لولا أن نترك آخر الناس لا شيء لهم، ما افتتح المسلمون قرية إلاّ قسمتها سُهماناً كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيْبر سُهماناً.

وروى أبو داود في «سننه» من حديث سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يَسَار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أفاء الله عليه خَيْبَر، قسمها ستة وثلاثين سهماً، جمع فعزل للمسلمين الشطر ـ ثمانية عشر سهماً ـ يجمع كل سهم مئة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم معهم له سهمٌ كسهم أحدهم، وعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهماً، وهو الشطر الآخر ـ لنوائبه وما ينزل به من أمر المسلمين، فلمّا صارت الأموال بيد النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين لم يكن لهم عمّال يكفونهم عملها ـ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود فعاملهم. زاد أبو عُبَيْد في «كتاب الأموال»: فعاملهم على نصف ما يخرج منها، فلم يزل على ذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى كان عمر، فكثر العُمّال في المسلمين وقووا على العمل، فأجلى عمر اليهود إلى الشام وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم.

وروى ابن سعد في «الطبقات» وابن زَنْجُويه في كتاب «الأموال» في ترجمة عثمان بن حُنَيْف: أنّ عمر بن الخطاب وجّه عثمان بن حُنَيف على خَرَاج السواد، ورزقه كل يوم ربع شاةٍ وخمسة دراهمٍ، وأمره أن يمسح السواد عامره وغامره، ولا يمسح سَبْخَةً

(2)

ولا تلاً ولا أجَمَةً

(3)

ولا مستنقعَ ماءٍ ولا ما لا يبلغه الماء. فمسح

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، وهي محرّفة في المطبوع إِلى بياتًا والصواب ما أَثبتناه لموافقته لما في صحيح البخاري "فتح الباري" 7/ 490، كتاب المغازي (64)، باب غزوة خيبر (38)، رقم (4235)، ومعنى الببَّان: المعدم الذي لا شيء له.

(2)

السَّبْخَةُ: أَرض ذات ملحٍ ونزٍّ لا تكاد تُنْبِتُ. المعجم الوسيط ص 413، مادة (سبخ).

(3)

الأَجَمَة: الشجر الكثير الملتف. المعجم الوسيط ص 7، مادة (أَجم).

ص: 273

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

عثمان كل شيء دون الجبل ـ يعني حُلْوان ـ إلى أرض العرب، وهو أسفل الفرات، وكتب إلى عمر: إني وجدت كلَّ شيء بلغه الماء من عامرٍ وغامرٍ ستةً وثلاثين ألفَ ألفِ جَريبٍ. وكان ذراع عمر الذي مسح به السواد: ذراعاً وقبضة. فكتب إليه عمر أن افرض الخَرَاج على كل جَرَيبٍ: عامرٍ أو غامرٍ، عمله صاحبه أو لم يعمله: درهماً وقفيزاً.

وافرض على الكَرْم، على كل جَرَيْبٍ: عشرة دراهم، وعلى الرِّطاب: خمسة دراهم، وأطعمهم النَّخل والشجر (كُلَّه)

(1)

. وقال: هذا قوة لهم على عمارة بلادهم. وفرض على رقابهم، على المُوسِر: ثمانية وأربعين درهماً، وعلى من دونه: أربعة وعشرين درهماً، وعلى من لم يجد شيئاً: اثني عشر درهماً. وقال: درهمٌ لا يُعْوِزُ رجلاً في (كل) شهرٍ. ورفع عنهم (عمر بن الخطاب)

(2)

الرِّق بالخَرَاج الذي وضعه في رقابهم، وجعلهم أَكَرَة

(3)

في الأرض، وحُمِل من خَرَاج سواد الكوفة إلى عمر في أول سنة ثمانون ألفَ ألفِ درهمٍ، ثم حُمِل من قابل مئةٌ وعشرون ألفَ ألفِ درهمٍ، ثم لم يزل كذلك

(4)

. أي في التزايد. وفي «المحيط» : إن الجَريب: ستون ذراعاً بذراع الملك كسرى، وهو يزيد على ذراع العامة بقبضة، انتهى. والقفيز الهاشمي: أربعة أَمْنَاء، والمَنُّ: مئتان وستون درهماً.

وفي كتب السير والتواريخ: أن عمر استشار الصحابة مراراً، ثم جمعهم فقال: أما إني تلوت آية من كتاب الله استغنيت بها عنكم، ثم تلا قوله تعالى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهلِ القُرَى} إلى قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ}

(5)

إلى قوله: {وَالَّذِين تَبَوَّؤُا الدَّارَ والإِيمَانَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} فقال: أَرى لمن بعدكم نصيباً في الفيء، فلو قسمتها بينكم لم يكن لمن بعدكم في الفيء نصيبٌ بها عليهم، وجعل الجزية على رؤوسهم، والخراج على أراضيهم ليكون ذلك لهم ولمن يأتي بعدهم من المسلمين. ولم يخالفه في ذلك إلاّ نفرٌ يسيرٌ، منهم بلال، ولم يزالوا على خلافه حتى دعا عليهم على المنبر: اللهم اكفني بلالاً وأصحابه، فما حال عليهم الحول وفيهم عينٌ تَطْرِف، أي: ماتوا جميعاً.

(1)

ما بين الحاصرتين من "كتاب الأموال" لابن زنجويه 1/ 213.

(2)

الأَكَرَة جمع الأَكَّار، وهو الحرَّاث. القاموس المحيط ص 43، مادة (الأُكْرَة).

(3)

أي ما يعادل اليوم 815.39 غرامًا. معجم الفقهاء ص 460.

(4)

سورة الحشر، الآيتان:(7 و 8).

(5)

سورة الحشر، الآيتان:(9 و 10).

ص: 274

وَقَتَلَ الأَسْرَى، أوِ اسْتَرَقَّهُمْ، أوْ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً لنا.

وَنُفِيَ مِنْهُمْ

===

(وَقَتَلَ الأَسْرَى) إذا لم يسلموا سواء كانوا من مشركي العرب، أو من المرتدين، أو من غيرهم (أوِ اسْتَرَقَّهُمْ أوْ تَرَكَهُمْ أَحْرَاراً (ذِمَّةً)

(1)

لنا) أي مضروباً عليهم الجزية إذا كانوا من غير مشركي العرب وغير المرتدين. أمّا القتل فلأَنَّة لحسم مادة فسادهم، ولأنه صلى الله عليه وسلم قتل أُسارى بني قُرَيْظَةَ، وكانوا ما بين الثمان مئة والتسع مئة. وأمّا الاسترقاق أو تركهم أحراراً ذمة لنا، فلأن في ذلك منفعةً للمسلمين مع دفع شرّهم، ولما فعل عمر بأهل سواد العراق. قيّدنا بعدم إسلامهم، لأن الإمام ليس له فيمن أسلم منهم إلا الاسترقاق، لأن قتل الأسير أو وضع الجزية عليه بعد إسلامه لا يجوز. وقيّدنا استرقاقهم أو تركهم أحراراً بغير المشركين وغير المرتدّين، لأن هاتين الفرقتين ليس فيهم إذا لم يسلموا إلاّ القتل.

روى الشيخان عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه مِغْفَرٌ

(2)

، فلمّا نزعه جاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله ابن خَطَلٍ متعلِّقٌ بأستار الكعبة. فقال: «اقتلوه» . وروى أصحاب «السنن الأربعة» أنّ عطِيَّة القُرَظِيّ قال: كنت فيمن أُخِذَ من سبي قُرَيْظَة، فكانوا يقتلون من ثبت، ويتركون من لم يثبت، فكنت فيمن تُرِكَ. وروى البيهقي في «دلائل النبوة» عن جابر قال: رُمِيَ سعد بن مُعَاذ يوم الأحزاب فقطعوا أَكْحَلَه، فحسمه

(3)

رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، فانتفخت يده (فتركه)

(4)

فنزفه الدَّم فحسمه أخرى فانتفخت. فلمّا رأى سعدٌ ذلك قال: اللَّهم لا تُخرج نفسي حتى تقرّ عيني من بني قُرَيْظَة. فاستمسك عرقه فما قطر قطرة حتى نزلوا على حكم سعد بن مُعَاذ، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم أن يُقْتَلَ رجالهم، وتُسْبَى نساؤهم، وذراريهم يستعين بهم المسلمون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد:«لقد أصبت حكم الله فيهم» . وكانوا أربع مئة، فلمّا فرغ من قتلهم انفتق

(5)

عرقه فمات. والأَكْحَل: عِرْق في اليد، وهو عرق الحياة.

(وَنُفِيَ) بضم النون وكسر الفاء أي مُنِعَ (مَنُّهُمْ) بفتح الميم وتشديد النون أي

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

المِغفَرُ: زرد ينسج من الدُّروع على قدر الرأْس يُلْبَسُ تحت القَلَنْسوة. المعجم الوسيط ص 656، مادة (غفر).

(3)

حَسَمَ العِرْق: قطعه وكواه لئلا يسيل دمه. المعجم الوسيط ص 173، مادة (حسم).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(5)

انفتق: انشقَّ. المعجم الوسيط ص 672، مادة (فتق).

ص: 275

وَفِدَاؤُهُمْ وَرَدُّهُمْ إِلَى دَارِهِمْ،

===

تركهم من غير أن يُؤْخَذَ شيءٌ منهم. وقال الشافعي: يجوز لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمّا فِدَاءً}

(1)

، ولما روى البخاري في «صحيحه» أنّ عمر بن الخطَّاب أصاب جاريتين من سَبْي حُنَيْن، فوضعهما في بعض بيوت مكة. قال: فمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبي حُنَيْنٍ، فجعلوا يسعون في السكك، قال عمر: يا عبد الله انظر ما هذا؟ فقال: مَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السَّبْي. قال: اذهب فأرسل الجاريتين.

ولنا: قوله تعالى في سورة براءة: {فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}

(2)

وهي آخر سورة نزلت، فكان ناسخاً لآية المنّ والفِدَاء، ولما وقع في غزوة حُنَيْن لتقدّمهما.

(وَ) مُنِعَ (فِدَاؤُهُمْ) بمالٍ أو بأَسيرٍ مسلمٍ، لأنهم يعودون حرباً على المسلمين، ودفع شرّ حِرَابتِهم خيرٌ من استنفاذ الأسير المسلم من يدهم. (وَ) مُنِعَ (رَدُّهُمْ إِلَى دَارِهِمْ) لأنّ فيه تقويتهم على المسلمين. وقال أبو يوسف ومحمد: يُفَادى بهم أُرسارى المسلمين. وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يجوز المفاداة بنسائهم. وقال أحمد أيضاً: لا يجوز المفاداة بصبيانهم. وعن أبي حنيفة: أنه لا بأس بأن يُفَادى بهم أُسارى المسلمين، لأن تخليص المسلم من أيديهم واجبٌ ولا يُتَوَصَّلُ إليه إلاّ به.

وفي «السير الكبير» : إنّ هذا قولهما، وأظهر الروايتين عن أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يجوز المفاداة بأُسارى المسلمين قبل القسمة لا بعدها، لأن الثابت بعد القسمة حقيقة الملك، فلا يجوز إبطاله بدون رضى مالكه بعوض كسائر المعاوضات. وأمّا المفاداة بمالٍ فلا يجوز في المشهور من المذهب، لقوله تعالى:{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ}

(3)

الآية، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«لو نزل بنا عذابٌ لَمَا نجى إِلاّ عمر»

(4)

. وذلك لأنه أشار بقتلهم. وفي «السير الكبير» : ولا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة استدلالاً بأُسارى بدر.

وللإمام فداءُ أُسارانا بهم في الأظهر من الروايتين عن أبي حنيفة، وبه قالا لما روى مسلم من حديث سَلَمَة بن الأَكْوَع قال: خرجنا مع أبي بكر ـ أمَّره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فغزونا فَزَارة، فلمّا كان بيننا وبين الماء ساعة أمرنا أبو بكر فَعَرَّسْنَا

(5)

، ثم شنّ الغارة أي صبَّها عليهم من كل وجهٍ، فورد الماء، فقتل من قتل عليه

(1)

سورة محمد، الآية:(4).

(2)

سورة التوبة - براءة -، الآية:(5).

(3)

سورة الأنفال، الآية:(68).

(4)

لم نجده في الكتب المتوفرة لدينا.

(5)

أَعرس المسافرون: نزلوا آخر الليل للرّاحة. المعجم الوسيط ص 592، مادة (عرس).

ص: 276

وَقِسْمَةُ مَغْنَمٍ ثَمَّةَ، إِلَّا إِيدَاعًا.

===

وسبى، ونظرت إلى عُنُقٍ

(1)

من الناس فيهم الذَّرَارِيُّ

(2)

، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلمّا رأوا السهم وقفوا، فجئت بهم أسوقهم، وفيهم امرأة من بني فَزَارة، عليها قَشْعٌ من أَدْم ـ والقَشْعُ: النَّطْع

(3)

ـ معها ابنةٌ لها من أحسن الناس، فسقتهم حتّى أتيت بهم أبا بكر، فنفلني ابنتها. فقدِمْنا المدينة، فلقيني رسول الله، صلى الله عليه وسلم في السوق فقال:«يا سلمة هب لي المرأة، لله أبوك» فقلت: هي لك يا رسول الله فَوَاللَّهِ ما كشفتُ لها ثوباً. فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ففدى بها ناساً من المسلمين كانوا أُسِرُوا بمكَّة. وروى مسلم أيضاً وأبو داود والترمذي وقال: حسنٌ صحيحٌ، واللفظ له عن أبي المُهَلَّب، عن عِمْرَان بن حُصَيْن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجلٍ من المشركين.

وعندنا تذبح وتحرق مواشٍ (شقّ)

(4)

نقلها، لأن في تركها على حالها كما قال الشافعي، تقوية لهم، وفي عقرها كما قال مالك، تعذيباً ومُثْلة بها، والذبح للمصلحة جائز، وإلحاق الغيظ بهم من أقوى المصالح، وهو مندوبٌ بالنص، فصارت كسلاحٍ يمكن حرقه فإنه يحرق اتفاقاً لئلا يستعينوا به فيما بعد، فإن لم يمكن حرقه دفن في مَضْيَعَةٍ

(5)

بحيث لا يهتدون إليه، أو ألْقِيَ في البحر. ودليل الشافعي ما في «مصنف ابن أبي شَيْبَة»: أنّ أبا بكر بعث جيوشاً إلى الشام فخرج يتبع يزيد بن أبي سُفْيان، قال: إني أوصيك لا تقتلن صبياً ولا امرأة إلى أن قال: ولا بقرة إلاّ لمأكلةٍ. لكنه يحمل على ما يمكن نقلها جمعاً بين الأقوال. وأمّا ما في «الهداية» نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذبح الحيوان إلا لأكْلِه، فغيرُ معروفٍ.

(وَ) مُنِعَ (قِسْمَةُ مَغْنَمٍ ثَمَّة) أي في دار الحرب (إِلاَّ إيدَاعاً) وصورتها أن لا يكون للإِمام من بيت المال ما يحمل عليه الغنيمة، فيقسمها بين الغانمين ليحملوها إلى دار الإسلام، ثم يرتجعها منهم فيها. وقال الشافعي: لا بأس بالقسمة في دار الحرب بعدما تمّ انهزام المشركين، وبه قال عطاء. وقال مالك: يعجل قسمة الأموال في دار الحرب، ويؤخر قسمة السبي إلى دار الإسلام. وأصل هذا أن الملك لا يثبت للغانمين قبل

(1)

العُنُق: الجماعة من الناس. المعجم الوسيط ص 632، مادة (عنق).

(2)

سبق شرحها ص 264، التعليقة رقم (1).

(3)

النَّطْعُ: بِسَاطٌ من جلد. المعجم الوسيط ص 930، مادة (نطع).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(5)

المَضْيَعَةُ: المفازة الصحراء المنقطعة يضيع فيها الإنسان وغيره. المعجم الوسيط ص 547، مادة (ضاع).

ص: 277

والرِدْءُ وَمَدَدٌ لَحقَهُمْ ثَمَّةَ كَمُقَاتِل فِيهِ، لا سوقِيّ لَمْ يُقَاتِلْ، وَلا مَنْ مَاتَ ثَمَّةَ.

وَيُورَثُ قِسْطُ مَنْ مَاتَ هُنَا.

وَحَلَّ لَنَا ثَمَّةَ طَعَامٌ وَعَلَفٌ وَدُهْنٌ وَحَطَبٌ وَسِلاحٌ بِهِ حَاجَةٌ، لا بَعْدَ الخُرُوجِ مِنْهَا.

===

الإحراز بدار الإسلام عندنا، وعندهم يثبت بالاستيلاء بعدما تمّ انهزام المشركين، وبه قال أحمد. ولنا: أن الاستيلاء بإثبات اليد، والنقل، إذ القوة لهم في دارهم، فصار القسم فيها كالقسم قبل الهزيمة. وأمّا قسمته عليه الصلاة والسلام غنائم خَيْبَر فيها، وغنائم بني المُصْطلِق في دارهم، فليس من محل الخلاف، لأنه عليه الصلاة والسلام لمّا فتح تلك البلاد صارت دار الإسلام ولا خلاف فيها، وإنما الخلاف فيما لم يصر دار الإِسلام.

(والرِدْءُ) مبتدأ وهو بكسر الراء وسكون الدال فهمزة، بمعنى العون ومنه قوله تعالى:{فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي}

(1)

(وَمَدَدٌ لَحِقَهُمْ ثَمَّةَ) أي في دار الحرب (كَمُقَاتِلٍ) خبر المبتدأ (فِيهِ) أي في المغنم، خلافاً للشافعي. وقد مهدنا الأصل في ذلك. (لا سُوقِيّ لَمْ يُقَاتِلْ) أي ليس الذي يبيع في العسكر إذا لم يقاتل في حقّ المغنم كالمقاتل، لأنّ سبب الاستحقاق وهو المجاوزة على قصد المقاتلة لم يوجد، لأنه جاوز على قصد التجارة. قيّد بعدم القتال، لأنّ المقاتل منهم يستحق من الغنيمة، لأنه بالمباشرة ظهر أنّ قصده القتال، والتجارةُ تبعٌ له فلا يضره، كالحاج إذ اتَّجر في طريق الحج، فإنه لا ينقص أجره. وأمّا ما في «الهداية» من قوله عليه الصلاة والسلام:«الغنيمة لمن شهد الوقعة» ، فَرَفْعُه غير معروفٍ بل موقوفٌ على ابن عمر كما ذكره البَيْهَقِيّ.

(وَلَا مَنْ مَاتَ ثَمَّةَ) أي في دار الحرب من المقاتِلة، لأن الإرث يجري في الملك، ولا ملك للغزاة في الغَنِيْمة قبل أن تخرج إلى دار الإسلام، وإنّما لهم الاستحقاق (وَيُورَثُ قِسْطُ مَنْ مَاتَ) من المقاتلة (هُنَا) أي في دار الإسلام. وقال الشافعي: يورث من مات بعد استقرار الهزيمة لثبوت الملك به عنده.

(وَحَلَّ لَنَا ثَمَّةَ) أي في دار الحرب (طَعَامٌ) سواء كان مهيّأً للأكل أو لم يكن: كالحبوب والبقر والغنم والإبل، لكن تردّ جلودها إلى الغنيمة. وهذا الحلّ في حقّ من يُسْهَم له في الغنيمة، ومن يُرْضخ

(2)

له منها غنياً كان أو فقيراً، وفي حقّ من معه من النساء والأولاد والمماليك. (وَعَلَفٌ وَدُهْنٌ وَحَطَبٌ وَسِلَاحٌ بِهِ حَاجَةٌ، لَا بَعْدَ الخُرُوجِ مِنْهَا) أي من دار الحرب لما روى مسلم عن عبد الله ابن مُغَفَّل قال: أصبت

(1)

سورة القصص، الآية:(34).

(2)

أَرضح له: أَعطاه قليلًا من كثير. المعجم الوسيط ص 350، مادة (رضخ).

ص: 278

وَمَنْ أسْلَمَ ثَمَّةَ عَصَمَ نَفْسَهُ وَطِفْلَهُ وَمَالًا مَعَهُ،

===

جِرَاباً

(1)

من شحمٍ يوم خَيْبَر فالتزمته، ثم قلت: لا أعطي في هذا اليوم أحداً شيئاً، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسماً.

زاد أبو داود الطيالسي في «مسنده» : قال له عليه الصلاة والسلام: «هو لك» . قال ابن القطَّان: وهذه الزيادة مفيدة، لأنّها نصٌّ في إباحته وهي «صحيحة» الإسناد. وروى البخاري في «صحيحه» عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه. وروى أبو داود في «سننه» عن محمد بن أبي مُجَالد، عن عبد الله بن أبي أوْفَى قال: قلت: هل كنتم تخمِّسون ـ يعني الطعام ـ على عهد رسول الله؟ فقال: أصبنا طعاماً يوم خيبر فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف. وروى البيهقي من حديث هاناء بن أمّ كلثوم: أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر: إنّا فتحنا أرضاً كثيرة الطعام والعَلَف، وكرهت أن أتقدّم في شيء من ذلك إلاّ بأمرك. فكتب إليه: دع الناس يأكلون ويَعْلِفُون، فمن باع شيئاً بذهب أو فضة ففيه خمسٌ لله وسِهام للمسلمين.

ولم يقيّد في «السير الكبير» حلّ انتفاع الطعام ونحوه بالحاجة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد لإطلاق ما روينا، ولقوله عليه الصلاة والسلام يوم خيبر:«كلوا واعْلِفوا ولا تحملوا» . رواه البيهقي في «المعرفة» . (وَمَنْ أْسْلَمَ ثَمَّة) أي في دار الحرب منهم قبل أن يأخذه المسلمون (عَصَمَ نَفْسَهُ) فلا يجوز قتله ولا استرقاقه. قال عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها عصموا مني دماؤهم وأموالهم»

(2)

. (وَ) عصم (طِفْلَهُ) لأنه تبعٌ له في الإسلام بخلاف ولده الكبير، فإنه حربي غير تابع له، وبخلاف زوجته وحملها فإنها حربية غير تابعة له في الإسلام، وحملها جزءٌ منها فيتبعها في الرِّقِّ (وَ) عصم (مَالاً مَعَهُ) لسبق يده الحقيقة عليه، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«من أسلم على شيءٍ أو مالٍ، فهو له»

(3)

رُوِيَ مسنداً ومرسلاً بسندٍ صحيح. فعن صخر بن عَيْلَة

(4)

: أنّ قوماً من بَنِي سُلَيم فرُّوا

(1)

الجِرَاب: وعاءٌ يحفظ فيه الزاد ونحوه. المعجم الوسيط ص 114، مادة (جرب).

(2)

صحيح البخاري (فتح الباري) 1/ 75، كتاب الإيمان (2)، باب فإِن تابوا وأقاموا الصلاة. (17)، رقم (25).

(3)

البيهقي في السنن الكبرى 9/ 113، كتاب السِّير، باب مَن أَسلم على شيء فهو له.

(4)

حُرِّفت في المطبوع إِلى صخر بن علية، وحُرِّفت في المخطوط إِلى صخر بن عبلة، والصواب ما أَثبتناه لموافقته لما في "مسند الإمام أَحمد" 4/ 310 و"تقريب التهذيب" ص 275، ترجمة رقم 2908.

ص: 279

أَوْ أَوْدَعَهُ مَعْصُومًا.

وَلِلفَارسِ سَهْمَانِ، وَلِلراجِلِ سَهْمٌ

===

عن أرضهم حين جاء الإسلام فأخذتها، فأسلموا فخاصموا فيها النّبي صلى الله عليه وسلم فردّها عليهم. وقال: «إذا أسلم الرجل (فهو)

(1)

أحق بأرضه وماله». رواه أحمد، وروى أبو داود معناه وفيه:«يا صخر إنّ القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم» .

(أَوْ أَوْدَعَهُ مَعْصُوماً) أي مسلماً أو ذمياً، لأنه في يده حكماً إذ يد المودَع كيد المودِع، لأنه عامل له في الحفظ وهي يدٌ محترمةٌ صحيحةٌ. قيّد بالوديعة، لأنّ ماله الذي في يد المعصوم غصباً، فيءٌ عند أبي حنيفة، لأن يده ليست كيد المالك. وقال محمد: لا يكون فيأ، لأن المال تابعٌ للنفس وقد صارت معصومةً بالإسلام. وأبو يوسف مع أبي حنيفة في رواية، ومع محمد في أخرى. وقيّد: بالمعصوم، لأن ماله الذي أودعه عند حربي فيءٌ اتفاقاً، لأن يده ليست محترمةً حتى جاز لنا التّعرض لها، وقيّد بالمال، لأن عقاره فيء، خلافاً لمالك والشافعي وأحمد (فإنهم قالوا)

(2)

: إنه بإسلامه يعصم عَقَاره، لأنه في يده كالمنقول.

ولنا: أن العَقَار في يد أهل الدّار وسلطانها إذ هي من جملة دار الحرب، فلم يكن في يده حقيقةً. وقيل: هو قول محمد، وهو قول أبي يوسف أولاً ثم رجع عنه إلى أن العَقَار كغيره من الأموال، بناءً على أن اليد حقيقة يثبت عنده فيه، ألا ترى أن عنده يتصوّر فيه الغصب؟.

وأما عبيده فمن قاتل منهم فهو فيءٌ خِلافاً لمالك والشافعي وأحمد، لأنه لمّا تمرَّد على مولاه خرج من يده، فصار تبعاً، لأهل دارهم. وحُكْم مَنْ أسلم في دار الحرب وخرج إلينا على هذا التفصيل، ويَقْسِم الإمام أربعةَ الأخماسِ من الغنيمة بين الغانمين بعد إفراز الخُمْس لقوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}

(3)

الآية.

(وَلِلفَارسِ) أي لمن معه فرس أو أكثر (سَهْمَانِ وَلِلراجِلِ) أي من لا فرس معه، سواء كان معه بعيرٌ أو بغلٌ أو لم يكن (سَهْمٌ) وهذا عند أبي حنيفة وزفر، وقال أبو يوسف ومحمد: للفارس ثلاثة أسهمٍ، وللراجل سهمٌ، وهو قول مالك والشّافعي وأحمد والليث وأبي ثور وأكثر أهل العلم لما روى الجماعة إلاّ النَّسائي عن نافع

(4)

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

سورة الأنفال، الآية:(41).

(4)

حُرِّفت في المطبوع إلى نافن، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب.

ص: 280

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً. وهذا لفظ البخاري، وفسّره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهمٍ، وإن لم يكن له فرسٌ فله سهمٌ.

ولفظ مسلم: أنّه قسم في النفل: للفرس سهمين، وللراجل سهماً. ولفظ أبي داود وابن حِبَّان في «صحيحه»: أنه عليه الصلاة والسلام أسهم لرجلٍ ولفرسه ثلاثة أسهم: سهماً له، وسهمين لفرسه. ولفظ الترمذي: أنه قسم في النفل: للفرس سهمين، وللراجل سهماً. (ولفظ ابن ماجه: أنه أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان وللراجل سهمٌ)

(1)

. وفي الباب أحد عشر حديثاً مسنداً بمعنى ما روينا. ولأن الاستحقاق بالنفع، ونفعه على ثلاثة أمثال الراجل، لأنه للكرّ والفرّ والثبات، والراجل للثبات لا غير.

ولأبي حنيفة: ما روى أبو داود في «سننه» ، وأحمد في «مسنده» ، والطبراني في «معجمه» ، وابن أبي شيبة في «مصنفه» ، والدارقطني في «سننه» ، والحاكم في «مستدركه» ، من حديث مُجَمِّع بن يعقوب بن مُجَمِّع بن يزيد الأَنصاري قال: سمعت أبي يعقوب بن مُجَمِّع يذكر عن عمّه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري، عن عمّه مُجَمِّع بن جارية

(2)

الأنصاري ـ وكان أحد القرّاء الذين قرؤوا القرآن ـ قال: شهدنا الحُدَيْبِيَة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا انصرفنا عنها إذا الناس يَهُزُّونَ الأباعر

(3)

، وقال بعض الناس لبعضٍ: ما للناس؟ قالوا: أُوحِيَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته عند كُرَاع الغَمِيم

(4)

.

فلمّا اجتمع عليه الناس قرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً}

(5)

. فقال رجلٌ: يا رسول الله، أَفَتحٌ هو؟ قال:«نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتحٌ» . فقسمت خيبر على أهل الحديبية. فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمس مئة، فيهم ثلاث مئة فارسٍ: فأعَطى الفارس سهمين، وأَعْطى الراجل سهماً.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع وإثباته الصواب لموافقته لما في سنن ابن ماجه 2/ 952، كتاب الجهاد (24). باب قسمة الغنائم (36)، رقم (2854).

(2)

حُرِّفت في المخطوط والمطبوع إلى: حارثة، والصواب ما أثبتناه من "سنن أبى داود" 3/ 174، و "تقريب التهذيب" ص 520، رقم (6487).

(3)

يَهُزُّون الأباعر: أَي يحركون رواحلهم. الخطّابي، معالم السنن، هامش سنن أَبي داود 3/ 174.

(4)

حُرِّفت في المطبوع إِلى: كراع الغيم، والمثبت من المخطوط. وكُراع الغَمِيم: هو اسم موضع بين مكة والمدينة. النهاية: 2/ 160.

(5)

سورة الفتح، الآية:1.

ص: 281

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ثم قال أبو داود: وهذا وَهْمٌ، وإنّما كانوا مئتي فارسٍ. فأعطى الفرس سهمين، وأعطى صاحبه سهماً.

وروى الطَّبراني من طريق الواقدي في «معجمه» عن المِقْدَاد بن عمرو أنه كان يوم بدرٍ على فرسٍ يقال له: سَبْحَة فأسهم له النبي صلى الله عليه وسلم سهمين: لفرسه سهمٌ واحدٌ، وله سهمٌ واحدٌ. وفي تفسير ابن مَرْدُويَه في سورة الأنفال بسنده إلى عائشة قالت: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المُصْطَلِق فأخرج منها الخُمُس، ثم قسم بين المسلمين فأعطى الفارس سهمين، والراجل سهماً.

وروى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن أبي أسامة

(1)

وابن نُمَيْر قالا: حدّثنا عُبَيْد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفارس سهمين، وللرَّاجل سهماً. ومن طريق ابن أبي شيبة رواه الدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» ، وقال: قال أبو بكر النيسابوري: هذا عندي وَهْمٌ من ابن أبي شَيْبَة (أو من الرَّمادي)

(2)

، لأن أحمد بن حنبل وعبد الله بن بشر وغيرهما رَوَوْه عن ابن نُمَيْر، خلافَ هذا.

وكذا رواه ابن كَرَامة وغيره عن أبي أسامة خلاف هذا، يعني أنه أسهم للفارس ثلاثة أسهمٍ. ثم أَخرجه عن نُعَيْم بن حمّاد، عن ابن المبارك، عن عُبَيْد الله بن عمر، عن نافعٍ، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسهم للفارس سهمين، وللراجل سهماً. ثم قال: قال أحمد بن منصور: هكذا لفظ نُعَيْم، عن ابن المبارك، والناس يخالفونه. قال النيسابوري: ولعلّ الوهم من نُعَيْم، لأن ابن المبارك من أثبت الناس، ثم أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وَهْب، عن عُبَيْد الله بن عمر، عن نافعٍ، عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسهم للخيل وللفارس سهمين، وللراجل سهماً. ثم أخرجه عن حجَّاج بن مِنْهال، عن حمّاد بن سلمة عن عُبَيْد الله، عن نافعٍ، عن ابن عمر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قسم للفارس سهمين، وللراجل سهماً.

ولأنّ الكرّ والفرّ من جنس واحدٍ، فيكون نفعه مثلي

(3)

نفع الراجل فَيُفَضَّل عليه بسهمٍ، ولأن الفرس تبعٌ للراجل، فلا يُزَاد بسهمٍ. وما رَوَوْه محمولٌ على الزيادة بطريق التنفيل كما أَعْطى عليه الصلاة والسلام سهميّ الرّاجل والفارس لسلمة بن الأكْوَع ـ وكان راجلاً ـ فيما روى مسلم وأحمد في حديث طويلٍ عن سلمة بن الأكْوَع قال:

(1)

حُرِّفت في المطبوع إلى: ابن أبي أسامة، والصواب ما أثبتناه من "المصنف" 7/ 123، كتاب الجهاد، في الفارس كم يُقْسَم له. رقم (15016).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

في المطبوع: مثل، والمثبت من المخطوط.

ص: 282

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

قدمنا الحُدَيْبِيَة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مئة فذكر الحديث بطوله إلى أن قال: فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير فرساننا اليوم أبو قَتَادة، وخير رجالنا سلمة» . ثم أعطاني سهمين: سهم الفارس، وسهم الرّاجل. فجمعهما لي جميعاً.

هذا، ولا يُسْهَم لأكثر من فرسٍ. وقال أبو يوسف يسهم لفرسين وبه قال أحمد لما روى الدَّارَقُطْنيّ في «سننه» عن أبي عَمْرَة (عن)

(1)

بَشِير بن عمرو بن محصن قال: أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرسيَّ أربعة أسهم، ولي سهماً، فأخذت خمسة أسهمٍ. وروى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن إبراهيم بن يحيى الأَسْلَمِيّ، عن صالح بن محمد، عن مَكْحُول: أنّ الزُّبَيْر حضر خيبر بفرسين، فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم. وأخرج الدَّارَقُطْنِيّ، والواقدي في «المغازي» عن عيسى بن مَعْمَر قال: كان مع الزّبَيْر يوم خَيْبَر، فرسان، فأسهم له النّبيّ صلى الله عليه وسلم خمسة أَسْهم. (وقال صاحب «التنقيح»: إِنْ عمر بن الخطاب كتب إلى أَبي عُبيدة بن الجراح أَنْ أَسْهم)

(2)

للفرس سهمين، وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبهما سهماً، فذلك خمسة أسهم. وما كان فوق الفرسين فهو جنائب

(3)

.

وأجيب بأن هِشَام بن عُرْوَة بن عبد الله بن الزُّبَيْر أَثْبتُ في حديث الزُّبَيْر وأحرصُ. وقد روى عن أبيه، عن جده عبد الله بن الزُّبَيْر، (عن الزُّبَيْر)

(4)

أنه قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ أربعة أسهمٍ: سهمين لفرسي، وسهماً لي، وسهماً لأمي. وأهل المغازي لم يَرْووا أنّه عليه الصلاة والسلام أسهم لفرسين، ولم يختلفوا أنه حضر خَيْبَر بثلاثة أفراسٍ لنفسه: السَّكْب

(5)

والظَّرِب

(6)

والمُرْتَجِز

(7)

، ولم يأخذ إلاّ لفرسٍ واحدٍ. وقال مالك في «الموطأ»: لم أسمع بالقَسْم إلاّ لفرسٍ واحدٍ.

وروى الواقدي في «المغازي» بسنده إلى الحارث بن عبد الله بن كعب: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قاد في خَيْبَر ثلاثة أفراس: لِزَاز والظَّرِب والسَّكْب، وقاد الزُّبَيْر أفراساً، وقاد خِرَاش بن الصِّمَّة فَرَسَين، وقاد البراء بن أوس فرسين، وقاد أبو عَمْرة الأنصاري فرسين. قال: فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكلّ من كان له فرسان خمسة أسهم: أربعة لفرسيْه،

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، لإثباتها الصواب لموافقته لما في سنن الدَّارَقُطْنِي 4/ 104، كتاب السير، رقم (16).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

الجَنِيبةُ: الفرس تُقَاد ولا تُرْكب. المصباح المنير ص 111، مادة (جنب).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(5)

في المطبوع: السكيب، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب. انظر النهاية 2/ 382.

(6)

في المطبوع: الظريب، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب، انظر النهاية 3/ 156.

(7)

سُمِّي به لِحُسْن صَهِيلِه. النهاية 2/ 200.

ص: 283

وَيُعْتبَرُ وَقْتُ مُجَاوَزةِ الدَّرْبِ، لا شُهُودُ الوَاقِعَة.

وَالخُمسُ لِلْيَتيمِ وَالمِسْكِيِن وابْنِ السَّبِيلِ،

===

وسهماً له، وما كان أكثر من فرسين لم يسهم له. ويقال: إنه لم يسهم إلاّ لفرسٍ واحدٍ وأثبْتَ ذلك أنه أسهم لفرسٍ واحدٍ، ولم نسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لنفسه إلاّ لفرسٍ واحدٍ.

(وَيُعْتَبَرُ) في استحقاق سهم الفارس أو الرَّاجل (وَقْتُ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ) أي مدخل دار الحرب (لَا) يعتبر (شُهُودُ الوَاقِعَة) في الاستحقاق كما هو قول مالك والشافعي وأحمد. فلو دخل الغازي دار الحرب فارساً فمات فرسه، وقاتل راجلاً استحقّ سهم الفارس، ولو دخل راجلاً فاشترى فرساً استحقّ سهم الرّاجل، خلافاً لهم، ولو دخل المجاهد فارساً وقاتل راجلاً لضيق المكان استحقّ سهم الفارس اتفاقاً. هذا ولا يسهم لمملوكٍ يقاتل، ولا امرأة تداوي الجرحى وتقوم على المرضى، ولا لصبي يقاتل، ولا لذمي يقاتل أو يدلّ على الطريق، ولكن يُرْضَخ لهم على حسب ما يرى الإمام، لقول ابن عبّاس: لم يكن للعبد والمرأة سهمٌ إلاّ أن يهديا من غنائم القوم. رواه أحمد ومسلم. والرَّضْخُ في اللغة: إعطاء القليل، وهنا إعطاء أقل من سهم الغنيمة.

وعندنا: يكون من الغنيمة قبل إخراج الخمس، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد. (وفي قول للشافعي: يكون من الأَربعة الأَخماس وهو رواية عن أَحمد)

(1)

. وفي قول للشافعي: يكون من خمس الخمس. وقال مالك: من الخمس. ولا يسهم للأجير، لأَنه دخل لخدمة المستأجر لا للقتال، حتّى لو ترك الخدمة وقاتل يسهم له كأَهل سوق العسكر.

ويستعان بالكافر في القتال عند الحاجة عندنا، وعند الشافعي وأحمد. وقال جماعة من أهل العلم: لا يستعان به.

(وَالخُمُسُ) من الغنيمة (لِلْيَتِيمِ) وهو كلّ صغيرٍ لا أب له، ويُشْتَرط أن يكون فقيراً (وَالمِسْكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ) وقد تقدّم تفسيرهما في الزكاة، لِمَا رُوِيَ عن ابن عبّاس من طرقٍ بأَلفاظٍ متقاربةٍ منها ما رواه ابن مَرْدُويَه في «تفسيره» في سورة الأنفال بسنده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سريّة فغنموا، خَمَّسَ الغنيمة فضرب ذلك الخمس في خمسة ثم قرأ {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلْرَسُولِ}

(2)

وقال: قوله تعالى: {فأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} مفتاح كلام نحو قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ}

(3)

فذكره للتبرك باسمه، وهو غير محتاج إلى

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سورة الأنفال، الآية:(41).

(3)

سورة لقمان، الآية:(26).

ص: 284

وَقُدِّمَ فُقَرَاءُ ذَوِي القُرْبَى، وَلا شَيءَ لِغَنِيِّهم

===

شيء، لأنّ الكلّ له. ثم جعل سهم الله وسهم الرَّسول واحداً، ولذي القُرْبى سهماً، فجعل هذين السهمين قوة في الخيل والسلاح، وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يعطيه لغيرهم، وجعل الأربعة أسهم الباقية: للفرس سهمين، ولراكبه سهماً، وللراجل سهماً.

ولما رواه الطَّبَرانِيّ: فلما قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّم، جعل أبو بكر وعمر هذين السهمين سهم الله والرسول، وسهم قرابته في سبيل الله صدقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولِمَا روى أبو يوسف عن الكَلْبِيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس: أنّ الخمس الذي كان يقسم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم: لله وللرسول سهمٌ، ولذي القُرْبى سهمٌ، ولليتامى سهمٌ، وللمساكين سهمٌ، ولابن السبيل سهمٌ. ثم قسمه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ على ثلاثة أسهم: سهمٌ لليتامى، وسهمٌ للمساكين، وسهمٌ لابن السبيل.

(وَقُدِّمَ فُقَرَاءُ ذِوِي القُرْبَى) من هذه الطوائف الثلاث على غيرهم (وَلَا شَيءَ لِغَنِّيهم) أي غني ذوي القُرْبى، لأنّ عمر أعطى الفقراء منهم.

وقال الطَّحَاوِي: سهم الفقير ساقطٌ أيضاً لِمَا قدّمنا. والأوَّل اختيار الكَّرْخي، وهو الأصحّ لأنّ الدليل إنّما دلّ على سقوط حقّ أغنيائهم، أمّا فقراؤهم فيدخلون في الأصناف الثلاثة، وسقط سهم النبي صلى الله عليه وسلم بموته كالصَّفِيّ، لأنه كان يستحقّ برسالته لا بالقيام بأمور أمته، ولهذا لم يرفع الخلفاء الراشدون بعده هذا لأنفسهم. والصَّفِيُّ: شيء نفيس كان يصطفيه لنفسه من الغنيمة كدِرْعٍ أو سيفٍ أو فرسٍ أو أَمةٍ، كما رُوِيَ أنه اصطفى صفيّة من غنائم خَيْبَر.

وقال الشافعي: يقسم الخمس على خمسة أَسهمٍ: سهمٌ للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد وفاته يصرفه الإمام في مصالح الدين على ما يرى، وبه قال أحمد. وعن الشَّافعي: أن سهم النبي صلى الله عليه وسلم بعده يُردّ على بقية الأصناف. وحكى ابن المنذر عنه: أنه يكون للخليفة. وسهمٌ لذوي القربى يستوي فيهم غنيّهم وفقيرهم يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وقال المُزَني والثَّوْرِي: يستوي فيه الذكر والأنثى، ويكون لبني هاشم وبني المطلب فقط دون (بني)

(1)

عبد شمس. والباقي للفرق الثلاث. وقد تقدّم أن الخلفاء الراشدين (قسموا)

(2)

على ثلاثة نحو ما قلنا بمحضرٍ من الصحابة، فكان إجماعاً.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 285

وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُمْ فَأَغَارَ خَمَّس، لا مَنْ لا مَنَعَةَ لَهُ وَلا إِذْنَ لَهُ.

وللإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ وَقْتَ القِتَالِ، فَيَجْعَلَ لأحَدٍ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ، كَالسَّلَبِ وَنَحْوِهِ. وَالسَّلَبُ: مَرْكِبُهُ وَمَا عَلَيهِمَا.

===

(وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُمْ) وله مَنَعةٌ سواء أذن له الإمام أَمْ لا (فَأَغَارَ خَمَّس) ما أخذه، لأنّ المأخوذ حينئذٍ على وجه القهر والغلبة، لا الاختلاس والسرقة فكان غنيمة. (لَا مَنْ لَا مَنَعَةَ لَهُ) أي لا يَخْمُس ما أخذ من دخل دارهم ولا منعة (وَلَا إِذْنَ لَهُ) من الإمام، لأن أَخذه حينئذٍ يكون اختلاساً وسرقةً لا قهراً وغلبةً. ويَخْمُس عند مالك والشافعي، لأنه مال حربي أُخِذَ قهراً، فكان غنيمة. قيّد بعدم الإذن، لأن من لا مَنَعَة له لو دخل بإذن الإمام ففيه روايتان: المشهور منهما أنه يخمس ما أخذه، لأنه لمّا أذِنَ لهم الإمام التزم نصرهم بالإمداد فصار كالمنعة (وللإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ وَقْتَ القِتَالِ فَيَجْعَلَ لأحَدٍ) من الجيش (شَيْئاً زَائِداً عَلَى سَهْمِهِ) أي نصيبه سهماً كان أَوْ رَضْخاً.

(كَالسَّلَبِ وَنَحْوِهِ) بأن يقول: من قتل قتيلاً فله سَلَبه، أو: من أصاب شيئاً فهو له: فيتناول هذا الكلام كل من يأخذ من الغنيمة، أو يقول للسريّة: قد جعلت لكم الربع

(1)

بعد الخمس، أو: ما أصبتم فلكم نصفه، لما رُوِي أن عليه الصلاة والسلام نَفَّل

(2)

الربع بعد الخمس في رجعته، كما رواه أحمد وأبو داود. وكان عليه الصلاة والسلام يُنَفِّلُ

(3)

في البَدْأة الربع، وفي الرجعة الثلث. كما رواه أحمد وابن ماجه والترمذي. ولأنّ التَّنفيل تحريضٌ على القتال، وهو مندوبٌ إليه لقوله تعالى:{يأيُّها النَّبِيُّ حَرِّض المُؤمِنِينَ عَلَى القِتَالِ}

(4)

ولقوله عليه الصلاة والسلام يوم حُنَيْن: «من قتل قتيلاً له عليه بيِّنة فله سَلَبه»

(5)

. والتنفيل عندنا من الأربعة الأخماس، وبه قال أحمد. وعند مالك والشافعي: من الخمس.

(وَالسَّلَبُ: مَرْكِبُهُ) أي مركب المقتول (وَمَا عَلَيْهِمَا) أي على المقتول ممّا

(1)

في المطبوع: الرجع، والمثبت من المخطوط.

(2)

في المطبوع: فعل، والمثبت من المخطوط. وهو الصواب لموافقته لما في سنن أَبي داود 3/ 182، كتاب الجهاد (15)، باب فيمن قال: الخمس قبل النفل (146، 147) رقم) 274).

(3)

في المطبوع يفعل، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في سنن الترمذي، 4/ 110، كتاب السير (19)، باب في النفل (12)، رقم (1561).

(4)

سورة الأنفال، الآية:(65).

(5)

أَخرجه البخاري في صحيحه "فتح الباري" 6/ 247 كتاب - فرض الخمس (57)، باب من لم يُخمّس الأسلاب (18)، رقم (3142).

ص: 286

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

في وسطه وجيبه، وعلى مركبه من سلاح وثيابٍ وسَرْجٍ وآلةٍ.

ولو أثخنه واحدٌ وقتله آخر، فالسَّلَبُ لمن أثخنه، أي أَوهنه، لإعطاء النبيّ صلى الله عليه وسلم سَلَب أبي جهل لمُعَاذ دون ابن مسعود. والحاصل أنه لا يستحقّ القاتل سَلَب مقتوله عندنا إلاّ بقول الإمام: من قتل قتيلاً فله سَلَبه. لا أنه استحق بإزالة

(1)

منعة

(2)

المقبل وقت الحرب بقطع طرفيه أو أسره كما قال به مالك والشافعي، لقوله عليه الصلاة والسلام:«من قتل قتيلاً له عليه بينةٌ فله سَلَبه» . رواه أحمد والجماعة إلاّ النَّسائي. وفي لفظٍ لمسلمٍ عن جُبَيْر بن نُفَيْر، عن عَوْف بن مالكٍ أنه قال لخالد بن الوليد: ألم تعلم يا خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسَلَب للقاتل؟ قال: بلى.

زاد أبو داود: قضى بالسَّلب للقاتل، ولم يخمس السلب. وأَخرج في «سننه» أَيضاً عن أنس بن مالك أن النبيّ عليه الصلاة والسلام قال يوم حُنين:«مَنْ قتل كافراً فله سَلَبُه» . فقتل أَبو طلحة يومئذٍ عشرين رَجُلاً وأَخذ أَسلابهم. وظاهر هذا نصب الشرع لأَنَه بعث له ولأن القاتل مقبلاً قد أظهر فضل عنائه على غيره، فيستحق التفضيل بملك ما على القتيل كالفارس مع الراجل، بخلاف ما لو قتله مدبراً أو رمى من صف المسلمين سهماً فقتل مشركاً، لأنه ليس فيه زيادة عناء، فكل أحدٍ يتجاسر علَيه

(3)

.

ولنا ما في «معجم الطَّبراني الكبير والأوسط» بسنده إلى جُنَادة بن (أبي)

(4)

أمية قال: نزلنا دابق وعلينا أبو عُبَيْدة بن الجراح، فبلغ حَبيب بن مسلمة أن صاحب قبرص خرج يريد طريق أَذَرْبِيجَان ومعه زُمُرّد وياقوت ولُؤْلُؤ وغيرها، فخرج إليه فقتله وجاء بما معه، فأراد أَبو عُبَيْدة أن يخمسه، فقال له حَبيب: لا تحرمني رزقاً رزقنيه الله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل السَلَب للقاتل. فقال: معاذ: يا حَبيب إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما للمرء ما طابت به نَفْسُ إِمامه» .

ورواه إسحاق بن رَاهُويَه في «مسنده» بسنده إلى جُنَادة بن أبي أَميّة قال: كنا مُعَسْكِرِين بدَابِق فَذُكِر لحبَيب بن مسلمة الفِهْري أن نبيه

(5)

القبرص خرج بتجارة من البحر يريد بطريق إِرْمِينْيَة، فخرج عليه حبيب فقاتله فقتله، فجاء بسلبه يحمله على

(1)

في المطبوع: بما زالت، والمثبت من المخطوط.

(2)

في المطبوع: الميل، والمثبت من المخطوط.

(3)

تجاسر عليه: اجترأَ وأَقدم. المعجم الوسيط ص 22، مادة (جسر).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع، والصواب إثباته، لموافقته للمعجم الكبير 4/ 20 - 21.

(5)

النبيه: من شرُف وعلا ذكره. المعجم الوسيط ص 899، مادة (نبه).

ص: 287

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

خمسة أبغال من الدِّيباج والياقوت والزَّبَرْجَد، فأراد حبيب أن يأخذه كلّه وأبو عُبَيْدة يقول: بعضه. فقال حبيب لأبي عُبَيْدة: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قتل قتيلاً فله سَلَبه» . قال أبو عُبَيْدة: إنه لم يقل للأبد. وسمع مُعَاذ بن جبل بذلك، فأتى أبا عُبَيْدة وحبيب يخاصمه، فقال معاذ لحبيب ألا تتقي الله وتأخذ ما طابت به نفس إمامك، فإن لك ما طابت به نفس إمامك، وحدّثهم بذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. فاجتمع رأيهم على ذلك فأعطوه بعد الخمس شيئاً، فباعه بألف دينارٍ. إلاّ أن في سنده ضعفاً. وما في «الصحيحين» في قصة مُعَاذ بن عمرو بن الجَمُوح

(1)

ومُعَاذ بن عَفْراء وقتلهما أبا جهلٍ يوم بدرٍ، وقضاء النبي صلى الله عليه وسلم لمُعَاذ بن الجموح

(2)

ولم يجعله بينهما.

وما أخرجه مسلم وأبو داود، واللفظ لأبي داود عن عَوْف بن مالك الأشجعي قال: خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مُؤْتة ورافقني مَدَدِيٌّ

(3)

من أهل اليمن: فلقِيْنَا جموع الروم وفيهم رجل على فرسٍ أشقر عليه سَرْجٌ مذهّبٌ، فجعل الرومي يَفْرِي

(4)

بالمسلمين، وقعد له المَدَدِيُّ خلف صخرة، فمر به الرومي فَعَرْقَب

(5)

فرسه، فَخَرَّ، وعلاه وقتله وحاز فرسَه وسلاحه، فلمّا فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد (بن الوليد)

(6)

، فأخذ منه سلب الروميّ. قال عوف: فأتيت خالداً فقلت له: أما علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسَلَب للقاتل؟ قال: بلى، ولكن استكثرته.

قلت: لتردَّنهُ أو لأُعَرِفَنَّكَهَا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يعطيه. قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصصت عليه قصة المَدَدِيِّ، وما فعل خالد. فقال صلى الله عليه وسلم:«يا خالد ما حملك على ما صنعت؟» قال: يا رسول الله استكثرته. قال: «رُدَّ ما أخذت منه» . قال عوف: فقلت: دونك يا خالد، ألم أفِ لك؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«ما ذاك» ؟

(1)

حُرِّفت في المخطوط إلى معاذ بن عمرو بن الجموع، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 13/ 372، كتاب الجهاد والسير (32)، باب استحقاق القاتل سَلَب القتيل (13)، رقم (42 - 1752).

(2)

حُرِّفت في المخطوط إلى معاذ بن الجموع، والمثبت من المطبوع.

(3)

المَدَدِيُّ: منسوب إلى المدد، وهم الأعوان والأنصار الذين كانوا يَمُدُّون المسلمين في الجهاد. النهاية 4/ 308.

(4)

يفْرِي: أَي يبالغ في النِّكاية والقتل. النهاية 3/ 442.

(5)

عَرْقَب: قطع عُرْقُوبها، وهو الوَتَر الذي خلف الكعبين بين مفصل القدم والساق من ذوات الأربع. النهاية 3/ 221.

(6)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 288

‌فَصْلٌ في استيلاءِ الكُفَّار

يَمْلِكُ بَعْضُ الكُفَّارِ بَعْضًا، وَأَمْوَالَهُمْ وَأَمْوَالَنَا: بِالاسْتِيلاءِ وَالإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ،

===

قال فأخبرته. قال: فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: «يا خالد لا تردّ عليه، هل أنتم تاركو لي أمرائي؟ لكم صفوة أمرهم وعليهم كَدَرُهُ» .

فصلٌ ـي اسْتِيلَاءِ الكُفَّارِ

(يَمْلِكُ بَعْضُ الكُفَّارِ بَعْضاً) يعني أنفسهم إذا استولى بعضهم على بعض (وَأَمْوَالَهُم) كذلك بالاستيلاء كما يملك به المسلم (وَ) يملك بعض الكفار (أَمْوَالَنَا بِالاستِيلَاءِ وَالإِحْرَازِ بِدَارِهِم) وقال مالك: يملكونها بمجرد الاستيلاء، وعن أحمد رواية كقول مالك، وأخرى كقولنا. وقال الشافعيّ لا يملكونها، لأن استيلاءهم محظورٌ ابتداءً عند الأخذ في دار الإسلام وانتهاءً عند الإحراز بدارهم لبقاء عصمة المال. إذ سببها إسلام صاحبه لقوله عليه الصلاة والسلام:«فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم»

(1)

. وصار هذا كاستيلاء المسلم وكاستيلائهم على رقابنا، والكفار مخاطبون بالمحظورات بالإجماع كالزنا والربا.

ولنا قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ}

(2)

الآية. والفقير: من لا ملك له، فلو لم يملك الكفار أموالهم باستيلائهم عليها لكانوا أغنياء ولم يُسموا فقراء، ولأنّ الأصل في الأموال الإباحة وعدم العصمة لقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا في الأَرْضِ جَمِيعاً}

(3)

وإنما يحصل الاختصاص والعصمة بسبب من الأسباب كالشراء ونحوه ضرورة التمكن من الانتفاع به بلا منازعة، فإذا زال التمكن بسبب إحراز الكفَّار له بدارهم عاد إلى الأصل، وصار كالصيد ونحوه من مباح الأصل فيملكونه، بخلاف استيلاء المسلم على مال المسلم، لأن تمكنه من الانتفاع به قائمٌ، فيبقى اختصاصه به وعصمته له، وبخلاف رقابنا لأنها لم تُخْلَق محلاً للتملك، لأن الآدمي خُلِق ليَمْلِك لا ليُمْلَك، وإنما يثبت فيه محلية الملك بالكفر العارض، وبخلاف ما إذا لم

(1)

سبق تخريجه ص 27، التعليقة رقم (2).

(2)

سورة الحشر، الآية:(8).

(3)

سورة البقرة، الآية:(29).

ص: 289

لا حُرَّنا وَتَوَابِعَهُ وَعَبْدَنَا الآبِقَ.

وَنَمْلِكُ بِهِمَا حُرَّهُمْ وَمَا هُوَ مِلْكُهُمْ. وَمَنْ وَجَدَ مِنَّا مَالَهُ، أَخَذَهُ بِلا شيء، إِنْ

===

يحرزوها بدارهم، لأن ملكهم بسبب الاستيلاء وهو يتحقق بالإحراز بدارهم، لأن الظاهر أن المسلمين يستنقذونها منهم ما لم يحرزوها بدارهم.

فإن قيل: قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}

(1)

والتملك بالاستيلاء من أقوى جهات السبيل. أجيب بأن النَّصّ تناول ذوات المؤمنين، وهم لا يملكونهم بالاستيلاء بل يملكون أموالهم.

(لا حُرَّنا) أي لا يملك الكفار بالاستيلاء والإحراز بدارهم حُرَّنا (وَتَوَابِعَهُ) وهم مُدَبَّرنَا

(2)

وأمُّ وَلَدِنَا

(3)

ومُكَاتِبُنَا

(4)

، لأنّ محلّ الملك هو المال، وهؤلاء ليسوا بمالٍ. وقال مالك وأحمد: يملكون المُدَبَّر والمُكَاتَب بالاستيلاء، وقال أحمد: لا يملكون أمَّ الولد، وقال مالك: يفديها الإمام، فإن لم يفعل يأخذها سيدها بالقيمة، ولا يدعها يستحلّ فرجها مَنْ لا تحلّ له. (وَعَبْدَنَا الآبِقَ) أي ولا يملك الكفار بالاستيلاء والإحراز عبدَ المسلم إذا أَبَقَ إِلى دارهم، وهذا عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد في روايةٍ. وقال أبو يوسف ومحمد (ومالك وأَحمد في)

(5)

روايةٍ: يملكونه، كما لو ندَّت

(6)

إليهم دابة فأخذوها. ولأبي حنيفة: أنّ سبب الملك الاستيلاء، ولم يوجد، لأنّ الآدمي ذو يدٍ صحيحةٍ. وفي «شرح الوقاية»: أن الخلاف فيما إذا أخذوه قهراً وقيّدوه، وأما إن لم يكن أَخذوه قهراً فلا يملكونه اتفاقاً.

(وَنَمْلِكُ) نحن (بِهِمَا) أي بالاستيلاء والإحراز بدارنا (حُرَّهُمْ) وتوابعَه (وَمَا هُوَ مِلْكُهُمْ) لأن الشرع أسقط عصمتهم وعصمة ما هو ملكهم جَزَاءً لكفرهم بأن جعلهم ملكاً لعبيده.

(وَمَنْ وَجَدَ مِنَّا مَالَهُ) في يد الغانمين بعد ما غلبنا عليهم (أَخَذَهُ بِلَا شَيءٍ إِنْ

(1)

سورة النساء، الآية:(141).

(2)

المُدَبِّرُ: الرقيق الذي عُلِّقَ عتقُهُ على موت سيده، ومثاله قول السيد لعبده: إِن متُّ فأَنت حرّ. بمعجم لغة الفقهاء ص 418.

(3)

أمَّ الولد: الأَمَةُ التي حملت من سيدها وأَتت بولد. معجم لغة الفقهاء ص 88.

(4)

المُكاتَبُ: الرقيق الذي تمَّ عقد بينه وبين سيده على أَن يدفع له مبلغًا من المال نجومًا - متفرقًا - ليصير حرًّا، معجم لغة الفقهاء ص 455.

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(6)

نَدَّ البعير: نفر وشرَد. المعجم الوسيط ص 910، مادة (ندّ).

ص: 290

لَمْ يُقْسَمْ، وَبِالْقِيمَةِ إنْ قُسِمَ، وبِالثَّمَنِ إِنْ شَرَاه مِنْهُمْ تَاجِرٌ.

===

لَمْ يُقْسَمْ) أي إن لم يقع القسم، لأن الشركة قبل القسمة عامة فتقلّ المضرّة (وَبِالْقِيمَةِ إنْ قُسِمَ) لما سيأتي (و) أخذه (بِالثَّمَنِ إِنْ شَرَاه مِنْهُمْ) أي من الكفار (تَاجِرٌ) وأخرجه إلى دار الإسلام، لأنه لو أخذه بغير شيءٍ لتضرَّر التاجر. وقال الشافعيّ: من وجد منا ماله بعد القسمة أخذه بغير شيء أيضاً، ولكن يعوّض الإمام من وقع في سهمه من بيت المال، وإن لم يكن في بيت المال شيءٌ أعاد القسمة.

ولنا ما روى الدَّارَقُطْنِيّ والبَيْهَقِي في «سننيهما» عن الحسن بن عُمَارة، عن عبد الملك بن مَيْسَرة، عن طاوس، عن ابن عبّاس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: قال فيما أحرزه العدو فاستنقذه المسلمون منهم: «إن وجده صاحبه قبل أن يُقْسَم فهو أحق به، وإن وجده وقد قُسِمَ فإن شاء أخذه بالثمن» . وفي «سنن الدَّارَقُطْنِيْ» عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فَرْوَة، وعن رِشْدِين، عن يونس

(1)

كلاهما عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أَبيه، (عن)

(2)

عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من وجد ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له، ومن وجده بعد ما قسم فليس له شيء» . وقال: وإسحاق هذا متروكٌ.

وقال البيهقي: الحسن بن عمارة، متروكٌ إلاّ أنه قال: قال الشافعي: قال أبو يوسف: حدّثنا الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عُيَيْنة، عن مِقْسَم، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبدٍ وبعيرٍ أحرزهما العدو، ثم ظفر بهما، فقال عليه الصلاة والسلام لصاحبهما:«إن أصبتهما قبل القسمة فهما لك بغير شيءٍ، وإن أصبتهما بعد القسمة فهما لك بالقيمة» . فرواية أبي يوسف هذا الحديث عنه يدلّ على إصابته في هذا الحديث، إذ لا يلزم؟ من كون الشخص متروكاً، أن يكون كل فردٍ من أفراد حديثه متروكاً.

وفي «معجم الطَّبَراني» عن ياسين الزَّيَّات، عن الزُّهْرِيِّ، عن سالم، عن أبيه مرفوعاً:«من أدرك ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له، وإن أدركه بعد أن يقسم فهو أحقّ به بالثمن» . ورواه ابن عدي في «الكامل» وضعّف ياسين الزيَّات. وفي «مراسيل أبي داود» عن تميم بن طَرَفة قال: وَجَد رجلٌ (مع رجلٍ)

(3)

ناقةً له، فارتفعا إلى النبي

(1)

حُرِّفت في المطبوع إلى: رشيد بن يونس، المثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في سنن الدَّارَقطْني 4/ 114، كتاب الفرائض والسير وغير ذلك، رقم (38).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 291

وَعَبْدٌ لَهُمْ أَسْلَمَ ثَمَّةَ فَجَاءَنَا، أَوْ ظَهَرْنَا عَلَيهِمْ، عَتَقَ

===

صلى الله عليه وسلم، فأقام (أحدهما)

(1)

البيّنة أنها ناقته، وأقام الآخر البينة أنه اشتراها من العدو فقال عليه الصلاة والسلام:«إذا شئت أن تأخذها بالثمن الذي اشتراها به فأنت أحق بها، وإلاّ فخلِّ عن ناقته» . وروى الطَّبَرَاني في «معجمه» عن جابر بن سَمُرَة قال: أصاب العدو ناقة رجلٍ من بني سُلَيم، ثم اشتراها رجلٌ من المسلمين، فعرفها صاحِبُها، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذها بالثَّمن الذي اشتراها به صاحِبُها من العدو، وإلاّ يُخلِّي

(2)

بينه وبينها.

ومن الآثار ما في «سنن الدَّارَقُطْنِيّ» عن قَبيصة بن ذُؤَيْب

(3)

أَنّ عمر بن الخطَّاب قال: ما أصاب المشركون من أَموال المسلمين، فظُهِرَ عليهم، فرأى رجلٌ متاعه بعينه فهو أحق به من غيره، فإذا قُسِمَ ثم ظهروا عليه فلا شيء له، إنّما هو رجلٌ منهم. وفي روايةٍ: هو أحق به من غيره بالثمن. قال: وهذا مرسلٌ. وفي «مصنف ابن أبي شَيْبَة» عن خِلَاس، عن عليّ: نحو ذلك. وقال ابن حزم: رواية خِلَاس عن عليّ صحيحة، ويروي عن زيد بن ثابت، ولكن بإسناد فيه ابن لَهِيعَة، فَتَعَدد طرقه يحسّنه ويصحّح الاحتجاج به، كيف ولا معارض له.

(وَعَبْدٌ) هذا مبتدأ (لهمْ) أي لأهل الحرب صفته (أَسْلَمَ ثَمَّةَ) أي في دار الحرب صفة ثانية (فَجَاءَنَا) بأن جاء إلى دار الإسلام، أو إلى عسكر المسلمين في دار الحرب (أَوْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ) عطف على ما قبله (عَتَقَ) هذا خبر المبتدأ. وإنما يَعْتِق لما روى أحمد في «مسنده» ، وابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» ، والطَّبَرَاني في «معجمه» من حديث الحجَّاج، عن مِقْسَم، عن ابن عباس: أن عبدين خرجا من الطائف إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلما، فأعتقهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحدهما: أبو بَكْرَة. وفي لفظٍ لابن أبي شَيْبَة بهذا الإسناد: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعتق من أتاه من العبيد إذا أسلموا، وقد أعتق يوم الطائف رجلين أحدهما: أبو بَكْرَة، سُمِّيَ به لأنه تَدَلَّى ببكرة ونزل من الحصن.

وفي «مراسيل أبي داود» عن عبد ربه بن الحكم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وسلم لمّا

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

ولفظ الطبراني في المعجم الكبير - في النسخة المطبوعة - 2/ 254: "خليّ"، عن الصحابي جابر بن سَمُرة.

(3)

حُرِّفت في المطبوع إلى: قبيصة، عن ذؤيب. والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في سنن الدَّارقُطني 4/ 114، كتاب الفرائض والسير وغير ذلك، رقم (37).

ص: 292

كَعَبْدٍ مُسْلِمٍ شَرَاهُ كَافِرٌ مُسْتَأْمَنٌ هُنَا وَأَدْخَلَهُ دَارَهُم.

وَلا يَتَعَرَّضُ تَاجِرُنَا ثَمَّةَ لِدَمِهِمْ وَمَالِهِمْ، إلّا إذا أَخَذَ مَلِكُهُمْ مَالَهُ أَوْ غَيرُهُ بِعِلْمِهِ. وَمَا أَخْرَجَهُ مَلَكَهُ حَرَامًا، فَيصدَّق بِهِ. وَلا يُمَكَّنُ حَرْبِيٌّ هُنَا سنَةً، وقِيلَ لَهُ: إنْ أقَمْتَ هُنَا سَنَةً نَضَعُ عَلَيكَ الجِزْيَةَ.

===

حصر الطائف خرج إليه أرقَّاء من أرقّائهم فأسلموا، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا أسلم مواليهم بعد ذلك، ردّ عليه الصلاة والسلام الولاء إليهم. وفي «سننه» عن علي قال: خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُدَيْبِيَة قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم قالوا: يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبةً في دينك، فإنما خرجوا هرباً من الرِّق، فقال ناسٌ: صدقوا يا رسول الله، رُدَّهم إليهم. فغضب عليه الصلاة والسلام وقال:«والله ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا الدين» . وأبى أن يردّهم وقال: «هم عتقاء الله» .

(كَعَبْدٍ مُسْلِمٍ) أي كما يعتق عبد مسلم (شَرَاهُ كَافِرٌ مُسْتَأْمَنٌ هُنَا) أي في دار الإسلام (وَأَدْخَلَهُ دَارهم) أي دار أهل الحرب، وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يعتق، وبه قال مالك وأحمد. وفي مذهب الشّافعيّ وجهٌ: أنه لا يصحّ بيع العبد المسلم من الكافر، وعنه قولٌ: إنه يصحّ. وفي «النهاية» عن «الإيضاح» : وعلى هذا الخلاف إذا كان العبد ذميّاً، لأن المُسْتَأْمَن يُجْبَر على بيعه ولا يُمَكَّن من إدخاله دار الحرب.

(وَلَا يَتَعَرَّضُ تَاجِرُنَا ثَمَّةَ) أي في دار الحرب (لِدَمِهِمْ وَمَالِهِمْ) لأنّ في تعرّضه لواحدٍ منهما غدراً بهم، وهو ممنوعٌ منه. (إلاّ إذا أَخَذَ مَلِكُهُمْ مَالَهُ) أوْ حبسه (أَوْ) أخذ (غَيْرُهُ) أي غير ملكهم مالَ التاجر (بِعِلْمِهِ) أي بعلم ملكهم ولم ينهه، لأنهم نقضوا عهده فيباح له التعرّض لهم كالأَسِير والمتلصِّص. قيّد بدمهم ومالهم، لأنه لا يجوز له أن يتعرّض لفروجهم، لأن الفروج لا تحلّ إلاّ بالملك، ولا ملك قبل الإحراز بالدّار.

(وَمَا أَخْرَجَهُ) التاجر من دار الحرب بطريق التعرّض ودخل به إلى دار الإسلام (مَلَكَهُ) لتحقّق سبب الملك فيه وهو الاستيلاء على مباحٍ (حَرَاماً) أي ملكاً حراماً لأنه حصل بسبب الغدر فأوجب ذلك خُبْثاً فيه (فَيَتَصَدَّق بِهِ) تنزّهاً عنه.

(وَلَا يُمَكَّنُ حَرْبِيٌّ) من الإقامة (هُنَا) أي في دار الإسلام (سَنَةً) بأمانٍ (وِقِيلَ لَهُ) عند الأمان (إنْ أقَمْتَ هُنَا سَنَةً نَضَعُ

عَلَيْكَ الجِزْيَةَ) بعد ذلك

ص: 293

فَإِنْ أقَامَ سَنَةً، فَهُوَ ذِمِّيٌّ لا يُتْرَكُ أنْ يَرْجِعَ.

[فَصْلٌ في الجِزْيَة]

وَلا تَتَغَيَّرُ جِزْيَةٌ وُضِعَتْ بِصُلْحٍ

===

(فَإِنْ أقَامَ سَنَةً) من وقت القول له (فَهُوَ ذِمِّيٌّ لا يُتْرَكُ أنْ يَرْجِعَ) إليهم لالتزامه الجزية. ثم إذا صار ذمّياً بمُضِي المدّة المضروبة له يستأنف عليه الجزية بحول بعدها، إلا أن يكون الإمام قال: إن مكثت سنةً أخذتها منك، فإنه يأخذها منه حينئذٍ، وحلَّ دمه بعوده إلى محلَ ليس من دارنا لخروجه من ذمتنا. ومن أسلم ثمَّة ولم يلحق بدارنا فماله ودمه غير معصوم عندنا وحكم مالك والشّافعيّ بعصمتهما عصمةً مقوَّمة، فتجب الدِّيَةُ في الخطأ، والقَوَدُ في العمد، لأنه قتل نفساً معصومةً لثبوت العاصم وهو الإسلام لقوله عليه الصلاة والسلام:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها»

(1)

. فقد أثبت العصمة بالإسلام لا بالدّار.

ولنا: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قِوْمٍ عَدُوَ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}

(2)

فالآية سيقت لبيان أنواع القتل وموجباته، فأوجب في المؤمن المطلق: دِيَةً وكفارةً

(3)

، ثم أوجب بقتل مسلم لم يهاجر إلينا: كفارةً فقط بقوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوَ لَكُمْ} أي المقتول إذا كان من الكفار داراً وهو مؤمن {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ثمّ أوجب بقتل الذّميّ: ديةً وكفارةً

(4)

، فدلّ إيجاب الكفارة وحدها فيمن لم يهاجر على أن لا ديةَ له، لأنه جعل الكفَّارة كل الواجب، لأنها كل المذكور، فلا يجوز أن يزاد عليها، لأنها نسخ، فلا يجب على قاتله سوى الكفارة في القتل الخطأ لما تلونا.

(فَصْلٌ في الجِزْيَةِ)

(وَلَا تَتَغَيَّرُ جِزْيَةٌ وُضِعَتْ بِصُلْحٍ) لأنّ الموجِب لها حينئذٍ هو التَّراضي، فلا يقع على خلاف ما وقع عليه. والجزية: ما يؤخذ من الذميّ باعتبار رأسه، وسمّيت جزية

ص: 294

وَإِذَا غُلِبُوا وَأُقِرُّوا عَلَى أَمْلاكِهِمْ تُوضَعُ عَلَى: كِتَابِيٍّ، وَمَجُوسِيٍّ، وَوَثَنِيٍّ عَجَمِيٍّ ظَهَرَ غناه، لِكُلِّ سَنَة ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَعَلَى المُتَوَسِّطِ نِصْفُهَا، وَعَلَى فَقِيرٍ يَكْتَسِبُ رُبْعُهَا.

===

لأنها تجزاء ـ أي تقضي وتكفي ـ عن القتل، إذ بقَبُولها يسقط القتل عن الذميّ. ويكلّف أي يأتي بنفسه ويعطيها قائماً والقابض منه قاعداً، ولا تُقْبَلُ منه لو بعثها من يد نائبه في أصحّ الروايات وذلك لقوله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}

(1)

وإنما اعتبر الصلح به لما روى أبو داود في كتاب الخراج

(2)

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل نَجْرَانَ على ألفي حُلّة: النصف في صَفَر، والبقية في رجب يؤدُّونها إلى المسلمين، وعَارِيَّة: ثلاثين دِرْعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، وثلاثين من كلّ صنفٍ من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتّى يردّوها عليهم إن كان باليمن كيدٌ أو غَدْرةٌ على أن لا يَهْدِم لهم بِيعَة

(3)

ولا يُخرج لهم قِسٌّ، ولا يُفْتَنُوا عن دينهم، ما لم يُحْدِثوا حدثاً أو يأكلوا الرِّبا. ونجران: بلد من اليمن وأهله نصارى. والحُلة: إزار ورداء.

(وَإِذَا غُلِبُوا) بصيغة المجهول وكذا قوله: (وَأُقِرُّوا عَلَى أَمْلَاكِهِمْ تُوضَعُ عَلَى كِتَابِيَ وَمَجُوسِيَ وَوَثَنِيَ عَجَمِيَ) أي دون عربيّ (ظَهَرَ غناه لِكُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَماً) يؤخذ منه في كل شهرٍ أربعة دراهم.

(وَعَلَى المُتَوَسِّطِ) وهو من يملك نصاباً (نِصْفُهَا) أي أربعةٌ وعشرون درهماً، يؤخذ منه في كل شهر درهمان (وَعَلَى فَقِيرٍ يَكْتَسِبُ) أي يَقِدرُ على الكسب سواء اكتسبَ أو لم يكتسب (رُبْعُهَا) أي اثنا عشر درهماً، يؤخذ منه في كل شهر درهم لِمَا روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» في الإِمارة عن عليّ بن مُسْهِر

(4)

، عن الشَّيْبَانيّ، عن أبي عون محمد بن عُبَيْد الله الثَّقَفِيّ قال: وضع عمر بن الخطاب الجزية على رؤوس الرجال: على الغني ثمانيةً وأَربعين درهماً، وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهماً، وعلى الفقير اثني عشر درهماً.

وروى أبو عُبَيْد القاسم ابن سلاّم في كتاب «الأموال» عن عمر أنه بعث عثمان

(1)

سورة التوبة، الآية:(29).

(2)

حُرِّفت في المخطوط والمطبوع إلى: كتاب الأموال، والصواب ما أثبتناه من "نصب الراية" 3/ 445، وهو عند أبي داود في السنن 3/ 429 - 430، كتاب الخراج والإمارة (19)، باب في أخذ الجزية (29، 30)، رقم (3041).

(3)

البيعَةُ: معبد النَّصارى. المعجم الوسيط ص 79، مادة (باع).

(4)

حُرِّفت في المطبوع إِلى عليّ بن يسهر، والصواب ما أثبتناه من المخطوط، و "نصب الراية" 3/ 447.

ص: 295

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

بن حُنَيْف فوضع عليهم ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين، واثني عشر. ويُعْتَبَرُ وجود هذه الصفات الثلاث آخر السنة.

وقال الشافعيّ: يوضع على كل بالغ دينار، غنياً كان أو فقيراً، لما روى أبو داود والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ، والنَّسائي في الزكاة عن الأعمش، عن أبي وائل، (عن مسروق)

(1)

عن مُعَاذ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وأمرني أن آخُذَ من البقر من ثلاثين تبيعاً

(2)

أو تبيعة، ومن كل أربعين مُسِنَّة،

(3)

ومن كل حالمٍ ديناراً أو عِدْلَه مُعَافِر. والحالم: البالغ، والعَدِل: بالفتح المثل من خلاف الجنس،. وبالكسر المثل من الجنس. وَالمُعَافِر: حي من هَمْدان يُنْسَبُ إليه نوعٌ من الثياب. وقال مالك: يُوضَعُ على الغني أربعون درهماً أو أربعة دنانير، وعلى الفقير عشرة دراهم أو دينارٍ. وعن أحمد ثلاث روايات: روايةٌ: يفوّض إلى رأي الإمام، وبه قال الثوري وأبو عُبَيْدة، وروايةٌ: أقلّها دينارٍ وتجوز الزِّيادة، ولا يجوز النُّقصان، وروايةٌ: كقولنا.

ثم عندنا توضع الجزية على كل كافرٍ ليس بمرتدٍ ولا وثنيَ عربيَ، وبه قال أحمد في رواية، لأن عمر ضرب الجزية على أهل سواد العراق بمحضرٍ من الصحابة ولم يسأل عن أديانهم، ولأنه يجوز استرقاقهم إجماعاً، فكذا وضع الجزية عليهم (إذ)

(4)

بكلَ منهما يلحقه الصَّغار والذُّل. وقال أحمد: لا يؤخذ إلاّ من اليهود والنصارى ومن وافقهم في أصل دينهم وآمن بكتابهم كالسَّامِرة لليهود، والإفرنج للنصارى. وقال الشافعي: لا تؤخذ إلاّ من اليهود والنصارى والمجوس، وفي أصحاب صحف إبراهيم وشيث وإدريس وزُبُر دواد ومَنْ تمسك بدين آدم، وفي السَّامرة والصابئين وجهان في مذهبه: أحدهما تؤخذ، وثانيهما لا تؤخذ. وقال مالك: تؤخذ من جميع الكفار إلاّ من مشركي قُرَيْش.

والدليل على أخذها من أهل الكتاب قوله تعالى: {قَاتِلُوا الذِينَ لا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ولا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حتّى يُعْطُوا الجِزْيَة عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرونَ}

(5)

، وعلى أخذها من المجوس: ما

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع، وإثباته الصواب لموافقته لما في سنن الترمذي 3/ 20، كتاب الزكاة (5) باب ما جاء في زكاة البقر (5)، رقم (623).

(2)

التَّبِيعُ: ما أتم الحول من البقر. معجم لغة الفقهاء ص 121.

(3)

المُسِنَّةُ: من البقر، ما جاوز السنتين. معجم لغة الفقهاء ص 429.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(5)

سورة التوبة، الآية:(29).

ص: 296

لا عَلَى وَثَنِيٍّ عَرَبِيٍّ، فَإِنْ ظُهِرَ عَلَيْهِ، فَطِفْلُهُ وَعِرْسُهُ فيءٌ، وَلا مُرْتَدٍّ، فَلا يُقْبَلُ مِنْهُمَا إلا الإسْلامُ أوْ السَّيْف،

===

رواه محمد بن الحسن في «الموطّأ» ، وابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن مالك، عن الزُّهْرِيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البَحْرَيْن، وأن عمر أخذها من مجوس فارس وأن عثمان أخذها من مجوس البربر.

وما رواه البزّار في «مسنده» ، والدَّارَقُطْنِيّ في «غرائب مالك» من حديث أبي علي الحنفي: حدّثنا مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: لا أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد (أني)

(1)

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سُنُّوا بهم سنَّة أهل الكتاب» . وفي البخاري، ولم يكن عمر أخذ الجزية حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هَجَر. وكذا رواه أحمد وجماعة. وعن المُغِيرَة بن شُعْبَة أنه قال لعامل كسرى: أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتّى تعبدوا الله وحده، أو تؤدّوا الجزية. رواه أحمد والبخاري، وكانوا عبدة الأوثان.

(لا) أي لا توضع الجزية (عَلَى وَثَنِيَ عَرَبِيَ فَإِنْ ظُهِرَ عَلَيْهِ) بصيغة المجهول أي على الوثنيّ العربيّ (فَطِفْلُهُ وَعِرْسُهُ) أي زوجته (فيء) لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سبى ذراري

(2)

أوْطَاس وَهَوَازِن ونسائهم وقسمها بين الغانمين (وَلَا) توضع أيضاً على (مُرْتَدَ) سواء كان من العرب أو العجم، فإن ظُهِرَ عليه فطفله ونساؤه فيءٌ، لأن أبا بكر سبى نساء بني حنيفة وذراريهم لمّا ارتدُّوا وقسمهم، فوقع في سهم عليَ الحنفيةُ فأوْلدها ابنه محمد ابن الحنيفة. ثم كُفْر المرتدّ أغلظ من كفر مشركي العرب، ولذا كان ذراري المرتدّين ونساؤهم يجبرون على الإسلام، بخلاف ذراري عبدة الأوثان من العرب ونسائهم. (فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمَا) أي من الوثنيّ العربيّ ومن المرتدّ (إلاّ الإسْلامُ أوْ السَّيْف) زيادةً في العقوبة عليهما، لأن كفرهما أغلظ من كفر غيرهما.

أما المشرك العربيّ، فلأن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم والقرآن نزل بلغتهم، فالمعجزات أظهر في حقّهم. وأمّا المرتدّ، فلأنه كفر بعدما هُدِيَ إلى الإسلام ووقف على محاسنه من الأحكام. وقال مالك والشّافعيّ وأحمد: يجوز استرقاق وثنيّ العرب، لأن استرقاقه إتلافٌ له حكماً، فيجوز كإتلافه حقيقةً، ولنا: قوله تعالى في حقّ عبدة الأوثان من العرب: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}

(3)

. ولا توضع أيضاً على زِنديقٍ، بل إن

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سبق شرحها ص 264، التعليقة رقم:(1).

(3)

سورة الفتح، الآية:(16).

ص: 297

وَلا عَلَى رَاهِبٍ لا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلا عَلَى صَبِيٍّ، وامْرَأَة، ومَمْلُوكٍ، وأَعْمَى، وزَمِنٍ، وَفَقِيرٍ لا يَكْتَسِبُ.

وَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَالإِسلامِ،

===

جاء قبل أن يؤخذ وأقرّ أنه زنديقٌ وتاب تقبل توبته، وإن أُخِذَ ثم تاب يقتل ولا تقبل (توبته ولا)

(1)

منه الجزية، لأنه يعتقد في الباطن خلاف الظاهر.

(وَلَا) توضع (عَلَى رَاهِبٍ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ) وذكر محمد عن أبي حنيفة رحمه الله أنها توضع عليه، وهو قول أبي يوسف وقول للشافعي وأحمد، لأنه ضيّع القدرة على العمل، فصار كمن عطّل الأرض الخَرَاجِيّة عن الزراعة، ووجه ما في «الكتاب» أنه لا قتل عليهم إذا كانوا لا يخالطون الناس، والجزية في حقّهم لإسقاط القتل.

(وَلَا) توضع (عَلَى صَبِيَ و) لا (امْرَأَةٍ و) لا (مَمْلُوكٍ و) لا (أَعْمَى و) لا (زَمِنٍ) ولو كانوا غنيِّين، لأنّها بدلٌ عن القتل أو القتال. وَمَنْ عدا المملوك

(2)

لا يقتل ولا يقاتل لعدم الأهلية. ويدخل في المملوك القِنّ

(3)

والمُكَاتَب

(4)

والمُدَبَّر

(5)

، وإنما لا توضع عليه لأنها بدل عن القتل في حقّه أو عن النصرة في حقّنا بالقتال. وعلى الاعتبار الأوّل يجب وضع الجزية، لأن الأصل يتحقّق في حقّ المماليك، لأن المملوك الحربي يقتل، فيتحقّق البدل أيضاً، وعلى اعتبار الثاني لا يجب، لأنّ العبد لا يقدر على النصرة فلا يجب عليه البدل (فلا توضع بالشك)

(6)

.

(وَ) لا توضع على (فَقِيرٍ لَا يَكْتَسِبُ) أي لا يقدر على الكسب كالمريض في السنة كلّها، أو في أكثرها إقامة للأكثر مقام الكلّ، أو في نصفها ترجيحاً لجانب الإسقاط في العقوبة، بخلاف القادر على الكسب التارك له، فإنها تؤخذ منه كمن قدر على الزراعة ولم يزرع حيث يؤخذ منه الخَرَاج.

(وَتَسْقُطُ) الجزية (بِالْمَوْتِ وَالإِسْلَامِ) سواء كان في أثناء السنة أو

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

أَي الصبيّ والمرأَة والأعمى والزَّمِن.

(3)

القِنُّ: الرَّقيق الكامل الرِّق، إِذا لم يحصل فيه شيء من أَسباب العتق أَو مقدماته كالمكاتَبة، والتدبير ونحو ذلك. معجم لغة الفقهاء ص 370.

(4)

سبق شرحها ص 13، التعليقة رقم:(7).

(5)

سبق شرحها ص 13، التعليقة رقم:(6).

(6)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 298

وَتَتَدَاخَلُ بِالتَّكْرَار.

وَلا تُحْدَثُ بِيعَةٌ وَكَنِيسَةٌ فِي دَارِنَا، وَلَهُمْ إعَادَةُ المُنْهَدِمِ

===

بعد تمامها قبل الأخذ. وقال الشافعي: لا تسقط بعد تمامها، وله فيما إذا أسلم أو مات في أثنائها قولان: أحدهما: أنه تؤخذ جزية ما مضى، والآخر تسقط، وهذا الخلاف يأتي فيمن عَمِيَ أو صار مُقْعَداً أو زَمِناً أو شيخاً كبيراً لا يستطيع العمل، أو فقيراً لا يقدر على شيءٍ وقد بقي عليه شيء من الجزية، فإنه يسقط عنه عندنا، وعند الشافعي لا تسقط، لأن الجزية وجبت عن العصمة الثابتة بعقد الذِّمة، أو عن سُكْنَى في دارنا، وقد وصل إليه المعوَّض، فلا يسقط عنه العِوَض بهذا العارض، كما لا تسقط به الأجرة.

ولنا: ما روى أبو داود في «الخَرَاج» ، والترمذي في الزكاة من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ليس على المسلم جزية» . قال أبو داود: وسُئِلَ سفيان الثوري عن هذا فقال: يعني إذا أسلم فلا جزية عليه. (وَتَتَدَاخَلُ) أي الجزية (بِالتَّكْرَار) يعني إذا اجتمع على الذميّ أكثر من حولٍ لا تؤخذ منه إلا عن حولٍ واحدٍ، وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: تأخذ عن الجميع، وهو قول الشافعيّ وأحمد.

(وَلَا تُحْدَثُ بِيعَةٌ) وهي معبد النصارى (وَ) لا (كَنِيسَةٌ) وهي معبد اليهود، ولا صومعة: وهي معبد الرُّهْبان، ولا بيت نار: وهو معبد المجوس (فِي دَارِنَا) أي في الأمصار. قيل: ولا في القرى، وهذا الخلاف في غير أرض العرب، وأمّا فيها فيمنعون من ذلك في الأمصار والقرى قولاً واحداً.

ويمنع المشركون أيضاً من السُّكْنَى فيها (وَلهمْ إعَادَةُ المُنْهَدِمِ) لأن الأبنية لا تبقى دائماً، ولجريان التوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا بترك البِيَع والكنائس في أمصار المسلمين. ولمّا أقرهم الإمام فقد عُهد إليهم الإعادة بطريق الدلالة إلاّ أنهم لا يمكَّنون من نقلها ولا زيادة في محلّها، لأنه إحداثٌ في الحقيقة.

روى البيهقي في «سننه» عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خِصَاء في الإسلام، ولا بُنْيَان كنيسة» . إلاّ أنه ضعّفه. وروى أبو عُبَيْد القاسم بن سلاَّم بسنده إلى توبة بن النمر الحضرمي قاضي مصر، عمّن أخبره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«لا خِصاء في الإسلام ولا كنيسة» . وروى أيضاً بسندٍ فيه ابن لَهِيعة إلى عمر بن الخطّاب أنه قال: لا كنيسة في الإسلام، ولا خصاء. وروى مالك في «الموطّأ» عن ابن شِهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» . قال مالك عن ابن شِهاب

ص: 299

وَمُيِّزَ الذِّمِّيُّ فِي: زِيِّهِ، وَمَرْكَبِهِ، وَسَرْجِهِ، وَسِلاحِهِ، فَلا يَرْكَبُ خَيْلًا، وَلا يَعْمَلُ بِسِلاحٍ، وَيُظْهِرُ الكُسْتِيجُ، وَيَرْكَبُ عَلَى سَرْجٍ كَإكَافٍ.

وَمُيِّزَتْ نِسَاؤُهُمٍ فِي الطُّرُقِ وَالحَمَّامِ، ويُعَلَّمُ عَلَى دُورِهِمْ، لِئَلَّا يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ السَّائِلُ.

===

فَفَحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتّى أتاه اليقين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» . فأجلى يهود خَيْبَر، وأجلى يهود نَجْرَان وفَدَك. وجزيرة العرب هي أرض العرب، وقد سبق تفسيرها في الزكاة. وسُمِّيت جزيرة لأنها جَزَرَتْ عنها المياه التي حَوَالَيْها، كبحر البَصْرة وعُمَان وَعَدَن والفُرَات. والجَزْرُ: القَطْع.

(وَمُيِّزَ الذِّمِّيُّ) من المسلم (فِي زِيِّهِ) أي لبسه، فلا يلبَسُ طَيْلَسَاناً

(1)

مثل طَيْلَسَان المسلمين، ولا رداءً مثل أرديتهم (وَ) في (مَرْكَبِهِ وَسَرْجِهِ وَسِلَاحِهِ) إظهاراً للصَّغَار عليهم، وصيانةً لمن ضعف يقينه من المسلمين عن الميل إلى دينهم، كما يشير إليه قوله تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}

(2)

الآية، ولأَنَّ المسلم يُكْرَمُ، والذمي يُهَان، حتّى يضيّق عليه الطريق ولا يُبْدَأ بالسلام، ولا يُجَاب إلا بِعَلَيْك، ولأنه لو لم يميّز لعلّه يُعَامل معاملة المسلمين، وذا لا يجوز.

(فَلَا يَرْكَبُ) الذِّميّ (خَيْلاً وَلَا يَعْمَلُ) أي لا يحمل (بِسِلاحٍ) لأنه ليس من أهل الجهاد، وهذا في الحضر، وجُوِّزَ له في السفر لاحتمال الاحتياج إليه (وَيُظْهِرُ الكُسْتِيجُ) بضم الكاف وسكون السين المهملة وكسر التاء الفوقية فياء ساكنة فجيم: وهو خيطٌ غليظٌ يشدّه الذميّ فوق ثيابه، ولا يُظْهِرُ الزُّنَّار المتخذ من الإِبْرَيْسَم

(3)

.

(وَيَرْكَبُ) عند الضرورة (عَلَى سَرْجٍ كَإكَافٍ)

(4)

وذكر التُّمُرْتَاشِي أنه يكتفي في كل بلدٍ من العلامة بما تعارفه أهله، لأن المقصود يحصل به. (وَمُيِّزَتْ نِسَاؤُهُمْ) عن نساء المسلمين (فِي الطُّرُقِ وَالحَمَّامِ، ويُعَلَّمُ عَلَى دُورِهِمْ) بعلامة (لِئَلاَّ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ السَّائِلُ) إذا وقف عليها، ويمنعون من تَعْلِية أبنيتهم علينا، ولا يُنقض عهدهم بقتل مسلم، بل يُقَاد إن كان عمداً، وتجب الدِّيَة إن كان خطأ، ولا بوطء مسلمةٍ بل يحدّ،

(1)

الطَّيْلَسَان: ضرب من الأوشحة يُلْبَس على الكتف، أَو يحيط بالبدن، خالٍ عن التفصيل والخياطة وهو ما يُعْرف في العاميّة المصرية بالشال. المعجم الوسيط ص 561، مادة (طلس).

(2)

سورة الزخرف، الآية:(33).

(3)

الإبْرَيْسَم: أحسن الحرير. المعجم الوسيط ص 2.

(4)

أَي كحرف الكاف في الهيئة.

ص: 300

وَمَصْرِفُ الجِزْيَةِ وَالخَرَاجِ وَمَا أُخِذَ مِنْهُ بِلا حَرْبٍ مَصَالِحُنَا: كَسَدِّ ثَغْرٍ، وَبِنَاءِ جِسْرٍ، وَرِزْقِ العُلَمَاءِ وَالعُمَّالِ وَالمُقَاتِلَةِ وَذُرِّيَّتهِمْ.

===

ولا بسبّ نبيَ من الأنبياء، فلا يُغْنَم ماله، بل يجري عليه الحكم مثلما يجري على مسلمٍ صدر منه مثله.

وصار كالإِبَاء عن أداء الجزية على المذهب، لأن ما ينتهي به القتال التزام الجزية، وقَبُولها لأدائها، فالالتزام باقٍ فيسقط القتال، وينتقض على رواية «واقعات الحُسامي» اعتباراً للانتهاء بالابتداء، بل ينتقض باللَّحاق بدار الحرب، أو بالغلبة على موضعٍ من دارنا للحرب، لأنهم لمَّا صاروا حرباً علينا خلا عقد الذِّمة عن فائدة دفع شرّ الحرب، فلا يبقى. وإذا انتقض عهده صار كالمرتدّ في الحكم، إلاّ أنه إذا أُسِرَ يجوز أن يُسْتَرقَّ وأن توضع عليه الجزية ثانياً بخلاف المرتدّ.

(وَمَصْرِفُ الجِزْيَةِ وَالخَرَاجِ) مبتدأ مضافٌ (وَمَا أُخِذَ مِنْهُ) أي من الحربيّ (بِلَا حَرْبٍ) كَهدية، وما أَخذ منه العاشر

(1)

، أو من الذمي إذا مرّ عليه، وما صُولِحَ عليه على ترك القتال قبل نزول العسكر لساحته (مَصَالِحُنَا) خبر المبتدأ (كَسَدِّ ثَغْرٍ) بالخيل والرِّجال، والثَّغْر: موضع المخافة من فروج البلدان. (وَبِنَاءِ جِسْرٍ) وهو ممّا يُرْفَع ويُوضَع، وقنطرة وهي: ما يحكم بناؤه فلا يرفع (وَرِزْقِ العُلَمَاءِ) أي المشغولين بعلم الشريعة وطلبتهم (وَالعُمَّالِ) أي الذين يقبضون الزكوات والعشورات والجزية والخَرَاجات.

(وَالمُقَاتِلَةِ وَذُرِّيَتِهِمْ) أي ذريّة العلماء والعمال والمقاتلة، لأنه مالٌ وصل إلى المسلمين بلا قتالٍ فيصرف في مصالحهم، وهؤلاء حبسوا أنفسهم لنفع المسلمين، فكان الصرف إليهم صرفاً في مصالح المسلمين، ونفقة الذراري على الآباء، فيعطون كفايتهم كيلا يشتغلوا عن مصالح المسلمين، ولا يورَّث عطاء من مات منهم في نصف السنة، لأنه صدقة

(2)

وهي لا تملك إلاّ بالقبض، وإن مات في آخرها يستحبَّ دفعه لورثته إقامةً لتمام السنة مقام قبضه إياه، وعلى هذا قيل: إن الإمام أو المؤِّذن أو المدرِّس إذا مات قبل أن يقبض معلومه، ليس لورثته أن يأخذوا ذلك.

واعلم أنّ بيت المال أنواع أربعة: أحدها: هذا الذي ذُكِر. وثانيها: الزكاة والعُشُر، ومصرفها: ما ذكره الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}

(3)

(1)

العاشر: هو الذي يأخذ العُشُور. والعُشْرُ: هو ما يؤخذ من زكاة الأرض التي أَسلم أَهلها عليها، وهي التي أَحياها المسلمون من الأرضين والقطائع. المعجم الوسيط، 602، مادة (عشر).

(2)

في المخطوط: صلة، والمثبت من المطبوع.

(3)

سورة التوبة، الآية:(60).

ص: 301

[أحْكامُ المُرْتَدِّ]

وَمَنِ ارْتَدَّ - وَالعِيَاذُ بِاللَّهِ - عُرِضَ عَلَيهِ الإسْلامُ، وَكُشِفَتْ شُبْهَتُهُ، فَإِنِ اسْتَمْهَلَ حُبِسَ ثَلاثَةَ أيَّامٍ. فَإنْ تَابَ فِيهَا، وَإلَّا قُتِلَ.

===

الآية .... وثالثها: خُمْس الغنائم والمعادن والرِّكَاز

(1)

، ومصرفها: ما ذكره الله تعالى في قوله تعالى: {فَأَنّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}

(2)

الآية. ورابعها: اللَّقَطَات، والتركات التي لا وارث لها، ودِيَات مقتولٍ لا ولي له، ومصرفها: الفقراء الذين لا أولياء لهم، يعطَون منه نفقتهم وأَرْدِيتهم ويُكَفَّن به موتاهم، ويعقل به جنايتهم، وعلى الإمام أن يتقي الله ويصرفه إلى كل مستحقّ قدر حاجتِهِ من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ، فإن قصّر في ذلك نصيباً، فكفى بالله حسيباً.

(أَحكام المُرْتدّ)

(وَمَنِ ارْتَدَّ) عن الإسلام، (وَالعِيَاذُ بِاللَّهِ) من ذلك المقام (عُرِضَ عَلَيْهِ الإِسْلَامُ) على سبيل الندب رجاء أن يعود دون الوجوب، لأن الدعوة قد بلغته، وهو قول مالك والشافعي وأحمد (وَكُشِفَتْ شُبْهَتُهُ) إن كانت له شبهة، لأن في ذلك دفع شرّه بأحسن الأَمرين (فَإِنِ اسْتَمْهَلَ) أي طلب أن يُمْهَل (حُبِسَ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ) للمهلة، لأنها مدّة ضربت لإبلاء

(3)

الأعذار كما في شرط الخيار (فَإِنْ تَابَ فِيهَا) قُبِل (وَإِلاّ قُتِلَ) من ساعته في ظاهر الرواية لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدّل دينه فاقتلوه» . رواه أحمد والبخاري. ولأنه حربي بلغته الدعوة فيقتل في الحال من غير الإمهال، كالكافر الأصلي، (ولا)

(4)

يجوز تأخير ما وجب للحال لأمرٍ موهومٍ في الاستقبال.

وفي «النوادر» عن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه يستحبّ أن يؤجّل ثلاثة أيام، طَلَبَ ذلك أو لم يطلب. وفي أصحّ قولي الشافعيّ: إن تاب في الحال وإلاّ قُتِلَ من غير الإمهال، وهو اختيار ابن المُنْذِر. وقال الثوري: يُستتابُ ما رُجِيَ عودُهُ. وقال الزُّهْرِي

(5)

: يُدْعى ثلاثاً، فإن أبي قُتِلَ. وفي «المبسوط»: إن ارتدّ ثانياً وثالثاً فكذلك

(1)

الرِّكاز: ما ركزه - أوجده - الله تعالى في الأَرض من المعادن في حالتها الطبيعية. المعجم الوسيط ص 36، مادة (ركز).

(2)

سورة الأَنفال، الآية:(41).

(3)

أَبلاهُ عُذْرًا: أَي أَدَّاه إِليه فَقَبله. القاموس المحيط، ص 1632، مادة (بَلِيَ).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(5)

في المطبوع: الثوريّ، والمثبت من المخطوط.

ص: 302

وَهِيَ بِالتَّبَرِّي عَنْ كُلِّ دِينٍ سِوَى الإِسْلامِ، أَوْ عَمَّا انْتَقَلَ إِلَيهِ. وَقَتْلُهُ قَبْلَ العَرْضِ تَرْكُ نَدْبٍ بِلا ضَمَانٍ.

وَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ مَالِهِ مَوْقُوفًا،

===

يستتاب، وبه قال أكثر أهل العلم لإطلاق قوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}

(1)

وقال مالك وأحمد والليث: لا يستتاب مَنْ تكرّر منه ذلك، كالزنديق لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكِنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}

(2)

.

ولنا في الزنديق روايتان: في روايةٍ: لا تقبل توبته كقول مالك، وفي روايةٍ تقبل كقول الشافعيّ، والخلاف في حقّ أحكام الدنيا، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فتقبل بلا خلافٍ لقوله تعالى في حقّ المنافقين:{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا}

(3)

إلى قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ}

(4)

، والآية التي استدلّوا بها إنما هي في حقّ من ازداد كفراً، لا في حقّ من آمن وأظهر التوبة. وعن أبي يوسف: أنه إذا تكرّر منه الارتداد يقتل من غير عرض الإسلام، لأنه مستخفٌّ بالدّين.

(وَهِيَ) أي توبة المرتدّ (بِالتَّبَرِّي عَنْ كُلِّ دِينٍ سَوَى الإِسْلَامِ، أَوْ عَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهِ) لحصول المقصود به، وهذا بعد إتيانه بكلمة الشهادة كما في «الإيضاح» . (وَقَتْلُهُ) مبتدأ أي قتل المرتدّ (قَبْلَ العَرْضِ) أي عرض الإسلام عليه (تَرْكُ نَدْبٍ بِلَا ضَمَانٍ) لأن العرض مندوبٌ إِليه، ومَنْ يقول بأنه واجبٌ، فعنده أن قتله قبل العرض حرامٌ، لأنه تَرْك واجب. وأمّا انتفاء الضمان عند الكلّ، فلأن الكفر مبيحٌ لقتله، والعرض ندبٌ أو واجبٌ رجاء رجوعه.

(وَيَزُولُ مِلْكُهُ) أي ملك المرتدّ (عَنْ مَالِهِ) زوالاً (مَوْقُوفاً) على تبيُّن حاله، وبه قال مالك، والشّافعيّ في أصحّ قوليْه، وأحمد في روايةٍ. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يزول، وبه قال الشافعي في قولٍ، واختاره المُزَنِيّ، وهو ظاهر الرواية عن أحمد. قال ابن المُنْذِر: وهو قول أكثر أهل العلم، لأن أثر الرِّدَّة في إِباحة دمه، لا في زوال ملكه كالمَقْضِيِّ عليه بالرَّجْم والقَوَد.

ولأبي حنيفة: أن المرتدّ قد زالت عصمة نفسه بالرِّدَّة، لأنه يصير حربياً حتّى

(1)

سورة التوبة، الآية:(5).

(2)

سورة النساء، الآية:(137).

(3)

سورة البقرة، الآية:(160).

(4)

سورة النساء، الآية:(146).

ص: 303

فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَ.

وَإذا مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارهِمْ، وَحُكِمَ بِهِ، عَتَقَ مَدَبَّرُهُ وَأُمُّ وَلَدِهِ، وَحَلَّ دَيْنٌ عَلَيْهِ، وَكَسْبُ إِسْلامِهِ لِوَارِثِهِ المُسْلِم، وَكَسْبُ رِدَّتِهِ فَيءٌ.

وَقُضِيَ دَيْنُ كُلِّ حَالٍ مِنْ كَسْبِ تِلْكَ الحَالِ.

وَبَطَلَ نِكَاحُهُ وَذَبْحُهُ، وَصَحَّ طَلاقُهُ واسْتِيلادُهُ.

===

يقتل، فكذا عصمة أمواله، لأنها تابعةٌ لنفسه، غير أنه لمّا كان مدعواً إلى الإسلام بالإجبار عليه ويُرْجَى عَوْده إليه لوقوفه على محاسنه توقّفنا في أمره. (فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَ) ملكه وجُعِلَ هذا العارض ـ وهو الارتداد ـ كأَنْ لم يكن في حق زوال الملك. وإنما قيّدنا بهذا، لأن هذا العارض معتبرٌ في حقّ إحباط العمل من الطَّاعات، وفي حقّ وقوع الفُرْقة بينه وبين زوجته، وفي حق فَرْضية تجديد الإيمان.

(وَإِذا مَاتَ أَوْ قُتِلَ) على رِدَّته

(1)

(أَوْ لَحِقَ بِدَارهِمْ وَحُكِمَ بِهِ) أي بلحوقه بدارهم (عَتقَ مُدَبَّرُهُ

(2)

وأُمُّ وَلدِهِ

(3)

) لأنه باللّحاق صار من أهل الحرب، وهم أمَواتٌ في حقّ أحكام الإسلام لانقطاع ولاية الإلزام عنهم كما انقطعت عن الموتى، فصار كالميت، وهو يَعْتِق مدبَّرهُ وأمُّ ولده، إلاّ أنه لا يستقر لحاقه إلاّ بحكم حاكمٍ حيّ لاحتمال عوده إلينا.

(وَحَلَّ دَيْنٌ عَلَيْهِ) لأن الدَّين المؤجَّل يصير حالاًّ بموت المديون، واللحوق بدارهم إذا حُكِمَ به في حكم الموت. (وَكَسْبُ إِسْلَامِهِ لِوَارِثِهِ المُسْلِمِ، وَكَسْبُ رِدَّتِهِ فَيءٌ) وقال أبو يوسف ومحمد: كلاهما لورثته المسلمين (وَقُضِيَ دَيْنُ كُلِّ حَالٍ) من الإسلام والرِّدَّة (مِنْ كَسْبِ تِلْكَ الحَالِ) فَيُقْضَى دَينُ حالِ الإسلام من كسب الإسلام، ودينُ حالِ الرِّدَّة من كسب الرِّدَّة. وعند أبي يوسف ومحمد: تُقْضَى ديونه منهما. (وَبَطَلَ نِكَاحُهُ وَذَبْحُهُ) اتفاقاً وكذا إرثه، لأن هذه الأمور تعتمد الملّة، ولا ملّة للمرتدّ. (وَصَحَّ طَلَاقُهُ واسْتِيلَادُهُ)

(4)

اتفاقاً، فإن قيل: بالارتداد تقع الفُرْقة، فكيف يُتَصَوَّرُ منه الطَّلاق؟ أُجِيبَ: بأنّ الفسخ الذي يقع بالرِّدَّة تعتدّ المرأة له، فإذا طلَّقها وهي في العدّة وقع الطَّلاق، وكذا لو ارتدّا معاً فطلّقها فأسلما معاً لا ينفسخ النِّكاح ويقع الطَّلاق.

(1)

في المخطوط: رواية، والمثبت من المطبوع.

(2)

سبق شرحها ص 13، التعليقة رقم (6).

(3)

سبق شرحها ص 13، التعليقة رقم (8).

(4)

الاستيلاد: وطء الأَمة المملوكة ابتغاء الولد منها. معجم لغة الفقهاء ص 67.

ص: 304

وَيُوقَفُ بَيعُهُ وَمَعَامَلَتُهُ، إِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ، وَإنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أوْ لَحِقَ وَحُكِمَ بِهِ، بَطَلَ.

فإِن جَاءَ مُسْلِمًا قَبْلَ حُكْيمٍ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ. وَإنْ جَاءَ بَعْدَهُ وَمَالُهُ مَعَ وَرَثَتِهِ أَخَذَهُ.

وَلا تُقْتَل مُرْتَدَّةٌ، وَتُحْبَسُ حَتَّى تُسْلِمَ

===

(وَيُوقَفُ بَيْعُهُ وَمَعَامَلَتُهُ) من شراءٍ وإجارةٍ ورهنٍ وهبةٍ وعتقٍ وتدبير وكتابةٍ ووصيةٍ (إِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أوْ لَحِقَ وَحُكِمَ بِهِ بَطَلَ) وقال أبو يوسف ومحمد: لا يُوقَفُ بل ينفذ تصرّفه سواء أسلم أو مات أو لحق، وهو قول مالك والشّافعيِّ (فإِن جَاءَ) المرتدّ (مُسْلِماً قَبْلَ حُكْمٍ) بلحاقه إلى دار الإسلام (فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ) وأم ولده ومدبَّره باقيان على ملكه.

(وَإِنْ جَاءَ بَعْدَهُ) أي بعد الحكم بلَحَاقه. (وَمَالُهُ) بعينه (مَعَ وَرَثَتِهِ أَخَذَهُ) لأن وارثه إنما خلفه لاستغنائه عنه، فإذا عاد ظهرت حاجته وبَطَل حكم الخَلَف، لكن إنّما يعود إلى ملكه بقضاءٍ أو رِضاءٍ. قال الحَلْواني: ولو كان هذا بعد موته حقيقةً بأن أحياه الله تعالى وأعاده إلى الدنيا، لكان الحكم كذلك، إلاّ أنه خلاف العادة. قيّد بماله، لأنه لا سبيل له على أمهات أولاده ولا مدبَّريه، لأن القاضي قضى بعتقهن عن ولاية شرعية، فلا ينقض. وقيّدنا ماله بعينه، لأنه لا يأخذ ثمنه إذا باعه الوارث ولا قيمته، لأنه باعه وأتلفه في وقتٍ كان فيه سبيل من ذلك.

(وَلَا تُقْتَلُ مُرْتَدّةٌ) لكن لو قتلها إنسانٌ لا شيء عليه، سواء كانت حرَّة أو أمة، كذا في «المبسوط» . (وَتُحْبَسُ حَتَّى تُسْلِمَ) أو تموت، وقال مالك، والشافعيّ، (وأحمد)

(1)

، واللَّيث، والزُّهْرِيّ، والأوْزَاعِيّ ومكحول، وحمّاد: تُقْتَلُ، لما روى البخاري وابن أبي شَيْبَة من حديث ابن عبّاس ـ واللفظ لابن أبي شَيْبَة ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من بدّل دينه فاقتلوه» . وكلمة «مَنْ» تعمّ الرِّجال والنساء كقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}

(2)

. ولنا ما روى الطَّبَرَانيّ في «معجمه» عن مُعَاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن: «أيّما رجلٍ ارتدّ عن الإسلام فادعه، فإن تاب فاقبل منه، وإن لم يتب فاضرب عنقه بالسيف، وأيما امرأةٍ ارتدّت عن الإسلام فادعها، فإن تابت فاقبل منها، وإن أبت فاسْتَتِبْها» .

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

سورة البقرة، الآية:(185).

ص: 305

وَصَحَّ تَصَرُّفُهَا، وكَسْبَاهَا لِوَرَثَتِهَا.

===

وروى ابن عَدِي في «كامله» بسنده إلى أبي هُرَيْرة أنّ امرأةً ارتدّت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقتلها. ولكن ضُعِّفَ من رواية حَفْص بن سُلَيْمَان. وروى ابن أَبي شَيْبَة في «مصنفه» عن عبد الرَّحمن بن سليمان، ووكيع، عن أبي حنيفة، عن عاصم، عن أبي رَزِين، عن ابن عبّاس أنه قال: النساء لا يُقْتَلْنَ إذا هنّ ارْتَدَدْنَ عن الإسلام، ولكن يُحْبَسْنَ ويُدْعَيْنَ إِلى الإسلام ويُجْبَرْنَ عليه. ورواه محمد بن الحسن في «الآثار» ، عن أبي حنيفة، ورواه عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» في آخر القصاص، عن سفيان الثوريّ، عن عاصم، عن أبي رَزِين به. وأخرج الدَّارَقُطْنيّ عن عليّ أنه قال: المرتدّة تُسْتَتَاب ولا تُقْتَلُ. وفي نسخة: يُسْتَأْنى

(1)

بها. وأخرج عبد الرَّزَّاق نحوه عن عطاء، والحسن، وإبراهيم النَّخَعِيّ.

وروى عبد الرَّزَّاق عن الثوريّ، عن يحيى بن سعيد: أن عمر بن الخطاب أمر في أمِّ ولدٍ تنصَّرت أن تُبَاع في أرضٍ ذات مُؤْنَةٍ

(2)

عليها، ولا تُبَاع في أهل دينها، فبيعت بدُومَةِ الجَنْدَلِ

(3)

من غير أهل دينها. (وَصَحَّ تَصَرُّفُهَا) في مالها (وَكَسْبَاهَا) أي كسب الإسلام وكسب الرِّدَّة، وفي بعض النسخ: وكسبها، أي سواء كان في الإسلام أو الرِّدَّة (لِوَرَثَتِهَا) لأن ملكها باقٍ ولا حرابة منها حتى يكون مالها فَيئاً بخلاف المرتدّ، وليس الكلُّ فَيئاً كما قال مالك والشافعيّ، لأنه مات كافراً، والمسلم لا يرث الكافر. ولا يرثها زوجها، لأن الزَّوجية قد انقطعت بالارتداد، وهي لا تُقْتَلُ، فلم يتعلّق حقّه بمالها، إلاّ أن تكون مريضةً فيرثها، لأنها تصير فارّة بالارتداد.

وعن الحسن: أنّ المرتدة تضرب كلّ يومٍ تسعةً وثلاثين (سوطاً)

(4)

حتّى تُسْلم أو تموت، وكذا الأمة. وفي «الجامع الصغير»: وتجبر المرأة على الإسلام حرّة كانت أو أمة، وتَخْدُم الأمة مولاها لما فيه من الجمع بين الحقّين، بأَن يُجْعل منزل المَوْلى سجناً لها، ويُفْرَض التأديب إليه.

وفي «الإيضاح» : وقال أبو حنيفة: إذا احتاج المَوْلى إلى خدمتها

(1)

استَأنيت بكم: أي انتظرت وتربصت. النهاية 1/ 78.

(2)

المُؤْنَةُ: القوت. المعجم الوسيط ص 852، مادة (مأَن).

(3)

دُوْمَة الجَنْدَل: حصنٌ بين مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وبين الشام، وهو أَقرب إِلى الشام. وهو الفصل بين الشام والعراق. المصباح المنير ص 204، مادة (دوم).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 306

وَصَحَّ ارْتِدَادُ صَبِيٍّ يَعْقِلُ وَإسْلامُهُ، وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَلا يُقْتَلُ إنْ أبَى.

===

دفعها القاضي إليه، وأمره أن يجبرها على الإسلام، وأرسل إليها القاضي كل يوم يهدِّدها ويضربها أسواطاً حتّى تموت أو تُسْلِم. والصحيح أن يدفعها إلى المَوْلى احتاج أو استغنى، طلب أو لم يطلب، لأن الحبس تصرّف فيها، وهو إلى المولى.

(وَصَحَّ ارْتِدَادُ صَبِيَ يَعْقِلُ وَإِسْلَامُهُ، وَيُجْبَرُ) الصبي المرتدّ (عَلَيْهِ) أي على الإسلام (وَلَا يُقْتَلُ إنْ أبَى) وإن بلغ كافراً، ولكن يُحْبَس، ذكره التُّمُرْتَاشِيّ، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد.

وقال مالك وأحمد: يُقْتَلُ إذا بلغ ولم يرجع، لأنه صار أهلاً للعقوبة. وقال أبو يوسف: ارتداده ليس بارتدادٍ، وإسلامه إسلامٌ، وهو قولٌ لأحمد وسُحْنُون المالكي لقوله صلى الله عليه وسلم:«رُفِعَ القلم عن ثلاث: عن الصبيّ حتى يحتلم»

(1)

. ومن كان مرفوع القلم لا يُبْنَى الحكم في الدنيا على قوله، أمّا الإسلام فيصحّ منه لأنّ الصبيّ أهلٌ للرسالة. قال الله تعالى:{وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً}

(2)

فعلم ضرورةً أنه أهلٌ للإسلام، ولأنه سبب الفوز بالسعادة الأبدية، فيكون محض منفعة في الأمور الدنيوية والأخروية، بخلاف الارتداد، فإنه محض مضرّة.

وفي «المحيط» : روى ابن أبي مالك، عن أبي يوسف: أن أبا حنيفة رجع إلى قول أبي يوسف. وقال الشافعي وزفر: إسلامه ليس بإسلام، وارتداده ليس بارتدادٍ، وأمّا الإسلام فلأنه تبعٌ فيه لأبويه، فلا يجعل أصلاً، لأن التبعية دليل العجز، والأصالة دليل القدرة وبينهما تنافٍ. وأمّا الارتداد، فلأنه مضرّةٌ (محضةٌ)

(3)

لأنه سببٌ لحرمان إرثه، وللفُرْقة بينه وبين امرأته المشركة والمسلمة، ولامتناع وجوب نفقته على أبويه أو غيرهما من أقاربه، والصبيّ ليس بأهلٍ للمضار كالطَّلاق والعَتاق.

ولأبي حنيفة ومحمد: في الإسلام أنه أتى بحقيقته، وهو التصديق بالجَنان والإقرار باللسان، وفي الرِّدَّة أتى بحقيقة الكفر، وهو الجحود والإنكار، وقد اعتبر النبيّ صلى الله عليه وسلم إسلام الصبيّ فيصحّ منه. روى البخاري في «تاريخه» عن عُرْوة قال: أسلم عليّ وهو ابن ثمان سنين. وأخرج الحاكم (في «مستدركه» وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرِّجاه، عن ابن عبّاس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

دفع الرَّاية إلى عليّ يوم

(1)

أَخرجه أَبو داود في سننه 4/ 560، كتاب الحدود (37)، باب في المجنون يسرق أَو يصيب حدًّا (17)، رقم (4403).

(2)

سورة مريم، الآية:(12).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 307

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

بدر، وهو ابن عشرين سنة. قال الذهبي في «مختصره»: وهذا نصٌ في أنه أسلم وله أقل من عشر سنين، بل نصٌّ في أنه أسلم وهو ابن سبع سنين (أَوْ ثمان)

(1)

، وهو قول عُرْوَة. انتهى. وقد افتخر عليّ به في شعره:

*سَبَقْتُكُمُو إِلى الإِسْلَامِ طُرّاً ** غُلَاماً مَا بَلَغْتُ أَوَان حُلْمِي

وروى البخاري في «صحيحه» قال: كان غلامٌ يهوديٌّ يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه صلى الله عليه وسلم يَعُودُه فَقَعَد عند رأسه فقال له:«أسلم» : فنظر إلى أبيه، وهو عنده، فقال: أَطِع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول:«الحمد لله الذي أنقذه من النار» .

وَعَرض عليه الصلاة والسلام الإسلام على ابن صيَّاد وهو غلامٌ لم يبلغ، ولولا أنه يعتبر منه، لم يعرضه عليه. وأمّا الصبيّ الذي لا يعقل فلا يصحّ ارتداده ولا إسلامه كالمجنون، لأن إقراره لا يدلّ على اعتقاده فلا يعتبر. ولو ارتدّ السَّكران الذي لا يعقل لا يصحّ ارتداده، وبه قال مالك، وأحمد في روايةٍ، والشافعي في قولٍ، لأنه غير عالمٍ بما يقول، والرِّدَّة تُبتنى على تبدّل الاعتقاد.

هذا، ويُحكم بإسلام الوثنيّ وشبهه بتلفّظه بإحدى كلمتي الشهادة، ولو سكرانَ أَوْ مكرهاً لقوله صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل النَّاس حتَّى يقولوا: لا إله إلاَّ الله»

(2)

. ويحكم بإسلام الكتابي بتلفّظه بكلتي كلمتي الشهادة مع التبرِّي عن دينه الذي كان عليه ومع دخوله في دين الإسلام، لأن من أهل الكتاب من يعتقد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويدَّعي أنه صلى الله عليه وسلم رسولٌ للعرب خاصّة، فلا بدّ من تبرِّيه من دينه ودخوله في دين الإسلام.

ويكفر من وصف الله تعالى بما لا يليق به تعالى وتقدَّس، وسَخِر باسمٍ من أسمائه، أو استخفّ به أو بأمرٍ من أوامره ونواهيه، أو انكر وعده بالثواب للصالحين أو وعيده من العذاب للطالحين، أو عاب النبي صلى الله عليه وسلم ولو بشعرة من شعراته، لأنه استخفاف بمن كَمَّله

(3)

الله من كل وجهٍ، أو أنكر خلافه الشيخين لثبوتهما بالإجماع، أو صحبة أبي بكر لثبوتها بالنصّ حيث قال تعالى:{إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ}

(4)

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سبق تخريجه ص 279، التعليقة رقم:(2).

(3)

في المطبوع: عَظَّمه، والمثبت من المخطوط.

(4)

سورة التوبة، الآية:(40).

ص: 308

[فَصْلٌ في البُغَاةِ]

وَالبُغَاةُ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ الإِمَامِ، فَيَدْعُوهُمْ إِلى

===

وعليه اتفاق المفسرين، أو رمى عائشة بما برّأها الله منه من قول أهل الإفك، لأنه إنكار لما ثبت في كتاب الله. وفي «المحيط» مَعْزيّاً إلى «الفتاوى»: الساحر إن اعتقد أنه خالقٌ لما يفعل فإن تاب عن ذلك، وقال: الله خالق كل شيءٍ، وتبرّأ ممّا اعتقد تُقْبَلُ توبته ولا يُقْتَلُ، لأنه كافرٌ أسلم، وإن لم يتب قُتِلَ، لأنه مرتدٌّ. وقال أبو حنيفة في «المجرّد»: يُقْتَلُ ولا يُقْبَل قوله: إني أترك السحر وأتوب منه، إذا شهد الشهود أنه الآن ساحرٌ أو أقرّ بذلك.

وكذا المرأة الساحرة تُقْتَل. وفي «المُنْتَقَى» : أنها لا تُقْتلَ، ولكن تحبس وتضرب كالمرتدّة، والأوّل أصحّ لِمَا في البخاري، و «سنن أبي داود» ، و «مسند أحمد»: أنّ عمر كتب إلى نوّابه أن اقتلوا الساحر والساحرة. ولما رواه الدَّارَقُطْنِيّ عن جُنْدُب مرفوعاً: «حدّ الساحر ضَرْبةٌ بالسيف» . ولأن ضرر كفرها ـ وهو السحر ـ يتعدّى فتكون ساعيةً في الأرض بالفساد بخلاف المرتدّة والحربية، وذلك لدفع فسادها الذي يفرّق بين المرء وزوجته، ولا تُقْبَلُ توبتها في الأصحّ، لأن ما يُقْتَلُ لأجله لا يرتفع بالتوبة، وقيل: تُقْبَل، لأنه لا يلزم من عدم ارتفاعه العمل به كالسلاح في يد اللّص التائب.

ثم تَعْلّم السحر وتعليمه حرامٌ بلا خلافٍ بين أهل العلم، ومن اعتقد إباحته كفر. وعن أصحابنا ومالك وأحمد: يكفر الساحر بتعليمه وتعلّمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو لا، ويُقْتَل. وأمّا الكاهن: وهو العرّاف الذي يَحْدِس

(1)

، وقيل الذي له رَئيٌّ

(2)

من الجنّ يأتيه بالأخبار. (فقال أصحابنا)

(3)

: إن اعتقد أن الشياطين يفعلون له ما يشاء كفر، وإن لم يعتقد لم يكفر.

(فَصْلٌ فِي البُغَاةِ)

(وَالبُغَاةُ) جمع باغٍ (قَوْمٌ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ الإِمَامِ) الحقّ، وهو: الذي اجتمع عليه المسلمون، أو ثبتت إمامته من الإمام الحقّ (فَيَدْعُوهُمْ) الإمام (إِلى

(1)

في المطبوع: يحدث، والمثبت من المخطوط، ومعنى يحدس: يظن ويخمِّن. المعجم الوسيط ص 161، مادة (حدس).

(2)

الرَّئِيُّ: الجنِّيُّ يعرض للإنسان ويطلعه على ما يزعم من الغيب. المعجم الوسيط ص 320، مادة (رأَى).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقطٌ من المخطوط.

ص: 309

العَوْدِ وَيَكْشِفُ شُبْهَتَهُمْ

===

العَوْدِ) إلى طاعته (وَيَكْشِفُ شُبْهَتَهُمْ) لما في «مصنف عبد الرَّزَّاق» ، و «سنن النَّسائي الكبرى» في خصائص عليّ، عن ابن عبّاس أنه قال: لمّا خرجت الحَرُورِيّة اعْتَزَلوا في دارٍ وكانوا ستة الآف، فقلت لعليّ: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة لعليّ أُكَلِّمُ هؤلاء القوم. قال: إني أخافهم عليك. قلت: كلا، فلبست ثيابي ومضيت حتّى دخلت عليهم في دارهم وهم مجتمعون فيها، فقالوا: مرحباً بك يا ابن عبّاس، ما جاء بك؟ قلت: أتيتكم من عند أصحاب النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلّم المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عمّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلّم وصهره، وعليهم نزل القرآن فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد، جئت لأبلّغكم ما يقولون، وأبلّغهم ما تقولون، فانتحى لي نفرٌ منهم ـ أي عرض ـ قلت: هاتِ ما نقمتم على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلّم وابن عمّه وخَتَنِه

(1)

وأوّلِ من آمن به، قالوا: ثلاث. قلت: ما هي؟

قالوا: إحداهنّ: أنه حَكَّم الرِّجال في دين الله وقد قال الله: {إنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}

(2)

قلت: هذه واحدة.

قالوا: وأمّا الثانية: فإنه قاتل ولم يسبِ ولم يغنم، فإن كانوا كفّاراً لقد حلّت لنا نساؤهم وأموالهم، وإن كانوا مؤمنين لقد حُرِّمت علينا دماؤهم، قلت: هذه أخرى.

قالوا: وأمّا الثالثة: فإنه مَحَى نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين؟ قلت: عندكم شيء غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا، قلت لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله، وحدّثتكم من سنة نبيه ما يردّ قولكم هذا، ترجعون؟ قالوا: اللهمَّ نعم، قلت: أمّا قولكم: حَكَّم الرجال في دين الله، فأنا أقرأ عليكم أن قد صيَّر الله حكمه إلى الرِّجال في أرنبٍ ثمنها ربع درهم. قال تعالى:{لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إلى قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(3)

وقال في المرأة وزوجها {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا}

(4)

أنشدكم الله أَحُكْم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وإصلاح ذات بينهم أحقّ، أم في أرنبٍ ثمنها ربع درهم؟.

(1)

الخَتَنُ: زوج البنت. المعجم الوسيط ص 218، مادة (ختن).

(2)

سورة الأنعام، الآية:(57).

(3)

سورة المائدة، الآية:(95)

(4)

سورة النساء، الآية:(35).

ص: 310

فَإِنْ تَحَيَّزوا مُجتَمِعِينَ، حَلَّ لَنَا قِتَالُهُمْ ابْتِدَاءً

===

قالوا: اللهمَّ، بل في حقن دمائهم وإصلاح ذات بينهم، قلت: أخرجت من هذه؟ قالوا: اللَّهمَّ نعم. قلت: وأمّا قولكم: إنه قاتَل ولم يسبِ ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة فتستحلون منها ما تستحلُّون من غيرها وهي أمكم؟ لئن فعلتم قد كفرتم، وإن قلتم ليست بأُمِّنَا فقد كفرتم قال الله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}

(1)

فأنتم بين ضلالتين فأتوا منهما بمخرجٍ، أخرجت من هذه الأخرى؟.

قالوا: اللهمّ نعم. قلت: وأمّا قولكم: مَحَى نفسه من أمير المؤمنين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً يوم الحُدَيْبِية على أنْ يكتب بينه وبينهم كتاباً. قال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقالوا: والله لو كنّا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال: والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، يا عليَّ: اكتب محمد بن عبد الله، فرسول الله خيرٌ من عليَ وقد محا نفسه، ولم يكن محوه ذلك محواً من النبوة. أَخَرَجْتُ من هذه الأخرى؟ قالوا: اللَّهمَّ نعم. فرجع منهم ألفان، وبقي سائرهم، فقُتِلُوا على ضلالتهم، قتلهم المهاجرون والأنصار. ولأنّ توبتهم تُرْجى، ولعلّ الشرَّ يندفع بالتذكرة، قال تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}

(2)

وهذه الدعوة ليست بواجبة، لأنهم قد علموا لماذا يقاتَلون، فصاروا كالمرتدّين.

(فَإِنْ تَحَيَّزُوا) أي اختاروا مكاناً (مُجْتَمِعِينَ) أي وللقتال متهيئين (حَلَّ لَنَا قِتَالُهمْ ابْتِدَاءً) كما في «الذخيرة» و «المبسوط» و «الإيضاح» . وفي «مختصر القُدُوري» : أنه لا يحلّ أن نبدأهم بالقتال، بل إن قاتلوا قاتلناهم حتّى نفرّق جمعهم، وهو قول مالك والشّافعيّ وأحمد، لأنّه لا يحلّ قتل مسلم إلاّ دفعاً ـ وهم مسلمون ـ بخلاف الكفَّار، فإن نفسَ الكفر مبيحٌ لقتالهم.

ولنا: أنّ خروجهم على الإمام معصيةٌ ومُنْكَرٌ، وقتالنا لهم عليه نهيٌ عنه، فنقاتلهم وإن لم يبدؤنا، ولقوله تعالى:{فَقَاتِلُوا التي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}

(3)

من غير قيد بالبداءة منهم. ولقول عليّ مرفوعاً: «سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان

(4)

، سفهاء الأحلام

(5)

، يقولون بقول خير البَرِيَّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم،

(1)

سورة الأحزاب، الآية:(6).

(2)

سورة الذاريات، الآية:(55).

(3)

سورة الحجرات، الآية:(9).

(4)

أَي صغار الأسنان.

(5)

أَي ضعاف العقول.

ص: 311

وَيُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَيُتَّبَعُ مُوَلِّيهِمْ إِنْ كانَ لَهُمْ فِئَةٌ.

وَلا تُسْبَى ذُرِّيَّتُهُمْ، وَيُحْبَسُ مَالُهُمْ إلى أنْ يَتُوبُوا. وَيُسْتَعْمَلُ سِلاحُهُمْ وَخَيْلُهُمْ عِنْدَ الحَاجَةِ.

===

يَمْرُقون

(1)

من الدين كما يَمْرُق السَّهْمُ من الرَّمية، فأينما لَقِيتُمُوهم فاقْتُلُوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة». رواه أحمد والشيخان. ولأنّ الحكم يُدَار على دليله، ودليل القتال منهم، وهو التحيّز والتهيّؤ والاجتماع موجودٌ ههنا، فلو انتظر حقيقة قتالهم لصار ذريعة إلى تقويتهم.

وفي «مصنف ابن أبي شَيْبَة» عن عليّ كرّم الله وجهه أنه قال يوم الجمل: لا تتبعوا مُدْبِراً، ولا تُجهِزُوا على جريحٍ، ومَنْ ألقى سلاحه فهو آمن. وفي لفظٍ له عن الضَّحَّاك: أنّ عليّاً لمّا هزم طلحة وأصحابه أمر مناديه فنادى: أن لا يُقْتَل مُقْبِلٌ، ولا مُدْبِرٌ، ولا يُفْتَحُ بابٌ، ولا يُسْتَحَلُّ فرجٌ، ولا مالٌ.

هذا، ويجوز قتالهم بكل ما يجوز به قتال أهل الحرب، كالرمي بالنبل والمَنْجَنِيق، وإرسال الماء والنار عليهم، والبَيَات بالليل

(2)

، لأن قتالهم فرضٌ كقتال أهل الحرب والمرتدّين. وقال مالك، والشّافعيّ، وأحمد: لا يجوز قتالهم بالمَنْجَنِيق، وإرسال الماء والنار إلا إذا لم يُدْفَعُوا بدونه.

(وَيُجْهَزُ عَلَى جِرِيحِهِمْ) أي يُسْرَع قَتْلُه ويُتَمَّم (وَيُتَّبَعُ مُوَلِّيهِمْ) كيلا يلحق بهم، وبه قال مالك، وبعض أصحاب الشّافعيّ. (إِنْ كانَ لَهُمْ فِئَةٌ) قيّد به، لاندفاع شرّهم فيما إذا لم يكن لهم فئةٌ بدون الإِجهاز على جريحهم والاتِّباع لمُوَلِّيهم، وعَلَيْهِ يُحْمَلُ ما سبق عن عليّ كرَّم الله وجهه. وقال الشافعي: لا يجوز الإجهاز ولا الاتِّباع في حال وجود الفئة، كما لا يجوز في حال عدمها، وبه قال أحمد.

ولنا: أنهم إذا كانت لهم فئةٌ، يرجع الجريح والمُوَلِّي إلى فئتهم، ويصيران حرباً علينا، ولا كذلك حال عدم الفئة. (وَلَا تُسْبَى ذُرِّيَتُهُمْ وَيُحْبَسُ مَالُهمْ إلى أنْ يَتُوبُوا) فيردّ عليهم إجماعاً، لأنهم مسلمون في دار الإسلام، فتكون أموالهم وذريتهم معصومةً بالعصمتين، وإنما يحبس مالهم عنهم دفعاً لشرّهم وكسراً لشوكتهم.

(وَيُسْتَعْمَلُ سِلَاحُهُمْ وَخَيْلُهُمْ عِنْدَ الحَاجَةِ) وبه قال مالك وأحمد في روايةٍ. وقال الشافعي: لا يجوز، وهو رواية عن أحمد، لأنه مالُ مسلم، فلا يجوز الانتفاع به إلاّ برضاه. ولنا: ما رواه ابن أبي شَيْبَة في آخر «مصنفه» ، في باب وَقْعَة الجمل: (أَنَّ

(1)

يَمْرُقُونَ: أَي يَجُوزُونه ويَخْرقونَه ويَتَعَدّونه، كما يخرق السهم الشيء المرميّ به ويخرج منه. النهاية 4/ 320.

(2)

البيات بالليل: مفاجأتهم في جوف الليل. المعجم الوسيط ص 78، مادة (بات)، بتصرف.

ص: 312

وَبَاغٍ قَتَلَ عَادِلًا، إن ادَّعَى حَقِّيَّتَهُ، يَرِثُ، كَعَكْسِهِ. وَلا يَجِبُ شَيءٌ بِقَتْلِ بَاغٍ مِثْلَهِ.

===

عليّاً قَسَمَ يوم الجمل)

(1)

في العسكر ما أجافوا عليه ـ أي غلبوا ـ من كُرَاعٍ

(2)

وسلاح. وفي «الهداية» : وكانت تلك القسمة للحاجة لا للتمليك، وللإمام أن يفعل ذلك في مال العادل عند الحاجة، ففي مال الباغي أوْلَى، والمعنى فيه إلحاق الضرر الأدنى لدفع الأعلى ـ ويُبَاع كُرَاعهم ويُحْبَس ثمنه، لأن حبس ثمنه أيسر وأحفظ للمالية، فإذا وضعت الحرب وزالت الفتنة رُدَّ عليهم.

(وَبَاغٍ قَتَلَ عَادِلاً إن ادَّعَى) الباغي (حَقِّيَّتَهُ) أي كونه على الحقّ، بأن قال: قتلته وأنا على الحقّ (يَرِثُ) منه. وأمّا لو قال: قتلته وأنا على الباطل، فلا يرث منه، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد: وقال أبو يوسف: لا يرث في الوجهين وهو قول الشافعي، لأنه قتلٌ بغير حق فَيَحْرُمُ الميراث اعتباراً بالخطأ. ولهما: أنه (قتل)

(3)

بتأويلٍ يسقط معه الضمان، فلا يوجب حرمان الإِرث، لأنه من باب العقوبة:(كَعَكْسِهِ) كما يرث العادل من الباغي إذا قتله، لأنه قتلٌ بحقّ. وفي «الهداية» و «البدائع»: أن العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله لا يضمن، ولا يأثم، لأنه مأمورٌ بقتالهم دفعاً لشرّهم، قال الله تعالى:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أمْرِ اللَّهِ}

(4)

والباغي إذا قتل العادل أو أتلف ماله لا يضمن عندنا، ويأثم.

وبه قال أحمد، والشّافعيّ في قولٍ، لقول الزُّهْرِيّ: إن الفتنة الأولى ثارت، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممّن شَهِدَ بدراً كثيرٌ، فاجتمع رأيهم على أن لا يقيموا على أحدٍ حدّاً في فرج استحلُّوه بتأويل القرآن، ولا قصاص في دمٍ استحلّوه بتأويل القرآن، ولا يردُّ مالٌ

(5)

استحلّوه بتأويل القرآن، إلاّ أن يوجد شيء بعينه فيردّ إلى صاحبه. وقال الشافعيّ في قولٍ آخر: يضمن، وبه قال مالك.

(وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ بِقَتْلِ بَاغٍ مِثْلَهِ) في عسكرهم. وقال مالك والشّافعيّ: يجب موجب جنايته، لأنّ كلّ موضعٍ تجب فيه العبادات في أوقاتها، فهو كدار أهل العدل يجب فيه (ما يجب فيها)

(6)

.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

الكُراع: اسمٌ يَجْمع الخيل والسلاح. المعجم الوسيط ص 783، مادة (كرع).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

سورة الحجرات، الآية (9).

(5)

في المطبوع: ما، والمثبت من المخطوط.

(6)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 313

‌كِتَابُ الجِنَايَاتِ

القَتْلُ العَمْدُ: ضَرْبٌ قَصْدًا بِمَا يُفَرِّقُ الأَجْزَاءَ، كَنَارٍ ومُحَدَّدٍ، وَلَوْ مِنْ خَشَبٍ،

===

ولنا: أَنْ موضع البغاة لمّا خرج عن ولاية الإمام صار كدار الحرب، فلم يجب فيه الحدود والقصاص، لأن إقامتها للإمام، ولا ولاية له عليهم حال وجود موجباتها، فلا تكون موجبةً في وقتها، ولا تنقلب موجبةً بعده كالقتل في دار الحرب.

وكُرِهَ بيع السلاح من أهل الفتنة إن عُلِمَ أنه منهم، لأنه إعانةٌ على المعصية، وقد قال الله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ}

(1)

. ولا بأس ببيعه ممّن لا يُعْلَم أنه منهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الجِنَايَاتِ

الجناية في اللغة: ما يَحْرُمُ من الفعل، سواء كان في نفسٍ أو مالٍ أو غيرهما. وفي الفقه: فعلٌ محرمٌ في نفسٍ ـ ويسمّى قتلاً ـ أو طَرَفٍ، ويسمّى قطعاً وجرْحاً. والقتل فعلٌ يُضَاف إلى العبد تزول به الحياة، وزوال الحياة بدون فعل العبد يسمّى موتاً، والكل بأجلٍ مسمّى.

ثم القتل الذي يتعلّق به الأحكام من القصاص والدِّية والكفارة، وحرمان الإرث والإثم على ما ذكر محمد في «الأصل» ثلاثة: عَمْدٌ، وخطأ، وشِبْهُ عَمْدٍ (القَتْلُ العَمْدُ) هو (ضَرْبٌ قَصْداً بِمَا يُفَرِّقُ الأَجْزَاءَ، كَنَارٍ ومُحَدَّدٍ، وَلَوْ) كان المحدّد (مِنْ خَشَبٍ) أو حجرٍ وهو المَرْوَة، أو قشر قصبٍ وهو اللِّيطَة، أو إبرة في (المقتل)

(2)

، وهما

(3)

زادا كمالك والشافعي: ما لا يطيقه البدن من المُثَقَّل في كون القتل به عمداً.

ولا يشترط في الحديد ونحوه الجَرْح في ظاهر الرواية. قيّد بالقصد، لأن موجب هذا الفعل الإثم، وهو لا يتحقق إلاّ بالقصد، لأن الخطأ والنسيان مرفوعان عن هذه الأمة. وقيّد القصد بما يفرِّق الأجزاء، لأن قصد القتل من أفعال القلب، وهي لا تَوَقُّفَ عليها، فأقيم استعمال الآلة القاتلة غالباً ـ وهي المفرِّقة للأجزاء ـ مقامه تيسيراً، كما أقيم السفر مقام المشقّة، والنوم مضطجعاً مقام الخارج من أحد السبيلين، والبلوغ مقام اعتدال العَقْل.

(1)

سورة المائدة، الآية:(2).

(2)

في المطبوع: المثقل، والمثبت من المخطوط.

(3)

أي الصاحبان.

ص: 314

وَبِهِ يَأْثَمُ. وَيَجِبُ القَوَدُ.

===

(وَبِهِ) أي بالقتل العمد لا بغيره من أنواع القتل (يَأْثَمُ) القاتل بالإجماع، ولقوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا}

(1)

الآية. ولما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال المسلم في فُسْحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً» . والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

(وَيَجِبُ) عطف على يأثم (القَوَدُ) أي القصاص عيناً، إلاّ أن يعفو الأولياء فيسقط الَقَوُد بِعَفْوهم، لا إلى شيءٍ، أو أن يصالحوا على مال، فيجب ذلك المال بالصلح لا بالقتل، لأنّ حقّهم القَوَد وقد أسقطوه. ووجوب القود عيناً هو المرجَّح من قول الشافعي، وروايةٌ عن مالك، وقول النَّخَعِي وسفيان الثوري، وابن شُبْرُمة. ويخير الولي في قول الشافعي بين القصاص وأخذ الدِّيَة بغير رضاء القاتل، وهو قول أحمد ومالك في روايةٍ، وابن سِيرِين، وابن المُسَيَّب وجمهور المحدّثين، لما أخرجه أصحاب الكتب الستة عن يَحْيَى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: لمّا فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن الله حَبَس عن مكةَ الفِيلَ وسلّط عليها رسوله والمؤمنين» . إلى أن قال: «ومَنْ قُتِل له قتيلٌ فهو بخير النَّظَرَيْن، إمّا أن يُعْطَى الدِّيَة، وإمّا أن يُقَاد أهلُ القتيل» .

وما أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي شُرَيْح الخُزَاعِي (الكَعْبِيّ)

(2)

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا فتح الله عليه مكة: «ألا إنكم يا معشر خُزَاعة قتلتم هذا القتيل من هُذَيل، وإني عاقِلُهُ، فمن قُتِل له بعد مقالتي هذه قتيلٌ فأهله بين خِيْرَتَيْن: إن أحبُّوا قتلوا، وإن أحبُّوا أخذوا العقل» . ولفظ أبي داود: «إمّا أن يأخذوا العقل، أو يأخذوا القَوَد» . وفي رواية: «أو يقتلوا» . وما رواه الترمذي عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل متعمِّداً دُفِعَ إلى أولياء المقتول: فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدِّيَة: وهي ثلاثون حِقّة

(3)

، وثلاثون جَذَعة

(4)

، وأربعون خَلِفَة

(5)

، وما صالحوا عليه فهو لهم».

(1)

سورة النساء، الآية:(3).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في: سنن أَبي داود 4/ 643 - 644، كتاب الدِّيات (38)، باب ولي العمد يرضى بالدية (4)، رقم (4504). وسنن الترمذي 4/ 14، كتاب الديات (14)، باب ما جاء في حكم وليّ القتيل

(13)، رقم (1406).

(3)

الحِقَّة: من الإبل: التي أَتمت الثالثة من عمرها ودخلت في الرابعة. معجم لغة الفقهاء ص 183.

(4)

الجَذَعَة: من الغنم: ما كان عمرها أَكثر من ستة أَشهر، ومن الإبل: ما أتم السنة الرابعة ودخل في الخامسة، ومن البقر: ما دخل في الثالثة. معجم لغة الفقهاء ص 161.

(5)

الخَلِفَةُ: الناقة الحامل. معجم لغة الفقهاء ص 199.

ص: 315

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ولنا: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُم القِصَاصُ في القَتْلَى}

(1)

فإيجاب المال زيادة عليه وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِم فِيهَا أنّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}

(2)

والمراد القتل العَمْد، لأن الله تعالى أوجب الدِّيَة في القتل الخطأ بقوله:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إلاّ أنْ يَصَّدَّقُوا}

(3)

وما أخرجه ابن أبي شَيْبَة وإسحاق بن رَاهُوَيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العمد قَوَدٌ، إلاّ أن يعفو وليّ المقتول» . وزاد إسحاق: «والخطأ عقلٌ لا قود فيه» .

وشبه العمد: قتل

(4)

العصا والحجر، ورمي السهم، فيه الدِّيَة مغلّظة من أسنان الإبل، وما رَوَوْهُ محمولٌ على رضى القاتل، وإنما لم يذكر رضاه في الحديث، لأن ذلك معلوم. فإنَّ من أشرف على الهلاك إذا تمكّن من دفع الهلاك عن نفسه بأداء المال لا يمتنع من ذلك إلاّ من سَفِهَت نفسه. وهذا كما يقال للدَّائن: خذ بدينك إن شئت دراهم، وإن شئت دنانير، وإن شئت عُرُوضاً. ومعلوم أنه لا يأخذ غير حقّه إلاّ برضاء المديون، وهذا فاشٍ في الكلام. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تأخذ إلاّ سَلَمَك أو رأس مالك»

(5)

. أي لا تأخذ إلاّ سلمك عند المُضِي في العقد، ولا تأخذ إلاّ رأس مالك عند الفسخ. ومعلومٌ أنه لا يأخذ رأسه ماله إلاّ برضى الآخر، لأنّ الفسخ لا يتمّ إلاّ باتفاقهم، أو على أن المراد عدم جبر الوَلي على أخذ الدِّيَة.

ويؤيّد ذلك ما روى البخاري عن أنس أنّ الرُّبَيِّع

(6)

بنت النضر لطمت جارية فكسرت ثَنِيَّتها

(7)

، فطلبوا العفو فأَبَوْا، فعرضوا عليهم الأَرْش

(8)

فأَبُوْا إلاّ القصاص. فجاء أخوها أنس بن النضر وقال: يا رسول الله أَتُكْسَرُ ثنيَّة

(9)

الرُّبَيِّع

(10)

؟ والذي بعثك

(1)

سورة البقرة، الآية:(178).

(2)

سورة المائدة، الآية:(45).

(3)

سورة النساء، الآية:(92).

(4)

في المطبوع: قتيل، والمثبت من المخطوط.

(5)

قال الحافظ ابن حجر في "الدراية" 2/ 160: لم أجده بهذا اللفظ

وفى الباب عن ابن عمر قوله: إذ أسلفت في شيء فلا تأخذ إلا رأس مالك، أو الذي أسلفت فيه .. أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد جيد.

(6)

حُرِّفت في المطبوع إِلى الربيعة، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في صحيح البخاري (فتح الباري) 5/ 306، كتاب الصلح (53)، باب الصلح في الدِّية (8)، رقم (2703).

(7)

في المخطوط: سنها، والمثبت من المطبوع.

(8)

الأرْش: دِيَة الجراحة. المعجم الوسيط ص 13، مادة (أَرش).

(9)

في المخطوط والمطبوع: سن، والمثبت هو الصواب. لموافقته لما في البخاري.

(10)

حُرِّفت في المطبوع إلى الربيعة، والمثبت من المخطوط وهو الصواب. لموافقته لما في البخاري.

ص: 316

وَشِبْهُ العَمْدِ: ضَرْبٌ قَصدًا بِغَيرِ مَا ذُكِرَ.

===

بالحقّ لا تُكْسَر ثَنِيّتُها

(1)

. فقال رسول الله صلّى اللَّه تعالى عليه وسلم: «كتابُ الله القصاص» ، فرَضِيَ القوم وعَفَوا، فقال رسول الله صلّ الله تعالى عليه وسلّم:«إن من عباد الله مَنْ لو أقسم على الله لأبرّه» . ولو كان يجب الخيار للمَوْلى بين القصاص والأَرْش لخيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُعْلِمها بما تختار من ذلك، لأن الحاكم إذا تقدّم إليه أحدٌ في شيء، يجب له من شيئين، وثَبَتَ عنده، لا يحكم له بأخذ الشيئين، بل يحكم له بأن يختار أحدهما.

وإن صالح القاتل الأولياء كلهم، يجب العِوَض عليه، قليلاً كان ما صالح عليه، أو كثيراً، حالاً كان أو مؤجّلاً، لقوله تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}

(2)

.

قيل: نزلت في الصلح، وهو قول ابن عبّاس، والحسن، والضَّحَّاك، ومجاهد وهو الموافق للام، فإنّ عَفَى إذا اسْتُعْمِلَ باللام كان معناه: البذل، أي فمن أُعطِي من جهة أخيه المقتول شيئاً من المال بطريق الصلح {فاتِّبَاعٌ} أي فلمن أُعْطِيَ ـ وهو وليّ المقتول ـ مطالبَتُهُ بدلَ الصلح على مجاملة، وحسن معاملة، وأكثر المفسرين على أنها في عفو بعض الأولياء، ويدل عليه قوله:{شَيءٌ} فإنه يُرَاد به البعض، وتقديره {فَمَنْ عُفِيَ} عَنْهُ وهو القاتل، {مِنْ أَخِيهِ} في الدين وهو المقتول {شَيْءٌ} من القصاص بأن كان للقتيل أولياء فعفى بعضهم، فقد صار نصيب الباقين مالاً ـ وهو الدِّيَة ـ على حصصهم من الميراث. وهو مروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس {فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ} أي فليتّبع غير العافي بطلب حصته، وليؤدِّ القاتل إليه حقّه وافياً من غير نقصٍ

(3)

.

(وَ) القتل (شِبْهُ العَمْدِ ضَرْبٌ قَصْداً بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ) في العمد كالعصا، والسوط، والحَجَر، والخشب غير المحدود، وهذا عند أبي حنيفة. وعندهما: ضربٌ قصداً بما لا يقتل غالباً. وفي «المبسوط» سُمِّيَ هذا القتل: شبه العمد ـ (أي خطأ يشبه العمد)

(4)

ـ لما فيه من معنى العمد بالنظر إلى قصد الفاعل إلى الضرب، ومعنى الخطأ بالنظر إلى انعدام قصد القتل. فشبه العمد عند أبي حنيفة رحمه الله: أن يتعمَّد القتل

(5)

بكل آلةٍ لم توضع للقتل، وعندهما: بكل آلةٍ لا تقتل غالباً. وعند مالك

(1)

في المخطوط والمطبوع: سنها، والمثبت هو الصواب.

(2)

سورة البقرة، الآية:(178).

(3)

في المطبوع: تقصير، والمثبت من المخطوط.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(5)

في المخطوط: القاتل، والمثبت من المطبوع.

ص: 317

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

والشّافعيّ وأحمد: بكل آلةٍ أو فعلٍ لا يصلح للقتل، فلو ضربه بسوطٍ صغيرٍ ضرباً أو ضربين فمات، فهو شبه العمد عند الكل، ولو ضربه بسوطٍ صغيرٍ ووالى بين الضربات إلى أن مات، فإن كان جملة ما والى بحيث يَقْتُلُ مِثلُه غالباً، فهو عمدٌ محضٌ على قولهما، وبه قال مالك والشافعي. وقال بعض المشايخ: هو شبه العمد على قولهما، كقول أبي حنيفة.

ولو ألقاه من جبلٍ أو سطحٍ، أو غرَّقه في الماء، فشبه عمدٍ عند أبي حنيفة، وعمدٌ عندهما، ولو خَنَقه فمات، فهو شبه عمدٍ، إلا أن يكون معروفاً بذلك النوع من القتل، وعند مالك والشافعي وأحمد: يجب القَوَد. ولو ضربه بحجرٍ عظيمٍ أو خشبةٍ عظيمةٍ، فهو شبه العمد عند أبي حنيفة، وعمدٌ عند غيره لِمَا في الصحيحين من حديث أنس أن رجلاً رضخ

(1)

رأس امرأةٍ بين حجرين فقتلها، فرضخ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم رأسه بين الحجرين.

وما رواه البيهقي من طريق مُسَدَّد أن يهودياً رمى رجلاً بحجر فقتله، فأقاده النبي صلى الله عليه وسلم. وما أخرجه أبو داود والنَّسائي وابن ماجه عن ابن جُرَيْج عن عمرو بن دينَار: أنه سمع طَاوُساً يُخْبِر عن ابن عبّاس، عن عمر أنه نشد

(2)

قضاء رسول الله صلّى اللَّه تعالى عليه وسلّم في الجنين، فجاء حَمَلُ (بن مالك) بن النَّابِغَة

(3)

فقال: كنت بين امرأتين، فَضَرَبَتْ إحداهما الأخرى بِمِسْطَحٍ فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِغُرَّةٍ ـ أي عبدٍ أو أمةٍ ـ وأن تُقْتَل بها. والمِسْطَح عمود الخِبَاء

(4)

، ولأنه قصد إلى الضرب بآلةٍ يُقْتَلُ بمثلها في الغالب، فيتعلّق به القصاص كالمُحَدَّد.

ولأبي حنيفة رحمه الله قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا إنّ دِيَة الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مئة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» . رواه ابن حِبَّان وأصحاب السنن سوى الترمذي. وما أخرجه أبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجه عن سُلَيمانَ بن كثير، عن عمرو بن دينَار، عن طَاوس، عن ابن عبَّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قُتِلَ في عِمِّيَّاً أو رِمِّيَّاً، بحجرٍ أو سوطٍ أو عصاً فهو خطأٌ، وعَقْلُه عقل

(1)

الرَّضْخُ: الشَّدْخ، وهو أَيضًا: الدّقُّ والكسر. النهاية 2/ 229.

(2)

في المخطوط: شهد، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب، لموافقته لما في سنن ابن ماجه 2/ 882، كتاب الديات (21)، باب دية الجنين (11)، رقم (2641).

(3)

حُرِّفت في المخطوط إِلى جمل بن النابغة، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموفقته لما في سنن أَبي داود 4/ 698 - 699، كتاب الديات (38)، باب دية الجنين، (19)، رقم (4572).

(4)

في المطبوع: البناء، والمثبت من المخطوط.

ص: 318

وَفِيهِ الإِثْمُ وَالكَفَّارَةُ، وَدِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى العَاقِلَة.

وَهُوَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدٌ، وفي الخَطَأ، فِعْلًا أَوْ قَصْدًا، كَرَمْيِهِ غَرَضًا فَأَصَابَ آدَمِيًّا، أَوْ رَمْيِهِ مُسْلِمَاً ظَنَّهُ صَيْدًا، أوْ حَرْبِيًّا،

===

الخطأ، ومن قُتِلَ عمداً فهو قَوَدٌ، ومن حال دونه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقْبَلُ منه صَرْفٌ

(1)

ولا عَدْلٌ

(2)

». ووجه الدلالة: أنه لم يفصل في العصا والحجر بين الكبير والصغير. وفي «النهاية» : العِمِّيَّا بالكسر، والتشديد والقصر: فِعِّيلَى من العمى، ومَنْ قُتِلَ في عِمِّيَّاً أي وُجِدَ قتيلاً وعُمِيَ أمره ولم يتبيّن قاتله. والرِمِّيَّا كذلك مصدر من الرمي بمعنى المراماة يُرَاد به المبالغة.

وأخرج ابن أبي شَيْبَةَ مثل قوله عن عليّ، والشَّعْبِي، والحكم

(3)

، وحمّاد، وإبراهيم النَّخَعِيّ. وأُجِيبَ عن حديث اليهوديّ بأنه يحتمل أنه كان قاطع طريق، وقاطع الطريق إذا قتل بأي شيء كان، يُقْتَل به حدّاً، أو أنه عومل معاملته لكونه ساعياً في الأرض بالفساد.

(وَفِيهِ) أي في شبه العمد (الإِثْمُ) لأنه ارتكب فعلاً محرّماً وهو الضرب قصداً (وَالكَفَّارَةُ) لشبهه بالخطأ بالنظر إلى الآلة (وَدِيَةٌ) لأنه خطأ من وجهٍ فسقط القَوَد، ووجبت الدِّيَة وهي (مُغَلَّظَةٌ) لِمَا سيأتي (عَلَى العَاقِلَة)

(4)

لأنها وجبت بالقتل ابتداءً فكانت على العاقلة كالخطأ، وتجب في ثلاث سنين لما أخرجه ابن أبي شَيْبَة وعبد الرَّزَّاق في «مصنفيهما» بأسانيد مختلفة، عن عمر بن الخطاب: أنه جعل الدية كاملة في ثلاث سنين.

(وَهُوَ) أي شبه العمد (فِيمَا دُونَ النَّفْسِ) من الأعضاء (عَمْدٌ) أي كعمد، لأن إتلاف ما دون النفس لا يختص بآلة دون آلة بخلاف النفس، فكان المعتبر فيما دون النفس تعمّد الضرب.

(وفي الخَطَأ) هذا خبرٌ مقدّمٌ (فِعْلاً) أي حال كونه فعلاً (أَوْ) حال كونه (قَصْداً كرَمْيِهِ غَرَضاً) وهو الهدف الذي يُرْمَى إليه (فَأَصَابَ آدَمِيّاً) هذا مثال للخطأ في الفعل، لأن فعله لم يقع في المحل الذي قصده (أَوْ رَمْيِهِ مُسْلِمَاً ظَنَّهُ صَيْداً أوْ) ظَنَّه (حَرْبِيّاً) هذا مثال للخطأ في القصد، لأنه أصاب المحل الذي قصده، وإنما أخطأ في

(1)

سبق شرحها ص 270، التعليقة رقم:(4).

(2)

سبق شرحها ص 270، التعليقة رقم:(5).

(3)

في المطبوع: الحاكم، والمثبت من المخطوط.

(4)

العَاقِلَة: هي العَصَبة والأقارب من قِبَل الأب الذين يُعْطُون دِية قتيل الخطأ. النهاية 3/ 278.

ص: 319

وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ، كَالنَّائِمِ سَقَطَ عَلَى آخَرَ فَمَاتَ: كَفَّارَةٌ وَدِيَةٌ عَلَيْهَا.

وفي القَتْل بِسَبَبٍ. كَحَفْرِ بِئْرٍ وَنَحْوِهِ دِيَةٌ عَلَيْهَا. وَلَا إِرْثَ لِقَاتِلٍ إِلاّ هُنَا.

===

ظنّ المسلم حربياً أو صيداً (وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ) عطف على الخطأ والضمير له (كَالنَّائِمِ سَقَطَ) أي انقلب (عَلَى آخَرَ فَمَاتَ: كَفَّارَةٌ) هذا مبتدأٌ مؤخرٌ (وَدِيَةٌ) في ثلاث سنين (عَلَيْهَا) أي على العاقلة لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}

(1)

وهذا النوع من القتل لا يأثم القاتل فيه للقتل، بل يأثم لترك التحرّز والتثبت في الفعل، لأن الكفّارة تؤذن بالإثم، لأنه للسَّتر، ولا سَتر بدون الإثم، ولا إثم باعتبار نفس الفعل، فيكون باعتبار ما ذكرناه. إلا أن فعل النائم ليس بعمدٍ، ولا خطأ، لأنه لا يُتَصَوَّر من النائم قصدٌ حتى يتصوّر منه ترك التحرّز، ولكن الانقلاب الموجِبَ لِتَلَفِ ما انقلب عليه يتحقّق من النائم، فجرى مجرى الخطأ في جميع الأحكام.

وفي «الذَّخيرة» : قصد أن يضرب يد رجلٍ فأصاب عُنُقه، فهو عمدٌ، وفيه القود، ولو أصاب عنق غيره فهو خطأٌ، لأن البدن محلٌ واحدٌ فيما يرجع إلى قصد الضارب، ففي الأول (أصاب)

(2)

المحل الذي قصده، وفي الثاني أصاب غيره. وفي «المجتبى»: وبهذا تبيّن أن قصد القتل ليس بشرطٍ لكونه عمداً.

(وفي القَتْل) خبر مقدَّم (بِسَبَبٍ كَحَفْرِ بِئْرٍ) في غير ملكه (وَنَحْوِهِ) من وضع حجر في غير مِلْكِهِ، ومات به آدمي، وكذا ساقي السّم (دِيَةٌ) مبتدأ الخبر المقدّم (عَلَيْهَا) أي على العاقلة، لأنه فعلٌ مسببٌ التلف، وهو التَّعدِّي، فكان كالدافع والمُلقَى فيه، فتجب الدِّية صيانةً للأنفس، وعلى العاقلة تخفيفاً عليه، لأن القتل بهذا الطريق دون القتل بالخطأ ولهذا لا كفارة فيه.

(وَلَا إِرْثَ لِقَاتِلٍ) في نوعٍ من أنواع القتل (إِلاّ هُنَا) وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس للقاتل من الميراث شيءٌ» . رواه النَّسائي من حديث عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جدّه مرفوعاً. ورواه مالك عن عمر مرسلاً، وإنما استثنى هذا لما سيأتي.

وقال مالك والشافعي وأحمد هنا: الكفارة وحرمان الإرث كالخطأ، لأن الشرع جعله قاتلاً في حقّ الضمان، فكان كالمباشر، فصار كما لو وطأت دابته إنساناً.

ولنا: أنه ليس بمباشرٍ بالقتل حقيقة، لأن مباشرة القتل اتّصال فعلٍ من القاتل بالمقتول، ولم يوجد هنا إلاّ اتصاله بالأرض، وإنّما أُلْحِقَ بالمباشر في الضمان صيانة

(1)

سورة النساء، الآية:(92).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 320

نُقْصَانُ الصِّبَى والأُنوثةِ، وَالرِّقِّ، وَالجُنُونِ، وَالعَمَى، وَالزَّمَانَةِ، وَكُفْرِ الذِّمِيّ، وَالأَطْرَافِ، هَدْرٌ في القَوَدِ.

===

للدّم عن الهدر على خلاف الأصل، فيبقى في حقّ الكفّارة وحرمان الإرث على الأصل. نعم، يأثم بالحفر في ملك غيره على ما قالوا، ولا يأثم بالموت، والكفّارة لذنب القتل. ولنا أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم:«خمسٌ ليس لهنّ كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حقّ، وبَهْت مؤمنٍ، والفرار من الزَّحف، ويمين فاجرة فيقطع بها مالاً بغير حقّ» . رواه أحمد بسندٍ جيدٍ.

(نُقَصَانُ الصِّبَى) بكسر ففتح

(1)

والإضافة بيانية أي ونُقْصَان هو الصِّبَى بأن كان القاتل بالغاً والمقتول دون البلوغ، (و) نقْصَان (الأُنوثة) بأن كان القاتل رَجُلاً، والمقتول أنثى، (وَ) نُقْصان (الرِّقِّ) بأن كان القاتل حرّاً والمقتول رقيقاً، (وَ) نُقْصان (الجُنُونِ) بأن كان القاتل عاقلاً والمقتول مجنوناً (وَ) نُقْصان (العَمَى) بأن كان القاتل بصيراً والمقتول أعمى، (وَ) نُقْصان (الزَّمَانَةِ) بأن كان القاتل صحيحاً والمقتول زَمِناً (وَ) نُقْصان (كُفْرِ الذِّمِيّ) بأن كان القاتل مسلماً والمقتول ذميّاً، (وَ) نُقْصان (الأَطْرَافِ) بأن كان القاتل كامل الأطراف والمقتول ناقصاً.

(هَدَرٌ) بفتح الدَّال ويسكَّن، أي ساقطٌ غير معتبرٍ (في القَوَدِ) حتّى كان الكامل في جهة من هذه الجهات يُقْتَل بالناقص فيها لعموم قوله تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً}

(2)

الآية. ولوجود المساواة في العصمة، وهي المعتبرة في هذا الباب، إذ لو اعتبرت المساواة فيما وراءها لانسدّ باب القصاص.

وعن عطاء، والحسن البصري: إذا قَتَل الرجلُ المرأة، فولِيُّها إن شاء أخذ ديتها ستة آلاف درهمٍ، وإن شاء دفع إلى وليّ القاتل ستة آلاف وقتله. قيّد بالذميّ، لأن نُقْصان كفر المُسْتَأْمَن ليس بهَدْر، ولأنه غير مَحْقُون الدّم على التأبيد، لأنه على قصد الرُّجوع إلى دار الحرب فلا يُقْتَل مسلمٌ بمُسْتَأمَنٍ لعدم المساواة في أصل العصمة، ويُقْتَل المُسْتَأْمَن بالمستأمَن قياساً، وبه قال مالك والشّافعيّ وأحمد، لأنهما حقنا دمهما بالأمان، فصارا متكافئين. ولا يقتل استحساناً لقيام المبيح، وهو الكفر الباعث على الحربية.

وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يقتل الحرّ بالعبد بل يضمن قيمته لقوله تعالى: {الحُرُّ بِالحُرِّ وَالعَبْدُ بِالعَبْدِ}

(3)

قابَلَ الجنس بالجنس، ومن ضرورة ذلك أن لا يقتل

(1)

أَي بكسر الصاد وفتح الباء: الصِّبَى.

(2)

سورة الإسراء، الآية. (33).

(3)

سورة البقرة، الآية:(78).

ص: 321

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الحرّ بالعبد، ولأنّ القصاص يعتمد المساواة ولا مساواة بينهما، إذ الحر مالك، والعبد مملوك، والمالكية أمارة القدرة، والمملوكية أمارة العجز.

ولنا: عموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}

(1)

وما أخرجه أصحاب الكتب الستة عن مَسْرُوق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلّ دم امراءٍ يشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» . وما أخرجه أبو داود والنَّسائي عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلّ قتل مسلمٍ إلاّ بإحدى ثلاث خِصالٍ: زانٍ مُحْصَنٌ فَيُرْجَم، ورجلٌ يقتل مسلماً متعمّداً، ورجلٌ يخرج من الإسلام، فيحارب الله ورسوله، فَيُقْتَل أو يُصْلب، أو يُنْفَى من الأرض» .

ومقابلة الحرّ بالحرّ لا تُنَافي مقابلة الحرّ بالعبد، إذ ليس فيه إلاّ ذكر بعض ما شمله العموم على موافقة حكمه، وذلك لا يوجب تخصيص ما بقي. ومجمله أنّ النص تخصيص بالذكر، وهو لا ينفي ما عداه، ألا ترى أنه قابل الأنثى بالأنثى، ولا يمنَعُ ذلك مقابلة الذكر بالأنثى، فكذا لا يمنع مقابلة العبد بالحرّ حتّى يُقْتل به العبد إجماعاً. وهما مستويان في العصمة، وهي بالدِّين عندهم، وبالدَّار عندنا.

وفائدة هذه المقابلة قول ابن عبّاس: كانت المقابلة بين بني النَّضير وبني قُرَيْظَةَ، وكان بنو النَّضير أشرف وكانوا يعدّون بني قُرَيْظَة على النصف منهم، فتواضعوا على أن العبد من بني النَّضير بمقابلة الحرّ من بني قُرَيْظَةَ، والأنثى منهم بمقابلة الذكر من بني قُرَيْظَة، فنزلت الآية رداً عليهم، وبياناً أن الحرّ بمقابلة الحرّ، والعبد بمقابلة العبد، والأنثى بمقابلة الأنثى من القبيلتين جميعاً، فكانت اللام لتعريف العهد لا لتعريف الجنس.

وقال الشافعي أيضاً: لا يُقْتَل المسلم بالذمي، وهو (قول مالك، وأحمد، وأبي ثور، والثوْرِيّ، والأَوْزَاعيّ، وزُفَرَ وأصحاب الظاهر، و)

(2)

قول عطاء والحسن البصري. وفي «المبسوط» : أن الخلاف فيما إذا كان القاتل حال القتل مسلماً، أمّا لو كان حال القتل ذميّاً ثم أسلم، فإنه يُقتص منه بالإجماع. لهم ما أخرج البخاري في كتاب العلم، وفي موضعين من كتاب الدِّيات عن أَبي جُحَيْفة قال: سأَلت عليّاً: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ فقال العقل ـ أي الدِّية ـ وفَكَاك الأسير، وأن لا يُقْتَل مسلمٌ بكافرٍ.

(1)

سورة المائدة، الآية:(45).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 322

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وما أخرجه أبو داود والنَّسائِي عن قَيْس بن عُبَاد قال انطلقت أنا والأَشْتَر إِلى عليّ فقلنا له: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهد إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا، فأخرج كتاباً من قِرَاب

(1)

سيفه فإذا فيه: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ على مَنْ سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يُقتل مؤمنٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده، من أحدث حدثاً فعلى نفسه، ومن أحْدَثَ حَدَثاً، أو آوى مُحْدِثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ولأنه لا مساواة بين المسلم والكافر وقت الجناية لقوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ}

(2)

والقصاص مبني على المساواة، ولأن الكفر مبيحٌ للدّم، وهو وقت عقد الذِّمة موجودٌ، فأورث شبهةً دارِئة للقصاص.

ولنا: عمومات الكتاب والسنة، منها ما رواه الدَّارَقُطْنِي في «سننه» عن عمَّار بن مطر: حدّثنا إبراهيم بن محمد الأَسْلَمِي

(3)

، عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن عن (ابن البَيْلَمَاني)

(4)

عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتَل مسلماً بمعَاهَدٍ، وقال:«أنا أكَرم مَنْ وفَّى بذمته» . وقال: لكن لم يسنده غير إبراهيم بن (أبي)

(5)

يحيى، وهو متروك الحديث، والصواب عن ربيعة، عن ابن البَيْلمَاني مرسلٌ. ثم رواه من طريق عبد الرَّزَّاق: أخبرنا الثوري، عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، عن

(6)

عبد الرحمن بن البَيْلمَاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أقاد مسلماً قتل يهودياً ـ وقال الرَّمادي: أقاد مسلماً بذمي ـ وقال: «أنا أحق من وفّى بذمته»)

(7)

. ورواه الشّافعيّ في «مسنده» : أخبرنا محمد بن

(1)

القِرَاب: غِمْدُ السيف ونحوه. المعجم الوسيط ص 723، مادة (قرب).

(2)

سورة الحشر، الآية:(20).

(3)

حُرِّفَت في المخطوط إِلى: إِبراهيم بن محمد المسلمي، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في سنن الدَّارقطني 3/ 134 - 135، كتاب الحدود والديات وغيره، رقم (165).

(4)

سقط من المطبوع: عن ابن البيلماني، وحُرِّفت في المخطوط إِلى: ربيعة بن أَبي عبد الرحمن بن البيلماني، والصواب ما أثبتناه لموافقته لما في سنن الدّارقطني 3/ 134 - 135، كتاب الحدود والديات وغيره رقم (165).

(5)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط وهي صحيحة.

(6)

في المخطوط: ابن، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في سنن الدارقطني 3/ 135، كتاب الحدود والديات وغيره رقم (166).

(7)

ما بين الحاصرتين زيادة من سنن الدَّاقطني 3/ 135، كتاب الحدود والديات وغيره، رقم (166)، وقد تمَّت إِضافتها ليستقيم المعنى.

ص: 323

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الحسن: أخبرنا إبراهيم بن محمد، (عن محمد)

(1)

بن المُنْكَدِر، عن عبد الرحمن بن البَيْلمَاني فذكره.

قال في «التَّنْقِيح» : وعبد الرحمن بن البَيْلمَاني: وثّقه بعضهم، وضعَّفه بعضهم، وإنما اتفقوا على ضعف ابنه محمد. ورُويَ أيضاً عن محمد بن الحسن، عن قيس بن الربيع الأسدي، عن أَبَان بن تَغْلِب

(2)

، عن الحسين بن مَيْمُون، عن عبد الله بن عبد الله ـ مولى بني هاشم ـ عن أبي الجنوب الأسدي قال: أُتِيَ عليّ بن أبي طالب برجلٍ من المسلمين قتل رجلاً من أهلِ الذِّمة، فقامت عليه البيّنة فأمر بقتله. فجاء أخوه فقال: قد عفوت. فقال: لعلهم هدَّدوك أو فزَّعوك. قال: لا، ولكن قتله لا يردّ عليّ أخي، وعوّضوا لي. قال: أنت أَعْرَف، مَنْ كان له ذمتنا فدمه كدمنا، وديته كديتنا.

وروى البيهقي في «المعرفة» من طريق الشّافعيّ: أخبرنا محمد بن الحسن: أخبرنا أبو حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم: أن رجلاً من بكر بن وائل قتل رجلاً من أهل الحِيرَة، فكتب عمر بن الخطاب: أن يُدْفَعَ إِلى أولياء المقتول، فإنّ شاؤوا قَتَلوا، وإن شاؤوا عَفَوا، فَدُفِعَ (الرجل)

(3)

إِلى وليّ المقتول ـ رَجلٌ يقال له حنين من أهل الحِيرة ـ فقتله. فكتب عمر بن الخطاب بعد ذلك: إن كان الرجل لم يقتل، فلا تقتلوه. فرأوا أن عمر أراد أن يرضيهم من الدِّيَة.

ومنها حديث عبد الله بن مسعود السابق في المسألة التي قبل هذه. ومنها ما روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن سفيان الثوريّ، عن حمّاد، عن إبراهيم أنّ رجلاً (مسلماً) قتل رجلاً من أهل الكتاب من أهل الحِيرَة، فأقاد منه عمر. وما روى أيضاً في «مصنفه» عن مَعْمَر عن عمرو بن مَيْمُون بن مَهْرَان قال: شهدت كتاب عمر بن عبد العزيز قدم إلى أمير الحِيرَة في رجلٍ مسلمٍ قتل رجلاً من أهل الذِّمة: ادفعه إلى وليّه، فإن شاء قتله، وإن شاء عفى عنه. قال: فدفعه إليه فضرب عنقه، وأنا أنظر.

وروى الطَّحَاوِيُّ في «شرح الآثار» : حدّثنا إبراهيم بن أبي داود: حدّثنا عبد الله

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في ترتيب مسند الإمام الشافعي، 2/ 105 كتاب الديات، حديث رقم (350).

(2)

حُرِّفَت في المطبوع إِلى ثعلب، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في ترتيب مسند الإمام الشافعي، الموضع السابق، حديث رقم (351).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 324

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ابن صالح: حدّثني اللَّيث: حدَّثني عقيل

(1)

، عن ابن شِهاب قال: أخبرني سعيد بن المُسَيَّب: أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال: مررت بالبقيع قبل أن يُقْتَل عمر، فوجدت أبا لُؤْلُؤة والهُرْمُزان وجُفَيْنة يَتَنَاجَوْنَ فلما رَأَوْني ثاروا، فسقط منهم خِنْجر له رأسان ونِصَابه

(2)

وسطه، فلمّا قُتِلَ عمر، رآه عُبَيْد الله بن عمر فإذا هو الخِنجر الذي وصفه له عبد الرحمن. فانطلق عُبَيْد الله

(3)

ومعه السيف، فقتل الهُرْمُزَان، ولمّا وجد مسَّ السيف قال: لا إله إلا الله، وغدا على جُفَيْنة، وكان من نصارى الحِيرة

(4)

فقتله، وانطلق إلى بنت أَبي لُؤْلُؤة صغيرة تدّعي الإسلام فقتلها، وأراد أن لا يترك من السبيّ يومئذٍ أحداً إلاّ قتله، فاجتمع عليه المهاجرون فزجروه وعظموا عليه ما فعل، ولم يزل عمرو بن العاص يتلطّف به حتّى أخذ منه السيف.

فلمّا اسْتُخْلِف عثمان دعا المهاجرين والأنصار وقال لهم: أشيروا عليّ في هذا الذي فتق في الدين ما فتق فأشار عليه عليّ وبعض الصحابة بقتل عُبَيْد الله، وقال جُلّ النّاس: أَبْعَد الله جُفَينة والهُرْمُزَان، أتريدون أن تُتْبِعُوا عُبَيْد الله أباه؟ إنَّ هذا لرأيُ سوء. وقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين إن هذا كان قبل أن يكون لك على الناس سلطان. فتفرّق الناس على كلام عمرو بن العاص، ووَدَى

(5)

الرجلين والجارية.

وفيه دليلٌ على سقوط الحدّ الواقع زمن البغي، فلمّا وُلِّيَ عليّ بن أبي طالب أراد قتله فهرب منه إلى معاوية، فقُتِلَ أيام صفِّين.

وكذا رواه ابن سعد في «الطبقات» . قال الطَّحَاوي في هذا الحديث: إن المهاجرين أشاروا على عثمان بقتل عُبَيْد الله، وقد قتل الهُرْمُزَان وجُفَينة وهما ذميّان. فإن قيل: إنما أشاروا عليه لقتله ابنة أبي لُؤْلُؤة صغيرة تدّعي الإسلام، لا لقتله إيّاهما. قلنا: قولهم: أبعد الله جُفَيْنة والهُرْمُزَان يدلّ على أنه أراد قتله بهما. والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى. وتقدّم الخلاف في إسلام الصغير كما لا يخفى.

(1)

حُرِّفت في المخطوط والمطبوع إِلى: اللّيث بن عقيل، والصواب ما أَثبتناه لموافقته لما في شرح معاني الآثار، 3/ 193.

(2)

النِّصَاب: مقبض السّكين. المعجم الوسيط ص 925، مادة (نصب).

(3)

حُرِّفت في المخطوط إِلى: عبد الله، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في شرح معاني الآثار 4/ 194.

(4)

في المخطوط: الحِرّة، والمثبت من المطبوع وهو الصواب.

(5)

ودى القاتل القتيل: أَعطى وليّه ديته. المعجم الوسيط ص 1022، مادة (ودى).

ص: 325

وَلَا يُقَادُ بِمَمْلَوكِهِ - وَلَوْ مُشْتَرَكًا - وَبِالْوَلَدِ وعَبْدِهِ،

===

وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقتل مؤمنٌ بكافرٍ»

(1)

فالمراد بالكافر: الحربيّ، بدليل قوله:«ولا ذو عهدٍ في عهده» ، وهذا معطوفٌ على المسلم، أي: ولا يقتل ذو عهدٍ بكافرٍ، وإنما لا يُقْتَل ذو العهد بالكافر الحربيّ، ولو كان المراد به الذمي لما صحَّ جريان القصاص بين الذميين.

فإن قيل: جاز أن يُرَاد بذي العهد المسلم. قلنا: العطف يقتضي المُغايرة، فإن قيل: هذا ابتداء أي: لا يقتل ذو عهد في مدّة عهده، قلنا: المراد بالأول نفي القتل قصاصاً لا نفي مطلق القتل، فكذا الثاني تحقيقاً للعطف. ثم القصاص مبنيٌّ على المساواة في أصل العصمة، والمسلم والذميّ في ذلك سواء، لأنهم إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، والكفر ليس بمبيح للقتل بنفسه بل بواسطة الحِرَابة، وقد سقطت بعقد الذمة وصار من أهل دارنا، ولهذا كان كفر المرأة غير مبيح لقتلها، لأنه غير باعث على الحرابة.

وعمدُ غير المكلّف كصبي ومجنون ومعتوه كالخطأ، فتجب الدية على عاقلته، لأن عليّاً رضي الله عنه أوجب الدِّية على عاقلة مجنون قتل رجلاً بالسيف. وقال: عمده وخطأه سواء. رواه البيهقي، وهو قول مالك. وفي مال القاتل عند الشَّافعي. ولا تكفير في عمد غير المكلّف، ولا حرمان إرث. وحرمه مالك والشّافعيّ الميراث، وألزماه الكَفَّارة.

(وَلَا يُقَادُ) من إنسانٍ (بِمَمْلَوكِهِ وَلَوْ) كان (مُشْتَرَكاً) أو مُدَبَّراً بلا خلافٍ بين أهل العلم، لأنه لا يستوجب على نفسه القصاص (وَ) لا يُقَاد من الوالد أي أصله وإن علا من جهة أبيه وأمه (بِالْوَلَدِ) وإن سفل، وبه قال الشافعي وأحمد وأَشْهَب (وعَبْدِهِ) أي ولا يُقَاد من الوالد بعبد الولد. ومذهب مالك: لا يقاد من الوالد بولده إن قتله على وجهٍ تَثبت فيه الشبهة، كما لو حَذَفه بسيفٍ أو نحوه فقتله، ثم ادّعى أنه لم يرد قتله، بل أراد تأديبه. أمّا لو أضجعه وذبحه، أو شقّ جوفه، أو حَزَّ يده فقطعها، أو وضع أصبعه في عينه ففقأها، فإنه يقاد منه، لأن القصاص يسقط بالشبهة، وفي غير ذلك ونحوه الشبهة قائمة.

ولنا: إطلاق ما أخرجه الترمذي وابن ماجه في الدِّيات عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يُقَاد الوالد بالولد» . وأخرجه البيهقي بسندٍ

(1)

تقدّم تخريجه عند الشارح ص 322.

ص: 326

وَمُكَاتَب لَهُ وَفَاءٌ، وَوَارِثٌ، وَسِيِّدٌ.

===

صحيحٍ عن عمر وذكر قِصة وقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يُقَاد الأب بابنه» ، لقتلتك. هاتِ ديته، فأتاه فدفعها إلى جدّته، وترك أباه. وأخرج الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه، عن ابن عباس قال: جاءت جارية إلى عمر بن الخطاب فقالت: إن سيدي اتَّهمني فأقعدني على النار حتّى أحرق فرجي. فقال لها عمر: (هل رأى ذلك منك؟ قالت: لا، قال: فاعترفتِ له بشيء؟ قالت: لا. فقال عمر:)

(1)

عَلَيّ به. فقال له عمر: أتعذِّب بعذاب الله؟ قال: يا أمير المؤمنين اتّهمتها في نفسها. قال: هل رأيت ذلك عليها؟ قال: لا. قال: فاعترفت لك به؟ قال: لا قال: والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يُقَاد بمملوكٍ من مالكه ولا ولدٍ من والده» لأَقَدْتُّهَا منك. ثمّ برزه

(2)

فضربه مئة سوطٍ ثم قال لها: اذهبي فأنت حرّة لله تعالى، وأنت مولاة الله ورسوله.

ولأن الولد جزءٌ من والده متفرّعٌ عليه، وإهلاك الأصل بسبب الجزء والفرع ليس من مقتضى الحكمة. ومجمله أنه كان سبباً لوجوده، فلا يلائم أن يكون سبباً لعدمه. وإذا سقط القَوَد عنه بشبهةٍ كقتل الأب ابنه عمداً، يجب الدِّيَة في ماله في ثلاث سنين، لأنه مال وجب بالقتل ابتداءً فأشبه (شبه)(1) العمد. ولأن تقوّم النفس بالمال غير معقول المعنى، وإنما عُرف شرعاً، والشرع إنما ورد بإيجاب الدِّية مؤجّلة في ثلاث سنين، فقبلنا اتباعه.

قيّد بالولد، لأنه يقاد بالوالد من الولد، لأن الحاجة ماسّة إلى شرع الزاجر في حقّه، إذ ربّما يحمله على قتل والده الأطماع الفاسدة، وهو قول أكثر أهل العلم. (وَمُكَاتَبٍ) أي ولا يُقَاد من القاتل بمُكَاتَبٍ (لَهُ وَفَاءٌ

(3)

وَوَارِثٌ وَسِيِّدٌ) لاشتباه من له الحقّ، لأنه

(4)

: المولى إن مات المُكَاتَب عبداً، والوارث إن مات حرّاً. والصحابة اختلفوا في موته هل هو على صفة الحرية أو الرِّقيّة؟ فقال عليّ وابن مسعود: يموت حرّاً إذا أُدِّيت كتابته، فيكون الاستيفاء لورثته. وقال زيد بن ثابت: يموت عبداً، وبه قال الشّافعيّ وأحمد، فيكون الاستيفاء لمولاه. فأمّا إذا لم يكن له وفاء وكان له وارث غير

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

برزه: أَخرجه إِلى الفضاء. القاموس المحيط ص 646، مادة (برز).

(3)

أَي مَالُهُ يوفي بدلَ الكتابة. حاشية محمود بن إلياس الرومي بهامش فتح باب العناية 2/ 471.

(4)

أَي من له الحق.

ص: 327

وَيَسْقُطُ دِيَةٌ وَقَوَدٌ وَرِثَهُ عَلَى أَبِيهِ. وَلَا يُقَادُ إِلاّ بِسَيْفٍ

===

مولاه، كان القصاص لمولاه، لأنه مات رقيقاً، لانفساخ الكتابة بموته لا عن وفاء، فظهر أنه قُتِل عبداً. ولو كان للمُكَاتَب وفاءٌ وسَيِّد فقط، كان له القصاص عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا قصاص فيه لاشتباه سبب الإيفاء، فإنه له الولاء إن مات حرّاً، والملك إن مات عبداً، واختلاف السبب كاختلاف المُسَبَّب.

(وَيَسْقُطُ دِيَةٌ وَقَوَدٌ وَرِثَهُ) ابن (عَلَى أَبِيهِ) لأنّ الدِّية والقود عقوبة، والابن لا يستوجب عقوبة على أبيه. وصورة المسألة: أن يقتل الأب أخا امرأته وله منها ابن، ثمّ تموت امرأته قبل أن يُؤْخذ، فإنّ ابنه منها يرث الذي كان لها من القَوَد على أبيه ويسقط. (وَلَا يُقَادُ) من قاتلٍ (إِلاّ بِسَيْفٍ) وهو روايةٌ عن أحمد. وقال الشّافعيَ يُفْعَلُ به مثلما فعل إن كان مشروعاً، وبه قال مالك وأحمد وأصحاب الظَّاهر. وإن كان فعلاً غير مشروعٍ بأن لاط بصغيرٍ، أو وطاء صغيرةً حتّى قتلها، أو سقاه خمراً حتّى مات، اختلف أصحابه: فقيل تُجَزُّ رقبته، وقيل في اللواطة: يُتَّخذ له آلة مثل الذَّكَر فَيُفْعَلُ به مثلما فعل، وفي الخمر: يُسْقَى الماء حتّى يموت.

ولو فُعِلَ به مثلما فعل فلم يمت ففيه قولان: أحدهما: أن يُكَرَّر ذلك الفعل عليه حتى يموت، وبه قال مالك. وثانيهما: أن يُعْدَل إلى السيف. احتجوا بقوله تعالى: {وإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}

(1)

، وقوله تعالى:{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}

(2)

وبما في الصحيحين عن أَنس: أَنْ جارية من الأنصار قتلها رجلٌ من اليهود على حُليَ لها، رضَّ

(3)

رأسها بين حجرين، فسألوها من صنع بك هذا؟ فلان؟ فلان؟ حتّى ذكروا لها يهودياً، فأومأت برأسها. فَأُخِذَ اليهودي، فأقَرَّ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرُضَّ رأسه بالحجارة.

ولنا ما أخرجه ابن ماجه في «سننه» عن أبي بكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أيضاً فيها عن النُّعْمَان بن بَشِير عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا قود إلاّ بالسيف» . وليس معناه: لا قود يجب إلاّ بالسيف لأن القود يجب بغير السيف إجماعاً، وأمّا قوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} فروى الطَّحاويّ عن ابن عباس وأبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لمّا قُتِلَ حمزة ومُثِّل به: «لئن ظفرت بهم لأُمَثِّلَنَّ بسبعين رجلاً منهم» . وفي رواية: «والله لأُمَثِّلَنَّ بسبعين رجلاً منهم» . فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ}

الآية، فصبر

(1)

سورة النحل، الآية:(126).

(2)

سورة البقرة، الآية:(194).

(3)

الرّض: الدَّقُّ. النهاية 2/ 229.

ص: 328

وَيَسْتَوْفِي الكَبِيرُ قَبْلَ كِبَرِ الصَّغِيرِ قَوَدًا لهُمَا. وفي قَتْلِ مُسْلِمٍ مُسْلِمًا ظَنَّهُ مُشْرِكًا عِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيِنْ، الكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ

===

رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفَّر عن يمينه. وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} يدلّ على المماثلة، وفيما قالوا زيادة عليها. وأمّا حديث اليهوديّ: فما فعله صلى الله عليه وسلم به كان على طريق السياسة، لأن اليهوديّ كان مشهوراً بذلك. فأمر عليه الصلاة والسلام برضخه لكونه ساعياً في الأرض بالفساد، لا بطريق القِصاص. يدلّ عليه ما روى مسلم: أنه عليه الصلاة والسلام أمر برجم اليهوديّ حتّى مات. والرَّجم يصيب الرأس وغيره.

(وَيَسْتَوْفِي الكَبِيرُ قَبْلَ كِبَرِ الصَّغِيرِ قَوَداً لهُمَا) سواء كان الكبير له التصرُّف في مال الصغير أو لم يكن، وهذا عند أبي حنيفة، وبه قال مالك، وأحمد في رواية، واللّيث بن سعد، وحمّاد بن سليمان، والأَوْزَاعِيّ. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا لم يكن الكبير وليّاً له التصرُّف في مال الصغير لا يستوفي حتّى يُدْرِك الصغير، لأن القود مشتركٌ بين الكبير والصغير، ولا ولاية للكبير على الصغير حتّى يستوفي حقّه، ولا يمكن استيفاء البعض لعدم التجزاء فتعيّن التأخير إلى بلوغ الصبيّ، كما لو كان معهما كبيرٌ غائبٌ.

ولأبي حنيفة: أن عليّاً كرّم الله وجهه لمّا أصابه ابن مُلْجَم قال في وصيته: أمّا أنت يا حسن، فإن شئت أن تَعْفُوَ فاعفُ، وإن شئت أن تقتصَّ فاقتصّ بضربةٍ واحدةٍ، وإيّاك والمُثْلة. فلمّا مات عليّ قُتِلَ به، وفي ورثته صغار منهم العبّاس كان عمره أربع سنين، ولأن احتمال العفو معدومٌ في الحال، وموهومٌ في الاستقبال، فتأخيره ربّما يؤدي إلى المحال. وأمّا الكبير الغائب فيُنْتَظر لقرب توقّع الوصال. ولو كان الكبير وليّاً للصغير له التصرُّف في ماله كالأب والجدّ، له أن يستوفي قبل أن يبلغ الصغير باتفاق أصحابنا، ولو كان وليّاً لا يتصرّف في المال كالأخ والعمّ فعلى الخلاف.

(و) يجب (في قَتْلِ مُسْلِمٍ مُسْلِماً ظَنَّهُ مُشْرِكاً عِنْدَ الْتِقَاءِ، الصَّفّيْنِ الكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ) لأن هذا أحد نوعي الخطأ، وهو الخطأ في القصد، والخطأ بنوعيه يوجب الكفّارة والدِّية. روى الشَّافعي في «مسنده» عن مُطَرِّف، عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِيّ، عن عُرْوَة قال: كان أبو حُذَيْفَة شيخاً كبيراً فوقع في الآطام مع النساء يوم أحد، فخرج يتعرّض للشهادة فجاء من ناحية المشركين، فابتدره المسلمون بأسيافهم، وحُذَيْفَة يقول: أبي أبي، فلا يسمعونه من شغل الحرب حتّى قتلوه. فقال حُذَيْفَة: يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين قال: ووَداه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن طريق الشَّافعيّ رواه

ص: 329

وَفي مَوْتٍ بفِعْلِ نَفْسِهِ وزَيْدٍ وسَبُعٍ وحَيَّةٍ: ثُلْثُ الدِّيَةِ عَلَى زَيْدٍ.

وَلَا شَيءَ بِقَتْلِ مُكلَّفٍ شَهَرَ سَيْفًا عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ عصًا، إِلاّ نَهَارًا في مِصْرٍ.

===

البيهقيّ في «المعرفة» . قالوا: وإنما تجب الدِّية إذا كانوا مختلطين، حتّى لو كان في صفّ المشركين لا تجب لسقوط عصمته بتكثير سوادهم، لما أسند أبو يَعْلَى المَوصِلي في «مسنده» عن عمر بن الحارث: أنّ رجلاً دعا عبد الله بن مسعود إلى وليمة فلمّا جاء ليدخل سمع لهواً فلم يدخل. فقيل له: لِمَ رجعت قال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كثَّر سواد قومٍ فهو منهم، ومن رضي عمل قومٍ كان شريكَ مَنْ عمل به» .

(وَ) يجب (في مَوْتِ) شخصٍ (بِفِعْلِ نَفْسِهِ) بأن شَجَّ نفسه (و) فِعْلِ (زَيْدٍ) بأن شجّه (و) فِعْلِ (سَبُعٍ) بأن عقره (و) فِعْلِ (حَيَّةٍ) بأن أصابته (ثُلْثُ الدِّيَةِ عَلَى زَيْدٍ) في ماله إن كان عمداً، وعلى عاقلته إن كان خطأً، لأن فعل الأسد والحيّة جنسٌ واحدٌ لكونه هَدْراً في الدنيا والأخرى، وفعل الشخص بنفسه جنسٌ آخر لكونه هَدْراً في الدنيا دون العقبى، حتّى يأثم بالإجماع، وفعل زيدٍ جنسٌ ثالثٌ لكونه مؤاخذاً في الدنيا والآخرة، فيكون التلف بفعل زيدٍ ثلثه فيجب عليه ثلث الدِّية. وقال الشَّافعيّ وأحمد في قول: إن كان فعل زيدٍ عمداً يجب عليه القود. ومَنْ قتل نفسه يغسَّل ويُصَلّى عليه عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف يغسّل ولا يُصَلَّى عليه، لأنه باغ على نفسه.

(وَلَا شَيءَ بِقَتْلِ مُكَلَّفٍ شَهَرَ سَيْفاً) أو سِلاحاً (عَلَى مُسْلِمٍ) سواء قتله المشهور عليه، أو قتله غيره دفعاً عن المشهور عليه. (أَوْ) شهر (عصاً) كبيرةً في مصر أو غيره ليلاً أو نهاراً. (إِلاّ) إذا شهرها (نَهَاراً في مِصْرٍ) لما روى أحمد في «مسنده» ، والحاكم في «مستدركه» وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، من حديث سليمان بن بلال، عن عَلْقمة بن أبي عَلْقمة، عن أمِّه

(1)

، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أشار بحديدةٍ إلى أحد من المسلمين يريد قتلَه، وجب قتلُه» . وما أخرجه مسلم في الإيمان عن سَلَمة بن الأكوع

(2)

عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سلّ علينا السيف فليس منّا» .

(وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعاً: «من حمل علينا السلاحَ فليس منّا»)

(3)

،

(1)

حُرِّفَتْ في المخطوط إِلى أَبيه، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في مسند الإمام أَحمد 6/ 265.

(2)

حُرِّفت في المطبوع إِلى سلمة بن الأكور، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 1/ 98، كتاب الإيمان (1)، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:" من حمل علينا السلاح فليس منا" رقم (162 - 99)، ثم انظر تقريب التهذيب ص 116.

(3)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط، وهي صحيحة لموافقتها لما في صحيح مسلم 1/ 98، =

ص: 330

وَالدِّيَةُ في مَالِهِ في غَيْرِ مُكَلَّفٍ، وَالقِيمَةُ في قَتْلِ جَمَلٍ صَالَ عَلَيْهِ.

===

وفيهما عن أبي موسى: نحوه. ورواه النَّسائي من حديث ابن الزُّبَيْر

(1)

والحاكم في «المستدرك» عن مَعْمَر مرفوعاً: «من شَهَرَ سيفاً ثم وضعه فدَمُه هَدْر» . ولأنه باغٍ بفعله فتسقط عصمته، ولأن القتل تعيّن طريقاً لدفع فعله، لأن السيف لا يُلْبِثُ، فيحتاج في دفعه إلى القتل

(2)

، والعصا (الصغيرة)

(3)

وإن كانت تُلْبِثُ

(4)

، إلاّ أنه في الليل لا يلحقه الغوث، وكذا في النهار في غير مصرٍ، فكان دمه هَدْراً، حتّى لو أمكن دفعه بطريقٍ آخر لا يَسَعُهُ قتلُه.

(وَالدِّيَةُ) مبتدأٌ خبره (في مَالِهِ) أي مال المشهور عليه (في غَيْرِ مُكَلَّفٍ) أي في قتله مجنوناً، أو صبياً شَهَر سلاحاً، أو شَهَر عصاً ليلاً في مصرٍ أو غيره، أو نهاراً في غير مصرٍ (وَالقِيمَةُ في قَتْلِ جَمَلٍ) أو نحوه (صَالَ عَلَيْهِ) أي على قاتله. وقال مالك والشافعي وأكثر أهل العلم: لا شيء في الكلّ، لأنه قَتَلَه دفعاً عن نفسه، فكان كقتل الشاهر المكلّف. ولأنه محمولٌ على قتله بسبب فعله، وهو شهر السلاح والصَّوْل، فكان كما إذا أَكره رجلٌ آخر بأن قال له: لأَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَتَقْتُلَنَّ فلاناً، فقتله المُكْرَه حيث لا يجب عليه شيء.

ولنا: أن فعل الصبي والمجنون والدَّابة غير متَّصفٍ بالحرمة لعدم الاختيار الصحيح منهم، فلا تسقط العصمة، ولذا لا يجب القصاص على الصبي والمجنون إذا قَتلا، ولا الضمان إذا قتلت الدَّابة. ومقتضى هذا: أن يجب القصاص على المشهور عليه إذا قتلهما، لأنه قَتَل نفساً معصومةً، إلاّ أن الدّية وجبت لوجود المبيح، وهو دَفْع الشر.

ولو نظر إنسانٌ في بيت آخَر من ثُقْبٍ أو شِقّ بابٍ فطعنه صاحب الدّار بخشبةٍ أو رماه بحصاةٍ ففقأ عينه، ضمنه عندنا. ولم يضمنه عند الشافعيّ لما روى أبو هُريرة

= كتاب الإِيمان (1)، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من حمل علينا السلاح فليس منا"(42)، رقم (161 - 98).

(1)

حُرِّفت في المخطوط إِلى: ابن أَبي الزبير، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في سنن النِّسائي 7/ 133، كتاب التحريم (37)، باب من شهر سيفه ثم وضعه في الناس (26)، رقم (4108).

(2)

ومعنى العبارة: أن مَن ضُرب كالسيف غاليًا لا يَلْبَثُ، أي لا يمكث طويلًا حتى يموت فيحتاج المشهور عليه السيف إلى دَفْع الشّاهر بالقتل إِن لم يمكنه ذلك إِلّا به.

(3)

عبارة. المخطوط والمطبوع: والعصا وإن كان يليث. والتصويب من الهداية (فتح القدير 9/ 166. وما بين الحاصرتين منه. ويجب أن تقيّد العصا بالصغيرة، لأن الكبيرة لها حُكْم السيف.

(4)

في المطبوع: القاضي، والمثبت من المخطوط.

ص: 331

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن امرأً اطّلع عليك بغير إذنٍ فَحَذَفْتَه بحصاةٍ وفقأْت عينه، لم يكن عليك جُنَاح»

(1)

. ولنا: أن قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحلّ دمُ امراءٍ مسلم»

(2)

.... الحديثَ، يقتضي عدم سقوط عصمته بهذا الفعل، وإن مجرد نظره إليه لا يبيح قلع عينه، كما لو نظر من الباب المفتوح، أو دخل بيته ونظر فيه. والمراد بما روى أبو هريرة: المبالغة في الزَّجر عن ذلك. ولو أراد رجلٌ أن يأخذ مال مسلمٍ، أو يقطع عُضْوه، أو يزني بامرأته، فله دَفْعُه بغير السيف، فإن لم يندفع فيضربه بالسيف. وكذا لو رأى رجلاً يزني بامرأته: يدفعه بغير السيف، فإن لم يندفع فيقتله، ولا خلاف لأهل العلم فيه لقوله عليه الصلاة والسلام:«من قُتِل دون ماله فهو شهيدٌ، ومن قُتِل دون دينه فهو شهيدٌ، ومن قُتِل دون دمه فهو شهيدٌ، ومن قُتِل دون أهله فهو شهيدٌ» . رواه أحمد والترمذي والنَّسائي وابن حِبَّان في «صحيحه» .

فلو دخل عليه لصٌّ لَيلاً فأخرج قَدْر عشرة دراهم فصاح عليه وأَنشده الله والإسلام فلم يتركه فقتله هُدِ

رَ دمُهُ لما تقدّم، ولما في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجلٌ يريد أن يأخذ مالي؟ قال: «فلا تُعْطِه مالك» . قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» . قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» . قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «فهو في النار» .

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو

(3)

: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قُتِلَ دون ماله فهو شهيدٌ» . وفي «مسند إسحاق بن رَاهُويه» عن قابوس بن أبي المُخَارِق، عن أبيه قال: جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجلٌ يريد أن يأخذ مالي؟ قال: «ذَكِّره بالله» . قال: إن ذكّرته بالله فلم يَذّكّر؟ قال: «استعن عليه بالسلطان» . قال: أرأيت إن كان السلطان قد نأى عني؟ قال: «استعن بِمَنْ حضرك من المسلمين» . قال: أرأيت إن لم يحضرني أحد؟ قال: «قاتل دون مالك حتّى تُحْرِز مالك، أو تُقْتَلَ فتكون من شهداء الآخرة» . ولو قتل رجلاً وادّعى أنه كان يزني بامرأته

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 12/ 243، كتاب الديات (87)، باب من اطلع في بيت قومٍ (23)، رقم (6902).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 12/ 201، كتاب الديات (87)، باب قول الله تعالى:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .. الآية (6)، رقم (6878).

(3)

حُرِّفَت في المطبوع إِلى عبد الله بن عمر، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 1/ 124 - 125، كتاب الإيمان (1)، باب الدليل على أن من قصد أَخذ مال غيره

(62)، رقم (226 - 141).

ص: 332

وَيَجِبُ القَوَدُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إنْ أمْكَنَ المُمَاثَلَةُ: كَقَطْعِ اليَدِ مِنَ المَفْصِلِ، وَالرِّجْلِ، وَمَارِنِ الأَنْفِ، وَالأُذُن، وَكُلِّ شَجَّةٍ يَمْكِنُ فيها المُمَاثَلَةُ، وَعَيْنٍ قَائِمَةٍ ذَهَبَ ضَوْؤُها.

فَيُجْعَلُ عَلَى وَجْهِهِ قُطْنٌ رَطْبٌ، وَتُقَابَلُ عَيْنُهُ بِمِرْآةٍ مُحْمَاةٍ،

===

وكذّبه الوليّ، فلا بدّ من بيّنة. قيل: يكفي الشاهدان، لأن البيّنة تشهد على وجوده مع المرأة، وقيل: يأتي بأربعة، لأنه رُوِيَ عن علي كذلك.

والخنق والتغريق والإلقاء من جبلٍ أو سطحٍ أو في بئرٍ لا يوجِب القَوَد، إلاّ إذا تكرّر منه ذلك عند أبي حنيفة، وهما أطلقاه لقوله عليه الصلاة والسلام: «من عَرَّضَ عَرَّضْنَا لَهُ

(1)

، ومن حَرَّق حَرَّقناه، ومن غَرَّق غَرَّقْنَاه»

(2)

. وله: أن وجوب القصاص مختصٌ بقتلٍ، وهو عمدٌ مَحْضٌ، وذا بأن يباشره بآلةٍ وهي الجارحة، وإذا لم يجب القصاص عنده يجب الدِّية على العاقلة.

(وَيَجِبُ القَوَدُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ) من الأعضاء (إنْ أمْكَنَ المُمَاثَلَةُ) لقوله تعالى: {وَالعَيْنَ بِالعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ والأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ والجُرُوح قِصَاصٌ}

(3)

أي ذات قصاص، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الرُّبَيِّع بنت النَّضر السابق:«كتاب الله القصاص»

(4)

ولفظ القِصاص ينبيء عن المماثلة، فكلّ ما أمكن رعاية المماثلةِ فيه يجب فيه القصاص وما لا فلا. ولا مُعْتَبَر لِكِبَر العُضْو وصغره، لأنه لا يوجب التفاوت في المنفعة، إلاّ في الشَّجَّة إذا أَخذت ما بين قرنيّ المشجوج ولم تأخذ ما بين قرني الشَّاجِّ لِكِبَر رأسه على ما سيأتي.

(كَقَطْعِ اليَدِ مِنَ المَفْصِلِ وَ) قطع (الرِّجْلِ) من المَفْصِل (وَ) قطع (مَارِنِ الأَنْفِ) وهو ما لان من الأنف (وَ) قطع (الأُذُن) لإمكان رعاية الممثالة في هذه الأشياء. وقيّد بالمَفْصِل، لأن قطع اليد من نصف السَّاعد، وقطع الرِّجل عن نصف السَّاق لا قصاص فيه لعدم المماثلة. وقيّد بالمارن، لأن قطع الأنف من قصبته لا يمكن فيه المماثلة، لأنه عظمٌ وليس بِمَفْصِل.

(وَكُلِّ شَجَّةٍ يَمْكِنُ فيها المُمَاثَلَةُ) كالمُوضِحَةِ وهي التي تُظْهِر العظم (وَعَيْنٍ قَائِمَةٍ ذَهَبَ ضَوْؤُها) لإمكان المماثلة (فَيُجْعَلُ عَلَى وَجْهِهِ قُطْنٌ رَطْبٌ وَتُقَابَلُ عَيْنُهُ بِمِرْآةٍ مُحْمَاةٍ) فيذهب ضؤوها وهي قائمةٌ، لما روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن

(1)

أَي من عَرَّض بالقَذْف عَرَّضْنا له بتأديبٍ لا يَبْلُغُ الحدّ. النهاية 3/ 212.

(2)

أخرجه البيهقي في السنن 8/ 43، باب عمد القتل ..

(3)

سورة المائدة، الآية:(45).

(4)

سبق تخريجه من قبل الشارح ص 316 - 317.

ص: 333

لَا إنْ قُلِعَتْ، وَفِي عَظْمٍ إِلاَّ السِّنَّ، فَتُقْلَعُ إنْ قُلِعَتْ، وَتُبْرَدُ إنْ كُسِرَتْ.

وَلَا قَوَدَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَحُرٍّ وَعَبدٍ، وَعَبْدَيْنِ، وَفي الجائِفَةِ،

===

مَعْمَر، عن رجلٍ، عن الحكم بن عُيَيْنَةَ قال: لَطَم رجلٌ رجلاً فذهب بصره وعينه قائمةٌ. فأرادوا أن يَقِيدوا منه فأُعيي عليهم وعلى الناس كيف يقيدون منه، وجعلوا لا يدرون كيف يصنعون فأتاهم عليّ كرَّم الله وجهه فأمر به فجعل على وجهه كُرْسُفاً

(1)

ثم استقبل به الشمس، وأدنى من عينه مرآة فَالْتَمَع بصرُه وعينه قائمةٌ.

(لَا إنْ قُلِعَتْ) أي لا قصاص في عينٍ قُلِعَت سواء قُوِّرت أي ارتفعت أو خُسِفَت لامتناع المماثلة، (وَ) لا قَوَد (فِي عَظْمٍ) لقول عمر: إنا لا نُقِيد من العظام. وقول ابن عباس: ليس في العظام قصاص، ونحوه عن الشَّعْبِيّ والحسن. رواه ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» ، ولأن المماثلة فيه متعذّرة، لأنه إذا كُسِرَ موضعٌ ينكسر موضعٌ آخر. (إِلاَّ) في (السِّنِّ) لإمكان المماثلة فيها (فَتُقْلَعُ إنْ قُلِعَتْ) سِنٌّ مِنْ المجني عليه (وَتُبْرَدُ) بِالمِبْرَدِ (إِنْ كُسِرَتْ وَلَا قَوَدَ) في طرفٍ (بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَ) لا بين (حُرَ وَعَبدٍ وَ) لا بين (عَبْدَيْنِ) خلافاً لمالك والشّافعيّ وأحمد وابن أبي ليلى في جميع ذلك، إلاّ في الحُرِّ يَقْطَع طرفَ العبد اعتباراً للأطراف بالأنفس لكونها تابعة لها، وشُرِعَ القصاص فيها للإلحاق بالأنفس. ففي كلّ موضعٍ يجري القصاص في النفس يجري في الطَّرف، وما لا فلا.

ولنا: أنّ الأطراف يُسلك بها مسالك الأموال، لأنها وِقايةٌ للأنفس كالأموال. وأنه لا مماثلة بين طرف الذَّكر والأنثى للتفاوت بينهما في القيمة بتقويم الشارع، ولا بين طرف الحر والعبد لذلك، لأنه جعل (قيمة)

(2)

يد الحر خَمْسَ مئة دينار، وقيمةَ يد العبد نصف قيمته وهي لا تبلغ ذلك، ولا بين طرف العبدين لعدم المساواة بينهما باليقين بل بالحَزْر

(3)

والتخمين بخلاف طَرَف الحُرَّين، لأن استواءهما متيقّن به بتقويم الشارع، وبخلاف الأنفس، لأن القصاص فيها يتعلّق بإزهاق الرُّوح ولا تفاوت فيه.

(وَ) لا قود (في الجائِفَةِ)

(4)

لأن الصحة فيها نادرة، فلا يمكن القصاص فيها

(1)

الكرسُف: القطن. المعجم الوسيط ص 783.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

في المطبوع: الحرز، والمبثت من المخطوط، ومعنى حَزَر الشيء: قدَّره بالتخمين. المعجم الوسيط ص 170، مادة (حَزَرَ).

(4)

الجائفة: الجرح في حدود الصدر والظهر والبطن إِذا اخترقت القفص الصدري أَو جدار البطن. معجم لغة الفقهاء ص 157.

ص: 334

وَاللِّسَانِ، وَفي الذَّكَرِ، إلاّ مِنَ الحَشَفَةِ.

===

على وَجْهٍ يقع البُرْء (وَ) لا في (اللِّسَانِ) وهو روايةٌ عن مالك، وقول أبي إسحاق من أصحاب الشّافعيّ.

وعن أبي يوسف: إذا قُطِعَ بعضُه لا يجب القَوَد، وإذا قُطِعَ من أصله يجب. وقال مالك في رواية والشافعي وأحمد: يجب القَوَدُ في كلِّه، وفي بعضه بقدره لقوله تعالى:{وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ}

(1)

(وَ) لا قود (في الذَّكَرِ إلاّ) إذا قطع (مِنَ الحَشَفَةِ) لأن موضع القطع معلومٌ، فصار كالمَفْصِلِ. وعند مالك والشَّافعيّ وأحمد: يجب القَوَد في الذَّكر لقوله تعالى: {والجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأن له حداً ينتهي إليه فيمكن القصاص فيه من غير حَيْف

(2)

عليه.

ولنا: أن كلاًّ من الذَّكر واللِّسان ينقبض وينبسط، فلا يمكن فيهما المساواة من غير حَيْف. ولو قطع بعض الحَشَفَة لا قَوَد عندنا. وعند مالك والشّافعيّ وأحمد: يؤخذ النصف بالنصف، والرُّبع بالرُّبع، وما زاد أو نَقَص بحسابه من ذلك، كما في الأُذن. ولو قطع الخَتَّان بعض الحَشَفَة في الصّبيّ، أو في العبد فعليه حكومةُ عدل. وإن قطع الحَشَفَة كلّها، فإن بَرِأ فعليه في العبد كمال القيمة، وفي الصبي كمال الدِّيَة. وإن مات ففي العبد نصف القيمة، وفي الصبيّ نصف الدية، لأن التَلَف حصل بفعلين: أحدهما: مأذونٌ فيه وهو قطع الجلدة، والثاني: غير مأذون فيه وهو قطع الحَشَفة، فيجب نِصْفُ الضَّمان. وأمّا إن بَرِأَ، فلأنَّ قَطْع الجلدة مأذونٌ فيه (فجعل كأن لم يكن، وقَطْع الحَشَفَة غير مأذونٍ فيه)

(3)

فوجب ضمان الحَشَفة كاملاً، وهو الدِّية في الصبيّ، وكمال القيمة في العبد.

وفي «مجموع النوازل» : ما ذكرنا أنه إن مات فعليه نصف الدِّية رواية محمد. وذكر في «الأصل» : أنه لا يجب شيءٌ إن مات. وموت الصبيّ بتأديب الأب أو الوصيّ يوجب الدِّية عند أبي حنيفة كموته من تأديب أُمّه، ومن تأديبٍ غيرِ معتادٍ لِمِثْله، لأن الضرورة الماسَّة إلى تأديبه تندفع بزجره وحبسه ونحوهما من غير ضربه، ولو اضطر إلى ضربه فالسلامة مشروطةٌ كتأديب الزَّوج زوجته، وهما أهدراه لأن تأديب الصبيّ لا بدّ لهما منه، وذا إنما يَحْصُل غالباً بالضَّرْب، فصار كضربه للتعليم، وضَرْب مُعَلِّمه بإذن

(1)

سورة المائدة، الآية:(45).

(2)

حاف عليه: جار وظلم. المعجم الوسيط ص 212، مادة (حاف).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 335

وَخُيِّرَ المَجْنِيُّ عَلَيْهِ إِنْ كَانَتْ يَدُ القَاطِعِ نَاقِصَةً، أَو الشَّجَّةُ تَسْتَوْعِبُ مَا بَيْنَ قَرْنِي المَشْجُوجِ، لَا الشَّاجِ.

وَيَسْقُطُ القَوَدُ بِمَوْتِ القَاتِلِ، وَبِعَفْوِ وَلِيٍّ وَصُلْحِهِ، وَلِلْبَاقِي حِصَّتُهُ مِنَ الدِّيَةِ.

===

أبيه لِعَوْد نَفْعِه إلى الصبيّ في آخِر أَمره

(1)

.

(وَخُيِّرَ المَجْنِيُّ عَلَيْهِ) بين الأَرْش

(2)

كاملاً وبين القَوَد من غير أرْشٍ (إِنْ كَانَتْ يَدُ القَاطِعِ نَاقِصَةً) بأن كانت شلاّء ينتفع بها، أو ناقصة الأصابع، لأن استيفاء الحقّ كاملاً لمّا تعذّر، كان له أن يأخذ دون حقّه وأَنْ يَعْدِل إلى عوضه. وفي «المُجْتَبَى»: وعلى (هذا)

(3)

السنّ والأطراف التي يجب فيها القصاص، إذا كان طرف الجاني أو سِنُّه مَعِيباً، يخيّر المجنيّ عليه بين أَخْذ الدِّية كاملاً وبين استيفاء المعيب. قيّدنا الشلاّء بأن ينتفع بها، لأنها لو كانت لا ينتفع بها لا تكون محلاً للقصاص، فكان له دية كاملة من غير خِيار، وعليه الفتوى.

وفي «المحيط» : ولا تقطع اليمين إلاّ باليمين، ولا اليُسْرى إلاّ باليسرى، ولا تُقطع الأصابع إلاّ بِمِثْلها من القاطع، فيؤخذ إبهام اليمنى بإبهام اليمنى، وإبهام اليسرى باليسرى، لا بالعكس. وكذا لا تُؤْخَذُ العين اليمنى باليسرى، ولا العين اليسرى باليمنى، وكذا في الأسنان: الثَّنِيَّة بالثَّنِيَّة، والناب بالناب، والضِّرْس بالضِّرس، ولا يؤخد الأسفل بالأعلى خلافاً لابن شُبْرُمة في ذلك كلّه للتفاوت في المنافع والمرافق. (أَوْ الشَّجَّةُ) أي وخُيِّرَ المجنيّ عليه إن كانت الشَّجَّة (تَسْتَوْعِبُ مَا بَيْنَ قَرْنِي المَشْجُوجِ) أي قرني رأسه وهما ناصيتاه (لَا الشَّاج) أي ولا تستوعب ما بين قرني الشَّاج، فإن شاء اقتصّ بمقدار الشَّجَّة من أي الجانبين شاء، وإن شاء أخذ الأرْش.

(وَيَسْقُطُ القَوَدُ بِمَوْتِ القَاتِلِ) لأن محل الاستيفاء فات، فأشبه موت العبد الجاني، وبه قال مالك. وقال الشافعي وأحمد: تجب الدِّية وتُؤخد من تركته بناءً على أن الواجب عندهما القَوَدُ أو الدِّية، فإذا فات أحدهما تعيّن الآخر.

(وَ) يسقط القَوَد (بِعَفْوِ وَلِيَ) واحد من الأولياء (وَصُلْحِهِ) من نصيبه على عِوَض (وَلِلْبَاقِي) أي الذي لم يعفُ والذي لم يصالح (حِصَّتُهُ مِنَ الدِّيَةِ) وسقط حقّه من القَوَد، لأنّ كلّ واحدٍ منهم له التَّصرُّف في نصيبه بالاستيفاء وبالعفو وبالصلح، لأنه خالص حقّه، فإذا تصرَّف فيه بعفوٍ أو صلحٍ نفذ تصرُّفه فيه بعفوٍ، وسقط به حَقُّه في

(1)

في المطبوع: أَضراره، والمثبت من المخطوط.

(2)

سبق شرحها 167، التعليقة رقم:(1).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 336

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

القصاص، ومن ضرورة سقوط حقِّه في القصاص سقوطُ حقِّ الباقين فيه، لأنه لا يتجزَّأ ثبوتاً فكذا سقوطاً.

وإذا سقط القَوَدُ انقلب نصيبُ مَنْ لم يَعْفُ مالاً، لأن القصاص امتنع لمعنىً في القاتل، وهو ثبوت عصمته بعفو البعض، فيجب المال كما في الخطأ، حيث امتنع فيه القود لمعنىً في القاتل، وهو كونه مخطئاً.

ثم العفو في القصاص لِمَنْ له القصاص، وهو عندنا كل وارثٍ، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم. وقال اللَّيث والزُّهْرِي وابن شُبْرُمة والأَوْزَاعيّ والحسن وقَتَادة: ليس للنساء عفو في القصاص، وعند مالك: القصاص للعَصَبات خاصة، وهو قول بعض أصحاب الشّافعيّ. وقال بعض أصحاب الشافعي: للأقارب دون الزوجين، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«فأهله بين خِيْرَتَيْن»

(1)

وأهله: ذَوُوا رَحِمِه. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك مالاً أو حقّاً فلورثته، ومن ترك كَلاًّ

(2)

فعليّ»

(3)

، والقصاص حقٌّ فيكون لجميع الورثة كالمال، وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم:«فأهله بين خِيْرَتَين» فامرأة الرجل من أهله بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك: «وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي»

(4)

يريد عائشة رضي الله تعالى عنها.

ولو قتل بعضُ الأولياء القاتلَ بغير إذن الباقين لم يجب عليه قصاصٌ عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي في الأصحّ، وفي قولٍ عنه: عليه القصاص، لأنه مَمْنُوعٌ من قتله، ولو قتله مع العلم بعفو بعض شريكه سواء حكم به حاكم أو لا، يجب عليه القُوَد، وهو الظاهر من مذهب الشّافعيّ وأَحمد. وقال الشافعي في قول: لا يجب القَوَدُ، لأن فيه شبهةً لوقوع الخلاف. ولنا: أنه قتل معصوماً مكافئاً، مع العلم بأنه لا حقّ له فيه، فيجب عليه القَوَد كما لو قتله قبل الحكم بالقود، والاختلاف لا يُسْقِطُ القود، فإنه لو قتل كافرٌ مسلماً قتلناه مع وجود الاختلاف فيه، ولو قتله قبل العلم بالعفو لا يجب القَوَد وعليه الدِّيَة، وبه قال أحمد والشافعي في قولٍ. (وقال الشافعي في قولٍ)

(5)

وزفر: يجب القَوَدُ، لأنه قتله عمداً بغير حقَ.

(1)

سبق تخريجه عند الشارح ص 462.

(2)

الكلُّ: من لا ولد له ولا والد. ومن يكون عبئًا على غيره. المعجم الوسيط ص 796، مادة (كَلَّ).

(3)

أَخرجه مسلم في صحيحه 3/ 1238، كتاب الفرائض (23)، باب من ترك مالًا فلورثته (4)، رقم (17 - 1619).

(4)

أَخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) 7/ 431 - 435، كتاب المغازي (64)، باب حديث الإفك (34)، رقم (4141).

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 337

وَيُقْتَلُ جَمْعٌ بِفَرْدٍ

===

ولنا: أنه إذا لم يعلم بالعفو كان القَوَدُ واجباً في حقّه ظاهراً، فيصير شبهةً في درء القود عنه، والدليل على عصمته بعفو أحدهما: ما رُوِيَ أنّ هذه الحادثة وقعت في زمن عمر، فشاور ابن مسعود فقال: أرى أنّ هذا قد أَحيى بعض نفسه، فليس للآخر أن يقتله، فأمضى عمر القضاء على رأيه. وهو المعنى، فإنّ العافي قد أسقط حقّه، وهو من أهل الإِسقاط، فصحّ إسقاطه، وبإسقاطه أَحيى بعض نفس القاتل، فيعجِز الآخر عن استيفاء حقّه لعدم احتمال التجزي ثبوتاً وسقوطاً. وتعذّر الاستيفاء إنما هو لمعنىً في القاتل، وهو مراعاة حرمة بعض نفسه، فكان في معنى الخطأ، فيجب المال للآخَر. ولو قتله العافي بعد العفو يجب القَوَدُ عند الأئمة الأربعة، وهو قول أكثر أهل العلم، لأنه قتل نفساً معصومةً بغير حقّ. ورُوِيَ عن الحسن: أنه يؤخذ منه الدِّية، وعن عمر بن عبد العزيز: أنّ الحُكْم فيه إلى السلطان.

(وَيُقْتَلُ جَمْعٌ) باشر كلُّ واحدٍ جُرْحاً قاتلاً (بِفَرْدٍ) قتلوه عمداً، وهو قول مالك والشّافعيّ وأحمد وأكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين. وقال ابن الزُّبَيْر والزُّهْرِيّ وابن سيرين وابن أبي ليلى وعبد الملك، وربيعة وداود وابن المُنْذِر وأحمد في روايةٍ: لا يقتلون به وتجب الدِّية عليهم، لأن مفهوم النفس بالنفس أن لا يقتل بالنفس الواحدة أكثر من واحدةٍ، ولأن في القصاص تجب المساواة، ولا مساواة بين العشرة والواحد. ولنا: ما روى محمد بن الحسن في «موطّئه» والشافعي في «مسنده» كلاهما عن مالك، عن يحيى بن سعيد

(1)

، عن سعيد بن المُسَيَّب: أن عمر بن الخطاب قتل نفراً خمسة أو سبعة برجلٍ قتلوه غِيْلَةً (أي خُفْيةً ـ)

(2)

وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم.

ورواه عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» مطولاً عن ابن جُرَيْج، عن عمرو بن دِينَار: أن حُيَّي بن يَعْلَى أخبره أنه سمع يَعْلَى يخبر هذا الخبر، وأَنَّ اسم المقتول أصيل قال: كانت أمرأةٌ بصنعاء لها ربيبٌ، فغاب زوجها، وكان لها أخِلاَّء فقالت: إنّ هذا الغلام يفضحنا فانظروا كيف تصنعون به فتمالؤا عليه، وهم سبعة نفرٍ مع المرأة فقتلوه وألقوه في بئر غُمْدَان. فلمّا فقِد الغلام خرجت أمرأة أبيه ـ وهي التي قتلته ـ وهي تقول: اللَّهم لا تُخْفِ عليّ من قتل أصيلاً. قال: وخطب يَعْلَى النَّاس في أمره، قال: فمرّ رجلٌ بعد أيام ببئر غُمْدَان، فإذا هو بذبابٍ أخضرٍ عظيمٍ يطلع من البئر مرّة ويهبط

(1)

حُرِّفت في المطبوع إلى سعد والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في ترتيب مسند الشافعي 2/ 101.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 338

وَبِالعَكْسِ. فَإِنْ حَضَرَ وَلِيٌّ وَاحِدٌ قُتِلَ وَسَقَطَ حَقُّ البَاقِينَ، وَلَا تُقْطَعُ يَدَانِ بِيَدٍ

===

أخرى. قال: فأشرف على البئر فوجد ريحاً منكرة، فأتى يَعْلى فقال: ما أظن إلاّ قدرت لكم على صاحبكم وقصّ عليه القصّة فأتى يَعْلَى حتّى وقف على البئر، والناس معه، فقال أحد أصدقاء المرأة ممّن قتله: دَلُّوني بحبلٍ، فدلوه فأخذ الغلام فغيّبه في سَرَبٍ

(1)

من البئر، ثم رفعوه فقال: لم أقدر على شيءٍ فقال رجلٌ آخر: دلُّوني، فدلوه فاستخرجه. فاعترفت المرأة واعترفوا كلهم، فكتب يَعْلَى إلى عمر. فكتب إليه عمر: أن أقتلهم، فلو تمالأ عليه أهل صنعاء، لقتلتهم به.

وروى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب قال: خرج رجالٌ سَفْرٌ، فصحبهم رجلٌ، فَقَدِمُوا وليس معهم فاتَّهمهم أهله، فقال شُرَيْح: شُهُودَكم أنهم قتلوا صاحبكم، وإلاّ حلِّفوهم بالله ما قتلوه. فأَتَوا بهم إلى عليّ ـ وأنا عنده ـ ففرَّق بينهم فاعترفوا، فأمر بهم فقُتِلُوا. ولأن زُهُوق الروح لا يتجزّأ، واشتراك الجماعة فيما لا يتجزأ يوجب التكامل لكلّ واحدٍ منهم كولاية الإنكاح.

(وَبِالعَكْسِ) أي ويقتل واحدٌ بجماعةٍ، وكان الأولى أن يقول: كالعكس، إذ لا خلاف فيه. (فَإِنْ حَضَرَ وَلِيٌّ وَاحِدٌ) من المقتولين (قُتِلَ وَسَقَطَ حَقُّ البَاقِينَ) لفوات محل الاستيفاء، وصار كموت العبد الجاني وموت القاتل حتف أنفه، وبه قال مالك. وقال الشّافعي: يستوفي الباقون الدِّيَّات من تَرِكَتِه بناء على أن الواجب عنده للأولياء: إمّا القصاص وإمّا الدية، فإذا سقط القصاص من غير إبراء، ثبت المال.

وقيّد بولي واحد من المقتولين، لأنه لو حضر أولياء المقتولين قُتِل لجماعتهم، ولا شيء لهم غيرُ ذلك، لأن لكلّ واحد من الأولياء قتله بوصف الكمال. ولهذا لو قَتَل جماعةٌ واحداً يكون كلّ واحدٍ قاتلاً بوصف الكمال، وإلاّ كما وجب القصاص. وإذا كان كذلك، لا تجب الدية لعدم اجتماعهما مع القتل.

هذا، ومن قُتِلَ عمداً ولا وليّ له، فللسلطان أن يقتل قاتله وله أن يصالح، والقاضي بمنزلته فيه.

(وَلَا تُقْطَعُ يَدَانِ) لرجلين (بِيَدٍ) قطعاها بأن أخذا سكِّيناً وأمرَّاها على يده من جانبٍ واحدٍ حتّى انقطعت. وهو قول الثَّوْرِيّ والزُّهْرِيّ والحسن، وعليهما نصف الدِّيَة، لأنه دية اليد الواحدة، فيضمنان ديتها في مالهما، لأنّا تيقّنّا أن كلّ واحدٍ منهما قاطعٌ للنصف، والفعل عمداً. وقال مالك والشّافعيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور: تقطع يداهما. وأمّا لو وضع أحدهما سِكِّيناً من جانبٍ، والآخر من جانبٍ آخر، وأمرَّا حتّى

(1)

السَّرَبُ: حفيرٌ تحت الأرض لا منفذ له. المعجم الوسيط ص 425، مادة (سرب).

ص: 339

وَيُقَادُ عَبْدٌ أَقَرَّ بِقَوَدٍ. وَمَنْ رَمَى رَجُلًا عَمْدًاً، فَنَفَذَ، فَمَاتَا يُقْتَصُّ للأَوَّلِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ لِلثَّانِي.

وَمَنْ قُطِعَ فَعَفَا عَنْ قَطْعِهِ، فَمَاتَ مِنْهُ ضَمِنَ قَاطِعُهُ دِيَتَهُ

===

التقى السِّكينان لا يجب القصاص اتفاقاً.

(وَيُقَادُ عَبْدٌ) أي ويُقتصّ من عبدٍ (أَقَرَّ بِقَوَدٍ) أي بقتلٍ عمدٍ، سواء كان مأذوناً له أو محجوراً عليه، وبه قال مالك والشّافعيّ وأحمد. وقال زُفَر: لا يقاد منه، لأن إقراره يؤدي إلى إبطال حقّ مولاه، فلا يصحّ كما لو أقرّ بالخطأ أو بالمال.

ولنا: أنه غير متّهم في إقراره، لأنه مضرّ به فيصحّ، فإنّ العبد مُبْقىً على أصل الحرية في حقّ الدَّم، بخلاف إقراره بالقتل خطأ، لأن موجبه على السيد، وهو دفع العبد أو فداؤه، وبخلاف إقراره بالمال، لأنه إقرار على المولى بإبطال حقّه قصداً، لأن موجبه بيع العبد أو اسْتِسْعَاؤُه

(1)

.

(وَمَنْ رَمَى رَجُلاً عَمْداً فَنَفَذَ) السَّهم منه إلى آخر (فَمَاتَا يُقْتَصُّ) منه (للأَوَّلِ) لأنه عمد (وَعَلَى عَاقِلَتِهِ

(2)

الدِّيَةُ لِلثَّانِي) لأنه أحد نوعي الخطأ، وهو الخطأ في الفعل، والفعل الواحد يتعدَّد بتعدد أثره.

(وَمَنْ قُطِعَ) يده أو رجله أو غيرهما (فَعَفَا عَنْ قَطْعِهِ فَمَاتَ مِنْهُ) أي من القطع (ضَمِنَ قَاطِعُهُ دِيَتَهُ) في ماله كاملةً، لأنها صارت في النفس وسقط القود للشبهة، وهذا عند أبي حنيفة، وهو قول الشّافعيّ وأحمد. وعن مالك: يجب القَوَد، لأن الجناية صارت في النفس، ولم يَعْفُ عنها. وقال أبو يوسف ومحمد: هو عَفْوٌ عن النفس أيضاً حتّى إذا مات بعد العفو بالسِّراية لا يضمن، وعلى هذا الخلاف إذا عفا عن الشَّجَّة ثم سَرَتْ إلى النفس فمات، وهذا نقل الشُّمُنِّي.

وقال الطرابلسي: سِرَاية الطرف المستوفَى قصاصاً إلى النفس يوجب الدِّية على عاقلة المستوفي عند أبي حنيفة، وهما أَهْدَرَا الدِّية، كمالك والشافعيّ، كسِرَاية قطع الإمام يد السارق حداً إذا سَرَى إلى النفس ومات، وكالبَزَّاغ

(3)

والحَجَّام والفَصَّاد

(4)

والخَتَّان، وكما لو قال لآخر: اقطع يدي، فقطعها وسَرَى إلى النفس ومات، وهو

(1)

في المخطوط: استيفاؤه، والمثبت من المطبوع، ومعنى استسعى العبد: كلَّفه من العمل ما يؤدِّي به عن نفسه إِذا أَعتق بعضه، ليعتق به ما بقي. المعجم الوسيط ص 431، مادة (سعى).

(2)

سبق شرحها ص 319، التعليقة رقم (4).

(3)

البَزَّاغُ: بزغ الطبيب الجلد: شرطه فأَسال دمه. المعجم الوسيط ص 35، مادة (بزغ).

(4)

الفَصَّادُ: فصد المريض: أَخرج مقدارًا من دم وريده بقصد العلاج. المعجم الوسيط ص 690، مادة (فصد).

ص: 340

وَلَوْ عَفَى عِنِ الجِنَايَةِ، فَهُوَ عَفْوٌ عَنِ النَّفْسِ، فَالخَطَأُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَالعَمْدُ مِنْ كُلِّهِ.

وَالقَوَدُ يَثْبُتُ بَدْأً لِلوَرَثَةِ لَا إرْثًا، فَلَا يَصِيرُ أَحَدُهُمْ خَصْمًا عَنِ البَقِيَّةِ. فَلَوْ أَقَامَ حُجَّةً بِقَتْلِ أَبِيهِ غَائِبًا أَخُوهُ، فَحَضَرَ، فَفِي العَمْدِ يُعِيدُهَا، وفي الخَطَأِ والدَّيْنِ لَا.

===

الأظهر، لأن السِّرَاية تبعٌ للجناية، فلم يَجُز أن يكون ابتداؤها مباحاً، وسرايتها مضمونة.

ولأبي حنيفة: أن حقّه في القطع، والموجود قتل، حتّى لو وقع ظلماً كان قتلاً، فلم يكن مستوفياً حقّه فيضمن، إلاّ أنه سقط القصاص للشبهة، فوجب الدِّية، بخلاف ما ذكروا من المسائل، لأنه يجب الفعل على الإمام وعلى غيره بالفعل. وإقامة الواجب لا يتقيّد بشرط السلامة كالرميّ إلى الحربيّ، لئلا يكون تكليف ما ليس في الوسع. وفي مسأَلتنا هو مخيّر بين الاستيفاء والعفو، بل العفو مندوبٌ إليه، فيتقيّد بشرط السلامة كالرمي إلى الصيد.

(وَلَوْ عَفَى عِنِ الجِنَايَةِ) أو عفى عن القطع وما يحدث منه (فَهُوَ عَفْوٌ عَنِ النَّفْسِ) بلا خلافٍ (فَالخَطَأُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ) أي إن كان القطع خطأ يعتبر من ثلث مال المقطوع لتعلق حقّ الوارث به

(1)

، فإن كان في الدِّية فاضل من الثلث

(2)

أخذه الوارث من القاطع. (وَالعَمْدُ) يعتبر (مِنْ كُلِّهِ) أي من كلّ ماله، فلا يضمن القاطع شيئاً، كذا في «الهداية» وغيرها، ولا يخفى أن الموجب هنا هو القود، وهو ليس بمالٍ، فلا وجه للقول بأنه من كلّ المال.

(وَالقَوَدُ يَثْبُتُ بَدْأً) أي ابتداءً (لِلوَرَثَةِ) عند أبي حنيفة (لَا إرْثاً) أي لا يثبت القود للورثة بطريق الإرث بأن يثبت للمُوَرِّث ابتداءً ثم يثبت للوارث، كما هو مذهب أبي يوسف ومحمد (فَلَا يَصِيرُ أَحَدُهُمْ) أي أحد الورثة عند أبي حنيفة (خَصْماً عَنِ البَقِيَّةِ) بغير وكالة.

اعلم أن كلّ ما يملكه الورثة بطريق الإرث، فأحدهم خصم عن الباقين، حتّى لو ادّعى أحد الورثة شيئاً من التركة على أحدٍ وأقام البيِّنة عليه ثبت حقّ الجميع، ولا يحتاج الباقون إلى تجديد الدَّعوى. وكل ما يملكه الورثة لا بطريق الوراثة، لا يصير أحدهم خصماً عن الباقين، ففرَّع على هذا قوله:(فَلَوْ أَقَامَ) شخصٌ (حُجَّةً) أي بيِّنة (بِقَتْلِ أَبِيهِ) حال كونه (غَائِباً أَخُوهُ فَحَضَرَ) الغائب (فَفِي العَمْدِ يُعِيدُهَا) أي يعيد الغائب الحُجَّة عن أبي حنيفة (وفي الخَطَأِ والدَّيْنِ لَا) يعيدها

(1)

أَي إِذا كان القطع خطأَ، وقد عفى عن الجناية أَو عن القطع وما يحدث منه، فهو عفو عن الدِّية، ويُعْتَبَرُ من الثلث، لأن الدية مالٌ، وحقّ الورثة متعلقٌ بها، والعفو وصية، فتصحّ من الثلث. حاشية محمود بن إلياس الرومي، بهامش فتح باب العناية 2/ 482.

(2)

أَي زائد عن الثلث.

ص: 341

وَالعِبْرَةُ بِحَالِ الرَّمْي لا الوُصُولِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى مَنْ رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ فَوَصَلَ.

===

باتفاقٍ، لأن الخطأ والدَّيْن موجبهما المال، وطريق ثبوت الميراث.

ثمّ اعلم أنّ العلماء أجمعوا على قبول بيّنة الحاضر، وعلى أنه لا يُقْضى بالقَوَد ما لم يحضر الغائب، لأن المقصود بالقضاء الاستيفاء، والحاضر لا يتمكّن منه إجماعاً، وعلى أن القاتل يُحْبَسُ لأنه صار متَّهماً بالقتل، والمتَّهم يُحْبَسُ. واختلفوا في إعادة البيّنة إذا حضر الغائب، فعند أبي حنيفة يكلّف الغائب بالإعادة، وعندهما لا يكلّف، وهو قياس قول مالك والشافعي وأحمد.

(وَالعِبْرَةُ بِحَالِ الرَّمي) أي بحال المَرْمِي في العصمة وعدمها، والحلّ وعدمه وقت الرمي عند أبي حنيفة (لا) بحال (الوُصُولِ) كما هو قولهما. (فَتَجِبُ الدِّيَةُ) عند أبي حنيفة (عَلَى مَنْ رَمَى مُسْلِماً فَارْتَدَّ) المَرْمِي إليه والعياذ بالله (فَوَصَلَ) إليه السهم فقتله. وقالا: لا شيء عليه، وهو قول مالك والشافعيّ وأحمد، لأن التلف حصل في محلَ لا عصمة فيه فيكون هَدْراً.

ويردّ شهادة اثنين اختلفا في مكان القتل أو زمانه أو فيما حصل به القتل من الآلة، أو قال أحدهما: قتله بِعَصاً، وقال الآخر: لم أدرِ بما إذا قتل، أو قال أحدهما: قتله بسلاحٍ، وقال الآخر: بعصاً. وإن شهدا بِقَتْله، وقالا: لم ندرِ بما إذا قُتِل من الآلة، تجب الدية استحساناً في ماله.

يصحّ الصلح عن القتل العمد على أكثر من الدِّية، لأنه افتداء لنفسه، ويكون المال حالاًّ

(1)

لالتزامه إيّاه بعقد الصلح، إلاّ أن يؤجله الوليّ إلى أجلٍ معلومٍ، لأن الحقّ له، فله تأجيله كسائر الديون المؤجَّلة.

(1)

في المطبوع: حلالًا والمثبت من المخطوط.

ص: 342

‌كِتَابُ الدِّيَاتِ

الدِّيَةُ مِنَ الذَّهَبِ: أَلْفُ دِينَارٍ، وَمِنَ الفِضَّةِ: عَشْرَةُ آلافِ دِرْهَمٍ، وَمِنَ الإِبِلِ: مِئَةٌ.

===

كتاب الدِّيَاتِ

(الدِّيَةُ) لغةً: مصدر وَدَى القاتلُ المقتولَ، إذا أعطى وليه المال الذي هو بدل النفس، ثم قيل لذلك المال تسميةً بالمصدر، والتاء في آخره عوض عن الواو في أوله كالعِدَة. وهي ثابتة بالكتاب: وهو قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ}

(1)

. وبالسنة: وهي أحاديث كثيرة، وبإجماع أهل العلم على وجوبها في الجملة. (مِنَ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَمِنَ الفِضَّةِ عَشْرَةُ آلافِ دِرْهَمٍ وَمِنَ الإِبِلِ مِئَةٌ) وقال الشّافعي: من الوَرِق اثنا عشر ألفاً، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق لِمَا أخرج أصحاب السنن الأربعة عن محمدبن مسلم، عن عمرو بن دِينَار، عن عِكْرِمة، عن ابن عبّاس: أنّ رجلاً من بني عَدِيّ قُتِلَ فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ديته اثنا عشر ألفاً. قال الترمذي: لا نعلم أحداً يذكر في هذا الإسناد ابن عباس غير محمد بن مسلم. وصحَّح النَّسائي وغيره إرساله على إسناده.

ولنا: وهو قول الثوري وأبي ثور من أصحاب الشّافعيّ، ما روى البَيْهَقِي من طريق الشافعيّ قال: قال محمد بن الحسن: بلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه فرض على أهل الذهب في الدِّية ألف دينارٍ، ومن الوَرِق عشرة آلاف درهمٍ: حدّثنا بذلك أبو حنيفة، عن الهيثم، عن الشّعبيّ عن عمر قال: وقال أهل المدينة: فرض عمر على أهل الوَرِق اثني عشر ألف درهمٍ. قال محمد بن الحسن: صدقوا، ولكنّه فرضها اثني عشر ألفاً وزن ستة، فذلك عشرة آلاف. وقال محمد بن الحسن: وأخبرني الثَّوْرِيّ، عن مُغِيرة الضبّيّ، عن إبراهيم قال: كانت الدِّية الإبل، فجعلت الإبل كلّ بعيرٍ بمئةٍ وعشرين درهماً وزن ستة، فذلك عشرة آلاف درهم.

وقيل لشَرِيك: إن رجلاً من المسلمين عاين رجلاً من العدو فضربه، فأصاب رجلاً منّا فسَلَتَ وجهه حتى وقع ذلك على حاجبيه وأنفه ولحيته وصدره، فقضى فيه عثمان بالدِّية اثني عشر ألفاً، وكانت الدَّراهم يومئذٍ وزن ستة. وفي «التجريد» للقُدُورِي: لا خلاف أنّ الدِّية ألف دينارٍ، وكل دينارٍ عشرة دراهم، ولهذا جُعِلَ نصاب الذهب عشرين ديناراً، ونصاب الوَرِق مئتي درهمٍ.

(1)

سورة النساء، الآية:(92).

ص: 343

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

واعلم أن العلماء اختلفوا في الأصل في الدِّية، فقال الشّافعيّ، وأحمد في روايةٍ، وابن المُنْذِر: الإبل فقط، فتجب قيمتها بالغة ما بلغت لِمَا أخرجه أبو داود والنَّسائي وابن ماجه وصحّحه ابن القطَّان في كتابه، وابن حِبّان في «صحيحه» من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مئة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها. ورواه النَّسائي وابن ماجه من حديث عبد الله ابن عمر، ولأنه صلى الله عليه وسلم فرّق بين دية شبه العمد ودية الخطأ، فغلّظ بعضها وخفّف بعضها، ولا يتحقق ذلك في غير الإبل. ولأن الإبل مُجْمَعٌ عليه، وما عداه مُخْتَلَفٌ فيه، فيؤخذ بالمتيقَّن.

وقال أبو حنيفة: الإبل والذهب والفضة، وهو قول أحمد، والشافعي في القديم. ومقتضى قول المالكية إن كان القاتل من أهل البوادي والعَمود

(1)

فمئةٌ من الإبل، وإن كان من أهل الذهب كأهل الشام ومصر والمغرب فألف دينارٍ، وإن كان من أهل الوَرِق، كأهل خُرَاسَان، والعراق، وفارس فاثني عشر ألف درهمٍ. وقال أبو يوسف ومحمد، وأحمد في روايةٍ، وهو رواية عن أبي حنيفة: الإبل والذهب والفضة والبقر مئتا بقرة، قيمة كل بقرة خمسون درهماً، والغنم ألفا شاة، (كلّ شاةٍ خمسة دراهم)

(2)

، والحُلَل مئتا حُلَّة (قيمة كلّ حُلَّةٍ خمسون درهماً)، وهي ثوبان: إزارٌ ورداءٌ، لما روى أبو داود عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جدّه قال: كانت قيمة الدِّية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان مئة دينارٍ، أو ثمانية آلاف درهمٍ، ودية أهل الكتاب يومئذٍ النصف من دية المسلمين.

وقال: فكان ذلك حتى اسْتُخْلِفَ عمر فقام خطيباً فقال: ألا إن الإبل قد غَلَت ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينارٍ، وعلى أهل الوَرِق اثني عشر ألفاً، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشياه ألفي شاة، وعلى أهل الحُلَل مئتي حُلَّة. قال: وترك دية أهل الذِّمة لم يرفعها.

ولما في «آثار محمد بن الحسن» قال: أخبرنا أبو حنيفة عن الهيثم

(3)

، عن الشّعبيّ، عن عُبَيْدَة السلماني

(4)

: قال وضع عمر الدِّيَات على أهل الذهب ألف دينارٍ،

(1)

العِمادُ والعَمُودُ: الخشبةُ التي يقومُ عليها البيتُ - الخيمة -. النهاية 3/ 296.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

حرِّفت في المخطوط إلى: الهاشم، والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقة لما في الآثار ص 293.

(4)

حرِّفت في المطبوع إلى البيلماني، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في الآثار ص 293.

ص: 344

وَهَذِهِ في شِبْهِ العَمْدِ أَرْبَاعٌ: مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، ولَبُون، ومِنْ حِقَّةٍ، ومِنْ جَذَعَةٍ،

===

وعلى أهل الوَرِق عشرة آلاف درهمٍ، وعلى أهل الإبل مئة من الإبل، وعلى أهل البقر مئتي بقرة مُسِنَّة

(1)

، وعلى أهل الشياه ألفي شاة، وعلى أهل الحُلَل مئتي حُلَّة. ورواه ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه»: حدّثنا وكيع: حدثنا ابن أبي ليلى، عن الشَّعْبِي، عن أبي عُبَيْدَة: به. وفي «سنن أبي داود» عن محمد بن إسحاق قال: ذكر عطاء عن جابر بن عبد الله أنه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدِّية على أهل الإبل مئة من الإبل، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشياه ألفي شاة، وعلى أهل الحُلَل مئتي حُلَّة، وعلى أهل الطعام شيئاً لم يحفظه ابن إسحاق. فإن قيل: الإبل مجهولةٌ ماليَّتُها، والدِّية مقدّرةٌ بها. أُجِيبَ: بأن التقدير بها ثبت بالآثار المشهورة، ثم فائدة الخلاف تظهر في اختيار القاتل، فعند أبي حنيفة له الخيار من الأنواع الثلاثة فقط، وعندهما من الستة.

(وَهَذِهِ) أي المئة من الإبل (في شِبْهِ العَمْدِ أَرْبَاعٌ) عند أبي حنيفة وأبي يوسف: رُبْعٌ (مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ

(2)

و) ربعٌ من بنت (لَبُون

(3)

و) ربعٌ (مِنْ حِقَّةٍ

(4)

و) ربعٌ (مِنْ جَذَعَةٍ

(5)

) وقد سبق تفسيرها في باب الزكاة، وبهذا قال مالك، وأحمد في روايةٍ، والزُّهْرِيّ وربيعة وسليمان بن يَسَار. وقال محمد والشّافعيّ وأحمد في روايةٍ أخرى: أثلاثاً: ثلاثون جَذَعة، وثلاثون حِقَّة، وأربعون ثنيَّة كلها خَلِفات، أي جميع الثَّنيَّات حوامل. الثنية: هي الطاعنة في السادسة لما تقدّم. ولما أخرجه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جدّه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من قَتَل متعمداً دُفِعَ إلى أولياء المقتول، فإن شاؤا قتلوا، وإن شاؤا أخذوا الدِّية: وهي ثلاثون حِقَّة، وثلاثون جَذَعة، وأربعون خَلِفة، وما صالحوا عليه فهو لهم» .

وروى مالك في «الموطّأ» عن عمرو بن شُعَيْب: أنّ رجلاً حَذَف ابنه بالسيف فقتله، فأخذ عمر منه الدّية ثلاثين حِقَّة، وثلاثين جَذَعة، وأربعين خَلِفة. وروى أبو داود عن مُجَاهد: أن عمر رضي الله عنه قضى في شبه العمد: بثلاثين حِقَّة، وثلاثين

(1)

سبق شرحها ص 296، التعليقة رقم:(3).

(2)

بنت مخاض من الإبل: التي استكملت سنةٌ من عمرها ولم تتم الثانية. معجم لغة الفقهاء ص 414.

(3)

بنت لبون: بنت الناقة إِذا استكملت سنتين، ودخلت في الثالثة. معجم لغة الفقهاء ص 389.

(4)

سبق شرحها ص 315، التعليقة رقم:(3).

(5)

سبق شرحها ص 315، التعليقة رقم:(4).

ص: 345

وَهِي المُغَلَّظَةُ.

===

جَذَعة، وأربعين (خَلِفة)

(1)

ما بين ثنيَّة

(2)

إلى بَازِل

(3)

عامها، كلّها خَلِفات. ورواه عن عليّ (أنه قال: في شبه العمد)

(4)

أثلاث: ثلاث وثلاثون حِقّة، وثلاث وثلاثون جَذَعة، وأربع وثلاثون ثَنِيّة إلى بازل عامها، كلها خَلِفات. ولنا ما أخرجه أبو داود وسكت عنه، ثم المُنْذِري بعده، عن عَلْقَمة والأسود قالا: قال عبد الله: في شبه العمد: خمس وعشرون حِقَّة، وخمس وعشرون جَذَعة، وخمس وعشرون بنات لَبُون، وخمس وعشرون بنات مَخَاض. وهذا وإن كان موقوفاً، إلاّ أنه في حكم المرفوع، لأن المقادير لا تُعْرَف بالرأي.

وما أخرجه ابن حِبّان في «صحيحه» في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حَزْم: «أن في نفس المؤمن مئة من الإبل» . والمراد أدنى ما يكون منه، وما قلناه أولى. ولأن دِيَة شبه العمد أغلظ من دِيَة الخطأ المحض، وذلك فيما قلنا، لأنها في الخطأ المحض تجب أخماساً، ولأن الجنين كالمُنْفَصِل من وجهٍ، فيكون في معنى الزيادة على المئة، وهي لا تجوز. ولأن الدِّيات تعتبر بالصدقات، لأنها تجب على العاقلة بطريق الصلة للقاتل كالصدقات، والشرع نهى عن أخذ الحوامل في الصدقات، لأنها كرائم أموال الناس، فكذا في الدِّيات.

(وَهِي) أي دية الإبل (المُغَلَّظَةُ) لا غيرها بالإجماع، حتّى لو قضى القاضي بتغليظ الدّية من غير الإبل لم تتغلّظ ولم ينفذ قضاؤه، لأن التقديرات لا تُعْرَف إلاّ بالسمع، ولم يرد التغليظ من الشارع إلاّ في الإبل. ثم دية شبه العمد على العاقلة عندنا، وعند الشَّافعيّ وأحمد والثوري وإسحاق والنَّخَعِي والحكم وحمّاد والشعبي. وقال ابن سِيرِين وابن شُبْرُمة وأبو ثور وقتادة والزُّهْرِي والحارث العِكْلي وأحمد في رواية: في مال القاتل، وهو قول مالك، لأنّ شبه العمد عنده من باب العمد. لهم أنها

(1)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط. وهي صحيحة لموافقتها لما في سنن أَبي داود 4/ 685، كتاب الديات (38)، باب في دية الخطأَ شبه العمد (17)، رقم (4550).

(2)

الثَّنِيَّةُ: تقدّم شرحها عند الشارح ص 345.

(3)

البازل من الإبل: الذي تَمَّ ثمانِيَ سنين ودخل في التاسعة، وحينئذٍ يطلع نابه وتكمل قوَّته، ثم يقال له بعد ذلك بازِلُ عامٍ وبازِلُ عامين. النهاية 1/ 125.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في سنن أَبي داود 4/ 685 - 686، كتاب الديات (38)، باب في دية الخطأَ شبه العمد (17)، رقم (4551).

ص: 346

وفي الخَطَأِ أَخْمَاسٌ: مِنْهَا وَمِنِ ابْنِ مَخَاضٍ، وَكَفَّارَتُهُمَا عِتْقُ مُؤْمِنٍ. فإنْ عَجَزَ صَامَ شَهْرَيْنِ وِلَاءً.

===

موجب فعل قصده، فلم تتحمله العاقلة كالعمد المحض، ولأنها دية مغلَّظة فأشبهت دية العمد. ولنا ما روى أبو هُرَيرة قال: اقتتلت امرأتان من هُذَيْل فرمت إحداهما الأخرى بحجرٍ، فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدِيَة المرأة على عاقلتها. وهو حديثٌ متفقٌ عليه. ولأنه قتلٌ لا يوجب القصاص، فوجب ديته على العاقلة كالخطأ.

(وفي الخَطَأِ) أي ودية الإبل في الخطأ (أَخْمَاسٌ مِنْهَا) أي من الأنواع الأربعة المتقدّمة (وَمِنْ ابْنِ مَخَاضٍ) بأن يكون عشرين ابن مَخَاض، وعشرين بنت لَبُون، وعشرين حِقَّة، وعشرين جَذَعة. وقال مالك والشافعي واللَّيث وربيعة: مكان عشرين ابن مخاض: عشرين ابن لَبُون، لما في الكتب الستة من حديث سَهْل بن أبي خَيْثَمَة في الذي وَدَاه النبيّ صلى الله عليه وسلم بمئة من إبل الصدقات، وبنو المخاض لا مدخل لها في الصدقات.

ولنا: ما أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في دية الخطأ: عشرون حِقّة، وعشرون جَذَعَة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكور» . قال الترمذي: لا نعرفه مرفوعاً إلاّ من هذا الوجه، وقد رُوِيَ عن عبد الله موقوفاً. وأجاب أصحابنا عن الذي وداه النبيّ صلى الله عليه وسلم من إبل الصدقة: بأَنه صلى الله عليه وسلم تبرّع بذلك، ولم يجعله حكماً. وقال النووي في «شرح مسلم»: المختار ما قاله جمهور أصحابنا وغيرهم من أن معناه: أنه صلى الله عليه وسلم اشتراها من أهل الصدقات بعد أن ملكوها، ثم دفعها تبرّعاً منه إلى القتيل. انتهى. وقيل: لا حجّة فيه، لأنهم لم يدَّعوا على أهل خيبر إلاّ قَتْلَه عمداً فيكون ديته دية العمد وهي من أسنان الصدقة، وإنما الخلاف في الخطأ.

(وَكَفَّارَتُهُمَا) أي شبه العمد والخطأ (عِتْقُ مُؤْمِنٍ، فإنْ عَجَزَ صَامَ شَهْرَيْنِ وِلَاءً) أي متتابعين لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}

(1)

الآية. وإن كانت في الخطأ، إلاّ أنَّ شبه العمد خطأ في حقّ القتل، وإن كان عمداً في حقّ الضرب فتتناولهما الآية. ولا يجزاء في كفّارة القتل الإطعام، وقال الشافعي في قولٍ وأحمد في روايةٍ: إن لم يقدر على الصيام يجب إطعام ستين مسكيناً، لأنها

(1)

سورة النساء، الآية:(92).

ص: 347

"وَصَحَّ رَضِيعٌ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ لا الجَنِينُ.

وَلِلْمَرْأَةِ نِصْفُ مَا لِلْرَّجُلِ في النَّفْسِ وَمَا دُونِهَا

===

كفارةٌ فيها عتقٌ وصيام شهرين متتابعين، فكان فيها إطعام ستين مسكيناً عند عدمها، ككفارة الظهار والفطر في رمضان. ولنا: أن المقادير لا تُعْرَف إلاّ بالنصّ، ولم يرد في الإطعام شيءٌ. (وَصَحَّ) في عِتْق الكفارة (رَضِيعٌ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ) لأنه مسلمٌ تبعاً، والظاهر سلامة أطرافه (لا الجَنِينُ) أي لا يصحّ في عتق الكفّارة الحمل، لأنه لم تُعْلَم حياته ولا سلامة أطرافه.

(وَ) الدِّية (لِلْمَرْأَةِ نِصْفُ مَا لِلْرَّجُلِ في النَّفْسِ وَمَا دُونهَا) وهو ظاهر مذهب الشافعي، ومختار ابن المُنْذِر، وبه قال الثَّوْرِي واللَّيْث وابن أبي ليلى وابن شُبْرُمَة وابن سِيرِين، لِمَا أخرجه البيهقي عن مُعَاذ بن جبلٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دِيَة المرأة على النّصف من دِيَة الرجل» . وما أخرجه إبراهيم، عن عليّ بن أبي طالب أنه قال: عَقْل المرأة على النّصف من عَقْل الرَّجل في النَّفس، وفيما دونها. وروى الشافعي في «مسنده» عن ابن شِهَاب، عن مَكْحُولٍ وعطاء قالوا: أدركنا النّاس على أن دِيَة الحرّ المسلم على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم مئة من الإبل، فقوّم عمر تلك الدِّية على أهل القرى ألف دينارٍ أو اثني عشر ألف درهمٍ، ودية الحرّة المسلمة

(1)

إذا كانت من أهل القرى خمس مئة دينارٍ، أو ستة آلاف درهمٍ، وإن كان الذي أصابها من الأعراب، فديتها خمسون من الإبل.

وقال الشافعي في القديم: ما دون الثلث لا يتنصَّف، وكذا الثلث، وبه قال مالك وأحمد، وهو قول الفقهاء السبعة وابن المُسَيَّب وعمر بن عبد العزيز وعُرْوة بن الزُّبَيْر والزُّهْرِيِ وقتادة والأعرج وربيعة، وروي عن عمر وابنه وزيد بن ثابت، لِمَا روى النَّسائي في «سننه» عن عيسى بن يونس الرَّمْلي، عن ضَمْرة، عن إسماعيل بن عَيَّاش، عن ابن جُرَيْج، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جدّه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عقل المرأة مثل عقل الرجل حتّى يبلغ العقل الثُّلُث من ديتها» . وأخرج البَيْهَقِي عن الشَّعْبِيّ، عن زيد بن ثابت قال: جراحات الرِّجال والنِّساء سواء إلى الثلث، فما زاد فعلى النصف.

وأخرج أيضاً عن ربيعة أنه سأل ابن المُسَيَّب: كم في أصبع المرأة؟ قال: عشرة. قال: كم في اثنين؟ قال: عشرون قال: كم في ثلاث؟ قال: ثلاثون. قال: كم

(1)

في المخطوط: الحرّ المسلم، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في ترتيب مسند الإمام الشافعي، كتاب الديات 2/ 109.

ص: 348

وَالذِّمِيُّ كَالمُسْلِمِ

===

في أربع؟ قال: عشرون. فقال ربيعة: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟ قال: أعراقيٌّ أنت؟ قال ربيعة: عالمٌ متثبتٌ أو جاهلٌ متعلّمٌ. قال: يا ابن أخي. إنها السُّنَّة. وأُجِيبَ عن الأَوَّل: بأن إسماعيل بن عيّاش عن الحجازيين ضعيفٌ، وابن جُرَيْج حجازي. وعن الثانيّ: بأنه منقطعٌ. وعن الثالث: بأن الشّافعيّ قال في آخره: كنّا نقول به، ثم رجعت عنه. فأنا أسأل الله الخِيَرة، لأنا نجد من يقول السنة، ثم لا نجد نفاذاً بها عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقياس أَوْلَى بنا فيها.

(وَالذِّمِيُّ كَالْمُسْلِمِ) أي ودية الذِّميّ كدية المسلم. وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، وهو قول أحمد: وقال مالك: دِيَة اليهودي والنصراني نصف دِيَة المسلم، لِمَا أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جدّه. واللفظ لأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«دية المُعَاهد نصف دية الحرّ» . ولفظ الترمذي: «دية عقل الكافر نصف عقل المسلم» . وقال: حديثٌ حسنٌ. ولفظ النَّسائي: «عَقْل أهل الذِّمة نصف عَقْل المسلمين، وهم اليهود والنصارى» . ولفظ ابن ماجه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ عَقْل أهل الكتابين نصف عَقْل المسلمين، وهم اليهود والنصارى» . وما أَخرجه الطَّبَرَانِيّ في «معجمه الأوسط» عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دِيَة المُعَاهد نصف دِيَة المسلم» .

وللشافعيّ: ما رواه عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» في كتاب العقول عن ابن جُرَيْج عن عمرو بن شُعَيْب: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على كلّ مسلمٍ قتل رجلاً من أهل الكتاب أربعة آلاف درهمٍ. ورواية أبي داود عن عمرو بن شُعَيْب توفّق بين رواية عبد الرَّزَّاق، ورواية السنن عنه: وهي قوله: كانت قيمة الدِّيَة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان مئة دينارٍ، أو ثمانية

(1)

آلاف درهمٍ، ودية أهل الكتاب يومئذٍ النصف من دية المسلمين. قال: وكان ذلك حتّى اسْتُخْلِفَ عمر فقام خطيباً فقال: ألا إنّ الإبل قد غَلَتْ. قال: فَفَرَضَها عمر رضي الله عنه على أهل الذهب ألف دينارٍ، وعلى أهل الوَرِق اثني عشر ألفاً، وعلى أهل البقر مئتيّ بقرة، وعلى أهل الشياه ألفي شاةٍ، وعلى أهل الحُلَل مئتيْ حُلَّة. قال: وترك دية أهل الذِّمة لم يرفعها فيما رفع من الدية.

وروى الشافعيّ في «مسنده» عن فُضَيْل بن عِيَاض، عن منصور، عن ثابت، عن

(1)

في المطبوع: ثمان مئة، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في سنن أَبي داود 4/ 679، كتاب الديات (38)، باب الدية كم هي؟ (16)، رقم (4542).

ص: 349

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

سعيد بن المُسَيَّب، عن عمر بن الخطاب: أنه قضى في اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، وفي المجوسي ثمان مئة درهمٍ. وروى أيضاً في «مسنده» عن ابن عُيَيْنَةَ، عن صدقة بن يَسَار، عن سعيد بن المُسَيَّب قال: قضى عثمان في دِيَة اليهودي والنصراني بأربعة آلاف درهم، ولأنّ نقصان الكفر فوق نقصان الأنوثة، وبالأنوثة تتنصَّف الدِيَة بالإجماع، فينبغي أن تكون بالكفر أنقص من النّصف، فتكون ثلث دية المسلم، وهي عند الشافعي اثني عشر أَلف درهم، ولأن الدية تنقص باعتبار الرِّقّ، وهو أثرٌ من آثار الكفر، فلأنْ ينقص باعتبار الكفر أوْلَى، ولأن عقد الذِّمة أدون من الإسلام، فينبغي أن لا يؤثر في حقن الدم مثل

(1)

الإسلام.

ولنا: ما أخرجه أبو داود في «مراسيله» عن سعيد بن المُسَيَّب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دية كل ذي عهدٍ في عهده ألف دينارٍ» . ووقفه الشَّافعي في «مسنده» على سعيد. فقال: أخبرنا محمد بن الحسن: أنبأنا محمد بن يزيد: أنبأنا سفيان بن حسين (عن الزُّهْرِيّ)

(2)

، عن سعيد بن المُسَيَّب قال: دية كلّ معاهدٍ في عهده ألف دينارٍ. وما أخرجه الترمذي، وقال: حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه، عن أبي سَعْدٍ

(3)

البَقَّال، عن عِكْرِمة، عن ابن عبَّاس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وَدَى العَامرِيَّيْن بدِيَة المسلم، وكان لهما عهدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبو سَعْدٍ البَقَّال: اسمه سعيد بن المَرْزُبَانِ. قال الترمذي في «علله الكبير» : قال البخاري: هو مقارب الحديث.

وما أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ (في «سننه»)

(4)

عن أبي كُرْز قال: سمعت نافعاً، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه وَدَى ذمياً دية مسلم، إلاّ أنه قال: وأبو كُرْز هذا متروك الحديث، ولم يروه عن نافع غيره. وما رواه أيضاً عن عثمان بن عبد الرحمن الوَقَّاصي، عن الزُّهْرِيّ، عن عليّ بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أُسَامة بن زيد: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل دية المعاهد كدية المسلم. وقال: عثمان الوَقَّاصي متروك. وما رواه محمد بن الحسن في كتاب «الآثار» : أخبرنا أبو حنيفة: حدّثنا الهَيْثَم بن أبي الهَيْثَم:

(1)

في المطبوع: من، والمثبت من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في ترتيب مسند الإمام الشافعي، كتاب الديات 2/ 106.

(3)

حُرِّفت في المطبوع والمخطوط إِلى: أَبو سعيد البَقَّال. والصواب ما أَثبتناه لموافقته لما في سنن الترمذي 4/ 13، كتاب الديات (14)، باب (12)، رقم (1404).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع. انظر سنن الدارقطني 3/ 129، كتاب الحدود والديات وغيره، رقم (149).

ص: 350

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمر وعثمان قالوا: دِيَة المُعَاهَد دِيَة الحرّ المسلم.

وما روى أبو داود في «مراسيله» بسندٍ صحيح عن ربيعة بن (أبي)

(1)

عبد الرحمن قال: كان عَقْل الذُّمِّي مثل عَقْل المسلم في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزمن أبي بكر وعمر وعثمان حتّى كان صدراً من خلافة معاوية، فقال معاوية: إن كانوا

(2)

أُصيبُوا به، فقد أُصِيبَ به بيت مال المسلمين، فاجعلوا لبيت المال النصف، ولأَهْلِهِ النصف خمس مئة دينارٍ، ثم قُتِلَ آخر من أهل الذِّمة، فقال معاوية: لو أنَّا نظرنا إلى هذا الذي يدخل بيت مال المسلمين، فجعلناه موضوعاً عن المسلمين وعَوْناً لهم. قال: فمن هنالك وضع عليهم خمس مئة.

وروى عبد الرَّزَّاق أيضاً: أخبرنا مَعْمَر، عن الزُّهْرِيّ، قال: كان دِيَة اليهودي والنصراني في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل دِيَة المسلم، وكذا في زمن أبي بكر وعمر وعثمان، فلمّا كان زمن معاوية أعطى أهل القتيل النصف، وألقى النصف في بيت المال، ثم قضى عمر بن عبد العزيز في النصف، وألغى

(3)

ما كان جعل معاوية.

قال الزُّهْرِيّ: ولم يُقْضَ (لي) أن أُذَاكِرَ

(4)

عمر، فأُخبره أنّ الدِّيَة كانت تامّة لأهل الذمة. قُلْتُ: للزُّهْرِيّ: بلغني عن ابن المُسَيَّب قال: ديته أربعة آلاف. فقال: خير الأمور ما عُرض على كتاب الله، قال الله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}

(5)

.

وروى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن ابن جُرَيْج، عن مُجَاهِد، عن ابن مسعود قال: دِيَة المُعَاهَد مثل دِيَة المسلم. وروى أيضاً عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِيّ، عن سالم، عن أبيه: أن رجلاً قتل رجلاً من أهل الذِّمة، فَرُفِعَ إلى عثمان، فلم يقتله، وجعل عليه ألف دينارٍ. وروى الدَّارَقُطْنِيّ في «سننه» عن الحسين بن صَفْوان، عن عبد الله

(6)

بن أحمد عن رُحمويه، عن إبراهيم بن سعد

(7)

، عن ابن شهاب، أن أبا بكرٍ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع وهو صواب لموافقته لما في "نصب الراية" 4/ 367.

(2)

في المخطوط: أَهله، والمثبت من المطبوع.

(3)

في المطبوع والمخطوط: ألغى. والمثبت من "مصنف عبد الرزاق" 10/ 95 - 96، رقم (18491).

(4)

في المخطوط: أذكر. وما بين الحاصرتين من "المصنف". الموضع السابق.

(5)

سورة النساء، الآية:(92).

(6)

حُرِّفت في المطبوع إِلى: عبيد الله بن أَحمد، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في سنن الدارقطنى 3/ 129، كتاب الحدود والديات وغيره، رقم (50).

(7)

حُرِّفت في المطبوع إِلى: إِبراهيم بن سعيد، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب.

ص: 351

ففي الأَنْفِ، وَالحَشَفَة، وَالعَقْلِ، وَإِحْدَى الحَوَاسِّ، وَاللِّسَانِ، إنْ مُنِعَ أَدَاء أَكْثَرِ الحُرُوفِ، وَاللِّحْيَةِ، وَشَعْرِ الرَّأْسِ، إِذَا لَمْ يَنْبُتْ: كُلُّ الدِّيَةِ.

===

وعمر كانا يجعلان دِيَة اليهوديّ والنصرانيّ المعاهديْن دِيَة الحرّ المسلم. وأخرج ابن أبي شَيْبَة نحوه عن عَلْقَمة ومُجَاهِد، وعطاء والشَّعْبِيّ، والنَّخَعِيّ والزُّهْرِيّ، وروى عبد الرَّزَّاق عن أبي حنيفة، عن الحَكَم بن عُتَيْبَة

(1)

، عن عليّ أنه قال: دِيَة كلّ ذميّ مثل دِيَة المسلم. قال أبو حنيفة: وهو قولي.

وتقدّم ما رواه عبد الرَّزَّاق عن محمد بن الحسن بسنده إلى عليّ أنه قال: ما كان له ذمتنا فدمه كدمنا، ودِيَته كدِيَتنا، ولأنه حرّ معصومُ الدم، فتكمَّل ديته كالمسلم. ودِيَة المجوسيّ كالكتابي عندنا، لا ثمان مئة درهمٍ فقط، كما قال مالك والشافعيّ، واستدلا بما تقدّم من رواية الشّافعيّ عن عمر نحوه أنه قضى في اليهودي والنصراني أربعة آلافٍ، وفي المجوسيّ ثمان مئة. ورواه عبد الرَّزَّاق، وابن أبي شَيْبَة في «مصنفيهما» عن عمر نحوه. ولنا: ما سبق من رواية أبي داود في «مراسيله» عن سعيد بن المُسَيَّب مرفوعاً: «دِيَة كلّ ذي عهد في عهده ألف دينارٍ» .

(ففي الأَنْفِ) أي في إتلافه كلاًّ أو بعضاً (وَ) في (الحَشَفَة) سواء كانت وحدها، أو مع الذَّكر (وَ) في (العَقْلِ وَ) في (إِحْدَى الحَوَاس) وهي: السمع والبصر والشم والذوق و (اللمس)

(2)

(وَ) في (اللِّسَانِ) كُلِّه أو بعضه (إنْ مُنِعَ أَدَاءَ أَكْثَرِ الحُرُوفِ وَ) في (اللِّحْيَةِ وَشَعْرِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يَنْبُتْ) أي إذا حُلِقَ ولم ينبت الشعر سنةً، وكذا في الحَاجِبَيْنِ (كُلُّ الدِّيَةِ). والحاصل: أن الجناية إذا فوّتت منفعةً على الكمال، أو أزالت جَمَالاً مقصوداً في الآدمي على الكمال، تجب الدِّيَةُ، لأن ذلك إتلافٌ للنفس من وجهٍ، وأتلاف النَّفس من وجهٍ مُلْحَقٌ بإتلافها من كلّ وجهٍ.

أمّا الأنف فلِمَا روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن ابن جُرَيْج عن ابن طاوُس أنه قال في الكتاب الذي عندهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «في الأنف إذا قُطِعَ مَارِنُهُ الدِّية» . ومارنُ الأنف: طرفه أو مَا لَانَ منه، كما في «القاموس» . وفي «سنن النَّسائي» ، و «مراسيل أبي داود» عن سليمان بن أرْقَم، عن الزُّهْرِيّ، عن أبي بكر بن محمد بن حَزْم، عن أبيه عن جدّه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن والدِّيَاتِ، وبعث به مع عمرو بن حَزْم، فَقُرِئَتْ على أهل اليمن هذه نُسْخَتُهَا: من

(1)

حُرِّفت في المطبوع إلى: الحاكم بن عيينة. وفي المخطوط: الحكم بن عيينة. والصواب ما

أثبتناه لما في نصب الراية 4/ 368، والتقريب ص 175. وسير أعلام النبلاء 5/ 208.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 352

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

محمد النبيّ إلى شُرَحْبِيل بن عبد كُلَال ونُعَيْم بن عبد كُلَال (والحارث بن عبد كُلَالٍ)

(1)

قيل: ذي رُعَين ومُعَافر وهَمْدَان أمّا بعد: وكان في كتابه ـ «أنّ من اعْتَبَط

(2)

مؤمناً قتلاً عن بيّنة فإنه قَوَدٌ، إلاّ أن يرضى أولياء المقتول، وأنّ في النفس: الدِّيَة مئة من الأبل، وفي الأنف إذا أُوعِبَ جَدْعُهُ

(3)

: الدِّيَة».

وفي رواية: «وفي الأنف إذا استوعب مارنه: الدِّيَة، وفي اللِّسان: الدِّيَة، وفي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَة، وفي البَيْضَتَيْنِ: الدِّيَة، وفي الذَّكر: الدِّيَة، وفي الصُّلْب: الدِّيَة، وفي العينين: الدِّيَة، وفي العين الواحدة: نصف الدِّيَة، وفي اليد الواحدة: نصف الدِّيَة، وفي الرّجل الواحدة: نصف الدِّيَة، وفي المَأْمُومة

(4)

: ثلث الدِّيَة، وفي الجائِفَة

(5)

: ثلث الدِّيَة، وفي المُنَقِّلَة

(6)

: خمسة عشر من الأبل (وفي كل أُصْبَع من أصابع اليد والرجل: عشرٌ من الإبل، وفي السن: خمسٌ من الإبل)

(7)

وفي المُوضِحَة

(8)

: خمس من الإبل، وإنّ الرَّجُل يُقْتَل بالمرأة، وعلى أهل الذهب: ألف دينارٍ».

ورواه ابن حِبّان في «صحيحه» ، والحاكم في «مستدركه» وقال: إسناده صحيحٌ، وهو قاعدة من قواعد الإسلام. وما روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» ، عن وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن عِكْرِمة بن خالد، عن رجلٍ من آل عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الأنف إذا استوصل مارِنُهُ الدِّيَة» . ولأنه أزال بقطع الأرنبة ـ وهي طرف الأنف ـ جَمَالاً على الكمال مقصوداً، وبقطع المارن منفعةً مقصودةً، لأنّ منفعة الأنف أن يجتمع الروائح في قصبته لتعلو إلى الدماغ، وذلك يفوت بقطع المارن ولو قطع المارن مع قصبة الأنف ـ وهي عظْمةٌ واحدةٌ ـ لا يزاد على دِيَةٍ واحدةٍ، وهو

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط والمطبوع، وهو في سنن النسائي 8/ 428 - 429، كتاب القسامة (45)، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول (46 - 47)، رقم (4868).

(2)

اغتَبَط: أَي قتله بلا جناية كانت منه ولا جَرِيْرة تُوْجِبُ قتله. النهاية 3/ 172.

(3)

الجَدْعُ: قطع الأنف، والأذن، والشِّفَة، وهو بالأنف أَخصُّ. النهاية 1/ 246.

(4)

المَأْمُومَةُ: الجرح في الرأَس إِذا وصلت إِلى أَم الدماغ. معجم لغة الفقهاء ص 793.

(5)

سبق شرحها ص 334، التعليقة رقم:(4).

(6)

المُنَقَّلَةُ: هي التي تخرج منها صغار العظام، وتنتقل عن أَماكنها. النهاية 5/ 110.

(7)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط والمطبوع.

(8)

المُوْضِحَة: هي التي تُبْدِي وَضَح العظم: أَي بياضه. النهاية 5/ 196.

ص: 353

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

قول مالك وأحمد، وقال الشّافعيّ: في المارن الدية، وفي القصبة: حكومة عدل، لأن المارِن وحده موجب للدِّية، فتجب الحكومة في الزائد، كما لو قطع القصبة وحدها وقطع لسانه.

ولنا: ما أخرجه البزَّار في «مسنده» عن أبي بكر بن عُبَيْد الله بن عمر، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الأنف إذا استوعب جَدْعُهُ الدِّيَة» . ولأنه عضوٌ واحدٌ فلا يجب فيه أكثر من دية. ولو قطع أنفه فذهب شمّه، فعليه دِيَتان، لأن الشَّمَّ في غير الأنف، فلا تدخل دِيَة أحدهما في الآخر، كالسمع مع الأذن.

وأمّا الحَشَفَة، فَلِمَا روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن الزُّهْرِيّ: أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى في الذَّكَر: الدية، مئة من الإبل إذا استوصل أو قُطِعَت حَشَفَتُهُ. وأخرج البَيْهَقِيّ عن ابن المُسَيَّب قال: مضت السُّنَّة أن في الذَّكر: الدِّيَة، وفي الأُنْثَيَيْنِ: الدِّية. ولأنّ قطع الذَّكر يفوت به منفعة الوطاء والإيلاد، والرمي بالبول، ودفق الماء، والإيلاج الذي هو طريق الإعلاق عادةً. والحَشَفَة أصلٌ في منفعة الإيلاج والدفق، والقصبة كالتابع له.

وأمّا العقل إذا ذهب بضربة، فلفوات منفعة الإدراك، لأن الإنسان به يتميّز عن غيره من جنس الحيوان، وبه ينتفع بنفسه في أمر معاشه وزاد معاده.

وأمّا إحدى الحواس، فلأن كلّ واحدةٍ منها منفعةٌ مقصودةٌ، وقد روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن أبي خالد، عن عوف الأعرابي، قال: سمعت شيخاً في زمان الجماجم

(1)

، فنعت نعته فقيل: ذلك أبو المهلَّبِ عمّ أبي قِلَابة قال: ضرب

(2)

رجلٌ رجلاً بحجرٍ في رأسه في زمان عمر بن الخطاب، فذهب سمعه وعقله ولسانه وذكره، فلم يقرب النساء. فقضى عمر فيها بأربع دِيَات، وهو حيّ. رواه عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن سفيان الثَّوْريّ عن عوف: به.

وفي «المبسوط» : ويُعْرَفُ فوات هذه المعاني بتصديق الجاني أو نكوله إذا استُحلف، ويُعْرَف فوات البصر بقول عَدْلَيْنِ من الأطباء. وفي «الذَّخيرَة»: طريق معرفة ذهاب السَّمْع: أن يُتَغَافل ويُنَادى، فإن أجاب لذلك عُلِمَ أن سمعه لم يذهب. وحكى النَّاطِفِيّ عن القاضي أبي حازم، والقُدُوري عن إسماعيل بن حمّاد: أن

(1)

في مصنف ابن أبي شيبة 9/ 266، رقم (7400):"قَبْل فِتنة ابن الأشعث" بدل "زمان الجماجم".

(2)

في المخطوط رمى، والمثبت من المطبوع.

ص: 354

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

رجلاً ضرب رأس امرأته، فزعمت أن سمعها ذهب، فاشتغل إسماعيل بالقضاء، ثم التفت إليها وهي عاقلةٌ، وقال: استري عورتك فَجَعَلت تجمع ثيابها، فَعَلِمَ أنها سامعة. وفي «المنتقى» قال أبو يوسف: لا يُعْرَفُ ذهاب السمع، والقول فيه للجاني. وأمّا طريق معرفة ذهاب البصر: فقال محمد بن مُقَاتِل الرَّازي: يَسْتَقْبِل الشمس مفتوح العين، فإن دَمَعَتْ عينه عُلِمَ أنّ الضوء باقٍ، وإن لم تدمع عُلِمَ أن الضوء ذاهبٌ. وذكر الطَّحَاويّ أنه يُلْقى بين يديه حيةٌ، فإن هرب منها عُلِمَ أنّ بصره لم يذهب. وفي «الأصل»: قال محمد: إن لم يُعْلَم بما ذكرنا، ويُعْتَبَرُ فيه الدَّعْوَى والأنكار، والقول للجاني مع يمينه على البَتَات، لأن هذا يمينٌ على فعل نفسه، وهو إذهاب بصر غيره منه.

وأمّا اللِّسان فَلِمَا روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن وَكِيع، عن ابن أبي ليلى، عن عِكْرِمة بن خالد، عن رجل من آل عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في اللِّسان الدِّيَةُ كاملةً» . وما أخرج ابن عَدِيّ في «كامله» عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جدّه عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«في اللسان الدِّية إذا مُنِعَ من الكلام» . ولأنّ في قطعه فوات منفعةٍ مقصودةٍ به، وهي النطق، وكذا في قطع بعضه إذا مُنِعَ الكلام، لأن الدِّيَةَ تجب لتفويت المنفعة، لا لتفويت صورة الآلة، وقد حصل تفويت المنفعة بالامتناع عن الكلام.

ولو قدر على التكلّم ببعض الحروف دون بعض تقسَّم الدِّيَة على عدد الحروف الثمانية والعشرين من حروف المعجم، وهو قول مالك والشّافعي وأحمد، وقيل: على الحروف التي تتعلّق باللِّسان، فبقدر ما لا يقدر تجب، وهو قول بعض أصحاب الشّافعيّ، ووجهٌ عن أحمد. والحروف التي تتعلّق باللِّسان: هي ما عدى الشَّفَوِيّة والحَلْقِيَّة. والشَّفَوِيَّةُ أربعةٌ: الباء، والميم، والواو، والفاء، والحَلْقِيَّة ستةٌ: الهمزة، والهاء، والعين، والحاء، والغين، والخاء، ولو بدّل حرفاً مكان حرفٍ مثل أن يقول في دِرْهَم: دِلْهَم، فعليه ضمان الحرف لتلفه، وما صار بدله لا تقوم مقامه.

وأمّا شعر اللِّحْيَة وشعر الرأس، فإنّ اللِّحية في أوانها جَمَالٌ على الكمال، وكذا شعر الرأس جَمَالٌ على الكمال، وبه قال أحمد والثَّوْريّ. وقال مالك والشّافعيّ: تجب فيهما حكومة عدل، لأنه شعرٌ ينمو من البدن بعد كمال الخِلْقَة، ولا يتعلّق بحلقه كمال الدِّيَة كشعر الصَّدر. ولنا: أنّ شعر الصَّدر والسَّاق لا يتعلّق بهما جَمَالٌ ولا

ص: 355

كَمَا في اثْنَيِنْ مِمَّا في البَدَنِ اثنَانِ، وفي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا،

===

منفعةٌ، فلا يجب بإذهابه شيءٌ بخلافهما

(1)

. قيّد بعدم النبت، لأنهما لو نبتا كما كانا، لا يجب شيء، لأن فعل الجاني لا يبقى بلا أثرٍ، فكان كالضربة التي ذهب أثرها، ولا فرق في هذا بين الخطأ والعمد، ولا بين الرجل والمرأة، ولا بين الصغير والكبير. ويؤخَّر سنةً، فإن نبت الشعر لم تجب الدِّيَة وإن مات قبل مُضِيِّهَا لا شيء فيه. وفي الشارب حكومة عدل على الصحيح، لأنه تابع للحية، فصار كبعض أطرافها. وفي لحية الكَوْسَج: الأصحّ إن كان على ذقنه شعراتٍ معدوداتٍ لا يجب شيء، لأن وجودها يشينه ولا يزيِّنه، وإن كان أكثر من ذلك، وهو على الخدّ والذقن جميعاً، ولكنه غير متَّصلٍ ففيه حكومة عدل، لأن فيه نقص الجمال، وإن كان متَّصلاً ففيه كمال الدِّية، لأنه ليس بِكَوْسَج، وفي لحيته كمال جَمَال.

(كَمَا في اثْنَيْنِ) أي كما تجب الدِّيَة كاملة في اثنين (مِمَّا في البَدَنِ) منه (اثنَانِ) كالعَيْنَيْنِ واليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ والشَّفَتَيْنِ والأُذُنَيْنِ والأُنْثَيَيْنِ (وفي أَحَدِهِمَا) أي أحد اثنين ممّا في البدن منه اثنان (نِصْفُهَا) أي نصف الدِّيَة لِمَا أخرجه النَّسائي في «سننه» وأبو داود في «مراسيله» عن أبي بكر بن محمد بن حزم

(2)

عن أبيه، عن جدّه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن والدِّيَات، وبعث به مع عمرو بن حَزْم فكان فيه: وفي الشَّفَتَيْنِ: الدِّيَة، وفي البَيْضَتَيْنِ: الدِّيَة، وفي العَيْنَيْنِ الدِّيَة، وفي العين الواحدة: نصف الدية، وفي اليد الواحدة: نصف الدِّية، وفي الرِّجل الواحدة: نصف الدِّية، ولأنّ في تفويت الأثنيين من هذه الأشياء تفويتاً لجنس منفعتها، أو لكمال الجمال فيجب كمال الدِّيَة. وفي (تفويت)

(3)

أحدهما تفويتاً لنصف المنفعة، فيجب نصف الدِّيَة.

وفي ثَدْيَي المرأة: الدِّيَة، وفي أحدهما: نصف دية المرأة، وفي ثَدْيَيّ الرجل: حكومة عدل، وهو قول (مالك)

(4)

، وابن المُنْذِر، وظاهر مذهب الشّافعيّ. وقال أحمد

(1)

أي بخلاف شعر اللحية وشعر الرأس.

(2)

حُرِّفَت في المطبوع إِلى: أَبي بكر محمد بن حزم، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في سنن النَّسائي 8/ 428 - 429، كتاب القسامة (45)، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له (46، 47)، رقم (4868).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 356

وفى أشْفَار العَيْنَيْن الدِّيَةُ، وَفِي أَحَدِهِما رُبُعُهَا، وَفِي كُلِّ أُصْبَعٍ عُشْرُهَا، وفي مَفْصِلٍ غَيْرِ الإِبْهَامِ ثُلُثُهُ، وَفِي مَفْصِلِهِ نِصْفُهُ، كَمَا في كُلِّ سنٍّ.

===

وإسحاق، والشّافعيّ في قول: تجب الدِّيَة لأن ما وجب فيه الدِّيَة من عضوٍ يستوي فيه المرأة والرجل كسائر الأعضاء، ولأنّهما عضوان بهما الجمال، فتجب الدِّيَة بذهابهما كالأذنين الشاخصتين. ولنا: أنّ ذهاب ثَدْيَي المرأة فيه تفويت منفعةٍ كاملةٍ وجمالٍ كاملٍ، بخلاف ثَدْيَي الرجل: فإنه ليس في إذهابهما تفويتٌ لمنفعةٍ ولا لجمالٍ. وفي حَلَمَتَي ثَدْيَي المرأة: الدِّيَة، وفي إحداهما: نصفها، وقال مالك والثوريّ: إن ذهب اللبن وجبت الدية، وإلاّ وجبت حكومة عدل. والحَلَمَة مُحَرَّكة: رأس الثدي، وهو الثُّؤْلُول

(1)

الذي في وسطه.

(وفي أشْفَار العَيْنَيْنِ) وكذا في أجفانهما (الدِّيَةُ) والأشْفَار جمع الشُّفر بالضم وبفتح: وهو منبت الأهداب جمع الهُدْب: وهو بضم وضمتين: الشعر الذي على العين. والجَفْن: بالفتح: غطاء العين من أعلى وأسفل، وجمعه: أجفان وجُفُون وجُفُن بضمتين، وبضم فسكون. (وَفِي أَحَدِهِما رُبْعُهَا) وهكذا عند أكثر أهل العلم. وحُكِيَ عن مالك: أن في جَفْن العينين: الاجتهاد، ولو قلع العين بأجفانها تجب ديتان: دية العين، ودية أجفانها، لأنهما جنسان كاليدين والرجلين.

(وَفِي كُلِّ أُصْبَعٍ) من أصابع اليدين أو الرجلين (عُشْرُهَا) أي عشر الدِّيَة لِمَا أخرجه الترمذي وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن حِبَّان في «صحيحه» ، وقال ابن القطَّان في كتابه: رجال إسناده كلّهم ثقاتٌ، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دِيَة أصابع اليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ سواءٌ: عشرةٌ من الأبل لكلّ إِصْبَع» .

ورواه أحمد في «مسنده» ولفظه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سوّى بين الأصابع والأسنان في الدِّيَة. وما أخرجه الجماعة إلاّ مسلماً عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه وهذه سواءٌ» يعني الإبهام والخنصر ـ ولأن في قطع الكلّ تفويت جنس منفعة البطش، وفيه دِيَةٌ كاملةٌ، وهي عشر فتنقسم الدِّيَة عليها.

(وفي مَفْصِلٍ) إصْبَع (غَيْرِ الإِبْهَامِ ثُلثُهُ) أي ثلث عُشر الدية (وَفِي مَفْصِلِهِ) أي مَفْصِل الإبهام (نِصْفُهُ) أي نصف عُشر الدِّيَة اعتباراً لانقسام دِيَة الإصْبَع على مفاصله بانقسام دِيَة اليد على الأصابع. (كَمَا في كُلِّ سنَ) أي كما وجب نصف عشر الدِّيَة:

(1)

حُرِّفت في المطبوع إلى: الثؤلون، والمثبت من المخطوط.

ص: 357

وَكُلُّ عُضْوٍ ذَهَبَ نَفْعُهُ بِضَرْبٍ فَفِيهِ دِيَةٌ.

[فَصْلٌ في الشِّجَاجِ]

وَلَا قَوَدَ في الشِّجَاجِ إِلاّ في المُوضِحَة عَمْداً،

===

وهو خمسٌ من الإبل، في قلع كلّ سنَ إذا كان خطأً، سواء كان ضِرْساً أو ثَنِيَّة

(1)

لِمَا أخرجه أبو داود عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جدّه، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسنان خمسٌ من الأبل في كلّ سنَ. وَلِمَا في كتاب عمرو بن حَزْم: «وفي السنِّ خمسٌ من الإبل»

(2)

.

ولما أخرجه أبو داود وابن ماجه عن قتادة، عن عِكْرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأصابع والأسنان سواء» ، وفي رواية البزَّار عنه موقوفاً: أن الأسنان كَلّها سواءٌ: الثَّنِيَّة والضِّرْس سواءٌ، هذه وهذه سواءٌ. ولأنّ الكلَّ في أصل المنفعة ـ وهو المضغ ـ سواءٌ، وبعضها وإن كان فيه زيادة منفعةٍ، لكن في البعض الآخر جَمَالٌ، وهو كالمنفعة في الآدميّ. وإنما قيّدنا بالخطأ، لأن العمد فيه القصاص. ولو قلع جميع أسنانه تجب ستة عشر ألفاً، وليس في البدن عضوٌ ديته أكثر من دية النَّفس سوى الأسنان، وفيه إيماءٌ إلى أن موت الإنسان أهون من فوت الأسنان.

وفي الكَوْسَج تجب أربعة عشر ألفاً، لأن أسنانه تكون ثمانية وعشرين. حُكِيَ أنّ امرأة قالت لزوجها: يا كَوْسَج. فقال: إن كنت كَوْسجاً، فأنتِ طالقٌ. فَسُئِلَ أبو حنيفة فقال: تعدّ أسنانه إن كانت ثمانية وعشرين، فهو كَوْسَجٌ.

(وَكُلُّ عُضْوٍ ذَهَبَ نَفْعُهُ بِضَرْبٍ فَفِيهِ دِيَةٌ) كما لو ضرب يده فشُلَّت، أو عينه فذهب ضوؤها.

(فَصْلٌ في الشِّجَاجِ)

(وَلَا قَوَدَ في الشِّجَاجِ) وهي في اللُّغة: ما يكون في الرأس والوجه، وأمّا ما يكون في غيرهما فيسمّى جِرَاحة (إِلاّ في المُوضِحَة عَمْداً) وهي التي توضح العظم أي تُبَيِّنهُ وتظهره، لما أخرجه البيهقي مرسلاً عن طاوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا طلاق قبل ملك، ولا قصاص فيما دون المُوضِحَة من الجراحات» . وأخرج عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن الحسن وعمر بن عبد العزيز: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقضِ فيما دون

(1)

الثَّنِيَّة: إِحدى الأسنان الأربع التي في مقدَّم الفم، ثِنتان من فوق، وثِنتان من تحت. المعجم الوسيط ص 10، مادة (ثنى).

(2)

سبق تخرجه عند الشارح ص 353.

ص: 358

وَفِيهَا خَطَأً نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وفي الهَاشِمَةِ عُشْرُهَا، وَفِي المُنَقِّلَةِ عُشْرُهَا وَنِصْفُهُ، والآمَّةِ والجَائِفَةِ ثُلُثُهَا.

وفي جَائِفَةٍ نَفَذَتْ ثُلُثَاهَا.

===

المُوضِحَة بشيءٍ. وقال محمد في «الأصل» : وهو ظاهر الرواية، وقول مالك: يجب القصاص فيما دون المُوضِحَة. وفي «شرح الوافي» : وهو الصحيح لظاهر قوله تعالى: {وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ}

(1)

وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه لا قصاص فيما دون المُوضِحَة، وهو قول الشافعي وأحمد.

(وَفِيهَا) أي في المُوضِحَة (خَطَأً نصف عُشْرِ الدِّيَةِ، وفي الهَاشِمَةِ) وهي التي تكسر العظام (عُشْرُهَا) أي عشر الدِّية (وَفِي المُنَقِّلَةِ) وهي التي تنقل العظم بعد الكسر أي تُحَوِّله (عُشْرُهَا) أي عشر الدِّية (وَنِصْفُهُ و) في (الآمَّةِ) وهي التي تصل إلى أمّ الرأس، وهو الغِشاء الرقيق الذي فيه الدماغ (و) في (الجَائِفَةِ) وهي الجراحة التي وصلت إلى الجوف من الصدر والبطن والظهر والجبين، والاسم دليل عليه (ثُلُثُهَا) أي ثلث الدِّيَة لقوله عليه الصلاة والسلام في كتاب عمرو بن حزم الذي أخرجه النَّسائي وأبو داود: «في المَأْمُومَة: ثلث الدِّيَة، وفي الجائفة: ثلث الدِّيَة، وفي المُنَقِّلَة: خمسَ (عشرةَ)

(2)

من الإبل، (وفي المُوضِحَة خمس من الإبل)

(3)

» وليس فيه ذكر الهَاشِمَة.

لكن أخرج عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن زيد بن ثابت قال: «في المُوضِحَة: خمسٌ، وفي الهَاشِمَة: عشرٌ، وفي المُنَقِّلَة: خمسَ عشرة، وفي المَأْمُومَة: ثلث الدية» . وأمّا ما وصل من الرقبة إلى الموضع الذي إذا وصل إليه الشراب كان مُفْطراً، وما فوق ذلك لا يكون جائفة. وذكر ابن عبد البَرّ: أن مالكاً وأبا حنيفة والشافعي وأصحابهم اتَّفقوا على أنّ الجائفة لا تكون إلاّ في الجوف، وبه قال أحمد (وفي جَائِفَةٍ نَفَذَتْ) إلى الجانب الآخر (ثُلُثَاهَا) قال ابن عبد البَرِّ: لا أعلمهم يختلفون في ذلك، وروى عن أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي: أنها جائفة واحدة، لأن الجائفة تنفذ من ظاهر البدن إلى الجوف، والثانية هنا تنفذ من الباطن إلى الظاهر.

وللجمهور: ما رَوَى عبد الرَّزاق في «مصنفه» عن الثَّوْرِيّ، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن ابن المُسَيَّب قال: قضى أبو بكر في الجائفة تكون نافذة بثلثي الدِّية، وقال هما جائفتان. قال سفيان: ولا تكون الجائفة إلاّ

(1)

سورة المائدة، الآية (45)

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 359

وَالخَارِصَةِ، وَالدَّامِعَةِ، والدَّامِيَةِ، وَالبَاضِعَةِ، والمُتَلَاحِمَةِ، وَالسِّمْحَاقِ: حُكُومَةُ عَدْلٍ.

فَيُقَوَّمُ عَبْدًا بِلَا هَذَا الأَثَرِ. ثُمَّ مَعَهُ، فَقَدْرُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ القِيمَتَيِنْ مِنْ الدِّيَةِ هُوَ هِيَ، وَبِهِ يُفْتَى.

===

في الجوف. ورواه ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن عبد الرحمن بن سليمان، عن حجَّاج، عن عمرو بن شُعَيْب، عن سعيد بن المُسَيَّب: أن قوماً كانوا يرمون، فرمى رجلٌ منهم بسهمٍ خطأ، فأصاب بطن رجلٍ فأنفذه إلى ظهره، فدُووِي فبرأ.

فَرُفِعَ إلى أبي بكرٍ فقضى فيه بجَائِفَتَيْن.

(وَ) في (الخَارِصَةِ) وهي بمهملتين: التي تخرص الجلد، أي تخدشه، ولا تُخْرِجُ الدَّم (وَ) في (الدَّامِعَةِ) بالعين المهملة: وهي التي تُظْهر الدَّم ولا تُسِيله (و) في (الدَّامِيَةِ) وهي التي تُسِيل الدَّم. وقال المَرْغِيْنَاني في الدَّامية: هي التي تُدْمي من غير أن يسيل منها دَمٌ، هو الصحيح، مرويٌ عن أبي عُبَيْد. والدَّامعة: هي التي يسيل منها الدَّم كدمع العين.

(وَ) في (البَاضِعَةِ) بالضاد المعجمة والعين المهملة وهي: التي تَبْضَع الجلد أي تقطعه (و) في (المُتَلَاحِمَةِ) وهي التي تأخذ في اللَّحم وتقطعه كله، ثم يتلاحم بعد ذلك، أي يلتئم ويتلاصق (وَ) في (السِّمْحَاقِ) وهو التي تصل إلى السِّمْحَاق وهي: الجلدة الرقيقة التي بين اللّحم وعظم الرأس (حُكُومَةُ عَدْلٍ) مبتدأ مقدّم الخبر، وإنما تجب حكومة عدلٍ لما روى محمد بن الحسن في كتاب «الآثار»: أخبرنا أبو حنيفة، عن حمّاد بن إبراهيم، عن شُرَيْح قال: في الجَائِفة: ثلث الدِّيَة، وفي الآمَّةِ: ثلث الدِّيَة، فإذا ذهب العقل: فالدِّية كاملةٌ، وفي المُنَقِّلَة عشر (ونصف عشر الدِّيَة)

(1)

، وفي المُوضِحَة: نصف عشر الدِّيَة، وفي غير ذلك من الجِرَاحات: حكومة عدل.

(فَيُقَوَّمُ) المجنيُّ عليه (عَبْداً بِلَا هَذَا الأَثَرِ ثُمَّ) يقوّم عبداً (مَعَهُ) أي مع هذا الأثر (فَقَدْرُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ القِيمَتَيْنِ مِنْ الدِّيَةِ هُوَ) ذلك القدر (هِيَ) أي حكومة العدل (وَبِهِ يُفْتَى) كما قال قَاضِيخَان. وهذا تفسير الحكومة عند الطَّحَاوِي، وبه أخذ الحَلْوَاني، وهو قول مالك والشَّافعيّ وأحمد وكل من يُحْفَظُ عنه العلم، كما قاله ابن المُنْذر. وقال الكَرْخِي في تفسيرها: أن يُنْظَر كم مقدار هذا الشَّجَّة من المُوضِحَة، فيجب بقدر ذلك من دية المُوضِحَة، لأنّ ما لا نصّ فيه يُردُّ إلى ما فيه نصّ. قال شيخ الإسلام: وهو الأصحّ.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 360

وَفِي أَصَابعِ يَدٍ مَعَ نِصْفِ السَّاعِدِ نِصْفُ دِيَةٍ وَحُكُومَةُ عَدْلٍ، وَالكَفُّ تَابعٌ، وَالعِبْرَةُ لِلأَصَابعِ.

وَفي إصْبَع زَائِدَةٍ حُكُومَةُ عَدْلٍ. وعَيْنِ صَبِيٍّ، وَذَكَرِهِ، وَلِسَانِهِ: حُكُومَةُ عَدْلٍ، لَوْ لَمْ تُعْلَمْ الصِّحَّةُ بِمَا دَلَّ عَلَى: نَظَرِهِ، وَكَلَامِهِ، وَعَلَى حَرَكَةِ ذَكَرِهِ.

===

ثم من مشايخنا من سوّى بين الرجل والمرأة في الحكومة، ومنهم من قال: بل تكون في المرأة على النصف ممّا يجب في الرجل، وهو الذي ذكره القُدُورِي في تفسير الحكومة. وقال بعض المشايخ في تفسيرها: يُنْظَرُ إلى قدر ما يحتاج إليه من النَّفقة إلى أن تبرأ هذه الجراحة، فتجب على الجاني، فإن عرف القاضي مقداره، وإلاّ سأل من له علمٌ بذلك من الأطباء. قالوا: وهذا لا يقوى، لأن النّاس يتفاوتون في ذلك، فمنهم من يكون أبطأ بُرْأً، ومنهم من يكون أسرع بُرْأً. ثم هذا إذا بقي للجراحة أثرٌ وأمّا إذا لم يبقَ: فقال أبو يوسف: لا شيء على الجاني، وقال محمد: يلزمه قدر ما أنفق إلى أن يبَرِأَ، وقال أكثر أهل العلم بقول أبي يوسف.

(وَفِي أَصَابِعِ يَدٍ مَعَ نِصْفِ السَّاعِدِ نِصْفُ دِيةٍ) في اليد (وَحُكُومَةُ عَدْلٍ) في نصف السَّاعد (وَالكَفُّ تَابِعٌ) للأصابع فلا شيء فيه. (وَالعِبْرَةُ) في اليد (لِلأَصَابِعِ) فنصف الدِّيَة فيها، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد، وهو رواية عن أبي يوسف، وهو ظاهر مذهب الشَّافعي. وعن أبي يوسف أيضاً: أنّ ما زاد على الأصابع من اليد إلى المَنْكِب تابعٌ لها، ومن الرِّجْل إلى أصل الفَخِذْ تابعٌ لها، وبه قال بعض أصحاب الشَّافعيّ وأحمد ومالك وابن أبي ليلى والنَّخَعِيّ وقتادة وعطاء، لأنّ اسم اليد إلى المَنْكِب، والرِّجْل إلى الفخذ لغةً وعرفاً، فلا يلزم أكثر من ديتها، ولأنه عليه الصلاة والسلام قضى على قاطع اليد بنصف الدِّيَة.

(وَفي إصْبَعٍ زَائِدَةٍ) على الأصابع (حُكُومَةُ عَدْلٍ) وكذا في سنّ زائدةٍ على الأسنان، لأنه لا منفعة فيها ولا زينة لها، فلا يجب أرْشٌ

(1)

مقدّرٌ فيها، لكنها جزءٌ من الآدمي، فلم يمكن إهدارها. وفي «الذخِيرة»: سواء كان ذلك عمداً أو خطأً، وسواء كان للقاطع (إِصْبَعٌ

(2)

) زائدةٌ أم لا.

(و) في (عَيْنِ صَبِيَ وَ) في (ذَكَرِهِ وَ) في (لِسَانِهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ) مبتدأ خبره مقدّم (لَوْ لَمْ تُعْلَمْ الصِّحَّةُ بِمَا دَلَّ عَلَى نَظَرِهِ وَ) بما دلّ على (كَلَامِهِ وَ) بما دلّ (عَلَى حَرَكَةِ ذَكَرِهِ) وقال الشّافعيّ وأحمد والثّوْرِيّ: تجب دِيَةٌ كاملةٌ، لأن الأصل هو الصحة،

(1)

سبق شرحها ص 167، التعليقة رقم:(1).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 361

وَلَا يُقَادُ إلاّ بَعْدَ بُرْءٍ.

وَعَمْدُ الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ خَطَأٌ، وَعَلَى العَاقِلَةِ الدِّيَةُ بِلَا كَفَّارَةٍ وحِرْمَانِ إرْثٍ.

وَمَنْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ، تَجِبُ غُرَّةٌ: خَمْسُ مِئَةِ دِرْهَمٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ، إِنْ أَلْقَتْ مَيْتًا،

===

فأشبه قطع المارن والأذن من الصبيّ.

ولنا: أن المقصود من هذه الأعضاء المنفعة، فإذا لم تُعْلَم صحتها لم يجب الأرْش كاملاً، لأنه لا يجب بالشك. والظاهر لا يصلح حُجَّة للإلزام، بخلاف المارن والأذن الشاخصة من الصبي، لأن المقصود منها الجمال، وقد فوّته على الكمال.

(وَلَا يُقَادُ) بجرحٍ (إلاّ بَعْدَ بُرْءٍ) وهو قول مالك وأحمد وأكثر أهل العلم. وقال الشَّافعيّ: يجوز أن يُقَاد قبل البرء، ويستحبّ الانتظار اعتباراً بالقصاص في النفس. ولنا: ما روى أحمد في «مسنده» عن ابن جُرَيْج، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جدّه: أن رجلاً طعن رجلاً بقرنٍ في ركبته فقال: يا رسول الله أَقِدْنِي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل حتّى يبرأ جرحك» . قال: فأَبى الرجل إلاّ أن يَسْتَقِيدَ، فأقاده عليه الصلاة والسلام. قال: فَعَرَج الرجل المُسْتَقِيد وبراء المُسْتَقاد. فأتى المستقيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عرجت منه، وبراء صاحبي. فقال عليه الصلاة والسلام:«ألم آمرك أن لا تستقيد حتّى يبرأ جرحك فعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك» . ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد: من كان به جرحٌ أنْ لا يستقيد حتّى تبرأ جراحته، فإذا براء استقاد.

ولأن الجراحات يُعْتَبَرُ فيها مآلها، (لا حالها)

(1)

، لأن حكمها في الحالّ غير معلوم لتوقّفه على المآل، ولعلها تسري إلى النَّفْس فيظهر أنه قَتْلٌ.

(وَعَمْدُ الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ خَطَأٌ) وكذا عمد المعتوه (وَعَلَى العَاقِلَةِ) في عمدهم (الدِّيَةُ) وبه قال مالك وأحمد والشَّافعيّ في قول لِمَا أخرج البيهقيّ عن عليّ: أنّ عمد الصبيّ والمجنون خطأٌ. لكن قال في «المعرفة» : إسناده ضعيفٌ. (بِلَا كَفَّارَةٍ) عليهم (و) بلا (حِرْمَانِ إرْثٍ) وقال الشّافعيّ: تجب الكفارة عليهم وحرمان الميراث، لأنهما متعلقان عنده بالقتل، وقد وُجِدَ. ولنا: أن الكفَّارة تستر الذنب، ولا ذنب لهؤلاء، وحرمان الإرث عقوبة، وهم ليسوا من أهلها.

(وَمَنْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ تَجِبُ غُرَّةٌ خَمْسُ مِئَةِ دِرْهَمٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ إِنْ أَلْقَتْ مَيْتاً) سُمِّي بدل الجنين غُرَّة، لأن الواجب عبد، وهو يسمَّى غُرَّة، وأصلها بياض الجبهة.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 362

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

والقياس أن لا يجب في الجنين الساقط شيء، لأنه لم يتيقّن بحياته. فإن (قيل)

(1)

: الظاهر أنه حيّ، أُجِيبَ: بأن الظاهر لا يصلح حُجَّة للاستحقاق.

ووجه الاستحسان: ما في الصحيحين عن أبي هريرة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لِحْيَان بغُرَّة: عبدٍ أو أمةٍ. وإنّما فسَّرنا الغُرَّة بخمس مئةٍ لما روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن إسماعيل بن عيّاش، عن زيد بن أسلم: أنّ عمر بن الخطّاب قوّم الغُرَّة خمسين ديناراً، وكل دينارٍ بعشرة دراهم. وأخرج البزَّار في «مسنده» عن عبد الله بن بُرَيْدة، عن أبيه: أنّ امرأةً حَذَفت امرأةً، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولدها بخمس مئةٍ، ونهى عن الحذف. وأخرج أبو داود «في سننه» عن إبراهيم النَّخَعِي قال: الغُرَّة خمس مئة ـ يعني ـ درهماً. قال: وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: هي خمسون ديناراً. وروى إبراهيم الحَزْمي في كتابه «غريب الحديث» عن أحمد بن حنبل، عن وَكِيع، عن سُفْيَان، عن طارق، عن الشَّعْبِيّ: خمس مئة. وروى أيضاً عن أحمد بن حنبل عن عبد الرَّزَّاق، عن مَعْمَر، عن قتادة قال: الغُرَّة خمسون ديناراً.

وهي عندنا وعند الشَّافعيّ على عاقلة الضارب. وقال مالك: في ماله، لأنها بدل الجزء، وبه قال أحمد إذا كان ضَرْب الأم عمداً، ومات الجنين وحده. وأمّا إذا كان خطأً أو شبه عمدٍ، فقال: إنه على العاقلة. ولنا ما روى أبو داود في «سننه» عن المُغِيرَة ابن شُعْبَة: أن امرأتين كانتا تحت رجلٍ من هُذَيْل، فضربت إحداهما الأخرى بعمودٍ فقتلتها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحد الرجلين: كيف تَدِي من لا صَاحَ ولا أكل ولا شرب ولا اسْتَهَلّ

(2)

؟ فقال له: «أسَجْعٌ كَسَجْعِ الأعراب؟ فقضى فيه غُرَّةً وجعله على عاقلة المرأة» . وأخرجه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

ورواه الطَّبَرانيّ معلولاً في «معجمه» عن أبي المَلِيح الهُذَلي عن أبيه قال: كان فينا رجلٌ يقال (له)

(3)

حَمَلُ بن مالك له إمرأتان: إحداهما هُذليَّة، والأخرى عَامِرِيّة. فضربت الهُذَليّة بطن العَامِرِيّة بعمود خِبَاءٍ أو فُسطَاط

(4)

، فألقت جنيناً ميتاً فانطلقوا بالضاربة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معها أخٌ يقال له: عِمْران بن عُوَيْمر، فلمّا قصُّوا عليه القصة، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دُوهُ» . قال له عِمْران: يا رسول الله أنَدِي

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

استهلال الصَّبيّ: تصويته عند ولادته. النهاية 5/ 271.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع والمخطوط، وهو من "المحجم الكبير" للطبراني 1/ 193، رقم (514).

(4)

الفُسْطاط: بيت يُتَّخذ من الشَّعر. المعجم الوسيط ص 688.

ص: 363

وَدِيَةٌ إنْ حَيًّا فَمَاتَ، وغُرَّةٌ وَدِيَةٌ إنْ أَلْقَتْ مَيْتًا فَمَاتَتْ. ودِيَهُ الأمِّ فَقَطْ إِنْ مَاتَتْ الأُمُّ فَأَلْقَتْ مَيْتًا،

===

من لا شَرِب ولا أَكَل ولا صَاح ولا استهلّ؟ ومثل هذا يُطَلُّ

(1)

. فقال عليه الصلاة والسلام: «دَعْنِي عن رجز الأعراب، فيه غُرّةٌ: عبدٌ، أو أمةٌ، أو خمس مئةٍ، أو فرسٌ، أو عشرون ومئة شاة» . فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لها ابنين هما سادة الحيّ، وهم أحقّ أن يعقلوا عن أمّهم. قال:«أنت أحقُّ أن تعقل عن أختك من وُلْدِها» . قال: ما لي شيءٌ أعقل. قال: «يا حَمَل بن مالك ـ وكان يومئذٍ على صدقات هُذَيل، وهو زوج المرأتين، وأبو الجنين المقتول ـ: «اقبض من تحت يدك من صدقات هُذَيل عشرين ومئة شاة» . فعقل.

وتجب في سَنة عندنا، وفي ثلاث سنين عند الشَّافعي، (لأنها بدل النفس، ولهذا تورَّث)

(2)

ولنا: ما روى محمد بن الحسن أنه قال: بلغنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الغُرَّة على العاقلة في سنة. ويستوي في وجوب الخمس مئة في الجنين الذكر والأنثى عند عامة أهل العلم لإطلاق الحديث.

(وَ) تجب (دِيَةٌ) كاملةٌ (إنْ) ألقت (المرأة)

(3)

(حَيّاً فَمَاتَ) لأن الضارب أتلف آدمياً، فتجب فيه الدِّيَةُ كاملةٌ. قال ابن المُنْذِر: ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم، وإنّما الخلاف في أن حياته تثبت بكل ما يدلّ على الحياة من الاستهلال، والرَّضاع، والنَّفَس، والعُطَاس وغير ذلك، وهو مذهبنا وقول الشافعيّ وأحمد، أو لا تثبت إلاّ بالاستهلال، وهو قول مالك وأحمد في روايةٍ، والزُّهْرِيّ وقتادة وإسحاق وابن عبّاس والحسن بن عليّ وجابر وروايةٌ عن عمر، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل إرثه من غيره، وإرث غيره منه، مرتَّباً على الاستهلال. وأمَّا لو تحرَّك عضوٌ منه، فإنه لا يدلّ على حياته اتفاقاً، لأن ذلك قد يكون من اختلاج، أو خروج من ضيق.

(و) تجب (غُرَّةٌ وَدِيَةٌ إنْ أَلْقَتْ) المرأة (مَيْتاً فَمَاتَتْ) الأم، لأن الفعل يتعدّد بتعدّد أثره (و) تجب (دِيَةُ الأمِّ فَقَطْ) أي لا يجب في الجنين شيءٌ (إِنْ مَاتَتْ الأُمُّ فَأَلْقَتْ مَيْتاً) وبه قال مالك. وقال الشَّافعيّ: تجب غُرَّةٌ في الجنين مع دِيَة الأمّ، وبه قال أحمد لِمَا في «معجم الطَّبَرَانِي» عن عُوَيْم

(4)

بن ساعدة قال: كانت أختي مُلَيْكَة وامرأة معها يُقَال لها أمّ عفيفة بنت شروح

(5)

تحت

(1)

يُطَلُّ: أَي يُهْدَر. النهاية 3/ 136.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

حُرِّفت في المطبوع إِلى: عويمر، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في تقريب التهذيب ص 434، قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" 5/ 45: بصيغة التصغير ليس في آخره راء.

(5)

في "المعجم الكبير" للطبراني 17/ 141: أم عفيف بنت مسروح.

ص: 364

وَدِيَتَانِ إنْ مَاتَتْ فأَلْقَتْ حَيًّا وَمَاتَ.

وَمَا يَجِبُ في الجَنِيِن لِوَرَثَتِهِ سِوَى ضَارِبهِ. وفي جَنِيِن الأَمَةِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ في الذَّكَرِ، وعُشْرُ قِيمَتِهِ في الأُنْثَى.

===

حَمَل بن مالك بن النابغة، فضربت أم عفيفة مُلَكية بمِسْطح

(1)

بيتها ـ وهي حامل ـ فقتلتهما وذا بطنها. فقضى رسول الله فيها بالدِّيَة، وفي جنينها بغُرّةٍ: عبدٍ أو وليدةٍ. فقال أخوها علاء بن شروح

(2)

: يا رسول الله أنُغرَّمُ من لا أكل ولا شَرِب ولا نطق ولا استهلّ؟ ومثل هذا يُطَلُّ

(3)

. فقال عليه الصلاة والسلام: «أسَجْعٌ كسجْع الجاهلية» ؟ (وَ) تجب (دِيَتَانِ إنْ مَاتَتْ) الأمّ (فأَلْقَتْ) جنيناً (حَيّاً وَمَاتَ) لأنّ الضَّارب قتلهما بضربه، فصار كما إذا ألقته حيّاً وماتا.

(وَمَا يَجِبُ في الجَنِينِ) فهو (لِوَرَثَتِهِ) لأنه بدل نفسه فترثه ورثته (سِوَى ضَارِبِهِ) فإنه لا شيء له منه، حتّى لو ضرب رجلٌ بطن امرأةٍ فألقت ابنه ميتاً، فَعَلَى عاقلة الأب غُرّة، ولا يرث منها، لأنه قتل نفساً مباشرة ظلماً، ولا ميراث للقاتل بهذه الصفة.

(و) يجب (في جَنِينِ الأَمَةِ) إن كانت حاملاً من زوجها (نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ في الذَّكَرِ وعُشْرُ قِيمَتِهِ في الأُنْثَى) بأن يُقَوَّم الجنين بعد انفصاله ميتاً على لونه وهيئته لو كان حيّاً، فَيُنْظَرُ كم قيمته بهذا المكان؟ فإذا ظهرت قيمته. فإن كان ذكراً يجب نصف عُشر قيمته: وإن كان أنثى يجب عشر قيمته، وأمّا إذا كانت حاملاً من مولاها أو من المغرور، تجب الغُرَّة المذكورة في جنين الحرّة ذكراً كان أو أنثى، لأنه حرٌّ.

وقال الشافعي: يجب في جنين الأمة عشر قيمة الأمّ، وبه قال مالك وأحمد وابن المُنْذِر، وهو قول الحسن والنَّخَعِيّ والزُّهْرِيّ وقَتَادة وإسحاق، لأنه جنينٌ مات بالجناية في بطن الأمّ، فلم يختلف ضمانه بالذكورة والأنوثة كجنين الحرّة لإطلاق النصوص.

ولا كفَّارة في الجنين عندنا. وقال مالك والشّافعيّ وأحمد وأكثر أهل العلم: تجب فيه الكفَّارة مع الغُرَّة لإطلاق قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أنْ يَصَّدَّقُوا}

(4)

. ولنا: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يذكر الكفارة في حديث الغُرَّة، والموضع موضع البيان. وفي «الذَّخِيرَة»: القياس يقتضي عدم

(1)

المِسْطح: عُودٌ من أَعْواد الخِبَاء. النهاية 2/ 365.

(2)

في "المعجم الكبير" للطبراني 17/ 141: العلاء بن مسروح.

(3)

سبق شرحها ص 364، التعليقة رقم (1).

(4)

سورة النساء، الآية:(92).

ص: 365

وَمَا اسْتَبانَ بَعْضُ خَلْقِهِ كَالْجَنِيِن التَّامِّ. وَضَمِنَ الغُرَّةَ عَاقِلَةُ امْرَأَةٍ حَامِلٍ أَسْقَطَتْ مَيْتًا عَمْدًا بِدَوَاءٍ أَوْ فِعْلٍ بِلا إذْنِ زَوْجِهَا.

‌فَصْلٌ [فيما يُحْدَثُ في الطَّرِيقِ]

مَنْ أَحْدَثَ في طَرِيقِ العَامَّةِ كَنِيفًا، أَوْ مِيزَابًا، أَوْ جُرْصُنًا، أَوْ دُكَّانًا، وَسِعَةُ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ، وَلِكُلٍّ نَقْضُهُ.

===

وجوب الضمان وعدم وجوب الكفارة، لأنه بمنزلة العضو، لكن تركنا القياس في الضمان للأثر، ولا أثر في الكفارة، فيبقى على الأصل (وَمَا اسْتَبانَ) أي والجنين الذي تبيّن (بَعْضُ خَلْقِهِ كَالْجَنِينِ التَّامِّ) في جميع هذه الأحكام. (وَضَمِنَ الغُرَّةَ) في سنةٍ (عَاقِلَةُ امْرَأَةٍ حَامِلٍ أَسْقَطَتْ مَيْتاً عَمْداً بِدَوَاءٍ) شربته (أَوْ فِعْلٍ) فعلته بأن حملت حِملاً ثقيلاً أو وضعت شيئاً في قُبُلها (بِلا إذْنِ زَوْجِهَا) ولو فعلت بإذنه لم تضمن ولا ترث من الغُرَّة، لأنها قاتلةٌ بغير (حَقَ)

(1)

.

فصلٌ (فيما يُحدَثُ في الطريق)

(مَنْ أَحْدَثَ في طَرِيقِ العَامَّةِ) لنفسه (كَنِيفاً) أي مُسْترَاحاً (أَوْ مِيزَاباً) أي مجرى الماء (أَوْ جُرْصُناً) أي بُرْجاً (أَوْ دُكَّاناً وَسِعَهُ ذَلِكَ) أي جاز له (إِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ) بأن كانت واسعةً لا يضرّ ذلك بالعمارات والحامل. وفي «شرح الكنز» : يعني لم يضرّ بالعامة لم يمنعه أحد. قيّد بعدم الضَّرر، لأنه مع الضَّرر لا يجوز بلا خلافٍ، أذِن الإمام أو لم يأذن لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضِرَار في الإسلام» ، رواه الطَّبَرَاني في «معجمه الأوسط» ، وكذا القعود في الطريق للبيع والشِّراء يجوز إن لم يضرّ بأحدٍ، وإن أضرّ لا يجوز وإن أذِنَ الإمام.

(وَلِكُلَ) أي من أهل الخصومة وهم: المسلم البالغ العاقل، الحرّ والذميّ الذي هو كذلك (نَقْضُهُ) إذا وُضِعَ بغير إذن الإمام، كما له منعه من إحداثه ابتداءً، لأن لكلّ واحدٍ منهم حقّ المرور بنفسه وبدوابه، فكان له ذلك، كما في الملك المشترك.

وقيّدنا الإحداث بكونه لنفسه، لأنه لو بنى للعامة مسجداً ونحوه وهو لا يضرّ بأحدٍ لا يُنْقَض، كذا رُوِيَ عن محمد. وقيّدنا النَّقض بما إذا أُحْدِث بغير إذن الإمام، لأن التدبير فيما يكون للعامة للإمام، وله ولاية المنع قبل الوضع، وهذا كلّه على قول أبي حنيفة. وعلى قول

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 366

وَفي طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذٍ لا يَسَعُهُ بِلَا إذْنِ الشُّرَكَاءِ. وَضَمِنَ عَاقِلَتُهُ دِيَةَ مَنْ مَاتَ بِسُقُوطِهَا، كَمَا لَوْ وَضَعَ حَجَرًا في طَرِيقٍ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا فَتَلِفَ به إنْسَانٌ،

===

أبي يوسف: لكلّ أحدٍ أن يمنعه قبل الإحداث. وعلى قول محمدٍ: ليس لأحدٍ منعه قبل الإحداث ولا نقضه إذا لم يكن فيه ضررٌ بالناس، وبه قال مالك والشافعيّ (وأحمد)

(1)

والنَّخَعِيّ وإسحاق والأوْزَاعِيّ، لأنَّ الشرع أَذِنَ له في ذلك، فصار كما لو أذن له الإمام بل أولى، لأن إذن الشارع أحرى وولايته أقوى، وصار كالمرور حيث لا يجوز (لأحدٍ)

(2)

أن يمنعه منه.

وأُجِيبَ بأنّ هذا انتفاعٌ بما لم يوضع له الطريق، فكان لهم منعه، وإن كان جائزاً في نفسه، بخلاف المرور فيه، لأنه انتفاعٌ بما وُضِع الطريق له، فلا يكون لأحدٍ منعه. (وَ) مَنْ أحدث ذلك (في طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذٍ لا يَسَعُهُ) أي لا يجوز له (بِلَا إذْنِ الشُّرَكَاءِ) سواء أضرّ بهم أو لم يضرّ بخلاف النافذة، فإنّ الحقّ فيها لكلّ أحدٍ ويتعذَّر الوصول إلى إذن الكلّ، فجُعِلَ كل واحدٍ كأنه هو المالك وحده حكماً، كيلا يتعطَّل عليه طريق الانتفاع، ولا كذلك غير النافذة، لأن الوصول إلى إرضائهم ممكنٌ فبقي على الشركة حقيقةً.

(وَضَمِنَ عَاقِلَتُهُ) أي عاقلة من أحدث ذلك فتلف به نفسٌ (دِيَةَ مَنْ مَاتَ بِسُقُوطِهَا كَمَا لَوْ وَضَعَ حَجَراً في طَرِيقٍ أَوْ حَفَرَ بِئْراً) فيها (فَتَلفَ به إنْسَانٌ) لأنه متسبّبٌ بالتلف به، متعدَ بشغل الطريق، وبه قال مالك وأحمد. وقال الشَّافعي: إن سقطت خشبة ليست بمركّبة على حائطٍ يجب الضمان، وإن كانت مركّبةً يجب نصف الضمان، لأنه أتلف بما وضعه على ملكه وملك غيره فانقسم الضمان، ولو سقط المِيزَاب (فأصاب طرفه الداخل رجلاً فقتله، فلا ضمان على أحدٍ، لأن ذلك في ملكه فلا يكون متعدّياً فيه، وإن أصاب)(1) طرفه الخارج، فعليه الضمان، لأنه متعدَ فيه بشغل هواء الطريق. ولا كفَّارة عليه ولا حرمان ميراث، لأنه قتل بسببٍ، فلا يوجب الكفَّارة ولا الحرمان عندنا. ولو انتصف المِيزَاب، فسقط منه ما خرج عن الحائط ضمن جميع الدية، لأن كلّ ما خرج منه فهو، في ملك غيره.

وقال (أحمد)

(3)

: يضمن جميع الدِّية في جميع الصور. وقال مالك والشَّافعيّ في القديم: لا ضمان عليه في جميع الصور، لأنه غير متعدَ في إخراجه، فلا يضمن ما تلف به، كما لو أخرجه في ملكه. وأمّا من رأى أعمى يقع في البئر، فلم يمنعه من

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 367

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الوقوع حتّى مات، أو رأى إنساناً يموت من الجوع ومعه طعامٌ، فلم يدفعه إليه حتّى مات، أو مرّ في الطريق وفيه حجرٌ، فلم يرفعه حتّى عثر فيه إنسانٌ ومات، فلا ضمان، وإن حَرُم عليه في الأُولَيَيْن وكُرِه له في الآخر.

ولو وَضَع إنسانٌ في الطريق جمراً، فاحترق به شيءٌ يضمن، لأنه متعدَ، ولو حرَّكت الريح الجمر إلى موضعٍ فأحرق شيئاً لا يضمن، لفسخ الريح فعله بتحويل الجمر، وإن حرّكت الريح الشَّرار يضمن عند بعضهم. وفي «الذَّخِيرَة»: هذا اختيار شمس الأئمة السَّرَخْسِي.

وكان الحَلْواني لا يقول بالضمان من غير تفصيلٍ، وهو قياس قول مالك والشافعيّ وأحمد.

ولو استأجر ربُّ الدَّار عَمَلَةً

(1)

لإخراج جَناحٍ

(2)

أو ظُلَّة فوقع قبل أن يفرغوا منه (على إنسانِ فقتله فالضمان عليهم، لأن التَلَف بفعلهم. فإن العمل ما لم يفرغوا منه)

(3)

لم يكن مسلّماً إلى ربّ الدَّار، وانقلب فعلهم قتلاً بالمباشرة حتّى وجب عليهم الكفارة وحُرِمُوا الميراث. ولو وَقَع بعد فراغهم فالضمان على ربّ الدَّار استحساناً، لأنه صحّ الإيجار حتّى استحقّوا الأجرة، ووقع فعلهم عِمارةً وإصلاحاً، فانتقل إلى المستأجر وصار كأنه فعله بنفسه.

ولو صَبَّ الماء في الطريق فعَطِبَ إنسانٌ أو دابةٌ يضمن، وكذا لو رشّ الماء أو توضَّأ به، لأنه متعدَ بإلحاق الضَّرر بالمارَّة. وأمّا إذا علم المارّ بالرّشّ ومضى على موضعه، فإن الرَّاشَّ لا يضمن. وقيل: هذا إذا رشّ بعض الطريق، لأنه يجد موضعاً للمرور ولا أثر للماء فيه. فإذا تعمَّد على موضع صب الماء مع علمه به، لم يضمن الرَّاشّ شيئاً. وإن رشّ جميع الطريق يضمن، لأن المارّ مضطرٌ حينئذٍ، وكذا الحكم في الخشبة والحجر الموضوعَيْن في الطريق في أخذهما جميعه أو بعضه. وإن رشّ فِناء حانوتٍ بإذن صاحبه فضمان ما عَطِب على الآمِر استحساناً.

ولو حمل المارّ شيئاً فسقط منه على إنسانٍ أو مالٍ فتلف به يكون مضموناً، لا ما تلف بسقوط رداءٍ ونحوه عن لابسه في حال مروره أو بالتعثر به. وكذا لا يضمن ما

(1)

العَمَلَة: العاملون بأَيديهم. القاموس المحيط ص 1339، مادة (العمل).

(2)

الجناح: الرَّوْشَن. المعجم الوسيط ص 139، مادة (جنح). والرَّوْشن هو الشُّرْفة المعجم الوسيط، ص 347، مادة (رشن).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 368

لا إنْ مَاتَ جُوعًا أَو غمًّا.

وإنْ تَلِفَ بِهِ بَهِيمَةٌ ضَمِنَ هُوَ إِنْ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الإِمَامُ.

===

تلف بوقوع في بالوعة حفرها بإذن الإمام، وإن كان بغير إذنه يضمن، لأنه متعدَ وكذا الجواب على هذا التفصيل في جميع ما يُفْعل في طريق العامة

(1)

. ولو حفر في ملكه بالوعة، أو وضع شيئاً فتلف به شيءٌ لم يضمنه، لعدم اتصافه بالتعدّي. ولو وضع حجراً فَنَحَّاه غيره عن موضعه فَعَطِبَ به إنسانٌ ضمن الذي نحَّاه، لأن حكم الفعل الأول قد انفسخ بفراغ موضعه واشتغل بالفعل الثاني بموضعٍ آخر. وذكر التُّمُرْتَاشي أنّ أفنية الأبواب التي في طريق الشارع ليست بمملوكة لأصحاب الدور، ولو أرادوا أن يُحْدِثُوا في أفنيتهم، فهو وما أحدثوا في غير أفنيتهم سواءٌ.

(لا إنْ مَاتَ جُوعاً) أي لا يضمن عاقله من أحدث شيئاً من ذلك فوقع فيه إنسانٌ ومات جوعاً أو عطشاً (أَوْ غمّاً) أي أخذاً على النفس من شدة الحزن، وهذا عند أبي حنيفة، لأنه مات لمعنىً في نفسه لا للوقوع، فصار كأنه مات حتف أنفه. وقال أبو يوسف: لا يضمن إن مات جوعاً، ويضمن إن مات غمّاً، لأنه لا سبب للغمّ سوى الوقوع، والغمّ أثر جعل الأرض عميقاً، وهو من آثار حفره فَيُضَاف إليه، والجوع من آثار الطبيعة حيث لم يبق في المعدة شيءٌ من الطعام، وليس ذلك من أثر حفره. وقال محمد: هو ضامنٌ في الوجوه كلها، وهو قياس قول مالك والشافعي وأحمد، لأن ذلك إنما حدث بسبب الوقوع، إذ لولاه لكان الطعام قريباً منه، وأوجبوا الدية.

((وإنْ تَلِفَ بِهِ) أي بحفر البئر في الطريق (بَهِيمَةٌ ضَمِنَ هُوَ) أي الحافر من ماله)

(2)

(إِنْ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ) أي بالحفر (الإِمَامُ) لأنه متعدَ في الحفر فيضمن ما تلف به، غير أنّ العاقلة تتحمل الأنفس دون الأموال، والبهيمة مالٌ فكان ضمانها في ماله. وإلقاء التراب والطين في الطريق، كإلقاء الحجر والخشبة فيما ذكرنا.

ولو كان مسجدٌ لعشيرةٍ، فعلّق رجلٌ منهم قِنْديلاً، أو جعل فيه بَوَاري

(3)

أو حصى فعَطِب به رجلٌ لا يضمن، سواء فعل بإذن الإمام أو بغير إذنه، وبه قال أحمد والشافعي في وجهٍ، وقال في وجهٍ آخر: يضمن إذا فعل بغير إذن الإمام. ولو كان الذي فعل ذلك من غير العشيرة، وفعل بغير إذن الإمام، وغير إذن العشيرة، ضمن عند أبي

(1)

في المطبوع: العاملة، والمثبت من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

البارِياء: الحصير. المعجم الوسيط ص 76، مادة (بار).

ص: 369

وَرَبُّ حَائِطٍ مَائِلٍ إلى طَرِيقِ العَامَّةِ، وَطَلَب نَقْضَهُ، مُسْلِمٌ أَوْ ذَمِّيٌّ مِمَّنْ يَمْلِكُ نَقْضَهُ كَالرَّاهِنِ بِفَكِّ رَهْنِهِ، والوَليِّ والوصَي وَالمُكَاتَبِ، وَالعَبْدِ التَّاجِرِ، فَلَمْ يُنْقَضْ في مُدَّةٍ يُمْكِنُ نَقْضُهُ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ، وَعَاقِلَتُهُ النَّفْسَ.

===

حنيفة، وقالا: لا يضمن في الوجهين، وبه قال الشافعي في وجهٍ ومالك وأحمد، لأن هذه قُرْبة يُثَاب عليها الفاعل، وكلّ أحدٍ مأذونٌ له في إقامتها شرعاً، فلا يتقيّد بشرط السلامة، وصار كأهل المسجد، وكما لو كان بإذنهم.

قال الحَلْوانيّ: أكثر مشايخنا أخذوا بقولهما في هذه المسألة، وعليه الفتوى.

ولو جلس في مسجد العشيرة رجلٌ منهم فَعطِبَ رجلٌ لم يضمن إن كان في الصلاة، سواء كانت فرضاً أو نفلاً، وإن كان في غيرها ضمن، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا يضمن على كلّ حالٍ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد. ولو كان جالساً للقراءة أو للتعليم، أو نائماً فيه في الصلاة أو غيرها، أو مرّ فيه، أو قعد فيه للحديث، فهو على هذا الخلاف. وأمّا المعتكف، فقيل: لا يضمن بلا خلافٍ، وكذا المنتظر للصلاة لا يضمن على الصحيح عن أبي حنيفة، نصّ عليه شمس الأئمة السَّرَخْسِي في شرح «الجامع الصغير» لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«المنتظر للصلاة في الصلاة ما دام ينتظرها» . والمصلي لا يضمن، فكذا المنتظر.

(وَرَبُّ حَائِطٍ) مبتدأ مضاف، أي صاحب جدار (مَائِلٍ

(1)

إلى طَرِيقِ العَامَّةِ وَطَلَب نَقْضَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذَمِّيٌّ) والجملة عطفٌ على مَائِلٍ (مِمَّنْ يَمْلِكُ نَقْضَهُ) متعلّق بطلب (كَالرَّاهِنِ بِفَكِّ رَهْنِهِ) بخلاف المرتهن فإنه لا يملك النقض (والوَليِّ) من الأب والجدّ (والوصيّ وَالمُكَاتَبِ وَالعَبْدِ التَّاجِرِ فَلَمْ يُنْقَضْ) بصيغة المجهول عطفٌ على طَلَب بصيغة الفاعل (في مُدَّةٍ يُمْكِنُ نَقْضُهُ) فيها (ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ) من المال وهذه الجملة خبر المبتدأ (وَ) ضمن (عَاقِلَتُهُ النَّفْسَ) والقياس أن لا يضمن، وهو قول الشَّافعيّ وقول أحمد المنصوص، لأنه لم يحصل منه تعدَ بمباشرةٍ ولا بفعلٍ ولا سببٍ، لأنّ أصل البناء كان في ملكه، والميلان وشغل الهواء والسقوط ليس من فعله، فلا يضمن كما قبل الإشهاد.

ووجه الاستحسان، وهو قول أصحاب أحمد ومالك والنَّخَعِي والثَّوْرِيّ والشَّعْبِيّ ومروي عن علي: أن امتناعه من تفريغ الطريق المشتغل هواؤه بملكه مع تمكّنه من

(1)

في المطبوع: مال، والمثبت من المخطوط.

ص: 370

لا مَنْ طُلِبَ مِنه فَبَاعَ، وَقَبَضَهُ المُشْتَرِي فَسَقَطَ، أَوْ طُلِبَ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ كالمُودَعِ وَنَحْوِهِ.

===

التفريغ بعد طلبه تَعَدَ، كمن وقع في يده ثوب إنسان فإنه لا يكون متعدّياً في الإمساك، ولكن لو طُولِب بالرَّدِّ فلم يردّ صار متعدّياً، فكذا هنا بخلاف ما قبل الإشهاد، لأنه بمنزلة إهلاك الثوب قبل الطلب، ولأن الضمان لو لم يجب عليه لامتنع عن التفريغ فينقطع المارة خوفاً على أنفسهم فيتضرّرون، ودفع الضَّرر العام واجبٌ، يُتَحَمَّل في دفعه الضّرر الخاص.

قيّد بطلب النقض، لأنه الشرط دون الإشهاد، وإنما ذكر صاحب «الهداية» الإشهاد، لإنه للتمكّن من الإثبات عند الإنكار، فكان من باب الاحتياط. وقيّد المطلوب منه بأن يكون يملك نقض الحائط بقدرته، كالرَّاهن في الدّار المرهونة لقدرته على نقض الحائط بواسطة فكّ الدّار من الرهن، وكأبي الطفل أو جدّه في مال ابنه، والوصيّ في مال يتيمه، وكالمُكَاتَب، لأن الولاية له، فالتلف حال الكتابة تجب قيمته عليه لتعذّر الدفع، وبعد عتقه تجب على عاقلة مولاه، وبعد عجزه لا تجب على أحدٍ لعدم قدرة المُكَاتَب وعدم الإشهاد في المَوْلى، وكالعبد التاجر، سواء كان عليه دينٌ أو لا، لأن الولاية له، فإن كان التالف بالسقوط مالاً فهو في عنق العبد، وإن كان نفساً فهو على عاقلة المَوْلى.

وقيّد عدم النقض بكونه في مدة يمكن نقضه فيها حتّى لو طُلِبَ منه فسقط من ساعته لا يضمن ما تلف به، لأنه لا بدّ من إمكان (النقض)

(1)

ليصير بتركه جانياً. ويستوي في المطالبة المسلم والذميّ، لأن الناس كلهم شركاء في المرور، فيصحّ التقدّم من كل واحدٍ منهم رجلاً كان أو امرأةً إذا كان بالغاً عاقلاً حرّاً أو مُكَاتَباً، لأن هذه المطالبة حقّ العامة، فلا يختصّ بأحدٍ من أهل المطالبة.

(لا مَنْ طُلِبَ (منه)

(2)

) بصيغة المجهول، أي لا يضمن ما تَلِفَ بسقوط الحائط مالكٌ طُلِبَ بنقضه (فَبَاعَ وَقَبَضَهُ المُشْتَرِي فَسَقَطَ) لأن الضمان هنا بسبب ترك الهدم مع التمكُّن منه، وقد زال ذلك التمكّن بالبيع. ولا يضمن المشتري أيضاً، لأنه لم يُطْلَب منه، حتّى لو طُلِبَ منه بعد شرائه فسقط يضمن لتركه التفريغ مع التمكّن منه بعد الطلب (أَوْ طُلِبَ) نقضه (مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ كالمُوَدَعِ وَنَحْوِهِ) وهو المستأجِر والمستعير والمرتهِن، حتّى لو سقط الحائط بعد الطلب من أحَد هؤلاء

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

زيادة من هامش المطبوع.

ص: 371

وَإنْ مَالَ إِلَى دَارِ أَحَدٍ فَلَهُ الطَّلَبُ. وِإنْ بَنَى مَائِلًا ابْتِدَاءً ضَمِنَ بِلَا طَلَبٍ. وَإنْ طُلِبَ أَحدُ الشُّرَكَاءِ، أَوْ حَفَرَ في دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَالضَّمَانُ بِالحِصَّةِ.

‌فَصْلٌ [في جِنَايَةِ البَهِيمَةِ]

ضَمِنَ الرَّاكِبُ مَا أَتْلَفَتْهُ دَابتَّهُ،

===

فأتلف شيئاً، لا يضمن أحدٌ منهم، لأنه لا يملك نقضه. ولا يضمن المالك، لأنه لم يُطْلَب منه. (وَإِنْ مَالَ) الحائط (إِلَى دَارِ أَحَدٍ) من النَّاس (فَلَهُ الطَّلَبُ) لأن الحقّ له على الخصوص، وإن كان فيها سكّان غيره كان لهم الطلب، لأن لهم المطالبة بإزالة ما شغل الدّارِ، فكذا بإزالة ما شغل هواها.

(وإِنْ بَنَى) الحائط (مَائِلاً ابْتِدَاءً ضَمِنَ) ما تلف بسقوطه (بِلَا طَلَبٍ) لأنه تعدّي بالبناء، فصار كإشراع الجناح ووضع الحجر وحفر البئر في الطريق (وَإِنْ طُلِبَ) بضم فكسر (أَحدُ الشُّرَكَاءِ) في حائطٍ مائلٍ بنقضه، فسقط على إنسانٍ فقتله (أَوْ حَفَرَ) أحد الشركاء (في دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ) بينهم بئراً، أو بنى حائطاً فعَطِبَ به إنسانٌ (فَالضَّمَانُ بِالحِصَّةِ) حتّى لو كان الحائط المائل بين خمسة وطُلِبَ النقض من أحدهم، ضمن خُمْس الدِّية لصحة الطلب في الخُمس خاصَّة، وكان ذلك على عاقلته.

ولو كانت دارٌ مشتركةٌ بين ثلاثة حفر أحدهم فيها بئراً، أو بنى حائطاً، فعَطِبَ به إنسانٌ فعليه ثلثا الدِّية على عاقلته، وهذا عند أبي حنيفة لتعدّيه بالحفر أو البناء في نصيبَيْ شريكه، لا في نصيبه، فلا يضمن إلاّ بقدر الثلثين. و (قالا)

(1)

: عليه نصفُ الدِّية على عاقلته في الفصلين، لأن التلف في نصيب المالك لا يوجب الضمان

(2)

، وفي النصيب المغصوب يوجبه، فانقسم نصفين. ومجمله اعتبار التلف في نصيب من طُولِبَ، لا في نصيب غيره، فإن قيل: الواحد من الشركاء لا يقدر أنْ يهدم شيئاً من الحائط، فكيف يصحّ الطلب منه؟ أُجِيبَ: بأنه إن لم يتمكَّن من هدم نصيبه يتمكّن من إصلاحه بالمرافعة إلى الحكَّام، وبه يحصل الغرض، لأن المقصود إزالة الضرر بأي طريقٍ كان.

فصلٌ (في جنايه البهيمة)

(ضَمِنَ الرَّاكِبُ مَا أتلفته دَابَّتُهُ) في سيرها بأن داسته بيدها أو رجلها، أو أصابته

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

في المخطوط شيئًا، والمثبت من المطبوع.

ص: 372

لَا مَا نَفَحَتْ بِطَرَفِ رِجْلِهَا، أوْ ذَنَبِهَا،

===

برأسها أو عضّته أو خبطته أو صدمته بجسدِها، لأن الاحتراز عن هذه الأشياء ممكنٌ، فإنها ليست من ضرورات السير (لَا مَا نَفَحَتْ) بالحاء المهملة أي لا يضمن الرَّاكب ما نفحت الدابة أي ضربته (بِطَرَفِ رِجْلِهَا أوْذَنَبِهَا) حال سيرها، لأن الاحتراز عن النَّفْحَة مع السير غير ممكن، لأنها من ضروراته، ولما روى محمد بن الحسن في كتاب «الآثار»: أخبرنا أبو حنيفة، عن إبراهيم النَّخَعِيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العَجْمَاء

(1)

جُبَار

(2)

، والقَلِيب

(3)

جُبَار، والرِّجْل جُبَار، والمَعْدِن جُبَار، وفي الرِّكاز الخمس». ورواه الدَّارقُطْنِيّ عن آدم بن أبي إياس، عن شُعْبَة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة مرفوعاً: نحوه سواء. ورواه أبو داود والنَّسائي عن سفيان بن حسين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الرِّجْل جُبَار» .

قيّدنا بسيرها، لأنه لو أوقفها في الطريق وهو راكبها ضمن النَّفْحة أيضاً، لأنه يمكنه التحرّز عن وقوفه إياها وإن لم يمكنه عن النَّفْحَة، فصار متعدّياً بشغل الطريق بها فيضمن. ولو وقفها في ملكه لا يضمن إلاّ الإيطاء وهو راكبها، لأنه مباشر لحصول القتل بثقله، ولهذا يَحْرُم به الميراث، وتجب به الكفارة. ولو كان في ملك غيره: فإن كان بإذن مالكه، فهو كما لو كان في ملكه، وإن كان بغير إذنه: فإن دخلت هي بنفسها لا يضمن شيئاً، وإن أدخلها ضمن جميع ما جَنَتْ، سواء كانت واقفة أو سائرة، وسواء كان معها من يسوقها أو يقودها، أو كان راكبها أو لم يكن، لوجود التعدّي بالإدخال.

وباب المسجد كالطريق في الوقوف. ولو جعل الإمام موضعاً لوقوف الدَّواب عند باب المسجد، فلا ضمان فيما حدث من الوقوف فيه، فكذا وقوف الدابة في سوق الدواب، لأنه مأذونٌ فيه من جهة السلطان.

وفي «الذَّخِيرَة» : ولو وقفها صاحبها في طريق المسلمين ضمن ما تلف بفعلها في وجوه الإتلاف كلها، لأنه بوقوف الدابة في طريق المسلمين كان متسبباً، لأن الطريق للسلوك والسير (لا)

(4)

للوقوف. ولو كانت سائرة فيه ولم يكن صاحبها معها، فإن كان سيرها بإرساله ضمن ما دام سيرها في وجهها ذلك ولم تَحِدْ عنه يميناً ولا

(1)

العجماء: البهيمة. النهاية 3/ 187.

(2)

الجُبَار: الهَدَر. النهاية 1/ 236.

(3)

في المطبوع: القلب، والمثبت من المخطوط. ومعنى القَلِيب: البئر التي لم تُطْوَ - تُبْنَى -. النهاية 4/ 98.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 373

أَوْ تَلِفَ بِمَا رَاثَتْ أَوْ بَالَتْ في الطَّرِيقِ: سَائِرَةً أَوْ أَوْقَفَهَا لِذَلِكَ. أَوْ أَصَابَتْ حَصَاةً، أَوْ حَجَرًا صَغِيرًا، أوْ نَحْوَهُ، فَفَقَأ عَينًا.

وَضَمِنَ بِالْحَجَرِ الكَبِيرِ.

===

شمالاً، لأن إرسالها بلا حافظ يحفظها سبب للإتلاف، وهو به متعدَ. وإن كان سيرها بنفسها، فلا ضمان على صاحبها في الوجوه كلّها. وإن كان صاحبها معها وهي تسير، فإن كان راكبها فما وطئت بيدها أو رجلها فصاحبها مباشر للتلف، وما عضّت فصاحبها متسبّب متعدَ، لأنه يمكنه حفظ الدابة عن (الكَدْم)

(1)

بإبعادها عن المكدوم

(2)

، لأنه يكون بين عينيه.

وقال التُّمُرْتَاشِيُّ: لو كانت سائرة وصاحبها معها قائداً أو سائقاً أو راكباً، يضمن جميع ما جَنَتْ إلاّ النَّفْحَة بالرِّجل أو الذنب، وبه قال أحمد في روايةٍ. وقال في رواية يضمنها، وهو مذهب الشافعي وقول ابن أبي ليلى، كما أوقف دابته فنفحت برجلها أو ذنبها، لأن وقوفها مباحٌ مقيّد بشرط السلامة، فكذا تسييرها.

ولنا: أنه متعدَ بوقوفها دون تسييرها، لأن الطريق للتسيير والسلوك دون الوقوف، فيكون (متعدّياً)(1) فيما يمكنه أن يحترز عنه، وهو لم يتحرز. والنفحة (بالرجل)(1) والذَّنب ممّا لا يمكن التحرّز عنه، لأنه من ضرورات السير.

(أَوْ تَلِفَ) أي ولا يضمن الرَّاكب ما تلف (بِمَا رَاثَتْ أَوْ بَالَتْ في الطَّرِيقِ سَائِرَةً (أَوْ)(1) أَوْقَفَهَا لِذَلِكَ) أي لِتَرُوثَ أو لِتَبُولَ، لأن من الدَّواب ما لا يفعل ذلك إلاّ بالوقوف. وأما لو كان أوقفها بغير ذلك، فعَطِبَ إنسانٌ بروثها أو بولها ضمن، لأنه متعدَ بوقوفها، إذ ليس هو من ضرورات السير، وهو أكثر ضرراً من السير، لكونه أدون منه فلا يلتحق به.

(أَوْ أَصَابَتْ) بيدها أو رجلها (حَصَاةً أَوْ حَجَراً صَغِيراً أوْ نَحْوَهُ) كالنواة (فَفَقَأَ عَيْناً) أو أثار غباراً فأفسد ثوباً (وَضَمِنَ بِالْحَجَرِ الكَبِيرِ) لأن التحرّز في سير الدَّابة عن الحجر الصغير والغبار متعذّر، إذ سير الدّواب لا يَعْرَى عنه، عن الحجر الكبير لا يتعذّر، لأن سيرها ينفك عنه عادةً، وإنما يكون ذلك من تعنيف الرَّاكب، فيكون من فعله.

والرَّديف فيما ذكرنا كالرَّاكب، لأن المعنى لا يختلف في ذلك، وبه قال

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والكدم: أَثر العَضِّ. المعجم الوسيط ص 78، مادة (كدم).

(2)

في المخطوط: المعضوض، والمثبت من المطبوع.

ص: 374

وَالسَّائِقُ وَالقَائِدُ كالرَّاكِبِ، إِلاَّ أنّ الكَفَّارَةَ عَلَيْهِ فَقَطْ.

وَإنِ اصْطَدَمَ فَارِسَانِ، ضَمِنَ عَاقِلَةُ كُلٍّ دِيَةَ الآخَرَ

===

مالك: وقال الشّافعيّ وإسحاق: لا يضمن الرَّديف لأنه (تبع)

(1)

للرَّاكب. وقال أحمد: أرجو أن لا شيء عليه إذا كان أمامه من يمسك العِنَان. ولنا: أن الدابة في أيديهما، وتيسر بتسيير كل منهما وتصريفه كيف شاء (وَالسَّائِقُ وَالقَائِدُ كالرَّاكِبِ) عند أكثر المشايخ، فكل شيءٍ يضمنه الرَّاكب يضمنانه (إِلاَّ أنّ الكَفَّارَةَ) في الإيطاء، وكذا حرمان الإرث والوصية (عَلَيْهِ) أي على الرَّاكب (فَقَطْ) أي لا عليهما.

وفي «جامع المَحْبُوبي» : لو ساق دابةً عليها وِقْرٌ

(2)

من الحِنْطَة فأتلفت شيئاً، فإن قال السائق والقائد: إليك إليك، وسمع مَنْ على الطريق هذه المقالة ولم يذهب فهو على وجهين: إمّا أن لا يبرح من مكانه باختياره، أو أن لا يجد مكاناً آخر ليذهب فمكث في مكانه. ففي الوجه الأول: لا يضمن صاحب الدابة، وفي الثاني: يضمن، لأنه مضطرٌ في المقام في هذا بخلاف الأول. وإن لم يقل الرَّاكب: إليك إليك، أو قال ولم يسمع مَنْ على الطريق يضمن الراكب والسائق، لأن التلف مضافٌ إليه. انتهى.

ومن القواعد: أن الحكم يُضَاف إلى الوصف الأخير، كَما قالوا في السفينة المملؤة إذا طرح فيها واحدٌ مَنّا

(3)

فغرقت، فالضمان على الذي وضع المَنّ الزائد، لأن الغرق يُضَاف إليه. (وَإِنِ اصْطَدَمَ فَارِسَانِ) أو ماشيان وهما حرّان خطأً فماتا (ضَمِنَ عَاقِلَهُّ كلَ) منهما (دِيَةَ الآخَرَ) استحساناً. وقال مالك والشافعيّ وزُفَر: ضمن كلّ واحد منهما نصف دية الآخر وهو القياس، لأن كلّ واحدٍ منهما مات بفعل نفسه وفعل صاحبه، لأنه بصدمته آلم نفسه وصاحبه، فيهدر نصفه ويضمن نصفه، وصار كما لو كان الاصطدام عمداً، أو جرح كل واحدٍ منهما نفسه وصاحبه، أو حفرا على الطريق بئراً فانهار عليهما، حيث يجب على كلَ منهما نصف دِيَة الآخر.

ولنا ـ وهو قول أحمد ـ (ما روى)

(4)

عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» في القَسَامة

(5)

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

الوِقْرُ: الحِمل الثقيل. المعجم الوسيط ص 1049، مادة (وقر).

(3)

المنُّ: مِكيال سعته رطلان عراقيان، أَو أَربعون إستارًا = 815.39 غرامًا. معجم لغة الفقهاء ص 460.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(5)

القَسَامَةُ: اليمين، وهي أَن يُقْسِم خمسون من أَولياء الدم على استحقاقهم دمَ صاحبهم إِذا وجدوه =

ص: 375

وَإِنْ أَرْسَلَ كَلْبًا فَأَصَابَ في فَوْرِهِ ضَمِنَ إنْ سَاقَه، وفي الطَّيْرِ وَالدَّابَةِ المُنْفَلِتَةِ لَا.

===

عن أَشْعَث، عن الحكم، عن عليّ: أنّ رجلين صدم أحدهما صاحبه فضمن كلّ واحدٍ منهما لصاحبه، يعني الدِّيَة. وفي «مصنف ابن أبي شَيْبَة»: حدَّثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن أَشْعَث، عن حمَّاد، عن إبراهيم، عن عليّ في فارسين اصطدما فمات أحدهما: يضمن الحيّ للميت. ولأن فعله في نفسه مباحٌ، وهو المشي في الطريق، فلا يُعْتَبر في حقّ الضمان بالنسبة إلى نفسه، بخلاف ما ذُكِرَ من المسائل، فإنّ الفعلين محظوران، والفعل المحظور موجب للضمان، ولكن لمَّا لم يظهر الضمان في حقّ فاعله لعدم الفائدة سقط واعْتُبِر في حقّ غيره، فلذلك وجب على كلّ واحدٍ منهما نصف الدِّية، بخلاف ما نحن فيه، فإنّ الفعل فيه مباحٌ محض، فلم ينعقد موجباً للضمان في حقّ نفسه أصلاً، وكان صاحبه قاتلاً له من غير معارض.

ولو كانا عبديْن يُهْدَر دمهما مطلقاً. وإن اصطدم حرّ وعبد فماتا تجب على عاقلة الحرّ قيمة العبد في الخطأ، ونصفها في العبد، ويأخذها ورثة الحر، ويسقط الباقي من الدِّية.

(وَإِنْ أَرْسَلَ) رجلٌ (كَلْباً فَأَصَابَ) شَيْئاً فأتلفه (في فَوْرِهِ ضَمِنَ إنْ سَاقَه) بأن كان خلفه يطرده، ولو يكن خلفه فما دام في فوره فهو سائقٌ له حكماً، فيلحق بالسائق حقيقةً، وإن تراخى انقطع السَّوق. (وفي الطَّيْرِ) إن أرسله أو ساقه وأصاب في فوره.

(وَ) في (الدَّابَةِ المُنْفَلِتَةِ) إذا أصابت مالاً أو آدمياً ليلاً أو نهاراً (لَا) أي لا يضمن. أمّا الطَّير، فلأن بدنه لا يحتمل السَّوْق، فصار وجود سوقه وعدمه سواء، فلا يضمن مطلقاً، وأمّا الدابة المُنْفَلِتَة، فَلِمَا أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العَجْمَاء جُبَار، (والبئر جُبَار)

(1)

، والمَعْدِنُ جُبَار، وفي الرِّكَاز الخمس». أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه في الدِّيَاتِ، ومسلم في الحدود، والترمذي في الأحكام، والنَّسائي في الزكاة. قال محمد:

= قتيلًا بين قوم ولم يُعْرف قاتله، فإِن لم يكونوا خمسين أَقسم الموجودون خمسين يمينًا ولا يكون فيهم صبيّ ولا امرأَة ولا مجنون ولا عبد، أَو يُقْسِم بها المتَّهمون على نفي القتل عنهم. المعجم الوسيط ص 735، مادة (قسم).

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، والصواب إثباته لموافقته لما في صحيح البخاري (فتح

الباري) 12/ 254. كتاب الديات (87)، باب المعدن جبار، والبئر جبار (28)، رقم (6912).

ص: 376

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

العجماء: هي المُنْفَلِتَة، وقال ابن ماجه: الجُبَار: الهدم الذي لا يغرم. وفي «الموطأ» قال مالك: جُبَار أي لا دِيَة فيه. ولأن الفعل غير مضاف إليه لعدم ما يوجب النسبة إليه من الإرسال أو السوق أو القود والركوب.

وقال الشّافعيّ وأحمد، وهو قول مالك وأكثر أهل الحجاز: يضمن صاحب المُنْفَلِتَة ما أفسد ليلاً لا نهاراً، لِمَا روى مالك عن الزُّهْرِيّ، عن حَرَام بن سَعْد بن مُحَيِّصَة

(1)

: أن ناقة للبراء دخلت حائط قومٍ فأفسدت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ على أهل الأموال حفظها بالنهار، (وما أفسدت الماشية بالليل فهو مضمون)

(2)

. وأُجيبَ: بأن ما رويناه متَّفقٌ عليه مشهورٌ، وما رَوَوْه مرسلٌ، وهو ليس بحجّة عند الشّافعيّ، على أن الأمر بحفظها في النهار ليس صريحاً في المدّعى، وكذا كون دخول الناقة ليلاً كما لا يخفى. ولو كان لرجلٍ كلبٌ عَقُورٌ كلّمَا مرّ عليه مارّ عضّه، فلأهل القرية أن يقتلوه، ولا يضمن صاحبه ما تلف بعضّه قبل التقدّم إليه، ويضمن بعده كالحائط المائل، وكذا الحكم في السِّنَّوْر

(3)

الذي يأكل الطيور.

وذكر النَّاطفي: رجلٌ أغرى كلبه على رجلٍ فعضّه أو مزّق ثيابه، لا يضمن عند أبي حنيفة، وضمن عند أبي يوسف، وهو المختار للفتوى. ويضمن الجمل الصائل عندنا بقتله، وإن لم يكن دفعه

(4)

إلاّ به، ونفاه مالك والشافعي اعتباراً بقتله مكلّفاً صائلاً لا يمكن دفعه إلاّ به. قلنا: عصمة الدّابة إنما هي لحقّ مالكها لا

(5)

لذاتها، فتبقى ما بقي حقُّه

(6)

، وصِيَالها لا يُسقط عصمة ملكه، بخلاف المكلّف فإن صِيَاله يُسْقِطُ عصمته التي هي حقّه. وفي «المُنْتَقَى»: لو طرح رجلٌ رجلاً قدَّام أسدٍ أو سَبُعٍ، فقتله ليس على الطارح قَوَد ولا دية، ولكن يعزّر ويُضْرَب ضرباً وجيعاً ويُحْبَس حتّى يتوب.

(1)

حُرِّفت في المخطوط والمطبوع إِلى حزام بن سعد بن محيّصة، والصواب ما أَثبتناه لموافقته لما في موطأ الإمام مالك 2/ 747، كتاب الأقضية (36)، باب القضاء في الضواري والحرية (28)، رقم (37).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط، وإِثباته الصواب. لموافقته لما في موطأ الإمام مالك 2/ 747 - 748، كتاب الأقضية (36)، باب القضاء في الضواري والحرية (28)، رقم (37).

(3)

السِّنَّوْرُ: حيوانٌ أَليفٌ، من خير مآكله الفأَر ومنه أَهليّ وبريّ. المعجم الوسيط ص 454، مادة (سنر).

(4)

في المطبوع: منعه والمثبت من المخطوط.

(5)

في المطبوع: عصمة، والمثبت من المخطوط.

(6)

أي: فتبقى عصمة الدابة ما بقي حق المالك.

ص: 377

وَإِن اجْتَمَعَ الرَّاكبُ وَالنَّاخِسُ ضَمِنَ هُوَ حتّى النَّفْحَة.

===

وقال أبو يوسف: حتّى يموت، وقال مالك والشافعي وأحمد: إن كان الغالب القتل يجب القَوَد، وإن كان الغالب عدمه، فعن الشافعي قولان: أحدهما يجب القَوَد، والآخر لا يجب، ولكن يجب الدية، وبه قال أحمد، وقياس قول مالك: يجب القود.

(وَإِنْ اجْتَمَعَ الرَّاكبُ وَالنَّاخِسُ) أي الطَّاعن بعودٍ أو نحوه (ضَمِنَ هُوَ) أي النَّاخس إذا نخس بغير إذن الرَّاكب (حتّى النَّفْحَة) أي ما حصل بنفحة الدَّابة برجلها، وكذا ما ضربته بيدها (أو ما صدمته بنفرتها)

(1)

. والواقف في ملكه، والذي يسير سواء في ذلك. وعن أبي يوسف: يجب الضمان على النَّاخس والرَّاكب نصفين، لأن التلف حصل بسبب ثقل الرَّاكب ووطء الدَّابة، والثاني مضافٌ إلى النَّاخس.

ولنا: ما روى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن مَعْمَر، عن عبد الرحمن المَسْعُودِي، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: أقبل رجلٌ بجاريةٍ من القادسيَّة فمرّ على رجلٍ واقفٍ على دابة، فنخس رجلٌ الدابة، فرفعت رجلها فلم تحط عين الجارية، فرفع إلى سليمان بن ربيعة الباهليّ، فضمَّن الرّاكب، فبلغ ذلك ابن مسعود فقال: عليّ بالرجل، إنما يضمن النَّاخس.

وأخرج ابن أبي شَيْبَة نحوه عن شُرَيْح والشَّعْبِيّ، ولأن الرّاكب والدَّابة مدفوعان بفعل النَّاخس، فأُضَيفَ فعل الدَّابة إليه كأنه فعله بيده، ولأن الناخس متعدَ بفعله حيث نخس بغير إذن الرَّاكب، والرَّاكب غير متعدَ في فعله، فيترجَّح جانب النَّاخس للتعدّي، حتّى لو كان الرَّاكب واقفاً بدابته في الطريق كان الضمان عليه وعلى الناخس نصفين، لأنه متعدَ بوقوفها. ولو نفحت الدَّابة الناخس كان دمه هَدْراً، لأنه بمنزلة الجاني على نفسه.

ولو ألقت الرَّاكبَ فقتلته كانت ديته على عاقلة النَّاخس، لأنه متعدَ في تسبّبه، وفيه الدِّية على العاقلة. ولو نخسها بإذن راكبها فلا ضمان عليه، لأن ذلك بمنزلةٍ نخس الراكب، ولو كان النَّاخس عبداً فالضمان في رقبته، ولو كان صبياً فهو كالرَّجل، لأنه يؤاخذ بأفعاله كالبالغ.

ولو نخس الدَّابة شيءٌ منصوبٌ في الطريق فنفحت إنساناً فقتلته، فالضمان على من نصب ذلك الشيء، لأنه متعدّ بشَغْل الطريق فأُضِيفَ إليه كأنّه نخسها بيده.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 378

وَيَجِبُ في فَقَاءِ عَيْنَ شَاةِ القَصَّابِ مَا نَقَصَ عَيْنَ البَقَرِ، وَالجَزُورِ، وَالحِمَار، والبَغْلِ، والفَرَسِ: رُبْعُ القِيمَةِ.

‌فَصْلٌ [في جنَايَةِ الرَّقيقِ والجنَايةِ عليه]

إن جنى عَبْدٌ خطأً دَفَعَهُ سَيِّدُهُ بِهَا. أوْ فَدَاه بِأَرْشِهَا حَالًا

===

(وَيَجِبُ في فَقَاءِ عَيْنِ شَاةِ القَصَّابِ مَا نَقَصَ) لأن المقصود منها اللَّحم فلا يُعْتَبر إلاّ النقصان. وفي فقاء (عَيْنِ البَقَرِ وَ) عين (الجَزُورِ) أي بقرة القصَّاب وجزوره. (وَ) فقاء عين (الحِمَار والبَغْلِ والفَرَسِ رُبْعُ القِيمَةِ) وقال الشّافعيّ، وهو قياس قول مالك وأحمد: يجب النقصان اعتباراً بالشاة. ولنا: ما رواه الطبرانيّ في «معجمه» عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في عين الدَّابة بربع ثمنها. ورواه العُقَيْلِيّ في «ضعفائه» ، وأعلّه بإسماعيل بن أبي أمية.

وما رواه عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن سفيان الثّوريّ، عن جابر الجُعَفِيّ، عن الشَّعْبِيّ، عن شُرَيْح: أن عمر رضي الله عنه كتب إليه أنّ في عين الدابة ربع ثمنها. وفيه أيضاً: أخبرنا ابن جُرَيْج عن عبد الكريم: أن علياً قال: في عين الدَّابة الربع. وما (رواه ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن عليّ بن مُسْهِر، عن الشَّيْبَانيّ، عن الشَّعْبِيّ قال: قضى عمر)

(1)

في عين الدابة ربع ثمنها، وفيه أيضاً: حدّثنا جرير، عن مُغِيرة، عن إبراهيم، عن شُرَيْح قال: أتاني عُرْوة البارِقيّ من عند عمر: أن في عين الدّابة ربع ثمنها. والفرق بينها وبين الشاة: أن فيها مقاصد سوى اللحم وهي: الركوب، والزينة، (والحمل)

(2)

والجمال، والعمل.

فصلٌ (في جناية الرقيق والجناية عليه)

(إِنْ جَنَى عَبْدٌ خَطَأً دَفَعَهُ سَيِّدُهُ) إلى المجنيّ عليه (بِهَا) أي بسبب الجناية (أوْ فَدَاه بِأَرْشِهَا

(3)

حَالاً) لقول عليٌّ: ما جنى عبد في رقبته يُخَيّر مولاه: إن شاء فداه، وإن شاء دفعه. رواه ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» .

واعلم أن عندنا يجب على المولى جناية عبده، فيجب عليه دفعه أو فداؤه. وعند الشّافعيّ يجب على العبد، فيباع فيها إلاّ إن يَفْدِيَهُ المولى. وفائدة الخلاف: أنّ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

سبق شرحها ص 167، التعليقة رقم:(1).

ص: 379

فَإِنْ وَهَبَهُ، أَوْ بَاعَهُ، أَوْ أَعْتَقَهُ، أَوْ دَبَّرَهُ، أوِ اسْتَوْلَدَهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا، ضَمِنَ الأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِن الأَرْشِ، وَإِنْ عَلِمَ غرِمَ الأَرْشَ.

وَدِيَةُ العَبْدِ قِيمَتُهُ، فَإِنْ بَلَغَتْ هِيَ

===

بعد العتق عنده يُتَّبَع، وعندنا لا يُتَّبَع

(1)

.

قيّد بالخطأ، لأن العمد في النفس يجب فيه القصاص على العبد، بخلاف ما دون النفس، فإن فيه الدِّيَة خطأً كان أو عمداً، لأن القصاص لا يجزيء فيه بين العبدين، ولا بين الحر والعبد. وقيّد الدفع أو الفداء بكونه حالاً، لأن العبد عين ولا يجوز التأجيل في الأعيان، والفداء بدل عنه في الشرع، فيقوم مقامه ويأخذ حكمه، ثم أيّهما اختار المولى بالفعل أو بالقول فلا شيء لولي الجناية غيره. ولا فرق بين أن يكون المولى قادراً على الأرْش أو لا عند أبي حنيفة.

وقال أبو يوسف ومحمد: لا يصحّ اختيار الفِدَاء إذا كان مُفْلساً إلاّ برضاء الأولياء، لأن العبد صار حقّاً لهم، حتّى يَضْمنه المولى بالإتلاف بلا خلاف، فلا يملك إبطاله إلاّ برضاهم أو بوصول البدل إليهم، وهو الدِّية.

(فَإِنْ وَهَبَهُ) المولى (أَوْ بَاعَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبّرَهُ

(2)

أوِ اسْتَوْلَدَهَا وَلَمْ يَعْلَمْ) المولى (بِهَا) أي بالجناية (ضَمِنَ) المولى (الأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الأَرْشِ) لأن المولى فوّت حقّ المجنيّ عليه بتصرّفه في الجاني تصرّفاً يمنع عن دفعه إليه فيضمنه. وإنما ضمن الأقل، لأن حقّه فيه. ولا يصير مختاراً للفداء بهذا التصرُّف، لأنه لم يعلم بالجناية، ولا اختيار بدون العلم.

(وَإِنْ) تصرّف المولى تصرُّفاً من هذه التصرّفات بعدما (عَلِمَ) بالجناية (غرِمَ الأَرْشَ) لأن هذه التصرّفات تمنعه من دفع العبد لزوال ملكه عنه في الهبة والبيع والإِعتاق، وامتناع تمليكه في التدبير والاستيلاد، فالإِقدام عليها بعد العلم بالجناية يكون اختياراً لفدائه.

(وَدِيَةُ العَبْدِ قِيمَتُهُ) فلو قتل رجلٌ عبداً خطأً يجب عليه قيمته (فَإِنْ بَلَغَتْ هِيَ)

(1)

المقصود أَن فائدة الخلاف تظهر في اتباع الجاني بعد العتق، فعند الحنفية: إِذا أَعتق المولى بعد العلم بالجناية، كان مختارًا للفداء، وعند الشافعي: لا يُطَالب المولى بعد العتق، بل يُطَالب العبد. حاشية محمود بن إلياس الرومي، بهامش فتح باب العناية. 2/ 512.

(2)

دَبّرَ العبد: عَلَّق عتقه بموته. المعجم الوسيط ص 269، مادة (دبرّ).

ص: 380

دِيَةَ الحُرِّ، وَقِيمَةُ الأَمَةِ دِيَةَ الحُرَّة، نَقَصَ مِنْ كُلٍّ عَشْرَةً.

وَفِي الغَصْبِ قِيمَتُهُ مَا كَانَتْ، وَمَا قُدِّرَ مِنْ دِيَةِ الحُرِّ قُدِّرَ مِنْ قِيمَتِهِ.

وفي فَقْأِ عَيْنَيْ عَبْدٍ، دَفَعَهُ سَيِّدُهُ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ سَلِيمًا. أوْ أمْسَكَهُ

===

أي قيمة العبد (دِيَةَ الحُرِّ) بأن بلغت عشرة آلاف درهمٍ (وَ) بلغت (قِيمَة الأَمَةِ دِيَةَ الحُرَّة) بأن بلغت خمسة آلاف درهمٍ (نَقَصَ مِنْ كُلَ) من القيمتين (عَشْرَة) من الدَّراهم إظهاراً لدنو رتبته، ولقول ابن مسعود: ولا يبلغ بقيمة العبد ديةَ الحر وينقص منه عشرة دراهم. رواه القُدُوري في «شرح مختصر الكَرْخِيّ» ، وبه قال النَّخَعِيّ والشَّعْبِيّ. رواه عبد الرَّزَّاق وابن أبي شَيْبَة. وهذا كالمروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، لأن المقادير لا تُعْرَف بالقياس، وإنما طريق معرفتها السماع من صاحب الوحيّ، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف أولاً، وهو قول الثوريّ، ورواية عن أحمد.

وقال أبو يوسف ـ آخراً ـ: تجب قيمته بالغةً ما بلغت، لأن الضمان بدل المالية، ولهذا يجب للمولى وهو لا يملك إلاّ من حيث الماليةُ. ولو كان بدل الدَّم لكان للعبد، إِذْ هو في حقّ الدم مبقى على أصل الحرية، فصار كقليل القيمة وهو مرويٌّ عن عمر وعليّ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وابن سيرين وابن المُسَيَّب وعمر بن عبد العزيز والزُّهْرِيّ، وإسحاق ومكحول وإياس بن معاوية والحسن.

ولنا: عموم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}

(1)

والعبد مؤمن فيكون الواجب بقتله الدِّية، ولا يجوز الزيادة على النص بالرأي: بأن يكون المراد مؤمناً حراً. ولأنه تعالى رتَّب على قتل الخطأ حكمين: الكفّارة والدِّية، والعبد داخلٌ في حقّ الكفارة بالإجماع، فيجب أن يكون داخلاً في حقّ الدِّية.

(وَفِي الغَصْبِ) أي غَصْب أحدٍ عبداً أو أمة هلك في يده يجب عليه (قِيمَتُهُ مَا كَانَتْ) أي ما بلغت بالإجماع، وكذا في الأطراف في ظاهر الرواية وهي الصحيحة، وفي رواية عن محمد بقدر الأَطراف بما تُقَدّر من دِيَة الحرّ، فلا تُزَاد يده إذا قُطِعَت على خمسة آلاف إلاّ خمسة، لأن اليد من الآدمي نصفه، فتُعْتَبَر بكلّه، وينقص هذا المقدار لحطّ رتبته.

(وَمَا قُدِّرَ مِنْ دِيَةِ الحُرِّ قُدِّرَ مِنْ قِيمَتِهِ) ففي يد العبد نصف قيمته، فإن كانت قيمته عشرة آلاف أو أكثر، يجب في يده خمسة آلاف إلاّ خمسة دراهم. (وفي فَقْأِ) رَجُلٍ (عَيْنَيْ عَبْدٍ دَفَعَهُ سَيِّدُهُ) إن شاء إلى الفاقيء (وَأَخَذَ قِيمَتَهُ سَلِيماً أوْ أمْسَكَهُ

(1)

سورة النساء، الآية:(92).

ص: 381

بِلَا أَخْذِ النُّقْصَانِ، إنْ جَنَى مُدَبَّرًا، أوْ أُمّ وَلَدٍ ضَمِنَ السَّيِّدُ الأقَلّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الأَرْشِ.

فَإِنْ جَنَى أُخْرَى، شَارَكَ وَلِيُّ الثَّانِيَةِ وَلِيَّ الأوْلَى في قِيمةٍ دُفِعَتْ إِلَيهِ

===

بِلَا أَخْذِ النُّقْصَانِ) وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: إن شاء سيِّدُه أمسك العبد وأخذ ما نقصه، وإن شاء دفع العبد وأخذ قيمته. وقال الشَّافعيّ: يضمن سيدَه الفاقيءُ كلّ القيمة ويمسك الجثة

(1)

، لأنه يجعل الضمان مقابلاً بالفائت ـ وهو العينان ـ فيبقى الباقي على ملكه، كما لو قطع إحدى يديه أو فقأ إحدى عينيه، وهو قول مالك وأحمد.

ولو قطع رجلٌ يد عبد فأعتقه المولى ثم مات العبد من ذلك، فإن كان له وارثٌ غير المولى لا يقتصّ المولى من القاطع باتفاق، وإن لم يكن له وارثٌ غير المولى اقتصّ منه عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولم يقتص منه عند محمد، وهو قول مالك والشّافعيّ وأحمد، إلاّ أن عندهم تجب قيمته للمولى بالغةً ما بلغت. وعن أحمد في رواية: تجب دية الحرّ اعتباراً بحالة الموت، وعند محمد: يجب أَرْش يده وما نقصه القطع إلى أن أعتقه السيد، ويبطل باقي القيمة.

(إنْ جَنَى مُدَبَّراً أوْ) جنت (أمّ وَلَدٍ ضَمِنَ السَّيِّدُ الأقَلّ مِنْ قِيمَتِهِ) أي قيمة كلّ منهما (وَمِنَ الأَرْشِ) وقال الشافعي: المدبّر كالقِنّ في الجناية، فتكون جنايته في رقبته، ويخيّر المولى بين أن يدفعه فيباع بالجناية، وبين أن يَفْدِيه. فلو أراد الفداء فعنه قولان: أحدهما يَفْديه بأرْش الجناية بالغاً ما بلغ، وهو قول مالك في القِنِّ ورواية عن أحمد، وثانيهما: يَفْدِيه بالأقلّ من قيمته ومن أرْش الجناية، وهو رواية عن أحمد. وقال مالك: لا يباع المدبّر في جنايته ويستخدمه المجنيّ عليه بقدر أرْش جنايته، فإذا استوفي من خدمته رجع إلى مولاه مدبّراً، أو يفتدي خدمته بقدر أرْش جنايته.

ولنا: ما أخرجه ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن مُعَاذ بن جبَلٍ (و)

(2)

عن (أبي)

(3)

عُبَيْدة بن الجراح أنه قال: جناية المدبّر على مولاه. وأخرج نحوه عن الشَّعْبِيّ والنَّخَعِيّ وعمر بن عبد العزيز والحسن. (فَإِنْ جَنَى) المدبّر أو أمّ الولد جناية (أُخْرَى شَارَكَ وَلِيُّ) الجناية (الثَّانِيَةِ وَلِيَّ) الجناية (الأوْلَى في قِيمةٍ دُفِعَتْ إِلَيْهِ) أي

(1)

أَي العبد.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 382

بِقَضَاءٍ، إذْ لَيْسَ في جِنَايَاتِهِ إلّا قِيمَةٌ وَاحِدةٌ، وَاتَّبَعَ السَّيِّدَ أوْ وَلِيَّ الأُوْلَى إن دُفِعَتْ بِلَا قَضَاءٍ.

وَمَنْ غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا، فَمَاتَ مَعَهُ فَجْأَةً، أوْ بحُمَّى لَمْ يَضْمَنْ. وَإِنْ مَاتَ بِصَاعِقَةٍ أَوْ نَهْشِ حَيَّةٍ، ضَمِنَ عَاقِلَتُهُ

===

إلى وليّ الأولى إن كان الدفع إليه (بِقَضَاءٍ، إذْ لَيْسَ في جِنَايَاتِهِ) أي المدبّر وإن كثرت، ولا في جنايات أم الولد (أَلاّ قِيمَةٌ وَاحِدةٌ) فيضاربون بالحِصص فيها، وتُعْتَبَرُ قيمته لكلِّ واحدٍ في حال الجناية عليه، لأنه يستحقه في ذلك الوقت، وعند مالك والشّافعيّ وأحمد: المدبّر كالقِنّ.

وفي أمّ الولد عن الشافعيّ قولان: أحدهما كمذهبنا، والآخر يفديها كلما جَنَتْ، وهو اختيار المُزَني وقول مالك، لمنع السيد حقّ وليّ الجناية في بيعها بالاستيلاد.

ولنا: أن قيمة العبد بمنزلته، والعبد إذا جنى جنايات لا يجب أكثر من دفعه بها مرةً واحدةً، فكذا قيمته.

(وَاتَّبَعَ) وليّ الجناية الثانية (السَّيِّدَ أوْ وَلِيَّ) الجناية (الأوْلَى إن دُفِعَتْ) الأولى (بِلَا قَضَاءٍ) وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: لا شيء على المولى، لأنه حين دفع لم تكن الجناية الثانية موجودة، ولا علم له بما يحدث بعدها حتى يكون متعدّياً، فصار كما إذا دفع بالقضاء. ولأنه فَعَل عَيْنَ ما يفعله القاضي، فكان القضاء وعدمه سواء، كما في الرُّجوع في الهبة، وأخذ الدَّار بالشُّفْعَة بعد وجوبها.

ولو عُتِقَ المدبّر وقد جنى جنايات لا يلزمه إلاّ قيمة واحدة، لأن الضمان إنما وجب عليه بالمنع، فصار وجود الإعتاق بعد الجنايات وعدمه سواء. وأمّ الولد بمنزلة المدبّر في جميع ذلك، لأنّ الاستيلاد مانعٌ من الدفع كالتدبير. ولو أقرّ المدبّر أو أمُّ الولد بجنايات توجب المال لم يجز إقراره ولا يلزمه شيء، لأَن موجب جناياته على المولى لا على نفسه، وإقراره على المولى غير نافذٍ، بخلاف الجناية الموجبة للقَوَد بأن أقرّ بقتله عمداً حيث يصحّ إقراره ويُقْتَل به، لأنه إقرارٌ على نفسه فينفذ لعدم التُّهمة.

(وَمَنْ غَصَبَ صَبِيّاً) لا يعبِّر عن نفسه (حُرّاً فَمَاتَ مَعَهُ) أي عنده (فَجْأَةً أوْ) مات (بحُمَّى لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ مَاتَ بِصَاعِقَةٍ أَوْ نَهْشِ (حَيَّةٍ)

(1)

ضَمِنَ عَاقِلَتُهُ) أي عاقلة

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 383

الدِّيَةَ، كما في صبيٍّ أَودع عبدًا فَقَتَلَهُ.

فَإِنْ أَتْلَفَ مَالًا بِلَا إِيدَاعٍ ضَمِنَ. وإنْ أَتْلَفَ بَعْدَهُ، لا.

‌فَصْلٌ في القَسَامَةِ

===

الغاصب (الدِّيَةَ) أي دية الصبيّ. والقياس أن لا يضمن في الوجهين، وهو قول زفر ومالك والشّافعيّ وأحمد. ولنا: وهو وجه الاستحسان: أن هذا ضمان إتلاف، لا ضمان غصب، لأن نقله إلى أرض السِّبَاع، أو إلى مكان الصواعق تسبّبٌ في هلاكه، وتعدّ عليه بتفويت يدٍ حافظةٍ وهو الولي، لأن الصواعق والحيّات والسباع لا تكون بكل مكانٍ، بخلاف الموت فجأةً، أو بحمّى فإن ذلك لا يختلف باختلاف الأماكن، حتّى لو نقله إلى مكانٍ تغلب فيه الحمّى والأمراض ضَمَّن عاقلته الدّيَة، لكونه تسبّب في هلاكه، (كما في صبيِّ) أَي كما يضمن عاقلة صبي (أَودع عبداً) أَي جعل عبد وديعة عنده (فَقَتَلَهُ) أي قتل الصبيّ العبد المودَع.

(فَإِنْ أَتْلَفَ) الصبيّ (مَالاً بِلَا إِيدَاعٍ) أي ليس مودَعاً عنده (ضَمِنَ) لأنه مؤاخذٌ بأفعاله، وصحة القصد لا معتبر بها في حقوق العبد (وَإِنْ أَتْلَفَ) مالاً غير عبدٍ (بَعْدَهُ) أي بعد الإِيداع (لَا) أي لا يضمن الصبيّ. وهذا الفرق قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف والشّافعيّ، وهو قول مالك وأحمد: يضمن الصبيّ في الوجهين.

وفي «شرح الطَّحاوي» : أودِعَ عند صبيّ مالاً فهلك في يده لا ضمان عليه بالإجماع. فإن استهلكه الصبيّ، فإن كان مأذوناً له في التجارة ضمن بالإجماع وإن كان محجوراً عليه، فإن قَبِلَ الوديعة بإذن وليّه يضمن بالإجماع، وإن قَبِلَ بغير إذنه، فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة ومحمد لا في الحال ولا بعد الإدراك. وقال أبو يوسف والشافعي: يضمن في الحال، وأجمعوا على أنه لو استهلك مالاً بغير وديعةً ضمن في الحال.

فصلٌ في القَسَامَةِ

وهي في اللُّغة اسم مصدرٍ من أقسم. وقيل: إِنها القوم الذين يحلفون، سُمُّوا باسم المصدر، كما يُقَال: رجلٌ عَدْلٌ. وسببها: وجود القتل

(1)

في المحلّة، أو (ما)

(2)

في

(1)

في المخطوط: القتيل، والمثبت من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 384

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

معناها. وركنها: قولهم: بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً. وشرطها: أن يكون المُقْسِم رجلاً حرّاً عاقلاً. وقال مالك: يدخل النساء في قَسَامة الخطأ دون العمد. وحكمها: القضاء بوجوب الدِّيَة بعد الحَلفِ، سواء كانت الدَّعوى في القتل العمد أو الخطأ.

أخرج أصحاب الكتب الستة عن سهل بن أبي حَثْمَة

(1)

ورافع بن خَدِيجٍ قالا

(2)

: خرج عبد الله بن سَهْل بن زيدٍ ومُحَيِّصَة بن مسعود بن زيد حتّى إذا كانا بخَيْبَر تفرّقا في بعض ما هنالك. ـ وفي رواية: تفرّقا في النخل ـ ثم إنّ مُحَيِّصَة يجد عبد الله بن سهلٍ قتيلاً، فدفنه، فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وحُوَيِّصَة بن مسعود وعبد الرحمن بن سهل ـ وكان أصغر القوم ـ فذهب عبد الرحمن يتكلّم قبل صاحبيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الكبيرَ الكبيرَ» ـ وفي رواية: «الكُبْرَ الكُبْرَ» ـ يريد السِّنَّ ـ وفي لفظ: «كَبّر الكُبْر» ـ فصمت، فتكلّم صاحباه، وتكلّم معهما.

فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل، واتّهموا اليهود، فقال لهم:«أتحلفون خمسين يميناً فتستحقّون دم صاحبكم»

(3)

؟ قالوا: كيف نحلِف ولم نشهد؟ وفي لفظٍ: «يُقْسم خمسون منكم على رجلٍ منهم فيُدْفَعُ برُمَّتِهِ»

(4)

؟ قالوا: (أمرٌ)

(5)

لم نشهده، كيف نحلف؟ قال:«فتحلف لكم يهود» ؟. قالوا: لَيْسُوا مسلمين. وفي لفظٍ: كيف يقبل أَيْمان قومٍ كفّار؟ فَوَدَاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمئةٍ من أبل الصدقة. قال سهل: فلقد رَكَضَتْنِي

(6)

منها ناقةٌ حمراء.

وقد استدلّ بظاهره مالك والشافعي حيث قالا: لم يقض عليهم بالدِّية إذا حلفوا. ولنا: ما في الكتب الستة أيضاً عن ابن عباس ـ واللفظ لمسلم ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يُعْطَى النَّاس بدعواهم لادّعى ناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه» . ولفظ الباقين: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على

(1)

حُرِّفَت في المخطوط إِلى: سهل بن أَبي حَيْثمة. والمثبت من المطبوع وهو الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1291، كتاب القسامة (28)، باب القسامة (1)، رقم (1 - 1669).

(2)

في المخطوط: قال، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب.

(3)

أَي يثبت حقكم على من حلفتم عليه.

(4)

الرُّمةُ: قطعة حبل يُشَدُّ بها الأسير أَو القاتل إِذا قيد إِلى القصاص: أَي يُسَلَّم إِليهم بالحبل الذي شُدَّ به تمكينًا لهم منه لئلا يهرب. النهاية 2/ 267.

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(6)

الرَّكْضُ: الضَّرب بالرِّجل والإصابة بها. النهاية 2/ 259.

ص: 385

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

المدعى عليه. وما في «سنن الترمذي» عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جدّه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في خُطبته: «البيّنة على المدَّعي، واليمين على المدَّعى عليه» . وما في «مصنف» عبد الرَّزَّاق وابن أبي شَيْبَة، والواقدي: أخبرنا مَعْمَر، عن الزُّهْرِيّ، عن سعيد بن المُسَيَّب قال: كانت القَسَامة في الجاهلية، فأقرّها النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتيل من الأنصار وُجِدَ في جُبَ

(1)

لليهود.

قال: فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهود وكلّفهم قَسَامة خمسين، فقالت اليهود:(لن)

(2)

نحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: «أفتحلفون» ؟ فأبت الأنصار أن تحلف، فأغرم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود ديته، لأنه قُتِلَ بين أظهرهم.

وما في «مسند البزَّار»

(3)

عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: كانت القَسَامة في الدَّم يوم خَيْبَر، وذلك أنّ رجلاً من الأنصار ـ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فُقِدَ تحت الليل، فجاءت الأنصار فقالوا: إن صاحبنا يتشحَّط

(4)

في دمه. فقال: «أتعرفون قاتله؟» قالوا: لا، إلاّ أن يكون يهود قتلته. فقال:«اختاروا منهم خمسين رجلاً، فيحلفون بالله جهد أيمانهم، ثم خُذوا الدِّية منهم» . ففعلوا.

وما في «سنن الدَّارَقُطْنِيّ» عن الكَلْبِيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس قال: وُجِدَ رجلٌ من الأنصار قتيلاً في دالية ناس من اليهود، فذُكِرَ ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم. فبعث إليهم، فأخذ منهم خمسين رجلاً من خيارهم، فاستحلف كلّ واحدٍ منهم بالله: ما قتلته، ولا علمت له قاتلاً، ثم جعل عليهم الدِّية. فقالوا: لقد قضى بما في ناموس (موسى)

(5)

. إلاّ أنه قال: الكَلْبيّ متروك.

وما أخرجه البيهقي في «المعرفة» عن الشافعيّ: أخبرنا سفيان، (عن منصور)(4)، عن الشَّعْبِيّ: أن عمر بن الخطاب كتب في قتيلٍ (وُجِدَ) بين خَيْوَان

(6)

ووادعة: أن يُقَاس ما بين القريتين، فإلى أيّهما كان أقرب، أخرج إليه منهم خمسين رجلاً حتى يوافوه مكة، فأدخلهم الحِجْر فأحلفهم ثم قضى عليهم بالدِّية. فقالوا: ما وَقَتْ أموالُنا أيْمانُنَا ولا أيمانَنَا أموالَنَا. فقال عمر: كذلك الأمر. وفي رواية: كذلك الحق.

(1)

الجُبُّ: البئر الواسعة. المعجم الوسيط ص 104، مادة (جَبَّ).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

حُرِّفت في المطبوع إلى "سنن البزار". والصواب ما أثبتناه من المخطوط.

(4)

شحَّطه في دمه: جعله يضطرب ويتخبط. المعجم الوسيط ص 474، مادة (شحط).

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(6)

في المخطوط: حلوان والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في سنن البيهقي 8/ 125.

ص: 386

مَيْتٌ بِهِ جُرْحٌ أو أَثَرُ ضَرْبٍ، أوْ خَنْقٍ، أوْ خُرُوجُ دَمٍ مِنْ أُذُنِهِ أو عَيْنِهِ.

وُجِدَ في مَحَلَّةٍ، أَوْ أَكْثَرُه، أَوْ نِصْفُهُ، مَعَ رَأْسِهِ لَا يُعْلَمُ قَاتِلُهُ، وادَّعَى وَلَيُّهُ القَتْلَ

===

قال الشافعي: وقال غير سفيان: عن عاصم الأحول، عن الشعبيّ: فقال عمر: حقنتم دماءكم بأيمانكم ولا يُطَلُّ

(1)

دم امراءٍ مسلم. إلاّ أنه قال البيهقي عن الشافعي أنه قال: سافرت إلى خَيْوَان ووادعة أربعة عشرة سفْرة، وسألتهم عن حكم عمر في القتيل، وحكيت ما رُوِيَ عنه فيه، فقالوا: هذا شيءٌ ما كان ببلدنا قطُّ. وهذا كما ترى لا يقدح في صحة الرواية، إذ المتصدّي بضبط الحوادث وأحكامها أئمةُ الدين من أهل الدِّراية.

(مَيْتٌ) هذا مبتدأ (بِهِ جُرْحٌ)، صفة أولى له (أو أَثَرُ ضَرْبٍ، أوْ) أثر (خَنْقٍ، أوْ) به (خُرُوجُ دَمٍ مِنْ أُذُنِهِ أو عَيْنِهِ) قيّد الميت بذلك، لأن الخالي منه لا قَسَامة فيه عندنا، ولا دية، وهو قول أحمد في روايةٍ وحمّاد والثوريّ. وقال مالك والشافعيّ وأحمد: ليس الأثر بشرط بل الشرط اللَّوَث

(2)

، وهو: ما يُوقِع في القلب صِدْق المدَّعي من أثر دمٍ على ثيابه، أو عداوة ظاهرة، أو شهادة عدلٍ، أو جماعة (غير)

(3)

عدول، أن أهل المحلّة قتلوه، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يسأل الأنصار هل كان بقتيلهم أثر (أو لا)

(4)

؟ ولأن القتل يحصل بما لا أثر له، كعصر الخُصْيَتَيْن وضرب الفؤاد، فأشبه من به أثر.

ولنا: أن القَسَامة في الدِّية لتعظيم الدّم، وصيانته عن الهَدر، وذلك في القتل دون الموت حَتْف الأنف، والقتل يُعْرَف بالأثر. وقد تقدّم في «مسند البزَّار»: أنّ الأنصار قالوا: إن صاحبنا يتشحّط في دمه.

(وُجِدَ في مَحَلَّةٍ) صفةٌ ثانيةٌ لميت (أَوْ) وُجِدَ (أَكْثَرُه أَوْ) وُجِدَ (نِصْفُهُ مَعَ رَأْسِهِ) وقوله: (لَا يُعْلَمُ قَاتِلُهُ) صفةٌ ثالثةٌ لميت. أمّا لو وُجِدَ نصفه مشقوقاً بالطول، أو وُجِدَ أقل من النصف ومعه الرأس، أو يده، أو رأسه لا شيء عليهم، لأن هذا الحكم عرفناه بالنص، وقد ورد في البدن كلّه، إلاّ إِنّ الأكثر له حكم الكلّ بخلاف الأقلّ. ولأنا لو اعتبرنا الأقل لاجتمع دِيات وقَسَامات في شخصٍ واحدٍ أن وُجِدَ أطرافه في قرىً متفرقةٍ، وذلك غير مشروعٍ فينتفي ما يؤدي إليه. (وادَّعَى وَلَيُّهُ القَتْلَ) العمد أو

(1)

سبق شرحها ص 364، التعليقة رقم:(1).

(2)

اللَّوَث: البَيِّنة الضعيفة. المصباح المنير ص 214، مادة:(لوث).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 387

عَلَى أَهْلِهَا: حُلِّفَ خَمْسُونَ رَجُلًا حُرًّا مُكَلَّفًا مِنْهُمْ، يَخْتَارُهُمَ الوَليُّ: بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا، لا الوَلِيُّ، ثُمَّ قُضِيَ عَلَى أَهْلِهَا بالدِّيَةِ.

===

الخطأ (عَلَى أَهْلِهَا) كلّهم أو بعضهم مبهماً أو مُعيّناً. وعن أبي يوسف في غير رواية الأصول ـ وهو رواية أصول ابن المبارك ـ عن أبي حنيفة: لا قَسَامة ولا دية في المعيّن. ويُقَال للوليّ: ألك بَيِّنة؟ فإن قال: لا، حُلِّفَ المدّعى عليه يميناً واحدةً، لأن دعواه على المعيّن منهم إبراء لباقيهم، وصار كما إذا ادّعى القتل على واحدٍ من غيرهم.

ووجه الظاهر: أن وجوب القَسَامة على أهل المحلّة دليلٌ على أن القاتل منهم، فتعيين المدّعي واحداً منهم لا يُنَافي ذلك، بخلاف تعيينه واحداً من غيرهم، لأنه بيان أن القاتل ليس منهم، وهم إنما يَغْرَمون إذا كان القاتل منهم لكونهم قاتلين تقديراً، حيث لم يأخذوا على يد الظالم، ولأن أهل المحلّة لا يَغْرَمون بمجرد ظهور القتيل بين أظهرهم بل بدعوى الوليّ، فإذا ادَّعى القتل على غيرهم امتنعت دعواه عليهم، فسقط عنهم لفقد شرطه.

(حُلِّفَ خَمْسُونَ) خبر المبتدأ (رَجُلاً حُرّاً مُكَلَّفاً) لأن المرأة والعبد والصبيّ والمجنون أتباع لأهل النُّصرة، واليمين على أهلها (مِنْهُمْ) أي من أهل المحلَّة (يَخْتَارُهُمْ الوَليُّ) لأن اليمين

(1)

حقّه، والظاهر أنه يختار من يتّهمه بالقتل، أو يختار صالحيهم، لأنهم يحترزون عن اليمين الكاذبة (بِاللَّهِ) متعلّق بحُلِّفَ (مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلاً) هذا حكاية قول الجميع، لأن الواحد منهم إذا حَلَف يقول: ما قتلت وما علمت له قاتلاً، لا: ما قتلنا، لجواز أنه قَتَلَهُ وحده، فإذا حلف ما قتلناه كان صادقاً في يمينه، لأنه لم يقتله مع غيره.

ونظيره ما ورد في تفسير قوله تعالى حكاية عن قوم صالح: {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}

(2)

فإنْ قيل: يجوز فيما قتلت أن يكون قتله مع غيره، فيكون صادقاً في يمينه. أُجِيبَ: بأنه إِذا قتله مع غيره كان في يمينه أنه ما قتله كاذباً، لأن الجماعة متى قتلوا واحداً كان كلّ واحدٍ منهم قاتلاً، ولهذا يجب القصاص على كلّ واحدٍ منهم في العمد والكفارة في الخطأ (لا الوَلِيُّ) أي لا يحلف الوليّ، ولو مع وجود الورثة عندنا. (ثُمَّ قُضِيَ عَلَى أَهْلِهَا) أي أهل المحلّة (بالدِّيَةِ) وهذا قول عمر والشَّعبيّ والنَّخَعِي والثَّوْرِيّ.

(1)

في المخطوط: الولي، والمثبت من المطبوع.

(2)

سورة النمل، الآية:(49).

ص: 388

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

وقال مالك والشافعيّ وأحمد: يبدأ بالمدَّعِين

(1)

في الأيمان، فإن حلفوا استحقّوا، وإن نكلوا حَلَّف المدَّعَى عليهم خمسين يميناً، فإن حلفوا برئوا، وهو مذهب يحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزِّناد واللَّيث بن سعد، لقوله عليه الصلاة والسلام لأولياء عبد اللهبن سهل ابتداءً: أتحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم؟»

(2)

، وقوله فيما رواه البَيْهَقِيّ:«أَفَتَبْرِئُكُم يهود بخمسين يميناً» ؟ وهذا تنصيصٌ على أن اليمين على الوليّ، وأنه يستحقّ القصاص به في دعوى العمد على قول مالك وقديم الشّافعيّ. وقال في الجديد: فإذا حلف قُضِيَ له بِدِيةٍ في ماله، وإذا انعدم اللَّوَثُ

(3)

أو أبى الوليّ أن يحلف، فالحكم فيه ما هو الحكم في سائر الدَّعَاوى.

ولنا: ما في الكتب الستة من حديث ابن عباس: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: اليمين على المدّعى عليه» . وما رواه ابن أبي شَيْبَة من قضاء عمر في القتيل الذي وُجِدَ بين وَادِعَة وأَرْحَب، وسيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى.

ومن أدلتنا أيضاً: ما في «المبسوط» عن أبي أيوب مولى أبي قِلابة قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز وعنده رؤساء الناس، فخُوصِم إليه في قتيل وُجِدَ في محلّةٍ، وأبو قِلابة جالسٌ عند السرير أو خلفه.

فقال الناس: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقَود في القَسَامة وأبو بكر وعمر والخلفاء بعدهم، فنظر إلى أبي قِلابة، وهو ساكتٌ، فقال: ما تقول؟ فقال: عندك رؤساء الناس أو أشراف العرب، أرأيتم لو شهد رجلان من أهل دمشق على رجلٍ من أَهل حِمص أنه سرق ولم يرياه أكُنْتَ تقطعه؟ فقال: لا. قال: أرأيتم لو شهد أربعة من أهل حِمص على رجلٍ من أهل دمشق أنه زنى ولم يَرَوْه أكُنْتَ ترجمه؟ فقال: لا. فقال: والله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم نفساً بغير نفسٍ إلاّ رجلاً كفر بالله بعد إيمانه، أو زنى بعدإحصانه، أو قتل نفساً بغير نفسٍ. وقد قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالقَسَامة والدِّية على أهل خَيْبَر في قتيلِ وُجِدَ بين أظهرهم. فانْقَاد عمر بن عبد العزيز لذلك.

وهذا لأن أمراء بني أُميّة كانوا يقضون بالقَوَد في القَسَامة على ما روى الزُّهْرِيّ أنه قال: القَوَدُ في القَسامة من أمور الجاهلية، وأول من قضى به معاوية. فلهذا بالغ أبو قِلابة في إنكار ذلك هنالك. وعن «الذَّخِيرَة» و «الخانية»: لو حلفوا غُرِّمُوا الدِّية، وإن

(1)

في المخطوط: بالمدعيَيْن، والمثبت من المطبوع.

(2)

سبق تخريجه عند الشارح ص 385.

(3)

سبق شرحها عند الشارح ص 387، التعليقة رقم (2).

ص: 389

وإنِ ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ غَيْرهمْ سَقَطَت القَسَامَةُ عَنْهُمْ، فإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا خَمْسُونَ كَرَّرَ الحَلِفَ عَلَيْهِمْ إلى أنْ يَتِمّ.

وَمَنْ نَكَلَ حُبِسَ حتّى يَحْلِفَ. لَا إنْ خَرَجَ الدَّمُ مِنْ فِيهِ أوْ دُبُرِهِ أوْ ذَكَرِهِ.

وفي قَتِيلٍ عَلَى دَابَّةٍ يَسُوقُهَا رَجُلٌ ضَمِنَ عَاقِلَتُهُ دِيَتَهُ،

===

نكلوا يحبسوا حتّى يحلفوا. وهذا في دعوى العمد، أمّا في الخطأ فيُقْضَى بالدِّية على عاقلتهم.

(وإنِ ادَّعَى) الولِيّ القتل (عَلَى وَاحِدٍ غَيْرهمْ) أي غير أهل المحَلَّة (سَقَطَت القَسَامَةُ عَنْهُمْ) أي عن أهل المحلّة، وقد تقدَّم وجه الفرق بينه وبين ما إذا ادَّعى القتل على واحدٍ منهم حيث لا تسقط. (فإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا) أي في المحلّة (خَمْسُونَ) من أهل القَسَامة (كَرَّرَ الحَلِفَ عَلَيْهِمْ إلى أنّ يَتِمّ) لِمَا روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه»: أن عمر بن الخطاب ردّ عليهم الأيْمان حتّى وافوا، يعني على من جاء إليه من أهل وَادِعة. وروى أيضاً عن شُرَيْح قال: جاءت قَسَامَةٌ فلم يُوَافوا خمسين، فردّ عليهم القَسَامة حتَّى أوفوا.

وروى عبد الرَّزاق في «مصنفه» عن سفيان الثَّوْرِيّ، عن إبراهيم قال: إذا لم تبلغ القَسَامة كرّروا حتّى يحلفوا خمسين يميناً. وروى أيضاً فيه عن عمر: أنه استحلف امرأةً خمسين يميناً على مولى لها أُصِيبَ، ثمّ جعل عليها الدِّية. ولأن عدد الخمسين واجبٌ بنصّ الحديث، فيجب إتمامها ما أمكن، ولا يطلب فيها الوقوف على الفائدة. ولأن فيه استعظام أمر الدّم فيكمّل، وتكرار اليمين من واحدٍ على سبيل الوجوب ممكن شرعاً كما في اللِّعان.

(وَمَنْ نَكَلَ) أي أبى أن يحلف من الذين اختارهم الوليّ (حُبِسَ حتّى يَحْلِفَ) لأن اليمين فيه مستحقّ لذاته تعظيماً لأمر الدَّم، ولهذا يجمع بينه وبين الدِّية، بخلاف النكول في الأموال، لأن اليمين فيها بدلٌ عن أصل حقّه، ولهذا تسقط بدفع المال المدَّعى، وفيما نحن فيه لا يسقط بدفع الدِّية. ويوجب الدِّية أبو يوسف بالنكول اعتباراً بالنكول عن اليمين في دعوى المال.

(لَا إنْ خَرَجَ الدَّمُ) أي لا قَسَامة ولا دِيَة في ميت وُجِدَ في محلّة وقد خرج الدم (مِنْ فِيهِ) أي فمه (أوْ دُبُرِهِ أوْ ذَكَرِهِ) لأن الدَّم يخرج من هذه المجاري عادةً بغير فعل أحدٍ، فلا يكون دليلاً على أنه قتل. (وفي قَتِيلٍ) وُجِدَ (عَلَى دَابَّةٍ يَسُوقُهَا رَجُلٌ ضَمِنَ عَاقِلَتُهُ) أي السائق دون أهل محلته (دِيَتَهُ) أي القتيل، لأن الدَّابة في يد

ص: 390

والرَّاكِبُ وَالقَائِدُ كالسَّائِقِ. وعَلَى دَابَّةٍ بَيْنَ قَرْيَتَيِنْ، عَلَى أهْل أقْرَبِهِمَا. وفي دَارِ رَجُلٍ عَلَيْهِ

القَسَامَةُ. وَتَدِي عَاقِلَتُهُ إنْ ثَبَتَ أنّهَا لَهُ بالحُجَّةِ. وَتَدِي وَرَثَتُهُ إنْ وُجِدَ في دَارِ نَفْسِهِ.

===

السائق، فصار كما لو وُجِدَ في داره.

(والرَّاكِبُ وَالقَائِدُ كالسَّائِقِ) في وجوب ضمان عاقلته الدِّية، لا أهل المحلة، فإن اجتمعوا فعلى عاقلتهم، لأن القتيل في أيديهم، فصار كما لو وُجِدَ في دارهم. إلاّ أن في الدَّابة لا يُشْتَرَط أن يكونوا مالكين لها، وفي الدار يشترط ذلك. ولو لم يكن مع الدَّابة أحدٌ، فالدِّية والقَسَامة على أهل المحلّة التي وُجِدَ فيها القتيل على الدابة، لأنّ وجوده على الدَّابة كوجوده في الموضع الذي فيه الدابة.

(و) في قتيلٍ وُجِدَ (عَلَى دَابَّةٍ) أو غيرها (بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ) أو قبيلتين تجب القَسَامة والدِّية (عَلَى أهْل أقْرَبِهِمَا) لما روى أبو داود الطيالسي وإسحاق بن رَاهُويَه والبزّار في «مسانيدهم» ، والبيهقي في «سننه» ، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ: أن قتيلاً وُجِدَ بين حَيَّيْن فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقَاس إلى أيهما أقرب، فوُجِدَ أقرب إلى أحد الحيين بشبرٍ. قال الخُدْرِيّ: كأني أنظر إلى شبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى ديته عليهم.

وروى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث بن الأزمع قال: وُجِدَ قتيلٌ باليمن بين وَادِعَة وأرْحَب، فكتب عامل عمر بن الخطاب إليه، فكتب إليه عمر: أنْ قِسْ ما بين الحيَّيْن، وإلى أيهما أقرب فخذهم به. قال: فقاسوه فوجدوه أقرب إلى وادعة، فأخذنا وأغرمنا وأحلفنا، فقلنا: يا أمير المؤمنين، أَتُحَلِّفنا وتُغَرِّمُنا؟ قال: نعم. فأَحْلَف خمسين رجلاً: بالله ما قتلتهُ ولا علمتَ قاتلاً له.

(وفي) قتيلٍ وُجِدَ في (دَارِ رَجُلٍ عَلَيْهِ القَسَامَةُ) فتُكَرَّر الأيْمان عليه، لأن الدَّار في يده وحفظها إليه (وَتَدِي) أي يُعْطِي الدِّية (عَاقِلَتُهُ) لأن نصرته منهم وقوَّته بهم. وقال مالك: لا قَسَامة ولا غرامة في قتيلٍ وُجِدَ في دار قومٍ. وقال الشافعي: يكون مع اللَّوَث

(1)

. وفي «شرح الأقطع» : صاحب الدَّار مع أهل المحلّة، كأهل المحلّة مع أهل المِصْر، ولا يدخل أهل المصر مع أهل المحلّة.

(إنْ ثَبَتَ أنّهَا) أي الدَّار (لَهُ) أي للرجل (بالحُجَّةِ) أي بشهادة الشهود، لأن اليد دليل ظاهر، والظاهر حجَّة للدفع لا للاستحقاق، ونحن محتاجون هنا للاستحقاف، فلا بدّ من إقامة البيّنة على الملك إذا كذّب العواقل أنها ملك ذي اليد، وقالوا: إنها وديعة عنده. (وَتَدِي) عاقلة (وَرَثَته) لورثته (إنْ وُجِدَ) قتيل (في دَارِ نَفْسِهِ) عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف (ومحمد)

(2)

وزُفَر ومالك والشّافعيّ: لا شيء فيه.

(1)

سبق شرحها عند الشارح ص 387، التعليقة رقم (2).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 391

وَالقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الخِطَّةِ دُوْن السُّكّانِ وَالمُشْتَرِينَ. فَإِنْ بَاعَ كُلٌّ مَنْهُمْ فَعَلى المُشْتَرِينَ، وفي دَارٍ مُشْتَركَةٍ عَلَى عَدَدِ الرؤوس. وفي الفُلْكِ فَالقَسَامَةُ عَلَى مَنْ فِيهِ.

وَفي سُوقٍ مَمْلُوكٍ عَلَى المَالِكِ، وَفي مَسْجِدِ مَحَلَّةٍ عَلَى أَهْلِهَا، وَفي غَيرِ مَمْلُوكٍ، وَالشّارِعِ، والجِسْرِ، والسِّجْنِ، والجَامعِ، لا قَسَامَةَ.

وَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ المَالِ، وفي بَرِّيَّةٍ

===

(وَالقَسَامَةُ) والدِّية (عَلَى أَهْلِ الخِطَّةِ) ولو بقي واحدٌ منهم، وهم الذين خطّ لهم الإمام، وقسم الأراضي بِخَطّه حين فتحها. (دُوْن السُّكّانِ) أي وليست القَسَامة على السكان (وَالمُشْتَرِينَ) وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: الكل مشتركون، وهو قول مالك والشافعيّ وأحمد وابن أبي ليلى، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى على أهل خَيْبرَ، وقد كانوا سكَّاناً فيها. (فَإِنْ بَاعَ كُلٌّ مَنْهُمْ) أي كلّ واحدٍ من أهل الخِطّة، وفي بعض النسخ: فإن باع كلّهم (فَعَلى المُشْتَرِينَ) القَسَامَة والدِّية، لأن الولاية انتقلت إليهم عند أبي حنيفة ومحمد لزوال من يتقدّمهم، وحصلت لهم عند أبي يوسف لزوال من يزاحمهم. (و) إن وُجِدَ قتيلٌ (في دَارٍ مُشْتَركَةٍ) على التفاوت بأن كان نصفها لرجلٍ، وعُشْرها لرجلٍ، وباقيها لآخر، فَالقَسَامة (عَلَى عَدَدِ الرؤوس) لأن صاحب القليل يزاحم صاحب الكثير في التدبير، فكانوا سواء في الحفظ والتقصير.

(و) إن وُجِدَ قتيلٌ (في الفُلْكِ فَالقَسَامَةُ عَلَى مَنْ فِيهِ) أي في الفُلْكِ سواء كان ماشياً أو راكباً أو مَلاَّحاً. (وَ) إن وُجِدَ (في سُوقٍ مَمْلُوكٍ) فالقَسَامة (عَلَى المَالِكِ) عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف: على السكان. (وَ) إن وُجِدَ (في مَسْجِدِ مَحَلَّةٍ) فالقَسَامة (عَلَى أَهْلِهَا) لأن تدبيره إليهم، والقتيل فيه كالقتيل فيها.

(وَ) إنْ وُجِدَ (في) سوقٍ (غَيْرِ مَمْلُوكٍ، وَ) في (الشّارِعِ)، العام (و) في (الجِسْرِ)، العام (و) في (السِّجْنِ، و) في (الجَامعِ لا قَسَامَةَ) على أحدٍ (وَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ المَالِ) لأنه لجماعة المسلمين. وقال أبو يوسف: القسامة في السجن على أهله، وهو قول مالك والشافعيّ وأحمد، لأنهم سكانه وولاية تدبيره إليهم، والظاهر أنّ القتل حصل منهم. ولأبي حنيفة ومحمد: أنّ أهل السجن مقهورون، فلا يتناصرون، ولا يتعلّق بهم ما يجب لأجل النُّصْرة.

(و) إن وُجِدَ (في بَرِّيَّةٍ) أي غير مملوكةٍ، إذ لو كانت مملوكةً تكون القسامة

ص: 392

لَا عِمَارَةَ يقُرْبِهَا، أوْ مَاءٍ يَمُرُّ بِهِ هَدَرٌ. وَمُسْتَحْلَفٌ قَالَ: قَتَلَهُ زَيْدٌ، حَلَفَ باللَّهِ: مَا قَتَلْتُهُ وَلَا عَرَفْتُ لَهُ قَاتِلًا غَيرَ زَيْدٍ.

وَبَطَلَت شَهَادَةُ بَعْضِ أهْلِ المَحَلَّةِ بِقَتْلِ غَيرِهِمْ أَوْ وَاحِدٍ

===

على مالكها (لَا عِمَارَةَ بِقُرْبِهَا) أمّا لو كان بقربها عِمارةٌ تكون القسامة على أهلها. وحدُّ القُرْب سماع الصوت. (أوْ مَاءٍ) أي أو وُجِدَ في ماءٍ (يَمُرُّ بِهِ) أي بالقتيل، بأن وُجِدَ في نهرٍ عظيمٍ يجري فيه الماء (هَدَرٌ) أي لا شيء فيه، لأنه ليس في يد أحدٍ ولا في ملكه، بخلاف النهر الصغير، فإن ضمان القتيل على أصحابه لقيام يدهم عليه. ولو وُجِدَ قتيلٌ في أرضٍ موقوفةٍ، أو في دارٍ موقوفةٍ على أربابٍ معلومةٍ، فالقسامة والدية على أربابها، لأن تدبيرها إليهم. وإن كانت موقوفةً على مسجدٍ، فهو كما لو وُجِدَ في المسجد، وحكمه قد تقدّم، والله تعالى أعلم.

(وَمُسْتَحْلَفٌ) بفتح اللام مبتدأ، أي من يُطْلَب منه الحَلِف (قَالَ: قَتَلَهُ زَيْدٌ) صفته، والخبر (حَلَفَ باللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلَا عَرَفْتُ لَهُ قَاتِلاً غَيْرَ زَيْدٍ) لأنه لمّا أقرّ بالقتل على زيدٍ، صار زيدٌ مستثنى عن اليمين، فبقي حكم من سِوَاه فيحلف عليه، وهذا قول محمد. وقال أبي يوسف: يحلف ما قتلت فقط، لأنه عرف القاتل واعترف به. ولمحمدٍ: أنه يحتمل أن له قاتلاً آخر معه، أو يكون في إقراره كاذباً (وَبَطَلَت شَهَادَةُ بَعْضِ أهْلِ المَحَلَّةِ بِقَتْلِ غَيْرِهِمْ) متعلّق بشهادة. وصورة المسألة: وُجِدَ قتيلٌ في محلّة، وادّعى الوليُّ قتله على غيرهم، فشهد اثنان من أهل المحلّة، لم تُقبل شهادتهما عند أبي حنيفة، وتُقبل عندهما.

والكلام فيه يرجع إلى أصلٍ متَّفقٍ عليه، وهو أن كل من انتصب خصماً في حادثةٍ، ثم خرج من أن يكون خصماً، لا تُقبل شهادته. وأن كلّ من كان له عَرَضِيَّة أن يصير خصماً، ثم بطلت هذه العَرَضِيَّة، فشهد في تلك الحادثة تقبل شهادته فيها. فهما قالا: الثابت في أهل المحلّة عرضيّة أن يصيروا خصماً لو ادّعى الوليّ عليهم، وقد بطلت هذه العرضيّة بالدّعوى على غيرهم فتقبل شهادتهم، كالوكيل بالخصومة إذا عزله قبل أن يخاصم وشهد في تلك الحادثة. ولأبي حنيفة: أن أهل المحلّة صاروا خصماً في هذه الحادثة لوجود القتيل بين أظهرهم، ومن صار خصماً في حادثة لا تُقْبل شهادته فيها وإن خرج عن الخصومة، كالوكيل إذا خاصم في مجلس الحكم، ثم عُزِلَ فشهد.

(أَوْ وَاحِدٍ) بالجر عطفٌ على غيرهم، أي وبطل شهادة بعض أهل المحلّة بقتل

ص: 393

مِنْهُمْ. وَفي رَجُلَيِنْ في بَيْتٍ وُجِدَ أَحَدُهُمَا قَتِيلًا ضَمِنَ الآخَرُ دِيَتَهُ. وفي قتيلِ قريةٍ امرأةً، كَرّرَ الحَلِفَ عَلَيْهَا، وَتَدِي عَاقِلَتُهَا.

‌فصْلٌ في المَعَاقِلِ

العَاقِلَةُ: أَهْلُ الدِّيوَانِ

===

واحدٍ (مِنْهُمْ) إذا ادَّعى الوليّ عليه بعينه، لأن الخصومة قائمة مع الكلّ، والشاهد يقطعها عن نفسه، فكان منهما فيها (وَفي رَجُلَيْنِ في بَيْتٍ) وليس معهما ثالثٌ (وُجِدَ أَحَدُهُمَا قَتِيلاً ضَمِنَ الآخَرُ دِيَتَهُ) وهذا عند أبي يوسف.

وقال محمد: لا يضمن، لأنه يحتمل أن يكون قتل نفسه، ويحتمل أن يكون الآخر قتله، فلا يضمنه بالشَّكِّ. ولأبي يوسف: أن الظاهر أن الإنسان لا يقتل نفسه، فكان ذلك الاحتمال ساقطاً، كما لو وُجِدَ قتيلٌ في مَحَلّةٍ فإِنَّ احتمال قتل نفسه ساقطٌ هناك فكذا هنا (وفي قتيلٍ قريةٍ امرأةً) أَي وإِن وجد قتيل في قرية امرأة (كَرّرَ الحَلِفَ عَلَيْهَا) أي على المرأة، لما روينا من تكرير عمر القَسَامة على المرأة.

(وَتَدِي) أي تُعْطِي الدِّية (عَاقِلَتُهَا) وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: القَسَامة على العاقلة أيضاً. قال المتأخرون: إن المرأة تدخل مع العاقلة (في التحمّل في هذه المسألة، لأنَّا أنزلناها قاتلة، والقاتلة تشارك العاقلة،)

(1)

وهو اختيار الطَّحَاويّ، وهو الأصحّ. ولو جُرِحَ إنسانٌ في قبيلةٍ، فنُقِلَ إلى أهله فمات من تلك الجراحة، فإن كان صاحب فراشٍ من حين الجرح حتى مات، فالقَسَامَةُ والدِّية على القبيلة عند أبي حنيفة.

وقال أبو يوسف: لا قسامة فيه ولا دية. قيل: ومحمد معه، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والشّافعيّ وأحمد، لأن الذي حصل في القبيلة والمحلّة ما دون النَّفس، ولا قَسَامة فيه، وصار كما لو لم يكن صاحب فراش. ولأبي حنيفة: أن الجرح إذا اتَّصل به الموت صار قتلاً، ولهذا وجب القصاص في العمد، والدِّية في الخطأ. ولو لم يكن المجروح صاحب فراش من حين الجرح بل كان يجيء ويذهب حين جُرِحَ، ثم نُقِلَ ومات في أهله فلا شيء فيه، كذا في «المبسوط» .

فصلٌ في المَعَاقِلِ

وهي جمع مَعْقُلة بضم القاف، وسميت الدِّية عقلاً ومَعْقُلة، لأنها تمنع الدم من السفك، ومنه العقل، لأنه يمنع صاحبه عن غير طريق العدل. (العَاقِلَةُ: أَهْلُ الدِّيوَانِ

(2)

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

الديوان: الدَّفتر يكتب فيه أَسماء الجيش =

ص: 394

لِمَنْ هُوَ مِنْهُمْ، تُؤْخَذُ مِنْ عَطَايَاهُمْ مَتَى خَرَجَتْ،

===

لِمَنْ هُوَ مِنْهُمْ) لأن عمر فرض العقل على أهل الدِّيوان بِمَحْضَر من الصحابة ولم ينكر عليه منكر، فكان ذلك إجماعاً منهم (تُؤْخَذُ) الدِّية (مِنْ عَطَايَاهُمْ)

(1)

أو الشَّاملة لأرزاقهم (مَتَى خَرَجَتْ) العطايا، سواء خرجت في ثلاث سنين أو أكثر أو أقل، وهذا إذا كانت العطايا الخارجة بعد القضاء بالدِّية للسنين المستقبلة، حتّى لو خرجت بعد القضاء عن السنين الماضية لا تؤخذ منها، ولو خرجت بعده عن ثلاث سنين مستقبلة في سنةٍ واحدةٍ، يُؤخذ منها كلُّ الدِّية، إذ لا فائدة في التأخير. روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن جابر قال: أول من فرض الفرائض، ودوّن الدواوين، وعرّف العرفاء: عمر بن الخطاب.

وفي «الهداية» : وأهل الديوان: أهل الرايات، وهم الجيش الذين كُتبت أساميهم في الدِّيوان. والعطاء: ما يُفْرض للمقاتلة. والرزق: ما يُفْرض لفقراء المسلمين إذا لم يكونوا مقاتلة. وقال مالك والشَّافعيّ وأحمد وأكثر أهل العلم: الدِّيَة على العشيرة وهم: العَصَبَات، لأنه كان كذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نسخ بعده، لأنه لا يكون إلا بوحيّ على لسان نبيّ، ولا نبيّ بعده. ولما رواه ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه»: حدّثنا حَفْص، عن حجّاج، عن مِقْسم، عن ابن عبّاس قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار أن يَعْقِلُوا معاقلهم، وأَن يُفْدُوا عانيهم

(2)

بالمعروف، والإصلاح بين المسلمين. وقال: حدّثنا وكيع: حدّثنا ابن أبي ليلى، عن الشَّعْبِيّ قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقل قريش على قريشٍ، وعقل الأنصار على الأنصار.

وما رواه عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» : أخبرنا مَعْمر، عن مطر الورَّاق، عن الحسن قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى امرأةٍ يطلبها في أمرٍ، فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر. فبينا هي في الطريق اشتد بها الفزع، فضربها الطَّلْق فدخلت داراً وألقت ولدها. فصاح الصبيّ صَيْحَتَيْنِ ثم مات فاستشار (عمر)

(3)

الصحابة، فقال بعضهم: ليس عليك شيء إنما أنت والٍ ومؤدّبٌ. قال: وصَمَتَ عليٌّ، فأقبل عليه عمر وقال له: ماذا تقول؟ فقال عليّ: إن قالوه برأيهم فقد أخطؤوا، وإن قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى أن ديته عليك، فإنك أنت أفزعتها فألقت ولدها بسببك. قال: فأمر عمر علياً

(4)

أن يضرب ديته

= وأَهل العطاء. المعجم الوسيط ص 305، مادة (دَوّن).

(1)

عطايا أَهل الديوان: أَرزاقهم وما يرتَّب لهم من مالٍ، المعجم الوسيط ص 609، مادة (عطا).

(2)

العاني: الأسير. المعجم الوسيط ص 633، مادة (عنا).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

في المطبوع: عليها، والمثبت من المخطوط.

ص: 395

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

على قريش، فأخذ عقله من قريش، لأنه خطأ.

هذا، واخْتُلِفَ في الآباء والبنين: فقال الشّافعيّ وأحمد في روايةٍ: ليس آباء القاتل وإن عَلَوْا، ولا أبناؤه وإن سَفَلوا من العاقلة. وقال مالك وأحمد في روايةٍ: يدخل في العاقلة أبو القاتل وابنه، وهو قولنا عند عدم أهل الديوان.

ولنا: أنّ عمر لمّا دوّن الدواوين جعل العقل على أهل الدِّيوان، وكان ذلك بِمَحْضَر من الصحابة. روى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن الحكم قال: عمر أول من جعل الدية عشرةً عشرةً في أعطيات المقاتلة دون الناس. والأَعْطِيَة جمع العَطِيَّة. وروى أيضاً عن الشَّعْبِيّ، وعن إبراهيم أنهما قالا: أول من فرض العطايا عمر بن الخطاب، وفرض فيه الدِّية كاملة في ثلاث سنين، والنصف في سنتين، والثلث في سنة، وما دون ذلك في عامه. وفي «مصنف عبد الرَّزَّاق» مثله، وفيه أيضاً: أخبرنا الثوري عن أَشْعَث، عن الشَّعْبِيّ: أنه جعل عمر الدِّية في الأَعْطِيَة في ثلاث سنين، والنصف والثلثين في سنتين، والثلث في سنة، وما دون الثلث فهو في عامه.

وأخرج ابن أبي شَيْبَة عن النَّخَعِيّ والحسن أنهما قالا: العقل على أهل الديوان. وقال الترمذي في كتابه: وقد أجمع أهل العلم على أن الدِّية تُؤْخذ في ثلاث سنين، في كل سنة ثلث الدية. وروى عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن عمر أنه جعل الدية في الأَعْطِيَة في ثلاث سنين: وفي لفظ: أنه قضى بالدية في ثلاث سنين، في كل سنة ثلث على أهل الديوان في أعطياتهم.

وأمّا قولهم: ولا نسخ بعده عليه الصلاة والسلام فمسلَّمٌ، إلاّ أن هذا ليس بنسخٍ، بل هو تقدير معنىً، لأن العقل على أهل النُّصرة، وكانت النُّصرة بأنواعٍ: بالقرابة، وبالحِلْفِ أي العهد، وبولاء العَتَاقة، وبالعدّ، وهو: أن يُعَدّ في القوم ولا يكون منهم. وفي عهد عمر صارت بالديوان، فجعله على أهله اتباعاً للمعنى. ولهذا قالوا: لو كان اليوم قوم يتناصرون بالحِرَف، كانت عاقلتهم أهلَ حرفتهم، ولو كان بالحِلْف فعاقلتهم حلفاؤهم.

وتوضيحه: أن إجماع الصحابة لم يكن على خلاف ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بل على وِفَاق ما قضاه، فإنهم علموا أنه إنما قضى على العشيرة باعتبار النُّصرة، وقد كانت قوة المرء ونصرته يومئذٍ بعشيرته، ثم لمَّا دوّن عمر الدواوين صارت القوة والنصرة بالديوان، فلذا قَضَوا بالدية على أهل الديوان، لأن المعنى متى عُقِل في حكم الشرع، يتعدّى الحكم بذلك المعنى إلى الفرع.

ص: 396

وَحَيُّهُ لِمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، يُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ في ثَلَاثِ سِنِينَ ثَلَاثةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةٌ.

وَإِنْ لَمْ يَسْعَ الحَيُّ ضُمَّ إِلَيْهِ أَقْرَبُ الأَحْيَاءِ نَسَبًا: الأَقْرَبُ فَالأَقْرَب، وَالبَاقِي

===

(وَحَيُّهُ) أي والعاقلة حيّ القاتل أي قبيلته (لِمَنْ) أي للقاتل الذي (لَيْسَ مِنْهُمْ) أي من أهل الدِّيوان، لأن نصرته بحيّه وهي المعتبرة

(1)

في التَّعاقل، فصار حاله كحال مَنْ كان على عهده عليه الصلاة والسلام، (يُؤْخَذُ مِنْ كُلَ) أي من كلّ واحدٍ منهم ما عدا فقراءهم (في ثَلَاثِ سِنِينَ) لما روينا عن عمر (ثَلَاثةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةٌ) فلا يُزَاد الواحد في كل سنة على درهمٍ وثلت. وقال مالك وأحمد في روايةٍ: لا تقدير في أخذها بل يحملون ما يطيقون، لأن التقدير لا يثبت إلاّ بالتوقيف منه، ولا نصّ فيه، فيفوّض إلى رأي الحاكم كتقادير النفقات.

وقال الشافعي وأحمد ـ في روايةٍ ـ: يجب على الغني نصف دينارٍ، لأنه أقل ما قُدِّر في الزكاة، وعلى المتوسط ربع دينارٍ، لأن ما دون ذلك تافهٌ لا تُقْطَعُ اليد فيه. وقلنا: العقل صلة تجب على سبيل المواساة كالنفقة، فيستوي فيه الغني والمتوسط.

ثمَّ ابتداءُ الثلاث سنين من وقت القضاء عندنا. وقال مالك والشافعيّ وأحمد: من وقت القتل، لأنه سبب الوجوب. ولنا: أن الواجب الأصلي المِثْل، والتحوّل إلى القيمة بالقضاء، فيُعْتبرُ ابتداؤها من وقته، كولد المغرور تعتبر قيمته من وقت القضاء لا قبله. وإذا كان الواجب ثلث الدية أو أقل منه يجب في سنة واحدة، وإذا كان أكثر من الثلث إلى تمام الثلثين يجب في سنتين، وإذا كان أكثر من الثلثين إلى تمام الدية يجب في ثلاث سنين، لأن جميع الدية في ثلاث سنين، فيكون كل ثلث في سنة. ولا فرق عندنا في تأجيل الدية بثلاث سنين بين الواجب على العاقلة والواجب على القاتل في ماله. وقال مالك، والشافعيّ وأحمد: ما وجب في مال القاتل فهو حالٌّ، وذلك مثل الأب إذا قتل ابنه عمداً، أو انقلب القِصاص بالشبهة مالاً.

(وَإِنْ لَمْ يَسْعَ الحَيُّ) لأخذ الدِّية منهم في ثلاث سنين: كل سنة درهمٍ أو درهم وثلث، (ضُمَّ إِلَيْهِ أَقْرَبُ الأَحْيَاءِ نَسَباً) تحقيقاً للتخفيف وتفادياً

(2)

عن الإجحاف (الأَقْرَبُ فَالأَقْرَب) على ترتيب العَصَبَات، يقدّم الأخوة ثم بنوهم، ثم الأعمام ثم بنوهم (وَالبَاقِي) من الدِّيَة التي لم يسع الحيّ لها مع ضمّ أقرب الأحياء نسباً إليهم (عَلَى

(1)

في المطبوع: العشيرة، والمثبت من المخطوط.

(2)

في المطبوع: تقاربًا، والمثبت من المخطوط.

ص: 397

عَلَى الجَانِي. وَالقَاتِلُ كَأَحَدِهِمْ. وَلِلْمُعْتَقِ حَيُّ سَيِّدِهِ. وَلِمَوْلَى المُوَالَاةِ مَوْلَاهُ وَحَيُّهُ. وَالْمُعْتَبَرُ في العَجَمِ أَهْلُ النُّصْرَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِالحِرْفَةِ أَوْ غَيْرِهَا.

وَمَنْ لَا عَاقِلَة لَهُ يُعْطَى مِنْ بَيْتِ المَالِ، إنْ كَانَ، وَإِلاَّ فَعَلَى الجَانِي.

وَتَتَحَمَّلُ العَاقِلَةُ مَا يَجِبُ بِنَفْسِ القَتْلِ، لَا مَا يَجِبُ بِصُلْحٍ وَإقْرَارٍ لَمْ تُصَدِّقْهُ العَاقِلَة،

===

الجَانِي) لأن أصل الوجوب عليه، وإنما تحوّل عنه إلى العاقلة للتخفيف (وَالقَاتِلُ) يدخل مع العاقلة فيكون فيما يؤَدِّي (كَأَحَدِهِمْ) لأنه الجاني، فلا معنى لإخراجه ومؤاخذة غيره. وقال مالك ـ في غير المشهور ـ والشافعي وأحمد: لا يجب على القاتل شيءٌ من الدية.

(وَ) العاقلة (لِلْمُعْتَقِ حَيُّ سَيِّدِهِ) لأن نصرته بهم (وَ) العاقلة (لِمَوْلَى المُوَالَاةِ) وهو مولى الحِلْف (مَوْلَاهُ وَحَيُّهُ) أي حيّ مولاه، لأنه ولاءٌ يتناصر به، فأشبه ولاء العتاقة، وفيه خلاف الشافعي وأحمد وقد مرّ في الوَلاءِ.

(وَالْمُعْتَبَرُ في العَجَمِ أَهْلُ النُّصْرَةِ) منهم (سَوَاءٌ كَانَتْ بِالحِرْفَةِ أَوْ غَيْرِهَا) أفتى أبو اللَّيث، وأبو جعفر الهِنْدُوَاني، وظهير الدين المَرْغِينَانِي: أنه لا عاقلة للعَجَم، لأنهم ضيّعوا أنسابهم ولا يتناصرون فيما بينهم. وأكثر المشايخ قالوا: لِلْعَجَم عاقلة، لأنّ لهم عادة في التناصر، وبه كان يُفْتِي محمد بن سَلَمة وشمس الأئمة الحَلْوَانِي.

وقال: الإسْبِيجَابِي: أهل صناعة القاتل عاقلته وديوانه، ولكن بشرط أن يكونوا يتناصرون بها، وهو تفصيلٌ حسنٌ، واختاره كثير من المشايخ. وقد شاهدت أهل المحلّة والعَجَم يتناصرون كما في مكة المشرّفة حال المنازعة بين أهل المَعْلاة

(1)

وأهل الشَّبَكَة. وقد قالوا: لا يعقل أهل مصر آخر، ويعقل أهل كلّ مصر عن أهل سوادهم، لأنهم أتباع لأهل مصرهم.

(وَمَنْ لَا عَاقِلَة لَهُ) من المسلمين بأن كان لقيطاً أو نحوه كالغريب (يُعْطَى) عنه (مِنْ بَيْتِ المَالِ إنْ كَانَ) للمسلمين بيت مال (وَإِلاَّ) أي وإن لم يكن للمسلمين بيت مال (فَعَلَى الجَانِي) كحدّ السَّرقة والقذف والقصاص (وَتَتَحَمَّلُ العَاقِلَةُ مَا) أي المال الذي (يَجِبُ بِنَفْسِ القَتْلِ) وهو دية شِبْه العمد والخطأ (لَا مَا يَجِبُ بِصُلْحٍ) أي لا تتحمّل العاقلة المال الذي يجب بسبب صلحٍ عن قتل عمدٍ.

(وَ) الذي يجب بسبب (إِقْرَارٍ) من الجاني (لَمْ تُصَدِّقْهُ العَاقِلَة) عليه، لأن

(1)

في المخطوط والمطبوع: "المعلى"، والمثبت من معجم البلدان 5/ 158.

ص: 398

أَوْ عَمْدٍ سَقَطَ قَوَدُهُ بِشُبْهَةٍ، أَوْ قَتْلِهِ ابنَهِ عَمدًا، وَلَا جِنَايَةَ عَبْدٍ، أوْ عَمْدٍ، أَوْ مَا دُونَ أَرْشِ مُوضِحَةٍ، بَلْ الجَانِي.

===

الإقرار والصلح لا يلزمان العاقلة لقصور ولايتهم عنهم إلاّ أن يصدّقوه في الإِقرار، لأن تصديقهم إقرارٌ منهم، والامتناع كان لحقّهم وقد زال، أو أن تقوم البيّنة، لأنها مثبتة وتقبل هنا مع الإقرار وإن كانت لا تُعْتَبر معه، لأنها تُثْبِتُ ما ليس بثابت بإِقرار المدَّعى عليه، وهو الوجوب على العاقلة. ولو أقرّ بقتلٍ خطإٍ، ولم يرتفعوا إلى القاضي إلاّ بعد سنين قضى عليه بالدية في ماله في ثلاث سنين من يوم يَقْضِي. وقال مالك والشافعي وأحمد: حالاً. لنا: أن التأجيل من وقت القضاء في الثابت بالبيّنة، ففي الثابت بالإقرار أولى، لأنه أضعف.

(أَوْ) الذي يجب بسبب قتل (عَمْدٍ سَقَطَ قَوَدُهُ بِشُبْهَةٍ) وكذا إذا عفا بعض الأولياء (أَوْ) الذي يجب بسبب (قَتْلِهِ ابْنَهُ عَمداً، وَلَا) تتحمل العاقلة (جِنَايَةَ عَبْدٍ، أوْ عَمْدٍ، أَوْ مَا دُونَ أَرْشِ مُوضِحَةٍ، بَلْ) يتحملها (الجَانِي). أخرج البيهقي عن الشعبيّ، عن عمر قال: العمد والعبد والصلح والاعتراف لا يعقله العاقلة. وروى ابن أبي شَيْبَة في «مصنفه» عن النَّخَعِيّ أنه قال: لا تعقل العاقلة ما دون المُوضِحَة، ولا تعقل العمد ولا الصلح ولا الاعتراف.

وأخرج عبد الرَّزَّاق في «مصنفه» عن الشَّعْبي أنه قال: أربعة ليس فيهن عَقْلٌ على العاقلة، وإنما هي في ماله خاصة: العمد والاعتراف والصلح والمملوك. وروى البَيْهقي عن الشعبيّ أنه قال: لا تعقل العاقلة عمداً، ولا عبداً، ولا صلحاً، ولا اعترافاً.

ورواه أبو عُبَيْد القاسم بن سلاَّم في آخر كتابه «غريب الحديث» ، كذلك من قول الشَّعْبِي، ثم قال: واختلفوا في تأويل العبد: فقال محمد بن الحسن: معناه أن يقتل العبد حراً، فليس على عاقلة مولاه شيءٌ من جنايته، وإنما هي في رقبته، واحتجَّ لذلك محمد بن الحسن فقال: حدّثني عبد الرحمن بن أبي الزِّنَاد، عن أبيه، عن عُبَيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: لا تعقل العاقلة: عمداً، ولا صلحاً، ولا اعترافاً، ولا ما جنى المملوك. ألا ترى أنه جعل الجناية للمملوك. قال: وهذا قول أبي حنيفة. وقال ابن أبي ليلى: إنما معناه أن يكون العبد يُجْنَى عليه: يقتله حرّاً ويجرحه، فليس على عاقلة الجاني شيءٌ، إنما ثمنه في ماله خاصة.

قال أبو عُبَيْد: فذاكرت الأصْمَعِي فيه فقال: القول عندي ما قال ابن أبي ليلى،

ص: 399

‌كِتَابُ الإكْرَاهِ

هُوَ فِعْلٌ يُوقِعُهُ بِغَيْرِهِ فَيَفُوتُ رِضَاهُ، أوْ يَفْسُدُ به اخْتيَارُهُ، مَعَ بَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ.

وَشُرِطَ قُدْرَةُ الحَامِلِ لَهُ عَلَى إِيقَاعِ مَا هَدَّدَ بِهِ، سُلْطَانًا كَانَ أوْ لِصًّا. وَخَوْفُ الفَاعِلِ إِيقَاعَه، وَكَوْنُ المُكْرَهُ بِهِ مُتْلِفًا نَفْسًا أَوْ عُضْوًا. وَهُوَ

===

وعليه كلام العرب. ولو كان المعنى على ما قال أبو حنيفة لكان لا تعقل العاقلة عن عبدٍ، ولم يكن ولا تعقل عبداً. انتهى. وقد أجبنا عنه فيما سبق بما هو أحقّ. وقال الشارح هنا على سبيل التنزل: إن كون القول عند الأصمعي ما قال ابن أبي ليلى نظراً إلى مجرد لفظ هذا الحديث، لا ينافي أن يكون القول ما قال أبو حنيفة نظراً إلى ما رواه محمد عن ابن عباس جمعاً بين الأحاديث، والله تعالى أعلم بالصواب.

كتاب الإِكْرَاهِ

(هُوَ) لغةً: مصدر أَكْرَهَهُ إذا حمَله على أمرٍ يكرهه (طبعاً)

(1)

.

وشرعاً: (فِعْلٌ) من تهديدٍ وتخويفٍ بضربٍ ونحوه (يُوقِعُهُ) المرء (بِغَيْرِهِ) على إيجاد ما يكرهه طبعاً أو شرعاً (فَيَفُوتُ) به (رِضَاهُ أوْ يَفْسُدُ (به)

(2)

اخْتِيَارُهُ مَعَ بَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ) للتكليف وعدم سقوط الخطاب عنه، لأن المكره مُبْتَلَى، والابتلاء يحقّق الخطاب، ألا ترى أنه متردّد بين فرضٍ وحظرٍ ورخصةٍ، وبين إثمٍ وأجرٍ، وذلك آية الخطاب.

(وَشُرِطَ) في تحقّق الإكراه أمورٌ منها (قُدْرَةُ الحَامِلِ لَهُ عَلَى إِيقَاعِ مَا هَدَّدَ بِهِ، سُلْطَاناً كَانَ أوْ لِصّاً) وقال أبو حنيفة: إن الإكراه لا يكون إلاّ من السلطان. قالوا: هو اختلاف عصرٍ وزمانٍ، لا اختلاف حُجَّةٍ وبرهان، لأن زمان أبي حنيفة لم يكن فيه لغير السلطان من القدرة ما يتحقَّق به الإكراه، وزمانهما كان فيه ذلك.

(وَ) منها (خَوْفُ الفَاعِلِ) وهو المكرَه بفتح الراء (إِيقَاعَه) أي أيقاع الحامل ما أَكْرَه به، بأن يغلب على ظنه أن يُوقِعَه به عليه في الحال. (وَ) منها (كَوْنُ المُكْرَهُ بِهِ مُتْلِفاً نَفْساً) سواء كان قتلاً أو ضرباً (أَوْ) مُتْلِفاً (عُضْواً) قطعاً كان أو غيره (وَهُوَ) أي

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

ص: 400

المُلْجِئ، أو مُوجِبًا لِمَا يُعْدِمُ الرِّضا، وَالفَاعِلُ مُمْتَنِعًا مِمّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ قَبْلَهُ: لِحَقِّهِ،

أَوْ آخَرَ، أَوْ الشَّرْع. فَلَوْ أُكْرِهَ بِالمُلْجِئ أوْ غَيْرِهِ عَلَى بَيْعٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ إِقْرَارٍ، إِنْ

شَاءَ فَسَخَ أَوْ أَمْضَى. وَيَمْلِكُهُ المُشْتَرِي إنْ قَبَضَ،

===

متلف النفس أو العضو الإكراه (المُلْجِاء

(1)

أو مُوجِباً) عطفٌ على متلفاً أي: أو كون المُكْرَه به محصِّلاً (لِمَا يُعْدِمُ الرِّضا). وفي شرح «الوقاية» : إن هذا يختلف باختلاف الناس، فإن الأراذل (ربَّما)

(2)

لا يغتمُّون بالضرب أو الحبس: فالضرب اللَّيِّن لا يكون إكراهاً في حقّهم بل الضرب المُبَرّح، وكذا الحبس إلاّ أن يكون حبساً مؤبّداً يتضجر منه. والأشراف يغتمُّون بكلامٍ فيه خشونة، فمثل هذا يكون إكراهاً لهم.

(وَ) منها كون (الفَاعِلِ مُمْتَنِعاً مِمّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ) من الفعل (قَبْلَهُ) أي قبل الإكراه (لِحَقِّهِ) أي لحقّ الفاعل، كإكراهه على بيع ماله أو إتلافه، أو إعتاق عبده، (أَوْ) لحقّ شخصٍ (آخَرَ) كإكراهه على إتلاف مال غيره (أَوْ) لحقّ (الشَّرْع) كإكراهه على شرب الخمر أو الزنا.

(فَلَوْ أُكْرِهَ بِالمُلْجِاء أوْ غَيْرِهِ عَلَى بَيْعٍ) لماله (وَنَحْوِهِ) من الشراء بماله والإجارة لداره (أَوْ) على (إِقْرَارٍ) مثل أن يقرّ لرجلٍ بألفٍ ففعل ما أُكْرِه عليه، فهو بالخيار (إِنْ شَاءَ فَسَخَ أَوْ) شاء (أَمْضَى) أمّا البيع ونحوه، فلفوات شرط صحته وهو الرضا. وأمّا الإقرار، فلأنه خبرٌ يحتمل الصدق والكذب، ودليل أَنَّه كذبٌ موجودٌ هنا، وهو الإكراه. والأصل عندنا أن تصرُّفات المُكْرَه كلّها منعقدة قولاً، إلاّ أن ما يحتمل الفسخ منها كالبيع والإجارة له أن يفسخه، وما لا يحتمله كالطلاق والنِّكاح والإعتاق والتدبير والاستيلاد والنذز يلزمه. وعند مالك والشافعي وأحمد: لا يلزمه.

(وَ) إذا كان البيع والتسليم كُرْهاً (يَمْلِكُهُ) أي المبيع (المُشْتَرِي إنْ قَبَضَ) المشتري المبيع، لأن بيع المكرَه فاسد، وذلك أن ما هو ركن العقد لم ينعدم بالإكراه، وهو الإيجاب والقبول في محله، وإنما انعدام ما هو شرط الجواز، وهو الرضاء لقوله تعالى:{إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}

(3)

، وتأثير (انعدام)

(4)

(1)

أَي المفسد للاختيار.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المخطوط.

(3)

سورة النساء، الآية:(29).

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المخطوط.

ص: 401

فَيَصِحُّ إِعْتَاقُهُ، وَلَزِمَهُ قِيمَتُهُ.

فَإِنْ قَبَضَ ثَمَنَهُ أَوْ سَلَّمَ طَوْعًا نَفَذَ. وَحَلَّ بالمُلْجِئِ شُرْبُ الخَمْرِ وأَكْلُ المَيْتَةِ، حَتَّى إنْ صَبَرَ أَثِمَ.

===

شرط الجواز في إفساد العقد كما في الرِّبا، فإنّ المساواة في الأموال الرِّبَوِية شرط جواز العقد، فإذا انعدمت كان العقد فاسداً. وعندنا في البيع الفاسد يملك المشتري المبيع بالقبض. وعند مالك والشافعي وأحمد: لا يملك. (فَيَصِحُّ) للمشتري بعد قبضه (إِعْتَاقُهُ) وتدبيره واستيلاد الأمة (وَلَزِمَهُ) أي المشتري (قِيمَتُهُ) كما في سائر البيوع الفاسدة.

(فَإِنْ قَبَضَ) المُكْرَهُ على البيع (ثَمَنَهُ) طوعاً (أَوْ سَلَّمَ) المبيع للمشتري (طَوْعاً) بأَنْ أُكْرِهَ على البيع لا على التسليم (نَفَذَ) البيع في المسألتين، لأن قبض الثمن طوعاً دليلُ الإجازة، كما في البيع الموقوف إذا قبض المالك الثمن، وكذا تسليم المبيع من غير كره دليل الإجازة.

قيّد بالطوع وهو للمسألتين، لأنّ البائع لو قبض الثمن كَرْهاً

(1)

لم يكن قبضه إجازة، وعليه ردّه إن كان قائماً في يده لفساد العقد بالإكراه، وإن كان هالكاً لا يأخذ المشتري منه شيئاً، لأنه كان أمانة عنده، لأنه أخذه بإذن المشتري، والقبض متى كان بإذن المالك لا يجب ضمانه إلاّ إذا قبضه للتملك، وهنا لم يقبضه لذلك بل للإكراه.

(وَحَلَّ بالمُلْجِاءِ) وهو القتل أو القطع ـ ولو أُنملة ـ أو ضَرْبٍ يخاف منه على نفسه أو عضوٍ من أعضائه (شُرْبُ الخَمْرِ وأَكْلُ المَيْتَةِ) ونحوه، أي نحو أكل الميتة، وهو أكل لحم الخنزير وأكل الدّم، لأن الله تعالى استثنى الضرورة من التحريم بقوله:{إلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}

(2)

وفي الإكراه الملجاء ضرورة، فصارت هذه الأشياء (المحرَّمة)

(3)

كباقي الأطعمة المباحة. (حَتَّى إنْ) لم يفعل وَ (صَبَرَ) على القتل أو قطع العضو (أَثِمَ).

وعن أبي يوسف، وهو قول للشافعيّ، وروايةٌ عن أحمد: لا يأثم، وكذا من إصابته مَخْمَصَة

(4)

فلم يتناول من الميتة حتى مات أثم في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف لا يأثم. والأصل عنده: أَنَّ الإثم ينتفي بالضرورة، والحرمة لا تنتفي بها، أما

(1)

الكرْهُ: بالفتح: الإكراه، وبالضم: المَشَقَّة. مختار الصحاح، ص 237، مادة (كره).

(2)

سورة الأنعام، الآية:(119).

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المخطوط.

(4)

المَخْمَصَةُ: المجاعة. المعجم الوسيط ص 256، مادة (خمص).

ص: 402

وَرُخِّصَ بِهِ إِظْهَارُ الكُفْرِ مطمئنَّاً بالإِيمَانِ قَلْبُهُ. وَبِالصَّبْرِ أَجْرٌ

===

الأْولَى فلقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثمَ عَلَيْهِ}

(1)

، وقوله:{فَمَنْ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

(2)

. وأما الثانية، فلأن الحرمة متعلّقة بصفة الميتة أو الخمر، وبالضرورة لا يزول ذلك، فإذا امتنع المضطرّ كان امتناعه من تناول الحرمة فلا يأثم، لأنه متمسك بالعزيمة.

ووجه الظاهر أن حالة الاضطرار مستثناة من الحرمة، قال الله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}

(3)

والمستثنى من الحرام حلال، ومن امتنع عن الطعام الحلال حتَّى هلك يكون آثماً، وأمّا لو فعل ما ذكر من غير ملجاء: بأَن يكون بضربٍ أو حبسٍ أو قيدٍ، فلم يحِلّ.

(وَرُخِّصَ بِهِ) أي بالملجاء (إِظْهَارُ الكُفْرِ مطمئناً بالإِيمَانِ قَلْبُهُ) أي قلب المظهر، لقوله تعالى:{مَنْ كَفَر باللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بالإِيمَانِ}

(4)

الآية. ولِمَا روى الحاكم في «المستدرك» في تفسير سورة النحل عن أبي عُبَيْدة بن محمد بن عمَّار بن ياسر ـ وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين ـ أَنْ المشركين أخذوا عمَّار بن ياسر فلم يتركوه حتّى سبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه. فلمّا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:«ما وراءك» ؟ قال: شرٌّ يا رسول الله، ما تُركْتُ حتّى نِلْتُ منك، وذكرت آلهتهم بخير. قال:«فكيف تجد قلبك» ؟ قال: مطمئناً بالإيمان. قال: «فإن عَادُوا فَعُدْ» . ورواه أبو نُعَيْم في «الحلية» ، وعبد الرَّزَّاق في «مصنفه» ، وفيه نزل قوله تعالى:{إلاّ مَنْ أُكْرِه وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بالإيمَانِ}

الآية.

(وَبِالصَّبْرِ أَجْرٌ) أي وإن لم يُظْهِر الكفر وصبر على ما أُكْرِه من قتلٍ أو قطعٍ أُثِيبَ، لأن الحرمة لمّا كانت باقية، كان باذلاً نفسه لإِعزاز الدين تمسّكاً بالعزيمة، فكان شهيداً. ولِمَا رُوِيَ أن مُسَيْلَمة الكذّاب أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنت أيضاً، فخلاّه. وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنا أصمّ، فأعاد عليه ثلاثاً، فأعاد جوابه فقتله، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أما الأوّل فقد

(1)

سورة البقرة، الآية:(173).

(2)

سورة المائدة، الآية:(3).

(3)

سورة الأنعام، الآية:(119).

(4)

سورة النحل، الآية:(106).

ص: 403

وَإتْلَافُ مَالِ مَسْلِمٍ، وَضَمِنَ الحَامِلُ لَا قَتْلُهُ،

===

أخذ برخصة (الله تعالى)

(1)

، وأمّا الثَّاني فقد صدع بالحقّ فهنيئاً له». وما في «صحيح البخاري» من صَبْر حُبَيْب على القتل، وقوله حين عزموا على قتله:

*ولَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ** على أيِّ شِقٍ كَانَ للَّهِ مَصْرَعي

*وذَلِكَ في ذَاتِ الإلَهِ وإنْ يَشَأْ ** يُبَارِك عَلَى أَوْصَال (شِلوٍ)

(2)

ممزّع

أي أعضاء جسدٍ مقطّع، وهو خُبَيْب بن عَدِيّ الأنصاري، حضر بدراً وأُسِرَ في غزوة الرَّجِيع سنة ثلاث، فانْطُلِقَ به إلى مكة فاشتراه بنو الحارث بن عامر، وكان خُبَيْب قد قتل الحارث يوم بدرٍ كافراً، فاشتراه بنوه فأقام عندهم أسيراً، ثُمَّ صلبوه بالتَّنْعِيم، وهو أول من صُلِبَ من أهل الإسلام، ولمّا خرجوا به من الحَرَم ليقتلوه قال: دَعُوني أُصلّي ركعتين، ثم أنشأ البيتين.

(وَ) رُخِّصَ بالملجاء (إتْلَافُ مَالِ مَسْلِمٍ) لأن مال الغير يُسْتَبَاح للضرورة، كما في حال المَخْمَصة، وقد تحقَّقت الضرورة هنا. ولو صبر حتّى قُتل كان شهيداً، لأنه بذل نفسه لإِعزاز الدين، لأن الحرمة باقية، فالامتناع عزيمة.

(وَضَمِنَ الحَامِلُ) لصاحب المال، لأن المُكرَه آلة للحامل فيما يصلح آلة، وهو الإتلاف، فكان الحامل هو المُتْلِف لهذا المال. (لَا قَتْلُهُ) أي لا يُرَخَّص قتل المسلم بالإكراه الملجاء على قتله، لأن قتل المسلم لا يُبَاح للضرورة، فكذا للإكراه. ولأن دليل الرُّخصة خوف التلف، والمكرِه والمكرَه عليه في ذلك سواء. فسقط الكره للتعارض.

ولو قال: لَتَقْطَعَنَّ يد نفسك أو لأقْطَعَنَّها أنا، لم يسعه قطعها، لأنه في الجانبين عليه ضرر قطع اليد، وإذا امتنع صارت يده مقطوعةً بفعل المكرِه، وإذا أقدم عليه صارت مقطوعةً بفعل نفسه، وهو يتيقّن بما يفعله بنفسه، ولا يتيقّن بما هدَّده به المكرِه، إذ ربّما يخوّفه بما لا يحقّقه، فلهذا لا يسعه قطعها، ولو قطعها لم يكن على الذي أكرهه شيءٌ.

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع. وهي صحيحة لموافقتها لما في صحيح البخاري (فتح الباري) 7/ 389 - 379، كتاب المغازي (64)، باب غزوة الرجيع (28)، رقم (4086).

الأوصال: جمع وصل وهو العضو، والشِلو: الجسد، فيصبح المعنى: أَعضاء جسد يقطع. فتح الباري 7/ 384.

ص: 404

وَيُقَادُ هُوَ فَقَطْ.

===

وكذا لو قال له: لتقتلنَّ نفسك بهذا السيف، أو لأقتلنّك (به، لم يكن هذا إكراهاً لما قلنا. ولو قال: لتقتلنّ نفسك بهذا السيف، أو لأقتلنَّك)

(1)

بالسياط، أو ذكر (له)

(2)

نوعاً من القتل هو أشدّ عليه ممّا أمره أن يفعله بنفسه، فقتل نفسه قُتِلَ به الذي أكرهه، لأن الإكراه تحقّق هنا، فإنه قصد بالإقدام على ما طلب منه دفع ما هو أشدّ عليه، إذ القتل بالسياط أفحش وأشدُّ على البدن من القتل بالسيف، لأن القتل به يكون لحظة، وبالسياط يطول ويتوالى الألم. وإليه أَشار حُذَيْفَة حيث قال: فتنة السوط أشدّ من فتنة السيف.

(وَيُقَادُ هُوَ) أي الحامل إن كان القتل عمداً (فَقَطْ) أي ولا يُقَاد الفاعل معه ولا وحده، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال مالك والشّافعيّ وأحمد: يُقَادان، لأن الفاعل قاتل حقيقةً والحامل متسبِّبٌ، والمتسبِّب عندهم في القَوَد كالمباشر، كما في شهود القصاص إذا رجعوا. وقال زُفَر: يُقَاد الفاعل فقط، وقال أبو يوسف: لا يُقَاد واحدٌ منهما، لأن الفاعل قاتلٌ حقيقةً لا حُكْماً، والحامل بالعكس، فتمكَّنت الشبهة من الجانبين.

ولو أُكْرِه على تردَ من جبلٍ عالٍ، أو على اقتحام نارٍ مضطرمةٍ

(3)

لا يرجو النجاة منها، أَوْ على طرح نفسه في ماءٍ مهلكٍ يقتل، له الصَّبْر والاقتحام عند أبي حنيفة، لأن من الناس مَنْ يختار ألم النار على ألم السيف، وصبَّره محمد ومنعه عن فعل ما أُمِرَ به، واضطرب قول أبي يوسف بين الصَّبر والاقتحام، وكذا الخلاف بينهم لو وقعت نارٌ في سفينةٍ: إن صبر احترق، وإن ألقى نفسه غرق.

وحكم الإكراه على التردّي المهلك، والإلقاء في الماء المُغْرِق، لزومُ الدِّية على المكرِه عند أبي حنيفة. وعند محمد: قتل الحامل على التردّي والإلقاء في الماء، كما يقتل الحامل على اقتحام النار بالقتل، ويوافق أبو يوسف محمداً في وجوب القَوَد في الصور الثَّلاث في الصحيح عنه، لأنه لمّا أُبِيحَ له الإقدام صار آلة للمكرِه. والدليل عليه: حديث زيد بن وَهْب قال: استعمل عمر بن الخطاب رجلاً على جيش فخرج نحو الجبل، فانتهى إلى نهر ليس عليه جسر في يومِ باردٍ، فقال أمير الجيش لرجل: انزل فابغ لنا مخاضة نجوز فيها، فقال الرجل: إني إِنْ دخلت الماء أموت، فأكرهه، فدخل الماء وقال: يا عمراه، ثم لم يلبث أن هلك،

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(3)

في المطبوع: مضطربة، والمثبت من المخطوط.

ص: 405

وَصَحَّ نِكَاحُهُ وَطَلَاقُهُ وَعِتْقُهُ، وَرَجَعَ بِقِيمَةِ العَبْدِ وَنِصْفِ المُسَمَّى، إنْ لَمْ يَطَأْ. وَنَذْرُهُ، وَيَمِينُهُ، وظِهَارُهُ،

===

فبلغ ذلك عمر وهو في سوق المدينة، فقال: يا لبيكاه يا لبيكاه، فبعث إلى الأمير فنزعه وقال: لولا أن يكون سنةً لأقَدْتُه منك، ثم غرَّمه الدِّية، وقال: لا تعمل لي عملاً أبداً.

فقال: إنما أمره الأمير بهذا على غير إرادة قتله، بل ليدخل الماء فينظر لهم مخاضة فضمَّنه عمر ديته، فكيف بمن أمره وهو يريد قتله بذلك. وفيه دليلٌ على أنه يجب القَوَد على المكرِه، وأنه يجب بغير سلاحٍ.

ومعنى قوله: (لولا)

(1)

أن يكون سنةً: يعني في حقّ من لا يقصد القتل، ويكون مخطئاً في ذلك. فهو تنصيصٌ على أنه إذا كان قاصداً قتله بما لَا يَلْبِسُه

(2)

، فإنه يستوجب القَوَد. وأبو حنيفة يقول: إنما قال عمر ذلك على سبيل التهديد، وقد يهدّد الإمام بما لا يتحقّق، ويتحرّز عنِ الكذب ببعض معاريض الكلام، والله تعالى أعلم بحقائق المرام.

(وَصَحَّ نِكَاحُهُ) أي نكاح من أُكْرِه على نكاح امرأةٍ (وَطَلَاقُهُ) أي طلاق من أُكْرِه على طلاق امرأةٍ (وَعِتْقُهُ) أي عتق من أُكْرِه على إعتاق عبده أو أمته، فإن هذه العقود تصحّ عندنا مع وجود الإكراه قياساً على صحتها مع وجود الهزل. وعند مالك والشّافعيّ وأحمد: لا تصحّ. (وَرَجَعَ) السيّد على الحامل له (بِقِيمَةِ العَبْدِ) سواء كان الحامل له مُوسِراً أو مُعْسِراً (وَنِصْفِ المُسَمَّى) أي ورجع المطلق على الحامل بنصف المسمّى (إنْ لَمْ يَطَأْ) قيّد به، لأنه لا يرجع في الموطوءة بشيء، لأن ما عليه في غير الموطوءة كان على شرف السقوط، بأن جاءت الفُرْقة من جانب المرأة، وإنما تقرّر بالطّلاق، فكان الإكراه عليه إتلافاً للمال من هذا الوجه، فانضاف إلى الحامل من حيث إِنه إتلافٌ، بخلاف ما إذا دخل بها، لأن المهر تقرّر بالدُّخول لا بالطَّلاق.

(وَ) صحّ (نَذْرُهُ) أي نذر من أُكْرِه على نذرٍ (وَيَمِينُهُ) أي حَلَف من أُكْرِه على حَلِفٍ على شيءٍ، لأن النذر واليمين لا يلحقهما الفسخ، وكلّ ما لا يلحقه الفسخ لا يؤثر فيه الإكراه. (و) صحَّ (ظِهَارُهُ

(3)

) أي ظهار من أُكْره على أن يُظَاهر من امرأته، حتّى لا يجوز له قربانها حتى يكفّر، لأنّ الظِّهَار من أسباب التحريم كالطَّلاق فيستوي

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المخطوط.

(2)

اللُّبْسُ: الشبهة وعدم الوضوح. المعجم الوسيط ص 813، مادة (لبس).

(3)

ظاهر امرأَته: قال لها: أَنتِ عليّ كظهر أَمي: أَي أَنتِ عليّ حِرام. المعجم الوسيط ص 578، مادة (ظهر).

ص: 406

ورَجْعَتُهُ، وإيلَاؤُهُ، وَفَيْؤُهُ فِيهِ، وإسْلَامُهُ بِلَا قَتْلٍ. لا إبْرَاؤُهُ ورِدَّتُهُ.

وَإنْ زَنَى حُدَّ إلَّا إذَا أَكْرَهَهُ سُلْطَانٌ.

===

فيه الجِدُّ والهزل، فكذا الكرْه والطَّوع.

(و) صحَّت (رَجْعَتُهُ) أي رجعة من راجع امرأة كُرْهاً، لأن الرَّجعة استدامة النِّكاح فكانت ملحقة به (و) صحَّ (إيلَاؤُهُ

(1)

) أي إيلاء من أُكره على الإيلاء، لأن الإيلاء يمين في الحال وطلاقٌ في المآل، والإكراه لا يمنع واحداً منهما. (وَ) صحّ (فَيْؤُهُ

(2)

) أي فيء من أُكْرِهَ على الفيء (فِيهِ) أي في الإيلاء، لأن الفيء يصحّ مع الهزل، فكذا مع الكَرْه، ولأنه كالرَّجعة في الاستدامة.

(و) صحّ (إسْلَامُهُ) أي إسلام من أسلم كُرْهاً (بِلَا قَتْلٍ) أي ولا يقتل لو رجع عن الإسلام بل يحبس، لأن الشبهة لمّا تمكّنت في إسلامه رجّحناه، لأن الإسلام يعلو ولا يُعْلَى عليه، ودرأنا عنه القتل في رجوعه لاحتمال عدم ردّته، (لا إبْرَاؤُهُ) أي لا يصحّ إبراء من أُكْرِه على إبراء شخص من دينٍ أو كفالةٍ. (و) لا تصحّ (رِدَّتُهُ) أي ردّة من أُكْرِه على الرِّدة حتّى لا تَبِين زوجتُه، لأن الردّة تتعلّق بالاعتقاد، بدليل أن من نوى أن يكفر يصير كافراً وإن لم يتكلم بالكفر، والإكراه دليلٌ على عدم تغيّر الاعتقاد. (وَإنْ زَنَى) من أُكْرِه على الزِّنا (حُدَّ إلاَّ إذَا أَكْرَهَهُ سُلْطَانٌ) وهذا عند أبي حنيفة، وعندهما لا يُحدُّ، وقد سبق التحقيق، والله تعالى وليّ التوفيق.

(1)

الإيلاء: حلف الزوج القادر على الوطء على ترك وطء منكوحته. معجم لغة الفقهاء ص 98.

(2)

فاء الرجل إِلى امرأَته: كفّر عن يمينه ورجع إِليها. المعجم الوسيط ص 707، مادة (فاء).

ص: 407

‌كِتَابُ الحَجْرِ

هُوَ مَنْعُ نَفَاذِ القَولِ. وَسَبَبُهُ: الصِغَرُ والجُنُونُ وَالرِّقُّ، وَضمِنُوا بِالْفِعْلِ،

===

كتاب الحَجْرِ

(هُوَ) ـ بالفتح ـ لغةً: المنع مطلقاً، ومنه سُمِّيَ العقل حِجْراً ـ بالكسر ـ، لقوله تعالى:{هَلْ في ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}

(1)

، وسُميَ به، لأنه يمنع صاحبه عن القبائح. وسُمِّي الحَطِيم حِجْراً، لأنه منع من بناء الكعبة.

وشرعاً: (مَنْعُ نَفَاذِ القَوْلِ) لا الفعل، لأن الحَجْر في الأمور الحكمية دون الحسية، ونفاذ القول حكميّ، لأنه يُرَدّ ويقبل، بخلاف نفاذ الفعل فإنه حسيٌ لا يُرَدّ إذا وقع، فلا يُتَصَوَّرُ الحَجْر فيه. فلو أتلف صبيٌّ أو مجنونٌ مال الغير يجِب الضمان، وسيجيء.

(وَسَبَبُهُ) أي الحَجْر (الصِغَرُ) لأن معه عدم العقل إن كان خالياً عن التمييز، ونقصانه إن كان مميّزاً إلاّ أن هذا التمييز ينجبر بإذن الوليّ ويصير الصِغَر به كالبلوغ، (والجُنُونُ) لأنه إمّا مع عدم العقل أصلاً وذلك فيمن لا يُفِيقُ صاحبه منه.

وحكمه: أن لا يصحّ تصرّف المُبْتَلى به وإن أجار وليّه لفقد أهلية التصرّف منه، وإما مع نقصان العقل وذلك فيمن يُجَنُّ مرَّةً ويُفِيقُ مرَّةً أخرى. وحكمه: أنه في حال الإفاقة كالعاقل. وأمّا المعتوه، وفُسِّرَ بالقليل الفهم المختلط الكلام الفاسد التدبير، إلاّ أنه لا يضرب ولا يشتم. فحكمه: أنه كالصبيّ العاقل في تصرُّفاته ورفع التكليف عنه.

(وَالرِّقُّ) لأن العبد وما في يده لمولاه، فلا ينفذ تصرُّفه القولي لأجل حقه فللمولى أن يرفعه بفسخه، ولكن إذا رضي بتصرّفه جاز لكونه رضي بفوات حقّه. والحِكمة في ذلك أن الله خلق الورى

(2)

وميّز بينهم في الحَجْر فجعل بينهم ذوي النُّهَى، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدُّجَى

(3)

، وجعل بعضهم مُبْتَلى ببعض أسباب الرَّدى.

(وَضَمِنُوا) أي الصغير والمجنون والعبد (بِالْفِعْلِ) أي بإتلاف مال الغير، لأن في ضمانهم إحياء لحقّ المتلف عليه في المحل المعصوم

(4)

، وهذا بالاتفاق. فإذا

(1)

سورة الفجر، الآية:(5).

(2)

الورى: الخَلْق. المعجم الوسيط ص 1028، مادة (ورى).

(3)

الدُّجى: سواد الليل وظلمته. المعجم الوسيط ص 272، مادة (دجا).

(4)

في المخطوط: المصون، والمثبت من المطبوع.

ص: 408

وَأُخِّرَ إلى العِتْقِ في الإقْرَارِ بِمَالٍ، وعُجِّلَ بَحَدٍّ وَقَود.

وَلَا يُحْجَرُ بِسَفَهٍ، وَفِسْقٍ، وَدَيْنٍ. وَحُجِرَ مُفْتٍ مَاجِنٌ، وَطَبِيبٌ جَاهِلٌ، وَمُكَارٍ مُفْلِسٌ

===

قتل إنساناً، أو قطع يده، أو أراق شيئاً لا يمكن جعل ما ذكر كالعدم، لأنه يؤدّي إلى إبطال العصمة، وهو قولٌ باطلٌ عند جمهور الأئمة، بخلاف الأقوال فإن اعتبارها بالشرع في جميع الأحوال، فأمكن أن لا تعتبر شرعاً بالنسبة إلى بعض دون بعض لعارضٍ.

(وَأُخِّرَ) العبد (إلى العِتْقِ في الإقْرَارِ بِمَالٍ) لأن إقرار العبد نافذٌ في حقّ نفسه، لقيام أهليته ـ لكونه مكلفاً ـ غير نافذٍ في حقّ سيده، لأن نفاذه في حقّه لا يخلو عن تعلّق الدين برقبته، أو كسبه، وكلاهما لسيده، فلا يستحقّ شيء منهما بإقراره، لأن إقرار الإنسان لا يُقْبَل على غيره. فإن أقرَّ العبد بمالٍ لم يلزمه في الحال لقيام المانع، ولزمه بعد الحرية لانتفائه.

(وعُجِّلَ) في الإقرار (بَحَدَ وَقَودٍ) لأن العبد فيهما مبقّى على أصل الحرية، لأنهما من خواص الآدمية، وهو ليس بمملوكٍ من حيث إِنه آدميٌّ بل من حيث إِنه مالٌ، وإذا كان فيهما مُبَقَّى على أصل الحريّة نفذ إقراره بهما في الحال، لأنه أقرّ بما هو حقّه وبطل حقُّ المولى ضمناً، وفيه خلاف زُفَر.

(وَلَا يُحْجَرُ) عند أبي حنيفة على الحرّ العاقل البالغ (بِسَفَهٍ) وهو الإسراف في النفقة والتبذير لا لغرضٍ أو لغرضٍ لا يعتبره العقلاء من أهل الديانة، مثل: دفع المال إلى المغنين واللّعابين، وشراء الحمام الطيّارة بالثَّمن الغالي (وَفِسْقٍ) إذا كان الفاسق مصلِحاً لماله، وحَجَر عليه الشافعي، (وَدَيْنٍ) بفتح الدّالِ، لأنه حرٌّ مخاطَبٌ، فكان مطلق التصرُّف في ماله كالرشيد، كتزوّجه وطلاقه اتفاقاً. (وَحُجِرَ) عنده (مُفْتٍ مَاجِنٌ) وفُسِّرَ بالذي يُعَلّم الناس الحِيَل (وَطَبِيبٌ جَاهِلٌ، وَمُكَارٍ مُفْلِسٌ) وهو الذي يُكَاري على دابة للسفر ويأخذ الكراء ولا دابة له. وإنما رأى أبو حنيفة الحَجْر على هؤلاء دفعاً لضررهم عن الناس.

ولا يحجُر القاضي على المديون الذي خِيفَ منه إتلاف ماله بطريق الإقرار عند أبي حنيفة وإن طلب غرماؤه الحَجْر عليه، لأن فيه إهدار أقواله وإلحاقه بالبهائهم، فلا يجوز لدفع ضررٍ خاصٍ، بل يحبسه كما سيأتي. ويحْجر عند أبي يوسف ومحمد ومالك والشافعي وأحمد بالدين إذا طلب الغرماء من القاضي الحَجْر عليه، فيمنعه من البيع والتصرّف والإقرار نظراً للغرماء كيلا يضرّ بهم، ولِمَا روى الدَّارَقُطْنِيّ عن كعب

ص: 409

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

ابن مالك، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَجَر على مُعَاذ ماله في دين كان عليه. وعن عبد الرحمن بن كعب قال: كان مُعَاذ شاباً سخيّاً، وكان لا يمسك شيئاً. فلم يزل يداين حتّى أغرق ماله في الدين، فأتى غرماؤه النبيّ صلى الله عليه وسلم فكلَّموه، فباع صلى الله عليه وسلم ماله حتّى قام مُعَاذ بغير شيءٍ.

ولِقَوْل عمر بن الخطَّاب: «أيها الناس إياكم والدَّيْن، فإن أوله همٌّ وآخره حزنٌ. وإن أُسَيْفع جُهَيْنة قد رضي من دِينه وأمانته أن يُقَال: سَبَقَ الحاجَّ فادَّانَ مُعْرِضاً

(1)

فأصبح قد رِينَ به، إلاّ أني بائعٌ عليه ماله وقاسمٌ ثمنه بين غرمائه بالحصص، فمن كان له عليه دين فَلْيَغْدُ». فلم يُنْكِر عليه أحد من الصحابة، فكان هذا اتفاقاً منهم على أنه يُبَاع على المديون ماله. وقوله فادَّانَ مُعْرِضاً: أي استدان مُعْرِضاً: وهو الذي يعترض

(2)

الناس فيستدين ما وجد، ممّن وَجَد، مهما أمكنه، ولا يبالي ممّن تبعه. وقوله: رِيْنَ: أي غلب، يُقَال: رِين بالرجل رَيناً: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ومنه قوله تعالى:{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}

(3)

.

وأبو حنيفة استدلّ بقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}

(4)

، وبيع المال على المديون بغير رضاه ليس بتجارةٍ عن تراضٍ. وقال صلى الله عليه وسلم:«لا يحلّ مال امراءٍ مسلمِ إلا بطيب (نفسٍ منه»

(5)

. و)

(6)

نفسه لا تطيب ببيع القاضي ماله عليه، فلا ينبغي له أن يفعله لهذا الظاهر. والدليل عليه أنه يحبسه بالاتفاق. ولو جاز له بيع ماله لم يشتغل بحبسه، لِمَا فيه من الإضرار به وبالغرماء من تأخير وصول حقّهم إليهم. وتأَوَّل حديث مُعَاذ: أن النبي صلى الله عليه وسلم باع ماله بسؤاله، لأنه لم يكن في ماله وفاء (بِدَين)

(7)

، كقصة جابر في غرمائه

(8)

. وهذا لأنه عندهم يأمره القاضي أولاً ببيع ماله، فإذا امتنع منه يبيعه. ولا يظن

(1)

في المطبوع: مقرضًا، والمثبت من المخطوط. وهو الصواب انظر موطأ الإمام مالك 2/ 770، كتاب الوصية (37)، باب جامع القضاء وكراهيته (8)، رقم (8).

(2)

في المطبوع: يقرض، والمثبت من المخطوط.

(3)

سورة المطفّفين، الآية:(14).

(4)

سورة النساء، الآية:(29).

(5)

أخرجه الإمام أَحمد بن حنبل في مسنده 5/ 72.

(6)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(7)

ما بين الحاصرتين من المخطوط، وحُرِّفت في المطبوع إلى: بينة.

(8)

في المخطوط: تمر حائطه، والمثبت في المطبوع.

ص: 410

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

أنه كان يأبى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه ببيع ماله حتّى يحتاج أن يبيعه عليه بغير ضاه.

والمشهور في حديث أَسَيْفع أن عمر قال: إني قاسمٌ ماله بين غرمائه. فيُحْمَل على أنه كان من جنس الدين، وإن ثبت البيع فإنما كان ذلك برضاه. ألا ترى أن القاضي لا يبيعه عندهم إلاّ عند طلب الغرماء، ولم يُنْقَل أنهم طالبوه بذلك، وإنما المنقول أنه ابتدأهم بذلك وأمرهم أن يغدوا إليه، فدلّ أن ذلك كان برضاه.

ويُحْجَر عندهم أيضاً بالسَّفَه، لأن النظر للسفيه واجبٌ حقّاً لإسلامه.

ولو حجر عليه القاضي فرُفِعَ ذلك إلى قاضٍ آخر فرفع الحَجْر عنه جاز، لأن الحَجْر من الأول ليس بقضاءٍ بل فتوى، لأن القضاء لقطع الخصومة بين المتخاصمين بالقضاء لأحدهما على الآخر، ولم يوجد ذلك. وحَجَر محمد على السَّفِيه بمجرد حدوث سَفَهه، اعتباراً بالصِّبا بلا توقّفٍ على حجر القاضي، ووافقه أبو يوسف عليه واعتبره بالمديون، فلو باع شيئاً قبل حجر القاضي نفذ عنده.

والأصل لهما، قوله تعالى:{فَإنْ كَان الّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهاً أوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}

(1)

فهذا تنصيصٌ على إثبات الولاية على السفيه، ولا يكون ذلك إلاّ بعد الحجر عليه. وقال الله تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ} إلى أن قال {واكْسُوهُم}

(2)

، وهذا تنصيصٌ على إثبات الحجر عليه بطريق النظر له.

وقصة حِبَّان بن مُنْقِذ الأنصاري وغُبْنِةِ في البيّاعات، وسؤال أهله النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يحجر عليه، فلو لم يكن الحجر بسبب التبذير في المال مشروعاً، لَمَا سأل أهلُه النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيه. وقد طلب (عليّ)

(3)

من عثمان الحجر على عبد الله بن جعفر لمّا اشترى دار الضيافة بمئة ألفٍ، وخوف عبد الله من ذلك والتجاؤه إلى الزُّبَيْر، وشراء الزُّبَيْر منه نصفها بخمسين ألفاً احتيالاً منه لدفع الحجر (عنه)

(4)

، واعتذار عثمان بقوله: كيف أحجر على رجلٍ شريكه الزُّبَيْر؟. وإنما قال ذلك لأن الزُّبَيْر كان معروفاً بالكيَاسة في التجارة، فاستدل برغبته (في الشركة)

(5)

على أنه لا غبن في تصرّفه.

(1)

سورة البقرة، الآية:(282).

(2)

سورة النساء، الآية:(5).

(3)

في المخطوط: عيينة والمثبت في المطبوع.

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المخطوط.

(5)

ما بين الحاصرتين سقط من المخطوط.

ص: 411

وَإِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُسَلَّمْ إِلَيْهِ مَالُهُ حتى يَبْلُغ خمسًا وعِشْرِينَ سنةً، وصحَّ تَصَرُّفُهُ قَبْلَهُ، وَبَعْدَهُ يُسَلَّمُ بِلَا رُشْدٍ.

===

فهذا اتفاقٌ منهم على جواز الحَجْر بسبب التبذير. والمعنى فيه أنه مبذّرٌ في ماله، فيكون محجوراً عليه في أفعاله كالصبيّ بل أولى، لأنه إنما حجر عليه لتوهم التبذير منه وقد تحقّق هنا، فلأن يكون محجوراً عليه أولى. وإنما جاز تزوّجه وطلاقه وإعتاقه بدون إجازة القاضي، لأن كلّ كلام لا يؤثِّر الهزل فيه لا يؤثر السَّفَه فيه، لكن يبطل ما زاد على مهر المثل. هذا.

ويدفع القاضي إليه زكاة ماله، ويصرفها هو بحضرة أمينه لئلاّ يصرفها في غير مصارفها. وينفق عليه القاضي أو أمينه، لأنه لا حاجة فيها إلى نية، كذا على من يلزمه نفقته من ماله، لأن السَّفَه لا يبطل حقوق الناس، ولا يمنعه من حجة الإسلام، لأن الحجّ فرضٌ عليه إذا كان مستطيعاً، والسفيه كالمصلح في الفرائض، ولا مِنْ عمرةٍ واحدةٍ استحساناً، لأنه قيل بفرضيتها، فلا يمنع عنها احتياطاً، وتنفذ وصاياه في القُرَب من الثلث.

(وَإِذَا بَلَغَ) الصبيّ (غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُسَلَّمْ إِلَيْهِ مَالُهُ) عند أبي حنيفة (حتى يَبْلُغ خمساً وعشرين سنةً، وصحَّ)

عنده (تَصَرُّفُهُ) أي الذي بلغ رشيداً (قَبْلَهُ) أي قبل خمسٍ وعشرين سنةً (وَبَعْدَهُ) أي بعد الخمس والعشرين سنةً (يُسَلَّمُ) إليه ماله (بِلَا رُشْدٍ)، وعندهما وهو قول مالك والشافعي وأحمد: لا يُسَلَّم إليه ماله، ولا يجوز تصرّفه فيه حتى يُؤنس رشده، لقوله تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أمْوَالَكُمُ}

(1)

، وقوله تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمُ مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}

(2)

فإنه تعالى نهى عن الدفع إليه ما دام سفيهاً، وأمر بالدفع إليه إن وُجِدَ رشيداً، فلا يجوز الدفع إليه قبل الرشد. لأبي حنيفة قوله تعالى:{وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوالَهُمْ}

(3)

والمراد بعد البلوغ، وسُمُّوا يتامى لقربهم من اليُتْم.

فهو تنصيصٌ على (وجوب)

(4)

دفع المال بعد البلوغ، إلاّ أنه يمنع عنه ماله قبل هذه المدّة بالإجماع، ولا إِجماع هنا فيجب دفع المال بالنّص. ولأن أول أحوالِ البلوغ قد لا يفارقه السَفَه باعتبار أثر الصبا، فقدّرناه بخمسٍ وعشرين سنةً، لأنه وقتٌ يُتَصَوَّرُ أن يصير فيه جَدَّاً: بأن يبلغ اثني عشر سنةً، ويولد له لستة أشهر، ويبلغ ولده لاثني عشر سنةً ويولد له لستة أشهر. والمراد من الآية الأولى أموالنا لا أموالهم، والآية

(1)

سورة النساء، الآية:(5).

(2)

سورة النساء، الآية:(6).

(3)

سورة النساء، الآية:(2).

(4)

ما بين الحاصرتين سقط من المخطوط.

ص: 412

وَحَبَسَ القَاضِي المَدْيُونَ لِدَيْنِهِ، وَقَضَى دَرَاهِمَ دَيْنِهِ مِنْ دَرَاهِمِهِ، وَدَنَانِيرَهُ مِنْ دَنَانِيرِهِ، وَبَاعَ لِقَضَاءِ الآخَرِ،

===

الثانية مشتملة على التعليق بالشرط، وهو لا يوجب العدم عند عدم الشرط عندنا، على أن الشرط ـ رشد ـ نكرة. (فإذا)

(1)

صار الشرط في حكم الوجود بوجهٍ يوجب جزاءه.

وأول أحوال البلوغ مبدأ مفارقة السَفَه باعتبار الصبا وبقاء أثره كبقاء عينه، وإذا امتدّ الزمان فظهرت الخبرة والتجربة

(2)

لم يبق أثرُهُ وحدث ضَرْب من الرشد لا محالة، لأنه حالَ (كمالِ)

(3)

لُبّه، فقد رُوِيَ عن عمر أنه قال: ينتهي لبّ الرجل إذا بلغ خمساً وعشرين سنةً.

(وَحَبَسَ القَاضِي المَدْيُونَ) عند أبي حنيفة كغيره (لِدَيْنِهِ) أي ليقضي المديون ما عليه من الدين ببيع ماله أو بغيره، وإِنَّما يحبسه دفعاً لظّلمه بمطله

(4)

. ولا يكون هذا الحبس إكراهاً على بيعه، لأن المقصود منه حمل المديون على قضاء دينه بأي طريقٍ شاء في حقّه. (وَقَضَى) أي وَفَّى القاضي بلا أمر المديون (دَرَاهِمَ دَيْنِهِ مِنْ دَرَاهِمِهِ) أي دراهم المديون (وَ) قضى (دَنَانِيرَهُ) أي دنانير دين المديون (مِنْ دَنَانِيرِهِ) أي دنانير المديون، لأن الدائن لمّا كان له أن يأخذ دينه إذا ظفِر بجنس حقّه من غير رضاء المديون، كان للقاضي أن يعينه على ذلك، وصار هذا الفعل منه إعانةً للدائن على أخذ حقّه.

(وَبَاعَ) القاضي كُلاًّ من الدَّراهم والدنانير (لِقَضَاءِ الآخَرِ) فيبيع الدَّراهم لقضاء الدنانير وبالعكس، وهذا استحسانٌ، والقياس أن لا يبيع كالعُروض. ووجه الاستحسان: أنّ الدَّراهم والدنانير متَّحدان في الثمنية والمالية ـ ولذا يضمّ أحدهما إلى الآخر في الزكاة ـ مختلفان في الصورة حقيقةً ـ وهو ظاهر ـ وحكماً، لأن ربا الفضل لا يجري بينهما. فبالنظر إلى الاتحاد ثبت للقاضي ولاية التصرُّف، وبالنظر إلى الاختلاف لم يثبت للدائن الأخذ عند الظفر بأحدهما عملاً بالشبهين.

ويُقْسم ثمنه بين الغرماء بالحصص، ويُنفَق عليه وعلى من يلزمه نفقته من زوجته وأولاده الصغار وذوي الأرحام ممّا في يده، لأن حاجته الأصلية مقدّمة على حقّ الغرماء، ويُتْرَك له من ثياب بدنه دَسْت

(5)

، ويباع الباقي لوقوع الكفاية بالواحد،

(1)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(2)

في المطبوع: فالتجربة، وكما أَثبتناه من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.

(4)

المَطْلُ: تأَجيل موعد الوفاء بالدين مرة بعد الأخرى. المعجم الوسيط ص 876، مادة (مطل).

(5)

الدَّسْتُ: اللباس. المعجم الوسيط ص 282، مادة (دست).

ص: 413

لَا عَرْضَه وَلَا عَقَارَهُ. وَمَنْ أَفْلَسَ وَمَعَهُ عَرْضٌ شَرَاهُ، فَبَائِعُهُ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ.

وَبُلُوغُ الغَلَام: بالاحْتِلامِ، والإِحْبَالِ، والإنْزَالِ، وَالجَارِيَةِ: بالاحْتِلام، والحَيْض، والإنْزَالِ، والحَبَلِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ،

===

وهو مختار الحَلْوَاني. وقيل: يُتْرَك له دَسْتان لئلا يقعد في بيته مَلُوماً مَحْسُوراً إذا غسل ثيابه. وفي «الفتاوى الصغرى» : إذا كان له ثياب حسنة يمكنه الاكتفاء بما دونها تباع ويكتفي بالدون. (لَا عَرْضَه)

(1)

بسكون الراء (وَلَا عَقَارَهُ) أي لا يبيع القاضي عَرْض المديون ولا عقاره لقضاء دينه، لأَن البيع لا بدّ فيه من الرِّضاء من الجانبين، ولا رضا هنا من جانب المالك.

(وَمَنْ أَفْلَسَ وَمَعَهُ عَرْضٌ شَرَاهُ فَبَائِعُهُ أسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ) أراد من كون العَرْض معه أنه قبضه بإذن بائعه، واحترز به عمّن أفلس قبل قبض عرْضٍ شراه، فإن بائعه لا يكون أسوةً للغرماء، بل له أن يحبس العرْض حتّى يقبض الثمن، وعمّن أفلس بعد قبض العرْض بغير إذن بائعه، فإن لبائعه أن يستردّه ويحبسه بالثمن. وقال مالك والشافعيّ وأحمد: بائع العرض أحقّ به في حياة المشتري، وبعد مماته هو أحقّ به عند الشافعيّ فقط، لِمَا في الصحيحين عن أبي هُرَيْرَة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ أدرك مالَه بعينه عند رجلٍ قد أفلس، فهو أحقُّ به من غيره» .

وأول أحوال البلوغ مبدأ مفارقة السَفَه باعتبار الصبا وبقاء أثره كبقاء عينه، وإذا امتدّ الزمان فظهرت الخبرة والتجربة لم يبق أثرُهُ وحدث ضَرْب من الرشد لا محالة، لأنه حالَ (كمالِ) لُبّه، فقد رُوِيَ عن عمر أنه قال: ينتهي لبّ الرجل إذا بلغ خمساً وعشرين سنةً.

(وَحَبَسَ القَاضِي المَدْيُونَ) عند أبي حنيفة كغيره (لِدَيْنِهِ) أي ليقضي المديون ما عليه من الدين ببيع ماله أو بغيره، وإِنَّما يحبسه دفعاً لظّلمه بمطله. ولا يكون هذا الحبس إكراهاً على بيعه، لأن المقصود منه حمل المديون على قضاء دينه بأي طريقٍ شاء في حقّه. (وَقَضَى) أي وَفَّى القاضي بلا أمر المديون (دَرَاهِمَ دَيْنِهِ مِنْ دَرَاهِمِهِ) أي دراهم المديون (وَ) قضى (دَنَانِيرَهُ) أي دنانير دين المديون (مِنْ دَنَانِيرِهِ) أي دنانير المديون، لأن الدائن لمّا كان له أن يأخذ دينه إذا ظفِر بجنس حقّه من غير رضاء المديون، كان للقاضي أن يعينه على ذلك، وصار هذا الفعل منه إعانةً للدائن على أخذ حقّه.

(وَبَاعَ) القاضي كُلاًّ من الدَّراهم والدنانير (لِقَضَاءِ الآخَرِ) فيبيع الدَّراهم لقضاء الدنانير وبالعكس، وهذا استحسانٌ، والقياس أن لا يبيع كالعُروض. ووجه الاستحسان: أنّ الدَّراهم والدنانير متَّحدان في الثمنية والمالية ـ ولذا يضمّ أحدهما إلى الآخر في الزكاة ـ مختلفان في الصورة حقيقةً ـ وهو ظاهر ـ وحكماً، لأن ربا الفضل لا يجري بينهما. فبالنظر إلى الاتحاد ثبت للقاضي ولاية التصرُّف، وبالنظر إلى الاختلاف لم يثبت للدائن الأخذ عند الظفر بأحدهما عملاً بالشبهين.

ويُقْسم ثمنه بين الغرماء بالحصص، ويُنفَق عليه وعلى من يلزمه نفقته من زوجته وأولاده الصغار وذوي الأرحام ممّا في يده، لأن حاجته الأصلية مقدّمة على حقّ الغرماء، ويُتْرَك له من ثياب بدنه دَسْت، ويباع الباقي لوقوع الكفاية بالواحد، وهو مختار الحَلْوَاني. وقيل: يُتْرَك له دَسْتان لئلا يقعد في بيته مَلُوماً مَحْسُوراً إذا غسل ثيابه. وفي «الفتاوى الصغرى» : إذا كان له ثياب حسنة يمكنه الاكتفاء بما دونها تباع ويكتفي بالدون. (لَا عَرْضَه) بسكون الراء (وَلَا عَقَارَهُ) أي لا يبيع القاضي عَرْض المديون ولا عقاره لقضاء دينه، لأَن البيع لا بدّ فيه من الرِّضاء من الجانبين، ولا رضا هنا من جانب المالك.

(وَمَنْ أَفْلَسَ وَمَعَهُ عَرْضٌ شَرَاهُ فَبَائِعُهُ أسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ) أراد من كون العَرْض معه أنه قبضه بإذن بائعه، واحترز به عمّن أفلس قبل قبض عرْضٍ شراه، فإن بائعه لا يكون أسوةً للغرماء، بل له أن يحبس العرْض حتّى يقبض الثمن، وعمّن أفلس بعد قبض العرْض بغير إذن بائعه، فإن لبائعه أن يستردّه ويحبسه بالثمن. وقال مالك والشافعيّ وأحمد: بائع العرض أحقّ به في حياة المشتري، وبعد مماته هو أحقّ به عند الشافعيّ فقط، لِمَا في الصحيحين عن أبي هُرَيْرَة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ أدرك مالَه بعينه عند رجلٍ قد أفلس، فهو أحقُّ به من غيره» .

ولنا قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرةٍ}

(2)

، وذلك إن المشتري إذا أفلس استحقّ بهذا النصِّ النَّظِرة إلى الميسرة، فليس للبائع أن يطالبه قبلها، ولا فسخ بدون المطالبة بالثمن. والحديث محمولٌ على المغصوبات، والودائع، والرَّهن، والعوارِي، والإجارات.

(وَبُلُوغُ الغُلَام: بالاحْتِلامِ، والإِحْبَالِ، والإنْزَالِ، وَ) وبلوغ (الجَارِيَةِ: بالاحْتِلام، والحَيْض، والإنْزَالِ، (والحَبَلِ)

(3)

) والأصل هو الإنزال لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الحُلُمَ}

(4)

ولكون الحَبَل والإحْبَال لا يكونان إلاّ مع الإنزال، وكذا الحيض لا يكون عادةً إلاّ في وقت الحَبَل، والحَبَل لا يكون إلاّ من الإنزال، وهذا لأن البلوغ عبارة عن بلوغ الإنسان كمال الأحوال. (فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ) مِنْ ذلك فحتّى يتمّ له ثماني عشرة سنةً، وقيل: تسع عشرة سنة. ويتمّ لها سبع عشرة، وهذا عند أبي حنيفة،

(1)

العَرْض: المتاع. المعجم الوسيط ص 594، مادة (عرض).

(2)

سورة البقرة، الآية:(280).

(3)

ما بين الحاصرتين سقط من المخطوط.

(4)

سورة النور، الآية:(59).

ص: 414

فَحِينَ يَتِمُّ لَهُمَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبِهِ يُفْتَى.

مُدَّتُهُ لَهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَهَا تِسْعٌ، فَصُدِّقَا حِينئذٍ إِنْ أقرَّ بِهِ.

===

لأنه بلوغ أشدّ الصبا عند ابن عباس والقبتي، وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاّ بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}

(1)

. وقيل: اثنتان وعشرون سنةً، وقيل: خمسٌ وعشرون سنةً، وأقلّ ما قالوا ثماني عشرة سنةً، فوجب تعليق الحكم

(2)

عليه للاحتياط، ولأنه متَّفقٌ عليه. غير أن الجارية أسرع إدراكاً من الغلام فنقصنا في حقّها سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة، فربّما يوافق فصلٌ مزاجها.

وأمّا عند أبي يوسف ومحمد ومالك والشافعي وأحمد: (فَحِينَ يَتِمُّ لَهُما خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً) وهو رواية عن أبي حنيفة (وَبِهِ يُفْتَى) لأن ابن عمر عُرِض على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو ابن أربعَ عَشْرَة سنةً ولم يُجِزْهُ، وعُرِضَ عليه يوم الخندق وهو ابن خمسَ عشرةَ سنة فأجازه، ولأن بلوغهما لا يتأخّر عن الخمسَ عَشرَةَ عادةً، والعادة إحدى الحُجج الشرعية فيما لا نصّ فيه.

وأدْنَى (مُدَّتِه) أي مدة البلوغ بالاحتلام وغيره (لَهُ) أي حال كون المدّة للغلام (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَهَا) أي حال كون المدّة للجارية (تِسْعٌ) ولا يخفى أنّ ذلك لا يُعْرف إلاّ بسماعٍ أو تتبّعٍ. وفي «شرح مسلم» : ومن ظرف أحوال عبد الله بن عمرو بن العاص أَنّه ليس بينه وبين أبيه في الولادة إلاّ إحدى عشرةَ سنةً، وقيل: اثنتيْ عشرةَ سنة (فَصُدِّقَا حِينئذٍ إِنْ أقرَّ بِهِ) أي صدّق الغلام إن أقرّ بالبلوغ باحتلام أو نحوه في اثنتي عشرة سنة. وصدّقت الجارية إن أقرّت بذلك في تسع، لأن ما أقرّا به لا يُعْرف إلاّ من جهتهما، فَيُقْبَلُ فيه قولهما، كما يُقْبَلُ قول المرأة فيما لا يَطَّلِعُ عليه غيرها كالحيض.

(1)

سورة الأنعام، الآية. (152).

(2)

في المطبوع الحلم، والمثبت من المخطوط.

ص: 415

‌كِتَابُ المَأْذُونِ

الإذْنُ فَكُّ الحَجْرِ، وَإِسقَاطُ الحَقِّ، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ العَبْدُ لِنَفْسِهِ بَأَهْلِيَّتِهِ، فَلَمْ يَرْجِع بِالعُهْدَةِ عَلَى سيِّدِهِ.

وَلَوْ أَذِنَ يَوْمًا فَهُوَ مَأْذُونٌ إلَى أنْ يَحْجُرَ، وَلَوْ أَذِنَ فِي نَوْعٍ عَمَّ إِذْنُهُ.

وَيَثُبُتُ صَرِيحًا ودِلَالَةً، كَمَا إذا رآة سَيِّدُهُ يَبيعُ ويَشْتَرِي وَسَكَت،

===

كتاب

(1)

المَأْذُونِ

(2)

(الإذْنُ) لغةً: الإعلام.

وشرعاً ـ عندنا ـ: (فَكُّ الحَجْرِ، وَإِسْقَاطُ الحَقِّ) الثابت بالرِّقِّ ورَفْع المانع من التصرّف حكماً، وإثبات اليد للعبد في كَسْبه (ثُمَّ يَتَصَرَّفُ العَبْدُ لِنَفْسِهِ بَأَهْلِيَّتِهِ). وعند الشّافعيّ وأحمد وزُفَر: توكيلٌ وإنابةٌ (للعبد في كَسْبه)

(3)

، ثم يتصرّف ـ للمولى بإذنه ـ لأن المانع من التصرّف ـ وهو الرِّقّ ـ باقٍ بعد الإذن. فعندهم يصحّ التقييد حتّى لا يجوز للعبد أن يجاوز ذلك، كالوكيل.

ولنا أنه بعد الرِّقِّ أهلٌ للتصرّف بلسانه الناطق، وعقله المميِّز، وهما لا يفوتان بالرِّقّ، لأنهما من كرامات بني آدم، وإنما حُجِر عليه في حالة الرق، لأن تصرّفه حينئذٍ لم يعهد إلاّ موجِباً لتعلُّق الدَّيْن برقبته أو كسبه، وذلك ملك المولى، فلا بدّ من إذنه كيلا يبطُلَ حقُّه بغير رضاه، (فَلَمْ يَرْجِعْ بِالعُهْدَةِ

(4)

عَلَى سَيِّدِهِ) أي ولكونه يتصرّف بأهليته الأصلية لنفسه لا يرجع بما لَحِقَه من العُهْدَة على مولاه.

(وَلَوْ أَذِنَ) له سيِّده (يَوْماً فَهُوَ مَأْذُونٌ إلَى أنْ يَحْجُرَ) سيده عليه (وَلَوْ أَذِنَ) له (فِي نَوْعٍ) أو وقتٍ (عَمَّ إِذْنُهُ) لأن المانع حقّ المولى وقد أسقطه، والإسقاط لا يُقْبل التقييد، كالطلاق والعَتَاق. قيّد بالنوع، لأنه لو أذن له في شراء شيءٍ بعينه أو بيعه لا يكون مأذوناً، وإلاّ لانْسدَّ على المولى باب استخدامه.

(وَيثْبتُ) الإذن (صَرِيحاً) وهو ظاهرٌ (ودِلَالَةً كَمَا إذا رآهُ سَيِّدُهُ يَبيعُ ويَشْتَرِي وَسَكَت) سواء باع عَيْناً مملوكاً لمولاه أو لغيره بإذنه، أو بغير إذنه، بيعاً صحيحاً أو

(1)

في المخطوط: فصل، والمثبت من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(4)

العُهْدَة: الضمان والكفالة. معجم لغة الفقهاء ص 323.

ص: 416

فَيَبِيعُ وَيَشْتَرِي وَلَوْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَيُوَكِّلُ بِهِمَا، وَيَرْهَنُ وَيَرْتَهِنُ، ويَتَقَبّلُ الأَرْضَ وَيَأْخُذُهَا مُزَارَعَةً، وَيَشْتَرِي بَذْرًا يَزْرَعُهُ، أَوْ يُشَارِكُ عِنَانًا.

وَيَدْفَعُ المَالَ وَيَأْخُذُهُ مُضَارَبَةً، وَيَسْتَأْجِرُ وَيُؤجِرُ،

===

فاسداً، كذا في «الهداية» وغيرها. وقال مالك الشافعيّ وأحمد وزُفَر: لا يَثْبُتُ الإذن بسكوت المَوْلى إذا رأى عبده يبيع ويشتري، لأن السكوت يحتمل الرضا وغيرَه، فلا يَثْبُت رضاه بالشَّك.

ولنا: أنّ العادة جرت بأن مَنْ لا يرضى بتصرّف عبده ينهاه عنه، بل يؤدّبه عليه، فإذا لم ينهه وسكت كان ذلك إذناً له دِلالةً، ودفعاً للضَّرر عن الناس في المعاملة، فإنهم يعتقدون ذلك إطلاقاً منه فيبايعونه، وحملاً لفعله على ما يقتضيه الشرع والعُرْف. كما في سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عند أمر يعاينه عن التغيير والنكير، وسكوت البِكْر والشفيع.

(فَيَبِيعُ) أي فيجوز أن يبيع المأذون (وَيَشْتَرِي وَلَوْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ) وقالا: لا يجوز بالغبن الفاحش، لأنه يجري مَجْرى التّبرع. ولأبي حنيفة: أنه تجارة لا تبرّع (وَيُوَكِّلُ بِهِمَا) أي بالبيع والشِّراء، لأنه من توابع التجارة وربّما عجز عن مباشرة الكلِّ بنفسه فيحتاج إلى الإعانة (وَيرْهَنُ وَيَرْتَهِنُ) لأن فيهما إيفاءً واستيفاء (ويَتَقَبّلُ الأَرْضَ) أي يأخذها قِبالةً

(1)

بالاستئجار والمساقاة

(2)

(وَيَأْخُذُهَا مُزَارَعَةً وَيَشْتَرِي بَذْراً يَزْرَعُهُ) في أرضه، لأنه به يحصل الربح (أَوْ يُشَارِكُ عِنَاناً)

(3)

قيّد به، لأنه لا يشارك مفاوضةً

(4)

، لأنها تتضمّن الكفالة، وهو لا يملكها لكونها تبرّعاً (وَيَدْفَعُ المَالَ وَيَأْخُذُهُ مُضَارَبَةً)

(5)

أي أخذاً مضاربةً، وهو مفعول مطلق للفعلين من باب التنازع (وَيَسْتَأْجِرُ) البيوت والحوانيت والأجراء، لأن ذلك كلّه من صنيع التجار (وَيُؤجِرُ) نفسه، وعند مالك والشافعيّ وأحمد: لا يُؤجِرها، لأن الإذن له بالتجارة لا يتناول نفسه، فلا يتناول منافعها، لأنها تابعة لها، ولهذا لم يكن له أن يبيع نفسه ولا أن يَرْهَنها.

ولنا: أن الإجارة من باب التجارة، إذ هي بيع المنافع، ولا يلزم من امتناع بيع

(1)

القِبَالة: الحمل يلتزمه الإنسان. المعجم الوسيط ص 712، مادة (قبل).

(2)

ساقى فلانا شجرة أَو أَرضه: دفعها إِليه واستحمله فيها ليعْمرَها ويسقيها ويقوم بإصلاحها، على أَن يكون له سهمٌ معلومٌ من الرّيع والمحصول. المعجم الوسيط ص 437، مادة (سقى).

(3)

شركة العِنَان: تَصحُّ مع تساوي المال واختلاف الربح، ومع اختلاف المال وتساوي الربح، ومع اختلاف مال كلّ من الشريكين عن الآخر. معجم لغة الفقهاء ص 261.

(4)

شركة المفاوضة: شركة يتساوى فيها الأطراف، مالًا وتصرُّفًا. المعجم الوسيط ص 706، مادة (فوّض).

(5)

المُضَاربة: عقد شركة في الرّبح بمالٍ من رجلٍ وعملٍ من آخر. المعجم الوسيط ص 537، مادة (ضرب).

ص: 417

ويُقِرُّ بِوَدِيعَةٍ وغَصْبٍ وَدَيْنٍ، وَلَوْ بَعْدَ الحَجْرِ. وَيهْدِي طَعَامًا يَسيرًا، وَيُضِيفُ مَنْ يُطْعِمُهُ وَمَنْ يُعَامِلُهُ، وَيَحُطُّ مِنَ الثَّمَنِ بِعَيْبٍ قَدْرًا عُهِدَ. وَلَا يُزَوِّجُ، وَلَا يُكَاتِبُ، وَلَا يَعْتِقُ.

وَكُلُّ دَيْن وَجَبَ بِتِجَارةٍ أوْ بِمَا هُوَ في مَعْنَاهَا كَغُرْمِ وَدِيعَةٍ، وَغَصْبٍ، وَأَمَانَةٍ جَحَدَهَا، وَعُقْرٍ

===

النفس امتناعُ إجارتها. ألا ترى أن الحرّ لا يملك بيع نفسه، ويملك إجارتها.

(وَيُقِرُّ بِوَدِيعَةٍ) لأنّ التاجر قد لا يجد بُدّاً من ذلك، فكان من توابع التجارة (وغَصْبٍ) لأن ضمان الغَصْب عندنا ضمان معاوضة، فكان من باب التجارة (وَدَيْنٍ) سواء كان دين معاملة أو غيرها، لأن الإقرار به من توابع التجارة، وعند مالك والشافعي وأحمد: يُقِرّ بدين المعاملة فقط. (وَلَوْ) كان إقراره (بَعْدَ الحَجْرِ) وهذا عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد، وهو قول مالك والشَّافعي وأحمد: لا يصحّ بعد الحَجْر.

(ويُهْدِي) المَأْذون (طَعَاماً يَسيراً) وعند مالك والشافعيّ لا يُهديه إلاّ بإذنه (وَيُضِيفُ مَنْ يُطْعِمُهُ) لأنه عوضٌ عن طعامه (وَمَنْ يُعَامِلُهُ) ولو لم يطعمه، لأنّ التُّجار قد يحتاجون إلى ذلك (وَيَحُطُّ) المأذون (مِنَ الثَّمَنِ بِعَيْبٍ قَدْراً عُهِدَ) من التجار حطُّه. وأمّا الحطّ بدون العيب بعد تمام العقد فلا يجوز، لأنه تبرّع محض.

(وَلَا يُزَوِّجُ) المأذون عبده أو أمته، لأن التزويج ليس من باب التجارة، بل ربّما يترتّب عليه نوع من الخسارة. وقال أبو يوسف: يزوّج الأمة، لأن في تزويجها تحصيلَ المهر وسقوطَ النفقة، فكان كإجارتها. وأمّا المُكَاتب

(1)

والأب والوصيّ فيملكون الكسب في مال الصغير فلهم تزويجها، وذلك لا يختصّ بالتجارة. وجعل صاحب «الهداية» الأب والوصيّ على هذا الخلاف، وهو سهوٌ، فإنه ذكر المسألة في كتاب المُكَاتب ولم يذكر فيهما خلافاً، بل جعلهما كالمكاتَب، وكذا في عامة كتب أصحابنا، «كالمبسوط» و «مختصر الكافي» «والتَّتمة» ، كذا في «شرح الكنز» .

(وَلَا يُكَاتِبُ)(المأذون)

(2)

عبده، لأن التجارة مبادلة المال بالمال، والكتابة مبادلة المال بفك الحَجْر في الحال. (وَلَا يَعْتِقُ) عبده، لأن العتق فوق الكتابة.

(وَكُلّ دَيْن) مبتدأ مضاف، صفته (وَجَبَ بِتِجَارَةٍ) كبيع وشراء، وإجارة واستئجار (أوْ بِمَا هُوَ في مَعْنَاهَا) أي التجارة (كَغُرْمِ وَدِيعَةٍ، وَغَصْبٍ، وَأَمَانَةٍ جَحَدَهَا، وَعُقْرٍ

(3)

(1)

سبق شرحها ص 13، التعليقة رقم:(7).

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(3)

العقرُ: مهر المرأَة إذ وُطِئَت بشُبهة. المعجم الوسيط ص 615، مادة (عقر).

ص: 418

وَجَبَ بِوَطْئِ مَشْرِيَّة بَعْدَ الاستِحْقَاقِ، يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ: يُبَاعُ فِيهِ، وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ بِالحِصَصِ.

وبكسبٍ حَصَلَ قَبْلَ الدَّيْنِ أوْ بَعْدَهُ، وَبِمَا اتهَبَ، لَا بِمَا أَخَذَهُ سَيِّدُهُ مِنْهُ قَبْلَ الدَّينِ. وَطُولِبَ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ عِتْقهِ.

وَلِلسَّيِّدِ أخْذُ غَلَّةِ مِثْلِهِ مَعَ وُجُودِ دَيْنٍ، وَالبَاقِي لِلْغُرَمَاءِ. ويُحْجَرُ إِنْ أَبَقَ

===

وَجَبَ بِوَطْاءِ مَشْرِيَّةٍ) أي جارية مشتراة (بَعْدَ الاسْتِحْقَاقِ) لأنه لاستناده إلى الشراء التحق به (يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ) خبر المبتدأ المقدّم، ومعنى تعلّق الدين برقبته أنه (يُبَاعُ فِيهِ) إلا أن يفْدِيه المولى (وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ) بين الغرماء (بِالحِصَصِ) لتعلّق حقّ الغرماء برقبته، فصار كتعلّقه بمالٍ تركه.

ويُشْتَرَطُ لبيع العبد نفسه أن يكون مولاه حاضراً، لأن المولى هو الخصم في رقبة العبد، كما إذا ادّعى رقبته إنسان، ولا يُشْتَرَط ذلك لبيع العبد كسبه بل يشترط حضور العبد، لأن العبد هو الخصم في كسبه. وقال مالك والشافعيّ وزُفَر: يتعلّق بكسبه لا برقبته، لأن رقبته ليست من كَسْبه، فلا يباع فيه كسائر أموال المولى، وذلك أن رقبته مِلْك المولى، فلا يتعلّق بها الدين إلاّ بتعليقه.

ولنا: أنّ هذا دينٌ ظهر وجوبه في حقّ المولى بسبب العبد، فيتعلّق برقبته، كدين الاستهلاك، والمهر، ونفقة الزوجة.

(وبكسبٍ) أي ويتعلّق الدين المذكور بكسبٍ (حَصَلَ) من العبد (قَبْلَ الدَّيْنِ أوْ بَعْدَهُ وَبِمَا اتّهَبَ) له قبله (لَا) أي لا يتعلّق الدَّين المذكور (بِمَا أَخَذَهُ سَيِّدُهُ مِنْهُ قَبْلَ الدَّيْنِ) لأنه أخذه حين كان فارغاً عن الحاجة، فخلص له بمجرد القبض، (وَطُولِبَ) العبد (بِمَا بَقِيَ) من ديونه التي عليه لا في الحال بل (بَعْدَ عِتْقِهِ) لأنه ثابتٌ في ذمته يستوفيه عنه أهله إذا قَدِر على أيفائه، ولا يقدر على ذلك إلاّ بعد عتقه، إذ لا يمكن بيعه ثانياً ولا استسعاؤه

(1)

، لأن المشتري يتضرّر بذلك.

(وَلِلسَّيِّدِ أخْذُ غَلَّةِ مِثْلِهِ) أي مثل العبد (مَعَ وُجُودِ دَيْنٍ) على العبد، إذ لم يكن له ذلك لحجر عليه، فلا يحصل الكسب (وَالبَاقِي) بعد ما أخذ السيّد (لِلْغُرَمَاءِ) لعدم الضرورة فيه وتقدُّم حقّهم.

(ويُحْجَرُ) العبد المأذون (إِنْ أَبَقَ) وعند مالك والشّافعيّ وأحمد وزُفَر: لا ينحجر بالإباق، لأنه لا ينافي ابتداء الإذن، حتّى لو أذن لعبده المحجور عليه الآبق صحَّ.

(1)

استسعى العبد: كلّفه من العمل ما يؤدّي به عن نفسه إذا أَعتق بعضه، ليعتق به ما بقي. المعجم الوسيط ص 432 - 433، مادة (سعي).

ص: 419

أَوْ مَاتَ سَيِّدُهُ، أو جُنَّ مُطْبِقًا، أوْ لَحِقَ بِدَارِ الحَرْبِ مُرتَدًّا، أوْ حَجَرَ عَلَيهِ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ هُوَ وَأَكْثَرُ أَهْلِ سُوقِهِ.

والأَمَةُ إِنِ اسْتَوَلَدَهَا

===

وجاز للعبد أن يتَّجر إذا بلغه الإذن، فلا ينافي دوامه. ولنا: أن العادة جرت بأن المولى لا يرضى بتصرّف عبده الخارج عن طاعته فكان حَجْراً عليه دلالةً، مع أن الإباق يمنع الإذن ابتداءً عندنا على ما ذكره شيخ الأسلام خَوَاهِرْ زَادَه في «مبسوطه» . ولو سُلِّم فإن الدلالة لا تعتبر مع التصريح بخلافها.

(أَوْ) إن (مَاتَ سَيِّدُهُ، أو) إن (جُنَّ مُطْبِقاً أوْ لَحِقَ بِدَارِ الحَرْبِ مُرْتَدّاً) وإن لم يعلم به، لأن الإذن غير لازمٍ، وما يكون من التصرّف غير لازمٍ يُعْطَى لدوامه حكم ابتدائه، فلا بدّ من قيام أهلية الإذن في حالة البقاء، وهي تنعدم بالموت والجنون، وكذا باللحوق، لأنه موت حكميّ حتّى قُسِّم ماله بين ورثته.

(أوْ حَجَرَ) سيّده (عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ هُوَ) أي المأذون (وَأَكْثَرُ أَهْلِ سُوقِهِ) أي سوق العبد، لأن إعلام الكل قد يَعْسُر، فيقام الأكثر مقام الكل، كما في تبليغ الرسالة من الرسل. وقال مالك والشّافعيّ وأحمد: وبلا علمهم أيضاً، لأن المولى تصرّف في خالص حقّه، فينفذ ولا يتوقف على علم غيره.

ولنا: أنّ الحجر لو صحّ بدون علمهم لَلَحِق الضَّرر بهم بتأخير حقّهم إلى ما بعد عتقه، لأن دَيْنَه حين حجره لا يتعلّق برقبته وكسبه، وقد باعوا منه على رجاء التعلّق بهما. وقيّد بالأكثر لأن المولى لو حجر عليه بحضرة الأقلّ من أهل سوقه لم يَصِر محجوراً عليه.

(والأَمَةُ) أي وتنحجر الأمة (إِنِ اسْتَوَلَدَهَا) سيدها. وقال: زُفَر: لا تصير المأذون لها بالاستيلاد

(1)

محجوراً عليها، وهو القياس، لأن الاستيلاد لا يمنع الإِذن ابتداءً، فإن المولى إذا أذن لأمّ ولده جاز، فكذا بقاءً. ووجه الاستحسان: أَنْ في استيلاد المولى لها دلالةً على حجره عليها، لأن العادة جارية بتحصّن أمهات الأولاد، وعدم رضاء مَواليهنَّ باختلاطهنّ بالرجال في المعاملة والتجارة، ودلالة الحَجْر كصريحه. وإنما صحّ الإذن لأُمّ الولد

(2)

، لأن الدلالة لا اعتبار لها مع التصريح بخلافها. قيّد بالاستيلاد، لأن المأذون لها لا تصير محجوراً عليها بالتدبير، إذ لا عادة بتحصين المدبّرة

(3)

فلم

(1)

الاستيلاد: وطء الأمة المملوكة ابتغاء الولد منها. معجم لغة الفقهاء ص 67.

(2)

سبق شرحها ص 13، التعليقة رقم:(8).

(3)

سبق شرحها ص 13، التعليقة رقم:(6).

ص: 420

وَضَمِنَ قِيمَتَهَا لِلْغَرِيمِ. وَلَوْ شَمِلَ دَيْنُهُ مَالَهُ وَرَقَبَتَهُ لَم يَمْلِكْ سَيِّدُهُ مَا مَعَهُ، فَلَمْ يُعْتَقْ بإِعْتَاقِهِ، وَيَبِيعُ مِنْ سَيِّدِه بِالقِيمَةِ، وَسَيِّدُه مِنْهُ بِهَا أَو بَأقلّ.

فَإنْ بَاعَ بِأَكْثرَ نَقَصَ أَوْ حَطَّ الفَضْلَ. وَبَطَلَ ثَمَنُهُ إِنْ سَلَّمَ مَبِيْعَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَلَهُ

حَبْسُ مَبِيْعِهِ بِثَمَنِهِ.

===

توجد دلالة الحجر، فتبقى على ما كانت. (وَضَمِنَ) سيدها (قِيمَتَهَا لِلْغَرِيمِ) لأنه أتلف محلاً تعلّق به حقّ الغريم، لأنها باستيلادها امتنع بيعها، وبيعها يوفّي حقّ غريمها.

(وَلَوْ شَمِلَ دَيْنُهُ) أي العبد (مَالَهُ وَرَقَبَتَهُ لَمْ يَمْلِكْ سَيِّدُهُ مَا مَعَهُ) عند أبي حنيفة (فَلَمْ يُعْتَقْ) أي لم ينفذ عتق ما مع المؤذون من العبيد (بإِعْتَاقِهِ) أي بإعتاق سيد المأذون، إذ لا عِتْق فيما لا يَمْلِكُه المُعْتِق. وعندهما، وهو قول مالك والشافعيّ وأحمد: يملك ما معه فينفذ إِعتاقه لعبيده ويغرم قيمة ما أَعتقه للغريم، لأَنه يملك المأذون فيملك كسبه، لأن ملك الرقبة سبب لملك كسبها، واستغراقها بالدين لا يوجب خروج المأذون عن ملكه. ولأَبي حنيفة أن ملك المولى إِنما يثبت في كسب العبد المأذون خلافةً عند فراغه عن حاجته، كملك الوارث. والمأذون المشغول بالدين مشغولٌ كسبه بحاجته، فلا يخلُفُه المولى فيه بخلاف رقبته، لأن المولى لا يخلفه في ملكها، لأنه كان مالكاً لها قبل الإِذن فاستمرّ، فبقي ملكه بعد الدين على ما كان قبله.

(وَيَبِيعُ) المأذون المديون (مِنْ سَيِّدِهِ بِالقِيمَةِ) لا بأقلّ منها لِمَا فيه من التُّهمة، بخلاف ما إذا باع من الأجنبيّ بأقلّ حيث يجوز عند أبي حنيفة، إذ لا تهمة فيه. وقال أبو يوسف ومحمد: إن باع من المولى جاز البيع، فاحشاً كان الغبن أو لا، ولكن يخيّر المولى بين أن يزيل الغبن وبين أن ينقض البيع، لأن في تنفيذه بدون ذلك إبطال حقّ الغرماء في المالية، بخلاف البيع من الأجنبي بالغبن اليسير حيث يجوز عندهما، ولا يؤمر المشتري بإزالته.

(وَ) يبيع (سَيِّدُهُ مِنْهُ) أي من المأذون المديون (بِهَا) بالقيمة (أَوْ بَأَقلّ) لأن المولى أجنبي من كسبه عند أبي حنيفة، فيصحّ كما في الأجنبي، وعندهما جواز البيع يعتمد الفائدة وقد وجدت. (فَإِنْ بَاعَ) سيده منه (بِأَكْثَرَ) من القيمة (نَقَصَ) البيع (أَوْ حَطَّ الفَضْلَ) لأن الزيادة تعلّق بها حقّ الغرماء.

(وَبَطَلَ ثَمَنُهُ) أَي ثمن المبيع (إِنْ سَلَّمَ) المولى (مَبِيْعَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ) أَي قبض السيد الثمن، وهو الدراهم والدنانير. وقيّد به، لأن المَبيع لو كان عَرْضَاً لكان الولي أَحق به من الغرماء اتفاقاً. (وَلَهُ) أَي للمولى (حَبْسُ مَبِيْعِهِ بِثَمَنِهِ) أَي لأجل

ص: 421

وَصَحَّ إِعْتَاقُهُ مَدْيُوْنَاً، وَضَمِنَ سيِّدُهُ الأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ دَيْنِهِ.

وَلَو اشْتَرَى وَبَاعَ سَاكِتًا مَنْ أَذِنَهُ وَحَجَرَهُ، فَهُوَ مَأْذُوْنٌ. وَلَا يُبَاعُ لِدَيْنِهِ إِلّا إِذَا أَقَرَّ سَيِّدُهُ بإذْنِهِ. وَتَصَرُّفُ الصَبِيِّ إِنْ نَفَعَ، كالإِسْلَامِ وَالاتِّهَابِ، صَحَّ بِلَا إِذْنٍ. وَإِنْ ضَرَّ، كالطَّلاقِ والعَتَاقِ، لا. وإِنْ أذِنَ وَمَا نَفَعَ وَضَرَّ: عُلِّقَ بإذْنِ وَلِيّهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَعْقِلَ البَيْعَ سَالِبًا والشِّرَاء جَالِبًا.

===

ثمن مبيعه حتّى يستوفيه من المأذون. (وَصَحَّ إِعْتَاقُهُ) أَي إِعتاق السيد عبده المأَذون حال كونه (مَدْيُوْنَاً) لقيام ملكه فيه (وَضَمِنَ سَيِّدُهُ) للغرماء (الأَقَلَّ مِنْ قِيْمَتِهِ وَمِنْ دَيْنِهِ) وما بقي من الدين يطالب المأَذون به بعد عتقه.

(وَلَو اشْتَرَى) العبد (وَبَاعَ سَاكِتَاً مَنْ أَذِنَهُ وَحَجَرَهُ فَهُوَ مَأْذُوْنٌ) وهذا استحسان، والقياس أَنْ لا يكون مأَذوناً، لأن سكوته يحتمل الإذنَ وغيره. ووجه الاستحسان: أَنْ الظاهر أَنه مأذونٌ لوجوب حمل حال المسلمين على الصلاح ما أَمكن، والظاهر هو الأصل في المعاملات دفعاً للضَّرر عن العباد. وعند مالك والشافعي وأَحمد: لا يصدّق إِخباره بكونه مأذوناً إِلاّ عند الشافعي في الأظهر.

(وَلَا يُبَاعُ) هذا الذي اشترى وباع ساكتاً (لِدَيْنِهِ) أَي لأجل ما عليه من الدين (إِلاّ إِذَا أَقَرَّ سَيِّدُهُ بإِذْنِهِ) لظهور الدين حينئذٍ في حقّ سيّده بإِقراره، ولو قال سيده: هو محجورٌ عليه كان القول قوله، (فلا)

(1)

يُبَاع لدَيْنه إِلاَّ إِذا أَثبت الغرماء بالبيِّنة أَنه غير محجورٍ عليه.

(وَتَصَرُّفُ الصَبِيِّ). والمعتوه (إِنْ نَفَعَ، كالإِسْلَامِ وَالاتِّهَابِ) أَي قبول الهبة (صَحَّ بِلَا إِذْنٍ) من وليه اكتفاءً بأَهليته القاصرة (وَإِنْ ضَرَّ) تصرّفه (كالطَّلاقِ والعَتَاقِ لا) يصحّ (وإِنْ أَذِنَ) وليُّه لاشتراط الأهلية الكاملة. وأَمّا ما في «الهداية» من قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يملك العبد والمُكَاتَب شيئاً إِلاّ الطلاق» ، فغير معروفٍ (وَمَا نَفَعَ وَضَرَّ) كالبيع والشراء (عُلِّقَ بإِذْنِ وَلِيِّهِ) دفعاً للضرر بانضمام رأيه، فإِن وقع بغير إِذنه لم يصحّ، وإِن وقع بإِذنه صَحّ (بِشَرْطِ أَنْ يَعْقِلَ البَيْعَ سَالِبَاً) للملك (والشِّرَاء جَالِبَاً) له.

وقال مالك والشافعي وأَحمد: لا ينفذ تصرّفه بإِذن وليّه، لقوله تعالى:{وَلَا تُؤتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}

(2)

الآية، وقوله تعالى:{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدَاً فادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}

(3)

حيث شرط البلوغ والرُشْد للدفع إِليهم في هذه

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

سورة النساء، الآية:(5).

(3)

سورة النساء، الآية:(6).

ص: 422

وَوَلِيُّهُ أَبُوْهُ، ثمَّ وَصِيُّهُ، ثم جَدُّهُ، ثم وَصِيّهُ، ثُمَّ القَاضِي أَوْ وَصِيُّهُ. وَلَوْ أَقَرَّ بِمَا مَعَهُ مِنْ كَسْبِهِ أَوْ إِرْثِهِ صَحّ.

===

الآية، ونهى عن الدفع إِلى السفهاء في الأوْلَى. والصبيّ سفيه وليس ببالغ، والبالغ المعتوه ليس برشيدٍ.

ولنا: قوله تعالى: {وابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}

(1)

أَمرٌ بالابتلاء وهو الامتحان والاختبار وذلك بالإذن في التجارة. (وَوَلِيُّهُ) أَي وليّ الصبيّ، وكذا المعتوه (أَبُوْهُ ثُمَّ وَصِيُّهُ) بعد موته (ثُمَّ جَدُّهُ) إِنْ لم يكن الأب ووصيّه (ثُمَّ وَصِيّهُ) أَي وَصِيُّ الجد بعد موته (ثُمَّ القَاضِي أَوْ وَصِيُّهُ) وهو الذي أَمره بالتصرّف في مال اليتيم ولو في حياته، فأَيهما تصرّف صحّ عند عدم الأب والجد وأَوصيائهما ((وَلَوْ أَقَرَّ

(2)

بِمَا مَعَهُ مِنْ كَسْبِهِ أَوْ إِرْثِهِ صَحّ) كما يصحّ إِقرار العبد بذلك)

(3)

، والله تعالى أَعلم.

(1)

سورة النساء، الآية:(6).

(2)

أَي الصبي المأذون.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 423

‌كِتَابُ الوَصَايَا

هِي إيجَابٌ بَعْدَ المَوْتِ، ونُدِبَتْ بأَقلَّ مِنَ الثُّلَثِ عِنْدَ غِنَى وَرَثَتِهِ، أَو اسْتِغْنَائِهِمْ بحِصَّتِهِمْ، كتَركِهَا بِلَا أَحَدِهِمَا.

وَصَحَّتْ لِلْحَمْلِ وَبِهِ،

===

كتاب الوَصَايَا

(هِي):

أَي الوصية (إِيْجَابٌ) أَي تمليك شيءٍ (بَعْدَ المَوْتِ) لكن بطريق التبرّع، عيناً كان ذلك الشيء أَوْ منفعة. وهي إِذا كان على المُوصي حقّ الله كالزكاة والصيام والحج والصلاة واجبةٌ، وإِلاّ فمستحبةٌ. والقياس أَنْ لا تجوز، لأنها تمليكٌ مضافٌ إِلى حال زوال الملك، ولو أَضاف أَحدٌ التمليك إِلى حال قيام الملك، بأَن قال: ملَّكتك غداً، كان باطلاً، فهذا أَولى، إِلاّ أَنْ الشارع أَجازها لحاجة الناس إِليها. فإِن الإنسان مغرورٌ بأَمله في طول أَجَلِه، مقصرٌ في عمله، فإِذا عَرضَ له عارضٌ فخاف الهلاك احتاج إِلى تلافي ما فاته بما له، على وجهٍ لو تحقّق ما يخافه لحصل حسن مآله.

ويجوز أَنْ يبقى الملك بعد موت المالك باعتبار الحاجة، كما في قدر التجهيز والدين. وقد نطق

(1)

بها الكتاب والسنة، وانعقد عليها إِجماع الأمة. ثم هي واجبةٌ على المديون بما عليه، سواء كان حقاً لله كالزكاة والحج، أَوْ حقاً للعباد كالديون والأعيان المغصوبة.

(وَنُدِبَتْ) الوصية (بإِقلَّ مِنَ الثُّلُثِ عِنْدَ غِنَى وَرَثَتِهِ، أَوْ اسْتِغْنَائِهِمْ بحِصتهم) لأن فعلها حينئذٍ صدقةٌ على الأجنبي، وتركها هبةٌ من القريب، والصدقة أَولى، لأنها يبتغى بها رضى الخالق، وبالهبة رضى المخلوق. وقيل بالتخيير لاشتمال كلَ منهما على فضيلةٍ هي: الصدقة، أَوْ الصلة. (كَتَركِهَا بِلَا أَحَدِهِمَا) أَي كما نُدِبَ ترك الوصية عند عدم كل من غنى الورثة واستغنائهم بما يرثون، لِمَا فيه من الصدقة على القريب، ولأن فيه رعاية لحقّ الفقراء والقرابة جميعاً.

(وَصَحَّتْ) الوصية (لِلْحَمْلِ) لأنه يصلح خليفة عن الميت في الوراثة، فكذا في الوصية، لأنها أَختها غير أَنها ترتدُّ بالردّ لما فيها من معنى التمليك. (وَبِهِ)

(2)

أَي وصحّت الوصية بالحمل أَيضاً، لأنه يجري فيه الإرث فيجري فيه الوصية، لأنها أُخته.

(1)

في المخطوط: يطلق، والمثبت من المطبوع.

(2)

وصورته: بأَن أَوصى لرجلٍ بما في بطن أَمَتِهِ.

ص: 424

إِنْ وَلَدَتْ لأَقَلَّ مِنْ مُدَّتِهِ مِنْ وَقْتِهَا. وَهِي والاسْتِثْنَاءُ فِي وَصِيَّتهِ بِأَمَةٍ إِلّا حَمْلَهَا. وَمِنَ المُسْلِم لِلذِّمِّيِّ وَبعَكْسِهِ.

وَبِالْثُّلُثِ لِلأَجْنَبيِّ، لَا في أَكْثَرَ مِنْهُ،

===

لكن (إِنْ وَلَدَتْ) الحامل بالموصى له أَوْ به (لأَقَلَّ مِنْ مُدَّتِهِ) أَي مدّة الحمل ـ وهو ستة أَشهر ـ (مِنْ وَقْتِهَا) أَي الوصية. ولا يخفى الفرق بين أَقلّ مدّة الحمل وبين الأقلّ من مدّته.

(وَهِي) الضمير للوصية، والعطف على المستتر في صحّت، أَي وصحّت الوصية (والاسْتِثْنَاءُ فِي وَصِيَّتِهِ بِأَمَةٍ إِلاّ حَمْلَهَا) يعني أَنّ من أَوصى بأَمةٍ واستثنى حَمْلَها صحّت وصيته واستثناؤه، لأن الحمل يجوز إِفراده بالوصية، فيجوز استثناؤه فيها، لأن كل ما جاز إِيرادُ عقدٍ عليه جاز إِخراجه منه.

(وَمِنَ المُسْلِم) عطفٌ على للحمل، أَي وصحّت الوصية من المسلم (لِلذِّمِّيِّ وَبِعَكْسِهِ) وهو الوصية من الذميّ للمسلم، لأنه بعقد الذمة التحق بالمسلمين في المعاملات. ولهذا جاز التبرّع المنجّز من الجانبين في حال الحياة، فكذا المضاف إِلى ما بعد الممات. وكذا المستأْمن في حكم الذمي، بخلاف الحربيّ على أَنْ فيه خلافاً أَيضاً، والمعتمد عدم صحة الوصية له.

ففي «الجامع الصغير» : أَنْ الوصية باطلة لأهل الحرب، لقوله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِيْنَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّين ولم يُخْرجُوكم من دِيَارِكم أنْ تبرُّوهم وتُقْسِطوا إِليهم إن ايحبُ المقسطين إِنما يَنْهَاكُم اعن الذين قاتلوكم في الدِّين وأَخرجوكم مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأَؤُلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُوْنَ}

(1)

، فالآية الأولى تدلّ على جواز الوصية للذميّ، والآية الأخيرة على بطلان الوصية للحربيّ.

(وَبِالْثُّلُثِ) أَي وصحّت الوصية بالثُّلُث (لِلأَجْنَبِيِّ) ولو لم يجز الورثة، لِمَا أَخرجه ابن ماجه في «سننه» عن طَلْحَة بن عمرو المَكِّي، عن عطاء بن أَبي رباح، عن أَبي هُرَيْرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنّ الله تصدّق عليكم عند وفاتكم بثلث أَموالكم زيادة لكم في أَعمالكم» . وكذا رواه البزَّار في «مسنده» . ورواه الدَّارَقُطْنِي عن مُعَاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنْ الله تصدّق عليكم بثُلُث أَموالكم عند وفاتكم زيادةً في حسناتكم، ليجعلها لكم زيادة في أَعمالكم» . وعليه إِجماع الأُمة.

(لَا في أَكْثَرَ مِنْهُ) أَي ولا تصحّ الوصية للأجنبي بأَكثر من الثلث، لقوله عليه

(1)

سورة الممتحنة، الآية:(8، 9).

ص: 425

وَلَا لِوَارِثهِ وَقَاتِلِهِ مُبَاشَرَةً، إِلَّا بإجَازَةِ وَرَثتِهِ، وَلَا مِنْ صَبِيٍّ

===

الصلاة والسلام في حديث سعد بن أَبي وقّاص أَنه قال: مرضت عام الفتح مرضاً أَشْفَيْتُ

(1)

على الموت، فأَتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودُني فقلت: يا رسول الله إِنّ لي مالاً كثيراً، وإِنما يرثني ابنتي أَفَأُوصي بمالي كلِّه؟ قال:«لا» ، قلت: فبالثلثين؟ قال: «لا» ، قلت: فبالنصف؟ قال: «لا» ، قلت: فبالثلث؟ قال: «الثلث، والثلث كثير» . رواه أَصحاب الكتب الستة.

(وَلَا لِوَارِثِهِ) لِمَا أَخرجه أَبو داود والترمذي وابن ماجه عن إِسماعيل بن عيّاش، عن شُرَحْبِيل بن مسلم، عن أَبي أُمَامَة: أَنْ النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال: «إِنْ الله قد أَعطى كلّ ذي حقَ حقه، فلا وصيةَ لوارثٍ» . قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأَخرجه أَيضاً الترمذي والنَّسائي وابن ماجه عن قَتَادة، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن عبد الرحمن بن غُنْم، عن عَمْرو بن خَارِجة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ويُرْوَى عن ابن عبّاس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا وصية لوارث إِلاّ أَنْ يشاء الورثةُ» . ويعتبر كونه وارثاً وقت الموت لا وقت الوصية.

(وَقَاتِلِهِ) أَي ولا يصحّ وصية الشخص لقاتله (مُبَاشَرَةً) عمداً كان القتل أَوْ خطأَ، كما يُحْرَمُ القاتلُ الوارث الميراث. قيّد بالمباشرة، لأن التسبب في القتل لا يمنع الوصية ولا الإرث، لأنه ليس بقتلٍ حقيقةً (إِلاَّ بإِجَازَةِ وَرَثَتِهِ) استثناء من المنفيات الثلاث، لأن امتناع الوصية فيها إِنما هو لحقّ الورثة.

(وَلَا) تصحّ الوصية (مِنْ صَبِيَ) وعند مالك والشافعيّ وأَحمد: تصحّ منه في وجوه الخير إِذا كان مميِّزاً، لِمَا في «الموطأ»: أَنه قيل لعمر بن الخطَّاب: إِنْ ههنا غلاماً لم يحتلم من غسَّان

(2)

، ووارثه بالشَّام، وهو ذو مال وليس هنا إِلا ابنة عمَ له. فقال

(3)

: فلْيُوْصِ لها (قال: فأَوصى لها بمالٍ)

(4)

يقال له بئر جُشَم. قال

(5)

: فبيعت بثلاثين أَلفَ درهمٍ.

ولنا: أَنها تبرّع، فلا تصحّ منه، كالهبة والصدقة، وهذا لأن اعتبار عقله فيما ينفعه

(1)

في المطبوع: أَشفقت، والمثبت من المخطوط وهو الصواب لموافقته لما في صحيح مسلم 3/ 1250 - 1251، كتاب الوصية (25)، باب الوصية بالثلث (1)، رقم (5 - 1628). ومعنى أَشفيت: أَشرفت. النهاية 2/ 489.

(2)

في المطبوع: عنان، والمثبت من المخطوط، وهو الصواب لموافقته لما في موطّأ الإمام مالك 2/ 762، كتاب الوصية (37). باب جواز وصية الصغير والضعيف والمصاب والسفيه (2). رقم (2).

(3)

أَي عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع والمخطوط. ومستدرك من موطأ الإمام مالك (الموضع السابق).

(5)

أَي عمرو بن سُلَيْم الزُّرْقيّ راوي الخبر.

ص: 426

وَلَا مُكَاتَبٍ.

وَقُدِّمَ الدَّيْنُ عَلَيْهَا. وَتُقْبَلُ الوَصِيَّةُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَبَطَلَ قَبُوُلُهَا وَرَدُّهَا في حَيَاتِهِ، وَبِهِ يَمْلِكُ إِلَّا إِذَا مَاتَ مُوْصِيْهِ، ثُمَّ هُوَ بِلَا قَبُوْلٍ، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ.

وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهَا بِقَوْلٍ صَرِيْحٍ، أَوْ فِعلٍ يَقْطَعُ حَقَّ المَالِكِ عَمَّا غَصَبَ عَنْهُ، كَمَا مَرّ،

===

دون ما يضرّه، والتمليك بطريق التبرّع فيه ضررٌ باعتبار أَصل الوضع والحال وإِن اتفق نافعاً باعتبار المآل والاستقبال. (وَلَا) من (مُكَاتَبٍ) وإِن ترك وفاءً، لأنه ليس من أَهل التبرّع. (وَقُدِّمَ الدَّيْنُ عَلَيْهَا) أَي على الوصية، لأنه أَهم منها لكونه واجباً وحقّاً للعبد، وهي تبرّع إِنْ لم يكن بواجبٍ من صلاة أَوْ زكاة أَوْ صوم أَوْ حجّ، وحقّ الله تعالى، (وإِن كان واجباً لكن)

(1)

حقّ العبد لفقره أَحقُّ

(2)

بالوفاء من حقّ الله تعالى لِغِناه.

(وَتُقْبَلُ الوَصِيَّةُ بَعْدَ مَوْتِهِ) أَي موت الموصِي (وَبَطَلَ قَبُولُها وَرَدُّهَا في حَيَاتِهِ) لأن ثبوت حكم الوصية بعد موت الموصِي، فلا يعتبر قبولها ولا ردّها قبله، كما لا يعتبران قبلها. (وَبِهِ) أَي بالقَبُول (يَمْلِكُ) الوصية وإِن لم يقبضه. وقال زُفَر: يملك بدون القَبُول كالميراث (إِلاَّ إِذَا مَاتَ مُوْصِيْهِ ثُمَّ) مات (هُوَ) أَي المُوْصَى له (بِلَا قَبُوْلٍ) فإِن المُوْصَى به يدخل في ملك المُوْصَى له من غير وجود قَبُوْلٍ منه. (فَهُوَ) أَي المُوْصَى به (لِوَرَثَتِهِ) أَي ورثة المُوْصَى له، وعند مالك والشَّافعِيّ وأَحمد: ورثة المُوْصَى له كهو في القَبُول والردّ.

(وَلَهُ) أَي للموصِي (أَنْ يَرْجِعَ عَنْهَا)، لأنها تبرّعٌ، فجاز كما في الهبة قبل القبض. (بِقَوْلٍ صَرِيْحٍ) كأَن يقول: رجعت عن الوصية (أَوْ فِعْلٍ) عطفٌ على قولٍ، أَي للموصِي أَنْ يرجع عن الوصية بفعلٍ (يَقْطَعُ حَقَّ المَالِكِ (عَمَّا غَصَبَ)

(3)

عَنْهُ كَمَا مَرّ) في الغصب من اتخاذ الغاصب الحديد سيفاً أَوْ الصُّفْر

(4)

آنيةً يقطع حقّ المالك عن الحديد والصُّفْر، لأنّ الفعل إِذا أَثّر في قطع ملك المالك، فلأن يُؤثْر في المنع أَولى، وكذا إِذا خُلِط الموصَى به بغيره بحيث لا يمكن تمييزُهُ.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(2)

في المخطوط: أَهم، والمثبت من المطبوع.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

الصُّفْرُ: النحاس الأصفر. المعجم الوسيط ص 516، مادة (صفر).

ص: 427

أَوْ يَزِيْدُ مَا يَمْنَعُ تَسْلِيْمَهُ إِلّا بِهِ، كَلَتِّ السَّوِيْقِ بِسَمْنٍ، والبِنَاءِ في الدَّارِ، أَوْ تَصرُّفٍ يُزِيْلُ مِلْكُهُ: كالبَيْعِ، والهِبَةِ. لا بِغَسْلِ ثَوْبٍ، وَلَا بِجحُوْدِهَا.

وَتَبْطلُ هِبَةُ المَرِيْضِ. وَوَصيَّتُهُ لِمَنْ نَكَحَهَا بَعْدَهَا، كَإقْرَارِهِ وَوَصِيَّتِهِ وَهِبَتهِ لابْنِهِ: كَافِرًا، أَوْ عَبْدًا إِنْ أَسْلَمَ، أَوْ أُعْتِقَ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَهِبَةُ مُقْعَدٍ، وَمَفْلُوجٍ، وَأَشَلَّ، وَمَسْولٍ،

===

(أَوْ يَزِيْدُ) عطفٌ على يقطع، أَي أَوْ بفعلٍ يزيد في المُوْصَى به (مَا يَمْنَعُ تَسْلِيْمَهُ) أَي المُوْصَى به (إِلاّ بِهِ) أَي بما يمنع (كَلَتِّ السَّوِيْقِ

(1)

) المُوْصَى به (بِسَمْنٍ، والبِنَاءِ في الدَّارِ) المُوْصَي بها (أَوْ تَصُرُّفٍ) عطفٌ على فعلٍ (يُزِيْلُ مِلْكُهُ) أَي مِلك الموصِي عن الموصى به (كالبيع) بأَن باع العين الموصَى بها (والهبة) بأَن وهبها، لأن الوصية لا تنفذ إِلاّ في ملك المُوْصِي، فإِذا أَزاله كان رجوعاً (لا بِغَسْلِ ثَوْبٍ) أَي لا يرجع المُوْصِي بغسله ثوبَ الوصية عن وصيته، لأن العادة جرت بأَنّ من أَراد أَنْ يُعطِي ثوبه لغيره يغسله قبل أَنْ يعطيه له.

(وَلَا بِجُحُوْدِهَا) أَي ولا يرجع الموصِي بجحود الوصية، كذا ذكره محمد في «الجامع الكبير». وذكر في «المبسوط»: أَنه يرجع. فمنهم من قال: ما في «المبسوط» محمولٌ على أَنْ الرُّجوع كان في حضرة المُوْصَى له، وما في «الجامع» محمولٌ على أَنْ الرُّجوع كان في غيبته، ومنهم من قال: ما في «الجامع» قول محمد، وما في «المبسوط» قول أَبي يوسف، وهو الصحيح. وفي «عيون المذاهب»: وبه يُفْتَى، وهو قول مالك والشّافعيّ وأَحمد.

(وَتَبْطُلُ هِبَةُ المَرِيْضِ) للمرأَة نكحها بعد الهبة (وَوَصِيَّتُهُ) أَي المريض (لِمَنْ) أَي لامرأَةٍ (نَكَحَهَا) المريض (بَعْدَهَا) أَي بعد الوصية، لأن كلاًّ منهما وصية المريض لوارثه. وحكم الهبة المنجَّزة الصادرة من المريض حكم الوصية، لأنها وصية حكماً. إِلا ترى أَنها تنفذ من الثلث، وتبطل بالدَّين المستغرق وحكم الوصية إِنما تثبت بعد الموت، لأنها تمليكٌ مضافٌ إِلى ما بعد الموت. (كَإِقْرَارِهِ) أَي كبطلان إقرار المريض.

(وَ) بطلان (وَصِيَّتِهِ وَهِبَتهِ لابْنِهِ) حال كون الابن (كَافِرَاً أَوْ) حال كونه (عَبْدَاً إِنْ أَسْلَمَ) الابن الكافر (أَوْ أُعْتِقَ) الابن العبد (بَعْدَ ذَلِكَ) الإقرار والوصية والهبة.

(وَهِبَةُ مُقْعَدٍ وَمَفْلُوجٍ وَأَشَلَّ وَمَسْلُولٍ) بالسين المهملة: وهو الذي به مرض السِلّ: وهو ـ بالكسر والضم ـ قرحةٌ تحدث في الرِئة إِمّا تعقب (ذات الرِّئة

(2)

أَوْ)

(3)

(1)

السِّويق: طعامٌ يُتَّخَذُ من مدقوق الحنطة والشعير. المعجم الوسيط ص 465، مادة (سوق).

(2)

ذات الرِّئة: التهابٌ يصيبُ فصًّا أَو فُصُوصًا من الرثة. المعجم الوسيط ص 307.

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 428

مِنْ كُل مَالِهِ، إِنْ طَالَ مُدَّتُهُ وَلَمْ يُخَفْ مَوْتُهُ، وَإلَّا فَمِنْ ثُلُثِهِ.

وَإِنْ اجْتَمَعَ الوَصَايَا، قُدِّمَ الفَرْضُ، فَإِنْ تَسَاوَتْ قُوَّةً، قُدِّمَ مَا قَدَّمَ، وإِنْ أَوْصَى بِحَجٍّ أَحَجَّ عَنْهُ رَاكِبًا مَنْ بَلَدهِ إِنْ

===

ذات الجَنْبِ

(1)

، أَوْ زكامٍ ونوازل، أَوْ سُعَالٍ طويلٍ ويلزمها حمّى هاوية. (مِنْ كُلِّ مَالِهِ إِنْ طَالَ مُدَّتُهُ وَلَمْ يُخَفْ مَوْتُهُ) من هذه الأشياء، لأنها حينئذٍ تصير طبعاً له، ولهذا لا يشتغل بتداويها.

(وَإِلاَّ) أَي وإِن لم تطلّ مدته وخيف موته منها ومات (فَمِنْ ثُلُثِهِ) لأنها في ابتدائها يخاف الموت، ولهذا يتداوى منها فيكون مرض الموت، ولو صار المُبْتَلى بها صاحب فِراش بعد التطاول، فهو كمرضٍ حادثٍ حتّى تعتبر تبرعاته من الثُّلُث.

(وَإِنْ اجْتَمَعَ الوَصَايَا) وضاق عنها الثُّلُث (قُدِّمَ الفَرْضُ) وإِن أَخَّره الموصِي عن غيره، لأنه أَهمّ. (فَإِنْ تَسَاوَتْ قُوَّةً قُدِّمَ مَا قَدَّمَ) المُوْصِي، لأن الظاهر من حال الإنسان أَنْ يبدأَ بما هو أَهم عنده، والثابت بالظاهر كالثابت بالنصّ. ولو نصّ على تقديم ما بدأَ به لزم تقديمه، فكذا هنا.

وأَمّا لو تساوت رتبةً وتفاوتت قوةً يقدّم الأقوى: فتقدم الزكاة على الحج لتعلّق حقّ العبد في القبض بها، فكان ممتزجاً بالحقين. وعن أَبي يوسف، وهو قول محمد: يقدّم الحج عليها، لأنه يقام بالمال والبدن، وهي بالمال فقط. وتقدّم الزكاة والحج على الكفَّارة، لأنه جاء فيهما من الوعيد ما لم يأتِ فيها. قال الله تعالى:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنّ اغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِيْنَ}

(2)

، وقال:{والّذِيْنَ يَكْنِزُوْنَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُوْنَهَا في سَبِيْلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيْمٍ}

(3)

.

وتقدَّمُ كفارة القتل والظِّهار واليمين على صدقة الفطر، لأن وجوبها عُرِف بالكتاب دون صدقة الفطر. وتقدّم صدقة الفطر على الأُضْحِية للاتفاق على وجوبها دون الأُضْحِية. وتقدّم كفّارة القتل على كفارة الظِّهار واليمين، لأنها أَكثر تغليظاً منهما، أَلا ترى أَنْ الإسلام شرط في التحرير عنها دونهما وتقدّم كفَّارة اليمين على كَفَّارة الظِّهَار، لأنها لهتك حرمة اسم الله تعالى، وكفارة الظِّهار لإيجاب العبد حرمة على نفسه. والنذر يقدّم على الأُضْحِية، لأن النَّذر ثابتٌ بالكتاب دونها.

(وإِنْ أَوْصَى) المريض (بِحَجَ) أَي فرض (أَحَجَّ) الوَصِيُّ (عَنْهُ رَاكِبَاً مَنْ بَلَدِهِ إِنْ

(1)

ذات الجَنْب: التهابٌ في الغشاء المحيط بالرِّئة. المعجم الوسيط ص 308.

(2)

سورة آل عمران، الآية:(97).

(3)

سورة التوبة، الآية:(34).

ص: 429

بَلَغَ نَفَقَتُهُ ذَلِكَ، وإِلَّا فَمِنْ حَيْثُ تَبْلَغُ نَفَقَتُهُ.

فَإِنْ مَاتَ حَاجٌّ فِي طَرِيْقِهِ، أوْ أَوْصَى بالحَجَّ يُحَجُّ عَنْه مِنْ بَلَدِهِ.

وَفِي وَصِيَّتِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ وسُدُسِهِ لآخَرَ، وَلَمْ يُجِيزُوا: يُثَلَّثُ. وَبثُلثِهِ وكُلِّهِ: ينَصَّفُ. وَقَالَا: يُرَبَّعُ، أَي: يُجْعَلُ الثُّلُثُ أَربعةً ويُعطى صاحبُ الثُّلُثِ رُبُعًا منه، وصَاحِبُ الكُلِّ الثلاثةَ الأَربْاَعِ.

ولا يَضْرِبُ المُوْصَى لَهُ بأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ عِنْدَ أَبي حَنِيفَةَ،

===

بَلَغَ نَفَقَتُهُ ذَلِكَ) أَي الإحجاج من بلده راكباً، لأن الواجب على الموصِي أَنْ يحج من بلده راكباً، إِذْ لا يلزمه المشي عندنا. وإِن قدر عليه، فيجب الإحجاج عنه على الوجه الذي لزمه. (وإِلاَّ) أَي وإِن لم يبلغ نفقته الإحجاج من بلده راكباً (فَمِنْ حَيْثُ) أَي فيحجّ عنه من مكانٍ (تَبْلغُ نَفَقَتُهُ) ذلك، لأن مقصود الموصِي تنفيذ الوصية، وقد أَمكن على هذا الوجه.

(فَإِنْ مَاتَ حَاجٌّ) أَي مريد الحج (فِي طَرِيْقِهِ، أَوْ أَوْصَى بالحَجِ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ) فإِن أَحَجَّوا عنه من موضعٍ آخر، فإِن كان أَقرب من بلده إِلى مكّة ضمنوا النَّفقة، وإِن كان أَبعد لم يضمنوا، لأنهم في الأول لم يحصّلوا مقصود الموصِي بصفة الكمال، وإِطلاقه يقتضي ذلك. وفي الثاني حصّلوا مقصوده وزيادة، وهذا عند أَبي حنيفة. وقالا: يحجّ عنه من حيث مات، وعلى هذا الخلاف إِذا مات الحاجّ عن غيره في الطريق. لهما: أَنْ السفر بنية الحجّ وقع قُرْبة، فسقط فَرض قطع المسافة بقدره، وقد وقع أَجره على الله، فيبتداء من مكان الموت، كأَنه من أَهله بخلاف سفر التجارة، لأنه لم يقع قُرْبه، فيحجّ عنه من بلده اتفاقاً. ولأبي حنيفة: أَنْ الوصية تنصرف إِلى الحجّ من بلده أَداءً للواجب على الوجه الذي وجب.

(وَفِي وَصِيَّتِهِ) أَي الموصِي (بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيُدٍ وسُدُسِهِ لآخَرَ وَلَمْ يُجِيْزُوا) أَي الورثة (يُثَلَّثُ) أَي يُجْعَل الثلث ثلاثة أَسهم، فيُعْطَى منها صاحب السُّدُس واحداً، وصاحب الثلث اثنين، لأن كلّ واحدٍ منهما يستحقّ بسببٍ صحيح، وقد ضاق الثلث عنهما، فيُقسَم بينهما على قَدْر حقِّهما كما في أَصحاب الدّيون فيجعل الأَقل سهماً فصار الثلث ثلاثة أَسهمٍ سهمٌ لصاحبه، وسهمان لصاحب الأكثر.

(وَبِثُلثِهِ) عطف على بثلث ماله أَي وفي وصية المُوْصِي بثلث مالِهِ لزيدٍ (وكُلِّهِ) لآخر (يُنَصَّفُ) أَي يُجْعَل الثلث نصفين (وَقَالَا: يُرَبَّعُ أَي يُجعل الثُّلُث أَربعة ويُعطى صاحب الثلث رُبُعاً منه، وصاحب الكلّ الثلاثة الأَرباع).

(ولا يَضْرِبُ المُوْصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ عِنْدَ أَبي حَنِيْفَةَ) وفضّلاه مطلقاً

ص: 430

إِلّا فِي المُحَابَاةِ، والسِّعَايَةِ، والدَّرَاهِم المُرْسَلَةِ.

===

كمالك والشافعيّ. وفي: «شرح الوقاية» : المراد بالضرب: الضرب المصطلح بين الحُسَّاب، فإِذا أَوصى بالثلث والكّل، فعند أَبي حنيفة سهام الوصية: اثنان لكلّ واحدٍ نِصْفٌ يضرب النصف في ثلث المال، والنصف في الثلث يكون نصفَ الثلث وهو السدس، فلكلّ سُدُس المال. وعندهما: سهام الوصية أَربعة، والواحد من الأربعة رُبُع، فيُضْرَب الربع في ثلث المال، والربع في الثلث يكون ربع الثلث، ثم لصاحب الكلّ ثلاثة من الأربعة، وهي ثلاثة أَرباع الثلث، فيضرب ثلاثة الأرباع في الثلث بمعنى ثلاثة أَرباع الثلث، ولصاحب الثلث واحد من أَربعة، فيضرب الواحد في الثلث ـ وهو الربع ـ بمعنى ربع الثلث. هذا معنى الضرب، وقد تحيّر فيه كثيرٌ من العلماء.

(إِلاّ فِي المُحَابَاةِ) فإِنّ المُوْصَى له يضرب فيها بأَكثر من الثلث، (و) كذا في (السِّعَايَةِ والدَّرَاهِم المُرْسَلَةِ) أَي غير المقيَّدة بأَنها ثلث، أَوْ نصف، أَوْ نحوهما. وصورة المُحَاباة: أَنْ يكون لرجلٍ عبدان: قيمة أَحدهما ثلاثون، والآخر ستون، فأَوصى بأَن يُباع الأول من زيدٍ بعشرةٍ والآخر من عمروٍ بعشرين، ولا مال له سواهما. فالوصية في حقّ زيدٍ بعشرين، وفي حق عمروٍ بأَربعين، يقسم الثلث بينهما أَثلاثاً، فيُباع الأوّل من زيدٍ بعشرين والعشرة وصية له، ويُبَاع الثاني من عمروٍ بأَربعين والعشرون وصية له، فأَخذ عمرو من الثلث بقدر وصية له وإِن كانت زائدة على الثلث.

وصورة السِّعَاية: عتق عبدين قيمتهما ما ذُكِرَ، ولا مال له سواهما، فالوصية للأوّل بثلث المال، وللثاني بثلثيْ المال، فسهام الوصية بينهما أَثلاثٌ: واحدٌ للأول، واثنان للثاني، فيقسم الثلث بينهما كذلك، فيعتق من الأول ثلثه وهو عشرة، ويسعى في عشرين، ويعتق من الثاني ثلثه وهو عشرون، ويسعى في أَربعين، فيضرب كلّ بقدر وصيته وإِن كان زائداً على الثلث.

وصورة الدَّراهم المُرْسَلة: أَوصى لزيدٍ بثلاثين درهماً، ولآخر بستين درهماً، ومالُه تسعون يضرب كلٌّ بِقَدْر وصيته فيضرب للأَوّل الثلث في ثلث المال، وللثاني الثلثين في ثلث المال.

ولو أَوصى لرجلٍ بجزءٍ من ماله بيَّنه الورثة، لأنهم قائمون مقام المُوْصِي، فإِليهم البيان، وجهالة المُوْصَى به لا تمنع صحة الوصية. ولو أَوصى بسهمٍ استحقّ أَقلّ سهام الورثة، وذلك الأقلّ لا يُزَاد على السُّدُس، في رواية «الأصل» عن أَبي حنيفة إِذا كان أَخسَّ السِّهام أَكثر من السُّدس ولم تجز الزيادة عليه. وعلى رواية «الجامع»: تجوز

ص: 431

وَبِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ صَحَّتْ، وبنَصِيْبِهِ لا. وَالعِبْرَةُ بِحَالِ العَقْدِ في التَّصَرُّفِ المُنَجَّزِ، فَإنْ كَانَ في الصِّحَّةِ، فَمِنْ كُلِّ مَالِهِ، وإِلّا فَمِنْ ثُلُثِهِ.

وَالمُضَافُ إِلى مَوْتِهِ

===

الزِّيادة على الثلث

(1)

ولم يجز النقصان عنه، وهما لم يزيداه على الثلث إِنْ زاد أَخسّ السهام، لأن السهم اسم لمقدّرٍ مجهولٍ كالجزء، فلا معنى لتقديره بالسُّدس. وإِنما جعلناه عبارة عن نصيب أَحد الورثة، لأن ما يصيب أَحد الشركاء عند القسمة يسمّى سهماً، وإِنما صُرِف الأخس

(2)

، لأنه متيّقن إِلاّ إِذا زاد على الثلث، فيردّ إِليه، لأن الوصية بأَكثر من الثلث لا تصحّ عند عدم الإجازة.

وله ما روى البزّار في «مسنده» ، والطَّبَرَانِيّ في «معجمه الأوسط» عن محمد بن عُبَيْد الله العَرْزَمِي، عن أَبي قيس، عن هُزَيْل

(3)

بن شُرَحْبِيل، عن ابن مسعود: أَنْ رجلاً أَوصى لرجلٍ بسهمٍ من ماله، فجعل له النبيّ صلى الله عليه وسلم السُّدس. قال البزّار: هذا حديثٌ لا نعلمه رُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إِلاّ من هذا الوجه، وأَبو قَيْس ليس بالقويّ. وذكره عبد الحقّ في «أَحكامه» من جهة البزّار، وقال: العَرْزَمي متروكٌ، وأَبو قيس له أَحاديث يخالف فيها. وقال إِياس بن معاوية: السهم في كلام العرب السُّدس. قلت: إِذا كان السهم في اللغة السُّدس، وقد ورد الحديث به ـ ولو كان ضعيفاً ـ فهو مقدّم على الرأَي، والله تعالى أَعلم.

(وَ) وصيته (بِمِثْلِ نَصِيْبِ ابْنِهِ صَحَّتْ)(و) وصيته (بِنَصِيْبِهِ) أَي نصيب ابنه (لا) أَي لا تصحّ. وقال زُفَر: تصحّ (وَالعِبْرَةُ بِحَالِ العَقْدِ في التَّصَرُّفِ المُنَجَّزِ) وهو ما أَوجب حكمه في الحال (فَإِنْ كَانَ) واقعاً (في الصِّحَّةِ فَمِنْ كُلِّ مَالِهِ وإِلاّ) أَي وإِن لم يكن واقعاً في الصحة، بل كان واقعاً في مرض الموت (فَمِنْ ثُلُثِهِ) أَي ثلث مال.

وفي «شرح الوقاية» : والمراد التصرُّف الذي هو إِنشاءٌ، ويكون فيه معنى التبرّع، حتّى إِنْ الإقرار بالدين في المرض (ينفذ من كل المال، والنكاح في المرض)

(4)

بمهر المثل ينفذ من كل المال، (وَ) التصرُّف (المُضَافُ إِلى مَوْتِهِ) أَي موت المتصرّف

(1)

في المخطوط السدس، والمثبت في المطبوع.

(2)

عبارة المطبوع: صُرِفَ إلى الآخر، والمثبت عبارة المخطوط.

(3)

حُرِّفَت في المخطوط والمطبوع إِلى هُذَيل، والصواب ما أَثبتناه لموافقته لما في تقريب التهذيب ص 572.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 432

مِنَ الثُّلُث في الصِّحَّةِ. وَمَرَضٌ صَحَّ مِنْهُ كَالصِّحَّةِ. وإِعْتَاقُهُ، وَمُحَابَاتُهُ، وَهِبَتُهُ، وَضَمَانُهُ: وَصِّيَّةٌ.

‌فَصْلٌ

جَارُهُ: مَنْ لَصِقَ دَارُهُ بِهِ. وَصِهْرُهَ: كَلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ عِرْسِهِ.

===

(مِنَ الثُّلُث) وإِن كان التصرّف واقعاً (في الصِّحَّةِ. وَمَرَضٌ) هذا مبتدأ (صَحَّ) الموصِي (مِنْهُ) صفته، وخبره (كَالصِّحَّةِ) حتَّى إِنْ تصرُّفَاته المنجَّزة فيه تكون من كل ماله، لأنه ببرئه يتبيَّن أَنه لا حقّ لأحدٍ في ماله.

(وإِعْتَاقُهُ) مبتدأ، أَي إِعتاق المريض مرض الموت عبداً له (وَمُحَابَاتُهُ) أَي بيعه بنقصانٍ كثيرٍ، أَوْ شراؤه بزيادةٍ كثيرةٍ (وَهِبَتُهُ وَضَمَانُهُ وَصِّيَّةٌ) خبر، أَي كالوصية في أَنها تُعْتبر من الثلث، ويضرب بها مع أَصحاب الوصايا. ولا يريد حقيقة الوصية، لأنها إِيجابٌ بعد الموت، وهذه الأشياء منجّزة قبله، وإِنَّما اعْتُبِرَتْ من الثُّلث لتعلّق حقّ الورثة بماله، فصار محجوراً عليه في الزائد على الثلث. وهذا في غير الضمان ظاهرٌ، وأَمّا في الضمان، فلأن المريض تبرّع ابتداءً بإِيجابه على نفسه، فيتهم فيه كما في الهبة.

فصلٌ

(جَارُهُ: مَنْ لَصِقَ دَارُهُ بِهِ) أي إذا أوصى لجاره صُرِفَ إلى الملاصق لداره، فإنه هو المُسْتَعْمَل عرفاً وشرعاً، وهذا عند أبي حنيفة وزُفَر، وهو القياس. وعندهما: إلى مَنْ يسكن محلّته، ويجتمع معه في مسجدها، لأنه جارٌ شرعاً. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«لا صلاةَ لجارِ المسجدِ إلاّ في المسجد» . رواه الدَّارقُطْنِي عن جابر وأبي هُرَيْرَة، والحاكم في «مستدركه» ، وسكت عنه. وقال ابن حَزْم: هو الصحيح عن عليّ. والمعنى: لا صلاة كاملةً. وقال أحمد: لا صلاة صحيحةٌ، وفسَّر الجار بكلّ من سمع النداء. ثم يدخل فيه الجار الساكن والمالك، والذَّكر والأنثى، والمسلم والذميّ، ويدخل فيها الأرملة، لأن سكناها مضافةٌ إليها، ولا يدخل فيها التي لها زوجٌ، لأن سكناها مضافةٌ إلى زوجها، وهي تبعٌ له، فلم تكن جاراً حقيقةً.

(وَصِهْرُهُ: كَلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ عِرْسِهِ) أي امرأته، وهذا التفسير للصهر اختيار محمد وأبي عُبَيْد، وكذا كل ذي رَحِمٍ مَحْرَم عن زوجة ابنه وزوجة أبيه، وزوجة كل ذي رَحِمٍ مُحْرَم منه صهر. وقال الحَلْواني: أبو المرأة وأمها، ولا يسمّى غيرهما صِهْرا.

والأول هو الصحيح، لما في «مسند أحمد والبزّار وابن رَاهُويَه» عن عائشة

ص: 433

وَخَتَنُهُ: كُلُّ زَوْجِ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ. وَأَهْلُهُ: عِرْسُهُ. وَآلُهُ: أَهْلُ بَيْتِهِ

===

قالت: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء بني المُصْطَلِق، فأخرج الخمس منه ثم قسمه بين الناس، فأعطى الفارس سهمين والرَّاجل سهماً، فوقعت جُوَيْرِية بنت الحارث في قسم ثابت بن قيس بن الشَّماس الأنصاريّ، فكاتبها على نفسها على تسع أُوَاقٍ من ذهبٍ إلى أن قالت: فدخلت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابتها، فقالت: يا رسول الله أنا امرأةٌ مسلمةٌ أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنك رسول الله، وأنا جَوَيْرِية بنت الحارث ـ سيِّد قومه ـ أصابني من الأمر ما قد علمت، فوقعتُ في سهم ثابت بن قيس، فكاتبني على ما لا طاقة لي به، وما أكرهني على ذلك إِلاّ أني رجوتُك (صلى الله)

(1)

عليك فأعني في فكاكي. فقال: أَوْ خير من ذلك؟» فقالت: ما هو؟ قال: أُؤدّي عنكِ كتابتكِ وأتزوجُك». قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت، فأدّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عليها من كتابتها وتزوجها. فخرج الخبر إلى الناس فقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْتَرقّون، فأَعتقوا ما كان بأيديهم من سَبْي بني المُصْطَلِق، فإنه أهل بيتٍ.

قالت عائشة: فلا أعلم امرأةً كانت على قومها أعظم بركة منها. وأما كونها صفيّة فهو وَهَمٌ، والصواب ما قدّمناه.

(وَخَتَنُهُ: كُلُّ زَوْجٍ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ) أي أزواج البنات، والأخوات، والعمّات، والخالات، وكذا كل ذي رَحِمٍ مَحْرَمٍ من أزواجهن. وقيل: هذا في عرفهم، وفي عرفنا لا يتناول الأزواج المحارم، ويستوي فيه الحُر والعبد. (وَأَهْلُهُ) عند أبي حنيفة (عِرْسُهُ)، وعندهما: كل مَنْ يعوله وينفق عليه غير مماليكه اعتباراً للعُرْف، ويؤيّده قوله تعالى:{وأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}

(2)

، وقوله:{فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ}

(3)

فإنّ المراد من في عياله، ولأبي حنيفة: أن الاسم حقيقةٌ في الزوجة. قال الله تعالى: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ}

(4)

وقال: {قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا}

(5)

.

(وَآلُهُ: أَهْلُ بَيْتِهِ) فإذا أوصى الرّجل لآله دخل في الوصيّة كلُّ مَنْ يُنْسَبُ إليه من قِبَل آبائه إلى أقصى أب له في الإسلام، والأقرب والأبعد، والذَّكر والأنثى، والمسلم والكافر، والصغير والكبير فيه سواءٌ. ولا يدخل فيه أولاد البنات، ولا أولاد الأخوات، ولا أحد من قرابة أُمه، لأنهم لا يُنْسبون إلى أبيه، وإنما يُنْسَبُون إلى آبائهم، لأن النَّسب يعتبر من الآباء.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

سورة يوسف، الآية:(93).

(3)

سورة الأعراف، الآية:(83).

(4)

سورة القصص، الآية:(29).

(5)

سورة القصص، الآية:(29).

ص: 434

وَأقَارِبُهُ وَذُو أنْسَابِهِ: رَحِمُهُ، الأقْرَبُ فَالأَقْرَبُ غَيْرَ الوَالِدَيْنَ، وَالوَلَدِ.

وَفي وَلَدِ زَيْدٍ: الذَّكَرُ وَالأُنْثَى سَوَاء، وَفي وَرَثَتِهِ: ذَكَرٌ كأُنْثَييِنْ، وفي بني فُلَانٍ: الأُنْثَى مِنْهُم.

===

(وَأقَارِبُهُ) وذو قرابته وأقربائه وأرحامه وأنسابه (وَذُو أنْسَابِهِ) هم عند أبي حنيفة: مَحْرَمَاهُ فصاعداً من ذوي (رَحِمه، الأقْرَبُ فَالأَقْرَبُ غَيْرَ الوَالِدَيْنَ وَالوَلَدِ) وعندهما كل من يُنْسب إلى أقصى أب له في الإسلام، وإن لم يُسْلم ذلك الأقصى بعد أن أدرك الإسلام، أو إن أسلم، على اختلاف المشايخ. وفائدة هذا الاختلاف تظهر في مثل أبي طالب وعليّ رضي الله عنه إذا وقعت الوصية لأحدٍ من أقرباء عليّ، فمَنْ اكتفى بإدراك الإسلام صَرَفها إلى أولاد أبي طالب، ومَنْ شرط الإسلام صرفها إلى أولاد عليّ لا غير، ولا يدخل أولاد عبد المَطلب بالاتفاق، لأنه لم يدرك الإسلام.

لهما: أن الاسم يتناول الكلّ. ولأبي حنيفة: أن الوصية أخت الميراث، وفي الميراث يُعْتَبر الأقرب فالأقرب، وكذا في أخته، والقصد من هذه الوصية تلافي ما فَرَّط في إقامة واجب الصلة، وهو مختصٌّ بذي الرَّحم المحْرَم، وأما قرابة الوِلاد فلا يُسَمَّون أقرباء عادةً. ألا ترى إلى عطف القريب على الوالدين في قوله تعالى:{الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينِ}

(1)

والعطف يقتضي المغايرة، ويدخل الجدّ والجدّة وولد الولد في ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يدخلون.

قَيَّدَ بالمَحْرَم، لأنه لو انعدم بطلت الوصية. وقيّد بالانثنين فصاعداً، لأن الواحد لا يأخذه عنده، لأن المذكور لفظ الجمع، وفي الميراث يُرَاد بالجمع: المثنى فصاعداً، فكذا في الوصية. ويستوي الحرُّ والعبد، والمسلم والكافر، والصغير والكبير، والذَّكر والأنثى على المذهبين.

(وَفي وَلَدِ زَيْدٍ) أي في الوصية لولد زيد (الذَّكَرُ وَالأُنْثَى سَوَاء) لأن اسم الولد يشمل الكلّ، وليس في اللفظ شيء يقتضي التفضيل. (وَفي وَرَثَتِهِ) أي وفي الوصية لورثة زيد يأخذ (ذَكَرٌ كأُنْثَييْنِ) لأن الورثة مشتقّة من الوراثة، وبناء الحكم على المشتق يُشْعِر بأن مأخذ الاشتقاق علّة ذلك الحكم، والوراثة بين الأولاد والأخوة للذّكر مثل حظّ الأنْثَيَيْن، فكذا الوصية.

(وفي بني فُلَانٍ) تأخذ (الأُنْثَى مِنْهُم) في قول أبي حنيفة الأوّل، وهو قولهما، لأن جمع الذكور يتناول الإناث. قال الله تعالى:{وَإنْ كَانَوا إخْوةً رِجَالاً وَنِسَاءً}

(2)

،

(1)

سورة البقرة، الآية:(180).

(2)

سورة النساء، الآية:(176).

ص: 435

وبَطَلَتِ الوَصِيَّةُ لِمَوَالِيهِ، فِيمَنْ لَهُ مُعْتِقُونَ وَمَعْتَقُون. وَصَحَّتْ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ، وَسُكْنَى دَارِهِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً وَأبَدَاً، وبغَلَّتِهِمَا. فإنْ خَرَجَتِ الرَّقَبَةُ مِنَ الثُّلُثِ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ، وإلّا قُسِمَتِ الدَّارُ وتَهَايؤُا العَبْدَ.

===

ثم رجع وقال: يأخذ الذكور خاصّةً، لأن حقيقة الاسم للذكور، وانتظامه للإناث تجوُّز، والكلام بحقيقته. وهذا بخلاف ما إذا كان بنو فلانٍ: اسم قبيلةٍ أو فَخِذٍ

(1)

، حيث يتناول الذُّكور والإناث، لأنه لا يُرَاد أعيانهم بل مجرد انتسابهم كبني آدم، ولذا يدخل فيه مولى العَتَاقة

(2)

، ومولى الموالاة

(3)

، وخلفاؤهم.

(وبَطَلَتِ الوَصِيَّةُ لِمَوَالِيهِ) مطلقاً (فِيمَنْ لَهُ مُعْتِقُونَ وَمَعْتَقُون) لأن لفظ المولى مشتركٌ بينهما، فلا ينتظمهما في موضع الإثبات، ولا قرينة تدلّ على أحدهما، بخلاف ما لو حلف لا يكلّم موالي فلان، حيث يتناول الأعلى والأسفل، لأنه في مقام النفيّ ولا تنافي فيه. وقيل: يكون لهما، وهو رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو قول الشّافعيّ وزُفَر. وقيل: يجعلها أبو يوسف للأعلى، لأن شكر الإنعام واجبٌ، وفضل الانعام مندوبٌ، فصار صرف الوصية إلى آداء الواجب أولى. وقيل: يجعلها للأدنى، لأنه محل الحاجة غالباً، فهو أولى.

(وَصَحَّتْ) الوصية (بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ، وَسُكْنَى دَارِهِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً) كَسنةٍ (وَأبَدَاً) لأن المنافع يصحّ تمليكها في حالة الحياة ببدلٍ وغيره، فكذا في حالة الممات كما في الأعيان، ويكون كلٌّ من العبد والدَّار محبوساً على ملك الميت في حقّ المنفعة حتّى يتملكها المُوصَى له على ملكه، كما يستوفي الموقوف عليه منافع الوقف على حكم ملك الواقف. (و) صحّتِ الوصية (بِغَلَّتِهِمَا) أي العبد والدَّار.

(فإِنْ خَرَجَتِ الرَّقَبَةُ) أي رقبة العبد والدَّار (مِنَ الثُّلُثِ) أي ثلث التركة (سُلِّمَتْ إِلَيْهِ) أي أعطيت للمُوصَى له، لأن حقّه في الثلث لا يزاحمه الورثة فيه (وإلاّ) أي وإن لم تخرج الرَّقبة من الثُّلُثِ (قُسِمَتِ الدَّارُ) قسمة الأجزاء أثلاثاً (وتهايؤا العبد) أي اقتسموه قسمة مُهَايَأَةٍ، فيخدم الورثة يومين والمُوصَى له يوماً، لأن حقّه في الثُّلُث وحقّهم في الثُّلُثين كما في الوصية بالعين، وإنما تعيّن التهايؤ في العبد، لأنه لا يمكن

(1)

الفَخِذ: حيٌّ الرجل إِذا كان من أَقرب عشيرته. القاموس المحيط ص 429، مادة (فخذ).

(2)

مولى العتاقة: المعتيق. معجم لغة الفقهاء ص 469.

(3)

مولى الموالاة: الذي أَتاه رجل مجهول النسب فتعاقد معه قائلًا: أَنت وليٌّ ترثني إِذا متُّ وتعقل عني إذا جنيت. معجم لغة الفقهاء ص 469.

ص: 436

وَبمَوْتهِ في حَيَاةِ مُوصِيهِ تَبْطُلُ، وبَعْدَ مَوْتهِ يَعُودُ إِلى الوَرَثَةِ، وبِثَمَرَةِ بُستَانِهِ، إنْ مَاتَ وَفِيهِ ثَمَرَةٌ، لَهُ هَذِهِ فَقَطْ.

وإنْ ضَمَّ: أبدًا، فَلَهُ هَذِهِ وَمَا يَحْدُثُ فِيهِ، كَمَا في غلَّةِ بُسْتَانِهِ.

===

القسمة فيه بالأجزاء، لأنه لا يتجزّأ فيصير إلى المهايأة إيفاءً للحقّين، بخلاف الدَّار فإن القسمة فيها بالأجزاء ممكنةٌ، وهو أعدل من قسمة التهايؤ، لما فيها من التسوية بين المتقاسمين زماناً وذاتاً، وفي التهايؤ من تقديم أحدهما على الآخر زماناً.

ولو اقتسموا الدَّار مهايأةً جاز، لأن الحقّ لهم إلاّ أن الأوّل أَوْلى لكونه أعدل.

وليس للورثة أن يبيعوا ما في أيديهم من ثُلُثيْ الدَّار، لأن حقّ المُوصَى له ثابت في سُكْنَى جميع الدَّار، بأن يظهر للميت مالٌ آخر، وتخرج الدَّار من الثُّلُث. وكذا له حقّ المزاحمة فيما في أيديهم (إذا خَرِب ما في يده، وبَيْعُ الورثة ما في أيديهم)

(1)

من الثُّلثين يتضمّن إبطال ذلك، فيُمْنَعُون منه.

(وَبِمَوْتِهِ) أي المُوصَى له (في حياة مُوصِيهِ تَبْطُلُ) الوصية، لأنها تمليك الموصِي بعد موته المُوصَى به للمُوصَى له، ولا يُتَصَّور تملك المُوصَى له وهو ميتٌ، (و) بموت المُوصَى له (بَعْدَ مَوْتِهِ) أي المُوصِي (يَعُودُ) كلٌّ من العبد المُوصَى بخدمته، والدّار المُوصَى بسكناها (إِلى الوَرَثَةِ) لأن الموصِي أوجب للمُوصَى له أن يستوفي المنافع على حُكْم مِلْكه، فلو انتقل الاستيفاء إلى وارثِ المُوصَى له لاستحقاق ذلك ابتداءً من ملك الموصِي بغير رضاه، وذلك لا يجوز. (و) في الوصية (بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ إنْ مَاتَ) الموصِي (وَفِيهِ ثَمَرَةٌ) جملة حالية (لَهُ) أي للمُوصَى له (هَذِهِ) الثمرة التي فيه (فَقَطْ) أي وليس له ما حدث بعدها.

(وإنْ ضَمَّ) في الوصية كلمة (أبداً فَلَهُ هَذِهِ) أي الثمرة التي في البستان (وَمَا يَحْدُثُ فِيهِ) من الثمرة فيما يستقبل مدّة حياة المُوصَى له (كَمَا في غَلَّةِ بُسْتَانِهِ) فإن مَنْ أوصى بِغَلّة بستانه تكون للمُوصَى له الغلّة الموجودة، والتي توجد مدّة حياة المُوصَى له وإن لم يقل أبداً. والفرق أنّ الثمرة في العُرْف اسمٌ للموجودة، فلا يتناول التي ستوجد، لأنها معدومةٌ إلاّ بدلالةٍ زائدةٍ مثل التنصيص على التأبيد. والغلّة في العُرْف ينتظم الموجودة وما يوجد مرةً بعد أخرى. يقال: فلانٌ يأكل من غلّة بستانه وغلّة أرضه، والمراد: مِمّا وُجِدَ وممّا يُوجَد، فإذا أُطْلِقت يتناولُهُما تناولاً غير موقوفٍ على دلالةٍ أخرى.

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 437

وبِـ: صُوفِ غَنَمِهِ، وَوَلَدِهَا، وَلَبَنِهَا: لَهُ مَا في وَقْتِ مَوْتِهِ، ضَمَّ أَبَدَاً أوْ لا.

وَتُوْرثُ بِيعَةٌ وَكَنِيسَةٌ جُعِلَتَا في الصِّحَّة. وَالوَصِيَّةُ بِجَعْلِ إحْدَاهُمَا، يَصِحُّ.

===

وإنما قال: فيه ثمرة، لأن البستان لو لم يكن كذلك، والمسألة بحالها، تناولت الثمرة ما كان موجوداً وما يوجد ما عاش المُوصَى له، كمسألة الغلَّة، وذلك لأن الثَّمرة تنتظم الموجود حقيقةً ولا تتناول المعدوم إلاّ مجازاً، فإذا كان في البُسْتَان ثمرة عند موت المُوصِي كان لفظ الثمرة مستعملاً في حقيقته، فلا يتناول المَجَاز، وإن لم يكن فيه ثمرة يتناول المَجَاز، ولا يجوز الجمع بينهما. إلاّ أنه إذا ذكر لفظ الأبد تناولهما عملاً بعمومِ المَجَاز، لا جمعاً بين الحقيقة والمجاز.

(و) في الوصية (بِصُوفِ غَنَمِهِ وَوَلَدِهَا وَلَبَنِهَا لَهُ) هذا الجار والمجرور خبر مقدّم، أي للمُوصَى له (مَا في وَقْتِ مَوْتِهِ) أي موت الموصِي، وليس له ما يحدث بعده سواء (ضَمَّ) الموصِي كلمة (أَبَداً أوْ لا) لأن الوصية إيجابٌ عند الموت، فيعتبر وجود هذه الأشياء عنده (وَتُوْرَثُ بِيْعَةٌ وَكَنِيسَةٌ جُعِلَتَا في الصِّحَّة) أي إذا صنع ذميّ في صحّته داره بيعةً أو كنيسةً ومات، فإنها تورث عنه. أمّا عند أبي حنيفة، فلأنه بمنزلة الوقف، وهو عنده لا يلزم فيورث، فكذا هذا. وأمّا عندهما، فلأن هذا معصيةٌ، فلا يصحّ وإن كان قُرْبةً في معتقدهم فيورث. واستُشكل قول أبي حنيفة بأن هذا عندهم كالمسجد عند المسلمين، والمسلم ليس له أن يبيع المسجد، فيكون الذميّ في البِيعَة والكنيسة كذلك.

وأُجِيبَ: بأن المسجد محرز عن حقوق الناس خالصٌ لله تعالى، ولا كذلك البِيعَة في معتقدهم، لأنهم يسكنونها ويدفنون فيها موتاهم، فلم تكن محرزة عن حقوقهم، فكان الملك للذميّ فيها ثابتاً. والمسجد إذا كان غير محرز عن حقوق المسلمين يورث. ويصحّ وصية الذميّ بما هو قُرْبةٌ في الملّتين، كالوصية للفقراء والمساكين، ولإسراج البيت المقدس ونحوه.

(وَالوَصِيَّةُ بِجَعْلِ إحداهما يَصِحُّ) أي وصية الذميّ ببناء داره بِيعَةً أو كنيسةً صحيحةٌ، وهذا بالاتفاق إن أوصى بذلك لقومٍ مُسَمّين وأَمَّا إِنْ أَوصى به لقومٍ غير مسميّن فعند أبي حنيفة تصحُّ، وعندهما لا تصحّ.

ولو أوصى بالكُرَاع

(1)

في سبيل الله ولم يعيّنه لأحدٍ، فالوصية باطلةٌ عند أبي حنيفة، لأن هذه الوصية في معنى الوقف، وهو غير جائزٍ في المنقول عنده وإن أُضِيفَ

(1)

الكُرَاعُ: اسم يجمع الخيل والسلاح. المعجم الوسيط ص 783 مادة (كرع).

ص: 438

‌فَصْلٌ

وَمَنْ أَوْصَى إلى زيدٍ فَقَبِلَ عِنْدَهُ، فإنْ رَدَّ، عِنْدَهُ رُدَّ وإلَّا لَا. فَإِنْ سَكَتَ فَمَاتَ مُوصِيهِ، فَلَهُ رَدُّهُ الإيصاءَ، وَضِدُّهُ.

===

إلى ما بعد الموت. وجعلاه وقفاً في يد الإمام، لِمَا مرّ في كتاب الوقف من حبس خالدٍ كُرَاعه وأَعْتُده

(1)

في سبيل الله.

ولو أوصى بثلث ماله في سبيل الله يخصّه أبو يوسف بمنقطع الغزاة، لسبقه إِلى الفهم عُرْفاً، وزاد محمد: منقطع الحاج لِمَا رُوِّينَا: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحجّ من سبيل الله. وأَجاز محمد الوصية للمسجد وإن لم يذكر الإنفاق عليه، لأن المراد منها الإنفاق على مصالحه. وشرطا لصحتها ذِكْر الإنفاق عليه، لأنه ليس بأهل للملك، والوصية تمليك، وذكر النفقة بمنزلة الوقف على مصالحه تصحيحاً للكلام.

ولو أوصى للعلماء استحقَّها الفقهاء وأهل التفسير والحديث، وقيل: وأهل الكلام، لا المُقْرِئون والأدباء والمعبّرون والأطباء، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العلم ثلاثة: آية

(2)

محكمةٌ، أو سنةٌ قائمةٌ، أو فريضةٌ عادلةٌ، وما سوى ذلك فهو فضل». رواه أبو داود وابن ماجه. ولو أوصى للعقلاء استحقّها زهَّاد العلماء، لأنهم في الحقيقة العقلاء، لتركهم الفاني وميلهم إلى الباقي، والله تعالى أعلم.

فصلٌ

(وَمَنْ أَوْصَى إلى زيدٌ فَقَبلَ) زيدٌ (عِنْدَهُ) أي في حضوره (فإنْ رَدَّ) زيدٌ الإيصاء (عِنْدَهُ) في حضور الموصِي بعد قبوله (رُدَّ) أي صحّ ردّه، لأنه ليس للموصِي ولاية إلزامه التصرُّف، ولا غُرور

(3)

في ردّه بحضوره، لأن الموصِي متمكّن من أن يُنِيبَ غيره. (وإلاَّ) أي وإن لم يردَّ زيدٌ الإيصاء في حضرة الموصِي بل ردّ في غيبته (لَا) أي لا يصحّ الردّ، لأن الميت مضى بسبيله معتمداً عليه، فلو صحّ ردّ المُوصَى إليه في غيبته في حياته أو بعد مماته كان مَغْروراً من جهته، فرُدَّ ردّه.

(فَإِنْ سَكَتَ) المُوصَى إليه فلم يقبل ولم يردّ (فَمَاتَ مُوصِيهِ فَلَهُ) أي للمُوصَى إليه (رَدُّهُ) أي ردّ (الإيصاء)(وَضِدُّهُ) أي ضدّ ردّ الإيصاء وهو قبول

(1)

في المخطوط: أَعدّه، والمثبت من المطبوع. والأعْتُدُ: هو ما أَعدّه الرجل من السلاح والدَّواب وآلة

الحرب. النهاية 3/ 176.

(2)

في المخطوط: أمرٌ، والمثبت من المطبوع، وهو الصواب لموافقته لما في سنن أَبي داود 3/ 306 - 307، كتاب الفرائض (13)، باب [ما جاء في تعليم الفرائض](1)، رقم (2885).

(3)

غر فلانًا: خدعه. المعجم الوسيط ص 648، مادة (غرّ).

ص: 439

وَلَزِمَ بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ، وَإنْ جَهِلَ بِهِ. فَإنْ رَدَّ بَعْدَ مَوْتهِ ثُمَّ قَبِلَ صَحَّ، إِلَّا إذَا نَفَّذَ قَاضٍ رَدَّهُ. وِإلى عَبْدٍ، أَوْ كَافِرٍ، أوْ فَاسِقٍ: بَدَّلَهُ القَاضِي بِغَيْرِهِ.

وَمَنْ أَوْصَى إلى عَبْدِهِ، صَحَّ إنْ كَانَ وَرَثَتُهُ صِغَارًا، وِإلَّا لَا. وإِلَى عَاجِزٍ عَنِ القِيَامِ بِهَا ضَمَّ إليه غَيْرَهُ، وَيَبْقَى أمِينٌ يَقْدِرُ.

===

الإيصاء، لأن المُوصِي ليس له ولاية إلزام المُوصَى إليه، فبقي مخيّراً.

(وَلَزِمَ) الإيصاء هذا الساكت (بِبَيْعِ شَيْءٍ) بأن يبيع شيئاً (مِنَ التَّرِكَةِ) لأنّ في ذلك دلالة على الالتزام والقبول، وهو معتبرٌ بعد الموت. وينفذ البيع لصدوره من الوصيّ (وَإنْ جَهِلَ بِهِ) أي بالإيصاء لأن العِلم ليس بشرطٍ في حقّه بخلاف الوكيل (فَإنْ رَدَّ) هذا الساكت (بَعْدَ مَوْتِهِ) أي موت الموصِي بأن قال: لا أقبل (ثُمَّ قَبِلَ) بعد ردّه بأن قال: قبلت (صَحَّ) قَبوله، لأن مجرد قوله:«لا أقبل» لا يبطل الإيصاء، لأن في إبطاله ضرراً بالميت.

(إِلاَّ إذَا نَفَّذَ قَاضٍ رَدَّهُ) بأن حكم بإخراجه عن الوصاية، لأن ردّه تأكَّد بحكم القاضي وتقوّى به (وإِلى عَبْدٍ) أي ومَنْ أوصى إلى عبدٍ (أَوْ كَافِرٍ أوْ فَاسِقٍ بَدَّلَهُ القَاضِي بِغَيْرِهِ) فإن هذه الوصية باطلةٌ على ما ذكره محمد. وعبارة القُدُورِي: أخرجهم القاضي عن الوصية، وهذا يدلّ على أن الوصية صحيحة، لأن الإخراج إنما يكون بعد الدُّخول.

(وَمَنْ أَوْصَى إلى عَبْدِهِ) أي جعل عبده وصياً (صَحَّ إنْ كَانَ وَرَثَتُهُ صِغَاراً) كلّهم، وهذا عند أبي حنيفة استحساناً. وقالا: لا يصحّ، وهو القياس، لأن الرِّقَّ ينافي الولاية. ولأبي حنيفة: أن لعبده من الشفقة ما لا يكون لغيره. (وإِلاّ) أي وإن لم يكن كلّهم صغاراً سواء كان كلّهم كباراً أو بعضهم (لَا) أي لا يصحّ الإيصاء، لأن للكبير أن يمنعه من أن يبيع نصيبه، حتّى له أن يبيع نصيبه من العبد، فيعجز عن الوفاء بما التزم من الوصاية، فلا يفيد الإيصاء إليه فائدة.

(و) مَنْ أَوْصى (إِلَى عَاجِزٍ عَنِ القِيَامِ بِهَا ضَمَّ) أي ضمّ القاضي (إليه غَيْرَهُ) رعاية لحقّ الموصِي والورثة. ولو شكى الوصيّ إلى القاضي (ذلك)

(1)

لا يجيبه حتّى يعرف ذلك حقيقةً، لأن الشاكي قد يكون كاذباً تخفيفاً على نفسه.

(وَيَبْقَى) وصيٌّ (أمِينٌ يَقْدِرُ) على التصرُّف وليس للقاضي أن يخرجه عن الوصاية، لأن الميت اختاره وارتضاه، ولأنه يقدّم على الأب مع وفور شفقته، فأولى أن يقدّم على غيره. ولو شكى الورثة أو بعضهم الوصيّ إلى القاضي، لا ينبغي له أن يعزله، لأنه

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 440

وإلى اثْنَين لا يَنْفَرِدُ أحَدُهُمَا إلَّا بِشِرَاءِ كَفَنِهِ، وَتَجْهِيزِهِ، والخُصُومَةِ في حُقُوقِهِ، وَقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَطَلَبِهِ، وَشَراءِ حَاجَةِ الطِّفْلِ، والاتِّهَابِ لَهُ، وَإِعْتَاقِ عَبْدٍ عُيِّن، وَرَدِّ وَدِيعَةٍ، وَتَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ مُعَيَّنتَيِنْ، وَجمْعِ أَمْوَالٍ ضَائِعَةٍ، وَبَيعِ مَا يُخَافُ تَلفُهُ.

وَوَصِيُّ الوَصِيِّ وَصِيٌّ في مَالِهِ وَمَالِ مُوصِيهِ.

===

استفاد الولاية من الميت، إلاّ إذا ظهر منه الخيانة لزوال ما لأجله جعله الميت وصيّاً.

(و) من أوصى (إلى اثْنَيْنِ لا يَنْفَرِدُ أحَدُهُمَا) بالتصرّف في تركته عند أبي حنيفة ومحمد (إلاّ بِشِرَاءِ كَفَنِهِ وَتَجْهِيزِهِ) لأن في تأخير ذلك فساد الميت، ولهذا يملكه الجيران عند ذلك في الحَضَر، والرُّفقَة في السفر. (والخُصُومَةِ في حُقُوقِهِ) لأن الاجتماع فيها متعذّر، ولذا ينفرد بها أحد الوكيلين. (وَقَضَاءِ دَيْنِهِ وَطَلَبِهِ) لأنه ليس من باب الولاية بل من باب الإعانة، بخلاف اقتضاء دينه ـ وهو قبضه ـ لأن الميت إنما رضي بأمانتهما جميعاً.

(وَشَراءِ حَاجَةِ الطِّفْلِ) المُوصَى عليه من طعامٍ وكسوة، لأن (في تأخيره إلى الاجتماع)

(1)

يُخاف موته

(2)

جوعاً وعُرْياً (والاتهَابِ لَهُ) أي قبول الهبة للطِّفل، لأن في تأخيره خوفَ الفَوْت. (وَإِعْتَاقِ عَبْدٍ عُيِّنَ) أي معيّن، لأنه لا يحتاج إلى الرأي بخلاف إعتاق غير المعيّن (وَرَدِّ وَدِيعَةٍ وَتَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ مُعَيَّنَتَيْنِ) لأنه لا يحتاج فيهما إلى الرأي، ولأنهما من باب الإعانة دون الولاية. ألا ترى أن صاحب ذلك يملكه إذا ظفر به (وَجمْعِ أَمْوَالٍ) للميت (ضَائِعَةٍ) أي على شرف الضياع، لأن في التأخير آفات (وَبَيْعِ مَا يُخَافُ تَلفُهُ) لأن فيه ضرورة لا تخفى.

وقال أبو يوسف: ينفرد كل من الوصيَّيْن بالتصرُّف في جميع الأشياء. قيل: الخلاف فيما إذا أوصى إلى كلّ واحدٍ منهما بعقدٍ على حدة، وأما إذا أوصى إليهما بعقدٍ واحدٍ فلا ينفرد أحدهما باتفاق، ذكره الكاساني. وقيل: الخلاف فيما إذا أوصى إليهما بعقدٍ واحدٍ، وأما إذا أوصى إلى كلّ واحدٍ بعقدٍ على حدةٍ فينفرد أحدهما بالتصرّف اتفاقاً، ذكره الحَلْواني عن الصفّار. قال أبو اللَّيْث: وهو الأصحّ، وبه نأخذ. وقيل: الخلاف في الفصلين جميعاً، ذكره أبو بكر الإسكاف. قال في «المبسوط»: وهو الأصحّ. بخلاف الوكيلين إذا وكلّهما متفرقاً بعقدٍ حيث ينفرد كل واحدٍ منهما بالتصرُّف اتفاقاً. ثم إذا مات أحدهما عوَّض القاضي بدلاً عنه اتفاقاً.

(وَوَصِيُّ الوَصِيِّ وَصِيٌّ في مَالِهِ وَمَالِ مُوصِيهِ) أي في التركتين. وعند الشّافعيّ

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

في المخطوط: ضرره، والمثبت من المطبوع.

ص: 441

وَلَا يَبِيعُ وَصِيٌّ وَلَا يَشْتَرِي إِلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ. ويَدْفَعُ مَالَهُ مُضَارَبَةً وَشَرِكَةً وَبِضَاعَةً.

وَيَحْتَالُ عَلَى الأمْلأَ، لَا عَلَى الأَعْسَرِ. وَلَا يُقْرِضُ،

===

وأحمد في رواية: لا يكون وصيّاً في تركة الأوّل اعتباراً بالتوكيل في حال الحياة (وَلَا يَبِيعُ وَصِيٌّ) مال الصغير من أجنبي (وَلَا يَشْتَرِي) له منه (إِلاَّ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ) في مثله، وهو ما فيه غبنٌ يسير، لقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَال اليتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

(1)

. وأمّا لو اشترى شيئاً من مال اليتيم لنفسه، أو باع شيئاً من ماله لليتيم جاز عند أبي حنيفة.

وفي إحدى الرِّوايتين عن أبي يوسف: إذا كان لليتيم فيه منفعةٌ ظاهرةٌ، بأن يبيع من الصغير ما يساوي خمسة عشر بعشرة، أو يشتري لنفسه من الصغير ما يساوي عشرة بخمسةَ عشرَ. وعلى قول محمد وهو أظهر الروايتين عن أبي يوسف: لا يجوز على كلّ حالٍ، وبه قال مالك والشّافعيّ، إذ الواحد لا يتولى طرفي البيع لامتناع كونه مُطَالِباً ومُطَالَباً، وهذا في وصيّ الأب، لأن وصي القاضي لا يجوز بيعه لمال الصغير من نفسه بكلّ حال اتفاقاً. ويجوز للأب بمثل القيمة كالاقتراض، وأبطله زُفَر لما تقدّم.

ولنا: أن الأب لكمال ولايته ووفور شفقته وحاجة الصغير، جُعِلَ كشخصين، فيتولّى الطرفين. وقال المتأخِّرون: لا يجوز للوصيّ بَيْعُ عقار الصغير إلاّ أن يكون على الميت دين، أو يرغب المشتري فيه بضعف الثَّمن، أو يكون للصغير حاجةٌ إلى الثَّمن. قال الصدر الشهيد: وبه يُفْتَى.

(ويَدْفَعُ) الوصيّ (مَالَهُ) أي الصغير (مُضَارَبَةً) ويأخذه أيضاً مضاربةً لكن بشرط الشهادة على ذلك نفياً للتهمة إذ ليس فيها تملك ماله (وَشَرِكَةً وَبِضَاعَةً) لقيامه مقام أبيه (وَيَحْتَالُ) أي ويقبل الحَوالة (عَلَى الأمْلأِ) أي الأغنى من الغريم (لَا عَلَى الأَعْسَرِ) لأن في ذلك نظراً له، وولاية الوصيّ نظرية. ويأكل منه عند اشتغاله بحاجته، لقوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}

(2)

.

(وَلَا يُقْرِضُ) الوصيّ مال اليتيم وإن أقرض ضمن، لأنه لا يقدر على الاستخراج بخلاف القاضي، والأب بمنزلة الوصيّ في أصحّ الروايتين.

(1)

سورة الأنعام، الآية:(152).

(2)

سورة النساء، الآية:(6).

ص: 442

وَيَبِيعُ عَلَى الكَبِيرِ الغَائِبِ إلَّا العَقَار.

وَلَا يَتَّجِرُ فِي مَالِهِ.

===

(وَيَبِيعُ) الوصيّ (عَلَى الكَبِيرِ الغَائِبِ) كلّ شيءٍ (أَلاّ العَقَار) إن لم يكن عليه دينٌ، وأمّا إذا كان عليه دينٌ فإن كان مستغِرقاً للعَقَار، باع الوصيّ العَقَار كلّه بالاتفاق، وإن لم يكن مستغرقاً باع بقدر الدّين عندهما، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: له بيعه كلّه. ولو خِيفَ هلاك العَقَار، قيل: يملك الوصيّ بيعه، لأنّه تعيّن حفظاً كالمنقول، والأصحّ أنه لا يملك لأنه نادرٌ.

(وَلَا يَتَّجِرُ) الوصيّ (فِي مَالِهِ) أي الصغير، لأن المفوَّض إليه الحفظ دون التجارة. ويقدّم وصيّ الأب على الجدّ، فإن لم يوصِ الأب قام الجد مقامه، ولا يلي على مال الطفل أحدٌ غيرهما، والله أعلم.

ص: 443

‌كِتابُ الخُنْثَى

هُوَ ذُو فَرْجٍ وَذَكَرٍ، فإن بَالَ مَنْ ذَكَرِهِ فَذَكَرٌ، وإنْ بَال مَنْ فَرْجِهِ فَأُنْثَى، وَإنْ بَالَ مِنْهُمَا حُكِمَ بالأَسْبَقِ. وَإِنْ اسْتَوَيا، فَمُشْكِلٌ.

وَلَا تُعْتَبَرُ الكُثْرَةُ، فَإِنْ بَلَغَ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَامَةُ أحَدِهِمَا، فَمُشْكِلٌ.

فَإنْ قَامَ فِي صَفِّهِنَّ أَعَادَ، وَفي صَفِّهِمْ يُعِيدُ مَنْ بِجَنْبَيْهِ وَمَنْ خَلْفَه بِحِذَائهِ.

===

كتاب الخُنْثَى

(هُوَ) مولودٌ (ذُو فَرْجٍ وَذَكَر، فإن بَالَ مَنْ ذَكَرِهِ فَذَكَرٌ، وإنْ بَال مَنْ فَرْجِهِ فَأُنْثَى) لأن البول من أحدهما دليلٌ على أنه العضو الأصلي الصحيح، والآخر بمنزلة العيب. (وَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا حُكِمَ بالأَسْبَقِ) لأن السبق دليلٌ على أن محله هو العضو الأصلي، ولأنه كما خرج البول حُكِمَ بموجبه، لأنه علامة تامّة، فلا يُعْتَبر بخروج البول من آلة أخرى بعد ذلك. (وَإِنْ اسْتَوَيا) بإن لم يسبق أحدهما الآخر، سواء كان الخروج من أحدهما أكثر من الآخر، أو لم يكن (فَمُشْكِلٌ) أي فهو الخُنْثَى المُشْكِلُ عند أبي حنيفة (وَلَا تُعْتَبَرُ) عنده (الكُثْرَةُ) وقالا: تُعْتَبَر، لأن كثرة البول من أحدهما علامة قوة ذلك العضو وكونه أصلياً، ولأن للأكثر حكمَ الكلّ في أصول الشرع. فيترجّح ذلك العضو بكثرة البول منه.

ولأبي حنيفة: أن كثرة ما يخرج لا يدلّ على القوة، لأن ذلك قد يكون لاتِّساع في أحدهما وضيقٍ في آخر. ولو كان الخروج منهما على السواء فهو مُشْكِلٌ بالاتفاق.

(فَإِنْ بَلَغَ) الخُنْثَى، فإن ظهر له علامة الرِّجال: بإن خرجت لحيته، أو وصل إلى النساء، أو احتلم كما يحتلم الرِّجال، فهو رجلٌ، وإن ظهر له علامة النِّساء: بأن خرج له ثديٌ كثدي المرأة، أو نزل له لبن في ثديه، أو حاض، أو حَبِلَ، أو أمكن الوصول إليه من الفرج، فهو امرأةٌ، (وَ) إن (لَمْ يَظْهَرْ) له (عَلَامَةُ أحَدِهِمَا) أو تعارضت العلامات (فَمُشْكِلٌ) فيؤخذ فيه بالأحوط والأوثق في أمر الدين، وهو: أن لا يُحكم فيه بحكم وقع الشك في ثبوته.

(فَإِنْ قَامَ فِي صَفِّهِنَّ) أي صفّ النساء (أَعَادَ) صلاته استحباباً إن كان (مراهقاً، وحتماً إن كان)

(1)

بالغاً، لاحتمال أنه رجلٌ فتفسد صلاته (وَ) إن قام (في صَفِّهِمْ) أي في صفّ الرجال (يُعِيدُ مَنْ بِجَنْبَيْهِ وَمَنْ خَلْفَه بِحِذَائِهِ) لاحتمال أنه امرأة

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 444

وَصَلّى بِقِنَاعٍ. وَلَا يَلْبَسُ حرِيرًا وَحُلِيًّا، وَلَا يَكْشِفُ عِنْدَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَلَا يَخْلُو بِهِ غَيْرُ مَحْرَمٍ: رَجُلٍ أوْ امْرَأَةٍ، وَلَا يُسَافِرُ بِلَا مَحْرَمٍ.

وَكُرِهَ لِلرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ خَتْنُهُ، وَيُشْتَرَى أَمَةٌ فَتَخْتِنُهُ، إنْ مَلَكَ مَالًا، وإلَّا فَمِنْ بَيْتِ المَالِ، ثُمَّ تُبَاعُ. فَإنْ مَاتَ قَبْلَ ظُهُورِ حَالِهِ لَمْ يُغَسَّلْ، وَيُيَمَّمُ.

وَلَا يَحْضُرُ مُرَاهِقًا غُسْلَ مَيّتٍ، وَنُدِبَ تَسْجِيَةُ قَبْرِهِ. وَيُوضَعُ الرَّجُلُ بِقُرْبِ الإِمام، ثُمَّ هُوَ، ثُمَّ المَرْأَةُ، إِذَا صَلَّى عَلَيْهِمْ.

فَإِنْ تَرَكَهُ أبُوهُ وَابْنًا، فَلَهُ سَهْمٌ وَلِلابْنِ سَهْمَانِ.

===

(وَصَلّى بِقِنَاعٍ) لاحتمال أنه أمرأة، فإِن كان (بالغاً)

(1)

حراً وجب عليه ذلك، وإلاّ استحبّ له.

(وَلَا يَلْبَسُ حرِيراً وَ) لا (حُلِيّاً وَلَا يَكْشِفُ عِنْدَ رَجُلٍ وَ) لا عند (امْرَأَةٍ وَلَا يَخْلُو بِهِ غَيْرُ مَحْرَمٍ رَجُلٍ أوْ امْرَأَةٍ وَلَا يُسَافِرُ بِلَا مَحْرَمٍ) من الرِّجال، كل ذلك احترازاً عن ارتكاب المحرَّم.

(وَكُرِهَ لِلرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ خَتْنُهُ) أمّا الرّجل فلاحتمال أنّ الخُنْثَى أنثى، وأمّا المرأة فلاحتمال أنه ذكرٌ (وَيُشْتَرَى) من ماله (أَمَةٌ فَتَخْتِنُهُ إنْ مَلَكَ مَالاً) لأنه يباح لمملوكه النظر إليه (وإِلاَّ) أي وإن لم يملك مالاً (فَمِنْ بَيْتِ المَالِ) يشتري له الإمام أمة تختنه، لأن بيت المال أعِدّ لنوائب المسلمين، فإذا اشتراها له تدخل في ملكه بقدر حاجة الخِتَان. (ثُمَّ تُبَاعُ) إذا ختنته، ويردّ ثمنُها إلى بيت المال لحصول الاستغناء عنها.

(فَإِنْ مَاتَ) الخُنْثَى (قَبْلَ ظُهُورِ حَالِهِ لَمْ يُغَسَّلْ) لأن الغاسل إمّا رجلٌ وإمّا امرأةٌ، (والخنثى إما رجلٌ أو امرأةٌ)، وحِلّ الغسل غير ثابتٍ بين الرِّجال والنِّساء، فَيُتْرَك لاحتمال حرمته. (وَيُيَمَّمُ) لتعذّر الغُسْل (وَلَا يَحْضُرُ) الخُنْثَى حال كونه (مُرَاهِقاً غُسْلَ مَيِّتٍ) لاحتمال أنه ذكر أو أنثى (وَنُدِبَ تَسْجِيَةُ قَبْرِهِ) أي تغطيته، لأنه إن كان أنثى أقيم واجبٌ، وإن كان ذكراً لا تضرّ التسجية.

(وَيُوضَعُ الرَّجُلُ بِقُرْبِ الإِمام، ثُمَّ) يوضع (هُوَ)، أي الخُنْثَى خلف الرَّجل (ثُمَّ) توضع (المَرْأَةُ) خلف الخُنْثَى (إِذَا صَلَّى عَلَيْهِمْ) جميعاً (فَإِنْ تَرَكَهُ أبُوهُ وَابْناً فَلَهُ)(أي الخُنْثَى)

(2)

عند أبي حنيفة (سَهْمٌ وَلِلابْنِ سَهْمَانِ) لأن له عنده أقلّ النصيبين، أي يُنْظَر إلى نصيبه إن كان ذكراً وإلى نصيبه إِنْ كان أنثى، فأي منهما يكون أقلّ فله

(1)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 445

وَعِنْدَ الشَّعْبِي لَهُ نِصْفُ النَّصِيبَين، وَهُوَ: ثَلَاثَةٌ مِنْ سَبعَةٍ عِنْدَ أبي يُوسُفَ، وَخَمْسَةٌ مِنْ اثْنَي عَشَرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ.

‌مَسَائِلُ شَتَّى

كِتَابَةُ الأَخْرَسِ وَإِيمَاؤُهُ بِمَا يُعْرَفُ بِهِ نِكَاحُهُ، وَطَلَاقُهُ، وَبَيْعُهُ، وَشِرَاؤُهُ، وَوَصِيَّتُهُ، وَقَوَدُهُ: كَالبَيَانِ،

===

ذلك.

وفي هذه الصورة ميراثه على تقدير الأنوثة أقل فله ذلك. (وَعِنْدَ الشَّعْبِيّ) وهو قولهما كما في «الهداية» (لَهُ نِصْفُ النَّصِيبَيْنِ) أي يجمع بين نصيب الخُنْثَى إن كان ذكراً ونصيبه إن كان أنثى، وله نصف ذلك المجموع.

(وَهُوَ) أي نصف النصيبين (ثَلَاثَةٌ مِنْ سَبْعَةٍ عِنْدَ أبي يُوسُفَ) لأنه اعتبر نصيب كل واحدٍ منهما حالة انفراده، فإنَّ الذَّكر لو كان وحده كان له كلّ المال، والخُنْثَى لو كان وحده: إن كان ذكراً كان له كل المال، وإن كان أثنى كان له نصف المال، فيأخذ نصف الكلّ ونصف النصف، وذلك ثلاثة أرباع المال، وللابن كل المال فيُجْعَل كل ربع سهماً، فيبلغ سبعة بطريق العَوْل: للابن أربعة، وللخُنْثَى ثلاثة. وإن شئت تقول: له النصف إن كان أُنْثَى والكل إن كان ذكراً، فالنصف متيقّن، ووقع الشَّك في النصف الآخر، فنصفٌ صار رُبُعاً، فالنصف والربع ثلاثة أرباع.

(وَخَمْسَةٌ) أي ونصف النصيبين خمسة (مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) لأن الخُنْثَى يستحقّ النصف مع الابن إن كان ذكراً، والثلث إن كان أنثى، والنصف والثُّلُث خمسة من ستة، فله نصف ذلك، وهو اثنان ونصف من ستة. وقع الكسر بالنصف فضرب الستة في اثنين صار خمسة من اثنيّ عشر، هو نصيب الخُنْثى، والباقي وهو السَّبعة نصيب الابن، وإن شئت تقول: له الثلث إن كان أنثى والنصف إن كان ذكراً، ومخرجهما ستة. فالثلث اثنان والنصف ثلاثة، فاثنان متيقّن ووقع الشكّ في الواحد الآخر، فنصف، صار اثنين ونصفاً. وقع الكسر بالنصف، صار خمسة من اثني عشر.

مَسَائِلُ شَتَّى

(كِتَابَةُ الأَخْرَسِ وَإِيمَاؤُهُ) أي إشارته (بِمَا يُعْرَفُ بِهِ نِكَاحُهُ، وَطَلَاقُهُ، وَبَيْعُهُ، وَشِرَاؤُهُ، وَوَصِيَّتُهُ، وَقَوَدُهُ، كَالبَيَانِ) أي كما يُعْرَف ذلك بالنطق باللسان، لأن الكتابة ممّن نأى بمنزلة الخطاب ممّن دنا. ألا ترى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كما أدّى ما وجب عليه تبليغه بالعبارة أدّى بالإشارة، كقوله: «الشهر هكذا، وهكذا،

ص: 446

وَلَا يُحَدُّ.

وَقَالُوا في مُعْتَقَلِ اللِّسَان: إِنْ امْتَدَّ ذَلِكَ وَعُلِمَ إِشَارَتُهُ، فَكَذَا. وَفِي غَنَمٍ مَذْبُوحَةٍ فِيهَا مَيْتَةٌ

===

وهكذا»

(1)

. وأدّى بالكتابة، ككتابه لهِرَقل وغيره.

ثم الكتابة منقسمة إلى ثلاثة أقسام: منها مُستَبِينٌ مرسوم، وهو أن يكتب: من فلانٍ إلى فلانٍ أن الأمر كذا وكذا من الطلاق والعتاق ونحوهما، فهذا كالنطق. ومنها مستبين غير مرسوم، كالكتابة على الجدار وأوراق الأشجار وعلى الكاِغَد

(2)

، لا على وجه رسم الديار، فهذا ليس له اعتبارٌ إلاّ بانضمام شيء آخر إليه كالبيّنة والإشهاد عليه والإملاء على الغير حتّى يكتب لديه، لأن الكتابة قد تكون للتجرِبة، وبهذه الأشياء يتبيّن أنها ليست كذلك. ومنها غير مستبين كالكتابة على الهواء والماء، وهو بمنزلة كلام غير مسموع، فلا يثبت به شيء من الأحكام ولو انضم إليه نيةٌ، وإنّما جُعِلَت الإشارة حجَّة للأخرس للحاجة في حقّ هذه الأحكام، لأنها من حقوق العباد وهي تثبت مع الشبهة.

(وَلَا يُحَدُّ)(الأَخرس)

(3)

إذا أقرّ بما يوجب الحدّ، ولا قاذفه بطريق الإشارة أو الكتابة. أمّا إن كان مقذوفاً فلأن الحدود تندراء بالشبهات، ولعلّه مصدّق لقاذفه، فلا يُحَدّ قاذفه للشبهة ولعدم تيقّن علّة

(4)

الحدّ. وأمّا إذا كان قاذفاً، فلا يحدّ لانعدام القذف صريحاً بالزنا، وهو شرط فيه. والفرق بين الحدّ والقَوَد حيث يثبت القود بالكتابة والإشارة، بخلاف الحدّ.

إن القَوَد حقّ العبد، (وحقّ العبد)

(5)

لا يختصّ بلفظٍ دون لفظٍ، وقد يثبت بدون اللفظ، كالتعاطي بخلاف الحدّ، فإنه لا يثبت ببيان فيه شُبْهَة. (وَقَالُوا في مُعْتَقَلِ اللِّسَان) وهو الذي اعترض له احتباس اللِّسان حتّى لا يقدر على الكلام والبيان (إِنْ امْتَدَّ ذَلِكَ) الاعتقال بأن بقي سنةً. وقيل: إلى زمان الموت، وقيل: وعليه الفتوى. (وَعُلِمَ إِشَارَتُهُ) أي المُعْتقل (فَكَذَا) أي فحكمه حكم الأخرس بخلاف الذي صمت يوماً، أو يومين لعارضٍ.

(وَفِي غَنَمٍ مَذْبُوحَةٍ فِيهَا مَيْتَةٌ) ولا علامة تتميّز به الميتة من المذبوحة، إن

(1)

أَخرجه مسلم في صحيحه 2/ 759، كتاب الصيام (13)، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال

(2)، رقم (4 - 1080).

(2)

الكاغَد: القِرْطاس: المعجم الوسيط ص 791 مادة (الكاغد).

(3)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

(4)

في المخطوط: طلبه، والمثبت من المطبوع

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

ص: 447

هِيَ أقَلّ، تَحَرَّى وَأَكَلَ فِي الاخْتِيَارِ.

===

كان الميتة أكثر، أو كانتا مستويتين. لم يؤكل الغنم في حالة الاختيار، وإن كانت (هِيَ) أي الميتة (أقَلّ تَحَرَّى وَأَكَلَ) ذلك الغنم (فِي) حالة (الاخْتِيَارِ) قيّد به، لأَنَّ الميتة المتيقنة

(1)

يحلّ أكلها في حالة الاضطرار، فالمشكوك فيها أولَى. وعند مالك والشافعيّ وأحمد: لا يؤكل بالتحرّي في حالة الاختيار، وإن كانت المذبوحة أكثر، لأن التحرّي دليلٌ ضروري، فلا يُصَار إليه من غير ضرورة، (ولا ضرورة)

(2)

في حالة الاختيار.

ولنا: أن الغلبة تُنَزَّلُ منزلة الضرورة في إفادة الإباحة، ألا ترى أن أسواق المسلمين لا تخلو عن المحرّم من مسروقٍ ومغصوبٍ، ومع ذلك يباح التناول اعتماداً على الظاهر، وهذا لأن القليل منه لا يمكن التحرّز عنه، فيسقط اعتباره دفعاً للحرج، وقد قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}

(3)

، وقال عليه الصلاة والسلام:«بُعِثْتُ بالحنيفية السَّمْحَة، ومن خالف سنتي فليس مني» . رواه الخطيب عن جابر رضي الله عنه.

الحمد الله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وأفصل الصلوات وأكمل التحيات على سيد الموجودات وسند المشهودات، وعلى آله وصحبه وأزواجه الطاهرات، وعلى العلماء والصلحاء الكاملين وسائر المؤمنين والمؤمنات (الأحياء منهم والأموات).

وقد وقع تحرير هذا الكتاب بعون الملك الوهَّاب على يد مؤلفه رُحِمَ مع سلفه، وهو أفقر عباد الله الغنيّ الباري عليّ بن سلطان محمد القَاري، عاملهما ربّهما بلطفه الخفي وكرمه الوفيّ، وذلك بمكّة المكرّمة قُبَالة الكعبة المعظّمة، عام ثلاث بعد الألف من الهجرة المفخَّمة)

(4)

.

(1)

في المطبوع: المتعينة، والمثبت من المخطوط.

(2)

ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

(3)

سورة الحج، الآية:(78).

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوع.

ص: 448