الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مقدمة المصنف]
بسم الله الرحمن الرحيم، وبِه نستعين
إِنَّ الحَمد لله نحمدُه ونستعينه ونَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شُرُور أَنْفُسِنَا ومن سيئات أَعمالنَا؛ مَنْ يَهده اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ومَن يُضلل فَلَا هادي لَهُ.
وأشْهد أَنَّ لَا إِلَه إِلَّا الله وحده لَا شريك لَهُ، وأشْهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبده ورَسُوله.
أمَّا بعد: فقد سُئِلَ شيخُ الإسْلَام وعَلَم الأَعْلَام، نَاصِر السُّنَّة وقامع البِدْعَة؛ أَحْمد بن عبد الحَلِيم ابْن تَيْمِية رحمه الله عَنْ قَوْله عز وجل:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21].
فَمَا العِبَادَة؟ ومَا فروعها؟ وهل مَجْمُوع الدَّين دَاخل فِيهَا أم لَا؟ ومَا حَقِيقَة العُبُودِيَّة؟ وهل هِيَ أَعلَى المقامات فِي الدُّنْيَا والآخِرَة، أم فَوْقهَا شَيْء من المقامات؟ وليبسط لنا القَوْلَ فِي ذَلِك.
فَأجَاب رحمه الله:
العِبَادَة: هِيَ اسْمٌ جَامعٌ لكلِّ مَا يُحِبهُ الله ويرضاه من الأَقْوال والأعمال البَاطِنَة والظَّاهِرَة.
فَالصَّلَاة والزَّكَاة والصِّيَام والحج وصِدق الحَدِيث وأَدَاء الأمَانَة وبرُّ الوالِدين وصِلَة الأَرْحَام والوفَاء بالعُهود والأَمر بِالمَعْرُوفِ والنَّهْي عَنْ المُنكر والجهَاد للكفَّار والمُنَافِقِينَ والإِحْسَان للجَار واليتيم والمسكين وابْن السَّبِيل والمملوك من الآدَمِيّين والبهائم، والدُّعَاء،
والذِّكر، والقِرَاءَة، وأمثال ذَلِك من العِبَادَة لله.
الحمدُ لله وحده، والصَّلاةُ والسَّلامُ على مَنْ لا نَبِيَّ بعده، صَلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصَحْبه وسَلَّم تسليمًا كثيرًا.
ثم أمَّا بعد: فرسالةُ «العبودية» لشيخ الإسلام ابن تيمية هي إجابة عن سؤال وُجِّه إليه عن العبادة؟ وما فروعها؟ وهل يدخل فيها مضمون الدِّين أم لا؟ وما حقيقة العبودية؟ وهل هي أعلى المقامات في الدُّنيا والآخرة؟ أو فوقها شيء من المَقامات؟
وقد بدأ شيخ الإسلام رحمه الله جواب عن هذا السؤال بتعريف جامع للعبادة فقال: «العِبادة: هي اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحِبُّه اللهُ ويَرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة» ، وتندرج تحت هذه العبارة جملة مسائل؛ نذكر منها:
المسألة الأولى: تعريف العبادة لغة:
العبادة في اللغة: مَصدر عَبَدَ.
وفي «القاموس» : «العَبْدِيَّةُ والعُبودِيَّةُ والعُبودَةُ والعِبادَةُ: الطَّاعَةُ»
(1)
.
وفي «الصِّحاح» : «أصلُ العُبودية: الخُضوع والذُّل، والتَّعبيد: التَّذليل.
يقال: طريق مُعَبَّد، والبَعير المُعبد: المَهنوء بالقَطْرَان المُذَلَّل.
والعبادة: الطاعة، والتعبد: التَّنَسُّك».
(1)
«القاموس المحيط» للفيروزآبادي (ص 296).
فتفترق المعاني بحسب الاشتقاق.
«وقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29]، أي: في حِزبي»
(1)
، فأضاف إليها معنى جديدًا، وهو الولاء.
وفي «المخصص» : «أصل العبادة: التَّذليل، من قولهم: طريق مُعَبَّد، أي: مُذَلَّل بكثرة الوطءِ عليه
…
ومنه أُخِذ (العبد) لِذِلَّتِه لمَولاه.
والعبادة والخضوع والتَّذَلُّل والاستكانة قَرائب في المعاني؛ يقال: تعَبَّد فلان لفلان: إذا تذلل له، وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة؛ طاعة كان للمعبود أو غيرَ طاعة، وكل طاعة لله على جهة الخُضوع والتَّذَلُّل فهي عبادة، والعبادة نوع من الخضوع، لا يَستحقه إلا الُمنعم بأعلى أجناس النِّعَم؛ كالحياة والفَهم والسَّمع والبَصر»
(2)
.
وفي «اللِّسان» : «أصل العبودية: الخضوع والتذلل
…
، وفي حديث أبي هريرة:«لا يَقل أحدكم لمملوكه: عَبدي وأَمَتي، وليقل: فتاي وفتاتي»
(3)
؛ هذا على نفي الاستكبار عليهم، وأن يَنسب عبوديتهم إليه، فإنَّ المستحق لذلك الله تعالى، هو رب العباد كلهم والعبيد»
(4)
.
وجعل بعضهم العبادة لله، بخلاف العبودية وغيرها فهي تجعل لله وللمخلوقين.
قال الأزهري: «ولا يقال: عبد يَعبد عبادة، إلَّا لمن يعبد الله، ومَن عَبَدَ من دونه إلهًا فهو من الخاسرين، قال: وأمَّا عَبْدٌ خَدَمَ
(1)
انظر: «الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية» للجوهري (2/ 503، 504).
(2)
انظر: «المخصص» ، لابن سيده (4/ 62).
(3)
أخرجه البخاري (2552)، ومسلم (2249).
(4)
«لسان العرب» لابن منظور (3/ 271).
مَولاه، فلا يُقال: عَبَدَه
…
قال الليث: ويُقال للمشركين: هم عَبَدَة الطاغوت.
ويقال للمسلمين: عباد الله، يَعبدون الله
…
، والعابد: المُوحِّد»
(1)
.
وعلى هذا، فتعريف العبادة في لغة العرب: هو أن العبادة هي الذلُّ والخضوع المُستلزِم طاعة المَعبود أمرًا ونهيًا، ولذا سُمِّي الرقيق «عبدًا» ؛ لأنَّه يَذِلُّ ويخضع لسيده أمرًا ونهيًا فيما يَختص بشئون الحياة.
فمدار كلمة (العبادة) - في اللغة- على التذلل والخضوع والاستكانة، وهي معان متقاربة، لكن هذه اللفظة لما استعملت في الشَّرع أُضيف إليها مع الخضوع كمال المحبة، فانتقلت إلى المعنى الشرعي بإضافة المحبة مع الخضوع. ولذلك لما عرَّفها ابنُ كثير رحمه الله قال:«العبادة في اللغة: مِنْ الذِّلَّة، يُقال: طريق مُعَبَّد، وبَعير مُعَبَّد، أي: مُذَلَّل. وفي الشرع: عِبارة عمَّا يَجمع كمال المحبة والخُضوع والخَوف»
(2)
، فعند تعريفها في الشرع زاد فيها معنى آخر، وهو المحبة.
المسألة الثانية: استعمالات كلمة (عبد) في الشرع.
استُعملت كلمة (عبد) في الشرع على عِدَّة أقسام:
القسم الأول: عبودية الرِّقِّ، كما جاء في قوله:{ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]، فالمراد بالعبد هنا: العَبد الرَّقيق المملوك؛ فتُطلق العبودية ويُراد بها عبودية الرِّقِّ.
القسم الثاني: العبودية العامَّة؛ حيث تُطلق العبودية ويُراد بها العبودية العامَّة؛ أي: عبودية الربوبية، كما في قوله: {إن كل من
في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا} [مريم: 93]، فالعبد هنا: عَبد القَهر والمُلك لله سبحانه وتعالى، وكلُّنا عبيدٌ لله عز وجل.
وعند جمع كلمة (عبد) يَظهر الفرق بين عبودية الربوبية لله عز وجل، وكذلك عبودية الرق، فتقول في جمعها: عَبيد، وأمَّا في عبودية الألوهية فتقول: عِباد، ولذلك قال تعالى:{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا} [الفرقان: 63].
القسم الثالث: العبودية الخاصة، أي: عبودية التَّأَلُّه، كما في قوله تعالى:{واذكر عبدنا داود ذا الأيدي} [ص: 17]، {واذكر عبدنا أيوب} [ص: 41]، {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1]، فهذه العبودية الخاصة.
القسم الرابع: عبودية الأشياء؛ كعبد الدنيا وشهواتها، وهو المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم:«تَعِس عبدُ الدِّينار والدِّرهم، والقَطيفة، والخَمِيصة؛ إن أُعطي رَضِي، وإن لم يُعط لم يَرْضَ»
(1)
، فهذا فِيمَن استعبدته الدنيا وملذَّاتها فأصبح لها عبدًا.
لذا يلزم التفريق في استعمالات هذه الكلمة، حتى يتضح المراد بها.
وهذه المعاني مما يجدر مَعرفتها والعناية بها؛ لأنها سترد خلال سياق هذه الرِّسالة المباركة.
المسألة الثالثة: تعريف العبادة شرعًا:
مع اختلاف عبارات العلماء- رحمهم الله في تعريف العِبادة شرعًا إلا أنَّ الجميع يدور حول معنى واحد، والفرق بين تعريفاتهم
(1)
أخرجه البخاري (6435). والقطيفة: كساء أو فراش له أهداب. والخميصة: ثَوب أسود أو أحمر له أعلامٌ.
إنما يقع في الشمول، وسنعرض بعضًا منها:
1 -
قال الإمام القرطبيُّ رحمه الله: «العبادة: عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه، وأصل العبادة: الخضوع والتَّذَلُّل»
(1)
.
2 -
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: «العبادة في الشرع: عِبارة عمَّا يَجمع كمال المحبة والخُضوع والخَوف»
(2)
؛ وعليه فَمن اتصف بذلك فإنه يُطلق عليه أنَّه عابد لله عز وجل.
3 -
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هنا: «العبادة: هي اسم جامعٌ لكلِّ ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة» .
وعلى هذا يتضح أنَّ للعبادة تعريفين.
أحدهما: باعتبار العابد، وهو كمال الذُّلِّ مع كمال الحب لله عز وجل.
والآخر: باعتبار المُتَعَبَّد به، وهو ما يُحِبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ لكونه عز وجل شَرَعَه وعُمِل وَفْقَ مُراده.
وقول المصنف: «ومن ذلك: الصلاة، والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر والقراءة، وأمثال ذلك
من العبادة، وكذلك حبُّ الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكُّل عليه والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله».
المسألة الرابعة: شرح تعريف المصنف للعبادة شرعًا:
عَرَّف المصنفُ العبادةَ فقال: «هي اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبه الله ويرضاه» .
فالعبادة اسم جنس؛ لذلك قال: (اسمٌ جامع).
وقوله: (لما يحبه الله ويرضاه): قيد للعبادة، وهو أن تكون ما يحبه الله ويرضاه، وهو كل ما أمر به؛ إمَّا أمر وجوب أو أمر استحباب، إذ الأوامر إمَّا فعلية وإمَّا تركية.
وهنا يجدر التنبيه إلى أمورٍ؛ وهي:
الأمر الأول: أنَّ جمهور الأُصوليين قَسَّموا الأحكام الشرعية التكليفية إلى خمسة، وهي:
1 الواجب وهو: ما يُثاب فاعله، ويُعاقب تاركه.
2 المستحب وهو: ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه.
3 المحرم وهو: ما يثاب تاركه ويعاقب فاعله.
4 المكروه وهو: ما يثاب تاركه ولا يعقب فاعله.
5 -
المباح وهو: كل أمر لا يتعلق به شيء، إلا إذا تحولت هذه المباحات إلى طاعات بالنية الصَّالحة.
وقد زاد عليها إمامُ الحرمين الجويني (الصَّحيح والباطل).
وقد عرَّف الصَّحيح بقوله: ما يتعلق به النفوذ ويُعتد به.
وأمَّا الباطل عنده فهو ما لا يتعلق به النفوذ ولا يعتد به
(1)
.
غير أنه في «البرهان» تَابَعَ جمهور الأُصوليين في أنَّ الأحكام الشرعية التكليفية خمسة
(2)
، وكثير من الأصوليين يجعلون الصِّحَّة والبُطلان من أقسام الحُكم الوضعي
(3)
.
ورأي الجمهور هو الغالب في هذا التقسيم؛ يقول مجد الدين ابن تيمية في «المسودة» : «اتَّفق الفقهاء والمتكلمون على أنَّ أحكام الشرع تنقسم إلى: واجب، ومندوب، ومحرم، ومكروه، ومباح»
(4)
.
فهذه الأحكام التكليفية الخمسة تنطبق على الأمور الفِعلية والأمور التَّركية.
الأمر الثاني: أن الأعمال تنقسم إلى:
1 أعمال القلب.
2 أعمال اللسان.
3 أعمال الجوارح.
وأعمال القلب منها ما هو واجب؛ مثل: الإخلاص. ومنها ما هو محرم؛ مثل: الكِبر والحَسد. ومنها ما هو مُستحب. ومنها ما هو مَكروه. ومنها ما هو مباح.
وهكذا بالنسبة للسان. وكذلك بالنسبة للجوارح.
(1)
انظر: «متن الورقات» (ص 8).
(2)
انظر «البرهان في أصول الفقه» للجويني (1/ 106).
(3)
انظر «النصح المبذول لقُرَّاء سُلَّم الوصول» لمحمد بن عبد الرحمن الديسي، تحقيق: محمد شايب شريف (ص 39، 40).
(4)
«المسودة في أصول الفقه» (ص 65)، ويُنظر: باب الحكم الشرعي في كتب أصول الفقه.
فالعبودية شاملة لجميع البدن؛ ظاهره وباطنه، وكل جارحة من البدن مطالبة بعبودية الله عز وجل.
الأمر الثالث: حقيقة العبادة: هي كمال الذُّلِّ مع كمال المحبة لله عز وجل، ونهاية الخضوع والانقياد والاستسلام والتواضع والخوف والخشية والإنابة والرجاء والإذعان لله وحده لا شريكَ له في شيءٍ من ذلك البتة، إذ هو المستحقُّ للعبادة وحده دون ما سواه.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والعبادة تجمع كمال المحبة وكمال الذُّلِّ؛ فالعابد محبٌّ خاضع، بخلاف مَنْ يحب مَنْ لا يخضع له، بل يحبه ليتوسل به إلى محبوب آخر، وبخلاف مَنْ يخضع لمن لا يحبه كما يخضع للظالم؛ فإنَّ كلًّا مِنْ هذين ليس عبادة محضة»
(1)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: «والعبودية مَدَارها على قاعدتين هما أصلها: حُبٌّ كاملٌ وذُلٌّ تامٌّ، ومنشأ هذين الأصلين
…
هما مُشاهدة المِنَّة التي تُورث المحبة ومطالعة عيب النَّفس والعمل التي تورث الذل التَّام، وإذا كان العبد قد بَنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يَظفر عدوه به إلا على غِرَّة وغِيلة، وما أسرع ما يُنعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته»
(2)
.
الأمر الرابع: مفهوم العبادة في الإسلام:
من خلال تعريف شيخ الإسلام للعبادة يظهر أن مفهوم العبادة أعم وأشمل من أن تَنحصر في عبادات ظاهرية فقط، وإن كانت جليلة عظيمة، بل مفهوم العبادة شامل لجميع الأقوال والأفعال التي يقوم بها العبد انطلاقًا من محبته ورجائه وخوفه من الله، وبشرط ان
تكون وفق مراد الله، كما قال- جل وعلا- آمرًا نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُقَرِّر هذا للناس، فقال:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي ونُسُكِي ومَحْيَاي: ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَولُ المُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].
بل إنَّ الإسلام قد أسبغ على جميع أعمال الإنسان صفة العبادة إذا قصد بهذه الأعمال وجه الله ومرضاته، وقام بها على الوجه المشروع الموافق للسنة، وكانت في سبيل تحقيق أهدافها المقصودة المشروعة؛ فالمزارع والصانع والتاجر وغيرهم من أصحاب الأعمال تُعتَبر أعمالهم عبادة إذا قَصَدَ بها كلٌّ منهم نفعَ عباد الله والاستغناء عن الحاجة إلى الناس وإعالة العيال؛ تحقيقًا لأمر الله سبحانه وتعالى
(1)
.
وعلى هذا فكلُّ ما أُمر به شرعًا؛ سواءً كان من الشعائر أو من سائر أحوال الناس وعاداتهم إذا ابتغى به فاعلُه الأجر من الله عز وجل فهو عبادة؛ سواء رتَّب الشارع عليه جزاءً مُحدَّدًا أو أتى الأمر به مُطلقًا دون تحديد جزاء، وهذا مِنْ فضل الله ورحمته بعباده؛ فمثال ما رُتِّب على فِعله جزاء ويحصل للمسلم هذا الجزاء إذا كان إنَّما فعله لله: ما روى أبو هريرة ? قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ سُلَامَى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تَمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة»
(2)
.
فاشتمل الحديثُ على بعض الآداب، وجعل الشَّارع القيام بها عبادة يُثاب عليها المسلم إذا نَوى أنه إنما قام بها من أجل الله عز وجل.
(1)
ينظر: «مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية» لعثمان ضميرية (ص 285).
(2)
أخرجه البخاري (5/ 226) في الصلح، ومسلم رقم (1009) في الزكاة.
كما أن التحلِّي بالأخلاق يُعتبر عبادةً أيضًا؛ فعن أبي ذر ? قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلق»
(1)
.
ومثل ما أُمر به شرعًا ولم يُحدَّد على فعله جزاءً معينًا، ويعتبر القيام به عبادة إذا نُوي بها القربة لله ويؤجر عليها، إجابة دعوة المسلم، قال عليه الصلاة والسلام:«إذا دُعي أحدكم فَلْيُجِب، فإن كان صائمًا فَلْيُصَلِّ، وإن كان مُفطرًا فَلْيَطْعَم»
(2)
.
فمن كانت نيته في إجابة الدعوة امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وإدخال السُّرور على أخيه المسلم كان فِعله عبادة، أمَّا مَنْ لم تكن له نية في إجابتها فلا يكون قد قام بعبادة.
وهذا ينطبق على كلِّ أمرٍ من شئون الحياة؛ من مأكلٍ ومشربٍ ومَنكحٍ، ونومٍ ويقظةٍ، وسَفرٍ وإقامة، وهكذا؛ فمَن نوى بكلِّ هذه وأمثالها وجه الله فهي عبادةٌ مأجورٌ عليها؛ فتتحول هذه العادات والملذات المباحات إلى طاعات وقربات؛ لذا قال صلى الله عليه وسلم:«وفي بُضع أحدكم صدقة» . قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال:«أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»
(3)
.
فباستغناء العبد واستعفافه بالحلال عن الحرام كان له في فعل الحلال المباح أجر؛ ترغيبًا في الحلال، وتنفيرًا من الحرام؛ فلا رهبانية في الإسلام وكذلك لا تفريط بفعل المحرم، وهذه هي
(1)
أخرجه مسلم رقم (2626) في البر والصلة.
(2)
أخرجه مسلم رقم (1150) في الصيام، وأبو داود (2461) في الصوم، والترمذي (780) في الصوم.
(3)
أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر ?.
وسطية الإسلام؛ فلم يمنع النفس البشرية من غريزتها ولم يترك لها الحبل على الغارب، وإنما أعطاها ما تشتهي في سياج من الطهر والنقاء والعفاف والميثاق الغليظ.
فالعمل المباح يَنقلب إلى طاعة وقُربة إذا صاحبه نِيَّة طيبة؛ لذا قال معاذ بن جبل ? لأبي موسى الأشعري: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائمًا وقاعدًا وعلى راحلتي، وأتفوقه تفوقًا
(1)
. قال أبو موسى: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل؛ فأقومُ وقد قضيت جزئي من النَّوم، فأقرأ ما كَتَب الله لي؛ فأَحتسب نَومتي كما أحتسبُ قَوْمَتِي»
(2)
؛ «فكأنَّ معاذَ بن جبل فَضَلَ عليه»
(3)
.
فكان ? يَحتسب الأجر في النوم كما يحتسبه في قيام الليل؛ لأنَّه أراد بالنَّوم التَّقَوِّي على العبادة والإعانة على الطَّاعة.
قال الحافظُ ابنُ حَجَر: «ومعناه: أنَّه يَطلب الثواب في الرَّاحة كما يَطلبه في التعب؛ لأنَّ الراحة إذا قُصد بها الإعانة على العبادة حَصلت الثواب»
(4)
.
وكلَّما كانت النية أشمل كان الأجر أعظم؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نَوَى
…
» الحديث
(5)
.
قال عبد الله بن المبارك: «رُبَّ عمل صغير تعظمه النية، وربَّ
(1)
أي: أُلازم قراءته ليلًا ونهارًا شيئًا بعد شيء، ولا أقرأ وِردي دفعة واحدة. مأخوذ من فواق الناقة، وهو أن تُحلب ثم تُترك ساعة حتى يجتمع لبنها ثم تُحلب، وهكذا.
(2)
أخرجه البخاري (4341) و (4344).
(3)
أخرج هذه الزيادة عبد الرزاق في «مصنفه» (5959).
(4)
«فتح الباري» لابن حجر (8/ 62).
(5)
أخرج البخاري (1/ 7) في بدء الوحي، ومسلم رقم (1907) في الأمارة، وأبو داود رقم (2201) في الطلاق، والترمذي رقم (1647) في فضائل الجهاد، والنسائي (1/ 59) في الطهارة.
عمل كبير تُصغِّره النية»
(1)
.
أمَّا مَنْ لم ينوِ شيئًا فأعماله عادية لا أجر فيها؛ لذا تَبَايَنَ الناسُ في ذلك تباينًا عظيمًا، فمِن الناس مَنْ كلُّ عاداته وأفعاله عبادة لله؛ لأنه- دائمًا- مُستحضرٌ لِنِيَّتِه، قاصد بعمله وجه الله، بينما بعض الناس قد تكون كلُّ عباداته حتى (الشَّعائر الظَّاهرة) أو بعضها عادات، وذلك لخلوِّ قلبه مِنْ نِيَّة التقرُّب إلى الله عز وجل.
الأمر الخامس: أن الأعمال تتفاوت في المرتبة والأفضلية:
فأعمال الطاعة تختلف محبة إلى الله وأجرًا، وكذلك المعاصي تتفاوت بغضًا إلى الله ووزرًا.
فالعبادات أنواع لها مميزات وخصائص تختلف بها عن غيرها؛ لمقاصد عظيمة؛ وحِكَم جليلة، تتجلى فيها عظمة هذه الشريعة، وكرم المُشَرِّع سبحانه وتعالى؛ وكما أنه سبحانه خلق المخلوقات وفَاضَلَ بينها بما يُحقق المصلحة العظيمة؛ قال تعالى:{واللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71]- كذلك فَاضَلَ بين العبادات، وجعل مراتبها ودرجاتها مختلفة.
وقد وردت أدلة بَيِّنَّة في السنة النبوية تدل على تفاضل العبادات وتمايزها، ومن ذلك:
ما رواه معاذ بن جبل ? أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنَّة، والصَّدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل» . قال: ثم تلا {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} [السجدة: 16]، حتى بلغ {يعملون} [السجدة: 17]. ثم
(1)
أورده عنه الحافظ ابنُ رجب في «جامع العلوم والحكم» (ص 69).
قال: «ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده، وذروة سنامه» ؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال:«رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد»
(1)
.
وكما جاء في حديث أبي هريرة ? أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بِضع وسبعون- أو- بِضع وسِتُّون- شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبة من الإيمان»
(2)
.
وعن أبي هريرة ? أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أيُّ العمل أفضل؟ فقال: «إيمان بالله ورسوله» . قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» . قيل: ثم ماذا؟ قال: «حَجٌّ مَبرور»
(3)
.
وعن ابن مسعود ?: أنَّ رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله»
(4)
.
فهذه الأحاديث ونحوها تُدَلِّل على أن هناك تفاضلًا بين العبادات، وأن بعضها أفضل من بعض، ويظهر من خلال التأمل فيها- أنها أجوبة مختلفة لسؤال واحد، وقد أجاب العلماء على هذا الاستشكال بأجوبة، نختار منها قول الحافظ ابن حَجَر في «شرحه للجامع الصَّحيح» حيث قال: «ومحصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال.
(1)
أخرجه أحمد (22016)، والترمذي (2616) وابن ماجه (3973)، وصححه الألباني في «صحيح ابن ماجه» (3209).
(2)
أخرجه مسلم (35).
(3)
أخرجه البخاري (26) ومسلم (83).
(4)
أخرجه البخاري (7534) ومسلم (85).
1 -
أنَّ الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين؛ بأنَّه أَعْلَم كلَّ قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم.
2 -
أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات؛ بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال؛ لأنَّه الوسيلة إلى القيام بها، والتَّمَكُّن من أدائها، وقد تضافرت النصوص على أنَّ الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مُواساة المضطر تكون الصدقة أفضل.
3 -
أو أنَّ (أفضل) ليست على بابها، بل المراد بها الفضل المُطلق.
4 -
أو المراد (مِنْ أفضل الأعمال)؛ فحُذفت «مِنْ» ، وهي مرادة»
(1)
.
وقد ظهر هنا من أجوبة الحافظ ابن حجر بعض أوجه التفاضل بين العبادات؛ ومن ذلك:
1 -
التفاضل بين العبادات وحصرها من حيث العبادة ومن حيث العابد:
فمن خلال ما تقدم تبين أن وجوه التفاضل بين العبادات يمكن حصرها في مسألتين أساسيتين، وهما:
المسألة الأولى: العبادة ذاتها.
والمسألة الثانية: العابد.
وتفصيل ذلك: أنَّ تفاضل العبادات ذاتها يكون من خلال وجوه
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (2/ 9).
عدة:
أولًا: تفاضل العبادة من حيث الوجوب والاستحباب، كما في الحديث القدسي:«ما تَقَرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ مما افترضته عليه»
(1)
.
والحديث فيه دلالة واضحة على أن الفرائض أفضل الأعمال؛ لكونها أحب إلى الله، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في «شرحه للصَّحيح» نقولًا للعلماء تبيّن فيها وجوه فضل الفرائض على النَّوافل، وخلاصته: أن الفرائض أمرها محتوم، أما النوافل فهي على سبيل الترغيب والاستحباب
(2)
.
ثانيًا: التفاضل من حيث التحديد الزماني، كما في الحديث:«إنَّ عُمرة في رمضان تَعدل حَجَّة معي»
(3)
، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:«فالحاصل أنَّه أعلمها أن العمرة في رمضان تَعدل الحَجَّة في الثواب، لا أنَّها تقوم مقامها في إسقاط الفرض؛ للإجماع على أن الاعتمار لا يُجزئ عن حج الفرض»
(4)
، والحديث دليل على التفضيل في زمن خاص.
ومن ذلك تفاضل الصدقات، كما في الحديث: «أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أيُّ الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: «أن تَصَدَّق وأنت صحيح شحيحٌ تَخشى الفقر وتأمُل الغِنى، ولا تُمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد
(1)
أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة ?.
(2)
«فتح الباري» لابن حجر (11/ 343).
(3)
أخرجه البخاري (1863) ومسلم (1256) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
«فتح الباري» (3/ 604).
كان لفلان»
(1)
.
ثالثًا: تفاضلها من حيث التحديد المكاني، كما في الحديث:«صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام»
(2)
.
ففي الحديث تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الصلاة في هذين المكانين أفضل من الصلاة في غيرهما من المساجد، إلى غيرها من وجوه التفاضل في العبادات الأخرى.
ومن ذلك تفاضل الصَّلاة بحسب الاجتماع والانفراد، كما في الحديث:«صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذِّ بسبع وعشرين درجة»
(3)
.
ومن ذلك التفاضل بحسب التفاوت في مقدار الخُطى إلى المساجد، كما في الحديث:«إنَّ أعظم الناس أجرًا أبعدهم إليها ممْشَى فأبعدهم»
(4)
.
والمسألة الثانية: التفاضل بين العبادات من حيث العابد:
من عظيم حكمة الله أن جعل أبواب الرزق متنوعة ومتعددة؛ لتكتمل للناس أمور معاشهم، إذ حاجات الناس متنوعة ومتعددة تتكامل بها دورة حياتهم، والنَّاس بين مَنْ يجيد مهنة أو عددًا من المهن تُدر عليه دخلًا يعيش من ورائه ويدخر منه بحسب ما يدر عليه من مال، وهذه الأمور يعرفها كل الناس، وهي من البديهيات لديهم. ولكن الذي قد لا يعرفه بعض الناس: أن هناك صورة مشابهة لهذه
(1)
أخرجه البخاري (1419) ومسلم (1032) من حديث أبي هريرة ?.
(2)
أخرجه البخاري (1190) ومسلم (1394) واللفظ له، من حديث أبي هريرة ?.
(3)
أخرجه البخاري (645) ومسلم (650) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه مسلم (662) من حديث أبي هريرة ?.
الصورة ولكن في أبواب الطاعات، ولعل قصة الإمام مالك مع العُمَري العابد تَصلح كمدخل يُقَرِّب تلك الصورة، فقد كتب عبد الله بن عبد العزيز العُمَري العابد إلى الإمام مالك يحضُّه على الانفراد والعمل، ويَرغب به عن الاجتماع إليه في العِلم؛ فكتب إليه مالك:«إنَّ الله عز وجل قَسم الأعمال كما قسم الأرزاق؛ فَرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يُفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة. ونَشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر وقد رضيتُ بما فَتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كِلانا على خير، ويجب على كلِّ واحدٍ مِنَّا أن يَرضى بما قُسِم له، والسَّلام»
(1)
.
فهذا الرد على اختصاره إلا أنه أشار إلى مسألة مهمة يجب على المسلم استيعابها، وهي أن العِباد في نوافل الطاعات يتفاوتون فيما يَفتح الله عليهم من تلك النوافل؛ فمِن الناس مَنْ تراه يُكثر من صيام التطوع في مقابل أن غيره لا يزيد على صوم الفريضة ولو صام يومًا تطوعًا لوجد مشقة كبيرة في ذلك، ومن الناس مَنْ يُكثر من نوافل الصلوات والأذكار، لكنه في باب الصدقة لا يزيد على أداء فريضة الزكاة، وهناك مَنْ تجده في الأخلاق لا يُجاريه أحد، لكنه في غير ذلك من النوافل لا يُرى له مزيد عمل، ومصداق ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«اعملوا فكل مُيَسَّر لما خُلِق له»
(2)
، وقد يفتح لبعض الناس أكثر من باب، وهناك مَنْ تتعدد عنده الأبواب المتنوعة
(1)
«التمهيد» لابن عبد البر (7/ 185)، ونقلها عنه الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (8/ 114).
(2)
أخرجه البخاري (4949) ومسلم (2647) من حديث علي بن أبي طالب ?.
من الطاعات، ولو استعرضنا ما ورد في السُّنَّة النبوية في هذا الجانب لوجدنا أمثلة كثيرة تشير لذلك ومنها ما وقع لأبي بكر ? لما جاء من حديث أبي هريرة ? أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خيرٌ؛ فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الرَّيَّان، ومَن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة» . فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة؛ فهل يُدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟! قال: «نعم! وأرجو أن تكون منهم»
(1)
.
وكما أنَّ الناس في أبواب الرزق على ثلاثة أقسام؛ فمنهم مَنْ هو مرتفع الدَّخل، ومنهم مَنْ هو متوسط الدخل، ومنهم مَنْ هو منخفض الدخل- فكذلك الشأن في الطاعات، فالله عز وجل يقول:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُو الفَضْلُ الكَبِيرُ} [فاطر: 32].
ويجب على كلِّ إنسان أن ينظر في نفسه؛ ليعرف ما فُتح له من أبواب الطَّاعة؛ فيلزمه ويحافظ عليه ويزداد منه، وعليه ألَّا يشق على نفسه في ميادين ليست متوائمة مع ما خَصَّه الله به من خصال الخير، كما يجب عليه أن ينظر للغير بنظرةٍ من جنس نظرة الإمام مالك للعمري العابد؛ حيث قال له:«وأرجو أن يكون كِلانا على خير» ، فالنظرة الإيجابية للناس مطلوبة باعتبار أن ما وُفِّقُوا له من الخير هو بابٌ فُتِح لهم من الله، يُرجى أن يكون سببًا لدخولهم الجَنَّة.
(1)
أخرجه البخاري (1897) ومسلم (1027) من حديث أبي هريرة ?.
ووجود بعض جوانب التقصير في بعض النَّاس لا يَعني انعدام الخير لديهم بالكلية؛ فقد يكون لديهم جوانب خفية من الخير؛ ومن الشواهد على ذلك: ما جاء عن عمر بن الخطاب ? «أن رجلًا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه عبد الله، وكان يُلَقَّب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشَّرَاب، فأتي به يومًا فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم الْعَنْهُ، ما أكثرَ ما يُؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إنَّه يحب الله ورسوله»
(1)
.
فهذه القصة يُستفاد منها أن المتعين علينا أن لا نُقَيِّم الناس من منظور واحد، فكم نقع في مجالسنا في أعراض أناس وننتقص من تدينهم ونذمهم، وقد يكون لهم من الأعمال التي تُقَرِّبهم إلى الله ونحن لا نعلم، فواجب على الناس أن يكون لديهم فقه في هذه الجوانب؛ لأنَّها توجد لديهم بعض التوازن في نظرتهم ومعاملتهم لمن حولهم، فالنصوص الشرعية تؤكد على أن لكل شخص ما يناسبه من الطاعات، كما أنَّ لكل وقت ما يُناسبه من الطاعات، وهم في ذلك بين ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات، وما علينا إلا أن نذكر لكل شخص ما يُحمد له من خصال الخير، وأن ندعو لمن نرى عليه تقصيرًا بالصَّلاح والفلاح والتوفيق لما يحبه الله ويرضاه.
وفي مقابل تفاضل الطاعات جاءت أحاديث عديدة في السُّنَّة بَيَّنت أنَّ الذنوب- كذلك- أنواع ومراتب، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟» . قلنا: بلى يا رسول الله. قال- ثلاثًا-: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين» ، وكان متكئًا
(1)
أخرجه البخاري (6780) من حديث عمر بن الخطاب ?.
فجلس، فقال:«أَلَا وقَول الزُّور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور»
(1)
، وعن عبد الله بن مسعود ? قال: قلت يا رسول الله: أيُّ الذَّنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خَلَقَكَ!» . قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» . قال: ثم أي؟ قال: «أن تُزاني حليلةَ جارك» ، وأنزل الله تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم:{والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} [الفرقان: 68] الآية»
(2)
.
تفاوت أفهام الناس في أفضل العبادات وأنفعها، وأحقها بالإيثار والتخصص:
انقسم الناس في ذلك إلى أربعة أصناف:
الصنف الأول: يرون أنَّ أنفع العبادات وأفضلها هي أشقها على النفوس وأصعبها. وهؤلاء: هم أهل المجاهَدات والجَوْر على النفوس. قالوا: لأنه أبعد الأشياء عن هواها، وهذا هو حقيقة التعبد.
قالوا: والأجر على قدر المشقة، ورووا حديثًا لا أصل له:«أفضل الأعمال أحمزها»
(3)
، أي: أصعبها وأشقها، وقالوا: وإنما تستقيم النفوس بذلك، إذ طبعها الكسل والمهانة، والإخلاد إلى الأرض، فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق.
الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا، والتقلُّل منها غاية الإمكان، واطراح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث بكلِّ ما هو منها.
(1)
أخرجه البخاري (5976) ومسلم (87).
(2)
أخرجه البخاري (6001) ومسلم (86).
(3)
قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ص 130): «قال المزي: هو من غرائب الأحاديث، ولم يُرو في شيء من الكتب الستة» .
ثم هؤلاء قسمان:
فعوامُّهم ظنُّوا أن هذا غاية، فشَمَّروا إليه وعملوا عليه، ودعوا الناس إليه، وقالوا: هو أفضل من درجة العِلم والعبادة، فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها.
وخواصُّهم رأوا هذا مقصودًا لغيره، وأن المقصود به عُكُوف القلب على الله، وجمع الهِمَّة عليه، وتفريغ القلب لِمَحَبَّته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والاشتغال بمرضاته، فرأوا أنَّ أفضل العبادات في الجمعيَّة على الله، ودَوَام ذِكره بالقلب واللسان، والاشتغال بمراقبته، دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له.
ثم هؤلاء قسمان:
فالعارفون المُتَّبعون منهم إذا جاء الأمرُ والنهيُ بادروا إليه ولو فَرَّقهم وأذهب جَمعيتهم.
والمُنحرفون منهم يقولون: المقصود من العبادة جمعية القلب على الله، فإذا جاء ما يُفَرِّقه عن الله لم يُلتفت إليه، وربما يقول قائلهم:
يُطالَبُ بالأورادِ مَنْ كان غافلًا
…
فكيف بقلبٍ كلُّ أوقاته وِرد
ثم هؤلاء- أيضًا- قسمان:
منهم مَنْ يترك الواجبات والفرائض لجمعيته.
ومنهم مَنْ يقوم بها، ويَترك السُّننَ والنوافلَ وتَعَلُّمَ العلم النافع لجمعيته.
الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها: ما كان فيه نَفع مُتَعَدٍّ، فرأوه أفضل مِنْ ذي النفع القاصر، فرأوا خِدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالمال والجاه والنَّفع أفضل؛ فتَصدوا له وعملوا عليه.
واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم «الخلقُ كلهم عِيالُ الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله»
(1)
.
واحتجوا بأنَّ عملَ العابد قاصرٌ على نفسه، وعمل النَّفَّاع مُتَعَدٍّ إلى الغير، وأين أحدهما من الآخر؟
قالوا: ولهذا كان فَضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.
قالوا: وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعليِّ بن أبي طالب ?: «لِأَنْ يَهدي اللهُ بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمر النَّعَم»
(2)
.
وهذا التفضيلُ إنَّما هو للنفع المُتعدِّي، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ دعا إلى هدى كان له مِنْ الأجر مثل أُجور من تَبِعه، لا يَنقص ذلك من أجورهم شيئًا»
(3)
، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الله وملائكته وأهلَ السَّمَوات والأرضين- حتَّى النَّملة في جُحرها وحتى الحوت- لِيُصلون على مُعَلِّم الناسِ الخيرَ»
(4)
.
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العالم ليستغفر له من في السماوات ومَن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، والنَّملة في جحرها»
(5)
.
واحتجوا بأنَّ صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، وصاحب
(1)
أخرجه أبو يعلى (3370)، والطبرانيُّ في «مكارم الأخلاق» (210)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/ 102)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (7046) من حديث أنسٍ ?، وضعفه الألباني في «الضعيفة» (3590).
(2)
أخرجه البخاري (2942) ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد ?.
(3)
أخرجه مسلم (2674) من حديث أبي هريرة ?.
(4)
أخرجه الترمذي (2685) من حديث أبي أمامة ?، وحسنه الألباني في «المشكاة» (213).
(5)
أخرجه أبو داود (3641) والترمذي (2682) من حديث أبي الدرداء ?، وحسنه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (70).
النفع لا ينقطع عمله، ما دام نفعُه الذي نُسب إليه.
واحتجوا بأنَّ الأنبياء إنَّما بُعثوا بالإحسان إلى الخَلْق وهدايتهم، ونفعهم في معاشهم ومعادهم- لم يُبعثوا بالخَلَوات والانقطاع عن الناس والترَهُّب، ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك النَّفر الذين هَمُّوا بالانقطاع للتعبد، وتَرك مخالطة الناس
(1)
، ورأى هؤلاء التفرق في أمر الله، ونفع عباده، والإحسان إليهم، أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك.
الصنف الرابع، قالوا: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مُقتضى ذلك الوقت ووظيفته؛ فأفضلُ العبادات في وقت الجهادِ: الجهادُ، وإن آلَ إلى ترك الأوراد؛ مِنْ صلاة الليل وصيام النَّهار، بل ومِن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف- مثلًا-: القيام بحقِّه، والاشتغال به عن الوِرد المُستحب، وكذلك في أداء حقِّ الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السَّحر: الاشتغال بالصَّلاة والقرآن والدُّعاء والذِّكر والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان: تَرك ما هو فيه مِنْ وِرده، والاشتغال بإجابة المُؤَذِّن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخَمس: الجِد والنُّصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع، وإن بَعُد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لَهْفَته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعيَّة القلب والهِمَّة على تدبره وتفهمه، حتى كأنَّ الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب مَنْ جاءه كتابٌ من السُّلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التَّضَرُّع والدُّعاء والذِّكر دون الصَّوم المُضعف عن ذلك.
والأفضل في أيام عَشر ذي الحِجَّة: الإكثار مِنْ التَّعبد، لا سِيَّما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المُتعين.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لُزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنَّه أفضل من الإقبال على تعليمهم العِلم، وإقرائهم القرآن، عند كثيرٍ من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم- أو موته-: عِيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نُزول النَّوازل وأذى الناس لك: أداء واجب
الصَّبر مع خُلطتك بهم، دون الهرب منهم، فإنَّ المؤمن الذي يُخالط الناس؛ ليصبر على أذاهم أفضل مِنْ الذي لا يخالطهم ولا يُؤذونه.
والأفضل خُلطتهم في الخير؛ فهي خير مِنْ اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهو أفضل مِنْ خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قَلَّلَه فخُلطتهم- حينئذٍ- أفضل من اعتزالهم.
فالأفضلُ في كل وقتٍ وحالٍ: إيثارُ مَرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومُقتضاه.
وهؤلاء هم أهل التعبُّد المُطلق، والأصناف قَبلهم أهل التعبد المُقَيَّد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلَّقَ به من العبادة وفارقه يَرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته، فهو يَعبد الله على وجهٍ واحدٍ، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبدٍ بعينِه يُؤثره على غيره، بل غرضه تَتَبُّع مرضاة الله تعالى أين كانت؛ فمَدار تعبُّده عليها، فهو لا يزال متنقلًا في منازل العبودية، كلما رُفعت له مَنزلةٌ عَمِل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تَلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبُه في السير حتى ينتهي سيره، فإن رأيتَ العلماءَ رأيتَه معهم، وإن رأيتَ العُبَّاد رأيتَه معهم، وإن رأيتَ المجاهدين رأيتَه معهم، وإن رأيتَ الذَّاكرين رأيتَه معهم، وإن رأيتَ المُتَصَدِّقين المُحسنين رأيتَه معهم، وإن رأيتَ أربابَ الجمعيَّة وعُكُوف القلب على الله رأيتَه معهم، فهذا هو العبد المُطلق، الذي لم تَمْلكه الحدود، ولم تُقَيِّده القيود، ولم يَكن عملُه على مراد نفسِه وما فيه لِذَّتُها ورَاحتها من العبادات، بل هو على مرادِ ربِّه، ولو كانت راحة نفسه ولَذَّتها في سواه
(1)
.
(1)
انظر: «مدارج السالكين» لابن القيم (1/ 106 - 111).
وأمَّا قول المصنف رحمه الله: «مِنْ الأقوال والأعمال» - فكما تقدم من أنَّ العبادات متنوعة؛ منها عبادات بالقول وعبادات بالعمل، والقول إمَّا:
1 قول القلب.
2 وإمَّا قول اللِّسان.
فقول القلب مِنْ معانيه: العِلم، فإذا قال السلف مثلًا:«الإيمانُ قولٌ وعملٌ» ، فهذا القول يشمل قولَ القلب الذي هو العِلم الذي هو التصديق.
فإذًا هذا العِلم بالنسبة للقلب قولٌ تعبُّديٌّ، فالله قد تعبَّدَنا به، فكلُّ ما نعلمه مِنْ أمور العلم النافع نحن نتعبد الله عز وجل به، فهذه عبودية وطاعة لله سبحانه وتعالى نقوم بها.
وقول اللِّسان: يُراد به النُّطق بالشَّهادتين عند العلماء، ويَخصونه بذلك.
والعمل إمَّا:
1 عمل القلب.
2 أو عمل اللسان.
3 أو عمل الجوارح.
أمَّا عمل اللِّسان فسائر الأذكار؛ مِنْ قراءة القرآن وغير ذلك مِنْ الأذكار الواردة في العبادات والأحوال والأزمنة المختلفة، ثم الأعمال.
وقول المصنف: «الأعمال الظَّاهرة والباطنة» - يشمل القول ويشمل العمل، فَمِنْ القول ما هو في الباطن، ومِن العمل ما هو
في الباطن، وهكذا من القول ما هو في الظاهر، ومن العمل ما هو في الظاهر.
فالأعمال منها قلبيٌّ، ومن أعمال القلوب: الحُبُّ والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والإخلاص، وهذه كلها أعمال قلبية باطنة، أي: في باطن الإنسان، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أشار بيده إلى صدره ثلاثًا، وقال:«التقوى هاهنا»
(1)
، فهي إذًا عمل قلبي.
ثم أعمال الجوارح تنطبق على الحواس الخمس، وتنطبق- كذلك- على سائر أعضاء الإنسان.
فعلى الإنسان أن يَنتبه لهذه الأمور؛ فالصلاة- مثلًا- عبادة، وتتعلق بها أمور قلبية- أي: أمور باطنة- وأمور ظاهرة، ولأن الصلاة عمل فلا بد لها من نية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّما الأعمال بالنيات»
(2)
، والزكاة تفتقر إلى النية؛ فقد يُزكي الإنسان بنية خالصة، وقد يفعل ذلك رياء أو سُمعة أو غير ذلك، وكذلك الصيام والحج وصِدق الحديث، وأداء الأمانة وبِر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، وكذلك الدُّعاء والذِّكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة.
ثم أشار المصنف إلى ما هو قَلبي مِنْ حُبِّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدِّين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرِّضا بِقَدَرِه والتوكل عليه، والرجاء لرحمته،
(1)
أخرجه مسلم (2564).
(2)
أخرجه البخاري (1) وفي مواضع، ومسلم (1907).
والخوف من عذابه، وأمثال ذلك من العبادات.
ونحن نعلم أن من العبادات ما هي فرائض، ومنها ما هي نوافل، فقد تصلي فريضة وقد تصلي نافلة، وكذلك قد تُزَكِّي وقد تتصدق، وكذلك الصيام منه ما هو فريضة ومنه ما هو نافلة، والنوافل أمرها عظيم، إذ هي من جهة مُكَمِّلة للفرائض، ومِن جهة هي سبب في رفع درجات العبد.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وذَلِكَ أَنْ العِبَادَة لله هِيَ الغَايَة المحبوبة لَهُ والمرضية لَهُ؛ الَّتِي خَلق الخلقَ لَهَا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:{ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56].
وبهَا أرسل جَمِيع الرُّسُل، كَمَا قَالَ نوح لِقَوْمِهِ:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
وكَذَلِكَ قَالَ هود وصَالح وشُعَيْب وغَيرهم لقومهم، وقَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36].
وقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
كَمَا قَالَ فِي الآيَة الأُخْرَى: {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات واعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم * وإِن هَذِه أمتكُم أمة واحِدَة وأَنا ربكُم فاتقون} [المؤمنون: 51، 52].
وجعل ذَلِك لَازِما لرَسُوله إِلَى المَوْت؛ كَمَا قال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحِجر: 99].
وبِذَلِك وصف مَلَائكَته وأنبياءه؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وله من فِي السَّمَاوات والأَرْض ومن عِنْده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَته ولَا يستحسرون *
يسبحون اللَّيْل والنَّهَار لَا يفترون} [الأنبياء: 19، 20]، وقَالَ تعالى:{إِنْ الَّذين عِنْد رَبك لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَته ويسبحونه وله يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206].
وذَمَّ المُستكبرين عنها بقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
بعد أن عَرَّفَ شيخُ الإسلام ابنُ تَيمية- رحمه الله تعالى- العبادةَ ذَكَرَ هنا بعض الأمثلة عليها، مُشِيرًا إلى بيان أهميتها، وما لها مِنْ مَنزلة ومكانة، ولهذه الإشارة مغزى عظيم؛ لأن أهل الكلام والمتصوفة- وهما من أكبر خُصُوم أهل السُّنَّة- لم يُقيموا لأمر العبادة وزنًا، ولم يجعلوا لها شأنًا، حيث وقفوا عند توحيد الرُّبوبية.
فأهلُ الكلام لما عرَّفوا التوحيد وقَسَّموه قالوا: إنَّ الله واحد في ذاته لا قَسِيم له، وواحدٌ في صِفاته لا نَظِير له، وواحدٌ في أفعاله لا شريكَ له
(1)
.
وهم بهذا التعريف أسقطوا ذِكر وعَدَّ توحيد العبادة، ولم يجعلوه قِسْمًا من أقسام التوحيد؛ بل إنهم زيادة على ذلك فسَّرُوا معنى: لا إله إلا الله بقولهم: لا لا ربَّ ولا مالك ولا خالق، ولا قادر على الاختراع إلا الله سبحانه وتعالى، ولمَّا عرفوا الإله حصروا معنى الألوهية
(1)
انظر في ذلك من كتب الأشاعرة: «مجرد مقالات الأشعري» لابن فورك (ص: 55)، ورسالة الحرة للباقلاني- المطبوعة باسم «الإنصاف» (ص: 33، 34)، و «الاعتقاد» للبيهقي (ص: 63)، و «شرح أسماء الله الحسنى» للقُشيري (ص: 215)، و «الشامل في أصول الدِّين» (ص: 345 - 348)، و «الإرشاد» (ص: 52)، و «لمع الأدلة» (ص: 86) للجويني، و «إحياء علوم الدين» (1/ 33)، و «الاقتصاد في الاعتقاد» (ص: 49) لأبي حامد الغزالي، و «نهاية الإقدام في علم الكلام» للشهرستاني (ص: 90).
في الربوبية، وقالوا: إن الإله هو: القادر على الاختراع والخَلْقِ
(1)
.
فهذا شأنُ توحيد العبودية والألوهية عند أهل الكلام.
وأمَّا أهل التصوف؛ فمنهم مَنْ يقول كالهروي: إنَّ «التوحيد: تنزيه الله تعالى عن الحدث، وإنما نطق العلماء بما نطقوا به، وأشار المحققون بما أشاروا إليه في هذا الطريق؛ لقصد تصحيح التوحيد، وما سواه مِنْ حال أو مقام فكله مصحوب العلل.
والتوحيد على ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: توحيد العامة الذي يصح بالشواهد.
والوجه الثاني: توحيد الخاصَّة، وهو الذي يثبت بالحقائق.
والوجه الثالث: توحيد قائم بالقِدم، وهو توحيد خاصَّة الخاصَّة.
فأما التوحيد الأول فهو شهادة أن {لا إله إلا الله} [محمد: 19] وحده لا شريكَ له، الأحد الصَّمَد، الذي لم يَلد ولم يُولد، ولم يكن له كُفُوًا أحد»
(2)
.
فمن المتصوفة مَنْ اعتبروا توحيد العِبادة الذي هو توحيد الرُّسُل هو توحيدُ العَوَام، وجعلوه في المنزلة الدُّنيا، وجعلوا توحيد الربوبية فوق توحيد العبادة، ولذلك جعلوا توحيد الخاصَّة هو شهود الربوبية، والفناء بشهوده عن مشهوده، وبوجوده عن موجوده، بمعنى: أنهم حصروا هذا المقام من التوحيد في شهود مقام الربوبية.
(1)
انظر: «أصول الدين» للبغدادي (ص 123)، و «المِلل والنِّحل» للشهرستاني (1/ 100)، و «مجرد مقالات الأشعري» لابن فورك (ص 47).
(2)
«منازل السائرين» لأبي إسماعيل الهروي (135 - 138)، دار الكتب العلمية- بيروت.
وتوحيد خاصَّة الخاصة عندهم هو توحيد أهل وحدة الوجود، الذين يقولون: إنَّه ما ثَمَّت خالق ولا مخلوق، ولا عابد ولا معبود، وإنَّ الوجود كله واحد.
فإذًا كلٌّ من الفريقين (أهل الكلام والمتصوفة) لم يُقم وزنًا لتوحيد العبادة، ولم يُلق له بالًا، ولم يُعطه اهتمامًا، ولذلك نَبَّه شيخ الإسلام رحمه الله هنا على توحيد العبادة، ودَلَّل على قيمته وبَيَّن منزلته؛ فقال:«وذلك أنَّ العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له» ؛ واللهُ تعالى بَيَّن قدرَ أهل الإيمان بقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وأثنى عليهم بأنهم أشد الخلق محبة له سبحانه وتعالى فقال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} [البقرة: 165]، قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله معلقًا على هذه الآية:«أصلُ التوحيد ورُوحه: إخلاص المحبة لله وحده، وهي أصلُ التأله والتعبد له، بل هي حقيقة العبادة، ولا يتم التوحيد حتى تكمل محبة العبد لربِّه، وتسبق محبته جميع المَحَابِّ وتَغلبها، ويكون لها الحكم عليها بحيث تكون سائر محابِّ العبد تَبَعًا لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه»
(1)
.
فمحبةُ الله تعالى أمر عظيم ومقام جليل يَسعى إليه العبد، ولذلك قال الله عز وجل:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم * قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} [آل عمران: 31 - 32].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: «هذه الآية الكريمة حاكمةٌ على كلِّ مَنْ ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية؛ فإنَّه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يَتَّبع الشرع
(1)
«القول السديد شرح كتاب التوحيد» للسعدي (ص 128).
المحمدي والدِّين النبوي في جميع أقواله وأحواله
…
وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قومٌ أنهم يحبون الله؛ فابتلاهم الله بهذه الآية»
(1)
.
فبرهان محبة الله عز وجل بتحقيق هذا الأمر؛ ألا وهو عبادة الله عز وجل وفق ما شُرع في الكتاب والسُّنَّة.
ولذلك نلاحظ أن الكثير من تعريفات توحيد العبادة جاء النصُّ فيها على أنَّ العبادة أمر يُحبه الله عز وجل، فقد عرفها شيخ الإسلام هنا بقوله:«العبادة: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويَرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة» .
وقال- رحمه الله في موطن آخر: «العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذُّلِّ ومعنى الحب، فهي تَتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له»
(2)
.
وقال في موضع آخر: «ففعل جميع المأمورات وترك جميع المحظورات يَدخل في التوحيد، في قول: لا إله إلا الله»
(3)
.
(4)
.
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في تعريفها: «العبادة في اللغة من الذِّلَّة، يقال: طَريق مُعَبَّد، وبَعير مُعَبَّد، أي: مُذلل. وفي الشرع: عبارة عمَّا يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف»
(5)
.
(1)
«تفسير ابن كثير» (2/ 32)، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1420 هـ- 1999 م.
(2)
«مجموع الفتاوى» (10/ 153).
(3)
«مجموع الفتاوى» (28/ 34).
(4)
«مجموع الفتاوى» (10/ 389).
(5)
«تفسير ابن كثير» (1/ 134).
ومحبة الله تعالى لا تُنال إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، واتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يكون بتحقيق العبودية لله عز وجل ونَبذ الشرك، ولذلك استلزمت المحبة كمال طاعة الله سبحانه وتعالى، بتحقيق ما أمر؛ إمَّا أمر وجوب، وإما أمر استحباب، وكما قال الإمام الشافعي عليه الرَّحمة والرِّضوان:
تَعصي الإلهَ وأنت تزعم حُبَّه
…
هذا محالٌ في القياس بديع
لو كان حُبُّكَ صادقًا لأطعتَه
…
إنَّ المحب لمن يحبُّ مُطيع
في كلِّ يومٍ يَبتديكَ بنعمةٍ
…
منهُ وأنتَ لِشُكرِ ذاكَ مُضيعُ
(1)
فبرهان محبة الله سبحانه وتعالى ودليل صِدقها في قلب العبد: إنَّما يُنال بطريق العبادة، ولذلك جاء في الحديث القدسي:«وما تَقَرَّب إليَّ عبدي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه؛ فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يَسمع به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويده التي يَبطش بها، ورِجْلَه التي يَمشي عليها، وإن سألني لأعطينه، ولأن استعاذني لأعيذنَّه»
(2)
.
ولما كانت محبة الله سبحانه وتعالى لا تُنال إلا بطريق العبادة، كان لزامًا على العبد أن يسلك هذا الطريق، وأن يجاهد نفسه في سبيل تحقيقها؛ قال تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28]، ولذلك قال شيخ الإسلام هنا:«إن العبادة هي الغاية المحبوبة له» ، أي: أنها ما يحبه الله تعالى من عباده، وما رَضِيَها لهم.
(1)
انظر: «ديوان الشافعي» (ص 67)، والأبيات من (الكامل التام).
(2)
أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة ?.
ويمكن إبراز هذا الباب من خلال ما يأتي:
أولًا: باب عبادة الله سبحانه وتعالى هي أحد أقسام التوحيد
(1)
.
فإذا ما قَسَّمنا التوحيد إلى ثلاثة أقسام
(2)
:
القسم الأول: توحيد الربوبية: وهو إفراد الله بأفعاله؛ كالخلق والرزق.
القسم الثاني: توحيد الأسماء والصفات: هو إفراد الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى الواردة في القرآن والسنة، والإيمان بمعانيها وأحكامها.
القسم الثالث: توحيد الألوهية: وهو إفراد الله بأفعال العباد التعبدية؛ كالصلاة والصوم والدعاء.
فالقسم الثالث من أقسام التوحيد هو توحيد الألوهية، أو توحيد العبادة.
وإذا ما قَسَّمنا التوحيد إلى قسمين
(3)
:
القسم الأول: توحيد المعرفة والإثبات: ويُراد به توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، ويُسَمَّى بتوحيد المعرفة؛ لأن معرفة
(1)
تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام راجعٌ إلى اعتبار مُتَعَلَّق التوحيد، وتقسيمه إلى قِسمين راجع إلى اعتبار ما يجب على المُوَحِّد.
(2)
انظر: «طريق الهجرتين» لابن القيم (ص 30)، و «شرح الطحاوية» لابن أبي العز (ص 76)، و «لوامع الأنوار» للسفاريني (1/ 128)، و «تيسير العزيز الحميد» لسليمان بن عبد الله (ص 17 - 19).
(3)
الأغلب في كلام أهل العلم المُتَقَدِّمين تقسيم التوحيد إلى قسمين، وهذا لأنهم يجمعون بين توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وذلك بالنَّظر إلى أنهما يُشَكِّلان بمجموعهما جانب العلم بالله ومعرفته عز وجل، بينما توحيد الألوهية يُشَكِّل جانب العمل لله.
الله عز وجل إنما تكون بمعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله.
والإثبات: هو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من الأسماء والصفات والأفعال.
القسم الثاني: توحيد القَصد والطلب: وسُمِّي بذلك؛ لأن العبد يَتوجه بقلبه ولسانه وجوارحه بالعبادة لله وحده رغبة ورهبة، ويقصد بذلك وجه الله وابتغاء مرضاته
(1)
.
فهذا القسم الثاني من قِسمي التوحيد هو توحيد الألوهية، أو توحيد العبادة.
وإمَّا أن نقول:
القسم الأول: التوحيد العِلمي الخَبَري، والمقصود به: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
وسُمِّي بالتوحيد العِلْمي؛ لأنه يَعتني بجانب معرفة الله، فالعِلمي، أي:«العلم بالله» . والخبري: أي: يَتوقف على الخبر من الكتاب والسُّنَّة.
القسم الثاني: التوحيد الإرادي الطلبي:
والمقصود به: توحيد الألوهية، وسمي بالتوحيد الإرادي؛ لأن العبد له في العبادات إرادة؛ فهو إمَّا أن يقوم بتلك العبادة أو لا يقوم بها. وسُمِّي بالطلبي؛ لأن العبد يَطلب بتلك العبادات وجهَ الله، ويقصده عز وجل بذلك
(2)
.
(1)
انظر «مدارج السالكين» لابن القيم (3/ 449).
(2)
وممن ذكر ذلك ابنُ القيم في «مدارج السالكين» (3/ 450)، وابن تيمية في «الصفدية» (2/ 228).
ومِن العلماء مَنْ يُقَسِّم التوحيد إلى قِسمين، فيقول:
القِسم الأول: توحيد السِّيادة:
ويعني بذلك توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وسُمِّي بذلك؛ لأن تَفَرُّد الله سبحانه وتعالى بأفعاله وأسمائه وصفاته يُوجب له القيادة المطلقة والتصرُّف التَّام في هذا الكون؛ خلقًا ورزقًا وإحياء وإماتة وتصرفًا وتدبيرًا، فمن واجب المُوَحِّد أن يُفرد الله بذلك.
والقِسم الثاني: توحيد العبادة:
والمراد به: توحيد الألوهية، وتسميته بذلك واضحة لا تحتاج إلى مزيد تفصيل.
ومِن العلماء مَنْ يُقَسِّم التوحيد إلى قسمين
(1)
، فيقول:
القسم الأول: التوحيد القولي:
والمراد به: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وسُمِّي بالقولي؛ لأنه في مقابل توحيد الألوهية الذي يُشَكِّل الجانب العَمَلِي من التوحيد، وأمَّا هذا الجانب فهو مختص بالجانب القولي العِلمي.
القسم الثاني: التوحيد العَمَلي:
والمراد به: توحيد الألوهية، وسُمِّي بالعملي؛ لأنه يشمل كلًّا من عمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح التي تُشَكِّل بمجموعها جانب العمل من التوحيد، فالتوحيد له جانبان: جانب تَصديقي عِلمي، وجانب انقيادي عملي.
ثانيًا: العبادة هي الحكمة من خلق الجِن والإنس.
فمعلوم أنَّ الحكمة والغاية مِنْ خلق الله عز وجل للجِنَّ والإنس هي
(1)
ممن ذكر ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية. انظر: «مجموع الفتاوى» (1/ 367).
عبادته وحده جل جلاله؛ قال الله عز وجل: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]؛ لذلك بَيَّن لهم عن طريق الرسل والكتب ما يُحبه ويرضاه منهم ليَفعلوه، وما يُبغضه ليَجتنبوه.
ثالثًا: العِبادة هي ما بُعث به الرسل.
ولذلك كان بَعثُ الرسل من أَجْل هذا، قال سبحانه:{ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36]، فدعوة الرسل قائمة على تحقيق العبادة لله عز وجل وحده.
رابعًا: العبادة كذلك هي حقُّ الله على العبيد.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «أتدري ما حقُّ الله على العباد؟ وما حقُّ العباد على الله؟» . قال معاذ: اللهُ ورسوله أعلمُ. قال: «حَقُّ الله على العباد: أن يَعبدوه ولا يشركوا به شيئًا»
(1)
، فمَن أراد أن يُحَقِّق العبادة عليه أن يقوم بحقِّ الله عز وجل عليه من فِعل الأوامر واجتناب النواهي؛ مخلصًا في ذلك عمله لوجه الله؛ قال جل وعلا:{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5].
خامسًا: العبادة هي الصلة بين العبد وبين الله عز وجل.
فعلاقة العبد بربِّه لا تكون إلا من طريق عبادته عز وجل، كما جاء في الحديث القدسي:«وما تَقَرَّب إليَّ عبدي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه»
(2)
.
فمحبة الله لعبده لا تحصل إلا بأن يحقق العبد العبادة لله عز وجل، وذلك بفعل الفرائضه واجتناب النواهي، والإكثار من النَّوافل.
(1)
أخرجه البخاري (2856) ومسلم (30).
(2)
أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة ?.
سادسًا: العبادة: هي معنى لا إله إلا الله.
فالإله: هو المعبود، وقيام العبد بحقِّ لا إله إلا الله لا يتأتى إلَّا بإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
سابعًا: العبادة: شَطر الإسلام وأوله وآخره.
فالإنسان لا يدخل الإسلام إلا بعد أن ينطق بالشهادتين؛ (شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله)؛ فلا إله إلا الله، معناها: لا معبود بحقٍّ إلا الله، ومحمد رسول الله معناها لا متبوع في أداء العبادة ولا قُدوة للنَّاس إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال جل وعلا:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
فمن أراد السعادة في الدنيا والآخرة فعليه باقتفاء أثره صلى الله عليه وسلم، والعَض على ما جاء به، وأن لا يَعبد اللهَ إلا بما شرع رسولُه صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وكذلك من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله وَجَبت له الجنَّةُ، كما جاء في الحديث
(1)
.
ثامنًا: العبادة ظاهر الدِّين وباطنه.
لأنَّ الدِّين يشمل العبادات الظاهرة والعبادات القلبية الباطنة، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند بيان تعريف العبادة؛ وأنها أول الدِّين وآخره وظاهره وباطنه.
تاسعًا: دعوة الرُّسل- كما هو معلوم- تقوم على دعوة الناس للعبادة.
فنوح وغيره من الأنبياء ممن ذكر الله تعالى في القرآن إنما أَمَروا
(1)
أخرجه أحمد (22034) وأبو داود (3116) بلفظ: «دخل الجَنَّة» من حديث معاذ ?، وحسنه الألبانيُّ في «الإرواء» (687).
أقوامهم بهذا الأمر: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
فلذلك حق على كل مسلم أن يَعتني بهذا الأمر حق الاعتناء، وان يهتم به غاية الاهتمام؛ علمًا وعملًا، وكذلك دعوة وتطبيقًا.
ومن هذا الاهتمام: دراستنا لهذه الرسالة العظيمة المباركة التي بَيَّن فيها شيخُ الإسلام ابن تيمية بعض ما يتعلق بأمر العبادة، إذ فِعلها إنما هو تنفيذ لأمر الله سبحانه وتعالى وتحقيق لمراده من خلقه؛ لذا كانت من أهم ما يُصرف فيه الأوقات، ومن أعظم ما يجاهد من أجله العبد؛ فهمًا وتحقُّقًا وعملًا.
فعلى العبد أن يَعرف قيمة هذا العِلم (علم العقيدة)، وأن لا يَغتر بحال أهل الباطل الذين يُقَلِّلون من أهميته؛ ليوقعوا الناس في الضلالات والبدع.
ومما يجب أن يُعلم: أن الانحراف في هذا الباب- باب العبادة- أعظم من الانحراف في سائر الأبواب؛ فانحراف الناس في باب العبادة أكثر من انحرافهم في باب الأسماء والصفات.
وسبب ذلك- كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله: «لأنَّ الانحراف في أمر العبادة انحراف في أمر الإرادة، أمَّا الانحراف في باب الأسماء والصفات فهو انحراف في باب العِلم، وباب العلم كما هو معلوم قد لا يَناله كثيرٌ من الناس، بينما أمر الإرادة أمر مُشترك؛ حتى البهائم لها إرادة، وبالتالي يقع الانحراف كثيرًا في باب العبادة أكثر من وقوع الانحراف في باب الأسماء والصفات، وعلى هذا فالبدع في باب العبادة أكثر من البِدع في باب الأسماء والصفات، وهذا أمرٌ ملموس مشاهد؛ فمن يتأمل أحوال الناس يجد أن عندهم من الانحرافات في باب توحيد العِبادة ما هو أعظم
من الانحرافات في باب الأسماء والصفات، وأنواع البدع تشهد بذلك.
فعلى العبد أن يحقق العبادة؛ التي هي غاية الأمور المحبوبة لله سبحانه وتعالى، والتي مِنْ أجلها خَلَقَ الخَلْقَ، وبها أرسل الرسل، وأَنزل الكتب، حتى إن أول أمر نزل في القرآن هو قوله سبحانه وتعالى في سورة البقرة:{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 21].
فإذا كانت العبادة بهذه المنزلة- فعلينا أن نحذر ممن يعمل على إسقاطها، أو مَنْ يُقلل من شأنها، وأن نعمل جاهدين لتحقيق العبادة على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه، وأن نسعى كذلك في تعليمها للناس، وفي غرسها في نفوسنا ونفوس أبنائنا ونفوس طُلَّابنا؛ فهي مسئولية عظمى.
وعلى المسلم أن يُرَتِّب طريقةَ تعليمه للمسلمين على أولويات الدين، إذ هناك مَنْ يسعى لترتيب مسائل وأبواب الاعتقاد بترتيب منكوس؛ فيأتي بمسائل هي من لواحق أمور العقيدة ويجعلها أساسًا، ويأتي بمسائل- مثلًا- في الأسماء والأحكام ويُقَدِّمها على مسائل التوحيد، فليس هذا من الحق في شيء، فأوليَّات وأولويات هذا الدِّين مرتبة، كما نبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذًا على ذلك؛ فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا بعث معاذًا ? على اليَمن، قال: «إنَّك تَقْدُمُ على قومٍ أهل كتاب؛ فَلْيَكُن أولَّ ما تَدعوهم إليه: عبادة الله، فإذا عَرفوا الله، فأخبرهم أنَّ الله قد فَرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فَعلوا، فأخبرهم أنَّ اللهَ فرض عليهم زكاة من أموالهم وتُرد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها، فَخُذ منهم وتَوَقَّ
كرائمَ أموال الناس»
(1)
.
وأيضًا هذا المقام- مقام العِبادة- مَقام عظيم، وهو شَرف لمن حَقَّقه وانتسب إليه؛ فهو شرفٌ لملائكة الله تعالى المُقربين الذين لهم من المنزلة ما ذكر الله سبحانه وتعالى من أوصافهم؛ فقال:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20، 19].
فمع ما وضع اللهُ فيهم مِنْ عِظم الخلق، وما جعل لهم من المنزلة، إلا أنَّهم لا يستكبرون عن عبادته سبحانه وتعالى!
* * *
(1)
أخرجه البخاري (1458) ومسلم (19).
قال المصنف رحمه الله:
«ونَعَتَ صفوةَ خلقه بالعبودية لَهُ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {عينًا يشرب بهَا عباد الله يفجرونها تفجيرا} [الإنسان: 6]، وقَالَ: {وعباد الرَّحْمَن الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا وإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما
…
} الآيَات [الفرقان: 63 - 77].
ولما قَالَ الشَّيْطَانُ: {رب بِمَا أغويتني لأزينن لَهُمْ فِي الأَرْض ولأغوينهم أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين} [الحجر: 39، 40]؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلطَان إِلَّا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42].
وقَالَ فِي وصف المَلَائِكَة بذلك: {وقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون * لَا يسبقونه بالقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ * يعلم مَا بَين أَيْديهم ومَا خَلفهم ولَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى وهم من خَشيته مشفقون} [الأَنْبِيَاء: 26 - 28]، وقَالَ تَعَالَى:{وقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا * لقد جئْتُمْ شَيْئا إدا * تكَاد السَّمَاوات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الجبَال هدا * أَنْ دعوا للرحمن ولدا * ومَا يَنْبَغِي للرحمن أَنْ يتَّخذ ولدا * إِنْ كل من فِي السَّمَاوات والأَرْض إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهمْ آتيه يَوْم القِيَامَة فَردًا} [مَرْيَم: 88 - 95].
وقَالَ تَعَالَى عَنْ المَسِيح الَّذِي ادُّعيت فِيهِ الإلهية والبنوة: {إِنْ هُو إِلَّا عبد أنعمنا عَلَيْهِ وجعلناه مثلًا لبني إِسْرَائِيل} [الزخرف: 59]، ولِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح:«لَا تُطْرُوني كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَم؛ فَإِنَّمَا أَنا عبد، فَقولُوا: عبدُ الله ورَسُولُه» .
وقد نَعته اللهُ بالعبودية فِي أكمل أَحْواله، فَقَالَ فِي الإِسْرَاء:{سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، وقَالَ فِي الإيحاء:{فَأوحى إِلَى عَبده مَا أوحى} [النَّجْم: 10]، وقَالَ فِي الدَّعْوة:{وأَنه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدًا} [الجِنّ: 19]، وقَالَ فِي التحدي:{وإِن كُنْتُم فِي ريب مِمَّا نزلنَا على عَبدنَا فاتوا بِسُورَة من مثله} [23 البَقَرَة].
أثنى اللهُ سبحانه وتعالى على الملائكة بأنَّهم لا يَستكبرون عن عبادته، وذَمَّ جل وعلا المُستكبرين حيث قال:{إنَّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60].
وقد بَيَّن شيخُ الإسلام رحمه الله ثناءَ الله سبحانه وتعالى على عباده الذين أَخْلَصُوا له في عبادتهم له عز وجل، وهنا عِدَّةُ وقفات:
الوقفة الأولى: أنواع العبودية لله تعالى:
العبودية على نوعين: عبودية عامَّة. وعبودية خاصَّة.
فالعبودية العامَّة: عبودية أهل السموات والأرض كلهم لله؛ بَرِّهم وفاجرهم، مُؤمنهم وكافرهم. فهذه عبودية القَهر والمُلك؛ قال تعالى:{وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وتَنشَقُّ الأَرْضُ وتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَدًا ومَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ ولَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93]، فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم.
وقال تعالى: {ويَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ومَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيل} [الفرقان: 17]؛ فسَمَّاهم عِبَادَه مع ضلالهم، ولكنها تسمية مُقَيَّدة بالإشارة، وقال تعالى: {قُلِ
اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون} [الزمر: 46]، وقال:{ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلمًا لِّلعِبَاد} [غافر: 31]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَاد} [غافر: 48]؛ فهذا يتناول العبودية الخاصة والعامة.
وأما النوع الثاني: العبودية الخاصة، وهي عبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر، وقد جاءت تسميتهم مُطلقة.
قال تعالى: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ ولَا أَنتُمْ تَحْزَنُون} [الزخرف: 68]، وقال:{وعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الزخرف: 68].
وأخرج الطبريُّ عن الربيع في قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99] إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْركُونَ} [النحل: 100] يُقال: إنَّ عدوَّ الله إبليس قال: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83، 82] فهؤلاء الذين لم يُجعل للشيطان عليهم سبيلٌ، وإنَّما سُلطانه على قومٍ اتَّخذوه وليًّا، وأشركوه في أعمالهم»
(1)
.
فعباد الله حقًّا هم الذين قال لإبليس عنهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِين} [الحجر: 42].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «وقوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر: 42] أي: الذين قَدَّرْتُ لهم الهدايةَ؛ فلا سبيلَ لك عليهم، ولا وصولَ لك إليهم، {إلَّا مَنْ اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42] استثناء مُنقطع»
(2)
.
والاستثناء المُنقطع معناه: أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه ولا بعضه.
والمعنى هنا: أنَّ هؤلاء الغاوين المتبعين لإبليس ليسوا عبادًا لله حقًّا؛ أي: العبودية الخاصة.
قال الإمامُ ابنُ القَيِّم رحمه الله: «وإنَّما انقسمت العبوديَّةُ إلى خاصَّة وعامة؛ لأنَّ أصلَ معنى اللفظة [أي: العبودية]: الذُّلُّ والخضوع؛ يُقال: طريق مُعَبَّد إذا كان مُذَلَّلًا بوطء الأقدام، وفلان عَبَّده الحبُّ إذا ذلَّلَه.
لكِنْ أولياؤه خَضعوا له وذَلُّوا طوعًا واختيارًا وانقيادًا لأمره ونهيه، وأعداؤه خَضعوا له قهرًا ورغمًا»
(1)
.
الوقفة الثانية: وصفُ عبيد ربوبيته بالعبودية لا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه:
فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأمَّا أهل طاعته وولايته: فهم عبيد إلهيته.
ولا يجيء في القرآن إضافة العباد إليه مطلقًا إلا لهؤلاء المُخْلَصِين.
وأمَّا وصف عبيد ربوبيته بالعبودية؛ فلا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه:
الأول: إمَّا مُنَكَّرًا؛ كقوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].
والثاني: مُعَرَّفًا بالألف واللام؛ كقوله: {ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلمًا
(1)
«مدارج السالكين» (1/ 106).
لِّلعِبَاد} [غافر: 31]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَاد} [غافر: 48].
الثالث: مُقَيَّدًا بالإشارة أو نحوها؛ كقوله: {أَأَنتُمْ أَضْلَلتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيل} [الفرقان: 17].
الرابع: أن يُذكروا في عموم عباده؛ فيَندرجوا مع أهل طاعته في الذِّكر؛ كقوله: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون} [الزمر: 46].
الخامس: أن يُذكروا موصوفين بفعلهم، كقوله تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَّحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53].
وقد يقال: إنَّما سَمَّاهم (عباده) إذا لم يَقنطوا من رحمته، وأنابوا إليه، واتَّبعوا أحسن ما أُنزل إليهم من ربهم؛ فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة
(1)
.
الوقفة الثالثة: مدار النِّزاع في هذا الباب:
ومدار النزاع مع المخالف في هذا الباب جاء من عدم فَهمهم للفرق بين العبودية الخاصَّة والعبوديَّة العامَّة؛ فمن اتضح له الفرقُ بين العبودية الخاصة والعبودية العامة- عَرف أين مقام الثناء، وأين مقام الذَّمِّ؟
فمقام الثناء هو لأهل العبودية الخاصة؛ فلذلك نَعَتَهم اللهُ تعالى بجَمْعهم وأفرادهم؛ لأن مقامَ هذه العبوديةَ أشرفُ المقامات، ومرتبتها أعلى المرتبات؛ فبها تشَرَّفت الملائكة؛ قال سبحانه وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]، وقال جل جلاله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ
(1)
انظر: «مدارج السالكين» (1/ 106).
بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26، 27].
والعبودية هي مقام التشريف لأنبياء الله ورسله، وهم أعلى مُكَلَّفين في مراتب العبودية؛ قال عز وجل:{وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، وقال سبحانه:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ} [الصافات: 171، 172]، وقال جل وعلا:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [ص: 45]، ووصف سبحانه أيوبَ الذي ابتلي طويلًا بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]، وأثنى على سليمان الذي وهبه الملك العظيم بقوله:{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]، أمَّا عيسى عليه السلام فقد ردَّ سبحانه على مَنْ أَلَّهوه بقوله:{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59]، ولذلك استشهد هنا شيخ الإسلام بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا تُطْرُوني كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَم؛ فَإِنَّمَا أَنا عبدُه، فَقولُوا: عبدُ اللهِ ورَسُولُه»
(1)
.
فهذه العبودية تُطلق في مقام المدح والثناء، إذ هي شرفٌ للعبد؛ لذلك وصف الله عز وجل بها نبيَّه صلى الله عليه وسلم في أعلى المقامات: ففي مقام الإسراء قال جل جلاله: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1]، وفي مقام الوحي قال سبحانه:{فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 10]، وفي مقام الدعوة قال جل وعلا:{وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدًا} [الجن: 19]، وفي مقام التحدي قال عز وجل:{وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة: 23]، فذكره بوصف العبودية.
فعلى العبد أن يسعى جاهدًا في تحقيق العبودية؛ فهي شرفُه
(1)
أخرجه البخاري (3445) من حديث عمر بن الخطاب ?.
ودليل إيمانه؛ كما في الحديثِ: «واعلم أنَّ شرفَ المؤمن قيامُه بالليل»
(1)
.
الوقفة الرابعة: تحقيق العبودية لله: أول الأولويات:
تحقيق العبودية لله أول الأولويات؛ كما في حديث شُعب الإيمان: «الإيمانُ بِضْعٌ وسَبعون- أو بضع وسِتُّون- شُعبة؛ فأفضلُها: قول: لا إله إلا الله. وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شُعبة من الإيمان»
(2)
، فالإيمان كله عبودية؛ فكل طاعة من الطاعات هي شُعبة من شُعَب الإيمان؛ فالصلاة شعبة من شعب الإيمان، وكذلك الزكاة والصوم وبِر الوالدين وصلة الأرحام والصدقة .. إلى غير ذلك، فكل طاعة من هذه الطاعات فهي شعبة من شُعب الإيمان.
وعليه، مَنْ أراد أن يكون من أهل الإيمان فليُحَقِّق العبودية لله سبحانه وتعالى، وهذا مقام عظيم يَناله مَنْ أسلم لله ظاهرًا وباطنًا، وذلك بمعرفة الله سبحانه وتعالى المعرفة الحقَّة؛ قال الله تعالى:{إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]، فالعلماء هم أهل الخشية وأهل التقوى لله سبحانه وتعالى؛ لأنهم بالله أعرف، وكما قال العلماء:«مَنْ كان بالله أعرف كان له أعبد» .
ولما كان الأنبياء أشد الناس معرفة بالله عز وجل كانوا أعظم تحقيقًا للعبودية له جل وعلا، وقد ردَّ صلى الله عليه وسلم على أولئك النفر الذين سألوا عن عبادته صلى الله عليه وسلم؛ فلمَّا أُخبروا كأنهم تقالُّوها؛ فقال: «أَمَا-
(1)
أخرجه الطبراني في «الأوسط» (4278)، والحاكم في «المستدرك» (7921) من حديث سهل بن سعد ?، وحسنه الألباني في «الصحيحة» (831).
(2)
أخرجه مسلم (35) من حديث أبي هريرة ?.
واللهِ- إنِّي لأخشاكم لله وأتقاكم له
…
»، الحديث
(1)
، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخشانا وأتقانا وأكثرنا عبودية لله جَلَّ وعلا.
فطريق تحقيق هذه العبادة هو عن طريق معرفة الله تعالى؛ لأن هذه المعرفة متى ما تَمَكَّنت في نفس- كان الله سبحانه وتعالى أحبَّ إليه من كل شيء، وأكبرَ من كل شيء، وأعظمَ من كل شيء، وأجلَّ مِنْ كل شيء.
فإذا امتلأتِ النفوس بمحبة الله جل وعلا، عمرتها بالهيبة والإجلال والخشية والانكسار والذل والخضوع له جل جلاله، وأكسبتها سرعة الاستجابة لما يحبه الله ويرضاه؛ قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الانتفال: 24]، ونتج عن ذلك تحقيق طاعته سبحانه وتعالى، والبعد عمَّا حرم عز وجل؛ فتستحق هذه النفوس أن تكون من أهل هذا الوصف؛ وصف العبودية، وأن يدخلوا فيمن قال الله فيهم:{وعباد الرحمن} [الفرقان: 63]، فهذه العبودية الخاصَّة تُنال عن طريق تحقيق عبادة الله عز وجل.
ولا شك أنَّ الناس فيها مقامات؛ فهناك مَنْ هو سابق بالخيرات. وهناك مَنْ هو مقتصد. وهناك مَنْ هو ظالم لنفسه، لكن يَخلص من هذا كله: أنَّ الدين كله داخل في العبادة.
ولذلك لما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والسَّاعة- كما سيأتي في حديث جبريل عليه السلام قال صلى الله عليه وسلم في آخر ذلك الحديث: «هذا جبريلُ أَتَاكم يُعَلِّمكم دينَكم»
(2)
.
* * *
(1)
أخرجه البخاري (5063) ومسلم (1401) من حديث أنس بن مالك ?.
(2)
أخرجه البخاري (50) من حديث أبي هريرة ?، ومسلم (8) من حديث عمر بن الخطاب ?.
قال المصنف رحمه الله: «فالدين كُلُّه دَاخل فِي العِبَادَة، وقد ثَبت فِي «الصَّحِيح» أَنَّ جِبْرِيل لما جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي صُورَة أَعْرَابِي وسَأَلَهُ عَنْ الإِسْلَام قَالَ: «الإِسْلَامُ: أَنْ تشهد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وأَن مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وتقيمَ الصَّلَاةَ، وتؤتي الزَّكَاة، وتصوم رَمَضَانَ، وتحجَّ البَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا» . قَالَ: فَمَا الإِيمَان؟ قَالَ: «أَنْ تؤمن بِاللَّه ومَلَائِكَته وكُتُبه ورُسُله والبَعث بعد المَوْتِ، وتؤمن بِالقدرِ؛ خَيره وشره» . قَالَ: فَمَا الإِحْسَان؟ قَالَ: «أَنْ تعبدَ الله كَأَنَّك ترَاهُ، فَإِنْ لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك» ، ثمَّ قَالَ فِي آخر الحَدِيث:«هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُم يُعَلِّمُكم دينَكُمْ» ، فَجعل هَذَا كُلَّه مِنْ الدَّين».
حديث جبريل هذا تَضَمَّن مراتبَ الدِّين، وهي:(الإسلام، والإيمان، والإحسان)، وفيه خص النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بالأمور الظاهرة، وخَصَّ الإيمان بالأمور الباطنة، وجعل الإحسانَ مجموعَ الأمرين؛ لأن الإحسان في اللغة: الإتقان، والمراد هنا: إتقان الظاهر والباطن.
والإسلام يطلق أحيانًا ويُراد به جميع الدِّين، كما في قوله تعالى:{إنَّ الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]، ويُطلق تارة ويُراد به الأمور الظاهرة، كما في هذا الحديث حيث قال: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله
…
»، إلخ.
والإيمان كذلك يُطلق ويراد به جميع الدِّين، كما في حديث: «الإيمانُ بِضْعٌ وسَبعون شُعبة
…
»، ويُطلق الإيمان ويراد به: الأمور الباطنة، كما هنا في حديث جبريل حيث قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان: أن تُؤمن بالله وملائكته وكُتُبه ورسله
…
».
فلفظ الإسلام والإيمان إذا ذُكِرا معًا افترقا؛ فصار للإسلام معنى خاص، وللإيمان معنى خاص، كما هنا في حديث جبريل عليه السلام؛ فالإسلام خاص بالأعمال الظاهرة، والإيمان خاص بما يتعلق بأعمال القلوب.
أما إذا ذُكِر الإسلام وحده أو الإيمان وحده؛ فإنَّ أحدهما يدخل في الآخر؛ لهذا يقول أهل العلم: «إنَّهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا» ؛ فالإيمان عند أهل السنة والجماعة: هو عملٌ بالأركان، وقول باللسان، وتصديق بالجَنان، ويدخل فيه الإسلام؛ يكون قولًا باللسان وعملًا بالأركان وتصديقًا بالجنان؛ إذا ذكر وحده
(1)
.
والشاهد هنا قوله: «فجعل هذا كلَّه مِنْ الدِّين» ، أي: جعل من الدين: الأعمالَ الظاهرة والأعمال الباطنة وإتقان الظاهر والباطن، وهذا أعلى المقامات وهو مقام الإحسان، ومعناه: أن تتقن الظاهر والباطن؛ فإذا أحسن العبدُ أعماله الظاهرة، وأحسن أعماله الباطنة؛ فقد ارتقى إلى درجة الإحسان.
وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: «هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُم يُعَلِّمُكم دينَكُمْ» ؛ فجعل الدِّينَ كُلَّه في العِبادة.
(1)
انظر: «المنتقى من فتاوى الفوزان» أول المجلد الثاني، أول فتاوى الإيمان.
إذًا العبادةُ هي الدِّينُ، والدِّينُ هو العبادة؛ فعلى العبدِ أن يَعتني بأمر العبادة؛ لأنَّها الدِّينُ، وعليه أن يَعلم أن طريقه لتحقيق هذا دِين الإسلام والثبات عليه: إنَّما يكون بتحقيق العِبادة.
* * *
قال المصنفُ رحمه الله: «والدِّين يتَضَمَّن معنى الخضوع والذُّلِّ؛ يُقَال: دِنْتُهُ فَدَان؛ أي: أذللتُه فَذَلَّ. ويُقَال: يَدِين اللهَ، ويَدِين للهِ، أي: يَعبد الله ويُطيعه ويَخضع لَهُ. فدين الله: عِبَادَته وطاعته والخضوع لَهُ.
والعِبَادَة أصل مَعْنَاهَا: الذلُّ أَيْضًا، يُقَال: طَرِيق مُعَبَّد، إِذا كَانَ مُذَلَّلًا قد وَطِئَتْهُ الأَقْدَامُ.
لَكِن العِبَادَة المَأْمُور بهَا تَتَضَمَّن معنى الذل ومعنى الحبِّ؛ فهي تَتَضَمَّن غَايَة الذل لله تعالى، بغاية المحبَّة لَهُ».
لفظ الدِّين ولفظ العبادة في أصل اللغة بمعنى واحد.
فالدين في اللغة معناه: الخضوع.
(1)
.
وقال الزبيدي: «والدين: (الطاعة)، وهو أصل المعنى؛ وقد دِنتُه ودِنتُ له، أي: أطعتُه»
(2)
.
والعبادة في اللغة معناها: الخضوع.
قال الرازي: «أصل العُبُودية: الخضوع والذُّلِّ. والتَّعْبِيدُ: التذليل؛ يُقال: طريق مُعَبَّدٌ.
والتَّعبِيدُ أيضًا: الاسْتِعْبادُ، وهو اتخاذ الشخص عبدًا
…
والعِبَادَةُ: الطاعة. والتَّعَبُّدُ: التنسُّك»
(1)
.
وقال الطبري في تفسير سورة الفاتحة عند قوله: {إياك نعبد} [الفاتحة: 5]: «وإنَّما اخترنا البيان عن تأويله بأنَّه بمعنى: نخشع ونذل ونستكين، دون البيان عنه بأنه بمعنى: نرجو ونَخاف- وإن كان الرَّجاء والخوف لا يكونان إلا مع ذِلَّة- لأنَّ العبودية عند جميع العرب أصلها الذِّلَّة»
(2)
.
ولذلك قال شيخ الإسلام هنا: «والدِّينُ يتضمن معنى الخضوع والذل، هذا في أصل اللغة، يقال: دِنْتُه فَدَان، أي: أذللتُه فَذَلَّ» ، ثم قال:«أي: يعبد الله ويطيعه ويخضع له» .
فدين الله: عبادة الله وطاعته والخضوع له، فإذا أضيف الدِّين لله سبحانه وتعالى؛ فإنه بمعنى: عبادة الله تعالى والخضوع والطاعة له سبحانه وتعالى.
وهكذا معنى العبادة، فالعبادة أصل معناها في اللغة هو: الذل والخضوع، وبالتالي يقال: طريق مُعَبَّد إذا كان مذللًا قد وطئته الأقدام.
لكن العبادة في الشرع أُضيف لها مع كمال الذُّلِّ كمال المحبة؛ كما قال شيخ الإسلام: «العبادة تجمع كمال المحبة وكمال الذل؛
(1)
«مختار الصحاح» (ص 467).
(2)
«تفسير الطبري» (1/ 161).
فالعابد محبٌّ خاضع بخلاف مَنْ يحب مَنْ لا يخضع له، بل يحبه؛ ليتوسل به إلى محبوب آخر، وبخلاف مَنْ يخضع لمن لا يحبه، كما يخضع للظالم؛ فإنَّ كلًّا مِنْ هذين ليس عبادة محضة، وإنَّ كل محبوب لغير الله ومُعَظم لغير الله ففيه شَوْبٌ من العبادة»
(1)
.
فبعض الألفاظ إذا انتقلت من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي انضاف إليها معنى زائد، أو أنها اختصت بأمر معين؛ فلفظ العبادة في أصل اللغة معناه: الذل والخضوع، ولكن لما أصبح لفظًا شرعيًّا فإنَّه جمع مع الذل كمال المحبة، كمال قال المصنف هنا:«لكن العبادة المأمور بها تَتضمن معنى الذُّلِّ ومعنى الحبِّ» .
* * *
(1)
«قاعدة في المحبة» (ص 98، 99).
يجدر الحديث هنا عن عدة مسائل:
المسألة الأولى: شرح الألفاظ الخمسة:
أمَّا العلاقة؛ فقد قال العلَّامة ابن القيم رحمه الله: «العلاقة وتسمى العَلَق بوزن الفَلَق؛ فهي من أسمائها، قال الجوهري: والعلق- أيضًا-: الهوى؛ يقال: نظرة من ذي عَلَق؛ قال الشاعر:
ولقد أردت الصَّبر عنك فعَلَقني
…
عَلَقٌ بقلبي من هواك قديم
وقد عَلِقها بالكسر وعَلق حُبُّها بقلبه، أي: هَوِيها وعَلق بها علوقًا، وسُمِّيت علاقة؛ لتعلق القلب بالمحبوب؛ قال الشاعر:
أعلاقة أم الوليد بعدما
…
أفنان رأسك كالثغام المخلس
(1)
»
(2)
وأمَّا الصَّبْوة؛ فقال ابن القيم: «الصَّبْوة والصَّبَا فمن أسمائها أيضًا؛ قال في «الصِّحاح» : «والصَّبَا من الشَّوق؛ يقال منه تَصَابَا
(1)
المخلس: اسم فاعل من أخلس النبات، إذا كان بعضُه أخضر وبعضه أبيض، وكذلك يقال: أخلس رأسه: إذا خالط سواده بياضه.
(2)
«روضة المحبين ونزهة المشتاقين» (1/ 22).
وصَبَا يَصبو صَبْوة وصَبْوًا، أي: مال إلى الجهل. وأَصْبَتْهُ الجاريةُ وصَبِي صَباء مِثل سَمِع سَماعًا، أي: لعب مع الصبيان.
قلت: أصل الكلمة من الميل؛ يقال: صبا إلى كذا، أي: مال إليه. وسُمِّيت الصبوة بذلك؛ لميل صاحبها إلى المرأة الصبية. والجمع: صبايا؛ مثل: مَطية ومطايا. والتَّصابي: هو تعاطي الصبوة مثل التمايل وبابه. والفرق بين الصبا والصبوة والتصابي:
أن التصابي هي تعاطي الصبا، وأن تفعل فعل ذي الصبوة.
وأمَّا الصبا فهو نفس الميل.
وأما الصبوة فالمرة من ذلك مثل الغَشوة والكبوة، وقد يقال على الصفة اللازمة مثل القسوة، وقد قال يوسف الصديق عليه السلام:{وإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ} [يوسف: 33].
وأمَّا الصبابة فقال في «الصِّحاح» : هي رقة الشوق وحرارته؛ يقال: رجل صَبٌّ عاشق مشتاق، وقد صَبِبت يا رجل، بالكسر؛ قال الشاعر:
ولستَ تَصَبُّ إلى الظاعنين
…
إذا ما صديقك لم يَصْبَب
قلت: والصبابة من المضاعف من صَبَّ يصب والصبا والصبوة من المعتل وهم كثيرًا ما يعاقبون بينهما، فبينهما تناسب لفظي ومعنوي؛ قال الشاعر:
تَشَكَّى المُحِبُّون الصَّبابةَ ليتني
…
تحمَّلت ما يَلقون مِنْ بينهم وَحْدي
ويقال: رجل صَبٌّ، وامرأة صَبٌّ، كما يقال: رجل عدل وامرأة عدل»
(1)
.
(1)
«روضة المحبين» (1/ 24، 25).
وأما الغرام فيقول ابنُ القيم: «وأمَّا الغرام فهو الحب اللازم، يقال: رجل مُغرم بالحب، أي: قد لَزِمه الحبُّ، وأصل المادة من اللزوم، ومنه قولهم: رجل مُغرم من الغُرم أو الدَّيْن؛ قال في «الصِّحاح» : والغَرام: الولوع، وقد أغرم بالشيء، أي: أولع به. والغريم: الذي عليه الدَّيْنُ، يقال: خذ من غَريم السوء ما سَنح، ويكون الغريم أيضًا: الذي له الدين؛ قال كُثَيِّر عَزَّة:
قضى كُلُّ ذي دَيْن فوفَّى غَرِيمَه
…
وعَزَّة مَمطولٌ مُعَنّى غَريمها
ومن المادة: قوله تعالى في جهنم: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65]، والغرام: الشَّر الدائم اللازم والعذاب؛ قال بشر:
ويوم النِّسار ويوم الجِفا
…
رِ كانا عذابًا وكانا غَراما
وقال الأعشى:
إن يعاقب يكن غرامًا وإن يع
…
طِ جزيلًا فإنه لا يبالي
وقال أبو عبيدة: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65]: كان هلاكًا ولِزامًا لهم.
وللطف المحبة عندهم واستعذابهم لها لم يكادوا يُطلقون عليها لفظ الغرام، وإن لهج به المتأخرون»
(1)
.
وأمَّا العشق فيقول ابن القيم: «العشق فهو أَمَرُّ هذه الأسماء وأخبَثُها، وقَلَّ ما وَلعت به العربُ، وكأنهم ستروا اسمه، وكَنُّوا عنه بهذه الأسماء؛ فلم يكادوا يفصحوا به، ولا تكاد تجده في شعرهم القديم، وإنَّما أولع به المتأخرون، ولم يقع هذا اللفظ في القرآن ولا في السنة إلَّا في حديث سويد بن سعيد وسنتكلم عليه إن شاء الله
(1)
«روضة المحبين» (1/ 49، 50).
تعالى، وبعدُ فقد استعملوه في كلامهم؛ قال الشاعر:
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا
…
سوى أن يقولوا: إنني لك عاشق
نعم، صدق الواشون أنت حبيبة
…
إليَّ وإن لم تصف منك الخلائق
قال في «الصِّحاح» : العشق: فرط الحب، وقد عشقها عشقًا؛ مثل علم علمًا
…
ورجل عشيق مثل فَسيق، أي: كثير العشق. والتعشق: تكلف العشق؛ قال الفراء: يقولون: امرأة محب لزوجها وعاشق. وقال ابن سِيدة: العشق: عجب المحب بالمحبوب؛ يكون في عفاف الحب ودَعارته؛ يعني: في العفة والفجور
…
وقد اختلف الناسُ: هل يُطلق هذا الاسم في حقِّ الله تعالى؟
فقالت طائفة من الصوفية: لا بأس بإطلاقه، وذكروا فيه أثرًا لا يَثبت، وفيه:«فإذا فعل ذلك عَشقني وعشقتُه» .
وقال جمهور الناس: لا يُطلق ذلك في حقِّه سبحانه وتعالى؛ فلا يُقال: إنه يَعشق، ولا يقال: عشقه عبدُه.
ثم اختلفوا في سبب المنع على ثلاثة أقوال:
أحدها: عدم التوقيف بخلاف المحبة.
الثاني: أن العشق إفراط المحبة، ولا يمكن ذلك في حقِّ الرب تعالى؛ فإنَّ الله تعالى لا يُوصف بالإفراط في الشيء، ولا يبلغ عبده ما يستحقه من حبِّه؛ فضلًا أن يقال: أفرط في حبه.
الثالث: أنَّه مأخوذ من التغير؛ لأنه قيل: هو مأخوذ من شجرة يقال لها: عاشقة تخضَّر ثم تدق وتصفَّر، ولا يُطلق ذلك على الله سبحانه وتعالى»
(1)
.
(1)
«روضة المحبين» (1/ 27 - 29) باختصار.
أما التتيُّم؛ فيقول ابن القيم في تعريفه: «وأمَّا التتيم فهو التعبُّد؛ قال في «الصِّحاح» : تيم الله أي: عبد الله. وأصله: مِنْ قولهم: تَيمه الحبُّ: إذا عَبَّدَه وذلَّلَه؛ فهو مُتَيَّم، ويقال: تامته المرأة؛ قال لقيط بن زرارة:
تامت فؤادك، لو يَحزُنْك ما صنعت
…
إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا»
(1)
المسألة الثانية: أسماء المحبة:
وقد ذكر ابنُ القيم في كتابه «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» : «أنَّ للحبِّ قريبًا من سِتِّين اسمًا، وهي (المحبة، والعلاقة، والهوى، والصبوة، والصبابة، والشغف، والمِقة، والوجد، والكلف، والتتيم، والعشق، والجوى، والدنف، والشجو، والشوق، والخلابة، والبلابل، والتباريح السدم، والغمرات، والوهل، والشجن، واللاعج، والاكتئاب، والوصب، والحزن، والكمد، واللذع، والحرق، والسهد، والأرق، واللهف، والحنين، والاستكانة، والتبالة، واللوعة، والفتون، والجنون، واللمم، والخبل، والرسيس، والداء المخامر، والود، والخلة، والخِلم، والغرام، والهيام، والتدلية، والوله، والتعبد)، وقد ذكر له أسماء غير هذه، وليست من أسمائه وإنما هي من موجباته وأحكامه؛ فتركنا ذِكرها، وقد شرح ابن القيم معاني هذه الكلمات في كتابه المذكور؛ فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه
(2)
.
المسألة الثالثة: تعريف المحبة:
نتطرق هنا للمعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة المحبة، وذلك
بهدف التعريف بها وبيان مدلولها:
أ- أصل اشتقاق المحبة:
قال ابن منظور: «المحبة: اسم للحب»
(1)
.
ويرى ابنُ القيم أنَّ مادة كلمة (حب) تدور في اللغة على خمسة أشياء:
أحدها: الصفاء والبياض، ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها:«حَبَبُ الأسنان» .
الثاني: العلو والظهور، ومنه «حَبَبُ الماء وحُبَابه» ، وهو ما يَعلوه عند المطر الشديد، وحَبَبُ الكأس منه.
الثالث: اللزوم والثبات، ومنه، حَبَّ البعيرُ وأَحَبَّ، إذا بَرك ولم يَقُم.
قال الشاعر:
حُلْتَ عليه بالفَلاةِ ضَرْبا
…
ضَرْبَ بِعِيرِ السُّوءِ إِذْ أَحَبَّا
الرابع: اللُّبُّ، ومنه: حَبَّة القلب، لِلُبِّه وداخِلِه.
ومنه: الحَبَّةُ لواحدةِ الحُبوب؛ إذ هي أصلُ الشيء ومادَّته وقِوَامه.
الخامس: الحِفظ والإمساك، ومنه: حِبُّ الماء؛ للوِعاء الذي يُحفظ فيه ويُمسكه، وفيه معنى الثبوت أيضًا.
ثم قال رحمه الله: «ولا ريبَ أنَّ هذه الخمسة من لوازم المحبَّة:
1 -
فإنَّها صفاء المودة، وهَيَجان إرادات القلب للمحبوب.
2 -
وعُلوها وظهورها منه؛ لتعلقها بالمحبوب المراد.
(1)
«لسان العرب» (1/ 290).
3 -
وثبوت إرادة القلب للمحبوب، ولُزومها لزومًا لا تفارقه.
4 -
ولإعطاء المحب محبوبه لُبَّه وأشرف ما عنده، وهو قلبه.
5 -
ولاجتماع عَزَماته وإراداته وهُمومه على محبوبه.
فاجتمعت فيها المعاني الخمسة»
(1)
.
وزاد ابن القيم على هذه المعاني الخمسة ما يلي:
«وقيل: بل هي مأخوذة من القلق والاضطراب، ومنه سُمِّي القِرط حِبًّا؛ لقلقه في الأذن واضطرابه.
وقيل: بل هي مأخوذة من الحِب الذي هو إناء واسع؛ فيمتلئ به بحيث لا يَسع لغيره، وكذلك قَلب المحب ليس فيه سَعة لغير محبوبه.
وقيل: مأخوذة من الحُبِّ، وهو الخشبات الأربع التي يَستقر عليها ما يُوضع من جَرَّة أو غيرها؛ فسُمِّي الحب بذلك؛ لأنَّ المحب يتحمل لأجل محبوبه الأثقال، كما تتحمل الخشباتُ ثِقل ما يُوضع عليها»
(2)
.
ووضعوا لمعناها حرفين مُناسبين للمسمى غاية المناسبة: (الحاء) التي هي من أقصى الحلق. و (الباء) الشفوية التي هي نهايته.
فللحاء الابتداء، وللباء الانتهاء، وهذا شأن المحبة وتعلُّقها بالمحبوب، فإن ابتداءها منه وانتهاءها إليه.
وقالوا في فعلها: حَبَّهُ وأحَبَّهُ.
ثم اقتصروا على اسم الفاعل من (أحب) فقالوا: (مُحِبٌّ)، ولم
(1)
انظر: «مدارج السالكين» (3/ 11، 12).
(2)
«روضة المحبين» (ص 17، 18).
يقولوا: (حاب)، واقتصروا على اسم المفعول من (حَبَّ) فقالوا:(محبوب)، ولم يقولوا:(مُحَب) إلَّا قليلًا، كما قال الشاعر:
ولقد نزلتِ فلا تَظُنِّي غيرَه
…
مِنِّي بمنزلة المُحبِّ المُكرم
(1)
يقول: وقد نزلتِ من قلبي منزلة مَنْ يحب ويُكرم؛ فتَيقَّني هذا واعلميه قطعًا ولا تَظُنِّي غيره
(2)
.
وأعطوا (الحب) حركة الضَّم التي هي أشدُّ الحركات وأقواها، مطابقة لِشِدَّة حركة مُسَمَّاه وقُوَّتها.
وأعطوا (الحِب) - وهو المحبوب- حركة الكسر؛ لخفتها عن الضمة وخفة المحبوب، وخِفَّة ذِكره على قلوبهم وألسنتهم
…
فتأمل هذا اللطف والمُطابقة والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعاني تُطلعك على قَدر هذه اللغة، وأنَّ لها شأنًا ليس لسائر اللغات
(3)
.
ب- الحدُّ الاصطلاحي للمحبة:
قال الحافظ ابنُ حَجَر رحمه الله: «وحقيقةُ المحبة- عند أهل المعرفة- مِنْ المعلومات التي لا تُحَدُّ، وإنما يعرفها مَنْ قامت به وجدانًا، ولا يمكن التعبير عنها»
(4)
.
وقال ابن القيم: «لا تُحَدُّ المحبةُ بحدٍّ أوضح منها؛ فالحدود لا تَزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدُّها وجودها. ولا تُوصف المحبة بوصف
(1)
البيت لعنترة بن شداد. انظر: «معلقته» .
(2)
«شرح المعلقات السبع» للزوزني (ص 247)، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1423 هـ - 2002 م.
(3)
انظر: «مدارج السالكين» (3/ 12، 13).
(4)
«فتح الباري» (1/ 463).
أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها، وموجباتها، وعلاماتها، وشواهدها، وثمراتها، وأحكامها؛ فحدودهم ورسومهم دارت على هذه السِّتَّة، وتنوعت بهم العبارات وكثرت الإشارات بحسب إدراك الشخص ومقامه وحاله وملكه للعبارة»
(1)
.
وهذا الذي ذكره ابن القيم وابن حجر هو الذي تطمئن له النفسُ؛ فالمحبة: أمرٌ شعوريٌّ وجدانيٌّ يُتعرف عليه بواسطة الأمور الستة التي أشار إليها ابن القَيِّم، وذلك لكون هذه الأمور هي العناصر التي يمكن أن يعبر عن المحبة من طريقها.
ولذلك فلا داعي لِذكر تعريفات العلماء لها؛ فحَدُّها وجودها، والحدود لا تَزيدها إلا خفاء وجفاء، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى.
* * *
(1)
«مدارج السالكين» (3/ 9).
يجدر التنبيهُ هنا لعدة مسائل؛ منها:
المسألة الأولى: أقسام المحبة مِنْ حيث العموم:
تنقسم المحبة من حيث العموم إلى قسمين: (المحبة المشتركة والمحبة الخاصة).
القسم الأول: المحبة المشتركة.
وهي ثلاثة أنواع:
أحدها: محبَّة طبيعية؛ كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، ونحو ذلك، وهذه لا تَستلزم التعظيم.
الثاني: محبَّة رحمة وإشفاق؛ كمحبَّة الوالد لولده الطفل، وهذه- أيضًا- لا تستلزم التعظيم.
الثالث: محبة أُنس وإِلْف، وهي محبة المشتركين في صناعة أو عِلم أو مُرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضًا، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضًا.
فهذه الأنواع الثلاثة التي تَصلح للخَلْق؛ بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شِرْكًا في محبة الله، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ الحلواء والعَسل
(1)
، وكان يحبُّ نِساءه
(2)
، وعائشة أحبُّهن إليه، وكان يُحِبُّ أصحابَه، وأحبهم إليه الصِّدِّيق ?
(3)
.
القسم الثاني: المحبة الخاصَّة التي لا تَصلح إلا لله.
ومتى أحبَّ العبدُ بها غيرَه، كان شركًا لا يَغفره الله، وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره.
فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلًا
(4)
، بل يجب إفرادُ
(1)
أخرجه البخاري (5431) ومسلم (1474) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وقال القاضي عياض عن هذا الحديث: هذا «حُجَّةٌ فى استعمال مباحات الدنيا، وأكل لذيذ الأطعمة. والحلواء هنا: كل طعام مُستحلى» . «إكمال المُعْلِم بفوائد مُسْلِم» (5/ 28).
(2)
أخرج النسائي (3939) عن أنس ? قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُبِّب إليَّ من الدنيا: النِّساء والطِّيب، وجُعل قُرَّة عَيني في الصلاة» . وحسنه الألباني في «المشكاة» (5261).
(3)
أخرج البخاري (3662) ومسلم (2384) عن عمرو بن العاص ? أنه قال: أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: «عائشة» . فقلت: مِنْ الرجال؟ فقال: «أبوها» . قلت: ثم مَن؟ قال: «ثم عمر بن الخطاب» ، فعَدَّ رجالًا».
(4)
انظر: «تيسير العزيز الحميد» (ص 411).
الله بهذه المحبة الخاصة التي هي توحيد الإلهية، بل الخلق والأمر والثواب والعقاب إنما نشأ عن المحبة ولأجلها، فهي الحقُّ الذي خُلقت به السموات والأرض، وهي الحق الذي تضمنه الأمر والنهي، وهي سِرُّ التأله، وتوحيدها: هو شهادة أن لا إله إلا الله.
وليس كما يزعم المنكرون: أن الإله هو الربُّ الخالق؛ فإن المشركين كانوا مُقِرِّين بأنه لا رب إلا الله ولا خالق سواه، ولم يكونوا مُقرين بتوحيد الإلهية الذي هو حقيقة لا إله إلا الله، فإن الإله الذي تألهه القلوب حُبًّا وذُلًّا وخوفًا ورجاء وتعظيمًا وطاعة.
وإله بمعنى مألوه، أي: محبوب معبود، وأصله من التأله، وهو التعبُّد الذي هو آخر مَراتب المحبة، فالمحبة حقيقة العبودية
(1)
، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا القسم.
المسألة الثانية: أقسام المحبة باعتبار متعلقها ومحبوبها:
تنقسم المحبة باعتبار متعلقها ومحبوبها إلى قسمين: (نافعة محمودة. مذمومة ضارة).
القسم الأول: المحبة النافعة
وهي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه وهو السعادة وهي ثلاثة أنواع:
أ- محبة الله.
ب- محبة في الله.
ج- محبةُ ما يُعين على طاعة الله واجتناب معصيته.
(1)
انظر: «مدارج السالكين» (3/ 20)، و «روضة المحبين» (ص 59)، و «تيسير العزيز الحميد» (ص 412).
فيحبُّ الله تعالى حبًّا لا يُشاركه فيه أحد، ويكون الله عز وجل هو المحبوب المراد الذي لا يُحب لذاته ولا يُراد لذاته إلا هو، وهو المحبوب الأعلى الذي لا صَلاح للعبد ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون هو محبوبه ومراده وغاية مطلوبه. وتكون هذه المحبة مُستلزمة لما يتبعها من عبادته تعالى وخضوعه له، وتعظيمه عز وجل.
والمحبة في الله: بأن يحب المؤمنين لا يحبهم إلا لله، ويكون هواه تبعًا لحبِّ الله تعالى ورضاه؛ فلا يُحب إلا ما يحبه اللهُ تعالى.
ومحبةُ ما يُعين على طاعة الله أنواعٌ كثيرة تَندرج فيها جميع العبادات.
القسم الثاني: المحبة الضارَّة:
وهي المحبة المَذمومة التي تَجلب لصاحبها ما يضرُّه، وهو الشقاء.
وهي ثلاثة أنواع أيضًا:
النوع الأول: المحبة مع الله. ومنها: محبة المشركين آلهتهم كحبِّ الله.
النوع الثاني: محبة ما يُبغضه الله. ومنها: محبة الفواحش والمنكرات التي يُبغضها الله.
النوع الثالث: محبة ما تَقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها. ومنها: عِشق النساء الذي يزيد عن حَدِّه حتى يُضيع الأوامر ويُدخل في النواهي، وفي مقدمة ذلك عِشق الفاسقات والعاهرات والوِلْدَان.
فهذه سِتَّةُ أنواع عليها مدارُ محابِّ الخلق.
فأصل المَحابِّ المحمودة: محبة الله تعالى، بل وأصل الإيمان والتوحيد والنوعان الآخران تَبَعٌ لها.
كما أنَّ المحبةَ مع الله أصلُ الشرك، والمحاب المذمومة والنوعان الآخران تَبَعٌ لها
(1)
.
فأصل الشرك الذي لا يَغفره الله هو الشرك في هذه المحبة؛ فإنَّ المشركين لم يزعموا أنَّ آلهتهم وأوثانهم شاركت الربَّ سبحانه في خلق السموات والأرض، وإنَّما كان شِركهم بها من جهة محبتها مع الله؛ فَوَالَوْا عليها وعادوا عليها وتألَّهوها، وقالوا: هذه آلهة صِغار تُقَرِّبنا إلى الإله الأعظم؛ قال تعالى: {ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّه} [البقرة: 165]، وهذا منهم كحال عبادتهم لهم؛ قال جل جلاله:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
ففرق بين محبة الله أصلًا، والمحبة له تبعًا، والمحبة معه شركًا، وعليك بتحقيق هذا الموضع فإنه مَفرق الطرق بين أهل التوحيد وأهل الشرك
(2)
.
المسألة الثالثة: حقيقة المحبة الشرعية:
المقصود بالمحبة الشرعية: محبة الله سبحانه وتعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وكل ما يدخل في فَلَكها ويدور مع محورها.
فهذه المحبة مِنْ أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله، بل ومن أوجب العِبادات المُناطة بقلب المؤمن، ذلك لأنَّه لابد في إيمان القلب من حب الله ورسوله، وأن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إليه مما
(1)
راجع: «إغاثة اللهفان» (2/ 140، 141)، و «جامع الرسائل» (2/ 202).
(2)
انظر: «روضة المحبين» (ص 293).
سواهما.
فهي أصلُ كلِّ عمل من أعمال الإيمان والدِّين، كما أن التصديق به أصل كلِّ قول من أقوال الإيمان والدِّين؛ فإنَّ كل حركة في الوجود إنما تَصدر عن محبة؛ إمَّا عن محبة محمودة، أو عن محبة مذمومة.
فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تَصدر إلا عن المحبة المحمودة، وأصل المحبة المحمودة: هي محبة الله سبحانه وتعالى؛ إذ العملُ الصادر عن محبة مذمومة لا يكون عملًا صالحًا عند الله، بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة الله؛ فإنَّ الله تعالى لا يَقبل مِنْ العمل إلا ما أُريد به وجهه؛ كما ثبت في «الصَّحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يَرويه عن ربِّه أنه قال:«أنا أغنى الشُّركاء عن الشرك؛ مَنْ عَمِل عملًا أَشرك فيه معي غيري تَرَكْتُه وشِرْكَه»
(1)
.
فإخلاصُ الدِّين لله هو الدِّين الذي لا يَقبل الله سواه، وهو الذي بَعث به الأَوَّلين والآخرين من الرُّسل، وأنزل به جميع الكتب، واتَّفق عليه أهلُ الإيمان.
وهذا هو خلاصةُ الدَّعوة النبوية، وهو قُطب القرآن الذي تدور عليه رَحاه
(2)
، فأصلُ الدِّين وقاعدته يتضمن أن يكون اللهُ هو المعبود الذي تحبه القلوب وتخشاه ولا يكون لها إله سواه، والإله: ما تألهه القلوب بالمحبة والتعظيم والرجاء والخوف والإجلال والإعظام ونحو ذلك.
(1)
أخرجه مسلم في «صحيحه» ، كتاب (الزهد)، باب (مَنْ أشرك في عمله غير الله)(8/ 223).
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (12/ 48، 49).
والله سبحانه أرسل الرسل بأنه لا إله إلا هو؛ فتَخلو القلوب عن محبة ما سواه بِمَحَبَّته، وعن رجاء ما سواه برجائه، وعن سؤال ما سواه بسؤاله، وعن العمل لما سواه بالعمل له، وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به
(1)
.
فإذا كان أصلُ العمل الديني هو إخلاص الدين لله، وهو إرادة الله وحده فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته، وهذا كمال المحبة، ولكن أكثر ما جاء المطلوب باسم العبادة؛ كقوله تعالى:{ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21]، وأمثال هذا.
والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته، وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يُعَظَّم ولا يُذَلُّ له لا يكون معبودًا، والمُعَظَّم الذي لا يُحَبُّ لا يكون معبودًا، ولهذا قال تعالى:{ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} [البقرة: 165].
فبَيَّن- سبحانه- أنَّ المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أندادًا وإن كانوا يُحبونهم كما يحبون الله، فالذين آمنوا أشدُّ حُبًّا لله منهم لله ولأوثانهم؛ لأنَّ المؤمنين أعلم بالله، والحب يَتبع العِلم، ولأن المؤمنين جعلوا جميع حُبِّهم لله وحده، وأولئك جعلوا بعضَ حُبِّهم لغيره، وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم أن ذلك أكمل؛ قال تعالى:{ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ورَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].
(1)
«مجموع الفتاوى» (11/ 523، 524).
واسم المحبة فيه إطلاق وعموم؛ فإنَّ المؤمن يحب الله ويحب رُسلَه وأنبياءه وعبادَه المؤمنين، وإن كان ذلك من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقُّها غيرُه. ولهذا جاءت محبة الله سبحانه وتعالى مَقرونة بما يختص به سبحانه من العبادة والإنابة إليه والتبتُّل له، ونحو ذلك. فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سبحانه وتعالى.
وكما أنَّ محبته هي أصلُ الدِّين، فكذلك كمال الدين يكون بكمالها ونقصه بنقصها
(1)
.
وكمال هذه المحبة هو بالعبودية والذل والخضوع والطاعة للمحبوب سبحانه وتعالى؛ فالحق الذي خُلِق به ولأجله الخلقُ: هو عبادة الله وحده التي هي كمال محبته والخضوع والذل له، ولوازم عبوديته من الأمر والنهي والثواب والعقاب، ولأجل ذلك أرسل الرسلَ، وأنزل الكتبَ، وخَلَقَ الجَنَّةَ والنارَ
(2)
.
وقد بين الله عز وجل أنه قد خلقَ الناس للابتلاء؛ فقال جل وعلا: {الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَيَاةَ لِيَبْلُوكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، وقال تعالى:{إِنَّا جَعَلنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، وقال سبحانه:{وهُو الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ والأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ لِيَبْلُوكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].
فأخبر جل وعلا في هذه الآيات أنَّ خلق العالم والموت والحياة وتَزَيُّنَ الأرض بما عليها: أنه للابتلاء والامتحان؛ ليختبر خلقه أيهم أحسن عملًا، فيكون عمله موافقًا لمحابِّ الرب تعالى، فيوافق الغاية التي خُلِق هو لها وخلق لأجلها العالَم، وهي عبوديته
(1)
انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 56، 57).
(2)
انظر: «روضة المحبين» (ص 59).
المتضمنة لمحبَّته وطاعته، وهي العمل الأحسن وهو مواقع محبته ورضاه، وقَدَّر سبحانه مقادير تُخالفها بحكمته في تقديرها، وامتحن خلقَه بين أَمْرِه وقَدَرِه؛ ليَبلوهم أيُّهم أحسن عملًا.
فانقسم الخلق في هذا الابتلاء إلى فريقين:
الفريق الأول: داروا مع أوامره ومحابِّه، ووقفوا حيث وَقف بهم الأمر، وتحَرَّكوا حيث حَرَّكهم الأمر، واستعملوا الأمرَ في القَدَر، وركبوا سفينةَ الأمر في بحر القَدَر، وحَكَّموا الأمرَ على القَدَر، ونازعوا القَدَرَ بالقَدَرِ؛ امتثالًا لأمره واتِّباعًا لمرضاته؛ فهؤلاء هم النَّاجون.
والفريق الثاني: عارضوا بين الأمر والقَدَر، وبين ما يُحِبُّه ويَرضاه وبين ما قَدَّره وقَضَاه، فهؤلاء هم المُفَرِّطون
(1)
.
وحقيقة المحبة: حركة نفس المُحِبِّ إلى محبوبه، فالمحبة حَركة بلا سكون؛ فالحبُّ يُوجب حركة النفس وشِدَّة طلبها، والنَّفس خُلِقت مُتحركة بالطبع كحركة النار، فالحب حركتها الطبيعية، فكلُّ مَنْ أَجَلَّ شيئًا من الأشياء وَجَدَ في حُبِّه لذَّة ورَوْحًا، فإذا خلا عن الحب مطلقًا تعطَّلَت النفس عن حركتها وثَقلت وكَسلت وفارقها خِفَّةُ النَّشاط، ولهذا تجد الكسالى أكثر الناس همًّا وغَمًّا وحُزنًا، ليس لهم فَرح ولا سرور، بخلاف أرباب النَّشاط والجِدِّ في العمل أيِّ عملٍ كان، فإن كان النشاط في عمل هم عالمون بحسن عواقبه وحلاوة غايته كان التذاذهم بحبِّه ونشاطهم فيه أقوى.
وإنَّه ليس للقلب والروح ألذُّ ولا أطيبُ ولا أحلى ولا أنعم من محبة الله والإقبال عليه وعبادته وحده وقُرَّة العَين به، والأنس بِقُربه،
(1)
انظر: «روضة المحبين» (ص 60، 61).
والشوق إلى لقائه ورؤيته، وإنَّ مِثقال ذَرَّة من هذه اللذة لا يعدل بأمثال الجبال من لَذَّات الدنيا، ولذلك كان مثقال ذرة من إيمان بالله ورسوله يُخَلِّص من الخلود في دار الآلام؛ فكيف بالإيمانِ الذي يَمنع من دخولها؟!
(1)
.
ولهذا كان أعظم صلاح للعبد: أن يَصرف قُوى حبِّه كلها لله تعالى وحده؛ بحيث يحب اللهَ بكل قلبه ورُوحه وجوارحه، فليس لقلب العبد صلاح ولا نعيم إلَّا بأن يكون اللهُ ورسولُه صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه مما سواهما، وأن تَكون محبَّتُه لغير الله تابعةً لمحبة الله، فلا يُحب إلا لله؛ كما في الحديث الصَّحيح:«ثلاث مَنْ كن فيه وَجَد بهن حَلاوة الإيمان: مَنْ كان اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، ومَن كان يحبُّ المرء لا يحبُّه إلا لله، ومَن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يَكره أن يُلقى في النَّارِ»
(2)
، فأخبر أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان إلَّا بأن يكون اللهُ أحبَّ إليه مما سواه، ومحبة الرسول هي من محبته، ومحبة المرء- إن كانت لله- فهي من محبة الله، وإن كانت لغير الله فهي مُنقصة لمحبة الله مُضعفة لها، وتَصدق هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه- وهو الكفر- بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد.
ولا ريب أنَّ هذا من أعظم المحبة؛ فإنَّ الإنسان لا يُقَدِّم على محبة نفسه وحياته شيئًا، فإذا قَدَّم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خُيِّر بين الكفر وإلقائه في النَّار لاختار أن يُلقى في النار ولا يكفر
(1)
«روضة المحبين» (ص 165 - 168) بتصرف واختصار.
(2)
أخرجه البخاري في «صحيحه» ، كتاب (الإيمان)، باب (حلاوة الإيمان)، «فتح الباري» (1/ 60) ح 16، وأخرجه مسلم في «صحيحه» ، كتاب (الإيمان)، باب (بيان خصال مَنْ اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان)(1/ 48).
- كان اللهُ أحبَّ إليه من نفسه؛ فالحديثُ دلَّ على أن حلاوة الإيمان تَتْبَع كمالَ محبة العبد لله، وهذه الحلاوة لا تحصل إلا بثلاثة أمور:(تكميل هذه المحبة. تفريعها. دفع ضدها).
1 -
«فتكميلها» : أن يكون اللهُ ورسولُه صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يُكتفى فيها بأصل الحب، بل لابد أن يكون اللهُ ورسولُه صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه مما سواهما.
2 -
و «تفريعها» : أن يحب المرءَ لا يحبُّه إلا لله.
3 -
و «دفع ضدها» : أن يكره ضد الإيمان- وهو الكفر- أعظم من كراهته الإلقاء في النار
(1)
.
وهذه المحبة هي فوق ما يَجِدُه سائرُ العُشَّاق والمحبين من محبة محبوبهم، بل لا نظيرَ لهذه المحبة كما لا مَثِيل لِمَنْ تَعَلَّقت به.
وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتَقتضي كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرًا وباطنًا، وهذا لا نظير له في محبَّة المخلوق كائنًا مَنْ كان.
ولهذا مَنْ أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركًا شركًا لا يَغفره الله؛ كما قال الله تعالى: {ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} [البقرة: 165]، والصحيح أن معنى الآية: والذين آمنوا أشد حبًّا لله مِنْ أهل الأنداد لأندادهم، كما تقدم بيانُه: أن محبة المؤمنين لربهم لا يُماثلها محبة مخلوق أصلًا، كما لا يُماثل محبوبهم غيره، وكل أذى
(1)
«مجموع الفتاوى» (10/ 206).
في محبَّة غيره فهو نَعيم في محبته، وكل مكروه في محبة غيره فهو قُرَّة عين في محبته
(1)
.
وكثير مِنْ الناس يَدَّعي محبة الله تعالى من غير تحقيق لموجباتها؛ وروي عن الحسن من طرق؛ قال: «قال أقوامٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: واللهِ يا محمد، إنَّا لَنُحِبُّ ربَّنا! فأنزل اللهُ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]؛ فجعلَ اللهُ اتِّباعَ نبِيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَمًا لحُبِّه، وعذاب مَنْ خالَفَه»
(2)
، وقال الإمام ابنُ كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية:«أي: يحصل لكم فوق ما طَلبتم من محبَّتكم إيَّاه، وهو محبَّتُه إيَّاكم، وهو أعظمُ من الأول»
(3)
.
هذا لأنَّ الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبه الله، وليس شيء يحبه الله إلا والرسول صلى الله عليه وسلم يَدعو إليه، وليس شيء يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وسلم إلَّا والله يحبُّه، فصار محبوبُ الرَّبِّ ومَدْعُو الرَّسول متلازمين، بل هذا هو هذا في ذاته وإن تنوَّعت الصفات.
فكل مَنْ ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كَذَب، وليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شِرك، فإنما يَتَّبع ما يهواه؛ كدعوى اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يُحبوا إلا ما أحب؛ فكانوا يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبِّه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين.
(1)
«روضة المحبين» (ص 199، 200).
(2)
أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 322)، وانظر:«مجموع الفتاوى» (18/ 315).
(3)
«تفسير ابن كثير» (2/ 32).
وهكذا أهلُ البدع؛ فمَن قال: إنَّه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل بما أمر به، وترك ما نهى عنه، فمحبته فيها شَوْبٌ من محبة المشركين واليهود والنصارى بحسب ما فيه من البدع، فإن البدع ليست مما دعا إليه الرسول ولا يُحبها الله، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى كلِّ ما يحبه الله، فأمر بكلِّ مَعروف ونهى عن كل منكر
(1)
.
فمحبة الله ورسوله وعِباده المُتَّقِين تَقتضي فِعل محبوباته وترك مكروهاته، والناس يتفاضلون في هذا تفاضلًا عظيمًا؛ فمَن كان أعظم نصيبًا من ذلك كان أعظم درجة عند الله، ومَن كان أقل نصيبًا كان ذلك سببًا في نزول درجته ومنزلته.
وأمَّا مَنْ كان غير مُتَّبع لسبيل النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون محبًّا لله سبحانه وتعالى؟!
(2)
، ومعلوم أنه لا يَتم الإيمان والمحبة لله إلا بتصديق الرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمر
(3)
.
فلابد لمحبِّ الله مِنْ متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمجاهدة في سبيل الله، بل هذا لازم لكل مؤمن؛ قال تعالى:{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وجَاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]؛ فهذا حبُّ المؤمن لله.
وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإِخْوانُكُمْ وأَزْواجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
(1)
انظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 360).
(2)
«مجموع الفتاوى» (18/ 316).
(3)
«مجموع الفتاوى» (8/ 366).
بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]؛ فأخبر أنَّ مَنْ كانت محبوباته أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله فهو من أهل الوعيد.
وقال في الذين يُحبهم ويحبونه: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54].
فمن تمام محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: بُغض مَنْ حَادَّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيله؛ لقوله تعالى:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].
وقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَولَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، ولَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ ومَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ولَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 80، 81]، وقال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوةُ والبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
فأمر المؤمنين أن يتأسوا بإبراهيم ومَن معه؛ حيث أَبْدَوا العداوة والبغضاء لمن أشرك حتى يُؤمنوا بالله وحده
(1)
.
وثَبات المحبة إنما يكون بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أعماله وأقواله وأخلاقه، فبحسب هذا الاتباع يكون مَنشأ هذه المحبة وثباتها
(1)
انظر: «مجموع الفتاوى» (8/ 361).
وقُوَّتها، وبحسب نقصانه يكون نقصانها.
وهذا الاتباع يُوجب المحبة والمحبوبية معًا، ولا يتم الأمر إلا بهما، كما قال بعض الحكماء العلماء:«ليس الشأنُ أن تُحِبَّ، إنَّما الشأنُ أن تُحَبَّ»
(1)
، أي: في أن يُحِبَّك الله، ولا يحبك الله إلا إذا اتَّبعت حبيبه ظاهرًا وباطنًا، وصَدَّقتَه خبرًا، وأطعته أمرًا، وأجبتَه دعوة، وآثرته طوعًا، وفَنيت عن حكم غيره بحكمه، وعن محبة غيره من الخلق بمحبته، وعن طاعة غيره بطاعته، وإن لم يكن ذلك فلا تَتَعَنَّ، وارجع مِنْ حيث شئتَ؛ فالتمس نورًا فلستَ على شيء
(2)
.
ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على درجتين:
الدرجة الواجبة، وهي درجة المقتصدين.
الدرجة المُستحبة، وهي درجة السَّابقين.
فمحبة المقتصدين (الواجبة): تقتضي أن يكون اللهُ ورسولُه صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه مما سواهما، بحيث لا يحبُّ شيئًا يُبغضه؛ كما قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، وذلك يقتضي محبة جميع ما أوجبه الله تعالى، وبُغض ما حَرَّمه الله تعالى، وذلك واجبٌ، فإنَّ إرادة الواجبات إرادة تامة تقتضي وجود ما أوجبه الله، كما تقتضي عدم الأشياء التي نهى الله عنها، وذلك مُستلزم لبُغضها التام.
فيجب على كلِّ مؤمن أن يُحبَّ ما أحبَّه اللهُ، ويُبغض ما أبغضه اللهُ؛ قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، وقال تعالى: {وإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ
إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124، 125]، وقال تعالى:{والَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ومِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَه} [الرعد: 36].
وأما محبة السَّابقين (المُستحبة): بأن يُحب ما أحبَّه الله من النوافل والفضائل محبَّة تامَّة، وهذه حال المُقَرَّبين الذين قَرَّبهم الله إليه.
فإذا كانت محبة الله ورسوله الواجبة تَقتضي بغضَ ما أبغضه الله ورسوله، كما في سائر أنواع المحبة، فإنها تُوجب بُغض الضد
(1)
.
* * *
(1)
انظر: «قاعدة في المحبة» لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 91، 92).
قال المصنف رحمه الله: «فجنس المحبَّة يكون لله ولِرَسُولِهِ كالطاعة، فَإِنْ الطَّاعَة لله ولِرَسُولِهِ والإرضاء لله ولِرَسُولِهِ:{والله ورَسُوله أَحَق أَنْ يرضوه} [التوبة: 62]، والإيتاء لله ولِرَسُولِهِ:{ولَو أَنهم رَضوا مَا آتَاهُم الله ورَسُوله} [التوبة: 59].
وأمَّا العبادة وما يُناسبها من التوكل والخوف ونحو ذلك، فلا تكون إلا لله وحده، كما قال تعالى:{قل يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَنْ لَا نعْبد إِلَّا الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله فَإِنْ توَلّوا فَقولُوا اشْهَدُوا بِأَنا مُسلمُونَ} [آل عمرَان: 64]، وقال تعالى:{وَلَو أَنهم رَضوا مَا آتَاهُم الله وَرَسُوله وَقَالُوا حَسبنَا الله سيؤتينا الله من فَضله وَرَسُوله إِنَّا إِلَى الله راغبون} [التوبة: 59]؛ فالإيتاء لله والرسول، كقوله:{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، وأما الحسب- وهو الكافي- فهو الله وحده، كما قال تعالى:{الَّذين قَالَ لَهُمْ النَّاس إِنْ النَّاس قد جمعُوا لكم فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُم إِيمَانًا وَقَالُوا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل} [آل عمرَان: 173]، وَقَالَ تَعَالَى:{يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ} [الأنفال: 64]، أَي: حَسبك وَحسبُ مَنْ اتَّبعك من المؤمنِينَ: اللهُ، وَمن ظنَّ أَنْ المعنى: حَسبك الله والمؤمنون مَعَه، فقد غلط غَلطًا فَاحِشًا، كَمَا قد بسطناه فِي غير هَذَا الْمَوْضع، وَقَالَ تَعَالَى:{أَلَيْسَ الله بكاف عَبده} [الزمر: 36]».
قرن الله جل وعلا بينه وبين نبيِّه صلى الله عليه وسلم في وجوب المحبة؛ فقال:
{أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ} [التوبة: 24]، وفي التوعد على الأذى؛ فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 58].
وفي وجوب الطاعة وترتُّب الأجر العظيم عليها، وفي التحذير من المعصية وترتب العقاب الشديد عليها، فقال:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13، 14].
وفي الأحقية بالرِّضا؛ فقال سبحانه: {واللَّهُ ورَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62].
فهذا ونحوه هو ما يستحقه رسول الله- بأبي هو وأمي ونفسي صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا العبادة وما يُناسبها من التوكل والخوف ونحو ذلك، فهي لله تعالى وحده لا شريكَ له لا ينبغي لأحد أن ينازعه فيها أو أن يصرفها لغيره؛ قال جل جلاله:{واعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، وقال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وقال:{ومَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
وقد جمع سبحانه وتعالى بين العبادة والتوكل في مواضع، كما في قوله جل وعلا:{فَاعْبُدْهُ وتَوكَّل عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقوله:{وتَوكَّل عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58].
والدعاء يجب أن يكون لله وحده؛ سواء كان دعاء عبادة أو دعاء مسألة، قال تعالى: {وأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولا
أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} [الجن: 18 - 20].
وتوحيد الله وإخلاص الدِّين له في عبادته والاستعانة به كثير جدًّا في القرآن، بل هو قلب الإيمان، وأول الإسلام وآخره؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسولُ الله»
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة»
(2)
.
وهو قلب الدِّين والإيمان، وسائر الأعمال كالجوارح له.
فالعبادة والاستعانة وما يدخل في ذلك- من الدعاء والاستغاثة والخشية والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستغفار- كل هذا لله وحده لا شريك له.
فالعبادة متعلقة بألوهيته، والاستعانة متعلقة بربوبيته، والله ربُّ العالمين لا إله إلا هو، ولا ربَّ لنا غيره، لا مَلِكَ ولا نَبِيَّ ولا غيره؛ يقول سماحةُ الشيخ ابن باز رحمه الله:«الشرك: هو تشريك غير الله مع الله في العبادة؛ كأن يدعو الأصنام أو غيرها، أو يَستغيث بها، أو يَنذر لها، أو يصلي لها، أو يصوم لها، أو يذبح لها»
(3)
.
فأعظم الذنوب: الإشراك بالله؛ بأن تجعل له ندًّا وهو خلقك، فقد سأل رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أيُّ الذنب أكبر عند الله؟ قال:«أن تَدْعُوَ لله ندًّا وهو خَلَقك» . قال: ثم أي؟ قال: «ثُمَّ أن تقتل ولدك خشية أن يَطعم معك» . قال: ثم أي؟ قال: «ثم أن
(1)
أخرجه البخاري (25) ومسلم (22) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه أبو داود (3116) من حديث معاذ بن جبل ?، وصححه الألباني في «المشكاة» (1621).
(3)
«مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» للشيخ ابن باز (4/ 32).
تُزاني بحليلة جارك»؛ فأنزل الله عز وجل تصديقها: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا} الآية [الفرقان: 68]»
(1)
.
والشرك: أن تجعل لغير الله شِرْكًا- أي: نصيبًا- في عبادتك وتوكُّلِك واستعانتك، قال جل جلاله:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 2، 3].
وأصناف العبادات- من الصلاة بأجزائها مجتمعة، وكذلك أجزاؤها التي هي عبادة بنفسها من السُّجود والركوع والتسبيح والدعاء والقراءة والقيام- لا يَصلح أن تُوَجَّه إلا لله وحده.
وكذلك لا يجوز أن يُتنفل بها عن طريق العبادة إلا لله وحده، لا لشمس ولا لقمر ولا لملك ولا لنبي ولا لصالح ولا عند قبر نبي أو صالح، وهذا في جميع مِلل الأنبياء، وقد جاء في شريعتنا النهي عن التنفل- ولو على وجه التحية والإكرام- لأيِّ مخلوق، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا أن يَسجد له، وقال:«لو كنتُ آمرًا أن يُسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عِظم حقِّه عليها»
(2)
.
وكذلك الزكاة العامة من الصدقات كلها والخاصة، لا يُتصدق بها إلا لله، كما قال تعالى:{ومَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20، 19].
(1)
أخرجه البخاري (6861) ومسلم (86) من حديث عبد الله بن مسعود ?.
(2)
أخرجه ابن ماجه (1853) وابن حبان (4171) من حديث عبد الله بن أبي أوفى ?، وصححه الألباني في «صحيح ابن ماجه» (1503).
فلا يجوز فِعل ذلك على سبيل العبادة؛ لا لملك ولا لشمس ولا لقمر ولا لنبي ولا لصالح، ولا لغيره، كما يفعل بعض السؤال والمعظمين؛ فيقولون: كرامة لفلان وفلان.
وكذلك لا يُحلف بالأنبياء ولا بآل البيت ولا الصحابة ولا بالصَّالحين، أو بغير الصالحين، ولا بغير البشر؛ فعن سعد بن عبيدة، قال: سمع ابنُ عمر رجلًا يحلف: لا والكعبة، فقال له ابنُ عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ حَلَفَ بغير الله فقد أشركَ»
(1)
.
وكذلك النذر من العبادة؛ فلا يجوز صرفه لغير الله؛ يقول الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: «إنَّ الله تعالى مدح الموفين بالنذر، والله تعالى لا يمدح إلا على فعل واجب أو مُستحب، أو ترك محرم، لا يمدح على فعل المباح المجرد، وذلك هو العبادة؛ فمَن فعل ذلك لغير الله متقربًا إليه، فقد أشرك»
(2)
.
وكذلك الحج إلى بيت الله الحرام؛ قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96، 97]؛ فلا يُحج إلا إلى بيت الله الخحرام بمكة؛ ولا يُطاف إلا به، ولا تُفعل مناسك الحج والعمرة المختلفة إلا عنده، كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه فلا يجوز فعل شيء من هذا بقبر نبيٍّ ولا صالح، ولا بوثن ولا غيره؛ قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162، 163].
(1)
أخرجه أبو داود (3251) والترمذي (1535)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (2042).
(2)
«تيسير العزيز الحميد» للشيخ سليمان (ص 203).
وكذلك الصيام؛ لا يُصام إلا عبادة لله؛ فلا يُصام لأجل الكواكب والشمس والقمر، ولا لقبور الأنبياء والصالحين ونحو ذلك.
وقد بَيَّن سماحة الشيخ ابن باز- رحمه الله نَوْعي الشرك، وضرب لهما أمثلة، وأقام عليهما أدلة، ومن ذلك قوله: «ضد التوحيد: الشرك، وهو نوعان: شرك أكبر، وشرك أصغر؛ فالشرك الأكبر: هو ما يتضمن صرف العبادة لغير الله أو بعضها؛ كدعاء الأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم، أو يتضمن استحلال ما حَرَّم الله، أو إسقاط ما أوجب الله؛ كاعتقاد أن الصلاة لا تجب، أو الصوم لا يجب، أو الحج مع الاستطاعة لا يجب، أو الزكاة لا تجب، أو اعتقاد أنَّ مثل هذا غير مشروع مطلقًا، كان هذا كفرًا أكبر، وشركًا أكبر؛ لأنه يتضمن تكذيب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والنوع الثاني: الشرك الأصغر، وهو ما ثبت بالنصوص تسميته شركًا، لكنه لم يَبلغ درجة الشرك الأكبر، فهذا يُسَمَّى شركًا أصغر؛ مثل: الرياء والسمعة؛ كمن يقرأ يرائي، أو يُصلي يرائي، أو يدعو إلى الله يرائي، ونحو ذلك؛ فقد ثبت في الحديث أنَّه صلى الله عليه وسلم قال:«أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» ؛ فسئل عنه فقال: «الرياء» ؛ يقول الله عز وجل يوم القيامة للمُرائين: «اذهبوا إلى من كنتم تراءون في الدنيا فانظروا؛ هل تجدون عندهم من جزاء؟» ، رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن محمود بن لبيد الأشهلي الأنصاري ?
(1)
.
ومن ذلك قول العبد: ما شاء الله وشاء فلان، أو لولا الله وفلان، أو هذا من الله ومن فلان.
(1)
«مسند أحمد بن حنبل» (5/ 428).
هذا كله من الشرك الأصغر، كما في الحديث الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح عن حذيفة ?، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:«لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان. ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان»
(1)
.
ومن هذا: ما رواه النسائي عن قتيلة: «أنَّ اليهود قالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّكم تُشركون تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، وتقولون: والكعبةِ؛ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يَحلفوا أن يقولوا: وربِّ الكعبة. وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد»
(2)
، وفي رواية للنسائي- أيضًا- عن ابن عباس رضي الله عنهما «أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، ما شاء اللهُ وشئتَ. فقال:«أجعلتني للهِ نِدًّا، ما شاء الله وحده»
(3)
، ومن ذلك ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] قال: «هو الشرك في هذه الأمة أَخفى مِنْ دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كُلَيْبَةُ هذا لأتانا اللصوص، ولولا البطُّ في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وقول: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلانًا. فإن هذا كله به شرك» . رواه ابن أبي حاتم بإسنادٍ حسن
(4)
.
فهذا وأشباهه من جنس الشرك الأصغر. وهكذا الحلف بغير
(1)
«سنن أبو داود» (4980)، و «مسند أحمد بن حنبل» (5/ 399).
(2)
«سنن ابن ماجه» (2118)، و «مسند أحمد بن حنبل» (5/ 72)، و «سنن الدارمي» (2699).
(3)
«سنن ابن ماجه» (2117)، و «مسند أحمد بن حنبل» (1/ 283).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 62).
الله؛ كالحلف بالكعبة، والأنبياء والأمانة وحياة فلان، وبشرف فلان ونحو ذلك، فهذا من الشرك الأصغر؛ لما ثبت في «المسند» بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب ? عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«مَنْ حلفَ بشيء دون الله فقد أشرك»
(1)
.
فاتضح بهذا أن الشرك شركان: أكبر، وأصغر، وكل منهما يكون خفيًّا؛ كشرك المنافقين .. وهو أكبر، ويكون خفيًّا أصغر؛ كالذي يقوم يرائي في صلاته أو صَدقته أو دعائه لله، أو دعوته إلى الله أو أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر أو نحو ذلك.
فالواجب على كل مؤمن: أن يحذر ذلك، وأن يبتعد عن هذه الأنواع، ولا سيما الشرك الأكبر، فإنَّه أعظم ذنبٍ عُصي الله به، وأعظم جريمة وقع فيها الخلق، وهو الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، وقال فيه سبحانه وبحمده:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72]، وقال فيه سبحانه أيضًا:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
فمن مات عليه فهو من أهل النار جزمًا، والجنة عليه حرام، وهو مخلد في النار أبد الآباد؛ نعوذ بالله من ذلك.
أما الشرك الأصغر فهو أكبر من الكبائر، وصاحبه على خطر عظيم، لكن قد يُمحى عن صاحبه برجحان الحسنات، وقد يُعاقب عليه ببعض العقوبات؛ لكن لا يُخَلَّد في النار خُلود الكفار، فليس هو مما يُوجب الخلود في النار، وليس مما يحبط الأعمال، ولكن يحبط العمل الذي قارنه.
(1)
«مسند أحمد بن حنبل» (1/ 47).
فالشرك الأصغر يحبط العمل المقارن له؛ كمن يُصلي يُرائي فلا أجر له، بل عليه إثم، وهكذا مَنْ قرأ يرائي فلا أجر له. بل عليه إثم، بخلاف الشرك الأكبر والكفر الأكبر؛ فإنهما يُحبطان جميع الأعمال؛ كما قال تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
فالواجب على الرجال والنساء، وعلى العالم والمتعلم، وعلى كل مسلم: أن يعنى بهذا الأمر ويَتبصر فيه، حتى يعلم حقيقة التوحيد بأنواعه، وحتى يعلم حقيقة الشرك بنوعيه: الأكبر والأصغر، وحتى يبادر بالتوبة الصادقة مما قد يقع منه من الشرك الأكبر، أو الشرك الأصغر، وحتى يلزم التوحيد، ويستقيم عليه، وحتى يستمر في طاعة الله، وأداء حقه، فإن التوحيد له حقوق؛ وهي أداء الفرائض، وترك المناهي، فلا بد مع التوحيد من أداء الفرائض وترك المناهي، ولا بد- أيضًا- من ترك الإشراك كله: صغيره وكبيره.
فالشرك الأكبر ينافي التوحيد، وينافي الإسلام كليًّا. والشرك الأصغر يُنافي كماله الواجب، فلا بد من ترك هذا وهذا.
فعلينا جميعًا أن نُعنى بهذا الأمر، ونتفقه فيه، ونُبَلِّغه للناس بكل عناية وبكل إيضاح؛ حتى يكون المسلم على بَيِّنة من هذه الأمور العظيمة»
(1)
.
* * *
(1)
انظر: «مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز» (1/ 43 - 48) بتصرف واختصار.
قال المصنف رحمه الله: «وتحرير ذَلِك: أَنْ العَبْد يُرَاد بِهِ المعبَّد الَّذِي عبَّده الله، فذلَّلَه ودبَّره وصرَّفه.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَار: فالمخَلوقون كلهم عباد الله: الْأَبْرَار مِنْهُم والفجار، والمؤمنون وَالكفَّار، وَأهل الجَنَّة وَأهل النَّار؛ إِذْ هُوَ رَبُّهم كلهم ومليكُهم، لَا يخرجُون عَنْ مَشِيئَته وَقُدرته، وكلماته التَّامَّات الَّتِي لَا يُجاوزهن بَرٌّ وَلَا فَاجر؛ فَمَا شَاءَ كَانَ وَإِنْ لم يشاءوا. وَمَا شَاءُوا إِنْ لم يشأه لم يكن، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أفغير دين الله يَبْغُونَ وَله أسلم من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وَإِلَيْهِ يرجعُونَ} [آل عمران: 83]. فَهُوَ سُبْحَانَهُ ربُّ الْعَالمين، وخالقهم ورازقهم ومحييهم ومُميتهم، ومقلب قُلُوبهم ومصرف أُمُورهم، لَا ربَّ لَهُمْ غَيره، وَلَا مَالك لَهُمْ سواهُ، وَلَا خَالق لَهُمْ إِلَّا هُوَ؛ سَوَاء اعْتَرَفُوا بذلك أَوْ أنكروه، وَسَوَاء علمُوا ذَلِك أَوْ جهلوه؛ لَكِن أهل الْإِيمَان مِنْهُم عرفُوا ذَلِك وآمنوا بِهِ؛ بِخِلَاف مَنْ كَانَ جَاهِلًا بذلك؛ أَوْ جاحدًا لَهُ مستكبرًا على ربِّه، لَا يُقِرُّ وَلَا يخضع لَهُ؛ مَعَ علمه بِأَنَّ الله ربه وخالقه. فالمعرفة بِالْحَقِّ إِذا كَانَتْ مَعَ الاستكبار عَنْ قبُوله والجحد لَهُ- كَانَ عذَابًا على صَاحبه، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين} [النَّمل: 14]، وَقَالَ تَعَالَى:{الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَإِنْ فريقا مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ} [البقرة: 146]، وَقَالَ تَعَالَى:{قد نعلم إِنَّه ليحزنك الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك وَلَكِن الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون} [الأنعام: 33].
فَإِذا عَرف العَبْدُ أَنَّ اللهَ ربَّه وخالقه، وَأَنَّه مُفتقر إِلَيْهِ مُحْتَاج إِلَيْهِ- عرف الْعُبُودِيَّة الْمُتَعَلِّقَة بربوبية الله. وَهَذَا العَبْد يَسْأَل ربَّه ويتضرع إِلَيْهِ ويتوكل عَلَيْهِ، لَكِن قد يُطِيع أمره وَقد يَعصيه، وَقد يعبده مَعَ ذَلِك، وَقد يعبد الشَّيْطَانَ والأصنامَ. وَمثل هَذِه الْعُبُودِيَّة لَا تُفَرِّق بَين أهل الجَنَّة وَأهل النَّار، وَلَا يَصير بهَا الرجلُ مُؤمنًا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:{وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون} [يوسف: 106]؛ فَإِنْ الْمُشْركين كَانُوا يُقِرُّونَ أَنْ الله خالقهم ورازقهم وهم يَعْبدُونَ غَيره؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلتهمْ مَنْ خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله} [لقمان: 25]، وَقَالَ تَعَالَى:{قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا إِنْ كُنْتُم تعلمُونَ * سيقولون لله قل أَفلا تذكرُونَ * قل من رب السَّمَاوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم * سيقولون لله قل أَفلا تَتَّقُون * قل من بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَهُوَ يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُم تعلمُونَ * سيقولون لله قل فَأنى تُسحرون} [المؤمنون: 84 - 89].
وَكثير مِمَّنْ يتَكَلَّم فِي الْحَقِيقَة فيشهدها، لَا يَشْهد إِلَّا هَذِه الْحَقِيقَة، وَهِي الحَقِيقَة الكونية الَّتِي يَشْتَرك فِيهَا وَفِي شهودها وَفِي مَعْرفَتهَا الْمُؤمنُ وَالْكَافِرَ وَالْبَرُّ والفاجر. بل وإبليس معترف بِهَذِهِ الْحَقِيقَة وَأهل النَّار؛ قَالَ إِبْلِيس:{رب فأنظرني إِلَى يَوْم يبعثون} [الحجر: 36]، و {قَالَ رب بِمَا أغويتني لأزينن لَهُمْ فِي الأَرْض ولأغوينهم أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]، وقال:{فبعزتك لأغوينهم أَجْمَعِينَ} [ص: 82]، وَقَالَ:{أرأيتك هَذَا الَّذِي كرمت عَليّ لَئِنْ أخرتن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لأحتنكن ذُريَّته إِلَّا قَلِيلا} [الإسراء: 62]، وأمثال هَذَا من الْخطاب الَّذِي يُقِرُّ فِيهِ بِأَنَّ الله ربه وخالقه وخالق غَيره، وَكَذَلِكَ أهل النَّار قَالُوا:{رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا وَكُنَّا قوما ضَالِّينَ} [106 المؤمنون: 106]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُم:{وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على رَبهم قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بلَى وربنا} [الأنعام: 30].
فَمن وقف عِنْد هَذِه الْحَقِيقَة وَعند شهودها، وَلم يقم بِمَا أَمر الله بِهِ مِنْ الحَقِيقَة الدِّينِيَّة الَّتِي هِيَ عِبَادَته الْمُتَعَلّقَة بألوهيته وَطَاعَة أمره وَأمر رَسُوله، كَانَ من جنس إِبْلِيس وَأهل النَّار.
فَإِنْ ظَنَّ مَعَ ذَلِك: أَنَّه من خَواص أَوْلِيَاء الله وَأهل الْمعرفَة وَالتَّحْقِيق، الَّذين سَقط عَنْهُم الْأَمر وَالنَّهي الشَّرعيان، كَانَ مِنْ أشر أهل الكفر والإلحاد.
وَمَنْ ظن أَنْ الخَضِرَ وَغَيره سقط عَنْهُم الْأَمر؛ لمشاهدة الْإِرَادَة وَنَحْو ذَلِك- كَانَ قَوْلُه هَذَا من شَرِّ أَقْوَال الْكَافرين بِاللَّه وَرَسُوله، حَتَّى يَدْخل فِي النَّوْع الثَّانِي من معنى العَبْد، وَهُوَ العَبْد بِمَعْنى العابد؛ فَيكون عابدًا لله، لَا يَعبد إِلَّا إِيَّاه؛ فيطيع أمرَه وَأمرَ رُسُله، ويُوالي أولياءه الْمُؤمنِينَ الْمُتَّقِينَ ويُعادي أعداءه.
وَهَذِه الْعِبَادَة مُتَعَلِّقَة بالإلهيَّة لله تَعَالَى، وَلِهَذَا كَانَ عنوان التَّوْحِيد:(لَا إِلَه إِلَّا الله)، بِخِلَاف مَنْ يُقر بربوبيته وَلَا يَعبده، أَوْ يَعبد مَعَه إِلَهًا آخر.
فالإله: هُوَ الَّذِي يألهه الْقلب بِكَمَال الْحبِّ والتعظيم والاجلال وَالْإِكْرَام وَالْخَوْف والرجاء، وَنَحْو ذَلِك.
وَهَذِه الْعِبَادَة هِيَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ ويَرضاها، وَبهَا وصف المُصطفين مِنْ عباده، وَبهَا بعثَ رُسله.
وَأمَّا العَبْد- بِمَعْنى المعبَّد- سَوَاء أقرَّ بذلك أَوْ أنكرهُ، فَهَذَا الْمَعْنى يَشْتَرك فِيهِ الْمُؤمنُ وَالْكَافِر.
وبالفرق بَين هذَيْن النَّوْعَيْنِ يعرف الْفرق بَين الْحَقَائِق الدِّينِيَّة الدَّاخِلَة فِي عبَادَة الله وَدينه وَأمره الشَّرْعِيّ الَّتِي يُحِبهَا ويَرضاها ويُوالى أَهلهَا ويُكرمهم بجنته، وَبَين الْحَقَائِق الكونية الَّتِي يَشْتَرك فِيهَا الْمُؤمن
وَالْكَافِر وَالْبر والفاجر الَّتي مَنْ اكْتفى بهَا وَلم يَتَّبع الْحَقَائِق الدِّينِيَّة كَانَ مِنْ أَتبَاع إِبْلِيس اللعين والكافرين بِرَبِّ الْعَالمين، وَمن اكْتفى فِيهَا بِبَعْض الْأُمُور دون بعضٍ أَوْ فِي مقَام دون مقَام أَوْ حَال دون حَال نقص من إيمَانه وولايته لله بِحَسب مَا نقص من الْحَقَائِق الدِّينِيَّة».
أراد شيخ الإسلام هنا أن يُقَسِّم العبودية إلى قسمين: القسم الأول: العبودية الاضطرارية. والقسم الثاني: العبودية الاختيارية.
وذلك أنَّ العبد قد يُطلق ويراد به المُعَبَّد، وقد يطلق ويراد به العابد، فإذا أُطلق وأريد به المُعَبَّد، فإن العبودية تكون حينئذ بمعنى: الخلق، وبمعنى الإيجاد والربوبية، وهذا النوع يُطلق عليه (العبودية الاضطرارية)، وهي عبودية الذل والخضوع لله سبحانه وتعالى قهرًا واضطرارًا، وليس اختيارًا من الإنسان، وهذه العبودية حاصلة لكل مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فكل المخلوقات من الإنسن والجن والملائكة والأشجار والأحجار وجميع المخلوقات هي عابدة لله سبحانه وتعالى بهذا الاعتبار.
حتى الكفار فهم عابدون لله عز وجل اضطرارًا، أي: خاضعون وذليلون له، وهم في خضوعهم وذلهم هذا ليسوا مختارين، وإنما هم مضطرون إلى ذلك.
وهذه العبودية الاضطرارية بهذا المعنى هي موافقة لربوبية الله سبحانه وتعالى، أي: أنه رب كل شيء، وأنه خالق كل شيء.
وهذه العبودية الاضطرارية لا تُفَرِّق بين أهل الجنة وأهل النار، ولا يصير الإنسان بها مؤمنًا.
ومشركو مكة مقرون بهذه العبودية الاضطرارية؛ فإنهم كانوا يَعترفون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، ومع ذلك كانوا يشركون في عبادتهم معه غيره؛ قَالَ تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلتهمْ مَنْ خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله} [لقمان: 25]، وَقَالَ تَعَالَى:{قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا إِنْ كُنْتُم تعلمُونَ * سيقولون لله قل أَفلا تذكرُونَ * قل من رب السَّمَاوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم * سيقولون لله قل أَفلا تَتَّقُون * قل من بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَهُوَ يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُم تعلمُونَ * سيقولون لله قل فَأنى تُسحرون} [المؤمنون: 84 - 89].
ومع ذلك لم تنفعهم هذه العبودية وحدها، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى عنهم:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]؛ فأثبت لهم إيمانًا، لكن هذا الإيمان لم يَنفعهم وحده، بل لا بد أن يُضاف إليه إيمان آخر، وهو عبودية الله سبحانه وتعالى مختارين منقادين لأوامره الشرعية.
قال شيخ الإسلام: «ومعلوم أنَّ المشركين من العرب الذين بُعِث إليهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يخالفونه في هذا [أي: في توحيد الربوبية]، وهم مع هذا مشركون»
(1)
.
ولهذا جاء عن بعض السلف أنه سمى الإقرار بالربوبية فقط دون الإلهية: إيمان المشركين، وذلك أن الإقرار بالربوبية والإقرار بالعبودية الاضطرارية من الإيمان، لكن ليس هو كل الإيمان، وليس هو الإيمان الذي ينجي الإنسان يوم القيامة، وليس هو الإيمان الذي يُدخل الإنسان الجنة، ويجعله يخرج من دائرة الكفر إلى دائرة الإسلام، بل لابد من الإتيان بالعبودية الاختيارية التي سيأتي الكلام عنها.
(1)
«مجموع الفتاوى» (3/ 98) باختصار.
وهذه العبودية الاضطرارية (الجبرية) هي التي جاءت في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] يعني: إلا سيأتي إلى الله عز وجل وهو خاضع مُقر، ولن يستطيع الهرب يوم القيامة.
فهذه العبودية الاضطرارية هي التي يُتعب الصوفية أنفسهم في الوصول إليها، فهم يعتبرونها الغاية التي يصل إليها العابد، ويفنون أعمارهم في شهود الحقيقة الكونية، مع أنه يشترك في معرفتها وشهودها المؤمن والكافر والبر والفاجر، حتى إبليس- الشيطان الرجيم- مُعترف بهذه الحقيقة؛ حيث قال إبليس فيما قصَّه الله في كتابه عنه:{رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36]، فهو مقر بالربوبية، ولكنه لما استكبر عن تنفيذ الأمر ما نفعه هذا الإقرار؛ فكفر، وتوعده الله بالعذاب الأليم؛ قال تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34].
وكذلك أهل النار قَالُوا: {رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا وَكُنَّا قوما ضَالِّينَ} [106 المؤمنون: 106]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُم:{وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على رَبهم قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بلَى وربنا} [الأنعام: 30]، فهم معترفون بربوبية الله تعالى، ولكنهم لم يقوموا بعبودية الألوهية (الاختيارية).
لذلك كان الاشتغال بهذا النوع من العبودية اشتغال بأمر قد
فُطر الناس عليه.
وأما النوع الآخر وهو (العبودية الاختيارية)؛ فهي العبودية التي يفعلها الإنسان عن اختيار وإرادة، ولو شاء لتركها.
وهذه العبودية لا تكون إلا من المكلفين الذين كلفهم الله سبحانه وتعالى بالأمر والنهي؛ فهؤلاء هم الذين يعبدون الله عز وجل، وهم المختارون لهذه العبادة عن رضا وطواعية.
ومن أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب؛ وقد قص القرآن أن جميع الرسل قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، أي: هو وحده المستحق للعبادة دون سواه، ولا يَقبل أن تُشركوا معه غيره فيها.
فهي التي يسمى بها الإنسان مؤمنًا، وبها ينجو من عذاب الآخرة، ويفوز بالنعيم في الجنة.
قال ابنُ أبي العِزِّ الحنفي رحمه الله: «وكذلك كان حال الأمم السالفة المشركين الذين كَذَّبوا الرسل. كما حكى الله تعالى عنهم في قصة صالح عليه السلام عن التسعة الرهط الذين تَقاسموا بالله، أي: تحالفوا بالله؛ لنَبيتنَّه وأهله. فهؤلاء المفسدون المشركون تحالفوا بالله على قَتل نَبِيِّهم وأهلِه، وهذا بَيِّنٌ أنَّهم كانوا مؤمنين بالله إيمانَ المشركين.
فَعُلِم أنَّ التوحيدَ المطلوبَ هو توحيدُ الإلهيَّةِ، الذي يتضمن توحيد الربوبية؛ قال تعالى:{فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 30]»
(1)
(1)
«شرح العقيدة الطحاوية» (ص 33).
وعلى العبد ألا يخلط بين (الإرادة الكونية القدريَّة) وبين (الإرادة الدِّينية الشرعية).
فالإرادة الكونية القدريَّة: هي ما يقع في الكون بقدر الله وتدبيره. ويشترك في شهودها البَر والفاجر.
وأمَّا الإرادة الدِّينية الشرعية: فهي ما شرعه وأمر به سبحانه، ورضيه وأحبَّه من عباده.
وعدم التفريق بين هذين النوعين جَرَّ طوائف إلى الوقوع في أنواع الإلحاد والكفر؛ يقول شيخ الإسلام رحمه الله هنا: «فَمن وَقف عِنْد هَذِه الْحَقِيقَة وَعند شهودها، وَلم يقم بِمَا أَمر الله بِهِ مِنْ الحَقِيقَة الدِّينِيَّة الَّتِي هِيَ عِبَادَته الْمُتَعَلّقَة بألوهيته وَطَاعَة أمره وَأمر رَسُوله، كَانَ من جنس إِبْلِيس وَأهل النَّار.
فَإِنْ ظَنَّ مَعَ ذَلِك: أَنَّه من خَواص أَوْلِيَاء الله وَأهل الْمعرفَة وَالتَّحْقِيق، الَّذين سَقط عَنْهُم الْأَمر وَالنَّهي الشَّرعيان، كَانَ مِنْ أشر أهل الكفر والإلحاد».
فبعضُ الصوفية وبعضُ أهل الكلام قد فَسَّروا (لا إله إلا الله) بأنه لا خالق إلا الله.
ويزعمُ أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف؛ لشهوده الإرادة، ويفرقون بين العامة والخاصة، وخلاصة قولهم: أنهم يرون أن العامة هم الذين لم يشهدوا الحقيقة الكونية شهودًا كافيًا، وأن الخاصة هم الذين شهدوا الحقيقة الكونية شهودًا كافيًا.
ووصفهم للمسلمين بأنهم (العامة) وصف انتقاص؛ لأنهم يقولون: إنهم الذين لم يصلوا إلى شهود الحقيقة الكونية، وهي- عندهم- أن يعلم أن الإنسان لا صفات له ولا أفعال له، وإنما
الفاعل على الحقيقة هو الله، وأنه عبارة عن محل لفعل الله؛ مثل الإناء عندما يكون محلًّا للماء، وكالريشة التي يحركها الهواء، يعني: ليس فاعلًا فعلًا اختياريًّا، وإنما الله عز وجل هو الذي يحركه، والإنسان مسلوب الإرادة، مجبور على فعله.
ويترتب على هذا القول: أن القول الذي يقوله الإنسانُ ليس قولَه؛ بل هو قولُ الله، وأنَّ الفعل الذي يقوم به الإنسان ليس فعلَه، وإنما هو فعلُ الله.
ويترتب على هذا أيضًا: أنه بسبب شهوده لهذه الحقيقة تَسقط عنه التكاليف؛ لأنه لا فِعل له؛ فالتكليف يحصل عندما يكون للإنسان فِعل، ثم يحاسب على هذا الفعل، ولكن إذا لم يكن له فعل؛ فكيف يحاسب عليه؟ وكيف يجازى على فعله مع أنه ليس هو فاعله حقيقة؟ وإنما الفعل الذي فيه هو فِعل الله؛ لذلك أسقطوا التكاليف الشرعية.
وهذا- لا شكَّ- قولٌ في غاية الكفر، والسبب هو: أنهم جعلوا هذه الأفعال القبيحة التي تَصدر عنهم من كفر أو فسق- هي فعل الله؛ فجَرَّدوا الإنسان من إرادته.
مع أنَّ هذا مخالف لحقيقة الإنسان في الدنيا الآن، ومخالف لشعوره، ومخالف للواقع الذي يعيشه، وهو أنَّ له إرادة وله عمل، وهو محاسب على إرادته وعمله، بالإضافة إلى النصوص المتوافرة من الكتاب والسنة المثبتة للإنسان إرادة ومشيئة واختيارًا وسعيًا وكسبًا.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وهذا مقامٌ عظيم فيه غلط الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين حتَّى زَلِقَ فيه من أكابر الشيوخ- المُدَّعين للتحقيق والتوحيد والعرفان- ما لا يُحصيهم إلا الله الذي يَعلم السِّرَّ والإعلان» .
يشير المصنفُ بهذا إلى بعض كبار شيوخ المتصوفة المُدَّعين للتحقيق والتوحيد والعرفان؛ إذ وقع هؤلاء في هذا المزلق الخطير، وهو إقصاؤهم للأمور الشرعية، وتركيزهم على الحقائق الكونية القدرية، وإن كان نظرهم كذلك هو نظر الجبرية.
فالصوفية والجبرية يتكلمون بلسان واحد في باب القَدَر، فإذا ذكر الصوفية في هذه المسائل فاعلم أنَّهم جبرية؛ فهم والجهمية في خندق واحد، مع تعطيلهم لباب الحقائق الدينية، ومع تعطيلهم للأوامر والنواهي، فما أراده الجَهْمُ
(1)
- وهو أول مَنْ برز بعد الجعد
(2)
(1)
هو جهم بن صفوان؛ أبو محرز الراسبي مولاهم، السمرقندي، الكاتب، المتكلم، أُسُّ الضلالة، ورأس الجهمية. كان صاحب ذكاء وجدال، وكان ينكر الصفات، وينزه الباري عنها بزعمه، ويقول بخلق القرآن، ويقول: إن الله في الأمكنة كلها.
وكان يقول: الإيمان عقد بالقلب، وإن تلفظ بالكفر. قيل: إن سلم بن أحوز قتل الجهم؛ لإنكاره أن الله كلم موسى. ينظر «سير أعلام النبلاء» (6/ 26، 27).
(2)
الجعد بن درهم: هو أول مَنْ ابتدع بأنَّ الله ما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولا كلَّم موسى، وأن ذلك لا يجوز على الله. قال المدائني: كان زنديقًا. وقد قال له وهب: إني لأظنك من الهالكين، لو لم يُخبرنا الله أنَّ له يدًا، وأنَّ له عينًا ما قلنا ذلك. ثم لم يلبث الجعد أن صُلب. ينظر «سير أعلام النبلاء» (6/ 26، 27).
في مسائل الكلام- أراد هؤلاء أن يحققوه، فالهدف عندهم واحد، والطريق واحد، والمؤدَّى واحد، فانظر كيف يلتقي أهل الباطل مع بعضهم في هذه المسائل. ولذلك قال المصنف:«ما لا يُحصيهم إلا الله الذي يعلم السرَّ والإعلان» .
* * *
أشار المصنف هنا إلى ما ذُكر عن الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله
(1)
من أن كثيرًا من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وهذا على نهج الجهمية من أن العبد مجبور، ولكنه يقول: إن الله نجاني من هذه النظرة الخاطئة، وانفتحت لي فيه روزنة- أي: نافذة- فنازعت أقدار الحق بالحق للحقِّ، يعني: أن الله وضع الأسباب، والأمر قَدَر الله سبحانه وتعالى.
(1)
هو الشيخ الزاهد عبد القادر الجيلاني، من أئمة الإسلام الذين انتهت إليهم الرئاسة على مسلمي زمانه؛ علمًا وعملًا وإفتاء، وأحد علماء الحنابلة. لهُ كتاب «الغنية» في مذهب أحمد.
والشيخ موافق لأهل السنة والجماعة- أهل الحق- في جميع مسائل العقيدة من مسائل التوحيد والإيمان والنبوات واليوم الآخر؛ فكان متبعًا لا مبتدعًا، وكان على طريقة السلف الصالح يحث في مؤلفاته على اتباع السلف، ويأمر أتباعه بذلك، وكان يأمر بترك الابتداع في الدِّين، ويصرح بمخالفته للمتكلمين من الأشاعرة ونحوهم.
قال عنه العلَّامة ابن القيم رحمه الله في «نونيته» (ص 84):
هذا وخامس عشرها الإجماع من رسل الإله الواحد المنان
فالمرسلون جميعهم مع كتبهم قد صَرَّحوا بالفوق للرَّحمن
وحكى لنا إجماعَهم شيخُ الورى والدِّين عبد القادر الجيلاني
ولذلك قال شيخ الإسلام بعد مقالة الشيخ عبد القادر هذه في «مجموع الفتاوى» : «وهو ? كان يُعَظِّم الأمر والنهي، ويُوصي باتِّباع ذلك، ويَنهى عن الاحتجاج بالقَدَر»
(1)
.
والتصوف قديمًا كان مرادفًا- عندهم- للزُّهد، أي: التقلل من الدنيا مع طول العبادة؛ قال شيخ الإسلام: «وأما أئمة الصوفية والمشايخ المشهورون من القدماء: مثل الجُنَيد بن محمد وأتباعه، ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله؛ فهؤلاء من أعظم الناس لزومًا للأمر والنهي، وتوصية باتِّباع ذلك، وتحذيرًا من المشي مع القَدَر، كما مشى أصحابُهم أولئك»
(2)
.
ثم بَيَّن- رحمه الله الفارقَ بين طريقة السلف ومنهم الشيخ عبد القادر الجيلاني، وطريقة من حادوا عن طريق الحق فزَلُّوا وضَلُّوا وأَضَلُّوا؛ فقال: «والشيخ عبد القادر كلامه كله يدور على اتباع المأمور وترك المحظور والصبر على المَقدور، ولا يُثبت طريقًا تخالف ذلك أصلًا، لا هو ولا عامة المشايخ المَقبولين عند المسلمين، ويُحذر عن ملاحظة القَدَر المحض بدون اتباع الأمر والنهي، كما أصاب أولئك الصوفية الذين شهدوا القَدَرَ وتوحيدَ الربوبية، وغابوا عن الفرق الإلهي الديني الشرعي المحمدي؛ الذي يُفَرِّق بين محبوب الحقِّ ومكروهه، ويُثبت أنه لا إله إلا هو. وهذا من أعظم ما تجب رعايته على أهل الإرادة والسلوك؛ فإنَّ كثيرًا من المتأخرين زاغ عنه فضل سواء السبيل، وإنما يَعرف هذا مَنْ توجَّه بقلبه وانكشفت له حقائق الأمور، وصار يشهد الربوبية العامة والقيومية الشاملة، فإن لم يكن
(1)
«مجموع الفتاوى» (8/ 306).
(2)
«مجموع الفتاوى» (8/ 369).
معه نور الإيمان والقرآن الذي يحصل به الفرقان حتى يشهد الإلهية التي تُميز بين أهل التوحيد والشرك وبين ما يحبه الله وما يبغضه وبين ما أمر به الرسول وبين ما نهى عنه، وإلا خرج عن دين الإسلام بحسب خروجه عن هذا؛ فإن الربوبية العامَّة قد أقرَّ بها المشركون الذين قال فيهم:{وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106]. وإنما يصير الرجل مسلمًا حنيفًا موحدًا إذا شهد: أن لا إله إلا الله. فعبد الله وحده بحيث لا يُشرك معه أحدًا في تألهه ومحبته له وعبوديته وإنابته إليه وإسلامه له ودعائه له والتوكل عليه وموالاته فيه ومعاداته فيه؛ ومحبته ما يحب؛ وبغضه ما يُبغض، ويَفنى بحقِّ التوحيد عن باطل الشرك؛ وهذا فناء يُقارنه البقاء؛ فيَفنى عن تأله ما سوى الله بتأله الله تحقيقًا لقوله: لا إله إلا الله؛ فيَنفي ويُفني من قلبه تألُّه ما سواه؛ ويُثبت ويُبقي في قلبه تألُّه الله وحده»
(1)
.
ومعلوم أن مراتب القدر أربعة هي: (العلم والكتابة والخلق والمشيئة)، ومِن قدر الله عز وجل أن وضع للأمور أسبابًا تقوم بها، فالإنسان لا يمكن أن يكون له ولد بدون زواج، وهكذا لا يمكن أن يكون له رزق إلا بسبب، حتى الطير؛ لا بد لها أن تغدو على رزقها لتحصِّله. فهذه أسباب وضعها الله عز وجل، وهكذا حتى في الأعمال الشرعية، فالله تعالى هيَّأ لك العقل، وهيأ فيك من الهمة ما يجب أن تقوم بها، وإن كان مع القيام بهذه الأسباب يجب على الإنسان أن يستعين بالله عز وجل، وهذا مقام {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]، فالعبد يقوم بالطاعة والعمل الصالح؛ لكي ينال رضوان الله سبحانه وتعالى ومحبته وجَنَّته، ويستعين بالله تعالى على أداء هذا العمل
(1)
«مجموع الفتاوى» (8/ 369، 370).
الصالح، أمَّا مَنْ يترك أسباب الهداية ويقول: لو شاء الله هدايتي لهداني، ولو شاء أن أقوم للصلاة لقمتُ. فهذا مناف للشرع والعقل، فلا بد للإنسان أن يقوم بأسباب العمل الصالح؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد ركَّب في الإنسان من المشيئة والإرادة ما هو تَبَع لمشيئته وإرادته جلَّ وعلا، لكن الإنسان يُختبر بهذه الأسباب، فلا يجوز له تعطيلها بأي حال من الأحوال.
وهذا معنى قوله: «نازعت أقدار الحق بالحق» ؛ لأن على العبد أن يأخذ بالأسباب الشرعية التي شرعها الله سبحانه وتعالى؛ لكي ينال ما كتبه الله عليه في أمر القَدَر، وقد يناله وقد لا يناله، لكنه مُطالب بأن يأخذ بهذه الأسباب التي أرادها الله سبحانه وتعالى.
فإنَّ مِنْ خَلْقِ الله تعالى أن ركَّب للأمور أسبابًا، ومِن خلق الله عز وجل أن جعل للعبد إرادة ومشيئة، وهذه الإرادة والمشيئة لا تخرج عن إرادته ومشيئته سبحانه وتعالى، فعلى هذا أمر الله تعالى العباد واختبرهم وابتلاهم؛ فمنهم مَنْ أطاع- بمعنى: أنه أخذ بأسباب السعادة وقام بهذه الأسباب، وطلبها من الله تعالى؛ فأعانه عليها- ومنهم مَنْ حُرم مِنْ هذا.
والفضل مِنْ قبل ومن بَعد لله سبحانه وتعالى الذي هيَّأ للعبد هذه الأسباب من جهة، والذي أعانه على هذه الأمور من جهة، فعلى العبد أن يُوازن بين هذا وهذا، وعلى هذا المفهوم يُفَسَّر قول الشيخ عبد القادر هنا، ولا يفهم من قوله:«فنازعت أقدارَ الحقِّ بالحقِّ للحقِّ، والرجل مَنْ يكون منازعًا للقَدَر» : أنها منازعة لذات الله سبحانه وتعالى، فالله قد أمر العبد وخَلق له إرادة، كما قال:{إنَّا هديناه السبيلا إما شاكرا وإما كفورا} [الإنسان: 3]؛ فهداه السبيل وركَّب فيه من أسباب الهداية ما
ركَّب، وشاء أن يمتحنه؛ فإما أن يقوم بالطاعة أو يقوم بالمعصية، وكلا العبدين قد أوتي من القوة والصحة والأسباب ما يُعينه على فعل ما أراد، لكن هذا أعان على نفسه فاتَّبع أسباب الهداية فسار عليها، وذاك حَرَم نفسه فَوُكِل إليها، فالعبد بالتالي في حال جهاد مع نفسه، وفي حال مجاهدة مع قَدَر الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يعلم ما خاتمته التي يموت عليها، ولكنه يعلم أن الله تعالى قد جعل للجنة أسبابًا، وأمره بالأخذ بهذه الأسباب، فسبب دخول الجنة: الاستقامة على أوامر الله سبحانه وتعالى، ولذلك ذكر العلماء أن الباء في قوله تعالى:{جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17] هي باء السبب، وليست باء المقابلة والعِوض، فالجنة ليست ثمنًا لعمل العبد؛ قال فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:«{جزاءً بما كانوا يعملون} [السجدة: 17] أي: بعملهم، أو بالذي كانوا يعملونه لأن (ما) في قوله: {بما كانوا يعملون} [السجدة: 17] يصح أن تكون مصدرية، ويصح أن تكون اسمًا موصولًا، والباء هنا للسببية»
(1)
.
وقال لأهل النار: {جزاء وفاقًا} [النبأ: 26]، فكلٌّ يجازيه الله سبحانه وتعالى بحسب عمله.
ومدار الثواب والعقاب على العمل؛ فعن أبي هريرة ?، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
(2)
.
فعلى الإنسان أن يحقق أسباب السعادة ونيل رضوان الله سبحانه وتعالى، فالجنة لا تحصل بالجسم ولا بالمال ولا بالحسب والنسب؛ فعن أبي هريرة ?، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وأنذر
(1)
«تفسير العلامة محمد العثيمين» ، تفسير سورة الواقعة.
(2)
أخرجه مسلم (2564)، وأيضًا بلفظ:«إنَّ الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» ، وأشار بأصابعه إلى صدره».
عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]، قال:«يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم، لا أُغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مَناف، لا أُغني عنكم مِنْ الله شيئًا، يا عبَّاس بن عبد المطلب، لا أُغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمَّة رسول الله، لا أُغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سَلِيني ما شئتِ من مالي؛ لا أُغني عنك من الله شيئًا»
(1)
.
ففاطمة رضي الله عنها مع كونها بنت النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أعظم الخلق عند الله سبحانه وتعالى، إلا أن هذا النسب لا يُغني عنها من الله شيئًا، حتى تؤمن وتعمل صالحًا.
فعلى هذا يقصد بهذه المنازعة: أن يسعى العبد لأسباب السعادة؛ ويسأل الله القبول، ويحسن ظنه بالله؛ لأنه سبحانه قال:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]، وبعد الإيمان والعمل الصالح يرجو أن يكون من أهل الجنة، ولا يقولَنَّ- مثلًا- أنا على قَدَر الله تعالى؛ فإن شاء هداني وإن لم يشأ لم يهدني. فيترك أسباب نَيل الخير.
والإنسان في الأمور الدنيوية يعلم أنه من غير الممكن أن يترك الأسباب ويحصِّل نتائجها، ومن فعل ذلك سخر الناس منه واستهزءوا به؛ كمن يُريد الولد بلا زواج، وكمن يريد المال بدون عمل.
* * *
(1)
أخرجه البخاري (2753) ومسلم (206) من حديث أبي هريرة ?.
قال المصنف رحمه الله: «والَّذِي ذكره الشَّيْخ رحمه الله هُو الَّذِي أَمر اللهُ بِهِ ورَسُولُه، ولَكِنْ كثير من الرِّجَال غَلطوا فِيهِ؛ فَإِنَّهُم قد يَشْهدُونَ مَا يُقَدَّر على أحدهم من المعاصِي والذُّنُوب، أَوْ مَا يُقَدَّر على النَّاس من ذَلِك، بل من الكفْر، ويشْهدُونَ أَنْ هَذَا جَار بِمَشِيئَة الله وقضائه وقدره، دَاخل فِي حكم رُبوبيته ومُقْتَضى مَشِيئَته؛ فيَظنون الاستسلام لذَلِك وموافقته والرِّضَا بِهِ ونَحْو ذَلِك دينًا وطريقًا وعبادَة؛ فيضاهئون المُشْركين الَّذين قَالُوا:{لَو شَاءَ الله مَا أشركنا ولَا آبَاؤُنَا ولَا حرمنا من شَيْء} [الأنعَام: 148]، وقَالُوا:{أنطعم مَنْ لَو يَشَاء الله أطْعمهُ} [يس: 47]، وقَالُوا:{لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم} [الزخرف: 20]، ولَو هُدوا لعلموا أَنَّ القدر أُمرنا أَنْ نَرضى بِهِ، ونَصْبِر على مُوجبه فِي المصائب الَّتِي تُصيبنا؛ كالفقر والمَرَض والخَوْف؛ قَالَ الله تَعَالَى:{مَا أصَاب من مُصِيبَة إِلَّا بِإِذن الله ومن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه} [التغابن: 11]، قَالَ بعض السّلف: هُو الرجل تصيبه المُصِيبَة فَيعلم أَنَّها من عِنْد الله فيَرضى ويُسَلِّم. وقَالَ تَعَالَى: {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض ولَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَنْ نبرأها إِنْ ذَلِك على الله يسير * لكَي لَا تأسوا على مَا فاتكم ولَا تفرحوا بِمَا آتَاكُم} [الحديد: 22، 23].
وفِي «الصَّحِيحَيْن» عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ: «احْتَجَّ آدمُ ومُوسَى؛ فَقَالَ مُوسَى: أَنْت آدم الَّذِي خَلَّقَك الله بِيَدِهِ، ونفخ فِيك من رُوحه، وأسجد لَك مَلَائكَته، وعَلَّمك أَسمَاء كلِّ شَيْء؛ فلماذا أخرجتنا ونفسَك من الجنَّة؟ فَقَالَ آدم: أَنْت مُوسَى الَّذِي اصطفاك الله بِرِسَالَاتِهِ
وبكلامه؛ فَهَلْ وجدتَ ذَلِك مَكْتُوبًا عَليَّ قبلَ أَنْ أُخلق؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فحَجَّ آدمُ مُوسَى»
(1)
.
وآدَم عليه السلام لم يَحْتَجَّ على مُوسَى بِالقَدَرِ؛ ظنًّا أَنْ المذنب يَحْتَج
بِالقدرِ؛ فَإِنْ هَذَا لَا يَقُوله مُسلمٌ ولَا عَاقل، ولَو كَانَ هَذَا عذرًا لَكَانَ عذرًا لإبليس وقوم نوح وقوم هود وكل كَافِر. ولَا مُوسَى لَامَ آدم- أَيْضًا- لأجل الذَّنب، فَإِنَّ آدم قد تَابَ إِلَى ربِّه فاجتباه وهدى، ولَكِن لامه لأجل المُصِيبَة الَّتِي لَحقتهم بالخطيئة. ولِهَذَا قَالَ: فلماذا أخرجتنا ونفسَك من الجنَّة؟ فَأَجَابَهُ آدم: إِنَّ هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا عليَّ قبل أَنْ أُخلق.
فَكَانَ العَمَلُ والمصيبةُ المترتبة عَلَيْهِ مقدَّرًا، ومَا قُدِّر من المصائب يجب الاستسلام لَهُ، فَإِنَّهُ من تَمام الرِّضَا بِاللَّه رَبًّا.
وأمَّا الذُّنُوب فَلَيْسَ للعَبد أَنْ يُذنب، وإِذا أذْنب فَعَلَيهِ أَنْ يَسْتَغْفر ويَتُوب؛ فيَتوب من صنوف المعايب، ويصبر على المصائب؛ قَالَ تَعَالَى:{فاصبر إِنْ وعد الله حق واستغفر لذنبك} [غافر: 55]، وقَالَ تَعَالَى:{وإِن تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا} [آل عمران: 120]، وقَالَ:{وإِن تصبروا وتتقوا فَإِنْ ذَلِك من عزم الأُمُور} [آل عمرَان: 186]، وقَالَ يُوسُف عليه السلام:{إِنَّه من يتق ويصبر فَإِنْ الله لَا يضيع أجر المُحْسِنِينَ} [يُوسُف: 90]».
سبق أن تقدم أنَّ من المتصوفة مَنْ يرون القول بالجبر، أي: أن العبد مجبور على فعله، ويَرون أنه كالريشة في مَهَبِّ الريح، وأنه لا إرادة ولا قدرة له؛ فيَسلبون قدرة العبد بالكلية، وبهذا يرون أن العبد
(1)
لَفَّق المصنفُ بين روايات الحديث؛ وأخرجه البخاري في مواضع (3409)، (4736)، (4738)، (6614)، (7515) ومسلم (2652) من حديث أبي هريرة ?.
عليه أن يَستسلم لكل ما يَمر به.
وهنا يشير المصنف رحمه الله تعالى إلى أنه يجب التفريق بين مقامين: بين مقام المصيبة ومقام الذنوب.
فمقام المصيبة انها أمر كوني قدري يُقدره الله على العباد؛ فإذا وقع للعبد ابتلاء مما كتبه سبحانه وتعالى عليه، فعلى العبد أن يستسلم له، وليس للإنسان أن يَعيب على إنسان في مصيبة كتبها الله عليه، كما جاء في قصة موسى وآدم عليهما السلام.
وأمَّا في مقام الذنوب ومقام الطاعات، فمعلوم أن الإنسان قد رَكَّب الله تعالى فيه من القدرة والإرادة والمشيئة ويسَّر له الأسباب؛ ويجب عليه أن يجتهد في تحقيق الطاعات، والابتعاد عن الذنوب، ولذلك قال هنا موضحًا اعتقاد الجبرية الفاسد: «ولكن كثيرًا من الرجال غلطوا فيه؛ فإنهم قد يشهدون ما يُقَدَّر على أحدهم من المعاصي والذنوب، أو ما يُقَدَّر على الناس من ذلك؛ بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جار بمشيئة الله وقضائه وقدره، داخل في حُكم رُبوبيته ومقتضى مَشيئته؛ فيَظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرِّضا به ونَحْو ذَلِك دينًا وطريقًا وعبادَة؛ ويقولون بأن هذا هو شهود الحقيقة الكونية، وقد تقدم الكلام عنها.
وهذا وجه الغلط عندهم.
لذا تجدهم يقررون أن الكُفَّار لا يُلامون على كفرهم، وأنَّ العُصاة لا يلامون على معصيتهم؛ لأنهم- كما يزعمون- قد حَقَّقوا قدرَ الله تعالى!
فأصبح حالهم كحال القدرية من المشركين الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} [الأنعام: 148]،
وكذلك في قولهم: {أنطعم مَنْ لو يشاء الله أطعمه} [يس: 47]، وقوله:{لو شاء الرحمن ما عبدناهم} [الزخرف: 20]؛ فمقولة هؤلاء وحالهم هي نفس مقولة أولئك وحالهم.
فالقدر حجة في المصائب، ولذلك لما هَمَّ عمر بن الخطاب ? بالرجوع قبل أن يدخل أرض الشَّام؛ لأن الوباء قد وقع بها- قال له أبو عبيدة بن الجراح:«أفرارًا من قَدَر الله! فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم، نَفِرُّ من قَدَر الله إلى قَدَرِ الله، أرأيتَ لو كانت لك إبلٌ فهبطت واديًا له عُدْوتان؛ إحداهما: خِصْبة، والأخرى: جَدْبة، أليس إن رعيتَ الخِصبة رَعَيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله! قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيِّبًا في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا عِلْمًا، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتُم به بأرضٍ؛ فلا تَقدَموا عليه، وإذا وقَع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فِرَارًا منه» . قال: فَحَمِد اللهَ عمرُ بن الخطاب، ثم انصرف»
(1)
.
والقدر ليس حجة على فعل المعاصي؛ وقد سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن شخص عاص عندما دُعِي للحق قال: «إنَّ الله لم يَكتب لي الهداية» ؛ فكيف يُتعامل معه؟
فأجاب قائلًا: «نقول بكل بساطة: أطَّلعتَ الغيبَ أم اتخذت عند الله عهدًا؟
إن قال: نعم، كفر؛ لأنَّه ادَّعى علم الغيب. وإن قال: لا، خُصِم وغُلِب، إذا كنتَ لم تطلع أنَّ الله لم يَكتب لك الهداية فاهتدِ، فالله ما منعك الهداية، بل دعاك إلى الهداية، ورَغَّبك فيها، وحَذَّرك
(1)
أخرجه البخاري (5729) ومسلم (2219) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
من الضلالة، ونَهاك عنها، ولم يشأ الله عز وجل أن يدع عباده على ضلالة أبدًا؛ قال تعالى:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 26]؛ فتب إلى الله، والله عز وجل أشدُّ فرحًا بتوبتك من رجلٍ أَضَلَّ راحلته وعليها طعامه وشرابه، وأيس منها، ونام تحت شجرة ينتظر الموت؛ فاستيقظ فإذا بخطام ناقته مُتعلق بالشجرة، فأخذ بخطام الناقة فرحًا، وقال:«اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك» . أخطأ من شدة الفرح»
(1)
؛ فنقول: تُب إلى الله، واللهُ أمرك بالاهتداء، وبَيَّن لك طريق الحق. والله وليُّ التوفيق»
(2)
.
فالأمر الكوني القدري عندما يجري على الإنسان فهذا جانب، وأما الأمر الديني الشرعي فالله سبحانه وتعالى قد أمر العبد أن يجاهد نفسه، وبين الله له طريق الحق وطريق الضلال، وأمره بلزوم طريق الحق.
فأي إنسان مَنَّ الله عليه بفهم سليم يَعلم أن الله أمره بطاعته ونهاه عن معصيته؛ فلا بد له من مجاهدة نفسه على فعل الطاعة وترك المعاصي؛ لأنه قد زُيِّن للنفس حبُّ الشهوات، وهو مُبتلى في هذه الحياة؛ لأن الله تعالى قال:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1، 2].
فهؤلاء الذين غلطوا في هذا الباب لم يُراعوا هذا الجانب، قال المصنف:«ولو هُدوا لعلموا أنَّ القَدَر أُمرنا أن نَرضى به، ونَصبر على موجبه في المصائب التي تُصيبنا» . يعني في مقام المصائب،
(1)
معنى أخرجه البخاري (6308) ومسلم (2747) من حديث أنس بن مالك ?.
(2)
«مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين» (2/ 103، 104).
وهي الأمور التي ليس للعبد فيها اختيار؛ فإذا وقع عليه قضاء الله تعالى بالموت، أو الابتلاء بنقص المال ونحو ذلك، فهذا أمر لا اختيار للإنسان فيه، وهو لا يرغب أن يصاب به، لكن لو شاء الله سبحانه أن يقع هذا عليه- لحِكم يَعلمها- فما على العبد إلا الرضا والتسليم؛ قال جل وعلا:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157].
والإنسان كما هو مُبتلى بالمصائب مُبتلى كذلك بالنِّعم امتحانًا من الله؛ قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، وقد بَيَّن سليمان عليه السلام ذلك بعد ما استقر عنده عرش ملكة سبأ، كما في قوله تعالى:{قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].
وعلى العبد أن يرضى ويُسَلِّم بما قَدَّر الله وقَسم من نعم بين خلقه، ويعلم أنَّ الخلق مقهورون مربوبون لله سبحانه؛ قال تعالى:{قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} [آل عمران: 26].
وقال جل جلاله: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهدي قلبه} ؛ قال علقمةُ بن قيس في تفسيرها: «هو الرجل تصيبه المصيبة؛ فيعلم أنها من عند الله فيَرضى ويُسَلِّم»
(1)
.
وقال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا
(1)
أخرجه الطبري في «تفسيره» (23/ 421).
على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} [الحديد: 23، 22]؛ فهذا أمر كوني قدري، وعلى الإنسان فيه أن يَرضى ويُسَلِّم.
وكما جاء في «الصحيحين» في قصة آدم وموسى عليهما السلام؛ فهل لام موسى آدمَ- عليهما السلام على الذَّنْب أم لامه على المُصيبة؟
فالجواب: أنه لامه على المصيبة، أمَّا الذنب فقد تاب آدمُ منه، وتاب اللهُ عليه؛ قال تعالى:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]، لكن موسى عليه السلام قد لامه على المصيبة؛ فاحتج آدم بالقدر؛ واحتجاجه بذلك صحيح.
وقد سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل في محاجة آدم وموسى إقرارٌ للاحتجاج بالقدر؟
فأجاب بقوله: «هذا ليس احتجاجًا بالقضاء والقدر على فعل العبد ومعصية العبد، لكنه احتجاج بالقَدَر على المصيبة الناتجة مِنْ فعله، فهو من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب، ولهذا قال: «خَيَّبتنا وأخرجتنا ونفسَك من الجنَّة» ، ولم يقل: عصيتَ رَبَّك؛ فأُخرجت من الجنة.
فاحتج آدمُ بالقدر على الخروج من الجنة الذي يَعتبره مُصيبة، والاحتجاج بالقدر على المصائب لا بأس به؛ أرأيت لو أنَّك سافرت سفرًا وحصل لك حادث، وقال لك إنسان: لماذا تسافر لو أنك بقيت في بيتك ما حصل لك شيء.
فستجيبه: بأنَّ هذا قضاء الله وقَدَره، أنا ما خرجت لأجل أن أُصاب بالحادث، وإنما خرجت لمصلحة؛ فأُصبت بالحادث.
كذلك آدم عليه الصلاة والسلام، هل عصى الله لأجل أن يُخرجه من الجنة؟
لا. فالمصيبة إذًا التي حصلت له مجرد قضاء وقَدَر، وحينئذ يكون احتجاجه بالقدر على المصيبة الحاصلة احتجاجًا صحيحًا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«حَجَّ آدمُ موسى، حَجَّ آدمُ موسى» . وفي رواية للإمام أحمد: «فحَجَّه آدمُ»
(1)
، يعني: غلبه في الحُجَّة.
مثال آخر: رجل أصاب ذنبًا وندم على هذا الذنب وتاب منه، وجاء رجل من إخوانه يقول له: يا فلان، كيف يقع منك هذا الشيء؟ فقال: هذا قَضاء الله وقدرُه. فهل يصحُّ احتجاجه هذا أو لا؟
نعم يصح؛ لأنَّه تاب، فهو لم يحتج بالقدر؛ ليَمضي في معصيته، لكنه نادم ومُتأسف، ونظير ذلك «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل ليلة على عليِّ بن أبي طالب وفاطمةَ رضي الله عنهما؛ فقال:«أَلَا تُصَلِّيان؟» . فقال عليٌّ ?: يا رسول الله، إن أنفسَنا بيدِ الله؛ فإن شاء الله أن يَبعثنا بَعَثنا! فانصرف النبيُّ صلى الله عليه وسلم يضرب على فخذه وهو يقول:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]»
(2)
. فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يَقبل حُجَّته، وبَيَّن أن هذا من الجدل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنَّ الأنفس بيد الله، لكن يريد أن يكون الإنسان حازمًا؛ فيحرص على أن يقوم ويُصَلِّي.
على كل حال تَبين لنا أن الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها جائز، وأمَّا الاحتجاج بالقدر على المعصية تبريرًا لموقف الإنسان واستمرارًا فيها، فغير جائز»
(3)
.
فقال العلماء: «القدر حجة في المصائب لا في المعائب» .
لكن المخالفين من الجبرية والصوفية ساووا بين الأمرين.
(1)
أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 268) برقم (7623) من حديث أبي هريرة ?.
(2)
أخرجه البخاري (1127) من حديث علي بن أبي طالب ?.
(3)
«مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين» (2/ 106، 107).
ولكن ليس للعبد أن يحتج بالقدر على فعل الذنب، وإذا وقع منه الذنب عليه أن يبادر بالتوبة والاستغفار، ويعلم أن هذا الأمر من عند نفسه؛ قال المصنف:«وأمَّا الذُّنُوب فَلَيْسَ للعَبد أَنْ يُذنب، وإِذا أذْنب فَعَلَيهِ أَنْ يَسْتَغْفر ويَتُوب؛ فيَتوب من صنوف المعايب، ويصبر على المصائب؛ قَالَ تَعَالَى: {فاصبر إِنْ وعد الله حق واستغفر لذنبك} [غافر: 55]» ، ولا شك أن مقام الصبر من أعظم الأمور المعينة على أمر المصيبة.
ومن هنا نعلم هنا أن هؤلاء المتصوفة أخطئوا في جانبين:
الجانب الأول: أنهم حصروا إيمانهم وتوحيدهم في الجانب الكوني القدري.
والجانب الثاني: أنهم لم يَفهموا القَدَرَ على وجهه، فهم جبرية في هذا الباب.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وكذلك ذنوب العباد يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب قدرته، ويجاهد في سبيل الله الكفارَ والمنافقين، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، ويحب في الله ويبغض في الله، كما قال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، وقال تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]، وقال تعالى:{أفنجعل المسلمين كالمجرمين} [القلم: 35]، وقال:{أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} [ص: 28]، وقال تعالى:{أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} [الجاثية: 21]، وقال تعالى:{وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوى الأحياء ولا الأموات} [فاطر: 19 - 21]، وقال تعالى:{ضرب الله مثلا رجلًا فيه شركاء متشاكسون ورجلًا سلمًا لرجل هل يستويان مثلًا} [الزمر: 29]، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا
يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76، 75]، وقال تعالى:{لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} [الحشر: 20].
ونظائر ذلك مما يفرِّق الله فيه بين أهل الحق والباطل، وأهل الطاعة وأهل المعصية، وأهل البر وأهل الفجور، وأهل الهدى والضلال، وأهل الغي والرشاد، وأهل الصدق والكذب.
فمن شهد الحقيقة الكونية دون الدينية، سوَّى بين هذه الأجناس المختلفة التي فرَّق الله بينها غاية التفريق، حتى تؤول به هذه التسوية إلى أن يسوِّي بين الله وبين الأصنام، كما قال تعالى عنهم:{تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين} [الشعراء: 98، 97]، بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سَوَّوا الله بكل موجود، وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقًّا لكل موجود؛ إذ جعلوه هو وجودَ المخلوقات، وهذا من أعظم الكفر والإلحاد برب العباد».
تقدم أن المصنف- رحمه الله تعالى- قد عقد مقارنة بين ما عليه حال أهل الحق؛ أهل السنة والجماعة في شأن العبودية، وبين ما عليه أهل الباطل، وبالأخص هنا غلاة الصوفية، وتقدم أن أهل التصوف عطلوا العبودية عن معناها الحق؛ فجعلوا أمر التوحيد مقصورًا على الإيمان بالحقائق الكونية القدرية؛ فلهم انحراف في باب القَدَر، وخلاصته أنهم جبرية.
وكذلك في مقام التوكل أسقطوا الأسباب، ولم يُفَرِّقوا بين مشيئة الله عز وجل الكونية القدرية وبين مشيئته الدينية الشرعية؛ فلم يفرقوا بين ما شاءه الله كونًا وقدرًا، وبين ما أحبَّه دينًا وشرعًا، وجعلوا
الأمرين على حدٍّ سواء؛ فتخبطوا وضَلُّوا في هذا الباب.
وضلال الصوفية لا يقتصر على ذواتهم وإنما يتعداهم إلى عامَّة الناس الذين يفتنون ويخدعون بهم، كما حَذَّر السلف قديمًا من ذلك؛ فقال الشَّعبي رحمه الله:«أَبْعِدِ الفاجرَ مِنْ العلماء، والجاهلَ مِنْ المتعبِّدين؛ فإنَّهما آفةُ كلِّ مفتون»
(1)
، وقال سفيان:«كان يقال: تعوَّذوا بالله مِنْ فتنة العابد الجاهل، وفتنة العالم الفاجر، فإنَّ فتنتهما فتنة كلِّ مفتون»
(2)
؛ فالمتصوفة نشروا فكرهم بين كثير من الناس.
فإذا الضَّالون من المتصوفة في مقام التوكل يسقطون الأسباب، ويرون أن ترك الأسباب هو أعلى مقامات التوكل.
وعطلوا باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله.
وهكذا يسري الأمر عندهم في كثير من مسائل الدين وأمور التوحيد، وبالأخص توحيد العبادة.
فهنا أراد المصنف أن يُبَيِّنْ قيمة هذا الباب (باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وأن يظهر ما له من مكانة ومنزلة في الإسلام، ثم عقب ذلك بقوله:«فمن شهد الحقيقة الكونية دون الحقيقة الدينية سَوَّى بين هذه الأصناف المختلفة، التي فرَّق الله بينها غاية التفريق؛ فلا بد من تعظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» .
وهؤلاء الضالُّون من المتصوفة جعلوا المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا؛ ومن يقرأ سِيَرَهم، ويُطالع طبقاتهم يتعجب مما دَوَّنوه هم بأنفسهم من فضائح ومخازي يستحي الإنسان من ذِكرها؛ ومع ذلك
(1)
أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 315) برقم (1753).
(2)
أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 314) برقم (1752).
دَوَّنوها وأثبتوها في كتبهم، وهي مخازي تتعدى- أحيانًا- ما عليه الإباحية الحديثة التي نسمع عنها في بلاد الغرب، والعياذ بالله.
كل ذلك؛ لأنهم أسقطوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأسقطوا عن أنفسهم التكاليف بالكلية؛ لأنهم زعموا أنهم يشهدون الحقيقة الكونية.
والله قد مدح هذه الأمة بقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110]، فهذه الأمة لا تنال الخيرية إلا بهذه الشروط: أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله عز وجل، والله عز وجل قد قال:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وقال جل وعل:{الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة آتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الحج: 41]؛ فعَظَّم الله عز وجل هذا الأمر، وهو ما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم تغييره؛ فقال:«مَنْ رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يَستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»
(1)
.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب من واجبات الدين، وأمر عظيم من شعائره، لكن هؤلاء القوم أسقطوه، حتى إنهم لا يرون استحسانًا لحسنة، ولا استقباحًا لسيئة، بل إنهم يتبجحون ويتفاخرون بما يرتكبونه من منكرات وقبائح، وكتبهم شاهدة بذلك، ويكفي مثالًا على ذلك «طبقات الشعراني» ؛ حيث تجد فيه الكثير من مخازي هؤلاء، وكل ذلك لأنهم أسقطوا شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(1)
أخرجه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري ?.
ولذلك نبَّه المصنف على أهمية هذا الباب فقال: «وكذلك ذنوب العباد يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب قدرته» ، ونحن نعلم أن العلماء والأمراء هم مِنْ أعظم مَنْ يجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالعلماء لأن الله قد أعطاهم الله الفقه في الدين، ولذلك اشترط العلماء في الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر أمورًا منها: أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عالمًا بما يأمر به وبما ينهى عنه، ثم أن يكون حكيمًا في أمره ونهيه، ثم بعد ذلك يصبر على ما يلقاه في سبيل القيام بهذا الواجب، فلابد أن تجتمع فيه هذه الأمور الثلاثة (العلم والحكمة والصبر)؛ قال تعالى:{وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].
وكذلك يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الولاة والأمراء؛ لأن بيدهم السلطة وقوة التنفيذ؛ قال الله عز وجل: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الحج: 41].
فالولاة قد أعطاهم الله التمكين في الأرض، وبالتالي إذا قام هذا المجتمع على هذه الأسس صلح حاله.
فعلى العبد أولًا: أن يصلح نفسه؛ بأن يأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر؛ لأن النفس أمَّارة بالسوء، وبالتالي لا بد من قَسْرها وحملها على فعل الطاعات واجتناب المحرمات، ثم ينتقل الإنسان من نفسه إلى أهله؛ لقول الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة} [التحريم: 6]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم
راع وكلكم مسئول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده؛ فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»
(1)
؛ فيجب على الإنسان أن يكون آمرًا لأهله بالمعروف وناهيًا لهم عن المنكر، ثم بعد ذلك الأقربين إليه، ثم جيرانه، ثم من حوله من المجتمع؛ لأن هذا المجتمع هو كيان واحد، فإذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر كان ذلك سبب نجاتنا.
وقد قص الله علينا أن سبب هلاك بني إسرائيل أنهم: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} [المائدة: 79].
أمَّا غلاة المتصوفة فتجدهم على الضد من ذلك، بل إنهم يَستهينون بالأوامر، ومن ذلك أن أحد شيوخهم سأل مُريدًا عنده؛ فقال له: إذا أرسلتك في حاجة ومررت بمسجد وقد أُقيمت الصلاة؛ فماذا تفعل؟ هل تمضي في حاجتي أو تصلي مع الناس؟ فقال: لا، بل أمضي في حاجتك».
فانظر كيف عطَّلوا أمر الصلاة، وإقامة الصلاة من أوجب الأمر بالمعروف؛ ومع ذلك يثني الشيخ على هذا المريد؛ لأنه قَدَّم أمره على أمر الله عز وجل، وهكذا يُربون أتباعهم على مثل هذه الأحوال، ويرون أنها من أحسن الأحوال وأعظم المقامات.
ومن الشواهد على تعطيلهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعض اجتماعات الصوفية في موالدهم؛ فتجد- والله- من الفضائح والمخازي ما الله به عليم؛ ومن ذلك: أنهم لا يصلون مع الجماعة، وقد لا يصلون بالمرَّة؛ ولا يتناهون عن المنكر؛ فيجتمع الرجال مع النساء، ويتعاطون الخمر والحشيش ونحو ذلك، ويقع من المفاسد
(1)
أخرجه البخاري (5200) ومسلم (1829) من حديث عبد الله بن عمر ?.
العظيمة؛ حتى اشتهر أنه كلما وجدت فوضى وزحام؛ فالغالب أنه مولد، فيُعبرون عن الفوضى بكلمة (مولد)؛ لأن بعض هذه الموالد التي يجتمع لها أتباع هؤلاء المتصوفة تُرتكب فيها شتى أنواع الفواحش والمنكرات، وكل ذلك على مرأى ومَسمع منهم.
فبدل أن يُعظموا أوامر الله عز وجل؛ فيأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر- عَطَّلوا هذه الشعيرة من شعائر الإسلام.
فعلينا أن ننتبه إلى موطن الخلل الذي يدخل على هذه الأمة، فنحن نرى الأمة وفيها كتاب الله، وفيها سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفيها أحكام الدِّين، ولكن مع ذلك نرى من أحوالها العجب العجاب، فهذا الدَّاء جاء إليها من أمثال هؤلاء الذين عطَّلُوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال المصنف كذلك: «ويجاهد في سبيل الله الكفار والمنافقين، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله» .
فإذا نظرت إلى كلام المتصوفة ترى أنهم هوَّنوا من أمر الجهاد؛ بل إنهم حصروا الجهاد في جهاد النَّفس فقط، وواقع تاريخهم يشهد بذلك؛ فعندما دخل النصارى أهل الصَّليب إلى بيت المقدس في عام 492 هـ- لم يُذكر عن أبي حامد الغزالي أنه أنكر هذا الأمر، أو أنه حث الناس على جهاد النصارى؛ قال الشيخ عبد الرحمن الوكيل: «لقد عاش الغزاليُّ بعد ذلك ثلاثةَ عشر عامًا؛ إذ مات سنة 505 هـ، فما ذرف دمعةً واحدةً، ولا استنهض همةَ مُسلمٍ؛ ليذوذ عن الكعبةِ الأولى، بينما سواهُ يقولُ:
أحلَّ الكفرُ بالإسلامِ ضيمًا
…
يطولُ عليه للدينِ النحيبُ
وكم من مسجدٍ جعلوه ديرًا
…
على محرابهِ نُصب الصليبُ
دمُ الخنزيرِ فيه لهم خلوف
…
وتحريقُ المصاحفِ فيه طيب
أهزَّ هذا الصريخُ الموجعُ زعامة الغزالي؟
كلا، إذ كان عاكفًا على كتبهِ يُقَرِّرُ فيها أنَّ الجمادات تخاطب الأولياءَ، ويتحدثُ عن الصحو والمحو، دون أن يُقاتلَ، أو يدعو حتى غيره إلى قتالٍ!»
(1)
.
(2)
.
وقال الدكتور عمر فروخ: «أَلَا يَعجبُ القارئ إذا عَلِم أن حُجَّةَ الإسلامِ أبا حامدٍ الغزالي شهد القدس تسقطُ في أيدي الفرنجةِ الصَّليبين، وعاش اثنتي عشرة سنة بعد ذلك ولم يُشر إلى هذا الحادثِ العظيمِ، ولو أنه أهاب بسكانِ العراقِ وفارس وبلادِ التركِ لنصرةِ إخوانهم في الشامِ لنفر مئاتُ الألوفِ منهم للجهادِ في سبيلِ اللهِ .. وما غفلةُ الغزالي عن ذلك إلا لأنَّه كان في ذلك الحين قد انقلب صوفيًّا، واقتنع على الأقل بأن الصوفيةَ سبيلٌ من سُبُلِ الحياةِ، بل هي أسدى تلك السُّبُلِ وأسعدها.
ويُعَلِّل المتصوفة سكوتهم ورضاهم بما يَنزلُ بقومهم من المصائبِ بأن هذه المصائب عقابٌ من الله للمُذنبين مِنْ خلقهِ، فإذا كان اللهُ قد سَلَّط على قومٍ ظالمًا فليس لأحدٍ أن يُقاومَ إرادةَ اللهِ أو
أن يَتأففَ منها»
(1)
.
وهكذا ابتلي الإسلام بشتى أنواع الأعداء؛ كالتتار والاستعمار، والاستعمار ليس ببعيد، وها هو الاستعمار الفرنسي في بلاد المغرب يشهد لهؤلاء المتصوفة أنهم كانوا أعوانًا له، بل كانوا من أشد أنصار هذا الاستعمار، والتاريخ يشهد كيف أن هؤلاء عطلوا هذه الشعيرة من شعائر هذا الدين؛ لأن في الجهاد رفعة وعزة للإسلام وأهله، وذوذ وحماية لحياض الإسلام، ولكن هؤلاء ألغوا هذا الأمر وعطلوا وحصروه في جهاد النفس على حدِّ زعمهم، ويا ليتهم حتى جاهدوا أنفسهم؛ بل نشروا ما نشروا من الخرافات والأباطيل في أمة الإسلام، بسبب معتقداتهم وأفكارهم.
والمصنف- رحمه الله يُنبه على أن هذه الشعائر من شعائر الدين؛ أي: الجهاد في سبيل الله، وموالاة أهل الإيمان ومعاداة أهل الكفر.
أمَّا المتصوفة فتقرأ في كتبهم أن أبا يزيد البسطامي؛ طيفور بن عيسى واجتاز بمقبرة لليهود فقال: «معذورون» ، ومَرَّ بمقبرة للمسلمين فقال:«مَغرورون»
(2)
!
فيا سبحان الله! حتى مع الأموات موالاتهم لأهل الكفر، ومعاداتهم لأهل الإيمان، فكتب القوم تَطفح بهذه المواقف المخزية وبهذا الكلام الضال.
ولقد وصل الهوس والجنون بابن الفارض- بناء على عقيدته: أن الله هو عين كل شيء- وصل به الحال إلى أن يَعتقد أنه هو الله حقيقة؛ لأن الله حسب خرافاته هو عين كل شيء، فهو على هذا
(1)
«التصوف في الإسلام» (ص 109)، بتصرف يسير.
(2)
انظر: «فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام» ، لغالب عواجي (3/ 1024).
يُمَثِّل الله؛ تعالى عن قولهم.
وابن عربي من أساطين القائلين بوحدة الوجود والحلول والاتحاد وصحة الأديان كلها، مهما كانت في الكفر؛ إذ المرجع والمآل واحد، ومِن هنا فهو يقول:
عقد الخلائق في الإله عقائدًا
…
وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
(1)
فيجعلون أن كل من اعتقد عقيدة فهو عندهم من أهل التوحيد، فلم يُفَرِّقوا- أصلًا- بين أهل الإيمان وأهل الكفر، بل أثنوا على أهل الكفر أكثر من ثنائهم على أهل الإيمان!
فجعلوا التوحيد متعلقًا بالربوبية، وبالتالي فكأن مَنْ أقر بوجود الله عز وجل فهو على التوحيد.
وفي شأن القَدَر هم جبرية.
وفي شأن التوكل أسقطوا الأسباب، وتركوا أسباب الرزق، وحثوا الناس على الكسل والخمول.
مع أن الله حَبَا هذه الأمة بجميع أنواع الخيرات، لكننا نجد أن أرض الإسلام قد امتلأت بملايين البشر الكسالى والعاطلين بسبب ما غرسه فيهم هؤلاء!
وفي باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجد أن الكثير من هذه الأمة حتى في ذات نفسه وحتى في أهل بيته لا يَأمر بالصلاة؛ فتجد البيت ممتلئ بالأولاد ومع ذلك لا يأمرهم الأَبَوان بالصلاة.
وهكذا فعلوا حتى في الوعد والوعيد، حتى في الجنة والنار، فهذه رابعة العدوية تقول: «ما أعبد الله خوفًا من عذابه ولا رغبة
(1)
انظر: «فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام» ، لغالب عواجي (3/ 997).
في جَنَّته»!
وقد أجاب عن ذلك تقي الدِّين السبكي رحمه الله، وبين المعنى الصواب؛ فقال: «والعاملون على أصناف: صنف عبدوه لذاته وكونه مستحقًّا لذلك، فإنه مستحق لذلك لو لم يَخلق جنة ولا نارًا. فهذا معنى قول مَنْ قال: ما عبدناك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك. أي: بل عبدناك لاستحقاقك ذلك. ومع هذا فهذا القائل يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار.
ويظن بعض الجهلة خلاف ذلك، وهو جهل؛ فمن لم يسأل الله الجنة والنجاة من النار، فهو مخالف للسنة؛ فإن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولما قال ذلك القائل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّه يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار، وقال: ما أُحسن دَندنتك ولا دندنة معاذ! قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حولها نُدَنْدِنُ»
(1)
.
فهذا سَيِّدُ الأولين والآخرين يقول هذه المقالة؛ فمَن اعتقد خلاف ذلك فهو جاهل خَتَّال.
ومِن آداب أهل السنة أربعة أشياء لا بد لهم منها: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والافتقار إلى الله تعالى، والاستغاثة بالله، والصبر على ذلك إلى الممات. كذا قال سهل بن عبد الله التستري، وهو كلام حق»
(2)
.
ثم هذا أبو حامد الغزالي يقول: «فمن كان حبُّه في الدنيا رجاءه لنعيم الجنة والحور العين والقصور مُكِّن من الجنة؛ ليتبوأ منها
(1)
أخرجه أبو داود (792)، وابن حبان (868)، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (757).
(2)
«فتاوى السبكي» (2/ 560).
حيث يشاء، فيلعب مع الولدان، ويتمتع بالنسوان؛ فهناك تنتهي لذَّتُه في الآخرة
…
فالأبرار يَرتعون في البساتين، ويتنعمون في الجنان مع الحُور العِين والولدان.
والمقربون ملازمون للحضرة، عاكفون بطرفهم عليها؛ يستحقرون نعيم الجنان بالإضافة إلى ذَرَّة منها؛ فقوم بقضاء شهوة البطن والفرج مَشغولون، وللمجالسة أقوام آخرون»
(1)
.
وقال الغزالي أيضًا: «وأغلب البواعث باعث الفرج والبطن وموضع قضاء وطرهما الجنة؛ فالعامل لأجل الجنة عاملٌ لبطنه وفرجه كالأجير السوء، ودرجته درجة البله
…
وأمَّا عبادة ذوي الألباب فإنَّها لا تجاوز ذِكر الله تعالى والفكر فيه حبًّا لجماله وجلاله
…
، وهؤلاء أرفع درجة من الالتفات إلى المَنكوح والمطعوم في الجنة، فإنهم لم يقصدوها، بل هم الذين يَدعون ربَّهم بالغَدَاة والعَشي يريدون وجهه
…
، ويسخرون ممن يَلتفت إلى الحُور العِين»
(2)
.
وهؤلاء المتصوفة أيضًا: هونوا حتى من شأن الأنبياء، ومخازيهم وفضائحهم وانحرافاتهم العقدية- للأسف الشديد- أثَّرت على الأمة أشد التأثير؛ لفتنة الناس بمن يعتقدون فيهم العلم، وبمن يعتقدون فيهم الصلاح، ولا يلحظون أنه قد يكون وراء هذا العلم فجور، ووراء هذا الصلاح فجور أو جهل، والعياذ بالله؛ فيترتب على ذلك أن العوام قد يقتدون بأناس ليسوا بأهل لأن يكونوا قدوة.
فها هي المعاني الشرعية قد عطلوها، وأقاموا بدلًا منها معاني
باطلة، فلم يَعد هناك قيمة ولا وزن للأمر بالمعروف، ولا حب في الله ولا بغض في الله، ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولا تفرقة بين المسلمين والكافرين، ولا بين الطائعين والعاصين.
فأين هؤلاء من كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟!
فقد فَرَّق الله به بين أوليائه وبين أعدائه في مثل قوله تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} [القلم: 35، 36]؟
وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده، لا يَسمع بي أحدٌ من هذه الأمة؛ يَهودي ولا نَصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به، إلَّا كان من أصحاب النار»
(1)
.
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «كلُّ أُمَّتي يَدخلون الجنَّة إلَّا مَنْ أَبَى» . قالوا: يا رسول الله، ومَن يأبى؟ قال:«مَنْ أطاعني دخل الجنة، ومَن عصاني فقد أَبَى»
(2)
.
قال المصنف رحمه الله: «ونظائر ذلك مما يفرق الله بين أهل الحق والباطل، وأهل الطاعة والمعصية، وأهل البر والفجور، وأهل الهدى والضلال، وأهل الغَيِّ والرشاد، وأهل الصدق والكذب» .
فيجب التفريق بين أهل الحق وأهل الباطل، وبين أهل الطاعة والمعصية، فلا يستوي مَنْ هو تقي ومَن هو عاص، فهذا والله من أبطل الباطل أن تساوي بين الفريقين، لكن عند هؤلاء يساوون بينهم، وقد امتدحوا من امتدحوا- ممن يزعمون أنهم أولياء- بأنهم ارتكبوا أعظم أنواع الفجور، والعياذ بالله عز وجل.
(1)
أخرجه مسلم (153) من حديث أبي هريرة ?.
(2)
أخرجه البخاري (7280) من حديث أبي هريرة ?.
والله عز وجل فَرَّق بين الإسلام والكفر، وفرق بين المُسيء والمحسن.
وأمَّا هؤلاء فعندهم يستوي الأمران!
فانظر كيف تلاعبوا بشعائر الإسلام وعملوا على نقضها، أو على الأقل تحقيرها والتقليل من شأنها!
والمصنف يُرشدنا إلى وجه الخلل عند هؤلاء، فقال:«مَنْ شهد الحقيقة الكونية دون الحقيقة الدينية سَوَّى بين هذه الأصناف المختلفة التي فَرَّق الله بينها غاية التفريق» ؛ لأن عندهم التوحيد أن تشهد أنه موجود، وتشهد أن هذا الكون تحت قدرته وتحت تصرفه، هذا هو غاية توحيدهم (التوحيد الخاص)، إن لم يتعداه إلى ما هو أشد بطلانًا منه، وهو وحدة الوجود.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «ومن عِبَادَته وطاعته: الأَمر بِالمَعْرُوفِ والنَّهْي عَنْ المُنكر بِحَسب الإِمْكَان، والجهَاد فِي سَبيله لأهل الكفْر والنفاق؛ فيجتهدون فِي إِقَامَة دينه مُستعينين بِهِ» .
هذا وصف أهلِ السُّنَّة ومجتمعِ التوحيد، المجتمع الذي يجب أن يقوم بأمر العبادة، ومن القيام بالعبادة والطاعة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو مِنْ أوجب الأمور على الأمراء وعلى العلماء وعلى طلبة العلم؛ عليهم أن يُبينوا للناس بقدر الطاقة وحسب الإمكان، فكل إنسان مسئول على قدر استطاعته، وما تحمل من مسئوليات.
فالإنسان في بيته يَملك ما لا يملكه في السوق، ويملك مع زوجه ما لا يملكه مع أمه ومع أبيه، ويملك مع ولده ما لا يملكه مع جاره؛ ويملك الامير ما لا يملكه غيره من عوام الناس؛ فكلٌّ بحسب الحال والمقام الذي هو فيه؛ قال صلى الله عليه وسلم:«كُلُّكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده؛ فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»
(1)
.
وكذلك لا بد من جهاد أهل الكفر والنفاق؛ للدفاع عن حياض
(1)
أخرجه البخاري (5200) ومسلم (1829) من حديث عبد الله بن عمر ?.
دين الإسلام، والعمل على نشره والدعوة إليه، وإقامة الحجة على الناس، ولكن لا بد أن يكون بشروطه وضوابطه، التي بيَّنها العلماءُ؛ قال الله جل جلاله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73]، وقال جل وعلا:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41].
أمَّا مَنْ يدعو إلى ترك الجهاد بالكلية؛ فهذا إنما يدعو إلى تعطيل شعيرة من شعائر الإسلام، وفيه شبه مِنْ أولئك المُتصوفة.
وأهل السنة يجتهدون في إقامة دينهم وإظهار شعائره في المجتمع، وعلى كل المسلم أن يعتز بدينه، وأن يجاهد نفسه ليكون نموذجًا صالحًا للمسلم الملتزم بدينه؛ ليكون قدوة لغيره؛ لأنه- في الحقيقة- يُمَثِّل هذا الإسلام العظيم.
أما إذا حلق مسلم لحيته، وأسبل آخر ثوبه، واستمر حال الناس على هذا؛ من التجافي عن إقامة شعائر الدين والبُعد عن التمسك بها وإظهارها؛ فيُوشك أن تذهب.
إذًا على أفراد الأمة أن يجتهدوا في إقامة شعائر هذا الدين، وأن لا يتعللوا بحجج واهيةّ
لأنَّ مِنْ علامات أهل التوحيد: أنهم يجتهدون في إقامة دين الله، مُستعينين به سبحانه، متوكلين عليه في ذلك؛ طالبين منه التوفيق والعون؛ وليكن شعار المسلم كما قال شعيب عليه السلام:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
إذًا لا بد من مقام التوكل، ولا شك أن مقام التوكل مقام عظيم، فالله سبحانه وتعالى قد أمر بعبادته والتوكل عليه جل وعلا، وقرن
التوكل بالإيمان في كثير من المواطن، ومن ذلك قوله سبحانه:{إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]، وقوله تعالى:{فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123]، فلا بد من أخذ بالأسباب مع التوكل عليه جل وعلا.
وفرق كبير بين التوكل والتواكل؛ فالتواكل يكون بترك الأخذ بالأسباب. وهو مذموم. والتوكل المشروع يكون بالأخذ بالأسباب، مع سؤال الله عز وجل العون والتوفيق والهداية والسداد على فعل الطاعات.
فالعقيدة السلفية الصحيحة كما تنفي الاستسلام والخضوع بغير حق، تنفي السلبية والتواكل وهجر الدنيا واعتزال الخلق، ومَن يخالط الناس ويُخالقهم بالأخلاق الحسنة، ويدعوهم بالحسنى؛ فيأمرهم بالمعروف بالرفق واللين، وينهاهم عن المنكر بلا منكر، ويتحمل أذاهم .. هذا خير ممن يهجرهم ويدعهم فيما هم فيه من خير وشر؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:«المُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، ويصْبِرُ على أَذَاهُم، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ المُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ، ولا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ»
(1)
.
* * *
(1)
أخرجه الترمذي (2507) وابن ماجه (4032) من حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني في «صحيح ابن ماجه» (3257).
قال المصنف رحمه الله: «رافعين مُزيلين بذلك مَا قدر من السَّيِّئَات، دافعين بذلك مَا قد يُخَاف من آثَار ذَلِك، كَمَا يزِيل الإِنْسَان الجُوع الحَاضِر بِالأَكْلِ، ويدْفَع بِهِ الجُوع المُسْتَقْبل، وكَذَلِكَ إِذا آن أَوان البرد دَفعه باللباس، وكَذَلِكَ كل مَطْلُوب يُدْفع بِهِ مَكْرُوه، كَمَا قَالُوا للنَّبِي صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْتَ أدوية نتداوى بهَا، ورقى نسترقي بهَا، وتُقى
(1)
نتَّقي بهَا؛ هَلْ تَرد مِنْ قَدَر الله شَيْئًا؟ فَقَالَ: «هِيَ مِنْ قدر الله»
(2)
، وفِي الحَدِيث:«إِنَّ الدُّعَاء والبَلَاء ليلتقيان؛ فيعتلجان بَين السَّمَاء والأَرْض»
(3)
.
فَهَذَا حَال المُؤمنِينَ بِاللَّه ورَسُوله العابدين لله، وكل ذَلِك من العِبَادَة».
الإنسان محل الخطأ ومحل الزَّلل ومحل التقصير، وعليه أن يجتهد في رفع هذا التقصير، وأن لا يستسلم لهذا الأمر؛ بل عليه الاستغفار، ويجب عليه التوبة والمسارعة في فعل الخيرات.
ويجب أن تغرس هذه المعاني في النفوس، ولا بد من الأخذ
(1)
جمع تقية، وهي ما يدفع به الإنسان ما يخافه ويكرهه عن نفسه وغيره.
(2)
أخرجه أحمد (15510) والترمذي (2065) من حديث أبي خزامة ?، وحسنه الألباني في «تخريج مشكلة الفقر» (11).
(3)
أخرجه الحاكم (1/ 669) والبزار في «كشف الأستار» (3/ 30) من حديث عائشة رضي الله عنها، وحسنه الألباني في «المشكاة» (2234).
بالأسباب، وضرب المصنف هنا- مثلًا- يوضح المقصود؛ حيث قال:«دافعين بذلك ما قد يخالف من آثار ذلك؛ كما يُزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل» ، والمقصود: أن الإنسان إذا كان جائعًا فإنه يدفع عن نفسه الجوع بالأكل.
وهو بهذا يرد على بعض مَنْ غلط من المتصوفة وزعم أن طلب الأكل أو الرزق عند الجوع ينافي التوكل، ويحثون الناس على ترك التكسب والأخذ بالأسباب.
وهذا الزعم ينافي الشرع والعقل؛ فلا بد من الأخذ بالأسباب؛ دنيوية كانت أو شرعية، وهذا الأخذ لا ينافي التوكل والاستعانة بالله عز وجل، وضرب المصنف مثالًا آخر؛ فقال:«وكَذَلِكَ إِذا آن أَوانُ البرد، دَفعه باللباس، وكَذَلِكَ كلُّ مَطْلُوب يُدْفع بِهِ مَكْرُوه، كَمَا قَالُوا للنَّبِي صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت أدوية نَتداوى بهَا ورُقى نسترقي بهَا وتُقى نتقي بهَا؛ هَلْ تردُّ مِنْ قدر الله شَيْئًا؟ فَقَالَ: «هِيَ مِنْ قَدَر الله» ، وفِي الحَدِيث:«إِنْ الدُّعَاء والبَلَاءَ ليلتقيان فيَعتلجان بَين السَّمَاء والأَرْض» .
ومعنى: «يعتلجان» ، أي: يتصارعان؛ فأيُّهما غَلب أصاب، فهذا الذي ورد في الحديث معناه: أن الدعاء الذي يرفعه العبد إلى الله- تبارك وتعالى يلتقي مع القضاء الذي قَدَّره الله ما بين السماء والأرض، ويحدث بينهما هذا اللقاء والتصارع؛ فإذا كان الدعاء مخلصًا رَدَّ الله به قضاءه الذي قَدَّره، هذا والدعاء- أيضًا- من قدر الله؛ لأن الله لو لم يشأ للإنسان أن يدعو لما استطاع، ولما وفَّقَه لذلك؛ فالقدر من الله والدعاء- أيضًا- من الله، وقد أعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا يدفع ذاك.
فالأخذ بالأسباب مِنْ القدر، والله سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب،
وهو الذي خلق هذه الأسباب وجعلها أسبابًا، فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله العابدين لله، وكل ذلك من العبادة، ويَفقه هذه الأمور من وضع نصب عينيه توحيد العبادة؛ فتوحيد العبادة؛ منه التوكل، ومنه الإنابة، ومنه الخشية، ومنه الأمر بالمعروف، ومنه النهي عن المنكر، ومنه الجهاد في سبيل الله.
وكل هذه المعاني والشعائر يجب أن تكون واضحة ظاهرة، وعلينا أن نتمثلها في أنفسنا، وأن نُعَلِّمها لأسرنا ومجتمعاتنا وسائر أُمَّتنا، فلا بد من غرس المعاني الحقة وإبعاد تلك المعاني الفاسدة التي لصقت في أذهان الناس، حتى إنهم أصبحوا لا يعرفون من الدِّين إلا تلك الصورة الباطلة، فأصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والعياذ بالله.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وهَؤُلَاء الَّذين يَشْهدُونَ الحَقِيقَة الكونية- وهِي ربوبيته تَعَالَى لكلِّ شَيْء، ويجعلون ذَلِك مَانِعًا من اتِّبَاع أمره الدِّيني الشَّرْعِيِّ على مَرَاتِب فِي الضَّلال:
فَغُلاتهم يجْعَلُونَ ذَلِك مُطلقًا عَامًّا؛ فيحتجون بِالقَدَرِ فِي كل مَا يخالفون فِيهِ الشَّرِيعَة.
وقَول هَؤُلَاءِ شَرٌّ من قَول اليَهُود والنَّصَارَى، وهُو من جنس قَول المُشْركين الَّذين قَالُوا:{لَو شَاءَ الله مَا أشركنا ولَا آبَاؤُنَا ولَا حرمنا من شَيْء} [الأنعام: 148]، وقَالُوا:{لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم} [الزخرف: 20].
وهَؤُلَاء من أعظم أهل الأَرْض تناقضًا، بل كل مَنْ احْتج بِالقَدَرِ فَإِنَّهُ متناقض؛ فَإِنَّهُ لَا يُمكنهُ أَنْ يُقَرَّ كل آدَمِيٍّ على مَا يفعل، فَلَا بُد إِذا ظلمه ظَالِم، أَوْ ظلم النَّاس ظَالِم، وسعى فِي الأَرْض بِالفَسَادِ، وأخذ يسفك دِمَاء النَّاس، ويستحلُّ الفروج، ويُهْلك الحَرْث والنسل، ونَحْو ذَلِك من أَنْواع الضَّرَر الَّتِي لَا قِوَام للنَّاس بهَا: أَنْ يَدْفع هَذَا القَدَر، وأَن يُعَاقب الظَّالِم بِمَا يكف عدوانه وعدوان أَمْثَاله؛ فَيُقَال لَهُ: إِنْ كَانَ القَدَرُ حجَّة، فَدَع كل أحد يفعل مَا يَشَاء بك وبغيرك، وإِن لم يكن حُجَّة بَطل أصل قَوْلك:[إِنَّ القَدَرَ] حُجَّة.
وأَصْحَاب هَذَا القَوْل الَّذين يحتجون بِالحَقِيقَةِ الكونية لَا يطردون هَذَا القَوْل ولَا يَلتزمونه، وإِنَّمَا هم يَتَّبعُون آراءهم وأهواءهم، كما قَالَ فيهم بعض العلمَاء: أَنْت عِنْد الطَّاعَة قَدَري، وعند المعْصِيَة جَبْري، أيُّ مَذْهَب وافق هَواك تَمذهبت بِهِ.
ومِنْهُم صنف يدَّعون التَّحْقِيق والمعرفة، ويزعمون أَنْ الأَمر والنَّهْي لَازم لمن شهد لنَفسِهِ أفعالًا، وأثبت لَهُ صِفَات. أما مَنْ شهد أَنْ أَفعاله مخلوقة، أَوْ أَنه مجبور على ذَلِك، وأَن الله هُو المُتَصَرف فِيهِ، كَمَا يُحَرك سَائِر المتحركات، فَإِنَّهُ يَرْتَفع عَنهُ الأَمر والنَّهْي والوعد والوعيد.
وقد يَقُولُونَ: مَنْ شهد الإِرَادَة سَقط عَنهُ التَّكْلِيف. ويزعمون أَنْ الخضر سَقَطَ عَنهُ التَّكْلِيف؛ لشهوده الإِرَادَة».
قول المصنف رحمه الله تعالى: «وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية» يريد بهؤلاء: المتصوفة، وهم- كما قد تقدم- يرون أن التوحيد، أي: توحيد الخاصة عندهم، يُراد به: شهود الحقيقة الكونية، مع انحرافهم في هذا الباب، وقولهم بالجبر، وأن الإنسان مجبور على فعله، فهؤلاء المتصوفة على مراتب في الضلال.
فغُلاة هؤلاء في هذه المسألة يجعلون ذلك مطلقًا عامًّا؛ فعندهم أنه قد يكون هناك مانع من اتِّباع الأمر الديني الشرعي، ذلك أنهم يقولون: إن كل فعل يفعله العبد فهو مجبور عليه، وبالتالي على العبد أن يشهد في هذا الفعل قُدرة الله عز وجل، وما دام أنه يشهد قدرة الله عز وجل فما عليه بهذا إلا أنه لا يَستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة؛ إذ إن الكل عند هؤلاء من عند الله عز وجل، فهو إن فعل حسنة فذاك فِعل الله عز وجل، وإن فعل سيئة فذاك فِعل الله عز وجل.
ويترتب على ذلك تعطيلُ باب الأوامر والنواهي، وهذا قد تقدم بيانه.
وهؤلاء الغلاة يحتجون بالقَدَر في كل ما يخالفون به الشريعة،
فكل أمر خالفوا فيه الشريعة حُجَّتهم في ذلك: أن هذا أمر مَقدور؛ ويقولون: أنه ما دام أنه أمر مقدور، فعلى العبد أن يُسَلِّم بهذا الأمر!
وعلى هذا لا يصبح هناك أي تقيد بأمر الشرع، ولا أي حرص من الإنسان- أو دافع منه- على فعل الخير؛ فيستوي عنده فعل الخير وفعل الشر؛ إذ الكل- بزعمه- من عند الله عز وجل، وهو في فعله ذاك على أي الأحوال من خير أو شر- إنما يحقق أمر الله عز وجل.
وهذا الذي قالوه- كما قال المصنف-: «شَرٌّ من قول اليهود والنصارى» ؛ بل هو من جنس قول المشركين الذين قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء} [الأنعام: 148]، فهؤلاء شابهوا وشاكلوا المشركين، كما سيأتي تفصيله كذلك، بأن أهل الشرك قد ابتدعوا في جانبين:
الجانب الأول: ابتدعوا أنهم شرعوا أمورًا ما شرعها الله عز وجل، كما فعلوا في مسألة الأنعام، وستأتي معنا.
الجانب الثاني: ابتدعوا في تحليل بعضها وتحريم بعضها من عند أنفسهم، وكلما فعلوا سيئة نَسبوها إلى الله عز وجل؛ فيحتجون بشركهم أن هذا مشيئة الله عز وجل.
وقول هؤلاء المتصوفة هو من جنس قول أولئك المشركين.
وقال: «وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضًا؛ لأن هؤلاء الذين يحتجون بالقدر لا يطردون هذا في كل حال» ، وإنما في الحال الذي يَروق لهم ويناسبهم يحتجون بالقَدَر، وفي الحال الذي لا يَروق لهم لا يحتجون بالقدر، وقد بين ذلك فقال:«بل كل مَنْ احتج بالقدر فإنه مُتناقض؛ فإنه لا يمكن أن يقر كل آدمي على ما يفعل» !
فمن يحتج بالقدر لا يمكن أن يقر كل آدمي على ما يفعل؛ فلو جاءه لص وسرق ماله، ما أقرَّه على ذلك. ولو جاءه أحد واستحل عرضه ما أقرَّه على ذلك.
فلو انتشر هذا وشاع؛ لانتشر الظلم، وسعى الناس في الأرض فسادًا، وسُفكت الدماء، واستحلت الفروج، وأهلك الحرث والنسل، ونحو ذلك من الضرر التي لا قِوَام للناس به.
والواقع أن كل إنسان يعمل على دفع الظلم عن نفسه، والناس يعاقبون الظالم بما يكف عدوانه وعدوان أمثاله، ولا يمكن في هذه الأحوال أن يُحتج بالقدر، وإلا لقيل لهؤلاء: إن كان القدر حُجة؛ فدعوا كل أحد يفعل ما يشاء بكم وبأهاليكم وأموالكم.
فهل تستقيم بهذا حياة؟!
والجواب: يستحيل أن تستقيم أمور الناس بهذا.
فكيف يصبح القدر حجة لهؤلاء؟! فإذا كان يصح أن يكون حجة في مصالح الناس، فيمكن مع ذلك أن يصح أن يكون حجة في جانب عبادة الله عز وجل، فإذا كان لا يصح أن يحتج به في مصالح الناس، فهو كذلك لا يصح أن يحتج به في جانب عبادة الله عز وجل، وإن لم يكن حجة بطل أصل قولهم: إن القدر حجة.
فإذن: لا يمكن ولا يصح في أي حال أن يكون القدر حجة للعاصي، كما لا يصح أن يكون حُجة للمخطئ أو المذنب في حق الناس.
قال: «وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية لا يطردون هذا القول» ، أي: لا يستمرون عليه، ولا يلتزمونه في كل أمورهم، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم؛ فمتى ما كان القدر يناسب آراءهم وأهواءهم أخذوا به، وأما إذا كان القدر لا يناسب
آراءهم وأهواءهم لم يأخذوا به، كما قال بعض العلماء:«عند الطاعة قدرية، وعند المعصية جبرية» ، فأي مذهب وافق أهواءهم تمذهبوا به.
فترى الواحد منهم عند الأمر يحتج بالقدر؛ فيقول: لو شاء الله أن أُصَلِّي سأصلي، وإن لم يشأ أن أُصلي فلن أصلي!
وأمَّا في جانب المعصية، فيقول: أنا مجبور على فِعلها، لا أستطيع أن أخالف فِعل الله فيَّ!
فلماذا لا يقول: أنا مجبور على الطاعة؛ سأقوم وأُصلي؛ لأنني مجبور.
فهو إذا جاء باب الطاعة أصبح قدريًّا؛ فيحتج بالقدر على تركها.
وإذا جاء باب المعصية أصبح جبريًّا؛ يزعم أنه مجبور على فعلها ..
فيتمذهب بالمذهب الذي يُوافق هواه؛ لينسلخ من الأوامر، وليقترف من النواهي ما شاء، والعياذ بالله.
وهذا الصنف الأول، وهم أشدهم غُلُوًّا.
وأمَّا الصنف الثاني، وهم الذين يدعون التحقيق والمعرفة، ويزعمون أن الأمر والنهي لازم لمن شهد لنفسه أفعالًا وأثبت له صفات، يعني: إذا كان العبد لم يصل إلى الدرجة المطلوبة من التصوف؛ بحيث يرى أنه فاعل لهذه الأشياء، وأن في هذه النفس هذه الصفات، فيقولون: هذا يلزمه أن يأتي بالأوامر والنواهي، بمعنى: أنه إذا كان من المريدين، أو كان من عوام الناس فعليه أن يلتزم بالأوامر والنواهي؛ لأن هذا لم يصل إلى درجة ورتبة من هذا
الشهود؛ بحيث إنه لا يشهد لذات نفسه فعلًا، فقال: يزعمون أن الأمر والنهي لازم لهذا الصنف من الناس، لمن شهد لنفسه أفعالًا، وأثبت لها صفات.
أمَّا الصنف الاول المغالي، فهو يشهد أنه مجبور على أفعاله، وأن الله هو المتصرف فيه، كما يحرك سائر المحركات، ويزعم أنه لما شهد ذلك ارتفع عنه الأمر والنهي والوعد والوعيد، لأنه وصل إلى مرتبة في التصوف؛ بحيث لا يرى لنفسه فعلًا، ويرى أنه متحرك كسائر المتحركات، فعند هذا لا يلزمه الأمر والنهي.
فالمتصوفة يرون أنه في حال وصول هذا الشخص إلى رُتبة مُعينة- تسقط عنه الأوامر والنواهي، وقد يقولون:(مَنْ شهد الإرادة سقط عنه التكليف).
فإذا وصل إلى مرحلة شهود الله عز وجل وأنه الفاعل لكل شي على الحقيقة وأنهم لا فعل لهم ولا مشيئة، على حدِّ زعمهم- فهذا لا تكليف عليه، وكما سيأتي أنهم يقولون في هذا: إنه يصبح مثل البَحر؛ لا تضره الذنوب، كما أن الأوساخ لا تؤثر في البحر الخضم. أي: لا يتأثر بذنب ولا ينتفع بطاعة، وهذا من استدراج الشيطان لهم، والعياذ بالله.
ويزعمون أن الخضر سقط عنه التكليف؛ لشهوده الإرادة؛ لأنه- من الأولياء، والأولياء لهم مَرتبة تُسقط عنهم التكاليف.
فيُفرقون بين العامَّة والخاصة؛ فالخواص تسقط عنهم الأوامر والنواهي، ويكتفون بشهود الحقيقة الكونية، قال المصنف:«وقد يفرقون بين مَنْ يعلم ذلك علمًا وبين مَنْ يراه شهودًا» ، أي: لا يكتفون بمجرد العلم؛ فبعضهم قال: إذا كان هذا الشخص علم هذه
الأمور دون أن يشهد ذلك شهودًا، أي: تُكشف له الحجب، ويكون مع الحضرة الإلهية مشافهة، فإذا لم يصل إلى مرحلة الكشف، فيظل على التزام بالأوامر والنواهي، بمعنى: أنه لا يسقط عنه التكليف حتى يُكشف له الحجاب، وحتى يرى الله مشاهدة.
فلا يُسقطون التكليف عمن يعلم ذلك ويؤمن به فقط، وإنما لا بد من شهوده للحضرة الإلهية، على حدِّ زعمهم.
ولا شك أن هذا من استدراج الشيطان لهم؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم قد قال: «تَعَلَّمُوا؛ أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ- عز وجل حَتَّى يَمُوتَ»
(1)
، فلا سبيل إلى رؤية الله عز وجل في هذه الحياة الدنيا، فهي أمر ممتنع، ولكن الشيطان يستدرج هؤلاء، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما تكلم مع ابن صياد، فقال له النبي:«ما ترى؟» . قال: أرى عرشًا على الماء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَرى عرشَ إبليس على البَحر»
(2)
، فهذا الذي يراه هؤلاء إنَّما هو شيطان من الشياطين يَتمثل لهم، ويستدرجهم بهذه الأمور والأحوال؛ ليخرجهم عن الدين، مِنْ طريق ترك العبادة؛ فأصبح هؤلاء لا دين لهم، والعياذ بالله.
(1)
أخرجه مسلم (2930) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه مسلم (2925) من حديث أبي سعيد الخدري ?.
قال المصنف رحمه الله: «فَهَؤُلَاءِ يفرقون بَين العَامَّة والخاصَّة الَّذين شهدُوا الحَقِيقَة الكونية؛ فَشَهِدُوا أَنَّ الله خَالق أَفعَال العباد، وأَنه مُرِيد ومدبر لجَمِيع الكائنات.
وقد يفرقون بَين مَنْ يعلم ذَلِك علمًا وبَين مَنْ يرَاهُ شُهُودًا، فَلَا يُسقطون التَّكْلِيف عَمَّن يُؤمن بذلك ويعلمه فَقَط، ولَكِن [يسقطونه] عَمَّن يشهده، فَلَا يرى لنَفسِهِ فعلًا أصلًا، وهَؤُلَاء يجْعَلُونَ الجَبْرَ وإِثْبَات القَدَرِ مَانِعًا من التَّكْلِيف على هَذَا الوجْه».
بَيَّن المصنف هنا أن هذا الصنف من المتصوفة يُفَرِّقون بين توحيد العوام وتوحيد الخواص؛ فهؤلاء لا يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعًا من التكليف على هذا الوجه؛ إذا كان للعوام، أي: إذا كان مِنْ طبقة مَنْ يعلم ولكنه لم يصل إلى مرحلة الشهود، بزعمهم، فذاك مطالب بالأوامر والنواهي، أي: ما زال مُكَلَّفًا.
وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والتوحيد.
فهؤلاء الطوائف- من غُلاة المتصوفة- استدرجهم الشيطان، وأوقعهم فيما يسمونه (الشهود)، أو المرتبة الثانية التي يريدون تحقيقها، ويزعمون أنها هي التوحيد، وهي شهود الحضرة الإلهية، أو شهود الحقائق الكونية معاينة، كما يزعمون!
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وقد وقع فِي هَذَا طوائف من المنتسبين إِلَى التَّحْقِيق والمعرفة والتوحيد.
وسبب ذَلِك: أَنه ضَاقَ نِطاقهم عَنْ كَون العَبْد يُؤمر بِمَا يقدَّر عَلَيْهِ خِلَافه، كَمَا ضَاقَ نطاق المُعْتَزلَة ونَحْوهم من القَدَرِيَّة عَنْ ذَلِك، ثمَّ المُعْتَزلَة أَثْبَتَت الأَمر والنَّهْي الشرعيين دون القَضَاء والقدر، اللَّذَيْن هما إِرَادَة الله العَامَّة وخلقه لأفعال العباد. وهَؤُلَاء أثبتوا القَضَاء والقَدَر، ونَفَوْا الأَمر والنَّهْي فِي حقِّ مَنْ شهد القدر؛ إِذْ لم يُمكنهُم نفي ذَلِك مُطلقًا.
وقَول هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَول المُعْتَزلَة، ولِهَذَا لم يكن فِي السَّلف مِنْ هَؤُلَاءِ أحد، وهَؤُلَاء يَجْعَلُونَ الأَمر والنَّهْي للمَحجوبين الَّذين لم يَشْهدُوا هَذِه الحَقِيقَة الكونية، ولِهَذَا يجْعَلُونَ مَنْ وصل إِلَى شُهُود هَذِه الحَقِيقَة يَسْقط عَنهُ الأَمر والنَّهْي، ويَقُولُونَ: إِنَّه صَار من الخَاصَّة. ورُبمَا تأولوا على ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {واعبد رَبك حَتَّى يَأْتِيك اليَقِين} [الحجر: 99]؛ فاليقين عِنْدهم هُو معرفَة هَذِه الحَقِيقَة».
عقد المصنف مقارنة بين ما عليه القدرية الذين هم المعتزلة، وبين ما عليه هؤلاء الصوفية الجبرية، والمقارنة في ناحيتين:
1 من ناحية الحقيقة الكونية القدرية.
2 ومن ناحية الحقيقة الدينية الشرعية.
مع الأخذ في الاعتبار أنَّ المعتزلة عَظَّموا الأمر والنهي، لكن المتصوفة لم يُعَظِّموه.
ففي الجانب الكوني القَدَري:
المعتزلة: لم يعظموا الجانب الكوني القدري؛ لأنهم أنكروا قدرة الله في فعل العبد.
وهؤلاء الصوفية الجبرية: وافقوا المعتزلة في هذا الجانب، وبالتالي ضاق نطاقهم عن كون العبد يُؤمر بما يُقَدَّر عليه خلافه، فهم لم يَفهموا هذه المسألة وهي: كيف أن العبد يؤمر ثم لا يفعل؛ فكيف يُقَدَّر عليه خلاف هذا الأمر؟
فلم يُفَرِّقوا بين ما أراده الله كونًا وما أراده دينًا وشرعًا؛ فقد يأمر الله عز وجل بأمر دينًا وشرعًا، ولكن يُقَدِّر على العبد خلافه، فالله أمر العبد أن يصلي، ولكن العبد قد يَعصي ويترك الصلاة، فهؤلاء ضاقت عقولهم عن التفريق بين ما أراده كونًا وما أحبَّه شرعًا، فليس كلُّ ما أراده أحبَّه، وليس كل ما أحبَّه أراده، فيجب التفريق بين البابين.
فهؤلاء لم يستوعبوا هذه المسألة، كما ضاق في المقابل على المعتزلة ونحوهم من القدرية فَهم ذلك؛ فلم يستوعبوا هذا الأمر في الفرق بين ما أحبَّه وبَيْن ما أراده.
وأمَّا في الجانب الديني الشرعي:
فالمعتزلة: أثبتت الأمر والنهي الشَّرعيين؛ فَعُرف عنهم إثبات الأمر والنهي الشرعيين؛ فعَظَّموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم في باب الإيمان ليسوا بمرجئة؛ فظهر منهم تعظيم الأمر والنهي، وإن كانوا قد أخطأوا من وجه آخر، ففي القضاء والقدر هم قَدَرية، إذ أنكروا قدرة الله في فعل العبد، لكنهم عظموا الأمر والنهي
الشرعيين، فقالوا: الإيمان: قول واعتقاد وعمل.
وهؤلاء المتصوفة: أثبتوا القضاء والقدر، ولكن نفوا الأمر والنهي في حقِّ مَنْ شَهِد القَدَر.
فعندهم إذا وصل الواحد منهم إلى مرحلة الشهود، فعند ذلك لا أمر ولا نهي عليه.
ولمَّا لم يُمكنهم نفي ذلك مطلقًا، أبقوه للعوام كأمر ونهي، وأسقطوه عن الخواص.
فإذن: قول هؤلاء شر من قول المعتزلة، لأن إسقاط الأوامر والنواهي إسقاط للدِّين، وإذا أسقطت شعائر الدين الظاهرة .. ماذا يبقى من حال الأمة؟!
قال المصنف: «لهذا لم يكن في السلف من هؤلاء أحد» ، أي: لم يقل أحد من السلف بقول هؤلاء، الذين يجعلون الأمر والنهي للمَحجوبين عن الكشف والشهود. وهذا فيه احتقار وتقليل للأمر والنهي، وبالتالي أصبحت العبادات في نظرهم دينًا للعوام، ويقولون: أنتم أهل الشريعة، ونحن أهل الحقيقة، وأنتم العوام ونحن الخواص، وأنتم الذين حجبتم، ونحن الذين شهدنا!
وهذا ما يُبررون به باطلهم.
ولذلك ما أصبح للأمر والنهي أي وزن- أو قيمة- في نفوس هؤلاء، وقال عنهم المصنف:«ولهذا يجعلون مَنْ وصل إلى شهود هذه الحقيقة يَسقط عنه الأمر والنهي، ويقولون: إنه صار من الخاصَّة، وربما تأولوا على ذلك قول الله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99]» ، وفسَّروا اليقين بالحقيقة الكونية، فقالوا: إذا وصلت إلى مرحلة الشهود سقطت عنك التكاليف.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وقَول هَؤُلَاءِ كفر صَرِيح، وإِن وقع فِيهِ طوائف لم يَعلمُوا أَنه كفر، فَإِنَّهُ قد عُلم بالاضطرار من دين الإِسْلَام: أَنْ الأَمر والنَّهْي لازمان لكل عبد مَا دَامَ عقله حَاضرًا إِلَى أَنْ يَمُوت، لَا يسقطان عَنهُ لَا بشهوده القَدَر، ولَا بِغَيْر ذَلِك. فَمَنْ لم يعرف ذَلِك عُرِّفَه وبُيِّن لَهُ، فَإِنْ أصر على اعْتِقَاد سُقُوط الأَمر والنَّهْي فَإِنَّهُ يُقتل.
وقد كثرت مثلُ هَذِه المقالات فِي المُسْتَأْخِرِينَ».
دعوى إسقاط الأمر والنهي كفرٌ صريحٌ، لأنه من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام: أن الأمر والنهي لازمان لكل عبد، لا يَسقطان عن أيِّ عبد من العبيد ما دام أن عقله حاضر، والتكليف لا يسقط إلا عمَّن ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث:«رُفع القلمُ عن ثلاثة: عن النَّائم حتى يَستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يَعقل»
(1)
، فهؤلاء ومن في حكمهم يسقط عنهم التكليف.
أما دعوى هؤلاء أنه يسقط عنهم التكليف بشهودهم القدر- فهي دعوة كفرية.
وعليه، مَنْ كان جاهلًا منهم وجب تعليمه، وتبيين ضلال هذا
(1)
أخرجه أبو داود (4403) والترمذي (1423) من حديث علي بن أبي طالب ?، وصححه الألباني في «المشكاة» (3287).
السبيل له، وذلك بإقامة الحجة عليه، ودفع الشبهة عنه.
فإذا أُقيمت عليه الحجة التي يَكفر بخلافها؛ فعند ذلك إن تابَ تَابَ الله عليه؛ لكن إن أصر على ذلك بعد البيان، فإن هذا الأمر كُفر، وموجب لقتله.
وقد كثُرت مثل هذه المقالات في متأخري الصوفية؛ فعند خواصهم من هذا الشيء الكثير، والعياذ بالله.
* * *
بَيَّن المصنف- رحمه الله أن هذه المقالات لم تَكن معروفة في المُتَقَدِّمين، ولكن الشيطان استدرج بعض المتصوفة شيئًا فشيئًا حتى أوصلهم إلى هذه الحال.
فهذه المقالات هي مُحادَّة ومُعاداة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم تُعَظَّم- في الأمة- أوامر الله عز جل وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فكيف يُعرف المستقيم من غير المستقيم؟ وكيف يُعرف الصالح من الفاسد؟ وكيف يُعرف الخير من الشر؟
فوالله إنَّ من أعظم المحادة والمعاداة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم: أن لا يكون هناك تعظيم لأوامر الله ونواهيه.
فإذن: هذه الحال التي عليها هؤلاء هي محادَّة ومعاداة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعض مَنْ يقول هذه المقالات قد يجهل ذلك؛ لأنه ما عَرف من الدِّين إلا هذه المبادئ المتصوفة؛ فتَربى عليها ونشأ عليها، ولم يعرف من الدين إلا هذه الأمور، وهذه الحال التي هو عليه هي حال ضَلال؛ فنسأل الله العافية والسلامة.
فإذن: بعض هؤلاء قد يعتقد أنَّ الطريق الذي هو عليه هو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنَّه طريق أولياء الله عز وجل المحققين؛ وقد يعتقد أن الصلاة وغيرها من التكاليف غير واجبة عليه؛ لاستغنائه عنها بما حصل له من الأحوال القلبية.
وهذا الفكر موجود عند هؤلاء المتصوفة، وموجود كذلك عند بعض من تأثر بالفلسفة؛ فيرى أن دين الرسول هو خطاب لعَوَام الناس، ويَدَّعي أولئك المتفلسفة أن ما جاء به الرسول من أوامر ونواه هي تربية فلسفية تخص العوام، أمَّا هم فيقولون: إنهم ليسوا من العوام، وبالتالي قد وصلوا إلى المقصود، ووصلوا إلى ما يريده الرسول من الأوامر والنواهي، ولكن بطريق آخر.
وهذا الفكر قد فُتِن به- أيضًا- بعض المثقفين ممن تأثروا بالفلسفات اليونانية، أو درسوا في المدارس الغربية، ومع أن بعضهم قد بلغ مراتب عليا في الدراسات (الأكاديمية) والثقافة إلا أنه لا يصلي ولا يصوم، ولا يعظم الأمر والنهي، ويزعم أنه على الإسلام، ومن يخالط هؤلاء يجدهم على هذا الفكر، ويرى أنه مُستغن ومستكف بالآراء الفلسفية عن التكاليف الشرعية، ويرى أنه ليس مخاطبًا ولا مطالبًا بالتكاليف الشرعية؛ لأنه صار أعلى من أن يُطالب بأداء الأوامر أو اجتناب النواهي.
فالشيطان قد استدرج هؤلاء وهؤلاء، وهناك أوجه شبه كبيرة بينهما، ولهم جميعًا مبرراتهم الباطلة، التي يستمدونها من الأحوال القلبية، أو المبادئ الفلسفية، التي يرون أنها تغنيهم عن أن يؤدوا الصلاة مثلًا، وتبيح لهم شرب الخمر؛ إذ يرون أنها حرام على عوام الناس، حِلٌّ لهم؛ لكونهم من الخواص الذين لا يَضرهم شرب الخمر، بل ولا يضرهم فعل الفواحش؛ لأنهم صاروا كالبَحر لا تضرهم الذنوب وإن كثرت، حتى أصبحوا غير مبالين ولا مُعَظِّمين لأوامر الله تعالى ونواهيه.
فهل بعد هذا التلاعب من الشيطان بهؤلاء من تَلاعب؟!
أما المسلم فيحمد الله عز وجل؛ لأنَّه وَفَّقه لتعظيم الأمر والنهي.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «ولَا ريب أَنْ المُشْركين الَّذين كذبُوا الرَّسُول يَتَرَدَّدُونَ بَين البِدْعَة المُخَالفَة لشرع الله، وبَين الِاحْتِجَاج بِالقدرِ على مُخَالفَة أَمر الله، فَهَذِهِ الأَصْنَاف فِيهَا شَبه من المُشْركين؛ إِمَّا أَنْ يبتدعوا، وإِمَّا أَنْ يحتجوا بِالقَدَرِ، وإِمَّا أَنْ يجمعوا بَين الأَمريْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ المُشْركين:{وإِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا والله أمرنَا بهَا قل إِنْ الله لَا يَأْمر بالفحشاء أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ} [الأعراف: 28]، وكما قَالَ تَعَالَى عَنْهُم:{سَيَقُولُ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا ولَا آبَاؤُنَا ولَا حرمنا من شَيْء} [الأنعام: 148].
وقد ذَكَرَ عَنْ المُشْركين مَا ابتدعوه من الدَّين الَّذِي فِيهِ تَحْلِيل الحَرَام، وعبادَة الله بِمَا لم يَشْرع الله، فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {وقَالُوا هَذِه أنعام وحرث حجر لَا يطْعمهَا إِلَّا من نشَاء بزعمهم وأنعام حرمت ظُهُورهَا وأنعام لَا يذكرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا افتراء عَلَيْهِ
…
} [الأنعام: 138] إِلَى آخر السُّورَة، وكَذَلِكَ فِي سُورَة الأَعْرَاف في قوله تعالى: {يَا بني آدم لَا يفتننكم الشَّيْطَان كَمَا أخرج أبويكم من الجنَّة
…
} [الأعراف: 27] إِلَى قَوْله: {وإِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا والله أمرنَا بهَا قل إِنْ الله لَا يَأْمر بالفحشاء أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ * قل أَمر رَبِّي بِالقِسْطِ وأقِيمُوا وُجُوهكُم عِنْد كل مَسْجِد
…
} [الأعراف: 28، 29] إِلَى قَوْله: {وكلوا واشْرَبُوا ولَا تسرفوا إِنَّه لَا يحب المسرفين * قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق
…
} [الأعراف: 31، 32] إِلَى قَوْله: {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الفَواحِش مَا ظهر مِنْهَا
ومَا بطن والإِثْم والبَغي بِغَيْر الحق وأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلطَانا وأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} [الأعراف: 33]».
فصَّل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله في كتابه الرائع «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم» باستفاضة أوجه الشبه بين المشركين والفِرق الضالة المنحرفة عن منهج الكتاب والسنة، وهنا يُشَبِّه أعمال هؤلاء المبتدعة بأعمال المشركين.
فبَيَّن أنَّ هذه الطائفة تشبَّهت بالمشركين في خصلتين:
الخصلة الأولى: الابتداع. والخصلة الثانية: الاحتجاج بالقدر.
فأمَّا الخصلة الأولى: الابتداع؛ ومعناه: الإحداث، فكان المشركون إذا فعلوا فاحشة {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28]؛ فنسبوها إلى الله سبحانه وتعالى، فردَّ الله عز وجل عليهم؛ فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم:{قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، ولهذا فمن وقع في البدع فقد شابه المشركين؛ لأنهم أول من ابتدعوا.
وهذا الخطاب يَصلح أن يُوَجَّه للمتصوفة، فإذا فعل المتصوف فاحشة وشرب خمرًا وادعى أنه من أهل الحقيقة؛ قيل له:{إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 28]. فهذا الجواب الذي بَكَّت اللهُ به أهلَ الشِّرك يَصلح أن يكون جوابًا لأهل التصوف، فهذا الربط العجيب يبين لك أنَّ أصل ما عند هؤلاء هو أصل ما عند هؤلاء؛ لأنها بضاعة شيطانية، والشيطان يأمر
بالفحشاء، والله سبحانه لا يأمر بالفحشاء، والشيطان تَقَوَّل على الله، ولذلك حَرَّم الله سبحانه وتعالى التَّقَوُّل عليه.
وكذلك ابتدعوا في الشرع تحليل الحرام وتحريم الحلال، وعبادة الله بما لم يشرع، كما ذكر الله عنهم؛ فقد كانوا يجعلون قسمًا مِنْ زروعهم وحُرُوثهم لله، وقسمًا لأصنامهم لا يأكلونه ويقولون: هذا لله، يتعبدون لله؛ فابتدعوا ما لم يَشرع لهم؛ قال تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 139]؛ فيجعلون من الزروع والمواشي قسمين: قسمًا لله، وقسمًا للأصنام، كل هذا تحكُّم من عندهم، والأنعام التي يملكونها جعلوا منها البَحيرة والوَصِيلة والحامي، أشياء لم يشرعها الله له سبحانه وتعالى.
وهذا منهم زعم! ولو ترك لكل واحد أن يزعم ما يشاء لصار الدين ألعوبة في أيدي الناس.
فالله خلق بهيمة الأنعام لمصالحنا ومنافعنا؛ نأكل منها ونشرب من لبنها ونركبها ونستعملها في حاجاتنا ونحمل عليها، ولم يأمرنا أن نسيب منها شيئًا للأصنام أو لله، ونقول: هذه لا تركب، وهذه لا تحلب وهذه لا تؤكل، كل هذ تخبُّط في الحلال والحرام لم يَشرعه الله
(1)
.
والخصلة الثانية: الاحتجاج بالقدر.
فالمشركون كذبوا على الله سبحانه وتعالى، كما قال الله عنهم:{وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} [الأعراف: 28]، أي: أن الله قدَّرها علينا فاحتجوا بالقدر على فعل الفواحش، وأن الله راض
(1)
انظر: «شرح العبودية» للفوزان (ص 76، 77).
عنهم في ذلك، فرد الله عليهم بقوله:{قل إنَّ الله لا يأمر بالفحشاء} [الأعراف: 28]، والله سبحانه وتعالى نهى عن كشف العورات، وسمى ذلك فاحشة، {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29].
أي: أخلصوا الله عز وجل؛ فإقامة الوجوه معناها: الإخلاص لله عز وجل بالعمل، فالله أمر بالقسط، وهو العدل، ولم يأمر بالجور وهو الظلم، وأمر بإخلاص العبادة له سبحانه وتعالى، ولم يأمر بالشرك والفواحش.
وكذلك في قوله سبحانه عن المشركين: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حَرَّمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا} [الأنعام: 148]، فردَّ عليهم بهذا السؤال:{قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} [الأنعام: 148]؛ فالذي يَدَّعي هذه الدعوة بمجرد أن يُسأل هذا السؤال سيفر؛ لأن ادَّعاءه أنه من أهل الحقيقة وتخصيصه بترك التكاليف- ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة .. فهي دعوى زائفة وباطلة.
وانظر هذا السَّرد كيف يوضح هذه العلاقة؟ فهذه الأصناف من المتصوفة فيها شَبَه من المشركين، وكذلك أهل الكلام فيهم شَبَه بالمشركين من هذا الوجه؛ لأن الجهميَّة- أيضًا- جبرية يحتجون بالقَدَر على كفرهم ومعاصيهم، وقد قال الله عن المشركين:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]
(1)
.
فكل مخالفة لأوامر الله عز وجل واحتجاج بالقدر- قد أنكره الله على
(1)
انظر: «شرح العبودية» للفوزان (ص 76، 77).
المشركين، وإذا كان هذا مردودًا على المشركين؛ فكيف يصبح جائزًا لهؤلاء المتصوفة؟!
فقول المصنف: «ولا ريبَ أنَّ المشركين» فيه ربط للمقولة المتأخرة بالمقولة المتقدمة، والمقولة المتقدمة للمشركين والمقولة المتأخرة للمتصوفة؛ فالمشركين الذين كذَّبوا الرسول صلى الله عليه وسلم يَترددون بين البدعة المخالفة لشرع الله وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر الله.
فهنا نَبَّه المصنف على مسألة في غاية الأهمية، وهي أن المقولات قد تكون واحدة؛ ولكن تطبيقاتها تتعدد، فكل قول لأهل الباطل فهو مفند في نص كتاب الله عز وجل ونص كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ كلَّ ما يَدَّعيه أهل الباطل قديمًا وحديثًا فهو مردود عليه في نصوص الكتاب والسنة.
فعلى العاقل المُتبصر أن يعرف أن مَعين هؤلاء ومعين هؤلاء واحد، ومصدرهم واحد، والرد على هؤلاء من جنس الرد على هؤلاء، وفي كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يُغنينا، فهؤلاء قد يسمون ما يُحدثوه من البدع حقيقة، كما يسمون ما يشهدون من القَدَر حقيقة، وفي حقيقته إنما هو من جنس ما عند أهل الباطل من أهل الشرك، فالبضاعة واحدة والمصدر واحد، والله لم يُقر المشركين على باطلهم، فكيف يقر هؤلاء؟!
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وهَؤُلَاء قد يسمُّون مَا أحدثوه من البدع: حَقِيقَة، كما يسمُّون مَا يَشْهدُونَ من القَدَر: حَقِيقَة، وطَرِيق الحَقِيقَة عِنْدهم: هُو السلوك الَّذِي لَا يتَقَيَّد صَاحبه بِأَمْر الشَّارِع ونَهْيه، ولَكِن بِمَا يرَاهُ ويذوقه ويجده فِي قلبه مَعَ مَا فِيهِ من غَفلَة عَنْ الله جلَّ وعلا ونَحْو ذَلِك.
وهَؤُلَاء لَا يحتجون بِالقدرِ مُطلقًا، بل عمدتهم اتِّبَاع آرائهم وأهوائهم، وجعلُهم مَا يرونه ومَا يهوَونه حَقِيقَة، ويأمرون باتباعها دون اتِّبَاع أَمر الله ورَسُوله- نَظِير بدع أهل الكَلَام من الجَهْمِية وغَيرهم؛ الَّذين يجْعَلُونَ مَا ابتدعوه من الأَقْوال المُخَالفَة للكتاب والسُّنَّة حقائق عقلية يجب اعتقادها، دون مَا دلَّت عليه السمعيات، ثمَّ الكتاب والسُّنَّة؛ إِمَّا أَنْ يحرِّفوا القَوْل فيهمَا عَنْ مواضعه، وإِمَّا أَنْ يعرضُوا عَنهُ بِالكُلِّيَّةِ؛ فَلَا يتدبَّرونه ولَا يعقلونه، بل يَقُولُونَ: نفوِّض مَعْنَاهُ إِلَى الله، مَعَ اعْتِقَادهم نقيض مَدْلُوله.
وإذا حُقِّق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة- وُجدت جهليَّات واعتقادات فاسدة.
وكذلك أولئك إذا حُقِّق عليهم ما يزعمونه من حقائق أولياء الله؛ المخالفة للكتاب والسُّنَّة- وجدت من الأهواء التي يتبعها أعداء الله لا أولياؤه».
ما عند هؤلاء مِنْ دعاوى يُبررونها بأنها علم الحقيقة، وأن الحقيقة هي طريق الخواص، وأمَّا الشريعة التي جاءت بها الرسل،
فيقولون عنها: إنها طريق العوام.
فشرعوا لأنفسهم ما لذَّ لهم ووافق أهواءهم ورغباتهم، وأعرضوا عن شرع الله عز وجل، وسموا ما شرعوه (السلوك والذوق والوجد والكشف) .. إلى آخره.
بمعنى: ألا يتقيد السالك منهم بالشرع، وبالتالي لا يعظمه، وإنما يفعل ما يتذوقه، وما يجده في قلبه، مع ما فيه من غفلة عن الله عز وجل، ونحو ذلك، فأصبحت أذواق- إذًا أهواء متبعة.
فهؤلاء المتصوفة لهم أهواؤهم، كما أن لأهل الكلام أهواءهم، فهؤلاء سموها (أذواقًا ووجدًا
…
)، وأولئك سموها (عقليات).
وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقا؛ بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم، ثم يسمون ما يرونه ويَهوونه- وهو مخالف للشرع- حقيقة.
ويُلزم هؤلاء المتصوفة والمتكلمون أتباعهم باتِّباع هذه الآراء والأهواء، دون اتباع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ويسمي المتصوفة ما ابتدعوه من الكلام المخالف للكتاب والسنة: حقائق قلبية، ويسميها المتكلمون: حقائق عقلية.
فعموم المتكلمين يحتجون بعلم الجَدَل وقواعد المنطق وما يُسمونها (البراهين العقلية)، ويُقَدِّمونها على الأدلة الشرعية، ويقولون: إنَّ الأدلة الشرعية ظنية لا تُفيد اليقين، وأمَّا البراهين العقلية فهي يقينية؛ ولذلك أنكروا الأسماء والصفات الثابتة بالكتاب والشئة؛ لأنها لا تُوافق البراهين العقلية بزعمهم، ويسمون الأدلة الشرعية:(أدلة السمع)، ويسمون أدلة المنطق:(أدلة العقل)،
وعندهم العقل مُقَدَّم على الشرع؛ لأن الشرع لا يُفيد اليقين، وأمَّا العقليات فإنها تُفيد اليقين، وهذا من كيد الشيطان لبني آدم، فكما أنَّه أضلهم في العبادة فقد أضلهم في العقيدة أيضًا
(1)
.
وهذا الذي أحدثه هؤلاء وأحدثه هؤلاء ليس من الدِّين في شيء؛ ولكن هذا أعطاه مسمى جميلًا، وذاك أعطاه مسمى جميلًا، وأمَّا في المضمون فهو أقبح ما يكون؛ فالقبح واضح وظاهر؛ لأنه لا حظَّ لأيٍّ منهما في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا موقفهم من آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإمَّا أنهم يفسرونها بغير تفسيرها الصحيح؛ لتوافق أهواءهم، ويسمون هذا ب «التأويل» . وإمَّا أنهم يُفَوِّضون معناها ولا يُفسرونها، ويعتقدون في نفس الأمر: أنَّها لا تدل على أسماء الله ولا على صفاته، ويقولون: لا ندري ما المراد بها؟ بل نُفوض معناها إلى الله! فهم إمَّا مُؤولة، وإما مُفَوِّضة.
فهذه طريقتهم مع أدلة الشرع: إمَّا تأويلها وتحريفها وتفسيرها كما يريدون، وإمَّا أن يُفَوِّضوها كأنَّها طلاسم وألغاز لا يُعرف معناها، وذلك إذا عجزوا عن تأويلها، وربما نسبوا هذه الطريقة إلى السلف، ويقولون: طريقة السلف هي التفويض، وطريقة الخلف هي التأويل؛ ولذلك قالوا: طريقة السلف أسلمُ، وهي التفويض عندهم، وطريق الخلف أعلم وأحكم، وهي التأويل.
وقد كذبوا؛ فهذه ليست طريقة السلف، وليست طريقة السلف أسلم فقط؛ بل هي الأسلم وهي الأعلم والأحكم.
ويقولون: إن الأدلة العقلية يقينيات؛ فيعتبرون الأدلة العقلية-
(1)
انظر: «شرح العبودية» للفوزان (ص 79).
وهي في الحقيقة جهليَّات- يَقينيات، مع أن اليقينيات: هي ما دل عليه الكتاب والسُّنَّة، والعقل السليم لا يخالف النَّقل الصَّحيح أبدًا، فإن اختلفا: فإمَّا أن يكون النقل غير صحيح، وإمَّا أن العقل غير سليم. هذه هي القاعدة؛ لأن العقل لا يُدرك كلَّ شيء، فهو قاصر وتابع للنَّقل، ولو كانت العقول كافية لما احتجنا إلى نزول القرآن ولا نقل السُّنَّة
(1)
، ولشيخ الإسلام كتاب رائع بعنوان:«درء تعارض العقل والنقل» ، وقد أَلَّفه لمناقشة الفلاسفة وأهل الكلام والرد على القانون الكلي لفخر الدِّين الرَّازي وما توصل إليه الرَّازي من تقديم العقل على النقل في حال تعارضهما.
والميزان الذي أمر الله به عند التنازع هو ما بينه في قوله جل جلاله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59]، والرد إلى الله: هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: هو الرد إليه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته.
فمزاعم هؤلاء القوم ناتجة: إمَّا عن تحريف القول عن مواضعه؛ كتحريفهم لقوله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99]، فقالوا: إن اليقين هو شهود الحقيقة الكونية.
وإمَّا عن الإعراض التام عن نصوص القرآن والسنة، فلا يتدبرونها ولا يعقلونها، وليس عندهم عناية بها؛ لا رواية ولا دراية، والعياذ بالله.
فهذا سمتهم وتلك حالهم، وتارة يقولون: نُفَوِّض معناها إلى الله، مع اعتقادهم نقيض مدلول المعنى، وكأنهم ليسوا معنيين بهذا الخطاب.
(1)
انظر: «شرح العبودية» للفوزان (ص 80).
فإذا حققنا فيما عند المتكلمين وما زعموه من عقليات مخالفة للكتاب والسنة- وجدناها جهالات واعتقادات فاسدة، وكذلك لو تدبرنا فيما عند أدعياء السلوك والذوق المخالف للكتاب والسنة- وجدناه اتباع الهوى الذي حذر منه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال المصنف رحمه الله تعالى: «وأصلُ ضلال مَنْ ضَلَّ هُو بِتَقْدِيم قِيَاسه على النَّصِّ المُنَزَّل من عِنْد الله، وتَقْدِيم اتِّبَاع الهوى على اتِّبَاع أَمر الله؛ فَإِنْ الذَّوْق والوجد ونَحْو ذَلِك هُو بِحَسب مَا يُحِبُّهُ العَبْد ويهواه؛ فَكل محب لَهُ ذوق ووجد بِحَسب محبته وهواه.
فَأهل الإِيمَان لَهُمْ من الذَّوْق والوَجْد مثل مَا بيَّنه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله فِي الحَدِيث الصَّحِيح: «ثَلَاث مَنْ كن فِيهِ وَجَد حلاوة الإِيمَان: مَنْ كَانَ الله ورَسُوله أحبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا، ومَن كَانَ يحب المَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله، ومن كَانَ يكره أَنْ يَرجع فِي الكفْر بعد إِذْ أنقذه الله مِنْهُ، كَمَا يكره أَنْ يُلقى فِي النَّار»
(1)
، وقَالَ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصَّحيح:«ذاق طَعْمَ الإِيمَان مَنْ رَضِي بِاللَّه رَبًّا، وبِالإِسْلَامِ دينًا، وبِمُحَمَّدٍ نَبيًّا»
(2)
.
وأمَّا أهل الكفْر والبدع والشهوات، فَكلٌّ بِحَسبِهِ.
قيل لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة: مَا بَالُ أهل الأَهْواء لَهُمْ محبَّة شَدِيدَة لأهوائهم؟ فَقَالَ: أنسيتَ قَوْله تَعَالَى: {وأشربوا فِي قُلُوبهم العجل بكفرهم} [البقرة: 93]، أَو نَحْو هَذَا من الكَلَام.
فعُبَّاد الْأَصْنَام يُحبونَ آلِهَتهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحبِّ الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبًّا لله} [البقرة: 165]، وقال: {فَإِنْ لم يَسْتَجِيبُوا لَك فَاعْلَم أَنما يَتَّبعُون
(1)
متفق عليه: أخرجه البخاري (16) ومسلم (43) من حديث أنس بن مالك ?.
(2)
أخرجه مسلم (34) من حديث العباس بن عبد المطلب ?.
أهواءهم وَمن أضلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله} [50 الْقَصَص]، وَقَالَ:{إِنْ يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَدْ جَاءَهُم من رَبهم الْهدى} [النَّجم: 23].
ولِهَذَا يمِيل هَؤُلَاءِ ويُغرمون بِسَمَاع الشّعْر والأصوات الَّتِي تُهَيِّج المحبَّة المُطلقَة، الَّتِي لَا تخْتَص بِأَهْل الإِيمَان، بل يشْتَرك فِيهَا محبُّ الرَّحْمَن ومحبُّ الأَوْثَان ومحب الصُّلبان ومحب الأوطان ومحب الإخوان ومحب المُردان ومحب النِّسوان، وهَؤُلَاء الَّذين يتَّبِعُون أذواقهم ومَواجيدهم، من غير اعْتِبَار لذَلِك بِالكتاب والسُّنة ومَا كَانَ عَلَيْهِ سلف الأمة».
بَيَّن المصنفُ- رحمه الله تعالى- بقوله: «وأَصْلُ ضَلال مَنْ ضَلَّ هو بتقديم قياسِه على النَّصِّ المُنزل من عند الله، وتقديم اتِّباع الهوى على اتِّباع أمر الله» : أنَّ القياس الفاسد هو أصل الضلال، فأصل ضلال مَنْ ضَلَّ إنما هو بقياسه الفاسد؛ فإبليس أَوَّلُ مَنْ ضَلَّ، وكان ضلاله من جهة قياسه الفاسد؛ إذ ظنَّ نفسَه خيرًا من آدم عليه السلام؛ لأنه خُلِق من نار، وآدم خُلق من طين؛ فظنَّ أنَّ النار أفضل من الطين، ولذلك أبى الاستجابة لأمر الله بالسجود لآدم، قال الله تعالى:{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 71 - 76]؛ فعندما قاس مثل هذا القياس الفاسد ضَلَّ عن اتِّباع أمر الله عز وجل؛ فكان هذا هو أصلُ الضلال.
وإذا تتبعنا أهلَ الباطل- قديمًا وحديثًا- وجدنا أنَّ أصلَ ضلالهم هو بتقديمهم للقياس الفاسد على النصوص الشرعية المنزلة.
والقياس منه ما يكون صحيحًا، وهو أحد الأدلة المعتبرة في الاستدلال عند أهل العلم، ومن القياس كذلك ما يكون فاسدًا، وهو أصلٌ من أصول الضلال؛ فيَضل الإنسان من جهة قياسه، فمثلًا هنا أهل التصوف ظَنُّوا أنَّ وَجْدَهم وذَوْقَهم يُوازي ما يجده أهل الإيمان مِنْ ذَوْقٍ، (وهو ذوق وحلاوة الإيمان)؛ فظنوا أنهم إذا وصلوا إلى أي حلاوة بطريق آخر؛ فإن هذا يُغنيهم عن حلاوة الإيمان الحقِّ؛ فكان في هذا ضلالهم.
وكذلك اتِّبَاعُ الهوى وتقديمُه على اتِّبَاع أَمر الله- أصلٌ من أصول الضَّلال، وهذا حاصلٌ عند سائر أهل الضلال، ولذلك حَذَّر الله عز وجل في كثير من آيات القرآن من اتباع الهوى، وذم الذين اتَّبعوا أهواءهم؛ فبالتالي ضلوا وأضلوا؛ لأنَّهم سلكوا طريق الهوى؛ ومن ذلك قوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، وقوله عز وجل:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]
وهنا أعطانا المصنف مثالًا على هذا الضلال بهؤلاء المتصوفة الذين زعموا أنَّ لهم ذوقًا ووجدًا.
وحقيقة الأمر: أنَّ هذا الذوق وذاك الوَجْد إنما يكون بحسب ما يحبُّه العبد ويهواه؛ فَكل محب لَهُ ذوق ووجد بِحَسب محبته وهواه.
فهؤلاء المتبعون لأهوائهم وأقيستهم الفاسدة أرادوا أن يقيسوا أذواقهم ومواجيدهم بطرقهم الفاسدة البعيدة عن الوحي- على المحبة الحقيقية التي جاء بها الشرعُ، فبالتالي ضلوا وأضلوا.
لذا قال المصنف: «وبحسب ما يحبه العبد ويهواه فكل محب له ذوق ووجد يحسب محبته وهواه» ، وبالتالي يُنظر إلى ما أحبه العبد فإذا ما كان محبوبه موافقًا لهواه ومخالفًا لشرع الله؛ فهذا الذوق والوجد الذي يحصل له هو فرع عن ذاك الحب وذاك الهوى الذي مال إليه، وهو ذوق فاسد، ومحبة باطلة.
وأما أهل الإيمان المُقَدِّمين لأوامر الشرع على أهوائهم وشهواتهم- فإن لهم ذوقًا ووجدًا، والتعبير الصحيح: أن يقال: إنها محبة، فهذه المحبة تجعل من شعور الإنسان وجوارحه تبعًا لشرع الله عز وجل.
فأهل الإيمان لهم من الذوق والوجد مثل ما بَيَّنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصَّحيح: «ثَلَاثٌ مَنْ كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)؛ فهناك حلاوة وأنس ولَذَّة يجدها العبد المؤمن بهذه الثلاث:
أولها: مَنْ كان اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما؛ فلا بد من تقديم محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم على محبة ما سواهما، والله عز وجل قد قال:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]؛ قال العلَّامةُ ابنُ كثير رحمه الله: «هذه الآية الكريمة حاكمة على كل مَنْ ادَّعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية؛ فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتَّبع الشرع المحمدي والدِّين النبوي في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في «الصَّحيح» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ عَمِل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»
(1)
، ولهذا قال: {قل إن
(1)
أخرجه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم مِنْ محبتكم إيَّاه، وهو محبته إيَّاكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تُحِبَّ، إنما الشأنُ أن تُحَبَّ. وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قومٌ أنهم يحبون الله؛ فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]»
(1)
.
فعلامة محبة الله عز وجل ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم تظهر وتتضح بقدر عمل العبد واتباعه لأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإذا كانت محبة العبد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته لما سواهما، ودليل ذلك: اتباعه لأوامر الله عز وجل وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقديمه لهما على ما سواهما؛ فهذه أول الأمور الثلاثة التي يجد بها العبد حلاوة الإيمان.
وعلى العبد إذا أراد العبد أن يختبر صدق محبته: أن ينظر إلى حاله مع الأوامر والنواهي، فإن كانت النفس تنشط وتسابق لفعل الخيرات وفعل الطاعات، ومن أعظمها أمر التوحيد وأمر الصلاة، فأمر الصلاة محك واختبار لصدق إيمان العيد؛ فإذا كان العبد حريصًا على الصلاة في وقتها ومع الجماعة؛ فذاك علامة من علامات أهل الإيمان، كيف لا والعبد يستيقظ- مثلًا- لصلاة الفجر، مع أن النوم في هذا الوقت ألذ ساعات النوم عند كل أحد، ومع ذلك يدافع النوم ويغالبه ويقوم وينشط لذكر الله عز وجل وأداء الصلاة، فإذا اجتمع مع هذا قيام الليل كان هذا زيادة في علامة محبة الله عز وجل ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم.
(1)
«تفسير ابن كثير» (2/ 32).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «استقامة القلب بشيئين:
أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب، فإذا تعارض حب تعالى الله وحب غيره سبق حب الله تعالى حب ما سواه، فرتب على ذلك مقتضاه.
الأمر الثاني: الذي يستقيم به القلب: تعظيم الأمر والنهى، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي؛ فإنَّ الله تعالى ذَمَّ مَنْ لا يُعظم أمره ونهيه، قال سبحانه وتعالى:{ما لكم لا ترجون لله وقاراً} [نوح: 13] قالوا في تفسيرها: ما لكم لا تخافون لله تعالى عظمة»
(1)
.
فعلامة ودلالة صدق محبتنا هي في مدى طاعتنا لأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم واجتناب النواهي، ولنعرض محبتنا على هذه فعل الأوامر وترك النواهي، وبقدر ما تزيد الطاعات بقدر ما تزيد هذه المحبة، ومن ثم تترتب عليها اللذة والحلاوة التي يجدها المؤمن؛ وذلك في سعادة نفسه، وراحة باله، وطمأنينة قلبه، وانشراح صدره.
وهذه أمور يبحث عنها الناس خاصة في هذا العالم الذي كثرت فيه الماديات، وتعلقت قلوب الناس بها، واستعبدت نفوسهم، فإذا فقد الإنسان من مظاهر الدنيا وأمورها شيئًا تَكَدَّر وحزن واهتم لذلك الذي فقده؛ لتعلقه بأمر الدنيا، فلا يستطيع الإنسان أن يَبتعد عن مثل هذه الأمراض التي اعترت قلوب كثير من الناس إلا باللجوء إلى الله عز وجل وصدق محبته، ولا ننسى أن العبادة الحقة هي كمال المحبة مع كمال الذل؛ فلماذا يحرم الإنسان نفسه من حلاوة محبة الله عز وجل ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا لا يذوق لذة هذه الحلاوة؟!
ثم انظر للأمر الثاني وهو (الحب في الله)؛ فإذا أحببتَ فيجب
(1)
«الوابل الصيب» لابن القيم (ص 8)، باختصار.
أن تحب في الله، وإذا كرهت يجب أن تكره في الله، فكل ذلك تبع للأمر الأول؛ فقال بعد ذلك:«وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله» ، فإذا أحببتَ أمرًا بعد هذا فإنه يجب أن يكون لله عز وجل، ويجب أن يكون تبعًا لهذه المحبة، ويكون مرتبطًا بها، فاعلم هذا والزم هذا الأمر.
فإذا كان العبد متعلقًا بحبِّ الله وحبِّ رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لن يحب شيئًا إلا إذا كان حبه لله عز وجل، ولذلك إذا كنت مشمرًا في الطاعات، ملتزمًا بسائر القربات- سواء كانت تلك الطاعات والقربات فرائض أو نوافل- فهذا علامة على أن هذا العبدَ محبٌّ لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ فصلة الأرحام والإحسان للجار وإكرام الضيف ونحو ذلك .. كل هذه الأمور إذا فعلها الإنسان بقصد تحقيق محابِّ الله عز وجل ومراضيه، فإن في هذا علامة صدق على أنه أحب هذا الشيء لله عز وجل.
وهكذا الأمر الثالث: (كراهية ما يضاد محاب الله)، ومثاله: أن يكره العبد يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار، فالمؤمن مبغضٌ للكفر، ومبغضٌ لأنواع المعاصي والذنوب، لأنَّ الإيمانَ شُعُبٌ، كما أنَّ الكفرَ شُعُبٌ، فكل طاعة هي شعبة من شُعُب الإيمان، وكل معصية هي شعبة من شعب الكفر.
فعلى العبد أن ينظر لحاله مع المعاصي؛ فإن ركن إليها واطمأن بها وارتاحت نفسه إليها، فليعلم أنَّ هناك خللًا في إيمانه، وسيفقد من حلاوة الإيمان بقدر ذلك الخلل، وإن كان يكرهها كما يكره أن يلقى في النار؛ فليعلم أن هذا من علامات الإيمان.
وهذا هو الذوق والوجد الحقيقي، وهو الذوق والوجد الإيماني، الذي يُحَبِّب إلى النفس كلَّ طاعة من الطاعات، ويُكَرِّه
إلى النفس كل معصية من المعاصي، فإذا وجد الإنسان هذه الحلاوة فهيهات أن يجد في قلبه مكانًا للغِلِّ، أو مكانًا للحسد، أو مكانًا للحقد، أو مكانًا للكبر، أو مكانًا للاستهزاء، أو نحو ذلك من المعاصي والذنوب.
فعلينا أن نعرض قلوبنا على هذه الأمور الثلاثة:
ما حالنا مع محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
وما حالنا مع محبة ما يحبه الله عز وجل؟
وما حالنا مع كراهة ما يَكرهه الله عز وجل؟.
فإذا كان حالنا على هذه الأوصاف التي ذكرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فسنجد حلاوة الإيمان لا محالة؛ لأن النفس لابد أن تسكن لشيء، فإذا كان سكونها وراحتها وطمأنينتها في مقام الإيمان؛ ففهذه هي السعادة في الدنيا والآخرة، وبهذا تستغني، وبهذا تزكو، والله عز وجل قد قال:{قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس: 9، 10].
ولنا في الناس عبرة! فانظر إلى أولئك الذين انغمسوا في الشهوات وفي رذائل الأمور؛ كمَن انغمس- مثلًا- في المخدرات، ومالت نفسه إلى هذا الطريق المظلم، فيكون في هذا ضياع دينه وماله وعرضه وعقله وكل أمره؛ لأنه اتبع هواه، ولذلك قال الله عز وجل:{ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا} [الكهف: 28]، أي: أصبح مضيعً؛ فلم يَعد يعرف ما به صلاح نفسه، حتى إن الواحد مِنْ هؤلاء قد يُختم له بخاتمة سوء والعياذ بالله؛ لأنَّ بعضهم قد يتعاطى هذه الأشياء في دورات المياه، ويصل به الحال أن يموت ووجهه في المرحاض؛ لأن قلبه قد تعلق بمثل هذه الأمور، فانظر إلى هذه الخاتمة والعياذ بالله.
ثم انظر إلى ذاك الذي مات وهو ساجد في بيتٍ من بيوت الله عز وجل، فشَتَّان بين الحالين.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان مَنْ رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا» ، فالإيمان له طعم يذوقه المؤمن، كما أنَّ له حلاوة؛ إذا رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، وبالطبع عمل لازم هذا الرِّضا.
ولذلك المؤمن المستقيم تجده في سعادة، وتجد في عموم أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الخير ما لا يُوجد في غيرها من الأمم.
ونحن نرى في عالم اليوم كيف أنَّ أهل الكفر إذا عرفوا هذا الدين معرفة صحيحة، أو رأوا تعاليمه- أقرُّوا بكماله وسُمُوِّه وما لَه من مكانة سامقة، وبالتالي نرى الداخلين في دين الله عز وجل يزداودن كلَّ يوم.
ومع ما نراه من حملة شعواء على الدِّين، وعَداء له مِنْ قِبل أعدائه، ومع ما نراه من خلل وانحراف عند بعض المسلمين، إلا أنه من النادر أن يرتد عنه من انتسب إليه؛ إذا كان يعرف حقيقته، وما نسمعه من تنصير ونحو ذلك إنما هو لفئة قليلة قد تكون جاهلة لا تعرف الدِّين، بعد أن احتال عليهم أولئك المحتالون بأنواع الحيل، ومنها العمل على تنصير أطفال المسلمين، ومن ذلك ما يفعلونه في بعض دول الإسلام؛ حيث يبنون للأطفال اليتامى دورًا؛ يبثون فيها النصرانية، ويربونهم عليها.
أو يأتون لقرى نائية ويقدمون لهم المساعدات الغذائية ونحو ذلك، ويدعونهم إلى النصرانية حتى يحصلوا على هذه المساعدات ..
ومما يحكى أنهم في إحدى تلك البلدان؛ لما نصروا قرية جاءوا يُمَنُّونهم ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن نذهب إلى مكة للحج.
ثم يقولون بعد ذلك: نحن في هذا المجتمع استطعنا أن ننصر كذا وكذا.
فقل أن يخرج مسلم من دينه إذا كان على علم به؛ فالذي يذوق طعم الإيمان لا يفرط فيه أبدًا، لأنه لن يجدها أبدًا في الكفر.
فهناك حلاوة، وهناك لذة، وهناك أُنس، وهناك سعادة- لكن لا يُمكن أن تنال إلا من طريق اتِّباع الشَّرع، أمَّا البحث عنها من طريق آخر فليس إلا خبال وضلال واستدراج من الشيطان وتلاعب، ولذلك قال المصنف:«وأمَّا أهل الكفر والبدع والشهوات فكلٌّ بِحَسَبه» ، فأهل الكفر لهم ذوقهم ولهم وجدهم؛ لكن هذا الوجد وهذا الذوق ظلمة وحسرة وندامة يجدونها في أنفسهم في هذا الأمر.
ومن ذلك ما حكاه أهل الكلام دليلًا على حيرتهم وضلالهم؛ فيقول بعض رؤسائهم، وهو الرَّازي:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ
…
وَأَكْثَرُ سَعْيِ العَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا
…
وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
ولَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا
…
سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُ
ويقول آخر:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ المَعَاهِدَ كُلَّهَا
…
وسيَّرتُ طَرفِي بَيْنَ تِلْكَ المَعَالِمِ
فَلَم أَرَ إلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ
…
عَلَى ذَقْنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ
(1)
فحيرة وضلال وتهوك لدى أهل الكلام، وهكذا لدى أهل التصوف، فكل بحسب حال ذوقه ووجده؛ لكن هذا الذوق وهذا الوجد مثل ما يكون لشارب الخَمر؛ وهو في الحقيقة نوع من خداع النفس؛ يجده للحظات، ثم بعدها يفتقده ويعقبه حسرة وظلمة
(1)
نقل هذه الأقوالَ المصنفُ في «الفتوى الحموية» (191، 192).
في نفسه وسواد في قلبه، وغبرة في وجهه.
ولذلك قيل لسفيان بن عيينة: ما بالُ أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم؟ فقال: أنسيتَ قوله تعالى: {وأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} [البقرة: 93]؛ فيُشرب هذا الأمر، وتَتلبسه النفسُ، وتتغذى به، وتَنشأ عليه، فإذا أُشرب هذا الأمر تجده محبًّا لباطله، وتجده بعد ذلك كما قيل:«حبك الشيء يعمي ويصم»
(1)
.
قال المناوي: «أي: يجعلك أعمى عن عيوب المحبوب، أصم عن سماعها؛ حتى لا تُبصر قبيح فعله ولا تسمع فيه نهي ناصح، بل ترى القبيح منه حسنًا، وتسمع منه الخنا قولًا جميلًا
…
أو يعمى ويصم عن الآخرة، أو عن طرق الهدى، وفائدته: النهي عن حبِّ ما لا ينبغي الإغراق في حبِّه»
(2)
.
حتى إنهم يقولون في الأمثال: (لا تقل للعاشق إلَّا زد)، فيشرب الإنسان الباطل، ويتلبس بحبِّ الباطل حتى إنه يعميه عن معرفة الحق؛ فهؤلاء لهم قُلوبٌ لكن لا يفقهون بها، ولهم أَعينٌ لكن لا يُبصِرون بها، ولهم آذانٌ لكن لا يسمعون بها؛ لأنهم اتبعوا أهواءهم، وساروا في باطلهم.
وقد كَشَف أبو الوفاء ابن عقيل هذه الخبيئة في نفوسهم، وهي أنهم يريدون التحلل من التكاليف؛ فقال: «لما صعبت التكاليف على الجُهَّال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاعٍ
(1)
أخرجه مرفوعًا أحمد في «المسند» (5/ 194)، ثم قال:«وحدثناه أبو اليمان لم يرفعه» ، وأبو داود (5130)، من حديث أبي الدرداء ?، وأورده السيوطيُّ في «الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة» (ص 186)، وقال:«الوقف أشبه» .
(2)
«فيض القدير» (3/ 372) باختصار.
وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم كفار عندي بهذه الأوضاع؛ مثل: تعظيم القبور
…
»
(1)
.
وهنا بَيَّن المصنف أنَّ عُبَّاد الأصنام يحبون تلك الآلهة، ولهم ذوق ووجد وخضوع تجاهها؛ ولكنه خضوع فاسد وباطل، فالإنسان يرى في أحوال الناس أن الإنسان يسير إلى مَهلكة، ويعرف أن نتيجته الهلاك، لكن هو في عمى وفي صمم عن سماع أي نصيحة؛ لأن حب هذا الشيء تمَلَّك قلبه، فلم يَعد يقيس هذه الأمور بمقياس صحيح، بل صار قياسه فاسدًا، وترتب عليه حب الذات، وهو حب فاسد، كحبِّ عُبَّاد الآلهة لها، وكحبِّ صاحب الشهوة لشهوته، وكحب صاحب البدعة لبِدعته.
فمن ثبت على الحقِّ وأصبح مقياسه هو طريق الحق- أصبح في الذوق والوجد والمحبة الحقيقية، ومن كان منحرفًا إلى كفر أو بدعة أو إلى شهوة فقد انحرف في حبِّه وذوقه ووجده إلى أمر فاسد، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء:{فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} [القصص: 50]؛ فأصبح الهوى حاجرًا ومانعًا وسدًّا عن
(1)
انظر: «تلبيس إبليس» لابن الجوزي (ص 354).
قبول الحق، ثم قال:{ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50]؛ فغاية الضلال أن يكون الإنسان متبعًا لهواه، فهذا الاتباع للهوى سيضله وسيبعده عن طريق الهدى؛ قال تعالى:{إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} [النجم: 23]؛ فالظن هنا إشارة إلى القياس الفاسد، {وما تهوى الأنفس} [النجم: 23]: إشارة إلى اتباع الهوى؛ فالعبد أمامه عدوان: ظن وقياس فاسد، وهوى متبع، فإذا سَلَّمه الله من هذين، وجعل قياسه مبنيًا على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فقد نجا، وإذا كان هواه وأمره تابعًا لأوامر الله عز وجل فقد نجا.
أما إذا ترك شرع الله عز وجل، ثم سار وَفْق هوى نفسه؛ فليعلم أنه على مهلكة، وكذلك إذا كان على غير علم بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فسيستبدل هذا بظنٍّ فاسد، وإذا لم يكن على معرفة بالحق سيستبدل الحق بالباطل.
فحذرنا الله من هذه الحال؛ فلا يُظن أن هذا فقط حكاية وخبر عن الأوائل، وإنما هي أسباب الهلاك في كل زمان.
ولهذا يميل هؤلاء- بسبب الظن الفاسد واتباع الهوى- ويُغرمون بسماع الشعر والأصوات التي تُهَيِّج المحبة المطلقة.
والسماع نوعان: سماع قرآني، وسماع شيطاني.
فإذا نظرت إلى مجالس هؤلاء وموالدهم- تجدهم يستمعون لأشعار فيها من البدع وفيها من الكفر وفيها من الشرك والضلال ما الله به عليم؛ فاستعاضوا واستبدلوا بسماع كلام الله عز وجل ومدارسته في المساجد- هذا السماع الشيطاني، الذي قد يجتمع معهم فيه النِّسوان والمُردان
(1)
، فيحدث الاختلاط، ويتبعه أمور منكرة
(1)
جمع أمرد، والأمرد: هو الغلام الحَسَن الذي لم تَنبت لحيتُه بعد.
من شرب للخمور والمخدرات ونحو ذلك.
فهم في ذوق وفي غَرَام، لكنه مَسلك شيطاني.
وأهل المعاصي يجعلون من العشق ونحو ذلك كأنه سعادة الدارين؛ فسماعهم للغناء الفاسد الذي يدعو إلى الفحش والخمر وأنواع الفساد- من أحب الأمور لديهم.
وأما أهل الإيمان فقلوبهم- كما قال الله عز وجل فيهم: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28]؛ فنفس المؤمن تطمئن لسماع كلام الله عز وجل، وتتشوق إلى نعيمه عند سماع وعده، وتخشع وتلين من الخوف عند سماع وعيده.
فالمؤمنون عندما يسمعون هذا السماع القرآني يستقيمون على أمر الله عز وجل، ويرغبون في طاعته سبحانه، ويسعدون بالأنس به.
فشَتَّان بين حال سماع القرآن وسماع أهل الباطل ..
قال المصنف: «وهَؤُلَاء الَّذين يتبعُون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعْتِبَار لذَلِك بِالكتاب والسّنة ومَا كَانَ عَلَيْهِ سلف الأمة» .
فالمحبة لا يجوز أن تكون محبَّة مطلقة، إنما الواجب أن تكون محبة مقيدة بالضوابط التي جاءت بها النصوص الشرعية، فليس للعبد أن يأتي بأي محبة أو أي فعل من عنده، بل هو مطالب بمحبة شرعية، وهذه المحبة الشرعية لا تُنال إلا بالطرق الشرعية، فالعبودية أساسها: كمال المحبة مع كمال الذل والخضوع.
وخلاصة القول: أنه لا نجاة إلا باتباع الهدى؛ فمن لم يكن متبعًا للهدى علمًا وعملًا؛ فإنه يكون مائلًا إلى طريق الباطل، وأهل الباطل من أوصافهم: اتباع الظن وهوى الأنفس.
فانظر إلى أهل الكلام، وانظر في أهل التصوفّ فلك فيهم عبرة
ماثلة أمامك، كيف أنهم ضَلُّوا وأضلوا وانحرفوا وزَلُّوا، مع أن الحق في غاية الوضوح والبيان؛ لأن ما جاءوا به ليس من الحق في شيء، حتى إنهم في أنفسهم فَرَّقوا بين ما زعموه وما جاء به الحق، فلذلك قالوا عن الحق: إنه شريعة، وقالوا عن زعمهم: إنه حقيقة، وقالوا عن الحق: إنه ظاهر، وقالوا عما زعموه: إنه باطن، فاعرض هذه التفرقة على هذا المقياس: هل هي اتباع لما جاء من الله عز وجل؟ أو مخالفة له؟ وإذا كانت مخالفة؟ أليست اتباعًا للظنِّ؟ واتباعًا لهوى الأنفس؟!
فالمؤمن عليه أن يتعظ بحال هؤلاء، ويعلم أنه على خطر في حال ابتعاده عن الهدى علمًا وعملًا وتطبيقًا ودعوة وسلوكًا.
وإن لزم طريق الحق فسيكون عنده من المحبة ومن الحلاوة ومن الطَّعم والذوق ما يُغنيه عن كل ما سوى ذلك.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «فالمُخالف لما بَعث اللهُ به رسولَه من عبادته وحده، وطاعته وطاعة رسوله، لا يكون مُتَّبِعًا لدين شرعه الله أبدًا، كما قال تعالى:{ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون * إنَّهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولى المتقين} [الجاثية: 18، 19].
بَيَّن المُصنفُ أنَّ المخالف لا يكون مُتَّبِعًا لدين شرعه الله، وأكَّد ذلك بصيغة التأبيد:«أبدًا» ؛ ثِقة وجزمًا أن هذا المخالف لا يكون مُتَّبِعًا لدينٍ شرعه الله أبدًا، يعني: ما دام أنه قد انحرف عمَّا بَعث اللهُ به رسولَه صلى الله عليه وسلم، فالله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بعبادته وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فوظائف الرُّسل هي:
أولًا: تعريف الناس بربِّهم.
ثانيًا: تعريفهم بالطريق الذي يُوَصِّلهم إلى ربِّهم، أي: بعبادته وطاعته.
ثالثًا: بيان حالهم ومآلهم.
يعني: ما هو المآل؟ وما هي العاقبة التي تعود على الناس بإيمانهم واتِّباعهم الشرع المُنزل.
فهذه هي وظيفة الرسل.
فهذا المُخالف الذي خالف ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يكون
متبعًا لشرع الله أبدًا، كما قال الله تعالى:{ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها} [الجاثية: 18]، فالله تعالى يأمر رسولَه صلى الله عليه وسلم باتِّباع شرعه، وإذا كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم مأمورًا باتِّباع هذه الشريعة فنحن تَبَعٌ لهذا؛ قال تعالى:{وما آتاكم الرسول فخذوه} [الحشر: 7]، وقال تعالى:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]، فإذا لم نَتَّبعها سيكون اتِّباعًا للهوى؛ فهناك أمر وهناك نهي، فالأمر اتباع هذه الشريعة:{فاتبعها} [الجاثية: 18]، والنهي عن اتباع الهوى:{ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} [الجاثية: 18]، فإذا حصل اتباع لهذا الهوى؛ فإن الله يقول:{إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين} [الجاثية: 19].
فإمَّا أن يكون العبدُ من المتقين؛ والتقوى لا تحصل إلا باتباع هذه الشريعة، وإمَّا أن يكون من أهل الهوى فيكون من الظالمين.
وإذا كان العبد من المتقين كان من أهل ولاية الله عز وجل؛ قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس: 62].
فعلى العبد أن ينظر أين مقامه؟
فإذا كان مقامه في اتباع شريعة الله عز وجل فهو أهل لأن يكون من أولياء الله ومن أهل الإيمان ومن أهل التقوى، ولكن إذا اتَّبع أهواء الذين لا يعلمون فهو مِنْ أهل الضَّلال.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «بل يكون مُتَّبِعًا لهواه بغير هدى من الله؛ قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21].
وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها: حقيقة، يُقَدِّمُونها على ما شَرَعَه الله. وتارة يحتجون بالقَدَرِ الكوني على الشريعة، كما أخبر الله به عن المشركين، كما تقدم».
وصف المُصنف حال المخالفين لابتداعهم أمورًا ما أنزل الله بها من سلطان؛ فحالهم يدور بين البِدعة وإحداث شرع لم يَأذن به الله؛ حيث لا دليل عليه ولا مُستمسك، وإنما هم على باطل.
فهم تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة، وهي باطل، يُقَدِّمونها على ما شرع الله سبحانه وتعالى، وتارة يحتجون بالقَدَر الكوني على الشريعة، ويأتي تلاعبهم من جهتين؛ من جهة زعمهم: أن هذا الذي هم فيه حقيقة، وبالتالي ما عليهم إلَّا أن يَتَّبعوه. وتارة يحتجون بالأمر الكوني والقَدَري، فيقولون: ما كتب اللهُ أن أعمل هذه الطاعة مثلًا، أو كتب الله عليَّ أن أقع في هذه المعصية .. ويزعم أنه بذلك متبع للقدر لا يستطيع أن يخالف الأمر الكوني القَدَري ولا أن يخرج عنه.
فانظر كيف يُدخلهم الشيطان في أودية الباطل؛ فإذا وجد مسلكًا من هذا الباب دخل على الناس منه؛ فيدخل عليهم الباطل
من جهة أن هذه حقيقة، وأن هذا مُقَدَّم على شرع الله عز وجل، أو يَدخل عليهم من الباب الكوني القدري، فيقول لهم: إن أطعتم فهذا بقدر الله، وإن عصيتم فهذا بقدر الله عز وجل!
* * *
قال المصنف رحمه الله تعالى: «ومن هؤلاء طائفة هم أعلاهم عندهم قَدْرًا، وهم مُستمسكون بما اختاروا بهواهم من الدين في أداء الفرائض المشهورة، واجتناب المُحَرَّمات المشهورة، لكن يَضِلُّون بترك ما أُمروا به من الأسباب التي هي عبادة؛ ظَانِّين أن العارف إذا شهد القَدَر أعرض عن ذلك؛ مثل مَنْ يجعل التوكل منهم أو الدعاء ونحو ذلك من مقامات العامَّة دون الخاصَّة، بناء على أنَّ من شهد القَدَر عَلِم أنَّ ما قُدِّر سيكون، فلا حاجة إلى ذلك، وهذا ضلال مبين.
فإنَّ الله قدَّر الأشياء بأسبابها، كما قدَّر السعادة والشقاوة بأسبابهما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللهَ خلق للجنَّة أهلًا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل الجَنَّة يَعملون، وخلق للنَّار أهلًا خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل النار يعملون»
(1)
، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بأنَّ اللهَ كتب المقادير، فقالوا: يا رسول الله، أَفَلَا نَدَعُ العمل، ونتَّكِلُ على الكتاب؟ فقال:«لا، اعملوا؛ فكلٌّ مُيَسَّر لما خُلق له، أمَّا مَنْ كان من أهل السَّعادة، فَسَيُيَسَّر لعمل أهل السعادة، وأمَّا مَنْ كان من أهل الشَّقاوة فسَيُيَسَّر لعمل أهل الشقاوة»
(2)
.
فكل ما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة، والتوكل مقرون بالعبادة، كما في قوله تعالى:{فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123]، وفى
(1)
أخرجه مسلم (2662) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه البخاري (4949) ومسلم (2647) من حديث عليٍّ ?.
قوله: {قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} [الرعد: 30]، وقول شعيب عليه السلام:{عليه توكلت وإليه أنيب} [هود: 88]».
المتصوفة طوائف، كما ذكر المصنف هنا؛ فهم ليسوا على حال واحدة، إذ انحرافهم متنوع؛ كما قال سبحانه وتعالى:{أفمن يمشي مكبًّا على وجهه أهدى أم من يمشي سويًّا على صراط مستقيم} [الملك: 22]، فأصحاب الحق منهجهم وطريقهم واحد؛ لكن أهل الضلال وأهل الباطل تتشعب بهم الطرق، فأراد المصنف هنا أن يُمَثِّل بصورٍ من أنواع الضلال التي وقع فيها بعضهم؛ فبَيَّن أنَّ من هؤلاء المتصوفة طائفة هم أعلاهم قدرًا، وهم مُستمسكون بما اختاروه- بهواهم- بأداء الفرائض المشهورة، واجتناب المحرمات المشهورة؛ فعندهم استقامة على الفرائض المشهورة، واجتناب للمحرمات المشهورة، يعني: اتبعوا الأمور الظاهرة من الفرائض، واجتنبوا المحرمات الظاهرة، لكن هذا الاستمساك ليس بقصد اتِّباع شرع الله عز وجل؛ لأن اتباع شرع الله عز وجل يكون في الصغيرة والكبيرة، وفي الدقيق وفي الجليل!
فذكر المصنف أن من خصالهم أداء الفرائض واجتناب المحرمات المشهورة، وهذا أمر لم يُعرف عنهم انحراف فيه، لكن انحرافهم جاء من باب ترك الأخذ بما أمروا به من الأسباب؛ فعَطَّلوا الأسباب المأمور بها شرعًا؛ إذ العبد مأمور بطلب الرزق، والرزق لا يأتي بدون أسباب، فلا بد من بذل الأسباب والسعي وطلب الرزق، لكن هؤلاء عَطَّلوا هذه الأسباب، وظنوا أن ترك الأسباب من التوكل، وبالتالي شرعوا من الدِّين ما لم يأذن به الله عز وجل، وجاءوا بمفاهيم فاسدة، ظانين أن العارف إذا شهد القَدَر
أعرض عن الأخذ بالأسباب.
ويزعمون أن التوكل والدعاء- ونحو ذلك من الأمور الشرعية المطلوبة- من مقامات العامة. وأمَّا الخاصة عندهم فهم الذين لا يتعلقون بالأسباب؛ ويقولون: لماذا نتوكل؟ ولماذا ندعو؟ وقد قَدَّر الله هذه الأمور، ولا بد أنها كائنة لا محالة.
وهذا بناء على زعمهم أن مَنْ شهد القَدَر عَلِم أن ما قُدِّر سيكون، فيشهد الحقائق الكونية القدرية.
فهم إذًا جبرية في باب القدر، وانحرافهم فيه هو الذي دعاهم لهذه المقولات.
لكن انحرافهم لم يكن من جهة فِعلهم للفرائض المشهورة، وتركهم للمحرمات المشهورة، وإنما كان من جهة ترك التوكل وترك الدعاء وترك هذه الأمور زعمًا منهم أنها تنافي الإيمان بالقدر.
قال المصنف: «وهذا غلط عظيم فإنَّ الله قَدَّر الأشياء بأسبابها، كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابهما» ؛ فبَيَّن المصنفُ أن هذا الزعم غلط عظيم؛ لمخالفته لنصوص الشرع، ووجه الغلط: أن الله عز وجل قد قَدَّر الأشياء بأسبابها، وأمرنا بالأخذ بهذه الأسباب، «كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابهما» ، فالسعادة لها أسباب، والشقاوة لها أسباب؛ فإن كان العبد عاملًا بطاعة الله فهو قد طلب السعادة وأخذ بأسبابها، وإن عمل بالمعاصي فقد أخذ بأسباب الشقاوة، والعياذ بالله.
فتجد المؤمن يطلب السعادة بالطاعة؛ فيتقرب إلى الله بأداء الفرائض، ويجتهد في الإكثار من النوافل؛ لذا يزداد كل يوم قربًا من الله، وينتقل من خير إلى خير، ويبتعد عن الشر، وكل ذلك لأنه أخذ بأسباب السعادة.
وأما الذي أقبل على المعاصي والذنوب فتجده بعيدًا عن الخير قريبًا من الشر؛ بل منغمسًا فيه؛ لأنه قد أخذ بأسباب الشقاوة.
واستدل المصنف بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ خَلَقَ للجَنَّة أهلًا؛ خلقها لهم وهم في أَصْلَاب آبائهم، وبعمل أهلِ الجَنَّةِ يَعملون» ؛ فأخذوا بأسباب دخول الجنة لأن الله عز وجل قد قال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في ثلاثة مواضع: في سورة السجدة آية (17)، وفي سورة الأحقاف آية (14)، وفي سورة الواقعة آية (24)، وقال سبحانه:{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 127]، وقال أيضًا جل جلاله:{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 19]، والباء هنا باء السببية، وليست باء المقابلة؛ لأن باء المقابلة هي باء الثَّمن والعِوض، فالعمل ليس ثمنًا للجنة، وإنما سببٌ لدخولها.
فأخبرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنَّ الله كتب المقادير
…
إلى أن قال: «اعملوا؛ فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له» ، فالعمل أصبح سببًا؛ فأمرهم بالأخذ بالأسباب.
فكل ما أمر الله به عباده من الأخذ بالأسباب فهو عبادة، فالواجب على العبد أن يأخذ بالأسباب وألا يتركها أبدًا ما دامت مشروعة، ولكنه مع ذلك لا يركن إليها، وإنما يأخذ بالأسباب متوكلًا على الله تعالى، مستعينًا به عز وجل؛ فالتوكل مقرون بالعبادة، والعبادة سبب، لكنها مَقرونة بالتوكل، قال تعالى:{فاعبده} [هود: 123]: هذا سبب، {وتوكل عليه} [هود: 123]، وهذا- أيضًا- سبب، فالعبد يأخذ بهذا ويأخذ بهذا، كما قال سبحانه:{قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} [الرعد: 30].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ومِمَّا يَنبغي أن يُعلم: ما قاله طائفة من العلماء؛ قالوا: الالتفات إلى الأسباب شِرك في التوحيد. ومحوُ الأسباب أن تكون أسبابًا- نقصٌ في العقل. والإعراضُ عن الأسباب بالكلية قَدْحٌ في الشَّرع. وإنَّما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع»
(1)
.
ويقول شارح «العقيدة الطحاوية» : «قد ظَنَّ بعضُ الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مُقَدَّرة فلا حاجة إلى الأسباب! وهذا فاسد؛ فإن الاكتساب: منه فرض، ومنه مُستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه حرام، كما قد عُرف في موضعه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين- يَلبس لَأْمَةَ الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب، حتى قال الكافرون:{مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7]. ولهذا تجد كثيرًا ممن يرى الاكتساب ينافي التوكل يُرزقون على يد مَنْ يُعطيهم؛ إمَّا صدقة، وإمَّا هدية
…
»
(2)
.
وقال ابنُ القيم: «وفي الأحاديث الصَّحيحة الأمر بالتَّداوي، وأنَّه لا يُنافي التوكل، كما لا يُنافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتمُّ حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نَصَبَها الله مقتضيات لمسبباتها قَدَرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يَقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويُضعفه من حيث يظنُّ مُعطلها أنَّ تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد
(1)
«مجموع الفتاوى» (8/ 169).
(2)
«شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز (ص 270)، دار السلام، الطبعة المصرية الأولى، 1426 هـ- 2005 م.
في دينه ودنياه، ودفع ما يَضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلَّا كان معطلًا للحكمة والشرع؛ فلا يجعل العبد عجزه توكلًا ولا توكله عجزًا»
(1)
.
(2)
، وقال:«لو تَوكلتم على الله حقَّ تَوكله لرزقكم كما يَرزق الطير تَغدو خماصًا، وتَروح بِطانًا»
(3)
، فذكر أنَّها تَغدو وتروح في طلب الرزق، قال: وكان الصحابة يَتَّجِرون ويَعملون في نَخيلهم، والقدوةُ بهم»
(4)
.
* * *
(1)
«زاد المعاد في هدي خير العباد» (4/ 15)، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1415 هـ/ 1994 م.
(2)
جزء من حديث؛ أورده البخاري تعليقًا في باب (مَا قِيل فِي الرِّمَاحِ)(4/ 40)، وأخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (19401)، وأحمد في «المسند» (5114)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني في «الإرواء» (1269). ولابن رجب الحنبلي رسالة ماتعة في شرح هذا الحديث، بعنوان:«الحِكَم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بُعِثتُ بالسَّيف بين يدي السَّاعة» .
(3)
أخرجه أحمد في «المسند» (205)، والترمذي (2344) من حديث عمر ?، وصححه الألباني في «الصحيحة» (310).
(4)
«فتح الباري» (11/ 305، 306)، دار المعرفة - بيروت، 1379 هـ.
قال المصنف رحمه الله: «ومِنْهُم طَائِفَة قد تَتْرك المُستَحَبَّات من الأَعْمَال دون الواجِبَات، فتَنقص بِقدر ذَلِك» .
الناس متفاوتون في نظرتهم إلى مفهوم العبادة؛ سواء في فَهم حقيقتها، أو في أدائها، فذكر هنا شيخ الإسلام أن بعض الطوائف قد تترك المستحبات من الأعمال، ويكتفون بفعل الواجبات.
وهذا ملموس مشاهد؛ فترى كثيرًا من الناس يقتصرون في أداء العبادات على ما كان من الواجبات، ثم يتركون النوافل والمستحبات من الأعمال، وهو لا يَعلم ما في هذه النوافل والمستحبات من جبر لما وقع من نقص في عبادته الواجبة؛ فكان من حكمة الله عز وجل ولطفه بعباده: أن جعل مع كل واجب نوعًا من المستحبات والنوافل من جنسه، ولذلك تجد الصلاة لها نوافل؛ منها ما هي سنن مؤكدة، ومنها ما هي مستحبة غير مؤكدة، وهكذا الصيام، والزكاة، والحج، فكل واجب من الواجبات تجد معه جملة من النوافل ليتزود العبد من الخير، وليكون ذلك جبرًا لما وقع من نقص في فريضته.
والناظر إلى أحوال الناس في الصلاة- مثلًا- يرى كيف أن بعض الناس بمجرد أن يُكَبِّر تكبيرة الإحرام- قد يخرج من الصلاة وهو لا يدري ماذا قرأ الإمام؟ ولا ماذا صَلَّى؟ حتى قد يسهو الإمام في صلاة الجماعة ولا يُنبهه أحد؛ لكثرة ما يشغل بال المُصَلِّين،
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الرجل ليَنصرف وما كُتِب له إلا عُشر صلاته، تُسْعُها، ثُمُنها، سُبُعها، سُدُسها، خُمُسها، رُبُعها، ثُلُثها، نصفها»
(1)
.
فالعبد قد لا يُقبل من صلاته إلا القليل، وقد لا يخرج بشيء من صلاته، مع أنه حرص على حسن التطهر وإسباغ الوضوء والخروج إلى الجماعة، ولكن بمجرد نطقه بتكبيرة الإحرام تأتيه وساوس الشيطان، ويصرفه عن صلاه حتى لا يخرج منها إلا بيسير من الأجر.
ولذلك هو في حاجة إلى جبر هذا النقص وسد هذا الخلل، وهذا لا يكون إلا بأداء النوافل، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ أَوَّل ما يحاسب به العبدُ يوم القيامة مِنْ عمله صلاتُه؛ فإن صَلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فَسَدت فقد خَابَ وخَسِر، فإن انتقص مِنْ فريضته شيءٌ، قال الربُّ عز وجل: انظروا هل لعبدي مِنْ تطوع؟ فيُكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائرُ عمله على ذلك»
(2)
.
فالصلاة أعظم الأعمال بعد الشهادتين، وهي أول ما يحاسب عليها العبد يوم القيامة، ولعظم شأنها كان جزاء مَنْ لا يَستنزه من بوله، ويفرط في أمر طهارته لها: أن يُعَذَّب في قبره؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بالطهارة؛ ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قبرين، وقال:«إنما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة»
(3)
، وكذلك قال
(1)
أخرجه أبو داود (796)، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (761).
(2)
أخرجه أبو داود (864) والترمذي (413) من حديث أبي هريرة ?، وصححه الألباني في «المشكاة» (1330).
(3)
أخرجه البخاري (218) ومسلم (292) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ ما يُقضى بين النَّاس في الدِّماء»
(1)
، والنميمة بين الناس هي التي تُوَلِّد الشحناء، ثم يتولد من هذه الشحناء استباحة الدماء، فلذلك يُعَذَّب النَّمَّام في قبره.
فالعبد يعلم أنه مهما اجتهد في أداء الواجبات فلا بد أن يقع منه تقصير، وهو يعلم كذلك أن جميع عبادته لا تساوي أن تكون ثمنًا لمَّا أعده الله عز وجل من ثواب للعبد المؤمن.
فهؤلاء الذين تركوا المستحبات من الأعمال دون الواجبات- ينقص أجرهم بقدر ما تركوا من هذه المستحبات.
فعلى العبد أن يَلزم هذه المستحبات وهذه النوافل وهذه السُّنن، وهي- بإذن الله- جبر لما نَقص من واجباته، وزيادة في درجاته، ورفعة له وخير وإحسان ونور في ذات نفسه.
وليعلم العبد أن حياة القلوب إنما هي بهذه الأعمال الصالحة؛ فبَقدر ما يعمر أوقاته بتلك الأعمال الصالحة بقدر ما يَعمر الإيمان قلبه ويزداد فيه، وهذا الإيمان نور يتلألأ في قلب المؤمن، كما قال الله عز وجل:{الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم} [النور: 35].
فهذا المَثَل ضربه الله لنور الإيمان في قلب المؤمن؛ قال الحكيم الترمذي: «ضربَ الْمثل لنوره فِي قلب الْمُؤمن؛ ليُعلمه قدره ومنزلته، فدَلَّه بالحاضر على مَا أعد لَهُ فِي الآجل
…
فَكَلَام المؤمن نور، وَعَمله نور، وَظَاهره نور، وباطنه نور، ومدخله فِي الْأَعْمَال
(1)
أخرجه البخاري (6864) ومسلم (1678) من حديث عبد الله بن مسعود ?.
نور، ومخرجه مِنْهَا نور، ومَصيره يَوْم الْقِيَامَة إِلَى النُّور»
(1)
.
فحريٌّ بالمؤمن أن يُدرك هذه الحقيقة، وأن يُنير قلبه بهذه الأعمال الصالحة؛ فيحرص على واجباته ويحافظ عليها ويؤديها، ثم يتزود من النوافل والمستحبات والسنن، فإذا تمكن هذا النور من قلب المؤمن كان هذا عونًا له على مزيد من الطاعات حتى يألفها؛ فيأنس بها ويسعد.
أما من يتكاسل عنها فتثقل عليه، ويشق فعلها على نفسه.
ونحن نرى الرجل المسن المريض يحرص على صيام التطوع بخلاف الشاب الجلد القوي الذي يثقل عليه صوم يوم من الأيام، وكذلك في سائر الأعمال.
فعلى العبد أن يطلب العون والتوفيق من الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ:«يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك» ، فقال:«أُوصيك يا معاذ: لا تَدَعَنَّ في دُبر كلِّ صلاة تقول: اللهم أَعِنِّي على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك»
(2)
.
فالله يعين العبد الذي أراد طاعته ورغب فيها ويقبل عمله ويجزيه عليه الأجر الجزيل؛ لم لا وهو القائل سبحانه: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60]، والقائل جل جلاله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].
* * *
(1)
«الأمثال من الكتاب والسُّنَّة» للحكيم الترمذي (ص 36) بتصرف يسير واختصار، دار ابن زيدون- بيروت- دمشق.
(2)
أخرجه أحمد (22172)، وأبو داود (1522)، وصححه الألباني في «المشكاة» (949).
قال المصنف رحمه الله: «ومِنْهُم طَائِفَة يَغترُّون بِمَا يحصل لَهُمْ من خَرق عَادَة؛ مثل: مكاشفة، أَوْ استجابة دَعْوة مُخَالفَة للعَادَة، ونَحْو ذَلِك فيشتغل أحدُهم بِهَذِهِ الأُمُور عَمَّا أُمِر بِهِ من العِبَادَة والشُّكْر، ونَحْو ذَلِك.
فَهَذِهِ الأُمُور ونَحْوهَا كثيرًا مَا تَعرض لأهل السلوك والتَّوَجُّه».
ثم ذكر طائفة أخرى فقال: «ومنهم طائفة يَغترون بما يحصل لهم من خَرق عادة؛ مثل: مكاشفة، أو استجابة دعوة مخالفة للعادة، ونحو ذلك» ، فبعض أهل السُّلوك وبعض أهل التصوف وبعض أهل العبادة- يسعون فيما يسعون إليه أن تكون لهم نوع كرامة خارقة للعادة، أو مُكاشفة، أو استجابة دَعْوة مُخَالِفَة للعَادَة، أو نحو ذلك مما قد يحصل لهم، وأحيانًا يكون هذا من تلبيس الشيطان، أو يكون فتنة لهم، أو استدراج.
أمَّا العبد المؤمن فينبغي أن لا يشغل نفسه بحصول كرامات على يديه، وإنما هو مُنشغل بطاعة ربه، وَجِلٌ مِنْ عدم قبولها، وقد سألت عائشةُ رضي الله عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية:{والذين يُؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} [المؤمنون: 60]، قالت عائشة: أهم الذين يَشربون الخمر ويَسرقون؟ قال: «لا يا بِنت الصِّديق، ولكنهم الَّذين يَصومون ويُصلون ويتصدقون، وهم يَخافون أن لا تُقبل منهم؛ {أولئك يُسارعون
في الخيرات وهم لها سابقون} [المؤمنون: 61]»
(1)
.
فهذا الخوف يلازم المؤمن ولا ينفك عنه إلا عندما ينقطع العمل وتحضر ساعة الموت عند ذلك يُغَلِّبُ جانبَ الرَّجاء، وقد «جَاءَ سَائِلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ لابْنِهِ: أَعْطِهِ دِينَارًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: تَقَبَّلَ اللهُ مِنْكَ يَا أَبَتَاهُ! فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ اللهَ تَقَبَّلَ مِنِّي سَجْدَةً واحِدَةً، أَوْ صَدَقَةَ دِرْهَمٍ واحِدٍ، لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِليَّ مِنَ المَوْتِ؛ أَتَدْرِي مِمَّنْ يَتَقَبَّلُ اللهَ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ} [المائدة: 27]»
(2)
.
قال ابن رجب رحمه الله: «ولهذا كانت هذه الآية يشتد منها خوفُ السَّلف على نفوسهم؛ فخافوا ألَّا يكونوا من المُتَّقين الذين يَتقبل الله منهم»
(3)
.
ولذلك فمَن اتَّقى اللهَ في العبادة حَسُنت وقُبلت منه، ومن لم يتَّقِهِ فلا؛ ولذلك لا يركنن العبد إلى عمله، وليعلم أن تعلقه بالله عز وجل وليس بعمله.
فبعض هؤلاء إذا ابتلي وحصلت له استجابة دعوة مثلًا- ظن أنه قد استحق الولاية، وأن هذه الولاية لا تنفك عنه، بينما العبد قد يعطى من النعم ما يكون ابتلاء، وليس كل ما أنعم الله به على الإنسان إكرامًا له؛ لأن الله قد قال:{فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه} [الفجر: 15]؛ فسَمَّى هذا الابتلاء إكرامًا وتنعيمًا، {فيقول ربي أكرمن وإما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن} [الفجر: 15، 16]، ثم جاء الجواب بعدها:{كلا} [الفجر: 17]،
(1)
أخرجه ابن ماجه (4198)، والترمذي (3175)، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (2537).
(2)
أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (4/ 256).
(3)
«جامع العلوم والحكم» (1/ 262).
(1)
.
فكل هذا ابتلاء؛ قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
فالعلم الذي أنعم الله به على العبد هو ابتلاء له، والمال الذي أعطاه الله عز وجل له هو ابتلاء له، والصحة ابتلاء؛ فكل نعم الله عز وجل على العبد إنما هي ابتلاء؛ ليمتحنه أيشكر أم يكفر؟ وسليمان عليه السلام لمَّا جاءه عرش ملكة سبأ:{قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].
وقد قصَّ الله علينا قصة صاحب الجنتين؛ الذي قال: {ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرًا منها منقلبًا} [الكهف: 36]، فهذا مرض يَعتري بعض النفوس، حيث تظن أن إنعام الله سبحانه وتعالى عليهم معناه: رضا الله عنهم في الدنيا والآخرة.
ولذلك حتى طالب العلم لا بد أن يعلم أن كل علم يكتسبه هو ابتلاء له، وأن ما حَصَّله ليس بحوله وقوته، وإنما كان بفضل الله عليه، وأنه سيسأل عنه يوم القيامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قَدَمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عُمره فيما أفناه، وعن عِلمه فِيم فَعَل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جِسمه فيم أبلاه»
(2)
.
(1)
«مدارج السالكين» (2/ 413).
(2)
أخرجه الدارمي (554) والترمذي (2417) من حديث أبي برزة الأسلمي ?، وصححه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (126).
فسيسألنا الله عز وجل عن عِلمنا؛ فلا يظن من حصَّل درجة علمية أو قَدْرًا من العلم- أنه قد أُعفي من مسئولية القيام بهذا العلم؛ من حيث العمل به ونشره، بل كل هذا ابتلاء من الله عز وجل له.
وقد يغتر الإنسان بعلمه، كما قد يغتر برؤيا رآها، أو بدعوة استجيبت له؛ فيظن أنه بهذا قد وصل إلى ولاية الله تعالى، وهو لا يعلم أن هذا كله ابتلاء من الله عز وجل، وقد يكون استدراجًا من الشيطان؛ لأنه قد يخيل إليه أمورًا ليست حقيقية، كما يخيل لبعض المتصوفة أنه يرى الله عز وجل؛ فيغتر ذاك الجاهل بهذا؛ لأنه لا يَعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«تَعَلَّمُوا؛ أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عز وجل حَتَّى يَمُوتَ»
(1)
، فالشيطان يدخل على هؤلاء من قِلَّة علمهم؛ فيُلَبِّس عليهم مثل هذه الأمور.
فهذه الطائفة إذا خُرِقت لها عادة أو حصلت لها مكاشفة أو استجيبت لها دعوة، اشتغل الواجد منهم بهذه الأمور، ويُصرف بهذه الحالة عن الاجتهاد في العبادة المأمور بها، وتكون فتنة له.
* * *
(1)
أخرجه مسلم (2931) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
قال المصنف رحمه الله: «وإِنَّمَا ينجو العَبْدُ مِنْهَا بملازمة أَمْرِ الله الَّذِي بَعَثَ به رَسُولَه، فِي كل وقت، كما قال الزُّهْريُّ: «كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنا يَقُولُونَ: الاعْتِصام بِالسُّنَّةِ نَجاة»
(1)
. وذَلِكَ أَنَّ السُّنَّة كَمَا قال مَالكٌ رحمه الله: «مِثل سَفِينة نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نجَا، ومَن تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ»
(2)
.
على العبد أن يعلم أنَّ مدار أمره على طاعته لله سبحانه وتعالى، وأنه يجب عليه في جميع أحواله أن يكون طائعًا لله مستجيبًا له عز وجل في السراء والضراء، وهو مأجور في الحالتين، كما قال صلى الله عليه وسلم:«عجبًا لأمر المؤمن؛ إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سَرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضَرَّاء صَبَر، فكان خيرًا له»
(3)
؛ فالشكر عبادة والصبر عبادة، ولذلك جاء في الأثر:«الإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر»
(4)
.
فالإنسان يدور بين الصبر والشكر، والصبر أنواع ثلاثة كما ذكر العلماء: «الصبر على طاعة الله تعالى، والصبر عن معصيته، والصبر
(1)
أخرجه الدارمي (97)، واللالكائي مختصرًا في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» (1/ 62).
(2)
أخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (8/ 308)، والهروي في «ذم الكلام وأهله» (5/ 81)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (14/ 9).
(3)
أخرجه مسلم (2999) من حديث صهيب ?.
(4)
أخرجه الشهاب في «مسنده» (1/ 127) برقم (159)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (12/ 192) من حديث أنس ? مرفوعًا، ورمز السيوطي لضعفه في «الجامع الصغير» (1/ 276)، وقال الألباني في «الضعيفة» (625):«ضعيف جدًّا» .
- أيضًا- على النائبات وأنواع المكاره في الدنيا»
(1)
؛ فلا بد من الصبر والأخذ بأسباب النصر.
فالنجاة والمخرج والطريق الصحيح المستقيم للعبد أن يدور مع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وعليه أن ينظر في كل وقت وفي كل حال إلى أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم له، ويسلك سبيل العلم ليحصل معرفة ذلك ثم يقوم بواجب العمل بمقتضى ذلك، فالنجاة أن يكون العبد موافقًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ أمر الله باتباعه فقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ولذلك قال الزهري رحمه الله:«كان مَنْ مضى مِنْ سَلفنا يقولون: «الاعتصام بالسنة نجاة» .
فإذا أراد العبد أن ينجو وأن يحقق العبودية الحقة لله عز وجل، وأراد أن يستقيم له فكره وإرادته وجوارحه- فما عليه إلا أن يعتصم بالسنة ويَلزمها علمًا وعملًا وإرادة وسلوكًا وتفكيرًا؛ فالاعتصام بالسنة يهدي إلى الحق في كل باب وفي كل حال وفي كل وقت؛ لأنها وسط بين الإفراط والتفريط.
وهذه الموازنة قد يفقدها الإنسان بسبب ظن خاطئ؛ فعلى سبيل المثال إذا أراد أن يفاضل بين عبادة وأخرى، فالسنة هي التي تبين له أيتهما أولى وأحق بالتقديم.
فالقصد أن ينظر الإنسان إلى ما جاءت به السُّنَّة؛ فهي كسفينة نوح عليه السلام مَنْ ركبها نجا، ومَن تخلف عنها غرق.
* * *
(1)
انظر: «شرح النووي على مسلم» (3/ 101)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1392 هـ.
قال المصنف رحمه الله: «والعِبَادَة والطَّاعَة والاستقامة ولُزُوم الصِّرَاط المُسْتَقيم ونَحْو ذَلِك من الأَسْمَاء- مَقصودها واحِد، ولها أصلان:
أَحدُهمَا: أَنْ لَا يُعبد إِلَّا الله.
والثَّانِي: أَلَّا يَعبده إِلَّا بِمَا أَمَرَ وشَرَع، لَا يَعبده بِغَيْر ذَلِك من الأَهْواء والظُّنُون والبِدع؛ قَالَ تَعَالَى:{فَمن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه فليعمل عملًا صَالحًا ولَا يُشْرك بِعبَادة ربه أحدًا} [الكهف: 110]، وقال تعالى:{بلَى من أسلم وجهه لله وهُو محسن فَلهُ أجره عِنْد ربه ولَا خوف عَلَيْهِم ولَا هم يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، وقال تعالى:{ومن أحسن دينًا مِمَّنْ أسلمَ وجهه لله وهُو محسن واتَّبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفًا واتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} [النِّساء: 125].
فَالعَمَلُ الصَّالحُ: هُو الإِحْسَان وهُو فِعل الحَسَنَات، والحسنات: هِيَ مَا أحبَّه اللهُ ورَسُولُه، وهُو مَا أَمر بِهِ أَمر إِيجَاب أَوْ اسْتَحباب.
فَمَا كَانَ من البِدع فِي الدِّين الَّتِي لَيست فِي الكتاب، ولَا فِي صَحِيح السُّنَّة، فَإِنَّهَا-وإِن قَالَهَا مَنْ قَالَهَا، وعمل بهَا من عَمِل- لَيست مَشْرُوعَةً؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّهَا ولَا رَسُوله، فَلَا تَكون من الحَسَنَات ولَا مِنْ العَمَل الصَّالح، كَمَا أَنَّ مَنْ يَعْمل مَا لَا يَجوز؛ كالفَوَاحش والظُّلم لَيْسَ من الحَسَنَات ولَا من العَمَل الصَّالح.
وأما قَوْله: {ولَا يُشْرك بِعبَادة ربه أحدًا} [الكهف: 110]، وقَوله:{أسلم وجهه لله} [البقرة: 112]- فَهُو إخلاص الدِّين لله وحده. وكَانَ عمر بن الخَطَّاب يَقُول: «اللَّهُمَّ اجْعَل عَمَلي كُلَّه
صَالحًا، واجعله لوجهك خَالِصًا، ولَا تجْعَل لأحدٍ فِيهِ شَيْئًا»
(1)
.
وقَالَ الفُضيل بن عِيَاض فِي قوله تعالى: {ليَبْلُوكُمْ أَيُّكُم أحسن عملًا} [هود: 7]، قال:«أخلصه وأصوبه» . قَالُوا: يا أبا عَليٍّ، مَا أخلصه وأصوبه؟ قَالَ:«إِنَّ العَمَلَ إِذا كَانَ خَالِصًا ولم يكن صَوابًا لم يُقبل، وإِذا كَانَ صَوَابًا ولم يكن خَالِصًا لم يُقبل، حَتَّى يكون خَالِصًا صَوابًا، والخالص: أَنْ يكون لله، والصَّواب: أَنْ يكون على السُّنَّة»
(2)
.
من رحمة الله بعباده وهو أرحم الراحمين أنه لَمَّا فرض عليهم عبادته وجعلها مبنيةً على محبَّته ورجائه وخوفه، أوضح لهم بعد ذلك شروط صحة تلك العبادة، وأنها لا تكون صحيحة ومقبولة عنده إلا إذا توافرت فيها هذه الشروط، التي دلَّ عليها الكتابُ والسُّنَّةُ وإجماعُ الأمَّة، وهي:
شروط صحة العبادة:
الشرط الأول: الإخلاص، وهو لُبُّ الدِّين، وعموده الأعظم.
تعريف الإخلاص:
الإخلاص لغة:
وهو لغةً: «تصفية الشيء وتنقيته؛ يقال: خلص الشيء من الشوائب: إذا صفا، وأخلص الشيء: نَقَّاه، وخلَّصه: أزال عنه ما يكدره
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد في «الزهد» (ص 97).
(2)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» بسنده عن إبراهيم بن الأشعث أنه سمع الفضيل يقوله (8/ 95).
(3)
انظر: «معجم مقاييس اللغة» لابن فارس (2/ 208)، و «المصباح المنير» للفيومي (94).
الإخلاص شرعًا:
تَنَوَّعت عباراتُ العلماء في المراد به شرعًا:
فقيل: هو «قصد المعبود وحده بالعبادة» كما قال تعالى: {ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]
(1)
.
وقيل: تخليص القلب من كلِّ شوب يُكدِّر صفاءه
(2)
.
وقيل: أن يكون الداعي إلى الإتيان بالمأمور وإلى ترك المنهي إرضاء الله سبحانه وتعالى
(3)
.
والتعريفات متقاربة، ومدارها على أن يريد العبد بطاعته التقرُّب إلى الله سبحانه دون أيِّ شيءٍ آخر من تصنُّعٍ لمخلوقٍ أو اكتساب محمدةٍ عند الناس، أو محبة مدحٍ من الخلق، أو معنى من المعاني سِوى التقرُّب به إلى الله تعالى
(4)
.
أهل الإخلاص:
أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم هم: مَنْ كانت أعمالهم كلُّها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومَنعهم لله، وحُبهم لله وبُغضهم لله؛ فمعاملتهم ظاهرًا وباطنًا لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاءً ولا شكورًا، ولا ابتغاء الجاه عندهم وطلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم ولا هربًا من ذمِّهم، بل قد عدُّوا الناس بمنزلة أصحاب القبور لا يَملكون لهم ضرًّا ولا نفعًا ولا حياةً ولا نشورًا
(5)
.
(1)
عمدة الحفاظ (1/ 600).
(2)
التوقيف على مهمات التعريف ص (43).
(3)
التحرير والتنوير (23/ 318).
(4)
انظر: «العبادة .. تعريفها. أركانها. شروطها. مبطلاتها» لسليمان العثيم (ص 39، 40).
(5)
«مدارج السالكين» لابن القَيِّم (1/ 83)، دار الكتاب العربي، بيروت.
الأدلة على شرط الإخلاص:
وردت أدلَّةٌ كثيرةٌ في الكتاب والسُّنَّة مُقَرِّرةً هذا الشرط؛ فمن الكتاب:
قوله تعالى آمرًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يُوضِّح لأمته ما أُمر به من قِبل الله عز وجل، فقال:{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ ولَا أُشْرِكَ بِهِ} [الرعد: 36]، وقال جل جلاله:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 11]، وقال تعالى:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14]، وقال جل وعلا مُوَضِّحًا ما أُمر به المؤمنون: {ومَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
…
} [البينة: 5]، وقال تعالى:{ومَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * ولَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 19 - 21]، وقال عز وجل:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا ولَا دِمَاؤُهَا ولَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ} [الحج: 37]، وقال جل وعلا:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَليَعْمَل عَمَلًا صَالِحًا ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 10].
ومن السُّنَّة:
قال عليه الصلاة والسلام: «إنَّما الأعمال بالنِّيات، وإنَّما لكل امرئ ما نوى؛ فمَن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأة يَنكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم»
(2)
.
وعن أبي موسى الأشعري ? قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل شَجاعة ويقاتل حَمِيَّة ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل الله؟
(1)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب ?.
(2)
أخرجه مسلم (2564) من حديث أبي هريرة ?.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ لِتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»
(1)
.
فهذه الأدلة تدلُّ على وجوب إخلاص النية في جميع العبادات.
أهمية الإخلاص:
الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله إن كان عبادة محضة؛ كالصَّلاة والزكاة والصيام والحج والطواف وقراءة القرآن، وشرط لحصول الثواب إن كان غير ذلك؛ كالأكل والشرب والنوم والكسب ونحو ذلك.
وما أعظم مقام الإخلاص عند الله! وما أشقَّه على النفس! لذا جديرٌ بالمسلم أن يجاهد نفسه ويحاسبها في كلِّ قول وعمل، بل وفي كلِّ مقام ولحظة.
قال سهل بن عبد الله: «ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص؛ لأنَّه ليس لها فيه نصيب»
(2)
.
وقال يوسف بن الحسين الرازي: «أعزُّ شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه يَنبت فيه على لون آخر»
(3)
.
فعمل القلب هو رُوح العبودية ولُبُّها، فإذا خلا عملُ الجوارح منه كان كالجسد الميت بلا رُوح، والنية هي عمل القلب.
والكلام في مسألة النِّيَّة شديد الارتباط بأعمال القلوب ومعرفة مراتبها وارتباطها بأعمال الجوارح وبنائها عليها وتأثيرها فيها صحةً
(1)
أخرجه البخاري (2810) ومسلم (1904)، وهذا لفظ مسلم.
(2)
ذكره عنه ابنُ رجب في «جامع العلوم والحكم» (1/ 84).
(3)
المصدر السابق.
وفسادًا، وإنَّما هي الأصل المراد المقصود، وأعمال الجوارح تَبَعٌ ومكمِّلة ومتمِّمة، وأنَّ النية بمنزلة الرُّوح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارق الروح فمَوَات، وكذلك العمل إذا لم تَصحبه النية فحركة عابث؛ فمعرفة أحكام القلوب أهم مِنْ معرفة أحكام الجوارح؛ إذ هو أصلُها، وأحكام الجوارح متفرِّعة عنها.
والمؤمنون العارفون بالله وبأمره قاموا له بحقيقة العبودية ظاهرًا وباطنًا، وقدَّموا قلوبهم في الخدمة، وجعلوا الأعضاء تبعًا لها، وهي حقيقة العبودية، ومن المعلوم أنَّ هذا هو مقصود الربِّ بإرسال رُسُله وإنزال كُتُبه وشرعه شرائعه. ومَن تأمَّل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأنَّ أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يُميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كلِّ واحد منهما من الأعمال التي ميَّزت بينهما، وهل يمكن لأحدٍ الدخول في الإسلام إلَّا بعمل قلبه قبل جوارحه؛ فعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كلِّ وقت، ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان، فمركب الإيمان القلب، ومركب الإسلام الجوارح
(1)
.
إن أساس القبول لأيِّ عبادة هو إخلاص القلب فيها لله تعالى؛ فإن حقيقة العبادة ليست شكلًا فقط، وإنَّما هي سِرٌّ يتعلق بالقلب، ويَنبع من الرُّوح، فإذا لم يَصْدُق قلب المسلم في عبادته، ولم يُخلص لله في طاعته- صارت كالجسد بلا رُوح، وساعتها يردُّها الله عليه؛ قال تعالى:{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} [البينة: 5]،
(1)
انظر «بدائع الفوائد» لابن القيِّم (3/ 187 - 193).
وقال: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصًا له الدِّين} [الزمر: 2]، وقال:{قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصًا له الدِّين} [الزمر: 11]، وقال:{قل الله أعبد مخلصًا له ديني} [الزمر: 14].
فالقلبُ هو الأساس في الإسلام، وهو مَوضع نظر الله تعالى، ومحل عنايته، وهو مُستند القبول والفلاح في الآخرة، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم»
(1)
، ويقول:«ألا إن في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب»
(2)
، ويقول الله تعالى:{وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ وجَاءَ بِقَلبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الخُلُودِ} [ق: 31 - 34].
أثر الإخلاص في الأعمال:
إنَّ الإخلاصَ يشترط في كلِّ عمل شرعه الله ليُتعبد به ويُتقرب به إليه، وقد هاجر أحدُ المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة من أجل امرأة يريد الزواج بها تُعرف بأم قيس، فسُمِّي «مهاجر أم قيس»
(3)
.
وفي هذا الشأن حَدَّثهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث الجامع الذي عَدَّه بعض المُحَدِّثين ربع الإسلام أو ثُلُثه أو نصفه، والذي افتتح به الإمام البخاري «جامعه الصحيح»: «إنَّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته
(1)
أخرجه مسلم (2564) من حديث أبي هريرة ?، وقد تقدم.
(2)
أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير ?.
(3)
انظر: «شرح الأربعين النووية» لابن دقيق العيد (ص 27).
إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»
(1)
.
وهذا الحديث أجمع علماء الإسلام في كل اختصاص على تلقيه بالقبول
(2)
.
وقيمة (النية) في الإسلام لا تعتمد على هذا الحديث وحده، وإنما تعتمد على نصوص وأحاديث كثيرة مستفيضة، تُعطي في مجموعها يقينًا جازمًا بأن الأعمال بالنيات، وأنَّ لكل امرئ ما نوى، ولو أخذنا كتابًا ك «الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري مثلًا لوجدناه يَذكر في فضل النية الصالحة أحد عشر حديثًا، وفي الترغيب في الإخلاص ثلاثة عشر حديثًا، وفي الترهيب من الرياء أكثر من ثلاثين.
فهذه المجموعة من الأحاديث وما شابهها- مع ما جاء في القرآن من آيات- هو السند اليقين لقيمة النية في الأعمال.
الشرط الثاني: المتابعة:
تعريف المتابعة:
معنى المتابعة: أن تكون عبادة المسلم تابعةً لِما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو تحقيق شهادة أنَّ محمدًا رسول الله، وهو طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أَخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألَّا يُعبد الله إلَّا بما شرع عليه الصلاة والسلام.
الأدلة على وجوب هذا الشرط:
أوَّلًا: من القرآن:
قوله تعالى: {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
(1)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب ?، وقد تقدم.
(2)
انظر: «شرح الأربعين النووية» لابن دقيق العيد (ص 24، 25).
فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله جل وعلا: {ومَا أَرْسَلنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
…
} [النساء: 64]، وقوله سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
…
} [النساء: 80]، وقوله جل وعلا:{ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
ثانيًا: ومِن السُّنَّة:
ما رواه مسلم في «صحيحه» عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ»
(1)
.
وفي رواية عنها- رضي الله عنها أيضًا: «مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ»
(2)
، أي: مردود عليه غير مُتَقَبَّل منه كائنًا مَنْ كان.
وفي معرض ذكر أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة قال ابن القيم رحمه الله: «وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله ولِما يُحبه ويرضاه، وهذا هو العمل الذي لا يَقبل الله من عاملٍ سواه، وهو الذي ابتلى عباده بالموت والحياة لأجله؛ قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَيَاةَ لِيَبْلُوكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. وجعل ما على الأرض زينة لها؛ ليَختبرهم أيهم أحسن عملًا.
…
فلا يَقبل الله من العمل إلَّا ما كان خالصًا لوجهه، على متابعة أمره، وما عدا ذلك فهو مردودٌ على
(1)
أخرجه مسلم (1718).
(2)
أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) من حديث أبي هريرة ?.
عامله، يُرد عليه أحوج ما هو إليه هباءً منثورًا»
(1)
.
جماع هذه الشروط:
وقد جمع الله بين هذه الشروط الثلاثة في آية واحدة؛ فقال تعالى: {ومَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهُو مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا واتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125].
وبيان ذلك:
الشرط الأول: الإخلاص، ودليله: قوله تعالى: {أَسْلَمَ وجْهَهُ للهِ
…
} [النساء: 125] الآية.
والشرط الثاني: المتابعة، ودليلها: قوله سبحانه: {وهُو مُحْسِنٌ} [النساء: 125]، والمحسن: هو ما كان عمله وَفْق ما جاء عن اللهِ وعن رسولِه صلى الله عليه وسلم.
الشرط الثالث: صحَّة المعتقَد، ودليله قوله جل جلاله: {واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
…
} [النساء: 125] الآية.
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: «أي: لا أحدَ أحسن من دينِ مَنْ جَمَع بين الإخلاص للمعبود، وهو إسلام الوجه لله، الدَّال على استسلام القلب وتوجُّهه وإنابته وإخلاصه، وتوجُّه الوجه وسائر الأعضاء لله. {وهو} [النساء: 125] مع هذا الإخلاص والاستسلام {مُحسِن} [النساء: 125] أي: مُتَّبِع لشريعة الله التي أَرسل الله بها رُسله، وأنزل بها كتُبه، وجعلها طريقًا لخواص خلقه وأتباعه.
{واتبع ملة إبراهيم} [النساء: 125] أي: دينه وشرعه.
(1)
«مدارج السالكين» (1/ 104، 105)، دار الكتاب العربي- بيروت، الطبعة الثالثة، 1416 هـ- 1996 م.
{حنيفًا} [النساء: 125] أي: مائلًا عن الشرك إلى التوحيد وعن التوجُّه للخلق، إلى الإقبال على الخالق»
(1)
.
فلا بدَّ من توفُّر هذه الشروط في العبادة حتى تكون صالحةً مقبولةً عند الله عز وجل. أمَّا إذا اختلَّ شرطٌ من هذه الشروط فإنَّها لا تصحُّ، وبالتالي لا تنفع صاحبها، بل تكون وبالًا عليه في الدِّين والدُّنيا والآخرة
(2)
.
أقسام النَّاس في شروط صحة العبادة
الناس مُنقسمون في هذا الباب إلى أربعة أقسام:
أحدها: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة:
(الإخلاص): إذ إنَّ أعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاءهم لله، ومنعهم لله، وحُبَّهم لله، وبُغضهم لله؛ فمعاملتهم ظاهرًا وباطنًا لوجه الله وحده، لا يُريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة، والمنزلة في قلوبهم، ولا هربًا من ذَمِّهم، بل قد عَدُّوا الناس بمنزلة أصحاب القبور، لا يملكون لهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا؛ فالعمل لأجل الناس، وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم، ورجاؤهم للضر والنفع منهم- لا يكون مِنْ عارف بهم البتة، بل من جاهل بشأنهم، وجاهل بربِّه؛ فمَن عرف الناس أنزلهم منازلهم، ومَن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله، وعطاءه ومنعه وحبه وبغضه، ولا يُعامل أحد الخلق دون الله إلا لجهله بالله وجهله بالخلق، وإلا فإذا
(1)
«تفسير السعدي» المسمى: «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» (ص 206)، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ- 2000 م.
(2)
انظر: «العبادة .. تعريفها. أركانها. شروطها. مبطلاتها» لسليمان العثيم (ص 48 - 51).
عرف الله وعرف الناس آثرَ معاملة الله على معاملتهم.
(المتابعة): وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله، ولما يحبه ويرضاه، وهذا هو العمل الذي لا يَقبل الله مِنْ عامل سواه، وهو الذي ابتلى عباده بالموت والحياة لأجله؛ فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، على متابعة أمره، وما عدا ذلك فهو مردود على عامله، يُرد عليه أحوج ما هو إليه هباء منثورًا، وكل عمل بلا اقتداء؛ فإنَّه لا يزيد عامله من الله إلا بُعدًا، فإنَّ الله تعالى إنما يُعبد بأمره، لا بالآراء والأهواء.
القسم الثاني: مَنْ لَا إِخْلَاصَ لَهُ ولَا مُتَابَعَةَ:
فَلَيْسَ عَمَلُهُ مُوافِقًا لِشَرْعٍ، ولَيْسَ هُو خَالِصًا لِلمَعْبُودِ؛ كَأَعْمَالِ المُتَزَيِّنِينَ لِلنَّاسِ، المُرَائِينَ لَهُمْ بِمَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللهُ ورَسُولُهُ؛ فَإِنَّهُمْ يَرْتَكِبُونَ الأمور التي لم يَشرعها الله، ويجمعون معها الرِّيَاءَ والسُّمْعَةَ، فَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ مِنَ الِاتِّبَاعِ والإِخْلَاصِ والعِلمِ.
القسم الثالث: مَنْ هُو مُخْلِصٌ فِي أَعْمَالِهِ، لَكِنَّهَا عَلَى غَيْرِ مُتَابَعَةِ الأَمْرِ:
بعض الناس يَظهر عليه الإخلاص في عمله، لكنه يفعل أمورًا مخالفةً للشرع؛ كمن يَظُنُّ أَنَّ مُواصَلَةَ صَوْمِ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ قُرْبَةٌ، وأَنَّ صِيَامَ يَوْمِ فِطْرِ النَّاسِ قُرْبَةٌ، وأَمْثَالِ ذَلِكَ، وقد جاء الشرعُ بالنَّهي عن مواصلة الصوم؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الوِصَالِ؛ قَالُوا: إنَّكَ تُواصِلُ. قَالَ: «إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إنِّي أُطْعَمَ وأُسْقَى»
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم (1102).
وأمَّا صيام يوم العيد؛ فقد ثبت عن أبي هريرة ?: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى عن صيام يومين: يوم الأضحى، ويوم الفِطر»
(1)
.
(2)
.
القسم الرابع: مَنْ أَعْمَالُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ الأَمْرِ، لَكِنَّهَا لِغَيْرِ اللَّهِ:
كَطَاعَةِ المُرَائِينَ، وكَالرَّجُلِ يُقَاتِلُ رِيَاءً وحَمِيَّةً وشَجَاعَةً، ويَحُجُّ لِيُقَالَ، ويَقْرَأُ القُرْآنَ لِيُقَالَ؛ فَهَؤُلَاءِ أَعْمَالُهُمْ ظَاهِرُهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، لَكِنَّهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ، فَلَا تُقْبَلُ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قال:{ومَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]؛ فَكُلُّ أَحَدٍ لَمْ يُؤْمَرْ إِلَّا بِعِبَادَةِ اللهِ بِمَا أَمَرَ، والإِخْلَاصِ لَهُ فِي العِبَادَةِ
(3)
.
ودليله: حديث أبي هريرة ? قال: «حَدَّثني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة يَنزل إلى العباد؛ ليَقضي بينهم وكل أمة جاثية؛ فأَوَّل مَنْ يَدعو به رجلٌ جَمَعَ القرآنَ، ورجلٌ يُقتل في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال؛ فيقول الله تبارك وتعالى للقارئ:
(1)
أخرجه مسلم (1138).
(2)
أخرجه البخاري (5063) واللفظ له، ومسلم (1401).
(3)
«مدارج السالكين» (1/ 104 - 106).
أَلَم أُعَلِّمْك ما أَنزلتُ على رسولي؟ قال: بلى يا ربِّ. قال: فماذا عملتَ فِيما عُلِّمْتَ؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله تبارك وتعالى له: كَذَبْتَ، وتقول له الملائكة: كَذَبْتَ، ويقول الله: بل أردتَ أن يُقال: فلان قارئ؛ فقد قيل ذاك! ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: أَلَم أُوَسِّع عليك حتى لَم أَدَعَك تحتاج إلى أحدٍ؟ قال: بلى يا ربِّ. قال: فماذا عملتَ فيما آتيتك؟ قال: كنت أَصِل الرَّحم وأتصدق! فيقول الله له: كَذَبت، وتقول الملائكة له: كذبت، ويقول الله: بل إنَّما أردتَ أن يُقال: فلان جَوَاد فقد قيل ذاك، ويؤتى بالذي قُتِل في سبيل الله؛ فيقال له: في ماذا قتلتَ؟ فيقول: أُمرت بالجهاد في سبيلِك، فقاتلتُ حتى قُتلت! فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردتَ أن يُقال: فلان جَرِيء؛ فقد قيل ذاك». ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم رُكبتي؛ فقال: «يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أَوَّلُ خَلق الله تُسَعَّر بهم النَّار يوم القيامة»
(1)
.
فإذا أراد الإنسان أن يُحَقِّق عبادة الله عز وجل، وأن يَصل إلى هذه الغاية: أن يكون مِنْ أهل هذه الطاعة والعبادة ومِن أهل صِراط الله المستقيم، ممن استقام على شرع الله عز وجل؛ فعليه أن يحقق هذين الشرطين-: الإخلاص والمتابعة- في كل عمل.
* * *
(1)
أخرجه الترمذي (2382) والنسائي في «الكبرى» (2382)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (1713).
قال المصنف رحمه الله: «فَإِنْ قيل: فَإِذا كَانَ جَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ الله دَاخِلًا فِي اسْم العِبَادَة، فلماذا عطف عَلَيْهَا غَيرهَا، كَقَوْلِه فِي فَاتِحَة الكتاب:{إياك نعْبد وإِيَّاك نستعين} [الفاتحة: 5]، وقوله لنَبيه:{فاعبده وتوكل عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقَول نوح:{اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} [نوح: 3]، وكَذَلِكَ قَول غَيره من الرُّسُل؟
قيل: هَذَا لَهُ نَظَائِر، كَمَا فِي قَوْله:{إِنْ الصَّلَاة تنْهى عَنْ الفَحْشَاء والمُنكر} [العنكبوت: 45]، والفَحشاء من المُنكر، وكَذَلِكَ قَوْله:{إِنْ الله يَأْمر بِالعَدْلِ والإِحْسَان وإيتاء ذِي القُرْبَى وينْهى عَنْ الفَحْشَاء والمُنكر والبَغي} [النَّحْل: 90]، وإيتاء ذِي القُرْبَى: هُو مِنْ العَدْل والإِحْسَان، كَمَا أَنْ الفَحْشَاء والبَغي من المُنكر. وكَذَلِكَ قَوْله:{والَّذين يُمَسِّكون بِالكتاب وأَقَامُوا الصَّلَاة} [الأعراف: 170]، وإِقَامَة الصَّلَاة من أعظم التَّمَسُّك بِالكتاب. وكَذَلِكَ قَوْله عَنْ أنبيائه:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخيرَات ويدعوننا رغبًا ورهبًا} [الأنبياء: 90]، ودعاؤهم رغبًا ورهبًا من الخيرَات. وأمثال ذَلِك فِي القُرْآن كثير.
وهَذَا البَاب يكون تَارَة مَعَ كَون أَحدهمَا بعض الآخر، فيعطف عَلَيْهِ تَخْصِيصًا لَهُ بِالذكر؛ لكَونه مَطْلُوبًا بِالمَعْنَى العَام والمَعْنَى الخَاص.
وتارَة تتنوع دلَالَة الِاسْم بِحَال الِانْفِرَاد والاقتران، فَإِذا أُفْرِدَ عَمَّ، وإِذا قُرِن بِغَيْرِهِ خص، كاسم (الفَقِير) و (المسكين)؛ لما أفرد أَحدهمَا فِي مثل قَوْله: {للفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل
الله} [البقرة: 273]، وقَوله:{إطْعَام عشرَة مَسَاكِين} [المائدة: 89]- دخل فِيهِ الآخر. ولما قرن بَينهمَا فِي قَوْله: {إِنَّمَا الصَّدقَات للفُقَرَاء والمَسَاكِين} [60 التوبة: 60] صَارا نَوْعَيْنِ.
وقد قيل: إِنْ الخَاص المَعْطُوف على العَام لَا يدْخل فِي العَام حَال الاقتران، بل يكون من هَذَا البَاب، والتَّحْقِيق: أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَازِمًا، قَالَ تَعَالَى:{من كَانَ عدوًّا لله ومَلَائِكَته ورُسُله وجِبْرِيل ومِيكال} [البقرة: 98]، وقال تعالى:{وإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإِبْرَاهِيم ومُوسَى وعِيسَى ابْن مَرْيَم} [الأحزاب: 7].
وذكر الخَاص مَعَ العَام يكون لأسباب متنوعة:
تَارَة لكَونه لَهُ خاصية لَيست لسَائِر أَفْرَاد العَام، كَمَا فِي نوح وإِبْرَاهِيم ومُوسَى وعِيسَى.
وتارَة لكَون العَام فِيهِ إِطْلَاق قد لَا يُفهم مِنْهُ العُمُوم، كَمَا فِي قَوْله:{هدى لِلمُتقين * الَّذين يُؤمنُونَ بِالغَيْبِ ويقيمون الصَّلَاة ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ * والَّذين يُؤمنُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك ومَا أنزل من قبلك} [2 - 4 البَقَرَة]، فقوله:{يُؤمنُونَ بِالغَيْبِ} يتَنَاول كلَّ الغَيْب الَّذِي يجب الإِيمَانُ بِهِ، لَكِن فِيهِ إِجْمَال. فَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة على أَنَّ من الغَيْب ما أُنزل إليك وما أُنزل مِنْ قبلك.
وقد يكون المَقْصُود أَنهم يُؤمنُونَ بالمخبَر بِه، وهُو الغَيْبُ، وبالإخبار بِالغَيْبِ، وهُو مَا أُنزل إِلَيْك ومَا أنزل من قبلك.
ومن هَذَا البَاب: قَوْله تَعَالَى: {اتل مَا أُوحِي إِلَيْك من الكتاب وأقم الصَّلَاة} [العنكبوت: 45]، وقوله:{والَّذين يُمَسِّكون بِالكتاب وأَقَامُوا الصَّلَاة} [الأعراف: 170]، وتلاوة الكتاب: هِيَ اتِّبَاعه والعَمَل بِهِ، كَمَا قَالَ ابْن مَسْعُود فِي قَوْله تَعَالَى:{الَّذين آتَيْنَاهُم الكتاب يتلونه حق تِلَاوته}
[121 البَقَرَة]، قَالَ:«يُحِلُّون حَلَاله ويُحَرِّمون حَرَامه، ويُؤمنون بمتشابهه ويعملون بمُحكمه»
(1)
.
فاتِّباع الكتاب يتَنَاول الصَّلَاة وغَيرهَا، لَكِن خَصَّها بِالذِّكر لمزيتها. وكَذَلِكَ قَوْله لمُوسَى:{إِنَّنِي أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني وأقم الصَّلَاة لذكري} [طه: 14]، وإِقَامَة الصَّلَاة لذكره مِنْ أَجَلِّ عِبَادَته، وكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{اتَّقوا الله وقُولُوا قولا سديدًا} [الأحزاب: 70]، وقوله:{اتَّقوا الله وابتغوا إِلَيْهِ الوسِيلَة} [المائدة: 35]، وقَوله:{اتَّقوا الله وكُونُوا مَعَ الصَّادِقين} [التوبة: 109]؛ فَإِنْ هَذِه الأُمُورَ هِيَ- أَيْضًا- مِنْ تَمام تقوى الله، وكَذَلِكَ قَوْله:{فاعبده وتوكل عَلَيْهِ} [هود: 123]، فَإِنْ التَّوكُّل هُو الاسْتِعَانَة، وهِي من عبَادَة الله، لَكِن خُصَّت بِالذِّكر؛ ليَقصدها المتعبد بخصوصها، فَإِنَّها هِيَ العونُ على سَائِر أَنْواع العِبَادَة؛ إِذْ هُو- سُبْحَانَهُ- لَا يُعبد إِلَّا بِمَعونته».
ذكر المصنف رحمه الله هذه المسألة، وهي أنها: إن قيل: فإذا كان جميع ما يحبُّه الله داخلًا في اسم العبادة؛ فلماذا عطف عَلَيْهَا غَيرهَا، كَقَوْلِه فِي فَاتِحَة الكتاب:{إياك نعْبد وإِيَّاك نستعين} [الفاتحة: 5]، فعطفت الاستعانة على العبادة، فإذا كانت الاستعانة من العبادة فلماذا حصل العطف؟ والأصل أن العطف يقتضي المغايرة، وذكر المصنف هنا أمثلة عُطفت فيها أمور داخلة في العبادة عليها؛ كقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123]، حيث
(1)
أخرجه الطبري في «تفسير» (2/ 569) من قول الحسن وقتادة، ثم ذكر أن ابن مسعود كان يقول:«إنَّ حَقَّ تلاوته: أن يُحِلَّ حلالَه، ويُحَرِّم حرَامه، وأن يَقرأه كما أنزله الله عز وجل، ولا يُحَرِّفه عن مواضعه» .
عطف التوكل على العبادة، وقول نوح:{اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} [نوح: 3]، وكذلك قول كثير من الرسل!
والجواب: أن لهذا نظائر كثيرة جاءت في النصوص؛ كقوله سبحانه وتعالى: {إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]؛ فالفحشاء من المنكر، وكذلك قوله:{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90]؛ فقال: إيتاء ذي القربى هو مِنْ العدل والإحسان، كما أنَّ الفحشاء والبَغي من المنكر، وهذا العطف يسمى عطف الخاص على العام؛ فالعام هنا العبادة، والخاص هو الاستعانة والتوكل، وكذا العدل عام هنا، وإيتاء ذي القربى خاص؛ فهو من العدل، والفحشاء والبغي من المنكر، فهذا من باب عطف خاص على العام.
ثم بَيَّن سبب هذا العطف؛ وأنه يكون تارة لكون أحدهما بعض الآخر؛ فيعطف عليه تخصيصًا له بالذِّكر، فيكون سبب هذا التخصيص بيان قيمته وأهميته. وقال:«لكونه مطلوبًا بالمعنى العام والمعنى الخاص» .
وتارة تتنوع دلالة الاسم في حال الإفراد وفي حال الاقتران؛ مثل الفقير والمسكين، فيُعطف هذا على هذا، فيكون إذا أُفردا دخل فيه الآخر، وإذا اقترنا اختص هذا بأمر واختص هذا بأمر.
فأنت إذا قلت: المسكين عمومًا دخل فيه الفقير، وإذا قلت: الفقير عمومًا دخل فيه المسكين، لكن إذا ذُكر الفقير والمسكين في سياق واحد؛ كقوله تعالى:{إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة: 60]؛ فيكون الفقير نوع والمسكين نوع، فقال هنا: «وتارة تتنوع
دلالة الاسم في حال الانفراد والاقتران؛ فإذا أُفرد عَمَّ، وإذا قُرِن بغيره خُصَّ؛ كاسم الفقير والمسكين في مثل قوله:{للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} [البقرة: 273]، وقوله:{إطعام عشرة مساكين} [المائدة: 89]، فهنا دخل فيه الآخر، وأما إذا اقترنا في سياق واحد؛ فإن الفقير هو الذي لا يَجد قوت يومه، والمسكين هو الذي لا يَجد قوتَ سَنَتِه؛ كما في قوله:{إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة: 60]، ومعنى هذا: أنَّ الفقراء نوع، والمساكين نوع آخر، إذًا صارَا نوعين.
وقد قيل: إن الخاص المعطوف على العام لا يدخل في العام حال الاقتران، بل يكون من باب العطف الذي يقتضي المغايرة.
فقاعدة: أن العطف يقتضي المغايرة لها استثناء؛ فليس كل عطف يقتضي المغايرة في كل حال.
وضرب المصنف أمثله هنا؛ منها قول الله سبحانه وتعالى: {من كان عدوًّا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} [البقرة: 98]؛ حيث ذكر الله الملائكة، ثم ذكر بعدهم جبريل وميكال، مع أنَّ جبريل وميكال من الملائكة.
وكذلك قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم} [الأحزاب: 7]؛ فذكر النبيين، ثم ذكر بعض النبيين؛ فقال:{ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم} [الأحزاب: 7].
قال المصنف: «وذكر الخاص مع العام يكون لأسباب متنوعة» .
منها: بيان شرفهم ومكانتهم؛ كما ذكر الله تعالى جبريل وميكال بعد ذكر الملائكة؛ فهذا تخصيص لهم؛ لشرفهم ومكانتهم، وكذلك عندما ذكر الله جل وعلا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وإبراهيم وموسى وعيسى بعد
النبيين؛ لأنهم أولو العزم من الرسل، وهذا تخصيص لبيان شرفهم ومكانتهم.
وتارَة لكَون العَام فِيهِ إِطْلَاق قد لَا يُفهم مِنْهُ العُمُوم، كَمَا فِي قَوْله:{هدى لِلمُتقين} [البقرة: 2]، ثم ذكر من أوصافهم بعد ذلك:{الَّذين يُؤمنُونَ بِالغَيْبِ ويقيمون الصَّلَاة ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ * والَّذين يُؤمنُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك ومَا أنزل من قبلك} [البقرة: 3، 4].
فقوله: {يُؤمنُونَ بِالغَيْبِ} [البقرة: 3] يتَنَاول كلَّ الغَيْب الَّذِي يجب الإِيمَانُ بِهِ، لَكِن فِيهِ إِجْمَال؛ إذ مفهوم الإيمان يشمل عدة أمور، منها ما هو غيب ومنها أمور أخرى، فَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة على أَنَّ من الغَيْب ما أُنزل إليك وما أُنزل مِنْ قبلك، فخصه بذلك لأهميته؛ لنؤمن بما أنزل إلينا وما أنزل من قبلنا، فهذا أمر لا بد منه؛ لأن الكفر بما أنزل من قبل النبي صلى الله عليه وسلم خروج من الإيمان، ولمَّا لم يستحضر الذهن مثل هذه الأمور، كان لا بد ذكرها وتخصيصها؛ لكي تُعلم قيمتها ومكانتها، وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب، وبالإخبار بالغيب هو ما أُنزل إليك وما أنزل من قبلك، يعني: قد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به، ومن هذا الإيمان بما أنزل وما أنزل من قبلك باعتبار أنه من الغيب، فقد يكون المراد هذا وقد يكون المراد هذا، فهنا يقتضي أن له خاصية ليست لسائر الأمور.
ومن هذا الباب قوله تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة} [العنكبوت: 45]، وقوله:{والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة} [الأعراف: 170]؛ فتلاوة الكتاب هي اتِّباعه والعمل به، ولا شك أن الصلاة من العمل به، كما قال ابن مسعود في قوله:{الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} [البقرة: 121]، قال: «يُحِلُّون حلالَه
ويُحَرِّمون حرامَه، ويُؤمنون بمتشابهه، ويعملون بمُحكمه»؛ فاتِّباع الكتاب يتناول الصلاة وغيرها، لكن خَصَّها بالذكر لمزيتها؛ ولا شك أنها أعظم أمر بعد الشهادتين.
ثم قال: وكذلك قوله لموسى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14]، وإقامة الصلاة لذكره تعالى مِنْ أَجَلِّ عِبادته.
وكذلك قوله تعالى: {اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا} [الأحزاب: 70]، فلا شك أن القولَ السَّديدَ مِنْ تقوى الله، ولكن أحيانًا تُمتحن التقوى في نفس العبد، وبخاصة في الأمور التي فيها حظٌّ للنفس، فقد يخطئ شخص في حقك خطأ غير متعمد، ولكن أحيانًا من ضعف التقوى قد تعتدي بالقول، وتميل النفس إلى التجاوز؛ لأنها أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، ولكن إذا كانت التقوى قائمة في النفس فستكبح جماحها.
فالقول السديد هذا يدل على أن التقوى متمكنة في القلب، وتظهر في حال الشدة والمصيبة.
وكذلك قوله تعالى: {اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} [المائدة: 35]، وقوله جل جلاله:{اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 119]، فإن هذه الأمور- أيضًا- من تمام التقوى.
وكذلك قوله جل وعلا: {فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123]؛ فإن التوكل هو الاستعانة، وهو من عبادة الله؛ لكن خُصَّ بالذكر؛ ليَقصده المتعبد؛ لأنه معين له على سائر أنواع العبادة.
وإذا قلت: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] فاعلم أنه لا غنى لك عن عون الله عز وجل طرفة عين، وكل ما حصل لك من خير
وطاعة وعبادة فهو بعون الله عز وجل وتوفيقه، ولذا لزم على العبد في هذا المقام أن يخص الاستعانة بالذكر بعد العبادة؛ لأنها العون على سائر أنواع العبادة.
فإذا عمر الإيمانُ القلبَ- والقلب له أعماله، والتي منها اليقين والتوكل والاستعانة وغير ذلك- كان لا بد من صدق مع الله سبحانه وتعالى؛ لذا قال:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 119]، وأعظم أنواع الصدق: الصدق مع الله سبحانه وتعالى، والصدق في التوكل عليه جل وعلا، فإذا قامت هذه المعاني في القلب أعان الله سبحانه العبد على سائر الطاعات، وإذا ضعفت كان ذلك مدعاة للتكاسل والتباطؤ عن العبادة.
فبقدر قوة اليقين وقوة التوكل والعزيمة في القلوب بقدر ما ينطلق الإنسان في سائر أنواع الطاعات.
فإذن: هذا التخصيص يُبين قِيمة ومَزِيَّة هذه العبادة التي أُفردت بالذِّكر بعد العموم والإجمال.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «إِذا تَبَيَّن هَذَا فكمال المَخْلُوق فِي تَحْقِيق عُبوديته لله، وكلما ازْدَادَ العَبْدُ تَحْقِيقًا للعبودية ازْدَادَ كَمَالُه، وعَلَتْ دَرَجَتُه» .
كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وهذا الكمال لا يوجد في المظهر، ولا في المال ولا في سائر أمور الحياة الدنيا الزَّائفة، وإنَّما الكمال في عبادة الله تعالى وحده.
فإذا أراد العبدُ الكمالَ الحقيقي فإنَّ كماله يكون بتحقيقه العبودية لله سبحانه وتعالى؛ بعد أن يتخلص من شَرِّ نفسِه ووساوسها وخطراتها ومن همزات الشَّياطين، ثم سيجد أثر ذلك- بفضل الله عليه- صلاحًا في نفسه، وصفاء في قلبه، ونَقاء لِرُوحه، وهداية للأهل وبركة في المال والولد، بل وبركة في الحياة كلها، ومن ذلك الذِّكر الحَسَن بين الناس حَيًّا وميتًا، وأعظم من هذا: عُلو درجته عند الله سبحانه وتعالى.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «ومَن تَوَهَّم أن المخلوق يَخرج من العبودية بوجهٍ من الوجوه، أو أنَّ الخروج عنها أكمل؛ فهو مِنْ أجهل الخلق، بل من أضَلِّهم؛ قال تعالى:{وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا سبحانه بل عباد مُكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم مِنْ خشيته مشفقون} [الأنبياء: 26 - 28]، وقال تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88 - 95]، وقال تعالى في المَسيح:{إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلًا لبني إسرائيل} [الزخرف: 59]، وقال تعالى:{وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 19، 20]، وقال تعالى:{لن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 172، 173]، وقال تعالى:{وقال ربكم ادعونى أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60]، وقال تعالى: {ومن آياته الليل والنهار
والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن إن كنتم إياه تعبدون * فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} [فصلت: 37، 38]، وقال تعالى:{وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 205، 206].
وهذا ونحوه- مما فيه وصف أكابر الخلق بالعبادة، وذم مَنْ خرج عن ذلك- متعدد في القرآن، وقد أخبر أنه أرسل جميع الرسل بذلك؛ فقال تعالى:{وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]، وقال:{ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36]، وقال تعالى لبنى إسرائيل:{يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون} [العنكبوت: 56]، {وإياي فاتقون} [البقرة: 41]، وقال:{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 21]، وقال:{وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، وقال تعالى:{قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصًا له الدين * وأمرت لأن أكون أول المسلمين * قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل الله أعبد مخلصًا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه} [الزمر: 11 - 15].
وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله؛ كقول نوح ومن بعده- عليهم السلام في سورة الشعراء
(1)
وغيرها: {اعبدوا الله
(1)
جاء قولُ نوح عليه السلام في سورة الشعراء بلفظ: {أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 106 - 109].
ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 59]
(1)
.
وفي «المسند» عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«بُعثتُ بالسَّيف بين يدي السَّاعة حتى يُعبد الله وحده لا شريكَ له، وجُعل رِزقي تحت ظِلِّ رُمحي، وجُعل الذِّلَّة والصَّغار على مَنْ خالف أمري»
(2)
.
وقد بَيَّن أنَّ عباده المخلصين هم الذين يَنجون من السيئات التي زيَّنها الشيطان؛ قال الشيطان: {قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} [الحجر: 39، 40]، قال تعالى:{هذا صراطٌ عليَّ مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 41، 42]، وقال:{فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} [ص: 82، 83]، وقال في حَقِّ يوسف:{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} [يوسف: 24]، وقال تعالى:{سبحان الله عما يصفون * إلَّا عباد الله المخلصين} [الصافات: 159، 160]، وقال تعالى:{إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} [النحل: 99، 100].
وبالعبودية نعت كلَّ مَنْ اصطفى مِنْ خلقه؛ كقوله: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار * إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} [ص: 45 - 47]، وقوله:{واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب} [ص: 17]، وقال عن
(1)
جاء هذا في سورة الأعراف آية (59)، و (65)، و (73)، و (85)، وفي سورة هود آية (50)، و (61)، و (84)، وفي سورة المؤمنون آية (23)، و (32).
(2)
تقدم تخريجه.
سليمان: {نعم العبد إنَّه أَوَّاب} [ص: 30]، وعن أيوب:{نعم العبد} [ص: 44]، وقال عنه:{واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه} [ص: 41]، وقال عن نوح عليه السلام:{ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدًا شكورًا} [الإسراء: 3]، وقال عن خاتم رسله:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1]، وهو أولى القِبلتين، وقد خَصَّه الله بأن جعل العبادة فيه بخمسمائة ضِعف، والمقصود بمضاعفة الحسنات: هو المسجد الذي حرقه اليهود عليهم لعنة الله، ويظن البعضُ أن المسجد الأقصى هو الصَّخرة والقُبَّة المحيطة بها، وليس كذلك، وقال:{وأنه لما قام عبد الله يدعوه} [الجن: 19]، وقال:{وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة: 23]، وقال:{فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 10]، وقال:{عينًا يشرب بها عباد الله} [الإنسان: 6]، وقال:{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا} [الفرقان: 63]، ومِثل هذا كثير متعدد في القرآن».
رجع المصنف إلى الرد على المتصوفة، وسبق أن بعض أهل التصوف ظنوا أن العبودية مرحلة، إذا استطاعوا تجاوزوها وصلوا إلى مقام أكبر وأعظم، وهو مقام الخواص، وخواص الخواص؛ وبالتالي تسقط عنهم العبادة والتكاليف، ولا شك أن هذا باطل.
ولذلك قال: «ومَن توهم أن المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه، أو أن الخروج عنها أكمل- فهو مِنْ أجهل الخلق، بل من أضلهم» . وهذه دعوى بعض المتصوفة الذين يزعمون أن العبادة ما هي إلا مرحلة، وهي أمور خاصة بالعوام، وأن الواحد منهم متى ما تخلى بخلواته وانشغل بأوراده وأذكاره الخاصة المبتدعة- فإنه
يَنسلخ من هذه العبادة ويخرج منها، حتى إنه بعد ذلك لا يأتمر بمعروف ولا يَنتهي عن منكر؛ ويرى أن هذه الأمور تسقط عنه، وأن بلغ مقامًا أعظم من مقام عبادة الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن هذا- كما قال المصنف- لا يقع إلا مِنْ أجهل الخلق ومِن أَضَلِّهم وأَبْعَدهم عن دين الله عز وجل.
وهذه الآيات بَيَّنت أنَّ أفضلَ مَقام وأفضل وصف يتصف به جميع الخلق- بمن فيهم الرُّسل والملائكة- هو وصف العبودية؛ فالملائكة قال الله تعالى عنهم: {بل عباد مكرمون} [الأنبياء: 26]، فوصفهم بأنهم عباد له جل وعلا، وأنَّهم لا يَخرجون عن مقتضى هذه العبودية؛ فقال:{لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6]، وهذه أخص أوصافهم.
وكذلك الرُّسل عباد لله، لا يخرجون عن هذا الوصف الذي هو شَرَفٌ لهم؛ فبعد أن أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالإسراء أنزل عليه قوله:{سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1]، ولما ذكر قصة ميلاد عيسى- عليه السلام العجيبة، ذكر عبوديته له سبحانه وتعالى؛ فقال:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 30، 31]، وهكذا في سائر الآيات التي ذكرت دعوة الرسل إنما هي دعوة لعبادة الله وحده.
فليس للعبد إلا أن يحقق عبودية الله سبحانه وتعالى، وهذا وحده هو سبيل الكمال وسبيل النَّجاة، وهو أساس دعوة الرُّسل، وأما دعوى
إسقاط العبادات فضلالٌ كبير وشر مستطير وخسران مبين.
والمصنف بعد أن أورد عددًا من الآيات في هذه المسألة- بَيَّن أن القرآن أكثر مِنْ ذكر شأن العبادة وبيان منزلتها، وتوضيح أنها هي
الصلة بين العبد وبين ربه عز وجل؛ لذا فمن أراد أن يحقق الصلة بينه وبين الله تعالى فليُحقق ما جاء في الحديث القدسي: «وما تقَرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يَزال عبدي يتقرب إليَّ بالنَّوافل حتى أُحِبَّه»
(1)
.
فتحقيق الصلة بالله والقُرب منه ومحبته ونَيْل رِضوانه وجَنَّته عز وجل إنَّما يكون بتحقيق العبادة، والسعيد مَنْ عرف، وبعد أن عرف لَزِم، فيَنبغي لزوم هذه الحقائق الشرعية، وعدم المَحيد عنها، ومهما حاول أولئك الضالُّون أن يَطمسوها فهي واضحة جلية بَيِّنَّة لكلِّ مَنْ كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أما من ضل بترهات أولئك وأقوالهم وأباطيلهم فهو جاهل وما ضَرَّ إلا نفسه، ولو عاد إلى كتاب الله عز وجل وإلى سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم لرأى من مكانة العبادة وفضلها وعِظمها ما يجعله يجتهد في طاعة ربِّه وعبادته عز وجل.
* * *
(1)
أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة ?.
قال المصنف رحمه الله:
«فصل
[في التَّفاضل بالإيمان]
إذا تبين ذلك، فمعلوم أنَّ هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلًا عظيمًا، وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص، ولهذا كانت إلهيَّةُ الربِّ فيها عموم وخصوص».
بعد أن بَيَّن المصنفُ- رحمه الله مفهوم العبادة ومعناها، وبَيَّن مواقف الطوائف منها، وذكر ما يتعلق بها من حيث أصلها واجتماع شروطها، شرع في هذا الفصل في بيان التفاضل في الإيمان؛ فالناس في أمر العبودية ليسوا على حدٍّ سواء، فهم يتفاضلون فيما بينهم بحسب ما حَقَّقه كلُّ واحد منهم في هذا الأمر، ولذلك مَنْ كان همته عالية وعنده رغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى من الفضل والأجر العظيم- فلا بد له أن يستحضر في قلبه عددًا من المعاني، إذا امتثلها وتعلق بها رفع ذلك من مقام عبوديته لله عز وجل، وخَلَّصه من أنواعٍ من عبوديات في الدنيا.
لذلك كان لا بد لمن كان له مثل هذه الهمة أن يعلم هذه المعاني وأن يستحضرها ثم يتحقق بها.
ولمَّا كانت العبادة هي الغاية التي خُلِق من أجلها الجنُّ والإنسُ، تفاضل الناس فيها تفاضلًا عظيمًا، وهو تفاضلهم في حقيقة
الإيمان، والإيمان والعبادة هنا بمعنى واحد، فالإيمان- كما هو معلوم- قول وعمل، وهكذا العبادة قول وعمل؛ فهناك قول، وهو قول القلب وقول اللسان، وعمل، وهو عمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح؛ فكل هذه أنواع من العبادة على العبد أن يقوم بها وأن يحققها.
والناس ينقسمون في أمر العبودية إلى عام وخاص، ولهذا كانت ربوبية الله لهم فيها عموم وخصوص؛ فهناك عبودية عامَّة، وهي عبودية القهر والذل، كما جاء في قوله تعالى:{إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا} [مريم: 93]، فكل الخلق مَقهورون مَربوبون لله عز وجل، تحت حكمه وتحت إرادته، وتحت تدبيره؛ فهذه تسمى عبودية عامَّة.
والعبودية الخاصة هي التي تكون لأهل الإيمان وحدهم؛ ممن استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، واستقام على شرع الله عز وجل، وقد سبق بيانها.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «ولهذا كان الشِّركُ في هذه الأُمَّة أَخْفَى مِنْ دَبيب النَّمل» .
شرع المصنف رحمه الله في ذكر عدد من العوائق تتسبب في نقص إيمان العبد وبُعده عن عبوديته لله عز وجل، ومن تلك العوائق: ضعف الإخلاص، كما قال عبد الله بن المبارك:«رُبَّ عملٍ صغير تُعَظِّمُه النِّيَّة، ورُبَّ عملٍ كبيرٍ تُصَغِّرهُ النيَّة»
(1)
، يقولُ الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ رحمه الله:«إنَّما يريدُ اللهُ عز وجل مِنْكَ نِيَّتَكَ وإرادتَكَ»
(2)
.
فالإنسان لا بد أن يُخلص العبودية لله عز وجل، لكن هناك عوارض وموانع وهذه العوارض والموانع في غالب الأمر تأتي من نفس الإنسان، بحكم تعلُّقه بأمر من أمور الدنيا؛ فيقع منه الإخلال بالعبودية، وهذا الإخلال إمَّا أن يقع في الإخلاص، وإما أن يقع في المتابعة.
فَلِكَي يستقيم أمرُ الإخلاص ويستقيم أمر المتابعة لا بد من النظر في هذه العوارض والموانع في ذات النفس ومُعالجتها، وهذا الخَلل قد يكون في طريقة التفكير، أو في استجابة الإرادة، والقلبُ يُراد به كلا الأمرين: أمر الفكر والنَّظر، وأمر الإرادة والعمل.
فإذا كان أمرُ الفِكر والنَّظر متعلقًا بأمور الدنيا وزهرتها
(1)
أورده ابنُ أبي الدُّنيا في «الإخلاص والنِّيَّة» (ص 73)، دار البشائر، الطبعة الأولى.
(2)
أورده ابنُ أبي الدُّنيا في «الإخلاص والنِّيَّة» (ص 74).
وأحوالها، فهذا مانع قد يحجز العبد عن تحقيق الإخلاص لله سبحانه وتعالى، ومن ثم يدخل الشرك الخفي في النفس؛ فلو كان هناك مطمع في مدح أو ثناء أو جاه أو مال أو رئاسة أو نحو ذلك من مطامع الدنيا، فهذا المطمع قد يحمل العبد على عدم الإخلاص في هذا العمل، وقد يمنعه عن اتباع الشرع.
كذلك الحال في الهوى، أَلَا ترى إلى ذلك الشخص الذي ينشغل بتجارته حتى إنه من انشغاله بتجارته قد لا يُصلي، فلا يُغلق مَحِلَّه، ولا يَستجيب لداعي الله سبحانه وتعالى.
وذاك الشخص الذي يأتي إلى الصلاة وهو مُنشغل بأمر الدنيا، فيصلي ويركع ويسجد ولكن لا يَدري ماذا صَلَّى؟ ولا ماذا سَبَّح؟ ولا ماذا قرأ الإمام؟ كل ذلك لانشغاله بأمر الدنيا.
فهذه الموانع لا بد من استعراضها وبيانها، وقد أشار المصنف هنا إلى ما رواه أَبو موسى الأشعري ? قَالَ:«خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ؛ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ!» . فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ: وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُه»
(1)
، وهذا يعني أن العبد لا تستطيع أن يبرئ نفسه من مثل هذا الحال؛ لأنه قد يقع فيها وهو لا يَشعر، فلا بد إذًا من أخذ الحيطة والحذر، ولا بد أن يكون الإنسان على دراية بهذه الموانع التي قد تُفسد عليه أمر دينه وعبادته.
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (19622)، والطبراني في «الأوسط» (3479)، وحسنه العلامة الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (36).
ثم معلوم أنَّ للقلب أعمالًا، وهذه الأعمال لا بد من تحقيقها فيما يتعلق بحقِّ الله سبحانه وتعالى، فمتى ما قامت هذه الأعمال في قلبه كانت سببًا لاستكماله لطاعة الله سبحانه وتعالى، واستكماله للدرجات العلى والمنازل الرفيعة التي أعدَّها الله سبحانه وتعالى للمخلصين من عباده.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وفى «الصَّحيح» عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «تَعِسَ عبدُ الدِّرهم، تَعِسَ عبدُ الدِّينار، تَعِسَ عبدُ القَطيفة، تَعِسَ عبدُ الخميصة، تَعِس وانتكس، وإذا شِيك فلا انتقش؛ إن أُعطي رَضِي، وإن مُنِع سَخِط»
(1)
.
فسَمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عبدَ الدِّرهم، وعبدَ الدينار، وعبد القَطِيفة، وعبد الخميصة، وذكر ما فيه دعاء وخبرًا، وهو قوله:«تَعِس وانتكس، وإذا شِيك فلا انتُقِش» ، والنقش: إخراج الشَّوكة من الرِّجْل. والمنقاش: ما يُخرج به الشوكة.
وهذه حال مَنْ إذا أصابه شَرٌّ لم يَخرج منه ولم يُفلح؛ لكونه تَعس وانتكس؛ فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنَّه إذا أُعطي رضي، وإذا مُنع سخط، كما قال تعالى:{ومنهم مَنْ يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يُعطوا منها إذا هم يسخطون} [التوبة: 58]؛ فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله».
ذكر المصنف المعوق الثاني من معوقات تحقيق العبودية لله تعالى: وهو تعلق الإنسان بالدنيا على حساب تحقيق العبودية لله تعالى، واستدل لذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَعِس عبدَ الدِّينار،
(1)
أخرجه البخاري (2887) من حديث أبي هريرة ?.
تَعِس عبدَ الدِّرهم، تَعِسَ عبدَ القَطِيفة، تَعِس عبدَ الخميصة، تَعِسَ وانتكس، وإذا شِيك فلا انتقش؛ إن أُعطي رَضِي، وإن مُنِع سَخِط»، فمَن عبدَ الدينار والدرهم ولهث وراءهما- لا يُحِلُّ حلالًا ولا يُحرم حرامًا من أجل اكتسابها، وكان همه هو جمع المال وزينة الدنيا من ملبس ومركب ومسكن ونحو ذلك، ولا يبالي من أين اكتسب هذا المال ولا فيما أنفقه، ويغرُّه المال وينسى أنه سيسأل عنه يوم القيامة؛ كما جاء في الحديث:«لا تزول قَدَمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عُمره فيما أفناه، وعن عِلمه فِيم فَعَل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جِسمه فيم أبلاه»
(1)
.
وقد سمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة؛ لأن العبودية في أصلها هي الذُّلُّ والخضوع، وهذا المحب لهذه الأشياء الجامع لها والمغتر بها- يحمله حبها لها على الذل والخضوع في طلبها وجمعها، ويكون ذلك على حساب دينه وعبوديته لربه، وتبقى أقواله وأعماله وحركاته وسكناته تبعًا لتحصيل هذه الأشياء ويلهث وراءها؛ فتستعبده.
وقوله: «فيه دعاء وخبر، وهو قوله: «تعس وانتكس» ، فهذا دعاء عليه فما بالك بمن دعا عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم؟! فيجب أن يحذر من ذلك، ولو علم بحقيقة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لضاقت الدنيا عليه.
وكذلك الخبر: «وإذا شِيك فلا انتقش» ، أي: إذا أصابته شوكة ما استطاع إخراجها.
لذا يجب على الإنسان أن يحتاط لنفسه؛ لأن هذه الأمور قد
(1)
أخرجه الدارمي (554) والترمذي (2417) من حديث أبي برزة الأسلمي ?، وصححه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (126).
تقع في النفس وتهواها وتتعلق بها؛ بحيث يصعب عليها مفارقتها، وبالنظر لأحوال تجد بعض أهل الدنيا ممن عندهم من الأموال ما يكفي أمة من الناس، ومع ذلك تراه على حالة رثة، وتجده من أبخل الناس على نفسه، وهو في ضنك من العيش وفي هَمٍّ وغم، وقد لا ينام الليل؛ بسبب أن حبَّ الدنيا قد تمكن في قلبه، وأصبح عبدًا خادمًا للمال بدل أن يكون هذا المال وسيلة لقضاء حوائجه.
قال المصنف رحمه الله: "وهذه حال مَنْ إذا أصابه شَرٌّ لم يَخرج منه ولم يُفلح؛ لكونه تَعس وانتكس؛ فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنَّه إذا أُعطي رضي، وإذا مُنع سخط، كما قال تعالى:{ومنهم مَنْ يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يُعطوا منها إذا هم يسخطون} [التوبة: 58]؛ فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله».
وهذا من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على مَنْ هذا حاله؛ قال المصنف: «وهذه حال من أصابه شرٌّ لم يخرج منه ولم يُفلح؛ لكونه تَعس وانتكس» ، فشرٌّ ووبال على الإنسان أن يكون على مثل هذا الحال، وسيأتي أن مدار هذه الأمور كلها على الحبِّ؛ لأن تعريف العبادة هي كمال المحبة مع كمال الذُّلِّ، فأصل الأمر هو الحب، فإذا كان حبك لله عز وجل تعَلَّقَ القلب بما يُرضي الله عز وجل، وسعى في تحقيقه، وإذا اختل هذا الحب وتعلق بغير الله سبحانه وتعالى فهذا هو الذل بعينه، وهو الحياة الضنك والشقاء والانتكاس.
ولما كان كل إنسان إنما يبحث عن السعادة والحياة الطيبة- لزم أن يعلم أنها في اتباع منهج الله؛ قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وأن التعاسة والشقاء في الإعراض عن منهجه جل وعلا؛ قال سبحانه:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124].
لذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاسة على من تعلق قلبه بمثل هذه الفانية واستعبدته؛ لأن عاقبتها إلى شقاء، وإلى انتكاس، وإلى تعاسة متحققة؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم المتعلق بالدنيا بأنه إذا أُعطي رضي، وإذا مُنِع سخط، وهذا حال كثير من الناس ممن استعبدتهم الدنيا، حتى إنهم ليتسخطوا أقدار الله عز وجل؛ إن أعطاهم نعمة رضوا بها وفرحوا، وإن منعهم تسخطوا وجزعوا؛ وقد قال الله تعالى في وصف هؤلاء:{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36].
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وهكذا حال مَنْ كان متعلقًا برئاسة» .
ذكر المصنف معوقًا آخر من معوقات تحقيق العبودية لله، وهو تعلق القلب بأمر من أمور الدنيا لدرجة تُنسيه حقَّ الله عليه، وهو التعلق بالرئاسة.
وحبُّ الرئاسة هي شهوة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحبِّ الظهور، وهي التي حَذَّر منها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله:«إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة؛ فنِعم المرضعةُ وبئست الفاطمةُ»
(1)
.
وقوله: «نعم المرضعة» وذلك أولها؛ لأنَّ معها المال والجاه والسلطة، وقوله:«بئس الفاطمة» أي: آخرها؛ لأنَّ معه القتل والعزل في الدنيا والحسرة والتبعات يوم القيامة، وقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم عواقب الرئاسة ومراحلها الثلاث في قوله:«إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي: أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا مَنْ عَدَلَ»
(2)
.
بل قال صلى الله عليه وسلم لرجلين سَأَلَاه الإمارةَ: «إنَّا لا نولِّي هذا مَنْ سأله، ولا مَنْ حرص عليه»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (7148) من حديث أبي هريرة ?.
(2)
أخرجه الطبراني في «الكبير» (132) من حديث عوف بن مالك ?، وصححه الألباني في «الصحيحة» (1562).
(3)
أخرجه البخاري (7149) ومسلم (1733) من حديث أبي موسى ?.
ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم صنفًا من الناس وهم الذين لا يَعنيهم ولا يَشغل فكرهم سوى رضا الله سبحانه وتعالى؛ سواء كانوا ظاهرين أم مُستترين، وفي المقدمة أو في المؤخِّرة، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:«طُوبى لعبدٍ آخذٍ بِعِنان فرسه في سبيل الله، أشعثَ رأسُه، مُغْبَرَّة قدماه؛ إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في السَّاقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شَفع لم يُشفَّع»
(1)
.
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أُرْسِلَا في غَنَمٍ بأفسدَ لها مِنْ حرص المرء على المال والشَّرف لدينه»
(2)
.
(3)
.
قال سفيان الثوري رحمه الله: «ما رأيتُ الزهدَ في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (2887) من حديث أبي هريرة ?، وقد تقدم أَوَّلُه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «تَعِس عبدُ الدِّينار
…
».
(2)
أخرجه الترمذي (2376) والدارمي (2772) من حديث كعب بن مالك ?، وصححه الألباني في «المشكاة» (5181).
(3)
«شرح حديث ما ذئبان جائعان» (ص 31).
(4)
«سير أعلام النبلاء» (7/ 262).
وقال يوسف بن أسباط: «الزهد في الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا»
(1)
.
وكان السلفُ رحمهم الله يُحَذِّرون مَنْ يحبون منها؛ فقد كتب سفيان إلى صاحبه عبَّاد بن عبَّاد رسالة فيها: «إيَّاك وحب الرئاسة، فإن الرجل تكون الرياسة أحبَّ إليه من الذهب والفضة، وهو بابٌ غامض لا يُبصره إلا البصير من العلماء السماسرة؛ فتَفقَّد نفسك واعمل بنية»
(2)
.
وقال أيوب السختياني: «ما صدق عبد قط فأحبَّ الشهرةَ»
(3)
.
وقال بشر بن الحارث: «ما اتَّقى اللهَ مَنْ أحبَّ الشهرة»
(4)
.
وقال يحيى بن معاذ: «لا يفلح مَنْ شممت رائحة الرياسة منه»
(5)
.
وقال شدَّاد بن أوس ?: «يا نعايا للعرب، إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية»
(6)
.
قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: «حبُّ الرئاسة»
(7)
.
قال ابن تيمية مُعَقِّبًا: «فهي خفية، تخفى عن الناس، وكثيرًا ما
(1)
أخرجه الدينوري في «المجالسة وجواهر العلم» (1/ 396) برقم (95).
(2)
أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (6/ 376)، وانظر «تفسير سفيان الثوري» (ص 19).
(3)
أخرجه ابن الجعد في «مسنده» (ص 190)، وانظر:«سير أعلام النبلاء» (6/ 20).
(4)
أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 476)، وانظر:«سير أعلام النبلاء» (10/ 476).
(5)
«سير أعلام النبلاء» (13/ 15).
(6)
أخرجه الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/ 356).
(7)
أخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (10/ 75).
تخفى على صاحبها»
(1)
.
فالنفس قد تميل إلى الترأس وإلى التصدر، وإلى أن يكون لها منزلة ومكانة بين الناس، فعلى الإنسان أن يَعلم أن هذا الأمر فيه مَفسدة وشر على نفسه؛ فلا يستشرف إليه ولا يطلبه، وكما جاء في الحديث المنع من هذه الأمور، فإن الإنسان لا يَنبغي أن يسألها، وإن كان العلماء قد فَصَّلوا في هذا، كما كان حال يوسف عليه السلام؛ حين قال للمَلِك:{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
لكن في حاصل الأمر: أن الإنسان لا يسأل هذه الرئاسة ولا يَطلبها، وخاصة إذا كان فيه من الضعف ما لا يستطيع معه تحمل أعبائها، ولكن تبقى عنده نوازع إليها في نفسه، فالواجب عليه أن يَكبح جماحها، وأن لا تكون الرئاسة غاية مقصودة لذاتها، وأمَّا إذا ابتلي بها العبد من غير طلب منه- فسَيُعان عليها؛ فعن عبد الرحمن بن سمرة ?، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبدَ الرَّحمن بن سَمُرة، لا تسأل الإمارة؛ فإن أُعطيتها عن مَسألة وُكِلت إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألة أُعِنت عليها»
(2)
.
وهذا أمر كوني قدري قد يَبتلي اللهُ عز وجل العبدَ به؛ قال الله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء} [آل عمران: 26].
واعلم أنَّ غالب هؤلاء الذين هم في الرئاسات يعيشون في كدر؛ حتى تَفنى أعمارُهم، ولا يجدون طعمًا للراحة؛ فالرئاسة جعلتهم في الحقيقة محكومين وليس حاكمين؛ لما يتحملونه من أعباء
(1)
«مجموع الفتاوى» (16/ 346).
(2)
أخرجه البخاري (7147) ومسلم (1652).
ومسئوليات دنيوية، فضلًا عن حسابهم في الآخرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كلُّكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»
(1)
.
فحال الإنسان أنه يسعى إلى ما قد يكون فيه تعاسته وهلاكه وانتكاسته، ويظن أن فيه لذته وسعادته، بينما اللذة الحقيقية هي في القُرب من الله عز وجل بعبادته والأنس بطاعته.
* * *
(1)
أخرجه البخاري (893) ومسلم (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
قال المصنف رحمه الله تعالى: «أو بصورة» .
من الأمور التي تحول بين العبد وبين تحقيق عبوديته لله تعالى: التعلق بغير الله؛ قال ابن القيم: «[فصل: المفسد الثالث من مفسدات القلب: التعلق بغير الله تبارك تعالى]. وهذا أعظم مفسداته على الإطلاق، فليس عليه أضر من ذلك، ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه، فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعَلَّق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله عز وجل بتعلقه بغيره والتفاته إلى سواه، فلا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمَّله ممن تعلق به وصل»
(1)
.
ومن التعلق بغير الله: التعلق بالصُّور؛ فالإنسان قد يتعلق بامرأة ويُحِبُّها وقد تكون زوجة أو جارية له، وهو مالكها وسيدها، ولكنه مع ذلك يكون مملوكًا لها في واقع الحال، وكأنه عبدٌ بين يديها، وما يحصل هذا إلا لفراغ قلبه من التعلق بالله سبحانه وتعالى.
وقد يحمل التعلقُ بهذه الصور النفسَ على عبوديتها من أجل أنه تلذذ بالقُرب منها، بينما اللذة الحقيقية والطمأنينة الحقيقية هي كما قال الله سبحانه وتعالى:{الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله إلا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28].
(1)
«مدارج السالكين» (1/ 455).
وما أجمل ما قاله ابن القيم رحمه الله في «الطب النبوي» عند الحديث عن هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العِشق! إذ قال ابن القيم رحمه الله: «وعشق الصور إنما تُبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى، المُعرضة عنه، المتعوِّضة بغيره عنه، فإذا امتلأ القلب من محبة الله والشوق إلى لقائه، دفع ذلك عنه مرضَ عِشق الصور، ولهذا قال تعالى في حقِّ يوسف:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، فدل على أن الإخلاص سبب لدفع العشق وما يترتب عليه من السُّوء والفحشاء التي هي ثمرته ونتيجته، فصرفُ المسبَّب صرفٌ لِسببه، ولهذا قال بعض السلف: العِشق حركة قلبٍ فارغ، يعني: فارغًا ممَّا سِوى مَعشوقه
…
والعشق مركَّبٌ من أمرين: استحسان للمعشوق، وطمع في الوصول إليه، فمتى انتفى أحدُهما انتفى العشق، وقد أَعْيَت علةُ العشق على كثير من العقلاء، وتكلم فيها بعضهم بكلام يُرْغَب عن ذكره إلى الصَّواب»
(1)
.
ثم قال: «والمقصود: أنَّ العشق لما كان مرضًا من الأمراض، كان قابلًا للعلاج، وله أنواع من العلاج، فإن كان مما للعاشق سبيلٌ إلى وصل محبوبه شرعًا وقَدَرًا، فهو علاجه، كما ثبت في «الصَّحيحين» من حديث ابن مسعود ? قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، مَنْ استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنَّه له وجاء»
(2)
، فدلَّ المحبَّ على علاجين:
أصلي وبَدَلي، وأمره بالأصلي: وهو العلاج الذي وُضع لهذا
(1)
«الطب النبوي» (ص 201، 202).
(2)
أخرجه البخاري (5065) ومسلم (1400) من حديث عبد الله بن مسعود ?.
الداء، فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره ما وَجد إليه سبيلًا. وروى ابن ماجه في «سننه» عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لم نَرَ للمُتحابين مثل النِّكاح»
…
»
(1)
، إلخ ما قال
(2)
.
* * *
(1)
أخرجه ابن ماجه (1847) والحاكم في «المستدرك» (2/ 174) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في «الصحيحة» (624).
(2)
«الطب النبوي» (ص 204، 205).
قال المصنف رحمه الله تعالى: «ونحو ذلك من أهواء نفسه؛ إن حَصل له رَضِي، وإن لم يَحصل له سَخِط» .
ذكر المصنفُ رحمه الله أحدَ مُعَوِّقات تحقيق العبودية في نفس الإنسان، وهو اتِّباع الهوى؛ فالمعاصي والبدع كلها مَنشؤها من تقديم الهوى على الشرع؛ قال الله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوى} [النازعات: 37 - 39].
ففساد الدِّين يقع بالاعتقاد بالباطل، أو بالعمل بخلاف الحقِّ؛ «فالأول: البدع، والثاني: اتِّباع الهوى، وهذان هما أصل كلِّ شر وفتنة وبلاء، وبهما كُذِّبت الرسلُ، وعُصي الرب، ودُخلت النار، وحَلَّت العقوبات»
(1)
، ولذلك ما ذكر اللهُ الهوى في كتابه إلا على سبيل الذَّمِّ، وأَمَر بمخالفته، وبَيَّن أن العبد إن لم يَتَّبع الحقَّ والهدى اتَّبَع هواه؛ قال تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ} [القصص: 50]، وقال جل وعلا:{ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إِنْ تَحْمِل عَلَيْهِ يَلهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]، وقال سبحانه: {فَلا تَتَّبِعُوا الهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وإِنْ تَلوُوا أَوْ
(1)
انظر: «إعلام الموقعين» (1/ 106).
تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].
كما عَرَّف الإمامان ابنُ القيم وابنُ الجوزي رحمهما الله الهوى بأنَّه: «مَيْلُ الطَّبْع إلى ما يُلائمه»
(1)
.
وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «ما ذَكر الله عز وجل الهوى في كتابِه إلا ذَمَّه»
(2)
.
وقال سهل بن عبد الله: «هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك» ، وقال وهب:«إذا شككت في أمرين ولم تَدْرِ خَيْرَهما، فانظرْ أبعَدَهما من هواك فَأْتِهِ»
(3)
.
وقال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد، أي: الجهاد أفضل؟ قال: «جِهادُك هَوَاك»
(4)
.
وحقيقة اتباع الهوى: هو ما تَميل إليه النفسُ مما لم يُبحه الشَّرع، وخلاف مقصود الشرع؛ لأن «المقصد الشرعي من وضع الشَّريعة: إخراج المُكَلَّف عن داعية هواه؛ حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا»
(5)
.
وصاحب الهوى لا عقل له ولا خطام، ولا قائد له ولا إمام، إذ قد اتخذ إلهه هواه، فحيثما سار به سار، وأينما حل به فهو معه؛ فجميع أقواله وفتاويه ومواقفه تَبَعٌ لسلطان هواه عليه، فوقع تحت قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَواهُ وأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلمٍ وخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وقَلبِهِ
(1)
انظر: «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» لابن القيم (ص 469)، و «ذم الهوى» لابن الجوزي (ص 12).
(2)
انظر: «العقد الفريد» لابن عبد ربه (3/ 50)، و «ذم الهوى» لابن الجوزي (ص 12).
(3)
انظر: «تفسير القرطبي» (16/ 168).
(4)
أخرجه الن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 23).
(5)
«الموافقات» للشاطبي (2/ 289).
وجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
قال عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام: «ما ابتدع رجلٌ بدعة إلا أتى غدًا بما ينكره اليوم»
(1)
.
وقال عبد الله بن عون البصري: «إذا غلب الهوى على القلب، استحسن الرجل ما كان يَستقبحه»
(2)
.
(3)
؛ فانظر ماذا فَعل اتِّباع الهوى بأهله؟! نعوذ بالله من اتِّباعه.
* * *
(1)
«الشرح والإبانة على أصول السنَّة والديانة» ، لابن بطة (ص 148)، برقم (83).
(2)
«الإبانة الصغرى» لابن بطة (62 (.
(3)
«مجموع الفتاوى» (13/ 142).
قال المصنف رحمه الله: «فهذا عبدُ ما يهواه من ذلك، وهو رقيقٌ له؛ إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رِقُّ القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده، ولهذا يقال:
العبدُ حُرٌّ ما قَنع * والحرُّ عبدٌ ما طَمِع
(1)
وقال القائل:
أطعتُ مطامعي فاستعبدتني * ولو أني قنعتُ لكنت حرًّا
(2)
ويقال: الطمع غُلٌّ في العنق، قيد في الرِّجْل، فإذا زال الغُل من العنق زال القيد من الرِّجْل.
ويُروى عن عمر بن الخطاب ? أنه قال: «الطمعُ فَقر، واليَأس غنى، وإنَّ أحدكم إذا يئس مِنْ شيء استغنى عنه»
(3)
.
وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه، فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه، ولا يطمع به، ولا يبقى قلبه فقيرًا إليه، ولا إلى مَنْ يفعله. وأمَّا إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه، فإن قلبه يتعلق به؛ فيصير فقيرًا إلى حصوله وإلى مَنْ يظن أنه سبب في حصوله، وهذا في المال والجاه والصُّور وغير ذلك؛ قال الخليل صلى الله عليه وسلم:{فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون} [العنكبوت: 17].
(1)
عزاه الأبشيهي في «المستطرف في كل فن مستظرف» للكندي (1/ 155).
(2)
البيت لأبي العتاهية. انظر «ديوانه» (ص 61)، وذكر الدميري في «حياة الحيوان الكبرى» أن الحلَّاج- عليه من الله ما يستحق- قاله عند قتله (1/ 348).
(3)
أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (1/ 354) برقم (998)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (44/ 357).
فالعبد لا بد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبدًا لله، فقيرًا إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا اليه.
ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنَّما أُبيحت للضرورة، وفى النَّهي عنها أحاديث كثيرة في الصِّحاح والسُّنن والمسانيد؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزالُ المسألةُ بأحدكم حتَّى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم
(1)
»
(2)
، وقوله: «مَنْ سأل الناس وله ما يُغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشًا- أو خموشًا أو كدوحًا
(3)
- في وجهه»
(4)
، وقوله:«لا تَحِلُّ المسألة إلا لذي غُرم مُفظع، أو دم مُوجِع، أو فَقر مُدْقِع»
(5)
.
وهذا المعنى في «الصَّحيح» ، وفيه أيضًا: «لِأَنْ يَأخذ أحدُكم حبلَه فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس؛ أعطَوه أو
(1)
أي: قطعة لحم يسيرة؛ علامة على ذُلِّه بالسؤال.
(2)
أخرجه البخاري (1474) ومسلم (1040) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3)
قال الملا علي القاري في «مرقاة المفاتيح» (4/ 1313) في بيان معاني هذه الكلمات: «ألفاظ متقاربة المعاني: جمع خمش وخدش وكدح، ف «أو» هنا إمَّا لشك الراوي؛ إذ الكل يُعرب عن أثر ما يَظهر على الجلد واللحم من ملاقاة الجسد ما يقشر أو يُجرح، ولعل المراد بها: آثار مُستنكرة في وجهه حقيقة، أو أمارات؛ ليُعرف ويشتهر بذلك بين أهل الموقف، أو لتقسيم منازل السائل؛ فإنَّه مُقِلُّ، أو مُكثر، أو مُفرط في المسألة، فذكر الأقسام على حسب ذلك، والخمش أبلغ في معناه من الخدش، وهو أبلغ من الكدح؛ إذ الخمش في الوجه، والخدش في الجلد، والكدح فوق الجلد. وقيل: الخدش: قشر الجلد بِعُودٍ. والخمش: قَشره بالأظفار. والكدح: العض، وهي في أصلها مصادر، لكنها لما جُعلت أسماء للآثار جُمِعت».
(4)
أخرجه أبو داود (1626)، والترمذي (650)، من حديث عبد الله بن مسعود ?، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1438).
(5)
أخرجه أحمد (12155)، وأبو داود (1641) من حديث أنس ?، وضعفه الألباني في «تخريج مشكلة الفقر» (41).
منعوه»
(1)
، وقال:«ما أتاك مِنْ هذا المال وأنت غير سائل ولا مُشرف فَخُذْه، وما لا، فلا تُتبعه نفسك»
(2)
، فكَرِه أخذه مع سؤال اللِّسان واستشراف القلب، وقال في الحديث الصَّحيح:«مَنْ يَستغن يُغنه الله، ومَن يَستعفف يُعِفَّه الله، ومَن يتصبَّر يُصَبِّره الله، وما أُعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصَّبر»
(3)
.
وأوصى خواصَّ أصحابه ألَّا يسألوا الناس شيئًا، وفي «المسند»:«أنَّ أبا بكر كان يَسقط السوطُ من يده، فلا يقول لأحد: ناولني إيَّاه، ويقول: إن خليلي أمرني ألَّا أسأل الناس شيئًا»
(4)
، وفي «صحيح مسلم» وغيره عن عوف بن مالك:«أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بايعه في طائفة، وأسرَّ إليهم كلمة خَفِيَّة: «ألَّا تسألوا الناس شيئًا» ، فكان بعض أولئك النَّفر يسقط السوط من يد أحدهم ولا يقول لأحد: ناولني إياه»
(5)
.
وقد دلَّت النصوصُ على الأمر بمسألة الخالق، والنهي عن مسألة المخلوق في غير موضع، كقوله تعالى:{فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب} [الشرح: 7، 8]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عبَّاس:«إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله»
(6)
، ومنه قول الخليل: {فابتغوا
(1)
أخرجه البخاري (1471)، ومسلم (1042) من حديث أبي هريرة ?.
(2)
أخرجه البخاري (1473)، ومسلم (1045) من حديث عمر بن الخطاب ?.
(3)
أخرجه البخاري (1469) ومسلم (1053) من حديث أبي سعيد الخدري ?.
(4)
أخرجه أحمد (65) من حديث أبي هريرة ?، وضعفه الألباني في «ضعيف الترغيب والترهيب» (492).
(5)
أخرجه مسلم (1043) من حديث عوف بن مالك ?.
(6)
أخرجه أحمد (2669)، والترمذي (2516) من حديث أبي هريرة ?، وصححه الألباني في «المشكاة» (5302).
عند الله الرزق} [العنكبوت: 17]
(1)
، ولم يقل: فابتغوا الرزق عند الله؛ لأنَّ تقديم الظرف يُشعر بالاختصاص والحصر، كأنَّه قال: لا تَبتغوا الرزق إلا عند الله، وقد قال تعالى:{واسألوا اللهَ مِنْ فضله} [النساء: 32]».
يشير المصنف رحمه الله إلى أن الإنسان باستسلامه لأهوائه ورغباته- فإنه يكون أسيرًا لها، وهذا يضرُّه دنيويًّا وأُخرويًّا.
وإن ترك نفسَه بدون معالجة فإن هذا المرض سيستفحل إلى أن يهلكه،
فعلى العبد أن ينظر إلى قلبه وما وَقَرَ فيه؛ هل هي عبودية الله عز وجل؟ أم عبودية الماديات؟
ولهذا قيل: العبد حُرٌّ ما قنع؛ إذ القناعة من أهم الأمور التي يُرزقها العبد، بحيث تَقنع نفسه بما قسم الله له، فيعلم أنَّ رزقه مقسوم، وكما يقال في المَثَل:«القناعة كنز لا يَفنى» ، فإذا كان العبد قنوعًا بما قسم الله له راضيًا به ارتاح باله، واطمأنت نفسه.
وكذلك الحر عبد ما طمع؛ فالطمع هو الذي يجعل الإنسان مستعبَدًا لهذه الشهوات، فإذا أخذ يَطلبها ويسعى بكل جهده ليحصل عليها، فهذا طمع يؤدي به إلى عبودية الشيء الذي يطمع فيه، كما قال القائل:
أطعت مطامعي فاستعبدتني *** ولو أني قنعت لكنت حرًّا
ولقد حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على القناعة، وبيَّن أنها طريق إلى السعادة
(1)
جاء هذا في دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام لقومه؛ قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17].
والفلاح؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، ورُزِقَ كَفَافًا، وقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ»
(1)
، وعن عُبيد الله بن محصن ?، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أصبح منكم آمنًا في سِرْبِه، مُعافى في جسده، عنده قوتُ يومه؛ فكأنَّما حِيزت له الدنيا»
(2)
.
فالطمع إذا استولى على القلوب لم تَعد تقنع لا بالقليل ولا بالكثير. وهذا ما حَذَّرنا منه نبينا عليه الصلاة والسلام، كما في «الصَّحيحين» عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا، ولا يَملأ جوفَ ابن آدم إلا التراب، ويَتوب الله على مَنْ تاب»
(3)
.
(4)
.
(5)
.
لذلك يجب على الإنسان أن يكون في قلبه من القناعة ما يجعله
(1)
أخرجه مسلم (1054) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه الترمذي (2346) وابن ماجه (4141)، وحسنه الألباني وصححه الألباني في «صحيح ابن ماجه» (3340).
(3)
أخرجه البخاري (6436) ومسلم (1049).
(4)
«روضة العقلاء» لابن حبان (149، 150).
(5)
«روضة العقلاء» لابن حبان (149، 150).
يرضى بما قسم الله عز وجل له، ويحسن التعامل مع نعم الله عليه، ويقوم بشكرها؛ لأنها نعم لا تُعَدُّ ولا تُحصى.
وأمَّا الطمع فهو غُلٌّ في العنق يدفع صاحبه إلى أمور غير محمودة؛ لذك يُروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: «الطمع فقر، واليأس غنى» ، ولا شك أن الغنى غنى النفس، والإنسان إذا أيس من شيء استغنى عنه، وبالتالي يَكفيه القليل، وقد يكون بهذا القليل مِنْ أسعد الناس، والإنسان- أحيانًا- يُشقيه الكثير؛ لأنه يحتاج إلى رعاية وإلى متابعة وإلى أشياء لا حصر لها، وهو لا يعلم ما يُصلحه.
لذلك ينبغي على العبد أن يتعلق بالله عز وجل وحده، وأن يكون طلبه من الله سبحانه وتعالى وحده، وأن يكون على يقين وتعلق بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الرزق من الله وحده، قال الله سبحانه:{فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون} [العنكبوت: 17]، ولم يقل: فابتغوا الرزق عند الله؛ لأن تقديم الظرف يُشعر بالاختصاص، وهذا يدل على أن الرزق عند الله سبحانه وتعالى وحده، وليس عند أحد من الناس.
والدعاء من أعظم الأمور التي يحصل بها الرزق مع الأخذ بأسبابه؛ لأنَّ الله بيده مقاليد الأمور؛ إذا أراد حصول الرزق للعبد كان، وإذا لم يُرده لم يكن، فإذا أخذ العبد بأسباب الرزق، وطلبه من الله صار عبدًا لله بحق فقيرًا إليه وحده، وإذا ما تعلق به عز وجل وتذلل له وانكسر، ولجأ إليه ومدَّ يدي الضراعة لله سبحانه وتعالى، مع تمجيده والثناء عليه- أعطاه من النِّعم ما لا يَخطر له على بال.
وحتى لو أن الله تعالى لم يعطِ العبد ما طلب لحكم يعلمها- لم يُحرم العبد أجر دعائه وثنائه على الله وانكساره وانطراحه بين يديه.
فالدعاء لا يخلو من فائدة؛ فعن أبي سعيد الخدري ? أنَّ
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنْ مُسلم يَدعو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قَطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمَّا أن يُعَجِّل له دعوته. وإمَّا أن يَدخرها له في الآخرة. وإمَّا أن يَصرف عنه من السُّوء مِثلها» . قالوا: إذن نُكثر! قال: «اللهُ أكثرُ»
(1)
.
فالدَّاعي في كل الأحوال رابح، وعلى خير، وإلى خير.
وأمَّا إذا سأل المخلوقُ مخلوقًا مثله وتذلل له فسيصير عبدًا له، والأصل أن التذلل للمخلوق بالمسألة محرم؛ لأن التذلل والمسكنة والاستعانة لا يَنبغي أن تُصرف إلا إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما:«إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله» ، وابن عباس غلام في الثالثة عشر من عمره، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يغرس في قلبه هذه المعاني الجليلة.
فالعبودية الحقَّة لله سبحانه وتعالى لا يجوز أن تُصرف لغيره، ومهما يكن من سؤال ففيه نوع مذلة، ولذلك قال المصنف:«وفي النهي عنه أحاديث كثيرة في الصِّحاح والسُّنن والمسانيد، كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تَزال المسألةُ بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم» ، وقوله:«مَنْ سأل الناس وله ما يُغنيه جاءت مَسألته يوم القيامة خُدُوشًا- أو خموشًا أو كُدوحًا- في وجهه» ، فهل يَرضى الإنسان أن يَلقى الله يوم القيامة على هذا الحال؛ نسأل الله العافية.
والمسألة لا تَصلح إلا لثلاث؛ لذي فَقر مُدقع، أو لذي غُرم مفظع، أو لذي دَم مُوجع، كما جاء في الحديث.
والفقر المدقع، أصله من الدقعاء، وهو التراب، ومعناه: الفقر
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (11149)، وصححه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (1633).
الذي يُفضي بصاحبه إلى التراب، بحيث لا يكون عنده ما يتقي به التراب.
والغرم المفظع: أي: الشنيع المجاوز المقدار، وأراد به الديون الفادحة التي تهبط صاحبها.
والدم المُوجع: هو الذي يُوجع أولياء المقتول من شِدَّة تحمُّلِ الدِّيات
(1)
.
ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على العمل، وذمَّ المسألة؛ فقال:«لأن يَأخذ أحدُكم حَبْلَه، فيَذهب فيحتطب خير له من أن يَسأل الناس؛ أعطوه أو منعوه» .
ودعا صلى الله عليه وسلم إلى الصبر والاستغناء والاستعفاف عمَّا في أيدي الناس؛ فقال: «مَنْ يَستغنِ يُغنه الله، ومَن يَستعفف يُعِفَّه الله، ومَن يتصبر يُصبره الله، وما أُعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر» .
وأوصى خواصَّ أصحابه ألَّا يَسألوا الناس شيئًا، كما جاء في شأن أبي بكر أنَّه كان يسقط سوط الدابة من يده، فينزل عن دابته، وهذا فيه كلفة ومشقة، ويتناول سوطه؛ لكيلا يطلب من أحد أن يناوله إيَّاه، مع أن هذه الأمور قد تكون من أقل أنواع السؤال، ولكنها أمور تَرَبَّى عليها خواصُّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يَسألوا الناس شيئًا أبدًا.
وقد دَلَّت النصوصُ على الأمر بسؤال الخالق والنهي عن سؤال المخلوق في غير موضع؛ كما في قوله تعالى: {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب} [الشرح: 7]، فالرغبة تكون إلى الله سبحانه وتعالى وحده.
* * *
(1)
انظر: «الميسر في شرح مصابيح السنة» للتُّورِبِشْتِي (2/ 437).
قال المصنف رحمه الله: «والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه، ودفع ما يضرُّه. وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله، فلا يسأل رزقه إلا من الله، ولا يشتكى إلا إليه، كما قال يعقوب عليه السلام: {إنَّما أشكو بثي وحزني إلى الله}» [يوسف: 86].
في كلا الأمرين من جلب النفع ودفع الضر- شُرع للإنسان أن لا يسأل إلا الله، ولا يشتكي إلا إليه، كما قال يعقوب عليه السلام:{إنَّما أشكو بثي وحزني إلى الله} [يوسف: 86]، ومن المعلوم أن الإنسان في حوائج دنياه وفي حوائج أُخراه يدور بين هذين الأمرين: جلب ما ينفعه، ودفع ما يضرُّه.
فمثلًا يسأل العبدُ ربَّه عز وجل الغِنى، ويستعيذ به من الفقر، ويسأل الله عز وجل القوة، ويستعيذ به من الضعف، وهكذا في كل أموره.
ولكن الإنسان إذا مسه الضرُّ لجأ إلى الله سبحانه وتعالى، وأمَّا في حال استغنائه ورخائه؛ فإنه قد يَنسى، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى:{كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} [العلق: 6]؛ فترى الإنسان في حال رخائه بعيدًا عن الله سبحانه وتعالى، ولا يلجأ إليه ولا يشكره عز وجل على ما أولاه من نِعَم، مع أن الواجب المتعين على كل أحد أن يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى في جلب المنفعة وفي دفع المضرة.
ولذلك عَلَّمنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن ندعو الله عز وجل في كل شيء، حتى
في إصلاح شِسع النَّعل
(1)
؛ فعن أنسٍ ?، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لِيَسأل أحدُكم ربَّه حاجته كلها، حتى يَسأل شِسْعَ نَعله إذا انقطع»
(2)
.
قال ابن بطَّال: «ليستشعر العبدُ الافتقارَ إلى ربِّه فى كل أمر وإن دَقَّ، ولا يَستحيى من سؤاله ذلك»
(3)
.
فالعبد في كل أحواله لا بد أن يلجأ إلى الله عز وجل، فإذا شُرع له سؤال الله في مثل هذا الأمر اليسير، فعليه أن يلزم دعاءه في جميع أحواله؛ سواء كان دعاء ثناء أو دعاء مَسألة.
* * *
(1)
شسع النعل: سَيْر من سُيورها التي تكون على وجهها؛ يَدخل بين الإصبعين.
(2)
أخرجه الترمذي (5/ 583)، وحسَّنه الألباني في «المشكاة» (2251).
(3)
«شرح صحيح البخارى» لابن بطَّال (10/ 118).
قال المصنف رحمه الله تعالى: «والله- تعالى- ذَكَرَ في القرآن الهجرَ الجميلَ والصَّفح الجميل والصبر الجميل.
وقد قيل: إنَّ الهجر الجميل هو هَجر بلا أذى. والصفح الجميل: صَفح بلا معاتبة. والصبر الجميل: صَبر بغير شكوى إلى المخلوق».
لا شك أن النفوس التي ترتقي لهذه المعاني هي نفوس عظيمة، قد ابتغت العزة، والله سبحانه وتعالى جعل العزة لِمَنْ اتَّبع سبيلَه؛ قال تعالى:{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8]، والعزة تاج على رءوس أهلها، لا ينبغي إسقاطه أو التخلي عنه، لكن هذه العزة لا تُنال بمجرد الأماني، وإنما هي أقوال وأفعال يقوم بها العبدُ يصل بها إلى العِزَّة.
وقول المصنف رحمه الله: «والله- تعالى- ذَكَرَ في القرآن الهجرَ الجميلَ والصَّفح الجميل والصبر الجميل
…
».
فالهجر الجميل: هجر بلا أذى، فإذا قُدِّر للعبد أن يعاقب بالهجر فإنَّ هذا الهجر ينبغي أن يكون جميلًا، بمعنى: أن لا يُصاحبه أذى، فإذا صَاحَبَه أذى لم يكن هجرًا جميلًا.
والصفح الجميل: هو صفح بلا مُعاتبة، فلو أنَّ إنسانًا جاءك معتذرًا فعليك أن لا تُعاتب؛ لتكون من أهل هذا المقام، فتقول: عفا الله عمَّا سلف، وعليك أن تسعى في أن تنزع من صدرك ومن لسانك كلَّ ما فيه أمر عِتاب لهذا الشخص الذي قد صَفحت عن خطيئته وزَلَّته.
والصبر الجميل: هو صبر من غير شكوى إلى إلى المخلوق، وهذا موطن الشاهد هنا من هذا الكلام، ومعلوم أن الإنسان يصيبه من الهموم والغموم والأدواء والأمراض ما يَعتري كثيرًا من أحواله، فمن حال الكمال أن لا يَبُثَّ شكواه إلى إلى مخلوق، وأن يشتكي إلى إلى الخالق سبحانه وتعالى وحده.
فإذا أراد العبد أن ينال مقام الصبر الجميل، فإن هذا الأمر يتحقق بعدم التشكى إلى المخلوق، وهذا لا شك أنه أكمل، مع أن التشكي قد يكون مسوغًا في بعض الأحوال؛ كأن يشتكي إلى الطبيب عوارض المرض، ولكن لا يتشكى من الأنين والتوجع، فمن الأكمل للإنسان أن لا يُظهر هذا بين الناس، ولا شك أن هذا حال كمال.
ولكن للأسف بعض الناس إذا أصابه ما أصابه من الأمراض والأدواء ونحو ذلك صَاحَبَ هذا جزع وتَشَكٍّ، وهذا هو الممنوع، فهذه المصيبة التي أُصيب بها العبد إنما هي ابتلاء من الله.
وليعلم الإنسان أن كل خير وكل شر قدره الله عليه إنَّما هو من باب الابتلاء؛ كما قال الله عز وجل: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا} [الملك: 2].
فالنعمة حقها الشكر، والبلاء حقه الصبر، فلا بد من الشكر والصبر، كما جاء في الحديث:«الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر»
(1)
، فهو متوزع بين الأمرين (الشكر والصبر).
* * *
(1)
أخرجه الشهاب في «مسنده» (1/ 127) برقم (159)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (12/ 192) من حديث أنس ? مرفوعًا، ورمز السيوطي لضعفه في «الجامع الصغير» (1/ 276)، وقال الألباني في «الضعيفة» (625):«ضعيف جدًّا» ، وقد تقدم.
قال المصنف رحمه الله: «ولهذا قُرئ على أحمد بن حنبل في مرضه: «إنَّ طاوسًا كان يَكره أنين المريض، ويقول: «إنَّه شكوى» . فما أَنَّ أحمدُ حتى مات»
(1)
.
وأمَّا الشَّكوى إلى الخالق فلا تُنافي الصبر الجميل، فإن يعقوب قال:{فصبر جميل} [يوسف: 83]، وقال:{إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} [يوسف: 86].
وكان عمر بن الخطاب ? يَقرأ في الفجر بسورة يونس، ويوسف، والنَّحل؛ فمَرَّ بهذه الآية في قراءته، فبكى حتى سُمع نشيجه من آخر الصفوف
(2)
.
ومن دعاء موسى: «اللهم لك الحمدُ، وإليك المُشتكى، وأنت المُستعان، وبك المستغاث، وعليك التُّكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك»
(3)
.
الشكوى إنما تكون إلى الله سبحانه وتعالى، وعلى الإنسان أن يَبُثَّ حزنه وشكواه إلى خالقه سبحانه وتعالى؛ فهو القادر وحده على إزالة ما نزل بهذا
(1)
«مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه» للكوسج (1/ 115).
(2)
أخرجه البخاري معلقًا (1/ 144) من قول عبد الله بن شداد.
(3)
أخرجه الطبراني في «الأوسط» (3/ 356) برقم (3394) من حديث عبد الله بن مسعود ? قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلمكم الكلمات التي تكلم بها موسى عليه السلام حين جاوز البحر ببني إسرائيل؟» . فقلنا: بلى، يا رسول الله. قال: «قولوا: اللهم لك الحمد
…
»، وضعفه الألباني في «ضعيف الترغيب والترهيب» (1150).
المخلوق من آلام وأمراض ونحو ذلك، وللأسف كثير من الناس يغفل عن هذه الحقيقة، وغفلته تجعله يلجأ إلى مخلوق لا يملك له نفعًا ولا ضرًّا، ويَنسى الخالق سبحانه وتعالى الذي بيده ملكوت كل شيء.
فإذا كان ما نزل بالعبد ضيقًا في العيش فإن الذي يعطي هو الله سبحانه وتعالى، فكيف لا يسأله الرزق؟! وإذا كان مرضًا، فالشافي هو الله، كما قال إبراهيم الخليل:{وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء: 80]، وكما جاء في الحديث:«اللهم اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا»
(1)
.
فقلب العبد المؤمن يَلجأ إلى الواحد الأحد سبحانه وتعالى، وهذه المعاني- للأسف مع ضعف الإيمان وعدم استحضار حق الله سبحانه وتعالى وعدم تحقيق العبودية الحقة- تغيب وتضعف، وبالتالي لا يُحييها إلا صدق اللجوء إلى الله ومحبته سبحانه وتعالى، والرغبة فيما عنده جلَّ وعلا.
* * *
(1)
أخرجه البخاري (5742) من حديث أنس بن مالك ?.
قال المصنف رحمه الله: «وفى الدُّعاء الذي دعا به النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا: «اللهم إليك أشكو ضَعف قوتي، وقِلَّة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت ربُّ المُستضعفين وأنت ربي. اللهم إلى مَنْ تَكلني؟ إلى بعيدٍ يَتجهمني
(1)
، أم إلى عدوٍّ مَلَّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، غير أنَّ عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصَلح عليه أمرُ الدُّنيا والآخرة: أن ينزل بي سخطك، أو يَحل عليَّ غضبُك، لك العُتْبى حتى تَرضى
(2)
؛ فلا حول ولا قوة إلا بك»، وفى بعض الروايات:«ولا حولَ ولا قُوَّة إلَّا بك»
(3)
.
معلوم ما فَعل أهلُ الطائف بالنَّبي صلى الله عليه وسلم حين ذهب إليهم ليدعوهم إلى الإسلام، وكيف سَلَّطوا عليه صبيانهم وسفاءهم وجُهَّالهم، ورموه بالحجارة، وبدل أن تقوم ثقيف وهوازن- وهم أهل الطائف- بإكرامه صلى الله عليه وسلم، أو حتى معاملته كضيف، أو على الأقل يكفون أذاهم
(1)
أي: يَلقاني بغلظة ووجه كريه.
(2)
العُتبى: هي الترضي، وهو طلب رضا الله، أي: لك مني أن أُرضيك من نفسي حتى تَرضى عني.
(3)
أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (13/ 73) برقم (181)، وفي «الدعاء» (ص 315) برقم (1036) مرسلًا من حديث عبد الله بن جعفر ?، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 35) وقال:«رواه الطبراني، وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات» .
عنه، إذا بهم يجتمع مع عدم إجابتهم إلى دعوتهم عدم إكرام الضيف والتجرؤ على أذيته، ومع كل هذا لجأ النبي صلى الله عليه وسلم واشتكى إلى الله سبحانه وتعالى؛ فكان ما كان من دعائه السابق من بثِّ الشكوى إلى الله سبحانه وتعالى، واللجوء إليه وحده، وهو أسوتنا صلى الله عليه وسلم؛ فيجب أن نَقتدي به.
وهذا الحديث المشتمل على هذا الدعاء؛ رواه الطبراني وغيره وضَعَّفوه، على أنَّ أهلَ السِّير قد رَوَوْه، ومِثل هذا يَتَوَجَّه جمهورُ أهلِ النَّقل إلى قَبوله؛ لِتَعدد مصادره وخِفَّة القادح ويُسْر الضعف فيه، كما قَرَّر مثل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في «مقدمة في أصول التفسير» ، واستدل به الإمامُ ابنُ القيم كثيرًا في كتبه.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وكلما قوي طمعُ العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته- قَوِيت عبوديتُه له، وحُرِّيَّتُه مِمَّا سِواه» .
الطمع والرجاء يكون في الله سبحانه وتعالى، وكلما قَوِيَا كلما كان هذا دليلًا على قوة العبودية في قلب العبد، فهذه المعاني تظهر في قلبٍ قَوِيت عبوديته لله سبحانه وتعالى، أمَّا إذا ضعفت العبودية فيَقل الطمع والرجاء في الله عز وجل، والإنسان حتمًا لا محالة سيلجأ في هذه الحال إلى أحد من الخلق.
فالقلب وعاءُ إذا لم يَمتلأ بعبودية الله عز وجل وإذا لم تَقْوَ فيه هذه المعاني من المحبة والخوف واليقين والرجاء والطمع في الله سبحانه وتعالى والتوكل عليه- استعاض عنها بمعان فاسدة، فالقلب يَصِحُّ ويَمرض- بل ويموت- إذا ابتعد عما خُلِق له وعن موادِّ إحيائه؛ والله سبحانه وتعالى يقول:{فإنَّها لا تَعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46]، ودواؤها في الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، وصلاح القلوب في ملازمة الصالحين والبُعد عن الغافلين أهل الأهواء؛ قال الله جل وعلا:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
ولذلك ترى الإنسان الذي تحقق بهذه المعاني لا يَكترث بشيء من حطام الدنيا ولا تستهويه، وإنما يقينُه وتعلقه إنما هو بالله وحده سبحانه وتعالى.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «فكما أنَّ طمعه في المخلوق يُوجب عبوديته له، فيَأسه منه يُوجب غنى قلبه عنه، كما قيل: «استغن عمَّن شئت تَكن نظيره، وأفْضِلْ على مَنْ شئت تكن أميره، واحتج إلى مَنْ شئت تكن أسيره»
(1)
، فكذلك طمع العبد في ربِّه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء له- يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لا سيما مَنْ كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق؛ بحيث يكون قلبه معتمدًا إمَّا على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإمَّا على أهله وأصدقائه، وإمَّا على أمواله وذخائره، وإمَّا على ساداته وكبرائه؛ كمالكه ومَلِكه وشيخه ومخدومه وغيرهم، ممن هو قد مات أو يموت؛ قال تعالى:{وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرًا} [الفرقان: 58].
وكل مَنْ علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه، أو أن يهدوه- خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرًا لهم مدبِّرًا لأمورهم، متصرفًا بهم.
فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر؛ فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة- ولو كانت مُباحة له- يبقى قلبه أسيرًا لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها أو مالكها، ولكنه في الحقيقة هو أسيرُها ومملوكها، ولا سيما إذا علمت بفقره
(1)
أخرجه الدينوري في «المجالسة وجواهر العلم» (6/ 283) برقم (2640) عن بعض الحكماء.
إليها وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تتحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور؛ الذى لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم؛ فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبِد بدنه واستُرق وأُسر لا يبالى إذا كان قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنًا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص.
وأمَّا إذا كان القلب- الذي هو مَلِكُ الجسم- رقيقًا مستعبدًا، متيَّمًا لغير الله؛ فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية الذَّليلة لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسره هي التي يَترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك، إذا كان قائمًا بما يقدر عليه من الواجبات، ومَن استُعبد بحقٍّ إذا «أدَّى حقَّ الله وحقَّ مَوَاليه فله أجران»
(1)
، ولو أُكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان- لم يضره ذلك. وأمَّا مَنْ استُعبد قلبه صار عبدًا لغير الله، فهذا يضرُّه ذلك، ولو كان في الظاهر مَلكَ النَّاس».
قوله: «أَفْضِل على مَنْ شئت تكن أميره» ، هذا كما قيل: الإنسان أسير الإحسان.
وكما قال أبو الفتح البستي:
أَحْسِنْ إلى النَّاسِ تَسْتَعبِدْ قلوبَهمُ
…
فطالما استعبدَ الإنسانَ إِحسانُ
(2)
(1)
أخرج مسلم (1666) عن أبي هريرة ?، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أدَّى العبدُ حقَّ الله وحَقَّ مَواليه، كان له أجران» .
(2)
انظر: «قصائد من عيون الشعر» (ص 36).
إذا أحسنت إلى الإنسان كأنَّك استعبدته، ولذلك إذا وجدت نفرة من إنسان فأحسن إليه، فسرعان ما تكون كأنك أميرٌ عليه، وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35].
وفي المقابل لو احتجت إلى أحد فستكون كأنك أسيره، أو كأنك خادم له، ولذا ينبغي للإنسان أن يستغني عمَّا في أيدي الناس، وأن يترفع عنها، خاصة في أمور الدنيا؛ لأنها إن كانت مقدرة للعبد فستأتيه لا محالة، وإن كانت غير مُقَدَّرة فلن تأتي؛ مهما استجدى غيره ومهما ذلَّ له.
وعليه فطمع العبد في ربِّه ورجاؤه له يُوجب عبوديته له.
وأمَّا إعراض القلب عن سؤال الله ورجائه له فيوجب انصراف قلبه عن عبودية الله عز وجل، وهذه طامَّة كبرى؛ لأن صلاح القلب صلاح للجسد كله، وفساد القلب فساد للجسد كله.
ومن يركن إلى رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، أو إلى أهله وأصدقائه، أو إلى أمواله وذخائره، أو إلى سادته وكبرائه- يكون طمعه ورجاؤه فيهم، وليس في الله عز وجل، فتستعبده هذه الأشياء، وإن كان رئيسًا أو مَلِكًا في الظاهر إلا أنه لحاجته إليهم فهو مرءوس؛ لأنهم في الحقيقة هم الذين يُسيرون له الأمور ويُوجهونه، وصار يخشاهم، بدل أن يخشوه، وأصبح مُلكه مسخرًا لهم؛ فيحصلون على أموال الناس بالباطل، ويظلمونهم، ونحو ذلك، ولا يستطيع أن يَمنعهم؛ حتى لا ينصرفوا عنه، أو يَمكروا به؛ فهذا في الحقيقة استرقاق واستعباد له وإن كان في الظاهر أنه أميرهم ومُدبر أمورهم.
ولذلك أمر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالتوكل عليه وحده؛ فقال: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58].
فالعاقل ينظر إلى حقائق الأمور وبواطنها وليس إلى ظواهرها، وقد ضرب المصنف مثلًا برجل تعلق قلبه بزوجته أو بأَمَتِه، وهذا الأمر مباح، وفي الظاهر هو زوجها أو سيدها، وله القوامة عليها، ولكن قلبه في الحقيقة أسير لها تتحكم فيه كيفما شاءت.
لماذا؟ لأن هذا التعلق منه بهذه المرأة يُشعرها كأنه لا يستطيع أن يعيش بدونها، فتَظل هي الآمرة، ولا يستطيع أن يُؤَخِّر لها أمرًا؛ لما في قلبه مِنْ تعلق بها، حتى يصير كالمملوك والأسير عندها، وإن كان في الظاهر هو زوجها وسيدها!
وهذا نجده- أيضًا- عند من يتعلق بالمال، حتى يصير عبدًا له؛ يفعل من أجله الموبقات من القتل والظلم والسرقة، ويُعَرِّض نفسه للتهلكة والسجن ونحو ذلك؛ لأنه استرق نفسه للمال.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أنَّ الغِنى غنى النفس؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ليس الغِنى عن كثرة العَرَض، وإنَّما الغِنى غِنى النَّفْسِ»
(1)
.
الأمر يعود إلى القلب؛ لأنه مَلِك الجسم، كما قال أبو هريرة:«القلب مَلِك وله جنود، فإذا صَلح المَلِك صلحت جنوده، وإذا فَسَد الملك فسدت جنوده»
(2)
، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَلَا وإنَّ في الجَسد مُضغة؛ إذا صَلحت صَلح الجسد كله، وإذا فَسَدت فَسَد الجسد كله، أَلَا وهي القلب»
(3)
. فهذه الأعضاء كلها تَبَع لهذا القلب؛ تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، فإذا كان هذا القلب مستعبدًا لغير الله عز وجل، تَبِعته الجوارح وشَقِي صاحبه بذلك.
وعبودية القلب هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب؛ لأن هذا القلب هو الموجه للأعضاء، فإذا كانت عبوديته لله عز وجل فالأعضاء تبع لهذا العبودية؛ فترى الإنسان- مثلًا- يغض بصره، ويحفظ فرجه، ولا يستمع إلى حرام، ولا يأكل حرامًا .. ؛ لماذا؟ لأن قلبه امتلأ عبودية عز وجل؛ بحيث علم أن الأمر هو أمر الله، وأن النهي هو نهيه عز وجل.
(1)
أخرجه البخاري (6446) ومسلم (1051) من حديث أبي هريرة ?.
(2)
أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 257) برقم (108).
(3)
أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير ?.
فالحريةُ حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أنَّ الغِنى غنى النَّفس؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال:«لَيس الغِنى عن كثرة العَرَض، وإنَّما الغِنى غِنى النَّفْسِ» .
فالعَرَضُ هو متاع الدنيا، ومعنى الحديث: أنَّ الغِنى المحمود هو غِنى النفس وشِبعها وقِلَّة حِرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة؛ لأنَّ مَنْ كان طالبًا للزيادة لم يَستغن بما معه، وبالتالي لن يشبع؛ فليس له غِنى.
فنسأل الله عز وجل أن يُحَبِّب إلينا الإيمان، وأن يُزَيِّنه في قلوبنا، وأن يُكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وَهَذَا لعَمْرو الله إِذا كَانَ قد استعبد قلبَه صُورَةٌ مُبَاحَة. فَأَما مَنْ استعبد قلبه صُورَة مُحرمَة؛ امْرَأَة أَوْ صبي، فَهَذَا هُوَ العَذَاب الَّذِي لَا يُدانيه عَذَاب.
وَهَؤُلَاء- عُشَّاق الصُّور- مِنْ أعظم النَّاس عذَابًا وَأَقلهمْ ثَوابًا، فَإِنَّ العاشق لصورة إِذا بَقِي قلبه مُتَعَلقًا بهَا مستعبدًا لها اجْتَمَع لَهُ من أَنْوَاع الشَّرِّ والفساد مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا ربُّ العباد، ولَو سَلِم مِنْ فعل الفَاحِشَة الكُبْرَى، فَدَوَام تعَلُّقِ القلب بهَا- بلَا فِعل الفَاحِشَة- أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِمَّنْ يفعل ذَنبًا، ثمَّ يَتُوب مِنْهُ، ويَزُول أَثَرُه من قلبه. وهَؤُلَاء يشبَّهون بالسكارى والمجانين، كَمَا قيل:
سُكران سُكر هوى وسُكر مُدَامة
(1)
…
ومَتى إفاقة مَنْ بِهِ سُكرانِ؟
(2)
وقيل:
قَالُوا: جُننتَ بِمن تهوى! فَقلت لَهُمْ:
…
العِشْقُ أعظمُ مِمَّا بالمجانين
العِشْق لَا يستفيق الدهرَ صاحبُه
…
وإِنَّمَا يُصرع المَجْنُون فِي حِين
(3)
»
بعد أن تكلم المصنف عن تعلق الإنسان بامرأة مباحة له، وبَيَّن الضرر العائد عليه من جَرَّاء هذا التعلق المباح- ذكر هنا حال
(1)
المدامة: الخمر.
(2)
البيت لديك الجن، من بحر الكامل. انظر «ديوانه» (ص 191).
(3)
البيتان لقيس بن الملوح؛ (مجنون ليلى). من بحر الكامل. انظر: «ديوان الصبابة» لابن أبي حجلة (ص 5).
الإنسان إذا كان تعلقه محرمًا، وأوضح أن هَذَا هُوَ العَذَاب الَّذِي لَا يُدانيه عَذَاب؛ ولذلك نهى الله تعالى عن سلوك الطريق الموصل إلى هذا؛ فقال:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]؛ ليقطع على الشيطان خطواته، فأمر بغضِّ البَصر والستر والعفاف؛ فقال:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 30، 31] ونهى عن الخضوع بالقول؛ فقال سبحانه: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الخلوة والاختلاط بالنساء الأجنبيات، فقال صلى الله عليه وسلم:«لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ»
(1)
، وقال عليه الصلاة والسلام:«إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ»
(2)
؛ كل هذا صيانة للعباد والبلاد عن مفاسد هذه الأمراض الخطيرة التي تَنتج عن العِشق والتَّعَلُّق بغير الله.
* * *
(1)
أخرجه البخاري (3006) ومسلم (1341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري (5232) ومسلم (2172) من حديث عقبة بن عامر ?.
قال المُصَنِّفُ رحمه الله: «وَمِنْ أَعْظَمِ أَسبَابِ هَذَا البلَاء: إِعْرَاضُ القلب عَنْ الله؛ فَإِنْ القلب إِذا ذاق طعمَ عبَادَة الله والإِخْلَاص لَهُ- لم يكن عِنْده شَيْء قطُّ أحلى من ذَلِك، ولَا ألذُّ ولَا أمتع ولَا أطيب. والإِنْسَان لَا يتْرك محبوبًا إِلَّا بمحبوب آخر يكون أحبَّ إِلَيْهِ مِنْهُ، أَوْ خوفًا من مَكْرُوه، فالحب الفَاسِد إِنَّمَا يَنْصَرف القلب عَنهُ بالحبِّ الصَّالح، أَوْ بالخوف من الضَّرَرِ.
قَالَ تَعَالَى فِي حقِّ يُوسُف: {كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء إِنَّه من عبادنَا المخلصين} [يوسف: 24]؛ فَالله يصرف عَنْ عَبده مَا يَسوؤه من الميل إِلَى الصُّور والتعلق بهَا، ويَصرف عَنهُ الفَحْشَاءَ بإخلاصه لله، ولِهَذَا يكون قبل أَنْ يَذُوق حلاوة العُبُودِيَّة لله، والإِخْلَاص لَهُ؛ بِحَيْثُ تغلبه نَفسُه على اتِّبَاع هَواهَا، فَإِذا ذاق طَعم الإِخْلَاص وقَوي فِي قلبه- انقهر لَهُ هَواهُ بِلَا علاج.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاة تَنْهى عَنْ الفَحْشَاء والمُنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45]، فَإِنَّ الصَّلَاة فِيهَا دفع مَكْرُوه، وهُو الفَحْشَاء والمُنكر، وفيهَا تَحْصِيل مَحْبُوب، وهُو ذكر الله. وحُصُول هَذَا المحبوب أكبرُ من دفع ذَلِك المَكْرُوه، فَإِنَّ ذكرَ الله عبَادَةٌ لله، وعبادَة القلب لله مَقْصُودَة لذاتها. وأمَّا اندفاع الشَّرِّ عَنهُ فَهُو مَقْصُود لغيره على سَبِيل التَّبع».
إذا ظهر جليًّا أن كل مَنْ أحب شيئًا من المخلوقين عُذِّب به ولا بد، فإن في المقابل من أحب الله وعمل بطاعته وجد السعادة
الحقيقية، قال الله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وذاق طعم الإيمان؛ قال صلى الله عليه وسلم:«ذَاقَ طَعْمَ الإِيمانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وبالإسلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»
(1)
، وأحسَّ بحلاوة الإيمان؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيه وَجد بهن حلاوةَ الإيمان: مَنْ كان اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار»
(2)
، فهذه النصوص الشرعية وغيرها دالة على فضائل محبة الله والتعلق به والإخلاص في عبوديته، وكذلك التجربة تدل على ذلك.
وقلب العبد كالإناء إما أن يملأ بالخير وإما أن يملأ بمحبة مَنْ سواه؛ فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر؛ ثم ضرب شيخ الإسلام مَثَلًا بيُوسُف عليه السلام لما استعاذ بالله والتجأ إليه؛ ف:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]؛ فنجاه الله من مِكرهن؛ واستجاب دعاءه، وصرف عَنهُ السُّوء والفحشاء لإِنَّه كان مِنْ عباد الله المخلصين.
ثم بَيَّن أنَّ عبادَة القلب لله مَقْصُودَة لذاتها، وأمَّا اندفاع الشَّرِّ عَنهُ فَهُو مَقْصُود لغيره على سَبِيل التَّبع؛ فالصَّلَاة- مثلًا- فِيهَا نَهي عن الفَحْشَاء والمُنكر، وفيهَا إقامة ذكر الله، وهو تحصيل لأمر محبوب، وحُصُول هَذَا المحبوب أكبرُ من دفع ذَلِك المَكْرُوه؛ قال
(1)
أخرجه مسلم (34) من حديث العباس بن عبد المطلب ?.
(2)
أخرجه البخاري (21) ومسلم (43) من حديث أنس ?.
ابن كثير: «الصَّلَاةُ تَشتمل على شيئين: على تَرك الفَوَاحش والمُنكرات، أي: إنَّ مُوَاظبتها تَحمل على ترك ذلك»
(1)
.
* * *
(1)
«تفسير ابن كثير» (6/ 280).
قال المصنف رحمه الله: «والقلب خُلِقَ يحبُّ الحقَّ ويريده ويطلبه، فَلَمَّا عرضت لَهُ إِرَادَة الشَّرِّ طلب دفع ذَلِك؛ فَإِنَّهَا تُفْسد القلب كَمَا يَفْسد الزَّرْعُ بِمَا ينْبت فِيهِ من الدَّغل
(1)
.
ولِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قد أَفْلح من زكاها * وقد خَابَ من دساها} [الشَّمس: 9، 10]، وقَالَ تَعَالَى:{قد أَفْلح من تزكّى * وذكر اسْم ربه فصلى} [الأعلى: 14، 15]، وقَالَ تَعَالَى:{قل للمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم ويحفظوا فروجهم ذَلِك أزكى لَهُمْ} [النُّور: 30]، وقَالَ تَعَالَى:{ولَوْلَا فضلُ الله عَلَيْكُم ورَحمته مَا زكى مِنْكُم من أحد أبدًا} [النُّور: 20]، فَجعل سُبْحَانَهُ غضَّ البَصَر وحفظ الفرج هُو أقوى تَزْكِيَة للنَّفس، وبَيَّن أَنْ ترك الفَواحِش من زَكَاة النُّفُوس، وزَكَاة النُّفُوس تَتَضَمَّن زَوالَ جَمِيع الشرور؛ من الفَواحِش والظُّلم والشِّرك والكذب وغير ذَلِك».
إن الفلاح الحقيقي في تزكية النفس وتهذيبها وتخليصها مِنْ كل الأدران السيئة والعمل على السمو بها بالإيمان والعمل الصالح؛ قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10].
وإذا كان أهل السنة والجماعة في أبواب الاعتقاد لهم منهج
(1)
الدغل: الشجر الملتف حول الشجر المُفسد للزَّرع. والمراد هنا: ما يدخل في القلب مُفسدًا له.
راشد قائم على نصوص الكتاب والسنة، فلديهم كذلك منهج راشد مُستنبط من الكتاب والسنة في مجال الأخلاق والآداب، ويشمل منهجهم- كذلك- سياسة الدنيا بهذا الدين، وكيفية النهوض بحياة الفرد والمجتمع، وبالجملة فمنهجهم هو إصلاح الفرد وبالتالي إصلاح المجتمع؛ دينًا ودُنيا؛ ليفوز العبد في الآخرة؛ فالخير كل الخير في اتباع هذه الشريعة المباركة التي ما تركت خيرًا في قليل ولا كثير إلا أَمَرت به، وحَثَّت عليه، وأجزلت الأجر عليه، ولا تركت شرًّا في قليل ولا كثير إلا حَذَّرَت منه، ونَهَت عنه، وبَيَّنت وخيم عواقب فِعله؛ فكانت كاملة حسنة من جميع الوجوه، وقد أثار ذلك استغراب غير المسلمين؛ حتى قال أحدهم لسلمان الفارسي ?: «قد عَلَّمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كلَّ شيء حتى الخراءة؟ فقال: «أجل؛ لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول
…
»
(1)
.
* * *
(1)
أخرجه مسلم (262) عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان ?.
قال المصنف رحمه الله: «وكَذَلِكَ طَالب الرِّئَاسَة والعلو فِي الأَرْض- قلبه رَقِيق لمن يُعينهُ عَلَيْهَا، ولَو كَانَ فِي الظَّاهِر مقدَّمَهم والمطاع فيهم، فَهُو فِي الحَقِيقَة يَرجوهم ويخافهم؛ فيبذل لَهُمْ الأَمْوال والولايات، ويعفو عَمَّا يَجترحونه ليطيعوه ويعينوه، فَهُو فِي الظَّاهِر رَئِيس مُطَاع، وفِي الحَقِيقَة عبدٌ مُطِيع لَهُمْ.
والتَّحْقِيق: أَنْ كِلَاهُمَا
(1)
فِيهِ عبودية للآخر، وكِلَاهُمَا تَارِك لحقيقة عبَادَة الله. وإِذا كَانَ تعاونهما على العُلُوّ فِي الأَرْض بِغَيْر الحق، كَانَا بِمَنْزِلَة المتعاونين على الفَاحِشَة أَوْ قطع الطَّرِيق؛ فَكل واحِد من الشخصين، لهواه الَّذِي استعبده واسترقَّه مُستعبد للآخر.
وهَكَذَا- أَيْضًا- طَالب المَال، فَإِنْ ذَلِك المال يَستعبده ويسترقه».
إنَّ الإمارة والرياسة لا يَصلح لها كلُّ أحد؛ فعن أبي ذر ?، قال:«قلت: يا رسول الله، أَلَا تَستعملني؟ قال: فضرب بيدِه على مَنْكِبي، ثم قال: «يا أبا ذر، إنَّك ضعيفٌ، وإنَّها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزي وندامة، إلَّا مَنْ أخذها بحقِّها، وأَدَّى الذي عليه فيها»
(2)
؛ فكان من هديه صلى الله عليه وسلم ألا يولي من حرص عليها وسعى إليها؛ فعن أبي موسى ?، قال: «دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من
(1)
كذا في النسخ، والأصوب: كليهما.
(2)
أخرجه مسلم (1825).
بَني عَمِّي، فقال أحدُ الرَّجُلين: يا رسول الله، أَمِّرْنا على بعض ما وَلَّاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال:«إنَّا- وَاللهِ- لا نُوَلِّي على هذا العمل أحدًا سأَلَه، ولا أحدًا حَرص عليه»
(1)
.
كل هذا لما تَجُرُّه الإمارة مِنْ تبعات شاقة قد لا يقوم بها على وجهها، وكذلك مما قد يعود على صاحبها مِنْ كبر وحرص وتَعَالٍ وتعلق بها يؤدي به إلى الظلم والتعدي على حرمات الناس؛ من أكل أموالهم بالباطل، وإيذائهم بأنواع الإيذاء المختلفة.
وفي الظاهر ينظر الناس إليهم على أنهم رؤساء ومتبوعون ومحظوظون، وفي الحقيقة هم مُبتلون ببلاء شديد؛ قال ابن حبان:«رؤساء القوم أعظمهم همومًا، وأدومهم غمومًا، وأشغلهم قلوبًا، وأشهرهم عيوبًا، وأكثرهم عدوًّا، وأشدهم أحزانًا، وأنكاهم أشجانًا، وأكثرهم في القيامة حسابًا، وأشدهم- إن لم يعف اللهُ عنهم- عذابًا»
(2)
.
فطالب الرياسة في الحقيقة تابع وليس متبوعًا؛ إذ هو حريص على إرضاء الناس؛ فَهُو فِي الحَقِيقَة يَرجوهم ويخافهم؛ ولذا يبذل لَهُمْ الأَمْوالَ والولايات، وفي الغالب فإن كلَّ حريص على العلو في الدنيا فإنه يُحرم عزَّ الآخرة ونَعيمها؛ قال الله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين} [القصص: 83].
فطالبو الجاه وطالبو المال- في الحقيقة- هم أسرى لما يَطلبان.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وهَذِه الأُمُورُ نَوْعَانِ:
مِنْهَا: مَا يَحْتَاج العَبْدُ إِلَيْهِ، كَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من طَعَامه وشَرَابه ومسكنه ومنكحه ونَحْو ذَلِك. فَهَذَا يَطْلُبهُ من الله، ويرغب إِلَيْهِ فِيهِ؛ فَيكون المَال عِنْده- يَسْتَعْمِلهُ فِي حَاجته- بِمَنْزِلَة حِمَاره الَّذِي يَركبه، وبساطه الَّذِي يجلس عَلَيْهِ، بل بِمَنْزِلَة الكنيف الَّذِي يَقْضى فِيهِ حَاجته، من غير أَنْ يَستعبده فَيكون {هلوعًا * إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعًا * وإِذا مَسّه الخَيْر منوعًا} [المعارج: 19 - 21].
ومِنْهَا: مَا لَا يَحْتَاج العَبْد إِلَيْهِ، فَهَذَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّق قلبه بِهِ. فَإِذا علق قلبه بِهِ صَار مستعبَدًا لَهُ. ورُبمَا صَار مُعْتَمدًا على غير الله، فَلَا يَبْقى مَعَه حَقِيقَة العِبَادَة لله، ولَا حَقِيقَة التَّوكُّل عَلَيْهِ، بل فِيهِ شُعْبَة من العِبَادَة لغير الله، وشُعْبَة من التَّوكُّل على غير الله، وهَذَا من أَحَقِّ النَّاس بقوله صلى الله عليه وسلم: «تَعِسَ عبدُ الدِّرْهَم، تعس عبد الدِّينَار، تَعِسَ عبدُ القطيفة
(1)
، تعس عبدُ الخميصة
(2)
»
(3)
، وهَذَا هُو عبد هَذِه الأُمُور؛ فَإِنَّهُ لَو طلبَهَا من الله، فَإِنْ الله إِذا أعطَاهُ إِيَّاه رَضِي، وإِن مَنعه إِيَّاه سخط، وإِنَّمَا عبدُ الله مَنْ يُرضيه مَا يُرْضِي الله، ويُسخطه مَا يُسْخط الله، ويُحب مَا أحبه الله ورَسُوله، ويبغض مَا أبغضه الله ورَسُوله، ويوالي أَوْلِيَاء الله، ويعادي أَعدَاء الله تَعَالَى. وهَذَا هُو الَّذِي
(1)
القطيفة: كساء، أو فِراش له أهداب (أطراف متدلية للزينة).
(2)
الخميصة: ثوب أسود- أو أحمر- له أعلامٌ.
(3)
أخرجه البخاري (6435) من حديث أبي هريرة ?، وقد تقدم.
اسْتكْمل الإِيمَان، كَمَا فِي الحَدِيث:«مَنْ أحبَّ لله وأبْغض لله، وأعْطى لله ومنع لله، فقد اسْتكْمل الإِيمَان»
(1)
، وقَالَ:«أوثق عُرى الإِيمَان: الحبُّ فِي الله والبُغض فِي الله»
(2)
.
وفِي «الصَّحيح» عَنهُ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وجد حلاوة الإِيمَان: مَنْ كَانَ اللهُ ورَسُولُه أحبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا، ومَن كَانَ يحب المَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله، ومن كَانَ يكره أَنْ يَرجع إِلَى الكفْر بعد إِذْ أنقذه الله مِنْهُ كَمَا يَكره أَنْ يُلقى فِي النَّار»
(3)
. فَهَذَا وافقَ ربَّه فِيمَا يُحِبُّهُ ومَا يَكرههُ، فَكَانَ الله ورَسُوله أحبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا، وأحب المَخْلُوق لله، لَا لغَرَض آخر. فَكَانَ هَذَا مِنْ تَمام حُبِّه لله، فَإِنْ محبَّة مَحْبُوب المحبوب من تَمام محبَّة المحبوب، فَإِذا أحبَّ أَنْبيَاء الله وأولياء الله لأجل قيامهم بمحبوبات الحق- لَا لشَيْء آخر- فقد أحبهم لله لَا لغيره، وقد قَالَ تَعَالَى:{فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ ويُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على المُؤمنِينَ أعزة على الكَافرين} [المَائِدَة: 54].
ولِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قل إِنْ كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} [آل عمرَان: 31]، فَإِنْ الرَّسُول لَا يَأْمر إِلَّا بِمَا يحب الله، ولَا يَنْهَى إِلَّا عَمَّا يبغضه الله ولَا يَفعل إِلَّا مَا يُحِبهُ الله ولَا يخبر إِلَّا بِمَا يحبُّ الله التَّصْدِيق بِهِ.
فَمن كَانَ محبًّا لله لزم أَنْ يَتبع الرَّسُول، فيصدقه فِيمَا أخبر، ويُطيعه فِيمَا أَمر، ويتأسى بِهِ فِيمَا فعل، ومَن فعل هَذَا فقد فَعل مَا
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (34730) وأبو داود (4681) من حديث أبي أمامة ?، وصححه الألباني في «الصحيحة» (380).
(2)
أخرجه ابن ابن شيبة (34338)، وأحمد (18524) من حديث البراء بن عازب ?، وحسنه الألباني في «الصحيحة» (998).
(3)
أخرجه البخاري (16) ومسلم (43) من حديث أنس ?.
يُحِبُّهُ الله، فَيُحِبهُ الله».
أراد المصنف هنا أن يبين أنَّ احتياج الإنسان لبعض متاع الدنيا لا يدخل في التعلق المذموم بها؛ وهذا هو التوسط المطلوب، فليس معنى خوف التعلق بالدنيا: أن يَزهد فيها العبد وأن لا يَستعمرها، وإنما المراد ألَّا يكون حريصًا عليها، وأنَّها إذا جاءته من طريق شرعي يَنبغي أن يستخدمها في مرضاة الله، وأن تكون في يده وليست متحكمة فيه مستعبدة له مُستولية على قلبه شاغلة له عن الغاية من وجوده في هذه الحياة؛ وهي عبادة الله تبارك وتعالى؛ لذلك قال سبحانه:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]، قال ابن كثير رحمه الله:«وقوله: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تَنس نصيبك من الدنيا} [القصص: 77]، أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنِّعمة الطائلة في طاعة ربِّك والتقرب إليه بأنواع القُربات، التي يَحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة. {ولا تنس نصيبك من الدنيا} [القصص: 77]، أي: مما أباح اللهُ فيها مِنْ المآكل والمَشارب والملابس والمساكن والمناكح؛ فإنَّ لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولِزَوْرِك- أي: ضيفك- عليك حقًّا، فآتِ كلَّ ذي حقٍّ حقه. {وأحسن كما أحسن الله إليك} [القصص: 77] أي: أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك، {ولا تبغ الفساد في الأرض} [القصص: 77] أي: لا تَكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به الأرض، وتُسيء إلى خلق الله؛ {إن الله لا يحب المفسدين} [القصص: 77]»
(1)
.
(1)
«تفسير ابن كثير» (6/ 253، 254).
فالإسلام وسطٌ في العمل للدنيا والآخرة؛ فكلٌّ منهما عبادة لله تعالى وتحقيق لغاية الوجود الإنساني ضِمن شروط معينة، بينما تأرجحت المذاهب الأخرى بين الاهتمام بالنواحي المادية الذي يظهر في المدنية الغربية الحديثة، وأصبح معبودها هو المال والقوة والرَّفاهية والرقي المادي، وبين الإزراء بهذا الرُّقي المادي والمتاع الدنيوي، كما هو الشأن في المذاهب التي تَدعو إلى الرَّهبنة وتعذيب الجسد من أجل الرُّوح وتهذيبها للوصول إلى مرحلة الفناء
(1)
.
* * *
(1)
انظر: «بحوث ندوة أثر القرآن في تحقيق الوسطية ودفع الغلو» (ص 400).
قال المصنف رحمه الله: وقد جعل الله لأهل مَحبته علامتين: اتِّبَاع الرَّسُول، والجهَاد فِي سَبيله، وذَلِكَ لِأَن الجِهَاد حَقِيقَته الِاجْتِهَاد فِي حُصُول مَا يُحِبهُ الله من الإِيمَان والعَمَل الصَّالح، ومَن دفع مَا يبغضه الله من الكفْر والفسوق والعصيان، وقد قَالَ تَعَالَى:{قل إِنْ كَانَ آباؤكم وأبناؤكم وإِخْوانكُمْ وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إِلَيْكُم من الله ورَسُوله وجِهَاد فِي سَبيله فتربصوا حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره} [التَّوْبَة: 24]، فتوعد مَنْ كَانَ أَهله ومَاله أحب إِلَيْهِ مِنْ الله ورَسُوله والجهَاد فِي سَبيله بِهَذَا الوعيد. بل قد ثَبت عَنهُ صلى الله عليه وسلم فِي «الصحيح» أَنه قَالَ:«والَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحبَّ إِلَيْهِ من ولَده ووالده والنَّاس أَجْمَعِينَ»
(1)
. وفِي «الصحيح» «أَنْ عمر بن الخطاب قَالَ: يَا رَسُول الله، لأَنْت أحبُّ إِلَيَّ مِنْ كلِّ شَيْء إِلَّا مِنْ نفسي، فَقَالَ: «لَا يَا عمر حَتَّى أكون أحبَّ إِلَيْك من نَفسك» . فَقَالَ: فواللَّه لأَنْت أحب إِلَيَّ من نَفسِي. فَقَالَ: «الآن يَا عُمر»
(2)
.
فحقيقة المحبَّة لَا تتمُّ إِلَّا بموالاة المحبوب، وهُو مُوافَقَته فِي حب مَا يحب وبغض مَا يُبغض، والله يحبُّ الإِيمَان والتَّقوى، ويُبغض الكفْر والفسوق والعصيان.
ومَعْلُوم أَنَّ الحبَّ يُحَرِّك إِرَادَة القلب، فَكلما قويت المحبَّة فِي القلب طلب القلب فعل المحبوبات، فَإِذا كَانَتْ المحبَّة تَامَّة
(1)
أخرجه البخاري (14) ومسلم (44) من حديث أنس ?.
(2)
أخرجه البخاري (6632) من حديث عبد الله بن هشام ?.
استلزمت إِرَادَة جازمة فِي حُصُول المحبوبات؛ فَإِذا كَانَ العَبْدُ قَادرًا عَلَيْهَا حصلها، وإِن كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا فَفعل مَا يَقدر عَلَيْهِ من ذَلِك كَانَ لَهُ أجر كَأَجر الفَاعِل، كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ دَعَا إِلَى هدى كَانَ لَهُ من الأجر مِثل أُجور مَنْ اتَّبعهُ، مِنْ غير أَنْ يَنقص مِنْ أُجُورهم شَيْء، ومَن دَعَا إِلَى ضَلَالَة كَانَ عَلَيْهِ من الوزر مثل أوزار مَنْ اتَّبعهُ، من غير أَنْ يَنقص من أُجُورهم شَيْء»
(1)
. وقَالَ: «إِنَّ بِالمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسيرًا ولَا قَطعْتُمْ واديًا إِلَّا كَانُوا مَعكُمْ» . قَالُوا: وهم بِالمَدِينَةِ؟ قَالَ: «وهُم بِالمَدِينَةِ حَبَسَهم العذرُ»
(2)
.
والجهَاد: هُو بذل الوسع- وهُو كل مَا يُمْلَكُ من القُدْرَة- فِي حُصُول مَحْبُوب الحق، ودفع مَا يَكرههُ الحق. فَإِذا ترك العَبْد مَا يَقدر عَلَيْهِ من الجِهَاد، كَانَ دَلِيلًا على ضعف محبَّة الله ورَسُوله فِي قلبه.
ومَعْلُوم أَنَّ المحبوبات لَا تنَال غَالِبًا إِلَّا بِاحْتِمَال المكروهات؛ سَواء كَانَتْ محبَّة صَالِحَة أَوْ فَاسِدَة، فالمحبون لِلمَالِ والرئاسة والصور، لَا ينالون مطالبهم إِلَّا بِضَرَر يَلحقهم فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُصيبهم من الضَّرَر فِي الدُّنْيَا والآخِرَة. فالمحب لله ورَسُوله إِذا لم يَحْتَمل مَا يرى ذُو الرَّأْي من المُحبين لغير الله مِمَّا يَحْتَملُونَ فِي سَبِيل حُصُول مَحبوبهم- دلَّ ذَلِك على ضعف مَحَبَّتهم لله، إِذا كَانَ مَا يسلكه أُولَئِكَ فِي نظرهم، هُو الطَّرِيق الَّذِي يُشِير بِهِ العقل.
ومن المَعْلُوم أَنْ المُؤمن أَشد حبًّا لله، كما قَالَ تَعَالَى:{ومن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} [البَقَرَة: 165]».
(1)
أخرجه مسلم (2674) من حديث أبي هريرة ?.
(2)
أخرجه البخاري (4423) ومسلم (1911) من حديث جابر ?.
جعل الله لأهل مَحبته علامتين: اتِّبَاع الرَّسُول، والجهَاد فِي سَبيله تعالى؛ لأن فيه بذل الرُّوح والمال، وهذا دليلٌ على صِدق العبد في عبوديته لله تعالى؛ والجهاد ذروة سنام الأمر؛ إذ به ينتشر دين الله في الأرض، وتعلو راية الإسلام، ويَعرف الناسُ ربَّهم وخالقهم ويُفردوه بالعبادة؛ يقول شيخ الإسلام:«والجهاد مقصوده: أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده: إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظَّه، ولهذا كان ما يُصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ ف {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة: 111]، حتى إنَّ الكفار إذا أسلموا أو عاهدوا لم يَضمنوا ما أتلفوه للمسلمين من الدِّماء والأموال؛ بل لو أسلموا وبأيديهم ما غَنِموه من أموال المسلمين كان ملكًا لهم عند جمهور العلماء؛ كمالك وأبي حنيفة وأحمد، وهو الذي مَضَت به سُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُنَّة خلفائه الرَّاشدين»
(1)
.
فالجهاد لم يُشرع في الإسلام للتشفي ولا لإراقة دماء الناس ولا لاسترقاقهم، كما يُشيع أعداؤه؛ وإنما الأمة بحاجة ماسَّة إليه بنوعيه: جهاد الدَّفْع؛ للذَّبِّ عن حِمى الدِّين، وصيانة للأعراض والأموال وكل ما يُنَافَحُ عَنْه. أو جهاد الطَّلَب؛ لنشر شِرْعة الإسلام، وإغاظة أعداء الملة؛ ويقول ابن القيم: «جهاد الدَّفع يَقْصِدهُ كلُّ أحد، وَلَا يَرغب عَنهُ إِلَّا الجَبان المذموم شرعًا وعقلًا. وَجِهَاد
(1)
«مجموع الفتاوى» (15/ 170).
الطَّلب الْخَالِص لله يَقْصِدهُ سَادَاتُ الْمُؤمنِينَ، وَأمَّا الْجِهَاد الَّذِي يكون فِيهِ طَالبًا مَطْلُوبًا، فَهَذَا يَقْصِدهُ خِيَار النَّاس؛ لإعلاء كلمة الله وَدينه، ويقصده أوساطهم للدَّفْع ولمحبة الظَّفَر»
(1)
.
ولما كانت المحبوبات لَا تُنَال- غَالِبًا- إِلَّا بِاحْتِمَال المكروهات، وكان المُؤمن أَشد حبًّا لله- كان دليل محبته له سبحانه: أن يَبذل كل ما يملك وأن يحتمل الشدائد في سبيلِ طلب مرضاته جل وعلا واحتسابٍ للأجر عنده وحده.
* * *
(1)
«الفروسية» (ص 189).
قال المصنف رحمه الله: «نعم، قد يسْلك المُحب- لضعف عقله وفَسَاد تصَوره- طَرِيقًا لَا يحصل بهَا المَطْلُوب. فَمثل هَذِه الطَّرِيق لَا تُحمد إِذا كَانَتْ المحبَّة صَالِحَة محمودة، فَكيف إِذا كَانَتْ المحبَّة فَاسِدَة والطَّرِيق غير موصل؟! كَمَا يَفْعَله المتهورون فِي طلب المَال الرِّئَاسَة والصور، من حبِّ أُمُور تُوجب لَهُمْ ضَرَرًا، ولَا تحصل لَهُمْ مَطْلُوبًا، وإِنَّمَا المَقْصُود الطّرق الَّتِي يَسلكها العقل السَّلِيم لحُصُول مَطْلُوبه.
إِذا تبين هَذَا، فَكلما ازْدَادَ القلب حبًّا لله ازْدَادَ لَهُ عبودية، وكلما ازْدَادَ لَهُ عبودية ازْدَادَ لَهُ حبًّا وفضَّلَه عَمَّا سواهُ. والقلب فَقير بِالذَّاتِ إِلَى الله مِنْ وَجْهَيْن: من جِهَة العِبَادَة، وهِي العلَّة الغائية، ومن جِهَة الِاسْتِعَانَة والتوكل، وهِي العلَّة الفاعلة. فالقلب لَا يصلح، ولَا يفلح، ولَا ينعم، ولَا يسر، ولَا يلتذ، ولَا يطيب، ولَا يَسكن، ولَا يطمئن إِلَّا بِعبَادة ربه وحبه والإنابة إِلَيْهِ، ولَو حصل لَهُ كل مَا يلتذ بِهِ من المَخْلُوقَات لم يَطمئن ولم يَسكن؛ إِذْ فِيهِ فقر ذاتي إِلَى ربِّه، ومن حَيْثُ هُو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبِذَلِك يحصل لَهُ الفَرح والسُّرُور واللذة والنِّعْمَة والسكون والطمأنينة».
جمع الله سبحانه وتعالى بين العبادة والاستعانة في قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]، قال ابن كثير في تفسيرها: «أي: لا نَعبد إلا إيَّاك، ولا نَتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة.
والدِّين يَرجع كله إلى هذين المَعنيين، وهذا كما قال بعض السلف: الفاتحة سِرُّ القرآن، وسِرُّها هذه الكلمة:{إياك نَعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]؛ فالأول: تَبرؤ من الشرك، والثاني: تَبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عز وجل. وهذا المعنى في غير آية من القرآن؛ كما قال تعالى: {فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون} [هود: 123]، {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا} [الملك: 29]، {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلًا} [المزمل: 9]، وكذلك هذه الآية الكريمة:{إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]»
(1)
.
ويذكر ابنُ القَيِّم أنَّ «سِرَّ الخلق والأمر والكتب والشرائع، والثواب والعقاب؛ انتهى إلى هاتين الكلمتين، وعليهما مدار العبودية والتوحيد؛ فإن الله تعالى أنزل الكتب، ثم جمع معانيها في القرآن الكريم، وأنزل القرآن فجمع معانيه في فاتحة الكتاب، ثم أنزل الفاتحة وجمع معانيها في:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} .
وهما الكلمتان المَقسومتان بين الربِّ وبين عبده نَصفين؛ فنصف له سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، ونصف لعبده وهو:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} »
(2)
.
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أصول التَّوحيد في نوعين:
النوع الأول: توحيد العبادة المتعلق بحقِّ ألوهيته سبحانه وتعالى؛ قال جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 84].
النوع الثاني: توحيد الاستعانة: وهو مُتعلق بحقِّ ربوبيته جل
جلاله؛ بحيث لا يُستعان ولا يُستغاث إلا به جل وعلا، ولا يُدعى ولا يتوكل إلا عليه وحده؛ لأن الأمر كله بيده، وقد جمعهما الله في مثل قوله تعالى:{وللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123].
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وهَذَا لَا يحصل لَهُ إِلَّا بإعانة الله لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَقدر على تَحْصِيل ذَلِك لَهُ إِلَّا الله، فَهُو دَائِمًا مُفتقر إِلَى حَقِيقَة:{إيَّاك نعْبد وإِيَّاك نستعين} [الفاتحة: 5]، فَإِنَّهُ لَو أُعين على حُصُول كل مَا يُحِبهُ ويطلبه ويَشتهيه ويريده، ولم يحصل لَهُ عبَادَة لله، فَلَنْ يحصل إِلَّا على الأَلَم والحَسْرَة والعَذَاب، ولنْ يخلص من آلام الدُّنْيَا ونكد عيشها إِلَّا بإخلاص الحبّ لله؛ بِحَيْثُ يكون الله هُو غَايَة مُرَاده ونِهَايَة مَقْصُوده، وهُو المحبوب لَهُ بِالقَصْدِ الأول وكل مَا سواهُ إِنَّمَا يُحِبهُ لأَجله، لَا يحب شَيْئًا لذاته إِلَّا الله. ومَتى لم يحصل لَهُ هَذَا لم يكن قد حَقَّق حَقِيقَة:(لَا إِلَه إِلَّا الله)، ولَا حقق التَّوْحِيد والعبودية والمحبة لله، وكَانَ فِيهِ من نقص التَّوْحِيد والإِيمَان، بل من الأَلَم والحَسْرَة والعَذَاب بِحَسب ذَلِك.
ولَو سعى فِي هَذَا المَطْلُوب، ولم يَكن مُستعينًا بِاللَّه متوكلًا عَلَيْهِ، مفتقرًا إِلَيْهِ فِي حُصُوله لم يحصل لَهُ؛ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ الله كَانَ ومَا لم يَشَأْ لم يكن، فَهُو مفتقر إِلَى الله؛ من حَيْثُ هُو المَطْلُوب المحبوب المُرَاد المعبود، ومن حَيْثُ هُو المَسْئُول المُسْتَعَان بِهِ المتَوكل عَلَيْهِ، فَهُو إلهه الَّذِي لَا إِلَه لَهُ غَيره، وهُو ربُّه الَّذِي لَا ربَّ لَهُ سواهُ».
كمال الذل وكمال الافتقار يَظهران في تحقيق العبد لكمال العبودية لله تعالى؛ قال ابن القيم رحمه الله: «سُئل محمد بن عبد الله الفرغاني عن الافتقار إلى الله سبحانه والاستغناء به، فقال: إذا صَحَّ
الافتقار إلى الله تعالى صَحَّ الاستغناءُ به، وإذا صحَّ الاستغناءُ به صحَّ الافتقار إليه، فلا يقال: أيهما أكمل؛ لأنه لا يتم أحدهما إلا بالآخر؟ قلت: الاستغناء بالله هو عين الفقر إليه، وهما عبارتان عن معنى واحد؛ لأن كمال الغِنى به هو كمال عبوديته، وحقيقة العبودية: كمال الافتقار إليه من كل وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به»
(1)
.
وسعادة العبد في كمال افتقاره إلى ربه واحتياجه إليه، أي: في أن يشهد ذلك، ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك من الذل والخضوع والخشوع، وإلا فالخلق كلهم محتاجون، لكن يظن أحدهم نوع استغناء؛ فيطغى، كما قال تعالى:{كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]، وقال:{وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض} [فصلت: 51]
(2)
.
فالعبد مُفتقر إلى الله جل وعلا في كل شيء؛ في خلقه ووجوده، وفي استمراره وحياته، وفي علومه ومعارفه، وفي هدايته وأعماله، وفي جلب أي نفع له عاجل أو آجل، أو دفع أي ضرر عنه عاجل أو آجل، وهذا هو معنى:(لا حول ولا قوة إلا بالله).
* * *
(1)
«طريق الهجرتين» (ص 47).
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (1/ 50).
قال المصنف رحمه الله: «ولَا تتمُّ عبوديته لله إِلَّا بِهَذَيْنِ، فَمَتَى كَانَ يحب غير الله لذاته، أَوْ يلتَفت إِلَى غير الله أَنه يُعينهُ كَانَ عبدًا لما أحبه، وعبدًا لما رجاه، بِحَسب حبه لَهُ ورجائه إِيَّاه، وإِذا لم يحب أحدًا لذاته إِلَّا الله، وأي شَيْء أحبه سواهُ، فَإِنَّمَا أحبه لَهُ ولم يرج قطُّ شَيْئًا إِلَّا الله، وإِذا فعل مَا فعل من الأَسْبَاب أَوْ حصَّل مَا حصَّل مِنْهَا كَانَ مشاهدًا أَنْ الله هُو الذى خلقهَا وقدرها وسخرها لَهُ، وأَن كل مَا فِي السَّمَاوات والأَرْض، فَالله ربُّه ومليكه وخالقه ومسخره، وهُو مفتقر إِلَيْهِ كَانَ قد حصل لَهُ من تَمام عبوديته لله بِحَسب مَا قُسم لَهُ من ذَلِك.
والنَّاس فِي هَذَا على دَرَجَات مُتَفَاوِتَة، لَا يُحصي طرقها إِلَّا الله.
فأكمل الخلق وأفضلهم وأَعْلَاهُمْ وأقربهم إِلَى الله وأَقْواهُمْ وأهداهم: أتمهم عبودية لله من هَذَا الوجْه».
لا بد أن تكون العبودية مبنية على الحب والخوف والرجاء، ومتى اختلَّ ركن من هذه الأركان اختلت العبودية، ويبعث على تحقيق العبودية أمران اثنان: مشاهدة منة الله تعالى ونعمه، ومطالعة عيوب النفس والعمل؛ قال ابن القيم رحمه الله: «قال شيخ الإسلام: العارفُ يَسير إلى الله بين مشاهدة المِنَّة ومطالعة عيب النَّفس والعمل، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصَّحيح من حديث شَدَّاد
بن أوس رضي الله تعالى عنه: «سَيِّدُ الاستغفار أن يَقول العبدُ: اللهم أنتَ ربِّي لا إله الا أنت، خَلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك مِنْ شَرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لَكَ بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ إنَّه لا يَغفر الذنوب إلا أنت»
(1)
، فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم:«أَبُوءُ لَكَ بنعمتك عليَّ وأَبُوء بذنبي» مشاهدةَ المِنَّة ومطالعةَ عيب النفس والعمل. فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لوليِّ النِّعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل تُوجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلسًا، وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس؛ فلا يرى لنفسه حالًا ولا مقامًا ولا سببًا يتعلق به ولا وسيلة منه يَمُنُّ بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصِّرف والإفلاس المحض، دخول مَنْ كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه؛ فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربِّه عز وجل، وكمال فاقته وفقره إليه، وأنَّ في كل ذَرَّة مِنْ ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طَرفة عين هلك وخسر خسارة لا تُجبر، إلا أن يَعود الله تعالى عليه ويَتداركه برحمته. ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية، ولا حِجاب أغلظ من الدَّعوى»
(2)
.
ولما كان رسولنا صلى الله عليه وسلم أحسن افتقارًا إلى الله كان أتم الخلق عبودية له عز وجل.
وهذا حال الأئمة والصالحين، وقد قال ابن القيم عن افتقار
(1)
أخرجه البخاري (6306) من حديث شداد بن أوس ?.
(2)
«الوابل الصيب» (ص 7، 8).
شيخه ابن تيمية لربِّه: «ولقد شاهدتُ من شيخ الإسلام ابن تيمية قَدَّس الله روحه من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرًا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء» .
ومن نَظم شيخ الإسلام رحمه الله:
أنا الفقير إلى رب البريات
…
أنا المُسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي
…
والخير إن يأتنا من عنده ياتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة
…
ولا عن النفس لي دفع المضرات
وليس لي دونه مولى يُدَبِّرني
…
ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي
إلا بإذن من الرحمن خالقنا
…
إلى الشفيع كما قد جاء في الآيات
ولست أملك شيئًا دونه أبدًا
…
ولا شريك أنا في بعض ذرات
ولا ظهير له كي يستعين به
…
كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لي وصف ذات لازم أبدًا
…
كما الغنى أبدًا وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم
…
وكلهم عنده عبد له آتي
فَمَنْ بغى مطلبًا من غير خالقه
…
فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله ملء الكون أجمعه
…
ما كان منه وما من بعد قد ياتي»
(1)
.
* * *
(1)
انظر: «مدارج السالكين» (1/ 520، 521).
قال المصنف رحمه الله: «وهَذَا هُو حَقِيقَة دين الإِسْلَام الَّذِي أرسل الله بِهِ رسله، وأنزل بِهِ كتبه، وهُو أَنْ يستسلم العَبْد لله لَا لغيره، فالمُستسلم لَهُ ولغيره مُشْرك، والممتنع عَنْ الاستسلام لَهُ مستكبر. وقد ثَبت فِي «الصَّحيح» عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: أَنْ «الجنَّة لَا يدخلهَا مَنْ كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذَرَّة مِنْ كِبر»
(1)
. كَمَا أَنَّ النَّار لَا يخلد فِيهَا مَنْ كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان، فَجعل الكبر مُقَابلًا للإيمَان؛ فَإِنْ الكبر يُنَافِي حَقِيقَة العُبُودِيَّة، كَمَا ثَبت فِي «الصحيح» عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ:«يَقُول الله: العظمةُ إزَارِي، والكبرياء رِدَائي؛ فَمَنْ نازعني واحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْتُه»
(2)
، فالعظمة والكبرياء من خَصَائِص الربوبية، والكبرياء أَعلَى من العظمة، ولِهَذَا جعلهَا بِمَنْزِلَة الرِّدَاء، كَمَا جعل العظمة بِمَنْزِلَة الإِزَار.
ولِهَذَا كَانَ شعار الصَّلَاة والأَذَان والأعياد هُو التَّكْبِير، وكَانَ مُسْتَحبًّا فِي الأَمْكِنَة العَالِيَة؛ كالصَّفا والمروة
(3)
، وإِذا علا الإِنْسَان
(1)
أخرجه مسلم (91) من حديث عبد الله بن مسعود ?.
(2)
أخرجه مسلم (2620) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العِزُّ إزاره، والكبرياء رداؤه؛ فمَن يُنازعني عَذَّبْتُه» .
(3)
أخرج مسلم (1218) من حديث جابر في ذكر حجته صلى الله عليه وسلم، وفيه: «
…
فبدأ بالصَّفا، فرقي عليه، حتى رأى البيت فاستقبل القبلة؛ فوَحَّد الله وكبره، وقال:«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مَرَّات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صَعِدَتا مَشى، حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصَّفا
…
».
شَرَفًا
(1)
، أَوْ ركب دَابَّة
(2)
ونَحْو ذَلِك، وبِه يُطفأ الحَرِيق وإِن عَظُم
(3)
، وعند الأَذَان يَهرب الشَّيْطَان
(4)
؛ قَالَ تَعَالَى: {وقَالَ ربكُم ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم إِنْ الَّذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عبادتي سيدخلون جَهَنَّم داخرين} [غافر: 60].
وكل مَنْ استكبر عَنْ عبَادَة الله لَا بُد أَنْ يَعبد غَيره، فَإِنَّ الإِنْسَان حسَّاس يَتَحَرَّك بالإرادة. وقد ثَبت فِي «الصحيح» عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ:«أصدق الأَسْمَاء: حَارِث وهَمَّام»
(5)
، فالحارث: الكاسب الفَاعِل. والهَمَّام: فَعَّال من الهم، والهمُّ أول الإِرَادَة، فالإنسان لَهُ إِرَادَة دَائِمًا، وكل إِرَادَة فَلَا بُد لَهَا من مُرَاد تنتهى إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ لكلِّ عبد من مُرَاد مَحْبُوب هُو مُنْتَهى حُبِّه وإرادته، فَمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عَنْ ذَلِك، فَلَا بُد أَنْ يكون لَهُ مُرَاد مَحْبُوب، يستعبده غير الله، فَيكون عبدًا لذَلِك المُرَاد المحبوب؛ إِمَّا المَال، وإِمَّا الجاه، وإِمَّا الصُّور، وإِمَّا مَا يَتَّخِذهُ إِلَهًا
(1)
أخرجه البخاري (1797) ومسلم (1344) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يُكَبِّر على كل شَرَف من الأرض ثلاث تكبيرات»، الحديث.
(2)
أخرج مسلم (1342) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر كَبَّر ثلاثًا»، الحديث.
(3)
يشير إلى ما أخرجه الطبراني في «الدعاء» (1002)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (294) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الحريق فكبروا؛ فإن التكبير يُطفئه» ، وضعفه الألباني في «الضعيفة» (2603).
(4)
أخرجه البخاري (608) ومسلم (389) عن أبي هريرة ?: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نُودي للصلاة أدبر الشيطان، وله ضُراط، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى النداء أقبل، حتى إذا ثُوِّب بالصلاة أدبر
…
»، الحديث. وهذا لفظ البخاري.
(5)
الذي في «صحيح مسلم» (2132) عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أحبَّ أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرَّحمن» . أما الحديث الذي ذكره المصنف فقد أخرجه أبو داود (4950)، والبخاري في «الأدب المفرد» (814) من حديث عن أبي وهب الجشمي ?، وصححه الألباني في «الصحيحة» (1040).
من دون الله، كَالشَّمْسِ والقَمَر والكَواكِب والأوثان، وقبور الأَنْبِيَاء والصَّالِحِينَ أَوْ من المَلَائِكَة والأنبياء الَّذين يتخذهم أَرْبَابًا، أَوْ غير ذَلِك مِمَّا عُبد من دون الله.
وإِذا كَانَ عبدًا لغير الله يكون مُشْركًا، وكل مستكبر فَهُو مُشْرك، ولِهَذَا كَانَ فِرْعَوْن من أعظم الخلق استكبارًا عَنْ عبَادَة الله، وكَانَ مُشْركًا؛ قَالَ تَعَالَى:{ولَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين * إِلَى فِرْعَوْن وهامان وقَارُون فَقَالُوا سَاحر كَذَّاب} [غَافِر: 23، 25] .. إِلَى قَوْله: {وقَالَ مُوسَى إِنِّي عذت بربي وربكم من كل متكبر لَا يُؤمن بِيَوْم الحساب} إِلَى قَوْله: {كَذَلِك يطبع الله على كل قلب متكبر جَبَّار} [غَافِر: 23 - 35]، وقَالَ تَعَالَى:{وقَارُون وفرْعَوْن وهامان ولَقَد جَاءَهُم مُوسَى بِالبَيِّنَاتِ فاستكبروا فِي الأَرْض ومَا كَانُوا سابقين} [العنكبوت: 39]، وقَالَ تَعَالَى:{إِنْ فِرْعَوْن علا فِي الأَرْض وجعل أَهلهَا شيعًا يستضعف طَائِفَة مِنْهُم يذبح أَبْنَاءَهُم ويستحيي نِسَاءَهُمْ} [القَصَص: 4]، وقَالَ:{وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًّا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين} [النَّمْل: 14]، ومثل هَذَا فِي القُرْآن كثير.
وقد وصف فِرْعَوْن بالشرك فِي قَوْله: {وقَالَ المَلأ من قوم فِرْعَوْن أتذر مُوسَى وقَومه ليفسدوا فِي الأَرْض ويذرك وآلهتك} [الأَعْرَاف: 127]، بل الاستقراء يدل على أَنه كلما كَانَ الرجل أعظم استكبارًا عَنْ عبَادَة الله كَانَ أعظم إشراكًا بِاللَّه؛ لِأَنَّهُ كلما استكبر عَنْ عبَادَة الله ازْدَادَ فقرًا وحاجة إِلَى المُرَاد المحبوب الَّذِي هُو المَقْصُود: مَقْصُود القلب بِالقَصْدِ الأول؛ فَيكون مُشْركًا بِمَا استعبده من ذَلِك».
حقيقة الإسلام هي: الاستسلام لله، ومعنى الاستسلام لله: الخضوع والتسليم له جل جلاله، فأخبار الشرع حقها التصديق،
وأوامر الشرع حقها الرضا بها والعمل بمقتضاها، ونواهي الشرع حقها القبول لها واجتنابها.
أما الاعتراض على ما ثبت أنه من دين الإسلام فأصله من الكبر ويوصل إلى الزندقة، وإبليس أول من فعل هذا، حينما أمره الله سبحانه وتعالى بالسجود لآدم فاعترض وأَبَى أن يسجد، قال الله تعالى:{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 12، 13]، فأخرجه الله عز وجل من الجنة، ولعنه وطرده؛ لمَّا أظهر كِبره واستعلن بكفره، وكذلك كل من سار على دربه.
وفارق بين الاعتراض على الحكم وتركه كبرًا وجحودًا وبين الإذعان للحكم وتركه تهاونًا وكسلًا، فالأول كفر، والثاني معصية.
لخطورة الكبر قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَدخل الجَنَّة مَنْ كان في قلبه مثقال ذَرَّة من كبر» . فقال رجل: إنَّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة! قال: «إنَّ الله جميل يحبُّ الجمال، الكبرُ بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناس»
(1)
، فكَما أَنَّ النَّار لَا يُخَلَّد فِيهَا مَنْ كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان فكذلك لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر؛ إذ الكبرُ مناف للإيمَان؛ مباعد عن حَقِيقَةِ العُبُودِيَّة؛ لأنَّه مِنْ خصائص الربوبية.
وكل مَنْ استكبر عن عبادة الله ولم يكن الله منتهى حبه وإرادته، فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله؛ فيكون عبدًا ذليلًا لذلك المراد المحبوب، وسيذوق وبال ذلك في الدنيا والآخرة؛ قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
(1)
أخرجه مسلم (91) من حديث عبد الله بن مسعود ?.
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
وكلما كان الإنسان أعظم استكبارًا عن عبادة الله كان أعظم إشراكًا بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقرًا وحاجةً إلى مراده المحبوب الذي هو مقصود القلب بالقصد الأول؛ فيكون مشركًا بما استعبده من ذلك، ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارًا عن عبادة الله وأشدهم إشراكًا وجحودًا؛ قال الله تعالى:{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر: 27]، إلى قوله:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]، ومثل هذا في القرآن كثير.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «ولنْ يَسْتَغْنِي القلب عَنْ جَمِيع المَخْلُوقَات، إِلَّا بِأَنْ يكون الله هُو مَوْلَاهُ الَّذِي لَا يَعبد إِلَّا إِيَّاه ولَا يَسْتَعِين إِلَّا بِهِ، ولَا يتوكل إِلَّا عَلَيْهِ، ولَا يفرح إِلَّا بِمَا يُحِبهُ ويرضاه، ولَا يكره إِلَّا مَا يُبغضه الربُّ ويكرهه، ولَا يوالى إِلَّا مَنْ والَاهُ الله، ولَا يُعادي إِلَّا مَنْ عَادَاهُ الله، ولَا يحب إِلَّا لله، ولَا يبغض شَيْئًا إِلَّا لله، فَكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته لله، واستغناؤه عَنْ المَخْلُوقَات، وبكمال عبوديته لله تكمل تبرئته من الكبر والشِّرك.
والشرك غَالب على النَّصَارَى، والكبر غَالب على اليَهُود؛ قَالَ تَعَالَى فِي النَّصَارَى:{اتَّخذُوا أَحْبَارهم ورُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله والمسيح ابْن مَرْيَم ومَا أمروا إِلَّا ليعبدوا إِلَهًا واحِدًا لَا إِلَه إِلَّا هُو سُبْحَانَهُ عَمَّا يشركُونَ} [التَّوْبَة: 31]، وقَالَ فِي اليَهُود:{أفكلما جَاءَكُم رَسُول بِمَا لَا تهوى أَنفسكُم استكبرتم ففريقًا كَذبْتُمْ وفريقًا تقتلون} [البَقَرَة: 87]، وقَالَ تَعَالَى:{سأصرف عَنْ آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الحق وإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا وإِن يرَوا سَبِيل الرشد لَا يتخذوه سَبِيلًا وإِن يرَوا سَبِيل الغي يتخذوه سَبِيلًا} [الأعراف: 145]».
قال المؤلف رحمه الله تعالى: «ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يَعبد إلا إياه
…
» فيه: تقرير
لحقيقة أن عبودية الله سبحانه وتعالى والتعلق به ينجي من آفتين:
الآفة الأولى: هي آفة اليهود المغضوب عليهم، وهي الكبر؛ لأنهم علموا الحق وأعرضوا عنه كبرًا.
والآفة الثانية: هي آفة النَّصارى الضَّالُّون، وهي الشرك؛ لأنهم ضلوا طريق الحق.
والعبودية لله نوعان:
النوع الأول: عبوديةٌ قسريَّة، تتمثَّل في كونِ اللهِ ربَّنا ومالكَنا، وكونِنا خاضعين قهرًا؛ فالخلقُ عبادُه- بهذا المعنى- شاءوا أم أَبَوْا.
النوع الثاني: عبودية إلهية، وهي الإقرارُ لله وحْدَه بالعبادة والانقياد له بالطاعة.
فالإنسانُ لا ينفكُّ عن وصفِ العبودية؛ فإنْ لم يكن عبدًا لله طوعًا، وهو شرف وعز له- استعبدتْه حاجاتُه وأهواؤه وطواغيتُ الجنِّ والإنس؛ فذاق الذل والخزي في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة.
فسبيلُ تحرُّر العبد في كمال عبوديته لله، ولن يستغنيَ القلبُ عن جميعِ المخلوقات إلاَّ بأنْ يكونَ اللهُ هو مولاه الذي لا يَعبُد إلا إيَّاه، ولا يستعين إلاَّ به، ولا يتوكَّل إلا عليه، ولا يفرَح إلا بما يحبُّه ويرضاه
…
فكلَّما قوِيَ إخلاصُ دِينه لله كَمُلتْ عبوديتُه لله واستغناؤه عنِ المخلوقات.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «ولما كَانَ الكِبْرُ مُستلزمًا للشرك، والشرك ضد الإِسْلَام، وهُو الذَّنب الَّذِي لَا يَغفره الله؛ قَالَ تَعَالَى:{إِنْ الله لَا يغْفر أَنْ يُشْرك بِهِ ويغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء ومن يُشْرك بِاللَّه فقد افترى إِثْمًا عَظِيما} [النِّسَاء: 48]، وقَالَ:{إِنْ الله لَا يَغْفر أَنْ يُشْرك بِهِ ويغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء ومن يُشْرك بِاللَّه فقد ضل ضلالًا بَعيدًا} [النِّسَاء: 116]- كَانَ الأَنْبِيَاء جَمِيعهم مَبعوثين بدين الإِسْلَام، فَهُو الدَّين الَّذِي لَا يَقبل الله غَيره، لَا من الأَولين ولَا من الآخرين؛ قَالَ نوح:{فَإِنْ توليتم فَمَا سألتكم من أجر إِنْ أجري إِلَّا على الله وأمرت أَنْ أكون من المُسلمين} [يُونُس: 72]، وقَالَ فِي حقِّ إِبْرَاهِيم:{ومن يرغب عَنْ مِلَّة إِبْرَاهِيم إِلَّا من سفه نَفسه ولَقَد اصطفيناه فِي الدُّنْيَا وإنَّهُ فِي الآخِرَة لمن الصَّالِحين * إِذْ قَالَ لَهُ ربه أسلم قَالَ أسلمت لرب العَالمين} .. إِلَى قَوْله: {فَلَا تموتن إِلَّا وأَنْتُم مُسلمُونَ} [البَقَرَة: 130 - 132]، وقَالَ يُوسُف:{توفني مُسلمًا وألحقني بالصَّالحين} [يُوسُف: 101]، وقَالَ مُوسَى:{يَا قوم إِنْ كُنْتُم آمنتم بِاللَّه فَعَلَيهِ توكلوا إِنْ كُنْتُم مُسلمين * فَقَالُوا على الله توكلنا} [يُونُس: 84، 85]، وقَالَ تَعَالَى:{إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى ونور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا للَّذين هادوا} [المَائِدَة: 44]، وقَالَت بلقيس:{رب إِنِّي ظلمت نَفسِي وأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان لله رب العَالمين} [النَّمْل: 44]، وقَالَ:{وإِذ أوحيت إِلَى الحواريين أَنْ آمنُوا بِي وبرسولي قَالُوا آمنا واشهد بأننا مُسلمُونَ} [المَائِدَة: 111]، وقَالَ:{إِنْ الدَّين عِنْد الله الإِسْلَام} [آل عمرَان: 19]، وقَالَ: {ومن يَبتغ غير الإِسْلَام
دينا فَلَنْ يُقبل مِنْهُ} [آل عمرَان: 85]، وقَالَ تَعَالَى:{أفغير دين الله يَبْغُونَ وله أسلم من فِي السَّمَاوات والأَرْض طَوْعًا وكرهًا} [آل عمرَان: 83]، فَذكر إِسْلَام الكائنات طَوْعًا وكرها؛ لِأَن المَخْلُوقَات جَمِيعهَا متعبدة لَهُ التَّعَبُّد العَام؛ سَواء أقرَّ المقرُّ بذلك أَوْ أنكرهُ، وهم مدينون لَهُ مُدبرون، فهم مُسلمُونَ لَهُ طَوْعًا وكرهًا، لَيْسَ لأحد من المَخْلُوقَات خُرُوج عَمَّا شاءه وقَدَّره وقضاه، ولَا حول ولَا قُوة إِلَّا بِهِ، وهُو رب العَالمين ومَلِيكهم؛ يُصَرِّفهم كَيفَ يَشَاء، وهُو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل مَا سواهُ فَهُو مربوب مَصْنُوع مفطور فَقير مُحْتَاج معبَّد مقهور، وهُو سُبْحَانَهُ الواحِد القهَّار، الخَالِق البارئ المصور».
مما لا شكَّ فيه أن المقصود من إثبات ربوبيته- سبحانه- لخلقه وانفراده بذلك: هو الاستدلال به على وجوب عبادته وحده لا شريك له؛ الذي هو توحيد الألوهية، فلو أن الإنسان أقر بتوحيد الربوبية ولم يقر بتوحيد الألوهية أو لم يَقم به على الوجه الصحيح؛ لم يكن مسلمًا، ولا موحدًا؛ بل يكون كافرًا جاحدًا.
ومعنى ذلك: أنَّ من أَقَرَّ بتوحيد الربوبية لله، فاعترف بأنه لا خالق ولا رازق ولا مدبر للكون إلا الله عز وجل لزمه أن يُقر بأنه لا يستحق العبادة بجميع أنواعها إلا الله سبحانه، وهذا هو توحيد الألوهية، فإن الألوهية هي العبادة، فتوحيدُ الربوبية دليلٌ لوجوب توحيد الألوهية؛ ولهذا كثيرًا ما يحتجُّ الله- سبحانه- على المنكرين لتوحيد الألوهية بما أقروا به من توحيد الربوبية؛ مثل قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناءً وأنزل من السماء
ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون}. [البقرة: 21، 22].
فأمرهم بتوحيد الألوهية، وهو عبادتهُ، واحتَجَّ عليهم بتوحيد الرُّبوبية الذي هو خلقُ الناس الأَوَّلين والآخرين، وخلقُ السماءِ والأرضِ وما فيهما، وتسخير الرياح وإنزالُ المطر، وإنباتُ النبات، وإخراج الثمرات التي هي رزق العباد؛ فلا يليق بهم أن يُشركوا معه غيره؛ ممن يعلمون أنه لم يفعل شيئًا من ذلك، ولا من غيره، فالطريق الفطري لإثبات توحيد الألوهية: الاستدلال عليه بتوحيد الربوبية، فإن الإنسان يتعلق- أولًا- بمصدر خَلقه، ومنشأ نفعه وضره؛ ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقربه إليه، وتُرضيه عنه، وتُوثق الصلة بينه وبينه، فتوحيد الربوبية بابٌ لتوحيد الألوهية؛ من أجل ذلك احتج الله على المشركين بهذه الطريقة، وأمر رسَوله أن يحتج بها عليهم، فقال تعالى:{قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون} [المؤمنون: 84 - 89]، وقال تعالى:{ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه} [الأنعام: 102]؛ فقد احتج بتفرده بالربوبية على استحقاقه للعبادة، وتوحيد الألوهية (العبادة): هو الذي خلق الخلق من أجله؛ قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56].
وهذا كثيرٌ في القرآن، فمن زعمَ أنَّ التوحيدَ هُو الإقرارُ بوجود الله، أو الإقرار بأن الله هو الخالق المتصرف في الكون، واقتصر
على هذا النوع؛ لم يكُن عارفًا لحقيقة التوحيد الذي دعَتْ إليه الرسلُ؛ لأنَّهُ وقفَ عندَ الملزوم وترك اللازم، أو وقف عند الدليل وترك المدلول عليه.
ومن خصائص الألوهية: الكمالُ المطلقُ من جميع الوجوه؛ الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها لها وحده، والتعظيم والإجلال، والخشية والدعاء، والرجاء، والإنابة، والتوكل والاستغاثة، وغاية الذلِّ مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلًا وشرعًا وفطرةً أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلًا وشرعًا وفطرةً أن يكون لغيره
(1)
.
* * *
(1)
انظر: «عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها» لصالح لفوزان (ص 31 - 33).
قال المصنف رحمه الله: «وهُو وإِن كَانَ قد خلق مَا خلقه بِأَسْبَاب فَهُو خَالق السَّبَب والمقدِّر لَهُ، وهَذَا مفتقر إِلَيْهِ كافتقار هَذَا، ولَيْسَ فِي المَخْلُوقَات سَبَب مُسْتَقل بِفعل خير ولَا دفع ضرّ، بل كل مَا هُو سَبَب فَهُو مُحْتَاج إِلَى سَبَب آخر يعاونه، وإِلَى مَا يدْفع عَنهُ الضِّدّ الَّذِي يُعَارضهُ ويمانعه.
وهُو سُبْحَانَهُ وحده الغني عَنْ كل مَا سواهُ، لَيْسَ لَهُ شريك يُعاونه، ولَا ضد يُناوئه ويُعارضه؛ قَالَ تَعَالَى:{قل أَفَرَأَيْتُم مَا تدعون من دون الله إِنْ أرادني الله بضر هَلْ هن كاشفات ضره أَوْ أرادني برحمة هَلْ هن ممسكات رَحمته قل حسبي الله عَلَيْهِ يتوكل المتوكلون} [الزمر: 38]، وقَالَ تَعَالَى:{وإِن يَمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُو وإِن يَمسسك بِخَير فَهُو على كل شَيْء قدير} [الأَنْعَام: 17]، وقَالَ تَعَالَى عَنْ الخَلِيل: {يَا قوم إِنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون * إِنِّي وجهت وجْهي للَّذي فطر السَّمَاوات والأَرْض حَنِيفا ومَا أَنا من المُشْركين * وحاجه قومه قَالَ أتحاجوني فِي الله وقد هدان ولَا أَخَاف مَا تشركون بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاء رَبِّي شَيْئا
…
} إِلَى قَوْله: {الَّذين آمنُوا ولم يلبسوا إِيمَانهم بظُلم أُولَئِكَ لَهُمْ الأَمْن وهم مهتدون} [الأَنْعَام: 78 - 82].
وفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عبدِ الله بن مَسْعُود رضي الله عنه: «أَنَّ هَذِه الآيَة لمَّا نزلت شقَّ ذَلِك على أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وقَالُوا: يَا رَسُول الله، أَيُّنَا لم يَلبس إيمَانه بظُلم؟ فَقَالَ: «إِنَّمَا هُو الشّرك؛ أَلَم تسمعوا إِلَى قَول العَبْد الصَّالح: {إِنْ الشِّرك لظلم عَظِيم} [لُقْمَان: 13]»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (3360) ومسلم (124) من حديث عبد الله بن مسعود ?.
وإِبْرَاهِيم الخَلِيلُ إِمَام الحنفاء المخلصين؛ حَيْثُ بعث وقد طبق الأَرْضَ دينُ المُشْركين؛ قَالَ الله تَعَالَى: {وإِذ ابتلى إِبْرَاهِيم ربه بِكَلِمَات فأتمهن قَالَ إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا قَالَ ومن ذريتي قَالَ لَا ينَال عهدي الظَّالِمين} [البَقَرَة: 124]؛ فَبين أَنْ عَهده بِالإِمَامَةِ لَا يتَنَاول الظَّالِم، فَلم يَأْمر الله سُبْحَانَهُ أَنْ يكون الظَّالِم إِمَامًا، وأعظم الظُّلم الشّرك.
وقَالَ تَعَالَى: {إِنْ إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا لله حَنِيفا ولم يَك من المُشْركين} [النَّحْل: 120]، والأُمة هُو: معلم الخَيْر الَّذِي يُؤتم بِهِ. كَمَا أَنَّ القُدْوة: الذى يُقْتَدى بِهِ.
والله تَعَالَى جعل فِي ذُريَّته النُّبُوة والكتاب، وإِنَّمَا بعث الأَنْبِيَاء بعده بمِلَّته؛ قَالَ تَعَالَى:{ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَنْ اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا ومَا كَانَ من المُشْرِكين} [النَّحْل: 123]، وقَالَ تَعَالَى:{إِنْ أولى النَّاس بإبراهيم للَّذين اتَّبعُوهُ وهَذَا النَّبِي والَّذين آمنُوا والله ولي المُؤمنِينَ} [آل عمرَان: 68]، وقَالَ تَعَالَى:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيّا ولَا نَصْرَانِيّا ولَكِن كَانَ حَنِيفا مُسلما ومَا كَانَ من المُشركين} [آل عمرَان: 67]، وقَالَ تَعَالَى:{وقَالُوا كونُوا هودا أَوْ نَصَارَى تهتدوا قل بل مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا ومَا كَانَ من المُشْركين * قُولُوا آمنا بِاللَّه ومَا أنزل إِلَيْنَا ومَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وإِسْمَاعِيل وإِسْحَاق ويَعْقُوب والأسباط} إِلَى قَوْله: {ونحن لَهُ مُسلمُونَ} [البَقَرَة: 135، 136].
وقد ثَبت فِي «الصحيح» عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنْ «إِبْرَاهِيم خير البَريَّة»
(1)
، فَهُو أفضلُ الأَنْبِيَاء بعد النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وهُو خَلِيل الله تَعَالَى.
وقد ثَبت فِي «الصحيح» عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أَنه قَالَ:
(1)
أخرج مسلم (2369) عن أنس بن مالك ? قال: «جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا خير البرية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك إبراهيم عليه السلام» .
«إِنَّ الله اتخذنى خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا»
(1)
(2)
، يَعْني: نَفسه.
وقَالَ: «لَا تبقين فِي المَسْجِدِ خَوْخَة إِلَّا سُدَّت إِلَّا خوخةَ أَبى بكر»
(3)
(4)
. وكل هَذَا فِي «الصحيح» ، وفِيه أَنه قَالَ ذَلِك قبل مَوته بأيام، وذَلِكَ من تَمام رسَالَته؛ فَإِنْ فِي ذَلِك تَمام تَحْقِيق مخالَّته لله الَّتِي أَصْلهَا محبَّة الله تَعَالَى للعَبد ومحبة العَبْد لله، خلافًا للجهمية.
وفِي ذَلِك تَحْقِيق تَوْحِيد الله، وألَّا يعبدوا إِلَّا إِيَّاه؛ ردًّا على أشباه المُشْرِكين، وفِيه ردٌّ على الرَّافضة الَّذين يَبخسون الصِّديق ? حَقَّه، وهم أعظم المنتسبين إِلَى القِبْلَة إشراكًا بِعبَادة عَليٍّ وغَيره من البشر.
والخُلَّة: هِيَ كَمَال المحبَّة المستلزمة من العَبْد كَمَال العُبُودِيَّة لله، ومن الربِّ سُبْحَانَهُ كَمَال الربوبية لِعِبَادِهِ الَّذين يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ.
ولَفظ العُبُودِيَّة يتَضَمَّن كَمَالَ الذُّلِّ وكَمَالَ الحبّ؛ فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: قلب مُتَيَّم، إِذا كَانَ متعبدًا للمحبوب. والمتيم: المتعبد، وتيم الله: عبد الله، وهَذَا- على الكَمَال- حصل لإِبْرَاهِيمَ ومُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وسَلَّم.
(1)
أخرجه مسلم (532) من حديث جندب ?.
(2)
أخرجه مسلم (2383) من حديث عبد الله بن مسعود ?.
(3)
أخرجه البخاري (3904) ومسلم (2382) من حديث أبي سعيد الخدري ?.
(4)
أخرجه مسلم (532) من حديث جندب ?.
ولِهَذَا لم يكن لَهُ صلى الله عليه وسلم من أهل الأَرْض خَلِيل؛ إِذْ الخُلَّة لَا تحْتَمل الشِّركَة؛ فَإِنَّهُ كَمَا قيل فِي المَعْنى:
قد تخللت مَسْلَك الرُّوح مني
…
وبِذَا سُمِّي الخَلِيل خَلِيلًا
(1)
بِخِلَاف أصل الحبِّ؛ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قد قَالَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح فِي الحَسَن وأُسَامَة: «اللَّهُمَّ إني أُحِبُّهما؛ فأَحبَّهما وأحبَّ مَنْ يُحبهما»
(2)
، وسَأَلَهُ عَمْرو بن العَاصِ: أَيُّ النَّاس أحبُّ إِلَيْك؟ قَالَ: «عَائِشَة» . قَالَ: فَمِنْ الرِّجَال؟ قَالَ: «أَبوهَا»
(3)
. وقَالَ لعَليٍّ ?: «لَأُعْطيَن الرَّايَة غَدًا رجلًا يُحبُّ اللهَ ورَسُولَه، ويُحِبُّهُ الله ورَسُوله»
(4)
. وأمثال ذَلِك كثير.
وقد أخبر تَعَالَى أَنه {يحبُّ المُتَّقِينَ} [آل عمران: 76]، و {يُحب المُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، و {يُحب المقسطين} [المائدة: 42]، و {يُحب التوابين ويُحب المتطهرين} [البقرة: 222]، و {يُحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص} [الصف: 4]، وقَالَ:{فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ ويُحِبُّونَهُ} [المَائِدَة: 54]؛ فقد أخبر بمحبته لِعِبَادِهِ المُؤمنِينَ ومحبة المُؤمنِينَ لَهُ، حَتَّى قَالَ:{والَّذين آمنُوا أَشد حُبًّا لله} [البَقَرَة: 165].
أمَّا الخلَّة فخاصَّة، وقَول بعض النَّاس: إِنْ مُحَمَّدًا حبيب الله، وإِبْرَاهِيم خَلِيل الله، وظنه أَنْ المحبَّة فَوق الخلَّة؛ قَول ضَعِيف؛ فَإِنْ
(1)
البيت لبَشَّار بن بُرد، وهو من البحر التام. انظر:«ديوانه» (ص 979).
(2)
الحديث الذي أخرجه البخاري (3735): عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، حَدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذه والحسن، فيقول:«اللهم أحبَّهما؛ فإني أُحبهما» . وأما بلفظ المصنف فأخرجه الترمذي (3769) في حق الحسن والحسين، بلفظ:«اللهم إني أُحِبُّهما فأَحِبَّهما وأَحِبَّ مَنْ يُحبهما» ، من حديث أسامة بن زيد ?، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (2966).
(3)
أخرجه البخاري (3662) ومسلم (2384) من حديث عمرو بن العاص ?.
(4)
أخرجه البخاري (4210) ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد ?.
مُحَمَّدًا- أَيْضًا- خَلِيل الله، كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الأَحَادِيث الصَّحِيحَة المستفيضة.
ومَا يرْوى أَنْ العَبَّاس يُحْشر بَين حبيب وخليل، وأمثال ذَلِك فأحاديث مَوْضُوعَة لَا تَصلح أَنْ يُعْتَمد عَلَيْهَا».
محبة الله عز وجل صفة من صفاته، وهي ثابتة له سبحانه وتعالى، ولا ينكرها إلا أهل التعطيل والعياذ بالله، فالله عز وجل يُحِبُّ ويُحَبُّ، يعني: تنسب له المحبة على وجهين: على أنها فِعل منه، وعلى أنها فعل نحوه، وهذه يثبتها أهل السنة والجماعة؛ فيَرون أن الله عز وجل يحبُّ بعضَ خلقه؛ كمحبته للأنبياء والصالحين والعمل الصالح، ومحبته للصابرين ومحبته للمتطهرين، ونحو ذلك، وكذلك من جهة العبد؛ فالعبد يحب ربَّه ويُعظمه سبحانه وتعالى، ويتعلق قلبه به لكمال صفاته ولكمال إنعامه.
ثم أشار المصنف إلى الروافض وأذنابهم الذين نشروا الشرك وعبادة غير الله من القبور والأضرحة والعتبات التي يقدسونها ويحجون إليها ويطوفون بها ويذبحون عندها، ويستغيثون بعليِّ بن أبي طالب ?، ويصفونه بصفات الله، ويبغضون أبا بكر وعمر ويلعنونهما ويسبون عائشة رضي الله عنها، وغير ذلك من كفرهم وضلالاتهم، وقد رد عليهم شيخ الإسلام في كتابه القَيِّم «منهاج السنة النبوية» ، ودحض شبههم وفند مزاعمهم، وألزمهم الحجج الواضحة.
ولقد صدق الشعبي حين قال لمالك: «إنني قد درستُ الأهواء كلها، فلم أَرَ قومًا هم أحمق من الخشبية (طائفة من الروافض)، لو كانوا من الدواب لكانوا حُمُرًا، ولو كانوا من الطير لكانوا رخمًا، وقال: أُحَذِّرك الأهواء المضلة، وشَرها الرافضة، وذلك أن منهم
يهودًا يَغمصون الإسلام لتحيا ضلالتهم
…
، لم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله، ولكن مقتًا لأهل الإسلام وطعنًا عليهم
…
»
(1)
.
* * *
(1)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (8/ 1549).
قال المصنف رحمه الله: «وقد قدمنَا أَنْ محبَّة الله تَعَالَى هِيَ: محبتُه ومحبة مَا أحب، كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ: «ثَلَاث مَنْ كن فِيهِ وجد حلاوة الإِيمَان: مَنْ كَانَ اللهُ ورَسُولُه أحبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا، ومَن كَانَ يحب المَرْءَ لَا يُحِبهُ إِلَّا لله، ومن كَانَ يكره أَنْ يَرجع فِي الكفْر بعد إِذْ أنقذه الله مِنْهُ، كَمَا يَكره أَنْ يلقى فِي النَّار»
(1)
. أخبر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَنْ كَانَ فِيهِ هَذِه الثَّلَاث؛ وجد حلاوة الإِيمَان؛ لِأَن وَجْدَ الحَلَاوة بالشَّيْء يتبع المحبَّة لَهُ، فَمن أحبَّ شَيْئًا أَوْ اشتهاه، إِذا حصل لَهُ مُرَاده، فَإِنَّهُ يجد الحَلَاوة واللذة والسُّرُور بذلك، واللذة أَمر يحصل عَقيب إِدْرَاك الملائم الَّذِي هُو المحبوب أَوْ المشتهى. ومَن قَالَ: إِنْ اللَّذَّة إِدْرَاك الملائم- كَمَا يَقُوله مَنْ يَقُوله من المتفلسفة والأطباء- فقد غلط فِي ذَلِك غَلطًا بَينًا، فَإِنْ الإِدْرَاك يتوسط بَين المحبَّة واللذة، فَإِنَّ الإِنْسَان- مثلًا- يَشْتَهِي الطَّعَام، فَإِذا أكله حصل لَهُ عقيب ذَلِك اللَّذَّة، فاللذة تتبع النَّظر إِلَى الشَّيْء، فَإِذا نظر إِلَيْهِ التذ بِهِ. واللذة الَّتِي تتبع النّظر لَيست نفس النّظر، ولَيْسَت هِيَ رُؤْيَة الشَّيْء، بل تَحصل عقيب رُؤْيَته، وقَالَ تَعَالَى:{وفيهَا مَا تشتهيه الأَنْفس وتلذ الأَعْين} [الزخرف: 71]، وهَكَذَا جَمِيع مَا يحصل للنَّفس من اللَّذَّات والآلام: من فَرح وحزن ونَحْو ذَلِك يَحصل بالشعور بالمحبوب، أَوْ الشُّعُور بالمكروه، ولَيْسَ نفس الشُّعُور هُو الفَرح ولَا الحزن.
فحلاوة الإِيمَان المتضمنة من اللَّذَّة بِهِ والفرح مَا يَجده المُؤمن
(1)
أخرجه البخاري (16) ومسلم (43) من حديث أنس ?، وقد تقدم.
الواجِد حلاوة الإِيمَان، تتبع كَمَال محبَّة العَبْد لله، وذَلِكَ بِثَلَاثَة أُمُور: تَكْمِيل هَذِه المحبَّة وتفريقها، ودفع ضدها. فتكميلها: أَنْ يكون الله ورَسُوله أحبّ إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا، فَإِنْ محبَّة الله ورَسُوله لَا يكْتَفى فِيهَا بِأَصْل الحبّ، بل لا بد أَنْ يكون الله ورَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا كَمَا تقدم.
وتفريقها: أَنْ يحب المَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله، ودفع ضدها: أَنْ يكره ضد الإِيمَان أعظم من كَرَاهَته الإِلقَاء فِي النَّار.
فَإِذا كَانَتْ محبَّة الرَّسُول والمُؤمنِينَ من محبَّة الله، وكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يحب المُؤمنِينَ الَّذين يُحِبُّهُمْ الله؛ لِأَنَّهُ أكمل النَّاس محبَّة لله، وأحقهم بِأَنْ يحب مَا يُحِبهُ الله، ويبغض مَا يبغضه الله، والخلة لَيْسَ لغير الله فِيهَا نصيب، بل قَالَ:«لَو كنتُ متخذًا من أهل الأَرْض خَلِيلًا لاتَّخذت أَبَا بكر خَلِيلًا»
(1)
- علم مزِيد مرتبَة الخلَّة على مُطلق المحبَّة.
والمَقْصُود: هُو أَنْ الخلَّة والمحبة لله: تَحْقِيق عبوديته، وإِنَّمَا يغلط من يغلط فِي هَذِه من حَيْثُ يتوهمون أَنَّ العُبُودِيَّة مُجَرّد ذلٍّ وخضوع فَقَط، لَا محبَّة مَعَه، وأَن المحبَّة فِيهَا انبساط فِي الأَهْواء أَوْ إدلال لَا تَحتمله الربوبية، ولِهَذَا يُذكر عَنْ ذِي النُّون: أَنهم تكلمُوا عِنْده فِي مَسْأَلَة المحبَّة؛ فَقَالَ: «أَمْسكُوا عَنْ هَذِه المَسْأَلَة لَا تسمعها النُّفُوس فتدَّعيها» .
وكره مَنْ كره مِنْ أهل المعرفَة والعلم مجالسة أَقوام يُكثرون الكَلَام فِي المحبَّة بِلَا خشيَة.
وقَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السّلف: «مَنْ عَبد الله بالحبِّ وحده فَهُو
(1)
أخرجه مسلم (532) من حديث جندب ?، وقد تقدم.
زنديق
(1)
، ومَن عَبده بالرجاء وحده فَهُو مُرجئ
(2)
، ومَن عَبده بالخوف وحده فَهُو حروريٌّ
(3)
، ومَن عَبده بالحب والخَوْف والرجاء فَهُو مُؤمن موحد».
ولِهَذَا وجد فِي المُتَأَخِّرين مَنْ انبسط فِي دَعْوى المحبَّة، حَتَّى أخرجه ذَلِك إِلَى نوع من الرعونة والدَّعْوى الَّتِي تنَافِي العُبُودِيَّة، وتُدْخل العَبْد فِي نوع من الربوبية الَّتِي لَا تَصلح إِلَّا لله؛ فيدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حُدُود الأَنْبِيَاء والمُرْسلِينَ، أَوْ يَطْلب من الله مَا لَا يَصلح بِكُل وجه إِلَّا لله، لَا يصلح للأنبياء ولَا للمرسلين.
وهَذَا بَاب وقع فِيهِ كثير من الشُّيُوخ. وسَببه: ضعف تَحْقِيق العُبُودِيَّة الَّتِي بيَّنها الرُّسُل، وحَرَّرها الأَمر والنَّهْي الَّذِي جَاءُوا بِهِ، بل ضعف العقل الَّذِي بِهِ يعرف العَبْد حَقِيقَته. وإِذا ضعف العقل، وقلص العلم بِالدِّينِ، وفِي النَّفس محبَّة طائشة جاهلة- انبسطت النَّفس بحمقها فِي ذَلِك، كَمَا ينبسط الإِنْسَان فِي محبَّة الإِنْسَان مَعَ حمقه وجهله، ويَقُول: أَنا محب، فَلَا أؤاخذ بِمَا أَفعلهُ من أَنْواع يكون فِيهَا عدوان وجَهل، فَهَذَا عين الضلال، وهُو شَبيه بقول اليَهُود والنَّصَارَى:{نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه} [المَائِدَة: 18]، قَالَ الله تَعَالَى:{قل فَلم يعذبكم بذنوبكم بل أَنْتُم بشر مِمَّنْ خلق يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء} [المَائِدَة: 18]، فَإِنْ تعذيبه لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يَقْتَضِي أَنهم غير محبوبين، ولَا منسوبين إِلَيْهِ بِنسَبة البُنُوة، بل يَقْتَضِي أَنهم مربوبون مخلوقون.
(1)
الزنديق: هو من يبطن الكفر، ويُظهر الإيمان مع الدسِّ الخفي.
(2)
المرجئة: فرقة من الفرق يعتقدون آراء مخالفة لأهل السنة والجماعة؛ من أشهرها: أنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
(3)
الحرورية: هم الذين خرجوا على عليٍّ ? من جيشه بسبب قبوله التحكيم بينه وبين معاوية ?، وقد حاربوا عليًّا ? عند قرية اسمها (حروراء) في العراق.
فَمن كَانَ الله يُحِبُّهُ اسْتَعْملهُ فِيمَا يُحِبهُ، ومَحبوبه لَا يفعل مَا يُبغضه الحق ويُسخطه؛ من الكفْر والفسوق والعصيان.
ومَن فعل الكَبَائِر وأصرَّ عَلَيْهَا ولم يَتب مِنْهَا، فَإِنَّ الله يُبغض مِنْهُ ذَلِك، كَمَا يحب مِنْهُ مَا يَفْعَله من الخَيْر، إِذْ حبه للعَبد بِحَسب إيمَانه وتقواه.
ومَن ظن أَنْ الذُّنُوب لَا تضرُّه لكَون الله يُحِبهُ مَعَ إصراره عَلَيْهَا- كَانَ بِمَنْزِلَة من زعم أَنْ تنَاول السم لَا يضرّهُ مَعَ مداومته عَلَيْهِ، وعدم تداويه مِنْهُ لصِحَّة مزاجه، ولَو تدبر الأحمق مَا قصَّ الله فِي كِتَابه من قصَص أنبيائه، ومَا جرى لَهُمْ من التَّوْبَة والِاسْتِغْفَار، ومَا أصيبوا بِهِ من أَنْواع البلَاء الَّذِي فِيهِ تمحيص لَهُمْ وتطهير بِحَسب أَحْوالهم- علم بعض ضَرَر الذُّنُوب بأصحابها، ولَو كَانَ أرفع النَّاس مقَامًا، فَإِنْ المُحب للمخلوق إِذا لم يكن عَارِفًا بمحابِّه ولَا مرِيدًا لَهَا، بل يَعْمل بِمُقْتَضى الحبّ وإِن كَانَ جهلًا وظلمًا- كَانَ ذَلِك سَببًا لِبُغْض المحبوب لَهُ، ونُفوره عَنهُ، بل سَببًا لعقوبته».
خلق الله الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته، مع الخضوع له والانقياد لأمره.
فأصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحبه. وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي
تتبين حقيقة العبودية والمحبة، ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علمًا عليها، وشاهدًا لمن ادعاها؛ فقال تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]، فجعل اتباع رسوله مشروطًا بمحبتهم لله، وشرطًا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذا ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله. ودل على أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما، فهذا هو الشرك الذي لا يَغفره الله لصاحبه البتة، ولا يَهديه الله؛ قال الله تعالى:{قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} [التوبة: 24].
فكل مَنْ قَدَّم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحدهم على معاملة الله فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قاله بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بخلاف ما هو عليه، وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله، فذلك المقدم عنده أحب إليه من الله ورسوله
(1)
.
(1)
انظر: «مدارج السالكين» (1/ 19، 20).
إنَّ كثيرًا من أمراض قلوبنا ترجع إلى ضعف حبِّ الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم في قلوبنا، وهو مِنْ أوثق عرى الإيمان.
والذي يروم المحبة الصادقة لا بد له من حادٍ يسوقه ويعينه على مشقة الطريق، وعليه أن يجاهد نفسه في سبيل تحصيلها والتلذذ بها؛ وذلك بالبعد عن الذنوبِ ومصاحبةِ أهل الغفلة، وعليه بالاجتهاد في الطاعة، والعمل على تهذيب أخلاقه والسمو بروحه، والصبر على أنواع الابتلاءات المختلفة الممحصة، وبذل الغالي في سبيل ذلك؛ فالعاقبة محمودة.
إنَّ محبة الله تعالى تملأ النفس سكينة ورضا، وتملأ الحياة نورًا وسعادة، وتملأ المجتمعات البشرية تفاهمًا وتراحمًا وتكافلًا، ومَن حرم تلك النعمة كان قرينه الضنك في الدنيا، والعمى في الآخرة.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وكثير من السالكين سلكوا فِي دَعْوى حبِّ الله أنواعًا من أُمُور الجَهْل بِالدِّينِ: إِمَّا مِنْ تعدِي حُدُود الله، وإِمَّا مِنْ تَضْييع حُقُوق الله، وإِمَّا مِنْ ادِّعَاء الدَّعَاوى البَاطِلَة الَّتِي لَا حَقِيقَة لَهَا، كَقَوْل بَعضهم: أَي مُرِيد لي ترك فِي النَّار أحدًا، فَأَنا برِئ مِنْهُ، فَقَالَ الآخر: أَي مُرِيد لي ترك أحدًا من المُؤمنِينَ يدْخل النَّار فَأَنا مِنْهُ بَرِيء.
فَالأول: جعل مريده يُخرج كل مَنْ فِي النَّار.
والثَّانِي: جعل مريده يمْنَع أهل الكَبَائِر من دُخُول النَّار.
ويَقُول بَعضهم: إِذا كَانَ يَوْم القِيَامَة نَصبت خَيْمَتي على جَهَنَّم حَتَّى لَا يدخلهَا أحدٌ.
وأمثال ذَلِك من الأَقْوال الَّتِي تُؤْثَر عَنْ بعض المَشَايِخ المَشْهُورين، وهِي إِمَّا كذب عَلَيْهِم، وإِمَّا غلطٌ مِنْهُم.
ومثل هَذَا قد يصدر فِي حَال سكر وغَلَبَة وفناء يَسْقط فِيهَا تَمْيِيز الإِنْسَان، أَوْ يَضعف حَتَّى لَا يَدْرِي مَا قَالَ. والسكر هُو لَذَّة مَعَ عدم تَمْيِيز. ولِهَذَا كَانَ من هَؤُلَاءِ مَنْ إِذا صَحا اسْتغْفر من ذَلِك الكَلَام، والَّذين توسعوا من الشُّيُوخ فِي سَماع القصائد المتضمنة للحبِّ والشوق واللوم والعذل والغرام- كَانَ هَذَا أصل مقصدهم، فَإِنْ هَذَا الجِنْس يُحَرك مَا فِي القلب من الحبِّ كَائِنا مَا كَانَ، ولِهَذَا أنزل الله محنة يمْتَحن بهَا المُحب؛ فَقَالَ:{قل إِنْ كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} [آل عمرَان: 31]، فَلَا يكون محبًّا لله إِلَّا مَنْ يتبع رَسُوله،
وطَاعَة الرَّسُول ومتابعته لَا تكون إِلَّا بتحقيق العُبُودِيَّة، وكثير مِمَّنْ يَدَّعِي المحبَّة يخرج عَنْ شَرِيعَته وسُنَّته صلى الله عليه وسلم، ويَدَّعِي من الحَالَات مَا لَا يَتَّسِع هَذَا الموضع لذكره، حَتَّى قد يظنُّ أحدهم سُقُوط الأَمر وتَحْلِيل الحَرَام لَهُ، وغير ذَلِك مِمَّا فِيهِ مُخَالفَة شَرِيعَة الرَّسُول وسُنَّته وطاعته.
بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رَسُوله: الجِهَاد فِي سَبيله. والجهَاد يتَضَمَّن كَمَال محبَّة مَا أَمر الله بِهِ، وكَمَال بُغض مَا نهى الله عَنهُ، ولِهَذَا قَالَ فِي صفة مَنْ يُحِبهُمْ ويُحِبُّونَهُ:{أَذِلَّة على المُؤمنِينَ أعزة على الكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله ولَا يخَافُونَ لومة لائم} [المَائِدَة: 54].
ولِهَذَا كَانَتْ محبَّة هَذِه الأمة لله أكمل من محبَّة من قبلهَا، وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم، وأكمل هَذِه الأمة فِي ذَلِك هم أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، ومَن كَانَ بهم أشبه كَانَ ذَلِك فِيهِ أكمل؛ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قوم يدَّعونَ المحبَّة؟
وفِي كَلَام بعض الشُّيُوخ: المحبَّة نَار تَحرق فِي القلب مَا سوى مُرَاد المحبوب. وأَرَادُوا أَنَّ الكَوْن كُله قد أَرَادَ الله وجوده؛ فظنوا أَنْ كَمَال المحبَّة أَنْ يحب العَبْد كل شَيْء، حَتَّى الكفْر والفسوق والعصيان، ولَا يُمكن أحد أَنْ يُحب كلَّ مَوْجُود، بل يحب مَا يلائمه وينفعه، ويُبغض مَا يُنَافِيهِ ويضره، ولَكِن استفادوا بِهَذَا الضلال اتِّبَاع أهوائهم، ثمَّ زادهم انغماسًا فِي أهوائهم وشهواتهم، فهم يحبونَ مَا يَهوونه؛ كالصور والرئاسة وفضول المَال والبدع المضلة، زاعمين أَنْ هَذَا من محبَّة الله. ومن محبَّة الله بغض مَا يُبغضه الله ورَسُوله وجِهَاد أَهله بِالنَّفسِ والمَال.
وأصل ضلالهم: أَنْ هَذَا القَائِل الَّذِي قَالَ: إِنْ المحبَّة نَار تحرق مَا سوى مُرَاد المحبوب، قصد بِمُرَاد الله تَعَالَى: الإِرَادَة
الكونية فِي كلِّ الموجودات.
أما لَو قَالَ مُؤمن بِاللَّه وكتبه ورُسُله هَذِه المقَالة، فَإِنَّهُ يقْصد الإِرَادَة الدِّينِيَّة الشَّرْعِيَّة الَّتِي هِيَ بِمَعْنى: محبته ورضَاهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تحرق من القلب مَا سوى المحبوب لله. وهَذَا معنى صَحِيح، فَإِنْ من تَمام الحبّ لله: أَلا يحب إِلَّا مَا يُحِبهُ الله، فَإِذا أَحْبَبْت مَا لَا يحب كَانَتْ المحبَّة نَاقِصَة. وأما قَضَاؤُهُ وقدره فَهُو يُبغضه ويكرهه ويسخطه وينْهى عَنهُ، فَإِنْ لم أوافقه فِي بغضه وكراهته وسخطه لم أكن محبًّا لَهُ، بل محبًّا لما يبغضه».
إنَّ كثيرًا ممن يَدَّعي المحبة يخرج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وهديه، ويَدَّعي من الخيالات والأوهام ما يثير الدهشة والشفقة عليهم، حتى يظن أحدهم سقوط التكليف عنه وتحليل الحرام له، وكثير من الضالين الذين اتبعوا أشياء مبتدعة من الزهد والعبادة على غير علم ولا نور من الكتاب والسنة وقعوا فيما وقع فيه النصارى من دعوى المحبة لله، مع مخالفة شريعته وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك.
فالاقتصار على جانب المحبة لا يُسَمَّى عبادة، بل قد يَؤول بصاحبه إلى الضلال بالخروج عن الدين، والصوفية وأشباههم- في الغالب- لا يرجعون في دينهم وعبادتهم إلى الكتاب والسنة، وإنما يَرجعون إلى أذواقهم وما يدلهم عليهم شيوخهم من الطرق المبتدعة والأوراد البدعية، بل وأحيانًا الشركية، ويكثرون من الاستدلال بالحكايات والمنامات والأحاديث الموضوعة لإثبات صحة ما هم عليه.
ويتمسك الصوفية فيما يتقربون به إلى ربهم بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المُتشابه والحكايات التي لا يُعرف صدق قائلها، ولو صدق لم يكن معصومًا؛ فأحدثت شيوخهم لهم دينًا، كما أحدثت الأحبار والرهبان لمتبوعيهم دينًا
(1)
.
وبهذه الحُجَّة والمنطق والبيان طَارَدَ شيخُ الإسلام مظاهرَ السُّخْفِ والانحراف التي لحِقَتْ بعقول بعض المسلمين وعقائدهم وأعمالهم، خاصة في أمر العبودية.
* * *
(1)
انظر: «حقيقة التصوف وموقف الصوفية من أصول العبادة والدين» (ص 9، 10).
قال المصنف رحمه الله: «فاتباع هَذِه الشَّرِيعَة والقِيَام بِالجِهَادِ بهَا مِنْ أعظم الفروق بَين أهل محبَّة الله وأوليائه الَّذين يُحِبهُمْ ويُحِبُّونَهُ وبَين مَنْ يَدَّعِي محبَّة الله نَاظرًا إِلَى عُمُوم ربوبيته، أَوْ مُتبعًا لبَعض البدع المُخَالفَة لشريعته، فَإِنَّ دَعْوى هَذِه المحبَّة لله من جنس دَعْوى اليَهُود والنَّصَارَى المحبَّة لله، بل قد تكون دَعْوى هَؤُلَاءِ شرًّا من دَعْوى اليَهُود والنَّصَارَى؛ لما فيهم من النِّفَاق الَّذين هم بِهِ فِي الدَّرك الأَسْفَل من النَّار، كَمَا قد تكون دَعْوى اليَهُود والنَّصَارَى شرًّا من دَعواهُم إِذا لم يصلوا إِلَى مثل كفرهم.
وفِي التَّوْرَاة والإِنْجِيل من التَّرْغِيب فِي محبَّة الله مَا هم متفقون عَلَيْهِ، حَتَّى إِنْ ذَلِك عِنْدهم أعظم وصَايَا الناموس.
فَفِي الإِنْجِيل: أعظم وصَايَا المَسِيح: (أَنْ تُحب الله بِكُل قَلبك وعقلك ونفسك)، والنَّصَارَى يدَّعونَ قيامهم بِهَذِهِ المحبَّة، وأَن مَا هم فِيهِ من الزُّهْد والعِبَادَة هُو من ذَلِك، وهم بُرَآء من محبَّة الله، إِذْ لم يتبعوا مَا أحبه، بل اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه؛ فأحبط أَعْمَالهم.
والله يبغض الكَافرين ويَمقتهم ويلعنهم، وهُو سُبْحَانَهُ يحب مَنْ يُحِبهُ، لَا يُمكن أَنْ يكون العَبْد محبًّا لله، والله تَعَالَى غير محب لَهُ، بل بِقدر محبَّة العَبْد لرَبه يكون حب الله لَهُ، وإِن كَانَ جَزَاء الله لعَبْدِهِ أعظم. كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الإلهي عَنْ الله تَعَالَى أَنه قَالَ: «مَنْ تَقَرَّب إِلَيَّ شبْرًا تقرَّبت إِلَيْهِ
ذِرَاعًا، ومَن تقرب إِلَيَّ ذِرَاعًا تقرَّبت إِلَيْهِ باعًا، ومَن أَتَانِي يمشي أَتَيْته هرولة»
(1)
.
وقد أخبر الله سُبْحَانَهُ: أَنه يحب المُتَّقِينَ والمُحسنين والصَّابِرِينَ، ويُحب التوابين ويُحب المتطهرين، بل هُو يحب مَنْ فعل مَا أَمر بِهِ من واجِب ومستحب، كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: «لَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إِلَيَّ بالنوافل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا أحببته كنت سَمعه الَّذِي يَسمع بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصر بِهِ
…
»، الحَدِيث
(2)
، وكثير من المخطئين الَّذين ابتدعوا أَشْيَاء فِي الزّهْد والعِبَادَة وقَعُوا فِي بعض مَا وقع فِيهِ النَّصَارَى من دَعْوى المحبَّة لله مَعَ مُخَالفَة شَرِيعَته، وترك المجاهدة فِي سَبيله، ونَحْو ذَلِك، ويتمسكون فِي الدَّين الَّذِي يَتَقَرَّبُون بِهِ إِلَى الله بِنَحْوِ مَا تمسك بِهِ النَّصَارَى من الكَلَام المُتَشَابه، والحكايات الَّتِي لَا يُعرف صدق قَائِلهَا، ولَو صدق لم يكن قَائِلهَا مَعْصُومًا، فيَجعلون مَتبوعيهم شارعين لَهُمْ دينًا، كَمَا جعل النَّصَارَى قِسيسيهم ورُهْبَانهمْ شارعين لَهُمْ دينًا، ثمَّ إِنَّهُمْ يَنتقصون العُبُودِيَّة، ويَدَّعونَ أَنْ الخَاصَّة يتعدَّونها، كَمَا يَدَّعِي النَّصَارَى فِي المَسِيح والقساوسة، ويُثبتون لخاصتهم من المُشَاركَة فِي الله من جنس مَا تُثبته النَّصَارَى فِي المَسِيح وأمه والقِسيسين والرهبان إِلَى أَنْواع أُخر يَطول شرحها فِي هَذَا الموضع.
وإِنَّمَا الدَّينُ الحقُّ هُو تَحْقِيق العُبُودِيَّة لله بِكُل وجه، وهُو تَحْقِيق محبَّة الله بِكُل دَرَجَة، وبقدر تَكْمِيل العُبُودِيَّة تكمل محبَّة العَبْد لرَبه، وتكمل محبَّة الرب لعَبْدِهِ. وبقدر نقص هَذَا يكون نقص هَذَا، وكلما كَانَ فِي القلب حب لغير الله- كَانَتْ فِيهِ عبودية لغير الله بِحَسب
(1)
أخرجه البخاري (7405) ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة ?.
(2)
أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة ?.
ذَلِك. وكلما كَانَ فِيهِ عبودية لغير الله كَانَ فِيهِ حب لغير الله بِحَسب ذَلِك.
وكل محبَّة لَا تكون لله فَهِيَ بَاطِلَة، وكل عمل لَا يُرَاد بِهِ وجه الله فَهُو بَاطِل، فالدُّنْيَا ملعونة، مَلعُون مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ لله
(1)
، ولَا يكون لله إِلَّا مَا أحبه الله ورَسُوله، وهُو المَشْرُوع.
فَكل عمل أُرِيد بِهِ غير الله لم يكن لله، وكل عمل لَا يُوافق شرع الله لم يكن لله، بل لَا يكون لله إِلَّا مَا جمع الوصفين: أَنْ يكون لله، وأَن يكون مُوافقًا لمحبة الله ورَسُوله، وهُو الواجِب والمُسْتَحب، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَمن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه فليعمل عملًا صَالحًا ولَا يُشْرك بِعبَادة ربه أحدا} [الكَهْف: 110].
فَلَا بُد من العَمَل الصَّالح، وهُو الواجِب والمُسْتَحب، ولَا بُد أَنْ يكون خَالِصًا لوجه الله تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{بلَى من أسلم وجهه لله وهُو محسن فَلهُ أجره عِنْد ربه ولَا خوف عَلَيْهِم ولَا هم يَحْزَنُونَ} [البَقَرَة: 112]، وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ عمل عملًا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُو ردٌّ»
(2)
، وقَالَ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا الأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نوى؛ فَمَنْ كَانَتْ هجرته إِلَى الله ورَسُوله فَهجرَته إِلَى الله ورَسُوله، ومَن كَانَتْ هجرته لدُنْيَا يُصِيبهَا أَوْ امْرَأَة يَتَزَوجهَا فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ»
(3)
.
وهَذَا الأَصْل هُو أصل الدَّين، وبحسب تَحْقِيقه يكون تَحْقِيق الدَّين، وبِه أرسل الله الرُّسُل، وأنزل الكتب، وإِلَيْهِ دَعَا الرَّسُول،
(1)
أخرج الترمذي (2322) وابن ماجه (4112) عن أبي هريرة ? أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدُّنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالمًا أو مُتعلمًا» ، وحسنه الألباني في «صحيح ابن ماجه» (3320).
(2)
أخرجه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب ?.
وعَلِيهِ جَاهد، وبِه أَمر، وفِيه رَغَّب، وهُو قطب الدِّين الَّذِي تَدور عَلَيْهِ رحاه.
والشركُ غَالبٌ على النُّفُوس، وهُو كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث:«هُو فِي هَذِه الأمة أخْفى من دَبِيب النَّمْل»
(1)
(2)
، وكَانَ عمر يَقُول فِي دُعَائِهِ:«اللَّهُمَّ اجْعَل عَمَلي كُله صَالحًا، واجعله لوجهك خَالِصًا، ولَا تجْعَل لأحدٍ فِيهِ شَيْئًا» .
ادعى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه، مع أنهم في الحقيقة لم يمتثلوا هذه المحبة، ولم ينقادوا للمحبوب قولًا وعملًا، وكذلك الذين ادعوا أنهم يحبون الله عز وجل وهم يحدثون البدع في دينه، والتي يتصورون أنها تقربهم إليه سبحانه وتعالى، فهؤلاء بهم شَبَه من اليهود في دعواهم أنهم أحباب الله عز وجل، مع أنهم في الحقيقة هم مَنْ غضب الله عز وجل عليهم ولعنهم، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.
فدعوى المحبة لا تكفي، بل لا بد أن يكون معه اتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وانقياد في القول والعمل لما أمر به المحبوب فعلًا، ولما نهى عنه المحبوب تركًا.
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 403)(19622)، والبخاري في «الأدب المفرد» (377)، وصححه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (36).
(2)
أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (716) من حديث معقل بن يسار ?، وصححه الألباني في «صحيح الأدب المفرد» (266).
وقد يكون العبد أحياناً محبًّا لله تعالى محبة قلبية مجردة، لكنه في سلوكه وعمله بعيد عن حقيقتها؛ من حيث اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ابتلى الله سبحانه وتعالى الذي يَدَّعون محبته بالامر باتباعه صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31].
وقد أنكرت بعض الفرق الضالة محبة الله تعالى؛ فقالوا: إنَّ الله عز وجل لا يُحِب، وإنَّما محبته للعبد هي إرادة الثواب له فقط؛ لأنه لا تتعلق به المحبة.
وحتى الصوفية الذين يزعمون محبة الله عز وجل يفسِّرون المحبة بتفسير جَبْري؛ فيقولون: هي موافقة قَدَر الله سبحانه وتعالى والاستكانة له؛ ويقصدون الرضا بما كتب الله وقوعه في الدنيا، حتى وإن كان كفرًا أو معصية، ولذلك لا يعلملون على دفع قدر الله بقدر الله، ويظنون ذلك من تمام العبودية، أي: موافقة الحقيقة الكونية.
وإنَّما الدين الحق هو تحقيق العبودية لله، وعلى قدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يُراد به وجه الله فهو باطل.
وكثير من المسلمين في هذه الأيام يظنون أن التعبد لله عز وجل هو الإتيان بالشعائر التعبدية فقط، بينما الحقيقة أن التعبد لله عز وجل هو الخضوع لأمر الله في كل مناحي الحياة؛ كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163].
فهذا المفهوم الشامل للعبودية الذي جهله كثير من الناس لهذا
المفهوم جعلهم يبتدعون ويخترعون أنظمة في الحياة وقوانين تخالف شرع الله، ويدعون أن لا شأن للدِّين في السياسة ولا في الاقتصاد!
ثم بين المصنف أن لقبول العبادة شرطين؛ هما: الإخلاص. واتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيها؛ قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
ثم بَيَّن المصنف رحمه الله خطر الرياء، وأنَّه أخفى في الأمة من دبيب النمل؛ لذلك يجب عليها الحذر منه والاستعانة بالله على دفعه.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وكَثِيرًا مَا يُخالط النُّفُوس من الشَّهَواتِ الخفية مَا يُفْسد عَلَيْهَا تَحْقِيق محبتها لله وعبوديتها لَهُ، وإخلاص دينهَا لَهُ، كَمَا قَالَ شَدَّاد بن أَوْس: «يَا نعايا العَرَب، يَا نعايا العَرَب
(1)
! إِنَّ أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم الرِّيَاء والشهوة الخفية»
(2)
. وقيل لأبي دَاوُد السجسْتانِي: «ومَا الشَّهْوة الخفية؟ قَالَ: حبُّ الرِّئَاسَة»
(3)
.
وعَن كَعْب بن مَالك عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ: «مَا ذئبان جائعان أُرسلا فِي زَريبة غَنم بأفسد لَهَا من حرص المَرْء على المَال والشَّرَف لدينِهِ» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ:«حَدِيث حسن صَحِيح»
(4)
.
فَبَيَّن صلى الله عليه وسلم أَنَّ الحِرْص على المَال والشَّرف فِي إِفْسَاد الدَّين لَا ينقص عَنْ إِفْسَاد الذِّئْبَين الجائعين لزريبة الغنم، وذَلِكَ بيِّنٌ؛ فَإِنْ الدِّين السَّلِيم لَا يكون فِيهِ هَذَا الحِرْص، وذَلِكَ أَنْ القلب إِذا ذاق حلاوة عبوديته لله ومحبته لَهُ لم يكن شَيْء أحب إِلَيْهِ من ذَلِك حَتَّى يُقدمهُ عَلَيْهِ، وبِذَلِك يصرف- عَنْ أهل الإِخْلَاص لله- السوء والفحشاء، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء
(1)
قال الأصمعي: إنما هو: يا نعاء العرب، أي: يا هؤلاء انعوا العرب. «عمدة القاري» (22/ 83).
(2)
أخرجه أبو نُعيم في «الحلية» (7/ 122)، و «أخبار أصبهان» (2/ 66)، وقال الألباني في «الصحيحة» (508):«هذا إسناد حسن رجاله ثقات» .
(3)
أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (22/ 200).
(4)
أخرجه أحمد (3/ 456) برقم (15765)، والترمذي (2376) من حديث كعب بن مالك ?، وصححه الألباني في «المشكاة» (5181).
إِنَّه من عبادنَا المخلصين} [يُوسُف: 24].
فَإِنْ المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله مَا يمنعهُ عَنْ عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله مَا يمنعهُ عَنْ محبَّة غَيره؛ إِذْ لَيْسَ عِنْد القلب السَّلِيم أحلى ولَا ألذ ولَا أطيب ولَا أسر ولَا أنعم من حلاوة الإِيمَان المتضمن عبوديته لله ومحبته لَهُ، وإخلاص الدَّين لَهُ، وذَلِكَ يَقْتَضِي انجذاب القلب إِلَى الله؛ فَيصير القلب منيبًا إِلَى الله خَائفًا مِنْهُ رَاغِبًا رَاهِبًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{من خشِي الرَّحْمَن بِالغَيْبِ وجَاء بقلب منيب} [ق: 33]، إِذْ المُحب يخَاف من زَوال مَطْلُوبه، أَوْ حُصُول مرغوبه؛ فَلَا يكونُ عبدَ الله ومُحِبَّه، إِلَّا بَين خوف ورجاء، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الوسِيلَة أَيهمْ أقرب ويرجون رَحمته ويَخَافُونَ عَذَابه إِنْ عَذَاب رَبك كَانَ محذورًا} [الإِسْرَاء: 57].
وإِذا كَانَ العَبْد مخلصًا لله اجتباه ربه، فأحيا قلبه واجتذبه إِلَيْهِ، فَيَنْصَرِف عَنهُ مَا يضاد ذَلِك من السوء والفحشاء، ويخَاف من حُصُول ضد ذَلِك، بِخِلَاف القلب الَّذِي لم يخلص لله، فَإِنْ فِيهِ طلبًا وإِرَادَة وحبًّا مُطلقًا، فيهوى كل مَا يسنح لَهُ، ويتشبث بِمَا يهواه كالغصن، أَي نسيم مرَّ بِهِ عطفَه وأمالَه، فَتَارَة تجتذبه الصُّور المُحرمَة وغير المُحرمَة؛ فَيبقى أَسِيرًا عبدًا لمن لَو اتَّخذهُ هُو عبدًا لَهُ لَكَانَ ذَلِك عَيْبًا ونقصًا وذمًّا.
وتارَة يجتذبه الشّرف والرئاسة، فترضيه الكَلِمَة، وتغضبه الكَلِمَة ويَستعبده مَنْ يثني عَلَيْهِ ولَو بِالبَاطِلِ، ويعادي مَنْ يذمُّه ولَو بِالحَقِّ.
وتارَة يَستعبده الدِّرْهَم والدِّينَار، وأمثال ذَلِك من الأُمُور الَّتِي تستعبد القُلُوب، والقلوب تهواها؛ فيتخذ إِلَهًا هَواهُ، ويتبع هَواهُ بِغَيْر هدى من الله.
ومن لم يكن خَالِصًا لله عبدًا لَهُ قد صَار قلبه معبدًا لرَبه وحده لَا شريك لَهُ؛ بِحَيْثُ يكون الله أحب إِلَيْهِ مِنْ كل مَا سواهُ، ويكون ذليلًا لَهُ خاضعًا، وإِلَّا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشَّيَاطِين؛ فَكَانَ من الغاوين، إخْوان الشَّيَاطِين، وصَارَ فِيهِ من السُّوء والفحشاء مَا لَا يعلمهُ إِلَّا الله.
وهَذَا أَمر ضَرُورِيٌّ لَا حِيلَة فِيهِ.
فالقلب إِنْ لم يكن حَنِيفًا مُقبلًا على الله مُعرضًا عَمَّا سواهُ، وإِلَّا كَانَ مُشْركًا؛ قَالَ تَعَالَى:{فأقم وجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدَّين القيم ولَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ * منيبين إِلَيْهِ واتقوه وأقِيمُوا الصَّلَاة ولَا تَكُونُوا من المُشْركين * من الَّذين فرقوا دينهم وكَانُوا شيعًا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ} [الرُّوم: 30 - 32].
وقد جعل الله- سُبْحَانَهُ- إِبْرَاهِيم وآل إِبْرَاهِيم أَئِمَّة لهَؤُلَاء الحُنفاء المخلصين أهل محبَّة الله وعبادته وإخلاص الدَّين لَهُ، كَمَا جعل فِرْعَوْن وآل فِرْعَوْن أَئِمَّة المُشْركين المتبعين أهواءهم؛ قَالَ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيم:{ووهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق ويَعْقُوب نَافِلَة وكلًّا جعلنَا صالحين * وجعلناهم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا وأوحينا إِلَيْهِم فعل الخيرَات وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وكَانُوا لنا عابدين} [الأَنْبِيَاء: 72، 73]، وقَالَ فِي فِرْعَوْن وقَومه:{وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار ويَوْم القِيَامَة لَا ينْصرُونَ * وأتبعناهم فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة ويَوْم القِيَامَة هم من المقبوحين} [القَصَص: 41، 42]، ولِهَذَا يَصير أَتبَاع فِرْعَوْن أَولًا إِلَى أَلَّا يُميزوا بَين مَا يُحِبهُ الله ويرضاه وبَين مَا قَدَّر الله وقضاه، بل ينظرُونَ إِلَى المَشِيئَة المُطلقَة الشاملة، ثمَّ فِي آخر الأَمر لَا يُمَيِّزون بَين الخَالِق
والمخلوق، بل يجْعَلُونَ وجود هَذَا وجود هَذَا.
ويَقُول محققوهم: الشَّرِيعَة فِيهَا طَاعَة ومعصية، والحقيقة فِيهَا مَعْصِية بِلَا طَاعَة، والتَّحْقِيق لَيْسَ فِيهِ طَاعَة ولَا مَعْصِية. وهَذَا تَحْقِيق مَذْهَب فِرْعَوْن وقَومه الَّذين أَنْكَرُوا الخَالِق، وأنكروا تكليمه لعَبْدِهِ مُوسَى ومَا أرْسلهُ بِهِ من الأَمر والنَّهْي.
وأمَّا إِبْرَاهِيم وآل إِبْرَاهِيم الحنفاء من الأَنْبِيَاء والمُؤمنِينَ بهم، فهم يعلمُونَ أَنه لَا بُد من الفرق بَين الخَالِق والمخلوق، ولَا بُد من الفرق بَين الطَّاعَة والمَعْصِيَة، وأَن العَبْد كلما ازْدَادَ تَحْقِيقًا لهَذَا الفرق- ازدادت محبته لله وعبوديته لَهُ وطاعته لَهُ وإعراضه عَنْ عبَادَة غَيره ومحبة غَيره وطَاعَة غَيره».
كثيرًا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية؛ كحب الظهور والمراءاة بالعمل- ما يُفسد عليها تحقيق محبتها لله، وعبوديتها له، وإخلاص دينها له.
وكذلك الحرص على المال والحرص على الشرف يفسدان دين المرء، كالذِّئبين الجائعين المُرْسَليْن في زريبة غنم، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحرص على السلامة من هاتين الآفتين كحرص صاحب الغنم على حفظهم من الذئاب، والذِّئب لا يَسلم منه الراعي ولا يأمن منه على غنمه إلا بغاية الاحتراز والتحفظ والمراقبة، والبعد عنه، وجعل الحواجز بين غَنَمِه وبينه.
فمدار الأمر على القلب: إذا أقامه الإنسان على الجادة صلح، وإذا أهمل إصلاحه وغفل عنه فسد أمره في الدنيا والآخرة، وهذا يُوجب تمام العناية بالقلب تطهيرًا وتزكيةً وإصلاحًا وتهذيبًا، فإنه
من أصلح قلبه صلحت حاله في الدنيا والآخرة، كما قال صلى الله عليه وسلم:«أَلَا وإنَّ في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»
(1)
.
فالمخلص لله يذاق من حلاوة عبوديته له ما يمنعه عن عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره؛ إذ ليس عند القلب السليم أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاص الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيبًا إلى الله، خائفًا منه، راغبًا راهبًا، كما قال تعالى:{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33].
ومَن لم يكن محبًّا لله مخلصًا عبادته لله صار ذليلًا خاضعًا لغيره، واستولت على قلبه الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لم يعلمه إلا الله؛ قال المصنف رحمه الله: «فالقلب إن لم يكن حنيفًا مقبلًا على الله معرضًا عما سواه كان مشركًا: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30 - 32].
لذلك لما حقق إبراهيمُ وآلُه العبودية لله جعلهم سبحانه أئمة للحنفاء المخلصين، قَالَ تَعَالَى فِي حقِّ إِبْرَاهِيم: {ووهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق ويَعْقُوب نَافِلَة وكلًّا جعلنَا صالحين * وجعلناهم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا وأوحينا إِلَيْهِم فعل الخيرَات وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وكَانُوا لنا
(1)
أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير ?.
عابدين} [الأَنْبِيَاء: 72، 73]، ولما استكبر فرعون وقومه عن عبادته جل وعلا جعلهم أئمة للمشركين المتبعين أهواءهم؛ قَالَ تعالى عن فِرْعَوْن وقَومه:{وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار ويَوْم القِيَامَة لَا ينْصرُونَ * وأتبعناهم فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة ويَوْم القِيَامَة هم من المقبوحين} [القَصَص: 41، 42].
وكما سبق فالله عز وجل له إرادتان: الإرادة الشرعية. والإرادة القدرية، ووقع كثير من الناس في الطوام من عدم التفريق بين الإرادتين، وهذا هو معنى قول المصنف:«ولِهَذَا يَصير أَتبَاع فِرْعَوْن- من الضالين الجبرية، سواء جبرية الصوفية، أو جبرية الجهمية- أَولًا إِلَى أَلَّا يُميزوا بَين مَا يُحِبهُ الله ويرضاه وبَين مَا قَدَّر الله وقضاه» .
وهؤلاء يقسمون الناس إلى قسمين: أهل الشريعة، وأهل الحقيقة، فيقولون: أهل الشريعة هم القائمون بها. وأما أهل الحقيقة: فهم الذين يرون أن كل ما وقع في الكون من كفر وإيمان وطاعة وعصيان هو مراد لله سبحانه وتعالى، وبالتالي فهو محبوب له سبحانه وتعالى.
ولم يُفَرِّقوا ما أراده الله قدرًا وما أمر به شرعًا؛ فلا بد من الفرق بين الخالق والمخلوق، ولا بد من الفرق الكفر والإيمان، وبين الطاعة والعصيان، وأن العبد كلما ازداد تحقيقًا لهذا الفرق ازدادت عبوديته لله وإنابته إليه، وبالتالي تزداد محبته له، وينفر من عبادة غيره، ويُعرض عن محبة سواه.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وهَؤُلَاء المُشْركُونَ الضالون يسوُّون بَين الله وبَين خلقه، والخليل يَقُول:{أَفَرَأَيْتُم مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ * أَنْتُم وآباؤكم الأقدمون * فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب العَالمين} [الشُّعَرَاء: 75 - 77]، ويتمسكون بالمتشابه من كَلَام المَشَايِخ، كَمَا فعلت النَّصَارَى.
مِثَال ذَلِك: اسْم (الفناء)؛ فَإِنْ الفناء ثَلَاثَة أَنْواع:
نوع للكاملين من الأَنْبِيَاء والأولياء.
ونَوع للقاصدين من الأَوْلِيَاء والصَّالِحِينَ.
ونَوع لِلمُنَافِقين المُلحِدِينَ المشبهين.
فَأَما الأول: فَهُو الفناء عَنْ إِرَادَة مَا سوى الله؛ بِحَيْثُ لَا يُحب إِلَّا الله، ولَا يعبد إِلَّا إِيَّاه، ولَا يتوكل إِلَّا عَلَيْهِ، ولَا يطْلب من غَيره. وهُو المَعْنى الَّذِي يجب أَنْ يقْصد بقول الشَّيْخ أبي يزِيد؛ حَيْثُ قَالَ:(أُرِيد ألَّا أُرِيد إِلَّا مَا يُرِيد)، أَي: المُرَاد المحبوب المرضي، وهُو المُرَاد بالإرادة الدِّينِيَّة. وكَمَال العَبْد: أَلا يُرِيد ولَا يُحب ولَا يرضى إِلَّا مَا أَرَادَهُ الله ورَضِيَه وأحبه، وهُو مَا أَمر بِهِ أَمر إِيجَاب أَوْ اسْتِحْبَاب، ولَا يُحب إِلَّا مَا يُحِبهُ الله؛ كالملائكة والأنبياء والصَّالِحِينَ، وهَذَا معنى قَوْلهم فِي قَوْله:{إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم} [الشُّعَرَاء: 89]، قَالُوا: هُو السَّلِيم مِمَّا سوى الله، أَوْ مِمَّا سوى عبَادَة الله، أَوْ مِمَّا سوى إِرَادَة الله، أَوْ مِمَّا سوى محبَّة الله، فَالمَعْنى واحِد، وهَذَا المَعْنى إِنْ سُمِّي فنَاء أَوْ لم يسم، هُو أول الإِسْلَام
وآخره، وباطن الدَّين وظَاهره.
وأمَّا النَّوْع الثَّانِي: فَهُو الفناء عَنْ شُهُود السِّوى، وهَذَا يحصل لكثير من السَّالكين؛ فَإِنَّهُم لفرط انجذاب قُلُوبهم إِلَى ذكر الله وعبادته ومحبته وضعف قُلُوبهم عَنْ أَنْ تَشهد غير مَا تعبد، وترى غير مَا تقصد- لَا يخْطر بقلوبهم غير الله، بل ولَا يَشْعُرُونَ إِلَّا بِهِ، كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى:{وأصْبح فؤاد أم مُوسَى فَارغًا إِنْ كَادَت لتبدي بِهِ لَوْلَا أَنْ ربطنا على قَلبهَا} [القَصَص: 10]، قَالُوا: فَارغًا من كل شَيْء إِلَّا من ذكر مُوسَى. وهَذَا كثيرًا مَا يعرض لمن دهمه أَمر من الأُمُور؛ إِمَّا حب، وإِمَّا خوف، وإِمَّا رَجَاء؛ يبْقى قلبه منصرفًا عَنْ كل شَيْء، إِلَّا عَمَّا قد أحبَّه أَوْ خافه أَوْ طلبه؛ بِحَيْثُ يكون عِنْد استغراقه فِي ذَلِك لَا يشْعر بِغَيْرِهِ.
فَإِذا قوي على صَاحب الفناء هَذَا، فَإِنَّهُ يَغيب بموجوده عَنْ وجوده، وبمشهوده عَنْ شُهُوده، وبمذكوره عَنْ ذِكره، وبمعروفه عَنْ مَعْرفَته، حَتَّى يَفنى مَنْ لم يكن، وهِي المَخْلُوقَات؛ العَبْد فَمن سواهُ، ويبقى مَنْ لم يزل، وهُو الرب تَعالَى. والمرَاد: فناؤها فِي شُهُود العَبْد وذِكره، وفناؤه عَنْ أَنْ يُدْرِكهَا أَوْ يشهدها، وإِذا قوي هَذَا ضعف المُحب حَتَّى يضطرب فِي تَمْيِيزه، فقد يظنُّ أَنه هُو محبوبه، كَمَا يُذكر «أَنْ رجلًا ألقى نَفسه فِي اليم، فَألقى مُحِبُّه نَفسه خَلفه، فَقَالَ: أَنا وقعتُ، فَمَا أوقعك خَلفي؟ قَالَ: غِبْتُ بك عني؛ فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي» .
وهَذَا الموضع زَلَّت فِيهِ أَقوامٌ، وظنوا أَنَّه اتِّحَاد، وأَنَّ المُحب يتحد بالمحبوب، حَتَّى لَا يكون بَينهمَا فرقٌ فِي نفس وجودهما. وهَذَا غلط؛ فَإِنْ الخَالِق لَا يتحد بِهِ شَيْء أصلًا، بل لَا يُمكن يَتَّحد شَيْء بِشَيءٍ، إِلَّا إِذا استحَالَا وفسدت حَقِيقَة كلٍّ مِنْهُمَا، وحصل
مِنْ اتحادهما أَمر ثَالِث لَا هُو هَذَا ولَا هَذَا، كَمَا إِذا اتَّحد المَاء واللَّبن، والمَاء والخمر، ونَحْو ذَلِك، ولَكِن يتحد المُرَاد والمحبوب، والمرَاد والمَكْرُوه، ويتفقان فِي نوع الإِرَادَة والكَرَاهَة؛ فيحب هَذَا مَا يحب هَذَا ويُبغض هَذَا مَا يُبغض هَذَا، ويَرضى مَا يرضى، ويسخط مَا يسْخط، ويَكرهُ مَا يكره، ويُوالي مَنْ يوالي، ويُعادي من يعادي.
وهَذَا الفناء كُله فِيهِ نقص.
وأكابر الأَوْلِيَاء- كَأبي بكر وعُمَر والسَّابقين الأَولين من المُهَاجِرين والأَنْصَار- لم يقعوا فِي هَذَا الفناء؛ فضلًا عَمَّن هُو فَوْقهم من الأَنْبِيَاء، وإِنَّمَا وقع شَيْء من هَذَا بعد الصَّحَابَة.
وكَذَلِكَ كل مَا كَانَ من هَذَا النمط مِمَّا فِيهِ غيبَة العقل وعدم التَّمْيِيز لما يَرِدُ على القلب مِنْ أَحْوال الإِيمَان.
فَإِنَّ الصَّحَابَة رضي الله عنهم كَانُوا أكمل وأقوى وأثبت فِي الأَحْوال الإيمانية من أَنْ تغيب عُقُولهمْ، أَوْ يحصل لَهُمْ غَشي أَوْ صَعْق أَوْ سُكر أَوْ فنَاء أَوْ وَلَه أَوْ جُنُون.
وإِنَّمَا كَانَ مبادئ هَذِه الأُمُور فِي التَّابِعين من عُبَّاد البَصْرَة؛ فَإِنَّهُ كَانَ فيهم مَنْ يُغشى عَلَيْهِ إِذا سَمِع القُرْآن، ومِنْهُم مَنْ يَمُوت؛ كَأبي جهير الضَّرِير، وزُرارة بن أوفى قَاضِي البَصْرَة.
وكَذَلِكَ صَار فِي شُيُوخ الصُّوفِيَّة مَنْ يَعرض لَهُ من الفناء والسُّكر مَا يضعف مَعَه تَمْيِيزه، حَتَّى يَقُول فِي تِلكَ الحَال من الأَقْوال مَا إِذا صَحا عرف أَنه غالطٌ فِيهِ، كَمَا يحْكى نَحْو ذَلِك عَنْ مثل أبي يزِيد وأبي الحُسَيْن النوري وأبي بكر الشبلي وأمثالهم، بِخِلَاف أبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي، ومعروف الكَرْخِي، والفضيل بن عِيَاض، بل وبِخِلَاف الجُنَيْد وأَمْثَاله، مِمَّنْ كَانَتْ عُقُولهمْ وتمييزهم يَصحبهم
فِي أَحْوالهم، فَلَا يَقعون فِي مثل هَذَا الفناء والسُّكر ونَحْوه، بل الكُمَّل تكون قُلُوبهم لَيْسَ فِيهَا سوى محبَّة الله وإرادته وعبادته، وعِنْدهم من سَعَة العلم والتمييز مَا يشْهدُونَ [بِهِ] الأُمُور على مَا هِيَ عَلَيْهِ، بل يَشْهدُونَ المَخْلُوقَات قَائِمَة بِأَمْر الله مُدبَّرَة بمشيئته، بل مُستجيبة لَهُ قانتة لَهُ؛ فَيكون لَهُمْ فِيهَا تَبصرة وذكرى، ويكون مَا يَشهدونه مِنْ ذَلِك مؤيدًا ومُمِدًّا لما فِي قُلُوبهم من إخلاص الدِّين، وتَجْرِيد التَّوْحِيد لَهُ والعِبَادَة لَهُ وحده لَا شريك لَهُ.
وهَذِه هِيَ الحَقِيقَة الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا القُرْآن، وقَامَ بهَا أهلُ تَحْقِيق الإِيمَان والكُمَّل من أهل العرْفَان، ونَبِينَا صلى الله عليه وسلم إِمَام هَؤُلَاءِ وأكملهم، ولِهَذَا لما عُرج بِهِ إِلَى السَّمَاوات وعاين مَا هُنَالكَ من الآيَات، وأُوحي إِلَيْهِ مَا أُوحِي من أَنْواع المُنَاجَاة- أصبح فيهم وهُو لم يَتَغَيَّر حَاله، ولَا ظهر عَلَيْهِ ذَلِك، بِخِلَاف مَا كَانَ يظْهر على مُوسَى من التَّغَشِّي صلَّى الله عَلَيْهِم وسَلَّم أَجْمَعِينَ.
وأمَّا النَّوْع الثَّالِث: مِمَّا قد يُسَمَّى فنَاء، فَهُو أَنْ يَشْهد أَنْ لَا مَوْجُود إِلَّا الله، وأَن وجود الخَالِق هُو وجود المَخْلُوق، فَلَا فرق بَين الربِّ والعَبْد، فَهَذَا فنَاء أهل الضلال والإلحاد الواقعين فِي الحُلُول والاتحاد، وهَذَا يبرأ مِنْهُ المَشَايِخ، إِذْ قَالَ أحدهم: مَا أرى غيرَ الله، أَوْ لَا أنظر إِلَى غير الله، ونَحْو ذَلِك؛ فمرادهم بذلك مَا أرى رَبًّا غَيره، ولَا خَالِقًا ولَا مُدبرًا غَيره، ولَا إِلَهًا لي غَيره، ولَا أنظر إِلَى غَيره محبَّة لَهُ، أَوْ خوفًا مِنْهُ، أَوْ رَجَاء لَهُ؛ فَإِنْ العين تَنظر إِلَى مَا يتَعَلَّق بِهِ القلب؛ فَمن أحبَّ شَيْئًا أَوْ رجاه أَوْ خافه التفت إِلَيْهِ، وإِذا لم يكن فِي القلب مَحبَّة لَهُ ولَا رَجَاء لَهُ ولَا خوف مِنْهُ ولَا بغض لَهُ ولَا غير ذَلِك مِنْ تعلق القلب لَهُ- لم يقْصد القلب أَنْ يلتَفت إِلَيْهِ،
ولَا أَنْ ينظر إِلَيْهِ، ولَا أَنْ يرَاهُ، وإِن رَآهُ اتِّفَاقًا رُؤْيَة مُجَرَّدَة- كَانَ كمن لَو رأى حَائِطًا ونَحْوه مِمَّا لَيْسَ فِي قلبه تعلُّق بِهِ.
والمشايخ الصَّالحون رضي الله عنهم يذكرُونَ شَيْئا من تَجْرِيد التَّوْحِيد وتَحْقِيق إخلاص الدَّين كُله؛ بِحَيْثُ لَا يكون العَبْدُ مُلتفتًا إِلَى غير الله، ولَا نَاظرًا إِلَى مَا سواهُ؛ لَا حبًّا لَهُ، ولَا خوفًا مِنْهُ، ولَا رَجَاء لَهُ، بل يكون القلب فَارغًا من المَخْلُوقَات، خَالِيا مِنْهَا لَا ينظر إِلَيْهَا إِلَّا بِنور الله، فَبِالحقِّ يَسمع، وبالحق يبصرُ، وبالحق يبطش، وبالحق يَمشي؛ فيحب مِنْهَا مَا يُحِبهُ الله، ويُبغض مِنْهَا مَا يبغضه الله، ويوالي مِنْهَا مَا والَاهُ الله، ويُعادي مِنْهَا مَا عَادَاهُ الله، ويخَاف الله فِيهَا، ولَا يخافها فِي الله، ويرجو الله فِيهَا، ولَا يرجوها فِي الله، فَهَذَا هُو القلب السَّلِيم الحنيف المُوَحِّد المُسلم المُؤمن المُحَقق العَارِف بِمَعْرِفَة الأَنْبِيَاء والمُرْسلِينَ وبحقيقهم وتوحيدهم.
فَهَذَا النَّوْع الثَّالِث- الَّذِي هُو الفناء فِي الوُجُود- هُو تَحْقِيق آل فِرْعَوْن ومَعرفتهم وتوحيدهم؛ كالقَرَامطة
(1)
وأمثالهم.
وأما النَّوْع الَّذِي عَلَيْهِ أَتْبَاع الأَنْبِيَاء فَهُو الفناء المَحْمُود؛ الَّذِي يكون صَاحبه بِهِ مِمَّنْ أثنى الله عَلَيْهِم من أوليائه المُتَّقِينَ، وحِزبه المُفلحين وجنده الغالبين.
ولَيْسَ مُرَاد المَشَايِخ والصَّالِحِينَ بِهَذَا القَوْل: أَنْ الَّذِي أرَاهُ بعيني من المَخْلُوقَات هُو رب الأَرْض والسَّمَاوات، فَإِنْ هَذَا لَا يَقُوله
(1)
القرامطة: حركة باطنية هَدَّامة، تَنتسب إلى شخص اسمه حمدان بن الأشعث، ويُلَقَّب بقرمط؛ لقصر قامته وساقيه، وهو من خوزستان في الأهواز، ثم رحل إلى الكوفة. وقد اعتمدت هذه الحركة التنظيم السري العسكري، وكان ظاهرها التشيع لآل البيت والانتساب إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وحقيقتها: الإلحاد والإباحية وهدم الأخلاق والقضاء على الدولة الإسلامية.
إِلَّا مَنْ هُو فِي غَايَة الضلال والفساد؛ إِمَّا فَسَاد العقل، وإِمَّا فَسَاد الِاعْتِقَاد؛ فَهُو مُتَرَدِّدٌ بَين الجُنُون والإلحاد».
هؤلاء المُشركون الضَّالُّون يُسَوُّون بين الله وبين خَلْقِه، والخليل إبراهيم عليه السلام يقول:{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77].
فمن ضلال هؤلاء: أنَّهم يأخذون بعض كلام مَنْ يُسمونهم بالعارفين، ويستخرجون منه أمورًا تخالف كلام المرسلين، بل تخالف فِطر الناس أجمعين؛ ولهذا فعلوا كما فعلت النصارى عندما استخرجوا من كلام الحواريين ما يظنون أنَّه يدعم مذهبهم في أن الأب والابن وروح القدس إله واحد، وهو مذهب التثليث.
فيوجد في الصوفية مَنْ يكون عنده شيء من الشرك الأصغر، ويوجد منهم من يكون عنده من الشرك الأكبر مع إقراره بالنبوة وبالإلهية لله عز وجل في الجملة، ويوجد منهم من هو أشد من ذلك، وأمَّا أعلاهم زندقة فهم القائلون بالحلول وأصحاب وحدة الوجود.
ولقد كثرت المصطلحات عند المتأخرين كثرة كبيرة، وأغلبها أراد بها أصحابها التلبس بالحق للوصول إلى الباطل؛ تحقيقًا لأهوائهم المريضة، وعقولهم السقيمة، وأكثر من جاء بهذه المصطلحات هم أهل البدع المحدثة، الذين أرادوا التلبيس على أهل المنهج الحق، ومن هذه المصطلحات مصطلح (الفناء)، وقد بَيَّن شيخُ الإسلام هنا هذا المصطلح، وحقيقته وأقسامه، وما يجوز منه وما لا يجوز.
والفناء: اصطلاح صوفي، وهو متعلق بالتعبد ونتيجته عند
الصوفية، ونتيجة التعبد عندما يَشتغل به الإنسان- حسب فهمهم وطريقتهم- أن يصل إلى مرحلة الفناء.
والمقصود بالفناء: الغَيْبَة، أي: أن يَغيب عقل الإنسان الخارجي وحِسُّه الظاهري الذي يستشعر به من حوله، فلا تكون عنده قدرة على استشعار ما حوله من الأشخاص والأماكن والأحوال التي حوله.
فما أتى به الصوفية من كون الإنسان يمكن له أن يترك الشريعة لوجود الحقيقة، أو يترك الأحكام، أو تلغى ظواهر النصوص الشرعية من أجل الحقيقة- فاسد وباطل، وهذا يُشبه قول الباطنية: بأن النصوص لها ظاهر وباطن، ثم يفسرون الباطن بالطريقة التي يَرونها.
وليس الفناء كله مذموم، وإن كان الاصطلاح أصلًا اصطلاحًا صوفيًّا، ولكن كون الإنسان يغيب عمن حوله هذا في حد ذاته ليس مذمومًا؛ لأنه قد يَستغرق الإنسان في التعبد إلى درجة أنَّه لا يشعر بمن حوله، وهذا الاستغراق في التعبد وفق ما أمر الله سبحانه وتعالى به وعلى طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة ليس فيه إشكال، كما يروى عن بعض الصالحين: أنه كان يصلي في المسجد وسقط الجدار فيه، وفَزع أهل السوق لصوت سقوط الجدار، وهو قائم يصلي في المسجد لم يَنتبه لذلك من خشوعه في صلاته.
ولكن الطامة أن يُعَرَّف الفناء بأنه: اختفاء عن الأمور الظاهرية؛ لاندماجه بها، وأن هذه هي حقيقة الألوهية، كما يقول دعاة وحدة الوجود.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وكل المَشَايِخ الَّذين يُقْتَدى بهم فِي الدَّين مُتَّفقون على مَا اتَّفق عَلَيْهِ سلفُ الأمة وأئمتها: مِنْ أَنْ الخَالِق سُبْحَانَهُ مُباين للمخلوقات، ولَيْسَ فِي مخلوقاته شَيْء مِنْ ذَاته، ولَا فِي ذَاته شَيْء من مخلوقاته، وأَنَّه يجب إِفْرَاد القَدِيم عَنْ الحَادِث، وتمييز الخَالِق عَنْ المَخْلُوق، وهَذَا فِي كَلَامهم أَكثر مِنْ أَنْ يُمكن ذِكره هُنَا.
وهم قد تكلمُوا على مَا يَعرض للقلوب من الأَمْرَاض والشُّبهات، فَإِنَّ بعض النَّاس قد يَشْهد وجود المَخْلُوقَات؛ فيَظنه خَالق الأَرْض والسَّمَاوات- لعدم التَّمْيِيز والفُرْقَان فِي قلبه- بِمَنْزِلَة مَنْ رأى شُعَاع الشَّمْس فَظن أَنْ ذَلِك هُو الشَّمْس الَّتِي فِي السَّمَاء.
وهم قد يَتَكَلَّمُونَ فِي الفرق والجمع، ويدخل فِي ذَلِك من العبارَات المُخْتَلفَة نَظِير مَا دخل فِي الفناء.
فَإِنْ العَبْد إِذا شهد التَّفْرِقَة والكَثْرَة فِي المَخْلُوقَات- يبْقى قلبُه مُتَعَلقًا بهَا مشتتًا نَاظرًا إِلَيْهَا، وتعلقه بهَا؛ إِمَّا محبَّة، وإِمَّا خوفًا، وإِمَّا رَجَاء، فَإِذا انْتقل إِلَى الجمع اجْتَمع قلبه على تَوْحِيد الله وعبادته وحده لَا شريكَ لَهُ، فَالتَفت قلبه إِلَى الله بعد التفاته إِلَى المخلوقين؛ فَصَارَت محبته إِلَى ربِّه، وخوفه من ربِّه، ورجاؤه لرَبِّه، واستعانته بربه، وهُو فِي هَذَا الحَال قد لَا يَسع قلبه النَّظر إِلَى المَخْلُوق؛ ليفرق بَين الخَالِق والمخلوق، فقد يكون مجتمعًا على الحقِّ مُعرضًا
عَنْ الخلق نظرًا وقَصدًا، وهُو نَظِير النَّوْع الثَّانِي من الفناء.
ولَكِن بعد ذَلِك الفرق الثَّانِي، وهُو أَنْ يشْهد أَنْ المَخْلُوقَات قَائِمَة بِاللهِ، مدبرة بأَمْره، ويشْهد كثرتها مَعْدُومَة بوحدانية الله سبحانه وتعالى، وأَنه سُبْحَانَهُ رب المصنوعات وإلهها وخالقها ومالكها؛ فَيكون- مَعَ اجْتِمَاع قلبه على الله إخلاصًا ومحبة وخوفًا ورجاء واستعانة وتوكلًا على الله وموالاة فِيهِ ومعاداة فِيهِ وأمثال ذَلِك- نَاظرًا إِلَى الفرق بَين الخَالِق والمخلوق مُمَيِّزًا بَين هَذَا وهَذَا، يشْهد تفَرُّق المَخْلُوقَات وكَثْرَتهَا، مَعَ شَهَادَته أَنَّ الله رب كل شَيْء ومليكه وخالقه، وأَنه هُو الله لَا إِلَه إِلَّا هُو.
وهَذَا هُو الشُّهُود الصَّحِيح المُسْتَقيم، وذَلِكَ واجِب فِي عِلم القلب وشهادته وذِكره ومعرفته، وفِي حَال القلب وعبادته وقصده وإرادته ومحبته وموالاته وطاعته.
وذَلِكَ تَحْقِيق شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله؛ فَإِنَّهَا تَنْفِي عَنْ قلبه ألوهية مَا سوى الحق، وتُثبت فِي قلبه ألوهية الحق.
فَيكون نافيًا لألوهية كلِّ شَيْء من المَخْلُوقَات مثبتًا لألوهية ربِّ العَالمين ورب الأَرْض والسَّمَاوات، وذَلِكَ يتَضَمَّن اجْتِمَاع القلب على الله، وعَلى مُفَارقَة مَا سواهُ؛ فَيكون مفرقًا فِي علمه وقصده، فِي شَهَادَته وإرادته، فِي مَعْرفَته ومحبته: بَين الخَالِق والمخلوق؛ بِحَيْثُ يكون عَالمًا باللهِ تَعَالَى، ذَاكِرًا لَهُ، عَارِفًا بِهِ. وهُو مَعَ ذَلِك عَالم بمباينته لخلقه وانفراده عَنْهُم وتوحده دونهم، ويكون محبًّا لله مُعظمًا لَهُ عابدًا لَهُ راجيًا لَهُ خَائفًا مِنْهُ محبًّا فِيهِ مواليًا فِيهِ معاديًا فِيهِ مستعينًا بِهِ متوكلًا عَلَيْهِ، مُمْتَنعًا عَنْ عبَادَة غَيره والتوكل عَلَيْهِ والاستعانة بِهِ
والخَوْف مِنْهُ والرجاء لَهُ والموالاة فِيهِ والمعاداة فِيهِ والطَّاعَة لأَمره، وأمثال ذَلِك مِمَّا هُو من خَصَائِص إلهيَّة الله سبحانه وتعالى».
أجمع أهل السنة والجماعة واتفق سلف الأمة وأئمتها، ولا خلاف بين الأمم: أن الله- جل وعلا- بائن من خلقه سبحانه وتعالى، ليس فيه شيء من خلقه، ولا في خلقه شيء منه، إلا مَنْ انحرف عن سبيل الأنبياء والمرسلين من النصارى ومَن شابههم من أهل الحلول والاتحاد الذين جعلوا الله -جل وعلا- يحلُّ في المخلوقات، أو تحل فيه بعض المخلوقات.
وهؤلاء المشايخ قد تكلموا على ما يَعرض للقلوب من الأمراض والشبهات، فإن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات، فيظنه خالق الأرض والسماوات؛ لعدم التمييز والفرقان في قلبه، بمنزلة من رأى شعاع الشمس فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء، فيشتبه على هؤلاء هذا الكلام، وهم في أصل قولهم أهل فساد، وإلا لما اشتبه عليهم هذا الاشتباه الذي لا يقوله أحد، ولا يُقره عقل، ولا يعتقده قلب سليم، ولا يؤمن به من شَمَّ رائحة العلم الصحيح القائم على الكتاب والسنة، لكن {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
وقول المصنف: «فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فالتفت قلبه إلى الله بعد التفاته إلى المخلوقين» ، المراد بالجمع هنا: أن يجمع قلبه على أن الخير كله في يد الله عز وجل، وأنه ما مِنْ فَضل ولا بِر ولا إحسان ولا نعمة ولا رحمة تصل إليه إلا من قِبَل الله سبحانه وتعالى، ويَغيب بهذا عن الأسباب
التي قدَّرها الله- جل وعلا- توصل إلى المقصود ويحصل بها هذه المقدرات، فيلغي النظر إلى الأسباب، ويجمع نظره فيما عند الله جل جلاله، وهذا كما قال المصنف:«نظير النوع الثاني من الفناء» ؛ الذي هو نوع نقص. والكمال: أن يعتقد العبد أنه لا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع، وأن الخير كله في يديه، وأنه جل وعلا قد قدَّر الأشياء بأسبابها، فلا بد من أخذ الأسباب في تحصيل المطالب والمقدَّرات.
ولكن بعد ذلك الفرق الثاني: يشهد تفرق المخلوقات وكثرتها، مع شهادته أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه هو الله لا إله إلا هو، وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم، وذلك واجب في علم القلب وشهادته وذكره ومعرفته، وفي حال القلب وعبادته وقصده وإرادته ومحبته وموالاته وطاعته.
وذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها تنفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق وتثبت في قلبه ألوهية الحق، فيكون نافيًا لألوهية كل شيء من المخلوقات، ومثبتًا لألوهية رب العالمين رب الأرض والسماوات.
وذلك يتضمن اجتماع القلب على الله وعلى مفارقة ما سواه؛ فيكون مفرِّقًا- في علمه وقصده، في شهادته وإرادته، في معرفته ومحبته- بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالمًا بالله تعالى ذاكرًا له عارفًا به، وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه وانفراده عنهم، وتوحده دونهم، ويكون محبًّا لله معظمًا له، عابدًا له
…
وفي هذا ردٌّ على المبتدعة من الصوفية الذين جعلوا الغاية والمنتهى: تحقيق توحيد الربوبية، وذلك بأن يشهد العبد أن الله هو
الخالق وأنه هو الصانع،، وهذا النوع من التوحيد لم ينكره مشركو العرب؛ قال الله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 61 - 63].
والحقيقة: أنه لا يَستحق العبودية إلَّا مَنْ كان ربًّا مالكًا خالقًا مدبِّرًا، فالإيمان بأنه لا إله إلا الله- يتضمن الإيمان بأنه- سبحانه وتعالى خالق كل شيء، والإيمان بربوبيته يقتضي توحيد العبادة؛ فمنتهى الأمر هو تحقيق العبادة لله عز وجل، كما قال الله جل وعلا:{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
* * *
قال المصنف رحمه الله: «وإِقْرَاره بألوهيَّة الله تَعَالَى دون مَا سواهُ- يتَضَمَّن إِقْرَاره بربوبيته، وهُو أَنَّه رب كل شَيْء ومليكه وخالقه ومدبره، فَحِينَئِذٍ يكون موحدًا لله.
ويُبين ذَلِك أَنَّ أفضل الذِّكر: (لَا إِلَه إِلَّا الله)، كَمَا رَواهُ التِّرْمِذِيُّ وابْن أبي الدُّنْيَا وغَيرهمَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ:«أفضلُ الذِّكر: لَا إِلَه إِلَّا الله، وأفضل الدُّعَاء: الحَمد الله»
(1)
. وفِي «المُوطَّأ» وغَيره عَنْ طَلحَة بن عبيد الله بن كريز أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أفضلُ مَا قلت أَنا والنَّبيون مِنْ قبلي: لَا إِلَه إِلَّا الله وحده لَا شريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وله الحَمد، وهُو على كل شَيْء قدير»
(2)
.
ومن زعم أَنْ هَذَا ذِكر العَامَّة، وأَن ذكر الخَاصَّة: هُو الاسم المُفْرد، وذكر خَاصَّة الخَاصَّة: هُو الاسم المُضمر، فهم ضالُّون غالطون، واحتجاج بَعضهم على ذَلِك بقوله:{قل الله ثمَّ ذرهم فِي خوضهم يَلعَبُونَ} [الأَنْعَام: 91] مِنْ أبين غلط هَؤُلَاءِ؛ فَإِنْ الِاسْم [الله] مَذْكُور فِي الأَمر بِجَواب الِاسْتِفْهَام فِي الآيَة قبله، وهُو قَوْله:{قل من أنزل الكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نورًا وهدى للنَّاس تجعلونه قَرَاطِيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلّمتم مَا لم تعلمُوا أَنْتُم ولَا آباؤكم قل الله} [الأَنْعَام: 91]، أَي: الله
(1)
أخرجه الترمذي (3383)، وقال:«حسن غريب» ، وابن أبي الدنيا في «الشكر» (ص 37)، والنسائي في «الكبرى» (10599)، وابن حبان في «صحيحه» (846) من حديث جابر بن عبد الله ?، وحسنه الألباني في «صحيح الترمذي» (2694).
(2)
أخرجه مالك في «الموطأ» (32)، والترمذي (3585)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (2837).
هُو الَّذِي أنزل الكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، فالاسم [الله] مُبْتَدأ، وخَبره قد دلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَام، كَمَا فِي نَظَائِر ذَلِك؛ تَقول: مَنْ جَاره؟ فَيَقُول: زيدٌ.
وأمَّا الِاسْم المُفْرد مُظْهرًا أَوْ مُضمرًا، فَلَيْسَ بِكَلَام تَامٍّ ولَا جملَة مفيدة، ولَا يتَعَلَّق بِهِ إِيمَان ولَا كفر ولَا أَمر ولَا نهي.
ولم يذكر ذَلِك أحدٌ مِنْ سلف الأمة، ولَا شرع ذَلِك رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولَا يُعْطي القلبَ بِنَفسِهِ معرفَة مفيدة، ولَا حَالًا نَافِعًا، وإِنَّمَا يُعْطِيهِ تصورًا مُطلقًا، ولَا يُحكم عَلَيْهِ بِنَفْي ولَا إِثْبَات، فَإِنْ لم يقْتَرن بِهِ من معرفَة القلب وحاله مَا يُفِيد بِنَفسِهِ، وإِلَّا لم يكن فِيهِ فَائِدَة، والشريعة إِنَّمَا تشرع من الأَذْكَار مَا يُفِيد بِنَفسِهِ، لَا مَا تكون الفَائِدَة حَاصِلَة بِغَيْرِهِ.
وقد وقع بعض مَنْ واظب على هَذَا الذِّكر فِي فنون من الإِلحَاد، وأنواع من الِاتِّحَاد، كَمَا قد بسط فِي غير هَذَا المَوْضُوع.
ومَا يذكر عَنْ بعض الشُّيُوخ من أَنه قَالَ: «أَخَاف أَنْ أَمُوت بَين النَّفْي والإِثْبَات» ، حَال لَا يُقْتَدى فِيهَا بصاحبها؛ فَإِنْ فِي ذَلِك من الغَلَط مَا لَا خَفَاء بِهِ؛ إِذْ لَو مَاتَ العَبْد فِي هَذِه الحَال لم يَمت إِلَّا على مَا قَصده ونواه؛ إِذْ الأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وقد ثَبت أَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَمر بتلقين المَيِّت:«لَا إِلَه إِلَّا الله»
(1)
، وقَالَ:«مَنْ كَانَ آخر كَلَامه: لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الجنَّة»
(2)
، ولَو كَانَ مَا ذكره محذورًا لم يُلقن المَيِّت كلمة يخَاف أَنْ يَمُوت فِي أَثْنَائِهَا موتًا غير مَحْمُود، بل كَانَ
(1)
أخرج مسلم (916) عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقِّنُوا موتاكم: لا إله إلا الله» .
(2)
أخرجه أبو داود (3116)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 351)، وقال:«صحيح الإسناد» ، وصححه الألباني في «أحكام الجنائز» مسألة رقم (25).
يُلقن مَا اخْتَارَهُ مِنْ ذِكر الِاسْم المُفْرد.
والذِّكر بِالِاسْمِ المُضمر المُفْرد أبعد عَنْ السُّنَّة، وأَدْخل فِي البِدْعَة، وأقرب إِلَى ضلال الشَّيْطَان؛ فَإِنْ مَنْ قَالَ: يَا هُو، يَا هُو، أَوْ: هُو هُو، ونَحْو ذَلِك لم يكن الضَّمِير عَائِدًا إِلَّا إِلَى مَا يُصوره قلبه، والقلب قد يَهْتَدِي وقد يَضل.
وقد صَنَّف صَاحب «الفصوص» كتابا سَمَّاهُ كتاب «الهو» ، وزعم بَعضُهم أَنَّ قَوْله:{ومَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} [آل عمرَان: 7] مَعْنَاهُ: ومَا يعلم تَأْوِيل هَذَا الِاسْم الَّذِي هُو الهُو، وإِن كَانَ هَذَا مِمَّا اتّفق المُسلمُونَ- بل العُقَلَاء- على أنه مِنْ أبين البَاطِل، فقد يظنُّ ذَلِك مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ، حَتَّى قلت مرَّة لبَعض مَنْ قَالَ شَيْئًا من ذَلِك: لَو كَانَ هَذَا مَا قلتَه لكُتبت الآيَة: ومَا يعلم تَأْوِيل (هُو) مُنْفَصِلَة.
ثمَّ كثيرًا مَا يذكر بعض الشُّيُوخ أَنه يَحْتَج على قَول القَائِل: (الله) بقوله: {قل الله ثمَّ ذرهم} [الأَنْعَام: 91]، ويظن أَنْ الله أَمر نبيَّه بِأَنْ يَقُول الِاسْم المُفْرد، وهَذَا غلطٌ بِاتِّفَاق أهل العلم؛ فَإِنْ قَوْله:{قل الله} مَعْنَاهُ: اللهُ الَّذِي أنزل الكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، وهُو جَواب لقَوْله:{قل من أنزل الكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نورًا وهدى للنَّاس تجعلونه قَرَاطِيس تبدونها وتخفون كثيرًا وعلمتم مَا لم تعلمُوا أَنْتُم ولَا آباؤكم قل الله} [الأنعام: 91]، أَي: الله الَّذِي أنزل الكتابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، رد بذلك قَول مَنْ قَالَ:{مَا أنزل الله على بشر من شَيْء} ، فَقَالَ:{مَنْ أنزل الكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} ثمَّ قَالَ: {قل الله} أنزلهُ ثمَّ ذَر هَؤُلَاءِ المكذبين {فِي خوضهم يَلعَبُونَ} [الأنعام: 91].
ومِمَّا يُبين مَا تقدم: مَا ذكره سِيبَويْه وغَيره من أَئِمَّة النَّحْو: أَنْ العَرَب يَحكون بالقَوْل مَا كَانَ كلَاما، لَا يحكون بِهِ مَا كَانَ قولًا.
فَالقَوْل لَا يُحْكى بِهِ إِلَّا كَلَام تَام، أَوْ جملَة اسمية، أَوْ جملَة فعلية، ولِهَذَا يكسرون (إِنْ) إِذا جَاءَت بعد القَوْل، فَالقَوْل لَا يُحْكى بِهِ اسْمٌ؛ والله تَعَالَى لَا يَأْمر أحدًا بِذكر اسْم مُفْرد، ولَا شرع للمُسلمين.
والِاسْم المُجَرَّد لَا يُفِيد شَيْئًا مِنْ الإِيمَان بِاتِّفَاق أهل الإِسْلَام، ولَا يُؤمر بِهِ فِي شَيْء من العِبَادَات، ولَا فِي شَيْء من المُخاطبات.
ونَظِير من اقْتصر على الِاسْم المُفْرد مَا يُذكر: أَنْ بعضَ الأَعْرَاب مَرَّ بمؤذن يَقُول: (أشهدُ أَنْ مُحَمَّدًا رسولَ الله) بِالنَّصب! فَقَالَ: مَاذَا يَقُول هَذَا؟ هَذَا الِاسْم، فَأَيْنَ الخَبَرُ عَنهُ الَّذِي يتمُّ بِهِ الكَلَام؟
ومَا فِي القُرْآن من قَوْله: {واذْكُر اسْم رَبك وتبتل إِلَيْهِ تبتيلًا} [المزمل: 8]، وقَوله:{سبح اسْم رَبك الأَعْلَى} [الأَعْلَى: 1]، وقَوله:{قد أَفْلح من تزكَّى * وذكر اسْم ربه فصلى} [الأَعْلَى: 14، 15]، وقَوله:{فسبح باسم رَبك العَظِيم} [الواقِعَة: 74]، ونَحْو ذَلِك لَا يقتضى ذكره مُفردًا.
بل فِي " السُّنَن» أَنه لما نزل قَوْلُه: {فسبح باسم رَبك العَظِيم} قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي ركوعكم» ، ولما نزل قَوْلُه:{سبح اسْم رَبك الأَعْلَى} قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودكُمْ»
(1)
. فشرع لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي الرُّكُوع: (سُبْحَانَ رَبِّي العَظِيم)، وفِي السُّجُود:(سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى). وفِي «الصَّحيح» أَنه كَانَ يَقُول فِي رُكُوعه: «سُبْحَانَ رَبِّي العَظِيم» ، وفِي سُجُوده:«سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى»
(2)
، وهَذَا هُو معنى قَوْله:«اجْعَلُوهَا فِي ركوعكم وسجودكم» بِاتِّفَاق المُسلمين.
فتسبيح اسْمِ ربِّه الأَعْلَى وذكر اسْمِ ربه ونَحْو ذَلِك هُو بالكلَام
(1)
أخرجه الدارمي (1344) وأبو داود (869) من حديث عقبة بن عامر ?، وحسنه الألباني في «المشكاة» (879).
(2)
أخرجه مسلم (772) من حديث حذيفة ?.
التَّام المُفِيد، كَمَا فِي «الصحيح» عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ:«أفضل الكَلَام بعد القُرْآن أَربع، وهن من القُرْآن: سُبْحَانَ الله، والحَمْد لله، ولَا إِلَه إِلَّا الله، والله أكبر»
(1)
. وفِي «الصحيح» عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ: «كلمتان خفيفتان على اللِّسَان، ثَقيلتان فِي المِيزَان، حَبِيبتان إِلَى الرَّحْمَن: سُبْحَانَ الله وبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله العَظِيم»
(2)
.
وفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي يَوْمه مائَة مرَّة: لَا إِلَه إِلَّا الله، وحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحَمد، وهُو على كل شَيْء قدير، كَتب الله لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَان يَوْمه ذَلِك حَتَّى يُمْسِي، ولم يَأْتِ أحدٌ بِأَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا رجل قَالَ مثل مَا قَالَ، أَوْ زَاد عَلَيْهِ»
(3)
(4)
. وفِي «المُوطَّأ» وغَيره عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ: «أفضلُ مَا قلتُه أَنا والنَّبيون مِنْ قبلي: لَا إِلَه إِلَّا الله، وحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحَمد، وهُو على كل شَيْء قدير»
(5)
، وفِي «سُنَن ابْن مَاجَه» وغَيره عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ:«أفضل الذِّكر: لَا إِلَه إِلَّا الله، وأفضل الدُّعَاء: الحَمد لله»
(6)
.
ومثل هَذِه الأَحَادِيث كَثِيرَة فِي أَنْواع مَا يُقَال من الذِّكر والدُّعَاء.
(1)
أخرجه مسلم (2137) عن سمرة بن جندب ?، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحبُّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. لا يَضُرُّك بأيِّهن بدأتَ» .
(2)
أخرجه البخاري (6406)، ومسلم (2694) من حديث أبي هريرة ?.
(3)
أخرجه البخاري (3293) ومسلم (2691) من حديث أبي هريرة ?.
(4)
أخرجه البخاري (6405) ومسلم (2691) من حديث أبي هريرة ?.
(5)
تقدم تخريجه قريبًا.
(6)
تقدم تخريجه قريبًا.
وكَذَلِكَ مَا فِي القُرْآن من قَوْله تَعَالَى: {ولَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذكر اسْم الله عَلَيْهِ} [الأَنْعَام: 121]، وقَوله:{فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم واذْكُرُوا اسْم الله عَلَيْهِ} [المَائِدَة: 4]: إِنَّمَا هُو قَول: بِسم الله. وهَذِه جملَة تَامَّة؛ إِمَّا اسمية، على أظهر قولي النُّحَاة، أَوْ فِعلية، والتَّقْدِير: ذبحي بِسم الله، أَوْ أذبح بِسم الله. وكَذَلِكَ قَول القَارئ:{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} ، فتقديره: قراءتي بِسم الله، أَوْ أقْرَأُ باسم الله. ومن النَّاس مَنْ يُضمر فِي مثل هَذَا: ابتدائي بِسم الله، أَوْ ابتدأت بِسم الله، والأول أحسن؛ لِأَن الفِعْل كُله مفعول باسم الله، لَيْسَ مُجَرَّد ابْتِدَائه، كَمَا أظهر المُضمر فِي قَوْله:{اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} [العلق]، وفِي قَوْله:{بِسم الله مجريها ومرْسَاهَا} [هود: 41]، وفِي قَولِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَ ذبح قبل الصَّلَاة فليذبح مَكَانهَا أُخْرَى، ومن لم يكن ذبح فليذبح باسم الله»
(1)
. ومن هَذَا البَاب: قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح لربيبه؛ عمر بن أَبى سَلمَة: «يَا غُلَام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مِمَّا يليك»
(2)
، فَالمُرَاد أَنْ يَقُول: باسم الله، لَيْسَ المُرَاد أَنْ يَذكر الِاسْم مُجَردًا. وكَذَلِكَ قَوْله فِي الحَدِيث الصَّحِيح لعدي بن حَاتِم:«إِذا أرْسلت كلبك المعلم وذكرت اسْم الله فَكُلْ»
(3)
، وكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:«إِذا دخل الرجل منزله فَذكر اسْمَ الله عِنْد دُخُوله وعند خُرُوجه وعند طَعَامه، قَالَ الشَّيْطَان: لَا مَبيت لكم ولَا عشَاء»
(4)
، وأمثال ذَلِك كثير.
وكَذَلِكَ مَا شُرِع للمُسلمين فِي صلَاتِهم وأذانهم وحَجِّهم وأعيادهم من ذكر الله تَعَالَى، إِنَّمَا هُو بِالجُمْلَةِ التَّامَّة، كَقَوْل المُؤَذّن:
(1)
أخرجه البخاري (985) ومسلم (1960) من حديث جندب بن سفيان ?.
(2)
أخرجه مسلم (2022) من حديث عمر بن سلمة ?.
(3)
أخرجه البخاري (5483) ومسلم (1929) من حديث عدي بن حاتم ?.
(4)
أخرجه مسلم (2018) من حديث جابر بن عبد الله ?.
(الله أكبر، الله أكبر، أشهد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله، أشهد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول الله)، وقَول المُصَلِّي:(الله أكبر، سُبْحَانَ رَبِّي العَظِيم، سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى، سمع الله لمن حَمده، رَبَّنَا ولَك الحَمد، التَّحِيَّات لله)، وقَول المُلَبِّي:(لبَّيْك اللَّهُمَّ لبَّيْك)، وأمثال ذَلِك».
العلاقة بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية: علاقة تلازم؛ فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، والألوهية تتضمن توحيد الربوبية، فكل مَنْ وَحَّد الله في إلهيته فإن هذا يتضمن توحيده لله عز وجل في كونه رب كل شيء، وأنه عز وجل خالق كل شيء، ومدبر كل شيء؛ لأنه لا يمكن أن يعبد الله عز وجل دون أن يعتقد مثل هذا الاعتقاد، ومن اعتقد بالربوبية فإنه يلزمه أن يعتقد بالألوهية ويعمل بمقتضاها.
وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) كلمة لها تأثير عجيب إذا استحضر الإنسان معناها وصدق في طلب فضلها فإنه لا يَعدلها شيء؛ لأنها تتضمن إثبات منتهى الكمال وغايته لله جل وعلا، ففيها من الخير والفضل ما لا يَعدله شيء، ولذلك كانت أفضل الذِّكر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أفضل الذكر لا إله إلا الله» .
يقول المباركفوري رحمه الله: «لأنها كلمة التوحيد، والتوحيد لا يُماثله شيء، وهي الفارقة بين الكفر والإيمان، ولأنها أجمع للقلب مع الله، وأنفى للغير، وأشد تزكية للنفس، وتصفية للباطن، وتنقية للخاطر من خبث النفس، وأطرد للشيطان»
(1)
.
ولذلك فالفائز مَنْ يكثر من هذه الكلمة في كل زمان ومكان،
(1)
«تحفة الأحوذي» (9/ 325).
ولا يفتر لسانه عن اللهج بها، واستحضار معانيها، وتذكر مقاصدها.
ومن زعم أن هذا ذِكر العامة، وأن ذِكر الخاصة هو الاسم المفرد، وذِكر خاصة الخاصة هو الاسم المضمر فهم ضالون غالطون قد أُتوا مِنْ جهلهم؛ حيث يستدلون بقوله:{قُلِ اللهُ} على أنَّ الأفضل في الذِّكر الاسم المجرد، وأنه أفضل من (لا إله إلا الله)؟ والخطاب بالاسم فقط- بدون ثناء أو طلب- عبث، ولذلك كان مِنْ البدع ذكر الله بالاسم المفرد، وأشد منه الذكر بالضمير:(هو).
والاسم المفرد المظهر أو المضمر ليس بكلام تام، ولا جملة مفيدة، ولا يتعلق به إيمان ولا كفر، ولا يثبت به إيمان ولا يثبت به كفر، ولا أمر ولا نهي، بخلاف (لا إله إلا الله)، فإنَّ الله عَلَّق عليها أحكامًا شرعية.
ثم ذكر المصنف قاعدة مهمة في الأذكار الشرعية وهي: أن الشريعة إنما تَشرع من الأذكار ما يُفيد بنفسه معنى يحصل به زكاء القلب، ويحصل به زيادة الإيمان، ويحصل به معنى مفيد، بذات اللفظ لا بأمر خارج.
وأما هؤلاء الذين يزعمون أنهم يجدون سعادة وانشراحًا حينما يقولون: (الله، الله، الله
…
). أو (هو هو هو
…
)، فهذا ليس من اللفظ نفسه، وإنَّما مما يقارن هذا اللفظ من التصورات التي في أذهانهم، لكن نفس اللفظ لا يحصل به فائدة سوى التصور العام.
وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد وأنواع من الاتحاد، وهذه نتيجة حتمية للبدع واتباع الأهواء وسلوك سبيل غير ما أنزل الله.
* * *
قال المصنف رحمه الله: «فَجَمِيع مَا شَرعه الله من الذِّكر إِنَّمَا هُو كَلَامٌ تَامٌّ لَا اسْم مُفْرد؛ لَا مظهر ولَا مُضْمر.
وهَذَا هُو الَّذِي يُسمى فِي اللُّغَة: (كلمة) كَقَوْلِه: «كلمتان خفيفتان على اللِّسَان، ثقيلتان فِي المِيزَان، حبيبتان إِلَى الرَّحْمَن: سُبْحَانَ الله وبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله العَظِيم»
(1)
، وقَوله:«أفضل كلمة قَالَهَا الشَّاعِر كلمة لَبِيد: أَلَا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل»
(2)
، ومِنْه قَوْله تَعَالَى:{كَبرت كلمة تخرج من أَفْواههم} الآيَة [الكَهْف: 5]، وقَوله:{وتمت كلمة رَبك صدقًا وعدلًا} [الأَنْعَام: 115].
وأمثال ذَلِك مِمَّا اسْتُعْمل فِيهِ لفظ: (الكَلِمَة) من الكتاب والسُّنَّة- بل وسَائِر كَلَام العَرَب- فَإِنَّمَا يُرَاد بِهِ الجُمْلَة التَّامَّة، كَمَا كَانُوا يستعملون الحَرْف فِي الِاسْم؛ فَيَقُولُونَ: هَذَا حرف غَرِيب، أَي: لفظ الِاسْم غَرِيب.
وقسَّم سِيبَويْه الكَلَام إِلَى: (اسم، وفعل، وحرف جَاءَ لِمَعْنى لَيْسَ باسم ولَا فعل)
(3)
، وكل مِنْ هَذِه الأَقْسَام يُسمى حرفًا، لَكِن خَاصَّة الثَّالِث: أَنَّه حرف جَاءَ لِمَعْنى لَيْسَ باسم ولَا فِعل.
وسمى حُرُوف الهجاء باسم الحَرْف، وهِي أَسمَاء.
ولَفظ الحَرْف يتَنَاول هَذِه الأَسْمَاء وغَيرهَا، كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم:
(1)
أخرجه البخاري (6406)، ومسلم (2694) من حديث أبي هريرة ?، وقد تقدم.
(2)
أخرجه البخاري (3841) ومسلم (2256) من حديث أبي هريرة ?.
(3)
«الكتاب» لسيبويه (1/ 12).
«مَنْ قَرَأَ القُرْآن فأعربه
(1)
؛ فَلهُ بِكُل حرف عشر حَسَنَات، أما إِنِّي لَا أَقُول:{ألم} حرف، ولَكِن ألف حرف، ولَام حرف، ومِيم حرف»
(2)
، وقد سَأَلَ الخَلِيلُ بن أَحْمد أَصْحَابَه عَنْ النُّطْق بِحرف الزَّاي مِنْ زيد؟ فَقَالُوا:(زَاي). فَقَالَ: جئْتُمْ بِالِاسْمِ، وإِنَّمَا الحَرْف:(زَ).
ثمَّ إِنْ النُّحَاة اصْطَلحُوا على أَنْ هَذَا المُسَمَّى فِي اللُّغَة بالحرف، يُسمى: كلمة، وأَن لفظ الحَرْف يخص لما جَاءَ لِمَعْنى لَيْسَ باسم ولَا فعل، كحروف الجَرِّ ونَحْوهَا.
وأمَّا أَلفَاظ حُرُوف الهجاء فيعبر تَارَة بالحرف عَنْ نفس الحَرْف من اللَّفْظ، وتارَة باسم ذَلِك الحَرْف، ولما غلب هَذَا الِاصْطِلَاح صَار يتَوهَّم مَنْ اعتاده أَنه هَكَذَا فِي لُغَة العَرَب، ومنهم من يَجْعَل لفظ الكَلِمَة فِي اللُّغَة لفظًا مُشْتَركًا بَين الِاسْم- مثلًا- وبَين الجُمْلَة، ولَا يُعرف فِي صَرِيح اللُّغَة من لفظ (الكَلِمَة) إِلَّا الجُمْلَة التَّامَّة.
والمَقْصُود هُنَا: أَنْ المَشْرُوع فِي ذكر الله سُبْحَانَهُ هُو ذكره بجملة تَامَّة، وهُو المُسَمَّى بالكلَام، والواحد مِنْهُ بِالكَلِمَةِ، وهُو الَّذِي ينفع القُلُوب، ويحصل بِهِ الثَّواب والأَجْر، ويَجذب القُلُوب إِلَى الله ومعرفته ومحبته وخشيته، وغير ذَلِك من المطالب العَالِيَة والمقاصد السامية.
وأمَّا الِاقْتِصَار على الِاسْم المُفْرد مظْهرًا أَوْ مضمرًا فَلَا أصل لَهُ، فضلًا عَنْ أَنْ يكون من ذكر الخَاصَّة والعارفين.
بل هُو وسِيلَة إِلَى أَنْواع من البدع والضَّلالات، وذريعة إِلَى
(1)
«أعربه» ، أي: أتقن قراءته وجَوَّده وحَسَّن صوته به.
(2)
أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7574)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 163):«وفيه نهشل، وهو متروك. ونهشل: هو ابن سعيد بن وردان الورداني: متروك، وقد كذبه إسحاق بن راهويه» ، وقال الألباني في «الضعيفة» (2348):«موضوع» .
تصورات وأحوال فَاسِدَة من أَحْوال أهل الإِلحَاد وأهل الِاتِّحَاد.
كَمَا قد بُسط الكَلَام عَلَيْهِ فِي غير هَذَا الموضع».
الهدف من الذكر: هو تزكية النفس وزيادة الإيمان، وهذا لا يحصل بذكر كلمة مفردة، ولهذا الرقى الشرعية لا بد أن تكون بالكلام الشرعي الذي لا يوجد فيه أي شرك. وأن تكون بكلاتم مفهوم واضح المعنى. وألا يوجد فيها شيء من الشركيات. وألا تكون مرتبطة باستغاثات بالجن وبغيرها من أنواه السحر والشعوذة.
والكلمة في لغة العرب: تطلق على الجملة المفيدة، وتطلق على الكلام، ولهذا يقال: ألقى فلان كلمة. وقد تستغرق وقتا طويلًا، وتشتمل على كلام كثير وعبارات طويلة، ومن ذلك قوله تعالى:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]، وقوله جلا وعلا:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]، وقوله عز وجل:{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] وهي قوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون: 36]، وهي جملة كاملة.
وأمثال ذلك مما استعمل فيه لفظ (الكلمة) في الكتاب والسنة، بل وسائر كلام العرب، فإنما يُراد به الجملة التامة، كما كانوا يستعملون الحرف في الاسم، فيقولون: هذا حرف غريب، أي لفظ الاسم غريب.
ولهذا يختلط عند كثير من الناس كلمة حرف في لغة العرب، وبين حرف في اصطلاح النحويين.
فالنحاة يقسمون الحروف إلى قسمين: حروف المباني،
وحروف المعاني.
وشيخ الإسلام رحمه الله يقرر أن الحرف مثل الكلمة، كما أن الكلمة في اصطلاح النحويين صارت بمعنى الجزء من الجملة، وهذا ليس مرادًا في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو اصطلاح خاص الهدف منه التعليم، وكذلك الحرف معناه العام في اللغة: الاسم، ولهذا الحديث المشهور:«لا أقول: {الم} حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» .
والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الله سبحانه، وهو ذكره بجملة تامة، وهو المسمى ب (الكلام)، والواحد منه ب (الكلمة)؛ وهو الذي ينفع القلوب، ويحصل به الثواب والأجر، والقرب إلى الله ومعرفته، ومحبته وخشيته، وغير ذلك من المطالب العالية، والمقاصد السامية.
وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهراً أو مضمراً فلا أصل له، فضلاً عن أن يكون من ذكر الخاصة والعارفين. بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات.
وكل الأحاديث التي أودها المصنف الكلام فيها مفيد؛ أي: إن الذكر فيها ليس ذكرًا باسم مفرد مجرد، بل ذكر بما لَه فائدة؛ فقول القائل مثلًا:(سبحان الله) معناه: أُنَزِّه الله عن كل نقص وعن مماثلة المخلوقين. (والحمد لله)، أي: وأثبت له كل كمال يليق بذاته من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الجليلة. (ولا إله إلا الله): فيها إثبات الإلهية لله وحده ونفيها عمن عداه. و (الله أكبر): فيها إثبات الكبرياء والعظمة لله وحده، وأنه- جل جلاله أكبر وأعظم من كل شيء. وهكذا جميع الأذكار الشرعية.
* * *
قال المصنف رحمه الله:
«فصلٌ:
وجماع الدَّين أصلان:
أَلَّا نَعْبد إِلَّا اللهَ، ولَا نَعبدُه إِلَّا بِمَا شرع، لَا نَعبده بالبدع، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَمن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه فليعمل عملا صَالحا ولَا يُشْرك بِعبَادة ربه أحدًا} [الكَهْف: 110].
وذَلِكَ تَحْقِيق الشَّهَادَتَيْنِ: شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله، وشَهَادَة أَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله.
فَفِي الأولى: أَلَّا نَعْبد إِلَّا إِيَّاه.
وفِي الثَّانِيَة: أَنَّ مُحَمَّدًا هُو رَسُوله المبلِّغ عَنهُ، فعلينا أَنْ نصدق خَبره ونُطيع أمره.
وقد بَيَّن لنا مَا نَعْبد الله بِهِ، ونهانا عَنْ محدثات الأُمُور، وأخْبر أَنَّهَا ضَلَالَة؛ قَالَ تَعَالَى:{بلَى من أسلم وجهه لله وهُو محسن فَلهُ أجره عِنْد ربه ولَا خوف عَلَيْهِم ولَا هم يَحْزَنُونَ} [البَقَرَة: 112].
وكما أنَّنا مأمورون أَلَّا نَخَاف إِلَّا الله، ولَا نتوكل إِلَّا على الله، ولَا نَرغب إِلَّا إِلَى الله، ولَا نستعين إِلَّا بالله، وألَّا تكون عبادتنا إِلَّا لله، فَكَذَلِك نَحن مأمورون أَنْ نَتَّبع الرَّسُول ونُطيعه ونتأسى بِهِ؛ فالحلال مَا حَلَّله، والَحرَام مَا حَرَّمه، والدِّين مَا شَرعه؛ قَالَ الله تَعَالَى:{ولَو أَنهم رَضوا مَا آتَاهُم الله ورَسُوله وقَالُوا حَسبنَا الله سيؤتينا الله من فَضله ورَسُوله إِنَّا إِلَى الله راغبون} [التَّوْبَة: 59]،
فَجعل الإيتاء لله ولِلرَّسُولِ، كَمَا قَالَ:{ومَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ ومَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} [الحَشْر: 7]، وجعل التَّوكُّل على الله وحده بقوله:{وقَالُوا حَسبنَا الله} [التوبة: 59]، ولم يقل: ورَسُوله- كَمَا قَالَ فِي وصف الصَّحَابَة رضي الله عنهم فِي الآيَة الأُخْرَى: {الَّذين قَالَ لَهُمْ النَّاس إِنْ النَّاس قد جمعُوا لكم فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُم إِيمَانًا وقَالُوا حَسبنَا الله ونعم الوكِيل} [آل عمرَان: 173]، ومثله قَوْله:{يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله ومن اتبعك من المُؤمنِينَ} [الأَنْفَال: 64]، أَي: حَسبك وحسب المُؤمنِينَ، كَمَا قَالَ:{أَلَيْسَ الله بكاف عَبده} [الزمر: 36]- ثمَّ قَالَ: {سيؤتينا الله من فَضله ورَسُوله} [التوبة: 59]، فَجعل الإيتاء لله ولِلرَّسُولِ، وقدم ذكر الفضل لله؛ لِأَن {الفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء والله ذُو الفضل العَظِيم} [الحديد: 29]، وله الفضل على رَسُوله وعَلى المُؤمنِينَ، وقَالَ:{إِنَّا إِلَى الله راغبون} [التوبة: 59]؛ فَجعل الرَّغْبَة إِلَى الله وحده، كَمَا فِي قَوْله:{فَإِذا فرغت فانصب * وإِلَى رَبك فارغب} [الشَّرْح: 7، 8].
وقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عَبَّاس: «إِذا سَأَلت فاسأل الله، وإِذا استعنت فَاسْتَعِنْ باللهِ»
(1)
، والقُرْآنُ يدلُّ على مِثل هَذَا فِي غير مَوضِع.
فَجعل العِبَادَة والخشية والتَّقوى لله، وجعل الطَّاعَة والمحبة لله ورَسُوله، كَمَا فِي قَول نوح عليه السلام:{أَنْ اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} [نوح: 3]، وقَوله:{ومن يطع الله ورَسُوله ويخش الله ويتقه فَأُولَئِك هم الفائزون} [النُّور: 52]، وأمثال ذَلِك.
فالرسل أمروا بِعِبَادَتِهِ وحده، والرَّغْبَة إِلَيْهِ، والتوكل عَلَيْهِ وطاعته، والطَّاعَة لَهُم، فأضَلَّ الشَّيْطَانُ النَّصَارَى وأشباهَهم؛ فأشركوا باللهِ وعصوا الرَّسُول، ف {اتَّخذُوا أَحْبَارهم ورُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من
(1)
أخرجه أحمد (2669) والترمذي (2516)، وصححه الألباني في «المشكاة» (5302).
دون الله والمسيح ابْن مَرْيَم} [التوبة: 31]، فَجعلُوا يرغبون إِلَيْهِم ويتوكلون عَلَيْهِم، ويَسْأَلُونَهُمْ مَعَ معصيتهم لأمرهم ومخالفتهم لسُنَّتهم.
وهدى الله المُؤمنِينَ المخلصين لله؛ أهلَ الصِّرَاط المُسْتَقيم الَّذين عَرفُوا الحقَّ واتَّبعوه، فَلم يَكُونُوا من المَغضوب عَلَيْهِم ولَا الضَّالِّين؛ فأخلصوا دينهم لله، وأَسْلمُوا وُجُوههم لله، وأنابوا إِلَى رَبِّهم، وأحبوه ورَجوه، وخافوه وسألوه، ورَغبُوا إِلَيْهِ، وفَوَّضوا أُمُورهم إِلَيْهِ، وتوكلوا عَلَيْهِ، وأطاعوا رسله وعَزَّروهم ووقَّروهم، وأحبُّوهم ووالوهم، واتَّبَعوهم واقتفوا آثَارهم واهتدَوا بمنارهم.
وذَلِكَ هُو دينُ الإِسْلَام الَّذِي بعث الله بِهِ الأَوَّلين والآخرين من الرُّسُل، وهُو الدِّين الَّذِي لَا يَقبل اللهُ من أحد دينًا إِلَّا إِيَّاه، وهُو حَقِيقَة العِبَادَة لربِّ العَالمين.
فنسأل اللهَ العَظِيمَ أَنْ يُثبتنا عَلَيْهِ، ويُكمله لنا ويُميتنا عَلَيْهِ وسَائِر إِخْواننَا المُسلمين.
والحَمْد لله وحده، وصَلَّى الله على سَيِّدنَا مُحَمَّد وآله وصَحبه وسَلَّم».
بَيَّن المصنف رحمه الله أنَّ جماع الدين أصلان: وهما: الأول: ألا نعبد إلا الله، وهو معنى:(لا إله إلا الله). والثاني: ولا نعبده إلا بما شرع، أي: بما أرسل به رسله، وهو معنى (محمد رسول الله)، وأن نبتعد عن جميع البدع؛ كما قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وبهذا يتم الدين، وإذا لزم الإنسان هذين الأصلين فقد جمع الله له السعادة كلها، وتحققت له العبودية التي مَنْ لزمها فاز في الدارين.
وقد بَيَّن لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم لنا ما نَعبد الله به، ونهانا عن محدثات الأمور، وأخبر أنها ضلالة، وكما أننا مأمورون ألا نخاف إلا الله، ولا نتوكل إلا على الله، ولا نرغب إلا إلى الله، ولا نستعين إلا بالله، وألا تكون عبادتنا إلا لله، فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ونُطيعه، ونتأسى به؛ قال الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
والقرآن قد جعل العبادة والخشية والتقوى لله، وجعل الطاعة والمحبة لله ورسوله، كما في قول نوح عليه السلام:{أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 3]، وقوله جل وعلا:{وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52]، وأمثال ذلك.
فجميع الرسل قد أمروا بعبادة الله وحده، والرغبة إليه، والتوكل عليه وطاعتهم في ذلك، وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، وهو الدِّين الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه، وهو حقيقة العبادة لربِّ العالمين.
فنسأل الله العظيم أن يُثبتنا عليه، وأن لا يقبضنا إلا عليه، وأن يجعل مَثَوانا جنات التعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا.
وبهذا نكون قد انتهينا من الشرح والتعليق على هذه الرسالة المباركة النافعة لشيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه وحعل الجنة مثواه، ورفع قدره عنده جزاء ما قدم للإسلام والمسلمين، وقد حوت هذه الرسالة- كما رأينا- على قواعد جليلة وأصول نافعة يجدر
بطالب العلم أن يجعلها نُصب عينيه، وأن يحسن فهمهما وتدبرها، ومِن ثَمَّ العمل بمقتضاها اعتقادًا وسلوكًا.
والحمد لله وحده، وصَلَّى الله على عبده ونبيه محمد وآله وصحبه وسَلَّم.