المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكتاب الثالث   ‌ ‌الزعامة 30 ق. م. - 192 ب. م - قصة الحضارة - جـ ١٠

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

الكتاب الثالث

‌الزعامة

30 ق. م. - 192 ب. م

ص: 2

الباب الحادي عشر

‌مواهب أغسطس السياسية

30 ق. م-14 ب. م

الفصل الأوَّل

‌في الطريق إلى الملكية

انتقل أكتافيان من الإسكندرية إلى آسية وواصل فيها توزيع الممالك والولايات. ولم يصل إلى إيطاليا إلا في صيف عام 29 ق. م. ولم تكد تبقى طبقة من طبقات الأهلين فيها إلا حييته وأحتفلت بمقدمه، وعدته منقذ البلاد، وأشتركت في موكب النصر الذي دام ثلاثة أيام متوالية. وأغلق هيكل يانوس إشارة إلى أن إله الحرب قد نال كفايته إلى حين، فقد أنهكت الحرب الأهلية التي دامت عشرين عاماً شبه الجزيرة التي كانت تشتهي الحرب وتتعطش للدماء. وفي هذه الفترة أهملت المزارع ونُهبت المدن أو ضُرب عليها الحصار، وسُرق الكثير من ثروتها أو دُمر تدميراً، وتحطم دولاب الإدارة ووسائل الدفاع عن النفس والمال؛ وجعل اللصوص الشوارع كلها غير مأمونة خلال الليل، وكان قطاع الطريق يجوبون المسالك يخطفون المسافرين ويبيعونهم بيع الرقيق. وكان من أثر هذا أن كسدت التجارة، ووقفت حركة الاستثمار، وارتفعت فوائد الديون ارتفاعاً، ونقصت قيمة الأملاك. ولم يكن للفاقة والفوضى أثر في تحسين الأخلاق التي انحلت بسبب الثروة والترف؛ ذلك أنه قلما توجد ظروف أشد إفساداً للأخلاق من الفقر الذي يعقب الغنى، ولذلك امتلأت رومة بالرجال

ص: 6

الذين فقدوا مركزهم الاقتصادي وخسروا اتزانهم الأخلاقي: من جنود ذاقوا طعم المغامرات وتعلموا فنون التقتيل؛ ومواطنين أبصروا بأعينهم مدخراتهم تلتهما الضرائب الفادحة وتضخم العملة وهما من مستلزمات الحروب، وكانوا ينتظرون أن يحدث حادث ما ينتشلهم من الوهلة التي تردوا فيها ويعيد إليهم الثراء والنعيم؛ ومن نساء ذهبت الحرية بعقولهنَ فكثر بينهن الطلاق والإجهاض والزنا؛ وانتشر العقم لضعف الرجولة وأخذت السفسطة الضحلة تفخر بنزعتها المتشائمة الساحرة.

على أن هذا الوصف لا يحمل إلى القارئ صورة كاملة لرومة في ذلك الوقت، بل يجب أن يضاف إليهِ وباء فتاك ينخر عظامها وتسري جراثيمه في دمائها فقد عادت القرصنة إلى البحار، وكانت تزداد بهجة وسروراً كلما تدهورت الولايات وأشرفت على الدمار. وسغبت المدن والولايات ولما توالى عليها من ابتزاز والنهب في أيام صلا، ولوكلس، وبمبي، وجابنياس، وقيصر، ووبروتس، وكاسيوس، وأنطونيوس، وأكتافيان. وحل الخراب ببلاد اليونان التي كانت ميداناً للقتال، ونُهبت أموال مصر وأرزاق أهلها، وأطعم الشرق الآدنى مائة جيش ورشا ألف قائد؛ وكان أهلهُ يبغضون رومة أشد البغض لأنها هي السيد الذي قضى على حريتهم دون أن يعوضهم عنها أمناً أو سلاماً، وكانوا يتطلعون إلى زعيم يقوم بينهم، فيكشف عما تعانيهِ إيطاليا من ضعف وخوف، ويجمع شتاتهم ويقودهم في حرب يتحررون بها من سيطرة رومة.

وكان في وسع مجلس الشيوخ القوي في يوم من الأيام أن يواجه هذه الأخطار، فيعبئ الفيالق الضخمة، ويجد لها القادة المهرة، ويمدهم بحنكتهِ وكفايته السياسية البعيدة النظر. أما الأن فلم يبقَ من مجلس الشيوخ إلا أسمهُ، فقد أنقرضت الأسر التي كان يستمد منها القوة، وقضى عليها النزاع الطويل أو العقيم، ولم تنتقل تقاليد الحكم التي كانت تمتاز بها هذه الأسر إلى رجال

ص: 7

الأعمال وإلى الجنود وأهل الولايات الذين خلفوها في المجلس الجديد. ومن أجل هذا فقد أسلم هذا المجلس معظم ما كان له من سلطان إلى رجلٍ في وسعه أن يرسم الخطط، ويتحمل التبعات، ويقود، وأسلمها إليهِ وهو شاكر ومغتبط.

وتردد أكتافيان طويلاً قبل إلغاء هذه الهيئة القديمة، ويصوره ديوكاسيوس Dio Cassius، وهو يبحث المسألة بحثاً مفصلاً مع ماسيناس وأجربا، فيقول أنهم كانوا يرون أن الحكومات كلها حكومات ألجركية، ولذلك فأن المشكلة المعروضة أمامهم لم تكن مشكلة الاختيار بين الملكية، والأرستقراطية، والديمقراطية؛ بل كان عليهم أن يقرروا: هل تضطرهم ظروف الزمان والمكان أن يفضلوا الألجركية في صورة الملكية المعتمدة على الجيش، أو في صورة الأرستقراطية المتأصلة في الوراثة، أو في صورة الديمقراطية التي تعتمد على ثروة رجال الأعمال؟ وقد وفق أكتافيان بينها كلها في "زعامة امتزجت فيها نظريات شيشرون وسابقات بمبي وسياسات قيصر".

وقبل الشعب هذا الحل قبول الفلاسفة؛ ذلك أنه لم يعد حريصاً على الحرية مولعاً بها، بل كان قد مل الفوضى وتاقت نفسه إلى الأمن والنظام، وكان يرضى أن يحكمه أي إنسان يضمن له الخبز والألعاب. وأدرك إدراكاً يكتنفه الغموض أن جمعياته السمجة التي يتغلغل فيها الفساد ويمزقها العنف، لا تصلح لحكم الإمبراطوية، ولا تستطيع إعادة الحياة إلى إيطاليا المريضة، بل أنها لا تستطيع أن تحكم مدينة رومة نفسها. هذا إلى أن الصعاب التي تكتنف الحرية تتضاعف كلما اتسعت رقعة الأراضي التي تعتنقها. فلما لم تعد رومة دولة لا تشمل أكثر من مدينة واحدة دفعها النظان الإمبراطوري دفعاً إلى أن تحذو حذو مصر وفارس ومقدونية. ولم يكن في وسعها أن تقاوم هذا الدفع الشديد، وكان لا بد أن تقوم على أنقاض الحرية، التي استحالت فردية وفوضى حكومة جديدة تضع للدولة المترامية الأطراف نظاماً جديداً. وكان عالم البحر الأبيض المتوسط كله عالماً

ص: 8

مختل النظام، مترامياً تحت قدمي أكتافيان، ينتظر منه أن يبسط عليه الحكم الصالح.

ونجح أكتافيان فيما أخفق فيهِ قيصر لأنه كان أكثر من قيصر صبراً، وأوسع منه حيلةً، ولأنه كان يفهم فن الألفاظ والأشكال، ويرضى أن يسير سيراً وئيداً حذراً في المواقف التي اضطر فيها عمه العظيم لضيق وقته أن يخرج على التقاليد المرعية، ويحدث في نصف عام من حياته من التغيرات ما يتطلب جيلاً كاملاً. وفوق هذا فقد كان المال موفوراً لدا أكتافيان. ويقول سوتنيوس إنه لما جاء بكنوز مصر إلى رومة "كثرت فيها النقود كثرة أنخفض معها سعر الفائدة" من اثني عشر إلى أربعة في المائة، و "أرتفعت قيمة الأملاك الثابتة ارتفاعاً عظيماً". وما كاد يتضح للناس أن حقوق الملكية قد عادت إليها قدسيتها وأن أكتافيان قد فرغ من أحكامه على أعدائه ومن مصادرة الأملاك، حتى خرجت الأموال من مخابئها وعاد الأستثمار سيرته الأولى، وراجت التجارة، وأخذت الثروة تتجمع من جديد، وتسرب بعضها إلى جيوب العمال والأرقاء. ولشدما أغتبطت جميع الطبقات في إيطاليا بعد أن عرفت أن تلك البلاد ستبقى هي المستمتعة بخيرات الإمبراطورية، وأن رومة ستظل عاصمتها، وأن خطر نهضة الشرق وبعثه قد زال إلى حين، وأن ما كان يحلم بهِ قيصر من قيام اتحاد من أمم حرة متساوية في الحقوق لم يسفر إلا عن العودة في هدوء إلى امتيازات الشعب المفضل صاحب السيادة. وكان أول ما فعله أكتافيان بالأموال الجمة التي أنتهبها أن وفى بما عليه لجنوده من ديون. وقد أستبقى في الخدمة منهم مائتي ألف رجل أقسم كل واحد منهم يمين الولاء له شخصياً، وسرح الثلثمائة ألف الباقين بعد أن أقطع كلاً منهم مساحة من الأراضي الزراعية ونفحه بهبة مالية سخية. ووزع الهدايا الثمينة على قواده وأنصاره وأصدقائه، وكثيراًؤما كان يسد العجز الذي يحدث في الخزانة

ص: 9

العامة من ماله الخاص. وكان إذا رأى ولاية من الولايات حل بها الضنك بسبب الأحوال السياسية أو الطواريء الطبيعية أعفاها من الخراج العام، وبعث إليها بالمال الكثير لإنقاذها مما تعانيه. وألغى جميع المتأخر من الضرائب على أصحاب الأملاك، وأحرق علناً السجلات التي تثبت ما عليهم للدولة من الديون، وأدى من أموال الدولة ثمن ما يوزع من الغلال على المحتاجين، وأقام الألعاب للشعب على نظام واسع، وقدم المال لجميع المواطنين. ثم شرع في إقامة المنشآت العامة ليقضي بذلك على التعطل ويجمل رومة، وأنفق على هذه الأعمال من أمواله الخاصة، فلا غرامة بعد هذا إذا نظرت إليه الأمة نظرتها إلى إلهٍ معبود.

وبينما كانت هذه الأموال تتسرب من يديهِ كان هذا الإمبراطور المتواضع يعيش عيشة بسيطة خالية من مظاهر العظمة، يتجنب ترف النبلاء، ومتع المنصب وأبهتهِ، يرتدي الأثواب التي تنسجها له النساء في بيتهِ، وينام على الدوام في حجرة صغيرة في الدار التي كانت من قبل قصر هورتنسيوس. ولما أحترق هذا القصر بعد أن أقام فيهِ ثمانية وعشرين عاماً، أقام له قصراً جديداً على نظام القصر القديم، وكان ينام في نفس الحجرة الضيقة التي كان ينام فيها من قبل. وكانت متعته الوحيدة أن يفر من الشؤون العامة بركوب زورق تدفعه الرياح دفعاً بطيئا على طول ساحل كمبانيا.

واستطاع على مر الوقت أن يقنع مجلس الشيوخ والجمعيات الوطنية، أو أن يتفضل بالسماح لها، بأن تخلع عليه ِ السلطات التي جعلته في مجموعها ملكاً في كل شيء إلا في الأسم وحده. وقد احتفظ على الدوام بلقب إمبراطور Imperator بوصفه القئد الأعلى لجميع القوات المسلحة في الدولة. وإذ كان الجيش قد بقي معظمه خارج خارج حدود العاصمة على الدوام، وخارج حدود ايطاليا في معظم الأحوال، فقد كان في وسع المواطنين أن ينسوا، وهم يمارسون جميع المراسم الشكلية للجمهورية الميتة، أنهم يعيشون في كنف حكومة ملكية

ص: 10

عسكرية تختفي منها مظاهر القوة طالما كانت الألفاظ كافية للحكم. واختير أكتافيان قنصلاً في عامي 43 و 33 وفي كل عام من الأعوام المحصورة بين 31 و 23. وخلعت عليه أعوام 36، 30، 23 سلطات التربيون فكسب بذلك طول حيلته الحصانة التي يتمتع بها التربيون، وأصبح له حق وضع القوانين وعرضها على مجلس الشيوخ أو الجمعية، وحق الاعتراض على كل موظف في الحكومة ووقفها. ولم يعترض أحد على هذه الدكتاتورية المحبوبة، ذلك أن رجال الأعمال الذين امتلأت خياشيمهم برائحة غنائم أكتافيان المصرية، والجنود المدينين لكرمه بأرضهم أو مراكزهم، وكان من عادت عليهم بالنفع قوانين قيصر، ومناصبه ووصيته-كل هؤلاء كانوا يقولون ما يقوله هومر من أن حكومة الفرد خير أنواع الحكومات كلها، أو أنها في القليل خيرها إذا كان هذا الفرد كأكتافيان حر التصرف في أموالهِ، وإذا كان في مثل جدهِ وكفايتهِ، وإذا كان مثله بيّن الإخلاص لخير البلاد.

ولما كان رقيباً مع أجربا في عام 28 أجرى إحصاءً عاماً للسكان، وأعاد النظر في عضوية مجلس الشيوخ، فأنقص عدد الأعضاء إلى ستمائة عضو، ولقب هو نفسه مدى الحياة بلقب "زعيم الشيوخ" Princeps Senatus. وكان معنى هذا اللقب في بادئ الأمر "الأول في ثبت أعضاء مجلس الشيوخ"، ثم ما لبث أن أصبح معناه "الزعيم" بمعنى الحاكم كما أصبح معنى لفظ Imerator بعد أن خلع هذا اللقب على أكتافيان هو إمبراطور Emperor بالمعنى الذي يفهم من هذا اللفظ في هذه الأيام. ويسمي التاريخ بحق حكومته وحكومة خلفائهِ مدى قرنين من الزمان بحكومة "الزعامة" ولا يسميها الحكومة الملكية بالضبط، وذلك لأن الأباطرة " Emperors" كانوا يعترفون-نظرياً على الأقل-بأنهم لم يكونوا إلا زعماء (Princepes) مجلس الشيوخ. وأراد أكتافيان أن يجعل مظهر سلطتهِ الدستورية أروع من ذي قبل، فنزل في

ص: 11

عام 27 عن جميع مناصبه، وأعلن عودة الجمهورية، وصرح برغبتهِ (وهو في الحامسة والثلاثين من عمره) باعتزال الحاة العامة. وأكبر الظن أن هذه المسرحية قد أعدت من قبل؛ فقد كان أكتافيان من أولئك الرجال الحذرين الذين يعتقدون أن الأمانة خير أساليب السياسة، بشرط أن تمارس بحكمة وحسن تدبير. ومهما تكن حقيقة هذا الأمر فقد قابل مجلس الشيوخ نزول أكتافيان عن حقوقه بنزوله هو أيضاً عما له من حقوق، وتوسل إليه أن يظل هادياً للدولة ومصرّفاً لأمورها، ومنحه لقب أغسطس وهو اللقب الذي أخطأ المؤرخون فحسبوه اسمه. ولم يكن هذا اللقب يستعمل من قبل إلا في وصف الأشياء والأماكن المقدسة وبعض الأرباب المبدعة أو المكثرة (ومعنى أوجير Augere باللاتينية "يزيد")؛ فلما أن أطلق على أكتافيان خلع عليهِ هالة من القداسة وحباه بحماية الدين والآلهة.

ويلوح أن سكان رومة قد بدا لهم زمناً ما أن "عودة" الجمهورية كانت عودة حقيقية، وأنهم استعادوها فعلاً في نظير صفة خلعوها على أكتافيان. ولم لا؟ ألا يزال مجلس الشيوخ والجمعيات هي التي تسن القوانين، وتختار كبار الحكام؟ إن أحداً لا ينكر ذلك وكل ما يفعله أغسطس وعماله هو أن "يقترحوا" القوانين و"يرشحوا" أرباب المناصب الهامة. وكان أكتافيان بوصف كونه إمبراطوراً وقنصلاً يسيطر على الجيش والخزانة، وينفذ القوانين، وكان بفضل امتيازاته التربيونية يشرف على كل ما عدا ذلك من أعمال الحكومة. ولم تكن حقوقه أوسع كثيرا من حقوق بركليز Pericles أو بمبي أو أي رئيس نشط من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن الفرق كله أن سلطاته هو كانت دائمة. وقد استقال في عام 23 من القنصلية، ولكن مجلس الشيوخ منحه وقتئذ "سلطات القنصل" وإن لم يبق له اسمه، فجعله بذلك المسيطر على الموظفين جميعهم في الولايات كلها.

ولم يعترض أحد على ذلك في هذه المرة أيضاً؛ بل حدث عكس هذا.

ص: 12

وذلك أنه لما لاح خطر نقص الحبوب حاصر الشعب مجلس الشيوخ، وأخذ يطالب بجعل أغسطس دكتاتوراً. وكان سبب ذلك أنهم قد ساءت أحوالهم في عهد ألجركية مجلس اليوخ إلى حد جعلهم يميلون إلى الدكتاتورية التي ستخطب ودهم في زعمهم لتقضي بذلك على سلطان الأغنياء. وأبى أغسطس أن يقبل هذا العرص ولكنه وضع الأنونا Annona أو موارد الطعام تحت سلطانه، وقضى على خطر القحط في أقرب وقت؛ وحمد له الشعب عمله هذا حمداً جعل رومة ترتاح أشد الارتياح حين أقدم على تعديل نظم الدولة على النحو الذي رسمه لها في ذهنه.

ص: 13

الفصل الثاني

‌النظام الجديد

والآن فلندرس حكومة الزعامة ببعض من التفصيل لأنها كانت في كثير من نواحيها من أعظم الأعمال السياسية في التاريخ ومن أكثرها دقة.

لقد جمع الزعيم في يده كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ فكان من حقهِ أن بقترح القوانين على الجمعيات أو على مجلس الشيوخ ويعرض المراسيم؛ وكان في وسعه أن ينفذها وأن يفرضها بالقوة إذا شاء، وأن ينشرها ويعاقب الخارجين عليها. ويقول سوتونيوس إن أغسطس كان يجلس في مجلس القاضي بانتظام وإن مجلسه كان يدوم في بعض الأحيان حتى يجن الليل "وكان يأمر بوضع محفنة فوق المنصة يلجأ إليها إذا أصابته وعكة

وكان رجلاً حي الضمير ليناً في أحكامهِ إلى حد كبير" وإذ كان قد ألقيت عليهِ تبعة مناصب كثيرة فقد شكل له مجلساً غير رسمي من المستشارين أمثال مانياس، ومن المنفذين لقراراته أمثال أجربا، ومن القواد أمثال تيبيريوس، كما أنشأ له هيئة من أرقائه ومعاتيقه.

وكان كيس ماسناس من أثرياء رجال الأعمال، وكان قد قضى نصف حياته يساعد أغسطس في الحرب والسلم وفي أعماله السياسية الداخلية والخارجية، وساعده أخيراً على الرغم منه في مغامراته النسائية. واشتهر قصره العائم على تل الأكولين بحدائقه الغناء وببركة استحمامه ذات الماء الساخن. وكان أعداؤه يصفونه بأنه شخص. مخنث أبيقوري لأنه كان يتباهى بلبس الحرير والتحلي بالجواهر، وأنه يعرف كل ما يعرفه المبطان الروماني. وكان يستمتع بالأدب والفن ويناصرهما بكرم وسخاء، وقد أعاد إلى فرجيل ضيعته ووهب هوراس ضيعة

ص: 14

أخرى. وكان هو الموحي بكتاب الجورجيين Geprgics والأناشيد. وأبى أن يشغل أي منصب من المناصب العامة. مع أنه كان في وسعه أن يحصل منها على أي منصب يريده إلا القليل. وقد ظل سنين طوالاً يجهد نفسه في بحث مبادئ السياسة الخارجية ووقائعها، وبلغ من شجاعته أن كان يعنف أغسطس إذا ظنه قد وقع في خطأ موبق. ولما مات (في عام 8 ق. م.) حزن عليه الزعيم وعدّ موتهُ خسارة لا تعوض.

ولعل أغسطس (أصله من الطبقة الوسطى ولم يكن يحتقر التجارة كما يحتقرها الأشراف) كان يعمل بمشورته حين رشح كثيرين من رجال الأعمال للمناصب الإدارية الكبرى وإلى حكم الولايات نفسها. ولما تذمر مجلس الشيوخ من هذه البدعة، استرضاه بأشياء كثيرة: فمنح بعض لجانه سلطات استثنائية، وجمع حوله مجلساً من الزعماء المستشارين مؤلفاً من حوالي عشرين رجلاً كلهم تقريباً من الشيوخ، وأصبح لقرارات هذا المجلس على مدى الأيام ما لقرارات مجلس الشيوخ نفسه من قوة، وكانت سلطاته واختصاصاته تزداد كلما ضعفت سلطات مجلس الشيوخ، ونقصت اختصاصاته. ولكن مجلس الشيوخ لم يكن إلا أداته العليا على الرغم مما كان يغدق عليه من ضروب العطف والمجاملة.

وقد استخدم حقه بوصفهِ رقيباً فأعاد النظر في عضويته أربع مرات، وكثيراً ما استخدم حقه في حقه في طرد بعض أعضائه منه لعجزهم عن القيام بالأعمال الرسمية أو لسوء سلوكهم الشخصي، وقد رشح هو نفسه معظم أعضائه الجدد؛ وكان من دخلوه من الكوسترين والبريتورين والقناصل بعد انقضاء المدة المحددة لتوليهم مناصبهم، كانوا كلهم ممن اختارهم هو أو ممن وافق على اختيارهم. وقد حشد في هذا المجلس أغنى رجال الأعمال في إيطاليا وانضمت الطبقتان إلى حد ما في ذلك الائتلاف الذي هيئته لهما سيطرتهما المتحدة التي اقترحها شيشرون في الأيام الخالية. وبذلك وقفت قوة المال في وجه كبرياء المولد وامتيازاته، كما وقفت

ص: 15

الأرستقراطية الوراثية في وجه مساوئ الثروة وأعمالها التي لا تتحمل لها تبعة.

واقتصرت اجتماعات مجلس الشيوخ بناء على اقتراح أغسطس على اليومين الأول والخامس عشر من كل شهر، ولم يكن اجتماعه يدوم في العادة أكثر من يوم واحد. وإذ كان الذين يرأسون اجتماعه هم "زعماء الشيوخ" فإنه لم يكن يُستطاع عرض أي اقتراح عليهِ بغير موافقتهِ، والحق أن كل اقتراح يُعرض عليهِ كان يعده من قبل هو أو أعوانه. وأصبحت اختصاصات المجلس القضائية والتنفيذية وقتئذ أهم من اختصاصاته التشريعية، فكان بمثابة محكمة عليا، وكان يحكم إيطاليا بوساطة لجان، ويوجه أعمال الأشغال العامة المختلفة. وكان يحكم الولايات التي لا تحتاج إلى إشراف عسكري كبير، ولكن الزعيم هو الذي كان يشرف على العلاقات الخارجية. ولما جرّد المجلس بهذه الطريقة من سلطاتهِ القديمة أهمل هو نفسه اختصاصاته الضيقة نفسها وصار يتخلى بستمرار عن كثير من التبعات للإبمراطور وموظفيهِ.

وظلت الجمعيات تعقد جلساتها، ولكن عدد هذه الجلسات أخذ يقلُ شيئاً فشيئاً؛ وظلت تقترع ولكنها لم تكن تقترع إلا على المشروعات أو الترشيحات التي يوافق عليها الزعيم، وقضى على حق العامة في تولي المناصب أو كاد يقضي عليه في عام 18 ق. م. حين صدّر قانون يُقصر تولي هذه المناصب على الرجال الذين تبلغ قيمة أملاكهم أربعمائة ألف سسترس (60. 000 ريال أمريكي) أو أكثر (2). ورشح أغسطس نفسه للقنصلية ثلاث عشر مرة، وسعى لنيل أصوات الناخبين كما كان يسعى غيره من المرشحين؛ ونزل بذلك من عليائه للاشتراك في المسرحية التي كانت تمثل فصولها على مسرح السياسة الرومانية. وقد عمل على منع الرشا في الأنتخابات بأن طلب إلى كل مرشح أن يودَع قبل عملية الانتخاب مبلغاً من المال ضماناً منه بأنه لن يلجأ إلى الرشوة (3). بيد أن أغسطس نفسه وزع في وقت من الأوقات ألف سسترس على كل عضو ناخب

ص: 16

في قبيلته حتى يضمن بذلك صحة أصوات القبيلة (4). وظل القناصل والتربيونون يُنتخبون حتى القرن الخامس بعد الميلاد (5). غير أن المنصبين أصبحا بعد أن آلت معظم حقوقهما إلى الزعيم منصبين إداريين لا تنفيذيين، ثم انتهيا إلى أن صارا منصبي شرف لا أكثر.

أما حكم رومة الفعلي فقد وضعه أغسطس في أيدي موظفين إقليميين يتقاضون مرتبات من الدولة وتساعدهم في عملهم شرطة مؤلفة من ثلاثة آلاف رجل يرأسهما "كبير شرطة البلدية Praefectus Urbi" وفضلاً عن هذا فقد وُضع ست كتائب قوام كل منها ألف جندي بالقرب من رومة، وثلاث كتائب في داخلها ليضمن بذلك استتباب النظام من النوع الذي يريده، وليؤيد بها سلطانه، وإن كان قد اعتدى بعمله هذا على جميع السوابق أشد الاعتداء. وأصبحت هذه الكتائب فيما بعد هي الحرس البريتوري، أي حرس البريتوريوم Praetorium أو مقر القائد الأكبر. وهذه الفرق هي التي جعلت كلوديوس إمبراطور في عام 41 ب. م، وهي التي بدأت عملية إخضاع الحكومة للجيش.

ثم امتدت عناية أغسطس الإدارية من رومة إلى إيطاليا وإلى الولايات الخارجية. فمنح حق المواطنية الرومانية أو حق الانتخاب الضيق المعروف "بالحقوق اللاتينية" لجميع العشائر التي اشتركت في تحمل أعباء الحرب على مصر. ثم أعان المدن الإيطالية بما نفحها به من هبات، وزينها بالمباني الجديدة، وابتكر طريقة تمكن أعضاء مجلسها من إعطاء أصواتهم في انتخاب الجمعيات في رومة بطريق البريد. ثم قسم الولايات فئتين: أولاهما ما تحتاج إلى دفاع جدي والثاني ما كانت في غير حاجة إلى هذا الدفاع. فأما الثانية (وكانت تشمل صقلية، وبتكا، وغالة النربونية، ومقدونية، وآخية، وآسية الصغرى، وبيثينيا، وبنطتس، وقبرص، وكريت، وقورينة، وأفريقية الشمالية، فقد وضع حكمها في يد مجلس الشيوخ. أما الثانية-وهي الولايات الإمبراطورية-

ص: 17

فكان يحكمها سفراؤه، ووكلاؤه، أو رؤساء حرسه. وقد أمكنه هذا النظام البديع من أن يختفض بسيطرته على الجيش، الذي كان يقيم معظمه في الولايات "المعرضة للخطر". وهذا إلى أنه وضع في يده موارد مصر الغنية وأمكنه من أن يراقب الحكام المعنيين من قِبَل مجلس الشيوخ بأعين وكلائه الذين كان يعينهم لجباية الخراج من الولايات جميعها بلا استثناء. وكان كل حاكم يتقاضى في أيامه مرتباً محدوداً، وبذلك قلت رغبته إلى حد ما في ابتزاز المال من أهل الولاية التي يحكمها. وكان إلى جانب الوالي هيئة من الموظفين المدنيين تساعد على الدوام الاتصال في الأعمال الإدارية وتمنع إلى حد ما رؤساءهم المؤقتين من الإقدام على الأعمال غير المشروعة. أما أقيال الدول التي كانت خاضعة لنفوذ رومة فكانوا يعاملون معاملة طيبة حكيمة، وظلوا بسببها موالين لأغسطس كل الولاء، وقد أقنع الكثيرين منهم بأن يرسلوا إليهِ أبنائهم ليعيشوا في قصره، وليتلقوا فيه تربية رومانية؛ وأصبح هؤلاء الشبان بفضل هذا التدبير الكريم رهائن لديهِ حتى يحين وقت تتويجهم، ثم صاروا بعئذ على غير علم منهم أداة لصبغ بلادهم بالصبغة الرومانية.

ويبدو أن أغسطس بعد انتصاره في أكتيوم، وما بهثه هذا الانتصار في نفسه من حماسة وزهو، وبعد أن رأى من حوله جيشاً ضخماً وأسطولاً قوياً، يبدو أنه أخذ بعد هذا يُعد العدة لتوسيع رقعة الإمبراطورية ومد حدودها إلى المحيط الأطلنطي، والصحراء الكبرى، ونهر الفرات، والبحر الأسود، ونهر الدانوب والألب، وأنه كان يعتزم الاحتفاظ بالسلم الرومانية بسياسة العدوان عند هذه الحدود جميعها لا بسياسة الدفاع السلبي. وقد أتم الإمبراطور بنفسه فتح أسبانيا، ونظم الإدارة في بلاد غالة تنظيماً يدل على مقدرته ومهارته، وكان من نتائجه أن ساد السلام ربوع تلك البلاد نحو قرن كامل. واكتفى في بارثيا باسترجاع الأعلام، ومن بقي على قيد الحياة من الأسرى الذين أخذوا من كراسس في عام 53؛ أما في

ص: 18

أرمينية فقد أعاد إلى عرشها ملكها تجرانيس Tigranes الموالي لرومة. وأرسل بعثات لفتح بلاد العرب ولكنها أخفقت. وأخضع ربيباه تيبيريوس ودورسس في العشر السنين المحصورة بين 19، 9 ق. م بلاد إليريا Illyria وبانونيا Pannonia وريتيا Raetia. ولما غزا الألمان غالة تذرع أغسطس بهذه الحجة فأمر دروسس أن يعبر بهر الرين؛ ولشد ما اغتبط حين علم أن هذا الشاب قد شق طريقه إلى نهر الإلب. غير أن دروسس أصيبت أحشاؤه على أثر سقطة سقطها على الأرض عانى على أثرها المرض ثلاثين يوماً. وكان تيبيريوس شديد الحب لأخيه، فسار على ظهر جواده أربعمائة ميل من غالة إلى ألمانيا ليضمه إلى صدره في آخر ساعات حياته؛ ولما تم له ذلك نق جثته إلى رومة، وسار وراء الجنازة طول الطريق (9 ق. م) ثم عاد بعدئذ إلى ألمانيا وحمل على القبائل الضاربة بين الإلب والرين حملتين (8 - 7 ق. م 4 - 5 ب. م) خضعت على أثرهما روما.

وحلت برومة وقتئذ في وقت واحد تقريباً كارثتان بدلت حمى الفتح والتوسع سياسة سلام. ذلك أن بانوينا ودلماشيا اللتين فتحتا حديثاً ثارتا على رومة، وقتل أهلهما جميع من كان فيهما من الرومان، وأعدتا جيشاً مؤلفاً من مائتي ألف رجل وهددتا إيطاليا نفسها بالغزو. واسرع تيبيريوس فعقد الصلح مع القبائل الألمانية، وسار على رأس قواته القليلة إلى بانونيا، واستطاع بصبره وخططه العسكرية الفنية أن يستولي على محصولات البلاد أو يتلفهما فيحرم العدو من مصادر تموينه، كما استطاع بحرب العصابات أن يمنعه من إنتاج محصولات جديدة، وعمل في الوقت نفسه على أن يوفر المؤن لجنوده. وأصر على العمل بهذه السياسة ثلاث سنين رغم ما وجه إليهِ من النقد في بلاده، حتى نال أخيراً بغيته، فرأى الثوار الجياع يلقون أسلحتهم، وبسط هو السلطة الرومانية من جديد على ربوع البلاد. ولكن حدث في تلك السنة نفسها (9 ب. م) أن نظم أرمنيوس الثورة في

ص: 19

ألمانيا، وأوقع فيالق فاروس الروماني في كمين، وقتل جنودها عن آخرها إلا من انتحر بإلقاء نفسه على سيفه مثل فاروس نفسه. ولما سمع أغسطس بهذا النبأ "تأثر أشد التأثير" كما يقول سوتونيوس. وظل عدة شهور لا يحلق لحيته ولا يقص شعر رأسه، وكان في بعض الأحيان يضرب الباب برأسه ويصيح بأعلى صوته:"أي كونتليوس فاروس أعد إليَّ فيالقي (6)! " وأسرع تيبيريوس إلى ألمانيا، وأعاد فيها تنظيم الجيش، وصد هجمات الألمان، ورد حدود الدولة الرومانية، بناء على أوامر أغسطس إلى نهر الرين.

وكان هذا قراراً خسر فيهِ أغسطس شطراً كبيراً من كبريائه، ولكنه دل على حكمته وحصافة عقله. وقد أسلمت ألمانيا بمقتضاه إلى "البربرية" أي إلى ثقافة غير رومانية ولا يونانية، وتركت حرة تسلح سكانها المتزايدين لمحاربة رومة. على أن الأسباب التي حملت الرومان على السعي لفتح ألمانيا كان من شأنها أن تتطلب منهم إخضاع سكوذيا-أي جنوبي الروسيا. ولكنهم لم يفعلوا لأن الإمبراطورية يجب أن يقف امتدادها في مكان ما؛ وكان نهر الرين حداً للدولة خيراً من أي حد آخر غرب جبال أورال. هذا إلى أن أغسطس بعد أن ضم أسبانيا الشمالية والغربية، وريشيا، ونوركم، وبامونيا، وموزيا، وجلاتيا، وليسيا، وبمفيليا شعر بأنه قد استحق بأعماله لقب "الإله المكثر". وكانت الإمبراطورية حين وفاته تشمل مساحة قدرها 3. 340. 000 ميل مربع أي أكثر من مساخة الولايات المتحدة في القارة الأمريكية، وكانت تعادل مساحة رومة قبل الحروب البونية مائة مرة. ونصح أغسطس خليفته بأن يقنع بهذه الإمبراطورية وهي أعظم إمبراطورية شهدها التاريخ حتى ذلك الوقت، وأن يوجه همه إلى توحيدها وتقويتها في الداخل بدل أن يوسعها في الخارج، وأظهر دهشته من أن "الإسكندر لم يرد أن تنظم الإمبراطورية التي أنشأها أصعب من كسبها (7) ". وبهذا بدأت السلم الرومانية Pax Romana.

ص: 20

الفصل الثالث

‌عهد الرخاء

لا يمكن أن يقال عن أغسطس إنه "فر من الميدان وسمى هذا الفرار سلماً"؛ ذلك أنه لم يكد تمضِ عشر سنين بعد معركة اكتيوم حتى انتعشت بلاد البحر الأبيض المتوسط انتعاشاً لم يضارعه في سرعته انتعاش قبله. وقد كانت عودة النظام في حد ذاتها باعثاً قوياً على هذا الانتعاش؛ وكيف يتمنع الرخاء من إجابة هذه الدعوة الإجماعية التي يتقدم بها إليه ما عاد إلى البحر من أمن وسلامة، وإلى الحكومة من الاستقرار، مضافاً إلى استمساك أغسطس بالقديم الموروث وتحفظه، وإلى استهلاك كنوز مصر المدخرة، واستغلال المناجم الجديدة، وإنشاء دور سك جديدة، وإلى ثقة الأهلين بالنقد وسرعة تداوله، وكعالجة الزحام في إيطاليا بإقطاع الأهلين أرضاً يفلحونها، وبنقلهم إلى أراضي المستعمرات؟ ومن القصص المأثورة في هذا الصدد أن جماعة من بحارة الإسكندرية نزلوا في بتيولي، وكان أغسطس قريباً منها، فأقبلوا في ملابسهم الزاهية وأهدوا إليهِ البخور كما يهدى البخور إلى الآلهة، وقالوا له إنهم استطاعوا بفضله أن يسيروا في البحر آمنين، وأن يتاجروا واثقين، وأن يعيشوا سالمين (8).

ولم يكن اغسطس، وهو حفيد رجل مصرفي، يخالجه أدنى شك في أن خير سياسة اقتصادية هي السياسة التي تجمع بين الحرية والأمان. ومن أجل ذلك وفر الحماية لجميع طبقات الأمة بسن القوانين، وبالدقة في تطبيقها؛ ووضع في الطرق العامة حراسة قوية، وأقرض ملاك الأراضي المال من غير فائدة (9)؛ وهدأ ثائرة الفقراء بما وزعه عليهم من قمح الدولة، و"بالقرعة" والهدايا بعض الاحيان. أما فيما عدا هذا فقد ترك للمشروعات الخاصة، والإنتاج، والتبادل، حرية أوسع

ص: 21

مما كان لها من قبل. عل أن الأعمال التي تديرها الدولة كانت مع هذه الحرية كثيرة متنوعة إلى حد لم تبلغه من قبل، وكان لها شأن أيما شأن في إنعاش الحياة الاقتصادية؛ فقد شُيد في خلال هذه المدة اثنان وثمانون هيكلاً، وأنشئت سوق عامة جديدة وباسلقا

(1)

جديدة لتيسير الأعمال المالية وأعمال المحاكم، وأقيم بناء جديد لمجلس الشيوخ بدل البناء الذي احترق فيهِ كلوديوس؛ وشُيدت صفوف الأعمدة لتخفيف حرارة الشمس، وأكمل الملهى الذي بدأه قيصر وسمّي باسم مرسلس زوج ابنة أغسطس؛ واستحث الإمبراطور الأثرياء على أن ينفقوا بعض أموالهم في تجميل إيطاليا بالباسلقات، والهياكل، ودور الكتب، والملاهي، والطرق. ويقول ديوكاسيوس إنه "أمر الذين يحتفلون بالنصر أن ينفقوا مغانمهم في تشييد مباني عامة تخلد ذكرى أعمالهم"(9 أ). وكان أغسطس يرجو من وراء ذلك أن يجعل عظمة رومة في ازدياد سلطانه ورمزاً لهذا السلطان.

ومن أقواله في آخر أيامه أنه وجد رومة مدينة من اآجر ثم تركها وهي من الرخام (9 ب)؛ وذلك مغالاة تُغتفر لقائلها، فقد كان فيها قبل أيامه كثير من الرخام، وبقي فيها من بعدهِ كثير من الآجر، ولكن الحقيقة أنه قلما فعل رجل لمدينة ما فعله أغسطس لرومة.

وكان ساعده الأيمن في إعادة بناء رومة ماركس فسيانيوس أجربا Marcus Vispanius Agrippa. وكان صديقه هذا قد اشترك مع ماسنياس في تنفيذ سياسة أغسطس. ولما كان أجربا إيديلاً عام 33 ق. م ضم الجماهير إلى جانب أكتافيان بأن فتح لهم 170 حماماً، ووزع عليم الزيت والملح بلا ثمن، وأقام لهم ألعاباً عامة دامت خمسة وخمسين يوماً، وعين حلاقين لجميع المواطنين

(1)

الباسلقا Basilica عند الرومان بهو كبير مستطيل الشكل ذو صفين من العمد، ينتهي بطرف نصف دائري، كان يستخدم في الأعمال المالية والقضائية. وقد تحول كثير من الباسلقات آخر الأمر إلى كنائس. (المترجم)

ص: 22

من غير أجور-ولعله أنفق ما تطلبه هذا كله من ماله الخاص. وكانت كفايته خليقة بأن تجعله فيصراً ثانياً؛ وكنه فضل أن يخدم أغسطس مدى جيل كامل. ومبلغ علمنا أنه لم يرتكب إثماً يشين حياته العامة أو الخاصة، فقد تركه المغتابون الرومان، الذين لم يتركوا أحداً غيره إلا سلقوه بألسنة حداد، دون أن يمسوه بقالة سوء. وكان هو أول روماني أدرك ما للقوة البحرية من خطر عظيم، فوضع خطة لإنشاء عمارة بحرية وأنشأها، وتولى قيادتها، وهزم بها سكستس بمبي، وطهر البحر من القراصنة، وكسب العالم لأغسطس في معركة أكتيوم. وعُرض عليهِ ثلاث مرات أن يقام له موكب نصر بعد هذه الانتصارات الرائعة، وبعد أن هدأ أسبانيا وغالة والمملكة اليسبورية، ولكنه رفض في كل مرة. وقد وهبه زعيمه ثروة طائلة اعترافاً منه بفضلهِ، ولكنه ظل رغم هذه الثروة يعيش عيشة خالية من البذخ والترف. وبذل جهوده كلها في إقامة المنشآت العامة كما بذلها من قبل في خفظ كيان الدولة، فكان يستأجر بماله الخاص مئات من العمال لإصلاح الطرقن والمباني، والمجاري العامة، وإعادة فتح قناة مارسيس المغطاة. وأنشأ هو قناة من نوعها جديدة، هي قناة يوليوس، وأصلح وسائل مد رومة بالماء باحتفار سبعمائة بئر وإنشاء خمسمائة عين فوّارة، ومائة وثلاثين خزاناً.

ولما شكا الناس من ارتفاع أثمان النبيذ أجابهم أغسطس بدهائهِ المعروف:

"لقد عمل صهري أجربا على ألا تظمأ رومة أبداً"(10).

وأنشأ أجربا، وهو أعظم المهندسين الرومان بلا منازع، مرفأ واسعاً عظيماً، ومركزاً لبناء السفن بإيصال بحيرتي لكريتس وأفرنس بالبحر. وهو الذي أنشأ أول الحمامات العامة الرائعة الفخمة، التي امتازت بها رومة فيما بعد على سائر مدن العالم. وشاد من ماله الخاص هيكلاً لفينوس والمريخ أعاد بناءه هدريان وهو المعروف لنا بهيكل الآلهة Pantheon في هذه الأيام، ولا يزال يظهر عليهِ حتى الآن هذه العبارة M. AGRIPA

PECIT. ونظم أعمال مسح أراضي الإمبراطورية

ص: 23

مرة كل ثلاثين عاماً، وكتب رسالة في الجغرافية، ورسم للعالم خريطة ملوّنة على الرخام. وكان مثل ليوناردو دافنشي عالماً طبيعياً، ومهندساً، ومخترعاً للمقذوفات الحربية وفنّاناً. وكان موته المبكر وهو في سن الخمسين (12 ق. م) من الأحزان الكثيرة التي عكرت صفاء سني أغسطس الأخيرة. وقد زوجه أغسطس بابنته يوليا، وكان يرجو أن يرث الإمبراطورية من بعدهِ لأنه خير مَن يستطيع أن يحكمها حكماً صالحاً نزيهاً شريفاً.

وكانت المنشآت العامة الكثيرة النفقة، مضافة إلى الخدمات الواسعة التي تقوم بها الحكومة سبباً في زيادة المصروفات العامة زيادة لم يكن لها نظير من قبل. ذلك أن المرتبات كانت تؤدي وقتئذ للموظفين في الولايات وفي المدن، وللحكام ورجال الشرطة؛ وكان يقوم على حراسة البلاد جيش قوي دائم وأسطول ضخم، وكانت المباني العامة التي لا عداد لها تشاد أو تُصلح، وكان العامة يرشون بالحبوب والألعاب ليظلوا هادئين. وإذ كانت هذه النفقات كلها إنما تؤدى من الإيرادات العادية، ولم تحمل الأجيال التالية بدين أهلي ما، فقد أصبحت الضرائب في أيام أغسطس علماً وصناعة دائمة. ولم يكن أغسطس نفسه بالرجل الصلب الذي لا يلين، فكثيراً ما أعفى الأفراد المأزومين والمدن المأزومة من الضرائب أو أداها من ماله الخاص. وأعاد إلى البلديات خمسة وثلاثين ألف رطل من الذهب قدمت إليهِ "هدية تتويج"، حينما اختير قنصلاً للمرة الخامسة، ورفض هبات أخرى كثيرة (12)، وألغى ضريبة الأراضي التي فرضت على إيطاليا في أثناء الحرب الأهلية؛ وفرض بدلاً منها على جميع سكان الإمبراطورية ضريبة مقدارها خمسة في المائة على الأموال التي يوصى بها لأي إنسان عدا الأقارب الأدنين والفقراء (13)، كما فرض ضريبة مقدارها واحد في المائة على المزادات العامة، وأربعة في المائة من أثمان الأرقاء، وخمسة في المائة عند تحريرهم، وقرر عوائد جمركية تتراوح بين اثنين ونصف وخمسة في المائة على جميع البضائع

ص: 24

الواردة إلى كل المواني تقريباً. وكان سكان المدن جميعاً يؤدون ضرائب للبلديات، ولم تكن الأملاك الرومانية معفاة من الضرايبة كما كانت الأراضي الإيطالية. وكانت الضرائب تؤدى على الماء المستمد من القنوات العامة. وكان دخل الخزانة كبيراً من تأجير الأراضي العامة، والمناجم، ومصائد الأسماك، واحتكار الدولة للملح، ومن الغرامات التي تفرضها المحاكم. وكانت الولايات تؤدي ضريبة على الأراضي Tributum Soli، وضريبة الفرضة Tributum Capitis، ومعناها الحرفي ضريبة على الرؤوس، ولكنها كانت في واقع الأمر ضريبة على الأملاك الشخصية. وكانت الضرائب تجمع في خزانتين في رومة كلتاهما في معبد، وهما الخزانة الأهلية (Aerarium) التي يشرف عليها مجلس الشيوخ، والخزانة الإمبراطورية (Fiscus) التي كان يملكها ويديرها الإمبراطور

(1)

. وكانت ترد إلى الخزانة الثانية الأموال من أملاك الإمبراطور الخاصة، ومن الأموال التي يوصي بها الخيرون والأصدقاء. وبلغ ما تجمَّع من هذه الوصايا في أيام أغسطس 1. 400. 000. 000 سسترس.

ويمكن القول بوجه عام إن الضرائب في أيام الزعامة لم تكن فادحة، وإن ما أنفقت فيهِ حصيلتها إلى عهد كمادوس كان يبرز ما عاناه الناس في أدائها. وقد عم الرخاء الولايات وأقام الأهلون مذابح لأغسطس الإله شكراً له أو تطلعاً إلى ما سوف يأتيهم بهِ من خير. وقد أضطر في رومة نفسها لأن يعنف الناس على إسرافهم في مديحهِ. ومن أمثلة هذا الإسراف أن أحد المتحمسين أخذ يجري في شوارع المدينة ويدعو رجالها ونساءها لأن "يهبوا" حياتهم لأغسطس؛ أي أن يقطعوا على أنفسهم عهداً بأن يقتلوا أنفسهم حين يموت. وحدث في عام 2 ب. م. أن اقترح مسالا كرفينس Messala Corvinus الذي

(1)

كانت الفسسي Fisci على عهد الجمهورية هي السلال المختومة التي تحمل فيها أموال الخراج من الولايات إلى رومة.

ص: 25

استولى على معسكر أكتافيان في فلباي أن يمنح أغسطس لقب "أبي البلاد". ولشد ما اعغتبط مجلس الشيوخ بمنح الإمبراطور هذا اللقب وكثيراً غيره من ألقاب الثناء والتكريم، فقد سره ألا يتحمل إلا القليل من تبعة الحكم، وأن يحتفظ مع ذلك بالثراء ومظاهر الشرف. وكانت طبقة رجال الأعمال التي زادت ثروتها كثيراً عن ذي قبل تحتفل بذكرى مولده احتفالاً يدوم يومين كاملين في كل عام. ويقول سوتونيوس "إن الناس جميعاً على اختلاف أصنافهم وطبقاتهم كانوا يقدمون له الهدايا في اليوم الأول من شهر يناير"-أي في عيد رأس السنة. ولما أن دمرت النيران قصره القديم تبرعت إليهِ كل مدينة في الإمبراطورية بمقدار من المال ليستعين بهِ على إعادة بنائه، ويبدو أن كل قبيلة وكل نقابة فعلت هي الأخرى مثل ما فعلت المدن. وأبى أن يأخذ من أي فرد أكثر من دينار واحد، ومع ذلك فقد حصل على ما يكفي لبناء القصر وزيادة. وقصارى القول أن جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط قد أحست بالسعادة بعد محنتها الطويلة، وكان في وسع أغسطس أن يعتقد أنه استطاع بصبره أن ينجز العمل العظيم الذي أخذ على عاتقه أن ينجزه.

ص: 26

الفصل الرّابع

‌إصلاحات أغسطس

لقد أشقى أغسطس نفسه إذ حاول أن يصلح قلوب الناس ويسعدهم معاً، وكان ذلك تطاولاً منه لم تغفره له رومة أبداً، ذلك أن إصلاح الأخلاق أشق أعمال الحكام وأكثرها دقة وخطورة، وقل من الحكام من جرؤ على محاولته، وقد تركه أكثرهم للمنافقين أو القديسيين.

وبدأ أغسطس هذا الإصلاح بداية متواضعة لوقف تيار الانقلاب العنصري في رومة. ذلك أن سكان رومة لم يكونوا يتناقصون كما قد يتبادر إلى الأذهان، بل كان هؤلاء السكان يزدادون زيادة مطردة بفضل المغريات الكثيرة، وما كان يوزع عليهم من الأرزاق وما يستورد من الثروة ومن الرقيق. وإذ كان المحررون ينالهم نصيبهم من الأرزاق التي توزعها الدولة، فقد أعتق كثيرون من المواطنين عبيدهم المرضى أو الطاعنين في السن لكي تطعمهم الدولة، وحرر أكثر من هؤلاء لبواعث إنسانية، كما استطاع كثيرون منهم أن يقتصدوا من المال ما يبتاعون بهِ حريتهم. وإذ كان أبناء المحررين يصبحون مواطنين رومانيين من تلقاء أنفسهم، فقد تضافر تحرير الأرقاء وتكاثر الغرباء مع قلة تناسل عناصر السكان الأصليين على تبديل الطابع العنصري لسكان رومة. وكان أغسطس يشك في إمكان استقرار أحوال بلد يسكنه هذا الخليط المختلف العناصر من الأهلين، ويرتاب في ولاء هؤلاء السكان إلى الإمبراطورية وهم الذين تجري في عروقهم دماء الشعوب المغلولة على أمرها. لذلك عمل على قانون فوفيا كانينيا Lex Fufia Caninia (2 ب. م) وغيره من القوانين التي تبيح لكل من يملك عبداً أو عبدين لا أكثر أن يعتقه أو يعتقهما جميعاً، ولمن يملك-ثلاثة عبيد إلى عشرة أن يعتق نصفهم،

ص: 27

ومن يملك أحد عشر إلى ثلاثين أن يعتق ثلثهم، ومن يملك واحداً وثلاثين إلى مائة أن يعتق ربعهم، ومن يملك مائة عبد وعبد إلى ثلثمائة أن يعتق خمسهم، والتي لا تبيح لسيد أن يعتق أكثر من مائة من عبيده.

وقد يتمنى الإنسان أن لو حدد أغسطس اقتناء العبيد لا تحريرهم. ولكن القدماء كانوا يرون الاسترقاق قضية مسلماً بها لا تحتمل جدلاً، ولو أنه طلب إليهم أن يحرروا العبيد جملة لنظروا إلى ما ينجم عن هذا العمل من النتائج الاقتصادية والاجتماعية نظرة الرعب والهلع، كما يخشى أصحاب الأعمال في وقتنا الحاضر ما عساه أن ينجم عن الضمان الاجتماعي للعمال من تراخٍ في العمل وقلة في الإنتاج. لقد كان تفكير أغسطس قائماً على المصالح العنصرية ومصلح الطبقات، ولم يكن في مقدوره أن يرسم في ذهنهِ صورة لرومة القوية لا يتصف أفرادها بالخلق والشجاعة والمقدرة السياسية التي كان يمتاز بها الرومان الأقدمون بوجه عام والأشراف الأقدمون بوجه خاص. وكان ضعف العقيدة الدينية القديمة بين الطبقات العليا سببا في القضاء على ما كان للزواج والوفاء والأبوة من حرمة وقداسة، وكانت هجرة الناس من الأرياف إلى المدن قد جعلت الأطفال عبئاً ثقيلاً على آبائهم أو لعباً يتسلون بها على أحسن تقدير، بعد أن كانوا مصدر ربح لهم. واشتدت رغبة النساء في التجمل واجتذاب الأموال بعد أن كن يرين أن خير زينة لهن هي إنجاب الأبناء. وقصارى القول أن الرغبة في الحرية الفردية بدت في ذلك الوقت مجانية لحاجات العنصر الروماني الأصيل. ومما زاد الطين بلة أن السعي وراء الهبات والوصايا أضحى وقتئذ أكثر الأعمال ربحاً في إيطاليا (16). فقد كان الرجال الذين لا أبناء لهم إذا بلغوا مرحلة العمر الأخيرة يجدون أحسن الترحيب في بيوت لهم أبناء، يستقبلون فيها ويطعمون، وكان كثير من الرومان يحبون هذه المتعة وهذا النوع من الحياة اللينة، حتى أصبحت سبباً آخر من أسباب العقم. يضاف إلى هذا أن طول سني الخدمة العسكرية حال بين كثيرين

ص: 28

من الشبان وبين الزواج في أكثر سني العمر صلاحية له. وامتنع كثيرون من الرومان الأصليين عن الزواج بتاتاً، وفضلوا الاتصال بالعاهرات أو اتخاذ السراري والعشيقات حتى على تعدد الزوجات متفرقات. ويلوح أن الكثرة العظمى من المتزوجين عمدت إلى تحديد عدد أفراد أبنائها باللجوء إلى إجهاض الزوجات وقتل الأطفال ومنع الحمل (18).

وأقلقت هذه المظاهر وأمثالها من مستلزمات الحضارة بال أغسطس وأقضّت مضجعه، وبدأ يشعر أن لابد من العودة إلى العقائد والأخلاق القديمة. وعاد إليهِ بعد أن صفا ذهنه وأنهك جسمه بفعل السنين احترامه لتراث الآباء والأجداد، فأخذ يشعر أن ليس من المصلحة في شيء أن ينفصل عن الماضي انفصالاً تاماً، بل الواجب أن تعمل الأمة-إذا أرادت لنفسها حياة حياة صحيحة سليمة-على استمرار تقاليدها الماضية، كما يجب على الفرد أن تكون له ذاكرة. ولذلك أخذ يقرأ بجد أكسبته إياه السنون تواريخ رومة القديمة ويعجب بالفضائل التي يعزوها المؤرخون إلى أهلها، ويحسدهم عليها، وأشد ما كان يعجب بخطبه كونتس متلس في الزواج، فتلاها في مجلس الشيوخ وأصدر أمراً إمبراطورياً بإذاعتها بين طبقات الشعب. وكان كثيرون من رجال الجيل القديم يتفقون معه في آرائه فألفوا من بينهم حزباً متزمتاً شديد الرغبة في تقويم الأخلاق عن طريق التشريع؛ وأكبر الظن أن ليفيا Livia أمدتهم بنفوذها. واستخدم أغسطس ماله من حقوق بوصفهِ رقيباً وتربيوناً فأصدر طائفة من القوانين-أو لعله حمل الجمعية على إصدارها-تهدف كلها إلى تقويم الأخلاق، وتشجيع الزواج، والوفاء بين الأزواج، والأبوة الصالحة، والحياة البسيطة، والعودة بها إلى السنن القديمة. وحرمت هذه القوانين على المراهقين-والمراهقات-أن يحضروا دور اللهو العامة في صحبة الكبار من أقاربهم؛ ومنع النساء من مشاهدة الاستعراضات الرياضية، وقصر أماكنهم في المجتلدات على

ص: 29

المقاعد العليا؛ ثم حدد مقدار ما ينفق من المال في البيوت، وعلى الخدم، والولائم، والزواج، والجواهر، والملابس. وكان أهم هذه "القوانين اليوليائية"

(1)

كلها "القانون اليوليائي الخاص بالعفة ومنع الزنى " Lex Julia de Pudicitia et de Coercendis Adulterus" (18 ق. م). وبهذا القانون وضع الزواج لأول مرة في التاريخ الروماني تحت حماية الدولة بعد أن كان متروكاً لسلطة الآباء في أسرهم Patria Potestas، واحتفظ الأب بحقهِ في قتل ابنتهِ الزانية هي وشريكها ساعة أن يضبطهما متلبسين بهذه الجريمة، وأجيز للزوج أن يقتل عشيق زوجته إذا ضبطه في منزلهِ، أما زوجته فلم يكن له أن يقلها إلا إذا ارتكبت الفحشاء في بيتهِ هو. وكان يطلب إلى الزوج الذي يكشف عن خيانة زوجته أن يأتي بها إلى المحكمة في خلال ستين يوماً من هذا الكشف؛ فإذا لم يفعل هذا كان يُطلب إلى والد الزوجة أن يقوم هو بهذا العمل؛ فإذا لم يفعل الوالد نفسه ذلك جاز لأي مواطن أن يتهمهما. وكان عقاب المرأة الزانية أن تُنفى من البلاد طوال حياتها، وأن تجرّد من ثلث ثروتها ومن نصف بائنتها، وأن يُحرم عليها الزواج مرة أخرى. وقد قُررت هذه العقوبات نفسها على الزوج الذي يتغاضى عن زوجته الزانية. غير أنه لم يكن من حق الزوجة أن تتهم زوجها بالزنى، فقد كان له أن يتصل بالعاهرات الرسميات المسجلات دون أن يعاقبهُ القانون على هذا الاتصال. ولم يكن هذا القانون يطبق إلا على المواطنين الرومان.

وأكبر الظن أن أغسطس سن حوالي ذلك الوقت قانوناً آخر يُعرف عادة باسم القانون اليوليائي الخاص بالزواج بين الطبقات Lex Julia de Maritandis Ordiniyrdus ذلك لاحتوائهِ على فصل خاص بالزواج بين الطبقات أي بين الطبقتين العليين. وكان الهدف الذي يرمي إليهِ مزدوجاً، فقد كان يرمي إلى تشجيع الزواج وإلى تحديده معاً، وذلك لأنه كان يعطل امتزاج الدم الروماني

(1)

وسميت كذلك نسبة إلى القبيلة التي ينتمي إليها أغسطس بعد أن تبناه قيصر.

ص: 30

بالدم الغريب، ويعيد إلى الزواج فكرته الأولى فكرة الاتحاد لإنجاب الأبناء.

وكانت السبيل التي سلكها القانون للوصول إلى هذين الهدفين هي فرض الزواج على جميع الصالحين له من الرجال إذا كانوا أقل من سن الستين، وعلى الصالحات له من النساء إذا كن أقل من الخمسين. وألغيت الوصايا التي كانت تشترط في الموصى له أن يظل عزباً؛ وفرضت عقوبات على العزاب: فحرموا من الميراث عدا ميراث الأقارب إلا إذا تزوجوا في خلال مائة يوم بعد وفاة الموروث؛ كما مُنعوا من مشاهدة الحفلات والأعياد العامة.

ولم تكن الأرامل أو المطلقات يرثن إلا إذا تزوجن مرة أخرى في خلال ستة شهور من موت الزوج في الخالة الأولى ومن الطلاق في الحالة الثانية. وحرمت العنس والزوجة العقيم من الميراث إذا بلغت الخمسين من عمرها، أو كانت أصغر من ذلك وكانت تملك خمسين الف سسترس (75000 ريال أمريكي). وحرم على الرجال من طبقة أعضاء مجلس الشيوخ أن يتزوجوا من المحرَّرات أو الممثلات أو العاهرات، كما حرم على الممثل والمحرَّر أن يتزوج ابنة من طبقة أعضاء مجلس الشيوخ. وفرضت على النساء اللاتي يمتلكن أكثر من عشرين ألف سسترس أن يؤدين ضريبة سنوية قدرها 1% من أموالهن حتى يتزوجنَ، ثم تخفض هذه الضريبة بالتدريج كلما رزقن ابناً، فإذا رزقن الطفل الثالث رفعت الضريبة عنهن، وإذا كان لأحد القنصلين أبناء أكثر من زميله تقدم عليهِ. وكان يفضل في تولي المناصب العامة أكبر المتقدمين إليها أسراً متى كان صالحاً لتولي المنصب. وكان من حق الأم ذات الثلاثة الأبناء أن ترتدي جلباباً خاصا Ius Trium Liberorum وأن تحرر من سيطرة زوجها عليها.

وقد أغضبت هذه القوانين الطبقات جميعها حتى طبقة المتزمتين، فقد اشتكى هؤلاء من أن "حق الثلاثة الأبناء" قد حرر الأم من سلطان الرجل تحريراً شديد الخطورة. ومن الرجال من أخذوا يبررون عدم الزواج بقولهم إن "المرأة

ص: 31

الحديثة" قد تطرفت في استقلالها، وغطرستها، ونزقها، وإسرافها. وكانوا يرون أن حرمان العزّاب من مشاهدة المعارض والألعاب العامة عقاب قاس مستحيل التنفيذ، ولهذا أمر أغسطس بإلغائهِ في عام 12 ق. م؛ ثم خففت القوانين اليوليائية مرة أخرى بمقتضى قانون بُبْيَا بُبّيَا Popia Poppea، وذلك بتخفيف شروط الميراث على العزّاب، وبمضاعفة الفترة التي تستطيع الأرامل والمطلقات في أثنائها أن يرثن قبل أن يتزوجن مرة أخرى، وبزيادة القدر الذي يستطيع أن يرثه مَن لا أبناء لهُ. ثم أعفيت أمهات الأبناء الثلاثة من القيود التي وضعها قانون فوكونيا Lex Voconia على الوصايا للنساء. وخفضت السن المحددة للتقدم للمناصب العامة بنسبة حجم أسرة من يتقدم لهذه المناصب. ولاحظ الناس بعد أن سُنت هذه القوانين أن القناصل الذين وضعوا صيغتها وأطلقوا أسماءهم عليها عزّاب لا أبناء لهم. وأصناف النمامون إلى ذلك أن الذي اقترح هذه القوانين على أغسطس-وهو الذي لم يكن له إلا ولد واحد-هو ماسناس الذي لم يكن له ولد، وأنه في الوقت الذي سنت فيهِ كان ماسناس يعيش عيشة الترف والخنوثة، وكان اغسطس يغوي زوجة ماسناس على الفحشاء (19).

وليس في وسعنا أن نحكم على أثر هذه الشرائع التي تعد أهم الشرائع الاجتماعية في التاريخ القديم، ولكننا لا نستطيع أن نقول إنها لم تسن بالعناية والدقة الواجبتين، وإن من أرادوا خرقها كانوا يجدون فيها كثيراً من الثغرات؛ فمنهم من تزوجوا إطاعة للقانون ثم ما لبثوا أن طلقوا زوجاتهم؛ ومنهم من يبنّوا أطفالاً ليحصلوا بذلك على المناصب أو الوصايا، ثم "حرروهم"-أي طردوهم من ديارهم بعدئذ (20). وأعلن تاستس بعد قرن من ذلك الوقت أن هذه الشرائع أخفقت في الغرض الذي كانت ترمي إليهِ:"فالزواج وإنجاب الأبناء لم يزيدا على ما كانا عليهِ من قبل، وذلك لأن مغريات عدم النسل مغريات عظيمة القوة"(21).

ولم ينقطع الفساد الخلُقي وإن أصبح الناس أكثر تأدباً فيهِ عما كانوا من

ص: 32

قبل؛ ونتبين من أقوال أوفد أنه كان في طريقه إلى أن يصير فناً من الفنون الجميلة، وموضوعاً يعني مهرة الخبراء بتعليمه للمبتدئين. والحق أن أغسطس نفسه كان يرتاب في قوة هذه الشرائع. وكان يتفق مع هوراس في أن القوانين عبث لا طائل منه إذا لم تتغير القلوب (22). ولقد كافح كفاح الأبطال ليصل إلى قلوب الناس؛ فكان يعرض من مقصورتهِ في ساحة الألعاب أبناء جرمنيكوس الكثيرين، وكان جرمنيكوس مضرب المثل في الأبوة؛ وكان يهب ألف سسترس للآباء ذوي الأسر الكبيرة (23)؛ وأقام نصباً تذكارياً لأَمة ولدت خمسة أبناء (وهي لم تفعل ذلك بالطبع لبواعث وطنية)(24)؛ ولشد ما اغتبط حين رأى فلاحاً يأتي راجلاً إلى رومة ومن ورائهِ ثمانية أبناء، وستة وثلاثون حفيداً، وتسعة عشر من أبناء أحفاده (25). ويصوره ديو كاسيوس يخطب في الناس ويشهر "بانتحار العنصر" الروماني الأصيل (26). وكان يلذ له أن يقرأ مقدمة تاريخ ليفي الأخلاقية، ولعله هو الموحي بها. وقد أصبحت الآداب في عصرهِ وبتأثيرهِ آداباً تعليمية عملية الصبغة، وأقنع بنفسهُ أو عن طريق ماسيناس فرجيل وهوراس بأن يستخدما شعرهما في الدعاية إلى الإصلاح الخلقي والديني، فحاول فرجيل في كتاب الزراعة Georgics أن يعيد الرومان بأغنيهِ إلى المزارع، كما حاول في الإنياذة Aeneid أن يجتذبهم إلى الآلهة القدامى. أما هوراس فبعد أن ذكر أمثلة كثيرة لمسرات العالم حول أغانيهِ إلى الموضوعات الراقية. وأقام أغسطس في عام 17 ب. م "الألعاب القرنية Ludi Saeculares

(1)

- التي ظلت قائمة ثلاثة أيام، وشملت حفلات، ومباريات، واستعراضات؛ وقد أقامها احتفالاً بعودة عصر زحل الذهبي، وكلف هوراس أن يكتب Carmen Saecular لكي يغنيها في الموكب سبعة وعشرون فتى ومثلهم من الفتيات. وحتى الفن نفسهُ قد استخدم للإشارة إلى

(1)

معنى هذه العبارة الحرفي "الألعاب القرنية" لأنها لم تكن تقام إلا في فترات متباعدة.

ص: 33

الأخلاق، فقد مُثلت في نقش أراباسس Ara Pacis البارز الجميل حياة رومة وحكومتها؛ وشُيدت المباني العامة لتمثيل قوة الإمبراطورية وعظمتها، وأقيمت عشرات الهياكل لتستثير في قلوب الناس ذلك الإيمان الذي كاد يموت.

واقتنع أغسطس في آخر الأمر-وهو الرجل المتشكك الواقعي-بأن إصلاح الأخلاق لا بد أن ينتظر نهضة دينية. ذلك أن جيل المتشككين أمثال لكريشيوس وكانلس وقيصر كان قد مضى وانقضى، وأدرك أبناء هذا الجيل أن خشية الآلهة هي شباب الحكمة، بل إن أوفد الساخر نفسهُ أخذ يكتب بعد قليل من ذلك الوقت على طريقة فلتير:"إن أسباب الرحمة للإنسان أن تكون هنالك آلهة، وأن نعتقد بوجودها Expenditesses Deos et Un Expedit Esse Putemuse "(27) . وكانت عقول المتحفظين تعزو أسباب الحرب الأهلية وما جرته على الدولة من كوارث إلى إهمال الدين، وما استتبع هذا الإهمال من غضب آلهة السماء. وأصبح الناس الذين حل بهم عقاب الآلهة في كل مكان من إيطاليا على استعداد لأن يعودوا إلى مذابح البلاد القديمة، وأن يسبحوا بحمد الآلهة الذين أبقوا عليهم ليستمتعوا بعودة الدين إلى سالف عهدهِ السعيد. ولما خلف أغسطس لبدس Lepidus الفاتر الإيمان-بعد أن ظل صابراً زمناً طويلاً يترقب موته-لما خلفه من منصب الكاهن الأكبر "احتشدالناس من كافة أنحاء إيطاليا لينتخبوني لهذا المنصب حتى بلغ عددهم حداً لم يبلغ مثله في رومة من قبل"(28). وتزعم هو حركة إحياء الدين وسار على بهجها، وكان يرجو أن يكون الناس أكثر قبولاً لإصلاحاتهِ السياسية والأخلاقية إذا ما ربطها رباطاً وثيقاً بالآلهة الرومانية. ومن أجل هذا رفع مقام الجماعات الأربع الكهنوتية، وزاد ثروتها إلى حد لم يكن له مثيل في الأيام السلفة، واختار نفسه عضواً في كل منها، واضطلع بواجب اختيار أعضائها الجدد، وكان يحرص كل الحرص على حضور اجتماعاتها ويشترك في مواكبها الفخمة الرهيبة.

ص: 34

ثم حرم ممارسة العبادات والطقوس المصرية الآسيوية في رومة، ولكنه استثنى اليهود من ذلك التحريم، وأطلق الحرية الدينية لسكان الولايات، وأغدق الهبات على الهياكل، وجدد الاحتفالات والمواكب والأعياد الدينية القديمة. ولم تكن الألعاب القرنية احتفالات دنيوية كما يظن لأول وهلة، فقد كانتت تقام في كل يوم من أيامها الثلاثة طقوس وتتلى فيهِ أناشيد، أهم ما تُشعر بهِ عودة صلات الود الوثيقة بالآلهة. ولما أن تغذت العبادات القديمة بهذه المعونة الملكية العليا سرت فيها حياة جديدة ومست من جديد شغاف قلوب الناس وآمالهم السماوية. ومن أجل هذا ظلت ثلاثة قرون صامدة للفوضى الناشئة من العبادات المتعارضة التي تسربت إلى رومة بعد أيام أغسطس. ولما أن ماتت بعد هذه القرون الثلاثة عادت من فورها إلى الحياة من جديد، وإن اتخذت لها رموزاً جديدة وتسمت بأسماء جديدة.

وكان أغسطس نفسهُ من أكبر المنافسين لآلهتة، وكان قيصر قد ضرب له المثل في هذا التنافس: ذلك أن مجلس الشيوخ اعترف بألوهية قيصر بعد عامين من مقتله، وما لبثت عبادته أن انتشرت في سائر أنحاء الإمبراطورية. وكانت بعض المدن الإيطالية منذ عام 36 ق. م قد أفسحت لأكتافيان مكاناً بين معبوداتها؛ وما وافى عام 27 ق. م حتى أضيف اسمه إلى أسماء الآلهة في الترانيم الرسمية التي كانت تنشد في رومة، وحتى أصبح يوم مولده يوماً مقدساً لا عيداً فحسب؛ ولما مات أصدر مجلس الشيوخ قراراً أن تعبده رومة من ذلك الوقت وأن تعده من الآلهة الرسمية. وكان ذلك كله يُعد عملاً طبيعياً لا غبار عليهِ عند الأقدمين لأنهم لم يدر بخلدهم قط أن ثمة تفصل على الدوام بين الآلهة والآدميين؛ فما أكثر ما كانت الآلهة تتخذ لنفسها أشكالاً آدمية، ولقد كان ما لهرقل، وليقورغ والإسكندر، وقيصر، وأغسطس وأمثالهم من عبقرية مبدعة يبدو للشرق المتدين بنوع خاص إعجازاً خليقاً بالتقديس. ألم يعتقد المصريون أن الفراعنة، والبطالمة، بل وأنطونيوس نفسه أرباب يعبدون؟ ولقد

ص: 35

كان عسيراً عليهم أن يضعوا أغسطس في منزلة تقل عن هؤلاء. ولم يكن الأقدمون وهم يفعلون هذا من الغفلة والبلاهة بالدرجة التي يرميهم بها من يفعلون فعلهم في هذه الأيام؛ فلقد كانوا على علم تام بأن أغسطس بشر، فإذا ألهوا روحه أو أرواح غيره فإنهم لم يكونوا يستعملون لفظ إله Theos، Deus إلا بالمعنى الذي نستعمل نحن فيهِ لفظ قديس في هذه الأيام. والحق أن تقديس الموتى وليد التألية الروماني، وأن الصلاة للآدمي المؤلفة لم تكن تبدو لهم في ذلك أكثر سخفاً مما تبدو الصلاة للقديس في هذه الأيام.

وارتبطت عبادة عبقرية الإمبراطور في البيوت الإيطالية بعبادة أرباب المنازل وعبقرية أبي الأسرة. ولم يكن في هذه العبادة شيء عسير على شعب ظل عدة قرون يؤله الموتى من آبائهِ، ويبني لهم المذابح، ويسمي مقابر أسلافه هياكل. ولما أن زار أغسطس آسية اليونانية في عام 21 ق. م وجد أن عبادته قد انتشرت فيها انتشاراً سريعاً؛ وكانت النذور تقدم إليهِ والخطب ترحب بهِ بوصفه "المنقذ" و "ناقل الأنباء السارة" و "الإله ابن الإله". وقال بعض الناس أنه هو المسيح الذي طال انتظاره أقبل يحمل السلام والسعادة لبني الإنسان (29). وجعلت مجالس الولايات الكبرى عبادته المحور الذي تدور عليهِ احتفالاتها، وعينت مجالس الولايات والبلديات طائفة جديدة من الكهنة يدعون بالأغسطيين لخدمة الإله الجديد. وأبدى أغسطس استيائه من هذا كلهِ، ولكنه قبله آخر الأمر على أنه تمجيد روحي للزعامة، وتقوية للرابطة بين الدين والدولة، وعبادة مشتركة موحدة بين عقائد مختلفة مفرقة، وهكذا رضي حفيد المرابي أن يكون إلهاً.

ص: 36

الفصل الخامس

‌أغسطس نفسه

تُرى أي رجل هذا الذي ورث ملك قيصر في الثامنة عشرة من عمرهِ، وكان سيد العالم في الحادية والثلاثين. والذي حكم رومة نصف قرن من الزمان، والذي شاد أعظم إمبراطورية في التاريخ القديم؟ لقد كان كئيباً جذاباً معاً، ولم يكن أحد أسمج منه، ولكن نصف عالم قد عبده رغم هذه السماجة. وكان ضعيف البنية، لا يمتاز بالشجاعة النادرة، ولكنه كان قادراً على أن يهزم جميع أعدائه وينظم شؤون الممالك، وينشيء حكومة أفادت على الدولة المترامية الأطراف مدى قرنين من الزمان رخاءً منقطع النظير.

وقد استنفذ المثّالون كثيراً من الرخام والبرونز في صنع تماثيل وصوَر له يظهره بهضها في صورة الشاب الجاد المهذب الفخور الوجل، وبعضها في صورة الكاهن المنقبض الصدر، وبعضها قد غطت فيهِ نصف جسمه شارت الملك، وبعضها في ثياب القائد العسكري-فقد اضطر الفيلسوف على كره منه وبمشقة على نفسه أن يضطلع بواجب القواد. ولكن هذه الصور لا تكشف عن الأمراض التي كان يشكو منها-وإن أوحت بها في بعض الأحيان-وهي الأمراض التي جعلت حربه ضد الفوضى تتأثر في كل خطوة بكفاحهِ في سبيل صحتهِ. ولم يكن بالرجل الوسيم الخلق، وكان ذا شعر أصفر بلون الرمل، ورأس مثلث عجيب الشكل، وحاجبين مقترنين، وعينين صافيتين نافذتي النظرات؛ ولكن ملامحه مع ذلك كانت هادئة ساكنة-على حد قول سوتنيوس-وقد بلغ هدوؤه وسكونه حداً جعل أحد الغاليين، وكان قد جاء ليغتاله، يبدل نيته ويرتد عنه. وكان ذا جسد حساس يشوبه القوب من آن إلى آن؛ وقد أضعف داء المفاصل

ص: 37

ساقه اليسرى فكان يعرج قليلاً، وكان يصاب في بعض الأحيان بنوع من التصلب شبيه بتصلب المفاصل تعجز معه يده اليمنى عن الحركة. وأصيب هو وعدد كبير من الرومان في عام 23 ق. م بوباء يشبه التيفوس، وكان يشكو من وجود حصا في المثانة، ولا يستطيع النوم إلا بمشقة، ويعاني في كل ربيع تمدداً في الحجاب الحاجز، ويصاب بالزكام إذا هبت الريح من الحبوب".

وكان شديد التأثر بالبرد، ولذلك كان يلبس في الشتاء "صدرية من الصوف يقي بها صدره، ويلف اللفائف على فخذيهِ وساقيهِ، ويلبس شعاراً وأربعة إشارات وعباءة ثقيلة". ولم يكن يجرؤ على تعريض رأسه للشمس، وكان يتعبه ركوب الخيل، فكان يحمل أحياناً في محفة إلى ميدان القتال (30). وظهرت عليهِ آثار الشيخوخة وهو في سن الخامسة والثلاثين بعد أن عاش في إحدى الفترات الحاسمة في تاريخ الإنسانية فأصبح عصبياً، معتلاً، سريع التعب، ولم يكن أحد يحلم وقتئذ بأنه سيعيش أربعين سنة أخرى. وجرّب عدداً كبيراً من الأطباء على اختلاف أنواعهم وجزاهم كلهم أحسن جزاء، وكان منهم أنطونينس موسى الذي عالجه من مرض لم يكن معروفاً على وجه التحقيق (ولعله خرَّاج في الكبد) بالكمادات والحمامات، وقد كرم موسى هذا بأن أعفى جميع الأطباء من الضرائب (31). ولكنه كان يعالج نفسه بنفسهِ في أكثر الأحيان، فكاد يعالج داء المفاصل بالاستحمام بالماء المالح الساخن وبالحمامات الكبريتية، وكان يقل من الطعام، ولا يتناول الأطعمة البسيطة الخفيفة كالخبز الخشن، والجبن، والسمك، والفاكهة. وقد بلغ من عنايته بمأكلهِ أن كان "في بعض الأحيان يتناول طعامه بمفردهِ قبل المآدب أو بعدها، ولا يطعم أو يشرب شيئاً في أثنائها"(32). وقصارى القول أن روحهُ هي التي أبقت على جسمه وحملته حمل الصليب شأنه في هذا شأن القديسين في العصور الوسطى.

وكان جوهر طباعه حيويتة أعصابه، وقوة عزيمته، ونفاذ بصيرته، وسعة

ص: 38

صدرهِ وحسن تفكيره. وقد قبل من المناصب عدداً يخطئه الحصر، واضطلع بتبعات لم يضطلع أحد بأكثر منها إلا قيصر وحده، وأدى ما تتطلبه هذه المناصب من واجبات بأمانة وذمة، ولم تمنعه هذه الواجبات من أن يرأس جلسات مجلس الشيوخ بانتظام، وأن يحضر المؤتمرات والاجتماعات، وأن يحكم في مئات من القضايا، وأن يتحمل على مضض حضور المآدب والحفلات، وأن يدبر الحملات الحربية في البلاد النائية، وأن يصرف أموال الفيالق الحربية والولايات، وأن يزورها كلها، وأن يشرف على كل صغيرة وكبيرة من الأعمال الإدارية في دولاب الحكومة.

وفوق هذا كله ألقى مئات الخطب، وأعدها هو حصراً يفخر بهِ على أن يجعلها واضحة، سهلة، جميلة الأسلوب، وكان يقرؤها بعد إعدادها ويفضل ذلك على أن يرتجلها حتى لا ينطق بألفاظ يندم عليها بعد النطق بها. ويحاول سوتونيوس أن يقنعنا بأنه لهذا السبب عينه كان يكتب مقدماً أحاديثه الهامة مع الأفراد، حتى مع زوجته نفسها، ويقرأها لهم (33).

وقد ظل يؤمن بالخرافات كما كان يؤمن بها معظم المتشككين في عصره بعد أن فقد إيمانه بدينه بزمن طويل. من ذلك أنه كان يحمل جلد عجل البحر ليتقي به شر الصواعق، وكان يعتقد بالفأل والطيرة، ويعمل في بعض الأحيان بما يتراءى له في منامه من نُذُر، وكان يأبى أن يبدأ رحلة في الأيام التي يرى أنها أيام مشئومة (34).

وقد اشتهر في الوقت عينه بأنه واقعي في أحكامه، عملى في تفكيره، وكان ينصح للشبان بأن يبادرون بالانخراط في سلك الأعمال التي تتطلب منهم همه ونشاطاً حتى تقوَّم التجارب وضرورات الحياة، ما أخذوه عن الكتب من آراء (35).

وقد اختفظ إلى آخر أيام حياته بعقليتهِ الطيبة البرجوازية وبتحفظه وحذره

ص: 39

واعتدالهِ في نفقاته. وكانت الحكمة المحببة إليهِ هي قوله "بادر على مهل". وكان يفوق معظم أمثاله من ذوي السلطان العظيم في تقبل النصح واحتمال التأنيب بصدر واسع وتواضع عظيم.

وقد زوّده الفيلسوف أثندورس Athendorus عندما همّ بوداعة وهو عائد من عنده إلى أثينة بعد أن عاش معهُ سنين بنصيحة قال له فيها: "إذا غضبت فلا تقل كلمة أو تفعل شيئاً قبل أن تعدّ لنفسك الحروف الهجائيةالأربعة والعشرين".

وشكر أغسطس للفيلسوف تحذيره وتوسل إليهِ أن يبقى معه عاماً آخر وقال له: "لا خطر يتهدد الخير الذي يعود على الإنسان بفضل السكوت"(36).

لقد قلنا من قبل إن مما يثير الدهشة أن يتحول قيصر من رجل سياسي صخاب إلى قائد سياسي محنك؛ ولكن أكثر من هذا إثارة للدهشة تحول أكتافيان القاسي القلب المنطوي على نفسه إلى أغسطس المتواضع الكبير العقل النبيل الطبع. ولقد حدث هذا التحول في خلال نموه. إن الشاب الذي أجاز لأنطونيوس أن يعلق رأس شيشرون في السوق العامة، والذي تنقّل من حزب إلى حزب دون أن يجد من ضميره تأنيباً على هذا التنقل، والذي أطلق العنان لشهواتهِ الجنسية، والذي طارد أنطونيوس وكليوبطرة إلى منيتهما دون أن تؤثر فيهِ صداقة أو شهامة-إن هذا الشاب العنيد الذي لا يحب أحداً لم يُسَمم عقله السلطان والجاه، بل أصبح في الأربعين سنة الأخيرة من حياته مضرب المثل في العدل والاعتدال، والإخلاص والنبل والتسامح، يضحك من سخرية الشعراء بهِ وهجوهم إياه، وينصح تيبيريوس أن يقنع بمنع أعمال العدوان أو محاكمة المعتدين، وألا يسعى لتكميم أفواههم، ولا يصر على أن يعيش غيره من الناس عيشة البساطة التي فرضها هو على نفسهِ. فكان إذا دعا إلى وليمة، انسحب منها في بدايتها لكي يترك لضيوفها الحرية التامة في الاستمتاع بالطعام والمرح. ولم يكن

ص: 40

مزهواً بنفسهِ وكان يستوقف الناخبين ليطلب إليهم أن يعطوه أصواتهم في الانتخاب، وينوب عن أصحابهِ من المحامين في القضايا. وكان إذا دخل رومة أو خرج منها يفعل ذلك في السر لأنه يبغض مظاهر الأبهة، وهو لا يظهر في نقش أراباسيز Ara Pacis مميزاً عن غيره من المواطنين بأية علامة من علامات الامتياز، وكانت استقبالاته الصباحية مباحة لجميع المواطنين، وكان يستقبلهم كلهم بالبشاشة والترحيب. ولما تردد أحد الناس في أن يعرض عليهِ ماتمساً، لامه مازحاً بقولهِ إنه يعرض عليهِ وثيقة "كأنه يقدم فَلساً لفيل (37) ".

ولما بلغ سني الشيخوخة، وأحفظته الخيبة، واعتاد عظيم السلطة، بل اعتاد الألوهية، تبدلت حاله فخرج عن تسامحه، واضطهد أعداءه من الكتاب، وصادر التواريخ التي تسرف في الانتقاد، وأصم أذنهُ عن سماع أشعار أوفد التي يقول فيها إنه تاب وأناب، ويقال إنه أمر في يوم من الأيام أن تكسر ساقا ثالس Thallus أمين سره لأنه أخذ خمسمائة دينار ليبوح بما يحتويه أحد الخطابات الرسمية، وإنه أرغم أحد محرريهِ على الانتحار حين تبين له أنه زنى برومانية متزوجة. وقصارى القول أن الإنسان إذا نظر إلى أخلاقه في جملتها لم يكن من السهل عليهِ أن يحبه؛ وإن من واجبنا أن نتصور ما كان يعانيه من الضعف الجسم وما قاساه في شيخوختهِ من أحزان قبل أن تتفتح قلوبنا له كما تتفتح لقيصر المقتول أو لأنطونيوس المغلوب.

ص: 41

الفصل السّادس

‌آخر أيام أغسطس

تكاد مآسي أغسطس وهزائمه كلها أن تكون في داخل بيتهِ. وأول ما نذكره من هذه المآسي أنه لم يُرزق من زوجاته الثلاث-كلاديا وأسكربونيا وليفيا- إلا طفلة واحدة! ذلك أن أسكربونيا قد ثأرت لطلاقها منه على غير علم منها بأن ولدت له يوليا Julia. وكان يأمل أن تلد ليفيا ولداً ينشئهُ ويعلمهُ أساليب الحكم، ولكن زواجها من أغسطس قد تكشف لسوء حظهِ عن زواج عقيم، وإن كانت قد كافأت زوجها الأول بأن أنجبت لهُ ولدين عظيمين هما تيبيريوس ودروسس. وإذا استثنينا هذا العقم فقد كانت هي وأغسطس سعيدين بهذا الزواج؛ فقد كانت هي ذات جمال وجلال، وخلق مكين وذكاء عظيم؛ وكان أغسطس يعيد على مسامعها أنباء أهم ما يعتزم القيام به القيام من الأعمال، ولم يكن تقديره لمشورتها ينقص عن تقديره لمشورة أرجح أصدقائهُ عقلاً. وسئلت مرة كيف صار لها هذا النفوذ العظيم، فأجابت بقولها إن سبب ذلك أني "عفيفة إلى أقصى حد العفة

لا أتدخل مطلقاً في شؤونهِ، أني كنت أدعي أني لم أرَ خليلاته ولم أسمع شيئاً عنهن أو عما كان بينه وبينهن من وقائع غرامية (38) ". وكانت مضرب المثل في الفضائل القديمة، ولعلها كانت تُسرف في الإصرار على الدعاية لهذه الفضائل. وكانت تقضي أوقات فراغها في أعمال البر، فتساعد الآباء ذوي الأسر الكبيرة، وتهب البائنات للعرائس الفقيرات، وتنفق على كثير من اليتامى من مالها الخاص. وكان قصرها نفسه أشبه بملجأ للأيتام؛ ذلك أن أغسطس كان يشرف في هذا القصر وفي قصر أخته أكتافيان على تربية أحفاد، وأبناء إخوتهِ وأخواتهِ، وبناتهن، وحتى على أبناء أنطونيوس الستة

ص: 42

الذين بقوا أحياء. وكان يرسل الذكور في سن مبكرة إلى الحروب، يعنى بتعليم البنات الغزل الحياكة، "ويحرم عليهن أن يفعلن أو يقلن شيئاً خفية، إن كان مما يصح أن يسجل في يومية المنزل"(39).

وأحب أغسطس دروسس ابن ليفيا، وتبناه ورباه، وكان يسره أن يورثه ثروته وملكهُ، وكان موت هذا الفتى في سبابهِ من أولى مآسي الإمبراطور. أما تيبيريوس فقد كان يحترمهُ ولكنه لا يحبهُ، ذلك بأن تيبيريوس خليفة أغسطس كان صلفاً مفرطاً في ثقتهِ بنفسهِ، ينزع إلى الكآبة والخفاء. ولا شك في أن جمال ابنتهُ يوليا وخفة روحها قد متعاه بالكثير من أوقات السعادة في أيام طفولتها. ولما بلغت الرابعة عشرة من عمرها أقنع أكتافيان بأن تسمح بطلاق ابنها مارسلس من زوجتهِ، وأغرى الشاب بأن يتزوج يوليا، ولكن مارسلس توفي بعد سنتين من هذا الزواج؛ وبعد أن حزنت عليهِ يوليا حزناً قصير الأجل شرعت تستمع بحرية طالما تاقت نفسها إليها. غير أن الإمبراطور الشديد الولع بعقد عقود الزواج لم يلبث أن حمل أجربا على كره منه على أن يطلق زوجته ويقترن بالأرملة المرحة (21 ق. م) راجياً أن يثمر هذا الزواج حفيداً له يرثهُ بعد وفاتهِ. وكانت يوليا وقتئذ في الثامنة من عمرها، أما أجربا فكان في الثانية والأربعين، ولكنه كان رجلاً صالحاً عظيماً وكان له من الثروة ما يحبب الناس فيهِ. وقد جعلت يوليا بيته في المدينة ندوة للمرح والفكاهة، وأضحت هي روح الشباب المرح في العاصمة، على نقيض ليفيا التي كانت تتزعم طائفة المتزمتين. وانطلقت الألسن تتهم يوليا بخيانة زوجها الجديد وتعزو إليها جواباً غير معقول عن سؤال غير معقول كذلك. فقد قيل إنها سئلت لم كان أبناؤها الخمسة الذين ولدتهم لأجريا مشابهين له فأجابت:"إني لا أقبل راكباً قط إذا كانت السفينة قد امتلأت Munquam Nisi Nave Plena Tollo Vectorem (40) ". ولما مات أجربا عقد أغسطس آمالهُ على ولدي يوليا الأكبرين جيوس ولسيوس وغمرهما

ص: 43

بحبه، وعني بترقيتهما إلى منصبين كبيرين لا تجيز قوانين البلاد ترقيتهما إليها في مثل سنهما. وأضحت يوليا أرملة مرة أخرى، وكانت أبرع جمالاً وأكثر ثراء من ذي قبل، فاندفعت مستهترة في كثير من مغامرات العشق أطلقت فيها ألسنة أهل رومة وجعلتها موضع تندرهم ولهوهم، وخففت عنهم ما كانوا يجدونه من الضيق بسبب "القوانين اليوليوسية". وأراد أغسطس أن يقطع ألسنة السوء عن الولوغ في عرضهِ ولعله أراد أيضاً أن يزيل ما بين زوجته وابنته من شقاق فزوجها مرة ثالثة؛ فأرغم تيبيريوس ابن ليفيا على أن يطلق زوجته الحامل فبسانيا أجربنا Vipsania Agrippina، ابنة أجربا، وأن يتزوج يوليا التي لم تكن أقل منهُ كرهاً لهذا الزواج (9 ق. م). وبذل هذا الشاب-وكان من الطراز الروماني القديم-غاية جهدهِ لكي يكون زوجاً صالحاً، ولكن يوليا لم تلبث أن امتنعت عن بذل أي جهد للتوفيق بين حياتها الأبيقورية وحياتهِ الرواقية، وعادت إلى مغامرات الحب الخفية. وصبر تيبيريوس على هذه الفضائح وكظم غيظه إلى حين؛ وكان قانون يوليا الخاص بالزانيات Lex Julia de Adulteriis يطلب إلى زوج الزانية أن يشكوها إلى المحاكم؛ ولكن تيبيريوس عصى هذا القانون لكي يرد الأذى عن واضعهِ، ولعلهُ أراد بذلك أيضاً أن يرد الأذى عن نفسهِ، لأنه هو وليفيا كانا يأملان أن يتبناه أغسطس، وأن يوليهِ زعامة الإمبراطورية من بعدهِ. ولما تبين أن الإمبراطور يؤثر عليهِ أبناء يوليا من أجربا اعتزل مناصبهِ الرسمية، وآواى إلى رودس، وعاش فيها سبع سنين معيشة الرجل العادي البسيط قضاها في الوحدة والفلسفة والتنجيم. وخلا الجو ليوليا، وكان لها من الحرية ما لم تستمتع به قط من قبل، فأخذت تتنقل من عشيق إلى عشيق حتى كان قصف عشاقها ومرحهم يملآن السوق العامة صخباً وضجيجاً طوال الليل (41).

وقاسى أغسطس وقتئذ (2 ق. م)، وهو شيخ محطم في الستين من عمره،

ص: 44

كل ما يقاسيه أب وحاكم يشهد بعينيهِ انهيار أسرته وشرفه وشرائعه. وكانت هذه القوانين تحتم على أبي الزانية أن يتهمهما بالزنى علناً إذا لم يقم زوجها بهذا الاتهام. وقد عرضت عليهِ أدلة على سوء سلوكها، ولما أعلن أصدقاء تيبيريوس أنهم سيتولون هم اتهام يوليا أمام المحاكم إذا لم يتهمهما أغسطس، قرر أن يسبقهم إلى العمل؛ فأصدر قراراً ينفي ابنتهُ إلى جزيرة بندتيريا Pandateria، وهي صخرة جرداء بالقرب من شاطئ كمبانيا، في الوقت الذي بلغ فيهِ مرحها وفسادها ذروتهما، وأرغم أحد عشاقها وهو ابن من أبناء أنطونيوس أن ينتحر، ونفى عدداً آخر من العشاق خارج البلاد. وقتلت فوبي Phoebe إحدى معتوقات يوليا نفسها شنقاً مفضلة ذلك على الشهادة عليها. ولما سمع الوالد المنكوب بهذا النبأ قال:

"وددت لو أني كنت والد فوبي ولا أكون والد يوليا"

وكان ولداها جيوس ولوسيوس قد سبقاها إلى الدار الآخرة بزمن طويل؛ فأما لوسيوس فقد توفي في مرسيليا في العام الثاني قبل الميلاد على أئر مرض من الأمراض، وأما جيوس فقد مات من جرح أصيب بهِ في أرمينية (4 ب. م). وألفى أغسطس نفسهُ في شيخوختهِ من غير أنيس ولا وريث، في الوقت الذي كانت فيهِ ألمانيا، وبانونيا، وغالة تُهدد بالانقضاض عليهِ، فاضطر على الرغم منهُ إلى استدعاء تيبيريوس (2 ب. م)، وتبناه، وأشركه معهُ في الحكم، وأرسلهُ لإخماد نار الثورة؛ ولما عاد في العام التاسع بعد الميلاد بعد حروب طاحنة مظفرة دامت خمس سنين أقرت رومة، وكانت تحقد عليهِ لتزمتهِ، بأن تيبيريوس قد شرع يحكم البلاد وإن كان أغسطس لا يزال زعيمها.

وبعد فإن آخر مآسي الحياة أن تدوم مأساتها على الرغم من صاحبها-أي أن يعيش الإنسان بعد أن يخسر كل شيء، وأن يُحرم حتى الموت. ولم يكن أغسطس، إذا نظرنا إلى عدد السنين وحدهُ، قد بلغ أرذل العمر حين أخرجت يوليا من البلاد، فقد كان غيره من الرجال وهم في سن الستين أقوياء

ص: 45

أشداء؛ أما هو فقد حيي أكثر من حياة، ومات أكثر من ميتة، مذ جاء إلى رومة غلاماً في الثامنة عشرة من عمرهِ ليثأر لمقتل قيصر وينفذ وصيتهِ. وكم من حرب خاض غمارها من ذلك الحين، وكم من هزيمة أوشكت أن تحيق بهِ، وما أكثر ما عانى من آلام وأمراض، وتعرض لمؤامرات وأخطار، وما أكثر ما شاهد من مرارة الخيبة، وانهيار أغراضه النبيلة وتبددها؛ وقد حدث له كل ذلك في فترة لا تزيد على أربعين عاماً، ملئت كلها بالآلام والمنغصات، ورأى فيها آمالهُ تضيع أملاً بعد أمل، وأعوانهُ يُختطفون من واحداً بعد واحد، حتى اختطف من آخر الأمر تيبيريوس العنيد الشجاع نفسهُ! ولعله كان يرى وقتئذ أنهُ كان خيراً له وأحكم أن يموت ميتة أنطونيوس في أوج العظمة وبين ذراعي حبيبتهِ. وما من شك في أنه كان يتحسر إذا ما عاد بذاكرتهِ إلى تلك الأيام الجميلة، حين كان قلبه يفيض بالسعادة إذا رأى يوليا وأجربا من حولهُ، أو شاهد أحفادهُ يمرحون ويلعبون في أرض قصرهِ. وها هو ذا يرى يوليا أخرى ابنة ابنته قد شبت عن الطوق، وأخذت تسير سيرة أمها، وكأنها أخذت على نفسها أن توضح للناس جميع ما ورد في أشعار صديقها أوفد من أفانين العشق. ولما جاءت أغسطس الأدلة القاطعة على أنها زانية نفاها في عام 8 ب. م إلى جزيرة في البحر الأدرياوي، ونفى أوفد في الوقت نفسهُ إلى تومي Tomi على شاطئ البحر الأسود؛ ويروى أن الإمبراطور اليائس الضعيف قال وقتئذ:"يا ليتني لم أتزوج قط، أو يا ليتني مت دون أن يكون لي ولد! " وقد فكر في بعض الأحيان أن يميت نفسه جوعاً.

ولاح له أن الصرح الذي شاده قد انهار من أساسهِ، ذلك أن السلطات التي اضطلع بها لكي يحفظ الأمن والسلام في ربوع البلاد قد أضعفت مجلس الشيوخ والجمعيات التي استمد منها هذه السلطات، حتى فقدت كل مقومات الحياة. فقد مل الشيوخ التصديق على ما يطلب إليهم التصديق عليهِ كما ملوا إطراء أغسطس وتملقهُ، فلم يعودوا يحضرون الجلسات. وأما الجمعيات فلم تكن يجتمع فيها إلا حفنة من المواطنين، وأصبح الموظفون الأكفاء ينفرون من المناصب التي

ص: 46

كانت من قبل مطامع الرجال المبدعين المبتكرين بما تخلعهُ عليهم من الجاة والسلطان، وأضحى هؤلاء يرونها من دواعي الغرور الكاذب الكبير الأكفاء. وحتى السلم التي بسط أغسطس لواءها على البلاد، والأمن الذي وطد دعائمه في رومة، قد أضعفا قوى الشعب وأوهنا عزيمتهُ، فلم يكن أحد يرغب في الانضمام إلى الجيش، أو يعترف بأن الحرب شر محتوم، وأن لا بد من خوض غمارها من آن إلى آن؛ وحل الترف محل البساطة في العيش، والعلاقات الجنسية الطليقة محل الأبوة والأمومة، وأخذ الشعب العظيم يسير مسرعاً بإرادتهِ المضمحلة المنهوكة في طريق الفناء.

وكان الإمبراطور الشيخ يشهد هذه المآسي ويشعر بها ويدركها حق الإدراك. ولم يكن في وسع أحد من الناس أن يقول لهُ وقتئذ إن الزعامة العجيبة الحاذقة التي أنشأها ستهب الإمبراطورية الرومانية أطول فترة من الرخاء عرفها البشر في تاريخهم كلهُ، وإن السلم الرومانية التي بدأت في صورة السلم الأغسطسية ستعد في عصور التاريخ المقبلة أجل الأعمال في تاريخ الحكم والسياسة رغم ما فيها من العيوب الكثيرة وعلى الرغم من أنه قد جلس على العرش في أثنائها بضعة ملوك بلهاء. لقد كان أغسطس وقتئذ يعتقد، كما يعتقد ليوناردو دافنشي، أنه أخفق فيما كان يبتغيهِ.

ووافتهُ المنية وهو هادئ ساكن في نولا Nola، وكان قد بلغ السادسة والسبعين من عمره (14 ب. م)، وقال لأصدقائهِ الذين التفوا حولهُ وهو على فراش الموت تلك الكلمات التي طالما اختتمت بها الملهاة الرومانية:"والآن وقد أتقنت تمثيل دوري، فصفقوا بأيديكم وأخرجوني من المسرح بتصفيقكم"، ثم عانق زوجتهُ وقال لها:"تذكّري عشرتنا الطويلة يا ليفيا. الوداع".

ثم فاضت روحهُ بعد هذا الوداع البسيط (42). وبعد بضعة أيام من وفاتهِ حملت جثته في شوارع رومة على أكتاف الشيوخ إلى ميدان المريخ حيث أحرقت بينما كان أطفال كبار الأسر في البلاد يرتلون ندبة الأموات.

ص: 47

الباب الثاني عشر

‌العصر الذهبي

30 ق. م-18 م

الفصلُ الأوّلُ

‌الحافز الأغسطي

إذا كان والسلام أكثر ملاءمة لإنتاج الآداب والفنون من الحروب والقلاقل، فإن الخرب والهزات الاجتماعية العنيفة تزيل الثرى من حول نبات الفكر، وتغذي البذور التي تنضج في أوقات السلم. والحياة الهادئة لا تخلق الأفكار العظمية ولا عظماء الرجال، ولكن الأزمات القاسية والكفاح من أجل البقاء تقتلع موات الأشياء من جذورها وتجعل نماء الآراء والأساليب الجديدة. والسلم التي تعقب النصر في الحرب فيها من الحوافز والدوافع ما في دور النقاهة السريع من حيوية وقوة، والناس في هذه الفترة يبتهجون لمجرد أنهم أحياء وكثيراً ما يرفعون عقيرتهم بالغناء.

حمد الشعب لأغسطس أنه عالج سرطان الفوضى الذي كان يقوض دعائم حياتهم المدنية وإن كان قد استعان على ذلك بجراحة كبرى. وقد دهشوا حين ألفوا أنفسهم وقد أثروا إثراء سريعاً بعد ما حل بهم من الخراب، وتاهوا كبرياء وحين وجدوا أنهم، رغم ما كانوا يرزحون منذ قليل من ضعف واضطراب، لا يزالون سادة المعروف لهم. وأخذوا يعودون بنظرهم إلى تاريخهم، من بدايته إلى الوقت الذي يعيشون فيهِ، من عهد منشئ رومة الأول إلى عهد معيد

ص: 48

حياتها ومجدها، وقالوا إنه تاريخ عجيب حقاً، وإنه أشبه ما يكون بملحمة شعرية. ولم يثر دهشتهم أن يصوغ فرجيل وهوراس حمدهم ومجدهم وزهوهم شعراً، وأن يصوغه ليفي نثراً.

وخير من ذلك كلهُ أن الأقاليم التي فتحوها إلا القليل منها لم يكن يسكنها أقواهم همج غير متحضرين، فقد كان جزء كبير منها يشمل التي تثقفت بالثقافة اليونانية-فكانت ذات لغة رقيقة، وأدب سام، وعلم عظيم، وفلسفة ناضجة، وفن نبيل. وأخذت هذه الثروة الروحية وقتئذ تتدفق على رومة، وتثير في أهلها الرغبة في تقليدها ومنافستها، وتبعث في لغتها وآدابها الحياة والنماء، فسرت إلى المفردات اللاتينية عشرة آلاف كلمة يونانية، ودخلت الأسواق الرومانية عشرة آلاف تمثال ونقش وهيكل وشارع وبيت.

وأخذت الأموال تتنقل إلى الطبقات العليا، وإلى الشعراء والفنانين، من أيدي الذين استولوا على كنوز مصر، ومن ملاك الأراضي الإيطالية الغائبين عنها، ومن الذين يستغلون موارد الإمبراطورية وتجارتها. وشرع الكتاب يهدون مؤلفاتهم إلى الأغنياء يرجون بذلك أن ينالوا أعطية تعينهم على مواصلة أعمالهم الأدبية، فأهدى هوراس أغانيه إلى سالست، وإيليوس لاميا Aelius Lamia ومانليوس تركواتس Manilius Turquatus وموناتيوس Munatius، وجمع مسالا كورفينوس Massala Corvinus حولهُ طائفة من المؤلفين كان نجمهم للامع تيبلس Tibullus، واستعاد ماسناس ثروته وقيمة شِعرهِ بما قدمهُ من العطايا لفرجيل وهوراس وبروبيرتيوس Propertius؛ وظل أغسطس حتى سنيهِ الأخيرة التي استولى عليهِ فيها الاضطراب والغيظ يجزل العطاء للأدباء، فكان يسره أن تتحول إلى الآداب والفنون تلك القوى التي كانت سبباً في اضطراب السياسة، فكان يجزل العطاء للمؤلفين ليؤلفوا الكتب، إذا ما تركوه يحكم الدولة كما يشاء. وقد ذاعت أنباء سخائهِ على الشعراء فاجتمعت حوله طائفة كبيرة منهم تسير في ركابهِ أينما سار.

ص: 49

وأصرَّ شاعر يوناني على أن يتعقبه كلما خر ج من قصرهِ كل يوم، ويعرض عليه أبياتاً من الشعر، فما كان منه في يوم من الأيام إلا أ، وقف وهو خارج من القصر وكتب هو بعض أبيات من عندهِ، وأمر أحد أتباعه أن يضعها في يد الشاعر اليوناني، فعرض الشاعر عليهِ بضعة دنانير وقال إنهُ يأسف لأنهُ لا يستطيع أن يقدم له أكثر منها، فأجازه قيصر على فكاهتهِ لا على شعرهِ بمائة ألف سسترس (1).

ونُشر من الكتب في ذلك الوقت ما لم ينشر مثله في أي عصر من العهود الماضية. أما الشعر فأصبح عمل كل إنسان فيلسوفاً كان أو أبله (2). وإذ كان المقصود بالشعر كله وبمعظم الكتب أن يقرأ على الناس بصوت عالٍ، فقد كانت تُعقد الاجتماعات من الأصدقاء الذين يُدعون لهذا الغرض، أو من الجماهير ليقرأ عليهم المؤلفون ثمار قرائحهم. وكان يحدث في أوقات التسامح، وهي نادرة، وأن يقرأ المؤلفون هذه الثمار بعضهم على بعض. وكان جوفنال Juvenal يقول إن من الأسباب التي تضطره لسكنى الريف هو أن يفر من الشعراء الذين تزدحم بهم رومة (3). وكان الكتاب يجتمعون في محال بيع الكتب التي يزدحم بها حي الأرجليتم Argiletum ليحصلوا على عدد من أنجبتهم البلاد من عباقرة الأدب، بينما كان المفلسون من محبي الكتب يقرؤون خلسة نتفاً من الكتب التي يعجزون عن شرائها. وكانت الإعلانات يُلصق على الجدران معلنة أسماء الكتب الجديدة وأثمانها، فكان المجلد الصغير يُباع بأربعة سسترات أو خمسة، والمجلد المتوسط يُباع بعشرة (نحو ريال أمريكي ونصف الريال)؛ أما الكتب الأنيقة كحكم مارتيال Martial والتي كانت تُزين في الغالب بصورة مؤلفيها فكان الواحد منها يُباع بخمسة دنانير أو نحوها (3 ريالات (4)). وكانت الكتب تصدر إلى جميع أنحاء الإمبراطورية أو تُنشر في رومة، وليون، وأثينة والإسكندرية في وقت واحد (14). وقد اغتبط مارتيال

ص: 50

من أن كتابه يُشترى ويباع في بريطانيا. وكان لمعظم الناس في ذلك الوقت حتى الشعراء أنفسهم وكتبات خاصة ويصف أوفد مكتبته وصفاً ينم عن تعلقه بها. ويُستدل من أقوال مارتيال على أن المولعين باقتناء الكتب قد وجدوا حتى في ذلك العهد السحيق، فكانوا يجمعون النسخ الأنيقة الفخمة والمخطوطات النادرة؛ وقد أنشأ أغسطس دارين من دور الكتب العامة، وحذا حذوه تيبيريوس، وفسبازيان، ودومتيان Domitian، وتراجان، وهدريان، فلم يحل القرن الرابع قبل الميلاد حتى كان في رومة وحدها ثمان وعشرون من هذه الدور. وكان الأجانب من الطلاب والكتاب يُقبلون عليها وعلى المحفوظات العامة للدرس والبحث؛ فأقبل ديونيشيوس من هليكرنسس Halicarnassus، وديودور من صقلية، وأخذت رومة تنافس الإسكندرية في الحياة العامة، وأضحت العاصمة الأدبية للعالم الغربي.

وكان هذا الازدهار سبباً في تحول الأدب والمجتمع كله عما كانا عليهِ من قبل، فعلت مكانة الآداب والفنون، وأخذ النحاة يحاضرون عن الأحياء من المؤلفين، وكان الناس يُنشدون مقطوعات من أقوالهم في الطرقات، والكتاب يختلطون بكبار الحكام وبنساء الطبقات العالية في الندوات الخاصة إلى حد لم يشهد التاريخ له نظيراً من بعد إلا في عصر ازدهار الآداب في فرنسا. وأضحى الأشراف أنفسهم رجال أدب، كما أضحى الأدب نفسه أرستقراطياً، وحل محل فجور إينوس، وبلوتس، ولكريشيوس العارم جمال رقيق أو تعقيد بغيض في التعبير والتفكير. وامتنع الكتاب عن الاختلاط بالجماهير، فامتنعوا عن وصف أساليبهم في الحياة وعن التحدث بلغتهم؛ فبدأ الأدب ينفصل عن الحياة انفصالاً أفقد الآداب اللاتينية ما كان لها من حيوية. وأضحت الآداب تُصاغ على الأنماط اليونانية، كما كانت موضوعاتها تؤخذ من التقاليد اليونانية أو من بلاط أغسطس. وكان الشعراء إذا بقي لديهم وقت بعد وصف الرعاة على نحو ما كان يفعل ثيوكريتس، أو الحب كما كان يفعل أناكريون Anackreon،

ص: 51

يقضونهُ في التغني بجمال الزرع وبفضائل الآباء. ومجد رومة وعظمة الآلهة. وسار الأدب في ركاب الحكم، وأضحى مواعظ تدعو الأمة إلى الاستمساك بالأفكار الأغسطية.

وكانت البلاد قوتان تقاومان تسخير الأدب لخدمة الدولة على النحو السالف الذكر. أولاهما "جوع هوراس البغيضة الدنسة" التي كانت تحب الأدب القديم والمسرحيات القديمة وما فيها من هجوٍ لاذع وتجريح وتفضلهما على جمال الأدب الجديد المعطر المنمق. أما القوة الثانية فكانت دنيا الأراذل والعاهرات، دنيا المرح والرذيلة، التي كانت تنتمي إليها كلوديا ويوليا. وقد ثارت هذه الفئة الغنية ثورة جامحة على القوانين اليوليوسية، وكانت تعارض كل إصلاح خلقي، وكان لها شعراؤها، ومجامعها ومعاييرها الأخلاقية والاجتماعية. وأخذت القوتان المتعارضتان تتطاحنان في الأدب كما تتطاحنان في الحياة، فتلتقيان تارة كما التقتا في تيبلس، وبروبيرتيوس، وتقاومان تُقى فرجيل وعفته ببذاءة أوفد وجرأتهِ، وتقضيان على يوليا وابنتها

(1)

وعلى شاعر بالنفي من البلاد، وتظلان في هذا التطاحن حتى تُنهِك كلتاهما الأخرى في العصر الذهبي. لكن ضمائر الأحداث العظيمة، وما هيأتهُ الثروة والسلم للناس من فراغ أطلق قرائحهم، وعظمة العالم الذي كان يدين لرومة بالطاعة، كل هذا قد غلب على ما في طبيعية الدولة من جمود، وأنتج عصراً ذهبياً ظل الناس في مستقبل الأيام يرون أنهُ أخرج أكمل الأدب طرا في صورتهِ ولفظهِ.

(1)

يقصد يوليا ابنة أغسطس وابنتها يوليا. (المترجم)

ص: 52

الفصل الثاني

‌فرجيل

ولد فرجيل أحب الرمان إلى القلوب في عام 70 ق. م في ضيعة قرب منتوا Mantua، حيث يتعرج نهر منسيو Mincio ويتجه على مهل نحو البو. ولم تنجب العاصمة من بعدهِ إلا عدداً جد قليل من العظماء، فقد كانوا في القرن الذي تلا مولد هذا الشاعر والذي ولد المسيح في منتصفهِ يجيئون من إيطاليا، ثم جاءوا فيما بعد ذلك من الولايات. ولعل الدم الكلتي كان يجري في عروق فرجيل لأن الغاليين سكنوا منتوا قبل مولدهِ بزمن طويل. وكان هو من الوجهة القانونية غاليَّ المولد لأن أهل غالة الجنوبية لم يمنحوا حق المواطنية الرومانية على يد قيصر إلا بعد مولد باثنين وعشرين عاماً. ولعل هذا هو الذي جعل هذا الشاعر الذي كان أفصح من تغنى بعظمة رومة ومصيرها لا يذكر فيما بعد شيئاً عما يتصف بهِ الجنس الروماني من قوة الجسم وقدرة على مغالبة الصعاب، بل يتغنى بما في خلق الكلت من تصوف ورقة ورشاقة، وهي صفات قل أن يجدها الإنسان في العنصر الروماني الأصيل.

وكان والده كاتب محكمة، فادخر من مرتبهِ ما يكفي لشراء ضيعة وتربية النحل فيها، وقضى الشاعر طفولته في هذه البيئة الهادئة الطنانة، ولذلك ظلت أشجار الشمال الظليلة ومياهه الغزيرة عالقة بخيالهِ بعد أن شب وترعرع، ولم يكن يحس بالسعادة الحقة إلا بين تلك الحقول والمجاري المائية. ولما بلغ الثانية عشر من عمره أرسل إلى المدرسة في كرمونا Cremona، ثم أرسل في الرابعة عشر إلى ميلان، وفي السادسة عشر إلى رومة؛ وهنا درس البلاغة وما يتصل بها من الموضوعات على الرجل الذي درسها عليهِ أكتافيان

ص: 53

فيما بعد. والراجح أنه حضر بعدئذ محاضرات Siro الأبيقوري في نابلي، وبذل غاية جهده ليتقبل فلسفة اللذة، ولكن نشأته الريفية حالت بينهُ وبين هذا الهدف، ويلوح أنه عاد إلى موطنه في الشمال بعد أن أنم دراسته، وذلك لأننا نجده في العام الرابع بعد الميلاد يسبح في الماء لينجو من جندي اغتصب ضيعة أبيهِ؛ فقد صادرها أكتافيان وأنطونيوس لأن هذه البلاد انتصرت إلى أعدائها. وحاول أسنيوس بليو Asinius Pollio العالم وحاكم غالة الإيطالية أن يرد الضيعة إلى مالكها ولكنه عجز، فعوضه عن ذلك بأن تولى رعلية الشاب فرجيل وشجعه على الاستمرار في كتاب "المختارات Eclogues" وهي القصائد التي كان ينشئها في ذلك الوقت.

ولم يكد يحل عام 37 حتى كان اسم فرجيل على كل لسان في رومة. ذلك أن المختارات نُشرت قبيل ذلك الوقت وتقبلها أهل رومة بقبول حسن، وكانت إحدى الممثلات قد أنشدت أبياتها على المسرح، وصفق لها النظارة تصفيقاً ملؤه الحماسة والإعجاب (6). وموضوع القصائد هو وصف الرعي على نمط قصائد ثيوقريطس Theocritus، ونجد فيها أحياناً ألفاظها نفسها؛ وهي جميلة الأسلوب والتوقيع وأنغامها أجمل الأنغام السداسية الأوزان التي استمعت لها رومة في تاريخها كلهُ، وهي مليئة بالحنان التأملي، والحب التخيلي. وذلك أن الشاب وإن قضى شطراً كبيراً من حياتهِ في العاصمة قد انفصل عنها زمناً يكفي لأن يجعلهُ يمجد حياة الريف ويعدها المثل الأعلى للحياة الحقة. وكان من أثر شعرهِ أن أصبح كل إنسان يسره أن يتخيل نفسه راعياً يسير مع قطعانهِ على سفوح الأبنين صاعداً أو نازلاً، ويحطم قلبهُ بالحب وصد الحبيب.

وكان أكثر واقعية من هذه الأشباح الثيوقريطية

(1)

ما كان في شعر فرجيل

(1)

أي الشبيهة بالأشباح التي يصفها في شعرهِ ثيوقريطس شاعر الرعاة اليوناني الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد. (المترجم)

ص: 54

من وصف للمناظر الريفية. وقد مجد فرجيل هذه المناظر أيضاً كما مجد مناظر الرعي واتخذها هي الأخرى مثلاً أعلى للحياة؛ ولكنه هنا لم يكن مقلداً، فقد استمع من قبل إلى أغاني الخطاب الشهوانية، وشهد بعينيهِ النحل القلق يحوم حول الأزهار (8)، وعرف يأس الزراع الخالي البال الذي خسر أرضه كما خسر آلاف الناس أراضيهم في تلك الأيام (9). على أن أهم من هذا كلهُ كان شديد الإحساس بما كان يرتجيهِ ذلك العصر من القضاء على التخريب والحرب. وكانت الكتب السبيلية Sibylline قد تنبأت بأن عصر زحل الذهبي سيعود مرة أخرى بعد العصر الحديدي؛ ولما أن ولد في عام 40 ق. م وَلَدٌ لأسينيوس بليو نصير فرجيل أعلن الشاعر في الكتاب الرابع من المحتارات أن مولده سيكون بداية المدينة الفاضلة فقال:

والآن سيعود العصر الأخير الذي (يبش بهِ) نشيد كومية (سبيل)، وها هي ذي الأحقاب العظيمة المتعاقبة تولد من جديد وتعود العذراء

(1)

، ويعود حكم زحل (Saturn) وينزل من السماء العليا جيل جديد. أي لوسينا الطاهرة العفيفة (ربة المواليد)! ابتسمي للغلام الذي ولد منذ قليل، والذي سيزول في عهدهِ لأول مرة جيل جديد، وينشأ في العالم جيل الذهب. إن إلهك أبلو قد أصبح الآن ملكاً على الأرض".

وتحققت هذه النبوءات بعد عشر سنين من ذلك الوقت، فتخلص الناس من عدد الحرب الحديدية، وسيطر على البلاد جيل جديد مسلح بالذهب ومفتون بهِ؛ ولم تشهد رومة في السنين القليلة الباقية من حياة فرجيل اضطرابات جديدة، وعمها الرخاء والسعادة، وحيا الناس أغسطس ولقبوه بالمنقذ وإن لم يلقبوه أبلون. ورحب بلاط الإمبراطور- وإن لم يكن فيهِ من المظاهر العظيمة والأبهة إلا نصف ما في بلاط الملوك-

(1)

هي أسترئيا Astraea أو العدالة، وهي آخر من غادر الأرض من الآدميين كما ورد في أسطورة عصر زحل. (المترجم)

ص: 55

بما في شعر فرجيل من تفاؤل؛ واستقدمه إليهِ ماسيناس، وأحبهُ، ورأى فيهِ أداة شعبية ينفذ بها إصلاحات أكتافيان. وكان حكمه هذا دليلاً على بعد نظره؛ ذلك أن فرجيل-كان في الثالثة والثلاثين من عمرهِ- كان يبدو وقتئذ رجلاً ريفياً سمجاً، شديد الحياء إلى حد يجعلهُ يتلعثم إذا تكلم، يتجنب الظهور في أي مكان عام يمكن أن يعرفهُ الناس فيهِ ويشيروا إليهِ، لا يطيق مجتمعات رومة الراقية الحديثة المهذارة المتطاولة. وفوق هذا فقد كان فرجيل معتل الجسم كأغسطس بل أكثر منه اعتلالاً، يشكو شكوى مستمرة من الصداع وأمراض الحلق، واضطرابات المعدة والبصاق الدموي الكثير. ولم يتزوج فرجيل قط، ويلوح أنه لم يكن أكثر إحساساً بالحب العارم الطليق من بطله إنياس. ويبدو أنه أتى عليهِ حين من الدهر كان يواسي نفسه فيهِ بالعطف على غلام من الرقيق؛ أما فيما عدا هذا فقد كان معروفاً في نابلي باسم "العذراء"(10).

وكان ماسناس كريماً في معاملة الشاعر الشاب، فأقنع أكتافيان بأن يرد لهُ ضيعتهُ، واقترح على الشاعر أن يكتب عدة قصائد يمجد فيها الحياة الزراعية. وكانت إيطاليا في ذلك الوقت (37 ق. م) تجزي أشد الجزاء على تحويل كثير من أرضها الزراعية إلى مراعٍ وبساتين، وكروم؛ وكان سكستس بمبي يمنع عنها الطعام الذي يرد من صقلية وأفريقية؛ ونقص القمح ينذرها بانفجار بركان الثورة من جديد. وكانت حياة المدن توهن ما في شباب إيطاليا من رجولة، ولاح أن صحة الأمة من جميع نواحيها تتطلب العودة إلى حياة الزرع. فلما اقترح ماسيناس على فرجيل أن يكتب القصائد التي تمجد الزرع أجاب الشاعر الطلب من فورهِ، فقد كان عليماً بحياة الريف، وكان أجدر بتصوير ما فيها من جاذبية وجمال معتمداً على ما اختزنه في ذاكرتهِ من حب لها عظيم، وإن كان ضعف صحته في ذلك الوقت يحول بينه وبين احتمال ما فيها من صعاب. وخبأ

ص: 56

الشاعر نفسهُ في نابلي، وبعد أن ظل يعمل سبع سنين خرج على العالم بأعظم ما أنشأه من القصائد وهي القصيدة المعروفة باسم Georgics وترجمتها الحرفية "العمل في الأرض". وسُر منها ماسيناس وجاء معهُ بفرجيل إلى الجنوب ليقابل أكتافيان، وكان وقتئذ (29 ق. م) عائداً من انتصارهِ على كليوبطرة. واسترح القائد المضني في بلدة أتلا Atella الصغيرة، وأخذ يستمع أربعة أيام كاملة لألفي بيت، وهو مأخوذ بجمالها مفتتن بسحرها. هذا إلى أن القصائد تتفق مع سياسته اتفاقاً يفوق كل ما كان يتوقعهُ ماسيناس. فقد كان يعتزم الآن أن يسرح الجز الأكبر من جيوشهِ الجرارة التي ساد بها العالم، وأن يعمل على أن يستقر جنوده المضرسون في الأرض فيستطيع بذلك أن يهدئ بالهم، وأن يطعم المدن الإيطالية، ويحفظ كيان الدولة، كل ذلك بفلح الأرض في الريف. وأصبح فرجيل من ذلك الوقت حراً في أن يفكر في الشعر دون غيره.

في هذه القصائد نرى فناناً عظيماً يعالج أشرف الفنون بأجمعها-فن زراعة الأرض. وفيها يأخذ فرجيل عن هزيود Hesiod وأراتس Aratus، وكاتو، وفارو ولكنه يحول نثرهم الخشن أو أبياتهم العرجاء إلى شعر رقيق مصقول؛ وهو يطرق جميع فروع الفلاحة ويفيها حقها-فيتحدث عن أنواع التربة ووسائل علاجها، وفصول الزرع والحصاد، ويبحث في غرس أشجار الزيتون والكروم، وتربية الماشية والخيل والضأن، والعناية بالنحل. ويستهويه كل عمل من أعمال الزراعة ويثير اهتمامه ويستحوذ على فكرهِ حتى ليحتاج إلى أن يجد نفسه من الانهماك في الموضوع الذي يتحدث عنه ونسيان ما بعدهِ، فيقول:

"ولكن الوقت يمر مراً سريعاً، وما مر منهُ لا يمكن أن يعود أبداً، على حين أننا نحن يسحرنا حب (موضوعنا) فنطيل الوقوف عند كل دقيقة من دقائقهِ". ولا ينسى فرجيل أن يقول كلمة عن أمراض الحيونات وطريقة علاجها، ويصف حيوانات المزرعة المعروفة وصفاً يدل على فهمه

ص: 57

لطبائعها وعطفه عليها، وهو لا يفرغ أبداً من الإعجاب ببساطة غرائزها وقوة انفعالاتها، وكمال أشكالها. وهو يمجد الحياة الريفية ويجعلها هي المثل الأعلى للحياة، ولكنه لا ينسى ما فيها من تقلبات الحظوظ، ومن الجهود المضنية، والكفاح الدائم للحشرات، وتناوب الجدب والعواطف، وما تسببه هذه وتلك لأهل الريف من عذاب أليم. ولكن العمل في رأيه يقهر كل شيء (12)، كما أن للجهود التي تُبذل في أعمال الزراعة غرضاً ونتيجة تكسبانها كرامة، وليس لأي روماني أن يشعر بالخجل من قيادة المحراث. ومن أقوال فرجيل إن الأخلاق الكريمة تنشأ في المزارع، وإن جميع الفضائل التي قامت على أساسها عظمة رومة قد غُرست وغُذيت في الريف، وإن الإنسان قلما يجد عملاً من أعمال إلقاء البذور ووقايتها، والغرس والعزق والحصاد إلا له ما يقابله في تنمية الروح وتقويتها، وإن الروح إذا كانت في الحقول، حيث معجزات النماء وتقلبات الجواء تنبئ عن وجود القوى الخفية، لتحس بوجود الحياة المبدعة الخالقة، وتتأثر بالإلهام الإلهي، وتدرك ضآلتها أمام عظمة هذه الحياة، وتمتلئ إجلالاً لها وتعظيماً، أسرع من إحساسها وتأثرها وإدراكها لذلك وامتلائها به في المدينة. وهنا ينشد أشهر أبياتهِ كلها، ويبدؤها بترديد صدى معاني لكريشيوس، ولكنه ينشدها بنغمة فرجيلية خالصة فيقول:

"ألا ما أسعد الرجل الذي استطاع أن يتعلم علل الأشياء، ويطأ بقدمهِ جميع الخاوف والأقدار القاسية العنيدة وصخب الجحيم الشره. ولكن الرجل الذي يعرف الأرباب الريفية بان، وسلفانوس الهرم، والأخوات الحوريات لا يقل عنه سعادة (13) ". وهو يرى أن الزارع على حق حين يسترضي الآلهة بالضحايا، ويستجلب عطفها ورضاها؛ لأن هذه الأعمال الدالة على التقى والصلاح تبعث بأعيادها وحفلاتها الضياء في أعمال الفلاحة الشاقة، وتخلع على الأرض وعلى الحياة معنى، وشاعرية وخيالاً ذا روعة.

ص: 58

وكان دريدن يرى أن هذه القصائد "خير أشعار أحسن الشعراء (14) ". وهي تشترك مع De Rerum Natura في تلك الميزة النادرة الوجود وهي أنها تلقينية وجميلة معاً. ولم تأخذها رومة بجد على أنها كتاب في الزراعة، ولسنا نعرف أن أحداً ممن قرؤوها قد استبدل المزرعة بالسوق العامة؛ ولعل فرجيل إنما كتب هذه النفحات الريفية كما يظن سنكا ليطرب بها أهل المدن. ومهما يكن من شيء فقد أحس أغسطس أن قرجيل أدى الأمانة التي عرضها عليهِ ماسناس على خير وجه وأكمله، فاستدعى الشاعر إلى قصرهِ واقترح عليهِ أن يقوم بواجب أشق من الأول موضوعه أوسع وأعم من الزرع وحياة الريف.

ص: 59

الفصل الثالث

‌الإلياذة

لقد كانت الفكرة الأولى أن يتغنى فرجيل بمعارك أكتافيان (15)، ولكن ما يفترضه القدماء من انحدار قيصر ربيب أكتافيان من الزهرة (فينوس) وإنياس هو الذي جعل الشاعر-أو لعله جعل الإمبراطور-يفكر في إنشاء ملحمة في تأسيس رومة. ثم تفتح الموضوع أمام الشاعر، فشمل الأحداث التي وقعت بعد تأسيس رومة، والتنبؤ بإنشاء إمبراطورية أغسطس، وبالسلم التي كانت أثراً من أعمالهِ. وشمل مشروع الملحمة أيضاً وصف أخلاق الرومان في أثناء هذه الأعمال المجيدة، والسعي لبث حب الفضائل القديمة في قلوب الرومان، وتصوير بطلها في صورة الإنسان الذي يعظم الآلهة، ويهتدي بهديها، ويدعو إلى الإصلاحات والمبادئ الأخلاقية التي دعا إليها أغسطس فيما بعد.

فلما رسم فرجيل خطوط الملحمة الرئيسية آوى إلى عدة أماكن نائية منعزلة في إيطاليا، وقضى العشر السنين التالية (29 - 19) في تأليف الإنياذة. وكان يكتب فيها على مهل مخلصاً في عملهِ إخلاصاً فلوبير Flaubert، فيملي بضعة أسطر في صدر النهار ثم يعيد كتابتها في الأصل.

وكان أغسطس في هذه الأثناء ينتظر إتمام الملحمة بفارغ الصبر، وكثيراً ما كان يسأل عما تم منها، ويلحُّ على فرجيل بأن يبعث إليهِ كل ما يفرغ من كتابتهِ. وظل الشاعر يستمهله أطول وقت مستطاع، ولكنه أخيراً قرأ لهُ الكتب الثانية والرابعة والسادسة منها. ولما سمعت أكتافيا أرملة أنطزنيوس الفقرة التي تصف ابنها مرسلس الذي مات من عهد قريب، أغمي عليها (16).

ولم تتم الملحمة ولم تراجع المراجعة الأخيرة، لأن فرجيل سافر إلى بلاد

ص: 60

اليونان في عام 19 ق. م والتقى بأغسطس في أثينة، وأصيب بضربة شمس في مجارا، فقفل راجعاً إلى بلدهِ بعد أن وصل برنديزيوم بزمن قليل، وطلب وهو على فراش الموت إلى أصدقائهِ أن يتلفوا مخطوط الملحمة قائلاً إنه كان يحتاج إلى ثلاث سنين على الأقل تقديراً لصقلها وإعدادها للنشر، ولكن أغسطس أمرهم ألا ينفذوا هذه الوصية.

أما قصة الإنياذة فيعرفها كل تلميذ. وخلاصتها أنه بينما كانت مدينة طروادة تحترق يظهر شبح هكتور القتيل إلى "إنياذ الصالح" قائد أحلافه الدروانيين، ويأمره أن يستعيد من اليونان ما كان في طروادة من "أشياء مقدسة وآلهة منزلية". وأهمها كلها البلاديوم Palladium أو صورة بلاس أثيني Pallas Athene؛ وكانوا يعتقدون أن بقاء الطرواديين موقوف على الاحتفاظ بها. وفي ذلك يقول هكتور Hector بطلهم المعروف:"ابحثوا عن هذه الصورة" الرموز المقدسة "لأنكم بعد أن تطوفوا بالبحار ستقيمون لكم آخر الأمر مدينة عامرة"(17). ويفر إنياس مع أبيه الشيخ أنكيسيز Anchises وابنه اسكونيوس، فيركبون سفينة تقف بهم في اماكن مختلفة، ولكن أصوات الآلهة تناديهم على الدوام أن يواصلوا السير. وتدفعهم الريح إلى مكان قريب من قرطاجنة حيث يجدون أميرة فينيقية تُدعى ديدو Dido تشيد مدينة جديدة. (وبينما كان فرجيل يكتب هذا كان أغسطس ينفذ مشروع قيصر وهو إعادة بناء قرطاجنة). ويقع إنياس في حب الأميرة، وتهب عاصفة مواتية فتتيح لهما الفرصة لأن يلجأا معاً إلى كهف واحد، ويتم بينهما ما تعده ديدو زواجاً، ويقبل إنياس تفسيرها هذا إلى حين، ويشترك هو ورجاله وهم راضون في بناء المدينة، ولكن الآلهة القاسية، التي لا نراها قط في الأساطير القديمة تعني كثيراً بالزواج، وتنذره بالسفر وتقول له إن هذه ليست هي البلدة التي يجب عليهِ أن يتخذها عاصمة لهُ. ويصدع إنياس بما يؤمر، ويترك الملكة الحزينة وهو يودعها بهذه الألفاظ الشبيهة بالغناء:

ص: 61

"لن أنكر قط أيتها الملكة أنك تستحقين مني ما تعجز الألفاظ عن التعبير عنه

إني لم أمسك قط مشعل الزوج ولم أقسم يمين الزواج

ولكن أبلو قد أمرني الآن بركوب البحر

فامتنعي إذن عن أن تهلكي نفسك وتهلكيني بهذه الشيكات. إني لا أسعى إلى إيطاليا بمحض إرادتي" (18).

"لا أسعى إلى إيطاليا بمحض إرادتي"، هذا هو سر القصة ومحورها الذي تدور عليهِ، ونحن الذين نحكم على فرجيل وبطله بعد ثمانية قرون من كتابة الأدب العاطفي وقراءته، نعلق على الحب الروائي، وعلى العلاقات بين غير الأزواج، وأكثر مما كان يعلقه عليها اليونان الرومان. فقد كان الزواج عند الأقدمين رابطة بين الأسر أكثر مما كان رابطة بين الأجسام والأرواح، وكانت مطلب الدين أو الوطن أسمى من حقوق الأفراد ونزواتهم. ويعطف فرجيل على ديدو ويسمو إلى ذروة البلاغة في فقرة من أجمل فقرات ملحمته حين يتحدث عنها وهي تلقي نفسها فوق كومة من الحطب المعد لحرق الموتى وتحرق نفسها حية؛ ثم يسير في ركاب إنياس إلى إيطاليا.

وينزل القرطاجنيون إلى البر عند كومي ثم يسيرون إلى لاتيوم حيث يستقبلهم ملكها لاتنس ويرحب بهم. وكانت ابنته لا فينيا Lavinia مخطوبة لترنس Turnus وهو شاب وسيم وزعيم الروتوليين المجاورين لهذه المدينة؛ ويوقع إنياس الجفوة بينها هي وأبيها وبين خطيبها؛ ويعلن ترتس الحرب عليهِ وعلى لاتيوم، وتنشب معارك حامية الوطيس. وتعتزم سيبيل الكومائية Cumaean Sibyl أن تقوي إنياس وتشجعه، فتأخذه إلى ترتاروس بطريق بحيرة إيرنس Aernus. وكما أن فرجيل قد كتب ملحمة عن تجوال إنياس على نمط أوذيسية هومروس وأخرى قصيرة عن حروبه شبيهة بالإلياذة، فإنه الآن يستوحي رحلة أوديسيوس في الجحيم، ويصبح هو نفسه مثلاً يحتذيهِ دانتي ويهتدي بهديهِ في ملهاته المقدسة. وفي هذا يقول فرجيل: "ما أسهل النزول إلى الجحيم Facilis Descensus

ص: 62

Averni " ولكن بطله يجد الطريق إليها وعراً شديد العذاب، كما يجد العالم السفلي معقداً شديد الاختلاط. وفي هذا العالم يلتقي بديدو، فتشيج بوجهها عما عما يبثه من وجدهِ؛ ويشهد ضروب العذاب التي يعاقب بها من ارتكبوا الذنوب على وجه الأرض، والسجن الذي يُعذب فيهِ أنصاف الآلهة

(1)

المتمردون كما يُعذب الشيطان. ثم تأخذه سيبيل إلى أيك السعداء حيث ينعم الصالحون في الأودية الخضراء بالنعيم السرمدي. وهنا يشرح له والده أنكيسيز، الذي توفي في الطريق، أسرار الجنة، والمطهر والجحيم، ويصور له في أوضح صورة وأشملها مجد رومة وأبطالها في مستقبل الأيام. وتكشف له الزهرة في رؤيا أخرى عن موقعة أكتيوم وانتصارات أغسطس، وبعد أن تنتعش روح إنياس بهذه المناظر يعود إلى عالم الأحياء، ويقتل ترنس، وينشر الموت من حوله ببطشهِ وشدة بأسه. ويتزوج بلفينيا الخيالية، ثم يموت والدها فيرث عرش لاتيوم، ولا يلبث أن يخر صريعاً في إحدى المعارك، وينتقل إلى جنان الفردوس، ويشيد ابنه أسكانيوس Ascanins ألبالنجا لتكون عاصمة جديدة للقبائل اللاتينية، ومنها يخرج من نسلهِ رميولرس وريموس ليشيدا مدينة رومة.

ويبدو أن من سوء الأدب أن ينتقد الإنسان نفساً كريمة رفيعة كنفس فرجيل لما تغمر بهِ بلدها وإمبراطورها من ثناء وتعظيم، أو أن ينقب الإنسان عن عيوب في ملاحم لعله لم يرغب قط في كتابتها، ولم يعش ليتمها. ولا حاجة إلى القول بأنه كتبها على نمط الملاحم اليونانية، وتلك هي السنة جرى عليها الأدب الروماني كلهُ إذا استثنينا منه الهجاء والمقالة. غير أننا نستبيح لأنفسنا هذا القدر من النقد، وهو أن مناظر المعارك الحربية ليست إلا أصداء ضعيفة لما في مناوشات الإلياذة من قعقعة وضجيج، وأن أورورا Aurora

(1)

أي من كان في طبائعهم شيء من الألوهية وحاصة أولئك الأبطال الذين تصفهم الأساطير بأنهم تناسلوا من زواج الآلهة بالآدميين. (المترجم)

ص: 63

لتظهر في الإنياذة بقدر ما تظهر بهِ الفجر ذات الأصابع الوردية في إلياذة هومر. ويستعير الشاعر من نئيفيوس، وإنيوس، ولكريشيوس حوادث وعبارات، وسطوراً كاملة في بعض الأحيان، كما أن أبولونيوس الرودسي Apllonius of Rhodes هو الذي يمده بالمثل الذي يحتذيهِ في حب ديدو المفجع، وهذا الأنموذج هو أرجونوتكا Argonautica. وكانت هذه الاستعارات الأدبية جائزة لا غبار عليها في عصر فرجيل، كما كانت جائزة في عصر شيكسبير، لك أنه كان ينظر إلى آداب البحر الأبيض المتوسط كلها على أنها تراث عقول البحر الأبيض المتوسط كلها، والمعين الذي تستمد منه هذه العقول. ولا جدال في أن ما تقوم عليهِ الملحمة من أساطير تتعب القارئ وتبعث في نفسهِ الملل، وذلك لأننا نضع لأنفسنا الآن أساطير أخرى جديدة؛ ولكن الذي لا شك فيهِ أيضاً أن هذه الإشارات والملحمات الإلهية التي تتخلل القصيدة كانت مألوفة محبوبة حتى لقراء الشعر الروماني المتشككين. ولسنا نجد في ملحمة فرجيل العليل ذات الشعر الهادئ السلس ما نجده في قصة هومر من حوادث دافئة، كما أننا لا نجد فيها الحقائق التي يسري فيها دم الحياة والتي تحرك جبابرة الإلياذة، أو أهل إثكا Ithaca السذج. يضاف إلى هذا أن قصة فرجيل كثيراً ما تمشي الهوينا، وأن أشخاصهُ كلهم تقريباً مرضى إلا الذين يهجرهم إنياس أو يقضي عليهم. وديدو الإنياذة امرأة حية لطيفة، خادعة، شديدة الانفعال، وترنس محارب ساذج شريف يغدر بهِ لاتنس، وتحكم عليهِ الآلهة السخيفة بموت هو غير جدير بهِ. وبعد أن يقرأ الإنسان عشر مقطوعات كلها نواح وندب، تشمئز نفسهُ من "تقي" إنياس الذي يتركه مسلوب الإرادة. ويُغتفر له عذره، ولا يولتيهِ النجاح إلا بتدخل القوى السماوية، وفوق هذا كله فإننا لا نستمتع بالخطب الطويلة التي يقتل بها الشاعر الصالحين من الرجال، والتس تكون بلاغتها سبباً آخر من أسباب مللنا، يضاف

ص: 64

إلى هذا ما ندجده فيها من تمحيص هو محك الإنسانية النهائي لمعرفة الحقيقة.

وإذا شئنا أن نفهم الإنياذة على حقيقتها ونقدرها التقدير الذي هي جديرة بهِ، كان علينا أن نتذكر في كل قسم من أقسامها أن فرجيل لم يكن يكتب رواية خيالية، بل كان يكتب لرومة كتاباً مقدساً؛ وليس ذلك لأنه يقدم لها شريعة دينية واضحة، فإن الآلهة الذين يسيرون الحوادث في تمثيليتهِ من وراء الستار لا يقلون خبثاً عن لآلهة هومر، وإن لم يكونوا قريبين من البشر الفكهين قرب هؤلاء؛ بل إنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن كل ما في القصة من شر وشقاء ليس منشؤه من فيها من رجال ونساء بل منشؤه الآلهة أنفسهم. وأكبر الظن أن فرجيل لم يكن يرى في أولئك الأرباب إلا أنهم أدوات لشعرهِ، ورموز للظروف الظالمة المستبدة، والحادثات المفاجئة التي تخل بسير العالم المنتظم الرتيب؛ وهو على العموم يتذبذب بين جوف الأرباب وبين القدر اللا شخصي، فهذا يسيطر على الكائنات تارة وذلك يسيطر عليها تارة أخرى. وآلهة القرية والحقل أحب إليهِ من آلهة أولمبس، فهو لا يترك فرصة تُتاح له إلا مجد الأولى ووصف طقوسها ومراسمها، وتمنى لو استطاع الناس أن يعودوا إلى ما كانوا عليهِ من حب الآباء، والوطن والآلهة، وهو الحب الذي كانت تغذيهِ العقيدة الريفية البدائية:"أسفي على تقوى الأقدمين وإيمانهم! " غير أنه لا يؤمن بالفكرة القديمة عن الجحيم خيث يحشر الموتى جميعاً الصالح منهم والطالح، بل تخالجه أفكار أرفية

(1)

فيثاغورية عن تجسيد الأرواح بعد الموت، وعن الحياة في الدار الآخرة، وهو يوضح إلى أقصى حد يستطيعه فكرة الثواب في الجنة والمطهر، والعقاب في الجحيم.

لكن الدين الحقيقي في الإنياذة هو دين الوطنية، وإلهها الأعظم هو رومة

(1)

نسبة إلى أرفيوس وهو الشاعر الذي يقال عنه إنه كان يحرك الجماد بصوت مزماره. (المترجم)

ص: 65

فمصير رومة هو المحرك لحبكة القصة، وكل ما في القصة من محن وشدائد إنما يرجع إلى "الواجب المضني واجب بعث الشعب الروماني Tantae Molis Erat Romanam Condere Gentem". والشاعر فخور بالإمبراطورية فخراً يمنعه أن يحسد اليونان على تفوقهم في الثقافة ويقول في ذلك: فلتحول الشعوب الأخرى الرخام والبرونز إلى شخوص حية ولترسم مسارات النجوم.

"أما أنت يا أبن رومة، فواجبك أن تحكم العالم، وستكون فنونك أن تعلم الناس طرائق السلم، وأن تشفق على الذليل، وتذل الفخور (20) ". وفرجيل لا يأسف على موت الجمهورية، وهو يدرك أن حرب الطبقات هي التي قضت عليها ولم يقضِ عليها قيصر؛ وهو في كل جزء من اجزاء قصيدتهِ يبشر بأن حكم أغسطس سيعيدها سيرنها الأولى، ويرحب بهِ ويصفه بأنه حكم زحل قد عاد إلى الأرض، ويعده بأنه سيُجزي على عملهِ بأن يُحشر في زمرة الأرباب. وقصارى القول أن أحداً من الناس لم يوف بما ألقي على كاهلهِ من واجب أدبي بأكمل مما وفى بهِ فرجيل.

يبقى بعد ذلك أن نسأل لم نحتفظ بحبنا الشديد لهذه الدعاوة للتقى وصالح الأخلاق، وحب الوطن، والنعرة الإمبراطورية؟ إن من أسباب هذا الحب ما نجده في كل صفحة من ورقة روح الشاعر وظرفه، وأنا نشعر بأن عطفهِ قد امتد من إيطاليا بلادهِ الجميلة إلى جميع بني الإنسان، بل إلى جميع الكائنات الحية؛ فهو يدرك آلام الطبقات العليا والدنيا، ويعرف أهوال الحرب وما يصاحبها من فحش ورذيلة، ولا ينسى أن أنبل الناس أقصرهم آجلاً، وأن ما في الحياة من أحزان وآلام، وما في "الأشياء من دموع Lacrimae Rurum" تذهب ببهجة الأيام تارة وتزيدها تارة أخرى. وهو حين يكتب عن "العندليب الذي يبكي في ظلال شجرة الحور صغارها الحراث فانتزعها من عشها قبل أن يكسوها الريش، فيقضي الليل كلهُ ينتحب، ثم يجثم على فنن ويعيد أغنيته الحزينة،

ص: 66

ويملأ الغابة بها وبعوبله" (21) نقول إنه حين يفصل هذا لا يقلد لكريشيوس فحسب. وإن الذي يجذبنا نحو فرجيل مراراً وتكراراً هو ما في حديثه من جمال لا ينقطع أبداً. ولم يكن عبثاً منه أن ينكب على سطر من سطورهِ "فيلعقه بلسانه ليسويه ويصقله، كما تلعق الدبة ديسمها" (22). ولن يستطيع أحد غير القارئ الذي حاول الكتابة أن يتصور ما عاناه الشاعر من التعب حتى أكسب قصته ما فيها من نعومة وسلاسة، وزينها بكثير من الفقرات ذات الأنغام القوية الرنانة التي تطالعنا في كل صفحتين من الكتاب، وتغري القلم باقتباسها واللسان بالنطق بها. ولعل القصيدة مفرطة في جمالها المتناسق المتمائل، لأن جمال اللفظ نفسه يمل إذا أفرطت فصاخته في الطول. وفي فرجيل سحر نسائي ولكنا لا نطالع فيهِ قط ما نجده في شعر لكريشيوس من رجولة وقوة التفكير، وكما لا نجد فيهِ تلك الأمواج الصاخبة التي نراها في ذلك "البحر المتلاطم العجاج" المسمى هومر. ونحن نبدأ نفهم ما يعزى إلى فرجيل من حزن واكتئاب، حين نتصوره يدعو إلى عقائد لم يكن في وسعهِ قط أن يستعيدها في نفسهِ، ويقضي عشر سنين في كتابة ملحمة تتطلب كل حادثة من حوادثها، ويتطلب كل سطر من سطورها، ما يحتاج إليهِ الفن المصطنع من جهود، ثم يموت والأفكار تساوره بأنهُ عجز عن تحقيق غرضه، وأن خياله لم ينره وميض من الإبداع والابتكار، وأنه لم يبعث في أشخاصه نسمة الحياة. ولكن أحداً لا يجادل في أن الشاعر قد انتصر نصراً مؤزراً على أداتهِ إن لم يكن قد نال هذا النصر نفسه على موضوعهِ. وقلما بلغت الصناعة ذلك الحد الأعلى من الإعجاز الذي بلغته في شعر فرجيل.

وبعد عامين من وفاتهِ أخرج منفو وصيتهِ قصيدتهِ إلى العالم، وقام بعضهم يعيبها ويسفهها: فنشر أحد النقاد ثبتاً طويلاً بعيوبها، ونشر غيره ثبتاً آخر بما فيها منم سرقات، وأصدر ثالث ثمانية مجلدات محتوية على ما بين شعر فرجيل والشعر القديم من شبه (23). ولكن رومة سرعان ما نسيت هذه الشيوعية

ص: 67

الأدبية، فوضع هوراس فرجيل هومر، ونشأت مدارس أدبية بدأت بها قرون تسعة عشر، ظل الناس فيها يحفظون الإنياذة عن ظهر قلب، وظل الناس جميعاً خاصتهم وعامتهم يهتفون باسمهِ، والصناع، والتجار، يقتبسون من شعرهِ، وشواهد القبور والجدران تنقش عليها عباراته؛ ومتنبئو الهياكل يجيبون السائلين بعبارات غاضبة يقتطعونها من أبيات ملحمته؛ وبدأت من ذلك الوقت تلك العادة التي لم تنقطع إلى عصر النهضة، عادة فتح ملحمة فرجيل فتحاً عشوائياً للبحث عن نصيحة أو نبوءة في أول فقرة تقع عليها عين الفاتح. وانتشر صيته حتى كان يعد في العصور الوسطى من السحرة والقديسين. وكيف لا وهو الذي تنبأ في التشيد الرابع بمجيء المنقذ، ووصف رومة فب الإنياذة بالمدينة المقدسة التي ستخرج منها قوة الدين وتنتشل العالم مما يتخبط فيهِ؟ ألم يصور الكتاب السادس الرهيب يوم الحشر وعذاب المذنبين، وتطهيرهم في نار المطهر، ونعيم الصالحين في الجنة؟ لقد كان فرجيل أيضاً كما كان أفلاطون ذا روح مسيحية طبيعية رغم آلهته الوثنية. وكان دانتي يعجب بعذوبة شعره، ولم يكن يسترشد بهِ في وصف الجحيم والمطهر فحسب، بل كان يسترشد بهِ أيضاً في تدفق فنه القصصي وجمال حدديثه؛ وكان ملتن يفكر وهو يكتب الفردوس المفقود وخطب الشياطين والآدميين الطنانة الرنانة؛ وكان فلتير-وهو الذي كنا نتوقع أن يكون أقسى مما كان في الحكم على فرجيل- يصف الإنياذة بأنها أجمل ما خلفه لنا الأقدمون من تراث أدبي (74).

ص: 68

الفصل الرّابع

‌هوراس

إن من أجمل الصور التي يشهدها الإنسان في عالم الأدب-والتي تبدو فيها الغيرة بين الناس شديدة لا تفوقها إلا غيرة العشاق-هي صورة فرجيل وهو يقدم هوراس إلى ماسيناس. فقد التقى الشاعران في عام 40 ق. م، حين كان فرجيل في الثلاثين من عمره وهوراس في الخامسة والعشرين، وفتح فرجيل أبواب ماسيناس بعد عام من ذلك الوقت وبقي الثلاثة بعدئذ أصدقاء أوفياء حتى فارقوا هذا العالم.

واحتفلت إيطاليا في عام 1935 بمرور ألفي عام على مولد كونتس هوراشيوس فلاكس Quintus Horatius Flaccus، وكان مولده في بلدة فنوزيا Venusia الصغيرة من أعمال أبوليا Apulia، وكان والده رقيقاً معتوقاً ارتفعت منزلته حتى أصبح جابياً-أو صياداً كما يقول بعض الناس (23). ومعنى كلمة فلاكس ذو الأذن المدلاة، وأكبر الظن أن هوراشيوس هو اسم السيد الذي كان الوالد في خدمتهِ. وأثرى العبد المعتوق بطريقة ما، وأرسل ابنه إلى رومة ليدرس البلاغة ثم أرسله إلى أثينة ليدرس فيها الفلسفة. وفي هذه المدينة انضم الشاب إلى جيش بروتس وتولى قيادة أحد الفيالق، وقال وقتئذ قالته المأثورة "إن من ألذ الأشياء ةأشرفها أن يموت الإنسان في سبيل بلادهِ Dulce et Decorum Pro Patria Mori"(26) . ولكن هوراس-وكان يقلد أركلوكس Archilochus في أغلب الأحيان-القى بدرعهِ في إبان المعركة وولى الأدبار. ولما وضعت الحرب أوزارها ألفى نفسه وقد جرد من جميع أملاكه ومن كل ما ورثه

ص: 69

عن أبيهِ، "وودفعتني المسبغة إلى قرض الشعر"(27)، ولكن الحقيقة أنه كان يكسب قوته من منصب كاتب كوستر.

وكان قصيراً بديناً، ومزهواً حيياً، لا يحب السوقة ولكنه لا يجد من الثياب أو المال ما يعينه على الاختلاط بالأسواط التي نالت من التعليم ما ناله هو. وكان يخشى عواقب الزواج فأكتفى على حد قولهِ بالسراري والعشيقات؛ وهو قول قد يكون حقاً، وقد لا يكون إلا نوعاً من الترخيص الشعري اخترعه للدلالة على نضوجه. وقد كتب عن العاهرات كتابة جمعت بين حذر العلماء وتعقيد الشعراء، وظن أنه جدير بأعظم الثناء لأنه لم يُغو النساء المتزوجات (28). وإذ كان أفقر من أن يقضي على نفسهِ بالانهماك في الشهوات الجنسية فقد عمد إلى قراءة الكتبي وكتابة الأغاني باللغتين اليونانية واللاتينية، وبأصعب أوزان الشعر اليوناني وأكثرها اختلاطاً. وأطلع فرجيل على إحدى هذه القصائد وامتدحها لماسيناس. وسر الأبيقوري الرحيم من حياء هوراس وتلجلحهِ في الحديث، ووجد في سفسطتهِ الفكرية ما يدعوه إلى حبه. وفي عام 37 اصطحب ماسنياس فرجيل وهوراس وغيرهما من الصحاب في سفرة قصيرة مخترقين إيطاليا في قارب قنوي تارة، وعربة ومحمل تارة أخرى، ثم سيراً على الأقدام في بعض الأوقات. وبعد قليل من ذلك الوقت قدم ماسنياس الشاعر لأكتافيان، واقترح عليهِ أن يعينه أمين سره. فاعتذر الشاعر قائلاً إنه لا يجد من نفسه ميلاً إلى العمل. وفي عام 34 أهدى إليهِ ماسيناس بيتاً وضيعة تدر عليهِ بعض المال في الوادي السابيني بيستيكا Ustica على بعد خمسة وأربعين ميلاً من رومة. وبذلك أصبح في استطاعتة هوراس أن يعيش في المدينة أو في الريف كما يشاء، وأن يكتب كما يأمل المؤلفون

ص: 70

أن يكتبوا-في الوقت الذي تحلو لهم فيهِ الكتابة، وبالعناية والجهد اللذين يحلو لهم أن يبذلوهما في كتابتهم

(1)

.

وأقام بعض الوقت في رومة يمتع نفسه بحياة من يتسلى بمشاهدة العالم المسرع المندفع. وكان يختلط بجميع طبقات الناس، ويدرس جميع الأصناف التي تتكون منها رومة، ويفكر في حماقات العاصمة ورذائلها وهو مسرور سرور الطبيب إذا كشف علة المريض. وقد وصف بعض تلك الأصناف في كتابين من كتب هجوه (34، 30 ق. م)، حذا فيهما أولاً حذو لوسليوس Lucilius، ثم خفف فيما بعد من حدتهِ وأصبح أكثر مما كان متسامحاً. وكان يطلق على هذه القصائد اسم المواعظ Sermones- وإن لم تكن مواعظ في أية صورة، بل كانت أحاديث خالية من التكلف والصناعة؛ وكانت أحياناً محاورات ودية خاصة في أشعار سداسية الوزن تكاد لغتها أن تكون هي اللغة العامية.

وقد اعترف هو نفسه بأنها نثر في كل شيء عدا الوزن، "لأنك لا تستطيع أن تطلق اسم الشاعر على رجل يكتب كما أكتب أنا أبياتاً أقرب ما تكون إلى الكلام المنثور". ونحن نلتقي في هذه الأشعار الاذعة بالأحياء من رجال رومة ونسائها، ونستمع إليهم يتحدثون كما يتحدث الرومان: فلسنا نجد فيها رعاة فرجيل وزرَّاعه وأبطاله، ولا فُساق أوفد الخرافيين وبطلاته، بل نشاهد العبد الوقح البذئ، والشاعر المزهو بنفسهِ، والمحاضر ذا الألفاظ الطنانة، والفيلسوف الشره، والثرثار الممل، والساميَّ الحريص على المال، ورجل الأعمال، والحاكم، ورجل الشارع العادي، غنشعر أنا نشهد آخر الأمر رومة الحقة. فها هو ذا هوراس يضع في قصائده لمن يشاء

(1)

وقد كشف المنقبون عن ضيعة هوراس في عام 1932، فإذا هي تشمل بيتاً ريفياً فسيحاً، يبلغ طوله 363 قدماً وعرضه 142، بهِ أربع وعشرون حجرة وثلاث برك للاستحمام، وعدة أبواب مزينة بالفسيفساء، وحديقة واسعة يحيط بها رواق مسقوف في خارجهِ سور. ومن وراء هذا البيت ضيعة فسيحة يعمل فيها عشرة عبيد وخمس أسر من المستأجرين.

ص: 71

أن ينقب عن آثار الأقدمين القواعد التي يجب أن يسير عليها من يريد النجاح في هذه الحلبة التي تصطرع فيها الغيلان من الناس، ويضعها في صورة مرحة ولكنها مهلكة قاتلة (29). وهو يسخر من النهمين الذين يملئون بطونهم بشهي الطعام، ولكنهم لا يستطيعون المشي على أرجلهم لأنهم مصابون بالرثية (30)، ويذكر من "يمتدح الأيام الماضية" بأنه إذا جاءه إله ليعبده إلى تلك الأيام أبى وتمنع (31)، ويقول إن أحسن ما في الماضي هو علم الإنسان أنه لن يضطر إلى أن يحيا مرة أخرى. وهو يعجب كما يعجب لكريشيوس من ذوي الأرواح القلقة الذين إذا كانوا في المدن تاقوا إلى سكنى الريف، فإذا سكنوا الريف تاقوا إلى المدن، والذين لا يستطيعون أن يستمتعوا بما عندهم، لأن من الناس من عنده أكثر منهم؛ والذين لا يقنعون بزوجاتهم ويهيمون بخيالهم المفرط في العظمة وفي الحقارة معاً بجمال غيرهن من النساء اللائي أصبحن في نظر غيرهم من الرجال ولا جمال لهن. ويختتم نصائحه بقولهِ إن جنون المال هو مرض رومة القتال، ويسأل من يقضي أيامه في جمع الذهب:"لم تسخر من تنتلس لأن الماء يبتعد عن شفتيهِ الظامئتين على الدوام؟ ليس عليك إلا أن تبدل الأسماء فتنطبق القصة عليك أنت (32) " ثم يهجو نفسه أيضاً؛ فهو يصور عبده يقول له في وجههِ إنه، وهو الداعي إلى أحسن الخلق، رجل أحمق حاد الطبع لا يعرف قط ما يدور في عقلهِ أو ما يهدف أليهِ، وأنه عبد شهواتهِ ككل إنسان آخر. وما من شك في أنه يوصي نفسه، كما يوصي غيره، بسلوك الطريقة الوسطى الذهبية إذ يقول:"إن للأشياء حداً ومقياساً (34) " لا يقصر الرجل الذكي عنه ولا يتجاوزه. وهو في بداية كتاب الهجاء الثاني يشكو إلى صديق له أن المجموعة الأولى قد انتُقدت أشد النقد، فقيل فقيل إنها مفرطة في الخشونة وفي الضعف، ثم يستنصح الصديق فيقول له:"استرح" فيعترض عليهِ الشاعر بقولهِ: "ماذا؟ ألا أكتب الشعر قط"؟ فيجيبه "نعم" فيقول "ولكني لن أستطيع النوم (35) ".

ص: 72

وكان خيراً له أن يعمل بهذهِ النصيحة إلى حين. وكان كتابه الثاني المسمىردود الغناء Epodes (29 ق. م) أقل كتبه شأناً. فأشعاره خشنة مؤذية للسمع خالية من الشهامة، بعيدة عن الذوق، بذيئة في الأمور الجنسية، كل ما يستطيع الإنسان أن يقوله في وصفها إنها تجربة في الأوزان الشعرية ذات المقاطع المتعاقبة منبورة، وهي المقاطع التي سار عليها أركلوكس Archilodhus. ولعل اشمئزازه من "دخان رومة ومالها وضجيجها"(36) قد زاد حتى أمَرَّ نفسه؛ ولعله لم يطق صبراً على الضغط "السوقة الجهال ذوي التفكير الخبيث". وهو يصور نفسه متدفقاً ومدفوعاً بين أراذل العاصمة، وينادي قائلاً:"أيها البيت الريفي! متى أراك؟ متى أستطيع وأنا بين كتب الأقدمين تارة، وأستمتع بالنوم والفراغ تارة أخرى، أن أجزع النسيان الحلو لمتاعب الحياة؟ متى يقدم لي صحاف الفول إخوان فيثاغورس نفسه، ومعها الخضر المخلوطة باللحم السمين؟ آه، أيتها الليالي والملائم القدسية! "(37) ثم قصرت فترات إقامته في رومة؛ وصار يقضي كثيراً من وقته في بيته السبيني الريفي حتى شكا أصدقاؤه ماسيناس نفسه بأنه "اقتطعهما من حياتهِ". ولكن الحقيقة أنه بعد أن عانى حر المدينة وعثيرها وجد في الهواء النقي والعمل التيب الهادئ، والعمال السذج في ضيعتهِ، بهجة تطهره من أدران المدن. هذا إلى أنه كان وقتئذ ضعيف الجسم، وأنه كان يعيش على الأكثر، كما يعيش أغسطس، على الخضر وحدها. وفي ذلك يقول: إن فيما أمتلكه من مجرى الماء النقي وأفدنة قليلة من الأشجار، ووثوقي من أني سأجني محصولاً من الحب، إن في هذا لسعادة دونها سعادة سيد أفريقية الخصبة ونعيمها البراق" (39). وإن حب الريف ليجد في غيرهِ من شعراء عهد أغسطس من يعبر عنه تعبيراً حماسياً نادر الوجدود في أدب اليونان.

ما أسعد من يعيش بعيداً عن قلق الأعمال ومتاعبها.

كما كانت تعيش أقدم شعوب العالم.

ص: 73

يفلح بثيرانه الأرض التي ورثها عن أبيهِ.

وليس عليهِ دين

ما أحلى النوم تحت شجرة السنديان القديمة.

والنهر يجري بين جسريهِ العاليين.

وطيور الأيك تغرد.

والماء يتدفق من العيون.

يدعو الإنسان للنوم الهنيئ! (40).

وجدسيرنا أن نضيف إلى هذا أن الذي ينطق بهذه الأبيات مراب من أهل المدن، ينطقه بها هوراس في سخرية يمتاز بها عن كثيرين منم الشعراء، وأن هذا المرابي بعد أن ينطق بها لا يلبث أ، ينساها ويفقد نفسه بين أكوام نقوده.

وأكبر الظن أن هذا المرابض الهادئة هي التي كان يكدح فيها "كدح السعداء المجدين"

(1)

في تأليف هذه الأغاني التي يعلم أن ذيوع اسمه أزو خمول ذكره موقوف عليها. لقد مل الأشعار السداسية الوزن ولم يعد يطربه انسجام أوزانها المقيسة المحددة، أو التي تُقطع من آخر البيت لضرورة الشعر كأنها جُزَّت بمقصلة. وكان قد استمع في شبابهِ بالأوزان الدقيقة المرحة التي رآها في شعر سابفو Sappho والكيوس Alckeus، وأركلوكس Archilochus، وأنكريون Anacreon، فأراد الآن أن ينقل هذه الأوزان "السابفية" والألكية، والتفاعل المركبة من مقطعين ومن أحد عشر مقطعاً، إلى صورة الشعر الغنائي الروماني، وأن يعبر عن آرائه في الحب والخمر، والدين، والدولة، والحياة والموت في مقطوعات جديدة منعشة للنفس جامعة رصينة التركيب، قابلة للتلحين،

(1)

هذه هي العبارة العجيبة الموفقة التي وصف بها بترونيوس هوراس.

ص: 74

معقدة تعقيداً يتطلب حلها الجهد الكثير. ولم يكن يكتب هذه الأشعار لذوي العقول الساذجة التي تريد أن تمر بها مراً سريعاً دون أن تبذل في إدراكها أي مجهود؛ والحق أنه قد حذر أمثال هؤلاء من مستهل المجموعة الثالثة من الإقدام على قراءتها فقال:

"إني أبغض السوقة النجسين وأتجنبهم. صه! أنا، كان ربات الشعر، أغني للعذارى والشباب أغاني لم يسمعها أحد من قبل".

ولو أن العذارى قد عنين بشق طريقهن وسط أقوال هوراس ورغباتهِ المقلوبة لارتعن وسررن مما في أغانيهِ من أبيقورية مهذبة مصقولة. فالشاعر يصور مسرات الصداقة، والطعام والشراب، والمغازلة، وإن المرء ليصعب عليهِ أن يستدل من هذه الترانيم على أن كاتبها رجل زاهد لا يأكل إلا قليلاً ولا يشرب إلا أقل. ثم يسأل الشاعر نفسه (قبل أن يسألها قارئ هذه الصفحات): "لم نشغل أنفسنا بالسياسة الرومانية وبالحروب في الأقاليم النائية؟ ولم نعني هذه العناية كلها بتدبير أمور المستقبل الذي يسخر من تدبيرنا

(1)

. إن الشباب والجمال يمساننا مساً ويمران بنا مراً سريعاً فلنستمتع بهما الآن، " مضطجعين إلى شجرة الصنوبر، وغدائرنا الشمطاء متوجة بالأزهار ومعطرة بالناردين السوري (42) ". وبينما نحن نتحدث هذا الحديث يمر الوقت الحسود وينقضي، فلنغتنم الفرص "ولنختطف الأيام Carpe Diem (43) ". ويتلو الشاعر أسماء طائفة من النساء الخليعات اللاتي يقول إنه أحبهن: لالاج، جلسيرا، تئيرا، إيانشا، رستارا، كنديا، ليسي، بيرها، ليديا، تندراس، كلو، فيلس، مرتال. ولا حاجة بنا أن نصدق كل ما يدعيهِ من ذنوب يقول إنه ارتكبها، فقد كانت هذه الأقوال وقتئذ دعاوى أدبية يكاد يفرضها شعراء تلك الأيام على أنفسهم فرضاً؛ وشاعد ذلك أنا نجد أولئك السيدات أنفسهن في خدمة

(1)

"وتقدرون فتضحك الأقدار". (المترجم)

ص: 75

أقلام غير قلمه قبل ذلك الوقت. ولم يكن أغسطس الذي تاب وقتئذ وأناب لينخدع بهذه الضلالات الشعرية، فقد كان يسره أن يجد بينها تعظيماً لحكمهِ وثناء عليهِ، وعلى انتصاراتهِ، وأعوانه، وإصلاحاته الأخلاقية، وعلى السلم التي بسط لواءها في أيامهِ. وقد ألف هوراس أغنيته المشهورة في الشراب Nunc ets Bibendum (44) حين جاءته الأنباء بأن كليوبطرة قضت نحبها، وأن أغسطس استولى على مصر، فقد كان لهذا النبأ وقع عظيم حتى في نفس هذا الشاعر السوفسطائي الذ سر من انتصار الإمبراطورية واتساع رقعتها إلى حد لم تبلغه قط من قبل. وهو يحذر قراءه من الاعتقاد بأن القوانين الجديدة يمكن أن تحل محل الأخلاق القديمة، ويأسف لانتشار الترف والزنى، والخلاعة، والعقائد المنحطة الفاسدة، ويقول مشيراً إلى الحرب الأخيرة:"وا أسفا على ما أصابنا من جروح وما ارتكبنا من جرائم، وعلى من مضوا من إخوتنا صرعى في الميدان! وهل ثمة شيء قد اشمأزت منه نفوسنا نحن أبناء هذا الجيل؟ وأي ظلم لم نرتكبه؟ "(45) ويقول إن رومة لن تنجو إلا بالرجوع إلى الأساليب البسيطة وإلى الثبات الذي كان شعار الأيام الخالية. وهكذا نرى الشاعر المتشكك الذي كان من الصعب عليهِ أن يؤمن بأي شيء يحني رأسه الأشيب أمام النصب القديمة، ويقر أن الناس يهلكون إذا لم تكن لهم أساطير يؤمنون بها، ويسخر قلمه لخدمة الآلهة المرضى الضعاف.

وبعد فليس في أدب العالم ما يشبه هذه القصائد تمام الشبه-فهي رقيقة وقوية؛ وفيها تأنق ورجولة، وحذق وتعقيد، تخفي ما فيها من فن للفن البالغ درجة الكمال، وتخفي ما استلزمته من جهد بما يبدو عليها من يسر وسلاسة. فهي موسيقى من طراز غير طراز فرجيل، ذلك أن موسيقاها أقل من موسيقى فرجيل عذوبة في النغم وأكثر منها تعقلاً، وهي لم تكتب للشبان والعذارى بل كتبت للفنانين والفلاسفة. وليس في القصائد كلها شيء من الانفعال أو التحمس، أو "اللفظ المنمق"؛ بل الألفاظ كلها سهلة حتى في الجمل المقلوبة

ص: 76

التي يجب أن يكون أولها آخرها. ولكن في الأغاني الكبرى كبرياءً وجلالاً في التفكير، حتى ليخيل إليك وأنت تستمع إليها أن إمبراطوراً هو الذي يتحدث وأنه لايتحدث بألفاظ من حروف بل من برونز:

لقد أقمت نصباً أبقى على الزمان من البرونز،

وأعل من قمة الأهرام الملكية؛

لا تستطيع العواصف الهوج أن تحطمه.

ولا ريح الشمال الضعيفة، ولا كر السنين

التي لاعداد لها، ولا مر الزمان السريع.

إني لن أموت الميتة الكبرى.

وأغفلت الجماهير التي هجاها هوراس أغانيه، وشهر بها النقاد ووصفوها بأنها مملة متكلفة، وندد المتزمتون بما فيها من أغاني الحب؛ أما أغسطس فوصف القصائد بأنها قصائد خالدة، وطلب إلى الشاعر أن يتبعها بمجموعة رابعة تصف أعمال دروسس وتيبيريوس في ألمانيا؛ واختار هوراس لكتابة الأناشيد "القرنية" يصف فيها المباريات القرنية. وأجاب الشاعر إلى ما طلب ولكنه لم يجد من نفسه الإلهام الذي يمكنه من تنفيذ هذه الرغبة؛ ذلك بأن الأغاني قد استنفذت كل جهوده، ولهذا رجع في كتابه الأخير إلى الشعر السداسي الأوتاد الذي كتب به كتبه في الهجاء، والذي هو أليق الأوزان بالحديث، فكتب بهِ رسائله، وهي أشبه بحديث ينطق به صاحبه من مقعد مريح. وكان هوراس يريد على الدوام أن يكون فيلسوفاً، وقد غلبت عليهِ هذه النزعة في تلك الرسائل، فاسترسل في الحكم حتى في أثناء ثرثرتهِ. وإذ كان الفيلسوف شاعراً ميتاً وفقيهاً محتضراً، فقد كان هوراس وهو شيخ في الرابعة والخمسين من عمرهِ قد نضجت سنه للبحث في طبيعة الله، والإنسان، والأخلاق، والأدب، والفن.

ص: 77

وكُتبت أشهر رسالة من هذه الرسائل كلها-وهي المعروفة لدى النقاد باسم "فن الشعر" إلى آدبيزونس Ad Pisones- وهم أفراد غير معروفين معرفة أكيدة من عشيرة بيزو Piso. ولم تكن هذه رسالة بالمعنى الحقيقي للرسائل، بل كانت نصيحة قصيرة من صديق إلى صديق يبين له فيها طريقة الكتابة، ويقول له فيها: عليك أن تختار موضوعاً يتفق مع مواهبك، واحذر أن ينطبق عليك المثل القائل تمخض الجبل فولد فأرة

(1)

؛ والكاتب المثالي هو الذي يعلم ويسلى في وقت واحد، "ومن يمزج النافع بالسار يكسب جميع الأصوات (48) ". وتجنب الألفاظ الجديدة، والعتيقة المهملة، والمسرفة في الطول. وأوجز بالقدر الذي يجيزه وضوح معانيك، وامضِ مسرعاً إلى لباب الموضوع. وإذا كتبت الشعر فلا تظن أن العاطفة هي كل شيء، نعم إنك إذا شئت أن يحس قارئك بعاطفة ما فلا بدَّ لك أن تحس بها (49)، ولكن الفن غير الشعور، إنه الصورة التي يعبر بها عنه (وهنا أيضاً يتحدى الأسلوبُ الإتباعي الإسلوبَ الإبداعي

(2)

)، ولكي تصل إلى حسن الصيغة، عليك أن تواصل دراسة آداب اليونان ليلاً ونهاراً؛ وليكن ما تمحوه من كتابتك قد ما تثبته أو قريباً منه.

"واعرض ما تكتبه على ناقد قدير وحاذر من أصدقائك، فإذا إجتازت

(1)

ليس في ترجمة هذا المثل شيء من التصرف بل هي ترجمة حرفية للعبارة الإنجليزية Labouring like a mountain and producing a mouse ولعل العبارة الإنجليزية هي الأخرى ترجمة حرفية للمثل اللاتيني. (المترجم)

(2)

كاد الناس ينسون هوراس في العصور الوسطى، ولكنه استعاد منزلته في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهما عصر العقل والإتباع في الزمن الحديث، حين عمد كل سياسي وكل كاتب وخاصة في إنجلترا إلى نثر عبارات الشاعر وترديدها في صورة ثابتة لا تغيير فيها ولا تبديل. ولقد أعاد بوالو Boileau في كتابه الفن الشعري L'art poétique كتاب هوراس Ad Piones إلى الوجود، وكان هو المشكل والمثبط للمسرحيات الفرنسية حتى زمن هوجو. وحاول بوب Pope في "مقالة النقد" Essay on Citicism أن يضعف من قوة الأدب في إنجلترا بالطريقة عينها ولكن بيرن قضى على كل ما كان لبوب من أثر في هذه الناحية.

ص: 78

كتاباتك هذه المراحل كلها، فأخفها ثماني سنين؛ فإذا لم تجد بعدئذ إنك قد أفدت من نسيانها فانشرها، ولكن اذكر على الدوام أنها لن يعيده إلى الزمن وحده. وإذا كتبت مسرحيات فلتجعل الأعمال لا الأقوال هي التي تقص القصة، وتصور الأشخاص. ولا تمثل الرعب على المسرح، وإلزام وحدة الأعمال والزمان والمكان، واجعل القصة قصة واحدة، تقع حوادثها في زمن قصير وفي مكان واحد. وادرس الحياة والفلسفة، لأن الأسلوب مهما بلغ لا قيمة له من غير الملاحظة والفهم. كن جريئاً في المعرفة". وعمل هوراس نفسه بكل هذه القواعد إلا قاعدة واحدة-فهو لم يتعلم البكاء؛ ذلك أنه لم يكن قوي الشعور، أو أن شعوره قد اختنق فصمت، ولذلك لم يسم قط إلى ذلك الفن الأعلى الذي يجسم الإخلاص في العطف أو "العواطف التي يذكرها أصحابها بهدوء". يضاف إلى هذا أنه كان مسرفاً في تمجيد المدن. ولقد كان قوله: " Nil admirari لا تعجب بشيء قط (50)" نصيحة غير قويمة، لأن الشاعر الحق يجب أن يعجب بكل شيء حتى لو كان كشروق الشمس أو منظر الشجر يحييه كل يوم. وكان هوراس يلاحظ الحياة ويراقبها، ولكنه لم يتعمق في هذه المراقبة، وقد درس الفلسفة واحتفظ على الدوام "باعتدال عقلهِ" ولذلك لم يسم شيء من أغانيهِ فوق المرتبة الوسطى (52). وكان يعظم الفضيلة تعظيم الرواقيين، ويحترم اللذة احترامالأبيقوريين، فيسأل نفسه "أي الناس هو الحر إذن؟ " ثم يجيب كما يجيب زينون: "هو الرجل الحكيم، سيد نفسه، الذي لا يرهب الفقر ولا الموت ولا الأغلال، والذي يتحدى شهواته ويزدري بالمطامع والذ هو كلٌ في نفسهِ (53) ". ومن أنبل قصائده قصيدة تُضرب على نغمة رواقية وتقول:

"إذا كان الرجل عادلاً حازماً فقد تتصدع الدنيا كلها من حوله وتتساقط فوق رأسهِ، وتجده تحت حطامها غير هياب ولا وجل (54) ". ولكن هوراس رغم هذا كله يلقب نفسه بأمانة جذابة: "خنزيراً من حظيرة أبيقور (55) ".

ص: 79

وهو كأبيقور يقدر الصداقة فوق الحب، وكفرجيل يمتدح إصلاحات أغسطس، ويعيش في حياته كلها عزباً". وقد بذل كل ما في وسعهِ داعياُ إلى الدين ولكنه كان لا دين لهُ، وكان يشعر أن الموت يقضي على كل شيء (56).

وقد أظلمت أفكاره أيامه الأخيرة-وأوتي حظه من الأسقام، فكان ممعوداً مصاباً بالنقرس وبغيره من الأمراض. ومن أقواله في رثاء حاله:"إن السنين وهي تمر تسلبنا كل مسراتنا واحدة بعد واحدة (57) ". ويقول لصديق آخر: "واحسرتاه يابستيوس إن السنين تمر بنا سراعاً؛ لن تستطيع تقوانا أن تمنع عنا غضون أجسامنا، أو تقدم أعمارنا، أو الموت الذي لا يُقهر (58) ". وقد ذكر في قصيدتهِ الهجائية الأولى كيف كان يأمل إذا حانت منيته أن يفارق الحياة الدنيا راضياً "كالضيف الذي نال من الوليمة كفايته (59) ". وها هو ذا الآن يقول لنفسهِ: "لقد لعبت ما شئت أن تلعب، وأكلت ما شئت أن تأكل، وشربت ما شئت أن تشرب، وقد آن أن ترحل (60) ". وقد انقضت خمس عشر سنة مذ قال لما سيناس إنه لن يطول أجله كثيراً بعد رجل المال (61). وقد مات ماسيناس في عام 18 ق. م وتبعه هوراس بعد بضعة أشهر، وأوصى بأملاكه إلى الإمبراطور ودفن بجوار قبر ماسيناس.

ص: 80

الفصل الخامِس

‌ليفي

لم يظفر النثر في عهد أغسطس بمثل ما ظفر به الشعر من مؤلفات عظيمة قيمة، فقد اضمحلت الخطابة بانتقال التشريع والقرارات، في الواقع إن لم يكن في الشكل، من مجلس الشيوخ والجمعيات إلى حجرات الزعيم السرية. وظل العلم يجري في مجراه الهادئ تحميهِ من العواصف والأحداث ومصالحه الخيالية، ولم ينتج العصر كله آية أدبية خالدة إلا في التاريخ. وكان صاحب هذه الآية الخالدة تيتس ليفيوس Titus Livius.

ولد تيتس في بتفيوم Patavium (بدوا Padua) في عام 59 ق. م. ثم وفد غإلى العاصمة، وأكب على دراسة البلاغة والفلسفة، وخص السنين الأربعين الأخيرة من حياتهِ بكتابة تاريخ لرومة (23 ق. م-17 م). وذلك كل ما نعرفه عن هذا المؤرخ "فمؤرخ رومة لا تاريخ له"(63). وكان موطنه الأصلي، كموطن فرجيل، وهو إقليم البو، وقد احتفظ على الدوام بفضائل الأقدمين وبساطتهم وتقواهم، ثم نشأ فيهِ احترام قوي للمدينة الخالدة-لعل سببه ما كان يصله عنها من أنباء وهو بعيد عنها. وقد وضع خطة كتابه على أساس واسع عظيم، وقدر له أن يتمه وإن لم يصل من "كتبه" البالغة مائة واثنين وأربعين كتاباً إلا خمسة وثلاثون. وإذ كانت هذه الكتب الباقية تحتويها ستة مجلدات فإن في وسعنا أن نقدر ضخامة هذا المؤلف. ويلوح أن الكتاب قد ظهر أجزاء متتابعة لكل منها عنوان خاص، ويجمعها كلها عنوان واحد هو "من أسس المدينة Ab urbe condita". وكان في وسع أغسطس أن يتغاضى عن ميوله الجمهورية وأبطاله الجمهوريين لأن روح الكتاب الدينية والأخلاقية والوطنية كانت تتفق كل الاتفاق مع خطط

ص: 81

الإمبراطورية السياسية. ومن أجل ذلك اتخذ ليفي صديقاً له وشجعه ليجعل منه فرجيلاً ناثراً يبدأ عمله من حيث تركه الشاعر. وقد فكر ليفي في يوم من الأيام وهو في وسط مرحلته الطويلة التي بدأت في عام 753 ق. م أن ينقطع عن العمل بحجة أنه نال ما يبتغيه من الشهرة الخالدة؛ ثم واصل العمل لأنه على حد قوله وجد نفسه قلقاً حائراً حين امتنع عن الكتابة.

وكان المؤرخون الرومان يرون أن الشعر ولد هجين من أبوين هما البلاغة والفلسفة! وإذا كان لنا أن نصدقهم فإنهم كانوا يؤرخون ليوضحوا المبادئ الأخلاقية بالقصص البليغة، أي أن يجلو المغزى الخلقي بقصة. وقد نُشئ ليفي ليكون ممثلاً، ولكنه حين وجد الخطابة خطرة معرضة للنقد، "اتجه نحو التاريخ" كما يقول تين Taine " لكي يظل كما كان خطيباً"(65). وبدأ كتابه بمقدمة جافة ندد فيها بما كان شائعاً في عصره من فساد وترف وخنوثة؛ وقال إنه دفن نفسه في الماضي لكي ينسي مساوئ الحاضر، "الذي لا نطيق ما ابتلانا من أمراض كما لا نطيق لها علاجاً"، ثم يقول إنه سيتخذ التاريخ سبيلاً لتصوير الفضائل التي رفعت من شأن رومة. وكانت سبباً في عظمتها، وهي اتحاد الأسرة وقداستها، وتقوى الأبناء، والعلاقة المقدسة بين الناس والآلهة في كل خطوة من الخطوات، وقدسية ما يقطعه الناس من عهود وضبط النفس والوقار إلى أقصى حد. ويقول إنه سيجعل رومة الرواقية هذه أمة نبيلة كريمة الأخلاق إلى حد يرى الناس معه أن فتح بلاد البحر الأبيض المتوسط كان من الأعمال التي تحتمها من الأخلاق الكريمة، أو أنها أمر إلهي وشريعة مقدسة نزلت على ما في الشرق من فوضى وما في الغرب من همجية، وسيجعل ما نالته رومة من ظفر نتيجة لما تحلي لها به أهلها من كريم الخلق، كما عزاه بولبيوس إلى نظام حكومتها الصالح الرشيد.

وأكبر ما في الكتاب من عيوب إنما يرجع إلى هذه النزعة الأخلاقية،

ص: 82

ففي على أن مؤلفه رجل يخضع لحكم العقل. وكان احترامه للدين احتراماً مسرفاً إلى حد يكاد يحمله على الأيمان بكل خرافة، ويملأ صحف كتابه بالفأل والطيرة والتنبؤ بالغيب حتى لنشعر ونحن نقرؤها أن الذين يدبرون الحوادث ويقومون بالأعمال هم الآلهة كما نشهد ذلك في أشعار فرجيل. ولسنا ننكر أنه يعبر عن شكهِ أنه يعبر عن شكهِ فيما يروي من أساطير تاريخ رومة الأول، ويبتسم حين يذكرمن الروايات أقلها احتمالاًأسأأ، ولكنه حين يواصل الكتابة لا يفرق بين الأساطير والتاريخ الحقيقي، ويسير وراء أسلافه بلا تميز كبير بين الباطل من أقوالهم والصحيح، ويقبل الأقاصيص والروايات الخيالية التي اخترعها المؤرخون الأولون ليمجدوا بها أسلافهم (66). وقلما يعنى بالرجوع إلى المصادر الأصلية أو الآثار، ولا يشغل نفسه قط بزيارة الأماكن التي وقعت فيها أهم الحوادث. وتراه أحياناً يعمد إلى شرح صحائف كاملة من بولبيوس (67). ويلجأ إلى طريقة القساوة القديمة طريقة الحوليات، فيقص الحوادث التي وقعت في عهد كل قنصل من القناصل، ولهذا فإنك إذا ضربت صفحاً عما فيهِ من بحوث أخلاقية لن تجد فيهِ أثراً للتعليل الصحيح وربط النتائج بأسبابها، بل كل ما تجده سلسلة متتابعة من الأحداث الرائعة. وهو لا يفرق بين الآباء الأجلاف الأولين الذين عاشوا في عهد الجمهورية المبكر وبين أشراف عصره، أو بين السوقة الأشداء الذين أنشئوا الديمقراطية الرومانية والغوغاء الأدنياء الذين قرضوا أركانها، وهو يتحيز للأشراف على الدوام.

ولقد كان السر الحقيقي في عظمة ليفي هو العزة الوطنية التي تجعل رومة في نظرة محقة على الدوام. وهذا السر هو الذي حباه بالسعادة الدائمة في أثناء كدحه الطويل، ولهذا السبب فإننا قلما نجد كاتباً نفذ خطة واسعة كخطتهِ بمثل ما نفذها هو في أمانة أشعرت قراءة الأقدمين ولا تزال تشعرنا نحن بعظمة رومة وبما قدر لها في عالم الغيب من مصير. ولقد كان هذا الشعور

ص: 83

بعظمة رومة هو مصدر ما في أسلوب ليفي من نشاط، وما في أشخاصه من قدرة، وما في وصفهِ من بهجة وقوة، وما في نثره من انسجام رائع جليل. وإن الخطب التي اخترعها من عنده وبثها في تاريخه لتعد آيات في الخطابة أصبحت من بعدهِ نماذج تُحتذى في المدارس، وإن القارئ ليسحر لبه ما يتخلل الكتاب كله من أخلاق كريمة؛ فليفي لا يعمد إلى الصخب والضجيج، ولا يقسو في أحكامهِ على الناس، وعطفهِ على الدوام أوسع من علمهِ وأعمق من فكرهِ. وهذا العطف يفارقه حين يروي قصة هنيبال، ولكننا لا يسعنا أن نغفر ذلك لهُ، وهو إلى هذا يكفر عن هذا الذنب بتتابع حوادث القصة وروعتها التي تصل إلى ذروتها حين يصف الحرب البونية الثانية.

ولم يكن قراؤه يهتمون بما في كتابهِ من أخطاء، ومن نقص في الدقة، ومن تحيز، وكانوا يحبون أسلوبه وقصصه، ويبتهجون بالصورة الواضحة التي صور بها ماضيهم. وكانوا يعدون كتابهُ "من أسس المدينة" ولحمة منثورة من أنبل ما خلفه عصر أغسطس، والنزعة التي سادت ذلك العصر. ولقد ظل كتاب ليفي يلون أفكار الناس عن تاريخ رومة وأخلاق أهلها ثمانية عشر قرناً كاملة تبدأ من أيامه. وحتى الذين كانوا يقرءون كتابه من أهل البلاد الخاضعة لسلطان الرومان قد تأثروا بهذا السجل الضخم للفتوح التي لم يكن لها نظير من قبل، وبالأعمال الضخمة الجبارة التي قام بها رجالها. ويقص بلني الأصغر قصة أسباني تأثر بكتاب ليفي تأثراً حمله على أن يسافر من قادس Cadiz إلى رومة لعله يلقاه فيها. فلما حقق رغبته وصلى لربهِ، ونسي كل ما عدا ذلك من الحقوق، وعاد راضياً إلى موطنه عند المحيط الأطلنطي (68).

ص: 84

الفصل السّادس

‌ثورة العاشقين

وظل الشعر في هذه الأثناء ينتشر وتعلو مكانته، ولكن على غير ما كان يشتهي أغسطس. ذلك أن الفنانين العظماء، أمثال فرجيل وهوراس، وهم وحدهم الذين يستطيعون قرض الشعر الجيد في الموضوعات التي تطلبها الحكومة؛ فأما من كانوا أعلى من هذين الشاعرين قدراً فإنهم لا ينصاعون إلى هذه المطالب، وأما من كانوا أقل منهما شأناً فإنهم لا يستطيعون إجابتها. وقد خضع مصدران من مصارد الشعر الكبرى- الدين، الطبيعة، والحب- إلى سلطان الإمبراطورية، أما المصدر الثالث فقد ظل خارجاً على سلطانها غير خاضع لأي قانون حتى في أغاني هوراس. ثم فر الشعر فراراً بطيئاً على يد تيبلس Tibullus وبروبرتيوس Propertius، وثار ثورة سارت في طريق يحفه المرح المتزايد إلى خاتمة مفجعة.

وتفصيل ذلك أن ألبيوس تيبلس (54 - 19) خسر الأرض التي ورثها عن آبائهِ كما خسر فرجيل أرضه حين وصلت نيران الحرب الأهلية بلدة بدوم Pedum- قرب تيبور Tibur- مسقط رأسه. وأنقذه مسالا من الفقر وأخذه مع حاشيته إلى بلاد الشرق، ولكن تيبلس مرض في الطريق وعاد إلى رومة مغتبطاً بنجاحه من الخرب ومن السياسة، فقد أمكنه ذلك من أن يصرف جهوده كلها في التغني بعشق الفتيات والفتيان، ونظم المراثي المصقولة على نمط يونانيّ الإسكندرية. وكتب الابتهال المألوف إلى دليا Dilia (وهو اسم لا نعرف عنه أكثر من هذا ولعله لم يقصد بهِ فتاة بعينها بل كان يسمى بهِ الكثيرات من عشيقاتهِ) التي تجلس أمام بابها كالحارسة العنيدة (69)، يُذكّرها كما ذًكرت كثيرات من الغانيات قبلها أن الشباب

ص: 85

لا يجيء إلا مرة ثم ينقضي مسرعاً خفية؛ ولم يقلق باله أن دليا متزوجة، فقد أنام زوجها بأن قدم له نبيذاً مركزاً، ولكنه استشاط غضباً حين فعل به عاشقها الجديد ما فعله هو بزوجها (70). ولعل هذه الموضوعات العتيقة لم تكن خليقة بإقلاق بال أغسطس، أما الذي جعل تيبلس، وبروبرتيوس وأوفد مبغضين إلى حكومة تلقى أشد الصعاب في وجود مجندين للجيش فهو النزعة المؤثرة القوية المضادة للجندية، والتي كانت تتصف بها هذه العصبة المتحللة في حبها من جميع القيود. ذلك أن تيبلس يسخر من المحاربين الذين يسعون إلى الموت في الوقت الذي يستطيعون فيهِ أن يغرَّروا بالنساء، ويتحسر على عهد زحل ويتصوره عهداً:

لم يكن فيه جيوش، ولا حقد، ولا حرب

فلم تكن حرب حين كان الناس يشربون من أقداح خشبية

ألا فأعطني الحب وحده ودَع غيري يذهب إلى الحرب

فالبطل هو الذي يدركه الكبر في كوخهِ المتواضع بعد أن وُلد له بنون، فتراه يرعى الماشية وابنه يرعى الضأن، وزوجته الصالحة تسخن الماء لجسمه المتعب. فلأعش حتى تصبح كل شعرة من شعر رأسي ناصعة البياض، وأحدّث عن الأيام الخوالي كما يتحدث الشيوخ" (71).

أما سكستس بروبرتيوس (49 - 15) فكانت أغانيه أقل بساطة وأقل حناناً، يزينها العلم أكثر مما يزين أشعار تيبلس، وتماثلها فيما تحتويهِ من أناشيد الدعارة الهادئة. وقد ولد سكستس في أمبريا Umbria وتلقى العلم في رومة، وسرعان ما آل إلى قرض الشعر، وضمه ماسيناس إلى ندوتهِ على الإسكولين Esquiline وإن لم يكن في القراء- إلا قلة ضئيلة منهم- من يستطيع أن يستخرج أفكاره من أغوار حذلقته. وهو يصف في زهو وسرور الولائم التي كانت تقام على شاطئ نهر التيبر، حيث كان يحتسي خمر لزبس Lesbos في كؤوس من صنع الفنانين العظام "وهو جالس كأنه على عرش بين النساء

ص: 86

المرحات"، يرقب السفن تجري في النهر من تحته (72). وكان بروبرتيوس يتغنى بمدح الحرب من حين إلى حين ليطرب بذلك وليّ نعمته وزعيمه؛ أما حبيبته سنثيا Cynthia فكانت لها عنده نغمة أخرى، فهو يقول لها: "لِمَ أنجب أبناء ليضحى بهم في الانتصارات البارثية Parthian؟ لا، لن يكون ولد من أبنائنا جندياً" (73)، وهو يؤكد لها أن كل ما في العالم من أمجاد عسكرية لا يعادل ليلة واحدة مع سنثيا (74).

وإذا أحصينا كل هؤلاء الأبيقوريين خفاف القلوب والأحلام، الذين كانوا يقضون حياتهم بين الحب والصد كان ببليوس أفيديوس نازو Publius Ovidius Naso أنموذجهم السعيد وحامل لوائهم جميعاً. وكان مولده عام 43 ق. م سلمو Sulmo (سلمو)، وهي بلدة في واد جميل من وديان الأبنين على بُعد تسعين ميلاً أو نحوها شرقي رومة. وكان يتخيلها من منفاه في سنيه الأخيرة بلدة جميلة ذات كروم وغياض من شجر الزيتون، وحقول من القمح، ومياه جارية. وأرسله أبوه- وكان رجلاً ثرياً من رجال الطبقة الوسطى- ليدرس القانون في رومة، ولكنه صُدم حين سمع أن ابنه يريد أن يكون شاعراً. فأخذ يذكر للصبي ما لقيه هومر من مصير محزن؛ فقد مات هذا الشاعر- كما يقول أحسن الناس علماً بأخباره- فقيراً أعمى. وأثّر هذا التحذير في أوفد فواصل دراسة القانون وارتقى حتى صار قاضياً في المحاكم البريتورية، وأبى أن يتقدم ليكون كوسترا، فحزن لذلك أبوه أشد الحزن (لأن هذا المنصب كان يؤهله لأن يكون عضواً في مجلس الشيوخ)؛ وفضل أن يعمد إلى دراسة الأدب وإلى الحب، محتجاً بأنه لا يسعه إلا أن يكون شاعراً "ولثغت بالأوزان فجاءت الأوزان"(75).

وسافر أوفد على مهل إلى أينة وإلى الشرق الأدنى وصقيلة، ولما عاد انظم إلى زمرة أكثر الناس مجنوناً وخلاعة في العاصمة، وكان ذا نصيب موفور

ص: 87

من الجمال، والذكاء، والعلم، والمال، فاستطاع بذلك أن يفتح جميع الأبواب المغلقة. وتزوج مرتين في شبابهِ، وطلق زوجته، ثم قضى بعض الوقت يرعى في المراعي العامة

(1)

ويقول: "فليجد غيري مسراتهم في الماضي، وأما أنا فما أسعدني إذ ولدت في هذا العصر الذي توائم أخلاقه أخلاقي"(76). وكان يسخر من الإنياذة، ولم يفد منها إلا نتيجة واحدة، هي أنه لما كان ابن الزهرة هو الذي أنشأ رومة فقد وجب أن تصبح مدينة الحب لتدل على تقى أهلها وصلاحهم إن لم يكن ذلك لسبب آخر (77). وخلبت لبه عاهر جميلة يسميها كورنا Corinna إخفاء لاسمها عن القراء، أو لعل ذلك اسم يطلقه على الكثيرات غيرها من النساء اللاتي وقع في حبهن. وسرعان ما وجدت أشعاره المكشوفة فيها من ينشرها له، فنشرت بعنوان الغزليات Amores في عام 14 م، ولم تلبث إلا قليلاً حتى جرت على لسان كل شاب في رومة حديثاً وغناء. ويقول هو في ذلك:"إن الناس في كل مكان يريدون أن يعرفوا من تكون كورونا هذه التي أتغنى بحبها"(78). وقد أضلهم هو في مجموعة أخرى من الغزليات في وصف الحب الخليط فقال:

"ليس الذي يثير عاطفتي هو الجمال الثابت؛ بل إن ثمة مائة سبب تحفظ لي حبي، فإذا رأيت فتاة جميلة ذات عينين ناعستين مطرقتين إلى حجزها اشتعلت نارالحب في قلبي، وأسرتني بسذاجتها. وإذا أبصرت فتاة خليعة، اخترقت سهام لحاظها قلبي، لأنها ليست قروية ساذجة، لأنها تقوى أملي في أن أضمها إلى صدري على فراشي الوثير. وإذا تمنعت وتظاهرت بالعناد والصلابة حكمت بأنها ستخضع لي لا محالة، ولكنها ممعنة في خداعها. وإذا كنت عالمة ضليعة بما في الكتب اتهويتني بشمائلك النادرة

وتخطر

(1)

يريد من غير زواج. (المترجم)

ص: 88

إحداهن الهوينا فأحبها لحسن خطاها، وتخطو الأحرى بقوة، ولكنها ترق إذا طاف بها طائف الحب .. وإذا غنت فتاة بصوت شجي .... خطفت منها القبلات في أثناء الغناء، وإذا ضربت الأخرى بأناملها الخفيفة على الأوتار الشاكية- فمنذا الذي لا يقع في حب هاتين اليدين الماهرتين؟ وهذه تأسرني بحركاتها، إذا ما حركت يديها في اتزان وانسجام، وتفننت في ثني خصرها الرقيق فتذكى النار في قلبي الذي تلتهب فيه نيران الحب لأقل الأسباب .... ضع هبوليتس Hippolytus في مكاني يصبح بريابس Priapus!

إني لتفتنني الطويلة والقصيرة على السواء، فكلتاهما تضرم النار في قلبي

وإني لأتقدم إليهما ضارعاً متوسلاً أن يستجيبا لحبي (79).

واعتذر أوفد عن عدم التغني بمجد الحرب، وقال إن كيوبد Cupid جاءه واحتلس قدماً من شعره وتركه أعرج (80). وكتب مسرحية لم يُعثر عليها بعد وهي مرحية ميديا Medea قوبلت بقبول حسن، ولكنه كان على العموم يفضل الشعر الغزلي أو كما يسميه هو "ظلال الزهرة الكسول"، ولا يرغب في أكثر من أن يسمى "المنشد المعروف بأساليبه التافهة"(81). وأغانيه هي بعينها أغاني جماعة التروبدور سبقتها بألف عام كاملة، وموجهة مثلها للسيدات المتزوجات. وهي تجعل المغازلة أهم أعمال الحياة. ويعلم أوفد كورنا كيف تتحدث إليه بالإشارات وهي مضطجعة على فراش زوجها (82)، ويؤكد لها أنه سيظل وفياً لها أبد الدهر، وأنه لن يزني بغيرها أبداً:"فلست زير نساء يتنقل من هذه إلى تلك ويحب مائة امرأة في وقت واحد". ثم يحظى بها آخر الأمر ويكتب قصيدة ابتهاجاً بنصره، ويثني فيها عليها لطول صدها عنه، وينصحها بأن تعود إلى هذا الصد من حين إلى حين، حتى يدوم حبه لها أبد الدهر. ثم يخاصمها ويضربها، ويندم على فعلته، ويحزن ويجن بحبها أكثر من ذي قبل، ويفعل ما يفعله رميو فيتوسل إلى الليل أن يطول وإلى الفجر ألاّ يطلع، ويرجو أن تهب

ص: 89

ريح مواتية فتحطم قطب عربة الفجر. وتخدعه كورونا كما خدعها، ويستشيط هو غضباً حين يعرف أنها لا تجد فيما لها في شعرهِ من خشوع جزاءً كافياً لحبها له؛ وتقّبله طالبة إليه أن يصفح عنها ولكنه لا يسامحها لما كسبته من حذق جديد في بث لواعج الهوى، ويقول إن معلماً جديداً قد علمها هذا الحذق (83). وبعد بضع صفحات من الكتاب نجده يحب فتاتين في وقت واحد كلتاهما جميلة حسنة الذوق في اختيار ملابسها، مهذبة، مثقفة" (84). ثم لا يلبث أن يساوره الخوف من أن يقضي عليه توزيع قلبه بين حبيبته، ولكنه يقول إنه يسعده أن يخر صريعاً في ميدان الحب (85).

ولاقت هذه القصائد قبولاً لا بأس به من المجتمع الروماني بعد أربع سنين من صدور قوانين الإصلاح اليوليوسية، وظلت بعض الأسر العظيمة أمثال أسرة الفابيين والكرفينيين، والبمبونيين تستضيف أوفد في بيوتها؛ وازدهى الشاعر بما ناله من نصر فأصدر كتاباً في التغرير بالنساء سماه فن الغرام Ars Amatoria (2 م) يقول فيهِ. "لقد عينتني الزهرة معلماً للحب". وهو يحذر قرائه تحذيراً ينطوي على العفة والطهارة فيقول إن أمثاله يجب إلا تطبق إلا على الجواري والسراري؛ ولكن ما يفيض به الكتاب من تصوير للصداقات الوثيقة، ومواعيد اللقاء السرية، والرسائل الغرامية، ومن هزل وفكاهة، وخيانة أزواج، وخادمات محتلات ماهرات، كل هذا يوحي بأن الكتاب إنما يصور أحوال الطبقتين العليا والوسطى في رومة. وأراد أن لا تكون دروسه سريعة الأثر فوق ما يجب أن تكون فأضاف إلى رسالته الأولى رسالة ثانية في علاج الحب Remedia Amoris يقول فيها إن خير علاج من داء الحب هو العمل الشاق، ثم يليه في القوة الصد، ويأتي بعدهما الغياب، ومن المفيد أيضاً أن تفاجئ حبيبتك في الصباح قبل أن تتم زينتها (90). ثم أراد آخر الأمر أن يوفق بين آرائه الأولى والثانية فأخرج رسالة ثالثة عنوانها: De Medicamina Fociei Feminineae وهي رسالة شعرية في

ص: 90

أصباغ التجميل وأدهانه، أخذ ما فيها عن اليونان. ولاقت هذه الرسائل الصغيرة رواجاً عظيماً، وانتشرت بسببهِ سمعهة أوفد السيئة في كل مكان، ويقول في ذلك:"ما دامت شهرتي قد طبقت العالم كله فإني لا يعنيني قط ما يقوله عني شخص أو شخصان"(91) ولم يكن وهو يقول هذا يعر أن أحد هذين الشخصين الحقيرين هو أغسطس نفسه، وأن قصائده قد أغضبت الزعيم، وأنه يراها إهانة لحقت بالقوانين اليوليوسية، وأنه لن ينسى هذه الإهانة حين تخطر الفضائح الإمبراطورية على بال الشاعر الغافل.

وفي السنة الثالثة بعد الميلاد تزوج أوفد للمرة الثالثة، وكانت زوجته الجديدة من أكبر الأسر الممتازة في رومة؛ واستقر الشاعر، وكان وقتئذ في السادسة والأربعين من عمرهِ، في حياته المنزلية الهادئة، ويلوح أنه هو وزوجته قد تبادلا الوفاء والإخلاص والهناءة في فابيا Fabia، وفعلت به السن ما لم يفعل به القانون، فأخمدت نيران عواطفه وجعلت شعره جديراً بالاحترام. فروى في كتابهِ Heroides قصصاً عن حب شهيرات النساء أمثال بنلبي Penelope وفيدرا Phaedra وديدو، وأريدني Ariadne، وسابفو، وهلن Helen، وهيرو Hero ولعله أسرف في طول هذه القصص حتى أمل، لأن التكرار قد يجعل كل شيء حتى الحب نفسه مسئماً. على أن مما يثير الدهشة حقاً في هذه القصص جملة على لسان فدرا تعبر فيها عن فلسفة أوفد:"لقد حكم جوف بأن الفضيلة هي كل ما يهبنا اللذة"(92). ونشر الشاعر حوالي 7 م أعظم مؤلفاته كلها وهو كتاب "التحول Metamorphoses. ويتألف من خمسة عشر سفراً، تقص في شعر سداسي الأوتاد تحول الجماد والحيوان والناس والآلهة. وإذا كان كل شيء في الأساطير اليونانية الرومانية، إلا القليل النادر، قد بدل صورته، فقد استطاع أوفد بفكرتهِ هذه أن يغترف من بحر الأساطير القديمة كلها إلى تأليه قيصر، وكانت كتاباته هي القصص التي ظلت ذات شأن عظيم في برامج الكليات جميعها حتى الجيل السابق على جيلنا

ص: 91

هذا، بل إن ثورة هذه الأيام لم تَمحِ بعد ذكرها من العقول: كقصص عربة فيتون Phaethon's Chariot، وببراموس وثزبي Pyramus & Thisbe وبرسيموس وأندرمدا Perseus & Andromeda، وسرقة برسبرين The Pape of Prosperine، وأورثوزا Arethusa، ميديا Medea، وديدالوس وأيكاروس Daedalus & Lacrus، وبوسيز وفليمون Baucis & Philemon، وأورفيوس ويورديس Orpheus & Eurydice، وأطلنطا Atlanta، وفينوس وأدنيس Venus & Adonis وكثيراً غيرها. هذا هو المعين الذي استمدت من مئات الآلاف من موضوعات القصائد، والرسوم والتماثيل. وإذا كان لا بد للإنسان أن يواصل دراسة الأساطير القديمة، فإن أيسر السبل إلى دراستها أن يقرأ قصص هذا الحشد العظيم من الآدميين والآلهة، وهي قصص تروى بكثير من التشكك الفكه النزعة الغزلية، وللفن فيها أثر دائم عظيم يعجز عنه العابث غير القدير، ولا يصل إليهِ إلا من أوتي المقدرة والصبر الطويل، فلا عجب والحالة هذه أن يعلن الشاعر الواثق من نفسه في ختامها أنه من الخالدين:" Per Saecula Omnia Vivam سأعيش إلى آخر الدهر".

وما كاد يفرغ من كتابة هذه العبارة الأخيرة حتى ترامى إليهِ أن أغسطس قد أمر بنفيهِ إلى بلدة تومي Tomi الباردة الهمجية الواقعة على ساحل البحر الأسود وهي المعروفة الآن بقسطنطة، والتي لا تزال غير محببة إلى غير أهلها. وتلك كارثة لم يكن الشاعر مستعداً لتحملها في مثل سنه، وكان قد أتم في هذا الوقت إحدى وخمسين عاماً، وفرغ توّاً، قبيل انتهائه من كتاب "التحول"، من قصيدة من الشعر الجيد يثني فيها على الإمبراطور ويعترف فيها بأن سياسته قد نشرت لواء السلام والأمن والرفاهية التي يستمتع بها الجيل الذي يعيش فيهِ أوفد. وكان فوق هذا قد أتم نصف قصيدة تدعى فاستي Fasti وهي قصيدة تكاد تكون من القصائد التقية تتحدث عما في السنة الرومانية م أعياد دينية. وكان يوشك

ص: 92

أن يجعل هذه القصيدة ملحمة موضوعها من التقويم الروماني، لأنه استخدم في رواية قصص الدين القويم وفي تكريم هياكله وآلهته ما استخدمه في الأساطير اليونانية والغزَل الروماني من أسلوب سهل واضح وعبارات وجُمل رقيقة. وكان يرجو أن يهدي القصيدة إلى أغسطس ليشترك بها في إعادة الدين القويم إلى سابق عهدهِ، ولتكون بمثابة اعتذار منه عن سخريته بهذا الدين، وإنكار لما فرط منه في حقهِ.

ولم يتبين الإمبراطور من قراره أسباب نفيه، وليس في مقدور أحد أن يعرففي هذه الأيام حقيقة هذه الأسباب. على أن ثمة إشارة بعيدة من الإمبراطور لأسباب هذا النفي، فقد نفى في الوقت نفسه حفيدته يوليا وأمر بإخراج كتب أوفد من دور الكتب العامة. ويلوح أن الشاعر كان له بعض الشأن في مسلك يوليا الشائن، سواء كان حظه فيهِ حظ الشاهد، أو المشارك، أوالفاعل الأصلي. أما هو نفسه فيقول إنه عوقب بسبب "خطأ" وقع فيه وبسبب قصائده، ويذكر ما يوحي بأنه شهد على الرغم منه منظراً غير لائق (93). وأجيز له أن يبقى في أثناء الشهور الباقية من عام 8 م ينظم فيها شؤونه. وكان القرار مجرد إبعاد، أخف من النفي، يسمح له بأن يحتفظ بأملاكهِ، ولكنه أقسى منه إذ يلزمه بالإقامة في مدينة واحدة. فلم يكن منه إلا أن أحرق كتاب التحويل، وإن يكن بعض القراء قد نقلوا صوراً منه واحتفظوا بها لأنفسهم. وابتعد عنه معظم أصدقائه (94) وعرض بعضهم أنفسهم لأشد الأخطار ببقائهم معه إلى ساعة رحيله؛ وشجعته زوجته وأعانته على تحمل محنته بما أظهرت له من الحب والإخلاص، وإن لم تسافر معه إطاعة لأمره. وإذا استثنينا هذه المظاهر القليلة فإن رومة بأسرها لم تظهر شيئاً من الاهتمام بشاعر أفراحها ومسراتها حين أبحر من أستيا ليبدأ سفره الطويل وابتعاده عن كل شيء يحبه. وكان البحر هائجاً طوال أيام الرحلة تقريباً،

ص: 93

وخيل إلى الشاعر مرة أن الأمواج ستبتلع سفينتة، ولما أبصر تومي حزن إذ بقي على قيد الحياة واستسلم للحزن واليأس.

وكان في أثناء الرحلة قد شرع ينظم القصائد المعروفة لنا باسم الأحزان Tristia. فلما جاء المدينة واصل نظمها وبعث بها إلى زوجته وابنته وربيبته وأصدقائه. وأكبر الظن أن الروماني المرهف الحس قد بالغ في وصف أهوال موطنه الجديد حين عنه إنه: مكان قفر خالٍ من الأشجار لا ينبت فيهِ شيء وإن كان ضباب البحر الأسود عنه الشمس، وإن البرد يشتد فيهِ حتى يبقى ثلج الشتاء في بعض السنين طوال فصل الصيف، ويتجمد ماء البحر الأسود في فصل الشتاء المظلم الكئيب، كما يتجمد ماء نهر الدانوب حتى ليسهل أن يمر عليهِ البرابرة الضاربون حول المدينة على أهلها وهم خليط من الجيتا Getae حملة الخناجر واليونان المهجنين. ولما فكر في سماء رومة الصافية وحقول سلمو Sulmo الناضرة تحطم قلبه أسىً وحسرة، وسرى في شعرهِ- وكان لا يزال جميلاً في شكله ولفظه- شعور عميق قوي لم يسر فيه قبل.

وتتصف "الأحزان" هي والرسائل الشعرية التي كتبها لأصدقائه "من البحر الأسود Ex Ponto" بكل ما تتصف به أعماله العظيمة من سحر وجمال، فقد بقي له في منفاه كل ما كان له من ألفاظ سهلة يبعث بها السرور في القلوب حتى وهو في المدرسة، ووصف للمناظر تكتسب وضوحها من نفاذ بصره ومن خياله، وقدرة على تصوير الأسخاص وبث الحياة فيهم بما أوتي من دقة ومهارة سيكلوجية، وعبارات موجزة مليئة بالتجربة والتفكير، ورقة في الحوار، ويسر وسهولة في الأوزان، كل هذه الخصائص قد بقيت له في منفاه وخالطها جِدٌّ ووقار ورقة، كان افتقار قصائده الأولى إليها مما جعلها غير جديرة بالرجال. وكان ينقصه في جميع مراحل حياته قوة الخلق؛ وكما أنه قد أفسد

ص: 94

شعراء في وقت من الأوقات بما ملأه به من وصف الشهوات الجنسية التافهة، فقد أغرق الآن أشعاره بفيض من الدموع والتضرع للزعيم والتذلل له.

وكان يحسد القصائد التي تستطيع الوصول إلى رومة، ومن أقواله في هذا المعنى:"ارحلي أيتها الكتب وحيي باسمي الأماكن التي أحبها" و "أرض بلادي العزيزة على"(95) ويتمنى لو أن صديقاً شجاعاً حمل هذه الرسائل إلى الإمبراطور فأشفق عليه. وهو يفصح في كل رسالة عن أمله في أن يعفو الإمبراطور عنه، أو يأمر بنقله إلى مكان أقل قسوة من منفاه. وهو لا ينفك يفكر في زوجته ويردد اسمها في أثناء الليل، ويتمنى أن يقبل شعرها الأبيض قبل أن تحين منيته (96). ولكنه لم يصله عفو، حتى إذا قضى في المنفى تسع سنين وبلغ من العمر ستين عاماً، رحب بالموت، وجيء بعظامه إلى إيطاليا استجابةً لرجائه، ودفنت بجوار عاصمة البلاد.

وحققت الأيام ما تنبأ لنفسه من شهرة خالدة، وكان له في العصور الوسطى ما لفرجيل من أثر عميق، وأضحى كتاباه "التحولات" والهيرويدات مصدر كثير من روايات الحب في تلك العصور، واستمد منه بوكاشيو، وتسو، وتشوسر، واسبنسر كثيراً من موضوعاتهم، ووجد مصورو النهضة في أشعاره الشهوانية كنزاً من الموضوعات لا ينضب له معين، وملاك القول أنه كان أعظم شاعر وجداني إبداعي في العصر العقلي الإتباعي.

وانقضى بموته عهد من العهود الزاهرة في تاريخ الأدب. ولا جدال في أن عصر أغسطس لم يكن من أزهى عصور الأدب كما كان عصر بركليز في اليونان أو عصر إلزبث في إنجلترا.

وقد كان حتى في أحسن ما أخرجه من النثر بلاغة طنّانة، وفي خير ما أخرجه من الشعر كمال في الشكل قلّما ينتقل كلاهما من القلب إلى القلب.

ص: 95

ولسنا نجد في هذا العصر من يضارع إسكلس أو يوربديز أو سقراط أو حتى لكريشيوس أو شيشرون. لقد كان احتضار الإمبراطور للأدباء هو الذي يلهم أدب رومة ويغذيه ويقمعه ويضيق عليه. وإن العصر الأرستقراطي- كعصر أغسطس أو لويس الرابع عشر أو القرن الثامن عشر في إنجلترا- إن هذا العصر ليعلي من شأن الاعتدال والتوسط، وحسن الذوق، ويوجه الأدب وجهة "إتباعية" في الأسلوب يعلو فيها العقل والشكل على الوجدان والحياة. وذلك أدب أكثر صقلاً وأقل حيوية، وأنضج وأقل تأثيراً من أدب العصور أو العقول المبدعة العاطفية. ولكننا إذا أغضضنا الطرف عن هذا ونظرنا إلى أدب ذلك العصر في نطاق الأدب العقل الإتباعي وجدناه جديراً باسمه؛ فنحن لا نرى من قبله حكماً رزيناً قد عبر عنه بمثل هذا الفن البالغ أوج الكمال، وحتى المرح الجنوني الذي وصفه أوفد قد خفف من حدته القالب الإتباعي الذي صب فيه. وقد بلغت اللغة اللاتينية في شعره وشعر فرجيل وهوراس أعلى ما وصلت إليه بوصفها أداة لقرض الشعر، ولم تبلغ بعدهم ما بلغته في أيامهم من ثراء في اللفظ، وفخامة في النغم، ودقة في التعبير مع إيجاز ومرونة وعذوبة ألفاظ.

ص: 96

الباب الثالث عشر

‌الجانب الآخر من الملكية

14 -

96

(1)

م

الفصل الأوَّل

‌تيبيريوس

إذا نزل العلماء من عليائهم إلى ميدان العواطف زاد العلم ولعابها؛ أما إذا كانت العواطف هي المسيطرة على السياسة تصدعت أركان الإمبراطوريات وزلزلت دعائمها. وكان اختيار أغسطس لتيبيريوس اختياراً حكيماً، ولكنه جاء بعد فوات الفرصة. ولما كان تيبريوس يعمل على إنقاذ الإمبراطورية بصبره وحسن قيادته أوشك الإمبراطور أن يحبه، فقد جاء في ختام إحدى الرسائل التي وجهت إليه: "وداعاً يا أحب الناس إليّ

ويا أشجع الرجال، ويا أعظم القواد إخلاصاً وأحياهم ضميراً" (1). ولكن عاطفة الجوار وقرب الدار أعمت أغسطس كما أعمت من بعده أورليوس، فنأى بجانبه عن تيبيريوس وقرب إليه أحفاده الصغار، واضطره إلى التخلي عن زواج سعيد موافق ليكون ديوث يوليا، وغضب منه حين لم يرض عن سلوكها، وتركه يبلغ سن الشيخوخة وهو يدرس الفلسفة في رودس. ولما تولي تيبيريوس رياسة الدولة في آخر الأمر كان قد بلغ الخامسة والخمسين من عمره، وكره المجتمع، ولم يعد يرى في السلطان سعادة.

(1)

ستكون كل التواريخ الواردة في هذا الباب وما يليه بعد الميلاد إلا إذا نبهنا بأنها قبله.

ص: 97

وإذا شئنا أن نفهمه على حقيقته وجب علينا أن نذكر أنه من آل كلوديوس وأنه كان أول الفرع الكلودي من الأسرة اليوليوسية الكلودية التي كان آخرها نيرون. وقد ورث عن أبويه أنبل دم في إيطاليا، وأضيق أهلها أفقاً، وأقواهم إرادة. وكان طويل القامة شديد البأس، حلو الملامح، ولكن حب الشباب ضاعف من حيائه، وسماجة طباعه، وإحجامه وحبه للعزلة (2). ويمثل رأسه الجميل المحفوظ في متحف بسطن في صورة قس شاب عريض الجبهة، واسع العينين غائرهما، ذي وجه يدل على الحزن وعميق التفكير، وقد بلغ من جده ووقاره في شبابه أن أطلق عليه بعض المجان اسم "الرجل العجوز". وقد أخذ من التربية كل ما يستطيع أن يأخذه عن الرومان واليونان والبيئة والتبعة، وأتقن اللغتين اليونانية والرومانية وآدابهما، وكتب الأغاني الشعرية، ودرس التنجيم و "غفل عن الآلهة"(3). وكان يحب أخاه الأصغر دروسس رغم أنه كان أحب منه إلى الشعب؛ وكان زوجاً مخلصاً وفياً لفسبانيا Vipsania مكرماً لأصدقائه إكراماً لم يكون يترددون معه في أن يهدوا إليه الهدايا وينتظروا منه أن يهدي إليهم أربعة أمثالها. وكان أقسى قواد زمانه وأقدرهم، فنال بذلك إعجاب جنوده وتعلقهم به، لأنه كان يعني بكل شؤونهم مهما صغرت، ولأن كان يكسب المعارك بفنه أكثر مما يكسبها من دماء جنده.

ولكن فضائله هي التي قضت عليه، فقد كان يصدق القصص التي تروى عن أعمال أسلافه، وكان يتوق إلى صرامة الرومان الأقدمين تعود إلى المدنية الجديدة، وارتاح إلى إصلاحات أغسطس الأخلاقية، ولم يخف قط عزمه على تنفيذها طوعاً أو كرهاً. ولك يكن يحب ذلك الخليط من الأجناس الذي كان يغلي في بوتقة رومة، فقدم إليهم الخبز ولكنه لم يقدم إليهم الألعاب، وأغضبهم بامتناعه عن حضور ما كان يقدمه إليهم منها أثرياء المدينة. وكان قوي الاعتقاد بأن رومة لا ينجيها مما تردت فيه من الانحطاط إلا طبقة

ص: 98

من الأشراف الصلاب ذوي الخلق القويم والذوق الجميل. ولكن الأشراف والعامة على السواء لم يطيقوا صلابة عوده، وصرامة وجهه، وصمته الطويل، وحديثه البطيء، وما يبدو عليه من علم بتفوقه، وفوق هذا كله اقتصاده الشديد في أموال الدولة. فهو والحالة هذه رواقي ولد خطأ في عصر أبيقوري. وقد حالت أمانته الصارمة بينه وبين تعلم فن سنكا، فن الدعوة إلى عقيدة بلغة مزينة جميلة، وإتباع عقيدة أخرى والمثابرة عليها بتجمل وكياسة.

وظهر تيبيريوس أما مجلس الشيوخ بعد أربعة أسابيع من وفاة أغسطس، وطلب إليه أن يقرر إعادة الجمهورية، وقال للأعضاء إنه لا يصلح لحكم تلك الدولة المترامية الأطراف، "وإن خير طريقة لإدارة أعمال المصالح المختلفة التي تشرف على الشؤون العامة في مدينة احتوت هذا العدد الجم من الرجال النابهين ذوي الأخلاق العالية

أن يتولاها جماعة مؤتلفون من خير المواطنية وأعظمهم كفاية" (4). ولم يجرؤ أعضاء المجلس على أن يصدقوا ما يقوله لهم، فحيوه كما حياهم بطأطأة رؤوسهم، وما زالوا به حتى قبل أن يتولى السلطة التي قال عنها "إنها استرقاق مبهظ مذل" على أمل أن يسمح له المجلس في يوم من الأيام أن يعتزلها ليحيا حياته الخاصة متمتعاً بالحرية (5). وهكذا مثلت الرواية من كلا الجانبين أحسن تمثيل. وما من شك في أن تيبيريوس كان يريد أن يتولى الزعامة وإلا لوجد سبيلاً إلى الفرار منها، وأن مجلس الشيوخ كان يخشاه ويبغضه، ولكنه كانت ترهب عودة جمهورية تقوم، كما كانت تقوم الجمهورية القديمة، على جمعيات تعد من الوجهة النظرية مصدر السلطات جميعها، وكان يرغب في نظام أقل دمقراطية من هذا النظام السالف الذكر لا أكثر منه. ولشد ما ابتهج حين أقنعه تيبيريوس (14 م) أن يأخذ من الجمعية المئوية حق اختيار الموظفين العموميين. وشكا المواطنون من هذا الانقلاب بعض الوقت وكان سبب شكواهم أنهم خسروا الأموال التي كانت تبتاع بها أصواتهم، وأضحى كل ما بقي بعدئذ من السلطة لعامة الناس هو سلطة

ص: 99

الاختيار الإمبراطور بقتل سلفه. ذلك أن الدمقراطية بعد تيبيريوس قد انتقلت من الجمعيات إلى الجيش، وكانت أداة الانتخاب هي حد السيف.

ويلوح أنه كان يبغض الملكية بغضاً حقاً خالياً من الرياء، وأنه كان يعد نفسه رأى مجلس الشيوخ الإداري وذراعه المنفذة، ولذلك رفض من الألقاب كل ما تشتم منه رائحة الملكية وقنع بلقب "زعيم الشيوخ" Princeps Senatus، وقضى على كل محاولة ترمي إلى تأليهه، أو عبادة روحه، وأظهر كرهه للملق. ولما أراد مجلس الشيوخ أن يسمي أحد الأشهر باسمه، كما سمي من قبل شهرين باسم قيصر وأغسطس، رد هذه التحية رداً ينطوي على الفكاهة فقال:"وماذا تفعلون إذا وجد لديكم ثلاثة عشر قيصراً؟ "

(1)

. ورفض اقتراحاً يطلب إليه أن يعيد النظر فيمن يختارون لعضوية مجلس الشيوخ، وقال إنه لا شيء مطلقاً يفوق احترامه لهذه الجمعية القديمة "جمعية الملوك". وكان يحضر اجتماعات المجلس، ويحيل إليه "حتى أصغر الأمور ليحكم فيها"، ويجلس فيه ويتكلم كأنه عضو عادي لا أكثر، وكثيراً ما كان يقترع مع الأقلية، ولم يحتج يوماً من الأيام إذا وافق المجلس على قرارات تتعارض مع رغبته التي أبداها جهرة (7). و "كان منطوياً على نفسه، صبوراً". على حد قول ستونيوس "إذا ما وجهت إليه وإلى أسرته الشتائم والافتراءات والمطاعن". وكان يقول في ذلك "إن البلد الحر يجب أن تطلق فيه حرية القول والفكر"(8). ويعترف تاستس وهو من المعادين له أن ترشيحاته "كانت تصدر عن حكمة، وأن من كان يرشحهم من القناصل والبريتورين كانوا يتصفون بصفات الشرف والكمال القديمة الخليقة بمناصبهم. وكان من يلونهم من الموظفين يمارسون سلطات مناصبهم بعيدين عن

(1)

ولقد كان على مجلس الشيوخ أن يعمل بقوله هذا فيقسم السن إلى ثلاثة عشر شهراً كل منها ثمانية وعشرون يوماً يعقبها يوم عطلة (أو يومان في السنة الكبيسة).

ص: 100

تدخل الإمبراطور. وكانت القوانين إذا استثنينا ما يختص منها باغتصاب الملك تجري في مجراها الطبيعي

وكانت أعمال الإيرادات العامة يصرفها رجال امتازوا بالاستقامة والنزاهة

ولم تفرض على أهل الولايات أعباء جديدة، وكانت الضرائب القديمة تجبى في غير عنف أو قسوة

وساد النظام بين عبيده

وكانت دور العدالة مفتحة الأبواب لتفصل في كل نزاع يقع بين الإمبراطور وأفراد الشعب، وكان القانون وحده هو الفيصل في هذا النزاع" (9).

ودام هذا الحكم الصالح، حكم تيبيريوس، تسع سنين، استمتعت فيها رومة وإيطاليا والولايات بحكومة صالحة لم تر خيراً منها في تاريخها كله. وحسبنا أن نذكر شاهداً على هذا أن تيبيريوس الذي وجد حين اعتلائه العرش في خزانة الدولة مائة مليون سسترس ترك فيها حين وفاته 2. 700. 000. 000 دون أن يفرض ضرائب جديدة، وعلى الرغم من هباته الكثيرة للأسر والمدن التي حلت بها الكوارث، وبالرغم من عنايته بإصلاح جميع المنشآت العامة وعدم اشتباكه في حروب تجر له المغانم، ورفضه كل ما أراد أن يوصي به إليه أشخاص لهم أبناء أو أقارب أدنون. ولم يدخر جهداً في العناية بجميع شؤون البلاد الداخلية والخارجية. وكان يكتب للولاة الذين يريدون أن يجبوا من الضرائب أكثر مما كان مفروضاً على ولايتهم يقول لهم: "لقد كان من واجب الراعي الصالح أن يقص صوف غنمه لا أن يجزها"(10). ولم يكن يعزو إلى نفسه مجد الظفر في ميدان القتال وإن كان من القادة المحنكين، وقد بسط لواء السلام على الإمبراطورية واحتفظ به بعد السنة الثالثة من حكمه.

وكانت سياسة السلام هذه هي التي حالت بينه وبين ما كان يبغيه من تقدم في عهده. ذلك أن جرمنكوس ابن أخيه، وهو الشاب الوسيم الذي تبناه بعد موت دروسس، كسب بعض المعارك في ألمانيا ورغب أن يواصل الزحف عليها ليفتحها. وكان من رأي تيبيريوس عدم التورط في هذا الفتح،

ص: 101

فأغضب بذلك الشعب ذا النزعة الاستعمارية. وإذ كان جرمنكوس حفيد ماركس أنطونيوس فإن الذين كانوا لا يزالون يحلمون بإعادة الجمهورية قد اتخذوه رمزاً لقضيتهم، فلما أن نقله تيبيريوس إلى بلاد الشرق عد نصف أهل رومة هذا القائد الشاب شهيداً لحسب الزعيم، ولما أن فاجأ جرمنكوس المرض ومات ظنت رومة كلها أن الإمبراطور قد أمر بأن يدس له السم في الطعام (19)، واتهم بهذه الجريمة أكنيوس بيزو أحد الموظفين المعينين من قِبَل تيبيريوس في آسية الصغرى. وحاكمه مجلس الشيوخ، وأيقن الرجل أن مجلس الشيوخ سيدينه فانتحر لكي يحتفظ بأملاكه لأسرته. ولم تكشف المحاكمة عن شواهد تدل على ارتكاب تيبيريوس لهذه الجناية أو تثبت براءته منها، وكل ما نعرفه أنه طلب إلى مجلس الشيوخ أن يمكن بيزو من أن يحاكم محاكمة عادلة، وأن أنطونيا أم جرمنكوس ظلت إلى آخر أيام حياتها أخلص أصدقاء تيبيريوس (11).

واضطر تيبيريوس أمام تدخل الجمهور الثائر المهتاج في هذه القضية المشهورة، والقصص البذيئة التي كانت تذاع عن الإمبراطور، ودسائس أجربينا أرملة جرمنكوس وإثارتها الناس عليه، اضطر تيبيريوس أما هذا كله أن يلجأ إلى قانون الخيانة العظمى الذي أصدره قيصر والذي ينص على الجرائم التي ترتكب ضد الدولة. وإذا لم يكن لرومة مدع عمومي أو نائب عمومي، ولم يكن لها (قبل أغسطس) شرطة، فقد كان من حق كل مواطن ومن واجبه أن يوجه التهمة أما المحاكم لكل شخص يعرف أنه خرق القانون، فإذا أدين المتهم كوفئ المخبّر أو المبّلغ بربع أملاك المحكوم عليه وصادرت الدولة بقية أملاكه. واستعان أغسطس بهذا الإجراء الخطير لإرغام الناس على إطاعة قوانينه الخاصة بالزواج. والآن وقد انتشرت المؤامرات ضد تيبيريوس فقد كثر المخبرون الذين رأوا أن يستفيدوا بالتبليغ عنها، وكان أنصار الزعيم من الشيوخ على أتم استعداد للسير في محاكمة المتآمرين بمنتهى الصرامة، وحاول الإمبراطور أن يمنعهم، ونفّذ القانون

ص: 102

تنفيذاً صارماً في حالة الذين اتهموا بتسوئ ذكرى أغسطس أو تدنيس تماثيله؛ أما "الأشخاص الذين كانوا يوجهون التهم له فقد حرم أن يوقع عليهم عقاب ما" كما يقول تاستس. وأكد لمجلس الشيوخ أن والدته ليفيا تريد منهم هذه المعاملة الرحيمة لمن يعتدون على سمعتها الطيبة (12).

وأضحت ليفيا نفسها في ذلك الوقت إحدى المشكلات الكبرى في الدولة. ذلك أن عجز تيبيريوس عن الزواج قد تركه وليس له من يحميهِ من امرأة ذات عقلية جبارة اعتادت أن يكون لها عليهِ. وكانت تشعر أن تدبيرها هو الذي هيأ له السبيل لاعتلاء العرش، وأفهمته أنه إنما يتولاه بوصفه ممثلاً لها لا أكثر (13). وكانت رسائله الرسمية في سني حكمه الأولى تحمل توقيعه وتوقيعها معاً، وإن كان وقتئذ قد قارب الستين من عمره، "ولكنها لم تقنع بأن تكون مساوية له في شؤون الحكم" كما يقول ديو "بل أرادت إن تفرض سيادتها عليه

وشرعت تصرف الأمور جميعها هي وحدها الحاكمة" (14). وصبر تيبيريوس على هذا الحال صبر الكرام ولكن ليفيا عاشت بعد أغسطس خمسة عشر عاماً، فشاد تيبيريوس لنفسهِ قصراً خاصاً، وترك أمه لا ينازعها منازع في امتلاكها القصر الذي شيده أغسطس. وراحت ألسنة السوء تتهمه بقسوة عليها، وبأنه أمات زوجته المنفية من الجوع. وكانت أجريتينا في أثناء ذلك تدفع ابنها بيرون ليخلف تيبيريوس على العرش أو ليغتصبه منه إن أمكن (15). وتحمل أيضاً على مضض، وكل ما فعله أن أنبها على فعلتها بعبارة مقتبسة من اللغة اليونانية: "هل تظنين يا ابنتي العزيزة أنك تظلمين إذا لم تكوني إمبراطورة؟ "

(1)

وكان أصعب شيء على نفسهِ أن يعرف أن وحيده دروسس الذي رزقه من زجته الأولى كان فتى رقيعاً، دنيئاً، قاسياً، فاسد الأخلاق، شهوانياً، فاجراً.

(1)

أجربينا ابنة يوليا من أجربا، وربيبة تيبيريوس بعد زواجه من يوليا، وزج متبناه جرمنكوس، وكان ابنها نيرون عم الإمبراطور نيرون المعروف، وكانت ابنتها أجريبنا الصغرى أم هذا الإمبراطور.

ص: 103

كان هذا الكبت الذي فرضه تيبيريوس على نفسهِ، وصبره على هذه المحن، سبباً في إثارة أعصابه وضيق صدره، فأخذ يزداد انطواءً على نفسهِ، وبدت على وجهه الكآبة، وفي حديثه الصرامة، مما نفر منه الناس جميعاً، وأبعدهم عنه، اللهم إلا أصدقاءه الذين يرجون له الخير، وكان ثمة رجل واحد بدا أنه أكثر الناس وفاء له، ذلك هو لوسيوس إيليوس سجانوس Lucius Aelius Sejanus.

وأثرت في تيبيريوس خيبته وحزنه، وأضحى رجلاً حزيناً فريداً في السابعة والستين من عمره، فغادر العاصمة الهائجة المحمومة وآواى إلى كابري حيث عاش عيشة العزلة بعيداً عن سائر الناس. ولكن ألسنة السوء لم تنقطع عن الاستطالة فيه، ولم يعقها عائق عن أن تتبعه في عزلتهِ، فقال بعضهم إنه يريد أن يخفي عن أعين الناس جسمه الهزيل ووجهه الخنازيري

(1)

، ويطلق العنان لشهواته ورذائله غير الطبيعية (16). ولا شك في أن تيبيريوس كان كثير الشرب، ولكنه لم يكن سكيراً، أما قصة رذائله فأكبر الظن أنها افتراء عليه (17)، ويقول تاستس إن معظم من كانوا حوله من الأصدقاء في كابري كانوا من اليونان الذين لا يمتازون بشيء إلا الأدب" (18). وظل هو في عزلته يصرف شؤون الإمبراطورية تصريفاً حازماً حكيماً، إلا أنه كان يبلغ آراءه ورغباته إلى الموظفين وإلى مجلس الشيوخ على لسان سيجانوس Sejanus. وإذ كان المجلس يخشاه خشية متزايدة، أو يخشى سجانوس أو الحرس العسكري فقد كان يقبل رغبات الإمبراطور، ويرى أنها أوامر واجبة الطاعة. وبذلك استحالت الزعامة إلى ملكية تحت سلطان الرجل الذي عرض أن يعيد الجمهورية، ومن غير أن يحدث أي تغيير في دستور البلاد، ومن غير أن يبدو من تيبيريوس نفسه أي دليل واضح على عدم الإخلاص.

وانتهز سجانوس الفرصة التي أتيحت له فنفى عدداً كبيراً من أعدائه بعد اتهامه إياهم بتهم ينطبق عليها "قانون الخيانة" أو "قانون الجلالة" حسب اسمه

(1)

المصاب بداء الخنازير وهو داء عن أعراضه انتفاخ الغدد في أجزاء مختلفة من الجسم وخاصة في العنق. (المترجم)

ص: 104

اللاتيني، ولم يتدخل الإمبراطور المتعب في هذا الأمر. وإذ كان لنا أن نصدقه يقوله سوتنيوس فإن تيبيريوس نفسه قد ارتكب كثيراً من أعمال القسوة (91)، ويقول تاستس-وهو ممن لا يعتمد على أقوالهم-إنه طلب تنفيذ عقوبة الإعدام في ببيوس سبيتوس Poppaeus Sabinus بحجة أن عيونه قد سمعوه وهو يأتمر بالحكومة (20). وماتت ليفيا بعد سنة من ذلك الوقت (27)، حزينة وحيدة في بيت زوجها السابق؛ ولم يحضر تيبيريوس جنازتها، ولم يكن قد رآها بعد أن غادر رومة إلا مرة واحدة. وتحرر سجانوس بموتها مما عساه أن تفرضه عليه "أم بلادها" من قيود، فأقنع تيبيريوس بأن أجربينا وابنها نيرون كانت لهما يد في مؤامرة سبينوس، فنفيت الأم إلى بندتيربا Pandateria ونُفي الابن إلى جزيرة بنتيا Pontia حيث قتل نفسه بعد ذلك بزمن وجيز.

وإذ كان سجانوس قد كسب كل شيء إلا عرش البلاد فقد أخذ يعمل جاهداً للوصول إليه. وكان قد أغضبه خطاب كتبه تيبيريوس إلى مجلس الشيوخ يرشح فيه جيوس ابن أجربينا ليكون زعيماً من بعده، فدبر مؤامرة لاغتيال الإمبراطور عام (31). ونجا الإمبراطور بفضل أنطونيا أم جرمنكوس إذ خاطرت بحياتها لتبعث إليه تحذره من الخطر الذي يتهدده؛ ولم يكن الزعيم الشيخ قد فقد عزيمته بعد فعُينَ في السر رئيساً جديداً للحرس، وأمر بالقبض على سجانوس، واتهمه بالخيانة أمام مجلس الشيوخ. ولم يكن هذا المجلس في يوم من الأيام أكثر استجابة لرغبات الأباطرة منه في هذه المرة، فقد أدان سجانوس من فورهِ، ونفذ فيه حكم الإعدام خنقاً في الليلة نفسها. وأعقبت ذلك فترة من حكم الإرهاب تولى قيادتها أحياناً شيوخ أضر سجانوس بمصالحهم، أو آذى أقاربهم أو أصدقاءهم، وأحياناً أخرى تولاها تيبيريوس نفسه. ودفعه الخوف والغضب، اللذان استولى عليهِ بعد أن زال عن عينيه ما كان يغشاها من خداع، إلى سورة جنونية من الانتقام. وفي هذه الفترة قتل كل إنسان ذي خطر عاون سجانوس

ص: 105

أو كانت لديه يد في تنفيذ أغراضه، ولم تنج من القتل ابنته الصغيرة نفسها؛ وإذ كان القانون يحرم قتل العذارى فقد فضت بكارتها قبل خنقها؛ وانتحرت مطلقته أبكاتا Apicata، ولكنها أرسلت قبل انتحارها خطاباً إلى تيبيريوس تبلغه فيهِ أن لفلا Livilla ابنة انطونيا قد اشتركت مع سجانوس في تسميم زوجها دروسس ابن الإمبراطور، فما كان من تيبيريوس إلا أن أمر بمحاكمة ليفلا، ولكنها امتنعت عن الطعام حتى ماتت. وبعد سنتين من ذلك الوقت (33) انتحرت أجربينا في منفاها كما امتنع عن الطعام ابن آخر من أبنائها، كان قد حكم عليه بالسجن، وظل ممتنعاً حتى مات.

وعاش تيبيريوس ستة أعوام بعد سقوط سجانوس، وأكبر الظن أنه أصيب وقتئذ بخبال في عقله، وبغير هذا الافتراض لا نستطيع أن يفسر ما يعزى إليه من أعمال القسوة التي لا يصدقها عقل. فنحن نسمع أنه كان في ذلك الوقت تهم الخيانة العظمى التي توجه إلى الناس بدل أن يعارض فيها، كما كان يفعل من قبل، حتى بلغ مجموع مَن أدينو بتلك التهمة في حكمه ثلاثة وستين شخصاً، وتوسل إلى مجلس الشيوخ أن يعمل على حماية "شيخ وحيد طاعن في السن". وفي عام 37 غادر كابري بعد تسع سنين من السجن الاختياري، وطاف ببعض مدن كمبانيا. وبينما كان يستريح في بيت لوكلس الخلوي في ميسنوم انتابته نوبة إغماء وخيل إلى من حوله أنه قضى نحبه. والتفّت بطانته من فورها حول جايوس الذي سيصبح في ظنها إمبراطوراً بعد قليل، ولكنهم روعوا حين رأوا تيبيريوس يفيق من نوبته. ثم أنجاهم من هذه الورطة صديق لهم جميعاً بأن كتم أنفاسه بوسادة (37)(21).

ويصفه ممسن Mommsen بقوله إنه كان "أقدر حاكم شهدته الإمبراطورية"(22). وقد حلت به في حياته كل الكوارث التي يمكن أن تحل بإنسان إلا القليل النادر منها، وحتى بعد وفاته لم ينج من قلم تاستس.

ص: 106

الفصل الثاني

‌جايوس

واحتفل الشعب بموت الإمبراطور الشيخ بهتافه: "تيبيريوس إلى نهر التيبر"، ورحب بواحتفل الشعب بموت الإمبراطور الشيخ بهتافه:"تيبيريوس إلى نهر التيبر"، ورحب بإقرار مجلس الشيوخ تنصيب جايوس قيصر جرمنكوس خليفة له. وكانت أجربينا قد ولدت جايوس وهي ترافق جرمنكوس في حروبه عند الحدود الشمالية، فنشأ بين الجند، ولبس لباسهم، ولقبوه تدليلاً له بلقب كالجيولا Caligula أو الحذاء الصغير أخذاً من الحذاء النصفي Caliga الذي كان يحتذيه الجيش. فلما جلس على العرش أعلن أنه سيسير على المبادئ التي كان يسير عليها أغسطس في سياسته، وأنه سيتعاون مع مجلس الشيوخ في جميع الأمور. ووزع على المواطنين التسعين مليون سسترس التي أوصى لهم بها تيبيريوس وليفيا وأضاف إليها ثلثمائة سسترس لكل واحد من المائتي ألف الذين يأخذون حبوباً من الدولة. وأعاد إلى الجمعية حق اختيار كبار الحُكّام، ووعد بتخفيض الضرائب وإقامة الألعاب الكبرى، وأرجع ضحايا تيبيريوس المنفيين، وجاء برماد أمه إلى رومة مصحوباً بمظاهر التقوى والتكريم. ولاح أنه سيكون على النقيض من سلفه في كل شيء، فقد كان متلافاً للمال، مرحاً، رحيماً، ولم يمض على اعتلائه العرش ثلاثة أشهر حتى قرب الناس للآلهة مائة وستين ألفاً من الضحايا شكراً لها على أن وهبتها زعيماً فاتناّ محسناً (23). وكان الشعب قد نسى حسبه ونسبه، فقد كانت جدته لأبيه ابنة أنطزنيوس، وكانت جدته لأمه ابنة أغسطس، وقد تجددت في دمه الحرب التي ثار عجاجها من قبل بين أنطونيوس وأكتافيان وانتصر فيها أنطونيوس. وكان كالجيولا يفخر بمهارته في المبارزة، والمجالدة، وركوب العربات، ولكنه

ص: 107

"كانت تنتابه نوبات الصرع"، ويكاد في بعض الأحيان "يعجز عن المشي أو التفكير"(24). وكان يختفي أسفل سريره إذا سمع هزيم الرعد، ويفر مذعوراً إذا شاهد اللهب فوق بركان إتنا؛ وكان مصاباً بالأرق يطرف به ليلاً جنبات قصره الواسع يصيح طالباً طلوع الفجر. وكان طويل القامة، ضخم الجسم، كثيف الشعر، إذا استثنينا رأسه الأصلع. وكان له صدغان منخفضان، وعينان غائرتان، تنفر الناس منه، ويُسر هو من ذلك النفور. وكان "يمثل بوجهه أمام المرآة كل المناظر المخيفة"(25). وكان قد أحسن تعليمه في صباه، فكان خطيباً مفوهاً، حاد الذكاء، فكهاً لا يراعي في فكاهته احتشاماً ولا قانوناً. وقد افتتن بحب التمثيل فأعان كثيرين من الممثلين، وكان هو نفسه يمثل ويرقص سراً. وكان إذا رغب أن يشهده النظارة دعا زعماء مجلس الشيوخ متظاهراً بأنه يدعوهم إلى اجتماع خطير، ثم يعرض أمامهم رقصة (26). ولو أنه أتيحت له حياة هادئة يعمل فيها عملاً يتحمل تبعته لجاز أن يهدئ ذلك من أعصابه، ولكن سم السلطة ذهب بعقلهِ، ذلك أن صحة العقل، كالحكم، تحتاج إلى ضوابط وموازين، وما من أحد من بني الإنسان يستطيع أن يكون قادراً على كل شيء وأن يكون في نفس الوقت سليم العقل. ولما أسدت إليهِ جدته أنطونيا بعض النصح أنبها بقوله:"اذكري أن في مقدوري أن أفعل أي شيء بأي إنسان". وذكر لضيوفه في إحدى الولائم أن في وسعه أن يقتلهم كلهم وهم متكئون في مقاعدهم؛ وكان وهو يحتضن زوجته أو عشيقته يقول لها ضاحكاً": "سيطيح هذا الرأس الجميل بكلمة تخرج من فمي" (27).

وسرعان ما أخذ الزعيم الشاب يصدر الأوامر إلى مجلس الشيوخ ويطلب إليه الخضوع لهذه الأوامر، بعد أن كان يُظهر له أعظم الاحترام، فصار يسمح

ص: 108

للشيوخ أن يقبلوا قدميه تعظيماً له وتبجيلاً، ثم يتقبل الشكر منهم على تشريفه إياهم بهذا التقبيل (28). وكان شديد الإعجاب بمصر وأساليبها، وأدخل كثيراً من هذه الأساليب إلى رومة، وكان يتوق إلى أن يُعبد على أنه إله كما كان يعبد الفراعنة ملوك مصر الأقدمون، وجعل دين إيزيس أحد الأديان الرسمية في الدولة، ولم ينس أن جده الأكبر كان يعتزم ضم إقليم البحر الأبيض المتوسط تحت سلطان دولة ملكية شرقية، فأخذ هو أيضاً يفكر في نقل عاصمة ملكه إلى الإسكندرية، ولم يحل بينه وبين تنفيذ قصده إلا ارتيابه في ذكاء أهلها. ويصفه سوتونيوس بأنه كان يقضي وقته "فيما تعود من فصاحة أخواته كلهن"(29)، فقد بدا له أن هذه عادة من أحسن العادات المصرية القديمة. ولما مرض أوصى بأن تكون أخته دروزلا Drusilla وريثة عرشه من بعدهِ، فلما تزوجت أرغمها على أن تطلق زوجها وأخذ "يعاملها كأنها زوجة شرعية"(30). وكان يرسل إلى غيرها من النساء اللاتي يحبهن رسائل بأسم أزواجهن يبلغهن فيها نبأ طلاقهن، ثم يدعوهن إلى معانقته، فلم توجد امرأة ذات مكانة إلا دعاها إليهِ. على أن هذه الصلات كلها مضافاً إليها صلات بينه وبين كلا الجنسين لم تمنعه أن يتزوج أربع مرات. وحضر مرة زفاف ليفيا أرستلا L ivia Orestilla وكيوس بيزو Caius Piso، فما كان منه إلا أن أخذ العروس إلى بيتهِ، وتزوجها ثم طلقها بعد بضعة أيام. وسمع أن لوليا يولينا Lollia Paulina بارعة الجمال، فاستدعاها إليه، وطلقها من زوجها، وأمرها ألا تكون لها من ذلك اليوم علاقة بأي رجل. وكانت زوجته الرابعة سيزونيا Caesonia حاملاً من زوجها حين تزوج بها، ولم تكن صغيرة السن أو جميلة ولكنه أحبها وأخلص لها الحب.

وكانت شؤون الحكم في هذا العبث الإمبراطوري من الأمور التي لا يعبأ بها وفي وسعه أن يتركها لغيره من أصحاب العقول الصغيرة. وقد راجع كالجيولا السجل المحتوي على أسماء رجال الأعمال مراجعة تدل على

ص: 109

مقدرة فائقة، ورقى خير هؤلاء الرجال أعضاء في مجلس الشيوخ. ولكن إسرافه لم يلبث أن أفرغ خزانة الدولة من الأموال التي ملأها بها تيبيريوس، فبددها تبديداً منقطع النظير؛ من ذلك أنه لم يكن يستحم بالماء بل بالعطور، وقد أنفق على إحدى الولائم عشرة ملايين سسترس (31)، وبنى قوارب عظيمة للنزهة ذات عمد وشاد أبهاء للمآدب، وحمامات، وحدائق، وأشجار فاكهة، مطعمة في مؤخرها بالجواهر. وأمر مهندسيه أن يقيموا على خليج بايا Baiae جسراً مستنداً إلى عدد من القوارب بلغ من كثرته أن عز الطعام في رومة لعدم وجود السفن لنقل الحبوب. ولما تم بناء الجسر أقيم احتفال عظيم، وأضيء مكان الاحتفال بالأضواء الغامرة على الطريقة الحديثة، وأخذ الناس يقصفون ويطربون ويشربون، حتى انقلبت بهم القوارب وغرق منهم كثيرون. وكان من عادته أن ينثر من قصر يوليا النقود الذهبية والفضية على الشعب من تحته، ثم يراقبهم في مرح وسرور وهم يتنازعون نزاعاً قاتلاً على اختطاف هذه النقود. وبلغ من حبه للعصبة الخضراء في سباق الخيل أن منح سائق إحدى العربات مليوني سسترس، وأن بنى إسطبلاً من الرخام ومذوداً من العاج لجواد السباق انستاتس Incitatus، ودعاه إلى وليمة واقترح أن يعينه قنصلاً.

وأراد أن يجمع المال اللازم لعبثه وشهواته التي لم تنقطع طوال حياته فأرجع العادة القديمة، عادة تقيم الهدايا إلى الإمبراطور؛ وكان يتسلم هذه الهدايا بيدهِ، وهو جالس في شرفة قصره، من كل من يقدمها إليه؛ ويشجع المواطنين على أن يذكروه في وصاياهم ويجعلوه وارثاً لهم، وفرض الضرائب على كل شيء: على كل طعام يُباع، وعلى كل الإجراءات القضائية، وفرض 12. 5% على أجور الحمالين. ويؤكد سوتونيوس أنه فرض "على مكاسب العاهرات" ضريبة "تعادل مقدار ما تناله الواحدة منهن نظير عناقها مرة، وقرر القانون أن تظل من كانت يوماً ما عاهرة خاضعة لهذه الضريبة وإن تزوجت"(32).

ص: 110

وكان الأغنياء في أيامه يُتهمون بالخيانة ويُحكم عليهم بالإعدام لتُصادر أموالهم لصالح الخزائن العامة. وكان هو نفسه يبيع المجالدين والأرقاء بالمزاد العلني، ويرغم اشراف البلاد على حضور هذا المزاد والاشتراك فيهِ؛ وكا الواحد منهم إذا عفا فسر إعفائه بأنه عطاء، حتى إذا استيقظ وجد قد كسب ثلاثة عشر مجالداً وخسر تسعة ملايين سسترس (33)، وكان يرغم الشيوخ على أن يجادلوهم أيضاً في المجتلدات.

ودُبرت بعد ثلاث سنين مؤامرة للقضاء على هذا العبث المذل، ولكن كالجيولا كشف سر المؤامرة، وانتقم لنفسه بأن فرض على البلاد عهداً من الإرهاب زاده وحشية حبه الجنوني للأذى، فكان يأمر الجلادين بأن يقتلوا الضحايا بإثخانهم بالجراح الصغيرة الكثيرة حتى يشعروا بأنعم يموتون" (34). وإذا كان لنا أن نصدق ديوكاسيوس فإنه أرغم أنطونيا جدته التقية على أن تقتل نفسها (35). ويقول سوتونيوس إنه لما قل ما يلزمه من اللحم لإطعام الوحوش التي كان يستخدمها في الألعاب أمر أن يُقدم "جميع الصلع" المساجين طعاماً لهذه الوحوش لأن في ذلك الخير كل الخير للناس، وأنه أمر أن يكوى جميع رجال الطبقات العليا بالحديد المحمي وأن يُحكم عليهم بالعمل في المناجم، وأن يُلقوا للحيوانات الضارية، أو يُحبسوا في أقفاص حديدية ثم تُنشر أجسامهم نصفين بالمناشير (36). تلك قصص ليس في وسعنا أن ننفيها أو نؤيدها ونحن نوردها هناعلى أنها من الروايات التي كان الناس يتناقلونها. وكل ما نستطيع أن نقوله نحن بشأنها أن سوتونيوس كان مؤرخاً ثرثاراً مولعاً باغتياب الناس، وأن الشيخ تاستس كان يكره الأباطرة، وأن ديوكاسيوس كتب تاريخه بعد مائتي عام من حكم كالجيولا (37). وأصدق من هذه القصص في رأينا ما يُروى من أن كالجيولا أشعل نار الحرب بين الزعامة والفلسفة بنفيه كريناس سكندس Crrrinas Secundus وإصدار حكم الإعدام على اثنين من المعلمين، وأدرج اسم الشاب سنكا بين أسماء المحكومين بإعدامهم، ثم أنجاه من الموت مرضه واعتقاد الإمبراطور أنه

ص: 111

سيقضي نحبه دون حاجة إلى تجريح جسمه. ونجا كلوديوس عم كالجيولا لأنه كان أو تظاهر بأنه أبله حقيراً غلبت عليه شهوة قراءة الكتب.

وآخر ما لجأ إليه كالجيولا من العبث أن أعلن أنه إله معبود لا يقل شأناً عن جوبتر نفسه، وحُطمت رؤوس التماثيل الشهيرة المقامة لجوف وغيره من الأرباب، ووضعت في مكانها رؤوس للإمبراطور. وكان يسره أن يجلس في هيكل كاستر وبلكس Castor and Pollux ويتلقى عبادة الناس. وكان يحلو له في بعض الأحيان أن يتحدث إلى تمثال من تماثيل جوبتير، وكان هذا الحديث في الغالب تأنيباً للإله، وقد استطاع بحيلة من الحيل أن يجيب عن قصف الرعد ووميض البرق كلما قصف الأول وأومض الثاني (38). وأقام هيكلاً لعبادته، وعين له جماعة من الكهنة، وأمده بطائفة من الضحايا، وعين جواده المحبوب كاهناً من بين كهنته. وادعى أن إلهة القمر قد نزلت إليهِ وعانقته، وسأل فيتلوس Vitellius ألم يرها بعينه؟ فكان جواب تابعه الحكيم "لا، إن أمثالك من الآلهة هم وحدهم الذين يرى بعضهم بعضاً"(39). ولكن الناس لم تخدعهم هذه السخافات؛ من ذلك أن إسكافاً غالياً رأى كالجيولا متخفياً في صورة جوبتير، وسأل عن رأيه في الإمبراطور فقال "مخادع كبير". وعلم بذلك كالجيولا ولكنه لم يعاقب الرجل لى هذه الشجاعة السارة (40).

وما كاد هذا الإله يبلغ التاسعة والعشرين من عمره حتى أضحى شيخاً منهوك القوى من طول الإِفراط، ولعله أصيب ببعض الأمراض السرية، وحتى كان له رأس صغير نصف أصلع فوق جسم مسترخ بدين، ووجه كالح، وعينان غائرتان، ونظرات خبيثة تنم عن الغدر والخيانة. ووافته المنية على حين غفلة، وكانت منيته على يد الحرس البريتوري الذي طالما ابتاع معونته بالهدايا. وذلك أن ضابط من ضباط الحرس يدعى كاسيوس كئيريا

ص: 112

Cassius Chaerea أهانه كالجيولا مراراً كثيرة بالألفاظ البذيئة التي كان يبلغها إليهِ كل يوم لتكون بمثابة سر الليل ووجواز المرور؛ فقتله سراً في إحدى ممرات الملهى (41). ولما ذاع الخبر في المدينة تردد أهلها في تصديقه، وظنوا أنه حيلة من حيل الإمبراطور الخبيث يريد بها أن يعرف أي الناس يبتهج بموتهِ. وأراد مغتالوه ألا يتركوا الناس في شكهم فقتلوا زوجته الأخيرة؛ وحطموا رأس ابنته بدقهِ في إحدى الجدران. ويقول ديو إن كالجيولا عرف في ذلك اليوم أنه ليس إلهاً (41).

ص: 113

الفصل الثالث

‌كلوديوس

ترك كالجيولا الإمبراطورية والأخطار تتهددها من كل ناحية: فالخزانة خاوية، ومجلس الشيوخ قد اضمحل وضعف شأنه، والشعب غاضب ثائر، وموريتانيا Moretania ثائرة، وبلاد اليهود قد امتشقت الحسام لأنه أصر على أن يوضع تمثاله ليعبد هيكل أورشليم، ولم يكن أحد يعرف أين يوجد الحاكم القدير الخليق بأن يواجه المشاكل. ولكن حدث أن عثر الحرس البريتوري على كلوديوس الظاهر البلاهة مختبئاً في أحد الأركان، فنادوا بهِ إمبراطوراً. وخشي مجلس الشيوخ صولة الجند، ولعل هذا الاختيار قد أنجاه من موقف لم يكن يحمده، وسره أن يتعامل مع إنسان متحذلق عديم الأذى بدل أن يتعامل مع رجل مجنون مستهتر لا يعبأ بشيء. ولهذا أيد الحرس في اختياره وارتقى تيبيريوس كلوديوس قيصر أغسطس جرمنكوس عرش الإمبراطور في تردد وخشية.

وكلوديوس هذا ابن أنطونيا ودروسس وأخو جرمنكوس وليفيا، وحفيد أكتافيان وتيبيريوس كلوديوس نيرون. وكان مولده في لجدنوم Lugdunum (ليون الحالية) في السنة العاشرة قبل الميلاد، وكان وقت أن أختير إمبراطوراً في الخمسين من عمره، طويل القامة ممتلئ الجسم، ذا شعر أبيض ووجه بشوش، ولكن شلل الأطفال وغيره من الأمراض قد أضعفت بنيته. وكانت ساقاه رفيعتان لا تكادان تقويان على حمله، فكان يخجل في مشيته، وكان رأسه يتأرجح فوق كتفيهِ. وكان مغرماً بالخمر الجيد والطعام الشهي، وكان يشكو داء الرثية، ويتمتم قليلاً إذا تحدث، وإذا ضحك رفع صوته

ص: 114

إلى حد لا يليق بالألباطرة. ويقول عنه شانئوه القساة إنه كان إذا غضب "خرج الزبد من فمهِ وسال المخاط من أنفهِ"(43). وقد قام على تربيته النساء والأرقاء المحررون، فنشأ هياباً حساساً، وهما صفتان قد تصلحان للحكام، ولم تكد تسنح له الفرص للتدريب على ممارسة شؤون الحكم. وكان أقرباؤه يرونه إنساناً مريضاً ضعيف العقل؛ وكانت أمه التي ورثت عن أكتافيان رقتها وظرفها تسميه "الهولة التي لم يكتمل خلقها"، وكانت إذا أرادت أن تعير إنساناً بشدة البلاهة وصفته بأنه:"أشد بلاهة من ابني كلوديوس". وإذ كان محتقراً من جميع الناس فقد عاش خاملاً مغموراً آمناً لذلك على نفسهِ، ويقضي وقته بين الميسر والكتب والشراب؛ وتفقه في اللغة وفي العاديات، وكان ضليعاً في الفنون "القديمة"، والدين، والعلوم الطبيعية، والقانون،. وقد كتب تاريخاً لإتروريا، وقرطاجنة، ورومة، ورسالة في النرد، وأخرى في حروف الهجاء، وملهاة يونانية، وترجمة لحياته. وكان العلماء والفلاسفة يراسلونه ويهدون إليهِ مؤلفاتهم، وينقل عنه بلني الأكبر ويعده من الثقاة الذين يعتمد عليهم. وقد علم الناس وهو إمبراطور كيف يعالجون عض الأفاعي، وهدأ مخاوف الشعف الخرافية بأن تنبأ بكسوف الشمس في يوم ميلاده وفسر لهم سبب هذا الكسوف. وكان يحسن الكلام باللغة اليونانية، وكتب عدداً من مؤلفاته بهذه اللغة؛ وكان حسن النية، ولعله كان صادقاً حين قال في مجلس الشيوخ إنه كان يتظاهر بالغباوة لينجو من الموت.

وكان أول أعماله وهو إمبراطور أن منح كل جندي من جنود الحرس الذين رفعوه على العرش خمسة عشر ألف سسترس. وكان كالجيولا قد وهبهم من قبل هبات من هذا النوع ولكنه لم يهبها لتكون ثمناً صريحاً لعرش الإمبراطورية. واعترف كلوديوس وقتئذ بسلطان الجيش وسيادته في الوقت الذي ألغى فيهِ مرة أخرى حق الجمعية في اختيار كبار الحكام. وكان أكثر حكمة وكرماً من سلفهِ، فوضع حداً للاتهام بالخيانة، وأطلق

ص: 115

سراح من سجنوا من قبل بمقتضى هذا الاتهام، وأعاد جميع المنفيين إلى أوطانهم، ورد الأموال المصادرة إلى أصحابها، وألغى الضرائب التي فرضها جايوس. ولكنه أمر بإعدام قتلة كالجيولا، وحجته في هذا أن الخطر كل الخطر في التغاضي عن قتلة الأباطرة. وحرم عادة السجود للإمبراطور، وأعلن في صراحة أنه لا يريد أن يتخذ إلهاً يعبد. وحذا خذو أغسطس في إصلاح المعابد ودفعه شغفه بالآثار القديمة إلى السعي لبعث الدين القديم. وانكب بجد وإخلاص على العناية بالشؤون العامة، وبلغ من عنايته بها أن كان "يطوف بمن يبيعون السلع ويؤجرون المباني، ليقوم كل ما يعتقد أن فيه ضرراً بمصالح الشعب"(44). لكنه وإن جارى أغسطس في اعتداله، وخرج عن تحفظ أغسطس وحذره إلى سياسة قيصر الجريئة المتشعبة، فسعى إلى إصلاح أداة الحكم والقانون، وأنشأ المباني والخدمات العامة، وأعلى من شأن الولايات، ومنح الحقوق الانتخابية لغالة وفتح بريطانيا وصبغها بالصبغة الرومانية. وقد أدهش الناس جميعاً حين أظهر أنه ذو خلق وإرادة، وليس ذا علم وذكاء فحسب. ولم يكن أقل ثقة من قيصر وأغسطس بأن كبار الحكام في الأقاليم قليلو العدد ناقصو المران، وأن مجلس الشيوخ يمنعه كبرياؤه ونزقه من الاضطلاع بمهام الإدارة البلدية والإمبراطورية المعقدة المتنوعة؛ ومن أجل هذا كان يعظم المجلس فترك له سلطات كثيرة، ومظاهر شرف وكرامة من هذه السلطات؛ أما شؤون الحكم الحقيقية فكان يضطلع بها نفسه يعاونه بها مجلس يعين هو أعضاءه، وهيئة من الموظفين العموميين نظمها تدريجياً واختار أفرادها، كما اختارهم قيصر وأغسطس وتيبيريوس، من أرقاء بيت الإمبراطور المحررين؛ واستخدم في الأعمال الكتابية والواجبات الصغرى أرقاء "عموميين". وكان على رأس هذه الإدارة البيروقراطية أربعة وزراء: وزير دولة ("للمواصلات" ab epistulis) ، ووزير مالية ("للحسابات" a rationibus) ، ووزير آخر ("للملتمسات" a libellis) ، ونائب عمومي ("للقضايا القانونية" a cognitionibus) . وتولى الثلاثة

ص: 116

المناصب الأولى ثلاثة من أقدر الأرقاء المحررين-نارسس Narcissus، وبلاس Pallas، وكالستس Callistus. وكاب ارتقاؤهم إلى هذه المناصب ذات الثراء والجاه إذاناً بارتفاع شأن طبقة المحررين إلى أعلى الدرجات، وهو ارتقاء كان يسير في مجراه منذ قرون عدة، وبلغ في عهد كلوديوس هذه الدرجة الرفيعة. ولما احنج الأشراف على وضع السلطة في أيدي هؤلاء العصاميين الحديثي النعمة كان جواب كلوديوس أن أعاد منصب الرقيب، وأن اختير هو لايشغل هذا المنصب، وأن أعاد النظر في سجل الأشخاص الذين يختار منهم أعضاء المجلس، فمحا منه أسماء كبار المعارضين لسياسته، وأضاف إليه أعضاءً جدداً من الفرسان من أهل الولايات.

ولما تهيأت له هذه الأداة الإدارية وضع لنفسه منهاجاً واسعاً من المنشئات العامة والإصلاحات، فأصلح نظام المرافعات أمام المحاكم وفرض عقوبات على تأخير القضايا، وجلس على منصة القضاء ساعات طوالاً كل أسبوع، وحرم تعذيب أي احد من المواطنين. وأراد أن يقي مدينة رومة غائلة الفيضانات المخربة التي أصبحت تهددها أكثر من ذي قبل لأن سفوح الأبنين أخذت تجرد من الأشجار، فأمر بحفر مجرى إضافي في الجزء الأدنى من نهر التيبر. ولكي يعجل باستيراد الحبوب إلى إيطاليا أمر بإنشاء مرفأ جديد بالقرب من أستيا Ostia، وأقام مخازن، وأحواضاً، ورصيفين عظيمين لتقليل حدة أمواج البحر، وحفر قناة توصل الميناء بنهر التيبر في نقطة بعيدة عن مصبهِ الذي يسده الغرين. وأتم بناء قناة "كلوديوس" التي بدأها كالجيولا لنقل الماء العذب إلى رومة، وشاد قناة أخرى، وكانت كلتاهما من الأعمال الضخمة المشهورة بجمال منظرها وبعقودها الشامخة. ولما رأى أن أراضي المرسيين Marsians تتحول في بعض فصول السنة إلى منافع حين تفيض بحيرة فوستس، خصص جانباً من أموال الدولة تؤدى من أجور 30. 000 عامل مدة أحد عشر عاماً

ص: 117

ليحفروا نفقاً طوله ثلاثة أميال يصل البحيرة بنهر سريز Ciris مخترقاً بعض الجبال. وقبل أن تنطلق مياه البحيرة في هذا النفق أجرى فوق مياه البحيرة معركة بحرية صورية بين أسطولين عليهما تسعة عشر ألفاً من المجرمين الذين أدانتهم المحاكم، وشهدها خلائق أجمعون من كافة أنحاء إيطاليا فوق الثلال المشرفة على البحيرة. وحيت هذه الجموع الإمبراطور بالعبارة المأثورة: "مرحباً بقيصر! نحن الذين نوشك أن نموت نحييك Ave Caesar! Morituri Salutamus (45) .

وازدهرت أحوال الولايات في عهده كما ازدهرت في عهد أغسطس، وعاقب الموظفين على سوء استخدام وظائفهم إلا في حالة واحدة هي حالة فلكس المدعي العمومي في بلاد اليهود، وذلك لأن بلاس Pallas شقيق الشخص الذي نم على القديس بولس أخفى جرائمه عن الإمبراطور، وكان يهتم بكل صغيرة وكبيرة من أعمال الولايات. وتمتاز مراسيمه التي عثر عليها في كافة أنحاء الإمبراطورية بالإسهاب والتكرار، ولكنها تكشف عن عقلية وعن إرادة منصرفتين إلى تحقيق الصالح العام. وقد بذل جهده لإصلاح المواصلات والنقل، وحماية المسافرين من اعتداء اللصوص وقطاع الطرق، وفي خفض ما تتكلفه الهيئات من نفقات الوظائف العامة المنشأة لخدماتها. وكان يرغب كما يرغب قيصر في رفع شأن الولايات حتى تعادل إيطاليا نفسها وحتى تكون كلها وحدات متنساوية في مجموعة الأمم الرومانية، فنفذ ما كان يعتزمه قيصر من منح حقوق المواطنية الرومانية لبلاد غالة الجنوبية، ولو استطاع أن ينفذ رغباته لمنح هذا الحق جميع الأحرار في الإمبراطورية (46). ولقد كشفت في مدينة ليون عام 1524 لوحة برونزية احتفظت لنا بجزء من الخطبة الطويلة الكثيرة الاستطراد التي أقنع بها مجلس الشيوخ بأن يقبل في عضويته وفي المناصب الإمبراطورية أولئك الغاليين الذين منحوا حق المواطنية الرومانية، ولم يسمح في الوقت نفسه بأن يضعف الجيش أو يعتدي على حدود الدولة، فظل الجيش عاملاً

ص: 118

قائماً بمهمته ومستعداً على الدوام للقيام بها، ونشأ في أيامه قواد عظام أمثال كربولا Carbula، وفسبازيان Vespasian، وبولينس Paulinus، وتكونوا بفضل اختياره وتشجيعه. وقرر كذلك أن يتم مشروعات قيصر، فغزا بريطانيا في عام 43 وفتحها، وعاد منها إلى رومة بعد أن غاب عنها ستة أشهر، ولما أقيم له احتفال بالنصر بعد عودته خالف جميع السوابق بأن عفا عن كركتكوس Caractacus ملكها الأسير. وسخر أهل رومة من عمل إمبراطورهم العجيب ولكنهم أحبوه، ولما أن راجت مرة من المرات في أثناء غيابه عن العاصمة، شائعات كاذبة بأن الإمبراطور قد قتل، عمت المدينة موجة من الحزن لم يسع مجلس الشيوخ معها إلا أن يؤكد للناس نأكيداً رسمياً بأن اللإمبراطور لم يُصب بسوء، وأنه سيعود قريباً إلى رومة.

لكنه سقط من هذا العلو الشاهق لأنه أقام نظاماً للحكم أكثر تعقيداً مما يستطيع الإشراف عليه بنفسه، ولأن عبيده المحررين وأفراد أسرته أساءوا استغلال لطفه وعطفه. لقد أصلحت البيروقراطية التي أنشأها أحوال الإدارة، ولكنها فتحت فيها آلاف الثغرات للرشا والفساد؛ وكان نارسس وبلاس من أعظم رجال السلطة التنفيذية الذين يرون أن مرتباتهم أقل من كفايتهم، فكانا يستعيضان عن هذا الفرق ببيع المناصب وأغتصاب الرشا بالتهديد، وتوجيه التهم الكاذبة إلى من يريدون مصادرة ضياعهم من الأثرياء. وكانت نتيجة ذلك أن أصبحا أغنى الناس جميعاً في التاريخ القديم كله، فكان نارسس يمتلك 400. 000. 000 سسترس (86. 000. 000 ريال أمريكي) وكان بلاس يشكو الابؤس لأنه لم يكن له إلا 300. 000. 000 فقط (47). ولما شكا كلوديوس من وجود عجز في خزانة الإمبراطورية، قال الثرثارون الرومان إن في وسعه أن ينال كفايته من المال وفوق كفايته منه إذا أشرك معه في الحكم عبديه المحررين (48). وروعت هذه السلطات العظيمة والأموال المكدسة الأسر الشريفة القديمة التي أضحت وقتئذ فقيرة

ص: 119

إلى هؤلاء العصاميين، وكانت تتلظى غيظاً حين تضطر إلى رجاء العبيد السابقين أن يسمحوا لها بأن تتحدث إلى الإمبراطور.

أما كلوديوس فقد كان منهمكاً في العمل، يكتب إلى الموظفين والعلماء، ويعد المراسيم والخطب، ويؤدي حاجات زوجته. ذلك رجل كان خليقاً به أن يعيش عيشة الرهبان، وأن يحصن نفسه من الحب، لأن زوجاته كن سبباً في القضاء عليهِ، كما كانت سياسته في منزلهِ أقل نجاحاً من سياسته الخارجية. وقد تزوج كما تزوج كالجيولا أربع مرات، فأما زوجتنه الأولى فماتت في يوم زفافها، وأما الثانية والثالثة فقد طلقهما؛ ولما كان في الثامنة والأربعين من عمره تزوج فليريا مسالينا وهي فتاة في السادسة عشر، ولم تكن بارعة الجمال. فقد كان رأسها مستوياً، ووجهها متورداً، وصدرها قبيح الشكل (49). ولكن المرأة ليست في حاجة إلى الجمال لكي تكون زانية، ولما أن اعتلى كلوديوس عرش الإمبراطورية تخلقت بأخلاق نساء الملوك، وادعت لنفسها حقوقهن، فكانت ترافقه في مواكب نصره، وعملت على أن تحتفل بعيد ميلادها في سائر أنحاء الإمبراطورية. ثم أحبت الراقص منستر Mnester، ولما صد عنها طلبت إلى زوجها أن يأمره بأن يكون أكثر إطاعة لرجائها؛ وأجابها كلوديوس إلى ما طلبت، وخضع الراقص إليها استجابة لدواعي الزطنية. وابتهجت مسالينا بنجاحها في خطتها التي لم تكلفها أقل العناء، واتبعتها مع غيره من الرجال؛ فأما الذين لم تنجح معهم هذه الخطة وظلوا على صدودهم فقد أتهمهم الموظفون الخاضعون لسلطانهم بجرائم اخترعوها من عندهم اختراعاً، فصودرت أملاكهم وحرموا من حريتهم ومن حياتهم نفسها في بعض الأحيان (50).

ولعل الإمبراطور كان يسمح بهذا العبث وتلك الأعمال الشاذة ليضمن لنفسهِ هو الآخر حرية الاستمتاع بما يريد من الملاذ، "فقد كان مفرطاً في شهواته

ص: 120

النسائية" كما يقول سوتونيوس، ثم يضفي عليه بعدئذ هذا الميزة العجيبة التي يفضل بها غيره من الناس فيقول: "وكان مبرءاً من الرذائل غير الطبيعية" (51) ويقول ديو: إن مسالينا "كانت تقدم إليه بعض الفتيات ذوات الجمال الجذاب ليضاجعهن" (53). وإذ كانت الإمبراطورة في حاجة إلى المال تستعين به على عيشها واستهتارها فقد كانت تبيع المناصب، والتوصيات، وعقود الأعمال العامة. ونقل المؤرخون عن جوفنال أنها كانت تدخل المواخير متخفية، وتستقبل كل من يدخلها، وتأخذ منهم كل ما يقدمون لها من الأجور وهي منشرحة الصدر راضية. وأكبر الظن أن هذه القصة منقولة عن المذكرات الضائعة التي كتبتها أجربينا الصغرى التي خلفت مسالينا وكانت من ألد أعدائها. ويروي تاستس أنه "بينما كان كلوديوس يقضي وقته كله في تصريف شؤون منصب الرقيب الذي كان يتولاه" (53) -والذي يشمل فينا يشمله من الواجبات رفع مستوى أخلاق الرومان-كانت مسالينا "تطلق العنان لحبها"، وبلغ من استهتارها آخر الأمر أن تزوجت رسمياً من شالب وسيم يُدعى كيوس سليوس Caius Silius حين كان زوجها غائباً في أستيا، وأن تزوجت به "في احتفال مهيب صحبته كل المراسيم المعتادة" (54). وأبلغ نارسس النبأ إلى الإمبراطور عن طريق سراريه (55)، وحذروه من مؤامرة تُدبر لاغتياله وإجلاس سيليوس مكانه على العرش. فعجل كلوديوس بالعودة إلى رومة، واستدعى الحرس البريتوري، وأمر بذبح سيليوس وغيره من عشاق مسالينا ثم آوى إلى حجراته محطم الأعصاب منهوك القوى. أما الإمبراطورة فقد أخفت نفسها في حدائق لوكلس التي كانت قد صادرتها لتتخذها مسرحاً للهوها وملذاتها. وبعث إليها كلوديوس برسالة يدعوها فيها إلى الحضور للدفاع عن نفسها. وخشي نارسس أن يصفح عنها الإمبراطور ويصب جام غضبه عليه هو فأرسل إليها بعض الجند وأمرهم بقتلها، فوجدوها وحدها مع أمها، وقتلها بعضهم بضربة واحدة وترك جثتها بين ذراعي

ص: 121

أمها (48). وقال كلوديوس لحرسه البريتوري إنهم في حل من دمه إذا تزوج مرة أخرى ولم يرد ذكر مسالينا على لسانه من تلك الساعة

(1)

.

ولكن لم تمضِ سنة على وعدهِ حتى كان يتردد بين الزواج من لوليا بولينا Lollia Paulina أو من أجربينا الصغرى. فأما لوليا زوجة كالجيولا السابقة فكانت ذات ثروة طائلة، ويقال أنها كانت في بعض الأحيان تتحلى بجواهر تبلغ قينتها أربعين مليون سسترس (59)، ولعل كلوديوس كان يُعجب بمالها أكثر من إعجابه بذوقها؛ وأما اجربينا فكانت إبنة أجربينا الكبرى من جرمنكوس. وكانت هي الأخرى يجري في عروقها دم أكتافيان وأنطونيوس اللذين مات عدوين. وقد ورثت من أمها جمالها، وكفايتها، وقوة عزيمتها وحبها للانتقام حباً لا يحد منه شيء من وخز الضمير. وكانت قد ترملت مرتين، ورزقت من زوجها الأول أكنيوس دومتيوس أهينوباربس Cnoeus Domitius Ahenobarbus ابنها نيرون وكان كل همها طول حياتها أن يرقى ابنها هذا عرش الإمبراطورية. وأما زوجها الثاني كيوس كرسبس Caius Crispus الذي تقول الشائعات إنها قتلته بالسم فقد ورثت عنه الثروة الطائلة التي استخدمتها للوصول إلى أغراضها. وكان هدفها أن تتزوج كلوديوس، وأن تتخلص بوسيلة ما من ابنه برتنكس، وأن تجعل نيرون بعد أن يتبناه كلوديوس وارث العرش من بعده. ولم يعقها عن تنفيذ قصدها أنها ابنة أخت كلوديوس، بل أتاحت هذه الصلة فرصاً ثمينة للاتصال بالحاكم الشيخ اتصالاً أثار فيهِ عواطف ليست من قبيل عواطف الخال نحو ابنة أختهِ. ولم يكن منه إلا أن وقف فجأة أمام مجلس الشيوخ وطلب أن يأمره بالزواج

(1)

وقد حاول فريرو Ferrero، وبيوري Bury أن بفسرا زواج مسالينا من رجلين تفسيراً يبرره، ولكن تاستس يؤكد القصة "التي يؤكدها الكتاب المعاصرون كما يؤكدها رجال موقرون كبار كانوا يعيشون في ذلك الوقت، وكانوا على علم بأحواله كلها"

ص: 122

مرة أخرى لخير الدولة؛ ووافق المجلس على طلبه، وسخِر منه رجال الحرس البريتوري، ووصلت أجربينا إلى العرش (45).

وكانت وقتئذ في الثانية الثلاثين من عمرها، أما كلوديوس فكان في السابعة والخمسين؛ وكانت قواه آخذة في الانحلال، أما هي فكانت في عنفوان قوتها، وتغلبت عليه بكل ما وُهبت من سحر وفتنة، فأقنعته بأن يتبنى نيرون وأن يزوج الشاب البالغ من العمر ستة عشر عاماً بابنته أكتافيا وهي فتاة في الثالثة عشر من عمرها (53). ولما تم هذا اخذت تزيد من سلطانها السياسي عاماً بعد عام، حتى استطاعت في آخر الأمر أن تجلس معه على سرير الملك، ثم استدعت الفيلسوف سنكا من حيث كان منفياً بأمر كلوديوس، وعينه مدرساً خاصاً لابنها (49)، وأفلحت في تعيين صديقها بروس Burrus رئيساً للحرس البريتوري. فلما استحوذت على السلطان بهذه الطريقة حكمت البلاد حكما قوياً خليقاً بالرجال، وساد النظام والاقتصاد في بيت الإمبراطور؛ ولو أنها لم تطلق العنان لجشعها وحرصها على المال وحبها للانتقام لكان حكمها خيراً لرومة ورحمة بها. ولكنها أطلقت العنان لهذا الجشع فأمرت بقتل لوليا بولينا لأن كلوديوس نطق عفواً في لحظة من اللحظات بكلمة أشار فيها إلى رشاقة لوليا وهي إشارة لا تعفو عنها قط زوجة. ثم أمرت بدس السم لماركس سلانس Marcus Silanus لخوفها أن يعينه كلوديوس والاثاً له من يعدهِ، وائتمرت مع بلاس ونارسس، وبذلك قضى ملك المال، الذي لم يكن وفاؤه يقل عن تلوث يده، بقية حياته في السجن. وكان الإمبراطور قد أضعفه اعتلال صحته، وجهوده الفنية، ومغامراته النسائية، فترك بلاس وأجربينا يروعان البلاد بحكم إرهابي آخر. فكان الناس يتنهبون وينفون أو يقتلون لأن الخزانة خلت من المال الذي انفق في الأعمال العامة والألعاب وأضحت في حاجة إلى أن تملأ بالأموال المصادرة. وكانت نتيجة هذا أن خمسة وثلاثين من الشيوخ وثلثمائة من الفرسان حُكم عليهم بالإعدام في

ص: 123

الثلاثة عشر عاماً التي حكمها كلوديوس. وقد يكون لبعض هذه الأحكام ما يبررها الأن من نفذت فيهم دبروا المؤامرات أو ارتكبوا الجرائم، وإن كنا لا نستطيع أن نقرر هذا واثقين. ولقد ادعي نيرون فيما بعد أنه فحص عن جميع أوراق كلوديوس، وأنه تبين من ذلك الفحص أن الإمبراطور نفسه أمر بأن يحاكم كل واحد ممن سيقوا أمام القضاء (60).

وتنبه كلوديوس إلى ما كانت تفعله أجربينا بعد زواجه بها، فاعتزم أن يضع حداً لسلطانها، وأن يفسد عليها ما دبرته لنيرون، فيعين برتنكس وارثاً للملك من بعده، ولكن أجرببنا كانت أقوى منه عزماً وأقل منه إصغاءً لصوت الضمير، فلما علمت نية الإمبراطور جازفت بكل شيء، فأطعمت كلوديوس فطيراً ساماً قضى عليه بعد آلام مبرحة دامت اثنتي عشرة ساعة دون أن يستطيع النطق بكلمة واحدة (54). ولما ألهه مجلس الشيوخ، وكان نيرون قد اعتلى العرش، قال إنه لا يشك في أن الفطير هو طعام الآلهة، لأن كلوديوس أصبح بعد أن أكله إلهاً يعبد (61).

ص: 124

الفصل الرابع

‌نيرون

ينتمي نيرون من جهة أبيه إلى أسرة الدوميتيين الأهينوياربيين Domit (Ahenobarbi، وقد لقبوا بهذا اللقب لأن رجال هذه الأسرة كانت لهم لحي شبيهة في لونها بلون البرونز. وقد اشتهروا في رومة مدى خمسمائة عام بقدرتهم وجرأتهم، وغطرستهم، وشجاعتهم، وقسوة قلوبهم. وكان جد نيرون لأبيه مولعاً بالألعاب والمسرح، وكان يسوق عربة في السباق، وينفق الكثير من الأموال على الوحوش والمجتلدات، وقد اضطر أغسطس إلى تأنيبه لقسوته الوحشية في معاملة موظفيه وأرقائه. وقد تزوج بأنطونيا ابنة أنطونيوس وأكتافيا. وزاد ابنه أكنيوس دوميتيوس من شهرة الأسرة بانهماكه في الفسق، ومضاجعه المحارم، والوحشية والخيانة. وقد تزوج في عام 28 م بأجربينا الثانية ولم تكن وقتئذ تزيد على الثالثة عشرة من عمرها، وإذا كان على علم بآباء زوجته وآبائه فقد اعتقد: "أن لا خير مطلقاً يمكن أن يؤدي إليه قراننا" (62). وقد أطلقنا على ابنهما الوحيد اسم لوسيوس Lucius وأضافا إليه لقب نيرون، ومعناه في اللغة السبينية: القوي الشجاع.

وكان أهم من علموه هما كرمون Chaeremon الرواقي الذي علمه اللغة اليونانية، وسنكا الذي علمه الأدب والأخلاق ولكنه لم يعلمه الفلسفة؛ ذلك أن أجربينا منعته من تعلم الفلسفة لزعمها أنها تجعل نيرون غير صالح لتولي عرش الإمبراطورية (63). وما من شك في أن نتيجة هذا التحريم تشهد بفضل الفلسفة. وقد شكا سنكا، كما يشكو كثير من الأساتذة، من أن الأم كانت تفسد عليه عمله بتدخلها فيه، فقد كان الغلام يهرول إليها كلما أنّبه مدرسه، ولم يكن يشك في أنها ستحنو عليه وتدلله. وقد حاول

ص: 125

سنكا أن ينشّئه على حب التواضع، ودماثة الخلق، والبساطة، والتقشف، والصبر على الشدائد؛ وإذا كان قد حرم عليه أن يفصل له القول في عقائد الفلاسفة وجدلهم، فلا أقلّ من أن يهدي إليه الرسائل البليغة التي كان يؤلفها، ويأمل أن يقرأها تلميذه في يوم من الأيام. وكان الأمير الشاب طالباً مجداً، وكان في وسعه أن يكتب شعراً لا بأس به، وأن يخطب في مجلس الشيوخ بالرقة والأدب اللذين كان يخطب بهما أستاذه نفسه. ولما مات كلوديوس لم تجد أجربينا صعوبة ما في تثبيته على العرش، وخاصة بعد أن ضمن له بروس تأييد الحرس بكامل قوته.

وكافأ نيرون الجند مكافأة مجزية ووهب كل مواطن أربعمائة سسترس، وألقى في تأبين سلفه خطبة أثنى عليه فيها ثناء جماً، كتبها له سنكا (64). وهو الذي نشر بعد قليل بغير توقيع هجاء مقذعاً في الإمبراطور المتوفي قال فيه إنه طرد من أولمبس. وقد نيرون مظاهر الخضوع المعتادة إلى مجلس الشيوخ، واعتذر في أدب وتواضع عن صغر سنه، وأعلن أنه لن يحتفظ بشيء من السلطات التي كان الزعيم يتمتع بها حتى ذلك الوقت عدا قادة الجيوش- وهو اختيار عملي يشعر بذكاء تلميذ الفيلسوف. والراجح أنه كان مخلصاً في وعده- لأن نيرون وفى به بأمانة مدى خمسة أعوام (65) - وهي الخمسة أعوام النيرونية Quinquennium Neronis التي كان تراجان يراها خير السنين في تاريخ الحكومة الإمبراطورية (66). ولما اقترح مجلس الشيوخ أن تقام تماثيل من الذهب والفضة تكريماً له، رفض الإمبراطور الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره هذا العرض. ولما اتهم رجلان بأنهما يفضلان عليه برتنكس أمر أن يلغي هذا الاتهام؛ وتعهد أمام مجلس الشيوخ أن يتمسك طوال حكمه بفضيلة الرحمة التي كان سنكا وقتئذ يمجدها في إحدى رسائله المسماة De Clementia (الرحمة). ولما طلب إليه مرة أن يوقع وثيقة بإدانة أحد المجرمين قال في حسرة:

ص: 126

"ليتني لم أتعلم قط الكتابة! " وقد خفض الضرائب الباهظة أو ألغاها إلغاءً تاماً، وخصص معاشات سنوية للمتازين من الشيوخ الذين أخنى عليهم الدهر. وإذ كان يعرف أن عقله لم ينضج بعد، فقد سمح لأجربينا أن تدير له شئونه، فكانت تستقبل السفراء، وأمرت أن تنقش صورتها على نقود الإمبراطورية إلى جانب صورته. وارتاع سنكا وبروس لتدخل الأم في شئون الحكم فاتفقا على أن يضربا على وتر كبرياء نيرون لينالا لأنفسهما حق القيام بمهام الحكم. واستشاطت الأم غضباً فأعلنت أن برتنكس الوارث الشرعي للعرش، وأنذرت ولدها بأنها ستسقطه بنفس الوسائل القوية التي استخدمتها في رفعه. ورد نيرون على هذا التهديد بأن أمر بدس السم لبرتنكس فما كان من أجربينا إلا أن آوت إلى قصرها الصغير وكتبت فيه مذكراتها، وهي آخر سهم في كنانتها، وطعنت فيها على جميع أعدائها وأعداء أمها، واغترف منها تاستس وستونيوس ذلك التيار الجارف من المثالب والأعمال الوحشية التي صورا بها النواحي السوداء من صور تيبيريوس وكلوديوس ونيرون.

وعم الرخاء الإمبراطورية، وصلحت أحوالها الداخلية والخارجية، بفضل إرشاد الفيلسوف الأول وقوة النظام الإداري الذي كانت تساس به شئونها. فوضعت على الحدود حراسة قوية، وطهرت البحر الأسود من القراصنة، وأعاد كريولا أرمينية إلى حظيرة الإمبراطورية بأن بسط عليها الحماية الرومانية، ووقّعت بارثيا معاهدة صلح دامت حمسين عاماً، وقلّت الرشوة في دور القضاء وفي الولايات، وأصلحت أحوال الموظفين في دواوين الحكومة، وصرفت الشئون المالية بالاقتصاد والحكمة، واقترح نيرون-ولهل ذلك كان بإيعاز من سنكا-ذلك الاقتراح البعيد الأثر القاضي بإلغاء جميع الضرائب غير المقررة، وخاصة الرسوم الجمركية التي كانت تجبي عند الحدود وفي الثغور، حتى تكون التجارة حرة في جميع أنحاء الإمبراطورية. غير أن مجلس الشيوخ لم يوافق على

ص: 127

هذا الاقتراح، متأثراً في ذلك بنفوذ نقابة الجباة. وتدل هذه الهزيمة على أن الزعامة كانت لا تزال تلتزم حدود سلطتها الدستورية.

وأراد سنكا وبروس أن يمنعا نيرون من التدخل في شئون الدولة فتركاه ينهمك في ملذاته الجنسية كما يهوى. وفي ذلك يقول تاستس: "لم يكن ينتظر من الأباطرة أن يحيوا حياة التقشف وكبح الشهوات في الوقت الذي كانت فيه الرذيلة تستهوي جميع طبقات الناس". ولم تكن العقائد الدينية تشجع نيرون على أن يراعي جانب الفضيلة؛ ذلك أن القدر الضئيل الذي ناله من الفلسفة قد حرر عقله من قيود الدين دون أن ينضج حكمته. "فقد كان يزدري جميع أنواع العبادات" كما يقول ستونيوس. "ويسلح على صورة الآلهة-سيبيل-التي كان يجلها أعظم الإجلال"(68). وكان نهماً مفرطاً في الطعام، غريب الأطوار والشهوات، ينفق على الولائم بغير حساب، حتى كانت أزهار الوليمة وحدها تكلفة أربعة ملايين سسترس (69). وكان يقول في هذا إن البخلاء وحدهم هم الذين يحسبون ما ينفقون. وكان يعجب بكيوس بترونيوس Caius Petronius ويحسده لأن هذا الشريف المثري علمه طرقاً جديدة للجمع بين الفضيلة والذوق السليم. ويقول تاستس في فقرة مأثورة يصف فيها المثل الأعلى للأبيقورية إن بترونيوس "كان يقضي أيامه في النوم ولياليه في العمل، والمرح واللهو. وكان الخمول شهوته وطريقه إلى الشهرة، وكان ينجز بحب اللذات والراحة المترفة ما ينجزه غيره بالقوة والجد. ولم يكن كغيره من الناس الذين يجهرون بأنهم يعرفون كيف تكون المتعة الاجتماعية، ثم يبددون في ذلك أموالهم، بل كان يحيا حياة كثيرة النفقة ولكنها خالية من التبذير، فكان أبيقورياً ولكنه غير مسرف، يطلق العنان لشهواته ولكنه يستمتع بها في تجمل وحكمة. وهو شهواني متعلم رقيق الحاشية، حديثه مرح ممتع لطيف، يخلب لب من يستمع له بشيء من عدم الاكتراث اللطيف الباعث على السرور. وكان أكثر ما يبعث السرور في حديثه أنه ينساب

ص: 128

انسياباً طبيعياً غير متكلف من مزاجه الصريح. ولقد أظهر وهو وال على بيثينيا، كما أظهر وهو قنصل، أن قوة العقل ودماثة الخلق قد تجتمعان معاً في شخص واحد، وذلك رغم ما كان يتصف به من دقة، وأخذ الأمور في يسر وإهمال

وكان يعود من أعماله الرسمية إلى مألوف حياة اللذة والمتعة، مولعاً بالرذيلة أو بالملاذ التي تقترب من حدود الرذيلة، وكان نيرون وعصبته مولعين بحسن الذوق والرشاقة فكانوا لذلك يتخذونه المحكمفي كل ما يتصل بهما، ولم يكن شيء بديعاً، كما لم يكن شيء ساراً أو نادراً إلا إذا أراد هو أن يكون (70).

ولم يبلغ نيرون من الرقة مبلغاً يصل به إلى هذه الأبيقورية الفنية، بل كان يتخفى ويزور المواخير، ويطوف بالشوارع، ويتردد على الحانات بالليل في صحبة أمثاله من رفاق السوء يسطون على الحوانيت ويسيئون إلى النساء، ويفسقون بالغلمان، ويجردون من يقابلون مما معهم، ويضربونهم، ويقتلونهم" (71) وحدث أن شيخاً لجأ إلى القوة في رد اعتداء الإمبراطور عليه فأرغم بعد قليل على أن يقتل نفسه. وحاول سنكا أن يوجه شبق الإمبراطور نحو معتوقة تدعى كلوديا أكتي Claudia Acte، فلما تبين له أن أكتي وفية له وفاء تعجز بسببه بالاحتفاظ بحبه استبدل بها امرأة بارعة في كل فنون العشق تدعى بوبيا سابينا Poppea Sabina. وكانت بوبيا تنتمي إلى أسرة عريقة ذات ثروة طائلة، يقول عنها تاستس إنها "كان لها نصيب موفور من كل شيء إلا الشرف". وكانت من النساء اللواتي يقضين النهار كله في تزيين أنفسهن، ولا يحيين قط إلا حين يرغبن في الحياة. وحدث أن افتحر زوجها بجمالها أمام نيرون، فما كان من الإمبراطور إلا أن عينه والياً على لوزتانيا Lusitania (البرتغال) وضرب حصاراً على بوبيا، ولكنها أبت أن تكون عشيقة له، وقبلت أن تتزوجه إذا طلق أكتافيا.

وكانت أكتافيا قد صبرت على مساوئ نيرون صبر الكرام، وحافظت

ص: 129

على تواضعها وعفتها وسط تيار الدعارة الجارف التي اضطرت أن تحيا في غمرته من يوم مولدها، ومما يذكر بالفضل لأجربينا أنها ضحت بحياتها في الدفاع أكتافيا ضد بوبيا، فلم تترك وسيلة تثني بها الإمبراطور عن طلاق أكتافيان إلا لجأت إليها؛ وبلغ من أمرها أن عرضت محاسنها على والدها، وقاومتها بوبيا مقاومة شديدة وتغلبت عليها، ولجأت في كفاحها إلى نزق الشباب، فعيرت نيرون بأنه يخشى والدته، وأقنعته بأن أجربينا كانت تأتمر به لتسقطه، وما زالت به حتى رضي في ساعة من ساعات جنون الشهوة أن يقتل المرأة التي حملته في بطنها وأعطته نصف العالم. وقد فكر أولاً في أن يقتلها مسمومة، ولكنها كانت قد حصنت نفسها من السم بما تعودته من الأدوية المضادة له. ثم حاول أن يقتلها غرقاً ولكنها أنجت نفسها بالسباحة من السفينة التي تحطمت بتدبير الإمبراطور. وطاردها رجاله إلى دارها، فلما قبضوا عليها خلعت ثيابها وقالت لهم:"ادفعوا سيوفكم في رحمي" واحتاج قتلها إلى عدة طعنات، ولما رأى الإمبراطور جثتها العارية كان كل ما قاله:"لم أكن أعرف أن لي أماً بهذا الجمال"(72). ويقال إن سنكا لم تكن له يد في هذه المؤامرة، ولكن أسوأ ما خط في تاريخ الفلسفة وأدعاه للأسى هو تلك السطور التي تشرح كيف كتب الفيلسوف الرسالة التي وجهها نيرون إلى مجلس الشيوخ يقول فيها إن إن أجربينا تأتمر بالزعيم، فلما افتضح أمرها انتحرت (73). وقبل مجلس الشيوخ هذا التفسير في سرور ظاهر، وأقبل أعضاؤه مجتمعين ليهنئوا نيرون لما أن عاد إلى رومة، وحمدوا للآلهة أن كلأته بعنايتها وأنجته من كل سوء.

وإن المرء ليصعب عليه أن يصدق أن هذا الإنسان الذي قتل أمه شاب في الثانية والعشرين من عمره، مغرم بالشعر والموسيقى والفنون الجميلة، والتمثيل والألعاب الرياضية؛ وأنه كان يعجب باليونان لمبارياتهم التي تنمي فيهم القوة الجسمية والمهارة الفنية، وأنه عمل على إدخال هذه المباريات في رومة فأقام في

ص: 130

عام 59 ألعاب الشباب Ludi Iuvenales، وأنشأ في السنة التالية الألعاب النيرونية Neronia على نمط الاحتفال الذي كان يقام كل أربع سنين في أولمبيا، ويشمل سباقاً للخيل، ومباريات الألعاب الرياضية، وفي "موسيقى"-ويدخل فيها الخطابة والشعر، وبنى لذلك مدرجاً كبيراً وملعباً رياضياً وحماماً فخماً، وأنه يمارس الحركات الرياضية بمهارة فائقة، كما كان مولعاً بسوق العربات، وأنه اعتزم أخيراً أن يشترك هو نفسه في المباريات. ولكنها هي الحقيقة، وقد بدا لعقله المولع بكل ما هو يوناني أن هذا العمل لاغبار عليه، بل كان يعتقد أنه يتفق مع أحسن التقاليد اليونانية. وأما سنكا فكان يرى أن هذا سخف أيما سخف، وحاول أن يقصر هذا العرض الإمبراطوري على من يضمهم ميدان خاص، ولكن نيرون تغلبت عليه ودعا الجماهير لتشهد ألعابه، فأقبلت عليه وحيته تحية حماسية حارة.

ولكن أهم ما كان يرغب فيهِ هذا المخلوق الغريب بحق هو أن يكون فناناً عظيماً. ذلك أنه، وقد استحوذ على كل سلطة، وكان يتوق إلى الاستحواذ على كل ضروب الكمال والتهذيب. ومما يذكر له مقروناً بالثناء أنه جد في دراسة فنون النقش، والتصوير، والنحت، والموسيقى، والشعر (74). ولجأ في تحسين صوته إلى وسيلة غريبة فكان "يستلقي على ظهره، ويضع لوحاً من الرصاص على صدره، ويفرغ أمعاءه بمحقن أو بالقئ، ويمتنع عن أكل الفاكهة وعن كل طعام يضر بالصوت"(75). وكان في بعض الأيام يقصر على الثوم وزيت الزيتون يتخذهما وسيلة للغرض نفسه. ودعا ذات ليلة أكابر الشيوخ إلى قصره وعرض عليهم أرغناً مائياً جديداً، وأخذ يشرح لهم نظريته وتركيبه (76). وقد يلغ من إعجابه بالنغمات التي كان يضربها ربنوس Terp o s على العود وافتتانه بها أن كان يقضي معه بعض الليالي بأكملها يتعلم العزف على هذه الآلة. وكان يجمع الفنانين والشعراء حوله، ويعقد المباريات بينه وبينهم في قصره، ويفاضل بين

ص: 131

صوره وصورهم، ويستمع إلى أشعارهم ويقرأ عليهم شعره. وكان ينخدع بثنائهم، ولما أن أنبأه أحد المنجمين بأنه سيفقد عرشه، أجابه ضاحكاً بأنه في هذه الحال سيكسب قوته من فنه. وكان يحلم أنه في يوم من الأيام سيغزف على ملأ من الناس على الأرغن المائي والناي، وينفخ في المزامير، ثم يظهر على المسرح راقصاً وممثلاً لأدوار في مسرحية ترنس Turnus لفرجيل. وفي عام 59 أقام حفلة موسيقية شبه عمومية عزف فيها على العود Citharoedus في حديقته الواقعة على نهر التيبر. وظل خمس سنين لا ينفذ ما تتوق له نفسه من إظهار مهارته في جمع حاشد، ثم نفذ هذا العزم في نابلي آخر الأمر. وسيطرت الروح اليونانية على هذا الحفل، وعفا الناس عن تقصيره، وأدركوا ما يرمي إليهِ. وازدحمت قاعة الاحتفال بالمستمعين ازدحاماً حال بينه وبين إجادة العرض، وقد بلغ من شدة الازدحام أن تهدمت القاعة عقب خروج النظارة منها. وشجع هذا النجاح الإمبراطور الشاب فظهر في ملهى بمبي العظيم في رومة (65) يغني ويضرب على العود. وأنشد في هذه المرة عدة قصائد لعلها كانت من قوله هو نفسه$=@ويقول سوتونيوس إنه شاهد المخطوطات الملكية مكتوبة ومصححة بخط نيرون نفسه. @. وقد بقيت أبيات من هذه القصيد، وهي تدل على مقدرة في القريض لا بأس بها. وكتب من أغانيه الكثيرة ملحمة طويلة عن طروادة (جعل بطلها باريس Paris) ، ثم شرع يكتب ملحمة أطول منها عن رومة. ولم يكفه هذا التنوع في مواهبه فظهر على المسرح ممثلاً دور أوديب Oedipus، وهرقل، وألكميون، بل إنه مثل أيضاً دور أستيز قاتل أمه. واغتبط النظارة إذ شاهدوا إمبراطوراً يعني بتسليتهم ويركع على المسرح أمامهم ويطلب أن يصفقوا له حسب مألوف عادتهم. وتلقف الشعب الأغاني التي كان ينشدها نيرون وأخذ يرددها في الحانات والطرقات، وانتشر

ص: 132

تحمسه للموسيقى والغناء بين الطبقات، وازدادت بذلك محبة الناس له، وكان أخلق بها أن تنقص.

وارتاع مجلس الشيوخ من هذه المظاهر أكثر مما ارتاع من كل ما يدور من اللغط عما يحدث في القصر من فجور ومن علاقات جنسية شاذة، وأجاب نيرون عن مخاوف الشيوخ بقوله إن العادة التي كان يجري عليها اليونان وهي قصر المباريات الرياضية والفنية على طبقة المواطنين كان أفضل مما اعتاده الرومان وهو تركها للأرقاء؛ وأن من الواجب أن لا تُتخذ المباريات صورة قتل المجرمين قتلاً بطيئاً؛ وأعلن الشاب المجرم أنه لن يسمح ما دام حياً بأن يستمر القتال في المجتلد حتى يموت المجتلدون (78). وأراد أن يعيد التقاليد اليونانية إلى سابق عهدها، وأن يمجد أعماله هو في المباريات العامة، فأقنع بعض الشيوخ أن يشتركوا فيها-أو لعله أرغمهم على هذا الاشتراك-ممثلين، وموسيقين، ورياضيين، ومصارعين وسائقي عربات. وأظهر بعض الأشراف أمثال ثراسي بيتس Thrasea Paetus نفورهم من هذه الأساليب، فكانوا يتعمدون الغياب من مجلس الشيوخ كلما جاء نيرون ليخطب فيهِ، وندد به بعضهم مثل هلفيديوس برسكس Helvid (us Priscus تنديداً عنيفاً في المنتديات الأرستقراطية التي أضحت الملجأ الوحيد لحرية الرأي؛ وأخذ الفلاسفة الرواقيون في رومة يتحدثون جهرة عن هذا الأبيقوري الخبيث الجالس على العرش. ودُبرت المؤامرات لخلعهِ، ولكن عيونه كشفوا أمرها، فكان جوابه كجواب أسلافه، وهو التورط في عهد الإرهاب الشديد، فأعيد قانون الخيانة (62)، ووجهت التهم إلى كل من كان موتهم مرغوباً فيهِ من الناحية الثقافية أو المالية بسبب مقاومتهم أو ثرائهم. ذلك أن نيرون قد أفقر خزانة كالجيولا من قبله بإسرافه وهباته وألعابه، وجهر بهزمه على مصادرة جميع ضياع المواطنين الذين لا يوصون للإمبراطور بعد وفاته إلا بمبالغ قليلة، ثم جرد كثيراً من الهياكل من نذورها، وصهر ما كان

ص: 133

فيها من تماثيل ذهبية وفضية؛ ولما أن احتج سنكا على هذه الأعمال وانتقد سلوكه وسعره-وكان غضب الإمبراطور على شعره أشد من غضبه على نقد سلوكه-أقاله نيرون من منصبه في البلاط (62)، وقضى الفيلسوف الشيخ الثلاث السنين الباقية من حياته في عزلة عن العالم في بيته، وكان يوروس قد مات قبل إقالة سنكا ببضعة أشهر.

وأحاط نيرون بعدئذ نفسه بطائفة جديدة من القرناء، معظمهم من قرناء السوء ذوي الغلظة والفظاظة، فأصبح تجلينس، رئيس شرطة المدينة، مستشاره الأول، ويسر للزعيم كل سبيل الملذات. وفي عام 62 طلق نيرون أكتافيا بحجة أنها عقيم، ولم تمض على طلاقها اثنا عشر يوماً حتى تزوج بوبيا؛ واحتج الشعب على هذا العمل احتجاجاً صامتاً بتحطيم التماثيل التي أقامها نيرون لبوبيا وتتويج ثماثيل أكتافيا بالزهور. وغضبت بوبيا من ذلك العمل وأقنعت حبيبها أن أكتافيا تعتزم الزواج مرة أخرى، وأن مؤامرة تُدبر لخلعهِ وإحلال زوج أكتافيا الجديد مله. وإذا كان لنا أن نصدق ما يقوله تاستس فإن نيرون دعا أنسيتس Anicetus قاتل أجربينا وطلب إليه أن يعترف بأنه ارتكب الفحشاء مع أكتافيا، ويتهمها بأنها شريكة في مؤامرة لاغتيال الزعيم. ومثل أنسيتس الدور الذي أمر بتمثيله، ونُفي إلى سردينية حيث قضى بقية حياته ينعم بالثروة والراحة؛ أما أكتافيا فقد نفيت إلى بندتيريا Pandateria، ولكنها لم يكد يمضي على مجيئها إليها إلا بضعة أيام حتى أقبل عليها وكلاء الإمبراطور يريدون اغتيالها. ولم تكد وقتئذ قد جاوزت الثانية والعشرين من عمرها، ولم تكن تعتقد أن الحياة يليق أن تُختتم هذه الخاتمة العاجلة، وبخاصة إذا كانت فتاة مثلها لم ترتكب قط ذنباً. وودافعت عن نفسها أمام قاتليها وقالت لهم إنها لم تعد إلا أخت نيرون، وإنها عاجزة عن الإساءة إليه، ولكنهم قطعوا رأسها وجاءوا بهِ إلى بوبيا يطلبون إليها مكافأتهم على عملهم هذا. ولما أبلغ الشيوخ أن أكتافيا قد توفيت شكروا

ص: 134

للآلهة مرة أخرى أن قد حفظوا الإمبراطور وأنجوه من السوء (79).

وكان نيرون وقتئذ إلهاً من تلك الآلهة. ذلك أن أحد القناصل المنتخبين اقترح بعد موت اجربينا أن يقام هيكل "لنيرون المألَّه". ولما أن ولدت له بوبيا في عام 63 ابنة توفيت بعد مولدها بقليل أعلن المجلس ربوبية هذه الطفلة، ولما أقبل تريداتس Tiridates ليتلقى من نيرون تاج أرمينية خر راكعاً أمام الإمبراطور وعبده بوصفه الإِله متراس Mithras، ولما أن شاد نيرون بيته الذهبي أقام أمامه تمثالاً ضخماً ارتفاعه مائة قدماً، وفي أعلاه رأس شبيه برأسه، تحيط به هالة من أشعة شمسية دلالة على أنه فيبس أيلو Phoebus Apollo. هذا ما كان يتصوره أمام حقيقته فإنه وهو في الخامسة والعشرين من عمره كان إنساناً فاسداً، منتفخ البطن، رفيع الأطراف، ضعيفها، ضخم الوجه، مجعد الجلد، أصفر الشعر ملتويهِ، عسلي العينين كلتيهما.

وكان، وهو كما يزعم إله وفنان، يضايقه ما في القصور التي ورثها من عيوب، ولذلك صمم بناء قصر جديد لنفسه. ولكن تل البلاتين كان مزدحماً بالقصوروكان في أسفله المضمار الأكبر من ناحية، والسوق الكبرى من ناحية أخرى، والأكواخ القذرة الحقيرة من بقية النواحي، وكان يحزنه أن يرى رومة قد نشأت على غير نظام موضوع، بدل أن تخطط تخطيطاً علمياً كالإسكندرية وأنطاكية، ولذلك كان يحلم بأن يعيد بناءها من جديد، وأن يكون هو منشئها الثاني، وأن يسميها نيروبوليس (مدينة نيرون).

وحدث في اليوم الثامن عشر من شهر أيلول 64 أن شبت النار في المضمار الأكبر، وانتشرت سريعاً، وظلت مشتعلة تسعة أيام حتى التهمت ثلثي المدينة، وكان نيرون غائباًَ في أنتيوم Antium حين شبت النار، فلما وصله النبأ أسرع بالعودة إلى رومة فبلغها في الوقت الذي استطاع فيه أن يرى القصور القائمة على تل البلاتين تلتهمها النيران. وكان البناء المعروف

ص: 135

بالدومس ترنستوريا (بيت المرور) الذي أقامه منذ زمن قريب ليربط به قصره بحديقة ماسيناس، وكان هذا البناء من أوائل ما تتهدم من الأبنية. ونجت أبنية السوق والكبتول من الحريق كما نجت أيضاً الأحياء الواقعة في شرقي نهر التيبر. أما سائر أجزاء المدينة، فقد دُمر فيها ما لا يُحصى من البيوت والهياكل والمخطوطات النفيسة والتحف الفنية. وهلك آلاف من السكان بين أنقاض المباني المتهدمة في الشوارع المزدحمة، وهام مئآت الآلاف على وجوههم في الطرقات أثناء الليل لا يجدون لهم مأوى يبيتون فيهِ وقد ذهب الرعب بعقولهم، وهم يستمعون إلى الشائعات القائلة بأن نيرون هو الذي أمر بإشعال النار في المدينة، وأنه ينشر المواد الحارقة فيها ليجدد ما خبا منها، وبأنه يرقبها من برج ماسيناس وهو ينشد على نغمة القيثارة ما كتبه من الشعر عن نهب طروادة

(1)

. وقد قام بحهود كبيرة في قيادة المحاولات التي بذلت لحصر النيران أو التغلب عليها، وإغائة المنكوبين، وأمر بأن تُفتح جميع أبواب المباني العامة والحدائق الإمبراطورية ليلجأ إليها المعدمون، وأقام مدينة من الخيام في ميدان المريخ، وأمر بالاستيلاء على الطعام من الإقليم المجاور للمدينة، ووضع الخطط الكفيلة بإطعام الأهلين (80). وصبر على ما ووجه إليه الشعب الهائج الحانق من تهم وطعون. ويقول تاستس (وهو الرجل الذي يجب ألا ننسى قط تحيزه لأعضاء مجلس الشيوخ) إنه أخذ يتلفت حوله ليجد من يستطيع أن يلقي عليه التهمة حتى وحده في:

"طائفة من الناس يحقد عليهم الشعب لأعمالهم الخبيثة، ويسمون غالباً بالكرستياني Chrestiani (المسيحيين). والاسم مشتق من كرستس Chrestus وهو اسم رجل عذبه بنتيوس بيلات Pontius Pilate المشرف

(1)

يجمع تاستس (ص 38 من الفص الخامس عشر) وسوتونيوس (في "نيرون" ص 38) وديو كاسيوس (فصل 67 ص 16) على اتهام نيرون بأنه هو الذي أشعل النار وأعاد إشعالها لكي يستطيع

ص: 136

على الشؤون المالية في بلاد اليهود في عهد تيبيريوس. وكان ما حل به من العذاب ضربة شديدة وجهت إلى الشيعة التي أوجدها هذا الرجل، وبفضل هذه الضربة وقف نمو هذه الخرافات الخطيرة إلى حين، ولكنها لم تلبث أن عادت إلى نشاطها وانتشرت انتشاراً سريعاً قوياً في بلاد اليهود

وفي مدينة رومة نفسها، وهي مستودع الأقذار العام الذي ينساب إليه كل ما هو دنئ ممقوت انسياب السيل المنحدر من أقطار العالم. ولجأ نيرون إلى أساليبه المعهود في الحيل، فعثر على جماعة من الفخار والسفلة الأراذل، وأغراهم بمختلف الوسائل على أن يعترفوا بأنهم هم مرتكبو الجريمة النكراء؛ وبناء على اعتراف أولئك السفلة أدين عدد من المسيحيين، ولم يصدر الحكم عليهم على أدلة واضحة تثبت أنهم هم الذين أشعلوا النار في المدينة، بل أدينوا لأنهم يكرهون الجنس البشري كله. واستخدمت في إعدامهم أفانين من القسوة المتناهية، ولم يكتف نيرون بتعذيبهم بل أضاف إلى هذا التعذيب السخرية منهم والازدراء بهم، فألبس بعضهم جلود الوحوش وتركوا تلتهمهم الكلاب، وسمر غيرهم في الصلبان، ودفن الكثيرون منهم أحياء، ودهنت أجسام البعض الآخر بالمواد الملتهبة وأشعلت فيها النيران، ولتكون مشاعل في الليل

وفي آخر الأمر أفعمت هذه الوحشية قلوب الناس جميعاً رأفة ورحمة، ورقت هذه القلوب أسى على المسيحيين (81).

ولما أزيلت الأنقاض أخذ نيرون يعيد بناء المدينة كما صورتها له أحلامه والغبطة بادية في أسارير وجهه. وطلب إلى كل مدينة في الإمبراطورية أن تقدم معونتها لها الغرض، أو أرغمت على تقديم هذه المعونة، واستطاع الذين دمرت بيوتهم أن يبينوا لهم بيوتاً جديدة بعد أن أمدهم بالمال المتجمع من هذه المعونة. وشقت الشوارع الجديدة مستقيمة متسعة، وشيدت واجهات المنازل الجديدة وطبقاتها الأولى من الحجارة، وجعلت بينها وبين غيرها من المباني المجاورة لها فواصل تمنع انتشار النار من بناء إلى

ص: 137

آخر. وشقت تحت الأرض مجار تنساب فيهامياه العيون السفلى إلى خزان يحتفظ فيه بالماء ليُستعان به على إطفاء النار في المستقبل. وشاد نيرون من أموال الخزانة الإمبراطورية عقوداً ذات عمد على جانبي الشوارع الرئيسية في المدينة، لتكون مداخل مسقوفة ظليلة لآلاف من البيوت. وأسف المولعون بالقديم، كما أسف الشيوخ المسنون، على ما كان في المدينة القديمة من مناظر جميلة خلع عليها الدهر هالة من الرواء والتقديس، ولكنهم لم يلبثو أن أجمعوا على أن رومة جديدة قد خرجت من بين اللهب أصح وآمن وأجمل من رومة القديمة.

ولو أن نيرون أعاد تنظيم حياته كما أعاد تنظيم عاصمته لغفر له الناس جرائمه، ولكن بوبيا ماتت في عام 65 في الأيام الأخيرة من حملها، ويقال إنها ماتت من ركلة في بطنها. وراجت بين الناس شائعة فحواها أن هذه الركلة كانت عقاباً لها على عودتها متأخرة من السباق (82) وخزن نيرون حزناً شديداً على موتها، لأنه كان ينتظر على أحر من الجمر وجود وارث له من صلبهِ، وأمر أن تحنط جثتها بالأفاوية النادرة وتدفن بموكب مهيب وأبنها بنفسه. ثم عثر على شاب يدعى أسبورس Sporus عظيم الشبه ببوبيا، فأمر بخصيه، وتزوجه في احتفال رسمي و "استعمله في كل شيء كما تستعمل النساء"، وقال في ذلك أحد المتفكهين إنه يتمنى لو أن والد نيرون قد عثر على مثل هذه الزوجة (83). وشرع في السنةنفسها يشيد بيته الذهبي، وكان إسرافه في زينته، كما كانت تكاليفه الباهظة ومساحته الواسعة-فقد أقيم على رقعة من الأرض كانت تشغلها من قبل آلاف من بيوت الفقراء-كان هذا كله سبباً في إثارة سخط الأشراف عليه وارتياب العامة فيه من جديد.

وأقبل جواسيس نيرون فجاءة يبلغونه نبأ مؤامرة واسعة النطاق تهدف إلى إجلاس كلبيرنيوس بيزو Calpurnius Piso على العرش (65)؛ وقبض صنائعه على عدد من الشخصيات غير الكبيرة متهمين بتدبير المؤامرة، وانتزعوا منهم

ص: 138

بالتهديد تارة وبالتعذيب تارة أخرى اعترافات تدين، بين من تدين من الشخصيات المعروفة، الشاعر لوكان Lucan والفيلسوف سنكا Seneca، وتكشف الخطة التي كان يرمي إليها الإمبراطور وأعوانه شيئاً فشيئاً. وبلغ انتقام نيرون درجة من الوحشية لم يسع رومة معها إلا أن تصدق ما شاع وقتئذ من أنه أقسم ليبيدن طبقة الشيوخ عن آخرها. ولما تلقى سنكا الأمر بأن يقتل نفسه شرع يجادل ساعة من الزمن ثم أطاع، وقطع بعض أوردته ومات وهو ينشد أبياتاً من شعره. وأغرى تجلينس Tigellinus بالمال عبداً من عبيد بترونيوس Petronius فتقدم بالشهادة على سيده، لأن تجلينس كان يحسد هذا الرجل الأبيقوري على منزلته عند نيرون فأغراه بقتله. ومات بترونيوس ميتة بطيئة بأن قطع أوردته ثم سدها، وأحذ يتخدث مع أصدقائه حديثاً لطيفاً كمألوف عادته، ويقرأ لهم أبياتاً من شعره. ثم تنزه وأغفى بعض الوقت وفتح أوردته مرة أخرى وفارق الحياة في هدوء واطمئنان (84). وأدين ثراسبابيتس زعيم الداعين إلى الفلسفة الرواقية في مجلس الشيوخ، ولم تكن التهمة التي وجهت إليه أنه اشترك في المؤامرة، بل كانت تهمة عامة يمكن أن توجه إلى أي انسان وهي حماسته للإمبراطور، وعدم استمتاعه بغنائه وتأليفه كتاباً في حياة كاتو أثنى عليه فيه. واكتفى بنفي هلفيديوس برسكس Helvidius Priseus زوج ابنته، ولكن رجلين آخرين أعدما لأنهما متبا يمتدحان برسكس وصهره. ونفى موسونيوس روفس Musonius Rufus أحد الفلاسفة الرواقيين وكاسيوس لنجينس Cassius Longinus أحد علماء القانون، وحكم على أخوين لسنكا وهما أنيوس ميلا Annaeus Mela والد لوكان وأنيوس نوفاتس Annaeus Novatus- وهو جليو Callio الذي أطلق سراح القديس بولس في أثينة- هذان حكم عليهما بأن ينتحرا.

وبعد أن طهر نيرون مؤخرته على هذا النحو سافر في عام 66 ليتبارى في الألعاب الأولمبية ويطوف ببلاد اليونان في رحلة موسيقية، لأن "اليونان"

ص: 139

على حد قوله "هم الشعب الوحيد الذي له آذان موسيقية"(85). واشترك في أولمبيا في سباق العربات واساق فيها بنفسه مركبة ذات عجلتين تجرها أربعة جياد في صف واحد أفقي مستعرض Quardriga وسقط من العربة في حلبة السباق وكاد يقضي عليه، ولما أعيد إلى العربة واصل السباق وقتاً ما، كلنه انقطع عنه قبل نهاية الشوط. وكان المحكمون يفرقون بين الإمبراطور والرجل الرياضي، فقدموا له تاج النصر. وتملكته نشوة الفرح حين رأى الجماهير تصفق له طرباً فأعلن من فوره أن بلاد اليونان كلها لا أثينة وإسبارطة وحدهما ستكون من تلك الساعة حرة طليقة-أي أنها لن تعطي الجزية لرومة. وكان جواب المدن اليونانية على هذا الكرم أن أقامت الألعاب الأولمبية والبيثية Pyth an والنيميائية Nemean والبرزخية Ishmian

(1)

فام واحد. ورد هو على ذلك بأن اشترك فيها جميعها مغنياً، وعازفاً، وممثلاً، ومتبارياً في الألعاب الرياضية. وقد حرص أشد الحرص على إطاعة قوانين المباريات، وكان شديد المجاملة لمنافسيه، ومنحهم حق المواطنية الرومانية تعزية لهم على تفوقه عليهم جميعاً. وتلقى في أثناء رحلته أنباء بأن الثورة شبت نارها في بلاد اليهود، وأن لهيبها اندلع في الغرب كله. وكان كل ما فعله أن تنهد وتحسر ثم واصل رحلته. ومن أقوال سوتنيوس في التعليق على هذه الرحلة أنه كان إذا غنى في ملهى "لا يسمح لأحد بالخروج منه، ولو كان ذلك لعذر شيد يحتم عليه الخروج؛ وكان من نتائج ذلك أن ولدت بعض النساء وهن في الملهى، وأن تظاهر بعض الرجال بالموت حتى يحملوا إلى الخارج"(86). ولما جاء إلى مضيق كورنثة أمر أن يبدأ العمل في شق قناة ي هذا المضيق كما كان قيصر ينوي أن يشقها؛ وبديء العمل فعلاً، ولكنه وقف في أثناء الاضطراب الذي حدث في العام الثاني. وارتاع نيرون أنباء الفتن والمؤامرات فعاد إلى

(1)

سميت كذلك لأنها كانت تقام في الساحة المقدسة الممتدة على الشاطئ الشمالي الشرقي لبرزخ كورنثة.

ص: 140

رومة (67) ودخلها في موكب رسمي، وعرض في هذا الموكب غنائم نصره، وهي الجوائز التي ظفر بها في بلاد اليونان والبالغ عددها 1808 جائزة.

وكانت المآسي جادة مسرعة في أعقاب هذه المهازل. ومن ذلك أن يوليوس فندكس Julius Vindex حاكم ليون الغلي أعلن استقلال بلاد الغليين في شهر مارس من عام 268، ولما عرض نيرون جائزة قدرها 2. 500. 000 سسترس لمن يأتيه برأسه أجاب فندكس عن هذا القول:" أن من يأتيني برأس نيرون سيأخذ في مقابل ذلك رأسي"(87). وأخذ نيرون يعد العدة لملاقاة هذا العدو الشديد البأس في الميدان، وكان أول ما عني به أن اختار العربات لينقل عليها آلاته الموسيقية وأدوات المسرح (88). وبينما هو يعد العدة إذ جاءته الأنباء في شهر إبريل بأن جلبا Gelba قائد الجيش الروماني في أسبانيا انظم إلى فندكس في ثورته، وأنه يزحف على رومة. وسمع مجلس الشيوخ أن الحرس البريتوري يتأهب للخروج على الإمبراطور طمعاً فيما يناله رجاله من أجور عالية، فنادى بجلبا إمبراطوراً. فما كان من نيرون إلا أن وضع بعض السم في صندوق صغير، وبعد أن تسلح بهذا السلاح الفتاك من بيته الذهبي إلى الحدائق السرفيلية الواقعة في طريق أستيا. وطلب قبل فراره إلى من كان في القصر من الضباط أن يرافقوه، فرفضوا جميعاُ طلبه، وأنشد له أحدهم بيتاً من شعر فرجيل يقول فيهِ:"وهل من الصعب على الإنسان إذن أن يموت؟ ". ولم يكن في مقدوره أن يصدق أن قد فارقه فجاءه ذلك السلطان القاهر الذي كان سبباً في القضاء عليهِ، فأخذ يرسل النداء تلو النداء إلى الكثيرين من أصدقائه يطلب إليهم النجدة، ولكن أحداً منهم لم يرد على رسالة من رسائله، فذهب إلى نهر التيبر يريد أن يغرق نفسه فيه. حتى إذا بلغه خارت قواه، وعرض عليه فاؤون أحد معاتيقه أن يخفيهِ في بيته القائم على طريق سلاريا، ورحب نيرون بهذا الاقتراح، واجتاز في ظلال الليل على ظهر جواد أربعة أميال من وسط المدينة إلى بيت فاؤون. وقضى تلك الليلة

ص: 141

في مخزن الطعام، وعليه جلباب قذر، يتلوى من الجوع، ولم يطف بجفنه النوم، ترتعد فرائصه فرقاً في كل صوت يقع على أذنيهِ. وجاء رسول فاؤون يبلغه أن مجلس الشيوخ قد نادى بأن نيرون عدو الشعب وأمر بالقبض عليهِ، وقرر أن يعاقب "حسب السنة القديمة". وسأل نيرون عن ماهية تلك السنة فقيل له:"إن الرجل المذنب يجرد من ثيابهِ، ويصلب جسمه في عمود بمسمار ذي شعب يُدق في عنقهِ، ثم يُضرب حتى يقضي نحبه. وارتاع من هول هذا العقاب، فحاول أن يطعن نفسه طعنة تقضي عليهِ، ولكنه أخطأ إذ جرب سنان الخنجر اولاً ووجده حاداً لا يطيقه فنادى قائلاً: "أي فنانا يموت موتي! ".

وسمع في مطلع الفجر وقع حوافر الخيل، فأدرك أن جنود مجلس الشيوخ قد أدركوه، فأنشد بيتاً من الشعر يقول:"استمعوا؛ ها هي ذي أصوات الساعين إلىَّ تقع على أذني"-ثم طعن نفسه بخنجر في حلقه، ولكن يده اضطربت ووهنت فأعانه إبثروديتس أحد معاتيقه على أن يدفع سن الخنجر إلى نهايته. وكان قد طلب إلى من حوله قبل موتهِ أن يحولوا دون تشويه جسمه، وأجابهم رجال جلبا إلى ما طلبوا. وقامت مربياته العجائز وأكتى عشيقته السابقة بدفن جثته في قباب القصر دومتيوس (68) وابتهج كثيرون من العامة بموتهِ، واخذوا يطوفون بأحياء رومة وعلى رؤوسهم قلانس الحرية. ولكن الذين حزنوا كانوا أكثر منهم لأن سخاءه على الفقراء لم يكن يقل عن قسوته الشديدة على العظماء، وأصغوا إلى ما أشيع وقتئذ من أنه لم يمت بحق، بل إنه يقاتل أعداءه في طريق رومة، ولما أن رضوا آخر الأمر بأن يصدقوا نبأ موته، ظلوا شهوراً كثيرة يحجون إلى قبرهِ وينثرون الأزهار أمامه (89).

ص: 142

الفصل الخامس

‌الأباطرة الثلاثة

وصل سرفيوس سلبيوس جلبا Servius Sulpius Galba رومة في يونية من عام 68، وكان من أصل شريف، فقد كان أبوه عل حد قولهِ ينحدر من نسل جوبتر، كما كانت أمه تنتمي إلى باسفائي Basipha (زوجة مينوس Minos. وكان في السنة التي ارتقى العرش أصلع الرأس متقلص اليدين والقدمين من داء المفاصل، فكان لا يستطيع أن يلبس حذاء أو يمسك كتاباً (90). وكان يتصف بالرذائل المألوفة في تلك الأيام، سوية كانت أو غير سوية، ولكن هذه الرذائل لم تكن هي التي قصرت حكمه، بل إن الذي أحنق الجيش والشعب عليه هو اقتصاد الشديد في الأموال العامة، وحرصه الشديد على تنفيذ العدالة (91). ولما أن قرر أن يرد كل من نالوا أعطية من نيرون تسعة أعشار ما استولوا عليهِ إلى خزانة الدولة، خلق لنفسهِ آلافاً من الأعداء الجدد وتصرمت أيامه سراعاً.

وذلك أن شيخاً مفلساً يدعى ماركس أتو Marcus Etho أعلن أنه لا يستطيع أداء ديونه إلا إذا أصبح إمبراطوراً (92). وانضم إليه الحرس، وزحفوا على السوق والتقوا بجلبا راكباً في هودج، ومد جلبا عنقه إلى سيوفهم دون أن يبدي أية مقاومة فقطعوا رأسه وذراعيه، وشفتيه، وحمل واحد منهم رأسه إلى أتو، ولكنه لم يستطع أن يقبض بقوة على شهره القليل المبلل بالدماء فأدخل إصبعه في فمه. وأسرع مجلس الشيوخ فوافق على تولية أتو في الوقت الذي كان الجيش الروماني في ألمانيا ينادي بقائده أولس فيتليوس Aulus Vitillius والجيش الروماني في مصر ينادي بقائدهِ تيتس فلافيوس فسبازبانس Titus Flavius Vespasianus إمبراطوراً. وزحف فيتلوس على إيطاليا بفيالقه القوية، وقضى

ص: 143

على ما أبدته الحاميات الشمالية، وما أبداه الحرس البريتوري، من مقاومة ضعيفة، وانتحر أتو بعد أن حكم خمسة وتسعين يوماً، وارتقى فيتليوس عرش الإمبراطورية.

وليس مما يشرف النظام العسكري الروماني أن يتولى القيادة في أسبانيا شيخ ضعيف مثل جلبا، وفي ألمانيا أبيقوري متهاون مثل فيتليوس. لقد كان فيتليوس نهماً أهم ما يعرفه عن الزعامة أنها وليمة يُشبع فيها نهمه، ويجعل كل وجبة من وجباته وليمة كبرى، أما شؤون الحكم فكان يكفيها ما بين الوجبات من فراغ، وإذ كانت هذه الفترات قد أخذت تقصر شيئاً فشيئاً، فقد ترك شؤون الدولة في يد معتوقهِ أسياتكس Asiaticus فلم تمضِ على هذا المعتوق أربعة أشهر حتى أصبح أغنى رجل في رومة. ولما علم فيتليوس أن أنطونيوس قائد فسبازيان يزحف بجيشه على إيطاليا ليخلعه، عهد بالدفاع عنه إلى جماعة من أتباعه واستمر هو في ولائمه. وكانت النتيجة أن جيوش أنطونيوس هزمت أنصار فيتليوس عند كرمونا Gremona في شهر أكتوبر عام 69؛ وفي هذه المعركة جرت الدماء كما لم تجر في أية معركة أخرى في التاريخ القديم كله، وزحفت الجيوش الظافرة على رومة فقاومتها فلول فيالق فيتلوس مقاومة باسلة بينما كان مختبئاً في قصره. ويقول تاستس "إن الجماهير احتشدت لتشاهد المعارك، كأن منظر القتل وإراقة الدماء لم يكن إلا منظراً يعرض عليهم لتسليتهم". وبينما كانت المعركة حامية الوطيس كان بعضهم ينهبون المتاجر والمنازل وكانت العاهرات يمارسن مهنتهن (93). وانتصرت جيوش أنطونيوس في المعركة، وأعملوا السيوف في رقاب المهزومين بلا رحمة، وأطلقوا لأنفسهم العنان في السلب والنهب، وساعدهم الغوغاء-وهم الذين لا يقلون عن التاريخ تمجيداً للمنتصرين-على إخراج أعدائهم من مخابئهم، وسحبوا فيتليوس من مخبئه وطافوا به نصف عام في أنحاء المدينة، وحول رقبته طوق معقود، وألقيت عليه الأقار، وعُذب تعذيباً بطيئاً، ثم أشفقوا عليه فقتلوه (ديسمبر من عام 69) وسُحبت جثته بخطاف في شوارع المدينة وألقيت في نهر التيبر (94).

ص: 144

الفصل السادس

‌فسبازيان

لشد ما يغتبط الإنسان بعد ما قرأه عن الأباطرة السابقين أن يرى رجلاً متصفاً بالحكمة والكفاية والشرف! لقد كان فسبازيان، وهذه الأحداث قائمة، يخوض غمار الحرب في بلاد اليهود، ولذلك لم يتعجل في القدوم إلى رومة ليشغل المنصب العالي المحفوف بأشد الأخطار الذي رفعه إليهِ جنوده وبادر مجلس الشيوخ إلى الاعتراف به. فلما وصل إليها في أكتوبر عام 70 أخذ يعمل بجد على إعادة النظام إلى المجتمع الذي اضطرب في كل ناحية من نواحيهِ، وسرى جده هذا إلى نفوس أعوانه. ولما أدرك أن لا بد له أن يعاني نفس المشاق التي عاناها أغسطس، سار على سيرة ذلك الزعيم وسلك مسلكه في أخلاقه وسياسته، فسالم مجلس الشيوخ، وأعاد الحكم الدستوري إلى البلاد، وأطلق سراح من حكم عليهم من قبل بمقتضى قانون الخيانة في عهد نيرون وجلبا وأتو وفيتليوس، واستدعى من كان منهم منفياً خارج البلاد. ثم أعاد تنظيم الجيش وزاد عدد الحرس البريتوري ووسع سلطة رجاله، وعين قواداً كفاة لقمع الثورات التي شبت نارها في الولايات، واستطاع بعد قليل أن يغلق هيكل يانوس Janus رمزاً لعودة السلام وعهداً منه بالمحافظة عليهِ.

وكان قد بلغ الستين من العمر، ولكنه كان محتفظاً ببنيته القوية التي لم يوهنها الإفراط. وكان مفتول العضلات، قوى الأخلاق، ذا رأس عريض أصلع ضخم، وملامح غليظة ولكنها مهيبة، وعينين صغيرتين حادتين تخترقان المظاهر الخداعة إلى الحقائق المستورة. ولم يكن يتصف بشيء من شذوذ العباقرة، ولا يزيد على كونه رجلاً قوي الإرادة شديد

ص: 145

الذكاء العملي. وكان مولده في قرية سبنية قريبة من ريتي Reate وأسرته من عامة الشعب. وكان جلوسه على العرش ثورة رباعية: فها هو ذا قائد يتربع على عرش الإمبراطورية، وهاهو ذا جيش من جيوش الولايات قد غلب الحرس البريتوري وتوج من يريده إمبراطوراً، وهاهي ذي أسرة الفلافيين Flavians قد خلفت أسرة اليوليو-كلوديين، وعادات الطبقات الوسطى وفضائلها قد حلت في بلاط الإمبراطور محل الإتلاف الأبيقوري الذي كان يتصف به أبناء أغسطس وليفيا الذين نشأوا في الحواضر. ولم ينس فسبازيان قط أصله المتواضع، ولم يحاول أن يخفيه عن الناس، ولما حاول الأنساب أن يصلوا بنسب أسرته إلى أحد أصحاب هرقل طمعاً منهم في عطائهِ أرغمهم بسخريته على الصمت. وكان يعود بين الفينة والفينة إلى البيت الذي ولد فيه ليستمتع بما فيه من أساليب وأطعمة ريفية، ولم يسمح بأن يُغيَر فيهِ شيء قط. وكان يزدري الترف والبطالة، ويأكل طعام الفلاحين، ويصوم يوماً في كل شهر؛ وأعلن حرباً عواناً على التبذير والإتلاف. وجاءه في يوم ما رجل روماني رشحه لمنصب من المناصب تفوح من رائحة العطر، فقال له:"لقد كنت أوثر أن تفوح منك رائحة الثوم"، ورجع عن ترشيحه لذلك المنصب. ولم يحجب بابه عن الناس، وكان يعيش كما يعيش عامتهم ويتحدث إليهم حديث الرجل الذي لا يترفع عنهم، ويضحك من الفكاهة التي كانت توجه إلى شخصه، ويسمح لكل إنسان أن يوجه إلى خلقه وسلوكه ما شاء من النقد بكامل حريته. وكشف مرة عن مؤامرة تُدبر له فعفا عن المتآمرين، وقال إنهم بلهاء لا يدركون عبء المتاعب التي ينوء بها كاهل الحاكم. ولم يُعرف عنه أنه فقد حلمه إلا مرة واحدة. ذلك أن هلفديوس برسكس Helvidius Priscus، بعد أن عاد إلى مجلس الشيوخ من منفاه الذي أخرجه إليه نيرون، أخذ يطالب بعودة الجمهورية ويطعن على فسبازيان طعناً مراً في السر والعلن، فطلب إليه فسبازيان أن يمتنع حضور جلسات المجلس إذا

ص: 146

كان يريد أن يواص هذا السباب، فلما رفض هلفديوس أن يجيبه إلى ما طلب نفاه إلى خارج البلاد ولوث حكمه الصالح بأن أمر بإعدامه. وقد ندم على عملهِ هذا فيما بعد واستمسك في سائر عهدهِ، على حد قول سوتونيوس "بأعظم الصبر وهو يستمع إلى عبارات أصدقائه الصريحة

وإلى قحة الفلاسفة" (95). وكان هؤلاء فلاسفة كلبيين ساخرين أكثر منهم رواقيين؛ كانوا فوضويين متفلسفين يشعرون أن كل حكم أياً كانت صفته عبء على الناس فرضاً، وكانوا يهاجمون كل إمبراطور يجلس على العرش.

وأراد أن يطعم مجلس الشيوخ بدم قوي جديد، بعد أن أوهنته الحرب الأهلية والقيود على اختلاط الأسر، فعمل على أن يعين رقيباً، ثم جاء إلى رومة بألف من الأسر الممتازة في إيطاليا والولايات القريبة، وسجل أسماءها في سجلات طبقتي الأشراف والفرسان، وملأ ما كان في مجلس الشيوخ من فراغ من بين هذه الأسر الجديدة. وحذا هؤلاء الأشراف الجدد حذوه بعد أن ضرب لهم أحسن الأمثلة، فأصلحوا بسلوكهم الأخلاق الرومانية والمجتمع الروماني. ذلك أن أفراد هاتين الطبقتين لم يكونوا ممن أفسدتهم الثروات الطائلة، ولم يكونوا ممن طال عليهم العهد ببعدهم عن العمل الشاق وزراعة الأرض، فلم يستنكفوا أن يقوموا بالواجبات والأعمال الرتيبة في الحياة وتصريف شؤون الحكم. وكانت تتصف بما يتصف به الإمبراطور من نظام حسن وآداب رقيقة. وق خرج من هذه الطبقة الجديدة أولئك الحكام الذين صلحت بهم حكومة رومة بعددومتيان Domitian مدى جيل كامل، وأدرك فسبازيان ما جره من المساوئ استخدام العبيد المحررين منفذين لأوامر الإمبراطور، فاستبدل بمعظمهم رجالاً ممن جاء بهم ومن طبقة رجال الأعمال التي اخذ عددها يزداد في رومة. واستطاع بمعونة هؤلاء وأولئك أن يرد إلى رومة كرامتها وهو عمل يكاد يكون معجزة من المعجزات.

ص: 147

وقد أنه في حاجة إلى 40. 000. 000. 000 سسترس لكي ينتشل البلاد من وهدة الإفلاس ويعيد الثقة إلى حزانة الدولة

(1)

فعمل على جمع هذا المال بأن فرض الضريبة على كل شيء تقريباً، وزاد خراج الولايات، وأعاد فرض الخراج على بلاد اليونان، ورد إلى الدولة الأراضي العامة وأجرها للأفراد، وباع القصور والضياع الإمبراطورية، وفرض الاقتصاد الدقيق في نفقات الدولة إلى حد جعل الناس ينددون به ويقولون عنه إنه فلاح بخيل، وقرر ضريبة على المباول العامة التي كانت تزدان بها رومة القديمة كما تزدان بها رومة الحديثة. واحتج ابنه على هذه الضريبة الأخيرة المنافية للكرامة، ولكن الإمبراطور الشيخ أمسك بيده بعض النقود المحصلة منها وقربها من فم الشاب وقال له:"انظر يا بني، هل تشم لها رائحة كريهة؟ "(97). ويتهمه سوتونيوس بأنه ضاعف أموال الخزانة العامة ببيع المناصب، وترقية أشد الموظفين شراهة في جباية الضرائب من الولايات، حتى يتخموا جيوبهم بالمال حين يعزلهم فجاءة، ثم يفحص عن أعمالهم ويصادر ما جمعوه لأنفسهم. على أن هذا المالي الماهر الواسع الحيلة لم يستخدم لنفسه شيئاً مما جمعه، بل استنفذ هذا المال كله في إنعاش الحالة الاقتصادية، وفي تجميل رومة بالمنشآت العامة وفي تقدمها الثقافي.

وبقي بعدئذ على هذا الجندي الخشن أن ينشئ أول نظام للتعليم تقوم به الدولة في التاريخ القديم، فكان أول ما عمله في هذا الميدان أن أمر بأن تؤدي لطائفة من ذوي الكفاية من مدرسي الآداب وعلوم البلاغة اللاتينية واليونانية أجورهم من خزانة الدولة، وأن يوضف لهم معاش بعد عشرين عاماً منن الخدمة. ولعل هذا الشيخ المتشكك قد أحس بأن للمدرسين نصيباً في تكييف الرأي العام، وبأنهم سيمتدحون الحكومة التي تؤدي إليهم أجر أعمالهم.

(1)

هذا الرقم مأخوذ عن سوتنيوس، ويرى كثيرون من المؤرخين أنه رقم مبالغ فيه ولا يقبله العقل، ولكن يغلب على الظن أنه قدر بالنقد المنخفض القيمة في ذلك الوقت.

ص: 148

ولعل سبباً كهذا هو الذي حدا بهِ إلى إعادة كثير من الهياكل القديمة في الحواضر وفي بلاد الريف نفسها. فقد أعاد بناء هيكل جوبتير، ويونو، ومنيرفا، وكان جنود فيتلوس قد أحرقوا هذه الهياكل وهدموها فوق روؤوس جنوده. وشاد معبداً لباكس Pax إلهة السلام، وبدأ أشهر المباني الرومانية كلها وهو مبنى الكولسيوم. وغضبت الطبقات العليا حين رأت الضرائب تفرض على ثروتها لإقامة المنشآت للدولة وأداء الأجور للعمال الفقراء، كما أن العمال أنفسهم لم يحمدوا له كثيراً عمله هذا. ومن أعماله الأخرى أنه حشد الشعب لإزالة ما خلفته الحرب الأخيرة من أنقاض، وحمل هو نفسه أول ما حمل منها، ولما أن عرض عليه أحدالمخترعين تصميم آلة رافعة تقلل الحاجة إلى العمل الجثماني إلى حد كبير أبى أن يستخدمها وقال:"إني أريد أن أطعم شعبي"(98) وكان هذا الخطر المؤقت الذي فرضه فسبازيان على الاختراع اعترافاً منه بمشكلة التعطل الفنية، وقراراً بالحيلولة دون حدوث ثورة صناعية.

وعم الرخاء الأقليم إلى حد لم يكن له نظير من قبل، فكانت ثروتها في ذلك الوقت-إذا قدرت بالنقد على الأقل-ضعفي ما كانت عليه في عهد أغسطس، ولذلك تحملت أعباء ما زاد من الخراج من غير أن يصيبها ضرر ما. وعين فسبازيان أجركولا Agricola الرجل القدير حاكماً على بريطانيا، وعهد إلى تيتس أن يخمد ثورة اليهود، فاستولى على أورشليم ثم عاد إلى رومة بكل مظاهر الشرف التي تتوج الإسراف في التقتيل، وسار القائد المظفر في موكب نصره ومن ورائه صف طويل من الأسرى وقدر كبير من الغنائم مخترقاً شوارع رومة، وأقيم له قوس نصر شهير لتخليد ذكرى هذا النصر الباهر. وازدهى فسبازيان بانتصار ولده ولكنه ساءه وأقلق باله أن رأى نيتس يأتي معه بأميرة يهودية جميلة تدعىبرنس Berenice لتكون خليلة له، ويرغب أن يتزوجها، وفي هذه المرة أيضاً حمل الآسر معه آسره.

ص: 149

ولم يكن الإمبراطور يرى سبباً يدعو لأن يتزوج اٌلإنسان خليلته، وقد ظل هو نفسه بعد وفاة زوجته يعيش مع جارية معتوقة ولم يعن قط بأن يعقد عليها، ولما ماتت كئينس هذه وزع قلبه بين عدة محظيات (99). وكان قوي الاعتقاد بأنه يجب أن يستقر على رأي في وراثة العرش قبل وفاته، لأن هذه هي السبيل الوحيدة لمنع الفوضى. ووافقه مجلس الشيوخ على هذا الرأي، ولكنه طلب إليه أن يختار "خير الأخيار" ويتبناه-ولعل المجلس كان يريد منه أن يختار أحد أعضائه. ورد فسبازيان بأنه يرى تيتس خير الأخيار. وأراد ولده أن ييسر الأمر لأبيه فأبعد عنه برنيس، واستعاض عنها بالشيوعية الجنسية (100) ثم أجلس الإمبراطور ولده معه على العرش وعهد إليهِ قسطاً متزايداً من الحكم.

وزار فسبازيان ريتى مرة أخرى، وشرب وهو في الإقليم السبيني كثيراً من ماء بحيرة كوتليا Cutelia المسهل فأصيب بإسهال شديد. وظل وهو طريح الفراش يستقبل الرسل ويؤدي واجبات منصبه. وقد احتفظ إلى آخر لحظة بفكاهته السمجة رغم علمه بأنه قاب قوسين أو أدنى من الموت فقال:"وا أسفاه أظن أني صائر إلى أن أكون إلهاً Vae (Puto deus fio. ووقف على قدميه وهو يكاد أن يُغمى عليهِ، وأعانه على ذلك بعض أتباعه وقال: "إن الإمبراطور يجب أن يموت واقفاً". وبهذا ختم حياة كاملة بلغت التاسعة والستين عاماً، واختتم حكماً صالحاً عشر سنين.

ص: 150

الفصل السّابع

‌تيتس

كان أكبر ولديهِ المسمى باسمه تيتس فلافيوس فسبازيانس Titus Flavius Vespasianus أسعد الأباطرة كلهم حظاً. ذلك أنه مات في السنة الثانية من حكمه وفي الثانية والأربعين من عمره وهو لا يزال "محبوب بني الإنسان". ولم يطل به الوقت حتى تفسده السلطة

(1)

أو تتكشف له خيبة الرجاء. لقد امتازوهو في ريعان الشباب ببأسه وقسوته في الحرب، ولوث سمعته بالانغماس في الملذات، فلما أن تولى الحكم لم تسكره السلطة، وصلحت أخلاقه، وجعل حكومته مضرب المثل في الحكمة والنزاهة. وكان أكبر عيوبه كرمه الحاتمي، فكان يرى أن اليوم الذي لم يسعد فيه إنساناً ما بهبة يقدمها يوماً أضاعه من حياته. وقد أسرف في الإنفاق على المعارض والألعاب، وترك خزانة الدولة الغاصة بالمال وهي تكاد أن تكون خاوية كما وجدها أبوه. ومن أعماله أنه أتم تشييد الكلسيوم، وبنى حماماً عاماً جديداً في رومة، ولم يحكم على أحد بالإعدام في أثناء حكمه القصير، بل فعل عكس هذا، فقد كان الواشون والمخبرون يضربون وينفون من البلاد، وأقسم أنه يفضل أن يُقتل هو على أن يكون سبباً في قتل إنسان، ولما عرف أن أثنين من الأشراف يأتمرون به ليخلعاه، لم يعمل أكثر من أن يرسل إليهم يحذرهم، ثم أرسل رسولاً يطمئن والدة أحد المتآمرين، ويبلغها أن ابنها لم يُصب بسوء.

(1)

يشير الكاتب بقوله "تفسده السلطة" إلى قول لورد أكتن Acton المشهور كل سلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة All power corrupts and absolute power corrupts absolutely. (المترجم)

ص: 151

وكان ما أصابه من سوء الحظ ناشئاً من نكبات لا سلطان له عليها. ذلك أن حريقاً شب في رومة ودام ثلاثة أيام، دمر فيها كثيراً من الأبنية الهامة، وكان مما دمر فيها مرة أخرى هياكل جوبتير، ويونو، ومنيرفا. وفي السنة نفسها ثار بركان فيزوف، وخرب بمبي، وأهلك آلافاً من الإيطاليين؛ وفي السنة التالية تفشى في رومة طاعون لم تشهد وباء أشد منه فتكاً في تاريخها كله. وبذل كل ما في وسعه ليخفف وقع هذه الكوارث الشديدة، ولم تظهر في ذلك العمل عناية الإمبراطور برعاياه فحسب، بل ظهر كذلك عطف الوالد الحنون على أولاده" (102). ومات تيتس في سنة 81 في نفس البيت الريفي الذي توفي فيهِ أبوه من زمن قصير. وحزنت عليه رومة كلها إلا أخاه الذي على العرش.

ص: 152

الفصل الثامن

‌دومتيان

إن المؤرخ الذي يريد أن يرسم صورة صادقة لدومتيان ليجد في ذلك صعوبة لا تعادلها صعوبة رسم صورة لنيرون نفسه. ذلك أن أهم المصادر التي نستمد منها معلوماتنا عن حكمه مصدران هما تاستس وبلني Pliny الأصغر، وكلاهما ممن علا نجمهم في عهده، ولكنهما كانا من حزب الشيوخ الذين كانت بينهم وبينه حرب عوان يريد فيها كلا الطرفين أن يضرب الضربة القاضية. ولدينا في مقابل هذين المؤرخين المعاديين له شاعران هما استاتيوس Statius، ومارتيال Martial اللذين كانا ينالان رفده أو يسعيان لنيله، واللذين شادا بذكره ورفعاه إلى عنان السماء. ولعلهم هم الأربعة كانوا على حق فيما قالوه عنه، لأن دومتيان آخر الفلافيين بدأ حياته كالملائكة وختمها كالشياطين، وكان شأنه في هذا شأن كثيرين من اليوليوسيين-الكلوديين. وقد سايرت روح دومتيان جسمه في هذا التطور: فقد كان في شبابه متواضعاً، رشيقاً، لطيفاً، وسيماً، طويلاً؛ ثم صار فيما بعد "بطيناً، رفيع الساقين، أصلع الرأس"-وإن كان قد ألف كتاباً "في العناية بالشعر"(103). وكان في كهولته يقرض الشعر أما في شيخوخته فلم يكن يثق بثره، وكان يعهد إلى غيره كتابة خطبه وتصريحاته. ولو لم يكن تيتس أخاه لأمكن أن يكون أسعد مما كان؛ ولكن أنبل الناس وحدهم هم الذين يغتبطون بنجاح أصدقائهم. أما دومتيان فقد استحالت غيرته من أخيه في أول الأمر نكداً صامتاً ثم مكائد تدبر سراً لإسقاطه. واضطر تاستس أن يرجو أباه أن يصفح عن أخيه الأصغر. ولما مات فسبازيان، أدعى دومتيان أن أباه قد أوصى بأن يكون شريكاً في

ص: 153

الحكم ولكن الوصية عبثت بها الأيدي؛ ورد تيتس على هذا الادعاء بأن عرض عليه أن يكون شريكه وخليفته، فرفض دومتيان هذا العرض وظل سادراً في مؤامرته؛ ويقول ديوكاسيوس إنه لما مرض تيتس عجل دومتيان منيته بأن أحاط جسمه بالثلج (104). وليس في وسعنا أن نتأكد من صخة هذه الأخبار أو غيرها من القصص الني وصلت إلينا عن شهواته الجنسية الطليقة-كقولهم إن دومتيان كان يسبح في الماء مع العاهرات، وإنه ضم ابنة تيتس إلى سراريه، وإنه "كان فاجراً فاسقاً بالنساء والغلمان على السواء"(105). ذلك أن التواريخ اللاتينية كلها لا تختلف في شيء عن سياسة هذه الأيام، فقد كانت ضربات توجه للوصول إلى أغراض رجال العصر الذي كتبت فيه.

فأما من حيث سياسة دومتيان نفسها فإنه كان في العشر سنين الأولى من حكمه متميزاً في أخلاقه قديراً في سياسته إلى حد دهش معه جميع عارفيه؛ فقد اتخذ سياسة تيبيريوس وأخلاقه مثلاً يحتذيه، كما أتخذ فسبازيان أغسطس مثلاً آخر له. ومن ذلك جعل نفسه رقيباً مدى الحياة، ثم حرم نشر المطاعن البذيئة (وإن كان قد غض النظر عن فكاهات مارتيال الشعرية). ونفذ القوانين اليوليوسية الخاصة بالزنى، وحرم تمثيل المسرحيات الصامتة لمجافاتها الأخلاق، أمر بضرب عنق عذراء فستية حكم عليها بالزنى أو بمضاجعة أحد أقربائها المحرمين عليها، وقضى على عادة الخصاء وهي العادة التي انتشرت مع ارتفاع أثمان الأرقاء الخصيان، ولم يكن يطيق رؤية الدم المسفوك ول كان دم الثيران التي يضحى بها في المراسم الدينية. وكان رجلاً شريفاً، واسع الفكر، لم يؤخذ عليه بخل أو شره في حب المال، وأبى أن يقبل الوصايا ممن لهم أبناء، وألغى جميع الضرائب المتأخرة من اكثر من خمس سنين، وأعرض عن المتجسسين. وكان في أحكامه صارماً نزيهاً، وكان له أمناء سر من معاتيقه ولكنه ألزمهم جميعاً أن يكونوا أمناء صالحين.

ص: 154

وكان عهده من أعظم عهود العمارة الرومانية، فلما رأى أن النار التي شبت في عامي 79، 82 قد دمرت كثيراً من المباني وأنزلت بالبلاد كثيراً من البلايا، وضع برنامجاً واسعاً للمنشآت العامة ليوفر بذ 1 لك العمل للأهلين ويساعد على توزيع الثروة (106)، وكان هو أيضاً ممن يأملون في إحاء الإيمان القديم بتجميل الهياكل والأضرحة والإكثار منها. ومن أعماله أنه أعاد بناء هياكل جوبتير ويونو ومنيرفا، وأنفق ما يعادل 22. 000. 000 ريال أمريكي في صنع أبوابها المصفحة بالذهب وأسقفها المطلية بهِ، وأعجبت رومة بنتائج هذه الجهود وأسفت على ما أنفق فيها من أموال طائلة. ولما أن شاد دومتيان لنفسه ولموظفيه الإداريين قصره الرحب المعروف باسم دومس فلافيا Domus Flavia شكا الأهلون بحق من كثرة ما أنفق في بنائه من الأموال، ولكنهم لم يرفعوا أصواتهم بالاحتجاج على الألعاب الكثيرة الأكلاف التي حاول أن يخفف بها من كراهية الشعب. وقد دشن هيكلاً باسم أبيه وأخيه، وأعاد بناء الحمامات، وهيكل الآلهة التي أنشأه أجربا، والرواق ذي العمد الذي أقامته أكتافيا، وهيكلي إيزيس وسرابس، وأضاف أجنحة جديدة للكلسيوم، وأتم حمامات تيتس، وبدأ الحمامات التي أكملها تراجان.

ولم تشغله هذه المنشآت عن بذل الجهود الجبارة في تشجيع الفنون والآداب حتى بلغ النحت الفلافي الملون في أيام زعامته ذروة مجده، وحتى النقود التي سكت في أيامه رائعة الجمال. ومن الوسائل التي استعان بها على تشجيع الشعر أن أقام في عام 86 الألعاب الكبتولية، وكانت تشمل مباريات في الأدب والموسيقى. وأقام معهداً للموسيقى في ميدان المريخ؛ وقدم معونة متوسطة لاستاتيوس Statius ذي المواهب الوسطى، وأخرى لمارتيال ذي المواهب الوضيعة، وأعاد بناء دور الكتب العامة التي دمرتها النيران، وجدد ما كانت تحتويه من الكتب بأن أرسل الكتبة لنسخ المخطوطات المحفوظة في الإسكندرية-وذلك برهان آخر

ص: 155

على أن مكتبتها العظيمة لم يحرق إلا جزء صغير من كنوزها في النار التي أوقدها فيها قيصر.

وإلى هذا كله كان يصرف شؤون الإمبراطورية أحسن تصريف، وكان يتصف بما يتصف به تيبيريوس من عزيمة قوية صارمة في الشؤون الإدارية، وقد ضرب على أيدي المختلسين والمرتشين، وكان شديد الرقابة على تعيين الموظفين ومصائرهم. وكما فعل تيوبيريوس بجرمنكوس إذ حد من جشعه، كذلك استرجع دومتيان أجركولا من بريطانيا بعد أن قاد هذا القائد المغامر جيوشه ودفع حدود الأملاك الرومانية حتى وصلت اسكتلندة، ويلوح أن أجركولا كان يعتزم مواصلة الزحف ولكن دومتيان أبى عليه ذلك. وقد عزا بعضهم استرجاع أجركولا لحسد دومتيان له وغيرته من مجده، وجوزي الإمبراطور على هذا أشد الجزاء حين كتب تاريخ حكمه صهر أجركولا نفسه. وخانه الحظ في الحرب أيضاً حين عبر الداشيون بهر الدانوب في عام 86، وغزوا ولاية موئيزيا Moesia الرومانية، وهزموا قواد دومتيان، فما كان من الزعيو إلا أن تولى القيادة بنفسهِ، ووضع خطة الحرب فأحكم وضعها، وأوشك أن يدخل داشيا ولكن أنطونينس ستورنينس Antoninus Saturninus الوالي الروماني على ألمانيا العليا أقنع فيلقين من الفيالق المعسكرة في مينز Mainz بأن تنادي به إمبراطوراً. وأخمد أعوان دومتيان الفتنة، ولكنها أفسدت عليه خطته إذ مكنت أعداءه من جمع شملهم والاستعداد لقتاله. فلما أن عبر الدانوب لملاقاة الداشيين هزمه هؤلاء على ما يظهر، فعقد الصلح مع دسبالس Dacibalus ملك الداشيين، وأرسل إليه هدية كان يرسل مثلها في كل عام يسترضيه بها، وعاد إلى رومة ليحتفل بنصر مزدوج على الشاتين Chatti والداشيين، واكتفى فيما بعد بإنشاء طريق محصن بين نهري الرين والدانوب وآخر بين الثنية الشمالية لهذا النهر والبحر الأسود.

وكانت فتنة سترنينس نقطة الانقلاب في حكم دومتيان، أو الحد الفاصل

ص: 156

بين نفسه الطيبة ونفسه الخبيثة. لقد كان على الدوام شديداً لا يلين، أما الآن فقد انحدر إلى القسوة والوحشية؛ ولقد كان قادراً على أن يحكم حكماً صالحاً، ولكن مقدرته هذه كانت موقوفة على أن يكون حاكماً أوتوقراطياً لا معقب لحكمه؛ ففي عهده لم يلبث مجلس الشيوخ أن فقد سلطته، وكانت اختصاصاته الواسعة بوصفه رقيباً سبباً في إذلال هذا المجلس وبث روح الانتقام في نفوس أعضائه. هذا إلى أن غرور دومتيان لم يقف عن حد، والغرور كما هو معروف من الصفات التي تترعرع حتى نفوس الوضيعين من الناس: ومن مظاهر غروره أنه ملأ الكبتول بتماثيله، ونادى بتأليه أبيه وأخيه وزوجته وأخته كما نادى بتأليه نفسه، وأنشأ طائفة جديدة من الكهنة سموا الفلافيال Flaviales ليشرفوا على عبادة أولئك الأرباب، وطلب إلى الموظفين ألا يذكروه في وثائقهم إلا بلقب "سيدنا وإلهنا Dominus et Deus Noster". وكان يجلس على عرشه ويشجع زائريه على أن يحتضنوا ركبتيه، وأدخل في قصره المزخرف آداب القصور الشرقية، لأن الزعامة أصبحت بقوة الجيش وانحلال مجلس الشيوخ ملكية غير دستورية. واشتعلت نيران الفتن على هذا التطور الجديد بين صفوف الأشراف وبين الفلاسفة والأديان التي أخذت تتسرب إلى رومة من بلاد الشرق. وأبى اليهود والمسيحيون أن يعبدوا دومتيان ويتخذوه إلهاً من دون الله، وندد الكلبيون بكل أنواع الحكومات، وأقسم الرواقيون ليقاومن كل مستبد جبار ويكرمن قتلة المستبدين وإن قبلوا أن يحكم البلاد ملوك. وفي عام 39 طرد دومتيان الفلاسفة من رومة، ثم أخرجهم من إيطاليا كلها في عام 95، وكان قرار طردهم من رومة يشمل معهم المنجمين، لأن تنبؤهم بموت الإمبراطور أوقع الرعب في قلب رجل خال قلبه من الإيمان ومستعد لقبول الخرافات والأوهام. وفي عام 93 أعدم دومتيان بعض المسيحيين لأنهم أبوا أن يقربوا القرابين بين يدي تمثاله؛

ص: 157

وتقول الروايات المتواترة إن فلافيوس كلمنز Flavius Clemens ابن أخيه كان من بين هؤلاء القتلى (109).

زاد خوف الإمبراطور من المؤامرات حتى بلغ في السنين الأخيرة من حكمه جد الجنون، فكان يبطن بالحجارة البراقة جدران الأروقة التي يمشي تحت سقفها، حتى يرى صورة من كان وراءه معكوسة فيها. وكان يندب سوء حظ الحكام لأن أحداً لا يصدقهم إذا قالوا إن الناس يأتمرون بهم إلا إذا نجحت المؤامرة، وكان كتيبيريوس يستمع للواشين حين تقدمت به السنون، فلما أن تضاعف عدد الوشاة، لم يكن أحد من المواطنين ذوي المكانة يأمن على نفسه وهو في عقر داره من الجواسيس. وزادت التهم والأحكام زيادة سريعة بعد فتنة سترنينس، فنفى الأشراف أو قتلوا تقتيلاً، وعذب كل من اشتبه فيه عذاباً شديداً، وكان من بين ضروب العذاب "إدخال النار في أعضائهم التناسلية"(108). واتُّخذ مجلس الشيوخ المروع-وكان من أعضائه تاستس الذي يقص هذه الأخبار والحقد يملأ قلبه-أداة لهذه المحاكمات والأحكام، وكان كلما أعدم إنسان يحمد للآلهة أن أنجت الزعيم.

وكان من الأخطاء التي وقع فيها دومتيان أن قذف الرعب في قلوب آل بيته أنفسهم. من ذلك أنه أمر في عام 96 بإعدام إيفرديتس Epaphraidtus أمين سره لأنه أعان نيرون على الانتحار قبل ذلك الوقت بسبع وعشرين سنة. وأحس معاتيق بيته بأنهم مهددون بالخطر، فاعتزموا أن يتقوا الشر بقتل دومتيان، وانضمت إليهم دومتيا Domitia في هذه المؤامرة. وحدث في الليلة السابقة لليلة مقتله أن قفز من فراشه مذعوراً. ولما حلت الساعة المتفق عليها وجه خادم دومتيان الضربة الأولى؛ واشترك أربعة عشر غيره في الهجوم عليهِ؛ وقاوم دومتيان هذا الهجوم مقاومة المجنون، ثم خر صريعاً، وكان ذلك في السنة الخامسة والأربعين من عمره والخامسة عشرة من حكمه (96). ولما علم الشيوخ بالنبأ

ص: 158

مزقوا ما كان له في قاعة المجلس من صور وحطموا ما وضع له فيها من تماثيل وأمروا أن يُحطم كل ما في الإمبراطورية بأجمعها من ثماثيل له ومن نقوش يُذكر فيها اسمه.

وبعد فقد ظلم التاريخ هذا العهد "عهد الطغاة"، وكان سبب هذا الظلم أنه تحدث عنه أكثر ما تحدث بلسان أعظم المؤرخين نباغة وأبعدهم عن الإنصاف. ولسنا ننكر أن ثرثرة سوتونيوس كثيراً ما تؤيد اتهامات تاستس أو تحذو حذوها، ولكن دراسة الأدب والنقوش قد حكمت عليها بأنهما يظنان خطأ أن كتابة تاريخ الإمبراطورية، وتاريخ القرن الذي كانا يعيشان فيه، لا تخرج عن تسجيل رذائل الأباطرة العشرة وخطاياهم. وإن أسوأ هؤلاء الحكام لم يكن مجرداً من كل خير-فقد كان تبيريوس حاكماً مخلصاً في عملهِ، وكان كالجيولا مرحاً جذاباً، وكان كلوديوس يكدح لتعلم الحكمة، وكان نيرون مرهف الحس بالجمال، وكان دومتيان قديراً في حكمه صارماً فيه. وقام من خلف مظاهر الفجور والتقتيل نظام إداري حفظ للولايات قسطاً كبيراً من النظام خلال هذه الفترة الطويلة كلها. يضاف إلى هذا أن الأباطرة أنفسهم كانوا أكبر ضحايا سلطانهم، فلقد كان مرض من نوع ما يجري في دمائهم، أشعلت ناره حرارة شهواتهم الطليقة، وظل يلازم اليوليوسيين-الكلوديين حتى قضى عليهم كما قضى أثريوس Atreus. وكان عيب من نوع ما في نظام الحكم هو الذي حط من شأن الفلافيين في مدى جيل واحد، فهوى بهم من حزمهم في شؤون الحكم وصبرهم على متاعبه إلى القسوة الوحشية المروعة. ولقد اختتمت حياة سبعة من هؤلاء الرجال العشرة أسوأ خاتمة، وكانوا كلهم تقريباً غير سعداء في حياتهم، فقد عاشوا في جو من المؤامرات والدسائس، والخيانة، ويحاولون أن يحكموا عالماً من بيت تسوده الفوضى. وإذا كانوا قد أطلقوا العنان لشهواتهم فما ذلك إلا لأنهم كانوا يعرفون أن سلطانهم العظيم سريع الزوال وأنهم كانوا يعيشون يروعهم في كل يوم

ص: 159

بأنهم مقضي عليهم بالموت الباكر المفاجئ. وإذا كانوا قد انحطوا إلى الدرك الأسفل فما ذلك إلا لأنهم كانوا فوق متناول القانون، وإذا كانوا قد أضحوا أقل من الرجال فما ذلك إلا لأن السلطة جعلت منهم آلهة يعبدون.

ولكننا مع ذلك لا يحق لنا أن نغفر لهذه الحقبة أو للزعامة ما اقترفته من الجرائم الخسيسة الدنيئة؛ نعم إنها نشرت السلام في ربوع الإمبراطورية، ولكنها بسطت حكم الإرهاب على رومة، وأفسدت الأخلاق بما ضربته من أمثلة القسوة المروعة والفجور الطليق، وقطعت أوصال إيطاليا بإشعال نار الحرب الأهلية التي كانت أشد هولاً ووحشية من حروب قيصر وبمبي، وملأت الجزائر بالمنفيين، وأفنت خير الرجال وأشدهم بأساً وأقواهم قلباً. ونشرت الغدر والخيانة بين الأقارب والأصدقاء بإجزال العطاء للجواسيس الشرهين. وقد استبدلت في رومة حكم القانون بطغيان الأفراد وشادت صروحاً ضخمة بجمع الخراج من الولايات، ولكنها أضعفت النفوس بإرهاب ذوي المواهب والابتكار حتى يذلوا أو يصمتوا. وشر من هذا كله أنها جعلت الجيش صاحب السلطة في البلاد. فلم يكن منشأ سلطة الزعيم على مجلس الشيوخ هو عبقريته الفذة، أو ما جرى به العرف، أو مكانة الزعيم وهيبته، بل كان عماد هذه السلطة أسنة الحرس. ولما رأت جيوش الولايات كيف كان الأباطرة يرفعون على العرش، وكيف كانت العطايا توزع عليهم في العاصمة والغنائم تؤخذ منها، واستولت على سلطة الحرس البريتوري، وتولت هي صنع الملوك. ولقد استطاع الحكام العظماء، الذين كانوا يُختارون بالتبني لا بالورائة، استطاعوا بالحكمة أو بالبطش أو بالمال أن يكبحوا جماح الفيالق الرومانية ويؤمنوا الحدود والثغور، فلما أن عادت البلاهة إلى الجلوس إلى العرش بعمل فيلسوف عاشق، شق الجند عصا الطاعة وفسد نظامهم، ومزقت الفوضى غشاء النظام الرقيق، وتآزرت الحرب الأهلية والبرابرة المتربصون فتحطم صرح الحكم النبيل المزعزع الذي شادته عبقرية أغسطس.

ص: 160

الباب الرابع عشر

‌العصر الفضي

14 -

96 م

الفصل الأول

‌المولعون بالفنون

أطلقت الرواية المتواترة على الآداب اللاتينية فيما بين 14، 117 م اسم العصر الفضي للدلالة على أن هذه الآداب قد نزلت عن المستوى الثقافي الرفيع الذي بلغته في عصر أغسطس؛ والرواية هي صوت الزمان، والزمان هو الوسط الذي يختار فيه بين الطيب والخبيث، والعقل الحذر يجل حكمها لأن الشباب وحده هو الذي يعرف ما لا تعرفه عشرون قرناً من الزمان. على أننا نرجو أن يؤذن لنا بأن نرجئ حكمنا على هذا العصر، وأن نستمع بلا تحيز إلى ما يقوله عنه لو كان، وبترونيوس، وسنكا، وبلني الأكبر، وسلسس Celsus، واستاتيوس Statius ومارتيال، وكونتليان، وأن نستمع في أبواب أخرى من هذا الكتاب إلى أقوال تاستس، وجوفنال، وبلني الأصغر، وإبكتنس Epictetus، وأن نستمتع بأقوالهم استمتاع من لم يسمعوا قط بأنهم عاشوا في عصر من العصور الاضمحلال. ذلك أنا نجد في كل عصر شيئاً يضمحل وشيئاً ينمو؛ فالمقطوعات الشعرية الفكهة، والهجاء، والروايات القصصية، والتاريخ، والفلسفة، بلغت كلها في العصر الفضي ذروة مجدها، كما أن فن النحت الواقعي، والعمارة الضخمة قد بلغا فيه ما لم يبلغاه في عصر آخر من عصور الفن الروماني.

ص: 161

وفي هذا العصر دخل حديث الشارع مرة أخرى في الأدب، وأهملت بعض قواعد النحو والصرف، وحذت الحروف الساكنة من أواخر الكلمات، ولم يعبأ بها الرومان أكثر مما كان يعبأ بها الغاليون. وحدث في منتصف القرن الأول أو حواليه أن رقق الحرفان الاتينيان V (وكان ينطق كما ينطبق حرف W (و) في اللغة الإنكليزية)، B (إذا كان بين حرفين متحركين)

(1)

حتى أصبحا مماثلين في النطق لحرف V الإنكليزي. وهكذا أصبحت كلمة Babere ومعناها التملك ينطق بها Bavere، وكان هذا تمهيداً للكلمة الإيطالية avere، والفرنسية Avoir؛ وأخذت كلمة Vinum ومعناها النبيذ أو الخمر تقترب في النطق من كلمة Vino الإيطالية، وكلمة Vin الفرنسية وذلك بإهمال الحرف الساكن الأخير المتغير. وقصارى القول أن اللغة الاتينية شرعت تمهد السبيل للغات القومية الإيطالية والأسبانية والفرنسية.

وجدير بنا أن نعترف في هذا المقام بأن الخطابة ازدهرت وقتئذ على حساب البلاغة، وأن النحو ارتقى على حساب الشعر؛ وأن لمقتدرين الكفاة وجهوا كل جهودهم إلى دراسة شكل اللغة وتطورها ودقائقها، وإلى نشر اللصوص التي أصبحت في ذلك العهد نصوصاً "فصحى"، وإلى صياغة قواعد الكتابة الأدبية الراقية والخطب القضائية، وأوزان الشعر، وتقاسيم الجمل في النثر. وحأول كلوديوس أن يدخل بعض الإصلاح على الحروف الهجائية، وجعل نيرون الشعر طراز العصر المحبب، وألف سنكا الأكبر كتباً في البلاغة، وحجته في هذا أن الفصاحة تزيد كل قوة إلى ضعفيها؛ ولم يكن أحد يرقى في رومة بغير الفصاحة إلا قواد الجند وحدهم، وحتى هؤلاء القواد كان يجب أن يكونوا خطباء. واستحوذ جنون البلاغة على جميع أشكال الأدب: فأصبح الشعر خطابياً، والنثر

(1)

لقد فضلنا أن نستعمل هذا اللفظ (الحرف المتحرك) لترجمة كلمة Vowel الإنكليزية وإن كان بعضهم يفضل تسميته "بالحركة" وذلك للدلالة على كيانه المستقل. (المترجم)

ص: 162

شعرياً، وحتى بلني نفسه كتب صفحة بليغة في المجلدات الستة من كتابه في التاريخ الطبيعي. وأخذ الناس يغلون أنفسهم باتزان عباراتهم، وتناغم جملهم، وأضحت التواريخ خطباً حماسية، وأخذ الفلاسفة يجهدون أنفسهم في البحث عن النكات، وشرع كل إنسان يكتب أمثالاً مركزة موجزة، وصار الأدباء كلهم يكتبون الشعر ويقرؤونه لأصدقائهم حول مناضد في ردهات أو دور تمثيل يستأجرونها لهذا الغرض، بل إنهم كانوا يقرؤونه في الحمامات نفسها، حتى شكا من ذلك مارتيال مر الشكوى. وعقدت مباريات عامة للشعراء، ينال الفائزون فيها جوائز وتحتفل بهم المجالس البلدية، ويضع الأباطرة عل رؤوسهم أكاليل النصر. وكان الأشراف والزعماء يرحبون بأن تُهدى إليهم المؤلفات أو يُثنى عليهم فيها، وكانوا يجيزون صحبها بالولائم أو الأموال. وكانت شهوة الشعر مما أكسب هذه الفترة وتلك المدنية اللتين دنستهما الإباحية الجنسية وعهود الإرهاب المتكررة نقول كانت هذه الشهوة مما أكسب هذه الفترة ذلك الجمال الذيؤ يخلعه المؤلفون الهواة على العصر الذي يعيشون فيه.

واجتمع الشعر والإرهاب في حياة لوكان، وكان سنكا الكبير جده، وسنكا الفيلسوف عمه. وقد ولد في قرطبة عام 39 وسمي ماركس أنيوس لوكانس Marcus Annaeus Lucanus، وجيء به في طفولته إلى رومة ونشأ في بيئة أرستقراطية يصطرعفيها الشعر والفلسفة مع دسائس الحب ومع السياسة في سبيل الغلبة والمكانة السامية في الحياة. ولما بلغ الحادية والعشرين من عمره اشترك في المباريات التي عقدت أثناء الألعاب النيرونية، وتقدم إليها بقصيدة "في مدح نيرون" نال عليها جائزة. وأدخله سنكا في بلاط الإمبراطور، وسرعان ما أخذ الشاعر والإمبراطور يتطارحان الملاحم. وأرتكب لوكان غلطة شنيعة إذ كسب الجائزة الأولى في مباراة شعرية مع الزعيم، فما كان من نيرون إلا أن أمره بألا ينشر بعدها شعراً، وانسحب لوكان ليثأر لنفسه سراً بتأليف ملحمة قوية ولكنها خطابية

ص: 163

سماها فرساليا رأى فيها الحرب الأهلية بعين الأرستقراطية البمبية. ولم يبخس لوكان في هذه الملحمة قيصر حقه، وقد وصفه فيها بتلك العبارة البليغة " Nil actum credens cum quid superssent agendum يظن أنه لم يفعل شيئاً إذا ما بقي ما لم يفعله"(1)، ولكن البطل الحقيقي في هذه الملحمة هو كاتو الأصغر الذي يضعه لو كان في مصاف الآلهة في سطر مشهور من سطور كتابهِ " Victrix causa deis placiut sed victa catoni إن القضية الرابحة سرت الآلهة، ولكن القضية الخاسرة كاتو"(2). وقد أحب لوكان أيضاً القضية الخاسرة، ومات في سبيلها. فقد اشترك في مؤامرة ليحل بيزو محل نيرون، وقبض عليه، فخارت قواه (ولم يكن قد جأوز السادسة والعشرين من عمره)، وباح بأسماء شركائه في المؤامرة، حتى اسم أمه نفسها-على حد قول المؤرخين. ولما أيد نيرون حكم الإعدام الذي صدر عليهِ، استعاد شجاعته، ودعا أصدقاءه إلى وليمة، وأكل معهم حتى شبع، ثم فتح بعض أورته، وأنشد ما قاله من الشعر في هجو الظلم والطغيان بينما كان دم الحياة ينزف من جسمه.

ص: 164

الفصل الثاني

‌بترونيوس

ولسنا واثقين من أن بترونيوس الذي لا يزال كتابه المسمى الساتريكون Satyricon يجد له كثيراً من القراء هو نفسه كيوس بترونيوس Caius Petronius الذي قُتل بأمر نيرون بعد عام من مقتل لوكان. وليس في الكتاب كله كلمة واحدة يمكن أن يُستدل منها على هويته؛ ولا يذكر تاستس في وصفه القوي البليغ لهذا "الحاكم الظريف" كلمة واحدة عن هذه الآية الأدبية التي بلغت في سوء السمعة. وتعزى نحو أربعين مقطوعة فكهة إلى كاتب يدعى بترونيوس ومنها بيت يكاد يمثل فلسفة لكريوشيوس كلها وهو: "إن الخوف هو الذي أوجدالآلهة في العالم أول الأمر"(3) ولكن هذه النتف أيضاً لا تذكر شيئاً يفصح عن حقيقة مؤلفها.

وكتاب الساتريكون مجموعة من الهجاء يغلب على الظن أنها كانت في ستة عشر كتاباً لم يبق منها إلا الكتابان الأخيران، وحتى هذين الكتابين ناقصان. واسمها مشتق من ساتوري Saturae اللاتينية ومعناها "خليط"-وهي تارة نثر وتارة شعر، وتختلط فيها المغامرت في الفلسفة، وجراحة المعدة بالصيد، وهي مدينة في صورتها هذه لكتب منبس Menippus الهجائية؛ ومنبس هذا فيلسوف سوري كلبي Cynic كان يقيم في جدارا Gadara وفيها كتب مؤلفه عام 60 ق. م، ومنها "القصص الميليزية" Milesian أو الروايات الغرامية التي انتشرت في العالم ذي الحضارة اليونانية. وإذ كان ما لدينا من أمثلة أهذا النوع من الكتابات إنما يرجع إلى ما بعد عصر بترونيوس فإن كتاب الساتريكون يمتاز عن أمثاله من الكتب بأنه أقدم رواية قصصية معروفة.

ص: 165

ولا يكاد الإنسان يصدق أن رجلاً مترفاً أرستقراطياً نبيلاً، اشتهر بذوقهِ الراقي، ينزل إلى الدرك الذي نزل إليه كتاب الساتريكون. إن كل ما فيهِ من الشخصيات تالعاملة من العامة، والأرقاء السابقين، وكل ما فيه منم المناظر مأخوذ من أسفل أنواع الحياة؛ وبه ينتهي فجاءة العهد الأغسطي الذي كانت تؤخذ فيه موضوعات الأدب من حياة الطبقات العليا. فإنكلبيوس Encolpius الذي تروى القصة على لسانهِ زان، مخنث، كاذب، لص، يرى من الطبيعي أن يكون كل ذي عقل على شاكلته. وهو يقول عن نفسه وعن صديقه:"لقد اتفقنا فيما بيننا على أن نختلس كل ما تصل إليه أيدينا كلما أتيحت لنا فرصة الاختلاس، لنملأ به خزينتنا المشتركة"(4). وتبدأ القصة في بيت للدعارة، يلتقي فيه إنكلبيوس بأسيلتوس Ascyltos بعد أن لجأ هذا إلى ذلك المكان فراراً من محاضر في الفلسفة، ومغامراتهما بين مدن إيطاليا الجنوبية وكهوفها هي الرباط الذي يربط أجزاء القصة المبعثرة، كما أن تنازعهما على جبتون Giton الغلام الرقيق الوسيم هو الذي يفرق بينهما في قصة اللصوص الغرامية. ويصل الرجلان آخر الأمر إلى بيت التاجر تريملكيو Trimalchio، ثم يدور الجزء الباقي لدينا من الكتاب حول وصف السنا تريملكيونس Cina Trimalchionis وهو أعجب غداء في الأدب كله.

وتريملكيو هذا عبد سابق جمع ثروة طائلة واشترى ضياعاً واسعة، يحيا حياة المترفين الحديثي النعمة، بين جدران قصر وفي جو ملئ بالاضطراب. وقد بلغت ضياعه من الاتساع حداً لا بد معه من كتابة صحيفة يومية يعرف بها مكاسبه، وهو يطلب إلى ضيوفه أن يشربوا ويقول:

"إذا لم يعجبكم الخمر استبدلت به غيره، ولست مضطراً إلى شرائهِ وذلك ما أحمده للآلهة. إن كل ما يُسيل لعابكم في هذا المكان قد جاءني من إحدى مزارعي التي لم أرها بعد؛ ولكنهم يقولون لي إنها في طريق ترسينا Terracina

ص: 166

وتارنيم، وإني أفكر في أن أضم صقلية لأملاكي الصغيرة الأخرى، حتى إذا ما أردت أن أسافر إلى أفريقية استطعت أن أسير مجأوراً لشواطئ أملاكي

وإذا ما حدثتكم عن الفضة فإني أحدثكم عنها حديث الخبير؛ فعندي منها أقداح في حجم دنان الخمر

وعندي ألف جفنة تركها مميوس Mummius لسيدي

وأنا أشتري الأشياء بأبخس الأثمان وأبيعها بأغلاها؛ وقد يكون لغيري من الناس آراء غير هذه الآراء (5). وهو رغم هذا رجل ظريف، يسب عبيده ولكنه يعفو عنهم من فوره، وهم من الكثرة بحيث لا يعرف صورته منهم إلا عشرهم، وهو لا ينسى أنه في الأصل عبد مثلهم ولذلك يقول عنهم قولاً كريماً: "إن العبيد رجال قد رضعوا اللبن الذي رضعناه

وسوف يشرب عبيدي إذا طال بهم العمر الماء الذي يشربه الأحرار". وهو يبرهن على حسن نواياه بأن يأمر بإحضار وصيته وقراءتها على ضيوفه فيجدون فيها أموالاً مخصصة لقبريته التي يختمها بقولهِ مفتخراً إنه "اغتنى من لاشيء، وإنه ترك وراءه ثلاثين مليون سسترس، وإنه لم يستمع قط إلى فيلسوف" (6).

واختص وصف العشاء بأربعين صفحة، وإن عدداً قليلاً من الجمل لتكفي لوصف نكهته:

وكانت لدينا صينية مستديرة نقشت على أطرافها أبراج النجوم، وقد وضع الخادم على كل برج خير مايلائمه من الطعام؛ فوضع جلبان الضأن على برج الحمل ولحم البقر على برج الثور

ورحم خنزيرة لم تلد على برج السنبلة

ووضع على برج الميزان كفتين في إحداهما فطيرة وفي الأخرى كعكة

وأقبلت أربعة راقصات مسرعات ليرفعن الغطاء عن الطعام. وكان من تحته طيور محشوة، وبطون خنازير، يتوسطها أرنب، وفي الجوانب أربعة تماثيل لمارسياس Marsyas يخرج من مثاناتها حساء متبل يقع على سمك يسبح في الصحاف

ثم جاءت صينية أخرى عليها خنزيرة، علقت في أنيابها سلال مثقلة بالبلح، ومن حولها صغارها مصنوعة

ص: 167

من الفطائر

ولما دفع الخادم السكين في جانب الخنزيرة طار منها طير السماني وحط كل واحد على ضيف من الأضياف (7).

ثم تدخل الحجرة أربعة خنازير بيضاء ويختار الضيوف ما يريدون أن يطهى لهم منها؛ ويشوى لهم ما يختارونه وهم يطعمون؛ ويؤتى لهم به، فإذا قطع خرجت من بطنه أمعاؤه المحشوة والفطائر. وإذا قدمت الحلوى لم يجد أنكلبيوس لديه شهية لنتأولها، ولكن ترملكيو يحث ضوفه على الأكل ويؤكد لهم أن الحلوى قد صُنعت كلها من لحم الخنزير. ويدلى خطاف من السقف، يحمل لكل ضيف إبريقاً من المرمر مملوءاً بالعطر ويملأ العبيد أقداحاً فارغة بالخمر المعتق. وتذهب الخمر بعقل تريملكيو فيغازل غلاماً، وتحتج عليه زوجته البدينة، ويقذفها بكأس في رأسها ويقول:"إن هذه العاهر السورية الرقاصة ضعيفة الذاكرة، فلقد انتشلتها من سوق النخاسة وجعلتها امرأة، وهاهي ذي تنفخ أوداجها كالضفدعة .... وهذه سنة الخلق إذا ولدت في علية تحت سطح منزل، فلن تستطيع أن تنام في قصر"(8) ثم يامر قهرمانه أن يبعد تمثالها عن قبره "وإلا فإنها ستؤنبني حتى بعد أن اموت".

هذا كتاب في الهجاء القوي المقذع، واقعي في تفاصيله وحدها، ولا يصدق إلا على قسم صغير من الحياة الرومانية. وإذا كان كاتبه هو بترونيوس الذي عاش في عهد نيرون، وجب علينا أن نعده هجاء مقذعاً للأغنياء المحدثين من الأرقاء المحررين، كتبه رجل من الأشراف، ولم يكسب قط بعملهِ ما كان له من المال. والكناب كله خلو من الرحمة ليس فيهِ شيء من العطف على الناس، ولا يهدف إلى مثل أعلى، ويرى كاتبه أن الفساد وسوء الخلق أمر طبيعي لا غبار عليهما، وتعرض فيه حياة السوقة من الناس عرض من يستمتع بها ويعجب بها ولا يعلق بكلمة ما عليها. وفي هذا الكتاب تنساب الأقذار انسياباً سريعاً إلى الأدب الروماني، وتحمل إليه أحكام أصحابها، وأذواقهم، وألفاظهم الوقحة، وحيويتهم

ص: 168

المرحة. وترى القصة أحياناً تصل إلى أعلى درجات السخف والبذاءة والسباب لتي تتوج ملحمة جرجنتوا وبنترجول، وتعد تمهيداً لقصة "الأتان الذهبية" لأبوليوس Apuleius وتضارعها جيل بلاس Gils Blas التي كُتبت بعدها بسبعة عشر قرناً، وتواصل قصتنا ترسترام شاندي Tristram Shandy، وت جونز Tom Jones ما في قَصَصِها من التواء، وجملة القول أن هذا الكتاب هو أعجب كتاب في الأدب الروماني كله.

ص: 169

الفصل الثالث

‌الفلاسفة

في هذا العصر الشديد التعقيد والانحلال، الذي فرضت فيه على الحرية أضيق القيود وتحررت فيه الحياة من كل قيد، في هذا العصر ازدهرت الفلسفة إلى جانب الفسق والفجور، ولم تتفرعا قط عن التعأون والاتفاق. لقد ترك ما طرأ على الدين القومي من انحلال ثغرة في الأخلاق حأولت الفلسفة أن تسدها، فكان الآباء يرسلون أبناءهم، وكثيراً ما كانوا يذهبون هم أنفسهم، ليستمعوا إلى محاضرات رجال يعرضون عليهم قانوناً عقلياً للأخلاق الصالحة، أو ستاراً رسمياً للشهوات المكشوفة، وكان بعض من أوتوا سعة من المال يستأجرون الفلاسفة ليعيشوا معهم، وليعلموهم، وليكونوا لهم مستشارين روحيين، وأصحاب هكذا كان أتيوس لأغسطس، لا يكاد يبرم أمراً حتى يستشيره فيهِ، ومن أجله (إذا كان لنا أن نصدق الحكام فيما يقولون) لم يقس على مدينة الإسكندرية، ولما مات دروسس استدعت ليفيا "فيلسوف أبيها"-وهذا نص عبارة سنكا-"ليعينها على تحمل أحزانها". وكان لنيرون، وتراجان وأورليوس بطبيعة الحال فلاسفة يقيمون معهم في بلاطهم، كما للملوك أمناء في هذه الأيام. وكان الناس في الساعات الخيرة من حياتهم يستدعون الفلاسفة، ليمهدوا لهم طريق الموت، كما جرت العادة بعدئذ أن يستدعي الناس القسأوسة (10).

ولم يكن الشعب ليغفر لهؤلاء الفلاسفة أنهم يتقاضون على أعمالهم هذه مرتبات أو أجوراً، بل كان يرى أن الفلسفة قي حد ذاتها تغني عن الطعام والشراب؛ وكان الفلاسفة الذين لا يقدرون مهنتهم حق قدرها عرضة لسخرية الشعب، وانتقاد كونتليا Quintilian، وهجو لوشيان Lucian وعداء

ص: 170

الأباطرة. والحق أن الكثيرين منهم كانوا جديرين بهذا كله، لأنهم كانوا يلبسون لباس الفلاسفة الخشن، ويطلقون لحاهم طويلة، لبستروا بثوب العلم نهمهم، وأطماعهم، وبخلهم، وغرورهم. وفي ذلك يقول أحد الأشخاص للوسيان إن:

"دراسة قصيرة للحياة قد أقنعتني بما في جميع الأغراض الدنيوية من سخف وحقارة

وخير ما أستطيع أن أفكر فيه وأنا في هذه الحالة النفسية هو أن أعرف حقيقة الحياة كلها من الفلاسفة

ومن اجل هذا أخترت أحسنهم-إذا كان وقار المنظر، واصفرار الوجه، وطول اللحية هي المقياس الذي يعتمد عليه في هذه الحال

ثم وضعت نفسي بين أيديهم. وطلبت إليهم أن يعلموني نظام الكون في نظير مبلغ كبير من المال أؤديه إليهم فوراً، ومبلغ آخر أؤديه إليهم حين أصل إلى الغاية في الحكمة. ولكن الذي حدث لسوء الحظ أنهم لم يبددوا ما كنت فيه من جهل، بل زادوا عقلي ارتباكاً فوق ارتباكه بما جرعوني من بدايات وغايات، ودرات وفراغ، ومواد وأشكال. وكان أصعب ما لقيته أنهم جميعاً كانوا يريدون أن أصدقهم، رغم ما بينهم من خلاف، ورغم ما كان في اقوالهم كلها من تناقض؛ فكان كل واحد منهم يجذبني نحوه

وكثيراً ما كان يعجز عن أن يخبرك بما بين مجارا وأثينة من أميال، ولكنه لا يتردد مطلقاً في أن يخبرك بما بين الشمس والقمر من أقدام (11).

وكان معظم الفلاسفة الرومان من أتباع المذهب الرواقي، أما لأبيقوريين فلم تترك لهم االخمر ولنساء والطعام وقتاً للنظريات الفلسفية. وكان في أماكن قليلة من رومة متسولون يَدْعون إلى الفلسفة الكلبية، لا يعنون بالتفكير، ويدعون الناس إلى البساطة والتقشف، ويذعنون لما يطلبه الشعب إلى الفلاسفة أن يكونوا فقراء، ومن أجل هذا كانوا أقل طوائف الفلاسفة احتراماً. ولكن سنكا اتخذ واحداً من هؤلاء صديقاً وفياً له؛ وقال في هذا متسائلاً: "ولم لا أجل دمتريوس وأعظمه؟ لقد وجدته

ص: 171

كاملاً لا ينقصه شيء. وقد دهش الحكيم صاحب الملايين حين رفض الفيلسوف الكلبي، الذي لم يكد يجد عنده ثوباً يستر به عورته، عطية من كالجيولا مقدارها مائتا ألف سسترس (12).

وإذ كان الرواقي الروماني رجل قتال لا رجل تأمل وتفكير، فقد كان يتجنب ما وراء الطبيعة، ويرى ذلك من المطالب الميئوس منها، وكان يجد في الرواقية فلسفة أخلاقية تقوم على الآداب الإنسانية، وتضم شمل الأسرة، وتثبت النظام الاجتماعي من غير حاجة إلى رقابة علوية وسيطرة إلهية. وكان جوهر قانونه الأخلاقي هو سيطرة المرء على نفسهِ: فكان يدعو إلى إخضاع الشهوات للعقل، وكان يعوَّد إرادته ألا تطلب شيئاً يجعل راحته النفسية تعتمد على الطيبات الخارجية. وكان في الناحية السياسية يعترف بأخوة البشر الخاضعين لأبوة الله. وكان في الوقت نفسه يحب بلده وتراه على الدوام مستعداً لأن يضحي بحياته لكي يرد عنها وعن نفسه المذلة والعار. وكانت الحياة على الدوام رهن تصرفه، له أن يغادرها حين تصبح نقمة عليه لا نعمة له، وكان الرواقي يسعى لأن يكون ضمير الإنسان أقوى من كل قانون، وكانت الملكية في رأيه شراً لا بد منه لحكم الأقطار الشاسعة المتباينة، ولكن قتل الطاغية المستبد كان أمراً طيباً مرغوباً فيهِ كل لرغبة.

وقد استفادت الرواقية الرومانية أول الأمر من الزعامة، ذلك أن القيود التي فرضت على الحرية السياسية دفعت الناس من السوق إلى الدرس، وبعثت في أرق هؤلاء الناس وأظرفهم نزعة إلى الفلسفة التي تجعل الشخص المسيطر على نفسه ذا سلطان أقوى من سلطان الملك الثائر المنفعل. ولم تقيد الحكومة حرية الفكر أو العقول ما دامت الأفكار والأقوال لا تتجه علناً إلى مهاجمة الإمبراطور وأسرته، أو إلى الطعن على الآلهة الرسمية. فلما أن شرع الأساتذة وأولياؤهم من الشيوخ ينددون بالظلم والاستبداد شبت بين الفلسفة والحكم المطلق حرب عوان، دامت حتى جمع بينهما الأباطرة المتبنَّون فوق العرش

ص: 172

ولما أمر ثراسي Thrasea بأن يقتل نفسه (65) نفي في الوقت نفسه موسونيوس روفس Musonius Rufus صديق ثراسي، وأخلص فلاسفة رومة الرواقيين في القرن الأول عقيدة، وأشدهم عملاً بفلسفتهِ. وكان روفس قد عرف الفلسفة بأنها هي البحث عن السلوك الطيب، وشرع في هذا البحث بجد ومثابرة. وقد شهر بالتسري رغم شريعته، وكان يطلب إلى الرجال أن يحافظوا في أخلاقهم الجنسية على المستوى الذي يطالبون به النساء. وكان الرجل التولستوي النزعة يقول إن العلاقات الجنسية لا تباح إلا في حالة الزواج وللمحافظة على النسل. وكان يعتقد بوجوب تكافؤ الفرص التعليمية للرجال والنساء عل السواء يرحب بوجود النساء في محاضراته، ولكنه يأمرهن أن يبحثن في الزينة والفلسفة عن الوسائل التي يكملن بها أنوثتهن (13). وكان الأرقاء أيضاً يشهدون محاضراته. وقد شرف أحد هؤلاء وهو Epictetus أستاذه بأن تفوق عليهِ. ولما أن شبت نار الحرب الأهلية في رومة بعد موت نيرون خرج موسونيوس للجيش المهاجم، وأخذ يخطب فيه ويشرح له فوائد السلم وفضائع والحرب. وسخر منه جنود أنطونيوس وعادوا إلى تحكيم السيف. ولما أن طرد فسبازيان الفلاسفة من رومة استثنى منهم روفس، ولكنه احتفظ بسراريه.

ص: 173

الفصل الرابع

‌سنكا

وجدت الفلسفة الرواقية في حياة لوسيوس أنيوس سنكا Lneius Annaeus Seneca أكثر مظاهرها مدعاة إلى الريبة، كما وجدت في كنايته أصدق تعبير عنها. وكان مولده في قرطبة (Corduba) حوالي العام الرابع قبل الميلاد، وسرعان ما حيء به إلى رومة وتلقى فيها كل ما كان يستطيع أن يتلقاه من تربية وتعليم. وقد تشرب الفلسفة من أبيه، والرواقية من أتالس Attalus والفيثاغورية من سوتيون Sotlon، والفلسفة العملية من زوج عمته حاكم مصر من قبل الرومان. وحأول مدى عام أن يعيش على الأطعمة النباتية، ثم عدل عن هذا، ولكنه ظل طوال حياته مقلاً من الطعام والشراب، فكان من ذوي الملايين في بيئته لا في عاداته. وقد عانى كثيراً من مرض الربو وضعف الرئتين، حتى فكر في بعض الأحيان في الانتحار. ومارس مهنة المحاماة، واختير كوسترا في عام 33 م، وبعد عامين من ذلك الوقت تزوج بمبيا بولينا Pompeia Paulina وعاش معها عيشة مستمرة عجيبة حتى مماته.

ولما ورثت ثروة أبيه، ترك مهنة المحاماة، واشتغل بالكتابة. ولما أرغم كالحيولا كرمتيوس كوردس Cremutius Cordus على أن يقتل نفسه (40) كتب سنكا إلى أبنته مقالة تعزية Consolatis، وكانت هذه المقالات من الموضوعات التي يكتبها الخطباء والفلاسفة في تلك الأيام. وأراد كالجيولا أن يقتله عقاباً له على وقاحته، ولكن أصدقاءه أنجوه من القتل بقولهم إنه لن يلبث أن يموت من السل إذا ما ترك وشأنه. وبعد قليل من ذلك الوقت اتهمه كلوديوس بوجود علاقات غير شريفة بينه وبين يوليا ابنة جرمنكوس،

ص: 174

وحكم عليه مجلس الشيوخ بالإعدام، ولكن كلوديوس استبدل بهذا الحكم النفي في جزيرة كورسكا.

وفي هذه الجزيرة الصخرية الوعرة قضى الفيلسوف في عزلته ثماني سنين (41 - 49) بين أقوام لم يرتفعوا قط عن بدائتهم التي وصفهم بها أوفد في تومي Tomi. وصبر في أول الأمر على هذه الكارثة صبر الرواقيين الحقيقيين، وكتب إلى أمه مقالاً يواسيها فيه " Consolatio ad Helviam"، فلما أن توالت عليه أعوام الشقاء، ضعفت نفسيته واستولى عليه اليأس، فكتب إلى أمين سركلوديوس مقالة Consolatio ad Polybium يرجوه فيها متذللاً أن يعفو عنه، ولما لم يفده هذا الرجاء حأول أن يحفف من آلامه بكتابة المآسي.

وأكبر الظن أن هذه المسرحيات العجيبة التي يكاد كل شخص فيها أن يكون خطيباً، وإنما كتبت لتقرأ وتدرس لا لتمثل على المسرح، وذلك أننا لم نسمع أن واحدة منها مثلت، وغاية ما في الأمر أن بعض الحادثات ذات الروعة أو بعض الخطب الطنانة الرنانة، لُحنت ومثلت تمثيلاً هزلياً. ونرى الفيلسوف الرقيق في هذه المسرحيات يجري الدماء على المسرح كأنه يريد ألا يكون هذا المسرح أقل بشاعة وسفكاً للدماء من الاحتفالات والألعاب. على أنه رغم ما بذله فيها من جهود جبارة، لم ينجح في مسرحياته لانصرافه فيها إلى التفكير أكثر من انصرافه إلى الإخراج المسرحي، فهو يفضل الأفكار على الرجال، ولا يدع فرصة تمر دون أن يشغلها بالتأملات والعواطف والفكاهة. ولسنا ننكر أن في مسرحياته أبياتاً جميلة، ولكن الإنسان لا يلام إذا لم يعلق شيء منها بذاكرته بعد سماعها. على أننا يجب أن نضيف إلى هذا أن كثيرين ممن يعتد بحكمهم لا يتفقون معنا في الرأي، ومن هؤلاء اسكلجر Scaliger سيد النقاد جميعاً في عصر النهضة والذي يفضل سنكا عن يوربديز.

ولما أن عادت الآداب القديمة إلى الحياة، كان سنكا هو الذي اتُّخذ

ص: 175

نموذجاً لأولى المسرحيات التي كتبت باللغات الحديثة، وعنه أخذت الصيغ الفصيحة، ووحدة الزمان والمكان التي امتازت بها مسرحيات كورني Corneille وراسين Racine، والتي ظلت مسيطرة على المسرح الفرنسي حتى القرن التاسع عشر. ولقد كانت ترجمة هاي وود Heywood (1559) لمسرحيات سنكا في إنجلترا، التي كانت أقل البلاد تأثراً بنفوذه، المثال الذي نسجت على منواله مأساة بودك Gorboduc أولى المآسي الإنجليزية، كان لهذه المآسي أثرها في مسرحيات شكسبير.

وحدث في عام 48 أن حلت أجربينا الصغرى محل مسالينا في السيطرة على كلوديوس وعلى رومة، وكانت تتوق إلى أن تجعل من ابنها نيرون، وكان وقتئذ في الحاديى عشر من عمره، اسكندراً ثانياً، فأخذت تتلفت حولها تبحث له عن أرسطاطاليس، حتى وجدته في جزيرة كورسكا، فأمرت باستدعاء سنكا وأعادته إلى مكانه في مجلس الشيوخ، وظل خمس سنين يعلم تلميذه الشاب، وخمس سنين أخرى يرشد الإمبراطور ويمسك بزمام الدولة. وكان طوال هذه العشر السنين يدبج الرسائل لإصلاح شأن نيرون، كما كتب عدة رسائل مختلفة يعرض فيها الفلسفة الرواقية عرضاً ظريفاً. ومن هذه الرسائل رسائله: في الغضب، وفي قصر الحياة، وفي هدوء الروح، وفي الرحمة، وفي الحياة السعيدة، وفي ثبات المسرح، وفي حسن التدبير. وهذه الرسائل التي تعنى أكثر ما تعنى بالشكل والمظهر لا تبرز أحسن مواهب سنكا، فهي كمسرحياته ملى بالنكات، ولكن هذه النكات التي يجدها القارئ منثورة غير ارتباط في صحف الكتاب كلها تفقد بهجتها آخر الأمر وتبعث الملل في نفس اللقارئ. على أن قراء سنكا مع ذلك كانوا يقرؤون هذه المقالات من حين إلى حين، ولم يكونوا يشمئزون من النكات المرحة التي أغضبت كونيان الصارم (14)

ص: 176

المتزمت (14)، ولا من المحسنات اللفظية التي لم يرض عنها ذوق فرنتو Fronto العتيق. لقد كان يسر أولئك القراء أن وزيرهم الأول ينطق بأقواله الظريفة، وأنه يحأول كما يحأول تلميذه بكل ما أوتي من جهد ا، يكسب ثناءهم عليه. وقد ظل سنكا كثيراً من السنين حامل لواء الكتاب، والساسة، وزارع الكروم في إيطاليا.

وضاعف ما ورثه عن أبيه من ثروة باستثمارها استثماراً استعان عليه فيما يظهر بمنصبه الرسمي وعلمه الواسع؛ وإذا كان لنا أن نصدق ديو فإنه كان يقرض المال لأهل الولايات بربا فاحش أثار الفزع والفتنة في بريطانيا حين فاجأ مدينته فيها بطلب أمواله البالغ قدرها 40. 000. 000 سسترس (15). ويقال إن ثروته بلغت 300. 000. 000 سسترس أي (30. 000. 000 ريال أمريكي)(16). وقد اتهمه جاسوس من أصدقاء مسالينا يدعى ببليوس سوليوس Publius Sullius علناً بأنه "منافق، زان، خليع، يذم حاشية الإمبراطور ولا يفارق قصره، ويذم الترف، ويتباهى بأن له خمسمائة خوان من الأرز والعاج، ويندد بالثروة ويستنزف دماء الولايات بالربا الفاحش"(17). وقنع سنكا كما قنع قيصر بمقارعة الحجة بالحجة، وكان في وسعه أن يأمر بإعدام خصمه. ولقد أعاد ذكر هذه التهم في مقاله "عن الحياة السعيدة" ورد عليها بأن الحكيم لا يتحتم عليه أن يكون فقيراً، فإذا جاءه المال من طريق شريف كان في وسعه أن يقبله، ولكن يجب أن يكون في مقدوره أن يتخلى عنه متى شاء دون أن يندم عليهِ" (18)، وكان في هذه الأثناء يعيش عيشة الزهد والتقشف بين أثاثه الجميل، ينام على خشبة صلبة خشنة، ولا يشرب إلا الماء القراح، ولا يتنأول إلا القليل من الطعام، حتى ضمر جسمه من قلة التغذية قبل وفاته (19). وكتب في ذلك يقول: "إن كثرة الطعام تذهب بالذكاء، والإفراط فيه يخنق الروح" (20). أما ما اتهم به من الشذوذ الجنسي فلعله كان

ص: 177

يصدق عليه أيام شبابه، ولكنه اشتهر بعطفه الدائم على زوجته. والحق أنه لم يقرر في حياته أيهما إليه الفلسفة أو السلطة، الحكمة أو السعادة؛ ولم يقنع في يوم من الأيام بتعارض الفلسفة مع السلطة، أو الحكمة مع السعادة؛ وكان يعترف بأنه حكيم جد ناقص، ومن أقواله في هذا:"أني لا أمتدح الحياة التي أحياها بل االحياة االتي يجب أن أحياها، وهي الحياة التي أحبو إليها حبواً، وهي بعيدة عني كل البعد"(21)، وأينا لا يصدق عليه هذا الوصف؟ وإذا لم يكن مخلصاً في قوله إن "الرحمة لا تزين أحداً من الناس بقدر ما تزين الملك أو الزعيم"(22)، فلا أقل من أنه قد وصفق هذه العاطفة وصفاً لا يقل جمالاً عن وصف بورشيا Portia لها

(1)

. وقد ندد بمعارك المجتلدات التي كانت تنتهي بقتل المصارعين (24)، وكان من أثر ذلك أن حرمها نيرون، وخفف من حدة النقد في أيامه بما يسميه تاستس:"كياسته في تلقين الحكمة"(25)، ولم يكن في حياته يتطلب الكمال، كما لم يكن يمارسه عملياً.

ولقد سبق القول بأنه خكم الإمبراطور حكماً صالحاً وأنه أساء إلى سمعته بالتغاضي عن شر ما ارتكبه نيرون من الجرائم، و "السماح بارتكاب الكثير من الشر حتى يكون في مقدوره أن يفعل القليل من الخير"(27). وكان يحس بما في منصبه الرسمي من ذلة ومهانة، ويتوق إلى التحرر من عبوديته، ووصف قصر الإمبراطور بأنه "سجن يشقى فيه العبيد". وكان يتمنى أن لو قضى حياته كلها في دراسة الحكمة، وتجنب دياجير السلطان. وكان يسره أن يتخلى من حين إلى حين عم مشاغله السياسية، وأن يستمع وهو في سن الستين إلى محاضرات متروناكس Metronax في الفلسفة كما يستمع إليها الصبي الحريص على الإفادة منها. وطلب في عام 22 - وكان وقتئذ في السادسة والستين من عمره-أن يؤذن له باعتزال منصبه في القصر، وكان وقتئذ أقل شأناً من منصبه الأول،

(1)

يشير المؤلف إلى وصف بورشيا البليغ للرحمة في رواية تاجر البندقية لشكسبير. (المترجم)

ص: 178

ولكن نيرون لم يجبه إلى طلبه. ولما طلب نيرون إلى جميع من في الإمبراطورية أن يكتتبوا في إعادة بناء رومة بعد الحريق العظيم الذي دمرها في عام 64، تبرع هو بالجزء الأكبر من ثروته لهذا الغرض. واستطاع فيما بعد أن ينسحب شيئاً فشيئاً من بلاط الإمبراطور، وأن يقضي جزءاً متزايداً من وقته في بيوته في كمبانيا، لعله يستطيع بعزلته الشبيهة بعزلة النساك أن يفر من الإمبراطور ومن جواسيسه. وظل وقتاً ما لا يطعم إلا التفاح البري ولا يشرب إلا الماء الجاري خشية أن يدس له السم في الطعام.

وفي هذا الجو المليء بالرعب والفزع دوّن بين عامي 63، 65 دراساته في التاريخ الطبيعي Questiones Naturales كما كتب ألطف كتاباته كلها وهي رسائله الأخلاقية Epistulae Morales. وهذه الرسائل احاديث عارضة شخصية موجهة إلى صديقه لوسليوس وإلى صقلية المثري، الشاعر، الفيلسوف والأبيقوري الصريح. وقل أن يجد الإنسان في الأدب الروماني كتباً تبعث على السرور خيراً من هذه المحأولات الطريفة لتكييف الرواقية حسب حاجات الرجل الواسع الثراء. وتعد هذه الرسائل بداية المقالة الخالية من التكلف والصنعة التي أمست فيما بعد الوسيلة التي لجأ إليها أفلوطرخس، ولوسشيان، ومنتاني، وفلتير، وروسو، وبيكن، وأدسن واستيل للتعبير عن آرائهم. وإن القارئ ليشعر وهو يقرأ هذه الرسائل بأنه على اتصال بروماني مستنير، رحيم، متسامح، سما إلى الذروة وتعمق إلى أبعد حد في الأدب، والسياسة، والفلسفة، ويحسن كأن زينون يتحدث فيها برقة أبيقور وتسامحه وبسحر أفلاطون. ويعتذر سنكا للوسليوس عن أسلوبه المهلهل الذي ر يبدو فيه كبير أثر للعناية (وهو مع ذلك أسلوب لاتيني رائع الحسن)؛ ويقول في اعتذاره هذا:"وأحب أن تكون رسائلي إليك هي عين حديثي، إذا ما جلسنا أو سرنا معاً"(30). ويضيف إلى ذلك قوله:

"لست أكتب هذا لجمهرة الناس، بل أكتبه إليك، فحسبي وحسبك

ص: 179

أن يستمع كل منا للآخر Satis magnum alteri theatrum sumus"، وإن كان السياسي الشيخ يرجو بلا ريب أن يسترق الناس هذا الحديث. وهو يصف ربوه وصفاً رائعاً وإن كان لا يرثي فيه لنفسه، ويسمي هذا المرض تسمية مرحة ظريفة فيقول إنه "التدريب على الموت" بأخذ "أنفاس أخيرة" متقطعة تدوم كل منها ساعة، وكان وقتئذ في السابعة والستين من العمر ولكنه لم يبلغها إلا بجسمه، أما "عقلي فقوي يقظ، يجادلني في موضوع الشيخوخة، ويجهر بأنها فترة ازدهار" (32). وهو يبتهج إذ واتته الفرصة آخر الأمر لقراءة الكتب القيمة التي اضطر إلى إغفالها زمناً طويلاً. ويلوح انه في ذلك الوقت قد عاد إلة قراءة كتب أبيقور، لأنه ينقل عنها فقرات كثيرة وينقلها بحماسة تزري بأمثاله من الرواقيين، ويستولي عليه الرعب حين يشهد تطرف كالجيولا، ونيرون، وآلاف غيرهما من الرومان في نزعتهم الفردية وفي الجري وراء شهواتهم؛ يريد أن يجد وسيلة يقأوم بها المغريات التي تحيط بمن يتحرر عقله قبل أن ينضج خلقه، ويبدو أنه أخذ على نفسه أن يرد على الأبيقوريين ويفحمهم بأقوال نطق بها زعيمهم الذي دنسوا اسمه بأعمالهم، والذي لا يجرؤون على فهم تعاليمه.

وأول درس يلقيه على الناس في الفلسفة هو أننا لا نستطيع أن نكون عقلاء حكماء في كل شيء، وأنا لسنا في حقيقة أمرنا إلا قطعاً متناثرة في الفضاء اللانهائي، ولحظات قصيرة في الأبدية، وإن محأولة هذه الذرات المتشعبة أن تصف الكون، أو الكائن الأعلى، لعمل ترتج من الكواكب سخرية ومرحاً. ومن اجل هذا فإن سنكا لم يكن في حاجة إلى الدين أو إلى علم ما وراء الطبيعة؛ وفي وسع الإنسان أن يثبت من كتاباته أنه كان من الموحدين، أو المشركين، أو الكافرين، أو الماديين، أو الأفلاطونيين، أو القائلين بوحدة الوجود، أو ثنائيته. وهو يرى في بعض الأحيان أن الله قوة مدبرة شخصية، (31)

ص: 180

تهيمن على كل شيء، "تحب الصالحين من الناس"(33)، وتستجيب إلى دعواتهم، وتعينهم بلطفها الإلهي (34). ثم تراه في فقرات أخرى يقول إن الله هو العلة الأولى في سلسلة متصلة من الحلقات من العلل والمعلومات، وإن القوة النهائية هي القدر وهو علة لا تزد ولا تنقص، تصرف شؤون البشر والآلهة على السواء

تقود الطائعين وتجر الغاضبين" (36). وهذا التردد نفسه يطمس فكرته عن النفس البشرية، فهي عنده نسمة مادية رقيقة تبعث الحياة في الجسد ولكنها أيضاً "إله يسكن" في الهيكل البشري "كما يسكن الضيف" عند مضيفه (37). وهو يتحدث حديث المرتجي عن حياة بعد الموت، تكمل فيها المعرفة والفضيلة (38)؛ ويسمي الفساد الخلقي كما يسميه من قبل "حلماً جميلاً" (39). وحقيقة الأمر أن سنكا لم يفكر في هذه المسائل تفكيراً يصل به إلى نتيجة متسقة (أو عامة)، بل هو يتحدث عنها حديث السياسي المذبذب الذي يوافق الناس جميعاً. ذلك أنه عمل بدروس أبيه الخطابية فنجح فيما كان يبغيه نجاحاً فوق ما يجب، واستطاع أن يعبر عن جميع الآراء المتناقضة بعبارات بليغة لا يستطيع القارئ أن يقأوم أثرها في نفسه.

وهذا التردد عينه يفسد فلسفته ويجملها معاً، فهو مسرف في رواقيته إلى حد يجعل فلسفته غير عملية، وهو لين إلى حد لا يستطيع معه أن يكون رواقياً حقيقياً؛ وهو يرى م حوله فساداً خلقياً ينهك الجسم ويزري بالنفس، ولا يرضى هذا أو ذاك؛ ويرى أن الشره والترف قد قضيا على الطمأنينة والصحة، وأن كل ما أفاده الإنسان من القوة أن صار وحشاً أقدر على الأذى من سائر الوحوش فهل من سبيل إلى نجاة الإنسان من هذا الاضطراب الشائن المذل؟

ولقد قرأت اليوم قول أبيقور: "إذا شئت أن تستمتع بالحرية الحقة، وجب عليك أن تكون عبداً للفلسفة، ذلك أن الرجل الذي يخضع لها يتحرر لساعته

إن الجسم إذا شفي من مرضه مرة كثيراً ما ينتابه المرض مرة أخرى

ص: 181

أما العقل، فإذا شفي، فلن يعود إليه المرض أبداً، وسأحدثكم عما أعنيه بالصحة: إن الصحة في رأيي أن يكون عقل الإنسان راضياً واثقاً، يدرك أن الأشياء التي يسعى إليها الناس جميعاً، وكل الفوائد التي يعملون لها أو ينالونها، لا أثر لها في الحياة السعيدة

وسأدلكم على قاعدة تقيسون بها أنفسكم وتحولكم من حال إلى حال! إنكم تصلون إلى ما تبغونه لأنفسكم في ذلك اليوم الذي تدركون فيه أن الناجحين هم أكثر الناس شقاء (40).

"والفلسفة هي علم الحكمة، والحكمة هي فن العيش، والسعادة هي الغرض الذي نبتغيه، ولكن الطريق إليها هو الفضيلة لا اللذة. والحِكَم القديمة التي يهزأ بها الناس صحيحة صادقة تثبت التجارب صدقها في كل يوم. وسوف ننال آخر الأمر بالشرف، والعدالة، والحلم، والرأفة، قدراً من السمادة أكثر مما نناله بالجري وراء اللذة. وما من شك في ان اللذة طيبة مستحبة، ولكنها لا تكون كذلك إلا إذا اتفقت مع الفضيلة؛ وليس في مقدور الرجل العاقل أن يتخذها هدفاً له، ومثل الذين يجعلونها غرضهم في الحياة كمثل الكلب الذي يختطف كل قطعة من اللحم تُلقى إليه، ويبتلعها كلها، وهو بعدئذ لا يستمتع بها، بل يقف فاغراً فاه يتلهف على قطعة أخرى (41).

ولكن كيف يحصل الإنسان على الحكمة؟ إن السبيل إلى ذلك أن تمارسها كل يوم بقدر مهما يكن ضئيلاً، وأن تمتحن سلوكك في آخر كل يوم، وأن تكون قاسياً على أغلاطك ليناً على أغلاط غيرك، وأن تصاحب من هم أعظم منك حكمة وفضيلة، وأن تتخذ لنفسك رجلاً لا تراه عينك مشهوداً له بالحكمة ليكون لك ناصحاً وقاضياً تحتكم إليه في شئونك، ويساعدك على الوصول إليه أن تقرأ كتب الفلاسفة، ولست أقصد بهذه الكتب قصص الفلسفة الموجزة، بل أقصد بها مؤلفات الفلاسفة أنفسهم، "ولا ترْجُ قط أنك ستستطيع في يوم من الأيام أن تحصل على زبد حكمة النابهين من الرجال بقراءة خلاصات موجزة لهذه

ص: 182

الحكمة" (42)، "إنك ستغادر كل واحد منهم أسعد مما كنت وأشد رغبة في حكمته، ولن يتركك واحد منهم تفارقه صفر اليدين

ألا ما أعظم تلك السعادة، وما انبل تلك الشيخوخة اللتين تنتظران ذلك الرجل الذي يحتمي بحماهم ويتخذهم سادة له وأنصاراً! " (43). اقرأ الكتب الطيبة مراراً، فذلك خير لك من قراءة الكتب الكثيرة؛ وسافر سفراً بطيئاً، ولا تسرف في الأسفار، لأن "الروح لا تنضج وحدتها إلا إذا كبحت جماح تشوفها وتجوالها" (44). وأولى سمات العقل المنظم أن يكون صاحبه قادراً على أن يبقى في مكان واحد، وأن يطيل المكث مع أصدقائه (45). وإياك والجموع الكبيرة فإن "الناس وهم مجتمعون أخبث منهم وهم فرادى، فإذا اضطررت أن تكون في حشد كبير، فأنت أشد ما تكون في حاجة إلى الانطواء على نفسك" (46).

وآخر درس يتعلمه الرواقي هو احتقار الحياة وإيثار الموت. ذلك أن الحياة ليست على الدوام ممتعة إلى الحد الذي يجعلها جديرة بأن يطول أجلها؛ ومن الخير للإنسان بعد حمى الحياة ونوباتها أن ينام ليستريح. "وهل ثمة شيء أحط من أن يضطرب الإنسان ويغضب وهو على عتبة ابسلام؟ "(47). وإذا وجد الإنسان الحياة محزنة، واستطاع أن يغادرها دون أن يضر ذلك ضرراً بليغاً بغيره من الناس، فعليه بأن من حقه أن يختار الوقت الذي يغادرها فيه والطريقة التي يغادرها بها. ويحبذ سنكا للوسليوس الانتحار كأنه سيكون هو وريثه فيقول: -

"من الأسباب التي لا يستطيع معها أن يتذمر من الحياة أنها لا تستبقيه فيها رغم إرادته

كم من مرة قطع لك وريد ليقل بذلك وزنك! وإذا ما طعنت نفسك في قلبك فإنك لن تكون في حاجة إلى جرح واسع حتى تموت؛ وإن مشرطاً يشق لك الطريق إلى الحرية، وفي وسعك أن تشتري راحتك بوخزة إبرة

(48) وحيثما أدرت بصرك وجدت الوسيلة التي تقضي بها

ص: 183

على متاعبك. فهل ترى هذه الربوة الشديدة الانحدار. إنها تهبط بك إلى الحرية؟ أو هل ترى هذا النهر أو ذاك الحوض أو ذاك البحر؟ -إن الحرية في أعماقها (50)

ولكنني تحدثت فأطلت الحديث، وكيف يستطيع الإنسان أن يختم حياته إذا لم يكن في وسعه أن يختم رسالة يكتبها؟ (51)

أما أنا يا عزيزي لوسليوس فقد بلغت أرذل العمر، وقد عشت كفايتي، وها أنا ذا في انتظار الموت. وداعاً أيها الصديق" (52).

واستجابت الأقدار لدعائه، فقد أرسل إليه نيرون تربيوناً يستجوبه فيما اتهم به من أنه يتآمر على جعل بيزو إمبراطوراً؛ فأجاب الرسول بأنه لم يعد يهتم بالسياسة، وأنه لا ينشد غير السلام، وأن تتاح له الفرصة للعناية "ببنيته المتهدمة الضعيفة". ويقول التربيون: "إنه لم تظهر عليه أعراض الخوف أو أمارات الحزن

وإن أقواله ونظراته كانت تنم عن عقل هادئ قويم ثابت". وقال نيرون للتربيون: "عد إليه وقل له أن يموت" ويقول تاستس إن "سنكا تلقى النيأ بهدوء واطمئنان"، ثم عانق زوجته، وطلب إليها أن تتخذ من حياته الشريفة النبيلة ومن دروس الفلسفة سبباً للسلوى والاطمئنان. ولكن بولينا أبت أن تعيش بعد مماته، فلما أن فتحت أوردته، أمرت هي الأخرى بفتح أوردتها، ثم استدعى أحد أمناء سره وأملى عليه رسالة وداع للشعب الروماني. وطلب بعدئذ قدحاً من شراب السكران، فجيء له به، كأنه اعتزم أن يموت ميتة سقراط. ولما أن وضعه الطبيب في حمام فاتر ليخفف به ألمه، رش الماء على أقر الخدم له وهو يقول: "هذا ماء ساكب لجوف المنقذ"، ثم فارق الحياة بعد آلام مريرة (65)، وأمر نيرون الطبيب بأن يربط معصمي بولينا على الرغم منها، ويمنع خروج الدم من أوردتها ففعل، وبذلك عاشت بعد زوجها بضع سنين؛ ولكن امتقاع لونها الدائم كان يدل على عزمها القوي الثابت.

ورفع الموت من قدر سنكا وأنسى جيلاً من الأجيال مواقفه وتذبذبه. وكان

ص: 184

ككل الرواقيين يستخف بالسلطة ولا يقدر قوة الوجدان والعواطف حق قدرها، ويغاليه في قيمة العقل ويفرط في الاعتماد عليه، ويثق فوق ما يجب بالطبيعة وهي منبت جميع أزاهير الشر والخير على السواء. ولكنه جعل الرواقية فلسفة بشرية وأنزلها من عليائها حتى أضحت فلسفة حية في متنأول بني الإنسان ومهد بها للمسيحية. ولقد كان تشاؤمه، وتنديده بفساد الأخلاق في أيامه، ودعوته الناس أن يقابلوا الغضب بالحلم (54)، وانشغاله بأمر الموت (55)، كان كل هذا مما حمل ترتليان Tertullian على أن يقول عنه إنه "منّا"(56)، كما حمل أوغسطين على أن يقول فيه "ماذا يستطيع المسيحي الصميم أن يقول أكثر مما قاله هذا الوثني؟ "(57). نعم إن سنكا لم يكن مسيحياً، ولكنه في القليل طالب بالقضاء على القتل والسلب، ودعا إلى الحياة البسيطة المهذبة، وقلل ما كان هناك من فروق بين الرجل الحر والمحرر والرقيق حتى أضحت هذه الفروق لا تزيد على "الألقاب التي خلقتها المطامع أو الأخطاء"(58). وكان الذي استفاد أكبر فائدة من تعاليم سنكا عبداً في بلاط نيرون وهو إبكتتس. كذلك صاغت كتاباته نرفا Nerva وتراجان إلى حد ما، وكانت أعماله مثالاً يُحتذى في السياسة الإنسانية القائمة على الإخلاص وإرضاء الضمير. وقد ظل إلى آخر العهود القديمة كما ظل طوال العصور الوسطى محبباً للجماهير؛ ولما حل عهد النهضة وضعه بترارك في المرتبة الثانية بعد فرجيل، وصاغ نثره على مثال نثر سنكا. وتجم صهر منتاني كتاباته إلى اللغة الفرنسية، وكان منتاني نفسه يقتبس من أقواله كما يقتبس سنكا من أبيقور. وكان إمرسن يقرأ مؤلفاته مراراً وتكراراً (59)، حتى أضحى سنكا الأمريكيين. نعم إن الإنسان قلما يجد في أقوال سنكا أفكاراً جديدة مبتكرة، ولكن هذا يغتفر له، لأن كل الحقائق الفلسفية قديمة، ولا شيء فيها مبتكر إلا الخطأ، ولقد كان رغم أخطائه كلها أعظم الفلاسفة الرومان، كما أنه كان في كتبه على الأقل أرجحهم عقلاً وأرقهم قلباً؛ وكان بعد شيشرون أحب المنافقين إلى القلوب في التاريخ كله.

ص: 185

الفصل الخامس

‌علوم الرومان

لقد أطلنا الكلام فيه أكثر مما يجب؛ ولكننا مع ذلك لم نفرغ منه بعد، فقد كان عالماً طبيعياً أيضاً. ذلك انه أخذ يسلي نفسه في السنين الخصيبة الواقعة بين اعتزاله شؤون الحكم وموته بالتفكير في المسائل الطبيعية كالبحث عن تفسير للمطر، والبرد، والرياح، والمذنبات، وأقواس قوس قزح والزلازل، والأنهار، والينابيع، وقد أشار في مسرحية ميديا Medea إلى الوجود قارة أخرى على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي (60). وبنفس هذه اللقانة الطبيعية كتب وهو يتأمل ملايين النجوم في السماء:"كم من كرات تتحرك في أعماق الفضاء لم تصل بعد إلى عيون بني الإنسان"(61). ثم يضيف إلى هذا وكأنه قد كشف عن بصره الغطاء: "كم من أشياء سيتعلمه أبناؤنا ولا نستطيع الآن أن نتصورها في خيالنا! -وكم من أشياء أخرى ستظل مجهولة مئات السنين بعد أن تنسى أسماؤنا!

ويدهش أبناؤنا من جهلنا" (62)، ولقد صدق في قوله هذا، فنحن يدهشنا جهله. ذلك أن سنكا رغم بلاغته لا يضيف شيئاً إلى ما قاله أرسطاطاليس وأراتس Aratus، وهو يستعير الشيء الكثير من بوسيدونيوس Poseidonius. ويؤمن بأن في مقدور الإنسان أن يتنبأ بالغيب بالرغم من معارضة شيشرون لهذه العقيدة، ويتورط في بيان العلل النهائية للمعلولات مخالفاً بذلك عقيدة لكريشيوس، وكثيراً ما يقطع أقواله العلمية بما يضيفه فيها من وصايا أخلاقية، فهو بنتقل بحذق عظيم من الكلام على بلح البحر إلى الكلام في الترف، ومن المذنبات إلى أسباب الانحطاط. وكان آباء الكنيسة يحبون هذا الخلط بين الأجرام السمأوية والأخلاق، ولذلك جعلوا كتاب

ص: 186

المسائل الطبيعية أشهر كتاب علمي في العصور الوسطى.

وكان في رومة عدد قليل من الرجال ذوي النزعة العلمية والولع بالعلوم، ومن هؤلاء فارو، وأجربا، وبمبنيوس ميلا Pomponius، وسلسس Celsus، ولكن علمهم لم يكن يتعدى نطاق تقويم البلدان، وفلاحة البساتين، والطب. أما فيما عدا هذا فلم يكن العلم الطبيعي قد انفصل بعد عن السحر، والخرافات، والدين، والفلسفة، وكان قوامه ما تجمع من المشاهدات والروايات؛ وقلما كان يشمل بحوثاً جديدة عن حقائق الأشياء، وكانت التجارب فيه جد نادرة. وبقي الفلك حيث تركه البابليون واليونان، فكان الوقت يقاس بالساعات المائية، وبالمزأول، وبالمسلة الكبرى التي اختلسها أغسطس من مصر وأقامها في ميدان المريخ؛ وكان ظلها يقع على طوار نقشت عليه علامات من نحاس، تدل على ساعات النهار وعلى فصول السنة (63). وكان النهار والليل يحددان بشروق الشمس وغروبها، وينقسم كل منها إلى اثنتي عشرة ساعة، وبذلك كانت تطول ساعة النهار، وتقصر ساعة الليل في فصل الصيف عنها في فصل الشتاء. وكان التنجيم من المعتقدات الشائعة التي يكاد يؤمن بها كل إنسان. وفي هذا يقول بلني ان الناس كلهم في أيامه (70 م) - السذج منهم والمتعلمون - يعتقدون ان مصير الانسان يقرره النجم الذي يولد هو ساعة مطلعه (64). وكانوا يؤيدون هذه العقائد بحجج طلية كقولهم إن نمو النبات، مرده إلى الشمس

(1)

، ولعل فصول التزأوج عند الحيوانات مردها إليها كذلك، وإن خصائص الناس الجسمية والخلقية تتأثر بعوامل المناخ التي تتأثر هي أيضاً بالشمس، وإن أخلاق الأفراد ومصائرهم لا تختلف عن هذه الظواهر العامة في أنها نتيجة لأحوال جوية لا نعرفها حق المعرفة. ولم يرفض أحد التنجيم إلا المتشككون أتباع الأقدمية المتأخرة الذين أنكروا ما يدعيه

(1)

ان الكثيرين من الزراع في هذه الايام ينظمون زرعهم حسب أوجه القمر.

ص: 187

رجاله من علم، والمسيحيون الذين سخروا منه وأعدوه ضرباً من الوثنية. أما الجغرافية فكانت دراستها أكثر واقعياً وكان الغرض منها ان يستعان بها على الملاحة. وقد نشر بمبنيوس ميلا Mela Pomponius (43 م) خرائط قسم فيها سطح الأرض إلى منطقة حارة في الوسط، ومنطقتين معتدلتين شمالية وجنوبية. وكان الجغرافيون الرومان يعرفون أوربا وشمالي آسيا الغربية، وشماليها الشرقي، أما سائر أجزاء العالم فكانت لديهم عنها أفكار غامضة، وأقاصيص خرافية غريبة. وقد وصلت السفن الأسبانية والأفريقية الصغيرة إلى جزائر مديرة Madeira وقناريا أو الخالدات (Canary)(65) ، غير انه لم يقم في ذلك الوقت رجل مثل كولمبس ليحقق حلم سنكا.

وكان أوسع المنتجات العلمية الإيطالية وأكثرها دلالة على الجد، وأبعدها عن العلم الصحيح كتاب التاريخ الطبيعي Historia Naturalis (67) الذي وضعه كيوس بلنيوس سكندس Caius Plinius Secondus. وقد قضى كيوس حياته كلها تقريباً جندياً، ومحامياً، ورحالة، وحاكماً، وقائداً للأسطول الروماني في غربي البحر المتوسط، ولكنه رغم هذه المشاغل كلها ألف رسائل في الخطابة، والنحو، والحرب، وكتب تاريخاً لروما، وتاريخاً أخر لحروب روما في ألمانيا، وسبعة وثلاثين "كتاباً" في التاريخ الطبيعي هي كل ما بقي من هذا الفيض العظيم من المؤلفات. أما كيف استطاع ان يفعل هذا كله في خمس وثلاثين سنة فيفسره خطاب كتبه ابن أخيه يقول فيه:

لقد كان سريع الفهم، متحمساً حماسا لا يكاد يصدقها العقل، وله القدرة على ترك النوم منقطعة النظير. وكان يستيقظ من نومه في منتصف الليل أو في الساعة الواحدة صباحاً، ولم يحدث قط أن ظل نائماً إلى ما بعد الساعة الثانية، ثم يبدأ عمله الأدبي

وقبل أن يطلع النهار يمثل بين يدي فسبازيان، وكان هو أيضاً يختار ذلك الوقت لتصريف شؤون الدولة. فإذا انتهى من الأعمال التي عهدها إليه الإمبراطور عاد إلى منزله وواصل الدرس. وكان يتنأول في الظهيرة

وجبة خفيفة لا تستغرق إلا القليل من

ص: 188

الوقت، فإذا كان الفصل صيفاً

فإنه كثيراً ما يستريح قليلاً في الشمس؛ ولكنه كان في أثناء ذلك يستمع إلى كتاب يقرأ له، ويقتبس منه بعض عبارات، ويكتب عنه بعض مذكرات

وتلك كانت عادته في كل ما يقرأ. وكان بعد ذلك يستحم عادة بالماء البارد، ويتنأول بعض المرطبات الخفيفة، ويستريح قليلاً، ثم يواصل الدرس حتى موعد العشاء، كأنه يبدأ يوما جديداً. وفي أثناء العشاء يقرأ له كتاب آخر يكتب عنه مذكرات

تلك كانت خطته في الحياة وسط ضجيج المدينة وصخبها. أما في الريف فكان يقضي وقته كله في الدرس اللهم إلا حين كان يستحم فعلاً. وحتى في ذلك الوقت الذي كان يدلك فيه جسمه ويجفف كان يستمع فيه إلى كتاب يقرأ له أو يملي هو شيء من عنده. وكان يرافقه في أسفاره على الدوام كاتب ملم بطريقة الاختزال يجلس معه في عربته أو في هودجه

وقد لامني في يوم من الأيام على المشي وقال لي: "لم يكن لك ان تضيع هذه الساعات" لأنه كان يرى أن كل وقت لا يصرف في الدرس وقت ضائع (66).

وكتابه هذا في جملته وتفصيله دائرة معارف كتبها رجل واحد، وجمع فيها خلاصة علم زمانه وأخطائه. زفي ذلك يقول:"إن الغرض الذي أرمي إليه هو أن أعرض وصفاً عاماً لكل ما نعرف أنه موجود على سطح الأرض"(67). فهو يبحث في عشرين ألف موضوع ويعتذر عما تركه من الموضوعات الأخرى، ويشير في هذا الكتاب إلى ألفي مجلد كتبها 473 مؤلفاً، ويعترف بدينه إلى من رجع إليهم من الكتاب ويذكر أسمائهم جميعا بصراحة لا نظير لها في الأدب القديم، ويشير عرضاً إلى انه وجد أن كثيراً من المؤلفين نقلوا أقوال من سبقوهم بنصها دون أن يعترفوا بهذا النقل. أما أسلوب الكتاب فثقيل ممل وان كان منمقاً في بعض المواضيع؛ ولكننا ليس من حقنا أن ننتظر أن تكون دوائر المعارف جذابة الأسلوب ساحرته.

ص: 189

ويبدأ بلني بالكفر بالآلهة، ويظن أنها لا تعدو أن تكون ظواهر طبيعية، أو كواكب سيارة، أو خدمات جسدت وألهت. والإله الأوحد في رأيه هو الطبيعة، أي مجموع القوى التي في الكون، ويلوح أن هذا الإله لا يعنى عناية خاصة بالشؤون الدنيوية (68). ويرفض بلني في تواضع أن يقيس الكون، وليس ما يورده من معلومات فلكية إلا خليطا من السخافات والمستحيلات (كقوله "إن الشمس في أيام الحرب التي شبت بين أكتافيان وأنطونيوس ظلت قائمة ما يقرب من عام كامل" (69))، ولكنه يشير إلى الشفق القطبي ويقدر الزمن الذي يستغرقه كل من المريخ، والمشتري، وزحل في دورته بسنتين واثنتي عشرة سنة وثلاثين سنة على التعاقب، ويورد بعض البراهين على كرية الأرض (71). ويحدثنا عن جزائر خرجت من قاع البحر الأبيض المتوسط في أيامه، ويظن أن صقلية وإيطاليا؛ وبوشيا وعوبيا؛ وقبرص وسوريا قد انفصلت كل واحدة من الثانية بفعل مياه البحر على مدى الأحقاب الطوال (72). ويتحد عن أعمال التعدين الشاقة المذلة ويذكر في ألم وحسرة ان "كثيراً من الأيدي تبلى لكي يزين مفصل صغير (72)، ويتمنى ان لو كان الناس لم يعثروا على الحديد، لأنه جعل الحرب أشد هولاً مما كانت عليه قبل ان يعثروا عليه، "كأننا أردنا ان نعجل بموت الناس، فجعلنا للحديد أجنحة وعلمناه الطيران" (74) وهو يشير بقوله هذا إلى القذائف الحديدية التي تجهز بريش من الجلد يساعدها على الاحتفاظ بخط سيرها. ويذكر كما يذكر ثيوفراستس Theophrastus تحت اسم انتراسيت Anthracitis " حجراً يحترق" (75)، ولكنه لا يذكر عن الفحم شيئاً غير هذا. ويشير إلى نوع من "الكتان لا يحترق" يطلق عليه اليونان اسم أزبستنون Asbestinon " ويستخدم فيه تحنيط جثث الملوك"، ويصف كثيرا من الحيوانات ويورد قوائم باسم حيوانات أخرى ويمتدح ذكاءها، ويذكر الطريقة التي يستطاع التحكم في نسلها، فنجعلها ذكوراً

ص: 190

أو إناثاً طبقاً لإرادتنا: "فإذا أردت أن تكون صغارها إناثاً فلتولي الأم وجهها نحو الشمال في أثناء الوثب"(76). وله أثنا عشر كتاباً عجيباً في الطب، أي في القيمة العلاجية لمختلف المعادن والنباتات، فالكتب المرقومة من 20 إلى 25 كلها في النباتات الرومانية، التي انتقلت من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وأضحت بداية المعلومات النباتية في الطب الحديث. وعنده علاج لكل شيء من السُّكر والبَخَر (77) إلى "آلام العنق"(78). ويصف بعض منبهات الغريزة الجنسية (79). ويحذر النساء من العطس بعد الجماع خشية ان يجهضن لساعتهن، قبل ان يقمن من مقامهن (80). ويصف الجماع علاجاً للتعب، وبحة الصوت، وآلام الحقوين، وضعف البصر، والاكتئاب، واختلال القوى العقلية (81).

وقصارى القول أن في هذا الكتاب دواء لكل داء وانه من هذه الناحية يضارع ما قاله الأسقف بيركلي في فوائد ما القطران. ولكننا نجد في وسط هذا الهراء كثيراً من المعلومات النافعة وخاصة ما كان منها متصلاً بالصناعات القديمة والأخلاق والعقاقير، وفيه إشارات طريفة لعقيدة التأسل في الوراثة Atavism

(1)

وإلى الزيت المعدني، وإلى تغيير الشخص بعد مولده من ذكر إلى أنثى أو العكس.

ويحدثنا مسيانس Muscianus انه رأى في أرجوس Argos يوما من الأيام شخصاً كان يسمى وقتئذ أرسكون Arescon ولكنه كان يسمى قبل أرسكوزا Arescusa؛ وان هذا الشخص تزوج من قبل برجل، ولكنه لم يلبث ان نبتت له لحية، وبعض خصائص الذكران الأخرى، وانه اتخذ لنفسه بعدئذ زوجة (82). ونجد في مواضيع متفرقة من الكتاب بعض إشارات قيمة. من ذلك أن هلمي Hilmy (1800) حين قرأ في كتاب بلني فقرة (83) عن استخدام عصير اللبين (Anagalis) قبل عملية الكتركتا (إظلام العين)(84) حمله ذلك على أن يبحث عن مفعول

(1)

ويقصد بها الوراثة التي تتخطى بعض الطبقات وتظهر فيما بعدها أو العودة إلى الجد الاكبر وتسمى أحيانا "الرجعة"(المترجم).

ص: 191

نباتي السكران Jusquiamus، و "ست الحسن" Belladonna في إنسان العين. وفي الكتاب أيضاً فصول قيمة عن التصوير والنحت تعد أقدم وأهم ما وصل إلينا من وصف الفن القديم.

ولم يقنع بلني بدراسة التاريخ الطبيعي، بل أراد بعد ذلك أن يكون فيلسوفاً، ولذلك تراه ينثر في جميع صحف كتابه معلومات عن الآدميين. ويرى ان حياة الحيوان أفضل من حياة الإنسان لأنها "لا تفكر قط في المجد أو المال أو المطامع أو الموت"(85)، ولأن في وسعها ان تتعلم دون حاجة إلى معلم، وأنها لا تضطر إلى ارتداء الملابس، ولا تشن الحرب على أبناء جنسها، وهو يقول إن اخترع النقود كان ضربة قاضية على سعادة بني الإنسان، فهي التي أوجدت الربا، وبه استطاع بعض الناس أن يعيشوا من كد غيرهم، دون أن يقوموا بعمل ما (87). وكانت نتيجة ذلك ان وجدت الضياع الواسعة التي يمتلكها الكبراء الغائبون عنها، وان حلت المراعي محل الزراعة فجر ذلك على الأهلين الخراب والدمار. ويقول بلني إن الحياة تجلب للإنسان من الحزن والألم أكثر مما تجلبه من السعادة، وان الموت والنعمة الكبرى (88)، وان ليس شيء قط وراء الموت.

وكتاب التاريخ الطبيعي أثر خالد لجهل الرومان، ففيه يجمع بلني الخرافات والتنبؤات، ورقى الحب، والعلاج بالسحر، ويجدّ في جمعها كجده في غيرها من المعلومات. ويلوح انه يؤمن بمعظمها، فهو يضن مثلاً ان في مقدور الإنسان-وخاصة إذا كان صائماً-أن يقتل الأفعى إذا بصق في فمها (89). "ومن المعروف جيداً ان إناث الخيل تحمل في في لوزنانيا Lusitania بفعل ريح الشمال (91). وهي مسألة غفل عنها شلي Shelley في أغنيته. ويندد بلني بالسحر ولكنه يقول لنا انه "إذا أقبلت المرأة الحائض حَمض عصير العنب وفسدت البذور التي تلمسها فلا تنبت، وسقطت الثمار من الشجرة

ص: 192

التي تجلس تحتها؛ وإذا نظرت إلى الصلب تثلم حده، وإلى العاج ذهب لمعانه وصقله؛ وإذا سقطت على ثول من النحل مات من فوره" (92). وهو لا يؤمن بالتنجيم ولكنه يملأ صفحات من كتابه بالحوادث "المنذرة" المستمدة من مظاهر الشمس والقمر (93). كقوله:"حدث في عهد قنصلية م. اسليوس M. Acilius وفي عهود أخرى كثرة أن أمطرت السماء لبناً ودماً"(94)، وإذا ما ذكرنا ان هذا الكتاب هو وكتاب المسائل لسنكا أهم ما خلفه الرومان للعصور الوسطى من علم التاريخ الطبيعي، ثم فاضلنا بينهما وبينما يماثلهما من كتب أرسطو وثيوفراطس وبين عقلية هذين الرجلين وقد عاشا قبل عهد بلني وسنكا بأربعمائة عام، إذا ما فعلنا ذلك بدأنا نشعر بالمأساة المروعة مأساة موت الثقافة موتاً بطيئاً. لقد فتح الرومان العالم اليوناني، ولكنهم خسروا قبل فتح أثمن تراث في العالم.

ص: 193

الفصل السادس

‌الطب عند الرومان

أما في الطب فكانوا خيراً منهم في التاريخ الطبيعي. فلقد أخذوا علم الطب أيضاً عن اليونان، ولكنهم أحسنوا صياغته، وتنظيمه، وطبقوه على الصحة، العامة والخاصة، ولقد كانت روما تحيط بها من جميع جهاتها تقريبا مناقع واسعة، وكانت معرضة للفيضانات الوبائية، فكالنت بذلك في أشد الحاجة إلى العناية في الصحة العامة، فنحن نسمع أن الملاريا كانت منتشرة في روما في القرن الثاني قبل الميلاد، وان بعوضة الأنوفيل كانت في ذلك الوقت مستقرة في مناقع بنتين Pontine (95) . وانتشر داء النقرص بانتشار الترف، وفي ذلك يحدثنا بلني الاصغر أن صديقه كورليوس روفس Corellius ظل يعاني آلامه من السنة الثالثة والثلاثين إلى السابعة والستين قبل ان ينتحر بعد ان استمتع بلذة البقاء حيات يوما واحدا بعد موت "ذلك اللص دومتيان"(96). وتدل بعض الفقرات في كتابات الهجائين الرومان على ظهور الزهري في القرن الأول بعد الميلاد (97). واجتاحت الأوبئة الفتاكة إيطاليا الوسطى في عام 23 ق. م وفي أعوام 95، 79، 166 ميلادية.

وكان الناس من أقدم الأزمنة يحاولون التغلب على المرض والطاعون بالسحر والصلوات، وحتى في ذلك الوقت الذي نتحدث عنه طلبوا إلى فسبازيان المتشكك اللين الجانب أن يداوي عماهم ببصاقه، وعرجهم بمس قدمه (98). وكانوا يحملون مرضاهم وقرابينهم إلى هيكل إيسكلبيوس. Aesculapius ومنيرفا، وكان الكثيرون منهم يتركون فيهما الهدايا شكراً على نعمة الشفاء. فلما أن حل القرن الأول قبل الميلاد أخذت عنايتهم بالطب الدنيوي تزداد شيئاً فشيئاً. ولم تكن الدولة في ذلك الوقت قد وضعت

ص: 194

نظاماً لممارسة مهنة الطب، فكان الحذاؤون، والحلاقون، والنجارون يمارسون مع مهنهم الأصلية إذا شاءوا، ويستعينون بالسحر، ويخلطون عقاقيرهم بأنفسهم ويبيعونها للناس (99). ولم تخلُ تلك الأيام من التقريع والشكاوى المألوفة. وقد كرر بلني تنديده بأطباء اليونان الذين "يغوون زوجاتنا، ويجمعون الثروات الطائلة بتسميمنا، ويتعلمون بتعذيبنا ويتدربون بقتلنا"(100). واشترك بترونيوس، ومارتيال، وجوفنال في هذا الهجوم العنيف، وبعد قرن من ذلك الوقت نرى لوسيان يندد بعجز من يمارسون مهنة الطب، والذين يخفون هذا العجز بجمال أجهزتهم وأدواتهم (101).

وفتحت في عهد فسبازيان مستمعات Auditoria لتعليم الطب يتولى التعليم فيها أساتذة تعترف بهم الدولة وتؤدي إليهم رواتبهم، وكانت اللغة اليونانية لغة التعليم في هذه المعاهد كما أن اللغة اللاتينية هي اللغة التي تكتب بها تذاكر الدواء في هذه الأيام، وللسبب عينه-وهو أن اللغة اليونانية كانت وقتئذ اللغة التي يفهمها أصحاب اللغات المختلفة. وكان يطلق على خريجي هذه المعاهد اسم أطباء الجمهورية، وكانوا هم وحدهم الذين يستطيعون ممارسة الطب بصفة قانونية في رومة بعد عهد فسبازيان (103). ونص في قانون أكوليا Les Aquilia على أن تشرف الدولة على الأطباء، كما نص فيه على وجوب تحملهم تبعة إهمالهم. وكان قانون كرنليا Les Cornelia يفرض أشد العقوبات على من يتسببون في موت المرضى بسبب إهمالهم أو خطئهم الناشيء من جلهم بأعمالهم (104). ومع هذا فإن الدجالين ظلوا يمارسون دجلهم، ولكن عدد الأطباء المتعلمين ظل يزداد شيئاً فشيئاً. وكانت كثرة الرومان ممن أخرجتهم القابلات إلى هذا العالم، ولكن هاته النسوة كن مدربات على عملهن أحسن تدريب (105). وقد وصل الطب العسكري في عام 100 م إلى أرقى ما وصل إليه في الزمن القديم: فكان في كل فيلق أربعة وعشرون جراحاً، كما كان له هيئة للإسعاف الأولي

ص: 195

ونقالات ميدان منظمة أحسن تنظيم، وكان بالقرب من كل معسكر هام مستشفى عسكري (106). وافتتح الأطباء مستشفيات خاصة، Valetudinaria، كانت هي التي تطورت منها المستشفيات العامة في العصور الوسطى. وكانت الدولة تعين الأطباء لمعالجة الفقراء مجاناً وتؤدي لهم أجورهم (107)، أما الأغنياء فكان لهم أطباؤهم الخصوصيون وكان "رؤساء المداوين Archiarti" يعنون بالإمبراطور وأسرته، وخدمه وأعوانه، وتؤدى لهم على ذلك أجور طيبة. وكانت بعض الأسر تتعاقد أحياناً مع بعض الأطباء على أن يعنوا بصحتها ويداوها من أمراضها مدة معينة، وكان كونتس استرتنيوس يكسب بهذه الطريقة 600. 000 سسترس في العام (108). وأدى الجراح الكون Alcon الغرامة التي فرضها عليه كلوديوس ومقدارها 10. 000. 000 سسترس من أجوره في بضع سنين (109).

وبلغت مهنة الطب في ذلك الوقت درجة عظيمة من التخصص، فكان في لبلاد أخصائيون في المجاري البولية، وفي أمراض النساء، وكان فيها أطباء مولدون وأطباء رمديون، وأخصائيون في أمراض العين والأذن، وأطباء بيطريون، وجراحو أسنان، وكان في وسع الرومان أن تكون لهم أسنان صناعية من ذهب، وأسنان مرتبطة بأسلاك، وكباري وأسنان ذات قشرة (110) ذهبية. وكان لديهم عدد كبير من الطبيبات، وقد كتبت الكثير منهن كتباً في الإجهاض كانت واسعة الانتشار بين سيدات الطبقات الراقية وبين العاهرات. وكان الجراحون يتخصصون في فروع الجراحة المختلفة وقلما كان يوجد جراح غير متخصص في فرع خاص. وكان عصير اليبروح

(1)

(المندراغورا) والأتروبين يستعملان في التخدير (111)، وقد وجدت في خرائب بمبي أكثر من مائتي أداة جراحية مختلفة. وكان تشريح جثث الآدميين عملاً غير مشروع ولكنهم كانوا يستعيضون عن ذلك بالفحص عن أجسام المجالدين المجروحين أو المحتضرين.

(1)

جنس من النباتات الباذنحانية في العالم القديم. (المترجم)

ص: 196

وكان العلاج بمياه العيون واسع الانتشار وكانت العيون الحارة الكبرى وعاهد للعلاج والاستشفاء. وقد جمع شارميس Charmis المرسيلي ثروة طائلة بإدارة حمامات باردة. وكان المصابون بالسل يرسلون إلى مصر أو شمالي إفريقية. وكان الكبريت يُستخدم لعلاج الأمراض الجلدية ولتبخير الحجرات بعد انتشار الأمراض المعدية (112). وكانت العقاقير آخر ما يلجأ إليه الناس من وسائل العلاج، ولكنهم كانوا يلجأون إليها في كثير من الحالات، وكان الأطباء يصنعونها بأنفسهم بطرق يحتفظون بسريتها ولا يطلعون الجماهير عليها، ويبيعونها بأغلى الأثمان التي يطيقها المرضى (113). وكانت العقاقير الكريهة ذات منزلة كبيرة، فكانت فضلات العظام تُستخدم مسهلات، وكانت احشاء الآدميين توصف أحياناً؛ وقد وصف أنطونيوس موسى براز الكلاب لعلاج مرض الذبحة، واستخدم جالينوس براز الغلمان لعلاج أورام الحلق (114). وفي مقابل هذه الأدوية الكريهة عرض أحد الدجالين المرحين أن يداوي بالخمر كل داء تقريباً (115).

وليس بين الكتاب المعروفين في علم الطب في هذا العهد كاتب من أصل روماني إلا واحد فقط، وحتى هذا الكاتب لم يكن طبيباً. لقد كان أورليوس كرنليوس سلسس Aurelius Cornelius Celsus من أبناء الأشراف، جمع حوالي عام 50 م في دائرة المعارف كل ما درسه عن الزراعة، والحرب، والخطابة، والقانون، والفلسفة، والطب. وقد ضاع كل مل كتبه إلا القسم الخاص بالطب، ويعد كتابه في هذا العلم أعظم مؤلف وصل إلينا من القرون الستة المحصورة بين أبقراط وجالينوس، ويمتاز فوق هذا بأنه كتب بلغة لاتينية فصحى نقية لُقب سلسس من أجلها بشيشرون الطب. ولقد ظلت الأسماء اللاتينية التي ترجم بها المصطلحات الطبية اليونانية تسيطر على علم الطب من ذلك الوقت إلى أيامنا هذه. ويدل الكتاب السادس من كتبه على علم بالأمراض السرية يعد في ذلك العهد القديم علماً واسعاً غزيراً. ويصف الكتاب السابع في جلاء ووضوح بعض

ص: 197

الجراحات، ويحتوي أقدم وصف معروف للأربطة، ويصف عملية قطع اللوز، واستخراج حصى المثانة بشق الجنب، وجراحة الترقيع، وعملايات إظلام عدسة العين (الكتاركتا). وهذا الكتاب في مجموعه هو خير ما ألف في الآداب العلمية الرومانية، وإنه ليوحي إلينا بأنه لو لم يبقِ الدهر على كتاب بلني لكان تقديرنا للعلوم عند الرومان أعلى في الوقت الحاضر. ومما يؤسف له أن العلماء قد أجمعوا على أن كتاب سلسس ليس في أكثر أجزاءه إلا جمعاً أو شرحاً للنصوص اليونانية القديمة (116). وقد فقد هذا الكتاب في العصور الوسطى، ثم عثر عليه مرة أخرى في القرن الخامس عشر، وأعيد طبعه قبل أن يطبع كتاب أبقراط أو جالينوس، وكان له شأن أيما شأن في إحياء علم الطب في العصر الحديث.

ص: 198

الفصل السّابع

‌كونتليان

لما انشأ فسبازيان كرسياُ رسمياً للبلاغة في رومة عين في هذا المنصب رجلاً من أصل أسباني، وكان كثير من المؤلفين في العصر الفضي من أبناء تلك البلاد. وقد ولد ماركس فابيوس كونتليانس Marcus Fabius Quintilianus في كلاجوريس Calagurris (عام 53؟ م) ثم رحل إلى رومة ليدرس فن الخطابة وافتتح مدرسة لتدريس البلاغة كان من بين طلابها تاستس وبلني الأصغر. ويصفه جوفنال بأنه كان في أيام شبابه وسيماً، نبيلاً، حكيما، حسن التربية، ذا صوت رخيم، ولقاء جميل، وهابه كمهابة أعضاء مجلس الشيوخ. وآثر العزلة في الشيخوخة ليكتب كتاباً يرشد فيه ولده إلى الطرقة المثلى لمعالجة فن الخطابة، واسم هذا الكتاب Institutio Oratoria (96) " ظننت أن هذا الكتاب سوف يكون أثمن ما يرثه ولدي، وقد أظهر م الكفاية النادرة العجيبة ما أوجب على أبيه أن يحرص الحرص كله على تثقيفهِ

وقد واصل الليل بالنهار سعياً وراء هذه الغاية، وعجلت بإتمامها خشية أن ينصرم أجلي فيحول الموت بيني وبين إتمام هذا الواجب. ثم حلت بي الكارثة فجأة فأضحى نجاحي في عملي لا يهم إنساناً آخر أقل مما يهمني أنا نفسي

ذلك أني فقد من كان معقد آمالي ومن كنت أرجو أن يكون سلوة لي في شيخوختي (117) ".

وكانت زوجته قد توفيت في سن التاسعة عشرة، وخلفت ولدين، توفي أحدهما في سن الخامسة "وكأنني قد فقدت بفقده إحدى عيني"، ولآن يختطف الموت ولده الثاني ويترك المعلم الشيخ "يعاني ألم فراق أقرب الناس إليه وأعزهم عليه".

ص: 199

وهو يعرف البلاغة بأنها العلم الذي يؤدي إلى أحسن الكلام، ويقول إن تدريب الخطيب يجب يبدأ قبل مولده، إذ يحسن أن يولد لأبوين متعلمين، حتى يتنفس الكلام الصحيح والأخلاق الطيبة من الهواء الذي يستنشقه، ذلك أنه من المستحيل أن يصبح الإنسان متعلماً ومهذباً معاً في جيل واحد. ويجب على من يريد أن يكون خطيباً أن يدرس الموسيقى، حتى يستطيع تمييز الأصوات المتناسقة المتناغمة؛ كما يجب عليه أن يتعلم للرقص ليكسب الرشاقة والاتزان، والتمثيل لكي يبعث الحياة في خطبه بما يبثه فيها من حركات اليدين والجسم؛ والألعاب الرياضية لكي يستطيع الاحتفاظ بصحته وقوته؛ والأدب ليصلح به أسلوبه ويدرب به ذاكرته، ويمده بكنز من الآراء العظيمة؛ والعلوم لكي يدرك بها أسرار الطبيعة؛ والفلسفة لكي يصوغ نفسه حسبما يمليه عليه العقل ونصائح الحكماء. ذلك لأن كل إعداد سيذهب أدراج الرياح إذا خلا من استقامة الخلق وسمو الروح وهما اللذان لا غنى عنهما لوجود الإخلاص في الحديث، وهو قوة لا يمكن قط أن تقاوم. وعلى الطالب بعد ذلك أن يكتب أكثر ما يستطيع وأن يبذل في كتابته أقصى ما في وسعه من العناية. ويقول كونتليان: إن هذا تدريب شاق "ويقيني أن أحداً من قرائي لن يفكر قط في احتساب قيمته المالية (118) ".

وللخطابة في رأيه خمسة اوجه: التفكير، والتنظيم، والأسلوب، والذاكرة، والإلقاء. فإذا ما أختار الخطيب موضوعه، وحدد غرضه بوضوح، وجب عليه بعدئذ أن يجمع مادته بالمشاهدة والبحث، ومن الكتب، فإذا تم له ذلك وجب عليه أن ينظمه تنظيماً منطقياً ونفسياً حتىيكون كل جزء منه في موضعه الصحيح مؤدياً إلى ما بعده أداءً طبيعياً كأنه جزء من برهان نظرية هندسية (119). وكل خطبة حسنة التنظيم تتألف من مقدمة (Exordium) ، وقضية، وبرهان، ودحض، وختام. ويجب أن لا تُكتب الخطبة كلها إلا إذا

ص: 200

أريد حفظها بأجمعها عن ظهر قلب، أما حفظ بعض الأجزاء المكتوبة دون البعض الآخر فإنه يُفسد الأسلوب الارتجالي ويعوقه، وإذا كتبت الخطبة فلتكتب بعناية "فإذا أسرعت في الكتابة، فإنك لن تحسنها أبداً، وإذا أحسنت الكتابة فإنك لن تلبث أن تكتب بسرعة"؛ تجنب "ترف الإملاء الذي أخذ ينتش بين الكتاب في هذه الأيام"(120)، والذي يدل على التهاون والكسل، "والوضوح ألزم الأشياء للخطب، ثم يليه الإيجاز والجمال والقوة. وعليك أن تصحح أخطائك المرة بعد المرة ولا تبال بما يصيبك في هذا من عنت.

"وليس المحو بأقل أهمية من الكتابة، امح كل ما لا ضرورة له، واسم بكل ما هو عادي ورتب ما تراه مضطرباً، واجعل العبارات متزنة إذا ما وجدتها خشنة غير رقيقة، وخففها إذا وجتها دسمة اكثر مما يجب

وخير طريقة للإصلاح أن يغفل الإنسان ما كتبه بعض الوقت، حتى إذا عاد إليه بعدئذ بدا عليه مظهر الجدة، كأنه من عمل لإنسان آخر؛ وبهذه الطريقة لا يكلف الإنسان بكتابته كلفه بطفله الحديث الولادة (121).

ويجب يضرب الإلقاء والكتابة على أوتار العواطف والقلوب، ولكن عليك أن لا تسرف في الحركات والإشارات، لأننا "لا نكون بلغاء إلا بالوجدان وقوة الخيال". أما إذا "صرخت، وخُرت، ورفعت يدك، ولهثت، وهززت رأسك، بيديك، وضربت فخذك وصدرك وجبهتك، فإنك ستهوي من فورق إلى قلوب احط من يستمعون إليك (122) ".

ويضيف كونتليان في كتابه الثاني عشر إلى هذه النصائح القيمة خير نقد أدبي بقي لدينا من أيام الأقدمين، فهو يدلي بدلوه، وهو أشد ما يكون حماسة، في ذلك الصراع القديم والحديث بين القدامى والمحدثين، ويجد الحقيقة تتأرجح في الوسط بين هؤلاء وهؤلاء؛ وهو لا يرغب كما يرغب فرنتو Franto في أن يعود إلى البساطة والخشونة اللتين ينادي بهما كاتو وإنيوس؛

ص: 201

ولكنه أقل من ذلك رغبة في أن يجرفه أسلوب سنكا "الفخم المتكلف"، ويرى أن يكون المثل ال 1 ذي يجب على طالب البلاغة أن يحتذيه هو أسلوب شيشرون في خطبه القوية المهذبة، ويقول: إن شيشرون هو الكاتب الروماني الوحيد الذي فاق اليونان في مجال الخطابة (123). أما أسلوب كونتليان نفسه فهو في كثير م المواضيع أسلوب المدرس، تخنقه التعاريف، والتصاريف، وتحديد الفروق، ولا يرقى إلى مستوى عالٍ من البلاغة إلا حين يطعن على سنكا. ولكنه مع ذلك أسلوب قوي يخفف من جلاله حيناً بعد حين قليلاً من الفكاهة ومن العطف على الإنسانية، ويحس الإنسان على الدوام أن وراء معنى الألفاظ الجميل طيبة الرجل الهادئة، وإن قراءته لحافز قوي إلى الخلق الطيب الكريم. ولعل الرومان الذين أسعدهم الحظ بالاستماع له قد أخذوا عنه بعض ذلك التجديد الذي سما بعصر بلني الأصغر وتاستس أكثر مما سما به الأدب الرفيع.

ص: 202

الفصل الثامن

‌استاتيوس ومارتيال

لقد استبقينا إلى آخر هذا الكتاب شاعرين عاشا في وقت واحد، وسعيا للخطوة لدى إمبراطور واحد وأنصار بعينهم، ومع ذلك فكلاهما لا يذكر اسم الآخر: وكان احدهما أعف شاعر في تاريخ روما الإمبراطورية كما كان الآخر أفحش شاعر فيه. فأما أولهما فهو ببليوس بابنيوس استاتيوس Publius Papinius Statius وهو ابن شاعر ونحوي من مدينة فابلي. وقد هيأت له بيئته وتربيته كل شيء يطمع فيه عدا المال والعبقرية. فكان يعاني قرض الشعر، ويفاجيء الندوات بما يرتجله منه، وكتب منه ملحمة تدعي الطيبية Thebaid في خرب السبع المدن في طيبة. ولسنا نستطيع قراءتها في هذه الأيام لأن أبياتها تزدحم بأسماء الآلهة الموتى، ولأن الإنسان لا يطيق ما لأشعارها السلسة من قدرة على التحذير؛ ولكن معاصريه كانوا يغرمون بها، وكانت الجموع تهرع لتستمع إليه وهو ينشدها في أحد ملاهي مدينة نابلي؛ وكانوا يفهمون ما تحتويه من أساطير ويعجبون برقة إحساساته، ويجدون أشعاره تجري سهلة على ألسنتهم، وقد منحه المحكمون في مباريات الشعر في أولبان الجائزة الأولى، وكان الأثرياء يخطبون وده ويعينونه على التخلص من فقره (124)، ودعاه دومتيان Domitian نفسه في قبة فلافيا Flavia وجازاه استاتيوس على فعله هذا بأن شبه القصر بالجنة والإمبراطور بالإله.

ووجه استاتيوس ألطف قصائده وأبعثها للسرور إلى دومتيان وغيره من نصرائه. وكانت هذه القصيدة وهي قصيدة سلفا Silva تشتمل عل طائفة من المدح ومن أناشيد الرعاة في شعر خفيف ظريف في الدرجة الوسطى من الجودة. على أنه لم يكسب الجائزة الأولى في مباريات الكبتولين بل نالها

ص: 203

شاعر آخر. وأخذ نجمه في الأفول في رومة المتقلبة، فما كان منه إلا أن أقنع زوجته بمغادرة المدينة والعودة معه إلى البلد الذي قضى فيهِ حداثته. وفي نابلي شرع يكتب ملحمة أخرى هي الأخيلية Achelleid ولكن المنية فاجأته في عام 96 فتوفي ولما يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره. ولم يكن استاتيوس عظيماً ولكنه كان يضرب على نغمة من الرأفة والحنان محببة إلى النفوس في وسط أدب كثيراً ما تغلب عليه السخرية والحقد المرير، وفي مجتمع بلغ من الفساد والفحش درجة لم يكن لها من قبل مثيل، ولو أنه بلغ من الدناءة ما بلغه مارتيال لكان خليقاً بأن ينال ما ناله من الشهرة.

وولد ماركس فليريوس مارتيالس في بليليس من أعمال أسبانيا في السنة الأربعين بعد الميلاد، ولما بلغ الرابعة والعشرين من عمره جاء إلى رومة وعقد أواصر الصداقة مع لوكاس وسنكا، وأشار عليه كونتليان أن يتخذ المحاماة وسيلته للثراء، ولكنه فضل عليها الشعر مع الإملاق. وأطاحت مؤامرة بيزا فجاءة بأصدقائه فاضطر توجيه قصائد للموسرين الذين يستطيعون أن يطعموه إذا قال لهم نكتة شعرية. وكان يسكن في علية في الطابق الثالث، وأكثر الظن أنه كان يعيش فيها وحيداً؛ نقول هذا لأنه وأن كان يوجه قصيدتين من قصائده لامرأة يقول عنها إنها زوجته فإن ما في القصيدتين من فحش لا يترك مجالاً للشك في أن هذه المرأة إما أن تكون اختراعاً من عنده وإما أن تكون قوادة (126).

وهو يخبرنا بأن قصائده كانت تقرأ في جميع أنحاء أوربا لا يستثني منها القوط أنفسهم. وهو يغتبط إذ يعلم أنه اشتهر فيها شهرة جواد السباق، ولكنه كان يؤلمه أن يرى الناشر الذي يبيع كتبه يجمع الثروة الطائلة، وأنه هو لا يجني منها شيئاً. وأشار مرة في إحدى قصائده إلى أنه في اشد الحاجة إلى جبة رومانية، فلما أرسلها إليه بارثنيوس الثري معشوق الإمبراطور رد عليه بمقطوعتين مدح في إحداهما جدة الجبة وندد في الثانية بحقارتها ورخص ثمنها. على أنه عثر بعد

ص: 204

قليل على نصراء أكرم من بارثنيوس وأكثر منه سخاءً وأهدى إليه أحدهم ضيعة صغيرة في نومنتم Nomentum، واستطاع بطريقة ما أن يجمع مالاً يكفي لشراء منزل بسيط في تل الكورنيال Quirinal. وصار في ذلك الوقت يضع نفسه تحت رعاية عظيم بعد عظيم، يقوم بخدمتهم في الصباح، ويتلقى منهم الهدايا في بعض الأحيان؛ لكنه ما لبث أن أحس بحطة منزلته هذه، وأخذ يتحسر لأنه لم يؤت من الشجاعة ما يجعله يقنع بفقره فيحرر نفسه من ذل التبعية (127). غير أنه لم يكن في وسعه أن يعيش فقيراً لأنه كان مضطراً إلى الاختلاط بمن يستطيعون أن يكافئوه على شعره، فأخذ يبعث لدومتيان بالقصيدة تلو القصيدة يمدحه بها ويمجده، ويقول إنه لو دعاه جوبتير ودومتيان إلى الطعام في يوم واحد لرفض دعوة الإله وأجاب دعوة دومتيان؛ ولكن الإمبراطور كان يفضل عليه استاتيوس فدبت الغيرة من الشاعر الشاب في قلب مارتيال، وقال في إحدى قصائده: إن نكته حية أغلى قيمة من ملحمة ميتة (128).

وكانت القصائد الموجزة ذات النكت مما يقال في كل موضوع سواء كان إهداء أو تحية، أو قبرية، ولكن مارتيال هذبها فجعلها أقصر وأعظم حدة مما كانت، وأضاف إليها الكثير من الهجاء اللاذع. وإنا لنظلمه إذا قرأنا قصائده ذات النكت البالغ عددها 1516 قصيدة في جلسات قليلة. فلقد صدرت هذه القصائد في اثنى عشر كتاباً في أوقات مختلفة، ولم يكن ينتظر من القارئ أن يلتهمها كما يلتهم طعام الوليمة، بل كان ينتظر منه أن يتناولها تناول المشهيات قبل الطعام. ويبدو الكثير منها غثاً تافها في هذه الأيام، ذلك أن ما فيها كان خاصاً بهذين الزمان والمكان، فكان لذلك قصير الأجل غير جدير بالبقاء. ولم يكن مارتيال نفسه يقدرها كثيراً، ولم يكن يجادل في أن الغث منها يزيد على الثمين، ولكنه كان مرغماً على أن يملأ بها مجلداً في إثر مجلد (129). وهو رجل قادر على قرض الشعر، عارف بجميع أوزانه وبجميع ما يتطلبه من حيل وأساليب، ولكنه يتجنب

ص: 205

فنون الخطابة ويفخر بهذا كما يفخر به بترونيوس الشريف الذي كان مقامه في النثر يضارع مقام مارتيال في الشعر. ولم يكن يعنى أقل عناية بالأساطير التي كانت تغص بها آداب تلك الأيام، بل كان أكبر همه رجال ذلك العهد ونساؤه وحياتهم الخاصة، وهو يصف هذه الحياة وصفاً ينم عن ضغن ومسرة. ويقول في إحدى قصائده "إن صفحاتي تطالعك بالرجال"(130)، ولقد كان في وسعه أن "يتناول" أحد الأشراف الفظاظ، أو الأثرياء البخلاء، أو المحامين المزهوين، أو الخطباء المشهورين. ولكن أكثر من يحب التحدث عنهم هم الحلاقون والأساكفة، والبائعون الجوالون، ومدربو الخيل، واللاعبون على الحبل، والدلالون، وناقعو السم، والمفسدون والعاهرات. وليست المناظر التي يضعها مأخوذة من بلاد اليونان القديمة بل يستمدها من الحمامات، ودور التكثيل، والشوارع، والملاعب ومنازل رومة، ومساكن فقرائها، وقصارى القول أنه شاعر السفلة والرعاع.

وهو يعنى بالمال أكثر مما يعنى بالحب، وإذا فكر في الحب فإن أكثر ما يفكر فيه هو حب الرجال للرجال، أو النساء للنساء. على أن شعره لا يخلو من العاطفة، وهو يحدثنا في إحدى قصائده حديثاً ملؤه الحنو والأسى على أبن صديق له عاجلته المنية؛ ولكن كتبه كلها لا يوجد فيها بيت واحد ينم عن المروءة والشهامة، أو عن الغضب الشريف. وهو يرتل قصائده ترتيلاً تفوح منه اخبث الروائح ويقول عنها "إنني أفضل هذه الروائح الكريهة على قصائدك كلها يا بسا Bassa" (131) . ويصف إحدى خليلاته بقوله:

"إن ضفائرك يا جلا Gella قد صنعت في مكان بعيد وإنك لتخلعين أسنانك في الليل كما تخلعين أثوابك الحريرية، وأنت ترقدين مختزنة في مائة برميل، ولكن وجهك لا ينام معك؛ وتغمزين بحاجب جيء به إليك

ص: 206

في الصباح وقد تجردت من كل احترام لجيفتك الباليةالتي تستطيعين أن تعديها لقدمها جيفة جدة من جداتك.

وهو يتحدث في حقد غير خليق بالرجال على النساء اللاتي أبين أن يخضعن له، ويلقي عليهن نكاته القذرة كما يلقي الكناس الأقذار. ويوجه أغانيه الغزلية للغلمان، وتتملكه النشوة من عبير "قبلاتك أيها الغلام" (133). وقد قلد أخد شعراء الإنجليز إحدى قصائده التي قال فيها:

لا أحبك يا سبيديوس، ولست أعرف لذلك سبباً؛

وكل ما أستطيع أن أقوله أني أبغضك أشد البغض.

والحق أن الذين لا يحبهم مارتيال كثيرون وهو يصفهم بعد أن يطلق عليهم أسماء مستعارة لا تخفي حقيقتهم وبألفاظ لا يجد الإنسان لها مثيلاً إلا على جدران مراحيض المواخير (135). ولست تجده إلا هاجياً لأعدائه كما لا تجد استاتيوس إلا مادحاً أصدقاءه. وقد أراد بعض ضحاياه أن ينتقموا لأنفسهم منه فنشروا بإمضائه قصائد أشد قذارة من قصائده الحقيقية، أو هاجموا باسمه بعض من كان مارتيال يحرص على إرضائهم. وفي وسع الإنسان أن يؤلف من هذه النكات الشعرية التي أوفت على الغاية من الناحية الفنية معجماً كاملاً يحوي أقذر ما في اللغة من ألفاظ.

غير أن في مقدور الإنسان أن يعفو بعض الشيء عن بذاءة مارتيال، فهو يشترك فيها مع خلق عصره، ولا يشك في أن فتيات الأسر الراقية يسرهن أن يقرأنها في عرائش قصورهن. "واستحت لكريشا وعلت وجهها حمرة الخجل وألقت بكتابي، وكان بروتس حاضراً فابتعد عنها يا بروتس؛ إنها ستقرؤه"(136) ذلك أن ما كان يطلقه هذا العصر للشعر من حرية مفرطة يسمح بكل ضروب البذاءة على شريطة أن تكون الأوزان والألفاظ صحيحة. بل إن مارتيال ليفخر بفجوره أحياناً فيقول في أحد كتبه "لا تخلوا صحيفة من صحفي من الفجور"(137). لكنه في أكثر الأحيان

ص: 207

يستحي قليلاً من فجوره، ويطلب إلينا أن نعتقد أن حياته أطهر من شعره.

ومل آخر الأمر من ابتياع الطعام والشراب بالمديح والهجاء، وتاقت نفسه إلى حياة اهدأ من حياته السابقة وأطهر منها، وحن إلى موطنه في أسبانيا. وكان وقتئذ قد بلغ السابعة والخمسين من عمره، وسرى الشيب في شعر رأسه، وأطال لحيته، واسمرت بشرته، حتى ليستطيع أي إنسان-على خد قوله-بمجرد النظر إليه أن يدرك أنه ولد بالقرب من نهر التاجة Tagus. وأرسل طاقة شهرية إلى بلني الأصغر فأرسل هذا بدلاً منها مبلغاً من المال يكفي نفقات سفره إلى بلبليس. ورحبت به تلك البلدة الصغيرة، وعفت عن سوء أخلاقه بسبب ما نال من الشهرة. ووجد نصراء ومعينين لم يبلغوا من الثراء مبلغ من كانوا يناصرونه في رومة ولكنهم كانوا أندى منهم يداً. وأهدت إليه سيدة رحيمة بيتاً ريفياً متواضعاً ذا حديقة قضى فيه ما كان باقياً له من سنين قليلة. وفي عام 101 كتب بلني يقول:"لقد سمعت تواً بموت مارتيال، وقد أحزنني النبأ وأقضى مضجعي، فلقد كان مارتيال ذا فكاهة قوية لاذعة، يمزج في شعره الملح بالشهد، وأظهر ما يمتاز به هو الصراحة"(138). وإذا كان بلني أحب هذا الرجل فلا بد أن كانت فيه فضيلة خافية على سائر الناس.

ص: 208

الباب الخامس عشر

‌رومة العاملة

14 -

96 م

الفصل الأوّل

‌الزراع

في العصر الفضي ظهر المرجع الروماني الهام في الزراعة وهو كتاب يونيوس كلوملا Junius Columella المسمى De Re Rustica. ومؤلفه من أصل أسباني فهو من الناحية شبيه بكونتليان ومارتيال وآل سنسكا. وكان يستغل عدة ضياع في إيطاليا ثم اتخذ مسكنه بعدئذ في رومة. ذلك انه وجد ان أحسن الأراضي قد شيدت عليها البيوت ذات الحدائق وسويت لتكون مسارح للأثرياء، وان التي تليها في الجودة قد غرست فيها بساتين الزيتون والكروم، ولم يبق للزراعة إلا أردأ الأراضي. ومن أقواله في هذا:"لقد وكلنا حرث أراضينا لأحط العبيد، وهم يقومون بعملهم قيام الهمج". وكان يرى أن أحرار إيطاليا يتدهورون في المدن على حين انه كان في مقدورهم أن يقووا أجسامهم وأخلاقهم بالعمل في الأرض، "فنحن نعمل في الملاعب ودور التمثيل ولا نعمل بين المزارع والكروم". وكان كلوملا يحب الأرض ويحس بأن أفلحها أعود على الناس من ثقافة المدن، ويقول في ذلك إن "الزراعة من أخوات الحكمة". وكان يغرى الناس بالعودة إلى الحقول بتجميل موضوعاته بالألفاظ اللاتينية المصقولة. وإذا تحدث عن الحدائق والأزهار بلغت حماسته الشعرية غايتها.

ص: 209

وتلك هي الفترة التي نطق فيها بلنى العالم الطبيعي بقبرية لم يكن موعدها قد حان: "إن الضياع الكبيرة قد خربت إيطاليا"، وذلك حكم أصدره غيره من الكتاب وهم سنكا، ولو كان، وبترونيوس، ومارتيال، وجوفناتل. فقد وصف سنكا مسارح الأنعام التي كانت أوسع رقعة من الممالك يزرعها عبيد مصفدون في الغلال. ويقول كالوملا ان بعض الضياع قد بلغت من السعة حداً يستحيل معه على مالكيها أن يطوفوا حولها راكبين. ويحدثنا بلنى عن ضيعة يعمل فيها 4117 من العبيد، و 7200 ثور، و 257. 000 من الحيوانات الأخرى. نعم ان ما عمله أبنا جراكس، وقيصر، وأغسطس من توزيع الأراضي على الرومان قد زاد عدد صغار الملاك، ولكن معظم هؤلاء تركوا أملاكهم في أثناء الحروب التي قامت بعدئذ وابتاعها الأغنياء، ولما ان قللت الإدارة الإمبراطورية من أعمال السلب والنهب في الأقاليم ابتاع الأشراف بأموالهم ضياعاً كبيرة. وكان سبب انتشار المراعي والضياع الواسعة إن تربية الماشية وزراعة أشجار الزيتون والكروم كانت أكثر ربحاً من زراعة الحبوب والخضر، وأن أصحابها قد تبينوا ان المراعي إذا أريد أن تستغل على خير وجه وجب ان تكون متسعة المساحة موحدة الإدارة. فلما اشرف القرن الأول بعد الميلاد على الانتهاء كانت هذه المزايا قد أخذت في الزوال بسبب ما حدث من الزيادة في تكاليف العبيد، ومن النقص في إنتاجهم، ومن ضعف قدرتهم على الابتكار. وقد بدأ في هذه الأثناء الانتقال الطويل الأجل من استخدام العبيد إلى استخدام أقنان الأرض. وكان سبب ذلك أن السلام قلل من استرقاق أسرى الحروب، فعمد بعض ملاك الضياع الواسعة إلى تقسيمها أقساماً صغيرة لا يستخدمون في فلحها العبيد بل يؤجرونها إلى زراع أحرار يؤدون لهم في نظير ذلك مالاً وعملاً. وكان معظم (الأراضي العامة) التي تملكها الحكومة يستغل وقتئذ بهذه الطريقة، كما كانت تستغل بها أيضاً الأراضي الواسعة التي يمتلكها بلنى الأصغر الذي يصف

ص: 210

مستأجريه بأنهم فلاحون أصحاء، أقوياء، طيبو القلوب، ثرثارون، وهو وصف ينطبق كل الانطباق على الفلاحين الإيطاليين في هذه الأيام، فقد بقوا على حالهم رغم ما حل بالبلاد من أحداث وما طرأ عليها من تغيير.

وكانت أساليب الزراعة وأدواتها لا تختلف اختلافاً جوهرياً عما كانت عليه منذ قرون، فقد احتفظ المحراث، والمجرفة، والمعزقة، والفأس، والمذراة، والمنجل بصورتها التي كانت عليها في تلك الأيام، ولم تكد تتغير في شيء. وكانت الحبوب تطحن في طواحين تديرها المياه أو الحيوانات. وكانت المضخات اللولبية والسواقي ترفع الماء من العيون أو الأنهار إلى قنوات الري. وكان يحفظون بخصب التربة بأتباع الدورة الزراعية، واستخدام المخصبات والنباتات التي تفيد الأرض كالفصفصة والبرسيم والشيلم والفول. وكانوا يتفننون في انتخاب البذور، وكان في وسعهم بعنايتهم وحذقهم أن يجنوا ثلاثة محاصيل أو أربعة في بعض الأحيان من حقول كمبانيا ووادي البو الخصبة الغنية. وكان في مقدورهم أن يحصلوا من زرعة واحدة من الفصفصة على أربعة محصولات أو ستة في كل عام لمدة عشرة أعوام. وكانوا يزرعون كل الخضر الأوربية المعروفة عدا أندرها، وكانوا يزرعون بعضها في البيوت الزجاجية ليتجروا فيها أثناء الشتاء. وكانت أشجار الفاكهة والنقل على اختلاف لا أنواعها كثيرة، لأن القواد والتجار الإطاليين، والتجار الأجانب، والأرقاء حملوا معهم إلى إيطاليا الكثير من أصنافها، فجاءوا بأشجار الخوخ من بلاد الفرس، والمشمش من أرمينية، والكرز من كراسس في إقليم بنتس (ومنها اشتق اسم هذه الفاكهة)، والكرم من سوريا، والبرقوق من دمشق، والخوخ والبندق من آسية الصغرى، والجوز من بلاد اليونان، والزيتون والتين من أفريقية .. واستطاع المهرة من زراع الأشجار أن يطعموا شجر القطلب (الأريوطس) بأغصان شجر الجوز، وشجر الدلب بأغصان الخوخ، وشجر الدردار بأغصان الكرز. ويذكر بلنى تسعة وعشرين نوعاً

ص: 211

من شجر التين كانت تزرع في إيطاليا، ويقول كالوملا:"لقد عرفت إيطاليا بفضل عناية زراعنا كيف تنتج فاكهة العالم كله تقريباً". ثم نقلت هذه الفنون إلى غربي أوربا وشماليها. وجملة القول أن ألوان الطعام الكثيرة التي نأكلها قد تجمعت من رقعة واسعة من الأرض، وان لها من ورائها تاريخ طويل. وقد يكون هذا الطعام جزءاً من التراث الذي ورثناه من بلاد الشرق أو بلاد اليونان والرومان الأقدمين.

وكانت بساتين الزيتون كثيرة العدد، أما الكروم فلم يكن يخلو منها مكان، وكانت تدرج لها سفوح الجبال فتبدو ذات روعة وجمال. وكانت إيطاليا تخرج خمسين نوعاً من أنواع النبيذ المشهورة، وكانت رومة وحدها تحتسى منها خمسة وعشرين مليون جالون في كل عام، أي بمعدل نصف جالون لكل شخص من ساكنيها رجالهم ونسائهم وأطفالهم وعبيدهم كل أسبوع. وكان معظم النبيذ من إنتاج المنظمات الرأسمالية ـ أي بطرقة الإنتاج الكبير الذي تموله رومة. وكان الكثير مما تنتجه يصدر إلى خارج البلاد لك يتذوق البلاد التي يتشرب الجعة كألمانيا وغالة لذة النبيذ. وشرعت أسبانيا وأفريقية وغالة تزرع كرومها، واخذ زراع الكروم الإيطاليون يفقدون من البلاد التي يصدرون إليها نبيذهم أسبوعاً بعد أسبوع، ويغمرون سوقهم المحلية بأكثر مما تطيقه من النبيذ في إحدى أزمات الإنتاج الوفير التي عانتها رومة في الزمن القديم. وحاول دومتيان أن يخفف من أثر هذه الحال السيئة، وأن يعيد زراعة الحبوب إلى حالها الأولى، فحرم غرس كروم جديدة في إيطاليا وأمر بأن تدمر نصف الكروم المزروعة في الولايات. وأثارت هذه الأوامر عاصفة من الاحتجاج الشديد، وعجزت الحكومة عن تنفيذها فكانت النتيجة ان نبيذ غالة وزيتون أسبانيا وأفريقية وبلاد الشرق أخذا يطردان الغلات الإيطالية من أسواق البحر الأبيض المتوسط وبدأ من ذلك الوقت اضمحلال إيطاليا الاقتصادي.

ص: 212

وخصص جزء كبير من أراضي شبه جزيرة إيطاليا للمراعي، فكانت الأرض غير الموفورة الخصب، وكان العبيد ذوو الأجور الرخيصة يستخدمان لتربية الماشية والضأن والخنازير، وكانوا يعون بتربيتها على الطريقة العلمية. وكانت الخيل تربى في الغالي للأغراض الحربية، وللصيد وألعاب الفروسية، وقلما كانت تستخدم لجر المركبات؛ وكانت الثيران تجر المحاريث والعربات، والبغال تحمل الأثقال على ظهورها؛ وكانت البقر والغنم والماعز تمد الأهلين بثلاثة أنواع من اللبن يصنع منه الإيطاليون وقتئذ كما يصنعون منه في هذه الأيام أصناف الجبن اللذيذ. وكانت الخنازير تربى في الغابات الغنية بالجوز وثمار البلوط. ويقول استرابون إن إيطاليا كانت تعيش في الغالب على لحم الخنازير التي تتربى في غابات البلوط الكثيرة في شمالي إيطاليا. وكان الدجاج يمد المزارع بالسماد المخصب والأسر الإيطالية بالطعام اللذيذ، كما كان النحل يمد الأهلين بالشهد الذي كان منذ القدم يستعمل بدل السكر. وإذا أضفنا إلى ما سبق بعض مساحات من الكتان والتيل، وقليلاً من صيد الحيوان، وكثيراً من سيد السمك، تكونت لدينا الصورة التي كان عليها الريف الإيطالي منذ ألف وتسعمائة عام والتي لا يزال محتفظاَ بها إلى اليوم.

ص: 213

الفصل الثاني

‌الصناع

لم يكن في الحياة الرومانية ـ ولعله لا يصح أن يكون فيها إذا صلحت الأحوال الاقتصادية ـ فرق جغرافي بين الزراعة والصناعة مثل ملا بينهما من فرق في هذه الأيام. ذلك ان الموطن الجغرافي القديم ـ سواء أكان كوخاً أم بيتاً صغيراً ذا حديقة أمبيتاً كبيراً في ضيعة ـ كان مصنعاً يدوياً بالمعنى الحرفي لهذا اللفظ بعمل فيه الرجال بأيديهم في صناعات هامة متعددة لا غنى لهم عنها، بينا تملاْ النساء البيت وما يجاوره بما لا يحصى من منتجات الفنون والصناعات. فهناك تستحيل الغابات ملاجئ ويتخذ منها الوقود والأثاث، وتذبح الماشية وينتفع بجلودها ولحومها، وتطحن الحبوب وتخبز، وتعصر الزيوت والخمور، ويعد الطعام ويحفظ، وينظف الصوف والتيل وينسجان، ويحرق الطين في بعض الأحيان وتصنع منه الآنية والآجر والقرميد، وتطرق المعادن وتصنع منها الأدوات. والحياة في الريف مليئة بالعمل المهذب المثقف المختلف الأنواع الذي لا يستمتع به إلا القليلون منه في عصرنا الحاضر عصر الحركة الواسعة والتخصص الضيق. ولم يكن تعدد الصناعات في المنزل الواحد دليلاً على أن الحال الاقتصادية في الريف فقيرة وبدائية، فقد كانت أكثر البيوت ثراءً أكثرها اعتماداً على نفسها واكتفاء بمنتجاتها، وكان أهلها يفخرون بأنهم ينتجون معظم ما هم في حاجة إليه. وكانت الأسرة في تلك الأيام منظمة من وحدات اقتصادية متعاونة متحدة الجهود في الأعمال الزراعية والصناعية التي تقوم بها في منزلها.

ولما أن تعهد صانع ما بالقيام بعمل لعدة أسر، وأقام لنفسه حانوتاً في موضع يسهل على هذه الأسر جميعها أن تصل إليه، لما فعل هذا أخذ اقتصاد القرية

ص: 214

يكمل ما ينقص من اقتصاد الأسرة، ولكنه لم يحل محله. مثال ذلك أن الطحان أخذ يحمل الحبوب من عدة حقول ويطحنها لأصحابها؛ ثم أخذ بعدئذ يصنع لها الخبز، وقام آخر الأمر بتوزيعه. وقد عثر في أنقاض بمبي على أربعين مخبزاً، وكان لصناع الفطائر في رومة نقابة خاصة بهم. كذلك كان هناك متعاقدون يشترون محصول الزيتون على شجره ويجمعونه فيما بعد. على أن معظم الضياع ظلت تجمع زيتونها وتصنع خبزها بنفسها. وكانت ملابس الزراع والفلاسفة تغزل في البيوت، أما الأثرياء فكانت ثيابهم تعزل في البيوت كملابس الفقراء ولكنها كانت تمشط، وتنظف، وتبيض، وتفصل في أماكن معدة لهذه الأغراض. وكانت بعض المنسوجات الصوفية الرفيعة تنسج في مصانع خاصة، وكان الكتان الذي تصنع منها أشرعة السفن أو شباك الصيد ينسج في المصانع قماشاً رفيعاً تتخذ منه ملابس للسيدات ومناديل للرجال. وكان النسيج في بعض الأحيان يرسل بعدئذ إلى صباغ لا يقتصر عمله على تلوينه بل كان يطبع عليه رسوماً جملة كالتي نراها مطبوعة على الملابس المصورة على جدران بمبي، وتطورت دباغة الجلود فأصبحت لها مصانع خاصة بها، وان بقيت صناعة الأحذية يقوم بها الأفراد فيصنعون منها ما يطلب إليهم صنعه. وكان فيهم أخصائيون لا يصنعون إلا (شباشب) النساء.

وكانت الصناعات التي تستخرج موادها الغفل من باطن الأرض يقوم بها كلها تقريباً العبيد والمجرمون، وكانت مناجم الذهب والفضة في داشيا وغالة وأسبانيا، ومناجم الرصاص والقصدير في أسبانيا وبريطانيا، ومناجم النحاس في قبرص والبرتغال، ومناجم الكبريت في صقلية، والملح في إيطاليا، والحديد في إلبا، والرخام في لونا Luna وهيمتس Hymettus وباروس Paros، والحجر السماقي في مصر، كانت هذه كلها وغيرها من موارد الثروة التي تستخرج من باطن الأرض تمتلكها الدولة وتستغلها بنفسها أو تؤجرها لغيرها، وكانت مصدراً

ص: 215

هاماً من مصادر الإيراد القومي؛ وحسبنا دليلاً على أهميتها أن فسبازيان كان يحصل من مناجم الذهب في أسبانيا وحدها على ما قيمته 44. 000. 000 دولار في كل عام. وكان البحث عن الثروة المعدنية من أهم أسباب الفتوح الاستعمارية، ومن أقوال تاستس في هذا المعنى أن ثروة بريطانيا المعدنية كانت "جزاء النصر" الذي ظفر به كلوديوس في حروبه. وكان الخشب والفحم النباتي أهم أنواع الوقود، وكان البترول معروفاً في كمجيني Commagene وبابل وبارثيا، وكان المدافعون عن ساموساتا Samosata يلقونه متقداً على مشاعل على جنون لوكلس، ولكننا لم نعثر على شاهد يدل على انه كان يستخدم وقوداً على نطاق تجاري

(1)

. وقد عثر على الفحم الحجري في البلوبونيز وفي شمال إيطاليا، ولكن أكثر من كاوا يستخدمونه هم الحدادون. وكانت صناعة كبرتة الحديد لتحويله إلى فولإذ قد انتشرت من مصر إلى كافة أنحاء الإمبراطورية. وكان معظم صناع الحديد، والنحاس، والذهب، والفضة، يقومون بأعمالهم في مصاهر خاصة يعملون فيها بمساعدة صبي أو صبيين. وفي كابوا ومنتورني Menturnae وبتيولي Puteoli وأكويليا Aquileia وكومو Como وغيرها من البلاد انضمت عدة أفران ومصاهر وتكونت منها مصانع كبيرة. ويلوح ان مصانع كاوا كانت مشروعات رأسمالية ذات إنتاج ضخم، تعتمد على أموال تأتيها من خارجها.

وكانت صناعة البناء حسنة التنظيم عظيمة التخصص، فكان ": حاملو الأشجار" Dendrophoroi يقطعون الأشجار ويوردونها، و"صناع الخشب" Fabri lingaru يصنعون الأثاث، و "صانعو الأسمنت" Caementaru

(1)

كان من بين الأسلحة الحربية في القرن الرابع سهم ناري مملوء بالنفط الملتهب يطلق من قوس أو منجنيق، ويقول عنه أميانس مرسلينيس Ammianus Mnrcellinus " إنه يحرق كل ما يقع عليه، وإذا ألقي عليه ماء زاد ناره حرارة، وما من سبيل إلى إطفائه إلا إذا رُشَ عليه التراب".

ص: 216

يخلطونه، و"المشيدون" Structures يضعون الأساس، و"القباءون" arcuaru يثبتون العقود، و"مقيموا الجدران" parieutaru يرفعون الحوائط، و "الطلاسون" يطلونها بالجص، والمبيضون albaru يطلونها بالجير، وصانعو الأدوات الصحية artifices plumbaru يصنعون من أدواتها وهي في الغالب أنابيب من الرصاص (plumbum) ، وكان المبطلون marmoru يفرشون الأرض بالرخام، وفي وسعنا أن نتصور ما تؤدي إليه هذه الأعمال كلها من نزاع، وكان الآجر والقرميد يأتيان من معامل الفخار، وكان معظمها قد بلغ مرحلة المصانع الكبيرة، وكان تراجان، وهدريان، وماركس أورليوس يمتلكون عدداً منها ويجنن منها أرباحاً طائلة. وكانت قمائن أرتيوم Arretuim، وموتينا Mutina، وبيتولي وسرنتم، وبولنتيا Pollentiae تصنع أدوات الموائد العادية اللازمة لإيطاليا ولجميع الولايات الأوربية والأفريقية. ولم تكن هذه المنتجات الكثيرة ذات صبغة فنية راقية، بل كان أهم ما يعنى به أصحابها هو كثرة الإنتاج، ولذلك كانت الأدوات الخزفية التي امتلأت بها أسواق إيطاليا أقل جودة من منتجات أرتيوم السالفة الذكر. وكانت هناك أدوات متقنة ذائعة الصيت تصنع من الزجاج، وسنذكر شيئاَ عنها فيما بعد.

وليس من حقنا أن نعزو إلى إيطاليا القديمة وجود رأسمالية صناعية مستندين إلى ما نجده فيها من مصانع للزجاج، والآجر والقرميد، والفخار، والأدوات المعدنية. ذلك أن رومة نفسها لم يكن فيها إلا مصنعان كبيران أحدهما مصنع للورق والثاني مؤسسة للصباغة؛ وأكبر الظن ان المعادن والوقود لم يكن من الميسور الحصول عليها بكميات وفيرة، ون مكاسب السياسة كانت تبدو لأهل رومة أعظم شرفاً من أرباح الصناعة. أما في مصانع إيطاليا الوسطى فإن الصناع على بكرة أبيهم تقريباً وبعض المشرفين على المصانع كانوا من العبيد، وفي مصانع شمالي إيطاليا كان عدد غير قليل من الصناع أحراراً، وكان عدد العبيد

ص: 217

لا يزال كبيراً إلى الحد الذي يحو لدون استخدام الآلات. ولم يكن من المنتظر أن يعمد المهملون المتراخون الذين لا مصلحة لهم في الإنتاج إلى الاختراع والابتكار، بل انهم كانوا يرفضون بعض الوسائل التي توفر المجهود العضلي خشية أن تنتشر البطالة بين الصناع، كما أن قدرة الشعب على الشراء كانت أضعف من أن تمول الإنتاج الكبير بالآلات، أو تشجع عليه. ولسنا نفكر انه كان هناك بعض الآلات البسيطة بطبيعة الحال في إيطاليا ومصر والعالم اليوناني: كالمضاغط والمضخات اللولبية، والآلات الرافعة للمياه، ومطاحن الحبوب التي تجرها الحيوانات، وعجلات الغزل، والأنوال، والروافع، وعجلة الفخراني الدوارة

ولكن الحياة الإيطالية في الوقت الذي نتحدث عنه (69 م) لم يكن فيها من الحركة الصناعية إلا بقدر ما كان في حياة الناس إلى ما قبل القرن التاسع عشر. ولم يكن مستطاعاً أن تزيد هذه الحياة على هذا القدر مادامت قائمة على الرقيق وعلى تركيز الثروة أشد التركيز. يضاف إلى هذا أن القانون الروماني لم يكن يشجع المنشآت الكبيرة لأنه كان يتطلب من كل شريك في أي مشروع صناعي أن يكون شريكاً مسئولاً من الوجهة القانونية، وكان يحرم قيام الشركات ذات "المسئولية المحدودة"، ولا يسمح بقيام الهيئات المساهمة الا لأداء الأعمال الحكومية. ولما كانت هذه القيود وأمثالها تحد من نشاط المصارف، فإنها قلما كانت تقدم رؤوس الأموال اللازمة لمشروعات الإنتاج الكبير، ولم يكن في وسع التطور الصناعي في رومة أو إيطاليا أن يبلغ في وقت من الأوقات ما بلغه في الإسكندرية أو في بلاد الشرق ذات الحضارة اليونانية.

ص: 218

الفصل الثالث

‌الحمالون

كانت المركبات ذات العجلات محرمة في رومة أثناء النهار من عهد قيصر إلى كومودس؛ وكان الناس وقتئذ يمشون أو يحملهم العبيد في كراسي أو هوادج، أما المسافات الطويلة فكانوا يقطعونها على ظهور الخيل أو في مركبات تجرها الجياد، وكان متوسط ما تقطعه المركبات العامة نحو ستين ميلاً في اليوم. وقد اجتاز قيصر مرة ثمانمائة ميل في ثمانية أيام، واجتاز الرسل الذين حملوا إلى جلبا في أسبانيا نبأ وفاة نيرون 332 ميلاً في ست وثلاثين ساعة؛ وقطع تيبيروس في ثلاثة أيام واصل فيها السير راكباً ليلاً ونهاراً ستمائة ميل ليكون إلى جوار أخيه ساعة وفاته. وكان البريد العام الذي ينقل في العربات أو على ظهور الخيل في ساعات النهار والليل جميعها يسير بسرعة يبلغ متوسطها مائة ميل في اليوم. وكان أغسطس قد أنشأه على غرار نظام البريد الفارسي، لأنه وجد ألا غنى له عنه في تصريف شئون الإمبراطورية. وكان يطلق عليه لفظ البريد العام لأن مهمته هي خدمة المصلحة العامة بنقل الرسائل الرسمية. أما الأفراد فلم يكونوا يستطيعون الانتفاع به إلا في ظروف قليلة وبتصريح خاص تصدره الحكومة ويسمى دبلوما أي "مطويا مرتين" يبيح لحامله بعض الامتيازات، ويمكنه من الاتصال في الطريق ببعض أصحاب المقامات لدبلوماسية الكبيرة. وكان ثمة وسيلة أخرى للاتصال أسرع من هذه الوسيلة، وهي طريقة إرسال الرسائل بمصابيح مرفوعة على أعمدة ترسل إشارات بالضوء من نقطة إلى نقطة؛ وبهذا البرق البدائي عرفت رومة المضطربة القلقة نبأ وصول السفن التي تحمل الحبوب إلى بمبي. أما الرسائل غير الرسمية فكان ينقلها رسول خاص، أو ينقلها التجار أو الأصدقاء المسافرون. ولدينا من الشواهد ما يوحي

ص: 219

بوجود شركات خاصة في عهد الإمبراطورية تتكفل بنقل بريد الأفراد. وكانت الرسائل الخاصة في ذلك الوقت أقل من مثيلاتها في هذه الأيام وأحسن منها. على أن نقل الأخبار في غربي أوربا وجنوبيها لم يكن في عهد قيصر أقل سرعة منه في أي وقت من الأوقات قبل مد السكك الحديدية. وشاهد ذلك ان الخطاب الذي أرسله قيصر من بريطانيا إلى شيشرون في عام 54 ق. م وصل إلى رومة في تسعة وعشرين يوماً، وان سير ربرت بيل لما سافر مسرعاً من رومة إلى لندن في عام 1834 احتاج إلى ثلاثين يوماً (20).

وكانت الطرق القنصلية من أهم العوامل في تسيير سبل الاتصال والنقل. وكانت هذه الطرق هي الوسائل التي ينفذ لها القانون الروماني، والأعصاب التي تصبح بها رغبات رومة إرادة الدولة بأجمعها. وقد أحدثت هذه الطرق في العالم القديم انقلاباً تجارياً من نوع الانقلاب الذي أحدثه إنشاء الطرق الجديدة في القرن التاسع عشر. وحسبنا شاهداً على عظمة هذه الطرق أن طرق أوربا في العصور الوسطى وفي العصور الحديثة ظلت إلى أيام استخدام البخار في النقل أقل شأناً من طرق الإمبراطورية الرومانية في عهد الأنطونيين. لقد كان في إيطاليا وحدها في ذلك الوقت 372 طريقاً رئيسياً، 12000 ميل من الطرق الكبرى المرصوفة، وفي الإمبراطورية بأجمعها 51. 000 ميل من الطرق العامة المرصوفة، فضلاً عن شبكة أخرى من الطرق الثانوية. وكانت الطرق الكبرى تسير فوق جبال الألب إلى ليون، وبردو، وباريس، وريمس، وبولوني؛ وكانت طرق أخرى تجري إلى فينا، ومينز، وأجزبرج، وكولوني، وأوترخت، وليدن؛ وكان ثمة طريق يبدأ من أكويليا محازياً ساحل البحر الأدريادي، ويصل هذه المدينة عن طريق إجناشيا بسلانيك Thessalonica. وأقيمت جسور فخمة لتحل محل القوارب التي كانت تنقل الركاب والبضائع في عرض المجاري التي كانت تعطل سبل الاتصال في الزمن القديم. وكانت توضع عند كل ميل في الطرق

ص: 220

القنصلية شواهد حجرية تبين المسافة بين كل شاهد والبلدة التي تليه. ولا تزال أربعة آلاف من هذه الشواهد باقية إلى يومنا هذا؛ ووضعت على مسافات معينة مقاعد يستريح عليها المسافرون المتعبون. وأنشئت بعد كل عشرة أميال محاط يستطيع من شاء أن يستأجر منها خيلاً، وأقيم بعد كل ثلاثين ميلاً نزل Mansio كان أيضاً مستودعاً للسلع وندوة وماخورا (21). وكانت نقط الاستراحة الرئيسية هي المدائن التي أنشئت فيها عادة فنادق جميلة تمتلكها وتديرها أحياناً الحكومات البلدية (22). وكان معظم أصحاب النزل يسرقون أموال النزلاء كلما تيسرت لهم أسباب السرقة، كما كان غيرهم من اللصوص يجعلون الطرق غير آمنة في أثناء الليل على الرغم من وجود حاميات من الجند في كل محطة. وكان في استطاعة المسافرين أن يبتاعوا كتباً للإرشاد تبين الطرق والمحاط، وأطوال ما بينها من المسافات (23). وكان الأثرياء الذين يستنكفون أن ينزلوا في النزل يحضرون معهم ما يلزمهم من الحاجيات، ويصطحبون العبيد وينامون في عرباتهم بحراسة رجالهم، أو في بيوت أصدقائهم، أو موظفي الحكومة المحليين.

وأكبر الظن أن الأسفار في عهد نيرون كانت أكثر منها قبل أن نولد نحن، رغم ما كان يعترضها من الصعاب. وفي ذلك يقول سنكا:"إن كثيرين من الناس كانوا يركبون البحار مسافات طويلة ليشاهدوا منظراً بعيداً"(24).

ويحدثنا أفلوطرخس عن الخبابين الذين يقضون خير أيام حياتهم في النزل وفي القوارب" (25). وكان الرومان المتعلمون يهرعون جماعات إلى بلاد اليونان ومصر وآسية اليونانية، وينقشون أسماءهم على الآثار التاريخية، ويرتادون الأجواء ومنابع المياه المفيدة للعلاج والصحة، أو يأتون لمشاهدة المجموعات الفنية في الهياكل، أو يسافرون للدرس على مشهوري الفلاسفة والخطباء والأطباء؛ وما من شك في انهم كانوا يسترشدون بيوسنياس كما نسترشد نحن ببدكر (26).

وكانت هذه الرحلات الطويلة تتضمن عادة رحلة بحرية على ظهر سفينة

ص: 221

أو أكثر من السفن التجارية التي تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط، متتبعة عشرات العشرات من طرق الملاحة التجارية. وقد وصف جوفنال هذه الطرق بقوله:"انظر إلى الموانئ والبحار تجدها غاصة بالسفن وعلى ظهرها من الخلائق أكثر ممن على الأرض"(27). وكانت الثغور التي تنافس رومة في عظمتها، وهي بتيولي، وبورتس، وأستيا، تحوي كثيراً من دور الصناعة تبنى المراكب

(1)

وفيها القيارون يجلفطونها والعمال يضعون فيها صابورات من الرمال، والحمالون يفرغون الحبوب في أكياس، والوازنون يزنونها، والملاحون يسيرون القوارب الصغيرة بين السفن الكبرى والبر، والغواصون يغوصون في البحر لينتشلوا ما يسقط فيه من البضائع. وكانت خمس وعشرون سفينة من سفن الحبوب وحدها تجر إلى نهر التيبر في كل يوم من أيام العمل، فإذا أضفنا إليها ناقلات حجارة البناء والمعادن، والزيت، والخمور، وعشرات المئات من المواد الأخرى تكونت لدينا صورة من النهر الغاص بالمتاجر وما يصحب شحنها وتفريغها من ضجيج الآلات، ورجال الأهوسة، والحمالين، والخازنين، والتجار، والسماسرة، والكتبة.

وكانت السفن تسير بالأشرعة يساعدها صف أو صفوف من المجاديف، وكانت في ذلك الوقت أكبر حجماً في العادة من ذي قبل، فأثينوس Atheaeus يصف سفينة من ناقلات الحبوب بأنها كانت 420 قدماً في الطول و 57 في العرض (29)، ولكن هذا الحجم كان حجماً شاذاً كل الشذوذ. وكان لبعض السفن ثلاث أسطح، وكانت حمولة الكثير منها 250 طناً، وحمولة بعضها ألف طن من البضائع. ويحدثها يوسفوس عن سفينة تحمل ستمائة رجل ما بين راكب وبحار (30)، وقد حملت سفينة أخرى مسلة مصرية في حجم المسلة المقامة في سنترال بارك Central Park بنيويورك، ومعها 300 ملاح، و 1300 راكب،

(1)

في القاموس الجلفاط بالسكر سادُّ دروز السفن الجدد وقد جلفطها. (المترجم)

ص: 222

و 93000 بشل

(1)

من القمح، ومقادير من الكتان، والفلفل، والورق، والزجاج (31). على أن السفر بالسفن بعيداً عن السواحل كان لا يزال معرضاً للأخطار، كما وجد القديس بولس في أسفاره. ولم يكن يجرؤ على عبور البحر الأبيض المتوسط فيما بين نوفمبر ومارس إلا عدد قليل من السفن، وكانت الرياح الموسمية تجعل السفر في وسط الصيف مستحيلاً من جهة الشرق. وكانت الأسفار بالليل وكثيرة في تلك الأيام، وكان في ميناء ذي شأن منارة صالحة، وكادت القرصنة أن تختنق من البحر الأبيض المتوسط، وقد جدد أغسطس في القضاء عليها ومنع الطعام عن الولايات التي تثور عليها بوضع أسطولين حربيين كبيرين في رافنا من ثغور البحر الأدرياوي وميسينم Misenum على خليج نابلي، فضلاً عن أساطيل أصغر منها في عشر نقط أخرى متفرقة في أنحاء الإمبراطورية. وفي وسعنا أن نقدر قول قيصر عن "فخامة السلم الرومانية" إذا ذكرنا أننا لم نسمع شيئاً قط عن هذه الأساطيل مدى فرنين كاملين.

ولم تكن مواعيد السفر محددة مضبوطة لأن سير السفن كان يتأثر بعوامل الجو وبالأغراض التجارية. أما الأجور فكانت منخفضة، فقد كان أجر السفر من أثينة إلى الإسكندرية مثلاً درهمين (أي 1،20 ريال أمريكي)، ولكن المسافرين كانوا يبتاعون طعامهم، والراجح ان معظمهم كانوا ينامون على سطح المركب. وكانت سرعة السفن معتدلة اعتدال أجورها، وكانت تختلف باختلاف الريح، ويلغ متوسطها ستة أميال بحرية في الساعة.

وقد لا يستطيع المسافر في بعض الأحيان أن يجتاز البحر الأدريادي إلا في يوم كامل، وكمان يلزمه أحياناً ثلاثة أسابيع من بترى Patrae إلى برنديزيوم كما فعل شيشرون. وكان في وسع الطراد السريع أن يقطع

(1)

يعادل البشل نحو ثمانية جالونات. (المترجم)

ص: 223

230 ميلاً بحرياً في أربع وعشرين ساعة (32). وإذا ما صلحت الريح استطاع الإنسان أن يبسافر من صقلية إلى الإسكندرية أو من قادس إلى أستيا في ستة أيام، ومن يودكة Ytica إلى رومة في أربعة (33).

وكانت أطول الرحلات وأكثرها تعرضاً للخطر الرحلة البحرية التي تستغرق ستة أشهر من عدن في بلاد العرب إلى بلاد الهند، وذلك لأن الرياح الموسمية كانت تضطر السفن إلى ملازمة السواحل الغاصة بالقراصنة في الطريق كله؛ وقد استطاع ملاح يوناني من أهل الإسكندرية في وقت ما قبل سنة 50 ميلادية أن يبين بالرسم أوقات هبوب الرياح الموسمية، ويعرف ان في مقدوره في بعض الفصول أن يعبر المحيط الهندي في طريق مستقيم وهو آمن. وكان هذا الكشف يعادل في أهميته بالنسبة لهذا البحر أهمية عبور كولومبوس المحيط الأطلنطي؛ ذلك ان السفن قد استطاعت بعد هذا العمل أن تسير من الثغور المصرية الواقعة على البحر الأحمر إلى بلاد الهند في 40 يوماً. وحدث حوالي 80 م ان كتب بحار آخر من أهل الإسكندرية غير معروف اسمه كتاباً عن " الطواف بالبحر الأريتزي". وكان بمثابة دليل للتجار الذين يتجرون بين ثغور ساحل أفريقيا الشرقي والهند. وكان غيره من الملاحين في ذلك الوقت قد سار في المحيط الأطلنطي إلى بلاد غالة، وبريطانيا، وألمانيا، بل انهم وصلوا إلى اسكنديناوة وروسيا (34). ولسنا نعرف في تاريخ الإنسانية قبل ذلك ان البحر قد حمل من السفن أو من البضائع ومن الخلق ما حمله في تلك الأيام.

ص: 224

الفصل الرابع

‌المهندسون

كانت السفن والطرق التي تحمل عليها البضائع، والقناطر التي تربط الطرق بعضها ببعض، والموانئ والأحواض التي تستقبل السفن، والقنوات المبنية التي يجري فيها الماء النقي إلى روما، والمصارف التي تنصرف فيها مياه المستنقعات الريفية وأقذار المدن، كانت هذه كلها من عمل المهندسين الرومان واليونان والسوريين يساعدهم آلاف من العمال الأحرار وجنود الفيالق والعبيد. وكانوا يرفعون الأحمال أو الحجارة الثقيلة، أو يجرونها بوساطة البكرات أو القوائم الخشبية العمودية تديرها الروافع التي يدفعها فيها الحيوانات أو الآدميون (35). وقد أقاموا على شاطئ التيبر الغدار جدراناً ذات درجات ثلاث حتى لا ينكشف الطين في قاع النهر إذا انخفض ماؤه

(1)

. وقد أنشئوا ميناءً مزدوجاً عند أستيا لكلوديوس ونيرون وتراجان، وافتتحوا موانئ أصغر منها في مرسيليا وبتيولي، وميسينم، وقرطاجنة وبرنديزيوم ورافنا؛ وجددوا أعظم موانئ الإمبراطورية كلها في الإسكندرية. وقد جففوا البحيرة الفوسية، واستصلحوا أرضها للزراعة وذلك بأن شقوا لها نفقاً يخترق جبلاً من الصخر الصلب، وأنشأ تحت الأرض في روما مصارف من الأسمنت المتحجر للآجر والقرميد قاومت البلي مئات السنين، وجففوا مناقع كمبانيا حتى أصبحت صالحة للسكنى، ويدل ما عثر عليه فيها من آثار على أن قصوراً فخمة كثيرة أقيمت فيها

(2)

، وقاموا بتنفيذ

(1)

أنشأت الحكومة الإيطالية في عام 1870 جسوراً بمحاذاة شاطئ النهر تجعل مجراه متساوي العرض، وقد أدى ذلك إلى نتائج غير مستحبة في فصل الجفاف.

(2)

والظاهر أن الفلشيين قد جففوا مناقع بنتين قبل عام 600 ق. م، غير أن الرومان الذين فتحوا بلادهم قد أهملوا المصارف فعاد الإقليم مناقع وانتشرت فيه الملاريا. ووضع قيصر مشروعاً لتجفيفه وواصل أغسطس ونيرون العمل في هذا التجفيف ولكن المشروع لم يتم إلا في عام 1931.

ص: 225

المشروعات العامة المدهشة التي خفف بها قيصر وغيره من العباقرة التعطل في البلاد وجملوا بها روما.

وكانت الطرق القنصلية من أقل أعمالهم مشقة، ولكنها لم تكن تنقص عن طرق هذه الأيام. وكانت سعتها تختلف من ستة عشر إلى أربع وعشرين قدماً ولكن بعض هذا العرض كان يشغله بالقرب من روما ممرات جانبية مرصوفة بألواح حجرية مستطيلة الشكل. وكانت تسير مستقيمة إلى أهدافها مضحية بالنفقات العاجلة في سبيل اقتصاد دائم؛ وأقيمت على المجاري التي لا حصر لها قناطر كثيرة النفقات، فإذا وصلت إلى المستنقعات اخترقتها فوق قباب مقامة على جدران من الآجر والحجارة، وكانت تصعد فوق الجبال الوعرة وتنحدر على سفوحها دون أن تستخدم النفق، وسارت بمحاذاة الجبال أو الجسور العالية تحميها الجدران القوية. واختلفت المواد التي ترصف بها باختلاف الأماكن التي تمر بها. وكانت الطبقة السفلى تصنع في العادة من الرمل ويتراوح سمكها بين أربع بوصات وست، أو من الملاط بسمك بوصة واحدة. ثم تقام فوق هذه الطبقة أربع طبقات من البناء: الأولى وسمكها قدم وتبنى من الحجارة يمسكها الأسمنت أو الطين، تليها طبقة ثانية سمكها عشر بوصات من الأسمنت القوي، ثم طبقة ثالثة سمكها ما بين اثنتي عشر وثمان عشر بوصة وتتألف من عدة طبقات من الأسمنت المقوى أيضاً، فوقها الطبقة الرابعة وتتخذ من حجر الصوان أو الحمم البركانية الكثيرة الأضلاع والتي يختلق قطر كل منها بين قدم واحد وثلاث أقدام، وسمكها بين ثمان بوصات واثنتي عشر بوصة. وكان يسوون الوجه الأعلى لهذه القطع، وكانت مواضع اتصالها بعضها ببعض لا تكاد تتبينها العين. وكانت الطبقة العليا تصنع في بعض الأحيان من الأسمنت المقوى، وفي الطرق القليلة الأهمية كانت تصنع من الحصباء؛ وفي بريطانيا كانت من حجر الصوان المخلوط بالأسمنت فوق طبقة من الحصباء. وكان سمك الطبقات السفلى كبيراً إلى حد جعل المهندسين

ص: 226

لا يعنون كثيراً بتصريف الماء الجوفي. ويمكننا أن نقول عن هذه الطرق بوجه عام إنها أطول الطرق أعماراً في التاريخ كله، ولا يزال بعضها يستخدم إلى اليوم، ولكن منحنياتها الشديدة التي صنعت لسير البغال والعربات الصغيرة جعلتها غير صالحة لوسائل النقل الحديث.

وكانت القناطر التي تحمل هذه الطرق نمإذج طيبة لتضافر العلم والفن، ولقد ورث الرومان عن مصر البطليموسية أصول الهندسة المائية واستخدموها على نطاق بلغ من السعة حداً لم يسبقهم أحد إليه من قبل، وبقيت الأساليب التي نقلت عنهم لم يطرأ عليها تغيير إلى هذه الأيام. وقد وضعوا الأسس وأشادوا الأرصفة تحت الماء كما كانت تشاد هذه وتلك في أقدم العهود. وكانوا يدفعون في أنواع المجاري اسطوانات مزدوجة مملوءة بمواد البناء، وقد أحكموا إغلاق كل منهما ونزحوا الماء مما بينهما، وغطوا الجزء المعرى بالحجارة أو الجير، وأقاموا الرصيف المطلوب إقامته على هذا الأساس. وقد أقيمت على نهر التيبر قبالة روما تسعة جسور بعضها قديم مقدس كجسر سبليسيوس الذي لم يكن يجوز استخدام المعادن فيه، وبعضها كجسر فبريسيوس متقن البناء اتقاناً أبقاه صالحاً للاستعمال إلى هذه الأيام. وعن هذه الجسور نقلت العقود الرومانية لتستخدم في البناء مئات المئات من القناطر فوق المجاري في العالم الذي يسكنه البيض.

وكان بني يظن أن قنوات المياه المبنية أعظم أعمال الرومان، وفي ذلك يقول:"إذا فكر لإنسان في مقدار ما يصل إلى المدينة من الماء للأغراض العامة والخاصة التي يخطئها الحصى وإذا شاهد القنوات المشيدة العالية التي لا بد أن تحتفظ بالعلو والتدرج المطلوبين، والجبال التي لا بد من اختراقها، والمنخفضات التي لابد من ملئها-لم يسعه إلا أن يحكم أن الأرض كلها ليس فيها ما هو أعجب وأعظم من هذه الأعمال"(38). وكانت أربع عشرة قناة من هذا النوع يبلغ مجموع أطوالها 1300 ميل

ص: 227

وتخترق النفق وتسير فوق عقود فخمة، كانت هذه القنوات تحمل إلى روما من عيون بعيدة ما لا يقل عن 300. 000. 000 جالون من الماء في كل يوم، ينال منها كل فرد في روما ما يناله أي إنسان في مدننا الحديثة (39). على أن هذه المباني الضخمة لم تكن تخلو من عيوب. فقد كانت أنابيب الرصاص تخرق وتتطلب الإصلاح المرة بعد المرة، وأصبحت هذه القنوات كلها غير صالحة للاستعمال قبل نهاية عهد الإمبراطورية الغربية

(1)

. ولكننا إذا ذكرنا أنها كانت تحمل إلى المباني، والمساكن، والقصور، والفسافي، والحدائق، والبساتين، والحمامات العامة التي يستحم فيها آلاف الناس مجتمعين، وان ما بقي بعد ذلك من الماء كان يكفي لإنشاء بحيرات صناعية للمعارك الحربية، إذا ذكرنا هذا كله بدأنا ندرك أن رومة كانت احسن الحواضر القديمة إدارة، وأنها كانت من خير المدن المزودة بما تحتاج إليه من الضروريات والكماليات، رغم ما كان فيها من فساد، وما كان ينتابها من رعب في كثير من الأحيان.

وكان يشرف على مصلحة المياه في ختام القرن الأول الميلادي سكستس يوليوس فرنتينس الذي جعلته كتبهم أشهر مهندسي الرومان الأقدمين. وكان قبل أن يتولى هذا المنصب قد عمل بريتوراً، ووالياً على بريطانيا، وتولى القنصلية مراراً عدة. وكان كالحكام الإنجليز في هذه الأيام يجد متسعاً من الوقت لتأليف الكتب وحكم الولايات، فقد نشر كتباً في العلوم الحربية لا يزال ختامه باقياً إلى هذه الأيام

(2)

، وترك لنا وصفاً بقلمه لعملية المياه في رومة De Aquis Urbis Romanae. وهو يصف ما وجده في تلك المصلحة حين تولى أمورها من ضروب الفساد والرشوة، وكيف كانت القصور والمواخير تخرق الأنابيب الكبرى

(1)

ولا تزال إحداها وهي قناة "فرجو" Virgo تمد بالماء قوارة ترفي Trevi، وقد أصلحت ثلاث قنوات أخرى وهي تمد رومة بالماء في هذه الأيام.

(2)

ويبدأ الكتاب الثالث بهذه الملاحظة الهامة: "إن اختراع آلات الحرب قد وصل من زمن بعيد إلى أبعد غاياته، ولا أمل في أن يتقدم هذا الفن عما هو عليه الآن".

ص: 228

وتسرف في الماء إسرافاً جعل روما في بعض الأيام تطلب الماء فلا تجده (41). ثم يصف ما أدخله بحزمه وهمته من ضروب الإصلاح، ويفصل القول في زهو وإعجاب في مبدأ كل قناة وطولها والغرض منها. ويختم هذا القول كما يختم بلنى قوله بهذه العبارة:"من ذا الذي يجرؤ على أن يوازن هذه القنوات العظيمة بالأهرام السخيفة أو بأعمال اليونان الذائعة الصيت العديمة النفع"(42). ونحن نحس هنا بما يؤمن به هذا الروماني من مبدأ النفسية، وبعدم تذوقه الجمال المجرد من النفعية. ولسنا نلومه على هذا، ونقر بأن من الواجب أن تحصل المدينة على الماء النقي قبل أن يكون فيها هياكل جميلة ونحن نستشف من خلال هذه الكتب الخالية من التجميل الفني انه كان لا يزال في رومة في أيام الطغاة رومان من الطراز القديم، رجال ذوو كفاية وصلاح، وإداريون يعملون بوحي ضمائرهم، وقد افلحوا في نشر الرخاء في أنحاء الإمبراطورية، تحت حكم الأباطرة السفهاء الفاسدين، وكانوا هم الذين مهدوا السبيل لعصر الملكية الذهبي.

ص: 229

الفصل الخامس

‌التجار

اتسعت تجارة البحر الأبيض المتوسط اتساعاً لم يسبق له مثيل من قبل بسبب إصلاح إدارة الحكم ووسائل النقل. ففي أحد طرفي عملية التبادل كان البائعون الجائلون يطوفون بالريف ويبيعون أهله كل شيء من عيدان الثقاب إلى الحرير المستورد الغالي الثمن. وشبيه بهؤلاء من يبيعون البضائع "بالمزاد"، وكان عملهم أيضاً المناداة على البضائع المفقودة والعبيد الآبقين. وكانت هناك أسواق بيومية وأخرى دورية، وكنت ترى أصحاب الحوانيت يساومون المشترين ويخسرون الموازين، ويرقبون في حذر مفتشي الحكومة (الإيديل) الذين كانت مهمتهم مراقبة المكاييل والموازين. وكان أرقى من هؤلاء في السلم التجاري الحوانيت التي تصنع بنفسها سلعا؛ وكانت هذه الحوانيت عماد الصناعة والتجارة جميعاً. وكان في الثغور البحرية أو بالقرب منها بائعو الجملة (magnaru) يبيعون لتجار التجزئة أو للمستهلكين البضائع المستوردة حديثاً من خارج البلاد؛ وكان صاحب السفينة أو رئيس بحارتها في بعض الأحيان يبيع ما فيها من البضائع قبل أن يفرغها.

وظلت إيطاليا مائتي عام وميزان التجارة في غير صالحها، فقد كانت تشترى أكثر مما تبيع، وكانت راضية بذلك مغتبطة. كانت تصدر بعض الفخار الأريتيني Arretine وبعض الخمر والزيت، والأدوات المعدنية والزجاج، والروائح العطرية من كمبانيا؛ أما ما عدا هذه من المنتجات فقد كانت تحتفظ به لنفسها. وكان لتجار الجملة في هذه الأثناء وكلاء يشترون البضائع لإيطاليا من كافة أنحاء الإمبراطورية، وكان للتجار الأجانب سماسرة يعرضون

ص: 230

بضائعهم في إيطاليا؛ وبهذه العملية المزدوجة جاءت طيبات نصف العالم إلى إيطاليا لتتلذذ بها أفواه عظماء الرومان، وتكتسي بها أجسادهم، وتزدان بها بيوتهم؛ وفي ذلك يقول إيليوس أرستيديس Aelis Aristides:" من شاء أن يرى جميع طيبات العالم فعليه أن يطوف العالم كله أو يقيم في رومة"(45). وكانت صقلية ترسل لها الحبوب، والماشية، والجلود، والخمور، والصوف، والأدوات الخشبية الفنية الجميلة، والتماثيل، والحلي، وكانت ترد من شمالي أفريقية الحبوب والزيت؛ ومن قورينة الانجدان Silpium

(1)

؛ ومن أفريقية الوسطى الوحوش اللازمة للملاعب والمجلدات؛ ومن بلاد الحبشة وشرقي أفريقية العاج والقردة، وأصداف السلاحف، والرخام النادر الطبيعي، والتوابل، والعبيد الزنوج؛ ومن غربي أفريقية الزيتون، والحيوانات البرية، والماشية، والصوف، والذهب، والفضة، والرصاص، والقصديرـ، والنحاس، والحديد، والزنجفر، والقمح، والتيل، والفلين، والخيل، ولحم الخنزير، وخير أنواع الزيتون وزيته؛ ومن بلاد غالة الملابس، والخمور، والقمح والخشب، والخضر، والماشية، والدجاج، والفخار، والجبن، ومن بريطانيا، القصدير، والرصاص والفضة، والجلود، والقمح، والماشية، والعبيد، والمحار، والكلاب واللؤلؤ، والمصنوعات الخشبية؛ وكانت أسراب الإوز تسير من بلجيكا إلى إيطاليا لتملاْ أكبادها بطون الأشراف من أبنائها. وكانت ألمانيا تورد الكهرمان، والعبيد، والفراء؛ وبلاد اليونان والجزائر اليونانية تصدر الحرير الرخيص، والتيل، والخمر، والزيت، وعسل النحل، والخشب، والرخام، والزمرد، والعقاقير،

(1)

نبات من الفصيلة الخيمية، وهو يحتوي على سائل راتنجي اشتهر عند القدماء بنفعه لكثير من الأمراض الباطنية، ورسم على نقود قورنية مواطنه الأصلي. (المترجم)

ص: 231

والمصنوعات الفنية، والروائح العطرية والماس، والذهب، وكانت بلاد البحر الأسود تصدر الحبوب، والسمك، والفراء، والجلود، والعبيد؛ وأسية الصغرى تصدر المنسوجات التيلية والصوفية، والجلد المرقق للكتابة، والخمر، وتين أزمير وغيرها من البلاد، والعسل والجبن، والمحار، والسجاجيد، والزيت، والتفاح، والكمثرى، والبرقوق، والتين، والبلح، والرمان، والبندق، والناردين، والبلسم

(1)

، والصمغ القرمزي

(2)

، والأرجواني، وأرز لبنان؛ وكانت تدمر تورد المنسوجات والعطور والعقاقير؛ وبلاد العرب تورد البخور، والصمغ، والصبر، والمر، والأفيون، والزنجبيل، والقرفة، والأحجار الكريمة؛ ومصر تورد الحبوب، والورق، والتيل، والزجاج، والحلي، والحجر الأعبل، وأحجار البازلت، والمرمر، والبرفير؛ وكانت آلاف الأدوات المصنوعة المختلفة الأنواع ترد إلى رومة وغريب أوربا من الإسكندرية، وصيدا، وصور، وانطاكية، وطرطوس، ورودس، وميليتس، وإفسوس وغيرها من كبريات مدائن الشرق؛ وكانت بلاد الشرق نفسها تستورد المواد الغفل والنقود من الغرب.

وكانت هناك فضلاً عن هذا كله تجارة واردات ضخمة من خارج الإمبراطورية. فكانت ترد إلى إيطاليا من بارثيا وبلاد الفرس الجواهر، والعطور النادرة، والجلود الرقيقة، والطنافس، والحيوانات البرية، والخصيان؛ وكان يرد من الصين بطريق بارثيا أو الهند أو القوقاز الحرير منسوجاً أو غير منسوج؛ وكان الرومان يظنونه محصولاً نباتياً يستخرج من الشجر ويقومونه بوزنه ذهباً (44). وكان معظم هذا الحرير يرد إلى جزيرة كوس Cos حيث ينسج ملابس لنساء رومة وغيرها من المدن؛ واضطرت ولاية مسينيا Messenia ـ وهي الولاية الفقيرة نسبياً، أن تحرم على نسائها ارتداء الملابس الحريرية

(1)

صمغ راتيني عطري. (المترجم)

(2)

صمغ يتخذ من المحار أو الأصداف. (المترجم)

ص: 232

الشفافة في الاجتماعات الدينية؛ وهذه الملابس هي التي غزت بها كليوبطرة قلبي قيصر وأنطونيوس (45). وكانت الصين تستورد من الإمبراطورية الرومانية في نظير صادراتها إليها الطنافس والحلي، والكهرمان، والمعادن، والأصباغ، والعقاقير، والزجاج. ويحدثنا المؤرخون الصينيون عن بعثة تجيء بطريق البحر إلى الامبراطور هوان دي عام 166، من قبل الامبراطور "آن-طون" ـ أي ماركس أورليوس أنطونيوس. وأكبر الظن ان هذه البعثة لم تكن إلا جماعة من التجار انتحلوا صفة السفراء. وقد عثر في ولاية شانسي الصينية على ست عشرة قطعة من النقود الرومانية مضروبة فيما بين حكم تيبيريوس وحكم أورليوس. وكانت الهند تورد إلى إيطاليا الفلفل، وسنبلة الطيب، وغيرها من التوابل (التي سافر كولمبس ليبحث عنها)، والأعشاب، والعاج، وحجر الظفر (الخرز اليماني) والجمست، والياقوت الأحمر، والماس، والمصنوعات الحديدية، وأدوات التجميل، والمنسوجات، والنمورة، والفيلة. وفي مقدورنا أن ندرك مقدار هذه التجارة وخشب الرومان لأسباب الترف إذا عرفنا ان إيطاليا كانت تستورد من الهند أكثر مما تستورده من أي بلد آخر عدا أسبانيا (46). ويذكر استرابون ان مائة وعشرين سفينة كانت تبحر كل عام من ثغر واحد نم الثغور المصرية إلى الهند وسيلان. وكانت الهند نفسها تستورد في مقابل صادراتها مقداراً غير كبير من الخمور، والمعادن، والصبغة الأرجوانية، وتأخذ ثمن ما بقى من بضائعها أكثر من مائة مليون سسترس نقوداً أو سبائك. وكان مثل هذا القدر من المال يرسل إلى بلاد العرب والصين، ولعل مثله أيضاً كان يرسل إلى أسبانيا.

وظلت هذه التجارة الواسعة مصدر رخاء عظيم مائتي عام، ولكن أساسها غير السليم جر الخراب على الاقتصاد الروماني في آخر الأمر. ذلك ان إيطاليا لم تحاول قط أن تتعادل صادراتها ووارداتها، وأنها استولت على مناجم خمسين

ص: 233

ولاية أو نحوها، وفرضت على أهلها الضرائب لتستمد منها المال الذي تدفعه لموازنة صادراتها بوارداتها. فلما ان استنفذت العروق المعدنية الغنية ولم تنقص شهوة الرومان للترف والكماليات، حاولت رومة أن تؤجل انهيار نظام الاستيراد بفتح بلاد جديدة اشتهرت بمعادنها مثل داشيا Dacia، وبتخفيض قيمة نقدها الذي كان من قبل أبعد النقود عن الفساد والانحطاط، فصارت تصنع أكثر ما تستطيع صنعه من النقود من أقل ما لديها من السبائك. ولما أن اقتربت نفقات الإدارة والحروب من مكاسب الإمبراطورية، كان على رومة أن تؤدى ثمن ما تستورده من البضائع بضائع أخرى، ولكنها عجزت عن هذا. وكان اعتماد إيطاليا على ما تستورده من الطعام أهم أسباب ضعفها. ذلك أنها ساعة أن عجزت عن إرغام غيرها من البلاد على أن ترسل إليها الطعام والجنود، إذن مجدها بالزوال وفي هذا الوقت عينه أخذت الولايات تسترد رخائها وأولويتها الاقتصادية؛ فكاد التجار الإيطاليون في القرن الأول الميلادي يختفون من الثغور الشرقية، واستقر التجار السوريون واليونان في ديلوس وبتيلوي، وتضاعف عددهم في أسبانيا وغالة، وأخذ الشرق بين مد التاريخ وجزره المتباعدة الأجل يستعد لأن يسطر مرة أخرى على الغرب.

ص: 234

الفصل السادس

‌رجال المال

ترى كيف كان الإنتاج والتجارة يمولان؟ لقد كانا يمولان قبل كل شيء ينقد محترم موثوق به في العالم إلى حد كبير. نعم إن النقود الرومانية جميعها قد انحطت قيمتها شيئاً فشيئاً من أيام الحرب البونية الأولى، لأن الخزانة وجدت انه يسهل عليها أن تؤدي ما استدانته الحكومة من المال بسبب الحروب بسماحها بالتضخم الذي ينشأ بطبيعته من ازدياد النقود ونقص السلع. منم ذلك ان الآس وكان في الأصل رطلاً من النحاس انخفض وزنه إلى أوقيتين في عام 241، وإلى أوقية واحدة في عام 202، وإلى نصف أوقية في عام 87 ق. م، وإلى ربع أوقية في عام 60 م؛ وفي المائة العام الأخيرة من عهد الجمهورية كان قواد الجند يسكون نقودهم، وكانت هذه النقود في العادة هي الأورى وهو نقد ذهبي كانت قيمته في الغالب مائة سسترس. ومن هذه النقود الحربية جاءت نقود الأباطرة، وقد جرى هؤلاء على سنة قيصر فطبعوا صورتهم على ما يسكونه من النقود رمزاً لضمان الحكومة إياها. وسك السسترس وقتئذ من النحاس بدل الفضة، وجعلت قيمته أربعة آسات

(1)

، وأنقص نيرون ما كان يحتويه الدينار من الفضة إلى 90% مما كان يجتويه منها قبل، ثم أنقصه تراجان إلى 85%، وأورليوس إلى 75%، وكمودس إلى 70%، وسبتميوس سفيرس Septimius

(1)

سنقوم العملة الرومانية حين نشير إلى العهد الذي أعقب حكم نيرون بثلثي قيمتها المعتادة في زمن الإمبراطورية، فيقوم للآس بـ 25 slash 100 من الريال الأمريكي، والسسترس بـ 10 slash 100 منه، وتالدينار بـ 40 slash 100، والتالنت بـ 2. 400 حسب قيمة الريال الأمريكي في عام 1943. وإذ كنا سنغفل في هذا التقويم ما طرأ على العملة الرومانية من اختلافات قليلة، فجدير بالقارئ أن يذكر أن هذا التقويم كله تقريبي.

ص: 235

Severus إلى 50%. وأنقص نيرون قيمة الآوريوس من 1 slash 40 من الرطل من الذهب إلى 1 slash 45، وأنقصها كركلا إلى 1 slash 50. وصحب هذا التخفيض ارتفاع عام في إثمان السلع، ولكن يلوح ان الدخل ارتفع بنسبة هذا التخفيض وظل يرتفع حتى زمن أورليوس. ولعل هذا التضخم غير الطليق الخاضع لإشراف الحكومة، لم يكن إلا وسيلة سهلة لتخفيف العبء عن المدينين على حساب الدائنين، لأن هؤلاء لو تركوا وشأنهم لاستطاعوا بفضل ما يمتازون به من كفاية، وما يتاح لهم من فرص، أن يركزوا الثروة في أيد قليلة إلى حد يقف معه دولاب الاقتصاد وينذر بالثورة السياسية. ومن واجبنا أن نعد النظام المالي الروماني من أكثر النظم المالية نجاحاً وثباتاً في التاريخ رغم ما طرأ عليه من تغيرات. ذلك ان معياراً واحداً للنقد ظل قائماً موثوقاً به مدى قرنين من الزمان، وبفضل هذا الثبات راجت التجارة واستثمار المال رواجاً لم يكن له نظير في أي عصر من العصور السابقة.

ومن أجل هذا انتشر الصيارفة في كل مكان، يبدلون النقود بعضها ببعض، ويراجعون الحسابات والودائع ذات الفوائد، ويصدرون التحاويل المالية للمسافرين وتوكل إليهم إدارة أملاك الأفراد وبيعها، وشرائها، واستثمار الأموال، وأداء الديون، وإقراض المال للأفراد والشركات. وكان مصدر هذا النظام المصرفي بلاد اليونان وبلاد الشرق اليوناني، وكان أكثره في أيدي اليونان والسوريين حتى في إيطاليا نفسها وفي غربي أوربا؛ وكان اللفظان اللذان يطلقان على السوري، والمصرفي في غالة مترادفين. وانخفض سعر الفائدة إلى أربعة في المائة لكثرة الغنائم الت يجاء بها أغسطس من مصر، ولكنه عاد فارتفع إلى 6% بعد موته، وبلغ حده القانوني الأقصى وهو 12% قبيل عصر قسطنطين.

ويدل "الذعر" المشهور الذي حدث في عام 33 م على ما وصلت إليه حال المصارف والتجارة في أيام الإمبراطورية، كما يدل على اعتماد كلا النظامين على الآخر. ذلك أن أغسطس سك العملة بلا حساب، وبسط يده في الإنفاق

ص: 236

كل البسط، على أساس أن كثرة تداو ل المال، وانخفاض سعر الفائدة، وارتفاع الأثمان، ستبعث النشاط في الأعمال المالية والتجارية. وقد حدث هذا فعلاً ولكن هذه العملية لم يكن من شأنها أن تستمر إلى غير نهاية، ولذلك حدث انتكاس ولما يمض على بدايتها زمن طويل؛ فقد حدث في عام 10 ق. م أن وقف إصدار العملة، وعاد تيبيريوس إلى عكس النظرية السابقة وهي أن خير ضروب الاقتصاد هو أشدها اقتصاداً. ولذلك فرض القيود الشديدة على النفقات الحكومية، وحدد إصدار العملة تحديداً شديداً، وجمع في خزانة الدولة 2. 700. 000. 000. ونشأ عن هذا أن قل تداول النقود قلة زاد أثرها سوءاً نزوح الأموال إلى بلاد الثراء لابتياع الكماليات منها. ونتج عن ذلك انخفاض الأثمان، وارتفاع سعر الفائدة. وعجز المدينون عن الوفاء بديونهم، فباعوا أملاكهم، وقاضى المدينون المرابين، وامتنع الاقتراض أو كاد. وحاول مجلس الشيوخ أن يمنع تصدير رؤوس الأموال فطلب أن يستثمر قدر كبير من ثروة كل عضو من أعضائه في الأراضي الإيطالية، فعمد الشيوخ من أجل ذلك إلى المطالبة بما لهم من الديون، وباعوا أملاك مدينيهم للحصول على الأموال، وازدادت الأزمة سوءاً على سوء؛ ولما ان أبلغ الشيخ ببليوس أسبنثر Publius Spinther مصرف بلبس وأليوس Balbes & Ollius انه لابد له أن يسحب 30. 000. 000 سسترس للوفاء بما يتطلبه القانون الجديد، أعلن المصرف إفلاسه. وحدث في الوقت نفسه أن أفلست شركة بالإسكندرية هي شركة سوثيس وولده Seuthes & Son على أثر ضياع ثلاث سفن لها تحمل التوابل، وانهارت شركة ملكس Malchus للصباغة في مدينة صور، فشاع في طول البلاد وعرضها ان مصرف مكسمس وفيبو Maximus & Vibo الروماني على وشك الإفلاس بسبب ما له من ديون كثيرة على هاتين الشركتين. ولما ان هرع أصحاب الودائع إلى هذا المصرف لسحبها أغلق أبوابه، وحدث بعدئذ في اليوم نفسه أن أجل الدفع مصرف كبير آخر

ص: 237

هو مصرف أولاد بتيوس Pettius. ووصلت في الوقت عينه تقريباً أنباء تقول إن مصاريف مالية كبرى في ليون، وقرطاجنة، وكورنثة، وبيزنطية قد أفلست هي الأخرى، وأغلقت مصارف رومة واحداً بعد واحد، ولم يكن من المستطاع اقتراض المال إلا بفوائد أعلى كثيراً من السعر المصرح به قانوناً. واضطر تيبيريوس في آخر الأمر أن يعالج الأزمة بوقف قانون الاستثمار في أرض إيطاليا، وتوزيع 100. 000. 000 سسترس على المصارف لقرضها من غير فائدة لآجال تبلغ ثلاث سنين، بضمان الأملاك العقارية، فاضطر المرابون من الأفراد إلى تخفيض سعر الفائدة، وخرجت الأموال من مخابئها، وعادت الثقة شيئاً فشيئاً إلى السوق المالية والتجارية.

ص: 238

الفصل السابع

‌الطبقات

كان كل إنسان في رومة إلا أقلية لا يعتد بها يعبد المال عبادة جنونية، وكان الناس جميعاً عدا أصحاب المصارف يلعنون المال ويذمونه. من ذلك أن أوفد يقول في أحد كتبه على لسان إله من الآلهة:"ما أقل ما تعرف عن العصر الذي تعيش فيه إذا توهمت أن الشهد أحلى من المال في يدك"(15). وبعد مائة عام من ذلك يشيد جوفنال في سخرية: "بجلال الثروة المقدس أعظم التقديس". وظل القانون الروماني إلى آخر عهد الإمبراطورية يحرم على الشيوخ استثمار أموالهم في التجارة أو الصناعة؛ ومع انهم كانوا يحتالون على هذا التحريم بأن يجيزوا لمعتوقيهم أن يستثمروا لهم المال، فإنهم كانوا يحتقرون وكلاءهم، ويرون ان الحكم بحق المولد هو وحده الذي يليق بهم أن يستبدلوا به الحكم بحق المال أو الأساطير أو السيف. وقد ظلت الانقسامات الطائفية باقية في البلاد بعد ما قام فيها من الثورات، وبعد أن نقص عدد الأشراف نقصاناً كبيراً، واتخذوا لهم ألقاباً جديدة: فأصبح أفراد طبقتي الشيوخ، والفرسان، والحكام، والموظفين، يلقبون "رجال الشرف" honestiores أو رجال المناصب؛ ولقب كل من عداهم "بالأدنياء" humiliores أو "الضعفاء" tenuiores. وكان وقار الشيخ وزهوه يمتزج بهما اعتزازاً بالشرف والكرامة، وكان يعمل في عدد من المناصب بعضها في اثر بعض من غير أجر بل تفرض عليه نفقات طائلة، وكان يضطلع بالواجبات التي تفرضها عليه مناصبه الهامة بدرجة لا بأس بها من الكفاية والاستقامة؛ وينفق من ماله على الألعاب العامة، ويساعد الموالي المحررين من العبيد، ويقتسم بعض ثروته مع الأهلين بضروب الصدقات التي يخرجها في أثناء حياته أو بعد

ص: 239

مماته. وإذ كان مركزه يتطلب منه كثيراً من الواجبات، كان يطلب إليه إذا أراد أن ينضم إلى طبقة الشيوخ أو يبقى فيها أن يكون لديه مليون سسترس.

وقد بلغت ثروة أحد الشيوخ وهو نيوس لنتولس Gnaeus Lentulus 400. 000. 000 سسترس، ولكننا إذا استثنينا هذا الشيخ وحده كان أعظم الناس ثراء في رومة هم رجال الأعمال الذين لم يكونوا يستنكفون أن يشتغلوا بالشؤون المالية أو التجارية. وبينما كان الأباطرة ينقصون من سلطان مجلس الشيوخ كانوا يختصون رجال الأعمال بالمناصب الكبرى، ويحمون الصناعة والتجارة والأعمال المالية، واتخذوا معونة الفرسان سنداً للزعامة ضد دسائس الأشراف. وكانت عضوية هذه الطبقة الثانية، طبقة الفرسان، تتطلب من صاحبها أن يكون مالكاً لأربعمائة ألف سسترس، وأن يرشح الزعيم نفسه أعضاء هذه الطبقة؛ ومن أجل هذا كان كثيرون من ذوي الثراء من طبقة العامة.

وكانت هذه الطبقة وقتئذ تتألف من رجال الأعمال الذين لم يرشحوا إلى العضوية في طبقة أخرى، ومن العمال الأحرار المولد، والفلاحين الملاك، والمدرسين، والأطباء، والفنانين والعبيد المحررين. ولم يكن الإحصاء يحدد طبقة الصعاليك حسب أعمال أفرادها بل كان يحددها حسب مولدهم؛ وقد وصفتهم إحدى الرسائل القديمة بأنهم "السوقة الذين لا يقدمون للدولة إلا الأطفال"(52) وكان الكثيرون منهم يهملون في الحوانيت، وفي المصانع، وفي تجارة المدن بأجر يبلغ متوسطه ديناراً (50 slash 100 من الريال الأمريكي) في اليوم. وزاد هذا الأجر في القرون التالية، ولكن زيادته لم تكن أسرع من زيادة الأثمان (53). وجدير بنا أل ننسى ان استغلال الأقوياء للضعفاء أمر طبيعي كالطعام والشراب، ولا يختلف عنهما إلا في السرعة؛ وانه لا يخلو منه عصر من العصور ولا مجتمع من المجتمعات أيا كان نوعه وأيا كان نظام الحكم الذي يخضع له؛ ولكن هذا

ص: 240

الاستغلال لم يكن في بلد من البلاد أكمل مما كان في رومة القديمة، كما لم تكن الطبقات في بلد آخر أقل تعاطفاً من الطبقات فيها. لقد كان ساكنوها جميعاً في وقت من الأوقات فقراء لا يشعرون بفقرهم، ولكن الفقر والثراء ما لبثا أن وجدا معاً في صعيد واحد، فشعر الفقراء وقتئذ بفقرهم. على أن نظام الإعانات الحكومية والصدقات التي كان السادة يحسنون بها على مواليهم، والوصايا القيمة التي كان يوصى بها الأثرياء أمثال بلبس الذي أوصى لكل ساكن في رومة بخمسة وعشرين ديناراً، كل هذا قد حال بين الأهلين وبين الفقر المدقع. وكاد نظام الطبقات في رومة أن يصبح شبيهاً بنظيره في الهند الحاضرة فيقسم الأمة أقساماً منفصلة متنافرة، ولكن من كان ذا قدرة من الأهلين كان في وسعه أن يتحرر من الرق، وأن يجمع المال، ويرقى إلى المناصب العالية في خدمة الزعيم. وكان ابن العبد المحرر يتمتع بجميع حقوق الأحرار، وكان في وسع حفيده أن يصبح عضواً في مجلس الشيوخ، بل ان حفيد أحد المحررين قد أصبح امبراطوراً بعد قليل من هذا الوقت الذي نتحدث عنه.

وتولى العبيد المحررون في القرن الأول الميلادي كثيراً من المناصب العامة. وكثيراً ما كان يعهد إليهم الإشراف على أموال الإمبراطورية في الولايات، وعلى عمليات المياه في رومة، وعلى مناجم الامبراطور، ومقالع أحجاره وضياعه، وعلى تموين معسكرات الجيش. وكان المحررون أو العبيد، وكلهم تقريباً من اليونان أو السوريين، يديرون شؤون القصور الإمبراطورية، ويتولون أخط والمناصب في مجالس الدولة. وتحولت الصناعات والتجارة الصغرى شيئاً فشيئاً إلى أيدي المحررين، وأصبح الكثيرون منهم على مر الأيام من أصحاب رؤوس الأموال وملاك الأراضي؛ وقلما كان ماضيهم يتيح لهم الفرص لرفع مستواهم الخلقي أو يسمو بأغراضهم وأسباب اهتمامهم، فلما أن حرروا أصبح المال شغلهم الشاغل فلم يكونوا يتورعون عن سلوك أي سبيل توصلهم إليه، أو يراعون في إنفاقه وازعاً

ص: 241

من ضمير أو ذوق سليم. وقد ندد بهم بترونيوس Petronius أشنع تنديد في تريملكيو، وسخر سنكا، وان يكن أقل من بترونيوس حدة، بالأثرياء المحدثين الذين يبتاعون مجاميع مزينة من الكتب ولكنهم لا يقرأونها أبداً (54). وأكبر الظن ان بعض هذا الهجاء كان رد فعل مبعثه غيرة طبقة من الناس رأت ان ما كانت تختص به من استغلال الناس والاستمتاع بضورب الترف والملاذ قد أخذ يعتدي عليه هؤلاء المحدثون، ولم يكن في وسعها أن تصفح عن أولئك الذين قاموا يشاركونها في أموالها وسلطانها.

وما من شك في ان ما لقيه المحررون منن نجاح قد بعث بعض السلوى والأمل في نفوس تلك الطبقة التي كانت تقوم بمعظم الأعمال اليدوية في إيطاليا. وقد قدر بلوك Peloch عدد العبيد في رومة حوالي سنة 30 ق. م بما يقرب من 400. 00 أي نحو نصف عدد سكانها جميعاً، وقدر عددهم في إيطاليا بنحو 1. 500. 000. وإذا جاز لنا أن نصدق ثرثرة أثينوس فان بعض الرومان كان يمتلك الواحد منهم 20. 000 عبد (55). ومن أكبر الشواهد على كثرتهم أن مجلس الشيوخ قد رفض اقتراحاً عرض عليه يرمي إلى إلزام العبيد بأن يلبسوا زياً خاصاً، وكان سبب الرفض خوف المجلس أن يدركوا بذلك كثرة عددهم. وقدر جابينوس نسبة العبيد إلى الأحرار في برجموم Pergamum حوالي سنة 170 م بواحد إلى ثلاثة أي 25%، وأكبر الظن ان نسبتهم في المدن الأخرى لم تكن تختلف كثيراً عن هذه النسبة (56). وكان ثمن العبد يختلف من 330 سترس يبتاع بها من يعمل في الضياع، إلى سبعمائة ألف (105. 000 ريال أمريكي) التي ابتاع بها ماركس أسكورس Marcus Scaurus دفنيس Daphnis النحوي (57). وكان متوسط ثمن العبد في الوقت الذي نتحدث عنه 4000 سسترس (400 ريال)، وكان ثمانون في المائة من العمال في الصناعة وفي تجارة الأشتات من العبيد، كما كانت معظم الأعمال اليدوية والكتابية في المصالح

ص: 242

الحكومية يؤديها "عبيد عوميون" Servi Publici. أما عبيد المنازل فكانوا أنواعاً لا حصر لها، كما كانت مراكزهم وأعمالهم كثيرة متنوعة: كانوا يقومون بخدمة سادتهم، وكانوا صناعً يدويين، ومعلمين خصوصيين، وطهاة وحلاقين، وموسيقيين، ونساخين، وأمناء مكاتب، وفنانين، وأطباء، وفلاسفة وخصياناً، وغلماناً حساناً أقل ما يقومون به من الأعمال أن يكونوا سقاة، ومقعدين يسلون سادتهم بأجسادهم المشوهة. وكانت في رومة سوق خاصة يستطيع الإنسان أن يبتاع فيها عبداً أعرج، وأقطع الذراع، أو ذا أعين ثلاث، أو طويلاً مفرطاً في الطول، أو قزماً أو خنثي (58). وكان عبيد المنازل يضربون أحياناً وأحياناً يقتلون، وقد قتل والد نيرون عبيده لأنهم أبوا أن يشربوا من الخمر القدر الذي يرغب فيه (59). ويصف سنكا في فقرة له غاضبة "العذراء الخشبية وغيرها من آلات التعذيب، والجب وغيره من السجون، والنيران التي كانت توقد في الحفر حول أجسام المساجين، والخطاطيف التي كانت تجر بها جثثهم، والأغلال الكثيرة الأنواع، وضروب العقاب المختلفة، واقتلاع الأعضاء وكي الجباه". ويلوح أن هذه كلها كان يلقاها عبيد المزارع. ويصف جوفنال سيدة كان عبيدها يضربون واحداً بعد واحد أثناء تصفيف شعرها، ويصور أوفد سيدة أخرى تدفع دبابيس الشعر في ذراعي خادمة لها، ولكن هذه القصص يبدو عليها أنها من اختراع الأدباء، ومن واجبنا أل نعدها من الحقائق التاريخية المقطوع بصحتها.

ونحن معرضون لخطأ المبالغة في قسوة الماضي لنفس السبب الذي يحملنا على المبالغة في جرائم الحاضر وفساد أخلاقه ـ ذلك بأن ندرة القسوة تجعلها طريفة مستملحة. والحق ان متاعب عبيد البيوت أيام الإمبراطورية قد أخذت تقل شيئاً فشيئاً على أثر قبولهم أعضاء في الأسر التي كانوا يخدمونها، وبالإخلاص المتبادل بينهم وبين سادتهم، وبالعادة الطريفة عادة أن يقوم

ص: 243

السيد بخدمة عبيده في بعض الأعياد، وبما كان يضمنه العبد من عم لدائم في خدمة سيده قل ان يكون له نظير في هذه الأيام. ولم يكن العبيد يحرمون من مسرات الحياة العائلية؛ وتدل شواهد قبورهم على انهم لم يكونوا يقلون رحمة وشفقة عن الأحرار. انظر مثلا إلى ما كتب على قبر واحد من أبنائهم:"لقد أقام والدا يوكوبيون Eucopion هذا الأثر لأبنهما الذي عاش سنة أشهر وثلاثة أيام؛ كان فيها أظرف الأطفال وأكثرهم إدخالاً للسرور على قلوب من حولهم؛ ولقد كان أكبر أسباب سعادتنا وان لم يكن قادراً على الكلام". وثمة شواهد أخرى تدل على ما كان بين السادة والعبد من حب وعطف. من ذلك أن أحد الأسياد يجهر بأن خادمه الميت كان عزيزاً عليه كولده، وان أحد الشبان النبلاء يبدي حزنه الشديد على موت مربيته، وان مربية أخرى تظهر حزنها لموت طفل ترعاه، وان سيدة متعلمة أقامت نصباً تذكارياً جميلاً لأمين مكتبتها. وقد كتب استاتيوس Statius " قصيدة إلى فلافيوس أورسس Flavius Ursus يعزيه في موت عبد عزيز عليه". ولم يكن من غير المعتاد أن يخاطر عبد بحياته لحماية سيده، ومنم كثيرون صاحبوا سادتهم في منفاهم طائعين مختارين، ومنهم من ضحوا بحياتهم من أجل سادتهم. ومن النساء من حررن عبيدهن وتزوجنهم، ومن الرجال من كانوا يعاملونهم معاملة الأصدقاء، وكان سنكا يأكل معهم. وقد كان للأخلاق الرقيقة، والحس المرهف، وعدم وجود فارق في اللون بين السيد والعبد، والمبادئ الفلسفة الرواقية، وللعقائد الدينية التي جاءت من بلاد الشرق والتي لم تكن تعرف الفروق بين الطبقات، كان لهذه كلها نصيب في تقليل الرق وتحسين حال الأرقاء؛ ولكن العوامل الأساسية في هذه القلة وذلك التحسين كانت هي المزايا الاقتصادية التي تعود على السيد، وارتفاع ثمن العبيد. وكان كثيرون من العبيد ينالون احترام سادتهم لثقافتهم الراقية، فقد كان منهم مختزلون لخطبهم، ومساعدون لهم في بحوثهم، وأمناء لهم في شئونهم المالية،

ص: 244

ومدبرون لأعمالهم؛ وكان منهم فنانون، وأطباء، ونحاة، وفلاسفة. وكان في مقدور العبد في كثير من الأحوال أن يتجر لحسابه الخاص، وأن يعطي جزءاً من مكاسبه لمالكه، وأن يحتفظ بما بقي منها لتكون "ماله القليل Peculium"، أي ملكاً خاصاً له. وكان في وسع العبد بهذه المكاسب، أو بأمانته وإخلاصه في خدمة سيده، أو بالقيام له بخدمة غير عادية، أو بجمال خلقه، أن ينال حريته عادة في ست سنين (66).

وقد تجسن أحوال العمال وأحوال العبيد أنفسهم بعض التحسن بفضل منظمات العمال Collegia. ونحن نستمع قبيل هذا الوقت الذي نتحدث عنه بوجود عدد كبير من هذه المنظمات وبتخصصها إلى حد يدعو إلى الفخر، فكانت هناك هيئات خاصة بالمداحين، والنافخين في الأبواق، والقرون، والناي، والمزمار، وغيرها من الآلات؛ وكانت هذه المنظمات تنشأ عادة على مثال الهيئات البلدية، فكان يقوم عليها عدد من الرؤساء ذوي الرتب المتدرجة؛ وكان لها إله واحد أو آلهة متعدون تقيم له أو لهم معبداً وعيداً سنوياً. وكانت تعمل ما تعمله المدن فتطلب إلى ذوي المال أو ذواته رعايتها، والأخذ بناصرها، ومساعدة أعضائها في رحلاتهم، وإقامة قاعات اجتماعهم ومعابدهم. وكانوا يجدون هذه المساعدة على الدوام. ونحن نخطئ إذا ظننا أن هذه المنظمات كانت شبيهة باتحادات العمال في هذه الأيام. وخير ما نتصورها به هو أن نقول إنها كانت أشبه بالهيئات الأخوية، ذات العدد الذي لا يحصى من المناصب، وألقاب الشرف، وضروب اللهو، والرحلات، والمعاونات المتبادلة البسيطة. وكثيراً ما كان الأغنياء يساعدون على قيام هذه المنظمات ولا ينسونها في وصاياهم. وكان رجال المنظمة كلهم "إخوة" كما كان نساؤهم "أخوات". وكان في مقدور العبد في بعضها أن يجلس أمام مائدة الطعام، أو في مجلس إدارتها، مع الرجل الحر. وكان كل "عضو ذي مقام" يضمن لنفسه جنازة طيبة.

ص: 245

وقد وجد الزعماء الشعبيون على اختلاف طبقاتهم في آخر قرن من حياة الجمهورية أن في وسعهم أن يقنعوا هذه المنظمات بأن يقترع أفرادها على بكرة أبيهم للمرشح الذي يقدم لها المال. وبهذه الطريقة أصبحت أدوات سياسية في أيدي الأشراف، وأصحاب المال، والمتطرفين من السياسيين، وكان لتنافسها في الفساد اكبر الأثر في القضاء على الديمقراطية الرومانية. وقد حرم قيصر وجودها ولكنها بقيت رغم هذا التحريم، وحلها أغسطس كلها إلا عدداً قليلاً من المنظمات النافعة، وعاد تراجان فحرم وجودها، ثم سمح أورليوس بوجودها، وما من شك في أنها ظلت قائمة طوال هذه العهود كلها داخل نطاق القانون أو خارجة عنه، ثم امست في آخر الأمر مسالك دخلت منها المسيحية إلى البلاد وتغلغلت في حياة رومة.

ص: 246

الفصل الثامن

‌النظام الاقتصادي والدولة

ترى إلى أي حد حاولت الحكومة في عهد الإمبراطورية أن تسيطر على الحياة الاقتصادية؟ لقد حاولت أن تعيد ملكية الأرض إلى الفلاحين، ولكنها عجزت عن ذلك إلى حد كبير. ولقد كان الأباطرة في هذه الناحية أكثر استنارة من مجلس الشيوخ لأن هذا المجلس كان خاضعاً لسيطرة أصحاب الضياع الكبيرة. وأراد دومتيان أن يشجع زراعة الحبوب في إيطاليا ولكنه لم يفلح فيما كان يرمي إليه، ولهذا كانت إيطاليا على الدوام تخشى الهلاك جوعاً. وأرغم فسبازيان مجلس الشيوخ على أن يرضى به إمبراطوراً بسيطرته على مصر وكانت وقتئذ مصدر القمح الذي تحتاجه إيطاليا، وأراد سبتميوس أن يحذو حذوه باستيلائه على شمالي أفريقية. وكان على الدولة ان تضمن استيراد الحبوب إلى إيطاليا وتوزيعها، وقد اضطرها هذا إلى أن تشرف بنفسها على الاستيراد والتوزيع. وكانت تمنح بعض الامتيازات للتجار الذين يستوردون الحبوب إلى إيطاليا وقد ضمن لهم كلوديوس أن يعوضهم مما عساهم أن يتعرضوا له من الخسارة؛ وأعفى نيرون سفنهم من ضريبة الأملاك، وكان تأخر سفن أسطول الحبوب عن الوصول في موعدها أو تحطمها هو السبب الوحيد الذي يدفع الشعب الروماني إلى شق عصا الطاعة.

وكانت السياسة الاقتصادية الرومانية تسير على مبدأ التخلي Laissez faire مع استتثناء امتلاك الدولة للمناجم ومقالع الأحجار، ومصايد السمك، ورواسب الملح، ومساحات واسعة من الأرض المنزرعة (86). وكانت الفيالق الرومانية تصنع الآجر والقرميد اللازمين لمبانيها، وكثيراً ما كانا

ص: 247

يستعملان في المنشآت العامة وخاصة في المستعمرات، والراجح أن صناعة الأسلحة وعدد الحرب كانت وقفاً على دور الصناعة التي تمتلكها الدولة، وليس ببعيد أنه قد وجدت في القرن الأول مصانع تمتلكها الحكومة كالتي نسمع عنها في القرن الثالث (70). وكانت الأعمال العامة تعطي في العادة للمقاولين تراقبهم الحكومة مراقبة بلغت من الدقة حداً اضطرهم إلى القيام بها عادة على الوجه الأكمل، وبأقل ما يستطاع من الارتشاء والفساد (70). ثم أصبحت هذه الأعمال حوالى سنة 80 م بقوم بعدد متزايد منها المحررون من عبيد الإمبراطور، ويعمل فيها عبيد الحكومة، ويلوح أن الغرض الوحيد من إقامة هذه المشروعات في جميع الأوقات هو تخفيف حدة التعطل (71).

وكانت ترفض على التجارة ضريبة يسيرة مقدارها 1% من ثمن المبيعات، ورسوم جمركية قليلة، وعوائد في بعض الأحيان على مرور البضائع فوق الجسور واجتيازها المدن. وكان الإدليون Aediles يراقبون تجارة الأشتات وفق نظام بلغ الغاية في الجودة، ولكننا إذا جاز لنا أن نصدق ما ورد على لسان شخص حانق في بترونيوس فإنهم لم يكونوا خيراً من أمثالهم من الموضفين في غير ذلك الوقت؛ " فقد كانوا يقبلوا الرشوة من الخبازين وأمثالهم من السفلة .. . وأفواه الرأسماليين مفتوحة على الدوام "(72) وكانت الشئون المالية تتأثر بتدخل الحكومة في قيمة العملة، وبمنافسة مالية الدولة للمصاريف، ويلوح أن بيت المال كان يضطلع بأكثر الأعمال المصرفية في الإمبراطورية بأجمعها. فكان يفرض المال بالربا للزراع بضمان محصولاتهم ولسكان المدن بضمان أثاث بيوتهم (73). وكانت الحروب عوناً للتجارة لأنها كانت تفتح لهاموارد وأسواقاً جديدة وسيطرة على الطرق التجارية. من ذلك أن حملة جالس Gallus على بلاد العرب فتحت الطرق إلى بلاد الهند وتغلبت على منافسة العرب والبارثيين. وكان بلني

ص: 248

يشكو أن الحروف تشن كي تجد السيدات الرومانيات ويجد الغنادرة

(1)

من الشبان مجالاً واسعاً للحصول على القصور (74).

ويجب ألا نبالغ في تقدير ثروة رومة القديمة، ذلك أن مجموع إيرادات الدولة في أيام فسبازيان لم تزد على 1. 500. 000. 000 سسترس (150. 000. 000 ريال أمريكي)

وهي أقل من خمس ميزانية بيويورك اليوم. ولم تكن الوسائل التي تمكن الناس من جمع ثروات طائلة بطريق الإنتاج الكبير معروفة في ذلك الوقت أو أنها لم تكن يُعنى بها، ولم تكن قد نشأت وقتئذ صناعة العالم الحديث وتجارته اللتان يمكن أن تفرض عليهما الضرائب العالية. ولم تكن الحكومة الرومانية تنفق على الأسطول الحربي إلا القليل من المال، ولم تكن تنفق شيئاً على خدمة الدين العام، فقد كانت تعيش على مواردها لا على ديونها. وإذ كانت معظم الصناعات منزلية فإن منتجاتها كانت تنتقل إلى المستهلك دون أن يعترضها من الوسطاء والضرائب ما يعترضها في هذه الأيام، فقد كان الناس ينتجون للبيئة التي يعيشون فيها أكثر مما ينتجون للسوق العامة، وكانوا يعملون لأنفسهم أكثر مما نعمل اليوم، ولغيرهم ممن لا يرونهم أقل مما نعمل نحن. وكانوا يستخدمون أجسامهم أكثر منا، ويعملون زمناً أطول منا، وكانوا في عملهم أقل منا حدة وانكباباً على العمل، ولم يكونوا يشعرون بأنهم محرومون من آلاف الكماليات التي لا تتراءى لهم في احلامهم، ولم يكن في مقدورهم أن يشرعوا في اقتناء الثروة التي تضارع ثروتنا نحن في السنين العجاف؛ ولكنهم كانوا يستمتعون بقدر من الرخاء لم تعرف أمم البحر الأبيض المتوسط نظيراً له من قبل ونستطيع أن نقول بوحه عام إنها لم تر ما يماثله بعد. وملاك القول أن العالم القديم وصل في تلك الأيام إلى أعلى درجات عظمته المادية.

(1)

الغلام الغندر كجندب وقنفذ سمين غليظ ناعم وهو الذي يطلق عليه عامة الناس لفظ "غندور". (المترجم)

ص: 249

الباب السادس عشر

‌رومة وفنونها

30 ق. م - 96 م

الفصل الأول

‌ما تدين به لليونان

لم يكن الرومان بطبعهم شعباً فنياً، فقد كانوا قبل أغسطس محاربين وكانوا بعده حكاماً، يرون أن استقرار النظام واستتباب الأمن على أيدي الحكام خير أعظم وواجب أنبل من الخلق والجمال أو الاستمتاع به. وكانوا يبتاعون أعمال الأساتذة الموتى بأعلى الأثمان، ولكنهم كانوا يحتقرون الفنانين الأحياء ويحشرونهم في زمرة الخدم. ومن اقوال سنكا وهو الرجل الرحيم الشفيق:"إنا وإن كنا نعبد التماثيل لنحتقر الذين يصنعونها"، وكان يبدو لهم أن أشرف سبل الحياة سبيل القانون والسياسة؛ أما الفنون البدوية فكان أشرفها لديهم الزراعة (إذا صح أن تعد الزراعة فناً من الفنون). وكان معظم رجال الفن في رومة، إذا استثنينا المهندسين المعماريين، من اليونان الأرقاء أو المحررين أو المستأجرين، وكانوا كلهم يعملون بأيديهم ويعدون من طبقة الصناع، ولم يعن المؤلفون اللاتين قط بذكر أسمائهم أو حوادث حياتهم، ومن أجل هذا يكاد رجال الفن الروماني كلهم أن يكونوا مجهولي الأسماء، فليس ثمة شخصيات حية تصبغ تاريخه صبغة إنسانية أو تضيئها كما يضيء ميرون Myron، وفدياس،

ص: 250

وبركستيلز Praxiteles، وبروتوجنيس Protogenes قصة الفنون الجميلة في بلاد اليونان. ففيه يضطر المؤرخ إلى الحديث عن الأشياء لا عن الأشخاص، وأن يحصي النقود، والآنية، والتماثيل، والنقوش، والصور، والمباني، ويبذل في ذلك جهد اليائس لعله يستطيع بما يبذله من الكد في جمعها أن يصور للقارئ صورة عظمة رومة المليئة بأسباب العظمة. ذلك أن منتجات الفن تستهوي العين أو الأذن، أو اليد، أكثر مما تستهوي العقل، ويذهب جمالها أو يكاد إذا خففته فأحلته أفكاراً وألفاظاً. وليس عالم التفكير إلا واحداً من عوالم كثيرة لكل فكرة عالمها الخاص، ومن أجل هذا كان لكل فن وسيلته الخاصة التي ينفذ بها إلى النفوس، والتي لا يمكن أن تستحيل ألفاظاً وكلاماً، وحتى الفنان نفسه إذا كتب عن الفن فإنه يعجز عن تصويره.

وثمة سحابة قائمة مشئومة تغشي سماء الفن الروماني خاصة: تلك هي أننا نصل إليه عن طريق الفن اليوناني الذي يبدو في أول الأمر أنه المثل الذي احتذاه، والمرشد الذي اهتدى بهديه. وكما أن مشاعرنا تضطرب لما نشاهده في فن الهند من صور وأشكال غريبة، فكذلك تخمد جذوة عواطفنا لما في الفن الروماني من تكرار ممل للصور والأشكال المألوفة، ولقد تحدثنا من قبل عن الأعمدة والتيجان الدُّورية والأيونية والكورنثية، كما تحدثنا عن النقوش الملساء التي اتخذت مثلاً أعلى يحتذى؛ وقد كانت التماثيل النصفية للشعراء والحكام والآلهة، والمظلمات المدهشة التي تكشفت عنها آثار بمبي منقولة كما يقول لنا المختصون عن أصول يونانية. ولم يكن هناك فن روماني الأصل سوى الطراز "المركب"، وهو الذي ننفر منه لتعارضه مع فكرتنا عن الوحدة والبساطة والتقيد التي ألفناها في الفن القديم. وما من شك في أن فن رومة في عصر أغسطس كان فناً يونانياً بقضه وقضيضه، فقد انتقلت أشكال الجمال وطرائقه ومثله العليا من بلاد اليونان إلى الفن الروماني عن طريق صقلية وإيطاليا اليونانية، وعن طريق كمبانيا وإتروريا،

ص: 251

وأخيراً من بلاد اليونان نفسها والإسكندرية والشرق المصطبغ بالصبغة اليونانية؛ ولما أن أصبحت رومة سيدة بلاد البحر الأبيض المتوسط أقبل الفنانون اليونان إلى مركز الثروة والرعاية الجديد وأخرجوا صوراً لا حصر لها من روائع الفن اليوناني للهياكل والقصور والميادين الرومانية، وكان كل فاتح يحمل معه إلى بلاده نماذج من هذه الروائع، وكل موظف كبير ينقب في المدائن عما كان باقياً فيها من كنوز الصناعة اليونانية؛ حتى أصبحت إيطاليا على مر الأيام متحفاً للرسوم والتماثيل المشتراة أو المسروقة التي صارت النسق الذي يحتذيه الفن الرماني مدى قرن كامل. وقصارى القول أن رومة قد ابتلعها العالم المتأغرق من الناحية الفنية.

على أن هذا كله ليس إلا نصف الحقيقة. أما النصف الآخر فهو أن تاريخ الفن الروماني، كما سنرى فيما بعد، كان من ناحية نزاعاً بين العقود والعوارض المركبة على الأعمدة، ومن الناحية الأخرى نزاعاً بين الفن الواقعي الإيطالي الأصل الذي يحاول أن يسترد ما فقده لما أن غزا شبه الجزيرة الفن اليوناني الذي كان يصور الآلهة لا الناس، وبين الطراز الأفلاطوني والفكرة الأفلاطونية المجردة لا الفرد الأرضي الدنيوي الذي كان يسعى إلى تمثيل الكمال النبيل في الشكل بدل الحقيقة في الإدراك والقول. لقد أصابت الفن الروماني القوي الأصيل الذي أعان على نحت الصور على القبور التسكانية سنة من لنوم بين فتح بلاد اليونان وافتتان نيرون بفنونها؛ ولكنه في آخر الأمر حطم القالب اليوناني الصبغة وأحدث في الفن القديم انقلاباً كاملاً بما أدخله فيه من النحت الواقعي، وبفضل جمالها المستعار، العاصمة الفنية للعالم الغربي، وظلت كذلك ثمانية عشر قرناً من الزمان.

ص: 252

الفصل الثاني

‌رومة الكادحة

كان الرحالة القديم، الذي يطوف برومة في عهد الأسرة الفلافية، إذا سار صعداً في نهر التيبر من أستيا متجهاً إلى الشمال، يشاهد من بادئ الأمر سرعة التيار المحمل بالغرين الذي يأتي به من التلال والوديان ويلقيه في البحر. وهذه الحقيقة البسيطة هي منشأ مأساة التحات البطيئة، والصعاب التي تعترض التجارة الصاعدة في النهر والمنحدرة فيه، وانطمار فن التيبر من حين إلى حين، والفيضانات التي كانت في كل ربيع تقريباً تطغى على أرض رومة المستوية، وتقصر المساكن على الطبقات العليا التي يصل إليها ساكنوها بالقوارب، وتتلف الحبوب المخزونة في الأهراء على أرصفة الميناء؛ فإذا انحسرت المياه جرفت معها المنازل ودمرتها وأهلكت الحرث والنسل (2).

فإذا اقترب الزائر من المدينة استرعى نظره الحي التجاري الذي كان يمتد مدى ألف قدم محاذياً ضفة النهر الشرقية، وكان يعج بضجيج العمال والحوانيت والأسواق والسلع الرائحة والغادية. وكان يقوم من ورائه التل الأفنتي Aventine الذي "استقر عليه" العامة الغضاب حين غادروا رومة مضربين في عامي 494 و 449 ق. م. وعلى ضفة النهر اليسرى في هذه البقعة كانت الحدائق التي أوصى بها قيصر للشعب، ومن ورائها الجانكيولم Janiculum. وكان بالقرب من الضفة الشرقية عند جسر إيماليوس الجميل سوق الماشية ومعبداه (القائمان إلى هذا الوقت) المقامان للحظ وإلهة الفجر. وإلى شمال هذه السوق على الضفة اليمنى يظهر تل بلتين وتل كبتلين المليئان بالقصور والهياكل. وقامت على الضفة اليسرى حدائق أجربا ومن

ص: 253

ورائها تل الفاتكان، وإلى شمال وسط المدينة بالقرب من شاطئ البحر الشرقي كانت تمتد الخمائل الواسعة والمباني الفخمة الجميلة التي يزدان بها ميدان المريخ حيث أثيم ملهى بلبس، وملهى بمبي، وحلبة فلامينوس، وحمامات أجربا، وملعب دومتيان. وهنا كانت الفيالق تتدرب على الحركات العسكرية، ويتبارى المتبارون في الألعاب الرياضية، وتستبق المركبات، ويلعب اللاعبون الكرة (3)، وتعقد الجمعية جلساتها برياسة الأباطرة لتبحث القرارات التي يتمخض عنها شبح الدمقراطية.

فإذا نزل الزائر إلى المدينة عند طرفها الشمالي أبصر بقايا السور الذي يعزى إلى سرفيوس تليوس، وأكبر الظن أن رومة قد أعادت بناءه بعد أن أغار الغاليون عليها في عام 390 ق. م، ولكن الرومان تركوا هذا السور يتهدم اعتماداً على قوة الجيوش الرومانية وعلى مناعة العاصمة. ولم يشيد سور آخر إلا في عهد أورليان (سنة 270 م)، فكان ذلك دليلاً على ذهاب هذه المتعة. وكانت قد فتحت في الجدار أبواب ذات أقواس مفردة أو ثلاثية لتنفذ منها الطرق الكبرى التي سميت بأسمائها. وإذا طاف الزائر بحدود المدينة من شرقيها إلى جنوبيها شاهد حدائق سالست الغناء، ومعسكر الحرس البريتوري المتعب، وعقود مجاري الماء التي أقامها مارسيوس وأبيوس وكلوديوس، وأبصر عن يمينه التلال البنسيانية والكويريتالية، والفيمينالية، والاسكويلينية، والكئيلية يتلو بعضها بعضاً. فإذا ما ابتعد عن الأسوار واتجه نحو الشمال الغربي عن طريق أبيوس اجتاو باب كابينا ومر بالسفح الجنوبي من تل بلاتين إلى الشارع الجديد Nova Via، ثم اتجه بعدئذ شمالاً مجتازاً متاهة من العقود والمباني حتى يصل إلى السوق القديمة رأس رومة المفكر وقلبها النابض.

وكانت هذه السوق في بادئ الأمر سوقاً حقة للبيع والشراء، طولها ستمائة قدم، وعرضها مئتان؛ أما في الوقت الذي نتحدث عنه (96 م) فكان الباثعون قد غادروها إلى الشوارع القريبة منها أو إلى غيرها من الأسواق، ولكن الناس

ص: 254

كانوا في الباسلقات

(1)

المجاورة يبيعون الأسهم في اتحادات الخمارين، ويتعاقدون مع الحكومة، ويدافعون عن أنفسهم في المحاكم، أو يستشيرون المحامين ليرشدوهم إلى أهون السبل للفرار من القانون.

وكانت قد أقيمت حول السوق، كما أقيمت حول وول استريت Wall Street في نيويورك الحديثة، هياكل متواضعة للآلهة، وصروح كبيرة للأعمال المالية، وازدانت بعدد كبيرمن التماثيل. وكان المارة يجدون من ظلال العمد المقامة في العمائر العظيمة ما لا يجدونه من ظلال الأشجار القديمة. وظلت من عام 145 ق. م إلى أيام قيصر مكان انعقاد الجمعيات، فكان في كل طرف من طرفيها منصة للخطباء تسمى المنطح لأن واحداً منها قد زين من قبل بمناطح السفن التي استولى عليها الرومان في أنتيوم عام 338 ق. م. وكان عند طرفها الغربي "الحجر الذهبي" وهو عمود من البرونز المذهب أقامه أغسطس علامة على التقاء عدة طرق قنصلية وعلى بدايتها، وقد نقشت عليه أسماء المدن الكبرى التي توصل إليها هذه الطرق، وبعد كل منها عن رومة. وكان يسير بحذاء جانبه الشمالي الغربي الطريق المقدس Sacra Via الموصل إلى هيكل المشتري وهيكل زحل وعلى تل الكبتول. وإلى شمال هذه السوق يجد الزائر سوقاً أخرى أكبر منها وهي سوق لوليوم Lulium التي أنشأها قيصر ليخفف بها الضغط الواقع على السوق القديمة؛ وكان بالقرب منها أسواق ثانوية أنشئت لأجل أغسطس وفسبازيان، ثم عَمَد تراجان بعد قليل من الوقت إلى توسيع أكبر هذه الأسواق وتزيينها.

ولم يكن يسع السائح حتى في هذا التجوال السريع إلا أن يحس بما بين أهل المدينة من فوارق جمة، وبأن كثيراً من الأجناس المختلفة قد حشرت فيها حشراً

(1)

الباسلقا بناء روماني يتكون من بهو واسع مستطيل الشكل ذي صفين من العمد وسقف مقبب كان يستخدم في الأغراض القضائية والتجارية، وقد استحالت معظم الباسلقات فيما بعد كنائس مسيحية. (المترجم)

ص: 255

وأن شوارعها قد شقت فيها على غير نظام موضوع، لذلك كانت عاجزة عن الوفاء بأغراض السكان عجزاً يضايقهم ويسبب لهم أشد المتاعب والآلام. لقد كان عدد قليل من هذه الشوارع يختلف عرضه بين ست عشرة وتسع عشرة قدماً، أما كثرتها فكانت أزقة ملتوية من الطراز الشرقي. ويشكو جوفنال من أن عربات النقل التي تعج بها الشوارع المرصوفة أثناء الليل تجعل لنوم مستحيلاً، وأن الجماهير التي تزدحم بها طرقات المدينة تجعل السير فيها بالنهار أشبه الأشياء بالحرب والكفاح؛ "فهمها أسرعنا سد عليها الطريق جيش لجب من أمامنا، وكتل بشرية كثيفة تدفعنا دفعاً من خلفنا، فمنهم من يضربني بمرفقه، ومنهم من يدفعني بعمود هودج، هذا يسقط على أم رأسي كتلة خشبية، وذاك قارورة خمر؛ ورجلاي يغطيهما الوحل، وتطؤني أرجل ضخمة مقبلة من جميع الجهات. وهذا جندي يطأ أصابع قدمي بمسامير حذائه"(4). وكانت الشوارع الرئيسية في المدينة مرصوفة بكتل من الحمم البركانية خماسية الأضلاع مثبتة في الأرض بقوة أمكنتها من البقاء في مكانها إلى اليوم. ولم تكن لشوارع تضاء، ولذلك كان كل من يجرؤ على الخروج من منزله ليلاً يحمل بيده مصباحاً أو يسير خلف عبد يحمل مشعلاً، ولم يكن في كلتا الحالتين بمأمن من اللصوص، وما كان أكثر عددهم في طرقات المدينة المظلمة. وكانت الأبواب تغلق بالأقفال والمفاتيح، والنوافذ تشد بالمزالج ليلاً، وما كان منها في الطابق الأرضي تحميه قضبان من الحديد كالتي تشاهد في أمثالها من نوافذ هذه الأيام. ويضيف جوفنال إلى هذه الأخطار ما كان يلقي على المارة من السوائل والجوامد من نوافذ الطبقات العليا، ويختتم حديثه بقوله إن الأبله وحده هو الذي كان يخرج من بيته للعشاء دون أن يكتب وصيته (5).

ولم يكن بالمدينة مركبات عامة تنقل العمال من مساكنهم إلى مقر أعمالهم، ومن أجل ذلك كان معظم السوقة يقيمون في مساكن عامة من الأجر بالقرب من

ص: 256

وسط المدينة أو في حجرات خلف حوانيتهم أو في أعلاها. وكان كل مسكن عام يشعل في العادة مربعاً كاملاً من الأرض، ولذلك كان يطلق عليه لفظ إنسولا Insula أو جزيرة. وكان الكثير من هذه المباني يعلو ستة طباق أو سبعة، وكانت ضعيفة البناء ضعفاً جعل الكثير منها ينهار على من فيه ويقضي على حياة مئات منهم. وقد حدد أغسطس ارتفاع واجهات المباني بسبعين قدماً رومانية، ولكن يبدو أن هذا القانون كان يسمح بارتفاع الأجزاء الخلفية منها إلى أكثر من هذا القدر لأن مارتيال يحدثنا عن "بائس مسكين يسكن حجرة عليها يرتقي إليها بمائتي درج"(6). وكان في الطبقات السفلى لكثير من المساكن حوانيت، وكان لبعضها شرفات في الطبقة الثانية، وكان قليل منها يصلها من أعلاها بالمساكن المقابلة لها في الشارع ممرات ذات عقود تحتوي حجرات إضافية تتخذها بعض العامة منازل لهم غير مأمونة. وكانت هذه الجزائر تكاد غص بها الطريق الجديدة النوفافيا Novavia، والكليفس فكتوريا Clives Victoriae (تل النصر)، في أعلى تل البلاتين، وحي الصابورا وهو حي صاخب مليء بالمواخير بين الفمنال Viminal والإسكويلين Esquiline حيث كان يسكن صيادو الأسواق وقصابو مسيلوم Macellum وبائعو السمك من رجال سوق السماكين، وبائعو الماشية أهل سوق البقر، وبائعو الخضر أهل سوق الخضر، وجميع عمال رومة كتبتها وأهل الحرف فيها. وكانت أحياء رومة الفقيرة تمتد إلى أطراف السوق العامة الكبرى.

وكانت الحوانيت تقوم على جانبي هذه السوق، وكانت تترد فيها أصداء ضجيج العمال ولجاجة المساومين، وكان بائعو الفاكهة، والكتب، والعطور، والطحانون، والصباغون، وتجار الزهور والآلات الحادة والأقفال، والصيادلة، وغيرهم من يقضون حاجات الناس وشهواتهم وأسباب غرورهم وكبريائهم، كان هؤلاء جميعاً يزحمون الشوارع بمظلاتهم وأكواخهم الممتدة فيها. وكان

ص: 257

الحلاّقون يمارسون مهنتهم في الهواء الطلق حيث يستطيع الناس جميعاً أن يستمعوا لثرثرتهم. وبلغت حانات الخمر من الكثرة درجة خيل معها إلى مارتيال أن رومة حجرة استقبال واحدة ضخمة (7). وكان أهل كل حرفة ينزعون غلى التجمع في حي أو شارع واحد وكثيراً ما كان يطلق اسم هذه الحرفة على الحي أو الشارع الذي تستقر فيه. فكان صناع الأحذية ذات السيور (الصنادل) يتجمعون في الفيكس سندلريوس Vicus Sandalarius، وصناع السروج في الفيكس لوراريوس Vicus Lolarius، وصناع الزجاج في الفيكس فتراريوس Vicus Vitrarius، والصياغ في الفيكس مرجرتريوس Vicus Margaritarius.

وفي هذه الحوانيت وأمثالها كان الفنانون الطليان يقومون بأعمالهم لا يستثنى منهم أحد إلا أعظمهم شأناً ممن كانوا يؤجرون على أعمالهم أسخى الأجور، ويحيون حياة الترف والتجوال أمثال أرسسلوس Arcesilaus الذي منحه لوكلس مليون سسترس لكي يصنع تمثالاً للإلهة بلستاس Pelicitas، وزندورس Zenordorus الذي أعطى 400. 000 ليقيم تمثالاً ضخماً لعطارد (8). وكان المهندسون المعماريون والمثالون يقدرون كما يقدر الأطباء، والمدرسون، والكيميائيون لأنهم جميعاً يمارسون فنون الأحرار Artes Liberales؛ مع أن الذين يقومون بمعظم الأعمال الفنية في رومة كانوا إما عبيداً أو محررين، وكان بعض من يملكون العبيد يعلمونهم النحت والتصوير وغيرهما من الفنون التي تتطلب الحذق، وكانوا يبيعون ما يخرجونه لهم في إيطاليا وفي خارجها. وكان العمال في هذه الحوانيت منقسمين أقساماً متباينة كل التباين ومنفصلة بعضها عن بعض، فمنهم الإخصائيون في صنع آية النذور، ومنهم من يصنعون مظلمات الزينة، ومنهم من يقطعون الأعين الزجاجية للتماثيل، ومن الرسامين من كان يصنع النقوش على الطراز العربي أو الأزهار أو المناظر الطبيعية، أو الحيوانات، أو الرجال؛ وكان يحدث أن يعمل عدد من هؤلاء بالتناوب في الصورة الواحدة. وقد برع جماعة من الفنانين

ص: 258

في تزييف التحف الفنية، فكانوا يقلدون ما صنع منها في عصر من العصور القديمة التي يرغب الناس في اقتناء مخلفاتها (9). وكان أهل القرن الأول قبل الميلاد يخدعون بسهولة في هذه المخلفات، لأنهم كغيرهم من الأغنياء المحدثين يميلون إلى تقويم الأشياء حسب أثمانها وندرتها، بدل أن يقوموها حسب جمالها ومنافعها. ولما أضحى الثراء من غير المميزات في عهد الإمبراطورية صلحت أذواق الناس وجاء حب الجمال والجودة الحقة إلى آلاف عدة من الأسر بالآنية الرقيقة والتحف الجميلة التي لم يعرف أمثالها في مصر وأرض الجزيرة واليونان إلا عدد قليل من الناس. وكان شأن الفن في الزمن القديم كشأن المنتجات الصناعية في هذه الأيام. نعم إن الناس لم يكونوا ينعمون بالمنتجات الكثيرة النافعة التي تخرجها آلاتنا في هذه الأيام، ولكنهم كان في وسعهم، إذا شاءوا، أن يحيطوا أنفسهم شيئاً فشيئاً بالتحف التي عنى الفنانون أشد العناية بصنعها وصقلها، والتي كانت تهب ما يقتنيها كل ما تهبه الروائع الفنية الجميلة من أسباب السعادة الخفية الهادئة.

ص: 259

الفصل الثالث

‌بيوت العظماء

لو أن زائراً في ذلك الوقت أراد أن يدرس مساكن الطبقة الوسطى من سكان رومة لوجدها بعيدة عن وسط المدينة على جانبي الطرق الرئيسية المتفرعة منه إلى أطرافها. وكانت جدرانها الخارجية المقامة من الآجر والجبس لا تزال تبنى كما كانت تبنى قبل على النمط البسيط المتين الذي تحتمه ضرورات الأمن وحرارة الجو؛ ولم يكن أهل الطبقة الوسطى من الرومان أسخياء بما عندهم من الفن يضيعونه لكي يتمتع به من يمرون بيوتهم. وقلّما كانت البيوت تعلو أكثر من طابقين، وكانت السراديب التي تتخذ لخزن المؤن نادرة، والسقوف تتلألأ عليها قطع القرميد، والنوافذ ذات مصاريع أو ألواح من الزجاج في بعض الأحيان. وكان لمدخل الدار في العادة باب ذو مصراعين يدور كل منهما على عقبين من المعدن، وكانت أرض الدار تصنع من مزيج متماسك من الكلس والحصا والرمل أو من القرميد؛ وكثيراً ما كانت تصنع ن مربعات الفسيفساء، ولم تكن تفرش عليها طنافس. وكانت الحجرات الرئيسية في البيت تجمع حول الردهة الوسطى. وهذا النظام هو الأصل الذي نشأت منه هندسة الأديرة والساحات المربعة المحاطة بالأبنية في مقر المجامع العلمية. وكانت إحدى الحجرات في بيوت الأغنياء من أهل هذه الطبقة تستخدم للاستحمام، وذلك في أحواض شبيهة كل الشبه بما نستخدمه منها الآن. أما الأدوات الصحية فقد بلغت عند الرومان درجة من الرقي لا نظير لها قبل القرن العشرين. فقد كانت أنابيب من الرصاص تحمل الماء من القنوات المائية المبنية ومن الأحواض الرئيسية إلى معظم المباني والمساكن، وكانت الصنابير والمحابس تصنع من البرونز ويشكل بعضها أشكالاً

ص: 260

جميلة. وكانت الأنابيب والميازيب المتخذة من الرصاص تحمل الماء من أسطح المباني؛ وقلّما كانت الحجرات تدفأ تدفئة صناعية، فإذا أرادوا تدفئتها اتخذوا لذلك مواقد متنقلة يحرقون فيها فحم الخشب. وكان عدد قليل من البيوت، وكثير من منازل الضواحي ذات الحدائق، وقصور الأغنياء والحمامات العامة، كانت هذه كلها تستمتع بمراكز رئيسية للتدفئة ذات أفران يحرق فيها الخشب أو فحمه، وتمد عدداً كبيراً من الحجرات بالهواء الساخن يسير في أنابيب من القرميد أو في ممرات في أرض المنزل وجدرانه

(1)

.

ثم أضيفت إلى بيوت الأغنياء في أوائل عهد الإمبراطورية متعة جديدة مأخوذة عن اليونان. ذلك أن الأغنياء لحرصهم على أن يهيئوا لأنفسهم مكاناً منعزلاً لا يجدونه في الردهة الوسطى كانوا يبنون خلفها بهواً من غير سقف يغرسون فيه الأشجار والشجيرات، ويزينوه بالتماثيل، ويحيطونه بالأروقة ذات العمد، وينشئون في وسطه فسقية أو بركة للاستحمام. وكانوا يشيدون حول هذا البهو طائفة جديدة من الحجرات: واحدة للطعام، و "بيتاً" للنساء، ومتحفاً لمجموعاتهم الفنية، ومكتبة لكتبهم، وهيكلاً لآلهة بيوتهم. وقد يكون لهم أيضاً حجرات إضافية للنوم، وقباب صغيرة بارزة في الحجرات تتخذ أيضاً مخادع في الليل وترفع منها الأسرة بالنهار. وأما البيوت التي لا يبلغ أصحابها من الثراء مبلغ أصحاب البيوت السابقة فكانوا يستبدلون بذلك البهو الكبير حديقة، وإذا لم يجدوا فيها متسعاً لها وضعوا أصص الأزهار في النوافذ، أو غرسوا الأزهار والشجيرات على أسطح الدور. ويقول سنكا إن بعض الأسطح الكبيرة كان فوقها عرائش كروم وأشجار فاكهة، وأشجار للظل مغروسة

(1)

ويصف فتروفيوس Vitruvius هذه الوسيلة من وسائل التدفئة كما كانت في عام 100 ق. م 11. ولم يكد يحل العام العاشر بعد الميلاد حتى انتشرت انتشاراً واسعاً وخاصة في الشمال حتى وصلت إلى بريطانيا نفسها وها هي ذي الآن قد أخذت تعود عوداً بطيئاً.

ص: 261

في صناديق ملأى بالطين (12). وكان لعدد غير قليل منها مشامس يعرض فيها أصحابها أجسامهم لأشعة الشمس.

ومن الرمان عدد كبير سئموا حياة الضجيج والسرعة في رومة ففروا منها إلى هدوء الريف وسكونه. وقد نشأ عند الأغنياء والفقراء على السواء ميل شديد إلى الطبيعة يفوق كل ما عرفناه عن هذا الميل عند اليونان. وكان جوفنال يرى أن الأحمق وحده هو الذي يسكن في العاصمة، وفي وسعه أن يبتاع بالأجر الذي يؤديه في عليه مظلمة في رومة، بيتاً جميلاً في بلدة إيطالية هادئة، تحيط به "حديقة أنيقة خليقة بأن يقيم فيها مأدبة لمائة من أتباع فيثاغورس"(13). وكان أغنياء رومة يتركونها في بداية الصيف ليقيموا في بيوت خلوية على سفوح الأبنين أو على سواحل البحر أو البحيرات. وقد ترك لنا بلني الأصغر وصفاً ممتعاً لبيته الريفي في لورنتم على ساحل لاتيوم. ويقول عنه إنه من السعة بالقدر الذي يستريح له، وإن نفقاته لا ترهقه؛ ولكنه بعد أن يستمر في وصفه يخيل إلينا أن في هذا الوصف شيئاً من التواضع، فهو يحدثنا فيه عن مدخل من فوقه نوافذ زجاجية وتعلوه طنف

وبه حجرة جميلة للطعام تعانقها آخر أمواج البحر عناقاً خفيفاً، وتضيؤها نوافذ واسعة تطل على البحر من ثلاث جهات فتحسبه ثلاثة أبحر مختلفة، وبه ردهة كبرى "يمتد بصر من فيها إلى الغابات والجبال"، وحجرتا استقبال ومكتبة على شكل نصف دائرة تستقبل نوافذها الشمس طول النهار"، وحجرة للنوم. وعدة حجرات للخدم. وكان للبيت جناح منفصل عنه يحتوي "حجرة استقبال ظريفة"، وحجرة أخرى للطعام وأربع حجرات صغيرة، وحماماً، وتوابعه وتشمل "حجرة جميلة لخلع الملابس"، وحماماً بارداً، وحماماً فاتراً به ثلاث برك مختلفة حرارتها، وحماماً ساخناً، تسخنها كلها أنابيب من الهواء الحار. وكان في خارج البيت بركة للسباحة، وساحة للعب الكرة، ومخزن، وحديقة متنوعة الغروس، وحجرة خاصة للمطالعة، وردهة للمآدب، وبرج للأرصاد يحتوي على شقتين وحجرة للطعام.

ص: 262

ويختتم بلني هذا الوصف بقوله: "والآن حدثوني: ألست على حق إذا آثرت هذا الملجأ اللطيف بوقتي وحبوته بعطفي؟ "(14).

وإذا كان في مقدور عضو في مجلس الشيوخ أن يكون له هذا المسكن الريفي على شاطئ البحر، ومسكن آخر على بحيرة كومو، فإن في وسعنا أن نتصور ما كان عليه قصر تيبيريوس في ضيعته عند كبرى أو قصر دومتيان عند ألبالنجا، دع عنك قصر هدريان الذي أنشأه في تيبور Tipur بعد قليل من هذا الوقت الذي نتحدث عنه.

وإذا أراد الزائر أن يجد مثيلاً لهذا الإسراف فما عليه إلا أن يتخذ سبيله إلى قصور الأثرياء والباطرة على تل البلاتين. ولم يكن الرومان يحرصون في هندسة منازلهم على محاكاة هندسة بلاد اليونان القديمة حيث كانت البيوت المتواضعة وحيث لم يكن يوجد من الأبنية الفخمة إلا القصور، بل شادوا قصورهم على نمط قصور الملوك الذين كانوا يحكمون البلاد المصطبغة بالصبغة اليونانية، والذين تأثروا أشد التأثر بالعادات والأنماط الشرقية. فقد جاءت أنماط البطالمة إلى رومة مع ذهب كليوبطرة، ورافقت هندسة البناء الملكية أساليب الملوك السياسية. وقد اتسع فصر أغسطس الذي سمي باسم التل المقام فوقه بما أضيف إليه من الملحقات حين تضاعفت الشئون الإدارية الخاصة بالقصر الإمبراطوري. وشاد معظم خلفائه قصوراً إضافية لهم ولموظفيهم، فشاد تيبيريوس قصره المسمى دومس تيبيريانا Domus Tiberiana وكلجيولا قصره المعروف باسم دومس جيانا Domus Giana وشاد نيرون دومس أوريا Domus Aurea أي القصر الذهبي.

وأضحى هذا القصر الذهبي أعجوبة الأعاجيب في رومة، فقد أقيمت مبانيه وحدها على مساحة قدرها تسعمائة ألف قدم مربعة، ولم تكن هذه إلا جزءاً صغيراً من القصر الذي انتشر من تل البلاتين إلى التلال المجاورة له. وكان يحيط به بستان عظيم يشمل حدائق وخمائل وبركاً للسمك. ومسارح

ص: 263

لحيوان الصيد، وأبراجاً للطير وكروماً، ومجاري مائية، وعيوناً فوارة، ومساقط مائية، وبحيرات وسفائن إمبراطورية، وبيوتاً للهو، ومصايف، ومشاتل لتربية الأزهار، وأروقة ذات عمد يبلغ طولها ثلاثة آلاف قدم. وقد حفر أحد الفكهين على جدار من جدران هذا القصر هذه العبارة العظيمة الدلالة:"لقد أصبحت رومة كلها مسكن رجل واحد، وآن أن تهاجروا أيها المواطنون إلى فياي-إلا إذا كانت فياي نفسها سيحتويها بيت نيرون"(15). أما داخل القصر فكان يتلألأ فيه الرخام والبرونز والذهب فضلاً عن المعادن المذهبة التي تغطى تيجان العمد الكورنثية، ومعها آلاف التماثيل والنقوش البارزة، والرسوم الملونة، وروائع الفن التي جيء بها من أنحاء العالم القديم أو نهبت منها نهباً، ومنها اللاؤكون Laocoon. وكانت بعض الجدران مرصعة باللؤلؤ وغيره من الجواهر الغالية، وكان سقف حجرة المآدب مغطى بأزهار من العاج، يسقط منها بإشارة من الإمبراطور رشاش من العطر على الضيوف. وكان لحجرة الطعام سقف كري من العاج، منقوش بحيث يمثل السماء والنجوم، تحركه حركة بطيئة دائمة آلات مختفية عن الأبصار. وكانت بالقصر طائفة من الحجرات بها حمامات حارة وأخرى باردة أو فاترة المياه، وحمامات ذات مياه بحرية وأخرى كبريتية. ولما كاد المهندسان الرومانيان سلر Celer وسفيرس Severus يفرغان من تشييد هذا الصرح العظيم ودخله نيرون قال:"لقد سكنت آخر الأمر". وبعد جيل من ذلك الوقت أهمل هذا القصر العظيم الذي يحاكي قصور فرساي في العصر الحديث لكثرة ما يتطلبه الاحتفاظ به من النفقات، وما يتعرض له من الأخطار، وما يحيط به من الفقر، وشاد فسبازيان على أنقاضه الكلوسيوم كما شاد عليها تيتس وتراجان حماماتهما الضخام.

وشارك دومتيان نيرون في جنون البناء، فقد شاد له ربربوس Rabirius قصره المعروف ببيت فلافيا Domus Flavia. ولم يبلغ هذا البيت

ص: 264

من الضخامة مبلغ متحف نيرون، ولكنه لم يكن ينقص عنه في الروعة والزينة. وكان في جناح واحد منه باسلقا واسعة الأرجاء، ولعلها هي البهو الذي كان الإمبراطور ينظر فيه القضايا التي تستأنف إليه في مرحلتها الأخيرة. وكان هذا الجناح نفسه يضم رواقاً سعته ثلاثون ألف قدم مربعة، تجاوره حجرة للمآدب أرضها من الرخام البرفيري الأحمر والحجر الملوي الأخضر الذي لم يقو الزمان حتى الآن على إبادته فيما أباد من الستائر الرخامية الرقيقة والنوافذ ذات العمد الجميلة التي كان المدعوون بعد فراغهم من الطعام يشاهدون من خلالها الماء يسقط في الأحواض الرخامية من الفوارات القائمة في خارجها. وجدير بنا أن ننبه القارئ إلى أن دومتيان لم يكن يستخدم هذا القصر إلا في الحفلات وفي الأعمال الإدارية، أما مسكنه فكان في قصر أغسطس الذي يقل عن هذا القصر ضخامة وفخامة. وما من شك في أن هذه الصروح الملكية كانت جزءاً من المظاهر الخارجية للإمبراطورية الرومانية، قصد بها أن تلقي الروع في قلوب الأهلين والزائرين والسفراء، أما الأباطرة أنفسهم-مع جواز استثناء كلجيولا ونيرون- فكانوا يضيقون ذرعاً بالمراسم التي تجري في قاعات الحفلات، فيفرون منها إلى الدعة والألفة في مساكن أسرهم، حيث يستمتعون "بلذة كونهم رجالاً" على حد قول أنطونينس بيوس Antoninus Pius.

ص: 265

الفصل الرابع

‌الفنون والنقوش

وكانت مئات الفنون تستخدم في هذه القصور وفي بيوت الأغنياء لتجعل كل شيء فيها عظيم النفقة إن فاتها أن تجعله جميلاً. فقد كانت أرضها في الغالب من الرخام المتعدد الألوان، أو الفسيفساء الذي عني فيه صانعوه بجمع المكعبات الصغيرة الكثيرة الألوان Cesserae، وبذلوا في ذلك الكثير من الجهد والوقت، فأخرجوا منها رسوماً مدهشة في واقعيتها وثباتها. وكان أثاث هذه القصور أقل عدداً من أثاث بيوتنا وأقل منه مجلبة للراحة، ولكنه يفوق في فخامة نقشه ودقة صنعه. فكانت المناضد، والكراسي، والمقاعد، والمضاجع، والأسرّة، والمصابيح، والأواني، كلها تصنع من المواد المتينة، كما كانت كثيرة الزينة. وكانت خير أنواع الخشب، والعاج، والرخام، والبرونز، والفضة، والذهب تخرط وتصقل بمنتهى الدقة والعناية، وتنقش عليها صور لأنواع النبات والحيوان، أو ترصع بالعاج، والفيروز، والصدف، والبرونز المنقوش، أو الحجارة الكريمة. وكانت المناضد تصنع أحياناً من خشب السرو أو الليمون الغالي، وكان بعضها يصنع من الذهب أو الفضة، والكثير منها يصنع من الرخام أو البرونز. أما المقاعد فكانت على أشكال لا حصر لها، منها مقاعد تطوى إلى عروش للأباطرة ولكنها كانت أقل تشويهاً للعمود الفقري من مقاعد هذه الأيام. وكانت الأسرّة تتخذ من الخشب أو المعدن، وكانت ذات أرجل رفيعة ولكنها ثابتة متينة تنتهي في كثير من الأحيان برؤوس الحيوانات أو أقدامها، وكانت عليها شبكة برونزية تحمل حشية القش أو الصوف بدل الشبكات اللولبية التي تستخدم في هذه الأيام. وكانت نضد رشيقة ذات ثلاثة أرجل تستخدم في

ص: 266

الأغراض التي تستخدم فيها نضدنا، وكانوا يضعون في أماكن مختلفة من الحجرات خزانات ذات عيون لتوضع فيها الكتب الملفوفة. وكانت مواقد من البرونز تدفئ الحجرات، ومصابيح من البرونز تضيئوها. وكانت المرايا تصنع أيضاً من البرونز، وتصقل صقلاً جيداً، وتنقش عليها أو تحفر فيها أزهار أو صور خرافية. وكان بعضها محدباً أو مقعراً أفقياً أو رأسياً لكي يغير من الصور المعكوسة عليها فيجعلها رقيقة أو ضخمة تثير الضحك.

وكانت مصانع كمبانيا تستخدم منتجات المناجم الأسبانية الفنية فتصنع الكثير من الآنية الفضية لتباع في الأسواق، وبذلك انتشرت صحاف الطعام الفضية في بيوت الطبقتين الوسطى والعليا. وقد عثر أحد الحفارين في عام 1895 في حوض لبيت ريفي في بسكوريل Boscoreale على مجموعة عجيبة من الآنية الفضية لعل مالكها قد وضعها فيه قبل أن ينجو بحياته من نيران بركان ويزوف حين ثار في عام 79 م، ووجدت على أحد الأقداح نقوش لا يكاد يمسسها أذى لأوراق نباتية بسيطة، ووجد على قدحين صورة هيكلين عظيمين بارزين، وعلى إناء آخر صورة أغسطس بين الزهرة والمريخ وهما الإله والآلهة اللذان يتنازعان فيما بينهما السيطرة على الجنس البشري، ومنها قدح يدل على شدة الخبث والدهاء وعليه نقش يمثل زينون الفيلسوف الرواقي يشير في سخرية إلى أبيقور وهو يلتهم قطعة كبيرة من الفطائر، وإلى جانبه خنزير رافع ساقه الأمامية يسأله في أدب جم أن يعطيه قطعة منها.

ويدل على ما وجد من النقود والجواهر في عصر الإمبراطورية الأول على ما وصل إليه فن الحفر من رقي. ويدل على ما وجد منها من عصر أغسطس على نفس الذوق الجميل الذي تدل عليه الرسوم التي يشاهدها الإنسان على مذبح السلام كما يحتوي أحياناً على نفس هذه الرسوم. وكانت الأحجار الكريمة المستوردة من أفريقية وبلاد العرب والهند تقطع وتركب في الخواتم،

ص: 267

ودبابيس الصدور، والعقود، والأساور، والأقداح، بل وفي الجدران أحياناً. وكان لبس خاتم في إصبع واحدة على الأقل من الضرورات الاجتماعية التي لا غنى عنها، وكان من المتظرفين عدد قليل يلبسون خواتم في جميع أصابعهم عدا واحدة منها. وكان الروماني يطبع إمضاءه بخاتمه، ولهذا كان يحرص على أن يكون هذا الخاتم فريداً في رسمه. وكان من بين الفنانين الذين ينالون أعلى الأجور عدد من قاطعي الجواهر أمثال آل دسكوريدس الذين صنعوا خاتم أغسطس. وقد وصل العصر الذهبي في قطع حجر القمو إلى مستوى من الرقي لم يفقه فيه عصر آخر، ولا يزال أجمل ما وجد في العالم من جواهر جوهرة أغسطس Gemma Augusta المحفوظة في فينا. وكان جمع الجواهر والحلي ذات النقوش البارزة هواية أثرياء الرومان-ومنهم بمبي وقيصر وأغسطس. وقد ظل ما في خزائن الأباطرة من جواهر يتكاثر على مر الزمن بما ورثوه منها عن أسلافهم حتى باعه ماركس أورليوس لينفق من ثمنه على حربه ضد المركوماني. وقد أخذت إنجلترا منصب حافظ الخاتم الأكبر أو الخاص عن منصب حارس الأختام والجواهر الإمبراطورية في أيام الرومان.

وفي هذه الأثناء كان خزافو كبوا، وبتيولي، وكومية، وأرتيوم يملأون بيوت الإيطاليين بجميع أنواع الآلية الخزفية. وكان في أرتيوم خوابي للخلط تتسع لعشرة آلاف جالون. وقد ظل ما تصنعه من صحاف الطعام المطلية بقشرة زجاجية حمراء مدى قرن كامل أكثر الصحاف انتشاراً في إيطاليا. ووجدت بعض هذه الصحاف في إيطاليا بأجمعها فلم يكد يخلو منها مكان واحد فيها. وكانت الأختام الحديدية البارزة الحفر تستخدم في طبع كل مزهرية ومصباح وقطعة من القرميد باسم صانعها، وكان يطبع عليها أحياناً اسما القنصلين الحاكمين دلالة على تاريخ صنعها.

هذا هو الحد الذي بلغه علم القدماء بفن الطباعة، وقد تركوه دون أن يرتقوا

ص: 268

به إلى ما فوق هذا القدر، لأن النسّاخين الأرقاء كانوا يتقاضون أجوراً قليلة (18).

وانتقل صناع كومية، ولترنوم، وأكويليا، من صنع الخزف إلى صنع الزجاج الفني الجميل

(1)

. ومن أشهر أمثلة هذه الآنية الزجاجية مزهرية بورتلاند

(2)

وأجمل منها "المزهرية الزجاجية الزرقاء" التي عثر عليها في بمبي والتي نقش عليها عيد خمري لباخوس نقشاً جميلاً ينبض بالحياة (19). ويقول بلني واسترابون (20): إن فن صنع الزجاج قد نقل في عهد تيبيريوس من صيدا والإسكندرية إلى رومة، وسرعان ما أخرج فنانوه قنينات صغيرة، وقداحاً وطاسات، وأواني أخرى متعددة الألوان دقيقة الصنع، جميلة المنظر أصبحت في وقت ما مطلب الأثرياء وجامعي الروائع الفنية. وقد عرض في عهد نيرون ستة آلاف سسترس ثمناً لقدحين صغيرين من الزجاج المعروف في هذه الأيام باسم "ميل فيوري Mlliefiori أو "الزهرات الألف"، صنعا بصهر عصى زجاجية مختلفة اللون. وكان أغلى من هذين ثمناً مزهريات "مورهين" Murrhine التي جيء بها من آسية وأفريقية. وكانت تصنع بوضع خيوط رفيعم من الزجاج الأبيض والأرجواني بعضهما بجوار بعض للحصول على الرسم المطلوب،

(1)

وقد وجد السوريون والمصريون قبل ميلاد المسيح بنحو مائتي عام أن صهر الرمل مع مادة قلوية في درجة حرارة عالية ينتج سائلاً نصف شفاف ذا لون ضارب إلى الخضرة (منشؤه ما في الرمل من أكسيد الحديد)؛ وأن إضافة أكسيد المنجنيز والرصاص إلى هذا المزيج يجعله عديم اللون كامل الشفيف، وأن ظلالاً مختلفة من هذا اللون يمكن الحصول عليها بإضافة مواد كيميائية مختلفة إليه-فاللون الأزرق مثلاً ينتج بإضافة الكوبلت. وكانت العجينة الرخوة تشكل باليد أو تنفخ في قوالب، وتترك حتى تجف ثم تقطع وتشكل على عجلة.

(2)

وأكبر الظن أن هذه المزهرية المكونة من عدة طبقات من الزجاج بعضها فوق بعض يونانية الأصل. وقد عثر عليها بالقرب من رومة في عام 1770، وجاء بها دوق بورتلاند، ثم أعيدت للمتحف البريطاني في عام 1810. وفي عام 1845 حطمها رجل مجنون إلى 250 قطعة، ولكنها أعيدت غلى ما كانت عليه بنجاح بلغ من شأنه لما عرضها دوق بورتلاند وقتئذ للبيع في عام 1929 عرض عليه 152. 000 دولاراً ثمناً لها، ولكنه رفض هذا العرض لأنه رآه أقل من قيمتها 8.

ص: 269

ثم إشعال النار فيها، أو ترصيع جسم أبيض شفاف بقطع من الزجاج الملون، وقد جاء بمبي بروائع من هذا النوع إلى رومة بعد انتصاره على مثرداتس. واحتفظ أغسطس لنفسه بكأس كليو بطرة المصنوعة من زجاج مرهين، وإن كان قد صهر صحافها الذهبية. وقد دفع نيرون مليون سسترس ثمناً لقدح من هذا النوع، وكسر بترونيوس قدحاً آخر وهو يحتضر حتى لا يقع في يد نيرون. ويمكن القول بوجه عام إن الرومان لم يفقهم أحد في صنع الزجاج؛ وقلَّ أن يوجد في العالم مجموعات فنية أثمن من مجموعة الآنية الزجاجية الرومانية المحفوظة في المتحف البريطاني وفي متحف العاصمة الفني بنيويورك.

ص: 270

الفصل الخامس

‌النحت

انتقل فن الخزف إلى النحت عن طريق الصلصال المحروق-من نقوش بارزة، وتماثيل صغيرة، ولعب، ومحاكاة للفاكهة والعنب والسمك-حتى وصل آخر الأمر إلى تماثيل بالحجم الطبيعي. وقد وجد الشيء الكثير من هذه في خرائب بمبي. وكانت قواصر الهياكل وطنفها تزينها نقوش تمثل سعف النخل ومثقفات وميازيب في صورة رؤوس حيوانات ونقوش بارزة. وكان اليونان يسخرون من هذه الحليات، وقد أصبحت في عهد الإمبراطورية من الطرز العتيقة، ولم يكن أغسطس ممن يحبون أن تزين القصور بالطين محروقاً كان أو غير محروق.

ولعل ذوقه الأتيكي هو الذي سما بفني النقش والنحت حتى بلغا من الروعة في رومة منزلة تضارع ما بلغته أحسن النقوش والتماثيل في البلاد التي امتدت إليها الحضارة اليونانية؛ فقد ظل الفنانون في رومة جيلاً ينحتون الفساقي، وشواهد القبور، والعقود، والمذابح نحتاً تبدو فيه رقة الشعور، ودقة العمل، وروعة الشكل، وهدوؤه، كما يبدو فيه قدر من التشكيل ومراعاة المنظور يرفع النقوش الرومانية إلى مستوى الآيات الفنية العالمية.

أما النحت فحسبنا أن نقول فيه إن مجلس الشيوخ احتفل بعودة أغسطس إلى رومة في عام 13 ق. م بعد أن أعاد السلام إلى أسبانيا وغالة بأن أمر بإقامة "مذبح السلم الأغسطية Ara Pacis Augustae" في ميدان المريخ. وهذا المذبح أفخم ما بقي من أعمال النحت في رومة، ولعل شكل مأخوذ عن مذبح برجموم Pergamum، ولعل فكرته مأخوذة عن طنف البارثنون المنقوش. وقد أقيم المذبح على مرتفع قليل في مساحة مسورة شيد بعض أسوارها

ص: 271

من المرمر المنقوش. وكل ما بقي ن هذا الهيكل قطع من هذه الأسوار

(1)

. وتمثل إحداها تلس Tellus- الأم الأرض-وبين ذراعيها طفلان، وإلى جانبها ينمو الحب والزهر، وعند قدميها ترقد حيوانات وادعة راضية. وتلك هي المبادئ الرئيسية التي قامت عليها إصلاحات أغسطس: عودة السرة إلى أحضان والديها، وعودة الأمة إلى الزراعة، وعودة الإمبراطورية إلى السلم. والرسم الأوسط لا يكاد يفوقه رسم آخر مهما عظم، والحق أن فيما جمعه من الأمومة الناضجة، والجمال الأنثوي، ورقة القلب، ورشاقة الشكل، لكمالاً ورقة لا ترقى إليهما آلهات البارثنون الفخمة العظيمة. "وكان لطنف السور الخارجي بروز سفلي ذو درج مسنفة

(2)

، أو منقوش عليها تويجات الفاوانيا والخشخاش العريضة، وعناقيد كبيرة من ثمار اللبلاب. وهذه أيضاً نجد لها نظيراً في غير هذه التحفة الفنية. وعلى بروز آخر نقش موكبان يتحركان في اتجاهين متضادين ليلتقيا أمام مذبح آلهة السلام. وفي هذه المجموعات صور هادئة وقورة لعلها صور أغسطس وليفيا والأسرة الإمبراطورية، ومعها عدد من النبلاء والكهنة والعذارى الفستية والأطفال. وصور الأطفال واقعية جذابة تستلفت النظر بحيائها وطهرها. ومن بينها طفل رضيع يحبو كأنه لا يجد لذة في هذا الاحتفال، وآخر وهو ولد يفخر بما بلغه من العمر، وطفلة صغيرة بيدها طاقة زهر، وأخرى تؤنبها أمها على عمل خبيث ومن ذلك الحين بدأ الأطفال يكون لهم شأن متزايد في الفن الإيطالي؛ ولكن فن النحت الروماني لم يصل في يوم من الأيام إلى ما وصل

(1)

وقد كانت أكبر هذه القطع إلى عهد قريب في متحف الترمي Muses Dell Terme برومة، وبعضها في قصر الفاتيكان، وفي معرض الأفيزي Uuffizi Gallery في فلورنس، وفي متحف اللوفر.

(2)

السنف ضرب من زخرفة البناء يكون على صورة أوراق نبات السنف، وأكثر ما يرى على قمم تيجان الأعمدة الكورنثية والرومانية والبيزنطية والأبنية في العصور الوسطى. (المترجم)

ص: 272

إليه وقتئذ من قدرة على تصوير السجف، والمجموعات الطبيعية القوية المؤثرة، وتنظيم الأضواء والظلال تنظيماً أوفى على الغية في الإتقان. وقد وجد الإيطاليون في هذا النقش كما وجدوا في شعر فرجيل أكمل وسيلة للدعاوة لأنفسهم وإذاعة مجدهم في أنحاء العالم.

وليس ثمة نقوش رومانية تضارع هذه النقوش إلا النقوش المنحوتة على الأقواس التي كانت تقاوم عند دخول القواد الظافرين. وأجمل ما بقي من هذه الأقواس قوس تيتس الذي بدأه فسبازيان وأتمه دومتيان لتخليد ذكرى فتح بيت المقدس، ويمثل أحد هذه النقوش المدينة المحترقة، وأسوارها المهدمة، وأهلها الذين استولى عليهم الرعب، وثروتها التي تنتهبها الفيالق الرومانية. ويمثل نقش آخر تيتس يسير إلى رومة في مركبته بين الجنود، والحيوانات، وكبار الحكام، والكهنة، والأسرى، ومن ورائه ثرييات الهيكل المقدسة وغيرها من غنائم الحرب على اختلاف أنواعها. وقد كان الفنانون الذين حفروا هذه الرسوم جد جريئين في تجاربهم: فقد حفروا صوراً تختلف باختلاف المستويات، ووزعوها على سطوح متفاوتة الارتفاع، ونحتوا خلفية الصورة بحيث تمثل العمق، ولونوا الصورة كلها لتحمل إلى الرائي درجات مختلفة من الاكتظاظ والبعد، فوق ما تحمل من المعاني الأخرى. وأما الأعمال التي تمثلها الصورة فلا تظهر كأنها حوادث متفرقة بل تبدو مستعمرة دائمة، كما تبدو في طنف بلاد النهرين ومصر، وكما تبدو فيما بعد على أعمدة الإمبراطورين تراجان وأورليوس؛ وبذلك استطاعت أن تمثل معنى الحركة والحياة على خير وجه. كذلك لم يعمل العرف والمثل الأعلى عملهما في الصورة فيخرجاها عن الواقعية ويفرضا عليها ما فرضه الفن الأتيكي على صور "مذبح السلام" اليوناني؛ بل إن أناسه أناس واقعيون من لحم ودم وأقذار نحتوا على سنن التقاليد الإيطالية تقاليد الواقعية والحيوية. ولم يكن موضوعها هو الآلهة المكملة بل كان هو الآدميين الأحياء.

ص: 273

وهذه الواقعية القوية هي التي تميز فن النحت الروماني. ولولا إخلاص الرومان المتواتر لهذه النزعة المتأصلة في نفوسهم لما أضافوا إلا القليل لعالم الفن. وقد حدث في عام 90 ق. م أن جاء غلى رومة رجل يوناني من أهل إيطاليا الجنوبية يدعى بستليز Pestiles، وأقام فيها ستين عاماً كاملة، أخرج فيها تحفاً فنية من الفضة والعاج والذهب، وجاء إليها بالمرايا الفضية، وأخرج نسخاً متعددة من روائع الفن اليوناني، وكتب خمسة مجلدات عن تاريخ الفن. فكان بذلك فساري وسليني زمانه في آن واحد. كذلك قدم يوناني آخر يدعى أرسسلوس لقيصر تمثالاً ذائع الصيت لفينوس جنتركس. ونحت أبولونيوس الأثيني تمثال الترسو بلفدير Torso Belvedere في الفاتيكان، وهو تمثال خلت فكرته من الغلو، فليس فيه عضلات بارزة، بل يمثل رجلاً في كمال القوة وصحة الجسم، ولعل نحته في رومة نفسها. وكل ما نستطيع أن نقوله عن هذا التمثال أنه بلغ الكمال غلى الحد الذي كان يبغي صاحبه أن يمثله فيه. وقد ظلت مناحت الفنانين وقتاً ما تعمل جاهدة في إعطاء الآلهة الإيطالية صوراً يونانية، ولم تستثن من ذلك التجريدات القدسية كالفرصة والعفاف. ويغلب على الظن أن جليكون Glycon الأثيني نحت في هذا الوقت نفسه وفي مدينة رومة تمثال هرقل الفرنيزي. ولسنا نعرف متى صنع تمثال أبلو بلفدير ولا متى صنع، ولعله صورة رومانية لتمثال أصيل نحته ليوكارس Leochares الأثيني. ويعرف كل طالب علم كيف آثار جماله الهادئ نشوة ونكلمان Winkelmann الأورانية (21). ونحت ليونو في ذلك الوقت تمثالين هما تمثال يونو الفرنيزية المنحوت من حجر السماق والمحفوظ في متحف نابلي، وتمثال يونو اللدفيزية المحفوظ في ترم Terme- وهو تمثال فاتر، عابس، ينم عن الاستقامة والعدالة؛ إذا نظر إليه الإنسان بدأ يفهم طواف جوف وتجواله.

كانت هذه التماثيل كلها كما كان تمثال برسيوس واندرمدا Perseus and Andromeda الجميل المحفوظ في متحف الكبتول من الطراز اليوناني الذي اتخذ

ص: 274

طرازاً عاماً في النقش ومثلاً أعلى له، وقدس تقديساً يبعث على الأمل والسآمة. وأكثر من هذه النقوش إلفاتاً للنظر واسترعاء للانتباه التماثيل النصفية التي هي بمثابة معجم من البرونز والرخام لجميع وجوه الزمان من عهد بمبي إلى عهد قسطنطين. وهذه أيضاً قد اتخذ بعضها مثلاً أعلى وخاصة رأسا يوليوس وكلوديوس، ولكن النزعة الواقعية التسكانية القديمة ومغميات الموتى التي لم يكن فيها شيء من المجاملة والملق، والتي لم تكن تغيب قط عن أعين المثالين، قد جعلت الرومان لا يستنكفون قط أن يمثلوا بمعارف قبيحة على شرط أن يظهروا في تماثيلهم أصحاء أقوياء. وقد أوصى الكثيرون منهم بتماثيلهم للميادين والأماكن العامة، وبلغت هذه التماثيل الموصى بها من الكثرة حداً خيل معه في وقت من الأوقات أن الذين يملكون رومة من الموتى أكثر ممن يملكونها من الأحياء؛ وقد بلغ من حرص بعض الكبراء على أن توضع تماثيلهم في الأماكن أنهم لم يصبروا حتى تنصرم آجالهم، فأقاموا لأنفسهم تماثيل قبل وفاتهم. ودفعت الغيرة الأباطرة إلى تحريم هذه العجلة في التخليد حتى تتسع رومة للأحياء من أبنائها.

وأعظم التماثيل النصفية الملونة هو التمثال المعروف باسم "رأس قيصر" المصنوع من حجر البازلت والمحفوظ في متحف برلين. ولسنا نعرف من الذي يمثله هذا التمثال النصفي رغم هذه التسمية، ولكن شعره القليل، وذقنه المحدد، ووجهه الرفيع البارز العظام، وما فيه من خطوط عميقة دالة على كثرة القلق والتفكير، والعزيمة المستسلمة للحقائق بعد أن زالت عن الأعين غشاوتها وعن العقول أوهامها، كل هذه تتفق مع صفات قيصر الذي تعزو إليه الرواية هذا التمثال.

ويلي هذا التمثال النصفي في القدر مباشرة التمثال الضخم الذي يمثل رأس قيصر والمحفوظ الآن في نابلي: وفي هذا التمثال تعمقت أخاديد الوجه حتى نمت عن حقد ومرارة، كأن هذا الجبار قد عرف آخر الأمر أن ليس في العالم عقل

ص: 275

بلغ من السعة قدراً يمكنه من فهم العالم دع عنك حكمه. وترى الواقعية التي تصل إلى حد يبعث على الاشمئزاز بادية في تمثال بمبي المقام في ناي كارلسبرج جلبتوتك Ny Carlsberg Gluptotek بكوبنهاجن Copenhagen: وينطق هذا التمثال بأن صاحبه قد نسي في البداية الكهولة وهزائمها ما ناله بشجاعته من مجد ونصر في عهد الشباب. ولدينا لأغسطس نحو مائة تمثال، كثير منها جيد غاية الجودة، متقن غاية الإتقان: منها تمثال أغسطس الغلام (المحفوظ في الفاتيكان) والذي يبدو فيه صاحبه جاداً ثاقب البصر نبيلاً-وهو أجمل صورة لغلام حقيقي في جميع عصور التاريخ على الإطلاق. ومنها تمثال أغسطس في الثلاثين من عمره (المحفوظ في المتحف البريطاني) -وهو تمثال من البرونز تبدو فيه العزيمة القوية الصادقة، ويذكرنا بقول ستونيوس إن الإمبراطور كان يسعه أن يطفئ نار الفتنة بنظره؛ ومنها تمثال أغسطس القس (في متحف ترم) ذو الوجه الدال على التفكير العميق بارز من السجف المحيطة به من كل جانب؛ وتمثال أغسطس القائد الذي عثر عليه في خرائب قصر ليفيا الريفي في بريما بورتا Prima Porta والمحفوظ في الفاتيكان؛ وقد غطى الدرع البرونزي الذي يحمل صدر هذا التمثال الشهير بنقوش غريبة تربك الناظر وتحوله عن تأمل التمثال نفسه

(1)

. ووقفة أغسطس كما يصورها هذا التمثال ثابتة قوية، وساقاه أقوى ما تكونان لشخص عليل مثله؛ ولكن الرأس يمثل القوة الهادئة، والثقة بالنفس تكشف عن يد الفنان العظيم ونفسيته.

وكانت ليفيا حسنة الحظ إذا سخرت الأقدار فناناً عظيماً لصنع

(1)

وهي تصور عودة الأعلام البارثية، وخضوع الولايات المغلوبة، وخصب الأرض في وقت السلم، والستر الواقي منشوراً فوق الجميع ما عدا جوف.

ص: 276

رأسها المحفوظ في كوبنهاجن. ترى في هذا الرأس الشعر الجميل، والأنف الروماني الأقني الذي ينم عن قوة الخلق، والعينين الدالتين على الحنان والتفكير، والشفتين الجميلتين الدالتين على القوة والثبات. وتلك هي المرأة التي وقفت وراء عرش أغسطس تدعمه بهدوئها، والتي غلبت جميع منافسيها وأعدائها، وسيطرت على الناس جميعاً عدا ولدها. وكان تيبيريوس هو الآخر رجلاً محفوظاً. ذلك أن تمثاله الجالس المحفوظ في متحف لاتران، وإن نحت على طراز مثل أعلى موضوع، يعد آية فنية أخرجتها يد مثال لا يقل براعة عن المثال الذي نحت من حجر الديوريت تمثال خفرع المحفوظ في المتحف المصري. أما كلوديوس فلم يكن حظه حظ من سبقوه، وما من شك في أن المثال كان يسخر منه، أو أنه كان يمثل الصفات التي وصفه بها سنكا في هجائه المشهور. فقد صوّره في صورة جوبتر المتعب المتضجر، بديناً، ظريفاً، أبكم. وأجهد نيرون نفسه في أن ينمي حاسة الإحساس بالجمال؛ ولكن أعظم ما كان يرغب فيه هو الشهرة والضخامة، ومن أجل هذا لم ير لزنودوتس Zenodotus اسكوباس Scopas زمانه شيئاً أفضل من أن يقضي وقته في نحت تمثال له في صورة أبلون يعلو مائة وسبع عشرة قدماً

(1)

. وأمر هدريان أن يوضع هذا التمثال في صدر المدرج الفلافي، ومن ثم سمى هذا المدرج باسم الكلوسيوم Collosseum لضخامة هذا التمثال (22).

وعاد فن النحت إلى واقعيته في عهد فسبازيان الأمين، فسمح لمثاليه أن يكونوا صادقين في تصويره في صورة السوقي الحق، ذي معارف غليظة خشنة، مغضن الجبهة، أصلع الرأس ضخم الأذنين. وخير من هذا وأكثر منه دلالة على الرحمة التمثال النصفي المحفوظ في ترم Terme، والذي يدل

(1)

مع قاعدته البالغ ارتفاعها 153 قدماً. ويحسن أن نذكر القارئ بأن تمثال الحرية الأمريكي يبلغ ارتفاعه من غير قاعدته مائة قدم وأربع أقدام.

ص: 277

على نفس شغلتها شئون الدولة عن نفسها؛ ووجه رجل الأعمال الذي يطل على الناظر إليه من الأس الضخم المحفوظ في متحف نابلي. ويصل إلينا تيتس في جمجمة كالسابقة مكعبة الشكل، ووجه غير جميل. وإن المرء ليصعب عليه أن يعتقدا أن هذا الشخص الذي يبدو في تمثاله كأنه من الباعة المتنقلين هو حبيب البشر أجمعين. وقد أوتي دومتيان من بعد النظر في العصر الفلافي ما جعله يعمل على أن يبغضه الشعب في حياته فيحطم جميع تماثيله بعد وفاته.

ولما خرج الفنان من القصر وأخذ يجول في الشوارع استطاع أن يطلق العنان للنزعة الإيطالية الخبيثة، نزعة الحقيقة الفكهة المضحكة. وما من شك في أن شيخاً طاعناً في السن أقل حكمة ومالاً من الوزير الفيلسوف هو الذي يصوره التمثال الهزيل الكث الشعر الذي كانوا يقولون عنه من قبل غنه تمثال سنكا. واستطاع الفنانون المشهورون في فترة من الزمن أن يمثلوا عضلات الرياضيين تمثيلاً يخلدها على مدى العصور. وشقت تماثيل المصارعين طريقها إلى أكبر البيوت، سواء كانت بيوت الأثرياء الريفية أو قصور الكبراء في الحواضر. وكان المثالون الرومان رحماء وهم ينحتون تماثيل النساء: فتراهم بين الحين والحين ينحتون تمثالاً لامرأة سليطة حمقاء، ولكنهم صنعوا بالإضافة إلى هذا تماثيل لبعض العذاري الفسقية، ومثلوا وقارهن ورشاقتهن أحسن تمثيل، كما صنعوا في بعض الأحيان تماثيل تتجلى فيها رقة القلب مجسمة كتماثيل الكليتي Clytie المحفوظة في المتحف البريطاني، وأخرى لنساء من الأشراف هشة لينة تسحر اللب سحر دُمَى وتو Watteau أو فروجونارد Frogonard (23) . وكانوا جد بارعين في تمثيل الأطفال كما يدل على ذلك تمثال الغلام البرونزي المحفوظ في متحف نيويورك، أو تمثال الطفلة البريئة المحفوظ في متحف الكبتول. وكان في وسعهم أن ينحتوا أو يصبوا تماثيل حيوانات مدهشة في دقتها ووضوح معالمها،

ص: 278

كما نرى ذلك في رؤوس الذئاب التي وجدت في نيمي عام 1929، أو الخيل الواثبة في سانت مارك St. Mark. نعم إنهم لم يبلغوا قط ما بلغته مدرسة بركليز الفنية من كمال وبراعة في الصقل؛ ولكن منشأ هذا النقص أنهم كانوا يحبون الفرد أكثر مما يحبون الطراز، وأنهم كانوا يعتزون بالنقائص الحقيقية التي هي سمة الحياة. وقصارى القول أن هؤلاء الفنانين رغم قصورهم قد سموا إلى أعلى مكانة في تاريخ الفن التصويري.

ص: 279

الفصل السادس

‌التصوير

لقد كان من يزور رومة في الزمن القديم يجد فن التصوير أكثر انتشاراً من فن النحت في هياكلها ومساكنها، وأروقتها، ذات العمد، وميادينها؛ وكان يعثر فيها على الكثير من أعمال كبار الفنانيين الأقدمين أمثال بولجنوتس Polygnotus وزيوكسيس Zeuxis، وأبليز Appeles، وبروتجنيس Protogmese وغيرهم. ولم تكن الأعمال أقل قيمة أو أقل تقديراً في الإمبراطورية الواسعة الثراء من صور عهد النهضة الأوربية في أمريكا الغنية في هذه الأيام؛ وكان يجد أعمال رسامي الإسكندرية ورومة أعظم وفرة في رومة القديمة من صور النهضة في أمريكا الحديثة وذلك لحسن تعهدها وشدة العناية بحفظها. لقد كان الفن قديماً في إيطاليا حيث كان كل جدار يتطلب الفن، والتجميل. وأتى على إيطاليا حين من الدهر كان نبلاؤها أنفسهم يمارسون هذا الفن، ولكن تيار الحضارة الهلنستية الجارف جعل التصوير يوناني الطابع شديد الخضوع للعرف والتقاليد حتى أنتهى الأمر بأن عجب فالريوس مكسمس Valerius Maximus من ان فابيوس بكتور Fabius Pictor ينزل من علائه فيصور على جدرانه "هيكل الصحة" (24). غير أنا نجد حالات شاذة لا ينطبق عليها هذا التعميم: من ذلك أن أرليوس Arellius قد ذاع صيته في أواخر عهد الجمهورية لأنه كان يستأجر العاهرات ليكن نماذج لصور الآلهات؛ وحدث في عهد أغسطس أن اشتغل بالتصوير شريف أبكم يدعى كونتس بديوس Quintus Pedius لأن عاهته قد سدت في وجهه جميع سبل الأعمال الأخرى؛ واستخدم نيرون لتزيين بيته الذهبي مصوراً يدعى أمليوس Amulius كان "يرسم في وقار جم وهو مرتد جبته (25).

ص: 280

ولكن هؤلاء الرجال كانوا متفرقين في بحر المصورين اليونان الخضم الذين أخذوا يخرجون في رومة وبمبي وسائر أنحاء الجزيرة نسخاً من الرسوم اليونانية مطابقة لها أو مختلفة بعض الشيء عنها، تمثل موضوعات يونانية أو مصرية.

وكاد فن التصوير في رومة أن يكون مقصوراً على المظلمات والألوان المائية الممزوجة بمادة غروية لاصقة توضع فوق سطح جاف. وكان المصورون يلجأون في بعض الأحيان غلى تثبيت الألوان بالحرارة، وذلك بإذابتها في الشمع الشديد الحرارة. أما من حيث حجم الصور فإنا نذكر أن نيرون أمر بأن ترسم صورته على قطعة من القماش يبلغ ارتفاعها مائة وعشرين قدماً- وهذه الصورة أول ما لدينا من صور استخدم فيها قماش التصوير. وقد سبق القول إن الألوان كانت تستخدم في تلوين التماثيل، والهياكل، والمناظر المسرحية، والصور الكبيرة المرسومة على الأقمشة التيلية لعرضها في السوق العامة في أوقات الاحتفال بالنصر، ولكن مواضعها المحببة كانت هي الجدران الخارجية في المباني. وقلّما كان الرومان يضعون الأثاث مستنداً إلى الجدران أو يعلقون عليها الصور، ذلك أنهم كانوا يفضلون أن يستخدموا الجدار كله ليرسموا عليه صورة واحدة أو مجموعة من الصور المتصلة بعضها ببعض في موضوعها. وبهذه الطريقة أضحت الصورة الجدارية جزءاً متمماً للبيت وعنصراً أساسياً في هندسته المعمارية.

وقد حفظت لنا أبخرة فيزوف الحارقة نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة مظلم- وهي يزيد عددها في بمبي وحدها على عدد كل ما وجد منها في سائر أنحاء العالم القديم. وإذ كانت بمبي في أيامها من المدن المتوسطة الحجم غير العظيمة الشأن فإن في وسعنا أن نتصور عدد الرسوم الجدارية التي كانت تزدان بها المنازل والأضرحة في إيطاليا القديمة. وقد نقل أحسن ما بقي من هذه الرسوم إلى متحف نابلي، ولا يزال لجمالها الهادئ رغم انتقالها إلى مكانها الجديد أعظم الأثر في نفس من ينظر إليها؛ ولكن الأقدمين وحدهم هم الذين كانوا يعرفونها في عمق ألوانها وفيما بها من إطار هندسي يجعل لكل صورة من هذه

ص: 281

الصور معنى خاصاً وموضعاً خاصاً. وقد تركت الصور الجدارية التي في بيت فتاي في أماكنها الصلية، فترى في المطعم ديونيشس يفاجئ أدرياني النائمة، وترى على الجدار المقابل لهذه الصورة ديدالس Daedalus يعرض بقرته الخشبية على باسفائي؛ Pasifa (وفي الطرف الأقصى من الجدار ترى هرمس ينظر في هدوء إلى هفيستس Hephaestus وهو يشد إكسيون Ixion إلى عجلة التعذيب. ونشاهد في حجرة ثانية مظلمات مضحكة متتابعة فيها صور متعددة لكيوبد إله الحب يسخر مما في بمبي من صناعات بما فيها صناعة الخمر في فتاي. وقد عدت عوادي الأيام على هذه الصورة التي كانت من قبل ناضرة براقة، ولكن ما بقي منها يكفي لأن يشعر الزائر بما يجب أن يكون عليه من تواضع وحياء، فصور الأجسام البشرية تكاد تبلغ الغاية في الإتقان والجودة، وتكاد تنبض بالحياة وتثير دم الشهوة في عروق الأحياء من بني الإنسان.

ولقد حاول الخبراء أن يفهموا ماهية فن التصوير في إيطاليا القديمة ويصنفوا عصوره وأنماطه بالاعتماد على ما وجدوه من نماذج له في إيطاليا القديمة. وهذه الطريقة في التصنيف خطرة غير مأمونة لأن بمبي نفسها كانت يونانية أكثر منها لاتينية؛ ولكن ما بقي في رومة وضواحيها من رسوم قديمة يتفق غلى حد كبير مع تطور فن التصوير في بمبي. ففي الطراز الأول (القرن الثاني قبل الميلاد) حين كانت الجدران تغطي بقشرة كاملة قبل الرسم عليها، كانت الجدران في أغلب الأحيان تلون بحيث تبدو كأنها مطعمة بألواح من الرخام كما تشاهد في "بيت سلت" في بمبي. وفي الطراز الثاني أو الطراز المعماري (القرن الأول قبل الميلاد) كان الجدار يطلى ليمثل بناء أو واجهة أو بهواً ذا عمد، وكثيراً ما كانت العمد ترسم كما تبدو للناظر إليها من الداخل، وبينها مظاهر الريف الخلوية، وبهذه الطريقة كان الفنان يضفي على الغرفة التي لا نوافذ لها في أغلب الظن محيطاً ذا نسيم عليل من الأشجار والأزهار والحقول، والجدول، والحيوانات الهادئة أو المرحة اللاعبة.

ص: 282

وكان في وسع ساكنها السجين فيها أن يتخيل أنه مقيم في حدائق لوكلس، ولم يكن ذلك ليكلفه أكثر من النظر إلى الجدران كما كان في وسعه أن يصيد السمك، أو يقتنص الحيوان، أو يداعب الطيور ويدللها، ويعتز بها في غير فصولها وأيامها، وذلك لأن الطبيعة كانت تنقل إليه في منزله فلا يتحمل هو مشقة الانتقال إليها. وفي الطراز الثالث أو طراز التحلية (1 - 50 م) كانت الأشكال الهندسية المعمارية للزينة لا غير، وكانت تضع المناظر الطبيعية في المنزلة الثانية بعد صور الآدمييين. وفي الطراز الرابع المختلط المعقد كان الفنان يترك العنان لخياله يخترع تراكيب وأشكالاً غريبة، ويضعها في مواضعها وهو مرح ساخر مما تتطلبه الحشمة والوقار، ويكدس في صورته الحدائق والعمد والبيوت الريفية والجواسق بعضها فوق بعض كتشويش الرسوم في هذه الأيام (26)؛ وكثيراً ما كان يحصل بهذا على الأثر الذي تحدثه في الناظر صورة تكملها ذكريات لا وعيية سلطت عليها الأضواء. وكان فن العمارة في جميع هذه الطرز المتقاربة إما خاضعاً للتصوير ومسيطراً عليه يخدمه ويستخدمه، فأنشأ فيه بذلك تقاليد عادت إلى اليقظة بعد ستة عشر قرناً على يدي نقولاس بوسن Nicholas Poussin.

ومن دواعي الأسف أن ما بقي من موضوعات الرسوم الكبرى قلّما يتعدى الأساطير اليونانية؛ فالآلهة، وجن الحراج، والأبطال، والخاطئون المذنبون- زيوس، والمريخ، وديونيشس، وبان، وأخسيل، وأديسيوس، وإفجينيا، وميديا هذه كلها تتكرر تكراراً يبعث على الأمل والسآمة، وإن كانت هذه التهمة بعينها يمكن توجيهها إلى فن النهضة. وثمة صور قليلة تمثل الحياة الهادئة الساكنة، كما أننا نعثر في مواضع متفرقة على مطرقة أو صاحب حانة أو قصّاب يلتمع فوق جدران بمبي. وكثيراً ما يسيطر الحب على المنظر برمته فترى فتاة مطرقة يتنازعها شوق كمين ليس معدوم الصلة بإيروس إله العشق الواقف إلى جانبها، وترى الفتيات والشبان يمرحون على الكلأ يتبادلون نظرات الوجد والهيام، وأرباب

ص: 283

الخمر والفسق يلعبون كأن المدينة لم تعرف في حياتها شيئاً غير الحب والخمر؛ وإذا ما حكمنا على نساء بمبي من صورهن التي على الجدران كانت هؤلاء النسوة خليقات بأن يكون جمالهن محور الحياة بأجمعها في تلك المدينة، فنحن نراهن منهمكات في لعبة "الكعاب" أو متكئات في رشاقة على القيثارات، أو نشاهدهن يقرضن الشعر والأقلام بين شفاههن، ودلائل التفكير بادية على ملامحهن، ووجوههن هادئة من أثر النضوج، وأجسامهن سليمة صحيحة كاملة النمو، وأثوابهن مسبلة عليهن، فضفاضة أنيقة كأنها من نحت فدياس، يمشين كأنهن كلهن هلن اليونانية التي سلبت عقل باريس بن بريام، مدركات قداستهن. وترى إحداهن ترقص رقصة باخوسية

(1)

لعلها في هواء رقيق، وذراعها ويدها وقدمها اليمنى من أجمل ما رأته العين في تاريخ التصوير. ويحب أن تضم إلى هذه الروائع بعض صور الرجال أيضاً كصورة تسيوس Theseus وهو ينتصر على المونوتور Minotaur وهرقل وهو ينجي ديانيرا Deianira أو يتبنى تلفوس Telephus، وأخيل يسلم وهو غضبان آسف برسيس Briseis المتمنعة الآبية. وكل شكل رسم في هذه الصورة الأخيرة يكاد يبلغ الغاية في الكمال ويصل فيه التصوير البمبياثي إلى ذروة الإبداع. وللفكاهة أيضاً نصيبها من التصوير؛ فهذا زعيم أشعت يتمثر على عكازته، وهذا جني ظريف يهز ساقيه في مرح تهكمي، وهذا سلينس Silenus أصلع بذيء يصور وهو في نشوة موسيقية. وللحانات والمواخير أيضاً مكانها في زينة الجدران، ولا يجد السائح المتقصي حاجة لأن يقال إن بريابس Priapus لا يزال يزهو بقواه الثمينة على جدران بمبي. وفي الطرف الآخر من هذه السلسلة حيث توجد بيوت الضواحي نرى طائفة من الصور الدينية توحي بأن المكان كان يستخدم للاحتفال بالطقوس الديونيشية الخفية؛ ففي أحد المظلمات نشاهد بنتاً أمعنت في تقواها بغير رفق حتى شلت حركتها، تقرأ في كتاب يبدو أنه كتاب

(1)

نسبة إلى باخوس إله الخمر عند اليونان الأقدمين. (المترجم)

ص: 284

مقدس؛ وفي مظلم آخر يتقدم موكب من الفتيات ينفخن في الأبواق، ويأتين بالقرابين؛ وفي مظلم ثالث نرى سيدة عارية ترقص على أصابع قدميها وإلى جوارها راهبة مبتدئة راكعة على ركبتيها، منهوكة القوى من شدة ما قاست في أحد الطقوس الدينية (27). وأجمل من هذه كلها نقش جداري عثر عليه في خرائب ستابيا Stabiae من نوع نقوش بتيشلي Botticelli ومتقدم عليها، ويسمي هذا النقش الربيع: وهو يمثل امرأة تمشي في حديقة على مهل تقطف الأزهار، ولا يرى منها إلا ظهرها ورأسها تديره بخفة ورشاقة إلى خلفها؛ وقلّما استطاع فن من الفنون أن يصور ما في هذا الموضوع السهل من شاعرية تصويراً مؤثراً في النفس مثيراً للعواطف كما صوره هذا الفنان.

وأقوى ما وجد من الصور في هذه الخرائب صورة ميديا التي عثر عليها في هركيولانيم Herculaneum وحفظت في متحف نابلي، وهي تمثل امرأة مطرقة عليها ثياب فاخرة تفكر في مقتل أبنائها؛ ويلوح لنا أن هذه صورة منقولة عن الصور التي أجاز عليها قيصر مصورها تموماكس Timomachus البيزنطي بأربعين ألف وزنة (تالنت) أي 144000 ريال أمريكي (27)؟

ولم يوجد في رومة إلا القليل من الصور التي تبلغ هذه المنزلة، ولكن عثر في بيت ليفيا المقام في بريما بورتا Prima Porta على مثل رائع من صور المناظر الطبيعية التي تسمو فيها إيطاليا على بلاد اليونان، فيه تخدع العين فيظن الإنسان أنه يجتاز بهواً إلى تكعيبة في أرض رخامية من ورائها أجمة من النبات والأزهار بلغت من الإتقان حداً يمكن العالم النباتي في هذه الأيام من أن يتبينها ويصتفها؛ فكل ورقة من أوراقها رسمت بشكلها ولونها الطبيعيين، والطيور تجثم على مواضع متفرقة منها كأنها تحط عليها إلى وقت ما، والديدان تزحف بين الأغصان والأوراق. ويقرب من هذه الصورة في روعتها ورقتها عرس الديرنديتي التي وجدت في التل

ص: 285

الإسكويلي في عام 1606 والتي درسها روبن Rubens وفان ديك وجيتة بحماسة بالغة. وقد تكون هذه منقولة عن صورة يونانية، وقد تكون صورة أصلية من عمل رسام يوناني استوطن رومة، أو من عمل روماني أصيل. وكل ما نستطيع أن نقوله واثقين أن ما عليها من صور الأشخاص- كصورة العروس الهادئة الحيية، والآلهة التي تسديها النصيحة، والأم المنهمكة في الاستعداد للعرس، والعذارى ينتظرن ليعزفن على القيثارة ويغنين- كل هذه قد رسمت برقة وحساسية ترفعان هذا الرسم الجداري إلى منزلة الآثار الفنية القديمة الممتازة.

على أن فن التصوير الروماني يخلو من عنصر الابتكار، وسبب ذلك أن الفنانين اليونان نقلوا معهم تقاليدهم وأساليبهم إلى كل مكان نزلوا فيه، وحتى النزعة الثائرية الغامضة التي في هذه الصور قد تكون من أثر مهارة الفنانين الاسكندريين؛ ولكن فيها مع ذلك دقة في الخطوط، وغزارة في اللون نعرف منهما لم بلغ المصورون أمثال أبليز Applles وبروتوجنيز Protogenes من الشهرة مثل ما بلغه منها المثالون من طراز بولكليتس وبركستليز. واللون في بعض الأحيان واضح غزير كما لو كان جيورجيون Giorgione هو الذي وضعه، كما أن تدرج الأضواء والظلال يوحي في بعض الأحيان أنه من عمل رمبرانت Remebrandt. وترى تارة رسماً خالياً من الدقة يذكر الإنسان بواقعيه فان جونج المنفرة. وفن المنظور في الرسم غير صحيح كما أن السرعة في العمل تفسد نضج التفكير. ولكن ما في الرسوم من حيوية نضرة يغطي على هذه الأغلاط كلها، فتناسب الثياب يخدع العين، ومناظر الغابات والأشجار كانت بلا ريب من أسباب البهجة لسكان المدن المكتظة بالسكان. ويجب ألا ننظر إلى هذه الرسوم بعين هذه الأيام، فأذواقنا اليوم أقل تحرراً وأكثر تحفظاً من أذواق الأقدمين، ونحن نفضل أن نترك الجدران كما هي مقصورة على وظيفتها، وقد كنا حتى

ص: 286

الأمس القريب نتردد في أن نغطيها بالألوان. أما الإيطالي فكان الجدار له بمثابة السجن، وقلّما كان يطل منه على العالم من خلال نافذة؛ ولهذا كان يرغب في أن ينسى هذا الحاجز القائم أمام عينيه، وأن ينخدع بطريق الفن إلى جنان السلام المخضرة الناضرة. ولعله كان في تفكيره هذا على حق، فإن شجرة مرسومة على جدار الخير من منظر يتألف من ألف قمة من قمم سطوح المنازل الخشنة غير المصقولة التي تشوه جمال السماء كأنها قرح خبيثة في الشمس، ويطل عليها المرء من نافذة مسحورة في جدار.

ص: 287

الفصل السابع

‌العمارة

‌1 - أصولها، موادها، أشكالها

لقد احتفظنا إلى آخر هذا الباب بأهم ما نستطيع أن نعرضه في رومة على زائرها الذي نسيناه في أثناء حديثنا الطويل عن فني النقش والتصوير. أما وقد وصلنا إلى هذا الفصل الأخير فلنعرض على هذا الزائر أهم الفنون الرومانية على الإطلاق وهو فن العمارة الذي استطاعت به أن تحمي نفسها من غزو اليونان، والذي أظهرت فيه قدرتها على الابتكار وجرأتها وقوتها. على أن الابتكار لا يكون بغير لقاح فهو كالنسب مزيج جديد من عناصر موجودة من قبل؛ والثقافات جميعها انتقائية في حداثة عهدها لأن التعليم يبدأ بالتقليد، فإذا ما بلغت الروح أو الأمة أشدها طبعت بطابعها-إن كان لها طابع-جميع أعمالها وألفاظها. لقد أخذت رومة، كما أخذ غيرها من مدائن البحر الأبيض المتوسط، نظم العمد الدورية والأيونية والكورنثية من مصر وبلاد اليونان، ولكنها أخذت نظام العقود والأقواس والقباب من آسية، ومن مزيجهما أقامت مدينة من القصور، والأروقة ذات العمد، والمدرجات، والحمامات لم ير العالم مثيلاً لها من قبل. ولقد أضحى فن العمارة الروماني هو التعبير الفني عن الروح الرومانية والدولة الرومانية: فهو يمثل الجرأة، والتنظيم، والفخامة، وقد رفعت القوة العضلية هذه الصروح المنقطعة النظير فوق التلال فكانت هي الروح الرومانية ممثلة في الجلاميد الصم.

وكان معظم كبار المهندسين المعماريين في رومة رومانيين لا يونان،

ص: 288

وقد كتب أحد هؤلاء المهندسين واسمه ماركس فتروقيوس بليو Marcus Vitruvius Pallio كتاباً في العمارة يعد من مهمات الكتب العالمية القديمة في هذا الفن (حوالي 27 ق. م)

(1)

. ذلك أنه بعد أن قضى فترة من الزمن مهندساً حربياً يعمل تحت إمرة قيصر في أفريقية، ومهندساً معمارياً في عهد أكتافيان، اعتزل العمل الرسمي في شيخوخته ليضع أصول أعظم الفنون الرومانية وأسماها منزلة. وهو يقول عن نفسه "إن الطبيعة لم تهبني طول القامة، ولم تبق السنون على شيء من جمال وجهي، وسلبني المرض قوة جسمي؛ ولهذا أرجو أن أكسب رضاء الناس بعلمي وبكتابي"(29). وكما أن شيشرون وكونتليان قد جعلا الفلسفة من مستلزمات الخطيب، كذلك رآها فتروفيوس من مستلزمات المهندس المعماري، فهي تحسن أغراضه كما يحسن العلم وسائله وأدواته، وهي "تسمو بمداركه وتجعله رقيق الحاشية، عادلاً، وفياً، غير شره، ولا يمكن أن يتم عمل صالح من غير إيمان قوي ويدين طاهرتين"(30). وقد وصف مواد البناء، والأعمدة، وأجزاءها، ومختلف أنماط المباني في رومة، وأضاف إلى الكتاب بحوثاً في الآلات، والساعات المائية، ومقاييس السرعة

(2)

، ومجاري مياه الشرب المسقوفة، وتخطيط المدن والصحة العامة. وقد أشار فتروفيوس باستعمال النظام الإشعاعي

(3)

في تخطيط المدن (وهو النظام الذي خططت عليه المدينة الإسكندرية القديمة وواشنجتن الحديثة) بدل النظام المربع الذي ثبت قواعده هبودامس Hippodamus في كثير من المدن اليونانية،

(1)

يظن بعض العلماء أن هذا الكتاب ليس من تأليف فترفيوس بل مدسوس عليه وأنه كتب في القرن الثالث الميلادي، ولكن الشواهد تؤيد صحة نسبته إلى مؤلفه.

(2)

وإذا شئت الدقة فسمه مقياس الدورات Odometer ويتكون من إسفين يصل عجلة صغيرة بقطب العجلة التي يحركها ترس، وينشأ من دورة العجلة الصغيرة الشديدة البطء عن العجلة الكبيرة سقوط حصاة في صندوق.

(3)

أي الذي تتشعع فيه المباني والشوارع من مركز من وسط المدينة إلى أطرافها (المترجم)

ص: 289

أشار فتروفيس باستعمال هذا النظام الإشعاعي ولكن الرومان ظلوا يخططون مدنهم على النظام المربع نظام معسكراتهم. ومما يؤثر عنه أنه حذّر إيطاليا من أن الماء الذي تشربه في كثير أجزائها يؤدي إلى تضخم الغدة الدرقية، وقال إن التسمم قد ينتج من الاشتغال بالرصاص، وفسر الصوت بأنه حركة اهتزازية في الهواء، وكتب أول بحث باق حتى الآن في علاقة هندسة البناء بالأصوات. وقد كان لكتابه الذي كشف من جديد في عصر النهضة أعمق الأثر في ليوناردودافنشي، وبلاديو Palladio وميكل أنجلو.

ويقول فترفيوس إن الرومان يبنون بالخشب والآجر، والجبس الناعم والمسلح والحجر والرخام. وكان الآجر المادة الشائعة الاستعمال في الجدران، والعقود والأقواس، وكثيراً ما كان يستعمل هو والجبس لتغطية الملاط. وكان الآجر يصنع من الرمل، والجير، وتراب الرخام، والماء، ويصقل صقلاً جيداً ويوضع طبقات بعضها فوق بعض، يصل سمكها في بعض الأحيان إلى ثلاث بوصات. ومن أجل هذا استطاع ذلك الآجر أن يحتفظ بشكله تسعة عشر قرناً كما نشاهد ذلك في الكلوسيوم أما المسلح فلم تبلغ أمة من الأمم إلى وقتنا هذا ما بلغه الرومان في صنعه واستخدامه، فقد كانوا يأخذون الرماد البركاني الكثير بقرب نابلي، ويخلطونه بالجير والماء، ويضعون فيه قطعاً من الآجر، والفخار، والرخام، والحجارة، ويخرجون منها منذ القرن الثاني قبل الميلاد ملاطاً في صلابة الصخور، يمكن أن يصعب في أي قالب، ولا يكاد يستعصي عليه أي شكل يراد أن يشكل به. وكانوا يصبونه كما نصبه الآن في أحواض مصنوعة من ألواح خشبية. وبفضله استطاعوا أن يغطوا مسافات كبيرة لا عمد فيها بقباب صلبة خالية من الأكتاف الجانبية التي تحمل السقف المقوس. وهذه هي الطريقة التي شادوا بها قمة البانثيون، وقمم الحمّامات الكبرى. واستخدمت الحجارة في تشييد معظم الهيكل وبيوت الكبراء، وكان من أنواعها نوع نصف شفاف يستخرج من

ص: 290

كبدوكية ينفذ الضوء من خلاله، حتى أن هيكلاً بنى به كان ينال كفايته من ضوء النهار وجميع نوافذه مغلقة (32). وبدأت رغبة الرومان في استخدام الرخام على أثر فتح بلاد اليونان، وقد أشبعوا هذه الرغبة باستيراد العمد أولاً، ثم باستيراد الرخام، ثم باستخراجه من محاجر كرارا القريبة من لونا Luna. وكان استخدام الرخام قبل أيام أغسطس مقصوراً على الأعمدة والألواح المستوية، ثم استخدم في عهده لتغطية الآجر والمسلح؛ وإذا ما قال إنه ترك رومة مدينة من الرخام فيجب ألا يفهم من قوله هذا أكثر من المعنى السالف الذكر، وهو أن بعض ما فيها من آجر ومسلح في أجزاء متفرقة منها قد غطى بألواح من الرخام. أما الجدران المشيدة من الرخام المصمت فكانت نادرة، وكان الرمان يميلون إلى أن يجمعوا في البناء الواحد بين حجر مصل الأعبل الأحمر والرمادي، وحجر عوبية البصلي

(1)

ذي اللون الأخضر، ورخام نوميديا الأسود والأصفر، وبين رخامهم الأبيض المستخرج من محاجر كرارا وأحجار البازلت، والمرمر، والحجر السماقي؛ ولم تبلغ مواد البناء في عصر من العصور ما بلغته في رومة من تعدد في الأنواع والألوان.

وقد أضافت رومة إلى الطرز الدورية، والأيونية، والكورنثية الأنماط التسكانية والأنماط المركبة من خليط من هذه كلها أو من بعضها بصورها الأصلية أو بتعديل فيها. وكثيراً ما كانت العمد تقام من حجر واحد بدل أن تكون من حجارة مثقوبة يرتكز بعضها فوق بعض. وكانت للعمد الدورية قواعد أيونية، واتخذت لها شكلاً جديداً رفيعاً خالياً من الثنايا، وقد تكون للتيجان الأيونية التي تعلو الأعمدة أربع تلافيف في بعض الأحيان حتى يكون منظرها واحداً من جميع الجوانب؛ أما العمد والتيجان الكورنثية فقد بلغت في تطورها حداً من الجمال والرقة لم تبلغه نظائرها اليونانية وإن كان الإفراط في التجميل والتنميق قد أفسد هذا الطراز من

(1)

وهو المسمى بحجر السبلينو Cipollino وهو حجر جيري محبب يحتوي على الميكا (المترجم)

ص: 291

العمد في العصور المتأخرة. ومثل هذا يقال عن الإفراط في رسم الأزهار فوق التلافيف الأيونية لصنع التيجان المركبة من طرز مختلفة كما نشاهد ذلك في قوس تيتس. وكانت التلافيف تنتهي أحياناً بأشكال حيوانية أو آدمية توهم الرائي بأنها ميازيب على صورة حيوانات أو أناس على غرار ما صنع منها بعدئذ في العصور الوسطى. وكثيراً ما كان الرومان المسرفون يخلطون بين طرز مختلفة في البناء الواحد، كما نشاهد ذلك في ملهى مارسلس؛ يضاف إلى هذا أنه قد بلغ بهم الشح في بعض الأحيان حداً جعلهم يتركون العمد الجانبية ملتصقة بجسم الهيكل نفسه كما نشاهده في البيت المربع Maison Carr (e في نيمز Nimes. وظل الرومان يضيفون العمد إلى مبانيهم يزينوها بها ولو لم يعد لها عمل أصيل بعد أن سلبها تطور العقود ما كان لها من شأن قديم في استناد هذه المباني إليها-وبقيت هذه العادة قائمة إلى عصرنا الحاضر دون أن يعرف مصدرها الذي أخذت عنه.

‌2 - هياكل رومة

لقد احتفظت رومة في جميع هياكلها إلا قلة ضئيلة منها بنظام الأروقة ذات العمد، المبسوطة عليها عوارض رئيسية تحمل السقف. وكان أغسطس متحفظاً في الفن شأنه في كل شيء سواه، ولذلك استمسكت جميع الأضرحة التي بنيت بأمر منه بالتقاليد الصحيحة القديمة. ثم أخذ الأباطرة من بعده يضاعفون عدد الهياكل التي يقيمونها لآلهتهم التي تنافسهم في السلطان والجاه، ويغشون فجورهم بستار من التقي المعماري، حتى ازدحمت التلال وسدت الشوارع بالمزارات المقرمدة المذهبة. وكان جوبتر بطبيعة الحال صاحب النصيب الأوفر منها، فكان من بين هياكله الكثيرة هيكل جوبتر المرعد، وهيكل جوبتر المثبت الذي ثبت

ص: 292

أقدام الرومان وأوقف هربهم في القتال، واقتسم مع يونو ومنيرفا أقدس مزارات رومة فوق تل الكبتول. فقد أقيم في الحجرة الوسطى تمثال ضخم من الذهب والعاج لجوبتر الأفضل والأعظم Jupiter Optimus Maximus يحيط به من الجانبين رواق معمد ذو ثلاثة طبقات. وتعزو الرواية التاريخية أول صورة من صور هذا الصرح الأعظم من الصروح الرومانية المقدسة إلى تاركونيوس بسكس، وقد دمرته النار عدة مرار، وكان في كل مرة يعاد بناؤه بعد تدميره. واختلس استلكو في عام 404 م أبوابه البرونزية المذهبة ليؤدي بها رواتب جنده، ونهب الوندال قراميد السقف المصفحة بالذهب، ولا تزال بعض قطع من أرضيته باقية إلى اليوم.

وكان يقوم على القمة الشمالية من قمم هذا التل نفسه هيكل يونو المنذرة أو الحارسة Juno Moneto، وهناك كانت دار سك العملة. ولا حاجة إلى أن نذكر للقارئ أن اسم دار السك (Mint) والنقود (Money) مصدر كثير من المطامع، مشتق من لفظ منيتو الذي كانت تلقب به يونو. وعلى المنحدر الجنوبي من منحدرات هذا التل كان يقوم معبد ساترن (زحل) أقدم آلهة لكبتول. ويرجع الرومان تاريخ بناء هذا الهيكل لذلك الإله إلى عام 497 ق. م؛ وقد بقي منه حتى الآن ثمانية عمد أيونية وعارضة واحدة فوق بعض هذه العمد. وفي السوق الكبرى عند سفح التل كان المعبد الصغير المخصص ليانوس Janus إله البدايات كلها. وكانت أبوابه لا تفتح إلا في زمن الحرب ولم تغلق في أثنائها إلا ثلاث مرات في تاريخ رومة القديم. وفي الركن الجنوبي الشرقي من أركان السوق كان هيكل كاستر وبلكس Castor And Pollux الذي شيد في عام 495 ق. م؛ وقد وصلت إلينا من بقايا الهيكل الذي جدده تيبيريوس ثلاثة عمدة كورنثية رفيعة، وهي بإجماع الخبيرين أجمل العمد الرومانية على الإطلاق.

وأضاف أغسطس إلى هذه الهياكل في سوقه هو هيكلاً للمريخ المنتقم

ص: 293

Mars Ultor وفاء بنذره قبل فلباي Philippi، وى تزال ثلاثة من عمده الفخمة قائمة في مكانها إلى اليوم. وكان أحد أطراف ساحته الوسطى عبارة عن نصف دائرة ذات سقف مقبب، وهي طراز معماري أصبح فيما بعد طراز محراب الكنائس المسيحية الأولى. وأقام أغسطس على تل البلاتين هيكلاً فخماً من الرخام الخالص للإله أبلون نظير معونته له في أكتيوم، وزينه بتماثيل من صنع ميرون Miron واسكوباس Scopas، وأضاف إليه مكتبة فخمة ومعرضاً فنياً، وبذل كل ما في وسعه ليشعر الناس أن الإله قد غادر بلاد اليونان وجاء إلى رومة يحمل معه إليها زعامة العالم الروحية والثقافية؛ بل إن أصدقاء أغسطس، بعد أن زالت أسباب التحرج من هذا النمس بوفاة والدة أغسطس، قالوا إن أبلو متخفياً في صورة ثعبان رشيق سريع الحركة هو الذي استولدها هذا الزعيم الداهية.

وكان في الجزء الشمالي الغربي في المدينة هيكل عظيم لإيزيس Issis وعلى تل البلاتين مزار فسيح لسيبيل. وكانت فيه، ملاذات لبعض المعاني المجردة مجسدة-كالصحة، والشرف، والفضيلة، والوئام، والوفاء، والحظ، وكثير من أمثالها. وكانت كل هذه الهياكل تقريباً تحتوي ساحات ملأى بالتماثيل والرسوم الملونة. وقد جمع فسبازيان في معبد السلم العظيم الذي أقامه كثيراً ن الكنوز الفنية التي كانت في بيت نيرون الذهبي، وبعض المخلفات التي جاء بها من أورشليم وأباح للناس مشاهدتها. ويمتاز هيكل فرتونا فريلس Fortuna Virilis القائم في سوق بريوم Forum Boarium بأنه أكمل بناء في رومة من عهد ما قبل أغسطس احتفظ بأجزائه إلى اليوم. وكانت نساء العاصمة يترددون كثيراً على هذا الهيكل للعبادة فيه، فقد كن يعتقدن أن الآلهة تعلمهن كيف يخفين عيوبهن عن أعين الرجال.

وقد أضاف مهندسو رومة إلى هذه الهياكل وإلى العشرات العشرات من الهياكل الأخرى المشيدة على الطراز المربع القديم، أضافوا إليها عدة هياكل

ص: 294

دائرية الشكل تكشف عن سيطرتهم الحديثة على مشكلة تشييد القباب. وتقول الرواية التاريخية إن هذا الطراز من البناء مأخوذ على كوخ رميولوس المستدير الذي احتفظ به كما يحتفظ بالآثار الدينية على تل البلاتين قروناً طوالاً.

ولا يكاد يقل عنه في القدم بيت فستا Aedes Vestae الجميل المجاور لهيكل كاستروبلكس؛ وكانت ساحته الوسطى المغطاة جدرانها بالرخام الأبيض تحيط بها عمد كورنثية جميلة، وكان سقفها قبة من الشبهان المذهب. وكان إلى جوارها قصر العذارى الفستية-ويتكون من أربع وثمانين حجرة مشيدة على نظام الأديرة حول بهو ذي عمد. ولم يكن البانثيون قد أصبح بعد هيكلاً مستدير الشكل؛ فقد كان في صورته التي أقامه عليها أجربا مستطيلا، ولكن كانت له ساحة مستديرة أمامه. وقد أقام مهندسو هدريان فوق هذه الساحة الهيكل المستدير والقبة الضخمة اللذين لا يزالان حتى الآن أعظم شاهدين على جرأة الإنسان وشجاعته.

‌3 - التحول الفجائي إلى الطراز المقوس

لقد كانت رومة في عمارتها الدنيوية أعظم منها في عمارتها الدينية، ذلك بأنه كان في وسعها في أول العمارتين أن تتحرر من قيود التقاليد، وأن تجمع بين الهندسة والفن-بين المنفعة والقوة من جهة، والجمال والشكل من جهة أخرى-بطريقة اختصت بها هي لا يشاركها فيها غيرها من المدن. لقد كان الأساس الذي قامت عليه العمارة اليونانية هو الخط المستقيم (مهما أدخل عليه من التنظيم الدقيق كما يشاهد في البارثنون): كالعمود الرأسي، والعارضة الأفقية، والقوصرة المثلثة الشكل؛ أما أساس هندسة البناء الرومانية الخالصة فقد أصبحت الخط المنحني؛ ذلك أن الرومان كانوا ينشدون العظمة، والإقدام، والضخامة،

ص: 295

ولكنهم لم يكن في وسعهم أن يسقفوا مبانيهم الواسعة على مبادئ الخطوط المستقيمة والأروقة ذات العمد إلا إذا أقاموا فيها مجموعة من العمد التي تعترض طرقاتها، وكانت سبيلهم للتغلب على هذه المشكلة هي الأقواس بشكلها المستدير في الغالب؛ وما العقود إلا أقواس استطالت، وما القباب إلا أقواس تحركت ودارت؛ ولعل القواد الرومان وأعوانهم قد ألفوا في مصر وآسية الأشكال المقوسة، وإزدادت ألفتهم لها على مر الأيام، فأيقظوا في مواطنيهم التقاليد الرومانية والتسكانية القديمة التي طال العهد بطغيان الأنماط اليونانية عليها، فأخذت رومة تستخدم العقود استخداماً بلغ من اتساعه أن اشتق منه فن البناء كله اسم جديد أصبح علماً عليه ولم يفارقه قط. وقد أنشأ الرومان القبوة المفصلية بوضع شبكة من الأضلاع المكونة من الآجر على طول خطوط الالتواء قبل أن يصب الملاط المسلح في الإطار الخشبي لعمل السقف؛ ثم أنشئوا، بوضع قبوتين اسطوانيتين متعامدين، شبكة من الأضلاع والحنيات تستطيع أن تتحمل فوقها بناء أثقل منها كما تستطيع أن تتحمل دفعاً قوياً من الجانبين. هذان هما المبدآن اللذان قام عليهما الانقلاب الفجائي في فن العمارة الرومانية وتحوله من طراز الخطوط إلى طراز الأقواس.

وبلغ الطراز الجديد كماله في الحمامات والمدرجات الكبرى، وكانت حمامات أجربا، ونيرون، وتيتس الحلقة الأولى من سلسلة طويلة انتهت بحمامات دقلديانوس، فقد كانت هذه صروحاً من الملاط المسلح مغطاة بالجبس أو الآجر تعلو علواً شاهقاً في الهواء. وكانت مزينة من داخلها بفساقي من الرخام والفسيفساء، وبأعمدة مختلفة الألوان، وسقف مزخرفة، وصور ملونة وتماثيل. وكان فيها حجرات لخلع الملابس، وحمامات ساخنة وباردة، وحجرة وسطى ذات هواء دفيء، وبرك للسباحة، ومواضع للتمرينات الرياضية، ومكتبات وحجر للمطالعة، وأخرى للبحث، وأرائك للراحة، وأكبر الظن أنها كانت

ص: 296

تحتوي أيضاً على معارض فنية. وكانت أغلب الحجرات تسخن من مركز عام تمتد منه أنابيب كبيرة من الصلصال، وتسير تحت أرض الحجرات وفي داخل الجدران. وكانت هذه الحمامات

(1)

الحارة أوسع وأفخم ما شيد من المباني العامة، ولم يوجد لها قط نظائر من نوعها في العالم كله. وكانت جزءاً من الاشتراكية في الترفيه عن الشعب حاولت به الزعامة أن تبرر سلطانها المطلق المتزايد.

وكانت هذه النزعة نفسها هي الحافز على بناء أعظم دور التمثيل في التاريخ كله. وكان عدد هذه الدور في رومة أقل منها في العواصم الحديثة، ولكنها كانت أوسع منها رقعة. وكان أصغرها هو الملهى الذي شاده كورنليوس بلبس Cornelius Balbus في ميدان المريخ (13 ق. م)، والذي كان يتسع لسبعة آلاف وسبعمائة من النظارة؛ وقد أعاد أغسطس بناء ملهى بمبي الذي كان يتسع لسبعة عشر ألفاً وخمسمائة، وأتم بناء ملهى آخر سماه باسم مرسلس Marcellus ويتسع لعشرين ألفاً وخمسمائة. وكانت هذه الدور تختلف عن مثيلاتها في بلاد اليونان في أنها كانت مسورة، وفي أن مقاعد النظارة كانت تستند في أبنية ذات أقواس وقباء بدل أن تستند إلى منحدرات التلال. وكان المسرح وحده هو المسقف، ولكن النظارة كانوا يتقون الشمس بمظلو من نسيج التيل (Velarium) كانت في ملهى بمبي تغطي مساحة عرضها 550 قدماً. وكانت فوق المداخل مقصورات للأعيان وذوي المناصب الكبرى في الدولة، وكان لبعض المسارح ستائر لم تكن ترفع إلى أعلى إذا بدأ التمثيل بل كانت تنزل في فتحات معدة لها. وكان المسرح يرتفع عن أرض الملهى بنحو خمس أقدام، وكان الجزء الخلفي منه يتخذ في العادة شكل بناء أنيق يمتد من أحد جانبيه إلى الجانب الآخر، فيمكن

(1)

ولقد كانت الحمامات الرومانية أنموذجاً أقيمت على مثاله مبان حديثة كثيرة واجهت نفس المشكلة التي واجهها الرومان، وهي تغطية مساحة واسعة من الأرض بأبنية ليس فيها إلا أقل عدد مستطاع من العوائق، ومن أشهر أمثلة هذه المباني محطة بنسلفانيا، والمحطة الوسطى في نيويورك.

ص: 297

الممثلين بذلك من أن يسمعوا أصواتهم للعد الجم من النظارة الذين يضمهم الملهى. ويحدثنا سنكا عن "صنّاع المسارح الذين يخترعون حمالات ترتفع من نفسها أو أرضيات ترتفع في سكون من الهواء"(32 أ). وكان تغيير المناظر يحدث بوساطة مناشير دوارة أو بتحريك مجموعة منها إلى طرفي المسرح أو إلى أعلاه فتنكشف بذلك المجموعة التي تليها. وكان يستعان على إسماع النظارة أصوات الممثلين بوضع جرار فارغة في أرض المسرح وجدرانه (32 ب). وكانت أمكنة النظارة تبردها جداول مائية تجري في ممراتها، وكان مزيج من الماء والنبيذ وعصير الزعفران ينقل أحياناً إلى أعلى المقاعد في أنابيب ثم يرش على النظارة في هيئة رشاش عطر (32 ج) وكان داخل الملهى يزداد بالتماثيل وكانت صور كبيرة ترسم على المسرح بدل المناظر المتغيرة في هذه الأيام. ولعلنا لا نجد الآن في العالم كله ملهى مهما عظم يبلغ في الاتساع والفخامة ما بلغه ملهى بمبي في رومة.

وكانت حلبة الألعاب ومضمار الركض والمدرج أحب إلى الشعب من دار التمثيل. وكان في رومة عدة مضامير تستخدم أكثر ما تستخدم في المباريات الرياضية. وكان سباق الخيل والعربات وبعض الألعاب الأخرى تعرض في حلبة فلامنيوس في ميدان التاريخ أو في الحلبة الكبرى التي جدد قيصر بناءها بين تلي بلاتين وأفنتين. وكانت هذه الحلبة في شكل قطع ناقص طوله 2200 قدم وعرضه 705، وكان فيها مقاعد خشبية في ثلاث جهات منها تتسع لمائة وثمانين ألفاً من النظارة (33). وفي وسعنا أن نقدر ثروة رومة إذا عرفنا أن تراجان أعاد بناء هذه المقاعد من الرخام.

وكان بناء الكلوسيوم بناء متواضعاً إذا قيس إلى هذه الحلبة الكبرى، فقد كانت مقاعده لا تتسع لأكثر من خمسين ألفاً، ولم يكن تصميمه جديداً؛ لأن مدن إيطاليا اليونانية كانت من زمن بعيد تحتوي مدرجات مثله؛ فقد أنشأ كوريو Curio كما قلنا من قبل مدرجاً في عام 53 ق. م،

ص: 298

وبنى قيصر مدرجاً آخر في عام 46، وبنى استاتليوس تورس Statilius Taurus مدرجاً ثالثاً في عام 29 ق. م. وكان فسبازيان هو الذي بدأ المدرج الفلافي- وهو الاسم الذي كان الرومان يطلقونه على الكلوسيوم- كما كان تيتس هو الذي أتمه في عام 80 م، ولا نعرف اسم المهندس الذي أشرف على بنائه. وقد اختار فسبازيان لبنائه البحيرة التي كانت في قصر نيرون بين التل الكئيلي Caelian والتل البلاتيني. وقد شيد من الحجر الترافتيني

(1)

على شكل إهليلجي يبلغ طول محيطه 1700 قدم. وكان ارتفاع سوره الخارجي 157 قدماً، وكان مقسماً إلى ثلاثة أطباق يقوم بعض طابقه الأول على أعمدة تسكانية-دورية، ويقوم طابقه الثاني على عمد أيونية، والثالث على عمد كورنثية، وبين كل عمودين عقد. وكانت الدهاليز الرئيسية مسقوفة بأقبية اسطوانية تتقاطع في بعض المواضع على طراز أديرة العصور الوسطى. وكان داخله مقسماً أيضاً إلى ثلاث طبقات تستند كل منها إلى أعمدة، وتنقسم إلى الحلقات من المقصورات والمقاعد، متحدة في مركزها تقطعها طرقات ذات درج فتقسمها إلى "أوتاد" Cunei. ويبدو داخله للناظر إليه في هذه الأيام كأنه كتلة ضخمة من البناء قطع فيه صانع جبار عقوداً وطرقات ومقاعد. وكان داخله يزدان بالتماثيل وغيرهما من وسائل التجميل، وكانت كثير من صفوف المقاعد مصنوعة من الرخام، وكان للمدرج ثمانون مدخلاً خصص أثناء منها للإمبراطور وحاشيته. وكانت هذه المداخل والمخارج Vomitoia تكفي لإخراج الجماهير الغفيرة التي تملأ هذا المدرج الضخم في دقائق معدودات. وكان يحيط بالحلبة التي يبلغ اتساعها 287 قدماً في 180 سور يبلغ ارتفاعه خمس عشر قدماً يعلوه دبرزون يحمي وحوشه الآدميين من وحوش الغاب. وليس الكلوسيوم من المباني الجميلة المنظر، وإن ضخامته

(1)

هذا هو الاسم الذي يطلقه الإيطاليون على الحجر الجيري التي يتكون من رواسب مياه الفوارات الذائب فيها الجير. (المترجم)

ص: 299

نفسها لتنم عما في الطبيعة الرومانية من خشونة، كما تكشف عما فيها من عظمة. وكل ما يمكن أن يقال في مديحه أنه أكثر الخرائب التي خلفها العالم الروماني القديم روعة. لقد كان الرومان يبنون كما يبني الجبابرة، ولو أننا طلبنا إليهم أن يصقلوا مبانيهم كما يصقل الصياغ الحلي لكلفناهم ضد طباعهم.

لقد أنشأ الفنانون الرومان فنهم من خليط مختار من الطرز الأتيكية، والآسيوية، والإسكندرية، فجمعوا فيه بين التحفظ والضخامة والرشاقة. غير أنهم لم يمزجوا في يوم من الأيام هذه الصفات لينشئوا منها تلك الوحدة الأساسية التي هي أساس من أسس الجمال. وإن فيما تتصف به المباني الرومانية الخالصة من قوة وفجاجة لمسحة شرقية، فهي تبعث في النفس الرهبة لا الجمال؛ وإن بنثيون هدريان نفسه ليعد ن عجائب الصروح أكثر مما يعد من روائع الفن؛ فليس لنا أن نتطلع في الفن الروماني إلى رقة الشعور ودقة التنفيذ اللهم إلا في حالات نادرة كالنقوش والتحف الزجاجية الباقية من عصر أغسطس. بل يجب أن نتوقع هنا وجود فن هندسي يهدف إلى الغاية في الصلابة والاقتصاد والمنفعة، إلى افتتان العصامي بالضخامة والزينة وإصرار الجندي على الواقعية، وإلى فن المحارب ذي القوة الباطشة. وإذا كان الرومان لم يصقلوا فنهم صقل الصياغ فما ذلك إلا لأن الفاتحين لا يصبحون قط صياغاً، ولذلك صقلوه صقل الفاتحين.

وما من شك في أنهم قد أنشأوا أكثر المدن فتنة وروعة في التاريخ، وأوجدوا فناً مرناً، تصويرياً ومعمارياً في مقدور كل إنسان أن يفهمه، وشادوا مدينة يستطيع كل مواطن أن يعيش فيها وينتفع بها. لقد كانت جماهير الأحرار في تلك المدينة فقيرة كثيرة الثراء، ولكنها كانت إلى حد ما تمتلك كثيراً من ثروتها: فقد كانت تأكل حب الدولة، وتجلس بغير أجر، أو بأجر هو والعدم سواء، في دور التمثيل، وفي حلبات الألعاب، وفي المدرجات وميادين السباق. وكانوا يمارسون ضروباً من الرياضة البدنية،

ص: 300

ويتناولون المرطبات، ويستمتعون بضروب التسلية، ويتعلمون في الحمامات؛ ويتفيئون ظلال مئات من الأروقة ذات العمد، ويمشون تحت القباب والعقود المنقوشة المزينة التي كانت تغطي أميالاً كثيرة من شوارع رومة، وتغطي ثلاثة أميال في تاريخ المريخ وحده، ولم يشهد العالم قبل رومة عاصمة مثلها، فقد كان في وسطها سوق عجابة صخابة تدور فيها رحى العمل بلا انقطاع، وتتردد في جنباتها أصداء أصوات الخطباء، وتدور فيها المناقشات التي تزلزل قواعد الإمبراطورية، ومن حولها حلقة من الهياكل، والباسلقات، والقصور، ودور التمثيل، والحمامات، في كثرة منقطعة النظير؛ وتحيط بهذه الحلقة حلقة أخرى من الحوانيت مكتظة بالبائعين والمشترين، تدوي فيها أصواتهم، وتليها حلقة ثالثة من البيوت والحدائق، فخلقة رابعة من المعابد والحمامت مرة ثانية، وتنتهي بدائرة من القصور الريفية الصغيرة ذات الحدائق، ثم الضياع التي تدفع بأطراف المدينة إلى الريف وتربط الجبال بالبحر. هذه هي رومة القياصرة-مزهوة، قوية، براقة، مادية، قاسية، ظالمة، مشوشة غير منظمة، سامية رفيعة الذرى.

ص: 301

الباب السابع عشر

‌رومة الأبيقورية

30 ق. م-96 م

الفصل الأول

‌الشعب

والآن فلندخل تلك المساكن، والهياكل، ودور التمثيل، والحمامات لنرى كيف كان يعيش الرومان، وسنراهم حين ندخلها ممتعين أكثر من فنونهم. وعلينا أن نذكر من بادئ الأمر أن أولئك القوم قد صاروا قبل عهد نيرون رومان من الوجهة الجغرافية فحسب، ذلك أن الظروف التي عجز أغسطس عن التغلب عليها، وهي ما سرى بين الأسر القديمة من عادات الامتناع عن الزواج، وعن التناسل، ومن قتل الأطفال، وتحرير الأرقاء، وما كانت تتصف به الأسر الجديدة من خصوبة نسبية، كل هذا قد غير أحوال الشعب الروماني من الناحية العنصرية، والأخلاقية، والجسمية.

لقد كان الرومان في العهد القديم تدفعهم الغريزة الجنسية إلى كثرة النسل، كما كانت تدفعهم إليها رغبتهم في أن يكون لهم من بعدهم من يعني بقبورهم؛ أما في الوقت الذي نتحدث عنه، فقد عرفت طبقاتهم العليا والوسطى كيف تفصل الغريزة الجنسية عن الأبوة، فتشبع الأولى دون أن يؤدي ذلك الإشباع إلى الثانية، كما أصبحت هذه الطبقات ترتاب في عقيدة الدار الآخرة.

ص: 302

وكانت تربية الأبناء في الزمن الأول واجباً على الآباء للدولة يحتمه عليه الشرف ويلزمهم به الرأي العام؛ أما الآن فقد بدا من أسخف الأشياء أن يطلب إلى الآباء أن يزيدوا عدد سكان المدينة التي ضاقت بمن فيها؛ وكان المنافقون المداهنون لا ينفكون يتملقون العُزّاب ومن لا أبناء لهم من المتزوجين يطلبون إليهم أن يوصوا لهم بأموالهم بعد وفاتهم. وقد وصف جوفنال هذه الحال بقوله: إن أكثر ما يحبب فيك أصدقاءك أن تكون لك زوج عقيم (1)". وقد ورد على لسان شخصية من شخصيات بترونيوس: "ليس في أقرطونا إلا طبقتان من السكان-متملقون ومتملقون، والجريمة الوحيدة فيها أن تلد أبناء يرثون مالك من بعدك. فهي أشبه بميدان قتال في فترة راحة: ليس فيه إلا جيف وطيور جارحة تلتهمها (2)". وفقدت أم ولدها الوحيد فعزاها سنسكا بقوله إنها ستصبح محببة عند الناس مكرمة لأن "الثكل عندنا يزيد سلطان الثكلى أكثر مما ينقصه" (3) وكان في أسرة جراكس اثنا عشر طفلاً، ولكننا لا نعتقد أنه كان بين طبقتي الأشراف والفرسان في رومة على عهد نيرون خمس أسر من هذا النوع. وكان الزواج في العهد القديم رباطاً اقتصادياً يدوم مدى الحياة، أما الآن فقد أصبح في نظر مائة ألف روماني مغامرة قصيرة الأجل، خالية من كل معنى روحي، وعقداً ضعيفاً يسهل التحلل منه غايته الحصول على اللذة الجسمية أو السلطة السياسية. ولكي تلفت النساء من القيود المفروضة على العُزّاب في الوصايا والهبات كان بعضهن يتزوجن بالخصيان حتى لا يحملهن (4)، ومنهن من كن يعتقدن زيجات صورية على رجال فقراء مشترطات ألاّ يطلب إليهن أن يحملهن، وأن يكون لهن من العشاق بقدر ما يرغبن (5). وكانت موانع الحمل بنوعيها الآلي والكيميائي واسعة الانتشار (6) فإذا لم تفلح أسعفهن الإجهاض بأشكاله الكثيرة. نعم إن الفلاسفة والمشترعين كانوا يحرمونه، ولكن أرقى الأسر كانت تلجأ إليه. وفي ذلك يقول جوفنال: "إن الفقيرات من النساء

ص: 303

يقاسين آلام الوضع ومتاعب تربية الأبناء، أما الفرش المذهبة فقلّما تضم امرأة حاملاً؛ ألا ما أشد حذق المجهضين وما أقوى العقاقير المجهضة! " ولكنه مع هذا يقول للزوج "أعطها الدواء وأنت مغتبط، فإنك قد تجد نفسك، إن ولدت، أباً لطفل حبشي" (7). وأما قتل الأطفال فقد كان نادراً في هذا المجتمع المستنير

(1)

.

على أن قلة نسل الطبقات المثرية في رومة والإمبراطورية الرومانية كان يقابله من الناحية الأخرى كثرة الهجرة وخصب الطبقات الفقيرة، ولذلك ظل سكان رومة والإمبراطورية في ازدياد مستمر. وقد قدر بلوك Belcok سكان رومة في عهد الإمبراطورية الأول بثمانمائة ألف، وقدرهم جين بمليون ومائتي ألف، وقدرهم ماركوارت Marquardt

(2)

بمليون وستمائة ألف. وقدر بلوك سكان الإمبراطورية بأربعة وخمسين مليوناً، كما قدرهم جبن بمائة وعشرين مليوناً (11). وظل عدد الأشراف كما كان من قبل، ولكنهم كانوا كلهم تقريباً يختلفون في أصولهم عن الأشراف القدامى؛ فلم نعد نسمع عن أسر إيمليوس، وكلوديوس، وفابيوس، وفليريوس؛ ولم يبق من العشائر القديمة التي ظلت من عهد قيصر تفخر بأصولها وتختال في رومة إلا أسرة كرنليوس. فمن هذه الأسر من حصدته الحروب أو الاغتيالات السياسية، ومنها من قضت عليه قيود الزواج وتحديد النسل، والعجز الجنسي، ومنها من افتقر حتى أصبح في عداد الطبقات الدنيا. وحل محل هذه الأسر في رومة رجال الأعمال الرومان، وأعيان البلدان

(1)

وكان بعض البنات واللقطاء يعرضون أحياناً لتقلبات الجو في القرن الأول بعد الميلاد. وكان ذلك يحدث عادة عند عمود الرضاع Columna Lactaria- وقد سمي بهذا الاسم لأن الدولة كانت ترسل المرضعات لتغذية من يعثر عليهن هناك من الأطفال وإنقاذ حياتهم 10. على أن التخلص من الأطفال غير المرغوب فيهم عادة شائعة في كل المجتمعات إلا المجتمعات التي لا تستمتع بقسط من الحضارة.

(2)

وقد بلغ عدد سكان رومة في عام 1937 حوالي 1. 178. 000 نسمة.

ص: 304

الإيطالية، وأشراف الولايات النائية. وقد قال عضو في مجلس الشيوخ عام 56 م. إن "الكثرة الغالبة من الفرسان، والعدد الكبير من أعضاء مجلس الشيوخ، من نسل الأرقاء"(12). ولم يمض على هؤلاء الأعيان الجدد إلا جيل أو جيلان حتى تخلقوا بأخلاق من سبقوهم، فقلّ نسلهم، وزاد ترفهم، واستسلموا لتيار المهاجرين من الشرق.

وكان أول القادمين هم اليونان- ولم تكن كثرتهم من بلاد اليونان الأصلية، بل كانت من شمال أفريقية، ومصر، وسوريا، وآسية الصغرى، وكانوا على جانب كبير من الحماسة، والنشاط، ولين العريكة، أشبه بأهل الشرق؛ وكانت كثرتهم من صغار التجار أو المستوردين؛ وكان بعضهم علماء، وكُتّاباً، ومعلمين، وفنانين، وأطباء، وموسيقيين، وممثلين؛ وكان بعضهم يشتغلون بالفلسفة حباً في دراستها أو طعماً فيما يعود عليهم من المال من هذه الدراسة؛ وكانت كثرتهم من الموظفين الإداريين ورجال المال القادرين، وكان الكثيرون منهم لا يرعون عهداً ولا ذمة، وكلهم تقريباً لا يؤمنون بدين. وقد أتى معظمهم في الأصل أرقاء، ولم يكونوا ممتازين في شيء، وحافظوا بعد تحررهم على مظاهر الذلة والخنوع وعلى ما كانوا يبطنونه من حقد على أغنياء الرومان، الذين أصبحوا من الناحية الذهنية كلاً على التراث الثقافي لليونان الأقدمين، واستهزاءً بهم. وغصت شوارع العاصمة باليونان الثرثارين الكثيري الجلبة والحركة، وكان السائر فيها يسمع اللغة اليونانية أكثر مما يسمع اللغة اللاتينية، وكان على الكاتب إذا أراد أن تقرأ جميع طبقات الأمة كتابته أن يكتبها باليونانية. وكان المسيحيون الأولون في رومة كلهم تقريباً يتكلمون اللغة اليونانية، وكذلك كان السوريون والمصريون، واليهود. وكانت جالية كبيرة من المصريين- تضم تُجّاراً وصُنّاعاً وفنانين- تعيش في ميدان المريخ. أما السوريون، النحاف الأجسام، الوادعون الظرفاء، الماكرون الدهاة، فكان الإنسان يلتقي بهم في كل مكان من العاصمة

ص: 305

يشتغلون بالتجارة، والصناعات اليدوية، والأعمال الكتابية، والشئون المالية، والاحتيال على الناس.

وأصبح اليهود من عهد قيصر عنصراً قوياً من عناصر السكان في العاصمة وقد وفد منهم إليها عدد قليل من عهد ماض يرجع إلى عام 140 ق. م (13)، وجيء بعدد كبير منهم إلى رومة أسرى حرب بعد حروب بمبي التي شبت في عام 63 ق. م، ولم يلبث هؤلاء أن تحرروا من الرق، لجدهم واقتصادهم، أو لأن استمساكهم الشديد بأوامر دينهم كان يضايق سادتهم. ولم يحل عام 59 ق. م حتى كان عددهم في الجمعية قد ازداد إلى حد جعل شيشرون يصف معارضتهم بأنها مجازفة سياسية غير مأمونة العاقبة (14). ويمكن القول بوجه عام إن الحزب الجمهوري كان معادياً لليهود، وإن الشعب والأباطرة كانوا من أصدقائهم

(1)

وقبل أن ينصرم القرن الأول كان عددهم في العاصمة قد بلغ 20. 000 (18)، وكانت كثرتهم تسكن على الضفة الغربية من نهر التيبر، وكانت تعاني الأمرين من جرّاء الفيضان الموسمي لهذا النهر. وكانوا يعملون في أحواض السفن القريبة من مساكنهم، ويشتغلون بالصناعات اليدوية وبتجارة الأشتات في الحوانيت، أو بالتنقل في أحياء المدينة. وكان منهم أغنياء، ولكن لم يكن من بينهم إلا عدد قليل من كبار التُجّار، فقد كان السوريون واليونان هم المسيطرين على التجارة

(1)

وقد ظلوا على الدوام يؤيدون قيصر، وبسط عليهم في نظير ذلك حمايته ورعايته، وحذا أغسطس حذوه في هذه الخطة؛ أما تيبيريوس فكان معادياً لكل العقائد الأجنبية، ولذلك جند أربعة آلاف منهم ليحاربوا في سردينية حرباً لا تكاد تختلف في شيء عن الانتحار، ثم أخرج البقية الباقية منهم من رومة (19 م)(16). ثم أدرك بعد اثنتي عشر عاماً من ذلك الوقت أن سجانوس قد أضله في هذا الأمر، فألغى مرسوم نفيهم، وأمر ألاّ يضار اليهود في ممارسة طقوس دينهم وفي اتباع عاداتهم (17). وبسط عليهم كلجيولا حمايته في رومة، ولكنه أصدر في عام (42) مرسوماً عاماً يؤيد في حقهم أياً كان مقامهم في أنحاء الإمبراطورية في أن يعيشوا حسب قوانينهم. وفي عام 94 نفى دومتيان اليهود من رومة إلى وادي إجيريا Egeria، وفي عام 46 أعادهم نيرفا Nerva إلى رومة، ورد إليهم حقوقهم المدنية، وسمح لهم أن يستمتعوا بالطمأنينة جيلاً كاملاً.

ص: 306

الدولية. وكان لهم في رومة عدد كبير من المعابد، لكل واحد منها مدرسته، وكتبته، ومجلسه المكون من شيوخهم (19)، والمعروف باسم الجروسيا Gerousia. وكانت نزعة اليهود الانفصالية، واحتقارهم بالشرك وعبادة الأوثان، وتزمتهم الخلقي، وامتناعهم عن الذهاب إلى دور التمثيل أو مشاهدة الألعاب، وعاداتهم وطقوسهم الدينية الغربية، وفقرهم وما نتج عنه من قذارة، كان كل هذا سبباً في كراهية العناصر الأخرى لهم، وهي الكراهية المألوفة في تاريخهم الطويل. وقد ندد جوفنال بكثرة تناسلهم، كما ندد تاستس بوحدانيتهم الدينية وأميانس مرسيلس Ammianus Mareellinus بشغفهم بالثوم (20). وزادت البغضاء بينهم وبين غيرهم من الطوائف بعد استيلاء الرومان على بيت المقدس وسط معارك دموية، ومثلت في موكب النصر الذي استقبل به تاستس جماعة كبيرة من الأسرى اليهود والغنائم المقدسة، كما مثلت رموز من هذا النوع على ما أقيم له من أقواس النصر، وأضاف فسبازيان إلى أذاهم السخرية منهم وأمر أن يخصص من ذلك الوقت نصف الشاقل، الذي كان يرسله اليهود المشتتون لصيانة الهيكل، لتعمير رومة. على أن كثيراً من الرومان المتعلمين كانوا يعجبون بعقيدة التوحيد اليهودية، ومنهم من اعتنق هذا الدين، وكان الكثيرون منهم حتى من بين الأسر الغنية يتخذون يوم السبت اليهودي يوم عبادة وراحة.

وإذا ما أضفنا إلى اليونان، السوريين، والمصريين، واليهود، وبعض التوميديين، والنويين، والأحباش الأفريقيين؛ وقليلاً من العرب، والبارثيين والكبدوكيين، والأرمن، والفريجيين، والبثينيين الأفريقيين؛ و "البرابرة" الأقوياء من دلماشيا، وتراقية، وداشيا، وألمانيا، والأشراف ذوي الشوارب من غالة، والشعراء والفلاحين من أسبانيا؛ "والمتوحشين ذوي الوشم من بريطانيا" إذا ما أضفنا هؤلاء كلهم إلى اليونان كانت لنا صورة من الأجناس المختلفة التي تتكون منها رومة الدولية. وقد دهش مارتيال أشد

ص: 307

الدهشة من قدرة عاهرات رومة على أن يكيفن لغتهن ومفاتنهن حسب أجناس من يترددون عليهن من هذا الخليط، وحسب أهوائهم (23). وكان جوفنال يقول وهو متألم إن نهر العاصي، أكبر أنهار سوريا يصب في نهر التيبر (24)، ووصف تاستس العاصمة بأنها "بالوعة أقذار العالم"(25). وكانت وجوه الشرقيين، وأساليبهم، وملابسهم، وألفاظهم، وحركاتهم، وإشاراتهم، ومنازعاتهم، وأفكارهم، وعقائدهم، عنصراً كبيراً من حياة المدينة الزاخرة، وما وافى القرن الثالث بعد الميلاد حتى كانت حكومة المدينة ملكية مطلقة كحكومات البلاد الشرقية، وما وافى القرن الرابع حتى كان دين رومة ديناً شرقياً، وحتى خر سادة رومة سجداً لإله الأرقاء.

على أن هذا الحشد الخليط لم يخل من عناصر النبل والكرامة، فقد هجر بسخطه على بوبيا عشيقة نيرون في الوقت الذي صمت فيه الشيوخ فلم يجرؤا على النطق بكلمة؛ وهاجم مجلس الشيوخ ليحتج على قتل أرقاء بدونيوس سكندس جملة (26)، ولم تكن الفضائل البسيطة التي يتحلى بها الرجل العادي معدومة في هذا المجتمع؛ فقد كانت حياة الأسرة اليهودية مثلاً يحتذي في الحياة الصالحة؛ وكانت الطائفة المسيحية القليلة العدد تقض بتقواها ورقة حاشيتها مضاجع العالم الوثني المنهمك في ملذاته وشهواته. لكن معظم الوافدين إلى رومة قد فسدت أخلاقهم بلا ريب حين انتزعوا من بيئاتهم، وثقافاتهم، وقوانينهم الأخلاقية التي نشأوا فيها ودرجوا عليها. وقضت أعوام الاستعباد الطوال على ما كانوا يتصفون به من احترام الذات الذي هو عماد الاستقامة والخلق الطيب، وجردهم احتكاكهم في كل يوم بطوائف من الخلائق مختلفي العادات والمشارب من كثير مما بقي لهم من أخلاق كريمة تأصلت في نفوسهم بحكم العرف المألوف والعادة. ولو أن رومة لم تبتلع هذا العدد الكبير من الناس في هذا الوقت القصير، ولو أنها ألحقت هؤلاء الوافدين كلهم بمدارسها بدل أن تلحقهم بأقذر أحيائها، ولو أنها عاملتهم على أنهم رجال ذوو مزايا كامنة في نفوسهم تستطيع الكشف عنها

ص: 308

والانتفاع بها، ولو أنها أغلقت أبوابها حيناً بعد حين في وجه الوافدين حتى تستطيع عملية الهضم والتمثيل أن تجاري عملية الهجرة وتلاحقها، لو أنها فعلت هذا لكان في مقدورها في أكبر الظن أن تكسب من هذا الاندماج قوة عنصرية وأدبية جديدة، ولبقيت رومة رومانية، ولظلت حصن الغرب الحصين الناطقة بمبادئه والمعبرة عن آرائه. أما وهي لم تفعل هذا فقد كان ذلك الواجب شاقاً عليها لا تستطيع الاضطلاع به. وقضت على المدينة الظافرة سعة ملكها واختلاف الأجناس الخاضعة لحكمها، ورق دمها الوطني وخف في محيط رعاياها الزاخر، وانحطت طبقاتها المتعلمة إلى ثقافة من كانوا عبيداً لها، لأنهم لكثرتهم كانوا أقوى من سادتهم، فغلبت كثرة هؤلاء على فضائل أولئك ومميزاتهم؛ وأصبح المغلوبون المخصبون سادة في بيوت الأسياد العقيمين المجدبين.

ص: 309

الفصل الثاني

‌التعليم

لسنا نعرف الشيء الكثير عن أطفال الرومان، ولكن في وسعنا أن نحكم، استناداً إلى الفن الروماني وشواهد القبور الرومانية، أن الأطفال كانوا بعد أن يولدوا يصبحون موضع الحب المفرط غير الحكيم. ونرى جوفنال يخرج أحياناً عن غضبه ليكتب قطعة رقيقة تفيض بالعاطفة عن المثل الطيبة التي يجب علينا أن نعرضها على الأطفال، وعن المناظر السيئة والأصوات المنفرة التي يجب أن نبعدهم عنها، وعن مظاهر الاحترام التي يجب أن نتحلى بها أمامهم في جميع الأوقات حتى الأوقات التي نظهر لهم فيها منتهى الحب (27). ويطلب فافورينوس، في مقاله لو أن كتب بعد عهد روسو لكان تقليداً ساخراً له، إلى الأمهات أن يرضعن أولادهن (28). ويضرب سنكا وأفلوطرخس على هذه النغمة نفسها وإن لم يستمع إليهما إلا عدد قليل، فقد كان استخدام المراضع هو القاعدة المتبعة لدى جميع الأسر التي تمكنها مواردها من استخدامهن، ويبدو أن هذه العادة لم تنشأ منها مآس لهذه الأسر

(1)

.

وكانت التربية الأولى تقوم بها المراضع، وكن في العادة يونانيات. وكن يقصصن عليهم قصصاً خرافية تبدأ عادة بهذه العبارة: "يحكى أن ملكاً وملكة

" وكان التعليم الابتدائي لا يزال من المشروعات الفردية، وكثيراً

(1)

وكانت اللعب والألعاب كثيرة كما هي في هذه الأيام، فكان أطفال الرومان يقفزون فوق خطوط مرسومة على الأرض، ويشدون الحبل، ويصوبون النقود إلى هدف. وكان منها تغمية العينين، والاستخفاء والبحث، وكان منها اللعب بالدمى والأطواق، والقفز على الحبل واتخاذ العصى خيولاً، وعمل الطائرات الورقية. وكان عند شباب الرومان خمس ألعاب بالكرة مختلفة بعضها عن بعض، منها واحد شبيهة بلعبة كرة القدم في هذه الأيام إلا أنها كانت تستخدم فيها الأيدي والأذرع بدل السيقان والأقدام.

ص: 310

ما كان الأغنياء يستأجرون المربين لأبنائهم، ولكن كونتليان حذرهم من هذا العمل كما حذر منه إمرسن Emerson لأنه يحرم الطفل صداقة زملائه التي لا غنى له عنها في نشأته، كما يحرمه عامل المنافسة التي تنبه قواه وتنشطها. وكان أبناء الطبقات الحرة وبناتها يدخلون المدرسة الأولية عادة في سن السابعة، يصحب كلاً منهم في غدوه ورواحه "مرشد الطفل"(بداجوج Paedagogue) ليحافظ عليه من الناحيتين الجسمية والخلقية. وانتشرت هذه المدارس في جميع أنحاء الإمبراطورية فلم تخل منها بلدان الريف الصغيرة. وتوحي الكتابة المخرفشة

(1)

التي كشف على جدران بمبي بأن أهلها لم يكن بينهم أميون، وأكبر الظن أن التعليم كان وقتئذ منتشراً في عالم البحر الأبيض انتشاراً لا يقل عنه في أي وقت سابق لهذا العهد أو لاحق. وكان المرشد (البدجوج) والمعلم (لودي مجستر Ludi Magister) من اليونان الأرقاء أو المحررين. وكان كل تلميذ في أيام هوراس وفي البلدة التي كان يعيش فيها يؤدي للمدرس في كل شهر ثمانية آسات (48 slash 100 من الريال الأمريكي)(30). وبعد ثلثمائة وخمسين سنة من ذلك الوقت جعل دقلديانوس الحد الأعلى للمدرس في المرحلة الأولية من مراحل التعليم خمسين ديناراً (20 ريالاً أمريكياً) عن كل تلميذ في كل شهر؛ وفي وسعنا أن نحكم من هذا على ارتفاع قدر المدرس أو انخفاض قيمة الآس.

فإذا بلغ التلميذ (أو التلميذة) الثانية عشرة من عمره، وكان ناجحاً، أدخل مدرسة ثانوية أو عالية، وكان في رومة مائة وثلاثون مدرسة من هذا النوع. وكان التلاميذ يدرسون فيها قدراً أوفى من النحو، واللغة اليونانية، والآداب اليونانية واللاتينية، والموسيقى، والفلك، والتاريخ، والأساطير، والفلسفة؛ وكانت الطريقة المألوفة في هذه الدراسة هي المحاضرات التي تشرح أقوال الشعراء الأقدمين. ويلوح أن منهج الدراسة حتى هذه المرحلة كان واحداً للذكور والإناث

(1)

في المحيط المخرفش المخلط وقد ترجمنا بها كلمة Scribbling (المترجم)

ص: 311

على السواء، ولكن البنات كثيراً ما كن يتلقين فضلاً عن هذا دروساً في الموسيقى والرقص. وإذ كان المدرسون في المدارس الثانوية (جرماتيشي Grammatici) من المحررين اليونان على الدوام، فقد كانوا يوجهون معظم اهتمامهم إلى آداب اليونان وتاريخهم بطبيعة الحال؛ ومن أجل هذا اصطبغت الثقافة الرومانية بالصبغة اليونانية، حتى إذا ما أشرف القرن الثاني الميلادي على نهايته، كانت اللغة اليونانية لغة التعليم العالي كله تقريباً، وضاعت الآداب اللاتينية في غمرة علوم ذلك العصر وثقافته.

أما الدراسات التي تعادل الدراسات في الكليات والجامعات في هذه الأيام فكان مقرها مدارس الخطباء. ولم يكن في الإمبراطورية مكان يخلو من الخطباء الذين يدافعون عما يستأجرونهم في دور القضاء أو يكتبون لهم الخطب، أو يلقون المحاضرات العامة، أو يعلمون التلاميذ فن الخطابة، أو يقومون بهذه الأعمال كلها. وكان الكثيرون منهم ينتقلون من مدينة إلى مدينة، يتحدثون في الأدب، أو الفلسفة أو السياسة، ويعرضون على المستمعين كيف يطرقون أي موضوع بمهارة الخطباء البلغاء. ويحدثنا بلني الأصغر عن إسيوس Isaeus اليوناني وكان وقتئذ في الثالثة والستين من عمره فيقول:

كان يعرض على سامعيه عدة أسئلة للمناقشة ويترك لهم الحرية الكاملة في اختيار أيها يشاءون، بل كان يطلب إليهم أحياناً أن يختاروا له الناحية التي يجب أن يؤيدها، ثم يقوم، ويرتدي ثوبه ويبدأ حديثه

وكان يعرض موضوعه عرضاً لبقاً جميلاً، وكان قصصه واضحاً، ونقاشه متيناً قوياً يشهد بالذكاء والفطنة، ومنطقه قوياً، ولغته بليغة إلى أقصى حدود البلاغة (13).

وكان يسمح لهؤلاء الرجال أن يفتتحوا المدارس، ويستخدموا فيها مساعدين لهم، ويجمعوا عدداً كبيراً من الطلاب. يدخلونها حوالي لسنة السادسة عشرة من العمر، ويدفعون من الأجور ما يصل أحياناً إلى ألفي سسترس

ص: 312

عن كل منهج في مادة من مواد الدراسة. وكانت أهم موضوعات الدرس هي الخطابة، والهندسة النظرية، والفلك، والفلسفة-وكانت هذه المادة الأخيرة تشمل الكثير مما يطلق عليه الآن اسم العلوم الطبيعية. ويتكون من هذه المواد ما يعرف "بالتعليم الحر" أي المخصص لأبناء الأغنياء الأحرار (Homoliber) ، وهم الذين لم يكونوا في أغلب الظن يقومون بأي عمل جثماني. وقد شكا بترونيوس، كما يشكو كل جيل، من أن التعليم لا يؤهل الشبان لمواجهة ما سوف يعترضهم من المشاكل في مستقبل حياتهم فيقول:"إن المدارس هي الملومة فيما يتصف به شبابنا من سخف وبلاهة، لأنهم لا يستمعون فيها إلى شيء من شئون الحياة اليومية"(32). وكل ما نستطيع أن نقوله نحن عنها كانت تربى في الطالب المجد ملكة التفكير الواضح السريع، الذي امتازت بها مهنة القضاء في جميع العصور، وعلمتهم تلك البلاغة الخلاّبة التي لا تتقيد بالقويم من المبادئ أو الأخلاق، والتي امتاز بها خطباء الرومان. ويبدو أن هذه المدارس لم تكن تمنح خريجيها إجازات علمية؛ وكان في وسع الطالب أن يبقى فيها ما يشاء، وأن يختار من المواد ما يريد؛ من ذلك أن لوس جليوس Aulus Gellius بقى في إحداها حتى بلغ الخامسة والعشرين. وكانت مفتحة الأبواب للنساء حتى المتزوجات منهن. ومن شاء من الطلاب أن يستزيد من التعليم انتقل إلى أثينة لدراسة الفلسفة من منابعها الفياضة، أو إلى الإسكندرية لدراسة الطب، أو إلى رودس لدراسة آخر دقائق علوم البلاغة. وكان شيشرون يدفع عن ابنه في جامعة أثينة ما قيمته أربعة آلاف ريال أمريكي في كل عام.

وكانت مدارس البلاغة حين جلس فسبازيان على العرش قد بلغت من الكثرة وقوة النفوذ درجة رأى معها هذا الإمبراطور الداهية أن من الحكمة أن ينقل كبرياتها إلى العاصمة، وأن يضعها تحت إشراف الحكومة، وذلك بأن يدفع إلى كبار الأساتذة فيها مرتبات من قبل الدولة، بلغ أعلاها

ص: 313

مائة ألف سسترس (نحو عشرة آلاف ريال أمريكي) في كل هام. ولسنا نعرف كم عدد الأساتذة الذين خصهم فسبازيان بهذه المرتبات أو عدد المدن التي فاضت عليها أمواله. ولكننا نسمع بالإضافة إلى هذا عن هبات من الأفراد للتعليم العالي، كما فعل بلني الأصغر في كومم Comum (33) . وأعطى تراجان رواتب لخمسة آلاف طالب، كان لهم من العقل أكثر مما لهم من المال. فلما جلس هدريان على العرش كانت البلديات هي التي تنفق على المدارس الثانوية في معظم مدائن الإمبراطورية؛ وخصص معاش للمدرسين بعد تقاعدهم. وأعفى هدريان وأنطونيوس كبار الأساتذة في كل مدينة من الضرائب وغيرها من الأعباء العامة. وبلغ التعليم ذروته في الوقت الذي انتشرت فيه الخرافات، وفسدت الأخلاق وذوي غصن الآداب.

ص: 314

الفصل الثالث

‌الرجال والنساء

كانت الحياة الخلقية خاضعة للرقابة الشديدة عند البنات وللإشراف مع الرفق عند الشبان. وكان الرومان، كما كان اليونان، يتقاضون عن اتصال الرجال بالعاهرات. وكانت هذه المهنة ينظمها القانون ويخضعها لإشرافه، فكان يحتم ألا توجد المواخير إلا في خارج المدن، وألاّ تفتح إلا ليلاً، وكان يناط بالإيديل تسجيل أسماء العاهرات، ويحتم عليهن أن يلبسن الطوغة Toga بدل الاستولا Stola

(1)

. وكان بعض النساء يسجلن أسماءهن في سجل العاهرات ليتخلصن من ضروب العقاب التي يفرضها القانون على الزانيات. وكانت الأجور تحدد بحيث لا ترهق أي طبقة من الطبقات. فقد وصلت إلينا أنباء عن "نساء يؤجرن بربع آس". ثم نشأت طائفة مطردة الزيادة من السراري المثقفات اللائي يسعين لكسب الأنصار بإنشاد الشعر، والغناء، والموسيقى، والرقص، والحديث المثقف. ولم يكن الإنسان في حاجة إلى الخروج من أسوار المدينة للبحث عن هاته النسوة أو عن غيرهن من السيدات الطيعات؛ ويؤكد لنا أوفد لنا أن من السهل أن يلقاهن تحت الأروقة ذات العمد، وفي حلبات المصارعة، وفي دور التمثيل، وأنهن "لم يكن أقل عدداً من نجوم السماء"(34). وقد التقى جوفنال بهن بجوار المعابد وخاصة معبد إيزيس الآلهة الرؤوفة بالعاشقين (35). ويتهم المؤرخون المسيحيون الرومان بأن الدعارة كانت تمارس داخل الهياكل الرومانية وبين مذابحها (36).

وكان في البلاد أيضاً رجال مخنثون. وكان اللواط محرماً بحكم القانون ولكنه

(1)

الطوغة رداء روماني خارجي شبيه بالجبة، والأستولا رداء خارجي مثلها ويختلف عنها في أنه طويل سابل يصل إلى القدمين. (المترجم)

ص: 315

كان مباحاً بحكم العادة، واسع الانتشار لا يرى فيه مسبة ولا عار. انظر إلى قول هوراس:"لقد أصاب قلبي سهم الحب"، فهل يعرف القارئ من الذي رمى الشاعر بهذا السهم؟ إنه "ليسيكوس الذي لا تضارعه أية امرأة في رقته"؛ ولا شيء يشفي الشاعر من هذه العاطفة القوية "إلا شعلة أخرى من نار الحب تشعلها بين جوانحه فتاة جميلة أو يشعلها فتى آخر نحيل"(37). وتدور خير نكات مارتيال الشعرية حول اللواط. ومن قصائد جوفنال في الهجو قصيدة لا يليق نشرها تردد شكوى إحدى النساء من هذه المنافسة المرذولة منافسة الغلمان للنساء (38). وكان الغزل الشعري في الذكور والإناث على اختلاف قيمته واسع الانتشار بين الشباب والفتيان الذين لم تنضج أجسامهم بعد.

وكان ثمة صراع شديد بين الزواج وبين هذه المنافذ الجنسية المنافسة له، وكان يجد له أنصاراً من الذين يتوقون لأن يكون لهم أبناء، ومن سماسرة الزواج، وبفضل هذا العون كان في وسع كل فتاة تقريباً أن تجد لها زوجاً مؤقتاً على الأقل. وكانت النساء غير المتزوجات اللاتي يجاوزن التاسعة عشرة من العمر يعتبرن عوانس ولكن عددهن كان قليلاً. وقلّما كان الخطيب يرى خطيبته قبل الزواج، ولم تكن هناك مغازلة وتحبب، وليس في لغة الرومان لفظ للتعبير عن هذا المعنى. وقد شكا سنكا من أن كل شيء يجرب قبل الشراء عدا الزواج فإن العريس لا يجرب عروسه (39). ولم تكن الرابطة العاطفية قبل الزواج مألوفة، وكان الشعر الغزلي يخاطب به النساء المتزوجات أو النساء اللائي لا يفكر الشاعر قط في أن يتزوج بهن. وكانت مداعبة النساء تأتي بعد الزواج، كما كان يحدث في الظروف المشابهة لظروف الرومان في فرنسا في العصر الوسيط وفي هذه الأيام. وكان سنكا الأكبر يعتقد أن الزنى منتشر بين نساء الرومان في أوسع نطاق (40)، وكان ابنه الفيلسوف يظن المرأة المتزوجة التي تقنع بعاشقين تعد آية في الإخلاص لزوجها (41). ويقول أوفد الساخر: "ليس ثمة نساء طاهرات إلا اللاتي لم يطلبهن أحد، وإن

ص: 316

الرجل الذي يغضب من صلات زوجته الغرامية رجل جلف" (42). قد لا تكون هذه إلا أساليب أدبية مما يلجأ إليها الكُتّاب، ولعل أصدق منها تلك القبرية التي كتبها كونتس فسبلو Quintus Vespillo على قبر زوجته: "قلّما يدوم زواج حتى الموت من غير طلاق، ولكن زواجنا ظل زواجاً سعيداً إحدى وأربعين سنة" (43). ويحدثنا جوفنال عم امرأة تزوجت ثماني مرات في خمس سنين (44)؛ وسبب ذلك أن الرابطة بين الزوجين لم تكن في بعض الأحيان هي الحب بل كانت المال أو السياسة، ومن أجل ذلك كانت بعض النساء يرين أنهن قد أدين واجبهن كاملاً إذا ما أسلمنا بائذتهن إلى أزواجهن وأجسامهن إلى عشاقهن. ويقول جوفنال على لسان زانية تخاطب زوجها الذي فاجأها على غير انتظار: "ألم نتفق على أن يفعل كل منا ما يحلو له؟ " (45). وكان للمرأة في ذلك العهد مثل ما لها الآن من "الحرية" الكاملة إذا ما استثنينا من ذلك الحقوق السياسية الشكلية وحرفية القوانين الميتة. لقد كان التشريع يبقي المرأة خاضعة أسيرة، ولكن العادة جعلتها حرة طليقة.

وكان معنى هذا التحرر في بعض الأحيان أن تقوم بنصيبها من العمل كما هي الحال في هذه الأيام؛ فمنهن من كن يعلمن في الحوانيت أو المصانع وخاصة في الحرف المتصلة بالنسيج، ومنهن من أصبحن محاميات أو طبيبات (46)، وأصبح لبعضهن سلطان سياسي قوي؛ وكانت زوجات حُكّام الأقاليم يستعرضن الجند ويخطبنهم (47). وكانت العذارى الفستية يتوسطن لأصدقائهن في الحصول على المناصب السياسية، وكانت نساء بمبي ينقشن على الجدران أسماء من يفضلن من الرجال لتولي هذه المناصب. وكان المحافظون يبدون الألم والشماتة حين ظهر لهم أن قد وقع ما حذرهم منه كاتو حين قال إن النساء إذا ما تساوين بالرجال سيحولن هذه المساواة إلى سيادة لهن. وقد ارتاع جوفنال رأى من النساء ممثلات، ورياضيات، ومصارعات وشاعرات (48)، ويصفهن مارتيال بأنهن يصارعن

ص: 317

الوحوش، ومنها السباع في المجتلد (49). ويحدثنا استاتيوس عن نساء قتلن في هذه المصارعات (50). وكانت النساء ينتقلن في الشوارع محمولات في الهوادج:"يعرضن أنفسهن من كل ناحية للناظرين"(51). وكن يتحدثن إلى الرجال في الأروقة، والمتنزهات والحدائق، وساحات المعابد؛ ويرافقنهم إلى المآدب العامة والخاصة، وإلى المدرجات، ودور التمثيل، حيث "تكون أكتافهن العارية" كما يقول أوفد "من المناظر التي تسر العين وتبعث على التفكير"(52). والحق أن المجتمع الروماني في ذلك العهد كان مجتمعاً مرحاً، متعدد الألوان، مختلط الصلات الجنسية، لو شهده اليونان في عصر بركليز لتولتهم منه الدهشة. وكانت نساء الطبقات الراقية في فصل الربيع يملأن القوارب، والشواطئ، والبيوت الريفية ذات الحدائق في بايي Baiae وغيرها من المصايف تعج بضحكهن، ويعرضن فيها جمالهن، ومغامرات عشقهن، ودسائسهن السياسية. وكان الطاعنون في السن من الرجال ينددون بهذه الفعال وهم يتمنون أن لو استطاعوا الاستمتاع بها.

وكانت النساء الطائشات أو الفاسدات يؤلفن وقتئذ كما يؤلفن الآن أقلية ظاهرة تقع عليها العين في كل مكان. وكان ثمة عدد يماثلهن- وإن لم يكن على الدوام ظاهرات مثلهن- من النساء اللائي يعشقن الفن أو الدين أو الأدب. فقد كان الرومان يرون أن شعر سابيشيا Sulpicia جدير بأن يتناقله الناس كشعر تيبلس Tibullus سواء بسواء. وكان شعرها غرامياً متطرفاً في الغرام، ولكنه كان موجهاً إلى زوجها ولهذا لا تكاد ترى فيه ما يبعده عن الفضيلة (53). وكانت ثيوفيلا Theophila صديقة مارتيال فيلسوفة، متمكنة من مبادئ الرواقيين والأبيقوريين، وكانت بعض النساء يشغلن وقتهن في الأعمال الخيرية والخدمات الاجتماعية، ومنهن من أنشأن في مدنهن المعابد، ودور التمثيل، والأروقة ذات العمد، وكن يناصرن جماعات الكهنة. وفي نقش عند لنورفيوم Lanurvium

ص: 318

حديت "عن جمعية النساء"(Curia Mulierum) . وكان في رومة ناد للسيدات، ولا يبعد أن إيطاليا كان بها اتحاد أهلي لنوادي النساء. ومهما يكن من أمر هذه النوادي والمجتمعات فإننا بعد أن نقرأ ما كتبه عنها مارتيال وجوفنال لا نكاد نصدق أنه كان في رومة هذا العدد الكبير من فضليات النساء. كان فيها أكتافيا التي ظلت وفيه لأنطونيوس رغم خياناته الكثيرة لها، تربى أبناءه من زوجات أخرى؛ وكان فيها أنطونيا ابنتها المحبوبة وأرملة دروسس الطاهرة وأم جرمانكوس الكاملة؛ وملونيا Mallonia التي أنبت تيبيريوس على ملأ من الناس لكثرة آلامه ثم قتلت نفسها، وأريابيتا Arria Paeeta التي طعنت صدرها بالخنجر حين تلقى زوجها كاسينا بيتس Caecina Paetus أمر كلوديوس بأن يقتل نفسه ثم أسلمت هذا الخنجر وهي تحتضر إلى زوجها وهي تؤكد له "أنه لا يؤلم (45) "، وبولينا التي حاولت أن تموت مع سنكا؛ وبولتا التي حاولت أن تموت جوعاً حين أمر نيرون بقتل زوجها، ثم انتحرت مع أبيها، لما أن صدر أمر نيرون بقتله (55). وإبكارس Epicharis المعتوقة التي تحملت كل أنواع العذاب ولم تكشف عن مؤامرة بيزو Piso. وإن تنس لا تنس النساء الكثيرات اللاتي أخفين أزواجهن وحمينهن في عهد القتل والتعذيب والتشريد، واللاتي رافقنهم في المنفى، أو دافعن عنهم كما دافعت فانيا Fannia عن زوجا هلفديوس Helvidius، وعرضن أنفسهن لأشد الأخطار" إن هؤلاء وحدهن إذا وزن في ميزان مع العاهرات اللاتي ورد ذكرهن في نكات مارتيال وقوارص جوفنال ليرجحن عليهن بلا ريب.

وكان من وراء هؤلاء النسوة اللاتي اشتهرن ببطولتهن كثيرات من النساء المغمورات اللائي لم يذكر التاريخ أمرهن واللائي كان وفاؤهن لأزواجهن وتضحياتهن في سبيل أبنائهن الدعامة القوية التي أبقت على صرح الحياة الرومانية. لقد ظلت الفضائل الرومانية القديمة- فضائل التقي والوقار

ص: 319

والبساطة- والإخلاص المتبادل بين الأبناء والآباء، والشعور بالتبعة الصادرة عن تعقل ورزانة، والابتعاد عن الإسراف والتظاهر الكاذب، ظلت هذه الفضائل كلها باقية في البيوت الرومانية. إن الأسر المهذبة الرقيقة السليمة التي يصفها بلني في رسائله لم تبدأ فجأة في عهد نيرفا وتراجان، بل كانت باقية هادئة في أيام الطغاة المستبدين، حافظت على كيانها رغم تجسس الأباطرة، وتسفل الشعب المهين الذليل، وانحطاط الفسقة والأراذل والمومسات. وإنا لنلمح ومضات من ضياء هذه البيوت في القبريات التي يكتبها الأزواج لأزواجهم والأدباء لأبنائهم. وهاك واحدة منها:"هنا تثوي عظام أربليا Urbilia زوجة بريمس Primus. لقد كانت أعز عليّ من حياتي نفسها، لقد قضت نحبها في الثالثة والعشرين من عمرها محبوبة من الجميع. وداعاً يا سلوتي! " وجاء في قبرية أخرى: "إلى زوجتي العزيزة التي عشت معها ثمانية عشر عاماً سعيدة. ولقد لأقسمت من فرط حبي لها ألاّ أتزوج قط غيرها"(56). وفي وسعنا أن نتصور أولئك النساء في بيوتهن-يغزلن الصوف، يعذرن أبناءهن ويعلمنهم، ويرشدن الخدم إلى واجباتهم، ويحسن القيام على مصروفهن القليل، ويشتركن مع أزواجهن في عبادة آلهة البيت التي اعتدن أن يعبدنها من أقدم الأزمان. ولقد كانت رومة رغم ما فيها من فساد، لا بلاد اليونان، هي التي رفعت شأن الأسرة وسمت بها في مدارج الرقي الجديدة في العالم القديم.

ص: 320

الفصل الرابع

‌الثياب

إذا جاز لنا أن نحكم على الرومان من بضع مئات من التماثيل، قلنا إن رجال الرومان في عهد نيرون كانوا أكثر بدانة، وألين أجساماً، وأرقى ملامح من أمثالهم في عصر الجمهورية الناشئة. لقد كانت سيطرة الرومان سبباً في احتفظ الكثيرين منهم بالصلابة وشدة المراس، يخشاهم الناس أكثر مما يحبونهم؛ ولكن الطعام والخمر والكسل أثرت في أجسام غير هؤلاء فأكسبتهم بدانة لو أنها كانت في أسرة سبيو لجللتها العار. وكانوا لا يزالون يحلقون لحاهم- أو على الأصح كان لهم حلاًقون (Tensores) يحلقون على لحاهم. وكان اليوم الذي يحلق فيه الشاب لحيته أول مرة يوم يحتفل به في حياته. وكثيراً ما كان يهب شعر عارضية الأول إلى إله من الآلهة دليلاً على ورعه وتقواه (57). وقد احتفظ العامة من الرومان بعادتهم التي كانوا عليها في عهد الجمهورية عادة تقصير شعر رؤوسهم، أو إزالته كلها، ولكن عدداً متزايداً من الغنادرة

(1)

كانوا يقصون شعرهم. وهكذا يمثل لنا ماركس أنطونيوس ودومتيان. وكان كثير من الرجال يتحلون بالشعر المستعار، ومنهم من كانوا ينقشون على قحوف رؤوسهم ما يشبه الشعر (58). وكانت جميع الطبقات في العهد الذي نتحدث عنه تلبس داخل البيوت وخارجها اللفاعة البسيطة Tunic أو الصدرة الواسعة Blouse؛ أما الطوغة (Toga) أو الجبة الرومانية فلم تكن تلبس إلا في المناسبات الرسمية، وكان يلبسها الموالي حين يستقبلهم الشريف الذي يحميهم،

(1)

جمع غندر كجندب وقنفذ وهو الغلام السمين الغليظ الناعم وهذا اللفظ هو الذي أخذ منه العامة لفظ غندور وهو المعنى الذي استعملناه فيه هنا. (المترجم)

ص: 321

والأشراف إذا ذهبوا إلى مجلس الشيوخ أو مشاهدة الألعاب. وكان قيصر يلبس طوغة أرجوانية ويتخذها شعاراً لمنصبه، وقد حذا حذوه في هذا كثيرون من كبار الموظفين، ولكن الطوغة الأرجوانية لم تلبث أن أصبحت امتيازاً خاصاً بالأباطرة. ولم يكونوا يعرفون السراويل (البنطلون) التي تضايقنا في هذه الأيام، ولا الأزرار الخدّاعة التي لا فائدة للكثير منها، ولا السراويل المنتفخة الضيقة عند الركبتين. لكن الرجال بدءوا في القرن الثاني يلفون أرجلهم باللفافات العريضة Fasciae، أما الأحذية فكانت تختلف من الخف البسيط- وهو نعل من الجلد أو الفلين مشدود بشريط من الجلد بين الإصبع الكبرى والتي تليها كما يفعل أهل نيبون Nippon- إلى الحذاء الكامل المصنوع كله من الجلد أو الجلد والقماش. وكانوا ينتعلونه عادة مع الطوغة في المناسبات التي تتطلب ارتداء الثياب الكاملة.

أما النساء الرومانيات في عهد الإمبراطورية الأول، كما نشاهدن في المظلمات وفي التماثيل وعلى النقود، فقد كن ذوات شبه قريب بنساء الولايات المتحدة الأمريكية في بداية القرن العشرين إذا استثنينا من هذا التعميم أنهن كلهن تقريباً كن ذوات بشرة سمراء. وكانت أجسامهن متوسطات في النحافة، وكانت أثوابهن تخلع عليهن قواماً رشيقاً فاتناً، وكن يدركن قيمة ضياء الشمس، والرياضة، والهواء الطلق، وما لها من أثر في صحة الجسم واعتدال القوام، وكان منهن من يمارسن الألعاب الرياضية بالأثقال، ومنهن من لا ينقطعن عن السباحة، ومن يعشن على نظام خاص من الطعام. وكان بعضهن يربطن صدورهن بالمشدات (59). وكانت النساء في العادة يمشطن شعرهن ويعقدنه خلف العنق، وكن في الغالب يغطينه بالشباك، ويربطنه بشريط فوق الرأس. وتطلبت الأزياء المستحدثة بعدئذ تنظيماً جديداً للشعر أرقى من هذا التنظيم القديم، فكان يرفع أحياناً فوق أسلاك معدنية، وتضاف إليه غدائر مستعارة شقراء اللون مأخوذة من شعر الفتيات الألمانيات (60). وكانت المرأة المتطرفة على

ص: 322

الطراز الحديث تستخدم عدداً من الجواري ساعات طوالاً في تدريم أظافرها وتصفيف شعرها (61).

وكانت أدهان الوجه والشعر كثيرة كثرتها في هذه الأيام. ويقول جوفنال إن "التجميل" كان من أهم فنون ذلك العصر، وقد كتب فيه الأطباء، والملكات، والشعراء، مجلدات (62). وكان صوان السيدة الرومانية مستودعاً غاصاً بالأدوات- من ملاقط، ومقصات، وأمواس، ومبارد، وفراجين، وأمشاط، ومكاشط، وشباك للشعر، وضفائر مستعارة- وأباريق أو قناني للعطور، والأدهان والزيوت والمعاجين، وحجارة الخفاف، والصابون. وكانت الجموش تستخدم لإزالة الشعر، والمراهم المعطرة لتمويجه أو تثبيته. وكانت كثيرات من النساء تضع على أوجههن في الليل غماء من العجين ولبن الأتان وهو مزيج اصطنعته بوبيا Poppea لأنها وجدت فيه عوناً لها على إخفاء عيوب وجهها. ومن أجل هذا كانت الأتانات تصحبها أينما سافرت، وكانت أحياناً تصطحب قطيعاً كاملاً منهن وتستحم بلبنهن (63). وكانت النساء يطلين وجوههن بالمساحيق والمعاجين البيضاء أو الحمراء، ويصبغن حواجبهن ورموشهن، أو يطلينها باللون الأسود؛ وكانت الأوعية الدموية في الصدغين ترسم فوقها أحياناً خطوط دقيقة زرقاء (64). وكان مما يشكو منه جوفنال أن المرأة الغنية "تكثر من مراهم بوبيا التي تلتصق بشفتي زوجها المنكود الحظ"، الذي لا يرى وجهها قط. وكان أوفد يرى هذه الفنون كلها خداعاً في خداع، وينصح السيدات أن يخفينها كلها عن عشاقهن عدا تمشيط شعرهن الذي يسبي عقله (66). وأضيفت الثياب الكتانية الرفيعة في ذلك العهد إلى أثواب النساء البسيطة التي كن يلبسنها قبل حروب هنيبال. وكانت خمرهن تسدل فوق أكتافهن، والبراقع تخفي الوجوه فتزيدهن إغراء وفتنة. وكانت الثريات من النساء يلبسن في الشتاء أثواباً من الفراء تزيدهن جمالاً على جمالهن. أما الحرير فكان واسع الانتشار يلبسه الرجال والنساء على

ص: 323

السواء. وكان هو والتيل يصبغ بالأصباغ الغالية، وكثيراً ما كان الثري الروماني يدفع ألف دينار ثمناً لرطل من صوف صور المزدوج الصباغة (67). وكان التطريز بخيوط الذهب والفضة يستخدم لتزيين الثياب، والسجف، والطنافس، وأغطية، الفرش. وكانت أحذية النساء تصنع من الجلد اللين الرقيق أو القماش، وتفصل أحياناً تفصيلاً جميلاً، وكانت مفتوحة من أعلاها، تزركشن أحياناً بالذهب وتحلى بالجواهر (68)، وتضاف إليها الكعوب العالية أحياناً لتعوضهن ما حرمتهن منه الطبيعة.

وكانت الجواهر عنصراً هاماً في جهاز النساء، فكانت الخواتم، والأقراط وعقود العنق والصدر، والتمائم، والأساور، والمشابك، من مستلزمات الحياة. وقد ارتدت لوليا بولينا Lollia Poulina يوماً ما ثوباً مغطى من رأسها إلى قدمها بالزمرد واللؤلؤ، وكانت تحتفظ معها بالإيصالات الدالة على أن هذه الجواهر قد كلفتها أربعين مليون سسترس (69). ويصف بلني أكثر من مائة نوع مختلفة من الحجارة الكريمة المعروفة في رومة. وكان تقليد هذه الجواهر تقليداً محكماً صناعة رائجة يشتغل بها عدد كبير من الصناع. وكان "الزمرد" الروماني المصنوع من الزجاج أرقى كثيراً من مثيله في هذه الأيام، وقد ظل بائعو الجواهر يبيعونه على أنه زمرد حقيقي حتى القرن التاسع عشر بعد الميلاد (70). وكان الرجال والنساء على السواء مولعين باقتناء الحجارة الكبيرة التي تستلفت النظر؛ وقد وضع أحد أعضاء مجلس الشيوخ في خاتم له "عين هر" في حجم البندقة، ولما سمع بذلك أنطونيوس، أمر بأن يدون اسمه في سجل المحكوم عليهم بالنفي؛ ولكن الشيخ فر وفي إصبعه مليونا سسترس. وما من شك في أن الجواهر كانت في ذلك الوقت- كما كانت في كثير من الأحيان- وقاية من التضخم المالي أو الثورة. وكانت الصحافة الفضية وقتئذ مألوفة عند جميع الطبقات إلا أفقرها. وقد أصدر تيبيريوس وغيره من الأباطرة

ص: 324

الذين جاءوا بعد عدة مراسيم تحرم الترف، ولكنه لم يكن في وسعه إرغام الناس على طاعتها، وسرعان ما أغفل أمرها. وخضع تيبيريوس للأمر الواقع وأقر بأن تبذير الأشراف والحديثي النعمة يحول بين الصناع في رومة والشرق وبين التعطل، ويساعد على تسرب خراج الأقاليم من العاصمة. ويقول "كيف تستطيع رومة، وكيف تستطيع الولايات، أن تعيش بغير الترف؟ ".

ولم تكن ثياب النساء والرجال في رومة أكثر ترفاً من ثياب نساء هذه الأيام، أو أكثر فخامة أو غلى ثمناً من ثياب الأشراف في العصور الوسطى. ولم تكن الأزياء تتبدل في رومة بالسرعة التي تتبدل بها في المدن الحديثة، بل كان الثوب الحسن يبقى مدى الحياة في بعض الأحيان دون أن يصبح زياً عتيقاً. ولكننا إذا وازنّا بين حياة الطبقات العليا في رومة وبينها في عصر الجمهورية قبل أن يأتي بمبي لوكلس بغنائم الشرق وملذاته، حكمنا بأن رومة أضحت في العصر الذي نتحدث عنه جنة ينعم بها المترفون بأفخر الثياب وأشهى الطعام المختلف الأنواع، وأجمل الأثاث، وأفخم البيوت. ولما أن جرد الأشراف مما كان لهم من زعامة سياسية، وكادوا يحرمون كل سلطان سياسي، وانسحبوا من الجمعيات السياسية إلى قصورهم، ولم يكن عليهم من أنفسهم وازع من الأخلاق اللهم إلا وازع الفلسفة، أطلقوا العنان لشهواتهم وأخذوا يسعون لاغتراف اللذة والتنعم بفن الحياة.

ص: 325

الفصل الخامس

‌يوم في حياة روماني

لقد سار الترف في المنزل أسرع من سير الترف في الملابس، وحسبنا أن نذكر من بين مظاهر الترف التي كانت تزدان بها القصور في عصر نيرون أرضها المصنوعة من الرخام والفسيفساء، وأعمدتها المقامة من الرخام والمرمر والجزع المختلف الألوان، وجدرانها المزدانة بالصور الزاهية أو المطعمة بالحجارة الغالية الثمن، وسقفها المصفحة بالذهب (71) أو المغطاة بألواح الزجاج السميك (72)، ونضدها المصنوعة من خشب الليمون وأرجلها من العاج، وآرائها المنقوشة بأصداف السلاحف أو العاج أو الفضة أو الذهب، والاستبرق الإسكندري أو الأغطية البابلية التي كان يدفع فيها الأثرياء العاديون ثمانمائة ألف سسترس ويدفع فيها نيرون أربعة ملايين (73)، والأسرة البرونزية ذات الكلال، والثرييات من البرونز أو الرخام أو الزجاج، والتماثيل، والصور الملونة، والتحف الفنية، والمزهريات المصنوعة من البرونز الكورنثي أو الزجاج المرهيني؛ حسبنا أن نذكر هذه ليتبين القارئ ما كان ينعم به الأثرياء في ذلك العهد.

لقد كانت القصور أشبه الأشياء بالمتاحف، وكان لا بد من استيراد العبيد ليحرس بعضهم هذه الثروة الطائلة، ويحرس البعض الآخر هؤلاء الحراس؛ وكان في بعض البيوت أربعمائة من هؤلاء العبيد، يخدمون صاحب البيت وأسرته، أو يشرفون على بيته، أو يشتغلون ببعض الصناعات المنزلية؛ وكانت حياة الرجل حتى في أخص خصائصها يطلع عليها هؤلاء العبيد. لقد كان يأكل والأتباع عن يمينه وشماله، ويخلع ملابسه وعند كل حذاء من حذاءيه عبد، ويضطجع ليستريح وعند كل باب

ص: 326

من أبوابه خادم. لم تكن هذه هي الجنة بل كانت هي الشقاء كل الشقاء؛ وكأنما أراد الثري الروماني العظيم أن يزيد حياته شقاء على شقائها، فكان يبدأ يومه حوالي الساعة السابعة باستقبال "مواليه" والمتطفلين عليه يعرض عليهم خدمه ليقبلوهما، ثم يفطر بعد ساعتين أو نحوهما من ذلك الوقت، ويستقبل من يزورونه من أصدقائه أو يرد لهم الزيارات. وكانت آداب اللياقة تحتم على الرجل أن يرد الزيارة لكل صديق يزوره، ويساعده في قضاياه وفي قضايا مطالبه، ويشهد الاحتفال بخطبة ابنته وبلوغ ابنه سن الرشد، وقراءة قصائده والتوقيع على وصيته. وكان يؤدي وغيرها من الواجبات الاجتماعية بأدب ومجاملة لا يفوقهما أدب أو مجاملة في أية حضارة من الحضارات. ثم يذهب الرجل العظيم إلى مجلس الشيوخ، أو يعمل في إحدى اللجان الحكومية، أو يشرف على شئونه الخاصة.

أما حياة الرجل صاحب الثروة المتواضعة فكانت أبسط من هذه الحياة السابق وصفها، ولكنها لم تكن أقل منها مشقة، فكان إذا انتهى من زيارات الصباح الاجتماعية عني بأعماله الخاصة حتى منتصف النهار. وكان عامة الناس يبادرون بالذهاب إلى أعمالهم من مطلع الشمس، ذلك أن الروماني العادي كان ينتفع بيومه على أكمل وجه لأنه لم يكن يشترك في الحياة الاجتماعية في أثناء الليل. وكان يتناول وقت الظهيرة غذاء خفيفاً، ويتناول وجبة كاملة في الساعة الثالثة أو الرابعة، وتتأخر هذه الوجبة كلما كان الرجل أرقى منزلة. وكان الفلاح أو العامل الأجير بعد أن يتغدى ويغفو قليلاً يعود إلى عمله إلى قرب الغروب، أما غير الفلاّح والأجير فكانوا يخرجون إلى التنزه في الخلاء أو في الحمامات العامة. وكان الرومان في عهد الإمبراطورية يرون الاستحمام أوجب عليهم من عبادة الآلهة، وكانوا كاليابانيين يطيقون الروائح العامة أكثر مما يطيقون رائحتهم الخاصة، ولم يكن يضارعهم شعب آخر في نظافة الجسم غير المصريين. وكانوا يحملون معهم مناديل (Sudaria) ليمسحوا بها عرقهم (74)، ويصطنعون

ص: 327

الفرجون لتنظيف أسنانهم بالمساحيق والمعاجين. وكانوا في عهد الجمهورية الأول يكتفون بالاستحمام مرة كل ثمانية أيام، أما في الوقت الذي نتحدث عنه فكان الروماني يستحم كل يوم وإلا نالته نكتة من نكات مارتيال. ويقول جالينوس إن القرويين أنفسهم كانوا يستحمون كل يوم (75). وكان في معظم البيوت أحواض للإستحمام، أما بيوت الأغنياء فكان فيها حمامات وتوابعها يتلألأ فيها الرخام والزجاج والصنابير وصفائح الفضة المثبتة على الجدران (76). لكن الكثرة الغالبة من أحرار الرومان كانت تعتمد على الحمامات العامة.

وكانت هذه الحمامات في العادة ملكاً للأفراد، وكان عددها في رومة عام 33 ق. م مائة وسبعين حماماً، وفي القرن الرابع بعد الميلاد كان فيها 856 حماماً عدا حمامات السباحة العامة البالغ عددها 1332 (77). وكان أهم من هذه وتلك وأكثر اجتذاباً للشعب الحمامات العظيمة التي أقامتها الدولة وعهدت إدارتها إلى ملتزمين، وعبئت فيها مئات من الرقيق. وكانت هذه "الحمامات الحارة"(Thermae) التي شادتها أجربا وشادها من بعدها نيرون، وتيتس، وتراجان، وكركلا، وإسكندر سفيرس، ودقلديانوس، وقسطنطين، منشآت ضخمة فخمة تطبع الدولة بالطابع الاشتراكي. وكان في حمام نيرون 1600 مقعد من الرخام، وكان يتسع لألف وستمائة مستحم في وقت واحد. أما حمامات كركلا ودقلديانوس فكان الواحد منها يتسع لثلاثة آلاف. وكانت مفتحة الأبواب لكل روماني، ولم يكن أجرها يزيد على ما يعادل 3 slash 200 من الريال الأمريكي (78)، وكانت الحكومة تسد العجز من أموال الدولة؛ ويلوح أن هذا الأجر كان يشمل الزيت وخدمة المستحمين. وكانت الحمامات تفتح من مطلع الفجر إلى الساعة الواحدة بعد الظهر لاستقبال النساء، ومن الساعة الثانية إلى الثامنة لاستقبال الرجال، ولكن معظم الأباطرة كان يبيح للرجال والنساء أن يستحمو معاً. وكانت العادة المألوفة أن يذهب الزائر أولاً إلى حجرة

ص: 328

خاصة يبدل فيها ثيابه، ثم ينطلق إلى مكان التمارين العضلية ليلاكم، أو يصارع، أو يستبق، أو يقفز، أو يقذف القرص أو الحربة، أو يلعب الكرة. وكانت ألعاب الكرة على أنواع منها نوع شبيه بلعبة "الكرة الطبية" عندنا، ومنها نوع آخر تتنازع الكرة فيها طائفتان وتعدو بها كل طائفة إلى الأمام بحماسة لا تقل عن حماسة اللاعبين من طلبة الجامعات في هذه الأيام (79). وكان لاعبو الكرة المحترفون يأتون أحياناً إلى الحمامات ليعرضوا ألعابهم على روادها (80). أما كبار السن الذين يكتفون بأن يشاهدوا ألعاب غيرهم فكانوا يذهبون إلى حجرات التدليك حيث يزيل لهم العبيد ما تراكم في أبدانهم من الدهن.

ثم ينتقل المستحم إلى الحمام ذاته، فيدخل أولاً حجرة متوسطة الحرارة يسخنها هواء دفيء، ثم يخرج منها إلى الحجرة الحارة ذات الهواء الحار، فإذا أراد أن يتصبب عرقه أكثر مما تصبب في هاتين الحجرتين انتقل إلى حجرة أخرى فيها بخار شديد الحرارة. ثم يستحم بالماء الساخن ويغسل جسمه بشيء جديد تعلمه من الغاليين- وهو صابون مصنوع من الشحم ورماد خشب الزان والدردار (81) وهذه الحجرات الساخنة كانت أحب الحجرات إلى الشعب، وهي التي سمى اليونان الحمامات باسمها؛ ولعلها كانت هي المحاولة التي بذلها الرومان لتخفيف وطأة داء الرثية وأوجاع المفاصل (82). ويتنقل المستحم بعدئذ من حجرة إلى حجرة كل منها أقل حرارة من سابقتها، حتى يصل إلى الحجرة الباردة فيغتسل فيها بالماء البارد، ويستطيع إذا شاء أن يغطس في حمام السباحة. ثم يدلك بالزيت أو بعض المراهم المصنوعة في العادة من زيت الزيتون. ولم تكن هذه الزيوت والمراهم تغسل عن الجسم، بل كان يكتفي بحكها بمكشط ثم يجفف الجسم بقطيلة، وذلك لكي يعود بعض الزيت إلى الجسم بدل الشحم الذي أزاله منه الحمام الحار.

وقلّما كان المستحم يغادر الحمّام بعد أن يصل إلى هذا الحد، لأن هذه الأماكن لم تكن حمّامات فحسب، بل كانت بالإضافة إلى هذا نوادي، فيها

ص: 329

حجرات للألعاب كلعب النرد والشطرنج (83)، ومعارض للصور والتماثيل ومنصات يجلس عليها الأصدقاء ليتحدثوا، ومكتبات وحجرات للمطالعة، وأبهاء يجلس فيها موسيقى يعزف أو شاعر ينشد بعض قصائده، أو فيلسوف يفسر أسرار العالم. وكان المجتمع الروماني يلتقي في هذه الساعات التي يقضيها في هذه الحمّامات بعد الظهيرة، ويختلط فيها النساء والرجال بلا قيد، ويلهون، ويتناقشون، ويتغازلون على سجيتهم، ولكنهم لا يخرجون عن جادة الأدب. في هذه الأماكن وفي الملاعب كان الرومان يشبعون شهوتهم في الحديث وحبهم للثرثة وتتبع الأنباء، ويعرفون كل ما يحدث داخل البيوت من حوادث وفضائح.

وكان في وسعهم إذا شاءوا أن يتناولوا طعامهم في مطعم الحمام، ولكن كثرتهم كانت تفضل الطعام في البيت. ولعل السبب في نشوء عادة النوم بعد هذه الوجبة هو ما يعتريهم من تراخ وكسل بسبب الجهد والحمّام الحار. وكانت النساء في بادئ الأمر يجلسن بمعزل عن الرجال حين يضطجع هؤلاء، أما في العصر الذي نتحدث عنه فقد كانت النساء تضطجع إلى جوار الرجال، وقد سميت حجرة الطعام المسماة عندهم "تركلينيوم أي ذات المضاجع الثلاثة" بهذا الاسم لأنها كانت تحتوي في العادة على ثلاثة مضاجع حول الخوان يتسع كل واحد منها عادة لثلاثة أشخاص. وكان من يتناول الطعام يسند رأسه على ذراعه اليسرى وذراعه على وسادة، ويمد جسمه في خط مستقيم متجه إلى الجهة المقابلة للمائدة.

وظلت الطبقات الفقيرة تعيش أكثر ما تعيش على الحبوب، ومنتجات الألبان، والخضر، والفاكهة، والنقل. ويذكر بلني أنواعاً كثيرة من الخضر التي يطعمها الروماني تختلف من الثوم إلى السلجم. وكان الأغنياء يأكلون اللحم ويكثرون من أكله إكثار النهمين المستهترين، وكان أحبه إليهم لحم الخنزير. ويمتدح بلني الخنازير لأنها تمد الرومان بخمسين نوعاً مختلفاً من الأطعمة (84).

ص: 330

وكانت أمعاء الخنازير المحشوة Potule تباع في الشوارع في أفران متنقلة كما تباع في طرقاتنا العامة اليوم.

وكان الروماني، إذا دعى إلى وليمة، ينتظر أطعمة أندر من هذه الأطعمة السالفة الذكر. وكانت الوليمة تبدأ في العادة في تمام الساعة الرابعة وتدوم إلى وقت متأخر من الليل أو إلى صباح اليوم التالي. وكانت الأزهار والبقدونس تنثر على المائدة، والهواء يعطر بالأرواح المحضرة من خارج البلاد، والمضاجع تغطى بالوسائد اللينة الناعمة، وكان الخدم يرتدون أزياء خاصة متماثلة. وتقدم أولاً المشهيات (Gustatio) ، ثم تأتي بينها وبين الحلوى المسماة عندهم Secunda Mensa أو المائدة الثانية الأصناف الشهية النادرة التي يفخر بها المضيف ورثيس طهاته. وكانت أنواع السمك والطيور والفاكهة النادرة تشبع غريزة التشوف ولذة الحلق معاً، فكان سمك البيّاح

(1)

يبتاع بألف سسترس للرطل الواحد، وقد ابتاع أسنيوس سلر Asinius Celer سمكة من هذا النوع بثمانية آلاف سسترس. ويقول جوفنال وهو غضبان أسف إن الصياد كان أقل قيمة من السمكة. وكان مما يزيد من بهجة الضيوف أن تحضر السمكة حية وتطهي أمام أعينهم، حتى يستمتعوا بمختلف الأوان التي تتلون بها وهي تعالج سكرات الموت (85). وكان فديوس بليو Vedius Pollis يربى هذا السمك، الذي يبلغ طول الواحدة منه قدماً ونصف قدم، في حوض كبير ويطعمه لحم المغضوب عليهم من العبيد (86). وكان سمك الجريث Eel والحلزون Snails عندهم من الأطعمة الشهية، ولكن القانون كان يحرم أكل الزغبة (الدرموس Dormouse)

(2)

. وكانت أجنحة النعام، وألسنة (البشروش)(Flamingo) ، ولحوم الطيور المغردة وأكباد الإوز، من أشهى

(1)

عن معجم الدكتور شرف، وهو المعروف في مصر باسم البربون وبالإنجليزية باسم Mullet.

(2)

حيوان قارض بين السنجاب والفأر سمى كذلك لكسله في فصل الشتاء.

ص: 331

الأطعمة الرومانية. وقد اخترع أبسيوس Apicius- وهو من مشهوري الأبيقوريين في عهد تيبيريوس- "فطائر الأكباد السمان" وذلك بزيادة سمنة أكباد الخنازير بإطعامها التين

(1)

. وكان العرف يبيح للطاعم أن يفرغ معدته من الطعام بتناول مقيئ بعد الوليمة الثقيلة. وكان بعض النهمين يفعلون هذا في أثناء الوليمة ثم يعودون إليها ليشبعوا جوعهم. وقد قال سنكا في هذا "إنهم يتقايئون ليأكلوا ويأكلون ليتقايئوا"(90)(Vomunt Set Edant، Ant، Edant Ut Vomant) . لكن هذا كان مسلكاً شاذاً، وليس هو أسوأ من مسلك مدمني الخمر من الأمريكيين. وكان أظرف من هذه العادة عادة تقديم الهدايا إلى الضيفان أو إسقاط الأزهار أو العطور عليهم من سقف الحجرات، أو تسليتهم بالأنغام الموسيقية، أو الرقص، أو الشعر، أو التمثيل وكانت الليالي تختتم بالحديث فتنطلق الألسن من عقالها بسبب الخمر، ويثيرها وجود النساء في المآدب.

وليس لنا أن نظن أن هذه المآدب كانت هي الخاتمة العادية التي يختتم بها كل يوم من حياة الروماني، أو أنها كانت أكثر في حياتهم من مآدب هذه الأيام. إن التاريخ، كالصحف، يسيء تصوير الحياة، لأنه مولع بالشاذ من كل شيء، ويتجنب حياة الرجل الشريف التي لا أخبار فيها، والحياة اليومية الهادئة الرتيبة السوية. لقد كان معظم الرومان خلقاً عاديين أشبه الناس بنا وبحيرتنا، يستيقظون من النوم كارهين، ويفرطون في الأكل، وفي العمل، ولا يلعبون إلا قليلاً، ويحبون كثيراً، وقلّما يكرهون، ويتشاجرون بعض الشيء، ويكثرون من الكلام، ويحلمون أحلام اليقظة وينامون.

(1)

لقد بدد أيسيوس أموالاً طائلة في بذخه وإسرافه، فلما لم يعد يملك إلا عشرة ملايين سسترس (1. 500. 000 ريال أمريكي) انتحر. وبعد مائتي عام من انتحاره عزى إليه كتاب في فن الطبخ ليست له يد فيه، ولكنها الأساليب التي يجيزها القدامى.

ص: 332

الفصل السادس

‌يوم عطلة روماني

‌1 - المسرح

كان لرومة أيام عطلة كثيرة، كانت في أيامها القديمة مطبوعة بطابع الوقار الديني، وفي الأيام التي نتحدث عنها مرحلة ملؤها المباهج الدنيوية. وترجع هذه الكثرة إلى تعدد آلهتهم وكثرة الأقاليم التي تمتص خيراتها. وكان الكثيرون من فقرائها يفرون في الصيف من حرارتها ورطوبتها إلى حانات الضواحي وشواطئ البحر وأيكها، يشربون، ويأكلون، ويرقصون، ويعشقون في الهواء الطلق. وكان ذوو اليسار منهم يذهبون إلى شواطئ الاستحمام المنتشرة على الساحل الغربي، أو إلى خليج بايا Baiae مع واسعي الثراء. وكان من أشد ما يرغب فيه كل من يعتد بطبقته أن يذهب إلى الجنوب- إلى رجيوم Rhegium أو تارنتم إن استطاع- ويعود منه وقد لفحت الشمس جلده ليثبت أنه من ذوي اليسار. ولكن الذين يبقون في رومة لم يكونوا يعدمون فيها الكثير من ضروب اللهو والتسلية القليلة الكلفة. لقد كانوا يجدون فيها تلاوة الشعر، والمحاضرات والحفلات الموسيقية، والكثير من المجون، والمسرحيات، والمباريات الرياضية والاقتتال لنيل الجوائز، وسباق الخيل، والعرباتـ والصراع المميت بين الرجال والرجال أو بين الرجال والوحوش، والمعارك البحرية الصاخبة الزائفة في البحيرات الصناعية- وقصارى القول أن رومة لم تكن تضارعها قبلها مدينة أخرى في كثرة ضروب اللهو والتسلية.

وكان لرومة في عهد الإمبراطورية الباكر خمسة وسبعون عيداً تقام فيها

ص: 333

الألعاب، منها خمس وخمسون تخصص للمسرحيات أو ألعاب المجون، و 22 للألعاب في الحلبات أو المضامير أو المدرجات. وازداد عدد الألعاب حتى أصبحت في عام 354 م تعرض في 175 يوما (91)؛ ولم يصحب هذه الزيادة زيادة في المسرحيات الرومانية؛ بل حدث عكس هذا، حدث أن اضمحلت المسرحيات في الوقت الذي ازدهر فيه المسرح، وكانت المسرحيات الجديدة تكتب الآن لتقرأ لا لتمثل، واكتفت دور التمثيل بالمآسي القديمة الرومانية واليونانية، والمسالي والمساخر القديمة الرومانية. وكان نجوم التمثيل يسيطرون على المسرح ويجمعون من عملهم أموالهم طائلة؛ فقد ترك إيسبس Aasopus ممثل المآسي عشرين مليون سسترس بعد حياة من الإسراف والبذخ؛ وكان رسيوس Roscuis الممثل الهزلي يكسب خمسمائة ألف سسترس في العام، وقد بلغ من الثراء حداً جعله يمثل في عدة مواسم من غير أجر- وكان هذا احتقاراً للمال جعل هذا العبد المحرر واسطة العقد في مجالس الأشراف. أما الألعاب التي كانت تدور في الحلبات والمدرجات فكانت تستحوذ على اهتمام الجمهور وتفسد أذواقه، وقد مات التمثيل الروماني ودفن في المجتلدات، وكان شهيداً آخر من شهداء أيام الأعياد الرومانية.

ولما زاد الاهتمام في التمثيل بحركات الممثلين وبالمناظر بدل الحبكات والأفكار تخلى التمثيل عن مكانه في المسرح إلى التهريج والمساخر. وكانت المساخر لا تحتوي إلا على القليل من الحوار، وكانت تختار موضوعاتها من حياة أحط الطبقات، وتعتمد على تصوير الشخصيات تصويراً بارعاً في التقليد الساخرز وبعد أن قضى على حرية القول في الجمعيات وفي السوق بقيت بعض الوقت في هذه المهازل القصيرة، حيث كان في وسع الماجن أن يجازف برفع رأسه وإطلاق لسانه لينال بذلك تصفيق الجماهير بتورية يسددها إلى الإمبراطور أو الملتفين حوله. وقد أمر كلجيولا بحرق أحد الممثلين حياً في المدرج عقاباً له على إشارة من هذا النوع (92). وفي اليوم الذي دفن

ص: 334

فيه فسبازيان الشحيح مثلت مهزلة قلدت فيه جنازته تقليداً ساخراً، كان من مناظرها أن جلست الجثة في أثناء موكب الجنازة وسألت كم أنفقت الدولة على هذه الجنازة؛ ولما قيل لها إنها أنفقت "عشرة ملايين سسترس" أجابت بقولها "أعطوني مائة ألف فقط ألقوني في نهر التيبر"(93). ولم يكن يسمح للنساء بالتمثيل إلا في هذه المهازل، وإذ كانت هذه النسوة يعتبرن بهذا العمل من العاهرات فإنهن لم يكن يخسرن شيئاً بما ينطقن به من بذيء اللفظ. وكان النظارة في بعض المناسبات الخاصة كعيد فلورا ربة الزهر يطلبن إلى أولئك الممثلات أن يخلعن جميع ملابسهن (94). وكان الرجال والنساء يشهدون هذا الضرب من التمثيل كما يشهدونه الآن وقد وجد شيشرون فيه عرائس له كما عثر العرائس عليه فيه.

ولما منع الكلام في هذه المهازل منعاً باتاً، وارتفعت موضوعاتها فأصبحت تستمد من الآداب القديمة، تطورت المهازل الماجنة إلى استعراضات صامتة. وكان في ترك الكلام على هذا النحو كسب للجمهور. ذلك أن سكان رومة المختلفي الأجناس كانت كثرتهم لا تفهم إلا اللغة اللاتينية البسيطة إلى أقصى حد، ومن أجل هذا أصبح في استطاعتها أن تتبع حركات الممثلين بعد أن لم تعد مثقلة بعبء الألفاظ. وفي عام 21 م قدم إلى رومة ممثلان أحدهما من قليقية ويدعى بيلاديس Pylades، والآخر من الإسكندرية ويسمى باثيلس Bathylus؛ وأدخلو فيها التمثيل بالإيمان والحركة- وكان قد انتشر في الشرق الهلنستي. وقد مثلا فيه مسرحيات من فصل واحد ليس فيها إلا الموسيقى، والحركات، والإيماءات والرقص. ورحبت رومة بهذا الفن الجديد لأنها سئمت المسرحيات المؤلفة بالشعر القديم الطنان الرنان، وأعجبت إيما إعجاب بحذق الممثلين ورشاقتهم، وسرت بفخامة ملبسهم وجمال أقنعتهم أو ظرفها، وبأجسامهم المدربة التي أعد للعمل بالغذاء المناسب المنتقى، وبحركات الأيدي

ص: 335

التي تحسن التعبير عن المعاني على الطريقة الشرقية البارعة، وسرعة تقليدهم للشخصيات على اختلاف مشاربها، وتمثيلهم مناظر العشق المثيرة للغرائز الجنسية. وكان النظارة ينقسمون طوائف وجماعات تؤيد كل منها الممثلين المتنافسين، وكثيراً ما كانت نساء الطبقات العليا يقعن في حب الممثلين ويتعقبنهم بالهدايا والعناق، حتى قطعت رأس واحد منهم بسبب علاقته بزوجة دومتيان. وما لبث هذا التمثيل الصامت أن طرد من المسرح الروماني كل ما عداه من أنواع التمثيل ما عدا المساخر الماجنة. وحلت المراقص والمساخر محل المسرحيات الجدية.

‌2 - الموسيقى الرومانية

وكان تطور الموسيقى والرقص ورقيهما هما اللذين جعلا هذا الفوز مستطاعاً. فقد كان ينظر إلى الرقص في عهد الجمهورية على أنه عمل مرذول يجلل الراقص العار. وكان سبيو الأصغر قد أرغم الدولة على أن تغلق المدارس التي تعلم الموسيقى والرقص (95)، وكان مما قاله في هذا "أن الذي ذهب عقله هو وحده الذي يرقص وهو غير سكران"(96). ولكن المسرحية الصامتة جعلت الرقص طرازاً حديثاً مرغوباً فيه، ثم جعلته بعدئذ شهوة قال عنها سنكا: "لا يكاد يخلو بيت واحد من مرقص يردد أصداء وقع أقدام الرجال والنساء؛ وأصبح الآن في بيوت كل ثري معلم للرقص كما فيه طاه وفيلسوف، وأضحى وجود هذا المعلم من مستلزمات هذه البيوت. وكان الرقص في صورته المألوفة في رومة يتطلب حركات منتظمة باليدين والجزء الأعلى من الجزع أكثر مما يتطلبه من حركات الأرجل والأقدام. ولم يكن النساء يتعلمن هذا الفن ويمارسنه لما يكسبهن من جاذبية فحسب، بل لأنه يكسب الجسم مرونة ورشاقة.

وكان الرومان يحبون الموسيقى حباً لا يفوقه إلا حبهم للسلطان، والمال، والنساء، والدماء. وأخذ الرومان موسيقاهم، كما أخذوا كل شيء سواها

ص: 336

في حياتهم الثقافية، عن بلاد اليونان؛ وكان لا بد لهذه الموسيقى أن تشق طريقها وسط مقاومة المحافظين الذين لا يفرقون بين الفن والانحطاط. ذلك أن الرقباء كانوا قبل عام 115 ق. م قد حرموا العزف على أية آلة موسيقية أو النفخ فيها ما عدا الناي الإيطالي القصير، وكان سنكا الأكبر بعد قرن كامل من ذلك الوقت لا يزال يعد الموسيقى غير جديرة بالرجال؛ ولكن فارو Varro كان قبل ذلك الوقت قد خص إلهة الموسيقى De Musica بكتاب من قلمه؛ وأصبحت هذه الرسالة، هي والمصادر اليونانية التي استمدت منها، معيناً لا ينضب لمؤلفات رومانية كثيرة في النظريات الموسيقية (97). وما لبثت الأنغام الموسيقية الخصبة الشهوانية، والآلات اليونانية، أن تغلبت آخر الأمر على الأنغام والآلات الرومانية الساذجة السمجة، وأصبحت الموسيقى عنصراً أساسياً في تعليم النساء، وكثيراً ما كانت عنصراً هاماً في تعليم الرجال أيضاً. وما وافى عام 50 م حتى عمت جميع الطبقات، وتعلمها الذكور والإناث، فكان الرجال والنساء يقضون أياماً كاملة في الاستماع إلى الأنغام أو تأليف المقطوعات أو غنائها. وانتهى الأمر بأن أصبح الأباطرة أنفسهم من الموسيقيين، فكان هدريان الفيلسوف ونيرون المخنث ممن يزدهون بحذقهم العزف على القيثارة. وكان المقصود من قرض الشعر الغنائي أن يغني بمصاحبة الموسيقى، وقلما كانت الألحان الموسيقية توضع إلا للشعر؛ ذلك أن الموسيقى القديمة كانت خاضعة للشعر، عكس ما هي عليه اليوم إذ أنها تنزع إلى السيطرة على الألفاظ وتخضعها لها. وكانت الموسيقى الجماعية منتشرة محبوبة وكثيراً ما كانت تعزف في حفلات الزواج والألعاب والجنائز، وفي الاحتفالات الدينية. وقد تأثر هوراس أشد التأثر بأصوات الفتية والعذارى وهو يغنون Carmen Secul Are، وكان المغنون جميعهم في هذه الأغاني الجماعية يغنون نغمة واحدة وإن اختلفت مقاماتها، ويلوح أن الغناء الانفرادي لم يكن معروفاً عندهم.

وكانت الآلتان الرئيسيتان عندهم هما الناي والقيثارة، ولا تزال آلات

ص: 337

النفخ والآلات الوترية عندنا مجرد تحوير وتعديل لهاتين الآلتين، فأقوى السمفونيات عندنا ليست إلا تأليفاً حكيماً بين النفخ والجذب، والحك، والضرب. وكان الناي يصحب التمثيل، وكان يظن أنه يثير العواطف؛ أما القيثارة فكانت تصحب الغناء، وكان يرجى منها أن تسمو بالروح. وكان الناي طويلاً، ذا ثقوب كثيرة، وأوسع مدى في التعبير من ناي هذه الأيام. أما القيثارة فكانت أشبه بقيثارتنا ولكنها كانت على أنواع وأشكال كثيرة، فكانت عند اليونان ذات حجم صغير ولكن الرومان زادوه إلى حد جعل أميانوس يصف القيثارة بأنها "كبيرة كالعربة"(98) ويمكن القول بوجه عام إن الآلات الموسيقية الرومانية نشأت كما نشأت آلاتنا نحن مما أدخل من تحسين على الآلات القديمة وخاصة على رنينها وحجمها. وكانت أوتار القيثارة تصنع من أمعاء الحيوان أو أوتار أجسامها، وقد بلغ عددها ثمانية عشر وتراً. وكانت تشد عند العزف عليها بمضراب (ريشة) أو بالأصابع، وكانت الأصابع وحدها هي التي تستطيع إخراج سلسلة الأنغام السريعة. وجاء من الإسكندرية في أوائل القرن الأول الأرغن المائي المتعدد النغمات والأنابيب، وقد وقع في قلب نيرون وتأثر كونتليان الهادئ بقوته وتعدد نغماته.

وكانت تقام من آن إلى آن حفلات موسيقية رسمية، وكان للمباريات الموسيقية شأن في بعض الألعاب العامة، بل إن الولائم المتواضعة كانت تتطلب قدراً ولو قليلاً من الموسيقى. وكان مارتيال يعد ضيفه بالاستماع إلى نافخ في الناي على الأقل (99). أما في حفلات تريملكيو Trimalchio فكان الطعام يرفع عن المائدة على أصوات المغنين. وكان لكلجيولا فرقة موسيقية وجوقة من المغنين تطربه في قارب نزهته. وفي التمثيل الصامت كان الغناء الجماعي والرقص يصحبان عزف الفرقة الموسيقية. وكان الممثل في بعض الأحيان يغني أدواره الإنفرادية، وكان يحدث أحياناً أن يغن مغن محترف ألقاط الدور بينما كان الممثل يقوم

ص: 338

بالحركات التمثيلية أو الرقص. ولم يكن من الأمور الشاذة النادرة أن يصحب التمثيل الصامت ثلاثة آلاف راقص (100). وكان قوام الفرقة الموسيقية النايات تساعدها القيثارات، والصنج، والمزامير، والأبواق، والاسكابلا Scabella وهي ألواح معدنية تشد إلى أقدام بعض أفراد الفرقة يضربونها بها فتحدث أصواتاً أشد إزعاجاً من أصوات الفرق الموسيقية الحديثة في أعلى قوتها. ويشير سنكا إلى الإيقاع في عزف الأفراد (101)، ولكنا لا نجد ما يدل على وجوده عند الفرق الموسيقية القديمة. وكانت الموسيقى التي تصحب الغناء تعلو عنه في النغمة عادة ولكن مبلغ علمنا أنها لم تكن تسير على نظام متدرج متتابع واضح.

وكان مهرة الموسيقيين كثيرين، وكذلك كان غير الماهرين، فقد كان ذوو المواهب يهرعون إلى مركز الذهب في العالم من جميع الولايات، وكان نظام الاسترقاق يسمح بتدريب فرق المغنين والعازفين في نطاق واسع وإن كان كثير النفقات. وكان للكثير من الجماعات والهيئات الفنية موسيقيون تختص بهم، وكانت ترسل من تتوسم فيهم النبوغ منهم إلى مهرة الأساتذة لرفع مستواهم، فمنهم من تخصصوا في العزف على القيثارة وأقاموا الحفلات يغنون فيها ويعزفون؛ ومنهم من تخصصوا في الغناء وكان هؤلاء في العادة يؤلفون أغانيهم، وآخرون منهم كانوا يقيمون الحفلات يعزفون فيها على الأرغن وينفخون في الناي، ومن هؤلاء كانوس Cannus الذي كان يفخر كما يفخر بيتهوفن بأن موسيقاه تستطيع تخفيف الحزن وزيادة الفرح، وتعين على التقي وتلهب نار الحب في الصدور (102). وكان هؤلاء الموسيقيون المحترفون يطوفون الولايات النائية في الإمبراطورية، يكسبون المال والثناء وتقام لهم التماثيل ويفتتن بهم النساء، ومنهم على حد قول جوفنال، من كانوا يبيعون حبهم ليزيدوا بذلك أجورهم (102). وكانت النساء يتنافسن في الحصول على الريشة التي يمس بها مشهورو الموسيقيين أوتار آلاتهم، ويقربن القرابين على المذابح ليفوز من يحببن من الموسيقيين في

ص: 339

الألعاب النيرونية والكبتولية. وفي وسعنا أن نرسم في الخيال صورة وإن تكن غير واضحة للمنظر الرائع الذي يجمع الموسيقيين والشعراء من جميع أنحاء الإمبراطورية، وهم يتبارون أما الجموع المحتشدة، والذي يتقدم فيه الفائزون المجهدون ليضع الأباطرة بأيديهم أكاليل أوراق البلوط على رؤوسهم.

ولسنا نعرف عن الموسيقى الرومانية ما يكفي لبسط القول في وصفها. ويلوح أنها كانت أرقى، وأكمل، وأكثر عجيجاً من الموسيقى اليونانية. وقد دخلت عليها من صبغة شرقية من مصر وآسية الصغرى وسوريا. وكان المتقدمون في السن من الرومان يأسفون لأن المؤلفين المحدثين أخذوا يهجرون ما يمتاز به النمط القديم من تمنع ووقار، وأنهم كانوا يتلفون أرواح الشباب وأعصابهم بالأنغام الشاذة والآلات الصاخبة. والذي لا جدال فيه أنه ما من شعب قديم أحب الموسيقى كما أحبها الرومان. فقد كانت أغاني المسرح تتلقفها الجماهير المرحة السريعة الحركة فتردد أصداءها في شوارع رومة ونوافذ بيوتها، وكانت أغاني التمثيل الصامت المعقدة تنطبع في ذاكرة المعجبين بها انطباعاً بلغ من قوته أن كان في مقدورهم إذا سمعوا أولى نغماتها أن يقولوا لك من أية مسرحية هي، ومن أي فصل في المسرحية. على أن رومة لم تفد الموسيقى فائدة حقة اللهم إلا ما عسى أن تكون قد فعلته من تنظيم اللاعبين إلى فرق كبيرة تنظيماً أحسن مما كان عند من سبقهم من الأمم. ولكنها كرمت الموسيقى بإشاعة استخدامها، وبالاستجابة إليها والتأثر بها، يضاف إلى هذا أنها جمعت التراث الموسيقي للعالم القديم في هياكلها، ودور تمثيلها، وبيوتها؛ ولما أن سقطت أورثت الكنيسة الآلات والعناصر المستخدمة في الموسيقى التي تتأثر بها نفوسنا وتحرك مشاعرنا في هذه الأيام.

ص: 340

‌3 - الألعاب

ولما لم يعد للحرب أثر في هذا العهد، أصبحت الألعاب العظيمة أكثر حوادث العام إثارة لمشاعر الرومان. وكانت تقام، أكثر ما تقام، في الاحتفال بالأعياد الدينية- كعيد الأم العظمى، وعيد سيريس Ceres، وعيد فلورا ربة الأزهار، وعيد أبلو، وعيد أغسطس. وقد تكون أحياناً "ألعاب العامة" التي تقام لتسلية الطبقات الدنيا، وقد تكون "الألعاب الرومانية" التي تقام تكريماً للمدينة وإلهتها روما. وكانت تقام أحياناً احتفالاً بنصر، أو نيل منصب رئيسي، أو فوز في انتخاب، أو بمناسبة أحد الأعياد الإمبراطورية. وربما أقيمت احتفلاً بمرور فترة معينة في التاريخ الروماني. وكانت ألعاب إيطاليا في بادئ الأمر تقام زلفي للأموات وتكريماً لهم، شأنها في هذا شأن الألعاب التي أقامها أخيل تكريماً لبتروكلس. من ذلك أنه لما مات بروتس بيرا Brutus Pera في عام 264 ق. م عرض ابنه ثلاث مبارزات؛ ودارت في جنازة ماركس لبدس Marcus Lepidus عام 216 ق. م اثنتان وعشرون معركة، وفي عام 174 احتفل تيتس فلامنيوس Titus Flaminius بجنازة أبيه بأن أقام صراعاً في مجتلد اقتتل فيه اثنان وعشرون رجلاً.

وكانت أبسط الألعاب العامة هي المباريات الرياضية التي تقام في ملعب عام. وكان معظم اللاعبين من المحترفين والغرباء، وكانوا يتبارون في العدو، وقذف القرص، والمصارعة، والملاكمة. ولكن جمهرة الرومان الذين اعتادوا ألعاب المجتلد الدموية لم يكونوا يحبون هذه الألعاب الرياضية إلا قليلاً، وكانوا مولعين بالقتال لنيل الجوائز وهو القتال الذي كان اليونان ينهمكون فيه حتى يكادوا يخرون صرعى، وقد لبسوا في أيديهم قفازات مقواة عند البراجم بأطواق من الحديد يبلغ سمكها ثلاثة

ص: 341

أرباع بوصة. ويصف فرجيل- وهو الرجل الرقيق- حفلة ملاكمة غير شديدة في لغة لا تكاد تفترق عن لغة هذه الأيام فيقول:

"ثم جاء ابن أنكيسيز Anchises بقفازات من الجلد متساوية في الوزن، وربط بها أيدي الملاكمين

ووقف كلاهما في موضعه معتمداً على أطراف أصابع قدميه، ورافعاً ذراعه

ثم يبعد رأسه إلى الوراء ليتقي ضربات خصمه ويبدأ التلاكم باليدين، ويسدد كل منهما ضربات قوية همجية إلى صدر الآخر، وجنبيه، وأذنيه، وجبهته، وخديه، يردد الهواء صداها. ويمد إنتلس Entellus يمناه، وينحرف دارس Dares إلى أحد الجانبين بحركة رشيقة

ويهاجم أنتلس دارس بقوة، ويطرحه على أرض المجتلد، ويكيل له الضربات بيمناه تارة وبيسراه تارة أخرى

ثم يجيء إينياس وينهي المعركة، ويقبل رفقاء دارس ويقودونه إلى السفن تصطك ركبتاه ويتأرجح رأسه من ناحية إلى أخرى وفمه تخرج منه الأسنان والدماء.

وكان السباق في الحلبة الكبرى Circus Maximus أكثر من هذه الملاكمات إثارة لمشاعر النظارة. وكانت أربعون سباقاً تقام في يومين متتاليين منها سباق الخيل يركبها راكبون محترفون؛ ومنها سباق العربات الخفيفة ذات العجلتين يجرها جوادان أو ثلاثة جياد أو أربعة مشدودة إليها جنباً إلى جنب. وكانت الاصطبلات المتنافسة التي يملكها الأغنياء هي التي تؤدي نفقات السباق. وكان الراكبون المحترفون وسائقو المركبات يلبسون حللاً تختلف ألوانها وتطلى المركبات نفسها بألوان مختلفة لكل اصطبل لون خاص يميزه من غيره من الاصطبلات: منها الأبيض والأخضر والأحمر والأزرق. فإذا اقترب موعد هذه المباريات انقسمت رومة كلها شيعاً تسمى كل شيعة باسم اللون الذي تناصره وخاصة اللونين الأحمر والأزرق. وكان نصف الأحاديث في المنازل، والمدارس، والمحاضرات، والسوق الكبرى يدور حول راكبي الخيل المحترفين، وراكبي

ص: 342

العربات، وتعلق صورهم في كل مكان، وتعلن أنباء فوزهم في النشرة اليومية. ومنهم من كان يجني من وراء ذلك ثروات طائلة، ومنهم من كانت تقام له التماثيل في الميادين العامة. وإذا أقبل يوم السباق سار مائة وثمانون ألفاً من الرجال والنساء في حللهم ذوات الألوان الزاهية إلى المضمار الرحب الكبير. وهناك ترتفع حماسة النظارة إلى حدالجنون، فترى أشياع كل جواد يشمون روثه ليتأكدوا من أن ذلك الجواد قد أطعم الطعام الذي يليق به (105). وكان النظارة يمرون بالحوانيت والمواخير الممتدة على طول أسوار المضمار الخارجية، ثم يدخلون من مئات الأبواب ويوزعون أنفسهم على المقاعد المنظمة على شكل حذاء الفرس، والعرق يتصبب من جباههم من فرط الشوق والقلق، والبائعون يبيعون الوسائد لأن المقاعد كانت تصنع في العادة من الخشب الصلب، ولأن السباق كان يستمر طول النهار. وكان لأعضاء مجلس الشيوخ وغيرهم من العظماء مقاعد خاصة من الرخام مزينة بالبرونز، وكان من خلف مقصورة الإمبراطور طائفة من الحجر الفخمة يستطيع- إذا شاء- أن يأكل فيها ويشرب، ويستريح، ويستحم وينام. وكانت حمى المراهنات ترتفع إلى أقصى حد، والثروات تنتقل من يد إلى يد كلما تقدم النهار. وكانت الخيل وراكبوها، والعربات وسائقوها، تخرج من فتحات تحت المقاعد، وكلما بدا لون منها قابله أنصاره بتصفيق ترتج المقاعد من شدته. وكان سائقو العربات- ومعظمهم من العبيد- يلبسون جلابيب زاهية الألوان ويضعون على رؤسهم خوذاً براقة، ويمسك كل منهم بإحدى يديه سوطاً، وفي منطقته سكين يقطع بها السيور المربوطة في وسطه، إذا حدثت له حادثة. وكان شكل المضمار إهليجياً تمتد في وسطه "الشوكة"(Spina) وهي جزيرة طولها ألف قدم تزدان بالتماثيل والمسلات، وفي طرف من أطراف المضمار تقوم "المقاييس"(Metae) وهي عمد مستديرة ينتهي عندها السباق. وكان طول سباق المركبات سبع دورات في العادة، أي حوالي خمسة

ص: 343

أميال. وكان مقياس مهارة السائق هو قدرته على أن يدور حول الأهداف (العمد) بأسرع وأحد ما يستطيع من غير أن يتعرض للخطر، وكثيراً ما كان المتسابقون يصطدمون في هذه الأماكن فتقع المآسي المروعة التي يكون ضحاياها الرجال والمركبات والحيوانات. فإذا ما وصلت الخيل أو المركبات إلى أهدافها قام النظارة، وكأنهم قد استيقظوا من سبات عميق، وماج بهم المكان كما يموج البحر المتلاطم، وأخذوا يشيرون بأيديهم وأجسامهم، ويلوحون بمناديلهم، ويصيحون، ويبتهلون، ويثنون، ويلعنون، ويهللون وهم في نشوة غير طبيعية. وكان التصفيق الذي يحيا به الفائز يسمع على مسافة بعيدة خارج أسوار المدينة.

وكان أعظم المناظر روعة وفخامة منظر الاحتفالات الرومانية التي تمثل فيها المعركة البحرية الرائمة. وكانت أول معركة بحرية كبيرة من هذا النوع هي التي دارت بأمر قيصر في حوض كبير احتفر لهذا الغرض خاصة في خارج حدود المدينة. ولما أراد أغسطس أن يهدي الهيكل الذي أقامه "للمريخ المنتقم" إلى هذا الإله أمر أن تدور معركة بحرية تمثل معركة سلاميس بين ثلاثة آلاف مقاتل في مياه بحيرة صناعية طولها ألف وثمانمائة قدم وعرضها ألف ومائتا قدم. وقد سبق القول إن كلوديوس احتفل بإتمام نفق فوسين Fucine بتمثيل معركة اقتتلت فيها سفن من ذوات الصفوف الثلاثة والأربعة من المجاديف، عليها نحو تسعة عشر ألف رجل. ولكن القتال جرى في رقة أغضبت الإمبراطور واضطرته إلى أن يرسل جنوداً إلى السفن لكي يضمن قدراً كافياً من سفك الدماء (106). ولما احتفل بتدشين الكولوسيوم أمر تيتس بأن تغرق حلبتها بالماء وأن تمثل فيها معركة الكورنثيين والكرثينيين التي أعقبتها حرب البلوبونيز. وكان المقتتلون في هذه المعارك من أسرى الحروب أو المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام؛ وكانوا يقتتلون بحق ويقتل بعضهم بعضاً حتى يفنى أحد الفريقين؛ فإذا ما تبين

ص: 344

أن الفريق الفائز أظهر الشجاعة المطلوبة في التقتيل أمر أن يحرر من الأسر أو ينجو من الإعدام.

وكانت هذه الألعاب تصل إلى غايتها في صراع الحيوانات والمجالدين في المجتلد أو في الكولسويم بعد أيام فسبازيان. وكان المجتلد أرضاً من الخشب فرش عليها الرمل. وكان في الإمكان خفض أجزاء من هذه الأرض ثم رفعها على الفور إذا أريد تغيير المنظم، أو غمر الأرض كلها بالماء بمجرد إشارة تصدر بهذا. وكانت غرف كبيرة تحت أرض المجتلد تحتوي الوحوش، والآلات، والرجال استعداداً لذلك اليوم. وكان من فوق سور المجتلد شرفة من الرخام صفت فيها مقاعد مزينة يجلس عليها الشيوخ والكهنة وكبار الموظفين. وكان فوق هذه الشرفة مقصورة عالية (Suggestum) يجلس فيها الإمبراطور والإمبراطورة على عرشين من العاج والذهب، ومن حولهما أعضاء الأسرة الإمبراطورية والحاشية. ومن خلف هذه الدائرة الممتازة، دائرة الأشراف، يجلس فيها أفراد طبقة الفرسان في عشرين صفاً من المقاعد. ويفصل سور عال مزدان بالتماثيل الطبقات العليا عن السفلى في المقاعد العالية. وكان في وسع أي شخص من الأحرار ذكراً كان أو أنثى أن يشهد الجلاد، ويلوح أنه لم تكن ثمة رسوم تؤدي عن الدخول، وكانت الجماهير تنتهز فرصة وجود الإمبراطور في المجتلد وفي مضمار السباق لتسمعه رغبتها- في العفو عن أسير أو مصارع مهزوم، أو تحرير عبد شجاع، أو حضور مجالد محبوب، أو إصلاح غير ذي بال. وكانت مظلات تنشر فوق المجتلد عند الحاجة إليها، وتمتد على مكان في السور إلى حواجز المجتلد لتظليل ما يتعرض من أجزائه لأشعة الشمس. وكانت في أماكن متفرقة منه تقذف الماء المعطر لتبريد الهواء. فإذا انتصف النهار أسرع معظم النظارة إلى أسفله ليتناولوا غداءهم، وكانوا يجدون حاجتهم من الطعام والشراب والحلوى عند أناس رخص لهم ببيعها في هذا المكان. وكان يحدث في بعض المناسبات أن يأمر

ص: 345

الإمبراطور بإطعام الجماهير المحتشدة كلها من خيراته، وأن تنثر الأطعمة الشهية والهدايا على الجماهير فتتلقفها أيديهم. وإذا ما أقيمت الألعاب في الليل، وكان هذا يحدث أحياناً، كان في الاستطاعة إنزال دائرة من النور فوق المجتلد والنظارة. وكانت فرق موسيقية تطرب المجتمعين في الفترات التي تتخلل الألعاب؛ وفي الأوقات التي تبلغ المباريات حدتها، كانت الموسيقى تعزف أنغاماً مهيجة مثيرة مطردة العلة في النغمة.

وكانت أبسط الحوادث التي تشاهد في المدرج عرض حيوانات أجنبية تجمع من جميع أنحاء العالم المعروف: من فيلة، وأساد، ونمورة رقط وسود، وتماسيح، وأفراس بحر، وأويسات، وقردة، وفهود، ودببة، وخنازير برية، وذئاب، وزرافات، ونعام، ووعول، وغزلان، وطيور نادرة الوجود. وكان يحتفظ بهذه كلها في حدائق الحيوان التي يملكها الأباطرة والموثرون من الأهلين، وتدرب على القيام بألعاب مضحكة. فكانت القردة تعلم ركوب الكلاب وسوق المركباب، والتمثيل في المسرحيات؛ والثيران تدرب على ترك الغلمان يرقصون فوق ظهورها، وآساد البحر تدرب على النباح إذا ذكرت أسماؤها، والفيلة ترقص على صوت صنوج تضربها فيلة أخرى، أو تمشي على حبل، أو تجلس حول مائدة الطعام، أو تكتب حروفاً يونانية أو لاتينية. وكان يكتفي في بعض الأحيان بعرض هذه الحيوانات في حلل زاهية أو مضحكة، ولكنها في العادة كانت تقتل بعضها بعضاً، أو تقاتل الرجال، أو تضرب بالسهام والحراب حتى تموت. وقد حدث في أيام نيرون أن اقتتل أربعمائة نمر مع ثيران وفيلة، وقتل في يوم آخر من أيام كلجيولا أربعمائة دب، ومات في يوم تدشين الكولوسيوم خمسة آلاف حيوان (107). وإذا تبين أن الحيوانات قد فترت غريمتها عن القتال ضربت بالسياط، أو رميت بالسهام، أو كويت بالحديد المحمي ليثار غضبها فتنفر للقتال. وقد أرغم كلوديوس فرقة من الحرس البريتوري على قتال الفهود، وأرغم نيرون فرقة أخرى على أن تقاتل أربعمائة دب وثلثمائة أسد (108).

ص: 346

وأدخل قيصر إلى رومة عادة صراع الثيران والآدميين، وهي العادة التي كانت شائعة في كريت وتساليا من قبله بزمن طويل، وأصبحت منذ عهده من المناظر المألوفة في المدرجات (109). وكان المجرمون المحكوم عليهم بالإعدام يلقون إلى الحيوانات التي استوحشت لهذا الغرض خاصة، وكثيراً ما كان هؤلاء الرجال يغطون بجلود لكي يشبهوا الحيوانات. وكانوا يعانون في أثناء موتهم أشد أنواع الآلام، وكانت جراحهم تتعمق أحياناً في أجسامهم حتى كان الأطباء يستخدمون هذه الأجسام لدراسة تشريحها الداخلي. وليس في العالم من يجهل قصة أندركليز Androcles العبد الآبق، وكيف ألق به إلى أسد في المجتلد بعد أن قبض عليه، ولكن الأسد كما تقول القصة تذكر أن أندركليز خرج في ذات يوم شوكة من مخلبه، فأبى أن يمسه بسوء، وكيف عفى عن أندركليز بعدئذ وظل يكسب عيشه بعرض أسده المتحضر في الحانات (110). وكان يطلب إلى المقضي عليه بالموت في بعض الأحيان أن يمثل تمثيلاً واقعياً دوراً مشهوراً في إحدى المآسي: فقد يمثل دور منافسة ميديا، فيرتدي ثوباً جميلات يلتهب فجأة ويحرقه؛ وقد يمثل هرقل فيحرق حياً فوق كومة من الحطب، وقد تجب خصيتاه علناً كما فعل بأرتيز (إذا صدقنا قول ترتليان Tertullian) ، وقد يمثل دور موسيوس اسكافولا Mucius Scaevola فيبسط يده فوق نار فحم حتى تحترق؛ وقد يمثل دور إكارس Icaeus فيسقط من السماء، لا في بحر رحيم، بل بين قطيع من الوحوش الضاربة، وقد يكون باسفيا Pasipha (، فيحتضن ثوراً. وألبس أحد الضحايا مرة ثياباً كثياب أرفيوس Orpheus، وبعث به ومعه قيثارة إلى مجتلد مثلث فيه أيكة جميلة من الأشجار والجداول، ثم أطلقت من خبايا المجتلد على حين غفلة وحوش جياع ومزقه إرباً (111). وصلب لص يدعى لوريولس Laureolus في المجتلد ليتسلى النظارة برؤيته؛ ولما لم يلفظ آخر أنفاسه بالسرعة المطلوبة جيء إليه بدب وسلطوه عليه ومازالوا يغرونه به حتى أكله

ص: 347

قطعة بعد قطعة وهو معلق في الصليب. ويصف مارتيال هذا المنتظر وصف المعجب به الراضي عنه (112).

وكانت أروع الحادثات في هذه الألعاب هي قتال الرجال المسلحين، إما في صورة مبارزات فردية أو معارك جماعية. وكان المتقاتلون في هذه الحالة من أسرى الحروب، أو المجرمين المذنبين، أو العبيد العاصين. وكان حق المنتصرين في أن يقتلوا أسراهم من الحقوق المعترف بها عادة في العهود القديمة جميعها، ومن أجل هذا كان الرومان يرون أنهم رحماء كرام حين يتيحون لأسراهم فرصة ينجون فيها من الموت بإرسالهم إلى المجتلد. كذلك كان المحكوم عليهم في الجرائم الكبرى يرسلون من كافة أنحاء الإمبراطورية إلى رومة، فيلحقون بمدارس المجالدين ولا يلبثون أن يظهروا في الألعاب، فإذا ما أظهروا في الصراع شجاعة نادرة فقد يحررون من فورهم. وأما إذا نجوا من القتل من غير أن يظهروا هذه الشجاعة فكانوا يرغمون على القتال مرة بعد مرة في الأعياد والمواسم المتوالية؛ فإذا ظلوا أحياء ثلاث سنين استبدل الاسترقاقي بالإعدام؛ وإذا ما أرضوا سادتهم عامين نالوا حريتهم. وكانت الجرائم التي يحكم على مرتكبيها بحياة المجالدين مقصورة على القتل، والسرقة، والتسميم، وتدنيس الأماكن المقدمة، والتمرد؛ ولكن حكام الأقاليم المجدين كانوا يحرصون في بعض الأحيان على سد حاجة الأباطرة إلى أمثال هؤلاء الناس، فيتخطون هذه القيود إذا نقص عدد المجالدين (113). وكان الفرسان وأعضاء مجلس الشيوخ أنفسهم يحكم عليهم أحياناً بأن يقاتلوا في المجتلد؛ بل إن شهوة الثناء وحب التصفيق كانت في بعض الأحيان تدفع أفراداً من طبقة الفرسان لأن يتطوعوا لهذا القتال مختارين، ومن الناس عدد غير قليل كانوا بدخول مدارس المجالدين حباً في المغامرة ومغالبة الأخطار.

وقد وجدت هذه المدارس في رومة من عام 105 ق. م. وكان فيها أربع مدارس من هذا النوع في عهد الإمبراطورية، عدا ما كان منها في

ص: 348

أنحاء إيطاليا وكانت واحدة في الإسكندرية، وكان للأغنياء في أيام قيصر مدارس أنشأوها لأنفسهم ليعدوا فيها العبيد ليكونوا مجالدين، وكانوا يتخذون خريجيها حرساً خاصاً لها في زمن السلم وجنوداً في وقت الحرب، ويؤجرونهم للقتال في المآدب الخاصة، ويعيرونهم للقتال في الألعاب. وكان الكثيرون ممن يدخلون مدارس المجالدين المحترفين يقسمون عند دخولهم يميناً بأن "يقبلوا الضرب بالعصي والحرق بالنار، والقتل بحد السنان"(114). وكان التدريب والنظام فيها صارمين، وكان الأطباء يراقبون ما يقدم فيها من الطعام، ويصفون للطلاب أكل الشعير ليقووا بأكله عضلاتهم. وكان عقاب من يخرج على القواعد والنظم الموضوعة الجلد، والكي، والسجن والأغلال. ولم يكن طلاب الموت هؤلاء جميعهم غير راضين عن مصيرهم، فمنهم من كانوا يزدهون بما سوف يحرزون من نصر، وكانوا يفكرون في شجاعتهم أكثر من تفكيرهم فيما يتعرضون له من الأخطار (115)، ومنهم من كان يشكو أنه لم تتح له فرص كافية للقتال، وكان هؤلاء يحقدون على تيبريوس لأنه لا يكثر من إقامة الألعاب. لقد كان يعزيهم عن الخطر الذي يتعرضون له، ويغريهم بركوب هذا الخطر، ما سوف ينالون من الشهرة، فقد كان المعجبون بهم يكتبون أسماءهم على جدران المباني العامة، وكانت النساء تعشقهم، وكان الشعراء يغنون بمدحهم، والمصورون يصورونهم، والمثالون يخلدون للأجيال المقبلة صور عضلات أذرعهم الحديدية، وعبوسة وجوههم الرهيبة. على أن منهم كثيرين كانوا يألمون لسجنهم الطويل، وحياتهم الوحشية الرتيبة، وما يتوقعون لأنفسهم من آجال قصيرة، ومنهم من كانوا ينتحرون، وقد انتحر واحد منهم بأن كتم نفسه بإسفنجة كان يستخدمها في تنظيف أعضائه السرية، وانتحر آخر بوضع رأسه بين أنصاف محاور عجلة تتحرك، وانتحر كثيرون منهم بشق بطونهم في المجتلد (116).

وكانوا في الليلة السابقة للقتال تولم لهم وليمة طيبة؛ فمن كان منهم فظاً

ص: 349

خشن الطباع ملأ بطنه بلذيذ الطعام والشراب، ومنهم من كان يودع زوجته وأبناءه وهو حزين كظيم؛ وكان المسيحيون منهم يجتمعون ليتناولوا معاً "طعام المحبة"(Agap () . وكان هؤلاء وأولئك يأتون إلى المجتلد في اليوم الثاني في حلل فاخرة ويذرعونه من أوله إلى آخره، وكانوا يسلحون في العادة بالسيوف، أو الرماح، أو الخناجر، ويلبسون خوذاً من البرونز، ودروعاً، ووقايات للأكتاف وتروساً وجراميق. وكانوا يصنفون حسب أسلحتهم؛ فمنهم أصحاب الشباك الذين يوقعون خصومهم في الأحابيل ثم يقضون عليهم بطعنات الخناجر، ومنهم من يحذقون مطاردة مقاتليهم بالتروس والسيوف؛ ومنهم من يرمون بالمقالع، ومنهم من يقاتل الواحد منهم بسيف قصير في كلتا يديه، ومنهم من يقاتلون في المركبات، ومنهم من يصارعون الوحوش. وكان المجالدون فضلاً عن هذه المغامرات كلها يتبارزون مثني مثني أو جماعات، وإذا جرح أحد المتبارزين جرحاً شديداً في مبارزة فردية طلب من أقام المباراة إلى النظارة أن يدلوا برأيهم، فإذا رفعوا إبهامهم أو لوحوا بمناديلهم كان ذلك دليلاً على أنهم يريدون الرحمة بالجريح، وإذا ما خفضوا إبهامهم عرف أنهم يطلبون إلى الفائز أن يقتل المغلوب من فوره (117). وإذا أظهر أحد المقاتلين أنه لا يحب أن يموت أثار بذلك غضب النظارة وأثيرت حميته وشجاعته بوخزه بالحديد المحمي (118). وإذا أريدت مجازر كبيرة هيئت معارك جماعية يقتتل فيها آلاف الرجال بوحشية المستيئسين. وقد اشترك في الثمان المعارك التي أعدها أغسطس عشرة آلاف مقاتل اقتتلوا فيها مجتمعين. وكان رجال في ثياب كارون Charon

(1)

ينخسون من يسقطون في المعركة بأسنان العصى الحادة ليعرفوا هل ماتوا حقاً أو أنهم يتصنعون الموت. فإذا وجدودهم يتصنعوه قتلوهم بضربات المطارق على رؤوسهم.

(1)

هو البحّار في الأساطير اليونانية الذي ينقل بقاربه أرواح الموتى في نهر استيسكس في العالم السفلي (المترجم)

ص: 350

وكان هناك رجال آخرون في ثياب عطارد رسول الآلهة يجرون أجساد الساقطين بخطاطيف في الوقت الذي يجمع فيه عبيد من المغاربة التراب المبلل بالدماء في مجارف، ويفرشون الرمل على الأرض لاستقبال من يأتون بعدهم من الأموات.

وكان معظم الرومان يدافعون عن الألعاب في المجتلدات بقولهم إن الضحايا كانوا من المحكوم عليهم بالإعدام لما ارتكبوه من الجرائم الشنيعة، وإن ما يلقون بالعذاب يحول بين غيرهم وبين ارتكاب أمثال هذه الجرائم، وإن الشجاعة التي يدرب عليها المقضي عليهم ليلاقوا بها الجراح والموت تغرس في قلوب الشعب الفضائل العسكرية، وإن اعتياد العين رؤية الدماء والمعارك الحربية تعود الرومان مطالب الحرب والتضحية بالنفس. وها هو ذا جوفنال الذي ندد بكل شيء عدا هذه الألعاب قد تركها من غير تجريح، وامتدح بلني الأصغر، وهو الرجل الراقي المتحضر، تراجان لأنه عرض على الشعب مناظر تثير في الناس رغبة أن يُثخنوا "بالجراح الشريفة والاستهزاء بالموت"(119). وكان تاستس يرى أن الدماء التي تراق في المجتلد، أياً كان شأنها، هي "الدماء الرخيصة" التي تجري في عروق العامة (120). أما شيشرون فكانت نفسه تتقزز من هذه المجازر وهو يسائل الناس "أية تسلية يمكن أن تتسلى بها الروح الرقيقة الإنسانية حين ترى وحشاً شريفاً يطعنه الصائد في قلبه بلا رحمة، أو ترى إنساناً يمزقه وحش ضار أقوى منه جسماً؟ " ولكنه يضيف إلى ذلك قوله. "إذا ما اضطر المجرمون إلى القتال فإن العين لا تشهد طريقة تهيئ الإنسان لملاقاة العذاب واستقبال الموت خيراً من هذه الطريقة"(121). وأقبل سنكا على الملاعب في وقت الظهيرة حين خرجت كثرة النظارة للغداء، فهاله وحز في نفسه أن يرى مئات المجرمين يساقون ليتسلى من بقوا فيها برؤية دمائهم المراقة:

"وأعود إلى منزلي أكثر مما كنت نهماً وقسوة ووحشية، لأني كنت بين آدميين. لقد شاهدت بمحض المصادفة معرضاً مقاماً في وقت الظهيرة،

ص: 351

وكنت أتوقع أن أرى بعض ما يبعث السرور أو الفكاهة أو يروح عن النفس بعض متاعبها

وتستطيع عين الإنسان أن تستريح به من رؤية المجازر التي تذهب فيها حياة أخيه الإنسان

ولكني رأيت عكس هذا

إن هؤلاء المحاربين في وقت الظهيرة يخرجون وليس عليهم دروع من أي نوع كان، أجسامهم معرضة للطعنات، في كل جزء من أجزائها، فكل طعنة تصيبهم في الصميم

إنهم في الصباح يلقون الناس أمام الآساد، أما في الظهيرة فيقذف بهم أمام النظارة، فترى الجماهير تطلب إلى المنتصر الذي قتل خصيمه أن يقاتل الرجل الذي سوف يقتله، ويحتفظ بالمنتصر الأخير ليُقتل قتلة أخرى

وهذه الأمور وأمثالها تحدث والمقاعد تكاد تكون خالية

إن الآدمي الذي لا يحل للإنسان قتله، يقتل لعباً ولهواً وجلباً للمسرة" (122).

ص: 352

الفصل السابع

‌العقائد الجديدة

رضى الدين عن الألعاب وعدها الصور الصحيحة للاحتفالات الدينية، ولذلك كانت تبدأ بمواكب فخمة وقورة، وكان الكهنة والعذارى الفستية يحتلون أماكن الشرف في دور التمثيل، وفي مضامير السباق وأمام المجتلد، وكان الإمبراطور الذي يرأس هذه الاحتفالات هو الكاهن الأكبر لدين الدولة.

وقد بذل أغسطس وخلفاؤه كل ما وسعهم من جهد ليعيدوا الحياة إلى الدين القديم، إلا عنصراً من عناصره وهو الحياة الأخلاقية الفاضلة؛ وحتى أشد الأباطرة كفراً بهذا الدين أمثال كلجيولا ونيرون كانوا يؤدون جميع المراسم والطقوس الواجبة للآلهة الرسمية، وظل اللوبرسي يرقصون في الشوارع في يوم عيدهم، كما ظل إخوان أرفال Arval ينطقون بالدعوات والصلوات للمريخ بلغة لاتينية قديمة لا يفهم أحد معناها. وكان التنبؤ بالغيب وزجر الطير من الأعمال التي لا ينقطع الناس عن ممارستها والثقة العظيمة بها، وكان الأباطرة الذين يخرجون المنجمين من البلاد يستشيرونهم في مهام الأمور. وأدخل السحر والشعوذة والخرافات والأوهام الباطلة، والرقي، والتعاويذ، والتفاؤل، والتطير، وتفسير الأحلام في نسيج الحياة الرومانية حتى أصبحت لحمتها وسداها، وكان أغسطس يدرس أحلامه دراسة جدية لا تقل عن دراسة علماء النفس في هذه الأيام؛ ويحدثنا سنكا أنه شاهد بعينيه نساء يجلسن على درج الكبتول ينتظرن أن يستمتع بهن جوبتر لأنهن رأين في أحلامهن أن الإله راغب فيهن (123). وكان كل قنصل يحتفل بتقلده منصبه احتفالاً يضحي فيه بعدد من العجول؛ وحتى جوفنال نفسه، وهو الذي كان يسخر بكل ما عدا هذه الأعمال،

ص: 353

قطع بيده في تقي وخشوع أعناق حملين وعجل حنيز شكراً للآلهة على أن صديقاً له عاد من رحلته سالماً. وغصت الهياكل بقرابين الذهب والفضة؛ وكانت الشموع تضاء أمام المذابح، وقد بليت شفاه التماثيل المقدسة وأيديها وأقدامها من كثرة ما طبعه عليها الأتقياء الصالحون من قبلات. وقصارى القول أن الدين القديم بدا وكأنه لا يزال محتفظاً بقوته، وظل يخلق آلهة جدداً مثل أنونا Anona (جامعة حبوب العالم إلى رومة)، ويبعث حياة جديدة في عبادة فورتونا Fortuna وروما Roma ويؤيد القانون، والنظام، والاستبداد أقوى تأييد. ولو أن أغسطس بعث حياً بعد عام واحد من وفاته لما كان عليه حرج إن قال إن ما بذله من هود لإحياء الدين قد نجح أعظم نجاح.

لكن الدين القديم، رغم هذه المظاهر الخارجية، دب فيه دبيب الفناء من أعلاه ومن أسفله على السواء. ولم يكن تأليه الأباطرة دليلاً على إجلال الطبقات العليا لحكامها، بقدر ما كان شاهداً على قلة إجلالها لآلهتها. وأخذت الفلسفة تمحو العقائد الدينية من قلوب المتعلمين وإن كانت في الوقت نفسه تبسط على هذه العقائد حمايتها، ولم تكن كتابات لكريشيوس Lucritius عديمة الأثر في العقول؛ نعم إن الناس لم يكونوا يذكرونه، ولكن إغفالهم ذكره لم يكن له من سبب إلى أن الانغماس في الأبيقورية كان أسهل عليهم من دراسة أبيقور أو شارحه المتحمس لمبادئه. ولم يجد الشبان الأثرياء الذين ذهبوا ليتزودوا بالدراسات العليا في أثينة والإسكندرية ورودس ما يزيد إيمانهم بالدين الروماني وعقائده. وكان الشعراء اليونان يسخرون من آلهة الرومان، وسرعان ما أخذ شعراء الرومان أنفسهم يحذون حذوهم، فكانت قصائد أوفد تفترض أن الحديث عنهم هزل لا جد فيه. ويلوح أن أحداً لم يشك من هذا أو يعترض عليه، وقام شخص وطرد ديانا من المسرح بعد أن انهال عليها ضرباً

ص: 354

بالسياط، وجاء آخر فمثل جوبتر وهو يوصي بوصيته استعداداً للموت (124). ولاحظ جوفنال ما لاحظه أفلاطون قبل عهده بخمسة قرون، وما نلاحظه نحن بعده بثمانية عشر قرناً، أن خوف إله رقيب مطلع على السرائر لم يعد له من القوة ما يستطيع به أن يكشف الحنث على الإيمان (125). وحتى شواهد القبور نفسها تقرأ عليها ما يدل على ازدياد التشكك في الدين وعلى الانغماس الصريح في الشهوات. فقد كتبت على واحد منها هذه العبارة:"لم أكن، لقد كنت، ولست بكائن، ولا أبالي". وكتب على شاهد آخر: "لم أكن قد وجدت، لست موجوداً، لست أدري"، وعلى شاهد ثالث:"لم يكن لي إلا ما أكلت وشربت؛ لقد تمتعت بحياتي"(126). وكتب على شاهد آخر: "لا أومن بشيء وراء القبر". ويؤكد شاهده غير أن "ليس ثمة جحيم ولا كارون، ولا سربس Cerebus". وكتبت نفس قلقة كدرة: "لا حاجة لي الآن بأن أخشى الجوع، ولا حاجة لي بأن أؤدي الريع، ولقد تحررت من وجع المفاصل على الأقل". وكتب شخص نكد من أتباع لكريشيوس عن جثته المدفونة يقول: إن "العناصر التي تكونت منها تعود مرة أخرى إلى أصولها، إن الحياة عارية تعار للإنسان، وليس في مقدوره أن يحتفظ بها إلى أبد الدهر، وهو إذا مات يرد ما عليه من دين إلى الطبيعة"(127).

لكن الشك مهما يكن فيه من إخلاص لا يمكن أن يحل محل الإيمان، ولم يجد ذلك المجتمع بين ملذاته كلها سعادة ما، بل سئم ما فيه من تنعم، واستنفد قواه فيما ساده من دعارة، وظل الفقراء والأغنياء على السواء معرضين للألم والحزن والموت، ولم تستطع الفلسفة بجميع أنواعها، وخاصة تلك العقيدة الباردة السامية عقيدة الرواقية، أن تهب الرجل العادي إيماناً يخفف عنه شعوره بفقره، ويشجعه على تهذيب خلقه، ويواسيه في أحزانه، ويبعث الأمل في قلبه. لقد كان الدين القديم يؤدي لوظيفة الأولى من هذه الوظائف الثلاث، وعجز عن أداء الوظيفتين الأخريين. ذلك أن الناس كانوا يحتاجون إلى وحي يوحي إليهم،

ص: 355

ولكن الدين لم يهبهم إلا طقوساً ومراسم؛ وكانوا يطلبون خلوداً وحياة بعد الموت، ولكن دينهم جاء لهم بدل هذا بألعاب. كذلك شعر الناس الذين جاءوا من بلاد أخرى عبيداً أو أحراراً أنهم محرومون من هذه العبادات القومية، ومن أجل هذا جاءوا معهم بآلهتهم، وأقاموا لها هياكل خاصة بها، ومارسوا شعائرهم الخاصة؛ وغرسوا في قلب بلاد الغرب دين الشرق. وبدأت بين عقائد الفاتحين وإيمان المهزومين، حرب لم تنفع فيها أسلحة الجحافل الرومانية؛ وكانت حاجات القلوب هي التي قررت لمن يكون الفوز.

وجاء الأرباب الجدد مع أسرى الحروب، ومع الجنود العائدين من ميادين القتال ومع التجار. وأقام التجار الوافدون من آسية ومصر هياكل في بتيولي Puteoli، وأستيا Ostia رومة ليعبدوا فيها آلهتهم التقليدية. وكانت الحكومة الرومانية تنظر إلى هذه الأديان الأجنبية نظرة التسامح في العادة؛ ذلك أنها لم تكن تريد أن تسمح للأجانب أن يشاركوا الرومان في عباداتهم، ومن أجل هذا كانت ترى أن ممارستهم شعائر دينهم الذي جاءوا به معهم أفضل من تركهم بلا دين. وكانت تطلب إليهم في نظير هذا أن يكون كل دين أجنبي متسامحاً كذلك مع غيره من الأديان، وأن تتضمن طقوسه ما يشعر بالخضوع إلى "عبقرية" الإمبراطور، وإلى الآلهة "روما" ليعبروا بذلك عن ولائهم للدولة؛ وشجع هذان التساهل والتسامح الأديان الشرقية، وكانت قد استقرت في رومة، فأضحت هذه الأديان الكبرى المنتشرة بين العامة. وأراد كلوديوس أن يهذب هذه العبادات الشرقية فرفع القيود المفروضة على عبادة الأم العظمى، وأجاز للرومان أن يكونوا لها كهنة لها وقائمين على خدمتها، وقرر لها عيداً رسمياً حوالي الاعتدال الربيعي بين 5 و 27 مارس. وكانت منافستها الكبرى في القرن الأول الميلادي هي إيزيس المصرية إلهة الأمومة، والإخصاب، والتجارة. وكانت الحكومة قد حرمت المرة بعد المرة عبادة هذه الآلهة الأجنبية في رومة،

ص: 356

ولكنها لم تكن تلبث أن تعود بعد كل تحريم لأن تقوى عبادها كانت أقوى من سلطان الدولة، وأيد كلجيولا استسلام الدولة لها بأن شاد لها من الأموال العامة ضريحاً فخماً في ميدان المريخ. واشترك أتو Otho، ودومتيان في الاحتفالات الإيزيسية، ومشى كومودس عاري الرأس خلف كهنتها يمسك بيديه في خشوع تمثالاً لأنوبيس Anubis القرد إله المصريين.

وزاد شأن هذا الغزو الديني عاماًبعد عام، فجاءت من جنوبي إيطاليا عبادة فيثاغورس-وهي الاقتصار على أكل الخضر، والاعتقاد بعودة الأرواح إلى التجسد. وجاءت من هيربوليس Hierapolis الإلهة أترجانس Atargatis المعروفة عند الرومان "بالإلهة السورية"، كما جاء منها أيضاً أزيز Aziz المعروف "بزيوس دلوكي Dolochi" وغيره من الأرباب العجيبة. ونشر التجار والأرقاء السوريون عبادة هذه الآلهة، وما زال عبادها يقوون حتى اعتلى العرش آخر الأمر من شاب كهنة "بعل" السوري وتسمى باسم إلجبالس Elagabalus- عابد إله الشمس. وجاءت من بارثيا عدوة رومة عبادة إلهة من إلهات الشمس هي مثرا Mithra. وكان عبادها يعتقدون أنهم جنود في الحرب الكونية العظيمة حرب الضياء على الظلام، وحرب الخير على الشر. وكان في هذا الدين كثير من صفات الرجولة، ولهذا كان أكثر أنصاره من الرجال لا من النساء، وأعجبت به الفيالق الرومانية المرابطة عند الحدود النائية حيث كان يصعب عليهم أن يسمعوا أصوات آلهتهم القومية. وجاء من بلاد اليهود إلههم يهوة إله الموحدين الذين لا يقبلون معه شريكاً، والذي كان دينه يتطلب من أهله حياة شاقة من التقي ورعاية القواعد والنظم، ووضع لهم قانوناً أخلاقياً صارماً، وأكسبهم شجاعة كانت لهم عوناً فيما نزل بهم من محن، وأسبغت على حياة أفقر الفقراء وأقلهم جاهاً جلباباً من النبل والشرف. وكان بين اليهود الرومان أتباع هذا الدين طائفة لم تكن قد تميزت بعد من سائر الطوائف تمييزاً واضحاً، كانت تعبد ابنه الذي حلت فيه روحه والذي بعث حياً.

ص: 357

الباب الثامن عشر

‌القانون الروماني

(1)

146 ق. م إلى 192 م

الفصل الأول

‌المشترعون العظام

كان القانون أخص خصائص الروح الرومانية، وأبقى مظهر من مظاهرها وكانت رومة مضرب المثل في النظام كما كانت بلاد اليونان مضرب المثل في الحربة، ولقد أورثتنا رومة شرائعها، وتقاليدها الإدارية لتكون هي أسس النظام الاجتماعي، كما أورثتنا بلاد اليونان الدمقراطية والفلسفة اللتين كانتا أساس الحرية الفردية. وأهم ما يجب على الساسة ورجال الحكم هو أن يجمعوا بين هذين التراثين المختلفين المتنافرين ويوحدوا بينهما، ويؤلفوا من نغماتهما المتعارضة المنشطة نغماً مؤتلفاً منسجماً.

وإذ كان القانون هو أساس التاريخ الروماني وجوهره، فقد كان من المستحيل أن نفضل هذا عن ذاك، ومن أجل هذا لن يكون هذا الباب من أبواب الكتاب إلا مكملاً لما سبقه وما سيعقبه من تفصيلات، ولن يزيد على لبنات متفرقة في صرح الحضارة الرومانية. والدستور الروماني يشبه الدستور البريطاني- فلم يكن هذا الدستور طائفة من القواعد المخلدة التي يتقيد بها

(1)

ليس في هذا الفصل نفع لرجال القانون وليس فيه لذة لغيرهم.

ص: 358

الناس، بل كان سلسلة متتابعة من السوابق ترشد وتوجه، ولكنها لا تمنع التغيير. فكلما زاد الثراء وتعقدت أساليب الحياة، أصدرت الجمعيات وأصدر الحكام والزعماء، قوانين جديدة، وسايرت الشرائع الإمبراطورية في نموها واتساع نطاقها، فكانت كلما امتدت رقعة الإمبراطورية لاحقتها القوانين إلى الحدود الجديدة، وتطلب تعليم رجال القانون، وإرشاد القضاة، وحماية المواطن من الأحكام الظالمة غير المشروعة، تطلب هذا تنظيم الشرائع وصياغتها في صورة مرتبة يسهل معرفتها والوصول إليها. وبينما كانت الاضطرابات التي حدثت عقب ثورات ابني جراكس وماريوس على أشدها قام ببليوس موسيوس اسكافولا Publius Mucius Scaevola (الذي ولي القنصلية في عام 133 ق. م) وابنه كونتس Quintus (وقد ولي القنصلية في 55 ق. م) وبذلاً جهوداً كبيرة لصياغة قوانين رومة صياغة يسهل فهمها. وكتب شيشرون، وكان من تلاميذ رجل آخر يدعى كونتس موسيوس اسكافولا (وقد ولي القنصلية عام 117 ق. م)، رسائل بليغة في فلسفة القوانين، ووضع مشروع قوانين مثالية يقصد بها الاحتفاظ بالثروة الطائلة التي جمعها وبالدين الذي خسره. وخلقت القوانين المتناقضة التي سنها ماريوس وصلاً، وسلطة بمبي المطلقة التي لم يكن لها مثيل من قبل، والشرائع الثورية التي وضعها قيصر، والدستور الجديد الذي وضعه أغسطس، خلقت هذه كلها مشاكل جديدة للعقول التي حاولت أن تجعل الشرائع المتمشية مع المنطق السليم، وأخذ المشترع النابه أنتستيوس لبيو Antistius Labeo يندد بما في القوانين من اضطراب وفوضى، ويعلن أن المراسيم التي أصدرها قيصر وأغسطس مراسيم باطلة لأنها مظهر لسلطة مغتصبة غير شرعية. ولم يكن في مقدور عقول الأفراد أو سلطة المحاكم أن تقبل هذه القوانين الجديدة إلا بعد أن وطدت الزعامة سلطتها باستخدام القوة أولاً وبسلطان العادة فيما بعد. ويعود الفضل إلى القرنين الثاني والثالث من التاريخ الميلادي في وضع القوانين

ص: 359

الرومانية في الغرب في صورتها النهائية- وهو عملاً لا يقل خطراً عن صياغة العلم والفلسفة في بلاد اليونان.

وفي هذا المجال أيضاً كان قيصر هو الذي حدد الهدف المقصود، ولكن الجهود الحقيقية التي بذلت لتحقيق هذا الهدف لم تبدأ بالفعل إلا في أيام هدريان (117 م)؛ فقد جمع هذا الإمبراطور- وهو أرقى الأباطرة كلهم تعليماً- حوله طائفة من فقهاء القانون وألف منهم مجلسه الخاص، وكلفهم أن يستبدلوا بمراسيم البريتورين المتناقضة "مرسوما خالداً" يلتزمه في المستقبل جميع القضاة في إيطاليا. ولعل الذي أوحى إلى هدريان بإصلاح شرائع رومة وتنسيقها هو إطلاعه في أثناء رحلاته الكثيرة على دساتير المدن اليونانية في آسية وإيطاليا؛ ذلك أن هذه المدن قد أنشأت على توالي الأيام طائفة راقية من القوانين التي تنظم شئونها البلدية، وإن كان اليونان بوجه عام لم يخرجوا بعد أيام صولون كتاباً في القانون يعد من الآيات الخالدة في هذا الموضوع. وواصل الأنطونيون خلفاء هدريان هذا التقنين، وكانت الشهرة النصف الرسمية التي تتمتع بها الفلسفة الرواقية مما جعل لليونان أثراً عميقاً في القوانين الرومانية. فقد أعلن الرواقيون جهرة أن القوانين يجب أن تتفق مع المبادئ الخلقية القويمة، وأن الجريمة كامنة في نية المرء لا في نتيجة عمله. وقد أمر أنطونيوس، وهو ثمرة من ثمار المدرسة الرواقية، أن يفسر الشك لمصلحة المتهم، وأن يظل الإنسان بريئاً حتى تثبت إدانته (1) - وهما مبدآن من أرقى المبادئ في قوانين البلاد المتحضرة.

وقد نبغ في فلسفة القانون عدد كبير من العباقرة جاء بعضهم في إثر بعض، وكان من أهم العوامل في هذا النبوغ مناصرة الأباطرة وتشجيعهم. ومن هؤلاء العباقرة سلفيوس يوليانس Salvius Julianus وهو روماني أفريقي المولد أظهر من الجد وغزارة العلم حين كان يعمل مستشاراً قانونياً للإمبراطور ما حمل مجلس الشيوخ على أن يقرر أن يكون مرتبه ضعفي المرتب المخصص

ص: 360

لهذا المنصب عادة واشتهرت فتاواه بوضوحها وسلامة منطقها، و "خلاصته" عبارة عن مجموعة منظمة من القوانين المدنية. وكان هو الذي صاغ المرسوم البريتوري الدائم حين كان أشهر الأعضاء البارزين في مجلس هدريان. وهناك مشترع آخر يدعى جايوس Gaius لا نعرف عنه غير اسمه. وقد عثر نيبهر Neibuhr عام 1816 م على "أنظمته" مكتوبة على ورق وفوقها مقالات لجيروم Jerome، وهي الآن أكمل مرجع يعتمد عليه في دراسة القوانين التي سنت قبل عهد جستنيان. وقد صدرت هذه "الأنظمة" حوالي عام 161 م، ولم يكن يقصد بها أن تكون عملاً إنشائياً جديداً، بل كانت كتاباً مدرسياً أولياً للطلاب والدارسين. فإذا رأينا نحن أنها آية من آيات العرض المنظم، ففي وسعنا أن نتصور العقلية الجبارة التي كان يتمتع بها أولئك الرجال الذين تلخص هذه الرسالة كتبهم. وبعد ستين سنة من ذلك العهد أوصل بابنيان بولس Papinian Paulus وألبيان Alpian فقه القانون الروماني إلى ذروته؛ وبينما كان تنفيذ القوانين يخر صريعاً للعنف والفوضى صاغه هذان العالمان صياغة منطقية متسقة خالية من التناقض، ولم يلبث هذا العلم أن هوي بعدهما في غمرة الخراب الشامل.

ص: 361

الفصل الثاني

‌مصادر القانون

كما أن مصطلحات العلم والفلسفة مأخوذة في الأغلب الأعم من اللغة اليونانية فتكشف بذلك عن مصدر هذه العلوم، كذلك لغة القانون مأخوذة في معظمها من اللغة اللاتينية. وكان اللفظ الدال على القانون في هذه اللغة هو Ius أي العدالة أو الحق، أما كلمة Lex فقد كان معناها القانون الخاص. وقد وصف فقه القانون في مختصر جستنيان (533 م) بأنه علم وفن معاً "علم العدل وغير العدل" و "فن تدبير ما هو صالح ومقسط" وكانت كلمة Ius تشمل القانون غير المكتوب أو العادات المرعية التي تحوي القانون المكتوب نفسه، وكان هذا القانون المكتوب يتكون من Ius Civilen- أي "قانون المواطنين (الرومان)، Ius Gentium- أي "قانون الأمة". وكان القانون المدني وقانون المواطنين يسمى "القانون العام" إذا كان يتعلق بشئون الدولة والعبادة الرسمية، و "القانون الخاص" إن كان يبحث في العلاقات القانونية بين المواطنين بعضهم بعضاً.

والقانون الروماني بوجه عام مأخوذ من خمسة مصادر: (1) ففي عهد الجمهورية كان المصدر النهائي للقانون هو إرادة المواطنين يعبرون عنها في الجمعيتين العشرية والمئوية بلفظ Leges وفي الجمعية القبلية بلفظ Plebisuta (" قررته العامة"). ولم يكن مجلس الشيوخ يقر اللجيس Leges إلا إذا عرضت على الجمعيتين مصحوبة بالمراسيم المقررة وعرضهما عليه موظف كبير في مرتبة

ص: 362

أعضاء مجلس الشيوخ. وإذا ما اتفق مجلس الشيوخ والجمعية على إنفاذ قانون من القوانين أعلن باسم Senatus Populusque Romauns.

(2)

ولم يكن لمجلس الشيوخ نفسه من الوجهة النظرية في عهد الجمهورية حق إصدار القوانين؛ أما قراراته المعروفة باسم "استشارات الشيوخ" Senayusconsulta فكانت من الناحية الرسمية توصيات إلى الحكام؛ ثم أضحت على مر الأيام توجيهات، ثم أوامر، ثم صار لها في عهد الجمهورية المتأخرة وفي عهد الإمبراطورية قوة القوانين. وكان مجموع القوانين التي أجازتها الجمعيتان ومجلس الشيوخ في خلال ستة قرون قليلاً إلى حد يدهش له من اعتاد السيل الجارف من الشرائع التي تصدرها الدول في الوقت الحاضر.

وكانت الحاجة إلى القوانين الصغرى أوالخاصة تسدها الأوامر Edicta التي يصدرها موظفو المجالس البلدية. ذلك أن كل حاكم جديد للمدينة كان يصدر في بدء قيامه بمهام منصبه أمراً بريتورياً Edictum Praetorium يذيعه مناد في السوق العامة وينقش على أحد الجدران، ويعلن فيه المبادئ القانونية التي ينثوي الحاكم العمل بها والحكم بين الناس بمقتضاها في خلال السنة التي يتولى فيها منصبه. وكان في وسع القضاة المتنقلين Praelores Peregarini وحكام الولايات أن يصدروا أيضاً أمثال هذه القرارات. ولم يكن يسمح للبريتورين بمقتضى سلطة الحكم المخولة لهم أن يسفروا القوانين القائمة فحسب، بل كان لهم فوق ذلك أن يسنوا قوانين جديدة. وبهذه الطريقة كان القانون الروماني يجمع بين استقرار الشرائع الأساسية ومرونة الأحكام البريتورية. وإذا انتقل قانون أو انتقلت فقرة من فقراته من مرسوم بريتور إلى مرسوم البريتور الذي يليه مرات كثيرة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من القانون الأساسي المعروف باسم Ius Honorarium حتى حل "قانون المنصب" قبيل عهد شيشرون محل الجداول الاثني عشر، وأصبح هو النص الرئيسي للأوامر القانونية في رومة. على أن

ص: 363

البريتور كثيراً ما كان يخالف المبادئ التي جرى عليها سابقه، ويصدر من الأحكام ما يناقضها كل المناقضة في بعض الأحيان؛ وبهذا أضيف الغموض في القوانين والتعسف في الأحكام إلى المساوئ الطبيعية التي لا يخلو منها أي نظام قضائي يتبعه بنو الإنسان؛ وهذا هو الغموض الذي أراد هدريان أن يقضي عليه حين عهد إلى يوليانس أن يجمع القانون الأساسي Ius Honorarium كله في مرسوم دائم لا يستطيع تغييره إلا الإمبراطور نفسه.

(4)

وأصبحت قوانين الزعماء Constitutiones Principum نفسها في القرن الثاني مصدراً آخر من مصادر القانون. واتخذت هذه القوانين أربعة أشكال مختلفة (أ) فقد كان الزعيم يصدر مراسيم بوصفه كونه صاحب منصب في المدينة، وكانت هذه المراسيم نافذة في الإمبراطورية كلها، ولكن يلوح أنها كان يبطل مفعولها بعد وفاته. (ب) وكان لأوامره Decreta بوصفه قاضياً ما كان لغيرها من الأوامر من قوة القانون. (3) وكانت ردوده الإمبراطورية Rescripta أجوبة لما يوجه إليه من الاستعلامات. وكانت هذه الأجوبة تتخذ في العادة شكل رسائل Epistulae أو إجابات قصيرة Subscriptiones" تكتب تحت" سؤال أو ملتمس. وقد ضمت الرسائل الحكيمة الجامعة التي رد بها هدريان على ما يطلبه موظفو الحكومة من إرشادات إلى قوانين الإمبراطورية، وظلت نافذة المفعول بعد وفاته بزمن طويل. (4) وكانت عهود الأباطرة Mandata هي التوجيهات التي يصدرونها للموظفين، وقد تكون من هذه العهود على مر الزمن كتاب كبير من القانون الإداري.

(5)

وكان من المستطاع في بعض الظروف الخاصة أن تسن القوانين الجامعة المعروفة باسم Responsa Prodentium. ولقد كان من أجمل المناظر بلا ريب أن يجلس العلماء الأعلام من المشترعين على كراسي في السوق العامة (أو في بيوتهم كما كان يحدث في العهود المتأخرة) ويصدروا فتاوي قانونية

ص: 364

لكل من يريد استفتاءهم، وكانوا ينالون في بعض الأحيان على عملهم مكافآت من طريق غير مباشر. فكثيراً ما كان المحامون أو قضاة البلديات يأتون إليهم ليستشيروهم في مشاكلهم القانونية. وكانوا يفعلون ما يفعله كبار الحاخامات اليهود من التوفيق بين المتناقضات، ويحددون ما بين القوانين بعضها وبعض من فروق دقيقة، ويفسرون القانون القديم بما يلائم حاجات الحياة القائمة في وقتهم أو يلائم ظروفها السياسية، أو يوفقون بينه وبين هذه الحاجات والظروف. وقد أضحى لأجوبتهم المكتوبة بحكم العادة غير المكتوبة قوة لا تفوقها إلا قوة القوانين نفسها. وجعل أغسطس لهذه الفتاوي كل ما للقوانين من قوة إذا توافر فيها شرطان: أولهما أن يكون المشترعون قد تلقوا من الأمبراطور حق إصدار الفتاوي القانونية Ius Sespondenti وثانيهما أن ترسل الإجابة مختومة إلى القاضي المعروضة عليه القضية الصادرة فيها الفتوى. ولم يحل عصر جستنيان حتى أضحت هذه الإجابات أو الفتاوي القانونية مصدراً واسعاً للشرائع وآدابها، ومعينا لا ينضب استمد منه مختصره وكتاب قوانينه وكان عماداً لهما.

ص: 365

الفصل الثالث

‌قانون الأحوال الشخصية

يقول ماريوس المعروف بدقته إن القانون كله يتعلق إما بالأشخاص، وإما بالملك، وإما بالمرافعات (3). وكانت لفظ Persona في أول الأمر تعني قناع الممثل، ثم صار معناها بعدئذ العمل الذي يقوم به الإنسان في الحياة، ثم بات معناها آخر الأمر الشخص نفسه- وكأنما قصد بهذا التطور أننا لا نستطيع أن نعرف شخصاً ما، بل كل الذي نعرفه هو ما يقوم به من أعمال، أو ما يلبسه من قناع أو أقنعة.

وكان الشخص الأول في القانون الروماني هو المواطن؛ وكان تعريفه عندهم هو أنه الشخص الذي ضم إلى إحدى القبائل الرومانية بحكم المولد أو التبني، أو العتق، أو المنحة من قبل الحكومة. وكان الذي ينطبق عليهم هذا التعريف ينقسمون ثلاث درجات:(1) المواطنين الكاملين الذين يتمتعون بالحقوق الأربعة: حق الاقتراع (Ius Suffrag () ، وحق التوظف (Ius Honorum) ، وحق الزواج من حرة بمولدها Ius Conub (، وحق الدخول في تعاقد تجاري يحميه القانون الروماني (Ius Commerc () . (2)" المواطنين الذين لا حق لهم في الاقتراع" وهم الذين يتمتعون بحق الزواج والتعاقد، ولكنهم لا حق لهم في الاقتراع، ولا في تولي المناصب. (3) المعاتيق الذين يتمتعون بحقي الاقتراع والتعاقد ولكنهم لا حق لهم في الزواج بحرة أو في تولي المناصب. وكان للمواطن الكامل المواطنية، فضلاً عن حقوقه السالفة الذكر، حقوق يضمنها له القانون الشخصي ولا يشاركه فيها سواه؛ كحق الأب على أبنائه (Patria Potestas) ، والزوج على زوجته (Manus) ، والمالك في ملكه ومنه عبيده (Dominium) ،

ص: 366

وحق الرجل الحر على غيره إذا تعاقد معه (Mancipium) . وكان ثمة نوع آخر من الحقوق هو حق المواطنية الإمكانية أو حق الدخول في الحظيرة اللاتينية Latinitas أو Ius Lat (، تمنحه رومة للأحرار سكان المدن أو المستعمرات المفضلة ويعطيهم حق التعاقد ولكنه لا يعطيهم حق التزاوج بالروماتيات، وينال به كبار موظفيهم حقوق المواطنية الرومانية الكاملة حين تنتهي مدة توليهم مناصبهم. وكان لكل مدينة في الإمبراطورية مواطنوها وشروطها الخاصة لنيل حقوق المواطنية. وكان من المميزات الفذه لهذه الإمبراطورية أن الشخص يستطيع أن يكون مواطناً لعدة مدن في وقت واحد، وأن يستمتع فيها جميعاً بالحقوق المدنية. وكانت أثمن ميزة يستمتع بها المواطن الروماني هي حماية القانون لشخصه، وملكه، وحقوقه، وأمنه على نفسه من التعذيب أو العنف في أثناء المحاكمة. وكان من مفاخر القانون الروماني أنه يحمي الفرد من الدولة.

ويلي الأب المواطن الأهمية في نظر القانون. لقد كان انتشار القانون في الأقاليم التي كانت خاضعة في الأزمنة القديمة لسلطان العادة سبباً في إضعاف حقوق الآباء على الأبناء، ولكن في وسعنا أن نحكم على ما بقي له من سلطان إذا ذكرنا أنه حين خرج أولس فلفيوس Aulus Fulvius لينضم إلى جيش كاتلين Catiline استعاده أبوه وقتله. على أننا نستطيع أن نقول بوجه عام إن سلطان الأب على أبنائه أخذ يضعف كلما ازداد سلطان الحكومة على الأفراد؛ وإن المواطنية دخلت الأسرة حين غادرت الدولة. لقد كان الآباء هم الدولة في باكورة عهد الجمهورية، فكان رؤساء الأسر هم الذين يكونون الجمعية القبلية، وأكبر الظن أن رؤساء القبائل هم الذين كانوا يكونون مجلس الشيوخ. ثم ضعف نظام الحكم عن طريق الأسر والقبائل حين كثر عدد السكان واختلفت أصولهم، وأصبحت الحياة أكثر حركة وتعقيداً، وازدادت الصلات التجارية بين الناس فحل التعاقد والقانون محل القرابة والمكانة الاجتماعية والعادة (4). فنال الأبناء من آبائهم

ص: 367

نصيباً أوفى من الحرية، كما ازدادت تحرر الزوجات من الأزواج والأفراد من الجماعات. وشاهد ذلك أن تراجان أمر بفصل ابن عن أبيه لأنه أساء معاملته، وأن هدريان سلب من الأب حقه في قتل أفراد أسرته ونقل هذا الحق إلى المحاكم، ومنع أنطونينس أباً من أن يبيع أبناءه عبيداً (5). وكانت العادة قد قصرت من زمن بعيد استخدام هذه السلطات القديمة على حوادث فردية نادرة. ذلك أن القانون ينزع على الدوام للسير ببطء خلف التطور الأخلاقي، لا لأن القانون عاجز عن التعلم بل لأن التجارب قد دلت على أن من المحكمة أن تجرب الأساليب الجديدة عملياً قبل أن توضع في صورة الشرائع.

وكانت المرأة الرومانية تحصل على حقوق جديدة كلما فقد الرجل حقوقاً قديمة، ولكنها كانت من المهارة بحيث تستطيع أن تستر حريتها بستار من القيود القانونية المطردة الزيادة. لقد كانت شرائع الجمهورية تفترض أنها "لا حق لها على نفسها Sui Iuris" مطلقاً بل أنها على الدوام خاضعة لولي من الذكور. وفي ذلك يقول جايوس:"توجب عاداتنا على النساء الرشيدات أنفسهن أن يبقين تحت الوصاية لخفة عقولهن"(6). ثم زال القسط الأكبر من هذه الوصاية في عهد الجمهورية المتأخر وفي عهد الإمبراطورية، وكان سبب زواله مفاتن النساء وقوة إرادتهن، واستجابة الرجال لهذه المفاتن وهيامهم بالنساء. فكان المجتمع الروماني من أيام كاتو الأكبر إلى أيام كمودس Commodus خاضعاً لسلطان النساء، وإن كان من الناحية القانونية مجتمعاً أبوياً، وكان يسوده كل ما كانت تمتاز به سيادتهن على إيطاليا في عهد النهضة أو الندوات الفرنسية في عهد آل بربون من ظرف ورشاقة. وأقرت قوانين أغسطس هذه الحقيقة الواقعة بعض الإقرار بأن رفعت الوصاية عن كل امرأة ولدت ثلاثة أبناء شرعيين (7). وأصدر هدريان مرسوماً يجعل من حق النساء أن يتصرفن في أملاكهن كيفما شئن بشرط أن يحصلن قبل ذلك على موافقة أوليائهن، ولكن الإجراءات الفعلية لم تلبث

ص: 368

أن استغنت عن هذه الموافقة. ولم يكد يختتم القرن الثاني حتى كانت الولاية البشرية قد رفعت من الوجهة القانونية عن الحرائر من النساء متى تجاوزن الخامسة والعشرين من العمر.

وظل رضاء الأبوين إلى الوقت الذي نتحدث عنه واجباً في الزواج الشرعي (8). وكان الزواج الذي يتطلب احتفالاً دينياً Con Farreatio وقتئذ (60 م) مقصوراً على عدد قليل من الأسر التي يتألف من آبائها مجلس الشيوخ. وبقي الزواج بالشراء (Coemptio قائماً من حيث الشكل، فكان العريس يؤدي ثمن العروس بأن يزن في ميزان آساً أو سبيكة من البرنز أمام خمسة شهود بعد موافقة أبيها أو وليها (9). غير أن معظم الزواج أضحى وقتئذ زواجاً بالمعاشرة (Usus) . وكانت الزوجة تتجنب الخضوع لحق زوجها في تملكها (Manus) بأن تغيب عن بيتها ثلاث ليال في كل عام، وبذلك تحتفظ بسيطرتها على أملاكها عدا بائنتها. بل إن الزواج في واقع الأمر كثيراً ما كان يسجل أملاكه باسم زوجته تهرباً من قضايا التعويض عن الأضرار أو العقاب على الإفلاس (10). وكان في وسع كل من الطرفين فسخ هذا الزواج الذي يتسلم فيه الزوج زوجته أو أملاكها Sine Manu متى أراد، أما ما عداه من أنواع الزواج فكان الزوج وحده هو الذي يحق له فسخه. وظل الزنى من الجرائم الصغرى إذا ارتكبه الرجل، أما إذا ارتكبته المرأة فكان يعد من الجرائم الكبرى ضد أنظمة الملكية والميراث، ولكن الزوج لم يبق له وقتئذ حق قتل زوجته إذا ضبطها متلبسة بجريمة الزنى، بل أعطى هذا الحق لأبيها اسماً وللمحاكم فعلاً. وكان عقابها هو النفي. وكان القانون يعترف بالتسري بدلاً من الزواج لا مصاحباً له، ولم يكن يجيز للرجل أن تكون له خطبتان في وقت واحد، ولم يكن أبناء السراري يعدون أبناء شرعيين أو يجعل لهم حق الإرث. ومن أجل ذلك كان اتخاذ السراري أمراً محبباً كل الحب للرجال الذين يتكالب عليهم من يسعون لأن يوصي لهم بأملاكهم. فاتخذ

ص: 369

فسبازيان، وأنطونينس بيوس، وماركس أورليوس لهم سراري يعيشون معهن بعد أن ماتت أزواجهم (11).

وحاول القانون أن يشجع الأبوة بين الأحرار، لكنه لم يفلح في ذلك إفلاحاً يستحق الذكر. وكان يحرم قتل الأبناء إلا إذا كانوا مشوهين أو مصابين بمرض مستعص على العلاج. وكان عقاب من يجهض حاملاً أن ينفى من البلاد وأن تصادر أملاكه، فإذا ماتت الحامل نتيجة لهذا العمل عوقب بالإعدام (12). على أنه كان في الاستطاعة الإفلات من هذه القوانين في ذلك الوقت كما يفلت من يرتكب هذه الجرائم الآن. وكان الأبناء أياً كانت سنهم يبقون تحت سلطان أبيهم إلا إذا باعهم عبيداً ثلاث مرات، أو تحرروا من سيطرته بحكم القانون، أو شغل الابن منصباً عمومياً، أو صار كاهناً، أو أصبحت إحدى بناته زوجة استولى زوجها عليها وعلى مالها، أو أضحت عذراء فستية. وإذا تزوج ابن في حياة أبيه كانت ولاية أبنائه لجدهم (3). وقد أعفت شريعة أغسطس مكاسب الابن من الجندية أو من توليه منصباً عاماً، أو كهنوتياً، أو من الاشتغال بإحدى المهن الحرة أعفتها من الخضوع إلى القانون القديم الذي كان يجعل هذه المكاسب كلها من حق الأب. وكان لا يزال من حق الأب أن يبيع ابنه (Mancipium) ؛ ولكن حاله تلك كانت تختلف عن حال الرقيق فقد كان يحتفظ بما له من حقوق مدنية أما العبد فلم تكن له حقوق مدنية على الإطلاق، والحق أن القانون الروماني كان يتردد في أن يطلق عليه لفظ شخص Person، ثم خرج أخيراً من هذه الورطة بأن سماه "إنساناً غير شخصي"(14). ولم يبحث جايوس في أمره تحت عنوان قانون الأشخاص إلا لخطأ وقع فيه أدى إلى هذا الإنصاف غير المقصود؛ أما منطق الحوادث فكان يعد العبد من قبيل المتاع Res، فلم يكن يحق له أن يمتلك، أو يرث، أو يورث، ولم يكن يستطيع أن يتزوج زواجاً شرعياً، وكان أبناؤه كلهم يعدون أبناء غير شرعيين، كما أن أبناء الجارية كانوا يعدون كلهم

ص: 370

عبيداً ولو كان أبوهم من الأحرار (15). وكان في وسع السيد أن يرتكب الفحشاه مع عبيده وجواريه من غير أن ينالوا منه تعويضاً قانونياً، ولم يكن في مقدور العبد أن يقاضي من يؤذيه من المحاكم، وكان الذي يحق له أن يقاضي من يتسبب في إيذاء العبد هو سيده. وكان لهذا السيد في عهد الجمهورية أن يضربه، ويسجنه، ويحكم عليه أن يقاتل الوحوش في المجتلد، ويعرضه للموت جوعاً، أو يقتله لسبب أو لغير سبب ومن غير أن تكون عليه رقابة إلا رقابة الرأي العام المكون من ملاك العبيد. وإذا أبق عبد ثم قبض عليه كان في مقدور سيده أن يكويه بالنار أو يصلبه؛ وكان أغسطس يفخر بأنه قبض على ثلاثين ألفاً من العبيد الآبقين، وأنه صلب كل من لم يكن له مالك يطلبه (16). وإذا ما استفز العبد عمل من هذه الأعمال أو غيرها فقتل سيده، قضى القانون بأن يقتل جميع عبيد القتيل؛ ولما أن قتل الوالي بدانيوس سكندس Pedanius Secundus في عام 61 وحكم على عبيده الأربعمائة بالإعدام، احتجت أقلية من أعضاء مجلس الشيوخ على هذا الحكم، وطلبت جماعة غاضبة في الشارع باستعمال الرأفة، ولكن المجلس أصر على تنفيذ القانون اعتقاداً منه أن السيد لا يكون آمناً على نفسه من عبيده إلا بمثل هذه القسوة (17).

ومما يذكر بالشكر للإمبراطورية أو للنقص في موارد العبيد- أن أحوالهم أخذت تتحسن تحسناً مطرداً في عهد الأباطرة. ومن مظاهر هذا التحسن أن كلوديوس حرم قتل العبد الذي لا يرتجى منه نفع، وأمر أن يصبح العبد المريض الطريد بعد شفائه حراً من تلقاء نفسه. وحرم قانون بترونيا Les Petronia، في عهد نيرون على الأرجح، على الأسياد أن يحكموا على العبيد بأن يقاتلوا في المجتلد إلا إذا وافق على ذلك موظف كبير. وأجاز نيرون للعبد الذي أسيئت معاملته أن يلجأ إلى تمثاله ويحتمي منه، وعين قاضياً لينظر في شكاوي أمثال هذا العبد- وكان ذلك تقدماً متواضعاً لرومة كأنه انقلاب ثوري، لأنه فتح

ص: 371

أبواب المحاكم للعبيد. وقد جعل دومتيان خصي العبيد للأغراض الجنسية جناية، وحرم هدريان ملاك العبيد مما كان لهم من حق قتل عبيدهم دون موافقة الحكام، وأجاز أنطونينس بيوس للعبد الذي أسيئت معاملته أن يحتمي في أي معبد، وقرر أن يباع مثل هذا العبد إلى سيد آخر إذا أثبت أنه لحقه ضرر. وشجع ماركس أورليوس الأسياد على أن يعرضوا على المحاكم ما لحقهم من الأضرار على أيدي العبيد، بدل أن يقتصوا منهم بأنفسهم. وكان يرجو أن يحل القانون والحكمة بهذه الطريقة محل الوحشية والانتقام الفردي (18). وآخر ما نذكره من الإصلاحات أن مشترعاً عظيماً في القرن الثالث هو أبليان Uplian جهر بما لم يجرؤ على الجهر به إلا عدد قليل من الفلاسفة، وهو أن "الناس أكفاء بحكم قانون الطبيعة"(19). وقال غيره من المشترعين إن من القواعد المقررة أنه إذا كان ثمة شك في أن رجلاً ما حر أو عبد كانت الشكوك كلها مؤيدة لحريته (20).

على أن خضوع العبيد القانوني لسادتهم على هذا النحو لهو رغم هذه الملطفات كلها أسوأ وصمة يوصم بها القانون الروماني. وكانت آخر سوءات هذا القانون ما يفرضه من الضرائب والقيود على عتق العبيد حتى لقد كان كثيرون من الملاك يتملصون من قانون فوفيا كانينا Les Fufia Canina بأن يعتقوا عبيدهم من غير شهود رسميين أو احتفال قانوني، وإن كان هذا العتق لا يعطي المعتوق حقوق المواطنية بل كل ما يمنحه إياه هو أن يجعله لاتينياً. أما العبد الذي يعتق حسب الإجراءات القانونية فكان يصبح مواطناً يستمتع بالحقوق المدنية مقيدة ببعض القيود؛ لكن العادة كانت تتطلب منه أن يؤدي واجب التعظيم لسيده السابق كل صباح، وأن يقوم على خدمته إذا دعت الضرورة، وأن يعطيه صوته في كل انتخاب، وأن يؤدي إليه في بعض الحالات قسطاً من كل ما يكسبه من المال. وإذا مات المعتوق دون أن يوصي لأحد بماله، ذهب هذا المال من تلقاء نفسه إلى سيده السابق إن كان حياً؛ وإذا ما أوصي بماله وهو على قيد الحياة

ص: 372

كان ينتظر منه أن يخص هذا السيد ببعضه (11). وقصارى القول أن المعتوق لم يكن يستنشق نسيم الحرية بحق إلا بعد أن يموت سيده، وتقام جنازته، ويواري التراب بالطرق التي جرى بها العرف والتقاليد المرعية.

ومن واجبنا أن نضيف إلى الأقسام العامة من قانون لأحوال الشخصية السالف الذكر ذلك القسم الذي يطلق عليه في الشرائع الحديثة اسم خاص هو القانون الجنائي. لقد كان التشريع الروماني يحسب حساباً للجرائم التي تقع على لأفراد والدولة والهيئات الاجتماعية والتجارية بوصفها أشخاصاً معنويين. فأما الدولة فقد كان الاعتداء عليها يشمل خيانتها بالفعل أو بالقول، وعصيانها، والاعتداء على دينها الرسمي، والرشوة، وابتزاز الأموال أو الفساد في أعمالها الإدارية، أو سرقة أموالها؛ أو تقديم الرشا للقضاة أو المحلفين. ونستطيع أن نتبين من هذا الثبت لذي لا يحوي إلا عدداً قليلاً من الجرائم أن الفساد تمتد جذوره إلى أبعد العهود وأن فروعه في أكبر الظن ستظل تورق حتى المستقبل البعيد. أما الجرائم التي تقع على الأفراد فكان منها الإيذاء البدني، والغش، والفحش، والقتل؛ ويشير شيشرون في بعض أقواله إلى قانون اسكانتنيا Lex Scantinia الذي يعاقب على اللواط (22). وقاوم أغسطس هذه الجريمة بفرض غرامة على مرتكبها، وقاومها مارتيال بالهجاء، ودومتيان بالإعدام. ولم يعد الإيذاء البدني يعاقب عليه في ذلك الوقت بالقصاص كما هو وارد في الجداول الاثني عشر، بل كان يعاقب عليه بالغرامة. ولم يكن الانتحار جريمة، بل إنه قبل دومتيان كان يكافأ عليه في بعض الأحيان، فكان في مقدور الرجل المحكوم عليه بالإعدام إذا لجأ إلى الانتحار أن يضمن عادة تنفيذ وصيته وانتقال أملاكه لورثته دون أن توضع في سبيل ذلك العقبات. وكان القانون يترك له الحرية المطلقة في اختيار إحدى الطريقتين ليختم بها حياته.

ص: 373

الفصل الرابع

‌قانون الملكية

وكان أكبر قسم في القانون الروماني هو الخاص بشئون الملكية، والالتزامات، والتبادل، والتعاقد، والديون، ذلك أن الممتلكات العينية كانت هي حياة رومة، وكان ازدياد الثروة واتساع التجارة يتطلبان طائفة من القوانين أكثر تعقيداً إلى أبعد حد من قوانين العشرة الساذجة.

وكانت الملكية تجيء عن طريق الوراثة أو وضع اليد. وإذا كان الوالد يمتلك بوصفه وكيلاً عن الأسرة أو ولياً عليها، فقد كان الأولاد والأحفاد ملاكاً بالإمكانية أو "ورثة أنفسهم"(23) حسب النص الفذ الوارد في القانون. فإذا مات الوالد من غير أن يترك وصية ورث أبناؤه أملاك الأسرة من تلقاء أنفسهم، وورث أكبر الآباء من هؤلاء الأبناء حق الولاية على الأسرة. وكان عمل الوصايا القانونية يحاط بمئات من القيود، وكانت صياغتها تتطلب كما تتطلب في هذه الأيام سيلاً من اللغو والتكرار والألفاظ الطنانة الرنانة. وكان كل موص ملزماً بأن يترك جزءاً من أملاكه إلى أبنائه، وجزءاً آخر للزوجة إذا رزقت منه بثلاثة أبناء، وأجزاء أخرى (في بعض الأحيان) إلى اخوته وأخواته، وآبائه إن وجدوا. ولم يكن من حق أي وارث أن يستولي على جزء من التركة إلا بعد أن يتحمل نصيبه من جميع ديون المتوفي، وما عليه من الالتزامات القانونية. وكثيراً ما كان الروماني يجد نفسه متورطاً في وصية ملعونة على حد تعبيرهم، أو وصية حمراء إذا جاز هذا التعبير. وإن امرؤ هلك ليس له ولد ولم يترك وصية انتقلت أملاكه وديونه من تلقاء نفسها إلى أقرب "قريب ذكر من الصعب" أو من أولاد الظهور كما نقول نحن في هذه الأيام. ثم ألغى هذا التقييد بالعصب

ص: 374

في عهد الإمبراطورية، وقبل أن يجلس جستنيان على العرش كان لأبناء البطون مثل ما لأبناء الظهور من حق في الإرث. وقد كان قانون قديم سن بإيعاز كاتو (169 ق. م) يحرم على كل روماني يملك 100. 000 سسترس (أي ما قيمته 15. 000 ريال أمريكي) أو أكثر أن يوصي بأي جزء من ثروته لامرأة. وكان قانون فكونيا Lex Voconia هذا لا يزال مدونا في كتب القوانين في أيام جايوس، ولكن الحب وجد له سبيلاً إلى التملص منه، فقد كان الموصي يوصي بأملاكه إلى وارث له حق الإرث، ثم يلزمه بأن ينقل هذه الأملاك قبل وقت معين إلى المرأة التي يريد أن يهبها تلك الأملاك. وبهذه الطريقة وأمثالها انتقل جزء كبير من ثروة رومة إلى أيدي النساء. يضاف إلى هذا أن الهبة كانت سبيلاً آخر إلى الفرار من قانون الوصية، غير أن الهبات التي كانت توهب قرب الوفاة كانت عرضة لأن تبحث بحثاً قانونياً دقيقاً، وأضحت في عهد جستنيان خاضعة لنفس القيود التي كانت مفروضة على الوصايا.

وكان الاستحواذ يجيء عن طريق الأيلولة أو الانتقال المترتب على قضية حكمت فيها بالمحاكم. فأما الأيلولة (Mancipatio أو التسليم باليد) فكانت الوسيلة إليها هي الهبة القانونية أو البيع أما شهود وبوجود كفتي ميزان يوضع فيهما سبيكة نحاسية رمزاً لهذا البيع. فإذا لم تصحبها هذه المراسم القديمة فإن القانون لا يقرأ أي انتقال للملك. وكانت هناك ملكية وسطى أو إمكانية يعترف بها القانون وتسمى حق وضع اليد على الملك أو استخدامه: فكان الذين يفلحون أراضي الدولة مثلاً من هذا الصنف "الجالسين" لا المالكين، فإذا ما ظلوا عامين يشغلون هذه الأراضي ولا ينازعهم فيها منازع أصبحوا ملاكا لها لا شك في ملكيتهم، وكانت لهم بحق الانتفاع أو بوضع اليد في لغة هذه الأيام. ولعل الحصول على الملك بعد شغله بهذه الوسيلة السهلة اللينة يرجع في أصله إلى عمل الأشراف الذين حصلوا به

ص: 375

على الأراضي العامة (24). وبهذه الطريقة طريقة الملك بالانتفاع أو وضع اليد كانت المرأة التي تعاشر رجلاً عاماً كاملاً لا تغيب عنه فيه ثلاث ليال تصبح ملكاً له.

وكان الإلزام هو م يفرضه القانون قسراً على شخص ما بأن يقوم بعمل من الأعمال. وكان الشخص يلزم بعمل ما إذا ارتكب جنحة أو تعاقد على القيام بهذا العمل. فأما الجنح، وهي الذنوب البسيطة التي تضر بالشخص أو بملكه، فكان يعاقب عليها في كثير من الأحيان بغرامة تؤدي إلى من وقع عليه الأذى تعويضاً عنه عما لحقه من الضرر. وأما العقد فكان اتفاقاً ينفذه القانون. ولم يكن يفرض في هذا التعاقد أن يكون مكتوباً؛ والحق أن الاتفاق الشفوي الذي كان يتم بالنطق بلفظ "أعد Spondeo" أمام أحد الشهود قد ظل حتى القرن الثاني بعد الميلاد يعد أكثر قداسة من أي تعهد مكتوب. ولم تعد كثرة الشهود ولا المراسم الوقورة التي كان لا بد منها في العهود السابقة لإتمام التعاقد القانوني ضرورية في الوقت الذي نتحدث عنه. ونشطت الأعمال المالية والتجارية حين اعترف القانون بكل اتفاق واضح- وكان هذا التعاقد يتم عادة بأن يسجل الطرفان ما اتفقا عليه في دفاتر حساباتهما Tabulae. غير أن القانون كان يحمي الأعمال المالية والتجارية أتم حماية، فكان يلفت نظر البائع والمشتري كليهما إلى آلاف الخدع التي تنشأ بطبيعتها في الحياة المتحضرة. من ذلك أن القانون كان يحتم على كل بائع ماشية أو عبيد مثلاً أن يكشف للمشتري عما في أجسامها أو أجسامهم من عيوب، وكان يعتبر مسئولاً عن هذه العيوب وإن قال إنه يجهلها (25).

وكان يعقد إما فلسفة، أو رهناً، أو وديعة، أو أمانة. وكان ما يعقد من قروض للاستهلاك يضمن عادة برهن بعض العقار أو المنقولات. وكان العجز عن أداء الدين يجعل من حق الراهن قانوناً أن يستولي على

ص: 376

الملك المرهون. ولقد رأينا في الفصول السابقة أن هذا العجز في عهد الجمهورية الباكر كان يجيز للدائن أن يتخذ المدين عبداً له

(1)

. وقد عدل قانون بوتليا Poetelia الذي صدر في عام 336 ق. م هذه القاعدة بأن أجاز للمدين أن يعمل حتى يؤدي دينه وهو محتفظ بحريته. وفي عهد قيصر كانت الأملاك المرهونة التي يعجز أصحابها عن فك رهنها تباع لأداء ما عليها من الديون من غير أن يضار المدين في شخصه. غير أن حالات من استرقاق المدينين ظلت تحدث إلى أيام جستنيان. أما العجز عن الأداء في الأحوال التجارية فقد خفف من آثاره قانون الإفلاس، الذي كان يجيز بيع أملاك المفلس للوفاء بديونه، ولكنه يترك له مما يحصل عليه بعدئذ ما يكفي لمعيشته.

وكان أهم الجرائم التي ترتكب على الأملاك هو الإتلاف، والسرقة، والنهب- أي السرقة بالإكراه. وكانت قوانين الجداول الاثني عشر تحكم على السارق الذي يضبط بالضرب، ثم يجعل بعدئذ عبداً لمن سرق منه؛ فإذا كان السارق عبداً، ضرب ثم ألقى به من فوق الصخرة التربية Tarpeian Rock. فلما زاد استقرار الأمن خفف القانون البريتوري هذه العقوبات القاسية بأن فرض عليه أن يرد إلى المسروق منه ضعفي ما سرقه أو ثلاثة أضعافه أو أربعة أضعافه (26) ولقد كان قانون الملكية في صورته الأخيرة أكمل جزء من الشريعة الرومانية.

(1)

وكان صاحب الملك المرهون من الوجهة القانونية "مرتبطاً" Nexus بصاحب المال؛ ولكن اللفظ الذي كان يستخدم لهذا الارتباط وهو لفظ Nexum لفظ غامض كان يستخدم كما يبدو للدلالة على أي ارتباط قانوني أقسم المتعاقدان أن يتقيدوا به.

ص: 377

الفصل الخامس

‌قانون المرافعات

كان الرومان أكثر الشعوب القديمة ميلاً إلى التقاضي، على الرغم مما امتاز به قانون المرافعات عندهم من تعقيد فني وغموض محير مربك كان خليقاً بألا يشجعهم على الالتجاء إلى المحاكم. وما من شك في أنهم لو شهدوا إجراءاتنا القضائية لبدت لهم هي الأخرى طويلة مضللة؛ وكلما رجعنا في الحضارة إلى الوراء زادت القضايا طولاً؛ ولقد كان في وسع أي روماني، كما سبق القول، أن ينصب نفسه مدعياً في المحكمة الرومانية، وكان يطلب إلى المدعي والمدعى عليه والحاكم في عهد الجمهورية، حين كان يتولى الأشراف الحكم فيها، أن يسيروا على نهج معين يسمى الإجراء القانوني، إذا حاد أحدهم عنه قيد شعرة بطلت المحاكمة. وفي ذلك يقول جايوس: فإذا قاضى شخص آخر لأنه قطع كرومة ثم أطلق عليها في قضيته اسم "كروم" خسر القضية، فقد كان يجب عليه أن يسميها "أشجاراً" لأن اللفظ الوارد في الجداول الاثني عشر هو الأشجار لا الكروم بصفة خاصة (27). وكان كل من طرفي النزاع يودع لدى الحاكم مبلغاً من المال Sacramentum يضيع على من يخسر القضية، ويصبح من حق دين الدولة، وكان من الواجب على المدعي عليه أن يقدم كفالة تضمن بها المحكمة حضوره أمامها فيما بعد. فإذا تم هذا أحال الحاكم النزاع إلى رجل يختاره من ثبت يحتوي أسماء الرجال الذين يصح لهم أن يكونوا قضاة. وكان القاضي في بعض الأحيان يصدر حكماً تمهيدياً يوجب على أحد الطرفين المتقاضيين أو كليهما أن يقوم بعمل من الأعمال أو يمتنع عن القيام به، وإذا خسر المدعي عليه القضية كان من حق المدعي أن يستولي على أملاكه أو يقبض عليه حتى ينفذ الحكم.

ص: 378

وفي عام 150 ق. م ألغى قانون إيبوتيا الإجراءات المعقدة القديمة واستبدل بها إجراءات أخرى أقل منها تعقيداً؛ فلم يصبح من الضروري إتباع مراسم معينة أو النطق بألفاظ خاصة؛ وصار من حق المتقاضين أن يشتركوا مع الحاكم في تحديد الشكل الذي يعرض به النزاع على القاضي، ثم يصدر الحاكم بعدئذ إلى القاضي تعليمات بالحقائق الموضوعية والمسائل القانونية التي يتضمنها النزاع. وكانت هذه إحدى الوسائل التي وضع بها الحاكم أو البريتور "القانون البريتوري" فيما بعد. وجدت في القرن الثاني بعد الميلاد طريقة ثالثة للحكم في القضايا غير العادية، كان للحاكم بمقتضاها أن يفصل بنفسه في القضية. وقبل أن يختتم القرن الثالث اختفت الإجراءات السالفة الذكر عن آخرها وأصبح الحاكم هو الذي يصدر الأحكام بطريقة عاجلة، وكان ذلك الحاكم مسئولاً أمام الإمبراطور وحده مديناً له بمنصبه، فكان هذا إيذاناً بقيام الملكية المطلقة.

وكان في وسع المتقاضين أن يعرضوا بأنفسهم قضاياهم ثم يصدر البريتور أو القاضي حكمه فيها دون معونة المحامين إذا شاء المتقاضيان هذا؛ غير أنه لما كان القاضي في كثير من الأحيان رجلاً غير مدرب تدريباً مهنياً ولم يدرس القانون دراسة خاصة، ولما كانت العقبات الفنية تعترض المتقاضين في كل خطوة في القضية، فإن المتنازعين كانوا يلجئون في العادة إلى محامين ليترافعوا عنهم Avocati وإلى أخصائيين قانونيين Pragmatici وإلى مستشارين قانونيين Iurisconsulti وفقهاء قانونيين Iurisprudentes. ولم تكن المواهب القانونية تنقص الرومان، فقد كان كل أب يعز أبناءه يتوق إلى أن يرى ابنه محامياً، وكان القانون وقتئذ كما هو الآن الطريق الموصل إلى المناصب العامة. فنرى أحد الأشخاص في كتاب لبترونيوس يعطي ابنه طائفة من الكتب ذات الظهور الحمراء "ليتعلم قليلاً من القوانين" لأن "القانون يأتي بالمال"(28). وكان طالب القانون يبدأ بدراسة المبادئ القانونية على معلم خاص، ثم يشهد في المرحلة الثانية

ص: 379

الاستشارات التي تعرض على أعلام فقهاء القانون، ويتمرن بعدئذ عند محام يترافع في القضايا. وأنشأ بعض المستشارين القانونيين في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد مدارس Stationes في أحياء مختلفة من مدينة رومة يعلمون فيها القانون أو يصدرون فيها فتاوي قانونية. ويشكو أميانس Ammianus من ارتفاع الأجور التي كان يفرضها هؤلاء الفقهاء، ويقول إنهم كانوا يتقاضون ثمن تثاؤبهم نفسه، ويحلون قتل الأم إذا أدى العميل أجراً كافياً (29). وكان هؤلاء المعلمون يسمون "أساتذة القانون"؛ ويلوح أن لفظ أستاذ Professor قد أطلق عليهم لأنه كان يطلب إليهم أن يعلنوا Profiteri عزمهم على أن يعلموا وأن يحصلوا بعدئذ من السلطات العامة على ترخيص بممارسة هذا العمل. (30).

وكان لابد أن يوجد بين المحامين الكثيرين الذين يمارسون مهنتهم عدد منهم لا يتورعون عن بيع علمهم لأغراض صغيرة (31)، وعن قبول الرشا لكي يعرضوا قضايا موكليهم عرضاً ضعيفاً، وعن البحث عن ثغرات في القانون يبررون بها أية جريمة، وعن إثارة النزاع بين الأغنياء، وعن إطالة القضايا إلى أطول أجل يمكنهم من سلب أموال المتقاضين (33)، وأن يزلزلوا المحاكم أو السوق العامة بأسئلتهم الإرهابية وعباراتهم الموجزة البذيئة. ومنهم من اضطرهم التنافس على القضايا إلى العمل على نيل الشهرة بالهرولة في الشوارع وبأيديهم أضابير من الوثائق وبأصابعهم خواتم مستعارة، ومن خلفهم خدم وأتباع، ومصفقون مأجورون ليصفقوا لهم وهم يخطبون (34). وقد بلغ من كثرة الأساليب التي اخترعت للتملص من قانون سنسيوس Cincius القديم الخاص بأجور المحامين أن اضطر كلوديوس أن يجعل الحد القانوني الأعلى لهذه الأجور عشرة آلاف سسترس لكل قضية، وأن يجعل من حق المتقاضيين قانوناً أن يستردا ما زاد على هذا القدر (35). لكن هذا القيد كان يسهل الإفلات منه. فنحن نسمع أن محامياً في أيام فسبازيان جمع ثروة تبلغ 300. 000. 000 سسترس (نحو 30. 000. 000

ص: 380

ريال أمريكي) (36). غير أنه كان يوجد وقتئذ، كما يوجد في كل عصر من العصور، محامون وقضاة يضعون مواهبهم الصافية المنظمة في خدمة الحق والعدالة من غير نظر إلى الأجور، وكانت شهرة فقهاء قانون العظام الذين لا يعلو اسم على أسمائهم في تاريخ القانون، تطغى على نقائص أولئك المحامين الأدنياء.

وكانت المحاكم التي تنظر في قضايا المذنبين على درجات تختلف من المحاكم ذات القاضي أو الحاكم الواحد إلى الجمعيات الوطنية ومجلس الشيوخ والإمبراطور. وكان في وسع البريتور أن يختار بطريق القرعة بدل القاضي الواحد محلفين لا حد لعددهم، ولكنهم يكونون في العادة 51 أو 71 محلفاً ومن بين الثمانمائة والخمسين اسماً من أسماء طبقة الشيوخ أو الفرسان المدونة في ثبت المحلفين، وكان من حق المدعي والمدعى عليه أن يقدما ما شاءا من الاعتراضات على هذا الاختيار. وكانت محكمتان خاصتان تعقدان بصفة دائمة، إحداهما محكمة العشرة رجال Decemviri وتنظر في أحوال الأفراد المدنية، والثانية محكمة المائة Centumviri وتنظر في قضايا الملك والميراث. وكانت المرافعات أمام هذين النوعين من المحاكم علنية يباح حضورها للجمهور، لأنا نرى بلني الأصغر يصف الجمهور الكبير الذي حضر ليستمع إليه وهو يترافع أمام المحكمة الثانية (37). ويشكو جوفنال (38) وأبوليوس Apuleius (39) من الارتشاء وكثرة التأجيل في هذه المحاكم، ولكن غضبهما نفسه يوحي بأن ما يشكوان منه كان من العيوب الاستثنائية القليلة.

وكانت المحاكمات تمتاز بنصيب من الحرية في القول والفعل قل أن نجد له نظيراً في محاكم هذه الأيام. وكان في وسع عدد من المحامين أن يحضروا مع كل طرف من طرفي النزاع؛ منهم من تخصص في تحضير البينات، ومنهم من تخصص في عرضها على المحكمة. وكان كتبة مختلفون Norarii، Actuarii، Scribea يسجلون المرافعات، وكان بعضها يسجل بطريقة الاختزال. ويصف مارتيال

ص: 381

بعض أولئك الكتبة بقوله: "ومهما تكن السرعة التي تقال بها الألفاظ، فإن أيديهم أسرع منها"(41). ويصف أفلوطرخس الطريقة التي كان المختزلون يدونون بها خطب شيشرون، والتي كانت تضايقه في أكثر الأحيان. وكان الشهود يعاملون حسب السوابق التي خلع عليها طول العهد ثوباً من الوقار، والتي يصفها كونتليان بعبارته التي لا يعلو عليها وصف آخر فيقول:

"إذا أريد الفحص عن شهادة شاهد فإن أول ما تجب مراعاته هو صنف هذا الشاهد نفسه. ذلك أن الشاهد الجبان يستطاع إرهابه، والشاهد الأبله يمكن التفوق عليه في الدهاء، والرجل الغضوب يمكن استثارته، والرجل المغرور يستطاع تملقه. أما الشاهد الذكي الأريب الرابط الجأش فيجب إبعاده على الفور لأنه خبيث عنيد أو

إذا كان في حياته الماضية ما يعاب عليه، فإن شهادته يستطاع نقضها بما يمكن مجابهته به من التهم الفاضحة" (42).

وكان في وسع المحامي أن يدلي بما شاء من الحجج. فكان يستطيع أن يطلع المحكمة على ما لديه من صور خاصة بالجريمة المزعومة، مرسومة على القماش أو الخشب؛ وكان في مقدوره أن يمسك طفلاً بين يديه وهو يناقش نقطة من النقط؛ وكان يحق له أن يكشف عما في جسم جندي متهم من ندوب وما في جسم عميله من جروح. وقد ابتدعت الدفوع لمقاومة مفعول هذه الأسلحة؛ فها هو ذا كونتليان يحدثنا عن حيلة لجأ إليها محام جاء خصمه بأطفال موكله إلى المحكمة ليوضح بهم مرافعته، فما كان منه إلا أن ألقى بينهم بنرد، فزحف الأطفال على أرض المحكمة، وأفسدوا بذلك على المحامي ختام قضيته (43). وكان من المستطاع تعذيب العبيد إذا كانوا أحد طرفي الخصومة لانتزاع الشهادة منهم، ولكن الشهادة المنتزعة بهذه الطريقة لم تكن تقبل ضد مالكيهم. وقد أصدر مرسوما يحرم فيها تعذيب العبيد لانتزاع إقرار منهم بجريمتهم، إلا إذا لم يفلح معهم كل ما عدا ذلك من الوسائل، على أن يتبع في هذا التعذيب أدق

ص: 382

الإجراءات المرسومة له، ونبه المحاكم إلى أن الشهادة المنتزعة بالتعذيب لا يستطاع الوثوق بها على الإطلاق. على أن التعذيب القانوني ظل رغم هذا من الوسائل التي يلجأ إليها، واتسع نطاقه في القرن الثالث حتى شمل الأحرار (44). وكان المحلفون يعطون أصواتهم بإيداع ألواح ذات علامات خاصة في وعاء، وكانت أغلبيتهم المطلقة تكفي لإصدار القرار. وكان في وسع من يخسر القضية في كثير من الأحيان أن يستأنف الحكم أمام محكمة أعلى درجة من المحكمة التي أصدرته، وكان في مقدوره أن يستأنفه أمام الإمبراطور نفسه إذا أمكنته موارده من ذلك.

وكان القانون هو الذي يحدد العقوبات فلم تكن تترك لاختيار القضاة أنفسهم. وكانت هذه العقوبات تختلف باختلاف منزلة المحكوم عليه، وكان أقساها ما يوقع على العبيد، فقد كان بالاستطاعة أن يحكم على العبد بالصلب، أما المواطن فلم يكن يستطاع صلبه؛ ولم يكن يستطاع جلد المواطن الروماني، أو تعذيبه، أو قتله دون أن يستأنف حكم القتل أمام الإمبراطور، ويتضح ذلك لكل من يطلع على سفر أعمال الرسل. وكانت العقوبات تختلف في الجريمة الواحدة باختلاف منزلة المذنب وهل هو من "ذوي الشرف" Honestiores أو من "المنحطين Humiliores؛ كما كانت تختلف في حال الرجل الحر المولد والمحرر، والمفلس وغير المفلس، والجندي والمدني. ولما كانت قيمة العملة تتغير أسرع من تغير العقوبات المقررة في القانون فقد نشأ عن ذلك التغير السريع بعض الشذوذ والتناقض. من ذلك أن الجداول الاثني عشر كانت تفرض غرامة مقدارها خمسة وعشرون آساً (وكانت في الأصل خمسة وعشرين رطلاً من النحاس) على من يضرب رجلاً حراً؛ فلما انخفضت قيمة الآس بسبب غلاء الأسعار إلى ما يعادل 6100 من الريال الأمريكي أخذ لوسيوس فراتيوس Lucius Veratius يصفع الأحرار على وجوههم، ومن ورائه عبد يعد خمسة وعشرين آساً لكل من يتلقى الصفعة (45). وكانت بعض الجرائم يعاقب عليها بفرض

ص: 383

"الصمت" على من يرتكبها. وكان يقصد بالصمت في الغالب منع المحكوم عليه من الحضور في القضايا بشخصه أو أن ينيب عنه من يمثله؛ وأشد من هذا العقاب أن يفقد المجرم حقوقه المدنية Capitis Drminutiso. وكان فقدان هذه الحقوق يتدرج من فقد الأهلية للميراث، إلى الطرد من البلاد، إلى الاسترقاق. وكان الطرد أقسى صورة من صور النفي: فقد كان المطرود يقيد بالأغلال، ويحجز في مكان حقير، وتنتزع منه كل أملاكه. أما النفي Exilium فكان أخف من الطرد، فقد كان يسمح فيه للمنفى أن يعيش حراً في أي مكان يشاء خارج إيطاليا؛ ويختلف الطرد والنفي عن الأبعاد، ذلك أن الإبعاد- كما حدث لأوفد- لم يكن يتضمن مصادرة المال، وكل ما في الأمر أن المبعد كان يرغم على الإقامة في بلدة معينة، بعيدة في العادة عن رومة. وقلما كان يلجأ إلى السجن ليكون عقوبة دائمة، ولكن كان في الاستطاعة أن يحكم على الرجال بالاشتغال في الأعمال العامة، أو في المناجم أو المحاجر التي تستغلها الدولة. وكان في وسع الرجل الحر المحكوم عليه بالإعدام في عهد الجمهورية أن ينجو من العقاب إذا أخرج من رومة أو من إيطاليا؛ وازدادت أحكام الإعدام في عهد الإمبراطورية في عددها وقسوتها، فكان أسرى الحرب، والمحكوم عليهم بالإعدام من غير الأسرى في بعض الأحيان، يلقون في جب تليان ليموتوا من الجوع وفتك الحشرات القارضة والقمل في السراديب المظلمة وسط الأقذار التي لا يستطيعون إزالتها (46). وفي مثل هذه الأماكن مات ججورتا وسيمون بن جيوفا Simon Ben- Giova البطل الذي دافع عن أورشليم ضد تيتس، وفي مثلها كما تقول الرواية المتواترة: عذّب القديسان بطرس وبولس قبل أن يصلبا، وكتبا آخر رسائلهما إلى العالم المسيحي الناشئ.

ص: 384

الفصل السادس

‌قانون الأمم

وكانت أعقد المشاكل التي واجهها القانون الروماني أن يكيف نفسه، وهو قانون الدولة السيدة ذات العقلية الممتازة، بحيث لا يتعارض مع القوانين السائدة أو العادات المرعية في الأراضي التي أخضعتها رومة لسلطانها بقوتها العسكرية أو مهارتها السياسية. وكان عدد كبير من هذه الدول الخاضعة لرومة أقدم منها، وكان لها من تقاليدها التي تفخر بها ومن أساليبها الخاصة التي تحرص عليها وتعتز بها ما يعوضها عما فقدته من قوتها العسكرية. وقد استطاعت رومة أن تتغلب على هذه المشكلة بمهارة فائقة، فقد عينت في بادئ الأمر بريتوراً يختص بشئون الأجانب Praetor Peregrinus القاطنين في رومة ثم القاطنين في إيطاليا، ثم في الأقاليم الخارجية، وجعل من حقه أن يوفق بين القانون الروماني والقانون المحلي توفيقاً دائماً. ولقد نشأ من القرارات التي يصدرها البريتورون، وحكام الولايات، والإيديلون على مر الزمن قانون الأمم الذي كان يطبق على الإمبراطورية بأجمعها، والتي كانت تحكم بمقتضاه.

ولم يكن "قانون الأمم" قانوناً دولياً، أي أنه لم يكن طائفة من الالتزامات والأحكام ارتضه الدول بوجه عام لتحديد علاقاتها بعضها ببعض. لقد كان في العهد القديم قانون دولي إذا لم تفهم من هذا اللفظ بمعناه في الزمن القديم معنى أدق كثيراً مما نفهمه منه في هذه الأيام. فقد كانت بعض العادات العامة تراعى ويتقيد بها في السلم والحرب- كالحماية المتبادلة للتجار والدبلوماسيين الدوليين، ووقف القتال لدفن الموتى، والامتناع عن استخدام السهام المسمومة، وما إلى هذا. وكان فقهاء القانون الروماني يصفون قانون الأمم هذا ius gentium بأنه قانون

ص: 385

عام يشمل الأمم جميعها، ولكن هذا لم يكن إلا من قبيل التفاخر الوطني الكاذب. على أنه لم يكونوا يعزون إلى رومة أكبر من نصيبها الحق فيه. فقد كان في واقع الأمر قوانين محلية كيفت بحيث تتفق مع السيادة الرومانية، وكان الغرض منها أن يستطاع بها حكم شعوب إيطاليا والولايات التابعة للدولة الرومانية من غير أن يعطى لأهلها حق المواطنية الرومانية وغيرها من الحقوق المنصوص عليها في القانون المدني.

وبمثل هذه الدعوى الكاذبة حاول الفلاسفة أن يقولوا إن قانون الأمم هو "قانون الطبيعة". وكان الرواقيون يعرفون قانون الطبيعة بأنه قانون أخلاقي متأصل في الإنسان بفعل "العقل الفطري". وكانوا يعتقدون أن الطبيعة نظام من نظم العقل، قوامه المنطق والترتيب المحكم الكامن في الأشياء جميعها. وهذا الترتيب المحكم الذي ينمو في المجتمع من تلقاء نفسه، ثم يصل إلى مستوى الوعي في الإنسان، هو القانون الطبيعي، وقد عبر شيشرون عن هذا الوهم بعبارة ذائعة الصيت فقال:

"إن القانون الصحيح هو العقل الحق المتفق مع الطبيعة، والذي يدخل في نطاقه العالم بأسره، والسرمدي الذي لا يتبدل

وليس من حقنا أن نقاوم ذلك القانون أن نبدله، وليس في مقدورنا أن نلغيه، ولا نستطيع أن نتحرر مما يفرضه علينا من التزامات بالتشريع أياً كان، ولسنا في حاجة إلى أن ننظر في خارج أنفسنا لنبحث عن شرح له أو توضيح. وهذا القانون لا يختلف في رومة عنه في أثينة، ولا في الحاضر عنه في المستقبل

وهو قانون صحيح ثابت عند جميع الأمم وفي جميع الأحقاب

ومن عصاه فقد أنكر نفسه وأنكر طبيعته" (47).

ذلك وصف كامل لمثل أعلى أخذ يزداد قوة حين جلست الرواقية على العرش في عهد الأنطونيين. وما زال البيان يرفع من شأنه حتى بلغ

ص: 386

على يديه ذلك المبدأ الواسع المدى القائل بأن ما بين الطبقات من فروق ومميزات أمور عارضة اصطناعية. ولم يكن ثمة إلا خطوة واحدة بين هذا المبدأ وبين الفكرة المسيحية القائلة بأن الناس في حقيقة أمرهم أكفاء. غير أن جايوس عرف قانون الأمم بأنه ليس أكثر من "القانون الذي شرعه العقل الفطري بين البشر جميعاً" كان يعتقد خطأ أن الأسلحة الرومانية هي الإرادة الإلهية، ذلك أن القانون الروماني كان هو منطق القوة وهدفها الاقتصادي؛ ولم تكن القوانين العظمى المدنية والأممية إلا القواعد التي يخلع بها الفاتح الحكيم النظام، والاطراد، والقداسة الزمنية على تلك السيادة القائمة على قوة الفيالق. نعم إن هذه القوانين كانت طبيعية، بمعنى أنه كان من الطبيعي أن يستخدم الأقوياء الضعفاء وأن يسيئوا استخدامهم.

لكن هذا الصرح المهيب من أداة الحكم التي يطلق عليها اسم القانون الروماني كان فيه شيء من النبل. وإذا كان لا بد أن يكون الحكام هم الأقوياء فإن من الخير أن تكون القواعد التي يفرض بها سلطانه واضحة صريحة، وبهذا المعنى يكون القانون هو استقرار القوة واستقامتها. ولقد كان من الطبيعي أن ينشئ الرومان أعظم نظام قانوني في التاريخ كله. ذلك أنهم كانوا يحبون النظام وأنهم كانت لديهم الوسائل التي تمكنهم من فرضه على الناس، وقد فرضوا على مئات من الأمم المختلفة المشارب والأجناس التي كانت تتخبط في دياجير الفوضى والاضطراب سلطاناً وسلاماً، لا ننكر أنهما لم يبلغا حد الكمال ولكنهما كانا في واقع الأمر جليلي القدر عظيمي الأثر. ولقد كان لغير رومة من الدول التي قامت قبلها قوانين، ونشأ فيها مشترعون أمثال حمورابي وصولون سنوا طائفة مكتملة من التشريعات الإنسانية الرحيمة، غير أنه لم يوجد قط شعب غير الرومان أفلح فيما أفلحوا هم فيه من تنسيق الشرائع وتوحيدها وتقنينها، وهي أعمال كانت الشغل الشاغل لأصحاب العقول الجبارة في رومة من عهد أبناء اسكافولا Scaavola إلى جستنيان.

ص: 387

وقد يسرت مرونة قانون الأمم انتقال القانون الروماني إلى الدول الأخرى في العصور الوسطى وفي عصرنا الحاضر. وكان من محاسن الصدف أنه بينما كانت الفوضى التي أعقبت غارات البرابرة تقضي على التراث القانوني في غربي أوربا، كان قانون جستنيان، وموجزه، ونظمه تجمع وتصاغ في القسطنطينية في ظل الاستقرار والثبات النسبيين السائدين في شرقيها. وبفضل هذه الجهود، وعشرات الوسائل الأقل منها شأناً، وأساليب الحياة الصامتة الدائبة، دخل القانون الروماني في الشرائع الدينية التي سنتها الكنيسة في العصور الوسطى، وكانت هي الوحي الملهم لعقول المفكرين في عصر النهضة، وأضحت هي الأساس التي قامت عليه قوانين إيطاليا، وأسبانيا، وفرنسا، وألمانيا، وبلاد المجر، وبوهيميا، وبولندة، بل واسكتلندة، وكوبك، وسيلان، وأفريقية الجنوبية من بلاد الإمبراطورية البريطانية. ولقد استمد القانون الإنجليزي نفسه، وهو الصرح القانوني الوحيد الذي يضارع القانون الروماني في اتساع المدى، قواعد العدالة، والقوانين البحرية، والولاية، والإرث من القانون الروماني. وإذا أحصينا أثمن ما ورثناه من العالم القديم قلنا إنه هو العلوم والفلسفة اليونانية، والمسيحية اليهودية اليونانية، والديموقراطية اليونانية الرومانية، والقانون الروماني.

ص: 388

الباب التاسع عشر

‌الملوك الفلاسفة

96 -

180

الفصل الأول

‌نيرفا

اختفى من تاريخ الملكية الرومانية مبدأ وراثة العرش بعد اغتيال دومتيان قرناً من الزمان. ذلك أن مجلس الشيوخ لم يعترف قط بأن الوراثة وسيلة لارتقاء العرش، والآن بعد 123 سنة من خضوعه لهذا المبدأ، عاد فأثبت سلطانه، ورشح عضواً من أعضاءه ليكون زعيماً وإمبراطوراً، كما كان يختار ملوك رومة في بداية عهدها. وكان هذا عملاً جريئاً ينطق بالشجاعة ولا يستطاع فهمه إلا إذا ذكرنا أن حيوية الأسرة الفلافية قد نضب معينها، في نفس الجيل الذي شهد تجدد حيوية مجلس الشيوخ بما طعم به من دم إيطالي وإقليمي.

وكان ماركس ككسيوس نيرفا في السادسة والستين من عمره حين فوجيء بدعوته إلى هذا المركز السامي. ويظهره تمثاله الضخم المحفوظ في متحف الفاتيكان رجلاً ذا وجه وسيم تتجلى فيه صفات الرجولة الكاملة، ويتعذر على من يشاهده أن يعتقد أن صاحبه كان من أئمة فقهاء القانون المبجلين، وأنه كان رجلاً محموداً، وشاعراً رقيقاً ظريفاً، حياه مواطنوه في وقت من الأوقات ولقبوه "تيبلس زماننا"(1). ولعل مجلس الشيوخ قد اختاره لشيبته وبعده عن الأذى؛ وكان يستشير هذا المجلس

ص: 389

في جميع خططه السياسية، وحافظ على العهد الذي قطعه على نفسه بألا يكون قط سبباً في موت أي عضو من أعضائه. وقد أعاد إلى البلاد من نفاهم منها دومتيان ورد إليهم أملاكهم، وخفف من رغبتهم في الانتقام من أعدائهم، ووزع على الفقراء ما قيمته 60. 000. 000 سسترس من الأراضي الزراعية، وأنشأ الألمنتا- وهي رصيد من مال الدولة- ليشجع بها تناسل الفلاحين ويمدهم بما يحتاجونه من المال. وألغى عدداً كبيراً من الضرائب وخفض ضريبة التركات، وأعفى اليهود من الجزية التي فرضها عليهم فسبازيان ودعم في الوقت نفسه مالية الدولة بمراعاة الاقتصاد في بيته وحكومته. وكان يعتقد بحق أنه كان يراعي العدل في معاملته جميع الطبقات؛ ومن أقواله في هذا المعنى:"إنني لم أفعل شيئاً يحول بيني وبين إلقاء منصبي الإمبراطوري عن كاهلي وعودتي آمناً مطمئناً إلى الحياة الخاصة"(2). ولكن حدث بعد عام من توليته أن حاصر الحرس البريتوري قصره، وطالبه بتسليم قتلة دومتيان، وقتل عدداً من مستشاري نيرفا. وكان هذا الحرس قد فوجئ باختياره لمنصبه، واستاء من سياسة الاقتصاد التي كان يسير عليها. ومد نيرفا عنقه لسيوف الجند ولكنهم أبقوا عليه. وآلمه هذا الإذلال فأراد أن ينزل عن العرش، ولكن أصدقاءه أقنعوه أن يقتدي بأغسطس فيتبنى رجلاً يرضى عنه مجلس الشيوخ، ويخلفه على العرش، ويكون في مقدوره أن يحكم الإمبراطورية وأن يحكم الحرس أيضاً. وأعظم ما تدين به رومة لنيرفا أنه اختار ماركس ألبيوس ترايانس Marcus Ulpius Trajanus خلفاً له. وتوفي بعد ذلك بثلاثة أشهر في عام 98 بعد حكم دام ستة عشر شهراً.

وكان معنى مبدأ التبني الذي عاد سيرته الأولى بهذه الطريقة الغير منتظرة أن يشرك كل إمبراطور من الأباطرة، حين يحس بالضعف يدب في قواه، معه في الحكم أقدر من يستطيع أن يجده من الرجال، وأكثرهم

ص: 390

جدارة بهذا المنصب الخطير، حتى إذا وافاه الأجل لم تتعرض البلاد إلى أن يجلس على عرشها رجل يرفعه الحرس البريتوري وإلى ما في هذا من سخف، أو يرث هذا العرش وارث طبيعي ولكنه غير جدير به، أو أن تتعرض إلى حرب أهلية بين المتنافسين على العرش. وكان من المصادفات الطيبة أن تراجان، وهدريان، وأنطونينس بيوس لم يكن لهم أبناء، وأن كان في مقدور كل واحد منهم أن يعمد إلى مبدأ التبني من غير أن يحط من شأن أبناء له أو يكشف عن نقص في الحب الأبوي. ولقد كسبت رومة من هذا المبدأ، طوال المدة التي طبق فيها، طائفة من الأباطرة العظام خلف بعضهم بعضاً على العرش، وكانوا خير من شهده العالم من الحكام وأجلهم شأناً.

ص: 391

الفصل الثاني

‌تراجان

تلقى تراجان نبأ جلوسه على العرش وهو يتولى قيادة جيش روماني في كولوني Cologne؛ فلما أن تلقاه واصل عمله عند الحدود وأجل عودته إلى رومة ما يقرب من عامين. وكان مولد تراجان في أسبانيا من أسرة إيطالية استوطنت تلك البلاد من زمن بعيد، وقد وصلت أسبانيا الرومانية على يديه وعلى يد هدريان إلى الزعامة السياسية، كما ارتفعت على يدي سنكا، ولوكان، ومارتيال إلى الزعامة الأدبية. وكان هو بداية سلسلة طويلة من القواد يبدو أن مولدهم وتدريبهم في الأقاليم أكسبهم قوة الإرادة التي فقدها العنصر الروماني الأصيل. ولم تحتج رومة على ارتقاء رجل من رجال الأقاليم عرش الإمبراطورية، وكان عدم احتجاجها هذا في حد ذاته حادثاً خطيراً ومؤذناً بتطور جديد في التاريخ الروماني.

وظل تراجان قائداً حتى بعد جلوسه على العرش. فقد كان ذا قامة عسكرية، وكان مظهره مظهر السادة المؤمرين، وكانت ملامحه قوية وإن لم تكن بادية متميزة. كان طويل القامة، ممتلئ الجسم، وكان من عادته أن يسير مع جنوده على قدميه، وأن يخوض بعتاده الحربي الكامل ما يضطرون إلى عبوره من مئات الأنهار. وكان رجلاً شجاعاً يصبر على الألم ولا يفرق بين الحياة والموت. ولما قيل له إن لوسنيوس سوراً كان يأتمر به، ذهب إلى منزل سورا، وأكل من كل ما قدم إليه دون أن يفحص عما يأكل، وحلق له حلاق سورا (4). ولم يكن تراجان فيلسوفاً بأي معنى فني من معاني هذا اللفظ. وكان من عادته أن يصحب معه في عربته ديوكريسستوم Dio Chrysostom الخطيب "صاحب الفم الذهبي" ليتحدث إليه في الفلسفة، ولكنه يعترف بأنه لم يكن يفهم كلمة واحدة

ص: 392

مما يقوله ديو (5) - وبذلك خسرت الفلسفة الشيء الكثير. وكان صافي الذهن صريحاً ليس فيه التواء، وكان ما نطق به من الهراء قليلاً إلى أبعد حد؛ وكان فيه ما في سائر البشر من اغترار بالنفس، ولكنه كان مبرأً من العجرفة والادعاء ولم يكن يتخذ منصبه السامي وسيلة للتعاظم على الناس أو أداة ينفع بها نفسه، فكان يجلس مع أصدقاءه على الطعام ويصحبهم في الصيد، ويشرب معهم بكثرة، ويرتكب ما يرتكبونه من لواط في بعض الأحيان، كأنه يريد بذلك ألا يخالف عادات زمانه، وترى رومة من مفاخره التي يستحق عليها الثناء أنه لم يسيء قط إلى زوجته بلوتينا بأن يعشق إمرأة أخرى.

ولما وصل تراجان إلى رومة وهو في الثانية والأربعين من عمره، كان قد بلغ من النضوج العقلي غايته، وسرعان ما اكتسب ببساطته، ودماثة أخلاقه، واعتداله، قلوب الشعب الذي جرب الاستبداد من عهد قريب. واختار مجلس الشيوخ بلني الأصغر ليرحب به. وألقى ديو كريسستوم أمام الإمبراطور في الوقت نفسه خطبة فيما يجب على الملوك في نظر الفلسفة الرواقية. ولكن بلني وديو فرقاً بين السيادة والزعامة فقالا إن الزعيم يجب ألا يكون سيد الدولة، بل خادمها الأول، ومندوب الشعب لتنفيذ إرادته، ينتخبه عن طريق ممثليه أعضاء مجلس الشيوخ. "ومن أراد أن يؤمر على الناس جميعاً، وجب أن يختاروه جميعاً"(6) واستمع الناس إلى أقوالهما ورحبوا بها.

ولم تكن هذه البدايات الطيبة جديدة في التاريخ، ولكن الذي دهش رومة أن تراجان أوفى بهذا الوعد إلى حد بعيد، فأعطى أعوانه ورفاقه القصور الريفية التي كان أسلافه يقيمون فيها أسابيع قليلة في كل عام، ويقول بلني "إنه لم يكن يرى أن شيئاً ما ملك له إلا إذا كان أيضاً ملكاً لأصدقائه"(7). وكان هو نفسه بسيطاً في معيشته بساطة فسبازيان، فكان يسأل الشيوخ رأيهم في كل المسائل ذات البال، وقد تبين أن في وسعه أن يكون ذا سلطة مطلقة إذا لم يستخدم ألفاظ

ص: 393

ذوي السلطة المطلقة. وكان مجلس الشيوخ يرضى أن يترك له مقاليد الحكم إذا راعى الشكليات التي تحفظ له مكانته وهيبته؛ وكان هذا المجلس، كما كانت رومة كلها، يحب في ذلك الوقت الأمن والطمأنينة حباً لا يستطيع معه أن يحتفظ بحريته. ولعله كان يسره أيضاً أن يرى تراجان رجلاً محافظاً لا ينوي أن يشتري رضاء الفقراء بمال الأغنياء.

وكان تراجان إدارياً قديراً لا يمل من العمل، حسن التدبير لشئون المال، وقاضياً عادلاً. ويعزو إليه موجز جستنيان المبدأ القائل "إن فرار المجرم من العقاب أفضل من عقاب البريء"(8). وقد استطاع بالإشراف الدقيق على مصروفات الدولة (وبعض الفتوح التي عادت عليها بالربح) أن يتم كثيراً من المنشآت العامة من غير أن يزيد أعباء الضرائب، بل إنه فعل عكس هذا فخفض الضرائب، ونشر على الشعب اعتمادات الميزانية ليعرف إيرادات الحكومة ونفقاتها، فيبحثها وينتقدها. وكان يطلب إلى الشيوخ الذين يستمتعون بصحبته أن يكون إخلاصهم في أعمالهم الإدارية مماثلاً لإخلاصه أو قريباً كل القرب منه. واشترك الأشراف في مناصب الدولة وعملوا فيها بجد، ولم يكتفوا بأن يقضوا أوقاتهم في الوقت واللعب. وإن ما بقي لدينا من الرسائل المتبادلة بينهم وبين تراجان ليوحي بأنهم كانوا يعملون بجد وعناية تحت قيادته الرقيبة الملهمة. وكانت مدن كثيرة في بلاد الشرق قد أساءت التصرف في أموالها حتى أشرفت على الإفلاس، فأرسل لها تراجان حراساً أمناء أمثال بلني الأصغر ليساعدوها على إصلاح أمرها. وأضعف هذا العمل استقلال البلديات وقلل من شأن أنظمتها، ولكنه عمل لم يكن منه بد، فقد قضى الحكم الذاتي على نفسه بإسرافه وعجزه.

وكان تراجان قد نشأ في مهاد الحرب، فكان لذلك استعمارياً صريحاً يفضل النظام على الحرية، والقوة على السلم. ولم يكد يمضي على قدومه إلى رومة عام

ص: 394

واحد حتى خرج لفتح داشيا. وكانت داشيا في ذلك الوقت تنطبق حدودها بوجه عام على حدود رومانيا الحاضرة، وكانت تمتد كقبضة اليد في قلب ألمانيا، فكانت إذا استولى عليها تصبح عظيمة النفع من الوجهة العسكرية في الكفاح الذي كان تراجان يتوقع قيامه بين الألمان وإيطاليا. يضاف إلى هذا ضمها إلى الدولة الرومانية يمكنها من الإشراف على الطريق الذي يسير على ضفتي نهر الساف إلى ملتقاه بنهر الدانوب ومن ثم إلى بيزنطية- وهو طريق بري نحو الشرق لا يمكن تقدير قيمته، دع عنك ما في داشيا من مناجم الذهب. وأعد تراجان لفتحها حملة عسكرية رسم خطتها بمهارة فائقة ونفذها بأكبر سرعة، فقاد فيالقه، وتغلب على كل ما اعترضه من الصعاب والمقاومة، حتى وصل إلى سرمزجتوسا Sarmizegetusa عاصمة تلك البلاد وأرغمها على الاستسلام. وقد ترك لنا مثال روماني صورة رائعة لدسبالس Decebalus ملك داشيا- ينم وجهه فيها عن قوة الجسم ومتانة الخلق. وثبته تراجان على عرشه، وجعله قيلاً من أقياله، ثم عاد إلى رومة (102)؛ ولكن دسبالس لم يلبث أن نقض عهده واستعاد استقلاله؛ فسير تراجان جيشه إلى داشيا (105)، وعبر الدانوب على جسر كان من أعجب المنشآت الهندسية في ذلك القرن، وهاجم عاصمة داشيا مرة أخرى واستولى عليها عنوة، وقتل دسبالس. وأقيمت حامية عسكرية قوية في سرمزجتوسا، وعاد تراجان إلى رومة ليحتفل بنصره بعشرة آلاف من المجالدين (أكبر الظن أنهم من أسرى الحرب) احتفالاً دام 123 يوماً أقيمت فيها ألعاب عامة. وأصبحت داشيا بعد هذا الفتح ولاية رومانية، وجاءها مستعمرون من الرومان، تزوجوا من نسائها، وأفسدت اللغة اللاتينية على طريقتها الخاصة. ووضعت مناجم الذهب في ترنسلفانيا تحت إشراف رقيب من قبل الإمبراطور، استطاع أن يسترد منها في وقت قصير ما أنفقه في الحرب من أموال. وأراد تراجان أن يكافأ نفسه على جهوده فأخذ من داشيا مليون رطل من الفضة ونصف مليون

ص: 395

من الذهب- وكانت هذه آخر الغنائم القيمة التي استولت عليها الفيالق الرومانية لتعد بها للرومان مهاد الراحة والخمول.

وبفضل هذه الغنائم وزع الإمبراطور 650 ديناراً (نحو 260 ريالاً أمريكياً) على كل مواطن تقدم بطلب هذه المنحة- وأكبر الظن أن عدد من طلبوها بلغ حوالي 300،000 - وبقي منها ما يكفي لعلاج مشكلة التعطل الناشة عن تسريح الجنود بالإقدام على منهاج من المنشآت العامة، والمساعدات الحكومية وتزيين إيطاليا بالمباني الفخمة، لم تر له البلاد نظيراً من أيام أغسطس. وأصلح تراجان قنوات مياه الشرب القديمة وأنشأ قناة جديدة لا تزال تؤدي عملها إلى هذا اليوم، وأقام في أستيا مرفأً واسعاً تصله عدة قنوات بنهر التيبر وبمرفأ كلوديوس القديم، وزينه بالمخازن التي كانت نماذج في الجمال كما كانت نماذج في النفع. وأصلح مهندسوه الطرق القديمة، وشقوا طريقاً جديداً في وسط المناقع البنتية، ووضعوا مشروع طريق تريانا Traiana من بنفنتم إلى برندزيوم. وأعادوا فتح نفق كلوديوس الذي جففت به بحيرة فوستس، وأنشأوا مرتين عند سنتمسلا Centumcellae وأنكونا Ancona، وطريقاً لجر مياه الشرب إلى رافنا، ومدرجاً في فرونا Verona. وأدى تراجان النفقات التي تطلبها إنشاء الطرق، والجسور، والمباني الجديدة في كافة أنحاء الإمبراطورية، ولكنه كان يقاوم تنافس المدن في إقامة المباني، ويحثها أن تنفق ما لديها من الأموال الزائدة على حاجتها في إصلاح أحوال الفقراء وبيئتهم. وكان مستعدا على الدوام لمديد المعونة إلى أية مدينة نكبتها الزلازل، أو النيران أو العواصف. وحاول أن يعمل على تقدم الزراعة في إيطاليا بأن طلب إلى أعضاء مجلس الشيوخ أن يستثمروا ثلث رؤوس أموالهم في الأراضي الإيطالية. ولما رأى أن هذا العمل سيزيد من عدد الضياع الكبيرة، شجع صغار الملاك بأن قدم لهم أموالاً من قبل الدولة بفوائد قليلة، ليشتروا بها بيوتاً وأراضي زراعية ويصلحوها (9). وعمل على رفع نسبة المواليد

ص: 396

بزيادة مال الألمنتا Alimenta أي المال المخصص للإطعام. وتفصيل هذا أن الدولة كانت تقدم عروضاً عقارية بسعر 5% (وهو نصف السعر العادي وقتئذ) للزراع الإيطاليين، وأجازت للجان الصدقات المحلية أن توزع ما يتجمع من فوائد هذه القروض على الفقراء من الآباء بمعدل ستة عشر سسترساً (1. 6 ريال أمريكي) كل شهر لكل ولد ذكر، وأثني عشر سسترساً لكل بنت. وقد يبدو هذا المبلغ صغيراً، ولكن الشواهد الباقية من ذلك العصر تدل على أن مبلغاً يتراوح بين 16 سسترساً وعشرين كان يكفي لرعاية طفل مدة شهر في ضيعة من ضياع إيطاليا أثناء القرن الأول (10). وقد بعثه هذا الأمل نفسه لأن يجيز لأطفال رومة أن يحصلوا على إعانات من القمح زيادة على ما يحصل عليه آباؤهم منه. وقد وسع هدريان والأنطونيون نطاق نظام الإطعام هذا حتى شمل عدة أجزاء من الإمبراطورية، يكمله الإحسان القروي. ومن أمثلة هذا النوع الأخير ما أخرجه بلني من ماله لهذا الغرض إذ تبرع من ماله للألمنتا بثلاثين ألف سسترس لتوزع على أطفال كومم Comum، وأوصى كيليا مكرينا Caelia Macrina بمليون سسترس لمثل هذا الغرض لتنفق على أطفال تراسينا Terracina في أسبانيا.

وكان تراجان، مثل أغسطس، يفضل إيطاليا على الولايات، ويفضل رومة على إيطاليا نفسها. وقد انتفع إلى أقصى حد بعبقرية أبلودورس ومهارته في العمارة. وكان أبلودورس هذا يونانياً من أهل دمشق خطط الطرق وقنوات مياه الشرب الجديدة وجسر نهر الدانوب. ثم كلفه الإمبراطور وقتئذ بأن يزيل طائفة كبيرة من البيوت، ويقطع مائة وثلاثين قدماً من قاعدة التل الكويرينالي Quirinal، وينشئ في الفضاء الناشئ من إزالتها والفضاء المجاور لها سوقاً جديدة تعادل مساحتها مساحة الأسواق السابقة كلها مجتمعة، ويحيط هذا السوق بمباني فخمة جديرة بعاصمة العالم التي بلغت في عهده أوج سلطانها وثرائها. وكان المدخل الموصل إلى هذه السوق الجديدة هو قوس نصر تراجان. وكانت مساحتها 370

ص: 397

قدما في 354؛ وكانت مرصوفة بالحجارة الملساء ومحوطة بسور عال، وأمامها صف من العمد، وكان سوراها الشرقي والغربي تتخللهما كوات نصف دائرية غير نافذة مكونة من عمد دورية. وقامت في وسطها باسلقا ألبيا التي سميت باسم عشيرة تراجان والتي كان الغرض منها أن تكون مكاتب للأعمال التجارية والمالية، وكانت مزينة من الخارج بخمسين عموداً، نحت كل منها من حجر واحد؛ وكانت أرضها من الرخام، وتحيط بصحنها الرحب عمد من الحجر الأعبل، وسقفها القائم على كتل ضخمة مغطى بالبرنز. وأنشئت بالقرب من الطرف الشمالي للسوق الجديدة مكتبتان إحداهما للمؤلفات اللاتينية، والأخرى للمؤلفات اليونانية. وقام بينهما عمود تراجان وخلفهما هيكله. وكانت السوق بعد أن تمت من عجائب العمارة في العالم كله.

وكان العمود الذي لا يزال قائماً إلى اليوم في بداية أمره شاهداً على البراعة في نقل الحجارة. وكانت حجارته منحوتة من ثمان عشرة كتلة مكعبة من الرخام زنة كل منها خمسين طناً، وقد حملت الكتل على ظهور السفن من جزيرة باروس، ثم نقلت على مواعين عند آستيا Aestia، ثم جرت مصعدة في النهر ضد التيار، ثم حملت على اسطوانات إلى ضفة النهر وفي الشوارع إلى المكان الذي أقيم فيه العمود. وقطعت المكعبات بعد نقلها إلى اثنتين وثلاثين كتلة، شيدت قاعدة العمود من ثمان منها، وزينت ثلاثة من أوجه هذه القاعدة بتماثيل منحوتة، أما الوجه الرابع فكان يوصل إلى سلم مكون من 185 درجة رخامية، وأما جذع العمود، وكان طول قطره من أسفل اثنتي عشرة قدماً، وارتفاعه سبعاً وتسعين، فيتكون من إحدى وعشرين كتلة حجرية، وفي أعلاه تمثال لتراجان يمسك بيده كرة أرضية. وقد زينت الكتل قبل تثبيتها في مواضعها بنقوش بارزة تمثل حروب تراجان في داشيا. وكانت هذه النقوش أعلى ما وصلت إليه الواقعية الفلافية وفن النحت القديم التاريخي. ولم تكن تهدف

ص: 398

إلى الجمال الهادئ إلى أنماط فن النحت اليوناني التي كانت عند اليونان مثلاً علياً يحتذيها المثالون، بل كانت تهدف إلى أن تنقل للناظر إليها صورة واضحة للأفراد الأحياء وسط مناظر الحرب وضوضائها. فكانت والحالة هذه هي بلزاك Balzac وزولا Zola بعد كورني Corneille وراسين. وفي وسعنا أن نتتبع في الألفي صورة المنقوشة على المائة والأربع والعشرين لوحة لولبية فتوح داشيا خطوة خطوة، فنرى الكتائب الرومانية خارجة من ثكناتها المسلحة أكمل تسليح، ونشاهدها تعبر نهر الدانوب على جسر عائم، ونبصرها تقيم معسكراً في أرض العدو، ثم نرى المعركة التي اختلطت فيها الحراب والسهام والمناجل والحجارة، وفيها قرية داشية تشتعل فيها النار، ونساؤها وأطفالها يطلبون إلى تراجان أن يرحمهم، ونرى نساء داشيات يعذبن أسرى الرومان، وجنوداً يعرضن على الإمبراطور رؤوس من قتلوهم من الأعداء، وجراحين يضمدون الجروح، ونرى الأمراء الداشيين يشربون كؤوس السم واحداً بعد واحد. وهاهو ذا الرأس دسبالس يؤتى به إلى تراجان ضمن غنائم الحرب، وهاهو ذا صف طويل من الأسرى، من رجال ونساء وأطفال، قد انتزعوا من بيوتهم ليكونوا عبيداً للرومان في أرض القرية- كل هذا وكثير غيره يحدثنا به العمود القاتم اللون منقوشاً أحسن نقش وممثلاً لأروع قصة في تاريخ النحت في العالم كله. ولم يكن الفنانون الذين قاموا بهذا العمل، ولم يكن من استخدموهم للقيام به، مدفوعين إليه بنعرة وطنية عارمة؛ فهم قد مثلوا ما أظهره تراجان من ضروب الرحمة والرأفة، ولكنهم كشفوا كذلك عن أعمال البطولة التي قامت بها أمة تجاهد في سبيل حريتها؛ وأجمل صورة في النقش كله هي صورة ملك داشيا. وتلك بلا شك وثيقة عجيبة مزدحمة إلى حد يقلل من قوة تأثيرها. وبعض ما فيها من الصور فجة حسنة بدرجة يظن الإنسان معها أن محارباً داشياً هو الذي نحتها، ونرى فن المنظور يستبدل به وضع الصور بعضها فوق بعض، وقد رسم المنظر كله كان الإنسان يشاهده كما يشاهد نقش فدياس،

ص: 399

من ركن بعيد مخبوء على الأرض. ولكنه رغم هذه العيوب خروج طريف على الطراز المقرر الذي لم يستطع لوداعته وهدوئه أن يعبر عما في الخلق الروماني من جد غامر ونشاط فياض. "وطريقة الأستمرار" التي جرى عليها- أي تدخل كل منظر في الذي يليه وفناؤه فيه- لتخرج إلى حيز الوجود ما يوحي به قوس تيتس وتمهد السبيل إلى النقوش البارزة الوسطى. وقد قلد المثالون هذه القصة، رغم ما فيها من عيوب، المرة بعد المرة من عمود أورليوس في رومة وعمود أركديوس في القسطنطينية إلى العمود النابليوني في البلاس فنديه Place Vendée في باريس. واختتم تراجان منهاجه البنائي بأن أكمل بناء الحمامات التي بدأها دومتيان وحرص على أن يجعلها حمامات عظيمة فخمة. وكان في هذه الأثناء قد مل السلم بعد أن دامت ست سنوات؛ ذلك أن العمل الإداري لم يكن يوقظ مما يكمن فيه من نشاط كما توقظه الحرب، ولم يكن يحس وهو في قصره أنه حي، وقال في نفسه لم لا أبدأ في تنفيذ خطط قيصر من حيث أخفق أنطونيوس، فأسوى المسألة البارثية تسوية نهائية، وأجعل الدولة- الرومانية- حدوداً أكثر مناعة وصلاحية من جهة الشرق، وأسيطر على الطرق التجارية التي تخترق أرمينية وبارثيا إلى أواسط آسية والخليج الفارسي وبلاد الهند؟

وبعد أن أتم استعداده بدأ يزحف مرة أخرى على رأس فيالقه (113). فاستولى على أرمينية بعد عام واحد من بداية زحفه؛ ولم يمض عام آخر حتى كان قد اخترق بلاد النهرين؛ ووصل إلى المحيط الهندي- فكان أول من وقف أمام ذلك البحر من القواد الرومان وأخرهم. وكان الرومان في ديارهم يتعلمون الجغرافية بتتبع انتصاراته؛ وكان يسر مجلس الشيوخ أن يسمع في كل أسبوع تقريباً أن أمة أخرى قد غلبت أو أنها تعجل بالاستسلام: البسبور Bosporus، والكلشي، وأيبيريا الأسيوية؛ وألبانيا الأسيوية، وأسرهويني Osrhoene ومسينيا، وميديا، وأشور، وبلاد العرب الشمالية، وبارثيا نفسها

ص: 400

في آخر الأمر. وقد جعل بارثيا، وأرمينية، وأشور، وبلاد النهرين ولايات، وكان من مفاخر هذا الإسكندر الجديد أن اختار لكل بلد من هذه البلاد التي كانت قديماً ن أعداء رومة، ملكاً خاضعاً لسلطانه وأجلسه على عرشه. ووقف تراجان على شواطئ البحر الأحمر وقال إنه يؤسفه أشد الأسف أن شيخوخته تحول بينه وبين مواصلة الزحف إلى نهر السند كما فعل القائد المقدوني العظيم، واكتفى بأن أنشأ في البحر الأحمر أسطولاً يسيطر به على طريق الهند وعلى تجارتها، ووضع حاميات في جميع النقط ذات الأهمية الحربية وعاد وهو كاره إلى رومة.

لكن تراجان كان قد عدا طوره فذهب كما ذهب أنطونيوس إلى أبعد مما يجب وبأسرع ما يجب، وأهمل تنظيم فتوحه وخطوط اتصاله. فلما وصل إلى أنطاكية علم أن أسروس Asroes ملك بارثيا الذي خلعه قد حشد جيشاً جديداً استعاد به ما بين النهرين، وأن نار الفتنة اشتعلت في جميع الولايات الجديدة، وأن يهود الجزيرة، ومصر، وقوريني قد خرجوا عليه وأشعلوا نار الثورة في البلاد، وأن الاستياء قد عم بلاد لوبيا، ومورتانيا، وبريطانيا. وأراد المحارب الشيخ أن ينزل إلى ميدان القتال مرة أخرى، ولكن قوته الجسمية لم تسعفه. ذلك أنه أنهك جسمه بأن عاش في الشرق الحار بنشاط الغرب البارد، فأصيب بداء الاستسقاء، وعدت عليه ضربة شلل جعلت إرادته القوية لا حول لها ولا طول في جسمه المهدم. ومن أجل ذلك عهد وهو مكتئب حزين إلى لوسيوس كويتس Lucius Quietus أن يقلم أظفار الفتنة الناشبة في أرض الجزيرة، وأرسل مارسيوس تربا Marcius Turba لإخضاع اليهود في أفريقية؛ وولى هدريان ابن أخيه قيادة الجيش

ص: 401

الروماني الرئيسي في سوريا. ثم أمر أن يحمل هو إلى ساحل قليقية Cilicia، على أمل أن يبحر منها إلى رومة حيث كان مجلس الشيوخ يعد له أعظم احتفال بالنصر أقيم لقائد من القواد من عهد أغسطس. ولكن منيته وافته في الطريق عند سلينس Selinus (117) ، وهو في الرابعة والستين من عمره، بعد أن حكم تسعة عشر عاماً. وحمل رماده إلى عاصمة ملكه، حيث دفن تحت العمود العظيم الذي اختير ليكون له قبراً.

ص: 402

الفصل الثالث

‌هدريان

‌1 - الحاكم

لعلنا لن نعرف قط هل جلس هدريان أروع شخصية في الأباطرة الرومان على عرش الإمبراطورية بأساليب العشق والغرام، أو لوثوق تراجان بكفايته وعظيم قدرته. فأما ديوكاسيوس فيقول إن "سبب تعيينه أنه مات تراجان ولم يكن له وارث، عملت أرملته بروتينا، وكانت تحب هدريان، على أن يخلفه على العرش (12). ويعيد اسبارتيانس Spartianus هذه القصة، ولكن بلوتينا وهدريان يكذبان هذه الشائعة، غير أنها رغم تكذيبها إياها ظلت تلوكها الألسن طوال حكمه، وقد فصل هو في الأمر بأن وزع هبات سخية على جنوده.

ويقول بيبليوس إيليوس هدريانس إن اسمه واسم أسرته مشتقان من مدينة أدريا الواقعة على البحر الأدرياوي، وتقول سيرته التي كتبها بنفسه إلى أسلافه هاجروا من هذه المدينة إلى أسبانيا. وشهدت مدينة إتلكا Italica الأسبانية التي ولد فيها تراجان في عام 52 مولد ابن أخيه هدريان في عام 76. ولما مات والد الغلام في عام 86 كفله عمه تراجان وكيليوس أتيانس Caelius Attianus. وتولى ثانيهما تعليمه وغرس فيه حباً شديداً للأدب اليوناني جعل الناس يلقبونه به من قبيل الفكاهة غريقيولس Graeculus. ودرس أيضاً الغناء، والموسيقى، والطب، والعلوم الرياضية، والتصوير، والنحت، ثم مارس فيما بعد عدة فنون أخرى. واستدعاه تراجان إلى رومة (91) وزوجه بابنة أخيه (100) فيفيا سبينا. وكانت هذه الفتاة، كما تدل عليها صور تماثيلها النصفية، إن لم تكن

ص: 403

هذه التماثيل قد صورتها كأنها مثل أعلى للفتيات، نقول كانت هذه الفتاة ذات جمال بارع تحس به هي وتفخر به، ولكن هدريان لم يجد في هذا الجمال سعادة باقية. ولعل سبب شقائه أنه كان مولعاً بالكلاب والجياد فوق الحد الواجب، وأنه كان يقضي في الصيد مع هذه الكلاب والجياد وفي بناء القبور لها حين تموت أكثر مما يجب أن يقضيه من الوقت في هذين العملين، أو لعله كان زوجاً غير أمين أو بدا أنه كذلك. ومهما يكن من شيء فإنها لم تلد له أبناء، وعاشا طوال حياتهما متنافرين متباعدين وإن كانت قد رافقته في كثير من أسفاره، وكان يظهر لها كل أنواع الرقة والمجاملة، ووهبها كل خير ما عدا الحب. ولما أن نطق سوتونيوس Seutonius أحد أمناء سره بما لا يليق عنها فصله عن منصبه.

وكان أول قرار أصدره هدريان بعد ارتقائه عرش الإمبراطورية أن نقض سياسة عمه الإمبراطورية. وكان قد نصح تراجان بعدم المضي في حملته في بارثيا، لأنها تكلفه الكثير من المال والرجال، ولأنها تجيء في أعقاب حروب داشيا، وأنها في أحسن الظروف تبشر بمكاسب يصعب الاحتفاظ بها، ولم يغفر له قواد تراجان الحريصين على المجد هذه النصيحة قط. فلما أصبح صاحب الأمر سحب الفيالق الرومانية من أرمينية، وأشور، وبلاد النهرين، وبارثيا، وجعل أرمينية مملكة تابعة له بعد أن كانت ولاية خاضعة للدولة، ورضي أن يكون نهر الفرات حد الإمبراطورية من جهة الشرق. وكان مسلكه بعد تراجان كمسكن أغسطس بعد قيصر، فنظم بإدارته السلمية ما يستطيع تنظيمه من الدولة التي لم يكن لها في سعتها مثيل من قبل، والتي كسبتها الجيوش الباسلة المغامرة. وظن القواد الذين كانوا على رأس جيوش تراجان- بالما، وسلس، وكويتس، ونجرينس- أن هذه خطة مبعثها الجبن، وأنها بعيدة كل البعد عن الحكمة والسداد، وكانوا يشعرون أن وقف الهجوم، معناه الاقتصار على الدفاع، وأن الاقتصار على الدفاع هو بداية الموت. وبينما كان هدريان مع فيالقه على ضفاف الدانوب،

ص: 404

أعلن مجلس الشيوخ أن القواد الأربعة يدبرون مؤامرة لقلب الحكومة، وأنهم أعدموا بأمر المجلس. وكان إعدامهم دون محاكمة صدمة شديدة لأهل رومة؛ ومع أن هدريان عاد مسرعاً إليها وأعلن أنه لم تكن له يد في الأمر كله فإن أحداً لم يصدقه، حتى بعد أن أقسم أنه لم يقتل شيخاً إلا بأمر المجلس. ولقد وزع على الشعب هبة سخية من المال، وأقام له كثيراً ًمن الألعاب ليسليه بها، وألغى من الضرائب المتأخرة ما قيمته 900،000،000 سسترس وحرق سجلات الضرائب علناً، وظل عشرين عاماً يحكم البلاد حكماً عادلاً، حكيماً تحت راية السلم، ولكنه رغم هذا كله لم يكن له في قلوب الشعب كل ما يرجوه من حب.

ويصفه كاتب سيرته القديم بأنه كان طويل القامة، رشيقاً، متثني الشعر، "ذا لحية طويلة يخفي تحتها ما في وجهه من عيوب طبيعية"(14). واقتدى به أهل مات رومة فأطالوا من ذلك الوقت لحاهم، وكان قوي البنية، وقد حافظ على قوته بممارسة الكثير من ضروب الرياضة البدنية، وأهمها كلها الصيد، وكثيراً ما قتل السباع بيده (15). وقد امتزجت في خلقه عناصر بلغت من الكثرة حداً يتعذر معه وصفها. فيقول لنا كتاب سيرته إنه كان "صارماً وبشوشاً، فكها وقوراً، شهوانياً وحذراً، شديداً وكريماً، قاسياً ورحيماً، بسيطين بساطة خادعة، جمع المتناقضات في كل شيء"(16). وكان ذا بصيرة نافذة سريعة، وكان نزيهاً متشككاً؛ ولكنه كان يحترم التقاليد، ويرى أنها النسيج الذي يربط الأجيال بعضها ببعض، وكان يقرأ كتب إبكتتس الرواقي ويعجب به، ولكنه كان يطلب اللذة ويتذوقها دون حياء. وكان رجلاً غير متدين، يعتقد بالخرافات، ويسخر من النبوءات، ويمارس السحر والتنجيم، ويشجع الاستمساك بالدين القومي، ولا ينقطع عن القيام بواجباته بوصفه الكاهن الأكبر للدين الروماني. وكان مجاملاً وعنيداً، قاسياً في بعض الأحيان، ورحيماً في العادة؛ وربما كانت هذه المتناقضات أعمالاً اقتضتها مختلف الظروف. وكان يعود المرضى، ويساعد

ص: 405

المنكوبين، وقد وسع نطاق أعمال الإحسان القائمة في وقته حتى شملت اليتامى والأرامل؛ وكان سخياً في مناصرة الفنانين، والكُتّاب، والفلاسفة؛ وكان يجيد الغناء والرقص، والعزف على القيثارة؛ وكان مصوراً قديراً، ومثّالاً وسطاً. وقد ألف عدة كتب- منها كتاب في النحو وآخر في سيرته. ومنها قصائد مؤدبة وأخرى بذيئة (17)، باللغتين اللاتينية واليونانية؛ وكان يفضل الأدب اليوناني على اللاتيني ويفضل لغة كاتو الشيخ البسيطة على لغة شيشرون الفصيحة السلسة الفياضة. وقد حذا كثير من كتاب ذلك الوقت حذوه، فأخذوا يكتبون بأسلوب عتيق متكلف. وقد جمع الأساتذة الذين كانت تؤجرهم الدولة، وأنشأ منهم جامعة علمية، ورفع مرتباتهم، وشاد لهم مجمعاً علمياً فخماً لينافس به متحف الإسكندرية. وكان يسره أن يجمع حوله العلماء ورجال الفكر، ويلقي عليهم الأسئلة المحيرة، ويضحك من متناقضاتهم ومجادلاتهم العلمية. وكان فافورينس Favorinu الغالي أعظم فلاسفة هذه الندوة حكمة، وكان إذا ما سخر منه أصدقاؤه لأنه يوافق هدريان على آرائه، أجابهم بأن كل رجل يشد أزره ثلاثون فيلقاً لا بد أن يكون على حق (18).

ولقد جمع إلى هذه المتع العقلية الجمة إحساساً سليماً بالواجبات العملية. من ذلك أنه حذا حذو دومتيان، فلم يول معاتيقه إلا المناصب الصغيرة، واختار رجال الأعمال ذوي الكفايات المجربة، ليتولوا الإدارات الحكومية، وألف منهم ومن بعض الشيوخ وفقهاء القانون مجلساً Concilium يجتمع في أوقات منتظمة للنظر في سياسة الدولة. وعين كذلك وكيلاً للخزانة Advocatus Fisci ليكشف عما عساه أن يرتكب من فساد أو غش في شئون الضرائب، وكانت نتيجة هذا أن زادت إيرادات الدولة زيادة ملحوظة من غير زيادة في الضرائب. وكان يراقب نفسه كل إدارة من إدارات الحكومة، وقد أدهش رؤساءها، كما أدهش نابليون رؤساء إدارته، لألمامه الدقيق بتفاصيل أعمالها، ويقول إسبارتيانس إنه "كان قوي الذاكرة،

ص: 406

وإنه كان يكتب، ويملي، ويستمع، ويتحدث إلى أصدقائه كل ذلك في وقت واحد (19) - وإن كان تكرار هذه القصة يبعث على الريبة في صدقها. وبفضل عنايته، وبمعونة إدارة المدنية الواسعة النطاق، نعمت الإمبراطورية بحكم لعلها لم تنعم بمثله قبله أو بعده. وكان الثمن الذي أداه لهذا النظام المحكم هو قيام بيروقراطية مطردة الاتساع وإسرافاً في إصدار الأوامر والنظم يبلغ حد الجنون، قرب الزعامة أكثر من ذي قبل إلى الملكية المطلقة. وقد حرص هدريان على كل مظاهر التعاون مع مجلس الشيوخ، ولكن موظفيه كانوا يزدادون كل يوم اعتداء على اختصاصات تلك الهيئة التي كانت تبدو من قبل "جمعية من الملوك". ولقد كان هو قريباً من المشكلة قرباً يحول بينه وبين التنبؤ بأن بيروقراطيته القديرة المطردة التكاثر قد تصبح على مدى الأيام عبئاً باهظاً ينوء به دافعو الضرائب، بل كان بعكس هذا يعتقد أن لكل شخص في الإمبراطورية سيجد لنفسه في داخل هذا النطاق من القانون والفرائض الذي أنشأته الحكومة طريقاً يظهر فيه مواهبه، وأن في وسع كل إنسان أن يرقى من طبقة إلى طبقة أعلى منها.

ولم يكن عقله الصافي المنطقي يطيق فوضى ما تجمع من القوانين الغامضة المتناقضة، ولهذا كلف يوليانس بأن ينسق قرارات البريتورين السابقين، ويصدر بها مرسوماً دائماً، وشجع غير هذا من أعمال التقنيين التي مهدت السبيل لجستنيان. وكان يجعل من نفسه محكمة عليا سواء كان في رومة أو في أثناء تجواله في الولايات، واشتهر بأنه قاض عالم نزيه. وكان رحيماً على الدوام بقدر ما يجيزه القانون من رحمة؛ وقد أصدر طائفة لا عديد لها من المراسيم، ينصر معظمها الضعفاء على الأقوياء والعبيد على الأسياد، والفلاح الصغير على صاحب الضيعة الكبيرة، والمستأجر على مالك الأرض، والمستهلك على بائعي الأشتاب الغاشين، ويقاوم بها كثرة الوسطاء بين المنتجين والمستهلكين (20). وكان يرفض ما يوجه إلى الناس من تهمة الخيانة، ولا يقبل الوصايا من الآباء، أو ممن لا يعرفهم من الأشخاص، وأمر بأن

ص: 407

يراعى التسامح في تطبيق القانون على المسيحيين (21). وقد ضرب بنفسه المثل بما اتبعه في أراضي الدولة من وسائل إصلاح الأراضي البور، فكان يشجع الملاّك على تأجير الأراضي غير المستصلحة إلى الزراع ليغرسوا فيها الحدائق من غير أن يؤدوا عنها إيجاراً حتى تثمر الأشجار. ولم يكن هدريان مصلحاً متطرفاً في إصلاحاته، بل كان إدارياً قديراً يسعى في نطاق ما يكبل الطبيعة البشرية من قيود، وما يعتورها من تفاوت في الكفايات، إلى أن يوفر للناس جميعاً أكبر خير مستطاع. ولقد أبقى على الأشكال القديمة ولكنه صب فيها بالتدريج محتويات جديدة كلما دعته الضرورة إلى هذا. وحدث ذات مرة، حين ضعفت رغبته في الأعمال الإدارية، أن رفض الاستماع إلى امرأة جاءت تعرض عليه شكواها، وكانت حجته أن "ليس لدي وقت". فصاحت قائلة:"إذن فلا تكن إمبراطوراً" فما كان منه بعدئذ إلى أن استمع إلى شكواها.

‌2 - الجوال

كان هدريان على نقيض من سبقوه، يهتم بالإمبراطورية اهتمامه بالعاصمة. ومن أجل سار سيرة أغسطس الحميدة، فقرر أن يزور كل ولاية من ولاياتها، ويفحص عن أحوالها، ويتعرف حاجاتها، ويبادر بتخفيف أعبائها بما في يديه من موارد الإمبراطورية. وكان إلى هذا شغوفاً بمعرفة ما لدى الشعوب المختلفة في الإمبراطورية من فنون، وما تتبعه في حياتها من أساليب، وما تكتسي به من ثياب، وما تدين به من عقائد. وكان يتوق إلى رؤية الأماكن الشهيرة التي ذاع صيتها في تاريخ اليونان، وأن يضرب بسهم تلك الثقافة اليونانية التي كانت العامل الأكبر في تهذيب عقله كما كانت هي زينته. ويصفه فرنتو Fronto بقوله:"إنه لم يكن يحب أن يحكم العالم فحسب، بل كان يحب فوق ذلك أن يطوف به"(23) ففي عام 120 غادر رومة، ولم يغادرها بأبهة الملك وزينته،

ص: 408

بل كان يصحبه فيها الخبراء، والمهندسون المعماريون، والبناءون، والمهندسون والفنانون. وذهب أولاً إلى غالة "وأعان جميع ما فيها من العشائر بما أفاض عليها من سخائه وجوده"(24)، ثم انتقل منها إلى ألمانيا، وأدهش كل من فيها بما أظهره من الدقة والعناية في تفتيش وسائل الدفاع عن الإمبراطورية ضد من قضوا عليها في مستقبل الأيام، وأعاد تنظيم الطرق الحصينة الممتدة بين الرين والدانوب، وزاد من أطوالها، وأصلحها.

ومع أنه كان رجل سلام فإنه كان متمكناً من فنون الحرب، وكان يعتزم ألا يجعل ميوله السليمة تضعف من قوة جيوشه أو تغري به أعداءه. وقد أصدر أوامر مشددة للمحافظة على النظام العسكري، وكان هو نفسه يخضع لما وضعه من القواعد أثناء زيارات المعسكرات، فكان إذا حل بها عاش عيشة الجنود، وأكل من طعامهم، ولم يركب قط مركبة، بل كان يسير على قدميه يحمل عتاده ويواصل السير عشرين ميلاً بلا انقطاع، ويظهر من الجلد ما لا يعتقد معه من يراه أنه عالم وفيلسوف. وكان في الوقت نفسه يكافئ المتفوقين، وقد رفع من شأن منزلة الفيالق من الناحيتين القانونية والاقتصادية، وأمدها بالجيد من الأسلحة وبكفايتها من المؤن. وخفف عنها شدة النظام في أوقات الفراغ؛ وكل ما كان يصر عليه في هذه الأوقات، أن تكون وسائل التسلية مما لا يضعف من قدرتها على أداء واجباتها، حتى لم يكن الجيش الروماني في وقت من الأوقات أحسن حالاً مما كان عليه في أيامه.

وانحدر بعدئذ في نهر الرين نحو مصبه وأبحر من هناك إلى بريطانيا (122). ولسنا نعلم عن نشاطه في تلك الكتاب أكثر من أنه أمر أن يقام سور من خليج سلواي Solway Firth إلى مصب نهر التين Tyne " ليفصل بين البرابرة والرومان". وعاد من هناك إلى غالة ومر على مهل بأفنيون Avignon، ونيمر Nimes، وغيرهما من بلاد تلك الولاية، وألقى عصا التسيار ليقضي

ص: 409

الشتاء في طرقونة Tarragona في شمالي أسبانيا، وبينما هو سائر بمفرده في حديقة مضيفه إذ هجم عليه عبد وسيفه مسلول في يده وحاول أن يقتله. ولكن هدريان تغلب عليه وأسلمه في هدوء إلى الخدم، فوجده مختل العقل.

وفي ربيع عام 123 قاد بعض الفيالق ليحارب المغاربة الضاربين في شمالي أفريقية الغربي، والذين كانوا يغيرون على مدن مورتانيا الرومانية، فهزمهم وردهم على أعقابهم إلى تلاهم؛ ثم أبحر إلى إفسوس، حيث قضى فصل الشتاء، ثم زار مدن آسية الصغرى واستمع إلى مطالب أهلها وشكواهم، وأنزل العقاب بمن أساءوا استخدام سلطتهم من الموظفين، وكافأ القادرين منهم، وأعد المال والرسوم، والعمال لتشييد الهياكل والحمامات ودور التمثيل. وكانت سزكس Cyzicus ونيقية Nicaea، ونيقوميديا Nicomedia قد نكبت بزلزال شديد، فأصلح هدريان ما تخرب منها بنفقات من أموال الدولة، وشاد في سزكس هيكلاً عد من فوره بين عجائب الدنيا السبع (25). ثم اتجه شرقاً محاذياً ساحل بحر اليكسين إلى طرابزوس Trapezus، وأمر حاكم كبودكيا- المؤرخ أريان Arrian- أن يبحث أحوال جميع الثغور الواقعة على البحر الأسود، وأن يعد له تقريراً عنها؛ ثم اتجه نحو الجنوب الغربي، واخترق بفلجونيا Paphlagonia، وقضى الشتاء في برجموم. وفي خريف عام 125 أبحر إلى رودس ومنها إلى أثينة حيث قضى شتاء طيباً سعيداً عاد بعده إلى وطنه. ولم تفارقه الرغبة في الاستطلاع وهو في الخمسين من عمره فانتقل من إيطاليا إلى صقلية، وتسلق جبل إتنا، يشاهد شروق الشمس من فوق صخرة ناتئة تعلو فوق البحر 11000 قدم.

ومما هو جدير بالذكر أنه استطاع أن يغيب من عاصمة ملكه خمس سنين وهو واثق من أن مرؤوسيه سيصرفون شئون الدولة كما يحب، ذلك أنه قد عمل ما يجب أن يعمله الحاكم القدير، فأنشأ ودرب أداة

ص: 410

حكومية صالحة تكاد تسير من تلقاء نفسها. وأقام في رومة، بعد عودته إليها أكثر قليلاً من عام، ولكن حب الأسفار كان يسري في دمه ولحمه، وكان لا يزال في العالم أجزاء كثيرة تتطلب البناء والإصلاح. فغادر إيطاليا مرة أخرى في عام 128، وقصد في هذه الرحلة يتكا Utica، وقرطاجنة، والمدن الجديدة المزدهرة في شمالي أفريقية. ثم عاد إلى رومة في فصل الخريف، ولكنه غادرها بعد قليل، وقضى شتاء آخر في أثينة (128 - 129). واختير فيها أركونا، ورأس وهو مبتهج سعيد حفلات الألعاب والأعياد، وسره أن يلقب بالمحرر، وبهليوس Helios وزيوس، ومنقذ العالم. وفيها اختلط بالفلاسفة، ورجال الفن، وأظهر ما أظهره نيرون وأنطونيوس من ظرف ولطف دون أن ينزل إلى ما نزلوا إليه من حماقة وسخف. وساءه ما في قوانين أثينة من فوضى فكلف جماعة من كبار المشترعين أن يجمعوا هذه القوانين وينسقوها. وإذ كان هو على الدوام من المهتمين بشئون الدين المتشككين فيه، فقد أن يتطلب الطقوس الإلزيانية الخفية. ولما وجد التعطل يهدد أثينة، وكان يعتزم في الوقت نفسه أن يعيد المدينة إلى ما كانت عليه من الفخامة في عصر بركليز، استدعى رجال العمارة، والمهندسين، ومهرة الصناع، وبدأ مشروعاً ضخماً من المباني يفوق مبانيه العامة في رومة. فقد شاد عماله في مساحة مربعة من الأرض تحيط بها طائفة كبيرة من العمد مكتبة عامة جدرانها من الرخام بها 120 عموداً، ولها سقف مذهب وحجرات رحبة تتلألأ فيها أحجار المرمر والصور والتماثيل. ثم بنوا ملعباً رياضياً، وقناة لماء الشرب، وهيكلاً لهيرا، وآخر لزيوس "إله اليونان أجمعين". وكان أعظم هذه الأعمال كلها هو إتمام الأولمبيوم- أي الهيكل الفخم المقام لزيوس الأولمبي والذي بدأه بيستراتس قبل ذلك الوقت بستة قرون وعجز أنتيوخس إبفانيز عن إتمامه. ولما غادر هدريان أثينة غادرها وهي أنظف وأكثر رخاء وجمالاً مما كانت عليه في أي عهد من عهودها السابقة (26).

ص: 411

وفي ربيع عام 129 أبحر إلى إفسوس. ثم رحل مرة أخرى إلى آسية الصغرى، وكان ينشئ المدن ويشيد المباني أينما حل. وسافر إلى كبدوكيا، وفتش حاميتها. ولما جاء إلى أنطاكية وهبها المال اللازم لبناء قناة لماء الشرب، وهيكل، ودار للتمثيل، وحمامات عامة. وزار في خريف ذلك العام تدمر وبلاد العرب، ثم رحل في عام 130 إلى أورشليم. وكانت المدينة المقدسة لا تزال مخربة، لا تكاد تفترق في شيء عما تركها عليه تيتس قبل ذلك الوقت بستين عاماً، يسكنها عدد قليل من اليهود الفقراء المساكين يقيمون في حظائر وأكواخ بين الصخور. وتأثر قلب هدريان وخياله بما شاهده من آثار الدمار والتخريب بمكانها المقفر. لقد كان يرجو بما شاهده في بلاد اليونان والشرق الهلنستي وما أعاده إليهما من مظاهر الفخامة أن يقيم الحواجز بين الحضارة اليونانية- الرومانية وبين العالم الشرقي إلى أعلى مما كانت قبل؛ أما الآن فقد أصبح يحلم بأن يحول صهيون نفسها إلى قلعة وثنية، فأمر أن يعاد بناء أورشليم لتكون مستعمرة رومانية وأن تسمى إبليا كبتولينا، تخليداً لذكرى قبيلة هدريان وكبتول جوبتر في رومة. وارتكب بعمله هذا خطأ نفسانياً وسياسياً كان خليقاً أن لا يرتكبه رجل من أوسع الساسة عقلاً وأعظمهم حكمة في التاريخ كله. ثم انتقل إلى الإسكندرية (130)، وابتسم ابتسامة الرجل المتسامح الواسع الأفق حين أبصر أهلها المتخاصمين المتشاحنين. وزاد محتويات المتحف، وأعاد بناء ضريح بمبي، ثم عمل ما لم يعمله قيصر، فأرخى لنفسه العنان وصعد في النيل على مهل بصحبة زوجه سبينا، وحبيبه أنتنؤوس Antino (s. وكان قد التقى بالفتى اليوناني في بيثينيا قبل ذلك الوقت ببضع سنين، وأعجبه جمال الشاب ذي الوجه المستدير، والعينين الرقيقتين، والشعر الملتوي، واتخذه خادماً خاصاً له، وشعر نحوه بعاطفة قوية وحب عظيم. ولم يصل إلينا ما يدل على أن سبينا احتجت على هذه الصلة، ولكن ألسنة السوء

ص: 412

في المدينة كانت تقول إن الغلام كان جنميدي

(1)

Gednyme زيوس الجديد. وربما كانت الحقيقة أن الإمبراطور الذي لا ولد له قد أحب الغلام لأنه يرى أن الآلهة قد حبته به ليكون ولداً له. وفي هذه الرحلة وبينما كان هدريان في أوج سعادته مات أنتنؤوس في الثامنة عشرة من عمره- ويلوح أنه غرق في نهر النيل وحزن ملك العالم "وبكى كما تبكي النساء" على حد قول اسبارتيانس؛ وأمر بأن يقام له هيكل على شاطئ النهر، ودفن فيه الغلام، وأعلن للعالم أنه إله. ثم أنشأ حول ضريحه مدينة هي مدينة أنتينوبوليس التي قدر لها أن تكون فيما بعد عاصمة من عواصم الدولة البيزنطية. وبينما كان هدريان يعود محزوناً إلى رومة بدلت الأساطير القصة: فقالت إن الإمبراطور عرف عن طريق السحر أن أعظم خططه لن تفلح إلا إذا مات أحب الأشياء إليه. وسمع أنتنؤوس بهذه النبوءة فأمات نفسه طائعاً مختاراً. ولعل هذه الخرافة قد نشأت بالسرعة التي تكفي لأن تمر عيش هدريان وتهد ركنه في سني ضعفه وشيخوخته.

ولما عاد إلى رومة (131) كان يحس بأنه قد جعل الدولة خيراً مما كانت حين جلس على عرشها. ولقد كان على حق في هذا الإحساس، فإن الدولة في واقع الأمر لم تبلغ في وقت من الأوقات، ولا في عهد أغسطس نفسه، ما بلغته وقتئذ من الرخاء. ولم يصل عالم البحر الأبيض في يوم من الأيام إلى مثل ما وصل إليه في عهده من الاستمتاع بالحياة الكاملة، ولم يعد مرة أخرى موطناً لحضارة بلغت ما بلغته حضارة تلك الأيام من رقي، وسعة انتشار، وعمق أثر في جميع السكان. ولم يكن في الحكام جميعهم حاكم أكثر من هدريان حباً لخيرها، وعملاً لرفاهيتها. لقد كان أغسطس يرى أن الولايات توابع لإيطاليا تفيد منها مالاً وثراء، وكان يحكمها حكماً صالحاً لتدر الخير على إيطاليا. أما الآن فقد نضجت آراء قيصر

(1)

جنميدي هو الشاب الوسيم الذي كان ساقي زيوس بعد هيبي، وقد حمله نسر زيوس إلى أولمبس وأصبح الاسم فيما بعد يطلق على كل غلام مخنث. (المترجم)

ص: 413

وكلوديوس وآتت أكلها كاملة لأول مرة، فلم تكن رومة جابية الضرائب لإيطاليا؛ بل كانت الحاكم المسئول عن دولة يستمتع كل جزء من أجزائها بقسط من عناية الحكومة مكافئ لما تستمتع به سائر الأجزاء، وتحكم فيها الروح اليونانية بلاد الشرق، ويحكم فيها العقل الروماني الواسع الأفق سعة الروح الرومانية الدولة والغرب، لقد رأى هدريان قبله موته الدولة كلها بعينيه وجمع شتاتها ووحدها، وكان قد وعد أنه "سيدبر شئون هذه المجموعة من الأمم تدبير من يدرك أنها ملك الشعب لا ملكه الخاص"(37)؛ وقد أنجز ما وعد.

‌3 - البنّاء

ولم يكن باقياً إلا شيء واحد- إذا حصلت عليه رومة كانت أيضاً أجمل مما كانت قبل. لقد كان هدريان الفنان لا ينفك يناقش هدريان الحاكم، فقد أعاد بناء البانثيون في الوقت الذي كان يعيد فيه تنسيق القانون الرماني. ولسنا نعرف رجلاً غيره أكثر منه بناء، ولا حاكماً شاد من المباني مثل ما شاد هو. لقد كان في بعض الأحيان يضع بنفسه تصميم ما يشاد له من المباني، وكان يفحص عنها بنفسه ويقومها بخبرته في أثناء تشييدها، وقد أمر بإصلاح نحو مائة مبنى أو إعادة بنائها، ولم ينقش اسمه على أي واحد منها. وقد جنت رومة الشيء الكثير من حكمته وقدرته مجتمعين وهما قلّما تجتمعان في إنسان. أما هو فقد اجتمعت فيه قوة الشباب وحكمة الشيوخ.

وأشهر ما أعاده كن المباني حرم البانثيون- وهو أحسن بناء احتفظ بشكله من أبنية العالم القديم، ولقد دمرت النار الهيكل الرباعي الذي بناه أجربا، ويلوح أنه لم يبق منه إلا مدخله الكورنثي الأمامي المعمدز والآن أمر هدريان مهندسيه أن يقيموا شمالي هذا الهيكل القديم هيكلاً دائرياً، وألا يخرجوا في بنائه على الأنماط اليونانية الأصيلة وكان ينزع بحكم ذوقه اليوناني إلى تفضيل الأشكال

ص: 414

اليونانية على الأشكال الرومانية فيما ينشئه من مباني في عاصمة ملكه. ولم يكن الهيكل الجديد هو ومدخله المعمد وحدة منسجمة متناسقة، أما داخله- وهو دائرة قطرها 132 قدماً، خالية من الدعائم التي تعترض السائر فيها- فكان بفراغه يوحي للسائر فيه بإحساس من الحرية لا يجد له نظيراً إلا في الكنائس القوطية. وكان سمك جدرانه عشرين قدماً، وكانت مشيدة من الآجر ومغطاة في جزئها الأسفل الخارجي بالرخام، وفي أجزائها الأخرى بالمصيص، تبرز منها الفصوص من حين إلى حين. وكان سقف المدخل من صفائح البرنز، وقد بلغ من سمكها أنها حين أزالها البابا إربان الثامن وجدها تكفي لصب مائة مدفع وعشرة مدافع، وإقامة المظلة المرفوعة فوق المذبح العالي في كنيسة القديس بطرس (29). وكانت أبوابه البرنزية الضخمة مغطاة في بادئ الأمر بصفائح الذهب. وأنشئت في الأجزاء السفلى من جدرانه الداخلية الخالية من النوافذ سبعة محاريب زينت بعمد عالية ترتكز عليها دعامات هي والعمد من الرخام، وكانت هذه المحاريب في أول الأمر كوات غير نافذة وضعت فيها تماثيل، أما الآن فهي محاريب صغيرة في كنيسة فخمة. وقد غطيت بعض الأجزاء العليا من الجدار بألواح من الحجارة الغالية تفصلها بعضها عن بعض عمد من الحجر السماقي. وكانت أعظم روائع الهندسة الرومانية هي القبة المصندقة التي ترتفع في الداخل فوق أعلى الجدران. وكانت طريقة إنشائها أن صب الأسمنت المسلح في أقسام مضلعة، ثم تركت حتى تتماسك فيتكون منها كلها كتلة قوية صلبة، كأنها حجر ضخم واحد، وكانت بهذه الطريقة في غنى من الدعامات الجانبية، ولكن المهندس الذي أقامها أراد أن يزداد ثقة بقوتها، فأنشأ لها أكتافاً في الجدران. وكانت مشكاة (يسمونها العين Oculus) ، يبلغ قطرها 20 ميلاً، هي الفتحة الوحيدة التي تمد الضريح بحاجته من الضوء. ويبلغ طول قطر هذه القبة الفخمة الضخمة 26 قدماً، وهي أكبر قباب العالم كله قديمة وحديثة، وقد أنشئت على غرارها سلسلة من القباب تختلف من الطراز البيزنطي إلى الطراز

ص: 415

الروماني وإلى طراز قبة القديس بطرس إلى قبة الكبتول في واشنجتن، وما بين هذه من طرز تماثلها أو تختلف عنها تماثلاً واختلافاً متفاوتين في القرب والبعد.

وأكبر الظن أن هدريان نفسه هو الذي وضع تصميم هيكل فينوس وروما Roma ذي القباءين الذي كان يقوم أمام الكلوسيوم، لأن الخرافات تروي أنه أرسل تصميم الهيكل إلى إبلودورس، وأنه أمر أن يعدم هذا الفنان الشيخ لأنه أرسل إليه يسخر من هذا التصميم (30). ولقد اشتهر هذا الهيكل بعدة صفات انفرد بها عن كثير من الهياكل: منها أنه كان أكبر هيكل غي رومة، فقد كان له محرابان، كل منهما لأحدى الآلهتين، وكانتا تجلسان فيه على عرشين متصلين وظهر كل منهما في ظهر الأخرى؛ ومنها أن سقفه المقبي المصنوع من ألواح البرنز والمغطى بصفائح الذهب كان من أجمل مناظر المدينة وأكثرها لألاء. وبنى الإمبراطور لنفسه بيتاً أوسع من هذا الهيكل نفسه، وهو القصر الريفي الذي لا تزال بقاياه تستهوي الزائرين إلى الضاحية الجميلة التي كانت تعرف في أيام الإمبراطور باسم تيبور والتي تعرف لنا اليوم باسم تيفولي Tivoli. فقد أقيم في هذا المكان، وسط ضيعة يبلغ محيطها سبعة أميال، قصر احتوى كافة أنواع الحجرات والحدائق التي ازدحمت بالروائع الفنية الذائعة الصيت والتي بلغ من كثرتها أن اغتنى ببقاياها كل متحف من متاحف أوربا في هذه الأيام. وقد أظهر واضع تصميم هذا القصر ما اعتاده المهندسون الرومان من عدم المبالاة بتناسب الأجزاء، فقد كان يضيف إليه بناء إثر بناء كلما دعته إلى ذلك الحاجة أو استهواه الخيال، ولم يحاول أن يجعل فيه من التناسق أكثر مما في مباني السوق الرومانية من فوضى معمارية. ولعل الرومان قد ملوا التناسب كما مله اليابانيون، ولعلهم كانت تعجبهم مفاجآت الشذوذ وعدم الانتظام. وقد أضاف المهندس ذو الخيال الفياض إلى ما فيه من أروقة ذات عمد ومكتبات، وهياكل، وملهى، وردهة رقص، ومضمار سباق، أضاف إلى هذا

ص: 416

كله نماذج مصغرة من مجمع أفلاطون العلمي، ولوفيون أرسطو، واستوازينون، كان الإمبراطور، وهو متغمس في هذا الثراء الباطل، أن يظهر شيئاً من التقدير للفلسفة ويرد إليها بعض اعتبارها.

ولقد تم بناء هذا القصر في السنين الأخيرة من حياة هدريان، ولسنا نعلم أنه وجد فيه ما كان ينشده من سعادة، فقد أقضت ثورة اليهود التي شبت في عام (135) مضجعه وأمرت عيشه، غير أنه أخمدها بوسائل رحيمة، وساءه كثيراً أنه لم يستطع أن يختتم حياته من غير حرب، وأصيب في ذلك العام نفسه، ولم يكن قد تجاوز التاسعة والخمسين من عمره، بداء عضال- ربما كان هو ذات الرئة أو داء الاستقساء- هد كيانه، وبرحت به آلامه، وأنهك شيئاً فشيئاً جسمه وروحه وعقله، وزاد مزاجه حدة، وأخلاقه شكاسة، فأخذ يرتاب في أصدقائه القدامى، ويظنهم يأتمرون به ليقتلوه ويجلسوا على العرش بعده، وأخيراً أمر أن يعدم جماعة منهم- ولسنا نعلم أكان على حق في ريبته، أم أنه أصدر أمره هذا في ساعة ذهب فيها عقله.

وأراد أن يخمد حرب الوراثة التي كانت نارها مشتعلة وقتئذ في بلاطه، فتبنى صديقه لوسيوس فيرس Lucius Verus واختاره خليفة له. ولمامات لوسيوس بعد قليل من ذلك الوقت، استدعى هدريان إليه وهو على سريره في تيبور رجلاً أبيض الصحيفة اشتهر بين الناس باستقامته وحكمته وهو تيتس أورليوس أنطونينس Titus Aurelius Antoninus وتبناه وجعله وارثاً لملكه من بعده. ثم شاء أن يكون أبعد من هذا نظراً فأشار على أنطونينس أن يتبنى هو الآخر شابين كانا يعيشان وقتئذ في بلاطه ويربيهما تربية تجعلهما أهلاً لهذا المنصب السامي، وهما ماركس أنينس فيرس

ص: 417

Marcus Aninus Verus وكان وقتئذ في السابعة عشرة من عمره، ولوسيوس إيليوس فيري Lucius Aelius Verus، وهو غلام في الحادية عشرة من عمره. وكان أولهما ابن شقيق أنطونينس وثانيهما ابن لوسيوس فيرس. ومنح هدريان أنطونينس في ذلك الوقت لقب قيصر ولم يكن يلقب به قبل ذلك الوقت إلا الأباطرة وأبناؤهم ومن تناسل من أبنائهم الذكور. أما بعده فقد كان الأباطرة يمنحون هذا اللقب كل من وارث للعرش مفترض، ويحتفظون لأنفسهم بلقب أغسطس.

واشتد المرض وقتئذ على هدريان وبرح به الألم، وكثيراً ما كان الدم ينزف من منخاريه. وضاق ذرعاً بالحياة، وأخذ يتمنى الموت. وكان قد أعد لنفسه قبراً على الضفة الأخرى من نهر التيبر- وهو ذلك الضريح الضخم الذي أضحت بقاياه الآن قلعة القديس أنجيلو Castel Sant، Angelo والذي لا يزال الناس يصلون إليه فوق جسر إبليوس الذي أقامه هدريان. وكان قد تأثر بالمثل الذي ضربه الفيلسوف الرواقي يفراتيز Euphrates، وكان وقتئذ في رومة. ذلك أن هذا الفيلسوف لما وجد أن المرض قد هد جسمه والشيخوخة قد أنهكته طلب إلى هدريان أن يأذن له بأن يقتل نفسه، فلما أذن له تجرع عصير الشوكران (31). ورجا الإمبراطور أن يقدم له سماً أو سيفاً، ولكن أحداً ممن كانوا حوله لم يجب رجاءه، فأمر عبداً من بلاد الدانوب أن يطعنه طعنة قاتلة، ولكن العبد فرمنه؛ ثم أمر طبيبه أن يسمه، فلم يكن من الطبيب إلا أن انتحر (32). ثم عثر بعدئذ على خنجر وهم بقتل نفسه، ولكن الخنجر انتزع منه. وحزن أشد الحزن لأنه، وهو الذي يستطيع أن يقتل أي إنسان، لا يسمح له هو نفسه أن يموت. فلما ضاقت به الحيل صرف أطباءه وأوى إلى بايا Baiae وتعمد أن يأكل ويشرب الأطعمة والأشربة التي تعجل منيته؛ وأخيراً خارت وقواه وجن من شدة

ص: 418

الألم ومات (138)، بعد أن عاش ستين عاماً وحكم واحداً وعشرين. وقد خلف وراءه قصيدة صغيرة تعبر كما تعبر قصيدة دانتي عما ينتاب الإنسان من الأسى حين يذكر في أيام حزنه ما مر به من أيام السعادة:

أيا نفسي، أيا نفسي الجميلة، أيا نفسي الخفاقة، أيا شريكة جسمي الطيني وضيفه، إلى أين أنت مسرعة- أيتها النفس الشاحبة، أيتها النفس الجاسية، أيتها النفس العارية- إلى حيث لا تعودين، إلى حيث لا تعودين؟ (33).

ص: 419

الفصل الرابع

‌أنطونينس بيوس

يكاد أنطونينس ألا يكون له تاريخ، وذلك لأنه لا يكاد يقع في أخطاء أو يرتكب قط جرائم. وكان آباؤه الأولون قد جاءوا من نيمز قبل ذلك العهد بجيلين، وكانت أسرته من أغنى الأسر في رومة، ولما اعتلى عرش الإمبراطورية في الحادية والخمسين من عمره وهبها حكومة هي أعدل حكومة شهدتها طوال تاريخها، ولم تكن أقل هذه الحكومات كفاية.

وكان أسعد من لبس التاج حظاً. ويقول مؤرخوه إنه كان طويل القامة، وسيماً، جيد الصحة، وقوراً، دمث الأخلاق، حازماً، متواضعاً، صادق البأس، فصيح اللسان، يحتقر بلاغة الألفاظ، محبباً إلى الشعب، يكره الملق. وإذا صدقنا ما يقوله فيه متبناه ماركس، كان علينا أن نرفض ما وصف به من أنه "كان الجبار المعصوم من الخطأ الذي لم يعرفه العالم قط". ولقد لقبه مجلس الشيوخ "بالتقي " Pius لأنه رأى فيه مثالاً للفضائل الرومانية الهادئة، كما وصفه بأنه أفضل الزعماء. ولم يكن له أعداء مطلقاً، وكان له مئات من الأصدقاء؛ غير أنه لم يكن بمنأى من الأحزان، فقد ماتت كبرى ابنتيه وهو يستعد للسفر إلى آسية ليكون والياً عليها، وكانت صغراهما زوجة مريبة لأورليوس، واتهم الناس زوجته بأن خيانتها لزوجها كانت تعدل جمالها. وتحمل أنطونينس هذه الشائعات وهو صامت صابر، ولما ماتت زوجته فوستينا Faustina أرصد باسمها وتكريماً لها أموالاً طائلة لمساعدة الفتيات وتعليمهن، وخلّد ذكراها بإنشاء هيكل في السوق العامة كان من أجمل هياكل رومة. وزاد على ذلك أنه لم يتزوج غيرها حتى لا يشقي أبناؤه أو ينقص ميراثهم بهذا الزواج واكتفى بأن اتخذ له حظية.

ص: 420

ولم يكن رجلاً ذكياً، بالمعنى الضيق لهذا اللفظ، فلم يكن له حظ من العلم، وكان ينظر إلى رجال الأدب والفلسفة والفن نظرة الأرستقراطي الذي يتركهم وشأنهم ولا يتدخل في أعمالهم، لكنه مع ذلك كان يساعدهم بالمال الكثير، وكثيراً ما كان يدعوهم إلى قصره. وكان يفضل الدين على الفلسفة، ويعبد الآلهة القدامى بإخلاص ظاهر، وضرب لمن تبناهم مثلاً في التقي والصلاح. كان له أعظم الأثر في ماركس فلم ينس قط قوله:"إفعل كل شيء كما يجب أن يفعله تلميذ أنطونينس". وقد أمر نفسه بأن "يذكر استمساكه بكل عمل معقول، واعتداله في كل شيء، وتقواه، وصفاء ملامحه، واحتقاره للشهرة التي لا قيمة لها

واكتفاءه بالقليل؛ وجده وصبره، واستمساكه بالدين مع بُعده عن الخرافات" (34). وكان مع هذا متسامحاً مع أصحاب الأديان غير الرومانية، فخفف من الإجراءات التي اتخذ هل هدريان ضد اليهود، وجرى على سنة أسلافه من التساهل مع المسيحيين. ولم يكن بالرجل المتزمت الذي يضيق صدراً بالمرح، بل كان يحب النكتة، وكثيراً ما كانت تصدر منه الفكاهة اللطيفة. وكان يلعب، ويصيد السمك والوحوش مع أصدقائه، ولم يكن في وسع الإنسان أن يستدل من سلوكه على أنه إمبراطور. وكان يفضل هدوء بيته الريفي في لنوفيوم Lanuvium على ترف قصره الرسمي، وكان يقضي كل لياليه تقريباً مع أسرته. ولما أن ورث العرش امتنع عن التفكير فيما كان يتوق إليه من راحة وهدوء يجعلهما سلواه في شيخوخته. ولما تبين أن زوجته تتوقع أن تزداد بعد ارتقائه العرش أبهة وعظمة أنبها على ذلك بقوله: "ألا تعلمين أننا قد فقنا الآن ما كان لنا من قبل؟ " (35). فقد كان يعرف أنه ورث هموم العالم ومشاغله.

وكان أول ما عمله بعد اعتلائه العرش أن وهب ثروته الشخصية الكبيرة إلى خزانة الدولة. ثم ألغى المتأخر من الضرائب، ونفح المواطنين بهبات من المال، وأقام على نفقته كثيراً من الألعاب والحفلات، وسد ما كان يعانيه الأهلون من

ص: 421

نقص في الخمر، والزيت، والقمح، بشراء هذه الأصناف وتوزيعها على الناس من غير ثمن. وواصل تنفيذ منهاج هدريان في البناء في إيطاليا، وفي الولايات، ولكنه سار فيه باعتدال؛ ومع هذا كله فقد دبر مالية الدولة بكفاية كانت نتيجتها أن وجد في خزانتها كلها بعد وفاته 2،700،000،000 سسترس، وكان ينشر على الناس إحصاء بجميع الإيرادات والنفقات، ويعامل مجلس الشيوخ على أنه هو عضو من أعضائه لا أكثر، ولم يقدم قط على عمل خطير إلا بعد استشارة زعمائه. وكان يعني بدقائق الشئون الإدارية عنايته بالمشاكل السياسية؛ "فكان يهتم بجميع الناس وبجميع الأشياء كأنهم أهله وكأنها ملكه الخاص"(36). وواصل سياسة هدريان بصبغ القانون بصبغة الحرية، وجعل عقوبة الزنى متساوية على الرجال والنساء، وحرم السادة القاسين من عبيدهم، وقيد تعذيب العبيد في المحاكمات بقيود شديدة، وفرض أشد العقوبات على كل سيد يقتل عبداً له. وشجع التعليم برصد المال له من قبل الدولة، وعلم أبناء الفقراء على نفقتها، ومنح المعلمين والفلاسفة المعترف بهم كثيراً من امتيازات طبقة أعضاء مجلس الشيوخ.

وحكم الولايات أحسن حكم مستطاع دون أن يطوف بها، فلم يغب قط عن رومة أو ما جاورها يوماً واحداً في أثناء حكمه الطويل؛ وكان يكتفي بأن يعين لحكم الولايات رجالاً من ذوي الكفاية المخبورة والشرف الموثوق به. وكان يحرص على سلامة الإمبراطورية دون الاشتباك في حروب؛ "ولم يكن ينقطع قط عن ترديد قول سبيو إنه يفضل الاحتفاظ بحياة مواطن واحد على قتل ألف عدو"(37). على أنه قد اضطر أن يخوض غمار بعض الحروب الصغرى ليخمد ما نشب من الثورات في داشيا، وآخبة، ومصر؛ ولكنه عهد بهذه الواجبات إلى مرؤوسيه، ولم يسع إلى توسيع رقعة الدولة بل اكتفى بالحدود التي رسمها لها هدريان وراعى في رسمها جانب الحذر. وحسبت بعض القبائل الألمانية لينة هذا

ص: 422

ضعفاً، ولعل هذا اللين قد شجعها على أن تتأهب لتلك الغزوات التي اهتزت لها دعائم الإمبراطورية بعد وفاته؛ وكان هذا هو الخطأ الوحيد الذي ارتكبه في سياسته. أما في ما عدا ذلك فقد كانت الولايات سعيدة في أيامه، ورضيت بحكم الإمبراطورية ورأت فيه البديل الوحيد من الفوضى والشقاق. وأمطرته الولايات سيلاً من الملتمسات والمطالب، أجابها إليها جميعاً إلا القليل الذي لا يستحق الذكر؛ وكان في وسعها أن تعتمد عليه ليعوضها عن كل ما يصيبها من الخسائر بسبب الكوارث العامة. وتغنى المؤرخون من أهل هذه الولايات أمثال أسترابون، وفيلو، وأفلوطرخس، وأبيان، وإبكتتس، وإيليوس أرستيديز بمديح السلم الرومانية؛ ويؤكد لنا أبيان أنه شاهد في رومة مندوبي الدول الأجنبية يرجون عبثاً أن توضع بلادهم تحت الحكم الروماني لكي تستمتع بمزاياه (38). ولم يعرف قط قبل ذلك الوقت أن حكومة ملكية مطلقة تركت الناس أحراراً كما تركتهم حكومة بيوس، أو احترمت حقوق رعاياها كما احترمتها هذه الحكومة (39). ولاح أن العالم قد أدرك المثل الأعلى في نظم الحكم. فقد كان هذا الحكم وقتئذٍ للعقل والحكمة، وكأن العالم يحكمه أب شفيق رحيم.

ولم يكن باقياً على أنطونينس بعد هذا كله إلا أن يختم حياته الصالحة بموت هادئ. ولقد أصيب في السنة الرابعة والسبعين من عمره بزلة معدية، وانتابته حمى شديدة، فدعا ماركس أورليوس إلى فراشه، وعهد إليه العناية بشئون الدولة، وأمر خدمه أن ينقلوا إلى حجرة ماركس تمثال فرتونا Fortuna (الحظ) الذهبي، وكان الزعيم قد احتفظ بهذا التمثال في حجرته عدداً كبيراً من السنين. وأسر إلى ضابط ذلك اليوم كلمة السر "الهدوء". ثم أدار وجهه لساعته كما لو كان يريد النوم، وأسلم الروح (161). وأخذت جميع الطبقات وجميع المدن تتبارى في تكريم ذكراه.

ص: 423

الفصل الخامس

‌الفيلسوف إمبراطور

يقول رينان Renan: " لو أن أنطونينس لم يعين ماركس أورليوس خليفةً له من بعده لما استطاع أحد قط أن ينافسه فيما اشتهر به من أنه خير الملوك على الإطلاق"(41). ويقول جبن Gibbon: " لو أن إنساناً طلب إليه أن يحدد في تاريخ العالم وقتاً كان فيه الجنس البشري أعظم ما يكون سعادة ورخاء، لما تردد في أن يقول أنه هو الفترة التي تمتد من جلوس نيرفا إلى موت أورليوس. ولعل حكمهم مجتمعاً هو الفترة الوحيدة في تاريخ العالم التي كانت فيها سعادة شعب عظيم هدف الحكومة الوحيد"(42).

ولد ماركس أورليوس فيرس في رومة عام 121، وكانت أسرة أنياي Annii قد وفدت قبل ذلك الوقت بمائة عام من سكوبا Succuba القريبة من قرطبة إلى رومة، ويلوح أن ما اشتهروا به في هذا البلد من شرف قد أكسبهم لقب فيرس أي "الحق". ومات والد الغلام بعد ثلاثة أشهر من مولده فكفله جده الثري، وكان قنصلاً في ذلك الوقت، وأخذه إلى بيته. وكثيراً ما كان هدريان يتردد على هذا البيت زائراً، فأعجب الغلام، ورآه من طراز الملوك. ولم يعرف قط أن غلاماً مثله كان شبابه ينم عما ينتظره من مستقبل عظيم، أو كان يدرك ما هيأته له الأقدار من حظ حسن. وقد كتب بعد ذلك الوقت بخمسين عاماً يقول:"إني مدين للآلهة بما وهبتني من جدود طيبين، وآباء طيبين، وأخت طيبة، ومدرسين طيبين، وأقارب وأصدقاء طيبين، وكل شيء تقريباً طيب"(43). وأراد الدهر أن يفرض عليه شيئاً من التوازن فجعل له زوجة مريبة وابناً سافلاً. وقد أحصى في تأملاته ما يتصف به

ص: 424

أولئك الناس من فضائل وما تلقاه عنهم من دروس في التواضع، والصبر، والرجولة، والتعفف، والتقوى، وحب الخير، و "بساطة الحياة البعيدة كل البعد عن عادات ذوي الثراء"(44)، وإن كان الثراء يحيط به من كل جانب.

ولم يلق غلام قط ما لقيه هذا الغلام من حرص ومثابرة على تربيته وتعليمه. فقد التحق في شبابه بخدمة الهياكل والكهنة، وحفظ عن ظهر قلب كل كلمة من كلمات الطقوس الدينية القديمة الغامضة المتعذرة الفهم، ولم تنقص الفلسفة في مستقبل الأيام من مثابرته على أداء تلك الطقوس القديمة المفروضة على الأتقياء الصالحين، وإن كانت هذه الفلسفة قد زعزعت عقيدته الدينية. وكان ماركس يحب المباريات والألعاب الرياضية ومنها صيد الطير والحيوان، وقد بذلت بعض الجهود لتقوية جسمه كما كانت الجهود تبذل لتنمية عقله وتقويم خلقه، ولكن سبعة عشر مدرساً خاصاً يحيطون بطفل عبء ثقيل وعقبة كؤود في سبيله. فقد كان أربعة نحاة، وأربعة من علماء البلاغة، وواحد من علماء القانون، وثمانية من الفلاسفة يقتسمون رومة فيما بينهم. وكان أشهر هؤلاء الأساتذة كلهم م. كورنليوس فرنتو Cornelius Fronto. M معلم البيان. وكان ماركس يحبه ويحبوه بكل ما يحبو به التلاميذ أبناء الملوك أساتذتهم من عطف ولطف، ويتبادل معه رسائل تفيض ؤقة ووفاء، ولكن الغلام رغم هذا أدار ظهره إلى فن الخطابة ورآه فناً باطلاً غير شريف وأنهمك في دراسة الفلسفة.

وهو يشكر لأساتذته أنهم لم يلزموه بدراسة المنطق والتنجيم، ويشكر لديجنيتس Diognetus الرواقي أنه حرر عقله من الخرافات، وليونيوس رستكس Junius Rusticus أنه عرفه بإبكتتس، ولسكستس القيرونيائي Sextus of Chaeronea أنه علمه أن يعيش عيشة تتفق والطبيعة. وهو يحمد لأخيه سفيرس Severus أنه علمه أخبار بروتس، وكاتو اليتكائي، وثراسيا Thrasea، وهلفديوس Helvidius ويقول: "إني تلقيت عنه فكرة الدولة

ص: 425

التي يكون فيها قانون واحد لجميع الناس، والتي يتمتع أهلها جميعاً بحقوق متكافئة، وبحرية الكلام؛ وأخذت عنه فكرة الحكومة الملكية التي تحترم حرية المحكومين أكثر من احترامها كل شيء سواها" (45) وفي هذا القول يستحوذ المثل الأعلى الرواقي للحكومة الملكية على العرش. ويشكر أورليوس لمكسمس Maximus أن علمه "أن يحكم نفسه، وألا يسمح لشيء ما أن يضله، وأن يكون بشوشاً في كل الظروف، وأن يجمع قدراً متكافئاً من اللطف والكرامة، وأن يؤدي ما عليه من الواجبات من غير تذمر" (46). وجدير بنا أن نشير هنا إلى أن من الأمور الجلية أن كبار الفلاسفة في ذلك الوقت كانوا كهنة بلا دين، ولم يكونوا ميتافيزيقيين بلا حياة. غير أن ماركس آمن بأقوالهم إيماناً جدياً كاد وقتاً ما يفقد بسببه صحته التي كانت ضغينة بطبيعتها لانهماكه في حياة الزهد والتقشف. فقد ارتدى وهو في الثانية عشرة من عمره رداء الفلسفة، وأخذ ينام على قليل من القش المنثور على الأرض، وظل زمناً طويلاً لا يأبه برجاء أمه له أن ينام على فراش. ذلك أنه كان رواقياً قبل أن يصير رجلاً، ويحمد ربه: "لأني احتفظت بزهرة شبابي، وأني لم أطمع في أن يكون رجلاً قبل الأوان، بل أجلت هذا أكثر مما كنت أحتاج إلى تأجيله

وأني لم تكن لي صلات جنسية قط

وأني حين انتابتني فيما بعد نوبات من الحب، لم ألبث أن شفيت منها بعد زمن قليل" (47).

وقد حوله عن احتراف الفلسفة والكهنوت عاملان كان لهما أثر بالغ في حياته. أولهما ما تولاه من المناصب السياسية الصغرى منصباً في إثر منصب، وذلك لأن واقعية الرجل الإداري تعارضت لديه مع مثالية الشاب الغارق في التأملات. وكان العامل الثاني هو صلته الوثيقة بأنطونينس بيوس. ولم تكن حياة أنطونيتس الطويلة سبباً في مضايقته بل ظل يحيا حياته الرواقية البسيطة، ويواصل دراساته الفلسفية، وواجباته الرسمية، وهو يعيش

ص: 426

في القصر، ويمارس مرانه الطويل. وكان للمثل الذي ضربه له متبنية في الإخلاص والنزاهة في الحكم أقوى الأثر في نضوج عقله وخلقه. وكان الاسم الذي نعرفه به وهو أورليوس هو اسم القبيلة التي ينتمي إليها أنطونينس، وقد ماركس ولوسيوس كلاهما بعد أن تبناهما. فأما لوسيوس فقد أصبح رجلاً مرحاً محباً لمفاتن العالم، خبيراً بملذات الحياة ومباهجها. ولما أن رغب بيوس عام 146 أن يكون له زميل يشترك معه في أعباء الحكم، اختار لذلك ماركس وحده، وترك للوسيوس دولة الحب. ولما أن مات أنطونينس جلس ماركس على العرش بمفرده، ولكنه تذكر رغبة هدريان فاتخذ لوسيوس فيرس زميلاً له وزوجاً بابنته لوسلا Lucilla. فارتكب الفيلسوف بسبب حنوه ورأفته من الخطأ في بداية حكمه ما ارتكبه في نهايته. ذلك أن تقسيم الحكم على هذا النحو كان سابقة سيئة، فرقت شمل الدولة وأضعفتها فيما بعد أيام خلفاء دقلديانوس وقسطنطين.

وطلب ماركس إلى مجلس الشيوخ أن يخلع على بيوس مراسم التكريم القدسية، وأتم الهيكل الذي شرع بيوس في أن يقيمه تخليداً لذكرى زوجته، وأظهر فيه أحسن الذوق وأكمله، ووهبه لذكرى أنطونينس وفوستينا معاً

(1)

. وحبا مجلس الشيوخ بكل أنواع المجاملة، وسره أن يجد الكثيرين من أصدقائه الفلاسفة قد شقوا طريقهم إلى عضويته، وحيته إيطاليا بأجمعها والولايات على بكرة أبيها، ورأت فيه تحقيقاً لحلم أفلاطون: لقد أصبح الفيلسوف ملكاً. ولكنه لم يفكر قط في أن يجعل من الإمبراطورية "مدينة فاضلة". فقد كان مثل أنطونينس محافظاً مستمسكاً بالقديم؛ ذلك أن المتطرفين لا ينشأون في القصور، وكان ملكاً- فيلسوفاً بالمعنى

(1)

ولا تزال عشرة من أعمدته الكورنثية المنحوت كل منها من حجر واحد من بين أجمل آثار السوق العامة الباقية إلى الآن. ومدخله باق بكامل أجزائه، أما المحراب فهو، وان جرد من واجهته الرخامية، باق إلى اليوم في كنيسة سان لورتزو في بلدة ميرندا.

ص: 427

الرواقي لا الأفلاطوني لهذا اللفظ. وقال يحذر نفسه: "لا تؤمل قط أن تقيم جمهورية أفلاطون. وحسبك أنك أصلحت أحوال البشر إلى حد ما، ولا تظن أن هذا الإصلاح أمر قليل الخطر. ومنذا الذي يستطيع تغيير آراء الناس؟ وإذا لم تستطع تغيير عواطفهم، فإنك لا تستطيع أن تجعل منهم إلا عبيداً متمردين ومنافقين متلونين". وكان قد تبين أن الناس لا يرغبون كلهم أن يكونوا قديسين أطهاراً، ووطن النفس على أن يعيش في عالم مليء بالخبث والفساد، ومن أقواله في هذا:"إن الآلهة المخلدين يرضون أن يصبروا آجالاً طوالاً على هذه الكثرة من الأشرار وعلى ما ترتكبه من آثام كثيرة، دون أن يغضبوا، بل إنهم يحيطون هؤلاء الأشرار بالنعم الموفورة، فهل يليق بك على قصر أجلك أن يسرع إليك الملل؟ "(48): وقد وطد العزم على أن يعتمد على القدوة الحسنة لا على سطوة القانون، فجعل نفسه بالفعل خادماً للدولة، وأخذ على عاتقه جميع أعباء الإدارة والقضاء، بما في ذلك القسم الذي وافق لوسيوس على أن يتحمله ولكنه أهمله؛ ولم يسمح لنفسه بشيء من الترف، وعامل الناس جميعاً معاملة الزملاء لا أكثر ولاأقل، وأنهك نفسه بكثرة العمل بأن يسر للناس مقابلته. ولم يكن ماركس بالسياسي العظيم، فقد أنفق كثيراً من أموال الدولة في الهبات النقدية التي كان ينفح بها الشعب والجيش، ومنح كل فرد من أفراد الحرس البريتوري عشرين ألف سسترس. وزاد عدد الذين كان من حقهم أن يطلبوا الحبوب من غير ثمن، وأكثر من الألعاب الباهظة النفقة، وأعفى الناس والولايات من كثير من الضرائب والجزية المتأخرة. لقد كان هذا كرماً له سوابقه، ولكنه كان عملاً غير حكيم في وقت كانت الثورات والحروب تهدد الدولة تهديداً لا يخفى على عين الحاكم البصير، وكانت نيرانها مشتعلة بالفعل في كقير من الولايات وعلى أطراف الحدود العظيمة الأمداد.

وواصل ماركس ذلك الإصلاح القانوني الذي بدأه هدريان وبذل في ذلك الإصلاح كثيراً من الجد والنشاط. فزاد أيام جلسات المحاكم، وقصر آجال

ص: 428

المحاكمات، وكثيراً ما كان يجلس بنفسه في مجلس القضاء، ولا يرحم من يرتكب جريمة من الجرائم الكبرى، ولكنه كان في العادة رحيماً. وقد ابتكر وسائل قانونية لحماية عديمي الأهلية من جشع الأوصياء، ولحماية المدينين من الدائنين، والولايات من الحكام، وغض الطرف عن عودة الجماعات الدينية التي كانت محرمة قبل عهده، وبسط حماية القانون على الهيئات التي كانت في حقيقة أمرها جماعات تعني بدفن الموتى، وأكسبها الشخصية المعنوية التي يحق لها بمقتضاها أن تقبل الوصايا، وأنشأ صندوقاً لينفق منه على دفن الموتى من الفقراء. وبلغ عدد المستفيدين من نظام الألمنتا أي من الأموال التي خصصتها الدولة لتشجيع النسل بين الفلاحين أكبر عدد وصل إليه في تاريخ هذا النظام كله. ولما ماتت زوجته أنشأ صندوقاً لمساعدة الفتيات الفقيرات، ولدينا نقش منخفض يمثل أولئك الفتيات وقد أحطنا بفوستينا الصغرى وهي تصب القمح في حجورهن. وألغى الاستحمام المختلط، وحرم دفع أجور عالية للمثلين والمجالدين، وفرض على ما تنفقه المدن على الألعاب قيوداً تحد من هذه النفقات وتجعلها متناسبة مع ثروتها، وأوجب أن تكون الأسلحة التي يستخدمها المجالدون غير ذات أسنة، وفعل كل ما تبيحه له هذه العادة الوحشية أن يفعله لمنع قتل المصارعين. وأحبه الشعب ولكنه لم يحب قوانينه، ولما أن جند المصارعين في جيشه الذي سيّره للحروب المركمانية Marcomannic قال الناس في غضب فكه:"إنه يسلبنا أسباب سرورنا، ويريد أن يرغمنا على أن نكون فلاسفة"(49). لقد كانت رومة تستعد للتزمت، ولكنها لما تصبح مستعدة له.

وكان من سوء حظه أن شهرته في الفلسفة، وأن السلم الطويلة التي دامت أيام هدريان وأنطونينس، قد شجعتا الثوار في داخل البلاد، والبرابرة في خارجها، على العصيان. فاندلعت نيران الثورة في بريطانيا عام 162، وغزا التشاتي Chatti ألمانيا الرومانية، وأعلن فولجاسيز Vologases

ص: 429

الثالث ملك بارثيا الحرب على رومة، واختار ماركس أقدر القواد لتقليم أظفار الفتنة في الشمال، ولكنه عهد إلى لوسيوس فيرس بالواجب الأكبر وهو محاربة بارثيا، ولم يتجاوز لوسيوس في زحفة مدينة أنطاكية، لأن تلك المدينة كانت مسكن باتثيا Panthea التي بلغت من الجمال والتهذيب والثقافة حداً ظن معه لوسيان أن كل ما حوته آيات النحت من روعة قد اجتمعت فيها، وأنها وهبت فوق ذلك صوتاً رخيماً عذباً يسلب لب من سمعه، وأنامل تجيد العزف، وعقلاً ملماً بروائع الأدب والفلسفة. فلما رآها لوسيوس نسي كما نسي جلجميش متى ولد، فأطلق العنان لذاته، للصيد أولاً ثم للدعارة بعدئذٍ، بينما كان البارثيون يزحفون على بلاد سوريا الت ياستولى عليها الرعب. ولم يعلق ماركس بكلمة على أعمال لوسيوس ولكنه أرسل إلى أفديوس كاسيوس Avidius Cassius الذي يلي لوسيوس في قيادة جيشه خطة للحملة كانت من الاتقان بحيث أعانت القائد القدير المحنك على صد البارثيين إلى ما بين النهرين، وإلى رفع الراية الرومانية مرة أخرى على سلوقية وطقشونة. وأحرقت المدينتان في هذه المرة عن آخرهما، لكيلا تتخذا مرة أخرى قاعدتين لحملات البارثيين. وعاد لوسيوس من أنطاكية إلى رومة حيث أقيم له إحتفال بالنصر، أصر كرماً منه وشهامة على أن يشاركه فيه ماركس.

وجاء لوسيوس معه بالمنتصر الخلفي في هذه الحرب- وهو الوباء. وكان قد ظهر في باديء الأمر بين جنود أفديوس حينما استولوا على سلوقية، ثم انتشر بسرعة اضطرته أن يسحب أولئك الجند إلى بلاد النهرين بينما كان البارثيون يطربون لأن الآلهة قد انتقمت لهم من أعدائهم. ونقلت الفيالق المنسحبة الوباء معها إلى سوريا، وأخذ لوسيوس معه جنوداً من هذه الفيالق لتشترك في موكب النصر، فنقلوا العدوى إلى كل مدينة مروا بها، وإلى كل صقع من أصقاع الإمبراطورية انتقلوا إليه فيما بعد. ويحدثنا المؤرخون القدامى عن فتك هذا الوباء أكثر مما يحدثونا عن طبيعته، ولكن ما يقولونه عنه

ص: 430

يوحي بأنه قد يكون مرض التيفوس الطفحي أو الطاعون الدملي (32). ويظن جالينوس أنه من نوع الوباء الذي فتك بالأثينيين في عهد بركليز. وسواء أكان هذا أم ذاك فقد كانت بثرات سوداء تنتشر في الجسم، ويصاب المريض بسعال جاف مبحوح، ويكون "نفسه ذا رائحة خبيثة"(53). وفشا الوباء سريعاً في آسية الصغرى، ومصر، وبلاد اليونان، وغالة، وأهلك خلال عام واحد (166 - 67) أكثر ممن أهلكتهم الحرب. ومات منه في رومة ألفان في يوم واحد، ومنهم عدد كبير من أشراف المدينة (54)، وكانت الجثث تخرج منها أكواماً. وعجز ماركس عن مقاومة هذا العدو الخفي، ولكنه بذل كل ما يستطيع ليخفف عن شره، غير أنه لم يجد معونة من علم الطب في ذلك الوقت، وجرى الوباء في مجراه حتى أوجد في الناس معونة منه أو أهلك كل من حمل جراثيمه. وكانت له في البلاد آثار يخطئها الحصر. فقد أقفرت كثير من الأنحاء من سكانها حتى أضحت صحاري أو غابات، ونقص إنتاج الغذاء، واضطربت وسائل النقل، وأتلفت فيضانات الأنهار مقادير كبيرة من الحبوب، وجاء القحط في أعقاب الوباء. واختفت مظاهر البهجة التي امتازت بها بداية حكم ماركس، واستسلم الناس للحيرة والتشاؤم، وهرعوا إلى العرافين والمتنبئين، وغمروا المذابح بالبخور والضحايا، وطلبوا العزاء في الملاذ الوحيد الذي أتيح لهم، في الدين الجديد دين خلود النفس والسلام السماوي.

وبينما كانت هذه الكوارث تجتاح البلاد في الداخل جاءت الأنباء (167) بأن القبائل الضاربة على ضفاف الدانوب- التشاتي، والقادي، والمركماني، واللازيجي Lezygcs- قد عبرت النهر، وفتكت بحامية رومانية عدتها عشرون ألفاً، وأخذت تزحف على داشيا، وريتيا Rretia، وباتونيا، ونوركم، وأن بعضها قد شقت طريقها فوق جبال الألب، وهزمت كل الجيوش التي أرسلت لصدها، وحاصرت أكويليا Aquileia (القريبة من البندقية)، وأخذت تهدد فرونا Veroua، وتتلف الحقول الغنية في شمال إيطاليا. ولم تكن القبائل الألمانية

ص: 431

في وقت من الأوقات أكثر مما كانت وقتئذٍ إتحاداً وتماسكاً في زحفها، ولم تهدد رومة في يوم ما أشد من تهديدها إياك في ذلك الوقت. وأقدم ماركس على العمل الحاسم بسرعة أدهشت الناس جميعاً، فنبذ ملاذ الفلسفة، وقرر أن ينزل بنفسه إلى الميدان ليخوض غمار الحرب التي تنبأ بأنها ستكون أخطر الحروب التي خاضتها رومة منذ أيام هنيبال، وروع إيطاليا بتجنيد رجال الشرطة، والمجالدين والعبيد، وقطاع الطرق، ومرتزقة البرابرة، في فيالقه التي حصدتها الحروب والأوبئة. وحتى الآلهة نفسها قد جندها لأغراضه: فقد أمر كهنة الأديان الأجنبية أن يقربوا القرابين إلى رومة حسب طقوسهم المختلفة، وحرق هو نفسه من الضحايا على المذابح ما جعل أحد الفكهين يذيع رسالة بعثت بها إليه ثيران سود، ترجوه فيها ألا يسرف في الانتصار وتقول فيها:"ما أشد خسارتنا إذا انتصرت"(55). وأراد أن يوفر المال اللازم للحرب دون أن يفرض لها ضريبة خاصة فباع بالمزاد العلني في السوق العامة ما في القصور الإمبراطورية من خزانات الثياب، والتحف الغنية، والحلي. وأعد العدة للدفاع بعناية عظيمة- فحصن المدن القائمة على الحدود من غالة إلى بحر إيجة، وسد الممرات الموصلة إلى إيطاليا، وأغرى القبائل الألمانية والسكوذية بالرشا السخية على الهجوم على مؤخرة الغزاة. ثم درب جيشه ونظمه أحسن تدريب وتنظيم بجد وشجاعة تثيران أعظم الإعجاب لمجيئهما من رجل يكره الحرب. ثم قاد الجيش بنفسه في حرب عوان وضع خططها بمهارة وقدرة حربية فنية، وفك الحصار عن أكويليا، وطارد المحاصرين وبدد شملهم عند نهر الدانوب، حتى لم يكد ينجو منهم من القتل إلا من وقع في الأسر.

ولم يكن يخفي عليه أن أعماله هذه لم تقض على الخطر الألماني، ولكنه حسب أن ما أدركه يجعل الموقف آمناً إلى حين، فعاد إلى زميله إلى رومة؛ ولكن لوسيوس قضى نحبه في الطريق بالسكتة القلبية، غير أن الشائعات، كالسياسة، لا تعرف سبيلاً إلى الرحمة، فقالت إن ماركس دس

ص: 432

له السم. وقضى الإمبراطور الفترة الواقعة بين يناير وسبتمبر عام 169 في رومة ليستريح من الجهود التي أضنت بنيته الضعيفة حتى كادت تقضي عليه، وكان يشكو نزلة معوية كثيراً ما كانت تتركه ضعيفاً لا يقوى على الحركة. ولكنه عالج هذا الداء بالاقتصاد في الطعام فكان لا يأكل إلا أكلة خفيفة في اليوم. وكان الذين يعرفون حالته الصحية وغذاءه القليل يدهشون مما كان يبذله في القصر والحقل من جهود، كل ما يعللونها به أنه كان يعوض بعزيمته ما يعوزه من قوة جسمه. وقد استدعى إليه عدة مرار جالينوس البرجمومي أشهر أطباء زمانه، وأثنى عليه لبساطة ما كان يصفه له من العلاج (56).

ولعل ما توالى عليه من المتاعب المنزلية مضافة إلى الأزمات السياسية والعسكرية قد ساعد على اشتداد علته حتى أصبح شيخاً منهوكاً في الثامنة والأربعين من عمره. ولعل زوجته فوستينا، التي ترى وجهها الجميل في كثير من التماثيل، لم يكن يسرها أن تشارك في الطعام والفراش رجلاً يكاد يكون هو الفلسفة متجسدة، ذلك أنها كانت إمرأة مرحة نشيطة، تتوق إلى حياة أكثر بهجة مما تستطيع أن تهبها إياها فطرته الرزينة الوقور. غير أن النمامين في المدينة كانوا يتهمونها بخيانة زوجها؛ وهجته المسرحيات التقليدية الصامتة ووصفته بأنه ديوث، بل ذهبت إلى أبعد من هذا فذكرت أسماء من ينافسونه على زوجته (57). لكن ماركس فعل ما فعله أنطونينس مع أمه فوستينا فصمت ولم يقل شيئاً، ولم يكتف بالصمت بل عين عشاقها المزعومينفي مناصب عالية، وأظهر إلى فوستينا كل دلائل العطف والاحترام، وألّهها لما ماتت (175) وشكر في تأملاته الآلهة لأنها وهبته "زوجة محبة مطيعة"(58). وليس لدينا قط دلائل ندينها بمقتضاها (59)، ولقد ولدت له أربعة أبناء، كان يحبهم حباً لا نزال نحس بحرارته في رسائله التي كتبها لفرنتو. وقد ماتت منهم بنت في طفولتها، وأما الثانية فكانت حياة لسيوس سبباً في حزنها، ووفاته سبباً في ترملها. وكان الاثنان الآخران توأمين ولداً

ص: 433

في عام 161، مات أحدهما أثناء ولادته، وأما الثاني فهو كمودس Commodus، وقالت ألسنة السوء إنه كان هدية إلى فوستينا من مجالد (60)، وقد ظل هو طول حيلته يجاهد لتوكيد هذه القصة. لكنه كان غلاماً وسيماً قوياً نشيطاً، وكان ماركس يحبه ويحنو عليه حنواً بالغاً لا يستطيع أحد أن يلومه عليه، وقدمه إلى الفيالق بطريقة ترمز إلى أنه سيختاره خليفة له من بعده، واستخدم خير المدرسين في رومة ليجعلوه صالحاً للحكم. ولكن الشاب كان يفضل الشرب، والرقص، والغناء، والصيد، والمثاقفة، ونشأت فيه روح الكراهية للكتب والعلماء والفلاسفة، وهي كراهية نستطيع فهم أسبابها، ولكنه كان يسر بصحبة المجالدين وهواة الألعاب الرياضية؛ وسرعان ما بز جميع رفاقه من الكذب، والقسوة، والألفاظ القذرة. وكان ماركس أشد طيبة من أن يبلغ من العظمة قدراً يستطيع معه أن يؤدبه، أو يتبرأ منه، وظل يأمل أن التعليم والتبعة التي ستلقى على عاتقه سيهذبان من طبعه ويغرسان فيه صفات الملوك. وأخذ الإمبراطور في عزلته يهزل جسمه، ويطول شعر لحيته دون أن يعنى به، وتضعف عيناه من الهم والأرق، ويولي ظهره إلى زوجه وولده، ليعنى بشئون الحكم والحرب.

ولم تكن هجمات القبائل الضاربة في وسط أوربا قد وقفت إلا إلى حين قصير، ولم تكن السلم في هذا الصراع القائم لتدمير الإمبراطورية وتحرير البرابرة إلا هدنة مؤقتة، ثم أقدم ألتشاتي في عام 169 على غزو الأقاليم الرومانية عند مجرى الرين الأعلى، وفي عام 170 هاجم ألتشوسي بلجيكا، وحاصرت قوة أخرى سرمزجتسوسا، وعبر الكتسبآي جبال البلقان وانقضوا على بلاد اليونان، ونهبوا هيكل الطقوس الخلفية في إلوسيس التي تبعد عن أثينة بأربعة عشر ميلاً، وغزا المغاربة أسبانيا من موطنهم في أفريقية، وظهرت لأول مرة على نهر الرين قبيلة جديدة تدعى اللنجباردي أو اللمبارديين. وكان البرابرة المخصبون يزدادون في كل يوم قوة رغم ما منوا به من الهزائم الكثيرة، بينما كان الرومان العقيمون يزدادون في كل يوم

ص: 434

ضعفاً. ورأى ماركس أن الحرب وقتئذٍ حرب حياة أو موت، يهلك فيها أحد الطرفين عدوه أو يذل له. ولم يكن في وسع مخلوق أن يبدل نفسه تبديلاً تاماً من فيلسوف متصوف إلى قائد ناجح قدير إلا من نشأ نشأة رومانية عرف فيها معنى الواجب المقدس كما يفهمه الرواقيون. ولقد بقي الفيلسوف متخفياً تحت دروع الإمبراطور؛ فبينما كانت هذه الحرب المركمانية الثانية (169 - 75) حامية الوطيس، وبينما كان ماركس في معسكره المواجه لقبائل القاديين على نهر جرنا

(1)

Granna شرع يكتب ذلك الكتاب الصغير كتاب التأملات وهو أهم ما يذكره العالم به. وهذه اللمحة التي تكشف لنا عن قديس ضعيف غير معصوم من الزلل يقلب في ذهنه مشكلتي الأخلاق والأقدار، وهو يقود جحفلاً عظيماً في صراع يقف على نتيجته مصير الإمبراطورية، نقول إن هذه اللمحة لهي صورة من أدق الصور التي حفظها الزمان لأعاظم رجاله وأصدقها. لقد كان يطارد السرماتيين بالنهار ولكنه كان في وسعه أن يكتب عنهم بالليل كتابة من يعطف عليهم: "إن العنكبوت إذا أمسك بذبابة، ظن أنه أقدم على عمل عظيم، وكذلك يظن من صاد أرنباً

أو أسر السرماتيين

أليس هؤلاء جميعاً لصوصاً؟ " (61).

ولكنه رغم هذا ظل يحارب السرماتيين Sarmatians، والمركمانيين، والقاديين، واليزجيين، حرباً عواناً دامت ست سنين طوالاً، ذاق فيها الأمرين. ثم هزمهم، ودفع بفيالقه إلى الشمال حتى بلغت بوهيميا. ويبدو أنه كان يبغي أن يجعل سلاسل جبال هرسينيا Hercynian والكربات الحدود الجديدة للإمبراطورية. ولو أنه نجح في تحقيق غرضه، لكان من المحتمل أن تجعل الحضارة الرومانية ألمانيا، كما جعلت غالة، لاتينية في لغتها، ويونانية في تراثها الثقافي، ولكنه روع وهو في أوج ظفره، إذ علم

(1)

وأكبر الظن أنه جران Gran أحد روافد الدانوب.

ص: 435

أن أفديوس كاسيوس قد أعلن نفسه إمبراطوراً بعد أن أخمد ثورة شبت في مصر. وأدهش ماركس البرابرة بأن عقد معهم صلحاً سريعاً، واكتفى بأن ضم إلى الإمبراطورية شريطاً من الأرض لا يزيد عرضه على عشرة أميال على ضفة الدانوب الشمالية، ووضع حاميات قوية على الضفة الشمالية. ثم جمع جنوده، وأخبرهم أنه يسره أن يترك مكانه لأفديوس إذا رغبت رومة في ذلك، ووعد أن يعفو عن القائد المتمرد، ثم سار إلى آسية ليواجهه. وحدث في تلك الأثناء أن اغتال كاسيوس ضابط صغير، وخمدت على أثر مقتله نار الثورة. واخترق ماركس آسية الصغرى وسوريا، وجاء إلى الإسكندرية، وحزن كما حزن قيصر لأنه لم تتح له فرصة يظهر فيها رحمته. وكان وهو في أزمير، والإسكندرية، وأثينة يمشي في الشوارع بلا حرس، ويلبس عباءة الفلاسفة، ويستمع إلى محاضرات كبار الأساتذة، ويشترك معهم في المناقشات، ويتكلم اللغة اليونانية؛ وأنشأ وهو في أثينة أستاذية في كل مذهب من المذاهب الفلسفية الكبيرة-الأفلاطونية، والإرسطاطيلية، والرواقية، والأبيقورية.

ووصل أورليوس إلى رومة في خريف عام 176، بعد حرب دامت قرابة سبع سنين، واستقبل فيها بموكب نصر عظيم حيى فيه بأنه منقذ الإمبراطورية. وأشرك كمودس معه في نصره، وأجلسه، وهو لا يزال غلاماً في الخامسة عشرة من عمره معه على العرش. وكانت هذه هي المرة الأولى منذ قرن من الزمان التي لم يراع فيها مبدأ التبني، والتي عاد فيها مبدأ الوراثة. ولم يكن ماركس يجهل الخطر الذي سيحيق بالإمبراطورية من جرّاء فعلته هذه، لكنه فعل ما فعل لأنه رأى أن يختار ضرراً أخف من ضرر الحرب الأهلية التي يخشى أن يخوض كمودس وأصدقاؤه غمارها إذا حرمه من العرش. وليس من حقنا أن نحكم عليه بعد أن عرفنا عاقبة فعلته، كما أن رومة لم تكن تتوقع عواقب هذا الحب الأبوي، ذلك أنها كانت قد نسيت فتك الوباء بأهلها، وأخذ أبناؤها يذوقون طعم السعادة من جديد، يضاف إلى هذا أن العاصمة لم تقاس إلا القليل من ويلات الحرب التي

ص: 436

دبر لها ما يلزمها من المال تدبيراً روعي فيه الاقتصاد الشديد، ولم يفرض عليها فيه إلا القليل الذي لا يستحق الذكر من الضرائب الإضافية؛ وبينما كانت نار الحرب مشتعلة عند الحدود، كانت التجارة رائجة في داخل المدينة، وكان رنين النقود يسمع في كل مكان فيها، لقد بلغت رومة في ذلك الوقت أوج عزها، وبلغ حب الشعب للإمبراطورية غايته، وحياه العالم كله، وكان في نظره جندياً، وحكيماً، وقديساً في وقت واحد.

ولكنه لم ينخدع بهذا النصر المؤزر، فقد كان يعرف أن مشكلة ألمانيا لم تحل بعد. وكان على ثقة من أن الإمبراطورية لن تستطيع صد الغزوات في المستقبل إلا إذا اتبعت سياسة نشيطة دفعت بها حدودها إلى جبال بوهيميا. ولذلك أقدم كمودس في عام 178 على الحرب المركمانية الثالثة، واجتاز نهر الدانوب وهزم القاديين مرة أخرى بعد حملة طويلة قاسية، لم يلق بعدها مقاومة، وأوشك أن يضم إلى الإمبراطورية بلاد القاديين، والمركمانيين، والسرماتيين (وهي بوجه التقريب بوهيميا وغاليسيا المجاورة لنهر الدانوب)، ويجعلها ولايات جديدة تابعة للإمبراطورية. ولكن المرض انتابه وهو في معسكره في فندوبونا Vindobona (فينا). ولما أحس بدنو أجله، دعا كمودس إلى جانبه، وأنذره أن يواصل السير على الخطة التي أوشكت أن تثمر ثمرتها، ويحقق حلم أغسطس، ويدفع حدود الإمبراطورية إلى نهر الإلب

(1)

. ثم امتنع عن الطعام والشراب، ومرت به وهو على هذه الحال خمسة أيام، وفي اليوم لسادس استجمع آخر ما كان عنده من قوة، ووقف على قدميه، وقدم كمودس للجيش على أنه الإمبراطور الجديد. ثم عاد إلى فراشه، وغطى رأسه بملاءة الفرش، وأسلم الروح بعد قليل. وقبل أن يصل جثمانه إلى رومة، كان أهلها قد عبدوه واتخذوه إلهاً رضى أن يعيش على الأرض زمناً قصيراً.

(1)

يقول ممسن Mommsen المعروف بنزاهته "ليس من حقنا أن نكتفي بالاعتراف بصدق عزيمة الأمبراطور وصلابته، بل إن علينا فوق ذلك أن نقر بأنه قد فعل ما توجبه عليه السياسة الرشيدة".

ص: 437

الباب العشرون

‌الحياة والفكر في القرن الثاني

96 -

192 م

الفصل الأول

‌تاستس

لقد حررت سياسة نيرفا وتراجان عقل رومة المكبوت، وبعثت في أدب عهديهما روح التمرد الشديد على الطغيان الذي ولى ولكنه قد يعود إلى سابق عهده. ولقد عبر بلني في تقريظه عن هذا الشعور بترحيبه بأول الأباطرة الثلاثة حين جلس على العرش؛ وقلما كان جوفنال يتغنى بشيء آخر غير مديحهم، ولم يكن لتاستس أنبه المؤرخين من عمل إلا التنديد بالأيام الخوالي، والتشنيع بقلمه على ذلك القرن من الزمان.

ولسنا نعرف متى ولد تاستس أو أين ولد، بل إننا لا نعرف إسمه الأول؛ وأكبر الظن إنه كان إبن كورنليس تاستس الذي وكل إليه الإشراف على إيرادات الإمبراطورية، في غالة البلجيكية. وبفضل ما ناله هذا الرجل من الرقي في المناصب الحكومية، ارتفعت الأسرة من طبقة الفرسان إلى طبقة الأرستقراطية الجديدة. وأول حقيقة مؤكدة عن هذا المؤرخ هي قوله: "اتفق أجركولا في عام قنصليته (78)

على أن يزوجني ابنته، التي كانت بلا ريب تتطلع إلى صلة أرقى من هذه" (2) وكان قد

ص: 438

تلقى ما يتلقاه الناس عادةً من تعليم، وأتقن الفنون الخطابية الت يتجعل أسلوبه ذات بهجو ورواء، وحذق طريقة إيراد الحجج المؤيدة والمعارضة التي يمتاز بها ما في تواريخه من خطب. وكثيراً ما استمع إليه بلني الأصغر في المحاكم، وأعجب بفصاحته وألفاظه الجزلة وسماه أعظم خطباء رومة (3). وعُيّن تاستس بريتوراً في عام 88، وأصبح من ذلك الوقت عضواً في مجلس الشيوخ. وجدير بالذكر أنه يعترف على نفسه ذلك الاعتراف المخجل وهو أنه عجز عن مقاومة الاستبداد، وأنه انضم إلى الشيوخ الذين حكموا على زملائهم ضحايا دومتيان. ثم عينه نيرفا قنصلاً (97)، وعينه تراجان والياً على آسية. وما من شك في أنه كان خبيراً بشئون الإدارة، وأنه كان ذا تجارب عملية. ولقد كانت كتبه ثمرة تجارب حياته السابقة، ونتاج شيخوخته الخالية من الكد وعقله الناضج العميق.

وتسري في هذه الكتب كلها روح واحدة- هي كراهيته للأرستقراطية؛ فنراه في حواره عن الخطباء (إذا كان هذا كتابه بحق) يعزو اضمحلال البلاغة إلى ما أصيبت به الحرية من قمع، كما تراه في كتابه "الأجر كولا" Agricola- وهو أكمل تلك الرسائل ذات الموضوع الواحد التي قصر الأقدمون عليها السير- يروي بفخر وخيلاء ما قام به حموه، وهو قائد وحاكم، من جلائل الأعمال؛ ثم يقص في حقد وضغينة كيف فصله دومتيان من عمله وأهمله. ويبين في مقاله القصير عن مركز الألمان وأصلهم الفرق بين فضائل الشعب الحر المنبعثة عن الرجولة وبين إنحلال الرومان وجبنهم في عهد الطغاة المستبدين. وتاستس حين يثني على الألمان لأنهم يرون قتل الأطفال جريمة جريمة تجلل مقترفها العار، ولا يعلون من شأن العقم، لا يمدح الألمان في واقع الأمر بل يندد بالرومان. وهكذا نرى الهدف الفلسفي يفسد موضوعية

ص: 439

البحث، ولكنه يدل على إتساع أفق الموظف الروماني الذي يمتدح قدرة الألمان على مقاومة رومة

(1)

.

وكان نجاح هذه المقالات مما أغرى تاستس على أن يوضح مساويء الاستبداد ببيان جرائم الطغاة المستبدين بتفصيل خال من الرحمة. وقد بدأ عمله هذا بإيراد الجرائم التي كانت ر تزال حاضرة في ذاكرته، والجرائم التي يشهد بها كبار السن من أصدقائه- وهي التي وقعت في الفترة المحصورة بين عهد جلبا وموت دومتيان. ولما أن أقرت الأرستقراطية الشاكرة هذه التواريخ ووصفتها بأنها خير ما كتب في التاريخ من بعد ليفي Livy واصل قصته بأن وصف في الحوليات Annales حكم تيبيريوس، وكلجيولا، وكلوديوس، ونيرون. وقد بقيت لنا من الأربعين (أو الثلاثين في قول بعضهم)"كتاباً" من كتب التواريخ أربعة كتب ونصف كتاب، وكلها مقصورة على أحداث السنتين 69، 70 م؛ وأما الحوليات فقد بقي منها إثنا عشر كتاباً، وكانت عدتها في الأصل ستة عشر أو ثمانية عشر. وهذه الكتب حتى في هذه الصورة المبتورة تعد أقوى ما كتب في النثر الروماني؛ وفي وسعنا أن نرسم منها صورة غير واضحة لعظمة الكتابين كليهما وأثرهما في النفس. وكان تاستس يأمل أن يؤرخ أيضاً حكم أغسطس، ونيرفا، وتراجان، وأن يخفف من كآبة ما نشر من مؤلفاته بتخليد ذكرى سياسة هؤلاء الأباطرة الإنشائية. ولكن الأجل لم يمهله، وحكم عليه الخلف، كما حكم هو على الماضي، بأن نظر إليه من الناحية القاتمة دون غيرها.

ويرى تاستس أن "أهم ما يجب على المؤلف هو أن يحكم على أعمال الناس حتى ينال الطيب من هذه الأعمال ثواب الفضيلة، وحتى يكون ما توجهه محكمة الخلف إلى أعمال السوء من ذم وتقريع حائلاً بين المواطنين وبين سيء

(1)

وأكبر الظن أنه كتب في عام 98 قبل حملة تراجان على الداشيين.

ص: 440

الأعمال" (6). ألا ما أعجب هذا الرأي الذي يجعل التاريخ يوم حساب، ويجعل المؤرخ إلهاً يحاسب الناس على أعمالهم. وإذا ما فهم التاريخ هذا الفهم استحال إلى مواعظ- أعني دروساً في الأخلاق وسيلتها ضرب أشد الأمثال رهبة- وأصبح كما يفترض تاستس خاضعاً لعلم البيان. إن من السهل على من يغضب أن يكون فصيحاً بليغاً، ولكن ليس من السهل عليه أن يكون عادلاً نزيهاً؛ ولهذا وجب ألا يقدم العالم الأخلاقي على كتابة التاريخ. ولقد كان تاستس قريب العهد بالمستبدين يحتفظ في ذاكرته بصورتهم، وهذا في حد ذاته يحول بينه وبين نظره إليهم في هدوء. ومن أجل هذا لم ير من أعمال أغسطس إلا قضاءه على الحرية، وظن أن كل ما كان للرومان من عبقرية قد قضى عليه يوم أكتيوم (7). ويبدو أنه لم يخطر بباله أن يخفف من حدة التهم التي يوجهها إلى الأباطرة، بذكر براعتهم الإدارية، ورخاء الولايات في عهد أولئك الطغاة الجبابرة. وما من أحد يقرأ تواريخه ثم يخطر بباله أن رومة كانت إمبراطورية كما كانت مدينة. وليس ببعيد أن "الكتب" التي ضاعت، كانت تلقي نظرة على الولايات وعالمها، أما الكتب الباقية فهي تجعل تاستس مرشداً مقرراً، لا يكذب قط ولكنه لا يسجل الحقيقة مطلقاً

(1)

. وكثيراً ما يقتبس من المصادر التي يرجع إليها، سواء كانت هذه المصادر كتب تاريخ أو خطباً، أو رسائل، أو أوامر يومية، أو قرارات مجلس الشيوخ، أو أخبار الأسر القديمة؛ وتراه أحياناً يبحثها بحث الناقد الخبير. غير أنه لم يسمع في معظم الأحوال إلا قصص النبلاء المضطهدين، وهو لا يتصور قط أن حوادث إعدام الشيوخ وإغتيال الأباطرة لم تكن إلا أحداثاً عارضة في صراع طويل بين الملوك الفاسدين، القساة، الكفاة القادرين، وبين

(1)

يذكرنا هذا يقول مكولي "إن بعض المؤرخين يحدثون كل ما للكذب الشنيع من أثر وإن كانوا لا يذكرون غير الحقائق".) المترجم (

ص: 441

أرستقراطية منحلة، فاسدة، قاسية، عاجزة. وهو يفتتن بالشخصيات والحوادث البارزة، أكثر من إفتتانه بالقوى العاملة، والعلل، والأفكار، والتطورات؛ ويرسم أنبه الشخصيات وأكثرها ظلماً في التاريخ، ولكنه لا يدرك قط أثر العوامل الإقتصادية في الحوادث السياسية؛ ولا يهتم مطلقاً بحياة الناس وصناعاتهم، ولا بتيار التجارة، أو أحوال الناس العلمية، ولا بمنزلة المرأة، ولا بتقلب العقائد الدينية، ولا بروائع الأدب أو الفلسفة أو الفن. وفي كتب تاستس نرى سنكاً، ولو كان، وبترنيوس يموتون، ولكنهم لا يكتبون، ونرى الأباطرة يقتلون الخلق ولكنهم لا يشيدون. ولعل هذا المؤرخ الكبير كان مقيداً برغبات قرائه وسامعيه، وأكبر الظن أنه كان يقرأ أجزاء من كتبه- كما جرت به عادة ذلك الوقت- إلى أصدقائه الأشراف الذين يقول عنهم بلني إنهم كانوا يحتشدون لأستقباله؛ ولعله إذا سئل عن سبب إغفاله ما أغفل قال إن أولئك الرجال والنساء كانوا يعرفون الحياة الرومانية، وأحوال الصناعة، والأدب، والفن، وإنهم لذلك لم يكونوا في حاجة لم يكونوا في حاجة إلى من يذكرهم بها، وإن ما كانوا يحتاجون إلى سماعه مراراً وتكراراً هو قصة هؤلاء الأباطرة الأشرار المثيرة للشعور، وما كان يقوم به الشيوخ الصابرون من أعمال البطولة، وكفاح تبذله طبقتهم النبيلة ضد السلطة الغاشمة. وليس من حقنا أن نأخذ تاستس بما لم يقدم عليه، وكل ما من حقنا أن نفعله أن نأسف لضيق هدفه السامي وللقيود التي فرضها على عقله الجبار.

وهو لا يدعي قط أنه فيلسوف، ولذلك تراه يثني على أم أجركولا حين تحاول أن تثني عن الاشتغال بالفلسفة ولدها "الذي أصبح أشد تحمساً للفلسفة مما هو خليق بالروماني عضو الشيوخ (8) ". ولقد كان خياله وفنه- كما كان خيال شيكسبير وفنه- أنشط وأكثر إبداعاً من أن يسمحا له بأن يفكر وهو هاديء في معنى الحياة وإمكانيتها. وهو يكثر من ذكر الفضائح التي يعوزها التثبت والتحقيق كما يكثر من ذكر الشروح والتعليقات التي توضح

ص: 442

الحوادث وتنيرها، ولكننا يصعب علينا أن نجد في كتبه فكرة منسقة ثابتة عن الله، أو الإنسان، أو الدولة. فهو غامض غموض الحذر حين يكتب عن العقائد الدينية، ويوحي بأن من يقبل دين بلاده أعظم حكمة ممن يحاول أن يستبدل به العلم والمعرفة. وهو لا يصدق معظم المنجمين، والعرّافين، ولا يؤمن بالفأل ولا بالطيرة، ولا بالمعجزات، وإن كان يصدق بعضها. ذلك أن ظرفه وكما أدبه يحولان بينه وبين إنكار ما يؤكده الكثير من الناس. ويقول إن الحوادث تنزع بوجه عام إلى إثبات "أن الآلهة لا تهتم بالأخيار أكثر من إهتمامها بالأشرار"(10)، ويؤمن بوجودقوة مجهولة، وقد تكون قوة متقلبة الأطوار والميول، تدفع الناس والدول إلى مصائرها دفعاً لا حول لها أمامه ولا طول (11). وهو يأمل أن يكون أجركولا قد انتقل إلى حياة سعيدة، ولكن يتضح من أقواله أنه يشك في هذا؛ وهو يقنع بآخر ما تخادع به العقول الكبيرة نفسها- خلود الشهرة الطيبة (12).

وهو لا يواسي نفسه بشيء من الآمال الطوبية؛ وفي ذلك يقول: "إن الكثرة الغالبة من خطط الإصلاح يعتنقها الناس في بداية الأمر بحماسة وغيرة، ولكن سرعان ما تبلى جدتها، وتنتهي مشروعاتها إلى لا شيء"(14). وهو يعترف كارهاً بأن الأمور في أيامه خير مما كانت قبل، وإن كان هذا الخير قصير الأجل، ولكنه يرى أن لا شيء، حتى عبقرية تراجان نفسه، ستمنع عودة التدهور والإضمحلال (15)، وذلك لأن رومة قد استشرى فيها الفساد، حتى سرى إلى قلوب الناس، ففسدت نفوس الجماهير وبدلوا الحرية فوضى (16)، وأصبحوا رعاماً "مولعين بكل ما هو جديد، تتوق نفوسهم إلى التغيير، وهم على استعداد دائم لأن ينحازوا إلى جانب الأقوياء"(17). وهو يرثي إلى ما ينطوي عليه العقل البشري من خبث (18)، ويهزأ كما يهزأ جوفنال بالعناصر الأجنبية من سكان رومة. وهو لا يفكر قط في العودة إلى الجمهورية بعد أن سوأ سمعة الإمبراطورية، ولكنه يرجو أن يتمكن الأباطرة من التوفيق بين الزعامة

ص: 443

والحرية (19). وهو يظن في آخر الأمر أن الأخلاق أعظم أهمية من الحكومة، وأن عظمة الشعب لا تقاس بما لديه من قوانين بل تقاس بما فيه من رجال.

وإذا كنا لا نجد مناصاً من أن نضع تاستس في مصاف أعاظم المؤرخين، رغم ما يثير دهشتنا من أننا نجد مواعظ ومسرحيات حيث كنا نبحث عن التاريخ، فما ذلك إلا لأن قوة فنه تعوضه عن ضيق نظرته. فنظرته قوية، وأحياناً عميقة، وهي دائماً واضحة، والصور التي يرسمها أكثر وضوحاً، وهي حين تخطو على مسرح التاريخ أكثر حيوية من أية صور أخرى في الأدب التاريخي. على أن هذه الصور نفسها لا تخلو من نقائص وعيوب. فتاتس يؤلف من عنده خطباً لشخصياته المختلفة ويؤلفها كلها بطريقته الخاصة وبنثره الفخم. فهو يصف جلباً بالبلاهة ثم ينطقه بما ينطق به الحكماء (20). وهو لا يرقى إلى ذلك الفن الصعب الذي يمكنه من أن يجعل شخصياته تنمو وتكمل على مر الأيام؛ فتيبير يوس مثلاً في بداية حكمه هو بعينه تيبيريوس في آخره، وإذا كان يبدو إنساناً رحيماً في البداية، فإن ذلك في رأي تاستس نفاق وخداع.

وأهم ما يمتاز به تاستس هو روعة أسلوبه، فلسنا نجد كاتباً غيره قد قال كل ما قاله بمثل إحكامه. ولسنا نقصد من هذا أن عبارته كانت موجزة فهو على عكس هذا مسهب كثير الاستطراد، يشغل 400 صفحة من تواريخه لتدوين حوادث عامين اثنين. وتراه أحياناً يفرط في التركيز حتى يبلغ حد التكلف أو الغموض، وحتى تتطلب كل كلمة ثانية جملة تترجم بها؛ وكأن الأفعال وحروف العطف عنده ليست إلا عكازات للعقول الكليلة. وهذا الأسلوب هو النتيجة التي أدى إليها أسلوب سالست Sallust الموجز السريع، ونكات سنكا القصيرة المحكمة، والجمل القصيرة المتزنة التي كانت تعلم في مدارس البلاغة. وهو أسلوب، إذا كتب به كتاب طويل، ولم تتخلله فقرات أكثر من فقراته اعتدالاً، يثير عقل القاريء وينهكه، ولكنه مع ذلك يعود إليه ويزداد به

ص: 444

افتناناً. وهذا الجفاف العسكري الذي يقتصد في الألفاظ أكثر مما يقتصد في الرجال، وهذا الازدراء بدعامات الجمل، وهذه المشاعر الثائرة، وهذا الوضوح في التصور، وهذا السيل الجارف من المفردات الجديدة، وهذه العبارات اللاذعة القاتلة التي لم تبل جدتها، هذه كلها تضفي على كتابات تاستس سرعة، ولوناً، وقوة، لم يضارعه فيها كاتب آخر من الكُتّاب الأقدمين. نعم إن اللون قاتم، والمزاج نكد، والسخرية لاذعة، والنغمة كلها نغمة دانتي مجردة من رقته وحنوه؛ غير أن الأثر الذي ينتج من هذا كله قوي عارم. وإن العنصر القصصي الذي يجمع بين المهابة والإثارة، والجزالة والعنف، ليحملنا على الرغم من تحفظنا وتمنعنا في هذا النهر العكر الأسود المليء بالتشنيع الخالي من الرأفة. فترى شخصية في أثر شخصية تظهر على مسرح الحوادث؛ ثم يقضى عليها؛ ومظهراً في أثر مظهر يدفع أمامنا حتى يبدو لنا أن رومة كلها قد دمرت، وأن كل من اشتركوا في الصراع قد هلكوا، وحتى لا نكاد نصدق حين نخرج من هذا الجو المليء بالرعب والهول، أن هذا العهد الاستبدادي المفعم بالجبن والفساد الخلقي قد أعقبه مجد الملكية أيام هدريان والأنطونينيين، وتأدب أصدقاء بلني الهاديء.

ولقد أخطأ تاستس في ازدرائه الفلسفة- ونعني بها مراعاة التناسب في كتابته. وإن عيوبه كلها لترجع إلى هذا النقص. ولو أنه استطاع أن يهذب قلمه، ويسيطر عليه، ويسخره لخدمة عقله الواسع، لوضع اسمه في مقدمة أسماء أولئك الرجال الذين بذلوا جهودهم ليخلدوا تراث البشرية، ويصوروا هذا التراث في صورة حية خالدة.

ص: 445

الفصل الثاني

‌جوفنال

ومما يؤسف له أن جوفنال يؤيد تاستس ويعزز أقواله. فالذي يكتبه ثانيهما عن الزعماء والشيوخ في نثر حاد نافذ في الصميم، ينشده أولاهما عن النساء والرجال في شعر لاذع قارص.

كان دسيمس جونيوس جوفنالس Decimus Junius Juvenalis إبن أحد المعاتيق الأثرياء. وقد ولد في أكوينم Aquinum من أعمال لاتيوم Latium في عام 59. وجاء إلى رومة يطلب العلم، وأخذ يمارس في صناعة المحاماه "ليتسلى بها". وتدل أشعاره الهجائية على ما ينتاب الأذواق الريفية من دهشة وصدمة إذا ما إلتقت بصخب حياة المدن المنحلة. ولكن يبدو مع هذا أنه كان صديقاً لمارتيال، الذي تدل فكاهاته على أنه لم يكن من دعاة الأخلاق الفاضلة. وتقول إحدى الروايات غير الموثوق بصحتها إن جوفنال ألف قبل موت دومتيان بزمن قليل قصيدة هجائية فيما للراقصات من أثر في البلاط ووزعها على أصدقائه، ويقال إن باريس الممثل الهزلي الصامت أغضبه هذا فسعى يعمل على نفيه إلى مصر. ولسنا نستطيع أن نجزم بصحة هذه القصة، كما أننا لسنا واثقين من تاريخ عودة جوفنال إلى رومة. ومهما يكن من أمر فإنه لم ينشر شيئاً حتى مات دومتيان. وقد ظهر المجلد الأول من قصائده الهجائية الست عشرة في عام 101، ثم ظهر الباقي منها في أربعة مجلدات على فترات متقطعة في أثناء حياته الطويلة، وأكبر الظن أنها كانت ذكريات من عهد دومتيان الذي لم يعف الشاعر عما لحقه من أذى فيه، ولكن الحقد وهو السبب في وضوحها وقوتها وارتيابنا في صدقها ليوحي بأن سني "الأباطرة الصالحين" القليلة لم تمح المساوئ التي يندد بها. أو لعله

ص: 446

قد اختار الهجاء لأنه من الأساليب التي تميز الرومان من غيرهم من الشعوب. وأنه وجد أمثلة يحتذيها، ومادة يقتبسها في كتابات لوسليوس، وهوراس، وبرسيوس؛ وصاغ سخطه وغضبه على أساس المباديء البيانية التي تعلمها في المدرسة. والحق أنا لا نعرف مقدار التقدم الذي خلعه على الصورة التي في ذهننا عن رومة الإمبراطورية، وما كان يجده الكُتّاب والشعراء من لذة في التشهير والسباب.

ويتخذ جوفنال كل شيء موضوعاً لشعره. وهو لا يجد قط مشقة في أن يجد في كل شيء ناحية تتحمل الذم، ويظن "أننا قد وصلنا إلى الدرجة القصوى في الرذيلة، وأن من يأتون بعدنا لن يستطيعوا أن يتفوقوا فيها علينا" وهو صادق في هذا. ولقد كان أصل البلاء كله طلب الثروة بجميع الوسائل الطيب منها والخبيث. وهو يسخر من العالمة الذين كانوا في الأيام الخالية يحكمون الجيوش ويخلعون الملوك، ولكنهم أضحوا الآن يُشترون بالخبز والألعاب (23). وتلك عبارات من مئات العبارات التي خلدها جوفنال بقوته وحيويته. وهو يستنكر ذلك السيل المتدفق من الوجوه، والثياب، والأساليب، والروائح، والآلهة الشرقية؛ ويحتج على نزعة اليهود القبلية، وأقل من يحبه من الخلق هو "اليوناني القميء الشره" وهو السلالة المنحطة لشعب كان من قبل عظيماً ولكنه لم يكن قط شريفاً. وهو يظهر اشمئزازه من المخبرين، أشباه رجيلس Regulus الذي يصفه بلني، والذين يثرون بنقل ما ينطق به الأفراد من عبارات "غير وطنية"؛ ومن الذين يجرون وراء الوصايا فيحومون حول من لا أبناء لهم من الطاعنين في السن؛ ومن حكام الولايات الذين يعيشون طول حياتهم عيشة الترف بما يبتزونه من الأموال في أثناء حكمهم؛ ومن المحامين النابهين الذين يطيلون القضايا كما يطيل العنكبوت نسيجه الذي يتبرزه من بطنه؛ وأشد ما يعافه هو الإفراط في الصلات الجنسية والشذوذ الجنسي: الخليع المتهتك الذي إذا تزوج وجد أن عهره قد جعله ضعيفاً عاجزاً؛ ومن الشبان المنافقين الذين لا نستطيع أن نميزهم من النساء لتشبههم بهن

ص: 447

في أخلاقهم، وتعطرهم، وشهواتهم؛ ومن النساء اللائي يعتقدن أن معنى التحرر أن يتشبهن في كل شيء بالرجال حتى لا تستطيع تمييزهن منهم.

وقد خص الجنس اللطيف بقصيدته الهجائية السادسة وهي أشد قصائده صرامة. نرى فيها بستيومس Postumus يفكر في الزواج، فيحذره جوفنال من التورط في هذا العمل، ثم يصور الشاعر نساء رومة ويصفهن بأنهن أنانيات، سليطات، مخرفات، مسرفات، كثيرات الشجار، متعجرفات، مغرورات، محبات للنزاع، زانيات، لا يكدن يتزوجن حتى يطلقن، ويستبدلن الكلاب المدللة بالأطفال" (24). ويخلص من هذا الوصف إلا أنه لاتكاد توجد في رومة كلها إمرأة خليقة بأن تكون زوجة. ويقول إن الزوجة الصالحة عصفور نادر، أندر من الغراب الأبيض. ويدهشه أن بستيموس يفكر في الزواج على حين أن هناك "حبالاً كثيرة للشنق، ونوافذ كثيرة عالية شاهقة يستطاع الوصول إليها؛ وعلى حين إن جسر إيميليوس لا يبعد عنه إلا قليلاً". حذار أن تتزوج، بل إبق عزباً، واخرج من مستشفى المجانين الذي يحطم الأعصاب والذي يسمونه رومة، وعش في بلدة إيطالية هادئة، تلتقي فيها برجال أشراف، وتأمن فيها على نفسك من المجرمين والشعراء، والمباني المنهارة، واليونان (27). واطرح المطامع وراء ظهرك، فإن الهدف لا يستأهل ما يبذل في الوصول إليه من جهود. ألا ما أطول الجهد، وما أقصر ما يعقبه من صيت. عش عيشة بسيطة، وازرع حديقتك، ولا تطلب أكثر مما يسد رمقك، ويطفيء ظمأك، ويرد عنك البرد والحر (28). وعود نفسك الرأفة، وأشفق على الأطفال، وكن ذا عقل سليم في جسم صحيح (29). والأبله وحده هو الذي يرجو طول الأجل.

وليس من العسير علينا أن نفهم هذا المزاج. ذلك أن مما يسر له الإنسان أن يفكر في نقائص جيرانه وفي ضعة العالم وحقارته إذا قورن بأحلامنا. وإن مما يضاعف سرورنا ونحن نفكر هذا التفكير أن نرى هذه الآراء

ص: 448

مصوغة في ألفاظ جوفنال التي جمعها من ألسنة الغوغاء في أزقة المدن وأشعاره السلسة السداسية الأوتاد، وفكاهته الساخرة، وأسلوبه البذيء. ولكن ليس من حقنا أن نأخذ بحرفية أقواله. لقد كان يكتب وهو غاضب، لأنه لم يشق طريقه في رومة بالسرعة التي كان يرجوها. وكان يحلو له أن يثأر لنفسه بأن يكيل الضربات قوية لكل من حوله مدفوعاً إلى ذلك بحقده الذي لم يدع في يوم من الأيام أنه حقد عادل. لقد كان معياره الخلقي عالياً وسليماً وإن كان قد لوثته أهواء المتحفظين وآراؤهم الخاطئة عن الماضي الطاهر الشريف. وفي وسعنا إذا استمسكنا بهذه المعايير، واتبعناها في غير رحمة واعتدال، أن ندين أي جيل من الناس في أي مكان. وقد أدرك سنكا قدم هذا اللهو فكتب يقول: "لقد كان أسلافنا يشكون، ولا نزال نحن نشكو، وسيظل أبناؤنا وأحفادنا يشكون، من فساد الأخلاق، ومن تمكن الشر من النفوس، ومن تردي الناس في مهاوي الخطايا كل يوم أكثر من الذي قبله، ومن أحوال الناس تنتقل من سيء إلى أسوأ منه (30). إن من وراء الفساد الخلقي الظاهر في كل مجتمع دائرة من الحياة السليمة يتسع نطاقها إتساعاً مستمراً ويكفي ما فيها من خيوط التقاليد، وأوامر الدين التي تحض على الخلق الصالح، وما تفرضه الأسرة من واجبات إقتصادية، وما تدفع إليه الغريزة من حب الأبناء والعناية بأمرهم، وما للمرأة ورجال الشرطة من رقابة، يكفي ما فيها من هذا كله لأن يجعلنا أمام الناس مؤدبين محتشمين عاقلين معتدلين. لقد كان جوفنال أعظم الهجائين الرومان، كما كان تاستس أعظم المؤرخين الرومان، ولكنا نخطيء إذا أخذنا الصورة التي يرسمانها على أنها صورة صحيحة، كما نخطئ إذا قبلنا من غير بحث وتمحيص المنظر الراقي الجذاب الجميل الذي يتراءى أمامنا ونحن نقرأ رسائل بلني.

ص: 449

الفصل الثالث

‌سيد روماني كامل

لما ولد في كومو Como سمي بلينيوس كاسيليوس سكندس Plinius Caecilius Secundus. وكان لأبيه ضيعة وقصر صغير ذو حديقة قرب البحيرة، وكان يشغل منصباً كبيراً في المدينة. وتيتم وهو صغير فتبناه وعلمه أولاً فرجينيوس روفس Virginius Rufus وإلى ألمانيا العليا، ثم عمه كيوس بلينيوس سكندس Caius Plinius Secundus مؤلف كتاب التاريخ الطبيعي. وتبنى هذا العالم المجد ابن أخيه وأورثه ملكه ثم مات بعد ذلك بقليل. وتسمى الولد باسم متبنيه كما جرت به العادة في تلك الأيام، وأدى ذلك إلى ارتباك في الأسماء ظل قائماً ألفي عام. وتلقى العلم في رومة على كونتليان، فنشأه على تذوق شيشرون، وإليه يرجع بعض الفضل في أسلوب بلني الشيشروني السلس. ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره قيد في جدول المحامين، وفي التاسعة والثلاثين اختير لإلقاء خطاب ترحيب بتراجان. وفي السنة نفسها عُيّن قنصلاً؛ وفي عام 103 عُيّن عرّافاً؛ وفي عام 105 عُيّن "حارساً على مجرى التيبر وضفتيه وعلى مجاري المدينة". ولم يكن يأخذ أجراً أو هدايا على أعماله القضائية، ولكنه كان واسع الثراء، في وسعه أن يكون كريماً عظيماً. وكانت له أملاك في إتروريا، وبنفنتم، وكومو، ولورنتم، وعرض ثلاثة ملايين سسترس ثمناً لملك آخر (31).

وكان يفعل ما يفعله كثيرون من أشراف ذلك الوقت فيتسلى بالكتابة: كتب أولاً مأساة يونانية، ثم عدة قصائد، كلها خفيفة الروح، وبذيئة في بعض الأحيان. ولما للامه بعضهم على هذا اعترف بخطئه ولكنه لم يرجع عنه، وعرض مرة أخرى أن "يندفع في تيار المرح، والفكاهة واللهو،

ص: 450

ويندمج في روح أشد أنواع الأدب خلاعة وفجوراً" (32). ولما سمع الناس يثنون على رسائله، ألّف بعضها لينشر، ونشرها في فترات متقطعة بين عامي 97، 109. وإذ لم يكن ينشر هذه الرسائل للجمهور فحسب، بل كان يقصد أيضاً أن تستمتع بها الأوساط التي يصفها فيها، فقد تجنب وصف النواحي القاتمة من الحياة الرومانية، وأغفل المسائل الفلسفية والسياسية الواسعة لأن فيها من الجد أكثر مما يتفق مع غرضه. وتنحصر قيمة هذه الرسائل في صدقها وظرفها، وفيما تضفيه الخلق الروماني وعلى أساليب الأشراف من أضواء وردية براقة.

ويكشف بلني عن نفسه بنصف الصراحة التي يكشف بها عن نفسه منتاني وبكل ما في كتابات منتاني من سلاسة التعبير. وهو يتصف بالغرور الذي يستطيع أي مؤلف أن يتحاشاه، ولكن صراحته في غروره هذا تجعله غروراً لا يكاد يسيء. انظر مثلاً إلى قوله:"إني لأعترف ألا شيء أقوى أثراً فيّ من الرغبة في أن يخلد اسمي"(33). وهو يقدر غيره كما يقدر نفسه، ويقول إن "في وسع الإنسان أن يثق بأن شخصاً ما يتصف بكثير من الفضائل إذا سمعه يعجب بفضائل غيره"(34). ومهما تكن عيوب بلني فإن مما يستريح له الإنسان بعد دراسة جوفنال وتاستس، أن يستمع إلى مؤلف يثني على بني جنسه. ولقد كان كريماً في أعماله كما كان كريماً في أقواله، لا يتردد قط في أن يفعل المعروف، ويقرض المال، أو يقدم الهدايا، ولا يضن بعمل الخيرات على إختلاف أنواعها، سواء كانت شخصية كالبحث عن زوج لأبنة أخ صديق، أو زيادة ثروة المدينة التي ولد فيها. ولما وجد أن كونتليان عاجز عن أن يقدم لأبنته بائنة تليق بمقام الرجل الذي ستتزوج به، بعث إليها بخمسين ألف سسترس، واعتذر في الوقت نفسه عن حقارة الهدية (35). ووهب رفيقاً قديماً له في الدراسة ثلثمائة ألف سسترس، ليمكنه من أن ينضم إلى طبقة الفرسان؛ ولما وجد أن إبنة صديق له حُمّلت

بعد موت أبيها بديون باهظة أداها كلها عنها، وأقرض مبلغاً كبيراً إلى

ص: 451

فيلسوف نفاه دومتيان وتعرض بذلك لبعض الخطر. ووهب كومو هيكلاً، ومدرسة ثانوية، ومعهداً للأطفال الفقراء، وحمّاماً للبلدية، وأحد عشر ألف سسترس لإنشاء مكتبة عامة.

وأكثر ما يسر له الإنسان من صفاته هو حبه لموطنه، أو إن شئت فقل لمواطنه، وهو لا يذم رومة، ولكنه يكون أسعد حالاً في كومو أو لورنتم بالقرب من البحيرة أو البحر. وأهم ما كان يعمله هناك هو القراءة وعدم القيام بعمل ما. وهو يحب حدائقه، وما وراءها من المناظر الجبلية؛ ولم يكن عليه أن ينتظر روسو ليعلمه حب الطبيعة. وهو يتحدث بمنتهى الحنان عن زوجته الثالثة كلبيرنيا Calpurnia فيصف طبعها الحلو، وعقلها الصافي، وابتهاجاً بنجاحه، وحبها لكتبه، ويعتقد أنها قد قرأتها كلها وأنها تحفظ الكثير من صحائفها عن ظهر قلب. وقد لّحنت قصائده وغنتها، وكان لها قصة خاصة من الرسل يأتونها بجميع ما يحدث من التطورات أثناء نظره في قضية هامة. ولم تكن هي إلا واحدة من نساء كثيرات طيبات في محيطه. فهو يحدثنا عما تتصف به في الفتاة الرابعة عشرة من عمرها من تواضع، وصبر، وشجاعة. وكانت هذه الفتاة قد خطبت من وقت قصير ولكنها ما لبثت أن عرفت أنها مصابة بداء عضال لا تشفى منه، فأخذت تنتظر منيتها وهي مبتهجة (36). ويحدثنا كذلك عن زوجة بمبيوس سترنينس Pompeius Saturninus التي كانت رسائلها لزوجها أناشيد حب ونماذج باللغة اللاتينية الظريفة (37)؛ وعن فانيا Fannia إبنة ثرازيا Thrasaea التي قاست آلام النفي دون أن تشكو أو تتململ لأنها دافعت عن زوجها هلفديوس، والتي مرضت قريباً لها في أثناء إصابته بمرض خطر، فأصيبت بذلك المرض وقضى على حياتها؛ ثم يقول فيها:"ألا ما أكمل فضائلها، وطهرها، واستقامتها، وشجاعتها! "(38).

وكان له مائة صديق، بعضهم من العظماء، وكلهم من خيار الناس، وقد

ص: 452

انضم إلى تاستس في محاكمة ماريوس برسكس لخيانته وقسوته في أثناء ولايته على أفريقية. وصحح كلا الخطيبين خطبة صاحبه، وأثنى عليه أجمل الثناء. وأشاد تاستس بلني ورفعه إلى عنان السماء، حين قال إن عالم الأدب اعترف بهما زعيمي الكتاب في عصرهما (39). وكان يعرف مارتيال، ولكنه يعرف من بعيد معرفة الأرستقراط. واستصحب معه ستونيوس إلى بيثينيا، وساعده على التمتع بميزة من "له ثلاثة أبناء" دون أن يكون له إبن واحد. وكان محيطه يطن بهواة الأدب والموسيقى، وبمن ينشدون الشعر ويلقون الخطب على الجماهير. وفي ذلك يقول العالم بواسييه Boissier:" لست أعرف أن الأدب كان يحبه الناس في عصر من العصور بالقدر الذي كان يحبه به أهل ذلك العصر"(40). فقد كانوا يدرسون هومر وفرجيل على ضفاف الدانوب؛ وكانت البلاغة تزلزل نهري الرين والتيمز. لقد كان النصف الأعلى من ذلك المجتمع ظريفاً، أنيساً، محبوباً، غنياً بما فيه من أزواج متحابين، وآباء عاطفين، وسادة رحماء، وأصدقاء أوفياء، ومجاملات لطيفة. وقد جاء في إحدى الرسائل:"إني أقبل دعوتك للعشاء، ولكني أشترط عليك مقدماً أن تأذن لي بالخروج بعد قليل، وأن تكون مقتصداً فيما تقدمه إلي، وألا تجعل مائدتنا تزدحم إلا بالأحاديث الفلسفية، وحتى هذه دعنا نستمتع بها في نطاق محدد"(42).

وكان أكثر الرجال الذين يصفهم بلني من الأشراف الجدد الذين نشأوا في الولايات. ولم يكن هؤلاء ممن لا يقومون بعمل، لأنك لا تكاد تجد واحداً منهم لا يشغل منصباً عاماً أو لا يشترك في الإدارة البارعة التي كانت تدير شئون الإمبراطورية في عهد تراجان. وقد عُيّن بلني نفسه والياً على بيثينيا بعد أن كان بريتوراً في رومة ليعيد إلى بعض مدنها مقدرتها على أداء ديونها. وتشمل رسائله بعض الأسئلة الموجهة إلى الزعيم، ومعها إجابات

ص: 453

تراجان السديدة. وهي تظهره بلني بمظهر الرجل الذي ينجز مهمته بمقدرة وأمانة، وشرف، وإن كانت تظهره أيضاً بمظهر الرجل الذي يعتمد على نصيحة الإمبراطور في كل صغيرة وكبيرة. وهو يرجو الإمبراطور في رسالته الأخيرة أن يغفر له إرساله زوجته المريضة في عربات البريد الإمبراطوري. ويختفي بلني بعد هذه الرسالة من ميدان الأدب والتاريخ، تاركاً وراءه ما يعوضنا عن فقده- صورة الروماني السميذع، لإيطاليا في أسعد أيامها.

ص: 454

الفصل الرابع

‌اضمحلال الثقافة

لو أننا أحطنا هذه الشخصيات البارزة بأضواء أقل من أضوائها لطمسناها وأخفيناها عن أعين الناظرين. ذلك بأنه لم يخلفها في الآداب اللاتينية الوثنية جبابرة أمثالها، لأن العقل قد بذل كل ما كان يدخره من جهد من عهد إنيوس إلى عهد تاستس حتى لم يبق لديه جهد مدخر. ولهذا فإنا نصدم أكبر صدمة حين ننتقل من عظمة كتابي التواريخ والحوليات إلى كتاب ستونيوس المزري المسمى حياة الرجال النابهين (110). ففي هذا الكتاب ينحط التاريخ حتى يصبح مجرد سير، وتنحط السير حتى تصير قصصاً. وتمتليء صفحات الكتاب بالنذر، والمعجزات، والخرافات. ولم يرفع الكتاب إلى منزلة الكتب الأدبية إلا الأسلوب الإليصاباتي الذي ترجمه به فليمون هليند Philemon Holland (1606) . وأقل من هذا إثارة للاشمئزاز الانحدار من رسائل بلني إلى رسائل فرنتو. ولعل هذه الرسائل الأخيرة لم يكن يقصد نشرها، وليس من العدل لهذا السبب أن نفاضل بينها وبين رسائل بلني. لكننا يجدر بنا أن نقول إن بعضها قد أفسده جرى الكاتب وراء العبارات العتيقة، وإن كان في الكثير منها شيء من العطف الحقيقي الذي يشعر به المعلم نحو تلميذه. وقد أيد أولس جليوس Aulus Gellius حركة الرجوع إلى العبارات العتيقة في كتابه الليالي الأتكية (169) - وهو أكبر مجموعة من السخافات الحقيرة التافهة في الأدب القديم؛ ووصل أبوليوس Apuleius بهذه الحركة إلى غايتها في كتابه المسمى الحمار الذهبي. وقد جاء أبوليوس وفرنتو من أفريقية وربما كان من أسباب نشأة

ص: 455

هذه الهواية أن الأدب اللاتيني في تلك البلاد لم يكن قد اختلف عن لغة الشعب والجمهورية بقدر اختلافه عن هذه اللغة في رومة. وكان فرنتو قوي الاعتقاد بأن من الواجب أن يقوى الأدب بلغة الشعب، كما يجدد الإنسان قوة النبات بتقليب الأرض عند جذوره. لكن الشباب لا يعود قط إلى حياة الرجل، أو الأمة، أو الأدب أو اللغة

(1)

. لقد كانت النزعة الشرقية قد بدأت تدب في هذه الكتب، ولم يكن من المستطاع وقف سيرها. وكانت اللغة اليونانية العامية المنتشرة في الشرق الهلنستي ورومة المستشرقة تصبح شيئاً فشيئاً لغة الأدب، ولغة الحياة جميعاً. وقد اختارها تلميذ فرنتو ليكتب بها تأملاته، وكما اختار أبيان Appian، وهو يوناني اسكندري اتخذ رومة موطناً له، اللغة اليونانية ليكتب بها كتابه الواضح الساطع في تواريخ حروب رومة (حوالي 160)؛ وكذلك فعل كلوديوس إيليان Claudius Aelian. وهو رجل روماني المولد والدم، وكتب ديوكاسيوس، وهو رجل روماني من أعضاء مجلس الشيوخ، بعد نصف قرن من ذلك الوقت، تاريخاً لرومة باللغة اليونانية. ذلك أن زعامة الأدب قد أخذت وقتئذ تعود من رومة إلى الشرق اليوناني، على أن هذه العودة لم تكن عودة إلى الروح اليونانية الأصيلة، بل إلى الروح الشرقية، وإن كانت تستخدم اللغة اليونانية. لقد وجد في الأدب اليوناني بعد هذا الوقت جبابرة، ولكنهم كانوا قديسين مسيحيين.

وكان اضمحلال الفن الروماني أبطأ من اضمحلال الآداب اليونانية. ذلك أن الكفاية الفنية قد طال عهدها وأخرجت طائفة قديرة من المباني، والتماثيل، والصور، والفسيفساء. ومن أمثلة تحف ذلك العصر رأس نيرفا المحفوظ في

(1)

لا شك أن قياس حياة الأمة، والأدب، واللغة بحياة الفرد قياس مع الفارق، وأن القول بأن شبابها إذا ولى لا يعود قط لا يستند إلى أساس علمي صحيح؛ فكثيراً ما رأينا شباب الأمم والآداب يتجدد ويعود أقوى مما كان. "المترجم"

ص: 456

الفاتيكان، والذي يتمثل فيه الطابع الواقعي الواضح الذي نشاهده في الصور الفلافية؛ وعمود تراجان مثل من النقوش الرائعة رغم كثرة ما فيه من فجاجة. ولقد بذل هدريان جهوداً مضنية لأحياء الفن اليوناني القديم، ولكنه لم يجد من يغدق عليه ماله وعونه كما أغدق بركليز المال والعون على فدياس. يضاف إلى هذا أن الإلهام الذي كان يحرك بلاد اليونان بعد مرثون، ويحرك رومة بعد أكتيوم، كان معدوماً في عصر يكبل فيه الناس أنفسهم بالقيود، ويصطنعون القناعة ويجنحون للسلم. ومن أجل هذا نرى تماثيل هدريان النصفية تعوزها الصفات المميزة لشخصيته لما فيها من خطوط هلنستية ملساء؛ ورأساً بلوتيناً وسابينا جميلتان، ولكن النفس تشمئز من صور أنثينووس لما فيها من تفاهة مخنثة ناعمة. وأكبر الظن أن هدريان قد أخطأ إذ حاول العودة إلى الفن اليوناني القديم: فقد قضى بهذه المحاولة على ما كان يمتاز به فن النحت الغلافي والتراجاني من نزعة طبيعية وفردية دافعة قوية، كانت لها جذور متأصلة في التقاليد والأخلاق الإيطالية، وما من شك في أن شيئاً ما لا يستطيع أن يتضح إلا عن طريق تحقيق طبيعته الخاصة به.

وقفز فن النحت اليوناني إلى قرب ذروته في عهد الأنطونينيين، بل إنه وصل في هذا العهد إلى درجة الكمال مرة واحدة على الأقل، وذلك في صورة فتاة مثل فيها رأسها المقنع وثيابها المتواضعة تمثيلاً رقيقاً ساحراً، وبخطوط غاية في القوة (43). وتكاد تضارعها في الجمال صورة فوستينا لماركس، وهي التي تثير من الشهوة ما يتفق مع لمزات التاريخ. وقد نحتت لأورليوس نفسه أو صبت له تماثيل لا تقل أشكالها عن ألف شكل تختلف من تماثيل الكبتول النصفي الذي يمثله شاباً مفكراً سليماً من المكر والخداع ولكنه

ص: 457

شديد الحساسية، إلى تمثاله في هذه المجموعة نفسها والذي يمثله في صورة أستاذ ذي شعر ملتو ودروع سابغة. وليس ثمة سائح يجهل تمثال الإمبراطور أورليوس الفارس ذلك التمثال البرنزي الفخم الذي يشرف، من يوم أعاده ميكل أنجلو، على ساحة الكبتول.

وبقي النقش البارز إلى آخر العهود فناً رومانياً محبوباً. وعادت في أيام هدريان العادة التسكانية والهلنستية، عادة حفر المناظر الاسطورية والتاريخية على التوابيت حين اتخذ الأمل في الخلود صورة شخصية بل صورة جسمية، وحل دفن جثث الموتى محل إحراقها. وتظهر إحدى عشرة لوحة باقية من أقواس النصر التي أقيمت لتخليد ذكرى حروب أورليوس

(1)

الطراز الطبيعي في أكمل أشكاله: فليس في هذه اللوحات صورة واحدة لشخص قد رسم على أنه مثل أعلى للأشخاص، بل إن لكل فرد فيها خصائصه الفردية التي يمتاز بها من غيره، فصورة ماركس وهو يستقبل في غير فخر أو كبرياء خضوع أعدائه المغلوبين صورة يستثير صاحبها الحب، والمغلوبون لا يظهرون كأنهم برابرة همج بل يبدون في صورة رجال خليقين بكفاحهم الطويل في سبيل حريتهم. وقد أقام مجلس الشيوخ والشعب في عام 174 عمود أورليوس الذي لا يزال يزين الساحة التي يقيم فيها، وقد استلهم من أقاموه فكرته من عمود تراجان، فصوروا فيه الحروب المركمانية وأظهروا في فنهم هذا من العطف ما يشرف الغالبين والمغلوبين على السواء.

وكانت روح الإمبراطور هي التي ساعدت على تشكيل فن هذا الوقت وأخلاقه. ذلك أن الألعاب في أيامه كانت أقل قسوة، وأن القوانين كانت أكثر رعاية للضعفاء، وكان الزواج فيما يبدو أدوم وأرضى للزوجين. نعم إن الفساد الخلقي قد بقي كما كان في كل العهود، تجهر به القلة، وتخفيه الكثرة، ولكنه كان قد جاوز غايته في عهد نيرون، ولم يعد هو طراز الوقت

(1)

وتزين ثمان منها قوس قسطنطين، وتوجد ثلاث في متحف الكنسر قتوري.

ص: 458

المحبب، وأخذ الرجال والنساء يعودون إلى الدين القديم، أو يهبون أنفسهم لأديان جديدة، ووافقهم الفلاسفة على هذا وذاك. وغصت رومة وقتئذٍ بأولئك الفلاسفة، فمنهم من دعاهم أورليوس، ومنهم من رحب بمجيئهم، ومنهم من سمح لهم بالإقامة. وقد أفادوا كل الإفادة من كرمه وسلطانه، فازدحم بهم بلاطه، ونالوا منه المناصب والهبات، وألقوا ما لا يحصى من المحاضرات، وافتتحوا كثيراً من المدارس، ووهبوا العالم في شخص تلميذهم الإمبراطور مجد الفلسفة القديمة وانحلالها.

ص: 459

الفصل الخامس

‌الإمبراطور الفيلسوف

جلس ماركس أورليوس في خيمته قبل موته بست سنين ليصوغ أفكاره عن الحياة البشرية ومصيرها. ولسنا واثقين من أن كتابه المسي "إلى نفس" كان يقصد به أن تطلع عليه أعين الجماهير، ولكنا نرجح أن هذا كان قصده لأن الناس جميعاً، حتى القديسين، لا يسلمون من الغرور، ولأن أعظم رجل عامل مجد تمر به لحظات من الضعف يتمنى فيها أن يكتب كتاباً. ولم يكن ماركس مؤلفاً قديراً، وقد أضاع معظم ما علمه إياه فرنتو من اللغة اللاتينية لأنه أخذ يكتب باللغة اليونانية. هذا إلى أن تلك "الأفكار الذهبية" قد كتبت في الفترات التي تتخلل أسفاره، وحروبه، وما كان يقع في البلاد من فتن واضطرابات كثيرة. وليس لنا أن نلومه لأنه جعلها متقطعة غير منسجمة، ولأنه يعمد فيها إلى التكرار الكثير، ولأنها في بعض الأحيان مسئمة مملة، ولأن قيمة الكتاب لا تعتمد إلا على محتوياته- على رقته وصراحته، وعلى ما يكشفه دون وعي كامل منه عن نفسية تجمع بين الوثنية والمسيحية، وبين العصر القديم والعصر الوسيط.

وكان أورليوس يرى كما ترى كثرة فلاسفة زمانه أن الفلسفة ليست وصفاً نظرياً للانهاية، بل هي مدرسة لتعليم الفضيلة وطريقة للحياة. وقلّما كان يشغل باله في البحث عن حقيقة الله، وتراه يتحدث أحياناً كما يتحدث اللا أدريون، فيعترف أنه لا يعرف، ولكنه بعد أن يقر على نفسه هذا الإقرار يقبل دين آبائه وأجداده بتقوى الرجل الساذج، ويسأل نفسه قائلاً:"وماذا يعود على من حياتي في عالم خالٍ من الآلهة ومن قوة تصرف شئونه؟ "(44) وكان إذا

ص: 460

تحدث عن الله تحدث عنه تارةً بصيغة المفرد وتارةً بصيغة الجمع، وفي حديثه كل ما في سفر التكوين من عدم مبالاة. وهو يصلي ويقرب القرابين للآلهة القدامى، ولكنه في خبيئة نفسه يؤمن بألوهية الكون، ويتأثر أشد التأثر بنظام العالم وكلمة الله فيه، وهو يحس كما يحس الهنود باعتماد العالم والإنسان كل منهما على الآخر. ويثير عجبه نمو الطفل من بذرة صغيرة، لا تلبث أن تتشكل فتكون لها أعضاء، وقوة، وعقل، وأماني، وكل ذلك بقليل من الطعام (45). ويعتقد أننا لو استطعنا أن نفهم الكون على حقيقته لوجدنا فيه كل ما في الإنسان وقوة خالقة مبدعة ويقول: "إن الأشياء جميعها متشابكة بعضها ببعض، والرابطة التي بينها رابطة مقدسة .... وفي الأشياء العاقلة كلها عقل مشترك، وثمة إله واحد يسري في كل شيء، ومادة واحدة، وقانون واحد، وحقيقة واحدة

وهل يمكن أن يكون فيك أنت نظام واضح، وفي الكون كله اضطراب واختلال؟ " (46).

وهو يعترف بما يجده الإنسان من صعوبة في التوفيق بين الشر والألم والشقاء الذي يبدو أن الإنسان لا يستحقه، وبين وجود قوة مدبرة خيّرة، ولكنه يعقب على هذا بقوله إننا لا نستطيع أن نحكم على موضع عنصر أو حادثة في نظام الأشياء إلا إذا رأينا هذه الأشياء كلها، ومنذا الذي يدّعي أنه أوتي القدرة على أن ينظر إلى الأشياء هذه النظرة الجامعةويدرك علاقتها بعضها ببعض؟ ولهذا كان من السخف والوقاحة أن نحكم على العالم؛ وإنما تكون الحكمة في الاعتراف بعجزنا وفي العمل على أن نكون أجزاء متناسقة مع النظام العام للكون، وأن نحاول أن نستشف ما وراء جسم العالم من عقل، وأن نتعاون معه راضين مختارين. ومتى أدرك الإنسان هذه الفكرة أدرك أن "العدل في كل ما يحدث" أي أنه يحدث وفقاً لمنهج الطبيعة (47)، ولا يمكن أن يكون شيء يحدث وفقاً لمنهج الطبيعة شراً (48). وكل شيء طبيعي جميل في نظر من يفهم (49)؛ وكل شيء يقرره العقل العالمي العام أي المنطق الكامن في جميع الأشياء، وعلى كل جزء أن يرحب،

ص: 461

في رضاء وابتهاج، بنصيبه المتواضع وبمصيره. "والاتزان"(وهو الذي أوصى به أنطونينس ساعة وفاته) هو أن يقبل الإنسان طائعاً مختاراً كل ما تحدده طبيعة المجموع كله" (50).

"كل ما يوائمني يوائمك أيها الكون، وليس شيء يحدث في الوقت الذي يناسبك يحدث لي مبكراً عن موعده أو متأخراً عنه. وكل شيء تأتي به فصولك أيتها الطبيعة ثمرة ناضجة لي، كل الأشياء تصدر منك، وكل الأشياء مستقرة فيك، وكل الأشياء عائدة إليك (51).

وكل ما للمعرفة من قيمة أنها أداة للحياة الصالحة. "وما الذي يرشد الإنسان ويهديه إذن؟ لا شيء إلا الفلسفة"(52) - على أن لا تكون منطقاً أو علماً، بل تدريباً على السمو الخلقي دائماً متصلاً "كن مستقيماً وإلا فلتقوم"(53). ولقد وهب الله الإنسان ديموناً أو روحاً داخلية- هي عقله. والفضيلة هي حياة العقل.

"تلك هي مباديء النفس العاقلة، وهي تسري في الكون كله، وتشرف على شكله، وتمتد إلى الأبدية، وتحتضن التجدد الدوري لجميع الأشياء، وتدرك أن من سيخلفوننا لن يروا شيئاً جديداً، وأن من سبقونا لم يروا أكثر مما رأينا، بل إن من في الأربعين من عمره، إذا كان لديه شيء من الادراك، قد رأى بطريقة ما، وبفضل هذه الوحدة المتناسقة، كل ما كان وما سيكون"(54).

ويرى ماركس أم مقدماته تضطره إلى أن يكون من المتزمتين وهو يقول: "ليست اللذة طيبة أو نافعة"(55). وهو ينبذ الجسم وكل أعماله ويتحدث أحياناً كما يتحدث ماركس أنطونيوس.

"ألا فانظروا إلى حقارة الأشياء وسرعة فنائها؛ إن ما كان بالأمس قطعة صغيرة، سيصبح غداً جثة أو رماداً .... وما أكثر شقاء الجسم الذي يجتازها به!

قلبها ظهراً لبطن تر أية حياة هي (56). والعقل في رأيه يجب أن يكون

ص: 462

حصناً محرراً من الشهوات الجسمية، والغضب، والحقد؛ ويجب أن يكون منهمكاً في عمله انهماكاً لا يكاد يلاحظ معه تقلبات الحظوظ أو سهام العداوات. "إن قيمة كل إنسان تعدل بالضبط قيمة ما يشغل به نفسه من الأشياء"(57). وهو يسلم كارهاً بأن في هذا العالم أشراراً، ويقول إن الطريقة التي يجب أن يتبعها الإنسان معهم هي أن يذكر أنهم أيضاً رجال، وأنهم الضحايا العاجزون لأخطائهم التي ارتكبوها مدفوعين بجبرية الحوادث والظروف (58). "وإذا أساء إليك إنسان، فالضرر واقع عليه، ومن واجبك أن تعفو عنه"(59). وإذا أحزنك وجود الأشرار من الناس، ففكر في العدد الكثير من الأخبار الذين إلتقيت بهم، وفيما يمتزج في الأخلاق غير الكاملة من فضائل كثيرة (60). والناس كلهم إخوة، أخياراً كانوا أو أشراراً، وكلهم أبناء الله ينتسبون إليه، والهمجي البشع نفسه مواطن في الوطن العام الذي ننتمي كلنا له. "فأنا بوصفي أورليوس تكون رومة وطني، وبوصفي رجلاً يكون وطني هو العالم كله"(61). ترى هل هذه فلسفة خيالية غير عملية؟ كلا، إن الأمر على عكس هذا تماماً ولا شيء أقوى أو أشد متعة من الفطرة الطيبة، إذا لازمها الاخلاص (62). إن الرجل الصالح حقاً لا تؤثر فيه مصائب الدهر، ومهما يصبه من الشر لا يسلبه نفسه:

"هل هذا (الشر) الذي أصابك يمنعك أن تكون عادلاً، كريماً، معتدلاً، حصيف الرأي

متواضعاً، حراً؟

ولنفرض أن الناس قد لعنوك، أو قتلوك، أو مزقوك إرباً! فماذا تستطيع هذه الأشياء أن تفعل لتمنع عقلك أن يبقى طاهراً، حكيماً، متزناً، عادلاً؟ وإذا وقف الإنسان بجوار نبع رائق صاف ولعنه، فإن النبع لا يقف عن إرسال الماء النظيف، وإذا دنه أو رمى فيه الأقذار، فسرعان ما يلقى بها إلى خارجها ولا يتدنس بها مرةً أخرى

ولا تنس كلما أصابتك كارثة أن تطبق هذا المبدأ القائل: إن ذلك ليس شقاء حل بك، بل إن الصبر عليه صبر الكرام هو

ص: 463

السعادة بعينها

ألا ما أقل الأشياء التي إذا حصل عليها الإنسان استطاع أن يحيا حياة هادئة مطمئنة تشبه حياة الأرباب (63) ".

بيد أن حياة ماركس لم تكن تتصف بالهدوء؛ فلقد اضطر أن يقتل الألمان وهو يكتب هذا "الانجيل الخامس"، وأن يلقى الموت آخر الأمر دون أن يجد عزاء في الابن الذي سيخلفه، وألا يكون له أمل في أن يحظى بالسعادة بعد مماته، لأن النفس والجسم على السواء، على حد قوله، يعودان إلى عناصرهما الأولى:

"فكما أن تبدل الأجسام وانحالها، يفسحان المكان لأجسام أخرى كتب عليها الموت، فكذلك تتبدل الأرواح التي تنتقل إلى الهواء وتتبدد

وتتوزع في عقل العالم الأصلي وتخلي مكانها إلى أرواح جديدة (64)

لقد وجدت أنت بوصفك جزءاً من كل

وسوف تفنى في ذلك الذي أخرجك

وهذا أيضاً هو ما تريده الطبيعة

فاجتز إذن هذه الفترة القصيرة من الزمن حتى تصل هادئاً إلى الطبيعة، واختم رحلتك وأنت راض، وليكن مثلك كمثل حبة الزيتون تسقط حين تنضج، وتبارك الطبيعة التي أخرجتها، وتثني على الشجرة التي حملتها (65) ".

ص: 464

الفصل السادس

‌كمودس

ولما أقبل ضابط الحرس يسأل ماركس وهو على فراش الموت عن كلمة السر لذلك اليوم أجابه بقوله: "إذهب إلى الشمس المشرقة؛ أما شمسي فهي غاربة". وكانت الشمس المشرقة وقتئذ في التاسعة عشرة من العمر، وكانت هي فتى متين البنية قوي الجسم، جريئاً، لا يصده شيء عما يريد، وليس له وازع من خلق أو خوف. ولقد كان الإنسان يتوقع أن يرى فيه أكثر مما يرى في ماركس، القديس العليل، وأن يراه أكثر مما يراه ماركس ينهج سياسة الحرب إلى النصر أو الموت. لكن الذي حدث أنه عرض من فوره الصلح إلى الأعداء. وكان ما عرضه من الشروط أن ينسحبوا من الأراضي المجاورة لنهر الدانوب، وأن يسلموا معظم أسلحتهم، ويعيدوا جميع الأسرى والفارين من الرومان، وأن يؤدوا إلى رومة جزية سنوية من الحبوب، وأن يقنعوا ثلاثة عشر ألفاً من جنودهم بالتطوع في الفيالق الرومانية (66). ولامته رومة كلها على فعلته هذه ما عدا الشعب. فأما قواده فقد استشاطوا غضباً لأنه سمح للفريسة الواقعة في الشرك أن تفلت منه لتقاتلهم مرة أخرى. على أن قبائل أراضي الدانوب لم تسبب قط متاعب للإمبراطورية في عهد كمودس.

والحق أن الزعيم الشاب، وإن لم يكن جباناً خوار العود، كان قد شهد كفايته من الحروب، وكان في حاجة إلى السلم ليستمتع بالحياة في رومة. فلما عاد إلى عاصمة ملكه انتهر مجلس الشيوخ، وأثقل العامة بالعطايا التي لم يعهدوا مثلها من قبل- فوهب كل مواطن 725 ديناراً. ولما لم يجد في السياسة ميداناً يظهر فيه شدة بأسه عمد إلى صيد الوحوش في الضياع الإمبراطورية، وبرع

ص: 465

في استعمال السيف والقوسبراعة اعتزم معها أن يظهرها أمام الجماهير. فغادر القصر وعاش في مدرسة المجالدين فترة من الزمان، وأخذ يسوق المركبات في مباريات السباق، ويصارع الحيوانات والرجال في المجتلد (67). ولا حاجة إلى القول بأن من كانوا يتبارون معه كانوا يحرصون على أن يكون هو الفائز؛ ولكنه لم يكن يبالي أن يخرج بمفرده قبل الفطور ليقاتل فرس نهر، أو فيلاً، أو نمراً لا يعبأ قط بالملوك (68). وقد بلغ من إتقانه الرماية أن استطاع في استعراض واحد قتل مائة نمر بمائة سهم. فكان يترك النمر يهاجم مجرماً من المحكوم عليهم بالإعدام. ثم يرميه بسهم فيقتله، ويترك الرجل سليماً يواجه الموت مرة أخرى (69). وقد أمر أن تسجل هذه الأعمال المجيدة في صحيفة الحوادث اليومية، وأصر على أن يؤدى إليه من خزانة الدولة أجر على كل صراع من الألف الصراع التي قام بها.

ولقد كان المؤرخون أمثال تاستس، اللذين لا بد لنا من الرجوع إليهم في هذا الموضوع، ينظرون إلى هذه الأعمال بعين الأشراف الحانقين، ويحكمون عليها حسب تقاليدهم؛ ولهذا فإنا لا نعرف كم من العجائب التي يروونها تاريخ صحيح، وكم منها أملته الرغبة في التشهير به والثأر منه. فهم يؤكدون لنا أن كمودس كان يسكر ويقامر، ويبدد أموال الدولة، وأن في حريمه ثلثمائة إمرأة وثلثمائة غلام، وأنه يحلو له أن يكون إمرأة في بعض الأحيان، أو في القليل أن يلبس ثياب النساء حتى في الألعاب العامة نفسها. وقد رووا لنا عنه قصصاً من القسوة لا يقبلها عقل. فيقولون مثلاً إن كمودس أمر أحد كهنة بلونا Bellona أن يبتر ذراعه ليبرهن بقطعها على تقواه، وإنه أرغم بعض النساء اللائي نذرن أنفسهن لخدمة إيزيس أن يضربن صدورهن بثمارالبلوط المخروطية حتى يمتن، وإنه كان يقتل الرجال بلا تمييز بينهم بهراوة هرقل التي كان يمسكها بيده، وإنه جمع المقعدين وقتلهم بسهامه واحداً بعد واحد

(70) ويلوح أن إحدى عشيقاته كانت مسيحية، وأنه عفا من أجلها عن بعض المسيحيين الذين حكم عليهم بالعمل في مناجم سردينية.

ص: 466

ويوحي إخلاص هذه السيدة لكمودس بأن هذا الرجل، الذي كان أشد وحشية من الوحوش الضارية، لم يكن مجرداً من عناصر طيبة غفل عن ذكرها التاريخ.

وكان خوفه من الاغتيال يدفعه، كما كان يدفع أسلافه، إلى أقسى ضروب الوحشية. من ذلك أن عمته لوسلا Lucilla ائتمرت به لتقتله، فلما كشف المؤامرة أمر بقتلها، كما أمر بقتل عدد كبير جداً من ذوي المقامات العالية، ثبت عليهم الاشتراك في المؤامرة أو حامت حولهم شبهة الاشتراك فيها. وقد بلغ من عدد القتلى أنه لم يكد يبقي على قيد الحياة أحد من ذوي المكانة في أيام ماركس. وعاد المخبرون إلى نشاطهم ومكانتهم بعد أن كادوا يختفون من رومة قرناً كاملاً، وساد المدينة عهد جديد من عهود الارهاب. وعيّن كمودس برنيس Perennis رئيساً للحرس البريتوري وأسلمه أزمة الحكم ثم استسلم هو (على حد قول الرواة) إلى الفسق والفجور، وحكم برنيس البلاد حكماً حازماً ولكنه كان حكماً صارماً خالياً من الرحمة؛ فنظم حكماً للإرهاب قتل فيه جميع معارضيه. وظن الإمبراطور أن برنيس يعتزم اغتصاب العرش لنفسه، فأسلم هذا السيجانس الثاني

(1)

إلى مجلس الشيوخ. وتورط المجلس نفسه في طائفة من أعمال الانتقام المتأجج الخالي من الرحمة. وخلف برنيس في رياسة الحرس البريتوري معتوق يدعى كليندر Cleander (185) ، وبزه في الفساد والقسوة، فكان أي منصب من المناصب يناله من يؤدي نظيره رشوة طيبة، وكان من المستطاع إلغاء أي حكم تصدره أية محكمة والحصول على حكم يناقضه. وقد أعدم بأمره الشيوخ والفرسان بعد أن اتهموا بالخيانة أو بانتقاد أعماله، فلما ضاق الشعب به ذرعاً حاصر الغوغاء في عام 190 القصر الذي كان يقيم فيه كمودس وطلبوا إعدام كليندر. وأجابهم الإمبراطور

(1)

يشبهه المؤلف بلسيوس إيليوس سيجانس رئيس الحرس الإمبراطوري عام 31؟ م (المترجم)

ص: 467

إلى ما طلبوا، وعيّن ليتس Laetus بدلاً منه. وظل ليتس يصرف الأمور ثلاث سنين أيقن بعدها أن منيته قد دنت، فقد وقع في يده مصادفة ثبت بأسماء المحكوم بإعدامهم، وكان يحوي أسماء أنصاره وأصدقائه ومارسيا Marcia. فلما كان آخر يوم من عام 192 قدّمت مارسيا لكمودس كأساً من السم، ولما أبطأ مفعول السم، خنقه اللاعب الذي كان قد أبقاه في الحمّام ليثاقفه، وكان وقتئذ شاباً في الحادية والثلاثين من العمر.

ولنعد إلى الوراء قليلاً فنقول إن رومة حين مات ماركس كان قد بلغت أوج عظمتها وبدأت في الاضمحلال. فقد امتدت حدودها إلى ما وراء نهر الدانوب؛ ووصلت إلى إسكتلندة، والصحراء الكبرى، وجبال القوقاز، وروسيا، وأبواب بارثيا؛ وكانت قد وهبت هذا الخليط المضطرب من الشعوب والأديان وحدة، إن لم تكن في اللغة والثقافة، فقد كانت في القليل وحدة في الاقتصاد والتشريع. وقد صاغت منها مجموعة عظيمة من الأمم المرتبطة برباط واحد؛ وكان تبادل السلع يجري في داخلها حراً موفوراً بدرجة لم يكن لها نظير من قبل؛ وظلت قرنين من الزمان تصد البرابرة عن هذه الدولة العظيمة وتهبها الأمن والسلام. وكان عالم الجنس الأبيض ينظر إليها على أنها مركز العالم كله، وأنها المدينة الخالدة القادرة على كل شيء. ولم يشهد العالم في عصر من العصور السابقة مثل ما شهده فيها من الثراء، والعظمة والسلطان.

وفي وسط هذا الرخاء الذي كانت مظاهرة تتألق في رومة خلال هذا القرن الثاني كانت تنبت جميع بذور الأزماتالتي قضت على إيطاليا في القرن الثالث. وكانت لماركس اليد الطولى في خلق هذه الأزمات لأنه رشح كمودس للجلوس على العرش من بعده، ولأن ما خاضه من الحروب زاد السلطة تركيزاً في يدي الإمبراطور. فقد احتفظ كمودس في زمن السلم بالسلطات التي وضعها أورليوس في يده زمن الحرب. فذوي غصن الاستقلال الفردي والمحلي، والابتكار والأنفة

ص: 468

بسبب نماء سلطان الدولة واتساع دائرة اختصاصها، ونضبت موارد ثروة الأمم بما فرض عليها من الضرائب التي أخذت أعباؤها تزداد زيادة مستمرة على مر الأيام، لكي تقاوم بها بيروقراطية تضاعف نفسها، وبسبب حروب العدوان التي ما فتئت الدولة تثير عجاجها للدفاع عن نفسها. وأخذت ثروة إيطاليا المعدنية تتناقص (7)، وقضت الأوبئة والمجاعات على الكثيرين من أهلها، وظهر عجز نظام الزراعة باستخدام الأرقاء، وأقفرت خزانة الدولة من الأموال وانحطت قيمة العملة بسبب الزيادة المطردة في نفقات الحكومة وفي إعانة العجزة والمساكين. وأخذت الصناعات الإيطالية تخسر أسواقها في الولايات لمنافسة الولايات نفسها لهذه الصناعة، ولم توضع قط سياسة اقتصادية حكيمة لتعوض البلاد عن التجارة الأجنبية الكاسدة بتوزيع قوة الشراء في داخل البلاد على نطاق أوسع من ذي قبل. وبينما كان هذا يحدث في إيطاليا نفسها كانت الولايات قد أخذت تفيق مما أصابها من جراء انتزاع ثروتها على أيدي صلا، وبمبي، وقيصر، وكاسيوس، وبروتس، وأنطونيوس؛ فعاد إليها حذقها القديم، وازدهرت صناعاتها، وأخذت ثروتها الجديدية تعين بالمال العلم والفلسفة والفن. وسد أبناؤها ما حدث في الفيالق من فراغ، وعقدت أولوية هذه الفيالق للقواد من أهلها؛ وما لبثت جيوش الولايات أن وضعت إيطاليا تحت رحمتها وعينت قوادها أباطرة، وانقضى عهد الفتوح وانقلبت الآية وأخذ المغلوبون من ذلك الحين يبتلعون الغالبين.

وكأنما أدرك عقل رومة هذه النذر والمشاكل، فاستسلم في أواخر أيام الأنطونيين إلى عهد من الكلل الثقافي والروحي. وكان حرمان الجمعيات الشعبية أولاً ثم مجلس الشيوخ بعدئذ من سلطانها حرماناً يكاد أن يكون كاملاً قد ذهب بالحافز الذهني الذي ينبعث من النشاط السياسي الحر، ومن الشعور الواسع الانتشار بالحرية والسلطان. وإذ كانت السلطة كلها تقريباً قد تركزت في يد الزعيم فقد ألقى المواطنون عليه التبعة كلها تقريباً، فانزوى عدد متزايد

ص: 469

منهم في أسرهم، وقصروا جهودهم على شؤونهم الخاصة؛ وأصبح المواطنون ذرات، وأخذ المجتمع يتمزق من داخله إرباً في الوقت الذي لاح فيه أن الوحدة على أتم ما تكون. وخاب رجاء الناس في الملكية، كما خاب رجاؤهم من قبل في الدمقراطية، وكثيراً ما كانت "أفكار" أورليوس "الذهبية" أفكاراً من الرصاص، يزيدها ثقلاً ظنه أن مشاكل رومة مستعصية على الحل، وأن البرابرة الذين يتضاعف عددهم بلا انقطاع لن تستطيع سلالة عظيمة جانحة إلى السلم أن تصمد لهم زمناً طويلاً. وأخذت الرواقية، التي بدأت عهدها بالدعوة إلى القوة، تدعو الآن إلى الاستسلام للمقادير، وعقد الفلاسفة كلهم تقريباً الصلح مع الدين. وبعد أن ظلت الطبقات العليا أربعمائة عام تتخذ الرواقية بديلاً من الدين، أطرحت هذه الطبقات الآن ذلك البديل، وأدارت الفئة الحاكمة ظهرها إلى الفلاسفة وولت وجهها شطر مذابح الآلهة. على أن الوثنية هي الأخرى كانت تلفظ آخر أنفاسها. فقد كانت كإيطاليا تنتعش بفضل المعونة الحكومية، فلما امتنعت عنها هذه المعونة أوشكت قواها أن تخور؛ لقد غلبت هي الفلسفة، ولكن أرباضها أخذت قبل ذلك العهد تستمع في خشوع إلى أسماء الآلهة الغازية. وكان هذا العصر عصر البعث للولايات والنصر المؤزر الذي يتجاوز حدود العقل للمسيحية.

ص: 470