الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الرابع
الإمبراطورية
146 ق. م. - 192 م
الباب الحادي والعشرون
إيطاليا
الفصل الأول
المُدن
فلنقف قليلاً عند هذا المجد المزعزع ونحاول أن ندرك أن الإمبراطوريّة كانت أعظم شأناً من مدينة روما؛ ذلك أننا قد أطلقنا الوقوف عند هذا المنظر الباهر الذي استحوذ على عقول المؤرخين كما خلب ألباب سكان الولايات، لكن الواقع الذي لا مناص من الاعتراف به أن حيوية الدولة العظيمة لم يعد مقرها في عاصمتها الفاسدة المحتضرة؛ بل إن ما بقي لهذه الدولة من قوة وحيوية، وكثيراً مما كان فيها من جمال، ومعظم ما كانت تحتويه من نشاط عقلي، إن هذا كله كان في الولايات وفي إيطاليا؛ ومن أجل هذا فلن نستطيع أن نكوّن لأنفسنا فكرة صحيحة عن روما، وعما قامت به من جلائل الأعمال في الإدارة والسلم، حتى نترك العاصمة نفسها ونطوف بالمدائن الألف التي كان يتكوّن منها العلم الروماني.
قال بلني الأكبر لما أن بدأ يصف إيطاليا: "ترى كيف أبدأ هذا العمل؟ ألا ما أكثر ما هنالك من بلدان! - ومنذا الذي يستطيع أن يحصيها كلها؟ وما أعظم شهرة كل بلد بمفرده! ". لقد كان حول روما وجنوبها إقليم
لاتبوم، الذي كان في بادئ الأمر أمها، ثم صار عدوها، ثم جنة من الضواحي والقصور يقيم فيها الرومان أصحاب المال والذوق السليم، وكان إلى جنوب العاصمة وغربيها نهر التمبر وطرق برية صالحة تربطها بالمرفأين المنافسين لها وهما يورتس Portus وأستيا على البحر الترهيني. وقد وصلت أستيا إلى أوج عزها في القرنين الثاني والثالث من التاريخ الميلادي، فكانت شوارعها غاصة بالتجار وصائدي السمك، ودور تمثيلها مزدحمة بهم. وكانت بيوتها ومساكنها ذات الشقق الكثيرة شبيهة كل الشبه بأمثالها في روما الحارة، وقد تحدث عنها سائح من فلورنس في القرن الخامس عشر حديث المعجب بثروتها وزينتها العظيمة. وتدل بعض الأعمال الباقية منها إلى اليوم، ويدل أحد المذابح البديع التصميم والذي نقشت عليه أزهار جميلة دقيقة، على أن سكانها التجار أنفسهم كانوا يدركون معنى الجمال الحق.
وكان إلى جنوبي أستيا على شاطئ البحر مدينة انتيوم Antium (أنزيو Onzio) حيث كان لأغنى الرومان، ولكثير من الأباطرة، وللمحبوبين من الآلهة قصور وهياكل تمتد إلى شاطئ البحر الأبي لتستقبل ما يسري فيه من نسيم عليل. وقد وجدت في خرائبها التي تمتد نحو ثلاثة أميال، تماثيل ذات روعة وجمال، منها تمثال المجالد البرغيزي وتمثال أباو بلفادير. وبالقرب منهما أثر باقٍ إلى اليوم كان يذكر "المواطنين العظام" الذين مضى عليهم الآن ثلاثة عشر قرناً من الزمان أنهم كانوا من عهد قريب يستمتعون برؤية أحد عشر مجالداً يموتون وهم يقاتلون عشرة دببة ضارية (2). وكان إلى شماليها ومن وراء التلال الساحلية مدينة أكوينم مسقط رأس جوفنال وأربينم Arpinum التي كانت تفخر بإبنيها ماريوس وشيشرون. وعلى بعد عشرين ميلاً من روما كانت تقوم مدينة برانستي Praeneste القديمة (بالسترينا القديمة Palestrina) ، وكانت بيوتها الجميلة مشيدة على شرفات مدرجة على سفوح الجبل؛ وحدائقها
تشتهر بورودها، وقمة جبلها يتوجها هيكل ذائع الصيت للإلهة فورتونا بريمجينيا Fortuna Primigenia التي كانت تحيط النساء برعايتها وقت المخاض، وتنال منهن المال نظير ما تنطق به من النبوءات. وكانت تسوكيولم Tusculum التي تبعد عشرة أميال عن روما غنية مثلها بالحدائق والقصور، وفيها وُلد كاتو الكبير، واحتفظ شيشرون بكتابه "المجادلات التسكيولاتية"
(1)
، وكانت أعظم ضواحي روما شهرة ضاحية تيبور (ترفولي) التي مد إليها هدريان قصره الريفي والتي قضت فيها زنوبيا ملكة تدمر سني أسرها.
وإلى شمال روما تقع إتروريا التي بُعثت في عهد الزعامة بعثاً جديداً متواضعاً، وفيها بلدة بروزيا Perusia التي خرّب أغسطس معظمها وجدد بناء بعضها، وجمّل فنانوه فيها قوسا تسكانيا قديماً وأنجبت أريتيوم Arretium ميسناس Maecenas وبعثت به إلى روما، وأخرجت خزفاً للعالم القديم، وكانت مدينة بيسي Pisae في ذلك الوقت قد عمرت طويلاً، وتعزو هذه المدينة اسمها ومنشأها إلى جماعة من المستعمرين اليونان جاءوا من بيزا Pisa في البلوبونيز وكانوا يكسبون عيشهم فيها بنقل الخشب في نهر أرنس Arnus. وقامت على هذا النهر نفسه على مسافة من هذه المدينة في اتجاه منبعه مستعمرة رومانية ناشئة تدعى فلورنتيا Florentia، يندر وجود مثلها بين المدن لأنها في أغلب الظن لم تقدّر مستقبلها حق قدره. وكان إلى الطرف الشمالي الغربي من أتروريا محاجر كررار Carrara التي كان ينقل أجمل رخام روما إلى ثغر لونا Luna ثم تحمله السفن إلى العاصمة. وكانت جنوي من زمن بعيد هي المرفأ الذي تصدر منه غلات شمالي إيطاليا الغربي. ونسمع من زمن بعيد، أي من عام 209 ق. م، أن القرطاجيين قد دمروا تلك المدينة في حرب تجارية ضروس، وأنها دُمرت بعد
(1)
ولا تزال فرسكاتي Frascati وارثة تسكيولم ملجأ أثرياء الإيطاليين. وفيها قصور الديرتديني، وترلونيا، ومندرجوني وغيرها.
ذلك مراراً كثيرة ولكنها كانت في كل مرة تبعث بعثاً جديداً وتعود أكثر مما كانت رخاءاً وازدهاراً.
وعند قاعدة جبال الألب كانت أوغستا تورنورم Augusta Taurinorum التي أنشأها الغاليون التورينيون Touurini Gauls، والتي جعلها أغسطس مستعمرة رومانية؛ وفي مقدور الإنسان أن يرى الآن أرصفتها ومجاريها القديمة تحت أرض شوارع تورين، وقد بقي فيها من أيام أغسطس باب ضخم يذكرنا بأن المدينة كانت في يوم من الأيام حصناً يصد عن البلاد المغيرين عليها من الشمال. وهنا ينثني نهر بدوا (البو) الكسول الذي ينبع من جبال الألب الكتية Cottian ويجري نحو الشرق مائتي وخمسين ميلاً، ويقسم الجزء الشمالي من إيطاليا قسمين كانا يعرفان في عهد الجمهورية بغالة ما قبل ألبو وغالة ما وراء ألبو. وكان وادي ألبو أخصب أقاليم شبه الجزيرة كلها، وأكثرها سكاناً، وأعظمها رخاءاً.
وكان - عند سفح جبال الألب تلك البحيرات العظيمة - فربانس Verbanus (مجيوري Maggiori) ، ولاريوس Larius (كومو Como) ، وبانكس Benacus (جاردا Garda) ، التي كانت روعتها متعة العين والنفس لتلك الأجيال ولا تزال كذلك لنا نحن في هذه الأيام. وكان يبدأ من كومم، مدينة بلني الأصغر طريق تجاري رئيسي يتجه جنوباً إلى مديولانم Mediolanum (ميلان). وقد استقر الغاليون في هذه المدينة في القرن الخامس قبل المياد، ثم أضحت في أيام فرجيل من الحواضر الكبيرة والمراكز التعليمية الهامة، وقبل أن يحل عام 286 صارت عاصمة الإمبراطوريّة الغربية بدل روما. وكانت فيرونا وقتئذ تسيطر على التجارة التي تعبر ممر برنر Brenner) ؛ وقد بلغت من الثراء درجة أمكنتها من أن تنشئ لها مدرجاً (جدد حديثاً) يتسع لخمسة وعشرين ألفاً من النظارة. وقامت على نهر ألبو الملتوي مدينة بلاسنتيا Placentia (بياسنزا
الحديثة Piacenza) ، وكرمونا Cremona، ومنتوا Mantua وفرارا Ferrara - وكانت في أول أمرها رباطات على الحدود أقيمت لصد الغاليين.
وكان إقليم فنيشيا يقع شمال نهر ألبو وشرق الأديج Adige. وقد اشتق اسمه من الفنيتي Veneti، المهاجرين الأولين من إليريا Illyria. ويصف لنا هيرودوت كيف كان زعماء تلك القبائل يجمعون فتيات قراهم اللائي في سن الزواج، ويقدرون لكل فتاة ثمناً يتناسب مع جمالها، ويزوّجونها ممن يؤدي ذلك الثمن، ثم يتخذون تلك المهور بائنة مغرية للفتيات لمن كنّ أقل من هؤلاء جمالاً وفتنة (4). ولم تكن مدينة البندقية (Venice) قد نشأت بعد، ولكن مدناً كبيرة قامت عند بولا Pola على شبه جزيرة إستريا Istria؛ وترجستي Tergeste (تريستة Trieste) وأكويليا Aquileia، وبتفيوم Patavium و (بدوا Padua) تتوج رأس البحر الأدرياوي. وقد بقي في بولا من أيام الرومان قوس نصر ضخم، وهيكل ظريف، ومدرج لا يفوقه في الروعة إلا الأصل الذي بني على نمطه وهو الكاوسيوم. وكان يمتد إلى جنوب نهر ألبو سلسلة من المدن تبدأ من بلاسنتيا مخترقة بارما، وموتينا (مودينا)، وبونونيا Bononia (بولونيا)، وفافنتيا Faventia (فينزي Faenze) وتنتهي عند أرمنينم.
وهنا عند رميني Rimini يقوم جسر من الجسور التي لا حصر لها والتي أقامها المهندسون الرومان، وهو أكثر الجسور احتفاظاً بشكله الكامل القديم. وكان الطريق الفلاميني يمتد على هذا الجسر إلى المدينة مخترقاً قوساً يعادل الخلق الروماني في صلابته وسيطرته. ويتفرع منه طريق فرعي يصل بتونيا برفنا بندقية الأيام الرومانية. وقد شُيّد هذا الطريق على قوائم في المستنقعات التي لوثتها عدة أنهار تصب في البحر الأدرياوي. ويصف استرابون مدينة رافنا بأن "فيها شوارع واسعة مكونة من قناطر ومعدّيات"(5). وقد اتخذها أغسطس مقراً لأسطوله الأدرياوي، واتخذها كثير من الأباطرة مسكناً رسمياً لهم في القرن
الخامس. وقد كان تفوق شمالي إيطاليا على سائر أجزائها في خصب التربة، وفي جوه الصحي المنشط الباعث على العمل، وفي موارده المعدنية، وفي صناعاته المختلفة المتنوعة، وتجارته النهرية القليلة النفقة، كان تفوقه في هذا كله مما سما به من الناحية الاقتصادية على وسط إيطاليا في القرن الأول الميلادي ومن ناحية الزعامة السياسية في القرن الثالث.
ولم ينشأ على الساحل الشرقي في جزئه الممتد جنوبي أرمنينم وشمالي برنديزيوم إلا عدد قليل من المدن الهامة، وذلك لأن هذا الساحل صخري كثير العواصف قليل المرافئ. بيد أنه كان في أمبريا Umbria، وبسينم، وسمنيوم، وأبوليا، بلدان صغرى كثيرة لا يستطاع الحكم على ثرائها وفنها إلا بدراسة أنقاض بمبي، ومن هذه البلدان أسسيوم Assisum مسقط رأس بروبرتيوس والقديس فرانسيس؛ ومنها سرسينا Sarsina التي وُلد فيها بلوتس Blautus؛ وأمتيرنم Amiternum مسقط رأس سلست Sallust وسلمو Sulmo التي شهدت مولد أوفد، وفنوزيا التي شهدت مولد هوراس. ولم تشتهر بنفنتم بهزيمة برس فحسب بل اشتهرت كذلك بقوس النصر العظيم الذي أقامه فيها تراجان وهدريان. وقد قصّ هدريان في نقوشه الواضحة على هذا العمود قصة أعماله المجيدة في الحرب والسلم. وكانت برتديزيوم القائمة على الساحل الجنوبي الشرقي تشرف على طرق الاتصال في دنماشيا وبلاد اليونان والشرق. وعند "عقب" إيطاليا كانت تقوم مدينة دلماشيا وبلاد اليونان والشرق. وعند "عقب" إيطاليا كانت تقوم مدينة تارنتم، وكانت من قبل دولة - مدينة عزيزة الجانب، ولكنها لم تكن الوقت الذي نتحدث عنه إلا مشتى آخذاً في الاضمحلال لكبار الموظفين والأشراف الرومان. وفي جنوبي إيطاليا استولى أصحاب الضياع الكبيرة على معظم الأراضي وحولوها إلى مراعٍ للماشية؛ ففقدت المدن من كانت تعتمد عليهم من المزارعين، واضمحلت طبقاتها من التجار وأرباب الأعمال، وأفل نجم العشائر اليونانية التي كانت تنفق أموالها بسخاء في الأيام السابقة، وذلك بسبب تسرب
القبائل الهمجية إليها وبسبب قيام الحرب البونية النائية، فاضمحل شأنها حتى لم تعد أكثر من بلدان صغيرة أخذت اللغة اللاتينية تحل فيها ببطيء بحل اللغة اليونانية. وفي "اصبع" إيطاليا كانت مدينة رجيوم Rhegium (رجيوم Reggio الحالية) ذات المرفأ الصالح. وقد أثرت هذه المدينة بفضل تجارتها مع صقلية وأفريقية. وعلى الشاطئ الغربي كانت تقوم فيليا Velia؛ ولعلها لم يكن من السهل عليها أن تذكر أيامها السالفة حين كان اسمها إيليا، وحين كان يتردد في جنباتها أصداء أشعار برمنيدز وزينون وأقوالهما المتناقضة الخبيئة. وقد بدلت الجالية الرومانية التي استعمرت بوسيدونيا اسم هذه البلدة فجعلته بيستم Paestum، ولا تزال تدهش زائرها بما فيها من هياكل فخمة. وكان أهلها اليونان في الوقت الذي نتحدث عنه قد أخذوا يذوبون في الدم "البربري" - الإيطالي في هذه المرة - الذي كان ينصب فيها من الريف القريب منها. ولم تبقَ الحضارة اليونانية حية في إيطاليا إلا في كمبانيا.
وكانت كمبانيا - المكونة من الجبال ومن الساحل المحيطين بنابلي - من الناحية الجغرافية جزءاً من سمنيوم. أما من الناحيتين الاقتصادية والثقافية فكانت عالماً مستقلاً بنفسه، لأنها كانت من الوجهة الصناعية أكثر تقدماً من روما، وكانت قوية من الناحية المالية، جمعت في رقعة صغيرة من الأرض حياة مليئة بالاضطرابات السياسية، والمنافسات الأدبية، والازدهار الفني، والألعاب العامة المثيرة. وكانت أرضها خصبة التربة تنتج أحسن الزيتون والكروم في إيطاليا، وكان يصدر منها النبيذ السرنتي Surrentine والفالرني Falernian الذائعا الصيت ولعل فارو Varro كان يفكر في كمبانيا وهو يتحدى العالم بقوله: "يا من ضربتم في أرضين كثيرة، هل رأيتم فيها أرضاً زُرعت أحسن من أرض إيطاليا؟
…
أليست إيطاليا مليئة بأشجار الفاكهة امتلاء يخيل معه إلى من يراها أنها كلها بستان واحد عظيم؟ " (6). وفي طرف كمبانيا الجنوبي شبه
جزيرة صخرية وعرة المنحدر تمتد ناتئة في البحر من سالرنم Salernum إلى سرنتم Surrentum. وكانت القصور الصغيرة منبثة بين الكروم والحدائق المغروسة على التلال، كما كانت تقوم بمحاذاة شاطئ البحر. وكانت سرنتم جميلة مثل سرنتو Sorrento في هذه الأيام، وقد لقبها بلني الأكبر بأنها "بهجة الطبيعة" التي حبتها بكل ما لديها من هبات (7)؛ ويبدو أنه لم يكد يتغيّر فيها شيء في خلال ألفي هام، وأكبر الظن أن أهلها لا يزالون محتفظين بعباداتهم القديمة، وأن آلهتهم في هذه الأيام هي آلهتهم في الأيام الخالية؛ ولا تزال أجراف الصخور تحصر البحر حصاراً لا آخر له.
وكان في مواجهة هذا اللسان البارز في البحر جزيرة كبريا Capraea (كابري Cpri) تلاطمها الأمواج من جميع الجهات. وكان بركان فيروف المطل على الشاطئ الجنوبي للخليج يرسل دخانه في السماء، بينما كانت بمبي وهركيولانيم ترقدان تحت طبقات الحمم. ثم تلي هاتين المدينتين نيوبوليس Neopolis " المدينة الجديدة" أكثر بلاد إيطاليا اصطباغاً بالصبغة اليونانية في عهد تراجان. وفي وسعنا أن نتبين من كسل نابلي في هذه الأيام مدى انهماكها القديم في الحب واللهو والفن. لقد كان أهلها إيطاليين، ولكن ثقافتهم، وعاداتهم، وألعابهم كانت كلها يونانية. وكان فيها هياكل وقصور، وملاهٍ جميلة؛ وكانت تقام فيها مرة في كل خمس سنين مباريات في الموسيقى والشعر نال أستاتيوس في واحدة منها جائزة. وفي الطرف الغربي من الخليج كان ثغر بتيولي Puteoli (بزيولي Puzzuoli الحديثة) التي إشتُقَّ اسمها من رائحة بركها الكبريتية (8). وقد ازدهرت هذه المدينة بفضل تجارة روما وبفضل مصنوعاتها الحديدية، وخزفها، وزجاجها. وكان فيها مدرج تدل ممراته التي تحت الأرض والباقية إلى هذا اليوم على الطريقة التي كان يصل بها المجالدون والوحوش إلى المجلد وعلى الجانب الآخر من مرفأ بتيولي كانت تتلألأ قصور بايا Baiac التي
يزيد بهاءها وجاذبيتها قيامها بين الجبال والبحر. هنا كان يلهو قيصر وكلجيولا ونيرون، وهنا كان الرومان المصابون بداء الرئة يأتون ليستحموا في مياه عيونها المعدنية. وكانت المدينة تجني فوائد كثيرة من اشتهارها بالقمار وبالفساد الخلقي؛ وها هو ذا فارو Varro يقول إن فتياتها كنّ مُلكاً مُشاعاً، وإن كثيرين من فتياتها كانوا بنات (2)، وكان كلوديوس يرى أن شيشرون قد جلله عار لا يمحى أبد الدهر لأنه سافر مرة إلى هذه البلدة (10). ويقول سنكا متسائلاً:"أتظن أن كاتو كانت تحدثه نفسه بأن يقيم في قصر مليء بأسباب اللهو والسرور، يستطيع وهو فيه أن يحصي عدد من يمر به أمام عينه من النساء القاصرات اللائي يملأن القوارب والسفن الكثيرة الأنواع المطلية بكافة الألوان، والورود التي تتمايل حول البحيرة؟ "(11).
وعلى بعد بضعة أميال قليلة شمال بايا، في فوهة بركان خامد، كانت بحيرة أفيرنس Avernus تبعث في الجو دخاناً كبريتيا بلغ من قوته أن وصفته الأساطير بقولها أنه ما من طائر يطير فوقه ويبقى حياً. وكان بالقرب من الكهف الذي شقّ إنياس طريقه السهل إلى الجحيم كما جاء في ملحمة فرجيل.
وفي شمال البحيرة كانت مدينة كومي Cumae القديمة، وقد أخذت تحتضر في ذلك الوقت بعد أن قامت إلى جانبها غبنتها مدينة نيوبوليس التي كانت أكثر منها جاذبية، ولوجود مرفأين بجوارها أكثر أمناً من مرفئها وهما بتيولي وأستيا، ولتقدم الصناعة في كبوا Capua. وكانت كبوا تبعد عن شاطئ البحر في الداخل نحو خمسين ميلاً وتقوم في إقليم خصيب كان ينتج في بعض الأحيان أربع غلات في العام (12)؛ ولم يكن في إيطاليا كلها ما يضارع ما فيها من مصانع البرنز والحديد. وقد جازتها روما على مساعدتها هنيبال جزاء أضر بها قرنين من الزمان عجزت فيهما عن أن تفيق من كبوتها، ووصفها شيشرون
في خلالها بأنها "مسكن من ماتوا سياسياً"(13). وظلت كذلك حتى أعادها قيصر إلى سابق عهدها بأن جاء إليها بآلاف من المستعمرين الجدد؛ وأضحت في أيام تراجان مدينة مزدهرة مرة أخرى.
لقد يبدو لنا أن هذه المدن الكبرى التي كانت قائمة في إيطاليا القديمة والتي سردناها على القارئ سرداً سريعاً ليست أكثر من أسماء. ولشد ما نخطئ إذ نظنّ أنها مجرد ألفاظ على خريطة، أو لا نحس أنها كانت مساكن صاخبة لرجال مرهفي الحس يجدُّون في طلب الطعام والشراب والنساء والذهب.
والآن فلنرفع الرماد عن إحدى المدائن الرومانية لنقف في آثارها التي احتفظت بها بأعجب الوسائل عن مجرى الحياة في تلك الشوارع القديمة.
الفصل الثاني
بمبي
كانت بمبي إحدى البلدان الصغرى في إيطاليا، وقلما يرد لها ذكر في الآداب اللاتينية إلى إذا ذكر حساء سمكها المتبّل، وكرنبها، ودفنها تحت الرماد البركاني، وقد أنشأها الإسكانيون Oscans، ولعلها تضارع روما في قدم عهدها؛ وسكنها مهاجرون من اليونان، واستولى عليها سلا، وجعلها مستعمرة رومانية، ودمر بعضها زلزال في عام 63 م. وكان بناؤها لا يزال يجدد في الوقت الذي دمرها بركان فيزوف مرة أخرى. فقد ثار هذا البركان في اليوم الرابع والعشرين من شهر أغسطس عام 79 م. وقذف من فوهته رماداً وصخوراً في الهواء وعلته ألسنة من اللهب. وانهمر فوقها مطر غزير فاستحالت المواد التي قذفها البركان سيلاً جارفاً من الطين والحجارة حط على بمبي وهركيولانيم، فلم تمضِ إلا ست ساعات حتى غطاها بطبقة يبلغ سمكها ثماني أقدام أو عشر. وظلت الأرض تزلزل والمنازل تتداعى طوال ذلك النهار والليلة التي أعقبته. فدفن النظارة تحت أنقاض دور التمثيل (14)، واختنق مئات من الأهلين بالتراب والدخان، وثارت الأمواج فحالت بين من حاولوا النجاة بطريق البحر. وكان بلني الأكبر وقتئذ يتولى قيادة الأسطول الغربي عند ميسينم Misenum القريبة من بتيولي وتأثر قلبه باستغاثة أهل البلدة وطلبهم النجدة، كما تأثر برغبته في مشاهدة هذه الظاهرة عن كثب، فركب سفينة صغيرة ونزل منها إلى البر على الشاطئ الجنوبي للخليج، وأنجى عدداً من الاشخاص؛ وبينما كانت تلك الجماعة تغدو خوفاً من البَرَد والدخان اللذين كانا يتقدمان نحوها، خارت قوى العالم الشيخ، فسقط في
الطريق وقضى نحبه
(1)
. وفي صباح اليوم التالي انظمت زوجته وابن أخيه إلى الجماعة اليائسة التي كانت سائرة بإزاء الساحل تحاول الفرار من الموت، وكانت ثورة البركان وقتئذ لا تزال مستمرة، وقد غطت السماء من نابلي إلى سرنتم بالحجارة والرماد حتى استحال النهار ليلاً حالك السواد. واستولى الهلع على الفارين الذين افترقوا في هذا الظلام الدامس عن أزواجهم وأبنائهم، فعلا صراخهم وعويلهم وزادوا الموقف هلعاً ورعباً. وأخذ بعضهم يستغيث بمختلف الآلهة لتنجيهم من هول الكارثة، وبعضهم ينادي بأن الآلهة كلها قد هلكت، وأن نهاية العالم التي طالما تنبأ بها الناس قد حلّت (16). ولما صفت السماء آخر الأمر في اليوم الثالث كانت الحمم البركانية وما اختلط بها من الطين قد غطّت كل شيء في بمبي إلى أعلى السقف، وحتى كانت هركيولانيم قد اختفت عن آخرها من الوجود.
وأكبر الظن أن ألفين أو نحوهما من سكان بنبي البالغ عددهم عشرين ألفاً قد قضوا نحبهم في هذه الكارثة؛ وقد حفظ الرماد البركاني أشكال عدد من الموتى؛ ذلك بأن الأمطار وأحجار الخفاف التي سقطت عليها غطتها بطبقة سميكة صلبت حين جفت، ولما ملئ فراغ هذه القوالب العاجلة خرجت منه أشكال بشعة. وعاد قليلون ممّن نجوا إلى أنقاض المدينة يبحثون فيها عن بعض ما فقدوه من النفائس، ثم تركوا هذا الموضع فيما بعد فغطته الأتربة على مر الأيام. وفي عام 1709 إتحفر قائد نمساوي حفرة في موضع هركيولانيم، ولكن الرواسب التي فوق المدينة والتي كان سمكها في بعض المواضع يبلغ ستين قدماً بلغت من السمك درجة جعل أعمال الحفر تسير ببطء شديد وتتكلّف نفقات باهظة. أما بمبي فقد بدأ الكشف عنها في عام 1749، وظل حتى الآن يجري في فترت متباعدة. وقد كشف الآن عن الجزء الأكبر من المدينة، فظهر عدد كبير من
(1)
أنظر وصف بلني الأصغر لموت عمه في هذه الثورة البركانية في الجزء الأول لكتابنا "أشهر الرسائل العالمية". (المترجم)
البيوت، والأدوات، والنقوش، فاستطعنا أن نعرف عن بمبي القديمة من بعض النواحي أكثر مما نعرفه عن روما القديمة.
وكان محور حياة المدينة هو السوق العامة، شأنها في هذا شأن سائر المدن الإيطاليّة. وما من شك في أن هذه السوق كانت في الزمن القديم ملتقى الزُّراع، وحاصلاتهم في "يوم السوق"، وكانت تقام فيها الألعاب، وتمثل فيها المسرحيات، وقد أقام فيها الأهلون أضرحة لآلهتهم، فشادوا ضريحاً لجوبتر في أحد طرفيها وضريحاً لأبلو في الطرف الآخر، وبالقرب من هذا الضريح الأخير أنشأوا ضريحاً لفينوس (زهرة) بمبيانا Pompeiana راعية المدنية وحاميتها. ولكن أهل المدينة لم يكونوا قوماً متدينين، فقد شغلتهم الصناعة، والسياسة، والألعاب، والصيد فلم تترك لهم وقتاً للعبادة، وكانوا إذا عبدوا عظمة عضو التذكير واتخذوه أهم الرموز لطقوسهم الديونيشية (17). ولما أن زادت الشؤون الاقتصادية والحكومية في مقدارها وخطرها، وعلت قيمتها، قامت أبنية عظيمة حول السوق إتخذت مراكز للأعمال الإدارية، وللمساومات، والمفاوضات، وتبادل السلع.
وفي وسعنا أن ندرك مما نعرفه عن المدن الإيطاليّة الحديثة كيف كانت الشوارع المجاورة للسوق تعج بالبائعين الجائلين، ويعلو فيها ضجيج البائعين والمشترين، وعجيج الصناعات بالنهار والمرح بالليل. وقد عثر المنقبون في خرائب الحوانيت على بعض النُّقل، والعيش، والفاكهة، المتفحمة أو المتحجرة التي لم تجد من يشتريها. وفي الشوارع على مسافة من السوق كانت الحانات، ومحال الميسر، وبيوت الدعارة، كل منها يحاول أن يجمع هذه كلها فيه.
ولو لم يحرص أهل بمبي على أن ينقشوا عواطفهم على جدران المباني العامة لما استطعنا أن نتخيل ما كانت عليه حياتهم من حدة ومضاء. وقد نُقلت ثلاثة آلاف من هذه النقوش. وأكبر الظن أن آلافاً أخرى لم يتح لها البقاء، وقد اكتفى ناقشوها في بعض الأحيان بذكر أسمائهم وفحشهم الجريء، الذي لا يزال
الناس يجبون أن يفعلوه؛ ودوّن بعضهم الأوامر التي كانوا يصدرونها إلى أعدائهم مؤملين أن يطيعها هؤلاء الأعداء كقول واحد منهم "من ساميوس Samius إلى كورنليوس Cornelius: إشنق نفسك". ومن النقوش ما هو رسائل حب كثيراً ما تكون شعراً: فقد كتبت رميولا Romula تقول إنها "وقفت هنا مع ستفيلس Stephylus"، وكتب شاب متيّم:"وداعاً يا فكتوريا؛ في وسعكِ أياً كان مكانكِ أن تعطسي أحسن عطسة"(18).
وليست الحوادث العامة أو القرابين الخاصة المنحوتة أو المرسومة على الجدران بأقل عدداً من هذه الرسائل، فترى المُلاّك يعلنون أيام عطلتهم، والذين فقد لهم متاع يعلنون عن فقده، ونقابات أرباب الحرف وغيرها من الجماعات تعلن عن تأييد المرشحين الذين يؤمل نجاحهم في حملات الانتخابات البلدية؛ فها هم أولاء "صائدوا السمك يرشحون بوبديوس روفس Popfdius Rofus ليكون إيديلا Aedile" و "قاطعوا الأخشاب وبائعوا الفحم النباتي يطلبون إليكم أن تنتخبوا مارسلينس"(19)، وها هي ذي بعض النقوش الخشنة تعلن عن ألعاب المجالدة، وبعضها الآخر يمتدح شجاعة مشهوري المجاهدين مثل سلادس Celadus، وها هي ذي "العذارى تتحسّر" أو تهيم بأحد الممثلين المحبوبين _ "أي أكتيوس Actius، يا حبيب الشعب عجل بالعودة! "(20). لقد كانت بمبي تعيش لكي تتلذذ، فقد كان فيها ثلاثة حمامات عامة وساحة للتدريب الرياضي، ودار تمثيل صغيرة تتسع لألفين وخمسمائة من النظارة، وأخرى كبيرة تتسع لخمسة آلاف، ومدرج يستطيع عشرون ألفاً أن يستمتعوا فيه بآلام الموت يقاسيها غيرهم من الناس بدلاً منهم. وها هو نقش يقول: "يسقتل في بمبي في الرابع والعشرين، والخامس والعشرين، والسادس والعشرين، من نوفمبر ثلاثون زوجاً من المجالدين: قدمهم حاكما المدينة، وسيكون هناك صيد؛ مرحباً
بك يا ميوس Maius مرحى يا باريس! " وكان ميوس هذا أحد حاكمي المدينة، أما باريس فكان كبير المجالدين.
وتدل آثار داخل المنازل على أن الأهلين كانوا يحيون حياة مفعمة بالنعيم تجملها الفنون المختلفة. فأما البيوت فتكاد تكون خالية من النوافذ والتدفئة فيها نادرة، ولا تظهر الحمامات إلا في منازل الأغنياء، وكان لبعض الدور بركة في حديقة محاطة بألعاب وكانت أرض الحجرات تصنع من الإسمنت أو الحجر أو من الفسيفساء أحياناً، وقد نقش رجل صريح من طلاب المال على ارض داره هذه العبارة:"مرحبا بالكسب"، ونقش آخر "الكسب لذّة"(21). ولم يعثر إلا على القليل من الأثاث فقد كان كله تقريباً من الخشب، ولهذا لم يبقَ منه شيئاً يذكر، غير أن عدداً كبيراً من النضد، والأسرة، والكراسي، ومصابيح الرخام أو البرنز قد نجت من التلف، وفي وسع الإنسان أن يرى في متحفي بمبي ونابلي مجموعة متنوعة من الأدوات المنزلية، من أقلام، ومحابر، وموازين، وأدوات المطبخ، والزينة، والآلات الموسيقية.
ونواحي البقايا الفنية التي كشفت في بمبي أو بالقرب منها بأن الأشراف الذين يسكنون في القصور الصغيرة ذات الحدائق لم يكونوا هم وحدهم الذين يستمتعون بالمميزات الثقافية للحياة، بل كان يشاركهم فيها تجار المدينة. فقد كشفت في هركيولانيم مكتبة خاصة كانت تحتوي على 1756 مجلداً أو ملفاً، ولا داعي هنا لأن نعيد ما قلناه من قبل عن كؤوس البسكوريالي Boscoreale أو المناظر الرائعة والنساء الرشيقات المصورة على جدران منازل بمبي. ولقد كان في كثير من المساكن تماثيل ذات روعة، وكان في السوق العامة وحدها مائة وخمسون تمثالاً. وقد عثر في هيكل جوبتر على رأس لهذا الإله قد يكون فدياس نفسه هو الذي سوّاه؛ فأنت ترى فيه القوة والعدالة ماثلتين في ثنايا الشعر الغزير واللحية الكثة. وكان في هيكل أبلو تمثال لدينان ثقب مؤخر رأسه حتى يستطيع كاهن
مختبئ أن يتحدث بالنبوءات. وقد عثر في أحد قصور هركيولانيم الصغيرة على طائفة من التماثيل والأدوات البرنزية كانت من الكثرة بحيث امتلأت بها حجرة ذائعة الصيت في متحف نابلي. وأكبر الظن أن روائع هذه المجموعة - عطارد المستريح، ونارسس أو ديونيش، والساتير السكران وإله الحقول الراقص - كانت يونانية بأصلها أو بصنعها؛ وهي تكشف عن حذق في الصنع، وعن السرور غير المحتشم البادي في الجسم الصحيح السليم، وهما الخاصتان الماثلتان في الفن البركستيلي. ومن هذه التماثيل تمثال نصفي من البرنز لأحد الدلالين في مدينة بمبي ويدعى ل. كاسليوس أيوكندس L. Caacilius Iuoundus الذي وجدت حساباته منقوشة على 154 لوحاً من الشمع عثر عليها في داره بمدينة بمبي. ويظهر في هذا التمثال الرأس الأصلع والوجه الصارم غير المجرد من الحنو. في هذا التمثال تمتزج الخشونة بالذكاء، والحكمة بالثآليل الجلدية؛ وهو من صنع مثال معاصر - ولعله مثال إيطالي - أظهر فيه شخصية صاحبه على حقيقتها وبأحسن ما تظهر الشخصيات. والحق أن الإنسان لتستريح نفسه لوجود هذه الشخصية الواقعية إلى جانب ما يحيط بها في متحف نابلي من تماثيل الآلهة والإلهات الخالية وجوهها من الغضون، والتي تكاد تنطع معارفها الملساء الوديعة المستكنة لتخبرنا بأن أصحابها لم يعيشوا قط على ظهر الأرض.
الفصل الثالث
نظام البلديات وحياتها
ولم تكن الحياة الخاصة والعامة، حياة الأفراد وحياة الجماعات، أحد وأقوى ما كانت في إيطاليا القديمة؛ غير أن حوادث هذه الأيام تبلغ من الخطر ومن استنفاد الجهود حداً لا نستطيع معه أن نولي تفاصيل نظام البلديات في عهد القياصرة كثيراً من عنايتنا، ومن أجل هذا لم تعد نظم الحمم المختلفة المميزة أو الحقوق السياسية المتتابعة التي كان الأهلون يعضون عليها بالنواجذ، لم تعد هذه أو تلك جزءاً من ذلك الماضي الحي الذي هو موضوع بحثنا ومثار اهتمامنا.
لقد كان من الخصائص الأساسية للإمبراطورية الرومانية تتألف من مجموعة من دول- المدن تحكم نفسها بنفسها إلى حدٍ ما، وتضم كل منها في مؤخرتها أرضين واسعة تمتلكها وتسيطر عليها، مع أن الإمبراطوريّة كلها كانت مقسمة إلى ولايات. وكان معفي الوطنية في هذه الإمبراطوريّة حب الشخص لمدينته أكثر مما تعني حبه للإمبراطورية. وكان الأحرار في كل مدينة يقنعون في الأحوال العادية بممارسة حقوقهم السياسية المحلية البحتة؛ وقلما كان الذين نالوا المواطنية الرومانية من غير أهل روما يذهبون إلى تلك العاصمة ليعطوا أصواتهم في الانتخابات؛ ولم يكن اضمحلال الجمعيات العامة في العاصمة مصحوباً باضمحلال مماثل له في مُدن الإمبراطوريّة ما تدل على هذا بمبي نفسها. وكان لمعظم البلديات الإيطاليّة مجالس شيوخ Curia- ولمعظم المدن الشرقية مجالس boule' تشريعية- تسن قوانينها وجمعيات comitia ekklesia تختار حكامها؛ وكان ينتظر من حاكم المدينة أن يهب مدينته مبلغاً كبيراً من المال Snmma Honoraria (والكلمة الثانية مشتقة من Honas بمعنى المنصب) نظير تفضلها
عليه بأن يكون حاكماً لها، وقد جرت العادة أيضاً أن يتبرع من حين إلى حين ببعض المال للأغراض أو الألعاب العامة. وإذ كان المنصب لا ينال عليه صاحبه أجراً فإن ديمقراطية الأحرار- أو أرستقراطية الأحرار- قد استحالت في كل مكان تقريباً الجركية يتولاها ذوو المال والجاه.
وظلت البلديات مائتي عام من عهد أغسطس إلى عهد أورليوس في رخاء وازدهار. ولسنا ننكر أن الكثرة الغالبة من أهلها كانت من الفقراء بطبيعة الحال؛ فقد تكفلت الطبيعة والمميزات المختلفة بإيجاد هذه الحال ولكن التاريخ لم يحدثنا قط عن عهد من العهود، قبل هذا العهد أو بعده، فعل فيه الأغنياء للفقراء قدر ما فعله أغنياء هذه المدائن لفقرائها: ذلك أن نفقات إدارة المدينة كلها تقريباً، وما يلزم من المال لتمثيل المسرحيات، وغير ذلك من ضروب التسلية، والألعاب، وتشييد الهياكل، ودور التمثيل، والملاعب؛ ومدارس التدريب الرياضي، والمكتبات العامة، الباسلقات، والقنوات التي تنقل ماء الشرب للمدن، والقناطر والحمامات، وتجميل هذه كلها بالأقواس والأروقة ذات العمد، والصوَر والتماثيل، كانت كلها يتحملها ذوو اليسار. وقد ظل الوطن طوال المائتي عام الأولى من عهد الإمبراطوريّة يدفع أولئك الأقوام إلى التنافس فيما بينهم للقيام بهذه الأعمال الخيرية تنافساً أدى في بعض الأحيان إلى إفلاس عدد من الأسر التي كانت تمولها، أو المدن التي تتكفل بها بعد إقامتها من مال الأغنياء. وقد جرت العادة في أيام القحط أن يبتاع الأغنياء الطعام ويوزعوه من غير ثمن على الفقراء، وكانوا في بعض المناسبات يقدمون لجميع المواطنين؛ ولجميع السكان أحياناً، زيتاً أو خمراً بالمجان، أو يقيمون لهم وليمة عامة، أو يهبونهم قدراً من المال. وخلّدت النقوش الباقية إلى الآن كثيراً من هذا السخاء. فها هو ذا مثر من أصحاب الملايين يهب مدينة ألتينم في فنيشيا 1. 600. 000 سسترس لإقامة حمامات عامة، وها هي ذي سيدة تشيد هيكلاً ومدرجاً في كسينم Casinum؛
وها هو ذا ديسميوس تلس Decimius Tullus يهب تركوينياي Tarquinii حمامات تكلّفت 5. 000. 000 سسترس؛ وها هي ذي كرمونا Cremona التي دمرها جنود فسبازيانلا تلبث أن يعاد بناؤها من تبرعات المواطنين. وتذكر النقوش إسمي طبيبين قدما كل ما يملكان هبات لنلمثلي. وفي أستيا التي كانت مزدحمة بالسكان دعا لوسليوس جمالا Lucilius Gemala جميع أهلها إلى الطعام ورصف فيها طريقاً طويلاً واسعاً، ورمم سبعة هياكل أو أعاد بناءها وأعاد بناء حمامات البلدية، ووهب خزانتها ثلاثة ملايين سسترس (22).
وكان من عادة بعض الأغنياء أن يقيم الواحد منهم وليمة يدعو إليها قسماً كبيراً من المواطنين في عيد ميلاده أو لمناسبة إنتخابه إلى منصب عام، أو زواج إبنته، أو ارتداء إبنه الطوغة، دليلاً على بلوغه سن الرشد، أو تدشين بناء أهداه إلى المدينة. وكانت المدينة تجزي هذا المحسن على إحسانه بأن تعينه في منصب عام، أو تقيم له تمثالاً، أو تمتدحه بقصيدة أو نقش. ولم يكن الفقراء يشعرون بالذلّة حين ينالون هذه العطايا كلها، ذلك بأنهم كانوا يتهمون الأغنياء بأنهم لم يحصلوا على هذا المال الذي يفعلون به الخير إلا من طريق الاستغلال، ومن أجل هذا كانوا يتطلبون الاقتصاد في المباني الجميلة والتماثيل، ويلحون في تخفيض ثمن الحبوب والإكثار من الألعاب (23).
وإذا أضفنا إلى هبات الأفراد، ما كان يهبه الأباطرة للمدن، وما كان يقام فيها بأموالهم من مبانٍ، وما يقدمونه لها من مال لتخفيف ما يحل بها من الكوارث، فضلاً عن الأعمال العامة والمناصب التي كانت تحوّل من خزائن البلديات، إذا فعلنا هذا بدأنا نحس بفخامة المدن الإيطاليّة في عهد حكومة الزعامة. لقد كانت شوارعها مرصوفة، وكان فيها مجارٍ لنقل المياه القذرة، وشرطة لحماية الأمن، وكثير من وسائل الزينة، وخدمة طبية مجانية للفقراء من أهلها، وماء نقي نظيف يصل إلى الدور في أنابيب نظير أجر قليل، وطعام يقدم
للفقراء بثمن بخس. وكانت الحمامات في معظم الأحوال مباحة من غير أجر يُنفَق عليها من هبات المحسنين، والمال يقدم للأسر الفقيرة مساعدة لها على تربية الأبناء والإكثار منهم؛ وكانت المدارس ودور الكتب تُنشَأ للتعليم والمطالعة، والمسرحيات تُمثَّل، والحفلات الموسيقية تقام، والألعاب تُنظَّم لتُنافس بها تلك المدن روما غير عابئة بما تنفقه فيها من مال. ولم تكن حضارة المدن الإيطاليّة حضارة مادية بالقدر الذي كانت عليه في العاصمة؛ فقد كانت هذه المدائن تتنافس في إقامة المدرجات، ولكنها أقامت كذلك هياكل فخمة، يضارع بعضها أحسن ما كان منها في روما (24)، وجعلت شهورها مرحة بما كانت تقيمه من أعياد دينية ذات بهجة. وكانت تنفق بسخاء على الأعمال الفنية، وتنشئ القاعات الرحبة للمحاضرات، وللشعراء، والسفسطائيين، والخطباء، والفلاسفة، والموسيقيين. وكانت تيسّر لمواطنيها أسباب الصحة، والنظافة، والتنزه، والحياة الثقافية القوية. ومنها، لا من روما، خرج عظماء المؤلفين اللاتين، وعدد كبير من أحسن ما في متاحفها من روائع النحت كتمثال نيكي (العدالة) في متحف نابلي، وتمثال بروس (الحب) في سنتومسلا Centumecella، وتمثال زيوس في أتركولي Atricolic. وكانت تقوم بحاجيات عدد من السكان، لا يقلّون عن عددهم قبل هذا القرن، في المدن التي قامت مكانها وتؤمنهم من مصائب الحرب تأميناً منقطع النظير.
وقصارى القول أن القرنين الأول والثاني من التاريخ الميلادي قد شهدا ذروة مجد شبه الجزيرة العظيمة.
الباب الثاني والعشرون
تمدين الغرب
الفصل الأول
روما والولايات
كانت الوصمة التي يوصم بها رخاء إيطاليا - إذا غضضنا النظر عن نظام الاسترقاق الذي كان نظاماً عاماً في الدول القديمة - هي اعتمادها إلى حدٍ ما على استغلال الولايات. لقد كانت إيطاليا معفاة من الضرائب لأن الولايات كانت تؤدى لها الشيء الكثير نهباً أو خراجاً، ومن ذبنكما النهب والخراج كان أصل الثروة التي نشأ عنها ازدهار المُدن الإيطاليّة. وكانت روما قبل عهد قيصر تعد الولايات أقاليم تمتلكها بحق الفتح، وتعد سكانها جميعاً رعايا رومانيين، ولم يكن منهم إلا عدد قليل يعدون ضمن المواطنين الرومان؛ وكانت أرض تلك البلاد بأجمعها ملكاً للدولة الرومانية، ويمتلكها أصحابها على أنها منحةً لهم من قبل الحكومة الإمبراطوريّة ومن حقها أن تستردها منهم وأرادت روما أن تقلل من احتمال قيام الثورات في الأقاليم المفتوحة فقسمتها ولايات صغيرة حرّمت على كل ولاية أن يكون بينها وبين غيرها من الولايات معاملات سياسية مباشرة، وكانت تفضّل رجال الأعمال على الطبقات الدنيى في جميع الولايات. وكان سر الحكم الروماني وشعاره هو فرّق تَسُدْ Divide et impera.
ولعل شيشرون كان يبالغ حين قال عن أمم البحر الأبيض المتوسط، في
سياق تشهيره بفريس Verres، إن بلادها كانت مقفرة في عهد الجمهورية:"إن كل الولايات تندب حظها، وجميع الأحرار يصرخون ويعولون، وجميع الممالك تحتج على قسوتنا وشرهنا، وليس ثمة مكان فيما بين المحيطين، مهما يكن قاصياً أو خافياً، لم يشعر بوطأة جشعنا وظلمنا"(1). أما الزعامة فكانت أكثر سخاء من الجمهورية في معاملتها للولايات، ولم يكن هذا كرماً منها بل كان حسن التدبير. فقد كانت الضرائب في أيامها غير باهظة، وكانت تحترم الأديان واللغات والعادات المحلية، وكانت حرّية الكلام مباحة إلا إذا كانت طعناً في السلطة العليا، وسمحت لها أن تحتفظ بقوانينها المحلية مادامت هذه القوانين لا تتعارض مع مكاسب الرومان وسيادتهم. وقد اتبعت خطة مرنة حكيمة أمكنها بها تقسيم الولايات الخاضعة لسلطانها أقساماً متفاوتة في المرتبة، وتقسيم الأهلين في داخل كل ولاية طبقات متفاوتة القدر كذلك. فقد كانت بعض البلطيات كأثينة ورودس "مدناً حرة"، تعطي جزية، ولا تخضع لحاكم الولاية، وتدير شؤونها الداخلية بنفسها من غير أن تتدخل فيها روما ما دامت تحتفظ بالنظام الاجتماعي والسلم. وقد سمحت روما لبعض الممالك القديمة أمثال نوميديا وكبدوكيا أن تحتفظ بملوكها، ولكن هؤلاء الملوك كانوا "أفيالاً" لروما يعتمدون على حمايتها وسياستها، وكان يطلب إليهم أن يمدوها بالمال والعتاد إذا أرادت ذلك. وكان حاكم الولاية تجمع في شخصه السلطة التشريعية التنفيذية، والقضائية، ولم يكن يحد من سلطانه إلا المُدن الحرة، وحق المواطن الروماني في أن يلجأ إلى الإمبراطور، والرقابة المالية التي كان يقوم بها الكوستر أو الرقيب.
غير أن هذا السلطان المطلق كان يغري الحكام بأن يسيئوا استخدام سلطتهم، ومع أن المدة التي كان يتولى فيها الحاكم منصبه قد طالت في عهد الزعامة، ومع أن مرتّبه ومخصصاته الأخرى قد زيدت زيادة كبيرة، ومع أن مسئوليته عن أعماله المالية أمام الإمبراطور قد قللت من فساد الحكم وسوء
استعمال السلطة، فإن في وسعنا أن نستدل من رسائل بلني ومن فقرات في كتاب تاستس، على أن ابتزاز المال والفساد لم يُصبحا من الأمور النادرة في آخر القرن الأول.
وكانت جباية الضرائب أهم أعمال الحاكم وأعوانه. وكانت الدولة في عهد الإمبراطوريّة تقوم بإحصاء عام في كل الولايات، تقصد به فرض الضرائب على الأرض وعلى الأملاك - ومنها على الحيوانات وعلى العبيد. وأرادت الدولة أن تشجع زيادة الإنتاج فاستبدلت بالعشور خَراجاً محدد القيمة. ولم يعد الملتزمون هم الذين يجبون الضرائب، وإن ظلوا يجبون بعض العوائد الجمركية في الثغور، ويشرفون على الأعمال الجارية في غابات الدولة ومناجمها وعلى الأشغال العامة فيها. وكان يُنتظر من الولايات أن تسهم في عمل تاج من الذهب لكل إمبراطور جديد، وأن تقوم بتكاليف إدارة الولاية، وأن ترسل في بعض الحالات سفناً محملة بالغلال إلى روما. واحتفظ في الشرق بالعادة القديمة، عادة أداء الأفراد خدمات عامة للدولة، ثم انتشرت فيما بعد من الشرق إلى الغرب. وكان للحكومة المحلية أو للوالي بمقتضى هذه العامة أن "يُطلب " إلى الأغنياء أن يقدموا قروضاً للحرب، وسفناً للأسطول، ومباني للأغراض العامة، وطعاماً لضحايا القحط، ومغنين في الأعياد والمسرحيات.
ويقول شيشرون، وهو ممن تولوا بعض المناصب العامة في الدولة، إن الضرائب التي كانت تؤديها الولايات لا تكاد تكفي نفقات الإدارة والدفاع (3). وكان "الدفاع" عندهم يشمل القضاء على الفتن والثورات، وأكبر الظن أن نفقات "الإدارة" كانت تشمل المطالب التي خلقت ذلك العدد الكبير من الرومان أصحاب الملايين. ومن واجبنا ألا نرى حرجاً في أن ترسل أي سلطة يناط بها حفظ الأمن والنظام في ذلك الوقت جباة يجمعون أكثر مما يكفي لهذين الغرضين. على أن الولايات قد عمها الرخاء في عهد حكومة الزعامة على الرغم من
هذه الأعباء كلها. ذلك بأن الإمبراطور ومجلس الشيوخ قد فرضا رقابة شديدة على الموظفين في الولايات، وكانا يفرضان أشد أنواع العقاب على كل من يسرق من الأموال أكثر مما تبيحه له منزلته. وكان ما يؤخذ من الولايات أكثر مما يتطلبه الفرضان السابق ذكرهما يرد آخر الأمر إليها ثمناً لبضائعها، وبفضل هذا العون الذي كان يقدم للصناعات أصبحت الولايات أقوى من إيطاليا الطفيلية المزعزعة الكيان. وجدير بنا أن نختم هذا الفصل بالعبارة الآتية المنقولة عن أفلوطرخس، وهي أن نعمتين يجب أن تضمنهما الدولة للشعب قبل كل شيء: وهما الحرية والسلام؛ "فأما السلام فلسنا في حاجة إلى أن نشغل أنفسنا به، لأن الحروب كلها قد وضعت أوزارها. وأما الحرية فإن لنا منها ما تركته لنا الحكومة (روما)؛ ولعلها قد أبقت لنا أكثر مما فعلت لما كان ذلك من مصلحتنا"(4).
الفصل الثاني
أفريقية
ضمت كورسكا وسردينيا معاً وتكونت منهما ولاية واحدة، ليست جزءاً من إيطاليا؛ وكان الجزء الأكبر من كورسكا أرضاً جبلية مقفرة، يصيد فيها الرومان الأهلين بالكلاب ليبيعوهم عبيداً (5). أما سردينيا فكانت تمدّهم بالعبيد، والفضة، والنحاس، والحديد، والحبوب؛ وكان فيها ألف ميل من الطرق الصالحة ومرفأ جيد ممتاز هو مرفأ كرالس Carales (كجلياري الحالية). وكانت صقلية قد انحطت منزلتها حتى كادت تصبح ولاية زراعية محضة من الولايات التي تمد روما الجائعة بالطعام. وكان الجزء الأكبر من أرضها الصالحة للفلاحة قد جُعل ضياعاً كبرى لتربية الماشية، يرعاها عبيد لا ينالون إلا أقل الغذاء والكساء، وكثيراً ما كانوا يفرون من عملهم لهذا السبب ويؤلفون عصابات للسلب والنهب. وكان سكانها في عهد أغسطس يبلغون 750. 000، (وقد بلغوا في عام 1930 حوالي 3. 972. 300). وكانت أكثر مدنها الخمس والستين ازدهاراً هي قطانيا Catania، وسرقوسة، وتورومينيوم Panormus (تورمينا Taormina الحالية)، ومسانا، وأجرجنتم، وبنورمس Panormus (بلرمو الحالية). وكان في سرقوسا وتورومينيوم ملهيان يونانيان فخمان، لا يزالان يستخدمان لهذا الغرض حتى الآن. وكانت سرقوسا، على الرغم مما أصابها من النهب على أيدي فريس Verres مملوءة بالمباني الرائعة، والتماثيل الشهيرة، والمواقع التاريخية بدرجة يسّرت العيش للإدِّلاء المحترفين الذين كانوا يصحبون السياح الكثيرين الوافدين إلى تلك الجزيرة (6)، وكان شيشرون يحسبها أجمل مدينة في العالم كله. وكان لمعظم الأسر الغنية ضياع أو بساتين في
ضواحيها وكان جميع ريفها تعطّره أشجار الفاكهة والكروم كما تعطّره في هذه الأيام.
وعاد على أفريقية كل ما فقدته بسيطرة الرومان عليها، فقد أخذت تحل شيئا فشيئاً محل تلك الجزيرة في توريد الحبوب مكرهة إلى روما، لكن الجنود، والمستعمرين، ورجال الأعمال، والمهندسين الرومان جعلوا تلك الولاية جنة وارفة الظلال إلى حد لا يكاد يصدقه العقل. وما من شك في أن الفاتحين الجدد قد وجدوا فيها حين قدموا إليها أصقاعاً خصبة غنية؛ فقد كان بين الجبال العابسة المطلة على البحر الأبيض المتوسط وسلسلة جبال أطلس التي تصدُّ عنها رمال الصحراء وادٍ شبه مداري يمده نهر بجرداس Bagradas (مجردا) بكفايته من الماء؛ وكانت الأمطار تهطل فيها شهرين من السنة لتعوض الأهلين عن عملهم الزراعي الشاق الطويل الذي علمهم إياه ماجو Mago وأرغمهم عليه ماسينسا Masinissa. ولكن روما أصلحت ما وجدته فيها من الأساليب الزراعية وزادت عليه. فقد شاد مهندسوها السدود على مجاري الأنهار التي تنحدر من التلال الجنوبية، واختزنوا الزائد من المياه في خزانات إبان موسم الأمطار، وصبّوه في قنوات للري في الأشهر الحارة التي تجف فيها مياه الأنهار (7). ولم تكن روما تفرض على هذه الولايات أكثر مما كان يجيبه منها رؤساؤها الوطنيون، ولكن فيالق روما وتحصينها كانت أقدر من حكوماتها الوطنية على حمايتها من القبائل البدوية التي تهبط عليها من الجبال، وكان يضم إليها ميل بعد ميل من الصحراء أو الأراضي البور فتزرع أو تُسكن. وكان الوادي ينتج كميات من زيت الزيتون بلغت من الوفرة حداً أدهش العرب حين قدموا إلى هذه البلاد في القرن السابع، إذ وجدوا أن في وسعهم أن ينتقلوا من طرابلس إلى طنجة دون أن يبتعدوا عن ظلال أشجار الزيتون (8). وأخذت البلدان والمدن يتضاعف عددها ويرتفع شأنها بفضل ما اتبع فيها من الأساليب المعمارية،
ووجدت الآداب فيها سوطاً جديداً يعبر عنها. وحسبنا دليلاً على ما بلغته أفريقية الرومانية من الرقي والثراء أن نشاهد آثار ما خلّفه الرومان من أسواق وهياكل وقنوات لجر مياه الشرب للمدن، ودور للتمثيل في أرض أصبحت الآن قفراً يباباً. ذلك أن هذه الحقول النادرة قد استحالت الآن صحارى رملية. ولم يكن سبب هذا التغيير الجو بل كان سببه تبدل الحكم - من دولة تضمن للبلاد الأمن الاقتصادي والنظام إلى أخرى تركت العنان للفوضى والإهمال يخربان الطرق والخزانات وقنوات الري.
وكان على رأس هذا الرخاء المستعاد مدينة قرطاجنة التي بعثت وقتئذ بعثاً جديداً. ذلك أن أغسطس قد احتضن بعد وقعة أكتيوم مشروع كيوس وقيصر الذي أخفق من قبل، وأرسل إلى قرطاجنة بعض الجنود الذين أراد أن يعوضهم عم إخلاصهم وانتصاراتهم أرضاً يهبها لهم. وسرعان ما انتزعت قرطاجنة مرة أخرى من يتكا تجارة الإقليم الصادرة منه والواردة إليه، وذلك بفضل موقعها الجغرافي الممتاز، ومرفأها الجيد، ودال نهر بجرداس الخصبة، والطرق الصالحة التي أنشأها المهندسون والرومان أو أعادوا فتحها؛ ولم يمضِ على تأسيس المدينة الجديدة قرن واحد حتى أضحت أكبر مدائن الولايات الغربية، وأقام أغنياء التجار والملاك قصوراً فخمةً على تل برسا Byrsa التاريخي، أو بيوتاً صغيرة ذات حدائق في الضواحي الشجراء؛ أما الفلاحون الذين تركوا الأرض لعجزهم عن منافسة أصحاب الضياع الكبرى فقد انضموا إلى صعاليك المُدن وإلى الأرقاء، وعاشوا في أحياء وبيوت قذرة حياة العدم والفاقة التي جعلتهم يرحبون فيما بعد بدعوة المسيحية إلى المساواة. وقامت البيوت في المدينة من ست طبقات أو سبع، وتلألأ الرخام في المباني العامة، وغصت الشوارع والميادين بالتماثيل المنحوتة على الطراز اليوناني. وشُيّدت الهياكل من جديد للآلهة القرطاجنيين القديمة، وظل ملكارت Melkart حتى القرن الثاني بعد الميلاد يستمتع بالضحايا
من أطفال الأحياء (9). وأخذ أهل البلاد ينافسون الرومان في حب الترف، وأدهان التجميل، والحُلي والشعر المصبوغ، وسباق العربات، وألعاب المجالدين. وكان من بين المناظر البارزة في المدينة حماماتها العامة العظيمة التي وهبها لها ماركس أوورليوس. وكانت فيها قاعات للمحاضرات، ومدارس لتعليم البيان، والفلسفة، والطب، والقانون، مما جعل قرطاجنة مدينة جامعية لا يفوقها من هذه الناحية إلا أثينة والاسكندرية، وفد إليها أبوليوس Apuleius وترتليان Tertullian ليدرسا فيها جميع فروع العلم، وقد دهش القديس أغسطين من مرح الطلاب وفساد أخلاقهم، فقد كان يحلو لهم أن يقتحموا قاعات المحاضرات ويخرجوا منها الأستاذ وتلاميذه (10).
وكانت قرطاجنة حاضرة الولاية المسمّاة أفريقية ومحلها الآن شرقي بلاد تونس. ونشأ من رواج التجارة في جنوبي هذه المدينة على الشاطئ الشرقي طائفة من المُدن أخذت ثروتها القديمة تعود إليها بعد إثني عشر قرناً من الزمان حتى دهمتها الحروب في هذه الأيام، ومن هذه المُدن القديمة حضرمنتم Hadrumentum (ومحلّها الآن سوسة) ولبتس Leptes الصغرى، وثبسوس Thapsus وتكابي Tacapae (فابس الحالية). وكان إلى شرقيها على البحر الأبيض إقليم يدعى تريبوليس Tripolis (طرابلس) وسمي كذلك لأنه حلف مكون من ثلاث مُدن: أويا Oea (طرابلس الحالية) التي أسسها الفينيقيون قبيل عام 900 ق. م، وسبراتة Sabrata ولبتس مجنا (الكبرى) (لبدة الحالية): وهذه البلدة الأخير هي مسقط رأس الإمبراطور سبتميوس Septimius Sevrus فقد ولد فيها عام 146 م؛ ووهبها في حياته باسلقا وحمّاماً عاماً تدهش آثاره السائح أو المحارب في هذه الأيام. وكانت طرق مرصوفة تسير عليها قوافل الإبل تصل هذه الثغور بالمُدن الداخلية: سفتولا Safetula وهي الآن قرية صغيرة بها آثار هيكل روماني عظيم؛ وثسدروس Thysdrus (الجم)، وكان فيها مدرج
يتّسع لستين ألف، وثجا Thugga (دجا) التي تشهد خرائب ملهاها ذي العُمَد الكورنثية الرشيقة بثراء أهلها وحسن ذوقهم. وكانت في شمال قرطاجنة أمها ومنافستها القوية يتكا Ytica؛ وفي وسعنا أن نلمح ما كانت عليه من ثراء في عهد الرومان، إذا عرفنا أن ثلاثمائة من رجال المصارف وبائعي الجملة من الرومان كانت لهم فروع فيها عام 46 ق. م. وكان الإقليم التابع لها يمتد شمالاً إلى هبو ديرهيتس Hippo Diarrgytus (بنزرت الحالية)، وكان يمتد فيها طريق محاذٍ لشاطئ البحر متجه نحو الغرب يصلها بمدينة هبو رجيوس Hippo Rigius (بونة)، التي أضحت بعد زمن قليل كرسي أبرشية القديس أوغسطين. وكان إلى جنوبيها في الداخل مدينة سرتة Cirta (قسطنطينية) عاصمة ولاية نوميديا، وفي غرب هذه المدينة الأخيرة بلدة ثمجادي Thomuhadi (ثمجاد)، التي تكاد تحتفظ بآثارها احتفاظ بمبي؛ ففيها الشوارع المرصوفة المعمّدة، والمجاري المسقفة، وفيها قوس نصر ظريف، وسوق عامة، وبناء مجلس الشيوخ، وباسلقا، وهياكل، وحمّامات، وملهى، ومكتبة، وبيوت خاصة كثيرة. وقد عثر في أرض السوق على لوحة للعب الداما نقشت عليها هذه العبارة: Venari، Iavare. ludere، ridere، hoc est vivere - ومعناها "الصيد، والاستحمام، واللعب، والضحك، هذه هي الحياة"(12). والفيلق الثالث الذي كان وحده يحرس الولايات الأفريقية هو الذي أنشأ ثمجادي حوالي عام 117 م. ثم اتخذ في عام 123 مركزا لقيادته يقيم فيه أكثر مما يقيم في ثمجادي ويبعد عنها بضعة أميال نحو الغرب، وأنشأ في مدينة لمبيسيس Lambaesis (لمبيز). وهنا تزوج الجنود واستقروا، وعاشوا في بيوتهم أكثر مما كانوا يعيشون في المعسكر. ولكن معسكرهم نفسه كان مرحاً، فخماً، جميل الزينة، به حمّامات لا تقل جمالها عن أية حمامات أخرى في أفريقية. أما في خارج المعسكر فقد أعانوا الأهلين في بناء هيكل لجوبتر، وعدد من الهياكل، وأقواس النصر، ومدرج
يقام فيه صراع ويحدث فيه الموت فيخففان من ملل الحياة السليمة الرتيبة.
وكان الذي مكن فيلقاً واحداً من حماية أفريقية الشمالية من القبائل المغيرة الضارية في الداخل هو إنشاء شبكة من الطرق، كان الغرض الأول منها عسكرياً ولكنها كانت عظيمة النفع من الناحية التجارية، وكانت تربط قرطاجنة بالمحيط الأطلنطي، والصحراء بالبحر الأبيض المتوسط. وكان للطريق الرئيسي يتجه نحو الغرب من سرتة إلى قيصرية عاصمة (مراكش)؛ وهنا نشر الملك جوبا الثاني Juba II أساليب الحضارة بين موري Mauri أي السود (المغاربة) الذين اشتق اسمهم من اسم الإقليم في الزمن القديم واسمه في هذه الأيام. وكان جوبا الثاني هذا إبن جوبا الذي مات في ثبسوس، وأخذ وهو طفلُ إلى روما ليزدان به موكب قيصر؛ ثم عفى عنه، وأخذ يدرس في روما حتى أصبح من جهابذة العلماء في أيامه. وعينه أغسطس قيلا على موريتانيا وأمره أن ينشر بين أهل وطنه الثقافة الرومانية التي جدّ في تحصيلها. ونجح في هذه المهمة، وكان من أسباب نجاحه أن امتد حكمه ثمانية وأربعين عاماً؛ ولشدّ ما كانت دهشة رعاياه حين رأوا رجلاً يكتب الكتب ويحكم. وجاء كلجيولا بإبن جوبا هذا إلى روما وأماته جوعاً، وضم كلوديوس مملكته إلى روما وقسّمها ولايتين: موريتانيا سيزرينسس Caesariensis (موريتانيا القيصرية) وموريتانيا تنجتانا Tingitana (موريتانيا التنجتانية) نسبة إلى عاصمتها تنجيس Tingis، وهي طنجة الحالية.
وكان في هذه المُدن مدارس كثيرة مفتحة الأبواب للفقراء والأغنياء على السواء. ونسمع أنه كان يدرَّسُ فيها الاختزال (13)، ويسمى جوفتال أفريقية مربية المحامين (14). وقد أنجبت في هذا العهد مؤلّفَين أحدهما صغير والآخر كبير - هما فلنتو وبوليوس. ولكن الأدب الأفريقي لم تكن له الزعامة على آداب العالم إلا أيام مجده في عهد المسيحية. وكان لوسيوس أبوليوس شخصية غريبة جديرة بالتصوير، أكثر من شخصية منكاني المتعدد الكفايات. وكان مولده في
مدورا Madaura من أسرة عريقة النسب (124 م)، وقد درس فيها وفي قرطاجنة وأثينة، وبدد ثروة كبيرة ورثها عن أسرته، وأخذ يتنقل من مدينة إلى مدينة ومن دين إلى دين، وانضم إلى الجماعات ذات الطقوس الدينية الخفية ومارس السحر وألف كتباً كثيرةً في موضوعات تختلف من اللاهوت إلى مسحوق الأسنان، وألقى محاضرات في الفلسفة والدين في روما وغيرها من المُدن، ثم عاد إلى أفريقية وتزوج في طرابلس من سيدة تكبره وتفوقه في الثراء. فلما فعل هذا رفع أصدقائها وورثتها المنتظرون الأمر إلى القضاء مطالبين بإلغاء الزواج، واتهموه بأنه حصل على موافقة السيدة عليه بفنون السحر؛ ودافع الرجل عن نفسه أمام المحكمة بخطبة وصلت إلينا بعد أن أدخل عليها بعد أيامه كثيراً من الصقل والتنميق، وكانت نتيجتها أن كسب القضية والزوجة، ولكن الناس أصروا على الاعتقاد بأنه ساحر؛ ولما ظهر المسيح أخذ حلفاء هؤلاء القوم يحيطون من قدره بتعداد معجزات أبوليوس. وقضى الرجل بقية حياته في مدورا وقرطاجنة يمارس صناعتي المحاماة والطب، وكتابة الرسائل والخطب، ولكن معظم ما كتب كان في الموضوعات العلمية والطبيعية؛ وقد أقامت له مدينته نصباً تذكارياً نقشت عليه باللاتينية العبارة الآتية: الفيلسوف الأفلاطوني، ولو أنه استطاع العودة إلى الحياة لساءه ألا يذكره الناس إلا بكتابه الحمار الذهبي.
وهذا كتاب شبيه كل الشبه بكتاب ساتريكون Satyricon لمؤلفه بترونيون، بل هو أكثر منه غرابة وشذوذاً. وكان الاسم الأول لهذا الكتاب هو أحد عشر كتاباً في التحول Metamorphoseon Lebri Xi، وهو توسع غريب في قصة رواها لوسيوس البتراسي عن رجل انقلب حماراً. ويتألف من سلسلة غير مرتبطة من المغامرات، والوصف، والحوادث المحشورة فيها حشراً، يتخللها السحر، والرعب، والفحش في القول، والحديث عن التقوى المرجأة.
ويروي لوسيوس بطل القصة كيف طاف بتساليا واستمتع فيها بعدد من الفتيات وألقى نفسه أين ما حل في جوٍ من السحر. ومما جاء في هذا الكتاب:
"وما كاد الليل ينقضي ويبزغ فجر يوم جديد حتى كان من حظي أن أستيقظ، وأن أقوم من فراشي وأنا نصف مذهول، راغب حقاً في أن أعرف وأرى أشياء عجيبة محيرة
…
والحق أني لم أكن أرى شيئاً أعتقد أنه كما أراه في الواقع؛ بل أن كل شيء بدا لي أنه قد تحول إلى صور أخرى بتأثير قوة السحر الخبيثة. وبلغ من قوة اعتقادي هذا أن ظننت أن الحجارة التي قد تعثر بها قدماي تصلّبت واستحالت من رجال إلى الصورة التي هي عليها، وأن الطيور التي سمعتها تغرّد، والأشجار والمياه الجارية، استحالت إلى هذا الريش والورق ومنابع الماء، من صورٍ أخرى غير هذه الصور. وكذلك ظننت أن التماثيل والصور ستتحرك في مستقبل الأيام، والجدران ستتكلم وتروي أخباراً عجيبة، وإني سأسمع من فوري وحياً من السماء ومن شعاع الشمس (15).
والآن وقد أصبح لوسيوس مستعداً لأية مغامرة يريدها، يقول انه يدلك جسمه بمرهم سحري، وهو شديد الرغبة في أن يستحيل طائراً؛ ولكنه يدلك نفسه بهذا المرهم يستحيل حماراً. وتروي القصة بعدئذ ما يلقاه من المحن ذلك الحمار "الذي له إحساس الإنسان وإدراكه". وكانت سلواه الوحيدة هي "أدني الطويلتين اللتين أستطيع بهما أن أسمع كل شيء ولو كان شديد البعد عنّي". وقد قيل له أنه سيعود إلى صورته الآدمية إذا عثر على وردة وأكلها، وهي أمنية يدركها بعد أن يمر بطائفة كبيرة من الحظوظ الحمارية منها ما هو طيب ومنها ما هو سيئ. ثم كره الحياة، فلجأ أولاً إلى الفلسفة، ثم إلى الدين؛ وألف دعاء يشكر فيه إيزيس شكراً بينه وبين ابتهال المسيحيين إلى أم الإله شبه عجيب (16). ثم يحلق رأسه ويُقبل في الطبقة الثالثة من أتباع إيزيس المبتدئين. ويرصف طريقاً يعود به إلى الأرض بعد أن يفسّر حلماً يأمره فيه أوزريس "أعظم الآلهة" بأن يعود إلى وطنه ويشتغل بالقانون.
وما أقل الكتب التي تحوي كل ما يحتويه هذا الكتاب من السخف، ولكن أقل منها ما يعبر عنه سخفه بعبارة تماثل عبارة هذا الكتاب في طلاوتها. ذلك أن أبوليوس يحاول فيه كل أنواع الأساليب، ويلبس كل أسلوب حاوله أجمل لباس؛ وأكثر ما يحبه من الأساليب، هو الأسلوب المطنب المنمق المسجوع المتجانس الأحرف في بداءة الألفاظ، المليء بالعبارات العامية الطريفة، والألفاظ القديمة المهجورة، والكلمات المصغّرة العاطفية، والنثر الموزون الشعري في بعض المواضع. وقصارى القول أن الكتاب يضم إلى الأسلوب الشرقي القوي ما في الشرق من غموض وشهوانية
(1)
. ولعل أبوليوس قد أراد أن يشير من طرف خفي، مستنداً إلى تجاربه الخاصة، إلى ان الانهماك في الشهوة الجنسية يذهب بالعقل ويبدّل الآدميين بهائم، والى أن السبيل الوحيدة التي يعودون بها إلى آدميتهم اقتطاف زهرة الحكمة والصلاح. وهو يبدو أحسن ما يكون في القصص العارضة التي يلتقطها بأذنيه القويتين الدوارتين؛ كما نرى في قصة العجوز التي تسلي فتاة بأن تروي لها قصة كيوبت وسيكي (17) - فتخبرها كيف وقع ابن الزهرة (فينوس) في حب فتاة حسناء، وهيأ لها كل أنواع السرور إلا سرورها برؤيته، وأثار غيرة أمه الشديدة، ثم نالت آخر الأمر سعادتها في السموات العلى. ولسنا نعرف مصوراً، بز بقلمه لسان هذا الأشيب السليط، في رواية هذه القصة القديمة.
(1)
لسنا ندري لمَ يصف الشرق بالشهوانية وأية شهوانية في الشرق تفوق ما وصف به هو نفسه عصر نيرون وغيره من الأباطرة في هذا الكتاب. (المترجم)
الفصل الثالث
أسبانيا
إذا عبرنا المضيق من طنجة انتقلنا من ولاية من أقدم ولايات روما إلى ولاية من أحدثها. وتقع أسبانيا في موقع عظيم الخطر من الناحية الحربية، عند مدخل البحر الأبيض المتوسط، وفي جوف أرضها معادن ثمينة كانت نعمة عليها ونقمة روت أرضها بدماء الشره، وتخترقها سلاسل الجبال التي تعوق سبل الاتصال، وامتزاج السكان ووحدتهم. وقد أحسّت أسبانيا بحمى الحياة الشديدة من اليوم الذي كان فيه الفنانون في العصر الحجري القديم يصورون الثور الوحشي (البيزن) على جدران الكهوف في ألتميرا إلى أيامنا الحاضرة المضطربة. ولقد ظل الأسبان ثلاثين قرناً شعباً حربياً ذا عزة وأنفة، وأجسام نحيلة قوية، وشجاعة وجَلَدْ، وكانوا ولا يزالون أصلاب الرأي، أقوياء العاطفة، يمتازون بالزراعة والاكتئاب، والاقتصاد وكرم الضيافة، والمجاملة والمروءة، يسهل استثارة بغضهم، ويسهل أكثر من هذا استثارة حبّهم. ولما جاء الرومان إلى بلادهم وجدوا فيها سكاناً يتآلفون حتى في ذلك الوقت البعيد من أجناس مختلفة يتعذر فصل بعضها عن بعض: منهم الإمبيريون من أفريقية، واللجوريون من إيطاليا، والكلت من غالا، وعلى رأسهم طبقة من القرطاجنين. وإذا جاز لنا أن نصدق الرومان الذيبن فتحوا بلادهم قلنا أن الأسبان كانوا قبل الفتح الروماني شعباً قريباً من الهمجية، يعيش بعضه في مُدن وبيوت، وبعضه في قرى وأكواخ وكهوف، ينام على أرض الحجرات أو على الطين، ويغسل أسنانه بالبول المعتّق (18). وكان الرجال يلبسون عباءات سوداء والنساء يرتدين "مآزر طوالاً
وجلابي زاهية الألوان"، ويضيف استرابون إلى هذا قوله في سياق اللون والتأنيب "إن النساء يرقصن مع الرجال ويمسكنهم بالأيدي (19".
وقد أنشأ سكان جنوب أسبانيا الشرقي - في ترسوس وهي ترشيش Tarshish الفينيقية - حوالي عام 2000 ق. م صناعة البرنز، وكانوا يبيعون منتجاتها في جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط. وأنشأت ترسوس أساس هذه الصناعة، في القرن السادس قبل الميلاد، أدباً وفناً قال أهلها إن عمرهما كان في ذلك الوقت يبلغ ستة آلاف عام. على أنه لم يبقَ من آثار هذا الفن سوى بضعة تماثيل فجة وتمثال نصفي متعدد الألوان منحوت من حجر الخرسان، وتمثال سيدة السكي Elcke المشابه للتماثيل اليونانية والنحوت على نمط كلتى قوى فياض. وشرع الفينيقيون حوالي عام 1000 ق. م يبحثون عن ثروة أسبانيا المعدنية، ولم يحل عام 800 حتى استولوا على قادس ومالقة Malaga وشادوا فيهما هيكلين عظيمين. ثم استقر المستعمرون اليونان حوالي عام 500 ق. م على الساحل الجنوبي الشرقي؛ وفي ذلك الوقت عينه أو حواليه استعان الفينيقيون ببني عمومتهم القرطاجنيين لإخماد ثورة في البلاد ففتحوا ترتسوس وجميع أسبانيا الجنوبية والشرقية. وكان من أثر استغلال القرطاجنين لشبه الجزيرة استغلالاً سريعاً بين الحرب البونية الأولى والثانية أن فتح الرومان أعينهم على ما في البلاد التي يسمونها "أيبيريا" من موارد ثروة غنية، فكان تحرّك سبيو إلى أسبانيا هو الذي قضى آخر الأمر على انقضاض هنيبال على إيطاليا. ودافعت القبائل الأسبانيّة المفككة عن استقلالها دفاع الأبطال، فكان النساء يفضلن قتل أبنائهن على وقوعهم أسرى في أيدي الرومان، وكان الأسرى من الرجال ينشدون أغانيهم الحربية وهم يموتون مصلوبين (20). وتطلّب فتح أسبانيا مائتي عام، ولكنها بعد أن تم فتحها كانت دعامة للدولة أقوى من معظم الولايات. وأحل ولدا جراكس، وقيصر، وأغسطس سياسة المجاملة والاحترام محل سياسة القسوة التي كانت تجري عليها الجمهورية
وأثمرت السياسة الجديدة أحسن الثمرات وأدومها، فأخذت البلاد تصطبغ اصطباغاً سريعاً بالصبغة الرومانية، وإتخذ الأهلون اللاتينية لغة لهم بعد أن كيفوها بما يلائم طبيعتهم، ونمت اقتصاديات البلاد واتسعت، وأخذت تمد روما بالشعراء، والفلاسفة، وأعضاء مجلس الشيوخ والأباطرة.
وظلت أسبانيا الدعامة الاقتصادية للإمبراطوريّة من أيام سنكا إلى عهد أورليوس، فأغنت المعادن الأسبانيّة روما كما أغنت من قبل صور ثم قرطاجنة؛ وكانت لإيطاليا كما كانت بلاد المكسيك وبيرو لها هي فيها بعد. فاستخرج من أرضها الذهب، والفضة، والنحاس، والقصدير، والحديد، والرصاص. وبذل فيها من العناية والدقة ما يبذل في استخراجها في هذه الأيام. ولا يزال في وسع المرء أن يرى في هذه الأيام مناجم عند ريو تنتو Rio Tinto بعيدة القرار محفورة في صخور الكوارتز الصمّاء، ويشاهد فضلات من الصخور باقية من أيام الرومان ولم يبقَ فيها إلا نسبة من النحاس يدهش الإنسان من ضآلتها. وكان الأرقاء والأسرى يعملون في هذه المناجم يوماً بعد يوم، وكثيراً ما كانوا يقضون الشهور الطوال دون أن ترى أعينهم ضوء الشمس (22). ونشأت بجوار المناجم صناعات معدنية عظيمة. وكانت أرض أسبانيا في هذه الأثناء رغم ما فيها من جبال وقنوات جدباء تخرج الحلفاء التي تصنع منها الحبال الرفيعة والسميكة، والسلال، والفرش، والأخفاف، وتغذي الضأن وتخرج صناعة الصوف الذائعة الصيت، وتمد الإمبراطوريّة بأحسن ما عرفه الأقدمون من أنواع الخمور وزيت الزيتون. وكانت أنهار الوادي الكبير والتاجة والأبرة وغيرها من المجاري التي هي أصغر منها تساعد شبكة الطرق الرومانية على حمل غلات أسبانيا إلى ثغورها وإلى مدنها التي يخطئها الحصر.
والحق أن أعظم النتائج التي تمخض عنها الحكم الروماني في هذه البلاد نتيجة تمتاز بها الإمبراطوريّة الرومانية على سائر الإمبراطوريّات وهي تضاعف عدد المُدن أو اتساع رقعتها. فقد كان في ولاية بيتكا Baetica (الأندلس Andalusia
الحديثة) مدائن كارتيا Carteia (الجسر) ومندا (Munda) ومالقة، وإيطاليكا (مسقط رأس طراجان وهدريان)، وقرطبة، وهسبالس (أشبيلية)، وقادس. ونشأت قرطبة في عام 152 ق. م، وكانت مركزاً أدبياً عظيماً واشتهرت بما فيها من مدارس لتعليم فنون البلاغة، وفيها ولدَ لوكان، وسنكا الأكبر والأصغر، وجليو Gallio محرر القدّيس بولص. وقد احتفظت هذه المدينة بتقاليدها العلمية حتى العصور الوسطى، وبفضلها كانت قرطبة أعظم مُدن أوربا علماً. وكانت قادس أكثر مدائن أسبانيا سكاناً، وكانت غنية عنى فاحشاً. ذلك أنها لوقوعها عند مصب نهر الوادي الكبير كانت تسيطر على تجارة المحيط الأطلنطي مع غرب أفريقية، وإسبانيا، وغالا، وبريطانيا؛ وقد أضافت فتياتها الراقصات الرشيقات قدراً لا بأس به إلى شهرتها.
وكانت بلاد البرتغال تعرف عند الرومان بإسم لوزتانيا Lusitania، كما كانت لشبونة تعرف عندهم بإسم أولزيبو Olisipo. وقد أقام مهندسو تراجان جسراً على نهر التاجة عند نوربا قيصرينة Norba Caesarcna (التي أطلق عليها العرب اسمها الحديث القنطرة) هو أكمل جسر روماني بقي على حالته حتى اليوم. ولا تزال عقوده الفخمة التي يبلغ اتساعها مائة قدم والتي تعلو مائة وثمانين قدما فوق قاع النهر، وتحمل طريقا من أربعة دروب كثيرة الحركة. وكانت عاصمة لوزتانيا هي مدينة أمرينا (مريده Merida) وكانت تزهو بما فيها من تماثيل كثيرة، وبثلاث قنوات لجر مياه الشرب، وبحلبة للألعاب، ودار للتمثيل، وبحيرة لتمثيل المعارك البحرية، وقنطرة طولها 2500 قدم. وكان إلى شرقيها في ولاية تراكننسس Tarraconensis مدينة سجوفيا Segovia التي لا تزال تستمتع بالمياه النقية تحملها إليها قناة أنشئت في عهد تراجان. وكان إلى جنوبها مدينة طليطم (طليطلة Toledo الحديثة) التي اشتهرت في عهد الرومان بما فيها من مصانع الحديد، وقامت على الساحل الشرقي مدينة نوفا كرثاجو Nova Carthago
(قرطاجنة الحديثة) التي أثرت من مناجمها، ومصائد سمكها، وتجارتها. وكان في البحر الأبيض بالقرب من أسبانيا جزائر البليار، وكانت فيها مدينتا بلما Palma، وبولنتا Pollentia. وكانتا في ذلك العهد مدنيتين قديمتين مزدهرتين. وكان على الساحل الشرقي نحو الشمال مدائن بلنسية، وتراكو Tarrae`s (Tarragona)(طرقونة) وبرسينو (برشلونة)، وكان إلى جنوب جبال البرانس مباشرة بلدة إمبوريا Emporiae القديمة. فإذا ما سار المسافر في سفينته مسافة قليلة حول حافة الجبال الشرقية ألقى نفسه في بلاد غالة.
الفصل الرابع
غالة
لقد كان في مقدور جميع السفن ذات الحمولة المتوسطة، بما فيها سفن المحيطات أن تسير في تلك الأيام في نهر الرون من مرسيليا إلى ليون. أما القوارب الصغيرة فكانت تستطيع مواصلة السير إلى ما يقرب من أربعين ميلاً من نهر الرون الأعلى. فإذا نقلت البضائع بعد ذلك مسافة قصيرة فوق أرض مستوية استطاع الناس بعدها أن ينقلوها بالسفن مارّة بمائة مدينة وألف قصر صغير إلى بحر الشمال. وكانت قفزات أرضية شبيهة بهذه القفزة تؤدى من الرون والساؤون إلى اللوار وإلى المحيط الأطلنطي، ومن الأود Aude إلى الجارون وبردو، ومن الساؤون إلى السين وبحر المانش. وكانت التجارة تسير في هذه الطرق المائية، ونشأت بفضلها مدائن عند ملتقاها، وكانت فرنسا، كما كانت مصر، هبة مجاريها المائية.
ويمكن القول أن الحضارة الفرنسية - بأحد المعاني التي يمكن أن تفهم من لفظ الحضارة- بدأت منذ أيام "الرجل الأوريناسي Ourignacian man" أي قبل ميلاد المسيح بثلاثين ألف عام، فقد كان في هذا الوقت البعيد، كما تدلُّ كهوف منتنياك Montignac، فنانون يستطيعون أن يصوروا بالألوان الزاهية والخطوط الواضحة. ثم انتقلت فرنسا حوالي عام 12000 ق. م من ذلك العصر الحجري القديم، عصر الصيد والرعي، إلى حياة الاستقرار وفلح الأرض في العصر الحجري الحديث، وانتقلت منه بعد عشرة آلاف عام طوال إلى عصر البرنز. وحوالي عام 900 ق. م أخذ جنس جديد هو الجنس "الألبي" المستدير الرؤوس يتسرّب إلى البلاد من ألمانيا، وينتشر في فرنسا، ومنها إلى بريطانيا وإيرلندة،
ثم ينزل إلى أسبانيا. وجاء هؤلاء، "الكلت" معهم بثقافة هولستات Hallstatt الحديدية من النمسا. ثم استوردوا من سويسرا حوالي عام 550 ق. م فن لاتين La Te`ne في صناعة الحديد، وكان قد تقدم تقدماً كبيراً في سويسرا. وسمّت روما فرنسا أول ما عرفتها بإسم كلتيكا Celtica ولم يتغير هذا الاسم إلى غالة Gallia إلا في عهد قيصر.
وغلب المهاجرون أهل البلاد أو فاقوهم في عددهم، واستقروا قبائل مستقلّة لا تزال أسماؤها تنم عليها المُدن التي شادوها
(1)
. ويقول قيصر إن الغاليين كانوا قوماً طوال القامة، وأقوياء الأجسام، ظاهري العضلات (23)، يمشطون شعرهم الغزير الأشقر ويرسلونه خلف رؤوسهم وعلى أقفيتهم، وكان بعضهم يطيلون لحاهم، والكثيرون منهم يتركون شواربهم تتثنى حول أفواههم. وقد نقلوا معهم من بلاد الشرق، وربما كان ذلك عن الإيرانيين الأقدمين، عادة لبس السراويل القصيرة، وأضافوا هم إليها رداء مصبوغاً بألوان كثيرة ومطرزاً بالأزهار، ومن فوقه عباءة مخططة تتدلى من الكتفين، وكانوا مولعين بالجواهر، ويتزينون في الحروب بالحلي الذهبية - إن لم يكن عندهم ما هو أثمن منها (24). وكانوا يكثرون من أكل اللحم، وشرب الجعة والخمر غير المخفف بالماء، لأنهم كانوا "سكّيرين بفطرتهم" إذا جاز لنا أن نصدق أبيان (25). ويصفهم أسترابون بأنهم قوم "سذّج .. ذوو شمم وكبيراء، لا يطيقهم أحد إذا انتصروا، وتطير نفوسهم شعاعاً إذا غُلبوا"(26)، ولكن علينا ألا نثق كل الثقة بهذه الأقوال لأنه ليس من الخير
(1)
منهم الأنبياني Anbiani في أمين Amiens، والبلوفاكي Bellovaci في بوفيه Beauvais والبتيوريج Bituriges في بورج Bourge والكرنوت Carnutes في شارتر Ghartres والباريسي في باريس، والبكتون Pictones في بواتييه، والريمي Remi في ريمس Rheims والسنون Senones في سن Sens والسوسيون Suessiones في سواسون Soissons الخ.
في كل الأحوال أن يكتب عن الناس أعداؤهم. وقد اشمئزّت نفس بوسيدونيوس حين رآهم يعلقون رؤوس أعدائهم بعد فصلها عن أجسامهم في رقاب جيادهم (27). وكان يسهل استثارتهم للجدول والقتال، وكانوا في بعض الأحيان يسلّون أنفسهم في المآدب بأن يتبارزوا حتى يقتلوا بعضهم بعضاً. ويقول عنهم قيصر:"إنهم كانوا أكفاء لنا في الشجاعة وفي التحمس للحرب"(28)، ويصفهم أميناس مرسلينس Ammianus Marcellinus بأنهم:
"مهما تكن سنهم يليقون للخدمة العسكرية، فالشيخ منهم يخرج للحرب وهو لا يقل شجاعة عن الشاب في مقتبل العمر
…
والحق أن سريّة كاملة من الأجانب لتعجز عن الوقوف في وجه غالي واحد إذا دعا زوجته إلى تأييده، وهي في العادة أشد منه بأساً وأعظم شراسة، وخاصة إذا نفخت عنقها، وعضت على أسنانها، ولوّحت بذراعيها الضخمتين، وشرعت تكيل الربات بيديها وقدميها كأنها حجارة تُقذَف من منجنيق".
وكان الغاليون يؤمنون بآلهة كثيرة، نسي الناس كل أمرها فلا ضير عليها إذا لم نذكر أسماءها. وكان اعتقادهم بحياة سعيدة في الدار الآخرة قوياً إلى حد حمل قيصر على الحكم بأن هذا الإيمان كان له أكبر الأثر في شجاعة الغاليين. ويقول فاليريوس مكسمس: إن قوّة هذه العقيدة كانت تدفع رجالهم إلى أن يُقرِضوا المال على أن يردَّ إليهم في الديار الآخرة، ويقول ليسدونيوس إنه رأى الغاليين في إحدى الجنازات يكتبون الرسائل إلى أصدقائهم المتوفين ويلقون بها على كومة الحريق حتى يحملها الميت إلى المرسَلة إليهم (30)؛ وليتنا نستطيع أن نستمتع برأي رجل غالي في هذه القصص الرومانية. وكان كهنتهم يشرفون على جميع شؤون التعليم، ويعنون كل العناية بغرس العقيدة الدينية في نفوس المتعلمين؛ وكانوا يقومون بطقوس دينية ذات روعة، يؤدونها في الأيك أكثر مما يؤدونها في الهياكل، ويسترضون الآلهة بتقديم الضحايا البشرية
يأخذونها من المحكوم عليهم بالإعدام لجرائم ارتكبوها؛ وقد تبدو هذه العادة همجية لمن لم يروا بأعينهم في هذه الأيام طريقة الإعدام بالكهرباء؛ وكان الكهنة هم الطائفة الوحيدة المتعلمة - ولعلّها كانت الطائفة والوحيدة غير الأمية - في هذا المجتمع الغالي؛ وكانوا يؤلّفون الترانيم الدينية، والقصائد، ويكتبون السجلات التاريخية، ويدرسون النجوم وحركاتها، وحجم الكون والأرض، ونظام الطبيعة" (31)، وقد وضعوا لأنفسهم تقويما عملياً، وكانوا قضاة لهم نفوذ كبير في بلاط ملوك القبائل. وكانت غالة قبل عهد الرومان، كما كانت في العصور الوسطى، تسير على النظام الإقطاعي المكتسي بثياب الحكم الديني. وبلغت غالة الكلتية ذروة مجدها تحت حكم هؤلاء الملوك والكهنة في القرن الرابع قبل الميلاد، وازداد عدد السكان لوفرة الإنتاج الناشئ عن أساليب لاتين La Te`ne الفنية، فأدى ذلك إلى سلسلة من الحروب للاستيلاء على الأرض، ولم يحل عام 400 ق. م حتى كان الكلت الذين يمتلكون معظم أوربا الوسطى وغالة، قد استولوا على بريطانيا، وأسبانيا، وشمالي إيطاليا. وفي عام 390 اندفعوا جنوباً نحو روما، وفي عام 278 نهبوا دلفي واستولوا على فريجيا؛ وبعد قرن من ذلك الوقت أخذت قوتهم في الاضمحلال؛ وكان بعض السبب في هذا لين طباعهم الناشئ من ثروتهم ومن تأثرهم بالأساليب اليونانية، وبعضه الآخر قوة أمراء الإقطاع السياسية. فكما أن الملوك قد قضوا في العصور الوسطى على قوة الأمراء وأنشئوا بعد القضاء عليها دولة موحدة، كذلك قضى أمراء الإقطاع في القرن السابق لظهور قيصر على سلطة الملوك، وتركوا غالة مقطعة الأوصال أكثر من ذي قبل. وأخذ الكلت يردون إلى الوراء في كل مكان عدا أيرلندة، فأخضعهم القرطاجيون في أسبانيا، وأخرجهم الرومان من إيطاليا، وفتح الرومان في عام 125 ق. م جنوبي غالة لحرصهم على تأمين طريقهم إلى أسبانيا، وجعلوا تلك البلاد ولاية رومانية. وفي عام 58 ق. م استغاث زعماء الكلت بقيصر
ليساعدهم على صد غارة ألمانية، فأجابهم قيصر إلى ما طلبوا وحدد هو ثم هذه المعونة:
وأعاد قيصر وأغسطس تنظيم غالة فقسّماها أربع ولايات: غالة التربونية في الجنوب، وهي المعروفة للرومان باسم بروفنسيا Provincia ولنا باسم بروفانس Provence، وقد اصطبغت هذه الولاية إلى حد كبير بالصبغة اليونانية بسبب استيطان اليونان لشاطئ البحر الأبيض المتوسط، وأكوتانيا في الجنوب الغربي، ومعظم سكانها من الأيبيريين، وغالة اللدجونية Ludgonensis في الوسط، وكانت الكثرة الغالبة من أهلها من الكلت، وبلجيكا في الجنوب الشرقي وكثرة أهلها ألمان. وقد أقرّت روما هذه الأقسام العنصرية وزادتها حدة لتتقي بذلك ثورتها الجامحة، فأبقت المقاطعات التي تسكنها القبائل المختلفة على حالها واتخذتها أقساماً إدارية. وكان المُلاّك هم الذين يختارون الحكام، وقد ضمنت روما ولاء هؤلاء الملاك بما كانت تقدمه لهم من عون د الطبقات الدنيا، ومنحت حق المواطنية الرومانية مكافأة منها للغاليين الموالين لها الذين يؤدون لها خدمات قيمة. وكانت جمعية إقليمية تضم ممثلين يُختارون من كل مقاطعة تجتمع كل عام في مدينة ليون. وقد قصرت وظيفتها في أول الأمر على القيام بطقوس عبادة أغسطس، ولكنها ما لبثت أن انتقلت من هذا إلى التقدّم بملتمسات إلى الحكام الرومان، ثم أصبحت هذه الملتمسات توصيات ثم مطالب. وانتزعت شؤون القضاء من أيدي الكهنة، وبدد شملهم، واتبع القانون الروماني في فرنسا، وظلّت غالة ما يقرب من قرن خاضعة مستسلمة للنير الجديد.
وحدث في عام 68 م وفي عام 71 م أن اندلع لهيب الثورة زمناً قصيراً بقيادة فندكس Vindex وسفيلس Civilis، ولكن الأهلين لم يقدموا إلا عوناً قليلاً لهاتين الحركتين، وفضّلوا الاستمتاع بالرخاء، والأمن والسلام على حب الحرية.
وأصبحت في ظل السلم الرومانية من أغنى أقسام الإمبراطوريّة، وكانت روما نفسها تعجب من ثراء الأشراف الغاليين الذين انظموا إلى مجلس الشيوخ في عهد كلوديوس، وأخذ فلورس Florus بعد مائة عام من ذلك الوقت يذكر الفرق بين ثراء غالة المزدهرة وضعف إيطاليا المضمحلة (33). فقد قُطّعت الغابات لتفسح الأرض للزراعة، وجففت المستنقعات، وارتقت أساليب الزراعة حتى استخدمت حصّادة آلية (34)، وانتشرت الكروم وأشجار الزيتون في كل مقاطعة، وكان بلني وكولملا Columella في القرن الأول الميلادي يمتدحان خمور برغندية وبردو. وكانت في البلاد ضياع واسعة يفلحها العديد وأفنان الأرض ويمتلكها أسلاف أمراء الإقطاع في العصور الوسطى، ولكن كان فيها أيضاً كثيرون من صغار الملاّك، وكانت الثروة في غالة القديمة، كما هي في فرنسا الحديثة، موزعة توزيعاً أقرب إلى المساواة منه في أية دولة متمدنة أخرى. وتقدمت الصناعة بوجه خاص تقدماً سريعاً، فلم يحل عام 200 م حتى أخذ صناع الفخار والحديد ينتزعون أسواق ألمانيا وأسواق الغرب من إيطاليا، والنساجون الغاليون يقومون بالجزء الأكبر من صناعة النسيج في الإمبراطوريّة، وحتى كانت مصانع ليون تُخرج الزجاج التجاري وأدوات زجاجية ذات روعة فنية ممتازة (35). وكانت البراعة الفنية في الصناعة يتوارثها الأبناء عن الآباء، حتى أضحت جزءاً ثميناً من التراث الروماني، وكانت الطرق التي أصلحها الرومان أو أنشئوها والتي يبلغ طولها 13000 ميل غاصّة بأدوات النقل والتجارة.
وأثرت بلدان كِلتيكا القديمة بفضل هذه الحياة الاقتصادية المتسعة، فأصبحت مدائن كبرى في غالة الرومانية، فكانت بردجالا Burdegala (هي بردو الحالية) عاصمة أكوتانيو من أكثر ثغور المحيط الأطلنطي حركة وتجارة، وكانت ليمونم Limonum (ليموج) وأفريكم Avaricum (يورج). وأُغسطنمتم Augustonemetum (كيرمون - فران Clermont. Ferraand) مدائن غنية.
حتى قد استطاعت هذه المدينة الأخيرة أن تقدم لزنودوتس Zenodotus أربعمائة ألف سسترس ليقيم بها تمثالاً ضخماً لعطارد (36). وفي غاليا التربونية بلغت المُدن من الكثرة درجة جعلت بلني يصفها بأنها "أشبه بإيطاليا منه بولاية من ولاياتها"(37). وكان في الجهة الغربية مدينة طولوزا Tolosa (طولوز الحالية) التي اشتهرت بمدارسها، وكانت ناربو Narbo نربونة (Narbonne) عاصمة الولاية في القرن الأول الميلادي أعظم مدائن غالة، وأهم الثغور التي تصدر منها غلاتها إلى إيطاليا وأسبانيا، وقد وصفها سيدونيوس أبلينارس Sidonius Apollinaris بقوله إن "فيها أسواراً، وطرقاً للتنزّه، وحانات، وعقوداً وأروقة ذات عُمَد، وسوقاً عامة، وملهى، وهياكل وحمّامات، وأسواقاً للبيع والشراء، ومراعي، وبحيرات، وقنطرة، وبحراً"(38). وكان إلى شرق هذه المدينة على طريق دوميتيا العظيم الذي يصل أسبانيا بإيطاليا بلدة نموسس Nemousus (نيمز Nimes) . وقد شاد أغسطس والمدينة بيتها المربع Maison Carre`e الجميل تخليداً لذكرى حفيديه لوسيوس وكيوس قيصر؛ ومما يدعو إلى الأسف أن أعمدته الداخلية داخلة في جدران المحراب، ولكن أعمدته الكورنثية المنفصلة لا تقل جمالاً عن أية عُمَد في روما. ولا تزال الاحتفالات تقام من آن إلى آن في مدرجها الذي كان يتسع لعشرين ألفاً من النظارة. وتحولت القناة الرومانية التي كانت تنقل الماء العذب إلى روما على مر الزمن إلى قنطرة نهر جار Gard ولا تزال العقود السفلى لهذه القنطرة قائمة إلى اليوم في صورة آثار ضخمة محطمة في الريف العابس القريب من المدينة تظهر بجلاء ما بينها وبين العقود الصغرى التي فوقها من إختلاف، وتشهد هذه وتلك بعظمة فنون روما الهندسية.
وأنشأ قيصر شرق هذه المدينة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط مدينة أرلات Arelate (آرل الحديثة Arles) ظناً منه أنها ستحل محل مساليا Massalia) المشاكسة؛ فتكون مركزاً لبناء السفن وثغراً تجارياً هاماً. وكانت
مساليا (مرسيليا) مدينة قديمة حين ولد قيصر، وبقيت يونانية بلغتها وثقافتها إلى آخر أيامه، وكانت فنون الزراعة، وغرس الأشجار، وزراعة الكروم، والثقافة اليونانية قد دخلت بلاد غالة من مرفأ هذه الفُرضة البحرية. وفيها بنوع خاص كانت أوربا الغربية تستبدل بغلاتها حاصلات بلاد اليونان والرومان، وكانت إلى هذا من أعظم مراكز الجامعات في الإمبراطوريّة، وكان أعظم ما اشتهرت به مدرسة الحقوق. وقد اضمحلّ شأنها بعد قيصر ولكنها ظلت ما كانت مدينة حرّة مستقلّة في شؤونها عن حاكم الولاية. وكان يليها من جهة الشرق فورم لولياي Forum Lulii (فريجو Frejus) ، وأنتبوليس Antipolis (أنتيب Antibes) ونيسيا Nicaea (ميس)، ويتألف منها كلها ولاية الألب البحرية الصغيرة. وإذا انتقل المسافر في نهر الرون من أرلات وصل إلى أفنيو Avenio (أفنيون الحديثة Avignon) وأروسيو Arausio (أورانج Orange) وقد بقي في هذه المدينة الأخيرة قوس عظيم من أيام أغسطس؛ وفيها أيضاً ملهى روماني ضخم لا تزال تمثل فيه مسرحيات قديمة.
وكانت أكبر ولايات غالة هي غالة اللجدونية، وسميت كذلك نسبة إلى عاصمتها لجدونم Lugdunum (ليون الحالية). وكانت هذه العاصمة تقع عند ملتقى الرون والساؤون وملتقى عدة طرق برية كبرى أنشأها أجربا، ولذلك أضحت المركز التجاري لإقليم غني وعاصمة لغالة كلها. وقد استطاعت بفضل ما قام فيها من صناعات الحديد والزجاج والخزف أن تقبل في القرن الأول الميلادي عدداً من السكان بلغ حوالي مائتي ألف (40). وكان إلى شمالها بلدة كيلونم Cabillonum (شالون - على - الساؤون Chalon - sur - Saone) وقيصردونم Caesarodunum (تور Tours الحالية) وأغسطدونم Augustodunum (أوتون Outun الحالية) وسنابوم Cenabum (أورليان الحالية Orleans) ولورتيريا Luteria (باريس الحالية). وكتب الإمبراطور يوليان يصف هذه
المدينة الأخيرة فقال: "لقد قضيت الشتاء (357 - 358) في لوتيريا مدينتنا المحبوبة، لأن هذا هو الاسم الذي يطلقه الغاليون عن مدينة الباريزيين الصغيرة، وهي جزيرة في النهر
…
يعصر فيها الخمر الطيب (41).
وكانت ولاية بلجيكا التي تشمل أجزاء من فرنسا وسوسيرا الحاليتين بلاداً لا يكاد أهلها يشتغلون بغير الزراعة؛ وكان معظم ما فيها من صناعات قليلة متصلاً بالقصور الصغيرة ذات الحدائق التي تدل بقاياها الكثيرة على أن أصحابها كانوا من الأشراف الذين يعيشون معيشة الدعّة الوترف. وفي هذه الولاية أنشأ أغسطس المدائن المعروفة الآن بأسماء سواسون Soissons، وسان كنتن St. Quentin، وسنلي Senlis، وبوفيه، وتريف Treves، وازدهرت آخر هذه المدن، وكانت تسمى أغسطا ترفرورم Augusta Trevirorum لأنها كانت مركز قيادة الجيش المدافع عن الرين، وأصبحت في أيام دقلديانوس عاصمة غالة بدل مدينة ليون، وصارت في القرن الخامس أكبر مدينة في شمال جبال الألب، ولا تزال حتى الآن غنية بآثارها الرومانية القديمة - فلا تزال البورتا نجرا Porta Nigra محتفظة بأسوارها الرومانية، ولا تزال فيها حمامات سانت بربارا، وفي إيجل Igel القريبة منها مقبرة أسرة سكنديني، وفي نوماجين Neumagen المجاورة لها النقوش الفجة التي كانت على كتل الحصن الحجرية.
وبُدلت الحياة حول هذه المُدن ظاهرها تبدلاً بطيئاً وجُددت عناصرها في عناد شديد فاحتفظ الغاليون بحقهم، وسراويلهم القصيرة، وظلوا ثلاثة قرون محتفظين بلغتهم ولكن اللغة اللاتينية غلبتهم على أمرهم في القرن السادس. وكان أكبر السبب في هذه الغلبة استخدامها في الكنيسة الرومانية، ولكنها كانت وقتئذ قد شذّبت ورخّمت حتى صارت فرنسية. ونالت روما أعظم فوز لها في غالة بنقل الحضارة الرومانية إليها. ويرى بعض كبار المؤرخين الفرنسيين أمثال جوليان وفنك برنتانو
Funck Brentano أن فرنسا كانت تكون خيراً مما هي لو لم تفتحها روما، ولكن مؤرخاً آخر أعظم من هذين المؤرخين يعتقد أنه لو لم تفتح روما غالة لفتحتها ألمانيا حتماً، وأنه لو لم ينتصر قيصر في تلك البلاد كما يقول ممسن Mommsen:
" لحدثت هجرة الشعوب قبل حدوثها بأربعمائة عام، وفي وقت لم تكن الحضارة الإيطاليّة قد تأقلمت في غالة أو على ضفاف الدانوب، أو في أفريقية وأسبانيا. وبفضل ما كان للقائد والسياسي الروماني العظيم من بصيرة نافذة أدرك بها أن القبائل الألمانية هي العدو المنافس للعالم الروماني - اليوناني، وبفضل قوته وشدة بأسه التي استطاع بها أن يضع للدولة نظامها الجديد نظام الدفاع الهجومي بجميع تفاصيله ودقائقه ويعلم الناس أن يحصنوا حدود الإمبراطوريّة بالأنهار والأسوار الصناعية
…
بفضل هذا كله كسب للثقافة اليونانية - الرومانية الفترة التي لم يكن منها بد لتمدين الغرب" (44).
لقد كان نهر الرين هو الحد الفاصل بين الحضارة الرومانية - اليونانية وبين الحضارة البدائية؛ فأما غالة فلم يكن في وسعها أن تدافع عن هذا الحد، وأما روما فقد دافعت عنه، وكان دفاعها هذا هو الذي حدد مجرى تاريخ أوربا إلى يومنا هذا.
الفصل الخامس
بريطانيا
عبر البحر من عالة حوالي عام 1200 ق. م من قبائل الكلت واستقر في إنجلترا. وقد وجدوا في تلك البلاد خليطاً من شعب أسود الشعر لعله أيبيري، وشعب أشقر الشعر اسكندناوي: وغلب الكلت هؤلاء الأهلين على أمرهم، وتزوجوا منهم، وانتشروا في إنجلترا وويلز. حوالي عام 100 ق. م (وتقل تلك القرون الأحد عشر لأن أنانيتنا تحملنا على اختصار هذه الأحقاب المليئة بالحوادث وتمحو الأجيال الجليلة الشأن من الذاكرة المزدحمة لكي تقربنا من عصرنا الحديث) أقبل فرع آخر من الكلت من داخل القارة وطرد بني عمومته من جنوبي بريطانيا وشرقيها. ولما جاءها قيصر وجد سكان الجزيرة يتألّفون من عدة قبائل لكل منها ملك يريد أن يوسّع مملكته الصغيرة، وأطلق على السكان كلهم اسم البريطاني Britauni نسبة إلى قبيلة غالية تسمى بهذا الاسم كانت تسكن جنوبي القناة الإنجليزية مباشرة، ظناً منه أن هذه القبيلة نفسها تسكن كلا الشاطئين.
وكانت بريطانيا الكلتية شبيهة كل الشبه بغالة الكلتية في عاداتها ولغتها ودينها. ولكنها كانت متأخرة عنها في حضارتها. وقد انتقلت من العصر البرنزي إلى العصر الحديدي قبل مولد المسيح بنحو ستة قرون أي بعد انتقال غالة إلى هذا العصر الأخير بثلاثة قرون، ولمّا عبر بيثياس Pytheas، المرتاد الماسليوني Massiliot المحيط الأطلنطي إلى إنجلترا حوالي عام 350 ق. م، وجد بلدة كنتاي Cantii في مقاطعة كنت Kent غنية بزراعتها وتجارتها، فقد كانت تربتها خصبة بفضل الأمطار
الغزيرة، وكانت أرضها تحتوي على خامات غنية بالنحاس، والحديد، والقصدير، والرصاص. وكانت صناعاتها المنزلية قبل عهد قيصر تكفي لإيجاد تجارة ناشطة بين القبائل التي تسكنها ومع القبائل الأوربية، وضربت فيها نقود من البرنز والذهب (45). وكانت غارات قيصر في واقع الأمر غارات استكشافية، عاد منها ليؤكد إلى روما أن القبائل التي تسكن تلك البلاد عاجزة عن المقاومة المتحدة، وأن غلاتها تكفي جيشاً غازياً يأتيها في الوقت المناسب. وبعد مائة عام من ذلك الوقت (43 م) عبر كلوديوس القناة ومعه أربعون ألفاً من الجنود كان نظامهم وتسليحهم، ومهارتهم فوق طاقة السكان الأصليين، فأخضعوا بريطانيا لروما وأصبحت من ذلك الوقت ولاية تابعة لها. وفي عام 61 قادت ملكة لإحدى القبائل البريطانية تدعى بوتكا Boudicca أو بوديسيا Boadicea ثورة شديدة، وادعت أن ضباطاً رومانيين قد اعتدوا على عفاف ابنتيها، ونهبوا مملكتها، وباعوا كثيراً من رجالها الأحرار في سوق الرقيق. وبينما كان الحاكم الروماني بولينس مشغولاً في الاستيلاء على جزيرة مان Man هزم جيش بوتكا الفيلق الوحيد الذي وقف في وجهه، وزحف على لندنيوم Londinium، وكانت في ذلك الوقت - على حد قول تاستس - "أهم مسكن للتجار، كما كانت سوقاً كبرى للتجارة"(46). وقتل كل روماني في هذه المدينة أو في فريولامنيوم Verulaminium (سانت أولبنز St. Aibans) ، وذُبح سبعون ألف روماني هم وحلفاؤهم قبل أن يلتقي بولينس وفيالقه بالثوار. وحاربت بوتكا وابنتاها في عربة حربية بشجاعة نادرة في أثناء هزيمتها، ثم تجرّعت السُم، وضربت بحد السيف رؤوس ثمانين ألفاً من البريطانيين.
ويحدثنا تاستس عن أجر كولا زوج ابنته وحاكم بريطانيا (78 - 54 م) فيروي كيف نشر الحضارة بين "شعب فظ مشتت ذي نزعة حربية" بإنشاء المدارس، وإذاعة استعمال اللغة اللاتينية، وتشجيع المُدن والأغنياء على تشييد
المعابد، والباسقات، والحمّامات العامة، ثم يقول ذلك المؤرخ السليط:"واستحوذت مباهج الرذيلة شيئا فشيئاً على قلوب البريطانيين، فصارت الحمّامات، والحجرات الجميلة، والمآدب الفخمة، محببة اليهم، وأخذ البريطانيون الغافلون يسمون الآداب الجديدة باسم فنون الإنسانية المهذبة، وإن لم تكن في حقيقة أمرها إلا ستاراً جميلاً للاسترقاق". واستطاع أجركولا بحملات حربية سريعة أن يحمل هذه الفنون والحكم الروماني، إلى ضفاف نهر الكليد Clyde والفورث Forth وأن يهزم جيشاً من الاسكتلنديين مؤلفاً من ثلاثين ألفاً، ولو لم يدعه دومتيان ليواصل الزحف. وشاد هدريان سورا (122 - 127) طوله سبعين ميلاً في عرض الجزيرة يمتد من خليج سلواي Splway Firth إلى مصب التين Tyne ليصد الاسكتلنديين الذين كانوا يرتابون في نواياه، وبعد عشرين عاماً من ذلك الوقت أقام لوليوس Lollius في شمال هذا السور سوراً آخر طوله ثلاثة وثلاثون ميلاً يعرف بسور أنطونينسويمتد بين مصبي الكليد والفورث. وبفضل هذين الحصنين استطاعت روما أن تأمن على بريطانيا أكثر من قرنين من الزمان.
وكان حكم روما يزداد ليناً ورحمة كلما زاد استقرارا، فأصبحت المُدن تشرف عليها مجالس شيوخ وجمعيات وطنية وحكام من أهلها، وترك للريف كما ترك في غالة إلى رؤساء القبائل الخاضعين لإشراف الرومان. ولم تكن الحضارة في بريطانيا حضارة مُدن كما كانت في إيطاليا، كما أنها لم تكن غنية غناء حضارة غالة، ولكن المُدن البريطانية أخذت وقتئذ أشكالا جديدة بفضل استنهاض روما وحمايتها لها. وكانت أربع من هذه المُدن مستعمرات يتمتع أهلها بحق المواطنية الرومانية وهي: كمولودنم Camulodunum (كلشستر Colchester) التي كانت أولى عواصم بريطانيا الرومانية ومقر مجلس الولاية، ولندم Lindum التي بدل اسمها لنكولن الحديث Lincoln على ما كان لها من امتياز قديم، وإبراكم Eboracum (يورك) وكانت وقتئذ مركزاً حربياً هاماً، وجليفم Glevum، التي
امتزج في اسمها الحديث جلوسستر Gloucester لفظاً جليفم وشستر وثاني اللفظين هو اللفظ الإنجليزي السكسوني المقابل لكلمة مدينة
(1)
؛ ويلوح أن تشستر، وونشستر، ودورشستر، وشيشستر، وليسستر (لستر)، وسلشستر، ومنشستر قد بدأت كلها في القرنين الأول والثاني من حكم الرومان. وكانت في أول الأمر بلداناً صغيرة يسكن كل منها حوالي ستة آلاف نفس، ولكنها كانت تستمتع بشوارع مرصوفة ذات مجار، وبأسواق عامة وباسقات، وهياكل، وبيوت أسسها من الحجارة وأسقفها مغطاة بالقرميد، وكان في فركونيوم Virconium (ركستر الحالية Wroxeter) باسقات تتسع لستة آلاف شخص، وحمّامات تتسع لاستحمام مئات من الأشخاص في وقت واحد. وكان لأكوا سالس Aquae Salis (المياة الملحة)، التي تعرف باسم باث Bath عيون حارة أصبحت بفضلها ملاذاً طيباً في الزمن القديم كما يدل على ذلك ما بقى من آثار حمّاماتها الحارة إلى اليوم. وعلا شأن لندنيوم من الناحيتين الاقتصادية والحربية لحسن موقعها على نهر التاميز ولأهمية الطرق المتفرعة منها، وزاد سكانها حتى بلغوا ستين ألفاً وسرعان ما أضحت عاصمة بريطانيا بدل كولودونم (49).
وكانت البيوت في لندن الرومانية من الآجر والمصيص أما في البلدان الصغيرة فكانت من الخشب، وكان الجو هو الذي يحدد شكلها، فكان لها سقف هرمي يقيها المطر والثلج، ونوافذ كثيرة لينفذ منها ما عسى أن يكون من أشعة الشمس، "لأن الشمس" كما يقول استرابون "لم تكن تُرى أكثر من ثلاث ساعات أو أربع حتى في اليوم الصحو" (50). أما داخلها فكان على الطراز الروماني: - أرضه من الفسيفساء، وبه حمّامات كبيرة، وجدران قائمة عمودية وتدفئة مركزية،
(1)
هفر فيلد Haverfield، ولكن أكثر من هذا قبولاً أن اللفظ مشتق من كسترم Castrum اللاتينية ومعناها حصن؛ أو كسترى Castra بمعنى معسكر: وقد خططت معظم المُدن الرومانية خط البريطانية على طراز رقعة الشطرنج كما كانت تخطط المعسكرات الرومانية.
(تزيد على ما كان منها في البيوت الإيطاليّة) بأنابيب تحمل الهواء الساخن في أرض البيت وجدرانه وكان الفحم يستخرج من العروق القريبة من سطح الأرض. ويستخدم في تدفئة البيوت، وفي الأغراض الصناعية كصهر الرصاص. ويبدو أن مناجم بريطانيا القديمة كانت مُلكاً للدولة، ولكنها تؤجرها للأفراد يستغلّونها (51). وكان باث مصنع (فبريكا Fabrica) لصنع الأسلحة الحديثة (52)، وأكبر الظن أن صناعات الخزف، والآجر والقرميد قد ارتقت حتى كانت تصنع في المصانع، ولكن معظم الصناعات كانت في البيوت، والحوانيت الصغيرة، والدور ذات الحدائق. وكان في الجزيرة خمسة آلاف ميل من الطرق الرومانية، وعدد لا يحصى من الطرق المائية تنقل عليها التجارة الداخلية النشيطة، هذا فضلاً عن تجارتها الخارجية المتواضعة التي كانت عكس تجارة بريطانيا في هذه الأيام لأنها كانت تصدر المواد الأولية اللازمة للصناعة.
تُرى إلى أي عمق نفذت الحضارة الرومانية في حياة بريطانيا وروحها في الأربعة القرون التي سيطرت فيها روما على الجزيرة؟ لقد صارت اللغة اللاتينية لغة السياسة، والقانون، والأدب، والأقلية المتعلّمة في البلاد، لكن اللسان الكلتي بقي سائداً في الريف وبين عمال المُدن، ولا يزال يقاوم حتى الآن في ويلز وفي جزيرة مان. ونشرت المدارس الرومانية القراءة والكتابة في بريطانيا، وعينت الصورة الرومانية لحروف الهجاء الإنجليزية، وغمر اللغة الإنجليزية سيل من الكلمات اللاتينية. وبنيت هياكل للآلهة الرومانية، ولكن الرجل العادي ظل يمجّد الأرباب والأعياد الكلتية، وحتى المُدن الكبرى نفسها لم تمد روما فيها جذوراً باقية؛ وكل ما في الأمر أن الأهلين خضعوا كارهين لحكم استمتعوا في ظلّه بسلم مثمر ورخاء لم تستمتع الجزيرة بمثله إلا أيام الانقلاب الصناعي.
الفصل السادس
البرابرة
كان ما قرره أغسطس وتيبيريوس من عدم السماح بفتح ألمانيا من بين الحادثات الهامة في تاريخ أوربا. فلو أن روما فتحت ألمانيا وصبغتها كما صبغت غالة بالصبغة الرومانية، لكان لأوربا الواقعة في غرب الروسيا كلها تقريبا نظام واحد، ولربما قامت أوربا الوسطى في هذه الحالة حاجزاً في وجه تلك الجماعات الكبرى التي كان ضغطها على الألمان سبب غزوهم إيطاليا.
ونحن نسميهم الألمان، وإن كانوا هم أنفسهم لم ينطقوا بهذا الاسم، وليس ثمة من يعرف مصدره
(1)
، ولقد كانوا في الأيام القديمة خليطاً من قبائل مستقلة ضاربة في ذلك الجزء من أوربا المحصور بين نهري الرين والفستيولا Vistula؛ وبين الدانوب وبحر الشمال والبحر البلطي. وتبدّلت أحوالهم شيئا فشيئاً في القرنين الواقعين بين حكم أغسطس وحكم أورليوس فانتقلوا من حياة الهجرة للصيد والرعي إلى حياة الزراعة والقرى، ولكنهم كانوا لا يزالون على درجة من البداوة جعلتهم يستنفدون بسرعة خصب الأرض التي يفلحونها، ثم يرحلون ليفتحوا بحد السيف أرضاً جديدة. ومن أجل هذا كانت الحرب طعام الألماني وشرابه إذا جاز لها أن نصدق قول تاستس:
"ليس شعار الألماني هو أن يزرع الأرض وينتظر حتى يجني المحصول في موسمه، بل إنك ليسهل عليك أن تقنعه بأن يهاجم عدوّه ويلقى في جسمه الجراح الشريفة في ميدان القتال، ويرى الألماني أن كسبك بعرق الجبين ما تستطيع
(1)
كان الرومان يستخدمون كلمة جرمانس Germanus الوصفية (المشتقة من Germen بمعنى النسل) ويعنون بها "أبناء نفس الأبوين". ولعلّهم حين أطلقوها على الألمان كانوا يفكرون في نظام القبائل التبرتونية القائم على صلة القبائل.
أن تشتريه بدمك هو شعار العاجزين الخاملين وأنه لا يليق قد بالجندي" (53).
ولقد تحدّث المؤرخ الروماني عن صفات الألمان الحربية وعن حماسة النساء وهنّ يحرّضنَ الرجال على القتال، ويحاربن إلى جنبهم في كثير من الأحيان. وكان وهو يصفهم يتحسر على تدهور شعبه بفعل الترف والسلم، ويغالي في هذا الوصف مغالاة الواعظ والمعلّم الأخلاقي. ولقد كان الفرار من العدو يسربل من يرتكبه بعار لا يمحى مدى الحياة، ويؤدي في كثير من الأحيان إلى الانتحار. وقد وصف أسترابون الألمان بأنهم "أشد بأساً وأطول قامة من الغاليين" (54). وكأن سنكا قد قرأ تاستس فاستنتج من هذا نتائج منذرة بأسوأ النُذر فقال:"إن الترف والثراء لا يُزيدان هذه الأجسام القوية العنيفة، وهذه التقوى التي لا تعنى قط باللذة، إلا قليلاً من التنظيم والحذق في الحركات العسكرية - وحسبي هذا. ولن تستطيعوا (أيها الرومان) أن تقفوا في وجههم إلا إذا عدتم إلى فضائل آبائكم"(55).
ويرى تاستس أن أولئك الأقوام كانوا في أيام السلم كسالى بُلداء، يقضي الرجال أوقاتهم (ولعلّ ذلك بعد الصيد أو موسم الحصاد) في ملء بطونهم باللحم وشرب أنهار من الجعّة، بينما تقوم النساء والأطفال بالأعمال المنزلية (56) وكان الألماني يشتري زوجته من أبيها بهدية من الماشية أو السلاح، وكان له عليها وعلى أبنائهما حق الحياة أو الموت بشرط أن توافق على ذلك جمعية القبيلة. لكن النساء رغم هذا كانت لهم عندهم مكانة عالية، وكثيراً ما كان يُطلب إليهنّ أن يفصلن فيما يشجر بي رجال القبيلة من منازعات، وكان من حقهنّ أن يطلقنّ أزواجهن، كما كان من حق هؤلاء الأزواج أن يطلقوهنّ. وكان لبعض زعماء القبائل عدة أزواج، ولكن الأسرة الألمانيّة العادية لم يكن فيها إلا زوجة واحدة، ويؤكد لنا المؤرخون أنا كانت تراعي مستوى عالياً من الأخلاق الزوجية، "فالزنى قلّما كان يُسمع به عندهم"، وإذا ارتكبته المرأة عوقبت بقص شعرها والحكم عليها بأن تسير عارية في الشوارع وأن تضرب بالسياط، وهي تحاول
الفرار. وكان يسمح للزوجة أن تجهض نفسها إذا شاءت (58)، ولكنها كانت في العادة امرأة ولوداً. وكان يندر وجود رجال بلا أبناء ولهذا لم تكن عندهم وصايا، وكان المفروض أن أملاك الأسرة يرثها الولد عن أبيه جيلاً بعد جيل (59).
وكان السكان يتألفون من أربع طبقات: (1) طبقة المقيدين - وبعضهم عبيد وكثرتهم من أفنان الأرض المرتبطين بها. والمفروض عليهم أن يؤدوا التزاماتهم للمالك من غلتها. (2) والمحررين - وهم المستأجرون الذين لا يتمتعون بحقوق سياسية. (3) والأحرار - وهم الملاّك والمحاربون. (4) والأشراف - وهم ملاّك الأراضي الذين تتصل أنسابهم بالآلهة، ولكنهم يقيمون سلطتهم على أساس أملاكهم الموروثة وحرسهم الخاص (Comites أي الرفاق، ومنها اشتقت كلمة كونت). وكانت الجمعية القبلية تتألف من الأشراف، ورجال الحرس، والأحرار، يأتون إليها مسلّحين، ويختارون الزعيم أو الملك، ويوافقون على ما يُعرض عليهم من اقتراحات بضرب الحراب بعضها ببعض، أو يرفضونها بزمجرة كثرة الحاضرين. وكان بعض أفراد الطبقتين الثانية والثالثة يشتغلون بالصناعات اليدوية والمعدنية التي برع فيها الألمان، أما الطبقة الرابعة فكان منها النبلاء والفرسان، وهي التي أنشأت نظام الفروسية في ألمانيا الإقطاعية.
ولم يُضف إلا القليل من البناء الثقافي فوق هذا النظام الاجتماعي الساذج. ولم يكد الدين وقتئذ ينتقل من عبادة الطبيعة إلى عبادة الأرباب المجسّدة في صورة الآدميين. ويسمى تاستس آلهتهم: المريخ Mars، وعطارد Mercury، وهرقل Hercules - والراجح أن الأسماء الحقيقية لهذه الآلهة هي تيو Tiu (تير Tyr) ووودن Woden (أو ودن Odin) ، ودونار Donar (تور)، ولا تزال أربعة أيام من كل أسبوع تخلد ذكراها هي وفريا Freya إلهة الحب، على غير علم منا، وكانت لهم إلهة عذراء (هرثا Hertha)(الأم الأرض). التي حملت من أحد أرباب السماء، كما أن كل حاجات الإنسان وكل ما يخطر بباله كانت تؤديه طائفة
مختلفة من الجنيات، والعفاريت الصغار والكبار، وجن البحار، والمردة، والأقزام. وكانت الضحايا البشرية تقرب إلى وودن، وربما كانت الحيوانات الألذ طعماً من الآدميين تقرب إلى غيره من الأرباب، وكانت الصلوات تقام في الخلاء في الغابات والغياض، لأن الألمان كانوا يرون أن من السخف حصر روح من أرواح الطبيعة في مسكن تشيّده الأيدي البشرية. ولم يكن عندهم طبقة دينية قوية شبيهة بالدرويد Druids عند الغاليين أو البريطانيين، ولكنهم كان لديهم كهنة وكاهنات، يرأسون الاحتفالات الدينية، ويجلسون للفصل في القضايا الجنائية، ويتنبئون بالمستقبل بدراسة مهبل الجياد البيض وحركاتها. وكان عندهم كما كان في غالة شعراء يتغنون في شعر فج بأقاصيص قبائلهم وتاريخها. وكان منهم أقليّة تعرف القراءة والكاتبة، وكيّفت الحروف الهجائية اليونانية فجعلت منها العلامات التي تطورت منها الحروف القوطية وهي الحروف الألمانيّة الحديثة. وكان الفن عندهم بدائياً، ولكنهم أخرجوا تحفاً جميلة من الذهب.
ولما أن سحبت روما فيالقها من ألمانيا احتفظت بسيطرتهم على نهر الرين من منبعه إلى مصبه، وقسّمت هذا الوادي الفخم ولايتين - ألمانيا العليا وألمانيا السفلى. وكانت ثانيتهما تشمل هولندة وأرض الرين الممتدة جنوباً إلى كولوني. وكانت هذه المدينة الجميلة المعروفة عند الرومان بإسم كولونيا أجربننسس Colonia Agirpdinansis قد جعلت ولاية (50 م) تكريماً لأم نيرون التي ولدت فيها؛ ولم يمضِ عليها أكثر من خمسين عاماً حتى كانت أغنى المحلات القائمة على نهر الرين. أما ولاية ألمانيا الشمالية فكانت تمتد على نهر الرين نحو الجنوب مخترقة مجنتياكم Maguntiacum (ماينس Mayence) ، وأكوا أوريليا Aquae Aureliae (بادن - بادن Baden. Baden) وأرجنتراتم Argentoratum (ستراسبورج Strsbourg) وأغسطا روركورم Ausgusta Rauricorum (أوغسط August) وتنتهي عند فندونسا Vindonissa (فندش Windisch) . وكان في هذه المُدن
جميعها تقريباً ما في غيرها من الهياكل والباسقات، والملاهي، والحمّامات، والتمايل العامة. وكانت كثير من الفيالق التي ترسلها روما لحراسة الرين تجيش خارج معسكراتها، ويتزوج رجالها بفتيات ألمانيّات، ويعيشون مواطنين في تلك البلاد بعد أن تنتهي مدة خدمتهم العسكرية. والراجح أن بلاد الرين لم تكن في أيام الرومان أقل سكاناً أو غنى منها في أي وقت قبل القرن التاسع عشر.
ولقد سبق القول إن مهندسي روما العسكريين قد أنشئوا بين نهري الرين والدانوب طريقاً محصناً، وأقاموا على جانبيه قلاعاً تبعد كلٌّ منها عن الأخرى تسعة أميال، كما أقاموا عليه سوراً يبلغ طوله ثلاثمائة ميل. وأفاد هذا الطريق المحصن روما مائة عام، ولكنه لم يفدها شيئاً حين نقصت نسبة المواليد بين الرومان نقصاً كبيراً عمّا كانت عليه عند الألمان. وكان نهر الدانوب الذي يعدّه الأقدمون أطول أنهار العالم أضعف من نهر الرين حداً فاصلاً بين الدولة الرومانية والقبائل الألمانيّة. وكان إلى جنوبه الولايات النصف الهمجية ريتيا، ونوركم، وبنونيا، وهي الولايات التي تتكوّن منها البلاد التي كُنّا نعرها في شبابنا بإسم دولتي النمسا والمجر والصرب. وقد أنشأ الرومان في موضع أجزبرج Augsburg (أي بلطة أغسطس الحديثة) مستعمرة رومانية هي مستعمرة أغسطا فندلكورم Augusta Vindelicorum كان هي المحطّة الرئيسية على الطريق الممتد من إيطاليا فوق ممر برنر Brenner إلى نهر الدانوب. وشادوا على النهر نفسه مدينتين حصينتين عند فندوبونا Vindobona وهي مدينة فينّا الحالية، وعند أكونكم Aquincum على المرتفعات التي تشرف منها بودا Buda على بست Pest. وقامت مدينة سرميوم Sirmium (متروفيكا Mitrovica) في بنونيا الجنوبية الشرقية على نهر الساف Save غرب موقع بلغراد الحديثة، وصارت هذه المدينة في أيام دقلديانوس إحدى العواصم الإمبراطوريّة الأربع. وقامت بفضل النشاط التجاري
اليوناني، والرومان، والأهالي الوطنيين في مقاطعة دلماشيا الواقعة جنوبي بنونيا ثغور البحر الأدرياوي وهي سالونا Salona (سبلاتو Spalato الحديثة) وأبولونيا Appolonia (بالقرب من فالونا) ودير هوكيوم Dyrrhachium (دورزو Durazzo الحديثة). وكانت روما الإمبراطوريّة تجنّد من هذه الولايات الواقعة جنوب الدانوب أقوى جنودها أجساماً وأصلبهم عوداً، كما كانت تستمد منها في القرن الثالث الأباطرة الحربيين الذين صدّوا سيل البرابرة حوالي مائتي عام. وكان في شرق بنونيا ولاية داشيا (رومانيا الحديثة)، وكانت عاصمتها سرمزجتوسا التي لم يعد لها الآن وجود. وكان في جنوب هذه الولاية وشرقها ولاية متيزيا (وتشمل أجزاء من يوغوسلافيا ورومانيا وبلغاريا الحديثة)، وكان فيها على الدانوب مدينتان كبيرتان هوا سنجدنوم (بلغراد الحديثة) وترزمس Troesmia (أجلتزا Iglitza) وثالثة بالقرب من نهر إسكر Isker وهي سرديكا Sardica (صوفيا الحديثة). وثلاثة بلدان كبرى على البحر الأسود وهي إستروس Istrus، وتومي Tomi (قسطنجة الحديثة) وأديسس Oddessus (وارنة Varna) . ولقد كافحت الحضارة اليونانية والجيوش الرومانية في هذه المستقرّات النكدة لكي تحافظ على كيانها ضد القوط، والرومانيين، والهون، وغيرهم من القبائل المتبربرة التي أخذت تتكاثر وتتجوّل في شمال النهر العظيم، ولكن هذا الكفاح لم يجدِهما نفعاً.
وكان عجز روما عن تمدين هذه الولايات الواقعة جنوب الدانوب هو الذي أدّى إلى سقوطها. فلقد كان هذا الكفاح من أشق الواجبات على شعب يعاني آلام الشيخوخة، وكانت حيوية الجنس السائد قد أخذت تضعف في مهاد الراحة والعقم بينما كانت القبائل الضاربة في الشمال تتكاثر وتقوى وتزداد جرأة وتهوراً. لمّا أن قدّم تراجان المال للرومانيين ليجنحوا للسلم كان ذلك العمل منه بداية النهاية، ولما أن جاء ماركس
أورليوس بآلاف من الألمان وأسكنهم داخل
الإمبراطوريّة، انهارت الحواجز التي كانت تفصل بينهم وبين الرومان، واستقبل الجنود الألمان في الجيش الروماني بالترحاب، وارتقوا إلى مناصب القيادة. وما لبثت الأسر الألمانيّة أن تضاعف عددها في إيطاليا بينما كانت الأسر الإيطاليّة آخذة في الانقراض. وهكذا انعكست الآية في هذه الحركة، فأخذ البرابرة "يبربرون" روما بعد أن كانت روما تصبغهم بصبغتها. لكن عجز روما عن ضم الشمال لحظيرة التراث الروماني واليوناني القديم لم يقلل من عظمة ضمها الغرب لهذا التراث أو من خطر شأنه. ففي هذا الغرب على الأقل برزت فنون السلم من بين عجاج الحرب، وكان في وسع الناس أن يستبدلوا بسيوفهم محاريث من غير أن تنحل قواهم في نعيم المُدن وأحيائها القذرة. ونبتت فيما بعد حضارة جديدة في أرض أسبانيا وغالة القوية حين ضعف تيار البرابرة، وأثمرت بذور قبور الطغيان ثمارها، وعفا الدهر عن آثامها في البلاد التي جاءت إليها الجحافل الغاشمة بقوانين روما ونقلت إليها شعلة الحضارة اليونانية.
الباب الثالث والعشرون
بلاد اليونان الرومانية
الفصل الأول
أفلوطرخس
بذلت روما جهدها لكي تكون كريمة في معاملتها لبلاد اليونان، ولت تخفق في هذا الإخفاق كله؛ فهي لم تضع حاميات من الجند في ولاية آخية الجديدة، وكان ما فرضته عليها من الخراج أقل مما كان ينتزعه جباتها من أهلها قبل مجيء الرومان إليها، وتركت روما دول المُدن تحكم نفسها حسب دساتيرها وقوانينها القديمة، وجعلت لكثيرٍ منها: كأثينة، وإسبارطة، وبلاتية، ودلفي وغيرها "مدناً حرّة"، تتمتّع بحقوقها القديمة كلها عدا حقّها في أن تشنّ الحرب الخارجية أو حرب الطبقات.
لكن بلاد اليونان كانت تتحرق شوقاً إلى حرّيتها، كما أن القواد الرومان، والمرابين، ورجال الأعمال الذين حذقوا أساليب شراء غلاّت البلاد بأبخس الأثمان وبيعها بأغلاها، هؤلاء كلّهم قد استنزفوا خيرات البلاد، ومن أجل هذا انضمّت إلى ثورة مثرداتس وعوقبت على انضمامها إليها أشد العقاب، فحوصرت أثينة حصاراً أهلك فيها الحرث والنسل، ونُهبت كنوز هياكل دلفي، وإليس، وإيدورس.
وبعد جيل من ذلك الوقت تقاتل قيصر وبمبي، ثم أنطونيوس وبروتس،
على أرض اليونان، وجنّدوا أهلها في جيوشهم، واستولوا على محصولات البلاد وذهبها، وجبوا في عامين ضرائب عشرين عاماً، وتركوا الدائن خاوية على عروشها. وانتعشت آسية اليونانية تحت حكم أغسطس، ولكن بلاد اليونان نفسها ظلّت فقيرة، ولم يكن سبب فقرها هو الفتح الروماني بل كان هو الاستبداد الذي خنق أرواح الأهلين في إسبارطة، والحرية التي انحطّت حتى أصبحت فوضى في أثينة، وما جرّه على البلاد عقم الرجال وجدب التربة من وبال. ذلك أن أكثر أبنائها جرأة ومغامرة قد هجروها إلى الأراضي التي كانت أغنى منها وأحدث استقلالاً. وأدّى قيام دول جديدة في مصر، وقرطاجنة، وروما، وقيام الصناعة في بلاد الشرق الهلنستي إلى ترك مواطن الروح اليونانية القديمة خاوية مهجورة. وكانت روما تثقل اليونان بمديحها وتنهب روائع فنها: قد أخذ منها اسكورس Sckourus ثلاثة آلاف تمثال ليزين بها ملهاه، وأرسل كلجيولا زوج عشيقته ليُنقّب في بلاد اليونان عن التماثيل، ونهب نيرون وحده نصف ما في دلفي من روائع النحت، ولم يبسم الحظ لأثينة مرة أخرى إلا حين تولّى هدريان الملك.
وكانت إبيروس هي التي انصبّ عليها غضب روما أول الأمر في الحروب المقدونية، وأباحها مجلس الشيوخ إلى الجند ينهبونها ويعيثون فيها فساداً، وبيع من أهلها خمسة عشر ألفاً في سوق الرقيق، وبنى أغسطس عاصمة جديد لإبيروس فينيقوبوليس ليخلّد ببنائها انتصاره في أكتيوم القريبة منها. وما من شك في أن الحضارة قد وجدت فيها ملجأً ومعتصماً لأن "مدينة النصر" آوت إبكنتس، واستمعت إلى تعاليمه. وكان حظ مقدونية خيراً من حظ جارتها الوفية، فقد كانت هذه البلاد غنية بالمعادن والخشب، وزادت حياتها التجارية نشاطاً بفضل طريق اجناشيا Egnatie الذي كان يصلها هي وتراقة من ابلونيا ودير هكيوم إلى بيزنطية. وعلى هذا الطريق الرئيسي الذي لا يزال بعضه باقياً حتى الآن
كانت تقوم أهم مُدن الولاية: إدسا، وبلا، وتسالونيكا. وكانت هذه المدينة الأخيرة التي كان اليونان يعرفونها باسمها القديم "نصر تساليا" عاصمة الولاية، ومركز مجالسها، وإحدى الثغور التجارية الهامة بين بلاد البلقان وآسية. أما تراقية الواقعة في شرقها فقد اختصّت نفسها بالزراعة، والرعي، والتعدين، ولكنها كانت تشتمل على مُدن كبيرة أهمّها سرديكا Serdica (صوفيا Sofia) ، وفلبوبوليس Philippopolis عاصمتها، وأدريانوبل (أدرنة)، وبرنثس Perinthus، وبيزنطية (اسطنبول الحالية). وهنا على القرن الذهبي، كان التجار وصائدوا السمك يجمعون ثروة طائلة بينما كان اليونان الذين يقطنون من ورائها في الداخل يتقهقرون أمام البرابرة المعتدين. وكانت الحبوب الواردة من داخل البلاد تجيء إلى أرصفتها، كما كانت جميع تجارة سكوذيا والبحر الأسود تؤدي المكوس وهي مارة بها، ويكاد السمك لكثرته أن يقفز في الشباك وهو يجتاز مضيق البسفور. ولم يمضِ إلا قليل من الوقت حتى أدرك قسطنطين قيمة هذا الموقع العظيم وعرف أنه مفتاح العالم اليوناني - الروماني القديم.
وتخصصت تساليا الواقعة جنوب مقدونية في إنتاج القمح وتربية الجياد الجميلة. وقد وصف ديوكريسستم (1) جزيرة عوبية العظيمة التي أطلق عليها هذا الاسم (كما أطلق اسم يؤوشيا على الجزيرة المسماة بهذا الاسم) لما فيها من الماشية الحسنة الشكل، وصفها بأنها تعود إلى البربرية في القرن الثاني الميلادي. وقد تجمّعت في هذا الأقليم عدة عوامل كادت تمحو من الوجود الذين كانوا في يوم من الأيام شعباً زراعياً مطرد النماء والرخاء. وأهم هذه العوامل هي ما لاقاه الفقراء من عنت لتركز الأرض الزراعية والثروة في أيدي عدد قليل من الأسر، وما لاقاه الأغنياء من عنت لثقل الضرائب والفروض الدينية المطردة الزيادة، وقلّة النسل لأنانية الرجال وحبّهم الثراء أو لفقرهم المتقع. وكانت نتيجة
هذا كله أن تُركت الأرض مراعي للماشية في داخل أسوار خلقيس وإرنريا نفسهما ولم تكن بؤوشيا قد فاقت مما حل بها من موت وما فُرض عليها من الضرائب الباهضة أيام حروب سلا. ويقول استرابون "إن طيبة ليست إلا قرية صغيرة"، قد انكمشت حتى لم تعد تشغل أكثر من الموضع الذي لم يكن قبل إلا قلعتها. على أن مائة عام من السلم قد أعادت بعض الرخاء إلى بلاتية، واحتفظت قيرونية التي كسب فليب سلا على سهولها إمبراطوريّتين عظيمتين ما يكفي من الروعة لاستبقاء أشهر رجل من أبنائها فيها. ويقول عنها هذا الابن - أفلوطرخس - إنها بلغت من الصغر حداً لا يجب أن تصغر عنه بتركه إيّاها. وإنّا لَنَجد في حياته الهادئة وتفكيره السار اللطيف ناحية مشرقة مبهجة من منظر نكد كئيب، كما نجد فيه هو نفسه رجلاً مهذباً من رجال الطبقة الوسطى مستمسكاً بفضائل العهد القديم، ينطوي قلبه على الإخلاص لبلده، والوفاء لأصدقائه، والحب لأبنائه.
وقصارى القول أنه ليس في قصتنا كلها شخصية أظرف من شخصية أفلوطرخس القيرونيائي.
وكان مولده في تلك البلدة حوالي عام 46 م ووفاته فيها حوالي عام 126 م. وكان يطلب العلم في أثينة حين كان نيرون يوالي انتصاراته في بلاد اليونان. وما من شك في أنه رحل إلى مصر وآسيا الصغرى، وطاف مرّتين بإيطاليا. وقد ألقى محاضرات باللغة اليونانية في روما، ويبدو أنّه خدم بلده في بعض الشؤون الدبلوماسية. وكان يحب العاصمة العظيمة، وآداب أشرافها الجدد، وحياتهم الرقيقة ويعجب بقانونها الصارم، ويقول مع انيوس إن روما قامت على دعائم من الأخلاق الطيبة العالية. وبينما هو يفكّر في أمر هؤلاء النبلاء الأحياء والموتى خطر له أن يوازن بين أبطال روما وأبطال اليونان. ولم يكن يقصد أن يكتب تاريخاً أو سيراً فحسب، بل كان يعتزم فوق هذا أن يعلّم
الناس الفضيلة والبطولة بضرب الأمثلة من التاريخ، وحتى سيره المتماثلة Parallel Lives كانت في ذهنه دروساً في الأخلاق، ولهذا تراه على الدوام معلّماً لا يترك فرصة تمر دون أن يستخلص مغزى خلقياً من كل قصة، وما من أحد قد قام بمثل هذا العمل أجمل مما قام به هو. وهو يحذرنا في سيرة الاسكندر بقوله إنه يهتم بالأخلاق أكثر من اهتمامه بالتاريخ، ويأمل أنه حين يجمع بين عظماء الرومان وعظماء اليونان ويوازن بينهم يستطيع أن يبعث في نفوس قرائه دوافع للخلق الطيّب وللبطولة. وهو يعترف اعترافاً صريحاً لا يسعنا نعه إلا أن نعفو عن زلاته بأنه قد صلُحَ حاله لطول صحبته لأولئك الرجال الممتازين (3).
وليس من حقنا أن نتوقّع في كتاباته دقة المؤرخ الحق ونزاهته، فكتابه مليء بالأغلاط في أسماء الناس، والأمكنة، والتواريخ، وتراه أحياناً (إذا جاز لنا أن نصدر حكماً عليه) يُخطئ في فهم الحوادث، بل إنه لَيُقصّر في واجبين كبيرين من واجبات كل كاتب سِيسَر - وهما أن يبين أن أي شيء في أخلاق المترجم له وأعماله يرجع إلى الوراثة أو البيئة أو الظروف، وأن يتتبّع تطور أخلاقه خلال نموّه، وما يلقى عليه من التبعات وما يقع فيه من أزمات. بل إنّا لنخرج من كتاب أفلوطرخس كما نخرج من كتاب هرقليطس بأن خُلُق الإنسان مقدرٌ له. ومع هذا فما من إنسان قرأ كتاب "السير" ثم أحس بعد قراءته بما فيه من عيوب، ذلك بأن هذه العيوب تخفي كلها في روايته الواضحة، وحوادثه المثيرة، وقصصه الفاتنة الساحرة، وتعليقاته الحكيمة، وأسلوبه الجزل. وليس في صفحاته البالغ عددها ألفاً خمسمائة سحر واحد يحس القارئ أنه حشو لا ضرورة له، بل إن كل جملة من جمله لها شأنها معناها. وقد شهد بفضل الكتاب مائة من عظماء الرجال - منهم قواد عسكريون، ومنهم شعراء وفلاسفة، فقالت عنه السيدة رولان Roland " إنه مَرْبع النفوس العظيمة" (4). وكتب عنه منتاني يقول:
"إني لا أستطيع الاستغناء عن أفلوطرخس فهو كتاب صلواتي"(5). وقد استمدّ منه شكسبير كثيراً من قصصه، وإن رأيه في بروتس لَمُستمد عن طريق أفلوطرخس من أخلاق الأشراف الرومان الأقدمين. وكان نابليون يحمل كتاب "السير" أينما ذهب لا يكاد يفارقه أبداً. ولمّا قرأ هين Heine هذه التراجم لم يسعه إلا أن يقفز على ظهر جواد ويعدو به إلى فتح فرنسا. وقصارى القول أن بلاد اليونان لم تترك لنا كتاباً أثمن من هذا الكتاب.
وبعد أن شاهد أفلوطرخس علم البحر الأبيض المتوسط عاد إلى قيرونية ورزق فيها بثلاثة أبناء وبنت واحدة، وألقى محاضرات، وألفَ كتباً وسافر إلى أثينة من حين إلى حين، ولكنه قضى معظم وقته في مسقط رأسه وعاش فيه عيشة أهله البسيطة وكان برى أن من الواجبات المفروضة عليه لبلده أن يجمع بين المنصب الرسمي والحياة العلمية حياة الدرس والتحصيل، واختاره مواطنوه مفتّشاً للمباني، ثم كبير حكّامها ثم بؤوتاركا Boeotarch أي عضواً في المجلس الوطني. وكان يرأس المواكب والاحتفالات البلدية، وأصبح في أوقات فراغه كاهنا في مهبط الوحي في دلفي، وكان هذا المنصب قد عاد إلى الوجود. وكان يرى أنه ليس من الحكمة أن يرفض الدين القديم لما فيه من عقائد لا يقبلها العقل، لأن أهم الأشياء في رأيه ليست العقيدة، بل هو التأييد الذي تستمدّه منها أخلاق الإنسان الضعيفة، وما توجده أعضاء الأسرة الأموات بين الأجيال المتعاقبة في الأسرة والدولة من روابط تبعث فيهما المزيد من القوة، وكان يعتقد أن نشوة العاطفة الدينية هي أعمق تجارب الحياة. ولقد كان بفضل تسامحه الديني وتقواه مجتمعين أن يضع أسس دراسة الدين المقارن في رسالته التي كتبها عن العبادات الرومانية والمصرية (6). ومما قالته هذه الرسالة أن الأرباب كلها مظاهر لكائن واحد أعلى، لا يحدّه زمان يجلّ عن كل وصف، بعيد عن الشؤون الدنيوية والزمنية بعدا يترك للأرواح الوسطى Daimones أن تخلق العالم
وتنظم شؤونه. وكان يقول أيضاً بوجود أرواح خبيثة، يسيطر عليها ويرأسها شيطان هو مصر الفوضى جميعها وروحها، وأصل كل الخبائث وجميع ما لا ينطبق على العقل في الطبيعة وفي بني الإنسان.
ويرى أفلوطرخس أن من الخير أن يؤمن الإنسان بخلود الأشخاص - بجنة ينعم فيها الأخيار، ومطهر، وجحيم يعذّب فيه الأشرار. وكان من أسباب سلواه أن الإقامة في المطهر قد تطهّر أي إنسان مهما خبُث حتى نيرون نفسه، وأنه قلما يوجد في الناس من يعذبون عذاباً سرمدياً (7). وكان يندد بالخرافات ويرى أن أهولها شرٌ من الكفر نفسه، ولكنه يقبل العرافة والنبوءات واستحضار الأرواح ويؤمن بأن الأحلام تُنبئ عن المستقبل. ولم يكن يدعى أنه فيلسوف مبتدع، بل كان يقول عن نفسه، كما يقول أبوليوس وكثيرون غيره من فلاسفة ذلك العصر عن أنفسهم، إنه يأخذ آراءه عن أفلاطون ويوفّق بينها وبين زمانه. وكان يعيب على الأبيقوريين أنهم يستبدلون هول الفناء بالخوف من الجحيم، وينتقد عيوب الرواقية، ولكنه يرى ما يراه الرواقي من أن العمل بأوامر الله وإطاعة العقل شيء واحد (8).
وقد عني المتأخرون بجمع محاضراته ومقالاته وأسموها الآداب (Moralia) لأن معظمها مواعظ بسيطة لطيفة تبين ما تنطوي عليه الحياة من حكمة. وهي تبحث في كل شيء، من الحث على استبقاء كبار السن في المناصب العامة إلى البحث في أيهما أسبق الكتكوت أو البيضة. وأفلوطرخس مغرم بمكتبته، ولكنه يقرّ بأن الصحة الجيدة خيرٌ من الكتب القيّمة:
"من الناس من يدفعهم الشره فيهرعون إلى الحانات يلتهمون ما فيها كأنهم يستعدون لحصار
…
إن أقل الأطعمة ثمناً هي على الدوام أكثرها نفعاً
…
ولما عجز أردشير ممنون في أثناء تقهقره السريع عن أن يجد ما يأكله غير خبز الشعير
والتين صاح قائلاً: "ما ألذ هذا الذي لم يكن لي من قبل! "
…
والنبيذ أفيد المشروبات على شريطة أن يكون في مناسبة سعيدة وأن يمزج بالماء
…
وأكثر ما يجب أن يخشاه الإنسان هو سوء الهضم الناشئ من أكل اللحوم لأنها تخمد العزيمة في أول الأمر، وتترك بعدئذ رواسب ضارة بالجسم. وخير ما يفعل الإنسان أن يعوّد جسمه عدم الحاجة إلى اللحم بالإضافة إلى غيره من الطعام، ذلك بأن الأرض تخرج كميات موفورة من أشياء كثيرة لا تفيد في التغذية فحسب، بل تفيد كذلك راحة ومتعة. أما وقد أصبحت العادة طبيعة ثانية طبيعية، فإن تعاطي اللحوم يجب أن يكون
…
دعامة وسنداً لغذائنا؛ وينبغي لنا أن نأكل غيرها من الأطعمة
…
التي هي أكثر منها موافقة للطبيعة، وأقلّ منها كلالة على شعلة التفكير التي توقد من مواد سهلة خفيفة إذا صحّ هذا التعبير (9".
وهو يحذو حذو أفلاطون في الدعوة إلى تكافؤ الفرص للرجال والنساء على السواء، ويضرب أمثلة كثيرة للنساء المثقفات في الأزمنة القديمة (ولقد كان هناك نساء مثقفات في المحيط الذي يعيش فيه)؛ ولكنه ينظر إلى زنى الرجل بنفس السهولة التي ينظر بها إليه الرجل الوثني فيقول:
"إذا كان الرجل داعراً منهمكاً في ملذّاته وزلّ مع عشيقة أو خادمة، فلا يصحّ لزوجته أن تختاض لذلك أو تغضب، بل يجب أن تعتقد أن احترامه لها هو الذي دفعه إلى أن يشرك في فجوره امرأة غيرها) (10).
ولكننا مع هذا إذا فرغنا من قراءة هذه المقالات الممتعة الساحرة أحسسنا بعد قراءتها، بأنا كنا في صحبة رجل رقيق القلب، طيب في جوهره، كامل في رجولته، لا يسوءنا قط أن أفكاره عادية. وإن اعتداله لهو الترياق الشافي من الهوى الفكري الذي يغلب على عصرنا الحاضر، وإن عقله المتزن، وفكاهته اللطيفة، وإيضاحاته الجذّابة لتدفعنا إلى القراءة دفعاً لا نقوى على مقاومته حتى في المواضع المبتذلة منها. وإن الإنسان لترتاح نفسه حين يجد فيلسوفا أوتي من
الحكمة ما يكفي لإسعاده، وينصحنا بأن علينا أن نحمد الله على ما في الحياة من بركات ونعم عادية وألا نجعل دوامها سبباً في قلة ابتهاجنا بها:
"يجب علينا ألا ننسى تلك النعم وأسباب الراحة التي نشترك فيها مع الكثيرين من الناس، بل يجب
…
أن نبتهج لأننا نعيش، وأننا أصحاء الأجسام، وأننا نبصر ضوء الشمس
…
أليسَ من واجب الرجل الصالح أن يعدُّ كلَّ يومِ عيداً
…
ذلك بأن العالم هو أجلّ المعابد وأجدرها بسيدها. في هذا المعبد يدخل الإنسان وقت مولده، ولا تستقبله فيه تماثيل ساكنة من صنع الأيدي، بل تستقبله مخلوقات أظهرها العقل الإلهي لحواسنا
…
من بينها الشمس، والقمر، والنجوم، والأنهار التي لا تنفكّ تصبّ الماء العذب صبّاً، والأرض التي تخرج الطعام
…
وإذا كانت هذه الحياة هي أكمل إعداد لأسمى العبادات الدينية، فإن علينا أن نكون على الدوام ممتلئين غبطة وبهجة".
الفصل الثاني
صيف هندي
تتمثل في أفلوطرخس حركتان قامتا في عصره أولاهما العودة إلى الدين، وثانيتهما انتهاء النهضة اليونانية في الآداب والفلسفة. وعمت الحركة الأولى جميع بلاد اليونان، أما الثانية فكانت مقصورة على أثينة والشرق اليوناني. وازدهرت في هذه الأثناء ست مُدن من مدائن البلوبونيز، ولكنها لم تمد التفكير اليوناني إلا بالقليل: وهذه المُدن هي مدينة باتري Patrae التي ظلّت حية منتعشة خلال العصر الروماني والعصور الوسطى إلى أيامنا هذه بفضل التجارة الغربية وصناعة النسيج النشيطة. ومنها أولمبيا التي أَثرَت من أموال السيّاح الوافد غليها لزيارة تمثال زيوس الذي صنعه فدياس أو لمشاهدة الألعاب الأولمبية. ومن أكثر حوادث التاريخ اليونانية طرافة أن هذه المباريات التي كانت تقام مرّة كل أربع سنين، قد ظلّلت تقام من عام 776 ق. م حتى عام 394 م حين منعها ثيودوسيوس Theodosius. كذلك ظلّ الفلاسفة والمؤرخون يفدون إليها كما كانوا يفدون في أيام برودكس وهيرودوت ليخطبوا في الجماهير المحتشدة لمشاهدة حفلات الألعاب. ويصف ديوكريسستم المؤلفين وهم يقرؤون "مؤلفاتهم السخيفة" للمستمعين العابرين والشعراء وهم ينشدون أشعارهم، والخطباء يمثلون الهواء بصخبهم والسوفسطائيين الكثيري العدد كأنهم طواويس تزهو بنفسها، وقد جاءوا لينفخوا ريحهم على الجماهير (12). وقد برهن ديوكريسستم بقوله هذا على أنه ليس أكثر صمتاً من سائر القادمين. ويصور إبكنتس النظارة وقد غصّت بهم المواقف غير المظللة وهم يتصببون عرقاً وتلفحهم الشمس أو يغرقهم المطر، ولكنهم لا يعبئون بهذا ولا ذاك في غمرة من الضجيج والعجيج التي كان ينتهي بها كل دور في اللعب
أو شوط في السباق (13). وظلّت الألعاب القديمة النيميّة Nemean والبرزخية، والبيثية Pythian، والأثينية الجامعة تقام باستمرار، وأضيفت إليها ألعاب جديدة كالألعاب الهلينية الجامعة التي أقامها هدريان، وكان الكثير منها يشتمل على مباريات في الشعر أو الخطابة أو الموسيقى. فها هي ذي شخصية من شخصيات لوشيان تسأل: ألا نستطيع أن نسمع الموسيقى اليونانية القديمة في الاحتفالات العظيمة؟ (14) وأدخلت الجالية الرومانية التي استوطنت كورنثا قتال المجالدين في هذه الألعاب وما لبث هذا القتال أن انتشر من مورنثا إلى غيرها من المُدن حتى تدنّس ملهى ديونيثس نفسه بهذه المذابح. واحتجّ كثيرون من اليونان - ديوكريسستم، ولوشيان، وأفلوطرخس - على هذا التدنيس، وتقدّم دمناكس Demonax، الفيلسوف الكلبي إلى الأثينيين يرجوهم ألا يسمحوا بهذه البدعة قبل أن يهدموا مذبح إلهة الرحمة في أثينة (15)، ولكن الألعاب الرومانية ظلّت تقام في بلاد اليونان حتى انتشر الدين المسيحي وكانت له السيادة في تلك البلاد.
وكانت إسبارطة وأرجوس لا تزالان يسري فيهما دم الحياة إلى حدٍّ ما، وأثرت أبدورس من مال زوّارها مرضى الأجسام والنفوس الوافدين إلى ضريح أسكلبيوس. ولم يَكَد يمضي على كورنثة، بعد أن أعاد قيصر بناءها، نصف قرن من الزمان حتى أضحت لحسن موقعها على البرزخ المسمى بإسمها أغنى المُدن في بلاد اليونان. وكان يسكنها خليط من الرومان، واليونان، والسوريين، واليهود، والمصريين انتزع معظمهم من بلادهم ومن أخلاقهم الأولى، وعرفوا بنزعتهم التجارية والأبيقورية، وبفسادهم الخلقي. وكان هيكل أفرديتي بنديوس القديم سوقاً ذات تجارة رائجة ومركزاً للدعارة الكورنثية. ويصف أبوليوس Apuleius حفلة راقصة فخمة شهدها في كورنثا مُثّلت فيها محاكمة باريس "ظهرت فيها فينوس عارية الجسم إلا من شعار حريري رقيق يغطّي خصرها النحيل الجميل، وحتى هذا الشعار كانت الريح تعبث به فتدفعه تارة إلى اليمين وتارة إلى
الشمال" (16). وهكذا لم تغيّر كورنثا أساليبها منذ أيام أسبازيا.
فإذا انتقل الإنسان إلى أتكا عن طريق مجارا بدا الريف في فقر مدقع اجتمعت فيه عوامل التعرية، وتقطيع الغابات، واستنزاف الثروة المعدنية إلى الحروب، والهجرة، والضرائب الفادحة وقلّة النسل، فأحالته في عصر السلم الرومانية صحراء مجدبة. ولم يكن في أتكا كلّها إلا اثنتان من المُدن ذوات الرخاء: إليسيز التي كانت طقوسها الدينية الخفية تجتذب إليها الجماهير الغنية في كل عام، وأثينة المركز التعليمي والثقافي للعالم القديم. وكانت معاهدها ونظمها القديمة - المجلس، والجمعية، والأركونية - لا تزال تقوم بعملها، كما أن روما قد أعادت إلى مجلس الأريوبجس سلطته الأولى فجعلته مصدر الأحكام القضائية وحصن حقوق الملكية الحصين. وكان الحكام أمثال أنتيخوس الرابع، وهيرود الأكبر، وأغسطس، وهدريان ينافسون أصحاب الثراء أمثال هيرودس أتكس Herodes Atticus في هباتهم للمدينة، فأعاد هيرودس بناء الملعب العظيم بالرخام حتى لم يَكَد يُبقي منه شيئاً في بنتلكس، وأقام قاعة للموسيقى في أسفل الأكروبوليس. وتبرّع هدريان بالمال اللازم لإتمام بناء الأولمبيوم Olympieum، وشاد لزيوس، وكان وقتئذ على حافة القبر
(1)
-بيتاً خليقاً به في عنفوان شبابه.
وفي هذه الأثناء كانت شهرة أثينة الفذة في الآداب، والفلسفة، والتعليم وعدم وجود مُدن أخرى تنافسها في هذه الميادين، قد جذبت إلى مدارسها عدداً جماً من الشبّان الأغنياء والطلاب الفقراء المحتاجين، وكانت جامعتها تضمّ عشرة كراسي للأساتذة يُنفق عليها من مال المدينة أو الإمبراطور، فضلاً عن جيش جرار من المحاضرين والمدرسين الخصوصيين. وكانت تلقى فيها دروس ومحاضرات في الأدب، وفقه اللغة، والبيان، والفلسفة، والرياضيات، والفلك، والطب، والقانون. وكانت تلقى عادة في مدارس التدريب الرياضي أو دور التمثيل، وأحياناً
(1)
يقصد أن عبادته توشك أن تزول وأن تحل محلّها المسيحية. (المترجم)
في المعابد أو البيوت. ولم يكن يراعى في منهاج هذه المواد بأجمعها، عدا الخطابة والقانون، أن يؤهّل الطالب لكسب عيشه، بل كان يهدف بدلاً من هذا إلى شحذ ذهنه، وتقوية إدراكه، وإمداده بقانون أخلاقي. وقد أثمرت هذه الدراسات ثمارها فأخرجت عدداً كبيراً من ذوي العقول النابغة، ولكنها أخرجت أيضاً آلافاً من الجدليين الذين لا همّ لهم إلا التلاعب بالألفاظ، والذي حوّلوا الفلسفة والدين إلى نظريات جدلية لا يُعرف لها أول ولا آخر.
وإذا كانت موارد أثينة تعتمد إلى حد كبير على طلابها، فقد كانت صابرة على نزقهم وطيشهم. كان الطلاب الجدد يوجّه إليهم مزاح عملي يسبب الأذى لغيرهم من المواطنين في بعض الأحيان، وكان طلبة الأساتذة المختلفين يتشيّعون لأساتذتهم، ويهاجم بعضهم بعضاً، وينشأ من ذلك شغب كثير شبيه بالشغب الذي يحدثه شباب هذه البلاد وتستخدم فيه العصي. وكان بعض الطلبة يحسبون أن في مقدورهم أن يتعلموا من العشيقات والمقامرين أكثر مما يتعلمون من جميع أساتذة الفلسفة، ويشير ألسفرون Alciphron إلى أن أولئك النسوة كنّ ينظرن إلى الأساتذة نظرتهنّ إلى منافسين لهنّ بلداء عاجزين (17). غير أنه كثيراً ما كانت تقوم بين الطلاب والأساتذة روابط قوية من الصداقة الطيبة الوفية، فكان الكثيرون من الأساتذة يدعون الطلاب إلى الطعام، ويرشدونهم إلى ما يقرؤون، ويعودونهم إذا مرضوا، ويحرصون على أن يبقى آباؤهم مخدوعين في مبلغ تقدمهم. وكان معظم المحاضرين يعيشون من الأجور التي يؤديها لهم طلبتهم، وكان عدد قليل من الأساتذة يتقاضون مرتبات من الدولة، فكان كل واحد من رؤساء المدارس الفلسفية الأربع يتقاضى عشرة آلاف درخمة (6000 ريال أمريكي) في السنة من الخزانة الإمبراطوريّة.
ومن هذه الدوافع نشأ عصر "السفسطائية الثانية" - الذي عاد فيه إلى الظهور الخطيب - الفيلسوف الذي يتنقّل من مدينة إلى مدينة كلما دعاه داعي
الكسب، يلقي الخطب، ويعلّم التلاميذ، ويترافع في المحاكم عن المتقاضين، ويعيش في بيوت الأغنياء مستشاراً روحياً، ويكون أحياناً مبعوثاً مكرماً لدولة - مدينته. وازدهرت هذه الحركة في جميع أنحاء الإمبراطوريّة، وبخاصة في العالم اليوناني، في خلال الثلاثة القرون الأولى من التاريخ الميلادي، وقد وصفهم ديو بقوله إن الفلاسفة لم يكونوا وقتئذ يقلّون عددا عن الأساكفة (18). ولم يكن لهؤلاء السفسطائيين الجدد، كما لم يكن لإخوانهم الأقدمين، مبادئ مشتركة بينهم، وكانوا يصوغون تعاليمهم في عبارات بليغة، ويجذبون إليهم عدداً كبيراً من المستمعين، ويصلون في كثير من الأحيان إلى مراكز عالية في المجتمع، وينالون رضا الأباطرة، ويجمعون ثروات طائلة. وكانوا يختلفون عن السفسطائيين الأقدمين في أنهم قلّما كانوا يتعرّضون لشؤون الدين أو الأخلاق، بل كان همّهم منصرفاً إلى الشكل والأسلوب، والفن الخطاب والحذق فيه، أكثر من انصرافه إلى المسائل الكبرى التي زعزعت عقائد العالم ومبادئه الأخلاقية. والحق أن السفسطائيين الجدد كانوا من الأنصار المتحمّسين للدين القديم، ولقد احتفظ لنا فيلوستراتس Philostratus بتراجم زعماء السفسطائيين في ذلك العصر، وحسبنا أن نضرب مثلاً واحداً منهم. كان أدريان Adrian الصوري يدرس البيان في أثينة وارتقى حتى صار فيها أستاذ البيان للدولة. وكان يبدأ خطبته الافتتاحية بتلك العبارة الدالة على الفخر والكبرياء:"ها قد عادت الآداب مرة أخرى من فينيقية". وكان يأتي إلى محاضراته راكباً عربة تجرها جياد ذات عدّة من الفضة، وعليه ثياب تتلألأ فيها الجواهر، ولما زار ماركس أورليوس مدينة أثينة أحبّ أن يمتحن أدريان فطلب إليه أن يرتجل خطبة في موضوع صعب. واجتاز أدريان هذا الاختبار بنجاح جعل هدريان يخلع عليه كثيراً من أسباب التكريم، من ذهب، وفضة، وبيوت وعبيد. ولما ارتقى أستاذاً للبيان في روما، كانت محاضراته جذّبة مغرية إلى حد جعل أعضاء مجلس الشيوخ يؤجلون جلساته وجمهور السكان
يتركون دور التمثيل، ويهرعون إلى سماعها مع أنه كان يلقيها باللغة اليونانية (19). وتلك خطة تكاد تؤذن بموت الفلسفة، فقد طغى عليها سيل البيان، وغادرها التفكير حين تعلّمت الكلام.
وكان في الطرف الآخر جماعة الكلبيين. ولقد وصفناهم في غير هذا المكان وصفنا ثيابهم الممزقة، وشعرهم الأشعث، ولحيتهم الكثّة، وجعبتهم وعكازهم، ونزولهم بالحياة إلى أبسط الأمور، وإلى الفحش في بعض الأحيان. وكانوا يعيشون معيشة الرهبان المتسولين، في ظل نظام كهنوتي فيه مبتدئون ورؤساء أعلون (30)، لا يتزوجون ولا يعملون، ويسخرون من تقاليد الحضارة ومظاهرها المصطنعة، ويشهّرون بالحكومات كلها على اختلاف أنواعها، ويرون أنها بأجمعها عديمة النفع، لا تعدو أن تكون تلصصاً سافراً، ويستهزئون بالنبوءات، و "الطقوس الخفيّة"، والأرباب. وكان الناس كلّهم يهجونهم، وخاصة لوشيان، فقد صبّ عليهم أقذع هجاء، ولكن لوشيان نفسه كان يعجب بدموناكس Demonax، الفيلسوف الكلبي المثقّف الذي خرج عن كل ثروته ليعيش في فقر فلسفي، والذي وهب حياته الطويلة التي دامت قرناً كاملاً (50 - 150 م) لمساعدة غيره من الناس، وإزالة الخلاف بين المتباغضين والمُدن المتعادية، حتى لقد عظّمته أثينة رغم أنها كانت تسخر من كل شيء. ولما اتهم أمام محكمة أثينة بأنه يرفض تقريب القرابين للآلهة، برأته المحكمة حين قال إن الآلهة لا حاجة لها بالقرابين، وإن الدين لَيَنحصر في الحنو على جميع الخلق، وكان هذا هو كل ما دافع به عن نفسه.
ولما أن تورّطت الجمعية الأثينية في نزاع حزبي كان ظهوره فيها كافياً لفض النزاع، ولم يكن منه إلا أن غادرها دون أن ينطق بكلمة واحدة وكان من عادته في شيخوخته أن يدخل أي بيت من غير دعوة، ويُطعَم فيه وينام. وكان كل بيت في أثينة يسعى لأن ينال هذا الشرف (21). ويتحدّث لوشيان بعطف
أقل من هذا العطف على برجرينس Peregrinns الذي جرّب المسيحية ثم خرج عليها وانضمّ إلى جماعة الكلبيين، وندد بروما، وحرّض بلاد اليونان جميعها على الثورة، وأدهش المجتمعين في أولمبيا بأن جمع محرقته بنفسه، وأوقد فيها النار، وقفز إليها، واحترق في لهيبها (165 م (22". وبهذا الاحتقار للثراء وللحياة نفسها كان الكلبيون يمهّدون السبيل لرهبان الكنيسة المسيحية.
ولما أنشأ فسبازيان، وهدريان، وماركس أورليوس كراسي للفلسفة في أثينة، أغفلوا الكلبيين والمتشككة، ولم يعترفوا إلا بمدارس الفكر الأربع: الأكاديمية الأفلاطونية، واللوقيون الأرسطوطيلية، والرواقية، والأبيقورية. وكانت الأكاديمية قد وسّعت إيمان أفلاطون وافتخاره بالعقل الإنساني حتى استحال إلى الشك العام الذي قال به كرنيديز Carneades، فلما أن مات هذا الفيلسوف المتشكك عادت هذه المدرسة فمالت إلى النزعة الأصلية، ورجع أنتيخوس العسقلاني الذي كان يعلّم شيشرون في المجمع العلمي (79 ق. م) إلى آراء أفلاطون في العقل، والخلود، والله. وكانت الموقيون وقتئذ قد قصرت بحوثها على العلوم الطبيعية جرياً على سنّة ثيوفراسطس، أو على كتابة الشروح والتعليقات في ورع وخشوع على مؤلفات أرسطو. أما مدرسة أبيقور فكانت في هذا العصر الديني سائرة في طريق الاضمحلال، وقلّما كان أحد من الناس يجرؤ على الجهر بعقائدها دون أن يشفع ذلك الجهد بتحفظات دبلوماسية. وكانت ألفاظ أبيقوري، وكافر، ومسيحي، في معظم بلاد آسية كلها ألفاظاً مترادفة، تعبّر عن الهلع والدَنَسْ (22).
وقد كانت للفلسفة الرواقية الغلبة على سائر الفلسفات من قبل ذلك الوقت بزمن طويل، وكان ما اتصفت به صورها الأولى من صرامة وكمال قد خفّت حدّته على يدي بانيتيوس وبوسيدونيوس، وكلاهما من مواطني رودس.
فأما بانيتيوس Panaetius فإنه عاد إلى أثينة بعد موت سبيو (129 ق. م) وأصبح
وقتئذ رئيس الاستوا Stoa، وعرّف الله بأنه روح مادية أو نفس مادي (pneuma) ، يسري في الأشياء جميعها، ويظهر في الثبات في صورة قوة النماء، وفي الحيوان على هيئة النفس psyche وفي الإنسان على هيئة العقل logos وقد تطور هذا المذهب الغامض مذهب وحدة الله والكائنات إلى فلسفة أقرب إلى الفلسفة الدينية على أيدي خلفائه، واقتربت نظرية التأديب الأخلاقي الرواقية من الزهد الكلبي حتى أضحت الكلبية في القرن الميلادي ونيس بينها وبين الرواقية فارق إلا في ردائها المهلهل على حد قول أحد الكتاب. ونرى الحركتين كلتيهما تتقدمان نحو المسيحية على أيدي إبكتتس وماركس أورليوس.
الفصل الثالث
إبكتتس
وُلِدَ ابكتتس في هيرابوليس Hierapolis من أعمال فريجيا عام 50 م، وكانت أمه جارية فكان هو لهذا السبب عبداً. ولم تُتَح له فرصة للتعلم لأنه صار يتنقل من سيد إلى سيد، ومن مدينة إلى مدينة، حتى وجد نفسه مملوكاً لإفروديتس Epaphroditus وهو معتوق ذو سلطة في بلاط نيرون، وكان ضعيف الجسم أعرج، ولعل سبب ضعفه وعرجه هو وحشية أحد أسياده، ولكنه عاش السبعين عاماً التي يعيشها الرجل العادي. وقد سمح له إفروديتس أن يستمع إلى محاضرات موسنيوس روفس، ثم حرره فيما بعد وما من شك في أن إبكنتس قد اشتغل معلماً في روما، لأنه كان بيم من فروا منها حين نفى دومتيان الفلاسفة. ثم استقر في نقوبوليس واجتذب إلى محاضراته فيها طلاباً من جميع الأنحاء منهم أريان النيقوميدي الذي أصبح فيما بعد حاكم طبدوكيا. وقد دون أريان عبارات ابكنتس، وأكبر الظن أنه دونها بطريقة الاختزال ثم نشرها بإسم " Diatribai" أي عبارات "ممسوحة" أو نسخ - وهي التي تُذكر الآن بين قوائم أحسن الكتب في العالم بعنوان أحاديث Discourses
(1)
وليس هذا الكتاب رسالة ثقيلة مملة، بل هي حديث بسيط جيد، وفكاهة حلوة، تكشف في وضوح عن خُلق متواضع حنون، ولكنه خلق قوي صارم. وكان ابكنتس يستخدم سخريته اللاذعة للاستهزاء بنفسه وبغيره على السواء، ويسخر في مرح من أسلوبه الجاف الخالي من التنميق. ولم يشك قد حين سمع دمناكس الأعزب العجوز ينصح الناس بالزواج، وأراد أن يسخر منه فتقدّم
(1)
وأصدر أريان فيما بعد كتاباً آخر بإسم Encheiridion أو "الموجز" لإبكنتس.
إليه يخطب ابنته. وقد برر عدم زواجه بحجة أن في تعليم الفلسفة خدمة لا تقل عظمة عن ولادة "طفلين أو ثلاثة أطفال فُطَس الأنوف". واتخذ لنفسه في آخر أيامه زوجة تساعده على العناية بطفل أنجاه من الموت بسبب تعرضه لتقلبات الجو. وذاع صيته في جميع أنحاء الإمبراطوريّة في تلك الأيام، وكان هدريان يعدّه من بين أصدقائه.
وكان ابكنتس شبيهاً بسقراط في هذا وفي نواحٍ أخرى كثيرة، ولكنه لم يعنَ بالطبيعة أو بما وراء الطبيعة عناية تحمله على إنشاء نظام فكري، بل كان موضوعه الأوحد الذي يشغف به ويوجه إليه كل عنايته هو الحياة الصالحة. ومن أقواله في هذا المعنى: "ماذا يهمني من أن تكون الأشياء الموجودة على ظهر الأرض مكونة كلها من ذرات
…
أو من النار والتراب؟ أليس يكفيني أن أعرف حق المعرفة ما هو الطيّب وما هو الخبيث؟ " (25). وليست الفلسفة في رأيه هي قراءة ما في الكتب من حكمة، بل هي تدريب الإنسان نفسه على اتباع الحكمة. وجوهر المسألة أن يشكل الإنسان حياته وسلوكه بحيث لا تتأثر سعادته بالظروف الخارجية إلا أقل التأثر. وهذا لا يتطلب منه أن يكون موقفه من الحياة موقف النُسّاك، بل إن "الابيقوريين، وأسافل الناس" ملومون لأنهم يحولون بين الناس وبين أداء الخدمات العامة، والرجل الصالح يقوم بنصيبه في الشؤون الدينية، ولكنه يرضى، وهو هادئ مطمئن، بجميع صروف الزمان: من فقر، وحرمان، وإذلال، وألم، ورق، وسجن، وموت. ويعرف كيف "يصبر وينبذ".
"لا تقل عن شيء ما""إني فقدته" بل قُل فقط "إنني رددته". هل مات لك طفل؟ لقد رُدّ. هل ماتت لك زوجة؟ لقد أُعيدت. "لقد اُغتصبت مني مزرعتي". حسن جداً هذه أيضاً قد رُدّت. وما دام الله قد وهبك إياها فاعتنِ بها على أنها ليست لك
…
"أسفي على أنني أعرج! " أيها العبد!
أتؤنب الكون لأنك فقدت ساقاً حقيرة؟ ألا يليق بك أن تنزل عنها هبة خالصة للكون كله؟
…
وإذا أُرغمت على الخروج من بلدي منفيّا، فهل في مقدور أحد من الناس أن يمنعني أن أخرج مبتسماً هادئاً؟
…
"سألقيك في السجن". إنك لن تسجن إلا جسمي، وسأموت حتماً، فهل يجب إذن أن أموت شاكياً؟
…
تلك هي الدروس التي يجب أن تبدأها الفلسفة وتعيدها، وتدونها كل يوم، وتمارسها
…
ليست منصّة الخطابة وليس السجن إلا مكانين، أحدهما عالٍ والآخر منخفض، ولكن هدفك الأخلاقي يجب أن يكون واحداً في كلتا الحالين (27).
وفي مقدور العبد أن يكون حر الروح كديجين، وفي وسع السجين أن يكون حراً كسقراط، وقد يكون الإمبراطور عبداً كنيرون (28)، وليس الموت نفسه إلا حادثاً عارضاً في حياة الرجل الصالح، في وسعه أن يستعجله إذا تبين أن الشرّ يرجح كثيراً على الخير (29). وخليق به على أية حال أن يستقبله في هدوء، وأن يرى فيه جزءاً من حكمة الطبيعة المكنونة.
"لو أن سنابل الحب كان لها إحساس، فهل كانت ترجو ألا تُحصد؟
…
إني أُحبّ أن تعلم أنك لو عِشتَ أبد الدهر لكان عيشك هذا نقمة
…
إن السفينة تغرق، فماذا أفعل إذن؟ مهما استطعتُ أن أفعل
…
فسأغرق دون أن أخشى شيئاً أو أن أحجم أو أجدّف في حق الله. بل أعتقد أن من يولد لابد أن يهلك. ذلك أني جزء من الكل كما أن الساعة جزء من اليوم. عليّ أن أجيء كما تجيء الساعة، وأن أنقضي كما تنقضي (30)
…
يجب ألا تعُد نفسك أكثر من خيط واحد بين جميع الخيوط التي يتكون منها الثوب (31)
…
لا تسعَ لأن يكون ما يحدث لك يحدث كما تحب، بل أحِب أن يحدث ما حدث كما حدث، فإن فعلت وجدت الهدوء والطمأنينة" (32).
وكثيراً ما يتحدث ابكنتس عن الطبيعة بوصفها قوة غير ذات شخصية،
ولكنه في كثير من الأحيان أيضاً يجعل لفكرته عن الطبيعة شخصية، وذكاء، وعاطفة حب. وترى الجو الديني الذي كان يسود عصره يغمر فلسفته ويحيلها تقوى مُستَسلمة شبيهة بتقوى الإمبراطور الذي قرأ فلسفته وردد صدى أفكاره بعد زمن قليل. فهو يتحدّث حديثاً بليغاً رقيقاً عن النظام الفخم الذي يسود الزمان والمكان، وعمّا في الطبيعة من خطط موضوعة، ولكنه ينتقل من هذا ليقول إن "الله قد خلق بعض الحيوانات لكي يؤكل وبعضها الآخر لكي يعمل في المزارع، وبعضها لكي يُخرج الجبن"(33)، وهو يعتقد أن العقل البشري نفسه أداة عجيبة لا يستطيع أن يوجدها إلا إله خالق، وأننا وقد وُجدت لنا عقول لابد أن نكون في الواقع أجزاء من العقل العالمي. ولو أننا استطعنا أن نرجع بأنسابنا إلى الإنسان الأول لوجدنا أنه من أبناء الله، فالله إذن أبونا جميعاً بالمعنى الحرفي للفظ الأبوة، والناس كلهم اخوة (34).
"لم يحجم من راقب تصريف شؤون العالم وفهمها وعرف أن أعظم المجتمعات وأوسعها هو نظام (سستيما Systema أي الوقوف الاجماعي) الخلق والله، وأن الله هو الذي انبعثت منه الأصول التي نشأت منها جميع الأشياء وخاصة الكائنات العاقلة، لم يحجم عن أن يُسمي نفسه مواطناً عالياً
…
أو بعبارة أصح: ابن الله؟ وإذا استطاع الإنسان أن يؤمن بهذا المبدأ بقلبه وروحه فأكبر ظني أنه لم تخالجه قط فكرة دنيئة أو غير شريفة
…
فلا تنسَ إذن وأنت تأكل، من أنت الذي يأكل، ومن هو الذي تغذيه، وإذا ما ضاجعت النساء، فأذكر من أنت الذي تفعل هذا
…
إنك تحمل الله معك
…
أنت أيها التعس المسكين، وإن كنت لا تعرف (35)!
ويحث ابكتتس طلابه في فقرة خليقة بأن يكتبها القديس بولص أن يسلموا إرادتهم لله في ثقة واطمئنان، وألا يقتصروا على هذا بل أن يكونوا فضلاً عن ذلك رُسُلاً لله بين بني الإنسان فيقول:
يقول الله: "اذهبوا وكونوا شهداء لي على الناس"(36)
…
وفكروا في المعنى الذي ينطوي عليه قولكم: "لقد بعثني الله إلى العالم لأكون جندياً من جنوده وشاهداً من شهوده، ولأُخبر الناس أن أحزانهم ومخاوفهم عبثٌ وبطلان، وأن الشر لا يمكن أيصيب الرجل الطيّب، حيّاً كان أو ميّتاً. والله يبعثني يوماً هنا ويوماً هناك، ويؤدبني بالفقر وبالسجن، لكي أكون شاهداً حقاً له بين الناس. وإذا ما قمت بهذه الرسالة، فهل يعنين أي مكان أكون فيه، أو من يكون رفاقي، أو ماذا يُقال عني؟ أجل ألا تكون فطرتي كلها منجذبة نحو الله، ونحو شرائعه ووصاياه"(37).
أما هو نفسه فقد كان غموض الأشياء ولآلئها يملأنه رهبة وشكراً، وهو يترنم للخالق بتسبيحة وثنية تُعد من أروع الفقرات في تاريخ الأديان.
"أية لغة ترقى إلى الثناء على جميع أعمال العناية الإلهية؟
…
أفما كان خليقاً بنا، لو كانت لنا عقول، أن نصرف وقتنا كله في التغني بمجد الإله والتسبيح بحمده، والتحدث بنعمه؟ أليس من واجبنا ونحن نحفر الأرض ونفلحها، ونأكل من ثمارها، أن تلهجَ ألسنتنا بالثناء عليه؟ - وماذا بعد هذا؟ - أما وقد أصبحت كثرتكم الغالبة عمياء، أفلا يجب أن يكون هناك إنسان يؤدي هذا الواجب بدلاً منكم، وينوب عنكم جميعاً في التغنّي بمدح الله؟ " (38).
إنا لنجد في هذه الفقرات تشابهاً عجيباً بينها وبين كثير من أفكار المسيحية الأولى وإن كنا لا نرى فيها كلمة واحدة عن الخلود، وإن كان في وسعنا أن نرجع بها جميعاً إلى عقائد الرواقيين والكلبيين. والحق أن ابكتتس لَيَتقدم أحياناً على المسيحية يتقدم عليها في تنديده بالاسترقاق، وفي وجوب تحريم عقوبة الإعدام، وفي مناداته بأن يُعامل المجرمون على أنهم مرضى يحتاجون إلى العلاج (39). وهو يدعو الناس إلى أن يحاسبوا ضميرهم في كل يوم من
أيام حياتهم (40)، ويضع لهم قاعدة من نوع القواعد الذهبية:"لا تكُن سبباً في أن يتعذّب الناس بما لا تحب أن تتعذب به أنت"(41)، ويضيف إلى ذلك قوله:"إذا قيل لك إن إنساناً يتحدث عنك حديث السوء، فلا تُدافع عن نفسك بل قُل: إنه لو عرف سائر عيوبي لما ذكر هذه وحدها"(42). وهو ينصح الناس بأن يجزوا الإساءة بالإحسان، "وألا يردوا الشتم إذا شُتموا! "(44). وأن يصوموا من حين إلى حين، وأن "يمتنعوا عما يشتهون" (45). وتراه أحياناً يتحدّث عن الجسم باحتقار مزرٍ كالذي يتحدّث به عنه الناسك الذي لم يتطهر بعد من ذنوبه: "إن الجسم أقذر الأشياء جميعاً وأخبثها
…
ومن أغرب الأشياء أن نحبّ هذا الشيء ونؤدي له هذه الخدمات العجيبة في كل يوم. أنا أملأ هذا الكيس، ثم أفرغه، فهل ثمة عمل أكثر من هذا مشقة؟ " (46).
ومن أقوال ابكتتس فقرات تنطق بتقى أوغسطين وفصاحة نيومن Newman؛ " تصرّف فيَّ يارب كما تشاء؛ إن عقلي منك وإليك؛ أنا ملك لك. ولست أطلب أن أعفى من شيء ترى أنت أنه خير. اهدني إلى حيث تريد، واكسني بما تشاء من الثياب"(47)، وهو يأمر أتباعه كما يأمرهم عيسى بألا يهتموا بأمر غد.
"إذا كان الله خالقنا، وأبانا، ووليّنا - أفلا يكفي هذا لأن يردعنا الحزن والخوف! ويتساءل بعض الناس: من أين أطعَم إذا لم يكن عندي ما أطعمه؟ ولكن ماذا تقول عن الحيوانات، يكتفي كل منها بنفسه، ولا يعدم ما يصلح له من الطعام، ولا ينقصه ما يوائمه ويتمشى مع طبقته من أساليب الحياة؟ ".
وهل من عجب بعد هذا أن يثني عليه المسيحيون أمثال القدّيس يوحنا وكريستوم وأوغسطين، وأن يتّخذ كتابه "الموجز" بعد تغيير طفيف قاعدة لحياة النساء في الأديرة ومرشداً لهنّ؟ (49). ومن يدري لعلّ أبكتتس قد قرأ أقوال عيسى في صورة ما وأنه قد اعتنق المسيحية على غير علمٍ منه.
الفصل الرابع
لوشيان والمتشككة
ومع هذا فقد كان في هذه المرحلة الأخير من مراحل الثقافة الهلنستية متشككة يعيدون إلى الأذهان شكوك بروتجوراس، وكان فيها لوشيان، يسخر من العقائد الدينية بوقاحة كوقاحة أرستبس، وبأسلوب لا يكاد يقل سحراً عن أسلوب أفلاطون. ولم تكن مدرسة بيرو Pyrrho قد ماتت بعد، وقد أعاد إينسديمس Aenesidemus النسوسي صياغة أقوالها الإنكارية بمدينة الاسكندرية في القرن الأول الميلادي، وذلك في "الأساليب" Tropoi العشرة أو المتناقضات التي تجعل المعرفة مستحيلة
(1)
. وفي أواخر القرن الثاني صاغ سكستس إمبركس Sextus Empiricus، وهو رجل لا نعرف له تاريخاً ولا موطناً، فلسفة المتشككة في شكلها الأخير وضمنها عدة مجلدات هدامة بقيت منها حتى الآن ثلاثة. ويتخذ سكستس العالم كلّه عدوّاً له، ويُقسّم الفلاسفة أجناساً مختلفة، ويقضي عليهم واحداً
(1)
منها (1) أن أعضاء الحس (كالعينين) في الحيوانات المختلفة، وفي الآدميين المختلفين، تختلف في شكلها وتركيبها، وأن المفروض فيها أن تنقل لصاحبها صوراً للعالم مختلفة. وأنى لنا أن نعرف أي هذه الصور هو الصحيح؟ (2) وأن الحواس لا تنقل إلا جزءاً صغيراً من الجسم المحس كجزء محدد من الألوان، والأصوات، والروائح؛ وما من شك في أن الصورة الذهنية التي تتكون لدينا عن هذا الجسم صورة جزئية غير موثوق بصحّتها. (3) وأن هذه الحواس قد تتعارض إحداها مع حاسة أخرى. (4) وأن الجسم المحس يتلون، وقد يتلون خطأ، بحالتنا الجسمية والعقلية: حالة اليقظة أو النوم، والشباب أو الشيخوخة، والحركة أو السكون، والجوع أو الشبع، والكره أو الحب. (6) وأن مظهر الشيء المحس يختلف باختلاف حالة البيئة التي تحيط به - من ضوء، وهواء، وبرد، وحر، ورطوبة الخ، فأي مظاهره هو الصحيح؟. (8) وأن لا شيء يمكن معرفته بنفسه أو معرفته معرفة مطلقة، فهو لا يعرف إلا بصلته بشيء آخر أي بوصفه جزء من كل. (10) وأن عقائد الفرد موقوفة على العادات، والدين، والنظم، والقوانين التي نشأ فيها، وما من فرد يستطيع أن يفكر تفكيرا موضوعيا.
بعد واحد، ويكتب بالقوة الخلقية بالجلادين، وبالترتيب الحسن والوضوح اللذين تمتاز بهما الفلسفة القديمة، ولا يخلو أسلوبه من الفكاهة الساخرة ومن فتات من المنطق الكئيب.
ويقول سكستس ان كل حجة يمكن معارضتها بحجة مساوية لها، ومن أجل هذا لن تجد في آخر الأمر شيئاً لا ضرورة له أكثر من التعليل والاستدلال لا يوثق به إلا إذا قام على أساس الاستقراء الكامل، ولكن الاستقراء الكامل مستحيل، لأننا لا نستطيع أن نتبيّن متى يظهر أمامنا "مثل سلبي"(51). وليست "العلّة" إلا سابقة منتظمة (كما يُكرر هيوم Hume) ، والمعرفة كلها نسبية (52). كذلك لا يوجد خير أو شر موضوعي، فالمبادئ الأخلاقية تختلف باختلاف البلاد (53)، وللفضيلة في كل جيل تعريف يختلف عن تعريفها في كل جيل آخر. وانك لتجد في أقوال هذا الفيلسوف جميع الحجج التي أدلى بها في القرن التاسع عشر عن إمكان معرفة وجود الله أو عدم وجوده. كما تجد فيها جميع الأقوال المتعارضة بين قدرته العليا الخيّرة والآلام الدنيوية (54). ولكن سكستس أكمل لاأدرية من اللاأدريين، لأنه يؤكد أننا لا نستطيع أن نعرف أننا لا نعرف. ويقول أن اللاأدرية عقيدة (55)، ولكنه يواسينا بقوله أننا لسنا في حاجة إلى الحقيقة المؤكدة؛ وإن في الترجيح ما يفي بجميع أغراضنا العملية، وإن تعليق الحكم في المسائل الفلسفية بدل إزعاج العقل به يهبه الهدوء الناشئ عن عدم الاهتمام (Atarasia) (56) : وإذا لم يكن ثمة شيء مؤكد فلنقبل عرف الزمان والمكان اللذين نعيش فيهما وعقائدهما، ولنعبد أربابنا القدامى متواضعين (57).
ولو أن لوشيان قد أوتي من الحَمَق ما جعله يقيّد عقله بالانتماء إلى طائفة خاصة من الفلاسفة لكان من طائفة المتشككة. وكان يكتب الفلسفة كما يكتبها فلتير الذي يشبهه في كل شيء إلا في عطف فلتير وحنانه، يكتبها بأسلوب بلغ من
الإشراق والوضوح حداً لا يظن معه إنسان أنه يكتب الفلسفة. وكان مولده في سموساتا Samosata من أعمال كمجيني Commagene البعيدة، وكأنه قد وُلِد في هذا المكان بالذات ليدلنا على مدى انتشار الهلنستية. وقد قال عن نفسه:"أنا سوري من بلاد الفرات". وكانت لغته الأصلية هي السريانية، وأكبر الظن أن الدم الذي كان يجري في عروقه هو الدم السامي (58). ثم أُرسل ليتمرّن على النحت عند مثّال؛ ولكنه ترك النحت وأخذ يدرس البلاغة؛ وبعد أن أقام في إنطاكية يمارس صناعة المحاماة شرع يتجوّل في الطرقات كما يفعل "العالم المستقل"، يكسب عيشه بإلقاء المحاضرات، وخاصة في روما وغالة؛ ثم ألقى عصا التسيار في أثينة (عام 165 م)، وأنجاه ماركس أورليوس الورع المتسامح من الفقر في آخر أيامه، وعيّن المتشكك غير المحترم في منصب رسمي في مصر، حيث مات في تاريخ غير معروف.
وقد أبقت الأيام على ستة وسبعين كتاباً من كتب لوشيان الصغيرة، وكثيٌ منها لا يقل حدة ومناسبة لأحوال هذا العصر عما كانت عليه حين كان يقرؤها على أصدقائه ومستمعيه قبل ثمانية عشر قرناً من الزمان. وقد أخذ يجرّب أفانين مختلفة من الكتابة حتى عثر أخيراً على أسلوب الحوار الممتع الظريف. وقد بلغ كتابه محاورات الحظيات من التحرر درجة جعلت له كثيرين من القرّاء، ولكنه كان في كتبه على الأقل أكثر انهماكاً في الآلهة منه في الحظيات؛ وهو لا يفرغ قط من الإساءة إليهن. وفي كتابه هذا على لسان منبس Menippus:" كُنتُ وأنا غلام أستمع إلى قصص هومر وهزيود عن الآلهة - الآلهة الزانين، الآلهة الجشعين النهّابين، الآلهة العنيفين المتنازعين، مرتكبي الفحشاء مع المحارم. ولم أكُن أجد في هذا كله مأخذاً، بل إني في واقع الأمر وجدتُ فيه متعة عظيمة؛ ولكني حين بلغت سن الرشد وجدت الشرائع تناقض أقوال الشعراء مناقضة تامة، فتحرّم الزنى والسلب والنهب".
وتحيّر منبس فذهب إلى الفلاسفة يستوضحهم الأمر، ولمنهم كانوا مشغولين بأنفسهم يحاول كل منهم أن يُفند حجج غيره، فلم يدوه إلا حيرة واضطراباً، ولم يرَ بداً من أن يصنع له جناحين ويطير بهما إلى السماء، ويفحص عن الأمر بنفسه. واستقبله زيوس أحسن استقبال، وأكرم وفادته، وسمح له أن يراقب مجرى الأمور من فوق أولمبس. وكان زيوس نفسه يستمع إلى الصلوات وهي تأتي إليه من "صف من الفتحات لها أغطية كأغطية الآبار
…
وكان من بين الخلق الذين يعملون في البحار رجل يطلب ريحاً شمالية وآخر يطلب ريحاً جنوبية. وكان الزارع يدعوه ليرسل إليه المطر، والقصّار يدعوه أن يرسل إليه الشمس. وخُيّل إلى الرجل أن زيوس قد تحيّر في أمره، لا يعرف أي دعاء يستجيب له، فامتنع عن الحكم امتناع العلماء الحقيقيين، وأظهر من التريّث والاتزان ما هو خليق ببيرو نفسه" (59). ثم يرفض الإله بعض المطالب، ويستجيب لبعضها الآخر، ثم ينظم طقس اليوم: فيرسل المطر إلى سكوذيا، والثلج إلى بلاد اليونان، والعواصف إلى البحر الأدرياوي، و"يصرخ صرخة تبعث بعشرين مكيالا من البَرَد إلى كبدوكيا". ويغضب زيوس من الآلهة السمجة الغربية التي تسللت إلى مجمع آلهته؛ فيصدر أمراً يقول فيه إن جبل أولمبس قد ازدحم بالآلهة الأجنبية المتعددة الأجناس حتى ارتفع ثمن الرحيق الذي نشربه، وأخرجت منه الآلهة القديمة، التي هي دون غيرها، الآلهة الحقة؛ ولهذا فإن لجنة من سبعة ستُشَكّل لتنظر في مطالب الآلهة.
وفي كتاب التحقيق مع زيوس يسأله فيلسوف أبيقوري: هل الآلهة هي الأخرى خاضعة للأقدار؟ فيجيب جوف الظريف بقوله: نعم. فسأله الفيلسوف: "ولِمَ إذا يُقرّب الآدميون لك القرابين؟. وإذا كان القدر هو المسيطر على الآدميين والأرباب، فلِمَ نكون مسؤولين عن أعمالنا؟ "، فيردّ عليه زيوس بقوله: "يتبين لي أنك كنت مع تلك الجماعة اللعينة جماعة
السفسطائيين" (60)؛ وفي زيوس تراجودس Zeus Tragoedus ترى الإله مكتئباً ساخطاً لأنه يرى جمعاً محتشداً في أثينة يستمع إلى داميس Damis الأبيقوري ينكر وجود الآلهة واهتمامها بالخلق، بينما يؤكد ذلك تمكليز Timocles الرواقي. ثم ينهزم تمكليز ويفر من الميدان؛ وييأس زيوس من مستقبله، ولكن هرمس يواسيه بقوله: "لا يزال في الأرض كثيرون من المؤمنين، هم الكثرة الغالبة من اليونان، أواسط الشعب وسفلته، والبرابرة على بكرة أبيهم" (61). ولم يتهم لوشيان بالكفر لقوله هذا، وفي ذلك دليل إما على روح التسامح التي كانت تسود ذلك العصر وإما على قرب زوال الآلهة اليونانية من الوجود.
وكان لوشيان يتشكك في قيمة البلاغة والفلسفة تشككه في الدين القديم. ففي إحدى محاورات الموتى يأمر كارون Charon أحد البلغاء، وهو ينقله إلى الدار الآخرة، "أن تثير ما بلغك من طول الجمل الذي لا آخر له، ومن والطباق والمقابلة والعبارات المتوازنة" - وإلا غرق القارب حتماً (62). وفي هرموتمس Hermotimus ترى طالباً يبدأ دراسة الفلسفة متحمساً لها راجياً أن يستعيض بها بعض الاستعاضة عن الإيمان، ولكنه يصطدم مما يتصف به المعلمون المتنافسون من غرور وشره، ويتركه هؤلاء المعلمون عارياً ذهنياً وخلقياً، لأن كل فريق منهم يقضي وقته في دحض حجج الفريق الآخر، ولهذا "سأبتعد عن الفيلسوف كما أبتعد عن الكلب" على حد قوله في ختام حديثه (63). ويعرف لوشيان نفسه الفلسفة بأنها محاولة "للوصول إلى مرتفع تتطلّع منه إلى جميع الجهات"(64). وتبدو له الحياة من هذا المرتفع كأنها خليط مهوش سخيف، وأو جوقة مضطربة مختلّة النظام، يتحرّك فيها الراقصون ويصرخون كلٌّ كما يريد حتى يطردهم رئيس الفرقة من فوق المسرح واحداً بعد الآخر (65). ويصور
في "كارون" منظر البشر، كما تراهم عين فوق عين الآدميين من قمة سماوية عالية، صورة حالكة السواد: صورة خلائق يفلحون الارض، ويكدحون، ويتنازعون، ويتقاضون في المحاكم، وُرابون، ويَغشّون ويُغشّون. ويجرون وراء الذهب أو اللذة. وفوق رؤوسهم سحابة من الرمال والمخاوف، والحمق، والكره، ومن فوق هذه كلها تعتزل الأقدار خيط الحياة لكل ذرة بشرية؛ فإنسان يرتفع من بين جمهرة الناس ثم يسقط إلى الحضيض، وكل إنسان يسحبه بدوره رسول من رسل الموت. ويبصر كارون جيشين يقتتلان في أرض البلوبونيز، فيُعلّق على قتالهم بقوله:"ما أشدّ حمق هؤلاء! إن كلاً منهم لا يعرف أنه وإن كسب البلوبونيز وحده لن يكون له آخر الأمر إلا قدم واحدة من الأرض"(66). ولوشيان لا يحابي أحداً شأنه في هذا شأن الطبيعة نفسها، فهو يهجو الأغنياء لشرههم، والفقراء لحسدهم، والفلاسفة لشراكهم، والآلهة لعدم وجودهم. ويختم حديثه في آخر الأمر بما يختم به فلتير حديثه وهو أنه ينبغي للإنسان أن يزرع حديقته. فمنبس Menippus يجد تيرسياس Teiresias في الدار السفلى ويسأله: ما خير أنواع الحياة؟ فيجيبه النبي الشيخ بقوله:
إن حياة الرجل العادي خير أنواع الحياة، ومن اختارها كان أكثر الناس فطنة؛ وإياك وسُخف المجادلات فيما وراء الطبيعة والبحث في أصول الأشياء وغاياتها؛ ولا تحسبن هذا المنطق كلّه إلا هراء في هراء، ولا تسعَ إلا لغاية واحدة وهي كيف تعمل ما تجده يدك لتعمله؛ وسِر في طريقك دون أن تنفعل قط وعلى فمك ابتسامة على الدوام (67).
وقصارى القول أن التفكير اليوناني في القرنين الأولين من التاريخ الميلادي تغطي عليه النزعة الدينية على الرغم من لوشيان وآرائه. لقد خسر الناس قبل ذلك العهد إيمانهم وعمدوا إلى المنطق؛ أما في الوقت الذي نتحدّث عنه فقد كانوا يخسرون المنطق ويعودون سراعاً إلى الإيمان. ذلك أن الفلسفة اليونانية
كانت قد أتمّت دورتها مبتدئة باللاهوت البدائي، ثم انتقلت منه إلى تشكك السفسطائيين الأولين، ثم إلى كثر دمقريطس، فمداهنة أفلاطون ومحاولته التوفيق بين النزعتين، فنزعة أرسطو الطبيعية، فعقيدة وحدة الله والكون التي كانت تنادي بها الستوا، فالعودة إلى فلسفة التصوّف والاستسلام والتقوى. أما المجمع العلمي فقد انتقل من أساطير مؤسسة النفعية عن طريق تشكك كرنيديز Carneedes إلى خشوع أفلوطرخس القائم على العلم. ولا يلبث أن يبلُغ الذروة في رؤى بلوتنس السماوية. لقد نسي الناس كشوف فيثاغورس العلمية العظيمة، ولكن فكرته عن التجسّد بدأت وقتئذ تحيا حياة جديدة، فكان الفيثاغوريون الجدد ينقبون فيما تنطوي عليه الأعداد من أسرار خفية، ولا ينقطعون يوماً واحداً عن اختبار الضمير الإنساني ويدعو الله أن ينتقلوا بعد أقصر فترة مستطاعة من التجسّد إلى الاتحاد المبارك مع الله بعد أن يمروا بالمطهر - إن كان لابد لهم أن يمروا به (68). وكانت الرواقية تبعد شيئاً فشيئاً عن أن تكون فلسفة الأشراف المفتخرة المستهزئة، وقد وجدت آخر المعبرين عنها وأفصحهم لساناً في عبد من العبيد. وكان إيمانها باللهيب الذي سوف يحرق العالم آخر الدهر، ونبذها كل ملاذ الجسد، واستسلامها في خضوع ومذلة إلى إرادة الله الخفية، كان هذا كله يمهّد السبيل إلى اللاهوت المسيحي والمبادئ الخلقية المسيحية. وملاك القول أن المزاج الشرقي كان وقتئذ يستحوذ على القلعة الأوربية.
الباب الرابع والعشرون
اليقظة الهلنستية
الفصل الأول
مصر الرومانية
كان خليقاً بمصر أن تكون أسعد بلدان الأرض قاطبة، لأن النيل يرويها ويغذّيها، ولأنها أكثر بلاد البحر الأبيض المتوسط قدرة على الإكتفاء بخيراتها- فهي غنية بالحب والفاكهة، وتنتج أرضها ثلاث غلات في العام، ولم يكُن يعلو عليها بَلَد آخر في صناعاتها، وكانت تصدّر الغلات والمصنوعات إلى مائة قطر وقطر، وقلما كان يزعجها ويقلق بالها حرب خارجية أو أهلية. ولكن يبدو أن "المصريين" برغم هذه الأسباب- أو لعلّهم لهذه الأسباب- "لم نعموا بالحرية يوماً واحداً في تاريخهم كلهم"(1) على حد قول يوسفوس. ذلك أن ثروتهم كانت تغري بهم الطغاة أو الفاتحين واحداً في إثر واحد مدى خمسين قرناً من الزمان كانوا فيها يستسلمون لأولئك الطغاة والفاتحين
(1)
.
(1)
هذه إحدى الأكاذيب التي يرويها المؤرخون دون تحقيق والتي يكذّبها تاريخ مصر تكذيباً قاطعاً، فلقد نعمت مصر في جميع أدوار تاريخها بعصور من الحرية طوال؛ وإذا كانت قد خضعت في بعض أيامها لغيرها من الدول فإن معظم الأمم لم تسلم من هذا الخضوع، وقد امتصّت مصر الفاتحين فمصّرتهم أو أخرجتهم من أرضها واحتفظت بطابعها مع ما يقتضيه الزمن من تطوّر لابد منه. وإذا كانت قد حكمها ملوك أو حكّام وَفَدَ آباؤهم عليها من خارجها فإن هذا لا ينقص من استقلالها، وقد حدث مثله في معظم بلاد العالم. وليس صحيحاً أيضاً انهم مستسلمون إلى الحد الذي يصفه المؤرّخ فلطالما ثاروا في جميع أدوار التاريخ على الطغاة والغاصبين. (المترجم)
ولم تكن روما تعد مصر ولاية تابعة لها، بل كانت تعدّها من أملاك الإمبراطور نفسه، وكان يحكمها حاكم مسئول أمامه وحده. وكان موظفون من اليونان المتمصّرين يديرون أقسامها الثلاثة- مصر السفلى، ومصر الوسطى، ومصر العليا، ومقاطعاتها الست والثلاثين، وبقيت اللغة اليونانية في ذلك العهد هي اللغة الرسمية- ولم تبذل محاولة ما لتحضير السكان، فقد كانت وظيفة مصر في الإمبراطوريّة أن تكون المورد الذي تستمد منه روما ما يلزمها من الحبوب، ولهذا السبب انتزعت من الكهنة مساحات واسعة من الأرض وأعطيت للممولين الرومان أو الإسكندريين، وجُعلت ضياعاً واسعة يعمل فيها الفلاحون ويستغَلّون بلا رحمة. وظلت الرأسمالية الحكومية كما كانت في عهد البطالمة، وإن كانت في صورة أخف من عهدها السابق؛ لقد كانت تنظم كل خطوة من خطوات الأعمال الزراعية وتشرف على تنفيذها: فكان موظفون حكوميون مطردو الزيادة يعينون ما يزرع من المحاصيل، ومقدار ما يزرع منها، ويوزعون البذور على الزراع في كل عام، ويستولون على المحصولات ويودعونها في مخازن حكومية (thesauroi) ، ويُصدّرون منها حصة روما، ويقتطعون الضرائب منها عينا، ويبيعون ما يتبقى بعد ذلك في السوق. وكان القمح والكتان محتكرين للحكومة من البذر إلى البيع؛ وكذلك كان شأن الطوب، والروائح العطرية وزيت السمسم في الفيّوم إن لم يكن في غيرها من الأقاليم، أما غير هذه من الميادين الاقتصادية فكان يُسمح فيها بمشروعات الاستغلال الخاصة، على أن يكون هذا الاستغلال خاضعاً لأنظمة دقيقة شاملة. وكانت مصادر الثروة المعدنية كلها ملكاً للدولة، وكان قطع الرخام واستخراج الحجارة الكريمة امتيازاً خاصاً للحكومة.
واتسع نطاق الصناعات المنزلية فانتشرت في المُدن- وكان قد مضى على قيامها في مصر زمن طويل، فاشتهرت بها مدائن بطليموئيس Ptolemais، ومنفيس وطيبة، وأكسيرهنكس Oxyrhynchus، وصان، وبسطة، ونقراطيس،
وهليوبوليس (عين شمس)؛ وكانت هذه الصناعات في الإسكندرية المورد الذي تعتمد عليه نصف حياة العاصمة الصاخبة. ويبدو أن صناعة الورق كانت قد بلغت وقتئذ المرحلة الرأسمالية، فإن استرابون يحدثنا أن أصحاب مزارع البردي حددوا محصوله ليرفعوا سعره (3). وكان الكهنة يقيمون المصانع في حرم الهياكل، ويخرجون فيها نسيجاً رقيقاً من التيل، يصنعون منه ملابسهم، ويبيعون بعضه في الأسواق. وقلّما كان يوجد أرقّاء في مصر يعملون في غير الخدمات المنزلية، لأن العمّال "الأحرار" لم يكونوا يؤجرون أكثر مما يكفي لستر عورتهم وسد رمقهم. وكان هؤلاء العمال يضربون عن العمل (anachoresis) في بعض الأحيان- فكانوا يمتنعون عنه ويجتمعون بالهياكل حتى يخرجوا منها بتأثير الجوع أو الألفاظ المعسولة. وكان يحدث أحياناً أن ترفع الاجور، فترتفع الأثمان، وتعود الأمور كما كانت من قبل. وكان يُسمح بإنشاء النقابات الطائفية، ولكنها كانت في الأغلب الأعم خاصة بالتجار ومديري الأعمال، وكانت الحكومة تستخدمها في جباية الضرائب وفي تنظيم أعمال السخرة كإقامة السدود، وحفر الترع وتطهيرها، وإقامة المباني العامة.
وكانت التجارة الداخلية نشطة ولكنها بطيئة. فقد كانت الطرق رديئة، وكانت وسائل النقل البري هي الحمّالين، والحمير، والجمال- التي حلّت وقتئذ محل الخيل للجر والحمل في أفريقية. وكان جزء كبير من التجارة الداخلية يُنقل في نهر النيل أو القنوات. وكانت قناة كبرى يبلغ عرضها مائة وخمسين قدماً وتمت في عهد تراجان، تربط البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الهندي عن طريق النيل والبحر الأحمر. فكانت السفن تخرج في كل يوم من الثغور الواقعة على هذا البحر مثل أرسنوئي، وميوس هرموس Muos Hormos ويرنيس في طريقها إلى أفريقية أو الهند. وكان النظام المصرفي الذي يموّل الإنتاج خاضعاً بأكمله للرقابة الحكومية، وكان في حاضرة كل إقليم
مصرف للدولة، يتسلّم الضرائب، وتودع فيه الأموال العامة. وكانت القروض تعقد للزراع وتشجيع الصناعة والتجارة والأعمال المالية، تقرضها الحكومة أو الكهنة من خزائن الهياكل، أو هيئات الإقراض غير الحكومية (4). وكانت الضرائب تفرض على جميع المنتجات، والعمليات الاقتصادية، والبيع، والإصدار، والاستيراد، بل وعلى القبور ودفن الأموات؛ وكانت قروض إضافية تُقرر من حين إلى حين، وتُجبى عيناً من الفقراء أو خدمات من الأغنياء. وكانت البلاد- أو كان سادتها- من عهد أغسطس إلى تراجان في رخاء؛ ثم أخذ هذا الرخاء، بعد أن وصل إلى ذروته في ذلم العهد، يفارقها بتأثير الخراج الذي لم يكن يُعرف له حد، والضرائب الفادحة، وما يعقبهما من كساد ونضوب في موارد البلاد، وما يؤدي إليه الاقتصاد المجند من تراخٍ وإهمال.
وبقيت مصر في خارج الإسكندرية ونقراطيس محتفظة بمصريتها عابسة صامتة، وقلّما اصطبغ فيها شيء بالصبغة الرومانية بعيداً عن مَصاب النيل؛ وهي مدينة الإسكندرية نفسها، التي كانت أعظم المدائن اليونانية، أخذت في القرن الثاني بعد الميلاد تصطبغ بصبغة الحواضر الشرقية في أخلاق أهلها ولُغاتهم وفي جوّها الشرقي. وكان يسكن عاصمة مصر 800. 000 من جميع سكان البلاد البالغ عددهم 8. 500. 000 (5) (وكان عدد سكانها في عام 1930 نحو 573. 000)، ولم يكن يزيد عليها في عدد السكان سوى روما نفسها. أما من حيث الصناعة والتجارة فقد كانت أولى المُدن في الإمبراطوريّة. وقد ورد في خطاب يُعزى إلى هدريان- وإن كنا نشك في صحة نسبته إليه- أن كل شخص في الإسكندرية يعمل، وأن لكل إنسان فيها حرمة، وحتى العرج والعمى يجدون لهم عملاً فيها (6). وكان من بين مئات الصناعات القائمة في المدينة صناعة الزجاج، والورق، ونسج الكتان. وكانت هذه المصنوعات موفورة الإنتاج، وكانت الإسكندرية مركز صناعة الكساء والأزياء العصرية المستحدثة في ذلك الوقت، فكانت
هي التي تضع طراز الملابس وهي التي تصنعها. وكان لمرفئها العظيم تسعة أرصفة، يخرج منها أسطولها التجاري ليمخر عباب عدة بحار. وكانت المدينة فوق ذلك مركزاً للسياح، فيها الفنادق، والأدلاء، والمترجمون لاستقبال الزائرين القادمين إليها لمشاهدة الأهرام والهياكل الفخمة في طيبة. وكذلك شارعها الرئيسي يبلغ عرضه سبعة وستين قدماً، وتقوم على جانبيه العُمَد، والبواكي، والحوانيت المغرية تعرض أجمل التحف التي تنتجها الصناعات القديمة. وكان عند كثير من ملتقى الشوارع ميادين واسعة أو دوائر يسمونها الطرق "الواسعة"(Plateai) - ومنها اشتقّت الكلمة الإيطاليّة Piazza والكلمتان الإنجليزيتان Place، Plaza. وكانت مباني ذات روعة تزين الشوارع الرئيسية- دار تمثيل كبرى، ومصفق، وهياكل لبسيدن، وقيصر، وزُحل، وسرابيوم أو هيكل لسرابيس ذائع الصيت، وطائفة من مباني الجامعة اشتهرت في العالم كله باسم المتحف (الميوزيوم Museum أو بيت ربات الفن Muses) . وكانت المدينة مقسمة خمسة أقسام، خصّ قسم منها بأكمله تقريباً بقصور البطالمة، وحدائقهم، ومباني الإدارات الحكومية، وكان يقيم فيه في العصر الروماني حاكم المدينة. وفي هذا القسم دُفنت جثة الاسكندر الأكبر مؤسس المدينة في ضريح جميل الشكل، وقد وُضِعت في تابوت من الزجاج وحُفِظت من البلى في العسل.
وكان سكان المدينة خليطاً من اليونان، والمصريين، واليهود، والإيطاليين، والعرب، والفينيقيين، والفرس، والأحباش، والسوريين، والليبيين، والقليقيين، والسكوذيين، والهنود، والنوبيين، ومن شعوب البحر الأبيض كلّهم تقريباً. وكان يتألف منهم جميعاً خليط سريع الذوبان بعضه في بعض، سريع الالتهاب أيضاً، متشاحن، سيئ النظام، عظيم المهارة والذكاء، فكه غير محتشم، لا يستحي من فحش القول، متشكك، منحرف، غير مستمسك بالخلق الكريم، مرح، شديد الولع بالتمثيل، والموسيقى، والألعاب العامة. ويصف ديوكريستوم
الحياة في المدينة بأنها (قصف دائم
…
للراقصات، والمصفرين، والقتلة" (8). وكانت القنوات غاصة على الدوام بمحبي المرح والطرب، يستقلون القوارب الصغيرة أثناء الليل، يقطعون فيها مسافة الأميال الخمسة التي توصلهم إلى كنوبس Canopus ضاحيتها المليئة بالملاهي وأسباب التسلية. وكانت تقام فيها مباريات موسيقية لا تقل عن سباق الخيل إثارة للمشاعر والتصفيق والضجيج.
وإذا جاز لنا أن نصدق فيلو (9) فيما يقوله عن سكان المدينة، فقد كان أربعون في المائة منهم من اليهود، وكانت كثرة يهود الإسكندرية تعمل في الصناعة والتجارة، وتعيش في فقر مدقع (10)، وكان كثيرون منهم تجاراً، وعدد قليل منهم مرابين، وبلغ بعضهم من الثراء درجة استطاعوا بها أن يحصلوا على مناصب يُحسدون عليها في الحكومة؛ وبعد أن كانوا في أول الأمر لا يشغلون إلا خُمس مساحة المدينة أصبحوا في الوقت الذي نتحدّث عنه يُشغلون خمسيها. وكانوا يحاكمون بمقتضى قوانينهم الخاصة على أيدي كبرائهم، وأيدت روما الامتيازات التي منحها إياهم البطالمة والتي يحق لهم بمقتضاها أن يتجاهلوا أي قانون يتعارض مع أوامر دينهم. وكانوا يفخرون بكنيسهم المركزي الفخم وهو باسقاً ذات عُمَد، بلغ من الاتساع حداً كان لابد معه من استخدام نظام للإشارات يضمن بها استجابة المصلين الذين لا يستطيعون- لبعدهم عن المحراب- أن يسمعوا صوت الحاخام (11). ويُستفاد من أقوال يوسفوس أن الحياة الأخلاقية ليهود الإسكندرية كانت مضرب المثل في الاستقامة إذا قيست إلى حياة السكان "الوثنيين" الشهوانية الطليقة (12). وكانت لهم ثقافة ذهنية نشيطة، كما كان لهم حظ كبير من الدراسات الفلسفية والتاريخية والعلمية في ذلك الوقت. وكانت المدينة تضطرب من حين إلى حين بالعداء العصري؛ وشاهد ذلك أننا نجد في النُبذة التي كتبها يوسفوس ضد أبيوق (وهو زعيم معادٍ للساميّة) جميع الأسباب، والحجج، والخرافات التي تعكّر العلاقات بين اليهود وغيرهم من أصحاب الأديان الأخرى في
هذه الأيام. وقد حدث في عام 38 م. أن هاجم الغوغاء من اليونان معابد اليهود وأصرّوا على أن يضعوا في كل منها تمثالاً لكلجيولا ليتخذوه إلهاً. كذلك حرّم أفليوس فلاكس حاكم المدينة الروماني اليهود من حق المواطنية الإسكندرية وأمر من كانوا يعيشون منهم خارج القسم اليهودي الأصلي أن يعودوا إليه في خلال بضعة أيام من صدور الأمر، فلما انقضى الأجل المحدد لهذه العودة أحرق الغوغاء اليونان أربعمائة من بيوت اليهود، وقتلوا من كان منهم خارج ذلك الحي؛ وقبض على ثمانية وثلاثين من أعضاء الجروزيا (مجلس الشيوخ اليهودي، وجلدوا علناً في إحدى دور التمثيل، وطُرِد آلاف من اليهود من بيوتهم أو من أعمالهم أو حُرموا ما كانوا يدخرونه من أموالهم. وعَرَضَ الحاكم الذي خَلَفَ فلاكس أمرهم على الإمبراطور، وسافر إلى روما (عام 40 م) وفدان مستقلان- أحدهما يتألّف من خمسة من اليونان والآخر من خمسة من اليهود- ليعرض كل منهما قضيته على كلجيولا، ولكن الإمبراطور قضى نحبه قبل أن يصدر حكمه، فلمّا جلس كلوديوس على العرش أعاد إلى يهود الإسكندرية ما كان لهم من حقوق، وأكّد لهم مواطنيتهم في المدينة، وأصدر أمراً مشدداً إلى الطائفتين المتنازعتين ألا تعكّرا صفو السلام.
الفصل الثاني
فيلو
كان رئيس الوفد اليهودي إلى كليجولا هو الفيلسوف فيلو، وكان أخوه مدير تجارة الصدار اليهودية في الإسكندرية. ويصفه يوسيبوس Eysebius بأنه من أسرة عريقة من رجال الدين (13). ولا نكاد نعرف شيئاً غير هذا عن حياته ولكن تقواه وكرم أخلاقه يظهران واضحين في المؤلفات الكثيرة التي وضعها في شرح الدين اليهودي للعالم اليوناني. وقد نشأ الرجل في جوديتي، فكان شديد الوفاء لشعبه، ولكنه افتتن بالفلسفة اليونانية، فجعل هدفه في الحياة أن يوفق بين الكتاب المقدّس وعادات اليهود من جهة، والآراء اليونانية وبخاصة فلسفة أفلاطون "أقدس القدّيسين" من جهة أخرى. ولكي يصل إلى غرضه هذا لجأ إلى المبدأ القائل إن جميع الحادثات، والأخلاق، والعقائد، والشرائع المنصوص عليها في العهد القديم ذات معنيين أحدهما مجازي والآخر حرفي، وأنها ترمز إلى حقائق أخلاقية أو فلسفة؛ وكان في وسعه بهذه الطريقة أن يبرهن على صحة أي شيء يريد البرهنة على صحّته. وكان يكتب باللغة العبرية بأسلوب لا بأس به. ولكن أسلوبه في اليونانية بلغ من الجودة حداً جعل المعجبين به يقولون إن "أفلاطون كان يكتب كما يكتب فيلو"(14).
وكان فيلو فيلسوفاً أكثر مما كان رجل دين، وكان صوفياً استبقت تقواه الشديدة تقوى بلوتينس وعقلية العصور الوسطى. وكان الله في كتابات فيلو هو الكائن الجوهري في العالم، وهو كائن غير مجسّد، أزلي سرمدي، يجلّ عن الوصف؛ في وسع العقل أن يدرك وجوده، ولكنه لا يستطيع أن يخلع عليه صفة ما، لأن كل صفة تعني التحديد. والذين يتصوّرونه في صورة بشرية إنما
يفعلون ذلك لتقريبه من خيال البشر الحسّي. والله موجود في كل مكان: "وهل ثمة مكان يستطيع الإنسان أن يجده وليس الله فيه؟ "(15) ولكنه ليس كل شيء، فالمادة أيضاً سرمدي، وغير مخلوقة؛ ولكنها لا تكون لها حياة، ولا حركة، ولا صورة، حتى تنبعثُ فيها القوّة الإلهية.
ولكي يخلق الله العالم بأن يشكّل المادة، ويوجد الصلات بينه وبين الإنسان، إستخدم لذلك جمعاً من الكائنات الوسطى يسميها اليهود ملائكة ويسميها اليونان شياطين diamones ويسميها أفلاطون أفكاراً. ويقول فيلو إن في وسعنا أن نتصوّر هذه الكائنات في صورة أشخاص، وإن كانت في واقع الأمر لا وجود لها إلا في العقل الإلهي بوصفها أفكار الله وقواه (16) وهي مجتمعة تكون ما يسميه الرواقيون الكلمة أو العقل الإلهي خالق العالم وهاديه. وكان فيلو يتأرجح بين الفلسفة واللاهوت، وبين التجريد والتجسيد، ولهذا كان يفكر في العقل الإلهي مرة كأنه شخص وفي ساعة من ساعات نشوته الشعرية يسميه أول ما ولد الله" (17). وغبن الله من الحكمة العذراء (18)، ويقول إنه عن طريق الكلمة كشف الله عن نفسه للإنسان. وإذا كانت الروح في رأيه جزءاً من الله، فإن في وسعها أن تسمو عن طريق العقل فترى الكلمة رؤيا صوفية، وإن كانت لا ترى الله نفسه؛ وربما كان في وسعنا إذا تحررنا من دنس المادة والحس، وتدرّبنا على الزهد والتفكير الطويل، أن نصبح في ساعة من الساعات روحاً خالصة، وأن نرى الله نفسه في لحظة من لحظات النشوة (9).
ولقد كانت "عقيدة العقل الإلهي" التي يقول بها فيلو من الآراء ذات الأثر الأكبر في تاريخ التفكير البشري. ولرأيه هذا سابقات واضحة في فلسفة هرقليطس وأفلاطون، والرواقيين؛ وأكبر الظن أنه كان يعرف الآداب اليهودية التي نشأت في العصر القريب من عصره، والتي جعلت من حكمة الله بوصفه خالق الكون شخصاً محدداً مميزاً، وما من شك في أنه قد انطبعت في عقله
تلك العبارات الواردة في سِفْر الأمثال (8: 22) وما بعدها، والتي تقول فيها الحكمة، "الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم. منذ الأزل مُسِحَت منذ البدء، منذ أوائل الأرض. إذ لم يكن غمر أبدئت إذ لم تكن ينابيع كثيرة المياه. من قبل أن تقررت الجبال قبل التلال أبدئت إذا لم يكن قد صنع الأرض بعد".
وكان فيلو معاصراً للمسيح ويلوح أنه لم يسمع قط عنه، ولكنه قد أسهم على غير علم منه في تكوين اللاهوت المسيحي. ولم يكن أحبار اليهود راضين عن تفسيراته المجازية للكتاب المقدّس، لظنهم أن هذه التفسيرات قد تُتّخذ حجة لنبذ الطاعة الحرفية للشريعة اليهودية؛ وكانوا يرتابون في عقيدة الكلمة ويعدّونها ارتداداً عن عقيدة التوحيد، كما كانوا يرون في هيام فيلو بالفلسفة اليونانية نذيراً بضياع ثقافتهم، وفقدان الجزء الأكبر من خصائصهم العنصرية، وما ينشأ عن هذا وذاك من اختفاء اليهود المشتتين في بقاع الأرض. ولكن آباء الكنيسة المسيحية كانوا يعجبون بورع هذا الرجل اليهودي المنبعث عن تفكير عميق، وكثيراً ما كانوا يلجئون إلى آرائه وتعبيراته المجازية ليردّوا بها على من يتصدّون لنقد التوراة العبرية، وانضموا إلى جماعة العارفين
(1)
، ورجال الأفلاطونية الحديثة في القول بأن رؤيا الله الصوفية هي أسمى ما تصل إليه المحاولات البشرية. ولقد حاول فيلو أن يوفق بين اليهودية والفلسفة الهلينية؛ فأما من وجهة النظر اليهودية فقد أخفق في مسعاه وأما من وجهة النظر التاريخية فقد أفلح، وكانت ثمرة فلاحه هي الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا.
(1)
هُم طائفة من المسيحيين يعتقدون بأن الخلاص يكون عن طريق المعرفة لا عن طريق الإيمان. (المترجم)
الفصل الثالث
تقدم العلوم
كانت الإسكندرية زعيمة العالم الهلنستي في العلوم لا ينازعها في هذه المكانة منازع، ومن أكبر علمائها في ذلك العصر كلوديوس بطليموس الذي يُعَد بلا جدال من أعظم علماء الفلك الأقدمين، وذلك لأن العالم لا يزال على الرغم من كشوف كوبرنيق يتكلّم في الفلك بلغة بطليموس. وكان مولد هذا العالم في بلدة بطليموئيس على شاطئ النيل (ومنها اشتق اسمه)، ولكنه عاش معظم حياته في الإسكندرية، وظل يرصد فيها الأجرام السماوية من عام 127 م إلى عام 151 م. وأهم ما يذكره به العالم إنه رفض نظرية أرستاركس القائلة بأن الأرض تدور حول الشمس. وقد دوِّنت هذه الفلسفة الخالدة في كتاب بطليموس المعروف باسم النظام الرياضي Mathematike` Syntaxis للنجوم. وكان العرب إذا تحدّثوا عنه نعتوه بإسم التفضيل اليوناني المجسطي Al. megiste` " الأعظم". وحرّف الناس في العصور الوسطى هذا اللفظ فصارت الماجست Almagest وهو الاسم الذي يُعرف به الكتاب في التاريخ. وظلّت لهذا الكتاب السيطرة على السماء حتى قَلَبَ كوبرنيق العالم رأساً على عقب. ومع هذا فإن بطليموس لم يدّعِ أنه فعل أكثر من تنظيم أعمال من سبقوه من علماء الفلك وأرصادهم، وأخصهم بالذكر هباركس. وقد صوّر الكون في شكل كروي يدور مرة في كل يوم حول أرض كروية ثابتة لا تتحرك. ومع أن هذا القول يبدو لنا غريباً (وإن كنا لا نعرف ما سوف يفعله كوبرنيق آخر في المستقبل ببطالستنا المحدثين)، فإن النظرية القائلة بأن الأرض مركز الكون قد يسّرت في ضوء
المعلومات الفلكية المعروفة في ذلك العصر تحديد مواضع النجوم والكواكب تحديداً أدق مما كانت تستطيعه النظرية القائلة بأن الشمس هي مركز العالم (20). وعرض بطليموس فوق هذا لنظرية (الانحرافات) ليفسر بها أفلاك الكواكب، واستطاع أن يكشف انحراف فلك القمر. وقاس بُعد القمر عن الأرض بطريقة الزيغان
(1)
التي لا تزال مستخدمة إلى يومنا هذا، وقدّر هذا البعد بما يعادل نصف قطر الأرض تسعاً وخمسين مرة، وهو يعادل تقديرنا الحاضر بوجه التقريب؛ وإن كان بطليموس قد اتبع بسيدونيوس في تقدير طول قطر الأرض بأقل من طوله الحقيقي.
وقد لخّص بطليموس في كتابه الموجز الجغرافي جميع ما كان يعرفه الأقدمون عن سطح الأرض، كما لخّص في نظامه الرياضي ما كانوا يعرفونه في الفلك وصاغه في صيغته الأخيرة. وهنا أيضاً أخطأ أخطاء جسيمة في أزياجه التي بذل فيها جهداً كبيراً والتي حدد فيها خطوط الطول ودوائر العرض لكبريات المُدن على سطح الأرض، وكان سبب هذا الخطأ قبوله تقدير بسيدونيوس حجم الأرض بأقل من حقيقته. ولكن هذه الغلطة المشجعة التي نقلها عنه بطليموس هي التي يرجع إليها الفضل في اعتقاد كولمبس أن من المستطاع الوصول إلى جزائر الهند في وقت قصير بالسير في اتجاه الغرب (21). وكان بطليموس أول من استعمل لفظي "متوازيات"(Parallela) و "خطوط الزوال" meridians في علم الجغرافية، وقد نجح في أن يصوّر على خرائطه جسماً كروياً على سطح مسوٍ. ولكنه كان في الواقع عالماً رياضياً أكثر منه فلكياً أو جغرافياً؛ وكان أهم جزء من عمله هو صياغته القوانين الرياضية. وقد وضع في كتاب النظام زيجاً دقيقاً
(1)
Parallax ويسميها إسماعيل الفلكي اختلاف المنظر وهو الانتقال الظاهر للكوكب إذا تغيّر موضع الناظر إليه على سطح الأرض. (المترجم)
لقياس الأقواس، وذلك بأن قسّم نصف قدر الأرض ستين قسماً أولي صغيرة Partes minutae primal، هي التي صارت الدقائق عندنا، ثم قسّم كل واحدة من هذه الدقائق "أقساماً صغيرة ثانية""الثواني" عندنا.
ووقع بطليموس في أخطاء كثيرة، ولكنه كان له بلا ريب مزاج العلماء الحقيقيين وصبرهم. وقد حاول أن يعتمد في استنتاجاته على الأرصاد وقلما كان هو صاحبها وقد قام في أحد الميادين بسلسلة طويلة من التجارب، ووُصِفَ كتابه البصريات Optica وهو دراسة في انكسار الضوء بأنه "أعظم البحوث التجريبية في التاريخ القديم"(22). ومما هو جدير بالذكر أن هذا الرجل الذي يُعَد من أعظم العظماء في الفلك والجغرافية والرياضيات في عصره قد كتب أيضاً "أربعة كتب" Tetrabiblios فيما للنجوم من سلطان على حياة بني الإنسان.
وفي هذه الأثناء كان أرخميدس أصغر يهيئ للعالم القديم فرصة ثانية للقيام بانقلاب صناعي. وكان هذا الرجل مخترعاً أو جامعاً بارعاً وإن كنا لا نعرف عنه إلا اسمه الوحيد هيرون Hero. وقد أصدر هذا لرجل وقتئذ
(1)
في الإسكندرية سلسلة من الرسائل في الرياضة والطبيعة، بقي لنا عدد منها مترجماً إلى اللغة العربية وقد حذّر قرّاءه في صراحة بأن النظريات والاختراعات التي يعرضها عليهم ليست كلها من اختراعه، بل إنها قد تجمّعت على مدى القرون الطوال. ووصف في كتابه الديوبترا Dioptra آلة شبيهة بالمزواة Theodolite وصاغ عددا من القوانين لقياس الأبعاد التي بين الإنسان وبين النقط التي لا يستطيع الوصول إليها ومساحة هذه الأبعاد. وبحث في كتابه الحيَل Mechanisa في طريقة استخدام أدوات
(1)
وهناك خلاف في تاريخ هذا العالم، فيولي وسوفا Pauay-Wissowa يحدده بعام 50 ق. م، بينما يحدده هيبيرج Heiberg، وديل Diels، وهيث Heath بحوالي 225 م.
سهلة، والجمع بينها؛ ومن هذه الأدوات العجلة، ومحورها، والرافعة، والبكرة والاسفين، واللولب. ودرس في كتابة الهوائيات Pneumatica ضغط الهواء في سبع وثمانين تجربة معظمها من الحيل والالاعيب؛ منها أنه عرض كيف يمكن جعل كل من النبيذ أو الماء يخرج من فتحة صغيرة واحدة في قاع وعاء وذلك بسد ثقب أو آخر في أعلى الوعاء المقسّم قسمين.
ثم تدرّج من هذه اللعب المسلّية لصنع مضخة رافعة، ومضخة لآلة إطفاء الحريق ذات مكبس وصمّامات، وساعة مائية، وأرغن مائي، وآلة بخارية. وفي هذا المخترع الأخير كان البخار الناشئ من الماء المسخّن ينتقل من خلال أنبوبة إلى كرة تدور في اتجاه مضاد لاتجاه البخار المطرود. وقد حال إحساس هيرون الفكاهي الشديد بينه وبين ترقية هذا المُخترَع حتى يمكن الاستفادة منه في الأغراض الصناعية. ومن أعماله أيضاً أنه استخدم البخار لوقف كرة في الهواء ومنعها من السقوط، وجعل طائر آلي يغرّد، وتمثال ينفخ في بوق. ودرسَ في كتابه المرايا Catoptrica انعكاس الضوء، وشرح كيف تصنع المرايا التي يستطيع الناظر فيها أن يرى ظهره، أو يظهر فيها ورأسه إلى أسفل، أو له ثلاث أعين، أو أنفان الخ. وعلّم المشعوذين كيف يقومون بالألعاب بأجهزة مخبأة عن الأعين. وقد جعل الماء يخرج من حوض إذا وُضِعت قطعة من النقود في فتحة فيه. وصنع آلة مخبأة تجعل الماء المسخن يفيض إلى جردل، ويفتح أبواب هيكل بما يزيد من وزنه، وبوساطة مكبرات. وبفضل هذه الأساليب ومائة أخرى من نوعها استطاع هيرون أن يكون مشعوذاً بارعاً، ولكنه عجز عن أن يكون مخترعاً من طراز جيمس وت James Watt.
وكانت الإسكندرية منذ زمن بعيد أهم مركز لدراسة الطب. نعم إنه كانت في مرسيليا، وليون، وسرقسطة، وأثينة، وأنطاكية، وكوس،
وإيفوس، وأزمير، وبرجوم مدارس طب شهيرة ولكن طلاب الطب كانوا يهرعون إلى الإسكندرية من جميع ولايات الإمبراطوريّة، بل إنّا لَنَجد أميناس مرسلينس Ammianus Marcellinus في القرن الرابع الميلادي، حين أخذت مصر تسير في طريق الاضمحلال، يتحدّث عن الإسكندرية بقوله:
"حسب الطبيب تنويهاً ببراعته أن يقول إنه قد تعلّم في الإسكندرية"(24). وكان التخصص في الطب يسير قدما، وشاهد ذلك ما يقوله فلستراتس (حوالي 225 م):"لا يستطيع إنسان أن يكون طبيباً لكل مرض، بل يجب إن يكون هنا أخصائيون في الجروح، والحميّات، والعلون، والسل"(25). وكان تشريح الجثث الميّتة يحدث في الإسكندرية، ويبدو أنه كان يجري فيها أياً تشريح للأحياء (26).
ولم تكن الجراحة في القرن الأول الميلادي أقل رُقيّاً في الإسكندرية منها في أي مكان في أوربا قبل القرن التاسع عشر. ولم تكن الطبيبات نادرات؛ وقد كتبت واحدة منهنّ تدعى مترودورا Metrodora رسالة في أمراض الرحم لا تزال باقية إلى اليوم (27). ويزدان تاريخ الطب في هذا العصر بأسماء عظيمة: منها روفس الافسوسي الذي وصف العين، وميّز أعصاب الحركة من أعصاب الحس، وحسّن طرق وقف النزيف في الجراحة، ومنها مرينس Marinus الإسكندري الذي اشتهر بجراحات الجمجمة، وأنتيلس Antylus أعظم الرمديين في عصره. وقد كتب ديوسكريدز Dioscorides القليقيائي (من 40 إلى 90 م) كتاباً في العقاقير وصف فيه وصفاً علمياً ستمائة من النباتات الطبيّة وصفاً بلغ من الدقّة حداً أوصى في هذا الكتاب باستخدام "الصوفات) لمنع الحمل (8). وقد استخدم للتخدير وصفه لنبيذ البيروج Mandragora استخداماً ناجحا في عام 1874.
ونشر سورانس الافسوسي حوالي عام 116 م رسالة في أمراض النساء، وفي مولد الأطفال والعناية بهم، ولا يعلو عن هذه الرسالة من المؤلفات الطبية القديمة الباقية إلى اليوم سوى مجموعات أبقراط ومؤلفات جالينوس. ويصف المؤلف فيها منظاراً مهبلياً وكرسياً للتوليد، ويصف الرحم من الناحية التشريحية أجود وصف، ويقدم نصائح عملية وغذائية لا تكاد تختلف عما يقدمه الأطباء في هذه الأيام، منها غسل عيني الطفل الحديث الولادة بالزيت (30)، ويذكر أسماء نحو مائة وسيلة لمنع الحمل معظمها أدوية للمهبل (31)، وهو يجيز الإجهاض إذا كان الوضع يعرض حياة الأم للخطر (على عكس ما يراه أبقراط)(32).
وقصارى القول أن سورانس كان أعظم الأخصائيين في طب النساء في الزمن القديم، ولم يفقه أحد في هذا العلم حتى جاء باريه Pare` بعده بخمسة عشر قرناً؛ ولو أن رسائله الأربعين قد بقيت إلى هذا اليوم لوضعاه في أكبر الظن في منزلة جالينوس.
وكان أعظم أطباء ذلك العصر ابن مهندس معماري من برجموم، وقد سماه جلينوس Galenus أي الهادئ المسالم، لأنه كان يأمل ألا يتخلّق بأخلاق أمه (33). ولما بلغ الشاب الرابعة عشرة من عمره شغف لأول مرة بالفلسفة، ولم يتحرر قد من غوايتها الخطرة؛ وفي السابعة عشرة تحوّل عنها إلى الطب، ودرسه في قليقية، وفينيقية، وفلسطين، وقبرص، وكريد، وبلاد اليونان والإسكندرية (وكان هذا الانتقال في طلب العلم من طبيعة العلماء الأقدمين)، ثم اشتغل جراحاً في مدرسة المجالدين في برجموم، ومارس صناعته فترة من الزمن (من 164 إلى 168 م) في روما. وفي هذه المدينة أقبل عليه أغنياء المرضى لنجاحه في صناعته، كما أقبل عليه كثيرون من علية القوم ليستمعوا إلى محاضراته، وذاعت شهرته ذيوعاً جعل الناس يكتبون إليه من كافة الولايات يطلبون إليه النصائح الطبية، فكان يصف لهم العلاج الناجع بالبريد، وكان والده الصالح قد نسي ما كان
يدور بخلده حين اختار له اسمه فنصحه ألا ينضم إلى شيعة أو حزب، وأن يكون صادقاً في كل ما يقول، وصدع جالينوس بأمر أبيه، وأخذ يُشهّر بجهل كثيرين من أطباء روما وشرههم حتى اضطر بعد سنين قلائل إلى الفرار من أعدائه. ولكن ماركس أورليوس إستدعاه ليعنى بكمودس الصغير (126)، وحاول أن يأخذه معه في إحدى الحملات المركمونية، ولكن جالينوس كان مت الدهاء بحيث استطاع أن يعود مسرعاً إلى روما. ومن هذا الوقت لا نعرف عنه غير مؤلفاته.
وتكاد هذه المؤلفات أن تبلغ من الكثرة ما بلغته مؤلفات أرسطو، وقد بلغت خمسمائة أو نحوها، وبقي منها 118 كتاباً تحوي عشرين ألف صفحة، تشتمل على جميع فروع الطب وعلى عدد من ميادين الفلسفة، وليس لهذه الكتب قيمة طبية في هذه الأيام. ولكنها تشتمل في مواضع منها متفرقة على معلومات تافهة، وتكشف عن روح قوية ذات حيوية عظيمة، مولعة بالبحث والجدل. وقد عوده ولعه بالفلسفة عادة سيئة هي استخلاصه نتائج كبرى من معلومات قليلة، وكثيراً ما ساقه إيمانه بعلمه وقواه إلى تعسّف لا يليق بعقلية العلماء، وكان سلطانه على من جاء بعده سبباً في بقاء أخطائه الشنيعة ذائعة قروناً عدة. لكنه كان على رغم هذه الأخطاء دقيق الملاحظة، كما كان أكثر الأطباء الأقدمين اعتماداً على التجارب العلمية. ومن أقواله في هذا المعنى: "إني لأعترف بذلك المرض الذي قاسيت منه الأمرّين طوال حياتي وهو أني لا أثق
…
بأي قول حتى أجرّبه بنفسي على قدر استطاعتي" (34). ولما حرّمت عليه الحكومة الرومانية أن يشرّح أجسام الآدميين أحياء كانوا أو أمواتاً، عمد إلى تشريح الحيوانات الحية والميّتة، وكثيراً ما كان يتعجّل فيطبّق على تشريح الجسم الآدمي ما تسفر عنه دراسته للقردة، والكلاب، والبقر، والخنازير.
وقد أفاد علم التشريح من جالينوس رغم قصوره أكثر مما أفاده من أي
مشاهد آخر في التاريخ القديم؛ ذلك أنه وصف بغاية الدقة عظام الجمجمة والعمود الفقرة، والجهاز العضلي، والأوعية اللبنية، والغدة اللسانية، والغدة اللعابية تحت الفك الأسفل، وصمّامات القلب؛ وأثبت أن القلب إذا فُصِل عن الجسم يمكن أن يظل ينبض في خارجه، وبرهن على أن الأوردة تحتوي دماً لا هواء (كما ظلّت مدرسة الإسكندرية تعلم الناس مدى أربعمائة عام)، لكنه قد فاته أن يسبق هارفي إلى كشف الدورة الدموية، فقد ظن أن معظم الدم يسير في الأوردة إلى أجزاء الجسم المختلفة ثم يعود فيها أيضاً؛ وأن البقية الباقية منه التي تختلط بهواء الرئتين تسير في الشرايين إلى أجزاء الجسم وتعود منه في الشرايين نفسها. وكان هو أول من شرح الجهاز التنفسي، ودلّ على حصافة وبراعة حين قال إنه يظن أن العنصر الفعال في الهواء الذي نستنشقه هو نفسه العنصر الفعال في الاحتراق (35)؛ وميّزَ التهاب الرئة، ووصف الورم الوعائي
(1)
، والسرطان، والتدرّن، وعرّف ما في ثانيهما من خطر العدوى، وأهم من هذا كله أنه وضع أساس مبحث الأعصاب التجريبي، فهو أول من أجرى التجارب على قطاعات من النخاع الشوكي، وعيّن الوظيفة الحسّية والحركيّة لكل جزء منه، وعرف الأعصاب السمبثاوية، وميّزَ سبعة أزواج من الأثني عشر زوجاً من أعصاب الجمجمة، وعرف كيف يستطيع حبس النطق بقطع عصب الحنجرة، وبرهن على أن الضرر الذي يصيب أحد نصفي المخ يُحدث اختلالاً في النصف المضاد له في الجسم وعالج السفسطائي بوسنياس من خَدَرٍ في خنصر يده اليسرى وبنصرها بتنبيه الضفيرة العضدية التي يخرج منها العصب الزندي الذي يتحكّم في هاتين الإصبعين (36). وقد برع في بحث أعراض الأمراض براعة آثر معها أن يُشخّص علة المريض
(1)
اتساع أو تمدد يشمل طبقة أو جميع الطبقات من محيط وعاء دموي (قاموس الدكتور شرف). (المترجم)
دون أن يوجّه إليه أسئلة (37). وكان كثير الاعتماد على التغذية، والرياضة، والتدليك ولكنه كان خبيراً في العقاقير، كثير الأسفار للحصول على الأدوية النادرة. وندّدَ باستخدام البراز والبول في العلاج، وكان ذلك لا يزال شائعاً عند بعض معاصريه (38)، وأوصى باستعمال الكداس الجاف
(1)
لمعالجة المغص، ووضع روث المعز على الورم، وترك ثبتاً طويلاً بالأمراض التي يمكن علاجها بالترياق
(2)
- وهو دواء ذائع الصيت في ذلك الوقت صنع لمثرداتس الأكبر ليقاوم به السم، وكان يقدّم لماركس أوليوس كل يوم ويدخل فيه لحم الأفاعي (39).
لكنه لوّث سجلّه الحافل بالتجارب وشهرته فيها بسيل من النظريات التي تعجّل في وضعها. وكان يسخر من السحر والرقى، ويقبل التنبؤ بالغيب عن طريق الأحلام، ويظن أن أوجه القمر تؤثر في أحوال المرضى؛ وصدّق فكرة أبقراط عن الأخلاط الأربعة (الدم، والبلغم، والسائل الصفراوي الأسود الأصفر)
(3)
، وعمل على سرعة انتشار عقيدة فيثاغورس في الأركان (العناصر) الأربعة (التراب، والهواء، والنار، والماء)، وحاول أن يرد الأمراض كلها إلى اختلال في تلك الأخلاط أو هذه الأركان. وكان قوي الاعتقاد بوجود الروح، مؤمناً بأن النفس (pneuma) أو النفَس الحيوي أو الروح تسري في كل جزء من أجزاء الجسم، وتبعث فيه النشاط والحركة. وكان كثيرون من الأطباء قد أخذوا يفسّرون نظريات علم الأحياء تفسيراً آلياً؛ ومن هؤلاء أسكلبياديز الذي كان يرى أن علم وظائف الأعضاء يجب أن يُنظر إليه على أنه فرع من الطبيعة، ولكن جالينوس اعترض على هذه الفكرة؛ وقال إن الآلة ليست إلا مجموعة
(1)
بق متجانس الأجنحة.
(2)
يُسمّى أيضاً الذرياق، والدرياج، والطرياق واللفظ يوناني معرّب (شَرَف).
(3)
لقد عاد الطب الحديث يؤكد شدة أهمية إفرازات الغُدد.
أجزائها، وأما الكائن العضوي فإنه يشتمل أيضاً على الإشراف الغائي على جميع أجزاء الكل. وكما أن الغاية وحدها هي التي مكن بها تفسير منشأ الأعضاء وتركيبها، ووظيفتها؛ فكذلك يرى جالينوس أن الكون لا يمكن أن يُفهَم إلا على أنه تعبير عن خطّة إلهية وأداة لتنفيذ هذه الخطّة. لكن الله لا يعمل إلا بوساطة قوانين طبيعية، وعلى هذا ليس ثمة معجزات، وخير وحي هو الطبيعة نفسها.
وأحبّ المسيحيون جالينوس لإيمانه بالغائية وبالوحدانية في الدين، كما أحبه المسلمون بعدئذ لهذا السبب عينه؛ وقد فقدت أوربا كل كتاباته تقريباً في أثناء الفوضى التي أعقبت غزوات البرابرة، ولكنّ علماء العرب حفظوها لبلاد الشرق، ثم ترجمت هذه المؤلفات من اللغة العربية إلى اللاتينية في القرن السابع والقرون التي تلته، وأصبح جالينوس بعدئذ المرجع المعترف به الذي لا يوجّه إليه نقد، فكان هو أرسطو الطب في العصور الوسطى.
واختتم آخر عصر مبدع من عصور العلم اليوناني ببطليموس وجالينوس، ومن بعدهما انتهى عصر التجارب وساد عصر العقائد التحكّمية؛ وانحطّ علم الرياضة فأصبح مجرّد ترديد للهندسة، كما انحطّ علم الأحياء فأصبح ترديداً لأقوال أرسطو، وإنحطّت العلوم الطبيعية فأصبحت ترديداً لأقوال بلني؛ ووقف الطب جامداً حتى جاء أطباء العرب واليهود في العصور الوسطى فجددوا هذا العلم الذي يعدّ أشرف العلوم على الإطلاق.
الفصل الرابع
الشعراء في الصحراء
تقع بلاد العرب في الناحية الشرقية من البحر الأحمر؛ وقد عجز الفراعنة، والأكمينيون، والسلوقيون، والبطالمة، والرومان عن فتح تلك الجزيرة الغامضة العجيبة، ولذلك ظلّت صحراء العرب لا تعرف إلا العرب البدو، لكن في جزئها الجنوبي الغربي سلسلة جبلية تسيل فيها عدّة مجارٍ مائية فتلطّف حرارتها، وتنبت فيها أشجار الفاكهة وتخلق منها بلاد العرب السعيدة Arabia Felix أو بلاد اليمن كما يسمونها في هذه الأيام. وقد قامت في خبايا تلك البلاد مملكة سبأ الصغيرة التي ورد ذكرها في التوراة
(1)
والتي يكثر فيها الكندر، والمُر، والقشية (خيار شنير)، والقرفة، والصبر، والنردين، والسنا المكّي، والصمغ، والحجارة الكريمة. وقد استطاع أهلها أن يشيّدوا عند مأرب وغيرها من الأماكن مُدناً تزهو بهياكلها، وقصورها، وأروقتها المعمّدة (40). ولم يكتفِ تجّار العرب بأن يبيعوا محصولات بلادهم بأغلى الأثمان، بل كانوا يسيّرون فيها القوافل التجارية إلى بلاد شمالي آسية الغربي، وكانت لهم تجارة بحرية نشيطة مع مصر، وبارثيا، وبلاد الهند. وبعث أغسطس أبليوس جالس في عام 25 ق. م ليضم تلك المملكة إلى الإمبراطوريّة الرومانية، ولكن فيالقه عجزت عن الاستيلاء على مأرب وعادت إلى مصر بعد أن قضت الأوبئة وشدّة الحرارة على عدد كبير من رجالها. وحينئذ اكتفى أغسطس بتدمير مرفأ أدانا (عدن) العربي، فأمّن بذلك التجارة بين مصر والهند.
وكان أهم الطرق التجارية الممتدّة من مأرب إلى الشمال يخترق الطرف الشمالي
(1)
والقرآن. (المترجم)
الغربي من جزيرة العرب، المعروف عند الأقدمين باسم بلاد العرب البطرية نسبة إلى عاصمتها بطرة التي تبعد عن أورشليم بنحو أربعين ميلاً جهة الجنوب. وكان السبب في إطلاق هذا الاسم على المدينة أنا كانت قائمة وسط دائرة من الصخور الوعرة جعلتها أمنع من عقاب الجو. وفي هذا الجزء أقام العرب في القرن الثاني مملكة أخذت تزداد ثراءاً على مر الأيام حتى امتد سلطانها من لوس كوم Leuce Come على البحر الأحمر إلى دمشق، واشتملت على الجزء المصاقب لحدود فلسطين الشرقية وجراسا Gerasa وبُصرى. وبلغت هذه المملكة ذروة مجدها تحت حكم الملك أرتاس الرابع Aretas (9 ق. م 40 م)، وأضحت بطرة في أيامه بلدة هلنستية، لغتها آرامية، وفنّها يوناني، وشوارعها في عظمة شوارع الإسكندرية. وتنتمي إلى هذا العصر القبور الضخمة المنقورة في الصخور القائمة في خارج المدينة، وهي ذات واجهات ساذجة خشنة ولكنها تُنئ عن القوّة، وعُمَد يونانية مزدوجة، يبلغ ارتفاعها في بعض الأحيان مائة من الأقدام. وبعد أن ضمّ تراجان المملكة الشمالية إلى إمبراطوريته (106) جعل بُصرى عاصمة ولاية بلاد العرب، فشادت تلك المدينة العمائر التي ترمز إلى ثرائها وسلطانها. واضمحلّت برطة بعد أن أصبحت طرق القوافل التجارية تلتقي عند بُصرى وتدمر Palmyra، وإنحطّ شأن المقابر العظيمة حتى أضحت "مذاود ليلية لقطعان البدو"(41).
وكان ابرز مظاهر الإمبراطوريّة العظيمة كثرة مدائنها العامرة بالسكان، ولم تنشأ مُدن في عصر من العصور التالية لذلك العصر، إذا استثنينا القرن الحالي، بالكثرة التي أنشئت بها في ذلك العهد، فقد كان لوكلس، وبمبي، وقيصر، وهيرود، والملوك الهلنستيون، والأباطرة الرومان يفاخرون بما يُنشئون من المُدن الجديدة وبتزيين المُدن القديمة، حتى لقد كان يصعب على الإنسان وهو ينتقل نحو الشمال محاذياً للشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط أن يسير عشرين ميلاً
دون أن تلقاه مدينة رَفَح (رافيا)، وغزّة، وعسقلان، ويافا (جبا)، وأبلونيا، والسامرة، وقيصريّة. وكانت هذه المُدن رغم وجودها في فلسطين نصف يونانية في سكانها، تسودها لغة اليونان وثقافتهم وأنظمتهم. فكانت والحالة هذه بمثابة جسور تنتقل عليها الهلنستية في غزوها الوثني لبلاد اليهود. وأنفق هيرود أموالاً طائلة في جعل مدينة قيصرية خليق بأغسطس الذي سميّت باسمه، فأنشأ لها مرفأ صالحاً جميلاً، ومعبداً شامخاً، وملهى ومدرجاً، وأقام فيها قصوراً فخمة وصروحاً كثيرة من الحجر الأبيض (42). وأنشئت في داخل البلاد مُدن أخرى يونانية فلسطينية ليفياس Livias، وفلادلفيا، وجراسا، وجندارا (قطة Katra) . وفي جراسا مائة عمود هي كل ما بقي من العُمَد التي كانت قائمة على جانبي شوارعها الرئيسية؛ وإن خرائب هياكلها، وملهاها، وحمّاماتها، ومجرى مائها لتنطق بما كانت عليه المدينة من الثراء في القرن الثاني بعد الميلاد.
وكانت جدارا، التي تتردد في خرائب ملهاها صدى ذكريات المسرحيات اليونانية، تشتهر بمدارسها، وأساتذتها، ومؤلفيها. وفيها عاش في القرن الثالث قبل الميلاد منبس Menippus الفيلسوف والفكاهي الكلبي الذي يعلم بهجائه أن كل شيء عدا الحياة الصالحة باطل، والذي كان مثالاً احتذاه لوسليوس، وفارو، وهوراس. وفي هذه المدينة "أثينة سوريا" أنشأ مليجر، أنكريون زمانه، قبل ميلاد المسيح بنحو ألف عام تلك المقطوعات الشعرية المصقولة التي كان يتغزّلُ فيها بجمال النساء والغلمان. وظلّ يكتب قصائد الحب حتى كلّ قلمه:
"ما أحلى ابتسام الكأس للحبيب العزيز، بعد أن مسّها فم
زنوفيلا Zenophila الجميل. وما أسعدني إذا وضعت شفتيها
الورديتين على شفتيَّ، وعبت روحي عباً في عناق طويل" (43).
وكان لهيب من هذا النوع، خبا قبل الأوان، يشتعل قوياً في ذاكرته ذلك هو هليودورا Heliodora التي أحبّها في صور:
سأجدلُ البنفسج الأبيض، والآس الأخضر، سأجدل النرجس،
والزنبق اللامع؛ سأجدل الرعفران الحلو، والسنبل البري
الأزرق؛ وسأجدل آخر الأمر الورد رمز الحب الأكيد، حتى
يتألف منها جميعا تاج من الجمال خليق بأن يزيّن غدائر هليودورا
الحلوة (44). والآن وقد اختطفها الموت ولوّث الثرى زهرتها
الناظرة، فإني أتوسّل إليكِ يا أمنا الأرض أن تكوني رحيمة
حين تضمينها إلى صدركِ (45).
وقد خلّد مليجر اسمه بأن جمع في "إكليل"(Sle`phamos) ما قاله شعراء اليونان في الرثاء من أيام سابفو Sapphs إلى أيام مليجر. ومن هذه المجموعة وأمثالها من المجموعات نشأت دواوين الشعر اليوناني
(1)
. وفيها نجد أحسن المقطوعات الشعرية وأسوأها، فمنها ما هو مصقول كصقل الجواهر، ومنها ما هو أجوف كالغاز. ولم يكن من الحكمة أن تُقطف هذه "الأزهار" الأربعمائة من غصونها ليصنع منها هذا التاج الذابل.
ومن هذه الأبيات ما يحيي ذكرى بعض الموتى من عظماء الرحال، ومنها ما يخلّد ذكى تماثيل مشهورة، أو أقارب فارقوا هذه الدار. ومنها قبريات ذاتي، إذا صحّ ذلك التعبير. فقد كتبت إمرأة، ماتت وهي تلد ثلاثة أطفال في وقت واحد، تقول تلك المقالة السديدة: "وبعد هذا فلتطلب النساء
(1)
وقد ضُمّ إكليل مليجر في القرن السادس الميلادي إلى ديوان شعر كله تغزُّل في الغلمان جمعه أسترابون السرديسي (50 ق. م). وضُمّت إليه فيما بعد مقطوعات أخرى، معظمها من أشعار المسيحيين. وأخذ ديوان الشعر اليوناني شكله الذي هو عليه الآن في القسطنطينية حوالي عام 920 م.
الأبناء" (46). ومنها ما هو سهام موجّهة إلى صدور الأطباء، والنساء السليطات، ومجهّزي الموتى للدفن، ومعلّمي الأحداث، والديوثين، أو إلى صدر البخيل الذي أفاق من إغماءة لما شم رائحة فلس؛ أو النحوي الذي ظهر حفيدٌ له ذكراً ثم أنثى ثم شيئاً آخر هو ذكر وأنثى معاً (47)؛ أو الملاكم المحترف الذي اعتزل حرفته، وتزوّج، فكالت له زوجته ضربات أكثر مما كانت تكال له في حلبة الملاكمة؛ أو القزم الذي اختطفته بعوضة فظنّ أنه يعاني الآلام من اختطاف جلميدي. وثمّة مقطوعة تشيد بمدح "المرأة الشهيرة التي لم تضاجع إلا رجلاً واحداً"؛ ومقطوعات أخرى تقدّم بها القرابين للأرباب: ففي واحدة منها تُعلق ليس Lais مرآتها بعد أن أصبحت عديمة النفع لأنها لا تظهرها بالصورة التي كانت عليها من قبل، وفي أخرى نرى نيسياس Nicias تسلّم راضية منطقتها إلى فينوس بعد أن قضت في خدمة الرجال خمسين عاماً. وتمجّد بعض المقطوعات أثر النبيذ في توسع الشرايين وتقول إن هذا أحكم من الحكمة؛ ومنها واحدة تمجّد الزاني الذي يجمع في وقت واحد بين إثنتين والذي دُفن تحت الأنقاض بين ذراعي عشيقته؛ ومنها مراثي وثنية تصف قصر الحياة؛ ومنها توكيدات مسيحية ليوم البعث السعيد. ومعظمها، بطبيعة الحال، يمتدح جمال النساء والغلمان، ويتغنّى بنشوة الحب الموجعة. وإنك لَتَجد هنا كل ما ورد في الأدب بعد ذلك العصر عن آلام العاشقين وتجده موجزاً كاملاً، فيه من الأفكار أكثر مما في الشعر الإنجليزي في عصر إليزابث. من ذلك أن مليجر يتخذ بعوضة قوادة له، ويحملها رسالته إلى السيدة التي كان يحبها في تلك الساعة. وها هو ذا فلوديمس Philodemus ابن بلدته، والفيلسوف الذي يسدي النصح لشيشرون، يغنّي لمحبوبته زنثو Xantho أغنية حزينة فيقول:
يا ذات الخدين الأبيضين كلون الشمع، والصدر الناعم ذي العطر
الشجي، والعينين اللتين تعشّشُ فيهما ربات الفن، والشفتين
الحلوتين اللتين تفيضان بأكمل اللذات
…
غنّي لي أغنيتك
يا زنثو يا ذات الوجه الشاحب غنّي
…
ما أسرع ما تنقطع
الموسيقى. أعيدي النغمة الحلوة الحزينة مرة بعد مرة، ومسّي الوتر
بأصابعكِ العطرة؛ يا بهجة الحب، يا زنثو الشاحبة غنّي (48).
الفصل الخامس
السوريّون
تقوم على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في جزئه الشمالي مُدن فينيقيا القديمة التي كانت هي وفلسطين جزءاً من ولاية سوريا الرومانية. وقد ظلّت هذه المُدن حية طوال الحقبة التي دامت ألف عام مليئة بالأحداث الجسام وذلك بفضل عمالها المجدّين البارعين في الصناعات اليدوية، وبفضل موقعها الذي جعل فيها على مر الأيام مرافئ تجارية هامة، وتجّارها المهرة الأغنياء الذين كانوا يرسلون سفنهم وعمّالهم إلى كل مكان معروف على ظهر الأرض. وكان في صور مبانٍ أعلى من مباني روما (49). وأحياء أقذر من أحيائها تفوح منها روائح مصانع الصباغة الكريهة، ولكنها كانت تُعزّي نفسها باعتقادها أن العالم كله يبتاع منسوجاتها ذات الألوان المتعددة الجميلة، وبخاصة حريرها الارجواني. والراجح أن صيدا قد كشفت طريقة صنع الزجاج بالنفخ، وأنها تخصصت وقتئذ في صناعة الزجاج والبرنز، واشتهرت برنيس (بيروت) بمدارس للطب والبلاغة والقانون، وأكبر الظن أن أبيان وبابنيان المشترعين العظيمين قد تخرّجا في جامعتها ثم انتقلا منها إلى روما.
ولم يكن في الإمبراطوريّة كلها ولاية تفوق سوريا في صناعاتها ورخائها، وكان يعمرها في زمن تراجان عشرة ملايين من الأنفس وإن كان سكانها الآن لا يزيدون على ثلاثة ملايين ولا يكادون يجدون ما يكفيهم من أسباب العيش (50). وكان في الولاية نحو خمسين مدينة تستمتع بالماء النقي، والحمّامات العامة، والمجاري الممتدة تحت الأرض، والأسواق النظيفة، ومدارس التدريب الرياضي، وساحات الألعاب، والمحاضرات، والموسيقى والمدارس، والحياكل، والباسلقات، والأروقة المعمّدة، والأقواس، والتماثيل العامة، ومعارض الفن العمومية، وهي
المظاهر التي كانت تمتاز بها المُدن الهلنستية في القرن الأول بعد الميلاد (51). وكانت أقدم هذه المُدن كلّها مدينة دمشق القائمة وراء جبال لبنان المواجهة لصيدا، وكانت تحميها الصحراء المحيطة بها. وقد أحالتها إلى حديقة غناء روافد وفروع لذلك المجرى الذي سمّاه الأقدمون "نهر الذهب" اعترافاً منهم بفضله. وكانت تلتقي عندها كثير من طرق القوافل، وتفرّغ في أسواقها غلات قارات ثلاث.
وإذا عاد المسافر في هذه الأيام فعبر تلال لبنان الصغرى واتجه نحو الشمال في طرق متربة أدهشه أن يجد في قرية بعلبك الصغيرة بقايا هيكلين فخمين ومدخل عظيم، كانت في يوم من الأيام مما تفخر به هليوبوليس مدينة الشمس اليونانية - الرومانية - السوريّة. وأسكن أغسطس في ذلك المكان جالية رومانية صغيرة، ثم نمت المدينة وازدهرت وصارت مركز عبادة بعل إله الشمس وملتقى الطرق الذاهبة إلى دمشق، وصيدا، وبيروت، وأقام المهنسون والبنّاءون الرومان، واليونان، والسوريّون في مكان هيكل بعل الفينيقي القديم مزاراً فخماً لجوبتر الهليوبوليسي، أقاموا كل جدار من جدرانه من حجر واحد ضخم قطعوه من محجر يبعد عن موضعه مسافة ميل. وكانت إحدى كتله الحجرية تبلغ اثنتين وستين قدماً في الطول وأربع عشر في العرض، وإحدى عشرة في الارتفاع، وفيها من المادة الحجرية ما يكفي لبناء بيت رحب. وكانت إحدى وخمسون درجة من الرخام يبلغ عرض الواحدة منها مائة وخمسين قدماً تؤدي إلى المدخل الكورنثي العظيم، فإذا اجتاز الإنسان البهو الأمامي والبهو الذي يليه المعمّدين وجد البناء الرئيسي للهيكل، وقد بقي منه حتى الآن ثمانية وخمسون عموداً تعلو في الجو اثنتين وستين قدما. وبالقرب من هذا الهيكل الكبير بقايا هيكل أصغر منه، يُقال أحياناً إنه كان هيكل فينوس وأحياناً باخوس، وأحياناً دمتر. وقد أبقى الزمان على تسعة عشر عموداً من عُمَده، وعلى باب جميل دقيق النقش. وتتألق هذه العُمَد الفخمة المنعزلة في شمس السماء الصافية، وهي من أجمل ما بقي من
مخلّفات العصور السالفة. وإن المرء حين يشاهدها ليحس، أكثر مما يحس حين يشاهد أي أثر من آثار روما، بعظمة الإمبراطوريّة الرومانية، وبما فيها من ثراء، وشجاعة، ومهارة، وذوق جميل أمكنها بها أن تشيّد في مُدنها الكثيرة المتفرّقة هياكل أعظم وأكثر فخامة مما عرفته العاصمة المزدحمة في أي عصر من عصورها.
وتقع على منظر كهذا عين السائح الذي يتجه نحو الشرق ويعبر الصحراء من حمص، إمسا Emessa القديمة، إلى تَدمُر التي ترجم اليونان اسمها إلى بلميرا Palmyra أي المدينة ذات الألف نخلة. وقد كانت أرضها الخصبة المحيطة بعينين نضاختين، وموقعها الحسن على الطريقين الممتدّين من حمص ودمشق إلى نهر الفرات، سبباً في ثرائها، فلم تلبث أن أصبحت من أكبر مدائن الشرق؛ وقد أمكنها بُعدها عن غيرها من المحلات أن تحتفظ باستقلالها الفعلي رغم تبعيّتها الاسمية للملوك السلوقيين أو للأباطرة الرومان. وكان على جانبي شارعها الأوسط الرئيسي أروقة ظليلة تحتوي على 454 عموداً، وفي مواضع تقاطعه الأربعة أقواس فخمة بقي منها واحد حتى الآن شاهداً على ما كانت عليه بقية هذه الأقواس من عظمة وجلال. وكان أجمل مباني المدينة كلها وأعظمها هيكل الشمس الذي شُيّد في عام 30 م. للثالوث الأعظم بعل، وبرهبول (الشمس) وأجلبول (القمر). وكان حجمه أطراداً لتقاليد الأشوريين في الضخامة، وكان بهوه، وهو أكبر الأبهاء في الإمبراطوريّة الرومانية، يحتوي على صف من العُمَد لا مثيل له في بلد من بلادها، طوله أربعة آلاف قدم، وكان الكثير منها عُمَداً كورنثية مرتّبة صفوفاً في كل منها أربعة. وكان في داخل البهو والهيكل رسوم ملوّنة ومنحوتة يدلّ ما بقي منها على اقتراب تدمر من بارثية في الفن كقربهما في المكان.
ويبدأ من تدمر طريق رئيسي يتجه نحو الشرق ويصل إلى نهر الفرات عند دورا - أوربس Dura-Europus. وهنا اقتسم التجار (عام 100 م)
مكاسبهم مع الثالوث التدمري بأن شيدوا له هيكلاً كان مزيجاً من الفن اليوناني والهندي؛ وزيّن مصور شرقي جدرانه بمظلمات تدل أوضح دلالة على أن الفن البيزنطي والفن المسيحي الأول من أصل شرقي (52). وكان على النهر الأعظم شمال هذه المدينة مدينتان أخريان ذواتا شأن عند مُلتقى طريقين بريين كبيرين وهما مدينتا ثبساكس Thapsacus وزجما Zeugma. وإذا اتجه المسافر من ثبساكس نحو الغرب مرّ بمدينتي بروئيا Beroea (حلب) وأباما Apamea ووصل إلى البحر الأبيض المتوسط عند لأوديسيا Laodicea - التي لا تزال تحتفظ باسمها القديم اللاذقية مع تحريف قليل فيه، ولا تزال أيضاً ثغراً ناشط الحركة. وبين هذه البلدة وأباميا يتجه نهر العاصي نحو الشمال وتمتدّ على شاطئيه ضياع غنية حتى يصل إلى إنطاكية عاصمة سوريا في ذلك الوقت. وكان النهر تعاونه شبكة عظيمة من الطرق البرية يحمل بضائع الشرق إلى إنطاكية، بينما كانت سلويا سبيريا Selluce Spieria ثغر البلاد الواقع على البحر الأبيض على بُعد أربعة عشر ميلاً من إنطاكيا نحو مصب النهر تأتي إليها بحاصلات الغرب. وكان الجزء الأكبر من المدينة يقوم على سفح الجبل ويشرف على نهر العاصي الذي يجري من تحته. وكانت المدينة ذات موقع جميل استطاعت إنطاكية بفضله أن تنافس رودس في أن تكون أجمل مدائن الشرق الهلنستي. وكانت شوارعها تضاء بالليل فتكسبها بهجة وجمالاً، وتؤمن سكانها على أنفسهم وأموالهم، وكان شارعها الرئيسي البالغ طوله أربعة أميال ونصف ميل مرصوفاً بالحجر الأعبل، ويقوم على جانبه صفّان من العُمَد المسقّفة، فكان في وسع الإنسان أن يسير راجلاً من أحد طرفي المدينة إلى طرفها الآخر وهو آمن من المطر وحر الشمس. وكان الماء النقي يصل بمقادير موفورة إلى كل بيت من بيوتها. وقد اشتهر سكانها البالغ عددهم 600. 000 والذين كانوا خليطاً من اليونان، والسوريين، واليهود بإفراطهم في اللهو والمرح، يعبون اللذات عباً، ويسخرون من الرومان
المتباهين الذين جاءوا ليحكموهم، والذين يقضون أوقاتهم بين حلبة الألعاب، والمدرج، والمواخير، والحمّامات، ويستمتعون بكل ما يتيحه لهم دافني Daphne بستانهم الشهير القائم في ضاحية المدينة. وكان للأهلين أعياد كثيرة، تستمتع أفرديتي بنصيب فيها كلها. وفي عيد بروماليا Brumalia الذي كان يدون معظم شهر ديسمبر، كانت المدينة كلها، كما يقول كاتب معاصر، تبدو كأنها حالة واحدة، وكانت الشوارع تعجّ طول الليل بالغناء والقص والمرح (52). وكان فيها مدارس لتعليم البلاغة، والفلسفة، والطب، ولكنها لم تكن مركزاً علمياً، ذلك أن أهلها كانوا يقضون يومهم كله في العمل، فإذا احتاجوا للذين لجأوا إلى المنجّمين، والسحرة، وصنّاع المعجزات، والمشعوذين.
والصورة التي تطالعنا لسوريا تحت حكم الرومان هي صورة البلد الرخي رخاء أدوَم من رخاء أي ولاية أخرى من ولايات الدولة الرومانية. وكان معظم أهلها من الأحرار إلا مَن كان يقوم منهم بالخدمة في البيوت. وكانت الطبقات العليا مصطبغة بالصبغة اليونانية، أما الطبقات الدنيا فقد احتفظت بطابعها الشرقي. وكان الفلاسفة اليونان يختلطون في المدينة الواحدة بعاهرات الهياكل والكهنة الفنيين، وقد ظلّ الأطفال حتى أيام هدريان يُضحّى بهم قرباناً للآلهة (54). وكانت التماثيل المنحوتة والصور الملونة ذوات وجوه وأشكال نصف شرقية، وعليها طابع العصور الوسطى. وكانت اللغة اليونانية اللغة السائدة في دور الحكومة وفي الأدب، ولكن لغات البلاد -وأهمّها الآرامية - لغة التخاطب بين الأهلين. وكان العلماء فيها كثيرين، وقد طبقت شهرتهم العالم كله فترة قصيرة من الزمان. فقد كان منهم نقولوس الدمشقي الناصح الأمين لأنطونيوس وكليوبطرة، وهيرود، والذي أخذ على عاتقه ذلك الواجب الثقيل المُمِل واجب كتابة تاريخ عام، وهو واجب يُشفق منه هرقول نفسه، على حد قوله (55). وقد أشفق الدهر عليه فدفن كل مؤلّفاته، كما سيدفن مؤلّفاتنا هذه على مهل.
الفصل السادس
آسية الصغرى
كان في شمال سوريا مملكة كمجيني Commagene التي كانت في أول الأمر منضمة للإمبراطوريّة الرومانية ثم أصبحت فيما بعد ولاية من ولاياتها؛ وكانت عاصمتها سموساتا Samosata التي قضى فيها لوشيان أيام طفولته، آهلة بالسكان. وكان في الناحية الأخرى من نهر الفرات مملكة أسرهوني Osrhoene الصغيرة؛ وقد حصّنت روما عاصمتها إذسا Edessa (أروفة) لتكون قاعدة لها ضد بارثيا؛ وسنسمع الكثير عنها في عصر المسيحية، وإذا اتجه المسافر غرباً من سوريا انتقل إلى قليقية (كما ينتقل الآن إلى تركيا) عند الكسندريا إسي Alexandria Issi (الإسكندرونة). وكانت هذه الولاية، وهي ولاية شيشرون، ذات حضارة راقية تمتد على الساحل الجنوبي لآسية الصغرى، ولكنها في جزئها الواقع على جبال طوروس لم تكن قد خرجت بعد من طور الهمجية. ولم تكن حاضرتها طرسوس "بالمدينة الحقيرة" كما يقول ابنها القدّيس بولص بل كانت تشتهر بمدارسها وفلاسفتها.
وكان أمام قليقية في البحر الأبيض المتوسط جزيرة قبرص تعمل كما كانت تعمل من أقدم الأزمنة في استخراج النحاس، وقطع أشجار السرو، وبناء السفن، وتتلقى صابرة ضربات الفاتحين، وكانت مناجمها الغنية مُلكاً لروما تستغلّها على أيدي الأرقاء. ويصف جالينوس في أيامه منجماً انهارَ على مَن فيه وقضى على حياة مئات من العمال- وتلك حادثة تتكرر آناً بعد آن في الأسس الجيولوجية لقوى الإنسان وأسباب راحته.
وكان إلى شمال قليقية ولاية كبدوكيا الجبلية القاحلة، الغنية بمعادنها النفيسة، والتي تنبت القمح وتربي الماشية والعبيد لتصدّرها إلى خارجها. وكان إلى غربها ولاية ليكاؤنيا Lycaonia التي يبدأ تاريخها بزيارات القدّيس بولص لدربي Derbe وليسترا Lystra وأيكونيوم Iconium، وفي شمال هذا الإقليم نجد جلاتيا Galatia التي استوطنها الغاليون وأطلقوا عليها هذا الاسم في القرن الثالث قبل الميلاد، وكان أهم ما أخرجته هو حجر بسينس Pessinus الأسود الذي أُرسل إلى روما ليكون رمزاً لسيبيل، وكانت أهم مُدنها في ذلك الوقت مدينة أنقورة Ancyra، (أنقرة) التي كانت عاصمة الحثيين منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، والتي صارت عاصمة تركيا في هذه الأيام. وكان في ولاية بيسيديا Pisidia الواقعة غرب قليقية خمس مُدن جميلة مثل زنثوس التي كانت وقتئذ قد بدأت تستفيق من الإنتحارات الكثيرة قبل بروتس، وأسبندس Aspendus التي احتفظت بملهاها إلى درجة يسهل على الإنسان معها أن يتصوّره وقد امتلأ مرة أخرى ليستمع إلى متندر أو يوريديز.
وكان في شمال بيسيديا وغربها ولاية "آسية" بأقسامها الأربعة: فريجيا، وكاريا، وليديا، وميزيا Mysia. وكانت حضارة أيونيا لا تزال مزدهرة في هذه الولاية بعد أن بدأت فيها منذ ألف عام، وقد استطاع فيلوسترانس أن يحصي فيها خمسمائة بلدة يبلغ مجموع سكانها أكثر مما تكفيهم موارد الإقليم كلها في هذه الأيام. وكان ريفها خصباً وكانت الصناعات قد ازدادت دقة جيلاً بعد جيل، وكانت الثغور قد أفادت من قيام الأسواق الغنية في إيطاليا، وأفريقية، وأسبانيا، وغالة. ولقد كان فريجيا بلاداً جبلية، ولكنها كانت تزهو بمُدنها الكبيرة كأبميا سيليني Apamea Celenae- التي يقول أسترابون إنها لا يفوقها إلا أفسيس في "آسية"- ولؤديسيا التي أسعدها الحظ بفلاسفتها وأثريائها المحسنين الخيرين. وكانت نيدس Cuidus لا تزال على قدر من الغنى يمكنها من
أن تحالف روما، أما هلكرنسس فكانت قد انحدرت فلم تنجب أرقى من ديونيشيس- وهي التي أنجبت هيرودوت- وكان ديونيشيس هذا ناقداً أدبياً بارعاً ولكنه كان مؤرخاً تعوزه القدرة على النقد والتمحيص. وكانت ميليتس قد جاوزت عهد شبابها، وإن كانت لا تزال ثغراً نشيطاً؛ وكان وحي أبلو في دديما Didyma القريبة منها لا يزال يجيب عن الأسئلة إجابات مُلغّزة، وكان القصّاصون في هذا الإقليم يُنسجون "القصص الميليتية" الغزلية ذات الخيال الوثّاب التي تطوّرت بعد قليل من الوقت فكانت هي الروايات اليونانية القصصية الطويلة. وكانت بريني Priens بلدة صغرى، لكن أهلها أخذوا يتبارون في تجميلها بالمباني الفخمة. وفي هذه المدينة انتُخِبَت في القرن الأول الميلادي امرأة تسمى فيلي Philie لتشغل أسمى المناصب في البلدة وذلك لأن نفوذ روما وثراءها قد أخذا يرفعان من منزلة المرأة في الأراضي الهيلينية. وكانت مجنيزيا القائمة على ضفة الميندر تضم هيكلاً يعدّه الكثيرون أقرب هياكل آسية إلى الكمال- وكان مخصصاً لعبادة أرتميس (129 ق. م)، وقد خططه هرموجنيز Hermogenes أعظم مهندسي ذلك العصر. وكان العامة من أهل ميكالي لا يزالون يجتمعون في كل سنة ليكون منهم اتحاد عام ومجلس ديني لأيونيا.
واشتهرت كوس إحدى الجزائر القريبة من ساحل كاريا بنسج الحرير وبمدرستها الطبية الغنية بتقاليد أبقراط؛ وكانت رودس (الوردة) حتى في إبان ضعفها أجمل مدائن العالم اليوناني. ولما أن أراد أغسطس بعد الحرب الأهلية أن يُخفّف من بؤس المُدن الشرقية بالسماح لها بإلغاء الديون كلّها، أبت رودس أن تفيد من هذا التيسير، وأدّت كل ما عليها من التزامات بصدق وأمانة، وكان من أثر هذا أن استعادت بعد زمن قليل مكانتها بوصفها المصرف المالي لتجارة بحر ايجة، وعادت كما كانت من قبل الميناء الذي ترسو فيه البواخر المسافرة بين آسية ومصر. وقد اشتهرت المدينة بتمثالها الضخم المحطّم، ومبانيها الجميلة،
وتماثيلها الرائعة، وشوارعها المنظمة النظيفة، وحكومتها الأرستقراطية القديرة، ومدارس الفلسفة والخطابة الذائعة الصيت. وفي هذه المدارس علّم أبلونيوس مولو قيصر، وشيشرون تلك الأساليب الفنية التي أثرا بها في كل ما كتب بعدهما من نثر لاتيني.
وكان أشهر علماء رودس في ذلك العصر هو بوسيدونيوس صاحب أكبر عقل مُنشئ مبدع في التاريخ القديم كله. وكان مولده في إباميا Abamea من أعمال سوريا عام 135 ق. م، وكان أول ما اشتهر به سرعة عدوه في المسافات البعيدة، وبعد أن درس على بنيتيوس Panetius في أثينة اتّخذ رودس وطناً له، وعمل فيها حاكماً وسفيراً، وطاف بعدة ولايات رومانية، ثم عاد إلى رودس، واجتذب إلى محاضراتها في الفلسفة الرواقية عظماء الرجال أمثال بمبي وشيشرون. وذهب في الثالثة والثمانين من عمره ليعيش في روما ومات فيها في السنة التالية. ومن مؤلفاته كتاب التاريخ العام المفقود الذي يقص تاريخ روما وممتلكاتها من عام 144 إلى عام 82 ق. م؛ وكان العلماء القدامى يضعونه في منزلة كتاب يولبيوس. وكان وصفه لرحلاته في غالة، ورسالته عن المحيط من المصادر التي استمدّ منها أسترابون كتاباته. وكان تقديره بُعد الشمس عن الأرض 52. 000. 000 أقرب إلى تقدير هذه الأيام من تقدير أي عالم قبله. وقد سافر إلى قادس Cadiz ليدرس المد والجزر، وفسر هذه الظاهرة بأنها من فعل الشمس والقمر مجتمعين. وقد عرض المحيط الأطلنطي بأقل من عرضه الحقيقي، وتنبأ بأن في مقدور المسافر من أسبانيا أن يصل إلى الهند بعد أن يقطع ثمانية آلاف ميل. وكان رغم إلمامه بالعلوم الطبيعية يؤمن بكثير من الأفكار الروحية السائدة في عصره- فكان يعتقد بالشياطين والقدرة على معرفة الغيب، وبالتنجيم، وقراءة الأفكار، وبقدرة الروح على أن ترقى حتى تتحد اتحاداً
صوفياً بالله؛ وعرف الله بأنه القوة الحيوية للعالم. وقد عدّه شيشرون أعظم الفلاسفة الرواقيين وكان في هذا مبالغاً في كرمه، وفي وسعنا نحن أن نعده من رواد الأفلاطونية الجديدة، وأن نرى فيه قنطرة انتقال من زيتون الى أفلوطينس.
وإذا سار المسافر محاذياً ساحل آسية وميمماً شطر الشمال من كاريا دخل ليديا وأقبل على إفسوس أعظم مدائنها. وقد ازدهرت في أيام الرومان كما لم تزدهر من قبل. ومع أن برجموم كانت العاصمة الرسمية لولاية "آسية" الرومانية فإن إفسوس أضحت مقر الحاكم الروماني والموظفين التابعين له؛ هذا إلى أنها كانت أهم ثغور الولاية، ومكان اجتماع جمعيتها الوطنية. وكان سكانها خليطاً من أجناس مختلفة، بلغ عددهم 225. 000 ويختلفون من السفسطائيين الخيرين المحبين للإنسانية إلى الغوغاء الصخّابين المخرفين. وكانت شوارع المدينة حسنة الرصف والإضاءة. وكانت لها بواك مظللة تمتدّ أميالاً عدة. وكان فيها كثير من المباني العامة التي توجد في غيرها من المُدن، وقد كشف بعضها من تاريخ قريب لا يبعد عن عام 1894: ومن هذه المباني "متحف" أو مركز علمي، ومدرسة طب، ودار كتب ذات واجهة عجيبة مسرفة في النقش والزينة، وملهى يتّسع لستة وخمسين ألف من النظارة. وهنا أثار دمتريوس صانع التماثيل العامة على القدّيس بولص بعد هذا العهد. وكان يحيط به 128 عموداً كل واحد منها مُهدى من أحد الملوك. وكان يقوم على خدمة كهنته الخصيان قسّيسات عذارى وحشد من الأرقاء، وكانت طقوسهم مزيجاً من طقوس الشرقية اليونانية. وكان للتمثال البربري الذي يمثّل هذه الإلهة صفّان من الأثداء الكثيرة العدد ترمز إلى الخصوبة. وكان الاحتفال بعيد أرتميس يجعل أيام مايو كلها أيام بهجة، ومرح، وحفلات، وألعاب.
وكان جو أزمير أطيب من جو غيرها من البلدان رغم كثرة من كان فيها
من صيّادي السمك. وقد وصفها ابولونيوس التيانائي Apollonius of Tyana الذي كان جواب آفاق بأنها "أجمل مدينة تحت الشمس"(59). وكانت تزدهي على غيرها من المُدن بشوارعها الطويلة المستقيمة، وأعمدتها ذات الطبقتين من القرميد، ومكتبتها، وجامعتها. وقد وصفها رجل من أشهر أبنائها وهو إيليوس أرستيديز Aelius Arisitides (117 - 187 م) وصفاً يكشف عما كانت عليه المُدن الرومانية الهلنستية من روعة وبهاء، فقال:
سر فيها من الشرق إلى الغرب تمرُّ بهيكل في إثر هيكل، ومن تل في إثر تل، مُخترقاً شارعاً أجمل من اسمه (الطريق الذهبي). ثم قِفْ فوق حصنها ترَ البحر يمتد تحتك، والضواحي تنتشر حولك. والمدينة إذا نظرت إليها ثلاث نظرات ملأت قلبك سروراً وغبطة
…
وكل شيء فيها من طرفها الداخلي إلى شاطئ البحر كتلة برّاقة من ساحات للألعاب، وأسواق، وملاهٍ
…
وحمّامات بلغت من الكثرة حداً لا يسهل عليك معه أن تعرف في أيها تستحم، وفوارات وطرقات عامة، ومياه جارية في كل بين من بيوتها. وإن ما فيها من مناظر جميلة، ومباريات، ومعارض ليجل عن الوصف؛ أما الصناعات اليدوية فحدث عن كثرتها ولا حرج. وهذه المدينة هي أنسب المدائن كلها لمن يريدون أن يعيشوا في هدوء وطمأنينة ليكونوا فلاسفة لا يعرفون الغش والخداع (60).
وكان إيليوس واحداً من كثيرين من البلغاء والسفسطائيين الذين اجتذبت شهرتهم الطلاب إلى أزمير من جميع بلاد هلاس؛ وكان معلّمه بوليمو Polimo رجلاً بلغ من العظمة- كما يقول فيلوستراتس- "درجة جعلته يتحدّث والمدائن أقل منه، والأباطرة لا يعلون عليه، والآلهة أنداد له"(61). وكان إذا حاضر في أثينة استمع إليه هرودس أتكس Herodes Atticus أعظم منافسيه في البلاغة، وكان من تلاميذه المعجبين به. وأرسل إليه هرودس 150. 000 درخما (90. 000 ريال أمريكي) نظير استمتاعه بميزة الاستماع إلى محاضراته؛
ولما لم يشكر له بوليمو عمله هذا، قال له أحد الأصدقاء إن المحاضر قد استقلّ المبلغ، فبعث إليه هرودس مائة ألف أخرى، قبلها بوليمو في هدوء على أنها حقٌّ له. وقد استخدم بوليمو ثروته في تزيين المدينة التي اتخذها وطناً له؛ وإشترك في حكمها، ووفّق بين أحزابها، وكان سفيراً لها. وتقول الرواية المأثورة إنه أيقن أنه لا يطيق الصبر على داء المفاصل الذي كان مصاباً به، فدفن نفسه في قبر أسلافه في لأوديسيا، وأمات نفسه جوعاً في سن السادسة والخمسين (62).
وكانت سرديس، عاصمة كروسس القديمة، لا تزال "مدينة عظيمة" غي عهد أسترابون. وقد تأثر شيشرون بعظمة متليني وجمالها ووصفها لنجس Longus في القرن الثالث وصفاً يذكرنا بجمال مدينة البندقية (63). وكانت برجموم يتلألأ فيها المذبح العظيم، والمباني الفخمة التي شادها ملوكها من أسرة أتالس Attalus، وأنفقوا عليها من الخزائن التي امتلأت بالمال من كدح العبيد في غابات الدولة، وحقولها، ومناجمها، ومصانعها. وقد استبق أثالس الثالث التوسّع الروماني والانقلاب الاجتماعي بأن أوصى بمملكته إلى روما في عام 133 ق. م؛ غير أن أرستنكس ابن الملك يومنيز الثاني من إحدى المحظيات نفض الوصية وقال إن أتالس أرغم عليها؛ ثم حرّض العبيد والأحرار الفقراء على الثورة، وهزمَ جيشاَ رومانياً (132)، واستولى على عدد كبير من المُدن، ووضع قواعد دولة اشتراكية بمعونة بلوسيوس Blossius معلّم أبنى جراكس. وانضم إلى روما ملكا بيثينيا وبنتس المجاورتين لبرجموم، كما إنضم إليها طبقات رجال الأعمال في المُدن المحتلّة، فأخمدت روما بمعونتها هذه الثورة ومات أرستنكس في أحد السجون الرومانية. وعاقت الثورة والحروب المثرداتية حياة بجرموم الثقافية مدى نصف قرن من الزمان، ونهبَ أنطونيوس مكتبتها الشهيرة ليُعوّض بها الإسكندرية عن الكتب التي احترقت منها أثناء إقامة قيصر فيها. وما من شك في أن بجرموم قد انتعشت قبيل عهد فسبازيان، وشاهد ذلك أن بلني الأكبر حكم بأنها أكثر
مدائن آسية ازدهاراً وقامت فيها أيام الأنطونينيين حركة بناء جديدة، ونشأت في الإسكالبيوم مدرسة طبيّة خرج منها جالينوس ليُداوي أمراض العالم.
واستحالت إسكندرية تراوس Alexaudria Troas على يد أغسطس مستعمرة رومانية تخليداً لأصل روما الطروادي المزعوم، وقد استندت روما إلى هذا الأصل المزعوم في مطالبتها بجميع البلاد التي وصفناها في هذا الفصل. وقد أحيد بناء طروادة القديمة على تل قريب من هذه البلدة (حصار لك)، وسُمّيت باسم إليوم Illium الجديدة، وأضحت بعد بنائها مقصدا للسيّاح، وكان الأدلاء يرشدونهم إلى كل بقعة حدثت فيها إحدى الحوادث الواردة في الإلياذة، ويُطلعونهم على الكهف الذي حاكمَ فيه باريس هيرا، وأفرديتي، وأثينة. وقد بنى سزكس Cyzicus سفناً على البروبيتس وأرسل منها جميع البحار المعروفة أسطولاً تجارياً لم يكن ينافسه إلا أسطول رودس. وهنا شاد هدريان هيكلاً لبرسفني، وكان من أعظم الهياكل التي تفتخر بها آسية. ويقول ديوكاسيوس إن قطر كل عمود من أعمدته كان ست أقدام وارتفاعه خمسة وسبعين قدماً، ومع هذا فقد كان العمود منحوتاً من كتلة واحدة من الحجر (64). وكان هذا الهيكل قائماً على ربوة، لهذا بلغ من الارتفاع حداً رأى معه إيليوس أن لا ضرورة لإقامة منارة لهداية السفن.
وقامت في أيام السلم الرومانية مائة مدينة مزدهرة على الطريق الممتد من البحر الأحمر إلى البحر الأسود.
الفصل السابع
مثردانس العظيم
كانت بيثينيا وبنتس تمتدان على السواحل الشمالية لآسية الصغرى؛ وكانت أرضهما جبلية في الداخل؛ لكنها كانت غنية بالخشب والمعادن. وقد طغى على سكّانها الحثيين الأقدمين خليط من التراقيين، واليونان، والإيرانيين وحكمت بيثينيا أسرة ملكية يونانية- تراقية، وشادت لها عاصمة في نيقوميديا، ومدينتين كبيرتين في بروصة Prusa ونيقية. وأقام شريف إيراني سمّي مثرداتس دليلاً على التقى والورع مملكة له حوالي عام 302 ق. م شملت كبدوكيا وبنتس، وأنشأ أسرة من الملوك البواسل نشروا الثقافة اليونانية في البالد، وإتخذوا كومانا بنتيكا Comana Pontica وسينوب عاصمتين له وانتشر ملكهم حتى اصطدم بمصالح روما الاقتصادية والسياسية؛ فشبّت على أثر ذلك نار الحروب المثرداتية التي سميّت بهذا الاسم الموائم كل المواءمة نسبة إلى الملك الجبار الذي جمع آسية الغربية وبلاد اليونان الرومانية، ونشر فيها جميعاً لوء فتنة صمّاء لو أنها نجحت لبدّلت تاريخ أوربا تبديلاً.
وكان مثرداتس السادس قد ورث عرش بنتس وهو غلام في الحادية عشرة من عمره، وحاولت أمه هي والأوصياء عليه أن يقتلوه لتجلس هي على العرش مكانه، لكنه قفز من قصره، واختفى عن الأبصار، وعاش أحد عشر عاماً في الغابات يصطاد الوحوش، ويتّخذ من جلودها لباساً. وحدث في عام 115 ق. م انقلاب سياسي مفاجئ أدى إلى خلع أمه وإعادته إلى ملكه. وكانت تحيط
به المؤامرات التي هي من خصائص القصور الشرقية
(1)
، فاحتاط لها بأن كان يتجرّع قليلاً من السم في كل يوم، حتى كانت له حصانة من معظم أنواع السم التي كانت في متناول المقرّبين إليه. وقد كشف في أثناء تجاربه هذه كثيراً من العقاقير المضادة للسم والشافية منه. ثم امتدّت هواياته من هذا إلى الطب بوجه عام، فجمع فيه معلومات بلغ من قيمتها أن أمر بمبي بترجمتها إلى اللغة اللاتينية وكانت حياته البرية الصارمة قد أكسبته قوة في الجسم وفي الإرادة؛ وأن بلغ من الفخامة درجة رأى معها أن يُرسل دروعه السابقة إلى دلفي ليشاهدها العابدون. وكان فارساً ماهراً، ومحارباً شجاعاً، ويؤكّد لنا عارفوه أنه كان في مقدوره أن يعدو بسرعة يدرك به ظباء الفلاة، وأنه يستطيع أن يسوق عربة يجرّها ستة عشر جواداً، ويقطع مائة وعشرين ميلاً في اليوم الواحد (65). وكان يفخر بقدرته على أن يأكل أكثر مما يأكل أي إنسان آخر ويشرب أكثر مما يشرب، وكان له عدد كبير من النساء. ويقول المؤرخون الرومان إنه كان قاسي القلب، غدّاراً، وإنه قتل أمه، وأخاه، وثلاثة من أبنائه، وثلاثاً من بناته (66)، ولكن روما لم تنقل لنا ما عسى أن يقوله هو دفاعاً عن نفسه. ولقد كان مثقّفاً بعض الثقافة، في مقدوره أن يتكلّم اثنتين وعشرين لغة، ولم يستخدم قط مترجماً بينه وبين من يتحدّث إليه من الأجانب (67). وقد درس الآداب اليونانية، وكان مولعاً بالموسيقى اليونانية، وأغنى بالمال والنفائس الهياكل اليونانية، وكان في بلاطه عدد كبير من علماء اليونان، وشعرائهم، وفلاسفتهم وقد جمع كثيراً من التحف الفنية، وسكَّ نقوداً ذات أشكال جميلة ممتازة. ولكنه لم يتورّع عن الشهوانية والفضفاضة التي كان يمتلئ بها جوّه النصف
(1)
مما يؤسف له أن المؤلف ينسى من آن إلى آن صفة المؤرخ النزيه ليغمز الشرق غمزات كان خليقاً به أن يُنزّه قلمه عنها. لسنا نعلم أن الشرق قد اختصّت قصور ملوكه بالدسائس، وفي التاريخ كثير من الشواهد على أن هذه الدسائس لم تكن تقل في قصور ملوك الغرب عنها في الشرق. (المترجم)
الهمجي، وصدّق خرافات أهل زمانه. ولم يكن يحمي نفسه من روما بما كان خليقاً أن يقوم به القائد أو السياسي العظيم من حركات صادرة عن نفاذ البصيرة وبعد النظر، بل كان يحميها بالشجاعة الارتجالية التي يعمد إليها الحيوان إذا وقع في المحظور.
ومثل هذا الرجل لا يمكن أن يقنع بالمملكة الصغيرة التي خلفتها له أمه. ولهذا فتح أرمينية وبلاد القوقاز مستعيناً على ذلك بضباط وجنود مرتزقين من اليونان، ثم عبر نهر قوبان ومضيق كرتش إلى بلاد القرم وأخضع لحكمه جميع المُدن اليونانية القائمة على سواحل البحر الأسود الشرقية، والشمالية، والغربية. وإذا كان انهيار قوّة اليونان العسكرية قد ترك هذه الجماعات وهي تكاد تكون عاجزة كل العجز عن حماية نفسها من البرابرة الذين يجاورونها من خلفها، فإنها قد استقبلت جيوش مثرداتس اليونانية استقبال الحُماة المنقذين. وكانت من المُدن التي خضعت له سينوب، وطربزون، وبنتيكبيم Panticapeum (كرتش)، وبيزنطية. ولكن سيطرت بيثينيا على الهلسينت (الدردنيل) تركت تجارة بنتس في البحر الأبيض المتوسط تحت رحمة الملوك المعادين لها. فلما مات نيقوميدس الثاني ملك بيثينيا (94 ق. م) تنازع ولداه العرش، واستغاث الثاني وهو سقراط بملك بنتس. وانتهز مثرداتس فرصة النزاع الحزبي في إيطاليا فغزا بيثنيا لكي يجلس سقراط على العرش. ولم تشأ روما أن ترى البسفور في أيدي أعدائها فأمرت مثرداتس وسقراط أن يخرجا من بيثينيا. وصَدَع مثرداتس بالأمر أما سقراط فرفضه، فلم يكن من حاكم آسية الروماني إلا أن خلعه وتوّج نيقوميدس الثالث. وغزا الحاكم الروماني الجديد بنتس وشجّعه على ذلك منيوس أكوليوس Manius Aquiius الحاكم الروماني، وبدأت بذلك الحرب المثرداتية الأولى (88 - 84 ق. م).
وأحسّ مثرداتس أن الفرصة الوحيدة التي تتيح له البقاء هي إثارة الشرق الهيني على سادته الإيطاليين، فأعلن أنه منقذ هلاس وسيّر جيوشه لتحرير المُدن اليونانية في آسية بالقوة إذا كان لابد من استخدامها؛ ولما أن قاومته طبقات رجال الأعمال في المُدن ولى وجهة شطر الأحزاب الديمقراطية، وأخذ يمنيها بإصلاحات شبه اشتراكية. وفي هذه الأثناء كان أسطوله المكون من أربعمائة سفينة قد دمّر القسم المرابط في البحر الأسود من الأسطول الروماني وأوقع جيشه المؤلف من 290. 000 رجل هزيمة منكرة بقوات نيقوميدس وأكوليوس. وأراد الملك الظافر أن يعبّر عن احتقاره لشراهة الرومان وبخلهم (68) فصبّ الذهب المصهور في أفواه أكوليوس الأسير- ولم يكن قد مضى على انتصاره على أرقاء صقلية الثائرين إلا وقت قصير. ورأت المُدن اليونانية في آسية الصغرى أن الرومان أصبحوا عاجزين عن حمايتها، ففتحت أبوابها لجيوش مثرداتس، وأعلنت ولاءها له وللقضية التي نصّب نفسه للدفاع عنها، وقامت في يوم حدده لها، وبناء على أمره، بقتل كل من فيها من الإيطاليين رجالاً كانوا أو نساء أو أطفالاً وقد بلغ عددهم ثمانين ألفاً (88 ق. م) وفي ذلك يقول أبيان:
"ومزق الإفسوسيون أجسام الفارين الذين احتموا في هيكل أرتميس وأمسكوا بصورة المعبودة، ثم جزّو رؤوسهم. ورمى أهل برجموم بالسهام الرومان الذين احتموا في معبد اسكلبيوس AESCULPIUS. واقتفى أهل أدرميتيوم Adramyttium من أراد النجاة بالسباحة في البحر وقتلوهم وأغرقوا أطفالهم. وطارد أهل كونس Canus (في كاريا) الإيطاليين الذين احتموا حول تمثال فستا، وقتلوا الأطفال أمام أعين أمهاتهم، ثم اتبعوهم بالأمهات، ثم بالرجال
…
وقد اتضح من هذه الأعمال أن الذي دفعهم إلى ارتكاب هذه الفظائع لم يكن خوفهم من مثرداتس فحسب بل كان أيضاً كرههم للرومان" (69).
وما من شك في أن الطبقات الفقيرة التي قاست أكثر من غيرها مظالم
الحكم الروماني كانت لها اليد الطولى في هذه المذابح الجنونية، وما من شك أيضاً في أن طبقات الملاّك التي ظلت زمناً طويلاً تتمتع بحماية الرومان لها قد استولى عليها الرعب حين أبصرت هذا الانتقام الرهيب. وأراد مثرداتس أن يهدّئ ثائرة الطبقات الغنية بإعفاء المُدن اليونانية من الضرائب مدة خمس سنين ويمنحها الاستقلال الذاتي التام، لكنه "أعلن" في الوقت نفسه، كما يقول أبيان "إلغاء الديون، وحرر العبيد، وصادر كثيراً من الضياع، وأعاد توزيع الأراضي الزراعية على السكان" ودبر زعماء العشائر مؤامرة لإغتياله، فما كشف سرّها أمر بقتل ألف وستمائة من هؤلاء الزعماء. واستولت الطبقات الدنيا يساعدها الفلاسفة وأساتذة الجامعات (71) على زمام السلطة في كثير من المُدن اليونانية، ومنها أثينة وإسبارطة نفسهما، وأعلنت الحرب على روما وعلى الطبقات الغنية معاً، وقتل يونان ديلوس في نشوة الحرية عشرين ألف إيطالي في يوم واحد. واستولى أسطول مثرداتس على جزائر سكلديز كما استولى جيشه على عوبية، وتساليا، ومقدونية، وتراقية. وكان خروج "آسية" الغنية عن سيطرة الرومان سبباً في وقف الخراج الذي كان يُرسل منها إلى الخزانة الرومانية، وفوائد الأموال التي كان يحصل عليها المستثمرون الرومان، فانتابت إيطاليا أزمة مالية كانت ذات أثر في الحركة الثورية التي قام بها سترنينس Satrurninus وسنا Cinua وانقسمت إيطاليا على نفسها لأن السمنينين واللوكانيين عرضوا على ملك بنتس أن يعقدوا معه حلفاً.
ورأى مجلس الشيوخ الروماني الحرب والثورة تواجهانه في كل مكان، فباع ما تجمع في الهياكل الرومانية من الذهب والفضة ليموّل بها جيوش صلا. ولسنا نرى من واجبنا أن نعيد هنا كيف استولى صلا على أثينة، وهزم جيوش الثوّار، وأنقذ الإمبراطوريّة لروما، وعقد مع مثرداتس صلحاً قوامه اللين انسحب الملك على أثره إلى عاصمة بنتس، يجهّز في هدوء جيشاً وأسطولاً جديدين،
وقرر مورينا Murena المبعوث الروماني في آسية أن يهاجمه قبل أن يشتد ساعده؛ فلما أن هزم مورينا في هذه الحرب المثرداتية الثانية (83 - 81) لامه صلا على خرقه شروط المعاهدة وأعلن انتهاء الأعمال العدوانية. وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت أوصى نيقوميدس الثالث بيثينيا إلى روما، وأدرك مثر داتس أن مملكته نفسها ستبتلعها روما عن قريب إذا امتد سلطانها إلى حدود بفلجونيا وبنتس بعد أن سيطر على البسفور. وبذل في الحرب المثرداتية الثالثة (75 - 63) آخر جهوده، وحارب لوكلس وبمبي اثني عشر عاماً وغدر به أحلافه وأعوانه ففر إلى بلاد القرم، وحاول الجندي الشيخ، وكان وقتئذ في التاسعة والستين من عمره، أن يعد جيشاً يخترق به بلاد البلقان، ويغزو إيطاليا من الشمال، ولكن ابنه فرناسس شقّ عصا الطاعة عليه، وأبى أن يُساق إلى المغامرة؛ وحاول الملك بعد أن تخلى عنه الجيش أن ينتحر، ولكن السم الذي تجرّعه لم يكن له أثر فيه لما كان قد كسبه قبل من الحصانة، وكانت يداه أضعف من أن تضغط على النصل الذي أراد أن يقتل به نفسه، ثم أجهز عليه أصدقاؤه ومحاسبيه الذين أمرهم ولده أن يقتلوه بأن طعنوه بسيوفهم وحرابهم.
الفصل الثامن
النثر
مما يذكر بالحمد للحكم الروماني أن مُدن آسية الصغرى لم يمضِ عليها إلا قليل من الوقت حتى أفاقت من حمى هذه الحروب المتقطعة. وصارت نيقوميديا عاصمة ولاية بيثينيا- بنتس، ثم أضحت عاصمة الإمبراطوريّة في عهد دقلديانوس؛ وخلّد اسم نيقية فيما بعد أن انعقد فيها أخطر مجلس في تاريخ الكنيسة المسيحية، وأخذت المدينتان تتنافسان في تشييد المباني منافسة اضطر معها تراجان أن يرسل بلني الأصغر ليحول بينهما وبين الإفلاس. وأهدت نيقوميديا إلى الأدب ابنها فلافيوس أريانس الذي سجّل أحاديث ابكتتس، كما سبق القول. وكان أريان هذا حاكماً على كبدوكيا ست سنين، وأركونا لأثينة سنة واحدة، ولكنه رغم هذه المشاغل وجد متّسعاً من الوقت لكتابة عدة كتب في التاريخ لم يبقَ منها إلا زحف الاسكندر المذيل بالانديكا Indica. وقد كتبه بلغة يونانية واضحة سهلة بأنه اتخذ أكسنوفون مثلا له في أسلوبه، كما اتخذه مثلاً له في حياته، ويقول هو عن كتابه مفتخراً به كما يفخر الأقدمون:
"لقد كنت منذ صباي أنزل هذا الكتاب منزلة الوطن والأسرة والمنصب العام ولهذا فإني لا أرى نفسي غير خليق بأن أعدّ بين أعظم المؤلفين في اللغة اليونانية"(72).
وكانت هناك مُدن أخرى على شاطئ البحر الأسود ذات مياه عظيمة وعلماء ذائعي الصيت. كان منها ميرليا Myrlea التي بلغ عدد سكانها 2. 320. 000 (73) وأمسارتس Amsartis (أمسرا Amsara) التي وصفها بلني بأنها "مدينة أنيقة جميلة"، والتي اشتهرت بما كان فيها من أشجار البقس الجميلة، وسينوب
التي كانت مركزاً غنياً لصيد السمك ومنفذاً لخشب الإقليم المجاور لها ومعادنه، وأميسس Amisus (سمسون) وطربيزس (طربزون) وكان أهلهما يكسبون عيشهم بالاتجار مع سكوذيا (جنوبي روسيا) المقابلة لهما على شاطئ البحر، وأماسيا Amasea التي وُلِد وعاش فيها أسترابون أعظم الجغرافيين الأقدمين.
وكان أسترابون ينتمي إلى أسرة غنية تنحدر، كما يؤكد هو، من ملوك بنتس. وكان مصاباً بحَوَلْ غريب
(1)
لا يزال يسمى باسمه حتى الآن (74). وكان كثير الأسفار، ويلوح أن أسفاره كانت في بعثات دبلوماسية، وكان ينتهز كل فرصة مستطاعه لجمع المعلومات الجغرافية والتاريخية. وكَتَبَ تاريخاً مكملاً لتاريخ بولبيوس ولكنه فُقِد؛ ثم أخرج في عام 7 ق. م كتابه العظيم الجغرافية الذي حفظت لنا الأيام جميع أجزائه السبعة عشر تقريباً. وقد بدأه كما بدأ أريان كتابه بالتحدّث عن مزاياه فقال:
"إني استسمح قرّائي، وأطلب إليهم ألا يلوموني لطول بحثي بدل أن يلوموا أولئك الذين يحرصون أشد الحرص على معرفة كل ما هو شهير وقديم
…
ولابد لي في هذا الكتاب من أن أغفل الصغير من الأشياء، وأن أخص بالعناية ما هو نبيل وعظيم
…
سواء كان نافعاً، أو ذائع الصيت، أو باعثاً للبهجة والمتعة. وكما أننا إذا أردنا أن نحكم على قيمة تمثال ضخم لا نبحث كل جزء من أجزائه بدقة وعناية، بل ننظر إلى الأثر العام الذي ينطبع في أذهاننا منه
…
فكذلك يجب أن يُحكم على كتابي هذا بالطريقة عينها. ذلك بأنه هو أيضاً عمل ضخم
…
خليق بأن يكون من عمل فيلسوف" (75).
وهو يعترف في صراحة بأنه يأخذ عن بولبيوس وبسيدونيوس، ولكنه أقل صراحة فيما يأخذ من أرتسشنيز، ويشتدّ عليهم جميعاً في نقد أخطائهم،
(1)
Strabismus (المترجم)
ويقول إن أخطاءه هو يجب أن يُلام عليها من أخذ عنهم (76). وهو يعترف بالمراجع التي أخذ عنها في صراحة نادرة ويختار هذه المراجع في العادة بدقة وحسن تمييز. ومن أقواله أن امتداد الإمبراطوريّة الرومانية قد وسع المعلومات الجغرافية، وإنه يعتقد مع ذلك أن قارات بأكملها لا تزال مجهولة- وبرما كانت هذه القارات في المحيط الأطلنطي- وأن الأرض شبه كرة، (ولكن اللفظ اليوناني قد يكون معناه "كريا") وأن الإنسان إذا سافر من أسبانيا متجهاً نحو الغرب وصل بعد وقت ما إلى الهند. ويقول عن شواطئ البحار إنها في تغيّر دائم بفعل التعرية أو الانفجار؛ ويظن أن اضطراب باطن الأرض قد يشق برزخ السويس ويل البحرين. وكان كتابه تلخيصاً جريئاً لما يعرفه الناس في عصره عن الأرض، وما من شك في أنه من جلائل الأعمال في العلم القديم.
وكان ديوكريسستوم- ديو ذو الفم الذهبي- (40 - 120 م) أعظم شهرة في عصره من استرابون. وكانت أسرته قد اشتهرت في بروصة من زمن طويل؛ فقد أفنى جدّه ثروته بما قدّمه من الهبات لمدينته، ثم جمع بعدئذ ثروة جديدة؛ وحذا أبوه حذو جدّه؛ وفعل ديو ما فعله الأب والجد (77). ولما كبر صار خطيباً وسفسطائياً، وسافر إلى روما، واعتنق مذهب الرواقية على يد موسنيوس روفس، ونفاه دومتيان من إيطاليا وبيثينيا في عام 82؛ ولما حرّم عليه أن ينتفع بملكه أو دخله، أخذ يضرب في الأرض ثلاثة عشر عاماً وينتقل من قطر إلى قطر انتقال الفيلسوف المفلس، يأبى أن يتقاضى أجراً على خُطَبِه، ويكسب قوته في معظم الأحوال بعمل يديه. ولما جلس نيرفا على العرش بعد دومتيان، تبدّنل نفي ديو تكريماً، فقد اصطفاه نيرفا وتراجان ووهبا مدينته هبات جمة إجابة لطلبه ولما عاد إلى بروصة أنفق معظم ثروته في تجميلها، وإتهمه فيلسوف آخر بإختلاس الأموال العامة فحاكمه بلني، ويلوح أنه بريء من هذه التهمة.
وخلف ديو وراءه ثمانين خطبة. ويبدو لنا في هذه الأيام أن معظمها ألفاظ
جوفاء ليس فيها كثير من المعاني، ويُؤخذ عليها ما فيها من إطناب، وتشبيهات خدّاعة، وحيَل بيانية، فهي تمط نصف المعنى حتى تملأ به مائة صفحة؛ فلا عجب بعدئذ إذا صاح أحد المستمعين بعد أن سئم هذا الطول:"إنك قد جعلت الشمس تغرب من طول أسئلتك التي لا آخر لها"(78). ولكن الرجل كان فصيح اللسان ساحر البيان، ولولا ذلك لصعب عليه أن يكون أشهر خطباء القرن الذي عاش فيه، ولما كانت الحروب تقف لكي يستمع الناس إلى خطبه وقد قال له تراجان في يوم من الأيام قولاً صادقاً صريحاً:"لَستُ أفهم ما تقول ولكنني أحبك بقدر حبي لنفسي"(79). وكان البرابرة الضاربون على ضفتي البورسثنيز Borysthenes (الدنيبر) يستمعون إليه في ابتهاج لا يقل عن ابتهاج اليونان وهو مجتمعون في أولمبيا، أو ابتهاج أهل الإسكندرية المعروفين بسرعة الانفعال. وحدث أن جيشاً أوشك أن يتمرّد على نيرفا، فهدأت ثورته بعد أن استمع إلى خطبة ارتجلها الخطيب الطريد النصف العاري.
وأكبر الظن أن الذي أغرى الناس بالالتفاف حوله لم يكن أسلوبه اليوناني الأنكي الجميل بل كان هو جرأته في التشهير، ويكاد أن يكون هو الخطيب الوحيد في العهود الوثنية القديمة الذي ندد بالدعارة؛ وما أقل كتّاب زمانه الذين هاجموا نظام الاسترقاق بمثل ما هاجمه هو من القوة والصراحة. (بيد انه غضب بعض الغضب حين وجد أن عبيده فرّوا منه)(80). وكانت خطبته في أهل الإسكندرية تنديداً عنيفاً بترفهم، وتخريفهم، ورذائلهم. وقد وقف يوماً في اليوم Ilium وألقى خطبة قال فيها إن طروادة لم توجد قط، وإن "هومر كان أجرأ كاذب في التاريخ"؛ ثم وقف يوماً آخر في قلب روما وأخذ يذكر فضائل الريف على المُدن، وصوّر فقر الريف تصويراً مؤثراً في أسلوب قصصي واضح جذّاب، وأنذر مستمعيه أن الناس أخذوا يهملون الأرض، وأن
الأساس الزراعي للحضارة قد انهار. ووقف مرة في أولمبيا ليخطب في جمع كبير من الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها، وأخذ يصف أهل ذلك العصر من الأبيقوريين والملحدين. وكان مما قاله في هذه الخطبة، إن الصورة التي لدى الناس عن الإله قد تكون باطلة سخيفة، ولكن الرجل العاقل يدرك أن العقل الساذج يحتاج إلى أفكار ساذجة ورموز تصويرية. والحق أن أحداً من الناس لا يستطيع أن يدرك صورة الكاهن الأعلى، وحتى التمثال الجليل الذي نحته فدياس نفسه لم يكن إلا فرضاً مجسّداً لا يليق بمقامه كما لا يليق به تصويره نجماً أو شجرة. ونحن وإن كنا لا نعرف حقيقة الله، ندرك بفطرتنا أنه موجود، ونشعر أن الفلسفة بغير الدين شيء مظلم لا يرجى منه خير، وأن الحرية الحقة الوحيدة هي الحكمة- أي أن يعرف الإنسان ما هو حق وما هو باطل؛ وأن سبيل الحرية ليست هي السياسة أو الثورة، بل أن سبيلها هي الفلسفة، وليست الفلسفة الحقة هي الأفكار التي في بطون الكتب، بل هي إتباع طريق الشرف والفضيلة كما ينادي بها من داخلنا صوت هو كما يقول المتصوّفة كلمة الله مستكنة في قلب الإنسان (81).
الفصل التاسع
التيار الشرقي الجارف
استعاد الدين في القرن الثاني بعد الميلاد ما كان له من سلطان منذ أقدم العهود حين أقرت الفلسفة بعد أن غلبتها الأبدية والآمال البشرية بعجزها عن تحقيق تلك الأبدية وهذه الآمال، فتخلت عما كان لها من سلطان. وكان الدين قبل أن يستعيد سلطانه هذا قد انزوى وأخذ يغذي جذوره ويترقب الفرص المواتية به. ولم يكن الناس أنفسهم قد فقدوا إيمانهم، فقد قبلت كثرتهم الغالبة مجمل ما وصف به هو من الحياة الآخرة (82). وكانت تقرّب القرابين في خشوع قبل البدء برحلة من الرحلات، وتضع أبلة في فم الميت ليؤدى بها أجر عبوره نهر استيكس كما كانت تفعل في الزمن القديم. وكانت سياسة الحكم الرومانية ترحّب بالعون الذي تلقاه من الكهنة الرسميين وتسعى للحصول على تأييد الشعب بإقامة الهياكل الفخمة للآلهة المحليّة، وظلت ثروة الكهنة تزداد زيادة مطردة في جميع أنحاء فلسطين وسوريا، وآسية الصغرى؛ وظل السوريّون يعبدون هداد Hadad وأترجاتس Atargatis، وكان لهذين الإلهين مزار رهيب في هيرابوليس؛ وبقيت مُدن سوريا ترحّب ببعث الإله تموز وتنادي قائلة "لقد قام أدنيس (الرب) "، وتحتفل في آخر مناظر عيده بارتفاعه إلى السماء (83). وكانت مواكب أخرى من هذا النوع تخلّد آلام ديونيس وموته وبعثه بطقوس يونانية. وانتشرت عبادة الإلهة ما Ma من كبدوكيا إلى أيونيا وإيطاليا، وكان كهنتها (المسمون بالهيكليين fanatice أي المنتمين إلى الفانوم fanum أو الهيكل) يرقصون في نشوة عديدة على أصوات الأبواق والطبول، ويطعنون
أنفسهم بالمدي، ويرشّون دماءهم على الإلهة وعبادها المخلصين (84) ودأب الناس على خلق آلهة جدد؛ فألهّوا قيصر، والأباطرة، وأنطنيوؤس، وكثيراً من العظماء، وكثيراً من العظماء المحليين في حياتهم وبعد مماتهم. وأخذت هذه الآلهة يمتزج بعضها ببعض بتأثير التجارة والحرب فيزداد عددها ويعظم شأنها في كل مكان، وتُقام الصلاة بألف لغة لألف إله أملاً في النعيم والنجاة
إلى أيزيس بصور وتماثيل تحمل بين ذراعيها حورس ابنها الإلهي، ويسمونها في الأوراد والأوعية "ملكة السماء"، و "نجم البحر"، و "أم الإله"(88). وكانت هذه الطقوس أقرب العبادات الوثنية إلى المسيحية، لما انطوت عليه قصة الإلهة من الحنو والرأفة، وما اختصّت به طقوسها من الرقّة، وما كان يسود هياكلها من جو مرح خالٍ من العنف، وما تشتمل عليه صلواتها المسائية من ألحان موسيقية مؤثرة، وما يقوم به كهنتها حليقو الرؤوس ذوو الثياب البيض من أعمال البر والخير (89)، وما كانت تتيحه هذه الإلهة لهؤلاء الكهنة من فرص لمواساة النساء وإدخال السرور على قلوبهنّ، ولترحيبها الشامل بالناس جميعاً على اختلاف أممهم وطبقاتهم. وانتشر دين إيزيس من مصر إلى بلاد اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد، ثم انتشر إلى صقلية في القرن الثالث، وإلى إيطاليا في القرن الثاني، ثم انتشر بعدئذ في جميع أجزاء الإمبراطوريّة. وقد عُثر على صورها المقدّسة على ضفاف نهري الدانوب والسين، وكُشف عن آثار معبد لها في لندن (90).
وقصارى القول أن شعوب البحر الأبيض المتوسط لم تنقطع قط عن عبادة لم للنساء من قوة مقدّسة خلاقة، وما يتصفن به من رعاية للأمومة.
وكانت عبادة مثراس Mithras الإله الذكر تنتقل في هذه الأثناء من فارس إلى أقصى تخوم الإمبراطوريّة الرومانية؛ وكان مثراس هذا في المراحل المتأخرة من الدين الزرادشتي إبن أهورا- مزدا إله النور، وكان هو أيضاً إلهاً للنور، والحق، والطُهر، والشرف؛ وكان يُقال أحياناً إنه هو الشمس، وإنه يقود الحرب العالمية ضد قوى الظلمة، وإنه يشفع على الدوام لأتباعه عند أبيه، ويحميهم، ويُشجّعهم في كفاحهم الدائم للشر والكذب، والدَنَس، وغيرها من أعمال أهرمان أمير الظلام. ولمّا أن نقل جنود بمبي هذا الدين من
كبدوكيا إلى أوربا صوّر فنان يوناني مثراس راكعاً على ظهر ثور يطعنه في خنجر في عنقه، وأضحت هذه الصورة هي الرمز الرسمي لذلك الدين.
وكان اليوم السابع من كل أسبوع يوماً مقدساُ لإله الشمس، وكان أتباعه يحتفلون في الأيام الأخيرة من ديسمبر بمولد مثراس "الشمس التي لا تُغلَب" والإله الذي نال نصره السنوي على قوى الظلمة في يوم الانقلاب الشتائي، والذي بدأ من ذلك اليوم يفيض على العالم ضياء يزداد يوماً بعد يوم (91). ويحدّثنا ترتليان Tertullian عن كهنة مثراسيين على رأسهم "حبر أكبر"، وعن عزّاب وعذارى في خدمة الإله؛ وكانت القرابين تقرب إليه على مذبحه في كل يوم، كما كان عباده يشتركون في تناول طعام مقدّس من الخبز والنبيذ؛ وكانت الإشارة التي يختتم بها عيده هي دقّات ناقوس (92). وكان يُحتفظ على الدوام بنار متّقدة أما القبو الذي يمثل فيه الإله الشاب يطعن الثور بخنجره. وكان الدين المثراسي يحضَ على الخلق الكريم، ويطلب إلى "جنوده" ألا ينقطعوا طول حياتهم عن محاربة الشر في جميع أنواعه. ويقول كهنته أن الناس كلّهم سيحشرون لا محالة أمام مثراس ليحكم بينهم، ثم تسلّم الأرواح الدنسة إلى أهرمان لتعذب على يديه عذاباً أبدياً، أما الأرواح الطاهرة فترتفع خلال طباق سبعة حتى تصل إلى بهاء السماء حيث يستقبلها أهورا- مزدا نفسه (93). وانتشرت هذه الأساطير التي تبعث في نفس أصحابها الأمل والقوة في القرنين الثاني والثالث من التاريخ الميلادي في غربي آسية، وانتقلت منه إلى أوربا (متخطّية بلاد اليونان)، وشادت معابدها متجهة نحو الشمال حتى وصلت إلى سور هدريان. وروع الآباء المسيحيين ما وجدوه من أوجه الشبه بين دينهم وبين المثراسية، وقالوا إن الثانية قد سرقت هذه العبادات عن المسيحية، أو أنها في المثراسية حيل مضللة احتال بها عليهم الشيطان (صورة من أهرمان). وليس من
السهل أن تعرف أي الدينين أخذ عن الآخر، ولعل الاثنين قد تسربت إليهما أفكار كانت وقتئذ منتشرة في جو بلاد الشرق.
وكان في كلا الدينين العظيمين اللذين يسودان إقليم البحر الأبيض المتوسط "طقوس خفية" تتخذ عادة صورة احتفالات تطهير، وتضحية، وتثبيت، ووحي، تدور كلها حول موت الإله وبعثه. وكان الأعضاء الجدد يدخلون في دين سيبيل بوضعهم عراة في حفرة يُذبح فوقها ثور، فيسقط دم الحيوان الذبيح على الطالب الجديد ويطهره من خطاياه ويهبه حياة روحية جديدة خالدة إلى أبد الدهر. وكانت أعضاء التذكير في الثور، وهي التي تمثل الخصوبة المقدسة، توضع في إناء خاص، وتُهدى إلى الإلهة (94). وكان في المثراسية طقس شبيه بهذا يعرفه العالم اليوناني والروماني القديم باسم الثوربليوم Taurobolium أو رمى الثور. ويصف أبوليوس في عبارات جزلة رائعة المراحل التي يمر خلالها خادم إيزيس- فترة الصوم المبدئية الطويلة، والورع والتقشّف، والتطهير بالانغماس في الماء المقدس، ثم تظهر له في آخر الأمر الرؤيا الصوفية للإلهة لتهبه النعيم الأبدي. ويلتزم الطالب في إلوسس أن يعترف بخطاياه (وقد كان هذا مما أخاف نيرون وأفقده شجاعته)، وأن يصوم بعض الوقت عن أنواع خاصة من الأطعمة، ويستحم في الخليج ليتطهر من الدَنَس الجسمي والروحي، ثم يقرّب القربان، وهو في العادة خنزير. وفي عيد دمتر كان الطلاب المبتدئون يندبون معها اختطاف ابنتها إلى الجحيم، ويختصرون في أثناء حزنهم هذا على تناول الكهك المقدس، وخليط رمزي من الدقيق والماء والنعناع. وفي الليلة الثالثة تعرض مسرحية دينية تمثّل بعث برسفوني، ويعد الكاهن الذي يقوم بالخدمة الدينية كل من تطهرت روحه بأن يبعث كبرسفوني بعثاً جديداً (95). وقد صوّرت الطائفة الأرفية، متأثرة بالآراء الهندوكية أو الفيثاغورية، موضوع هذه الطقوس في جميع الأراضي اليونانية، فقالت ان الروح تحبس في طائفة متسلسلة من الأجساد المذنبة، وإن
في مقدورها أن تنطلق من هذا التجسد الثاني المشين بأن تسمو حتى تتحد اتحاداً هيامياً بديونيشس. وكان الإخوان الأرفيون في اجتماعهم يشربون دم ثور يضحّون به للمنقذ الميّت الذي يكفّر عن خطاياهم ويوحّدون بينه وبين هذا المنقذ. وكان الاشتراك الجماعي في تناول الطعام والشراب المقدّسين من المظاهر الكثيرة الحدوث في أديان البحر الأبيض المتوسط، وكثيراً ما كان أهل هذه الأديان يعتقدون أن هذا الطعام ستحل فيه بهذا التقديس قوى الإله، ثم تنتقل منه بطريقة سحرية خفية إلى المشتركين في تناوله (96).
وكانت الشِيَع الدينية كلها تؤمن بالسحر، فقد نشر المجوس فنهم هذا في أنحاء الشرق وسموا الشعوذة القديمة باسم جديد؛ وكان عالم البحر الأبيض المتوسط غنياً بمن فيه من السحرة، وصانعي المعجزات، والمتنبئين، والمنجّمين، والزهّاد القدّيسين، ومفسّري الأحلام العلميين. وكانت كل حادثة غير عادية تُتّخذ نذيراً إلهياً بما سيقع من الحوادث في المستقبل، وأصبح لفظ أسكسيز Askesis، الذي كان معناه عند اليونان تدريب الجسم تدريباً رياضياً، يقصد به وقتئذ إخضاع الجسم لسلطان الروح؛ فكان الناس يضربون أنفسهم بالسياط، ويبترون أعضاءهم، ويجيعون أنفسهم، أو يقيدون أجسامهم بالسلاسل في كل مكان. ومنهم من كانوا يموتون نتيجة لهذا التعذيب أو الحرمان (97) الذاتي. ولجأ جماعة من اليهود وغير اليهود رجالاً ونساء إلى الصحراء المصرية القريبة من بحيرة مريوط. يعيشون فيها منفردين في صوامع وبيَع، ويحرّمون على أنفسهم جميع العلاقات الجنسية، ويجتمعون في يوم السبت للصلاة الجامعة ويسمون أنفسهم معالجي النفوس (Therapeutae)(98) . وقال الملايين من الناس إن الكتابات المعزوة إلى أرفيوس، وهرمس، وفيثاغورس، والعرافات ومن إليهم قد أملاها أو أوحى بها إله من الآلهة. وكان الوعاظ الذين يدعون أن الوحي قد هبط عليهم من السماء يجوبون الأقطار متنقلين من مدينة إلى مدينة،
يعالجون الناس بما يبدو في نظرهم أنه من المعجزات. من ذلك أن الاسكندر الأبونوتيكي Alexander of Abonoteictus قد درّب أفعى على أن تخفي رأسها تحت ذراعه، وتقبل أن يثبت في ذيلها قناع شبيه بوجه الإنسان، ثم أعلن أن الأفعى هي الإله أسكلبيوس، وأن هذا الإله قد جاء إلى الأرض لينبئ الناس بما سوف يقع في المستقبل، وقد استطاع أن يجمع ثروة طائلة بتفسير الأصوات الحادثة من الأعشاب التي يضعها في رأسها المستعار (99).
وأكبر الظن أنه كان إلى جانب هؤلاء المشعوذين آلاف من المبشرين المخلصين المؤمنين بالعقائد الوثنية. وقد صوّرفيلوستراتس في أوائل القرن الثالث صورة مثالية لأحد هؤلاء المبشرين في كتابه حياة أبولونيوس التيانائي of Tyana؛ فوصفه بأنه حين بلغ السادسة عشرة من عمره قيد نفسه بقيود الأخوان الفيثاغوريين الصارمة، فحرّم على نفسه الزواج، وأكل اللحم، وشرب الخمر، ولم يحلق لحيته قط، وامتنع عن الكلام خمس سنين كاملة (100)، ووزع المال الذي تركه ولده والده على أقاربه، وأخذ يطوف، كما يطوف الرهبان المعدمون، في فارس ومصر، وغربي آسية، وبلاد اليونان، وإيطاليا؛ وأتقن علوم المجوس، والبراهمة، والزهّاد المصريين. وكان يزور هياكل الأديان على اختلافها، ويدعو كهنتها إلى الامتناع عن التضحية بالحيوان، ويعبد الشمس؛ ويؤمن بجميع الآلهة، ويعلم الناس أن من ورائها كلها إله واحد أعلى لا يحيط به العقل، وكانت حياة التقى وإنكار الذات التي فرضها على نفسه مما جعل أتباعه يدّعون أنه إبن إله، أما هو فلم يكن يصف نفسه بأكثر من أنه إبن أباونيوس. وتعزو إليه الروايات المتواترة كثيراً من المعجزات: فقد كان الناس يقولون إنه من خلال الأبواب المغلقة، ويفهم جميع اللغات، ويطرد الشياطين، وإنه رفع بنتاً من بين الأموات (101). لكنه في واقع الأمر فيلسوفاً أكثر منه ساحراً،
يعرف الأدب اليوناني ويحبه، ويدعو إلى مبادئ أخلاقية بسيطة ولكنها صارمة. وكان يتوسل إلى الآلهة بقوله:"علّميني ألا يكون لي إلا القليل وألا أرغب في شيء" ولما سأله أحد الملوك أن يختار لنفسه هدية يهديها إليه أجابه بقوله: "الفاكهة اليابسة والخبز"(102). وكان يبشر بتجسد الروح بعد مفارقتها الجسد، ولهذا أمر أتباعه ألا يؤذوا مخلوقاً حياً، وأن يمتنعوا عن أكل اللحم؛ وحضهم على تجنب العداء، واغتياب الناس، والغيرة، والكراهية؛ ومن أقواله لهم:"إذا كنا فلاسفة، فلن نستطيع أن نكره بني جنسنا"(103). ويقول فيلوستراتس إنه "كان في بعض الأحيان يناقش المبادئ الشيوعية ويعلم الناس أن من واجبهم أن يعين بعضهم بعضاً". ولما اتُّهم بأنه يثير نقع الفتنة، ويعلم الناس السحر، جاء طائعاً إلى روما ليبرئ نفسه أمام دومتيان من هاتين التهمتين، فسُجن، ولكنه فرّ من سجنه. ومات حوالي سنة 98 م. بعد أن عمّر طويلاً. وادعى أتباعه أنه ظهر لهم بعد موته وأنه رفع بعدئذ إلى السماء (105).
ترى ما هي الصفات التي جعلت نصف روما ونصف الإمبراطوريّة ينضويان تحت ألوية هذه الأديان الجديدة؟ من هذه الصفات ما تنظوي عليه هذه الأديان من عدم التفرقة بين الأجناس والطبقات؛ فقد كانت تقبل بين أتباعها خلائق من جميع الأمم، وجميع الأحرار، وجميع الأرقّاء، ولا تلقى بالاً إلى ما بين الناس من فروق في الأنساب أو الثراء، وكان هذا من أسباب السلوى لهؤلاء الأتباع. وقد بُنيت هياكلها بحيث تتسع لكل من يؤمها من الخلائق العباد وللإله المعبود. وكانت سيبيل وإيزيس إلهتين أمين ثاكلتين ذاقتا مرارة الحزن كما ذاقته ملايين الأمهات الثاكلات، وكان في مقدورهما أن تدركا ما لا تستطيع أن تدركه الآلهة الرومانية- ألا وهو فراغ قلوب المغلوبين. إن الرغبة في العودة إلى أحضان الأم أقوى من غريزة الاعتماد على الأب، واسم الأم هو الذي يخرج
من تلقاء نفسه إلى الشفتين إذا ما صادف الإنسان سرور عظيم أو حلّت به كارثة أليمة. ومن أجل هذا كان الناس رجالهم ونساؤهم على السواء يجدون لهم سلوى وملجأ في إيزيس وسيبيل، بل ان العابد التقي في بلاد البحر الأبيض المتوسط في هذه الأيام يلجأ إلى مريم أكثر مما يلجأ إلى الأب أو الإبن، وإن الصلاة المحببة التي يرددها أكثر من سائر الصلواة هي الصلاة التي لا يوجهها إلى العذراء بل إلى الأم التي بورك فيها بمن ولدته من بطنها.
ولم تكن قوة الأديان الجديدة مقصورة على أنها أعمق أثراً في قلوب الناس بل كان من أسباب قوتها فوق ذلك أنها أعظم أثراً في خيال الناس وحواسهم لما فيها من مواكب، وترانيم، تتنقل من الحزن إلى السرور، وما تحتويه من طقوس ذات رموز تنطبع في الخيال وتبعث الشجاعة من جديد في النفوس التي أثقلتها الحياة الرتيبة المملّة. ولم تكن مناصب الكهانة الجديدة يملؤها ساسة يرتدون الثياب الكهنوتية من حين إلى حين، بل كان يشغلها رجال ونساء من كافة الطبقات، يتدرّجون فيها من المبتدئ المتقشّف الزاهد إلى الخادم الديني الذي لا ينقطع عن مواساة الناس. وكان في مقدور الروح التي تدرك ما ارتكبته من ذنوب أن تتطهّر منها، وكان يستطاع في الأحيان شفاء الجسم الذي أنهكته العلة، بكلمة أو طقس موج؛ وكانت المراسم السرية الخفية التي يمارسونها ترمز إلى ما يتردد في صدور الناس من رجاء في أن يتغلّبوا على كل شيء حتى الموت نفسه.
لقد سما الناس في وقت من الأوقات بما كانوا يتوقعون له من عظمة وخلود، فجعلوهما مرتبطين بمجد الأسرة والقبيلة والإبقاء عليهما، ثم انتقلوا بهما إلى مجد الدولة التي كانت من صنعهم والتي هي نفوسهم مجتمعة. أما في الوقت الذي نتحدث فكانت الحدود الفاصلة بين القبائل تذوب في حركة السلم الجديد، ولم تكن الدولة الإمبراطوريّة تعبر إلا عن الطبقات العليا السائدة، ولم تكن تمثل
جماهير الشعب التي لا حول لها ولا طول. وكان على رأس الدولة ملكية مطلقة تحول بين المواطن وبين اندماجه فيها واشتراكه في أعمالها، وكانت تخلق بعملها هذا الفردية في أسفلها وتشيعها بين الدهماء من السكان، وكان ما في الأديان الشرقية وما في المسيحية، التي أخذت منها خلاصتها ثم امتصتها وقضت عليها من وعد بالخلود الشخصي، وبالسعادة الدائمة بعد حياة المذلّة، والفاقة، والمحن، والكدح، كان هذا كله إغراء لا تستطيع الدهماء مقاومته، ولاح أن العالم كله أخذ يأتمر ليمهّد السبيل إلى المسيح.
الباب الخامس والعشرون
رومة واليهودية
132 ق. م - 135 م
الفصل الأول
بارثيا
بين بحر بنتس وجبال القوقاز تقوم جبال أرمينية ذات القلل الشعثاء التي رست عليها سفينة نوح، كما تقول قصة الطوفان، وفي أوديتها الخفية كانت تمتد الطرق التي تصل بارثيا وأرض الجزيرة بالبحر الأسود، ومن أجل هذا كانت الإمبراطوريات تتنافس على امتلاك أرمينية. وكان سكانها من الجنس الهندوربي يمتّون بصلة القربى للحثيين والفريجيين، ولكنهم ظلوا محتفظين بأنفهم الأناضولي. وكانوا في الأيام الماضية شعباً قوياً صبوراً على أعمال الزراعة، يحذق الصناعات اليدوية، ولا يجابهه شعب آخر في براعته التجارية، استغلوا أرضهم الضنينة أحسن استغلال، وأنتجوا من الثروة ما يكفي لأن يعيش ملوكهم عيشة الترف، وإن لم يكسبهم الكثير من القوة والسلطان. وقد ذكر دارا الأول في نقش بهستوم (521 ق. م) اسم أرمينة بين الولايات التابعة لبلاد الفرس، وكانت فيما بعد تابعة تبعية اسمية لدولة السلوقيين ثم تداولتها أيدي بارثيا ورومة مراراً عدة، ولكنها استطاعت لبعدها أن تحتفظ باستقلالها الفعلي. وكان أشهر ملوكها ترجرانس Tirgranes الأكبر (94 - 65 ق. م) الذي فتح كبدوكيا وأضاف إلى أرتكساتا Artaxata عاصمة ثانية هي ترجانوسترا Triganocetra،
وانضم إلى مثرداتس في ثورته على رومة؛ ولما أن قبل بمبي عذره، أهدى إلى القائد المنتصر 600 وزنة (21. 600. 000 ريال أمريكي)، و 10. 000 درخمة (6000 ريال أمريكي) لكل قائد مائة، وخمسين درخمة لكل جندي في الجيش الروماني. واعترفت أرمينية بسيادة رومة في عهد قيصر وأغسطس ونيرون وأصبحت في فترة من الزمان في عهد تراجان ولاية رومانية. لكن ثقافتها كانت رغم هذا ثقافة إيرانية، وكانت ميولها في العادة نحو بارثيا.
وكان الباثيون قد ظلوا عدة قرون يحتلون الإقليم الواقع جنوب بحر الخزر بوصفهم رعايا الملوك الأكيمينيين ثم الملوك السلوقيين. وكان هؤلاء البارثيون من العنصر السكوذي- التوراني أي أنهم من جنس الشعوب الضاربة في الجنوب الشرقي من روسيا وفي بلاد التركستان. وفي عام 248 ق. م خرج زعيم سكوذي يدعى أرساسيس على حكم السلوقيين، وجعل بارثيا دولة مستقلّة ذات سيادة، وأنشأ فيها أسرة أرساسية مالكة. ولما ضعف الملوك السلوقيون على أثر هزيمة رومة لأنتيخوس الثالث (189 ق. م) عجزوا عن حماية بلادهم من البارثيين الهمج المتهورين، فلم يَكَد يختتم القرن الثاني قبل الميلاد حتى كانت أرض الجزيرة وفارس بأكملها قد ضمت إلى الإمبراطوريّة البارثية الجديدة. وكان للملوك البارثيين الجدد ثلاث عواصم يقيمون فيها في فصول السنة المختلفة: هكتومبيلس Hecatompylus في بارثيا، وإكبتانا (محل همذان) في نيديا، وطشقونة Ctesiphon على المجرى الأدنى لنهر دجلة. وعلى الضفة الأخرى للنهر المقابل لطشقونة كانت تقوم العاصمة السلوقية القديمة وهي مدينة سلوقيا التي ظلّت عدة قرون مدينة يونانية في مملكة بارثية: وقد احتفظ الحكام الأرساسيون بالنظام الإداري الذي أقامه السلوقيون، ولكنهم غشوه بنظام إقطاعي أخذوه عن الملوك الأكيمينيين. وكانت جمهرة الشعب تتألف من أقنان الأرض والرقيق؛ وكانت الصناعة متأخرة وإن كان صاهرو الحديد البارثيون قد استطاعوا أن يخرجوا منه نوعاً جيداً،
وكانت "صناعة عصر الخمر تدر أرباحاً طائلة"(2). وكان جزء من ثروة البلاد يأتي عن التجارة التي تُنقل في الأنهار الكبرى، ويُنقل بعضها في طرق القوافل التي تجتاز بارثيا في طريقها بين أقاصي آسية وبلاد الغرب. واشتبكت روما مع بارثيا في حرب بعد حرب من سنة 53 ق. م حين هزم البارثيون كراسس Crassus في كاري Carrhae إلى سنة 217 م حين ابتاع مكرينس Macrinus الصلح من أرتبانس Artabanus، بغية السيطرة على هذه الطرق وعلى البحر الأحمر.
وكان البارثيون أعنى أو أفقر من أن يهتموا بالأدب؛ فقد كان الأشراف، يفضلون فن الحياة على حياة الفن كشأنهم في كل العصور؛ وكان أقنان الأرض أميين لا يعرفون للآداب معنى، وكان الصنّاع منهمكين في عملهم لا يجدون متّسعاً من الوقت للاهتمام بالأدب، وكان التجّار مشغولين بتجارتهم عن إنتاج فن عظيم أو كتب قيمة. وكان الأهلون يتكلمون اللغة الفهلوية، ويكتبون بالآرامية على الجلود، وكانت الآرامية قد حلّت وقتئذ محل الكتابة المسمارية. ولم تبقي لنا الأيام سطراً واحداً من الآداب البارثية، لكننا نعلم أن المسرحيات اليونانية كانت تُمثل في طشقونة كما كانت تُمثل في سلوقيا، وذلك لأن رأس كراسس قد ظهر في أحد أدوار الباحيين ليوربديز. أما الصور والتماثيل التي كُشفت في تدمر، ودور- أوربس، وأشور فكانت في أكبر الظن من صنع الفنانين الإيرانيين؛ وكان امتزاج الطرازين اليوناني والشرقي ذلك الامتزاج الساذج ذا أثر في فن العصور التي تلت ذلك العصر في جميع بلاد آسية من الصين إلى القسطنطينية. وقد بقي لنا نقش واضح يُمثل رامياً بالسهام على ظهر جواد، ويوحى بأنه لو بقي لنا من فن البارثيين أكثر مما عثرنا عليه منه لكان تقديرنا لهذا الفن أعلى من تقديرنا الحالي (3). وقد شاد أمير إقطاعي عربي من أتباع ملك بارثيا قصراً من حجر الجير في حترا Hatra القريبة من الموصل (88 ق. م) يحتوي على سبعة أبهاء ذات عقود وقباب، وشاده على طراز قوي ولكنه همجي. غير أن
أعمالاً فنية بارثية من طراز حسن قد بقيت لنا في الأدوات الفضية وفي الحلي.
ولكن البارثيين نبغوا في الفن المحبب إلى فن الإنسان- ونعني به زينة الأجسام. لقد كان رجالهم ونساؤهم على السواء يعقصون شعورهم، وكان الرجال يطيلون لحاهم المجعّدة وشواربهم المتهدّلة، ويرتدي الواحد منهم قميصاً وسروالاً منتفخاً يعلوهما في العادة ثوب متعدد الألوان. وأما النساء فكنّ يرتدين أثواباً مطرّزة تطريزاً دقيقاً جميلاً، ويزين شعرهنّ بالأزهار. وكان أحرار البارثيين يسلون أنفسهم بالصيد، ويكثرون من الطعام والشراب، ولا يمشون على أقدامهم إذا استطاعوا الركون. وكانوا محاربين شجعاناً، وأعداء شرفاء، يحسنون معاملة الأسرى، ويقبلون الأجانب في المناصب الكبرى، ويحمون اللاجئين، غير أنهم كانوا في بعض الأحيان يبترون أعضاء المدني من الأعداء، ويُعذبون الشهود، ويُعاقبوا على الذنوب الصغيرة بضرب السياط. وكان من عادتهم تعدد الزوجات إذا أمكنتهم مواردهم من ذلك التعدد، وكانت نساؤهم محجبات معزولات عن الرجال، وكانوا يعاقبون نساءهم على الخيانة الزوجية بأقصى العقوبات، ولكنهم يبيحون الطلاق للرجال والنساء على السواء لا يكادون يقيمون في سبيله عقبة ما (3) ولما أن زحف سرينا Surena القائد البارثي بجيشه على كراسس اصطحب معه مائتي حظية وألف بعير محملة بلوازمه (4). والصورة التي تنطبع في أذهاننا عن البارثيين في جملتهم هي أنهم كانوا أقل حضارة من الفرس الأكيمينيين، وأشرف وأكرم أخلاقاً من الرومان. فقد كانوا متسامحين مع مَن يخالفونهم في الدين، يُجيزون لليونان واليهود، والمسيحيين المُقيمين بين ظهرانيهم أن يقيموا شعائر دينهم دون أن يتدخّلوا في شئونهم. أما هُم أنفسهم فقد انحرفوا بعض الانحراف عن الزرادشتية الصحيحة، فكانوا يعبدون الشمس والقمر، ويُفضلون مثراس عن أهورا- مزدا فكانوا من هذه الناحية كثيري الشبه بالمسيحيين
إذ يُفضلون المسيح على يهوه. وقد كان لكهنة المجوس يَد في القضاء على الأسرة الأرساسية لأنهم لم يلقوا من ملوكها المتأخرين ما كانوا يتطلّعون إليه من الرعاية.
ولما توفي ملكهم فلوجاسس الرابع (209 م) تنازع ولداه فلوجاسس الخامس وأرتبانس الرابع على عرش المملكة. وانتصر أرتبانس في هذا النزاع ثم هزم الرومان في نزيب Nisibis. ودامت الحرب بين الإمبراطوريتين ثلاثة قرون ثم انتهت بانتصار البارثيين نصراً غير حاسم لأن سهول أرض الجزيرة كانت توائم خيّالة البارثيين أكثر مما توائم فيالق الرومان. ثم تورّط أرتبانس بعدئذ في حرب داخلية لقي فيها حتفه وأعلن أرتحشتر الشريف الإقطاعي في بلاد الفرس والذي غلبه على أمره ملك الملوك (127 م) وأسس الأسرة الساسانية. وعاد الدين الزرادشتي إلى سابق عهده، وبدأ في بلاد الفرس عهد من أعظم العهود التي مرّت بها في تاريخها الطويل.
الفصل الثاني
الهسمونيون
انتهز سيمون مكابي في عام 143 ق. م فرصة النزاع القائم بين البارثيين، والسلوقيين، والمصريين، والرومان، فانتزع استقلال بلاد اليهود من أيدي الملوك السلوقيين. واختارته جمعية وطنية قائداً وكاهناً أعلى للدولة اليهودية الثانية (142 ق. م- 70 م)، وجعلت ثاني المنصبين وراثياً في أسرته الهسمونية، وصارت بلاد اليهود مرة أخرى دولة دينية تحكمها هذه الأسرة أسرة الكهنة- الملوك، ذلك أن من أخص خصائص المجتمعات السامية ارتباط السلطتين الروحية والزمنية في الأسرة وفي الدولة لأنها تأبى أن يكون لها سيد إلا الله وحده.
وأدرك الهسمونيون ضعف مملكتهم الصغيرة فقضوا جيلين كاملين يوسعون حدودها بالدبلوماسية تارة وبالقوة تارة أخرى، فلم يحل عام 78 ق. م حتى كانوا قد ضموا إليهم السامرة رإدون، ومؤاب، والجليل، وإدوميا، وما وراء نهر الأردن، وجدارا، وبلا، وجراسا، ورافيا (رفح)، وغزّة، ووسعوا حدود فلسطين إلى ما كانت عليه في عهد سليمان. وفرض خلفاء هؤلاء المكابيين البواسل الذين قاتلوا دفاعاً عن حريتهم الدينية الدين اليهودي والختان على رعاياهم الجدد بحد السيف (5). وفقد الهسمونيون في الوقت نفسه غيرتهم الدينية، واستسلموا شيئاً فشيئاً لما كان في العناصر التي ضموها إلى بلادهم من نزعة هلنستية رغم احتجاج الفريسيين
(1)
الشديد. غير أن الملكة شالوم اسكندرة
(1)
شيعة يهودية تمتاز بتمسكها الشديد بالشرائع والأوامر الدينية؛ وقد تطور معنى هذا اللفظ في الزمن الحديث فصار يُطلق على من يستمسك في الدين بالشكل دون الجوهر أي المرائي. (المترجم)
(78 - 69 ق. م) عكست هذا الاتجاه، وعقدت الصلح مع الفريسيين، لكن ولداها هركانس الثاني، وأرستبولس الثاني أخذا يتنازعان العرش قبل موتها، وعرضت الطائفتان أمرهما على بمبي، وكان وقتئذ واقفاً على رأس فيالقه المنتصرة في دمشق (63 ق. م)، فلما انتصر بمبي لهركانس تحصّن أرستبولس وجيشه في بيت المقدس، فحاصر بمبي تلك العاصمة، واستولى على أجزائها السفلى؛ ولكن أتباع أرستبولس إحتموا بأفنية الهيكل المسورة، وظلوا يقاومون بمبي ثلاثة أشهر. ويقول المؤرخون إن تقواهم أعانت بمبي على هزيمتهم، فقد شاهد أنهم لا يحاربون في يوم سبتهم، فأمر رجاله بأن يُعدوا في كل سبت الربا والكباش الهدّامة التي سيستخدمها في اليوم التالي، ولم يكونوا يلقون مقاومة من اليهود في ذلك الاستعداد، بل كان الكهنة يقضون يومهم في الهيكل يبتهلون ويُقربون القرابين كعادتهم في كل الأوقات. فلما أن تهدّمت الأسوار ذبح من اليهود اثني عشر ألفاً، ولم يقاوم منهم إلا عدد قليل، ولم ينجُ منهم أحد، وقفز الكثيرون من فوق الأسوار فلاقوا حتفهم (6). وأمر بمبي رجاله بألا يمسّوا ما في الهيكل من كنوز، ولكنه فرض على الأمّة اليهودية غرامة قدرها عشرة آلاف وزنة (3. 600. 000 ريال أمريكي)، ونقلت المُدن التي كان الهسمونيون قد فتحوها من حكم اليهود إلى حكم الرومان، ونصب سركانس الثاني حاخاماً أعظم، وحاكماً بالاسم على بلاد اليهود ولكنه كان في حراسة أنتباتر الإيدوميني الذي أعان روما في هذه الحرب. وهكذا قضى على المملكة المستقلة وأصبحت بلاد اليهود جزءاً من ولاية سوريا الرومانية.
وبينما كان كراسس في طريقه إلى طشقونة في عام 54 ق. م- وهي الحملة التي قُطع فيها رأسه وجيء به ليمثل في بلاط ملك البارثيين دور بنيثوس في مسرحية الباخيين- نهب ما أبقى عليه بمبي من كنوز الهيكل، وكان يبلغ مقدارها عشرة آلاف وزنة. ولما أن جاء البشير بأن كراسس هُزم وقُتل
اغتنم اليهود هذه الفرصة ليستعيدوا حريتهم، ولكن لنجينس الذي عُين والياً على سوريا بعد كراسس أخمد الثورة وباع ثلاثين ألفاً من اليهود في أسواق الرقيق (43 ق. م)(7). ومات أنتباتر في تلك السنة، وزحف البارثيون على بلاد اليهود مخترقين الصحراء وعينوا أنتجونس آخر الهسمونيين ملكاً على البلاد يأتمر بأمرهم ويخضع لمشيئتهم، وقابل أنطونيوس وأكتافيان هذا العمل بتعيين هيرود بن أنتباتر ملكاً على بلاد اليهود وأعانوا جيشه اليهودي بالأموال الرومانية. فطرد هيرود البارثيين من البلاد وحمى أورشليم من السلب والنهب، وأرسل أنتجونس إلى أنطونيوس ليعدمه، وذبح جميع زعماء اليهود الذين عاونوا الملك الصوري، وتهيأت له بذلك أسباب حكم يُعَد من أكثر العهود إشراقاً في التاريخ (37 - 4 ق. م).
الفصل الثالث
هيرود الأكبر
كانت أخلاقه مثالاً من أخلاق عصره الذي أنجب كثيراً من الرجال الذين كانوا أذكياء لا أخلاق لهم، قادرين لا ضمير لهم، شجعاناً مجردين من الشرف. لقد كان صورة مصغرة من أغسطس في بلاد اليهود: فعل فيها ما فعله أغسطس في روما فاستبدل بفوضى الحرية نظاماً دكتاتورياً، وجمّل عاصمته بالمباني والتماثيل اليونانية الطراز، ووسّع رقعة مملكته، ونشر فيها الرخاء، والكسبة بالختل والسياسة أكثر مما كسبه من قوة السلاح، وتزوج كثيراً من النساء، وقضت عليه خيانة أبنائه، واستمتع بكل ما يتيحه له الحظ المواتي عدا السعادة. ويصفه يوسفوس بأنه رجل قوي البأس، عظيم المهارة، بارع في رمي السهام والحراب، صيّاد عظيم، اقتنص في يوم واحد أربعين وحشاً. وكان "مُحارباً لا يستطيع إنسان أن يقف في وجهه"(8). وما من شك في أنه أضاف إلى هذه الصفات شخصية جذابة، فقد كان في وسعه على الدوام أن يتغلّب بقوة الحجة أو بكثرة الرشا على أعدائه الذين حاولوا أن يشوا به عند أنطونيوس أو كليوبطرة، أو أكتافيان. وقد خرج من كل الأزمات التي حدثت بينه وبين الحكومة الثلاثية في روما وهو أقوى سلطاناً وأوسع مُلكاً مما كان، وسرعان ما اقتنع أغسطس بأن له "روحاً أعظم من أن تسعها أملاكه الصغيرة"، فأعاد إلى مملكته مدائن فلسطين الهسمونية، وتمنى لو أن هيرود قد حكم سوريا ومصر بالإضافة إلى أملاكه (9). ولقد كان "الإديومي Idumean" رجلاً كريماً خلا قلبه من الرحمة، أفاد على رعاياه من النعم ما لا يعادله إلا ما أصابهم به من الأذى.
ولقد كان من العوامل التي شكّلت أخلاقه، ما كان يُضمره له الذين غلبهم
على أمرهم أو قتل أهلهم من بغض شديد، وما يكنه له الشعب الممتعض من طغيانه والمشمئز من أصله الأجنبي من عداء واحتقار. وقد ارتفع إلى العرش بمساعدة روما وأموالها، وبقى إلى آخر عمره صديقاً وخاضعاً للسلطة التي كان الشعب يأتمر بالليل وبالنهار ليخلع عنه نيرها ويسترد حريته منها. وقد ثقُل عبء الضرائب التي فرضها على بلاده ذات الموارد الاقتصادية الضئيلة ليستمتع بها بلاطه المترف ويُحقق بها منهاجه الضخم في البناء الذي لا تطيقه الثروة القومية. وما لبث هذا العبء الثقيل أن قصم ظهرها واستنزف جميع مواردها. وحاول هيرود أن يهدئ ثائرة شعبه بمختلف الوسائل، لكن جهوده كلها لم تجده نفعاً. من ذلك أنه نزل عن المتأخر من الضرائب عن السنين الماضية، وأقنع روما بأن تخفض مقدار الجزية المفروضة على بلاده، وحصل لليهود على مزايا في البلاد الأجنبية، وأنقذ البلاد إنقاذاً عاجلاً من القحط وغيره من الكوارث، وحافظ على الأمن والنظام في الداخل وسلامة البلاد من الأعداء من الخارج، ونمى موارد البلاد الطبيعية. وفي عهده قضى على اللصوص وقطاع الطرق، ونشطت التجارة ودب دبيب الحياة في الأسواق والثغور. لكن الملك في الوقت نفسه أثار غضب الشعب بفساد أخلاقه، وقسوته في العقاب، وموت أرستبولس حفيد هركانس الثاني والوارث الشرعي لعرش البلاد غريقاً "مصادفة" في الحمام. وأخذ الكهنة الذين قضى على سلطتهم، والذين عين هو رؤساءهم، يأتمرون به، وحدّ عليه الفريسيون لما بدا من أنه يعتزم صبغ بلاد اليهود بالصبغة اليونانية.
ذلك أن هيرود كان يحكم كثيراً من المُدن التي كانت يونانية أكثر منها يهودية في سكانها وثقافتها؛ وقد تأثر بما تمتاز به الحضارة الهلنية من رقة وتنوّع؛ هذا إلى أنه لم يكن يهودياً في أصله أو مؤمناً بهذا الدين عن عقيدة؛ وقد دعا هذا كله بطبيعة الحال إلى العمل على توحيد ثقافة مملكته، وخلع مظاهر الروعة والجلال على حكمه بتشجيع أساليب الحياة والملابس، والأفكار،
والآداب، والفنون اليونانية. وقد أحاط نفسه بالعلماء اليونان، وعهد إليهم الإشراف على الشؤون العليا في الدولة، وعيّن نقولاس الدمشقي، وهو رجل يوناني، مستشاره ومؤرّخه الرسمي. وقد أنشأ في أورشليم داراً فخمة للتمثيل ومدرجاً زينهما بتماثيل لأغسطس وغيره من الوثنيين، وأنفق في ذلك أموالاً طائلة، وأدخل في بلاده الألعاب الرياضية والمباريات الموسيقية اليونانية، وصراع المجتلدين الروماني (10)، وجمّل أورشليم بمبانٍ أخرى على طراز معماري بدا للشعب أنه طراز أجنبي، وأقام في الأماكن العامة تماثيل يونانية أثارت دهشة اليهود وغضبهم بعريها كما أثار غضبهم عري المصارعين في الألعاب الرياضية. وقد شاد لنفسه قصراً أقامه بلا ريب على الطراز اليوناني وملأه بالذهب والرخام والأثاث الفخم الثمين، وأحاطه بحدائق واسعة محتذياً في ذلك حذو أصدقائه الرومان. وقد صدم مشاعر الشعب بقوله إن الهيكل الذي شاده زرب بابل منذ خمسة قرون كان ضيقاً، وإنه يعتزم أن يهدمه ويقيم في مكانه هيكلاً أوسع منه. ولم يبالِ باحتجاج الأهلين ومخاوفهم، وحقق رغبته بأن أقام المعبد الفخم الذي دمّره تيتس فيما بعد.
وقد سوى على جبل موريا أرضاً تقرب مساحتها من سبعمائة وخمسين قدماً مربعة، وأقام على أطرافها أروقة ذات سقف من خشب الأرز "ذات نقوش عجيبة" تعتمد على صفوف متعددة من العُمَد الكورنثية، كل عمود من كتلة واحدة من الحجر تبلغ من الضخامة حداً يصعب منعه على ثلاثة رجال أن يطوقوها بأذرعهم. وكان في هذا البهو الرئيسي مظلات للصرافين، الذين يُبدلون نقود الأجانب بالنقود التي تُقبل في الهيكل. وكان فيها أيضاً المرابط التي يستطيع الإنسان أن يشتري منها ما يريد أن يقرّبه من الحيوانات، والغرف أو الأروقة التي يجتمع فيها الطلاب لتعلّم اللغة العبرية والشريعة، والمتسولون الصاخبون الذين لا مفر من وجودهم في كل مكان. ومن هذا "الهيكل الخارجي" يصعد بمجموعة من الدرج إلى فضاء داخلي مسوّر يحرم على غير اليهود أن يدخلوه. وكان
في هذا الفضاء "بهو النساء" يأوى إليه الطاهرون من الرجال مع نسائهم (11). ومن هذا الحرم الثاني يصعد العابد على مجموعة أخرى من الدرج ويمر خلال أبواب مصفّحة بالفضة والذهب إلى "بهو الكهنة" حيث يقوم في الهواء الطلق المذبح الذي تُقرّب فيه المُحرَقات إلى يهوه. وتلي هذه درج أخرى يمر الصاعد فوقها خلال أبواب من البرنز يبلغ ارتفاعها خمساً وسبعين قدماً واتساعها وأربعاً وعشرين، تعلوها كرمة ذهبية ذائعة الصيت، وتؤدي إلى بناء الهيكل الرئيسي الذي لا تفتح أبوابه إلا للكهنة وحدهم. وقد شُيّد هذا البناء كله من الرخام الأبيض على هيئة طباق تتدرج في الصغر كلما علت، وصفحة واجهته بالذهب، وقسم داخله قسمين يفصلهما ستار مزركش يمتد في عرض فراغه، فيه من الألوان الأزرق والأرجواني والقرمزي. وأمام هذا الستار كانت الماثلة
(1)
الذهبية ذات الفروع السبعة، ومذبح البخور والمائدة وعليها "خبز التقدمة" غير المختمر الذي يقدمه الكهنة ليهوه ومن خلف الستار قدس الأقداس. وكان الهيكل القديم يحتوي على مبخرة ذهبية وعلى تابوت العهد، ولكن هذا التابوت لم يكن يحتوي على "شيء قط" كما يقول يوسفوس. ولم تكن قدم الإنسان تطأ هذا المكان إلا مرة واحدة في العام وذلك في اليوم الكفارة حين يدخله الكاهن الأكبر وحده. وقد استغرق بناء الأجزاء الرئيسية من هذا الصرح التاريخي ثمانية أعوام. أما أعمال نقشه وتزيينه فقد ظلت قائمة ثمانين عاماً، ولم تتم إلا قبيل مجيء فيالق تيتس (12).
وكان الناس يفخرون بهذا الهيكل العظيم الذي كان يعد من عجائب العالم عهد أغسطس، وكادوا لعظمته وبهائه يتجاوزون عن وجود عمده الكورنثية القائمة عند أبوابه، وعن النسر الذهبي الذي يتحدى عقيدة اليهود
(1)
الماثلة منارة المسرحية وقد استعرناها للشعدان. (المترجم)
في تحريم الصور المنحوتة، والذي كان يرمز عند مدخل الهيكل لروما عدوة اليهودية وسيدتها. وكاد اليهود العائدون إلى مدائن فلسطين ينقلون أنباء العمائر اليونانية الخالصة التي كان هيرود يحدد بها تلك المدائن، وكيف ينفق أموال الأمة والذهب (كما تقول الشائعات) الذي كان مخبوءاً في قبر داود (13) في إنشاء مرفأ عظيم عند قيصرية، وفي إهدائه بسخاء للمُدن الأجنبية أمثال دمشق، وببلوس، وبيروت، وصور، وصيدا، وإنطاكية، ورودس، وبرجموم، وإسبارطة، وأثينة. واتضح لهم أن هيرود يريد أن يكون معبود العالم اليوناني لا ملك فحسب، ولكن اليهود كانوا يعيشون بدينهم، وبإيمانهم بأن يهوه سينقذهم من الرق والظلم في يوم من الأيام؛ ومن أجل هذا كان انتصار الروح الهلنية على الروح العبرانية في شخص حاكمهم نذيراً لهم بكارثة مدلهمة لا تقل عما حل بهم من الاضطهاد على يد أنتيخس. ولذلك أخذوا يحيكون المؤامرات لقتل هيرود، وكشف هو هذه المؤامرات وقبض على المشتركين فيها وعذّبهم وقتلهم، ولم يكتفِ بقتلهم وحدهم بل قتل أسرهم كلها في بعض الأحيان (14). وأطلق عيونه بين الشعب وتخفى ليتجسس بنفسه على رعاياه، وكان يعاقبهم على كل كلمة تشتم منها رائحة العداة له (15).
واستطاع أن يرد كيد أعدائه في نحورهم عدا كيد أزواجه وأبنائه. وكان له من الأزواج عشرة اجتمعت منهن تسع في وقت واحد، أما الأبناء فكان له منهم أربعون. وكانت مريمنى Mariamne زوجته الثانية حفيدة هركانس الثاني وأخت أرستبولس اللذين قتلهما هيرود. ويصفها يوسفوس بأنها امرأة عفيفة، ولكنها فظة بعض الفظاظة بغريزتها، تعامل زوجها بغطرسة وكبرياء لأنها رأته مغرماً بها غراماً يخضعه لها كأنه مُلكَ يمينها
…
وكانت فضلاً عن فظاظتها تشهّر بأمه وأخته علناً، لأنهما من أصلٍ حقير. وتستطيل في عرضهما إلى حد "امتلأت معه القلوب" في بيت الملك "بغضاً وحقداً". واستطاعت أخت
هيرود أن تقنعه بأن مريمنى تأمر به لتدس له السم، فوجه هذه التهمة لزوجته أمام أعضاء المحكمة، فحكموا عليها بالإعدام ونُفّذ فيها الحكم. غير أن هيرود كان يرتاب في جريمتها، فجنّ جنونه في فرط الندم فترة من الزمان، وأخذ يردد اسمها جهرة، ويرسل خدمها ليستدعوها، واعتزل المناصب العامة، وآوى إلى الصحراء "يعذّب فيها نفسه أشد العذاب" حتى جيء به إلى قصره محموماً شارد العقل. واشتركت أم مريمنى مع جماعة آخرين في مؤامرة ترمي إلى خلعة، ولكنه استرد قواه العقلية وعرشه فجاءة، وأعدم المتآمرين. وبعد قليل من ذلك الوقت قدم له أنتباتر ابنه من زوجته الأولى أدلة تثبت وجود مؤامرة دبرها ولداه من مريمنى الاسكندر وأرستبولس، فعرض الأمر على مجلس مؤلف من مائة وخمسين رجلاً حكموا على الشابين بالإعدام (6 ق. م). ولم يمضِ على ذلك عامان حتى اتهم نيقولاس الدشقي أنتباتر نفسه بأنه يتآمر على انتزاع العرش من أبيه. وأمر هيرود بابنه فجيء به إليه. "وأخذ يبكي ويذكر ما لقيه من النكبات على يد أبنائه"(16) وطاف بقلبه طائف الرحمة ساعة من الزمان أمر فيها بسجن ولده.
وكانت قوى الملك الشيخ في هذه الأثناء تنهار بأثير الحزن والمرض؛ فقد أصيب بداء الاستسقاء؛ والقروح، والحمى، والتشنج، والنفس الكريه الرائحة. وحاول أن يقتل نفسه بعد أن أحبط من المؤامرات لاغتياله، ولكنه منع تنفيذ قصده. ولما سمع أن أنتباتر يحاول إرشاء حراسه ليطلقوا سراحه أمر هيرود بقتله، ولم تمضِ على ذلك إلا خمسة أيام حتى مات هيرود نفسه (3 ق. م) في التاسعة والستين من عمره مكروهاً من جميع شعبه. ويقول أعدائه عنه إنه "تسلل إلى العرش تسلل الثعلب، وحكم حكم النمر، ومات ميتة الكلب".
الفصل الرابع
الشريعة وأنبياؤها
أوصى هيرود قبل وفاته أن تقسم مملكته بين أبنائه الثلاثة الباقين أحياء. فحكم فيليب الإقليم الشرقي المعروف باسم بنتانيا Bantanea، الذي يحتوي على مدائن بيت سيده، وكبتولياس، وجراسا، وفلدلفية، وبصرى. وحكم هيرود أنتيباس بيريا Peraea (الأرض الواقعة وراء نهر الأردن)، والجليل في الشمال حيث توجد أزدريلا، وطبرية، والناصرة. وكان نصيب أركلوس سمريتس، وغيدوميا، ويهوذا. وكان في هذا القسم الأخير كثير من المُدن والبلدان الشهيرة أمثال بيت لحم، وحيرون، وبير سبع، وغزّة، وجدارا، وإموس، ويمنيا، ويافا، وقيصرية، وأريحة، وأورشليم. وكانت بعض المُدن الفلسطينية تغلب عليها الصبغة اليونانية، وبعضها تغلب عليه الصبغى السورية، وبدل وجود الخنازير في جدارا على وجود غير اليهود فيها. وكان الوثنيون هم الكثرة الغالية في المُدن الساحلية ما عدا يافا، ويمنيا في "المدن العشر" القائمة على شاطئ نهر الأردن، أما في الداخل فيكاد السكان أن يكونوا كلهم من اليهود. وكان هذا الانقسام العنصري، غير المحبب إلى روما، مأساة فلسطين. وإذا أردنا أن نفهم سبب اشمئزاز اليهود الصالحين من شرك المجتمع الوثني وما كان يسوده من فساد خلقي فعلينا أن نرجع إلى زمن المتطهّرين المتزمّتين في إنكلترا. لقد كان الدين عند اليهود مصدر شريعتهم، ودولتهم، وآمالهم؛ وكانوا يظنون إنهم إذا رضوا أن يذوب هذا الدين في نهر الهلنية الجارف كان هذا بمثابة انتحار لقوميتهم؛ ومن ثم نشأت تلك البغضاء بين اليهود وغير اليهود حتى جعلت تلك الأمّة الصغيرة تقضي حياتها كلها في نزاع عصري واضطراب سياسي،
وحروب متقطّعة، تخبو نارها كلها تارة ثم تعود فتلتهب من جديد. يُضاف إلى هذا أن يهود يهوذا كانوا يحتقرون أهل الجليل ويصفونهم بالمروق من الدين، بينما كان أهل الجليل يحتقرون أهل يهوذا ويصفونهم بأنهم أرقّاء وقعوا في شراك أهل الشريعة. هذا إلى ما كان هناك من نزاع لا ينقطع بين أهل يهوذا والسامريين لأن هؤلاء يدعون أن يهوه لم يختر صهيون موطناً له بل اختار موطنه تل جرزين الواقع في بلادهم، وإلى رفضهم جميع أسفار الكتاب المقدّس ما عدا أسفار موسى الخمسة (15). وكان الذي يجمع بين هذه الأحزاب كلها هو كراهيتها لسيطرة الرومان، التي كانت تتقاضى من البلاد ثمناً باهظاً نظير ميزة السلم غير المحببة إليهم.
وكان يسكن فلسطين وقتئذ نحو مليونين ونصف مليون من الأنفس يقيم منهم في أورشليم وحدها نحو مائة ألف (19). وكان معظمهم يتكلمون اللغة الآرامية وكان كهنتهم وعلمائهم يفهمون العبرية؛ أما الموظفون والأجانب ومعظم المؤلّفين فكانوا يستعملون اللغة اليونانية. وكان معظم السكان يشتغلون بالزراعة، يحرثون الأرض ويسقون الزرع، ويعنون بالحدائق والكروم، ويرعون الضأن. وكانت فلسطين في حياة المسيح تنتج من القمح ما يكفي أهلها وتبقى منه فضلة تصدر منها إلى الخارج (20). وكان بلحها، وتينها، وعنبها، وزيتونها، ونبيذها، وزيتها غالية الثمن يبتاعها الناس في جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط؛ وكان أهلها لا يزالون يعملون بالأمر القديم الذي يحتّم عليهم أن يتركوا الأرض بوراً في السنة السبتيّة
(1)
. وكانت الصناعات اليدوية وراثية في أغلب الأحيان، وكان الصنّاع ينتظمون عادة في طوائف. وكان اليهود يعظّمون العامل وكان معظم العلماء يعملون بأيديهم كما يعملون بألسنتهم. وكان الأرقاء أقل عدداً منهم في أي بلد آخر من بلدان البحر الأبيض المتوسط. وازدهرت التجارة الصغرى في البلاد، ولكن عدد التجار اليهود ذوي الثراء والتجارة الواسعة كان لا يزال قليلاً فيها.
(1)
أي السنة السابعة التي تُترَك فيها الأرض للراحة. (المترجم)
وفي ذلك يقول يوسفوس: "لسنا أمّة تجارية؛ فنحن نعيش في بلد (بلاد اليهود الشرقية) عديم السواحل، ولا نميل إلى الاشتغال بالتجارة (الخارجية") (22). وظلت الأعمال المالية ضيقة النطاق حتى ألغي هلل Hillel القانون الوارد في سفر تثنية الإشتراع (الاصحاح الخامس عشر 1 - 11) والذي يطلب فيه إلغاء الديون مرة كل سبع سنين، وكان الهيكل نفسه مصرفهم القومي.
وكان في داخل الهيكل بهو الجازيث، ملتقى السنهدرين أو المجلس الأعظم المكون من كبراء إسرائيل. وأكبر الظن أن هذا المجلس قد نشأ في أثناء حكم السلوقيين (حوالي عام 200 ق. م) ليحل محل المجلس الأول الوارد ذكره في سفر العدد (الآية السادسة عشرة من الاصحاح الحادي عشر) والذي يسدى فيه النصح لموسى. وكان الحاخام الأعظم هو الذي يختار في بداية الأمر أعضاء المجلس من بين طبقة الأشراف الكهنوت، ثم أصبح من حقه في عهد الرومان أن يختار أعضاؤه لعضويته عدداً متزايداً من الفريسيين، وعدداً قليلاً من فقهاء الشريعة الموسوية المحترفين (23). وكان أعضاؤه البالغ عددهم واحداً وسبعين عضواً يُدعون أنهم أصحاب السلطة العليا على جميع اليهود أياً كان موطنهم، وكان اليهود المستمسكون بدينهم في كل مكان على الأرض يعترفون لهم بهذه السلطة؛ أما الهسمونيين؛ وهيرود، وروما فلم يكونوا يعترفون لهم إلا بسلطانهم على من يخرج على الشريعة اليهودية من يهود بلادهم الأصلية، فقد كان في وسعهم أن يحكموا بالإعدام على من فيها من اليهود إذا ارتكبوا جريمة دينية، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون تنفيذ الحكم إلا إذا وافقت عليه السلطة المدنية (24).
وكان في الجمعية حزبان يتنازعان السيطرة عليها، كما يتنازعان السيطرة على معظم الجمعيات الأخرى، أحدهما حزب المحافظين الذين يتزعمهم كبار الكهنة والصدوقيون
(1)
، والذين سموا بهذا الاسم نسبة إلى صدوق مؤسس هذه الطائفة
(1)
شيعة من اليهود الأرستقراط المتشككة عاشت في أيام العهد الجديد لا تعتقد بالبعث ولا بالدار الآخرة. (المترجم)
وكان أعضاؤه وطنيين في مبادئهم السياسية، مستمسكين بدينهم، ينادون بفرض التوراة أو الشريعة المكتوبة على الأمّة اليهودية، ولكنهم كانوا يرفضون ما عدا هذا من العقائد أمثال الأحاديث والقصص الشفوية التي يتناقلها رجال الدين، والتفاسير الطليقة التي يقول بها الفريسيون. وكانوا يرتابون في خلود الروح، ويقنعون بامتلاك طيبات هذا العالم.
وكان الصدوقيون هم الذين سموا الفريسيين بهذا الاسم (البروشم أي الانفصاليين)، ويقصدون بهذه التسمية أنهم قد فصلوا أنفسهم (كما انفصل البراهمة الصالحون) عن الذين تدنسوا بإهمال ما تفرضه عليهم طقوس التطهير (25) وكانوا هم حلفاء الكسديم أو نسّاك العصر المكابي الذين كانوا ينادون بوجوب التزام قواعد الشريعة الموسوية إلى أبعد الحدود. وقد عرّفهم يوسفوس، وهو منهم، بأنهم "شيعة من اليهود يجهرون بأنهم أكثر استمساكاً بالدين من سائر أبناء ملّتهم، وبأنهم أدق من غيرهم في تفسير شرائعهم"(26). ولكي يصلوا إلى ما يبغونه من هذا التفسير الدقيق أضافوا إلى أسفار موسى الخمسة المكتوبة الأحاديث والروايات الشفوية المشتملة على التفسيرات والأحكام التي وردت على ألسنة معلمي الشريعة المعترف بهم. ويرى الفريسيون أن هذه التفاسير ضرورية لإزالة ما في قوانين موسى من غموض، ولبيان طريقة تطبيقها على الحالات الفردية، ولتعديل حرفيتها في بعض الأحيان حسب ضروريات الحياة وظروفها الدائمة التغير.
وقد جمع هؤلاء الناس بين الصرامة واللين، فكانوا يخففون من صرامة الشريعة في بعض المواضع كما فعلوا في أوامر هلل الخاصة بالربا، ولكنهم كانوا يحتّمون على الناس أن يتقيّدوا بالروايات الشفوية كما يتقيّدون بالتوراة المنزّلة نفسها. ذلك أنهم كانوا يحسون بأن لا نجاة لليهود من انقراضهم وامتصاص الشعوب الأخرى لهم إلا بإطاعة هذه الأوامر المطوّرة والمتواترة. وإذ كان
الفريسيون قد ارتضوا أن يخضعوا لسلطان الرومان فقد كانوا يطلبون السلوى فيما يأملونه من الخلود الجثماني والروحي. وكانوا يحيون حياة بسيطة، يبتعدون فيها عن الترف وينددون به، ويكثرون من الصوم، ويعنون بالاغتسال، ويتباهون من حين إلى حين باستمساكهم بالفضيلة مباهاة تضايق السامعين. ولكنهم كانوا يمثلون قوة اليهود الأخلاقية، وقد نالوا تأييد الطبقات الوسطى، وغرسوا في نفوس أتباعهم إيماناً وأحكاماً أنقذتهم من الانحلال والتضعضع حين ألمّت بهم المصائب. ولما أن خرب الهيكل (70 م) فقد الكهنة نفوذهم، وأصبح الفريسيون عن طريق الأحبار هم المعلمين والرعاة لذلك الشعب الذي تشتت في بقاع الأرض ولكنه لم تحق به الهزيمة.
وكانت أكثر شيع اليهود تطرفاً شيعة الإسينية التي أخذت تقواها عن الكسديمية، وأكبر الظن أن اسمها مشتق من اللفظ الكلدي أسشاي Aschai (المستحم)، وأن أعضاءها أخذوا عقائدهم وعباداتهم من نظريات الزهّاد ونظمهم التي كانت منتشرة في العالم في القرن الأول قبل المسيح. ولعلهم قد تأثروا أيضاً بآراء البراهمة، والبوذيين، والمجوس عبدة النار، والفيثاغوريين، والكلبيين، وهي جاءت إلى أورشليم ملتقى الطرق التجارية في غرب آسية. وكان عددهم في فلسطين يبلغ أربعة آلاف، وقد نظموا أنفسهم في هيئة مستقلة عن غيرها، وكانوا يستمسكون أشد الاستمساك بالشريعة المكتوبة وغير المكتوبة ويعيشون معاً عيشة العزّاب الزاهدين، يزرعون الأرض في واحة إنجادي Engadi وسط الصحراء الواقعة غرب الميّت. وكانوا يسكنون منازل تمتلكها الجماعة التي ينتسبون إليها، ويطعمون مجتمعين وهم صامتون، وينتخبون زعماءهم بالاقتراع العام؛ ويخلطون متاعهم ومكاسبهم في بيت مال مشترك، ويعملون بالشعار:"مالي ومالك ملك لك"(27).
ويقول يوسفوس إن حياة الكثيرين منهم كانت تطول أكثر من مائة عام،
بفضل طعامهم البسيط، وحياتهم المنتظمة (28). وكان الرجل يلبس ثياباً من نسيج التيل الأبيض، ويحمل معه فأساً صغيرة ليغطي بها فضلاته، ويغتسل بعدها كما يغتسل البراهمة، ويرى أن التبرّز في يوم السبت من أعظم الكبائر (29).
وكانت قلة منهم تتزوج وتعيش في المُدن العامرة، ولكنهم كانوا يسيرون على القاعدة التي وضعها تولستوي وهي أنهم لا يضاجعون أزواجهم إلا بقصد إنجاب الأطفال. وكان أعضاء هذه الشيعة يبتعدون عن جميع الملذات الجسمية، ويسعون إلى الاتصال الصوفي بالله عن طريق التأمل والصلاة. وكانوا يأملون أن ينالوا بتقوى الله وبصيامهم واستغراقهم في التأمل والتفكير علم الغيب وقوة السحر. وكانوا كمعظم معاصريهم يؤمنون بالملائكة، والشياطين، ويعتقدون أن المرض ناشئ من تسلّط الأرواح الخبيثة على الآدميين، فكانوا لذلك يحاولون طرد هذه الأرواح بالتعاويذ السحرية. ومن "عقيدتهم السرية" جاءت بعض "أجزاء القبلة"
(1)
. وكانوا ينتظرون نزول المسيح لينشئ على الأرض مملكة شيوعية سماوية (ملسوس شمايم) يتمتع الناس كلهم فيها بالمساواة، ولا يدخلها إلا من كانت حياته تقية طاهرة (31). وكانوا شديدي التحمّس في الدعوة إلى السلام، يأبون أن يصنعوا شيئاً من أدوات الحرب؛ غير أنهم انضموا إلى غيرهم من الشيَع اليهودية في الدفاع عن مدينتهم وهيكلها حين هاجمت فيالق تيتس بيت المقدس والهيكل، وظلوا يقاتلون حتى لم يكد يبقى منهم أحد. وإذا ما قرأنا وصف يوسفوس لعاداتهم وآلامهم وجدنا أننا قد دخلنا في جو المسيحية:
"ومع أنهم قد عُذبوا، وحُرقوا، وقُطّعت أجسامهم، ولاقوا جميع ألوان العذاب لكي يُرغَموا على التجديف في حق صاحب شريعتهم، أو أكل ما نهوا عن أكله، فإنهم أبوا أن يفعلوا هذا أو ذاك؛ أو أن
(1)
تعليم تصوفي عند اليهود.
يتملّقوا معذّبهم، أو تنحدر من أعينهم دمعة واحدة، بل إنهم كانوا يتبسّمون وسط آلامهم المبرحة، ويضحكون ساخرين ممن يعذبونهم، ويجودون بأرواحهم وهم مبتهجون، كأنهم يتوقعون أن تعود لهم هذه الأرواح مرة أخرى" (32).
أولئك هم الصدوقيون، الفريسيون، والإسينيون، أشهر الشيع الدينية اليهودية في الجيل السابق لميلاد المسيح. أما الحكمون (Scribes) الذين يضمهم يسوع إلى الفريسيين في كثير من الأحيان فلم يكونوا شيعة من شيع اليهود بل كانوا أبناء مهنة خاصة؛ كانوا علماء متفقّهين في الشريعة، يحاضرون فيها في البيَع، ويعلمونها في المدارس، ويناقشونها في المجتمعات العامة والخاصة، ويطبقونها على الأحكام في القضايا المختلفة. وكان عدد قليل منهم أحباراً، وبعضهم صدوقيين، وكثرتهم فريسيين. وكانوا في القرنين السابقين لهلل كما كان الأحبار من بعده. كانوا هم فقهاء القانون في بلاد اليهود، وقد صارت فتاواهم القانونية، التي صفاها الزمان، وتداولتها الألسن، وانتقلت بالسمع من المعلم إلى التلميذ، صارت هذه الفتاوى جزءاً من الأحاديث الشفوية التي كان يعظمها الفريسيون كما يعظمون الشريعة المكتوبة، وبفضل ما كان لهم من نفوذ وسلطان نمت شرائع موسى حتى ضمت آلافاً من التعاليم المفصلة التي تواجه كل ظروف الحياة وأحوالها.
وأقدم شخصية واضحة معروفة بين معلمي القانون من غير رجال الدين هي شخصية هلل، وحتى هذه الشخصية الواضحة تكاد تخفي معالمها في ذلك النسيج الواهي من الخرافات التي حاكها حول اسمه الخلف المفتتن به. ويقول مؤرخوه انه ولد في مدينة بابل (75 ق. م) من أسرة كريمة معروفة أخنى عليها الدهر. ثم جاء إلى أورشليم بعد أن اكتملت رجولته، وأخذ يعول زوجته وأبناءه بالعمل اليدوي. وكان يؤدي نصف أجره اليومي ثمناً لقبوله في المدرسة التي كان فيها أستاذان شهيران هما شمايا وأبتوليم يشرحان الشريعة. وعجز يوماً من الأيام
عن أداء هذا الأجر، فلم يُسمح له بالدخول، فتسلق العتبة السفلى لإحدى النوافذ "لكي يستمع إلى ألفاظ الإله الحي". وتقول القصة إن جسمه تجمّد من شدة البرد، فسقط فوق الثلج، وعُثر عليه في صباح اليوم الثاني وهو بين الحياة والموت (33). وصار هو فيما بعد حرّاً محترماً، اشتهر بتواضعه، وجَلَده، ودماثة أخلاقه. وتقول إحدى القصص إن بعض الناس راهن على أن يُغضب هلل وإنه خسر الرهان (34). وقد وضع ثلاث قواعد ليهتدي بها الناس في حياتهم: حُب الناس، وحُب السلم، وحُب الشريعة ومعرفتها. وسأله رجل يريد أن يهتدي أن يفسّر الشريعة فيما لا يزيد من الزمن على الوقت الذي يستطيع أن يقف فيه على قدم واحدة، فأجابه بقوله:"لا تفعل مع غيرك ما تكرهه لنفسك"
(1)
. وكان هذا القول صورة سلبية حذرة من تلك القاعدة الذهبية التي صاغها اللاويون في صيغتها الموجبة من زمن بعيد.
ومن تعاليم هلل الأخرى قوله: "لا تحكم على جارك حتى تكون أنت في مكانه"(37). وقد حاول أن يهدئ ثائرة الشيع المتنازعة بوضعه سبع قواعد لتفسير الشريعة. وكانت تفسيراته هي نفسها قائمة على الحرية والتسامح، وأهم ما فيها أنه يسّرَ إقراض المال، والحصول على الطلاق. وكان هو نفسه ناشراً للسلام مصلحاً.
وكان من نصائحه للشبان الثائرين في عصره: "لا تخرجوا على الجماعة". وقد قبل هيرود على أنه شرٌّ لابد منه، وعين في عهده رئيساً للسنهدرين (30 ق. م) وأحبّته الأغلبية الفريسية حباً أبقاه رئيساً للمجلس الكبير إلى
(1)
ويُضيف التلمود إلى إجابة هلل، العبارة الآتية:((هذه هي الشريعة كلها، وكل ما عدا ذلك شرح وتطبيق عليها)).
يوم وفاته (10 م). ثم جعل هذا المنصب من بعده وراثياً في أسرته مدى أربعمائة عام تعظيماً لذكراه.
وخصّ المجلس مكان الشرف الثاني فيه لمنافس هلل، وهو الحبر شماي المحافظ. وكان يفسّر الشريعة تفسيراً أدق وأضيق من تفسير هلل، ولا يجيز الطلاق، ويُطالب بتطبيق التوراة تطبيقاً حرفياً، لا يراعي فيه تغيير الظروف. وكان انقسام المعلمين اليهود إلى محافظين وأحرار قائماً قبل هلل بمائة عام وظل قائماً حتى خرب الهيكل.
الفصل الخامس
الأمل الأكبر
تكاد الآداب اليهودية التي وصلت إلينا من ذلك العصر تكون كلها آداباً دينية. ذلك أنه قد بدا لليهودي المتمسّك بدينه أن من الخطأ أن يكتب في الفلسفة أو الأدب إلا إذا كان الغرض النهائي من هذه الكتابة أن يحمد الله ويُمجّد الشريعة؛ كما كان يبدو له أن صنع التماثيل للإله إثم كبير وأن تزيين الهياكل بالفنون التشكيلية امتهان لها وانتهاك لحرمتها. ولا حاجة إلى القول بأن هناك بعض حالات استثنيت من هذا التحريم قد تكون قصة سوزانة الطريفة مثلاً لها. وخلاصة هذه القصة أن كبيرَين تنقصهما المعرفة التامة اتهمها زوراً فتاة يهودية جميلة بسوء السيرة، وأنها برئت بفضل براعة شاب يدعى دانيال في مناقشة الشهود، وقد وجدت هذه القصة طريقها إلى بعض طبعات سفر دانيال.
وقد يكون سفر يشوع بن سيراخ الذي نسميه سفر الحكمة مما كتب في ذلك العهد المتأخر، وهو واحد من أسفار كثيرة تسمى الأبوكريفا - أي "الخفية" أو غير الموثوق بها والتي لا يعترف اليهود بها ضمن أسفار العهد القديم المنزلة. وهي ملآى بالجمال والحكمة، ومن أجل هذا فهي غير جديرة بأن تُطرد من صحبة سفر الشريعة وسفر أيوب. ونجد في إصحاحاتها الأربعة والعشرين ما نجده في الإصحاح الثامن من سفر الأمثال عن عقيدة الكلمة المجسّدة:"الرب قناني أول طريقة من قبل أعماله منذ القدم: منذ الأزل مسحت، منذ البدء منذ أوائل الأرض". وبين عامي 130 ق. م، 40 م نشر يهودي إسكندري - أو عدد من اليهود الهلنستيين - سفر أمثال سليمان، وهو سفر يحاول، كما حاول فيلو، أن يوفق بين اليهودية والأفلاطونية، ويهيب باليهود الذين ينادون بالاندماج في الثقافة اليونانية
أن يعودوا إلى الشريعة، كل هذا في نثر لا يقل في جزالته وقوّته عن أي نثر آخر منذ عهد اشعيا. وأقل من هذا السفر قوة وجزالة سفر مزامير سليمان (حوالي 50 ق. م)، ويكثر فيه التنبؤ بظهور منقذ لإسرائيل.
ويسري هذا الأمل في النجاة من روما ومن العذاب الدنيوي على يد منقذ إلهي في كل ما كتب في هذا العصر من أدب يهودي إلا القليل النادر منه واتخذ الكثير منه صورة رؤى تهدف إلى إيضاح الماضي والتسامح فيه بعرضه على صورة إعداد لمستقبل مجيد يظهره الله على لسان رسول من عنده. وكان كتاب دانيال الذي كتب في عام 165 ق. م ليشجع إسرائيل على الوقوف في وجه أنتيخس إبفانيس، لا يزال ذائعاً بين اليهود الذين لم يكونوا يعتقدون أن يهوه سيتركهم طويلاً تحت سيطرة الوثنيين. واتخذ كتاب أخنوخ، وهو في أكبر الظن من عمل عدة مؤلفين بين عامي 170، 66 ق. م صورة رؤى نزلت على الأب الأكبر الذي "سار مع الرب" في سفر التكوين (الآية 24 من الإصحاح الخامس) ويقصّ هذا السفر سقوط الشيطان ومن معه، وما أدى إليه ذلك من حلول الشر والألم في حياة البشر، ثم نجاة بني الإنسان على يد المسيح، وحلول مملكة السماء. وحوالي عام 150 ق. م شرع كاتب يهودي بنشر نبوءات سيبيلية صوّر فيها نبيّات تنتصر لليهودية على الوثنية، وتتنبأ بفوز اليهود النهائي على أعدائهم.
والراجح أن فكرة الإله المنقذ قد جاءت إلى غربي آسية من بلاد فارس أو بابل (38). فالتاريخ كله والحياة كلها قد صورا في الديانة الزرادشتية في صورة صراع بين قوى النور المقدسة وقوى الظلمة الشيطانية؛ ثم يأتي في آخر الأمر منقذ - شؤسيانت أو مثراس - ليحكم بين الناس ويقيم حكم العدالة والسلام الدائمين. وكان يبدو للكثيرين من اليهود أن حكم روما جزء من انتصار الشر القصير الأجل، ولهذا كانوا ينددون بما في حضارة "الكفار" من شراهة، وغدر، ووحشية، ووثنية، وما في العالم الأبيقوري من "كفر بالله" وعبادة
الشهوات. وقد جاء في سفر الحكمة أن المنافقين قالوا في أنفسهم مفتكرين إفتكاراً غير مستقيم:
"إن عمرنا هو يسير ومحزن، ووفاة الإنسان ليس شفاء، ولم يعرف قط المحلول من الجحيم، لأننا ولدنا من لا شيء، وبعد هذه نكون كأننا لم نكن لأن النسمة دخان في أنوفنا، والنطق شرارة في تحريك قلوبنا، وإذا أطفأت يصير الجسم رماداً والروح ينسكب كالهواء المبثوث. واسمنا سينسى في الزمان، ولا يذكر أحد أعمالنا، ويزول عمرنا كزوال أثر الغمام، ويضمحل كالضباب الذي بدده شعاع الشمس وتثقله حرارتها، لأن عمرنا ظل عابر وليس لأجلنا إبطاء لأنه أمر محتوم ولن يردّه أحد. فهلمّ إذا نتمتع بالخيرات الموجودة، ونستعمل الملذات في البرية ما دام زمان الشبوبية، فنمتلئ من الخمر الفائقة والطيوب، ولا يفوتنا نسيم زهر الربيع. نتكلل بفقاح الورد قبل ذبوله، ولا يكون مرج إلا يجوز عليه تنعمنا"(39).
ويقول صاحب هذا السفر إن ثلاثة من الأبيقوريين يدلون بحجج باطلة. وإنهم يربطون عربتهم بنجم ساقط لأن اللذة شيء باطل زائل:
"لأن رجاء المنافق كغبار تحمله الرياح، وكرغوة رقيقة تقدها الزوبعة، وكدخان ينحل في الرياح، وكذكر ضيف مكث يوماً واحداً وإرتحل. أما الصدوقيون فيحيون إلى الدهر، وعند الرب ثوابهم، وعند العلى اهتمامهم. فلهذا يتقلّدون مملكة البهاء وتاج الكمال من يد الرب"(40).
وسيقضىعلى هذا الشر والإثم - كما تقول أسفار الرؤيا- إما بتدخل الله نفسه، أو بإرساله إلى الأرض ابنه أو ممثله المسيح
(1)
. أولم يُنبئ به النبي إشعيا
(1)
وقد وردت كلمة مسيح (وهي بالعبرية محسيح) في كثير من المواضع من العهد القديم. وترجمها اليهود الذين كتبوا الترجمة اليونانية السبعينية للتوراة (حوالي 28 ق. م) باللفظ اليوناني Christos أي الذي صب عليه الزيت المقدس أو مُسِحَ به.
قبل ذلك العهد بمائة عام إذ يقول: "لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام"(41).
وكان كثيرون من اليهود يتفقون مع إشعيا (11: 1) فيما وُصِف به المسيح بأنه ملك دنيوي يولد من بيت داود الملكي؛ ومنهم من يسمونه بإسم إبن الإنسان كأخنوخ ودانيال، وصوروه بأنه سينزل من السماء. أما الفيلسوف صاحب سفر الأمثال والشاعر صاحب حكمة سليمان (42) فلعلهما قد تأثرا بأفكار أفلاطون أو بروح الأرض التي يقول بها الرواقيون فتصوروه الحكمة مجسدة التي هي أول شيء "قناها الرب"، وهي الكلمة أو العقل (Logos) التي لن تلبث أن يكون لها شأن عظيم في فلسفة أفلاطون، ويكاد مؤلفو سفر الرؤيا كلهم يجمعون على أن المسيح سينتصر انتصاراً سريعاً، ولكن إشعيا تصوره في فقرة من أروع فقراته بأنه: محتقَرٌ ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن
…
لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمّلها
…
وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا
…
وبجبره شفينا
…
والرب وضع عليه إثم جميعنا
…
من الضغطة ومن الدينونة أخذ وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء
…
وهو حملَ خطيئة كثيرين وشفع في المذنبين" (43).
بيد أنهم جميعاً متفقون على أن المسيح سيُخضِعْ الكفار في آخر الأمر، ويحرر إسرائيل (44) ويتخذ أورشليم عاصمة له، ويضم إليه الناس جميعاً ليؤمنوا بيهوه والشريعة الموسوية (45). ويسود بعد ذلك "عصر طيب" تسعد به الدنيا بأجمعها فتكون الأرض كلها خصبة، وتحمل كل حبة قدر ما كانت تحمله ألف مرة، ويصير الخمر موفوراً، ويزول الفقر، ويصبح الناس كلهم أصحاء، مستمسكين بالفضيلة، وتسود العدالة والصداقة والسلام في الأرض (46).
وكان بعض الناس يظنون أن هذا العهد الصالح ستتخلله عهود غير صالحة
وأن قوى الظلمة والشر ستبذل جهدها الأخير للهجوم على هذه المملكة السعيدة، وأن العالم سيحترق في الفوضى واللهب؛ وسيقوم الموتى في "يوم الدينونة الأخير" ليحاسَبوا أمام "قديم الأيام"(يهوه) أو أمام "إبن الإنسان"، وسيكون له السلطان المطلق الأبدي على العالم بعد أن تجدد وصلح، أي على مملكة الله؛ وسيُلقى الأشرار وهم صامتون "في الجحيم"، أما الأخيار فسيُستقبلون في دار النعيم الأبدي.
ولقد كانت الحركة الفكرية في بلاد اليهود في جوهرها مماثلة للحركة الفكرية الدينية الوثنية المعاصرة لها: شعبٌ كان فيما مضى إذا فكر في المستقبل يحصر تفكيره فيما سوف يؤول إليه مصيره القومي، ثم فقد الآن ثقته بالدولة التي ينتمي إليها، وأخذ يفكر في النجاة الروحية الفردية. وكان الدين ذو الطقوس الخفية الغامضة قد بعث هذا الأمل في صدور الآلاف المؤلفة من اليونان، وفي بلاد الشرق الهلنستي وإيطاليا؛ ولكن هذا الأمل أو الحاجة إليه لم يكونا في بلد من البلاد أقوى مما كان في بلاد اليهود. فلقد كان الفقراء أو المحرومون، والمظلومون أو المُحتقَرون في هذه الأرض يتطلعون إلى أن يُرسل لهم الله من ينجيهم ويرفع عنهم نير الذل والعذاب. وتقول أسفار الرؤيا إن هذا المنقذ لن يطول غيابه وإنه حين ينتصر سيرتفع إلى الجنة كل العادلين، حتى من كان منهم في القبور، ليتمتعوا فيها بالنعيم السرمدي، وكان القديسون الشيوخ، أمثال شمعون، وكانت النساء المتصوفات أمثال أنا إبنة فانيول يقضون حياتهم حول المعبد، صائمين يترقبون، ويصلون، ويتضرعون لعلهم يرون هذا المنقذ قبل وفاتهم. وكان هذا الترقب يملأ قلوب الناس.
الفصل السادس
الثورة
ظل اليهود يكافحون قروناً طويلة، ولما أن مات هيرودس الأعظم نبذ الوطنيون نصائح هلل السلمية وأعلنوا الثورة على خليفته أركلوس وعسكروا في خيام حول المعبد. فقتل جنود أركلوس ثلاثة آلاف، كان كثيرون منهم قد جاءوا إلى أورشليم ليحتفلوا بعيد الفصح (4 ق. م)، لكن الثوار عادوا إلى التجمع في عيد العنصرة وتعرضوا في هذه المرة إلى ما تعرضوا له من قبل من قتل، وحُرقَت أروقة الدير ونهب الجنود ما فيه من الكنوز، واستحوذ اليأس على الكثيرين من اليهود فقتلوا أنفسهم. ثم تألفت عصابات من الوطنيين في الريف وهددوا حياة كل من يؤيد روما، ومن هذه العصابات واحدة تحت قيادة بوداس الجولوني استولت على صفورة عاصمة الجليل. وزحف قارس حاكم سوريا على فلسطين بعشرين ألفاً من رجاله، وهدم مئات من بلدانها، وصلب ألفين من الثوار، وباع ثلاثين ألفاً من اليهود في أسواق الرقيق. وذهب وفد من زعماء اليهود إلى روما وطلب إلى أغسطس أن يلغي الملكية في بلاد اليهود. فاستجاب أغسطس لطلبه وعزل أركلوس وجعل البلاد ولاية رومانية من الدرجة الثانية وعين عليها حاكماً مسئولاً أمام والي سوريا (36).
ونعمت هذه البلاد المضطربة بفترة صغيرة من السلام في عهد تيبيريوس، فلما جلس كلجيولا على العرش أراد أن يجعل عبادة الإمبراطور ديناً يوحد به أجزاء الإمبراطوريّة المختلفة فأمر أن تشمل كل العبادات قرباناً يقرب لصورته وأصدر تعليماته إلى الموظفين في أورشليم أن يضعوا تمثاله في الهيكل.
وكان اليهود في عهد أغسطس وتيبيريوس قد خطوا نصف الطريق إلى
ترضية الأباطرة بأن كانوا يضحون ليهوه باسم الإمبراطور، ولكنهم كانوا ينفرون أشد النفور من وضع تمثال منحوت لرجل وثني في هيكلهم، وبلغ هذا النفور درجة دفعت آلافاً منهم - على حد قول الرواية المأثورة- إلى أن يذهبوا إلى حاكم سوريا ويطلبوا إليه أن يذبحهم وإن لم يرتكبوا ذنباً قبل أن ينفذ هذا المرسوم (49). وحل كلجيولا هذا المشكل بموته. وأقنع أجربا حفيد هيرودس الإمبراطور كلوديوس فعينه ملكاً على فلسطين كلها تقريباً (41)؛ فلما مات أجربا انطلقت الفتنة مرة أخرى من عقالها، وأعاد كلوديوس البلاد إلى ما كانت عليه في عهد أغسطس وعين عليها حاكماً من قبل رومة (44).
وكان معظم الرجال الذين اختارهم معاتيقه ليشغلوا هذا المنصب عاجزين أو سفلة. ومن هؤلاء فليكس الذي عينه أخوه بلاس Pallas والذي "حكم بلاد اليهود" - كما يقول تاستس - "بقوة الملك وروح الرقيق"(50). وكان فستس Festus أعدل من فليكس، ولكنه توفي أثناء هذه المحاولة. وجد ألبينس Albinus - إذا جاز لنا أن نصدق يوسفوس - في النهب وفرض الضرائب، وجمع ثروة طائلة بإطلاق المجرمين من السجون نظير أجر يتقاضاه منهم حتى "لم يبقَ أحد في السجن إلا من لم يتقاضَ منه شيئاً"(51). وسلك فلورس Florus - كما يقول هذا الكتاب صديق الرومان المعجب بهم - مسلك "الجلاّد لا مسلك الحاكم" فنهب مُدناً بأكملها، ولم يكتفِ بأن يسرق هو نفسه، بل تغاضى عن سرقات غيره إذا نال سهماً من الغنيمة. بيد أن هذه الأقوال يُشتَم منها رائحى العداوة الحزبية؛ وما من شك في أن الحكام هُم الآخرون كانوا يشكون من أن اليهود شعب مشاكس ليس من السهل إخضاعه.
وتألفت عصابات من "المتحمسين" و "الفدائيين" ليحتجوا على هذا الفساد. وأقسم أعضاؤها أن يغتالوا كل يهودي خائن، فكانوا يندسون وسط الجماعات في الشوارع ويطعنون ضحاياهم من خلفهم، ثم يختفون
بين الجماهير في الفوضى التي تعقب عملهم هذا (52). ولما أن اغتصب فلورس سبع عشر وزنة (61. 200 ريال أمريكي) من كنوز الهيكل، اجتمع أمامه جمهور غاضب يطلبون عزله؛ وأخذ جماعة من الشبان يطوفون بالمدينة وبأيديهم سلاّت يطلبون الصدقات له لأنه يعاني مرارة الفقر. لكن فيالق فلورس بددت شمل المجتمعين، ونهبت مئات من البيوت، وذبحت ساكنيها، وقبض على زعماء الفتنة، وجُلدوا وصُلبوا. ويقول يوسفوس إن 3. 600 يهودي قتلوا في ذلك اليوم (53). وأخذ شيوخ العبرانيين وأثرياؤهم يدعون الناس إلى الصبر، وحجتهم في هذا أن الثورة على هذه الإمبراطوريّة القوية ليست إلا انتحاراً قومياً؛ أما الشبان والفقراء فكانوا يتهمون هؤلاء بخور العزيمة ومحاباة الظالمين.
وانقسمت المدينة، وانقسمت كل أسرة تقريباً بين هذين الحزبين، فاستولى أحدهما على الجزء الأعلى من أورشليم، واستولى الآخر على جزئها الأدنى، كلاهما يهاجم الآخر بكل ما يصل إلى يده من سلاح. ووصل الأمر في عام 68 إلى نشوب معركة دامية بين الحزبين انتصر فيها المتطرفون وقتلوا 12. 000 يهودي من بينهم الأغنياء كلهم تقريباً (54). وهكذا استحالت الفتنة ثورة. وأحاطت قوة من العصاة بالحامية الرومانية المعسكرة في مسادا Massada، وأقنعتها بأن تلقي سلاحها، ثم قتلت رجالها عن آخرهم. وفي ذلك اليوم نفسه حدثت في قيصرية عاصمة فلسطين مذبحة هائلة ذبِح فيها غير اليهود من السكان عشرين ألفا من اليهود، وبيع آلاف غيرهم بيع الرقيق. وذبح غير اليهود من سكان دمشق عشرة آلاف يهودي في يوم واحد (55). وقام اليهود المختفون بتدمير عدد كبير من المُدن اليونانية في فلسطين وسوريا، وأحرقوا بعضها عن آخرها، وقتلوا عدداً كبيراً من أهلها كما قُتل منهم هم أيضاً كثيرون؛ ويقول يوسفوس في هذا: "وكان من المناظر المألوفة في ذلك الوقت أن نرى المُدن مملوءة بجثث الموتى
…
مُلقاة فيها دون أن تدفن، وأن نشاهد جثث الشيوخ إلى جانب
جثث الأطفال وبينها جثث النساء عارية من كل غطاء" (56). وقبل أن يحل شهر سبتمبر من عام 66 كان الثوار قد استولوا على أورشليم وعلى فلسطين كلها تقريباً؛ وخذل حزب السلم وفقد أنصاره، وانضم معظم أعضائه إلى الثوار.
وكان من بين هؤلاء كاهن يدعى يوسفوس، وكان وقتئذ شاباً في الثلاثين من عمره، ونشيطاً، نابهاً، وُهِبَ من الذكاء ما يستطيع به أن يحيل كل شهوة من شهواته فضيلة. وكلّفه الثوار بتحصين الجليل، فدافع عن حصنها جوتوباتا ضد قوات فسبازيان المحاصرة لها، حتى لم يبق من حاميتها اليهودية على قيد الحياة غير أربعين جندياً اختبئوا معه في كهف من الكهوف. وأراد يوسفوس أن يسلم لجنود فسبازيان، ولكن رجاله أنذروه بالقتل إن حاول التسليم. وإذ كانوا يفضلون الموت على الأسر، فقد أقنعهم بأن يحددوا بطريق القرعة الترتيب الذي يقتل به كل منهم على يد من يليه. ولما ماتوا جميعاً ولم يبق إلا هو وواحد منهم أقنعه بأن ينضم إليه في الاستسلام للعدو. وقبيل أن يرسلا إلى روما مكبلين بالأغلال تنبأ يوسفوس أن فسبازيان سيصبح إمبراطوراً فأطلقه فسبازيان من الأسر، وقرّبه إليه شيئاً فشيئاً وجعله ناصحاً أميناً له في حربه ضد اليهود. ولما سافر فسبازيان إلى الإسكندرية صحب يوسفوس تيتس في حصار أورشليم.
وكان اقتراب الفيالق الرومانية إيذاناً بضم صفوف اليهود وتأليفهم وحدة حانقة متعصبة وإن جاء ذلك بعد فوات الأوان. ويقول تاستس إن 60. 000 من الثوار تجمعوا في المدينة، وإن "كل من يستطيع الانخراط في سلك الجندية قد تسلح ونزل إلى الميدان"، وإن الروح العسكرية في النساء لم تكن أقل منها في الرجال (57). ونادا يوسفوس من بين صفوف الرومان أهل المدينة المحاصرين إلى الاستسلام، ولكنهم اتهموه بالخيانة، وحاربوا إلى آخر رجل
فيهم. وحاول اليهود بعد أن نفدت مئونتهم اختراق الصفوف للحصول على الطعام، فأسر الرومان آلافاً منهم وصلبوهم، ويقول يوسفوس إن "هؤلاء بلغوا من الكثرة حداً لم تتسع معه الأرض لإقامة الصلبان، ولم يوجد من الصلبان ما يكفي لأجسامهم". وازدحمت شوارع المدينة بجثث الموتى في المراحل الأخيرة من الحصار الذي دام خمسة أشهر. وكانت جماعات من النهابين تطوف بالموتى وتقطع أجسامهم وتنهب مالهم، ويُقال إن 116. 000 جثة ألقيت من فوق أسوار المدينة، وإن بعض اليهود بلعوا قطعاً من الذهب وخرجوا خلسة من أورشليم، وإن الرومان أو السوريين الذين قبضوا عليهم شقوا بطونهم أو بحثوا في برازهم ليحصلوا على ما ابتلعوه من الذهب (58). ولما استولى تيتس على نصف المدينة عرض على الثوار شروطاً ظنها لينة، فلما رفضوها أضرمت فرق الحراقين الرومان النار في الهيكل فلم يلبث هذا الصرح العظيم، وكان معظمه مشيداً من الخشب، أن احترق بأكمله. وقاتل الباقون من المدافعين عن المدينة قتال الأبطال، فخورين كما يقول ديو بموتهم في حرمه (59). فمنهم من قتل بعضهم بعضاً، ومنهم من ألقوا بأنفسهم على سيوفهم، ومنهم من قفزوا في اللهب. ولم يرحم المنتصرون أحداً، بل قتلوا كل من استطاعوا أن يقبضوا عليه من اليهود. وقد قبض على 97. 000 وبيعوا في أسواق الرقيق، ومات كثيرون منهم في المجتلدات بعد أن سيقوا مرغمين إلى الألعاب التي أقيمت ضمن احتفالات النصر في بيروت، وقيصرية، وفلباي، وروما. ويقدّر يوسفوس عدد من هلك من اليهود في هذا الحصار وما أعقبه من حوادث بمليون ومائة وسبعة وتسعين ألفاً، أما تاستس فيقدّرهم بستمائة ألف (70 م)(60).
ودامت المقاومة في أماكن متفرقة حتى عام 73، ولكن تدمير الهيكل كان في واقع الأمر نهاية الفتنة ونهاية الدولة اليهودية. وصودرت أملاك الذين اشتركوا فيها وبيعت، وكادت الدولة اليهودية أن تخلو من اليهود،
وعاش من بقي منهم فيها عيش الكفاف. وكان أفقر فقرائهم يُرغم على أن يؤدي للهيكل الوثني في روما نصف الشاقل الذي كان العبرانيون الصالحون يؤدونه في كل عام لصيانة هيكل أورشليم. وأُلغيت مناصب كبار الكهنة والسنهدرين: واتخذت اليهودية الصورة التي احتفظت بها إلى أيامنا هذه: صورة دين بلا معبد مركزي، ولا كهنوت مسيطرين عليه، ولا قرابين. واختفت طائفة الصدوقيين، وأصبح الفريسيون والأحبار زعماء شعب لا وطن له، لم يبقَ له إلا معابده.
الفصل السابع
التشتيت
لقد كانت هجرة مليون من اليهود أو تشريدهم مما عجل انتشارهم في جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط، ومن أجل هذا أرّخ علماؤهم تشتيتهم من الوقت الذي دمر فيه هيرودس الهيكل. ولقد رأينا أن هذا التشتيت بدأ بالسبي أو الأَسْر البابلي قبل ذلك الوقت بستة قرون وانه تجدد باستيطانهم في الإسكندرية. وإذا كانت كثرة التناسل مما يحتمه الدين اليهودي والشريعة اليهودية على الصالحين المتقين، وإذ كان وأد الأطفال محرماً عليهم فإن انتشار اليهود كانت له أسباب من علم الأحياء نفسه فضلاً عن أسباب اقتصادية؛ وكان لا يزال لليهود بعض الشأن القليل في تجارة العالم. وقد قال عنهم استرابون قبل سقوط أورشليم بخمسين عاماً قولاً لا يخلو من المغالاة التي أملتها عليه نزعته المعادية للسامية:"يصعب على الإنسان أن يجد في العالم المعمور كله مكاناً واحداً خالياً من هذا الجنس من الناس، أو خير مملوك له"(61). ووصف فيلو قبل التشتيت بعشرين عاماً "القارات
…
الملآى بالمحلات اليهودية ومثلها
…
الجزائر وبلاد بابل كلها تقريباً" (62). وما وافى عام 70 من بعد الميلاد حتى كان آلاف من اليهود في سلوقية على نهر دجلة وفي غيرها من مدائن جارثية. وكانوا كثيري العدد في بلاد العرب، ومنها عبروا البحر إلى بلاد الحبشة. وكانوا في سوريا وفينيقية وكانت لهم جالية كبيرة في طرسرس، وإنطاكية، وميليتس، وإفسوس، وسرديس، وأزمير. وكانوا أقل من ذلك بعض الشيء في ديلوس، وكورنثة، وأثينة، وفلباي وبيرية، وسلانيك. أما في غرب البحر الأبيض كانت هناك جماعات من اليهود في قرطاجنة، وسرقوسة، وبتيولة، وكبوة، وبمبي، وروما، وحتى
فنزويا موطن هوراس نفسها لم تكن تخلو من اليهود. وفي وسعنا أن نقدر عدد اليهود في الإمبراطوريّة الرومانية إجمالاً بنحو سبعة ملايين أي نحو 7% من سكانها وضعفي نسبتهم إلى سكان الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الأيام (63).
وقد أثاروا بكثرة عددهم، ولباسهم، وطعانهم، وختانهم، وفقرهم، وطمعهم، ورخائهم، وعزلتهم، وذكائهم، ونفورهم من الصور وتشددهم في مراعاة السبت رغم ما يسببه ذلك من العنت لهم، أثاروا بهذا كله حركة عداء للسامية تختلف من المزاح في الملاهي، والسخرية بهم في أقوال جوفنال وتاستس، إلى ذبحهم فرادى في الشوارع، وقتلهم زرافات في المذابح المدبرة. وقد نصب أبيون الإسكندري نفسه مدافعاً عن هذه الهجمات، ورد عليه يوسفوس برسالة صارمة شديدة اللهجة
(1)
.
وسافر يوسفوس مع تيتس إلى روما بعد سقوط أورشليم، وصحب قاهر بني جنسه في موكب نصر عرض فيه أسرى اليهود والمغانم اليهودية. ومنحه فسبازيان حق المواطنية الرومانية، ووظف له معاشاً وخصص له مسكناً في قصره وأقطعه أرضاً خصبة في بلاد اليهود (65). وتسمى يوسفوس نظير هذا باسم آسره فسبازيا، وهو فلافيوس، وكتب تاريخ حرب اليهود (حوالي عام 75)، ليدافع عن أعمال تيتس في فلسطين. ويبرز انشقاقه على بني جنسه، ويثبط عزائم اليهود إذا ما فكروا في الخروج على روما مرة أخرى بإظهار قوتها وبأسها. واشتد إحساسه بعزلته في شيخوخته فألّف كتاباً في قدم اليهود أراد به أن يستعيد عطف بني جنسه بأن يصور لغير اليهود ما قام به هذا الشعب من جلائل الأعمال، ويصف عاداتهم وأخلاقهم. وقصصه في هذا الكتاب واضح قوي،
(1)
وقد ابتهج يوسفوس حين علم أن قرحة قد اضطرب أبيون إلى الاختتان.
ووصفه لهيرودس الأكبر لا يقل امتعاناً عن وصف أفلوطرخس، ولكن تحيزه، والغرض الذي يكتب من أجله يفسدان موضوعية الكتاب. وقد تطلب قدم اليهود عدة سنين وأنهك قوى المؤلف، فلم يستطع أن يتمه، وكتب أمناء سره الكتب الأربعة الأخيرة من العشرين كتاباً التي يتألف منها هذا المجلد الضخم مستعينين على كتابتها بمذكراته (66). ولم يكن يوسفوس قد جاوز الخامسة والستين من عمره حين نشر الكتاب، ولكنه كان قد ضعفت قواه متأثرة بحياة المغامرات، والجدل، والعزلة الأخلاقية.
واستطاع اليهود أن يعيدوا بالتدريج بناء حياتهم الاقتصادية والثقافية في فلسطين. وبينما كان الحصار مضروباً على أورشليم فر من المدينة تلميذ شيخ من تلاميذ هلل يدعى يوهنان بن زكاي لأنه خشي أن يبيد المعلمون كلهم في المذبحة فلا يبقى من ينقذ الأحاديث الشفوية. ولما خرج من المدينة أقام مجمعاً علمياً في كرم عند يبنى أو يمنيا قرب شاطئ البحر الأبيض المتوسط. ولما سقطت أورشليم نظم يوهنان سنهدريناً جديداً في يمنيا، ولم يؤلفه من الكهنة، وسياسيين، والأثرياء، بل ألفه من الفريسيين والأحبار أي معلمي الشريعة. ولم يكن لهذا المجلس المعروف باسم بيت الدين أية سلطة سياسية، ولكن معظم يهود فلسطين كانوا يعترفون بسلطانه في جميع الشئون المتعلقة بالدين والأخلاق. وكان الحاخام الذي يختاره المجلس رئيساً له يعين الموظفين الإداريين المشرفين على الجماعات اليهودية، وكان من حقه أن يخرج من حظيرة الدين مَن لا يرضى عنهم من اليهود. وكان من أثر النظام الصارم الذي فرضه الحاخام جماليل الثاني (حوالي سنة 100 م) أن توثقت الرابطة بين أعضاء المجلس أولاً، ثم بين يهود يمنيا، ثم بين يهود فلسطين كلها فيما بعد. وحدث في أيامه أن أعيد النظر في التفسيرات المتناقضة للشريعة وهي التفسيرات التي نقلها هلل وشماي، ثم أخذ الرأي عليها، وكانت النتيجة أن قبلت معظم
تفسيرات هلل وفرض على اليهود جميعهم أن يعملوا بها.
وإذا كانت الشريعة قد أصبحت وقتئذ الرابطة القوية التي لا غنى عنها والتي تؤلف بين اليهود المشتتين الذين لا تؤلف بينهم دولة، فقد أصبح تعليم هذه الشريعة أهم عمل تقوم به الكنائس في جميع البلاد التي شتتت فيها اليهود. وحل المجمع محل الهيكل، كما حلت الصلاة محل التضحية، وحل الربان محل الكاهن. وأخذ الشراح (التنايم) يفسرون مختلف القوانين اليهودية المنقولة بطريق السماع (هلاكا) وكانوا يؤيدون شروحهم في العادة بعبارات يقتبسونها من الكتاب المقدس، يضيفون إليها قصصاً وعضات أو غيرها من المواد (هجاداً) ويوضحونها بها في بعض الأحيان. وأشهر هؤلاء التنايم هو الربان عكيبا بن يوسف. وقد انضم هذا الربان، وهو في سن الأربعين، إلى ابنه البالغ من العمر خمس سنين، وذهبا معاً إلى المدرسة فتعلم القراءة، واستطاع في زمن قليل أن يتلو عن ظهر قلب جميع أسفار موسى. وبعد دراسة دامت ثلاثة عشر عاماً افتتح له مدرسة تحت شجرة تين في قرية قريبة من يمنيا. وقد كانت حماسته، ومثاليته، وشجاعته، وفكاهته، بل وتعسفه الشديد سبباً في التفاف كثيرين من الطلاب حوله. ولما جاءت الأنباء في عام 95، أن دومتيان سيتخذ إجراءات جديدة ضد اليهود، اختير أكيبا وجماليل واثنان آخران من اليهود ليتصلا اتصالاً شخصياً بالإمبراطور. وبينما هم في روما إذ توفي دومتيان. واستمع نيرفا إلى رسالتهم وأظهر العطف على مطالبهم، وألغى الضريبة المفروضة على اليهود لإعادة بناء روما.
ولما عادة أكيبا إلى يمنيا أخذ على عاتقه أن يقوم بذلك العمل الشاق الذي قضى فيه بقية حياته ونعني به تقنين الهلاكا، وأتم هذا العمل من بعده تلميذه الربان مير Meir وخليفتهما الأب يهوذا (حوالي 200 م). وقد بقيت الهلاكا حتى في هذه الصورة المصنفة جزءاً من الأحاديث الشفوية، يتناقلها العلماء والحفاظ المحترفون جيلاً بعد جيل - فكانوا هم النصوص الحية للشريعة الموسوية.
وكان في الطرق التي جرى عليها أكيبا من السخف بقدر ما في النتائج للتي وصل إليها من الصحة. وقد فسر الشريعة المسطورة تفسيراً عجيباً إذ جعل لكل حرف من حروفها معنى خفياً ثم استمد من هذا التفسير مبادئ حرة؛ ولعل للباعث له على هذا التفسير ما لاحظه من أن الناس لا يقبلون الشيء المعقول إلا إذا كان في صورة غامضة خفية. وعن أكيبا أخذ هذا التنظيم وذاك العرض لعلمي الدين والأخلاق اللذين انتقلا عن طريق التلمود إلى ابن ميمون، ثم انتقلا آخر الأمر إلى أساليب الفلاسفة المدرسيين.
ولما بلغ سن التسعين وضعفت قواه وأصبح من الرجعيين ألفى نفسه، كما كان في أيام شبابه، محوطاً بالثورة من كل الجوانب. ذاك أن يهود قورينة، ومصر، وقبرص، وأرض الجزيرة، رفعوا لواء الثورة على روما مرة أخرى في عامي 115 - 116، وأخذ اليهود يقتلون غير اليهود، وهؤلاء يقتلون أولئك حتى أصبح التقتيل هو العادة المألوفة في تلك الأيام. ويقول ديو إن 220. 000 قتلوا في قورينة، و 240. 000 في قبرص. وتلك أرقام لا يقبلها العقل بطبيعة الحال، ولكنا نعرف أن قورينة لم تنتعش قط بعد هذا التخريب، وأن اليهود ظلوا عدة قرون بعد ذلك الوقت لا يسمح لهم قط بدخول قبرص. ثم أخمدت الفتن، ولكن من بقي من اليهود ظلوا محتفظين بأملهم القوي في ظهور مسيح يعيد بناء الهيكل ويعيدهم هم ظافرين إلى أورشليم. وأشعل الرومان، بحمقهم وبآلهتهم، نار الثورة من جديد. ذلك أن هدريان أعلن في عام 130 أنه يعتزم بناء ضريح لجوبتر في مكان الهيكل، ثم أصدر في عام 131 مرسوماً بتحريم الختان وتعليم الشريعة اليهودية علناً (67). وكانت آخر وقفة وقفها اليهود في التاريخ القديم لاستعادة حريتهم في عام 132 بزعامة شمعون باركوشيبا الذي ادعى أنه هو المسيح. وبارك أكيبا هذه الثورة رغم أنه كان طوال حياته يدعو إلى السلم، وذلك حين إعترف باركوشيبا أنه هو المنقذ.
وظل الثوار ثلاث سنين مستبسلين في قتال الفيالق الرومانية حتى هزموا آخر الأمر بعد أن نفذ طعامهم وعتادهم. ودمر الرومان 985 مدينة في فلسطين وذبحوا 580. 000 يهودي ويقال إن الذين ماتوا من الجوع والمرض والحريق كانوا أكثر من هذا العدد. وخربت بلاد اليهود كلها تقريباً، وخرَّ باركوشيبا نفسه صريعاً أثناء دفاعه عن بيثار. وكان الذين بيعوا من اليهود في أسواق الرقيق من الكثرة بحيث انخفض ثمن الواحد منهم حتى ساوى ثمن الحصان. واختبأ الآلاف منهم في سراديب تحت الأرض مفضلين ذلك على الأسر؛ ولما أحاط بهم الرومان هلكوا من الجوع واحداً بعد واحد، وكان الأحياء منهم يأكلون جثث الموتى (68). وأراد هدريان أن يقضي على ما في اليهودية من رجولة وقدرة على الانتعاش، فلم يكتفِ بتحريم الختان بل حرم معه الإسبات والاحتفال بأي عيد من أعياد اليهود أو إقامة أي طقس من الطقوس اليهودية علناً (69). وفرضت ضريبة شخصية جديدة أكبر من الضريبة السابقة على جميع اليهود، وحرم عليهم دخول بيت المقدس إلا في يوم واحد محدد في العام يسمح لهم فيه بالمجيء إلى دمشق ليبكوا أمام خرائب الهيكل. وقامت في مواضع أورشليم مدينة إبليا كبتولينا الوثنية، وشيد فيها ضريحان لجوبتر وفينوس، وساحات للرياضة وملاهٍ وحمّامات، وحل مجلس يمنيا وحرم أعضاؤه الاجتماع، وأجيز لمجلس عاجز أصغر منه أن يجتمع في لدا Lydda. أما تعليم الشريعة جهرة فقد منع منعاً باتاً، وأنذر كل من خالف ذلك بالإعدام، وأعدم بالفعل عدد من الأحبار الذين خالفوا. وأصر أكيبا، وكان وقتئذ في الخامسة والتسعين من عمره على أن يعلم تلاميذه، فزج في السجن ثلاث سنين، ولكنه لم ينقطع عن التعليم في سجنه، فحوكم، وأدين، وأعدم وهو ينطق بالعقيدة اليهودية الأساسية:"اسمعي يا إسرائيل، الرب إلهنا، والرب واحد"(70).
وظل اليهود قروناً عدة يعانون آثار النكبة التي حلت بهم بعد ثورة
باركوشيبا، وإن كان أنطونينس بيوس قد خفف من صرامة مراسيم هدريان، ودخلوا من هذه اللحظة في دور الكهولة، وتخلوا عن كل العلوم الدنيوية ما عدا الطب، ونبذوا الهلنستية على اختلاف صورها، ولم يتلقوا السلوى أو الوحدة إلا من أحبارهم، وشعرائهم الصوفيين وشريعتهم. ولسنا نعرف شعباً آخر قد طال نفيه كما طال نفي اليهود، أو عانى من الأهوال مثل ما عانوا. لقد حرم عليهم أن يدخلوا المدينة المقدسة، وأُرغموا على تسليمها للوثنية ثم للمسيحية، وشُردوا في كل ولاية من ولايات الدولة الرومانية وإلى ما وراء حديد تلك الدولة، وضُربت عليهم المذلة والمسكنة، ولم يجدوا لهم صديقاً حتى بين الفلاسفة والقديسين، فابتعدوا عن المناصب العامة وعكفوا في عزلتهم على الدرس والعبادة، واستمسكوا أشد الاستمساك بأقوال علمائهم، وأخذوا يتأهبون لكتابتها آخر الأمر في تلمود بابل وفلسطين. وهكذا اختبأت اليهودية في ظلمات الخوف والفزع، بينما كانت وليدتها المسيحية تخرج لفتح العالم وسيادته.
الكتاب الخامس
شباب المسيحية
من 4 ق. م. إلى 325 م
الباب السادس والعشرون
عيسى أو يسوع
4 ق. م- 30 م
الفصل الأول
المراجع
هل وجد المسيح حقاً؟ أو أن قصة حياة مؤسس المسيحية وثمرة أحزان البشرية، وخيالها، وآمالها- أسطورة من الأساطير شبيهة بخرافات كرشنا، وأوزريس، وأتيس، وأدنيس، وديونيشس، ومثراس؟ لقد كان بولنجبروك والملتفون حوله، وهم جماعة ارتاع لأفكارهم فلتير نفسه، يقولون في مجالسهم الخاصة إن المسيح قد لا يكون له وجود على الإطلاق، وجهر فلني Volney بهذا الشك نفسه في كتابه خرائب الإمبراطوريّة الذي نشره في عام 1991؛ ولما التقى نابليون في عام 1808 بفيلاند Wieland العالم الألماني لم يسأله القائد الفاتح سؤالاً تافهاً في السياسة أو الحرب، بل سأله هل يؤمن بتاريخية المسيح؟
ولقد كان من أعظم ميادين نشاط العقل الإنساني في العصر الحديث وأبعدها أثراً ميدان "النقد الأعلى" للكتاب المقدس- التهجّم الشديد على صحته وصدق روايته، تقابله جهود قوية لإثبات صحة الأسس التاريخية للدين المسيحي؛ وربما أدت هذه البحوث على مر الأيام إلى ثورة في التفكير لا تقل شأناً عن الثورة
التي أحدثتها المسيحية نفسها. وقد دارت رحى أولى المعارك في هذه الحرب التي دامت مائتي عام كاملة في صمت وسكون، وكان الذي أدارها هو هرمان ريمارس Hermann Reimarus أستاذ اللغات الشرقية في جامعة همبرج، فقد ترك بعد وفاته في عام 1768 مخطوطاً عن حياة المسيح يشتمل على 1400 صفحة حرص على ألا ينشره في أثناء حياته. وبعد ستة سنين من ذلك الوقت نشر جتهولد لسنج Gotthold Lessing أجزاء من هذا المخطوط، رغم معارضة أصدقائه في هذا النشر، وسماه هتامات ولفنبتل Wolfenbuttel Fragments. ويقول ريمارس أن يسوع لا يمكن أن يُعد مؤسس المسيحية أو أن يفهم هذا الفهم، بل يجب أن يفهم على أنه الشخصية النهائية الرئيسية في جماعة المتصوفة اليهود القائلين بالبعث والحساب، ومعنى أن المسيح لم يُفكر في إيجاد دين جديد بل كان يفكر في تهيئة الناس في استقبال دمار العالم المرتقب، وليوم الحشر الذي يحاسب فيه الله الأرواح على ما قدمت من خير أو شر. وفي عام 1796 أشار هردر إلى ما بين مسيح متى، ومرقص، ولوقا، ومسيح إنجيل يوحنا من فوارق لا يمكن التوفيق بينهما، وفي عام 1828 لخص هنريخ بولص Heinrich Paulus حياة المسيح في 1192، صفحة، وعرض تفسيراً عقلياً للمعجزات: أي أنه آمن بوقوعهما، ولكنه عزاها إلى علل وقوى طبيعية. ثم جاء دافد استروس David Strauss (1835 - 1836) في كتابه عن حياة المسيح- وهو كتاب عظيم الأثر في التاريخ- فرفض ما حاوله بولص من توفيق بين المعجزات والعلل الطبيعية، وقال إن ما في الأناجيل من خوارق الطبيعة يجب أن يُعد من الأساطير الخرافية، وإن حياة المسيح الحقيقية يجب أن تعاد كتابتها بعد أن تحذف منها هذه العناصر أياً كانت عناصرها. وقد أثارت مجلدات استروس الضخمة عاصفة قوية في التفكير الألماني دامت جيلاً من الزمان. وفي نفس العام الذي ظهر في كتاب استروس
هاجم فردنادندكرستيان بور Ferdinand Christian Bour رسائل بولص وقال انها كلها مدسوسة عليه عدا رسائله إلى أهل غلاطية، وكورنثوس، (كورنثة) ورومية (روما). وفي عام 1840 بدأ برونو بور Bruno Bauer سلسلة من الكتب الجدلية الحماسية يبغي بها أن يثبت يسوع لا يعدو أن يكون أسطورة من الأساطير، أو تجسيداً لطقس من الطقوس نشأ في القرن الثاني من مزيج من الأديان اليهودية، واليونانية، والرومانية. وفي عام 1863 أخرج إيرنس رينان Ernest Renan حياة يسوع الذي روع ملايين الناس باعتماده فيه على العقل وسحر لب الملايين بنثره الجزل. وقد جمع رينان في هذا الكتاب نتائج النقد الألماني، وعرض مشكلة الأناجيل على العالم المثقف كله. وبلغت المدرسة الفلسفية صاحبة البحوث الدينية ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر على يد الأب لوازي Loisy الذي حلل نصوص العهد الجديد تحليلاً بلغ من الصرامة حداً اضطرت معه الكنيسة الكاثوليكية إلى إصدار قرار يحرمانه هو وغيره من "المحدثين". وفي هذه الأثناء وصلت المدرسة الهولندية مدرسة بيرسن Pierson ونابر Naber، ومتثاس Matthas بالحركة إلى أبعد حدودها إذ أنكرت بعد بحوث مضنية حقيقية المسيح التاريخية. وفي ألمانيا عرض آرثر دروز Arthur Drews هذه النتيجة السالبة عرضاً واضحاً محدداً (1906)؛ وفي إنكلترا أدلى و. ب. اسمث W. B. Smith، وج. م ربرتسن J. M. Robertson بحجج من هذا النوع أنكر فيها وجود المسيح. وهكذا بدا أن الجدل الذي دام مائتي عام سينتهي إلى إفناء شخصية المسيح إفناء تاماً.
وبعد فما هي الأدلة التي تثبت وجود المسيح؟ إن أقدم إشارة غير مسيحية إليه هي التي وردت في كتاب قدم اليهود ليوسفوس (93؟ م):
"وفي ذلك الوقت كان يعيش يسوع، وهو رجل من رجال الدين، إذا
جاز أن نسميه رجلاً، لأنه كان يأتي بأعمال عجيبة، ويعلم الناس، ويتلقى الحقيقة وهو مغتبط. وقد إتبعه كثيرون من اليهود وكثيرون من اليونان. لقد كان هو المسيح"؟
قد تنطوي هذه السطور العجيبة على أصل صادق صحيح؛ ولكن هذا الثناء العظيم الذي يثنى به على المسيح يهودي يريد به الزلفى للرومان أو اليهود- وكانا كلاهما يناصبان المسيحية العداء في ذلك الوقت -، نقول إن هذا الثناء لما يبعث الريبة في هذه الفقرة، ولذلك يرفضها علماء المسيحية، ولا يكادون يشكون في أنها مدسوسة على يوسفوس (3). وفي التلمود إشارات إلى يسوع الناصري، ولكنها من عهد متأخر جداً يجعلها مجرد ترديد الأصداء والأفكار المسيحية (4). وأقدم ما لدينا من إشارات إلى المسيح في أدب الوثنيين ما ورد في خطاب كتبه بلني الأصغر (حوالي 110)(5)، يستشير فيه تراجان عما يعامل به المسيحيين
(1)
وبعد خمس سنين من ذلك الوقت وصف تاستس (6) إضطهاد نيرون للكرستياني Christiani في رومة ويقول انهم في ذلك الوقت كان لهم أتباع في جميع أنحاء أوربا. وهذه الفقرة شبيهة بكتابات تاستس في أسلوبه، وقوته، وتحيزه شبها له يرتب معه أحد من الباحثين إلا درور وحده في صدورها من هذا الكتاب (7). ويذكر روتونيوس (حوالي 125) خبر هذا الاضطهاد نفسه (8)، كما يذكر نفي كلوديوس (حوالي 52)"اليهود الذين أثاروا اضطرابات عامة بتحريض المسيح (Impuisore Chresto) "(9) . وتتفق هذه الفقرة اشد الاتفاق مع ما ورد في إصحاح أعمال الرسل من أن كلوديوس أصدر مرسوماً أوجب فيه على "اليهود أن يخرجوا من روما"(10). وهذه الإشارات كلها تثبت وجود المسيحيين لا المسيح نفسه؛ ولكننا إذا لم نسلم بوجود المسيح فلا مناص لنا من أن نأخذ بالفرض
(1)
نقلنا هذه الفقرة بعد؟ ونجد نص الخطاب في الجزء الأول من كتابنا "أشهر الرسائل العالمية". (المترجم)
الضعيف جداً وهو أن شخصية يسوع قد اخترعت اختراعاً في جيل واحد؛ ولابد لنا من أن نفترض فوق ذلك أن الجالية المسيحية وجدت في روما قبل عام 52 ببضع سنين، وإلا لما كانت خليقة أن يصدر بشأنها مرسوم إمبراطوري. ويقول ثالس Thallus وهو كاتب وثني عاش في منتصف ذلك القرن الأول في هتامه من كتاب احتفظ لنا بها يويوس افركانس (11) إن الظلمة العجيبة التي يقال إنها حدثت وقت موت المسيح، كانت ظاهرة طبيعية محضة، ولم تكن أكثر من مصادفة عادية. أما وجود المسيح فهو عند هذا الكاتب قضية مسلم بها مفروغ من صحتها. وقصارى القول أن نكران ذلك الوجود لم يخطر على ما يظهر لأشد المخالفين لليهودية أو لليهود المعارضين للمسيحية الناشئة في ذلك الوقت.
أما الأدلة المسيحية على وجود المسيح فتبدأ إلى الرسائل المعزوة إلى القدّيس بولص. وبعض هذه الرسائل لا يعرف كاتبها معرفة أكيدة، ومنها عدة رسائل- تؤرخ بعام 64 م ولكنها كتبت في الحقيقة بعد ذلك التاريخ- لا يكاد يختلف الباحثون في أنها في جوهرها من كتابات بولص. ولم يشك أحد قط من وجود بولص نفسه أو في لقائه الكثير لبطرس، ويعقوب، ويوحنا؛ ويعترف بولص بأن هؤلاء الرجال قد عرفوا المسيح في أثناء حياته ويحسدهم على هذه المعرفة (12). وكثيراً ما تشير الرسائل المعترف بنسبتها إليه إلى العشاء الأخير (13) وإلى حادث الصلب (14).
هذا ما كان من أمر المسيح نفسه، أما الأناجيل فليس أمرها بهذه السهولة. ذلك أن الأربعة أناجيل التي وصلت إلينا هي البقية الباقية من عدد أكبر منها كثيراً، كانت في وقت ما منتشرة بين المسيحيين في القرنين الأول والثاني. واللفظ الدال على الإنجيل " Gospel"(وهو في اللغة الإنكليزية القديمة Gopspel أي أخبار طيبة) ترجمة للفظ اليوناني Euangelion والذي يبدأ به إنجيل مرقس
ومعناه "أخبار سارة"- هي أن المسيح قد جاء، وأن ملكوت الله قريبة المنال. وأناجيل متى، ومرقس، ولوقا، يمكن الإحاطة بها بنظرة واحدة: ذلك بأن محتوياتها وحوادثها يمكن ترتيبها في أعمدة متوازية "والنظر إليها كلها مجتمعة"؛ وقد كتبت كلها باللغة اليونانية الدارجة، ولم تكن نماذج طيبة في النحو أو في الصقل الأدبي. بيد أن ما في أسلوبها السهل من قوة وإيصال المعاني عن أقرب طريق، وما في تشبيهاتها والصور التي ترسمها من وضوح، وما في الاحساسات التي تصورها من عمق، وما في القصص التي ترويها من روعة، كل هذا يكسبها حتى في صورتها الأصلية الفجة جمالاً فذاً، زاده قوة عند العالم الإنجليزي الترجمة العظيمة البعيدة كل البعد عن الدقة، والتي وضعت للملك جيمس.
وترجع أقدم النسخ التي لدينا من الأناجيل الأربعة إلى القرن الثالث. أما النسخ الأصلية فيبدو أنها كتبت بين عامي 60، 120 م، ثم تعرضت بعد كتابتها مدى قرنين من الزمان الأخطاء في النقل، ولعلها تعرضت أيضاً لتحريف مقصود يراد به التوفيق بينها وبين الطائفة التي ينتمي إليها الناسخ أو أغراضها. والكتّاب الذين عاشوا قبل نهاية القرن الأول الميلادي لا ينقلون قط شيئاً عن العهد الجديد، بل كان ما ينقلونه مأخوذ من العهد القديم ولسنا نجد إشارة لإنجيل مسيحي قبل عام 150 إلا في كتاب ببياس Papias الذي كتب في عام 135 إذ يقول أن "يوحنا الأكبر"- وهو شخصية لم يستطع الاستدلال على صاحبها- قال إن مرقس ألّف إنجيله من ذكريات نقلها إليه بطرس (15). ويضيف ببياس إلى هذا قوله:"وأعاد متّى كتابة الكلمات بالعبرية"- ويبدو أن هذا الإنجيل مجموعة آرامية من أقوال المسيح. والراجح أن بولص كانت لديه وثيقة من هذا النوع، وذلك لأنه ينقل أحياناً كلمات يسوع
بنصها%=@كشف جرنفل Grenfell وهنت Hunt في خرائب إحدى المُدن القديمة في مصر في عامي 1897، 1903 عن عشرين قطعة من الكلمات تتفق إلى حد ما في فقرات مماثلة لها في الأناجيل. ولا ترجع هذه البرديات إلى ما قبل القرن الثالث ولكنها قد تكون نسخاً من مخطوطات أقدم منها. @ وإن كان لا يذكر الأناجيل قط. ويتفق الناقدون الثقاة بوجه عام على أسبقية إنجيل مرقس في الزمن على سائر الأناجيل، وفي تحديد تاريخه بين عامي 65 و 70 م. وإذ كان هذا الإنجيل يكرر المسألة الواحدة أحياناً في عدة صور (16) فإن الكثيرين من الباحثين يعتقدون أنه يعتمد على الكلمات السالفة الذكر وعلى قصة أخرى قديمة العهد قد تكون هي الصورة الأولى لإنجيل مرقس نفسه. ويبدو أن إنجيل مرقس كان منتشراً أثناء حياة بعض الرسل أو حياة الرعيل الأول من أتباعهم ومريديهم. ولهذا فإنه يبدو من غير المحتمل أنه كان يختلف اختلافاً جوهرياً عما كان لديهم من أقول وعن تفسير المسيح لهذه الأقوال (17). ومن حقنا إذن أن نحكم كما حكم شوتزر Schwetyer ذلك العالم النابه الحكيم بأن إنجيل مرقس في جوهره "تاريخ صحيح"(18).
وتقول الرواية المأخوذ بها إن إنجيل متى أقدم الأناجيل كلها، ويعتقد إيرنيوس Ireneaeus أنه كتب في الأصل باللغة "العبرية"- أي الآرامية، ولكنه لم يصل إلينا إلا باللغة اليونانية. وإذ كان يبدو لنا انه في هذه الصورة الأخيرة يردد أقوال إنجيل مرقس، وأنه ينقل في أكبر الظن من أقوال يسوع نفسها، فإن النقاد يميلون إلى القول بأنه من تأليف أحد أتباع متى، وليس من أقوال "العشار" نفسه. وحتى أكثر العلماء يرجعون به إلى تلك الفترة البعيدة المحصورة بين عامي 85 - 90 م (30). وإذ كان الغرض الذي يبتغيه متّى هو هداية اليهود فإنه يعتمد أكثر من غيره من المبشرين على المعجزات التي تعزى إلى المسيح، ويحرص حرصاً يدعو إلى الريبة على أن يثبت أن كثيراً من نبوءات
العهد القديم تحققت على يدي المسيح. بيد أنه رغم هذا أشد الأناجيل الأربعة تأثيراً إلى النفس وإثارة إلى العاطفة. ولا يسعنا إلا أن نعده بين روائع الآداب العالمية، وإن لم يدرك ذلك كاتبه القديم.
والإنجيل حسب نص القدّيس لوقا، وهو النص الذي يعزى عادة إلى العقد الأخير من القرن الأول، يعلن أنه يرغب في تنسيق الروايات السابقة عن المسيح، والتوفيق بينها، وأنه يهدف إلى هداية كفرة لا اليهود. وأكبر الظن أن لوقا نفسه كان من غير اليهود، وأنه كان صديق بولص، ومؤلف سفر أعمال الرسل (21). وهو يقتبس كثيراً من كتابات مرقس كما يقتبس منها متّى (22)، فإنك لتجد في إنجيل متّى ستمائة آية من الستمائة والإحدى والستين التي يشتمل عليها النص المعتمد لإنجيل مرقس، ونجد منها ثلاثمائة وخمسين في إنجيل لوقا تكاد أن تكون هي بنصها (23). وفي إنجيل متّى كثير من الفقرات التي توجد في لوقا ولا توجد في إنجيل مرقس، وهنا أيضاً تكاد تكون هي بنصها، ويبدو أن لوقا أخذ هذه عن متّى أو أن لوقا ومتّى أخذاها عن أصل مشترك، لم نعثر عليه بعد. ويصقل لوقا هذه المقتبسات الصريحة بمهارة أدبية تحمل لينان على الظن بأن هذا الإنجيل أجمل ما ألف من الكتب.
ولا يدعى الإنجيل الرابع أنه ترجمة ليسوع، بل هو عرض للمسيح من وجهة النظر اللاهوتية بوصفه كلمة الله، وخالق العالم، ومنقذ البشرية وهو يناقض الأناجيل الأخرى في كثير من التفاصيل وفي الصورة العامة التي يرسمها للمسيح (25). وإن ما يصطبغ به الكتاب من نزعة قريبة من نزعة القائلين بأن الخلاص لا يكون بالإيمان بل بالمعرفة، وما فيه من تأكيد لآراء الميتافيزيقية، قد جعلا الكثيرين من الباحثين في الدين المسيحي يشكون في صدق القول بأن واضعه هو الرسول يوحنا (26). بيد أن التجارب توحي إلينا بأن لا نعجل في تكذيب الروايات القديمة؛ ذلك بأن أسلافنا لم
يكونوا كلهم بلهاء. وتنزع الدراسات الحديثة إلى تحديد تاريخ الإنجيل الرابع بأواخر القرن الأول. والراجح أن الروايات المأثورة كانت صادقة إذ تعزو إلى المؤلف نفسه "رسائل يوحنا"، ذلك بأنه تعرض الأفكار نفسها بالأسلوب نفسه.
وملاك القول أن ثمة تناقضاً كثيراً بين بعض الأناجيل والبعض الآخر، وأن فيها نقطاً تاريخية مشكوكاً في صحتها، وكثيراً من القصص الباعثة على الريبة والشبيهة بما يروى عن آلهة الوثنيين، وكثيراً من الحوادث التي يبدو أنها وضعت عن قصد لإثبات وقوع النبوءات الواردة في العهد القديم، وفقرات كثيرة ربما كان المقصود منها تقدير أساس تاريخي لعقيدة متأخرة من عقائد الكنيسة أو طقس من طقوسها. لقد كان المبشرون بالإنجيل يرون كما يرى شيشرون وسالست، وتاستس أن التاريخ وسيلة لنشر المبادئ الخلقية السامية، ويبدو أن ما تنقله الأناجيل من أحاديث وخطب قد تعرضت لما تتعرض له ذاكرة الأميين من ضعف وعيوب، ولما يرتكبه النساخ من أخطاء أو "تصحيح".
فإذا سلمنا بهذا كله بقي الشيء الكثير إن ما في الأناجيل من تناقض لا يتعدى التفاصيل الجزئية إلى الحقائق العامة، وإن الأناجيل الثلاثة الأولى لتتفق اتفاقاً عجيباً، وتعرض في مجموعها صورة منسقة للمسيح. ولقد دفعت حماسة الكشف كبار الناقدين إلى أن يقيسوا صحة أحوال العهد الجديد بمقاييس لو طبقت على مئات من العظماء الأقدمين أمثال حمورابي، وداود، سقراط- لزالوا كلهم من عالم الحقائق وهووا إلى عالم الخرافات
(1)
. وإن المبشرين بالإنجيل، رغم ما يتصفون به من تحيز وميل مع الهوى ومن الأخذ بأفكار دينية سابقة، ليسجلون كثيراً من الحادثات التي يعمد المخترعون الملفقون إلى إخفائها- كتنافس الرسل على المنازل العليا في ملكوت الله، وفرارهم بعد القبض على
(1)
يقول أحد كبار علماء اليهود فالة لعلها أقوى مما ينبغي: "لو كانت لنا في تاريخ الاسكندر أو قيصر مصادر كالتي نجدها في الأناجيل لما خالجنا أقل الشك في أمرهما" -ج- كلوزنز J. Klausner في كتابه "من يسوع إلى بولص" ص 260.
يسوع، وإنكار بطرس، وعجز المسيح عن إتيان المعجزات في الجليل، وإشارة بعض مَن سمعوه إلى ما عسى أن يكون مصاباً به من الجنون، وتشككه الأول في رسالته، واعترافه بأنه يجهل أمر المستقبل، وما كان يمر به من لحظات يمتلئ قلبه فيها حقداً على أعدائه، وصيحة اليأس التي رفع بها عقيرته وهو على الصليب؛ إن مَن يطلع على هذه المناظر لا يشك قط في أن وراءها شخصية تاريخية حقة. ولو أن عدداً قليلاً من الرجال السذج قد اخترعوا في مدى جيل واحد هذه الشخصية الجذابة، وهذه المبادئ الأخلاقية السامية، وهذه النظرية الأخوية الملهمة، لكان عملهم هذا معجزة أبعد عن العقول من أية معجزة تسجلها الأناجيل. وإن الخطوط الرئيسية في سيرة المسيح، وأخلاقه، وتعاليمه لتبقى بعد قرنين من النقد الشديد واضحة معقولة؛ لتكون أروع ظاهرة في تاريخ الغربيين وأعظمها فتنة للألباب.
الفصل الثاني
نشأة عيسى
يحدد متّى ولوقا ميلاد المسيح في "الأيام التي كان فيها هيرودس ملكاً على بلاد اليهود"(27) - أي قبل العام الثالث ق. م على أن لوقا يقول عن يسوع إنه كان "حوالي الثلاثين من العمر" حين عمّده يوحنا في السنة الخامسة عشرة من حكم تيبيريوس (27 أ)، أي في عام 28 - 29 م، وهذا يجعل ميلاد المسيح في عام 2 - 1 ق. م. ويضيف لوقا إلى هذا قوله: "وفي تلك الأيام صدر مرسوم قيصر أغسطس يقضي بأن تفرض ضريبة على العالم كله
…
حين كان كويرنيوس Quirinius والياً على سوريا. والمعروف أن كويرنيوس كان حاكماً لسوريا بين عامي 6 - 12 م؛ ويذكر يوفوس أنه أجرى إحصاء في بلاد اليهود، ولكنه يقول إن هذا الإحصاء كان في عام 6 - 7 م (28)، ولسنا نجد ذكراً لهذا الإحصاء إلا هذه الإشارة. ويذكر ترتليان (29) إحصاء لبلاد اليهود قام به سترنينس حاكم سوريا في عام 8 - 7 ق. م)، فإذا كان هذا هو الإحصاء الذي يشير إليه لوقا فإن ميلاد المسيح يجب أن يؤرخ قبل عام 6 ق. م. ولسنا نعرف اليوم الذي وُلِدَ فيه بالتحديد، وينقل لنا كلمنت الإسكندري (حوالي 100 م) آراء مختلفة في هذا الموضوع كانت منتشرة في أيامه؛ فيقول إن بعض المؤرخين يحدده باليوم التاسع عشر من إبريل وبعضهم بالعاشر من مايو، وإنه هو يحدده بالسابع عشر من نوفمبر من العام الثالث قبل الميلاد- وكان المسيحيون الشرقيون يحتفلون بمولد المسيح في اليوم السادس من شهر يناير منذ القرن الثاني بعد الميلاد. وفي عام 354 احتفلت بعض الكنائس الغربية ومنها كنيسة روما بذكرى مولد المسيح في اليوم الخامس والعشرين من
نوفمبر، وكان هذا التاريخ قد عد خطأ يوم الانقلاب الشتائي الذي تبدأ الأيام بعده تطول؛ وكان قبل هذا يحتفل فيه بعيد مثراس، أي مولد الشمس التي لا تقهر. واستمسكت الكنائس الشرقية وقتاً ما باليوم السادس من يناير، واتهمت أخواتها الغربية بالوثنية وبعبادة الشمس؛ ولكن لم يكد يختتم القرن الرابع حتى اتخذ اليوم الخامس والعشرين من ديسمبر عيداً للميلاد في الشرق أيضاً
(1)
.
ويقول متّى ولوقا إن مولد المسيح كان في بيت لحم، القائمة على بعد خمسة أميال جنوبي أورشليم، ثم يقولان إن أسرته انتقلت منها إلى الناصرة في الجليل، أما مرقص فلا يذكر بيت لحم. ولا يذكر المسيح إلا باسم "يسوع الناصري". وقد سمي بالاسم العادي المألوف "يسوع" Yeshu`a ومعناها معيّن يهوه؛ وحرّفه اليونان إلى Iesous والرومان إلى Iesus.
ويبدو أنه كان ينتسب إلى أسرة كبيرة، وشاهد ذلك أن جيرانه أدهشتهم تعاليمه القوية فأخذوا يتساءلون قائلين:"ترى أنى له هذه الحكمة، والقدرة على القيام بهذه العجائب؟ أليس هو إبن النجار؟ أليست أمه تسمى مارية Mary، أليس أخوته هم يعقوب، ويوسف، وشمعون ويهوذا؟ ألا تقوم أخواته هنا بيننا؟ "(31). ويحدثنا لوقا عن البشرى بأسلوب أدبي بليغ وينطق مريم- مارية بتلك العبارات البليغة، وهي من أروع القصائد التي يشمل عليها العهد الجديد.
وتأتي شخصية مريم في القصة بعد شخصية ولدها في الروعة والتأثير: فهي تربّيه وتتحمل مسرات الأمومة المؤلمة؛ وتفخر بعلمه في أيام شبابه،
(1)
الذي نعرفه أن الكنائس الشرقية لا تزال تحتفل بعيد الميلاد في اليوم السادس من يناير. (المترجم)
وتدهش فيما بعد من تعاليمه ومطالبه، وترغب في أن تبعده عن جموع أتباعه المثيرين، وأن تعيده إلى بيته الهادئ الشافي (لقد بحثت أنا وأبوك عنك محزونين)
(1)
؛ وشاهدته وهو يُصلَب، وعجزت عن إنقاذه، ثم تلقت جسده بين ذراعيها، فإذا لم يكن هذا تاريخا فهو الأدب السامي، لأن صلات الآباء والأبناء تؤلف مسرحيات أعمق مما تؤلفه عاطفة الحب الجنسي. أما القصص التي أذاعها سلسس Celsus وغيره فيما بعد عن مريم وجندي روماني فالنقاد مجمعون على أنها "إفتراء سخيف"(32). وأقل من هذا سخفاً تلك القصص التي تذكر أكثر ما تذكر في الأسفار المحذوفة عن مولد المسيح في كهف أو إسطبل، وعن سجود الرعاة والمجوس له وعبادتهم إياه. وعن مذبحة الأبرياء، والفرار إلى مصر، وإذا كان العقل الناضج لا يرى ضيراً في هذا الشعر الشعبي. ولا يذكر بولص ويوحنا شيئاً عن مولده من عذراء وأما متّى ولوقا اللذان يذكرانه فيرجعان نسب يسوع إلى داود عن طريق يوسف، بسلاسل أنساب متعارضة؛ ويلوح أن الاعتقاد في مولد المسيح من عذراء قد نشأ في عصر متأخر عن الاعتقاد بأنه من نسل داود.
ولا يذكر أصحاب الأناجيل إلا القليل الذي لا يغني عن شباب المسيح. فهم يقولون إنه أختُتِن حين بلغ الثامنة من عمره. ولقد كان يوسف نجاراً، وإن مَن كان في ذلك العصر مَن توارث المهن ليوحى بأن يسوع قد احترف هذه الحرفة اللطيفة وقتاً ما، وكان يعرف مَن ينتمي إلى حرفته من الصناع، كما كان يعرف الملاّك ورؤساء الخدم، والمستأجرين، والأرقاء، وكل ما كان يحيط به في الريف، ويتردد ذكر هؤلاء جميعاً في أحاديثه. وكان يحس بما في الريف من جمال طبيعي، وما للزهر من لون جميل، وما يحيط بالأشجار المثمرة من هدوء وسكون. وليست قصة أسئلته للتلاميذ في الهيكل مما لا يقبله العقل. وكان
(1)
نقلنا هذه الأقوال وما بعدها كما هي وإن خالفت بعض عقائد المسلمين والمسيحيين.
ذا عقل يقظ طلعة، والشاب متّى بلغ الثانية عشرة من عمره في بلاد الشرق أوشك أن يبلغ سن النضوج. لكنه لم يتعلم تعليماً منظماً، وشاهد ذلك أن جيرته كانوا يتسائلون:"كيف يستطيع هذا الرجل أن يقرأ وهو لم يذهب قط إلى المدرسة؟ "(33). وكان يتردد على المجمع الديني، ويستمع إلى تلاوة الكتاب المقدس، ويبدو عليه السرور حين يسمعه. وقد انطبعت في ذاكرته الأقوال الواردة في أسفار الأنبياء والمزامير بنوع خاص، وكان لها أثر كبير في تشكيله. ولعله قرأ أيضاً سفري دانيال وأخنوخ، لأنا نجد في تعاليمه المتأخرة أثراً كبيراً من رؤى المسيح الموعود، ويوم الحشر، ومملكة السماء.
وكان الهواء الذي يتنفسه مشحوناً بالحماسة الدينية، وكان آلاف من اليهود ينتظرون على أحر من الجمر مجيء منقذ إسرائيل. وكان السحر والشياطين، والملائكة، وحلول الشياطين في أجسام الآدميين، وإخراجها، والمعجزات، والنبوءات، والإطلاع على الغيب، والتنجيم، كانت كل هذه عقائد مسلَّم بها في كل مكان. ولعل قصة المجوسي كانت تسليماً لابد منه لعقائد المنجمين في ذلك العصر (34)، وكان السحرة يطوفون بالمُدن، وما من شك في أن عيسى قد عرف شيئاً عن الأسينيين وعن حياة الزهد الشبيهة كل الشبه بحياة البوذيين
(1)
، وذلك في خلال أسفار جميع الصالحين من يهود فلسطين إلى بيت المقدس في أثناء عيد الفصح. ولعله قد سمع أيضاً عن شيعة تدعى "الناصرة Mazarenes" كان المنتمون إليها يعيشون في بيريه في الناحية الأخرى من نهر الأردن؛ وكانوا يرفضون التعبد في الهيكل، ويأبون التقيد بالناموس (36). ولكن الذي
(1)
وكان أشوكا قد بعث بمشيريه البوذيين حتى بلغوا مصر وقوريني غرباً (35)، وأكبر الظن إذن أنه بعثهم إلى بلاد الشرق الأدنى.
أثار حماسته الدينية هو عظات يوحنا إبن أليصابات قريبة مريم.
ويروي يوسفوس قصة يوحنا بشيء من التفصيل (37). فإذا قرأناها بدا لنا المعمدان شيخاً طاعناً في السن، أما الحقيقة فهي عكس هذا، فهو في الوقت الذي نتحدث عنه في سن عيسى أو قريب منه، ويصفه مرقس ومتّى بأنه كان يرتدي ثوباً من الشعر؛ ويعيش على الجراد الجاف وعسل النحل، ويقف بجوار نهر الأردن؛ ويدعو الناس إلى التوبة. وكان يماثل الإسينيين في الزهد، ولكنه يخالفهم في اعتقاده أن التعميد يكفي أن يكون مرة واحدة؛ وقد يكون اسمه "المعمدان" مرادفاً للفظ اليوناني "إسين" أي الاستحمام (38)؛ وقد أضاف يوحنا إلى عقيدة التطهير الرمزي تنديده الشديد بالنفاق، وعدم التمسك بالأخلاق القويمة، وطلبه إلى المذنبين أن يستعدوا إلى الدار الآخرة، وإعلانه قرب حلول مملكة السماء (39)، وقوله إنه إذا تابت بلاد اليهود كلها وتطهرت من الخطيئة جاء المسيح وحلت مملكة السماء على الفور.
ويقول لوقا إنه في "السنة الخامسة عشرة من حكم تيبيريوس" أو بعدها بقليل جاء يسوع إلى نهر الأردن ليُعمّد على يديه. وهذا القرار الذي اتخذه رجل "يقرب من سن الثلاثين"(40) شاهد على أن المسيح قد آمن بتعاليم يوحنا، وأن تعاليمه هو لن تفترق في جوهرها عن تلك التعاليم. أما أساليبه، وأخلاقه فكانت تختلف عن أمثالها عند يوحنا: فهو لم يعمّد أحداً (41)، ولم يعش في البيداء، بل عاش في العالم. ولم ينقضِ على هذا اللقاء بين عيسى ويوحنا إلا قليل من الوقت حتى أمر هيرودس أنتباس "صاحب المُدن الأربع" في الجليل بسجن يوحنا. وتقول الأناجيل إن سبب القبض على يوحنا هو انتقاد هيرودس لأنه طلق زوجته، وتزوج هيرودياس وهي لا تزال زوجة لفليب أخيه غير الشقيق. أما يوسفوس فيقول إن سبب القبض عليه هو خوف هيرودس أن
يكون يوحنا يستتر بستار الإصلاح الديني ليثير القلاقل السياسية في البلاد (42). ويروي مرقس (43) ومتى (44) في هذا المجال قصة سالوم إبنة هوردياس، التي فتنت هيرودس برقصها أمامه حتى عرض عليها أن يقدم لها أية مكافئة تطلبها. ويقولان إنها طلبت إليه رأس يوحنا، بتحريض من أمها، وإن الحاكم أجابها وهو كاره إلى طلبها. وليس في الأناجيل شيء عن حب سالوم ليوحنا، وليس في يوسفوس ما يشير إلى أنها كانت لها يد في موته.
الفصل الثالث
الرسالة
ولما سجن يوحنا أخذ عيسى يقوم بعمل المعمدان ويخطب في الناس مبشراً بملكوت الله (45)، ويقول لوقا إنه "عاد إلى الجليل"، وإنه "كان يعلم في مجامعهم"(46). وليست لدينا صورة مطبوعة في أذهاننا عن ذلك الشاب المثالي وهو يقوم بدوره في قراءة الكتاب المقدس على المجتمعين في الناصرة، ويختار لهم فقرة من سفر اشعيا:"روح الرب عليّ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمَسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق""والعُمى بالبَصر، وأرسل المنسحقين في الحرية"
(1)
، ويضيف لوقا "وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه، فابتدأ يقول إليهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم"، وكان الجميع يشهدون ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فيه (48). ولما عرف أن يوحنا قد قُتل وأن أتباعه كانوا يبحثون عن زعيم جديد تحمل يسوع العبء وما يستتبعه من خطر، وارتد أولاً في حذر وحيطة إلى القرى الهادئة وصار يتجنب على الدوام الجدل السياسي، ثم أصبح في كل يوم أعظم جرأة في إعلانه إنجيل التوبة، والإيمان، والنجاة، حتى ظن بعض أتباعه أنه هو يوحنا قام من بين الأموات (49).
وإنا ليصعب علينا أن ننظر إليه نظرة موضوعية مجردة. وليس سبب هذه الصعوبة مقصوراً على أن كل ما نعرفه عنه منقول عن الذين كانوا يعبدونه، بل إن من أكبر أسبابها أن تراثنا الأخلاقي ومُثُلنا العليا وثيقا الصلة به، تكونا
(1)
هذا الجزء من إنجيل لوقا 4: 18 وإن كان المؤلف يضيفه إلى الآيات السابقة المنقولة عن سفر إشعيا. (المترجم)
على منواله، ولهذا فإنا نحس بما يصيبنا من أذى إذا وجدنا عيباً في أخلاقه. لقد بلغ شعوره الديني من القوة حداً جعله يندد أشد التنديد بمن لا يشاركونه في آرائه، ويعفو عن كل الأغلاط إلا عدم الإيمان. وإن الإنسان ليجد في الأناجيل فقرات قاسية مريرة لا توائم قط ما يقال لنا عن المسيح في مواضع أخرى منها؛ ويبدو أنه قبل دون بحث وتمحيص أقسى ما كان يؤمن به معاصروه عن جهنم السرمدية التي يعذب فيها مَن لا يتوبون من الكفار والمذنبين بالنار التي لا تنطفئ أبداً والديدان التي لا تشبع من نهش أجسامهم (50). وهو يقول دون أن يحتج عليه أحد إن رجلاً فقيراً في الجنة لم يُسمَح له بأن يترك نقطة واحدة من الماء تسقط على لسان رجل غني في الجحيم (51). وينصحنا بنبل شرف ألا نحكم حتى لا يُحكم علينا، ولكنه يعلن الناس والمُدن التي لم تؤمن برسالته ويلعن شجرة التين التي لم تكن تحمل ثمراً (52). ولعله كان قاسياً بعض القسوة على أمه (53). وكان يتصف بحماسة النبي العبراني المتزمت أكثر من اتصافه بالهدوء الشامل الذي يمتاز به الحكيم اليوناني وكانت عقائده القوية تملأ قلبه؛ كما كان غضبه للحق يطمس من حين إلى حين معالم إنسانيته العميقة؛ ولكن أغلاطه كانت هي الثمن الذي أداه لذلك الأيمان القوي الذي استطاع أن يحرك به العالم. أما فيما عدا هذا فقد كان أحب الناس إلى القلوب. وليست لدينا صورة واحدة له ولم يترك لنا أتباعه وصفاً دقيقاً له، ولكن الذي لا شك فيه أنه كان وسيماً بعض الوسامة، كما كان ذا روح جذّابة، استطاع بفضلهما أن يجمع حوله كثيرات من النساء وكثيرين من الرجال. وفي وسعنا أن نستدل من بعض العبارات المتفرقة (54). على أنه كان يلبس، كما كان يلبس أهل زمانه، عباءة فوق جلباب، وخفين في قدمه، ولعله كان يضع على رأسه غطاء ينزل على كتفيه ليقيه حر الشمس (55). وكانت كثيرات من النساء يجدن عنده شيئاً من العطف والحنان يبعث فيهن إخلاصاً عامراً تفيض به قلوبهن. وليس انفراد يوحنا بذكر المرأة التي ضُبطت وهي تزني
حجة على كذبها، فليست هذه القصة مما يفيد يوحنا من الناحية الدينية، وهي فوق هذا مما يتفق كل الاتفاق مع أخلاق المسيح
(1)
. ولا يقل جمالاً عن هذه القصة قصة أخرى ليس في طاقة أتباعه أن يخترعوها، وهي قصة العاهر التي أثَرت في قلبها سرعة قبوله توبة المذنبين، فخرّت راكعة بين يديه، ودهنت قدميه بالطيب الثمين، وغسلتهما بدموعها، وجففتهما بشعر رأسها، وقال عنها عيسى إن خطاياها قد غُفِرت لها "لأنها أحبّت كثيراً"(57). ويروى أن الأمهات كن يأتين إليه بأطفالهن ليمسهم بيديه، وأنه "احتضنهم ووضع يديه عليهم وباركهم"(58).
ولم يكن عيسى من النساك الزاهدين كما كان الأنبياء والإسينيون والمعمدان. ويروى عنه أنه قدم كثيراً من الخمر في حفل للزواج، وأنه كان يعيش مع "العشارين والمذنبين"، وأنه قبل عاهراً تائبة ضمن أتباعه. ولم يكن يأنف من مسرات الحياة الساذجة، وإن كان قد قسا قسوة غير طبيعية على رجل كان يشتهي فتاة. وكان في بعض الأحيان يقبل الدعوة إلى الولائم في بيوت الأغنياء، ويبدو أنه كان في العادة يختلط بالفقراء، وإن كانوا من الامحاريين Amhaarez أشبه الناس بالمنبوذين الذين كان الفريسيون والصدوقيون يحتقرونهم ويتجنبونهم. وكان يدرك أن الأغنياء لن يؤمنوا برسالته، فكان لذلك يبني آماله على ما عساه يحدث من انقلاب يدخل الفقراء الوضيعين الأعلين في ملكوت الله. ولم يكن يشبه قيصر إلا في وقوفه إلى جانب الطبقات السفلى وفي اتصافه بالرحمة. أما فيما عدا هذا فما أكبر الفرق بين الرجلين في أخلاقهما، ونظرتهما إلى الحياة، وما يهتمان به فيها. لقد كان قيصر يرجو أن يصلح الناس بتبديل
(1)
يوحنا 7: 52 وما بعدها. وقد وردت القصة أيضاً في نسخ خطبة قديمة من إنجيل مرقس ولوقا، ولكنها حذفت من نصيهما المتأخرين، وليس سبب حذفها خوف الناشرين من أنها قد تساعد على فساد الأخلاق.
نظمهم وشرائعهم، أما المسيح فكان يرغب في أن يكون تغيير طبائع الناس وسيلة لتبديل النظم والاستغناء عن كثير من الشرائع. وكان قيصر هو الآخر ممن يغضبون أحياناً، ولكن انفعالاته كانت على الدوام تحت سيطرة بصيرته النفاذة، أما عيسى فلم يكن أيضاً غير ذي بصيرة، وكان يجيب عن أسئلة الفريسيين الماكرة بمهارة تكاد تضارع مهارة المحامين. ولكنها لم تكن مهارة خالية من الحكمة، ولم يكن في وسع أحد أن يربكه ولو هدده بالقتل، لكن قواه العقلية لم يكن منشَؤها اتساع عقله أو كثرة معارفه، بل كان مبعثها نفاذ البصيرة، وقوة الشعور، ووحدة الغرض. ولم يكن يدعي العلم بكل شيء، وكثيراً ما كان يفاجأ بالحوادث التي لا ينتظر وقوعها، وكان الذي يحمله على المغالاة في تقدير قواه ومواهبه هو جده وحرصه على الوصول إلى غرضه وتحمسه له، كما حدث في الناصرة وأورشليم، بيد أن قواه كانت غير عادية، ولعل الذي يثبت هذا هو معجزاته.
وأكبر الظن أن معظم هذه المعجزات كانت تحدث في أكثر الأحوال بقوة الإيحاء - أي بتأثير روح قوية واثقة من نفسها، في روح قابلة للتأثر. ولقد كان وجوده في حد ذاته يبعث القوة في مَن حوله، فكانت لمسته المبشرة بالخير تشفي المريض وتقوي الضعيف، وليست رواية أمثال هذه القصص عن غيره من الناس في الخرافات والتاريخ (59) دليلاً على أن معجزات المسيح هي الأخرى خرافات وأساطير، فليس منها إلا عدد قليل لا يصدقه العقل، ويمكن مشاهدة أمثالها في كل يوم تقريباً في لورد Lourdes، وما من شك في أنها كانت تحدث أثناء حياة المسيح في إبدورس Epidaurus وغيرها من مراكز العلاج النفسي في العالم القديم؛ وقد شفى الرسل أنفسهم حالات من هذا النوع. وهناك عاملان يدلان على أن هذه المعجزات ظاهرة نفسية، أولهما أن المسيح نفسه كان يعزو شفاء المرضى على يديه إلى "إيمان" مَن يشفيهم؛ وثانيهما عجزه عن القيام
بمعجزات في الناصرة، لأن أهلها فيما يظهر كانوا ينظرون إليه على أنه "إبن نجار" ولا يؤمنون بقواه غير العادية؛ ومن ثم كان قولهم إنه "ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته"(60). ويُقال لنا عن مريم المجدلية إن "سبعة شياطين قد أُخرجَت منها، أي أنها كانت تشكو آلاماً ونوبات عصبية، (ويذكرنا هذا باعتقاد البعض أن الشياطين تتقمص أجسام الناس) "؛ والظاهر أن هذه الآلام والنوبات كانت تخف حدتها في حضرة عيسى؛ ومن أجل هذا كانت تحبه لاعتقادها بأنه أعاد إليها الحياة، وأن قربه منها كان أمراً لا غنى عنه لسلامة عقلها. وأما إبنة بايروس فقد قال المسيح عنها في صراحة: إن البنت لم تمت بل كانت نائمة - ولعلها كانت مصابة بالشخوص
(1)
، ولم يلجأ حين ناداها بأن تستيقظ إلى لهجته الرقيقة المعتادة بل قال بلهجة الآمر القوية:"طليثا قومي"(أي يا صبية قومي)(61). ولسنا نقصد بهذا أن نقول إن عيسى كان يرى أن معجزاته ظواهر طبيعية محضة؛ فقد كان يحس أنه لا يأتي بهذه المعجزات إلا بمعونة ما فيه من روح قدسية. ولسنا نعرف أنه كان مخطئاً في اعتقاده هذا، كما أننا لا نستطيع حتى الآن أن ندرك حدود ما في تفكير الإنسان وإرادته من إمكانيات وقوى كامنة. ويبدو أن عيسى نفسه كان يحس بخور نفساني بعد أن يقوم بمعجزاته، وأنه كان يحاولها وهو كاره، وينهي أتباعه عن إذاعتها، ويؤنب مَن يطلب غليه "علامة"، ولقد ساءه أن أكبر الأسباب التي دعت الرسل أنفسهم إلى الإيمان به هو ما أتاه من أفعال "عجيبة".
ويصعب علينا أن نقول إن أولئك الرسل كانوا من طراز الذين يختارون ليبدلوا أقوال العالم. فالأناجيل تظهر ما بين أخلاقهم من اختلاف واقعي، وتكشف عن عيوبهم كشفاً صريحاً، فهم لا يخفون مطامعهم، ولما أراد
(1)
ويسمى أيضاً بالتخشب والجمود أو داء الثبوت وهو مرض عصبي يتميز بفقد الإدارة وتصلب العضلات سببه مرض الجهاز العصبي المركزي (شرف).
عيسى أن يهدئ من هذه المطامع وعدهم بأنهم سيجلسون في يوم الحساب على اثني عشر كرسياً يدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر (62). ولما أن سجن المعمدان انضم أندرو أحد أتباعه إلى عيسى وجاء معه بأخيه سيمون الذي سماه المسيح باسم كفاس، أي "الصخرة". وترجم اليونان اسمه إلى بطرس، وبطرس هذا شخصية بشرية لحماً ودماً، فهو متهور، جاد، كريم، غيور، هياب يصل به الوجل في بعض الأحيان إلى حد الجبن الذي لا يسع الإنسان إلا أن يعفو عنه. وقد كان هو وأندرو يصيدان السمك في بحيرة الجليل، وكذلك كان ولدا زبدي Zebedee يعقوب ويوحنا. وانتقل هؤلاء الأربعة بأعمالهم وأسرهم وأصبحوا دائرة ضيقة حول المسيح. وكان متّى جابياً في مجينة كبرنوم القائمة على الحدود؛ أي أنه كان يقوم بعمل للدولة، وإذن فقد كان في منصبه هذا يخدم رومة، لهذا كان مكروهاً من كل يهودي يتوق إلى الحرية. وكان يهوذا الكريوثي وحده دون سائر الرسل الذي لم يأتِ من الجليل. وجمع الاثني عشر كلهم جميع ما يملكون وعهدوا إلى يهوذا أن يتولاها نائباً عنهم. وكانوا في طوافهم مع المسيح في رحلاته التبشيرية يعيشون على ما يقدمه لهم القرويون، ويأخذون طعامهم آناً بعد آن مما يمرون به من الحقول، ويقبلون ضيافة أصدقائه ومَن يهتدون بهديهم. وقد أضاف عيسى إلى الاثني عشر اثنين وسبعين من الأتباع، وبعث بأثنين منهم إلى كل بلدة يريد أن يزورها، وقال لهم "لا تحملوا كيساً، ولا مزوداً، ولا أحذية"(63). وانضمت بعض النساء الصالحات الرحيمات إلى أولئك الرسل والاتباع وقدمن لهم المعونة، وأدين لهم تلك الأعمال المنزلية التي لا غنى عنها، والتي هي أعظم سلوى لحياة الرجال. وعلى يد هذه الجماعة الصغيرة الوضيعة غير المتعلمة أرسل المسيح إنجيله إلى العالم.
الفصل الرابع
الإنجيل
وكان يعلم الناس بالبساطة التي تتطلبها حال مستمعيه، ويمزج هذه التعاليم بالقصص الطريفة التي تجعل دروسه تنفذ إلى الأذهان، وبالحكم والأمثال القوية بدل الحجج العقلية، وبالاستعارات، والمجازات التي لا تقل روعة عن أمثالها في أي أدب من آداب العالم. وكانت طريقة القصص الرمزي التي يلجأ إليها مألوفة في بلاد الشرق، وقد أخذ بعض تشبيهاته الرائعة، ولعله أخذها دون علم منه، عن أنبياء بني إسرائيل، وكتاب المزامير وأحبار اليهود (64). وبيد أن وضوح خطبه واتجاهها إلى هدفها مباشرة، وروعة خياله وقوته، وإخلاصه العظيم، قد رفعت أقواله إلى مستوى الشعر الملهم. ولسنا ننكر الغموض يكتنف بعض أقواله، وأن بعضها يبدو لأول وهلة مما يجافى مع العدالة (65)، وأن منها ما يشتمل على السخرية اللاذعة والحقد المرير، ولكنها كلها تقريباً نماذج في الإيجاز والوضوح والقوة.
وكانت بداية تعاليمه هي إنجيل يوحنا المعمدان، وهذا الإنجيل نفسه يرجع إلى دانيال وأخنوخ، إذ ليس في التاريخ طفرات. ومن أقواله أن ملكوت الله قد حان أجلها، وأن الله سيقضي عما قريب على عهد الشر والخبائث، وأن إبن الإنسان سيأتي "على سحب السماء" ليحاسب جميع البشر الأحياء منهم والأموات (66). ومن أقواله إن الوقت الذي يجب أن يتوب فيه الإنسان من ذنوبه يمر مسرعاً، فأما مَن تاب وأناب، وسلك سبيل العدالة، وأحب الله وآمن برسوله، فإنه يرث ملكوت السموات، ويسمو إلى القوة والمجد في عالم قد تحرر آخر الأمر من جميع الشرور والآلام والموت.
وكانت هذه الأفكار كلها مألوفة لسامعيه، ولهذا فإن المسيح لم يحددها تحديداً واضحاً، ومن ثم نشأت في وقتنا هذا صعاب جمة سببها ما في هذه الأفكار من غموض. ترى ماذا كان يعني بملكوت السموات؟ أهي سماء خيالية خارجة عن مألوف الطبيعة؟ يخيل إلينا أنها لم تكن كذلك، لأن الرسل والمسيحيين الأولين كانوا على بكرة أبيهم ينتظرون أن توجد مملكة أرضية، وكانت هذه هي الرواية اليهودية التي ورثها عنهم المسيح، ومن أجل هذا كان يعلم أتباعه أن يصلّوا إلى الأب قائلين "ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض".
ولم ينطق إنجيل يوحنا المسيح بقوله إن "مملكتي ليست من هذا العالم"(67) إلا بعد أن خبا هذا الأمل. فهل كان يعني بها حالة روحية أو طوبى مادية؟ لقد كان يتحدث في بعض الأحيان عن ملكوت الله في وصفها حالة من حالات الروح يصل إليها الأطهار المبرؤون من الذنوب- "ملكوت الله داخلكم"(69)، وكان في أحيان أخرى يصورها كأنها مجتمع سعيد في مستقبل الأيام، حكامه هم الرسل، ويأخذ من أعطي أو أوذى في سبيل المسيح مائة ضعف (70). ويبدو أنه لم يكن يرى أن ملكوت الله هي الكمال الخلقي إلا مجازاً، وأنه يرى أن هذا الكمال الخلقي إنما هو إعداد لهذا الملكوت وثمن يؤدى للحصول عليه، وأنه هو الحال التي تكون عليها حميع الأرواح الناجية في الملكوت إذا ما تحقق (71).
ومتى يحين موعد هذا الملكوت؟ قريباً "الحق أقول لكم إني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حين أشربه جديداً في ملكوت الله". ومن أقواله لأتباعه: "لا تكملون مُدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان"(72). ثم أخره قليلاً فيما بعد: "إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا إبن الإنسان آتياً في ملكوته"(74)؛ "لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا
كله" (75). ومرت به لحظات رأى فيها من حسن السياسة أن يحذر رسله بقوله: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الإبن إلا الأب" (76). وستسبقه علامات: "وسوف تسمعون بحروب وأخبار حروب
…
تقوم أمّة على أمّة ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن
…
يعثر كثيرون
…
يبغض بعضهم بعضاً، ويقوم أنبياء كذبة كثيرون، ويضلّون كثيرين، ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين" (77). وفي بعض الساعات جعل يسوع مجيء ملكوت الله ينتظر استحالة الإنسان إلهاً عادلاً كما جعله موقوفاً على هذه الاستحالة، وهو يجعل حلول الملكوت عادة عملاً من أعمال الله، وعطية معجزة يفاجأ بها الناس من قبل العناية الربانية.
وقد فهم الكثيرون ملكوت الله بأنه طوبى شيوعية؛ وحسبوا المسيح ثائراً اجتماعياً (78). وإنا لنرى في الأناجيل بعض الشواهد التي تؤيد هذا الرأي، منها أن المسيح لا يخفي احتقاره للرجل الذي يجعل همه في الحياة جمع المال والانغماس في الترف (79)، فهو يتوعد الفتى البطين بالجوع والشقاء، ويواسي بالتطويبات التي ضمن لهم بها ملكوت الله. ولما سأله شاب غني عما يجب أن يفعله بعد أن حفظ الوصايا قال: "بع أملاكك، وأعطِ الفقراء فيكون لك كنز في السماء، و
…
إتبعني" (80). ويبدو أن الرسل كانوا يفسرون الملكوت بأنه انقلاب ثوري للعلاقات القائمة بين الأغنياء والفقراء، وسوف نراهم هم والمسيحيين الأولين يؤلفون جماعة شيوعية: "وجميع الذين آمنوا كانوا معاً، وكان عندهم كل شيء مشتركاً" (81). وكانت التهمة التي أدين من أجلها عيسى هي أنه كان يتآمر ليكون "ملك اليهود".
ولكن في وسع الرجل المحافظ أن يجد في العهد الجديد شواهد يؤيد بها آراءه. منها أن المسيح قد اتخذ متّى صديقاً له، ومتى هو الذي ظل كما كان
عاملاً من قبل الرومان، ومنها أنه لم يطعن قط على الحكومة المدنية ولم يكن له فيما تعلم نصيب في الحركة اليهودية التي تهدف إلى الحرية القومية، وأنه كان ينصح بالكياسة البعيدة أشد البعد عن الثورة السياسية. وقد نصح الفريسيين بأن يعطوا "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"(82). ولسنا نجد في قصة الرجل الذي "دعا عبيده" قبل سفره "وسلمهم أمواله"(83) أية شكوى من الربا أو الاسترقاق. بل إنها تسلم بهاتين السنتين بوصفهما من الأمور التي لا تقبل الجدل. ويبدو أن المسيح يقر ما فعله العبد الذي استثمر العشر الميقات (600 ريال أمريكي) التي عهد بها إليه شيده، فصارت عشرين؛ وأنه لا يقر عمل العبد الذي تركت له منها واحدة فحبسها ولم يستثمرها حتى يعود سيده من غيبته، وينطق هذا السيد بتلك العبارة القاسية: إن كل من له يُعطى، ومن ليس له فالذي عنده يُؤخذ منه (84)، وهي خير ما تلخص به أعمال السوق التجارية، إن لم نقل إنها خير خلاصة لتاريخ العالم. وفي قصة رمزية أخرى نرى العمال غاضبين على صاحب العمل الذي يؤجر من عمل ساعة بقدر ما يؤجر الذين ظلوا يكدحون طوال اليوم؛ فينطق المسيح صاحب العمل بقوله:"أوَ ما يحل لي أن أفعل ما أريد بمالي؟ "(85). ويبدو أن المسيح لم يفكر في القضاء على الفقر، لأن الفقراء دائماً معه. فهو كالأقدمين جميعاً يرى أن من الأمور المسلّم بها أنه يجب على العبد أن يخدم سيده على خير وجه:"طوبى لذلك العبد الذي إذا جاءه سيده يجده يفعل هكذا"(86) أي ما كلفه به. وهو لا يرى من شأنه أن يهاجم النظم الاقتصادية أو السياسية القائمة في وقته، بل يفعل عكس هذا فيهاجم ذوي النفوس الثائرة المتحمسة الذين يغتصبون ملكوت السموات (87). أما الثورة التي كان يفكر فيها فكانت أعمق من هذه الثورة وأبعد منها أثراً، فهي ثورة إذا لم تحدث كانت كل الإصلاحات سطحية سريعة الزوال. فإذا استطاع أن يطهر قلوب الناس من الشهوات الأنانية، ومن القسوة، والفجور، فإن الطوبى
تحل، ولا يبقى أثر لتلك النظم التي تنشأ من شره الإنسان وعنفه، وما تستتبعه من الحاجة إلى القوانين. وهذا إذا تم كان أعمق الثورات، التي إذا قيست إليها الثورات جميعاً كانت تغييراً موقوتاً يضع طبقة مكان طبقة، وتظل الطبقة الغالبة تستغل الناس كما كانت تستغلهم الطبقة المغلوبة. وبهذا المعنى كان المسيح أعظم الثائرين؛ أي محدثي الانقلابات في تاريخ العالم.
وليست أهم أعماله أنه يبشر بدولة جديدة، بل أهمها أنه يضع الخطوط الرئيسية لمبادئ أخلاقية مثالية. وكانت تلك المبادئ الأخلاقية هي التي تنبأ بقيامها عندما يحل موعد ملكوت الله (88)، والتي كان يقصد بها أن يكون الناس خليقين بالدخول في هذا الملكوت. ومن ثم كانت تلك "التطويبات" وما فيها من تمجيد للوداعة، والفقر والرقة، والسلام لم يسبق له مثيل، وكانت نصيحته أن يدير الإنسان خده الثاني، وأن يكون الناس كصغار الأطفال "لا مثلاً عليا للفضيلة! " وعدم اهتمامه بالشئون الاقتصادية، وبالفقر، وبشئون الحكم، وتفضيله العزوبة عن الزواج، وأمره الناس بأن يتخلوا عن جميع الروابط العائلية لم تكن هذه قواعد للحياة العادية، بل كانت نظاماً يكاد يماثل نظام الأديرة يهيّئ الرجال والنساء لأن يختارهم الله لمملكة مرتقبة، لن تكون فيها شريعة، ولا زواج، ولا علاقات جنسية، ولا فقر، ولا حر، وقد أثنى يسوع على الذين تركوا "بيتاً، أو والدين، أو أخوة، أو امرأة، وأولاداً" بل أثنى أيضاً على الذين "خصّوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات"(89). وما من شك في أن هذه التعاليم قد وضعت لتسير عليها أقلية دينية ورعة، ولم توضع لمجتمع دائم، لقد كانت هذه مبادئ أخلاقية، ضيقة في أغراضها، ولكنها عامة في مجالها، لأنها تطبق فكرة الاخوة والقاعدة الذهبية على الأجانب والأعداء كما تطبقها على الجيران والأصدقاء، وكانت تتطلع إلى زمن لا يعبد في الناس الله في الهياكل بل يعبدونه "بالروح، والصدق" وبكل عمل يعملونه لا بالألفاظ الزائلة.
ترى هل كانت هذه المبادئ الأخلاقية جديدة؟ ليس ثمة شيء جديد إلا الترتيل، وإن الفكرة الرئيسية التي تدور حولها عِضات المسيح- فكرة يوم الحساب وملكوت الله- لهي من الأفكار التي وجدت عند اليهود قبل ذلك الوقت بمائة عام. ولقد نادت الشريعة بأخوة البشر قبل ذلك بزمن طويل، فقد جاء في سفر اللاويين:"تحب قريبك كنفسك" و "كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم وتحبه كنفسك"(90). وكان اليهود قد أمروا في سفر الخروج أن يحسنوا لأعدائهم (91)، وكان إرميا (92) وإشعيا (93)، قد أشارا عليهم أن يديروا خدهم لمن يلطمهم. وكان الأنبياء أيضاً قد جعلوا الحياة الصالحة أعلى درجة من العداوة أياً كان نوعها، وكان إشعيا (94) وهوشع (95)، قد شرعا يبدلان يهوه من رب الجنود إلى إله الحب، وكان هلل قد صاغ القاعدة الذهبية كما صاغها كنفوشيوس؛ وليس من حقنا أن نأخذ على يسوع أنه ورث المبادئ الأخلاقية التي كانت سائدة بين شعبه، وأفاد من تلك المبادئ.
وقد ظل المسيح زمناً طويلاً لا يرى في نفسه إلا أنه أحد اليهود، يؤمن بأفكار الأنبياء، ويواصل عملهم، ويجري على سنتهم، فلا يخطب إلا في اليهود، ولما أرسل أتباعه لينشروا إنجيله لم يرسلهم إلا لمدن اليهود:"إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة السامرين لا تدخلوا"(96)؛ ومن ثم كان تردد الرسل بعد موته في أن يحملوا "الأنباء الطيبة" إلى عالم "الكفرة"(97)؛ ولما إلتقى بالسامرية عند البئر قال لها "الخلاص لهو من اليهود"(98)؛ وإن لم يكن من حقنا أن نحكم عليه من أقوال لعلها قد تقولها عليه إنسان لم يكن حاضراً معه، أو كتبها بعد ستين عاماً من الحادثة التي قيلت فيها. ولما طلبت إليه إمرأة كنعانية أن يشفي غبنتها أبى في أول الأمر وقال:"لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالّة"(99). وقال للأبرص الذي شفاه من علّته "اذهب أرِ نفسك للكاهن وقدّم القربان الذي أمر به موسى"(100): "على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون،
فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه، لكن حسب أعمالهم لا تعملوا" (101)، ولما عرض يسوع أن تعدل الشريعة اليهودية، سار على سنة هلل فلم يفكر في انه ينقض هذه الشريعة: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمّل" (102) "ولكن زوال السماء والأرض أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس"
(1)
.
لكنه مع هذا قد بدل كل شيء بقوة أخلاقه وشعوره. فقد أضاف إلى الشريعة اليهودية أمره إلى الناس بأن يستعدوا للدخول في الملكوت بأن يحيوا حياة العدالة، والرأفة والبساطة. وزاد الشريعة صرامة في مسائل الجنس والطلاق (105)، ولكنه خففها بأن كان أكثر استعداداً للعفو (106)، وذكر للفريسيين أن السبت قد وضع لخير الإنسان (107)، وخفف الشروط الموضوعة على الطعام والطهارة، وحذف بعض أوقات الصوم، وأعاد الدين من المراسم والطقوس إلى الصلاح والاستقامة، وندد بالجهر بالصلوات، والتظاهر بالصدقات، والاحتفالات الفخمة بالجنازات، وترك الناس أحياناً يظنون أن الشريعة اليهودية سوف تمحى حين تحل الملكوت (108).
وقد قاوم اليهود على اختلاف شيعتهم هذه الإصلاحات عدا الإسينيين، وكان الذي أغضبهم بنوع خاص ما دعاه لنفسه من حق العفو عن الخطايا والتحدث باسم الغلة. وقد هالهم أن يروه يختلط بعمال روما المبغضين؛ وبالنساء ذوات السمعة السيئة. وكان كهنة الهيكل وأعضاء السنهدرين يرقبون نشاطه بعين الريبة، ويرون في هذا النشاط ما كان يراه هيرودس في نشاط يوحنا وهو أنه ستار يخفي تحته ثورة سياسية، وكانوا يخشون أن يتهمهم الحاكم الروماني بأنهم يتحللون مما هو مفروض عليهم من تبعات ليحافظوا بذلك على النظام الاجتماعي.
(1)
ربما كانت هذه الفقرات مما تقوله عليه المسيحيون المتهودون الذين أرادوا أن يحطوا من شأن بطرس (104) ولكننا لا نستطيع أن نجزم بهذا إذ ينقصنا الدليل.
وقد أوجسوا في نفوسهم خيفة من وعد المسيح بتدمير الهيكل، ولم يكونوا واثقين من أن هذا التدمير إنما هو تدمير مجازي لا يقصد به حرفيته. أما المسيح نفسه فقد ندد بهم تنديداً شديداً.
"الكتبة الفريسيون
…
يحزمون أحمالاً ثقيلة سرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم. وكل أعمالهم يعملونها لكي تنضرهم الناس، فيعرضون عصائبهم ويعظمون أهداب ثيابهم، ويحبون المتكأ الأول في الولائم والمجالس الأولى في المجامع: لكن ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون .. أيها القادة العميان .. أيها الجهال والعميان! .. تركتم أثقل الناموس- الحق والرحم والإيمان
…
تنقون خارج الكأس والصحفة، وهما من داخل مملوءان اختطافاً ودعارة
…
ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تشبهون قبوراً مبيضة!
…
تظهرون للناس أبراراً ولكنكم من داخل مشحونون رياء ونفاق
…
إنكم أبناء قتلة الأنبياء، فإملأوا أنتم مكيال آبائكم! أيها الحيّات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم؟
…
إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله" (109).
ترى هل كان يوحنا عادلاً في حكمه على الفريسيين؟ أكبر الظن أنه كان من بينهم مَن يستحقون هذا التقريع، وأن منهم كثيرين كانوا يفعلون ما فعله المسيحيون بعد بضعة قرون من ذلك الوقت فيستبدلون بطهارة النفس مظاهر التقى الخارجية. غير أنه كان من بين الفريسيين كثيرون يرون أن الشريعة يجب أن تخفف وأن تكون أكثر إنسانية مما هي (110). ولعل عدداً كبيراً من هذه الطائفة كانوا رجالاً مخلصين وأشرافاً ظرفاء إلى حد كبير؛ يشعرون بأن القواعد الشكلية التي أغفلها يسوع يجب ألا يُحكم عليها مستقلة عن غيرها من القواعد، بل يجب أن تؤخذ على أنها جزء من الشرائع التي ساعدت على جمع كلمة اليهود، بعثت فيهم العزة والأدب وسط عالم يبغضهم ويعاديهم. وكان بعض
الفريسيين يعطفون على عيسى، وقد جاءوه ليحذروه من المؤامرات التي كانت تدبر لاغتياله (111)، ولقد كان نقوميدس Nicomedus أحد المدافعين عنه من أغنياء الفريسيين.
وحلّت القطيعة الأخيرة بين عيسى وبينهم حين بدأ يعتقد أنه هو المسيح المنتظر، ويُعلن هذا في صراحة ووضوح. لقد كان أتباعه ينظرون إليه في أول الأمر على أنه خليفة يوحنا المعمدان، ثم أخذوا يعتقدون شيئاً فشيئاً أنه هو المنقذ الذي سيرفع نير الرومان عن إسرائيل، ويبسط حكم الله على الأرض. ولما أن سألوه "قائلين يا رب هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل؟ (112) لم يجبهم إلا بقوله "ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الرب في سلطانه" وأجاب جواباً شبيهاً بهذا الجواب في غموضه حين سأله رسل من عند المعمدان هل هو المسيح المنتظر؟ وأراد أن يخرج من عقول أتباعه فكرة أنه مسيح سياسي فأنكر كل إدعاء بأنه من نسل داود (113). ولكن يلوح أن ترقب أتباعه وآمالهم القوية، وما تبينه من قواه النفسية غير العادية قد أقنعاه تدريجاً بأنه رسول من عند الله جاء ليعد الناس لحكم الله في الأرض لا ليعيد سيادة اليهودية. ولم يقل (في الأناجيل الثلاثة المتشابهة: متّى، ومرقس: ولوقا) إنه هو الأب إله واحد أو يسوي نفسه به؛ فقد سأل أتباعه "لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحداً هو الله" (114) وقال وهو يصلي في جتسماني: "ليكن لا كما أريد أنا، بل كما تريد أنت" (115). وقد أخذ لفظ "إبن الأنسان" الذي جعله دانيال مرادفاً للفظ المسيح، واستعمله في بادئ الأمر دون أن يقصد به نفسه في وضوح ثم انتهى آخر الأمر بإطلاق هذا اللفظ على نفسه في مثل قوله: "فإن إبن الإنسان هو رب السبت أيضاً" (117) - وهي عبارة رآها الفريسيون تجديفاً في حق الله. وكان يدعو الله باسم "الأب" دون أن يقصد بهذا في بعض الأحيان أباه هو نفسه، بيد أنه أحيانا أخرى يقول: "أبي". ويبدو أنه يقصد بهذا
أنه ابن الله بصفة أو درجة خاصة (118). وقد ظل وقتاً طويلاً ينهي أتباعه عن أن يسموه المسيح، ولكنه في قيصرية فلبس رضي بقول بطرس إنه "المسيح ابن الله الحي"(119). ولما اقترب من أورشليم في آخر يوم أثنين قبل وفاته ليوجه آخر دعوة إلى الناس حباه "جمهور التلاميذ" قائلين "مبارك الملك الآتي باسم الرب"، ولما طلب إليه بعض الفريسيين أن ينتهر تلاميذه من أجل هذه التحية رد عليهم بقوله:"إنه لو سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ"(120). وقد جاء في الإنجيل الرابع أن الجماهير حيته بقولها "إنه ملك إسرائيل"(121). ويبدو أن أتباعه كانوا لا يزالون يعتقدون أنه مسيح سياسي سيقضي على سلطان الرومان ويجعل الكلمة العليا لليهودية. وكانت هذه الأصوات والتحيات هي التي قضت على المسيح بأن يموت ميتة الثوار.
الفصل الخامس
الموت والتجلّي
اقترب عيد الفصح واجتمع في أورشليم عدد كبير من اليهود ليقربوا القرابين للهيكل. وكان البهو الخارجي يضج بأصوات البائعين ينادون على الحمام وغيره من حيوانات الضحايا والصيارفة يعرضون النقود المتداولة في هذا المكان بدل نقود الوثنيين المتداولة في الإمبراطوريّة الرومانية. ولما زار عيسى الهيكل في اليوم الثاني بعد دخوله المدينة هاله ما كان تحت المظلات من ضجيج وأعمال تجارية، فانتابته هو وأتباعه نوبة من الغضب الشديد، دفعتهم إلى قلب مناضد الصيارفة وتجّار الحمام، وبعثرت نقودهم على الأرض، وإخراج التجار من ساحته بضرب العصى. وظل عدة أيام بعد مجيئه يعلم في الهيكل دون أن يتعرض له أحد (122). ولكنه كان يخرج منه ليلاً ويبيت في جبل الزيتون لخوفه أن يُقبض عليه أو يُغتال.
وكان عمال الحكومة - المدنيون منهم والدينيون، الرومان واليهود - يراقبونه، وأكبر الظن أن هذه المراقبة قد بدأت من يوم أن خلف يوحنا المعمدان في عودته. وكان عجزه عن أن يضم إليه عددا كبيراً من الأتباع مما جعلهم يهملون أمره، ولكن يبدو أن الاستقبال الحماسي الذي استقبل به في أورشليم حير زعماء اليهود فصاروا يخشون أن تلتهب حماسة هذه الجماعات التي اجتمعت في عيد الفصح، فتدفعها عواطفها الثائرة ونزعتها الوطنية إلى الثورة على السلطة الرومانية ثورة طائشة عقيمة لم يحن موعدها بعد، فتكون عاقبتها القضاء على كل ما تستمتع به اليهودية من حكم ذاتي وحرية دينية. ومن أجل هذا دعا الحاخام الأكبر السنهدريين إلى الاجتماع.
وقال له: "إنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها"(123) ووافقته أغلبية الحاضرين على رأيه وأمر المجلس بإلقاء القبض على المسيح.
ويبدو أن نبأ هذا القرار وصل إلى مسامع يسوع، ولعل الذي أوصله إليه بعض أعضاء في السنهدرين نفسه. ففي اليوم الرابع عشر من شهر نيسان العبري (وهو اليوم الثالث من شهر إبريل) من العام الثلاثين في أرجح الأقوال
(1)
أكل عيسى ورسله عشاء عيد الفصح في دار صديق له في أورشليم، وكانوا ينتظرون أن يُنجّي المعلم نفسه بما له من معجزات؛ لكنه لم يفعل شيئاً من هذا، ورضي بما قُدّر له، ولعله كان يأمل أن يتقبل الله موته على أنه تضحية يكفر بها عن ذنوب شعبه (124). وقد قيل له إن أحد الاثني عشر كان يأتمر به ليسلمه إلى أعدائه، وفي هذا العشاء الأخير اتهم المسيح علناً يهوذا الإسخريوطي
(2)
. وقد جرى يسوع على السنن اليهودية فبارك الخمر الذي قدمه للرسل ليشربوه، ثم غنوا جميعاً أغنية هاليل اليهودية (127). ويقول يوحنا إنه قال لهم "يا أولادي أنا معكم زماناً قليلاً بعد
…
وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضاً
…
لا تضطرب قلوبكم. أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي. في بيت أبي منازل كثيرة
…
أنا أمضي لأعد لكم مكاناً" (128).
ويبدو أن من المعقول جداً أن يطلب المسيح إليهم في هذه الساعة الرهيبة أن يكرروا هذا العشاء في مواسم خاصة (كما تتطلب ذلك عادة اليهود)، إحياء لذكراه؛ وليس ببعيد أنه، وهو ذو الإحساس الشرقي المرهف والخيال الشرقي
(1)
ولقد طال الجدل حول الزمن الذي امتدت إليه رسالة المسيح، والسنة التي مات فيها ولقد رأينا أن لوقا يحدد تعميد المسيح بعام 28 - 29. أما تاريخ بولس، الذي يعتمد فيه على ما قاله هو نفسه في رسالته إلى أهل غلاطية الإصحاح الأول والثاني، وتواريخ الحكام الرومان الذين تولوا محاكمته، والرواية المأثورة التي تقول إن موته كان في عام 64، كل هذا يتطلب أن يكون اعتناق بولس لدين المسيح في عام 31. أنظر الفصل السابع والعشرين.
(2)
لقد قيلت حجج كثيرة في تفنيد قصة يهوذا (125)، ولكنها حجج لا يقنع بها العقل (126).
الوثاب، قد سألهم أن يتصوروا أن العيش الذي يأكلونه هو جسمه، وأن الخمر التي يشربونها هي دمه.
ويُقال إن الجماعة الصغيرة اختبأت تلك الليلة في حديقة جتسيماني في خارج أورشليم. وفيها عثرت عليهم سيرة من شرطة الهيكل (129). وقبضت على يسوع. وسيق أولاً إلى بيت أونياس أحد كبار الكهنة السابقين، ثم نُقل منه إلى بيت قيافا. ويقول مرقس "إن المجلس" ولعل الأصح إن لجنة من أعضاء السنهدرين - اجتمعت في ذلك المكان. وشهد عليه شهود كثيرون، وذكروا بنوع خاص تهديده بتخريب الهيكل. ولما سأله قيافا هل هو "المسيح ابن الله؟ " أجابه كما تقول الرواية "أنا هو"(130)، واجتمع السنهدرين في صباح اليوم التالي وأثبت عليه جريمة التجديف (وكان عقابها الإعدام في تلك الأيام) وقرر أن يسوقه أمام الحاكم الروماني. وكان قد جاء إلى أورشليم ليرقب الجماهير المختلفة بعيد الفصح.
وكان بيلاطس البنطي رجلاً قاسياً، استدعي إلى روما بعد وقت ما من هذه الحادثة متهماً بابتزاز المال واستخدام القسوة (131)، وعُزل من منصبه. على أنه لم يبدُ له وقتئذ أن هذا الواعظ الوديع الخلق خطر حقيقي على الدولة. وسأل الرجل يسوع سؤالاً يكاد يكون من قبيل المداعبة:"أأنت ملك اليهود؟ " أجاب يسوع، حسب رواية متّى بقوله "نعم" ولا يسع الإنسان إلا أن يشك في هذه التفاصيل التي تناقلها الناس مشافهة في أغلب الظن، ثم دونوها بعد وقوعها بزمن طويل. فإذا أخذنا بهذا النص وجب علينا أن نجزم بأن يسوع كان قد قرر أن يموت، وأن نظرية بولس عن التكفير تجد ما يؤيدها في عمل المسيح نفسه. وينقل يوحنا عن يسوع أنه أضاف إلى جوابه السابق قوله: "لهذا قد وُلدّت أنا
…
لأشهد للحق". وسأله بيلاطس "ما هو الحق؟ " - وهو سؤال لعل الباعث عليه نزعة الإنجيل الرابع الميتافيزيقية، ولكنه يدل بأجلى بيان على ما هنالك
من فروق بين ثقافة الروماني السفسطائية الساخرة ومثالية اليهودي الواثقة المتحمسة. ومهما يكن من شيء فلم يكن أمام القانون بعد اعتراف المسيح إلا أن يدينه، وبناء على هذا أصدر بيلاطس وهو كاره حكمه بالإعدام.
وكان الصلب من طرق العقاب الرومانية اليهودية. وكان الجلد يسبقه عادة، فإذا ما جلد المذنب بقسوة أصبح جسمه كتلة من اللحم المتورّم الدامي. ووضع الجنود الرومان تاجاً من الشوك على رأس المسيح يسخرون بذلك من تلقيبه "ملك اليهود" كما نقشوا على صليبه باللغات الآرامية واليونانية واللاتينية "عيسى الناصري هو ملك اليهود" Nazarathaeus Rek Joudeorum. وسواء كان يسوع من دعاة الثورة أو من غير دعاتها فليس ثمة ريب في أن روما قد حكمت عليه بوصفه من هؤلاء الدعاة، وكذلك فهم تاستس الأمر على هذا النحو (134). وكانت جماعة صغيرة، لا يزيد عددها على ما يتسع له فناء بيت بيلاطس، قد طالبت بإعدام المسيح؛ فلما أن أخذ يصعد تل جمجمة "تبعه جمهور كبير من الشعب" كما يقول لوقا (135)، والنساء اللواتي كن يلطمن وينحن عليه. وما من شك في أن هذا الحكم لم يرق في عين الشعب اليهودي.
وقد أذن لكل مَن يريد أن يشهد هذا المنظر الرهيب أن يشهده. وكان الرومان الذين يرون أن لابد لهم أن يحكموا الناس بالإرهاب يختارون لتنفيذ حكم الإعدام في مَن يرتكبون الجرائم التي يحدد لها القانون هذه العقوبة الطريقة التي يسميها شيشرون "أقسى أنواع التعذيب وأبشعها"(136). فكانت يدا المذنب وقدماه تُدَق (أو تربط في حالات نادرة) إلى الخشبة، وكانت فيها قطعة بارزة تسند العمود الفقري أو القدمين. وإذا لم يُرجَم المذنب فيُقتَل فإنه يبقى على هذه الحال يومين أو ثلاثة أيام، يُقاسي فيها آلام عدم الحركة، وهو عاجز عن طرد الحشرات التي تتغذى من لحمه العاري، فتخور قواه ببطئ حتى يقف القلب عن الحركة ويضع حداً لهذا العذاب الأليم.
وكان الرومان أنفسهم يشفقون على ضحايا هذا التعذيب في بعض الأحيان، ويقدمون لهم شراباً فيفقدهم وعيهم. ويُقال إن الصليب كان يُرفع "عند الساعة الثالثة" أي في الساعة التسعة صباحاً. ويقول مرقس إن لصّين صلبا مع يسوع وإنهما كانا يسبانه. ويؤكد لنا لوقا أن واحداً منهما كان يدعو له (138). ولم يكن مع عيسى أحد من الرسل إلا يوحنا وحده، وكان معه ثلاث نساء تسمى كل واحدة منهن مريم، أم المسيح ومريم أختها، ومريم المجدلية (وكانت أيضاً نساء ينظرن من بعيد) (139). واقتسم الجند ثياب الميت كعادة الرومان؛ وإذا لم يكن للمسيح إلا ثوب واحد فإنهم أخذوا يلقون القرعة ليروا من يأخذ الثوب. ولعلنا نقرأ في هذا المعنى الآية الثامنة عشرة من المزمور الثاني والعشرين منسوبة إلى مسيح. "يقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون". ويبدأ هذا المزمور نفسه بتلك الكلمات:"إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ ". وذلك هو نداء اليأس البشري الذي يعزوه مرقس ومتى إلى المسيح وهو يحتضر. فهل يمكن أن يكون الإيمان العظيم الذي أعانه في موقفه أمام بيلاطس قد انقلب في تلك اللحظات المريرة إلى شك أسود؟ ولعل لوقا قد رأى أن هذه العبارة لا تتفق مع عقائد بولس الدينية فبدلها بقوله: "يا أبتاه في يديك أستودع روحي" - وهي عبارة تردد صدى الآية الخامسة من المزمور الحادي والثلاثين ترديداً يثير الريب لما فيه من دقة.
وأشفق جندي على المسيح الظمآن، فجاء بإسفنجة مغموسة في الخل وقربها من فيه؛ فشرب عيسى وقال:"قد أكمل". وفي الساعة التاسعة - الثالثة بعد الظهر - "نادى يسوع بصوت عظيم
…
وأسلم الروح". ويضيف لوقا إلى هذا - ويدلِ بقوله على عطف اليهود "وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر
…
رجعوا وهم يقرعون صدورهم" (141).
واستطاع اثنان من اليهود
الرحماء ذوي النفوذ أن يحصلا على إذن من بيلاطس بإنزال جثة المسيح عن الصليب فأنزلاها وحفظاها بالند والمُر ووارياها التراب.
ترى هل مات حقاً؟ لقد كان اللصان اللذان إلى جانبه لا يزالان على قيد الحياة، ولقد كسر الجنود ساقهما حتى تتحمل أيديهما ثقل جسمهما، فيؤثر ذلك في حركة الدم ويقف القلب بعد قليل. غير أن هذا لم يحدث في حالة عيسى، وإن كان قد قيل إن جندياً طعنه في قلبه بحربة، فانبثق الدم من الجرح أولاً ثم خرج بعده مصل الدم. وأبدى بيلاطس دهشته من أن يموت رجل بعد ست ساعات من صلبه؛ ولم يوافق على أن يُرفع جسد المسيح عن الصليب إلا بعد أن أكد له قائد المائة المكلف به أنه قد مات.
وبعد يومين من هذا الحادث زارت مريم المجدلية - وكان حبها ليسوع تمتزج به تلك النشوة العصبية التي تمتاز بها عواطفها كلها - قبر المسيح مع مريم أم يعقوب وسالومة فوجدته فارغاً. فامتلأت قلوبهن خوفاً وسروراً معاً، وجرين لينقلن ذلك النبأ إلى تلاميذه. وإلتقين في الطريق برجل حسبنه يسوع "فإنحنين احتراماً له، وأمسكن بقدميه. وفي وسعنا أن نتصور الأمل الذي انبعث في النفوس الساذجة من هذا النبأ وما لقيه من ترحيب؛ لقد قهر يسوع الموت وأثبت أنه هو المسيح المنتظر ابن الله، وملأ ذلك النبأ قلوب "أهل الجليل" بنشوة جعلتهم على استعداد لأن يصدقوا أية معجزة وأي وحي. ويرى الرواة أن المسيح ظهر في ذلك اليوم نفسه إلى تلميذين من تلاميذه في الطريق الموصل إلى عمواس، وتحدث إليهم، وأكل معهم، ولكن "أُمسكَت أعينهما عن معرفته" ثم "أخذ خبزاً وبارك وكسر، فانفتحت أعينهما وعرفاه ثم اختفى عنهما" (142). ورجع التلاميذ إلى الجليل فلما "رأوه" بعد قليل "سجدوا له، ولكن بعضهم شكّوا" (143). وبينما كانوا يصطادون السمك
رأوا المسيح ينضم إليهم؛ فألقوا شباكهم ولم يستطيعوا أن يجذبوها من كثرة السمك (144).
وجاء في سفر أعمال الرسل أن المسيح صعد بجسمه إلى السماء بعد أربعين يوماً من ظهوره إلى مريم المجدلية. لقد كانت فكرة "انتقال" القدّيس بجسمه وحياته إلى السماء من الأفكار الشائعة المألوفة بين اليهود؛ فقد رووها عن موسى، وأخنوخ، وإليشع وإشعيا. وهكذا اختفى السيد المسيح بنفس الطريقة الخفية التي ظهر فيها. ولكن يبدو أن معظم تلاميذه كانوا يعتقدون مخلصين أنه قد وُجِد معهم بجسمه بعد صلبه. وفي ذلك يقول لوقا:"ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم، وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون الله"(145)
(1)
.
(1)
نكرر هنا ما قلناه من قبل وهو أننا ننقل أقوال المؤلف بنصها، وأنه ليس لنا أن نعلّق عليها أو نبدّل فيها. (المترجم)
الباب السابع والعشرون
الرسل
30 -
95 م
الفصل الأول
بطرس
(1)
نشأت المسيحية من الإيحاء الغامض العجيب الخاص بحلول الملكوت، واستمدت دوافعها من شخصية المسيح نفسه وتخيلاته، كما استمدت قوتها
(1)
إن أهم المراجع التي نعتمد عليها في كتابة تاريخ هذه الفترة هي "أعمال الرسل". والمتفق عليه بوجه عام أن هذا السفر هو والإنجيل الثالث من وضع مؤلف واحد، ولكن ليس ثمة ما يماثل هذا الإجماع على أن كاتب السفرين هو لوقا، صديق بطرس الذي لم يكن من اليهود، وإن كان سفر الأمثال لم يرد فيه شيء عن موت بولس، فإن النسخة الأصلية منه قد تكون قد ألّفت حوالي عام 63 ليحاول بها صاحبها تسكين عداء الرومان للمسيحية ولبولس؛ ولكن المرجح أن الكتاب قد ضُمّت إليه أجزاء أخرى كتبها مؤلف آخر جاء بعد مؤلفه الأول. ويكثر في هذا السفر ذكر خوارق الطبيعة، ولكن قصته الأساسية يمكن إعتبارها تاريخاً صحيحاً (1). وقد ضمت في القرن الثاني عدة "أعمال" و"رسائل" مختلفة مشكوك فيها حُذفت من الكتاب المقدس تحتوي على عدد من القصص الخرافية تروي حياة الرسل بعد المسيح. وكانت هذه "الأعمال" بمثابة الروايات الخيالية التاريخية لذلك العصر، ولم تكن بالضرورة محاولات يقصد بها الخداع والتمويه. وقد رفضتها الكنيسة المسيحية، ولكن أتقياء المسيحيين آمنوا بها، وخلطوها خلطاً متزايداً بالتاريخ الصحيح. وينزع النقاد إلى الاعتقاد بصحة معظم ما جاء في رسالة بطرس الأولى وهي إحدى الرسائل السبع الواردة في العهد الجديد معزوة إلى الرسل الاثني عشر، وننزع كذلك إلى القول بأن صاحب رسالات يوحنا هو نفسه صاحب الإنجيل الرابع الذي لا يزال مؤلفه مثاراً للنزاع. أما باقي الرسائل فيرفضونها لأنهم يشكون كثيراً في صحتها.
من عقيدة البعث والحساب، والوعد بحياة الخلود، واتخذت صورة العقائد الثابتة في لاهوت بولس، ثم نمت باستيعابها العقائد والطقوس الوثنية؛ وأصبحت كنيسة ظافرة منتصرة، بعد أن ورثت ما امتازت به روما من أنماط وعبقرية منظّمة.
ويبدو أن الرسل كانوا جميعاً يؤمنون بأن المسيح سيعود بعد قليل ليقيم ملكوت السموات على الأرض. أنظر إلى أقوال بطرس في رسالته الأولى: "نهاية كل شيء قد اقتربت فتعقّلوا واصحوا للصلوات"(3) وتقول رسالة يوحنا الأولى: "أيها الأولاد، هي الساعة الأخيرة وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتي قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون (نيرون، فسبازيان، دومتيان). من هنا نعلم أنها الساعة الأخيرة"(4). وكان الاعتقاد بنزول مسيح ليطهر الأرض، ويقيم ملكوت الله، ويبعث الناس بأجسامهم، وبعودته إلى الأرض، هو القاعدة الأساسية للدين المسيحي في أوائل عهده. على أن هذه العقائد لم تحل بين الرسل وبين استمرارهم في التمسك بالدين اليهودي. وشاهد ذلك ما جاء في أعمال الرسل:"وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة"(5) وأطاعوا قوانين التغذية والحفلات (6)، واقتصروا في أول الأمر على دعوة اليهود وحدهم إلى دينهم، وكثيراً ما كانوا يخطبون فيهم في الهيكل (7).
وكانوا يعتقدون أنهم قد تلقوا عن المسيح أو عن الروح القدس قوى عجيبة من الإلهام، وشفاء الأمراض والأقوال. وأقبل عليهم كثيرون من المرضى والعجزة، ويقول مرقس (8) إن بعضهم شفوا حين مسحوا بالزيت - وكان هذا المسح على الدوام من وسائل العلاج المنتشرة في بلاد الشرق. ويصور مؤلف سفر أعمال الرسل صورة مؤثرة للاشتراكية القائمة على الثقة المتبادلة التي كانت سائدة بين هؤلاء المسيحيين الأولين إذ يقول:
"وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة، ولم يكن أحد
يقول إن شيئاً من أمواله له بل كان عندهم كل شيء مشتركاً
…
لم يكن فيهم أحد محتاجاً لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أرجل الرسل، فكان يوزع كل واحد كما يكون له احتياج" (9).
ولما كثر عدد المهتدين، وكثر ما تحت أيدي الرسل من الأموال عينوا سبعة من شمامسة الكنيسة للإشراف على شئون هذه الجماعة؛ وظل رؤساء اليهود فترة من الزمن لا يعارضون قيام هذه الشيعة لصغرها وانتفاء الأذى من وجودها، فلما تضاعف عدد "الناصريين"(النصارا) في بضع سنين قلائل وقفز عددهم من 120 إلى 8000 (10)
(1)
استولى الرعب على قلب الكهنة، فقُبض على بطرس وغيره وجيء بهم أمام السنهدرين لمحاكمتهم. وكان السنهدرين يريد أن يحكم بإعدامهم، ولكن فريسياً يدعى غمالائيل - أكبر الظن أنه معلم بولس - أشار على المجلس أن يؤجل الحكم؛ ثم وفق بين الرأيين بأن جُلِدَ المقبوض عليهم وأطلق سراحهم. وحدث بعد ذلك بزمن قليل (30 م) أن استدعى أحد الشمامسة الذين عينوا للإشراف على جماعة المهتدين واسمه اصطفانوس (أو استيفن) للمثول أمام السنهدرين واتهم بأنه، يتكلم بكلام تجديف على موسى وعلى الله) (11)، فدافع الرجل عن نفسه دفاعاً قوياً غير مبال بما يتهدده من أخطار:
"يا قساة القلوب وغير المختونين بالقلوب والآذان، أنتم دائماً تقاومون الروح القدس، كما كان آباؤكم كذلك أنتم! أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم، وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبئوا بمجيء البار الذي أنتم الآن صرتم
(1)
في المرجع الذي يشير إليه المؤلف وهو أعمال الرسل 4: 4 أن عددهم كان خمسة آلاف. (المترجم)
مُسَلّميه وقاتليه، الذين أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه" (12)
(1)
.
وأثار هذا الدفاع القوي غضب السنهدرين فأمر بأن يُجر إلى خارج المدينة ويرجم بالحجارة. وكان شاب فارسي يدعى شاوول يساعد على هذا الهجوم؛ وبعد ذلك صار هذا الشاب ينتقل من بيت إلى بيت في أورشليم ويقبض على أتباع "الكنيسة" ويزجهم في السجن (13).
وفر اليهود المهتدون ذوو الأسماء والثقافة اليونانية الذين يتزعمهم اسطفانوس إلى السامر وإنطاكية وأنشئوا فيها جماعات مسيحية قوية. أما معظم الرسل الذين يبدو أنه سلموا من الاضطهاد لأنهم ظلوا يراعون الناموس، فقد بقوا في أورشليم مع المسيحيين الهوديين. وبينما كان بطرس يحمل الإنجيل إلى البلاد اليهودية صار يعقوب "العادل""أخو الرب" رئيس الجماعة المقيمة في أورشليم بعد أن قل عددها ونقصت مواردها. وكان يعقوب يبشر بالناموس بكل ما فيه من صرامة، ولم يكن يقل عن الإسينيين تقشفاً وزهداً؛ فلم يكن يأكل اللحم، أو يشرب الخمر، ولم يكن له إلا ثوب واحد، ولم يقص شعره أو يحلق لحيته قط. وظل المسيحيون تحت قيادته سبعة أعوام لا يمسهم أذى. ثم حدث حوالي عام 41 أن قُتل رجل يدعى أنه يعقوب بن زبدي، فقبض على بطرس ولكنه فر. ثم قُتل يعقوب العادل في عام 63. وبعد أربعة أعوام من ذلك الوقت ثار اليهود على روما. وأيقن المسيحيون المقيمون في أورشليم أن "نهاية العالم" قد دنت، فلم يأبهوا بالشؤون السياسية، وخرجوا من المدينة وأقاموا في بلاد الوثنية الضالعة مع روما والقائمة على الضفة البعيدة من نهر الأردن وافترقت اليهودية والمسيحية من تلك الساعو، فاتُّهم اليهود
(1)
لا يبعد أن تكون خُطَب اصطفانوس، وبطرس، وبولس وغيرهم كما وردت في سفر أعمال الرسل من إختراع مؤلف هذا السفر كما جرت بذلك عادة المؤرخين الأقدمين.
المسيحيين بالخيانة وخور العزيمة، ورحّب المسيحيون بتدمير الهيكل على يد تيطس تحقيقاً لنبوءة المسيح، واتقدت نار الحقد في قلوب أتباع كلا الدينين، وأملت عليهم بعض ما كتبوا من أعظم آدابهم تقى وصلاحاً.
وأخذت المسيحية اليهودية من ذلك الوقت يقل عدد أتباعها وتضعف قوتها وتترك الدين الجديد للعقلية اليونانية تشكله وتصبغه بصبغتها. وأصمت الجليل، التي قضى فيها المسيح كل حياته تقريباً، والتي عفت منها ذكرى المجدلية وغيرها من النساء اللاتي كن من بين أتباعه الأولين، أصمت أذنها عن سماع الوعّاظ الذين جاءوها يدعون أهلها للدخول في دين الناصري ابن الله. ذلك أن اليهود المتعطشين إلى الحرية، والذين كانوا يذكرون كل يوم في صلواتهم أن "الله واحد" لم يستسيغوا فكرة "المسيح" المنتظر الذي لا يأبه بكفاحهم في سبيل الاستقلال، ورأوا أن من العار أن يُقال إن إلهاً قد وُلدَ في كهف أو إسطبل في إحدى قراهم. وظلت المسيحية اليهودية قائمة مدى خمسة قرون بين طائفة قليلة من المسيحيين السريان المسمين بالابيونيم "الفقراء" الذين كانوا يجمعون بين التقشف المسيحي والناموس اليهودي الكامل؛ فلما كان آخر القرن الثاني الميلادي حكمت عليهم الكنيسة المسيحية بالكفر وأخرجتهم من حظيرتها.
وكان الرسل والتلاميذ في هذه الأثناء قد نشروا الإنجيل بين اليهود المشتتين (14) بنوع خاص وهم المنتشرون فيما بين دمشق وروما. فهدا فليب عدداً من أهل السامرة وقيصرية، وأوجد يوحنا جالية مسيحية قوية في إفسوس وأخذ بطرس يعض في مُدن سوريا. وفعل بطرس ما كان يفعله معظم الرسل فإصطحب معه في أثناء تجواله "أختاً" لتكون بمثابة زوجة له ومعينة (15). وبلغ نجاحه في شفاء المرضى حداً أغرى ساحراً يدعى سمعان المجوسي أن يعرض عليه مالاً ليشركه معه في قواه العجيبة. ففي يافا أقام تابيثا وكان يبدو أنها قد
ماتت، وفي قيصرية هدى إلى المسيحية قائداً رومانياً على مائة. وجاء في سفر أعمال الرسل أنه رأى رؤيا اقتنع على أثرها أن عليه أن يقبل المهتدين من الوثنيين واليهود على السواء، ثم اقتصر من ذلك الوقت على تعميد المهتدين من غير اليهود بدل أن يعمدهم ويختنهم معاً، وذلك إذا استثنينا بعض حالات طريفة. وفي وسعنا أن نحس بما كان يعمر قلوب هؤلاء المبشرين الأولين من حماسة إذا اطلعنا على رسالة بطرس الأولى:
"بطرس رسول يسوع المسيح إلى المتقربين من شتات بنطس، وغلاطية، وكبدوكية وآسيا، وبيثنية المختارين
…
لتكثر لكم النعمة والسلام
…
أيها الأحباء أطلب إليكم كغرباء ونزلاء
…
أن تكون سيرتكم بين الأمم حسنة لكي
…
يمجدوا الله في يوم الاتقاد من أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها
…
فاخضعوا لكل ترتيب بشري من أجل الرب
…
كأحرار وليس كالذين الحرية عندهم سترة للشر
…
أيها الخدّام كونوا خاضعين بكل هيبة، ليس للصالحين مترفقين فقط بل للعتقاء أيضاً
…
كذا كن أيتها النساء كن خاضعات لرجالكن حتى وإن كان البعض لا يطيعون الكلمة يربحون بسيرة النساء بدون كلمة ملاحظين سيرتكن الطاهرة بخوف. ولا تكن زينتكن الزينة الخارجية من ضفر الشعر والتحلي بالذهب وليس الثياب، بل
…
زينة الروح الوديع الهادئ
…
كذلكم ايها الرجال كونوا ساكنين بحسب الفطنة مع الإناء النسائي كالأضعف معطين إياهن كرامة كالوارثات أيضاً معكم نعمة الحيوة
…
غير مجازين عن شر بشر
…
ولكن قبل كل شيء لتكن محبتكم بعضكم لبعضٍ شديدة لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا" (16).
ولسنا نعرف متى شق بطرس طريقه إلى روما أو المراحل التي وصل بها إلى تلك المدينة. فأما بجروم (حوالي 390) فيؤرخ وصوله إليها بعام 41 م. وقد بقيت الرواية القائلة بأن كانت له اليد الطولى في إنشاء الجالية المسيحية
في عاصمة الدولة الرومانية صامدة للنقد (17): ويحدثنا لكتانتيوس Lactantius عن قدوم بطرس إلى روما في عهد نيرون (18)، وأكبر الظن أن الرسول زار روما عدة مرات وكان وهو طليق، وبولس وهو سجين، يبذلان ما وسعهما من جهد ويتنافسان لهداية أهلها حتى استشهد كلاهما في سبيل هذه الغاية، ولعل استشهادهما كان في عام واحد هو عام 64 (19). ويروي أرجن أن بطرس "صُلب ورأسه مدلى إلى أسفل، لأنه طلب أن يعذب بهذه الطريقة"(20)، ولعله كان يأمل أن يكون الموت بها أسرع إليه أو (كما يقول المؤمنون) لأنه يرى أنه غير خليق بأن يموت بالطريقة التي مات بها المسيح. وتقول النصوص القديمة إن زوجنه قتلت معه، وإنه أرغم على أن يراها تساق للقتل (21). وتحدد إحدى القصص المتأخرة حلبة نيرون، القائمة في ميدان الفاتكان، موضعاً لمقتله وفي هذا المكان شُيّدت كنيسة القدّيس بطرس، وقيل إنها تضم عظامه.
وما من شك في أن تجواله في آسية الصغرى وروما قد ساعد على الاحتفاظ بكثير من العناصر اليهودية في الدين المسيحي. فقد ورث هذا الدين عنه وعن غيره من الرسل ما في الدين اليهودي من توحيد، وتزمّت، واعتقاد في البعث والنشور؛ وهذه الرحلات ورحلات بولس هي التي جعلت العهد القديم الكتاب المقدّس الوحيد الذي عرفته المسيحية في القرن الأول، وظلت المجامع اليهودية أهم الأماكن التي تُبَث فيها الدعوة المسيحية كما ظل اليهود أهم الجماعات التي تُبَث بينهم هذه الدعوة حتى عام 70 م. ولهذا انتقلت إلى الطقوس المسيحية أشكال العبادات العبرانية واحتفالاتها وملابسها. وتسامى حمل بسكال فصار هو حمل الله المكفّر عن الخطايا في القداس الكاثوليكي. كذلك أخذت المسيحية عن أساليب اليهود في إدارة المجامع تنصيب جماعة من الكبراء (برزبتيري أي قساوسة) لتولي شئون الكنائس. وقبلت المسيحية فيها كثيراً من الأعياد اليهودية كعيد الفصح وعيد العنصرة، وإن كانت قد غيرت أشكالها وتواريخها. وقد ساعد تشتت اليهود
في أقطار العالم على انتشار المسيحية، وكان مما مهّد السبيل لهذا الانتشار كثرة انتقال اليهود من مدينة إلى مدينة، والصِلات القائمة بينهم في جميع أنحاء أوربا، وتجارتهم الواسعة، والطرق الرومانية المعبدة، والسلم الرومانية. وكانت المسيحية حسب تعاليم المسيح وبطرس يهودية، ثم أصبحت في تعاليم بولس نصف يونانية، وأضحت في المذهب الكاثوليكي نصف رومانية، ثم عاد إليها العنصر اليهودي والقوة اليهودية حين دخلها المذهب البروتستنتي.
الفصل الثاني
بولس
1 - المضطهد
وُلِد واضع اللاهوت المسيحي في طرسوس من أعمال كليكيا حوالي السنة العاشرة من التاريخ الميلادي. وكان أبوه من الفريسيين، ونشأ إبنه على مبادئ هذه الشيعة الدينية المتحمسة، وظل رسول الأمم طوال حياته يعد نفسه فريسياً حتى بعد أن نبذ الشريعة اليهودية. كذلك كان والده مواطناً رومانيّاً، أورث إبنه هذا الحق الثمين. وأكبر الظن إن اسم بولص كان هو اللفظ اليوناني المرادف للاسم العبري شاول، ولهذا ظل الاسمان يطلقان على خذا الرسول منذ طفولته (22)، ولم يتعلم تعليماً راقياً ولم يدرس الكتب اليونانية لأن الفريسيين على بكرة أبيهم لم يكونوا يسمحون بأن يتأدب أبناؤهم بهذا الأدب اليوناني الخالص، ولو أن كاتب الرسائل درس اليونانية لما كتبها بهذا الأسلوب اليوناني الركيك. على أنه عرف كيف يتحدث بهذه اللغة بطلاقة تمكّنه من أن يخاطب بها المستمعين له من الأثينيين، وأن يشير أحياناً إلى بعض الفقرات المنشورة في الأدب اليوناني. ومن حقنا أن نعتقد أن بعض المبادئ الدينية والأخلاقية للرواقية انتقلت من البيئة المدرسية في طرسوس إلى مسيحية بولس. فهو يستعمل اللفظ الرواقي نيوما (Uenma) أي النفس للدلالة على المعنى الذي يستعمل فيه مترجموه الإنجليز لفظ Spirit (الروح). وكان طرسوس كما كان في معظم المُدن اليونانية أتباع للأرفية. وغيرها من العقائد الخفية، يعتقدون أن الله الذي يعبدونه قد قام من أجلهم، ثم قام من قبره، وإنه إذا دعي بإيمان حق،
وصحب الدعاء الطقوس الصحيحة استجاب لهم وأنجاهم من الجحيم، وأشركهم معه في موهبة الحياة الخالدة المباركة (23). وهذه الأديان الغامضة الخفية هي التي أعدّت اليونان لاستقبال بولص وأعدّت بولس لدعوة اليونان.
وبعد أن تعلم الشاب حرفة صنع الخيام، وتلقى العلم في المجمع الديني القائم في المدينة، أرسله أبوه إلى أورشليم وهناك كما يقول بولس نفسه:"تعلم عند قدمي غمالائيل على طريقة الناموس الدقيقة"(24). وكان المشهور عن غمالائيل أنه حفيد هلل، وقد خلفه في رياسة السنهدرين، وواصل السنة القديمة سنّة تفسير الناموس تفسيراً ليّناً راعى فيه ضعف النفس البشرية. غير أن الفريسيين الذين كانوا أكثر منه تزمتاً هالهم أن يجدوه ينظر نظرة ال'عجاب والتقدير للنساء الوثنيات أنفسهن (25). وقد بلغ من علمه أن اليهود، الذين يجلّون العلماء أعظم الإجلال أطلقوا عليه اسم "جمال الناموس"، ولقّبوه بما لم يُلقّب به إلا ستة رجال من بعده وهو "الربان" أي سيدنا. واتخذ بولس عنه وعن غيره تلك الطريقة الحصيفة، والجدلية السفسطائية في بعض الأحيان، في تفسير الكتاب المقدس، وهي التي وضحت في التلمود. وقد بقي بولس إلى آخر أيامه يهودياً في عقله وخُلُقِه على الرغم من تعلمه أوليات الهلنية، ولم ينطق بكلمة يُشتَم منها أنه يشك في شرائع موسى موحى بها من عند الله، وظل يعتقد في عزة وفخار كما يعتقد اليهود أن اختيار الله وحده هو طريق النجاة.
وهو يصف نفسه بقوله: "في الحضارة ذليل بينكم"(26) ويزيد على ذلك: "ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات أعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع"(27). ولا يزيد في وصف نفسه على هذا. وتصوره الروايات المأثورة وهو في سن الخمسين رجلاً زاهداً متقشفاً مقوّس الجسم، أصلع الرأس، ملتحياً عريض الجبهة، أصفر الوجه صارمه، نفّاذ العينين. وعلى هذا النحو تخيله درور
في صورة تُعَد من أروع آيات الفن في العالم كله؛ ولكن الحقيقة أن هذه الصور التي تُمثّله أدب وفن لا تاريخ.
أما عقله فكان من طراز شائع كثيراً بين اليهود: كان فيه من نفاذ البصيرة وشدة الانفعال أكثر مما فيه من الدماثة والظرف؛ وكان فيه من الإحساس القوي والخيال أكثر مما فيه من نزاهة الحكم والنظرة الموضوعية إلى الأشياء، وكان قوياً في العمل لأنه كان ضيق التفكير. وكان رجلاً "أسكرته النشوة الإلهية" أكثر مما أسكرت اسبنوزا نفسه، يلتهب صدره بالحماسة الدينية بالمعنى الحرفي للفظ الالتهاب - لقد كان صدره ينطوي "في داخله على الإله" نفسه.
وكان يعتقد أنه ملهم موحى إليه قادر على فعل المعجزات. وكان إلى هذا ذا طبيعة عملية، قادراً على الجد والتنظيم، صبوراً إلى أقصى حد في تأسيس العشيرة المسيحية والمحافظة عليها. وكانت عيوبه وفضائله شديدة الصلة بعضها ببعض لا غنى لكلتيهما عن الأخرى شأنه في هذا شأن الكثيرين من الرجال. فقد كان شجاعاً مندفعاً، متعسّفاً حاسماً في أحكامه، مسيطراً مجدّاً، متعصّباً مبتدعاً، فخوراً أمام الناس متواضعاً لله، عنيفاً في غضبه قادراً على أن يستشعر أرق الحب والرحمة، يشير على أتباعه على أن يباركوا من يظطهدونهم، ولكنه يتمنى لأعدائه الذين يختنون أن "يقطّعوا أيضاً"(28). وكان يدرك أسباب ضعفه، ويحاول الخلاص منها، ويقول لمن هداهم "ليتكم تحتملون غباوتي قليلاً" (29). وتلخص الحاشية التي كتبت على رسالته الأولى لأهل كورنثوس أخلاقه حين تقول:"السلام بيدي أنا بولس، إن كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن أنا ثيما! ماران أثا! نعمة الرب يسوع المسيح معكم، محبتي مع جميعكم". لقد كان الرجل ما لابد أن يكون لكي يستطيع أن يفعل ما فعل.
وبدأ بمهاجمة المسيحية دفاعاً عن اليهودية، وانتهى بنبذ اليهودية دفاعاً عن المسيح، وكان في كل لحظة من لحظاته داعياً ورسولاً. فلما هاله احتقار اصطفانوس
للناموس انضم إلى قتلته، وتزعم الاضطهاد الأول للمسيحيين في أورشليم، ولما سمع أن الدين الجديد أصبح له في دمشق أتباع كثيرون "تقدم إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات حتى إذا وجد أُناساً من الطريق رجالاً أو نساء يسوقهم موثقين إلى أورشليم"(31 م)(30). ولربما كان تحمسه لاضطهادهم ناشئاً من شكوك خفية سرت وقتئذ في نفسه؛ وكان في مقدوره أن يقو، ولكن هذه القسوة لم تكن من النوع الذي لا يعقبه ندم. ولعل منظر اصطفانوس وهو يُرجم بالحجارة حتى يموت، ولعل لمحات من ذكريات الشباب - ذكريات صلب المسيح - كانت تعود إلى خياله فتضطرب بها ذاكرته وتثقل عليه في سفره، وتهيّج خياله. ولما اقتربت جماعته من دمشق، كما جاء في سفر أعمال الرسل:
"فبغتة ابرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض وسمع صوتاً قائلاً له شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟ فقال من أنت يا سيد؟ فقال الرب
(1)
أنا يسوع الذي أنت تضطهده
…
وأما الرجال المسافرون معه فوقفوا صامتين يسمعون الصوت ولا ينظرون أحداً. فنعض شاول من الأرض وكان وهو مفتوح العينين لا يُبصر أحداً، فاقتادوه بيده وأدخله إلى دمشق وبقي ثلاثة أيام لا يُبصر. وليس في وسع أحد أن يعرف العوامل التي أحدثت هذه التجربة وما أعقبها من انقلاب أساسي في طبيعة الرجل. ولعل ما قاساه من التعب في سفره الشاق الطويل في شمس الصحراء اللفحة، أو لعل ومضة برق في السماء ناشئة من شدة الحرارة، لعل شيئاً من هذا أو ذاك كله قد أثّر في جسم ضعيف رُبّما كان مصاباً بالصرع، وفي عقل يعذبه الشك والإجرام، فدفع بالعملية التي كانت تجري في عقله الباطن إلى غايتها، وأصبح ذلك المفكر الشديد الانفعال
(1)
في الأصل الإنجليزي ((الصوت)) ولكن لفظ ((الرب)) هو الوارد في الترجمة العربية. (المترجم)
أقدر الداعين إلى مسيح اصطفانوس. وكان الجو اليوناني الذي يحيط به في طرسوس يتحدّث عن منقذ ينتشل البشرية؛ كما كانت علوم بني جنسه من اليهود تتحدّث عن حياة (مسيح) منتظر، ولمَ لا يكون يسوع صاحب الشخصية العجيبة الغامضة الفتانة، الذي لا يتردد الناس في استقبال الموت من أجله، هو ذلك المسيح المنتظر؟ فلما أحسّ في آخر سفره وهو لا يزال ضعيفاً وأعمى بيدي يهودي مهتدٍ، رحيمتين، تلمسان وجهه وتسكنان ألمه "فللوقت وقع من عينيه شيء كأنه قشور، فابصر في الحال وقام واعتمد، وتناول طعاماً فتقوى"(22). وبعد بضعة أيام من ذلك الوقت دخل مجامع دمشق وقال للمجتمعين فيها إن عيسى ابن الله.
2 - المبشر
وأصدر حاكم دمشق، بإيعاز اليهود الذين ساءهم ما فعل بولس، أمراً بالقبض عليه، فما كان من أصدقائه الجدد إلا أن أنزلوه في سلة من فوق أسوار المدينة. ويقول هو إنه ظل ثلاثة أيام يدعو إلى المسيح في قرى بلاد العرب، ولما عاد إلى أورشليم عفا عنه بطرس، واتخذه صديقاً له، وعاش معه فتة من الزمان. وكان معظم الرسل يرتابون فيه، ولكن برنابا، وهو مهتدٍ حديث، رحب به وقدّم له كثيراً من المعونة، وأقنع كنيسة أورشليم أن تحمل مضطهدها القديم بشرى مجيء المسيح الذي سيقيم عما قريب ملكوت الله. وحاول اليهود، الذين يتكلمون اللغة اليونانية والذي جاءهم بالإنجيل، أن يقتلوه، ولعل الرسل خشوا أن تعرضهم حماسته الشديدة للخطر فأرسلوه إلى طرطوس.
وظل في مسقط رأسه ثماني سنين لا يعرف عنه التاريخ شيئاً. ولعله شعر مرة أخرى بأثر التصوّف الديني المنتشر بين اليونان وما في من تبشير بمجيء المنقذ. ثم أقبل عليه برنابا وطلب إليه أن يساعده على خدمة الدين في إنطاكية.
وأخذ الرجلان يعملان معاً (43 - 44؟) فهديا كثيراً من الناس، فلم تلبث إنطاكية أن فاقت سائر المُدن في عدد مَن بها من المسيحيين. وفيها أطلق الوثنيون إلى "المؤمنين"، أو "التلاميذ" أو "القدّيسين" كما كانوا يسمون أنفسهم اسم الكرستيانوي أي أتباع المسيح أي الإنسان الممسوح. وهنا أيضاً انضمت "الأمم" أي غير اليهودي إلى الدين الجديد. وكان معظم هؤلاء ممن "يخشون الله" وكانت كثرتهم من النساء اللاتي آمنّ ببعض طقوس اليهودية وبما فيها من دعوة إلى الوحدانية.
ولم يكن الاخوة في إنطاكية فقراء كأمثالهم في أورشليم، فقد كانت فيهم أقلية لا بأس بها من طبقة التجّار، فاندفعوا بقوة هذه الحركة الفتية الناشئة إلى جمع قدر من المال ليستعينوا به على نشر الإنجيل، "فوضع" رؤساء الكنيسة "أيديهم" على برنابا وبولس وبعثوهما فيما يسميه التاريخ "رحلة القدّيس بولس التبشيرية الأولى"(45 - 47؟) وهي تسمية تستخف بشأن برنابا. وأبحر الرجلان إلى قبرص، ولقيا نجاحاً مشجعاً بين اليهود الكثيرين المقيمين في تلك الجزيرة. ثم ركبا السفينة من يافوس إلى برجا في بمفيلية واجتازا طرقاً جبلية وعرة تعرضا فيها للخطر حتى وصلا إلى إنطاكية في بسيديا Pisidia. واستمع إليهما الكنيس ورحب بهما فلما بدأ يعظان "الأمم" كما يعظان اليهود غضب عليهما اليهود المتمسكون بدينهم وحملوا موظفي البلدية على إخراج المبشرين من المدينة. ونشأت هذه الصعاب نفسها في إقونيوم Icobium، ورجم بولس في لسترا بالحجارة وجر علو وجهه إلى خارج المدينة، وتركا في العراء ظناً من أعدائه أنه مات. بيد أن قلبي بولس وبرنابا كانا لا يزالان يفيضان غبطة بروح القدس فحملا الإنجيل إلى دربي Derbe ثم عادا بالطريق نفسه إلى برجا وأبحرا منها إلى إنطاكية السوريّة، وفيها واجهتهما أعقد مشكلة في تاريخ المسيحية ذلك أن بعض التابعين الممتازين في دمشق سمعوا أن المبشرين كانا يقبلان
المهتدين من "الأمم" دون أن يحتما عليهم الختان، فجاءوا إلى إنطاكية "يعلمون الاخوة أنه إن لم تختتنوا حسب عادة موسى لا يمكنكم أن تخلصوا"(23). ولم يكن الختان عند اليهودي من الطقوس التي توجبها صحة الجسم، بقدر ما كان رمزاً مقدساً لعهده القديم الذي عاهد عليه الله، ولهذا روع اليهودي المسيحي حين فكر في نكث ذلك العهد. وأدرك بولس وبرنابا أنه إذا نال هؤلاء المبعوثون بغيتهم فإن المسيحية لن يقبلها إلا عدد قليل من غير اليهود، وأنها ستبقى "بدعة يهودية"(كما سماها هينى فيما بعد) لا تلبث أن تزول بعد قرن من الزمان. ومن أجل هذا سافرا إلى أورشليم (50؟) وعرضا المسألة على بساط البحث مع سائر الرسل، وكانوا كلهم تقريباً لا يزالون يتعبدون مخلصين في الهيكل. فأما يعقوب فقد تردد كثيراً في قبول رأيهما، وأما بطرس فقد دافع عن المبشرين؛ واتفق الجميع آخر الأمر على ألا يُطلب إلى المهتدين الوثنيين أكثر من أن يقلعوا عن الزنى، وعن أكل المخنوقة والدم وما ذبح على النصب (34). ويبدو أن بولس يسر الأمر بأن وعد العشيرة المسيحية المعدمة في دمشق بشيء من المال المطرد الزيادة في كنيسة إنطاكية (35).
ولكن هذه النتيجة كان لها من الخطر ما يحول دون البت فيها بهذه السهولة. فقد جاءت من أورشليم إلى إنطاكية طائفة أخرى من المسيحيين اليهود مستمسكين بدينهم، ورأت بطرس يأكل مع الكفرة وأقنعته بأن ينفصل هو واليهود الذين اعتنقوا المسيحية عن المهتدين غير المختتنين، ولسنا نعرف رأي بطرس في هذه المسألة، ولكن بولس يخبرنا أنه "قاوم بطرس مواجهة" في إنطاكية (36)، واتهمه بالرياء؛ ولعل بطرس لم يرغب، كما لم يرغب بولس، في أكثر من أن تكون "كل الأشياء لكل الناس".
والراجح أن بولس قام برحلته التبشيرية الثانية في عام 50 من التاريخ الميلادي. وكان قد اختلف مع برنابا الذي اختفى وقتئذ في موطنه بجزيرة قبرص
ولم يعد له ذكر في التاريخ. وعاد بولس يزور مرة أخرى بني ملته في آسية الصغرى، وضم إليه في لسترا تلميذا يدعى تيموثاوس أحبه. من كل قلبه الذي ظل منذ زمن طويل متعطشاً إلى مَن يحب. وسافرا معاً واجتازا فريجيا وغلاطية حتى وصلا شمالاً إلى إسكندرية ترواس؛ وفيها تعرف بولس بلوقا وهو ممن اعتنقوا اليهودية من غير المختتنين؛ وكان لوقا رجلاً طيب القلب كبير العقل وهو في أكبر الظن صاحب الإنجيل الثالث وسفر أعمال الرسل - وهما السفران اللذان خففا من حدة النزاع الذي إمتاز به تاريخ المسيحية منذ بدايته. ثم أبحر بولس وتيموثاوس ومساعد آخر يدعى سيلاس من ترواس إلى مقدونية، ووطأت أقدامهم لأول مرة أرضاً أوربية. فلما وصلا إلى فلبي، وهي المكان الذي هزما فيه انطونيوس بروتس قبض عليهما بتهمة تكدير السلام، وجلدا، وزجا في السجن، ثم أطلق سراحهما حين عرف أنهما مواطنان رومانيان. وانتقلا من فلبي إلى تسالونيكي (سالونيك)، وفيها دخل بولس المجمع وظل ثلاثة أسبات يخطب في اليهود، فآمن بدعوته عدد قليل منهم، وأسسوا فيها كنيسة لهم، وأثار غيرهم أهل المدينة عليه واتهموه بأنه يدعو لملك جديد، واضطر أصدقاؤه أن يخرجوه خلسة إلى بيرية في أثناء الليل. وهناك تقبل اليهود الدعوة بقبول حسن، ولكن أهل تسالونيكي جاءوا يتهمون بولس بأنه عدو لليهودية، فأقلع منها إلى أثينة على ظهر سفينة (51؟) وحيداً كسير القلب كاسف البال.
وهنا في قلب الديانة الوثنية وعلومها وفلسفتها ألقى نفسه بلا صديق، ولم يكن في هذا البلد إلا عدد قليل من اليهود الذين يستمعون إلى مواعظه. وكان عليه أن يقف بين الناس في السوق العامة كما يفعل أي خطيب حديث يريد أن يتحدث إلى الجماهير، وينافس عشرات الخطباء في إيصال دعوته إلى آذان المارة. وكان بعض مَن يستمعون إليه يناقشونه فيما يقول وبعضهم الآخر يسخرون منه ويسألون:"ترى ماذا يريد هذا المهذار أن يقول؟ "(37). وأظهر عدد من
الناس اهتماماً بقوله، وأخذوه إلى الأريوبجس أو أكمة المريخ ليجد مكاناً أهدأ من السوق العامة يسمع الناس فيه صوته. وقال لهم إنه رأى في أثينة مذبحاً نُقش عليه "لإله مجهول" وأكبر الظن أن هذا النقش كان يعبر عن رغبة من نقوشه في التسبيح بحمد إله لا يعرفون اسمه على وجه التحقيق، أو في استرضاء هذا الإله أو طلب معونته، ولكن بولس فسره بأنه اعتراف منهم بجهلهم كنه الله، ثم أضاف إلى ذلك هذه الأقوال البليغة. "فالذي تتقونه وأنتم تجهلونه، هذا أنا أنادي لكم به، الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه، هذا إذاً هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي
…
هو يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء
…
وصنع من دم واحد كل أمة من الناس
…
لكي يطلبوا الله لعلهم يتلمسونه فيجدونه مع أنه عن كل واحد منا ليس بعيداً لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد؛ كما قال بعض شعرائكم أيضاً
(1)
. لأننا أيضاً ذريته، فإذاً نحن ذرية الله لا ينبغي أن نظن أن اللاهوت شبيه بذهب أو فضة أو حجر نقش صناعة واختراع إنسان. فالله الآن يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا متغاضياً عن أزمنة الجهل، لأنه أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل برجل قد عينه مقدماً للجميع إيماناً إذ أقامه من الأموات" (38).
ولقد كانت جرأة منه أن يحاول التوفيق بين المسيحية والفلسفة اليونانية
(2)
ومع هذا فإنه لم يتأثر بهذه المحاولة إلا عدد قليل؛ ذلك أن ما سمعه الأثينيون من الآراء قبل ذلك الوقت قد بلغ من الكثرة ما يحول بينهم وبين التحمس لما يلقى إليهم أياً كان شأنه. وغادر بولس المدينة يائساً ذهب إلى كورنثة، وكانت التجارة قد جمعت فيها جالية كبيرة من
(1)
ينقل بولس هذه العبارة من ((ترنيمة زيوس)) لكلينثيز أو من فينومينا لأراتس Aratus Phainomena.
(2)
لعل من واجبنا أن نعزو هذه الخطبة إلى مؤلف سفر أعمال الرسل المتأدب بأدب اليونان.
اليهود: وأقام في هذه المدينة ثمانية عشر شهراً (51 - 52؟ م) يكسب فيها قوته بصنع الخيام ويخطب كل سبت في كنيستها: وأفلح في هداية رئيس الكنيس، وعدد غيره من الأفراد بلغ من الكثرة حداً ارتاع له اليهود فاتهموا بولس أمام غاليون Galieo الحاكم الروماني بأنه يستميل "الناس على أن يعبدوا الله بخلاف الناموس". فأجابهم غاليون بقوله:"إذا كان مسألة عن كلمة وأسماء، وناموسكم، فتبصرون أنتم، لأني لست أشاء أن أكون قاضياً لهذه الأمور"، ثم طردهم من المحكمة. وأخذت الطائفتان تتضاربان "ولكن لم يهم غاليون شيء من ذلك"(39). وعرض بولس الإنجيل على غير اليهود من أهل كورنثة ودخل كثيرون منهم في دينه، ولعل المسيحية قد بدت لهم أنها صورة أخرى من الأديان الخفية، التي طالما حدثتهم عن المنقذين الذين يبعثون بعد موتهم، ولعلهم حين قبلوها قد مزجوها بتلك العقائد القديمة، وأثروا في بولس فجعلوه يفسر المسيحية تفسيراً يألفه العقل الهلنستي.
ثم انتقل بولس من كورنثة إلى أورشليم (53؟) ليسلم على الاخوة. ولكنه لم يلبث إلا قليلاً حتى بدأ سفرته التبشيرية الثالثة، وزار فيها الجاليات المسيحية في إنطاكية وآسية الصغرى، وبعث فيهم القوة والعزيمة بحماسته وثقته. وقضى في إفسوس عامين، وأتى فيها بأمثال عجيبة جعلت كثيرين من الناس يعتقدون أنه صانع معجزات، وحاولوا أن يشفوا مرضاهم بلمس الأثواب التي لبسها، ووجد صانعوا التماثيل التي كان عابدو الأوثان يضعونها في هيكل أرطيس أن تجارتهم كسدت، ولعل بولس قد أعاد هنا ما أعلنه في أثينة من تشهير بعبادي الصور أو الوثنيين. وقام رجل يدعى دمتريوس ممن كانوا يصنعون نماذج من فضة للضريح العظيم ليتبرك بها الحجاج الصالحون، قام هذا الرجل بتنظيم مظاهرة احتجاج على بولس والدين الجديد، وسار على رأس جماعة من اليونان إلى ملهى
المدينة وظلوا ساعتين كاملتين ينادون "عظيمة هي أرطيس الإفسيسيين! " وأفلح أحد موظفي المدينة في تفريق هذا المجمع الحاشد، ولكن بولس رأى من الحكمة أن يغادرها إلى مقدونية.
وقضى بضعة أشهر سعيداً وسط الجماعات التي أوجدها في فلبي، وتسالونيكي وبيريه. ولما سمع أن الانشقاق والفساد أخذا يفتّان في عضد الاخوة في كورنثة لم يكتفِ بلومهم الشديد في عدة رسائل بعث بها إليهم، بل انتقل إليهم بنفسه (56؟) ليواجه مَن كانوا يذمونه ويفترون عليه. وكانوا قد ادعوا أنه يستفيد مادياً من عِظاته، ويسخرون من الرؤى التي كان يحدثهم عنها، وطلبوا من جديد أن يتمسك المسيحيون جميعاً بالشريعة اليهودية، فأخذ بولس يذكر الاخوة الثائرين أنه كان حيث ما حل يكسب قوته بعمل يديه، وأما الكسب المادي فقد سألهم هل يعرفون ما عاد عليه من أسفاره - لقد جلد سبع مرات، ورجم مرة، وتحطمت به السفينة ثلاث مرات، وتعرض لمئات الأخطار من اللصوص، والوطنيين المتحمسين، والغرق في الأنهار (40). وترامى إليه وهو في هذه المحنة أن "جماعة مختتنين" قد نقضوا، على ما يبدو، اتفاق أورشليم وذهبوا إلى غلاطية وطلبوا إلى جميع المهتدين أ، يطيعوا الشريعة اليهودية إطاعة كاملة. فما كان منه إلا أن كتب إلى أهل غلاطية رسالة تفيض بالغظب، إنفصل بها نهائياً عن المسيحيين المتهودين، بل وأعلن فيها أن الناس لا ينجون لاستمساكهم بشريعة موسى بل بإيمانهم القوي الفعال بالمسيح المنقذ إبن الله. ثم سافر إلى أورشليم، وهو لا يعلم ماذا ينتظره فيها من محن وبلايا أشد، ليدافع عن نفسه أمام الرسل، وليحتفل في المدينة المقدسة بعيد العنصرة القديم. وكان يرجو أن يسافر من أورشليم إلى روما، وإلى أسبانيا نفسها، ولا يستريح حتى تسمع كل ولاية من ولايات الإمبراطوريّة بأخبار المسيح الذي قام بين الموتى وبما وعد به أتباعه الصالحين.
3 - العالم الديني
واستقبله زعماء الكنيسة الكبرى "أحسن استقبال"(75؟) ولكنهم حين اختلوا به حذروه بأن قالوا له: "أنت ترى أيها الأخ كم يوجد ربوة من اليهود الذين آمنوا وهم جميعاً غيورون للناموس، وقد أُخبروا عنك أنك تعلم جميع اليهود الذين بين الأمم الارتداد عن موسى قائلاً ألا يختنوا أولادهم ولا يسلكوا حسب العوائد
…
سيسمعون أنك قد جئت، فافعل هذا الذي نقول لك. عندنا أربعة رجال عليهم نذر. خذ هؤلاء وتطهر معهم وانفق عليهم، فسيعلم الجميع أن ليس شيء مما أخبروا عنك. بل تسلك أنت أيضاً حافظاً للناموس" (41).
وتقبّل بولس النصيحة راضياً، وأجرى طقوس التطهير، ولكن بعض اليهود رأوه في الهيكل فرفعوا عقيرتهم قائلين إنه "هو الرجل الذي يعلم الجميع في كل مكان ضداً للشعب والناموس". وقبض عليه نفر من الغوغاء، وجرّوه خارج الهيكل "وبينما هم يطلبون أن يقتلوه" إذ أقبلت كتيبة رومانية وأنقذته من القتل بأن قبضت عليه. والتفت بولس ليتحدث إلى الجماهير وأكد لهم أنه يهودي ومسيحي، فنادوا بقتله، فأمر الضابط الروماني بجلده، ولكنه ألغى الأمر حين علم أن بولس يتمتع بحق المواطنية الرومانية. وجيء بالسجين في اليوم الثاني أمام السنهدرين، فخاطب بولس المجلس وأعلن أنه فريسي، ونال بذلك بعض التأييد، ولكن أعداءه المهتاجين حاولوا مرة أخرى أن يعتدوا عليه، فأخذه الضابط إلى الثكنات. وجاءه في تلك الليلة إبن أخت له يحذره ويقول له إن أربعين من اليهود قد اقسموا ألا يأكلوا أو يشربوا حتى يقتلوه. وخشى الضابط أن يحدث في المدينة اضطراب يضر به، فأرسل بولس ليلاً إلى فيلكس وإلى قيصرية.
وجاء رئيس الكهنة ومعه بعض الشيوخ من بيت المقدس إلى قيصرية بعد
خمسة أيام من ذلك الوقت وقالوا إنهم وجدوا بولس "مفسداً مهيج فتنة بين جميع اليهود الذين في المسكونة" وأقر بولس أنه يدعو إلى دين جديد، وأضاف إلى ذلك قوله إنه يؤمن "بكل ما هو مكتوب في الناموس". فما كان من فيلكس إلا أن طرد الشاكين، ولكنه مع ذلك أبقى بولس تحت الحراسة ومنع أحداً من أصحابه أن يأتي إليه. وبقي بولس على هذه الحال عامين كاملين (58 - 60)، ولعل فيلكس كان يرجو أن يحصل على رشوة طيبة.
ولما عُيّن فستوس والياً بعد فيلكس عرض أن يحاكم بولس أمامه في دمشق، ولكن بولس خشى هذا الجو المهتاج فلجأ إلى ما له من حق بوصفه مواطناً رومانياً، وطلب أن يحاكم أمام الإمبراطور نفسه. وبينما كان الملك أغرباس (أجربا) ماراً بقيصرية أذن له بالمثول بين يديه مرة أخرى وحكم عليه بأن علمه الكثير قد جعله يهذي ولكنه فيما عدا هذا بريء. وقال أغرباس إنه "كان يمكن أن يطلق هذا الإنسان لو لم يكن قد رفع دعواه إلى قيصر". وأركب بولس سفينة تجارية سافرت به على مهل، وقضت في البحر زمناً طويلاً صادفتها في أثنائه عاصفة شتوية قبل أن تصل إلى إيطاليا. ويقال إن العاصفة دامت أربعة عشر يوماً ضرب فيها بولس البحارة والمسافرين مثلاً طيباً مشجعاً للرجل الذي يسمو على الموت، الواثق من النجاة. وتحطمت السفينة على صخور مالطة، ولكن من عليها نجوا بالسباحة إلى الشاطئ. وبعد ثلاثة أشهر من هذه الحادثة وصل بولس إلى إيطاليا. وعامله ولاة الأمور الرومان برفق، وانتظروا حتى يأتي الشاكون من فلسطين، وحتى يجد نيرون متسعاً من الوقت يستمع فيه إلى قضيته. وسمح له أن يعيش في بيت يختاره هو لنفسه؛ وأن يوكل جندي لحراسته. ولم يكن في مقدوره أن يتنقل في المدينة بكامل حريته؛ ولكن كان يستطيع استقبال كل مَن يشاء. ولهذا دعا زعماء اليهود في روما أن يوافوه في المنزل الذي يقيم فيه؛ فجاءوا
واستمعوا إليه وهم صابرون ولكنهم لما رأوا أنه لا يعتقد بأن مراعاة الناموس اليهودي ضرورية للنجاة، تولوا عنه، فقد كان يبدو لهم أن الناموس هو عماد الحياة اليهودية وسلواها اللذان لا غنى لها عنهما. وناداهم بولس قائلاً:"فليكن معلوماً عندكم أن خلاص الله قد أرسل إلى الأمم وهم سيسمعون! "(42) وغضبت الجالية المسيحية التي وجدها في روما من موقفه هذا كما غضب منه اليهود ذلك أن هؤلاء الأخوان وجلّهم من اليهود كانوا يفضلون المسيحية التي جاءت إليهم من أورشليم، فكانوا يختتنون، وكانت روما لا تكاد تفرق بينهم وبين اليهود الأصليين. ورحب هؤلاء ببطرس ولكنهم قابلوا بولس بفتور؛ واستطاع أن يهدي بعض سكان روما من غير اليهود، ومن بينهم بعض ذوي المناصب الكبرى، ولكنه ضاق ذرعاً بوحدته في سجنه وأحس بوطأة القيود المفروضة عليه.
وكان يجد بعض السلوى فيما يبعث به من رسائل طويلة رقيقة إلى أتباعه البعيدين عنه، وكان قد قضى عشر سنين يكتب مثل هذه الرسائل، وما من شك في أن مجموعها يزيد كثيراً على العشر التي وصلتنا منسوبة إليه
(1)
. ولم يكن يكتبها هو بقلمه، بل كان يمليها، وكثيراً ما يضيف إليها حاشية بخط يده غير الأنيق ويبدو أنه تركها دون أن يراجعها، تركها بكل ما فيها من تكرار وغموض وخطأ نحوي. واكن ما فيها من شعور عميق يفيض بالإخلاص، وغيرة وغضبة قوية للقضية الكبرى التي وهب حياته للدفاع عنها، وكثرة ما فيها من أقول نبيلة رائعة، كل هذا قد جعلها أقوى وأبلغ ما كتب من الرسائل في أدب العالم كله؛ وإن ما في أدب شيشرون من سحر ليبدو ضئيلاً إذا قيس إلى ما فيها من إيمان قوي فياض. فهي تشتمل على ألفاظ حب قوية
(1)
وفي وسعنا أن نعد الرسائل الموجهة إلى أهل غلاطية، وكورنثوس، ورومية من رسائله بحق؛ وأن نرجح أن الرسائل الموجهة إلى أهل تسالونيكي وفلبي، وكولوس، وفليمون هي أيضاً له؛ بل إن الرسالة الموجهة إلى أهل أفسوس نفسها قد تكون أيضاً من رسائله.
ينطق بها رجل كانت كنائسه في منزلة أبنائه الذين يحميهم ويرد عنهم الأذى بأعظم ما يستطيع من قوة، وفيها هجوم عنيف على أدائه الذين لا حصر لهم، وتأنيب شديد للمذنبين والمارقين، والخصيمين الساعين إلى التفرقة؛ ولا يخلو جزء منها من إنذار ونصح رحيم رقيق "وكونوا شاكرين، لتكن فيكم كلمة المسيح بغنىً وأنتم بكل حكمة معلمون ومنذورون بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية بنعمة مترنمين في قلوبكم للرب"(44) وها هي ذي كلمات كبيرة يرددها العالم المسيحي كله ويعتز بها: "الحرف يقتل، ولكن الروح يحيى"(45)، "المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة"(46)، "كل شيء طاهر للطاهرين" (47). "محبة المال أصل لكل الشرور" (48). وها هي ذي اعترافات صريحة منه بعيوبه بل بريائه الشبيه برياء رجال السياسة:
"استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين، فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود، وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس، وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس مع أني لست بلا ناموس
…
لأربح الذين بلا ناموس
…
صرت للكل كل شيء لأخلص على كل حال قوماً، وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل لأكون شريكاً فيه" (49).
وقد احتفظت بهذه الرسائل الجماعات التي وجهت إليها وكثيراً ما كانت تتلوها على الناس جهرة، ولم يكد يختتم القرن الأول حتى كان الكثير منها معروفاً واسع الانتشار، فها هو ذا كلمنت الروماني يشير إليها في عام 97، ويشير إليها أيضاً بعد قليل من ذلك الوقت كل من أجناسيوس Ignatius وبوليكارب Polycarp؛ ولم تلبث أن دخلت في أخص خصائص اللاهوت المسيحي. ولقد أنشأ بولس لاهوتاً لا نجد له إلا أسانيد غامضة أشد الغموض في أقوال المسيح. وكانت العوامل التي أوحت إليه بالأسس التي أقام عليها ذلك اللاهوت هي انقباض نفسه، وندمه، والصورة التي استحال إليها المسيح في خياله؛ ولعله قد
تأثر بنبذ الأفلاطونية والرواقية للمادة والجسم واعتبارهما شراً وخبثاً؛ ولعله تذكر السنة اليهودية والوثنية سنة التضحية الفدائية للتكفير عن خطايا الناس: أما هذه الأسس فأهما أن كل إن أنثى يرث خطيئة آدم، وأن لا شيء ينجيه من العذاب الأبدي إلا موت ابن الله ليكفر بموته عن خطيئته
(1)
. وتلك فكرة كانت أكثر قبولاً لدى الوثنيين منها لدى اليهود، ولقد كانت مصر، وآسية الصغرى، وبلاد اليونان تؤمن بالآلهة من زمن بعيد - تؤمن بأوزريس، وأتيس وديونيشس - التي ماتت لتفتدي بموتها بني الإنسان. وكانت ألقاب مثل سوتر (المنقذ) واليوثريوس Eleutherios (المنجي) تُطلق على هذه الآلهة، وكان لفظ كريوس Kyrios (الرب) الذي سمى به بولس المسيح هو اللفظ الذي تطلقه الطقوس اليونانية - السوريّة على ديونيشس الميت الُمفتدى (52)، ولم يكن في وسع غير اليهود من أهل إنطاكية وسواها من المُدن اليونانية، الذين لم يعرفوا عيسى بجسمه، أن يؤمنوا به إلا كما آمنوا بآلهتهم المنقذين، ولهذا ناداهم بولس بقوله:"هو ذا سر أقوله لكم"(53).
وأضاف بولس إلى هذا اللاهوت الشعبي المؤسى بعض آراء صوفية غامضة كانت قد ذاعت بين الناس بعد انتشار سفر الحكمة، وفلسفة افليمون. من ذلك قول بولس إن المسيح هو "حكمة الله"(54) و "ابن الله الأول بكر كل خليقة،
(1)
لقد كان اليهود الأقدمون يشتركون مع الكنعانيين، والمؤابيين والفنيقيين، والقرطاجنيين وغيرهم من الشعوب في عادة التضحية بطفل، بل بطفل محبوب، لاسترضاء السماء الغضبى. ثم أصبح في الإمكان على توالي الأيام أن يُستبدل بالطفل مجرم محكوم عليه بالإعدام. وكان البابليون يلبسون هذا الضحية أثواباً ملكية، لكي تمثل بها ابن الملك، ثم تُجلد وتُشنق. وكان هذا نفسه يحدث في رودس في عيد كرونس. وأكبر الظن أن التضحية بحمل أو جدي في عيد الفصح ليت إلا تخفيفاً لهذه التضحية البشرية اقتضاه تقدم المدنية. وفي ذلك يقول فريزي Frezer ((وفي يوم الكفّارة كان كاهن اليهود الأعظم يضع كلتا يديه على جدي حي، ويعترف فوق رأسه بجميع ما ارتكبه بنو إسرائيل من مظالم حتى إذا ما حمل الحيوان خطايا الشعب على هذا النحو أطلقه في البرية)) (51). ??
فانه فيه خلق الكل
…
الكل به وله قد خلق، الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل" (55)، وليس هو المسيح المنتظر "المسيا" اليهودي، الذي سينجي إسرائيل من الأسر، بل هو الكلمة الذي سينجي الناس كلهم بموته. وقد استطاع بولس بهذه التفسيرات كلها أن يغض النظر عن حياة يسوع الواقعية وعن أقواله التي لم يسمعها منه مباشرة، واستطاع بذلك أن يقف على قدم المساواة مع الرسل الأولين، الذين لم يكونوا يجارونه في آرائه الميتافيزيقية. لقد كان في وسعه أن يخلع على حياة المسيح وعلى حياة الإنسان نفسه أدواراً عليا في مسرحية فخمة تشمل النفوس على بكرة أبيها والأبدية بأجمعها. وكان في وسعه فوق هذا أن يجيب عن الأسئلة المربكة أسئلة الذين قالوا إنه إذا كان المسيح إلهاً حقاً فلم رضي أن يُقتل؟ فقال: إن المسيح قد قُتل ليفتدي بموته العالم الذي استحوذ عليه الشيطان بسبب خطيئة آدم. فكان لابد أن يموت ليحطم أغلال الموت، ويفتح أبواب السماء لكل مَن نالوا رضوان الله.
ويقول بولس إن عاملين اثنين يُقرران مَن سوف يُنجيهم موت المسيح وهما اختيار الله والإيمان المصحوب بالتواضع. فالله يختار من بداية العالم إلى نهايته مَن ينالون نعمته ورضوانه ومَن تحل بهم نقمته (56). ومع هذا فقد نشط بولس في تقوية إيمان الناس حتى يكون إيمانهم هذا سبيلاً إلى نيل رضاء الله. وقال: إن الروح لا تستطيع أن تحس بذلك التبدل العميق الذي يخلق صاحبها خلقاً جديداً، ويوحد بين المؤمنين وبين المسيح، ويمكنه من الاشتراك في ثمار موته. ويقول بولس إن الأعمال الطيبة، وإطاعة كل ما جاء في أوامر الشريعة اليهودية البالغ عددها 613 أمراً، لا يكفيان للنجاة، لأن هذه الأعمال وتلك الطاعة لا تستطيع أن تبدل طبيعة الإنسان أو أن تُطهّر النفس من الذنوب. لقد اختتم عهد الناموس بموت المسيح، ووجب ألا يكون الآن يهودي ويوناني، أو عبد وحر، أو ذكر وأنثى "لأنكم جميعاً واحد في المسيح"(58). لكن بولس لم يمل قط من أن يغرس
في قلوب الناس فائدة للعمل الطيب مقترناً بالإيمان؛ وإن أشهر ما قيل من العبارات عن الحب نفسه لهي ألفاظه هو:
"إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن، وإن كانت لي نبوّة وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً؛ وإن أطعمت كل أموالي، وإن سلّمت جسدي حتى احترق ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئاً، المحبة تتأتى وتترفق، المحبة لا تَحسُد، المحبة لا تتفاخر
…
ولا تطلب ما لنفسها
…
وتحتمل كل شيء
…
أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة" (59).
أما الحب الجنسي فيجيزه بولس، ولكنه لا يشجعه إطلاقاً. ومن أقواله فقرة توصي (60)، ولكنها لا تثبت، إنه قد تزوج:"ألعلنا، هو وبرنابا" ليس لنا سلطان أن نجول بأخت زوجة كباقي الرسل واخوة الرب وصفاً؟ " ولكنه في فقرة أخرى يسمي نفسه عزباً (61). وكان يشبه يسوع في تجرده من الشهوات الجنسية (62)، ولقد روع حين سمع بالشذوذ الجنسي بين الإناث والذكور (63). وسأل أهل كورنثة قائلاً: "أولستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم
…
فمجدوا الله في أجسادكم" (64)، وعنده أن بقاء البنات عذارى خير من الزواج، "ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا لأن التزوج أصلح من التحرّق" وزواج المطلقين والمطلّقات حرام، إلا إذا كان المطلّق زوجاً لا امرأة غير مؤمنة أو كانت المطلّقة زوجة لغير مؤمن فإن لهما بعد الطلاق أن يتزوجا. وعلى المرأة أن تطيع زوجها، وعلى العبد أن يطيع سيده "الدعوة التي دُعي فيها كل واحد (أي اعتنق المسيحية) فليلبث فيها، دعت وأنت عبد لا يهمك، بل وإن استطعت أن تصير حراً فاستعملها بالحرى لأن من دعا في الرب وهو عبد فهو عتيق الرب، كذلك أيضاً الحر المدعو هو عبد المسيح" (65).
ذلك أن الحرية والاسترقاق لم يكن لهما شأن يُذكر إذا كان العالم قريباً من نهايته. ولهذا السبب عينه لم يكن للحرية القومية شأن كبير "لتخضع كل نفس للسلاطين القائمة، لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله"(60). لقد كان خليقاً بروما ألا تقضي على فيلسوف مجامل طيّع إلى هذا الحد.
4 - الشهيد
تقول الرسالة الثانية المشكوك فيها والموجهة إلى تيموثاوس: "بادر أن تجيء إلي سريعاً لأن ديماس قد تركني، إذ أحب العالم الحاضر
…
وكريسكيس وتيطس
…
لوقا وحده معي
…
في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي، بل الجميع تركوني
…
لكن الرب وقف معي وقواني لكي تتم بي الكرازة ويسمع جميع الأمم، فأُنقذت من فم الأسد. فإني أنا الآن أسكب سكيباً ووقت انحلالي قد حضر. قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان (66).
لقد كان في حديثه شجاعاً جريئاً. وتقول إحدى الروايات القديمة إنه أطلق من السجن، وإنه سافر إلى آسية وأسبانيا، وعاد منهما إلى الدعوة، وألفى نفسه مرة أخرى سجيناً في رومة. ولكن أكبر الظن أنه لم يُحَرر. لقد كان بلا زوجه تؤنسه أو ولد يسليه، وقد فارقه جميع أصدقائه إلا واحداً، فلم يبقَ له نصير إلا إيمانه القوي؛ ولعل هذا الإيمان أيضاً قد تزعزع. ولقد كان يعيش كما يعيش غيره من المسيحيين في ذلك العصر مؤملاً أن يشهد عودة المسيح، وكان قد كتب إلى أهل فلبي يقول: "ننتظر مخلّصاً هو الرب يسوع المسيح
…
الرب قريب"، وقل إلى أهل كورنثة: "الوقت منذ الآن مقصر لكي يكون الذين لهم نساء كأن ليس لهم
…
والذين يشترون كأنهم لا يملكون
…
لأن هيئة هذا العالم تزول
…
ماران أثا، المسيح معكم" (68). لكنه في رسالته الثانية لأهل
تسالونيكي لامهم لأنهم يهملون شئون العالم انتظاراً لقرب مجيء المسيح، وقال إنه "لا يأتي إن لن يأتِ الارتداد أولاً ويُستعلن إنسان الخطيئة (الشيطان) مظهراً نفسه أنه إله"(69).
ويبدو لنا من رسائله الأخيرة أنه حاول في أثناء سجنه أنه يوفق بين عقيدته الأولى وبين تأخر مجيء المسيح للمرة الثانية، وأخذ يضع عمله في أن يراه بعد أن يموت، وجعل سلواه ذلك التوفيق العظيم بين العقيدتين الذي أنجى المسيحية - "وهو استبدال الأمل في الاتحاد بالمسيح في السماء بعد الموت بالعقيدة الأولى عقيدة عودة المسيح إلى هذه الأرض". ويبدو أنه حوكم مرة أخرى وأُدين؛ وأن الحاكم السياسي وقف مع الرسول الديني وجهاً لوجه، وتغلب أولهما على الثاني. ولسنا نعرف حقيقة التهمة التي وجهت إليه، وأكبر الظن أنه اتهم في هذه المرة بما اتهم به هو وزملاؤه في تسالونيكي وهو أنهم "يعملون ضد أحكام قيصر قائلين إنه يوجد ملك آخر يسوع"(70). وكانت هذه جريمة كبرى يعاقب عليها بالإعدام. وليس لدينا سجل قديم لهذه المحاكمة، ولكن ترتليان - وقد كتب بعد مائتي عام من وقوعها - يقول إن "بولس استشهد في روما في عهد نيرون"(71). ونرجح أنه وهو مواطن روماني قد كُرّم بأن قُتل بمفرده، فلم يختلط بالمسيحيين الذي صلبوا بعد حريق عام 64.
وتقول إحدى الروايات إنه هو وبطرس استشهدا في وقت واحد وإن كان كلاهما قد استشهد منفرداً؛ وتصور إحدى القصص المؤثرة هذين الرجلين المتنافسين يرتبطان برباط الصداقة حين يلتقيان في طريقهما إلى الموت. وقد شيد له في القرن الثالث ضريح في موضع على طريق أستيا Ostia يعتقد رجال الدين أن بولس أسلمَ فيهِ الروح. وجدد هذا الضريح أكثر من مرة بعد ذلك الوقت، وكان كلما جدد يزداد رونقاً وفخامة حتى اصبح الآن هو الباسلقا الشهيرة المعروفة باسم "القدّيس بولس وراء الجدران San Paols Fuore le Mura.
ذلك رمز خليق بنصره. لقد مات الإمبراطور الذي قضى بإعدامه ميتة الجبناء، وسرعان ما زال من الوجود كل أثر لأعماله التي أسرف في إقامتها أيما إسراف، أما بولس المغلوب على أمره فهو الذي شاد صرح المسيحية الديني، كما أنه هو وبطرس وضعا نظام الكنيسة العجيب. لقد عثر بولس في خبايا اليهودية على حلم يصور لليهود فلسفة الحشر والنشر، فحرره ووسع نطاقه، وجعله عقيدة ذات قوة تستطيع أن تحرك العالم بأسره، واستطاع بصبره الشبيه بصبر رجال السياسة أن يمزج مبادئ اليهود الأخلاقية بعقائد اليونان فيما وراء الطبيعة؛ وأوجد طقوساً خفيفة جديدة، ووضع مسرحية للحشر جديدة استوعبت كل ما سبقها من مسرحيات تصور هذه العقيدة، وعاشت بعدها كلها، وأحل العقيدة محل العمل في اختبار الفضيلة، وكان من هذه الناحية بداية العصور الوسطى. ولسنا ننكر أن هذا كان تغييراً يُؤسف له كل الاسف، ولكن لعل الإنسانية هي التي شاءت أن يكون؛ ذلك أن الذين يستطيعون أن يحذوا حذو المسيح هم أقلية من القديسين. ولكن نفوساً كثيرة قد تستطيع أن تسمو بآمالها في الحياة الخالدة إلى مستوى رفيع من الإيمان والشجاعة.
ولم يشعر معاصرو بولس بأثره في التو والساعة، لأن الجماعات التي أنشأها كانت أشبه بجزائر صغرى في بحر الوثنية الواسع الخضم، ولأن كنيسة روما كانت من صنع بطرس وبقيت وفية لذكراه، ومن أجل هذا ظل بولس مائة عام كاملة بعد موته لا يكاد يذكره إنسان. فلما انقضت الأجيال الأولى من المسيحيين، وأخذت أحاديث الرسل الشفهية تضعف ذكراها في الأذهان، وأخذ العقل المسيحي يضطرب بمئات من عقائد الزيغ والظلال؛ لما حدث هذا أضحت رسائل بولس إطاراً لمجموعة من العقائد أضفت على الجماعات المتفرقة اتزاناً وألفت منها كنيسة واحدة قوية.
ومع هذا كله بقي الرجل الذي فصل المسيحية عن اليهودية من حيث
الجوهر والأساس يهودياً في قوة خلقه، وصرامة مبادئه؛ ولما أن أراد رجال العصور الوسطى الدينيون أن يجعلوا الوثنية كثلكة براقة لم يجدوا مع يتفق مع هذه النزعة، فلم يقيموا له إلا قليلاً من الكنائس، وقلما كانوا يقيمون له تمثالاً أو ينطقون باسمه؛ ومرت خمسة عشر قرناً من الزمان قبل أن يجعل لوثر بولس رسول الإصلاح الديني، ويجد فيه كلفن Calvin النصوص القائمة التي أخذ عنها عقيدته الجبرية. وبهذا كانت البروتستنتية نصراً لبولس على بطرس، وكان الاعتقاد بأن النجاة إنما تكون بالإيمان والعقيدة نصراً لبولس على المسيح.
الفصل الثالث
يوحنا
لقد شاءت أحداث التاريخ المفاجئة أن تنقل إلينا بولس في صورة واضحة جلية إذا قيست إلى صورة غيره من رسل المسيح، وأن تترك صورة يوحنا في خفاء وغموض. ولقد انحدر إلينا مؤلفان كبيران مقرونان باسمه فضلاً عن رسائل ثلاث. ويحاول النقاد أن يرجعوا سفر الرؤيا إلى عام 69 - 70 م (72)، ويعزوه إلى يوحنا آخر هو يوحنا "اللاهوتي" الذي ذكره ببياس Papias (135)(73) . أما جستن مارتن Justin Martin (135) فيعزو هذا السفر القوي إلى الرسول "المحبوب"(74). ولكن يوزبيوس ذكر من عهد بعيد يرجع إلى القرن الرابع أن بعض العلماء يشكون في صحة نسبته إليه. وما من شك في أن صاحب هذا السفر كان رجلاً ذا مكانة عظيمة لأنه يخاطب كنائس آسية بلهجة المهدد صاحب السلطان. فإذا كان كاتبه هو الرسول نفسه (وسنظل نفترض مؤقتاً أنه هو)، فإن في مقدورنا أن نفهم سبب تسميته، كما سمي أخوه يعقوب باسم بوانرجس Boanerges أي ابن الرعد. وكانت إفسوس، وأزمير، وبرغامس وسارديس وغيرها من مُدن آسية الصغرى تنظر إلى يوحنا لا إلى بطرس أو بولس على أنه رئيس الكنيسة الأعلى. وتقول الروايات التي ينقلها يوزبيوس (74) إن دومتيان نفى يوحنا إلى بطنس Patmos وقد عمر يوحنا طويلاً حتى قال الناس إنه مخلد.
ويشبه سفر الرؤيا سفري دانيا وأخنوخ من حيث الشكل. ولقد كانت رؤى النبوءات الرمزية أحد الأساليب التي يلجأ إليها يهود ذلك العصر في كثير من الأحوال؛ ووجدت رؤى أخرى غير رؤى يوحنا، ولكن
هذا السفر سما عليها جميعاً في بلاغته الجذابة. ويستند الكتاب إلى العقيدة الشائعة التي تقول إن حلول ملكوت الله يسبقه حكم الشيطان، وانتشار الشرور الآثام، فيصف حكم نيرون بأنه هو بعينه عهد الشيطان، ويقول إنه لما خرج الشيطان وأتباعه على الله غلبتهم الملائكة جيوش ميخائيل، وقذفت بهم إلى الأرض فقادت العالم الوثني هجومه على المسيحية. ونيرون هو الوحش وعدو المسيح في هذا الكتاب فهو مسيح من عند الشيطان، كما أن يسوع مسيح من قبل الله. ويصف روما بأنها "الزانية العظيمة الجالسة على المياه الكثيرة التي زنى معها ملوك الأرض"، "وسكر سكان الأرض من خمر زناها" وهي "زانية بابل" مصدر جميع الظلم والفساد، والفسق والوثنية، ومركزها وقمتها. هنالك ترى القياصرة المجدّفين المتعطشين للدماء، يطلبون إلى الناس أن يخصّوهم بالعبادة التي يحتفظ بها المسيحيون للمسيح.
ويبصر المؤلف في عدة رؤى متتابعة ما سوف يحل بروما وبالإمبراطوريّة من ضروب العقاب. سترسل عليها أسراب من الجراد تظل خمسة أشهر تعذب سكانها أجمعين عدا المائة ألف والأربعة والأربعين ألفاً من اليهود الذين يحملون على جباههم خاتم المسيحية (77). وتأتي ملائكة أخرى فتصب سبع قوارير من غضب الله على الأرض، فيصاب الناس بقروح شديدة، ويتحول البحر إلى دم كدم الميت يموت منه كل ما في البحر من الكائنات الحية، ويطلق ملك آخر حرارة الشمس بأجمعها على الذين لم يتوبوا، ويلف ملك غيره الأرض في ظلام دامس؛ ويقود أربعة من الملائكة ضعفي عشرة آلاف مرة عشرة آلاف من الفرسان يذبحون ثلث أهل الأرض، ويخرج أربعة فرسان يقتلون الناس "بالسيف والجوع والموت وبوحوش الأرض"(78). ويحدث زلزال تندك منه الأرض، وتسقط قطع ضخمة من البرد على من بقي من الكفار، وتدمر روما تدميراً تاماً. ويجتمع ملوك الأرض ليقفوا وقفتهم الأخيرة في وجه الله،
ولكنهم يموتون عن آخرهم، ويلقى بالشيطان وأتباعه إلى الجحيم بعد أن يمنوا بالهزيمة في كل مكان. ولن ينجو من هذه الكارثة إلا المسيحيون الصادقون؛ والذين عذبوا من أجل المسيح، والذين غسلوا في دم الخروف (79) سيجزون الجزاء الأوفى.
ثم يطلق الشيطان بعد ألف عام ليفترس بني الإنسان، وتعود الخطيئة فتفشوا مرة أخرى في عالم خال من الإيمان، وتبذل قوى الشر آخر جهدها لتفسد عمل الله. ولكنها تُغلب مرة أخرى، ويلقى بالشيطان وأتباعه هذه المرة في الجحيم حيث يبقون جميعاً إلى أبد الدهر. ثم يحل يوم الحساب الأخير فيقوم الموتى جميعاً من القبور، ويخرج الغرقى من البحار. وفي ذلك اليوم الرهيب "يلقى في البحيرة المتقدة بنارٍ وكبريت" كل "مَن لم يوجد مكتوباً في سفر الحياة"(80)، ويجتمع المؤمنون ليأكلوا "لحوم ملوك، ولحوم قواد، ولحوم أقوياء
…
ولحوم الكل حراً وعبيداً، صغيراً وكبيراً" (81)، وممن لم يبالوا بدعوة المسيح. وستقوم سماء الله مهيأة لتكون جنة على الأرض، وستكون أساساتها من الحجارة الكريمة، ومبانيها من فضة أو ذهب شبه زجاج نقي، وسورها يشب، وكل باب من أبوابها الاثنى عشر لؤلؤة واحدة، وسيجري فيها نهر صافِ من ماء حياة تنمو على ضفته "شجرة حياة". ويُقضى على حكم الشر إلى أبد الدهر، ويرث الأرض من يؤمنون بالمسيح، "والموت لا يكون فيما بعد، ولا يكون حزن، ولا صراخ، ولا وجع فيما بعد" (82).
ولقد كان لسفر الرؤيا أثر عاجل عميق دائم، وكان ما تنبأ به من نجاة للمؤمنين الصادقين ومن عذاب لأعدائهم هو الدعامة القوية التي حفظت حياة الكنيسة في عصور الاضطهاد. كذلك كانت فكرة العهد السعيد سلوى أولئك الذين أحزنهم طول انتظارهم عودة المسيح. وسرى ما فيه من صور واضحة وعبارات مشرقة في أقوال العالم المسيحي الشعبية والأدبية، وظل الناس تسعة عشر قرناً
يُفسّرون حوادث التاريخ على أنها تحقيق لما فيه من رؤى، ولا يزال يضفي لونه القاتم ومذاقه المر على عقيدة المسيح في بعض البقاع النائية عن عالم الرجل الأبيض.
وقد يبدو من غير المعقول أن يكون كاتب سفر الرؤيا هو نفسه كاتب الإنجيل الرابع. ذلك أن سفر الرؤيا سفر يهودي وأن الإنجيل فلسفة يونانية. ولعل الرسول كتب تلك الرؤى في سورة الغضب التي أعقبت اضطهاد نيرون، وكان لها من هذا الاضطهاد ما يبررها، ثم كتب الإنجيل في أيام نضجه وشيخوخته ونزعته الميتافيزيقية (90 م). وربما كانت ذكرياته عن السيد المسيح قد ذهب بعضها إن كان في وسع الإنسان أن ينسى ذكريات المسيح، وما من شك في أنه قد سمع في الجزائر والمدائن الأيونية أصداء كثيرة للتصوف اليوناني والفلسفة اليونانية. وكان بطليموس من قبله قد نشر تلك العقيدة الخطيرة القائلة إن "أفكار الله" هي النمط الذي شكلت بمقتضاه الأشياء كلها، ثم جمع الرواقيون هذه الأفكار في عبارتهم المعروفة فكرة الله المخصبة. ثم جسد الفيثاغوريون الجدد هذه الأفكار فجعلوها شخصاً قدسياً، ثم استحالت على يد فيلون إلى عقل الله أي إلى عنصر قدسي ثانٍ به يخلق الله الخلق ويتصل بالعالم.
وإذا ما ذكرنا كل هذا ونحن نقرأ بداية الإنجيل الرابع الذائعة الصيت، واستبقينا لفظ Logos اليوناني بدل ترجمته الإنجليزية Word أو العربية (كلمة) أدركنا من فورنا أن يوحنا قد انضم إلى الفلاسفة:
"في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله
…
كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان؛ فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس
…
والكلمة صار جسداً وحل بيننا".
وإذا كان يوحنا قد عاش مدى جيلين في بيئة هلنستية فقد بذل جهده
لكي يصيغ بالصيغة اليونانية العقيدة الصوفية اليهودية القائلة بأن حكمة الله كانت شيئاً حياً (83). والعقيدة المسيحية القائلة بأن عيسى هو المسيح المنتظر، كما أحس من قبل فيلون العالم المتضلّع في البحوث العقلية اليونانية بالحاجة إلى صياغة العقائد اليهودية من جديد كي توائم عقلية اليونان ذوي النزعة الفلسفية، ولقد واصل يوحنا، عرف أو لم يعرف، ما بدأه بولس من فصل المسيحية عن اليهودية فلم يعرض المسيح على العالم، كما كان يعرض عليه من قبل، بوصفه يهودياً يلتزم الشريعة اليهودية إلى حد ما، قل ذلك أو كثر؛ بل أنطقه في خطابه لليهود بقوله "أنتم" وبحديثه عن الناموس بقوله "ناموسكم" ولم يكن "مسيحاً منتظراً" أرسل لينجي خراف إسرائيل الضالة، بل كان ابن الله الخالد معه، ولم يكن المحكم بين الناس في المستقبل فحسب، بل كان هو الخالق الأول للكون. فإذا نظرنا إلى المسيح هذه النظرة، كان في وسعنا أن نغفل إلى حد ما حياة الرجل يسوع اليهودية إذ نراها تذوي ويذهب سناها كما يذهب عند الطائفة اللاأدرية غير المؤمنة؛ أما فكرة المسيح الإله فقد هضمتها تقاليد العقل الهلنستي الدينية والفلسفية، ومن ثم كان في وسع العالم الوثني - بل وفي وسع العالم المضاد للسامية - أن يحتضنها ويرضى بها.
إن المسيحية لم تقضِ على الوثنية، بل تبنتها، ذلك أن العقل اليوناني المحتضر عاد إلى الحياة في صورة جديدة في لاهوت الكنيسة وطقوسها، وأصبحت اللغة اليونانية التي ظلت قروناً عدة صاحبة السلطان على السياسة أداة الآداب، والطقوس المسيحية، وانتقلت الطقوس اليونانية الخفية إلى طقوس القداس الخفية الرهيبة، وساعدت عدة مظاهر أخرى من الثقافة اليونانية على إحداث هذه النتيجة المتناقضة الأطراف. فجاءت من مصر آراء الثالوث المقدس، ويوم الحساب، وأبدية الثواب والعقاب، وخلود الإنسان في هذا أو ذاك، ومنها جاءت عبادة أم الطفل، والاتصال الصوفي
بالله، ذلك الاتصال الذي أوجد الأفلاطونية الحديثة واللاأدرية، وطمس معالم العقيدة المسيحية. ومن مصر أيضاً استمدت الأديرة نشأتها والصورة التي نسجت على منوالها. ومن فريجيا جاءت عبادة الأم العظمى، ومن سوريا أخذت تمثيلية بعث اوتيس. ربما كانت تراقيا هي التي بعثت للمسيحية بطقوس ديونيشس، وموت الإله ونجاته. ومن بلاد الفرس جاءت عقيدة رجوع المسيح وحكمه الأرض ألف عام، وعصور الأرض، واللهب الأخير الذي سيحرقها، وثنائية الشيطان والله والظلمة والنور. فمن عهد الإنجيل الرابع يصبح المسيح نوراً "يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه"(84). ولقد بلغ التشابه بين الطقوس المثراسية والقربان المقدس في القداس حداً جعل الآباء المسيحيين يتهمون إبليس بأنه هو الذي ابتدعه ليضل به ضعاف العقول (85).
وقصارى القول أن المسيحية كانت آخر شيء عظيم ابتدعه العالم الوثني القديم.
الباب الثامن والعشرون
نمو الكنيسة
من 96 إلى 309 م
الفصل الأول
المسيحيون
كانوا يجتمعون في حجراتهم الخاصة أو في معابد صغيرة، وقد نظموا أنفسهم على مثال المجامع اليهودية. وأطلقوا على كل جماعة منهم اسم "الإكليزيا" Ekklesia- وهو اللفظ اليوناني الذي كان يطلق على الجمعية الشعبية في حكومات البلديات- وكانوا يرحبون بالعبيد كما كان يرحب بهم في عبادات إيزيس ومثراس، ولم تبذل أية جهود لتحريرهم، ولكنهم كانوا يواسون بأن يقال لهم انهم سيعيشون في ملكوت يكون الناس فيه جميعاً أحراراً. وكان معظم اللذين اعتنقوا الدين الجديد في أول الأمر من الطبقات الدنيا بينهم عدد قليل من الطبقات الوسطى- الدنيا وعدد أقل من الأغنياء، ولكنهم مع هذا لم يكونوا من "سفلة الناس" كما يدعي سِلسس Celsus، بل كانوا يحيون في الغالب حياة نظام وجد، يمدون بعثات التبشير بالمال، ويجمعون الأموال لمساعدة الجماعات المسيحية الفقيرة. وقلما كانت تبذل في ذلك الوقت جهود لكسب سكان الريف، فلم يعتنق هؤلاء الدين
الجديد إلا آخر الأمر؛ كانت هذه الطريقة العجيبة هي السبب في أن أطلق لفظ البجانيين Pagani (أي القرويين أو الفلاحين) على سكان دول البحر الأبيض المتوسط قبل اعتناقهم المسيحية.
وكان يُسمح للنساء بالدخول في المجامع الدينية، وكان لهن بعض الشأن في أداء الواجبات الصغرى، ولكن الكنيسة كانت تطلب إليهن أن يحيين حياة التواضع والخضوع والعزلة حتى تستحي غير المسيحيات من حياتهن؛ فكن يُؤمرن بأن يأتين للصلاة والعبادة محجبات، لأن شعرهن يُعد من أكبر المغريات، وكان يخشى أن يفتتن به الناس والملائكة أنفسهم أثناء الصلاة (2)، بل أن القدّيس جيروم كان يرى أن يقص هذا الشعر كله (3). كذلك كان يُطلب إلى النساء المسيحيات ألا يستخدمن أدهان التجميل أو الحلي، وأن يتجنبن الشعر المستعار بنوع خاص، لأن بركة القس إذا نزلت على الشعر الميت المأخوذ من رأس لابسه صعب عليها أن تعرف أي رأس تباركه (4). وقد أصدر بولص أوامر صارمة لأتباعه فقال:
"لتصمت نساؤكم في الكنائس لأنه ليس مأذونا لهن أن يتكلمن
…
ولكن إذا كن يردن أن يعلمن شيئاً فليسألن رجالهن في البيت لأنه قبيح بالنساء أن تتكلم في كنيسة".
"فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده، وأما المرأة فهي مجد الرجل، لأن الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل، ولأن الرجل لم يُخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل، لهذا ينبغي للمرأة أن يكون لها سلطان على رأسها من أجل الملائكة".
هذه هي النظرة اليهودية واليونانية لا النظرة الرومانية للمرأة؛ ولعلها كانت ثورة على الإباحية التي انزلقت إليها بعض النساء بإساءة استعمال ما أوتين من حرية، ومن حقنا حين نقرأ هذه النذر أن نعتقد أن النساء المسيحيات قد أفلحن في أن يكن فاتنات مغريات على الرغم من عطلهن من الحلي والعطور،
وبمعونة براقعهن، فمارسن بدهائهن ما كان لهن من سلطان في الزمن القديم. وقد وجدت الكنيسة للأرامل وغير المتزوجات من الناس أعمالاً كثيرة نافعة، فقد نظمتهن في جماعات "الأخوات" وعهدت إليهن القيام ببعض أعمال الإدارة أو الصدقات، وأنشأت على توالي الزمن طبقات مختلفة من الراهبات كانت أعمالهن الرحيمة أنبل ما تمثلت في المسيحية.
وقد وصف لوشيان حوالي عام 160 "أولئك البلهاء، المسيحيين، الذين يزدرون الأشياء الدنيوية ويرون أنها ملك مشترك بينهم جميعاً"(6). وجاء ترتليان بعد جيل واحد فأعلن أننا "نحن"(المسيحيين)"نشترك جميعاً في كل شيء عدا زوجاتنا"، وأضاف إلى ذلك قوله بتهكمه اللاذع:"فإذا وصلنا إلى هذه النقطة حللنا شركتنا، حللناها بالضبط عند النقطة التي يجعل غيرنا من الرجال اشتراكهم قوياً فعالاً"(7). وليس من حقنا أن نأخذ هذه الأقوال بحرفيتها؛ ذلك أن الشركة، كما يفهم من فقرة أخرى في أقوال ترتليان، لا تعني أكثر من أن كل مسيحي يجب عليه أن يسهم في رصيد الجماعة المشتركة بقدر ما تمكنه موارده. وما من شك في أن الاعتقاد السائد بأن النظام القائم في العالم سيقضى عليه بعد قليل قد جعل هذا التبرع سهلاً على المسيحيين؛ ولعل الأغنياء منهم قد اقتنعوا بأنهم يجب ألا يفاجئوا يوم القيامة وهم ملقون في أحضان المال. وكان بعض المسيحيين الأولين يعتقدون كما يعتقد الأسينيون أن الرجل الغني الذي لا يُشرك الناس فيما لا حاجة له به من ماله لص (9). وقد هاجم يعقوب "أخو الرب" الثروة بألفاظ تنم عن ثورة نفسية مريرة:
"هلم الآن أيها الأغنياء، ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة، غناكم قد تهرأ، وثيابكم قد أكلها العث، ذهبكم وفضتكم قد صدئا، وصدأهما
…
يأكل لحومكم كنار، ثم كثرتم في الأيام الأخيرة، هو ذا أجرة الفعلة الذي حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ وصياح الحاصدين قد دخل إلى أذني
رب الجنود .. أما اختار الله فقراء هذا العالم
…
ورثة الملكوت؟ " (10). ويضيف إلى هذا أن الغني سيذبل كما تذبل الأزهار في حر الشمس اللافح (11).
وسرى فيما اعتاده المسيحيون من تناول وجبة الطعام المشتركة عنصر من عناصر الشيوعية؛ فقد كان المسيحيون الأولون يجتمعون كثيراً في عيد الحب Agape ويكون ذلك عادة في مساء يوم أحد السبوت. وكان العشاء يبدأ وينتهي بالصلاة وقراءة بعض فقرات من الكتاب المقدس، وكان القس يبارك الخبز والخمر. ويبدو أن المؤمنين كانوا يعتقدون أن الخبز والخمر كانا هما لحم المسيح ودمه، أو أنهما يُمثّلان لحمه ودمه (12). وكان عباد ديونيشس، وأئيس، ومثراس يؤمنون بما يشبه هذه العقائد في المآدب التي يأكلون فيها الأجساد المسحورة لآلهتهم أو رموز هذه الأجساد (13). وكانت آخر مراسم عيد الحب هذا هي "قبلة الحب" وكانت هذه القبلة في بعض المجتمعات يتبادلها الرجال فيما بينهم أو النساء فيما بينهن، لكن هذا القيد الثقيل لم يكن يراعى في البعض الآخر، ثم وجد كثيرون من المشتركين في هذا الحفل البهيج أن فيه من الملذات ما يأباه الدين، وندد ترتليان وغيره بما أدى إليه من الإباحية الجنسية (14). وكانت الكنيسة توصي بألا تفتح الشفاه في أثناء التقبيل، وألا تتكرر القبلة إذا أعقبتها لذة (15). وأخذ عيد الحب يختفي تدريجياً في القرن الثالث.
وفي وسعنا أن نصدق ما كان يعتقده الأقدمون من أن أخلاق المسيحيين الأولين كانت مثالاً يزدجر به العالم الوثني على الرغم من هذا الحادث السالف الذكر وأمثاله، وعلى الرغم من تشهير الوعاظ الذين كانوا يطلبون إلى المؤمنين أن ينشدوا الكمال. لقد استطاعت هذه المبادئ الأخلاقية السماوية أن تهذّب ما في الإنسان من غرائز حيوانية، وتضع له قانوناً أخلاقياً صالحاً للحياة، مهما يكن الثمن الذي تقاضته من حرية العقل والتفكير، وذلك بعد أن ضعفت الأديان
القديمة وزال ما كان لها من أثر ضئيل في تدعيم الحياة الخلقية، وبعد أن أخفقت المحاولات التي بذلتها الرواقية لإيجاد قانون أخلاقي قريب من القانون الطبيعي، فلم يكن لها أثر إلا في الصفوة المختارة من الناس. لقد كان الاعتقاد بحلول ملكوت الله ينطوي كذلك على الاعتقاد بوجود حاكم عادل مطلع على جميع أعمال البشر، يعلم ما تخبئه الصدور، لا يعزب عنه مثقال ذرة، ولا يستطيع أحد أن يفر منه أو يخدعه. يُضاف إلى هذه الرقابة القدسية رقابة أخرى من الناس بعضهم على بعض. ذلك أن الذنوب لم يكن من السهل إخفاؤها في هذه الجماعات الصغيرة، وأن المجتمع كان يوجه أشد اللوم علناً لمن يكشف أمرهم ممن يخالفون من أعضائه القانون الأخلاقي الجديد. وقد حرم على المسيحيين الإجهاض ووأد الأطفال وهما اللذان كانا يقضيان على عدد كبير من أفراد المجتمعات الوثنية، وسوى بينهما وبين القتل العمد (16). وكثيراً ما أنقذ المسيحيون الأطفال الذين تركوا في العراء ليقضوا نحبهم، وعمّدوهم، وربوهم مستعينين بما كان يقدم لهم من عون من مال الجماعة العام (17). كذلك حرمت الكنيسة على المسيحيين الذهاب إلى الملاهي، أو مشاهدة الألعاب العامة، أو الاشتراك في الحفلات التي تقام في الأعياد الوثنية، وإن لم تفلح في هذا بقدر ما أفلحت في تحريم الإجهاض ووأد الأطفال (18). وقصارى القول أن المسيحية أيدت وشددت ما كان لدى اليهود المتأهبين للقتال من صرامة أخلاقية. وكانت توصي بالعزوبة وبقاء البنات أبكاراً وتعد ذلك من المثل الأخلاقية العليا؛ ولم يكن بالزواج إلا لأنه مانع من الإباحية الجنسية، ولأنه وسيلة سخيفة لحفظ النسل. ولكن الزوج والزوجة كانا يشجعان على الامتناع عن العلاقات الجنسية (19). أما الطلاق فلم يكن يسمح به إلا إذا كان أحد الزوجين وثنياً وأراد أن يلغي زواجه بمن اعتنق المسيحية. وكانت الكنيسة تقاوم زواج الأرامل من النساء والرجال، وقد حرم اللواط وذم ذماً قل أن
يكون له مثيل في شدته في التاريخ القديم. وفي ذلك يقول ترتليان: "أما من حيث المسألة الجنسية فإن المسيحي يقنع بالمرأة"(20).
وكان كثير مما ورد في هذا القانون الأخلاقي الصارم يستند إلى قرب عودة المسيح إلى الأرض، فلما أن بدأ هذا الأمل يمحل، أخذت مطالب الجسد تقوى مرة أخرى، وضعفت الأخلاق المسيحية. وشاهد ذلك أن رسالة لا يُعرف كاتبها تسمى راعي هرماس (حوالي عام 110) تندد بعودة البخل، والخيانة، وأصباغ الشفاه، وصبغ الشعر، وتلوين الجفون، والسكر، والزنى بين المسيحيين (21). لكن الصورة العامة التي لدينا عن أخلاق المسيحيين في ذلك العهد تنطق بالتقوى، والوفاء المتبادل، والإخلاص بين الزوجين، والسعادة، والطمأنينة، والثقة، والإيمان. ولم يسع بلني الأصغر إلا أن يكتب إلى تراجان يقول إن المسيحيين يحيون حياة هادئة هي مضرب المثل في الصلاح (22). ويصفهم جالينوس بأنهم "قد سموا في تأديب أنفسهم" وفي
…
رغبتهم الشديدة في الوصول إلى مستوى خلقي رفيع يجعلهم في منزلة لا تقل عن منزلة الفلاسفة الحقيقيين (23). وقد قوى شعورهم بالخطيئة حين أخذوا يعتقدون أن البشر جميعهم قد تلوثوا بسقوط آدم، وأن العالم سينتهي عما قريب، ويحل اليوم الذي يحكم فيه على الناس بالعذاب السرمدي أو النعيم المقيم.
وقد وجه كثير من المسيحيين همهم كله إلى العمل على أن يستقبلوا يوم الحساب الرهيب طاهرين من الدنس، فكانوا لذلك يرون في كل لذة من ملذات الحواس غواية من غوايات الشيطان، ولهذا أخذوا ينددون بعالم الجسم ويعملون لكبت الشهوات بالصوم وبكثير من أنواع التعذيب البدني، وكنوا ينظرون بعين الريبة إلى الموسيقى، والخبز الأبيض، والخمور الأجنبية، والحمّامات الدافئة، وحلق اللحية، ويرون في هذه الأعمال استهانة بإرادة الله الجلية الواضحة للعيان (24). واتخذت الحياة حتى عند المسيحي العادي نفسه لوناً أشد قتاماً
مما خلعته عليها الوثنية، إلا حينما كانت تعمل على استرضاء الآلهة السفلى لدفع أذاها. وانتقل إلى يوم الأحد المسيحي ما كان يراعى في السبت اليهودي من جد ووقار حين حل أولهما محل الثاني في القرن الثاني بعد الميلاد.
فقد كان المسيحيون يجتمعون في ذلك اليوم المعروف عندهم بيوم الرب، ليقيموا قداسهم الأسبوعي. فكان قساوستهم يتلون عليهم نُبَذاً من الكتاب المقدس، ويؤمونهم في الصلاة، ويلقون عليهم مواعظ في العقائد، والتعاليم الأخلاقية، والجدل الطائفي. وكان يسمح لأفراد الجماعة وخاصة النساء، في الأيام الأولى أن "ينطقوا" في أثناء الغيبوبة أو النشوة بألفاظ لا يستطيع أن يشرح معناها إلا المفسرون الصالحون؛ ولما أن أدت هذه الأعمال إلى كثير من التهيج والفوضى في شئون الدين، عمدت الكنيسة إلى عدم تشجيعها ثم منعتها آخر الأمر منعاً باتاً ووجد القساوسة أنفسهم مضطرين عند كل خطوة إلى كبح جماح الخرافات لا إلى خلقها.
وقبل أن يُختتم القرن الثاني كانت هذه الحفلات الأسبوعية قد اتخذت شكل القداس المسيحي. وأخذ هذا القداس ينمو نمواً بطيئاً بالاعتماد على صلاة الهيكل اليهودية، وعلى الطقوس اليونانية الخاصة بالتطهير، والتضحية البديلة، والاشتراك عن طريق العشاء الرباني في قوى الإله القاهرة للموت، حتى صار في آخر الأمر كومة من الصلوات، والمزامير، والقراءات، والمواعظ، والترتيلات، وما هو أهم من هذا كله وهو التضحية الرمزية بحمل الله للتكفير عن الخطايا، وهي التضحية التي حلّت في المسيحية محل القرابين الدموية في الأديان القديمة. واستحال الخبز والخمر اللذان كانا يُعدّان في الطقوس القديمة هدايا توضع على المذبح أمام الإله بفضل تدشين القساوسة له إلى جسم المسيح ودمه، وأصبحا يقدّما لله بوصفهما تكراراً بتضحية يسوع بنفسه على خشبة الصليب. ويلي هذا موكب مؤثر رهيب يشترك فيه العابدون في حياة منقذهم ومادته نفسيهما.
وكانت هذه فكرة خلع عليا طول الزمن قداسة، فلم يكن العقل الوثني في حاجة إلى شيء من التدريب لاستقبالها وإدماجها في "طقوس القداس الخفية" وبها أضحت المسيحية آخر الأديان الغامضة وأعظمها. لقد كانت هذه عادة حقيرة في منشئها (25)، جميلة في تطورها، وكان قبولها في المسيحية وسيلة من أحكم الوسائل التي سلكتها لتوائم بينها وبين رموز العصر وحاجات أتباعها؛ ولم يكن في طقوسها كلها طقس يماثل القداس في بعث الحماسة في النفس الوحيدة المقفرة، وتقويتها على مواجهة العالم الذي يناصبها العداء
(1)
.
وكان (منح البركة) للخبز والخمر أحد الأسرار السبعة المسيحية المقدسة وهي الطقوس التي يعتقد الناس أنهم ينالون بها البركة الإلهية. وهنا أيضاً تستخدم الكنيسة شعر الرموز لتخفف به من أعباء الحياة الإنسانية وتعلّي مكانتها، وتجدد في كل مرحلة من مراحل الملحمة الإنسانية صلة الخالق بالمخلوق وهي الصلة التي تقويه على احتمال متاعب الحياة وآلامها. ولسنا نجد في القرن الأول الميلادي إلا ثلاث شعائر دينية يؤمن المسيحيون بقداستها: التعميد، والعشاء الرباني، ورسامة الكهنوت؛ ولكن سائر الشعائر كانت أصولها موجودة في عادات المجتمعات الدينية من ذلك الوقت البعيد. ويلوح أنه كان من عادة المسيحيين الأولين أن يضيفوا إلى التعميد "وضع الأيادي" على مَن يعمّدون، وبذلك يدخل الرسول أو القسيس الروح القدس في المؤمنين (28). ثم انفصل هذا العمل عن التعميد على توالي الأيام وأصبح هو تثبيت العماد (29).
ولما استبدل تعميد الأطفال شيئاً فشيئاً بتعميد الكبار شعر الناس بحاجتهم إلى التطهير الروحي بعد مرحلة الطفولة؛ فاستحال الاعتراف العام بالخطيئة اعترافاً خاصاً أمام القس، الذي يقول بأنه تلقى من الرسل أو خلفائهم من الأساقفة حق
(1)
وكان الخبز والماء المقدسان يقدمان لعابدي مثراس في أثناء طقوسه الخفية، ولقد دهش الغزاة الفاتحون حين وجدوا طقوساً مماثلة لهذا، منتشرة بين هنود المكسيك وبيرو.
"الربط والحل" أي فرض الكفارات وغفران الذنوب (30).
ولقد كان فرض الكفارات هذا من الأنظمة التي يمكن أن يساء استخدامها لسهولة نيل المغفرة؛ ولكنه مع هذا يمد المذنب بقوة تمكنه من إصلاح نفسه، ويوفر على النفوس القلقة متاعب الندم العصيبة.
وكان الزواج في تلك القرون لا يزال من النظم المدنية؛ ولكن الكنيسة أضافت إليه ضرورة الحصول على موافقتها، وأخذت تطالب الزوجين به، فرفعت الزواج بهذا العمل من عقد زمني يستطاع حله إلى عقد مقدس لا يستطاع نقضه. وقبل أن يحل عام 200 بعد الميلاد اتخذت عادة "وضع الأيادي" صورة "الرسامة الكهنوتية"، وبمقتضاها أصبح للأساقفة وحدهم حق رسامة القساوسة القادرين على إقامة القداس بصورته الصحيحة؛ ثم استمدت الكنيسة في آخر الأمر من رسالة يعقوب (5: 14) "دهن المريض بالزيت المقدس بعد الموت" وهي البركة الأخيرة التي يتلقاها من القس حين يدهن في المسيحي المحتضر أعضاء الحس والأطراف، فيطهره مرة أخرى من الخطايا ويهيئه للقاء الله. ولو أننا حكمنا على هذه الشعائر بما كان يعزوه إليها القائمون بها والمؤمنون بقوتها، وأخذنا أقوالهم فيها بحرفيتها، لكان هذا منتهى السخف منا والجهالة، لكننا إذا أدركنا أنها تبعث في النفوس البشرية الشجاعة والإلهام، حكمنا من فورنا بأنها خير علاج للنفوس وأقربه إلى الحكمة.
وكانت طريقة الدفن المسيحية آخر ما تكرم به حياة المسيحي. ذلك أن من عقائد الدين الجديد عودة الحياة إلى الجسم والروح، ولهذا كان يُعنى بالميت أشد العناية، فيقوم قسيس بالخدمة الدينية للميت وقت دفنه، وتوضع كل جثة وحدها في قبر خاص؛ ثم أخذ المسيحيون حوالي عام 100 يتبعون العادات السوريّة والتسكانية القديمة فيدفنون موتاهم في سراديب- وأكبر الظن أن هذا لم يكن يقصد إخفائها بل كان رغبة منهم في الاقتصاد في الأمكنة
والنفقات، فكان العمال يحفرون طرقات طويلة تحت الأرض مختلفة البعد عن سطحها، توضع فيها أجسام الموتى في دياميس بعضها فوق بعض ممتدة على جانبي هذه الطرقات. وسار الوثنيون واليهود على هذه السنة نفسها، ولعلهم فعلوا هذا ليسهلوا مشقة الدفن ونفقاته على الجمعيات التي كانت تقوم بهذه المهمة. ويبدو لنا أن بعض هذه الطرقات قد جُعلَت ملتوية عمداً وقد يبعث هذا على الظن بأنها كانت تستخدم مخابئ في أوقات الاضطهاد، فلما أن علا شأن المسيحية وانتصرت على أعدائها زالت عادة دفن الموتى في السراديب، وأضحت الدياميس أماكن معظمة يحج إليها الناس؛ وقبل أن يحل القرن التاسع سدت السراديب ونسيها الناس، ولم تكشف إلا بطريق المصادفة عام 1578.
وهذه السراديب وما فيها من نقوش بارزة وظلمات وهي التي احتفظت بمعظم ما بقي لنا من الفن المسيحي الأول. فها هنا ظهرت في عام 180 الرموز التي أصبحت فيما بعد ذات شأن أيما شأن في المسيحية: اليمامة الممثلة للروح بعد أن تحررت من سجن الجسم؛ والفنقس
(1)
Phoenix الذي عادت الحياة إلى رماده بعد احتراقه، وغصن النخلة شعار النصر، وغصن الزيتون رمز السلام. والسمكة وقد ضمت إلى شعائر المسيحية لان اسمها اليوناني i-ch-th-u-s يتكون من الحروف الأولى من العبارة Jesous Christos thou uios soter- " يسوع المسيح ابن الله، المنقذ"، وهنا أيضاً نجد تلك الفكرة الذائعة الصيت، فكرة الراعي الصالح، ممثلة تمثيلاً صريحاً على تمثال لعطارد يحمل معزى. وتتمثل في هذه الرسوم أحياناً رشاقة رسوم بمبي، ونشاهد ذلك في الأزهار، والكروم، والطيور التي كان يزدان بها قبر دومتيان. وهذه النقوش في العادة من أعمال صغار الصناع المغمورين الذين يفسدون وضوح الخطوط اليونانية والرومانية بالغموض
(1)
الفنقس طائر خرافي يقولون عنه إنه عاش خمسمائة عام وحيداً في البرية، وبعد أن حرق نفسه على كومة الحريق عادة الحياة إلى رماده، ولهذا كان يعد رمزاً للخلود. (المترجم)
الشرقي. ذلك بأن المسيحية كانت في تلك القرون الأولى منهمكة في شئون الدار الآخرة انهماكاً يحول بينها وبين العناية بتزيين دار الدنيا. يضاف إلى هذا أنها سارت على السنة اليهودية سنة كراهية التماثيل، وخلطت بين التصوير وبين عبادة الأوثان، وذمت النحت والتصوير لأنهما في أكثر الأحيان يمجدان العرى، وكان من أثر هذه الآراء أن اضمحل الفن التشكيلي بنماء المسيحية، أما الفسيفساء فكانت أكثر انتشاراً، فكانت جدران الباسلقات وأماكن التعميد مرصعة برصائع من أوراق الأشجار وأزهارها وبخروف عيد الفصح، وصور من العهد القديم. وكان صور شبيهة بهذه تنقش نقشاً غير متقن على التوابيت. وكان المهندسون المعماريون في هذه الأثناء يعملون على تكييف الباسلقات اليونانية- الرومانية للوفاء بحاجات العبادات المسيحية؛ ولم تكن الهياكل الصغيرة التي كانت تضم الآلهة الوثنية نموذجاً صالحاً للكنائس المعدة لاستقبال الجماعات الكبيرة، أما صحن الباسلقات الرحب وطرقاتها فكانت صالحة لهذا الغرض، وكان قباءها قد أُعد لأن يكون هو المحراب؛ وفي هذه الأضرحة ورثت الموسيقى المسيحية على استحياء النغم، والوزن، والسلّم الموسيقي؛ وكان كثير من رجال الدين يعارضون في أن تغني النساء في الكنيسة، بل كانوا يعارضون في أن يغنين في أي مكان عام، لأن صوت النساء قد يثير رغبة دنسة في الرجل القابل للتهيّج على الدوام (31). لكن المجتمعين في الكنائس كثيراً ما كانوا يعبّرون بترانيمهم عن أملهم، وشكرهم، وبهجتهم؛ وأضحت الموسيقى على توالي الأيام أجمل الزينات، وأرقى الوسائل لخدمة الدين المسيحي.
وهذا الدين في جملته أعظم الأديان التي عرضت على بني الإنسان جاذبية؛ فهو يعرض نفسه دونما قيد على جميع الأفراد، والطبقات، والأمم؛ ولم يكن كالدين اليهودي مقصوراً على شعب بعينه أو على الأحرار في أمّة بعينها كما كانت الشعائر الرسمية في روما وبلاد اليونان، والمسيحية إذ تجعل الناس
جميعاً وارثين لانتصار المسيح على الموت تعلن المساواة التامة الأساسية بين جميع بني الإنسان، وتجعل كل الفروق في المراتب الدنيوية أموراً عارضة تافهة؛ وقد وهبت البائسين، والمحطمين، والمحرومين، واليائسين، والأذلاء، جميعاً فضيلة الرحمة التي لم يكن لهم بها عهد من قبل؛ كما وهبتهم العزة والكرامة التي ترفع من قدرهم وتعلي شأنهم، ووهبتهم فوق ذلك وحياً وإلهاماً ينبعث من صورة المسيح وقصته ومبادئه الأخلاقية؛ وأضاءت حياتهم بما تبعث فيهم من أمل في ملكوت الله المقبلة، وفي السعادة الدائمة بعد الموت؛ ووعدت أشد الناس دنيوياً بالعفو عن ذنوبهم وبقبولهم في الناجين من العقاب في الدار الآخرة، أما العقول التي أقلقها طول البحث في المشاكل المعقدة كمشاكل أصل الحياة ومصير الإنسان والشر والآلام، فقد جاءت إليها بمجموعة من العقائد الموحى بها من عند الله تستطيع أكثر النفوس سذاجة أن تجد فيها السلوى والراحة العقلية؛ وجاءت إلى الرجال والنساء الذين يحيون حياة الفاقة والكدح بمباهج العشاء الرباني والقداس، وهما من الشعائر التي تجعل كل حادثة كبرى في الحياة منظراً خطيراً في مسرحية الله والإنسان؛ وجاءت إلى الفراغ الخلقي الذي خلّفته الوثنية المحتضرة، وإلى فتور الرواقية وفساد الأبيقورية، وإلى العالم الذي أنهكته علل الوحشية، والقسوة، والظلم، والفوضى الجنسية؛ وإلى الإمبراطوريّة الجانحة إلى السلم، والتي بدت في غير حاجة إلى فضائل الرجولة القوية أو إلى آلهة الحرب، جاءت إلى هذه كلها بقانون أخلاقي جديد قائم على الاخوة، والرحمة، والتأديب، والسلام.
وبعد أن تشكّل الدين الجديد بحيث يفي بحاجات الإنسان أخذ ينتشر بين الناس بما أوتي من قدرة على الذيوع والانتشار، فكان كل مَن اعتنق هذا الدين ينصب نفسه داعياً له بحماسة لا تقل في قوتها عن حماسة الثوار. وكان طرق الإمبراطوريّة الرومانية، وأنهارها، وشواطئ بحارها، ومسالكها التجارية
أهم العوامل التي عينت الخطوط الرئيسية لنماء الكنيسة المسيحية، فأتجه هذا النماء شرقاً من أورشليم إلى دمشق، والرها، ودورا، وسلوقية، وطشقونة؛ واتجه منها جنوباً عن طريق بصرى، وبطرا إلى بلاد العرب؛ وغرباً عن طريق سوريا، إلى مصر، وشمالاً عن طريق إنطاكية إلى آسية الصغرى وأرمينية؛ ومن إفسوس وترواس وراء بحر إيجة إلى كورنثة (كورنثوس) وتسالونيكي، وإلى درهكيوم وراء الطريق الإجناسي؛ ثم إخترق البحر الأدرياوي إلى برنديزيوم، أو عن طريق سلا وكربيدس إلى بتيولى وروما؛ وعن طريق صقلية ومصر إلى شمالي أفريقية، واخترق البحر الأبيض المتوسط أو جبال الألب إلى أسبانيا وغالة، ومنها إلى بريطانيا. ثم سار الصليب على مهل في أعقاب الحكم الروماني، وشق النسر الروماني، الطريق للمسيح؛ وكانت آسية الصغرى في ذلك الوقت حصن المسيحية الحصين، ولم يكد يحل عام 300 حتى كانت الكثرة الغالبة من سكان إفسوس وأزمير من المسيحيين (32). وعلا شأن الدين الجديد في شمالي أفريقية، فأضحت قرطاجنة وهبو مركزين رئيسيين للعلم والجدل المسيحيين، وفيهما وجد آباء الكنيسة اللاتينية العظام- ترتليان، وكبريان، وأوغسطين؛ وهنا اتخذت نصوص القداس اللاتينية وترجمة العهد القديم اللاتينية صورتيهما المعروفتين. وبلغ عدد الجالية المسيحية في روما قبيل آخر القرن الثالث نحو مائة ألف، وكان في وسع هذه الجالية أن تمد بمعونتها المالية غيرها من الجاليات، وكانت من عهد بعيد تطالب لأسقفها بالسلطة العليا على سائر الكنائس.
ويمكننا أن نقول بوجه عام إنه لم يحل عام 300 بعد الميلاد حتى كان ربع سكان الشرق وجزء من عشرين جزءاً من سكان الغرب من المسيحيين. وفي ذلك يقول ترتليان (حوالي 200): "يجهر الناس بأن الدولة مكتظة بنا، ذلك أن الخلائق على اختلاف سنهم، وأحوالهم، ومراتبهم، يهرعون إلينا، وينضوون تحت لوائنا. إنّا أبناء الأمس القريب ولكننا رغم هذا قد ملأنا العالم كله"(33).
الفصل الثاني
تنازع العقائد
لو أن عادات وعقائد مختلفة متناقضة لم تنشأ في مراكز المسيحية المتعددة المستقلة بعضها عن بعض إلى حد ما والخاضعة إلى تقاليد وبيئات مختلفة. لو أن هذا لم يحدث لكان عدم حدوثه أمراً شديد الغرابة. ولقد قدر للمسيحية اليونانية بنوع خاص أن يطغي عليها سيل من البدع الدينية بتأثير عادات العقل اليوناني الميتافيزيقية المولعة بالنقاش والجدل؛ وليس من المستطاع فهم المسيحية على حقيقتها إلا إذا عرفنا ما دخل فيها من هذه البدع، لأنها وإن غلبتها لم تسلم من بعض ألوانها وأشكالها.
وكان ثمة عقيدة مشتركة وحدت الجماعات المسيحية المنتشرة في أنحاء العالم: هي أن المسيح ابن الله، وأنه سيعود لإقامة مملكته على الأرض، وأن كل مَن يؤمن به سينال النعيم المقيم في الدار الآخرة. ولكن المسيحيين اختلفوا في عودة المسيح؛ فلما أن مات نيرون، وخرب تيطس الهيكل، ولما أن دمر هدريان أورشليم، رحب كثيرون من المسيحيين بهذه الكوارث وعدوها بشائر بعودة المسيح.
ولما أن هددت الفوضى الإمبراطوريّة في أواخر القرن الثاني، طن ترتليان وغيره أن آخرة العالم قد دنت (34)؛ وسار أحد الأساقفة السوريين على رأس قطيعه إلى الصحراء ليلتقي بالمسيح في منتصف الطريق، وأفسد أسقف آخر في بنطس نظام أتباعه بأن أعلن أن المسيح سيعود في خلال عام واحد (35). ولما لم تصدق كل هذه العلامات، ولم يعد المسيح، رأى عقلاء المسيحيين أن يخففوا من وقع هذه الخيبة بتفسير موعد عودته تفسيراً جديداً، فقيل في رسالة معزوة إلى برنابا
إنه سيعود في خلال ألف عام (36)، وقال أشد هؤلاء حذراً إن عودته ستكون حين ينقرض "جيل" اليهود أو شعبهم عن آخره، أو حين لا يبقى أحد من غير اليهود لم يصل إليه الإنجيل؛ أو كما يقول إنجيل يوحنا: إنه سيرسل بدلاً منه الروح القدس أو المقرِّى
(1)
؛ ثم نقل الملكوت آخر الأمر من الأرض إلى السماء، ومن حياة الناس في هذه الدنيا إلى الجنة في الدار الآخرة. بل إن الاعتقاد بعودة المسيح بعد ألف عام أصبح لا يلقى تشجيعاً من الكنيسة، وانتهى الأمر بأن صارت تقاومه وتحكم على القائلين به بالزيغ والضلال.
وملاك القول أن الاعتقاد بعودة المسيح الثانية هي التي أقامت صرح المسيحية، وأن الأمل في الدار الآخرة هو الذي أبقى عليها
(2)
.
وإذا عضضنا النظر عن هذه العقائد رأينا أن أتباع المسيح قد انقسموا في الثلاثة القرون الأولى من ظهوره إلى مائة عقيدة وعقيدة. ولو أننا عمدنا إلى ذكر العقائد الدينية المختلفة التي حاولت أن تستحوذ على الكنيسة الناشئة ثم عجزت من الوصول إلى غرضها، والتي اضطرت الكنيسة إلى أن تصمها واحدة بعد واحدة بأنها كفر وسعي إلى الانشقاق والتفريق، لو أننا فعلنا هذا لكان ذلك جهلاً منا بالغرض من كتابة التاريخ.
(1)
إنجيل متّى 14: 16: 26. (المترجم)
(2)
يفسر آلاف من المسيحيين، ومنهم كثيرون من العاملين بها، اضطرابات هذه الأيام بأنها النذر المنبئة بقرب عودة المسيح. ولا يزال ملايين من المسيحيين وغير المسيحيين، والملحدين يعتقدون بأن ستكون على الأرض جنة تختفي منها الحروب والشرور. ويمكن تشبيه عقدتي النعيم في الدار الآخرة وجنة الدنيا بدلوين يتبادلان النزول في بئر إذا نزلت إحداهما ارتفعت الأخرى. فلما ضعف شأن الأديان اليونانية والرومانية القديمة، ثارت الاضطرابات الشيوعية في أثينة (430 ق. م)، وبدأت الثورة في روما (133 ق. م). ولما أخفقت هاتان الحركتان نجحت العقائد القائلة بالبعث والنشور وبلغت ذروتها في الدين المسيحي؛ ولما أن ضعفت العقيدة المسيحية في القرن الثامن عشر بعد الميلاد عادت الشيوعية إلى الظهور. وعلى هذا الاعتبار يكون مستقبل الدين مضموناً لا خوف عليه.
وجدير بنا أن نشير هنا إلى الأدرية
(1)
- أي طلب العلم الرباني (gnosis) عن طريق التصوف - لم تكن كفراً بالمسيحية بقدر ما كانت عقيدة منافسة لها. لقد نشأت هذه العقيدة المسيحية، وكانت تبشر بوجود المنقذ (Soter) قبل أن يولد المسيح (37). وأكبر الظن أن سمعان المجوسي السامري الذي عاب علية بطرس اتجاره بالرتب الكهنوتية كان هو نفسه مؤلف كتاب المعرض الأكبر الذي جمع فيه طائفة لا حصر لها من الأفكار الشرقية عن الخطوات المعقدة التي يستطيع بها العقل البشري أن يصل إلى العلم اللدنى بالأشياء كلها. وفي الإسكندرية امتزجت الأرفية، والفيثاغورية الجديدة؛ والأفلاطونية الجديدة بفلسفة فيلون العقلية ودفعت بسيليدس Basilides (117) ، وفلنتينس Valentinus (160) وغيرهما إلى تكوين أنظمة عجيبة من "الفيض الرباني""وإيونات" العالم المجسدة
(2)
؛ وأوجد بردسانس Bardesanes (200) في الرها اللغة السريانية الأدبية بوصفه هذه الإيونات شعراً ونثراً. وعرض ماركس الأدري The Guostic Mercus في غالة أن يكشف للنساء أسرار ملائكتهن الحارسة، وكان كل ما أوحى به إليهن إطراء لهن ونفاقاً، وقبل في نظير ذلك أن يستمتع بهن (38).
وكان أعظم الملاحدة الأولين من غير الأدريين، ولكنه تأثر بآرائهم الدينية. وتتلخص قصة مرسيون Marcion وهو شاب ثري من أهل سينوب في أنه جاء إلى روما حوالي عام 140 معتزماً أن يتم ما بدأه بولس وهو تخليص المسيحية من اليهودية. وكان مما قاله مرسيون إن المسيح حسب رواية الأناجيل،
(1)
مذهب شيعة كانت تقول إن المادة قديمة وإن الشر من طبيعتها وتخلط بين النصرانية ومذهب الماديين والمجوس. (المترجم)
(2)
جمع إيون وهو في الفلسفة القديمة صفة من صفات الله تجسدت وكان لها نصيب في خلق العالم. (المترجم)
قد قال إن أباه إله رحيم، غفور، مُحب، على حين أن يهوه كما يصفه العهد القديم، إله غليظ القلب؛ صارم في عدله مستب، إله حرب؛ ولا يمكن أن يكون يهوه هذا أباً للمسيح الوادع. وتساءل مرسيون قائلاً أي إله خير تطاوعه نفسه بأن يقضي على البشر جميعاً بالشقاء لأن أباهم الأول أكل تفاحة، أو رغب في المعرفة أو أحب امرأة؟ إن يهوه موجود، وهو خالق العالم، ولكنه خلق لحم الإنسان وعظامه من المادة، ولهذا ترك روح الإنسان مسجونة في قالب من الشر، وأراد إله أكبر من يهوه أن يطلق هذه الروح من ذلك السجن فأرسل ابنه إلى الأرض؛ وظهر المسيح؛ وكان عند ظهوره في سن الثلاثين، في جسم طيفي غير حقيقي، وكسب بموته لخيار الناس ميزة البعث الخالص. ويقول مرسيون إن الأخيار هم الذين يفعلون ما فعله بولس فينبذون يهوه والشريعة اليهودية، ويرفضون الكتب العبرانية المقدسة، ويتجنبون الزواج، واللذات الجنسية جميعها، ويتغلبون على الجسم بالزهد الشديد. عمل مرسيون على نشر هذه الآراء بإصدار عهد جديد غير العهد المعروف يتكون من إنجيل لوقا ورسائل بولس. وأصدرت الكنيسة قراراً بحرمانه، وردت إليه المال الكثير الذي وهبه إليها حين جاء إلى روما.
وبينما كانت الشيعتان الأدرية والمرسيونية آخذتين في الانتشار السريع في الشرق والغرب ظهر زعيم جديد لشيعة ضالة أخرى في ميسيا Mysia. فقد قام في عام 156 رجل يدعى منتانس Montanus يندد بتعلق المسيحيين المتزايد بشئون هذا العالم وبازدياد سلطان الأساقفة المطلق على الكنيسة، وأخذ يطالب بالعودة إلى بساطة المسيحية الأولى وصرامتها، ويرد حق التنبؤ أو القول الملهم إلى أعضاء الجماعات المسيحية. وآمنت امرأتان تدعيان بريسلا Priscilla ومكسمليا Maximillia بأقواله، وأخذتا تنطقان في أثناء غيبوبتها الدينية بأقوال أصبحت النبوءات الباقية لهذه الشيعة. وكان منتانس نفسه يتنبأ في أثناء نشوته الدينية بنبوءات بلغ من فصاحتها أن أتباعه الفريجيين أخذوا يلقبونه بالجدي الذي وعد
به المسيح، ويلقونه بنفس الترحيب الحماسي الذي كان يصدر من أتباع ديونيشس. وكان مما تنبأ به أن ملكوت السموات قد دنت ساعتها، وأن أورشليم الجديدة التي يقول بها سفر الرؤيا ستنزل من السماء على سهل قريب بعد زمن قليل. ثم سار بنفسه إلى هذه الأرض الموعودة على رأس حشد من الناس بلغ من الكثرة درجة خلت معها بعض المُدن من سكانها. وحدث في هذا الوقت ما حدث في بداية عهد المسيحية فامتنع الناس عن الزواج وعن التناسل، وجعلوا متاعهم ملكاً مشاعاً بينهم، وعمدوا إلى التقشف والزهد استعداداً بمجيء المسيح (39). ولما اضطهد أنطونينس الحاكم الروماني المسيحيين في آسية الصغرى هرع مئات من أتباع منتانس إلى محاكمه سعياً منهم إلى الاستشهاد، ورغبة في الجنة. ولم يستطع أنطونينس أن يحاكمهم كلهم فاكتفى بإعدام بعضهم وطرد معظمهم وقال لهم:"أيها الخلائق التعساء! إذا كنتم تريدون الموت حقاً، فهل عدمتم الجبال وأجراف الصخر العالية؟ "(40) وأعلنت الكنيسة أن تعاليم منتانس كفر وضلال؛ وأمر جستنيان في القرن السادس الميلادي بإبادة هذه الشيعة عن آخرها، فاجتمع بعض أتباع منتانس في كنائسهم، وأضرموا فيها النار، واحترقوا فيها أحياء (41).
أما الشيع الضالة الصغرى فقد كانت مما يخطئه الحصر، فمنها شيعة الزهّاد التي عمدت إلى قمع شهواتها بمختلف الوسائل، وقالت إن الزواج من الخطايا؛ ومنها شيعة المتخيلة (Docetists)
(1)
القائلة بأن جسم المسيح لم يكن لحماً ودماً بل كان شبحاً أو خيالاً؛ ومنها الثيودوتية التي لم تكن ترى في المسيح أكثر من إنسان، والمتبنية
(2)
، وأتباع بولس السموساتي Samosata وكانت هاتان الطائفتان تعتقدان أن المسيح كان بمولده رجلاً عادياً ولكنه وصل إلى درجة الألوهية بكماله الخلقي؛ ومنها الظاهرية Modalists والسابلية
(1)
والاسم مشتق من اللفظ اليوناني dokein أي يبدو. (المترجم)
(2)
أي التي تقول إن المسيح ابن الله بالتبني لا بالطبيعة. (المترجم)
(أتباع سابليوس) القائلة بأن الأب والإبن والروح القدس ليست أقانيم منفصلة بل هي صور مختلفة يظهر فيها الله للإنسان، ومنها المنكرون وجود شخصية مستقلة للمسيح والقائلون إن ألوهيته ليست إلا قوة وهبت له. وهؤلاء كلهم يعتقدون أن الأب والإبن شخص واحد؛ واليعاقبة الذين يعتقدون أن للمسيح طبيعة واحدة؛ ومنها القائلون بأن للمسيح مشيئة واحدة، وتغلبت الكنيسة على هذه الشيع كلها بما كان لها من نظام خير من نظمها جميعاً؛ وبتمسكها الشديد بمبادئها، وبفهمها طبائع الناس وحاجاتهم أكثر منها.
وظهر في القرن الثالث خطر جديد في بلاد الشرق يهدد كيان المسيحية، ذلك أن شاباً صوفياً فارسياً يدعى ماني الطشقوني أعلن عند تتويج شابور (242) أنه المسيح المنتظر، وأن الإله الحق أرسله إلى الأرض ليقوّم حياة البشر الدينية والأخلاقية. وأخذ ماني عقائده من الزرادشتية، والمثراسية، واليهودية، والأدرية، فقسم العالم مملكتين متنافستين هما مملكتا الظلمة والنور؛ وقال إن الأرض تتبع مملكة الظلمة، وإن الشيطان هو الذي خلق الإنسان، ولكن ملائكة إله النور استطاعت بطريقة خفية أن تدخل إلى البشرية بعض عناصر النور وهي العقل والذكاء والتفكير. وقال ماني أن في النساء أنفسهن بصيصاً قليلاً من النور، ولكن المرأة هي خير ما صنع الشيطان، وهي عامله الأكبر في إغواء الرجل وإيقاعه في الذنوب. فإذا امتنع الرجل عن العلاقات الجنسية، والكلف بالنساء وعن السحر، وعاش عيشة الزهد، ولم يطعم إلا الأغذية النباتية، وصام عن الطعام بعض الوقت، فإن ما فيه من عناصر النور يتغلب على الدوافع الشيطانية، ويهديه إلى النجاة، كما يهديه النور الرحيم. وظل ماني ينشر دعوته بنجاح ثلاثين عاماً صلب بعدها بناء على طلب كهنة المجوس، وحشي جلده بالقش، وعلق على أحد أبواب مدينة السوس؛ وبعث استشهاده في الناس حماسة قوية، فانتشرت مبادئه في غربي آسية وشمالي أفريقية؛ واعتنقها أوغسطين مدى
عشرين عاماً، وعاشت بعد اضطهاد دقلديانوس، وفتوح المسلمين، وظلت تحيا حياة مضمحلة مدى ألف عام إلى أن ظهر جنكيزخان.
وكانت الأديان القديمة لا تزال هي أديان الكثرة الغالبة من سكان الإمبراطوريّة، فأما اليهودية فقد ضمت في مجامعها المتفرقة المطرودين من أتباعها بعد أن عضهم الفقر بنابه، وأخذت تنفس عن تقواها بترتيل التلمود؛ وظل السوريّون يعبدون بعل وإن أسموه بأسماء يونانية، كما ظل الكهنة المصريّون قائمين على خدمة آلهتهم الحيوانية الكثيرة بإخلاص وولاء؛ واحتفظت سيبيسل، وإيزيس، ومثراس، باتباعها إلى القرن الرابع؛ واستحوذت مثراسية جديدة على الدولة الرومانية في عهد أورليان، واستمرت النذور والقرابين ترسل إلى آلهة الرومان القديمة في هياكلها، وظل المبتدئون والطلاب يرحلون إلى اليوزيا، والمواطنون الذين يتطلعون إلى المراكز العليا في الدولة يؤدون مناسك دين الأباطرة في مختلف أنحائها، لكن هذه الأديان القديمة فقدت حيويتها، ولم تعد تثير في الناس ذلك الإخلاص القلبي الذي يبعث الحياة في الدين اللهم إلا في أماكن قليلة متفرقة؛ ولم يكن سبب هذا الضعف أن اليونان والرومان قد تركوا أديانهم التي كانت في يوم من الأيام إما جميلة محببة أو قوية صارمة؛ بل كان سببه أنهم فقدوا إرادة الحياة، وعمدوا إلى الإسراف في تحديد النسل إلى أبعد الحدود، أو إنهاك الجسم، أو الحروب المدمرة، فقل عددهم إلى الحد الذي أفقد الهياكل عبَّادها في الوقت الذي فقدت فيه الأرض زرّاعها.
وبينما كان أورليوس يقاتل المركمانهيين على ضفاف الدانوب في عام 178 حاولت الوثنية محاولة خطيرة أن تحمي نفسها من المسيحية، وكل ما نعرف عن هذه المحاولة مستمد من كتاب أرجم Origen المسمى ضد سلسس Againist Celsus وما فيه من عبارات نقلت في غير عناية من كتابه كلمة الحق لسلسس.
وكان سلسس هذا - وهو ثاني رجل نذكره في قصتنا بهذا الاسم - رجلاً من رجال الدنيا الذين يمتعون أنفسهم بنعيمها، ولم يكن من الفلاسفة، وكان يحس أن الحضارة التي يستمتع بها مرتبطة أشد الارتباط بالدين الروماني ولذلك أخذ على عاتقه أن يدافع عن هذا الدين بأن يهاجم المسيحية التي كانت وقتئذ أكبر أعدائه وأشدهم باساً. وعمد إلى دراسة الدين الجديد دراسة دهش من غزارتها أرجن العالم التحرير. ثم أخذ يهاجم ما في الكتاب المقدس من أمور لا تجوز، على حد قوله، إلا على بسطاء العقول، كما هاجم صفات يهوه، وما يعزى إلى معجزات المسيح من أهمية، وما بين موت المسيح وقدرته الإلهية من تناقص. وسخر من اعتقاد المسيحيين بالنار التي سيحترق بها العالم آخر الأمر، وبيوم الحساب، وبعقيدة البعث والنشور:
"من السخف أن تظن أنه حين يأتي الله بالنار، كما يفعل الطهاة، سيحترق بها سائر البشر ولا يبقى إلا المسيحيون - لا الأحياء منهم وحدهم، بل من ماتوا من زمن طويل، فيقوم هؤلاء من قبورهم في الأرض بأجسامهم التي كانت لهم قبل الموت. الحق أن هذا هو أمل الدود!
…
وليس في وسع المسيحيين أن يقنعوا بهذه العقائد إلا المغفلين، الأراذل، ضعاف العقول من العبيد والنساء والأطفال ماشطي الصوف، والأساكفة، والقصارين أجهل الناس وأسافلهم؛ وكل من هو مذنب آثم، أو أبله أضله الله سواء السبيل" (42).
وقد روع سلسس انتشار المسيحية، وعدائها للوثنية وازدراؤها إياها، هي أو الخدمة العسكرية، والدولة؛ وقال في نفسه: كيف تستطيع الإمبراطوريّة أن تحمي نفسها من البرابرة الذين يحومون حول أطرافها في جميع جهاتها إذا خضع أهلها لهذه الفلسفة المسالمة؟ وكان يرى أن من واجب المواطن الصالح أن
يدين بدين بلاده والعصر الذي يعيش فيه، دون أن ينتقد علناً ما فيه من سخافات، لأن هذه السخافات لا أهمية لها، أما الشيء المهم حقاً فهو أن يكون للدولة دين يوحدها، ويعين على الخلق الكريم، ويثبت قواعد الولاء لها.
ونسي سلسس ما صبه على المسيحيين من إهانات، فدعاهم إلى أن يعودوا إلى الآلهة القديمة، وأن يعبدوا عبقرية الإمبراطور الحارسة، وأن يَنضَمّوا إلى سائر مواطنيهم في الدفاع عن الإمبراطوريّة التي يتهددها الخطر. غير أن أحداً لم يلقِ بالاً إلى هذه الدعوة؛ ولسنا نجد له ذكراً في الآداب الوثنية، وكان قسطنطين أكثر منه حكمة فأدرك أن الدين الميت لا يستطيع أن ينجي رومة.
الفصل الثالث
أفلوطينس
يضاف إلى هذا أن سلسس كان متقدماً عن العصر الذي يعيش فيه؛ فقد كان يطلب إلى الناس أن يتخلقوا بأخلاق السادة المهذبين المتشككين في وقت كانوا يعتزلون فيه مجتمعاً استبعد الكثيرين منهم إلى عالم متصوف يجعل من كل إنساناً إلهاً. وكان شعور الناس بهذه القوى التي لا تدركها الحواس، وهو الشعور الذي يقوم عليه الدين، قد أخذ ينتشر انتشاراً واسعاً ويتغلب على مادية العصر الذي كان يزدهي بما فيه، والذي كانت تسوده المادية والجبرية. وكانت الفلسفة في ذلك الوقت تتخلى عن تفسير التجارب الحسية التي هي ميدان العلوم الطبيعية، وتوجه همها كله إلى دراسة العالم الغير المنظور. وأنشأ الفيثاغوريون الجدد والأفلاطونيون الجدد من نظرية فيثاغورس في تناسخ الأرواح، وآراء أفلاطون في الأفكار الإلهية، نظاماً من الزهد أرادوا به أن يقووا الإدراك الروحي بأمانة الحواس الجسمية، وأن يعودوا بتطهير أنفسهم إلى صعود الدرج التي انحطت بها الروح من عالم السماوات وسكنت في جسم الإنسان.
وكان أفلوطينس أكبر الممثلين لهذه الفلسفة الدينية الصوفية. وكان مولده في ليقوبوليس عام 203 م، أي أنه كان قبطياً مصرياً ذا اسم روماني وتربية يونانية. وعثر على الفلسفة في سن الثامنة والعشرين، وأخذ ينتقل من معلم إلى معلم دون أن يجد في أحد منهم بغيته حتى وجد طلبته في الإسكندرية، فقد كان فيها وقتئذ أمونيوس سكاس Ammenius Saccas وهو رجل مسيحي ارتد إلى الوثنية، وكان يحاول التوفيق بين المسيحية والأفلاطونية، كما فعل تلميذه أرجن من بعده. وبعد أن تتلمذ أفلوطينس على أمونيوس عشر سنين انضم إلى جيش موجه إلى بلاد
الفرس لعله يتلقى الحكمة عن المجوس والبراهمة أنفسهم. فلما وصل إلى أرض الجزيرة قفل راجعاً إلى أنطاكية، ثم ذهب إلى روما (244) وبقي فيها حتى توفي. وقد انتشر مذهبه الفلسفي وأصبح طراز ذلك العصر، فضمه الإمبراطور جالينوس Gallienus إلى حاشيته، ورضى أن يساعده أن ينشئ في كمبانيا مدينة أفلاطونية تحكم على مبادئ جمهورية أفلاطون. ولكن جالينوس رجع فيما بعد عن وعده، ولعله فعل ذلك ليوفر على أفلوطينس إخفاقه المخزي.
وأعاد أفلوطينس إلى الفلسفة سمعتها الطيبة بأن عاش معيشة القديسين وسط ترف روما ورذائلها؛ فلم يكن يعنى بجسمه، بل إنه "كان يستحي أن يكون لروحه جسد" على حد قول برفيري Porphyry (43) . ومن الأدلة الناطقة باحتقاره جسده أنه أبى أن يقف أمام المصورين بحجة أن جسمه أقل أجزائه شأناً - وفي ذلك إشارة إلى الفن بأن يعنى بالروح لا بالجسم. وحرم على نفسه اللحم، ولم يأكل من الخبز إلا قليلاً. وكان بسيطاً في عاداته رحيماً في أخلاقه، ابتعد عن كل العلاقات الجنسية، وإن لم يذمّها. وكان تواضعه هو الخليق بالرجل الذي يرى الجزء في ضوء الكل. ولما حضر أرجن درسه علت وجه أفلوطينس حمرة الخجل وأراد أن يختم محاضرته فقال:"إن تحمس المحاضر يزول حين يحس بأن مستمعيه لا يجدون ما يتعلمونه منه"(44). ولم يكن أفلوطينس خطيباً مصقعاً، ولكن عنايته الشديدة بموضوعه، وإيمانه بما يحدّث عنه قد عوضاه خير العوض عن البلاغة، ولم يسجل آراءه الفلسفية كتابة إلا متأخراً وسجلها مع ذلك وهو كاره ولم يراجع قط مسودته الأولى، ولا تزال الإنباذات رغم ما بذله برفيري من عناية في نشرها أكثر المؤلفات اضطراباً في تاريخ الفلسفة
(1)
.
(1)
وقد رتب برفيري هذه الرسائل الأربع والخمسين في تسع مجموعات زاعماً أن 9 هو الرقم الكامل في نظرية فيثاغورس، لأنه مربع 3 الثالوث الكامل الانسجام.
لقد كان أفلوطينس ذا نزعة مثالية يعترف متفضلاً بوجود المادة، ولكنه يقول إن المادة في حد ذاتها هي إمكانية الشكل غير المتشكلة، وكل شكل تتخذه المادة تعطيه إياها طاقتها الداخلية أي النفس (Psyche) ، والطبيعة هي مجموع الطاقة أو النفس التي تنتج كلية الأشكال في العالم؛ والحقيقة الدنيا التي تنتج الحقيقة العليا؛ أما الكائن الأعلى وهو النفس فينتج الأدنى - الصورة المجسدة. ونمو الإنسان الفرد من بداية خلقه في الرحم وتكون أعضائه البطيء عضواً بعد عضو حتى يكتمل نموه من عمل النفس أو المبدأ الحيوي الذي فيه؛ والجسم يتشكل تدريجاً بتوقان النفس أو توجيهها. ولكل شيء نفس - أي طاقة داخلية هي التي تخلق الصورة الخارجية، وليست خبيثة إلا لأنها لم تتلقَ الصورة الناضجة، فهي تطور وقف دون الكمال؛ والشر هو إمكانية الخير.
ولسنا نعرف المادة إلا عن طريق الفكر - عن طريق الإحساس، والإدراك، والتفكير. وليس ما نسميه مادة إلا مجموعة من الأفكار (كما قال هيوم فيما بعد)، وهي أكثر ما تكون شيء افتراضي مراوغ يضغط على أطراف أعصابنا ("إمكانية الإحساس الدائمة" التي يقول بها مل)؛ وليست الأفكار شيئاً مادياً؛ وما من شك في أن فكرة الامتداد في المكان لا تنطبق عليها؛ والقدرة على تحصيل الأفكار واستخدامها هي العقل؛ وهو قمة الثالوث البشري المكون من الجسم، والنفس، والعقل. والعقل مقدر محدد من حيث اعتماده على الإحساس؛ وهو حر لأنه أرقى صور النفس المبدعة المشكلة.
والجسد عضو النفس وسجنها معاً؛ والنفس تدرك أنها نوع من الحقيقة أرقى من الجسد؛ وتشعر بما لها من صلة بنفس أكبر منها وأوسع، أي بحياة وقدرة كونيتين من نوع ما؛ وهي حين تعمل لتبلغ بالفكر إلى حد الكمال تأمل أن تتصل مرة أخرى بتلك الحقيقة الروحية العليا التي سقطت منها على ما يبدو في أثناء كارثة أو محنة حدثت في بداية الخليقة. وهنا يستسلم أفلوطينس في بعض
ثوبات من تفكيره إلى الأدرية التي تقول إنه يرفضها، ويصف سقوط النفس درجة بعد درجة من السماء إلى الإنسان ذي الجسد؛ وهو على العموم يفضل الفكرة الهندية التي تقول إن النفس تنتقل من صور الحياة الدنيا إلى العليا أو من صورها العليا إلى الدنيا، حسب فضائلها ورذائلها، في كل صورة من صور الحياة تنتقل إليها. وهو يبدو في بعض الأحيان فيثاغورياً مازحاً، كما نراه في قوله:"إن الذين يسرفون في حب الموسيقى يصبحون في تجسدهم الثاني طيوراً مغردة، والفلاسفة الذين يتجاوزون الحد في التفكير يتحولون إلى نسور (46). وكلما كانت النفس أكثر رقياً كانت أكثر إصراراً في سعيها إلى أصلها القدسي، ومثلها في ذلك كمثل الطفل الذي ضل من أبويه أو كمثل الجائل المشتاق إلى العودة إلى وطنه. والنفس قادرة على أن تبلغ الفضيلة، أو الحب الحقيقي، أو الإخلاص إلى ربات الفن، أو الفلسفة التي تحتاج إلى صبر طويل؛ وستعثر على السلّم الذي نزلت عليه؛ وترقاه إلى ربها. فلتتطهّر النفس إذن، ولترغب رغبة صادقة في الجوهر غير المرئي، ولتفقد العالم عن طريق التأمل؛ ولعلها في لحظة من اللحظات التي تخفت فيها كل ضوضاء الحواس، وتنقطع المادة عن طريق أبواب العقل، ستحس فجأة بأنها مستغرقة في محيط الكينونة، في الحقيقة الروحية النهائية (وكتب ثورو وهو يطفو لاهياً على بركة من الدن يقول: "لقد فارقت الحياة في بعض الأحيان، وبدأت أكون")، ويقول أفلوطينس:
"فإذا حدث هذا ترى النفس الإلوهية إلى الحد الذي يحق لها أن تصل رؤيتها
…
وتشهد نفسها قد أضيئت؛ أي ملئت بنور عقلي؛ أو بعبارة أصح تدرك أنها ضياء خالص، غير مثقلة، نشيطة، خفيفة، تسير في طريقها إلى أن تكون إلهاً" (47).
ولكن ما هو الإله؟ يقول أفلوطينس إنه "هو" أيضاً ثالوث - من الوحدة (ben) والفكر (nous) ، والنفس (psyche) و"من وراء
الكائن يوجد الواحد"، وفي خلال الفوضى الظاهرية البادية في التعدد الدنيوي تسري الحياة الموحِّدة. ولا نكاد نعرف عن هذا الواحد إلا أنه موجود، وكل صفة موجبة نصفه بها، أو ضمير متحيف نحله محله، تحديد له غير لائق به. وكل ما نستطيع أن نسميه به هو أنه، واحد، وأول، وخيّر، وأنه هدف رغبتنا العليا. وينشأ من هذه الوحدة العقل العالمي، وهو القابل عند أفلاطون للأفكار أي النماذج المشكلة، والقوانين المتحكمة في الأشياء؛ أو أنها أفكار الله أو عقل واحد، أو نظام العالم ومعقوليته. وإذ كانت هذه الأفكار تبقى مع أن المادة صور متغيرة من الأشكال التي تأتي وتروح، فإن هذه الأفكار هي الحقيقة الصحية الباقية. ولكن الوحدة والعقل، وإن أمسكا الكون وحفظاه من التفكك، لا يخلقانه، بل الذي يخلقه هو العنصر الثالث من عناصر الألوهية - أي العنصر الذي يبعث الحياة والذي يملأ الأشياء جميعاً ويكسبها قوتها وصورتها المقررة لها. ولكل شيء، من الذرة الصغيرة إلى الكوكب الكبير، نفس تبعث فيه النشاط، هي في ذاتها جزء من النفس العالمية، والنفس الفردية ليست خالدة إلا من حيث هي باعثة الحياة أو الطاقة لا من حيث هي كائن متميز (49). وليس الخلود هو بقاء الشخصية، بل هو اندماج النفس في الأشياء التي لا تموت (50).
والفضيلة هي حركة النفس نحو الله، وليس الجمال مقصوراً على التناسق والتناسب كما ظن أفلاطون وأرسطو بل هو النفس الحية، أو الألوهية غير المنظورة التي في الأشياء، وهي غلبت الروح على الجسد، والصورة على المادة، والعقل على الأشياء، والفن هو تحويل هذا الجمال العقلي أو الروحي إلى وسط آخر. ويمكن أن تدرّب النفس على أن ترتفع من طلب الجمال في المادة أو في الصور البشرية إلى طلبه في النفس الخفية، وفي الطبيعة وسننها، وفي العلم، وما يكشف عنه من نظام دقيق بديع، وإلى طلبه آخر الأمر في الوحدة القدسية التي تؤلف بين
الأشياء كلها، بما فيها الأشياء المتنافرة المتعارضة، وتجعل منها نظاماً متناسقاً سامياً يثير الدهشة والإعجاب (51). والجمال والفضيلة شيء واحد في نهاية الأمر - وهما اتحاد الجزء مع الكل وتعاونه معه.
"ارجع إلى نفسك وتأمل، وإذا لم تجد نفسك جميلاً فافعل مع ذلك ما يفعله صانع التمثال
…
فهو يقطع هنا، ويصقل هناك، ويجعل هذا الخط أخف، وذاك أنقى، حتى ينشأ لتمثاله وجه جميل. فافعل أنت مثل فعله: واقطع كل شيء زائد وقوم كل معوج: ولا تنقطع عن نحت تمثالك حتى: ترى الطيبة الكاملة مستقرة في الحرم النقي الطاهر" (52).
إنا لنحس في هذه الفلسفة بما نحس به في المسيحية المعاصرة لها من جو روحاني - نحس بابتعاد العقول الغضة عن مطالب الحياة الدنيوية واتجاهها نحو الدين، وفرارها من الدولة إلى الله. وليس بعجيب أن يكون أفلوطينس وأرجن تلميذين وصديقين، وأن ينشئ كلمنت Clement أفلاطونية مسيحية في الإسكندرية وأفلوطينس هو آخر الفلاسفة الوثنيين العظام، وهو مسيحي بلا مسيح، مثله في هذا كمثل أبكنتس وأورليوس. ولقد قبلت المسيحية كل سطر من أسطره تقريباً، وما أكثر صحائف أوغسطين التي تردد نشوة هذا الصوفي الجليل. وعن طريق فيلون ويوحنا، وأفلوطينس، وأوغسطين، غلب أفلاطون أرسطو، وتعمق في أبعد أغوار اللاهوت الكنسي، وأخذت الثغرة القائمة بين الفلسفة والدين تضيق شيئاً فشيئاً، ورضى العقل مدى ألف عام أن يسير في ركاب الدين.
الفصل الرابع
حماة الدين
وهنا كسبت الكنيسة طائفة من المؤيدين كانوا أحصف عقول الإمبراطوريّة، منهم أغناثيوس أسقف إنطاكية الذي أنشأ أسرة قوية من "الآباء" جاءوا بعد الرسل، ووهبوا المسيحية فلسفة غلبوا أعداءها بحججها القوية. ومنهم جستين Justin الذي حكم عليه أن يلقى للوحوش لأنه أبى أن يرتد عن دينه، فكتب، وهو في طريقه إلى روما، عدداً من الرسائل تفيض إخلاصاً وحماسة، وتكشف عن الروح التي كان المسيحيون يلقون بها الموت:
"فليعلم جميع الناس أني أموت طائعاً في حب الله، إذا لم يحل أحد بيني وبين الموت. وأتوسل إليكم ألا تأخذكم بي رأفة أرى أنها في غير أوانها، بل اتركوني تنهشني السباع التي أستطيع أن أصل عن طريقها إلى الله
…
بل أغروا للوحوش بدلاً من هذا أن تلتهمني فلا تترك قطعة من جسدي، حتى إذا نمت نومي الأخير لا أكون كلاًّ على أحد من الناس
…
ألا ما أشد شوقي إلى الوحوش التي أعدّت لي
…
ألا فليكن من نصيبي النار والصليب [القتل صلباً]، وقتال الوحوش، والتقطيع والتمزيق، وتهشيم العظام، وبتر الأطراف، وتحطيم جسمي كله، وأقسى أنواع العذاب الشيطاني إذا كنت بهذه الطريقة أصل إلى يسوع المسيح".
وكتب كودراتس Quadratus، وأثيناجورس Athenagoras كثيرون غيرهما "دفاعاً" عن المسيحية، وكانوا يوجهون هذا الدفاع عادة إلى الإمبراطور. وكتب منوسيوس فلكس Minucius Felix حواراً رائعاً يكاد يضارع كتاب شيشرون في بلاغته، أجاز فيه لكاسليوس Caecilius
أن يدافع عن الوثنية دفاعاً قوياً، ولكنه جعل أكتافيوس يرد عليه بأدب جم كاد يقنع كاسليوس بأن يعتنق المسيحية. ولما جاء جستين Justin السامري إلى روما في عهد أنطونينس افتتح فيها مدرسة لتعليم الفلسفة المسيحية، وحاول في "دفاعين" بليغين أن يقنع الإمبراطور وهو "فرسمس Verissimus الفيلسوف" بأن المسيحيين مواطنون مخلصون، لا يتوانون عن أداء الضرائب، وأنهم إذا عوملوا معاملة الأصدقاء قد يصبحون عوناً عظيم القيمة للدولة. وظل عدة سنين ينشر تعاليمه دون أن يصاب بأذى، ولكن حدة لسانه خلقت له أعداء، ولهذا استطاع أحد الفلاسفة المنافسين له أن يغري ولاة الأمور في عام 166 بالقبض عليه هو وستة من أتباعه وإعدامهم على بكرة أبيهم. وبعد ست سنين من ذلك الوقت قام إيرينيوس Irenaeus أسقف ليون بحملة قوية يدعو فيها إلى وحدة الكنيسة، وذلك في كتابه المسمس معارضة الإلحاد Adversus Haeresse وهو حملة قوية على كافة ضروب الإلحاد. وقد قال إيرينيوس إنه لا سبيل إلى منع المسيحية أن تتفرق فتصبح ألف شيعة وشيعة إلا أن يرضى المسيحيون بالخضوع لسلطة واحدة تحدد لهم مبادئ دينهم - وتلك السلطة هي قرارات مجالس الكنيسة الأسقفية.
وكان أجرأ المدافعين عن المسيحية في تلك الفترة هو كونتس سبتميوس ترتليانس Quintus Septimius Tertnillianus القرطاجني. وكان مولده في تلك المدينة عوالي عام 160، وكان والده قائداً رومانياً على مائة، ولما شب درس البلاغة في نفس المدرسة التي تعلّم فيها أبوليوس Apuleius، ثم اشتغل بالمحاماة عاماً واحداً في روما. واعتنق المسيحية في كهولته وتزوج بمسيحية، ونبذ كل اللذائذ الوثنية ورُسم قساً (كما يقول جيروم). فلما تم له هذا استخدم جميع الفنون والأساليب التي عادت عليه من تعلم البلاغة للدفاع عن الدين المسيحي، وضم إليها حماسة الرجل المؤمن المهتدي إلى دينه. لقد كانت المسيحية اليونانية فلسفة لاهوتية صوفية، فلما اعتنق ترتليان دينه الجديد جعل المسيحية اللاتينية ديناً
أخلاقياً، قانونياً، عملياً. وكانت له قوة شيشرون وحدته، وفحش جوفنال في هجائه وسفاهته؛ وكان في مقدوره أحياناً أن ينافس تيطس في تركيز كل ما لديه من حقد وضغينة في عبارة واحدة. وكان إيرينيوس قد كتب باللغة اليونانية، فلما جاء منوسيوس وترتليان أصبحت الآداب المسيحية في الغرب لاتينية، وأصبح الأدب اللاتيني مسيحياً.
وبينما كان الحكام الرومان في قرطاجنة يتهمون المسيحيين بعدم الولاء للدولة ويحاكمونهم على هذه التهمة، وجه ترتليان في عام 198 إلى محكمة خيالية أبلغ رسائله من رسائله كلها وهي المعروفة باسم الدفاع Apologeticus، أكّد فيها للرومان أن المسيحيين "لا ينقطعون عن الدعاء لجميع الأباطرة، وسلامة الأسرة الحاكمة، ويطلبون إلى الله أن يهب البلاد جيوشاً باسلة، ومجلس شيوخ وفي أمين، وأن يمن على العالم بالهدوء"(54). وامتدح عظمة التوحيد، وقال إنه وجد أدلة عليه عند كتّاب ما قبل المسيحية! "انظروا إلى ما تشهد به النفس، ذاتها وهي بفطرتها مسيحية"(55) وبعد عام من ذلك الوقت انتقل بسرعة عجيبة من الدفاع المقنع إلى الهجوم العنيف، وأصدر كتابه المسمى في المسرح De Spectaculis وهو وصف ساخر للمسارح الرومانية التي قال عنها إنها حصون البذاءة، وللمدرّجات التي وصفها بأنها أكبر دليل على قسوة الإنسان على أخيه الأنسان، وختمها بذلك الوعيد المرير:
"وستشهدون مناظر أخرى - مناظر اليوم الخالد الأخير يوم الحساب
…
يوم يحترق هذا العالم الذي بلغ سن الشيخوخة، ويحترق أهله جميعاً في لهيب نار واحدة. ألا ما أوسع هذا المنظر في ذلك اليوم! وما أشد عجبي، وأعلى ضحكي، وأكثر ابتهاجي وطربي حين أرى هذا العدد الجم من الملوك - وكان يظن أنهم ينعمون في ملكوت السموات - يئنون ويتوجعون في أعماق الظلام! - الحكام الذين اضطهدوا اسم يسوع تذوب أجسامهم في لهب أشد حرارة من جميع
النيران التي أوقدوها
…
ضد المسيحيين! - وأرى حكماء وفلاسفة تعلوهم حمرة الخجل أمام تلاميذهم وهم يحترقون معاً!
…
وممثلي المآسي وهم الآن أعلى صوقاً في مأساتهم مما كانوا في أي يوم من أيام حياتهم، واللاعبين ذوي الأجسام اللدنة في أعماق النار، وسائقي المركبات تشوى لحومهم على عجلة اللهب! " (56).
وهذا الخيال المفرط في القوة يخرج صاحبه عن قواعد الدين السليم. ذلك أنه لما تقدمت بترتليان السن انقلب ما كان فيه أثناء شبابه من نشاط فيّاض يطلب به اللذة ويصرفه فيها، انقلب إلى تنديد شديد بجميع أسباب السلوى عدا سلوة الدين والأمل في نعيم الآخرة، فكان يخاطب المرأة بأوقح الألفاظ ويصفها بأنها "الباب الذي يدخل منه الشيطان" ويقول لها "من أجلكِ مات يسوع المسيح"(57).
وكان ترتليان في يوم من الأيام قد أحب الفلسفة، وألّف فيها، كتباً ككتاب في النفس De Anina حاول فيه أن يطبّق على المسيحية مبادئ الرواقية فيما وراء الطبيعة. أما الآن فقد نبذ كل تفكير منطقي منفصل عن الإلهام والوحي، وقصر أسباب بهجته على كان يحتويه دينه من أمور لا يصدقها العقل السليم. "لقد مات ابن الله: ذلك شيء معقول لا لشيء إلا أنه مما لا يقبله العقل. وقد دُفِن ثم قام من بين الموتى: وذلك أمر محقق لأنه مستحيل" (85). واستغرق الرجل في تزمت نكد مكتئب بلغ من أمره أن خرج وهو في الثامنة والخمسين من عمره على المبادئ السليمة للدين المسيحي، لأنها في رأيه ملوثة بالأساليب الدنيوية، واعتنق المبادئ المنتانية
(1)
لأنه يراها تطبيقاً مستقيماً سليماً لتعاليم المسيح، وندد بجميع المسيحيين الذين يقبلون أن يكونوا جنوداً، أو فنانين، أو موظفين في الدولة، وبجميع الأساقفة الذين يغفرون خطايا المذنبين التائبين، وانتهى الأمر أن أطلق على البابا لقب "راعي الزانين" Pastor moechorum.
(1)
التي كان يقول بها منتانس القريجي. وقد سبق الكلام عليها. (المترجم)
لكن الكنيسة ازدهرت في أفريقية على الرغم من هذه الأفعال، فقد قام فيها أساقفة مخلصون من طراز سبريان Cyprian رفعوا أربشية قرطاجنة إلى درجة من الغنى والنفوذ لا تقل عما بلغته روما. أما في مصر فقد كان نماء الكنيسة أبطأ منه في قرطاجنة، وقد اختفت مراحله الأولى من التاريخ فأصبحنا لا نعرف عنها شيئاً. غير أننا نسمع فجأة في أواخر القرن الثاني عن مدرسة لتعليم أصول الدين بالسؤال والجواب قائمة في مدينة الإسكندرية قرنت المسيحية بالفلسفة اليونانية، وأخرج للعالم أبوين من أعظم آباء الكنيسة هما كلمنت وأرجن. وكان كلاهما واسع الاطلاع على الآداب الوثنية، محباً لها على طريقته الخاصة. ولو أن الروح التي كانت تغمرهما سادت في ذلك الورق لما كان لانفصال الثقافة القديمة عن المسيحية ما كان له من أثر مُتلف شديد.
ولما بلغ أرجينيز ادمنتيوس Origenes Adamantius السابعة عشرة من عمره (202) قُبض على والده بتهمة أنه مسيحي، وحُكم عليه بالإعدام. وأراد ابنه أن يشاركه في السجن وفي الاستشهاد، ولم تستطع أمه أن تمنعه من ذلك إلا بإخفاء ملابسه كلها، فأخذ يبعث إلى أبيه رسائل يشجعه فيها على احتمال مصيره؛ وقد جاء في إحدى هذه الرسائل:"إحذر أن ترجع عن آرائك من أجلنا"(60). وأُعدم الوالد ووقع عبء كفالة الأم والأطفال الصغار على الشاب. وبعث ما شاهده من استشهاد كثيرين من المسيحيين في نفس أرجن مزيداً من التقى والإيمان، فعمد إلى حياة الزهد والتقشف، وأكثر من الصوم، وأقلل من ساعات النوم، وافترش الأرض، ومشى حافياً، وعرض نفسه للبرد والعري، وأخيراً عمد إلى خصي نفسه
(1)
إطاعة للآية الثانية عشرة من الإصحاح التاسع عشر من إنجيل متّى بعد أن تزمّت في تفسيرها أشد التزمّت. وفي عام 203 خلف كلمنت في رياسة
(1)
يقول جبن: ((وإذ كان من عادة أرجن أن يُفسّر الكتاب المقدس تفسيراً مجازياً فإن مما يؤسف له في رأينا أنه في هذه الحالة وحدها اتبع المعنى الحرفي لتلك الآية)) (61).
المدرسة الأفريقية. ومع أنه لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة من العمر فقد اجتذب إليه علمه وبلاغته كثيرين من الطلبة وثنيين ومسيحيين على السواء، وطبقت شهرته جميع أنحاء العالم المسيحي.
ويقدر بعض القدامى عدد "كتبه" بستة آلاف، وكان الكثير منها بطبيعة الحال نبذاً وجيزة، وحتى على هذا الاعتبار قال فيها جيروم متسائلاً:"مَن منا يستطيع أن يقرأ كل ما كتب؟ "(62). ولقد قضى أرجن عشرين عاماً هائماً يحب الكتاب المقدس، واستخدم طائفة كبيرة من المختزلين والنساخين يضعون في أعمدة متوازية النص العبري للعهد القديم، وإلى جواره ترجمة يونانية حرفية لهذا النص، وفي خانة أخرى ترجمة يونانية له منقولة عن الترجمة السبعينية، وفي رابعة أكويلية، وخامسة سيماكوسية، وسادسة ثيودوتية
(1)
.
ثم أخذ يوازن هذه التراجم المختلفة بعضها ببعض، واستعان بمعرفته باللغة العبرية فأخرج للكنيسة ترجمة سبعينية مصححة؛ ولكن هذا لم ينقع غلته فأضاف شروحاً بعضها غاية في الإسهاب إلى سفر من أسفار الكتاب المقدس. ويحتوي كتابه المبادئ الأولى Peri archon أول عرض فلسفي منظم للعقيدة المسيحية؛ وفي كتابه الشذرات Stromateis أخذ على عاتقه أن يثبت جميع العقائد المسيحية بالرجوع إلى كتابه الفلاسفة الوثنيين. وأراد أن يخفف عن نفسه عبء هذا الواجب الثقيل فاستعان بالطريقة الرمزية الاستعارية التي استطاع بها الفلاسفة الوثنيون أن يوفّقوا بين أقوال هومر وبين ما يقبله العقل المنطقي، والتي وفق فيلون بين اليهودية والفلسفة اليونانية.
ومن أقوال أرجن في هذا المعنى أن من وراء المعنى الحرفي لعبارات الكتاب
(1)
ولم يبقَ من هذه التراجم الست إلا قطع قليلة. وقد ضاعت كذلك التراجم الرباعية المحتوية على التراجم اليونانية الأربع.
المقدس طبقتين من المعاني أكثر منه عمقاً - هما المعنى الخلقي والمعنى الروحي - لا تصل إليهما إلا الأقلية الباطنية المتعلمة. وكان يرتاب في صحة ما ورد في سفر التكوين إذا فهم بمعناه الحرفي؛ ويفسر ما كان يلقاه بنو إسرائيل من يهوه من معاملة غير طيبة أحياناً بأن ما وصفت به هذه المعاملة إنما هو رموز؛ وقال إن القصص الواردة في الكتاب المقدس والتي تقول إن الشيطان صعد بعيسى إلى جبل عالٍ وعرض عليه ملكوت الأرض ليست إلا أساطير (63). ويضيف إلى ذلك إن هذه القصص قد اخترعت في بعضٍ لكي توضح بعض الحقائق الروحية (64). ويقول متسائلاً:
"أي رجل عاقل يصدق إن اليوم الأول واليوم الثاني واليوم الثالث، وأن المساء والصباح، قد كانت كلها من غير شمس أو قمر أو نجوم؟ وأي إنسان تصل به البلاهة إلى حد الاعتقاد أن الله قد زرع جنة عدن كما يزرع الفلاح الأرض، وغرس فيها شجرة الحياة
…
حتى إذا ما ذاق إنسان ثمرتها نال الحياة؟ " (65).
وإذا ما واصل أرجن أقواله اتضح لقارئه أنه رواقي، وفيثاغوري حديث، وأفلاطوني حديث؛ وأدري، وأنه مع هذا كله مُصرْ على أن يكون مسيحياً. ولو أننا طلبنا إلى رجل مثله أن يترك الدين الذي نشر فيه ألف كتاب وتخلى من أجله عن رجولته لكلفناه ضد طباعه. ولد درس أرجن، كما درس أفلوطينس على أمونيوس سكاس Ammonius Saccas وإنا ليصعب علينا أحياناً أن نفرق بين فلسفة وفلسفتهما. فالله عند أرجن ليس هو يهوه، بل هو الجوهر الأول لجميع الأشياء. وليس المسيح هو الإنسان الآدمي الذي يصفه العهد الجديد، بل هو العقل الذي ينظم العالم؛ وهو بهذا الوصف خلقه الله الآب، وجعله خاضعاً له (66). والنفس عند أرجن، كما هي عن أفلوطينس تنتقل في مراحل وتجسدات متتالية قبل أن تدخل الجسم، وهو تنتقل بعد الموت في مراحل متتالية
مثلها قبل أن تصل إلى الله. وجميع الأنفس التي أطهرها تتعذب زمناً ما في المطهر ولكنها كلها تنجو آخر الأمر، وسيكون بعد "اللهب الأخير" عالم آخر ذو تاريخ طويل، ثم عالم ثالث، ورابع
…
كل واحد منها خير من سابقه، وهذه العوالم الكثيرة المتتالية ستحقق على مهل الخطة التي رسمها الله (67).
ولسنا نعجب إذا رأينا دمتريوس، أسقف الإسكندرية، ينظر بعين الريبة إلى هذا الفيلسوف النابه الذي تزدان به أبرشيته والذي يراسل الأباطرة. وقد أدت هذه الريبة إلى أن رفض دمتريوس أن يرسمه قسّاً بحجة أن الخصاء يجعله غير أهل للكهنوت. ولكن أسقفين فلسطينيين رسماه أثناء سفره في بلاد الشرق الأدنى. واحتج دمتريوس على هذا العمل وقال إن فيه اعتداء على حقوقه، وعقد مجمعاً من رجال الدين الذين كانوا تحت رياسته، وألغى هذا المجمع رسامة أرجن ونفاه من الإسكندرية، فانتقل إلى قيصرية وواصل عمله في التدريس، وكتب فيها دفاعه الشهير عن المسيحية المسمى ضد سلسس Contra Celsum (248) ، وقد بلغ من كرمه أن أقر بقوة الحجج التي أدلى بها سلسس؛ ولكنه رد عليها بقوله إن كل صعوبة، وكل فكرة بعيدة عن المعقول، في العقيدة المسيحية يقابلها في الوثنية آراء أصعب منها وأبعد منها عن العقل، ولم يستنتج من هذا أن كلتا العقيدتين باطلة، بل استنتج دين أن الدين المسيحي يعرض أسلوباً للحياة أنبل مما يستطيع أن يعرضه محتضر يدعو إلى عبادة الأصنام.
وامتد اضطهاد ديسيوس للمسيحيين حتى توصل إلى قيصرية في عام 250، وقُبض علىأرجن؛ وكان وقتئذ في الخامسة والستين من عمره؛ ومد على العذراء، وقُيد بالأغلال، ووُضع في عنقه طوق من الحديد، وبقى في السجن أياماً طوالاً. ولكن الموت عاجل ديسيوس أولاً وأُطلق سراح أرجن، غير أن حياته لم تطل بعد ذلك أكثر من ثلاث سنين، لأن التعذيب ألحق أشد
الضرر بجسمه بعد أن هد الزهد المتواصل قواه، ومات فقيراً كما كان حين بدأ يعلم الناس، ولكنه كان أعظم المسيحيين شهرة في زمنه.
ولما أن ذاعت بدعه، ولم تعد سراً مقصوراً على عدد قليل من تلاميذه، رأت الكنيسة أن لابد لها أن تتبرأ منه، وطعن البابا أنستيسيوس في عام 400 في آرائه التجديفية. ولعنه مجلس القسطنطينية، وأصدر عليه قرار الحرمان في عام 553. لكننا لا نكاد نجد عالماً مسيحياً ممن جاءوا بعده بعدة قرون لم يغترف من بحر علمه الفياض، ولم يعتمد على كتبه؛ وأثّر دفاعه عن المسيحية في عقول المفكرين الوثنيين كما لم يؤثر فيها "دفاع" آخر قبله. وبفضله لم تعد المسيحية دين سلوى وراحة للنفوس فحسب، بل أضحت فوق ذلك فلسفة ناضجة كاملة النماء، دعامتها الكتاب المقدس، ولكنها تعتز باعتمادها على العقل.
الفصل الخامس
تنظيم السلطة الدينية
لعل للكنيسة عذرها في الطعن على أرجن وحرمانه. ذلك أن تفسيراته الرمزية لم تجعل من المستطاع إثبات أي شيء فحسب، بل إنها فضلاً عن ذلك قضت بضربة واحدة على قصص أسفار الكتاب المقدس وعلى حياة المسيح الأرضية، وأعادت للفرد حقه في الحكم في الوقت الذي كانت تقول فيه إنها تدافع عن الدين. يضاف إلى هذا أن الكنيسة، وقد رأت نفسها وجهاً لوجه أمام حكومة قوية، أحسّت بحاجتها إلى الوحدة، ولم يكن في وسعها أن تأمن على نفسها إذا رضيت أن تمزقها إلى مائة شيعة صغرى كل ريح تهب عليها من عقل رجل من أتباعها، أو من عقل زنديق خارج عليها، أو نبي مشغوف، أو ابن نابه. وكان سلسس نفسه قد قال ساخراً: إن المسيحيين "تفرقوا شيعاً كثيرة، حتى أصبح هم كل فرد منهم أن يكون لنفسه حزباً"(68). واستطاع إيرينيوس أن يحصي في عام 187 عشرين شيعة مختلفة من المسيحيين، وأحصى إيفانيوس في عام 384 ثمانين؛ وكانت الأفكار الأجنبية تتسرب إلى العقيدة المسيحية في كل نقطة من نقاطها، وأخذ المؤمنون المسيحيون ينضمّون إلى هذه الشيع الجديدة. وأحسّت الكنيسة أن عصر شبابها التجريبي يوشك أن ينتهي، وأن نضجها سيحل بعد قليل، وأن عليها أن تحدد مبادئها، وأن تعلن على الناس شروط العضوية فيها. وكان لابد لذلك من ثلاث خطوات ليست فيها واحدة سهلة: وضع قانون عام مستمد من الكتاب المقدس، وتحديد العقائد، وتنظيم السلطة.
وتفيض الآداب المسيحية في القرن الثاني بالأناجيل، والرسائل، والرؤى،
و"الأعمال". ويختلف المسيحيون أشد الاختلاف من حيث قبولهم هذه الكتابات على أنها تعبير صادق عن العقيدة المسيحية أو رفضها. فقد قبلت الكنائس الغربية مثلاً سفر الرؤيا، أما الكنيسة الشرقية فهي بوجه عام ترفضه. وهذه الكنائس الشرقية تعترف بالأناجيل، كما يقول به العبرانيون، وبرسائل يعقوب، أم الكنيسة الغربية فترفضهما. ويذكر كلمنت الإسكندري ضمن الكتب المقدسة رسالة كتبت في أواخر القرن الأول الميلادي اسمها تعاليم الرسل الاثني عشر.
ولما نشر مرسيون "عهداً جديداً" اضطرت الكنيسة إلى العمل لتحديد ما تعترف به وما لا تعترف به من الأناجيل. ولسنا نعرف متّى حددت أسفار العهد الجديد التي نعرفها الآن واعترف بها- أي اعترف بصحة نسبتها لأصحابها وبأنها موحى إليهم بها؛ وكل ما نستطيع أن نقوله واثقين أن هتامة لاتينية كشفها مراتوري Muratori في عام 1740 وسميت باسمه، ويرجع الباحثون تاريخها إلى عام 180 تقريباً نفترض أن التحديد تم قبل ذلك الوقت.
وتكرر اجتماع المجالس والمجامع الكنسية تكراراً متزايداً في القرن الثاني؛ واقتصرت في القرن الثالث على الأساقفة؛ وقبل أن يُختتَم ذلك القرن اعترف بأن هذه المجالس هي الفصيل الأخير في العقيدة المسيحية "الكاثوليكية" أي العامة. وتغلب الدين القويم على البدع الدينية لأنه أشبع حاجة الناس إلى عقيدة محددة تخفف من حدة النزاع وتهدئ الشكوك، لأنه كان مؤيداً بسلطان الكنيسة.
وكانت مشكلة التنظيم تنحصر في تحديد مركزها هذا السلطان. فقد يبدو أن المجامع الدينية المتفرقة، بعد أن ضعف سلطان الكنيسة الأصلية في أورشليم، أخذت تمارس السلطات مستقلة عن هذه الكنيسة وعن بعضها، بعضاً، إلا إذا أنشأتها جماعات أخرى أو كانت تحت حماية هذه الجماعات. لكن
كنيسة روما كانت تدعي أن الذي أنشأها هو الرسول بطرس وتستشهد بقول عيسى: "أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات"(69). لكن بعضهم يقول إن هذه العبارة مدسوسة عليه، وإنها تورية لا يلجأ إليها إلا شكسبير. غير أنه يحتمل مع هذا أن بطرس، إن لم يكن هو الذي أوجد الجالية المسيحية في روما، كان يعظها ويخطب فيها، وأنه عين لها أسقفها (70). وقد كتب إيرنيو (187) يقول إن بطرس:"عهد إلى لينس Linus بمنصب الأسقفية". ويؤيد ترتليان (200) هذه الرواية، ويهيب سبريان (252) أسقف قرطاجنة المنافسة الكبرى لروما بجميع المسيحيين أن يقبلوا زعامة كرسي الأسقفي (71).
ولم يترك الأساقفة الأولون الذين تربعوا على "عرش بطرس" أثراً في التاريخ. ويبرز من بينهم ثالثهم البابا كلمنت
(1)
مؤلف رسالة باقية إلى الآن أرسلها حوالي عام 96 إلى كنيسة كورنثة يدعو أعضاءها إلى نبذ الشقاق والمحافظة على النظام (72). وهذه الرسالة يتحدث أسقف روما، بعد جيل واحد من موت بطرس، إلى مجمع ديني بعيد حديث من له سلطان عليه. وكثيراً ما كان الأساقفة الآخرون يتحدون سلطان أسقف روما وحقه في الإشراف على قراراتهم وإن كانوا يعترفون "بأولوية" هذا الأسقف خليفة بطرس ووارثه. وكانت الكنائس الشرقية تحتفل بعيد القيامة في اليوم الرابع عشر من شهر نيسان العبري أياً كان ذلك اليوم في الأسبوع، أما الكنائس الغربية فقد أجّلت ذلك العيد إلى يوم الأحد التالي لهذا التاريخ.
(1)
كان لفظ (بابا)"أب" الذي أصبح في الإنجليزية Pope يطلق في الثلاثة القرون الأولى على كل أسقف مسيحي.
ولما زار بوليكارب Polycarp، أسقف أزمير، مدينة روما حوالي عام (156) حاول أن يقنع أنتسيتس Anticetus، أسقف روما، بأن يحتفل بعيد القيامة في اليوم الذي تحتفل به فيه الكنيسة الغربية، لكنه لم يفلح في محاولته. ولما عاد إلى بلده رفض إقتراحاً، عرضه عليه البابا، يقضي بأن تقبل الكنيسة الشرقية التاريخ الغربي. وكرر البابا فكتور (190) طلب أنتسيتس وصاغه في صيغة الأمر، فأطاعه أساقفة فلسطين وعصاه أساقفة آسية الصغرى، فما كان من فكتور إلا أن بعث برسائل إلى المجامع الدينية المسيحية يحرّم فيها الكنائس التي عصت أمره؛ واحتج كثيرون من الأساقفة في الشرق وفي الغرب نفسه على هذا الإجراء الاستبدادي، ويبدو أن فكتور لم يصر على تنفيذ رغبته.
وكان زفرينس Zfephyrinus الذي خلفه (202 - 218)"رجلاً ساذجاً غير متعلم"(73)، ولهذا رفع إلى رياسة الشمامسة رجلاً كان ذكاؤه أقل باعثاً للريبة من أخلاقه، ليساعده في إدارة شئون أسقفية روما الآخذة في الاتساع. ويقول أعداء كالستس Callistus إنه بدأ حياته عبداً، ثم صار من رجال المال والمصارف، واختلس الأموال المودعة عنده فحكم عليه بالأشغال الشاقة، ثم أطلق سراحه؛ وأثار شغباً في أحد المجامع الدينية فحكم عليه بالعمل في مناجم سردينية؛ ولكنه هرب منها بأن احتال على وضع اسمه في ثبت مَن أعفي عنهم، وقضى عشر سنين يعيش في أنتيوم Antium عيشة قاسى من هدوئها أشد الآلام. ولما عهد إليه زفرينس العناية بالمقبرة البابوية نقلها إلى طريق أبيا Appia في السرداب المسمى باسمه، ولما مات زفرينس واختير كالستس Callistus بابا أعلن هبوليتس Hippolytus وغيره من القساوسة أنه لا يصلح لمنصبه، وأقاموا كنيسة وبابوية غير كنيسته وبابويته (218). وزادت الخلافات المذهبية هوة الشقاق: ذلك أن كالستس كان يرى أن يعاد إلى حظيرة الكنيسة مَن ارتكبوا بعد تعميدهم
خطيئة يعاقب عليها بالإعدام، (كالزنى، والقتل، والردة) ثم أعلنوا توبتهم. أما هبوليتس فكان يرى أن هذا التساهل مضر أشد الضرر بالدين، وكتب دحضاً لجميع البدع مع تأكيد هذه البدعة بنوع خاص؛ فما كان من كالستس إلا أن أعلن حرمانه، وأنشأ للكنيسة إدارة حازمة، وثبّت دعائم سلطة كرسي روما الأسقفي على جميع العالم المسيحي.
وانتهى انشقاق هيبوليتس في عام 235؛ ولكن قسيسَين هما نوفاتشس Novatus في قرطاجنة ونوفاتيان Novatian في روما- أعادا هذه البدعة في أيام البابا كرنليوس Cornelius (251 - 253) ، فأقاما كنائس منشقة محرمة تحريماً قطعياً على الذين يرتكبون الذنوب بعد التعميد. أخرج مجلس قرطاجنة برياسة سبريان Cyprian، ومجلس روما برياسة كرنليوس هاتين الشيعتين المنشقتين من الكنيسة المسيحية. وكانت استعانة سبريان بكرنليوس سبباً في تقوية البابوية؛ لكن الشقاق دب بين الكنيستين بعد قليل، وكان سببه أن البابا استيفن (254 - 257) قرر أن لا ضرورة لتعميد مَن يعتنقون المسيحية من الطوائف غير المؤمنة، فعقد سبريان مَجمعا ينياد من أساقفة أفريقية تولى رياسته بنفسه ورفض هذا القرار. وفعل استيفن ما فعله كاتو من قبل فأعلن حرمان أولئك الأساقفة على بكرة أبيهم وشن عليهم حرباً شعواء؛ ولكن موته العاجل سكن هذا النزاع إلى حين، وحال دون انشقاق كنيسة أفريقية القوية.
وظل كرسي روما يزداد قوة على قوة في كل عقد من العقود التالية رغم تجاوزه حقوقه في فترة ونكوصه في فترة أخرى؛ وكان ثراؤه وكثرة أصدقائه العامة مما رفع مكانته؛ وكان العالم المسيحي بأجمعه يستشيره في كل ما يصادفه من المشاكل الخطيرة؛ وكان هو يقدم من تلقاء نقسه على تحريم البدع والضلالات ومقاومتها، وعلى تحديد ما يجب الاعتراف به من الأسفار المقدسة.
لكنه كان ينقصه العلماء الأعلام، فلم يكن فيه رجال يفخر بهم أمثال ترتليان، وأرجن، وسبريان؛ وكان يعنى بالتنظيم أكثر ما يعنى باللاهوت، فكان يبني ويحكم، ويترك الكتابة والكلام لغيره. وعصاه سبريان ولكن سبريان هو الذي نادى في كتابه الكنيسة الكاثوليكية الموحدة بأن كرسي بطرس أو مقره هو مركز العالم المسيحي وأعلى مكان فيه، وأعلن إلى العالم مبادئ التضامن، والإجماع، والثبات التي كانت ولا تزال أساس الكنيسة الكاثوليكية وعمادها (74). وقبل أن ينتصف القرن الثالث كان مركز البابوية ومواردها المالية قد بلغا من القوة حداً جعل ديسيوس يقسم أنه يفضل أن يكون في روما إمبراطور ثانٍ ينافسه على أن يكون فيها بابا (75). وهكذا أصبحت عاصمة الإمبراطوريّة عاصمة الديانة المسيحية.
وأمدّت روما المسيحية بالنظام كما أمدّتها اليهودية بمبادئها الخلقية وكما أمدّتها بلاد اليونان بفلسفتها الدينية. وقد دخلت هذه كلها في بناء الدين المسيحي مع ما دخله وما امتصه من الأديان المعارضة. ولم يكن كل ما أخذته الكنيسة من روما هو العادات والمراسم الدينية التي كانت سائدة في روما قبل قيام المسيحية- كالبطرشيل وغيره من ثياب الكهنة الوثنيين، واستعمال البخور والماء المقدس في التطهير، وإيقاد الشموع ووضع ضوء دائم لا ينطفئ أمام المذبح، وعبادة القديسين، وهندسة الباسلقا، وقوانين روما التي اتخذتها أساساً للقانون الكنسي، ولقب الحبر الأعظم Pontifex Maximus الذي أُطلق على كبير الأساقفة مضافاً إلى اللغة اللاتينية التي أَوضحت في القرن الرابع الأداة الخالدة النبيلة للشعائر الكاثوليكية؛ بل كان أهم من هذا كله نظام الحكم الواسع الذي أمسى بعد عجز السلطة الزمنية صرح الحكم الكنسي، فلم يلبث الأساقفة، لا الحكام الرومان، أن صاروا هم مصدر النظام ومركز القوة والسلطان في
مدائن الإمبراطوريّة؛ وكان المطارنة وكبار الأساقفة أكبر عون لحكام الولايات إن لم يكونوا قد حلوا محلهم، كما حل مجمع الأساقفة محل جمعيات الولايات. وسارت الكنيسة الرومانية في الطريق الذي سارت فيه قبلها الدولة الرومانية، ففتحت الولايات، وجملت العواصم، وثبتت دعائم النظام والوحدة على طول الحدود. وقصارى القول أن روما قضت نحبها وهي تلد الكنيسة، واكتمل نمو الكنيسة بأن ورثت التبعات الملقاة على روما ورضيت أن تضطلع بها.
الباب التاسع والعشرون
انهيار الإمبراطوريّة
193 -
305 بعد الميلاد
الفصل الأول
أسرة سامية
في أول يوم من شهر يناير سنة 193 اجتمع مجلس الشيوخ بعد ساعات قليلة من اغتيال كمودس، في نشوة البهجة والغبطة واختار للجلوس على عرش الإمبراطوريّة عضواً من أجلْ أعضائه واجدرهم بالاحترام، استطاع بإدارته العادلة وهو حاكم للمدينة أن ينهج منهج الأنطونيين ويواصل أحسن تقاليدهم. وقبل برتناكس Pertinax، وهو كاره، هذا المنصب الخطير الذي يرفع صاحبه إلى مكانة سامية إذا سقط منها هوى إلى الدرك الأسفل. ويقول فيه هيروديان (1) إنه "سلك سلوك الرجل العادي"، فكان يستمع إلى محاضرات الفلاسفة، ويشجع الآداب؛ وقد ملأ خزائن الدولة بالمال، وخفّض الضرائب، وباع بالمزاد كل ما ملأ به كمودس القصر الإمبراطوري من ذهب وفضة، وأقمشة مطرزة وحرير، وجوارٍ حسان. وفي ذلك يقول ديوكاسيوس: "والحق أنه فعل كل ما يجب على العاهل الصالح أن يفعله (2). وائتمر المعاتيق الذين فقدوا بفضل سياسته الاقتصادية ما كان يعود عليهم من النفع مع الحرس البريتوري الذي ساءه عودة النظام. وفي الثامن عشر من شهر مارس اقتحم ثلثمائة من الجنود
أبواب القصر وقتلوه، وحملوا رأسه إلى المعسكر على طرف رمح، وحزن الشعب ومجلس الشيوخ عليه وتوارى أعضاؤه عن الأنظار.
وأعلن قواد الحرس أنهم سيضعون التاج على رأس الروماني الذي يمنحهم أكبر عطاء. وأقنعت دديوس جليانس Didius Julianus زوجته وابنته بأن يغادر مائدة الطعام ويعرض على زعماء الحرس عطاءه، فسار إلى المعسكر، حيث وجد منافساً له يعرض خمسة آلاف درخمة (3000 ريال أمريكي) هبة لكل جندي ثمناً لعرش الإمبراطوريّة. وصار سماسرة الحرس ينتقلون من مثر إلى آخر، يشجعونهم على زيادة العطا، فلما أن وعد جليانس كل جندي بـ 6250 درخمة أعلن الحرس اختياره إمبراطوراً.
وثارت ثائرة أهل روما لهذه المذلة المنقطعة النظير، فأهابوا بالفيالق الرومانية المعسكرة في بريطانيا، وسوريا، وبنونيا أن تزحف على روما وتخلع جليانس. وغضبت هذه الفيالق لأنها حرمت من العطاء، فأخذ كل منها ينادي بقائده إمبراطوراً، وزحفت كلها على روما. وتفوق لوسيوس سبتميوس سفيرس جيتا Lucius Septimius Severus Geta قائد جيوش بنونيا على جميع القواد بفضل جرأته وسرعته، وما قدمه من رُشا. وقطع على نفسه عهداً أن يهب كل جندي 12000 درخمة حين يجلس على العرش؛ وزحف بهم من بلاد الدانوب حتى صار على بعد سبعين ميلاً من روما في شهر واحد؛ واستمال إليه الجنود الذين أُرسلوا لصده، وأخضع الحرس البريتوري بأن عرض عليهم أن يعفو عنهم إذا أسلموا إليه قوادهم، وخالف جميع السوابق بدخوله العاصمة ومعه جنود بكامل سلاحهم، ولكنه أرضى المستمسكين بالتقاليد القديمة بأن لبس ثياب المدنيين. وعثر طربيون على جليانس يبكي في قصره من هول تلك الحوادث، فأخذه إلى حمّام وقطع رأسه (2 يونية سنة 193).
وكانت أفريقية في هذه الأثناء تهب المسيحية أعظم المدافعين عنها؛ وقد وُلد
فيها وقتئذ (146) سبتميوس واجتاز فيها أولى مراحل تعليمه. وكانت نشأته في أسرة فينيقية تتكلم بهذه اللغة، ودرس الآداب والفلسفة في أثينة، واشتغل بالمحاماة في روما، وكان رغم لهجته السامية من أحسن الرومان تربية وأكثرهم علماً في زمانه، وكان مولعاً بأن يجمع حوله الشعراء والفلاسفة، ولكنه لم يترك الفلسفة تعوقه عن الحروب، ولم يدع الشعر يرقّق من طباعه. وكان رجلاً وسيم الطلعة، قوي البنية، بسيطاً في ملبسه، قادراً على مغالبة الصعاب، بارعاً في الفنون العسكرية، مقداماً لا يهاب الردى في القتال، قاسي القلب لا يرحم إذا انتصر. وكان لبقاً فكهاً في حديثه، نافذ البصيرة في قضائه (2)، قديراً صارماً في أحكامه (3).
وكان مجلس الشيوخ قد أخطأ إذ أعلن تأييده لمنافسه ألبينس Albinus فذهب إليه سبتميوس وحوله ستمائة من رجال الحرس، وأقنعه بأن يؤيده في ارتقاء العرش؛ فلما تم له ذلك أعدم عشرات من أعضائه وصادر كثيراً من ضياع الأشراف حتى آلت إليه أملاك نصف شبه الجزيرة. ثم ملأ الأماكن التي خلت في مجلس الشيوخ بأعضاء اختارهم بنفسه من بلاد الشرق التي تدين بالنظام الملكي، وأخذ كبار رجال القانون في ذلك العصر - بابنيان Papinian وبولس Paulus، وألبيان Ulpian - يجمعون الحجج التي يؤيدون بها السلطة المطلقة. وأغفل سبتموس شأن المجلس إلا حين كان يبعث إليه بأوامره؛ وبسط سلطانه الكامل على أموال الدولة على اختلاف مصادرها، وأقام حكمه على تأييد الجيش دون خفاء، وحوّل الزعامة إلى مَلَكية عسكرية ورائية، وزاد عدد رجال الجيش، ورفع رواتب الجند، وعمد إلى الإسراف في أموال الدولة حتى كاد ينضب معينها. ومن أعمله أنه جعل الخدمة العسكرية إلزامية، ولكنه حرّمها على أهل إيطاليا، فأصبحت فيالق الولايات من ذلك الحين هي التي تختار الأباطرة لروما بعد أن فقدت العاصمة قدرتها على الحكم.
ومن العجائب أن هذا المحارب الواقعي كان يؤمن بالتنجيم، وأنه كان أكثر الناس براعة في تفسير النذر والأحلام. من ذلك أنه لما أن ماتت زوجته الأولى قبل أن يرتقي العرش بستة أعوام عرض على سوريّة غنية دل طالعها على أنها ستجلس على عرش أن تتزوجه. وكانت هذه الزوجة هي جوليا دمنا Julia Domna ابنه كاهن غني لإلجابال Elgabal إله حمص. وكان نيزك قد سقط في تلك المدينة من زمن بعيد وأقيم له ضريح في هيكل مزخرف، وأخذ الناس يعبدونه على أنه رمز الإله إن لم يكن هو الإله نفسه مجسّماً. وجاءت جوليا إلى قصر سبتميوس، وولدت له ولدين هما كركلا وجيتا Geta، وارتقت عرشها الموعود. وكانت أجمل من أن تقتصر على زوج واحد، ولكن مشاغل سبتميوس لم تكن تترك له من الفراغ ما يسمح له بأن يغار عليها. وقد جمعت حولها ندوة من الأدباء، وناصرت الفنون، وأقنعت فيلوسترانس بأن يكتب سيرة أبلونيوس التيانائي Apollonius of Tyana يخلع عليه الكثير من أسباب المديح. وكانت قوة أخلاقها ونفوذها مما عجل السير بالملكية نحو الأساليب الشرقية التي وصلت إلى غايتها من الناحية الأخلاقية في عهد إلجابالس Elgabalus ومن الناحية السياسية في عهد دقلديانوس.
وسُلخ سبتميوس من حكمه الذي دام ثماني عشرة سنة في حروب سريعة وحشية قضى فيها على منافسيه؛ ودك بيزنطية بعد حصار دام أربعة أعوام. فأزال بعمله هذا حاجزاً كان يقف في وجه القوط الآخذين في الانتشار، وغزا بارثيا، واستولى على طشقونة، وضم بلاد النهرين إلى الإمبراطوريّة، وعجّل سقوط الأسرة الأرساسية المالكة. وأُصيب في شيخوخته بداء النقرس. ولكنه لم يكن يرضى أن يضعف جيشه بعد أن قضى في السلم خمس سنين، فزحف به على كلدونيا Caledonia، وانتصرت على الاسكتلنديين في عدة وقائع غالية الثمن، انسحب على أثرها إلى بريطانيا، ثم آوى إلى يورك حيث وافته المنية (211).
ومما قاله عن نفسه: "لقد نلت كل شيء ولكن ما نلته لا قيمة له"(4). ويقول هيروديان إن "كركلا قد أغضبه أن تطول حياة أبيه
…
فطلب إلى الأطباء أن يعجلوا بموت الشيخ بأية وسيلة بمتناول أيديهم". وكان سبتميوس قد لام أورليوس حين سلم الإمبراطوريّة إلى كمودس، ولكنه هو نفسه أسلمها إلى كركلا وجيتا، بهذه النصيحة الساخرة: "وفرا المال لجنودكما ولا يهمكما شيء غير هذا" (6). وكان آخر إمبراطور مات في فراشه في الثمانين عاماً التي سبقت وفاته.
ويبدو أن كركلا
(1)
قد خلق، كما خلق كمودس، لكي يثبت أن نصيب الرجل من النشاط قلما يكفي لأن يجعله عظيم في حياته، وفي قوته الجنسية معاً. وقد كان في صباه وسيماً صيّعاً، فلما بلغ سن رشده أصبح همجياً مفتتناً بالصيد والحرب، يقتص الخنازير البرية، وينازل أسداً بمفرده، ويحتفظ بعدد من الآساد بالقرب منه في قصره، واتخذ منها رفيقاً له في بعض الأحيان يجالسه على مائدته وينام معه في فراشه (7). وكان يستمتع بصحبة المجالدين والجند بنوع خاص، ويبقي أعضاء الشيوخ زمناً طويلاً في حجرات الانتظار حتى يفرغ من إعداد الطعام والشراب لرفاقه. ولم يكن يرضى أن يشترك معه أخوه في حكم الإمبراطوريّة، فأمر بقتل جيتا في عام 212، فاغتيل الشاب وهو بين ذراعي أمه، خضب أثوابها بدمه. ويقال انه حكم بالموت على عشرين ألفاً من أتباع جيتا، وعلى كثيرين من المواطنين، وعلى أربع من العذارا الفستية، اتهمهن بالزنى (8). ولما تذمر الجيش على أثر مقتل جيتا أسكته بأن نفحه بهبة تعادل كل ما ادخره سبتميوس من الأموال، وكان يفضل الجنود والفقراء على رجال الأعمال والأشراف؛ ولعل ما نقرؤه عنه
(1)
وقد سمّى نفسه بهذا الاسم نسبة إلى الجلباب الغالي الطويل الذي كان يلبسه، أما اسمه الحقيقي فهو بسيانيوس Bassianius، ولما جلس على العرش سمّى نفسه ماركس أورليوس انطونينس كركرلا.
من القصص التي يرويها ديوكاسيوس ليست إلا انتقاماً كتبه عضو في مجلس الشيوخ واشتدّت رغبته في جمع المال فضاعف ضريبة التركات بأن جعلها عشرة في المائة من مقدار التركة؛ ولما رأى أنها لا تنطبق إلا على المواطنين الرومان وسّع دائرة هذه الحقوق حتى شملت جميع الراشدين من الذكور الأحرار في الإمبراطوريّة كلها (212)؛ فنال هؤلاء حقوق المواطنين حين استتبعت أكثر ما يمكن أن تستتبعه من القروض وأقل ما تستتبعه من السلطان. وأضاف إلى زينات روما قوساً أقامه لسبتميوس سفيرس لا يزال باقياً إلى اليوم، وحمّامات عامة تشهد خرائبها الضخمة بما كانت عليه من عظمة وجلال، ولكنه ترك معظم شئون الحكم المدني لوالدته، وشغل نفسه بالحروب.
وكان قد عين جوليا دمنا أمينة سره لشئون العرائض والرسائل. وكانت تشاركه أو تحل محله في استقبال رجال الدولة أو ذوي المكانة العليا من الأجانب. وهمس الوشاة بأن سلطانها عليه ناشئ من مضاجعته إياها، وأثار الفكيهون الجبناء من أهل الإسكندرية بتشبيههم لها وله بجوكستا Jocesta وأوديب. وأراد أن ينتقم من هذه الإهانة وأمثالها من جهة، ويأمن على نفسه من ثورة تتقد نارها في مصر أثناء حروبه لبارثيا من جهة أخرى، فزار المدينة وأشرف بنفسه (كما يؤكد المؤرخون) على قتل جميع أهل الإسكندرية القادرين على حمل السلاح (9).
ومع هذا فقد كان منشئ الإسكندرية المثل الذي احتذاه والمطمع الذي يأمل أن يبلغه. وللوصول إلى هذه الغاية أنشأ فيلقاً من 16000 جندي سمّاه "فيلق الاسكندر" وسلّحه بأسلحة مقدونية من الطراز القديم، وكان يأمل أن يُخضع به بارثيا كما أخضع الاسكندر فارس. وبذل كا ما يستطيع من الجهد ليكون جندياً عظيماً، فكان يشارك جنوده في طعامهم وكدحهم، وسيرهم الشاق الطويل، وكان يساعدهم في حفر الخنادق، وإقامة الجسور، ويظهر
الكثير من ضروب البسالة في القتال، وكثيراً ما كان يتحدى أعداءه ويطلب إليهم أن يبارزوه رجلاً لرجل؛ ولكن رجاله لم يكن لهم مثل ما كان له من رغبة في قتال البارثيين، بل كان حبهم للغنائم أكثر من حبهم للقتال، فقتلوه في كارى Carrhae التي هزم فيها كراسس (217). ونادى مكرينس Macrinus قائد الحرس بنفسه إمبراطورياً، وأمر مجلس الشيوخ، بعد أن أظهر بعض التردد، بأن يتخذ كركلا إلهاً. ونفيت جوليا دمنا إلى إنطاكية بعد أن حرمت في خلال ست سنين من الإمبراطوريّة، ومن زوجها، ومن أبنائها، فأضربت عن الطعام حتى ماتت.
وكان لها أخت تدعى جوليا ميزا Julia Maesa لا تقل عنها قدرة وكفاية. فعادت جوليا الثانية إلى حمص ووجدت فيها حفيدين يبشران بمستقبل عظيم. فأما أحدهما فكان ابن ابنتها جوليا سؤامياس Julia Soaemiae، وكان كاهناً شاباً من كهنة بعل، يسمى فاريوس أفيتس Varius Avitus، وهو الذي سمي فيما بعد الجابالس Elgabalus أي "الإله الخالق"
(1)
. أما الثاني فكان ابن جوليا ماميا Gulia Mamaea ابنة ميزا، وكان غلاماً في العاشرة من عمره يدعى الكسيانس Alexianus وهو الذي أصبح فيما بعد الكسندر سفيرس. ونشرت ميزا الشائعة القائلة إن فاريوس هو الابن الطبيعي لكركلا، وإن كان في واقع الأمر ابن فاريوس مرسلس، وأطلقت عليه اسم بسيانس؛ ذلك أن الإمبراطوريّة كانت أفضل عندها من سمعة ابنتها، وماذا يضيرها بعد أن مات مرسلس والد الشاب. وكان الجنود الرومان في سوريا قد ألغوا الشعائر الدينية السوريّة، وكانوا يشعرون باحترام لهذا القس الشاب الذي لا يتجاوز الرابعة عشرة من العمر تبعثه في قلوبهم عاطفة دينية قوية. يضاف إلى هذا أن ميزا أوعزت إليهم بأنهم إذا
(1)
وقد أخطأ الكتّاب اللاتين فترجموا اسمه Heliogabalus إلى ((إله الشمس)).
اختاروا الجابالس إمبراطوراً فإنها ستنفحهم بعطية سنية. ووثق الجند بوعدها لهم وأجابوها إلى ما طلبت، وضمت ميزا بذهبها إلى صفها الجيش الذي سيّره مكرينس لقتالها، ولما أن ظهر مكرينس نفسه على رأس قوة كبيرة، تردد مرتزقة السوريين في ولائهم، ولكن ميزا وسؤامياس قفزتا من مركبتيهما، وقادتا الجيش المتردد إلى النصر؛ لقد كان رجال سوريا نساء، وكانت نساؤها رجالاً.
ودخل الجابالس روما في خريف عام 219 مرتدياً أثواباً من الحرير الأرجواني موشّاة بالذهب الإبريز، وحذاءين مصبوغين باللون القرمزي، وكانت عيناه تشعان بريقاً مصطنعاً وكان في ذراعه اسورتان غاليتا الثمن، وفي جيده عقد من اللؤلؤ، وعلى رأسه الجميل تاج مرصع بالجواهر، وركبت إلى جواره في مركب فخم جدّته وأمه. وكان أول ما فعله حين حضر إلى مجلس الشيوخ أول مرة أن طلب إليه الموافقة على جلوس أمه إلى جانبه لتستمع إلى المناقشات. وأوتيت سؤامياس من الحكمة ما أوحى إليها بالإنسحاب، وقنعت برياسة المجلس الأصغر مجلس النساء الذي أنشأته سابينا، والذي كان يبحث المسائل المتعلقة بأثواب النساء وحليهن، وترتيبهن في الحفلات الرسمية، وآداب اللياقة وما إليها، وترك حكم الدولة للجدة ميزا.
وكان في أخلاق الإمبراطور الشاب بعض العناصر المحببة. من ذلك أنه لم ينتقم ممن أيدوا مكرينس، وأنه كان يحب الموسيقى، ويجيد الغناء، وينفخ في المزمار والبوق، ويضرب على الارغن. وإن كان أصغر من أن يحكم الإمبراطوريّة فإنه لم يطلب أكثر من أن يستمتع بها. ولم يكن معبوده بعل بل كان هذا المعبود هو الشهوة، وكان معتزماً أن يعبدها بجميع صورها في الذكور والإناث على السواء. وكان يدعو كل طبقة من الأحرار إلى زيارة قصره، وكان أحياناً يأكل معهم ويشرب ويمرح؛ ويوزع عليهم من آن إلى آن جوائز لا باقتراع تختلف من بيوت مؤثثة إلى حفنة من الذباب. وكان يحب أن يمزح
مع ضيوفه: من ذلك أنه كان يجلسهم على وسائد منفوخة تتفجر من تحتهم فجأة، ويسكرهم حتى يفقدوا وعيهم حتى إذا ما استيقظوا وجدوا أنفسهم بين فهود، ودببة، وآساد أليفة غير مؤذية. ويؤكد لمبريديوس Lampridius أن إلجابالس لم ينفق مرة أقل من 100. 000 سسترس (10. 000 ريال أمريكي) على وليمة واحدة لضيوفه، وربما بلغت نفقات إحدى الولائم 3. 000. 000. وكان يخلط قطع الذهب البازلا، والعقيق بالعدس، واللؤلؤ بالارز، والكهرمان بالفول. وكان يهدي الخيل والمركبات، والخصيان؛ وكثيراً ما كان يأمر كل ضيف أن يأخذ معه إلى منزله الصحفة الفضية والكؤوس التي كان يقدم له فيها الطعام والشراب. وكان يختار لنفسه أحسن كل شيء. فكان الماء الذي في أحواض سباحته يعطر بروح الورد، وكانت المشاجب التي في حمّاماته من العقيق أو الذهب الخالص، وكان طعامه من أندر المأكولات وأغلاها ثمناً، وأثوابه مرصعة بالجواهر من تاجه إلى حذاءيه؛ وتقول الشائعات إنه لم يلبس قط خاتماً مرتين. وكان إذا سافر احتاج إلى 600 مركبة يحمل فيها متاعه وقواديه. ولما قال له عراف إنه سيموت ميتة عنيفة، أعد وسائل غالية للانتحار يستخدمها إذا لزم الأمر: منها حبال من الحرير الأرجواني، وأسياف من الذهب، وسموم في قنينات من الياقوت الأزرق أو الزمرّد. غير أنه اغتيل في مرحاض.
وأكبر الظن أن أعداءه من أعضاء مجلس الشيوخ ومَن في طبقتهم قد اخترعوا أو بالغوا في بعض هذه القصص؛ وما من شك في أن القصص الخاصة بشذوذه الجنسي مما لا يصدقه العقل. وسواء كانت صحيحة أو كاذبة فإنه كان يعطر شهراته بتقواه، ويعمل على أن ينشر بين الرومان عبادة إلهه السوري بعل. يضاف إلى هذا أنه إختتن وفكر في أن يخصي نفسه تكريماً لإلهه؛ وأحضر من حمص الحجر الأسود المقدس وأخذ يعبده بوصفه رمزاً لإلجابال، وشاد هيكلاً مزخرفاً ليضعه فيه، وحمل إليه الحجر مغلفاً بالجواهر في عربة تجرها ستة جياد
بيض، ومشى الإمبراطور أمامها متجهاً بوجهه نحوها وهو صامت إجلالاً لهذا الحجر. ولم يكن يجد ما يمنعه أن يعترف بجميع الأديان الأخرى، فكان يبسط حمايته على اليهودية، وعرض أن يجعل المسيحية ديناً مشروعاً، وكل ما كان يصر عليه في إخلاص يدعو إلى الإعجاب هو أن يكون حجره أعظم الآلهة (12).
وكانت أمه منهمكة في علتها تنظر إلى هذه المهزلة الدينية نظرة المتسامح الذي لا يعنيه من أمرها شيء، ولكن جوليا ميزا صممت، حين عجزت عن وقفها، على أن تتعجل تلك الكارثة التي ستقضي على هذه الأسرة العجيبة من النساء السوريات. ولهذا أقنعت إلجابالس بأن يتبنى الاسكندر ابن عمه ويوصي به قيصراً وخليفة له، وأخذت هي ومامائيا Mamaea تدربان الغلام على واجبات منصبه، وسلكتا كل السبل التي تجعل مجلس الشيوخ والشعب ينظران إليه على أنه خير بديل للقس المأفون الذي أساء إلى روما - لا بإسرافه أو فحشه - بل بإخضاعه جوبتر إلى بعل السوري. وكشفت سؤامياس المؤامرة وأثارت الحرس البريتوري على أختها وابن أختها. لكن ميزا ومامائيا كانتا أقوى منها حجة إذا بسطتا أيديهما للحرس بالمال الوفير، فقتل رجال الحرس إلجابالس وأمه، وجروا جثته في شوارع المدينة وحول ساحة الألعاب، وألقوها في نهر التيبر، ثم نادوا بالاسكندر إمبراطوراً ووافق مجلس الشيوخ على هذه البيعة (222).
وجلس ماركس أورليوس سفيرس الكسندر على العرش، كما جلس عليه سلفه، في الرابعة عشرة من عمره. وكانت أمه قد عنيت عناية منقطعة النظير بتدريب جسمه، وعقله، وخلقه. وزاد هو شهرته بالجد ورياضة الجسم، فكان يسبح في بركة من الماء البارد ساعة في كل يوم، ويشرب نحو نصف لتر من الماء قبل كل وجبة، ويقتصد في الطعام، ولا يأكل إلا ابسط الأطعمة. ونشأ غلاماً وسيماً، طويل القامة، قوي الجسم، ماهراً في جميع أنواع الألعاب وفنون الحرب، ودرس الآداب اليونانية واللاتينية، ولم يقلل من حبه لهما
وانهماكه فيهما إلا إصرار مامائيا، إذ تلت عليه أشعار فرجيل التي تهيب بالرومان أن يدعوا جمال الثقافة لغيرهم من الأجناس، ويعدوا أنفسهم لإقامة دولة عالمية وحكمها في سلام. وكان بارعاً "ممتازاً" في التصوير والغناء، يعزف على الأرغن والقيثارة، ولكنه لم يكن يسمح لغير أهل بيته بمشاهدة هذه الأعمال. وكان بسيطاً متواضعاً في ملبسه وأخلاقه "معتدلاً في استمتاعه بالحب، ولم تكن له قط صلة بالمخنثين"(13). وأظهر احتراماً عظيماً لمجلس الشيوخ، فكان يعامل أعضاءه كأنهم أكفاء له، ويستضيفهم في قصره، وكثيراً ما كان يزورهم في منازلهم وكان رحيماً، دمث الأخلاق، يعود المرضى أياً كان منزلتهم؛ ولم يسفك قط دماء مدني في الأربعة عشر عاماً التي قضاها في الحكم (14). وعابت عليه أمه لينه وقالت له:"لقد أسرفت في لين الحكم، وفي الإقلال من سلطان الإمبراطوريّة". فأجابها بقوله: "نعم، ولكنني جعلتها أبقى أمداً وأقوى دعامة"(15). لقد كان رجلاً من ذهب مصفى، غير مشوب بزغل يقويه على احتمال صعاب هذا العالم.
وأدرك السخف الذي تنطوي عليه جهود سلفه والتي كانت تهدف إلى استبدال إلجابال بجوبتر، وتعاون مع والدته في إعادة الهياكل والشعائر الرومانية إلى سابق عهدها؛ ولكن عقله الفلسفي هداه إلى أن يرى أن الأديان جميعها أساليب مختلفة لعبادة قوة واحدة عليا، ولهذا أراد أن يعظّم جميع الأديان التي تدعوا إلى الخير، ووضع في معبده الخاص الذي كان يتعبد فيه كل صباح صوراً لجوبتر وأرفيوس، وأبلونيوس التيانائي، وابراهيم، والمسيح. وكثيراً ما كان يكرر النصيحة اليهودية - المسيحية القائلة:"لا تعامل غيرك بما لا تحب أن يعاملك به الناس"، وأمر بنقشها على جدران قصره وعلى كثير من جدران المباني العامة. وكان يوصي شعبه بالتخلّق بأخلاق اليهود والمسيحيين. ولكن الذين لم يتأثروا به من
أهل إنطاكية والإسكندرية الفكهين كانوا يلقبونه "رئيس الكنيس" وكانت أمه تفضل المسيحيين على غيرهم، وقد بسطت حمايتها على أرجن، واستدعته ليفسر للناس أصول دينه المرن.
وإذا كانت جوليا ميزا قد توفيت بعد قليل من اعتلاء الإسكندر العرش، فقد كانت مامائيا وكان ألبيان معلّم الاسكندر هما اللذان يرسمان خططه السياسية، وإصلاحاته الإدارية. ومن أعمالهما أنهما اختارا ستة عشر من أعضاء مجلس الشيوخ البارزين وألفا منهم مجلساً إمبراطورياً وقررا ألا يُنفَّذ عمل من الأعمال الكبرى إلا إذا وافق عليه. ولما أن تزوج الاسكندر وأظهر تحيزاً ظاهراً لزوجته بسبب حبه لها أمرت مامائيا بنفيها ولم يرَ الاسكندر بداً من الاستسلام لوالدته. ولما كبر زاد نصيبه في إدارة شئون الدولة فكان "يعنى بالشئون العامة قبل مطلع الفجر"، كما يقول كاتب سيرته القديم، "ويوالي النظر في هذه الشئون زمناً طويلاً، دون ملل أو غضب، بل يبقى على الدوام مرحاً هادئاً راضياً"(16).
وكانت خطته الأساسية تهدف إلى إضعاف سيطرة الجيش المؤدية إلى انحلال الدولة، وذلك بإعادة هيبة مجلس الشيوخ والأشراف؛ فقد كان يبدو له أن حكم الأشراف ذوي الأصول السامية هو البديل الوحيد من حكم المال، أو الخرافات، أو السيف؛ وقد استطاع بمعونة مجلس الشيوخ أن ينفّذ مئات الخطط التي أدت إلى اقتصاد كبير في نفقات الإدارة، ففصل عدداً كبيراً من الموظفين الزائدين على الحاجة في قصره، وفي المناصب الحكومية، وفي الولايات، وباع معظم ما كان في خزائن الإمبراطور من جواهر، أودع ثمنها في بيت المال.
وأصدر قرارات اعترف فيها بهيئات العمال والتجار، وشجعها وأعاد تنظيمها، وأجاز لهذه الهيئات أن تختار محامين عنها من بين أعضائها (17). ولعل مجلس الشيوخ كان أقل رضاءً عن هذا العمل منه عن أعماله الأخرى، وقد فرض رقابة شديدة على الأخلاق العامة فأمر بالقبض على العاهرات ونفى
ذوي الميول الجنسية الشاذة. ومع أنه خفّض الضرائب فقد أعاد بناء الكلوسيوم وحمّامات كركلا، وشاد مكتبة عامة وقناة ماء طولها أربعة عشر ميلاً، وحمّامات للبلدية جديدة، وبذل المال بسخاء لإنشاء الحمّامات وقنوات الماء والطرق في جميع أنحاء الإمبراطوريّة، وعمل على تخفيض فائدة الديون التي كانت ترهق المدينين فأقرض المال من خزانة الدولة بفائدة أربعة في المائة، وأعطى الفقراء المال من غير فائدة ليشتروا به أرضاً زراعية. وكانت نتيجة هذه الأعمال أن عمّ الرخاء جميع أجزاء الإمبراطوريّة، وأن قدرت له وأثنت عليه، وأن خيل إلى جميع الناس أن أورليوس التقي العظيم قد عاد إلى الأرض وإلى السلطان.
ولكن الفرس والألمان اغتنموا فرصة وجود هذا الإمبراطور القدّيس على العرش، كما اغتنموا فرصة وجود سميه الإمبراطور الفيلسوف، فغزا أردشير رأس الأسرة الساسانية في فارس بلاد النهرين في عام 320 وهدد سوريا. وبعث إليه الاسكندر برسالة فلسفية يلومه فيها على عنفه ويقول له إنه "يجب على كل إنسان أن يقنع بما لديه من أملاك"(18). واستنتج أردشير من هذه الرسالة أنه ضعيف خوار العود فرد عليه بأن طلب سوريا وآسية الصغرى، فما كان من الإمبراطور الشاب إلا أن امتشق الحسام ونزل إلى الميدان مصحوباً بوالدته، وخاض غمار موقعة غير فاصلة أظهر فيها من البسالة أكثر مما أظهر من الدهاء. ولا يذكر التاريخ إلا النزر اليسير عن انتصاراته وهزائمه، ولكن الحرب أسفرت عن انسحاب أردشير من بلاد النهرين، ولعله انسحب ليرد هجوماً وقع على حدوده الشرقية، وتصوّر النقود الرومانية الاسكندر متوجاً بأكاليل الظفر ومن تحت قدميه نهرا دجلة والفرات.
ورأت قبائل الألمان والمركمان أن حاميات الرين والدانوب قد سحبت لإمداد فيالق سوريا فاقتحمت الطرق الرومانية المحصنة وعاثت فساداً في بلاد غالة الشرقية، ولكن الاسكندر جاء إليها مع ماميا بعد الفراغ من احتفاله
بالنصر على الفرس، وانظم إلى جيشه، وسار على رأسه إلى مينز Mains. وعمل بنصيحة والدته فأخذ يفاوض العدو ويعرض عليه مبلغاً من المال سنوياً نظير احتفاظه بالسلم. ولكن جنوده رأوا في هذا العمل ضعفاً واستسلاماً فتمردوا عليه، ولم يكونوا قد غفروا له شحه، وتشدده في حفظ النظام، وإخضاعهم لمجلس الشيوخ ولحكم امرأة، ونادوا بيوليوس مكسمينس قائد فيالق بانونيا إمبراطوراً. واقتحم جنود مكسينس خيمة الاسكندر، وقتلوه هو وأمه وأصدقاءه (235).
الفصل الثاني
الفوضى
لم يكن من نزوات التاريخ أن أصبح الجيش صاحب السلطة العليا في القرن الثالث، بل كان هذا أمراً طبيعياً. ذلك أن عوامل داخلية أضعفت الدولة وتركتها معرضة للغزو من جميع الجهات، وكان وقف التوسع بعد أيام تراجان ثم بعد أيام سبتوميوس، إيذاناً ببدء الهجوم عليها، فأخذ البرابرة يفتحون بلادها باتحادهم على غزوها، كما كانت روما تفتح بلادهم لتفريقهم. وزادت ضرورة الدفاع من قوة الجيش ورفعت مكانة الجندية، وجلس القواد على العرش محل الفلاسفة، وخضع آخر حكم الأشراف لعودة حكم القوة.
وكان مكسمينس جندياً طيباً لا أكثر، وكان ابن فلاح تراقي. ونشأ صحيح الجسم قوي البنية، ويؤكد المؤرخون أن طول قامته كان يبلغ ثماني أقدام، وأن إبهامه كانت من الغلظة بحيث كان يلبس فيها اسورة زوجته كما كان يلبس الخاتم. ولم ينل شيئاً من التعليم. وكان يحتقر المعلمين ويحسدهم في وقت واحد، ولم يزر روما مرة واحدة في الثلاث السنين التي تولى فيها الملك بل كان يفضل حياة معسكره على الدانوب أو الرين. وقد اضطرته حاجته إلى المال لينفق منه في حروبه وفي استرضاء جنوده إلى فرض ضرائب فادحة على الأغنياء أغضبتهم فلم يلبثوا أن ثاروا على حكمه، وقبل جرديانس حاكم أفريقية الثري المتعلم ترشيح جيشه له إمبراطوراً منافساً لمكسمينس. وإذا كان وقتئذ في الثمانين من عمره فقد أشرك معه ولده في هذا المنصب المهلك. وعجزا جميعاً عن الوقوف في وجه القوى التي سيرها عليهما مكسمينس وقتل الابن في ميدان القتال أما الأب فقتل نفسه، وثأر مكسمينس لنفسه بأن حكم على عدد كبير من الأشراف بالقتل والنفي، ومصادرة
أملاكهم حتى كاد يقضي على هذه الطبقة. وفي ذلك يقول هروديان Herodian " وكان في وسع الإنسان أن يرى في كل يوم أغنى الأغنياء بالأمس يصبح متسولاً"(19). وقاومه مجلس الشيوخ الذي أعاد سفيرس تكوينه وقواه أشد المقاومة، فأعلن أن مكسمينس خارج على القانون، واختار اثنين من أعضائه هما مكسمس Maximus وبلبينس Balbinus إمبراطورين. وسار مكسمس على رأس جيش هزيل لملاقاة مكسميس، فانحدر هذا من جبال الألب وحاصر أكويليا Aquileia. وكان مكسميس أفضل القائدين، وكانت لديه أكبر القوتين؛ ولاح أن مجلس الشيوخ وطبقات الملاّك سيلقيان مصيرهما المحتوم، ولكن جماعة من جنود مكسيمس الذين كانوا حانقين عليه لأنه وقع عليهم عقاباً وحشياً قتلوه غيلة في خيمته. وعام مكسمس ظافراً إلى روما حيث اغتاله الحرس البريتوري هو وبلبينس، واختار جرويانس الثالث إمبراطوراً وأيد مجلس الشيوخ هذا الاختيار.
ولسنا نريد أن نذكر بالتفصيل الممل أسماء الأباطرة الذين جلسوا على العرش في هذا العصر الدموي الذي سادته الفوضى، ولا أن نذكر وقائعهم الحربية وقتلهم ومماتهم. وحسبنا أن نقول إن سبعة وثلاثين رجلاً نودي بهم أباطرة في الخمسة والثلاثين عاماً الواقعة بين حكم الاسكندر سفيرس وأورليان. وقتل جرديان الثالث جنوده وهو يحارب الفرس (244)، وهزم ديسيوس Decius فليب العربي الذي خلفه على العرش وقتله في فرونا Verona (249) ، وكان فليب هذا رجلاً من أهل إلبريا، وكان ثرياً مثقفاً مخلصاً لروما إخلاصاً خلقياً بالشرف الذي ناله في القصص القديم، وقد وضع فليب هذا في أثناء فترات السلم التي تخللت حرب القوط برنامجاً واسعاً ليعيد به إلى روما دينها وأخلاقها، وعاداتها الصالحة، وأصدر أوامره بالقضاء على المسيحية. ثم عاد إلى نهر الدانوب، والتقى بالقوط، وشهد بعينه مقتل ابنه إلى جانبه، وأعلن في جيشه الهياب المتردد أن خسارة فرد من الأفراد لا قيمة لها البتة، وهاجم جيش العدو وقتل هو في هزيمة
من أقسى الهزائم التي أصابت الرومان في تاريخهم كله (251). وخلفه جالس Gllus الذي قتله جنوده (253)، وجاء بعدهما إيمليانس Aemilianus وقد قتله هو الآخر جنوده في العام نفسه.
وكان فليريان Valerian الإمبراطور الجديد في سن الستين، ولما جلس على العرش اضطر لملاقات الفرنجة، والألمان، والمركمان، والقوط، والسكوذيين، والفرس في وقت واحد ولهذا عين إبنه جلينس Glaienus حاكماً على الإمبراطوريّة الغربية، واحتفظ لنفسه بالشرق، وزحف بجيش على أرض النهرين ولكن كبر سنه أعجزه عن القيام بهذا الواجب الذي يحتاج إلى قوة أعظم من قوته فلم يلبث أن ناء به. وكان جلينس وقتئذ في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان شجاعاً، ذكياً، مثقفاً ثقافة لا تكاد تتفق مع أحوال ذلك القرن المليء بالحروب الوحشية. وقد أصلح دولاب الإدارة المدنية في الغرب، وقاد جيشه من نصر إلى نصر على أعداء الإمبراطوريّة عدواً بعد عدو، ووجد مع ذلك متسعاً من الوقت يأخذ فيه بناصر الفلسفة والآداب، وأحيا الفن القديم إحياء لم يدم طويلاً، ولكن عبقريته المتعددة الجوانب لم تقوَ على مغالبة الشرور التي تجمعت في ذلك الوقت.
ففي عام 254) أغار المركمان على بنونية وشمالي إيطاليا، وفي عام 255 غزا القوط مقدونية ودلماشيا، وهاجم الكوذيون والقوط آسية الصغرى، وأغار الفرس على سوريا. وفي عام 257 استولى القوط على مملكة بسبورس، ونهبوا المُدن اليونانية الواقعة على شواطئ البحر الأسود، وحرقوا طرابزون، وساقوا أهلها عبيداً وإماء، وأغاروا على بنطس. وفي عام 258 استولوا على خلدقون، ونقوميميا. وبروصه، وأياميا، ونيقية، واستولى الفرس في العام نفسه على أرمينية، ونادى بستيوس بنفسه حاكماً مستقلاً على غالة. وفي عام 259 أغار الألمان على إيطاليا، ولكن جالينس هزمهم عند ميلان. وفي عام 260 هزم الفرس
فليريان عند الرها ومات أسيراً في زمان ومكان غير معروفين إلى اليوم. وتقدم شابور الأول وفرسانه الخفاف الكثيرين مخترقين سوريا إلى إنطاكية، وباغتوا أهلها وهم يشهدون الألعاب، ونهبوا المدينة، وقتلوا آلافاً من أهلها، وساقوا آلافاً آخرين عبيداً، واستولوا على طرسوس وخربوها، وعاثوا فساداً في قيليقية وكبدوكية، وعاد شابور إلى بلاد الفرس مثقلاً بالغنائم. وحلت بروما في مدى عشر سنين ثلاث مآس أذلتها وجللتها العار: ذلك أن إمبراطوراً رومانياً آخر لأول مرة صريعاً مهزوماً في ميدان القتال، وأسر العدو إمبراطوراً آخر وضحى بوحدة الإمبراطوريّة استجابة لضرورة ملاقاة الأعداء الذين أغاروا عليها من جميع الجهات. وضعضعت هذه الضربات وما صحبها من رفع الجنود الأباطرة على العرش واغتيالهم، أركان الإمبراطوريّة، وقضت على هيبتها، وفقدت هذه القوى النفسية التي أنزلها الزمان منزلة القداسة وخلع عليها سلطاناً يألفه الناس ولا يسألون عن مبارراته، تقول فقدت هذه القوى سيطرتها على أعداء روما بل فقدتها أيضاً على رعاياها ومواطنيها، فاندلع لهيب الثورة في كل مكان: ففي صقلية وغالة ثار الفلاحون الذين طال عليهم أمد الظلم ثورات عنيفة، وفي بنونيا نادى إنجينس بنفسه حاكماً مستقلاً على الولايات الشرقية. وفي عام 263 سار القوط بحراً بازاء سواحل أيونيا، ونهبوا إفسوس، وأحرقوا هيكل أرتميس الفخم، وساد الإرهاب جميع بلاد الشرق الهلنستي.
ولكن الإمبراطوريّة في آسية نجحت على يدي حليف غير متوقع. ذلك أن أوناثس، الذي كان يحكم تدمر خاضعاً لسلطان روما طرد الفرس من أرض الجزسرة، وهزمهم في طشقونة (261)، ونادى بنفسه ملكاً على سوريا وقليقلة، وبلاد العرب، وكبدوكية، وأرمينية. ثم اغتيل في عام 266، وورث ابن له شاب ألقابه، وورثت أرملته سلطانه.
وقد جمعت زنوبيا، كما جمعت كليوبطرة التي تدعي هي أنها من نسلها،
إلى جمال الخلق، براعة في الحكم، وكثيراً من أسباب ثقافة العقل. وقد درست آداب اليونان وفلسفتهم، وتعلمت اللغات اليونانية، والمصرية، والسريانية، وكتبت تاريخاً لبلاد الشرق. ويلوح أنها جمعت بين العفة والقوة والنشاط، فلم تبح لنفسها من العلاقات الجنسية إلا ما يتطلبه واجب الأمومة (20). وعودت نفسها تحمل التعب والمشاق، وكانت تستمتع بأخطار الصيد، وتسير على قدميها أميالاً طوالاً على رأس جيشها. وجمعت في حكمها بين الحكمة والصرامة، وعينت الفيلسوف لنجيبس رئيساً لوزرائها، وأحاطت نفسها في بلاطها بالعلماء والشعراء والفنانين، وجملت عاصمة ملكها بالقصور اليونانية - الرومانية - الأسيوية التي يدهش لها عابر الصحراء في هذه الأيام.
وأحست أن الإمبراطوريّة تتقطع أوصالها، فاعتزمت إقامة أسرة حاكمة ودولة جديدتين، وأخضعت لسلطانها كبدوكية، وغلطية، والجزء الأكبر من بيثينيا، وأنشأت جيشاً عظيماً وعمارة بحرية ضخمة، فتحت بهما مصر واستولت على الإسكندرية بعد حصار هلك في نصف سكانها. وتظاهرت "ملكة الشرق الداهية" أنها تعمل نائبة عن الدولة الرومانية، ولكن العالم كله كان يدرك أن انتصاراتها لم تكن إلا فصلاً من مسرحية واسعة النطاق هي مسرحية انهيار روما.
وعرف البرابرة ثروة الإمبراطوريّة وضعفها، فتدفقوا على بلاد البلقان واليونان. وبينما كان السرماتيون يعيثون فساداً من جديد في المُدن القائدة على شواطئ البحر الأسود، وكان فرع من فروع القوط يسير في خمسمائة سفينة مخترقاً مضيق الهلسبنت إلى بحر إيجة، ويستولي على جزائره جزيرة في إثر جزيرة، ويرسو في ميناء بيريه، وينهب أثينة، وأرجوس، وإسبارطة وكورنثة، وطيبة (267). وبينما كان اسطولهم يعيد بعض المغيرين إلى البحر الأسود، كانت جماعة أخرى منهم تشق طريقها براً نحو موطنها على نهر الدانوب. والتقى
بهم جالينس على نهر نستس في تراقية، وانتصر عليهم في معركة فيها كثيراً، ولكن جنوده اغتالوه بعد سنة واحدة من هذا النصر. وانقضت جموع أخرى من القوط في عام 269 على مقدونة وحاصرت تسالونيكي، ونهبت بلاد اليونان، ورودس، وقبرص، وشواطئ أيونيا. وأنقذ الإمبراطور كلوديوس الثاني تسالونيكي، وطرد القوط إلى أعالي وادي الواردار، وهزمهم عند نايسس (وهي نيش الحديثة) هزيمة منكرة قتل فيها منهم مقتلة كبيرة (269). ولو أنه خسر هذه المعركة لما وقف جيش بين القوط وإيطاليا.
الفصل الثالث
التدهور الاقتصادي
لقد عجلت الفوضى السياسية تدهور إمبراطورية الإقتصادي، كما عجلت التدهور الاقتصادي انحلال البلاد السياسي، فكان كلاهما سبباً للآخر ونتيجة له. وكان سبب الضعف الاقتصادي أن ساسة الرومان لم يقيموا قط في إيطاليا حياة اقتصادية سليمة، ولعل سهول شبه الجزيرة الضيقة لم تكن في يوم من الأيام أساساً قوياً تبنى عليه آمال الدولة الإيطاليّة العالية. وكان يقلل من إنتاج الحبوب منافسة الحبوب الرخيصة الواردة من صقلية، وأفريقية، ومصر، كما أن الكروم العظيمة أخذت تفقد أسواقها التي استولت عليها كروم الأقاليم. وشرع الفلاحون يشكون من أن الضرائب الفادحة تستنفذ مكاسبهم المزعزعة ولا تترك لهم من المال ما يحفظون به قنوات الري والصرف صالحة، فانطمرت القنوات، وانتشرت المستنقعات، وأنهكت الملاريا سكان كمبانيا وروما. ويضاف إلى هذا أن مساحات واسعة من الأرض الخصبة قد حولت من الزراعة إلى مساكن للأثرياء أصحاب الضياع الواسعة، وكان أصحاب هذه الضياع البعيدون عنها يستغلون العمال والأرض إلى أقصى حدود الاستغلال، ويبررون عملهم هذا بمشروعاتهم الإنسانية في المُدن. وازدهرت العمائر الفخمة والألعاب الرياضية في المدائن في الوقت الذي أقفر فيه الريف، ومن أجل ذلك هجر كثيرون من ملاك الأراضي وعمال الريف الأحرار المزارع إلى المُدن وتركوا الجزء الأكبر من الأراضي الزراعية الإيطاليّة ضياعاً واسعة يقوم بالعمل فيها أرقاء كسالى مهملون. ولكن هذه الضياع نفسها قضت عليها السلم الرومانية ونقص عدد حروب الفتح في القرنين الأول والثاني، وما نشأ عن ذلك من قلة الإنتاج، وارتفاع النفقات، وكثرة الأرقاء.
وأراد كبار الملاّك أن يغروا العمال الأحرار بالعودة إلى الأعمال الزراعية، فقسموا أملاكهم وحدات أجروها إلى "الزراع"(Coloni) ، يتقاضون منهم أجوراً نقدية منخفضة أو عشر المحصول، وجزءاً من الوقت يقضونه في العمل من غير أجر في بيت الملك الريفي أو في أرضه الخاصة. وقد وجد الملاّك في كثير من الأحيان أن من مصلحتهم أن يعتقوا العبيد ويجعلوهم زراعاً من هذا النوع، وأخذ هؤلاء الملوك في القرن الثالث يزدادون رغبة في سكنى بيوتهم الريفية يدفعهم إلى هذا أخطار الغزو الأجنبي والثورات الداخلية في المُدن، وحصّنوا بيوتهم فاستحالت قلاعاً منيعة أصبحت بالتدريج قصور العصور الوسطى
(1)
.
وقوى نقص الأرقاء إلى وقت ما مركز العمال الأحرار في الصناعة وفي الزراعة على السواء. ولكن فقر الفقراء لم ينقص على حين أن موارد الأغنياء التهمتها الحروب ومطالب الحكومة (22). وكانت الأجور وقتئذ تتراوح بين 6 و 11 في المائة من نظائرها في الولايات المتحدة الأمريكية أوائل القرن العشرين، وكانت الأثمان نحو ثلاثين في المائة من أثمان الولايات المتحدة في ذلك الوقت (23). وكانت حرب الطبقات آخذة في الاشتداد لأن الجيش المجند من فقراء الأقاليم كثيراً ما كان ينظم إلى مَن يهجمون أصحاب الثروة وكان يشعر بأن ما يؤديه للدولة من خدمات يبرر ما تفرضه عليهم ضرائب تبلغ حد مصادرة أموالهم لتعطي
(1)
وأكبر الظن أن هذا النظام الزراعي الذي وصفناه في المتن قد بدأ على نطاق أوسع من هذا النظام حين اسكن أورليوس الأسرى الألمان في ضياع الإمبراطوريّة (172)، وجعل هذه الضياع ملكاً لهم يتوارثونه، مشترطاً عليهم أن يؤدوا له ضريبة سنوية، وخدمة عسكرية إذا طلب إليهم أداءها، وأن يتعهدوا له بأن لا يغادروا هذه الأملاك من غير اذن الدولة. وفرضت هذه الشروط عينها على الجنود الرومان القدامى الذين أقطعوا أرضاً على الحدود وخاصة في ((الأراضي العشورية)) (agri decumates) - على ضفاف الدانوب والرين (21) وانتشر هذا النظام انتشاراً واسعاً في عهد سبتميوس سفيرس، إذ قسم الأراضي التي استولى عليها أجزاء يزرعها مستأجرون يؤدون عنها ضرائب نقداً أو عيناً. وحذا سبتميوس حذو البطالمة، وحذا الملاّك الأفراد حذوه، فبدأ هذا النظام الزراعي بالملوك، ونشأ عنه النظام الإقطاعي الذي قضى على الملكية.
منها هبات لهم. أو أن تنهب أموال الأغنياء نهباً سافراً (24). وتأثرت الصناعة بكساد التجارة ونقصت تجارة الصادر الإيطاليّة حين انتقلت الولايات من عميلات لإيطاليا إلى منافسات لها؛ وجعلت الغارات والقراصنة لطرق التجارة غير مأمونة كما كانت قبل عهد بمبي، وكان انخفاض قيمة العملة وتقلب الأثمان من العوامل غير المشجعة للمشروعات الطويلة الأجل. ولما أصبحت إيطاليا عاجزة عن توسيع حدود الإمبراطوريّة، لم يعد في مقدورها أن تزدهر بأن تمد بالسلع دولة آخذة في الاتساع، أو أن تستغل موارد هذه الدولة. وكانت فيما مضى من الأيام تجمع سبائك الذهب والفضة من البلاد المفتوحة، وتملأ خزائنها بما تنهبه من أموال هذه البلاد؛ أما في الوقت الذي نتحدث عنه فإن النقود كانت تهاجر الولايات الهلنستية الأكثر تصنيعاً من إيطاليا، وأخذت هي تزداد على مر الأيام فقراً، في الوقت الذي كانت فيه ثروة آسية الصغرى المطردة الزيادة تحتم أن تستبدل بروما عاصمة شرقية للإمبراطوريّة. واقتصرت المصنوعات الإيطالية على الأسواق المحلية، ووجد الأهلين أفقر من أن يبتاعوا السلع التي كان في وسعهم أن ينتجوها (25). يضاف إلى هذا أن التجارة الداخلية كان يقف في سبيلها قطاع الطرق، والضرائب المتزايدة، وتلف الطرق لقلة العبيد وأضحت بيوت الأثرياء في الريف تنتج حاجتها من السلع وتكفي نفسها بنفسها، وحلت المقايضة في التجارة محل النقود، كما حلت الحوانيت الصغيرة عاماً بعد عام محل الإنتاج الكبير وكانت تسد حاجة الإنتاج المحلي بنوع خاص.
وزاد الطين بلة كثرة الصعاب المالية، وذلك بأن المعادن الثمينة أخذت تقل شيئاً فشيئاً لأن مناجم الذهب في تراقية ومناجم الفضة في آسية تناقص إنتاجها وكانت داشيا وما فيها من الذهب توشك أن تخرج من يد أورليان. وكانت الفنون والحلي تستنفذ كثيراً من الذهب والفضة. وواجه الأباطرة من سبتيموس سفيرس ومَن جاءوا بعده هذا النقص الشديد في الوقت الذي كانت فيه الحروب
لا تخبو نارها أبداً، فلجئوا أكثر من مرة إلى إنقاص نسبة ما في النقود من ذهب أو فضة لكي يستطيعوا القيام بنفقات الدولة أو حاجات الحروب. فقد كان ما في الدينار من معدن خسيس أيام نيرون عشرة في المائة، وبلغ في عهد كمودس ثلاثين، وفي عهد سبتميوس خمسين، واستبدل به كركلا الأنطوننيانس Antoninianis المحتوي على خمسين في المائة من وزنه فضة؛ وقبل أن يحل عام 260 نقصت نسبة ما فيه من فضة إلى خمسة في المائة (26).
وأصدرت دور السك الحكومية كميات لم يسبق لها مثيل من العملة الرخيصة، وكثيراً ما كانت الدولة ترغم الناس على أن يقبلوا هذه النقود بقيمتها الاسمية، بدل قيمتها الحقيقية، وكانت في الوقت نفسه تأمر بأن تؤدى الضرائب ذهباً أو عيناً (27). وأخذت الأثمان ترتفع ارتفاعاً سريعاً، فزادت في فلسطين إلى ألف في المائة من القرن الأول إلى القرن الثالث (28). وفي مصر لم يعد في مقدور الحكومة وقف تيار التضخم، حتى صار مكيال القمح الذي كان يباع بثمان درخمات في القرن الأول يباع بمائة وعشرين ألف درخمة في أواخر القرن الثالث (29). ولم تصل الحال في الولايات الأخرى مثل هذا الحد، ولكن التضخم في عدد كبير منها خرب بيوت الكثيرين من أهل الطبقة الوسطى وأضاع أموال المواثقات والمؤسسات الخيرية وزعزع قواعد جميع الأعمال المالية، فأحجم الناس عنها، وأضاع جزءاً كبيراً من رؤوس الأموال المستخدمة في التجارة والاستثمار والتي تعتمد عليها حياة الإمبراطوريّة.
ولم يكن الأباطرة الذين جاءوا بعد برتناكس ليسوءهم انعدام طبقة الأشراف وطبقة الملاّك الوسطى على هذا النحو. ذلك بأنهم كانوا يشعرون بحقد طبقة أعضاء مجلس الشيوخ وكبار التجار عليهم بسبب أصلهم الأجنبي، واستبدادهم العسكري، واغتصابهم أموالهم. ولذلك تجددت الحرب بين مجلس الشيوخ والأباطرة وكانت قد خبت نارها من عهد نيرون إلى عهد أورليوس؛ وأقام الأباطرة سلطانهم
قاصدين متعمدين على ولاء الجيش، وصعاليك المُدن، والفلاحين يشترونه بالهبات والأعمال العامة وتوزيع الحبوب عليهم من غير ثمن.
وعانت الإمبراطوريّة من البلاء مثلما عانته إيطاليا وإن نقص عنه بعض الشيء. نعم إن قرطاجنة وشمالي أفريقية البعيدين عن الغزاة، قد ازدهرتا، ولكن مصر اضمحلت بسبب ما حل بها من الخراب الناشئ من تنازع الأحزاب، ومن مذابح كركلا، ومن غزو زنوبيا، ومن فدح الضرائب، ومن السخرة والتراخي في العمل، وما كانت تبتزه روما من الحبوب في كل عام. وكانت آسية الصغرى وسوريا قد قاستا الأمرّين من الغزو والنهب، ولكن صناعاتهما القديمة التي تعودت الصبر على الشدائد لم تقضِ عليها هذه الاضطرابات. وكانت بلاد اليونان، وتراقية، ومقدونية، قد خربها البرابرة، ولم تكن بيزنيطية قد أفاقت من حصار سبتميوس. ولما جاءت الحرب بالحاميات الرومانية وبالمؤن إلى حدود القبائل الألمانية، قامت مدائن جديدة على شواطئ الأنهار - ويانة، وكارلزبرج، وستراسبرج ومينز. وكانت غالة قد اضطرب فيها النظام، وفترت همة أهلها بسبب غزو الألمان لها. ذلك بأنهم نهبوا ستين مدينة من مُدنها، وأخذت الكثرة الغالبة من المُدن والبلدان الأخرى تنكمش داخل أسوارها الجديدة، وتتخلى عن طراز الشوارع العريضة المستقيمة الرومانية التخطيط والطراز، لتحل محلها الأزقة الضيقة غير المستقيمة التي يسهل الدفاع عنها والتي كانت من مميزات العهود القديمة والعصور الوسطى. وحتى في بريطانيا نفسها، كانت رقعة المُدن آخذة في النقصان وكانت بيوت الريف آخذة في الاتساع (30)؛ ذلك بأن حروب الطبقات والضرائب الفادحة بددت الثروة أو اضطرتها إلى الاختفاء في الريف. وقصارى القول أن الإمبراطوريّة بدأت بسكنى المُدن وبالتحضير، وها هي ذي تختتم حياتها بالعودة إلى الريف وبالهمجية.
الفصل الرابع
الوثنية تحتضر
يمكن القول بوجه عام أن الضعف الثقافي سار في إثر الضعف الاقتصادي والسياسي، ولكن حدث في هذه السنين البائسة أن نشأ علم الجبر ذو الرموز، وبرزت أعظم الأسماء في فقه القانون الروماني، وأروع نماذج النقد الأدبي القديم، وطائفة من أفخم المباني الرومانية، وأقدم قصص الحب، وأعظم الفلاسفة الصوفيين.
ويلخص الديوان اليوناني سيرة ديوفانتس Diophantus الإسكندري (250) تلخيصاً جبرياً فكهاً فيقول إن حداثته دامت سدس حياته، وإن لحيته نبتت بعد أن انقضى 1 slash 12 من عمره بعد سن الحداثة، وانه تزوج بعد أن مضى 1 slash 7 آخر من حياته، وإنه رزق بولده بعد خمس سنين أخرى، وإن هذا الولد عاش حتى بلغت سنه نصف سن أبيه، وإن الوالد مات بعد أربع سنين من موت الولد - أي إنه مات في سن الرابعة والثمانين، وأشهر ما بقي من مؤلفاته حتى الآن هو كتابه "الارثماطيقي Arithmatica"(الحساب) - وهو رسالة في الجبر. وفيه حل لمعادلات الدرجة الأولى، والمعادلات التي تؤدي إلى معرفة المجهول، والمعادلات التي لا يكن منها وحدها معرفة المجهول حتى الدرجة السادسة. وقد استخدم حرف سجما sigma اليوناني للدلالة على الكمية المجهولة التي نرمز لها نحن بحرف سين (وفي الانجليزية بحرف X) ، وسمى هذه العلامة أرثمس Arithmos (أي العدد)، واستعمل حروف الهجاء اليونانية للدلالة على الأسس. وكان جبر من نوع ما معرفاً قبل أيامه: فقد اقترح أفلاطون لتدريب عقول الشبان وتسليتهم مسائل متنوعة كتوزيع تفاحة بنسب معينة على عدد
من الأشخاص (32)؛ وأذاع أرخميدس ألغازاً من هذا النوع في القرن الثالث قبل الميلاد، وكان المصريّون واليونانيون يحلون بعض المسائل الهندسية بالطرق الجبرية دون الالتجاء إلى رموز علم الجبر. وأكبر الظن أن ديوفانتس لم يفعل أكثر من تنظيم طرق كان يعرفها معاصروه (33)، وإن مصادفات الزمن هي التي أبقت على أعماله؛ وفي استطاعتنا أن نرجع إليه عن طريق العرب تلك الطريقة الجريئة الغامضة التي تهدف إلى صياغة جميع النسب الكمية في العالم كله في قانون واحد.
وعلا نجم بابنيان، وبولس وألبيان، أعظم الأسماء الثلاثة في القانون الروماني في عهد سبتميوس سفيرس، وكانوا كلهم رؤساء الحرس البريتوري وكانوا بحكم منصبهم هذا رؤساء الوزارة في الدولة؛ وكانوا كلهم يبررون قيام الحكم المطلق بحجة أن الشعب قد عهد لحقوقه في السيادة إلى الإمبراطور، ويمتاز كتابا بانيان الأسئلة Questiones والأجوبة Responsa بوضوحهما، وإنسانيتهما وعدالتهما إلى حد جعل جستنيان يعتمد عليها في كثير من مجموعاته القانونية. ولما قتل كركلا جيتا أمر بابنيان أن يكتب دفاعاً قانونياً عن عمله هذا، فأبى بابنيان وقال إن "قتل الاخوة أسهل من تبرير هذا القتل". فأمر كركلا بقطع رأسه. ونفذ الجنود الأمر فقطع رأسه ببلطة في حضرة الإمبراطور. وواصل دومنيوس البيانس جهود بابنيان القضائية والإنسانية. وسخّر جهوده القضائية للدفاع عن العبيد لأنهم في رأيه أحرار بالفطرة، وعن النساء لأن لهن مثل ما للرجال من الحقوق (34)، وكانت كتاباته في جوهرها تنسيقاً لأعمال مَن سبقوه شأنها في هذا شأن جميع الأعمال الهامة في تاريخ القضاء؛ ولكن أحكامه كانت باتّة جازمة إلى حد أبقي على ما يقرب من ثلثها في ملخص، ويقول عنه لمبرديوس:"لم يبلغ الإمبراطور الإسكندر سفيرس ما بلغه من سمو المنزلة إلا لأنه كان يحكم أكثر ما يحكم وفقاً لنصائح البيان"(35). بيد أن البيان قد عمل على قتل بعض
معارضيه، ومن أجل هذا فإن بعض أعدائه من رجال الحرس قتلوه في عام 288 انتقاماً منهم. وكانت أسباب قتله أقل انطباقاً على القانون من قتل معارضيه ولكنه أدى إلى نفس النتيجة. وشجع دقلديانوس مدارس القانون وأمدها بالمال، وألّف لجاناً لتقنين ما سنّ بعد تراجان من شرائع، وجمعها كلها في القانون الجريجزياني Codex Gregorianus. ثم أتت على فقه القانون سنة من النوم دامت إلى أيام جستنيان.
وسار فن التصوير في القرن الثالث على الأنماط التي كان يسير عليها في بمبي والإسكندرية، والقليل الذي أبقى عليه الزمان فج، كاد الدهر أن يبليه. أما البحث فكان مزدهراً لأن الكثيرين من الأباطرة كانوا يطلبون أن تنحت لهم تماثيل، غير أنه جمد حتى أصبح المنظر الأمامي للشخص المصور بدائي الطراز، ولكن هذا العصر لم يفقه أي عصر بعده فيما أخرجه من صور تدهش الناظر إليها بصدقها وواقعيتها. ومما يدل على فضل كركلا، أو يدل على غباوته، أنه جاز لمثّال أن يصوّره في صورة شخص فظ، أكرث الشعر متجهّم الوجه، وهي الصورة المحفوظة إلى الآن في متحف نابلي. ولدينا تمثالان ضخمان من تماثيل ذلك العصر هما الثور الفرنيزي وهرقول الفرنيزي، وكلاهما مبالغ في حجمه، متوترة عضلاته توتراً غير مستحب، ولكنهما يشهدان بما كان في هذا العصر من إتقان فني لم ينقص قط عن إتقان العصور السابقة. ومما يدل على أن المثالين كانوا لا يزالون قادرين على النمط القديم تلك النقوش البارزة الناطقة بالعفة والطهارة والتي نراها على ثالوث الاسكندر سفيرس وهي ثالوث لدوفيزي. غير أن النقش الذي على قوس سبتميوس سفيرس في روما ليس فيه شيء مما يمتاز به الفن الأنكي من بساطة وظرف، بل يتصف بالخشونة والقوة الواضحتين اللتين تكادان تنبئان بعودة البربرية إلى إيطاليا.
وسار فن العمارة بالنزعة الرومانية التي ترى السمو في ضخامة الحجم إلى أقصى
حد. فأقام سبتميوس على تل البلاتين آخر ما أقيم عليه من القصور الإمبراطوريّة وضم إليها جناحا جهة الشرق يعلو في الجو سبعة طباق - وهو المعروف بالسبتزينيوم Septizonium. وقدمت جوليا دمنا ما يلزم من المال لإنشاء إيوان فستا، وإقامة هيكل فستا الصغير الذي لا يزال باقياً في السوق العامة. وشاد كركلا لسربيس زوج إيزيس ضريحاً ضخماً احتفظ الزمان بقطع جميلة منه إلى اليوم. ومن أعظم خرائب العالم روعة حمّامات كركلا التي تم بناؤها في عهد الاسكندر سفيرس. نعم إنها لم تضف شيئاً جديداً إلى هندسة البناء، لأنها تسير في جوهرها على طراز حمّامات طراجان، وكان البناء الضخم القائم يعبر أحسن تعبير عن صاحبها قاتل جيتا وبابنيان. وكان بناؤها الرئيسي المكون من الآجر والإسمنت المسلح يشغل 270. 000 قدم مربعة - أي أكبر من مسطح مجلس البرلمان الإنجليزي وبهو وستمنستر مجتمعين. وكان درج حلزونية تؤدي إلى أعلى الجدران. وهناك جلس شلى وكتب قصيدة برمثيوس الطليق. وكان بداخل الحمّامات عدد كبير من التماثيل، ويحمل سقفها 200 عمود منحوتة من الحجر الأعبل والمرمر، والحجر السماقي، وكانت أرض الحمّامات وجدرانها المبنية من الرخام مطعمة بمناظر من الفسيفساء، وكان الماء يصب من أفواه ضخمة من الفضة في برك وأحواض تتسع لاستحمام 1600 شخص في وقت واحد. وأنشأ جلينس وديسيوس حمّامات مماثلة لهما، وفي هذه الحمّامات الأخيرة أقام المهندسون الرومان قبة مستديرة فوق بناء ضخم ذي عشرة أضلاع متساوية وسندوها بدعامات عند زوايا البناء ذي العشر الأضلاع. وهي وسيلة لم تكن تستعمل إلا قليلاً قبل ذلك الوقت ولكنها أصبحت كثيرة الاستعمال في المستقبل. وفي عام 295 شرع مكسميان في بناء الحمّام الحار الذي كان أضخم الحمّامات الإمبراطوريّة الحارة الأحد عشر، وسمّاه حمّامات دقلديانوس، وهو تواضع منه لم يكن معروفاً في وقته. وقد أعد لأن يستحم فيه 3600 شخص. وكان به فوق
ذلك مدارس للتدريب الرياضي، وأبهاء للحفلات الموسيقية، وقاعات للمحاضرات: وأنشأ ميكل أنجلو من حجرة واحدة من هذا الحمّام كنيسة سانتا ماريا دجلى أنجيلى Santa Maria degli Angeli وهي أكبر كنيسة في إيطاليا بعد كنيسة القدّيس بطرس. وأنشأت في الولايات مبان لا تفوقها في ضخامتها إلا العمائر السالفة الذكر، وأقام دقلديانوس نفسه كثيراً من المباني في نيقوميديا، والاسكندرية، وإنطاكية. وزين مكسميان ميلان وزين جليريوس سرميوم وجمل قسطنطينيوس تريف Treves.
وكان الأدب أقل ازدهاراً من العمارة، لأنه قلما كان في مقدوره أن يصل إلى الثروة التي تجمعت في أيدي الأباطرة. ومع هذا فقد زاد عدد دور الكتب ووسعها، وكان لطبيب من أطباء القرن الثالث مجموعة تبلغ 62. 000 مجلّد، واشتهرت مكتبة البيان بما فيها من المحفوظات التاريخية؛ وبعث دقلديانوس بالعلماء إلى الإسكندرية لينسخوا ما فيها من المخطوطات الأدبية اليونانية والرومانية القديمة، ويأتوا بنسخ منها إلى مكتبات رومة. وكان العلماء كثيري العدد محببين إلى الأهلين، وقد أشاد فيلوستراتس بذكرهم في كتابه حياة السوفسطائيين؛ وواصل برفيري عمل أفلوطين، وهاجم المسيحية، وأهاب بالعالم أن يقتصر على أكل الخضر، وحاول أيمبليكس Iamblicus أن يوفق بين الأفلاطونية ومبادئ الديانة الوثنية، وأفلح في ذلك إلى حد استطاع معه أن يوحي بآرائه إلى الإمبراطور جوليان. وجمع ديجين ليرتبوس سير الفلاسفة وأراءهم في مقتطفات وقصص رائعة فاتنة، وبعد أن التهم أثينيوس النقراطيسي Athenaeus of Naucratis كل ما في مكاتب الإسكندرية أفرغ كل ما جمعه في كتابه المعروف سوفسطائيي مائدة الغداء وهو حوار ممل في الأطعمة، ومرق التوابل، والعاهرات، والفلاسفة والمفردات اللغوية، يخفف من ملله ما تجده في بعض أجزائه من كشف عن عادة قديمة، أو ذكرى عظيم، وكتب لنجينس، وهو كاتب من بلميريا في أغلب
الظن، رسالة لطيفة في "السمو" قال فيها أن اللذة الخاصة التي يبعثها الأدب في الإنسان، منشؤها أنها "تسمو" بالقارئ عن طريق الفصاحة التي يستمدها الكاتب من قوة اقتناعه، وإخلاصه ووفائه لأخلاقه
(1)
. وشرع ديوكاسيوس ككيانس من أهل نيقية بيثينيا يكتب تاريخ روما (210؟) وهو في سن الخامسة والخمسين بعد أن قضى حياته يتقلب في مناصب الدولة. وأتم هذا الكتب في الرابعة والسبعين وقص فيه تاريخ المدينة من روميولوس إلى أيامه ولم يبقَ من هذا الكتاب إلا أقل من نصف أسفاره الثمانين، ولكن هذه الأسفار الباقية تشمل ثمانين مجلداً ضخماً. ويمتاز هذا العمل باتساع نطاقه أكثر مما يمتاز بعلو صفاته، وفيه قصص واضحة حية، وخطب مبينة، واستطرادات فلسفية ليست سخيفة المعنى رثّة العبارات مستمسكة بالقديم، ولكن النبوءات والنذر تفسد الكتاب كما تفسد كتاب ليفي، وهو مثل كتاب ناستس وصف مطول لمعارضة مجلس الشيوخ؛ وهو كجميع كتب التاريخ الرومانية يعنى أكثر ما يعنى بتقلبات السياسة والحرب كأن الحياة لم تكن في ألف عام إلا ضرائب وموت.
وأهم من هؤلاء الرجال الكرام في نظر مؤرخ العقل هو ظهور الرواية الغرامية في هذا القرن. وقد سبقها إعداد طويل تدرج من القبروبيديا لزنزفزن، إلى القصائد الغزلية لكلماكس، إلى القصص الخرافية التي تجمعت حول الاسكندر، "والحكايات الميليثية" التي يرويها أوستيديز وغيره في القرن الثاني قبل الميلاد وما تلا ذلك القرن من أجيال. وقد اعجب بهذه القصص
(1)
تعزو اقدم المخطوطات هذا المقال مرة إلى ((دينونيسيوس لنجينس)) ومرة أخرى إلى ((ديونيسيوس أولنجينس))، ولا تذكر شيئاً غير هذا يستدل به على شخصية كاتبه. ولسنا نعرف أديباً يدعى لنجينس في التاريخ القديم إلا كاسيوس لنجينس كبير وزراء زنوبيا. وقد اشتهر في جميع أنحاء الإمبراطوريّة بغزارة علمه حتى لقد سمته يونابيوس Unapius ((مكتبة حية)). ووصفه برفيري ((بأنه زعيم النقاد)) (36).
التي تروي أخبار المغامرات والحب جمهرة الأيونيين اليونان بتقاليدهم، الشرقيين بمزاجهم، ولعلهم وقتئذ قد أصبحوا شرقيين بدمائهم. وتطورت الرواية المنمقة تطورات شتى على ايدي بترونيوس في رومة وأبوليوس في أفريقية، ولوشيان في بلاد اليونان، وأيمبليكس في سوريا، ولم تكن في بادئ الأمر تعنى بالحب عناية خاصة، حتى إذا كان القرن الأول بعد الميلاد امتزجت رواية المغامرات برواية الحب، ولعل هذا الامتزاج كان استجابة منهما لزيادة عدد القارئات من النساء.
وأقدم الأمثلة الباقية من هذه الروايات هي "الأثيوبكا Aethiopica" أو القصص المصرية التي كتبها هليودورس الحمصي، وقد ثار الجدل الكثير حول تاريخ هذه القصص، ولكن في وسعنا أن نعزوها إلى القرن الثالث، وتبدأ بأسلوب خلع عليه قدم العهد ثوباً من الجلال:
"أفتر ثغر النهار عن بسمات البهجة، وأرسلت الشمس أشعتها فأنارت قلل التلال، حين وقف جماعة الرجال يبدو من أسلحتهم وظهرهم أنهم قراصنة، وأخذوا ينظرون إلى البحر بعد أن صعدوا إلى قمة أحد المنحدرات المطل على مصب النيل الهرقليوتي. ولكنهم لم يجدوا هناك شراع سفينة يبشرهم بالغنيمة فوجهوا أبصارهم نحو الشاطئ الممتد من تحتهم، وكان هذا هو الذي رأوه (37).
ونلتقي على حين غفلة بثياجينس Theagenes الشاب الغني الوسيم وبالأميرة كركليا Chsriclea الجميلة الباكية. وكان القراصنة قد قبضوا عليهما، وحلت بهما كثير من ضروب الشدائد المختلفة، من سوء التفاهم، والوقائع الحربية، والقتل واللقاء، تكفي لأن تكون مادة لجميع والقصص التي تصدر في فصل من فصول السنة في هذه الأيام. وتختلف هذه القصة عن قصص بترونيوس وأبوليوس في أن عفة العذارى في رواته هليودورس مسألة غير ذات خطر كبير، ويمر عليها القارئ بسرعة، بينما هي عند بترونيوس وأبوليوس جوهر القصة ومحورها الذي تدور عليه
فترى هليودورس يحافظ على عفة كركليز وينجيها من عشرات الأخطار ويدبج عدداً من العضات القوية المقنعة في جمال الفضيلة النسوية ووجوب المحافظة عليها. ولعلنا نجد هنا شيئاً من تأثير المسيحية؛ بل إن الرواية المتواترة تجعل مؤلف القصة أسقف سالونيكي المسيحي فيما بعد. ولقد كانت الأثيوبكا، على غير علم أو قصد من مؤلفها، منشأ عدد لا يحصى من الروايات التي نسجت على منوالها؛ فلقد كانت هي أنموذج قصة سرفنتيز Cervontes المسماة Pesileey Sigismunda وقصة كورندا في رواية إنقاذ أورشليم لتاسو، وقصص السيدة ده اسكوديري Mme de Scudery. ففي هذه الرواية نجد جريمة الحب، ودلائله، والتوجع والإغماء، والخاتمة السعيدة التي نجدها في مئات الآلاف من القصص الممتعة؛ وهنا نجد رواية كلارسا هارلو Clarissa Harlowe قبل كاتبها ردشردسن Richardson بألف وخمسمائة عام.
وأشهر قصص الحب جميعها في النثر القديم قصة دفنيس وكلوني Daphnis and Chloe. ولسنا نعرف عن مؤلفها إلا اسمه لنجس Longus، كما اننا نظن مجرد ظن أنها ألقت في القرن الثالث بعد الميلاد. وتقول إن دفنيس عرض لتقلبات الجو القاسية وقت مولده، وإن راعياً أنقذه وعنى بتربيته وإنه أصبح هو الآخر راعياً. وفي القصة فقرات رائعة في وصف الريف توحي بأن لنجس كشف ما فيه من جمال بعد طول مقامه في المدينة، كما كشفه الشاعر ثيو كريتس الذي نسج هو على منواله. ويحب دفنيس فتاة حسناء أنقذت هي الأخرى بعد أن عرضت للجو القاسي في طفولتها. ويرعى الفتى والفتاة قطعانهما وتتوثق بينهما عرى الصداقة والألفة، ويستحمّان معاً وهما عريانين في طهر وبراءة، ويقبل كلهما الآخر أول قبلة يسكران منها. ويشرح لهما جارسنج نشوة حبهما، ويصف لهما ما لاقاه في أيام شبابه من آلام العشق فيقول: "لم أكن أفكر في طعامي،
ولم أكن أذوق طعم الراحة، وهجر الكرا عيني، وأمضني الحزن، وأسرعت ضربات قلبي، وأحست أطرافي ببرودة الموتى (28). ويعرفهما أبواهما، وكان وقتئذ من أغنياء الناس، ويهبانهما الكثير من المال، ولكنهما لا يعبآن بالثراء، ويعودان إلى حياة الرعي المتواضعة. والقصة مكتوبة ببساطة الفن الجميل المصقول وقد ترجمها أميو Amyot إلى اللغة الفرنسية السلسلة المطواعة (1559) فكانت هذه الترجمة هي المثال الذي احتذاه سان بيير في بول وفيرجينيا كما أوحت بما لا يحصى من الرسوم والقصائد والقطع الموسيقية.
وشبيه بها قصيدة من الشعر تعرف باسم أمسية فينوس. ولا يعرف أحد اسم منشئها أو متى أنشأها، وأغلب الظن أنها من شعر ذلك القرن نفسه (39) وموضوعها هو موضوع خطب لكريشيوس التي تمتاز بما فيها من التفات، ورواية لنجس الغرامية - وخلاصتها أن ربة الحب تلهب قلوب جميع الأحياء بالرغبة الجامحة، وأنها لهذا السبب هي خالقة العالم الحقة!
غداً سيحب مَن لم يطف به طائف الحب،
غداً سيحب مَن ذاق قبل طعم الحب،
لقد أقبل الربيع النظر، أخذ يغني غناء الحب،
وولدت الدنيا من جديد، وها هو ذا حب الربيع،
يدفع كل طير إلى قرينه، وها هي ذي الغابات المترقبة
تنثر غدائرها لتستقبل شآبيب الربيع،
غداً سيحب مَن لم يطف به طائف الحب،
وسيحب مَن ذاق قبل طعم الحب،
وعلى هذا النحو يسترسل الكاتب في شعره العذب الصافي، ويجد الحب في المطر المخصب وفي أشكال الزهر، وفي أهازيج الأعياد البهجة، وفي التجارب
الصعبة التي يعانيها الشباب المشتاق، وفي مواعيد اللقاء الوجلة، وسط الغابات، وبعد كل مقطوعة يتردد الوعد القوي الجامع:"غداً سيحب مَن لم يطف به طائف الحب، وسيحب مَن ذاق قبل طعم الحب". وإنا لنجد هنا في آخر القصائد الغنائية الكبرى التي تغنت بها الروح الوثنية الوزن الشعري لترانيم العصور التي تستبق أنغام شعراء الفروسية الغرليين بعدة قرون.
الفصل الخامس
الملكية الشرقية
لما مات كلوديوس الثاني أثناء انتشار وباء كان يفتك بالقوط والرومان على السواء (270) اختار الجيش خليفة له ابن فلاح إليراي. وكان دومتيوس أورليانس Domitius Aurelianus قد ارتفع من أوطأ الطبقات بقوة الجسم والإرادة؛ وقد لقبوه من قبيل السخرية "يد على سيف" وكان مما يشهد بعودة العقل إلى الجيش أنه اختار رجلاً يطلب عند غيره من النظام ما يطلبه عند نفسه.
وبفضل قيادته صد أعداء روما عن حدودها في كل مكان عدا نهر الدانوب، فهناك نزل أورليان عن داشيا للقوط لعلهم بذلك يقفون حاجزاً بين الإمبراطوريّة وبين غيرهم من البرابرة. ولعل هذا الاستسلام قد شجع الألمان والوندال على غزو إيطاليا، ولكن أورليان انتصر عليهم في ثلاث معارك وشتت شملهم. وكان يفكر في القيام بحملات حربية على أجزاء قاصية، ويخشى أن يهاجم الأعداء روما في أثناء غيابه، فأقنع مجلس الشيوخ بأن يوافق على صرف المال اللازم لبناء أسوار جديدة حول العاصمة، كما أقنع النقابات الطائفية بأن تقوم بهذا العمل وأخذت المُدن في جميع أنحاء الإمبراطوريّة تشيد الأسوار حولها، وكان قيامها بهذا العمل شاهداً على ضعف قوة الرومان وخاتمة السلم الرومانية.
ورأى أورليان أن الهجوم أفضل من الدفاع، ولذلك اعتزم أن يعيد مجد الإمبراطوريّة بالهجوم على زنوبيا في الشرق، ثم على تتريكس Tetricus الذي اغتصب السيادة على غالة بعد بستيوس. واسترد بروبس Probus قائد أورليان مصر من ابن زنوبيا في الوقت الذي كان هو نفسه يخترق بجيوشه بلاد البلقان،
ويعبر الهلسبنت، ويهزم جيش هذه الملكة في حمص ويحاصر عاصمتها. وحاولت الملكة أن تفر، وتستنجد بالفرس ولكنها أسرت، واستسلمت المدينة ونجت من التدمير، ولكن لنجينس قُتل (272). وبينما كان الإمبراطور عائداً على رأس جيشه إلى الهلسبنت، ثارت تَدْمُر وقتلت الحامية التي تركها فيها. فعاد إليها مسرعاً كسرعة قصير، وحاصر المدينة مرة أخرى واستولى عليها بعد قليل من الوقت، وأباحها الجنود يسلبون ويعيثون فيها فساداً، ودك أسوارها، وقضى مرة أخرى على تجارتها، وتركها تعود قرية صحراوية، وهكذا ظلت من ذلك الحين إلى الوقت الحاضر. وسارت زنوبيا مكبلة بالأغلال تزين موكب أورليان وهو داخل منتصر إلى رومة؛ وسمح لها بأن تقضي البقية الباقية من عمرها حرة إلى حد ما في تيبور
(1)
.
وفي عام 274 هزم أورليان تتريكس عند شالون Chalons وعاد بعدئذ إلى غالة. واغتبطت روما بعودة سيادتها إليها فرحبت بالقائد الظافر ولقبته "مرجع العالم" restittor orbis. ثم وجه عنايته إلى واجبات السلم، فأعاد إلى الإمبراطوريّة سيئاً من النظام الاقتصادي بإصلاح النقد الروماني، وأعاد تنظيم الأداة الحكومية بأن طبق عليها نفس النظام الصارم الذي رد به الحياة إلى الجيش. وكان يعزو بعض ما تعانيه روما من الفوضى الأخلاقية والسياسية إلى تعدد الأديان والمذاهب فيها ويسعى لأن يوحد الأديان القديمة والجديدة ويوجهها إلى عبادة إله واحد هو إله الشمس، والإمبراطور نائبه في الأرض ولما أظهر الجيش ومجلس الشيوخ تشككهما، أبلغهما أن الله، لا اختيارهما، هو الذي جعله إمبراطوراً. وأنشأ في روما هيكلاً للشمس رائع الجمال، كان يرجو أن يمتزج فيه بعل حمص وإله المثراسية. وكانت الملكية المطلقة والتوحد تسيران
(1)
أنظر الرسالتين المتبادلتين بين زنوبيا وأورليان في الجزء الأول من كتابنا ((أشهر الرسائل العالمية)) (المترجم)
وقتئذ جنباً إلى جنب، وكانت كلتاهما تسعى لأن تستعين بالأخرى؛ وكانت سياسة أورليان الدينية توصي بأن قوة الدولة آخذة في الاضمحلال، وأن قوة الدين آخذة في الارتفاع، وقد أصبح الملوك وقتئذ ملوكاً بنعمة الله. وكانت هذه هي فكرة الشرقيين عن الحكومة وهي فكرة وجدت في مصر، وبلاد الفرس، وسوريا؛ فلما قبلها أورليان عجل التيار الذي كان يحول الملكية إلى حكومة شرقية، وهو التيار الذي بدأ من عهد إلجابالس وانتهى عن دقلديانوس وقسطنطين.
وبينما كان أورليان يقود جيشاً مخترقاً به تراقية ليحسم الأمر بينه وبين فارس إذ اغتاله في عام 275 جماعة من ضباطه لأنهم خدعوا فظنوا أنه ينوي إعدامهم. وارتاع الجيش لكثرة ما ارتكبه هو نفسه من الجرائم فطلب إلى مجلس الشيوخ أن يختار مَن يخلف الإمبراطور القتيل؛ ولم يكن أحد يرغب في هذا الشرف الذي ينذر بالقتل على الدوام؛ وانتهى الأمر بأن رضي به تاستس لأنه كان وقتئذ في الخامسة والسبعين من عمره. وكان تاستس هذا يدعي أنه من نسل المؤرخ المسمى بهذا الاسم، وكانت تتمثل فيه جميع الفضائل التي كان ينادي بها ذلك الكاتب الموجز المتشائم؛ لكنه قضى نحبه من فرط الأعياء بعد ستة أشهر من جلوسه على العرش، وندم الجند على ندمهم، فعادوا إلى الاستئثار بالسلطة ونادوا بِبروبس Probus إمبراطوراً (276).
وكان ذلك اختياراً موفقاً، كما كان بروبس خليقاً باسمه
(1)
لأنه كان يمتاز بالشجاعة والاستقامة. فقد طرد الألمان من غالة، وطهر إليركم Illyricum من الوندال، وشاد سوراً بين الرين والدانوب، وأرهب الفرس بكلمة منه، واستمتعت الإمبراطوريّة كلها في أيامه بالسلم؛ وسرعان ما عاهد شعبه على ألا تكون في البلاد أسلحة، ولا جيوش، ولا حروب، وعلى أن يعم الأرض كلها حكم القانون.
(1)
يشير الكاتب إلى أن معنى الكلمة اللاتينية Probus هو طيب أو صالح. (المترجم)
وبدأ هذه الطوبى بأن أرغم جنوده على أن يصلحوا الأراضي البور، ويجففوا المستنقعات ويغرسوا الكروم، ويقوموا بضروب أخرى من الأعمال العامة. واستاء الجيش من هذا التسامي الذي لم يكن له به عهد، فاغتاله (283)، وحزن عليه؛ وأقام نصباً تذكارياً له.
ونادى برجل يدعى ديوقليز Diocles ابن معتوق دلماشي إمبراطوراً على الدولة. وكان ديوقليشيان أو دقلديانوس - وهو الاسم الذي اختاره بعد ذلك لنفسه - قد ارتقى بمواهبه الفذة ومبادئه الأخلاقية المرنة حتى عين، وحاكما في بعض الولايات، وقائداً لحرس القصر. وكان رجلاً عبقرياً أكثر دراية بشئون الحكم منه بالحرب. وقد جلس على العرش بعد عهد من الفوضى أشد من الفوضى التي عمت البلاد من أيام ابني جراكس إلى أيام أنطونيوس، ولكنه هدأ كل الأحزاب الثائرة المتنافرة، وصد الأعداء عن جميع الحدود، وبسط سلطان الحكومة وقواه، وأقام حكمه على تأييد الدين ورضاء رجاله. وكان ثالث ثلاثة تدين لهم الإمبراطوريّة بالشيء الكثير - أغسطس وأورليان؛ ودقلديانوس. وأما أغسطس فقد أنشأها، وأما أورليان فقد أنقذها، وأما دقلديانوس فقد نظمها تنظيماً جديداً.
وكان أول قراراته الحاسمة قراراً كشف عن المستور من أحوال الدولة وعن أفول نجم رومة، فقد هجر المدينة ولم يتخذها عاصمة لملكه، واتخذ مقامه في نيقوميديا وهي مدينة في آسية الصغرى تبعد عن بيزنطية بقليل من الأميال جهة الجنوب، وظل مجلس الشيوخ يعقد جلساته في روما كما كان يعقدها قبل، وظل القناصل يقومون بمراسمهم المألوفة، وظلت الألعاب الصاخبة تدور كسابق عهدها والشوارع تموج بمن فيها من الناس على اختلاف أجناسهم؛ ولكن السلطة والقيادة قد انتقلتا من هذه المدينة التي أضحت مركز الانحلال الاقتصادي والأخلاقي. وكان الذي دفع دقلديانوس إلى هذا العمل هو الضرورة الحربية. ذلك أنه كان لا بد
من الدفاع عن أوربا وآسية، ولم يكن الدفاع عنهما مستطاعاً من مدينة في جنوب جبال الألب وتبعد عن تلك الجبال هذا البعد الشاسع. ولهذا أشرك معه في الحكم قائداً محنكاً يدعى مكسميان (286)، وعهد إليه الدفاع عن الغرب؛ ولم يتخذ مكسميان روما عاصمة له بل اتخذ بدلاً منها مدينة ميلان. وبعد ست سنين من ذلك العام اتخذ كلا الأغسطسين Augusyi " قيصراً" ليساعده في أعباء الحكم وليكون خليفة له من بعده. فاختار دبوقليشان جليريوس Galerius واتخذ هذا عاصمته مدينة سرميوم Sirmium وهي متروفيكا Mitrovica على نهر الساف Save، وعهد إليه حكم ولايات الدانوب؛ وعين مكسميان قنسطنطيوس طلورس Constantius Chlorus (الأصغر) خلفاً له. واتخذ هذا حاضرته مدينة أوغسطا ترفرورم Augusta Trevirorum (تريف Treves) . وتعهد كل أغسطس أن يعتزل الملك بعد عشرين عاماً ليخلفه قيصره؛ وكان من حق هذا القيصر أن يعين هو الآخر "قيصراً" يعاونه ويخلفه. وزوج كل أغسطس ابنته "بقيصره" فأضاف بذلك رابطة الدم إلى رابطة القانون. وكان دقلديانوس يرجو بذلك أن يسد الطريق على حروب الوراثة، وأن يعيد إلى الحكومة استقرارها ودوامها، وسلطانها، وأن تكون الإمبراطوريّة متأهبة لملاقاة الأخطار في أربع نقاط هامة، سواء أكانت هذه الأخطار ناشئة من الثورات الداخلية، أم من الغزو الخارجي. لقد كان تنظيماً باهراً، جمع كل الفضائل إذا استثنينا فضيلتي الوحدة والحرية. فقد انقسمت الملكية، ولكنها كانت ملكية مطلقة، وكان كل قانون يصدره كل حاكم من الحكام الأربعة يصدر باسمهم جميعا، ويطبق في أنحاء الدولة، وكان قرار الحكام يصبح قانوناً ساعة صدوره، من غير حاجة إلى تصديق مجلس الشيوخ في روما. وكان الحكام هم الذين يعينون جميع موظفي الدولة، ومدت أداة بيروقراطية ضخمة فروعها في جميع أنحاء الدولة. وأراد دقلديانوس أن يزيد
من قوة هذا النظم فحول عبادة عبقرية الإمبراطور إلى عبادة شخصه بوصفه تجسيداً لجوبتر، وتواضع لكسمليان فرضي أن يكون هو هرقول؛ وهكذا هبطت الحكمة والقوة من السماء لتعيدا النظام والسلم إلى الأرض، واتخذ دقلديانوس لنفسه تاجاً - عصّابة عريضة مرصعة باللآلئ - وأثواباً من الحرير والذهب؛ وأحذية مرصعة بالحجارة الكريمة، وابتعد عن أعين الناس في قصره، وحتم على زائريه أن يمروا بين صفين من خصيان التشريفات والحجاب وأمناء القصر ذوي الألقاب والرتب، وأن يركعوا ويقبلوا أطراف ثيابه. لقد كان في الحق رجلاً يعرف العالم حق المعرفة. وما من شك في أنه كان يضحك في السر من هذه الخرافات والأشكال ولكن عرشه كان يعوزه ما يخلعه الزمان عليه من شرعية، وكان يأمل أن يدعمه وأن يقمع اضطراب العامة وعصيان الجيش بأن يخلع على نفسه مظاهر الألوهية والرهبة. وفي ذلك يقول أورليوس فكتور:"واتخذ لنفسه لقب السيد Dominus، ولكنه كان يسير في الناس سيرة الأب"(40) وكان معنى إقامة هذا الطراز الشرقي من الحكم الاستبدادي على يد ابن عبد رقيق، وهذا الجمع بين الإله والملك في شخص واحد، كان معنى هذا عجز الأنظمة الجمهورية في العهود القديمة، والتخلي عن ثمار معركة مرثون، والعودة إلى مظاهر بلاط الملوك الإكيمنيين، والمصريين، والبطالمة، والبارثيين، والملوك الساسانيين، وإلى النظريات التي كان يقوم عليها حكم هؤلاء الملوك كما عاد الاسكندر إليها من قبل. ومن هذه الملكية الشرقية الصبغة جاء نظام الملكيات البيزنطية والأوربية، وهو النظام الذي طل قائماً إلى أيام الثورة الفرنسية. ولم يبقَ بعد هذا إلا أن يتحالف الملك الشرقي في عاصمة شرقية مع دين شرقي. ولقد بدأت الخواص البيزنطية في الظهور أيام دقلديانوس.
الفصل السادس
اشتراكية دقلديانوس
وسار دقلديانوس في عمله بنشاط لا يقل عن نشاط قيصر، فأخذ يعيد تنظيم كل فرع من فروع الإدارة الحكومية. وبدل أحوال الأشراف بأن رفع إلى طبقتهم كثيرين من الموظفين المدنيين أو العسكريين، وبأن جعلها طبقة وراثية ذات مراتب مختلفة على النظام الشرقي، وألقاب كثيرة، ومراسم معقدة متعددة. وقسم هو وزملاؤه الإمبراطوريّة إلى ست وتسعين ولاية تتألف منها اثنتان وسبعون أبرشية، وأربع مقاطعات، وعين لكل قسم حاكم مدني وآخر عسكري، وأصبحت الدولة بذلك ذات حكومة مركزية صريحة، ترى أن الاستقلال الذاتي المحلي، وأن الديمقراطية نفسها، ترف لا يصلح إلا لأوقات الأمن والسلم، وتبرر سلطانها المطلق بحاجات الحرب القائمة أو المتوقعة. ودارت رحى الحرب في تلك الأيام فعلاً وأحرزت الدولة فيها انتصارات باهرة؛ فاستعاد قنسطنطيوس بريطانيا التي ثارت عليه، وأوقع جليريوس بالفرس هزيمة منكرة حاسمة أسلموا بعدها أرض النهرين وخمس ولايات وراء نهر دجلة، وصد أعداء رومت عن حدودها جيلاً من الزمان.
وواجه دقلديانوس وأعوانه في زمن السلم المشاكل الناشئة من الانحلال الاقتصادي، فأحل محل قانون العرض والطلب نظاماً اقتصادياً تسيطر عليه الدولة ليتغلب بذلك على الكساد ويمنع نشوب الثورات (41). ووضع نظاماً نقدياً سليماً بأن عين للعملة الذهبية وزناً وعياراً محددين، احتفظت بهما الإمبراطوريّة الشرقية حتى عام 1453، ووزع الطعام على الفقراء بنص ثمنه في السوق
أو بغير ثمن على الإطلاق، وشرع يقيم كثيراً من المنشآت العامة ليوجد بذلك عملاً للمتعطلين (42)، ووضع عدداً كبيراً من فروع الصناعة والتجارة تحت سيطرة الدولة ليضمن بذلك حاجات المُدن والجيش؛ وبدأ هذه السيطرة الكاملة باستيراد الحبوب فأقنع أصحاب السفن والتجار والبحارة المشتغلين بهذه التجارة أن يقبلوا أشراف الدولة عليها نظير ضمان الحكومة لعدم تعطلهم ولأرباحهم (43). وكانت الدولة من زمن قديم تمتلك معظم مقالع الحجارة، ورواسب الملح، والمناجم، ولكنها خطت في ذلك الوقت خطوة أخرى فحرمت تصدير الملح، والحديد، والذهب، والخمر، والحبوب، والزيت، من إيطاليا، وفرضت نظاماً دقيقاً صارماً على استيراد هذه المواد (44). ثم انتقلت بعد ذلك إلى السيطرة على المؤسسات الصناعية التي تنتج حاجيات الجيش، وموظفي الدولة وبلاط الأباطرة، وحتمت على مصانع الذخيرة، والنسيج، والمخابز ألا يقل إنتاجها عن قدر معين، واشترت هذا القدر بالأثمان التي حددتها هي له، وألقت على جمعيات الصناع تبعات تنفيذ أوامرها ومواصفات منتجاتها، فإذا تبينت أن هذه الخطة لم تؤدِ إلى الغرض المقصود منها أممت هذه المصانع، وجهزتها بعمال فرضت عليهم أن يعملوا فيها (45). وبهذا وضعت الكثرة الغالبة من المؤسسات الصناعية والنقابات الطائفية في إيطاليا شيئاً فشيئاً تحت سيطرة الدولة المتحدة في عهد أورليان ودقلديانوس. وخضع القصابون والخبازون، والبناءون، وصناع الزجاج، والحديد، والحفارون خضع هؤلاء جميعاً لنظم مفصلة وضعتها لهم الحكومة (46). ويقول رستوفتزف Rostovizeff إن الهيئات الصناعية المختلفة كانت أشبه بمراقبات صغرى على مؤسساتها تقوم بهذا العمل نيابة عن الدولة وكانت أشبه بهذه المراقبات منها بمالكة المؤسسات. وكانت خاضعة لسلطان موظفي المصالح الحكومية المختلفة، ولقواد الوحدات العسكرية المتباينة (47).
وحصلت جمعيات التجار والصناع من الحكومة على مزايا كثير متنوعة،
وكثيراً ما كانت تؤثر تأثيراً كبيراً في خططها؛ وكانت في نظير هذه المزايا وهذا التأثير تعمل كأنها أعضاء في الإدارة القومية، فكانت تساعد الحكومة على وسائل من الإشراف الحكومي شبيهة بهذه الوسائل في القرن الثالث وأوائل القرن الرابع إلى مصانع الأسلحة القائمة في الولايات، وإلى صناعة الأطعمة والملابس. وفي ذلك يقول بول-لوي Paul Louis: " وكان كل ولاية رقيب خاص يشرف على نواحي النشاط الصناعي، وأصبحت الدولة في كل مدينة كبيرة صاحب عمل وذات قوة كبيرة
…
تسيطر على جميع المصانع الخاصة التي كانت ترزح تحت أعباء الضرائب الفادحة" (49).
ولم يكن مستطاعاً أن يسيطر هذا النظام إلا إذا سيطرت الدولة على أثمان السلع، ولهذا أصدر دقلديانوس وزملاؤه في عام 301 قانون الأثمان الذي حددت به أقل الأثمان والإجور التي يجيزها القانون لجميع السلع أو الخدمات العامة في جميع أنحاء الإمبراطوري. وهاجم القرار في مقدمته الاحتكارات التي منعت البضائع من السوق في الوقت الذي "قلت فيه السلع" لكي ترتفع أثمانها.
"ومَن ذا الذي
…
خلا قلبه من العاطفة الإنسانية فلا يرى أن ارتفاع الأسعار ظاهرة عامة في أسواق مُدننا، وأن شهوة الكسب لا يحد منها وفرة السلع ولا أعوام الرخاء؟ - ولهذا
…
يرى أشرار الناس أنهم يخسرون إذا ما توافرت الحاجات
…
إن من الناس مَن يجعلون همهم الوقوف في وجه الرخاء العام
…
والجري وراء الأرباح الباهظة القاتلة
…
لقد عم الشره جميع الجشعون الأثمان، ولم يكتفوا بالحصول على سبعة أضعاف الثمن المعتاد أو ثمانية أضعافه، بل زادوه إلى الحد الذي تعجز الألفاظ عن وصفه، حتى لقد يضطر
الجندي إلى دفه مرتبه كله وإعانة الحرب في شراء سلعة واحدة، وبذلك يذهب كل ما يقدمه العالم كله لإمداد الجيش بحاجته في جيوب أولئك اللصوص الجشعين
(1)
.
ولقد ظل هذا المرسوم حتى وقتنا الحاضر أعظم محاولة في التاريخ كله لاستبدال القرارات الحكومية بالقوانين الاقتصادية. ولكن التجربة أخفقت إخفاقاً عاجلاً كاملاً، فقد أخفى التجار ما عندهم من السلع وشحت البضائع أكثر من ذي قبل، واتهم دقلديانوس نفسه بالتغاضي عن ارتفاع الأسعار (52). وحدثت عدة اضطرابات؛ واضطرت الحكومة إلى التراخي في تطبيق المرسوم لإعادة الإنتاج والتوزيع إلى حالتهما الطبيعية (53)، وانتهى الأمر بإلغائه على يد قسطنطين.
وكانت علة ضعف هذا النظام الاقتصادي الخاضع للسيطرة الحكومية
(1)
وتكشف أقصى الأثمان التي حددها ذلك المرسوم لبعض السلع عن مستوى الأسعار والاجور في عام 301 م. فالقمح، والعدس، والبسلة كان ثمن (البشل Bushe) منها يعادل 3. 5 ريال أمريكي، وكان الشعير، والشيلم، والفول بـ 2. 10 ريال للبشل؛ والنبيذ بـ 21 - 26 من مائة من الريال للبينت Pint؛ وزيت الزيتون بـ 10. 5 من مائة من الريال للبينت، ولحم الخنزير بـ 10. 5 من مائة من الريال للرطل الانجليزي، ولحم العجول أو الضأن بـ 7 من مائة من الريال الإنجليزي، والدجاج الصغير كل اثنتين بـ 52. 5 والزبابات (dormouse) كل عشر بـ 35؛ وأحسن أنواع الكرنب والخس كل خمس منها بـ 3. 5 والبصل الأخضر كل 25 بـ 3. 5؛ وأحسن البزاقات (snails) كل عشرين بـ 3. 5؛ والتفاح أو الخوخ الكبير كل عشر بـ 3. 5؛ والتين كل 25 بـ 3. 5؛ والشعر كل رطل إنجليزي بـ 3. 5، والأحذية يتراوح ثمن الزوج منها بين 62 من مائة و 1. 38 ريال، وكانت أجور عمال الزراعة بين 23، 46 من مائة من الريال، يضاف إليها الطعام، وكان البناءون والنجارون، والحدادون، والخبازون، يتقاضون 46 من مائة من الريال مضافاً إليها ثمن الطعام؛ والحلاقون 1. 75 ريال عن كل شخص، والكتبة 0. 23 عن كل 100 سطر، ومدرسو المدارس الأولية 0. 46 عن كل تلميذ في كل شهر؛ ومدرسو الآداب اليونانية أو اللاتينية أو الهندية 1. 84 عن كل تلميذ في الشهر، والمحامون 7. 26 ريالات عن كل قضية (51).
هي ما تطلّبه تنفيذه من نفقات. فقد بلغت البيروقراطية التي تطلّبها تنفيذه من الاتساع درجة وصفها لكتنيوس بأنها احتاجت إلى نصف السكان؛ ولا شك في أنه بالغ في هذا التقدير مبالغة كان الباعث عليها ميوله السياسية (54)، ووجد الموظفون آخر الأمر أن عملهم هذا مما تنوء به العدالة الإنسانية، وكانت رقابتهم متباعدة يستطيع الناس أن يقتلوا منها بما أوتوا من مكر ودهاء. وارتفعت الضرائب ارتفاعاً لم يكن له مثيل من قبل، وفرضت على كل شيء لأداء أجور الموظفين، ونفقات البلاط، والجيش، وبرنامج المنشآت العامة، وإعالة العجزة والمتعطلين، ولكن الدولة قد كشفت بعد طريقة الاستدانة لتخفي بها إسرافها وتؤجل يوم حسابها، فقد كانت أعمال كل عام ينفق عليها من إيراد العام نفسه، وأراد دقلديانوس أن يحتاط لما عساه أن يحدث من أداء الضريبة بعملة مخفضة، فأمر بأن تؤدى الضرائب عيناً كلما كان ذلك مستطاعاً، وحتم على دافعي الضرائب أن يؤدوا ما عليهم إلى مخازن حكومية، ووضع نظاماً شاقاً لنقل هذه الضرائب العينية من هذه المخازن إلى مقرها الأخير (55)، وجعل موظفي البلديات في كل بلدية مسئولين من الوجهة المالية عن كل تقصير في تحصيل الضرائب المفروضة على إقليمهم (56).
وإذ كان من طبيعة كل ممول أن يحاول الهروب من أداء ما عليه من الضرائب، فقد أنشأت الدولة قوة خاصة من الشرطة للفحص عن أملاك كل شخص ودخله؛ واستخدمت وسائل التعذيب مع الزوجات، والأطفال، والعبيد لإرغامهم على الكشف عن ثروة بيوتهم أو مكاسبها، وفرضت عقوبات صارمة على مَن يحاولون الهرب من أداء ما عليهم (57). ومع هذا كله فقد كاد الفرار من الضرائب أن يصبح وباء متفشياً في الإمبراطوريّة كلها في القرن الثالث، وأضحى أكثر تفشياً في القرن الرابع؛ فكان الأغنياء يخفون ثروتهم، وبدل الأشراف طبقتهم ووضعوا أنفسهم في عداد الطبقة الدنيا حتى لا يُختاروا للوظائف
البلدية، وهجر الصناع حرفهم، وترك الزراع أرضهم المثقلة بالضرائب ليصبحوا أجراء عند غيرهم، وأقفرت كثير من القرى وبعض البلدان الكبيرة (مثل طبرية في فلسطين) من أهلها لفدح الضرائب المفروضة عليها (58)، فلما كان القرن الرابع اجتاز عدد كبير من الأهلين حدود الإمبراطوريّة ولجأوا إلى البرابرة فوراً من الضرائب الفادحة.
وأكبر الظن أن الذي حمل دقلديانوس على الالتجاء إلى تلك الأعمال، التي أوجدت واقع الأمر نظام الاسترقاق الإقطاعي في الحقول، والمصانع، والنقابات الطائفية، هو حرصه على منع هذه الهجرة التي تكلف الدولة كثيراً من النفقة، وعلى ضمان ورود العام بانتظام للجيش والمُدن، والضرائب لبيت المال. وبعد أن جعلت الحكومة مالك الأرض بما فرضته عليه من الضرائب النوعية مسئولاً عن حسن استغلال مزارعيه لأرضه، قررت أن يبقى الزارع في أرضه حتى يؤدي جميع المتأخر عليه من الديون أو العشور. ولسنا نعرف متى صدر هذا القرار التاريخي، ولكنا نعرف أن قسطنطين سن في عام 332 قانوناً يفترض وجود هذا القرار ويؤكده؛ ويجعل المستأجر "يرتبط كتابة" بالأرض التي يزرعها، لا يستطيع تركها إلا برضاء مالكها، فإذا بيعت الأرض بيع هو وأسرته معها (60). وليس فيما وصل إلينا من المعلومات ما يدل على أن الزّراع قد احتجوا على هذه القيود؛ ولعل هذا القانون قد قدّم إليه ضماناً لأمنه وسلامته، كما هو حادث في ألمانيا في هذه الأيام. وبهذه الطريقة وأمثالها انتقلت الزراعة في القرن الثالث من الاسترقاق إلى الحرية ثم الاسترقاق الإقطاعي، وبهذا النظام استقبلت العصور الوسطى.
واتبعت الصناعة وسائل من هذا النوع ليضمن بذلك استقرارها. فحرم على العمال تغيير عملهم، أو الانتقال من مصنع إلى مصنع إلا بموافقة الحكومة؛ وقصرت كل نقابة طائفية على حرفتها والعمل المقرر لها، وحرم على أي إنسان أن
يغادر النقابة التي سجل اسمه فيها (61). وألزم كم مَن يعمل في الصناعة أو التجارة بأن ينضم إلى نقابة من هذه النقابات الطائفية، وحتم على الابن أن يشتغل بحرفة أبيه (62)، فإذا رغب إنسان في أن يستبدل بمكانه أو حرفته مكاناً آخر أو حرفة أخرى ذكرته الدولة بأن إيطاليا يحاصرها البرابرة وأن على كل رجل أو ابن يشتغل بحرفة أن يبقى حيث هو.
ولما استهل عام 305 نزل دقلديانوس ومكسيميان عن سلطتهما باحتفالين مهيبين أقيما في نيقوميديا وميلان، وأصبح جالريوس، وقنسطنطيوس أغسطسين إمبراطورين أولهما للشرق وثانيهما للغرب. ولم يكن دقلديانوس قد تجاوز وقتئذ الخامسة والخمسين من عمره، ولكنه اختفى في قصره الواسع القائم في أسبلاتا Spalata، وقضى فيه الثمانية الأعوام الباقية من حياته. وشهد بعينيه انهيار حكومته الرباعية في غمار الحرب الأهلية. ولما أن ألحّ عليه مكسميان أن يستولي على أزمة الحكم مرة أخرى، ويقضي على الشقاق والحب، قال إنه لو رأى مكسميان الكرنب الجيد الذي يزرعه في حديقته لما طلب إليه أن يضحي بهذه المتعة جرياً وراء متاعب السلطان (63).
والحق أنه كان قميناً بكرنبه وراحته، فقد قضى على الفوضى التي دامت خمسين عاماً وأقر من جديد سلطان الحكومة والقانون، أعاد الاستقرار إلى الصناعة، ورد الأمن إلى التجارة، وأذل فارس، وخضد شوكة البرابرة، وكان بوجه عام مشترعاً أميناً مخلصاً، وحاكماً عادلاً إذا ضربنا صفحاً عن بحض الاغتيالات القليلة التي جرت على يديه.
ولسنا ننكر أنه أقام بيروقراطية باهظة الأكلاف، وقضى على الاستقلال الذاتي للولايات، وعاقب معارضيه أشد العقاب، واضطهد الكنيسة التي كان في وسعه أن يتخذها حليفة له فيما بذل من الجهود لإصلاح أحوال الدولة، وجعل سكان الإمبراطوريّة مجتمعاً من الطبقات، في أحد طرفيه زرّاع جهلاء وفي طرفه
الآخر ملك مستبد مطلق السلطان، ولكن الظروف التي واجهتها روما لم تكن تسمح بانتهاج سياسة تقوم على مبادئ الحرية؛ وقد جرب ماركس أورليوس والكسندر سفيرس هذه السياسة وأخفقا فيها، ورأت الدولة الرومانية نفسها محاطة بالأعداء من كل جانب، ففعلت ما لابد أن تفعله الأمم جميعها في أوقات الحروب التي يتقرر فيها مصيرها، وقبلت طغيان زعيم قوي، ورضيت أن يفرض عليها ما لا تكاد تطيقه من الضرائب، وتخلت عن الحرية الفردية إلى أن تنال الحرية الجماعية، ولقد قام دقلديانوس بالأعمال التي قام بها أغسطس، وإن كانت قد كلفت أولهما أكثر مما كلفت الآخر، ولكنه والحق يقال قام بها في ظروف أقسى من ظروفه، وقد أدرك معاصروه ومَن جاءوا بعده الأخطار التي نجوا منها بفضل جهوده فلقبوه "أبا العصر الذهبي"، وسكن قسطنطين البيت الذي شاده له دقلديانوس.
الباب الثلاثون
انتصار المسيحية
306 -
325 م
الفصل الأول
النزاع بين الكنيسة والدولة
64 -
311 م
كانت الحكومة الرومانية قبل أيام المسيحية تُظهر في أغلب الأحيان للأديان المعارضة للدين الوثني المقرر تسامحاً تُظهر هذه الأديان مثله للشعائر الرسمية وللإمبراطوريّة؛ فلم تكن تطلب من أتباع العقائد الجديدة إلا حركة يأتونها من حين إلى حين يمجدون بها الآلهة ورئيس الدولة. ولهذا آلم الأباطرة أن يجدوا أن المسيحيين واليهود، دون سائر أتباع الأديان الخارجة على دين الدولة، هو الذين يأبون أن يعظموا عبقرياتهم. ذلك أن إحراق البخور أمام تمثال الإمبراطور كان قد أصبح دليل الولاء للإمبراطوريّة وتوكيداً لهذا الولاء، فهو من هذه الناحية أشبه ما يكون بيمين الولاء التي تُطب إلى من ينالون حق المواطنية في هذه الأيام. لكن الكنيسة كانت ترفض من ناحيتها الفكرة الرومانية القائلة بأن الدين خاضع للدولة، وترى في عبادة الإمبراطور نوعاً من الشرك وعبادة الأصنام، ولذلك أمرت أتباعها أن يرفضوا هذه الشعائر مهما ينلهم من الأذى بسبب هذا الرفض. واستدلت الحكومة الرومانية من هذا على أن المسيحية
حركة متطرفة - بل لعلها حركة شيوعية - تعمل في السر على قلب النظام القائم.
وقد استطاعت القوتان قبل عهد نيرون أن تعيشا معاً من غير أن يشتجر بينهما النزاع؛ وكان القانون يعفي اليهود من أن يعبدوا الإمبراطور؛ ونال المسيحيون في أول أمرهم هذه الميزة لأنهم لم يكن يُستطاع التفريق بينهم وبين اليهود. ولكن مقتل بطرس وبولس، وحرق المسيحيين ليزيد حرقهم ألعاب نيرون بهاء، بدلا هذا التسامح المتبادل المشوب بالاحتقار من الجانبين عداء دائماً، وحرباً تندلع نارها بين الفينة والفينة. فلا غرابة أن وجه المسيحيون بعد هذا الإيذاء، أسلحتهم كلها إلى صدر روما - فنددوا بما فيها من فساد وعبادة للأصنام، وسخروا بآلهتها، وأظهروا الشماتة فيها حين حلّت بها الكوارث (1)، وتنبئوا بسقوطها بعد زمن قليل، وأعلنوا؛ في حماسة الدين الذي أخرجه عن تسامحه عدم تسامح الدولة معه، أن كل مَن أتيحت لهم الفرصة لاعتناق المسيحية ثم لم يعتنقوها سيعذبون عذاباً أبدياً؛ وقال الكثيرون منهم إن هذا سيكون أيضاً مصير كل الخلائق الذين وجدوا قبل المسيحية ثم لم يعتنقوها لأي سبب من الأسباب، وإن كان بعضهم قد استثنى سقراط وحده من العذاب. وردّ الوثنيون على هذا بأن سموا المسيحيين "حثالة الناس" و "برابرة الوقحين"، واتهموهم بأنهم "أعداء الجنس البشري" وقالوا أن الكوارث التي حلت بالإمبراطوريّة ليست إلا نتيجة غضب الآلهة الوثنية والسماح لمن يسبونها من المسيحيين بأن يبقوا أحياء (2). وأخذ كل فريق يفتري على الآخر آلاف الإفتراءات، فاتهم المسيحيون بأنهم سحرة متصلون بالشياطين، وأنهم يقترفون الخطايا سراً، ويشربون دماء الآدميين في عيد الفصح (3)، ويعبدون الحمار.
لكن النزاع كانت له أصول أعمق من هذا الخصام. ذلك أن الدولة كانت أسا الحضارة الوثنية في حين أن الدين كان هو أساس الحضارة المسيحية. فالروماني كان ينظر إلى دينه أنه جزء من كيان الحكومة
وشعائرها، وكانت الوطنية هي الذروة التي تنتهي عندها مبادئه الأخلاقية العليا. أما المسيحي فكان ينظر إلى دينه على أنه شيء منفصل عن المجتمع السياسي، وأنه أسمى من هذا المجتمع مقاماً، وكان يدين أعظم الولاء للمسيح لا لقيصر، وقد وضع ترتليان المبدأ الثوري بأن الإنسان غير ملزم بأن يطيع قانوناً يعتقد أنه ظالم (4)؛ وكان المسيحي يعظم أسقفه، بل يعظم قسيسه، أكثر من تعظيمه الحاكم الروماني، ويعرض ما يقع بينه وبين زملائه المسيحيين من مشاكل قانونية على رؤساء الكنيسة لا على موظفي الدولة (5). وكان اعتزال المسيحي للشئون الدنيوية يبدو للوثني كأنه هروب من الواجبات المدنية وضعف للروح القومي والإرادة القومية. وأشار ترتليان على المسيحيين بأن يرفضوا الخدمة العسكرية؛ وعمل عدد كبير منهم بنصيحته كما يدل على ذلك نداء سلسس لهم بأن يضعوا حداً لهذا الرفض، ورد أرجن عليه بأن المسيحيين سيدعون للإمبراطورية وإن أبوا أن يحاربوا من أجلها (6)، وكان زعماء المسيحيين يحرضونهم على أن يتجنبوا غير المسيحيين، وأن يبتعدوا عن الألعاب الهمجية التي يقيمونها في أعيادهم، وألا يغشوا دور تمثيلهم لأنها مباحة للفجور (7)، وحرم على المسيحي أن يتزوج بغير مسيحية، وعلى المسيحية أن تتزوج بغير مسيحي، واتهم الوثنيون العبد المسيحيين بأنهم يبذرون بذور الشقاق في الأُسر بتحريضهم أبناء أسيادهم وزوجاتهم على اعتناق الدين المسيحي؛ واتهم الدين المسيحي بأنه يعمل لتشتيت شمل الأُسر وخراب البيوت (8).
على أن معارضة الدين الجديد قد جاءت من قبل الشعب أكثر مما جاءت من قبل الدولة. ذلك أن الحكام كانوا في كثير من الأحيان رجالاً مثقفين متسامحين، ولكن جمهور السكان الوثنيين قد ساءهم عزلة المسيحيين، وتعاليمهم، وثقتهم بأنفسهم، وأهابوا بحكامهم أن يعاقبوا أولئك الملحدين الذين يهينون الآلهة. ويشير ترتليان إلى "الكراهية العامة التي يحسّون بها نحونا"(9).
ويلوح أن للقانون الروماني منذ أيام نيرون كان يعد الجهر بالمسيحية جريمة يعاقب عليها بالإعدام (10)، ولكن معظم الأباطرة كانوا يتغاضون عن تنفيذ هذا القانون متعمدين (11)، فكان في وسع المسيحي إذا اتهم بمخالفته أن ينجو عادة من العقاب بحرق البخور أمام تمثال الإمبراطور، ويبدو أنه كان يُسمح له بعد ذلك أن يمارس شعائر دينه غير مضيق عليه (12). أما المسيحيون الذين يرفضون تقديم هذا الولاء للإمبراطور فكانوا يسجنون، أو يجلدون، أو ينفون، أو يحكم عليهم بالعمل في المناجم، أو بالإعدام في حالات نادرة. ويبدو أن دومتيان نفى بعض المسيحيين من روما ولكنه "وهو الرجل الرحيم إلى حد ما، لم يلبث أن وقف ما بدأه"(13). ونفّذ بلني هذا القانون مدفوعاً إلى ذلك بفضول الرجل الهاوي الذي يبغي إظهار سلطانه على الناس (111)، إذا جاز أن نحكم عليه من رسالته التي بعث بها إلى تراجان:
"إن الطريقة التي اتبعتها مع مَن اتهموا أمامي بأنهم مسيحيون هي هذه: لقد سألتهم هل هم مسيحيون؟ فإذا اعترفوا بأنهم كذلك أعدت السؤال عليهم مرة أخرى، وأنذرتهم في الوقت نفسه بأنهم سيقتلون إذا أصروا على قولهم، فإذا أصروا عليها أمرت بقتلهم
…
إن الناس بعد أن هجروا المعابد، فلا يكادون يطرقونها، قد أخذوا الآن يعودون إليها
…
وكثر الطلب على الضحايا من الحيوانات بعد أن قل الإقبال على شرائها"
(1)
.
وقد رد عليه تراجان بقوله:
"إن الخطة التي سرت عليها يا عزيزي بلني في بحث حالات مَن اتهموا أمامك بأنهم مسيحيون خطة حكيمة
…
يجب ألا تجد في البحث عن
(1)
أنظر نص هذه الرسالة كاملاً، ورد تراجان عليها في كتابنا ((أشهر الرسائل العالمية)) الجزء الأول. (المترجم)
هؤلاء الناس، ولكن إذا ما بلغت أمرهم وتثبت من جرمهم فعاقبهم، فإذا أنكر الواحد منهم أنه مسيحي وأيد ذلك
…
بالابتهال إلى آلهتنا فاعفِ عنه
…
فإذا بلغت عن أحدهم ولم يذكر في البلاغ اسم المتهم فلا تتخذه بينة على أحد" (14).
وتوحي الفقرة التي أثبتناها هنا بخط الرقعة بأن ينفذ القانون القائم من قبل أيامه إلا مكرهاً، ولكننا مع ذلك نسمع عن شهيدين بارزين في أيام زعامته: أحدهما سمعان رئيس كنيسة أورشليم، وثانيهما أغناثيوس أسقف إنطاكية، وأكبر الظن أنه قد استشهد غيرهما ممن هم أقل منهما شهرة.
وأمر هدريانُ المتشكك الذي يتسع عقله لقبول كل الآراء، موظفيه بأن يفسروا كل شك في مصلحة المسيحيين (15)، أما انطونينس، الذي كان أكثر منه استمساكاً بدينه، فقد أباح اضطهادهم أكثر من هدريان. وحدث في أزمير أن طالب الغوغاء فليب حاكم ولاية آسية ألا يتهاون في تنفيذ القانون، فأجابهم إلى ما طلبوا وأمر بإعدام أحد عشر من المسيحيين في المجتلد (155). ولكن هذا لم يطفئ من تعطش الغوغاء للدماء بل زادهم ظمأ إليه، فأخذوا يطالبون بإعدام الأسقف بوليكارب وهو أب ورع في السادسة والثمانين من العمر قيل إنه في أيام صباه كان يعرف القدّيس يوحنا، وقد وجد الجنود الرومان هذا الشيخ في بيت في ضاحية من ضواحي المدينة، فجاءوا به إلى الوالي وهو يشهد الألعاب دون أن يبدي الرجل أية مقاومة. وألح عليه فليب أن "أقسم اليمين، وسب المسيح، وسأصفح عنك". ويقول أقدم سفر من أعمال الشهداء إن يوليكارب أجابه بقوله: "لقد ظللت خادماً له ستاً وثمانين سنة، لم يسيء فيها إلي قط، فكيف إذا أسب ملكي الذي أنجاني؟ " ونادا الغوغاء بأنه ينبغي أن يحرق حياً. وتقول الوثيقة التي فاض بها قلب مفعم بالتقوى والإيمان إن النار
كانت برداً وسلاماً عليه، بل كان فيها كالخبز الذي يخبز، وقد فاحت منه رائحة ذكية كالتي تنبعث من البخور أو غيره من الأفاوية الغالية. وأمر الطغاة آخر الأمر سيافاً أن يجهز عليه بسيفه؛ فلما فعل خرجت منه يمامة، وخرج دم بلغ من غزارته أن انطفأت منه النار وأثار ذلك دهشة الجماهير كلها" (16).
وتجدد الاضطهاد في عهد أورليوس الورع. ذلك أنه لما حلّت بالبلاد الكوارث من فيضان، ووباء، أو حرب في حكمه الذي كان في أول أمره حكماً موفقاً سعيداً، ساد الاعتقاد بأن سبب هذه الكوارث هو إهمال آلهة الرومان أو إنكارها، وشارك أورليوس الجماهير في ذعرها، أو لعله خضع لها، فأصدر في عام 177 مرسوماً يقضي بعقاب الشيع الدينية التي تنشر الاضطراب "باستثارة أصحاب العقول غير المتزنة" بتلقينها عقائد جديدة، وثارت الجماهير الوثنية في تلك السنة نفسها ثورة عنيفة على المسيحيين في فينا وليون ورجموهم بالحجارة كلما تجرءوا على الخروج من بيوتهم. وأمر المرسوم الإمبراطوري بالقبض على زعماء المسيحيين في ليون، ومات الأسقف يوثينس، وهو شيخ في سن التسعين، في السجن من آثار التعذيب. وأرسل رسول إلى روما ليسأل الإمبراطور عما يشير به في معاملة سائر المسجونين، فأشار ماركس بأن يطلق سراح من ينكر الدين المسيحي، وأن يقتل من يعتنقه كما يقضي بذلك القانون.
وكان أهل ليون يحتفلون وقتئذ بعيد الأوغسطاليا كعادتهم في كل عام، وأقبلت الوفود من جميع بلاد الغالة حتى ازدحمت بهم عاصمة الولاية. وبينما كانت الألعاب قائمة على قدم وساق جيء بالمسيحيين المتهمين إلى المدرج ووجهت إليهم الأسئلة، فأما مَن أنكروا فقد أخرجوا من المدرج، وأصر سبعة وأربعون على الاستمساك بدينهم "فقتلوا بعد أن ذاقوا من ألوان العذاب ما لا مثيل له إلا في أيام محاكم التفتيش. من ذلك أن أتلس الذي يلي يوثينس في المراتب الكهنوتية قد أرغم على الجلوس على كرسي من الحديد المحمى الذي شوى جسمه وأزهق
روحه (17). وظلت بلندينا Blandina، وهي أَمة صغيرة السن، تعذب يوماً كاملاً، ثم ربطت في زكيبة، وأُلقيت في المجتلد ليفتك بها ثور وحشر، وتحملت الفتاة عذابها وهي صامتة، ولذلك اعتقد كثيرون من المسيحيين أن المسيح كان يُفقد شهداءه قوة الإحساس بالألم؛ ولعل النشوة الدينية والخوف هما علة عدم الإحساس. وفي ذلك يقول ترتليان:"إن المسيحي كان يلهج بالشكر حتى حين يُحكم عليه بالإعدام"
(1)
.
وخفت حدة الاضطهاد في عهد كمودس، ثم عاد إلى ما كان عليه في عهد كبتميوس سفيرس، وبلغ من شدته أن كان التعميد نفسه يُعّد جريمة تستحق العقاب، وفي عام 203 استشهد كثيرون من المسيحيين في قرطاجنة ومن هؤلاء أم في مقتبل العمر تدعى بربتوا Berpetua تركت وراءها وصفاً يفتت الأكباد لأيامها التي قضتها في السجن، ورجاء أبيها لها أن تنكر الدين المسيحي. وقد ألقيت هي وأم شابة أخرى إلى أحد الأثوار الوحشية وافترسهما الثور. ولدينا في أحد أسئلتها الأخيرة "حين ألقي بها إلى الثيران" دليل على ما يحدثه الخوف والغيبوبة من تخدير. وتصف لنا قصتها كيف وجهت بنفسها إلى عنقها خنجر المجالد الذي أمر على الرغم منه أن يقتلها (19). ولم تكن الإمبراطورات السوريات اللائي جلسن على العرش بعد سبتميوس يعنين كثيراً بالآلهة الرومانية. ولقيت المسيحية في أيامهن شيئاً من التسامح الناشئ من عدم اهتمامهن بأمرها: ويبدو أن السلم قد سادت جميع الأديان المتنافسة في أيام ألكسندر سفيرس.
وانتهت الهدنة بتجدد هجمات البرابرة. وإذا شئنا أن نفهم الاضطهاد في عهد
(1)
ومعلوماتنا عن الاضطهاد الذي حدث في ليون مستمدة من رسالة بعث بها ((خُدّام المسيح في لجدنوم وفينا من أعمال غالة إلى إخوانهم في آسية وفريجا)) وقد بقيت هذه الرسالة في كتاب تاريخ الكنيسة ليوسبيوس 1: 5. ولعل بعض المغالاة قد سرت إلى هذا التقرير.
ديسيوس (أو أورليوس) على حقيقته وجب علينا أن نصوّر لأنفسنا أمه منهمكة في حرب عوان، تزعجها الهزائم المنكرة، وتتوقع أن يغزو بلادها الأعداء، وتجتاح الإمبراطوريّة موجة من النشوة الدينية القوية في عام 249؛ ويهرع الرجال والنساء إلى الهياكل يحيطون بالآلهة ويضرعون إليها بالصلاة والدعوات؛ وفي وسط هذه الحمى التي تتأجج فيها نيران الوطنية والخوف، يقف المسيحيون عن بعد وقفة المشاهدين الذين لا يعنيهم الأمر، ويظلون كسابق عهدهم يستنكرون الخدمة العسكرية ويقاومونها (20)، ويسخرون من الآلهة، ويفسرون انهيار الإمبراطوريّة بأنه هو البشرى التي وردت في النبوءات عن تدمير "بابل" وعودة المسيح. وأراد ديسيوس أن يتخذ من حال الشعب النفسية فرصة يستعين بها على تقوية روح الحماسة الوطنية والوحدة القومية فأصدر مرسوماً يطلب فيه إلى جميع سكان الإمبراطوريّة أن يتقدموا إلى آلهة روما بعمل يتقربون به إليها ويردون به غضبها. ويلوح أن المسيحيين لم يُطلب إليهم أن ينكروا دينهم بل أُمروا أن يشتركوا في التوسل إلى الآلهة التي طالما أنجت روما من الخطر المحدق بها كما يعتقد العامة. واستجابت كثرة المسيحيين إلى هذا الأمر؛ ففي الإسكندرية "كانت الردة عامة" على حد قول الأسقف ديونيشيوس (21)؛ وحدث ذلك بعينه في قرطاجنة وأزمير؛ وأكبر الظن أن المسيحيين من أهل تلك المُدن وأمثالها كانوا يرون أن هذا التوسل لا يُعد وأن يكون نوعاً من الوطنية، ولكن أسقفي أورشليم وإنطاكيا قضيا نحبهما في غياهب السجن، وأعدم أسقفا روما وطولوز (250)، وألقي مئات من المسيحيين الرومان غياهب الجب، وقُطعت رؤوس بعضهم، ومات الكثيرون منهم على قوائم الإحراق، وألقي عدد قليل منهم إلى الوحوش في حفلات الأعياد، وخفت حدة الاضطهاد بعد عام من ذلك الوقت، ولم يحل عيد الفصح في عام 251 حتى انتهى أمرها أو كاد. وبعد ست سنين من ذلك الوقت أمر فليريان، في خلال أزمة أخرى من أزمات الغزو والرعب،
أن "يمثل كل شخص للشعائر الرومانية، وحرم كل الاجتماعات المسيحية، وعصى البابا سكستس Sixtus هذا الأمر فأعدم هو وأربعة من شمامسته، وكذلك قطع رأس سبريان أسقف قرطاجنة، وحرق أسقف طراقونة حياً، وفي عام 261 نشر جالينوس، الذي جلس على العرش بعد أن أزال عنه الفرس فليريان، أول مرسوم يقضي بالتسامح الديني اعترف فيه بأن المسيحية من الأديان المسموح بها وأمر أن يرد إلى المسيحيين ما صودر من أملاكهم، وحدثت اضطهادات خفيفة في السنين الأربعين التالية، ولكن هذه السنين كانت في معظمها سني هدوء ونماء سريع للمسيحية لم ترَ لها مثيلاً من قبل، فقد كان الناس في خلال الفوضى والرعب السائدين في القرن الثالث يفرون من الدولة الواهية المزعزعة الأركان إلى الدين يجدون فيهم سلواهم، وقد وجدوا هذه السلوى في المسيحية أكثر مما كانوا يجدونها في غيرها من الأديان المنافسة لها واعتنق المسيحية وقتئذ عدد من الأغنياء، فشادت كنائس فخمة، وأجازت لأبنائها أن يستمتعوا بطيبات العالم، وخبت نار الأحقاد الدينية بين الأهلين، وأصبح المسيحيون أكثر حرية في الاختلاط بالوثنيين بل انهم تزوجوا منهم، وبدا أن ملكية دقلديانس الشرقية قدر لها أن تعزز الأمن والسلام في الدين وفي السياسة على السواء.
بيد أن جليريوس كان يرى أن المسيحية هي آخر العقبات القائمة في سبيل السلطة المطلقة، فأخذ يحرض رئيسه على أن يجعل العودة إلى العهود الرومانية السابقة عودة كاملة، وذلك بإرجاع الآلهة الرومانية إلى منزلتها القديمة. وتردد دقلديانوس في الأخذ بهذه المشورة، لأنه كان عازفاً عن ركوب أخطار لا موجب لها، ولأنه كان أكثر من جليريوس تقديراً لثقل العبء. ولكن حدث في يوم من أيام القربان الإمبراطوريّة أن رَسَمَ المسيحيون علامة الصليب ليتقوا شر الشياطين الخبيثة؛ ولما أن عجز العرافون عن أن يجدوا في أكباد الحيوانات المذبوحة العلامات التي كانوا يرجون تفسيرها ألقوا الذنب على وجود أشخاص
كفار نجسين، فأمر دقلديانوس أن يقرّب جميع الحاضرين القرابين إلى الآلهة أو يجلدوا، وأن يمتثل جميع جنود الجيش لهذا الأمر أو يُفصلوا من الخدمة (302). ومن أغرب الأشياء أن الكتاب المسيحيين يتفقون هنا مع الكهنة الوثنيين فيقول لكتنتيوس Lactantantantius (22) إن صلوات المسيحيين أبعدت الآلهة الرومانية، وكتب الأسقف ديونيشيوس بهذا المعنى ذاته قبل ذلك بجيل. ولم يترك جليريوس فرصة إلا انتهزها للقول بأن الوحدة الدينية ضرورية لتدعيم الملكية الجديدة، وما زال يلح على دقلديانوس حتى خضع له في آخر الأمر. وأمر الحكام الأربعة في عام 303 أن تهدم كل الكنائس المسيحية، وأن تحرق الكتب المسيحية، وتُحل المجتمعات المسيحية وتصادر أملاكها، ويُحرم المسيحيون من جميع المناصب العامة، ويعاقب بالإعدام مَن يُضبط منهم في أي اجتماع ديني. وبدأت كتيبة من الجند هذا الاضطهاد بإحراق كنيسة نقوميديا وتدميرها عن آخرها.
وكان المسيحيون وقتئذ من الكثرة بحيث يستطيعون رد العدوان بمثله، فقامت حركة ثورية في سوريا، وأضرم بعضهم النار مرتين في قصر دقلديانوس بنقوميديا، واتهم جليريوس المسيحيين بجريمة الحرق عمداً، واتهموه هم بنفس التهمة، وقبض على مئات من المسيحيين وعذبوا، ولكن الجريمة لم تثبت على أحد واصدر دقلديانوس في شهر سبتمبر أمراً بأن يطلق سراح المسجونين من المسيحيين الذين يعبدون الآلهة الرومانية، أما من يرفض ذلك منهم فلتسلط عليه جميع أنواع العذاب التي تعرفها روما. فلما قاوم المسيحيون هذه الأوامر بازدراء استشاط غضباً من هذه المقاومة، وأمر جميع كبار الحكام في الولايات بأن يبحثوا عن كل مسيحي، وأن يستخدموا معه كل وسيلة مستطاعة لإرغامه على استرضاء الآلهة. ولعله قد سره أن يترك هذه المقامرة التعسة إلى مَن يخلفه فاعتزل الملك.
ونفذ مكسميان هذا المرسوم في إيطاليا تنفيذاً عسكرياً كاملاً صارماً. وشجع جليريوس بعد أن صار أغسطس الاضطهاد في الشرق بجميع وسائل التشجيع، فزاد عدد الشهداء في كل جزء من أجزاء الإمبراطوريّة عدا غالة وبريطانيا، حيث اكتفى قنسطنطيوس بإحراق عدد قليل من الكنائس. ويؤكد لنا يوسبيوس، ولعله يفعل ذلك في سورة الغضب، أن الناس كانوا يُجلدون حتى تنفصل لحومهم عن عظامهم، أو أن لحمهم كان يقشر عن عظامهم بالأصداف، وكان الملح أو الخال يصب في جروحهم، ويُقطّع لحمهم قطعة قطعة ويرمى للحيوانات الواقفة في انتظارها، أو يُشدون إلى الصلبان فتنهش لحومهم الوحوش الجياع جزءاً جزءاً. ودست عصى حادة الأطراف في أصابع بعض الضحايا تحت أظافرهم، وسملت أعين بعضهم، وعلق بعضهم من يده أو قدمه، وصُبّ الرصاص المصهور في حلوق البعض الآخر، وقطعت رؤوس بعضهم أو صلبوا، أو ضربوا بالعصى الغليظة حتى فارقوا الحياة؛ ومزقت أشلاء البعض بأن شدت أجسامهم إلى غصون أشجار ثنيت ثنياً مؤقتاً (23). وقد وصل إلينا علم ذلك كله عن المسيحيين أما الوثنيون فلم ينقلوا إلينا شيئاً من هذه الأخبار.
ودام الاضطهاد ثمانية أعوام، وهلك بسببه نحو ألف وخمسمائة من المسيحيين، بعضهم من أتباع الدين القويم، وبعضهم من الملاحدة، وقاسى عدد آخر يخطئه الحصر ألواناً مختلفة من العذاب. وارتد آلاف من المسيحيين عن دينهم؛ وتقول بعض الروايات أن مرسلينس Marcellinus أسقف روما نفسه أرغم بضروب من الإرهاب والتعذيب على أن يرتد عن دينه، ولكن معظم مَن نالهم الاضطهاد ثبتوا على دينهم؛ وكان منظر استبسالهم في الإخلاص لدينهم، أو كانت أخيار هذا الاستبسال؛ رغم ما قاسوه من ألوان العذاب، كان هذا وذاك سبباً في شد عزيمة المترددين، وضم أنصار جدد للجماعات الدينية المضطهدة. وأثارت ضروب الاضطهاد الوحشي المتزايدة الرحمة في قلوب الأهلين الوثنيين؛ ووجد الصالحون في نفوسهم من الشجاعة ما دفعهم إلى التصريح بمقتهم لهذا الظلم الذي
لم يكن له مثيل في التاريخ الروماني كله. لقد كان الشعب في الأيام الخالية يدفع الدولة إلى القضاء على المسيحية؛ أما الآن فقد وقف الشعب بعيداً عن الحكومة، وعرض كثيرون من الوثنيين أنفسهم للموت بحماية المسيحيين أو إخفائهم حتى تنجلي هذه العاصفة (24). وقد انجلت فعلاً في عام 311، ففي ذلك العام أصدر جليريوس مرسوماً بالتسامح مع المسيحيين واعترف فيه بالمسيحية ديناً مشروعاً، وطلب إلى المسيحيين أن يدعوا له في صلواتهم نظير "رحمتنا التي وصلت إلى أقصى حدود الرقة"(25). وكان الباعث له على إصدار هذا المرسوم رجاء زوجته وتوسلها له أن يصالح إله المسيحيين الذي لم يهزم؛ وكان جليريوس، وقتئذ يشكو من داء عضال، ويوقن بإخفاقه في القضاء على المسيحية.
وكان اضطهاد دقلديانوس أشد ما ابتليت به الكنيسة المسيحية، كما كان في الوقت نفسه أعظم انتصار نالته على أعدائها. نعم إن هذا الاضطهاد أضعفها إلى حين، بعد أن خرج منها بعض من انضموا إليها أو نشئوا في أحضانها خلال خمسين عاماً من أعوام الرخاء لم يتعرض لهم فيها أحد بسوء؛ ولكن سرعان ما أخذ المرتدون يتوبون عن ذنبهم ويطلبون العودة إلى حظيرتها، ذلك أن أخبار وفاء الشهداء الذين قضوا نحبهم، أو عذبوا في سبيل دينهم، أخذت تنتشر من مكان إلى مكان. ونسجت حول أعمال الاستشهاد هذه قصص خيالية مبالغ فيها مثيرة للعواطف محركة للنفوس، كان لها شأن أيما شأن في إحياء العقيدة المسيحية، وتثبيت دعائمها. وفي ذلك يقول ترتليان "إن دم الشهداء هو البذور" التي نبتت منها المسيحية (26). وليس في تاريخ البشرية قصة أعظم روعة من فئة قليلة من المسيحيين توالت عليها ضروب الظلم والازدراء على يد سلسلة طويلة من الأباطرة، لكنها صبرت على هذه المحن جميعها واستمسكت بدينها، وتضاعف عددها وهي هادئة ساكنة، تقيم النظام وقت أن كان أعداؤها ينشرون الفوضى، تصد القوة بالقوة، والوحشية بالأمل، ثم تُهزِم آخر الأمر أقوى دولة عرفها التاريخ. لقد التقى قيصر والمسيح في المجتلد، فانتصر المسيح على قيصر.
الفصل الثاني
قسطنطين
شهد دقلديانوس، وهو هادئ في قصره بدلماشيا، فشل الاضطهاد والحكومة الرباعية، ذلك أن الإمبراطوريّة لم تشهد قط في أيامها السابقة ما شهدته من الاضطراب بعد نزوله عن العرش. وقد استطاع جليريوس أن يقنع قنستنطيوس بأن يعين سفيرس ومكسمينس دازا "قيصرين"(305). وما لبث مبدأ الوراثة أن أخذ يثبت دعواه، فقد رغب مكسنتيوس Maxentius بن مكسميان أن يخلف أباه في سلطانه، وثارت هذه الرغبة نفسها في قلب قسطنطين.
وكان فلافيوس فليريوس قنسطنطينس قد بدأ حياته في نايسس Naissus ابناً غير شرعي لقنسطنطيوس من محظيته الشرعية هلينا، خادمة إحدى الحانات في بيثينيا (27). فلما أصبح قنسطنطيوس قيصراً طلب إليه دقلديانوس أن يتنحى عن هلينا ويتزوج بثيودورا ربيبة مكسميان. ولم يتلقَ قنسطنطين من العلم إلا قليلاً، فقد انخرط في سلك الجندية في سن مبكرة، وأظهر بسالته في الحروب التي قامت ضد مصر وفارس: ولما خلف جليريوس دقلديانوس أبقى الضابط الشاب بالقرب منه ليكون رهينة لديه يضمن به حسن مسلك قنسطنطيوس. ولما طلب إليه قنسطنطيوس أن يرسل إليه الشاب، تلكأ جليريوس في إجابته إلى طلبه وأظهر في ذلك كثيراً من الدهاء ولكن قسطنطين فر من حراسه؛ واخترق أوربا راكباً ليلاً ونهاراً لينضم إلى أبيه في بولوني Boulogne، ويشترك معه في حرب ضد بريطانيا. وكان جيش غالة شديد الولاء لقنسطنطيوس لما كان يتصف به من الرحمة، ولما أبصر ابنه الوسيم، الشجاع، النشط، أحبه حباً جماً؛ ولما مات والده في يورك York (306) ؛ لم يكتفِ الجند بأن ينادوا قسطنطين
"قيصراً" فحسب بل نادوا به أغسطساً - إمبراطوراً. لكنه رضي بأصغر اللقبين بحجة أنه لن يأمن على حياته إذا لم يكن وراءه جيش يحميه. ولم يستطع جليريوس أن يتدخل في الأمر لبعده، فاعترف به "قيصراً" وهو كاره. وحارب قسطنطين الفرنجة الذين غزوا الإمبراطوريّة وانتصر عليهم وأطعم وحوش المدرج الغالي ملوك البرابرة.
وفي هذه الأثناء نادى الحرس البريتوري في رومة بمكسنتيوس إمبراطوراً. لأنه كان يتوق لعودة الزعامة إلى العاصمة التليدة (306). وانقضّ عليه سفيرس من ميلان وهاجمه. وضاعف مكسميان الاضطراب والفوضى فعاد إلى لبس الأرجوان
(1)
إجابة لطلب ولده، واشترك في الحرب التي شبت نارها وقتئذ. وتخلى جنود سفيرس عنه وقتلوه (307)؛ وأراد جليريوس، وكان في ذلك الوقت شيخاً طاعناً في السن أن يقوي مركزه ليواجه الفوضى التي أخذت تضرب أطنابها في البلاد، فعين أغسطساً جديداً - فلافيوس ليسنيوس Flavius Licinius، فلما سمع قسطنطين بهذا اتخذ لنفسه أيضاً هذا اللقب (307)؛ وبعد سنة واحدة لقب مكسمنيوس دازا نفسه باللقب عينه، وبهذا أصبح في الإمبراطوريّة ستة أغاطسة بدل الاثنين اللذين كانا على عهد دقلديانوس، ولم يكتفِ واحد منهم بأن يكون قيصراً فقط. وتنازع مكسنتيوس مع والده، وذهب مكسميان إلى غالة ليستغيث بقسطنطين، وقد كان وقتئذ يحارب الألمان على ضفاف الرين. وحاول مكسميان أن يكون هو قائد الجيوش الغالية بدله، واخترق قسطنطين غالة بجيشه، وحاصر المغتصب في مرسيليا، وأسره، وتفضل عليه بأن أجاز له أن ينتحر (310).
وأزال موت جليريوس الحاجز الأخير بين الدسائس والحرب، فائتمر
(1)
أي عاد إمبراطوراً كما كان من قبل. (المترجم)
مكسمينس ومكسنتيوس للقضاء على ليسنيوس وقسطنطين، وائتمر الثانيان للقضاء على الأولين. ورأى قسطنطين أن يكون هو البادئ بالعمل، فعبر جبال الألب، وهزم جيشاً لعدويه قرب تورين Turin، وزحف على روما بسرعة مدهشة ونظام عسكري يذكّران الإنسان بزحف قيصر من الربيكون Rubicon، والتقى في السابع والعشرين من شهر أكتوبر عام 312 بقوى مكسنتيوس عند سكسا ربرا Saxa Rubra (الصخور الحمراء) التي تبعد تسعة أميال عن روما جهة الشمال، وأفلح بخططه الحديثة الفائقة أن يرغم عدوه على أن يقاتل ونهر التيبر من ورائه، وليس له من طريق يسلكه إذا تقهقر إلا أن يعبر جسر ملفيوس (28) إن قسطنطين شاهد بعد ظهر اليوم الذي دارت فيه المعركة صليباً ملتهباً في السماء وعليه تلك العبارة اليونانية En touti mika ومعناها "بهذه العلامة أنتصر"
(1)
.
وفي صباح اليوم الثاني - كما يقول يوسبيوس ولكتنيوس (31) رأى قسطنطين فيما يرى النائم أن صوتاً يأمره بأن يرسم جنوده حرف X على دروعهم وفي وسطه خط يقطعه وينثني حول أعلاه - علامة الصليب. فلما استيقظ من نومه صنع بما أمر وخاض المعركة خلف لواء "عرف من ذلك الوقت باسم اللبارم Labarum" رسم عليه الحرفان الأولان من لفظ المسيح يربطهما صليب. ولعل حقيقة الأمر أن قسطنطين رأى أن يربط حظه بحظ المسيحيين حين رأى مكستنيوس يرفع لواء مثراس أورليان، وهو لواء الشمس التي لا تقهر. وكان عدد جنوده المسيحيين وقتئذ كبيراً، وبهذا جعل هذه المعركة نقطة التحول
(1)
تنقلها الرواية المتواترة عادة في صورتها اللاتينية in hoc vinci أو in hoc signo vinces ((بهذه العلامة سوف تنتصر)). وعمدتنا الوحيدة في هذه الرؤيا هو يوسبيوس وهو باعترافه يميل إلى تأييدها (29) إذ يقول: ((وإذ كان الإمبراطور قد أقسم حين قصها على أنها صحيحة بعد أن اعتزمت أن أكتب تارييه
…
فمنذا الذي يستطيع أن يشك في قوله؟)) (30).
في تاريخ الأديان. ولم يكن الصليب يسيء إلى جنود قسطنطين من عُبّاد مثراس، لأنهم طالما حاربوا تحت لواء يحمل شعاراً مثراسّياً من الضوء (32). ومهما يكن من شيء فقد انتصر قسطنطين في واقعة جسر ملفيوس وهلك مكسنتيوس هو وآلاف من جنوده في نهر التيبر، ودخل القائد الظافر روما وحبته المدينة وأصبح سيِّد الغرب بلا مُنازع.
وتقابل قسطنطين وليسنيوس في ميلان في أوائل عام 313 لينسقا حكمهما: وأراد أولهما أن يجعل تأييده للمسيحيين عاماً يشمل الولايات جميعها، فأصدر هو وليسنيوس "مرسوم ميلان" يؤكدان فيه التسامح الديني الذي أعلنه جليريروس ووسعا نطاقه حتى شمل الأديان كلها، ويأمران بأن يعاد إلى المسيحيين ما انتزع من أملاكهم في أثناء الاضطهاد الأخير. وعاد قسطنطين للدفاع عن غالة بعد هذا الإعلان التاريخي الذي كان في واقع الأمر اعترافاً بهزيمة الوثنية؛ واتجه ليسنيوس نحو الشرق ليكيل الضربات إلى مكسمينس (313). كلن مكسمينس مات بعد قليل من ذلك الوقت. فأصبح قسطنطين وليسنيوس حاكمي الإمبراطوريّة لا ينازعهما فيها منازع وتزوج ليسنيوس أخت قسطنطين، واختبط الشعب الذي ملّ الحروب بمخايل السلام البادية في الأفق.
ولكن كلا الحاكمين لم يفارقه قط أمله في أن يكون صاحب السيادة وحده على الدولة جميعها؛ ووصل العداء المتزايد بينهما في 313 إلى امتشاق الحسام، فغزا قسطنطين باثونيا، وهُزم لينسيوس، واضطر إلى أن يسلم له جميع أملاك الدولة الرومانية في أوربا ما عدا تراقية. وانتقم ليسنيوس من المسيحيين المؤيدين لقسطنطين بالعودة إلى اضطهادهم في آسية ومصر؛ فطرد المسيحيين من قصره في نقوميديا، وحتم على كل جندي أن يعبد الآلهة الوثنية، وحرم اجتماع الرجال والنساء في أثناء العبادات المسيحية، ثم حرم آخر الأمر
جميع الشعائر المسيحية داخل المدينة، وأمر بطرد مَن عصى من المسيحيين من خدمة الحكومة وحرمانهم من حق المواطنية، ومن أملاكهم، أو حريتهم أو حياتهم.
وظل قسطنطين يترقب الفرصة التي تمكنه من إنقاذ المسيحيين في بلاد الشرق ومن إضافة الشرق نفسه إلى أملاكه. وأُتيحت له هذه الفرصة حين غزا البرابرة تراقية وعجز ليسنيوس عن الزحف لملاقاتهم، فسار قسطنطين على رأس جيشه إلى تسالونيكي لينقذ ولاية ليسنيوس من الغزاة. فلما أن صد البرابرة احتج ليسنيوس على دخوله تراقية، وتجددت الحرب بين الملكين لأن كليهما لم يكن يجنح للسلم. والتقى حامي المسيحية ومعه 130. 000 من رجاله بحامي الوثنية على رأس 160. 000 في أدرنة أولاً ثم في كريسوبوليس Chrysopolis (أشقودرة)، وانتصر وأصبح وحده إمبراطوراً على الدولة الرومانية (323). استسلم ليسنيوس بعد أن وعده قسطنطين بالعفو عنه، ولكنه أعدم في السنة الثانية متهماً بأنه عاد إلى دسائسه. واستدعى قسطنطين المنفيين من المسيحيين، وأعاد إلى كل "المؤمنين" ما فقدوه من الامتيازات والممتلكات. ومع أنه كان لا يزال يُعلن أن الناس كلهم أحرار فيما يعبدون، فقد أعلن وقتئذ صراحة اعتناقه الدين المسيحي، ودعا رعاياه أن ينهجوا نهجه في اعتناق الدين الجديد.
الفصل الثالث
قسطنطين والمسيحية
ترى هل كان قسطنطين حين اعتنق المسيحية مخلصاً في عمله هذا؟ وهل أقدم عليه عن عقيدة دينية، أو هل كان ذلك العمل حركة بارعة أملتها عليه حكمته السياسية؟ أكبر الظن أن الرأي الأخير هو الصواب (33). لقد اعتنقت أمه هلينا الدين المسيحي حين طلقها قنسطنطيوس؛ ولعلها أفضت إلى ولدها بفضائل المسيحية، وما من شك في أنه تأثر بما ناله من انتصارات في المعارك الحربية التي خاض غمارها مستظلاً بلواء المسيح وصليبه. ولكن المتشكك وحده هو الذي يحتال هذا الاحتيال على استخدام مشاعر الإنسانية الدينية لنيل أغراضه الدنيوية. ويقول صاحب كتاب تاريخ أغسطس Historia Augusta على لسانه:"إن الحظ وحده هو الذي يجعل الإنسان إمبراطوراً"(34) - وإن كان قوله هذا تواضعاً منه لا اعتقاداً بسيطرة الظروف على مصائر الناس. وقد أحاط نفسه في بلاطه ببلاد غالة بالعلماء والفلاسفة الوثنيين (35)؛ وكلما كان اعتناقه دينه الجديد يخضع لما تتطلبه العبادات المسيحية من شعائر وطقوس، ويتضح من رسائله التي بعث بها إلى الأساقفة المسيحيين أنه لم يكن يعنى بالفروق اللاهوتية التي كانت تضطرب لها المسيحية - مع أنه لم يكن يتردد في القضاء على الانشقاق محافظة على وحدة الإمبراطوريّة. وقد كان في أثناء حكمه كله يعامل الأساقفة على أنهم أعوانه السياسيون؛ فكان يستدعيهم إليه، ويرأس مجالسهم، ويتعهد بتنفيذ ما تقره أغلبيتهم من آراء. ولو أنه كان مسيحياً حقاً أولاً وحاكماً سياسياً بعدئذ؛ ولكن الآية انعكست في حال قسطنطين، فكانت المسيحية عنده وسيلة لا غاية.
ولقد شهد في حياته كيف أخفق الاضطهاد ثلاث مرات، وانطبع في نفسه بلا ريب انتصار المسيحية رغم كل اضطهاد. نعم إن أتباع هذا الدين كانوا لا يزالون قلة في الدولة، ولكنهم كانوا إذا قيسوا إلى غيرهم قلة متحدة، مستبسلة قوية، على حين أن الأغلبية الوثنية كانت منقسمة إلى عدة شيع دينية، وكان فيها عدد كبير من النفوس التي لا عقيدة لها ولا نفوذ في الدولة. وكان المسيحيون كثيرين في روما بنوع خاص في عهد مكسنتيوس، وفي الشرق في أيام ليسنيوس؛ وقد أفاد قسطنطين من تأييد المسيحية اثنا عشر فيلقاً لاقى بها هذين القائدين. ولقد اعجب بجودة نظام المسيحيين إذا قيسوا بغيرهم من سكان الإمبراطوريّة، وبمتانة أخلاقهم، وحسن سلوكهم، وبجمال الشعائر المسيحية وخلوها من القرابين الدموية، وبطاعة المسيحيين لرؤسائهم الدينيين، وبرضاهم صاغرين بفوارق الحياة رضاء مبعثه أملهم في أنهم سيحظون بالسعادة في الدار الآخرة. ولعله كان يرجو أن يطهر هذا الدين الجديد أخلاق الرومان. ويعيد إلى الأسرة ما كان لها من شأن قديم، ويخفف من حدة حرب الطبقات، وقلما كان المسيحيون يخرجون على الدولة رغم ما لاقوه من ضروب الاضطهاد الشديد، ذلك بأن معلميهم قد غرسوا في نفوسهم واجب الخضوع للسلطات المدنية، ولقنوهم حق الملوك المقدس. وكان قسطنطين يأمل أن يكون ملكاً مطلق السلطان، وهذا النوع من الحكم يفيد لا محالة من تأييد الدين، وقد بدا له أن النظام الكهنوتي وسلطان الكنيسة الدنيوي يقيمان نظاماً روحياً يناسب نظام الملكية، ولعل هذا النظام العجيب بما فيه من أساقفة وقساوسة، يصبح أداة لتهدئة البلاد وتوحيدها وحكمها.
لكن قسطنطين اضطر إلى أن يتحسس كل خطوة يخطوها بحذر، لأن الوثنية كانت هي الغالبة على العالم الذي يعيش فيه. ولذلك ظل يستخدم ألفاظاً توحيدية يستطيع أن يقبلها كل وثني، وقام خلال السنين الأولى من سلطانه
المفرد في صبر وأناة بجميع المراسيم التي يتطلبها منه منصب الكاهن الأكبر، والتي تحتمها عليه الطقوس التقليدية، وجدد بناء الهياكل الوثنية، وأمر بممارسة أساليب العرافة؛ واستخدم في تدشين القسطنطينية شعائر وثنية ومسيحية معاً، واستعمل رقى سحرية وثنية لحماية المحاصيل وشفاء الأمراض (36).
ولما توطدت دعائم قوته أخذ يجهر تدريجياً بمحاباة المسيحية، فمحا بعد عام 317 من نقوده واحدة بعد واحدة ما كان على وجهها من صور وثنية، ولم يحل عام 323 حتى كان كل ما عليها من الرسوم نقوشاً محايدة لا هي مسيحية ولا وثنية. ومن المراسيم القانونية الباقية من عهده مرسوم مشكوك فيه ولكنه لم يثبت كذبه، يخول الأساقفة المسيحيين حق الفصل فيما يقوم في أبرشياتهم من منازعات قضائية (37)، وأعفت قوانين أخرى أملاك الكنيسة العقارية من الضرائب (38) وجعلت الجماعات المسيحية شخصيات معنوية قضائية، وأجازت لها امتلاك الأرض وقبول الهبات، وجعلت الكنيسة هي الوارثة لأملاك الشهداء الذين لم يعقبوا ذرية (39). وكذلك وهب قسطنطين أموالاً إلى المجامع الدينية المحتاجة إليها، وشاد عدداً من الكنائس في القسطنطينية وغيرها من المُدن، وحرّم عبادة الأوثان في عاصمته الجديدة. وكأنه نسي مرسوم ميلان فحرّم اجتماع الشيع الدينية الملحدة، وأمر آخر الأمر بتدمير مجامعهم الدينية (40)، وربى أبناءه تربية مسيحية سليمة، وأعان بالمال أعمال البر المسيحية التي كانت تقوم بها أمه. وابتهجت الكنيسة بهذه النعم التي فاقت كل ما كانت تتوقعه؛ وكتب يوسيبوس صحائف كانت في واقع الأمر عقود مدح لقسطنطين وإقراراً بفضله، واحتشد المسيحيون في جميع أنحاء الإمبراطوريّة ليعبروا عن شكرهم لانتصار إلههم.
غير أن سحباً ثلاثاً كدّرت صفو ذلك اليوم الذي "لا سحاب فيه":
تلك هي انشقاق الاديرة، والانشقاق الدوناني
(1)
، والإلحاد الأريوسي
(2)
. وكانت الكنيسة، في الفترة الواقعة بين اضطهادي ديسيوس ودقلديانوس، قد أضحت أغنى الهيئات الدينية في الإمبراطوريّة، وخففت من هجماتها على الثراء. فترى سبريان يشكو من أن أبناء أبرشيته قد أضل حب المال عقولهم، ومن أن النساء المسيحيات يصبغ وجوههن، وأن الأساقفة يتولون مناصب في الدولة تدر عليهم المال الكثير، فأثروا، وأقرضوا المال بربا فاحش، وارتدوا عن دينهم إذا بدت لهم أول علامة من علامات الخطر (41)، ويبدي يوسبيوس حزنه من تناحر القساوسة في تنافسهم على المناصب الكنسية العليا (42).
وقصارى القول أن الدنيا جعلت المسيحيين رجال دنيا في الوقت الذي هدت فيه المسيحية العالم إلى ذلك الدين؛ وأظهرت الدنيا ما في الفطرة البشرية من غرائز وثنية. وقامت الرهبنة المسيحية احتجاجاً على هذا التوفيق المتبادل بين الروح والجسم. ذلك أن أقلية من المسيحيين كانت ترغب في الابتعاد عن كل طاعة للشهوات البشرية، وتطالب بالاستمرار على الانهماك المسيحي القديم في التفكير في الحياة الأبدية الخالدة. وجرى بعض هؤلاء الزهاد على الكلبيين فتخلوا عن جميع أملاكهم، وارتدوا ثوب الفلاسفة الخلق، وعاشوا على ما يقدم لهم من صدقات. وذهب بعضهم ليعيشوا بمفردهم في الصحراء المصرية كما فعل بولس الناسك. وحدث حوالي عام 275 أن بدأ راهب مصري يدعى أنطونيوس ربع قرن من حياة العزلة قضى بعضها أولاً في قبر، وبعضها في حصن جبلي مهجور، وبعضها الآخر في فجوة ضيقة نحتها في الصخور، كانت تنتابه فيها أثناء الليل
(1)
نسبة إلى دوناتس Donatus وهو زعيم شيعة مسيحية أفريقية ظهرت في القرنين الرابع والخامس، وكانت تعارض أي نقص في احترام الشهداء وتطالب بإعادة تعميد مَن ينظمون إليها من أتباع الكنيسة الكاثوليكية. (المترجم)
(2)
نسبة إلى أريوس الإسكندري المتوفى عام 336 م. والذي كان ينكر ألوهية المسيح. (المترجم)
رؤى مخيفة وأحلام لذيذة تغلب عليها كلها، حتى اشتهر بالقداسة، وعمت هذه الشهرة جميع أنحاء العالم المسيحي، وعمرت الصحراء بالنساك المنافسين له. وأحس باخوميوس في عام 325 أن اعتزال الناس أنانية فجمع الزهاد في دير عند طابين في مصر، وأنشأ الرهبنة الجماعية التي صار لها أعظم الأثر في بلاد الغرب. وقاومت الكنيسة حركة الرهبنة وقتاً ما، ثم رضيت بها لتوازن اهتمامها المتزايد بشئون الحكم.
وقبل أن يمضي عام واحد على اعتناق قسطنطين المسيحية حدث فيها انشقاق شديد الخطورة كاد يقضي عليها في ساعة النصر. ذلك أن دوناتس Donatus أسقف قرطاجنة، يؤيده قسطنطين اسمه كاسمه ومزاجه كمزاجه، أصر على أن الأساقفة الذين أسلموا الكتاب المقدس لرجال الشرطة الوثنيين قد فقدوا بعملهم هذا أهليهم لمنصبهم وسلطتهم، وأن شعائر التعميد ورسامة القساوسة التي تجري على أيدي هؤلاء الأساقفة باطلة، وان صحة العشاء الرباني يقف بعضها على الحالة الروحية للقائم بخدمته. ولما رفضت الكنيسة العمل بهذه العقائد الصارمة نصب الدوناتيون أساقفة جدد في كل مكان رأوا أن الأسقف الذي فيه لا تنطبق عليه شروطهم، وحزن قسطنطين أشد الحزن لما أعقب هذه الحركة من فوضى وعنف، وقد كان يظن أن المسيحية ستكون قوة تعمل على الوحدة؛ ولعله قد تأثر بعض التأثر بالحلف الذي عقد إلى حين بين الدوناتيين وبين القائمين بالحركة المتطرفة بين الزراع الأفريقيين. ولهذا دعا الأساقفة إلى مجلس جامع يعقد في أرليس (314)، وأيد ما أصدره من قرار بالتشهير بالدوناتية، وأمر المنشقين بالعودة إلى الكنيسة، وقرر أن المجامع التي لا تطيع هذا القرار تفقد أملاكها وحقوقها المدنية (316). وبعد خمس سنين من ذلك الوقت طافت بعقله في فترة قصيرة ذكرى مرسوم ميلان، فألغى هذه القرارات، وتسامح مع الدوناتيين
تسامحاً مصحوباً بالسخرية. وبقيت هذه الشيعة حتى قضى العرب على أتباع الدين القويم وعلى الملحدين حين فتحوا أفريقية.
وفي هذه السنين نفسها شهدت الإسكندرية قيام أخطر حركة إلحادية في تاريخ الكنيسة. ذلك أن قساً مصرياً تقدم إلى أسقفه حوالي عام 318 بآراء غريبة عن طبيعة المسيح، ويصفه مؤرخ كاثوليكي عالم وصفاً كريماً فيقول:
"كان أريوس
…
طويل القامة، نحيل الجسم، مكتئب المظهر، ذا منظر تبدو فيه آثار خشونة العيش. وكان معروفاً بأنه من الزهاد، كما يستدل على ذلك من ملبسه - وهو جلباب قصير من غير كمين تحت ملحفة يستخدمها عباءة وكانت طريقته في الحديث ظريفة، وخطبه مقنعة. وكانت العذارى اللاتي نذرن أنفسهن للدين، وهن كثيرات في الإسكندرية، يبجلنه أعظم التبجيل، وكان له من بين رجال الدين عدد كبير من المؤيدين" (43).
ويقول أريوس إن المسيح لم يكن هو والخالق شيئاً واحداً، بل كان هو الكلمة أول الكائنات التي خلقها الله وأسماها. واحتج الأسقف ألكسندر على هذا القول، ولكن أريوس أصر عليه وقال إنه إذا كان الابن من نسل الأب، فلابد أن تكون ولادته قد حدثت في زمن، وعلى هذا لا يمكن أن يكون الابن مصقفاً مع وجود الأب في الزمن. يضاف إلى هذا أنه إذا كان المسيح قد خلق فلابد أن يكون خلقه من لا شيء، أي من غير مادة الأب؛ لأن المسيح والأب ليسا من مادة واحدة. وقد ولد الروح القدس من الكلمة، وهو أقل ألوهية من الكلمة نفسها. ونحن نرى في هذه العقائد استمرار للأفكار المنحدرة من أفلاطون عن طريق الرواقيين، وفيلون، وأفلوطينس، وأرجن إلى أريوس. وبذلك أصبحت الأفلاطونية التي كان لها أعظم الأثر في اللاهوت المسيحي في نزاع مع الكنيسة.
وارتاع الأسقف ألكسندر من هذه الآراء، وارتاع أكثر من هذا من سرعة انتشارها بين رجال الدين أنفسهم. ولهذا دعا مجلساً من الأساقفة المصريين إلى الاجتماع في الإسكندرية، وأقنع أعضاءه بأن يحكموا بتجريد أريوس وأتباعه؛ وأبلغ الإجراءات التي اتخذها المجلس إلى سائر الأساقفة، فاعترض عليها بعضهم، وأظهر بعض القساوسة عطفاً على أريوس، واختلفت آراء رجال الدين والدنيا في الولايات الأسيوية في هذه المشكلة، وترددت في المدائن أصداء "الضجيج والاضطراب
…
حتى كان الدين المسيحي"، كما يقول يوسبيوس "موضوع السخرية الدنسة من الوثنيين، حتى في دور التمثيل نفسها" (45). ولما جاء قسطنطين إلى نقوميديا بعد أن هزم ليسنيوس، سمع هذه القصة من أسقفها، فأرسل إلى الاسكندر وإلى أريوس رسالة شخصية يدعوهما فيها أن يتخلقا بهدوء الفلاسفة، وأن يوفقا بين آرائهما المختلفة في سلام، فإن لم يفعلا فلا أقل من أن يخفيا جدلهما عن آذان الجماهير، ويكشف هذا الخطاب، الذي نقله لنا يوسبيوس، في صراحة عن قلة اهتمام قسطنطين بعلوم الدين، وعن الهدف السياسي الذي كان يبتغيه من سياسته الدينية:
"لقد اقترحت أن أرّد جميع آراء الناس في الله إلى صورة واحد، لأني قوي الاعتقاد بأني إذا استطعت أن أوحد آراءهم في هذا الموضوع سهل علي كثيراً تصريف الشئون العامة. ولكني مع الأسف الشديد أسمع أن بينكما من الخلاف أكثر مما كان قائماً في أفريقية من وقت قريب. ويبدو لي أن سبب هذا الخلاف بينكما صغير تافه غير جدير بأن يثير هذا النزاع الشديد. فأنت يا ألكسندر تريد أن تعرف رأي قساوتك في إحدى النقاط القانونية، في جزء من سؤال هو في حد ذاته عديم الأهمية؛ وأما أنت يا أريوس فقد كان الواجب عليك، إذا كانت لديك أفكار من هذا القبيل، أن تظل صامتاً
…
ولم يكن ثمة حاجة إلى إثارة هذه المسائل
أمام الجماهير
…
لأنها مسائل لا يثيرها إلا مَن ليس لديهم عمل
يشغلون به أنفسهم، ولا يرجى منها إلا أن تزيد عقول الناس حدة
…
تلك أعمال سخيفة بالأطفال العديمي التجربة لا برجال الدين أو العقلاء من الناس" (46).
ولم يكن لهذه الرسالة أثر ما لأن مسالة اتفاق الأب والابن في المادة لا مجرد تشابههما كانت في نظر الكنيسة مسألة حيوية من الوجهتين الدينية والسياسية، وكانت ترى أنه إذا لم يكن المسيح إلهاً فإن كيان العقيدة المسيحية كلها يبدأ في التصدع، وإذا ما سمحت باختلاف الرأي في هذا الموضوع فإن فوضى العقائد قد تقضي على وحدة الكنيسة وسلطانها، ومن ثم على ما لها من قيمة بوصفها عوناً للدولة. ولما انتشر الجدل في هذه المسألة، واشتعلت نيران الخلاف في بلاد الشرق اليوناني، اعتزم قسطنطين أن يقضي عليه بدعوة أول مجلس عام للكنيسة. ولهذا عقد مجلساً من الأساقفة عام 325 في نيقية البيثينية بالقرب من عاصمة نقوميديا، وأعد ما يلزم من المال لنفقاتهم. وحضر الاجتماع عدد لا يقل عن 318 "يصحبهم" كما يقول واحداً منهم "حشد كبير من رجال الدين الأقل منهم درجة"(47)، وهو قول يدل على مقدار نماء الكنيسة العظيم. وكان معظم الأساقفة من الولايات الشرقية، لأن كثيراً من الأبرشيات الغربية تجاهلت هذا الجد، واكتفى البابا سلفستر الأول Silvester l بأن مثله بعض القساوسة، لأن المرض حال بينه وبين حضور الاجتماع بنفسه.
واجتمع المجلس في بهو أحد القصور الإمبراطوريّة تحت رياسة قسطنطين، وافتتح هو المناقشات بدعوة موجزة وجهها إلى الأساقفة يطلب إليهم فيها أن يعيدوا إلى الكنيسة وحدتها. ويقول يوسبيوس إنه كان يستمع بصبر عظيم إلى المناقشات، ويهدئ من عنف الجماعات المتنازعة (48)، ويشترك في المناقشات بنفسه. وأكد أريوس من جديد رأيه القائل بأن المسيح مخلوق، لا يرقى إلى منزلة الأب، ولكنه "مقدس بالاشتراك" معه لا غير. وقد أرغمته بعض الاسئلة
الحاذقة على أن يعترف بأنه إذا كان المسيح مخلوقاً؛ وأن له بداية؛ فإن في مقدوره أن يتحول، وأنه إذا استطاع أن يتحول، فقد ينتقل من الفضيلة إلى الرذيلة.
وكانت إجاباته عن الأسئلة منطقية، صريحة، قاطعة. وقد أوضح أثناسيوس Athanasiua، رئيس الشمامسة البليغ المشاكس، الذي جاء به الاسكندر معه ليقطع به لسان معارضيه، انه إذا لم يكن المسيح والروح القدس كلاهما من مادة الأب، فإن الشرك لابد أن ينتصر. وقد سلم بما في تصوير أشخاص ثلاثة في صورة اله واحد من صعوبة، ولكنه قال بأن العقل يجب أن يخضع لما فيه الثالوث من خفاء وغموض. ووافقه الأساقفة جميعهم على رأيه عدا سبعة عشر منهم ووقعوا قراراً يعلنون فيه هذا الرأي. ورضي مؤيدو أريوس أن يوقعوا معهم إذا سمح لهم بأن يضيفوا إلى هذا الإعلان نقطة واحدة وهي أن يستبدلوا كلمة همويوسيون Homoiousion (اي مماثلاً في الجوهر) بكلمة همؤوسيون Homoousion أي من جوهر واحد. ولكن المجلس رفض هذا التعديل وأصدر بموافقة الإمبراطور القرار الآتي:
"نحن نؤمن بإله واحد، وهو الأب القادر على كل شيء، خالق الأشياء كلها ما ظهر منها وما بطن، وبسيّد واحد هو يسوع المسيح ابن الله، المولود
…
غير المخلوق من نفس جوهر الأب
…
وبأنه من أجلنا نحن البشر ومن أجل نجاتنا نزل وتجسد، وصار إنساناً، وتعذّب، وقام مرة ثانية في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وسيعود ليحاسب الأحياء والأموات
…
(1)
).
ولم يرفض توقيع هذه الصيغة إلا خمسة من الأساقفة، نقصوا آخر الأمر إلى اثنين. وحكم المجلس على هذين الأسقفين وعلى أريوس الذي لم يتزحزح عن عقيدته أو يتوب عما صدر منه، حكم عليهم باللعنة والحرمان، ونفاهم الإمبراطور
(1)
ويختلف هذا عن ((العقيدة النقية)) المتبعة الآن والتي هي تعديل لهذا القرار صدر في عام 362.
من البلاد. وصدر مرسوم إمبراطوري يأمر بإحراق كتب أريوس جميعها ويجعل إخفاء أي كتاب منها جريمة يعاقب عليها بالإعدام
(1)
.
واحتفل قسطنطين بانقضاض المجلس بأن دعا جميع الأساقفة الذين حضروه إلى وليمة ملكية، ثم صرفهم بعد أن طلب إليهم ألا يمزق بعضهم أجساد بعض (51)، ولكنه أخطأ إذ ظن أن النزاع قد وقف عند هذا الحد، أو أنه هو لن يغير رأيه فيه. غير أنه كان على حق حين اعتقد أنه خطا خطوة كبيرة في سبيل وحدة الكنيسة. فلقد أذاع المجلس عقيدة الكثرة العظمى من رجال الدين، وهي أن نظام الكنيسة وبقاءها يتطلبان تحديد العقائد بطريقة ما؛ وقد أثمر آخر الأمر ذلك الإجماع العملي على العقيدة الأساسية التي اشتق منها اسم الكنيسة في العصور الوسطى وهو الكنيسة الكاثوليكية. وكان في الوقت نفسه إيذاناً باستبدال المسيحية بالوثنية وجعلها المظهر الديني والعضد القوي للإمبراطوريّة الرومانية. واضطر قسطنطين أن يكون أكثر تصميماً من ذي قبل على التحالف مع المسيحية؛ وهكذا بدأت حضارة جديدة، ومؤسسة على دين جديد، تقوم على أنقاض ثقافة مضعضعة وعقيدة محتضرة. لقد بدأت العصور الوسطى.
(1)
وقرر المجلس أيضاً أن تحتفل الكنائس كلها بعيد القيامة في يوم واحد يحدده كل عام أسقف الإسكندرية على أساس قاعدة فلكية، ويذيعه أسقف روما. أما مسألة بقاء رجال الكنيسة بلا زواج فإن المجلس كان يميل إلى أن يطلب إلى القساوسة المتزوجين أن يتعففوا عن العلاقات الجنسية، ولكن بفنوتيوس Paphntius أسقف طيبة العليا اقنع زملاءه الأساقفة بأن يتركوا العادة المتبعة كما هي، وكانت هذه العادة تحرم الزواج بعد الرسامة، ولكنها تجيز للقس أن يجامع زوجته إذا كان قد بنى بها قبل الرسامة.
الفصل الرابع
قسطنطين والحضارة
أنشأ قسطنطين بعد سنة واحدة من اجتماع المجلس مدينة جديدة وسط خرائب بيزنطية سماها روما الجديدة Nova Roma وسمتها الأجيال التي أعقبته باسمه. وفي عام 330 أدار ظهره نحو روما ونيقوميدية كلتيهما، واتخذ القسطنطينية عاصمة له، وأحاط نفسه فيها بأبهة الملوك الشرقيين وحاشيتهم، لاعتقاده أن ما تحدثه هذه الأبهة من تأثير نفساني في الجيش والشعب سوف يجعل ما تحتاجه مظاهرها من المال الكثير اقتصاداً حقيقياً في مطالب الحكم. وبسط رعايته على الجيش بما أوتي من حسن السياسة وقوّاه بأن أمده بالسلاح، وخفف من نير الاستبداد بقراراته الرحيمة، وناصر الآداب والفنون، وشجع مدارس أثينة، وأنشأ جامعة جديدة في القسطنطينية، كان فيها أساتذة يتناولون مرتبات من قِبَل الدولة، ويعلّمون اللغتين اليونانية واللاتينية، والآداب والفلسفة، والبلاغة والقانون، ويدربون الموظفين الذين تحتاجهم الإمبراطوريّة (52). وأيد ما كان للأطباء والمدرسين في جميع الولايات من امتيازات ووسّع نطاقها، وأمر الحكام أن ينشئوا في ولاياتهم مدارس للعمارة، وأن يستجلبوا الطلاب إليها بمختلف الامتيازات والمكافآت، وأعفي الفنانين من الواجبات المفروضة على غيرهم من المدنيين حتى يوفر لهم ما يكفي من الوقت لإتقان فنهم وتعليمه أبناءهم. وقد استعان بالكنوز الفنية في جميع أنحاء الإمبراطوريّة على تجميل القسطنطينية حاضرته الجديدة.
وبدأت أعمال البناء في روما في ذلك العهد على يد مكسنتيوس، فقد
بدأ هو (306) وأنم قسطنطين باسلقا ضخمة كانت هي تاج العمارة القديمة في الغرب. وعمد في بنائها إلى طراز الحمّامات الكبرى فعدّله وشاد على طرازه المعدل صرحاً عظيماً تشغل قاعدته 330 قدماً في 250. وكانت لردهتها الوسطى التي تبلغ 104 قدماً في 82 سقف مكون من ثلاث قباب متقاطعة مشيدة بالأسمنت المسلح يبلغ ارتفاعها 120 قدماً يستند بعضها إلى ثماني دعامات عريضة تواجهها عمد كورنثية ذات حزوز غائرة يبلغ ارتفاعها ستين قدماً. وكانت أرضها من الرخام الملوَّن؛ ووضعت بين الأعمدة عدة تماثيل، وعلت جدران هذه الأجزاء التي بين الأعمدة فوق سقفها لكي تكون دعامات مرتفعة للقباب الوسطى. ولقد تعلم مهندسو القوط ومهندسو النهضة الشيء الكثير من هذه القباب والدعامات، ولما أراد برامنتي Bramante أن يخطط كنيسة القدّيس بطرس اعتزم أن يتوج صحن الكنيسة الواسع بقبة ضخمة، أو "أن يقيم بناء الكنيسة الكبرى فوق باسلقا قسطنطين".
وشاد أول الأباطرة المسيحيين كنائس كثيرة في روما وأكبر الظن أن الشكل الأول لكنيسة سان لورنزو التي في خارج روما كان من هذه الكنائس. وأراد أن يحتفل بذكرى نصره عند نهر ملفيوس فأقام في عام 315 قوساً لا يزال يشرف على طريق النصر Via del Trionfi؛ وهو من أكمل الآثار الباقية في روما ولم ينقص من عظمته كثيراً ما انتزع من أجزائه آناً بعد آن. ويتركب من أربعة جذوع دقيقة التناسب ترتفع فوق القاعدة المنحوتة، وتقسم الأقواس للثلاثة، وتسند الدعامة المزخرفة المرتكزة عليها. وعلى الطبقة العليا نقوش بارزة وتماثيل مأخوذة من آثار لتراجان وأورليوس، كما أن الحليات الوسطى التي بين الأعمدة مأخوذة من مبانٍ شيدت في عهد هدريان. وربما كان نقشان من النقوش البارزة من عمل فناني قسطنطين، ويشهد ما في هذا الأثر من صور جالسة، ومن اختلاط سمج بين الوجوه المصورة من الجانب والسيقان المصورة من الأمام، ومن
تكديس الرؤوس فوق الرؤوس بدل أن يراعي الفنان قواعد المنظور، يشهد كل هذا بخشونة الذوق وعدم الإتقان الفني ولكن الحفر العميق وما يقع عليه من ضوء وظل، يطبع في الخيال صورة واضحة من العمق والسعة، والحادثات التي تقصها تلك النقوش ممثلة بحيوية خشنة كأنما الفن الإيطالي قد اعتزم أن يعود إلى منبعه الأول.
ويبدو تمثال قسطنطين الضخم المحفوظ في الكنسر فتورى بدائياً إلى حد تشمئز منه النفس، ولا يكاد العقل يصدق أن الرجل الذي تفضل فرأس مجمع نيقية يشبه البربري الفظ إلى الحد الذي يطالع الإنسان في هذا التمثال- إلا إذا كان الفنان قد أراد أن يوضح مقدماً العبارة الجامعة الساخرة التي قالها جبن:"لقد وصفت انتصار الهمجية والدين".
وفي أوائل هذا القرن الرابع أخذ فن جديد يتشكل ويزهر في الوجود- ونعني به "تزيين" المخطوطات بصورة ملونة صغيرة. وكان معظم الأدب في ذلك الوقت مسيحي الطابع. ومن أدباء ذلك العصر لوسيوس فرمنيانس لكتنيوس Lucius Firminianus Lactantius الذي شرح شرحاً بليغاً في كتابيه الأنظمة المقدسة Divinae Institutiones (307) وفي الاضطهاد المميت De Mortibus Persecutorum (314) الآلام الأخيرة التي عاناها الأباطرة مضطهدو المسيحيين، ولم يكن هذا الوصف يقل عن وصف شيشرون بلاغة وحقداً. ومن أقواله في هذا المعنى:"إن طبيعة الدين تحتم أن يكون حراً، طليقاً، غير متأثر بأي ضغط"(55)، وتلك بدعة لم تطل حياته حتى يكفّر عنها، وكان يوسبيوس بمفيلي أسقف قيصرية أوسع منه شهرة. وقد بدأ حياته الأدبية كاتباً قسيساً وأمين مكتبة لسلفه الأسقف بمفيلس، وقد بلغ من حبه لهذا الأسقف أن تسمى باسمه. وكان بمفيلس الأكبر قد حصل على مكتبة أرجن وضم إليها
أكبر مجموعة من الكتب المسيحية عرفت حتى ذلك الوقت. وعاش يوسبيوس بين هذه الكتب، فأصبح بذلك أكثر رجال الدين علماً في زمانه. وقضى بمفيلس نحبه أثناء اضطهادات جليريوس (310)، وأخذ الناس يتساءلون فيما بعد كيف بقي يوسبيوس حياً بعد هذا الاضطهاد، حتى أقضت هذه الأسئلة مضجع الرجل وآذت سمعته. وقد عاداه الكثيرون لموقفه الوسط بين أريوس والاسكندر، ولكنه رغم هذا أصبح في بلاط الاسكندر كما كان بوسويه Bossuet في بلاط لويس الرابع عشر، وكلف بكتابة سيرة الإمبراطور، وجمعت بعض كتاباته في تاريخ عام- يعد أوفى الكتب التاريخية القديمة. وقد رتب يوسبيوس التاريخين المقدس والدنس في عمودين متوازيين يفصل بينهما صف من تواريخ السنين المشتركة في كليهما، وحاول أن يحدد السنة التي وقعت فيها كل حادثة خطيرة من أيام إبراهيم الخليل إلى أيام قسطنطين. وقد اعتمدت كل التواريخ المتأخرة على "قانونه" هذا.
ثم كسا يوسبيوس هذه العظام لحماً، ونشر في عام 325 تاريخاً كنسياً يصف فيه نماء الكنيسة من أول عهدها إلى مجمع نيقية. ويحتوي الفصل الأول من هذا الكتاب- وكان نموذجاً نسج منواله بوسويه مرة أخرى- على أقدم ما كتب في فلسفة التاريخ- فقد صور الزمان كأنه ميدان القتال بين الله والشيطان كما صور الحوادث جميعها على أنها معينة على انتصار المسيح. والكتاب سيئ الترتيب ولكنه حسن الأسلوب. وقد فحص عن المراجع فحصاً دقيقاً راعى فيه الذمة والضمير، وتبلغ أحكامه من الدقة ما تبلغه أحكام أي كتاب قديم في التاريخ؛ وهو في كل خطوة يخطوها يجعل الخلف مديناً له وذلك بما ينقله عن وثائق خطيرة لولا هذا لما عرف العالم عنها شيئاً. والأسقف المؤلف غزير المادة، واسع الاطلاع إلى حد كبير، وأسلوبه تسري فيه العاطفة القوية، والشعور الفياض، ويسمو إلى أعلى الدرجات في لحظات الكراهية
الدينية وهو يعترف صراحة بأنه حذف من كتابه كل ما لا يقوي إيمان قرائه المسيحيين أو يؤيد فلسفته ويحاول أن يكتب تاريخ المجلس العظيم- مجلس نيقية- دون أن يذكر اسم أريوس أو أثناسيوس. وهذا الغش الشريف نفسه هو الذي يجعل كتابه الآخر حياة قسطنطين تسبيحاً بحمد الرجل لا ترجمة له. فهو يبدؤه بثمانية فصول ملهمة عن تقوى الإمبراطور وأعماله الصالحة، ويصف لنا كيف "حكم الإمبراطوريّة حكماً راعى فيه حدود الله أكثر من ثلاثين عاماً". وليس في مقدور الإنسان بعد أن يقرأ هذا الكتاب أن يظن أن قسطنطين قتل ولده وابن أخته وزوجته.
ذلك أن قسطنطين قد أحسن تدبير كل الأمور ما عدا أمور أسرته، شأنه في هذا شأن أغسطس. ولقد كانت صلاته بأمه طيبة سعيدة بوجه عام، ويبدو أنها سافرت بتكليف منه إلى أورشليم ودمرت ذلك الهيكل الشائن، هيكل أفرديتي الذي بني، كما يقول البعض، فوق قبر المسيح المنقذ. ويقول يوسبيوس إن الضريح المقدس ظهر للعين في ذلك المكان، وفيه الصليب بعينه الذي مات عليه المسيح. وأمر قسطنطين أن تشاد كنيسة الضريح المقدس فوق القبر، وحفظت الآثار المعظمة في خزانة مقدسة خاصة. ومن ذلك الحين بدا العالم المسيحي يجمع مخلفات المسيح والقديسين ويعيدها، كما كان العالم الوثني في الأيام القديمة السابقة يعتزب بمخلفات حرب طروادة ويعظمها، وكما كانت روما نفسها تفخر بتمثال أثيني إلهة الحكمة حامية طروادة. وقد غير العالم المسيحي مظهر هذه العبادة وجدد جوهرها كما يفعل الخلائق من أقدم العهود. وشادت هلينا كنيسة صغيرة في بيت لحم في الموضع الذي تقول الرواية أن يسوع وُلد فيه، وقامت في تواضع بخدمة الراهبات اللائي كن يقمن بالخدمة في هذه الكنيسة، ثم عادت إلى القسطنطينية لتموت بين ذراعي ولدها.
وتزوج قسطنطين مرتين: أولاهما بمنيرفينا Minervina التي رزق منها بابنه كرسبس Cripus؛ والثانية بفوستا Fausta ابنة مكسميان التي رزق منها بثلاثة بنين وثلاث بنات. وأصبح كرسبس جندياً ممتازاً، وكان نعم العون لأبيه في حروبه ضد ليسنيوس في عام 326 قُتل كرسبس بأمر قسطنطين؛ وأمر الإمبراطور حوالي ذلك الوقت نفسه بقتل ليسنيانس Licinianus بن ليسنيوس من قسطنطيا أخت قسطنطين؛ وبعد قليل من ذلك الوقت أُعدمت فوستا بأمر زوجها. ولسنا نعرف سبب مقتل هؤلاء الثلاثة، غير أن زوسمس Zosimus يؤكد لنا أن كرسبس غازل فوستا، وإنها شكته إلى الإمبراطور، وإن هلينا، وكانت شديدة الحب لكرسبس، إنتقمت لموته، بأن أقنعت قسطنطين أن زوجته قد استسلمت لولده (57). لكن الأرجح من هذا كله أن فوستا عملت على أن تبعد كرسبس من طريق ابنها الذي كانت تريده وارثاً لعرش الإمبراطوريّة، وربما كان مقتل ليسنيانس أنه كان يحيك المؤامرات ليحصل على نصيب أبيه في الدولة.
ونالت فوستا بغيتها بعد موتها؛ ذلك بأن قسطنطين أوصى في عام 335 بأن تقسم الإمبراطوريّة بين مَن كان حياً من أولاده وأولاد أخته. وبعد سنتين من ذلك الوقت احتفل في يوم عيد القيامة بمرور ثلاثين عاماً من حكمه، وأحس بعد ذلك بدنو أجله. فذهب ليستحم في الحمّامات الحارة في أكويريون Aqurion القريبة من القسطنطينية. ولما اشتد عليه المرض استدعى قساً ليجري له مراسيم التعميد المقدس الذي أخره عمداً إلى تلك الساعة. وكان يرجو أن يطهره هذا التعميد مما ارتكبه من الخطايا في حياته المزدحمة بالأعمال. ثم خلع الحاكم المجهد الأثواب الملكية الأرجوانية وارتدى الثوب الأبيض ثوب المسيح الحديث التنصر وأسلم الروح.
لقد كان قسطنطين قائداً بارعاً، وإدارياً عظيماً، وسياسياً لا يشق له في شئون الحكم غبار ورث الأعمال التي كان يبغي بها دقلديانوس ديانوس إعادة الدولة إلى سابق عهدها وأتمها؛ وبفضله طال عمر الإمبراطوريّة 150 عاماً. وقد واصل أنماط الحكم الملكي المطلق التي سار عليها أورليان ودقلديانوس مدفوعاً إلى هذا بأطماعه وكبريائه وباعتقاده أن الحكم المطلق هو العلاج الذي تتطلبه الفوضى السائدة في ذلك الوقت. وكان أكبر أخطائه تقسيمه الإمبراطوريّة بين أبنائه؛ ولعله قد تنبأ بأن هؤلاء الأبناء سيتنازعون فيما بينهم، يريد كل منهم أن ينفرد بالملك، كما فعل هو من قبل، ولكنه ظن أنهم سيتقاتلون حتماً إذا اختار وارثاً للملك غيرهم؛ وهذا أيضاً هو الثمن الذي تبتاع به الملكية المطلقة. أما أوامره التي أصدرها بالإعدام فليس في مقدورنا أن نصدر حكماً صحيحاً عليها لأنا لا نعرف أسبابها. وربما كانت مشاكل الحكم وأعباءه الثقيلة قد ناءت به فتغلبت المخاوف والغيرة على العقل والحكمة إلى حين، وإن لدينا الشواهد على أنه في سنيه الأخيرة قد ندم أشد الندم على ما فعل. ويبدو أن عقيدته المسيحية، التي كانت في بدايتها خطة سياسية، قد استحالت بالتدريج إلى إيمان صحيح استمسك به بإخلاص، وأصبح أكثر المبشرين في دولته مثابرة على عمله، واضطهد الملاحدة اضطهاد المؤمن المخلص لدينه، وكان يعتمد على الله في كل خطوة يخطوها. وقد وهب الإمبراطوريّة الهرمة حياة جديدة بأن ربط بينها وبين دين فتي، ونظام قوي، ومبادئ أخلاقية جديدة وكان في عمله هذا أعظم حكمة من دقلديانوس. وبفضل معونته أضحت المسيحية دولة وديناً، وأمست هي القالب الذي صبت فيه الحياة الأدبية والفكر الأوربي مدى أربعة عشر عاماً، ولعل الكنيسة التي رأت أن تشكر له فضله عليها كانت محقة حين لقبته بأنه أعظم الأباطرة إذا استثنينا أغسطس وحده.
الخاتمة
الفصل الأول
لِمَ سقطت روما؟
يقول أحد العلماء النابهين في هذه الأيام "إن أعظم ما يواجه التاريخ من مشاكل مشكلتان. أولهما كيف نفسر قيام الدولة الرومانية، وثانيتهما كيف نفسر سقوطها"(1). ولعلنا نقرب من فهم هاتين المشكلتين إذا تذكرنا أن سقوط روما كقيامها لا يعزى إلى سبب واحد بل إلى كثير من الأسباب، وإن هذا السقوط لم يكن حادثاً واحداً بل كان عملية امتدت إلى أكثر من ثلاثمائة عام. والحق أن ثمة أمماً لم تدم حياتها بقدر ما استلزمه من الزمن سقوط روما.
والحضارة العظيمة لا يقضى عليها من الخارج إلا بعد أن تقضي هي على نفسها من الداخل. وشاهد ذلك أنا نجد الأسباب الجوهرية لسقوط روما في شعب روما نفسه، أي في أخلاقها، وفي النزاع بين طبقاتها، وفي كساد تجارتها، وفي حكومتها الاستبدادية البيروقراطية، وفي ضرائبها الفادحة الخانقة وحروبها المهلكة. ولقد كان الكتّاب المسيحيون شديدي الإدراك لهذا الضعف المتعدد الأسباب، فلقد بشر ترتليان حوالي عام 200، وهو جذلان، بما سماه ipsa clusula caeculi أي "نهاية عهد" - معتقداً أنه في أغلب الظن مقدمة لدمار العالم الوثني. ورد سبريان قبيل عام 250 على ما اتهم به المسيحيون من أنهم أصل ما حاق بالإمبراطوريّة من محن بأن هذه المحن ترجع إلى أسباب طبيعية:
"يجب أن تعلموا أن العالم قد شاخ، ولم يبقَ ما كان له قبل من قوة، وأنه يشهد بنفسه على اضمحلاله. وإن مقدار ما يسقط من المطر وما تشعه الشمس من دفء آخذان في النقصان، وكادت المعادن ينضب معينها، وقل ما ينتجه الزراع من غلة"(2).
وما من شك في أن هجمات البرابرة، واستغلال العروق المعدنية الغنية الذي دام عدة قرون، قد أنقصا ما تخرجه روما من المعادن النفيسة؛ وأن ما حدث في إيطاليا الوسطى والجنوبية من تقطيع الغابات، وفعل التعرية والنحات، وإهمال قنوات الري الناشئ من نقص عدد الفلاحين، واضطراب الحكومات - ما من شك في أن هذا كله قد ترك إيطاليا أفقر مما كانت في سابق عهدها. بيد أن السبب الحقيقي لم يكن ناشئاً من أن التربة قد استنفدت قدرتها على الإنتاج، أو أن جو البلاد قد تغير، بل كان ما حاق بأهلها من إهمال وعقم سببهما ما حل بهم من ضيق وتثبيط للعزيمة.
وكانت الأسباب الإحيائية
(1)
أهم من الأسباب السابقة وأعظم منها أثراً. فقد بدا نقص خطير في عدد السكان في الغرب بعد هدريان. ويشك بعض المؤرخين في هذا النقص، ولكن إسكان البرابرة بالجملة في ولايات الدولة على أيدي أورليوس، وفلنتنيا، وأورليان، وبروتس، وقسطنطين، لا يكاد يترك مجالاً للشك في حقيقة هذا النقص (3). ولما أراد أورليوس أن يسد ما حدث من النقص في جيشه جند العبيد، والمجالدين، ورجال الشرطة، والمجرمين؛ وهذا لا يحدث إلا إذا كان الخطر الذي يتهدد البلاد وقتئذ أشد من ذي قبل، أو أن السكان الأحرار كانوا أقل عدداً منهم في الأيام السابقة، والذي لا شك فيه أن غير الأحرار من السكان قد نقصوا عما كانوا عليه من قبل. ولهذا السبب أقفرت
(1)
نسبة إلى علم الأحياء biological. (المترجم)
ضياع كثيرة وتركت أرضها بوراً، وخاصة في إيطاليا، حتى لقد عرضها برتناكس من غير ثمن على من يرضى أن يفلحها. ويتحدث قانون سنه سبتميوس سفيرس عن نقص الرجال hominum penuria (4) . وقد ظل هذا النقص يجري في مجراه قروناً طوالاً في بلاد اليونان، وشاهد ذلك أن الأسقف ديونيشيوس يقول إن سكان الإسكندرية نقصوا في أيامه (250) إلى نصف ما كانوا عليه في الأيام السابقة، وكانت هذه المدينة في تاريخها السابق تفخر بكثرة مَن فيها من السكان. وكان يؤلمه أن "يرى الجنس البشري آخذاً في النقصان والتبدد المستمر"(5). ولم يكن يزداد في هذا الوقت إلا البرابرة والشرقيين في خارج الإمبراطوريّة وفي داخلها.
ترى ما سبب هذا النقص في عدد السكان؟ إن أكبر أسبابه هو تحديد النسل، وهو عملية كانت تلجأ إليها الطبقات المتعلمة أولاً، ثم سرت عدواها إلى الطبقات الدنيا المشهورة بكثرة أبنائها (6)؛ ولم يحل عام 100 بعد الميلاد حتى وصلت هذه العدوى إلى طبقات الزرّاع، كما يدل على ذلك امتداد المعونة الإمبراطوريّة إلى هذه الطبقة لتشجيعها على الإكثار من الأبناء، وقبل أن يبدأ القرن الثالث عمّت هذه العادة الولايات الغربية، وأدت إلى نقص السكان في غالة (7). وانتشرت عادة وأد الأطفال بازدياد الفقر على الرغم من أن القوانين كانت تعد هذا العمل جريمة (8). وربما كان الإفراط في الصلاة الجنسية قد أنقص الخصوبة البشرية؛ وكان الامتناع عن الزواج أو تأخير وقته هذا الأثر بعينه. يضاف إلى هذا أن عادة الاخصاء أخذت تزداد بسبب سريان العادات الشرقية في بلاد الغرب، وليس أدل على انتشار هذه العامة من بلنتيانس Plantianus رئيس الحرس البريتوري أمر باخصاء مائة غلام قدمهم هدية إلى ابنته بمناسبة زواجها (9).
ويلي تحديد النسل في أسباب نقص السكان ما كان ينشأ عن الأوبئة
والثورات والحروب من بشرية. وقد قضت الأوبئة التي اجتاحت البلاد في أيام أورليوس، وجلينس، وقسطنطين على عدد كبير من السكان؛ ولم تكد تنجو أسرة واحدة في الإمبراطوريّة كلها من الوباء الذي تفشى فيها بين عامي 260 و 265؛ ويقال إن خمسة آلاف كانوا يموتون في روما نفسها كل يوم، وإن هذه الحال دامت أسابيع كثيرة (10). وقد شرع بعوض كمبانيا يتغلب على الآدميين الذين غزوا المستنقعات البنتية، وأخذت الملاريا تضعضع قوى الأغنياء والفقراء على السواء في لاتيوم وتسكانيا. ولقد كان لمجازر الحروب، والثورات، وربما كان لعادات منع الحمل، والإجهاض، ووأد الأطفال، أثر في نقص القدرة على النسل فضلاً عن أثرها في تقليل عدد السكان؛ ذلك بأن أقدر الرجال كانوا أكثرهم تأخيراً لوقت الزواج، وأقلهم نسلاً، وأقصرهم آجالاً. وكانت معونة الدولة سبباً في ضعف الفقراء، كما كان الترف سبباً في ضعف الأغنياء، والسلم الطويلة الأجل سبباً في حرمان الطبقات كلها في شبه الجزيرة من الروح العسكرية والفنون الحربية. وكان الألمان الذين أخذوا من ذلك الوقت يسكنون شمالي إيطاليا ويكثر عددهم في الجيش، أصح أجساماً وأمتن أخلاقاً ممن بقي على قيد الحياة من سكان البلاد الأصليين. ولو أن الزمان سمح لهذا الجنس الجديد أن يمتزج بالسكان الأصليين على مهل لكان من الجائز أن يتثقف بثقافة الرومان ويبعث النشاط والقوة في الدم الإيطالي؛ ولكن الزمان لم يكن كريماً إلى هذا الحد. يضاف إلى هذا أن سكان إيطاليا كانوا قد اختلطوا من زمن بعيد بأجناس شرقية، وأضعف من الجنس الروماني جسماً وإن جاز أن تكون أرقى منه عقلاً. ولم يكن في مقدور الألمان الذين أخذوا يتكاثرون بسرعة أن يفهموا الثقافة الرومانية؛ فلم يقبلوها، ولم ينقلوها إلى غيرهم من الشعوب؛ وكان الشرقيون الذين يتناسلون هم أيضاً بسرعة يميلون إلى تدمير هذه الثقافة، أما أصحابها الرومان فقد ضحوا بها في سبيل
الراحة التي يجلبها العقم؛ وقصارى القول أن روما لم يغلبها على أمرها غزو البرابرة لها من خارجها بل غلبها تكاثر البرابرة في داخلها.
وعجل الفساد الخلقي هذا الانحلال. ذلك أن صفات الرجولة التي نشأت من بساطة العيش وتحمل المشاق ودعمها إيمان قوي - نقول إن هذه الصفات قد أضعفها بهرج الثروة وحرية عدم الإيمان. فقد أوتى الناس من أهل الطبقتين الوسطى والعليا في ذلك الوقت الوسائل التي يتمكنون بها من إرضاء شهواتهم والخضوع لما يحط بهم من غوايات، لا يصدهم عن ذلك إلا ما عساه أن يكون لديهم من واجب مراعاة اللياقة الآداب العامة. وضاعف ازدحام المُدن بالسكان ضروب التعاقد والمشارطات العامة، ومنعت رقابة الحكومة والأمة من الامتداد إليها، وجاءت الهجرة بمائة أو نحوها من الثقافات التي لم يعد يهتم الناس بالتفريق بينها لكثرة ما بينها من فروق. وانحطت عند الناس معايير الخلق والجمال لتغلب طبقات الشعب وما أصبح لها من أثر كبير في البلاد، وتحررت الشهوات الجنسية من القيود في الوقت الذي ضاعت فيه الحرية السياسية.
ويقول عظيم المؤرخين: إن المسيحية كانت أهم أسباب سقوط الدولة الرومانية (11)، لأن هذا الدين، كما يزعم هو ومَن يسير على نهجه (12)، قد قضى على العقائد القديمة التي كانت هي الدعامة الخلقية للنفوس الرومانية؛ والدعامة السياسية للدولة الرومانية، ولأنه ناصب الثقافة القديمة العداء - فحارب العلم، والفلسفة، والأدب، والفن، وجاء بالتصوف الشرقي الموهن فأدخله في الرواقية الواقعية التي كانت من خصائص الحياة الرومانية، وحول أفكار الناس عن واجبات هذا العالم ووجههم إلى الاستعداد لاستقبال كارثة عالمية وهو استعداد مضعف للعزيمة؛ وأغراهم بالجري وراء النجاة الفردية عن طريق الزهد والصلاة، بدل السعي للنجاة الجماعية بالإخلاص للدولة والتفاني في الدفاع، وحطم وحدة الإمبراطوريّة حين كان الأباطرة العسكريون يكافحون للاحتفاظ بها، وشجع أتباعه على
الامتناع عن تولي المناصب العامة أو أداء الخدمة العسكرية، وكان المبدأ الأخلاقي الذي يدعو إليه هو مبدأ السلام وعدم المقاومة، حين كان بقاء الإمبراطوريّة يتطلب تقوية الروح الحربية، وبهذا كله كان انتصار المسيح إيذاناً بموت روما.
ولا يخلو هذا الاتهام القاسي من بعض الحقيقة؛ فقد كان للمسيحية، على الرغم منها، نصيب في فوضى العقائد التي ساعدت على إيجاد ذلك الخليط من العادات التي كان لها نصيب في انهيار روما. ولكن نمو المسيحية وانتشارها كانا نتيجة لضعف روما أكثر مما كانا سبباً في هذا الضعف. ذلك أن تحطم قواعد الدين القديم قد بدأ قبل ظهور المسيح بزمن طويل؛ وقد وجه إليه إينيوس Ennius ولكريشيوس Lucretius هجمات أشد عنفاً من كل ما وجهه إليه أي مؤلف وثني بعدهما. أما الانحلال الخلقي فقد بدأ من وقت أن فتح الرومان بلاد اليونان، وبلغ أوجه في عهد نيرون، ثم صلحت أخلاق الرومان بعدئذ، وكان أثر المسيحية في الحياة الرومانية من الناحية الخلقية أثراً طيباً بوجه عام، وبناء على هذا نقول إن المسيحية قد نمت هذا النماء السريع لأن روما كانت وقتئذ في دور الاحتضار، فالناس لم يفقدوا إيمانهم بالدولة لأن المسيحية أبعدت عواطفهم عنها، بل فقدوه لأن الدولة كانت تنصر الثروة على الفقر، وتحارب لتستولي على العبيد، وتفرض الضرائب على الكدّح لتعين على الترف، ولأنها عجزت عن حماية الشعب من المجاعات؛ والأوبئة، والغزو الأجنبي، والفقر المتقع؛ فهل يلام الناس بعد ذلك إذا تحولوا عن قيصر الذي يدعو إلى الحرب إلى المسيح الداعي إلى السلم، ومن الوحشية التي لا يكاد يصدقها العقل إلى الإحسان الذي لم يسبق له مثيل، ومن حياة خالية من الأمل والكرامة إلى دين يواسيهم في فقرهم ويكرم إنسانيتهم؟ ألا إن نصيب المسيحية في القضاء على الدولة الرومانية لم يكن أكثر من نصيب غزو البرابرة
لها. لقد كانت هذه الدولة قشرة فارغة حين قامت المسيحية في ربوعها، وحين داهمها غزو البرابرة.
ولقد ذكرنا في فصل سابق الأسباب الاقتصادية التي أدت إلى ضعف روما، لأنا رأينا أن ذكرها ضرورياً لفهم إصلاحات دقلديانوس، ولسنا نحتاج إلى أكثر من تلخيصها هنا تذكرة للقرّاء. نذكر اعتماد روما على الحبوب المستوردة من الولايات اعتماداً مزعزعاً لا تؤمن مغبته، وإنقطاع ورود العبيد وانهيار الضياع الكبيرة، وانحطاط وسائل النقل والأخطار التي تتعرض لها التجارة، وفقد رومة أسواق الولايات بسبب منافسة هذه الولايات نفسها لها، وعجز الصناعة الإيطاليّة عن تصدير ما يوازي واردات إيطاليا، وأدى إليه ذلك من انتقال المعادن الثمينة إلى الشرق؛ والحرب المدمرة بين الأغنياء والفقراء، وارتفاع نفقات الجيوش، والمساعدات التي تقدم للعجزة والفقراء، والأعمال العامة، والبيروقراطية المطردة الزيادة، وتثبيط خطط النابهين ذوي الكفاءات، والحاشية المتطفلة التي تؤدي عملاً من الأعمال، ونفاد رؤوس الأموال المستثمرة لما كان يفرض عليها من الضرائب التي تبلغ حد المصادرة، وهجرة رؤوس الأموال والعمال، واستخدام العبيد في الأعمال الزراعية، وفرض نظام الطبقات الصارم على الأعمال الصناعية؛ كل هذا قد قوض الأسس المادية للحياة الإيطاليّة حتى أضحت قوة روما في آخر الأمر شبحاً سياسياً يعيش بعد موتها الاقتصادي.
وأما الأسباب السياسية التي أدت إلى انهيار الإمبراطوريّة فترجع كلها إلى أصل واحد - هو أن الاستبداد المتزايد قضى على شعور الفرد بحقوق المدنية، وأنضب معيّن قدرته على القيام بأعباء الحكم. ولما عجز الروماني عن التعبير عن إرادته السياسية إلا بالعنف، فقد من أجل ذلك اهتمامه بشئون الحكم، وانهمك في أعماله، وفي متعه، وفي فيلقه، أو في نجاته الفردية. لقد كانت الوطنية والديانة الوثنية وثيقتي الارتباط إحداهما بالأخرى، وها هما الآن يقضى عليهما معاً (13). واستنام مجلس الشيوخ إلى الكسل والخمول، واعتاد الخضوع أو الارتشاء بعد أن ظل يفقد سلطانه ومكانته شيئاً فشيئاً بعد برتناكس،
فانهار بذلك الحاجز الأخير الذي كان يستطيع إنقاذ الدولة من أخطار العسكرية والفوضى. وأما الحكومات المحلية التي عدا عليها الرقباء والجُباة فلم تعد تهوى رجالاً من الطراز الأول، وأدت مسئولية الموظفين في الولايات عن مجموع الضرائب المفروضة على أقاليمهم، وما تتطلبه مناصبهم العليا من نفقات لا تؤديها إليهم الدولة، وما تنتظره منهم من أموال، وخدمات، وأعمال بر وألعاب؛ وما يتعرضون له من أخطار الغزو الأجنبي وحروب الطبقات، أدت هذه كلها إلى تهرب المواطنين من المناصب تهرباً يشبه تهربهم من الضرائب، والمصانع، والمزارع، فكان الناس يتعمدون جعل أنفسهم غير صالحين لتولي المناصب بإنقاص الطبقة التي ينتمون إليها؛ ومنهم مَن كان يهاجر إلى بلدة غير بلدته، ومنهم مَن عمل زارعاً أو راهباً، وفي عام 313 وسع قسطنطين نطاق الإعفاء من مناصب البلديات حتى شمل القساوسة المسيحيين، كما أعفاهم من عدة أنواع من الضرائب، وهو الإعفاء الذي اعتاد الكهنة الوثنيون أن يتمتعوا به.
وما لبثت الكنيسة، بسبب هذا الإعفاء أن غمرتها موجة من طالبي الرسامة؛ وأخذت المُدن تشكو ما أصابها من نقص في الإيراد وفي اللائقين من أهلها أن يكونوا شيوخاً، حتى اضطر قسطنطين في آخر الأمر أن يصدر قانوناً يقضي بألا يقبل في الكهنوت أي رجل لائق لأن يشغل منصباً في حكومات البلديات (14). وكانت الشرطة الإمبراطوريّة تتعقب الفارين من المناصب العامة كما تتعقب مَن يتهربون من الضرائب أو الخدمة العسكرية، وتعود بهم إلى مدنهم وترغمهم على العمل في حكوماتها (15)، قد قررت في آخر الأمر أن يرث الابن مركز أبيه الاجتماعي، وأن يقبل المنصب العام الذي تؤهله إليه طبقته. إذا اختير له. وهكذا كمّل رق الوظيفة القيود الاقتصادية المفروضة على الطوائف المختلفة.
وخاف جلينس أن يثور عليه مجلس الشيوخ فأعفى أعضاءه من الخدمة في
الجيش: ولما كانت الروح الحربية قد إنعدمت في إيطاليا فإن هذا القرار كان خاتمة الضعف العسكري في شبه الجزيرة؛ فكان إنشاء جيوش من أبناء الولايات ومن الجنود المرتزقة، والقضاء على الحرس البريتوري على أيدي سبتميوس سفيرس، وظهور قواد للجيش من بين أبناء الولايات، واستيلاؤهم على عرش الإمبراطوريّة، كان هذا كله سبباً في القضاء على زعامة إيطاليا، بل قُل على استقلال إيطاليا، قبل سقوط الإمبراطوريّة في الغرب بزمن طويل، ذلك أن جيوش روما لم تعد كما كانت من قبل جيوشاً رومانية، بل كان معظمها يتألف من أبناء الولايات وأكثرهم من البرابرة، ولم يكونوا يحاربون دفاعاً عن دينهم أو وطنهم، بل كانوا يقاتلون لنيل أجورهم، وهباتهم، ومغانمهم، وكانوا يهاجمون مُدن الإمبراطوريّة وينهبونها بنفس الحماسة التي يظهرونها في مواجهة الأعداء؛ وكان معظمهم من أبناء الفلاحين الذين يحقدون على الأغنياء وعلى المُدن لأن الأولين يستغلون الفقراء ولأن الثانية تستغل الريف؛ وكانت الحروب الداخلية تتيح لهم الفرصة لنهب المُدن نهباً لا يكاد يترك فيها شيئاً يدمره البرابرة الأجانب (16). ولما أصبحت المشاكل الحربية أعظم خطراً من الشئون الداخلية، اتخذت المُدن القريبة من الحدود مراكز للحكم؛ وأضحت روما مسرحاً للانتصارات، ومظهراً للعمائر الإمبراطوريّة، ومتحفاً للآثار والأنظمة السياسية. يضاف إلى هذا أن تعدد العواصم وانقسام السلطة حطما وحدة البلاد الإدارية، فلما أصبحت الإمبراطوريّة أوسع من أن يحكمها حكامها، ومن أن تحميها جيوشها، بدأت تتفكك.
ولما تركت غالة وبريطانيا وشأنهما تحميان نفسيهما بمفردهما من الألمان والأسكتلنديين دون معونة من الحكومة المركزية اختارت كلتاهما (إمبراطورها) الخاص بها وخلعت عليه السلطة العليا والسيادة الكاملة؛ ثم انفصلت تَدْمُر عن الدولة في عهد زنوبيا، ولم تلبث أسبانيا وأفريقية أن خضعتا دون مقاومة تذكر إلى الفاتحين البرابرة؛ فلما جلس جلينس على العرش كان ثلاثون قائداً يحكمون
ثلاثين إقليماً من أقاليم من الإمبراطوريّة حكماً يكاد يكون مستقلاً عن السلطة المركزية، وفي هذه المأساة المروعة، مأساة دولة عظيمة تتقطع أوصالها كانت الأسباب الداخلية هي العوامل الحقة الخفية، أما الغزاة البرابرة فلم يدخلوها إلا بعد أن فتح لهم ضعفها الأبواب وهيأ لهم السبل، وبعد أن أسلم ضعف الحكام الاحيائي، والخلقي، والاقتصادي، والسياسي، المسرح إلى الفوضى، واليأس، والاضمحلال.
ومن الأسباب الخارجية التي عجلت بسقوط الإمبراطوريّة الغربية توسع الهون أو الشى أونج - نو Hsiung. nu وهجرتهم في شمالي آسية الغربي. ذلك أنهم لما صدهم السور الصيني العظيم والجيوش الصينية في زحفهم نحو الشرق اتجهوا نحو الغرب حتى وصلوا في عام 355 إلى نهري الفاجا وجيحون. وضغطوا في زحفهم هذا على السرماتيين في الروسيا فاضطروهم إلى التحرك نحو البلقان؛ وتضايق القوط من هذا الزحف فتحركوا مرة أخرى على الحدود الرومانية، وسمح لهم بأن يعبروا الدانوب ويستوطنوا موئيزيا Moesia (376) ؛ ولما أساء الموظفون الرومان معاملتهم في هذه الولاية، ثاروا عليهم، وهزموا جيشاً رومانياً كبيراً عند أدريانوبل (أدرنه)(378) وهددوا في وقت ما القسطنطينية نفسها.
وفي عام 400 قاد ألريك Alaric القوط الغربيين وعبر بهم جبال الألب وانقض على إيطاليا، وفي عام 410 استولوا على روما ونهبوها، وفي عام 429 قاد جيسيرك Gaiseric الواندال لفتح أسبانيا وأفريقية، وفي عام 455 استولوا هم أيضاً على روما ونهبوها، وفي عام 451 قاد أتلا Atilla الهون وهجم بهم على غالة وإيطاليا، فهزموا عند شالون Chalons، ولكنهم إجتاحوا لمبارديا. وفي عام 472 عين قائد بانوبي اسمه أرستيز Orestes ابنه إمبراطوراً وسماه رميولس اوغسطولس Romulus Augustulus؛
وبعد ست سنين من ذلك الوقت خلع الجنود البرابرة المرتزقون، الذين كانوا يسيطرون وقتئذ على الجيش الروماني، هذا "الأغسطس الصغير" وعينوا قائدهم أدوكر Odoacer ملكاً على إيطاليا، وأقر أدوكر بالسيادة للإمبراطور الروماني الجالس على العرش في القسطنطينية ورضي هذا الإمبراطور به ملكاً تابعاً له. وظلت الإمبراطوريّة الرومانية في الشرق قائمة حتى عام 1453، أما في الغرب فقد نفضت وقتئذ نفسها الأخير.
الفصل الثاني
ما قامت به روما من جلائل الأعمال
إن تعليل سقوط روما لأيسر من تعليل طول حياتها- وأهم عمل قامت به روما هو أنها، بعد أن استولت على عالم البحر الأبيض المتوسط، تثقفت بثقافته، ووهبته النظام، والرخاء، والسلم مدى مائتي عام، وصدت عنه غارات البرابرة قرنين من الزمان، وأورثت الغرب قبل موتها تراث اليونان والرومان.
وليس لروما منافس قط في فن الحكم. نعم إن الدولة الرومانية قد ارتكبت آلافاً من الأخطاء السياسية، فقد أقامت صرحها على الجركية أنانية، وكهنوت ذي طقوس غامضة خفية، وأنشأت ديمقراطية من الأحرار ثم قضت عليها بالعنف والفساد، واستغلت ما فتحته من البلاد لتزود بخيراتها إيطاليا الطفيلية، فلما عجزت عن الاستغلال تقوضت دعائمها وانهارت، وخلفت في أماكن متفرقة في الشرق والغرب قفاراً وسمت هذا سلاماً. ولكنها أقامت وسط هذا الفساد كله نظاماً فخماً من الشرائع أمن الناس في أوربا كلها تقريباً على أنفسهم وأموالهم وكان باعثاً قوياً على الجد والمثابرة من أيام المشترعين العشرة إلى أيام نابليون. وشكلت حكومة انفصلت فيها السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية، وظل ما فيها من ضوابط وموازين مصدراً ملهماً لواضعي الدساتير إلى عهد الثورتين الأمريكية والفرنسية. ولقد جمعت زمناً ما بين النظم الملكية والأرستقراطية والديمقراطية، ونجحت في عملها هذا نجاحاً أثنى عليه الفلاسفة، والمؤرخون، ورعاياها وأعداؤها على السواء. ووضعت أنظمة الحكم البلدي المحلي، وأمكنت نصف ألف مدينة من أن تستمتع بالحرية زمناً طويلاً، وأدارت شئون
إمبراطوريتها في أول الأمر بشره وقسوة، ثم بدلتهما تسامحاً وعدالة رضيت بهما الدولة العظيمة رضاً لم تعرف له نظير فيما تلا ذلك من الزمان، وجعلت الصحراء تزدهر بالحضارة، وكفّرت عن ذنوبها بما بسطته على بلادها من سلم دائمة طويلة، وها نحن أولاء في هذه الأيام نبذل أعظم الجهود لنحيي السلم الرومانية في هذا العالم المضطرب.
في هذا الإطار الذي لم يسم عليه إطار غيره شادت روما صرح حضارة يونانية في أصلها، رومانية في تطبيقها ونتائجها، ولسنا ننكر أن انهماكها في شئون الحكم قد شغلها عن أن تنتج من الأعمال الذهنية مثل ما أنتجت بلاد اليونان؛ ولكنها استوعبت التراث الصناعي، والعقلي، والفني الذي تلقته عن قرطاجنة ومصر وبلاد الشرق، وقدرته أعظم التقدير، واستمسكت به اشد الاستمساك. ولسنا ننكر كذلك أن العلوم لم تتقدم على يديها، ولم تدخل شيئاً من التحسين الآلي على الصناعة، ولكنها أغنت العالم بتجارة كانت تسير في بحار آمنة، وأنشأت شبكة من الطرق الباقية حتى الآن أضحت شرايين يجري فيها دم الحياة الجياش. ولقد مرت فوق هذه الطرق، وفوق ألف من الجسور الجميلة إلى عالم العصور الوسطى والعالم الحديث أساليب الزراعة والصناعات اليدوية، والفنون، وعلم إقامة المباني التذكارية وأعمال المصارف والاستثمار، وتنظيم الأعمال الطبية والمستشفيات العسكرية، ونظام المُدن الصحي، وأنواع مختلفة من الفاكهة، أشجار النقل، ونباتات الحقول والزينة، التي جاءت بها من الشرق لتتأقلم في الغرب، وحتى سر التدفئة المركزية قد انتقل من الجنوب الدافئ إلى الشمال البارد. ولقد خلق الجنوب الحضارات ثم غليها الشمال على أمرها فدمرها أو استعارها من أهلها.
ولم تخترع روما نظم التربية، ولكنها أنمتها ووسعتها إلى حد لم يُعرف له مثيل من قبل، وأمدتها بمعونة الدولة، ووضعت المنهاج الذي ظل باقياً يعذبنا في
أيام شبابنا. وفي العمارة لم تخترع الأقواس أو العقود أو القباء، ولكنها استخدمتها بجرأة وفخامة جعلت بعض الطرز من عمائرها أرقى من جميع نظائرها إلى هذه الأيام؛ ولقد أخذت الكنائس الكبرى في العصور الوسطى جميع عناصرها من الباسلقا الرومانية. ولم تخترع روما التماثيل، ولكنها وهبتها قوة واقعية، قلما سما إليها اليونان أصحاب هذه النزعة؛ ولم تبتدع الفلسفة ولكن لكريشيوس وسنكا هما اللذان وجدت فيهما الأبيقورية والرواقية صورتيهما النهائيتين المصقولتين أعظم صقل. ولم تنشئ الأنماط الأدبية إنشاء، لا نستثني من ذلك الهجوا نفسه، ولكن مَن منا يستطيع أن يقدر حق التقدير ما كان لشيشرون من أثر في فنون الخطابة، والمقالة، وأسلوب النثر، أو أثر فرجيل في دانتي، أو تسو Tasso في ملتن
…
أو ليفي وتاستس في كتابة التاريخ، أو هوراس وجوفنال في دريدن، وسوفت، وبوب؟.
وقد أضحت لغتها بفضل ما دخل عليها من مسخ يثير الإعجاب لغة إيطاليا، ورومانيا، وفرنسا، وأسبانيا، والبرتغال، وأمريكا اللاتينية، أي لغة نصف عالم الرجل الأبيض؛ وقد ظلت تلك اللغة حتى القرن الثامن عشر اللغة الدولية للعلم والتبحر في الدرس، والفلسفة في بلاد الغرب. وكانت هي المعين الذي اغترفت منه مفردات دولية سهلة لعلمي الحيوان والنبات. ولقد بقيت حية في الطقوس المنغمة والوثائق الرسمية للكنيسة الكاثوليكية، ولا تزال تكسب بها تذاكر الأطباء، وتتردد كثيراً في المصطلحات القانونية؛ ودخلت عن طريق اللغات الرومانسية
(1)
مثل (royal yegal، reyalis، و pessant، pagan، paganus؛ لتزيد من اللغة الإنجليزية ومرونتها. وملاك القول أن ما ورثناه من الرومان يظهر أمامنا آلاف المرات في كل يوم.
ولما أن فتحت المسيحية روما انتقل إلى الدين الجديد بناء الدين الوثني
(1)
أي المشتقة من اللغة اللاتينية كاللغات السالفة الذكر. (المترجم)
القديم، انتقل إليه لقب الحبر الأعظم pontifex meximus، وعبادة الأم العظمى، وعدد لا يحصى من الأرباب التي بثت الراحة والطمأنينة في النفوس، والإحساس بوجود كائنات في كل مكان لا تدركها الحواس، وبهجة الأعياد القديمة أو وقارها، والمظاهر الخلابة للمواكب القديمة التي لا يعرف الإنسان بدايتها، نقول ان هذه كلها انتقلت إلى المسيحية كما ينتقل دم الأم إلى ولدها، وأسرت روما الأسيرة فاتحها، وأسلمت الإمبراطوريّة المحتضرة أزمة الحكم والمهارة الإدارية إلى البابوية القوية، وشحذت الكلمة المواسية بقوة سحرها ما فقده السيف المفلول من قوته؛ فحل مبشرو الكنيسة محل جيوش الدولة، وأخذ هؤلاء يجوبون الآفاق في جميع الجهات متتبعين الطرق الرومانية، وعادت الولايات الثائرة بعد أن اعتنقت المسيحية إلى الاعتراف بسيادة روما. وحافظت العاصمة القديمة على سلطانها، خلال الكفاح الطويل الذي دام في عصر الإيمان، ومازال ينمو هذا السلطان، ينمو ويقوى حتى خيل إلى العالم في عصر النهضة أن الثقافة القديمة قد انبعثت من قبرها، وأن المدينة الخالدة أضحت مرة أخرى مركز حياة العالم وثرائه وقمة تلك الحياة وذينك الثراء والفن. وقد احتفلت روما في عام 1963 بمضي 2689 عاماً على تأسيسها، وكان في وسعها أن تعود بنظرها إلى ما تمتاز به حضارتها من استمرار رائع في تاريخ الإنسانية. ألا ليتها تعود إلى حياتها الماضية.
شكراً لك أيها القارئ الصبور