المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الباب الثامن   ‌ ‌محمد صلى الله عليه وسلم 570 - 632 الفصل الأول   ‌ ‌جزيرة العرب - قصة الحضارة - جـ ١٣

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

الباب الثامن

‌محمد صلى الله عليه وسلم

570 -

632

الفصل الأول

‌جزيرة العرب

(1)

توفي جستنيان في عام 565 وهو سيد إمبراطورية عظيمة، بعد خمس سنين من وفاته ولد محمد صلى الله عليه وسلم في أسرة فقيرة في إقليم ثلاث أرباعه صحراء

(1)

إن إعادة كشف بلاد العرب على يد الأوربيين في العصر الحديث لمن أكبر الأدلة على سعة أفق العلماء في القرن التاسع عشر وعلى أن العلم كان في ذلك القرن يعد العالم كله وطناً له. وقد بدأ هذا الكشف في أعوام 1761 - 1764 حين اخترق كارستن نايبهر Carsten Neibehr شبه الجزيرة برعاية حكومة الدنمرقة. وكان كتابه الذي نشره في عام 1772 أوسع وصف لبلاد العرب حتى ذلك الوقت. وفي عام 1807 تزين دمنجو باديا أي ليبلتش Dominge Badis Y. Leblich الأسباني بزي المغاربة وزار مكة ثم نشر بعد رجوعه أول وصف دقيق لمناسك الحج. وفي عام 1814 - 1815 قضى جوهان لدفج بيركهاردت John Ludwing Burckhardt، وهو رجل سويسري زين بزي المسلمين، عدة أشهر في مكة والمدينة وقد أيد الرحالة الذين وفدوا على جزيرة العرب من بعده العلماء ما جاء في تقاريره الوافية من معلومات كثيرة. وفي عام 1853 زار مكة والمدينة الرحالة رتتشرد بيرتن Richard Burton وهو رجل إنجليزي تزين بزي حاج أفغاني، ثم وصف رحلته الشاقة الخطرة في مجلدين ممتعين. وفي عام 1869 - 1870 ارتاد ج. هاميفي J. Holvey، وهو يهودي فرنسي، مواضع ممالك المعنيين وسبأ والحميريين الأقدميين ونقل ما وجده في تلك المواضع من نقوش على الصخور. وفي عام 1875 سافر تشارلس منتجيو دوتن Charles Montague Doughton الإنجليزي من دمشق مع قافلة الحجاج ونشر ما وقع له في كتابه بلاد العرب الصحراوية =

ص: 6

مجدية قليلة السكان، أهله من قبائل البدو الرحل، إذا جمعت ثروتهم كلها فإنها لا تكاد تكفي إنشاء كنيسة أو صوفيا. ولم يكن أحد في ذلك الوقت يحلم أنه لن يمضي قرن من الزمان حتى يكون أولئك البدو قد فتحوا نصف أملاك الدولة البيزنطية في آسية، وجميع بلاد الفرس، ومصر، ومعظم شمالي أفريقية، وساروا في طريقهم إلى أسبانيا. والحق أن ذلك الحادث الجلل الذي تمخضت عنه جزيرة العرب، والذي أعقبه استيلاؤها على نصف عالم البحر المتوسط ونشر دينها الجديد في ربوعه، لهو أعجب الظواهر الاجتماعية في العصور الوسطى.

وبلاد العرب أكبر أشباه الجزائر في العالم، ويبلغ أكبر أطوالها 1400 ميل وأكبر عروضها 1250 ميلاً، وهي من الوجهة الجيولوجية امتداد للصحراء الكبرى، وجزء من الإقليم الصحراوي الرملي يمتد إلى صحراء جوبي مخترقاً بلاد فارس. ومعنى "عرب" قحل

(1)

. وبلاد العرب هضبة واسعة ترتفع على مسافة ثلاثين ميلاً من البحر الأحمر ارتفاعاً فجائياً إلى 12. 000 قدم، تنحدر نحو الشرق انحداراً سهلاً في أرض جبلية جدباء حتى تصل إلى الخليج الفارسي. وفي وسط الجزيرة عدد من الواحات الكلئة، والقرى ذات النخيل، نشأت حيث يمكن الحصول على الماء بحفر الآبار. وتمتد الرمال حول هذه المراكز مئات الأميال في جميع الجهات. ويسقط الثلج في تلك البلاد مرة كل أربعين عاماً، وتنخفض درجة الحرارة فيها بالليل إلى 3 o، أما شكس النهار فتلفح الوجوه وتغلي الدم في العروق، والهواء المحمل بالرمال يضطر الأهلين إلى لبس الأثواب الطوال،

= Arabic Deserta (1888) الذي يعد منم روائع النثر الإنجليزي. وفيما بين 1882 - 1888 قام ا. جلازر E. Glaser النمساوي بثلاث رحلات شاقة خطرة قي قلب الجزيرة نقل في خلالها 1032 نقشاً هي الآن أهم مصدر لتاريخ بلاد العرب قبل الإسلام.

(1)

ورد في القاموس المحيط: تعرب أقام في البادية ولعل المؤلف أخذ من هذا قوله إن عرب معناه قحل. (المترجم)

ص: 7

وشد غطاء الرأس بالعقال لوقاية الجسم والشعر. وتكاد المساء تكون على الدوام صافية خالية من الغيوم، والهواء "يشبه النبيذ البراق". ويسقط المطر أحياناً قرب شاطئ البحر صالحاً لقيام الحضارة، وأكثر ما يكون ذلك على الساحل الغربي في بلاد الحجاز حيث نشأت بلدتا مكة والمدينة، وفي الطرف الجنوبي الغربي من بلاد اليمن موطن الممالك العربية القديمة.

ويسجل نقش بابلي (يرجع تاريخه إلى حوالي عام 2400 ق. م). هزيمة لحقت بملك ماجان

(1)

على يد نارام سن الحاكم البابلي. وقد كانت ماجان هذه عاصمة المملكة المعينية التي كانت قائمة في الجنوب الغربي من جزيرة العرب. وقد عُرف خمسة وعشرون من ملوكها الذين حكموها بعد هذه الهزيمة من نقوش عربية يرجع تاريخها إلى عام 800 ق. م. وثمة نقش آخر يرجعه بعضهم إلى 2300 ق. م وإن كانوا غير واثقين من هذا. وقد ورد في هذا النقش اسم مملكة عربية أخرى هي مملكة سبأ في بلاد اليمن. ومن سبأ أو من مستعمراتها في القسم الشمالي من بلاد العرب-لأن هذا موضع خلاف بين المؤرخين-"ذهبت" ملكة سبأ إلى سليمان حوالي عام 950 ق. م. وقد اتخذ ملوك سبأ مأرب عاصمة لهم، وخاضوا حروب "الدفاع" المعتادة، وأنشئوا أعمالاً عظيمة للري كسدود مأرب (التي لا تزال آثارها باقية إلى الآن)، وشادوا الحصون والهياكل الضخمة، ووهبوا كثيراً من المال للشئون الدينية، واتخذوا الدين وسيلة للحكم (2). والنقوش التي خلفوها-والتي لا ترجع في أغلب الظن إلى ما قبل عام 900 ق. م-منحوتة نحتاً جميلاً بحروف هجائية. وكانت بلادهم تنتج الكندر والمر اللذين كان لهما أيما شأن في الشعائر الدينية الأسيوية والمصرية، وكانوا يسيطرون على التجارة بين الهند ومصر، وعلى الطرف الجنوبي

(1)

لعل ماجان التي وردت في النقوش البابلية هي بعينها معين التي تنتسب إلى المملكة المعينية والتي اشتقت منها كلمتا معان اسم البلد ومعين بمعنى ينبوع. (المترجم)

ص: 8

من طريق القوافل الذاهب إلى البتراء وبيت المقدس ماراً بمكة والمدينة. وحدث حوالي عام 115 ق. م أن قامت مملكة صغيرة أخرى في الجنوب الغربي من بلاد العرب هي مملكة الحميرين، فهاجمت مملكة سبأ، وغلبتها على أمرها، وظلت بعد هذا الوقت تسيطر على تجارة بلاد العرب عدة قرون. وفي عام 25 ق. م غضب أغسطس من سيطرة بلاد العرب على التجارة المتبادلة بين مصر والهند فسير جيشاً بقيادة جالوس Aelius Gallus للاستيلاء على مأرب. وأضل الأدلاء العرب الفيالق الرومانية، وأهلكهم الحر والمرض، وعجزت الحملة عن تحقيق غرضها، ولكن جيشاً رومانياً آخر نجح في الاستيلاء على عدن، وانتقلت بذلك السيطرة على التجارة بين مصر والهند إلى يد روما. (وقد فعل البريطانيون ذلك بعينه في الوقت الحاضر).

وفي القرن الثاني قبل الميلاد عبر بعض الحميريين البحر الأحمر، واستعمروا بلاد الحبشة، ونشروا الثقافة السامية بين أهلها الزنوج، كما أدخلوا فيها الكثير من الدم السامي

(1)

. وتلقى الأحباش من مصر وبيزنطية الدين المسيحي والصناعات اليدوية والفنون. وكانت سفنهم التجارية تجوب البحار وتوغل فيها إلى الهند وسرنديب (2). وكانت سبع ممالك صغيرة تقر بالسيادة للنجاشي

(2)

.

(1)

يطلق اسم الساميين على الشعوب التي تنتسب إلى سام بن نوح كما هو وارد في سفر التكوين (10 - 1). وليس في استطاعتنا أن نقول بالدقة ما هي هذه الشعوب السامية، ولكننا نستطيع أن نقول بوجه عام إن سكان سوريا، وفلسطين وأرض النهرين، وبلاد العرب، والسكان العرب في أفريقية ساميون، إذا فهمنا من هذا اللفظ أنهم يتكلمون لغات سامية، كما نستطيع أن نسمي السكان الأقدمين في آسية الصغرى وأرمينية، وبلاد القفقاس: وأهل فارس، وشمالي الهند، ومعظم أوربا وجميع سكان أمريكا الذين من أصل أوربي "هندروبيين" لأنهم يتكلمون لغات هندية جرمانية.

(2)

جبن Gibbon اضمحلال الدولة الرومانية وسقوطها Deion and Fal of the Roman Empir طبعة Everman's Library المجلد الرابع ص 322. ولقد كان من مفاخر جبن أنه أدرك ما للإسلام من شأن عظيم في تاريخ العصور الوسطى، وأنه كتب تاريخه السياسي كتابة تنم عن علم غزير، وكتبه بدقة منقطعة النظير.

ص: 9

هذا في الحبشة أما في بلاد العرب نفسها فإن كثيرين من الحميريين ساروا على سنة ملكهم ذي نواس، واعتنقوا الدين اليهودي، واندفع ذو نواس في حماسته الدينية فأخذ يضطهد المسيحيين المقيمين في الجنوب الغربي من جزيرة العرب، فاستغاث هؤلاء ببني دينهم، واستجاب الأحباش إلى دعوتهم، وهزموا ملوك الحميريين (522 م)، وأجلسوا على عرش البلاد أسرة حبشية. وتحالف جستنيان مع الدولة الجديدة، ورد الفرس على هذا بأن انحازوا إلى جانب ملوك حمير المخلوعين وطردوا الأحباش، وأقاموا في بلاد اليمن حكماً فارسياً (575) انتهى بعد ستين عاماً أو نحوها حين فتح المسلمون بلاد الفرس.

وازدهرت بعض الممالك العربية الصغرى في الجزء الشمالي من شبه الجزيرة، ولكنها لم تدم طويلاً. فقدد ظل مشايخ بني غسان يحكمون الجزء الشمالي الغربي والقسم المحيط بتدمر من بلاد سوريا من القرن الثالث إلى القرن السابع تحت سيادة بيزنطية. وأنشأ ملوك بني لحم في الحيرة القريبة من بابل في هذا الوقت عينه بلاطاً نصف فارسي، وتقفوا ثقافة فارسية اشتهرت بموسيقاها وشعرها. ويرى من هذا أن العرب انتشروا شمالاً في سوريا والعراق قبل الإسلام بزمن طويل.

وكان النظام السياسي السائد في بلاد العرب قبلا الإسلام، إذا استثنينا هذه الممالك الصغرى في الجنوب والشمال، وهو النظام البدائي الذي يقوم على رابطة القرابة والذي تجتمع الأسر بمقتضاه في عشائر وقبائل. بل إن هذه الممالك الصغرى نفسها لم تكن تخلو من قسط كبير من هذا النظام القبلي. وكانت القبيلة تسمى باسم أب لها مزعوم عام، فالغساسنة مثلاً كانوا أنهم "أبناء غسان"، ولم يكن لبلاد العرب بوصفها وحدة سياسية وجود قبل عصر النبي إلا في مسميات اليونان غير الدقيقة، فقد كانوا يسمون جميع الساكنين في شبه الجزيرة باسم السركنوي Sarakenoi، ومن هذا الاسم اشتق اللفظ الإنجليزي Saracens، ويلوح أنه هو

ص: 10

نفسه مشتق من لفظ "الشرقيين" العربي. وكانت قلة سبل الاتصال وصعوبتها مما اضطر أهل البلاد إلى أن يعملوا على الاكتفاء بأنفسهم من غيرهم، كما أنهما كانتا سبباً في نمو روح العزلة فيهم، فالعربي لم يكن يشعر بواجب أو ولاء لأية جماعة أكبر من القبيلة، وكانت قوة ولائه تتناسب تناسباً عكسياً مع سعة الجماعة التي يدين لها بهذا الولاء، فلم يكن يتردد في أن يقدم وهو مرتاح الضمير على ما لا يقدم عليه الرجل المتحضر إلا من أجل بلاده أو دينه أو "عنصره"، أي أن يكذب، ويسرق، ويقتل، ويموت. وكان يحكم كل قبيلة أو بطن من القبيلة شيخ يختاره رؤساء العشائر فيها من بيت اشتهر من زمن بعيد بثرائه، أو سداد رأيه، أو شدة بأسه في القتال.

وكان الرجال في القرى ينتزعون بعض الحب والخضر من التربة الضنينة، ويربون بعض الماشية القليلة العدد، وبعض الجياد الكريمة، ولكنهم كانوا يجدون أن زراعة بساتين النخيل، والخوخ، والمشمش، والرمان، والليمون، والبرتقال، والمز، والتين أجدى لهم وأعود بالربح عليهم. ومنهم من كان يعنى بزراعة النباتات العطرة كالكندر، والسعتر، والياسمين، والخزامي، وكان بعضهم يستخرجون العطر من ورد الجبال، وبعضهم يحفرون سيقان الأشجار ليستخرجوا منها المر أو البلسم. وربما كان جزء من اثني عشر جزءاً من السكان يعيشون في المدن القائمة على الساحل الغربي أو بالقرب منه. وكان في هذا الساحل عدد من المرافئ والأسواق تتبادل منها تجارة البحر الأحمر. وفي داخل البلاد كانت تسير طرق القوافل الكبرى إلى بلاد الشام.

ونحن نسمع عن تجارة بين بلاد العرب ومصر منذ عام 2743 م؛ وأكبر الظن أن الاتجار مع الهند لم يكن يقل قدماً عن الاتجار مع مصر. وكانت الأسواق والمواسم السنوية تستدعي التجار إلى هذه تارة وإلى تلك تارة أخرى، وكان

ص: 11

يجتمع في سوق عكاظ الشهيرة القريبة من التجار، والممثلين، والخطباء، والمقامرين، والشعراء، والعاهرات.

وكان خمسة أسداس السكان بدواً رحلاً، يشتغلون بالرعي وينتقلون بقطعانهم من مرعى إلى مرعى حسب فصول السنة وأمطار الشتاء. والبدوي يحب الخيل، ولكن الجمل أعز أصدقائه في الصحراء، فهو يسير ويهتز في وقار، وإن كان لا يقطع إلا ثمانية أميال في الساعة، ولكنه يستطيع أن يصبر على الماء خمسة أيام طوال في الصيف، وخمسة وعشرون يوماً في الشتاء. والناقة تدر اللبن، وبول الجمل مفيد في تقوية الشعر

(1)

، وروثه يمكن أن يُتخذ وقوداً، وإذا ذُبح أكل لحمه، وصُنعت الثياب والخيام من جلده ووبره. وبهذه المقومات المختلفة الأنواع كان في وسع البدوي أن يواجه حياة الصحراء متجلداً كجمله، مرهف الحس نشيطاً كجواده. والبدوي قصير القامة، نحيف الجسم، مفتول العضلات، قوي البنية، في وسعه أن يعيش أياماً متوالية على قليل من التمر واللبن، وكان يستخرج من البلح نفسه خمراً يرتفع بها من تراب الأرض إلى خيال الشعراء. وكان يدفع عن نفسه ملل الحياة الرتيبة وسآمتها بالحب والحرب، وكان يسرع كما يسرع الأسباني (الذي ورث عنه سرعة غضبه) إلى الانتقام لما عساه أن يوجه إليه أو إلى قبيلته من إهانة أو أذى. وكان يقضي جزءاً كبيراً من حياته في الحرب التي تستعر نارها بين القبائل المختلفة، ولما أن فتح بلاد الشام، وفارس، ومصر، وأسبانيا لم يكن عمله هذا إلا توسعاً منه في غارات النهب التي كان يشنها في أيام الجاهلية وإن اختلف الغرض في هذه عن تلك.

وكان من بعض أوقات السنة هدنة مقدسة للحج أو للتجارة، أما في غير هذه الأوقات فكان يرى أن الصحراء ملكه الخاص، وأن كل من

(1)

يقول دوتي Doughty إن نساء البدو "يغسلن أطفالهن ببول الجمل" ظنناً منهن أن ذلك يبعد عنهن الحشرات". ويمشط الرجال والنساء شعرهم الطويل بهذا الماء.

ص: 12

يدخلها في غير هذه الأشهر الحرم ومن غير أن يؤدي له ما يفرضه من إتاوة، معتد عليه معلى وطنه، وأن نهب أموال هذا المعتدي ليس إلا ضريبة تُجبى منه بأهون السبل، وكان يحتقر حياة الحضر، لأن معناها الخضوع لمطالب القانون والتجارة، ويحب الصحراء القاسية لأنه يتمتع فيها بكامل حريته، وكان البدوي رحيماً وسفاكاً للدماء، كريماً وبخيلاً، غادراً وأميناً، حذراً وشجاعاً، ومهما يكن فقيراً، فإنه كان يواجه العالم بمهابة وأنفة، ويزهو بنقاء دمه ويولع بأنه يضيف إلى اسمه سلسلة نسبه.

كان لدى البدوي أمر لا يقبل فيه جدلاً، ذلك هو جمال نسائه الذي لا يدانيه في نظره جمال. لقد كان جمالاً أسمر، قوياً، يفتن اللب، خليقاً بأن يتغزل فيه بعشرات المئات من الأغاني الشعرية، ولكنه جمال قصير الأجل سرعان ما يذوى في جو الصحراء القائظ. وكانت حياة المرأة العربية قبل أيام النبي تنتقل من حب الرجل لها حباً يقترب من العبادة إلى الكدح طوال ما بقي من حياتها، ولم تتغير هذه الحياة فيما بعد إلا قليلاً

(1)

. وكان في وسع أبيها أن يئدها حين مولدها إذا رغب في هذا، فإن لم يفعل فلا أقل من أن يحزن لمولدها، ويواري وجهه خجلاً من الناس، لأنه يحس لسبب ما أن جهوده قد ذهبت أدراج الرياح، وكانت طفولتها الجذابة تستحوذ على قلبه بضع سنين، ولكنها حين تبلغ السنة السابعة أو الثامنة من عمرها كانت تُزوج لأي شاب من شبان القبيلة يرضى والده أن يؤدي للعروس ثمنها

(2)

. وكان حبيبها وزوجها يحارب العالم كله إذا لزم الأمر ليحميها، أو يدافع عن شرفها. وقد انتقلت بعض مبادئ هذه الشهامة المتطرفة مع

(1)

سنجد في فصول الكتاب الآتية ما يدل على أثر الإسلام في رفع منزلة المرأة إلى درجة لم تسمُ إليها في كثير من البلدان؛ وسيذكر المؤلف نفسه كثيراً من النساء اللاتي كان لهن أعظم شأن في الحياة العملية والسياسية والاجتماعية. (المترجم)

(2)

يريد مهرها.

ص: 13

هؤلاء العشاق المتيمين إلى أسبانيا. ولكن هذه المعبودة كانت إلى هذا سلعة من السلع، فقد كانت جزءاً من أملاك أبيها، أو زوجها، أو ابنها، تُورَث مع هذه الأملاك، وكانت على الدوام من خدم الرجل، وقلما كانت رفيقته. وكان يطلب إليها أن تلد له كثيراً من الأبناء، والأبناء الذكور بطبيعة الحال، لأن واجبها أن تنجب المحاربين، ولم تكن في كثير من الأحوال إلا زوجة واحدة من كثيرات من الزوجات وكان في وسع الرجل أن يخرجها من بيته متى شاء.

ولكن مفاتنها لم تكن تقل عن الحرب إلهاماً لخيال الشعراء، وموضوعاً لشعرهم، وكان العربي قبل الإسلام أمياً ولكن حبه للشعر لم يكن يزيد عليه إلا حبه للخيل والنساء والخمر. ولم يكن بين العرب في الجاهلية علماء أو مؤرخون

(1)

ولكنهم كانوا مولعين بفصاحة اللسان، وصحة الكلام، والشعر المختلف المعقد الأوزان. وكانت اللغة العربية قريبة الشبه باللغة العبرية، معقدة في تصريفها، غنية بمفرداتها، دقيقة في الفروق بين ألفاظها، قادرة في ذلك الوقت على التعبير عن جميع أحاسيس الشعراء وفيما بعده عن جميع دقائق الفلسفة. وكان العرب يفخرون بقدم لغتهم وكمالها، يولعون بترديد مقاطعها العذبة في خطبهم الرنانة وشعرهم الجذل ونثرهم الرصين، يأخذ بلبهم شعر الشعراء الذين كانوا يعيدون على أسماعهم في القرى والمدن، وفي مخيمات الصحراء أو الأسواق، مغامرات أبطالهم أو قبائلهم أو ملوكهم في الحب أو الحرب في قصائد طوال من الشعر الموزون المقفى. وكان الشاعر العربي مؤرخ العرب، وجامع أنسابهم، وهجاءهم، والمعتني بفضائلهم، وناقل أخبارهم، وما همهم، وداعيهم إلى القتال. وإذا نال الشاعر جائزة في إحدى المباريات الشعرية الكثيرة التي كانت تعقد من آن إلى

(1)

من الحق أن العرب في جاهليتهم لم يُعنوا بالعلوم كما عنى بها غيرهم من الأمم كأهل مصر والهند والفرس واليونان، ولكن كان منهم من عنى بشيء من العلوم الضرورية كالطب المبني على التجربة وأحوال الكواكب والنجوم. (ي)

ص: 14

آن، كانت قبيلته كلها تعد ذلك شرفاً لها تبتهج له أعظم ابتهاج؛ وكانت أهم هذه المباريات كلها تعقد كل عام في سوق عكاظ، حيث كانت تتنافس القبائل في كل يوم تقريباً مدى شهر كامل على لسان شعرائها. ولم يكن في هذا السوق محكمون غير الجماهير المنصتة التي تبدي استحسانها لما تسمع أو احتقارها له

(1)

. وكانت أحسن القصائد التي تقال في هذه السوق تكتب بحروف جميلة براقة فسميت من أجل ذلك "بالمذهبات"، وكان يُحتفظ بها في خزائن الأمراء والملوك تراثاً خالداً قيماً. وكان العرب يسمون هذه القصائد أيضاً بالمعلقات لأن الفائز منها-كما تقول القصص المتواترة-قد كتبت على الحرير المصري بأحرف من ذهب وعُلقت على جدران الكعبة في مكة.

وقد بقيت من هذه المعلقات التي قبلت في الجاهلية سبع قصائد يرجع تاريخها إلى القرن السادس الميلادي، وهي قصائد طوال من الشعر المقفى المعقد الأوزان، وموضوعها في العادة هو الحب أو الحرب. وتقص إحداها وهي معلقة لبيد قصة جندي عاد من الحرب إلى قريته وبيته حيث كان قد ترك زوجته، فوجد بيته خالياُ، وقد غادرته الزوجة مع رجل غيره. ويصف لبيد منظر هذا البيت الخيالي بحنان لا يقل عن حنان جولد سمث

(2)

. ويزيد عليه في فصاحة الشعر وقوة التعبير. وفي معلقة أخرى تستحث النساء الرجال إلى الحرب بقولهن:

ويها بني عبد الدار ويها حماة الديار

ضرباً بكل بتار

نحن بنات طارق لا ننثني لوامق

(1)

كانت هناك سوقان غير سوق عكاظ، وهما سوقا مجنة وذو المجاز وكان فيها أحياناً محكمون من ذوي المكانة. (المترجم)

(2)

آثرنا أن نبقي هذا التعبير كما هو، وإن كان لا يقرب المعنى للقارئ العربي، لما فيه من مفاضلة بين شاعرين من أمتين مختلفتين وهي في رأينا مفاضلة فيها كثير من الفائدة. (المترجم)

ص: 15

نمشي على النمارق المسك في المفارق

والدر في المخانق إن تقبلوا نعانق

ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

(1)

وفي معلقة لأمرئ القيس أبيات تنم عن حب شهواني سافر:

وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل

تجاوزت أحراساً إليها ومعشراً علي حرصاً لو يسرون مقتلي

إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح المفصل

فجئت وقد نضت لنوم ثيابها لدى الستر إلا لبسة المتفضل

فقالت يمين الله مالك حيلة وما أن أرى عنك الغواية تنجلي

خرجت بها أمشي تجر وراءنا على أثرينا ذيل مرط مرحل

فلما اجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن خبت حقاف عقنقل

هصرت بفودي رأسها فتمايلت على هضيم الكشح رياً المخلخل

مهفهفة بيضاء غير مفاضلة ترائبها مصقولة كالسجنجل

تصد وتبدي عن أسيل وتتقي بناظرة من وحش وجرة مطفل

وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش إذا هي نضته ولا بمعطل

وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيت كقنوة النخلة المتعثكل

غدائره مستشزرات إلى العلا تضل العقائص في مثنى ومرسل

وكشح لطيف كالجديل مخصر وساق كأنبوب السقي المذلل

وتضحي فتيت المسك فوق فراشها نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل

وتعطو برخص غير شئن كأنه أساريع ظبي أو مساويك أسحل

تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة ممس راهب متبتل

(1)

لا حاجة إلى القول بأن هذا الرجز ليس المعلقات؛ وقد أنشدته هند بنت عتبة تحرض قومها على القتال في يوم أحد. المترجم

ص: 16

وكان شعراء الجاهلية ينشدون أشعارهم على نغمات الموسيقى، فجمعوا بذلك بين الشعر والموسيقى في صورة واحدة. وكان الناي، والمزهر، والدف أحب الآلات الموسيقية إليهم، وكثيراً ما كانت الفتيات المغنيات يُستدعين لتسلية الأضياف في الولائم. وكان في مجال الشراب عدد منهن، وكان عند ملوك الغساسنة عدد كبير من الفتيات ليفرجن عنهم متاعب الملك. ولما خرج أهل مكة لقتال النبي في عام 634 أخذوا معهم سرباً القيان ليلينهم ويشجعنهم على القتال، وكانت الأغاني العربية حتى في أيام الجاهلية أناشيد مشجية حزينة، لا تُستخدم فيها إلا ألفاظ قليلة نغمتها على الدوام في الدرجات العليا من السلم الموسيقي، وتكفي فيها أبيات قليلة لتشغل المعنى ساعة كاملة.

وكان للعربي ساكن الصحراء دينه الدال على حذقه ودهائه رغم بدائيته. فكان يهاب ويعبد أرباباً لا حصر لها في النجوم، والقمر، وفي أطباق الأرض، وكان حين إلى حين يطلب الرحمة من السماء المنتقمة، ولكنه لم يكن في الغالب يستبين سبيل الرشاد بين الجن المحيطين به، ولا يرى أملاً في استرضائهم، فغلب عليه من أجل ذلك النزعة الجبرية والاستسلام، فإذا دعاهم في رجولة ولم يطل الدعاء، ويستهزئ بالأبدية ولا يعبأ بها، وبيدوا أنه لم يكن يفكر كثيراً في الحياة بعد الموت، على أنه كان في بعض الأحيان يطلب أن يربط جمله بجوار قبره، وأن يُمنع عنه الطعام حتى يلحق به بعد قليل في الدار الآخرة، وينجيه من مذلة السير على قدميه في الجنة، وكان بين الفينة والفينة يقدم لآلهته الضحايا البشرية، كما كان في بعض الأماكن يعبد الأصنام الحجرية.

وكانت مكة مركز عبادة الأصنام. ولم يكن سبب قيام هذه المدينة المقدسة في موضعها الذي قامت فيه هو جودة مناخها، ذلك أن الجبال الجرداء التي تكاد تطبق عليها من جميع الجهات تجعل صيفها حار لا يطاق. وكان الوادي الذي تقوم

ص: 17

فيه غير ذي زرع، ولا يكاد يوجد في البلدة كلها كما عرفها محمد حديقة واحدة، ولكن موقعها في منتصف ساحل البلاد الغربي، وعلى بعد ثمانية وأربعين ميلاً من البحر الأحمر، جعلها محطة صالحة في طوق القوافل الطوال التي تجمع في بعض الأحيان ألف جمل بعضها وراء بعض، والتي كانت تحمل المتاجر بين جنوبي بلاد العرب (ومن ثم بين الهند وأفريقية الوسطى) وبين مصر، وفلسطين، وبلاد الشام. وكان التجار أصحاب هذه التجارة يؤلفون فيما بينهم شركات محاصة، ويسيطرون على أسواق عكاظ، ويقومون بالشعائر الدينية المجزية حول الكعبة وحجرها الأسود المقدس.

ومعنى الكعبة البيت المربع. واللفظ ذو صلة باللفظ الإنجليزي Cube (مكعب)

(1)

ومن المعتقدات الشائعة أن الكعبة بنيت ثم أعيد بناؤها عشر مرات، فقد بناها في فجر التاريخ ملائكة السماء، وبناها في المرة الثانية آدم أبو البشر، وفي المرة الثالثة ابنه شيث، ثم بناها في المرة الرابعة إبراهيم وإسماعيل ابنه من هاجر

وبناها في المرة السابعة قصي زعيم قبيلة قريش، وبناها في المرة الثامنة كبار قريش في حياة محمد (605)، وبناها في المرتين التاسعة والعاشرة زعماء المسلمين عامي 681 و 696. والكعبة كما بنيت في المرة العاشرة هي كعبة هذه الأيام في معظم أجزائها. وهي مقدمة ي داخل بناء واسع هو المسجد الحرام. وهي بناء مربع من الحجر طولها أربعون قدماً، وعرضها خمسة وثلاثون، وارتفاعها خمسون، وفي ركنها الجنوبي الشرقي، وعلى بعد خمسة أقدام من سطح الأرض، الحجر الأسود، وهو حجر قاتم اللون بيضي الشكل قطره سبع بوصات. ويعتقد الكثيرون أن هذا الحجر قد نزل من السماء-ولعله كان صاعقة؛ ويقول معظمهم

(1)

في المحيط الكعبة البيت الحرام زاده الله تشريفاً وكل بيت مربع. (المترجم)

ص: 18

إنه وجد بالكعبة من أيام إبراهيم، ويرى علماء المسلمين أنه رمز لذلك الفرع من أبناء إبراهيم فرع إسماعيل وأبنائه الذي نبذه بنو إسرائيل فكان منه آباء قبيلة قريش. ويؤيدون قولهم هذا بما جاء في المزمور الثامن عشر بعد المائة في الآيتين 22 و 23 "الحجر الذي رفضه البناؤون صار رأس الزاوية"، وفي الآيتين 42 و 43 من الإصحاح الحادي والعشرين من إنجيل متي، وهو قول عيسى بعد أن نطق بهذه العبارة العجيبة:"لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره" وإن لم يكن في وسع المسلمين أن يقولوا إنهم قد حققوا ما قاله عنهم المسيح

(1)

.

وكان في الكعبة قبل الإسلام عدد من الأصنام تمثل معبودات العرب. منها، اللات، والعزى، ومناة. وفي وسعنا أن ندرك قدم عهد هذه الآلهة العربية إذا عرفنا أن هيرودوت قد ذكر الإلات (اللاَّت) على أنها من أكبر أرباب العرب. وكانوا يقولون لأهل مكة أن إلههم الأكبر رب أرضهم، وإن عليهم أن يؤدوا لها عشر محاصيلهم، والثمرة الأولى من نتاج قطعانهم. وكانت قريش، وهي التي تعزو نسبها إلى إبراهيم وإسماعيل، تختار من بين رجالها سدنة الكعبة وخدامها والمشرفين على مواردها المالية. وكانت أقلية أرستقراطية منه هم بنو قصي يتولون زمام الحكومة المدنية في مكة.

وكانت قريش في بداية القرن السادس منقسمة إلى فئتين متنافستين، إحداهما يتزعمها التاجر الثري الخير هاشم، والأخرى يتزعمها ابن أخيه أمية.

(1)

إن كان المؤلف يقصد ما جاء به المسيح من التسامح والرحمة فإن التاريخ لا يعرف كالمسلمين في تراحمهم ودعوتهم للسلام والمحبة. والقرآن ووصايا الرسول والخلفاء أكبر شاهد على هذا، ولكن التسامح والرحمة والدعوة إلى الإسلام والمحبة في الدين الإسلامي ممزوجة كلها بالقوة وعزة النفس. (المترجم)

ص: 19

وكان لهذا التنافس الشديد شأنه العظيم في تاريخ العرب بعد الرسالة. ولما توفي هاشم خلفه في زعامة بيته أخوه الأصغر عبد المطلب-وفي عام 568 تزوج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة، وهي أيضاً من قصي، وأقام عبد الله مع عروسه أياماً قليلة سافر بعدها في بعثة تجارية. ومات في المدينة وهو راجع من سفره وبعد شهرين من وفاته (569) ولدت آمنة أعظم شخصية في تاريخ العصور الوسطى

(1)

.

(1)

وفي التاريخ كله.

ص: 20

الفصل الثاني

‌محمد في مكة

569 -

622

[نكرر هنا ما ذكرناه في مقدمة هذا الجزء من أننا آثرنا أن نثبت هذه الفصول التي يتحدث فيها المؤلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن القرآن والدين الإسلامي كما أوردها حرصاً منا على الأمانة في الترجمة من جهة ولكي يطلع قراء العربية على بعض آراء الكتاب غير المسلمين من جهة أخرى سواء كانت هذه الآراء مما يتفق مع ما أجمع عليه أولئك القراء أولا يتفق معه. يضاف إلى ذلك أن هذه الفصول لا تخلو من كثير من الثناء على النبي وتمجيد للإسلام يصح أن يطلع عليه القراء. على أن إثباتنا لأقوال المؤلف لا يعني مطلقاً أننا نوافقه عليها. وقد ذكر وهو مسيحي في كلامه على المسيحية ما لا يوافقه عليه كثيرون من أبنائها كما ذكر عن اليهودية ما لا يوافقه عليه كثيرون من اليهود، ويجب أن لا يغفل القراء التعليقات التي أثبتناها في هوامش هذه الفصول].

لقد كان محمد من أسرة كريمة ممتازة، ولكنه لم يرث منها إلا ثروة متواضعة، فقد ترك له عبد الله خمسة من الإبل، وقطيعاً من المعز، وبيتاً، وأمة عنيت بتربيته في طفولته. ولفظ محمد مشتق من الحمد وهو مبالغة فيه، كأنه حمد مرة بعد مرة، ويمكن أن تنطبق عليه بعض فقرات في التوراة تبشر به. وقد توفيت أمه وهو في السادسة من عمره وكفله أولاً جده وكان وقتئذ في السادسة والسبعين من عمره ثم عمه أبو طالب ولقي منهما كثيراً من الحب والرعاية، ولكن يبدوا أن أحداً لم يعن بتعليمه القراءة والكتابة. ولم تكن لهذه الميزة قيمة عند العرب في ذلك الوقت، ولهذا لم يكن في قبيلة قريش كلها إلا سبعة عشر يقرءون ويكتبون. ولم يُعرَف عن محمد أنه كتب شيئاً بنفسه، وكان بعد الرسالة يستخدم كاتباً خاصاً له ولكن هذا لم يحل بينه وبين المجئ بأشهر

(1)

وأبلغ كتاب

(1)

هذا رأي المؤلف بطبيعة الحال وليس من حقنا أن نطالب إليه أن يقول إنه منزل من عند الله. (المترجم)

ص: 21

في اللغة العربية، أو بين قدرته على تعرف شؤون الناس تعرفاً قلما يصل إليه أرقى الناس تعليماً.

ولا نكاد نعرف عن شباب محمد إلا القليل، وكان ما يروى عنه من القصص قد ملأ عشرة آلاف مجلد. وتقول إحدى الروايات إن عمه أبا طالب قد أخذه معه وهو في الثامنة عشرة من عمره في قافلة إلى بصرى ببلاد الشام، وليس ببعيد أن يكون قد عرف في هذه الرحلة قليلاً من القصص الشعبية اليهودية والمسيحية. وتصور قصة أخرى بعد بضعة سنين من الرحلة السابقة مسافراً إلى بصرى في تجارة إلى السيدة خديجة وكانت وقتئذ أرملة غنية، ثم نراه في الخامسة والعشرين من عمره وقد تزوج فجأة بهذه السيدة وهي وقتئذ في الأربعين من عمرها وأم لعدة أبناء. ولم يتزوج غيرها حتى توفيت بعد ذلك بستة وعشرين عاماً، ولم يكن الاقتصار على زوجة واحدة أمراً مألوفاً عند أغنياء العرب في ذلك الوقت، ولكن لعله كان طبيعياً في حالتهما. وقد رزق منها عدة بنات أشهرهن كلهن فاطمة، كما رزق بولدين توفيا في طفولتهما. وقد وجد سلواه في تبني

(1)

علي بن أبي طالب الذي مات عنه والده. وكانت خديجة سيدة طيبة، وزوجة صالحة، وتاجرة بارعة ظلت وفية لمحمد في صروف حياته الروحية، وظل يذكرها بعد وفاتها على أنها خير نسائه كلهن.

ويصف زوج فاطمة محمداً وهو في سن الخامسة والأربعين بقوله:

لم يكن الطويل الممغط ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط ولا السبط، وكان جعداً رجلاً، ولم يكن بالمطهم ولا المكلثم، وكان أبيض مشرباً أدعج العينين أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، دقيق

(1)

لم يكن هذا تبنياً بالمعنى المعروف عند الغربيين ولكن الرسول آوى علياً وكفله في تربيته تخفيفاً عن أبيه في الأزمة الشديدة التي أصابت قريشاً-راجع سيرة بني هشام. (المترجم)

ص: 22

المشربة، أجود شئن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً،

أجود الناس كفاً وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من آره بديهة، ومن خالطه أحبه، يقول ناعته "لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم".

وكان محمد مهيب الطلعة، لا يضحك إلا قليلاً، قادراً على الفكاهة ولكنه لا يترك العنان لهذه الموهبة، لأنه كان يعرف خطورة المزاح إذا نطق به من يتولى أمور الناس، ولم يكن قوي البنية، ولهذا كان مرهف الحس سريع التأثر، ميالاً إلى الانقباض كثير التفكير. كان إذا غضب أو تهيج انتفخت عروق وجهه بدرجة يرتاع لها من حوله

(1)

، ولكنه كان يعرف متى يهدأ من انفعاله، وكان في وسعه أن يعفو من فوره عن عدوه الأعزل إذا تاب.

وكان في بلاد العرب كثيرون من المسيحيين، وكان منهم عدد قليل في مكة، وكان محمد على صلة وثيقة بواحد منهم على الأقل ورقة بن نوفل ابن عم خديجة الذي كان مطلعاً على كتب اليهود والمسيحيين المقدسة. وكثيراً ما كان محمد يزور المدينة التي مات فيها والده، ولعله قد التقى هناك ببعض اليهود وكانوا كثيرين فيها. وتدل كثير من آيات القرآن على إعجابه بأخلاق المسيحيين، وبما في دين اليهود من نزعة إلى التوحيد، وبما عاد على المسيحية واليهودية من قوة كبيرة لأن لكلتيهما كتاباً مقدساً تعتقد أنه موحى من عند الله. ولعله قد بدا له أن ما يسود جزيرة العرب من شرك، ومن عبادة للأوثان، ومن فساد خلقي، ومن حروب بين القبائل وتفكك سياسي، نقول لعله قد بدا له أن حال بلاد العرب إذا قورنت

(1)

كان النبي يغضب أحياناً لله ولدينهِ، ولكننا لا نعرف أنه كان يتهيج لأن التهيج صفة لا تليق بمصلح فضلاً عن رسول الله رب العالمين وخاصة والله يصفه بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم ويقول عنه "وإنك لعلى خلق عظيم" و "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك".

ص: 23

بما تأمر به المسيحية واليهودية حال بدائية لا تشرف ساكنيها. ولهذا أحس بالحاجة إلى دين جديد، ولعله أحس بالحاجة إلى دين يؤلف بين هذه الجماعات المتباغضة المتباعدة، ويخلق منها أمة قوية سليمة، دين يسمو بأخلاقهم عما ألفه البدو من شريعة العنف والانتقام، ولكنه قائم على أوامر منزلة لا ينازع فيها إنسان، ولعل هذه الأفكار نفسها قد طافت بعقل غيره من الناس، فنحن نسمع عن قيام عدد من "المتنبئين" في بلاد العرب في بداية القرن السابع، وقد تأثر كثير من العرب بعقيدة المسيح المنتظر التي يؤمن بها اليهود، وكان هؤلاء أيضاً ينتظرون بفارغ الصبر مجيء رسول من عند الله.

وكانت في لبلاد شيعة من العرب تدعى بالحنفية أبت أن تقر بالألوهية لأصنام الكعبة وقامت تنادي بإله واحد يجب أن يكون البشر جميعاً عبيداً له وأن يعبدوه راضين

(1)

.

وكان محمد، كما كان كل داعٍ ناجح في دعوته، الناطق بلسان أهل زمانه والمعبر عن حاجاتهم وآمالهم.

وكان كلما قرب من سن الأربعين ازداد انهماكاً في شؤون الدين، فإذا حل شهر رمضان

(2)

-وهو من الأشهر الحرم-أوى وحده أو جمع أسرته في بعض الأحيان إلى غار حراء على بعد ثلاثة أميال من مكة، وقضى فيه عدة أيام وليالي في الصوم، والتفكير، والصلاة. وبينما هو في ذلك الكهف بمفرده في ليلة من ليالي عام 610 م. إذ حدث له ذلك الحادث العظيم وهو المحور الذي يدور

(1)

يريد بهم ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحوبرت، وزيد ابن عمر بن نفيل، وكانوا قد أيقنوا أن ما هم عليه من الوثنية ليس بشيء فتفرقوا في البلاد يلتمسون الحنفية دين إبراهيم عليه السلام. (ي)

(2)

الذي في سيرة بني هشام "ج1 ص 153" أنه كان "يجاور في حراء من كل سنة شهراً" دون تعيين أن شهر رمضان بالذات، إلا أن هذا الشهر كان رمضان في السنة التي بعث فيها صلى الله عليه وسلم. (ي)

ص: 24

عليه تاريخ الإسلام كله. ويقول محمد بن أسحق أشهر من كتب سيرة النبي أنه هو نفسه قد وصف هذا الحادث الجليل بقوله "فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ. فقلت: ما أقرأ؟ فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال فقلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي، فقال: "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لا يعلم". فقرأتها ثم أنتهى فانصرف وهببت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتاباً؛ قال فخرجت حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: "يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل: قال فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء قال فلا أنظر من ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي

(1)

.

ولما عاد إلى خديجة حدثها بما رأى، وتقول الرواية أنها آمنت بأن ما رآه وحي صادق من السماء، وشجعته على أن يعلن للناس رسالته.

وتكرر الوحي بعد ذلك مرات كثيرة، وكثيراً ما كان يحدث في أثناء هذه الرؤى أن يسقط على الأرض ويرتجف أو تُخشى عليه، ويتصبب العرق من جبينه، وحتى الجمل الذي كان يركبه كان يتأثر ويضطرب في مشيه. وقد قال محمد يما بعد إن مشيبه كان من أثر هذه التجارب، ولما طُل إليه أن يصف كيفية نزول الوحي قال: إن القرآن كله محفوظ في السماء وأنه نزل عليه متقطعاً، وكان ينزل عليه

(1)

راجع ابن هشام "جـ 1 ص 153 وما بعدها" حيث يروي الحادث كله. (المترجم)

ص: 25

على لسان جبريل، ولما سئل كيف يتذكر هذه الأقوال القدسية قال: إن جبريل كان يطلب إليه أن يكررها كلمة كلمة

(1)

. ولم يكن المحيطون بالنبي في هذه الأوقات يرون جبريل أو يسمعونه. وقد يكون ارتجافه ناشئاً من نوبات صرع فقد كان يصحبه في بعض الأحيان صوت وصفه بأنه يشبه صلصلة الجرس، وتلك حال كثيراً ما تحدث مع هذه النوبات، ولكننا لا نسمع أنه عض من خلالها لسانه أو حدث ارتخاء في عضلاته كما يحدث عادة في نوبات الصرع، وليس في تاريخ محمد ما يدل على انحطاط قوة العقل التي يؤدي إليها الصرع عادة، بل نراه على العكس يزداد ذهنه صفاء ويزداد قدرة على التفكير وثقة بالنفس وقوة بالجسم والروح والزعامة، كلما تقدمت به السن حتى بلغ الستين من العمر. وقصارى القول أنا لا نجد دليلاً قاطعاً على أن ما كان يحدث للنبي كان من قبيل الصرع. ومهما يكن ذلك الدليل فإنه لا يقنع أي مسلم متمسك بدينه

(2)

.

وأخذ محمد في خلال السنوات الأربع التالية يجهر شيئاً فشيئاً بأنه نبي الله

(1)

في صحيح البخاري ومسلم ذكر لبدء الوحي إلى الرسول وبيان لكيفيته، ويروي ابن عباس أن الرسول كان يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه ليتابع جبريل فأنزل الله تعالى قوله "لا تُحَّرِكْ بهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَاْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"، فكان الرسول بعد ذلك إذا أتاه جبريل بالوحي استمع له فإذا انتهى جبريل قرأه صلى الله عليه وسلم كما قرأه جبريل.

(2)

لقد أصاب المؤلف إذ فند قول من يدعون أن النبي كان يصاب بنوبة من نوبات الصرع حين ينزل عليه الوحي، وإنما الأمر أنه كان يكون في حالة إجهاد عقلي وجسمي، ولله تعالى يقول في سورة الحشر "لَوْ أنْزَلْنا هذا اْلقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله". (ي)

ص: 26

المبعوث لهداية العرب إلى حياة أخلاقية جديدة وإلى دين التوحيد. وقد لاقى في سبيل دعوته صعاباً كثيرة. ذلك أن الأفكار الجديدة لا يقبلها الناس إلا إذا كانوا يرجون من ورائها نفعاً مادياً عاجلاً، وأن محمداً كان يعيش في مجتمع تجاري متشكك يحصل على جزء من إيراده من الحجاج الذي يفدون على الكعبة لعبادة آلهتها الكثيرة، وكان مما تغلب به على بعض هذه الصعاب ما وُعِد به المؤمنون من النجاة في الدار الآخرة من نار جهنم والاستمتاع بنعيم الجنة. وكان محمد يستقبل في داره كل من أراد الاستماع إليه، غنياً كان أو فقيراً أو عبدا رقيقاً، ومن العرب والمسيحيين واليهود، وقد تأثر بحماسته وبلاغته قوله عدد قليل ممن جاءوا إليه وآمنوا به، وكان أول من آمن برسالته زوجته المسنة السيدة خديجة وآمن بها من بعدها ابن عمه علي، ثم خادمه زيد وكان قد اشتراه بالمال ثم أعتقه من فوره، ثم قريبه أبو بكر وهو رجل من ذوي المكانة العالية في قريش. واعتنق الدين الجديد بتأثير أبي بكر خمسة من زعماء مكة

(1)

، كونوا معه "صحابة" محمد الستة. وهم الذين أخذت عنهم فيما بعد السنن الإسلامية ذات المكانة السامية في الدين الإسلامي. وكثيراً ما كان محمد يدخل الكعبة، ويتحدث إلى الحجاج، ويدعوهم لعبادة إله واحد

(2)

. وسخرت قريش أول الأمر من دعوته ولكنها صبرت عليها، وقالت إن بعقله خبالاً وعرضت أن ترسله على نفقتها إلى طبيب يرجى أن يشفيه من جنونه، فلما أن أخذ يهاجم دينهم ويقول إن الشعائر التي يقومون بها في الكعبة ليست إلا عبادة لما فيها من الأوثان هبوا للدفاع عن

(1)

هؤلاء هم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله (سيرة بن هشام ص 165). أما أصحاب الرسول الذين أخذت عنهم سنته فليسوا هؤلاء الخمسة مع أبي بكر فقط بل هم كثرة كما هو معروف. (ي)

(2)

كان الرسول يتعرض للوافدين إلى مكة للحج من قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام. (ي)

ص: 27

مورد رزقهم

(1)

، وكادوا يوقعون به أذى جسيماً لولا أن حماه عنهم عمه أبو طالب. ولم يعتنق أبو طالب الدين الجديد، ولكن إخلاصه لتقاليد العرب القديمة تحتم عليه أن يحمي كل فرد من أفراد قبيلته.

وكان خوف قريش من إثارة الفتنة الصماء بين العرب مانعاً لها من استخدام العنف مع محمد والأحرار من أتباعه، أما من آمنوا به من العبيد فقد كان في وسعهم أن يستخدموا من الأساليب ما يرونه كفيلاً بردهم عن الدين الجديد دون أن يخالفوا بذلك قوانين القبائل وتقاليدها.

فزجوا بعضهم في السجون وعرضوا البعض الآخر ساعات طوال إلى وهج الشمس وهم عراة الرؤوس. ومنعوا عنهم الماء

(2)

وكان أبو بكر قد ادخر من تجارته خلال عدة سنين أربعين ألف قطعة من الفضة، فلما رأى ما كان يحدث لأولئك العبيد أنفق 35000 منها في تحرير أكبر عدد من العبيد المسلمين، ويسّر محمد الأمر بقوله إن المرتد المكره لا عقاب عليه

(3)

وغضبت قريش من ترحيب محمد بالعبيد أكثر من غضبها من عقيدته الدينية. وظلت تضطهد من دخل في الإسلام من الفقراء اضطهاداً بلغ من القسوة حداً لم يسع النبي معه إلا أن يأذن لهم أو يشير عليهم بالهجرة إلى بلاد الحبشة، حيث رحب بهم ملكها المسيحي وأكرم وفادتهم (615).

وحدث بعد عام من لك الوقت حادثة كان لها من الشأن في تاريخ

(1)

كانوا يدافعون عن مورد رزقهم وعن دينهم. وقد قال من ذهب منهم إلى عمه أبي طالب: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آبائنا فإما أن تكفه عنا أو أن تخلي بيننا وبينه "سيرة بن هشام جزءاً: 170". (ي)

(2)

يقول ابن إسحق في سيرته "وثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبون بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر من استضعفوا منهم، ويفتنونهم عن دينهم.

(3)

عملاً بقوله تعالى في سورة النحل الآية 106 "إلا مَنْ أكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالايمَانِ".

ص: 28

الإسلام ما كان لإيمان بولس في تاريخ المسيحية. تلك هي اعتناق عمر بن الخطاب للدين الجديد بعد أن كان من ألد أعدائه وأشدهم عنفاً في مناهضته. وكان عمر رجلاً قوي الجسم، ذا مكانة اجتماعية عالية، وشجاعة أدبية تكاد تكون منقطعة النظير. وبعث إسلامه الثقة في قلوب المؤمنين المضطهدين، وهي ثقة ما كان أحوجهم إلها في ذلك الوقت كما كان سبباً في دخول كثيرين من العرب في الدين الجديد. وبدأ المسلمون من ذلك الوقت يدعون الناس جهرة في الشوارع والطرقات بعد أن كانوا من قبل لا يعبدون الله إلا سراً في بيوتهم. واجتمع المدافعون عن آلهة الكعبة وأقسموا أن يقطعوا كل صلة بينهم وبين من لا يزالون من بني هاشم يرون واجباً عليهم أن يدافعوا عن محمد. ورأى كثيرون من الهاشميين ومن بينهم محمد وأسرته حقناً للدماء أن ينسحبوا إلى شعب منعزلة في مكة يستطيع أبو طالب أن يدفع عنهم الأذى فيه (615). وظلت هذه الفرقة بين العشائر قائمة سنتين كاملتين عاد بعدها بعض رجال قريش إلى صوابهم فدعوا الهاشميين أن يعودوا إلى بيوتهم وتعهدوا ألا يمسوهم بسوء.

وابتهجت لهذه القلة المسلمة في مكة، ولكن ثلاثة خطوب ألمت بمحمد في عام 619، فقد توفيت في ذلك العام السيدة خديجة أوفى الناس له وأكثرهم تأييداً لدعوته، وتوفي أبو طالب الذي كان ينصره ويدافع عنه. وأحس محمد أنه لا يأمن على نفسه في مكة، وآلمه بطء انتشار الدعوة فيها، فهاجر إلى الطائف (620). وهي بلدة ظريفة بعيدة عن مكة بنحو ستين ميلاً إلى جهة الشرق، ولكن الطائف لم تقبله، لأن زعماءها لم يروا من مصلحتهم أن يغضبوا أشراف مكة التجار، ولأن العامة فزعوا من الدين الجديد فأخذوا يهزءون بمجمد في الشوارع، ويقذفونه بالحجارة، حتى سال الدم من ساقيه، فعاد إلى مكة، وتزوج أرملة تدعى سودة

(1)

، ثم خطب وهو في سن الخمسين عائشة بنت أبي بكر وكانت

(1)

وهي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس.

ص: 29

وقتئذ فتاة حسناء في السابعة من العمر

(1)

.

ولم ينقطع عنه الوحي في هذه الأثناء، وخيل إليه في ذات ليلة أنه انتقل من نومه إلى بيت المقدس، حيث رأى في انتظاره عند المبكى من أنقاض هيكل البُرَاق، وهو جواد مجنح فطار به إلى السماء، ثم عاد به منها، ثم وجد النبي نفسه بمعجزة أخرى آمناً في فراشه بمكة. وبفضل الإسراء أصبحت بيت المقدس ثالثة المدن المقدسة عند المسلمين

(2)

.

وفي عام 620 أخذ محمد يبث الدعوة بين التجار الذين وفدوا على مكة ليحجوا إلى الكعبة، وقبل بعض التجار دعوته، لأن عقائد التوحيد، والرسول المبعوث من عند الله، ويوم الحساب كانت مألوفة عندهم، انتقلت إليهم من يهود المدينة. ولما عاد هؤلاء التجار إلى بلدهم أخذ بعضهم يدعون أصدقائهم إلى الدين الجديد، ورحب بعض اليهود بهذه الدعوة لأنهم لم يروا فارقاً كبيراً بين تعاليم محمد وتعاليمهم. وفي عام 622 أقبل على محمد في مكة سراً ثلاثة وسبعون رجلاً من أهل المدينة ودعوه إلى الهجرة إلى بلدهم واتخاذها موطناً له. فسألهم هل يدافعون عنه كما يدافعون عن أبنائهم، فأقسموا أن يفعلوا، ولكنهم سألوه عما يُجزون به إذا قُتلوا في أثناء دفاعهم عنه، فأجابهم بأن جزائهم هو الجنة.

وفي ذلك الوقت أصبح أبو سفيان حفيد أمية زعيم قريش في مكة، وكان قد نشأ في جو من الكراهية لبني هاشم، فعاد إلى اضطهاد أتباع محمد، ولعله

(1)

تزوج الرسول عائشة رضي الله عنها بمكة وهي بنت سبع سنين وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين أو عشر، وفي البخاري أنه تزوج بها وهي بنت ست وبنى بها وهي بنت تسع. (ي)

(2)

عُني المسلمون بمسألة الإسراء والمعراج فمنهم من يقول إن الإسراء كان بجسده وروحه ومنهم من يقول إن ذلك كان رؤيا حق ومن هؤلاء عائشة أم المؤمنين ومعاوية بن أبي سفيان. راجع سيرة بن هشام. (ي)

ص: 30

قد سمع أن النبي يعتزم الهجرة من مكة، وخشي أنه إذا استقر له الأمر في المدينة قد يشن الحرب على مكة وعلى آلهة الكعبة. وعهدت قريش بتحريضه إلى بعض رجالها أن يقبضوا على محمد، ولعلها عهدت إليهم أن يقتلوه، وعلم محمد بالخبر ففر هو وأبو بكر إلى غار ثور على بعد فرسخ من مكة، وظل رسل قريش يبحثون عنهما ثلاثة أيام ولكنهم عجزوا عن العثور عليهما. وجاء أبناء أبي بكر لهما بجملين

(1)

فركباهما في أثناء الليل واتجها بهما شمالاً، وبعد أن ضلا سائرين عدة أيام قطعا فيها نحو مائتي ميل وصلا أخيراً إلى المدينة في 24 سبتمبر من عام 622. وكان قد سبقهم إليها مائتان من المسلمين بدعوى أنهم حجاج عائدون من مكة، ووقفوا عند أبواب المدينة ومعهم من أسلم من أهلها ليستقبلوا النبي، وبعد سبعة عشر عاماً من ذلك الوقت اتخذ الخليفة عمر اليوم الأول من السنة العربية التي حدثت فيها تلك الهجرة، وكان هو في ذلك العام يوم 16 يولية من سنة 622، البداية الرسمية للتاريخ الإسلامي.

(1)

في حديث الهجرة لا نرى ذكراً صريحاً لأبناء أبي بكر يقدمون للرسول وصاحبه راحلتين ليركباهما في هجرتهما، وإنما نرى أبا بكر نفسه يشتري راحلتين ويعدهما لذلك اليوم، ثم نرى أسماء بنت أبي بكر تقدم لهما طعاماً في جراب تربطه بقطعة من نطاقها، ولذلك سميت بذات النطاقين، ونرى عبد الله بن أبي بكر في قريش بالنهار يسمع ما يقولون بشأن الرسول وصاحبه ثم يأتيهما في المساء ليخبرهما الخبر. (ي)

ص: 31

الفصل الثالِث

‌محمد في المدينة

622 -

630

تقع يثرب، التي سميت فيما بعد "مدينة النبي" على الحافة الغربية من الهضبة العربية الوسطى. وكانت إذا قورنت من حيث جوها بمكة بدت كأنها جنة عدن، وكان بها مئات من الحدائق وغياض النخل، والضياع. ولما دخل محمد المدينة تقدمت إليه طائفة في إثر طائفة وألحت عليه أن ينزل عندها ويقيم معها؛ وأمسك بعضها بزمام ناقته لتمنعه عن مواصلة السير وأصرت على ذلك إصراراً تمليه عليها تقاليدها العربية، وكان جوابه غاية في حسن السياسة فكان يقول لهم:"خلوا سبيلها فإنها مأمورة"، وبهذا لم يترك للغيرة سبيلاً إلى قلوبهم لأن الله وحده هو الذي يسير الناقة ويهديها إلى حيث تقف. وبنى محمد في المكان الذي وقفت فيه ناقته مسجداً وبيتين متجاورين أحدهما لسودة والآخر لعائشة، وأضاف إليهما مساكن أخرى لزوجاته الأخريات.

وكان حين غادر مكة قد قطع كثيراً من صلات القرابة، فلما جاء إلى المدينة اعتزم أن يستبدل بصلات الدم صلات الأخوة الدينية في الدولة الجديدة، كما أراد أن يقضي عل أسباب الغيرة بين المهاجرين الذين جاءوا من مكة والأنصار الذين أسلموا من أهل المدينة-وكانت بوادر هذه الغيرة قد بدت في ذلك الوقت-فآخى بين كل واحد من إحدى الطائفتين وزميل له من الطائفة الأخرى، وطلب إلى كلتيهما أن تصلي في المسجد مع أختها. وفي أول احتفال أقيم في المدينة صعد المنبر وقال بصوت عالٍ "الله أكبر" وردد المجتمعون النداء بأعلى صوتهم وسجد لله وهو لا يزال متجهاً بظهره إليهم، ثم نزل عن المنبر بظهره فلما وصل إلى آخره

ص: 32

سجد لله ثلاث مرات وكان هذا السجود رمزاً للخضوع إلى الله والاستسلام له ومنه سمي الدين الجديد بالإسلام أي "الاستسلام" و"السلم"، وسمي أتباعه بالمسلمين. ثم التفت إلى الحاضرين وأمرهم أن يحافظوا على هذه الشعائر إلى أبد الدهر، ولا يزال المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يتبعون هذه السنة في الصلاة سواء كانت في مسجد، أو ضاربين في الصحراء أو في بلد غريب لا مسجد فيه. وتنتهي

(1)

الصلاة بخطبة كانت في زمن النبي خبراً عن وحي وتوجيهاً لأعمال الأسبوع وسياسته. ذلك أن النبي كان ينشئ حكومة مدنية في المدينة. واضطر بحكم الظروف أن يخصص جزءاً متزايداً من وقته للمشاكل العملية المتصلة بالتنظيم الاجتماعي، والأخلاق، والعلاقات السياسية بي القبائل، ولشؤون الحرب، لأنه لم يكن ثمة حد فاصل بين الشؤون الدينية والدنيوية، بل اجتمعت هذه الشؤون كلها في يد الزعيم الديني كما كانت الحال عند اليهود.

فكان محمد في المدينة الرسول الديني والحاكم السياسي جميعاً، ولم ترضَ أكثرية العرب عن هذا الوضع وأخذت تنظر بعين الريبة إلى الدين الجديد وشعائره، وترى أن محمداً كاد يقضي على تقاليد العرب وحريتهم، وأنه كان يزج به في الحروب، وكان من هؤلاء يهود المدينة الذين ظلوا متمسكين بدينهم ولم ينقطعوا عن الاتجار مع قريش في مكة.

وقد عقد محمد مع أولئك اليهود عهداً ينم عن مهارة سياسية كبيرة، وقد جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن يتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربقتهم يتعاقلون بينهم وهم يقدرون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة، وبنو الحارث، وبنو جشم،

(1)

الصحيح أن الخطبة تكون قبل الصلاة أيام الجمع وبعدها أيام العيدين، وفي غير الجمع والعيدين لا خطبة قبل الصلاة ولا بعدها. (ي)

ص: 33

وبنو النجار، وبنو عمر بن عوف، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وإن ذمة الله واحدة، وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا مناصرين عليهم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود وبينهم مواليهم وأنفسهم، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وسرعان ما قبلت هذا جميع قبائل اليهود في المدينة وما حولها قبيلة بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع.

وهاجرت إلى المدينة مائتا أسرة من مكة فنشأت فيها من جراء هذه الهجرة مشكلة الحصول على ما يكفي أهلها من الطعام وحل محمد هذه المشكلة كما يحلها كل الأقوام الجياع بالحصول على الطعام أنى وجد. ومن ذلك أنه أمر أتباعه بالإغارة على القوافل المارة بالمدينة، متبعاً في ذلك ما كانت تتبعه معظم القبائل العربية في ذلك الوقت

(2)

. فلما كللت هذه الغارات بالنصر أعطى المغيرين أربعة أخماس الغنائم، واحتفظ بالخمس الباقي للأعمال الدينية والخيرية، وكان نصيب من استشهد في هذه الغزوات من حق أرملته، أما هو فكان جزاءه الجنة. وكثرت الغزوات، وتضاعف عدد المشتركين فيها، وارتاع لها تجار مكة الذين كانت حياتهم الاقتصادية تعتمد على سلامة قوافلهم، فأخذوا يدبرون أمر الانتقام من محمد والمسلمين. وكان من هذه الغارات واحدة حدثت في آخر يوم من شهر رجب أحد

(1)

هذا عهد له أثره الكبير ومظهره العظيم، ولم يعقده الرسول مع اليهود فحسب بل هو كما يذكر ابن إسحق كتاب كتبه الرسول بين المهاجرين والأنصار وفيه وادع اليهود وعاهدهم وأقرهم على ذمتهم وأموالهم وقد ذكره ابن هشام في سيرته على طوله. (ي)

(2)

لقد كانت الإغارة على قوافل قريش المارة بالمدينة عملاً يراد به الدفاع عن الإسلام واسترداد لبعض ما اغتصبه أهل مكة من أموال المسلمين الذين هاجروا منها. (ي)

ص: 34

الأشهر الحرم التي كان العرب يمتنعون فيها عن جميع أعمال القتال، وقتل فيها رجل، وأساءت بذلك إلى سمعة أهل مكة والمدينة على السواء وإلى تقاليد العرب المرعية منذ القدم. وفي عام 623 جمع محمد نفسه ثلاثمائة من المسلمين المسلحين، واعترض طريق قافلة قادمة من الشام إلى مكة. وعلم أبو سفيان وكان على رأس القافلة بهذه الخطة، فغير طريقه، وأرسل إلى مكة من يطلب النجدة، وبعثت قريش بتسعمائة من رجالها، والتقى الجيشان الصغيران عند وادي بدر على بعد عشرين ميلاً جنوبي المدينة. ولو أن محمداً هُزم في هذه الغزوة لقضي عليه وعلى الإسلام في هذه المعركة، ولكنه قاد رجاله بنفسه وانتصر على قريش؛ وقويت بهذا النصر شوكة الإسلام، وعاد المسلمون إلى المدينة ومعهم كثير من الأسرى والغنائم (يناير عام 624)، وقتل من هؤلاء الأسرى بعض من كانوا أشد الناس اضطهاداً للمسلمين في مكة، وأطلق سراح الباقين نظير فدية كبيرة، ونجا أبو سفيان، وأنذر المسلمين بالانتقام.

ولما عاد إلى مكة أخذ يواسي أسر القتلى ويشجعهم، ويطلب عدم البكاء عليهم ورثائهم ويقول إن الحرب سجال وإنهم سيأخذون بثأرهم. ثم أقسم ألا يقرب زوجه إلا بعد أن يخرج مرة أخرى لقتال محمد.

واشتد ساعد محمد بهذا النصر، وجرى العرب بعده على الأساليب المألوفة في الحروب. من ذلك أن شاعرة تدعى عصماء هاجمته في شعرها فتسلل عمير، وهو مسلم ضرير إلى بيتها وطعنها وهي نائمة بسيفه في صدرهما طعنة بلغ من قوتها أن نفذ السيف من تحتها إلى فراشها. وفي اليوم التالي سأل محمد عميراً هل قتل عصماء فأجابه، يا رسول الله إني قد قتلتها، فقال "نصرت الله ورسوله يا عمير"؛ فقال عمير:"هل علي شيء من شأنها يا رسول الله؟ " فأجابه بقوله إن هذا أمر "لا ينتطح فيه عنزان". ومنها أن رجلاً ممن اعتنقوا الدين اليهودي يدعى أبا عفك يناهز من العمر مائة عام هجا النبي فقتله بعضهم وهو نائم في فناء بيته، وارتد شاعر ثالث

ص: 35

من أهل المدينة يدعى كعب بن الأشرف، وكانت أمه يهودية، حين انقلب محمد على اليهود، وكتب قصائد يحرض فيها قريشاً على أن يثأروا لهزيمتهم، وأثار غضب المسلمين بتشبيبه بنسائهم، فقال النبي "من لي بابن الأشرف؟ " فلم يمضِ آخر النهار حتى كان رأس الشاعر ملقى أمام قدميه. وكان المسلمون يرون أن هذه الأعمال وأمثالها إن هي إلا دفاع مشروع عن أنفسهم من الخونة، فقد كان محمد رئيس دولة، وكان من حقه أن يصدر فيها الأحكام

(1)

ولم يطل حب اليهود من أهل المدينة لهذا الدين ذي النزعة الحربية، والذي بدا لهم أول الأمر شديد الشبه بدينهم، وأخذوا يسخرون من تفسير محمد لكتابهم المقدس، وقوله أنه هو الذي بشر به آباؤهم، وكان جوابه أن قال، كما أوحى إليه، إنهم حرفوا كتابهم، وقتلوا أنبياءهم، وأبوا أن يصدقوا المسيح. وكان قد اتخذ بيت المقدس قبلة يتجه إليها المسلمون في الصلاة، فاستبدل به في عام 624 مكة والكعبة، واتهمه اليهود بأنه قد عاد إلى عبادة الأوثان

(2)

. وحدث في هذا الوقت أن زارت فتاة مسلمة سوق بني قينقاع اليهودي في المدينة، وبينا هي جالسة

(1)

هي عصماء بنت مروان وقاتلها عمير بن عدي الخطمي. ولكل حادثة من الحوادث السالفة الذكر ظروف وأسباب تبررها بلا ريب؛ فهذه عصماء بنت مروان كانت تعيب الإسلام وأهله وتحرض على المسلمين وتؤذيهم أذى شديداً فكان قتلها جزاء ما جنت حقاً واجباً حتمته الضرورة حتى قيل في شأنها بعد أن قتلت "من يومئذ عز الإسلام أهله بالمدينة". وكعب بن الأشرف لم يكن مسلماً ثم ارتد كما يقول المؤلف، ولو كان كذلك لكان قتله فرضاً من هذه الناحية، لأن المرتد يجب قتله إن لم يتب ويرجع عن الكفر؛ لكنه كان كما أشار المؤلف عدواً لله ولرسوله والمؤمنين، إذ كان يحرض المشركين على المسلمين، ويشبب بنسائهم حتى أذاهم أذى شديداً، وهو مع هذا كان ذا جاه ومسموع الكلمة في قومه، فكان لهذا عدواً يخشى عدوانه من وجوه مختلفة، ولهذا كان قتله أمراً مشروعاً وواجباً دفاعاً عن الدين وأهله، وهم محاطون بالأعداء من كل جانب، وخاصة وقد لقي المسلمون أذى كثيراً من غدر اليهود بالمدينة مقر الإسلام حينئذ، والعدو الداخلي في مثل هذه الظروف أشد ضرراً من العدو الخارجي كما هو معروف.

(2)

وفي ذلك نزل قوله تعالى "قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّماءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجِدِ الحَرَامِ وَحَيثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلوا وُجُهَكُمْ شَطْرَهُ" سورة البقرة (الآية 144).

ص: 36

في حانوت صائغ إذ شبك يهودي خبيث قميصها من وراء ظهرها في أعلى ثيابها، فلما قامت ورأت ما فعل بها بكت مما لحقها عار فقتل أحد المسلمين اليهودي الأثيم، وقتل أخوه اليهودي المسلم، فجمع محمد أتباعه وحاصر يهود بني قينقاع في حيهم خمسة عشر يوماً، حتى استسلموا، فقبل استسلامهم وأمرهم أن يخرجوا بقضهم وقضيضهم من المدينة ويتركوا وراءهم جميع ممتلكاتهم، وكان عددهم في ذلك الوقت نحو سبعمائة.

ولا يسعنا إلا أن نعجب بأبي سفيان لأنه استطاع أن يكظم غيظه وينتظر بعد يمينه غير الطبيعية عاماً كاملاً قبل أن يقدم على قتال محمد. وفي أوائل 625 سار على رأس جيش تبلغ عدته ثلاثة آلاف رجل إلى جبل أحد على بعد ثلاثة أميال شمالي المدينة، وصحب الجيش خمسة عشر من النساء بينهن زوجات أبي سفيان ليثرن حماسة الجند بأغانيهن الحزينة ودعوتهن إياهم إلى الانتقام.

ولم يكن جيش المسلمين يزيد على ألف، وهُزم المسلمون في هذه الغزوة، وحارب فيها محمد بشجاعة عظيمة، وأصيب بعدة جروح وحُمل من الميدان. وقتل في المعركة حمزة عم النبي ومضغت كبده هند أشهر زوجات أبي سفيان، وكان أبوها، وعمها، وأخوها قد قتلوا جميعاً في غزوة بدر، وكان حمزة نفسه هو الذي قتل أباها، ثم لم تكتفِ بهذا بل صنعت لنفسها من جلده وأظافرهِ خلاخيل وأساور. وظن أبو سفيان أن محمداً قد مات، وعاد منتصراً إلى مكة

(1)

. وبعد ستة أشهر من هذه الواقعة شفي النبي واستطاع أن يهاجم بني النضير، لأنهم أعانوا قريشاً على

(1)

الذي تذكره كتب السيرة "أن قريشاً خرجوا معهم بالظعن (أي نسائهم) التماساً للحفيظة وألا يفروا"(أبن هشام ج2 ص 127) ثم ذكر ابن هشام بعد هذا بعض من خرجن من النساء فلم يصل بهن إلى عشر ومن بينهن زوجة أبي سفيان لا زوجاته وهي هند بنت عتبة، كذلك يقول ابن هشام إن الرسول تهيأ للقتال في سبعمائة رجل فقط (ابن هشام ج2 ص 129). (ي)

ص: 37

المسلمين وكانوا يأتمرون به ليقتلوه. وبعد أن حاصرهم ثلاثة أسابيع أذن لهم أن يهاجروا من المدينة على أن تأخذ كل أسرة معها حمل بعير. واستولى النبي على بعض ما كان لهم من بساتين النخيل الغنية، فكان بعضها له، ووزع مل بقي منها على المهاجرين

(1)

. لقد كان محمد يرى أنه في حرب مع أهل مكة، وأن من حقه أن يؤمن نفسه بإبعاد الجماعات المعادية له عن جناحيه.

وعادت قريش وعاد أبي سفيان إلى مهاجمة المسلمين في عام 626 بجيش يبلغ 10. 000 رجل يساعدهم يهود بني قريظة مساعدة جدية. ورأى محمد أنه لا يستطيع مقابلة هذه القوة الكبيرة في الميدان، ففضل أن يدافع عن المدينة بحفر خندق حولها. وحاصرتها قريش عشرين يوماً حتى فتَ في عضدهم المطر والعواصف، فعادوا إلى أوطانهم، وقاد محمد من فوره ثلاثة آلاف من المسلمين وهاجم بهم يهود بني قريظة، فلما استسلموا خيرهم بين الإسلام والموت.

وكان النبي في ذلك الوقت قد أصبح من مهرة القواد، فقد جهز في العشر السنين التي قضاها في المدينة خمساً وستين غزوة وسرية حربية قاد بنفسه سبعاً وعشرين منها، ولكنه كان إلى هذا سياسياً محنكاً، يعرف كيف يواصل الحرب بطريق السلم، وكان يشارك المهاجرين في الحنين إلى بيوتهم وأسرهم في مكة، ويشارك المهاجرين والأنصار جميعاً في الحنين إلى زيارة الكعبة، التي كانت في صباهم عزيزة عليهم وموضع إجلالهم.

(1)

هاجم الرسول بني النضير ولما يمضي على يوم أحد أكثر من خمسة أشهر لأن يوم أحد كان في منتصف شوال سنة ثلاث من الهجرة وأمر بني النضير كان في ربيع الأول سنة أربع. وقد أذن لهم النبي أن يأخذوا معهم من أموالهم ما استطاعت الإبل أن تحمله، إلا السلاح كما يذكر ابن هشام. وأما تقسيم الفيء فقد اتبع فيه النبي قول الله عز وجل:"ما أفاء الله على رسولهِ مِن أهلِ القُرى فللهِ وللرَسولِ ولذي القُربى واليَتامى والمَساكين وابن السَبيل كي لا يَكون دَولةً بينَ الأغنياء مِنكم". ويقول ابن هشام (ج2 ص 178) عن أموال بني النضير إن الرسول قسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا رجلين من هؤلاء ذكرا فقراً فأعطاهما أيضاً. (ي)

ص: 38

وفي عام 628 أرسل محمد إلى قريش يعرض عليهم الصلح، ويتعهد لهم بسلامة قوافلهم إذا رضوا أن يؤدي شعائر الحج في موسمه. وأجاب زعماء قريش بأنهم يشترطون لقبول هذا العرض أن يمضي قبله عام كامل من السلم، وأدهش محمد أتباعه بقبوله إياه

(1)

، ووقع الطرفان شروط هدنة تدوم عشر سنين، وحدثت بعدئذ غارة على يهود خيبر في مساكنهم الواقعة في الشمال الشرقي من المدينة على مسيرة ستة أيام منها، ودافع اليهود عن أنفسهم بأحسن ما يستطيعون من دفاع، وسقط منهم في أثناء ذلك ثلاثة وتسعون رجلاً، ثم سلم الباقون آخر الأمر، وسمح لهم بالبقاء في أماكنهم يزرعون الأرض، على شرط أن يسلموا جميع ممتلكاتهم ونصف محصولاتهم المستقبلة إلى الفاتحين. ولم يمس أحد من الباقين بسوء ما عدا زعيمهم كنانة وابن عمه فقد قطع رأساهما لأنهما أخفيا بعض ما يمتلكان، وضُمت صفية وهي فتاة يهودية في السابعة عشرة من عمرها كانت مخطوبة لكنانة

(2)

، إلى نساء النبي.

(1)

وقد عبر عمر بن الخطاب عن هذه الدهشة إذ أتى رسول الله فقال له: يا رسول الله ألست برسول الله؟ قال بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني. وحقاً لم يضيع الله رسوله فقد أمنت الدعوة الإسلامية وأخذت رسل الرسول تذهب بها آمنة للملوك ورؤساء العشائر، ثم كان بعد ذلك الفتح المبين بعد قليل من الزمان. (ي)

(2)

كان سبب سير الرسول إلى خيبر أن أهلها كانوا شديدي العداوة بالمسلمين يتربصون بهم الدوائر فكان من الحزم إبعادهم. وكان أمر النبي بقتل كنانة بن الربيع بسبب أنه كان عنده مال لبنيا النضير وجحده حين سئل عنه، والمسلمون في أشد الحاجة إلى المال للاستعداد للحرب، ثم إن الرسول دفعه إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة أي أنه قتله قصاصاً بأخيه، وهذا سبب آخر يجعل قتله أمراً مشروعاً. راجع أبن هشام ج2 ص 24. أما مسألة استيلاء المسلمين على نصف محصولات أهل خيبر المستقبلة فترجع إلى أنهم هم أنفسهم طلبوا إلى الرسول أن يعطيهم الأرض مزارعة على النصف مما تنتجه فصالحهم الرسول على ذلك لأنهم كما قالوا هم أنفسهم أعلم بها وأعمر لها. (ي)

ص: 39

وفي عام 629 دخل مسلمو المدينة، البالغ عددهم ألفين، مكة مسالمين، وانسحبت قريش إلى التلال لتجنب الاحتكاك بالمسلمين، وطاف محمد وأتباعهُ في أثناء ذلك بالكعبة سبع مرات. ومس محمد الحجر الأسود بعصاه مظهراً له دلائل الإجلال، ولكنه نادى ونادى بعده المسلمون "لا إله إلى الله". وكان لمسلك المسلمين المنفيين وحسن نظامهم، ووطنيتهم، وتقواهم أعظم الأثر في نفوس أهل مكة، فأسلم من قريش عدد من ذوي المكانة من بينهم خالد بن الوليد وعمر اللذين صارا فيما بعد من أعظم قواد المسلمين. وعرضت بعض القبائل المجاورة على النبي أن يؤمنها على دينها نظير مساعدتها إياه في القتال؛ ولما عاد إلى المدينة رأى أنه قد أصبح له من القوة ما يمكنه من الاستيلاء على مكة عنوة.

ولم يكن قد مضى من الهدنة إلا عامان، ولكن إحدى القبائل المتحالفة مع قريش أخلت بشروط الهدنة فهاجمت إحدى القبائل المسلمة

(1)

، فجمع النبي عشرة آلاف رجل وزحف بهم على مكة، وأدرك أبو سفيان قوة المسلمين فسمح لهم بأن يدخلوا مكة بلا مقاومة. وكان جواب محمد جواباً كريماً، فقد أعلن عفواً عاماً عن جميع أهل مكة عدا اثنين أو ثلاثة من أعدائه، وحطم الأصنام التي كانت في داخل الكعبة وحولها، ولكنه ترك الحجر الأسود في مكانه وأجاز تقبيله. ونادى بمكة مدينة الإسلام المقدسة، وأعلن أنه لن يدخلها بعد ذلك اليوم كافر، وامتنعت قريش بعدئذ عن كل مقاومة مباشرة، وأصبح الرجل المضطهد الذي هاجر من مكة منذ ثمان سنين صاحب الكلمة العليا في حياتها.

(1)

نقضت قريش الهدنة إذ ساعدت بالسلاح بني بكر-وكانوا قد دخلوا في عهد قريش-على بني خزاعة الذين دخلوا في عهد الرسول. بل إن نفراً من قريش قاتلوا بأنفسهم خزاعة في صفوف بني بكر، وجاء من خزاعة إلى الرسول من يطالبه بالنصر وفاء بالعهد، فكان لا بد من الاستعداد للمسير إلى مكة لفتحها. (ي)

ص: 40

الفصل الرّابع

‌انتصار النبي

قضى النبي معظم العامين الباقيين من حياته في المدينة، وكان ينتقل فيها من نصر إلى نصر، فقد خضعت فيهما بلاد العرب كلها، بعد فتن قليلة الشأن، إلى سلطانه ودخلت في دين الإسلام. وجاء إلى المدينة كعب ابن زهير، أعظم شعراء العرب في ذلك الوقت، وكان قد هجا النبي في بعض قصائده، وأسلم نفسه إليه، واعتنق الإسلام، فعفا عنه النبي، وأنشأ الشاعر قصيدة عصماء في مديح النبي أجازه عليها ببردته

(1)

، وعاهد النبي المسيحيين في بلاد العرب، وأخذ على نفسه أن يحميهم وأن يكونوا أحرار في ممارسة شعائر دينهم نظير ضريبة هينة، ولكنه نهاهم عن الربا. ويقول المؤرخون إنه بعث الوفود إلى ملك الروم، وملك الفرس وإلى أمير الحيرة وبني غسان، يدعوهم إلى الدين الجديد؛ ويلوح أن أحداً منهم لم يرد على رسائله

(2)

، وكان يشهد بعين المستسلم الفيلسوف الحروب المشتعلة نارها بين فارس وبيزنطية وما جرته عل الدولتين من خراب، ولكنه يبدو أنه لم يفكر قط في توسيع سلطانه خارج حدود بلاد العرب

(3)

.

(1)

وبيعت بعدئذ لمعاوية بأربعين ألف درهم، ولا يزال الأتراك يحتفظون بها إلى اليوم وتتخذ في بعض الأحيان علماً قومياً. (ي)

(2)

من هؤلاء من رد رداً قبيحاً مثل كسرى، ومنهم من رد رداً جميلاً مثل قيصر، ومنهم من وعد بالنظر في الأمر مثل "المقوقس" حاكم مصر والمنذر صاحب البحرين وجبلة ابن الأيهم الغساني. راجع سيرة ابن هشام ج2 ص 320. (ي)

(3)

لعل المؤلف يريد بقوله إن النبي لم يفكر في توسيع حدود الدولة الجديدة خارج حدود بلاد العرب أنه لم يكن يريد ضمها إلى الدولة الناشئة الجديدة وهذا لا ينفي أنه أراد أن يدعوا أهلها إلى الدخول في دين الإسلام. (المترجم)

ص: 41

وكانت أعمال الحكومة تشغل وقته كله، فقد كان يُعنى أشد العناية بكل صغيرة وكبيرة في شؤون التشريع والقضاء، والتنظيم المدني، والديني، والحزبي. وحتى التقويم نفسه قد عني بتنظيمه لأتباعه، فقد كان العرب يقسمون السنة كما يقسمها اليهود إلى اثني عشر شهراً قمرياً، وكانوا يضيفون إليها شهراً كل ثلاث سنوات لكي تتفق مع السنة الشمسية. فأمر النبي أن تكون السنة الإسلامية اثني عشر شهراً على الدوام كل منها ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون على التوالي، وكانت نتيجة هذا أن أصبحت السنة الإسلامية فيما بعد غير متفقة مع فصول السنة، وأن تقدم التقويم الإسلامي سنة كاملة على التقويم الجريجوري كل اثنتين وثلاثين سنة.

ولم يكن النبي مشرعاً علمياً، فلم يضع لأمته كتاباً في القانون أو موجزاً فيه، ولم يسر في تشريعه على نظام مقرر، بل كان يصدر الأوامر حسبما تمليه عليه الظروف. فإذا أدى هذا إلى شيء من التناقض أزاله بوحي جديد ينسخ القديم ويجعله كأنه لم يكن

(1)

، وحتى شؤون الحياة العادية كانت أوامره فيها تُعرض في بعض الأحيان كأنها موحى بها من عند الله. وكان اضطراره إلى تكييف هذه الوسيلة السامية بحيث تتفق مع الشؤون الدنيوية مما أفقد أسلوبه بعض ما كان يتصف به من بلاغة وشاعرية، ولكن لعله كان يشعر بأنه بهذه التضحية القليلة جعل كل تشريعاته

(1)

من الصحيح أن الرسول لم يضع كتاباً في القانون، ولكن ليس صحيحاً أنه لم يسر في تشريعه على نظام مقرر، فإن القرآن بنصوصه وروحه العامة قد حدد أصول التشريع بصفة عامة، ثم كان الرسول بسنته مبيناً لهذا القرآن بالتفسير والإيضاح، ولهذا يقول الله تعالى في سورة النحل "وَأنْزَلْنَا إلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ للِنَّاسِ مَا نُزَّلَ إلَيْهِمْ". أما النسخ فسببه أن لتشريعات الواردة في القرآن الكريم لم تنزل من الله دفعة واحدة، بل كانت رحمة من الله تنزل متدرجة تنبعاً للحالات: فيكون من الطبيعي أن يحصل فيها نسخ. على أن هذا كان في حالات قليلة معدودة. (ي)

ص: 42

تصطبغ بالصبغة الدينية الرهيبة

(1)

. ومع اضطلاع النبي بهذه الشؤون كلها فقد كان جم التواضع إلى درجة تحببه إلى النفوس، وكثيراً ما كان يعترف بأن ثمة أموراً لا يعرفها، ويحتج على الذين يظنونه أكثر من إنسان يجري عليه ما يجري على الناس جميعاً من موت ووقوع في الخطأ.

ولم يدعِ في يوم من الأيام أنه قادر على معرفة الغيب أو الإتيان بالمعجزات. لكنه مع هذا لم يكن يستنكف أن يستعين بالوحي بالأغراض البشرية والشخصية، كما حدث حين نزل الوحي مؤيداً زواجه من زوجة زيد متبناه

(2)

. وتزوج النبي بعشر نساء وكانت له اثنتان من السراري هن مبعث الدهشة والحسد والتعليق والمدح عند الغربيين، ولكن علينا أن نذكر على الدوام أن نسبة الوفيات العالية من الذكور بين الساميين في العصر القديم وفي بداية العصور الوسطى جعلت تعدد الزوجات، في نظر هؤلاء الساميين، ضرورة حيوية تكاد تكون واجباً أخلاقياً. وكان تعدد الزوجات في نظر النبي أمراً عادياً مسلماً به لا غبار عليه، ولذلك كان يقبل عليه وهو مرتاح الضمير لا يبغي به إشباع الشهوة الجنسية، ويروى عن عائشة حديث عن النبي مشكوك في صحته يقول فيه "حبب إلي من

(1)

نكرر هنا ما قلناه من قبل من أن المؤلف وأمثاله من غير المسلمين يرون أن القرآن من قول النبي لا من عند الله. أما وهو من عند الله حقاً فإن النبي لم يضحِ بشيء من ناحية القرآن وأسلوبه، وكان الأسلوب يختلف بلا شك في مواضع عنه في أخرى تبعاً للغاية التي يريدها الله، وإن كان جمعه في أعلى درجات البلاغة التي لا يمكن أن يتطلع أحد إلى مداناتها. (ي)

(2)

إن لتشريع تعدد الزوجات غاية أخرى حكيمة ترجع إلى أن يكون المرء بمنجاة من الاتصال بخليلات غير قليلات إلى جانب الزوجة الشرعية. وقد تبين لبعض الغربيين اليوم أن إباحة تعدد الزوجات هو العلاج الوحيد لمشكلة زيادة النساء على الرجال زيادة كبرى بسبب الحروب، فقد طالب أهل مدينة "بون" عاصمة ألمانيا الغربية أن يتضمن دستورهم تشريعاً يبيح هذا التعدد. أما الزوجات اللاتي عقد عليهن النبي فكن ثلاث عشرة وقد دخل بإحدى عشرة منهن ولم يدخل باثنتين. وقد عني رجال السير بذكر سبب زواج كل واحدة منهن وبذكر شيء من سيرتهن جميعاً رضوان الله عليهن. راجع سيرة ابن هشام ج2 ص 266 - 368. (ي)

ص: 43

دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وقرة عيني في الصلاة"

(1)

ولقد كانت بعض زوجاته من أعمال البر والرحمة بالأرامل الفقيرات اللاتي توفي عنهن أتباعه أو أصدقاؤه، وكان بعضها زيجات دبلوماسية كزواجه بحفصة بنت عمر الذي أراد به أن يوثق صلته بأبيها، وكزواجه من ابنة أبي سفيان ليكسب بذلك صداقة عدوه القديم. وربما كان الدافع إلى بعضها أمله في أن يكون له ولد، وهو أمل حرم منه زمناً طويلاً. وكانت زوجاته كلهن ما عدا خديجة عقيمات، وكان هذا موضع السخرية بين أعدائه، ولم يبقَ من أبنائه الذين رزقهم من خديجة إلا فاطمة. وقد رُزق من مارية القبطية التي أهداها إليه نجاشي الحبشة، بولد اغتبط النبي بمولده أشد الاغتباط، ولكن إبراهيم مات بعد خمسة عشر شهراً من مولده.

وكثيراً ما ضايقه نساؤه بمنازعتهن، وغيرتهن، ومطالبهن، ولكنه أبى أن يجيبهن إلى مطالبهن الكثيرة، ووعدهن بالجنة، وقضى بعض الوقت يعدل بينهم فيقضي ليلة عند كل واحدة منهن، ذلك أن سيد بلاد العرب كلها لم يكن يملك بيتاً خاصاً له، غير أن عائشة قد استأثرت بأكبر من حقها من عنايته

(2)

، فغضبت لذلك زوجاته الأخريات حتى نزلت الآية:"تُرجي مَنْ تشاءُ منهنّ وتُؤي إليك مَنْ تَشاء، ومَنْ ابتغيتَ ِممَنْ عزلتَ فلا جُناحَ عليكَ ذلِكَ أدنى أن تَقرَ أعينهنَّ ولا يحزنَّ ويرضينَّ بما آتيتهنَّ كلهنَّ والله يَعْلَم ما في قلوبكم، وكان الله عليماً حليماً".

وكانت حياة النبي فيما عدا النساء والسلطان غاية في البساطة، فقد كانت

(1)

تكلم في شأن هذا كثير من رجال الحديث. "راجع كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس" للمحدث إسماعيل بن محمد العجلوني.

(2)

لقد كان الرسول يعدل بين زوجاتهِ جميعاً فيما يملك، أما ميل القلب فشيء لا يملكه ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفضل السيدة عائشة عن سائر نسائه ما عدا السيدة خديجة. (ي)

ص: 44

المساكن التي أقام بها واحداً بعد واحد كلها من اللبن، لا يزيد اتساعها على اثنتي عشرة أو أربع عشرة قدماً، ولا يزيد ارتفاعها على ثمان أقدام، سقفها من جريد النخل، وأبوابها ستائر من شعر المعز أو وبر الجمال. أما الفراش فلم يكن أكثر من حشية تُفرش على الأرض ووسادة، وكثيراً ما كان يُشاهد وهو يخصف نعليهِ؛ ويرقع ثوبه، وينفخ النار، ويكنس أرض الدار، ويحلب عنزة البيت في فنائه، ويبتاع الطعام من السوق. وكان يأكل بيده، ويلعق أصابعه بعد كل وجبة، وكان طعامه الأساسي التمر وخبز الشعير، وكان اللبن وعسل النحل كل ما يستمتع به من الترف في بعض الأحيان.

ولم يتعاطَ الخمر التي حرمها هو على غيره، وكان لطيفاً مع العظماء، بشوشاً في أوجه الضعفاء، عظيماً مهيباً أمام المتعاظمين المتكبرين، متسامحاً مع أعوانه، يشترك في تشييع كل جنازة تمر به، ولم يتظاهر قط بأبهة السلطان. وكان يرفض أن يوجه إليه شيء من التعظيم الخاص، يقبل دعوة العبد الرقيق إلى الطعام، ولا يطلب إلى عبد أن يقوم له بعمل يجد لديه من الوقت والقوة ما يمكنانه من القيام به لنفسه. ولم يكن ينفق على أسرته إلا القليل من المال رغم ما كان يرد إليه من الفيء وغيره من الموارد، أما ما كان ينفقه على نفسه فقد كان أقل من القليل. وكان يخص الصدقات بالجزء الأكبر من هذا المال، لكنه كان ككل الناس يعنى بمظهره الشخصي ويقضي في تلك العناية كثيراً من الوقت، فكان يتعطر ويكتحل، ويصبغ شعره، ويلبس خاتماً نقش عليه "محمد رسول الله" وربما كان الغرض من هذا الخاتم هو توقيع الوثائق والرسائل. وكان صوته موسيقياً حلواً يأسر القلوب، وكان مرهف الحس إلى أقصى حد، لا يطيق الروائح الكريهة، ولا صلصلة الأجراس، أو الأصوات العالية "واقصد في مشيك، واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير". وكان قلقاً عصبي المزاج، يُرى أحياناً كاسف البال، ثم ينقلب فجأة مرحاً كثير الحديث؛ وكان حلو الفكاهة فقد

ص: 45

قال مرة لأبي هريرة، وكان يتردد عليه كثيراً:"يا أبا هريرة زد غباً تزدد حباً". وكان محارباً صارماً لا يرحم عدواً

(1)

، وقاضياً عادلاً في وسعه أن يقسو ويغدر، ولكن أعماله الرحيمة أكثر من أن تُعد. وقد قضى على كثير من الخرافات الهمجية كفقء أعين بعض الحيوانات لوقايتها من الحسد، أو ربط بعير الميت عند قبرهم. وكان أصدقاؤه يحبونه حباً يقرب من العبادة، وكان أتباعه يجمعون بصاقه أو شعره بعد قصه، أو الماء الذي يغسل به يديه، لاعتقادهم أن في هذه الفضلات شفاء لهم من ضعفهم أو مرضهم.

وقد أعانه نشاطه وصحته على أداء جميع واجبات الحب والحرب

(2)

، ولكنه أخذ يضعف حين بلغ التاسعة والخمسين من عمره، وظن أن يهود خيبر قد دسوا له السم في اللحم قبل عام من ذلك الوقت فأصبح بعد ذلك الحين عرضة لحميات ونوبات غريبة. وتقول عائشة إنه كان يخرج من بيته في ظلام الليل، ويزور القبور، ويطلب المغفرة للأموات

(3)

، ويدعو الله لهم جهرة، ويهنئهم على أنهم موتى. ولما بلغ الثالثة والستين من عمره اشتدت عليه هذه الحميات، وحدث في إحدى الليالي أن شكت عائشة الصداع، وأن شكاه هو نفسه وسألها وهو يمازحها إلا تفضل أن تموت هي قبله، فتحظى بأن يدفنها رسول الله، فأجابته بحديثها المعهود، أنه حين يعود من دفنها سيأتي بعروس أخرى مكانها. وظلت الحمى تعاوده أربعة عشر يوماً بعد ذلك الوقت، وقبل وفاته بثلاثة أيام نهض من فراشه،

(1)

كان النبي رحيماً بالناس جميعاً كما يقول المؤلف، هذا ولم يكن للرسول شخصياً أعداء بل كان هؤلاء أعداء الله وأعداء دينه الذي ارتضاه للناس جميعاً وعملوا ما في وسعهم لإطفاء نور الله، فلا جرم أن تكون من الرسول شدة على بعضهم حين يتبين لهم أنه مصرون على عدوانهم.

(2)

لعله يريد واجبات الحب للمسلمين والحرب للدفاع عنهم. (ي)

(3)

يشير المؤلف إلى قول الرسول في أوائل مرضه الذي توفي فيه "إني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع (مدافن أهل المدينة) ثم ذهب فعلاً واستغفر لهم". (راجع سيرة ابن هشام ج2 ص 366). (ي)

ص: 46

ودخل المسجد وشاهد أبا بكر يؤم المسلمين للصلاة بدله، فجلس متواضعاً إلى جانبه حتى أتم صلاته. وفي اليوم السابع من شهر يونيه عام 632 توفي ورأسه على صدر عائشة.

وإذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا إن محمداً كان من أعظم عظماء التاريخ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحاً لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله، وقل أن نجد إنساناً غيرة حقق كل ما كان يحلم به. وقد وصل إلى ما كان يبتغيه عن طريق الدين، ولم يكن ذلك لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين وكفى، بل لأنه لم يكن ثمة قوة غير قوة الدين تدفع العرب في أيامه إلى سلوك ذلك الطريق الذي سلكوه، فقد لجأ إلى خيالهم، وإلى مخاوفهم وآمالهم، وخاطبهم على قدر عقولهم، وكانت بلاد العرب لما بدأ الدعوة صحراء جدباء، تسكنها قبائل من عبدة الأوثان، قليل عددها متفرقة كلمتها، وكانت عند وفاته أمة موحدة متماسكة. وقد كبح جماح التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهودية والمسيحية، ودين بلاده القديم، ديناً سهلاً واضحاً قوياً، وصرحاً خلقياً قوامه البسالة والعزة القومية. واستطاع في جيل واحد أن ينتصر في مائة معركة، وفي قرن واحد أن ينشئ دولة عظيمة، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم في نصف العالم.

ص: 47

الباب التاسع

‌القرآن

الفصل الأوَّل

‌شكله

لفظ القرآن مشتق من القراءة، ويطلق على كتاب المسلمين كله أو على كتاب المسلمين كله أو على أي جزء منه، وهو يتألف كما يتألف الكتاب المقدس، كتاب اليهود والمسيحيين، من أجزاء جمع بعضها إلى بعض. ويعتقد المسلمون أن كل حرف منه موحى به من عند الله، ويختلف عن التوراة في أنه كله نطق به رجل واحد، ومن اجل هذا بلا ريب لا يعادله في آثاره أي كتاب آخر جاء به رجل واحد. وقد أملى النبي في أوقات مختلفة من الثلاث والعشرين السنة الخيرة من حياته ما كان يوحى إليه من آياته

(1)

، وكان كل ما يُوحى به إليه يُكتب على الرق، أو الجلود، أو سعف النخيل، أو العظام ثم يحفظ مع الآيات السابقة دون أن يراعى في ذلك ترتيب زمني أو منطقي، ولم تجمع هذه الآيات كلها في كتاب واحد في حياة النبي، ولكن بعض المسلمين كانوا يحفظونها عن ظهر قلب، ولما مات عدد من هؤلاء القراء ولم يكن هناك من يخلفهم أمر الخليفة أبو بكر زيد بن ثابت كبير كتاب الوحي أن يبحث عن آيات القرآن ويجمعها، فجمع زيد أجزاءه من سعف النخيل، وألواح الحجارة البيضاء، وصدور الناس كما تقول الرواية المأثورة، فلما تم له ذلك نسخت منه عدة

(1)

القرآن كله كلمة من عند الله وقد جاء على لسان رجل واحد.

ص: 48

صور. ولما كانت ألفاظه خالية من الحركات فقد اختلف بعض القراء في تفسير بعضها واختلفت نصوصها

(1)

في مدن العالم الإسلامي الآخذ في الاتساع، فرأى الخليفة عثمان أن يقضي على هذا الاختلاف، وأمر زيداً وثلاثة من علماء قريش أن يراجعوا مخطوط زيد (651) ثم كتبت نسخ منه وأرسلت إلى دمشق والكوفة والبصرة، وظل القرآن من هذا الوقت محفوظاً نقياً محوطاً بأعظم العناية والتبجيل.

ومن شأن الظروف التي أحاطت بالقرآن أن تعرضه للتكرار وعدم الانسجام، فكل فقرة بمفردها تؤدي إلى غرض واضح 0 فهي إما أن تقرر عقيدة، أو تأمر بصلاة أو دعاء، أو تسن قانوناً، أو تشهر بعدو، أو توجه إلى عمل، أو تروي قصة، أو تدعو إلى قتال، أو تعلن نصراً، أو تصوغ عهداً، أو تطلب مالاً، أو تنظم شعيرة دينية، أو تنص

(1)

لم تختلف نصوص القرآن مطلقاً ولكن حصل في قراءته بعض الاختلاف لأسباب منها الخلو من النقط والشكل المعتاد في كتابتنا في هذه الأيام. أما مسألة جمع القرآن فتحتاج إلى شيء من التفصيل الدقيق، ذلك بأن هذا الجمع قد حدث ثلاث مرات، أولاها ما سنذكره بعد في تعليقنا على قول المؤلف إن محمداً لم يكن يريد جمعه في كتاب واحد، والثانية كانت أيام أبي بكر الصديق بعد أن أشار عمر بن الخطاب، فكان أن قام زيد بن ثابت بتتبع القرآن وجمعه مما كان مكتوباً فيه حتى جمع كله في صحف حفظته كاملاً، ولا نعرف أنه كُتب منه عدة نسخ كما يقول المؤلف، والثالثة كانت في أيام عثمان بن عفان وفيها رتبت سوره بعضها في إثر بعض على حسب ما عرفوه من قبل الرسول. وفي هذه المرة التي كانت في أيام عثمان كان الذين قاموا بجمعه وترتيب سوره أربعة: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وقد قال الخليفة لهؤلاء القريشيين الثلاثة:"إذ اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم". راجع الإتقان في علوم القرآن للإمام جلال الدين السيوطي، المطبعة الأزهرية سنة 1318 هـ ج ص 61. (ي)

ص: 49

على مبدأ أخلاقي، أو تضع نظاماً للتجارة، أو الصناعة، أو عمل من الأعمال المالية

(1)

.

ولكننا لسنا واثقين من أن محمداً كان يريد جمع هذه الأجزاء المتفرقة كلها في كتاب واحد، فقد كان كثير منها حديثاً لرجل بعيه في وقت بعينه

(2)

، ويصعب فهمه دون معرفة واسعة بتاريخ ذلك الوقت وتقاليد أهله. وعدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، وهي مرتبة حسب طولها، لا بحسب نزولها فإن لك غير معروف، فهو يبدأ بالسور الطوال وينتهي بالقصار، وإذا كانت قصار السور بوجه عام أقدم عهداً من طوالها، فإن القرآن تاريخ مقلوب

(3)

. فالسور المدنية وهي التي يبدأ بها الكتاب

(1)

بحث كثيرون من المفسرين مسألة مناسبة الآيات والسور وارتباطها بعضها ببعض، ومن العلماء من أفرد ذلك بالتأليف مثل برهان الدين البقاعي في كتاب سماه "نظم الدور في تناسب الآيات والسور" إلا أن كثيراً من المناسبات التي ذكرها لا يخلو من تكلف ولهذا يقول الشيخ عز الدين بن عبد السلام:"المناسبة علم حسن، ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيهِ ارتباط، ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث فضلاً عن أسخفه، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شُرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربطه بعضه ببعض"(الإتقان للسيوطي ج2 ص 108): ونقول نحن إن ورود القرآن على ما هو عليه من الاستطراد أحياناً في موضوعات مختلفة قد لا يكون بين بعضها والبعض الآخر رباط وثيق، مما يجعل القارئ يقبل على تلاوته دائماً بشوق وشغف ولا يحس من ذلك أقل ملل أو عدم انسجام، فهو ينتقل معه في فنون مختلفة من العلوم والمعارف التي لا يكاد يحصرها العد. (ي)

(2)

القرآن كلام الله نزل على نبيه. ومن الحق أنه لم يجمع كله في مصحف واحد أيام الرسول، لسبب طبيعي هو أنه كان يتوقع دائماً أن ينزل منه شيء جديد، إلا أنه قد كتب كله في عهده صلى الله عليه وسلم وبأمره وإن لم يجمع في كتاب واحد ولم تُرتب سوره. فلما انقضى عهد نزول القرآن بوفاة الرسول جاء حين كتابته في مصحف واحد وهو ما فعله الصحابة رضوان الله عليهم. (ي)

(3)

ترتيب السور فيما بينها وكذلك ترتيب آيات كل سورة أخذ عن الرسول نفسه ولم يراعَ في هذا الترتيب أن يكون حسب تواريخ النزول، ولذلك لا يمكن القول إن القرآن تاريخ مقلوب لأن قصار السور أقدم عهداً من طوالها بوجه عام. على أن مسألة تاريخ نزول القرآن، سوره وآياته، مسألة عني بها العلماء المحققون، وقد وصلوا من أبحاثهم إلى نتائج لها قيمتها الكبيرة، وإن لم يتفقوا جميعاً في هذا على رأي واحد. (راجع مثلاً "الإتقان" للسيوطي جـ 1 ص 9 وما بعدها و"مقدمتين في علوم القرآن" نشرها المستشرق آرثر جفري وطبعا في مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1954 م ص 8 وما بعدها.

ص: 50

عملية في أغراضها عادية في أسلوبها، أما السور المكية فهي شعرية روحية وبها ينتهي الكتاب. وخليق بنا أن نبدأ بقراءته من نهايته

(1)

.

وجميع السور ما عدا فاتحة الكتاب حديث من الله أو جبريل إلى النبي أو أتباعه أو أعدائه؛ وتلك هي الطريقة التي سار عليها أنبياء بني إسرائيل؛ وهي التي نراها في كثير من فقرات أسفار موسى الخمسة. وكان محمد يعتقد أنه ما من قانون أخلاقي يمكن أن يقع في النفوس وأن يُطاع طاعة تكفل للمجتمع النظام والقوة إلا إذا آمن الناس أنه منزل من عند الله. وهذه الطريقة تتفق مع الأسلوب الحماسي الفخم ومع البلاغة اللذين يسموان في

(1)

لا يمكن الحكم على أسلوب القرآن بقراءة ترجمته، ولهذا لا يمكن القول إن أسلوب السور المدنية التي يبدأ بها المصحف أسلوب سهل أو أنه خليق بنا أن نبدأ بقراءته من نهايته. وأصدق من هذا قول المؤلف في موضع آخر إن لفة القرآن هي اللغة العربية الفصحى وإنه غني بالتشبيهات والاستعارات القوية الواضحة والعبارات الخلابة التي لا توائم ذوق الغربيين. وهذا ما يُستطاع تبينه من التراجم نفسها فضلاً عن لغة القرآن الأصلية. إن القرآن معجز بأسلوبه وبكل كلمة منه، ولو كان أسلوب بعض سوره سهلاً لما عجز العرب في عهد الرسول وهم أساطين الكرم والبلاغة أن يأتوا بسورة من مثله أو بعض آيات منه. إن القرآن بلغته وتعابيره وأسلوبه معجز كل الإعجاز وهو يختلف بطبيعة الحال باختلاف المقامات والأحوال، وإن كان ذلك كله في أعلى طبقة من البلاغة تنقطع الرقاب دون الإتيان بشيء قريب منه؛ وكفى أنه تنزيل من رب العالمين. (ي)

ص: 51

بعض الأحيان، عن أقوال للنبي أشعيا. وأسلوب القرآن وسط بين الشعر والنثر تتخلله كثير من الفقرات الموزونة المقفاة، ولكنها لا تتبع أوزاناً ولا قوافي خاصة منتظمة؛ وفي السور المكية الأولى نغمات موسيقية رنانة، وأسلوب جزل قوي لا يدركه كل الإدراك إلا الملمون باللغة العربية الذين يعطفون على الدين الإسلامي. ولغة القرآن هي اللغة العربية الفصحى الخالصة، وهو غني بالتشبيهات والاستعارات القوية الواضحة والعبارات الخلابة التي لا توائم ذوق الغربيين. وهو بإجماع الآراء خير كتاب وأول كتاب، في الأدب النثري العربي.

ص: 52

الفصل الثاني

‌العقائد

(1)

من بين الأغراض التي يهدف لها الدين ان يكون سبيلاً إلى الحكم الأخلاقي، وليس من شأن المؤرخ أن يسأل هل هذا الدين أو ذاك حق أو باطل، وأنى له العلم المحيط بكل شيء والذي يوصله إلى هذه المعرفة؟ وإنما الذي يسأل عنه هو العوامل الاجتماعية والنفسانية التي أدت إلى قيام هذا الدين، وإلى أي حد أفلح في تحويل الوحوش إلى آدميين، والهمج إلى مواطنين صالحين، والصدور الفارغة إلى قلوب عامرة بالأمل والشجاعة، وعقول مطمئنة هادئة، وما مقدار ما تركه بعد ذلك من الحرية لتطور العقول البشرية، وما هو أثره في التاريخ؟

وترى اليهودية، والمسيحية، والإسلام أن أهم ما يحتاج إليه المجتمع السليم هو الإيمان بأن هذا الكون خاضع لحكم أخلاقي مسيطر على شؤونه-أي الإيمان بأنه مهما يكن في هذا الكون من شر، فإن عقلاً خيراً، يعجز الناس عن إدراك كنهه، يسيّر المسرحية الكونية إلى غاية عادلة نبيلة. والأديان الثلاثة التي أعانت على تكوين عقلية الناس في العصور الوسطى مجمعة كلها على أن هذه العقلية الكونية هي الله الواحد ذو الجلال. غير أن المسيحية قد أضافت إلى هذه العقيدة أن الله الواحد يظهر في ثلاثة أقانيم مختلفة، أما اليهودية والإسلام فتريان أن هذا الاعتقاد ليس إلا شركاً مقنعاً، وتعلنان وحدانية الله بأقوى الألفاظ وأشدها حماساً. وفي القرآن سورة خصصت كلها لهذا الغرض وهي السورة الثانية عشرة بعد المائة.

(1)

سنذكر في هذا الفصل بعض الأحاديث النبوية لنوضح بها بعض آيات القرآن. ولن يفوتنا أن نشير في المتن أحياناً، وفي الهامش على الدوام، أنها أحاديث وليست آيات قرآنية. (المؤلف)

ص: 53

ويردده المؤذن من فوق مائة ألف مئذنة كل يوم، فالله هو أصل الحياة ومنشؤها، ومصدر كل خير على ظهر الأرض. "وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج"(سورة الحج الآية 5)"فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنا صببنا الماء صباً، ثم شققنَا الأرض شقاً، فأنبتنا فيها حباً، وعنباً وقضباً، وزيتوناً ونخلاً، وحدائق غلباً، وفاكهة وأباً"(سورة عبس الآيات 24 - 30)

"انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إنَّ في ذلكم لآياتٍ لقوم يؤمنون"(سورة الأنعام الآية 99).

والله أيضاً إله القوة "الله الذي رفع السمواتِ بغير عمدٍ ترونها

وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى

وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات" (سورة الرعد الآيتان الثانية والثالثة). ويقول في آية الكرسي الشهيرة "الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم" (سورة البقرة الآية 255).

والله مع سلطانه وعدله رحيم أبداً، فكل سورة من سور القرآن، ما عدا سورة التوبة، وكل رسالة يكتبها مسلم متمسك بدينه تبدأ بتلك العبارة الفخمة "بسم الله الرحمن الرحيم". ومع أن النبي لا يفتأ يُذكّر الناس بأهوال النار، فإنه لا يمل من الثناء على رحمة الله الأبدية.

والله كما يصفه القرآن يحيط علماً بكل شيء، "يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور""ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد"(سورة ق 16).

والله يعلم المستقبل كما يعلم الحاضر والماضي، وإذن فكل الأشياء سابقة في

ص: 54

علمهِ، وكل شيء قد تقرر وتحدد منذ الأزل بإرادة الله، ومن ذلك مصير كل نفس وما سيصيبها من خير وشر. فالله يعلم منذ الأزل منذا الذي ينجو من العذاب وهو الذي "يُضِلُ مَنْ يَشاء ويُهدي مَنْ يَشاء"(سورة فاطر 8)"يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً"(سورة الإنسان 31) وكما أن يهوه قد طمس على قلب فرعون فجعله قاسياً، كذلك يقول الله عن الكافرين "إنا جعلنا في قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً، وإن تدعُهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً"(سورة الكهف 57)، وما من شك في أن المقصود من هذه الآية وأمثالها حث الناس على الإيمان .... غير أنه مع ذلك قول عنيف في أي دين، ولكن محمداً يؤكده بنفس القوة التي يؤكد بها القديس أوغسطين أمثاله. "ولو شئنا لآتينا كلَّ نفسٍ هُداها ولكنْ حَقَ القولُ مني لأملأنَّ جهنمَ مِن الجنةِ والناسِ أجمعين"(سورة السجدة 13). وهذا الإيمان بالقضاء والقدر جعل الجبرية من المظاهر الواضحة في التفكير الإسلامي

(1)

، وقد استعان بها النبي وغيره من الزعماء لبث الشجاعة في قلوب المؤمنين عند القتال لأن ساعة الموت لا يقدمها خطر ولا يؤخرها حذر. وبفضل هذه العقيدة لاقى المؤمنون أشد صعاب الحياة بجنان ثابت، ولكنها أيضاً كانت من الأسباب التي عاقت تقدم العرب وعطلت تفكيرهم في القرون المتأخرة.

ويتحدث القرآن كثيراً عن الملائكة والجن والشيطان. فأما الملائكة فهم رسل الله وهم الذين يحصون أعمال البشر الطيب منها والخبيث. والجان مخلوقون من النار، ويختلفون عن الملائكة في أنهم يأكلون ويشربون، ويتناكحون ويموتون، ومنهم الصالحون الذين يستمعون إلى القرآن (سورة الجن) ولكن

(1)

إن المسلمين مع إيمانهم بقضاء الله وقدرهِ يعتقدون أن الله شاءت عدالته أن يكون للإنسان من الحرية في أعماله ما يجعله عدلاً مسئولاً عنها، وليست الجبرية مذهب أهل السنة والجماعة ولكنها فئة معروفة من الفرق الإسلامية. (ي)

ص: 55

معظمهم دون ذلك يقضون وقتهم في تضليل الناس وغوايتهم. وزعيم الجن الأشرار إبليس، وكان من قبل من الملائكة الأخيار ولكنه أبى أن يسجد لآدم فطرده الله من رحمته.

والمحور الذي تدور عليه المبادئ الأخلاقية في القرآن، كما هي الحال في كتاب العهد القديم، هو خوف العقاب ورجاء الثواب في الحياة الآخرة، "اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد"(سورة الحديد 20) وليس فيها محقق إلا شيء واحد هو الموت. وكان بعض العرب يعتقدون أن كل شيء ينتهي عند الموت، ويسخرون من عقيدة الدار الآخرة، ويقولون "إن هذا إلا أساطير الأولين"(سورة المؤمنون 83)، ولكن القرآن يؤكد بعث الجسم والروح (سورة القيامة 3 - 4) ولن يكون هذا البعث بعد الموت مباشرة، بل إن الموتى سينامون إلى يوم القيامة، ولكن نومهم هذا سيحملهم على الظن بأن استيقاظهم سيكون بعد موتهم على الفور. وعلم يوم القيامة عند الله وحده، ولكنه تسبقه علامات تنبئ بهِ، فإذا قرب ذلك اليوم ضعف إيمان الناس، وفسدت أخلاقهم، وكثر التشاحن والشقاق والحروب العوان، وتمنى العقلاء الموت. وستكون آخر النذر ثلاث نفخات في الصور، ففي النفخة الأولى تكسف الشمس، وتهوي النجوم، وتزول السموات، وتدك الجبال والمباني فلا تُرى فيها عوجاً ولا أمتاً، وتجف مياه البحر أو تتطاير لهباً (سورة طه 102 وما بعدها). وفي النفخة الثانية تهلك الخلائق جميعها-الملائكة والجن والبشر-إلا من رحم الله، وبعد أربعين عاماً ينفخ إسرافيل النفخة الثالثة فتقوم الجسام من القبور وتتصل بالأرواح، ويتجلى الله لعباده تحف بهِ الملائكة يحملون الكتب التي دونت فيها أعمال الناس جميعها وأقوالهم وأفكارهم

(1)

.

(1)

المعروف فيما يختص بالنفخ في الصور أنهما نفختان لا ثلاث نفخات، وبعد النفخة الأولى يهلك كل الخلائق إلا من شاء الله وهم كما يقول الغزالي في إحياء علوم الدين ج4 ص 267 من طبعة المطبعة العامرة الشرقية سنة 1356 هـ- جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت الذين يموتون أيضاً بعد حين. ثم يحي الله إسرافيل فيأمره أن ينفخ النفخة الثانية التي بها يقوم الموتى للحشر والحساب. راجع قوله تعالى في سورة الزمر الآية 68 (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيهِ أخرى فإذا هم قيام ينظرون" راجع أيضاً كتاب اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان جـ 3 ص 412 باب ما بين النفختين.

ص: 56

وتوزن الحسنات أمام السيئات ويحاسب الإنسان على ما قدمت يداه. ويتقدم الأنبياء فيشهدون على من رفضوا رسالتهم، ويشفعون لمن آمنوا بهم. ويسير الأخيار والأشرار جميعاً على الصراط-وهو أدق من الشعرة وأحد من السيف-المعلق فوق الجحيم. فيسقط منه الأشرار والكفرة، ويجتازه المصلحون آمنين إلى الجنة، ولن يكون ذلك لما يستحقونه من عقاب أو ثواب بل لما ينالهم من رحمة الله

(1)

. ذلك أن القرآن كبعض العقائد المسيحية يُعنى على ما يظهر بصحة الإيمان أكثر مما يعنى بالسلوك الطيب، فهو كثيراً ما ينذر من لا يقبلون دعوة النبي بعذاب النار في الآخرة (آل عمران الآيات 1 و 63 و 131 وسورة النساء 56 و 115 والأعراف والأنفال 50 والتوبة 63 الخ). وإذا لم تكن الذنوب كلها بدرجة واحدة ولا من نوع واحد فقد جعلت النار سبع طبقات في كل طبقة من العقاب ما يتناسب مع الذنب الذي ارتكبه المذنب، ففيها الحرارة التي تشوي الوجوه، وفيها الزمهرير، وحتى من يستحقون أخف العقاب يلبسون أحذية من نار، ويشرب الضالون المكذبون من الحميم وشرب الهيم (سورة الواقعة 40 وما بعدها)، وربما كان دانتي قد أبصر بعض الرؤى التي وصفها في ملهاته في القرآن.

وتختلف صورة الجنة في القرآن عن صورتها في ملهاة دانتي فهي في القرآن واضحة وضوح صورة النار والجنة هي مقر المؤمنين الصالحين والذين يموتون في سبيل الله،

(1)

يشترط أن يكون العمل الصالح الذي يثاب عليه الإنسان في الدار الآخرة قائماً على أساس الإيمان الصحيح. (ي)

ص: 57

والفقراء يدخلونها قبل الأغنياء. ومقر الجنة في السماء السابعة الفلكية أو ما بعدها، وهي حديقة واسعة الأكناف تجري من تحتها الأنهار وتظللها الأشجار الظليلة، ويلبس فيها الصالحون ثياباً من سندس وإستبرق، ويحلون بالجواهر، ويتكئون على الآرائك، ويطوف عليهم ولدان مخلدون، ويأكلون فاكهة من أشجار تطأطئ أغصانها لهم ليملئوا من ثمارها أيديهم، فيها أنهار من لبن، وعسل، وخمر يشرب منها الصالحون (وإن كانت الخمر محرمة في الدنيا) في أكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون "لا يسمعون فيها لغواً ولا كذباً"(سورة النبأ 53)، "فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جان

كأنهن الياقوت والمرجان" "وكواعب أترابا". "وعندهم قاصرات الطرف عين، كأنهن بيضٌ مكنون"، أجسامهن من المسك مبرأة من نقائص الأجسام البشرية وآثامها. وسيكون لكل رجل من الصالحين اثنتان وسبعون من أولئك الحور جزاء له على ما عمل من الطيبات

(1)

، ولم تنقص الأيام ولا الأعمال ولا الموت من جمال أجسامهن، ولا من نعيم رفاقهن (سورة الدخان) وفي الجنة غير هذه المتعة الجسمية متع أخرى روحية فمن المؤمنين من يتلون القرآن، وسيتجلى لهم الله جميعاً بوجهه "ويطوف عليهم ولدان مخلدون". ترى منذا الذي يستطيع أن يرفض مثل هذا النعيم.

(1)

لعل الكاتب قد جاء بعدد الحور في الجنة من أقوال بعض المؤلفين الأقدمين. ومن الآراء التي لها قيمتها في هذا المعنى أنه يجب ألا تؤخذ هذه الأوصاف بمعناها الحرفي بل يجب أن نأخذها على أنها تقريب للأذهان لما يستمتع به الصالحون في الجنة من نعيم روحي. (المترجم)

ص: 58

الفصل الثالِث

‌القرآن والأخلاق

القانون والأخلاق في القرآن، كما هما في التلمود، شيء واحد، فالسلوك الديني في كليهما يشمل أيضاً السلوك الدنيوي، وكل أمر فيهما موحى به من عند الله. والقرآن يشمل قواعد للآداب، وصحة الجسم، والزواج والطلاق، ومعاملة الأبناء والعبيد والحيوان، والتجارة، والسياسة، والربا، والدَّين، والعقود، والوصايا، وشؤون الصناعة والمال، والجريمة، والعقاب، والحرب والسلم.

ولم يكن محمد يحتقر التجارة، فقد كان هو نفسه في صباه تاجراً، وحين كان سيد المدينة كان يبتاع بعض السلع جملة ويبيعها أشتاتاً، ويربح من هذا البيع دون أن يرى فيهِ عيباً أو منقصة، وكان في بعض الأحيان يدلل على السلع بنفسه، ولغة القرآن غنية بالتشبيهات التجارية، ففيه وعد بالثراء في الدنيا للمسلمين الصالحين، وإنذار بعذاب أليم للمخادعين والكاذبين من التجار. وفي الأحاديث النبوية تنديد بالمحتكرين والمضاربين الذين يحتجزون السلع ليبيعوها بأغلى الأسعار، وحض على إيفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم، وأمر لصاحب العمل بأن يؤدي للعامل أجره قبل أن يجف عرقه. ويحرم القرآن الربا أخذاً أو إعطاء (سورة البقرة 275 وسورة آل عمران 130)، ولسنا نجد في التاريخ كله مصلحاً فرض على الأغنياء من الضرائب ما فرضه عليهم محمد لإعانة الفقراء. وكان يحض كل موصٍ بأن يخص من مالهِ جزءاً للفقراء، وإذا مات رجل ولم يترك وصية فرض على ورثته أن يخصصوا بعض ما يرثون لأعمال الخير (سورة النساء 8 و 9) وقد قبل محمد كما قبل معاصروه نظام الاسترقاق على أنه من قوانين الطبيعة، ولكنه بذل كل ما في وسعه لتخفيف أعباء الرق ومساوئه.

ص: 59

كذلك رفع من مقام المرأة في بلاد العرب، وإن لم يرَ عيباً في خضوعها للرجل، وهو يهيب بالرجال ألا يكونوا عبيداً لشهواتهم، ويكاد يصف النساء كما يصفهم آباء الكنيسة المسيحية بأنهم من أكبر الشرور التي أصيب بها الرجال، ويظن أن مصير الكثرة الغالبة منهن هو الجحيم

(1)

. وهو يحرم على النساء ولاية الحكم، لكنه يسمح لهن أن يحضرن الصلاة في المساجد، وإن كان يرى أن بيوتهن أولى بهن، وكن إذا جئن إليه للصلاة أحسن معاملتهن ولو أتين معهن بأطفالهن. وقد روي عنه أنه كان إذا سمع بكاء طفل في أثناء الصلاة قصر خطبته حتى لا يؤذي بطولها أمه. وقضى القرآن على عادة وأد البنات (سورة الإسراء 31) وسوى بين الرجل والمرأة في الإجراءات القضائية والاستقلال المالي، وجعل من حقها أن تشتغل بكل عمل حلال، وأن تحتفظ بمالها ومكاسبها، وأن ترث، وتتصرف في مالها كما تشاء (سورة النساء 4 و 32)، وقضى على ما اعتاده العرب في الجاهلية من انتقال النساء من الآباء إلى الأبناء فيما ينتقل لهم من متاع. وجعل نصيب الأنثى في الميراث نصف نصيب الذكر، ومنع زواجهن بغير إرادتهن. وفي القرآن آية يأخذها بعضهم حجة على حجب النساء وهي "وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى"(سورة الأحزاب 33). ولكن الآية إنما تؤكد النهي عن التبرج، ويروى أن النبي أجاز للنساء أن يخرجن لقضاء حوائجهن. أما زوجاته هو فقد طلب إلى أتباعه

(1)

ليست الذكورة أو الأنوثة سبباً لدخول الجنة والنار، إنما يرجع ذلك إلى الإيمان والعمل الصالح أو الكفر والعمل السيئ. والله يثيب بالجنة من عمل صالحاً رجل كان أو امرأة وهذا أيضاً شأن العقاب في الدار الآخرة. وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة الكهف:"إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً"، فلم يفرق سبحانه وتعالى بين الرجل والمرأة، ومثل هذا كثير جداً في آيات أخرى. ويقول جل شأنه في سورة آل عمران:"فاستجاب لهم ربهم إني لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض، فالذين هاجروا، وأخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيلي، وقاتلوا وقتلوا، لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب".

ص: 60

ألا يكلموهن إلا من وراء حجاب. وفيما عدا هذه القيود فإن نساء المسلمين كن يخرجن من البيوت بكامل حريتهن غير محجبات في أيام النبي وفي القرن الأول بعد الهجرة

(1)

.

وبعد فإن المناخ من العوامل التي تؤثر في الأخلاق الفردية، ولعل حرارة الجو في بلاد العرب كانت من أسباب تقوية الغريزة الجنسية والنضج المبكر، ولهذا يجب التسامح بعض الشيء فيما نراه من نزعات الرجال في هذه الناحية في البلاد التي يطول فيها فصل الحر-ولقد كانت الشرائع الإسلامية تحرص على طلب العفة من الرجال والنساء قبل الزواج

(2)

، وزيادة الفرص لإشباع الغريزة الجنسية بين الأزواج. ولهذا حتم القرآن الاستعفاف قبل الزواج (سورة النور 33) وأوصى النبي بالصيام للاستعانة على هذا الاستعفاف. ويشترط الدين الإسلامي رضاء الخطيبين لإتمام عقد الزواج، فإذا تم هذا الرضاء بشهادة الشهود العدول وأدى العريس مهر عروسه، كان ذلك كافياً لإتمام العقد سواء رضي بذلك

(1)

ملبس المرأة، وزينتها، ونظرها إلى الرجل، ونظر الرجل إليها، كل هذا نوع من الحجاب نزلت فيه آيات غير قليلة في سورة النور وسورة الأحزاب. والخطاب في الآيتين اللتين أشار إليهما المؤلف لنساء النبي، ولكن هذا لا يمنع أن يكون أيضاً حضاً لنساء المسلمين جميعاً. وقد ورد في كتاب (أحكام القرآن المطبوع بالمطبعة البهية المصرية سنة 1347 هـ ج3 ص 455)"وهذا الحكم وإن نزل خاصاً في النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه فالمعنى عام فيه وفي غيره إذ كنا مأمورين باتباعه والإقتداء به إلا فيما خصه الله به دون أمته" راجع في هذا أيضاً أحكام القرآن لابن العربي ج2 ص 166 وتاريخ التشريع للشيخ الخضري ص 88 - 89. (ي)

(2)

وحتمه بعد الزواج بطبيعة الحال، وقوله تعالى "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله" معناها إن على الذين لا يجدون الوسيلة المالية للزواج أن يصبروا حتى يرزقهم الله الغنى والقدرة على الزواج. (ي)

ص: 61

آباء%=@يشترط الأحناف إجازة الولي في حال تزويج الصغير والصغيرة وإن كانا عاقلين والشافعي يحتم وجود الولي في حال تزويج البنت البكر وإن كانت بالغة وهو الذي يقوم بعقد الزواج (راجع بدائع الصنائع جـ 3 ص 33 و 241). والزواج لابد فيه من مهر لا يشترط أداؤه فعلاً ليتم عقد الزواج، وللزوجين أن يتفقا على تأجيله كله أو بعضه على ما هو متعارف (راجع بدائع الصنائع ج2 ص 277 - 278). (ي) @ العروسين أو لم يرضوا. وقد أجيز للمسلم أن يتزوج مسيحية أو يهودية ولكنه حرم عليه أن يتزوج من وثنية أو مشركة. وعدم الزواج في الإسلام، كما هو في الدين اليهودي، إثم، والزواج فيهِ فريضة محببة إلى الله (سورة النور 32). وأجاز الإسلام تعدد الزوجات ليعوض بكثرة النسل الوفيات العالية بين الذكور والنساء على السواء، ولطول فترة النفاس، وما يحدث في البلاد الحارة من نقص سريع في قوة الإخصاب، ولكنه حدد عدد الزوجات الشرعيات بحيث لا يزدن على أربع وإن كان النبي نفسه قد تجاوز هذا العدد. وحرم الإسلام التسري (سورة المعارج 29 و 31) ولكن ذلك عنده خير من الزواج بمشركة (سورة البقرة 231)

(1)

.

وبعد أن تسامح الإسلام مع الرجل إلى هذا الحد فمكنه بتعدد الزوجات من إشباع غريزته الجنسية إشباعاً حلالاً حرم الزنى أشد التحريم، فجعل عقوبة الزاني والزانية مائة جلدة (سورة النور

(2)

) لكنه اشترط لتوقيع هذه العقوبة

(1)

ليس الامتناع عن الزواج إثماً في كل حال بل المعروف فقهاً أن الزواج يكون واجباً إذا تاق الرجل إلى الاتصال بالمرأة، وفرضاً إن تيقن أنه يقع في الزنى إن لم يتزوج، وكان مع هذا مالكاً للمهر والنفقة وإلا فلا إثم عليه بترك الزواج. ويكون الزواج مكروهاً إن خاف ألا يعدل مع الزوجة إن تزوج كما يكون حراماً إن تيقن أنه سيجور ولا يعدل (راجع الدر المختار وحاشية ابن عابدين علية ج2 ص 267 - 268). (ي)

(2)

عقوبة الزاني هي الجلد كما يقول الكاتب إن كان غير متزوج، وإلا كانت العقوبة هي الرجم. (ي)

ص: 62

ثبوت الزنى بشهادة أربعة من الشهود. ونهى القرآن فضلاً عن هذا عن رمي المحصنات فقال "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعةِ شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً"(سورة النور 4) وقد قل الاتهام بالزنى بعد نزول هذه الآية.

وأباح القرآن الطلاق للرجل كما أباحه التلمود. وللمرأة أن تطلق نفسها من زوجها بأن ترد له صداقها (سورة البقرة 229)؛ لكن الإسلام وإن أجاز للزوج أن يطلق زوجته كما كان مباحاً له في أيام الجاهلية%=@الصحيح في هذا أنه لما كان الإسلام حريصاً على أن تكون

ص: 63

العشرة بين الزوجين بالمعروف فإن العشرة إن ساءت وأصبح من الخير لهما الانفصال كان ذلك بالطلاق برضاء الزوجين بلا مقابل أو بمقابل. (ي) @، فإن النبي لم يكن يشجع عليهِ ويروى عنه أنه قال إن "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". هذا إلى أن القرآن نفسه يحض على عدم قطع العلاقة الزوجية إلا بعد أن تُبذل الجهود للإصلاح بين الزوجين "وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما"(سورة النساء 35). ولا يصبح الطلاق نهائياً إلا بعد صدوره ثلاث مرات بين كل واحدة والأخرى شهر على الأقل

(1)

ولكي يُرغم الزوج على أن يطيل التفكير في أيمان الطلاق قبل صدورها، فإن الإسلام لا يبيح بعد ذلك للرجل أن يرد مطلقته إلى عصمته إلا إذا تزوجت من رجل آخر ثم طُلقت منه. ولا يباح للزوج أن يقرب زوجته في المحيض وليس ذلك لأنها "نجسة" في ذلك الوقت، وإن كان يطلب إليها أن تتطهر بعده قبل أن يقربها زوجها. والنساء حرثٌ للرجال ومن الواجب على الرجل أن ينجب أبناء، وينبغي للزوجة أن تقر للزوج بتفوقهِ عليها في الزكاء، ومن ثم أن تكون له عليها القوامة وحق الطاعة، فإذا عصت كان له أن يهجرها ويضربها (سورة النساء 34) والمرأة التي تتوفى وزوجها راضٍ عنها تدخل الجنة

(2)

.

لكن ما فقدته النساء من حقوق قد نلن أكثر منه بفصاحة لسانهن، ورقة قلوبهن، ومفاتنهن، شأنهن في هذا شأن النساء في العالم كله. وقد حدث مرة أن لام عمر بن الخطاب زوجته لأنها كلمته بلهجة رأى فيها شيئاً من قلة الاحترام، فما كان منها إلا أن أكدت له أن هذه هي اللهجة التي تخاطب بها ابنته حفصة وغيرها من أزواج النبي رسول الله. فذهب عمر من فوره ولام على ذلك حفصة وزوجة أخرى من أزواج النبي. فقيل له إن هذا ليس من شأنهِ وخرج عمر غاضباً. وسمع النبي بهذا فأثار ضحكه. وكان النزاع يقوم في بعض الأحيان بين النبي وبين أزواجه كما يحدث عند غيره من المسلمين، ولكنه كان على الدوام يعزهن، ويظهر لهن ولغيرهن من النساء المسلمات ما يليق بهن من عواطف طيبة. ويروى عنه أنه قال إن المرأة الصالحة أثمن شيء في العالم. ويذكر الله الناس في القرآن مرتين بأن أمهاتهم حملنهم كرهاً ووضعنهم كرهاً وأرضعنهم أربعة وعشرين أو ثلاثين شهراً (

(3)

، ويروى عن النبي أنه قال:"الجنة تحت أقدام الأمهات".

(1)

الطلاق يكون نهائياً ولو كان مرة واحدة، وانقضت عدة المرأة، ويكون أيضاً نهائياً بعد الطلقة الثالثة كذلك إلا أنه في هذه الحال لا يكون للزوج أن يرد إليه مطلقته ثلاثاً إلا بعقد جديد بعد أن تكون قد تزوجت بآخر ودخل بها وانقضت عدتها. (ي)

(2)

دخول الجنة مشروط بفضل الله تعالى، والعمل الصالح، وقيام المرء بما عليه من حقوق لله ولبني الإنسان، ومن هؤلاء بلا ريب حق الزوج على زوجته، وليس معنى هذا أن الزوجة التي تتوفى وزوجها راضٍ عنها تدخل الجنة وإن لم تقم بما عليها من واجبات أخرى. (ي)

(3)

يقول جل جلاله في سورة البقرة: "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة": ويقول في سورة الأحقاف: "ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً، وحمله وفصاله ثلاثون شهراً"، والفصال هنا معناه الرضاع. (ي)

ص: 64

الفصل الرّابع

‌القرآن والدين والدولة

إن أعقد ما يلاقيه المصلح من المشاكل مشكلتان، أولهما أن يجعل التعاون بين الناس محبوباً جذاباً، والثانية أن يحدد سعة الكل والجماعة التي يشير عليها بالتعاون الكامل. والأخلاق المثالية تطلب المعاونة التامة بين كل جزء وبين كلّ كلّ-أي بين العالم أجمع وحياته الجوهرية ونظامه أي الله سبحانه وتعالى. وفي هذه الدرجة من التعاون يصبح الدين والأخلاق شيئاً واحداً، ولكن الأخلاق وليدة العادة وحفيدة القسر، وهي لا تنمي التعاون إلا بين مجموعات مزودة بالقوة، ومن أجل هذا كانت كل الأخلاق الواقعية أخلاقاً جماعية.

وقد تخطت القوانين الأخلاقية التي جاء الإسلام بها حدود القبيلة التي ولد النبي بين ظهرانيها، ولكنها اقتصرت على الجماعة الدينية التي أنشأها. فلما تم له النصر في مكة وضع القيود على غارات النهب بين القبائل، وإن لم يكن في مقدورهِ

(1)

أن يمنع هذه الغارات منعاً باتاً؛ وأشعر بلاد العرب كلها، أي أنه أشعر بلاد الإسلام كلها في ذلك الوقت، معنى جديداً للوحدة، ووضع لها أفقاً للتعاون والولاء أوسع مما عرفته من قبل "إنما المؤمنون أخوة"(سورة الحجرات 10) وقللت العقيدة المشتركة ما بين الطبقات والأجناس من فروق، وفي

(1)

لقد أحصى التاريخ كل غزوة أو سرية كانت في عهد الرسول وكلها كانت بأمره ورضاه؛ ولعل الغارات التي يشير إليها الكاتب هي السرايا التي كان يرسلها الرسول من آن لآخر دفاعاً عن الدعوة وكيان المسلمين. وليس حقاً ما يقوله من أنه لم يكن في مقدوره أن يمنع هذه الغارات منعاً باتاً وبخاصة مع ما هو مقرر من حرص المسلمين على تحري رضا الرسول إتباعا لأوامر الله جل شأنه في القرآن الكريم. (ي)

ص: 65

ذلك يقول النبي: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبداً حبشي كأن رأسه زبيبة".

تلك بلا مراء عقيدة نبيلة سامية ألفت بين الأمم المتباينة المنتشرة في قارات الأرض فجعلت منها شعباً واحداً: وهي لعمري أعظم معجزة للمسيحية والإسلام.

غير أن هذا الحب السامي الذي يدعو إليه الدينان يقابله عداء شديد لغير المؤمنين

(1)

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء"

"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون" سورة المائدة 51 و 55 "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان"(سورة التوبة 23). لكن القرآن يأمر في آيات كثيرة بأن يسلك المسلمون جادة الاعتدال في الأخذ بهذه المبادئ فيقول "لا إكراه في الدين""فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا"(سورة البقرة 137)"وإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين"(سورة النحل 82)"فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت بهِ إليكم"(سورة هود 57)"فتول عنهم حتى حين، وأبصرهم فسوف يبصرون"(سورة الصافات 174 و 175)"وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون"(سورة الصافات 178 و 179). أما كفار العرب الذين لم يؤمنوا برسالة النبي فقد أمر بقتالهم ولما أن بدأت الحرب مع قريش وانسلخت الأشهر الحرم أمر المسلمون بقتالهم حيث وجدوهم (سورة التوبة 5) "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا

(1)

لم يكن هذا العداء الشديد إلا للذين يحاربون الإسلام: وأما أهل الذمة فقد أمر الإسلام بأن يكون لهم ما للمسلمين من حقوق وعليهم ما على المسلمين من واجبات. وحسبنا في الدليل على هذا قوله جل شأنه في سورة الممتحنة "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين؛ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون". (ي)

ص: 66

سبيلهم إن الله غفورٌ رحيم"-"وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه"، "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم" (سورة التوبة 5 و 6) ومن وصايا أبي بكر لجيوشه أن لا يقتلوا شيخاً عاجزاً عن القتال، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة. وكان على كل مسلم سليم الجسم أن يشترك في الجهاد "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص" (سورة الصف 4). ومن أحاديث النبي "والذي نفس محمد بيده لغدوةٌ في سبيل الله أو روحةٌ خير من الدنيا وما فيها". و"لمقام أحدكم في الصف خيرٌ من صلاته ستين سنة".

لكن هذه المبادئ الأخلاقية الحربية ليست في واقع الأمر تحريضاً على القتال "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"(سورة البقرة 190). وكان محمد يتبع قوانين الحرب التي كان يتبعها المسيحيون في أيامه ويشن الحرب على كفار قريش المسيطرين على مكة كما كان إربان الثاني Urban II فيما بعد يدعوا إلى قتال المسلمين المسيطرين على بيت المقدس.

ويلوح أن الثغرة التي لابد من وجودها بين النظريات المجردة والأفعال الواقعية كانت أضيق في الإسلام منها في سائر الأديان. ولقد كانت العرب أكثر شهوانية من كثير من الشعوب، ولهذا أجاز الإسلام تعدد الزوجات

(1)

، أما فيما عدا هذا فإن الشريعة الإسلامية شديدة كل الشدة على من لا يتمسك من المسلمين بأصول الدين؛ والذين يجهلون الإسلام هم وحدهم الذين يظنون أنه

(1)

لقد بينا فيما سبق أن تعدد الزوجات إنما يرجع إلى دوافع اجتماعية هامة تنبه إليها كثيرون من الغربيين في هذه الأيام، وليس سبب هذا التعدد أن العرب أكثر شهوانية من غيرهم من الشعوب. (ي)

ص: 67

دين سهل من الوجهة الأخلاقية. كذلك كان من طبيعة العرب الآخذ بالثأر، ولهذا لم يدع الإسلام إلى مقابلة الإساءة بالإحسان

(1)

. "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"(سورة البقرة 194)"ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل"(سورة الشورى 41)، تلك أخلاق تليق بالرجال، شبيهة بما جاء في العهد القديم، فهي تؤكد فضائل الرجولة كما تؤكد المسيحية فضائل الأنوثة. وليس في التاريخ دين غير دين الإسلام يدعو أتباعه على الدوام إلى أن يكونوا أقوياء، ولم يفلح في هذه الدعوة دين آخر بقدر ما أفلح فيها الإسلام:"يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا"(سورة آل عمران 200) هكذا كان يقول أيضاً زرادشت الذي نادى بمبادئ نتشة قبل وجود نتشة بزمن طويل.

والمسلمون يعظمون القرآن إلى درجة تقرب من العبادة، وقد كتبوا المصاحف وزينوها وبذلوا في سبيل ذلك كل ما يستطيعون من عناية مدفوعين إليها بحبهم له، وهو الكتاب الذي يبدأ منه أطفال المسلمين بتعلم القراءة، وهو المحور الذي يدور عليه تعليمهم والذروة التي ينتهي بها هذا التعليم. وقد ظل أربعة عشر قرناً من الزمان محفوظاً في ذاكرتهم، يستثير خيالهم، ويشكل أخلاقهم، ويشحذ قرائح مئات الملايين من الرجال. والقرآن يبعث في النفوس

(1)

لم يجيء الإسلام ليساير العرب على ما كانوا عليه من عقائد باطلة وتقاليد غير مستحبة بل جاء ليغير كل هذا إلى خير؛ وقد فعل ذلك حقاً. وقد أمر بالرحمة والمغفرة ولكن من غير ذلة لأنه دين قوة لا دين ضعف وخنوع. وللرسول مواقف تتجلى فيها هذه المغفرة. من ذلك موقفه من قريش بعد فتح مكة التي آذته هو وأصحابه أشد الأذى، فقد عفا عنهم جميعاً وكان مما قال لهم "اذهبوا فأنتم الطلقاء". ويقول الله جل شأنه في سورة فصلت "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم".

ص: 68

الساذجة%=@الأفضل أن يقال السليمة الفطرة ولقد آمن بالقرآن كثير من رجال العلم والفكر في كل عصر من العصور الماضية وفي هذا العصر الذي نعيش فيه؛ كما آمن به من لا يحصون كثرة من الناس على اختلاف حظوظهم من العقل والفكر؛ وما ذلك إلا لأنه جاء بالعقيدة الحقة الواضحة التي يتقبلها الجميع. (ي) @ أسهل العقائد، وأقلها غموضا، وأبعدها عن التقيد بالمراسم والطقوس، وأكثرها تحرراً من الوثنية والكهنوتية. وقد كان له أكبر الفضل في رفع مستوى المسلمين الأخلاقي والثقافي، وهو الذي أقام فيهم قواعد النظام الاجتماعي والوحدة الاجتماعية، وحضهم على إتباع القواعد الصحية، وحرر عقولهم من كثير من الخرافات والأوهام، ومن الظلم والقسوة، وحسن أحوال الأرقاء، وبعث في نفوس الأذلاء الكرامة والعزة، وأوجد بين المسلمين (إذا استثنينا ما كان يقترفه بعض الخلفاء المتأخرين) درجة من الاعتدال والبعد عن الشهوات لم يوجد لها نظير في أية بقعة من بقاع العالم يسكنها الرجل الأبيض. ولقد علم الإسلام الناس أن يواجهوا صعاب الحياة، ويتحملوا قيودها، بلا شكوى ولا ملل، وبعثهم في الوقت نفسه إلى التوسع توسعاً كان أعجب ما شهده التاريخ كله. وقد عرَّف الدين وحدده تحديداً لا يجد المسيحي ولا اليهودي الصحيح العقيدة ما يمنعه من قبوله.

"ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبهِ ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساءِ والضراءِ وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون"(سورة البقرة الآية 177).

ص: 69

الباب العاشِر

‌سيف الإسلام

632 -

1058

الفصل الأوَّل

‌الخلفاء الراشدون

632 -

660

مات النبي ولم يعين من يخلفه من بعده، ولكنه كان اختار أبا بكر (573 - 634) ليؤم المسلمين في مسجد المدينة، واقتنع المسلمون بعد شيء من الاضطراب والتنافس بأن هذا التفضيل يجعل أبا بكر أحق الناس بأن يختار أول خليفة لهم

(1)

.

ولم يكن لفظ خليفة في بادئ الأمر لقباً لأبي بكر، بل كان مجرد وصف له. وساء ذلك الاختيار علياً ابن عم محمد وزوج ابنته، وظل ستة أشهر ممتنعاً عن بيعة أبي بكر، وغضب لذلك أيضاً العباس عم النبي وعلي. ونشأ عن هذا الخلاف الأول أكثر من عشر حروب، كما نشأت عنه أسرة عباسية حاكمة، وانقسام اضطرب به العالم الإسلامي.

وكان أبو بكر وقتئذ في التاسعة والخمسين من عمره، وكان قصير القامة، نحيف الجسم، قوي البنية، قليل الشعر، أبيض اللحية حمراء الصبغة، بسيطاً

(1)

وكانت هناك أسباب أخرى كثيرة جعلت المسلمين يختارون أبا بكر خليفة لهم منها شدة إيمانه ومناصرته للنبي وقوة أخلاقه والتضحية في سبيل الدين بنفسه وبماله. (المترجم)

ص: 70

في معيشته، متقشفاً، رحيماً في حزم، يعنى شخصياً بجميع شؤون الإدارة والقضاء جليلها وصغيرها على السواء، لا يهدأ له بال حتى يأخذ العدل مجراه، وظل يعمل ولا يتقاضى أجراً على عمله، وظل شديد التقشف حتى أقنعه الشعب بأن ينزل قليلاً عن تقشفه، ثم أوصى قبل وفاته بأن يعود إلى بيت مال المسلمين كل ما أرغم على أخذه منه. وحسبت قبائل بلاد العرب أن تواضعه ضعف. وإذا كان بعضها لم يتمكن الإسلام من قلوب أفرادها، ومنهم من اعتنقه كارهاً، فقد ارتد هؤلاء عنه، وأبوا أن يؤدوا الزكاة التي فرضها عليهم الإسلام. ولما أصر أبو بكر على وجوب أدائها زحفوا على المدينة، وجمع أبو بكر جيشاً في ليلة واحدة، وقاده بنفسهِ في مطلع الفجر، وبدد به شمل العصاة (632)، ثم أرسل خالد بن الوليد أشهر قواد المسلمين وأشدهم بطشاً، لقتال المرتدين في جزيرة العرب وإرغامهم على أداء الزكاة.

وربما كانت هذه الفتنة الداخلية من العوامل التي أدت إلى فتح العرب غربي آسية، ويلوح أن فكرة هذه المغامرة وهذا التوسع لم تكن تخطر ببال أحد من زعماء المسلمين حين تولى أبو بكر الخلافة. وحدث أن بعض القبائل العربية الضاربة في بلاد الشام رفضت المسيحية والخضوع للدولة البيزنطية، وصدت جيوش الإمبراطورية، وأرسلت تطلب النجدة من المسلمين، فأرسل إليها أبو بكر المدد، وعمل على نشر كراهية الدولة البيزنطية بين القبائل العربية. وكانت هذه فرصة مواتية لضم شتات العرب وتوحيد صفوفهم في حرب خارجية. وكان العرب-كما نعلم- قوماً ألفوا الحروب، فلبوا نداء أبو بكر لخوض غمارها وقد بدت في أول الأمر قصيرة الأجل. وسرعان ما أصبح بدو الصحراء المتشككون فيما مضى يضحون بحياتهم في سبيل نصرة الإسلام.

واجتمعت أسباب عدة عملت كلها على اتساع ملك العرب؛ فمن الأسباب الاقتصادية أن ضعف الحكومة النظامية في القرن السابق لظهور النبي قد أدى

ص: 71

إلى انهيار نظم الري في جزيرة العرب (1)، فضعفت من جراء ذلك غلات الأرض الزراعية، وحاقت بالسكان المتزايدين أشد الأخطار، ولهذا فقد تكون الحاجة إلى أرض صالحة للزرع والرعي من العوامل التي دفعت جيوش المسلمين إلى الغزو والفتح (2). يضاف إلى هذا عدة أسباب: منها أن الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية قد أنهكتهما الحروب، وما حل بكلتيهما من الدمار على يد الأخرى، فكان ضعفهما مغرياً للعرب على غزو بلادهما، ولقد كانت الضرائب في ولايات الدولتين تزداد زيادة مطردة، والأداة الحكومية تزداد عجزاً عن تصريف شؤون الحكم وحماية الأهلين، كذلك كان للصلات العنصرية بين المسلمين وسكان بعض الولايات شأن غير قليل في هذا التوسع. فقد كان في الشام والعراق قبائل عربية لم تجد صعوبة في قبولها حكم العرب الغزاة أولاً، ثم اعتناق دينهم بعدئذ. يضاف إلى هذا عوامل دينية: منها أن اضطهاد بيزنطية لليعاقبة والنساطرة وغيرها من الشيع المسيحية قد أحفظ عليها قلوب أقلية كبيرة من السوريين والمصريين، بل تعداها إلى بعض الحاميات الإمبراطورية. ولما سار الفتح في طريقه زادت الأسباب الدينية قوة على قوتها؛ فقد كان قادة المسلمين من صحابة النبي المتحمسين، يصلون وهم يحاربون، ويصلون أكثر مما يحاربون، وقد بعثوا في قلوب أتباعهم على مر الأيام روحاً حماسية قوية اعتقدوا معها أن الموت في الجهاد يفتح لهم أبواب الجنة. وهناك فوق ذلك عوامل أخلاقية لها أيضاً شأنها في هذه الفتوح: ذلك أن المبادئ الأخلاقية المسيحية والرهبنة قد أضعفتا في بلاد الشرق الأدنى ذلك الاستعداد للقتال الذي كان من طبيعة العرب ومن تعاليم الإسلام. ولقد كانت جيوش العرب خيراً من جيوش الفرس والروم نظاماً وأحسن قيادة، يألفون المشاق وينالون جزاءهم من الفيء، لقد كان في وسعهم أن يحاربوا وبطونهم خاوية، ويعتمدوا على النصر في الحصول على طعامهم. ولكنهم لم يكونوا في حروبهم همجاً متوحشين، انظر إلى ما أوصاهم

ص: 72

به أبو بكر: "أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة، ولا بعيراً إلا لمأكله؛ وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له؛ وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منه شيئاً فاذكروا اسم الله عليه؛ وتلقون قوماً قد محضوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقاً

اندفعوا باسم الله إلخ" (3).

ولم يكن الأعداء يخيرون بين الإسلام والسيف، بل كان الخيار بين الإسلام والجزية والسيف. وكانت هناك أخيراً أسباب حربية للغزو والفتح: ذلك أنه لما تضاعف عدد الجيوش العربية الظافرة ومن انظم إليها من المجندين كان لا بد من الزحف بهم إلى أرضين جديدة يفتحونها ليحصلوا منها على طعامهم وأجورهم إن لم يكن لغير ذلك من الأسباب. ونشأ من تقدمهم قوة هذا التقدم الدافعة، فكان كل نصر يتطلب نصراً جديداً، حتى أصبحت الفتوح العربية-التي كانت أسرع من الفتوح الرومانية، وأبقى على الزمان من الفتوح المغولية- أعظم الأعمال إثارة للدهشة في التاريخ الحربي كله.

وحدث في أوائل عام 633، بعد أن بسط خالد بن الوليد "لواء السلم" على جزيرة العرب، أن دعته إحدى قبائل البدو الضاربة على حدود الجزيرة للانضمام إليها في محاربة بعض العشائر داخل حدود العراق، وقبل خالد وخمسمائة من رجاله للدعوة لأنهم لم يكونوا يطيقون التعطل أو الركون إلى السلم طويلاً، وانظم إليهم ألفان وخمسمائة من رجال القبائل، وغزوا أملاك الفرس. ولسنا نعلم هل وافق أبو بكر على هذه الحملة قبل الإقدام عليها أو لم يوافق، وسواء كان ذلك أو لم يكن فالظاهر أنه قبل ما أسفرت عنه من نتائج قبول الفلاسفة. واستولى خالد على الحيرة وأصاب فيها من الفيء

ص: 73

ونال كل فارس منه ما أنطق أبا بكر بمقالته الشهيرة: "يا معشر قريش عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خرازيله، أعجزت النساء أن ينشئن مثل خالد؟ "(4). ولقد أصبحت المرأة وقتئذ ذات شأن كبير في تفكير الظافرين ومغانمهم. وشاهد ذلك أنه بينما كان العرب يحاصرون حمص أثار قائد شاب من قواد العرب حماسة الجنود بأن وصف لهم جمال فتيات الشام، ولما استسلمت الحيرة اشترط خالد على أهلها أن تعطي سيدة تدعى كرامة إلى جندي عربي قال إن النبي قد وعده بها "فاشتد على أهل بيتها، وأهل قريتها ما وقعت فيه فاعظموا الخطر فقالت: لا تخطروه ولكن اصبروا ما تخافون امرأة بلغت ثمانين سنة؟ فإنما هذا رجل أحمق رآني في شبيبتي فظن أن الشباب يدوم، فدفعوها إلى خالد، فدفعها خالد إليه، ثم افتدت منه نفسها بألف درهم، وكانت تسوى أضعاف ذلك (5).

وقبل أن يستمتع خالد بثمار انتصاره في الحيرة بعث إليه الخليفة يأمره بالسير لإنقاذ قوة من العرب يتهددها جيش من الروم أكثر منها عدداً بالقرب من دمشق. وكان بين الحيرة ودمشق في الوقت شقة من الصحراء الجدباء الخالية من موارد الماء يقطعها المسافر في خمسة أيام. فجمع خالد الإبل؛ وسقاها الماء بوفرة؛ وكان الجند في أثناء زحفهم يأخذون الماء من بطون الإبل بعد ذبحها، ويسقون خيولهم لبنها. ولما أن وصل هو وجنوده إلى الجيش العربي الرئيسي المعسكر على ضفاف نهر اليرموك على بعد ستين ميلاً إلى الجنوب الشرقي من دمشق كانت تلك المؤن قد نفدت. وهناك كما يقول المؤرخون العرب هزم 000، 40 (000، 25؟) من العرب 000، 240 (000، 50؟) من الروم في إحدى المعارك الفاضلة التي لا حصر لها في التاريخ (634). وهكذا قامر الإمبراطور هرقل ببلاد الشام كلها في معركة واحدة، فلما خسرها أصبحت تلك البلاد قاعدة الدولة العربية الآخذة في الاتساع.

ص: 74

وبينما كان خالد يقود جيوشه إلى النصر في هذه المعركة، إذ وصلته رسالة تنبئه بوفاة أبي بكر ويأمره فيها عمر الخليفة الجديد أن يتخلى عن القيادة لأبي عبيدة. وأخفى خالد الرسالة عن المسلمين حتى انتهت المعركة. وكان عمر أبو حفصة ابن الخطاب (582 - 644) أكبر معين لأبي بكر وأعظم مشيريه، وكان قد بلغ من الشهرة درجة لم يجد معها أحد سبباً للاعتراض حين اختاره أبو بكر خليفة للمسلمين من بعدهِ. غير أن عمر نفسه كان يختلف عن صديقهِ أبي بكر كل الاختلاف. كان طويل القامة، عريض المنكبين، حاد الطبع شديد الانفعال، لا يتفق معه إلا في بساطتهِ وتقشفهِ، وفي أنه كان مثله أصلع الرأس يصبغ لحيته. وكانت صروف الدهر وتبعات الحكم قد أنضجت عقله فجعلته مزيجاً عجيباً نادراً من حدة الطبع والقدرة على الحكم الهادئ الصادق؛ ويحكى عنه أنه ضرب بدوياً من غير حق ثم ألح عليه-دون جدوى-أن يكيل له الضربات بقدر ما كاله هو له. وكان شديد التمسك بالدين يطلب إلى كل مسلم ألا يحيد قيد شعرة عن الفضيلة. وكان يحمل معه درة يضرب بها كل من يراه من المسلمين خارجاً على أصول الدين (6). وتقول بعض الروايات إنه ضرب ابنه حتى مات من الضرب لمعاقرته الخمر (7). ويقول المؤرخون المسلمون إنه لم يكن له إلا قميص واحد، وجلباب واحد رقعه عدة مرات، وإنه كان يعيش على التمر وخبز الشعير، ولا يشرب غير الماء، وإنه كان ينام على سرير من جريد النخل، وهو لا يكاد يكون أقل صلابة وخشونة من قميص الشعر، وإن همه كله كان منصرفاً إلى نشر الإسلام بالسلم وبالحرب. ويقال إن أحد ولاة الفرس جاء إلى عمر يعرض عليه ولاءه، فوجد فاتح الشرق نائماً على عتبة جامع المدينة؛ ولكننا لا نجزم بصحة هذه القصص وأمثالها.

وكان السبب الذي من أجله عزل عمر خالداً من القيادة أن "سيف الله" كثيراُ ما لوث شجاعته بقسوته. ونظر القائد الباسل إلى مسألة تنحيته نظرة

ص: 75

ملؤها الشهامة، وما هو أجمل من الشهامة؛ فقد وضع نفسه تحت تصرف أبي عبيدة بلا قيد ولا شرط. وأوتي أبو عبيدة من الحكمة ما جعله يتبع مشورة خالد في شؤون الحرب، ويعارض قسوته بعد النصر. وكان العرب فرساناً مهرة لا يضارعهم في مهارتهم خيالة الفرس والروم، ولم يكن في أوائل العصور الوسطى إنسان أو حيوان يستطيع أن يقاوم صيحاتهم الحربية العجيبة، أو حركاتهم العسكرية المحيرة، أو سرعة كرهم وفرهم؛ وكانوا يحرصون عن أن يختاروا للنزال الأراضي المستوية التي توائم حركات الفرسان. واستولوا على إنطاكية في عام 636، وعلى بيت المقدس في عام 638، ولم ينتهِ عام 640 حتى كانت بلاد الشام في أيدي المسلمين، وقبل أن يختتم عام 641 كانوا قد أتموا فتح بلاد الفرس ومصر. ووافق البطريق سفرونيوس Sophronius على تسليم بيت المقدس إذا جاء الخليفة نفسه للتصديق على شروط التسليم، وقبل عمر هذا الشرط، وجاء من المدينة في بساطة أفخر من الفخامة، ومعه عدل من الحب وكيس من التمر، ووعاء ماء، وصحفة من الخشب. وخرج خالد وأبو عبيدة وغيرهما من قواد الجيش لاستقباله، فغضب حين أبصر ثيابهم المهفهفة، وعدد خيولهم المزركشة، وألقى بحفنة من الحصباء في وجوههم ولامهم على أنهم جاءوا يستقبلونه في ذلك الزي. وقابل سفرونيوس مقابلة ملؤها اللطف والمجاملة، ولم يفرض على المغلوبين إلا جزية قليلة، وأمن المسيحيين عل كنائسهم. ويقول المؤرخون المسيحيون إنه طاف مع البطريق ببيت المقدس، واختار في العشرة الأيام التي أقامها فيها موضع المسجد الذي سمي فيما بعد باسمهِ. ولما سمع أن أهل المدينة يخشون أن يتخذ بيت المقدس عاصمة للدولة الإسلامية عاد إلى عاصمته الصغيرة.

وما كاد الأمر يستتب للمسلمين في بلاد الشام وبلاد الفرس حتى أخذوا يهجرون من جزيرة العرب إلى الشمال والشرق، وكانت هذه الهجرة شبيهة

ص: 76

بهجرة القبائل الجرمانية إلى الولايات الرومانية التي غزتها هذه القبائل، وشملت الهجرة الرجال والنساء

وبفضل هذه الهجرة والتسري أصبح عدد العرب في بلاد الشام وفارس نصف مليون نسمة قبل أن يحل عام 644. ونهى عمر الفاتحين عن شراء الأرض وفلحها، وكان يرجو أن يبقوا في خارج جزيرة العرب طبقة عسكرية، تمدهم الدولة بما يكفيهم، لكي يحتفظوا بصفاتهم الحربية، غير أن أوامره في هذا قد أغفلت بعد موته، بل إنها كاد يقضي عليها سخاؤه في أثناء حياتهِ؛ ذلك أنه كان يوزع أربعة أخماس الفيء على الجيش، ويخص بيت المال بالخمس الباقي. ولم تلبث أقلية الرجال ذوي العقول الكبيرة أن جمعت معظم الطيبات من هذه الثروة العربية الآخذة في النماء، وأخذ أشراف قريش يشيدون القصور الفخمة في مكة والمدينة، فكان للزبير بيوت في عدة مدن مختلفة، وكان يمتلك ألف جواد، وعشرة آلاف عبد؛ وكان عبد الرحمن يمتلك ألف بعير، وعشرة آلاف رأس من الضأن، وأربعمائة ألف دينار (1. 912. 000 دولار) وكان عمر ينظر بحسرة وأسى إلى هذا الترف الذي أخذ مواطنوه يتردون فيه.

وطعنه مولى فارسي وهو يؤم الصلاة في المسجد (644)، ولم يستطع عمر وهو على فراش الموت أن يقنع عبد الرحمن بأن يكون خليفة من بعدهِ فعين ستة من زعماء المسلمين ليختاروا من يخلفه، فاختاروا من بينهم عثمان. وكان عثمان بن عفان شيخاً مسناً، طيب القلب، حسن النية، أعاد بناء مسجد المدينة وجمله، وأعان بماله جيوش المسلمين التي نشرت الإسلام في هيرات، وكابل، وبلخ، وتفليس، وفي ربوع آسية الصغرى حتى البحر الأسود، ولكنه لسوء حظه كان شديد الولاء لأشراف بني أمية الذين كانوا في أيام الإسلام الأولى ألد أعداء النبي، فأقبل بنو أمية على المدينة ليجنوا ثمار قرابتهم للخليفة، ولم يكن في وسعه أن يقاوم مطالبهم. ولم يلبث أن تولى بعض المناصب المجزية أكثر من عشرة منهم كانوا يسخرون

ص: 77

من تزمت أتقياء المسلمين وبساطتهم. وانقسم المسلمون بعد أن هدأت سورة النصر أحزاباً متباغضة شديدة العداء، المهاجرون القادمون من مكة ضد الأنصار أهل المدينة، وأهل مكة والمدينة أصحاب السلطان ضد دمشق، والكوفة، والبصرة، وهي المدن الإسلامية الآخذة في النماء السريع، وبنو هاشم أهل النبي وعلي رأسهم علي ضد بني أمية وعلى رأسهم معاوية حاكم الشام وابن أبي سفيان ألد أعداء النبي في بداية الدعوة. وفي عام 654 أخذ رجل يهودي ممن اعتنقوا الإسلام يدعو في البصرة إلى عقيدة ثورية، مضمونها أن النبي سيبعث حياً على هذه الأرض، وأن علياً أحق الناس بالخلافة، وأن عثمان لا حق له فيها، وأن من اختاروه لها جماعة من الطغاة الخارجين على الدين. ولما طرد هذا الداعية من البصرة نزح إلى الكوفة، فلما أخرج من الكوفة انتقل إلى مصر حيث وجدت دعوته آذاناً صاغية واعتنقها كثيرون، وخرج من مصر إلى المدينة خمسمائة من المسلمين وطلبوا إلى عثمان أن يعتزل الخلافة، فلما أبى حاصروا بيته، ثم اقتحموا عليه حجرته وقتلوه وهو يتلو القرآن (656).

وفر زعماء بني أمية من المدينة وبايع بنو هاشم علياً خليفة للمسلمين. وكان علي في شبابه مثلاً أعلى للتواضع، والتقوى، والنشاط، والإخلاص للدين. وكان وقت أن بويع بالخلافة في الخامسة والخمسين من عمرهِ، أصلع الرأس، ممتلئ الجسم، لطيف المعشر، محسناً، كثير التفكير، متحفظاً في قولهِ؛ ولم يكن مرتاحاً لهذه المأساة التي عدت فيها السياسة على الدين، ولت فيها الدسائس محل الخشوع والإخلاص للإسلام والمسلمين. وطلب إليه أن يقتص من قتلة عثمان، ولكنه تباطأ فتمكنوا من الفرار؛ وطالب هو أن يعتزل من ولاهم عثمان مناصبهم، فأبى معظمهم؛ ولم يكتفِ معاوية برفض هذا الطلب بل نشر في دمشق قميص عثمان الملطخ بالدماء، وأصابع زوجته التي قطعت وهي تحاول الدفاع عنه. وظاهرت قريش معاوية، وكان بنو أمية هم المسيطرين وقتئذ عليها، وخرج على عليّ

ص: 78

طلحة والزبير من أصحاب الرسول، وطالباهما أيضاً بالخلافة. وخرجت عائشة زوج النبي من المدينة إلى مكة وانضمت إلى الثوار. ولما أعلن مسلمو البصرة انضمامهم للثائرين استنجد عليّ بأهل الكوفة المضرسين بالقتال، ووعدهم أن يتخذها عاصمة الدولة إذا هم لبوا نداءه. فأجابوه دعوته والتقى الجيشان في جنوبي العراق في واقعة الجمل-وسميت كذلك لأن عائشة كانت تحرض الجند على القتال من هودجها على ظهر الجمل. وهُزم طلحة والزبير وقتلا، وردت عائشة إلى بيتها معززة مكرمة، ونقل عليّ العاصمة إلى الكوفة القريبة من موقع بابل القديمة.

وجهز معاوية في دمشق قوة أخرى لقتال عليّ. وكان معاوية خبيراً بشؤون الدنيا غير متزمت في الدين، وكان يرى في الدين بديلاً من الشرطة أقل منها نفقة ولكنه لا يصح أن يكون حائلاً بينه وبين الاستمتاع بطيبات الحياة. وكان من الأغراض التي يبتغيها بمحاربة عليّ أن يعيد إلى الأقلية المصطفاة من قريش السلطة والزعامة اللتين كانتا لها قبل أيام النبي. وأعاد عليَّ تنظيم قواه والتقت بجيش معاوية عند صفين على نهر الفرات (657). وكاد النصر يتم لعليّ لولا أن عمرو بن العاص قائد جيش معاوية رفع المصاحف على أسنة الرماح طالباً تحكيم "كتاب الله"، ولعله كان يعني بهذا إتباع الأوامر الواردة في القرآن (الكريم). ورضي عليّ بهذا الطلب إجابة لإلحاح جنوده، واختير الحكمان وحدد لهما ستة أشهر يفصلان خلالها في النزاع ويعود الجنود فيها إلى بيوتهم.

ولكن بعض رجال عليّ خرجوا عليه في ذلك الوقت، وألفوا منهم جيشاً مستقلاً وسموا بالخوارج، وقالوا إن الخليفة يجب أن يختاره الشعب وأن يكون من حقه أن يعزله؛ وكان بعضهم فوضويين دينيين يرفضون كل حكومة ما عدا حكومة الله (9) وكانوا كلهم ينددون بما انغمس فيه حكام الإسلام الجدد من ترف وحب لمتاع الدنيا، وحاول عليّ أن يعيدهم إلى الانضواء تحت لوائه بالحجة والإقناع فلم يفلح، ثم استحالت تقواهم تعصباً، وعبروا عنها بأعمال اتسمت بالعنف

ص: 79

والإخلال بالنظام، فلم يسع علياً إلا أن يعلن عليهم الحرب، ويشتت شملهم. واتفق الحكمان في الوقت المحدد لهما على أن يتنحى عليّ ومعاوية عن الخلافة، وأعلن ممثل عليّ خلعه، ولكن عمراً لم يخلع معاوية بل ثبته خليفة للمسلمين. وفي هذا الاضطراب هجم رجل من الخوارج على عليَّ بالقرب من الكوفة وطعنه في رأسه بسيف مسموم (661). وأصبح المكان الذي مات فيه عليَّ مزاراً مقدساً عند طائفة الشيعة التي تقدسه أعظم التقديس، واتخذت ضريحه مكاناً تحج إليه كما يحج سائر المسلمين إلى مكة نفسها.

وبايع المسلمون في العراق الحسن بن عليّ بالخلافة، وزحف معاوية على الكوفة، فاستسلم له الحسن، وقرر له معاوية مالاً يعيش منه، وانسحب الحسن إلى مكة، ومات في الخامسة والأربعين من عمره (669)، فمن قائل إن الخليفة دس له السم، ومن قائل إن زوجة من زوجاته دفعتها الغيرة إلى أن تدسه له. وبايع المسلمون جميعاً معاوية على كره منهم، ولكنه أراد أن يضمن السلامة لنفسهِ، ورأى أن المدينة بعيدة عن مركز العالم الإسلامي والسلطة الإسلامية، فاتخذ دمشق مقراً للخلافة. وهكذا انتصرت الأرستقراطية القرشية على الهاشميين آل بيت النبي، واستحالت "الجمهورية" الدينية، وهي الحكومة التي كانت قائمة أيام الخلفاء الراشدين، ملكية دنيوية وراثية. وحل حكم الساميين في غرب آسية محل حكم الفرس والروم، وطهرت آسية من تلك السيطرة الأوربية التي ظلت قائمة فيها ألف عام، وشكلت بلاد الشرق الأدنى ومصر وشمالي أفريقية بالشكل الذي احتفظت به في جوهره ثلاثة عشر قرناً من الزمان.

ص: 80

الفصل الثاني

‌الخلافة الأموية

661 -

750

يجب علينا ألا نظلم معاوية. لقد استحوذ على السلطة في بادئ الأمر حين عينه الخليفة الفاضل النزيه والياً على الشام، ثم بتزعمه الثورة التي أوقد نارها مقتل عثمان، ثم بما دبره من الدسائس البارعة التي أغنته عن الالتجاء إلى القوة إلا في ظروف جد نادرة، ومن أقواله في هذا المعنى "لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولم أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت" قيل: وكيف يا أمير المؤمنين؟ قال: "إذا مدوها خليتها وإن خلوها مددته"(10).

ولقد كان طريقه إلى السلطة أقل تخضباً بالدماء من طرق معظم من أسسوا أسراً حاكمة جديدة.

وكان يحس كما يحس كثيرون من المغتصبين أنه بحاجة إلى أن يحيط عرشه بالأبهة والمظاهر الفخمة، وتشبه في هذا بأباطرة الدولة البيزنطية، الذين تشبهوا هم أنفسهم بملك ملوك الفرس. وإن بقاء هذا الطراز من الحكومة الملكية الفردية من عهد قورش إلى يومنا ليوحي بصلاحيته لحكم الشعوب الجاهلة واستغلالها. وكان معاوية نفسه يشعر بأن حكمه هذا يبرره ما عاد على البلاد في أثنائه من الرخاء، وانقطاع النزاع بين القبائل، وما بلغته الدولة العربية الممتدة من نهر جيحون إلى نهر النيل من قوة وتماسك. وكان يرى ألا سبيل إلى اتقاء النزاع الذي لابد أن يحدث عند اختيار الخليفة إذا ما اتبع مبدأ الانتخاب، وما يؤدي إليه

ص: 81

هذا النزاع من اضطراب وفوضى، إلا إذا استبدل به النظام الوراثي، فنادى بابنه يزيد وليَّاً للعهد، وأخذ له البيعة من جميع ولايات الدولة العربية.

ومع هذا فإنه لما مات معاوية (680) اشتعلت نار الحرب من أجل وراثة العرش، كما اشتعلت في بداية حكمه. فقد أرسل مسلمو الكوفة إلى الحسين بن عليَّ يَعِدُونَهُ بتأييد اختياره للخلافة إذا جاءهم واتخذ بلدهم مقراً لها. وخرج الحسين من مكة ومعه أسرته وسبعون من أتباعه المخلصين له. ولما أصبحت تلك القافلة على بعد خمسة وعشرين ميلاً في شمال الكوفة قابلتها قوة من جند يزيد بقيادة عبيد الله، وعرض حسين أن يسلم، ولكن من كانوا معه أبوا إلا القتال. وأصاب أحد السهام الأولى قاسماً ابن أخي الحسين وهو غلام في العاشرة من عمره، فمات بين ذراعي عمه، ثم سقط من بعده أخوة الحسين وأبناؤه، وبنو أعمامه، وأبناء أخوته واحداً بعد واحد، حتى لم يبقَ أحد ممن كانوا معه، واستولى الرعب والهلع وقتئذ على النساء؛ ولما حمل رأس الحسين إلى الكوفة أقبل عبد الله ينكثه بالقضيب؛ فقال له أحد الحاضرين:"ارفع قضيبك فطال والله ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع فمه على فمه يلثمه"(11)(680). وأقام الشيعة في كربلاء حيث قتل الحسين مشهداً عظيماً تخليداً لذكراه، ولا يزالون حتى اليوم يمثلون في كل عام مأساة قتله، ويظهرون في ذلك أشد الحزن والأسى، ويمجدون ذكرى عليّ وولديه الحسن والحسين.

كذلك ثار على يزيد عبد الله بن الزبير، ولكن جنود يزيد السوريين هزموه وحاصروه في مكة، وسقطت الحجارة من مجانيقهم في فناء الكعبة، وأنكسر منها الحجر الأسود ثلاث قطع، واشتعلت النار في الكعبة نفسها، والتهمتها عن آخرها (683). ثم رفع الحصار عنها فجأة، فقد مات يزيد واحتيج إلى الجيش في دمشق. وأعقب موته سنتان سادت فيهما الفوضى وتولى الخلافة فيها ثلاثة من الخلفاء جاء بعدهم عبد الملك بن مروان ابن عم معاوية فقضى على

ص: 82

هذا الاضطراب وأخمد الفتنة بشجاعة وقسوة، فلما استتب له الأمر حكم البلاد بكثير من الرأفة، والحكمة والعدالة. وأخضع قائده الحجاج بن يوسف أهل الكوفة وأعاد حصار مكة. ودافع عنها عبد الملك، وكان وقتئذ في الثانية والسبعين من عمره، دفاع الأبطال، وكانت أمه المعمرة تشجعه وتحرضه، ولكنه هُزم وقُتل، وحمل رأسه إلى أمه؛ وبعد أن ظل جسده مصلوباً بعض الوقت اُسلم إلى أمه (692). وفي سني السلم التي أعقبت هذا القتال، أخذ عبد الملك يقرض الشعر، ويناصر الأدب، ويُعنى بشؤون بيتهِ، ويربي أبناءه الخمسة عشر، وقد تولى الخلافة منهم أربعة.

ودام حكمه عشرين عاماً مهد فيها السبيل للأعمال العظيمة التي قام بها ابنه الوليد الأول (705 - 715). ففي عهده واصل العرب فتوحهم، فاستولوا على بلخ في عام 705، وعلى بخارى في عام 709، وفتحوا أسبانيا في عام 711، وسمرقند في 712. وفي الشرق حكم الحجاج البلاد بحزم وجد وقام فيها بأعمال إنشائية لا تقل عما لجأ إليهِ في هذا الحكم من قسوة: فقد جفف المستنقعات، وأصلح كثيراً من الأراضي وأعدها للزراعة، وأعاد فتح ما طمر من قنوات الري وأصلحها. ثم لم يقنع بهذه الأعمال فأحدث انقلاباً كبيراً في طريقة الكتابة باستعمال حركات الإعراب، وكان الحجاج مدرساً قبل أن يكون والياً. أما الوليد نفسه فكان مثلاً طيباً للحكام، يُعنى بشؤون الإدارة أكثر من عنايته بالحرب، ويشجع الصناعة والتجارة بفتح الأسواق الجديدة وإصلاح الطرق، ويُنشئ المدارس والمستشفيات-ومنها أول مستشفى معروف للأمراض المعدية-وملاجئ للشيوخ، والعجزة، والمكفوفين، ويوسع مساجد مكة والمدينة وبيت المقدس ويجملها، وينشئ في دمشق مسجداً أعظم من هذه المساجد وأفخم لا يزال باقياً فيها حتى اليوم. وكان يجد بين هذه المشاغل كلها متسعاً من الوقت يقرض فيه الشعر، ويؤلف الألحان الموسيقية، ويضرب على العود،

ص: 83

ويستمع إلى غيره من الشعراء والموسيقيين، ويخصص من كل يومين يوماً للمنادمة (13).

وخلفه أخوه سليمان (715 - 717)، فأضاع المال والرجال في محاولة فاشلة للاستيلاء على القسطنطينية. وسلى نفسه بالطعام والنساء، ولم يذكره الناس بخير إلا لأنه أوصى بالخلافة لأبن عمه عمر بن عبد العزيز (717 - 720). واعتزم عمر أن يكفر في خلافته عن جميع ضروب الفساد التي ارتكبها أسلافه من خلفاء بني أمية. فجعل حياته كلها وقفاً على إحياء شعائر الدين ونشره فتقشف في لباسه، وارتدى الثياب المرقعة حتى لم يكن أحد يظن أنه هو خليفة المسلمين، وأمر زوجته بأن ترد إلى بيت المال ما أهداه إليها والدها من الحلي النفيسة فُصدعت بالأمر، وأبلغ أزواجه أن واجبات الحكم ستُشغله عن الالتفات إليهن وأذِن لم شئن منهن أن يفارقنه. ولم يلتفت إلى الشعراء، والخطباء، والعلماء الذين كانوا يعتمدون في معيشتهم على بلاط الخليفة، بل قرب إليه أتقى العلماء في الدولة وأتخذهم له أعواناً ومستشارين. وعقد الصلح مع الدول الأجنبية، وأمر برفع الحصار عن القسطنطينية وعودة الجيش الذي كان يحاصرها، واستدعى الحاميات التي كانت قائمة في المدن الإسلامية المعادية لحكم الأمويين. وبينما كان أسلافه من خلفاء الأمويين لا يشجعون غير المسلمين في بلاد الدولة على اعتناق الإسلام، حتى لا تقل الضرائب المفروضة عليهم، فإن عمر قد شجع المسيحيين، واليهود، والزرادشتيين على اعتناقه، ولما شكا إليه عماله القائمون على شؤون المال من هذه السياسة ستفقر بيت المال أجابهم بقولهِ:"والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا"(14).

ولما أراد بعض مستشاريه أن يقفوا حركة الدخول في الإسلام بأن حتموا الختان على معتنقيه فعل عمر ما فعله القديس بولس من قبل، فأمرهم بالاستغناء

ص: 84

عن الختان. ثم فرض قيوداً شديدة على من امتنعوا عن الإسلام، فحرم عليهم مناصب الدولة، ومنعهم من بناء معابد جديدة، ودامت خلافته أقل من ثلاث سنين مرض بعدها ومات.

وكان يزيد الثاني (720 - 724) يختلف كل الاختلاف في أخلاقه وعاداته عن عمر بن عبد العزيز. كان يزيد يحب جارية تُدعى حبيبة بقدر ما كان عمر يُحب الإسلام. وكان قد ابتاعها في شبابه بأربعة آلاف قطعة من الذهب، وأرغمه أخوه سليمان، وكان هو الخليفة في ذلك الوقت أن يردها إلى بائعها، ولكن يزيد لم ينس جمالها وحنانها؛ فلما ولي الخلافة سألته زوجته هل بقي له شيء في العالم يرغب فيه؟. فأجابها "حبيبة" فبعثت زوجته الوفية من فورها إلى حبيبة، وأهدتها إليه، وانزوت هي في مجاهل الحريم ويروى أنه بينما هو يلهو مع حبيبة في يوم من الأيام إذ ألقى أثناء لهوه ببذرة عنب في فمها، فاختنقت وماتت بين ذراعيه. وحزن عليها يزيد حزناً مات من أثره بعد أسبوع من وفاتها.

وحكم هشام (724 - 743) الدولة سبعة عشر عاماً حكماً عادلاً سادت فيه السلم، وأصلح في خلاله الشؤون الإدارية، وخفض الضرائب، وترك بيت المال بعد وفاته مليئاً بالأموال. ولكن فضائل القديس قد تكون سبباً في القضاء على الحاكم: فقد منيت جيوش هشام بعدة هزائم، وثار نقع الفتنة في الولايات، وعم الاستياء العاصمة التي كانت تتوق إلى خليفة مبذر متلاف. وجاء من بعده خلفاء جللوا بالعار تلك الأسرة التي امتاز خلفاؤها الأولون بالقدرة والمهارة، فعاشوا عيشة الترف والفساد، وأهملوا شؤون الحكم. فكان الوليد الثاني (734 - 744) فاسد الخلاق، خارجاً على قواعد الدين، منغمساً في الشهوات البدنية، ولما سمع بنبأ وفاة عمه هشام سره النبأ أيما سرور، وقبض على ابن هشام نفسه، وصادر أموال أهل الخليفة المتوفى، وبدد أموال الخزانة بحكمه الفاسد، وهباته التي لا حد

ص: 85

لها. ويروي عنه أعداؤه أنه كان يسبح في بركة من الخمر، ويشفي منها غلته وهو سابح فيها، وأنه ضرب القرآن بالنبال%=@وهو يقول:

أتوعد كل جبار عنيد، فها أنا ذاك جبار عنيد. إذا لاقيت ربك يوم حشرٍ، فقل لله مزقني الوليد@ وقتل يزيد بن الوليد الأول هذا الخليفة المستهتر الماجن، وتولى الخلافة ستة أشهر ومات في عام 744. وخلفه على العرش أخوه إبراهيم، ولكنه لم يستطع حمايته، فخلعه أحد قوادهِ الأقوياء هو مروان الثاني، وحكم ست سنين مليئة بالمآسي، وكان هو آخر الخلفاء من بني أمية في الشرق.

وإذا نظرنا إلى أعمال الخلفاء من بني أمية من وجهة النظر الدنيوية حكمنا بأن هذه الأعمال قد عادت بالخير على الإسلام. فقد وسعوا حدود البلاد السياسية إلى مدى لم تبلغه قط فيما بعد. وإذا ما استثنينا بعض فترات مشئومة من تاريخهم فإنهم قد حكموا الدولة الجديدة حكماً منظماً حراً. لكن نظام الملكية المطلقة الوراثية أدى إلى ما يؤدي إليه عادةً في جميع البلاد، فتولى الخلافة في القرن الثامن خلفاء عاجزون أفقروا بيت المال، وتركوا شؤون الحكم للخصيان، وفقدوا السيطرة على النزعة الانفرادية العربية، التي حالت في أكثر الأوقات بين المسلمين وبين قيام دولة إسلامية موحدة. وقد ظل النزاع بين القبائل لم تنقطع أسبابه وإن استحال نزاعاً بين الأحزاب السياسية؛ فقد كان بنو هاشم وبنو أمية يكره بعضهم بعضاً، كأن أواشج القربة بينهم قد أضحت أشد وأقرب مما كانت في أيامهم السابقة. ونفرت بلاد العرب ومصر والفرس من سيطرة دمشق عليه؛ وأخذ الفرس يدعون أنهم أرقى من العرب، وأنهم لذلك لا يطيقون أن تحكمهم بلاد الشام، وقد كانوا من قبل لا يدعون أكثر من أنهم لا يقلون شأناً عن العرب. وساء أبناء النبي أن يروا بلاد المسلمين يتولى شؤونها خلفاء من بني أمية الذين كان منهم أشد

ص: 86

أعداء النبي وآخر من آمنوا بهِ، وروعهم فساد أخلاق الخلفاء الأمويين، ولعلهم قد روعهم كذلك تساهلهم الديني، وكانوا يدعون الله أن يرسل من قبله من ينقذهم من هذا الحكم المذل.

ولم يكن ينقص هذه القوى المعادية إلا شخصية قوية مبدعة توجد صفوفها وتنطقها بمطالبها. وقيض لها هذا الزعيم في شخص أبي العباس السفاح حفيد أحد أعمام النبي، فتولى قيادتها من مكمن لها في فلسطين، ونظم الثورة في الولايات واستمال إليه الوطنيين الشيعة في بلاد الفرس فأيدوه أشد التأييد، حتى إذا كان عام 749 نادى بنفسه خليفة في الكوفة. والتقى جيش مروان الثاني بالثوار يقودهم عبد الله عم العباس على نهر الزاب، فهُزم مروان وجيوشه، وبعد عام من هزيمته استسلمت دمشق بعد أن ضُرب عليها الحصار، ثم قُبض بعدئذ على مروان وقُتل وحُمل رأسه إلى أبي العباس، ولكن الخليفة الجديد لم يكتفِ بهذا، وقال:

"لو يشربون دمي لم يروِ شاربهم ولا دماؤهم للغيظ ترويني"

وسمي أبو العباس بالسفاح أي سفاك الدماء لأنه أمر بأن يطارد أمراء بني أمية ويقتلوا أينما وجدوا، ليقضي بذلك على ما عسى أن يقوم به أفراد الأسرة الساقطة من فتن. ونفذ عبد الله، الذي عُين والياً على الشام، هذا الأمر، في يسر وسرعة، فأعلن عفواً عاماً عن الأمويين، وأكده لهم بدعوة ثمانين من زعمائهم إلى وليمة. وبينما هم على الطعام إذا أشار إلى جنودهِ في مخبئهم، فخرجوا عليهم ورموا رؤوسهم بالسيوف، ثم فرشت الطنافس فوق جثث القتلى، واستمرت المأدبة. واستبدل بزعماء الأمويين رجال من العباسيين جلسوا فوق جثث أعدائهم، يشنفون أسماعهم بأنين الموتى. وأخرجت جثث بعض الموتى من خلفاء بني أمية، وسيطت هياكلهم العظمية التي كادت أن تكون عارية من اللحم، وشنقت وحرقت، وذُرَ رمادها في الريح (15).

ص: 87

الفصل الثالِث

‌الخلافة العباسية

(750 - 1058)

‌1 - هرون الرشيد

وجد أبو العباس السفاح نفسه حاكماً لدولة واسعة الأرجاء تمتد من نهر السند إلى المحيط الأطلنطي، وتشمل بلاد السند (الشمال الغربي من الهند)، وبلوخستان وأفغانستان، والتركستان، وفارس، وأرض الجزيرة، وأرمينية، والشام، وفلسطين وقبرص، وكريت، (إقريطش)، ومصر، وشمالي أفريقية. ورفضت أسبانيا المسلمة الخضوع إليه، وخرجت بلاد السند عن طاعته في السنة الثانية عشرة من حكمه. ورأى السفاح أن دمشق تكرهه، وأنه لا يأمن على نفسه في مدينة الكوفة المشاكسة المضطربة، فنقل العاصمة إلى الأنبار الواقعة في شمال الكوفة. وكانت الكثرة الغالبة ممن رفعوه إلى العرش فرساً في ثقافتهم وأصولهم. وبعد أن ارتوى السفاح من دماء أعدائه اصطبغ بلاطه بشيء من الرقة ودماثة الأخلاق الفارسية، وجاءت من بعده طائفة من الخلفاء المستنيرين، استخدموا ثروة الدولة المتزايدة في مناصرة الفنون والآداب، والعلوم، والفلسفة حتى ازدهرت وأثمرت أينع الثمار؛ وبعد أن مضت مائة عام على بلاد الفرس، وهي في ذلة الخضوع غلبت غالبيها.

ومات السفاح بالجدري في عام 754، وخلفه أبو جعفر من أبيه ولقب بالمنصور. وكانت أمه جارية من البربر، وكانت أمهات جميع الخلفاء العباسيين السبعة والثلاثين إلا ثلاثة منهم جواري. وقد أدى إلى

ص: 88

هذا ما جرى عليه الخلفاء

من عادة اتخاذ السراري وجعل أبنائهم منهن أبناء شرعيين. وبهذه الوسيلة كان عدد أفراد الطبقة الأرستقراطية الإسلامية يزداد على الدوام بتأثير المصادفة وطابعها الديمقراطي، ومصائر الحب والحرب. وكان الخليفة الجديد في سن الأربعين، طويل القامة، نحيف الجسم، ملتحياً، أسمر البشرة، شديداً في معاملاته. ولم يكن أسير لجمال النساء أو مدمنا للخمر أو مولعاً بالغناء. ولكنه كان يناصر الآداب، والعلوم، والفنون، ويمتاز بعظيم قدرته، وحزمه، وشدة بطشه، وبفضل هذه الصفات ثبت دعائم أسرة حاكمة لولاه لماتت بموت السفاح. وقد وجه جهوده لتنظيم الأداة الحكومية، وبنى مدينة فخمة هي مدينة بغداد واتخذها عاصمة للدولة، وأعاد تنظيم الحكومة والجيش في صورتيهما اللتين احتفظا بهما إلى آخر أيام الدولة. وكان يشرف بنفسه على كل إدارة في دولاب الحكومة، وعلى جميع أعمال هذه الإدارات، وأرغم الموظفين المرتشين الفاسدين-ومنهم أخوه نفسه-على أن يردوا إلى بيت المال ما ابتزوه من أموال الدولة. وكان يراعي جانب الاقتصاد بل قل الحرص الشديد في إنفاق الأموال العامة، حتى نفر منه الأصدقاء، وأطلق عليه لشحه لقب "أبي الدواثق"(16). وقد أنشأ في بداية حكمه نظام الوزارة الذي أخذه عن الفرس، وكان له شأن عظيم في تاريخ العباسيين. وكان أول من شغل منصب الوزير في عهده خالد ابن برمك. وقد اضطلع بواجب خطير في حكم الدولة، وكان له شأن فيما وقع في أيام الدولة العباسية من أحداث جسام. وعمل المنصور وخالد على إيجاد النظام والرخاء اللذين جنى ثمارهما هرون الرشيد.

ومات المنصور بعد أن حكم البلاد حكماً صالحاً دام اثنتين وعشرين سنة وكان موته وهو في طريقه إلى مكة لأداء فريضة الحج. ولم يكن في وسع ابنه المهدي (775 - 785) إلا أن يسلك في حكمه سبيل الخير. وقد شمل عفوه جميع المذنبين إلا أشدهم خطراً على الدولة، وأنفق الأموال الطائلة في تجميل المدن

ص: 89

وناصر الموسيقى والآداب، وأظهر في حكم البلاد كفاية ممتازة. وكانت بيزنطية قد انتهزت فرصة الثورة العباسية لاستعادة بعض الأقاليم التي فتحها العرب في آسية الصغرى، فسير عليها المهدي جيشاً بقيادة ابنه هرون لاسترداد هذه البلاد. وأخرج هرون الروم منها وردهم إلى القسطنطينية، وهدد تلك المدينة نفسها تهديداً اضطر الإمبراطورة إيرينية

(1)

Irene أن تعقد معه صلحاً تعهدت بمقتضاه أن تؤدي للخليفة جزية سنوية مقدارها 70. 000 دينار (832. 000 دولار) (784). ومن ذلك الوقت أطلق المهدي على ابنه اسم هرون الرشيد. وكان قبل ذلك قد اختار ابناً آخر من أبنائه اسمه الهادي ولياً للعهد، فلما رأى ما امتاز به هرون من كفاية عظيمة طلب إلى الهادي أن ينزل عن حقه لأخيه الأصغر. وكان الهادي وقتئذ يقود جيشاً في بلاد الشرق فأبى أن يجيب أباه إلى طلبهِ، ورفض أن يطيع أمره بالعودة إلى بغداد. فخرج المهدي وهرون للقبض عليه، ولكن المهدي توفي في الطريق، وكان حين وفاته في الثالثة والأربعين من عمره. ورأى هرون اتباعه لنصيحة الوزير يحيى بن خالد البرمكي أن يبايع الهادي بالخلافة، على أن يكون هو ولياً للعهد، غير أنه كان في وسع عشرة من الدراويش أن يناموا على بساط واحد فإن ملكين لا تتسع لهما مملكة بأكملها كما يقول السعدي (17) في كتابه. فلم يعترف الهادي لأخيه بولاية العهد، وسجن يحيى، ونادى بابنه ولياً لعهده. ثم مات الهادي بعد زمن قصير (786)، وراجت إشاعة بأن أمه وكانت تفضل عليه هرون، كتمت أنفاسه بوسادة وضعتها على فمه. وارتقى هرون العرش، واتخذ يحيى وزيراً له، وبدأ أشهر حكم في تاريخ الإسلام.

وتصور لنا القصص-وخاصة ألف ليلة وليلة-هرون الرشيد في صور الملك المرح، المثقف، المستنير، العنيف في بعض الأوقات، الكريم الرحيم في أغلب الأحيان، الولع بالقصص الجميلة ولعاً يحمله على أن يسجلها ويحتفظ

(1)

هكذا يسميها المؤرخون العرب. (المترجم)

ص: 90

بها في ديوان محفوظات الدولة (18). وتبدو هذه الصفات كلها فيما كتبه عنه المؤرخون إذا استثنينا منه مرحه؛ ولعل السبب في ذلك أن هذا المرح قد أغضب المؤرخين. فهم يصورونه أولاً وقبل كل شيء في صورة الرجل الورع المتمسك، أشد التمسك بأوامر الدين، ويقولون إنه فرض أشد القيود على حرية غير المسلمين، وإنه كان يحج إلى مكة مرة كل عامين، وإنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة مع الصلوات المفروضة (19). ويقال إنه كان يشرب الخمر، ولكن هذا لم إلا سراً مع عدد قليل من خاصة أصدقائه (20). ويقال إنه تزوج من سبع نساء

(1)

وكان له عدد من السراري رزق منهن بأحد عشر ولداً، وأربع عشرة بنتاً، كلهم وكلهن من الجواري عدا الأمين ابنه من الأميرة زبيدة. وكان كريماً سمحاً في أمواله على اختلاف أنواعها. من ذلك أنه لما أحب ولده المأمون إحدى فتيات قصر أبيه، أهداها إليه الخليفة، ولم يسأله ثمناً لها أن ينظم بعض أبيات من الشعر (21)، لأنه كان يحب الشعر أشد الحب، ويستمتع به استمتاعاً يحمله في بعض الأحيان على أن يثقل الشاعر الذي يعجب بشعره بالهدايا من غير حساب. من ذلك أنه أهدى الشاعر مروان على قصيدة مدحه بها خمسة آلاف قطعة من الذهب (750، 23 دولار)

(2)

، وحلة ثمينة، وعشر جوار من بنات الروم، وجواداً كريماً (22). وكان أحب رفاقه إليه الشاعر الماجن أبو نواس. وكان كثيراً ما يغضب على أبي نواس لسفهه وسوء سيرته، ولكنه كان في كل مرة يصفح عنه لجودة شعره. وقد جمع حوله في بغداد عدداً عظيماُ من الشعراء، والفقهاء، والأطباء، والنحويين وعلماء البلاغة، والراقصات والراقصين، والفنانين، والفكهين المرحين. وكان ينقد أعمالهم وأقوالهم نقد العالم الخبير صاحب الذوق السليم، ويجزيهم عليها بسخاء،

(1)

لعل المؤلف يضيف الجواري إلى الأزواج لأن الإسلام يحرم الزواج بأكثر من أربع. (المترجم)

(2)

يقصد المؤلف بقطة الذهب في هذه الفصول الدينار ويقدره بأربعة دولارات أمريكية وثلاثة أرباع الدولار من نقود هذه الأيام، حسب القوة الشرائية للدينار في تلك الأيام. (المترجم)

ص: 91

ويتلقى في نظير ذلك آلاف القصائد في مديحه والتغني بجوده. وكان هو نفسه عالماً وشاعراً، وخطيباً بليغاً. قوياً (23). ولسنا نعلم في التاريخ كله أن حاشية للملوك قد جمعت مثل ما جمعت حاشية الرشيد من ذوي العقول الراجحة النابهين. وكان يعاصره في غير بلاد الإسلام الإمبراطورة إيرينة في القسطنطينية، والملك شارلمان في فرنسا، ومن قبله بزمن قليل كان يجلس على عرش بلاد الصين تسوان دزونج Tsuan Tsung، ولكن هرون الرشيد بزهم جميعاً في الثراء، والسلطان، وأبهة الملك، والتقدم الثقافي الذي ازدان به حكمه.

غير أن ولعه بالعلم والفن لم يلهه عن مهام الملك. فقد كان يشترك اشتراكاً فعلياً في تصريف شؤون الحكم، ونال شهرة واسعة بعدله في قضائه، وترك الخزانة عند وفاته عامرة بالمال فيها 48. 000. 000 دينار-على الرغم من أبهة الملك التي لم يسبق لها مثيل. وكان يقود جيوشه بنفسه في ميادين القتال، وقد احتفظ بتخوم البلاد سليمة آمنة. غير أنه كان يعهد بالشؤون الإدارية وبالخطط السياسية إلى وزيره الحكيم يحيى. فقد دعا إليه عقب جلوسه على العرش يحيى البرمكي وقال إنه يعهد إليه أمر جميع رعاياه ليحكمهم كما يشاء، ويولي من يشاء، ويصرف الأمور كما يرى، وأيد قوله هذا بأن أعطاه خاتمه (24). وكان هذا إفراطاً خطيراً في ثقته بالوزير، ولكن هرون كان يرى أنه، وهو لا يزال شاباً في الثانية والعشرين من عمره. لم يكمل استعداده بعد لحكم الدولة الواسعة التي آل أمرها إليه؛ وكان عمله هذا تعبيراً عن شكره لرجل كان أستاذاً ومربياً له يدعوه إذا دعاه بوالده، وقد ذاق عذاب السجن في سبيله.

وأثبت يحيى أنه أقدر الحكام في تاريخ العالم كله. لقد كان رجلاً بشوشاً، دمث الأخلاق، جواداً حكيماً، مجداً لا يمل من العمل؛ رفع دولاب الحكومة إلى أعلى درجات الكفاية، وثبت دعائم النظام، وأقر الأمن، ونشر لواء العدالة، وأنشأ الطرق، والجسور، والخانات، واحتفر قنوات الري، فعم

ص: 92

الرخاء جميع ولايات الدولة، وإن كان قد فرض عليها ضرائب عالية ليملأ بها الخليفة وخزانته هو، ذلك أنه هو أيضاً قد حذا حذو سيده في مناصرة الآداب والفنون وقد عين ولديه الفضل وجعفر في منصبين كبيرين من مناصب الدولة، فسارا فيهما أحسن سيرة، وأثريا منهما ثراء عظيماً، فأنشأ القصور، وجمعا حولهما طائفة كبيرة من الشعراء، والندماء، والفلاسفة. وكان هرون يحب جعفر حباً أطلق ألسنة السوء في علاقتهما الشخصية، ويقال إن الخليفة أمر بأن تصنع له جبة ذات طوقين يلبسها هو وجعفر معاً فيبدوان كأنهما رأسان فوق جسم واحد، ولعلهما كانا في هذا الثوب يمثلان حياة بغداد الليلية (25).

ولسنا نعرف بالدقة سبب النكبة المفاجئة التي قضت على سلطان البرامكة. فابن خلدون يقول إن سببها الحقيقي هو "أنهم كانوا قد قبضوا على ناصية الأمور كلها، وتصرفوا بأموال الدولة دون رقيب حتى أصبح الرشيد يطلب المبالغ الصغيرة فلا يجدها إلا بإذن من الوزير (26).

ولعل السبب أنه لما جاوز هرون سن الشباب، ولم يجد في الجري وراء الملاذ الجسمية والعقلية متنفساً لكفاياته ومواهبه، ندم على ما خص به وزيره من قوة وسلطان. وقد حدث أن أمر الخليفة جعفر بأن يقتل أحد الخارجين عليه، فتغاضى جعفر عن الأمر حتى تمكن الثائر من الهرب، ولم يغفر هرون له هذا الإهمال المحبب إلى النفوس. وهناك قصة من طراز قصص ألف ليلة وليلة تقول إن العباسة أخت الرشيد، أحبت جعفر، وأن الرشيد كان قد أقسم بأن يحتفظ بدماء بني هاشم الذي يجري في عروق أخواته صافية نقية لا يخالطها إلا دماء أشراف العرب، وجعفر كما نعلم من أبناء الفرس. وأجاز لهما الخليفة أن يتزوجا؛ على ألا يلتقيا إلا في حضوره. ولكن الحبيبين سرعان ما نقضا هذا العهد، وولدت العباسة لجعفر ولدين دون أن يعلم بذلك الرشيد، فقد اخفيا عنه وأرسلا إلى المدينة ليربيا فيها. وكشفت زبيدة زوج الرشيد هذا

ص: 93

السر، وأفضت به إلى هرون. فبعث في طلب مسرور كبير الجلادين وأمره بقتل العباسة ودفنها في قصره، وأشرف هو بنفسه على تنفيذ هذا الأمر. ثم أمر مسرور أن يضرب عنق جعفر، وأن يأتي إليه برأسه، ونفذ مسرور أمر مولاه. ثم بعث إلى المدينة من يأتيه بولديه، وبعد أن تحدث طويلاً إلى الطفلين الوسيمين، وأبدى إعجابه بهما أمر بقتلهما (803). ثم سجن يحيى والفضل، وسمح لهما بأن يحتفظا بأسرتيهما وخدمهما، ولكنه لم يطلق سراحهما. ومات يحيى بعد عامين من مقتل ولده، كما مات الفضل بعد خمسة أعوام من مقتل أخيه، وصودرت جميع أموال البرامكة، ويقال إنها بلغت 30. 000. 000 دينار (124. 500. 000 دولار أمريكي).

ولم تطل حياة هرون بعد نكبة البرامكة. وظل وقتاً ما يخفف من حزنه وندمه بالعمل الكثير، ويقال إنه كان يرحب بمشاق الحرب نفسها. ولما أن امتنع نقفور الأول إمبراطور بيزنطية عن أداء الجزية التي وعدت إيرينة بأدائها، وجرؤ على المطالبة برد ما أدته الإمبراطورة منها رد عليه هرون بقوله:"بسم الله الرحمن الرحيم. من هرون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، أما بعد، فقد تلقيت رسالتك يا ابن الكافرة، وسيكون الجواب كما تراه عيناك لا ما تسمعه أذناك والسلام"(27). وسار إلى ميدان القتال من فوره، واتخذ مقامه في الرقة ذات الموقع الحربي المنيع على حدوده الشمالية، ونزل إلى الميدان على رأس حملة قوية اخترق بها آسية الصغرى، وقذفت الرعب في قلب نقفور فلم يسعه إلا أن يعود إلى أداء الجزية (806) ورأى الرشيد أن يصطنع شارلمان ليرهب بهِ إمبراطور الروم

فأرسل إليهِ وفداً مثقلاً بالهدايا منها فيل وساعة مائية معقدة التركيب.

ولم يكن هرون وقتئذ قد جاوز الثانية والأربعين من عمره، ومع هذا فإن ولديه الأمين والمأمون شرعا يتنافسان على الخلافة ويتطلعان إلى موته. وأراد هرون أن يخفف من حدة النزاع فقرر أن يرث المأمون الولايات الواقعة في شرق

ص: 94

نهر دجلة، وأن يرث الأمين ما بقي من الدولة، فإذا مات أحد الاثنين آل ملكه إلى أخيه. ووقع الأخوان هذا العهد وأقسما على الكعبة أن يتقيدا به. ولكن حدث في ذلك العام نفسه أن شبت فتنة صماء في خراسان فسار هرون ومعه المأمون لتقليم أظافرها، مع أنه كان يشكو وقتئذ آلاماً شديدة في معدته. فلما بلغ بلدة طوس في شرقي إيران عجز عن الوقوف على قدميه. وجيء له وهو يحتضر بياشين أحد زعماء الثورة، وكان الخليفة قد برح به الألم حتى أفقده عقله فأخذ يؤنب القائد الأسير لأنه اضطره إلى الإقدام على هذه الحملة المهلكة، وأمر أن تقطع أوصاله وشهد بعينيه تنفيذ أمره (29). وفي اليوم الثاني توفي هرون الرشيد في سن الخامسة والأربعين (809).

‌2 - اضمحلال الدولة العباسية

وواصل المأمون الزحف إلى مرو، وعقد اتفاقاً مع الثوار، أما الأمين فعاد إلى بغداد، ونادا بابنه الطفل الرضيع ولياً للعهد، وطالب المأمون بثلاث من الولايات الشرقية، ولما رفض المأمون طلبه أعلن الأمين عليه الحرب. وهزم طاهر قائد المأمون جيش الأمين وحاصر بغداد وكاد أن يدمرها تدميراً، وبعث برأس الأمين إلى المأمون جرياً على تلك العادة التي أضحت سنة متبعة. وكان المأمون وقتئذ في مرو فأمر بالمناداة به خليفة (813)، ولكن بلاد الشام وجزيرة العرب ظلت تقاومه لأنه ابن جارية فارسية ولم تتم بيعته خليفة على بلاد المسلمين ويدخل بغداد إلا في عام 818.

ويعد المأمون هو والمنصور والرشيد أعظم خلفاء بني العباس. نعم إن المأمون لم ينج من الخلتين اللتين شانتا هارون الرشيد، فكان في بعض الأحيان يستشيط غضباً مثله ويقسو كقسوته، ولكنه كان بوجه عام لين العريكة هادئ الطباع، جمع في مجلس الدولة ممثلين لجميع الأديان الكبرى في البلاد كلها

ص: 95

-من مسلمين، ومسيحيين، ويهود، وصابئين، وزردشتيين- وضمن لجميع رعاياه حتى أواخر أيامه حرية الدين والعبادة. وظلت حرية التفكير وقتاً ما هي السنة المألوفة في بلاط الخليفة. ويصف المسعودي مجلساً من المجالس العلمية التي كان يعقدها المأمون في آخر النهار فيقول:

"كان المأمون يجلس كل يوم للمناظرة في الفقه يوم الثلاثاء فإذا حضر الفقهاء، ومن يناظره من سائر أهل المقالات أدخلوا حجرة مفروشة، وقيل لهم: انزعوا إخفاقكم. ثم أحضرت الموائد وقيل لهم: أصيبوا من الطعام والشراب، وجددوا الوضوء فإذا فرغوا أتوا بالمجامر فبخروا وطيبوا ثم خرجوا فاستدناهم حتى يدنوا منه ويناظرهم أحسن مناظرة وأنصفها وأبعدها عن مناظرة المتجبرين، فلا يزالون كذلك إلى أن تزول الشمس ثم تنصب الموائد الثانية فيطعموا وينصرفون"(30).

وكان تشجيع المأمون للفنون، والعلوم، والآداب، والفلسفة أكثر تنوعاً ودقة في عهد هارون، وكان لهذا التشجيع من الأثر أعظم مما كان له في عهد أبيه. فقد أرسل البعوث إلى القسطنطينية، والإسكندرية، وإنطاكية وغيرها من المدن للبحث عن مؤلفات علماء اليونان، وأجرى الأرزاق على طائفة كبيرة من المترجمين لنقل هذه الكتب إل اللغة العربية. وأنشأ مجمعاً علمياً في بغداد ومرصدين فيها وفي تدمر. وكان الأطباء والفقهاء، والموسيقيون، والشعراء وعلماء الرياضة والفلك يستمتعون كلهم بعطاياه، وكان هو نفسه يقرض الشعر، كما كان يقرضه أحد أباطرة اليابان في القرن التاسع عشر، وكما كان يقرضه كل مسلم شريف مهذب في ذلك الوقت.

ومات المأمون في سن مبكرة-في الثامنة والأربعين من عمره (833) -وإن كان قد طال أجله حتى أساء إلى نفسه. ذلك أنه ناصر بسلطته العليا حرية الرأي في الدولة مناصرة شوه بها السنين الأخيرة من حياته لأنها دفعته إلى اضطهاد

ص: 96

أصحاب السنة. وكان أخوه أبو إسحق المعتصم، الذي تولى الخلافة من بعده، مثله ولم يكن في عبقريته. وقد أحاط هذا الخليفة نفسه بحرس خاص مؤلف من 4000 من الجنود الترك، شبيه بالحرس البريتوري الذي أحاط به الأباطرة الرومان أنفسهم، وأصبح هذا الحرس على مر الأيام في بغداد، كما أصبح الحرس البريتوري في روما، صاحب الأمر والنهي في أمور الدولة. وشكا سكان العاصمة من أن جنود المعتصم الأتراك يطوفون الشوارع فوق صهوة الجياد ويرتكبون الجرائم دون أن يعاقبوا على ما يرتكبون. وخشي المعتصم أن يثور عليه السكان فغادر بغداد وبنى لنفسه قصراً في سر من رأى على بعد ثلاثين ميلاً شمالي العاصمة. واتخذ ثمانية من الخلفاء

(1)

هذه الضاحية مسكناً لهم ما بين عامي 836، 892، ودفنوا فيها بعد موتهم، وأقاموا على شقة يبلغ طولها عشرين ميلاً على ضفتي نهر دجلة قصوراً فخمة، ومساجد، وحذا حذوهم كبار موظفي الدولة، فشيدوا البيوت الفخمة، وزينوا جدرانها بالنقوش الجميلة، وأنشئوا فيها الفساقي والحدائق والحمامات. وأراد المتوكل أن يبرهن على صلاحه فانفق 700. 000 دينار (3. 325. 000 دولار) على تشييد مسجد جامع وأنفق ما يقرب من هذا المبلغ في تشييد ضاحية له تعرف بالجعفرية

(2)

أقام بها قصراً يُعرف "بقصر اللؤلؤة" وأحاطها كلها بالبساتين والجداول وقد جمع ما يحتاجه من المال لهذه المباني وما يتصل بها بأن زاد الضرائب، وباع وظائف الدولة لمن

(1)

المعتصم (833 - 842)، والواثق (842 - 847)، والمتوكل (847 - 861)، والمنتصر (861 - 862)، والمستعين (862 - 866)، والمعتز (866 - 869)، والمهتدي (869 - 870)، والمعتمد (870 - 892)، وقد عاد المعتمد قبيل وفاته إلى بغداد.

(2)

يقول الطبري إن اسم الضاحية هو الجعفري: "أمر المتوكل ببناء الماخورة وسماها الجعفري (جزء 11 في أخبار سنة 245). (المترجم)

ص: 97

يؤدي اكبر ثمن لها، وأراد أن يستميل أهل السنة باضطهاد الخارجين عليها، وحرض ابنه حرسه التركي على قتله، وتولى الخلافة من بعده وتسمى بالمنتصر بالله.

وأفسدت العوامل الداخلية أحوال الخلافة قبل أن تقضي عليها القوى الخارجية: فقد أنهك قوى الخلفاء إدمانهم الشراب، وانهماكهم بالشهوات، واللهو، والترف، والبطالة، فجلس على سرير الملك طائفة من الخلفاء الضعفاء فروا من مهام الحكم إلى ملذات الحريم المضعفة للجسم والعقل. وكان لازدياد الثروة، واستمهاد الراحة، وانتشار التسري وتفشي اللواط، كان لهذه الرذائل من الأثر في طبقة الحكام لها في الخلفاء، وتعدى ذلك إلى الشعب نفسه، فضعفت صفاته الحربية. ولم يكن من طبيعة هذا الضعف وعدم النظام أن يخلق اليد القوية التي كانت البلاد في أشد الحاجة إليها لتجمع شتات هذا الخليط المتفرق المتباين من الولايات والقبائل. وكثيراً ما أسفرت العداوة العنصرية والإقليمية عن ثورات، فلم يكن العرب، والفرس، والسوريون، والبربر، والمسيحيون، واليهود، والأتراك، لم يكن هؤلاء جميعاً يجتمعون إلا على احتقار بعضهم بعضاً، وزاد الطين بلة أن الدين الذي كان من قبل يجمع شملهم ويوحد صفهم قد تفرق شيعاً، وزادت حدة الانقسامات السياسية والجغرافية، وكانت هي المعبرة عن هذه الانقسامات. وكان لإهمال وسائل الري أثر كبير في ضعف الدولة وفساد أحوالها. وذلك أن نظام الري هو مصدر حياة بلاد الشرق الأدنى وهلاكه معاً. فالقنوات التي تمد الأرض بالماء تحتاج على الدوام إلى الكثير من الحراسة والتطهير يعجز عنها الأفراد والأسر. فلما عجزت الحكومة عن تعهد هذه القنوات أو أهملتها، قلت موارد الطعام عن مجاراة نسبة ازدياد السكان، وكان لابد من أن يهلك الناس من الجوع حتى لا يختل التوازن بين هذين العاملين الأساسيين اللذين لهما شأن عظيم في تاريخ العالم. غير أن ما حل بالأهلين من فقر بسبب القحط والوباء لم يكن في معظم الأوقات ليغل أيدي جباة الضرائب أو يخفف من قسوتهم. فكان

ص: 98

الفلاحون، والصناع، والتجار يرون مكاسبهم تذهب كلها للوفاء بنفقات الحكومة وأبهة الحكام، فانعدم الحافز للعمل والإنتاج، والتوسع فيهما، والمغامرة والإقدام. وانتهى الأمر بأن عجزت موارد الدولة عن الوفاء بحاجة الحكومة، وقلت الإيرادات، ولم يعد في وسع الحكام أن يؤدوا أجور الجند بانتظام، أو أن يسيطروا عليهم. ويضاف إلى هذا أن الترك قد حلوا محل العرب في القوات المسلحة، كما حل الألمان محل الرومان في جيوش روما، وكان رؤساء الجند الأتراك من عهد المعتصم إلى آخر أيام الدولة العباسية هم الذين يرفعون الخلفاء إلى العرش ويسقطونهم، ويأمرونهم، ويغتالونهم. وأصبحت قصور الخلفاء في بغداد مباءة للدسائس الدنيئة، والاغتيالات وسفك الدماء، مما جعل الخلافة العباسية في آخر أيامها غير خليقة بأن يبقى التاريخ على ذكرها.

وكان ضعف النشاط السياسي والقوة الحربية في عاصمة الدولة سبباً في تمزيق شملها وتقطع أوصالها. فأصبح الولاة يحكمون ولاياتهم دون أن يكون للخلفاء في العاصمة سلطان عليهم اللهم إلا سلطاناً اسمياً غير ذي بال. وأخذوا يعملون ليحتفظوا لأنفسهم بمناصبهم طول حياتهم، ثم لم يكتفوا بهذا بل عملوا على أن يرثها من بعدهم أبناؤهم. وكانت بلاد الأندلس قد أعلنت استقلالها عن الخلافة العباسية في عام 756، وحذت حذوها مراكش في عام 788، وتونس في 801 ومصر في 868. وبعد تسع سنين من ذلك العام الأخير استولى أمراء مصر على الشام، وحكموا الجزء الأكبر منها حتى عام 1076 وكان المأمون قد كافأ قائده طاهر بأن عينه حاكماً على خراسان وجعل ولايتها وراثية في أبنائه من بعده. وحكمت هذه الأسرة الطاهرية بلاد الفرس حكماً شبه استقلالي حتى حلت محلها أسرة الصفارين (872 - 903)، وفيما بين عامي 929، 944 استولت أسرة من الشيعة هي أسرة بني حمدان على شمالي الجزيرة والشام، ورفعوا من شأن حكمهم بأن جعلوا الموصل وحلب مركزين عظيمين من مراكز الحياة الثقافية في

ص: 99

العالم الإسلامي. وكان سيف الدولة الحمداني (944 - 967) شاعراً بليغاً، اجتمع في بلاطه في حلب الفيلسوف الفارابي، والشاعر العظيم المتنبي أحب الشعراء الأقدمين إلى قلوب الأدباء العرب. واستولى بنو بويه أبناء أحد زعماء البلاد الجبلية المجاورة لبحر الخرز على أصفهان وشيراز، ثم استولوا آخر الأمر على بغداد نفسها في عام 945. وظل الخلفاء أكثر من مائة عام يأتمرون بأمرهم حتى لم يكن أمير المؤمنين أكثر من رئيس لأهل السنة من المسلمين، بينما كان الأمير البويهي الشيعي هو المسيطر على شؤون الدولة الآخذة رقعتها في النقصان. ونقل عضد الدولة أعظم أمراء بني بويه (949 - 983) عاصمته إلى شيراز وهي مدينة من أجمل مدن الإسلام، ولكنه كان ينفق المال بسخاء على غيرها من مدن مملكته، واستعادت بغداد أيامه وأيام من خلفوه من الأمراء بعض ما كان لها من المجد في أيام هارون الرشيد.

وفي عام 874 أقام أبناء سامان، وهو شريف من أتباع زرادشت، أسرة سامانية حكمت خراسان وما وراء نهر جيحون حتى عام 999. وفي عهد هذه الأسرة كانت بخارى وسمرقند مركزين للعلوم والفنون تنافسان فيهما بغداد نفسها، وإن لم يكن من عادتنا إذا ذكرنا هذا الإقليم أن نعده ذا شأن عظيم في تاريخ العلوم والفلسفة. وعادت اللغة الفارسية فيه إلى الحياة وأصبحت أداة للتعبير عن أدب راق عظيم. وبسط السامانيون رعايتهم على ابن سينا أعظم فلاسفة العصور الوسطى جميعها، وفتحوا له أبواب مكتبة بلادهم العظيمة الغنية بما فيها من المؤلفات، وأهدى الرازي أعظم أطباء العصور الوسطى إلى أحد الأمراء الأمراء السامانيين كتابه المنصوري وهو كتاب جامع ضخم في الطب. ثم استولى الأتراك في عام 990 على مدينة بخارى وقضوا في عام 999 على الأسرة السامانية. فقد كان المسلون في ذلك الوقت يحاربون ليقفوا زحف الأتراك نحو الغرب، كما ظل الرومان ثلاثة قرون يحاربون ليصدوا زحف العرب، وكما كافح الترك فيما بعد

ص: 100

ليقفوا تيار المغول الجارف. ذلك أن ما ينشأ من تكاثر السكان من ضغط شديد على وسائل العيش يؤدي من حين إلى حين إلى هجرات ضخمة تطغى أهميتها على غيرها من حوادث التاريخ.

وفي عام 962 غزا جماعة من المغامرين الأتراك القادمين من التركستان بلاد الأفغان. وكان يقودهم عبد محرر يدعى البتجين، واستولوا على غزنة وأقام فيها أسرة غزنونية. وخلف البتجين سبكتكين (976 - 997)؛ وكان أولاً مولى من مواليه، ثم زوج أبنته. وقد مد حدود ملكه حتى شمل بيشاور وبعض خراسان، ثم استولى أبنه محمود (998 - 1030) على جميع بلاد الفرس من الخليج الفارسي إلى نهر جيحون، وبعد سبعة عشر معركة حامية امتازت بضروب من القسوة أضاف البنجاب إلى ملكه، كما أضاف كثيراً من أموال الهند إلى خزائنه. ولما أتخمه النهب، وضاق ذرعاً بالتعطل الناشئ من تسريح جنوده، أخ ينفق بعض ماله، ويستخدم بعض رجاله، في تشييد مسجد غزنة وهو المسجد الكبير الذي يقول فيه أحد المؤرخين المسلمين:(العتبي-أبو النصر محمد في كتابه اليميني أو الرسالة اليمينية):

"وأمام هذا البيت مقصورة بتعاريج عليها منصوبة تسع ثلاثة آلاف

(1)

متى شهدوا الفرض أخذوا أماكنهم فيها صفوفاً وأقبلوا على انتظار الأذان عكوفاً، وأضيف إلى المسجد مدرسة فيحاء تشمل بيوتها من بساط الأرض إلى مناط السماء على تصانيف الأئمة الماضين من علوم الأولين والآخرين

ينتابها فقهاء دار الملك وعلماء التدريس والنظر في علوم الدين، على كفاية ذوي الحاجة، فمنهم من يهمهم جراية وافرة، ومعيشة حاضرة. وقد اقتطع من دار الإمارة إلى البيت الموصوف طريق يفضي إليه في أمن ابتذال العيون اللوامح واعتراض الرجال

(1)

يقول الطبري إن اسم الضاحية هو الجعفري: "أمر المتوكل ببناء الماخورة وسماها الجعفري (جزء 11 في أخبار سنة 245). (المترجم)

ص: 101

من بين صالح وطالح فيركب إليه وقور سكينة وشمول طمأنينة (31) ". واستقدم محمود إلى هذه المدرسة وإلى بلاطه كثيراً من العلماء منهم البيروني، وكثيراً من الشعراء ومنه الفردوسي صاحب الشاهنامة أعظم قصيدة في الأدب الفارسي؛ وقد أهداها إليه عن كره منه. وكان محمود في ذلك الوقت أعظم رجال العالم كله من نواح عدة، ولكن مملكته انتقلت بعد سبع سنين من وفاته إلى أيدي الأتراك السلاجقة.

ونحن نخطئ إذا صورنا الترك في صورة أقوام همج، فمن حقهم علينا ـأن نقول إنهم حين أغاروا على بلاد الإسلام كانوا قد اخذوا ينتقلون من طور الهمجية إلى طور الحضارة، شأنهم في هذا شأن الفيالق الألمانية التي غزت بلاد الإمبراطورية الرومانية. لقد اخذ الأتراك الساكنون في شمالي آسية الوسطى يتحركون نحو العرب من إقليم بحيرة بيكال، وكانوا قد نظموا أنفسهم في القرن السادس الميلادي جماعات يتزعم كلاً منها خان أو شاغان. وكانوا يصهرون الحديد الذي يستخرجونه من جبالهم، ويصنعون منه أسلحة صلبة كصلابة قوانينهم التي لم تكن تكتفي بجعل الإعدام جزاء الخيانة والقتل، بل كانت تجعله أيضاً عقاباً على الزنى والجبن. وكان خصب نسائهم يفوق قتلى حروبهم، ولم يحل عام 1000 م حتى كان فرع من أولئك الأتراك يسمون السلاجقة نسبة إلى زعيمهم سلجوق قد سيطروا على ما وراء نهر جيحون وعلى بلاد التركستان. وظن محمود الغرنوي أن في مقدوره أن يقف زحف هذه القوة التركية المنافسة له، فقبض على أحد أبناء سلجوق وسجنه في الهند (1092). ولكن هذا العمل لم يفت في عضد السلاجقة بل أثار ثائرتهم فزحفوا بقيادة زعيمهم طغرل بك المحنك الشديد البأس واستولوا على معظم بلاد الفرس، ثم شرعوا يمهدون السبيل لتقدمهم في المستقبل، فأرسلوا وفداً إلى الخليفة القائم بأمر الله في بغداد ليبلغه أنهم يعتنقون الإسلام. وكان الخليفة يرجوا أن ينقذه هؤلاء المحاربون البواسل من سيطرة بني بويه، فأرسل

ص: 102

إلى طغرل بك يدعوه لمعونته. ولبى طغرل الدعوة فأقبل في عام 1055، وفر بنو بويه من بغداد. وتزوج القائم بابنة أخي طغرل وخلع عليه لقب "ملك الشرق والغرب"(1085). وأخذت الأسر الصغيرة في غربي آسية الإسلامي تسقط أسرة بعد أسرة أمام السلاجقة وتعترف بسيادة بغداد عليها. ولقب الحكام السلاجقة أنفسهم بلقب سلطان ولم يتركوا للخليفة إلا الزعامة الدينية، ولكنهم بعثوا في الأداة الحكومية حيوية جديدة وكفاية لم تكن لها قبل مجيئهم، كما بعثوا في الإسلام قوة جديدة من الإيمان الصادق السليم. ولم يفعل السلاجقة ببلاد الإسلام ما فعله المغول بعد مائتي عام من ذلك الوقت، فهم لم يخربوا البلاد التي فتحوها، ولم يمضِ عليهم إلا قليل من الوقت حتى أشربوا روح الحضارة التي أقبلوا عليها، وألفوا من الأشلاء المتناثرة للدولة المحتضرة إمبراطورية جديدة، وبعثوا فيها من القوة ما استطاعت به أن تصمد لذلك النزاع الطويل بين المسيحية والإسلام، الذي نطلق عليه اسم الحروب الصليبية، وتخرج منه ظافرة منتصرة.

ص: 103

الفصل الرّابع

‌أرمينية

(325 - 1060)

امتدت فتوح الأتراك السلاجقة إلى أرمينية في عام 1060 م.

لقد ظلت هذه البلاد البائسة قروناً طوالاً مطمعاً للإمبراطوريات الكبيرة المتنافسة التي أنشبت فيها مخالبها، لأن جبالها حالت بينها وبين اتحادها للدفاع عن نفسها، بينما كانت وديانها طرقاً ميسرة بين بلاد النهرين والبحر الأسود. واقتتلت بلاد الفرس واليونان لامتلاك هذه الطرق للانتفاع بها ي التجارة والحرب، واجتازتها جنود أكسانوفون العشرة الآلاف، واحتربت من أجلها روما وفارس وبيزنطية والإسلام، والروسيا وبريطانيا. ولكن أرمينية ظلت مستقلة من الوجهة الفعلية رغم ما حاق بها من الضغط الخارجي أو السيطرة الخارجية محتفظة بما لها من نشاط اقتصادي قوي في التجارة والزراعة، ومن استقلال ثقافي أثمر فيها دينها الخاص وآدابها وفنونها. وكانت هي أولى الأمم التي جعلت المسيحية دين الدولة الرسمي (303). وانحازت إلى جانب اليعاقبة في الجدل الذي قام حول طبيعة المسيح، وأبت أن تعترف بأنه يجوز عليه من أسباب الضعف ما يجوز على الجسم البشري. وانفصل الأساقفة الأرمن في عام 491 عن الكنيستين اليونانية والرومانية وأنشئوا لهم كنيسة أرمنية مستقلة لها رئيسها الخاص. وظلت الآداب الأرمنية تُكتب باللغة اليونانية إلى أوائل القرن الخامس بعد الميلاد حين اخترع الأسقف مسروب حروفاً هجائية خاصة بها وترجم التوراة إلى اللغة الأرمنية، وأصبح للبلاد من ذلك الحين أدب أرمني غزير معظمه أدب ديني وتاريخي.

ص: 104

وظلت تلك البلاد خاضعة بالاسم إلى سلطان الخلفاء من عام 642 م إلى عام 1046، ولكنها كانت طوال هذه المدة صاحبة السيادة على نفسها مستمسكة بمسيحيتها. وأقامت أسرة البرجتوني Bagrtuni في القرن التاسع الميلادي أسرة حاكمة اتخذت رئيسها لقب "أمير الأمراء"، وأنشأت لها عاصمة في آني Ani، وظلت البلاد في عهدها أجيالاً عدة تنعم بالتقدم والسلام النسبي وكان أشوت Ashot الثالث (952 - 977) أميراً محبوباً، شاد كثيراً من الكنائس، والمستشفيات والأديرة، والملاجئ، ولم يكن يجلس للطعام (كما يقول الرواة) إلا إذا كان الفقراء معه على مائدته. وبلغ رخاء البلاد غايته في عهد ابنه جاجيك Gegik الأول (وما اغرب ما تبدو أسماؤنا نحن للأرمن)، فقد كثرت فيها المدارس، وأثرت المدن بفضل انتشار التجارة، وازدانت بأعمال الفن، وأصبحت قارص مركزاً للأدب وعلوم الدين والفلسفة تنافس فيها آني. وكان في هذه المدينة الثانية قصور فخمة، وكنيسة كبرى (حوالي عام 980)، جمعت بين الطرازين الفارسي والبيزنطي؛ فكان فيها مجاميع من العمد والأكتاف، والعقود المستديرة والمستدقة في أعاليها، إلى غير هذه من الخصائص التي دخلت فيما بعد في الفن القوطي، ولما أن دمر زلزال قبة أيا صوفيا بالقسطنطينية في عام 989 عهد إمبراطور بيزنطية إلى تاردات Tardat مهندس كنيسة آني أن أعيد بناؤها، وكان ذلك واجباً من أشق الواجبات وأعظمها خطورة (32).

ص: 105

الباب الحادي عشر

‌أحوال البلاد الإسلامية

(638 - 1058)

الفصل الأوَّل

‌الحال الاقتصادية

تنشأ الحضارة من عاملين أساسيين هما الأرض والعمل-ومن موارد الأرض الطبيعية تحولها رغبات الإنسان وجهوده وتنظيمه إلى ما فيه منفعته. فمن وراء المظاهر الخارجية لحاشية الملوك والقصور، والهياكل، والمدارس، والآداب، والترف، والفنون، ومن تحتها يقف الإنسان أحد العاملين الأساسيين في الحضارة، الإنسان الصياد يأتي بالصيد من الغاب؛ والحطاب يقطع الأشجار منها؛ والراعي يرعى قطعانه ويربيها؛ والفلاح يمهد الأرض، ويحرثها، ويزرعها، ويحصد غلاتها، ويعنى بالحدائق، والكروم، ويربي النحل، والدواجن الطيور؛ والمرأة تنهمك في مئات الصنائع اليدوية والأعمال المنزلية؛ والعامل ينقب عن المعادن في باطن الأرض، والبناء يقيم المنازل ويصنع المركبات والسفن؛ والصانع ينتج السلع والأدوات، والبائع الجائل، أو صاحب الحانوت، أو التاجر يجمع بين الصانع والمستهلك ويفرق بينهما، والمستثمر يمد الصناعات بأمواله المدخرة؛ والمدير المنفذ يسخر الجهود العضلية، والمواد الأولية، والعقول لإنشاء الخدمات وإيجاد السلع. أولئك هم العمال القلقون الصابرون رغم صبرهم الذين تركب على ظهورهم المتمايلة المتأرجحة حضارة العالم المزعزعة.

ص: 106

وكان هؤلاء كلهم جادين عاملين في بلاد الإسلام. فكان الرجال يربون الماشية والخيل، والإبل، والمعز، والفيلة، والكلاب؛ ويسطون على عسل النحل، ولبن الإبل، والمعز، والبقر، وينتجون مائة نوع من الحبوب، والخضر والفاكهة، والنقل، والأزهار. لقد جاء العرب إلى بلادهم بشجرة البرتقال من الهند في وقت ما خلال القرن العاشر الميلادي، وأدخلوا في بلاد الشام، وآسية الصغرى، وفلسطين، ومصر، وأسبانيا ثم انتقلت من هذه البلاد إلى جميع أنحاء أوروبا الجنوبية (1). كذلك نقل العرب زراعة قصب السكر، وصناعة السكر نفسه وتكريره من الهند ونشروهما في جميع أنحاء الشرق الأدنى، ومن تلك البلاد نقلها الصليبيون إلى أوطانهم (2)؛ وكان العرب أول من زرع القطن في أوروبا (3)، وقد استطاعوا إنتاج هذه المحاصيل من أرضين معظمها جدب قاحل بفضل وسائل الري النظم؛ ولم يجر الخلفاء في الميدان على سنتهم المألوفة من ترك الشؤون الاقتصادية للمشروعات الحرة، بل كانت الحكومة تشرف على قنوات الري الرئيسية وتتعهدها بالصيانة والتطهير، فأوصلت ماء الفرات إلى أرض الجزيرة، وماء دجلة إلى أرض فارس، وشقت قناة كبيرة بين النهرين التوأمين عند بغداد. وكان خلفاء الدولة العباسية الأولون يشجعون الأعمال الخاصة بتجفيف المستنقعات وتعمير القرى المخربة والضياع التي هجرها سكانها. وكان الإقليم المحصورة بين بخارى وسمرقند يعد في أثناء القرن العاشر "إحدى الجنات الأرضية الأربع"-وكانت الثلاث الأخرى هي جنوبي فارس، وجنوبي العراق، والإقليم المحيط بدمشق في بلاد الشام.

وكان الذهب والفضة، والحديد، والرصاص، والزئبق، والإثمد، والكبريت، وحجر الفتيلة (الأسبستوس)، والرخام، والحجارة الكريمة تستخرج كلها من باطن الأرض وكان الغواصون يستخرجون اللؤلؤ من الخليج الفارسي، واستخدم

ص: 107

العرب النفط والقار في بعض أعمالهم، فقد وجد بين محفوظات هارون الرشيد ورق سجل فيها ثمن النفط والعشب اللذين استخدما في حرق جثة جعفر (4)، وكانت الصناعة لا تزال في مرحلة العمل اليدوي، يقوم بها الأهلون في البيوت والحوانيت، وينتظمون في طوائف. وقل أن تعثر في البلاد الإسلامية في ذلك الوقت على مصانع بالمعنى الحديث، ولا نجد دليلاً واضحاً على ارتقاء الفنون الصناعية فوق المرحلة اليدوية والجهود العضلية إذا استثنينا الطواحين الهوائية. فالمسعودي أحد مؤرخي القرن العشر يقول إنه شاهد هذه الطواحين في فارس وبلاد الشرق الأدنى، مع أننا لا نجد أثراً لها في أوروبا قبل القرن الثاني عشر، ولعلها كانت هدية أخرى أهداها الشرق الإسلامي إلى أعدائه الصليبيين (5). وكان العرب على جانب كبير من المهرة الآلية الفنية، وشاهد ذلك أن الساعة المائية التي أهداها هارون الرشيد إلى شارلمان قد صُنعت من الجلد والنحاس الأصفر المنقوش. وكانت تدل على الوقت بفرسان من المعدن يفتحون كل ساعة باباً يسقط منه العدد المطلوب من الكرات على صنجة، ثم ينسحبون ويغلقون الباب (6). وكان الإنتاج بطيئاً، ولكن الصانع في وسعه أن يُظهر مهارته فيما ينتجه من تحف وأدوات كاملة الصنع، وكاد يجعل من كل صناعة فناً. واشتهرت المنسوجات الفارسية، والشامية، والمصرية بجمالها الفني الرائع الذي كان يتطلب من الصناع مهارة وصبراً؛ فاشتهرت الموصل بنسج القطن الرفيع "الموصلين"، ودمشق بنسيج التيل "الدمقس"، وعدن بالصوف. واشتهرت دمشق أيضاً بالسيوف المصنوعة من الصلب المسقى؛ وصيدا وصور بزجاجهما الذي لا يدانيه في رقته وصفائه، وبغداد بزجاجها وخزفها، والري بخزفها، وإبرها، وأمشاطها؛ واشتهرت الرقة بزيت الزيتون والصابون، وفارس بالروائح العطرية والطنافس. وبلغت بلاد آسية الغربية تحت حكم المسلمين درجة من الرخاء الصناعي والتجاري لم تصل إليها بلاد أوروبا الغربية قبل القرن السادس عشر (7).

ص: 108

وكانت أهم وسائل النقل البري هي ظهور الإبل، والخيل والبغال والرجال، لكن الحصان كان بوجه عام أثمن من أن يستخدم في حمل الأثقال، وفيه يقول أعرابي "لا تسمه حصاني، بل سمه ولدي؛ فهو في عدوهِ أسرع من الريح ومن طرفة العين

وقد بلغ من خفة قدمه أنه يستطيع أن يرقص فوق صدر حبيبتك ولا يؤذيها" (8). ومن اجل هذا كان الجمل "سفينة الصحراء" يحمل معظم تجارة العرب، وكانت قوافل يصل عدد جمالها إلى 4. 700 جمل تخترق بلاد العالم الإسلامي. وكانت طرق كبرى تتشعع من بغداد وتمر بالري وسينابور، ومرو، وبخارى، وسمرقند، إلى كاشغر وحدود بلاد الصين؛ أو إلى البصرة فشيزار؛ أو إلى الكوفة فالمدينة، ومكة وعدن، أو إلى ساحل بلاد الشام مجتازة الموصل أو دمشق. وأنشئت النزل، والخانات، والمضايف، وصهاريج الماء في الطرق ليستقي منها المسافرون والدواب. وكانت التجارة الداخلية واسعة تنتقل في الأنهار والقنوات. وقد فكر هارون الرشيد في حفر قناة تربط البحرين المتوسط والأحمر في موضع قناة السويس وخططها، ولكن يحيى البرمكي لم يشجعه على حفرها لأسباب لا نعرفها ولعلها أسباب مالية (6). وقد أنشئت على نهر دجلة عند بغداد، حيث يبلغ عرضه 750 قدماً، ثلاثة جسور محملة علة قوارب.

وكانت تجارة عظيمة تمر بهذه الشرايين، وكان من المزايا الاقتصادية التي يستمتع بها غرب آسية أن حكومة واحدة تسيطر على هذا الإقليم الذي كان فيما مضى مقسماً بين أربع دول؛ فقد كان من آثار هذه الوحدة أن ألغت في داخلها جميع العوائد الجمركية وغيره من العوائق التجارية، هذا إلى أن العرب لم يكونوا كأشراف الأوربيين يسخرون من التجار ويزدرونهم، ولهذا لم يلبثوا أن انضموا إلى المسيحيين واليهود والفرس في نقل البضائع من المنتج إلى المستهلك بأقل ما يمكن من الربح لكليهما، فغصت المدائن والبلدان بوسائل النقل والمقايضة والبيع والشراء؛ وكان البائعون

ص: 109

الجائلون ينادون على سلعهم أمام النوافذ الشبكية، والحوانيت تعرض بضائعها أو تتردد في أصداء المساومات، والموالد والأسواق تغص بالمتاجر والتجار والبائعين، والمشترين، والشعراء، والقوافل تربط الصين والهند بفارس والشام ومصر، وكانت الثغور أمثال بغداد، والبصرة، وعدن، والقاهرة، والإسكندرية، تبعث بالتجار يجوبون البحار. وظلت التجارة الإسلامية هي المسيطرة على بلاد البحر المتوسط إلى أيام الحروب الصليبية، تنتقل من الشام ومصر في أحد الطرفين إلى تونس، وصقلية، ومراكش وأسبانيا في الطرف الآخر، وتمر في طريقها ببلاد اليونان، وإيطاليا، وغالة. وانتزعت السيطرة على البحر الأحمر من بلاد الحبشة، وتجاوزت بحر الخرز إلى منغوليا، وصعدت في نهر الفلجا Yolga من أستراخان إلى نوفجرود؛ وفنلندة، واسكنديناوة، وألمانيا حيث تركت آلافاً من قطع النقود الإسلامية. ولما أن قدمت سفن صينية لزيارة البصرة رد العرب الزيارة بإرسال سفائنهم من الخليج الفارسي إلى الهند وسرنديب، ثم اجتازت المضيق الذي يفصل بينهما، وسارت بإزاء الساحل الصيني إلى خنفو (كنتون) واستقرت في هذا الثغر جالية إسلامية ويهودية في القرن الثامن الميلادي (10). ووصل هذا النشاط التجاري الذي بعث الحياة قوية في جميع أنحاء البلاد إلى غايته في القرن العاشر أي في الوقت الذي تدهورت فيه أحوال أوروبا إلى الدرك الأسفل، ولما أن اضمحلت هذه التجارة أبقت آثارها واضحة في كثير من اللغات الأوربية فأدخلت فيها ألفاظاً مثل Bazaa، Cravan، Magazine، Tariff

(1)

.

وكانت الدولة تترك للصناعة والتجارة حريتهما وتساعدهما بإيجاد عملة ثابتة مستقرة إلى حد كبير. وكان الخلفاء الأولون يستخدمون النقود البيزنطية والفارسية حتى تولى الخلافة عبد الملك بن مروان فسك في عام 695 عملة عربية من الذهب

(1)

اللفظان الأولان من أصل عربي وهما التعريفة والمخزن، الثالث والرابع من أصل فارسي. (المترجم)

ص: 110

هي الدينار وأخرى من الفضة هي الدرهم. ويصف ابن حوقل (حوالي 975) صكاً كان تعهداً بالدفع قيمته 42. 000 دينار مصدراً إلى تاجر في مراكش. وقد اشتقت من كلمة صك الدالة على هذه الوثيقة الكلمة الإنجليزية Check وكن ذوو المال يستثمرون أموالهم في الأسفار البحرية والبرية، ومع أن الربا محرم في الإسلام فإن المشتغلين بالشؤون المالية لم يعدموا وسيلة لأداء جزء من الربح لأصحاب رؤوس الأموال نظير استخدامها في هذه الأعمال وما تتعرض له من الأخطار كما فعل الأوربيون فيما بعد.

وكان القانون يحرم الاحتكار ولكنه كان منتشراً رغم هذا التحريم، ولم يكد يمضي على موت عمر بن الخطاب مائة عام حتى جمع أفراد الطبقات العليا من العرب ثروات طائلة وعاشوا في ضياع مترفة يقوم بالعمل فيها مئات من الأرقاء (11) ويقال إن يحيى البرمكي عرض سبعة آلف درهم (560. 000 دولار أمريكي) ثمناً لصندوق للآلئ مصنوع من الحجارة الكريمة، وإن صاحبه أبى أن يبيعه بهذا الثمن؛ وإن الخليفة المكتفي، إذا جاز لنا أن نصدق الأرقام التي يوردها مؤرخو العرب، ترك حين وفاته ما قيمته 20. 000. 000 دينار

(1)

(94. 500. 000 دولار أمريكي) من الجواهر والعطور (12). ولما أن عقد هارون الرشيد لابنه المأمون على بوران نثرت جدتها على العريس بدرة من اللؤلؤ، ونثر والدها على المدعوين كرات من المسك تحتوي كل منها على وثيقة تعطي صاحبها الحق في عبد

(1)

كلمة دينار مشتقة من اللفظ الروماني ديناريوس، وكان يحتوي على 56 جراماً من الذهب أو 135 ومن الأوقية: أو ما قيمته 4. 725 دولار حسب قيمة الذهب في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1947. وسنقدره نحن في هذا الباب تقديراً تقريبياً بــ 4. 75 دولارات. أما كلمة درهم فهي مشتقة من كلمة درخمة اليونانية، وكان الدرهم يحتوي على ثلاثة وأربعين جراماً من الفضة وتبلغ قيمتها نحو 8 slash 100 من الدولار الأمريكي. ولما كان مقدار ما في الدرهم من الفضة قد تغير كثيراً فإن تقديرنا لقيمتهِ تقريبي بطبيعة الحال.

ص: 111

أو جواد، أو ضيعة، أو هدية أخرى (13)، ولما أن صادر المقتدر 16. 000. 000 دينار من ثروة ابن الجساس، بقيت لهذا الصائغ الشهير بعد ذلك ثروة طائلة. وكانت ثروة بعض التجار ذوي الصلة بالأقطار النائية وراء البحار لا تقل عن 4. 000. 000 دينار، وكان مئات التجار يملكون بيوتاً تتراوح نفقاته بين عشرة آلاف وثلاثين ألف درهم (142. 500 دولار)(14).

وكان مركز العبيد في الطبقة الدنيا من بناء الدولة الاقتصادي. ولربما كان عددهم في الإسلام بالنسبة لعدد السكان أكثر من المسيحية حيث كان أرقاء الأرض يحلون محل العبيد. ويقول الرواة إن بيت الخليفة المقتدر كان يضم 11. 000 من الخصيان، وإن موسى بن نصير قبض في إفريقية على 300. 000 أسير، وفي أسبانيا على 30. 000 "عذراء" وباع الجميع ي أسواق الرقيق؛ وإن قتيبة قبض في سجديان على 100. 000 أسير. وخليق بنا أن نشير في هذا المقام إلى أن هذه الأرقام مبالغ فيها كثيراً هي عادة المؤرخين العرب، وإلى أن من واجبنا ألا نأخذها كما هي وقد عمل الإسلام على تضييق دائرة الاسترقاق وتحسين حال الأرقاء، فقصر الاسترقاق المشروع على من يؤسرون في الحرب من غير المسلمين وعلى أبناء الأرقاء أنفسهم. أما المسلم فلا يجوز أن يُسترق (كما لم يجوز في الدين المسيحي أن يسترق المسيحي). ولكن تجارة الرقيق نشطت على الرغم من هذا وكان قوامها من يقبض عيه في الغارات-كالزنوج من بلاد الشرق، ومن أواسط أفريقية، والأتراك أو الصينيين من التركستان، والبيض من الروسيا وإيطاليا، وأسبانيا. وكان للسيد من المسلمين حق الحياة والموت على عبده، ولكنه كان في العادة يحسن معاملته إلى حد لم يكن معه مركزه أسوأ من مركز العامل في المصانع الأوربية في القرن التاسع عشر، بل لعله كان أحسن حالاً من ذلك الصانع، لأنه كان آمن على حياته منه (15)، وكان الأرقاء يقومون بمعظم

ص: 112

الأعمال الدنيا في المزارع، وبأكثر الأعمال اليدوية التي لا تحتاج إلى مهارة في المدن. وكانوا يعملون خدماً في البيوت، وكان من رجاهم خصيان ومن النساء جوارٍ في الحريم. وكانت كثر الراقصات، والمغنيات والممثلات من الجواري. وكان ابن الجارية من سيدها، وابن المرأة الحرة من عبدها، حراً من ساعة مولده. وكان يسمح للعبيد أن يتزوجوا وأن يتعلم أبناؤهم إذا أظهروا قدراً كافياً من النباهة. وإن المرء ليدهش من كثرة أبناء العبيد والجواري الذين كان لهم شأن عظيم في الحياة العقلية والسياسية في العالم الإسلامي، ومن كثرة من أصبحوا منهم ملوكاً وأمراء أمثال محمود الغرنوي والمماليك في مصر.

ولم يبلغ استغلال العمال في بلاد آسية الإسلامية من القسوة ما بلغه في البلاد الوثنية أو المسيحية، حيث كان الفلاح يكدح طوال ساعات النهار، ولا يكسب إلا ما يكفي لابتياع خرقة تستر حقوقه، أو إقامة كوخ يعيش فيه، أو الحصول على طعام لا يكاد يقيم أوده. وكان المتسولون كثيرين في البلاد الإسلامية ولا يزالون كثيرين فيها إلى الآن، ولا يزال الكثيرون منهم مخادعين مدعين؛ ولكن الآسيوي الفقير كان يحميه من الفاقة مهارته في العمل البطيء، وقل أن يوجد في الناس من يضارعه في تكييف نفسه لظروف التعطل عن العمل. وكانت الصدقات كثيرة متعددة، وكان في وسع الفقير إذا ضاقت به السبل أن ينام في أحسن بناء في المدينة-وهو مسجدها، ومع هذا كله فإن حرب الطبقات الأبدية لم تخمد جمرتها قط، وكان لهيبها يندلع من آن إلى آن في البلاد الإسلامية (778، 769، 808، 838) في ثورات عنيفة. وكانت هذه الثورات تستتر أحياناً بستار الدين لأن الدين والدولة كانا في البلاد الإسلامية شيئاً واحداً، وكان منهم شيع كالحزمية والمحيدة تعتنق آراء مزدك الفارسي الشيوعية؛ ومنهم شيعة أطلقت على نفسها اسم سرخ علم أي "العلم الأحمر"(16)؛ وقام في عام 772 رجل في خراسان يدعى هاشم المقنع وقال إن الله قد حل في جسمه، وإنه بعث

ص: 113

ليعيد شيوعية مزدك. واجتمعت له حوله عدة طوائف، وهزم كثيراً من الجيوش التي أرسلت للقبض عليه، وظل ثلاثة عشر عاماً حاكماً على بلاد فارس، ثم قُبض عليه أخيراً (786) وأعدم. وأثار بابك الخزاني الفتنة نفسها في عام 838 وجمع حوله طائفة سميت المحمرة، واستولى بها على آزربيجان، وظلت قبضته اثنتين وعشرين سنة، وهزم عدة جيوش، وقتل (على يد قول الطبري)225. 500 جندي وأسر قبل أن يهزم. وأمر الخليفة نفسه جلاد بابك نفسه أن يقطع أطرافه طرفاً طرفاً، ثم خزق أمام قصر الخليفة، وحملوا رأسه إلى خراسان وطافوا به في مدنها (19)، ليذكر كل من يراه أن الناس كلهم يولدون غير أحرار وغير أكفاء.

وكانت أهم "حروب الأرقاء" في الشرق هي التي أثار عجاجها رجل عربي اسمه علي

(1)

ادعى أنه من نسل علي بن أبي طالب زوج فاطمة بنت النبي. وتفصيل ذلك أن عددا ُ كبيراً من الزنوج كانوا يعملون في كسح السباخ بالقرب من البصرة، فأخذ علي هذا يذكر لهم سوء ما يلقون من المعاملة، ويحرضهم على أن يثوروا معه على ساداتهم، ويعدهم بالتحرر من الرق وبالثروة-وأن يكونوا هم مالكين للعبيد. وأثرت فيهم دعوته، فاستجابوا لها واستولوا على الزاد والعتاد، وهزموا الجيوش التي سيرت لقتالهم، وأنشأ لهم قرى مستقلة فيها قصور لزعمائهم، وسجون لأسرهم، ومساجد لصلواتهم (869). وعرض أصحاب العمل أن يؤدوا لعلي خمسة دنانير عن كل شخص من الثوار يعود إلى عمله إذا أقنعهم بهذه العودة، فأبى. وحاولت البلاد المحيطة بهم أن تخضعهم بمنع الطعام عنهم، ولكنهم حين نفدت مؤنهم هاجموا بلدة الأبلّة، وحرروا من فيها من الأرقاء وضموهم إلى صفوفهم ثم نهبوها وأشعلوا فيها النار (870). وتشجع علي بهذا النصر فهاجم عدة بلاد أخرى واستولى على الكثير منها، وسيطر على جنوبي إيران والعراق

(1)

اسمه علي بن محمد. (المترجم)

ص: 114

حتى دق أبواب بغداد نفسها. وتعطلت التجارة، وقل الطعام في العاصمة. وفي عام 871 استولى المهلبي قائد الزنوج على البصرة، وذبح ثلاثمائة ألف من أهلها وسبى الجنود الزنوج آلافاً من النساء واسترقوا آلافاً من الأطفال البيض بعضهم من بني هاشم أنفسهم-إذا صدقنا أقوال المؤرخين. وظلت نار الثورة مشتعلة عشر سنين، سيرت في خلالها عدة جيوش لتقليم أظافرها وعرض على من يفرون من صفوف الثوار المال والعفو، فخرج على علي كثيرون من رجاله، وانضموا إلى جيوش الحكومة. ثم حوصر من بقي منهم، وضُيقَ عليهم الخناق، وسُلط عليهم الرصاص المصهور و "النار اليونانية" وهي مشاعل من النفط الملتهب، وانتهى الأمر بأن دخل جيش يقوده الوزير الموفق إلى مدينة الثوار، وتغلب على ما لقيه من المقاومة، وقُتل علياً وحُمل رأسه إلى الوزير المنتصر. وسجد الموفق وضباطه شكراً لله على رحمته (883)(20). ودامت هذه الثورة أربعة عشر عاماً حاق فيها الخطر بجميع المقومات الاقتصادية والسياسية في البلاد الشرقية الإسلامية. وانتهز أحمد بن طولون والي مصر هذا الاضطراب فاستقل بأغنى ولايات الخلافة الإسلامية.

ص: 115

الفصل الثاني

‌الإيمان

يلي المال والنساء في شهوات الإنسان رغبته في النجاة من العذاب في الدار الآخرة فإذا امتلأت المعدة بالطعام، وأشبع الإنسان غريزته الجنسية وجد متسعاً من الوقت ينصرف فيه إلى الله.

ولقد كان المسلمون كثيري التفكير في ربهم، وكانت مبادئهم الأخلاقية وشريعته، وحكومتهم، قائمة كلها على أساس الدين. والإسلام أبسط الأديان كلها وأوضحها، وأساسه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ويتطلب الجزء الثاني من هذا الأساس الإيمان بالقرآن وبكل ما جاء به، ولهذا فإن المسلم المتمسك بدينه يؤمن كذلك بالجنة والنار، والملائكة والشياطين، والبعث، والقضاء والقدر، ويوم الحساب. وقواعد الإسلام بعد الشهادتين هي الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت. ويؤمن المسلم كذلك برسالة الأنبياء الذين سبقوا محمداً وبما نزل عليهم من الوحي "ولكل أمة رسول"(سورة يونس 48). ويعتقد بعض المسلمين أن عدد أولئك الرسل 224000، ولكن يبدو أن محمداً كان يرى أن، إبراهيم وموسى، وعيسى، هم وحدهم الذين نطقوا بكلمات الله. ولهذا فإن على المسلم أن يؤمن بالتوراة والإنجيل، ويعتقد أن ما ورد فيهما من وحي الله، فإذا ما اختلفا عن القرآن في شيء فعليه أن يعتقد أن سبب ذلك ما حدث فيهما من تغيير متعمد أو غير متعمد. وعليه أن يؤمن أيضاً بأن القرآن قد حل محل غيره من الكتب السماوية، وأن محمداً خير أنبياء الله ورسله. والمسلمون يعتقدون أن محمداً بشر من خلق الله، ولكن احترامه إياه لا يقل عن احترام النصارى للمسيح، وفي ذلك يقول أحد الصالحين من المسلمين الأقدمين

ص: 116

إنه لو كان حياً في زمان النبي لما تركه يطأ الأرض بقدمه المباركة ولحمله على كتفيه أينما أراد.

والمسلمون الصالحون لا يطيعون ما ورد في القرآن وحده، بل يعملون أيضاً بالأحاديث والسنن النبوية التي احتفظ بها علماؤهم على مر الأجيال والقرون. ذلك أن المسلمين قد يواجهوا على مر الزمن مسائل خاصة بالعقائد، والعبادات، والأخلاق، والتشريع، لا يجدون لها جواباً صريحاً في القرآن. كذلك وردت في القرآن آيات متشابهات يخفى معناها على كثير من العقول وتحتاج إلى إيضاح. ولهذا كان من المفيد أن يعرف المسلمون ما فعله النبي أو الصحابة وما قالوه في أمثال هذه الموضوعات. ومن أجل ذلك وجه بعض المسلمين عنايتهم إلى جمع هذه الأحاديث، وامتنعوا عن تدوينها في القرن الأول من الهجرة

(1)

. وأنشئوا مدارس لحديث في مختلف المدن يلقون فيها دروساً عامة في الحديث والسنن النبوية، ولم يكن من غير المألوف أن يسافر الواحد منهم من الأندلس إلى بلاد

(1)

يقول المؤلف إن المسلمين امتنعوا عن تدوين أحاديث الرسول في القرن الأول الهجري والحق أنه كان من الصحابة من لا يرى تدوين الحديث لكي تكون الهمة مقصورة على القرآن وحده، ولكن من الحق أيضاً أن تدوين الحديث بدئ منذ فجر الإسلام في القرن الأول، بل أن بعض ذلك يرجع إلى عهد الرسول نفسه. لقد جاء في صحيح البخاري أن الرسول أمر فكتبت خطبته التي خطبها يوم فتح مكة، وفي هذا الباب أيضاً نجد أبا هريرة يقول: ما من أحد أحفظ مني لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أكثر مني رواية له، غير عبد الله بن عمرو بن العاص لأنه كان يكتب كل ما يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولم أكن أكتب. وفي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد بن حنبل أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنت اكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش عن ذلك وقالوا: تكتب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الغضب والرضا! فأمسكت، حتى ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق" وأومأ بإصبعه إلى فيهِ حين قال ذلك. راجع مسند احمد، جـ 2: 162 و 192، سنن أبي داود، جـ 2: 22 وجامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، جـ 1: 71 وراجع أيضاً بحثاً قيماً في ذلك، للعلامة السيد سليمان عبد القدوس، الرسالة المحمدية طبعة المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1372 هـ ص 53 وما بعدها. (ي)

ص: 117

الفرس ليستمع إلى حديث منم أحد رواته. وبهذه الطريقة تجمعت طائفة من السنن الشفوية إلى جانب القرآن شبيهة بالمشنا والجمار اللذين تجمعا حول التوراة، وفعل البخاري بهذه الأحاديث في عام 78 ما فعل يهودا هاناسي بشرائع اليهود غير المكتوبة في عام 89، فقد واصل البحث عدة سنين طاف فيها بأنحاء العالم الإسلامي من مصر إلى التركستان حتى جمع نحو ستمائة ألف حديث اختار منها بعد تمحيصها ونقدها 7275 ونشرها في صحيحه منسوبة في سلسلة طويلة من الإسناد إلى أحد الصحابة أو إلى النبي نفسه.

تُلقي الكثير من أحاديث النبي ضوءاً جديداً على العقائد الإسلامية. نعم إن محمداً لم يقل قط إنه يأتي بمعجزات، ولكن ثمة أحاديث تروي بعض ما قام به من خوارق العادات: كيف أطعم عدداً كبيراً من الناس من طعام لا يكاد يكفي شخصاً واحداً، وكيف أخرج الشيطان من جسم بعض الناس، وكيف انزل الغيث وحجب المطر بصلاة واحدة، وكيف مَسَّ ضرع ماعز جافة فأدرت اللبن، وكيف شُفِيَ المرضى بلمس ثيابه أو شعر رأسه بعد قصه.

وتحث بعض الأحاديث على حب الأعداء، وإن كانت آراء محمد في هذه الناحية أشد من آراء المسيح. وقد أخذت الصلاة الربانية من الإنجيل بعد أن أدخل عليها بعض التعديل

(1)

كما يُعزى إلى محمد حديث يروي قصص الزراع، وضيوف العرس وعمال الكرم، وقصارى القول أن رواة الأحاديث قد وصفوا النبي بخير ما نجده في المسيحية من فضائل على الرغم من زوجاته التسع، يقول بعض النقاد المسلمين: إن كثيراً من الأحاديث قد دستها على النبي الدعاوة الأموية أو العباسية أو غيرهما. وقد اعترف ابن العوجاء الذي أعدم في الكوفة سنة 272 أنه وضع بنفسه أربعة آلاف حديث. وثمة عدد قليل من المتشككين الذين لا يصدقون معظم الأحاديث ومنهم من زيف بعضها وصاغها في صيغة الأحاديث الصحيحة.

(1)

الصلاة الربانية عند المسيح هي التي تبدأ بقولهم: أبانا الذي في السموات. الخ.

ص: 118

ومع هذا كله فإن تصديق الأحاديث الواردة في إحدى المجموعات المتفق على صحتها، من الصفات التي يمتاز بها المسلمون المتمسكون بدينهم والذين يُطلق عليهم السنيين. ومن هذه الأحاديث حديث يسأل فيه جبريل النبي عن ماهية الإسلام فيجيبه النبي بأن الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، فالصلاة، والزكاة، والصوم والحج هي الواجبات الأربعة المفروضة على كل مسلم، وهي مضافة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله "أركان الإسلام الخمسة".

ولابد أن يسبق الصلاة الوضوء، وإذا كانت الصلاة تؤدى خمس مرات في اليوم فقد أصبحت النظافة من الإيمان بحق. فالإسلام كاليهودية يدعو إلى العناية بصحة الجسم وتقويم الخلق، وهما في هذه الناحية يعملان بالمبدأ القائل إن الإنسان لا يعقل الشيء المعقول إلا إذا كان له سند من الدين. وكان النبي يحذر المسلمين من إهمال الوضوء ويقول لهم إن الله لا يقبل الصلاة بلا وضوء؛ ويحث على تنظيف الأسنان قبل الصلاة، وإن لم يجعلها من فرائض الوضوء؛ أما تلك الفرائض فهي: غسل الوجه واليدين والقدمين

(1)

(سورة المائدة 6) وعلى الجُنُب أن يستحم، وعلى المرأة التي خرجت من المحيض، أو الوضع، أن تتطهر قبل الصلاة. ويصعد المؤذن في بلاد الإسلام المئذنة عند طلوع الفجر، وفي منتصف النهار ووقت العصر، وعند غروب الشمس، وفي المساء، ويدعو المسلمين إلى الصلاة بقوله "الله أكبر، الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد

(1)

ومسح الرأس. (المترجم)

ص: 119

أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.

ألا ما أقوى هذه الدعوة، وما أشرفها من دعوة للقيام من النوم قبل مطلع الشمس، وما احسن أن يقف الإنسان عن العمل وقت الظهيرة، وما أعظم وأجل أن يتوجه الإنسان بروحه إلى الله جل جلاله في سكون الليل، وما أحلى وقع صوت المؤذن على الآذان، آذان المسلمين وغير المسلمين، وهم يدعون النفوس الحبيسة في الأجسام الأرضية من فوق آلاف المساجد أن تتوجه إلى واهب الحياة والعقل، وتتصل به ذلك الاتصال الروحي الجليل. ففي هذه الأوقات الخمسة يجب على كل مسلم في جميع بقاع الأرض أن يقف كل عمل أياً كان، ويتطهر، ويولي وجهه نحو مكة والكعبة ويقيم الصلوات القصيرة، بنفس الصورة التي يؤديها بها غيره من المسلمين، كلما انتقلت الشمس من مرحلة إلى مرحلة في حركتها الظاهرة حول الأرض.

فمن أمكنه وقته، وشاءت إرادته، ذهب إلى المسجد يؤدي الصلاة، والمساجد تظل في العادة مفتوحة الأبواب طوال النهار، يؤمها كل مسلم صالح أو زنديق ليتوضأ أو يصلي أو يستريح. وهناك تحت سقفها الظليلة كان المدرسون يعلمون التلاميذ، والقضاة يفصلون في الخصومات، والخلفاء يعلنون سياستهم أو أوامرهم، وكان الناس يجتمعون فيها ليتحدثوا في كل ما يعينهم، ويستمعوا إلى الأخبار ويفاوضوا في الأعمال التجارية والمالية في بعض الأحيان. ذلك أن المسجد كان كالبيعة عند اليهود، والكنيسة عند المسيحيين، مركز الحياة اليومية، والبيت العام للمجتمع كله. وفي يوم الجمعة قبل أن ينتصف النهار بنصف ساعة أو نحوها يقوم المؤذن ويصلي على النبي ويدعو لأسرته وإلى الصحابة، ويدعو

ص: 120

المسلمين إلى الصلاة

(1)

. ويستحب في هذا اليوم أن يستحم المصلون، ويلبسوا أثواباً نظيفة، ويتعطروا، قبل المجيء إلى المسجد، فإن لم يكونوا قد اغتسلوا فإن عليهم أن يتوضأوا في المسجد

(2)

.

وقد جرت العادة أن تبقى النساء في بيوتهن حين يذهب الرجال إلى المساجد، خشية أن يشغل وجودهن وإن كنّ محجبات بعض الرجال عن التوجه بأرواحهم كلها إلى الله. ويترك المصلون أحذيتهم عند باب المسجد، ويدخلونه حفاة أو بالأخفاف أو الجوارب، فإذا حان موعد الصلاة وقفوا جنباً إلى جنب صفاً واحداً أو عدة صفوف، وولوا وجوههم نحو المحراب الذي يعين موضع القبلة أو اتجاه مكة. ويقوم الإمام ويعظ الناس بخطبة قصيرة ثم تقام الصلاة ويتلو الإمام آيات من القرآن، وكذلك يفعل المصلون أو يكتفون بتلاوة الفاتحة، ويؤدون الصلاة بشعائرها المعروفة من ركوع وسجود وتحيات. وليس في صلاة المسلمين أناشيد، أو مواكب، أو قداس، أو مقاعد مستأجرة، ذلك أن الدين والدولة شيء واحد عند المسلمين، ولهذا فإن الشؤون الدينية ينفق عليها من الأموال العامة. وليس الإمام كاهناً كالقس عند المسيحيين بل هو رجل عادي يكسب قوته بعمل دنيوي يؤديه، ويعين في المسجد فترة من الزمان، ويتقاضى أجراً قليلاً ليؤم المصلين

(3)

؛ فالدين الإسلامي لا يعترف بالكهانة والقساوسة. والمسلمون بعد صلاة الجمعة أحرار يستطيع من أراد منهم أن يؤدي عمله المعتاد كما يؤديه في أي يوم آخر. وحسبهم أنهم قد توجهوا إلى ربهم ساعة من الزمان تطهرت فيها نفوسهم وسمت فوق

(1)

يحدث هذا أحياناً ولكن الآذان الشرعي مرة واحدة ويقتصر على التكبير والشهادتين والدعوة إلى الصلاة والفلاح والتكبير والشهادة. (ي)

(2)

ليس على المسلم أن يتوضأ في المسجد بل الذي عليه أن يكون متوضئاً قبل الصلاة في البيت أو في المسجد على حد سواء.

(3)

ومن الأئمة من لا يتقاضى أجراً. وفي الصلوات الخمس يستطيع أي إنسان أن يؤم المصلين إن كان أهلاً لهذه الإمامة. (ي)

ص: 121

المشاغل الاقتصادية والمنازعات الاجتماعية، وتآلفت قلوبهم من حيث لا يشعرون باشتراكهم في هذه الشعائر العامة.

والواجب الثاني المفروض على المسلم هو أداء الزكاة. لقد كان النبي ينظر إلى الأغنياء كما ينظر إليهم المسيح، ويقول بعضهم إنه بدأ حياته مصلحاً اجتماعياً اشمأزت نفسه مما رآه من الفروق الواسعة بين ترف طائفة التجار من الأشراف وفقر عامة الشعب، ويبدو أن معظم أتباعه في أول الأمر كانوا فقراء.

وكان من أول ما قام به من الأعمال في المدينة أن فرض ضريبة سنوية مقدارها اثنان ونصف في المائة على جميع الأملاك المنقولة، لمعونة الفقراء

(1)

. وكان في الدولة الإسلامية موظفون مختصون يقومون بجمع الزكاة وتوزيعها على أصحابها. وكان جزء من حصيلتها ينفق في بناء المساجد، وفي أداء نفقات الحكومة وتجهيز الجيش. ولكن الحرب كانت تأتي بالغنائم التي تزيد كثيراً من نصيب الفقراء. وما أكثر ما يُروى من قصص المسلمين الأسخياء الذين جادوا بأموالهم على الفقراء، فالحسن بن عليّ مثلاً يُروى عنه أنه قسم ماله بينه وبين الفقراء ثلاث مرات في حياته وأنه في مرتين وهبهم كل ما يملك.

والواجب الثالث على المسلمين وهو صوم رمضان. ونقول هنا إن الخمر، والميتة، والدم، ولحم الخنزير، والكلب، محرمة بوجه عام على المسلمين، ولكن الإسلام من هذه الناحية أقل صرامة من اليهودية، فهو يبيح أكل الطعام المحرم عند الضرورة، وسُئل محمد مرة عن جبن لذيذ يحتوي على لحم محرم، فقال

(1)

فرضت الزكاة بالمدينة حقاً وفي السنة الثانية من الهجرة، ولكنها لا تسمى ضريبة بل تسمى "زكاة" ومعنى الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة، وإخراج المقدار الواجب شرعاً يطهر به مال المزكي وينميه حقاً. أما المقدار الذي ذكره المؤلف وهو اثنان ونصف في المائة فهو زكاة المال النقدي، وفي سائر الأموال كالزرع والثمار والحيوان مقادير أخرى محددة معروفة في كتب الفقه. (ي)

ص: 122

للسائل: "اذكروا اسم الله عليه وكلوا"

(1)

. وكان يكره الزهد الشديد ويحرم الرهبنة على المسلمين (سورة الأعراف 32) فقد أحل للمسلمين أن يستمتعوا بالحلال من طيبات الحياة على شريطة ألا يسرفوا فيها. ولكن الإسلام كغيره من الأديان يدعو المسلمين إلى الصوم ليقوي بذلك إرادتهم من جهة ولتصح به أجسامهم من جهة أخرى. وكان النبي بعد أن أقام في المدينة بضعة أشهر قد رأى اليهود يصومون صومهم السنوي فأمر أتباعه أن يحذوا حذوهم لعله بذلك يستميلهم إلى الإسلام، فلما تبين أنه لم يستملهم إليه استبدل به صوم رمضان فإذا أهل هذا الشهر وعدته تسعة وعشرون يوماً في بعض السنين وثلاثون في بعضها الآخر أمسك المسلمون في أثناء النهار عن الطعام والشراب، والتدخين وعن الصلات الجنسية. وأبيح الإفطار للمرضى، والمسافرين المتعبين، والصغار، والشيوخ الضعاف، والحاملات والمراضع، ولما فرض الصيام في أول الأمر كان شهر رمضان في فصل الشتاء حين يقصر النهار، ولكن رمضان يقع في فصل الصيف كل ثلاث وثلاثين سنة، فيطول ويشتد الظمأ في حر البلاد الشرقية حتى يكوم أشبه شيء بالعذاب. ولكن المسلم الصالح يتحمل الصيام. ويفطر المسلمون أثناء الليل فيأكلون، ويشربون، ويدخنون، ويباشرون النساء حتى مطلع الفجر، وتظل المخازن والحوانيت مفتحة الأبواب طوال الليل يؤمها الجماهير ليأكلوا ويستمتعوا، والفقراء يعملون كعادتهم في أيام الصوم، أما الأغنياء ففي وسعهم أن ييسروا الأمر على أنفسهم بالنوم في أثناء النهار.

ويقضي الأتقياء الصالحون الليالي العشر الأخيرة من رمضان في المساجد

(1)

عن ابن عباس قال: جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجبنة في غزاة فقال: أين صنعت هذه؟ قالوا: بفارس، ونحن نرى أنه يجعل فيها ميتة، فقال: اطعنوا فيها بسكين؛ واذكروا اسم الله وكلوا. رواه أحمد والبزاز والطبراني؛ وواضح هنا أن ذلك كان لضرورة وهي الغزاة. (ي)

ص: 123

فهم يعتقدون أن القرآن قد نزل على النبي في إحدى هذه الليالي، ولهذا فإن هذه الليلة عندهم خير من ألف شهر، وإذ كانوا لا يعرفون أي الليالي هي ليلة القدر فإن كثيراً من المسلمين يحبونها كلها. فإذا انقضى شهر رمضان احتفل المسلمون بعيد الفطر، فيستحمون، ويلبسون ثياباً جديدة، ويهنئ به بعضهم بعضاً، ويخرجون الزكاة، والهدايا ويزورون قبور الموتى.

والواجب الرابع المفروض على المسلمين هو الحج. ولقد كان الحج إلى الأماكن المقدسة من السنن المألوفة في بلاد الشرق، فكان اليهود يأملون أن يروا صهيون في يوم من الأيام كما كان الصالحون من العرب عبدة الأوثان قبل النبي بزمن طويل يحجون إلى الكعبة، وأقر الإسلام هذه السنَّة القديمة، وكان هذا الإقرار من الأسباب التي ساعدت على انتشار الإسلام في جميع أنحاء الجزيرة العربية. وبذلك أصبحت الكعبة، بعد أن طهرت من الأصنام، بيت الله. وفرض على كل مسلم (عدا المرضى والفقراء) أن يحجوا إليها، كلما استطاعوا

(1)

، ولكن سرعان ما فسر هذا بأنه يعني مرة في العمر، ولما أن انتشر الإسلام في أطراف العالم اقتصر أداء هذه الفريضة على قلة منهم، وفي مكة نفسها بعض المسلمين الذين لم يزوروا الكعبة قط.

وقد وصف دوتي Donghty، وصفاً لا يضارعه في روعته وصف سواه، منظر قافلة الحجاج وهي تجتاز الصحراء في حر الشمس اللافح، ولهيب الرمال المحرقة، وتتألف من سبعة آلاف من المؤمنين أو أقل أو أكثر من هذا العدد، راجلين

(1)

لم يفرض الحج إلا مرة واحدة في العمر. (ي) ولعل المؤلف قد أخذ قوله هذا من إضافة "مَن استطاع إليه سبيلاً" إلى الركن الخامس من أركان الإسلام؛ وهو فهم خاطئ بلا شك؛ إذ المقصود بهذه العبارة أن يؤدي الفريضة من يستطيع؛ أي من تمكنه من أدائها حالته الصحية وموارده وغيرها من ظروفه. "المترجم"

ص: 124

أو ممتطين صهوة الجياد، أو ظهور الحمير، أو البغال، أو الهوادج الفخمة، ولكن كثرتهم الغالبة تهتز على ظهور الإبل، وتنحني بأجسامها في كل خطوة من خطواتها الطويلة

وتسجد خمسين مرة في كل دقيقة أرادت ذلك أو لم ترده في اتجاه مكة، مجتازة ثلاثين ميلاً في اليوم، وخمسين ميلاً في بعض الأحيان، حتى تصل إلى واحة تحط فيها رحالها لتستريح. وفي هذا السير الشاق يمرضن كثير من الحجاج ويتخلفون، ومنهم من يموتون فيتركون

(1)

تنهشهم السباع المترصدة في الطريق، أو يحتضرون فيتركون ليموتوا على مهل، ويزور الحجاج في المدينة قبر النبي، ويشهدون قبر أبي بكر وقبر عمر في مسجد الرسول، ويعتقد بعضهم أن في جوار هذه القبور مكان احتفظ به لعيسى بن مريم.

فإذا أشرفت القافلة على مكة نصبت خيامها خارج أسوارها لأن البلدة نفسها حرم مقدس. ثم يستحم الحجاج ويحرمون فيلبسون أثواباُ بيضاء غير مخيطة، ويركبون أو يسيرون على أقدامهم مسافة طويلة، يبحثون عن مساكن لهم في أحياء المدينة

(2)

. ويفرض عليهم طوال إقامتهم في مكة أن يمتنعوا عن جميع المنازعات، وعن العلاقات الجنسية، وعن كل ما هو حرام

(3)

، وتصبح البلدة

(1)

لا شك أن هذا الوصف لا ينطبق كله على الكثرة الغالبة من الحجاج في هذه الأيام أيام الطائرات والسيارات والطرق المعبدة ووسائل الراحة المهيأة لجميع الحجاج. (المترجم)

(2)

يحتاج هذا الوصف إلى شيء من الدقة، فإن كون مكة حرماً مقدساً لا يمنع أن يدخلها الحجاج بقوافلهم، بل هذا ما يحدث فعلاً، ثم إن الإحرام يكون قبل ذلك لا بعد وله مواقيت-وأمكنة معينة معروفة لا يجاوزها الحاج إلا محرماً مهما كان البلد الآتي منه، وأقربها إلى "مكة" بينه وبينها مرحلتان (راجع مثلاً دور الحكام للقاضي مثلاً خسرو الحنفي جـ 1 ص 218). (ي)

(3)

ليس فرضاً على الحجاج الامتناع عن الصلات الجنسية طوال مدد إقامته بمكة، بل ذلك يكون ما دام محرماً فقط، كما هو معروف في كتب الفقه (انظر التعليق السابق) هذا وليس الامتناع عن المحرمات مقصوراً على أيام الحج، بل هو مفروض على المسلمين في جميع الأوقات. (ي)

ص: 125

المقدسة في أشهر الحج ملتقى المسلمين من كافة الأمم، والأجناس والطبقات، يشتركون كلهم على قدر المساواة في مناسك الحج وفي الصلاة، فإذا دخلوا المسجد الحرام الفسيح الجنبات شغلتهم نشوتهم الروحية عن ملاحظة المآذن الرفيعة التي فوق الجدران، وعما فيه من عقود وعمد. وعند بئر زمزم التي يقال عنها إنها أطفأت ظمأ إسماعيل يقفون خاشعين، ويشرب الحجاج من مائها مهما تكن حرارته ومهما يكن تأثيره، ومنهم من يحمل هذا الماء معه إلى وطنه ليشرب منه في بعض أيامه وحين تحضره الوفاة

(1)

. ويصل الحجاج آخر الأمر، وكلهم عيون شاخصة يلهثون من التعب، إلى قلب المسجد، إلى الكعبة نفسها، وهي بناء صغير الحجم مضاء من داخله بمصابيح من الفضة معلقة في سقفه، ومكسوة جدرانها الخارجية بكسوة من الحرير الثمين، وفي أحد أركانه الحجر الأسود الشهير. ويطوف الحاج سبع مرات حول الكعبة، ويقبل الحجر الأسود أو يلمسه أو ينحني تعظيماً له. ومن الحجاج من يقضون الليلة كلها في داخل المسجد غير عابثين بما عانوا من شدة التعب والسهر، يجلسون على أبسطة يتحدثون، ويصلون ويفكرون في دهشة ونشوة في الغرض الذي جاءوا من أجله.

وفي اليوم الثاني

(2)

يسعى الحجاج سبع مرات بين الصفا والمروة، وهما في خارج المدينة، إحياء لذكرى هاجر وهي تبحث عن الماء لتروي به ولدها. وفي اليوم السابع يخرج من يبغون "الحج الأكبر" إلى جبل عرفات الذي يبعد عن

(1)

من الحجاج من يصر على التزود من ماء زمزم والاحتفاظ بشيء منه في عودته إلى بلده ولكنا لا نعلم ولا نظن أن منهم من يستبقِ شيئاً منه ليشربه حين تحضره الوفاة. (ي)

(2)

السعي بين الصفا والمروة لا يكون في اليوم الثاني من الوصول إلى مكة، بل إن هذا السعي واجب يوم وصوله إليها وطوافه بالكعبة بالمسجد الحرام. وهذا الطواف يسمى طواف القدوم أو طواف التحية أيضاً (راجع الكتاب السابق ج2 ص 222 - 224). (ي)

ص: 126

مكة مسيرة سبع ساعات- وهم يستمعون إلى خطبة تدوم ثلاث ساعات

(1)

، ثم يقفون وهم عائدون في منتصف الطريق ويقضون ليلة في المزدلفة، وفي اليوم الثامن يهرعون إلى منى ويرمون بالجمرات ثلاث علامات أو ثلاث أعمدة، اعتقاداً منهم أن إبراهيم قد رجم الشيطان بهذه الطريقة حينما حاول أن يثنيه عن ذبح ولده

وفي اليوم الثامن يضحون بحمل أو جمل أو غيرهما من الماشية ذات القرون، ويأكلون بعض لحومها ويوزعون الصدقات

(2)

، وهذا الحفل هو أهم شعائر الحج ويحيون به ما فعله النبي نفسه في مثل ذلك الوقت من حياته، والمسلمون في جميع أنحاء العالم يحتفلون بعيد الأضحى فينحرون الذبائح في مثل هذا اليوم العاشر من شهر ذي الحجة ويوزعون اللحوم والصدقات تقرباً لله. وبعد هذا يحلق الحجاج شعورهم ويقصون أظافرهم ويدفنون هذه البقايا في الرمال، وبذلك ينتهي الحج الأكبر، ولكن الحجاج في العادة يزورون الكعبة مرة أخرى قبل أن يعودوا إلى مخيم القافلة. وهناك يعودون إلى حالتهم الأولى ويلبسون ثيابهم العادية ويبدءون رحلتهم الطويلة إلى أوطانهم مطمئني البال فخورين بما وفقوا إليه من عمل صالح.

ولهذه الفريضة العظيمة أغراض وفوائد كثيرة. فهي تقوي إيمان المسلمين واستمساكهم بدينهم، وتمكن الصلة بهذا العمل العاطفي الجماعي بين المسلم ودينه وبينه وبين إخوانه المؤمنين، شأنها في هذا شأن حج اليهود إلى أورشليم، وحج المسيحيين إلى هذه المدينة وإلى روما. فالحج وما ينطوي عليه من مناسك التقى

(1)

يخطب الإمام في موسم الحج ثلاث خطب، ولكل منها مناسبة يعلم الحجاج فيها ما هم مقبلون عليه من الحج وأعماله وليس منها خطبة واحدة تدوم ثلاث ساعات، والذين يدرسون الفقه الإسلامي وسيرة الرسول، يعرفون أن خطب الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تجمع بين الإيجاز وكل ما تجب معرفته.

(2)

لا تكون الأضحية في اليوم الثامن من ذي الحجة بل تكون في اليوم العاشر أي يوم العيد كما هو معروف.

ص: 127

والورع يجمع بين بدو الصحراء والفقراء وتجار المدن الأثرياء، وبين البربر وزنوج إفريقية، والشوام، والفرس، والأتراك، والتتار، والهنود المسلمين، والصينيين والمصريين، وغيرهم من الشعوب الإسلامية-يرتدون كلهم ثياباً بسيطة واحدة، ويتلون كلهم أدعية واحدة بلغة واحد وهي اللغة العربية، ولعل هذا هو السبب في ضعف حدة الفوارق العنصرية في الإسلام. وقد يبدو لغير المسلمين أن الطواف حول الكعبة من الأعمال التي لا تنطبق على العقل. ولكن المسلم يبتسم حين يرى أمثال هذه العادة في الأديان الأخرى، ويهوله أن يرى المسيحيين في إحدى شعائرهم "يأكلون الله". فالمسلمون لا يفهمون في هذا الطواف إلا أنه رمز خارجي لصلة روحية وغذاء روحي. وفي الأديان كلها ما يبدو لغير أصحابها أنه مما يعز على الأفهام.

والأديان جميعها مهما يكن من نيل أصولها، لا تلبث أن تحشر فيها طائفة من الخرافات لا صلة بينها وبين مبادئها الأولى، وإنما تنشأ بطبيعتها من العقول التي خيم عليها وأنهكها تعب الجسم ورهبة الروح في كفاحها للخلود. لهذا نرى أن معظم المسلمين

(1)

يؤمنون بالسحر

(2)

، وقلما يشكون في قدرة السحرة على التنبؤ بالغيب والكشف على الكنوز المخبوءة، وغرس الحب في النفوس وتعذيب الأعداء، وشفاء المرضى، واتقاء الحسد. ومنهم من يعتقد في قدرة البعض على مسخ الإنسان إلى حيوان أو نبات، أو الانتقال من مكان إلى مكان بوسائل معجزة خارقة. وتلك العقائد هي المحور الذي تدور عليه قصص ألف ليلة. ففيها ترى الأرواح في كل مكان تحتال بضروب السحر وغيره على الأحياء، وتستولد النساء غير الحريصات ما لا يشتهين من الأبناء ويلبس معظم المسلمين (3) كما يلبس نصف المسيحيين تمائم لترد عنهم ضروباً مختلفة من الشرور، ويعتقدون

(1)

يقصد المؤلف بقوله معظم المسلمين غير المتعلمين ويلاحظ أنه يقول: إن هذه كلها ليست من الدين بل هي من الخرافات التي لا صلة بينها وبين مبادئه الأولى. (المترجم)

(2)

أصح من هذا أن يقول: عامة المسلمين أو جهالهم الذين يؤمنون بالسحر كما يؤمن به الجهال في كل أمة. (المترجم)

ص: 128

أن من الأيام ما هو سعد ومنها ما هو نحس، وأن الأحلام قد تنبئ عن المستقبل، وأن الله قد يتحدث إلى الإنسان في الأحلام. ويؤمن العامة في مختلف بلاد الإسلام كما يؤمن أمثالهم في مختلف البلاد المسيحية بالتنجيم؛ فقد رسمت خرائط السماء، ولم يكن الغرض من رسمها مقصوراً على معرفة اتجاه القبلة في المساجد وتحديد أيام الأعياد الدينية، بل كان يقصد منه فوق هذا وذاك اختيار الوقت المناسب لكل عمل خطير، ومعرفة طالع كل فرد، أي خلقه ومصيره كما تدل عليه النجوم التي كانت في السماء وقت مولده.

والدين الإسلامي

(1)

، وإن بدا للعالم الخارجي وحدة قوية شاملة خالية من الفروق في شعائره وعقائده، قد انقسم من أقدم العهود شيعاً لا تقل في عددها أو شدة اختلافها عن الشيع المسيحية. ومن هذه الشيع الخوارج ذوو النزعة الحربية المتزمتة الديمقراطية، ومنها المرجئة التي تعتقد أن المسلم لا يقضي عليه بالعذاب الدائم في الدار الآخرة، والجبرية التي تنكر حرية الإرادة، وتعتقد أن الإنسان مسير في كل شيء وفق ما قدر له منذ الأزل، والقدرية التي تؤمن بحرية الإرادة وتدافع عنها، ومنها غير هذه شيع كثيرة لا حاجة بنا إلى الوقوف عندها. وحسبنا أن نُحيّي فيها إخلاصها لمبادئها وسعة علمها. لكن منها فرقة كان لها شأن عظيم في التاريخ، تلك هي طائفة الشيعة. فهؤلاء قضوا على الخلافة الأموية. واستولوا على بلاد الفرس ومصر، والهند الإسلامية، وكان لهم أعظم الأثر في الأدب والفلسفة. ونشأت طائفة الشيعة على أثر مقتل عليّ وولده الحسين وأسرته، فقد قالت فئة قليلة من المسلمين إن الله وقت أن اختار محمداً نبياً له ورسولاً، قد أراد من غير شك أن يكون أبناؤه الذين ورثوا بعض فضائله وأغراضه الروحية هم الوارثين لزعامة الإسلام. ولهذا فهم يرون أن جميع الخلفاء ماعدا علياً،

(1)

يريد المسلمين فهم الذين انقسموا شيعاً؛ أما الدين نفسه فينهي عن هذه التفرقة "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لستَ منهم في شيء. المترجم

ص: 129

مغتصبون لا حق لهم في الخلافة. وقد اغتبطوا حين ولي عليّ الخلافة، وحزنوا لمقتله، وروعوا لمقتل الحسين. وأصبح عليّ والحسين بعد موتهما في رأيهم من أولياء الله الصالحين، وهم يعظمون ضريحيهما تعظيماً لا يفوقه إلا تعظيمهم للكعبة وقبر الرسول. ولعل طائفة الشيعة قد تأثرت بعقيدة الفرس واليهود والمسيحيين الخاصة بالمسيح المنتظر، وبفكرة البوذيين عن البدهستفاس-أي تجسد القديسين مراراً بعد موتهم-فقالت إن أبناء عليّ هم الأئمة الذين تتمثل فيهم الحكمة الإلهية. وهي ترى أن الإمام الرضا، ثامن أولئك الأئمة الذي يقوم ضريحه في مشهد بشمالي فارس "مجد العالم الشيعي". وقد حدث في عام 873 أن اختفى الإمام الثاني عشر محمد بن حسن وهو في الثامنة عشرة، فاعتقد الشيعة أنه لم يمت، ولكنه سيعود في الوقت المناسب ليعيدهم إلى السلطان الشامل والسعادة الدائمة.

وكانت الفرق الإسلامية المختلفة تشعر بعضها نحو بعض بعداء

(1)

يفوق عداءها لمن يعيش في البلاد الإسلامية من الكفرة، شأنها في هذا شأن الفرق المختلفة في سائر الأديان

(2)

. ولقد كان أهل الذمة المسيحيون، والزرادشتيون واليهود، والصابئون، يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام. فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص وأداء فرضة عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير (من 4. 75 إلى 19 دولاراً أمريكياً). ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان

(1)

إذا كان العداء قد استحكم في يوم من الأيام بين بعض الفرق والبعض الآخر فإنه لم يكن بالشدة التي يصفه بها المؤلف، ومهما يكن هذا العداء في الماضي فإنها الآن تعيش في وئام وقلما يعرف الرجل العادي إلى أي الفرق ينتمي زملاؤه ومواطنوه. (المترجم)

(2)

لا نعلم من تاريخ الإسلام وما نشأ فيه من فرق مختلفة، أن فرقة من هذه الفرق كانت تشعر نحو غيرها بعداء يفوق عدائها للكفرة الذين يعيشون في البلاد الإسلامية. (ي)

ص: 130

والنساء والذكور الذين هم دون سن البلوغ، والأرقاء، والشيوخ، والعجزة، والعمى الشديد والفقر. وكان الذميون يعفون في نظير هذه الضريبة من الخدمة العسكرية أو إن شئت فقل لا يقبلون فيها-ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها اثنين ونصف في المائة من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم، ولم تكن تُقبل شهادتهم في المحاكم الإسلامية، ولكنهم كانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم، وقضاتهم وقوانينهم، وكان تسامح الحكام المسلمين معهم يختلف باختلاف الأسر الحاكمة، فكان الخلفاء الراشدون أشداء عليهم

(1)

، وكان الأمويون يعاملونهم باللين بوجه عام، والعباسيون يعاملونهم باللين تارة وبالقسوة تارة أخرى. وقد أخرج عمر بن الخطاب اليهود والمسيحيين من جزيرة العرب لأنها أرض الإسلام المقدسة، وتعزو إليه إحدى الروايات غير المؤكدة "عهداً" قيد فيه حقوقهم بوجه عام، لكن هذا العهد، إن كان قد عُقد، قد أغفل العمل به، وظلت الكنائس المسيحية في مصر تتمتع في أيام هذا الخليفة بالميزات التي منحتها إياها الحكومة البيزنطية قبل الفتح العربي.

وكان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين، إلا أنهم في عهدهم قد فُرضت عليهم عدة قيود ولاقوا شيئاً من الاضطهاد من حين إلى حين، غير أنهم مع هذا كانوا يُعاملون على قدم المساواة

(1)

من العجيب أن يذكر الكاتب أن الخلفاء الراشدين كانوا يعاملون بالشدة الذميين الذين يعيشون في البلاد الإسلامية. إن الدين نفسه يجعل لهؤلاء الذميين كل ما لنا من حقوق ويجعل عليهم ما علينا من واجبات، والقرآن الكريم يحثنا على مودة المخالفين لنا في الدين ما داموا مسالمين. وعناية عمر بن الخطاب بعد الخليفة الأول أبي بكر الصديق بغير المسلمين من أهل الذمة معروفة غير خافية. لقد جعل للفقراء المحتاجين منهم ما يكفيهم هم وعيالهم من بيت المال. على أن الكاتب نفسه ذكر قبل ذلك بسطور أن أهل الذمة كانوا ينعمون في عهد الأمويين بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، ومعروف أن الأمويين كانوا على عصبية شديدة أحياناً لغير العرب حتى ولو كانوا من الموالي المسلمين. (ي)

ص: 131

مع المسيحيين، وأصبحوا مرة أخرى يتمتعون بكامل الحرية في حياتهم وفي ممارسة شعائر دينهم في بيت المقدس، وأثروا كثيراً في ظل الإسلام وفي آسية، ومصر، وأسبانيا، كما لم يثروا من قبل تحت حكم المسيحيين. وكان المسيحيون في بلاد آسية الغربية، خارج حدود الجزيرة العربية، يمارسون شعائر دينهم بكامل حريتهم، وبقيت الكثرة الغالبة من أهل بلاد الشام مسيحية حتى القرن الثالث الإسلامي. ويحدثنا المؤرخون أنه كان في بلاد الإسلام في عصر المأمون أحد عشر ألف كنيسة، كما كان فيها عدد كبير من هياكل اليهود ومعابد النار. وكان المسيحيون أحراراً في الاحتفال بأعيادهم علناً، والحجاج المسيحيون يأتون أفواجاً آمنين لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين، وقد وجد الصليبيون جماعات مسيحية كبيرة في الشرق الأدنى في القرن الثاني عشر الميلادي ولا تزال فيه جماعات منهم إلى يومنا هذا. وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية والذين كانوا يلقون صوراً من الاضطهاد على يد بطارقة القسطنطينية، وأورشليم، والإسكندرية، وإنطاكية، أصبح هؤلاء الآن أحراراً آمنين تحت حكم المسلمين الذين لك يكونوا يجدون لنقاشهم ومنازعاتهم معنى يفهمونه، ولقد ذهب المسلمون في حماية المسيحيين إلى أبعد من هذا، إذ عين والي إنطاكية في القرن التاسع الميلادي حرساً خاصاً ليمنع الطوائف المسيحية المختلفة من أن يقتل بعضها بعضاً في الكنائس. وانتشرت أديرة الرهبان وأعمالهم في الزراعة، وفي إصلاح الراضي البور، وكانوا يتذوقون النبيذ المعصور من عنب الأديرة، ويستمتعون في أسفارهم بضيافتها، وبلغت العلاقة بين الدينين في وقت من الأوقات درجة من المودة تبيح للمسيحيين الذين يضعون الصلبان على صدورهم أن يؤموا المساجد ويتحدثوا فيها مع أصدقائهم المسلمين. وكانت طوائف الموظفين الرسميين في البلاد الإسلامية تضم مئات من المسيحيين، وقد بلغ عدد الذين رقوا منهم إلى المناصب العليا في الدولة من الكثرة درجة أثارت شكوى المسلمين في بعض العهود. فقد كان سرجيوس والد القديس

ص: 132

يوحنا الدمشقي خازن بيت المال في عهد عبد الملك بن مروان، وكان يوحنا نفسه وهو آخر آباء الكنيسة اليونانية، رئيس المجلس الذي كان يتولى حكم دمشق. وكان المسيحيون في بلاد الشرق يرون أن حكم المسلمين أخف وطأة من حكم بيزنطية وكنيستها.

وعلى الرغم من خطة التسامح الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب هذه الخطة، اعتنق الدين الجديد معظم المسيحيين، وجميع الزرادشتيين، والوثنيين إلا عدداً قليلاً جداً منهم، وكثيرون من اليهود في آسية، ومصر وشمالي أفريقية. فقد كان من مصلحتهم المالية أن يكونوا على دين الطبقة الحاكمة، وكان في وسع أسرى الحروب أن ينجوا من الرق إذا نطقوا بالشهادتين ورضوا بالختان. واتخذ غير المسلمين على مر الزمن اللغة العربية لساناً لهم، ولبسوا الثياب العربية، ثم انتهى الأمر بإتباعهم شريعة القرآن واعتناق الإسلام. وحيث عجزت الهلينية عن أن تثبت قواعدها بعد سيادة دامت ألف عام، وحيث تركت الجيوش الرومانية الآلهة الوطنية ولم تغلبها على أمرها، وفي البلاد التي نشأت فيها مذاهب مسيحية خارجة على مذهب الدولة البيزنطية الرسمي، في هذه الأقاليم كلها انتشرت العقائد والعبادات الإسلامية، وآمن السكان بالدين الجديد وأخلصوا له، واستمسكوا بأصوله إخلاصاً واستمساكاً أنسياهم بعد وقت قصير آلهتهم القدامى، واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلاد الممتدة من الصين، وأندونيسيا، والهند، إلى فارس، والشام، وجزيرة العرب، ومصر وإلى مراكش، والأندلس؛ وتملك خيالهم، وسيطر على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث فيهم آمالاً تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها، وأوحى إليهم العزة والأنفة، حتى بلغ عدد من يعتنقونه ويعتزون به في هذه الأيام نحو ثلاثمائة وخمسين مليوناً من الأنفس، يوحد هذا الدين بينهم، ويؤلف قلوبهم مهما يكن بينهم من الاختلافات والفروق السياسية.

ص: 133

الفصل الثالِث

‌الشعب

كان العرب في عهد الأمويين طبقة عليا حاكمة تحصل على مقررات من الدولة. وكان جميع الذكور القادرين من أبناء العرب، يخضعون، في نظير هذه المزايا للخدمة العسكرية، يُدعون إليها في أي وقت من الأوقات. وكانوا بوصفهم الفاتحين يفخرون بدمهم النقي في زعمهم وبلغتهم العربية الفصحى. وكان العربي يحرص أشد الحرص على أن يضيف إلى اسمه اسم أبيه كعبد الله ابن الزبير مثلاً، وكان في بعض الأحيان يضيف إليه اسم قبيلته وموطنه الأصلي، فكان اسمه سيرة له مصغرة فيقول مثلاً: أبو بكر أحمد ابن جرير الأزدي. غير أن نقاء الدم لم يلبث أن أصبح أسطورة خرافية بعد أن اتخذ الفاتحون لهم جواري من أهل البلاد المفتوحة؛ وأدخلوا أبناءهم منهن في زمرة العرب؛ لكن الفخر بالدم والأصل ظل كما كان من قبل. وكان أفراد الطبقات العليا من العرب ينتقلون من مكان إلى مكان على ظهور الخيل، في أثواب من الحرير الأبيض، وسيوفهم مشرعة بأيديهم. أما العامة فكانوا يخرجون في سراويل منتفخة، وعمامات مطوية، وأحذية ذات أطراف رفيعة. واحتفظ البدوي بجلبابه الفضفاض، وشاله ومنطقته، وقد نهى النبي عن لبس السراويل الطويلة، ولكن بعض العرب نسوا أمره هذا، وكانت جميع طبقات الشعب تزدان بالحلي، وكانت الإناث يستهوين الذكور بصديرياتهن، ومناطقهن البرّاقة، ونُقبهن

(1)

الواسعة الزاهية اللون. وكن يعقصن شعرهن على جباههن، أو يرسلنه على جانبي رؤوسهن، أو يجدلنه

(1)

النقب جمع النقبة وهي ثوب كالإزار تُجعل له حجزة مطيفة وهي Skirt بالإنجليزية. (المترجم)

ص: 134

غدائر تنوس على ظهورهن؛ وكن أحياناً يكثرنه بخيوط سوداء من الحرير، وفي أغلب الأوقات يزينه بالجواهر والأزهار. وأخذن بعد عام 715 يغطين بالنقاب وجوههن أسفل عيونهن، وازداد انتشار هذه العادة تدريجاً بعد ذلك العام، وبهذا كان في وسع كل امرأة أن تكون فاتنة جذابة، لأن عيني المرأة العربية مهما يكن سنها جميلتان تسبيان العقول. والفتاة العربية تبلغ الحلم في سن الثانية عشرة وتصبح عجوزاً في سن الربعين، وهي بين هذه السن وتلك تلهم معظم الشعراء وتلد الأبناء.

والمسلم لا يحترم العزوبة، ولا يخطر بباله أن يمتنع عن إشباع الغريزة الجنسية، ولا يرى أن هذا الامتناع حال طبيعية أو مثالية. وقد كان لمعظم الصالحين من المسلمين زوجات وأبناء. وحدود الزواج أوسع في الإسلام منها في كثير من الأديان، وتفتح الشريعة الإسلامية منافذ كثيرة لإشباع الغريزة الجنسية؛ ولهذا قل البغاء في أيام النبي والخلفاء الراشدين. ولكن الانهماك في إشباع الغريزة الجنسية يتطلب عادة كثرة التنبيه، ولهذا لم تلبث الفتيات الراقصات أن أصبح لهن شأن كبير في حياة الرجال حتى أكثرهم أزواجاً. وإذا كان المقصود من الآداب الإسلامية أن تكون مقصورة على آذان الذكور وأعينهم، فإن منها ما لا يقل فحشاً عن حديث الذكور في البلاد المسيحية؛ فهذا الأدب يشتمل على طائفة كبيرة من الغزل، وقد عنيت كتب الطب عند المسلمين ببيان الأدوية المقوية للباء (42). والشريعة الإسلامية تجعل الإعدام من عقوبات الزنى واللواط، ولكن ازدياد الثروة خفف عقوبة الزنى فجعلها ثلاثين جلدة، وغض الحكام البصر في كثير من الحيان عن اللواط (43). ونشأت طائفة من المخنثين المحترفين تشبهوا بالنساء في ثيابهم وعاداتهم، يضفرون شعورهم، ويصبغون أظافرهم بالحناء ويرقصون الرقص الخليع (44). وعاقبهم سليمان بن عبد الملك بإخصاء من كان في مكة من المخنثين، وأبصر الهادي امرأتين تباشران عملية السحاق فأمر بقطع رأسيهما

ص: 135

على الفور (45). ولكن اللواط والسحاق رغم ما فُرض عليهما من العقاب الصارم أخذا ينتشران انتشاراً سريعاً حتى كانا كثيري الحدوث في بلاط هارون الرشيد، وفي قصائد شاعره المحبوب أبي نواس ولما يمضِ على زمن الهادي إلا بضعة أعوام. ذلك أن الرجل الذي حالت التقاليد بينه وبين النساء قبل الزواج، وملهن بعده، عمد إلى العلاقات الجنسية الشاذة، والمرأة التي حجبها أهلها عن جميع الرجال زلت هي الأخرى فسقطت فيما سقط فيه الرجل.

وكان اتصال العرب بالفرس من أسباب انتشار الحجاب واللواط في البلاد الإسلامية. لقد كان العرب قبل الإسلام يخشون مفاتن المرأة ويعجبون بها على الدوام، وقد ثأروا لأنفسهم من خضوعهم الغريزي لها بإثارة الشكوك التي يثيرها الذكور عادة حول فضية المرأة وقوة عقلها. وقد نصح عمر قومه باستشارة النساء ومخالفة مشورتهن (46)، ولكن المسلمين في القرن الأول من التاريخ الهجري لم يحجبوا النساء، فقد كان الرجال والنساء يتبادلان الزيارات ويسيران في الشوارع جنباً إلى جنب، ويصليان معاً في المساجد (47). وكانت عائشة بنت طلحة زوج مصعب بن الزبير لا تستر وجهها من أحد فعابها مصعب في ذلك فقالت "إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم، فما كنت لأستره، ووالله ما فيَّ من وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد"(48). ثم انتشر الحجاب ونظام الخصيان في أيام الوليد الثاني (743 - 744). وكان منشأ عادة عزلة النساء في بادئ الأمر تحريمهن على الرجال أيام الحيض والنفاس. وكان الزوج المسلم يدرك ما يتصف به الرجل في الشرق من شدة العاطفة وسرعة الانفعال، ويحس بالحاجة إلى حماية نسائه، ويرى أن يمنعهن من الغواية بحجزهن في البيوت، فحرم عليهن أن يسرن في الشوارع إلا مسافات قصيرة وهن محجبات، وكان في وسعهن أن تتزاورن، ولكن ذلك كان في العادة داخل هودج مسجف، ولم يكن أحد يراهُنَّ خارج البيوت أثناء الليل. وكان يفصلهن عن الرجال في

ص: 136

المسجد ستر أو حظار أو رواق خاص، ثم انتهى الأمر بمنعهن منها منعاً باتاً (49)، وأصبح الدين الذي وصف في العالم المسيحي اللاتيني بأنه لابد منه للإناث، وأنه ضروري لهن لا يزيد عليه في ذلك إلا الغريزة الجنسية، نقول أصبح الدين في العالم الإسلامي، أو بالأحرى أصبحت العبادة العامة وقفاً على الذكور دون الإناث. وكان أشد من هذا قسوة عليهن، منعهن من التردد على الأسواق لقضاء حاجاتهن منها، فكن يبعثن إليها من يقضي حاجاتهن، وكان البائعات المتنقلات، وكن في العادة من النساء يأتين إليهن ليعرضن عليهن بضائعهن في داخل البيوت، وقلما كانت النساء يتناولن الطعام مع أزواجهن اللهم إلا عند الطبقات الدنيا، ومنع المسلم أن يرى وجوه النساء عدا وجوه أزواجه وإمائه، وأقاربه الدنين؛ وحتى الطبيب نفسه لم يكن يسمح له أن يرى من النساء غير الجزء المصاب من أجسامهن. وكان في هذا النظام مرضاة للرجل، فهو في البيت يتيح له أكبر فرص الاستمتاع، ويجعله في خارجه أبعد ما يكون عن الرقابة والمفاجأة. أما عن النساء أنفسهن، فإنا لا نجد حتى القرن التاسع عشر ما يدل على أنهن قد عارضن في العزلة أو في النقاب، بل كن يستمتعن بما في جناح الحريم من سِرَّية، وطمأنينة، وراحة، وكن يغضبن إذا فرط أزواجهن في واجب المحافظة على عزلتهن، ويرين في ذلك إهانة لهن (50)؛ وظلت الزوجات الشرعيات يضطلعن من سجنهن الظاهري بقسط موفور من مجريات الحوادث التاريخية، وكان للخيزران أم الرشيد، ولزوجته زبيدة في القرنين الثامن والتاسع قسط كبير من النفوذ والسلطان، وكانتا تستمتعان بكثير من الأبهة والسلطان.

وقلما كان تعليم البنات يتعدى عند معظم الطبقات تلقيهن الصلاة، وقليلاً من سور القرآن، والفنون المنزلية. أما نساء الطبقات العليا فكن يتلقين تعليماً متسع الآفاق، يقوم به في العدة معلمون خصوصيون، ويتلقينه أحياناً في المدارس والكليات (51). وكن يتعلمن قرض الشعر، والموسيقى، وضروباً من أشغال

ص: 137

الإبرة؛ ومنهن من تبحرن في العلوم واشتغلن بالتدريس. واشتهر عدد منهن في أعمال البر المستنيرة. وكن يربين على الخفر اللائق بعاداتهن؛ فإذا فوجئن في الحمام أسرعن بتغطية وجوههن

(1)

وكن يدهشن عدم احتشام الأوربيات اللاتي يذهبن إلى المراقص وأنصاف صدورهن عارية، ويعانقن الكثيرين من الرجال أثناء الرقص؛ ويعجبن من رحمة الله الذي يمهل تلك النسوة الآثمات فلا يأخذهن بذنوبهن ويهلكهن لساعتهن (52).

وكانت شؤون الزواج يتولاها الآباء، كما يتولونها في معظم البلاد المتمدنة، فقد كان من حق الوالد أن يزوج ابنته لمن أراده هو لها أن تبلغ سن الرشد؛ أما بعد هذه السنن فكان لها أن تختار. وكانت البنات يزوجن في العادة قبيل سن الثانية عشرة، ويصبحن أمهات في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، ومنهن من كن يتزوجن في سن التاسعة أو العاشرة، كذلك كان الشبان يتزوجون عادة في سن مبكرة قد لا تزيد على الخامسة عشرة. وكان عقد الزواج ينص على أن يقدم الخطيب لخطيبته صداقاً يبقى لها طوال مدة الزواج وبعد الطلاق إن حدث. وقلما كان يسمح للعريس أن يرى وجه عروسه قبل الزواج. وكان يدخل بها بعد ثمانية أيام أو عشرة من عقده عليها، وليس الزواج في الحاجة إلى رجل من رجال الدين، ولكنه يصحبه دعاء قصير، ويصحبه في بعض الحيان موسيقى، ووليمة وبعض الهدايا، وإضاءة منزل العريس والشارع الذي هو فيه بالأنوار الساطعة. وبعد هذه الحفلات يدخل الزوج غرفة زوجته الخاصة ويرفع النقاب عن وجهها وهو يقول "بسم الله الرحمن الرحيم"(53).

فإذا لم يرتح العريس لعروسه بعد هذا الاختبار المتأخر، كان في وسعه أ، يعيد الزوجة إلى بيتها هي ومؤخر صداقها. وكان معنى تعدد الزوجات

(1)

لاشك أن هذه إحدى الفكاهات التي يلجأ إليها المؤلف في كثير من المواضع. (المترجم)

ص: 138

في الإسلام في أكثر الأحيان أن تتلو الواحد الأخرى، ولم يكن معناه الجمع بينهن في وقت واحد، ولم يكن يستطيع ذلك الجمع إلا ذوو الثراء (54). وكانت سهولة الطلاق تمكن المسلم من أن يكون له ما يشاء من الأزواج واحدة بعد واحدة، ويقال أن ابن الطيب، وهو صباغ في بغداد، عاش إلى ان بلغ الخامسة والثمانين من العمر، وتزوج من تسعمائة زوجة (56). وكان في وسع المسلم، فضلاً عن زوجاته، أن يكون له أي عدد من الجواري، وكان لهارون الرشيد عدد كبير منهن، وكان للمتوكل أكثر مما كان لهارون (57)، وكان بعض تجار الرقيق يعلمون الجواري الموسيقى والغناء، وفنون فتنة الرجال، ثم يبيعونهن بأثمان عالية قد تصل إلى مائة ألف درهم (نحو 80. 000 دولار أمريكي)(58). ولكن ليس من حقنا أن نظن أن بيت الحريم كان ماخوراً خاصاً. فقد كانت الجواري يصبحن في أغلب الأحيان أمهات، يفخرن بمن يلدن من الأبناء، وبعدد الذكور منهم، ولدينا شواهد كثيرة على ما كان بين الرجل وجاريته من الحب الصادق الأكيد. وكانت الزوجات الشرعيات يرتضين هذا النظام ويرينه من الأمور الطبيعية، فقد أهدت زبيدة إلى الرشيد عشر جوارِ (59)؛ وكان البيت بمقتضى هذا النظام يحتوي من الأبناء بقدر ما تحتويه ضاحية لإحدى المدن الأمريكية. من ذلك أن أحد أبناء الولي الأول كان له ثمانون ولداً وعدد من البنات لم يذكره المؤرخون. واستتبع نظام الحريم وجود الخصيان، وإن كان هذا محرماً في الشريعة الإسلامية. واشترك المسيحيون واليهود في استيرادهم أو تهيئتهم، وكان الخلفاء، والوزراء، والكبراء يبتاعونهم بأثمان غالية، وسرعان ما أصبحت نواحٍ عدة من الحكومة الإسلامية خاضعة لنفوذ أولئك الخصيان المحدودي الكفاية. وكان من النتائج التي ترتبت على نظام الحريم في القرون الأولى التي تلت الفتوح الإسلامية أن منعت العرب من أن يمتصهم أهل البلاد

ص: 139

المفتوحة، وأن تضاعف عددهم إلى الحد الذي كانوا في حاجة إليه لحكم دولتهم المطردة الاتساع. ولربما كان لهذا النظام أثره في قوة أقدر الرجال على الإخصاب؛ ولكن تعدد الزوجات أصبح بعد عصر المأمون مصدراً للانحطاط من الناحيتين الخلقية والاجتماعية، كما أصبح بعد أن أربت نسبة زيادة السكان على زيادة الطعام، من أسباب تزايد الفاقة والسخط بين الأهلين.

وكان مركز المرأة بعد الزواج هو الخضوع إلى زوجها خضوعاً مصدره تقديس الرابطة الزوجية. والشريعة تحرم عليها أن يكون لها اكثر من زوج واحد في وقت واحد، ولم يكن في وسعها أن تطلق نفسها منه إلا بمشقة كبيرة، ثم أنها لم يكن لديها سبيل لمعرفة خيانة زوجها، ولم تكن هذه الخيانات مما يُعبأ به كثيراً من الناحية الأخلاقية. أما خيانتها هي فكان عقابها الموت. ويدهشنا أن نعرف كم من حوادث الزنى قد ارتكبته النساء رغم هذا العقاب الصارم والتضييق الشديد. وكانت المرأة تسب وتبجل، وتحقر وتقمع وتحب في معظم الأحيان حباً مصحوباً بعاطفة قوية وحنان، يقول أبو العتاهية إنه يفضل زوجته عن كل متع الحياة وعن كل ما في العالم من ثراء (60). وأمثال هذا القول كثيرة وهي في بعض الأحيان صادقة. وكان مركز المرأة المسلمة يمتاز عن مركز المرأة في بعض البلاد الأوربية من ناحية هامة، تلك هي أنها كانت حرة التصرف فيما تملك لا حق لزوجها أو لدائنيه في شيء من أملاكها. وكانت في داخل بيتها الأمين تغزل وتنسج، وتطرز، وتدير بيتها، وتعنى بأبنائها، وتمارس بعض الألعاب، وتأكل الحلوى وتتحدث إلى أترابها، وتحيك الدسائس. وكان يُنتظر منها أن تلد لزوجها كثيراً من الأبناء ذوي الفائدة الاقتصادية في المجتمع الاقتصادي الأبوي، وكان ما تلقاه من إجلال يتناسب مع خصبها، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لحصير في ناحية البيت خيرٌ من امرأة لا تلد"(61). ومع هذا فإن الإجهاض ووسائل منع الحمل كانت كثيرة الانتشار في داخل البيوت. وكانت

ص: 140

القابلات تنقل إلى النساء قديمها، كما كان الأطباء يعرضون عليهن حديثها. وقد أفرد الرازي (المتوفى سنة 924) في أحد كتبه فصلاً لموانع الحمل، وذكر أربعة وعشرين من الموانع الآلية والكيميائية (62). وأورد أبن سينا (980 - 1037) في كتاب القانون الذائع الصيت عشرين وصفة لمنع الحمل.

وليس ثمة فرق كبير بين المسلم والمسيحي في النواحي الخلقية الخارجة عن نطاق الناحية الجنسية. فالقرآن مثلاً يحرم الميسر والخمر تحريماً قاطعاً (سورة المائدة 90). ولكن بعض الميسر وكثيراً من الخمر ظلا باقيين في كلتا الحضارتين. وانتشر الفساد والرشوة في أعمال الحكم والقضاء في بلاد الإسلام في بعض العصور كما كانا منتشرين في بلاد المسيحية. ويبدو بوجه عام أن المسلم كان أرقى من المسيحي في خلقه التجاري (63)، وفي وفائه بوعده، وإخلاصه للمعاهدات التي يعقدها مع غيره (64)؛ ولقد أجمعت الآراء على أن صلاح الدين كان أنبل من اشترك في الحروب الصليبية. والمسلمون شرفاء فيما يختص بعادة الكذب، فهم يبيحون الكذب إذا كان فيه نجاة من الموت، أو حسم لخصومة، أو إدخال السرور على زوجة، أو خدعة في الحرب لأعداء الدين (65). والآداب الإسلامية تجمع بين التكلف والبشاشة، وحديث المسلم ملئ بالتحية والمبالغة في التأدب. والمسلمون كاليهود يحيي بعضهم بعضاً، وينحني الواحد منهم لصاحبه ويصافحه ويقول له:"السلام عليكم، والرد الصحيح لهذه التحية "عليكم السلام ورحمة الله وبركاته"، وإكرام الضيف من صفاتهم العامة، والدين الإسلامي يحث على نظافة الجسم وإن كانت النظافة عادة تتأثر بالدخل، فالفقراء يهملونها حتى تتراكم الأقذار على أجسادهم، اما الأغنياء فيتليفون، ويدرمون أظافرهم، ويتعطرون. والختان عادة متبعة عند جميع المسلمين وإن لم يرد ذكرها في القرآن، لأنها في رأيهم من أسباب المحافظة على الصحة، وكان الأولاد يختنون في سن الخامسة

ص: 141

أو السادسة (66). وكانت الحمامات الخاصة من مميزات بيوت الأغنياء، ولكن الحمامات العامة كانت ولا تزال كثيرة في البلاد الإسلامية. فالمؤرخون يقولون إن بغداد كانت في القرن العاشر الميلادي تحتوي على 27. 000 حمام (67). وكان العطر والبخور مألوفين بين الرجال والنساء، وقد اشتهرت بلاد العرب من أقدم الأزمان بالكندر والمر، وبلاد الفرس بزيت الورد والبنفسج والياسمين، وكان في كثير من البيوت حدائق غرست فيها أعشاب الزينة والأزهار وأشجار الفاكهة، وكانت الأزهار محببة للشعب وخاصة في فارس، وكانت يضفي على الحياة بهجة ومتعة.

بقي أن نعرف كيف كان هؤلاء الناس يروحون عن أنفسهم وما هي وسائل التسلية عندهم؟ لقد كان من أهم وسائل التسلية عندهم الأعياد والولائم، والصيد، ومغازلة النساء، والشعر، والموسيقى، والغناء، وكانت الطبقات الدنيا تضيف إليها قتال الديكة، والرقص على الحبال، والشعوذة، والسحر، ولعبة العرائس المتحركة (القرقوز

) ويدل كتاب القانون لابن سينا على أن المسلمين كان لديهم في القرن العاشر الميلادي كل ما عندنا تقريباً من الألعاب الرياضية: الملاكمة، والمصارعة، والعدو، والرمي بالنبال، وقذف الحراب، والحركات الرياضية الجسمية، والمثاقفة، وركوب الخيل، والحجف

(1)

، ورفع الأثقال، وأنواع مختلفة من لعبة الكرة والمضرب (68). وإذ كانت ألعاب الحظ محرمة، فقد كانت ألعاب الورق وكعوب النرد قليلة، وكانت (الطاولة) كثيرة الانتشار، وكان الشطرنج مباحاً، وإن كان النبي قد نهى عن صنع قطعة في صور الآدميين. وكان سباق الخيل منتشراً، يبسط عليه الخلفاء رعايتهم؛ ويحدثنا المؤرخون بأن أربعة آلاف جواد اشتركت مرة في سباق. وقد ظل صيد الحيوان مقصوراً على

(1)

الحجف اللعب بالكرة وهو المعروف بالبولو في هذه الأيام. (المترجم)

ص: 142

أرقى طبقات الأشراف، وكان عند المسلمين أقل عنفاً منه في أيام الساسانيين، وكثيراً ما أقتصر على الصيد بالبزاة أو الصقور. وكانت الحيوانات المصيدة تربى أحياناً وتدلل، وكان عند بعض الأسر كلاب، وعند بعضها قردة، وعند بعض الخلفاء آساد ونمورة يرهبون بها رعاياهم أو سفراء الدول الأجنبية.

وكان العرب حين فتحوا بلاد الشام قبائل قليلة الحظ من المدنية، شجعاناً إلى درجة التهور، كثيري العنف، سريعي الانفعال، متشككين. وكان الإسلام قد خفف من حدة هذه الصفات، ولكن معظمها لم يكن قد انمحى بعد، وأكبر الظن أن ما يحدثنا عنه المؤرخون عن ضروب القسوة التي كان يرتكبها بعض الخلفاء لم يكن يزيد في مجموعه على ما كان يرتكبه الملوك المسيحيون والبيزنطيون والمروفنجيون، وأهل الشمال، ولكنه رغم هذا مما يسربل بالغار كل حضارة. ومما يروى عن سليمان بن عبد الملك أنه في رحلة إلى مكة ليؤدي فريضة الحج، دعا رجال حاشيته ليجربوا سيوفهم في رقاب أربعمائة من الروم، أسِرُوا حديثاً في إحدى الحروب. وقبل رجاله الدعوة وضربت رقاب أربعمائة رجل، ليتسلى الخليفة بذلك النظر (69). ولما جلس المتوكل على العرش ألقى في السجن بوزير كان قد عامله مرة منذ بضع سنين بشيء من الاحتقار؛ ومنع السجين من النوم عدة أسابيع حتى كاد يذهب عقله، ثم سمح له أن ينام أربعاً وعشرين ساعة، فلما عادت إليه قوته بهذه الطريقة وضع بين ألواح من الخشب دقت فيها مسامير، منعته أن يتحرك ليقضي حاجته الطبيعية، وبقي على هذه الحال يعاني أشد الآلام حتى مات (70). ولا حاجة إلى القول بأن هذه الوحشية كانت من الأعمال الشاذة، أما المألوف فإن المسلم كان مثال الرقة، والإنسانية، والتسامح، وكان، إذا وصفنا أواسط الناس، سريع الفهم، حاد الذكاء، سريع التهيج، يسهل

ص: 143

إدخال السرور إلى قلبه، والمرح على نفسهِ؛ يجد الرضا في البساطة، ويصبر على بلواه في هدوء، ويتلقى جميع حوادث الأيام بصبر، وكرامة، وشمم، وكبرياء. وكان المسلم إذا عقد النية على سفر طويل، أخذ معه كفنه المنسوج من الكتان، استعداداً منه في أي وقت للقاء ربه، فإذا أنهكه المرض والتعب وهو سائر في الصحراء، أمر رفاقه بأن يواصلوا سفرهم. ثم توضأ هو لآخر مرة، واحتفر لنفسهِ حفرة يتخذها قبراً له، ولف نفسه في كفنهِ، ونام في الحفرة، ينتظر أن توافيه منيته، وأن تغطي جسمه الرمال السافية (17).

ص: 144

الفصل الرّابع

‌الحكومة

كانت الحكومة الإسلامية في الثلاثين السنة التي تلت وفاة النبي جمهورية ديمقراطية من الوجهة النظرية بالمعنى الذي كان مفهوماً من هذه العبارة في الزمن القديم، وهو أن يشترك جميع الذكور الراشدين في اختيار رأس الدولة وتحديد سياستها. أما من الناحية العملية فقد كان الذين يختارون أمير المؤمنين ويرسمون سياسة الدولة فئة قليلة من أعيان المدينة. ولم يكن ينتظر شيء غير هذا بطبيعة الحال، ذلك أن الناس يختلفون في ذكائهم وفي ضمائرهم، ولهذا فإن الديمقراطية في أحسن صورها لا بد أن تكون نسبية، ولا محيص من أن تنشأ صورة ما من صور الألجركية في المجتمعات التي لا تتيسر فيها سبل الاتصال والتي تقل فيها نسبة المتعلمين. وإذ كانت الحرب والديمقراطية لا تجتمعان معاً، فإن اتساع رقعة البلاد الإسلامية قد ساعد على قيام حكم الفرد، لأن وحدة الرياسة والإسراع في اتخاذ القرارات لا بد منها لقيام السياسة الحربية الاستعمارية. ولهذا أضحت الحكومة في عهد الأمويين ملكية صريحة، الخلافة فيها إما وراثة وإما أن تقررها قوة السلاح.

كذلك كان منصب الخليفة من الوجهة النظرية منصباً دينياً أكثر مما كان منصباً سياسياً. فقد كان الخليفة قبل كل شيء رئيس مجتمع ديني هو مجتمع المسلمين، وكان واجبه الأول الدفاع عن الدين، ولهذا كانت الخلافة حكومة دينية خاضعة لحكم الله عن طريق الدين. لكن الخليفة لم يكن بابا أو قساً، ولم يكن في مقدوره أن يصدر قرارات جديدة في الشؤون الدينية. ومع هذا فقد كان من الوجهة العملية ذا سلطان مطلق لا يحد منه برلمان، ولا طبقة وراثية من

ص: 145

الأشراف، ولا هيئة من رجال الدين، بل كان الذي يحد من هذا السلطان هو القرآن وحده-وكان في وسع من يستخدمهم من العلماء

(1)

ويؤدي لهم أجرهم أن يفسروه له كما يريد. وكان ثمة قدر من تكافؤ الفرص في هذه الحكومة المطلقة. ذلك أنه كان في مقدور أن إنسان أن يرقى إلى أعلى المناصب إلا إذا كان أبواه كلاهما من الأرقاء.

وأدرك العرب أنهم قد تغلبوا على مجتمعات مضمحلة ولكنها حسنة التنظيم فاستعانوا في بلاد الشام بنظام بيزنطية الإداري، وفي بلاد فارس بنظام الساسانيين، وكان لا بد أن تسير الحياة في الشرق الأدنى على النسق القديم، بل أن الثقافة اليونانية الشرقية نفسها قد تخطت حاجز اللغة وانتعشت مرة أخرى في العلوم والفلسفة الإسلامية. ونشأ في عهد العباسيين طراز معقد من الحكومة المركزية، والإقليمية، والمحلية، تسيره طائفة من الموظفين لا تتأثر إلا قليلاً باغتيال الجالسين على العرش، أو بالثورات التي تحدث في داخل القصر. وكان على رأس النظام الإداري الحاجب أو رئيس التشريفات، ولم يكن عمله من الوجهة النظرية يتعدى الإشراف على الحفلات في القصر، ولكنه استطاع من الوجهة العملية أن يستحوذ على كثير من السلطة بتحكمه فيمن يدخلون على الخليفة. وكان يليه في مرتبته، ولكن يفوقه في السلطان (بعد الخليفة المنصور) الوزير، وهو الذي يعين موظفي الحكومة، ويشرف عليهم، ويرسم سياسة الدولة ويسيرها. وكان أهم الدواوين ديوان الخراج، والحسابات، والشرطة، والبريد، والنظر في المظالم وهو الذي أصبح بمثابة محكمة ترفع إليها الأحكام القضائية والإدارية. وكان يلي الجيش في الأهمية عند الخليفة ديوان الخراج حيث كان الجباة يضارعون جباة الدولة

(1)

لا شك في أن في هذا الحكم الشامل مغالاة كثيرة. فالتاريخ الإسلامي يفيض بالشواهد الدالة على ما لرجال الدين من مواقف مشرفة ضد الخلفاء، لاقوا بسببها كثيراً من العنف والاضطهاد. (المترجم)

ص: 146

البيزنطية في عنادهم وشدتهم، وكانت أموال طائلة تنتزع من الاقتصاد القومي لإقامة نظام الحكم والإنفاق على الحكام. وكان إيراد بلاد الخلافة كل عام في عهد هارون الرشيد يزيد على 530. 000. 000 درهم (نحو 42. 400. 000 ريال أمريكي) فضلاً عما أضيف إليه في ذلك الوقت من ضرائب عينية لا يحصى عديدها (72). ولم يكن ثمة دَيْن قومي، بل حدث عكس هذا في عام 786 إذ كان في الخزانة رصيد يبلغ 900. 000. 000 درهم.

وكان البريد العام، كما كان في عهد الفرس والرومان؛ لا يخدم إلا الحكومة وكبار الأشخاص، وكان أهم ما يستخدم فيه هو نقل الأخبار والأوامر بين عاصمة الدولة والولايات، ولكنه كان إلى هذا يتخذ وسيلة للتجسس من قبل الوزير على الحكام المحليين. وكان ديوان البريد يصدر أدلة مكتوبة ليستعين بها التجار والحجاج، تحوي أسماء محاط البريد المختلفة، وبعد كل واحد منها عن الآخر، وكانت هذه الأدلة أساس علم تقويم البلدان عند العرب، وكان الحَمَام يدرب ويستخدم في نقل الرسائل-وكان هذا أول استخدام له معروف في التاريخ (837). وكانت الأخبار فوق هذا ينقلها المسافرون والتجار، وكان في بغداد ألف وسبعمائة "امرأة عجوز" يعملن جاسوسات. غير أن الرقابة مهما اشتدت لا يمكن أن تحول بين الشرقيين والغربيين وبين ابتزاز الأموال العامة أو الارتشاء. فقد كان الولاة في بلاد العرب، كما كانوا في بلاد الرومان، يرون أن سني خدمتهم يجب أن تعوضهم عما أنفقوه من المال ليرتقوا به سلم المناصب، وما يلاقونه من المحن حين يغادرون المنصب. وكان الخلفاء في بعض الأحيان يرغمونهم على أن يردوا ما اغتصبوه، أو يبيعون حق إرغامهم إلى الحكام الذين يخلفونهم، وبهذه الطريقة انتزع يوسف بن عمر 76. 000. 000 درهم من الولاة الذين تولوا حكم العراق قبله. وكان الولاة يتناولون مرتبات عالية، ولكن منهم أيضاً من تأثروا بسخاء الأسخياء، وقد ورد في أحد الأحاديث أن النبي نفسه كان يرى أن اثنين على

ص: 147

الأقل من بين كل ثلاثة قضاة سيحشرون في النار (73).

وكان المفروض أن الشريعة التي تحكم بها الدولة المترامية الأطراف مستمدة من نصوص القرآن. ذلك أن القانون والدين كانا عند المسلمين، كما كانا عند اليهود، شيئاً واحداً. فكل جريمة خطيئة، وكل خطيئة جريمة، ولذلك كان فقه القانون عند المسلمين فرعاً من علوم الدين. فلما أن زادت الفتوح من التبعات الملقاة على الشريعة الإسلامية ونشأت حالات جديدة لم ينص عليها القرآن وضع بعض المشرعين المسلمين أحاديث لمواجهة تلك الحالات صراحة أو ضمناً، وبهذا أصبح الحديث مصدراً ثانياً من مصادر التشريع الإسلامي

(1)

، وكان من المصادفات الغريبة المتكررة أن هذه الأحاديث تردد أصداء المبادئ والأحكام والشرائع الرومانية والبيزنطية، وتردد أكثر من ذلك مبادئ المشنار وجمار اليهود وأحكامهما (74). وكانت الزيادة المطردة في هذه الأحاديث التشريعية الكثيرة مما رفع من شأن مهنة القضاء في البلاد الإسلامية، وخلع على الفقهاء الذين يفسرون القانون أو يطبقونه من السلطان والتعظيم ما لا يقل عما كان لطبقة الكهنة والقساوسة عند غير المسلمين. وقد عل هؤلاء ما عله أمثالهم ي فرنسا في القرن الثاني عشر، فقد تحالفوا مع الملكية، وأيدوا حكم العباسيين المطلق، ونالوا جزاءهم على هذا التأييد.

ونشأت في البلاد الإسلامية السنية أربعة مذاهب: أولاها مذهب أبي حنيفة ابن ثامت (المتوفى عام 767) وقد أحدث انقلاباً كبيراً في الشريعة الإسلامية باتباع مبدأ العباس في تفسير القرآن. وهو يرى أن القانون الذي سن أول الأمر لأهل الصحراء يجب ألا يؤخذ بحرفيته بل بروحه إذا أريد تطبيقه على مجتمع صناعي أو حضري. وعلى هذا الأساس أجاز أبو حنيفة قروض الرهن

(1)

لسنا ننكر أن هناك أحاديث منحولة ولكننا نعتقد أن الأحاديث الصحيحة السند معين لا ينضب للتشريع. (المترجم)

ص: 148

ويشبه هذا ما فعله هلل في فلسطين قبل ذلك العهد بثمانية قرون. ومن أقوال أبي حنيفة في هذا المعنى إن القاعدة القانونية تختلف عن قواعد النحو والمنطق، فهي تمثل سنة عامة تتغير بتغير الظروف التي أوجدتها (75). وخرج من بين أهل المدينة المحافظين عالم آخر لا يجيز هذه الفلسفة الحرة التقدمية في التشريع، وهو مالك بن أنس (715 - 795). وقد أقام مالك مذهبه بعد دراسة واسعة لألف وسبعمائة من الأحاديث التشريعية، ويقول إنه لما كانت كثرة هذه الأحاديث قد صدرت في المدينة، فإن إجماع أهل المدينة هو الذي يجب أن يؤخذ به تفسير الحديث والقرآن. ويرى محمد الشافعي (767 - 820) الذي عاش في بغداد والقاهرة ألا يقتصر هذا الحق على أهل المدينة، وأن الإجماع في كل بلاد الإسلام هو المحك الأخير للشرائع والسنة والحقيقة. ويرى أحمد بن حنبل أن هذا المقياس غامض وأوسع مما ينبغي، وأنشأ مذهباً أساسه أن القرآن والحديث وحدهما يجب أن يكونا أساس التشريع. وندد بمذهب المعتزلة العقلي في الفلسفة، وألقى به المأمون في السجن لتمسكه الشديد بمذهب أهل السنة، ولكنه استمسك بآرائه بشجاعة عظيمة كان من أثرها أن خرجت بغداد على بكرة أبيها تشيع جنازته لما أن وافته منيته.

غير أن ما بين المذاهب الإسلامية الأربعة، التي يعترف بها أهل السنة في الإسلام، من الاتفاق في التفاصيل لا يقل عما بينها من الاختلاف في المبادئ، وذلك على الرغم من هذا الجدل الطويل الذي ظل قائماً مائة عام. فهي كلها تؤمن بأن الشريعة الإسلامية من عند الله، وبأن كل شريعة خليقة بأن يحكم بها الجنس البشري الذي لا يخضع بفطرته للقانون، ويجب أن تكون أصولها منزلة من عند الله. وهي كلها تسرف في وضع تفاصيل قواعد السلوك والشعائر الإسلامية إسرافاً لا يجاريها فيه إلا الدين اليهودي، وقد عنى المشرعون بكثير من التفاصيل كطريقة استعمال السواك، وسنن الزواج، وما يليق وما لا يليق من ثياب الرجال

ص: 149

والنساء، والطريقة الصحيحة لتصفيف الشعر، ويروى أن أحد الفقهاء لم يأكل البطيخ قط لأنه لم يجد في القرآن أو الحديث ما يعرف من الطريقة الصحيحة التي يأكله بها (76). ولقد كان من شأن كثرة ما يسن من القوانين أن تحول بين تطور المجتمع الإسلامي، ولكن اختلاف الآراء في القانون الواحد وتجاوز منفذي القانون عن مخالفته في بعض الأحيان قد وفقا بين قسوة التشريع من جهة وقسوة الحياة وتطورها من جهة أخرى. غير أنه رغم هذا، ورغم انتشار مذهب أبي حنيفة وما فيه من تسامح وحرية، فإن النزعة الغالبة على الشرائع الإسلامية هي النزعة المحافظة والاستمساك القوي بالسنن استمساكاً يعطل التطور الحر للأنظمة الاقتصادية، والآداب الشخصية والتفكير

(1)

.

ولا يسعنا إلا أن نسلم-مع هذه التحفظات-بأن الخلفاء الأولين من أبي بكر إلى المأمون قد وضعوا النظم الصالحة الموفقة للحياة الإنسانية في رقعة واسعة من العالم، وأنهم كانوا من أقدر الحكام في التاريخ كله. ولقد كان في مقدورهم أن يصادروا كل شيء، أو أن يخربوا كل شيء، كما فعل المغول أو المجر أو أهل الشمال من الأوربيين؛ لكنهم لم يفعلوا هذا بل اكتفوا بفرض الضرائب. ولما أن فتح عمرو مصر أبى أن يستمع إلى نصيحة الزبير حين أشار عليه بتقسيم أرضها بين العرب الفاتحين، وأيده الخليفة في هذا الرأي وأمره أن يتركها في أيدي الشعب يتعهدها فتثمر (77). وفي زمن الخلفاء الراشدين مسحت الأراضي، واحتفظت الحكومة بسجلاتها، وأنشأت عدداً كبيراً من الطرق وعنيت بصيانتها، وأقيمت الجسور حول الأنهار لمنع فيضانها، وكان العراق قبل الفتح الإسلامي صحراء جرداء فاستحالت أرضها بعده جناناً فيحاء، وكان كثير من أرض فلسطين قبيل الفتح رملاً وحجارة فأصبحت خصبة، غنية، عامرة بالسكان (78). وما من شك

(1)

وهذا ما لا نوافق عليه المؤلف وما لا يتفق مع الواقع؛ فالإسلام بشهادة كثيرين من علماء الغرب سمح لا يعطل التفكير أو الاقتصاد أو الآداب. (المترجم)

ص: 150

في أن استغلال المهرة والأقوياء للسذج والضعفاء بقي في عهد الحكومات الإسلامية كما يبقى في عهود كل الحكومات، ولكن الخلفاء قد أمنوا الناس إلى حد كبير على حياتهم وثمار جهودهم، وهيئوا الفرص لذوي الواهب، ونشروا الرخاء مدى ستة قرون في أصقاع لم تر قط مثل هذا الرخاء بعد عهدهم، وبفضل تشجيعهم ومعونتهم انتشر التعليم، وازدهرت العلوم، والآدابـ والفلسفة، والفنون ازدهاراً جعل الغبية مدى خمسة قرون أرقى أقاليم العالم كله حضارة.

ص: 151

الفصل الخامِس

‌المدن

يجدر بنا قبل أن نتحدث عن الرجال الذين أنشئوا هذه الحضارة وميزوها من غيرها من الحضارات، ونصف أعمال هؤلاء الرجال، أن نصور لأنفسنا البيئة التي كانوا يعيشون فيها. إن الحضارة ريفية في أصولها وقواعدها، ولكنها مدنية في صورتها، إذ لابد أن يجتمع الناس في المدن حتى يستمع بعضهم إلى بعض وينبه بعضهم بعضاً.

ولقد كانت البلدان الإسلامية جميعاً تقريباً غير كبيرة في سعتها لا يزيد سكان الواحد منها على عشرة آلاف ومنها ما يقل عامرها عن ذلك، يحشرون في رقعة ضيقة لها أسوار تحميها من الغارات والحصار، مظلمة شوارعها مليئة بالتراب والوحل، ذات بيوت صغيرة مطلية بالجص ومحوطة بجدران متصلة ترد عنها الأبصار. وكان جلال المدينة كله محصوراً في مسجدها، ولكن كانت تقوم في أماكن متفرقة من الأقطار الإسلامية مدن كبيرة ارتقت فيها الحضارة الإسلامية إلى أعلى درجات الجمال والمعرفة والسعادة.

وكانت مكة والمدينة، ولا تزالان، في نظر المسلمين مدينتين مقدستين، لأن في أولهما الكعبة التي كان العرب يقدسونها في الزمن القديم، كما أن فيها مسقط رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن الثانية هي المكان الذي هاجر إليه وأقام فيه. وقد جدد الوليد الثاني بناء مسجد المدينة الصغير وجعله مسجداً فخما ذا روعة وجمال. وأرسل إمبراطور بيزنطية بناء على طلب الوليد، وفي نظير ثمانين ألف دينار، أربعين حملاً من أحجار الفسيفساء، كما استقدم الوليد ثمانين من مهرة الصناع من مصر وبلاد اليونان، حتى لقد شكا المسلمون من أن مسجد

ص: 152

نبيهم كانت تشيده أيدي المسيحيين غير المسلمين. واتخذت المدينتان في عهد الأمويين، وعلى الرغم من وجود الكعبة ومسجد النبي فيهما، مظهراً من الترف الدنيوي لو رآهما الخلفاء الأولون لاستشاطوا غضباً، وما من شك في أن هذا المظهر قد ادخل السرور على قلوب قريش المنتصرين. فأما ثراء المدينة فسببه أن مغانم الحرب قد صبت فيها صباً، وأن معظمها قد وزع على الأهلين، وأما ثراء مكة فسببه أن الحجاج كانوا يجيئون إليها من كافة أنحاء العالم الإسلامي، في جموع مطردة الزيادة، ويحملون معهم من الهدايا ما لم يكن يصل إليها من قبل. ونشطت بذلك التجارة وراجت زواجاً عظيماً، وأصبحت المدينتان مركزين للثراء، وللراحة، والمرح، والطرب. وقامت فيهما القصور والبيوت الريفية ذات الحدائق في ضواحيهما يسكنها الأشراف وتعج بالخدم والعبيد، وكثرت فيها السراري، وجرت فيها الخمر المحرمة في الإسلام، فأخذ المغنون يطربون سكانها بالأنغام الحزينة والشعراء ينشدون أناشيد الحرب والحب. وفي المدينة كانت السيدة سكينة ابنة الشهيد الحسين ترأس ندوة من الشعراء والساسة والعلماء في الشريعة الإسلامية، وكان ذكاؤها، وجاذبيتها، وذوقها هي المستوى الذي يصبو إليه الناس في جميع بلاد الإسلام. وتزوجت سكينة أكثر من مرة، وكانت في بعض الأحيان تشترط على من يطلب الزواج منها أن تكون حرة في عقد مجالسها العلمية والأدبية (79). ذلك أن النزعة الأموية- نزعة الاستمتاع بمباهج الحياة-كانت قد غلبت في أقدس مركزين من مراكز الإسلام نزعة التقشف والتزمت التي اتصف بهما أبو بكر وعمر.

وكان مدينة بيت المقدس هي الأخرى مدينة مقدسة عند المسلمين. وقد أصبح العرب من القرن الثامن الميلادي يؤلفون الكثرة الغالبة من سكانها. وأراد الخليفة عبد الملك بن مروان أن يكون فيها مسجد للمسلمين لا يقل فخامة عن كنيسة القبر المقدس حين جددت بعد أن دمرها كسرى أبرويز، فاستخدم

ص: 153

خراج مصر في تشييد عدة صروح تعرف عند المسلمين باسم الحرم الشريف، وشيد في الطرف الجنوبي من المدينة (691 - 694) المسجد الأقصى. وقد دمر زلزال هذا المسجد في عام 746، ثم أعيد بناؤه في عام 785، وأدخلت عليه فيما بعد تعديلات كثيرة، ولكن القبلة لا تزال كما كانت في أيام عبد الملك، كما أن معظم العمد مأخوذ باسلقا جستنيان التي كانت قائمة في أورشليم. ويرى المقدسي أن بيت المقدس أجمل من المسجد الأموي العظيم المقام في دمشق، ويقول المسلمون إن النبي صلى الله عليه وسلم قد التقى فيهِ بإبراهيم، وموسى، وعيسى، وأنه صلى فيه معهم، وانه رأى بالقرب منه الصخرة (التي يعتقد بنو إسرائيل أنها سرة الدنيا) والتي أراد إبراهيم أن يضحي عندها بإسحق

(1)

، والتي تلقى عندها موسى تابوت العهد، والتي شاد عندها سليمان وهيرود هيكلهما. ويعتقد بعض المسلمون أن النبي صعد عندها إلى السماء، وأن الإنسان لو أوتي إيماناً قوياً لأبصر في الصخرة أثار قدميه. ولما أن استولى عبد الله بن الزبير على مكة في عام 684 وعلى ما يدخل فيها من إيراد الحج أراد عبد الملك أن يجتذب إلى الشام أموال الحج، وأن يحج الناس إلى الصخرة بدل أن يحجوا إلى الكعبة، فأقام صناعه على هذا الحجر التاريخي (691)"قبة الصخرة" الشهيرة على الطراز البيزنطي-السوري، وسرعان ما أضحت هذه القبة "رابعة عجائب العالم الإسلامي"(والثلاث الأخرى هي مساجد مكة والمدينة ودمشق). ولم يكن هذا البناء في أول امره مسجداً، بل كان حرماً مقدساً حول الصخرة؛ وقد أخطأ الصليبيون مرتين حين أطلقوا عليه اسم "مسجد عمر". ويبلغ ارتفاع القبة 112 قدماً، وهي قائمة على بناء ذي ثمانية أضلاع مشيد من الحجارة المربعة. ويبلغ محيط هذا البناء 528 قدماً. والقبة نفسها مصنوعة من الخشب ومغطاة من الخارج بالنحاس

(1)

الذي يعتقده المسلمون أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحق. (المترجم)

ص: 154

الأصفر المذهب ذي النقوش البارزة. وللبناء أربعة أبواب جميلة-عتباتها مصفحة بالبرونز-تؤدي إلى الداخل الذي تقسمه صفوف من العمد المتخذة من المرمر المصقول، متتالية ومتحدة في المركز، إلى أشكال مثمنة الأضلاع كل منها أصغر من الذي في خارجه. وهذه العمد الفخمة من الآثار الرومانية القديمة، وتيجانها بيزنطية الطراز. وتمتاز الأجزاء التي بين العقود بما فيها من قطع الفسيفساء، التي تصور أشجاراً لا تقل في جمالها عن تصوير كوربية Qourbet. وأجمل من هذا على جماله فسيفساء الجزء الأسفل من القبة. وعلى الطنف التي فوق العمد الخارجية نقش بالخيط الكوفي ذو حروف صفراء على قطع من القرميد زرقاء، أمر به صلاح الدين في عام 1187، وهو مثل جميل رائع من هذه الزخرفة المعمارية الفذة. وتحيط العمد بهذه الصخرة الضخمة غير المنتظمة الشكل التي يبلغ محيطها مائتي قدم. وقد وصفها المقدسي بقوله:

"فإذا بزغت عليها الشمس أشرقت القبة، وتلألأت المنطقة، ورأيت شيئاً عجيباً. وعلى الجملة لم أر في الإسلام ولا سمعت أن في الشرق مثل هذه القبة"(80).

وقد أخفق عبد الملك فيما كان يسعى من إحلال هذه الصخرة عند المسلمين محل الكعبة، ولو أنه نجح فيما كان يبتغيه لأضحى بيت المقدس مركز الأديان الثلاثة التي كانت تتنافس في الاستحواذ على روح الإنسان في العصور الوسطى.

ومع هذا كله فإن بيت المقدس لم يكن عاصمة ولاية فلسطين، بل نالت الشرف بلدة الرملة. وكانت في الأماكن التي تشغلها الآن قرى صغيرة فقيرة مدن زاهرة في عهود الإسلام الأولى. ومن تلك المدن عكا التي كتب عنها المقدسي في عام 985 يقول إنها مدينة كبيرة واسعة الرقعة. وكتب الإدريسي في عام 1124 عن صيدا إنها مدينة مترامية الأطراف تحيط بها الحدائق والأشجار، ووصف اليعقوبي في عام 891 مدينة صور بأنها بلدة جميلة مشيدة على صخرة،

ص: 155

بارزة في البحر، ويقول ناصر خسرو في عام 1047 إن فيها خانات ترتفع خمس طبقات أوست، وإن فيها قدراً كبيراً من الثروة معروضاً في أسواقها النظيفة (81) وكان لطرابلس القائمة في شمالها مرفأ أمين جميل يتسع لألف سفينة. واشتهرت طبرية بياسمينها وبعيونها الحارة. وكتب ياقوت الرحالة المسلم في عام 1224 عن الناصرة يقول: "فيها كان مولد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام!

وكان أهلها عيروا مريم فيزعمون أنه لم تلد قط عذراء طفلاً"

(1)

.

ويصف اليعقوبي بعلبك بأنها أجمل بلدان الشام، ويضيف المقدسي إلى هذا أنها بلدة عظيمة الثراء. وكانت إنطاكية ثانية مدن الشام لا يفوقها في عظمنها إلا دمشق وحدها. وقد امتلكها المسلمون من عام 635 إلى عام 964، ثم استولى عليها البيزنطيون من ذلك التاريخ الأخير حتى عام 1084. ويعجب الجغرافيون المسلمون بكنائسها الكثيرة الفخمة، وبما في بيوتها الجميلة من شرفات عالية، وبحدائقها وبساتينها الغناء، ويقولون إن الماء يدخل في كل بيت من بيوتها. وكانت طرسوس من كبريات المدن؛ ويقدر ابن حوقل (978) عدد الذكور من سكانها بمائة ألف، وقد استعادها نقفور إمبراطور الروم في عام 965، وهدم جميع ما فيها من المساجد، وحرق جميع المصاحف، وكانت حلب بلدة غنية لوقوعها عند ملتقى طريقين من طرق القوافل. ويصفها المقدسي بأنها مدينة غنية مبنية بالحجارة، ذات شوارع تظللها الأشجار، وتقوم على جانبها الحوانيت ويؤدي كل شارع منها إلى باب من أبواب المسجد وكان في هذا المسجد محراب اشتهر بما فيه من عاج وخشب محفور، ومنبر تبتهج العين لرؤيته وكان بالقرب منه خمسة مدارس، وبيمارستان، وست كنائس مسيحية. وكتب

(1)

هذه هي ترجمة النص كما أورده المؤلف أما النص كما جاء في كتاب معجم البلدان لياقوت فهو"

وكان أهلها عيروا مريم فيزعمون أنه لا تولد بها بكر إلى هذه الغاية". (المترجم)

ص: 156

اليعقوبي في عام 891 يقول إن حمص أكبر مدن الشام، وكتب الاصطرخي في عام 590 يقول إن شوارعها وأسواقها كلها تقريباً مرصوفة بالحجارة. ويقول المقدسي إن نساؤها ذوات جمال رائع وبشرة رقيقة (83).

ولما اتسعت الدولة العربية نحو الشرق رؤى أن من مصلحتها أن تكون عاصمتها في موضع أقرب إلى وسطها من مكة أو بيت المقدس. وقد أحسن بنو أمية إذ اختاروا دمشق عاصمة لدولتهم-وكانت هذه المدينة ذات تاريخ قديم حين أقبل عليها العرب فاتحين. وكان يلتقي عندها خمسة أنهار، تجعل الإقليم الذي من خلفها "جنة الشرق" بحق، وتمد بالماء مائة فسقية، ومائة حمام عام، ومائة وعشرين ألف بستان (84)، ثم تجري نحو الغرب إلى "وادي البنفسج" الذي يبلغ طوله اثني عشر ميلاً وعرضه ثلاثة أميال. ويقول الإدريسي إن "مدينة دمشق من أجل بلاد الشام وأحسنها مكاناً، وأعدلها هواء، وأطيبها ثرى، وأكثرها مياهاً، وأغزرها فواكه، وأعمها خصاً، وأوفرها مالاً وأكثرها جنداً

(1)

.

وفي قلب هذه المدينة وبين سكانها الذين يبلغون نحو مائة وأربعين ألفاً يقوم قصر الخليفة الذي شاده معاوية الأول، والذي يلمع فيه الذهب والرخام، وتتلألأ في أرضه وعلى جدرانه الفسيفساء، والذي تلطف جوه الفساقي والشلالات التي يتدفق منها الماء على الدوام. وفي الناحية الشمالية من المدينة يقوم مسجدها العظيم وهو واحد من اثنين وسبعين وخمسمائة مسجد في المدينة، والأثر الوحيد الباقي من دمشق الأموية. وكان موضعه في أيام الروم يزدان بهيكل لجوبتر، ثم أقام ثيودوسيوس الأول على أنقاضه كنيسة يوحنا المعمدان (379). وعرض الخليفة الوليد الأول على المسيحيين حوالي عام 705 أن يعدل بناء الكنيسة

(1)

ويضيف إلى ذلك "ولها جبال ومزارع تعرف بالغوطة

وبها ضياع كالمدن ولم يقل الإدريسي إنها أجل بلاد (الله الخ كما قال المؤلف). (المترجم)

ص: 157

حتى تصبح جزءاً من مسجد جديد يريد بناءه في ذلك المكان، ووعدهم بأن يعطيهم أرضاً ومواد في أي مكان يختارونه ليقيموا فيه كنيسة جديدة. ولكن المسيحيين احتجوا على هذا العمل وحذروه من عاقبته، وقالوا إنه قد ورد في كتبهم أن من يجرؤ على هدم الكنيسة سيموت مختنقاً؛ ولكن الوليد لم يأبه بهذا التحذير وكان هو البادئ بهد الكنيسة بيديه. ويقول المؤرخون أن جميع خراج الأرض في الدولة كلها قد خصص مدى سبع سنين لتشييد هذا المسجد، هذا إلى المال الكثير الذي أعطي للمسيحيين لينشئوا بهِ كنيسة جديدة. وجيء بالصناع والفنانين من الهند، وفارس، والقسطنطينية، ومصر، وليبيا، وتونس، والجزائر، وكان من استخدم في بنائه من العمال اثني عشر ألف عامل، أتموه في ثمان سنين. والرحالة المسلمون مجمعون على أنه أفخم بناء في بلاد المسلمين، ويرى المهدي والمأمون من الخلفاء العباسيين-وليس منهما من يحب الأمويين أو دمشق-أنه لا يضارعه بناء غيره في جميع أنحاء العالم. ويتكون البناء من سور محصن، في داخله صفوف من العمد تحيط بصحنه الواسع المرصوفة أرضه بالرخام. ويقوم المسجد نفسه في الجهة الغربية من هذا المكان المتسع، وهو مشيد من الكتل الحجرية المربعة وتشرف عليه أربع مآذن-منها واحدة هي أقدم ما شيد من المآذن في الإسلام. وكان تخطيط المسجد وزخرفته على الطراز الروماني، وما من شك في أنهما قد تأثرا بطراز صوفيا. وكان السقف والقبة_ ويبلغ طول قطرها خمسين قدماً-مكفتين بصفائح الرصاص. أما داخل المسجد الذي يبلغ طوله 429 قدماً فيشتمل على صفين من العمد المنحوتة من الرخام الأبيض تفصل صحنه عما يحيط به من الطرقات. وتيجان هذه العمد كورنشية الطراز مكفتة بصفائح الذهب. ومن فوقها عقود مستديرة أو على شكل حذاء الفرس.

ص: 158

وهذا الطراز الثاني من العقود أول ما اقيم من نوعه في بلاد الإسلام

(1)

. وأرض المسجد من الفسيفساء وقد غطيت بالطنافس، كما غطيت جدرانه بالفسيفساء المصنوعة من الرخام الملون وبالقاشاني المطعم بالميناء، وفي داخل المسجد ستة حواجز جميلة من الرخام تقسم داخله إلى عدة إيونات. وفي أحد جدرانه المتجهة نحو مكة محراب مرصع بالذهب والفضة والحجارة الكريمة، ويدخل الضوء إلى المسجد من أربعة وسبعين شباكاً من الزجاج الملون ومن اثني عشر ألف قنديل. ويصفه أحد الرحالة بقولهِ:"لو أن رجلاً من أهل الحكمة اختلف إليه سنة لأفاد منه كل يوم صفة وعقدة أخرى"

(2)

.

وسمح لأحد سفراء اليونان أن يدخل المسجد فلما شاهده التفت إلى رفاقه وقال لهم: "لقد قلت لأعضاء مجلس الشيوخ في بلادي إن سلطان العرب سيزول عما قريب، أما الآن وأنا أرى كيف كانوا يشيدون عمائرهم فقد علمت علم اليقين أن سلطانهم سيدوم أحقاباً طوالاً"

(3)

.

وإذا اتجه الإنسان من دمشق نحو الشرق واجتاز الصحراء وصل إلى الرقة على نهر الفرات حيث كان يقيم الخليفة هارون الرشيد؛ فإذا عبر نهر دجلة وصل

(1)

وأقدم ما عرف من العقود المصنوعة على شكل حذاء الفرس عقد في هيكل في كهف ببلدة نازك في الهند لعل تاريخه يرجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد (86). ثم استخدم هذا الطراز في كنيسة مسيحية شيدت نصيبين بالعراق عام 359 م.

(2)

هذا من قول المقدسي وفي الأصل الإنجليزي "مائة سنة" ولكن المقدسي يقول سنة واحدة.

(3)

وأتلفت النار أجزاء كثيرة من مسجد دمشق العظيم في عام 1069 ثم جدد بناؤه، ولكن تيمورلنك أحرقه حتى لم يكد يبقى منه شيء في عام 1400. ثم أعيد بناؤه مرة أخرى، ثم أتلفته النيران إتلافاً شديدا في عام 1894. وبعد هذا حل الجص والجير محل النقوش القديمة. وفي وسع الإنسان أن يشاهد حتى الآن النقش الذي كان يعلو إسكفه الكنيسة المسيحية، والذي لم يمحه المسلمون. ونص هذا النقش هو "مملكتك أيها المسيح مملكة خالدة، وسلطانك باق إلى أبد الدهر"(88).

ص: 159

إلى الموصل، وعلى مسافة منها اتجاه الشمال الشرقي أيضاً تقع مدينة تبريز التي بلغت ذروة مجدها بعد ذلك العهد الذي نتحدث عنه. وإلى شرقها تقوم مدينة طهران (وكانت لا تزال وقتئذ بلدة صغيرة)، ثم تليها دامغان وبعدها-في شرف بحر الخرز-تقع جرجان. وكانت هذه البلدة الأخيرة في القرن العاشر الميلادي قاعدة إحدى الولايات الإسلامية، واشتهرت وقتئذ بمن كان فيها من الأمراء المثقفين، أشهرهم كلهم شمس المعالي قابوس، الشاعر العالم الذي استضاف ابن سينا في بلاطه، والذي ترك وراءه مدفناً له على شكل برج ضخم يعلو الجو 167 قدماً يعرف باسم جنبادي قابوس، وهو البناء الوحيد الذي بقي حتى الآن من تلك المدينة التي بلغت في أيامه درجة عظيمة من الرخاء وكثرة السكان. وعلى الطريق الشمالي المتجه نحو الشرق تقوم مدينة نيسابور، التي لا يزال الناس يرددون اسمها في شعر عمر الخيام، وتليها مشهد المدينة المقدسة عند المسلمين الشيعة؛ ثم مرو التي كانت في وقت ما قاعدة لإحدى الولايات الكبرى؛ ثم بخارى وسمرقند-وكانتا في العادة بعيدتين على منال أيدي الجباة. وعلى سلاسل الجبال الجنوبية تقع مدينة غزنة. ويحدثنا الشعراء عن قصور أميرها محمود الغرنوي الفخمة، وعن أبراجها العالية التي تطاول قمر السماء. ولا يزال يقوم فيها حتى اليوم "برج النصر" الذي شاده السلطان محمود، وبرج آخر أجمل منه شاده محمود الثاني، وكان الإنسان إذا رجع نحو الغرب في القرن الحادي عشر التقى بنحو عشرة مدينة زاهرة في إيران-هيراة، شيراز (ذات الحدائق الغناء الذائعة الصيت والمسجد العظيم)، ويزد، وأصفهان، وكاشان، وقزوين، وقوم وهمذان، وكرمنشاه، وسامانا؛ ثم التقى في العراق بمدينتي البصرة والكوفة العامرتين بالسكان. وكان السائح يشاهد في كل مكان يمر به قباباً براقة، وآذن متلألئة، ومدارس، ودوراً للكتب، وقصوراً، وحدائق، وبيمارستانات، وحمامات، وأزقة ضيقة مظلمة حيث يسكن الفقراء. ثم يصل المسافر آخر الأمر إلى بغداد

ص: 160

التي يتغنى بها الشاعر الأتوري في شعر فارسي يقول:

طوبى لك يا بغداد مدينة العلم والفن، التي لا يستطيع إنسان أن يجد بين مدن العالم كله مدينة أخرى تناظرها، إن أرباضها لتنافس في جمالها قبة السماء الزرقاء، وإن مناخها ليضارع نسيم السماء الذي يبعث الحياة في الأجسام، وأحجارها تضارع في تلألؤها الماس والياقوت

وإن شواطئ دجلة ومن عليها من الفتيات الحسان لتفوق بلخ؛ وجناتها المليئة بالحور العين لتعدل في ذلك كشمير، وآلاف القوارب ترقص وتلألأ فوق الماء تلألؤ أشعة الشمس في الهواء (59).

وكان في موقع بغداد مدينة بابلية قديمة، وهي لا تبعد كثيراً عن موقع بابل القديمة، وقد عثر في عام 1848 تحت مجرى نهر دجلة على قطع من الآجر منقوش عليها اسم نبوخذنصر. وازدهرت المدينة القديمة في عهد الملوك الساسانيين، ثم أنشئت فيها بعد الفتح الإسلامي عدة أديرة مسيحية، معظمها للنساطرة. ويحدثنا المؤرخون أن الخليفة المنصور عرف من رهبان تلك الأديرة أن هذا الموقع معتدل الجو في الصيف، وخالٍ من البعوض الذي يكثر في البصرة والكوفة. ولعل الخليفة قد رأى أن من الحكمة أن يبتعد عن هاتين المدينتين المساكستين، اللتين كانتا في ذلك الوقت البعيد غاصتين بالصعاليك الثوريين، وما من شك في أنه وجد في موقعهما هذا ميزة حربية، فهو أمين في داخل البلاد، ولكنه على اتصال مائي بجميع المدن الكبرى القائمة على النهرين عن طريق نهر دجلة والقنوات الكبرى المتصلة بهِ؛ وعن طريق هذا النهر والقنوات يتصل أيضاً بالخليج الفارسي وبجميع ثغور العالم. من أجل هذا كله نقل مقره هو من الهاشمية كما نقل دواوين الحكومة من الكوفة إلى بغداد، وأحاط ذلك الموقع بثلاثة أسوار دائرية وخندق، واستبدل ببغداد اسمها القديم ومعناه "هبة الله" اسماً جديداً هو مدينة السلام، واستخدم مائة الف من العمال في بناء أربعة قصور عظيمة من الآجر له ولأهلة ولدواوين الحكومة. وكان يقوم في وسط

ص: 161

المدينة قصر الخليفة المسمى "بالباب الذهبي" نسبة إلى بابه المذهب أو "القبة الخضراء" نسبة إلى قبته البراقة. ثم شاد المنصور في خارج أسوار المدينة على الضفة الغربية لنهر دجلة مسكناً صيفياً له عرف باسم "قصر الخلد"، وكان هرون الرشيد يقيم في هذا القصر معظم أيامه. وكان في وسع من يقيم في هذين القصرين أن يرى من نوافذهما مئات السفن تفرغ على أرصفة النهر أحمالها التي جاءت بها من نصف العالم المعروف.

وفي عام 768 أنشأ المنصور قصراً ومسجداً على ضفة النهر الشرقية الفارسية لكي يستطيع ولده المهدي أن يتخذ له في القصر مسكناً مستقلاً، وسرعان ما نشأت حول هذين الصرحين ضاحية جميلة هي ضاحية الرصافة

(1)

التي كان يصلها بالمدينة المستديرة جسران قائمان على قوارب. وكان معظم الخلفاء الذين جاءوا بعد المأمون يقيمون في هذه الضاحية، ولهذا فإنها سرعان ما فاقت مدينة المنصور نفسها في اتساعها وثرائها، وكان الناس بعد الرشيد إذا ذكروا بغداد فإنما يعنون بها الرصافة نفسها. وكانت شوارع ضيقة ملتوية، أنشئت على هذا النحو لتقي الأهلين من وهج الشمس وتقوم على جانبيها الحوانيت الصاخبة، تمتد من القصور الملكية إلى أحياء الأثرياء، وكان لكل طوائف الصناع شارعها الخاص أو سوقها الخاص أو سوقها الخاصة-فهذا حي بائعي العطور، وذاك حي صانعي السلال، وهنا حي صانعي الأسلاك، وهناك حي الصيارفة مستبدلى النقود، وذاك حي البزازين، وهذا حي الوراقين وما إلى ذلك. وكانت بيوت الأهلين تقوم فوق هذه الحوانيت ومن ورائها. وكانت كل المساكن تقريباً ما عدا مساكن الأغنياء مقامة من اللبن، تبقي صاحبها حياً ولكنها لا تدوم كثيراً بعده. وليس لدينا إحصاء لسكان المدينة موثوق بهِ، والراجح أنهم كانوا يبلغون

(1)

الرصافة ككناسة بلد بالشام ومحله ببغداد، وبلد بالبصرة، وبلد بالأندلس؛ وبلد بأفريقية. (المترجم)

ص: 162

800.

000، وإن كان بعض المؤرخين يقدرونهم بمليونين (90). ومهما يكن عددهم فإن المدينة كانت في القرن العاشر الميلادي أكبر مدن العالم على الإطلاق، مع جواز استثناء القسطنطينية من هذا التعميم. وكان فيها حي للمسيحيين مزدحم بهم، تقوم فيه كنائس، وأديرة، ومدارس؛ وكان لكل من النساطرة، واليعاقبة، والمسيحيين أصحاب العقيدة الصحيحة، أمكنة عبادتهم الخاصة بهم. وقد جدد هارون بناء مسجد أقامه المنصور ووسعه، ثم جدد المعتمد بناء هذا المسجد نفسه وزاد مساحته. وما من شك في أن مئات من المساجد قد شيدت ليتعبد فيها سكان المدينة.

وبينما كان الفقراء يواسون أنفسهم في حياتهم الشاقة بأملهم في نعيم الدار الآخرة، كان الأغنياء يستمتعون على الأرض بنعيم الجنة. ذلك أنهم شادوا في بغداد أو بالقرب منها عشرات المئات من القصور الفخمة، والبيوت ذات الحدائق، والدور التي تبدو بسيطة من الخارج ولكنها كانت في الداخل "لازورداً وذهباً". وفي وسعنا أن نتصور ما كانت عليه من الفخامة من وصف لها بقلم أبي الفداء لا يكاد يصدقه العقل يقول فيهِ إن قصر الخليفة في بغداد قد فرشت على أرضه 22. 000 طنفسة، وعلقت على جدرانه 38. 000 قطعة من القماش المزركش و 12. 500 قطعة من الحرير (91). وكانت قصور الخليفة وأسرته ومساكن الوزير ورؤساء دواوين الحكومة تشغل في المدينة الشرقية مساحة قدرها ميل مربع

(1)

. وبدأت منذ أيام جعفر البرمكي هجرة الطبقة الموسوة إلى بغداد حين شاد لنفسه في الجهة الجنوبية الشرقية من المدينة قصراً فخماً كانت عظمته من أسباب هلاكه. وقد حاول جعفر أن يتقي حسد هارون الرشيد فأهدى هذا القصر إلى المأمون، وقبل الرشيد الهدية لابنه، ولكن جعفر ظل يعيش وينعم في القصر الجعفري" إلى آخر أيام حياته. ولما أخذت قصور المنصور

(1)

أي أكثر من ستمائة فدان. (المترجم)

ص: 163

وهارون تنهار، أقيمت في مكانها قصور أخرى. وقد أنفق المعتمد على قصره المعروف "بقصر المعروف"(892)400. 000 دينار (أي ما يقرب من 1. 900. 000 ريال أمريكي). وفي وسعنا أن نتصور سعة هذا القصر إذا ذكرنا أنه كان في اسطبلاته 9000 من الإبل والبغال (92). وشاد المكتفي بجواره " قصر التاج"(902)؛ وكان هذا القصر هو وحدائقه يمتد على رقعة من الأرض مساحتها تسعة أميال مربعة. وشاد المقتدر "بهو الشجرة" وكان سبب تسميته بهذا الاسم أنه كان في البركة الموجودة بحديقته شجرة من الفضة والذهب، على أوراقها وأغصانها الفضية تجثم طيور من الفضة، تنطق ألسنتها بأناشيد آلية. وبز سلاطين آل بويه جميع أولئك الخلفاء فأنفقوا 13. 000. 000 درهم في بناء قصر المعزية. وهكذا تعددت القصور وزادت فخامة، حيى إذا استقبل المقتدر في عام 917 سفراء اليونان بهرتهم قصور الخليفة ودواوين حكومته البالغ عددها ثلاثة وعشرين قصراً، وإيواناتها ذا العمد الرخامية، وما بسط على أرضها وجدرانها من طنافس وأقمشة مزركشة كبيرة يخطئها الحصر تكاد تغطي كل مكان في الأرض والجدران، وعشرات المئات من السياس ذوي الحلل البراقة. وسروج الخيول الفضية ذات الأغطية المطرزة بخيوط الذهب والفضة، وما في الحدائق الواسعة المختلفة أنواع الحيوان البري والأليف، وما للخلفاء من قوارب لا تقل عن القصور أبهة وفخامة تجري في نهر دجلة وتنتظر أهواء الخليفة.

وكانت الطبقات العليا تعيش في وسط هذا النعيم عيشة الترف، واللهو، والقلق، والدسائس. فكان رجالها يذهبون إلى الميدان ليشاهدوا سباق الخيل أو لعب الجحفة، ويحتسون الخمر المعتقة المحرمة، ويأكلون الطعام المبتاع من أقاصي البلاد بأغلى الأثمان، ويرتدون هم ونساؤهم أثواب الحرير المختلف الألوان المطرز بخيوط الفضة والذهب، ويعطرون ثيابهم، وشعرهم، ولحاهم، ويستنشقون رائحة العنبر والكندر، ويزينون رؤوسهم، وآذانهم، ورقابهم، ومعاصمهم،

ص: 164

وسيقانهم بالحلي الثمينة. ويقول شاعر يتغزل في فتاة إن رنين خلاخيلها قد سلبه عقله (93). ولم تكن النساء في العادة يحضرن مجتمعات الرجال، وكان يحل محلهن الشعراء، والمطربون، والسمار الفكهون، وما من شك في أنهم كانوا يتحدثون عن الحب؛ وكانت الجواري الغيد يرقصن حتى يصبح الرجال أسرى لهن. وفي المجتمعات التي كانت أكثر من هذه أدباً كان الناس يستمعون إلى أناشيد الشعراء أو إلى آيات القرآن الكريم. ومنهم من أنشئوا ندوات فلسفية كإخوان الصفا، ويحدثنا المؤرخون عن نادي قائم حوالي عام 790 مؤلف من عشرة أعضاء، واحد من السنيين، وآخر من الشيعة، وثالث من الخوارج، ورابع من المانوية

(1)

؛ ومن شاعر غزلي، وفيلسوف مادي، ومسيحي، ويهودي، وصابئي، وزرادشتي. ويقول المؤرخون إن اجتماعات هؤلاء الأعضاء كان يسودها روح التسامح المتبادل، والفكاهة الحلوة، والنقاش الهادئ الذي يمتاز بالأدب والمجاملة

(2)

. ويكن القول بوجه عام إن المجتمع الإسلامي كان مجتمعاً ذا أدبٍ راقٍ إلي أقصى حدود الرقي؛ وما من شك في أن الشرق من عهد قورش إلى لي هونج تشانج قد فاق الغرب في الرقة الكياسة؛ وكان من المظاهر التي تشرف بها الحياة في بغداد أن الفنون العلوم التي لا يحرمها الإسلام كانت كلها بلا استثناء تجد فيها من يشجعها ويأخذ بناصرها، وأن المدارس على اختلاف درجاتها كانت كثيرة العدد منتشرة في جميع الأنحاء، وأن الهواء كان يردد أصداء الشعراء.

ولا يحدثنا المؤرخون بالشيء الكثير عن حياة الدهماء، وكل ما نستطيع أن نفترضه هو أنهم كانوا يعملون على بقاء هذا الصرح الفخم بخدماتهم وكدحهم.

(1)

أتبلغ ما في وهو رجل من أهل إكبانانا (همذان)(125 - 276)، وكان يقول إن كل شيء يخرج من الصين رئيسيين هما النور والظلمة، أو الخير والشر.

(2)

ما أشبه هذا بالمجتمع الخيالي الذي يحدثنا عنه لويس دكنسن في كتابيه "معرض الآراء الحديثة" و "العدالة والحرية" وقد ترجما إلى اللغة العربية. (المترجم)

ص: 165

فبينا كان الأغنياء يلهون الآداب، والفنون، والفلسفة، والعلم، كان عامة الشعب السذج يستمعون إلى المغنين في الشوارع، أو يعزفون على أعوادهم وينشدون أغانيهم. وكان يسير بين الفينة والفينة موكب عرس يبدل من ضجيج الشوارع ورائحتها، وكان الناس في أيام الأعياد يتزاورون، ويتبادلون الهدايا، ويعنون كل العناية باحتساب قيمة ما يتبادلانه منها، ويطعمون في تلك الأيام بشهية أقوى من شهية الذين يطعمون في صحاف الذهب. وحتى الفقير نفسه كان له حظ في جلال الخليفة وفخامة المسجد، ولم يكن محروماً من دريهمات من دنانير الخوارج الذي كان يرد إلى بغداد. وكان يسير فخوراُ معتزاً بأنه ابن العاصمة الكبيرة، وكان في قرارة نفسه يعد نفسه واحداً من سادة العالم وحكامه.

ص: 166

الباب الثاني عشر

‌الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية

632 -

1058

الفصل الأوَّل

‌التعليم

تدل الأحاديث النبوية على أن النبي كان يحث على طلب العلم ويعجب بهِ، فهو من هذهِ الناحية يختلف عن معظم المصلحين الدينيين فيقول:"مَن سلك طريقاً يطلب علماً سهل الله لهُ طريقاً إلى الجنة""يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء"(1).

ولقد كان اتصال العرب بالثقافة اليونانية في بلاد الشام مما أيقظ فيهم روح المنافسة العلمية القوية لليونان، ولم يمضِ إلا زمناً قليل حتى أصبح العالم والشاعر من أصحاب المكانة العليا في الإسلام.

وكان تعليم الأطفال يبدأ منذ اقتدارهم على الكلام. فكانوا من هذه اللحظة يعلمون النطق بالشهادتين " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" فإذا بلغ الأطفال السادسة من العمر ألحق بعض أبناء الأرقاء، وبعض البنات، وجميع الأولاد، عدا أبناء الأغنياء (الذين كانوا لهم مدرسون خصوصيون) بمدرسة أولية ملحقة في العادة بأحد المساجد، وفي بعض الأحيان بجوار عين ماء عامة في الخلاء. وكان التعليم في هذه المدارس عادة بالمجان، فإن لم يكن فقد كان أجره تافهاً يستطيع أداءه جميع الناس، فقد كان المعلم يتناول من والد الطفل

ص: 167

ما لا يزيد على مليمين في الأسبوع، أما باقي النفقات فكان يؤديها المحسنون الخيرون. وكان منهاج التعليم من هذا النوع في المدارس غاية في البساطة يشمل ما يكفي لأداء الصلاة، ويمكن الطفل من قراءة القرآن، ثم حفظ القرآن نفسه ومعرفة ما فيه من أحكام الدين، والقصص، ومبادئ الأخلاق، والشريعة الإسلامية. وتركت الكتابة والحساب للتعليم الأعلى من هذه الدرجة، وربما كان سبب ترك الكتابة أنها في الشرق فن يحتاج إلى تدريب خاص، فضلاً عن أن الكتبة، كما يقول المسلمون، يستطيع كل من يطلبهم أن يجدهم (3) وكان جزء صغير من القرآن يحفظ كل يوم عن ظهر قلب، ثم يتلى بصوتٍ عالٍ، وكان الهدف الذي يبغيه كل متعلم أن يحفظ القرآن كله عن ظهر قلب؛ والذين يصلون إلى هذا الهدف يُسَمّونَ بالحفّاظ وتكون لهم في البلاد مكانة عالية. وكان من يتعلم الكتابة؛ والرمي بالقوس، والسباحة هو عندهم "الرجل الكامل". وكانت طريقة التعليم هي المذاكرة، وأداته هي العصا، وكان العقاب المعتاد هو الضرب بعصا من جريد على باطن القدم. ومن أقوال هارون الرشيد لمعلم ولده الأمين:"ولا تمر بكَ ساعة إلا وأنتَ مغتنم فائدة تفيده إياه من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه: وقوَّمه ما استطعت بالقرب والملاينة فإذا أباهما فعليك بالشدة والغلظة"(4).

وكان التعليم الأولي يهدف إلى تقوين الأخلاق، والثانوي إلى معرفة العلم. وكان المعلم يجلس مستنداً إلى عمود أو جدار في مسجد، ويلقي دروساً في التفسير والحديث، والفقه، والشريعة. وحدث في وقت غير معروف أن وضعت الحكومة هذه "المدارس الثانوية" تحت إشرافها وتكلفت بالإنفاق عليها. وأضيف إلى المنهاج الديني الأساسي علم النحو، وفقه اللغة، والبلاغة، والأدب، والمنطق، والعلوم الرياضية، والفلك. وكان علم النحو يلقى اهتماماً خاصاً لأن اللغة العربية كانت تعد أقرب اللغات إلى الكمال، وكان استعمالها صحيحة أهم ما يمتاز

ص: 168

به الرجل المثقف المهذب. وكان التعليم في هذه المدارس بالمجان. وكان المعلمون والطلاب يتناولون مرتباتهم ونفقاتهم في بعض الأحيان من الحكومة أو من أموال البر والصدقات (5) وكان شأن المعلم في هذه المدارس أعلى من شأن النصوص التي يعلمها ما عدا نصوص القرآن، فكان التلاميذ يدرسون الناس أكثر مما يدرسون الكتب، وكان الطلاب يجوبون أطراف البلاد الإسلامية ليقابلوا معلماً مشهوراً. وكان على كل طالب علم يريد أن تعلو مكانته في بلده أن يسافر إلى مكة، أو بغداد، أو دمشق، أو القاهرة، ليستمع في واحدة منها أو أكثر من واحدة إلى كبار العلماء. وكان من الأسباب التي يسرت انتشار الأدب العربي في بلاد الإسلام المختلفة وجعلته أدباً دولياً واحداً أن لغة التعليم والأدب في جميع البلاد الإسلامية-مهما اختلفت أجناس أهلها-هي اللغة العربية، التي بلغت من سعة الانتشار ما لم تبلغه اللغة اليونانية. فلم يكن الزائر إذا دخل مدينة في أي بلد من بلاد الإسلام يخالجه شك في أنه يستطيع الاستماع إلى محاضرة علمية في مسجد المدينة الأكبر في أية ساعة من ساعات النهار تقريباً. وكان الطالب الجائل في كثير من الأحيان يجد في المدرسة المأوى والطعام مدة من الزمان، فضلاً عن التعليم المجاني (6). ولم تكن المدرسة تمنح درجات علمية، وكل ما كان يبتغيه الطالب أن يحصل على شهادة فردية من الأستاذ الذي حضر عليه تثبت كفايته فيما درسه. وكان الهدف الأعلى للطالب هو تحصيل الأدب بأوسع معانيه-العادات الحسنة، وسمو الذوق؛ وسرعة البديهة، والكياسة والظرف، والمعارف السهلة التي تكون في مجموعها صفات الرجل الكامل المهذب.

ولما فتح المسلمون سمرقند (712) أخذوا عن المسيحيين صناعة استخراج عجينة من الكتان وغيرها من النباتات ذات الألياف، ثم تجفيف هذه العجينة بعد صنعها رقائق رفيعة. ودخلت هذه الصناعة في بلاد الشرق الأدنى واستعملت فيه بدل رقائق الجلد في وقت لم يكن نبات البردي قد نسي فيه بعد. وافتتح أول

ص: 169

مصنع للورق في بلاد الإسلام في بغداد عام 794 على يد الفضل بن يحيى وزير هارون الرشيد. ونقل العرب هذه الصناعة إلى صقلية وأسبانيا ومنهما انتقلت إلى إيطاليا وفرنسا. وقبل هذا نجد الورق مستخدماً في بلاد الصين منذ عام 105 م، ثم نجده في مكة سنة 707، وفي مصر سنة 800، وفي أسبانيا سنة 950، وفي القسطنطينية سنة 1100، وفي صقلية سنة 1102، وفي إيطاليا سنة 1154، وفي ألمانيا سنة 1228، وفي إنجلترا سنة 1309 (7). ويسّرَ هذا الاختراع تأليف الكتب في كل بلد انتقل إليه، ويقول اليعقوبي إنه كان في بغداد على أيامه (891) أكثر من مائة بائع للكتب، كانت حوانيتهم تستخدم، فضلاً عن بيع الكتب، لنسخها، وكتابة الخط المزخرف، كما كانت ندوات أدبية. وكان كثير من الطلاب يحصلون على أرزاقهم بنسخ المخطوطات، وبيعها لتجار الكتب، ونسمع في القرن العاشر الميلادي عن أناس يجمعون توقيعات العظماء وخطوطهم، وعن غواة للكتب يسعون لجمعها ويعرضون أثماناً عالية للمخطوطات النادرة (8). ولم يكن المؤلفون يحصلون على شيء من كتبهم؛ وكانوا يعتمدون في معاشهم على وسائل للرزق أثبت من هذه وأقوى أساساً، أو على هبات الأمراء أو الأثرياء. ذلك أن الأدب والفن كان يُقصد بهما إشباع ذوق طبقة الأشراف من ذوي المال أو الحسب والنسب.

وكانت في معظم المساجد مكتبات، كما كان في معظم المدن دور عامة للكتب تضم عدداً كبيراً منها، وكانت مفتحة الأبواب لطلاب العلم. وكان في مدينة الموصل عام 950 مكتبة عامة أنشأها بعض المحسنين، يجد فيها من يؤمونها حاجتهم من الكتب والورق، وبلغت فهارس الكتب التي اشتملت عليها مكتبة الري العامة عشر مجلدات. وكانت مكتبة البصرة تعطي رواتب وإعانات لمن يشتغلون فيها من الطلاب، وقضى ياقوت الجغرافي في مكتبتي مرو وخوارزم ثلاث سنين يجمع المعلومات التي يتطلبها كتابة معجم البلدان. ولما أن

ص: 170

دمر المغول بغداد كان فيها ست وثلاثون مكتبة عامة (9)، فضلاً عن عدد لا يحصى من المكتبات الخاصة، ذلك أنه كان من العادات المألوفة عند الأغنياء أن يقتني الواحد منهم مجموعة كبيرة من الكتب. ودعا سلطان بخارى طبيباً مشهوراً ليقيم في بلاطه فأبى محتجاً بأنه يحتاج إلى أربعمائة جمل لينقل عليها كتبه (10). ولما مات الواقدي ترك وراءه ستمائة صندوق مملوءة بالكتب، يحتاج كل صندوق منها رجلين لينقلاه. "وكان عند بعض الأمراء كالصاحب بن عباد من الكتب بقدر ما في دور الكتب الأوربية مجتمعة"(12). ولم يبلغ الشغف باقتناء الكتب في بلد آخر من بلاد العالم-اللهم إلا في بلاد الصين في عهد منج هوانج-ما بلغه في بلاد الإسلام في القرون الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر. ففي هذه القرون الأربعة بلغ الإسلام ذروة حياته الثقافية. ولم يكن العلماء في آلاف المساجد المنتشرة في البلاد الإسلامية من قرطبة إلى سمرقند يقلون عن عدد ما فيها من الأعمدة، وكانت إيواناتها تردد أصداء علمهم وفصاحتهم، وكانت طرقات الدولة لا تخلو من الجغرافيين، والمؤرخين، وعلماء الدين، يسعون كلهم إلى طلب العلم والحكمة؛ وكان بلاط مئات الأمراء يرددون أصداء قصائد الشعراء والمناقشات الفلسفية، ولم يكن أحد يجرؤ على جمع المال دون أن يعين بماله الآداب والفنون. وسرعان ما استوعب العرب ذوو البديهة الوقادة ثقافة الأمم التي فتحوا بلادها، وبلغ من تسامح المغلوبين أن أصبحت منهم الكثرة الغالبة من الشعراء، والعلماء، والفلاسفة الذين جعلوا اللغة العربية أغنى لغات العالم في العلوم والآداب. وإن كان العرب الأصليون أقلية صغيرة بين هؤلاء الفلاسفة، والعلماء، والشعراء.

وقد قوى علماء الإسلام في ذلك العهد دعائم الأدب العربي الممتاز بدراساتهم الواسعة للنحو الذي جعل اللغة العربية لغة النطق والقياس، وبما وضعوه من المعاجم التي جمعوا فيها ثروة هذه اللغة من المفردات في دقة ونظام، وبموسوعاتهم ومختصراتهم، وكتبهم الجامعة، والتي جمعت كثيراً من أشتات الآداب والعلوم

ص: 171

لولاها لخسرها العالم، وبمؤلفاتهم في النصوص، والأدب، والنقد التاريخي. ولا حاجة بنا إلى ذكر أسماء هؤلاء العلماء الأعلام، وحسبنا أن نعترف بفضلهم ونمجد أعمالهم.

وأكثر من تحتفظ الذاكرة بأسمائهم من بين أولئك العلماء هم المؤرخون، لأننا مدينون لهم بما نعرفه عن تلك الحضارة التي لولاها لظلت غامضة غموض حضارة مصر الفرعونية قبل شمبليون. ومن هؤلاء المؤرخين محمد ابن إسحق (المتوفى عام 767) كاتب سيرة النبي؛ وقد راجعها وزاد عليها ابن هشام (763) فكانت أقدم كتاب عربي منثور ذا شأن عظيم وصل إلى أيدينا-إذا استثنينا من ذلك القرآن (الكريم) نفسه. وقد كتب العلماء الباحثون المجدون كتباً جامعة في سيرة الأولياء الصالحين، والفلاسفة، والوزراء، والمشترعين، والأطباء، والخطاطين، وكبار الحكام، والعشاق، والعلماء. وكان ابن قتيبة أحد علماء الإسلام الكثيرين الذين حاولوا كتابة تاريخ العالم، ولقد بلغ من الشجاعة درجة أوحت إليه أن يجعل نصيب الدين الذي ينتمي إليه لا يشغل من الكتاب إلا ذلك الحيز المتواضع الذي يجب ألا يزيد عليه تاريخ أية أمة أو أي دين في كتاب تاريخ جماع لأحداث الدهر الكثيرة. واخرج محمد بن النديم عام 987 كتابه "فهرست العلوم" أرخ فيه لكل كتاب ظهر في اللغة العربية، مؤلفاً كان أو مترجماً، في كل فرع من فروع العلم، وأضاف إلى أسماء الكتب ترجمة نقدية لمؤلفيها، ذكر فيها فضائل كل مؤلف وعيوبهَُ. وفي وسع القارئ أن يحكم على ثراء الأدب الإسلامي أيامه إذا عرف أ، الكتب التي ذكرها-على ما نعلم-لم يبقَ منها الآن واحد في الألف (13).

وشبيه بليفي في الغرب أبو جعفر محمد الطبري (838 - 923) عند المسلمين (14). وكان أبو جعفر من أصل فارسي كما كان كثيرون من المؤلفين المسلمين، ولد في طبارستان الواقعة في جنوب بحر قزوين. وبعد أن ظل عدة

ص: 172

سنين يطوف في بلاد العرب والشام ومصر، كما يطوف الفقراء من العلماء من أهل زمانه، استقر في بغداد واشتغل بالفضاء. ووهب أربعين عاماً من حياته لكتابة تاريخ عام سماه كتاب أخبار الأمم والملوك قص فيه تاريخ العالم من بدأ الخليقة إلى عام 913. والجزء الباقي إلى الآن من هذا الكتاب يشمل خمسة عشر مجلداً كبيراً، ويقول المؤرخون أن ما فقد منه يبلغ عشرة أمثال هذا الجزء الباقي. ويرى الطبري، كما يرى بوسويه Boussuet، يد الله في كل حادثة تقع في العالم، وقد ملأ الفصول الأولى من كتابه بعبارات تشهد له بالتقوى ولكنها خالية من المعنى كقولهِ "في امتحان الله تعالى أبانا آدم عليه السلام وابتلائه إياه بما امتحنه به من طاعته" وبأن الله أنزل على الأرض بيتاً مشيداً من الياقوت ليسكنه آدم، فلما أن عصى آدم ربه عاد فرفعه عن الأرض (16). ونهج الطبري نهج التوراة فيما كتبه عن تاريخ اليهود، وقال إن مريم العذراء ولدت المسيح (وإنها حملت به لأن جبريل نفخ في كمها)(17). وختم الجزء الأول من كتابه بصعود المسيح إلى السماء. أما الجزء الثاني فهو أقرب إلى العقل من الجزء الأول، وفيه يقص تاريخ فارس في عهد الساسانيين قصصاً مقبولا حياً، ذا روعة في بعض المواضع. ويتبع في طريقة إيراد الحوادث مرتبة حسب تواريخ وقوعها عاماً بعد عام، وهي في العادة مصنفة منقولة من راوٍ عن راوٍ قبله حتى يصل بها إلى من شاهدها بعينه، أو وقعت في أيامهِ. وفضل هذه الطريقة أنها تعنى بذكر المصادر؛ ولكن الطبري لا يحاول تنسيق الروايات المختلفة ليكون منها قصة موحدة متصلة، ولهذا فإن تاريخه يبقي أكداساً من ثمار الجهد المضني لا عملاً من أعمال الفن.

ويرى المسعودي، وهو أعظم من جاء بعد الطبري من المؤرخين، أن الطبري أعظم من سبقه منهم. كان أبو الحسن علي المسعودي من أصل عربي في بغداد، وجاب بلاد سوريا، وفلسطين، وبلاد العرب، وزنجبار، وفارس وأواسط آسية، والهند، وسرنديب (سيلان)، بل يقول هو إنه وصل إلى بحر

ص: 173

الصين. وقد جمع ثمار رحلاته هذه في موسوعة تشمل على ثلاثين مجلداً، رآها علماء الإسلام أنفسهم، وهم المعروفون بغزارة مادتهم، أطول مما يطيقون؛ ثم نشر موجزاً لها كان هو الآخر أطول مما يجب، ولعله رأى آخر الأمر أن قراءه لا يجدون من الوقت الذي يصرفونه في القراءة مثل ما يجد هو منه ليصرفه في الكتابة، فاختصر كتابه مرة أخرى إلى الحد الذي نعرفه الآن وسماه بذلك الاسم الغريب "مروج الذهب ومعادن الجوهر". ودرس المسعودي جميع أحوال البلاد الممتدة من الصين إلى فرنسا من النواحي الجغرافية والنباتية، والحيوانية، والتاريخية، كما درس عادات أهلها، وأديانهم، وعلومهم، وفلسفتهم، وآدابهم، فكان في العالم الإسلامي كما كان بلني وهيرودوت في العالم الغربي. ولم يوجز المسعودي في كتابته إلى الحد الذي يجعلها عقيمة جافة، بل كان في بعض الأحيان يتبسط فيها، وينطلق على سجيتهِ، فلا يحاجز نفسه عن أن يروي بين الفينة والفينة قصة ممتعة مسلية. وكان متشككاً في بعض الشيء في الدين، ولكنه لم يفرض قط تشككه على قرائهِ. وقد لخص في آخر سنة من حياتهِ آراءه في العلم، والتاريخ، والفلسفة في كتاب الاستذكار لما مر في سائر الأعمار، وكتاب ذخائر العلوم وما في سائر الدهور. وقد أشار إلى تطور الكائنات من الجماد إلى النبات، ومن النبات إلى الحيوان، ومن الحيوان إلى الإنسان (18). ولعل هذه الآراء قد جرته إلى المشاكل مع المحافظين من أهل بغداد، فاضطر على حد قوله إلى مغادرة المدينة التي ولد فيها وشبّ وترعرع، وجاء إلى القاهرة وهو آسف على فراق موطنه. وقال في هذا إن من طبيعة ذلك الزمان أن يفرق الناس جميعاً ويباعد بينهم

وإن الله يبارك للأمم إذا أحب أبناؤها مواطنهم، وإن

ص: 174

من أمارات التقى والاستقامة أن يحن الإنسان إلى مسقط رأسهِ، ومن علامات النبل وكرم المحتد أن يبغض الانفصال عن داره وموطنه (19).

ووافته المنية في القاهرة بعد عشر سنين قضاها بعيداً عن بلدهِ.

وخير ما يقال عن هؤلاء المؤرخين أنهم يفوقون غيرهم في اتساع دائرة جهودهم، ونواحي نشاطهم، واهتمامهم، وأنهم يربطون الجغرافية بالتاريخ ربطاً موفقاً صحيحاً، وأنهم لا يفوتهم شيء مما يتصل ببني الإنسان، وأنهم يعلون علواً كبيراً على معاصريهم في العالم المسيحي. ولكنهم مع هذا كله كثيراً يضلون في دياجير السياسة، والحرب، والبلاغة اللفظية؛ وقلما يعنون ببحث العلل الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسانية التي تتحكم في الحوادث، وإن مجلداتهم الضخمة لتعزوها الطريقة البنائية المنتظمة، فلسنا نجد فيها إلا أكداساً من حقائق غير مرتبطة ولا متناسقة-عن الأمم، والحادثات، والشخصيات، وهم لا يرقون إلى مستوى بحث المصادر بحثاً

(1)

دقيقاً نزيهاً، ولشدة تقواهم وتمسكهم بالدين كانوا يعتمدون اعتماداً كبيراً على الإجماع وتسلسل الروايات تسلسلاً قد تكون مصدره حلقة من حلقاته خاطئة أو مخادعة. ومن أجل هذا تهبط قصتهم في بعض الأحيان إلى مستوى أقاصيص الأطفال، وتمتلئ بالنذر، وأخبار المعجزات، وبالأساطير. وكما أن في وسع كثيرين من المؤرخين المسيحيين (مع استثناء جبن Gibbon على الدوام) أن يكتبوا تاريخ العصور الوسطى، بحيث يجعلون الحضارة الإسلامية كلها ذيلاً موجزاً للحروب الصليبية، كذلك اقتضب كثيرون من المؤرخين المسلمين تاريخ العالم قبل الإسلام فجعلوه كله يدور حول الاستعداد لرسالة النبي محمد. على أننا نعود فنسأل أنفسنا كيف يستطيع العقل الغربي أن يصدر

(1)

لا شك أن الكاتب ينظر إلى هؤلاء المؤرخين بعين هذه الأيام ويقيسهم بمؤرخي القرن العشرين. (المترجم)

ص: 175

على الشرق حكماً صحيحاً نزيهاً؟ إن اللغة العربية تفقد جمالها في الترجمة كما تفقد الزهرة جمالها إذا انتزعت من شجرتها، وإن الموضوعات التي تمتلئ بها صحائف المؤرخين المسلمين، وهي التي تبدو ذات روعة وجمال لبني أوطانهم، لتبدو مملة خالية من المتعة الطبيعية للقراء من أهل الغرب الذين لم يدركوا حتى الآن أن الصلات الاقتصادية بين الشعوب واعتماد بعضها على بعض يتطلبان أن يدرس كلاهما الآخر ويفهمه حق الفهم.

ص: 176

الفصل الثاني

‌العلوم

(1)

لم يدخر المسلمون في هذه القرون المجيدة من تاريخ الحياة الإسلامية جهداً في العمل على إيجاد هذا التفاهم الذي أشرنا إليه في الفصل السابق. فلقد أدرك الخلفاء تأخر العرب في العلم والفلسفة كما أدركوا ما خلفه اليونان من ثروة علمية غزيرة في بلاد الشام. لقد كان بنو أمية حكماء إذ تركوا المدارس الكبرى المسيحية، أو الصابئية، أو الفارسية، قائمة في الإسكندرية، وبيروت، وإنطاكية، وحران، ونصيبين، وغنديسابور لم يمسوها بأذى، وقد احتفظت هذه المدارس بأمهات الكتب في الفلسفة والعلم، معظمها في ترجمة السريانية. واستهوت هذه الكتب المسلمين العارفين باللغتين السريانية واليونانية، وما لبثت أن ظهرت ترجماتها إلى اللغة العربية على أيدي النساطرة المسيحيين أو اليهود. وشجع الأمراء من بني أمية وبني العباس هذه الاستدانة العلمية المثمرة، وأرسل المنصور، والمأمون، والمتوكل الرسل إلى القسطنطينية وغيرها من المدن الهلنستية-وأرسلوهم في بعض الأحيان إلى أباطرة الروم أعدائهم الأقدمين-يطلبون إليهم أن يمدوهم بالكتب اليونانية، وخاصة كتب الطب أو العلوم الرياضية. وبهذه الطريقة وصل كتاب إقليدس في الهندسة إلى أيدي المسلمين. وأنشأ المأمون في بغداد عام 830 بيت الحكمة وهو مجمع علمي، ومرصد فلكي، ومكتبة عامة،

(1)

واجب على كل كاتب عن العلوم عند المسلمين أن يسجل ما هو مدين به إلى جورج سارتن Geroge Sarton صاحب كتاب "المدخل في تاريخ العلوم". فليس هذا الكتاب القيم من أجل الأعمال في تاريخ البحث العلمي فحسب، بل إنه فوق ذلك قد أدى خدمة تجل عن التقدير إذ كشف عن غنى الثقافة الإسلامية واتساع مداها، وإن العلماء في كل مكان ليرجون من صميم قلوبهم أن يقدم كل ما يستطاع تقديمه من المعونة لإتمام هذا العمل الجليل.

ص: 177

وأنفق في إنشائه مائتي ألف دينار (نحو 950. 000 ريال أمريكي). وأقام فيه طائفة من المترجمين وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال. ويقول ابن خلدون (20) إن الإسلام مدين إلى هذا المعهد العلمي باليقظة الإسلامية الكبرى التي اهتزت بها أرجاؤه والتي تشبه في أسبابها- وهي انتشار التجارة وإعادة كشف كنوز اليونان- وفي نتائجها- وهي ازدهار العلوم والفنون- نقول إنها تشبه في أسبابها ونتائجها النهضة الأوربية التي أعقبت العصور الوسطى.

ودامت هذه الأعمال، أعمال الترجمة المخصبة المثمرة، من عام 750 إلى 900، وفي هذه الفترة عكف المترجمون على نقل أمهات الكتب من السريانية، واليونانية، والفهلوية، والسنسكريتية. وكان على رأس أولئك المترجمون المقيمين في بيت الحكمة طبيب نسطوري هو حنين ابن إسحق (809 - 873). وقد ترجم وحده-كما يقول هو نفسه-إلى اللغة السريانية مائة رسالة من رسائل جالينوس ومدرسته العلمية، وإلى اللغة العربية تسعاً وثلاثين رسالة أخرى. وبفضل ترجمته هذه نجت بعض مؤلفات جالينوس من الفناء. وترجم حنين فضلاً عن تلك الرسائل السالفة الذكر كتب المقولات (ويذكره العرب باسم قاطيغورياس) والطبيعة، والأخلاق الكبرى لأرسطو، وكتب الجمهورية، وطيماوس، والقوانين لأفلاطون؛ وعهد أبقراط، وكتاب الأقرباذين لديوسقريدس Dioscorides. وكتاب الأربعة لبطليموس، وترجم العهد القديم من الترجمة السبعينية اليونانية. وكاد المأمون أن يفلس بين المال حين كافأ حنين على عملهِ هذا يمثل وزن الكتب التي ترجمها ذهباً. ولما ولي الخلافة المتوكل عينه طبيباً لبلاطهِ، ولكنه زج به سنة في السجن حين أبى أن يركب له دواء يقضي به على حياة عدو له مع أن الخليفة أنذره بالموت إن لم يفعل. وكان ابن إسحق بن حنين يساعد أباه في أعمال الترجمة، ونقل هو إلى اللغة العربية من كتب أرسطو

ص: 178

كتب الميتافيزيقا، والنفس، وفي توالد الحيوانات وفسادها كما نقل إليها شروح الإسكندر الأفروديسي، وهو كتاب له أثر كبير في الفلسفة الإسلامية.

ولم يحل عام 850 بعد الميلاد حتى كانت معظم الكتب اليونانية القديمة في علوم الرياضة، والفلك، والطب قد ترجمت إلى اللغة العربية. وعن طريق الترجمة العربية أطلق اسم المجسطي على كتاب بطليموس في الفلك، وبفضل الترجمة العربية دون غيرها بقيت للعالم المقولات 5، 6، 7 من المخروطات لأبولونيوس البرجاوي Apollonius of Perga وكتاب الحيل لهيرو الإسكندري وكتاب الخصائص الآلية للهواء والغازات لفيلون البيزنطي. ومن أغرب الأشياء أن المسلمين رغم ولعهم الشديد بالشعر والتاريخ قد أغفلوا الشعر اليوناني والمسرحيات اليونانية وكتب التاريخ اليونانية، فقد سار المسلمون في ركاب الفرس في هذه النواحي من النشاط العلمي والأدبي بدل أن يسيروا في ركاب اليونان. وكان من سوء حظ الإسلام والإنسانية عامة أن كتب أفلاطون وأرسطو نفسه لم يصل معظمها إلى أيدي المسلمين إلا في الصورة التي أصبحت عليها أيام الأفلاطونية الحديثة: فقد وصلت إليها كتب أفلاطون كما فسرها بورفيري Porphyry، ووصلت كتب أرسطو ممسوخة في صورة كتاب اللاهوت المعروف عند الإسلاميين بأوثولوجيا أرسطوطاليس، وقد ألفه رجل من أتباع الأفلاطونية الحديثة عاش في القرن الخامس أو السادس، ثم ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية على أنه كتاب أرسطو نفسه. ولم يكد العرب يتركون كتاباً من كتب أرسطو وأفلاطون إلا ترجموه إلى اللغة العربية، وإن كانت هذه التراجم غير دقيقة في كثير من المواضع؛ ولكن العلماء المسلمين حاولوا أن يوفقوا بين الفلسفة اليونانية والقرآن، ولجأوا إلى الشروح التي كتبها رجال الأفلاطونية الحديثة أكثر مما لجأوا إلى كتب الفلاسفة اليونان في صورتها الأصلية. ولهذا لم يصل من كتب أرسطو

ص: 179

الحلقة إلى أيدي المسلمين إلا ما كان منها في المنطق وعلم الطبيعة.

وإن انتقال العلوم والفلسفة انتقالاً مستمراً من مصر، والهند، وبابل، عن طريق بلاد اليونان وبيزنطية، إلى بلاد الإسلام في الشرق وفي أسبانيا، ومنها إلى شمالي أوربا وأمريكا، نقول إن هذا الانتقال لمن أجل الحوادث وأعظمها شأناً في تاريخ العالم. لقد كانت علوم اليونان حية في بلاد الشام حين أقبل عليها العرب فاتحين، وإن كانت هذه العلوم قد ضعف شأنها بسبب ما أكتنفها قبلئذ من غموض وما ساد البلاد من فقر وفساد في الحكم. وكان الراهب سفيرس سبخت Severus Sobokht رئيس دير قنسرين إحدى مدن أعالي الفرات يكتب باليونانية رسائل في الفلك، ويذكر لأول مرة الأرقام الهندية في خارج بلاد الهند (662). لقد ورث المسلمون عن اليونان معظم ما ورثوه من علوم الأقدمين، وتأتي الهند في هذا في المرتبة الثانية بعد بلاد اليونان. ففي عام 773 أمر المنصور بترجمة السدهنتا وهي رسائل هندية في علم الفلك يرجع تاريخها إلى عام 425 ق. م. وربما كانت هذه الرسائل هي الوسيلة التي وصلت بها الأرقام "العربية"

(1)

والصفر من بلاد الهند إلى بلاد الإسلام (21). ففي عام 813 استخدم الخوارزمي الأرقام الهندية في جداوله الرياضية؛ ثم نشر في عام 825 رسالة تعرف في اللاتينية باسم Algoritmi de numero Indorum " أي الخوارزمي عن أرقام الهنود". وما لبث لفظ الجورثم أو الجورسم أن أصبح معناه طريقة حسابية تقوم على العدّية العشرية. وفي عام 976 قال محمد بن أحمد في مفاتيح العلوم إنه إذا لم يظهر في العمليات الحسابية رقم في مكان العشرات وجب أن توضع دائرة صغيرة لمساواة الصفوف (22). وسمى المسلمون هذه الدائرة "صفراً"

(1)

يسمي الإفرنج هذه الأرقام بالعربية لأنهم أخذوها من العرب ولكن العرب أنفسهم يسمونها بالأرقام الهندية لأنهم أخذوها عن الهنود. (المترجم)

ص: 180

أي خالية ومنها اشتقت الكلمة الإنجليزية Cipher؛ وحور العلماء اللاتين لفظ صفر Sifr إلى Zephyrum ثم اختصره الطليان إلى Zero.

ويدين علم الجبر، الذي نجد أصوله في مؤلفات ديوفانتوس Diophantus اليوناني من رجال القرن الثالث، باسمه إلى العرب، الذين ارتقوا بهذا العلم الكاشف للخبايا الحلال للمعضلات. وأبرز الشخصيات في هذا الميدان العلمي هي شخصية محمد بن موسى (780 - 850) المعروف بالخوارزمي نسبة إلى مسقط رأسه في خوارزم (خيوة الحديثة) الواقعة شرقي بحر الخرز؛ وقد كتب الخوارزمي رسائل قيمة في علوم خمسة: كتب عن الأرقام الهندية، وجمع أزياجاً فلكية، ظلت قروناً كثيرة بعد أن روجعت في بلاد الأندلس الإسلامية هي المعمول بها في جميع البلاد الممتدة من قرطبة إلى شنغان في الصين؛ وهو الذي وضع أقدم الجداول المعروفة في حساب المثلثات، واشترك مع تسعة وثلاثين من العلماء في وضع موسوعة جغرافية للخليفة المأمون، وأورد في كتابه حساب الجبر والمقابلة حلولاً تحليلية وهندسية لمعادلات الدرجة الثانية. ولقد ضاع الأصل العربي لهذا الكتاب، لكن جرارد الكريمونائي Gerard of Cremona ترجمة في القرن الثاني عشر، وظلت ترجمته تدرس في الجامعات الأوربية حتى القرن السادس عشر، ومنه أخذ الغرب كلمة الجبر وسموا بها ذلك العلم المعروف. واشتهر ثابت بن قرة (826 - 901)، فضلاً عما ترجمه من الكتب الكثيرة، بمؤلفاته في الفلك والطب، وأصبح أعظم علماء الهندسة المسلمين وارتقى أبو عبد الله البتاني (850 - 929) وهو رجل صابئي من الرقة يعرف عند الأوربيين باسم البتجنس Albategnus، بعلم حساب المثلثات إلى أبعد من مبادئه التي كان عليها في أيام هبارخوسن وبطليموس، وذلك حين استبدل المثلثات بالمربعات في حل المسائل، واستبدل جيب الزاوية بالقوس كما كان يفعل هبارخوس. وهو الذي صاغ

ص: 181

في حساب المثلثات النسب بالصورة التي نستخدمها الآن في جوهرها.

واستخدم المأمون جماعة من الفلكيين ليرصدوا الأجرام السماوية ويسجلوا نتيجة هذه الأرصاد، وليحققوا كشوف بطليموس الفلكي، ويدرسوا كلف الشمس. واتخذوا كرية الأرض أساساً بدءوا منه بقياس الدرجة الأرضية بأن رصدوا موضع الشمس من تدمر وسنجار في وقت واحد. وتوصلوا من هذا الرصد إلى تقدير الدرجة بستة وخمسين ميلاً وثلثي ميل-وهو تقدير يزيد بنصف ميل على تقديرنا في الوقت الحاضر ومن هذه النتائج قدروا محيط الأرض بما يقرب من عشرين ألف ميل. ولم يكن هؤلاء الفلكيون يقبلون شيئاً إلا بعد أن تثبته الخبرة والتجارب العلمية، وكانوا يسيرون في بحوثهم على قواعد علمية خالصة، وكتب أحدهم -الفرغاني من أهل فرغانة وهي ولاية وراء جيحون (حوالي عام 860) -كتاباً في الفلك ظل مرجعاً تعتمد عليه أوربا وغربي آسية سبعمائة عام. وأوسع منه شهرة البتاني الذي ظل واحداً وأربعين عاماً يقوم بأرصاد فلكية اشتهرت بدقتها واتساع مداها. وقد وصل بهذه الأرصاد إلى كثير من "المعاملات" الفلكية تمتاز بقربها العجيب من تقديرات هذه الأيام-منها تقديره زيوح الاعتدالين

(1)

بـ 54. 5 ً في العام، وميل مستوى الفلك بـ 55 َ 23 ْ (23). منهم أبو الوفا الذي كان يعمل تحت رعاية سلاطين بني بويه الأولين حكام بغداد والذي كشف (كما يقول سادلو Sadilot وإن كان قوله لا يزال مثاراً للجدل) الانحراف الثالث للقمر قبل أن يكشفه تيخو براهي Tycho Brahe بستمائة عام (24). وقد أقيمت للفلكيين المسلمين آلات غالية الثمن لم تقتصر على الإسطرلاب، والكرات ذوات الحلق التي كانت معروفة لليونان الأقدمين، بل كانت تشمل كذلك آلات لقياس الزوايا يبلغ نصف قطرها ثلاثين قدماً، وآلات سدس نصف قطرها ثمانون قدماً. وقد أدخل المسلمون. على الإسطرلاب تحسينات كثيرة،

(1)

Procession of the Equinoxes.

ص: 182

ووصل منهم إلى أوربا في القرن العاشر الميلادي، وظل شائع الاستعمال بين الملاحين حتى القرن السابع عشر. وقد صروه العرب وأبدعوا صنعه، حتى أصبح بفضلهم أداة علمية وتحفة فنية معاً.

وهذا الاهتمام العظيم بتصوير السماء قد فاقه اهتمامه بتصوير أقاليم الأرض لأن المسلمين كانوا يعيشون على فلح الأرض وعلى التجارة في أقاليمها المختلفة. فقد حمل سليمان التاجر-الذي عاش حوالي عام (851) وصفاً لرحلة سليمان هذا، كان هو أقدم وصف عربي لبلاد الصين، وكتبه قبل رحلات ماركو بولو Marco Polo بأربعمائة وخمسة وعشرين عاماً. وفي ذلك القرن نفسه كتب ابن خردذيه وصفاً لبلاد الهند، وسيلان، وجزائر الهند الشرقية، وبلاد الصين، ويبدو أنه اعتمد فيما كتب على رحلاته في تلك البلاد وما شاهده فيها بنفسهِ. ووصف ابن حوقل بلاد الهند وإفريقية، وكتب أحمد اليعقوبي، من أهل أرمينية وخرسان في عام 891 كتاب البلدان الذي وصف فيه الأقطار والمدن الإسلامية وكثيراً من الدول الأجنبية وصفاً خليقاً بالثقة. وزار محمد المقدسي جميع البلاد الإسلامية فضلاً عن بلاد الأندلس، ولاقى في أثناء رحلاته كثيراً من الشدائد، ثم كتب عام 985 كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، وهو أعظم كتاب في معرفة جغرافية البلاد الإسلامية قبل كتاب البيروني عن الهند.

ويمثل أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (973 - 1048 م) العالِم الإسلامي في أحسن صورة له. فقد كان البيروني فيلسوفاً، مؤرخاً، ورحالة، وجغرافياً، ولغوياً، ورياضياً، وفلكياً، وشاعراً، وعالماً في الطبيعيات-وكانت له مؤلفات كبيرة وبحوث عظيمة مبتكرة في كل ميدان من هذه الميادين. ومكان عند المسلمين كما كان ليبنتز، ويوشك أن يكون كما كان ليوناردو دافنشي، عند

ص: 183

الغربيين. وقد ولد كما ولد الخوارزمي بالقرب من مدينة جنوى الحالية، وتمثل فيه كما تمثل في الخوارزمي زعامة موطنه في غرب بحر قزوين من الناحية العلمية في هذه الأعوام المائة من العصور الوسطى التي بلغ فيها العلم ذروته. وعرف أمراء خورازم وطبارستان فضله وأدركوا عظم مواهبه فأفردوا له مكاناً في بلاطهم. وسمع محمود الغرنوي بكثرة من كان في خوارزم من الشعراء والفلاسفة، فطلب إلى أميرها أن يبعث إليه بالبيروني، وابن سينا، وغيرهما من العلماء؛ وأدرك الأمير أن هذا الأمر واجب الطاعة (1018)، وسافر البيروني ليحيا حياة الجد والهدوء والعزة والكرامة في بلاد المليك المحارب فاتح الهند. ولعل البيروني قد دخل الهند في ركاب محمود نفسه، وسواء كان هذا أو لم يكن فقد أقام العالم الفيلسوف في الهند عدة سنين درس فيها لغة البلاد وآثارها القديمة، ثم عاد إلى بلاط محمود وأصبح فيه من أعظم المقربين لهذا الحاكم المطلق الذي لا يستطيع الكاتب رسم صورة صادقة له. ويقال إن رجلاً من شمالي آسية زار محموداً ووصف له إقليماً ادعى أنه رآه بعينهِ، وقال إن الشمس تظل فيه عدة أشهر لا تغيب أبداً. ولم يصدق محمود هذا القول، وغضب على الرجل وأوشك أن يزجه في السجن لجرأتهِ على المزاح معه وهو صاحب الحول والطول، فما كان من البيروني إلا أن شرح هذه الظاهرة شرحاً أقنع بهِ الملك وأنجى الزائر (26). وكان مسعود بن محمود من الهواة المولعين بالعلم فأخذ ينفح البيروني بالهدايا والأموال، وكثيراً ما كان البيروني نفسه يردها إلى بيت المال لزيادتها على حاجتهِ.

وكان أول مؤلفاته الكبرى رسالة علمية فنية عميقة تعرف باسم الآثار الباقية في التقاويم والأعياد عند الفرس، وأهل الشام، واليونان، واليهود، والمسيحيين، الصابئين، والزرادشتيين، والعرب، والكتاب دراسة نزيهة إلى درجة غير مألوفة، مبرأة إلى أقصى حد من الأحقاد الدينية. وكان البيروني يميل إلى مذهب الشيعة، وكان ذا نزعة تشككية خالية من المباهاة والادعاء؛ غير أنه ظل يحتفظ

ص: 184

بقسط من الوطنية الفارسية، وأنحى باللائمة على العرب لقضائهم على ما كان في العهد الساساني من حضارة عظيمة (27). أما في ما عاد هذا فقد كان موقفه موقف العالم صاحب النظرة الموضوعية، المجد في البحث العلمي، النقادة للروايات المتواترة والنصوص (بما فيها نصوص الإنجيل)، المدقق، النزيه، ذي الضمير الحي في أحكامهِ، وكثيراً ما كان يعترف بجهلهِ، ويعد بأن يواصل بحوثه حتى تنكشف له الحقيقة. وقد قال في مقدمة الآثار الباقية مثل ما قال فرانسس بيكن في بعض كتبه "

بعد تنزيه النفس عن العوارض المردية أكثر الخلق، والأسباب المعمية لصاحبها عن الحق، وهي كالعادة المألوفة، والتعصب، والتظافر، وإتباع الهوى، والتغلب بالرياسة، وأشباه ذلك .... وبغير ذلك، لا يتأتى لنا نيل المطلوب ولو بعد العناء الشديد والجهد الجهيد".

وبينما كان مضيفه يغزو الهند ويدمر مدنها، كان البيروني يقضي السنين الطوال في دراسة شعوبها، ولغاتهم، وأديانهم، وثقافتهم، ومختلف طوائفهم. وأثمرت هذه الدراسة كتابة تاريخ الهند الذي نشره في عام 1030 والذي يعد أعظم مؤلفاته. وقد ميز فيه منذ البداية بين ما شاهده بعينهِ وما سمعه من غيره، وذكر أنواع الكذابين الذين ألفوا كتباً في التاريخ (28) ولم يخص تاريخ الهند السياسي إلا بحيز صغير في كتابه خص أحوال الهند الفلكية باثنين وأربعين فصلاً من فصوله وخص أديانها بأحد عشر. وكان من أهم ما سحر لبه البهاجافاد جيتا وأدرك ما بين تصوف الفدانتا، والصوفية، والفيثاغورية الحديثة، والأفلاطونية الحديثة من تشابه، وأورد مقتطفات من كتابات مفكري الهنود، ووازن بينها وبين مقتطفات شبيهة بها من كتابات فلاسفة اليونان، وفضل آراء اليونان عن آراء الهنود، وكتب يقول إن الهند لم ينبغ فيها رجل كسقراط، ولم تظهر فيها طريقة منطقية تطهر العلم من الأوهام (29). ولكنه رغم هذا ترجم إلى اللغة العربية عدداً من المؤلفات السنسكريتية، وكأنما أراد أن يوفي بدينهِ للهند

ص: 185

فترجم إلى السنسكريتية كتاب أصول الهندسة لإقليدس والمجسطي لبطليموس.

وكادت عنايته تشمل جميع العلوم، فقد كتب عن الأرقام الهندية أوفى بحث في العصور الوسطى؛ وكتب رسالة عن الإسطرلاب، ودائرة فلك البروج، وذات الحلق، ووضع أزياجاً فلكية للسلطان محمود. ولم يكن يخالجه أدنى شك في كرية الأرض، ولاحظ أن كل الأشياء تنجذب نحو مركزها، وقال إن الحقائق الفلكية يمكن تفسيرها إذا افترضنا أن الأرض تدور حول محورها مرة في كل يوم، وحول الشمس مرة في كل عام، بنفس السهولة التي تفسر بها إذا افترضنا العكس (30). وقال إن وادي نهر السند ربما كان في وقت من الأوقات قاع بحر (31)، وألف كتاباً ضخماً في الحجارة وصف فيه عدداً عظيماً من الأحجار والمعادن من النواحي الطبيعية وشرح قيمتها التجارية والطبية. وعين الكثافة النوعية لثمانية عشر نوعاً من أنواع الحجارة الكريمة، ووضع القاعدة التي تنص على الكثافة النوعية للجسم تتناسب مع حجم الماء الذي يزيغه (32). وتوصل إلى طريقة لحساب تكرار تضعيف العدد دون الالتجاء إلى عمليات الضرب والجمع الطويلة الشاقة، كما تحدث في القصة الهندية عن مربعات لوحة الشطرنج وحبات الرمل. ووضع في الهندسة حلولاً لنظريات سميت فيما بعد باسمه. وألف موسوعة في الفلك، والتنجيم، والعلوم الرياضية؛ وشرح أسباب خروج الماء من العيون الطبيعية والآبار الارتوازية بنظرية الأواني المستطرقة (33). وألف تواريخ حكم السلطان محمود، وسبكتجين، وتاريخاً لخوارزم. ويطلق عليه المؤرخون الشرقيون اسم الشيخ، وكأنهم يعنون بذلك أنه شيخ العلماء. وإن كثرة مؤلفاته في الجيل الذي ظهر فيه ابن سينا، وابن الهيثم، والفردوسي لتدل على أن الفترة الواقعة في أواخر القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر هي التي بلغت فيها الثقافة الإسلامية ذروتها، وهي التي وصل فيها الفكر في العصور الوسطى إلى أعلى درجاته.

ص: 186

ويكاد المسلمون يكونون هم الذين ابتدعوا الكيمياء بوصفها علماً من العلوم؛ ذلك أن المسلمين أدخلوا الملاحظة الدقيقة، والتجارب العلمية، والعناية برصد نتائجها في الميدان الذي اقتصر فيه اليونان- على ما نعلم- على الخبرة الصناعية الفروض الغامضة. فقد اخترعوا الأنبيق وسموه بهذا الاسم، وحللوا عدداً لا يحصى من المواد تحليلاً كيميائياً، ووضعوا مؤلفات في الحجارة، وميزوا بين القلويات والأحماض، وفحصوا عن المواد التي تميل إليها، ودرسوا مئات من العقاقير الطبية، وركبوا مئات منها

(1)

. وكان علم تحول المعادن إلى ذهب، الذي أخذه المسلمون من مصر هو الذي أوصلهم إلى علم الكيمياء الحق، عن طريق مئات الكشوف التي يبينوها مصادفة، وبفض الطريقة التي جروا عليها في اشتغالهم بهذا العلم وهي أكثر طرق العصور الوسطى انطباقاً على الوسائل العلمية الصحيحة. ويكاد المشتغلون بالعلوم الطبيعية من المسلمين في ذلك الوقت يجمعون على أن المعادن كلها تكاد ترجع في نهاية أمرها إلى أصول واحدة، وأنها لهذا السبب يمكن تحويل بعضها إلى البعض الآخر. وكان الهدف الذي يبغيه الكيمائيون هو أن يحولوا المعادن "الخسيسة" كالحديد، أو النحاس، أو الرصاص، أو القصدير إلى فضة، أو ذهب. وكان حجر الفلاسفة عندهم مادة-يدأبون على البحث عنها ولا يصلون إليها-إذا عولجت بها تلك المعادن العلاج الصحيح، حدث فيها التغير المطلوب. وكان الدم، والشعر، والبراز، وغيرها من المواد تعالج "بكواشف" متنوعة، وتعرض لعمليات التكليس، والتصعيد، وللضوء، والنار، علها أن يكون فيها ذلك الإكسير السحري (36). وكان الاعتقاد السائد أن الذي يستحوذ على هذا الإكسير يستطيع إذا شاء أن

(1)

الكحول كلمة عربية ولكن هذه المادة ليست من مخترعات العرب. وقد ذكر أول ما ذكر في مؤلف إيطالي ظهر في القرن التاسع أو العاشر (35) الميلادي، وكان الكحل عند المسلمين مسحوقاً تطلى به الواجب.

ص: 187

يطيل حياته. وكان أشهر الكيميائيين المسلمين جابر بن حيان (702 - 765) المعروف عند الأوربيين باسم جيبير Gebir. وكان جابر ابن حيان كوفي، اشتغل بالطب، ولكنه كان يقضي معظم وقته مع الأنابيق والبوادق. ويعزو إليه المؤرخون مائة من المؤلفات أو أكثر من مائة، ولكنها في الواقع من عمل مؤلفين مجهولين عاش معظمهم في القرن العاشر. وقد ترجم كثير من هذه المؤلفات التي لا يعرف أصحابها إلى اللغة اللاتينية. وكان لها الفضل في تقدم علم الكيمياء في أوروبا. وحل السحر بعد القرن العاشر محل الكيمياء كما حل محل غيرها من العلوم، وقضى ذلك العلم بعدئذ ثلاثمائة عام لا يرفع فيها رأسه.

وليس لدينا إلا القليل من بقايا علم الأحياء عند المسلمين في ذلك العصر. ومن هذه الآثار كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري الذي رجع فيه إلى مؤلفات ديوسقوريدس ولكنه أضاف فيه إلى علم الصيدلة عقاقير أخرى كثيرة. وقد عرف علماء الحياء المسلمون طريقة إنتاج فواكه جديدة بطريق التطعيم، وجمعوا بين شجرة الورد وشجرة اللوز، وأوجدوا بذلك التطعيم أزهاراً نادرة جميلة المنظر (37). وشرح عثمان بن عمر الجاحظ (المتوفى سنة 869) نظرية في التطور شبيه بنظرية المسعودي فقال إن الحياة قد ارتفعت من الجماد إلى النبات، ومن النبات إلى الحيوان، ثم من الحيوان إلى الإنسان (38). واعتنق الشاعر الصوفي جلال الدين هذه النظرية، ولم يضف إليها إلا قولهِ إنه إذا كان هذا مستطاعاً في الماضي، فإن الناس في المرحلة الثانية سيصبحون ملائكة ثم يرقون إلى مرتبة الإله (39).

ص: 188

الفصل الثالِث

‌الطب

وما فتئ الناس في هذه الأثناء يحبون الحياة، وينفقون الأموال الطائلة في تأخير ساعة الموت، وإن كانوا دائمي الافتراء عليها والتنديد بها. ولم يكن العرب حين دخلوا بلاد الشام يعرفون الطب إلا معلومات بدائية، ولم يكن لديهم من الأدوات والأجهزة الطبية إلا القليل الذي لا يغني. فلما أن ازدادت الثروة نشأت في الشام وفارس طائفة من الأطباء، واسعة العلم، عظيمة المقدرة، أو استقدمت من بلاد اليونان والهند .. وإذ كان المسلمون يستنكفون من تشريح الأجسام الحية أو جثث الموتى فإن علم التشريح عند المسلمين قد اقتصر على ما جاء في كتب جالينوس، أو على دراسة الجرحى من الناس؛ ومن أجل هذا كان أضعف فروع الطب الإسلامي هو الجراحة، وكان أقواها هو الطب العلاجي وخواص العقاقير الطبية. وقد أضاف العرب إلى علم الأقرباذين العنبر، والكافور، وخيار الشنبر، والقرنفل العطري، والزئبق، والسنالمكي، والمر، وأدخلوا في الأبنية مستحضرات طبية جديدة-منها أنواع الشراب، والحلاب، وماء الورد وما إليها. وكان من أهم الأعمال التجارية بين إيطاليا والشرق الأدنى استيراد العقاقير العربية. وكان المسلمون أول من أنشأ مخازن الأدوية والصيدليات، وهم الذين أنشئوا أول مدرسة للصيدلة، وكتبوا الرسائل العظيمة في علم الأقرباذين. وكان الأطباء المسلمون عظيمي التحمس في دعوتها إلى الاستحمام، وخاصة عن الإصابة بالحميات (46)، وإلى استخدام حمام البخار؛ ولا يكاد الطب الحديث يزيد شيئاً على ما وصفوه من العلاج للجدري والحصبة، وقد استخدموا التخدير بالاستنشاق في بعض العمليات الجراحية (47)؛ واستعانوا بالحشيش وغيره من

ص: 189

المخدرات على النوم العميق (43)؛ ولدينا أسماء أربعة وثلاثين بيمارستانا كانت قائمة في البلاد الإسلامية في ذلك الوقت (44)، ويلوح أنها أنشئت فيها خمسة أخرى في القرن العاشر الميلادي، ويحدثنا المؤرخون في عام 918 عن مدير لها في بغداد (45). وكان أعظم بيمارستانات بلاد الإسلام على بكرة أبيها هو البيمارستان الذي أنشئ في دمشق عام 706؛ وفي عام 978 كان به أربعة وعشرون طبيباً. وكان البيمارستانات أهم الأماكن التي يدرس فيها الطب؛ ولم يكن القانون يجيز لإنسان أن يمارس هذه الصناعة إلا إذا تقدم إلى امتحان يُعقد لهذا الغرض ونال إجازة من الدولة. كذلك كان الصيادلة، والخلاقون، والمجبرون يخضعون لأنظمة تضعها الدولة وللتفتيش على أعمالهم. وقد نظم علي ابن عيسى الوزير-الطبيب-هيئة من الأطباء الموظفين يطوفون في مختلف البلاد ليعالجوا المرضى (931)؛ وكان أطباء يذهبون في كل يوم إلى السجون ليعالجوا نزلاءها؛ وكان المصابون بأمراض عقلية يلقون عناية خاصة يعالجون علاجاً يمتاز بالرحمة والإنسانية. غير أن الوسائل الصحية العامة لم تلقَ في معظم الأماكن ما هي خليقة به من العناية، ودليلنا على ذلك أن أربعين وباء اجتاحت في أربعة قرون هذا البلد أو ذاك من بلاد الإسلام.

وكان في بغداد وحدها عام 931 ثمانمائة وستون طبيباً مرخصاً (46). وكانت أجورهم ترتفع بنسبة قربهم من بلاط الخلفاء. فقد جمع جبريل بن بختيشوع طبيب هارون الرشيد، والمأمون، والبرامكة ثروة يبلغ مقدارها 88. 800. 000 درهم أي نحو (7. 104. 000 دولار أمريكي). ويحدثنا المؤرخون أنه كان يتقاضى من الخليفة مائة ألف درهم نظير حجامته مرتين في العام. ومثل هذا المبلغ لإعطائه مسهلاً كل نصف عام (47). وقد نجح في علاج الشلل الهستيري في جارية

ص: 190

بأن تظاهر بأنه سيخلع عنها ملابسها أمام الناس. وجاء بعد جبريل في بلاد الإسلام الشرقية عدد من الأطباء كل منهم بعد الآخر، نذكر منهم يوحنا ابن ماسويه (777 - 857)، الذي درس التشريع بتقطيع أجسام القردة، ومنهم حنين بن إسحق، المترجم، صاحب كتاب العشر مقالات في العين، وهو أقدم كتبا دراسي منظم في طب العيون؛ وعلي بن عيسى أعظم أطباء العيون المسلمين، وقد ظل كتابه تذكرة الكحالين يدرس في أوربا حتى القرن الثامن عشر.

وأشهر أطباء هذه الأسرة الرحيمة على بكرة أبيها هو أبو بكر مجمد الرازي (844 - 926) اشتهر بين الأوربيين باسم رازيس Rhases. وكان أبو بكر كمعظم كبار العلماء والشعراء في وقتهِ فارسياً يكتب بالعربية. وكان مولده في بلدة الري القريبة من طهران، ودرس الكيمياء بنوعيها، والطب في بغداد، وألف 131 كتاباً نصفها في الطب، ضاع معظمها. ومن أشهر كتبه كتاب الحاوي وهو كتاب في عشرين مجلداً، ويبحث في كل فرع من فروع الطب. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية وسمي Liber cntinens، وأغلب الظن أنه ظل عدة قرون أعظم الكتب الطبية مكانة، وأهم مرجع لهذا العلم في بلاد الرجل الأبيض، وكان من الكتاب التسعة التي تتألف منها مكتبة الكلية الطبية في جامعة باريس عام 1394 (48). وكانت رسالته في الجدري والحصبة آية في الملاحظة المباشرة والتحليل الدقيق، كما كانت أولى الدراسات العلمية الصحيحة للأمراض المعدية، وأول مجهود يبذل للتفرقة بين هذين المرضين. وفي وسعنا أن نحكم على ما كان لهذه الرسالة من بالغ الأثر واتساع الشهرة إذا عرفنا أنها طبعت باللغة الإنجليزية أربعين مرة بين عامي 1498، 1866. وأشهر كتب الرازي كلها كتاب طبي في عشر مجلدات يسمى كتاب المنصوري

ص: 191

أهداه إلى أحد أمراء خرسان. وقد ترجمه جرار الكريمو إلى اللغة اللاتينية. وظل المجلد التاسع من هذا الكتاب وهو المعروف عند الغربيين باسم Nonus Almansoris متداولاً في أيدي طلاب الطب في أوربا حتى القرن السادس عشر. وقد كشف الرازي طرقاً جديدة في العلاج كمرهم الزئبق، واستخدام أمعاء الحيوان في التقطيب. وهدأ من حماس الأطباء لتحليل البول في عصر أقلب به الأطباء إلى تشخيص كل مرض بالفحص على بول المريض، دون أن يروه في بعض الأحيان. ولا تخلو بعض مؤلفاته القصيرة من ظرف ودعابة؛ ومن هذا النوع رسالته "في الطب الحاذق وليس هو من قدر على إبراء جميع العلل وإن ذلك ليس في الوسع" ورسالته الأخرى "العلة التي من أجلها ينجح جهال الأطباء والعوام والنساء في المدن في علاج بعض الأمراض أكثر من العلماء وعذر الطبيب في ذلك". ولقد كان الرازي بإجماع الآراء أعظم الأطباء المسلمين وأعظم علماء الطب السريري (الكلينيكي) في العصور الوسطى (49). ومات الرجل فقيراً في الثانية والثمانين من عمرهِ.

وقد علقت في مدرسة الطب بجامعة باريس صورتان ملونتان لطبيبين مسلمين هما: الرازي وابن سينا. وكان أبو علي الحسين بن سينا (980 - 1037) أعظم فلاسفة الإسلام وأشهر أطبائه، وتشهد سيرته التي كتبها بيدهِ-وذلك النوع من السير نادر في الأدب العربي-بكثرة ما كان يحدث في العصور الوسطى من تقلب في حياة العلماء والحكماء. فقد كان ابن سينا ابن أحد الصيارفة في بخارى، وتلقى العلم على معلمين خصوصيين، كان لهم أثر فيما ينطوي عليه عقله العلمي من نزعة صوفية. ويقول عنه ابن خلكان بشيء من المغالاة المألوفة عند المؤرخين العرب إنه لما بلغ عشر سنين من عمرهِ "كان قد أتقن علم القرآن العزيز والأدب وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهند والجبر والمقابلة"(50).

وقد تعلم الطب من غير مدرس، وأخذ وهو شاب يعالج المرضى من غير أجر

ص: 192

وشفى وهو في السابعة عشر من عمرهِ نوح بن منصور أمير بخارى من مرضهِ، معين في منصب في بلاطهِ، وكان يقضي في الدرس ساعات طوالاً في مكتبة السلطان الضخمة. ولما قضي على سلطان السامانيين في أواخر القرن العاشر الميلادي لجأ ابن سينا إلى بلاط المأمون أمير خوارزم. ولما استدعى محمود الغزنوي ابن سينا والبيروني وغيرهما من جهابذة العلماء في بلاط المأمون، لم يطع ابن سينا أمره، وفر هو وزميل له من العلماء إلى الصحراء. وهبت عليهما عاصفة رملية مات فيها زميلهُ، ونجا ابن سينا ووصل إلى جرجان بعد أن قاسى كثيراً من الصعاب، وفيها عين في منصب في بلاط قابوس. ونشر محمود الغرنوي في بلاد الفرس صورة لابن سينا، ووعد من يقبض عليه بجائزة سخية، ولكن قابوس حماه من عيون الأمير. ولما قتل قابوس دعي ابن يسنا لعلاج همذان، وشفي الأمير على يديهِ فاتخذه وزيراً له، ولكن الجيش لم يرتح لحكمهِ، فقبض عليه ونهب بيتهُ، وأراد أن يقتله. واستطاع ابن سينا أن يفلت منهم ويختبئ في بيت صيدلي، وبدأ وهو في مخبئهِ يؤلف كتبهُ التي كانت سبباً في شهرتهِ. وبينما هو يدبر لنفسهِ أمر الفرار سراً من همذان قبض عليه ابن الأمير وزج به في السجن حيث قضى عدة أشهر واصل فيها التأليف. واستطاع مرة أخرى أن يفر من السجن، وتخفى في زي أحد رجال الطرق الصوفية، وبعد عدة مغامرات لا تتسع لها صحائف هذا الكتاب وجد له ملجأ في بلاط علاء الدولة البويهي أمير أصفهان، ورحب بهِ الأمير وكرمهُ، وهنا التفت حوله جماعة من العلماء والفلاسفة وأخذوا يعقدون مجالس علمية برياسة الأمير نفسه. ويستدل من بعض القصص التي وصلت إلينا أن فيلسوفنا كان يستمتع بملاذ الحب، كما يستمتع بملاذ الدرس. غير أن قصصاً تصوره لنا مكباً بالليل والنهار على الدرس، والتعليم، والشؤون العامة، وينقل لنا ابن خلكان نصائح له قيمة لا تبلى جدتها:

ص: 193

اجعل غذائك كل يوم مرة واحذر طعاماً قبل هضم طعام

واحفظ منيك ما استطعت فإنه ماء الحياة يراق في الأرحام

وأثرت حياة الكدح في صحتهِ فمات في السابعة والخمسين من عمرهِ وهو مسافر إلى همذان، حيث لا يزال قبره موضعاً للإجلال والتكريم.

ولقد وجد ابن سينا في صروف حياته، في مناصبهِ أو في سجنهِ، متسعاً من الوقت لتأليف مائة كتاب بالفارسية أو العربية تحدث فيها عن كل فرع تقريباً من فروع العلم والفلسفة. هذا إلى أنه له قصائد من الشعر الجيد وصلت إلينا منها خمس عشرة قصيدة انزلقت واحدة منها إلى رباعيات عمر الخيام، ومنها قصيدته العينية في النفس وهبوطها إلى الجسم من عالم علوي ومطلعها:

هبطت عليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع%=@ومنها:

محجوبة عن كل مقلة عارفٍ وهي التي سفرت ولم تتبرقع

وصلت علىكرهٍ إليكَ وربما كرهت فراقكَ وهي ذات تفجع@

ولا يزال الطلاب في بلاد الشرق الإسلامي حتى اليوم يحفظونها عن ظهر قلب. وقد ترجم كتاب إقليدس في الهندسة ووضع عدة أزياج فلكية، وابتكر آلة شبيهة بالورنية المعروفة عندنا اليوم. وله دراسات مبتكرة في الحركة، والطاقة، والفراغ، والضوء، والحرارة، والكثافة النوعية. وله رسالة في المعادن بقيت حتى القرن الثالث عشر أهم مصادر علم طبقات الأرض عند الأوربيين. وقد كتب فيها عن تكوين الجبال كتابة تعد أنموذجاً للوضوح في العلم. فقد قال إن الجبال قد تنشأ من سببين مختلفين: فقد تكون نتيجة اضطرابات في القشرة الأرضية كما يحدث في أثناء الزلازل العنيفة، وقد تكون نتيجة لفعل المياه التي تشق لنفسها طريقاً جديداً بنحت الأودية. ذلك أن طبقات الأرض مختلفة في أنواعها؛ فمنها الهش ومنها تشق الصلب، والرياح والمياه تفتتان النوع الأول

ص: 194

ولكنهما تتركان صخور النوع الثاني على حالها. وهذا التحول يحتاج إلى آجال طوال

ولكن وجود البقايا المتحجرة للحيوانات المائية في كثير من الجبال يدل على أن المياه هي أهم الأسباب التي أحدثت هذه النتائج (52).

ولابن سينا كتابان يشتملان على تعاليمهِ كلها أولهما كتاب الشفاء (شفاء النفس)، وهو موسوعة في ثمانية عشر مجلداً في العلوم الرياضية، والطبيعة، وما وراء الطبيعة، وعلوم الدين، والاقتصاد، والسياسة، والموسيقى؛ وثانيهما كتاب القانون في الطب، وهو بحث ضخم في وظائف الأعضاء، وعلم الصحة، والعلاج، والأقرباذين، يتطرق من حين إلى حين إلى الموضوعات الفلسفية. وكتاب القانون حسن التنسيق يرقى في بعض الأحيان إلى درجة كبيرة في البلاغة، ولكن شغفه الشديد بالتصنيف والتمييز يصبح عنده آفة لا يجد لها دواء. ويبدأ المؤلف بتحذير لا يشجع على دراستهِ إذ يقول إن كل من يتبع تعاليمه ويريد أن يفيد منها يجب عليه أن يحفظ عن ظاهر قلب (52 ا) هذا الكتاب الذي يحتوي ألف ألف كلمة. والطب في رأيهِ هو فن إزالة العقبات التي تعترض طريق عمل الطبيعة السوي. وهو يبحث أولاً في الأمراض الخطيرة فيصف أعراضها، وتشخيصها، وطرق علاجها. وفي الكتاب فصول عن طريق الوقاية والوسائل الصحية العامة والخاصة، والعلاج الحقن الشرجية، والحجامة، والكي، والاستحمام، والتدليك. وهو ينصح بالتنفس العميق، وبالصياح من حين إلى حين لتقوية الرئتين والصدر-واللهاة. ويلخص الكتاب الثاني ما عرفه اليونان والعرب عن النباتات الطبية. ويبحث الكتاب الثالث في بعض الأمراض وطبائعها، وفيه بحوث قيمة عن التهاب البلورا والدُّبيلة

(1)

، والنزلات المعوية، والأمراض التناسلية، وفساد الشهوة، والأمراض العصبية، بما فيها العشق،

(1)

هذا هو الاسم الذي يطلقه ابن سينا على هذا المرض ويسميه أبو القاسم الزهراوي الذبيلة بالذال المنطوقة وهو معروف بالأمييما أي تجمع الصديد في جوف البلورا. (المترجم)

ص: 195

ويبحث الكتاب الرابع في الحميات، وفي الجراحة، وأدهان التجميل، ووسائل العناية بالشعر والجلد. وفي الكتاب الرابع-الخاص بعلم العقاقير الطبية-تعليمات مفصلة عن طرق طبخ سبعمائة وستين نوعاً من العقاقير. وحل كتاب القانون بعد أن ترجم إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر محل كتب الرازي وجالينوس، وأصبح هو الذي يعتمد عليهِ في دراسة الطب في المدارس الأوربية. وقد احتفظ فيها بمكانتهِ العالية، وظل الأساتذة يشيرون على الطلاب بالرجوع إليه في جامعتي منبلييه ولوفان إلى أواسط القرن السابع عشر.

وجملة القول أن ابن سينا أعظم من كتب في الطب في العصور الوسطى، وأن الرازي أعظم أطبائها، والبيروني أعظم الجغرافيين فيها، وابن الهيثم أعظم علمائها في البصريات، وجابر بن حيان أعظم الكيميائيين فيها. تلك أسماء خمسة لا يعرف عنها العالم المسيحي في الوقت الحاضر إلا القليل، وإن عدم معرفتنا إياها ليشهد بضيق نظرتنا وتقصيرنا في معرفة تاريخ العصور الوسطى. وليس في وسعنا مع هذا أن نحاجز أنفسنا عن القول بأن العلوم العربية كثيراً ما تلوث بالأوهام شأنها في هذا شأن سائر العصور الوسطى وأن تفوقها كلها-عدا علم البصريات-يرجع إلى التركيب والبناء من النتائج التي تجمعت لديها أكثر من تفوقها في الكشوف المبتكرة أو البحوث المنظمة؛ لكنها مهما يكن قصورها في هذه الناحية قد نمت في علم الكيمياء الطريقة التجريبية العلمية، وهي أهم أدوات العقل الحديث وأعظم مفاخره. ولما أن أعلن روجر بيكن هذه الطريقة إلى أوربا بعد أن أعلنها جابر بخمسمائة عام كان الذي هداه إليها هو النور الذي أضاء له السبيل من عرب الأندلس، وليس هذا الضياء نفسه إلا قبساً من نور المسلمين في الشرق.

ص: 196

الفصل الرّابع

‌الفلسفة

لقد استعار الإسلام في الفلسفة، كما استعار في الطب، من بلاد الشام المسيحية ما خلفته بلاد اليونان الوثنية، ثم رد هذا الدين إلى أوربا المسيحية عن طريق الأندلس الإسلامية. وكانت هناك بطبيعة الحال عوامل كثيرة هي التي أدت مجتمعة إلى ثورة المعتزلة، وإلى فلسفات الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد. وكان للآراء الزرادشتية واليهودية عن الحشر والحساب بعض الأثر في الفلسفة الإسلامية؛ وكان الملاحدة المسيحيون قد أثاروا عجاج الجدل في بلاد الشرق الأدنى في صفات الله، وفي طبيعة المسيح وكلمة الله، وفي الجبرية والقدرية، والوحي والعقل. لكن العامل الذي كان له أكبر الأثر غي التفكير الإسلامي في آسية-كما كان له أكبر الأثر في إيطاليا أيام النهضة-هو كشف آثار اليونان الفكرية من جديد؛ فقد أدى هذا الكشف -وإن أتى عن طريق التراجم الناقصة المعيبة لنصوص مشكوك في صحتها-إلى ظهور عالم جديد: عالم كان الناس يفكرون فيه في كل شيء ولا يخشون أن يصيبهم أذى بسبب هذا التفكير، ولا تقيد عقولهم نصوص الكتب المقدسة، ولا يرون أن السماء والأرض وما بينهما قد خلقت عبثاً

(1)

أو أنها وجدت بمعجزة من المعجزات التي لا تستند إلى قانون من قوانين العقل، بل يرون أنها تستند إلى قانون عام عظيم

(1)

لم يكن هذا التفكير مقصوراً على اليونان وحدهم، بل قد جاء بهِ القرآن نفسه في عدة آيات:"وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين": سورة الأنبياء: 16؛ وسورة ص: 27 وسورة الحجر: 85؛ وسورة الدخان: 38.

ص: 197

يحكمها جميعاً وتتضح آثاره في كل جزء من أجزاء الكون. وقد افتتن المسلمون بالمنطق اليوناني في صورته الكاملة الواضحة التي جاء بها كتاب أورغانون (الآلة الفكرية) لأرسطو بعد أن أتيح لهم الفراغ الذي لا بد منه للتفكير، ووجدوا فيهِ الأدوات التي يحتاجونها لتفكيرهم؛ وظل المسلمون ثلاثة قرون طوال يحاجون بالمنطق وتسلب لبهم بهجة الفلسفة المحببة كما سلبت لب الشباب في أيام أفلاطون. وسرعان ما أخذ صرح العقائد التعسفية يتصدع وينهار، كما انهارت العقائد اليونانية بتأثير بلاغة السوفسطائيين، وكما ضعفت العقائد المسيحية وتزعزعت قواعدها تحت ضربات أصحاب الموسوعات الفرنسيين وسخرية فلتير اللاذعة.

وكانت البداية التقريبية للعهد الذي نستطيع أن نسميه عهد الاستنارة الإسلامية هي الجدل الذي ثار حول موضوع عجيب هو موضوع خلق القرآن. ذلك أن عقيدة فيلون في الكلمة وقوله إنها حكمة الله الأبدية، وما جاء بهِ الإنجيل الرابع من أ، المسيح هو كلمة الله أو العقل القدسي:"في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيرهِ لم يكن شيء مما كان"(53)، وعقيدة المسيحيين العارفين

(1)

وأتباع الأفلاطونية الحديثة الذين يجسدون الحكمة الإلهية يقولون إنها هي أداة الخلق الفعالة، وعقيدة اليهود في أزلية التوراة-كل هذه الآراء قد أوجدت عند المسلمين السنيين عقيدة مماثلة تقول إن القرآن كان على الدوام موجوداً في عقل الله، وإن نزوله على محمد كان هو دون غيره حادثاً في زمان معين، وكانت نشأة الفلسفة في الإسلام على يد المعتزلة الذين ينكرون قدم القرآن، وهم يجهزون باحترامهم لكتاب الله (الكريم) ولكنهم يقولون إنه إذا تعارض هو

(1)

القائلين بأن الخلاص بالمعرفة لا بالإيمان. (المترجم)

ص: 198

أو الحديث مع العقل وجب ألا يفسر تفسيراً حرفياً بل مجازياً، وأطلقوا على يد هذه الجهود التي يحاولون بها التوفيق بين العقل والدين اسم الكلام أي المنطق. وقد بدا لهم أن من السخف أن تؤخذ بحرفيتها العبارات الواردة في القرآن والتي تقول إن لله يدين وقدمين، وإنه يغضب ويكره، وقالوا إن تشبيه الله بالكائنات البشرية على هذا النحو الشعري، إذا كان يتفق مع أغراض النبي الأخلاقية والسياسية في أيام الرسالة، لا يمكن أن يقبله المتعلمون المستنيرون في أيامهم، وإن العقل البشري عاجز كل العجز عن معرفة طبيعة الله وصفاته، وكل ما يستطيعه أن يقبل ما جاء به الدين من إثبات وجود قوة روحية عليا هي أساس الحقائق عامة. وفضلاً عن هذا فقد كان المعتزلة يرون أن الخطر الشديد على أخلاق الناس وأعمالهم أ، يؤمنوا كما يؤمن عامة المسلمين بأن الحادثات كلها مقدرة تقديراً كاملاً من عند الله، وأن الله قد اختار منذ الأزل من سيثاب ومن سيعذب.

وانتشرت عقائد المعتزلة بهذه الصورة وبما أدخل عليها من الصور الأخرى التي يخطئها الحصر أثناء خلافة المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون؛ واعتنق هذه المبادئ العقلية الجديدة سِرَّاًً في بادئ الأمر عدد من العلماء والخارجين على الدين، ثم جهز بها رجال في ندوة الخلفاء المسائية، ثم وجدت من يدعو إليها في المحاضرات التي تلقى في المدارس والمساجد، بل تغلبت في أماكن متفرقة على غيرها من الآراء. وافتتن المأمون نفسه بهذه النزعة العقلية الآخذة في القوة، وبسط عليها حمايته، وانتهى الأمر بأن جعل عقائد المعتزلة مذهب الدولة الرسمي. ذلك أ، المأمون مزج بعض عادات الملكية الشرقية بآخر الآراء الإسلامية المستمدة من الثقافة اليونانية، وأصدر في عام 832 أمراً يفرض فيه على جميع المسلمين أن يعتقدوا بأن القرآن قد خلق في وقت بعينهِ، وأتبع هذا بأمر آخر يقضي بألا يعين قاضياً في المحاكم من لا يعلن قبولهُ لهذه العقيدة الجديدة أو أن

ص: 199

تقبل فيها شهادتهُ، وصدرت بعد هذين القرارين قرارات أخرى تحتم قبول عقيدة حرية الإرادة، وعجز النفس البشرية عن رؤية الله رأى العين، وانتهى الأمر بأن جعل رفض هذه العقائد من الجرائم التي يعاقب مرتكبها بالإعدام.

وتوفي المأمون في عام 833، ولكن المعتصم والواثق اللذين توليا الخلافة بعده واصلا هذه الحملة الفكرية، وقاوم الإمام ابن حنبل هذا الاضطهاد الفكري وندد بهِ؛ ولما استدعي لمناقشته في أمر المبادئ الجديدة أجاب عن كل ما وجه إليه من الأسئلة بإيراد شواهد من القرآن تؤيد آراء أهل السنة، فضرب حتى أغمي عليهِ، وألقي في السجن؛ ولكنه أصبح في أعين المسلمين بسبب هذا التعذيب من الشهداء والأولياء الصالحين، وكان تعذيبه هذا من العوامل التي مهدت السبيل للانتفاض على الفلسفة الإسلامية.

وكانت هذه الفلسفة قد أخرجت في ذلك الوقت أول داعٍ كبير لها وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي الذي ولد في الكوفة عام 803 م. وكان والد الكندي من ولاة الأعمال في المدينة؛ وتلقى هو العلم فيها وفي بغداد، وذاعت شهرته في الترجمة، والعلم والفلسفة في بلاط المأمون والمعتصم، ونبغ مثل الكثيرين من أمثاله في مجد الإسلام الفكري في عدد كبير من العلوم، فدرس كل شيء، وكتب 265 رسالة في كل شيء-في الحساب والهندسة النظرية، والهيئة، والظواهر الجوية، وتقويم البلدان، والطبيعة، والسياسة، والموسيقى، والطب، والفلسفة

وكان يرى ما يراه أفلاطون من أنه ليس في وسع إنسان أن يصبح فيلسوفاً من غير أن يكون قبل ذلك عالماً في الرياضة؛ وحاول أن يبني علم الصحة، والطب، والموسيقى على نسب رياضية. وقد درس فيما درس ظاهرة المد والجزر، وبحث القوانين التي تحدد سرعة الأجسام الساقطة في الهواء، كما بحث ظاهرة الضوء في كتابهِ عن البصريات الذي كان له أكبر الأثر في

ص: 200

روجر بيكن Roger Bacon. (وقد أدهش الكندي العالم الإسلامي برسالتهِ في الدفاع عن المسيحية)

(1)

واشترك هو وزميل له في ترجمة كتاب أرسطو في الإلهيات (أوثولوجيا). وتأثر الكندي أشد التأثر بهذا الكتاب المنحول وسه كل السرور أن يوفق بين أرسطو وأفلاطون إذ يجعل كليهما من أتباع الأفلاطونية الجديدة. ذلك أن فلسفة الكندي نفسه هي الأفلاطونية الجديدة مصبوغة صبغة جديدة: فالنفس عنده ثلاث مراتب: الله، ونفس العالم الخلاقة، والنفس البشرية التي هي فيض من هذه النفس الثانية. وإذا استطاع الإنسان أنم يدرب نفسه على العلم الحق استطاع أن ينال الحرية والخلود. ويلوح أن الكندي قد حاول ما استطاع أن يبتعد عن آراء المعتزلة وأن يعتنق آراء أهل السنة، ولكنه أخذ عن أرسطو (56) التفرقة بين العقل الفاعل أي العقل الإلهي، وعقل الإنسان المنفعل الذي لا يعدو أن يكون هو القدرة على التفكير. ونقل ابن سينا هذا التفريق إلى ابن رشد الذي أثار بهِ العالم واتخذ حجة ضد القائلين بالخلود الفردي. وانتهى الكندي بالانضمام إلى المعتزلة، فلما قام عليهم أهل السنة صودرت كتبهُ، وكاد يقضى على حياتهِ، ولكنه نجا من هذه العاصفة، واسترد مكتبتهُ، وعاش حتى عام 873.

إن المجتمع الذي يرتبط فيه نظام الحكم، والقانون، والأخلاق بالعقيدة الدينية يرى كل خروج على تلك العقيدة تهديداً خطيراً للنظام الاجتماعي نفسه. ولقد عادت إلى النشاط من جديد جميع القوى التي طغى عليها الفتح العربي

(1)

ليس للكندي الفيلسوف رسالة في الدفاع عن المسيحية. أما كاتب هذه الرسالة فهو عبد المسيح بن إسحق الكندي، وقد كتبها رداً على رسالة بعث بها إليه عبد الله بن إسماعيل الهاشمي يدعوه فيها إلى الإسلام، فبعث إليه بهذه الرسالة يدعو عبد الله إلى النصرانية. وقد اختلط الأمر على المؤلف لتشابه الإسمين. وقد ورد ذكر الرسالتين في كتاب الآثار الباقية للبيروني. (المترجم)

ص: 201

وهي الفلسفة اليونانية والمسيحية والغنوسطية والقومية الفارسية، والشيوعية المزدكية؛ وكان نشاطها عنيفاً، فأخذت تجادل في القرآن، وجهر شاعر فارسي بأن شعره أعلى منزلة من القرآن نفسه، فكان جزاؤه على قولهِ هذا قطع رأسهُ (784)(57)، وبدا أن صرح الإسلام القائم على القرآن قد أصبح وشيك الانهيار. غير أن عوامل ثلاثة في هذه الأزمة الشديدة جعلت النصر النهائي لأهل السنة: وهذه العوامل هي وجود خليفة محافظ مستمسك بدينهِ، واشتداد ساعد الحرس التركي، وولاء الناس الطبيعي لعقائدهم الموروثة. فلما أن تولى المتوكل على الله الخلافة في عام 847 استمد العون من الشعب ومن الأتراك. وكان الترك حديثي العهد بالإسلام، حاقدين على الفرس، غريبين عن الفكر اليوناني، فاندفعوا بكل ما فيهم من قوة لتأييد السياسة التي ترمي إلى نصرة الدين بحد السيف. فنقض المتوكل السياسة الحرة العنيفة التي جرى عليها المأمون، وألغى ما أصدره فيها من المراسيم، وأخرج المعتزلة وغيرهم من الملحدين عن مناصب الدولة والوظائف التعليمية، وحرم الجهر بالآراء المخالفة لآراء أهل السنة في الأدب والفلسفة، وسَنَّ قانوناً يحتم القول بأن القرآن أزلي غير مخلوق، واضطهِد الشيعة وهُدم مشهد الحسين في كربلاء (851). وجدد المتوكل الأمر المعزو إلى عمر بن الخطاب ضد المسيحيين، والذي وسعه هارون الرشيد حتى شمل اليهود (850)، ثم أهمل العمل بهِ بعد صدورهِ، جدد المتوكل هذا الأمر ففرض على اليهود والمسيحيين أن يلبسوا ثياباً من لون خاص تميزهم من غيرهم من أفراد الشعب، وأن يضعوا رقعاً ملونة على أكمام أثواب عبيدهم، وألا يركبوا غير البغال والحمير، وأن يثبتوا صوراً خشبية للشيطان على أبواب بيوتهم؛ وأمر بهدم جميع الكنائس والمعابد المسيحية واليهودية الجديدة، وحرم رفع الصليب علناً في المواكب المسيحية، ولم يسمح لمسيحي أو يهودي أن يتلقى العلم في المدارس الإسلامية.

واتخذ رد الفعل في الجيل التالي صورة أقل عنفاً من هذه الصورة السابق

ص: 202

وصفها. فقد قام جماعة من العلماء السنيين وجهروا في شجاعة بقبول حكم المنطق في الجدل القائم، وعرضوا أن يثبتوا بالرجوع إلى العقل صدق العقائد الأصلية. وهؤلاء المتكلمون (المناطقة) في الإسلام يشبهون الفلاسفة المدرسين في أوربا في العصور الوسطى، وقد حاولوا أن يوفقوا بين العقائد الدينية والفلسفة اليونانية كما حاول ابن ميمون ذلك في القرن الثاني عشر بالنسبة لليهود، وتومس أكوناس في القرن الثالث عشر بالنسبة للمسيحية. وظل أبو الحسن الأشعري (873 - 935) يعلم الناس مبادئ المعتزلة نحو عشر سنين في البصرة، ولكنه انقلب عليهم حين بلغ الأربعين من عمرهِ، وهاجمهم بسلاحهم هم أنفسهم، وهو سلاح المنطق، وسلط عليهم سيلاً جارفاً من الجدل القوي كان له أكبر الأثر في انتصار عقائد أهل السنة. وقد آمن أبو الحسن إيماناً قوياً بمبدأ الجبرية فقال إن الله قدر منذ الأزل كل عمل وكل حادث، وإنه عللها كلها، وإنه يعلو على القوانين والأخلاق، وإنه يصرف شؤون خلقه كما يشاء، فإذا بعث بهم جميعاً إلى النار فليس في ذلك خطأ قط (59).

ولم يرضَ أهل السنة كلهم بإخضاع الدين إلى هذا الجدل العقلي، ونادى كثيرون منهم بمبدأ "بلاكيف" أي أن من واجب الإنسان أن يؤمن دون أن يسأل كيف يكون هذا الإيمان (60)، وامتنع معظم علماء الدين عن الجدل في الموضوعات الأساسية ولكنهم اندفعوا يجادلون في التفاصيل الجزئية لعقيدة اتخذوا مبادئها الأساسية بداية يسلمون بها دون مناقشة.

وهكذا هدأت موجة الفلسفة في بغداد، ولكنها ثارت في الوقت نفسه في العواصم الإسلامية الصغرى؛ فوهب سيف الدولة أبا نصر الفارابي بيتاً في بغداد، وكان الفارابي أول من نبغ وانتشر صيتهُ من العلماء الأتراك. كان مولده في فاراب إحدى ولايات التركستان، ودرس المنطق في بغداد على معلمين مسيحيين

ص: 203

وقرأ كتاب الطبيعة لأرسطو أربعين مرة، وكتاب النفس مائتي مرة، ورمي بالزندقة في بغداد، وارتدى ملابس المتصوفة واعتنق مبادئهم، وعاش كما يعيش طير الهواء. ويقول عنه ابن خلكان إنه "كان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأي مكسب ولا مسكن"(61).

وسأله سيف الدولة عما يكفيه من المال فقال الفارابي إنه يكفيه أربعة دراهم في اليوم "فأجرى عليه الأمير هذا القدر من بيت المال واقتصر عليها لقناعتهِ ولم يزل إلى أن توفي".

وقد بقي من مؤلفات الفارابي تسعة وثلاثون كتاباً كثير منها شروح لأرسطو وتعليقات على آرائهِ. وقد لخص في كتابهِ إحصاء العلوم علم عصره في الفلسفة، والمنطق، والرياضيات، والطبيعة، والكيمياء، والاقتصاد، والسياسة. وقد أجاب إجابة سلبية صريحة عن السؤال الذي أثار ثائرة الفلاسفة المسيحيين بعد قليل من ذلك الوقت وهو هل الكلي (أي الجنس، والنوع، والصفة) يوجد قائماً بنفسهِ منفصلاً عن الجزئي؟ وقد خدع كما خدع غيره بإلهيات أرسطو فبدل الاصطاغيري العنيد

(1)

إلى رجل متصوف. وطال به العمر حتى هدأت ثورته العلمية واستمسك بقواعد الدين. وكان في شبابهِ قد جهر بنزعة لا إرادية متشككة (62)، ثم خطا في مستقبل حياته خطوات واسعة، فأعطانا وصفاً مفصلاً للخالق (63) مستعيناً على ذلك بالبراهين التي أوردها أرسطو ليثبت بها وجود الله، والتي استعان بها أكوناس بعد ثلاثة قرون من ذلك الوقت، فقال إن حدوث سلسلة من الحوادث العارضة لا يمكن إدراكها إلا إذا أرجعناها في النهاية إلى كائن لا بد من وجوده لوقوعها، وجود سلسلة من العلل يتطلب وجود علة أولى؛ وسلسلة من الحركات يتطلب محركاً أول غير متحرك؛ والتعدد يتطلب الوحدة.

(1)

يريد أرسطو المولود في اصطاغيرا وهي مدينة يونانية على بحر إيجة. (المترجم)

ص: 204

وإن الهدف النهائي للفلسفة، وهو الهدف الذي لا يمكن بلوغه كاملاً، هو معرفة العلة الأولى، وخير طريق للوصول إلى هذه المعرفة هو تطهير النفس. وقد استطاع الفارابي، كما استطاع أرسطو أن يعنى بجعل أقواله عن الخلود غامضة غير مفهومة. ومات الرجل في دمشق عام 950 م.

ومن بين كتب الفارابي الباقية كلها كتاب واحد يدهشنا ما يدل عليهِ من قوة الابتكار ونعني به كتاب المدينة الفاضلة. ويبدأ الكتاب بوصف قانون الطبيعة بأنه كفاح واحد دائم يقوم بهِ كل كائن حي ضد سائر الكائنات؛ وهو في ذلك يشبه ما يقول هبز Hobbs من أن الأشياء كلها يحارب بعضها بعضاً؛ ثم يقول إن كل كائن حي يرى في آخر الأمر أن سائر الكائنات الحية وسائل يحقق بها أغراضه، ثم يعقب على هذا بقولهِ إن بعض الساخرين يستنتجون من هذا أن الرجل العاقل في هذا التنافس الذي لا مفر منه هو أقدر الناس على إخضاع غيره لإرادتهِ، وأعظمهم تحقيقاً لرغباتهِ كاملة. فكيف خرج المجتمع الإنساني إذن من هذا القانون قانون الغاب؟ وإذا ما أمعنا الفكر في أقوال الفارابي رأينا أنه كان بين المسلمين الذين بحثوا هذا الموضوع فلاسفة من طراز روسو وآخرون من طراز نتشة: فمنهم من قال إن المجتمع قام في بادئ الأمر على أساس نوع من الاتفاق بي أفراد على أن بقاءهم يتطلب قبول بعض القيود التي تعتمد على العادات والقانون؛ ومنهم من سخر من هذا "العقد الاجتماعي" وقال إن مثل هذا التعاقد لم يوجد قط في تاريخ العالم، وأكد أن المجتمع بدأ، أو أن الدولة بدأت، بإخضاع الأقوياء للضعفاء وتجنيدهم تحت سلطانها. ويضيف هؤلاء النتشيون أن الدولة نفسها أدوات للتنافس، وأن يقاتل بعضها بعضاً سعياً وراء سيادتها على غيرها، وسلامتها، وسلطانها، وثرائها؛ وأن الحرب طبيعية ولا مفر من وقوعها؛ وأن الذي سيسفر عنه هذا الصراع، لا بد أن يتمشى مع قانون الطبيعة الأزلي؛ وهو أن الحق الوحيد هو القوة. ويقاوم الفارابي هذه

ص: 205

النزعة بأن يدعو إلى إقامة مجتمع على قواعد العقل، والوفاء، والحب، لا على أساس الحسد، والقوة، والخصام (64). ويختم بحثه خاتمة موفقة بالدعوة إلى إقامة ملكية على أساس العقيدة الدينية القوية (65).

وأنشأ تلميذ لأحد تلاميذ الفارابي في بغداد عام 970 جمعية من العلماء-معروفة لنا باسم موطن منشئها-الجمعية السجستانية

(1)

، غرضها بحث المسائل الفلسفية. ولم تكن هذه الجمعية تسأل أعضائها عن أصلهم أو مللهم؛ ويبدو أنها صرفت همها كله إلى دراسة المنطق وفلسفة المعرفة؛ ولكن وجودها يدل على أن الرغبة في البحوث العلمية والعقلية لم تخبُ جذوتها في عاصمة الدولة الإسلامية. وأهم من هذه الجمعية شأناً، أو بالأحرى أعظم منها أثراً، جمعية أخرى من نوعها، ولكنها في واقع الأمر جمعية سرية من العلماء والفلاسفة، أنشئت في مدينة البصرة عام 983، ونعني بها جمعية إخوان الصفا

(2)

. وكان سبب قيامها أن هؤلاء الإخوان روعهم ما شاهدوه من ضعف الخلافة الإسلامية، وفقر شعوبها، وفساد أخلاقهم؛ فتاقت نفوسهم إلى تجديد الإسلام من النواحي الأخلاقية، والروحية، والسياسية؛ وخيل إليهم أن هذا التجديد إنما يقوم على مزيج من الفلسفة اليونانية والمسيحية، والتصوف الإسلامي، وآراء الشيعة السياسية، والشريعة الإسلامية. وكانوا يفهمون الصداقة على أنها تعاون بين ذوي الكفايات والفضائل المختلفة، تأتي فيها كل طائفة بما تحتاجه الجماعة كلها وما لا تجده عند الطوائف الأخرى. وفي اعتقادها أن الوصول إلى الحقيقة عن طريق اجتماع العقول أيسر من الوصول إليها عن طريق التفكير الفردي. ولهذا كانوا يجتمعون في السر ويبحثون في حرية تامة شاملة، وتفكير واسع

(1)

منشئ هذه الجمعية هو أبو سليمان محمد بن طاهر بن يهرام السجستاني. (المترجم)

(2)

اسمهم الكامل "إخوان الصفا، وخلان الوفاء، وأهل العدل، وأبناء الحمد". (المترجم)

ص: 206

الأفق، وتأدب جم، جميع مشاكل الحياة الأساسية. وأصدرت الجماعة في آخر الأمر إحدى وخمسين رسالة جمعت شتات أبحاثها كلها، وضمنتها خلاصة العلوم الطبيعية والدينية، والفلسفة. وأولع أحد مسلمي الأندلس أثناء تجواله في بلاد الشرق الأدنى حوالي عام 1000 م بهذه الوسائل فجمعها واحتفظ بها.

ونجد في هذه الرسائل البالغة 1134 صفحة تفسيراً علمياً للمد والجزر، والزلازل، والخسوف والكسوف، والأمواج الصوتية، وكثير غيرها من الظواهر الطبيعية، كما نجد فيها قبولاً صريحاً كاملاً للتنجيم والكيمياء الكاذبة، ولا تخلو من عبث بالسحر وتلاعب بالأعداد. أما ما فيها من العقائد الدينية فهو شديد الصلة بالأفلاطونية الجديدة كما هو شأن الكثرة الغالبة من كتابات المفكرين المسلمين؛ فهم يقولون إنه عن الموجود الأول أي الله يصدر العقل الفعال، وعن هذا العقل يصدر عالم الأجسام والنفوس؛ وإن جميع الأشياء المادية توجدها النفس، وتعمل عن طريقها؛ وكل نفس تظل مضطربة قلقة حتى تتصل بالعقل الفاعل، أو نفس العالم، أو النفس الكلية، ويتطلب هذا الاتصال تطهير النفس تطهيراً كاملاً، والأخلاق هي الفن الذي تصل به النفس إلى هذا التطهير؛ والعلم والفلسفة والدين كلها وسائل لبلوغهِ. ويجب علينا في سعينا للتطهير أن ننسج على منوال سقراط في الأمور العقلية. وأن ننهج نهج المسيح في الإحسان إلى الخلق عامة، ونهج عليّ في نبلهِ وتواضعهِ. فإذا ما تحرر العقل عن طريق المعرفة، وجب أن يحس بحريتهِ في أن يؤول عبارات القرآن التي تتناسب مع فهم بدو غير متحضرين يسكنون الصحراء تأويلاً مجازياً (66). ويمكن القول بوجه عام أن هذه الرسائل الإحدى والخمسين أكمل ما وصل إلينا من تعبير عن التفكير الإسلامي في العصر العباسي، وإنها أعظم تناسقاً من جميع الرسائل في هذا التفكير. وقد رأى علماء بغداد أن هذه الرسائل من قبيل الإلحاد فحرقوها في عام 1150؛ ولكنها رغم هذا ظلت تتداولها الأيدي، وكان لها أثر شامل عميق في الفلسفة

ص: 207

الإسلامية واليهودية- نشاهده في كتابات الغزالي وابن رشد، وابن جبرول، وهليفي (67)؛ وتأثر بها كذلك المعري الشاعر الفيلسوف، ولعلها كان لها أثر في ذلك الرجل الذي بز في حياته القصيرة ما في رسائل هذه الجماعة المتعاونة المؤتلفة من نزعة عقلية، وكان أكثر من أصحابها سعة في الأفق وعمقاً في التفكير ونعني به ابن سينا. ذلك أن ابن سينا لم يكفه أن يكون حجة في العلوم الطبيعية، ومرجعاً ذائع الصيت في الطب؛ وما من شك في أنه قد أدرك أن العالم لا يكمل علمه، إلا إذا أضاف إليه الفلسفة. ويحدثنا أنه قرأ كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو أربعين مرة من غير أن يفهمه

(1)

، وأنه حين استطاع آخر الأمر أن يدرك معناه بعد أن قرأ تعليق الفارابي عليه، سر لهذا سروراً عظيماً وحمد الله على هذا وخرج إلى الشارع ووزع الصدقات (68). وبقي ابن سينا مستمسكاً بفلسفة أرسطو إلى آخر أيامه. وقد سماه في كتاب القانون بالفيلسوف وهو اللفظ الذي أصبح في اللغة اللاتينية مرادفاً للفظ أرسطو نفسه. وقد فصل ابن سينا فلسفته في كتاب الشفاء ثم أوجزها في كتاب النجاة. وكان الرئيس ابن سينا ذا عقل منطقي، يصر على التعاريف والتحديدات الدقيقة. وقد أجاب عن السؤال الذي شغل علماء العصور الوسطى طويلاً وهو: هل الكليات (كالإنسان، والفضيلة، والاحمرار) توجد منفصلة عن الأشياء الجزئية المفردة فيقول: (1) إنها توجد "قبل الأشياء" في عقل الله وعلى نسقها توجد الأشياء، (2) وفي الأشياء بالصورة التي تتمثل فيها (3) وبعد الأشياء بأن تكون معاني مجردة في العقل البشري. ولكن الكليات لا توجد في العالم الطبيعي منفصلة عن الأشياء الجزئية المفردة. وبعد مائة عام من الجدل والخصام أجاب أبلار Abelard وأكوناس عن هذا السؤال هذا الجواب نفسه.

(1)

إن الذي قاله ابن سينا هو "قرأت كتاب السماع الطبيعي لأرسطاطاليس الحكيم أربعين مرة وأرى أني محتاج إلى قراءته". (المترجم)

ص: 208

والحق أن ميتافيزيقية ابن سينا تكاد تكون خلاصة ما وصل إليه المفكرون اللاتين بعد مائتي عام من أيامهِ من توفيق بين المذاهب الفلسفية المختلفة في الفلسفة المدرسية. وهو يبدأ بشرح مفصل بذل فيه جهداً شاقاً لمذهب أرسطو والفارابي في المادة والصورة، والعلل الأربع، والممكن والواجب، والكثرة، والواحد، ويدهشه كيف تستطيع الكثرة الممكنة المتغيرة-كثرة الأشياء الفانية-أن تصدر عن الواحد الواجب الوجود الذي لا يتغير. وهو يفعل ما يفعله أفلاطون فيفكر في حل هذه المشكلة بافتراض وجود وسيط بينهما هو العقل الفاعل منتشراً في العالم السماوي، والمادي، والبشري، وهو النفس. ثم إنه وجد شيئاً من الصعوبة في التوفيق بين الانتقال من عدم الخلق إلى الخلق وبين صفة عدم التغير الملازمة لله، فينزع إلى الاعتقاد مع أرسطو بقدم العالم المادي، ولكنه يدرك أن هذا سيؤلب عليه جماعة المتكلمين فيعرض عليهم حلاً وسطاً كثيراً ما لجأ إليهِ الفلاسفة المدرسيون وهو: أن وجود الله سابق على وجود العالم سبقاً ذاتياً لا زمانياً، أي في المرتبة والجوهر والعلة؛ فوجود العالم يعتمد في كل لحظة من اللحظات على وجود القوة الحافظة له، وهي الله؛ ويقول ابن سينا إن كل الموجودات "ممكنة" حتى الأفلاك نفسها أي أنها ليست واجبة الوجود أو محتومة. وهذه الممكنات لا بد لوجودها من علة تتقدمها وتخرجها إلى الوجود، ولهذا لا يمكن تفسير وجودها إلا بإرجاعها بعد سلسلة من العلل إلى موجود واجب الوجود، أي واحد قائم بذاتهِ هو العلة الأولى لسائر الموجودات. والله وحده هو الموجود بذاتهِ، وإن وجوده اهو عين ماهيتهِ فهو واجب الوجود. ولولاه لما كان شيء مما يمكن أن يكون. ولما كان العالم كله ممكناً أي أن وجوده ليس بذاتهِ، فإن الله لا يمكن أن يكون مادة بل إنه بريء من الجسم، وهو العقل، واحد من كل وجه لا تركيب فيهِ. ولما كان في المخلوقات كلها عقل فلا بد أن يكون في خالقها عقل أيضاً. وهذا العقل الأول يرى كل شيء-الماضي والحاضر والمستقبل-لا في وقت ولا بالتتابع،

ص: 209

بل يراه كله مرة واحدة. وحدوث هذه الأشياء هو النتيجة الزمنية لفكرة اللازمني. ولكن الأفعال والحوادث لا تصدر عن الله مباشرة، بل إن الأشياء تتطور بفعل غائي داخلي-أي أن لها أغراضاً ومصائر في ذاتها. ولهذا فإن الله لا يصدر عنه الشر، بل إن الشر هو الثمن الذي نؤديه نظير ما لنا من حرية الإرادة، وقد يكون الشر للجزء هو الخير للكل (69).

ووجود النفس يدل عليه التأمل الداخل المباشر. والنفس لهذا السبب عينه روحانية، فنحن لا ندرك أكثر من أنها كذلك، وأفكارنا منفصلة انفصالاً واضحاً عن أعضائنا. وهي مبدأ الحركة الذاتية والنماء في الجسم؛ وبهذا المعنى تكون للكواكب نفوس. والكون كله مظهر لمبدأ الحياة العام (70). والجسم وحده لا يستطيع أن يكون فاعلاً، بل إن سبب كل حركة من حركاته هو نفسه التي تحل فيه، ولكل نفس ولكل عقل قدر من الحرية والقدرة على الخلق والإبداع شبيهة بقدرة السبب الأول لأنها فيض منه. وتعود النفس الخالصة بعد الموت إلى الاتصال بالفعل الكلي، وفي هذا الاتصال تكون سعادة السعداء الصالحين (71).

وقد بذل ابن سينا كل ما يستطيع أن يبذله من الجهود للتوفيق بين الآراء الفلسفية وعقائد جمهرة المسلمين. فلم يكن مثل لكريشيوس يرغب في القضاء على الدين من أجل الفلسفة، ولم يكن كالغزالي في القرن الذي بعده يريد أن يقضي على الفلسفة من أجل الدين، بل هو يعالج كل مسألة مستنداً إلى العقل وحده، غير متقيد مطلقاً بالدين؛ ويحلل الوحي في ضوء قوانين الطبيعة (72)، ولكنه يؤكد حاجة الناس إلى الأنبياء ليبينوا لهم قواعد الأخلاق في صور من الاستعارات والمجازات تفهمها عقولهم وتتأثر بها. وبهذا المعنى يكون النبي رسول الله لأنه يضع الأسس التي يقوم عليها النظام الأخلاقي والاجتماعي (73). ومن أجل هذا كان النبي ينادي ببعث الأجسام، وكان في بعض الأحيان يصور الجنة تصويراً مادياً؛ والفيلسوف، وإن كان يشك في خلود الجسم، يدرك أنه لو أن النبي

ص: 210

قد اقتصر على تصوير الجنة تصويراً روحياً محضاً لما استمع الناس إليه، ولما تألفت منهم أمة واحدة قوية منظمة. وأرقى البشر وأرفعهم درجة هم الذين يستطيعون أن يعبدوا الله عبادة تقوم على الحب الحر، وهو الذي لا ينبعث من الرغبة أو الرهبة، ولكن هؤلاء لا يكشفون عن هذه المرتبة السامية لعامة أتباعهم بل يكشفونها لمن كملت عقولهم وسمت نفوسهم (74).

وكتابا الشفاء والقانون لابن سينا هما أرقى ما وصل إليه التفكير الفلسفي في العصور الوسطى، وهما من أعظم البحوث في تاريخ العقل الإنساني. وهو يسترشد في كثير من بحوثهِ في الكتابين بأرسطو والفارابي، كما استرشد أرسطو في كثير من بحوثهِ بأفلاطون. غير أن هذا لا ينقص من قدره، ذلك أن نزلاء المستشفيات العقلية هم وحدهم المبدعون تمام الإبداع الذين لا يتأثرون بعقول غيرهم. وفي بعض أقوال ابن سينا ما يبدو لعقولنا المعرضة إلى الخطأ أنه سخف وهراء، ولكن هذا الحكم بعينهِ ينطبق أيضاً على أقوال أفلاطون وأرسطو، والحق أنه ليس ثمة سخيف لا نجده في صحف الفلاسفة. ولسنا نجد عند ابن سينا ما نجده عند البيروني من أمانة التشكك، وروح النقد، واتساع الأفق، وحرية العقل، وهو أكثر منه أخطاء، ذلك أ، البحوث التركيبية لا بد أن تؤدي هذا الثمن ما دامت الحياة على ما هي من قصر الأمد. ولقد بز الرئيس ابن سينا جميع أقرانه بوضوح أسلوبهِ، وحيويتهِ، وبقدرتهِ على جعل التفكير المجرد مشرقاً بعيداً عن السآمة والملل بما يبثه فيه من القصص الإيضاحية وأبيات الشعر التي لا نرى عليهِ مأخذاً في إيرادها، وباتساع مجاله الفلسفي والعلمي اتساعاً منقطع النظير. ولقد كان ابن سينا عظيم الأثر فيمن جاء بعده من الفلاسفة والعلماء، وقد تعدى هذا الأثر بلاد المشرق إلى الأندلس حيث شكل فلسفة ابن رشد وابن ميمون، وإلى العالم المسيحي اللاتيني وفلاسفته

ص: 211

المدرسين؛ وإنا لندهش من كثرة ما نجده من آراء ابن سينا في فلسفة ألبرتس مجنس، وتومس أكوناس، ويسميه روجر بيكن:"أكبر عميد للفلسفة بعد سطو"(75). ولم يكن أكوناس وهو يتحدث عنه بنفس الاحترام الذي يتحدث به عن أفلاطون مجاملاً قط كمألوف عادته حين يتحدث عن عظماء الرجال

(1)

.

وكاد أجل الفلسفة العربية في الشرق أن ينقضي بموت ابن سينا، ذلك أن نزعة السلاجقة السنية القوية، وارتياع رجال الدين من الآراء الفلسفية الجريئة، وانتصار نزعة الغزالي الصوفية، لم تلبث كلها أن قضت على كل تفكير. وإن مما يؤسف له أ، يكون علمنا بتلك القرون الثلاثة (750 - 1050) التي ازدهر فيها التفكير الإسلامي ناقصاً كل النقص. ويرجع سبب ذلك إلى أن آلافاً من المخطوطات العربية في العلوم، والآداب، والفلسفة لا تزال مخبوءة في مكتبات العالم الإسلامي. ففي اسطنبول وحدها ثلاثون من مكتبات المساجد، لم يرَ الضوء من مخطوطاتها إلا النزر اليسير، وفي القاهرة، ودمشق، والموصل، وبغداد ودلهي، مجموعات ضخمة، لم يعنَ أحد حتى بوضع فهارس لها

(2)

، وفي الأسكوريال بالقرب من مدريد مكتبة ضخمة لم يفرغ بعد من إحصاء ما فيها من

(1)

احتفل في عام 1952 بالعيد الألفي لابن سينا حسب التاريخ الهجري وأقيم له قبر رائع في همذان ونشرت مصر بهذه المناسبة بعض مؤلفاته. (المترجم)

(2)

مما نسجله بمزيد الحمد للإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية أنها عنيت عناية كبيرة بالبحث عن هذه المخطوطات في مكتبات العالم الإسلامي، فأرسلت الوفود العلمية لتصوير ما يوجد منها في تلك المكتبات، وهي جادة في هذا العمل الجليل. لكننا نرجو أن تقوم وزارات المعارف في الدول الإسلامية بنصيبها فيه؛ فإنه في اعتقادنا أوسع من أن تضطلع به الإدارة وحدها. (المترجم)

ص: 212

مخطوطات إسلامية في العلوم، والآداب والشريعة، والفلسفة (77). وليس ما نعرفه من ثمار الفكر الإسلامي في تلك القرون الثلاثة إلا جزءاً صغيراً مما بقي من تراث المسلمين، وليس هذا الجزء الباقي إلا قسماً ضئيلاً مما أثمرته قرائحهم؛ وليس ما أثبتناه في هذه الصحف إلا نقطة من بحر تراثهم. وإذا كشف العلماء عن هذا التراث المنسي فأكبر ظننا أننا سنضع القرن العاشر من تاريخ الإسلام في الشرق بين العصور الذهبية في تاريخ العقل البشري.

ص: 213

الفصل الخامِس

‌التصوف والإلحاد

يلتقي الدين والفلسفة في أعلى درجاتهما في معنى وحدة الكون وفي تأمل هذه الوحدة. والنفس حين لا تسلك طريق البحث على منهاج العقل والمنطق، وحين تعجز عن الانتقال من الكثرة إلى الوحدة، ومن الحادث الفرد إلى القانون العام، قد يكون في وسعها أن تصل إلى هذه الرؤيا عن طريق اندماج النفس الفردية وتلاشيها في النفس الكلية. وحيث عجز العلم وعجزت الفلسفة، وحيث يرتد عقل الإنسان القاصر المحدود أمام اللانهائية خاسئاً وهو حسير، فإن الإيمان قد يسمو بالإنسان إلى ما بين عرش الله إذا أخذ نفسه بنظام صارم من الزهد، والتقشف، والتفاني في العبادة، والتجرد من كل رغبة أنانية، وإفناء الجزء في الكل إفناءً كاملاً.

ويرجع التصوف الإسلامي إلى أصول كثيرة: منها نزعة الزهد عند الفقراء الهندوس، وغنوطسية ومصر والشام، وبحوث الأفلاطونية الجديدة عند اليونان المتأخرين، وتأثير الرهبان المسيحيين الزاهدين المنتشرين في جميع بلاد المسلمين وقد وجدت في العالم الإسلامي، كما وجدت في العلم المسيحي، أقلية تقية تعارض في تكييف الدين حسب وسائل العالم الاقتصادي ومصالحه؛ فكانوا ينددون بترف الخلفاء، والوزراء، والتجار، ويدعون المسلمين أن يعودوا إلى بساطة أبي بكر وعمر بن الخطاب. وكانوا يرفضون فكرة وجود وسيط أياً كان بينهم وبين الله؛ وحتى فروض الصلاة الصارمة نفسها كانت تبدو لهم عقبة تحول بينهم وبين تلك المرتبة التي تسمو فيها الروح بعد أن تتطهر من جميع مشاغلها الدنيوية حتى تشاهد ذات الله العلية. فإذا سمت فوق هذه المرتبة استطاعت أن تتحد

ص: 214

مع ذات الله نفسها. وازدهرت حركة التصوف في بلاد الفرس بنوع خاص ولعل سبب ازدهارها فيها فربها من بلاد الهند، كما ازدهرت في جنديسابور بتأثير الديانة المسيحية وتقاليد الأفلاطونية الجديدة التي وضعها فلاسفة اليونان بعد أن فروا من أثينة إلى فارس في عام 529. وكلمة صوفي التي تطلق على معظم الزهاد المسلمين مشتقة من ثياب الصوف البسيطة التي كانوا يرتدونها

(1)

. وكانت طوائف الصوفية تضم كثيرين من المؤمنين بمبادئها المتحمسين لها، ومن كبار الشعراء، والقائلين بوحدة الوجود، والزهاد، والمشعوذين، والكثيري الزوجات. وكانت مبادئهم تختلف باختلاف الأوقات والبيئات؛ ويقول ابن رشد إن الصوفيين يعتقدون أن معرفة الله مستقرة في قلوبنا، بعد أن نتخلى عن الشهوات الجسمية والانقطاع إلى الله (78). ولكن كثيرين من الصوفيين حاولا أن يصلوا إلى الله عن طريق الأشياء الخارجية أيضاً، فقالوا أن كل ما نراه في العالم من كمال وجمال سببه حلول الله فيه. ويقول أحد الصوفية إنه لا يسمع صوت الحيوان، أو حفيف أوراق الشجر، أو خرير الماء، أو تغريد الطير، أو هبوب الريح، إلا أحس أنها كلها شواهد على وحدانيتهِ وأنه سبحانه لا شبيه له (79).

والحق أن الصوفي يعتقد أن هذه الأشياء المتفرقة إنما توجد بما فيها من القوة الإلهية، وأنها إنما وجدت لما هو كامن فيها من روح الله. وعلى هذا فالله هو كل شيء، وهم لهذا لا يكتفون بالقول بأنه لا إله إلا الله، بل يضيفون إلى هذا أنه لا موجود بحق سواه (80). وعلى هذا فكل نفس هي الله؛ والصوفي الكامل يجهر في غير مواربة بأنه "هو نفس الذات الإلهية". ويقول أبو زيد (حوالي عام 900):"إني أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدني"

(2)

. ويقول الحسين

(1)

في كتاب الأستاذ رينولدا. نيكولسون ترجمة الدكتور أبو العلا عفيفي فصل قيم في سبب هذه التسمية فليرجع إليه من يريد التوسع في هذا البحث. (المترجم)

(2)

يقول الأستاذ نيكلسون إن في نسبة هذه الأقوال إلى أبي يزيد بعض الشك. انظر ترجمة الدكتور أبو العلا عفيفي السالفة الذكر. (المترجم)

ص: 215

ابن منصور الحلاج:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا

إني مغرق قوم نوح ومهلك عاد وثمود

أنا الحق

(1)

وقُبض على الحلاج لمغالاتهِ في عقيدتهِ الصوفية، وضُرب مائة سوط وألقي به في النار حتى مات (922). ويدعي أتباعه أنهم شاهدوه وتحدثوا إليه بعد أن خمدت أنفاسهُ على هذا النحو إلى حين، واتخذه كثيرون من الصوفية وليهم وحاميهم.

ويعتقد الصوفي كما يعتقد الهندوسي أن نظاماً صارماً من التطهير لا بد منه لكي ينكشف عنه الغطاء ويرقى إلى عالم الفيض والإلهام. والتطهير يكون بضروب من التفاني في الطاعات، والتأمل والنظر والتدبر، والصلاة، وإطاعة المريد لأستاذهِ الصوفي أو معلمهِ، والتجرد الكامل من جميع الشهوات البدنية، بما فيها التجرد من شهوة النجاة، والاتحاد الصوفي مع الله. والصوفي الكامل يحب الله لذاتهِ لا رغبةً في ثواب ولا خوفاً من عقاب. وفي ذلك يقول أبو القاسم إن المعطي خير من العطية (83). والصوفي عادةً يتخذ هذا النظام وسيلة يصل بها إلى معرفة الأشياء معرفة حقيقية، ومنهم من يتخذه نهجاً يرتفع بهِ إلى درجة من الكرامة تجعل له سلطاناً على الطبيعة، ولكنه يكاد يكون على الدوام سبيلاً إلى الاتحاد مع ذات الله. ومن فنيت نفسه فناءً تاماً في هذا الاتحاد يسمى عندهم الإنسان الكامل (84). ويعتقد الصوفية أن من وصل إلى هذه المرتبة أصبح فوق كل القوانين، وغير ملزم حتى بأداء فريضة الحج. وفي ذلك يقول أحد المتصوفة

(1)

يذكر ابن النديم صاحب الفهرست أسماء 35 كتاباً للحلاج منها كتاب نور النور التجليات، وكتاب علم البقاء والفناء، وكتاب كيف كان وكيف يكون، وكتاب لا كيف. (المترجم)

ص: 216

إن كل العيون تتجه نحو الكعبة أما عيوننا فتتجه نحو وجه الحبيب (85).

وظل الصوفية يعيشون في الدنيا كسائر الناس حتى منتصف القرن الحادي عشر، وكانوا أحياناً يعيشون مع أسرهم وأبنائهم. بل إنهم كانوا لا يرون للعزوبة قيمة كبرى من الناحية الأخلاقية. وفي ذلك يقول أبو سعيد إن الولي الحقيقي يسير بين الناس، ويأكل وينام معهم، ويشتري ويبيع في الأسواق، ويتزوج، ويشترك مع الناس في مجالسهم، ولا ينسى الله لحظة واحدة (86).

ولم يكن هؤلاء الصوفية يمتازون عن غيرهم بشيء سوى بساطة حياتهم، وتقواهم وخشوعهم، وهم يشبهون من هذه الناحية طائفة الكويكرين المسيحيين. وكانوا من حين إلى حين يجتمعون حول شيخ من الأتقياء الصالحين أو يجتمعون جماعات للصلاة والدعوة المتبادلة إلى التقى والصلاح. وقد بدأت منذ القرن العاشر مجالس الذكر التي أصبح لها شأن عظيم عند الصوفية المتأخرين. ومنهم عدد قليل اعتزلوا العالم وعذبوا أنفسهم، وإن كان الزهد في ذلك الوقت من الأمور النادرة، وكان يلقى كثيراً من المقاومة. وكثر الأولياء من بين الصوفية بعد أن لم يكن لهم وجود في بداية الإسلام. ومن أوائل هؤلاء رابعة العدوية من أهل البصرة (717 - 801). وكانت في شبابها جارية اشتريت بالمال ولكن سيدها أعتقها لأنه شاهد هالة من النور فوق رأسها وهي قائمة للصلاة. وأبت رابعة أن تتزوج وعاشت عيشة الزهد، وإنكار الذات، وفعل الخير. وسئلت في يوم من الأيام "هل تكرهين الشيطان؟ "، فأجابت:"إن حبي لله قد منعني من الاشتغال بكراهية الشيطان". ومما يروى عنها تلك المناجاة الصوفية الذائعة الصيت: "إلهي! إن كنتُ عبدتكَ خوف النار فاحرقني بالنار، أو طمعاً في الجنة فحرّمها عليَّ، وإن كنتُ لا أعبدكَ إلا من أجلكَ فلا تحرمني

ص: 217

من شاهدة وجهكَ؛ إلهي! كل ما قدرَّتهُ لي من خير في هذه الدنيا أعطه لأعدائكَ، وكل ما قدرته لي في الجنة امنحه لأصدقائكَ، لأني لا أسعى إلا إليكَ وحدكَ"

(1)

.

ولنختر من بين الصوفية وهم كثيرون واحداً من الأولياء الصالحين هو الشاعر أبو سعيد بن أبي الخير (967 - 1049). ولد هذا الرجل في ميهنة من أعمال خراسان واتصل بابن سينا؛ ويروى عنه أنه قال في هذا الفيلسوف إن ما يراه ابن سينا يعرفه هو (88). وقد أولع في صباه بالأدب البذيء، ويقول عن نفسهِ إنه حفظ عن ظهر قلب ثلاثين ألف بيت لشعراء الجاهلية. ولما بلغ السادسة والعشرين من عمرهِ سمع في يوم من الأيام درساً لأبي عليّ يدور حول قوله تعالى "قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون". ويقول أبو سعيد إنه ما كاد يسمع هذه الآية حتى فُتح في قلبهِ باب الإيمان وكأنما انتزع من نفسهِ فجمع كتبهُ كلها وأحرقها ثم آوى إلى ركن في بيتهِ، وجلس فيهِ سبع سنين يذكر فيها اسم الله. ولقد كان تكرار لفظ الجلالة عند الصوفية المسلمين سبيلاً محببة إلى "الفناء" ويقصدون بهِ انتقال الصوفي عن نفسهِ في حال وجده. وزاد أبو سعيد على هذا عدة أساليب من الزهد والتقشف، فلم يلبس إلا قميصاً واحداً، ولم يتكلم إلا عند الضرورة القصوى، ولم يذق الطعام إلا وقت الغروب. ولم يكن طعامهُ إلا كسرة من الخبز، ولم يرقد على فراش لينام، وحفر في جدار بيتهِ حفرة، لا تزيد حين يقف فيها على طولهِ وعرضهِ، وكثيراً ما كان يحبس نفسهُ فيها. ويسد أذنيه لكيلا تصل إليهما أصوات من الخارج. وكان في بعض الليالي يربط نفسه بحبل ويتدلى برأسهِ في بئر، ويتلو القرآن كله قبل أن يخرج إلى سطح الأرض-هذا إذا صدقنا قول أبيه عنه. وقد عكف على خدمة غيره من الصوفية، فكان يتسول لهم، وينظف

(1)

نقلنا هذا النص عن "تذكرة الأولياء للعطار، والذي أورده المؤلف هو الجزء الثاني، وقد أضفنا نحن الجزء الأول إتماماً للفائدة. (المترجم)

ص: 218

لهم خلواتهم وفضلاتهم. ويقول عن نفسهِ إن امرأة صعدت إلى سقف المسجد وهو فيه وألقت عليه الأقذار، ولكنه مع ذلك ظل يسمع صوتاً يناديه "أليس الله بكافٍ عبدهُ؟ ". ولما بلغ الأربعين من عمرهِ وصل إلى مرتبة الإشراف الكامل وبدا يخطب الناس، والتف حوله كثيرون من الأتقياء المخلصين، ويؤكد لنا هو أن بعض مستمعيه كانوا يلطخون وجوههم بروث حماره لتحل عليهم بركته (89). وقد ترك أثره في التصوف بأن أنشأ خانقاه للدراويش ووضع لها طائفة من قواعد جعلتها نموذجاً لأبناء الطائفة في القرن الذي بعده.

وكان أبو سعيد يعلم الناس، كما علمهم القديس أوغسطين، أن رحمة الله، لا أعمال العبد الصالحة، هي سبيل النجاة؛ ولكنه كان يعني بالنجاة، التحرر الروحي، ولم يفهمها على أنها دخول الجنة، ويقول إن الله يفتح للإنسان باباً بعد باب التوبة ثم يأتي بعدها باب اليقين فإذا بلغه تقبل السباب والتحقير وعلم علم اليقين مصدره

ثم يفتح له الله بعدئذ باب الحب، ولكنه لا ينفك يقول في نفسهِ "أحب"

ثم يفتح له باب التوحيد

وعنده يدرك أن الله كل شيء منه وإليه

ويعرف أنه غير محق في قوله "أنا" أو "لي"

لأن الرغبات تتساقط عنه فيتخلى عنها ويهدأ باله

لأن الإنسان لا يفر من نفسهِ إلا إذا قتلها. إن نفسكَ تبعدك عن الله، وتقول إن فلاناً وفلاناً يتوعداني في الشر

وهذا قد أحسن إليَّ-كل هذا شرك بالله، فليس شيء يعتمد على المخلوقات، بل يعتمد كل شيء على الخالق. إن عليكَ أن تعرف هذا، فإذا قلته فاثبت عليهِ

والثبات معناه أنكَ إذا قلتَ "واحداً" فلا تقل "اثنين" أبداً

قل الله واثبت على هذا القول (90).

وتظهر هذه العقيدة الهندية-الإمرسونية

(1)

في بعض الأقوال المنسوبة

(1)

أي التي هي مزيج من عقائد الهند وإمرسن الفيلسوف الأمريكي. (المترجم)

ص: 219

إلى أبي سعيد وإن كانت نسبتها إليه مشكوكاً فيها!

وسألته: "لمن يكون جمالك؟ " فقال: "لي" لأنه لا موجود سواي؛ أنا الحب، والمحبوب، والحب كلها في واحد، أنا الجمال، والمرأة، والعينان اللتان تريان (91).

وإذا لم يكن عند المسلمين، كما كان عند المسيحيين، كهانة تثبت لهؤلاء الأبطال الصالحين قداستهم، فقد خلع عليهم الشعب نفسه هذه القداسة، ولم يحلّ القرن الثاني عشر الميلادي حتى غلبت عواطف الشعب الطبيعية، ما نهى عنه الدين من تقديس الأولياء الصالحين واعتبار هذا التقديس ضرباً من الوثنية. وكان من أوائل هؤلاء الأولياء الصالحين إبراهيم ابن أدهم (القرن الثامن؟)، وهو الذي يسميه لي هنت Leigh Hunt في قصيدة له مشهورة أبو أبن أدهم Abou Ben Adhem. ويغزو خيال العامة إلى هؤلاء الأولياء قوى خارقة فيقولون إنهم قد كُشف عن أعينهم الغطاء فأصبحوا يرون ما لا يراه عامة الناس، ويقرؤون الأفكار، ويتبادلون الخواطر والمشاعر مع الناس، بل إنهم يبالغون في مقدرتهم فيقولون إن في وسعهم أن يبتلعوا النار والزجاج دون أن يصيبهم في ذلك أذى، وأن يخترقوا النيران من غير أن يحترقوا بها، وأن يمشوا على الماء، ويطيرون في الهواء، ويجتازوا المسافات الشاسعة في غمضة عين. ويروي أبو سعيد حالات من قراءة الأفكار لا تقل غرابة عن أغرب ما يروى من نوعها في هذه الأيام (92). وهكذا يحدث على توالي الأيام أن الدين

(1)

الذي يظن بعض الفلاسفة أنه من صنع القساوسة والكهان، يتشكل ثم يتشكل بتأثير حاجات الناس وعواطفهم وخيالهم، حتى يصبح التوحيد الذي يجئ به الأنبياء ثم يكون هو بعينه الشرك الذي يعتقده عامة الشعب.

وقبل المسلمون من أهل السنة الصوفية في حظيرة الدين الإسلامي، وأفسحوا

(1)

لا حاجة إلى التنبيه بأن الكاتب لا يقصد بهذا ديناً معيناً بل يشير إلى الأديان بوجه عام. (المترجم)

ص: 220

لهم مجالاً كبيراً في عقائدهم وأقوالهم. ولكن هذه الخطة الحكيمة لم تمتد إلى الطوائف المارقة التي تخفي ستار العقائد الدينية آراء سياسية ثورية، أو تدعوا إلى الفوضى الأخلاقية والقانونية. وبين هذه الطوائف الثورية التي مزجت في عقائدها الدين بالسياسة طائفة "الإسماعيلية". ويذكر القارئ ما قلناه قبل من أن الشيعة يقولون إن على رأس كل جيل من أبناء علي إلى الجيل الثاني عشر إماماً أو زعيماً، وإن هذا الإمام يختار من يخلفه في هذه الزعامة. وعلى هذا الأساس عين الإمام السادس جعفر الصادق ابنه إسماعيل خليفة له من بعده. ويقال إن إسماعيل هذا أدمن الخمر، فخلعه جعفر عن الإمامة وأختار بدله موسى الإمام السابع (حوالي عام 760). ورأى بعض الشيعة أن بيعة إسماعيل لا يجوز نقضها وقالوا إنه هو أو ابنه محمد هو الإمام السابع وآخر الأئمة. وظلت طائفة "الإسماعيلية" هذه نحو مائة سنة قليلة الخطر لا يؤبه بها، حتى تزعمها عبد الله بن ميمون القداح وأرسل المبشرين يدعون إلى عقيدة الطائفة في بلاد الإسلام. وكان يطلب إلى المبتدأ قبل الدخول إلى الطائفة أن يقسم بألا يفشي شيئاً من أسرارها، وأن يطع الزعيم الأكبر للطائفة في كل ما يأمره به. وكانت تعاليمهم قسمين أحدهما باطني وآخر ظاهري. وكان يقال لمن يدخل في مذهبهم إنه بعد أن يمر بتسعة مراحل ترفع عنه جميع الحجب، وينكشف له التعليم أو العقيدة الخفية (الله هو كل شيء) فيصبح فوق كل عقيدة وكل قانون. وفي المرتبة الثامنة يقال له إن الكائن الأعلى لا يمكن أن يعرف عنه شيء، وإن أحداً لا يستطيع أن يعبده (93)؛ وقد انظم إلى الطائفة الإسماعيلية كثيرون من فلول الحركات الشيوعية، دفعهم إلى هذا ما تقول به من أن مهدياً سيظهر في وقت من الأوقات، ويبسط على الأرض عهداً من المساواة، العدالة، والحب الأخوي. وقد أوضحت هذه الطائفة الأخوية العجيبة قوة ذات شأن عظيم في الإسلام سيطرت في وقت من الأوقات على شمالي إفريقية ومصر، وأسست الخلافة الفاطمية، وقامت في أواخر

ص: 221

القرن التاسع بحركة كادت تقضي على الخلافة العباسية.

ولما مات عبد الله القداح في عام 874 تولى زعامة الإسماعيلية فلاح عراقي اشتهر باسم حمدان قرمط، وبعث فيها من النشاط ما جعل الناس في آسية يسمون أتباعها في وقت من الأوقات بالقرامطة نسبة إليه. وكان يرمي إلى القضاء على قوة العرب، وإعادة الدولة الفارسية؛ وضم إليه خفية آلافاً من المؤيدين، والأعوان، وفرض عليهم أن يخرجوا من خمس أملاكهم ليصبح ملكاً عاماً للجماعة. ودخل للمرة الثانية عنصر من عناصر الثورة الاجتماعية في تلك الحركة التي كانت في ظاهر أمرها نوعاً من الصوفية الدينية. فكان القرامطة يقولون بشيوعية الملك والنساء (94)، وقد نظموا العمال في طوائف للحرف، ونادوا بالمساواة بين كافة الناس، وأخذوا يفسرون القرآن تفسيراً مجازياً لا يتقيدون فيه بأقوال أهل السنة. وكانوا يتحللون من الشعائر الدينية ومن الصيام، ويسخرون من البلهاء الذين يعبدون الأضرحة والحجارة (95). وبلغ من أمرهم أن أقاموا في عام 899 دولة مستقلة على الشاطئ الغربي للخليج الفارسي، وهزموا جيش الخليفة في عام 900، وأفنوه عن آخره، ولم ينج من القتل جندي واحد. وفي عام 902 اجتاحوا بلاد الشام ووصلوا إلى أبواب دمشق، وفي عام 924 نهبوا البصرة ثم الكوفة؛ وفي عام 930 نهبوا مكة نفسها، وقتلوا ثلاثين ألفاً من المسلمين، وعادوا بكثير من الغنائم، منها كسوة الكعبة، والحجر الأسود

(1)

. غير أن هذا الغلو وهذه الانتصارات استنفذت قوة تلك الحركة؛ واتحد الناس لمقاومة دعوتها التي كانت تهدد الملك والنظام العام؛ ولكن مبادئها وأساليبها العنيفة انتقلت في القرن التالي إلى إسماعيلية ألموَت

(2)

، وهم المعروفون بالحشاشين.

(1)

وأعيد الحجر إلى الكعبة في عام 951 بأمر الخليفة الفاطمي المنصور.

(2)

ويسمى أيضاً عش النسر. (المترجم).

ص: 222

الفصل السَّادِس

‌الأدب

لقد كان في الحياة والدين في الإسلام مواقف أشبه ما تكون بالمسرحيات، أما الأدب الإسلامي فقد خلا من هذا الصنف من صنوف الكتابة، وهو صنف يبدو أنه غريب على العقلية السامية، كذلك خلا ذلك الأدب كما خلا غيره من آداب العصور الوسطى من الروايات القصصية؛ فقد كان معظم الكتابات مما يستمع إليه الناس لا مما يقرؤون وهم صامتون، ولم يكن في وسع من يهتمون بنتاج الخيال أن يرقوا إلى الدرجة التي يستطيعون أن يركزوا فيها عقولهم ذلك التركيز الذي لا بد منه لكتابة القصة المعقدة المتصلة بالحلقات. أما القصص القصيرة فكانت قديمة قدم الإسلام نفسه أو قدم آدم أبي البشر، وكان أكثر المسلمين سذاجة ينصتون إليها في حماسة الأطفال وتشوقهم، أما العلماء فلم يكونوا يحسبونها أدباً، وكانت أشهر هذه القصص القصيرة قصص بيدبا، وقصص ألف ليلة وليلة. وقد نقلت القصص الأولى من الهند إلى فارس في القرن السادس، وترجمت إلى اللغة الفهلوية، ومنها ترجمت إلى اللغة العربية في القرن الثامن. م فقد أصلها السنسكريتي، وبقيت الترجمة العربية، ومنها نقلت إلى ما يقرب من أربعين لغة أخرى.

يحدثنا المسعودي (المتوفى عام 597) في مروج الذهب عن كتاب فارسي يدعى هزاز أفسانة أو ألف قصة وعن ترجمته العربية ألف ليلة وليلة؛ وهذه على ما نعلم أول مرة ذكر فيها كتاب ألف ليلة وليلة. وخطة الكتاب كما يصفها المسعودي هي الخطة التي نجها في كتاب ألف ليلة وليلة العربي. وكان هذا

ص: 223

الإطار المحتوي على سلسلة من القصص معروفاً من قديم الزمن في بلاد الهند، وكان عدد كبير من هذه القصص متداولاً في العالم الشرقي، ولربما كانت كل مجموعة منها تختلف في محتوياتها عن غيرها من المجموعات، ولسنا واثقين أن أية قصة في المجموعة المعروفة لنا الآن كانت من القصص التي تحتويها المجموعة التي يحدثنا عنها المسعودي. وحدث بعد سنين قلائل من عام 1700 أن أرسل مخطوط غير كامل، لا يمكن تتبع تاريخه إلى ما قبل عام 1536، من بلاد الشام إلى المستشرق الفرنسي أنطوان جالان Antoine Galland، وافتتن هذا المستشرق بخيال القصص الغريب، وبما فيها من وصف لحياة المسلمين الداخلية، ولعله افتتن أيضاً بما فيها من بذاءة، فأصدر في باريس عام 1704 أولى تراجمها إلى اللغات الأوربية Les mille et une nuits. ونجح الكتاب نجاحاً فوق ما كان يتوقع له، وترجم إلى جميع اللغات الأوربية، وشرع أطفال جميع الأمم يتحدثون عن السندباد البحري، وعن مصباح علاء الدين، وعن علي بابا واللصوص الأربعين. وخرافات بيدبا، وقصص ألف ليلة أكثر ما يقرأه الناس من الكتب في العالم كله إذا استثنينا الكتاب المقدس (وهو أيضاً كتاب شرقي)

(1)

.

والنثر الأدبي في الكتب الإسلامية صورة من الشعر. ذلك أن المزاج العربي ينزع إلى الشعور القوي، والآداب الفارسية تميل إلى الكلام المزخرف، واللغة العربية التي كانت في الوقت الذي نتحدث عنه يتكلم بها أهل البلدين تدعو إلى جعل النثر مقفى لتشابه أواخر الألفاظ طوعاً لقواعد الصرف؛ ولهذا فإن النثر الأدبي كثيراً ما يكون مسجوعاً؛ وكان الوعاظ، والخطباء، والقصاصون، يلجأون إلى النثر المسجع، وبهذا كتب بديع الزمان الهمذاني (المتوفى عام 1008) مقاماته-وهي قصص كان يرويها لجماعات مختلفة عن وغد

(1)

والقرآن بطبيعة الحال هو الذي يقرؤه كله أو بعضه مسلمو العالم أجمعون. (المترجم)

ص: 224

أفاق أوتي من الذكاء الفكاهة أكثر مما أوتي من الأخلاق الطيبة. وكانت عقول أهل الشرق الأدنى في ذلك الوقت تتأثر بما يصل إليها عن طريق الأذن، شأنهم في هذا شأن جميع الناس قبل اختراع الطباعة، وكان الأدب عند معظم المسلمين لا يعدو أن يكون قصيدة تنشد أو قصة تروى؛ وكانت القصائد تُكتب لكي تُقرأ بصوتٍ عالٍ أو تُغنى، وكان كل شخص في بلاد الإسلام من الخليفة إلى الفلاح يطرب لسماعها. وقلما كان هناك شخص لا يقرض الشعر-كما كانت الحال عند طبقة السموراي في بلاد اليابان. وكان من ضروب التسلية العامة لدى الطبقات المتعلمة أن يكمل شخص بيتاً من الشعر بدأه غيره، أو يتم مقطوعة بدأها زميله، أو ينافس مناظراً له في ارتجال مقطوعة غنائية أو نكتة شعرية. وكان الشعراء ينافس بعضهم بعضاً في ابتداع ضروب معقدة من الأوزان والقوافي، وكان كثيرون منهم يقفون أواسط الأبيات الشعرية وأواخرها، وكثرت ضروب الأوزان والقوافي في الشعر العربي وكان لها بالغ الأثر في نشأة القافية في الشعر الأوربي.

ولم تضارع حضارة من الحضارات ولم يضارع عصر من العصور-لا نستثني من هذا التعميم حضارة الصين في أيام لي بو، ودوفو، ولا حضارة فيمار Veimar حين كان فيها "مائة مواطن وعشرة آلاف شاعر"-الحضارة الإسلامية في عهد الدولة العباسية في عدد شعرائها وتراثهم. وقد جمع أبو الفرج الأصفهاني (897 - 967) في أواخر ذلك العصر كثيراً من أشعارهم في كتاب الأغاني. وحسبنا دليلاً على غنى الشعر العربي وتنوعه أن نعرف أن هذا الكتاب يتكون من عشرين مجلداً. وكان الشعراء ينشرون الدعايات المختلفة، والناس يخشون هجومهم اللاذع، والأغنياء يبتاعون مديحهم بيتاً بيتاً، والخلفاء يجزون الشعراء بالمناصب العالية وينفحونهم بالهبات السخية إذا قالوا فيهم قصائد من الشعر أو مجدوا أعمالهم أو مدحوا قبائلهم. ويحكى أن هشاماً أراد مرة أن

ص: 225

يتذكر قصيدة من القصائد فأرسل في طلب حماد الشاعر الراوية، وكان من حظهِ أنه يذكر القصيدة بأكملها، فلما أنشدها لهشام أجازه بجاريتين وبخمسين ألف دينار (97)، وأكبر ظننا أن أحداً من شعراء هذه الأيام لن يصدق هذه القصة. وبعد أن كان الشعر العربي ينشد لبدو الصحراء، أضحى الآن يوجه إلى قصور الخلفاء ورجال حاشيتهم، وأصبح الكثير منه متكلفاً، أكثر ما يعنى به هو الشكل، شديد التأنق إلى حد التفاهة، كثير المجاملة خالياً من الإخلاص؛ ولهذا نشبت معركة بين أنصار القديم وبين أنصار الحديث، وأخذ النقاد يشكون وهم متألمون قائلين إنه لم يوجد شعراء عظماء إلا قبل عهد النبوة (98).

والحب والحرب أكثر مواءمة للشعر من الموضوعات الدينية، وقلما كان شعر العرب صوفي النزعة (وإن كان هذا الحكم لا يصدق على شعر الفرس)؛ فقد كان الشاعر العربي يفضل أناشيد القتال، والعاطفة، والانفعالات النفسية؛ ولما أن اختتم قرن الفتوح الإسلامية أخذ الشعراء يستمدون وحيهم من النساء أكثر مما يستمدونه من الموضوعات الحربية والدينية، وأخذ شعراء الإسلام يصفون مفاتن المرأة-شعرها العطر، وعينيها الشبيهتين بالدرتين، وشفتيها القرمزيتين، وأطرافها الفضية؛ وظهرت في الصحراوات وفي المدينتين المقدستين القصائد الغنائية؛ وأصبح الأدب في عرف الفلاسفة والشعراء يعني أدب الحب وسلوك المحبين. وانتقل هذا المعنى عن طريق مصر وإفريقية إلى صقلية وأسبانيا، ومنهما إلى إيطاليا وبروفانس Provence في فرنسا، وانطلقت الألسن وجادت القرائح بالشعر الموزون المقفى.

واشتهر الحسن بن هانئ باس أبي نواس-لغدائره التي كانت تنوس على كتفيهِ. وكان مولده في بلاد الفرس، ثم رحل إلى بغداد، ونال الحظوة عند الخليفة الرشيد، ولعله اشترك معه في واحدة أو اثنتين من المغامرات التي تعزى إليهما في كتاب ألف ليلة وليلة. وكان أبو نواس مولعاً بالخمر والنساء والغناء.

ص: 226

وكثيراً ما أغضب الخليفة بإدمانهِ الخمر جهرة، وبزندقتهِ ودعارتهِ؛ كثيراً ما سجنه ثم أطلقه، وتاب أبو نواس شيئاً فشيئاً واستمسك آخر الأمر بأهداب الفضيلة، وانتهى بأن كان يحمل المسبحة والقرآن معه أينما سار. ولكن أكثر ما كانت تحبه مجامع العاصمة هو أغانيه التي وصف فيها الخمر والفساد:

يا سليمان! غنني ومن الراح فاسقني

فإذا ما دارت الزجا جة خذها واعطني

ما ترى الصبح قد بدا في إزار مُبَيّي

عاطني كأس سلوة عن أذان المؤذن

تكثر ما استطعت من الخطايا فإنك بالغ رباً غفوراً

ستبصر إن قدمت عليه عفواً وتلقى سيداً ملكاً كبيراً

تعض ندامة كفيك مما تركت مخافة النار السرورا

وكان في بلاط صغار الأمراء والسلاطين أيضاً شعراؤهم-فكان في بلاط سيف الدولة شاعر لا تكاد تعرف عنه أوربا شيئاً، ولكن العرب يحسبونه خير شعرائهم على الإطلاق. واسم هذا الشاعر أحمد بن الحسين، ولكنه يشتهر عند المسلمين باسم المتنبي-أي مدعي النبوة. وقد ولد هذا الشاعر في الكوفة عام 915، وتلقى العلم في دمشق، ثم أدعى النبوة، فقبض عليه وأطلق بعدئذ سراحه، أقام في بلاط أمير حلب. وكان كأبي نواس مستهتراً بالدين لا يصوم ولا يصلي ولا يقرأ القرآن (101)، ومع أنه لم يكن يرى أن الحياة ترقى إلى المستوى اللائق بهِ، فإنه كان يستمتع بها استمتاعاً يصرفه عن التفكير في الخلود. وقد أشاد بانتصارات سيف الدولة في شعر واسع جمع بين قوة المعنى وجمال اللفظ إلى حد أصبح معه هذا الشعر واسع الانتشار بين قراء العربية متعذر الترجمة إلى اللغة الإنجليزية. ومن هذا الشعر بيته المشهور الذي كان سبباً في هلاكهِ وهو.

الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

ص: 227

وذلك أن جماعة من اللصوص هاجمته، وأراد هو الفرار، فذكره غلامه بهذا البيت وما يحويه من تفاخر؛ وأراد المتنبي أن يصدق فعله قوله؛ فحارب ومات مثخناً بجراحهِ (965)(102).

وبعد ثمان سنين من ذلك العام ولد في معرة النعمان القريبة من حلب أبو العلاء المعري أعجب شعراء العرب على الإطلاق. وفقد أبو العلاء بصره في سن الرابعة على إثر إصابته بالجدري، ولكنه جد في طلب العلم، وحفظ عن ظهر قلب ما أعجبه من المخطوطات التي وجدها في دور الكتب، وطاف بأنحاء العالم الإسلامي ليستمع إلى المشهورين من العلماء، ثم عاد إلى مسقط رأسه. وكان دخله السنوي خلال الخمسة عشر عاماً التي أعقبت عودته لا يزيد على الثلاثين ديناراً، أي ما يعادل اثني عشر ريالاً أمريكياً في الشهر، يشاركه فيها خادمه ومرشده. وأذاعت قصائده شهرته في العالم الإسلامي، ولكنه كاد يهلك من الجوع لأنه أبى أن يلجأ إلى المديح. وزار بغداد في عام 1008 وأكرم الشعراء والعلماء وفادته، ولعله تأثر في العاصمة بآراء بعض المتشككة، وهي الآثار التي تتخلل بعض قصائده. وعاد منها إلى المعرة في عام 1010 وأصبح فيها من الأغنياء، ولكنه ظل إلى آخر أيامه يحيا حياة الحكماء البسيطة الخالية من جميع مظاهر النعيم. وكان المعري نباتياً إلى أقصى حد، لا يكتفي بالامتناع عن لحم الحيوان والطير بل يمتنع كذلك عن اللبن، والبيض، وعسل النحل؛ فقد كان يرى الاستيلاء على هذه الأطعمة من الحيوان هو النهب بعينهِ. ولهذا السبب أيضاً أبى أن يتخذ شيئاً من اللباس من جلد الحيوان، وعاب على النساء لبس الفراء، وأشار بلبس الأحذية الخشبية (103). ومات المعري في الرابعة والثمانين من العمر، ويقول أحد أتباعه المخلصين إن مائة وثمانين شاعراً ساروا في جنازتهِ، وإن أربعة وثمانين من العلماء رثوه على قبرهِ (104).

وأعظم ما يشهر به في بلاد الغرب هو قصائده القصيرة البالغ عددها 1592

ص: 228

قصيدة والمعروفة باللزوميات. ولم يتحدث أبو العلاء في هذه القصيدة عن النساء والحرب كما كان يتحدث عنها زملاؤه الشعراء، بل عمد في جرأة إلى الحديث عن أهم الموضوعات الأساسية في الحياة: هل نتبع الوحي أو العقل؟ - وهل الحياة خليقة بأن يحياها الإنسان؟ -هل ثمة حياة بعد الموت؟ - هل يوجد إله؟

ويجهر الشاعر من حين إلى حين بإيمانه؛ ولكنه يقول محذراً إن هذا الجهر هو احتياط مشروع من الاستشهاد الذي لا يرغب فيه:

إذا قلت المحال رفعت صوتي وإن قلت اليقين أطلت همي

وهو يعيب في أقواله الأمانة العلمية المطلقة ويقول:

لا تخبرن بكهن دينك معشراً شطراً وإن تفعل فأنت مغرر

والمعري بصريح العبارة متشائم، لا أدري، يؤمن بالعقل دون الوحي:

يرتجي الناس لوم إمام ناطق في الكتيبة الخرساء

كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء

...................

هل صح قول من الحاكي فنقبله أم كل ذاك أباطيل وأسمار

أما العقول فآلت أنه كذب والعقل غرس له بالصدق إثمار

(1)

.

(1)

وهنا أورد الكاتب أبياتاً أخرى قال إنها من شعر أبي العلاء، وقال في سجل المراجع إنه نقلها من كتاب أمين الريحاني المسمى The Quatraines of Abu el'Ala'. وقد بحثنا أولاً فيما لدينا من كتب أبي العلاء: اللزوميات، وسقط الزند، ورالة الغفران فلم نعثر على هذه الأبيات، وقد وجدنا في كتاب أمين الريحاني الأبيات التي أوردها المؤلف وما بعدها؛ وقوله إنها مترجمة عن اللزوميات طبعة القاهرة سنة 1891. وأعدنا البحث فلم نعثر على الأبيات في هذه الطبعة. وأخيراً وجدنا الأبيات التي نقلها مؤلف هذا الكتاب وما جاء بعده في كتاب أمين الريحاني وجناها في شعر محي الدين بن عربي وهي: لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي؛ إذا لم يكن ديني إلى دينه داني .. فأصبح قلبي قابلاً كل صورة؛ فمرعى لغزلان وبيت لأوثان .. ودير لرهبان وكعبة طائف؛ وألواح توارة ومصحف قرآن .. أدين بدين الحب أني توجهت؛ ركائبه فالحب ديني وإيماني. والأبيات الإنجليزية التي أوردها المؤلف منقولة من كتاب أمين الريحاني تكاد تكون ترجمة حرفية لهذه الأبيات. (المترجم)

ص: 229

وهو يندد بعلماء الدين الذين يسخرونه لمآرب الإنسان الدنيئة، والذين يملئون المساجد بالرعب حين يخطبون، ولكنهم ليسوا في مسلكهم خيراً من الذين يحتسون الخمر في الحانات على نغمات المغنين.

لا تطيعن قوماً ما ديانتهم إلا احتيال على أخذ الإتاوات

إنما هذه المذاهب أسباب لجذب الدنيا إلى الرؤساء

كذب يقال على المنابر دائماً أفلا يميد لما يقال المنبر

رويدك قد غرزت وأنت حر بصاحب حيلة يعظ النساء

يحرم فيكم الصهباء صبحاً ويشربها على عمد مساء

تحساها فمن مزج وصرف يعمل كأنما ورد الحاء

طلب الخسائس وارتقى في منبر يصف الحساب لأمة ليهولها

ويكون غير مصدق بقيامة أضحى يمثل في النفوس ذهولها

ومن أقواله أن أحط الناس في وقته هم الذين يشرفون على الأماكن المقدسة في مكة. فهم لا يتورعون عن أن يرتكبوا أي إثم في سبيل المال، وينصح مستمعيه بأن لا يضيعوا أوقاتهم في الحج (109) وأن يقنعوا بعالم واحد.

وفي بطحاء مكة شر قوم وليسوا بالحماة ولا الغيارى

وإن رجال شيبة سادنيها إذا راحت لكعبتها الجمارى

قيام يدفعون الناس

(1)

شفعاً إلى البيت الحرام وهم سكارى

إذا أخذوا الزوائف أولجوهم وإن كانوا اليهود أو النصارى

(1)

ويروى يدفعون الوفد. (المترجم)

ص: 230

وما حجى إلى أحجار بيت كؤوس الخمر تشرب في ذراها

وما الركن في قول ناس لست أذكرهم إلا بقية أوثان وأنصاب

لا حس للجسم بعد الروح نعلمه فهل تحس إذا بانت عن الجسد (110)

ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة وحق لسكان البسيطة أن يبكوا

(1)

تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد له سبك (111)

ويصل آخر الأمر إلى هذه النتيجة.

وإن جعلت بحكم الله في خزف يقضي الطهور فأنني شاكر راضي (112)

وهو يؤمن بوجود إله حكيم قادر على كل شيء، ويعجب من الطبيب الذي ينكر وجود الخالق بعد أن درس التشريح.

عجبي للطبيب يلحد في الخا لق من بعد درسه التشريحا (113)

لكنه حتى في هذه النقطة يثير بعض الصعاب فيقول:

وما فسدت أخلاقنا باختيارنا ولكن بأمر سببته المقادر

لا ذنب للدنيا فكيف نلومها واللوم يلحقني وأهل نحاسي

عنب وخمر في الإناء وشارب فمن الملوم أعاصر أم حاسي

ويقول في سخرية شبيهة بسخرية فلتير.

رأيت سجايا الناس فيها تظالم ولا ريب في عدل الذي خلق الظلما (114)

ثم ينفجر غضبه كما ينفجر غضب ديدرو Diderot فيقول:

أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما دياناتكم مكر من القدماء

أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا وبادوا وماتت سنة اللؤماء (115)

(1)

ومثل هذا قوله: ضحكنا وليس ما يوجب الضحـ؛ ك لدينا بل ما يهيج انتحابا. (المترجم)

ص: 231

وساءه ما بدا له من كذب الناس وقسوتهم فاعتزل الناس وغلب عليه التشاؤم، فكان عند المسلمين شبيهاً بتيمن الأثيني

(1)

. ويرى أن لا أمل في إصلاح الناس لأن شرور المجتمع ناشئة من طبائع الخلق:

كتب الشقاء على الفتى في عيشه وليبلغن قضاءه المحتوما

فما أذنب الدهر الذي أنت لائم ولكن بنوا حواء جاروا وأذنبوا

رب متى أرحل عن عالمي فأنت بالناس خبير عليم

رب متى أرحل عن هذه الدنيا فقد أطلت المقام

ولهذا فإن خير ما يفعله الإنسان أن يعتزل العالم ويعيش وحيداً لا يلقى إلا صديقاً واحداً أو اثنين، وأن يحيا كما يحيا الحيوان الوديع بعيداً عن الخلق.

ويقول: لقد كان أفضل من هذا لو أن الإنسان لم يولد لأنه إذا ولد قاسى العذاب والمحن يبسط عليه الموت لواء السلام (117):

وما العيش إلا علة برؤها الردى فخلي سبيلي أنصرف لطياتي

والعيش داء وموت المرء عافية إن داءه يتوارى شخصه حسما

والعيش سقم للفتى منصب والموت يأتي بشفاء السقام

على الموت يجتاز المعاشر كلهم مقيم بأهليه ومن يتغرب

وما الأرض إلا مثلنا الرزق تبتغي فتأكل من هذه الأنام وتشرب

كأن هلالاً لاح للطعن فيهم حناه الردى وهو السنان المجرب

كأن ضياء الفجر سيف يسله عليهم صباح في المنايا مذرب

وليس في وسعنا أن ننجو من منجل الموت، ولكن في وسعنا أن نفوت عليه

(1)

أنظر قصة تيمن الأثيني في مسرحية شكسبير المعروفة بهذا الاسم، أو في قصته كما رواها تشارلس لام مترجمة في كتابنا "قصص من شكسبير". (المترجم)

ص: 232

غرضه بألا تلد له أطفالاً. وفي ذلك يقول أبياتاً من الشعر لا تفترق عن أقوال المؤمنين أشد الأيمان بأقوال شوبنهور:

وإذا أرتم للبنين كرامة فالحزم أجمع تركهم في الأظهر

(1)

وقد عمل هو بهذه النصيحة، وكتب بنفسه قبريته وهي أشد القبريات مرارة وأكثرها إيجازاً وأعظمها حكمة:

هذا جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد

(2)

ولسنا نعرف كم من المسلمين كانوا يشاركون المعري في تشككه؛ ذلك أن عودة العقائد السنية القوية بعد أيامه كانت أشبه برقابة مقصودة أو غير مقصودة على ما انحدر إلى الأجيال التالية من أدب ذلك العصر، وقد يؤدي بنا هذا إلى الاستخفاف بما كان في العصور الوسطى من تشكك في العالم الإسلامي كما حدث في العالم المسيحي. وبلغ الشعر العربي عند المتنبي والمعري ذروتهما، فلما انقضى عهدهما علا شأن البحوث الدينية وسكن الفلسفة، فصبغ هذا وذاك الشعر العربي صبغة جديدة تتسم بعدم الإخلاص، وتَصَنُّع العاطفة، وتكلف الأناقة اللفظية في قصائد غثة تدور حول شؤون بلاط الأمراء. وفي هذا الوقت عينه كانت نهضة الفرس، وبعثها، وتحررها من حكم العرب تثير حمية الأمة وتخلق فيها نهضة حقة. ولم تكن اللغة الفارسية قد استسلمت للغة العربية استسلاماً

(1)

ومثلها: أرى ولد الفتى عبثاً عليه؛ لقد سعد الذي أمسى عقيما .. أما شاهد كل أبي وليد؛ يؤم طريق حتف مستقيما .. فإما أن يربيه عدواً؛ وإما أن يخلفه يتيما .. أرى النسل ذنباً للفتى بناله؛ فلا تنكحن الدار عقيم

(2)

لقد اعتمد المؤلف في إيراد هذه الأبيات وما سبقها على كتب نكلسون الواردة في ثبت المراجع وهي جميعاً كتب مفيدة ممتعة يرجع إليها الفضل فيما يعرفه علماء الغرب عن روعة الشعر الإسلامي وتنوع أغراضه.

ص: 233

كلياً بل بقيت يتحدث بها الشعب؛ فلما حل القرن العاشر أخذت هذه اللغة تثبت وجودها بالتدريج، وتعود كما كانت لغة الحكم والأدب. وكانت بذلك مظهراً لاستقلال الأمة الثقافي في عهد الأمراء الساسانيين والغزنويين. وظلت سائرة في ذلك الطريق حتى أضحت هي اللغة الفارسية الجديدة في هذه الأيام، بعد أن استمدت ثروة طيبة من الألفاظ العربية، وبعد أن استخدمت الخط العربي الجميل. وكان من أعظم مظاهر هذه النهضة الحديثة عمائرها الفخمة وشعرها العظيم. وأضاف شعراء إيران إلى القصيدة والقطعة، وإلى شعر الغزَل المثنوى أو الشعر القصصي أو الرباعيات. وما لبث كل شيء في فارس-من وطنية، وعاطفة، وفلسفة، ولواط، وصلاح-أن عبّر عنه الشعر.

وبدأت هذه النهضة بالرودكي (المتوفى عام 954) الذي كان يرتجل الشعر وينشد الأغاني، ويعزف على القيثار في بلاط السامانيين ببخارى. وفي هذا البلد نفسه، وبعد جيل من ذلك الوقت طلب الأمير نوح بن منصور إلى الشاعر الدقيقي أن يصوغ الخدينامة أو كتاب الملوك شعراً. وكان دانشوار (حوالي عام 651) قد جمع في هذا الكتاب قصص بلاد الفرس القديمة. وما كاد الدقيقي يتم كتابه ألف بيت حتى طعنه أحد عبيده المقربين طعنة قضت على حياتهِ، وقام الفردوسي بالعمل بعد وأتمه وأصبح هومر بلاد الفرس.

وولد أبو القاسم منصور (أو الحسن) في مدينة طوس (قرب مشهد) حوالي عام 934، وكان والده يشغل منصباً إدارياً في بلاط السامانيين، وخلف لولدهِ بيتاً ريفياً في بزاعة بالقرب من طوس. وكان أبو القاسم يقضي وقت فراغه في البحث عن الآثار القديمة. واسترعى كتاب الخدينامة انتباهه فاعتزم أن يحوّل هذه القصص النثرية إلى ملحمة قومية، وسمي كتاب الشاهنامه، أي كتاب الملوك، واتخذ له حسب عادة تلك الأيام اسماً مستعاراً هو الفردوسي، ولعله اشتق ذلك الاسم من غياض ضيعتهِ. وأتم الفردوسي ملحمته في صورتها الأولى بعد

ص: 234

خمس وعشرين سنة من الكدح المتواصل، ثم سافر إلى غزنة (999؟) راجياً أن يهديها إلى أميرها محمود الرهيب.

ويؤكد لنا أحد شعراء الفرس الأقدمين أنه كان في غزنة "أربعمائة شاعر لا يفارقون مجالس السلطان محمود". ولو صح هذا لكان وجود هؤلاء الشعراء عقبة كأداء في سبيل الفردوسي، لكنه مع هذا أفلح في استرعاء اهتمام الوزير فجاء بالمخطوط الضخم إلى السلطان. وتقول إحدى الروايات إن محموداً هيأ للشاعر مسكناً مريحاً في قصرهِ، وأمده بقدر ضخم من المادة التاريخية، وأمره أن يضمها إلى ملحمتهِ. وتجمع كل الروايات التي وصلتنا من هذه القصة على اختلاف صورها أن محموداً وعده أنت يعطيه ديناراً ذهبياً (4. 70 دولارات) نظير كل بيت من القصيدة في صورتها الجديدة. وظل الفردوسي يكدح زمناً لا نعرف طوله؛ بلغت بعد القصيدة (حوالي عام 1010) صورتها النهائية، واشتملت على 60. 000 بيت وجيء بها إلى السلطان. وأوشك محمود أن يبعث إلى الفردوسي المبلغ الموعود، ولكن بعض بطانته استكثروا العطاء، وأضافوا إلى هذا قولهم إن الفردوسي زنديق شيعي ومعتزل. واستمع لهم محمود وبعث للشاعر بستين ألف درهم فضي (30. 000 ريال أمريكي). وغضب الشاعر وأراد أن يظهر غضبه واحتقاره فقسم المبلغ بين خادم حمام وبائع شراب ثم فر إلى هراة، حيث اختفى ستة أشهر في حانوت بائع كتب، حتى يئس من العثور عليه عمال محمود الذين أمرهم بالقبض عليه. ثم لجأ الفردوسي إلى شهريار أمير شيرزاد

(1)

في طبرستان، ونظم قصيدة يهجو فيها محموداً هجواً لاذعاً. وخشي شهريار غضب

(1)

ليس شيرزاد أو شهرزاد اسم إقليم ولعل الأمر قد اختلط على المؤلف أو على من رجع إليه من المؤلفين. ولم يرد شيرزاد إلا في رواية محمد بن عبد الوهاب القزويني في حواشي جهار مقاله إذ قال إنه وجد في أصل الكتاب شهرزاد أو شيرزاد مكان شهريار. انظر مقدمة الشاهنامة للدكتور عبد الوهاب عزام في هذا وفي قصة يوسف وزليخا ففيها تفصيل وافِ عن قصة هذا الشاعر وبحث علمي في هذا الموضوع. (المترجم)

ص: 235

السلطان فابتاع القصيدة بمائة ألف درهم وأتلفها. وإذا جاز لنا أن نصدق هذه الأرقام، ونعتقد بصحة تقديرنا إياها بنقود هذه الأيام، حكمنا من فورنا أن الشعر كان من أكثر الأعمال إدراراً للربح في فارس في العصور الوسطى. وانتقل الفردوسي بعدئذ إلى بغداد وكتب فيها قصة شعرية طويلة هي قصة يوسف وزليخا، ثم عاد إلى طوس وكان قتئذ شيخاً في السادسة والسبعين من العمر. وبعد عشر سنين من عودتهِ سمع محموداً بيتاً من الشعر فأعجب بقوة معناه وجزالة لفظه، فسأل عن قائلهِ، ولما علم أنه من شعر الفردوسي ندم على أنه لم يكافئ الشاعر بما وعده بهِ، وأرسل إليه قافلة من الإبل تحمل ما قيمته ستين ألف دينار من النيلج، ومعها رسالة اعتذار منه، ولما دخلت القافلة مدينة طوس التقت فيها بجنازة الشاعر (1020؟).

وتعد الشاهنامة من أعظم الأعمال في الآداب العالمية في حجمها إن لم تكن في غيرهِ. وإن من النبل بحق أن يترك شاعر الموضوعات التافهة، والأعمال اليسيرة، ويقضي خمسة وثلاثين عاماً من حياتهِ يروي فيها قصة بلده في 120. 000 بيت من الشعر-فكانت القصيدة بذلك أطول من الإلياذة والأوديسة مجتمعتين. فها هو ذا شيخ طاعن في السن جن جنونه بوطنهِ، وشغف حباً بكل ما حوته سجلاته من تفاصيل، خرافة كانت أو حقيقة. وتصل الملحمة إلى نصفها قبل أن يصل بها الشاعر إلى العصور التاريخية. ويبدأها بالشخصيات الأسطورية الواردة في الأبستاق، ويحدثنا عن جيومرث، آدم الديانة الزرادشتية، ثم عن جمشيذ العظيم حفيد جيومرث "الذي حكم العالم 700 سنة

والذي سعد العالم بحكمهِ، ولم يكن يعرف في أيامه موت ولا حزن ولا ألم". ولكن جمشيذ بعد أن مرت به بضعة قرون "باض الشيطان في رأسهِ وفرخ ولوى جيدهُ عن طاعة ملاك الرقاب، متعرضاً بغمط نعمة لقاصمة العقاب" "وظن أنه ليس على ظهر الأرض سواه، وادعى أنه إله، وبعث بصورته لكي يعبدها الناس" (121). ونصل أخيراً

ص: 236

إلى بطل الملحمة رستم بن زال أحد أمراء الإقطاع في تلك الأيام. ولا بلغ رستم من العمر خمسمائة عام وقع زال في هوى جارية شابة فولدت منه أخاً لرستم. ويخدم رستم ثلاث ملوك وينجيهم من الموت، ثم يهجر حياة القتال حين تبلغ سنه أربعمائة عام. ويطول عمر جواده الأمين الرخش كما يطول عمر سيده أو ما يقرب منه، ويكاد يبلغ من البطولة ما بلغه، ويلقى هذا الجواد من الفردوسي الحب والدعابة اللذين يلقاهما الجواد الأصيل من كل فارسي. وفي الشاهنامة قصص حب جميلة، وفيها بعض ما في شعر شعراء الفروسية الغزليين في أوربا في العصور الوسطى من تعظيم للنساء. فيها صور ساحرة للنساء البارعات الجمال- منها صورة للملكة سوذابة التي كانت تتحجب حتى لا يرى جمالها، والتي كانت تسير مع الرجال كما تسير الشمس خلف السحاب (122). ولكن الحب ليس له شأن كبير في حياة رستم، لأن الفردوسي يرى أن عاطفة الحب الأبوي والنبوي يمكن أن تكون أعظم وقعاً في النفوس من عاطفة الحب الجنسي. بيد أن رستم يقع أثناء إحدى حروبه البعيدة في حب فتاة تركية تدعى تهمينة، ثم تحتفي عن عينه فلا يقف على أثرها، ثم تربي ابنها سهراب والحزن يملأ قلبها الكبرياء يرفع رأسها بين أترابها، وتحدث الشاب عن أبيه العظيم الذي لا تعرف مقره، ويلتقي الأب والابن في حرب بين الترك والفرس، ويقف كلاهما ليقاتل الآخر دون أن يعلما حقيقة أمرهما. ويعجب رستم بشجاعة الصبي الوسيم، ويعرض عليه أن يحفظ عليه حياته؛ فيرفض الغلام هذا العرض بازدراء، ويقاتل قتال الأبطال، ويصاب بجرح مميت. ويقول وهو يحتضر إن أشد ما يحزنه أنه لم يرَ أباه رستم، ويدرك المنتصر أنه قتل ابنه. ويعدو جواد سهراب بغير فارس حتى يدخل معسكر الترك ويصل الخبر إلى والدته في منظر من أجمل مناظر الملحمة:

تئن وتجأر جهد الحزين وينتابها الغشى في كل حين

أطالت بكاء ابنها والنحيبا فأجرت من الناس دمعاً سكوبا

ص: 237

وخرت على الأرض جمراً خمد كأن بها دمعاً قد جمد

وعادت ترجع تحنانها وتذكي على الابن أحزانها

وجاءت إلى طرفه الطائر إلى زينة الزمن الناظر

فلزَّتْ إلى رأسه صدرها يرى الناس في عجب أمرها

وجاءت لحلته في كمد تعانقها كأبنها المفتقد

(1)

والقصة كلها غاية في الوضوح يتنقل القارئ فيها تنقلاً سريعاً من حادثة إلى حادثة، ولا يحس بوحدتها إلا حين بوجود الوطن المحبوب في كل سطر من سطورها وإن كان لا يبصره بعينه. ونحن، الذين لا نجد لدينا من الفراغ ما كان يجده الناس قبل أن تخترع تلك الوسائل الكثيرة التي توفر عليهم أوقاتهم، لا نجد متسعاً من الوقت نقرأ فيه كل أبيات القصيدة وندفن فيها كل ملوكها؛ ولكن هل منا من قرأ كل سطر من أسطر الإلياذة أو الإنياذة، أو المسلاة المقدسة، أو الفردوس المفقود؟ إن هذه الملاحم القصصية لا يستطيع قراءتها إلا الذين أتوا القدرة على هضمها. أما نحن فبعد أن نقرأ مائتي صفحة من صفحات الشاهنامة نمل من قراءة أخبار انتصارات رستم على الشياطين، والوحوش، والسرة، والأتراك. ولكن سبب هذا الملل أننا لسنا إيرانيين، لم نسمع إلى أنغام الشعر الفارسي الأصيل الرنانة العذبة، ولا نتأثر بها كما يتأثر بها الفرس الذين أطلقوا اسم رستم على ثلاثمائة قرية في ولاية واحدة من بلادهم. وقد احتفل العالم المتمدن في آسية وأوربا والأمريكيتين في عام 1934 بالعيد الألفي للشاعر الذي ظل كتابه الضخم غذاء لروح الشعب الإيراني مدى ألف عام.

(1)

هذه الأبيات منقولة عن الترجمة العربية للشاهنامة من الفصل الذي أغفله الفتح بن على البنداري وترجمه الدكتور عبد الوهاب عزام. (المترجم)

ص: 238

الفصل السّابع

الفن

(1)

لما فتح العرب بلاد الشام لم تكن لديهم من الفنون سوى الشعر. ويقال إن النبي حرم فني النحت والتصوير أنهما من قبيل عبادة الأوثان-كما نهى عن الموسيقى، ولبس الحرير الثمين: والتحلي بالذهب والفضة أنهما من أسباب التنعم المؤدي إلى الانحلال؛ ومع أن العرب أخذوا يتحللون شيئاً فشيئاً من هذا التحريم، فإن الفن الإسلامي في ذلك العهد الأول كان ينحصر في فنون العمارة، والخزف، والزركشة. يضاف إلى هذا أن العرب أنفسهم كانوا إلى عهد قريب بدواً أو تجاراً، ولم يكونوا ذوي براعة فنية ناضجة؛ وكانوا يعترفون بقصورهم في هذا الميدان، ولذلك لجأوا إلى الأشكال والتقاليد الفنية المتبعة في بيزنطية، ومصر، والشام، وبلاد العراق، وإيران، والهند، فعدلوها بما يوائم طبيعتهم، كما لجأوا إلى الفنانين والصناع من أهل تلك البلاد. من ذلك أن نقوش قبة الصخرة في بيت المقدس وعمارة مسجد الوليد الثاني في دمشق كانت بيزنطية خالصة. وفيما يلي هذه البلاد من جهة الشرق اتخذ العرب حليات القرميد التي كانت متبعة في بلاد آشور وبابل القديمة، كما اتخذوا أشكال الكنائس الأرمنية النسطورية، وبعد أن دمر المسلمون في بلاد الفرس كثيراً من الأعمال الساسانية الأدبية والفنية تنبهوا إلى مزايا مجموعات العمد، والأقواس

(1)

نحن مدينون بهذا الفصل إلى كتاب "نظرة شاملة في الفن الفارسي" Survey of Psrsian Art الذي نشره آرثر أبهام بوب Arthur Uphan Pope، وبخاصة الفصول التي كتبها بنفسهِ. وإن عمله العظيم في هذا الميدان الذي أجاده وأخلص فيهِ، والذي يضارع عظمتهِ ما عمله جيمس هنري برستد في تاريخ مصر لمن الأعمال الخالدة التي تشهد له بدقة البحث وغزارة العلم وحب الإنسانية في أجلى مظاهرها.

ص: 239

المستدقة والعقود، والنقوش المكونة من أوراق النبات والأشكال الهندسية التي أثمرت آخر الأمر طراز الزخرفة العربي المعروف. ولم تكن هذه النتيجة تقليداً محضاً، بل كانت تركيباً بارعاً من أشكال مختلفة لا ينقص من شأنها ما أخذه المسلمون عن غيرهم من الأمم. وتخطى الفن الإسلامي الذي انتشر من قصر الحمراء في الأندلس إلى التاج محال في الهند كل حدود الزمان والمكان، وكان يسخر من التمييز بين العناصر والأجناس، وأنتج طرازاً فذاً ولكنه متعدد الأنواع، وعبّر عن الروح الإنسانية بأناقة موفورة فياضة لم يفقها شيء من نوعها حتى ذلك الوقت.

ويكاد فن العمارة الإسلامية، كمعظم فنون العمارة في عصر الإيمان، أن يكون كله فناً دينياً خالصاً. ذلك أن مساكن البشر كانت تقام ليقضوا فيها حياتهم الدنيوية القصيرة الأجل؛ أما بيوت الله، فكانت من داخلها على الأقل، نماذج من الجمال الخالد. غير أننا مع هذا نسمع عن قناطر، وقنوات لجر مياه الشرب، وفساقي، وخزانات لمياه الري، وحمامات عامة، وقلاع، وأسوار ذات أبراج وإن لم يبقَ من آثار هذه كلها إلا القليل. وقد أقامها مهندسون معماريون كان الكثيرون منهم في القرن الأول بعد الفتوح الإسلامية من المسيحيين، ولكن كثرته الغالبة كانت فيما بعد من المسلمين. ولما جاء الصليبيون إلى بلاد المسلمين وجدوا مباني حربية ممتازة في حلب، وبعلبك، وغيرها من مدن الإسلام في الشرق، وعرفوا هناك فوائد الأسوار ذات المزاغل، وأخذوا عن أعدائهم كثيراً من الأفكار التي أقاموا على أساسها حصونهم وقلاعهم المعدومة النظير، ولقد كان قصر إشبيلة، وقصر الحمراء في قرطبة حصنين وقصرين معاً.

ولم يبقَ من قصور بني أمية إلا القليل. ومن هذا القليل الباقي بيت بريفي في قصير عمرة بالصحراء الواقعة في شرق البحر الميت، وتكشف بقاياه عن حمامات ذات قباب، وجدران ذات مظلمات. ويؤكد لنا المؤرخون أن قصر عضد الدولة

ص: 240

في شيراز كان يحتوي على ثلاثمائة وستين حجرة واحدة منها كل يوم من أيام السنة، وقد طليت كل حجرة بطلاء مكون من مجموعة فذة من الألوان، وخصصت منها واحدة للمكتبة، وكانت حجرة رحبة يبلغ ارتفاعها طابقين، ذات بواك وعقود، ويقول عنها أحد مؤرخي الإسلام المتحمسين إنه لم يكن ثمة كتاب في أي موضوع من الموضوعات لا تحتوي المكتبة نسخة منه (124). ولسنا نشك في أن للخيال أكبر نصيب فيما وصفت به شهرزاد مدينة بغداد، ولكنه وصف يصور ما كانت عليه فخامة النقوش في داخل القصور أصدق تصوير (125). وكان لأغنياء المسلمين بيوت في الريف وقصور في المدن. وكانت لهم في المدن نفسها حدائق كبرى، أما بيوتهم في الريف فكانت حدائقها "جنات" حقة-فيها بساتين ذات عيون، وجداول، وفساق، وبرك مبطنة بالقرميد، وأزهار نادرة، وظلال، وأشجار فاكهة ونُفل، وكانت تحتوي عادة على سرادق يستمتع فيه أهل القصر بالهواء الطلق، دون أن يضايقهم وهج الشمس. وكان الدين في فارس دين أزهار؛ فقد كانت تحتفل بأعياد الورد احتفالات تحوي جميع مظاهر الأبهة والفخامة، وطبقت شهرة ورد شيرزاد وفيروز آباد جميع أنحاء العالم، وكانت الورود ذوات المائة من الأوراق من الهدايا التي يحمدها لمهديها الخلفاء والملوك (126).

وكانت بيوت الفقراء وقتئذ، كما هي الآن، أبنية مستطيلة الشكل؛ مقامة من اللبن الملتصق بالطين، سقفها خليط من الطين، وأعواد النبات، وغصون الأشجار، وجريد النخل، والقش. وكانت البيوت الأرقى من هذه نوعاً تشتمل على فناء داخلي مكشوف، ذي فسقية، وشجرة في بعض الأحيان؛ وكانت تحتوي أحياناً على طائفة من العمد الخشبية، ورواق مسقوف بين الفناء والحجرات. وقلما كانت البيوت تبنى على الشارع أو تطل عليه، لأنها كانت حصوناً للعزلة، تقام للأمن والسلام؛ وكان لبعضها أبواب سرية، يهرب منها سكانها من فورهم إذا هوجموا أو أريد اعتقالهم، أو يدخل منها الحبيب سراً (127).

ص: 241

وكان في كل بيت من البيوت، عدا بيوت الفقراء، أجنحة خاصة بالنساء، لكل منها في بعض الأحيان فناء مستقل. وكانت بيوت الأغنياء خالية من أنابيب الماء، الذي يحمل إليها من خارجها كما تحمل الفضلات منها. وكانت بعض البيوت الحديثة الطراز تؤلف من طابقين تتوسط الواحد منهما حجرة لجلوس الأسرة عامة تعلوها قبة، وفي الطابق الثاني منها شرفة تطل على فناء البيت. ولم يكن بيت من البيوت عدا أفقرها يخلو من مشربية من الخشب تدخل الضوء، وتمنع حرارة الشمس، وتمكن من بداخل البيت أن يطلوا على خارجهِ دون أن يراهم من بالخارج. وكثيراً ما كانت هذه المشربيات متقنة النحت، وكانت هي النماذج التي صنعت على غرارها الستر الحجرية أو المعدنية التي ازدانت بها القصور والمساجد فيما بعد. ولم تكن بالبيت مدفأة ثابتة في جدرانهِ، بل كان يدفأ بموقد نحاسي متنقل يحرق فيه الفحم الخشبي. وكانت الحجرات تجصص وتطلى عادة بألوان متعددة. وكانت الأرض تفرش بطنافس من نسيج اليد، وقد يكون عليها كرسي أو كرسيان، ولكن المسلمين كانوا يفضلون أن يتربعوا فوق الطنافس. وكانت أرض الحجرة ترتفع بجوار الجدران في ثلاث نواح منها بقدر قدم، أو ما يقرب منه ليتكون من ذلك ديوان يفرش بالوسائد. ولم تكن في هذا النوع من البيوت حجرة خاصة بالنوم، وكان فرش النوم مكوناً من حشية تطوى في أثناء النهار وتوضع في مكان خاص كما يفعل أهل اليابان في هذه الأيام. وكان أثاث البيت بسيطاً: يتألف من بضع مزهريات، وآنية المطبخ، ومصابيح، وكوة للكتب في بعض الأحيان.

وكان حسب المسلم التقي الفقير أن يكون المسجد جميلاً، وكان ينفق في تشييدهِ جهده ماله. ويجمع في فنونه وصناعاته ويضعها كالطنفسة بين يدي الله، وكان في وسع الناس أن يستمتعوا بهذا الجمال وبتلك العظمة: وكان

ص: 242

المسجد يقام عادة بالقرب من سوق المدينة يسهل الوصول إليه من كافة أنحائها. ولم يكن عادة فخماً ذا روعة وبهاء من خارجهِ. وإذا استثنينا واجهته الأمامية فإنه لم يكن يسهل تمييزه في بعض الأحيان من المباني المجاورة له، وقد يكون أحياناً ملتصقاً بها التصاقاً، وقلما كان يشيد من مواد أفخم من الآجر المطلي بالمصيص. وقد حدد شكله الغرض الذي أقيم من أجلهِ: فكان يتألف من بهو رباعي الشكل يتسع للمصلين، ومن حوض أوسط ونافورة للضوء، تحيط بها إيواناته ذات البواكي لوقاية المصلين وإظلالهم، وليتلقوا فيها الدروس، وفي ناحية الصحن المتجهة إلى مكة كان يقوم بناء المسجد الأصلي، وهو في العادة قسم مسور من الرواق. وكان هذا القسم أيضاً ذا شكل رباعي يمكن المصلين من أن يقفوا صفوفاً متراصة متجهين أيضاً إلى مكة. وقد يكون فوق هذا الصرح قبة، تكاد تبنى في جميع الأحوال من الآجر، تبرز كل طبقة منها عما تحتها بمقدار قليل نحو الداخل وتطلى بالجص لإخفاء هذا البروز (128). وكان الانتقال من القاعدة الرباعية إلى القبة المستديرة يتم كما يتم في العمارة الساسانية أو البيزنطية بأن تتوسطها في القبة عدة أكتاف مثلثة الشكل بين عقدين متعامدين، أو سلسلة من العقود الحجرية الصغيرة تقام عليها جوانب القبة. وأهم ما تمتاز به عمارة المساجد هو المئذنة من الزجورات-الصرح-البابلي وبرج الجرس في الكنائس المسيحية، وأخذ الهنود المسلمون الشكل الأسطواني من بلاد الهند، وتأثر مسلمو إفريقية في تخطيطها بمنارة الإسكندرية ذات الأركان الأربعة (129). وليس ببعيد أن تكون الأبراج ذات الأركان الأربعة في المساحة التي أقيم عليها الهيكل القديم في دمشق، ذات أثر في شكل المئذنة (130)، وكانت في هذا العهد الأول بسيطة خالية في أغلب الأحيان من الزخرف، ولم تصل إلا في القرون المتأخرة إلى ما وصلت إليه من الدقة والارتفاع، أو نحو ما احتوته من الشرفات الرقيقة الهشة،

ص: 243

والبواكي الزخرفية، والسطوح القاشانية، التي أنطقت فرجسون Fergusson بقولهِ "إنها أعظم الأبراج رشاقة في عمارة العالم كله"(131).

وقد احتفظ المسلمون لداخل المسجد بأبهج الزخارف وأجملها وأكثرها تنوعاً، احتفظوا لهذا الداخل بالفسيفساء وقطع القرميد البراقة لأرض المسجد ومحرابه؛ وبالزجاج ذي الأشكال والألوان البديعة لنوافذهِ ومصابيحه، وبالطنافس الغالية والبسط الفخمة تفرش على أرضه للصلاة؛ وبألواح الرخام الجميل الألوان تثبت على الأجزاء السفلى من الجدران؛ وبالأفاريز الجميلة ذات الكتابة العربية حول المحاريب والطنف؛ وبالنقوش الجميلة في الخشب أو العاج أو المصنوعة من المعدن في الأبواب، والسقف، والمنابر، والسجف

أما جسم المنبر نفسه فكان يصنع من الخشب تبذل أعظم العناية في نحتهِ ونقشهِ وتطعيمه بالعاج والأبنوس. وبالقرب من المنبر توجد الدكة المقامة على عمد صغيرة وعليها نسخة من كتاب الله. وكان الكتاب نفسه بطبيعة الحال أنموذجاً لجمال الخط وروعة الفن الدقيق. ويجاور المنبر القبلة وهي جزء داخل في جدار المسجد لعله مأخوذ من القباب في الكنائس المسيحية. وقد أفرغ الصناع والفنانون كل جهودهم في تزيين هذا المحراب حتى كان يضارع المذبح أو المحراب المحيط به في الكنائس والهياكل. فجملوه بالقاشاني والفسيفساء، وصور أوراق الشجر وأزهاره، والنقوش البارزة، والأنماط الجميلة، ذات الألوان البديعة من الآجر، والجص، والرخام، والطين المحروق، والقاشاني.

وأكبر الظن أننا مدينون بما بلغه فن الزخرفة من عظمة وفخامة إلى تحريم الساميين تمثيل صور الإنسان والحيوان في الفن! فكأن الفنانين المسلمين أرادوا أن يعوضوا هذا التحريم فاخترعوا هذا الفيض الغامر من الأشكال غير البشرية أو الحيوانية، وأخذوا ما كان منها موجوداً عند غيرهم. فبحث الفنان في أول الأمر عن منفذ لمواهبهِ الفنية في الأشكال الهندسية-الخط، والزاوية، والمربع،

ص: 244

والمكعب، والكثير الأضلاع، والمخروط، والشكل اللولبي، والقطع الناقص، والدائرة، والكرة؛ وكرر هذه الأشكال كلها وركب منها مئات التراكيب، وأنشأ منها الدوامات، والأربطة، والخطوط المتشابكة المتداخلة، والنجوم. ولما انتقل إلى الأشكال النباتية عمد إلى المواد المختلفة، فصور من مختلف المواد، تيجاناً، وكروماً، وأزهار البشنين، والكُنْكُر، وخوص النخل وجريده. فلما جاء القرن العاشر مزج هذه كلها فأنشأ منها الزخرف العربي الذائع الصيت، وأضاف إليها كلها حلية فذة كبرى هي الكتابة العربية. ذلك أنه عمد في العادة إلى الحروف الكوفية فأطالها إلى أعلى أو مدها على الجانبين، أو نمقها بالذيول والنقاط، حتى استحالت الحروف الهجائية على يديه تحفة فنية ذات روعة وجمال. ولما تحلل الناس من بعض الشيء من القيود والمحرمات الدينية أدخل الفنان أنواعاً جديدة من الزينة بأن رسم طير السماء، وحيوان الحقل، أو ابتدع أشكالاً عن الحيوانات المختلفة لا وجود لها إلا في مخيلته. واستطاع بفطنتهِ وشغفهِ بالزينة أن يسمو بكل شكل من أشكال الفن-الفسيفساء، والنقوش الصغيرة على العاج ونحوه، والخزف، والأقمشة، والبسط. وكان النقش في كل حالة تقريباً تؤلف بين أجزائه وحدة منظمة، تسيطر عليها صورة رئيسية، أو موضوع رئيسي. ينمو ويتطور من الوسط إلى الأطراف أو من البداية إلى النهاية، كما يفعل المؤلف بالموضوع الموسيقي. ولم يكن الفنان المسلم يرى أن أية مادة مهما قست تستعصي على فنهِ؛ ولهذا أصبح الخشب، والمعدن، والآجر، والجص، والحجر، والقرميد، والزجاج، والقاشاني-أصبحت هذه كلها وسائل يستخدمها لإظهار ما في خيالهِ من صور وأشكال فنية مجردة لم يسمُ إلى مستواها فن آخر من قبل لا نستثني من ذلك الفن الصيني نفسه.

واستعانت العمارة الإسلامية بهذا الفن الزخرفي فأقامت في جزيرة العرب، وفلسطين، والشام، وأرض الجزيرة، وفارس والتركستان، والهند، ومصر،

ص: 245

وتونس، وصقلية، ومراكش، والأندلس-أقامت في هذه البلاد كلها عدداً لا يحصى من المساجد جمعت بين القوة والمتانة في خارجها، والرشاقة والرقة في داخلها، نذكر منها مساجد المدينة، ومكة، وبيت المقدس، والرملة ودمشق، والكوفة والبصرة، وشيراز ونيسابور، وأردبيل، ومسجد جعفر في بغداد، ومسجد سر من رأى العظيم، ومسجد زكريا في حلب، ومسجد ابن طولون والجامع الأزهر في القاهرة، ومسجد تونس الكبير، ومجلس سيدي عقبة في القيروان، والمسجد الأزرق في قرطبة-وليس في مقدورنا إلا أن نكتفي بذكر أسمائها لأن مئات المساجد التي بنيت في ذلك الوقت لم يبقَ منها ما يمكن تمييزه إلا عشرة أو نحوها، أما سائرها فقد عدا عليه الزمان فدمره بفعل الزلازل أو الإهمال أو الحروب.

وقد كشف في العصر الحديث في بلاد الفرس وحدها-وهي جزء صغير من بلاد الإسلام-عن صروح فخمة لم يكن يدور بخلدنا أنها توجد في تلك البلاد؛ وكان كشف آثارها من الحادثات الكبرى في إزاحة الستار عن الماضي المجهول

(1)

وإن كان هذا الكشف قد جاء بعد أوانه بزمن طويل؛ لأن كثيراً من روائع العمارة الفارسية قد عبثت به قبل ذلك الكشف يد الزمان فلم تبقِ منه شيئاً. وحسبنا أن نذكر في هذا المقام أن المقدسي يصف في فارس مساجد لا تقل روعة عن مساجد المدينة ودمشق ويقول إن مسجد نيسابور ذا العمد الرخامية. والصفائح الذهبية، والجدران ذات النقوش المحفورة الكثيرة كان من عجائب الزمان؛ وإنه لم يكن في خرسان أو سجستان من المساجد ما يضارع في جماله مسجد هيراة (132). وفي وسعنا أن نصور لأنفسنا صورة غامضة مما بلغته

(1)

في عام 1925 صرح رضا خان، الذي جلس بعدئذ على عرش فارس، إلى آرثر أبهام بوب Arthur Upham Pope بدخول مساجد بلاد الفرس وكان محرماً على غير المسلمين من قبل أن يدخلوها، لكي يصورها من الداخل. وكان هذا حادثاً عظيماً كشف للعالم عن بدائع الفن الفارسي وروعته.

ص: 246

العمارة الفارسية في القرنين التاسع والعاشر من روعة ووفرة، بدراسة النقوش الجصية البارزة، والعمد والتيجان المحفورة الباقية، من محراب مسجد نايين الجامع المخرب، والمئذنتين الجميلتين الباقيتين في دمغان. وقد بقي من مسجد أردستان (1055) محراب وباب جميلان، كما كشف فيه عن كثير من العناصر التي تجلت فيما بعد في العقود القوطية المستدقة، والأكتاف المركبة، والأقبية المتقاطعة، والقبة المضلعة (133). وكانت المادة التي شيدت منها هذه المساجد والكثرة الغالبة من المساجد والقصور الفارسية هي الآجر، شأنها في ذلك شأن المباني القديمة في سومر وأرض الجزيرة، وسبب ذلك ندرة الحجارة وكثرة ما تتطلبه من النفقات، ووفرة الطين والنيران؛ لكن الفنان الفارسي قد حول طبقات الآجر بفضل ما أدخله عليها من ضوء والظل والنماذج الفنية الجديدة، والأوضاع الفنية المختلفة، حول هذه الطبقات إلى أنواع من الزخرف لم تعرف هذه المادة القليلة الشأن نظيراً لها من قبل. وقد كسا الخزاف الفارسي الآخر في أماكن خاصة، كمداخل المساجد والمنابر والمحاريب، بطبقة الفسيفساء متعددة الألوان، وبالقرميد الزاهي البراق؛ ولما أقبل القرن الحادي عشر زاد السطح البراق لألاء وبهاء بطبقة من القاشاني الملون اللامع. وهكذا خدم المسجد كل فن في بلاد الإسلام. نزل إلى هذه الخدمة من العلياء وكسب بها فكراً وكبرياء.

وإذ كان قد حرم على المثال أن ينحت التماثيل خشية أن يعود الناس إلى عبادة الأوثان، فقد وجه جهوده إلى الزخرفة بالنقوش البارزة. فأتقن نحت الحجارة، وشكل الجص باليد قبل أن يجف، وصاغ منه أشكالاً كثيرة مختلفة. وقد بقي أنموذج رائع من هذه العمائر، وهو القصر الشتوي الذي بدأه الوليد الثاني عام 734 بالصحراء الشرقية إلى نهر الأردن وتركه دون أن يتمه. وكان حول سطح الواجهة من أسفل إفريز من الحجر المنحوت ذو جمال بارع يتكون نقشه من مثلثات وأزهار الورد يحيط بها إطار من الأزهار، والفاكهة، والطير،

ص: 247

والحيوان، والنقش العربي. وقد نقل هذا النقش الرائع إلى برلين في عام 1904 ونجا من الدمار في أثناء الحرب العالمية الثانية. وكان النجارون يجملون النوافذ، والأبواب، والستر الخشبية، والشرفات، والسقف، والمناضد، وكراسي المصاحف، والمنابر، والمحاريب، ويبدعون في نقشها إبداعاً يستطيع الإنسان أن يراه في لوحة وجدت في تكريت ونقلت إلى المتحف الفني في نيويورك. كذلك كان الصناع المشتغلون بنحت العاج والخشب يزينون بفنهم المساجد، والمصاحف، والأثاث، والآنية، والأشخاص أنفسهم، ويجملونها بمصنوعاتهم المنحوتة والمطعمة. غير أنه لم يصلنا من مصنوعات ذلك العصر إلا قطعة واحدة هي طابية من قطع الشطرنج (توجد الآن في المتحف الأهلي بفلورنس) ويقال إنها إحدى قطع الشطرنج الذي أهداه هرون الرشيد إلى شارلمان في القرن التاسع الميلادي (124). كذلك أخذ صانعوا المعادن المسلمون عن الساسانيين هذا الفن الدقيق، وصنعوا من النحاس والشبه مصابيح، وأباريق، وجفاناً، وجراراً، وكيزاناً، وأقداحاً، وأطساتاً، ومواقد؛ وصبوها في صور الآساد، والأفاعي، وآباء الهول، والطواويس، واليمام؛ ونقشوا عليها في بعض الأحيان رسوماً بديعة نشاهد مثلاً منها في المصباح الشبيه بالقماش المخرم والمحفوظ في معهد الفن بمدينة تشكاجو. ومن الصناع من كانوا يحشون الرسوم المحفورة بالفضة والذهب، ويبدعون المصنوعات المعدنية "الدمشقية" أي المزخرفة بفن الدمشقيين وإن لم يكن قد نشأ في مدينتهم (135). وكانت السيوف الدمشقية تصنع من الفولاذ المسقى المزين بالنقوش البارزة أو المطعم بالرسوم العربية، أو الحروف الهجائية، أو غيرها من الأشكال المتخذة من خيوط الذهب أو الفضة. وقصارى القول أن صناع المعادن المسلمين قد يراعوا في هذا الفن براعة ليس بعدها زيادة لمستزيد.

ولما انتهى عصر الفتوح الإسلامية واستقر المسلمون في البلاد المفتوحة وأخذوا عنها ثقافتها ألفوا أنفسهم في صناعة الفخار الوارثين لتقاليد خمسة في هذا

ص: 248

الفن هي التقاليد المصرية، والإغريقية-الرومانية، والعراقية، والفارسية، والصينية. ونقول الصينية لأن سار Sarre، كشف في سر من رأى فخاراً من عهد أسرة تانج ومعه قطعة من الخزف الصيني الرقيق؛ وكانت الأواني الفارسية-الإسلامية في عهدها الأول منقولة نقلاً لا خفاء فيه عن نماذج صينية. ونشأت مراكز صناعة الفخار في بغداد وسامرا

(1)

، والري، وكثير غيرها من البلدان. ولم يحل القرن العاشر الميلادي حتى كان صانعوا الفخار من الفرس يصنعون كل أنواع الآنية الفخارية ما عدا الخزف الصيني، ويصنعونه في الشكل لا حصر لها تبدأ من المباصق اليدوية الصغيرة إلى المزهريات الضخمة المهولة، التي تتسع في القليل لأحد "اللصوص الأربعين"(136) ويتبين الإنسان من خير المصنوعات الفخارية الفارسية دقة التصوير، وبراعة في التلوين، وحذقاً في الصناعة لا تسمو عليها إلا الصناعتان الصينية واليابانية؛ وظلت ستة قرون لا تضارعها صناعة أخرى في جميع الأقاليم الممتدة جنوب هضبة البامير وغربها (137). وكان هذا الفن من أحب الفنون إلى الفرس وأكثرها مواءمة لهم؛ وكان أهل الطبقة العليا منهم يحرصون أشد الحرص على جميع روائعه، وكثيراً ما أخذ عنه الشعراء أمثال أبي العلاء المعري وعمر الخيام تشبيهات واستعارات في أقوالهم الفلسفية. ويحدثنا الكتاب عن مأدبة أقيمت في القرن التاسع ارتجلت فيها قصائد، وأهديت إلى الآنية التي كانت تزدان بها المائدة (138).

وقد امتاز صانعوا الفخار في سامرا وبغداد في ذلك القرن بصنع الفخار اللامع أو لعلهم هم ابتدعوه ابتداعاً. وكانت النقوش التي تحليه ترسم بأكسيد معدني على طبقة من الطين المزجج، ثم يعرض الإناء بعدئذ إلى نار ثانية مدخنة مكتومة تحول الصبغة إلى طبقة معدنية رقيقة، وتكسب الطلاء بريقاً متعدد

(1)

وهي سر من رأى وتسمى أيضاً سراء. (المترجم)

ص: 249

الألوان. وبهذه الطريقة أخرج الصناع أواني ذات لون واحد جميل، وأخرى ذات ألوان متعددة أجمل منها خضراء ذهبية، وبنية داكنة، وصفراء، وحمراء، تتدرج بعضها تدرجاً لا يكاد الإنسان يحسه ولا تقل عن المائة عداً وكذلك طبق هذا الفن نفسه فن الطلاء البراق على قطع القرميد التي كانت تستخدم للزينة في فن العراق القديم، فكانت ألوان هذه المربعات الكثيرة وما تتألف منها من وحدات متناسقة مما أكسب مداخل مئات المساجد ومحاريبها وكثيراً من جدران قصور العظماء روعة منقطعة النظير. وورث المسلمون في صناعة الزجاج-وهو الفن الشديد الاتصال بصناعة الفخار-كل ما امتاز به أهل مصر والشام من حذق وبراعة، فقد لونوا المصابيح بظلال من الألوان البراقة المتعددة، وزينوها بالرصائع والنقوش، ورسوم النبات والأزهار؛ ولعل أهل الشام قد ابتدعوا في ذلك الوقت فن طلاء الزجاج بالميناء، وهو الفن الذي بلغ ذروة مجده في القرن الثالث عشر.

وإذا ما ذكرنا سعة انتشار فني التصوير والنحت في الكنائس الكاثوليكية الكبرى وهي التي لا تكاد تخلو من آثارهِ واحدة منها، وذكرنا في الوقت نفسه أهمية هذين الفنية في نشر العقائد والقصص المسيحية، إذا ما ذكرنا هذا وذاك دهشنا لعدم وجود نظيريهما في الإسلام. نعم إن القرآن قد حرم النحت (سورة المائدة الآية 89) ولكنه لم يقل شيئاً عن التصوير، غير أن حديثاً يعزى إلى عائشة يقول إن النبي قد نهى أيضاً عنه (139). ولهذا فإن الشريعة الإسلامية عند الشيعة وعند أهل السنة على السواء تحريم التصوير وإقامة التماثيل جميعاً. ولهذا التحريم نظير في الوصية الثانية وفي التعاليم اليهودية. ولعل من أسباب هذا التحريم الاعتقاد أن الفنان حين يخرج مثالاً للكائنات الحية إنما يدعي لنفسهِ ما هو حقوق الخالق جل جلاله. ومن علماء الدين من يتساهلون في هذا فيجيزون تصوير الجماد. ومنهم من يتغاضون عن تصوير الحيوان أو الإنسان على

ص: 250

الأشياء التي لا تستعمل إلا في الأغراض الدنيوية. وكان بعض خلفاء بني أمية لا يعبئون قط بهذا التحريم؛ وشاهد ذلك الوليد الأول زين قصره الصيفي في قصير عمرة حوالي عام 712 بمظلمات هلنستية صور فيها رجالاً يطاردون الوحوش. وبنات يرقصن، ونساء يغتسلن، وهو جالس فوق عرشه يشاهد هذا كله (140). وكان خلفاء بني العباس يجهرون بتقواهم، ولكن كانت لهم قصور حوت في حجراتهم الخاصة جدراناً مزينة بالصور؛ وقد استأجر المعتصم فنانين، أغلب الظن أنهم مسيحيون، ليصوروا على جدران قصرهِ في سامرا مناظر صيد. ورجال دين، وبنات عاريات يرقصن؛ وأجاز المتوكل، وهو الذي كان يضطهد الملحدين، المصورين من أهل بيزنطية أن يضيفوا إلى هذه المظلمات مظلماً آخر يمثل رهباناً مسيحيين وكنيسة مسيحية (141).

وزين محمود الغزنوي قصره بصور تمثله هو وجيوشه، وفيلته؛ وغطى ابن مسعود، قبل أن يخلعه الأتراك السلاجقة عن عرشهِ بزمن قليل، جدران حجرات قصره في هراة بمناظر قائمة على أسس مأخوذة من كتب الفن الشهواني الفارسي أو الهندي (142). وتروي إحدى القصص أن اثنين من رجال الفن أخذا يتباريان في بيت أحذ الوزراء في التصوير الواقعي؛ فعرض أحدهما أن يصور فتاة راقصة تبدو كأنها خارجة من باطن الجدار؛ وعرض الثاني أن يقوم بعمل أشق من هذا-وهو أن يصورها بحيث تبدو وهي تهم بدخول الجدار. ونجح كلاهما في إبراز فكرته نجاحاً حمل الوزير على أن يخلع عليهما خلعاً سنية ويهبهما كثيراً من الذهب (143). وفي وسعنا أن نذكر كثيراً من الشواهد الدالة على أن المسلمين قد خالفوا أمر التحريم؛ وحسبنا أن نقول إنا نجد في بلاد الفرس بنوع خاص حيوانات وأناسي مصورة بكثرة يطرب لها الرائي، وممثلة بجميع أنواع فنون التصوير. ولكن التحريم رغم هذا كله، يؤيده الشعب تأييداً وصل من القوة إلى درجة أن كان بعض أفراده يشوهون روائع الفن أو يتلفونها، قد عاق

ص: 251

نمو فن التصوير الإسلامي، حتى اقتصر الكثير منه على التحلية المجردة، وكاد يمنع تصوير الأشخاص (وإن كنا نسمع عن وجود أربعين صورة لابن سينا)، وترك الفنانين يعتمدون كل الاعتماد على مناصرة الملوك أو الأشراف.

ولم يبقَ من صور الجدران في ذلك العصر إلا صور قصير عمرة؛ وهي تكشف عن خليط غريب مجدب من القواعد الفنية البيزنطية والأنماط الساسانية. وكأن المسامين أرادوا أن يعوضوا هذا النقص فارتفعوا بالرسوم الصغرى على العاج ومثله إلى درجة الجمال لا تعلوا عليها درجة أخرى في التاريخ كله. وقد وجد هذا الفن تراثاً متعدد الأنماط بنى عليه، وأخرج منه ثماراً مختلفة، ونعني بذلك التراث البيزنطي، الساساني، والصيني؛ وكان تزيين المخطوطات الإسلامية بالرسوم الصغيرة في العصور الوسطى فناً اختصت به طبقات الأشراف القليلة العدد، شأنه في هذا شأن موسيقى الحجرات في أوربا الحديثة؛ فقد كان الأغنياء وحدهم هم الذين يستطيعون الاحتفاظ بالفنان الفقير المخلص لفنه فقراً وإخلاصاً أنتجا هذه الروائع التي تتطلب كثيراً من الجهد والأناة. وهنا أيضاً أخضع التزيين تمثيل الكائنات الحية لسلطانه؛ فأغفل الفنان عن قصد قواعد المنظور، وخرج على الشكل الذي اتخذ أنموذجاً له، فكان يعمد إلى موضوع أو شكل مركزي-قد يكون شكلاً هندسياً أو زهرة واحدة-ويتبسط فيه ويتوسع ويخلق منه مائة صورة مختلفة حتى لتكاد كل إصبع من الصفحة بما في ذلك إطارها تمتلئ بالخطوط المرسومة بدقة متناهية كأنها قد حفرت حفراً. وكان في وسع الفنان أن يزين الكتب غير الدينية بصور الرجال والنساء والحيوان، في مناظر الصيد واللهو والحب، ولكن طراز التزيين كان هو بعينهِ على الدوام، كان هو الصورة المكونة من خطوط دقيقة، ومن ألوان مؤتلفة منسجمة يفنى بعضها بعض، ومن المجرد الهادئ البالغ أقصى درجات الكمال، والذي يهدف إلى متعة العقل المطمئن المستريح.

ص: 252

وكان الخط العربي الجميل جزءاً لا يتجزأ من فن التنميق؛ ولسنا نجد مثالاً آخر لاجتماع الكتابة والتصوير تآخيهما على هذا النحو إلا في بلاد الصين البعيدة. لقد كانت الحروف الكوفية في موطنها الأول، بلدة الكوفة نفسها، حروفاً سمجة ذات زوايا، وأركان محددة فجة، ولكن الخطاط كسا هذه العظام العجاف بالحركات وعلامات الإمالة والنقط وحروف المد ورسوم صغير متخذة من أوراق النبات؛ فلما ارتقى الخط الكوفي إلى هذه الدرجة من الجمال أصبح كثير الاستعمال في تزيين المباني نفسها. أما الكتابة الدارجة فكان الخط النسخ فيها أكثر جاذبية من الخط الكوفي؛ وكانت حروفه المستديرة وكان امتداد الأفقي المتعرج كان هذان في حد ذاتهم وسيلة للزينة في غنى عن الإضافات الأخرى. وليس في خطوط العالم كله سواء كانت مكتوبة باليد أو مطبوعة ما يضارع هذا الخط في جمالهِ؛ ولم يحل القرن العشرين حتى كانت الغلبة على الخط الكوفي في تزيين المباني أو الخزف، والكثرة الغالبة من الكبت الإسلامية التي وصلت إلينا من العصور الوسطى مكتوبة بخط النسخ؛ ومعظم هذه من المصاحف لأن كتابة القرآن كانت في حد ذاتها من الأعمال الصالحة التي يثاب عليها صاحبها؛ وكان تزيينها بالصور تعد انتهاكاً لحرمتها، ولكن كتابتها بالخط الجميل كانت تعد من أشرف الفنون. وبينما كان رسامو الصور الصغيرة على العاج أو غيره صناعاً يستأجرون بأجر قليل، كان الخطاطون يبحث عنهم في جميع أنحاء البلاد ويغدق عليهم الملوك والأمراء الهدايا والأموال، وكان منهم هم أنفسهم ملوك وساسة. وكانت الرقعة المكتوبة بيد أحد هؤلاء الفانين كنزاً لا يقدر بمال، وكان في البلاد منذ القرن العاشر طائفة من المولعين بجمع الكتب يعيشون ويتحركون ويقضون حياتهم كلها بين ما جمعوه من المخطوطات الجميلة المكتبة على الرق بالمداد الأسود، والأزرق، والبنفسجي، والأحمر، وبالذهب الإبريز. ولم يصل لنا إلا عدد قليل من كتب ذلك العصر، وأقدمها كلها نسخة من القرآن موجودة

ص: 253

في دائرة الكتب المصرية بالقاهرة يرجع تاريخها إلى عام 784. وإذا ذكرنا بعد ذلك أن هذه الكتب كانت تجلد بأعظم أنواع الجلد ليناً ومتانة، وأنه قد بذل في تجليدها من حسن الذوق ومن المهارة ما لا زيادة بعده لمستزيد، وأن الجلد المغلفة به كان في كثير من الأحيان يزدان بأجمل الرسوم وأدقها، إذا ذكرنا هذا حق لنا أن نقول دون أن نتهم بالمغالاة إن الكتب الإسلامية من بداية القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر هي أجمل ما رأته العين من الكتب في العالم كله. وهل منا من لا يطمع في أن تنشر كتبه بهذا الرونق وتلك الفخامة؟

وقد اجتمعت الفنون كلها في تزيين الحياة الإسلامية والسمو بها إلى ذروة الجمال، فامتزجت أشكال الرسوم الدقيقة بالخط الجميل في المنسوجات، وطبعت بالنار على الفخار؛ وأقيمت على مداخل المباني والمحاريب. وإذا كانت حضارة العصور الوسطى لم تفرق بين الصانع الماهر والفنان، فلم يكن ذلك ليحط من شأن الفنان، بل كان يرفع من قدر الصانع الماهر، وكان الهدف الذي تبتغيه كل صناعة أن تصبح فناً من الفنون الجميلة. لقد كان الناسخ يخرج منسوجات عادية يستعملها عامة الناس وتبلى بعد قليل، مثله في هذا كمثل صانع الفخار سواء بسواء؛ ولكنه كان في بعض الأحيان يعبر عن حذقه وصبره، كما يصور أحلامه، في الأثواب، والسجف، والطنافس، وأغطية الفراش، والنسيج المطرز، الحرير المشجر، يخرجه ليبقى عدة أجيال وقد أبدع نقشه، وصبغه بالألوان الزاهية المحبوبة في بلاد الشرق. لقد كانت المنسوجات البيزنطية، والقبطية، والساسانية، والصينية ذائعة الصيت حين فتح المسلمون بلاد الشام، وفارس، ومصر، والتركستان؛ وما اسرع ما تعلم المسلمون صناعات تلك البلاد، فلم يمضِ إلا قليل من الوقت حتى أخرجت المصانع الإسلامية المنسوجات الحريرية التي نهى النبي عن لبسها، وأخرجتها بكثرة، ولبسها النساء والرجال وهم يدعون الله أن يغفر لهم خطاياهم الجسمية والروحية. وكانت حلة الشرف أثمن ما يستطيع الخليفة أن يخلعه على من

ص: 254

يؤدي له خدمة جليلة؛ وسرعان ما أصبح المسلمون كبار تجار الحرير في العالم كله في العصور الوسطى. وكانت أقمشة التفتاه الحريرية تبتاع لملابس السيدات غي أوربا، واشتهرت شيراز بالأقمشة الصوفية، كما اشتهرت بغداد بأقمشة الستائر، والمظلات، والحرير المموج، وخوزستان بالأقمشة المنسوجة من وبر الجمال وشعر الماعز، وخراسان بأغطية الهوادج، وصور بالطنافس، وبخارى بسجاجيد الصلاة، وهراة بالحرير المنقوش بخيوط الذهب. ولقد عدا الدهر على هذا كله فلم يبقَ لنا منه مثال واحد، وكل ما نستطيعه هو أن نتصور ما كانت عليه هذه المنسوجات من الرونق والفخامة بالنظر إلى ما كان منها في القرون التالية، وبدراسة ما وصفها به الكتاب المعاصرون لها. وقد وجدت في المحفوظات الباقية من أيام هرون الرشيد مذكرة جاء فيها "400. 000 قطعة من الذهب ثمن حلة وهبت لجعفر بن يحيى الوزير"(144).

ص: 255

الفصل الثامِن

‌الموسيقى

كانت الموسيقى في أول الأمر محرمة في الإسلام تعدّ من الآثام، شأنها في ذلك شأن النحت (145). نعم إنه لم ينص على تحريمها في القرآن، ولكن حديثاً مشكوكاً في صحتهِ يعزو إلى النبي أنه لخوفهِ من عاقبة أغاني النساء الخليعات ورقصهن قال ما معناه إن الآلة الموسيقية كمؤذن الشيطان يستفز من استطاع إلى عبادته. وكان علماء الدين وأتباع المذاهب الأربعة ينفرون من الموسيقى لأنها تثير الشهوات، ولكن منهم من قال متسامحاً إنها ليست إثماً في ذاتها. أما الناس، وهم أحكم في مسلكهم منهم في عقائدهم، فكان يجري على ألسنتهم مجرى الأمثال أن "الخمر كالجسد والسماع كالروح والسرور ولدهما"(146). وقد رافقت الموسيقى كل مرحلة من مراحل الحياة الإسلامية وملأت آلاف الليالي العربية بأغاني الحب والحرب والموت؛ فكانت قصور الأمراء وكثير من بيوت العظماء تستخدم المغنين ليطربوا أهلها بقصائد الشعراء أو بقصائدهم هم أنفسهم، وفي ذلك يقول مؤرخ قدير صائب الحكم على هذه الأمور قولاً خليقاً بأن يثير الدهشة: إن المنزلة التي بلغتها الموسيقى بجميع فروعها عند العرب لتزري بمنزلة هذا الفن في تاريخ أي بلد آخر (147) ". نعم إن الأذن الغربية لا تستطيع بغير مران طويل أن تقدر خصائص الموسيقى العربية-ونعني بتلك الخصائص تفضيلها حسن الإيقاع على انسجام الألحان، وتقسيم النغمات إلى أثلاث لا إلى أنصاف، وما في تكوينها وتوقيعها من نظارة وبهجة هي من مميزات بلاد الشرق. وقد تبدو لنا نحن الغربيين تكراراً بسيطاً، محزناً مملاً، غريباً مستهجناً غير منتظم. لكن الموسيقى الأوربية نفسها تبدو للعربي ناقصة في عدد نغماتها،

ص: 256

وفي دقة هذه النغمات؛ مولعة إلى حد الإسفاف بالتعقيد الذي لا خير فيهِ، وبالأصوات الناشزة الشديدة الارتفاع. وإن ما في الموسيقى العربي من رقة تبعث على التفكير لتؤثر في نفس المسلم أعمق التأثير. ويحدثنا السعدي عن غلام يغني بنغمة محزنة مؤثرة تستوقف الطائر في كبد السماء (148). ويصف الغزالي النشوة بأنها الحالة التي يبعثها الاستماع إلى الموسيقى (149). وقد أفرد أحد المؤلفين العرب فصلاً في كتابهِ للحديث عن الذين فقدوا وعيهم أو ماتوا وهم يستمعون إلى الموسيقى الإسلامية، وقد استعان بها الدراويش في أذكارهم وشعائرهم وإن كان الدين نفسه قد ندد بها في أول الأمر.

وبدأت الموسيقى الإسلامية بالألحان والأشكال الساميَّة القديمة، ثم تطورت على ضوء صلاتها بالتقاسيم اليونانية الآسيوية النشأة وتأثرت تأثراً قوياً بالموسيقى الفارسية والهندية. وقد أخذت إحدى العلامات وكثير من القواعد الموسيقية عن اليونان؛ وللكندي، وابن سينا، وإخوان الصفا، كتابات مطولة في هذا الموضوع؛ وكتاب الفارابي في الموسيقى أشهر ما ألف في العصور الوسطى في النظريات الموسيقية وهو يضارع أي كتاب وصل إلينا من المصادر اليونانية إن لم يفقه (150). وقد وضع المسلمون منذ القرن السابع السلم الموسيقي (ويبدو أن ذلك لم يكن معروفاً في أوربا قبل عام 1190)(151) -وكانت علاماتهم تدل على طول الزمن الذي تمتد إليه كل نغمة وعلى مقاماتها (152).

وكان عند العرب آلات موسيقية تبلغ المائة عدّ أشهرها العود، والقيثارة، والبندور، والسنطير، والناي، ويقويها في بعض الأحيان البوق، والدف، والصنج، والرق، والطبل. وكان العود على أنواع وأحجام كثيرة لا تقل عن الأثني عشر؛ وكان الكبير منها يسمى القيثارة. وعن العرب أخذت كلمتا Iute، Guilar. وكان القوس يستعمل للعزف على بعض الآلات الوترية، وكان الأرغن بنوعيهِ الهوائي والمائي معروفاً عند العرب؛ وقد اشتهرت

ص: 257

بعض المدن الإسلامية كإشبيلية بصنع الآلات الموسيقية الدقيقة التي لا تضارعها آلات أخرى مما كان يصنع وقتئذ في بلاد الإسلام (152). وكان يقصد بالموسيقى الآلية كلها تقريباً أن تصحب الغناء أو أن تكون مقدمة له. وكان يقتصر في العادة على استخدام أربع آلات أو خمس في وقت واحد، ولكننا نقرأ أيضاً عن فِرَق موسيقية كبيرة العدد (153)، وتقول إحدى الروايات المتواترة إن سريج الموسيقى من أهل المدينة أول من استعمل القضيب (154).

وكانت منزلة الموسيقيين عند المسلمين منحطة إذا استثنينا مشهوري الفنانين وذلك على الرغم من ولع المسلمين بهذا الفن ولعاً يبلغ حد الجنون. وشاهد ذلك أننا قلما نرى من أفراد الطبقات العليا من نزل من عليائهِ فدرس هذا الفن الفاتن الذي يسلب العقول. ومن أجل هذا كانت الموسيقى في بيوت الأغنياء من عمل القيان، ومن المشرعين فئة تقول إن شهادة الموسيقى لا تقبل في المحكمة (155). وكذلك كان الرقص عنهم يقتصر على الجواري يدربن عليه ويستأجرون له؛ وكان في كثير من الأحيان رقصاً شهوانياً، وفي كثير منها فنياً. وقد أقام الخليفة الأمين حفلة راقصة دامت طوال الليل رقص فيها عدد كبير من الفتيات وغنّين. ولما اتصل العرب باليونان والفرس ارتفعت منزلة الموسيقيين عندهم، وكان الخلفاء الأمويون والعباسيون يغدقون الهبات على كبار الموسيقيين في أيامهم؛ فها هو ذا سليمان بن عبد الملك يعرض جوائز تبلغ عشرين ألف قطعة من الفضة (10. 000 دولار أمريكي) لمباراة بين الموسيقيين في مكة. وهاهو ذا الوليد الثاني يعقد مباريات في الغناء كانت الجائزة الأولى في واحدة منها 300. 000 قطعة من الفضة (150. 000 دولار أمريكي) (156)، وربما كانت هذه الأرقام مبالغاً فيها كعادة أهل الشرق. وقد دعا المهدي إلى بلاطهِ مغنياً مشهوراً من أهل مكة، ودعا هرون الرشيد إلى بلاطهِ إبراهيم الموصلي وأعطاه 150. 000 درهم (75. 000 دولار أمريكي) ورتب له عشرة آلاف شهر ووهبه 100. 000 نظير أغنية واحدة. وقد بلغ من حب هرون للموسيقى أن شجع تلك الموهبة في

ص: 258

أخيهِ لأبيهِ، الشاب إبراهيم ابن المهدي-على الرغم من تقاليد طبقته-لأن إبراهيم كان له صوت غاية في القوة يبلغ مداه ثمان طبقات. وإن الزمن ليتضاءل في خيالنا وتضيق دائرته إلى أقصى حد عندما نسمع أنه قام بحركة ابتداعية في الموسيقى العربية مضادة للنزعة الإتباعية نزعة إسحق بن إبراهيم الموصلي. وكان المأمون يقول عنه أنه لم يغنّ لي قط إلا شعرت بأني قد اتسع ملكي (159).

والقصة الآتية التي يرويها مخارق تلميذ إبراهيم الموصلي تصور لنا المجتمع الإسلامي بصورة مبهجة، وتظهر ما كان للموسيقى الإسلامية من أثر قوي في نفس المسلم؛ ولسنا في حاجة إلى تصديقها لكي نحس بمغزاها، قال:

تطفلت تطفيلة قامت على أمير المؤمنين المعتصم بمائة ألف درهم، فقيل له كيف ذلك؟ قال: شربت معه ليلة إلى الصبح، فلما أصبحنا قلت له: يا سيدي إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي فأخرج الرصافة فأتنسم إلى وقت انتباه أمير المؤمنين قال نعم، وأمر البوابين أن يتركوني؛ فخرجت أتمشى فإذا بجارية كأن الشمس تشرق من وجهها فتبعتها، ورأيت معها زنبيلاً فوقفت على صاحب فاكهة فاشترت منه سفرجلة بدرهم، ورمانة بدرهم وكمثراية بدرهم وانصرفت. فتبعتها، فالتفتت فرأتني فقالت يا ابن الفاعلة إلى أين تريد؟ قلت خلفك يا سيدتي؛ فقالت ارجع يا ابن الزانية لئلا يراك أحد فيقتلك. فتأخرتُ ومشيتُ من بعيد وهي تمشي أمامي، ثم التفتت فرأتني فشتمتني شتماً قبيحاً. ثم جاءت إلى باب كبير فدخلتْ فيه وجلستُ أنا بحذاء الباب، وقد ذهب عقلي، ونزلت عليّ الشمس، وكان يوماً حاراً، فما لبثت أن جاء فَتَيان كأنهما بدران على حمارين؛ فلما وصلا إلى الباب استأذنا فأذن لهما، فدخلا، ودخلتُ معهما، فظنا أن صاحب المنزل قد دعاني. وجيء بالأكل فأكلنا وغسلنا أيدينا، ثم قال لنا صاحب المنزل: هل لكما في فلانة؟ قالوا: إن تفضلت. فاستدعى تلك الجارية، فخرجت صاحبتي ووراءها وصيفة تحمل عودها، فوضعته في حجرها وغنت، فشربوا وطربوا، فقالوا: لمن هذا الصوت؟ فقالت: لسيدي مخارق. ثم غنت صوتاً آخر فشربوا

ص: 259

وطربوا وهي تلحظني وتشكّ فيَّ، فقالوا: لمن هذا الصوت؟ فقالت: لسيدي مخارق. ثم غنت صوتاً ثالثاً فطربوا وشربوا، فقالوا لمن هذا الصوت؟ فقالت: لسيدي مخارق. فلم ألبث أن قلتُ: يا جارية شدي يدك فشدت أوتارها وخرجت عن إيقاعها الذي تقول عليه. فاستدعيتُ بدواة وقضيب وغنيتُ الصوت الذي غنته الجارية أولاً، فقاموا إليَّ وقبلوا رأسي. (قال الراوي) وكان مخارق أحسن الناس صوتاً وكان يوقع بالقضيب توقيعاً عجيباً. ثم غنيتُ الصوت الثاني والثالث فكادت عقولهم تطير. فقالوا بالله من أنتَ يا سيدي؟ فقلتُ: أنا مخارق. فقالوا ما سبب مجيئك؟ قلت: طفيلي أصلحكم الله، وأخبرتهم بخبري، فقال صاحب البيت لصديقيهِ: أما تعلمان أني أعطيت في الجارية ثلاثين ألف درهم فامتنعت عن بيعها؟ قالا: بلى. قال: هي له. قال صديقاه: علينا عشرون ألف درهم وعليكَ عشرة آلاف. قال مخارق فملكوني الجارية وجلستُ عندهم إلى العصر وانصرفتُ بها (وبغيرها من الأثواب الغالية والهدايا الأخرى الثمينة التي أهدوها إليَّ)، وكلما مرت بالمواضع التي شتمتني فيها أقول لها: يا مولاتي: أعيدي كلامك؛ فتستحي مني فأحلف عليها لتعيدنه فتعيده حتى وصلنا إلى باب أمير المؤمنين (فقيل لي إنه انتبه وطلبك في منازل أبناء القواد فلم يجدكَ وتغيظ عليكَ غيظاً شديداً)، فدخلتُ عليهِ ويدي في يدها فلما رآني سبَّني وشتمني، فقلتُ: يا أمير المؤمنين: لا تعجل. وحدثته القصة فضحك وقال: نحن نكافئهم عنك. فأحضَرَهم وأمرَ لكل واحد منهم بثلاثين ألف درهم ولي بعشرة آلاف

(1)

.

(1)

نقل المؤلف هذه القصة من كتاب Arabian Society in the Middle Ages " المجتمع العربي في العصور الوسطى" تأليف إدوارد لين Edward lane ونقلها لين عن كتاب حلبة الكميت. ونقلناها نحن عن الكتاب الأخير وهي مطابقة في جملتها لما ورد في كتاب لين عدا الجزأين المحصورين بين أقواس فالجزء الأول غير موجود في حلبة كميت، والجزء الثاني غير موجود في الأصل الإنجليزي؛ ولعل مؤلفنا أو لعل لين نفسه قد حذفه. وهناك اختلاف آخر فيما كافأ به الخليفة صاحب الجارية وصديقيه فمؤلفنا يقول إن أمير المؤمنين أعطى صاحب الجارية أربعين ألف درهم، وكل واحد من صديقيهِ ثلاثين ألفاً، ومخارقاً مائة ألف، أما صاحب حلبة الكميت فيقول إنه أمر لسيد الجارية ولكل واحد من صاحبهِ بثلاثين ألف درهم، ولمخارق بعشرة آلاف، وهذا يتفق مع ما جاء في أول القصة الذي لم ينقله المؤلف. (المترجم)

ص: 260

الباب الثالث عشر

‌الإسلام في الغرب

641 -

1086

الفصل الأوَّل

‌فتح إفريقية

لم يكن الشرق الأدنى إلا جزءاً من العالم الإسلامي، وقد استعادت مصر تحت حكم المسلمين مجدها الفرعوني؛ كما استعادت تونس ومراكش بزعامة العرب ما كان لهما من حكومة منظمة؛ وازدهرت مدائن القيروان وبالرم وفاس إلى حين. أما أسبانيا في عهد العرب فقد وصلت إلى الذروة في تاريخ الحضارة؛ ولما حكم المُغُل المسلمون بلاد الهند فيما بعد شادوا كما يشيد الجبابرة، وأبدعوا كما يبدع الصياغ.

وبينما كان خالد بن الوليد وغيره من الفاتحين يخضعون بلاد الشرق زحف عمرو بن العاص، بعد موت النبي بما لا يزيد على سبع سنين؛ من مدينة غزة في فلسطين واستولى على بلوز

(1)

، ومنفيس، ثم زحف على الإسكندرية. لقد كان لمصر مرافئ وقواعد بحرية، وكان العرب في حاجة ماسة إلى أسطول؛ وكانت مصر تصدر الحبوب إلى القسطنطينية، وكانت بلاد العرب في حاجة إلى الحبوب، وكانت الحكومة البيزنطية منذ قرون طوال تستخدم العرب في شرطتها، ولم يكن هؤلاء ممن يعوقون زحف الفاتحين؛ وكان المسيحيون اليعاقبة في مصر قد قاسوا

(1)

أوبلزيوم ويسميها العرب الفرما. (المترجم)

ص: 261

الأمرَّين من جراء اضطهاد بيزنطية؛ ولهذا رحب بقدوم المسلمين، وأعانوهم على استيلاء منفيس، وأرشدوهم إلى الإسكندرية

(1)

، ولما سقطت تلك المدينة في يد عمر وبعد حصار دام ثلاثة عشر شهراً (641) كتب إلى الخليفة عمر ابن الخطاب يقول:"أما بعد، فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف قصر وأربعة آلاف حمام وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية وأربعمائة ملهى للملوك"

(2)

.

وحال عمرو بين العرب وبين نهب المدينة وفضل أن يفرض عليها الجزية. ولم يكن في وسعهِ أن يدرك أسباب الخلافات الدينية بين المذاهب المسيحية المختلفة، ولذلك منع أعوانه اليعاقبة أن ينتقموا من خصومهم الملكانيين، وخالف ما جرت عليه عادة الفاتحين من أقدم الأزمنة فأعلن حرية العبادة لجميع أهل المدينة.

وبعد، فهل أحرق عمرو مكتبة الإسكندرية؟ لقد وردت هذه القصة أول ما وردت في كتاب عبد اللطيف (1162 - 1231)، أحد العلماء المسلمين (2)؛ ثم أوردها بتفصيل أوفى بار هبريوس Bar Hebraeus (1226 - 1286) وهو مسيحي يهودي الأصل من شرقي بلاد الشام كتب باللغة العربية، باسم أبي الفرج، مختصراً لتاريخ العالم. وقد جاء في روايته لهذه القصة أن رجلاً من أهل الإسكندرية يسميه العرب حنا الأجرومي (واسمه عند الغربيين John Philoponus) طلب إلى عمرو أن يعطيه ما في المكتبة من مخطوطات؛

(1)

ليست هذه الرواية من الروايات الموثوق بها، ويذكر الدكتور بطلر في كتابهِ فتح العرب لمصر مصدر هذه الرواية ويورد الأدلة التي تنقصها.

(2)

في الأصل الإنجليزي أربعمائة حمام ولكن حتى نقلاً عن ابن الحكم والدكتور بطلر يذكر أنها أربعة آلاف حمام، وقد تكون أربعمائة أقرب إلى العقل. (المترجم)

ص: 262

فكتب عمرو إلى الخليفة عمر يستأذنه في هذا؛ فرد عليه عمر، كما تقول الرواية، بقولهِ:"أما ما ذكرت من أمر الكتب فإذا كان ما جاء بها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا بهِ، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيه واحرقها". وتختصر الأسطورة هذا الرد الأسطوري في أغلب الظن إلى هذا الجواب القصير: "احرقها لأن ما فيها كله يحتويه كتاب واحد هو القرآن". ويضيف بار هبريوس أن عمراً أمر بالكتب فوزعت على حمامات المدينة البالغ عددها أربعة آلاف حمام لتوقد بها، فما زالوا يوقدون بملفات البردي والرق ستة أشهر (642). ومن نقط الضعف في هذه القصة:(1) أن جزءاً كبيراً من هذه المكتبة قد أحرقه المسيحيون المتحمسون في عهد البطريق توفيلس عام 392 (3)، (2) وأن ما بقي فيها قد تعرض لإهمال المهملين وعداء الأعداء تعرضاً "أدى إلى ضياع معظمه قبل عام 642"(4)، (3) وأن أحداً من المؤرخين المسيحيين لم يشر بكلمة إلى هذا الحديث المزعوم في الخمسمائة العام الواقعة بين حدوثه وبين ذكره لأول مرة، مع أن أحد هؤلاء المؤرخين وهو أوتكيوس Eutychius كبير أساقفة الإسكندرية في عام 933

(1)

وقد وصف فتح العرب للإسكندرية بتطويل كبير (5). ولهذا فإن معظم المؤرخين يرفضون هذه القصة ويرون أنها من الخرافات الباطلة. هذا ولقد كان ضياع مكتبة الإسكندرية شيئاً فشيئاً من المآسي الكبرى في تاريخ العالم؛ وذلك بأنها، كما يعتقد العلماء، كانت تحتوي على مجموعة كاملة مما نشر من كتب إسكلس، وسفكل، وبولبيوس، وليفي، وتاستوس، ومائة آخرين من المؤلفين الذين وصلت إلينا كتبهم مختلطة مهوشة، كما كانت تحتوي على نصوص الكاملة لمن جاء قبل سقراط من الفلاسفة، وهي النصوص التي لم يبقَ منها إلا جذاذات متفرقة، وعلى آلاف من المجلدات في تاريخ اليونان، والمصريين،

(1)

ولقد أورد الدكتور بطار في كتابهِ "فتح العرب لمصر" المترجم إلى اللغة العربية من الأدلة القاطعة ما يفند هذه القصة. (المترجم)

ص: 263

والرومان، وفي العلوم الطبيعية، والآداب والفلسفة.

وحكم عمر مصر حكماً صالحاً؛ وخصص جزءاً من الضرائب الباهظة

(1)

لتطهير قنوات الري وترميم الجسور، وإعادة فتح الخليج الذي كان يوصل النيل بالبحر الأحمر، والذي يبلغ طوله ثمانين ميلاً. وبذلك استطاعت السفن وقتئذ أن تصل من البحر المتوسط إلى المحيط الهندي (6)(وقد طمر هذا الخليج مرة أخرى في عام 732 وأهمل شأنه). وأنشأ عمرو عاصمة جديدة لمصر في الموضع الذي أقام فيه معسكر عام 641 وسميت العاصمة الجديدة بالفسطاط، وهي كما يبدو الكلمة المرادفة لخيمة. وكانت هذه المدينة بداية مدينة القاهرة الحاضرة؛ وقد ظلت قرنين كاملين (641 - 868) مقر الولاة المسلمين يحكمون منه مصر نيابة عن خلفاء دمشق أو بغداد.

وبعد فإن من الحقائق المقررة أم كل فتح يخلق حدوداً جديدة تتعرض للخطر فتوحي بفتح جديد. وأراد المسلمون أن يحكموا مصر الإسلامية من هجوم على جناحها الغربي من قيرين البيزنطية فزحفوا بجيش تبلغ عدته أربعين ألف مقاتل مخترقين الصحراء إلى برقة، واستولوا عليها، ووصلوا قرب قرطاجة. وغرس قائد المسلمين رمحه في الرمل جنوبي مدينة تونس الحالية بنحو ثمانين ميلاً، وأقام في هذه النقطة معسكره، وأنشأ بذلك (670) مدينة من أكبر المدائن الإسلامية وهي مدينة القيروان- "المحطة"

(2)

. ونسي البربر إلى حين حقدهم على الروم فانظموا إليهم في الدفاع عن المدينة، فظلت تقاوم المسلمين ولم تخضع إليهم إلا في عام 698. ولم يلبث

(1)

ولعل المؤلف يقصد الضرائب التي كانت باهظة في أيام الرومان لأن المعروف أن عمراً خفف الضرائب ووزعها توزيعاً عادلاً. (المترجم)

(2)

الذي في قاموس الفيروز آبادي أن القيروان القافلة. (المترجم)

ص: 264

شمال إفريقية أن خضع للمسلمين حتى شاطئ المحيط الأطلنطي. واقتنع البربر- بشروطهم هم أنفسهم تقريباً- بقبول حكم المسلمين، ولم يلبثوا أن اعتنقوا الدين الإسلامي، وقسمت أملاك المسلمين في إفريقية إدارياً إلى ثلاث ولايات: ومص وعاصمتها الفسطاط، وإفريقية وعاصمتها القيروان، والمغرب (مراكش) وعاصمتها فاس.

وظلت هذه الولايات نفسها قرناً من الزمان تعترف بالسيادة لخلفاء المشرق؛ ولكن انتقال مقر الخلافة إلى بغداد زاد من صعاب الاتصال والنقل، فأخذت الولايات الإفريقية تتحول واحدة بعد الأخرى إلى ممالك مستقلة. فقامت أسرة الأدارسة في فاس (974)، وأسرة بني الأغلب (800 - 909) تحكم القيروان، وقامت الأسرة الطولونية (869 - 905) في مصر. ولم تعد مصر-نهباً للحكام الأجانب، ودخلت في نهضة صغرى جديدة. وفتح أحمد بن طولون عام (869 - 884) بلاد الشام وضمها إلى مصر، وبنى له عاصمة جديدة تدعى القطائع (ضاحية من ضواحي الفسطاط) وشجع العلوم والفنون، وشاد القصور، والحمامات العامة، وأنشأ بيمارستاناً، ومسجداً عظيماً لا يزال حتى اليوم ناطقاً بفضلهِ: وقلب ابنه خماريه (884 - 895) هذا النشاط إلى ترف، ورصع جدران قصره بالذهب، وفرض على شعب مصر الضرائب الباهظة لينشئ لنفسهِ بركة من الزئبق ليتأرجح بلطف على فراشهِ المصنوع من الجلد المنفوخ حتى يغلبه النوم. وخَلَفت الأسرة الطولونية بعد أن حكمت أربعين عاماً أسرة تركية أنشأها الإخشيد (935 - 969). ولم تكن لهذه المماليك الإفريقية جذور تمتد إلى دماء الشعب أو تقاليده، ولهذا كان لا بد لها أن تقيم حكمها على القوة والزعامة الحربيتين، فلما أضعفت الثروة حماستها العسكرية ذابت قوّتها واختفت من الوجود.

وأيدت أعظم الأسر الحاكمة الإفريقية سيادتها الحربية بعقيدة دينية تكاد

ص: 265

تبلغ درجة التعصب؛ ذلك أن أبا عبد الله قام في بلاد تونس عام 905 وأخذ يدعو إلى المذهب الشيعي وإلى عقيدة الأئمة السبعة، ويبشر بقرب ظهور المهدي؛ وقد بلغ من قوة أتباعه البربر أن استطاع إزالة حكم الأغالبة من القيروان. وكان قد أعد العدة لتحقيق ما أثاره في أتباعهِ من آمال مرتقبة فاستدعى من بلاد العرب عبيد الله بن محمد، وزعم أنه حفيد عبد الله إمام الإسماعيلية، وأعلن أنه المهدي المنتظر، ونادى به ملكاً (909)، وما لبث هذا الداعية أن قُتِل بأمر مليكه. وقال عبيد الله إن نسبه يمتد إلى السيدة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وسمى أسرته بالأسرة الفاطمية نسبة لها.

واستعاد شمال إفريقية تحت حكم الأغالبة والفاطميين ما عرفه من رخاء في أيام مجد قرطاجنة تحت حكم الرومان. ذلك أن الفاتحين المسلمين في عنفوان شبابهم في القرن التاسع أنشئوا ثلاث طرق كبرى يتراوح طولها بين 1500 و 2000 ميل تخترق الصحراء الكبرى إلى بحيرة شاد وتمبكتو، كما أنشئوا من الثغور في الشمال والغرب بونة، ووهران، وسبتة، وطنجة؛ وقامت تجارة عظيمة مربحة ربطت بلاد السودان بالبحر المتوسط، وبلاد الإسلام الشرقية بمراكش والأندلس، ونقل المهاجرون الأسبان إلى مراكش الصناعات الجلدية؛ وأضحت مدينة فاس مركزاً لتبادل التجارة مع أسبانيا، واشتهرت بأصباغها وعطروها، وطرابيشها الحمر والمغربية.

وانتزع الفاطميون في عام 969 مصر من بني الإخشيد، وما لبثوا أن بسطوا حكمهم على بلاد العرب والشام. ونقل المعز الخليفة الفاطمي عاصمة ملكه إلى القاهرة؛ وكانت امتداداً للقطائع في جهة الشمال الشرقي كما كانت القطائع نفسها امتداداً للفسطاط في هذا الاتجاه. وحذا المعز حذو أسلافه فشرع بغزو البلاد ويفتح الأمصار. وفي عهد المعز (943 - 975) وابنه العزيز (975 - 996) أعاد يعقوب بن كلس-وهو يهودي من بغداد اعتنق الإسلام- تنظيم الإدارة

ص: 266

المصرية، وجعل الفاطميين أغنى حكام زمانهم. ويشهد بذلك أنه حين توفيت رشيدة أخت المعز خلفت وراءها 2. 700. 000 دينار (12. 825. 000 دولار أمريكي)، و 12. 000 ألف ثوب؛ ولما ماتت أخته عبدة تركت ثلاثة آلاف مزهرية فضية، وأربعمائة سيف ذات نقوش دمشقية ذهبية، وثلاثين ألف قطعة من المنسوجات الصقلية، ومقداراً ضخماً من الجواهر (7). ولكن لا شيء يسقط كالنجاح، وآية ذلك أن الحاكم الخليفة التالي (996 - 1021) جن من فرط الثراء والسلطان، فدبر اغتيال عدد كبير من الوزراء، واضطهد المسيحيين واليهود، وأحرق كثيراً من الكنائس والمعابد، وأمر بهدم كنيسة بيت المقدس التي فيها قبر المسيح، وكان تنفيذ هذا الأمر من أسباب قيام الحروب الصليبية. وكأنما أراد الحاكم أن يعيد سيرة الإمبراطور كلجيولا، فنادى بنفسهِ إلهاً، وأرسل البعوث لنشر هذه العقيدة بين الناس، فلما أم قتل بعض هؤلاء الرسل عاد هو إلى حب المسيحيين واليهود، وأعاد بناء كنائسهم ومعابدهم. واغتيل الحاكم في سن السادسة والثلاثين.

وعم الرخاء مصر رغم ما كان يخص به الخلفاء أنفسهم من امتيازات واسعة لأنها كانت حلقة الاتصال التجاري بين أوربا وآسية، وازدادت عدد السفن التي ينقل عليها تجار الهند والصين بضائعهم من تلك البلاد مارة بالخليج الفارسي، والبحر الأحمر، والنيل إلى مصر. واضمحلت ثروة بغداد، وضعفت قوتها بينما زاد سلطان القاهرة وثراؤها وقد زار ناصري خسرو العاصمة الجديدة في عام 1047 وجاء في وصفه لها أن بها عشرين ألف بيت، معظمها من الآجر ترتفع إلى خمس طبقات أو ست، وعشرين ألف متجر مملوءة بالذهب، والجواهر، والأقمشة المطرزة، والحرير إلى درجة لا يجد الإنسان فيها مكاناً يجلس (8) فيهِ. وكانت الشوارع الكبرى مظللة من وهج الشمس وتضيؤها المصابيح بالليل. وكانت الحكومة تحدد الأثمان، وتقبض على من يبيع بأغلى منها، ويطاف به في شوارع المدينة على جمل، وهو يدق بيدهِ ناقوساً ويعلن بنفسهِ جرمه (9). وكان ذوو

ص: 267

الثروات الضخمة كثيري العدد؛ وقد استطاع أحد التجار، وهو مسيحي، أن يطعم السكان كلهم من مالهِ الخاص مدة خمس سنين أصيبت فيها البلاد بالقحط بسبب انخفاض فيضان النيل؛ وترك يعقوب بن كلس وراءه ضياعاً تقدر قيمتها بما يوازي ثلاثين مليون دولار أمريكي (10). واشترك هؤلاء الأثرياء مع الخلفاء الفاطميين في بناء المساجد، وإنشاء دور الكتب، والمدارس الكبرى، وتشجيع العلوم والفنون. وكان حكم الفاطميين بوجه عام حكماً صالحاً خيّراً طابعه الحرية والتسامح على الرغم مما كان يشينه أحياناً من قساوات، ومن ترف وإتلاف، وبالرغم من الاستغلال المعتاد للعمال، ومن العدد المطلوب من الحروب؛ وكان يضارع في رخائه وثقافته أي عهد آخر في تاريخ مصر (11).

وأخذ حكم الفاطميين في الضعف أيام المستنصر (1036 - 1094)، وهو ابن أمة سودانية. وقد أقام هذا الخليفة سرادقاً فخماً

(1)

يقضي فيه أوقات ممتعة، وعاش عيشة الموسيقى، والخمر، واللذة؛ وكان يقول إن تلك الحياة خير لديه من التحديق في حجر أسود، والاستماع إلى صوت المؤذن الممل، وشرب الماء العكر (من بئر زمزم في مكة)(12). وثار عليه جنوده الأتراك في عام 1067، وأغاروا على قصرهِ، ونهبوا منه كنوزاً فنية لا تقدر بثمن، ومقداراً عظيماً من الجواهر، وحمل خمسة وعشرين بعيراً من المخطوطات اتخذ الضباط الأتراك بعضها وقوداً لتدفئة بيوتهم، كما اتخذوا جلودها المصنوعة من الجلد الرقيق البديع لإصلاح نعال جواريهم. ولما توفي المستنصر تمزقت أوصال الدولة الفاطمية، وانقسم جيشها الذي كان من قبل قوياً إلى شيع متنازعة من البربر، وسودانيين، وأتراك؛ وكانت إفريقية ومراكش قد انفصلتا عنها، وثارت عليها فلسطين، وضاعت منها بلاد الشام. ولما أن خلع صلاح الدين آخر الخلفاء الفاطميين في عام 1171، كانت أسرة أخرى من الأسر التي حكمت مصر قد ساقها السلطان والانغماس في الملذات إلى ما ساق إليه سابقاتها من الضعف والفناء.

(1)

على شكل الكعبة.

ص: 268

الفصل الثاني

‌الحضارة الإسلامية في إفريقية

كان الأمراء والخلفاء في القاهرة، والقيروان، وفاس، ينافس بعضهم بعضاً في إقامة المباني، وتشجيع التصوير، والموسيقى، والشعر، والفلسفة؛ ولكن كل ما بقي من المخطوطات من ذلك الوقت في شمالي إفريقية مخبوء الآن في دور الكتب التي لم يبدأ علماء الغرب في ارتيادها إلا منذ وقت قريب

(1)

. وقد اندثرت معظم آيات الفن ولم يبقَ ما يشهد على عظمة ذلك العصر وروحه إلا المساجد وحدها. ففي القيروان مسجد سيدي عقبة الذي أنشئ أولاً في عام 670 وجدد بناؤه سبع مرات، والذي يرجع الجزء الأكبر منه إلى عام 838. وتعتمد أروقته ذات العقود المستديرة على مئات من العمد الكورنثية المأخوذة من خرائب قرطاجة، ومِنبره آية رائعة من آيات النحت الخشبي، ومحرابه من الرخام السماقي والقاشاني؛ ومئذنته المربعة الضخمة- وهي أقدم مئذنة في العالم (13) - أصبحت هي الطراز السوري الذي أقيمت على مثالهِ مآذن الغرب. وبفضل هذا المسجد أصبحت القيروان رابعة المدن الإسلامية المقدسة "أبواب الجنة الأربعة" ولا تقل مساجد فاس، ومراكش، وتونس، وطرابلس عنها في الروعة والفخامة إلا قليلاً.

وكانت المساجد في القاهرة ضخمة كثيرة العدد؛ ولا تزال هذه الحاضرة الفاتنة تزدان بنحو ثلاثمائة من هذه المساجد. ومن أشهرها مسجد عمرو بن العاص وقد بدئ بإنشائهِ في عام 641، وأعيد بناؤه في القرن العاشر، ولم يبقَ من

(1)

وقد شرعت جامعة الدول العربية في البحث عن هذه المخطوطات في هذه البلاد وفي غيرها من بلدان آسية وأوربا وتصويرها. (المترجم)

ص: 269

أجزائه الأولى في هذه الأيام إلا عمده الكورنثية التي أنقذها العرب بحكمتهم من الخرائب الرومانية والبيزنطية. ولا يزال مسجد ابن طولون محتفظاً بشكلهِ الأصلي ونقوشهِ الأولى، ويحيط بصحنهِ الواسع سور ذو شرفات، وفي داخلهِ عقود مستدقة (غير مستديرة) هي أقدم ما يوجد من نوعها في مصر، إذا استثنينا عقد مقياس النيل بالروضة (865) - وهو بناء مقام على جزيرة الروضة بالقاهرة يقاس به ارتفاع ماء النهر. وربما كان هذا الطراز الرشيق من العقود قد اتنقل من مصر إلى أوربا القوطية عن طريق صقلية والنورمان (14). وفي مئذنة المسجد (ذات السلم الخارجي) والشبيهة بصروح الزجروات البابلية، وفي القبة المقامة فوق قبر ابن طولون، عقود على شكل حذاء الفرس، وهي إحدى المظاهر الإسلامية التي لا ترتاح إليها العين كما ترتاح إلى غيرها من مظاهر الفن الإسلامي. ويروى أن أحمد بن طولون أراد أن يرفع العقود على ثلاثمائة عمود، فلما علم أن هذه العمد لا يمكن الحصول عليها إلا إذا انتزعت من العمائر الرومانية والمسيحية، قرر أن يقيم هذه العقود بدلاً من هذا على عمد ضخمة من الآجر (15)، وربما كان هذا الطراز من العمد قد أوحى هو الآخر بعنصر من عناصر الطراز القوطي. وآخر ما نذكره من خصائص هذا المسجد أن بعض نوافذه قد ملئت بالزجاج الملون، وبعضها بالشبابيك الجصية

(1)

على شكل ورود أو نجوم أو غيرها من الأشكال الهندسية، وهذه الأشكال ترجع إلى تاريخ غير معروف على وجه التحقيق.

وفي 970 - 972 أنشأ الجامع الأزهر جوهر الصقلي-وهو عبد مسيحي اعتنق الإسلام وكان القائد الذي فتح مصر للفاطميين. ولا تزال بعض الأجزاء الأصلية من هذا المسجد في مكانها؛ وفيه أيضاً نجد العقود المستدقة على 380 عموداً من الرخام، والجرانيت، والرخام السماقي. وقد شيد جامع الحاكم بأمر الله

(1)

ذات شبكة من الأصابع المصنوعة من الجص. (المترجم)

ص: 270

من الحجر، ولا يزال معظمه باقياً وإن لم تكن تقام فيه الصلاة الآن. وفي وسعنا أن نتصور ما كان عليه ن عظمة في العصور الوسطى بالنظر إلى نقوشه العربية الطراز، الرشيقة، المصنوعة من الجص، ومن الكتابات الكوفية الجميلة التي يزدان بها إفريزه. وقد كانت هذه المساجد، التي تبدو الآن معاقل أشبه بالقلاع-وما من شك في أنها صممت لتكون قلاعاً أيضاً-تزدان بكثير من روائع النحت، والكتابات، والفسيفساء، والمحاريب المطعمة، والقناديل التي أضحت الآن تحفاً نادرة في المتاحف. وكان بمسجد ابن طولون وحده 18. 000 قنديل كثير منها من الزجاج المطلي بالميناء المختلف الألوان (16).

وكانت الفنون الصغرى شائعة في إفريقية الإسلامية، يمارسها المسلمون بما عرف عنهم من الصبر والدقة. فالقاشاني البراق يشاهد في جامع القيروان، وقد وصف ناصري خسرو (1050) الخزف الذي كان يصنع في القاهرة بأنه رقيق بلغ من شفيفه أن اليد وضعت في خارجه تستطاع رؤيتها من داخلهِ (17). واحتفظ الزجاج المصري والسوري بكل ما كان له من جمال في العهود القديمة، وتحتفظ متاحف البندقية وفلورنس واللوفر بالآنية المصنوعة من البلور الصخري في عهد الفاطميين، وكان ناحتو الخشب يدخلون البهجة على النفوس بنقوشهم البديعة على أبواب المساجد، والمنابر، والمحاريب، والنوافذ الشبكية. وأخذ المسلمون المصريون عن رعاياهم الأقباط فن زخرفة الصناديق والنضد وغيرها من الأدوات بترصيعها أو تطعيمها بالعاج، أو الأبنوس، أو الأصداف. وكانت الجواهر كثيرة موفورة، وحسبنا أن نقول إنه لما أن نهب الجنود الأتراك المأجورون حجرات قصر المستنصر حملوا معهم آلاف المصنوعات الذهبية-كالمحابر، وقطع الشطرنج، والمزهريات، والطيور، والأشجار الاصطناعية المزينة بالأحجار الكريمة .... (18)، وكان من بين ما انتهبوه ستائر من الحرير المطرز بخيوط الذهب نقشت عليها صور أكابر الملوك وكتبت عليها سيرهم. كذلك تعلم المسلمون

ص: 271

من الأقباط فن طبع الرسوم وبصمها على المنسوجات بقطع من الخشب؛ ويبدو أن هذه الصناعة انتقلت من صر الإسلامية إلى أوربا على أيدي الصليبيين، وأنها ساعدت على نشأة فن الطباعة. وكان التجار الأوربيون يقدرون منسوجات الدولة الفاطمية تقديراً يفوق سائر المنسوجات، ويتحدثون وهم مذهولون عن منسوجات القاهرة والإسكندرية، التي تبلغ من الرقة درجة يستطاع معها أن تمر في خاتم الإصبع (19). ويحدثنا المؤرخون عن طنافس من عهد الفاطميين، وعن خيام منسوجة من المخمل، والساتان، والدمقس، والحرير، والأقمشة المنسوجة من خيوط الذهب، مزينة كلها بالرسوم، ومن هذه خيمة صنعت لليازوري وزير المستنصر عمل فيها مائة وخمسون صانعاً أكثر من تسع سنوات. وبلغت نفقاتها ثلاثين ألف دينار (142. 000 دولار): وصور عليها، كما يقولون، جميع مل عرف من أنواع الحيوان في العالم كله، عدا "الإنسان الذئب"

(1)

. غير أن الرسوم الفاطمية كلها لك يبقَ منها إلا قطع من المظلمات في دار الآثار العربية بالقاهرة، ولم تبقَ نقوش دقيقة من العهد الفاطمي في مصر؛ لكن المقريزي الذي كتب في القرن الخامس عشر تاريخاً للتصوير-يقول إن مكتبة الخلفاء الفاطميين تحتوي على مئات من المخطوطات المزينة بكثير من الرسوم الدقيقة من بينها 2. 400 مصحف.

وكانت مكتبة الخلفاء بالقاهرة في عهد الحاكم بأمر الله تحتوي مائة ألف من المجلدات؛ وكان بها في عهد المستنصر 200. 000. ويقول المؤرخون إن الكتب كانت تعار لمن يطلبها من الدارسين ذوي السمعة الطيبة من غير أجر. وغي عام 988 أشار الوزير يعقوب بن كلس على الخليفة العزيز أن يعلم على حسابه خمسة وثلاثين طالباً في الجامع الأزهر وأن يتكفل بنفقات معيشتهم، وبهذا نشأت

(1)

يريد الإنسان نفسه. (المترجم)

ص: 272

أقدم جامعة في العالم كله. ولما نمت هذه المدرسة واتسعت اجتذبت إليها طلاباً من جميع أنحاء العالم الإسلامي، كما اجتذبت جامعة باريس بعد مائة عام من ذلك الوقت طلاباً من جميع أنحاء أوربا. ومن ذلك الوقت أخذ الخلفاء، والوزراء، والأغنياء من الأهلين يهبون الأموال لتعليم الطلاب بالمجان في تلك الجامعة حتى بلغ طلابها في وقتنا الحاضر 10. 000 طالباً وعدد الأساتذة ثلاثمائة (20). ومن أجمل المناظر التي تقع عليها عين السائح العالمي منظر الطلاب وهم مجتمعون في أروقة هذا المسجد القائم منذ ألف عام، تجلس فيها كل طائفة في نصف دائرة إلى جانت عمود أمام أحد العلماء

(1)

. وكان كبار العلماء الذائعي الصيت يفدون إلى الأزهر من كافة أنحاء العالم الإسلامي ليعلموا الطلاب علوم النحو، والبلاغة، والرياضة، والعروض، والمنطق، والعلوم الدينية، والحديث، والتفسير، والشريعة الإسلامية. ولم يكن الطلاب يؤدون أجوراً، كما لك يكن الأساتذة يتناولون مرتبات. وإذا كانت هذه الجامعة الشهيرة تعتمد على الأموال الحكومية، وهبات المحسنين فقد أخذت تنزع بالتدريج إلى التشدد في أمور الدين، وكان لعلمائها تأثير مثبط للآداب الفاطمية، والفلسفة، والعلوم، ولهذا لم مسمع عن وجود شعراء مجيدين في عهد تلك الأسرة.

وأنشأ الحاكم في القاهرة "دار الحكمة"؛ وكانت مهمتها الرئيسية نشر المذهب الشيعي وتعاليمه، ولكن منهجها الدراسي كان يشمل أيضاً علمي الفلك والطب. وأقام الحاكم أيضاً مرصداً فلكياً، وأعان بالمال على بني يونس (المتوفى سنة 1090 م)، وهو في رأينا أعظم علماء الفلك المسلمين. وبعد أ، ظل هذا العالم يرصد السماء سبعة عشر عاماً أتم "الأزياج الحاكمية" التي توضح حركات الكواكب، ومواقيتها، وحدد بدقة أكثر من ذي قبل ميل مستوى الفلك،

(1)

لا حاجة إلى القول بأن هذا الوصف ينطبق على الأزهر منذ نصف قرن أما في الوقت الحاضر فإن النظام في الأزهر شبيه كل الشبه بالنظام في أرقى المدارس والجامعات. (المترجم)

ص: 273

ومبادرة الاعتدالين، وزاوية اختلاف منظر الشمس.

وأشهر العلماء كلهم بين علماء المسلمين المصريين اسم الحسن بن هيثم المعروف عند الأوربيين باسم "الهازن Alhazen". وقد ولد في البصرة عام 965 واشتهر فيها بنبوغه في الهندسة والرياضة. وترامى إلى الحاكم أن ابن الهيثم قد وضع خطة لضبط فيضان النيل السنوي فدعاه إلى القاهرة، ولكنه تبين أن الخطة غير عملية فاضطر إلى الاختفاء عن عين الخليفة ذي النزوات الشاذة. وافتتن الرجل، كما افتتن جميع المفكرين في العصور الوسطى، بمحاولات أرسطو في ربط المعارف كلها بعضها ببعض، فكتب عدة شروح وتعليقات عن مؤلفات هذا الفيلسوف، لم يصل إلينا شيء منها. وأهم ما يشتهر ابن الهيثم عندنا الآن كتاب المناظر في البصريات وهو في أغلب الظن أعظم مؤلف في العصور الوسطى بأجمعها جرى على الأسلوب العلمي في طريقته وتفكيره. وقد درس ابن الهيثم انكسار الضوء عند مروره في الأوساط الشفافة كالهواء، والماء واقترب مع اختراع العدسة المكبرة قرباً جعل روجر بيكن Roger Bacon، ووينلو Wnelo وغيرهما من الأوربيين بعد ثلاثمائة عام من ذلك الوقت يعتمدون على بحوثه فيما بذلوه من الجهود لاختراع المجهر والمرقب. وقد رفض ابن الهيثم نظرية إقليدس وبطليموس الفلكي القائلة بأن رؤية الجسم تنشأ من خروج شعاع ضوئي من العين يصل إلى الجسم المرئي، وقال إن صورة الجسم المرئي تصل إلى العين ومنها تنتقل بواسطة الجسم الشفاف-أي العدسة (21). ولاحظ أثر الجو في ازدياد الحجم الظاهري للشمس والقمر إذا كانا قريبين من الأفق؛ وأثبت أن انكسار الأشعة في الجو يجعل ضوء الشمس يصل إلينا حتى بعد أن يختفي قرصها تحت الأفق بتسع عشرة درجة، وعلى هذا الأساس قدر ارتفاع الهواء الجوي بعشرة أميال (إنجليزية). وحلل العلاقة بين ثقل الهواء الجوي وكثافته، وبيت أثر كثافة هذا الهواء في أوزان الأجسام، واستخدم قوانين رياضية معقدة في دراسة فعل

ص: 274

الضوء في المرايا الكرية، والتي في شكل القطع المكافئ، وعند مروره في العدسات الزجاجية الحارقة. ورصد صورة الشمس المماثلة لصورة نصف القمر وقت الخسوف على جدار قائم أمام ثقب صغير في مصراع شباك. وهذا هو أول ما ذكر عن الغرفة المظلمة التي تعتمد عليها التصوير الشمسي بكافة أنواعه. وليس في وسعنا مهما قلنا عن ابن الهيثم أن نبالغ في بيان أثره في العلوم الأوربية: وأكبر ظننا أنه لولا ابن الهيثم لما سمع الناس قط بروجر بيكن؛ وها هو ذا روجر بيكن نفسه لا يكاد يخطو خطوة في ذلك الجزء الذي يبحث في البصريات Opus Mains دون أن يشير إلى ابن الهيثم أو ينقل عنه. والجزء السادس من هذا المؤلف يكاد كله يعتمد على كشوف هذا العالم الطبيعي ابن القاهرة. ولقد ظلت الدراسات الأوربية للضوء حتى ذلك العصر المتأخر عصر كبلر وليوناردو تعتمد على بحوث ابن الهيثم.

وأبرز النتائج التي أسفرت عنها فتح العرب لشمالي إفريقية هو اختفاء المسيحية من هذا الإقليم اختفاء تدريجياً ولكنه يكاد يكون تاماً. ذلك أن البربر لم يعتنقوا الإسلام فحسب، بل أصبحوا فوق ذلك أكثر أنصاره تعصباً له ودفاعاً عنه. وما من شك في أن العوامل الاقتصادية كان لها دخل في هذه النتيجة الحاسمة: فقد كان غير الملمين يؤدون الفرضة، التي أعفي منها إلى وقت ما من يعتنقون الإسلام. ولما أن عرض والي مصر العربي على أهل البلاد هذا الإعفاء عام 744 اعتنق الإسلام 24. 000 من المسيحيين (22). وربما كان الاضطهاد

(1)

الذي وقع على المسيحيين، وهو اضطهاد لم يكن يقع إلا في بعض العهود ولكنه شديد، قد أثر في كثيرين من المصريين فحملهم على الدخول في دين الحكام. غير أن أقلية قبطية في مصر ظلت مستمسكة بدينها بشجاعة وأقامت كنائسها شبيهة

(1)

يلاحظ هنا حرص المؤلف على إثبات أن هذا الاضطهاد لم يكن يقع إلا في بعض العهود؛ أي أنه لم يكن هو السياسة المتبعة وذلك عملاً بأوامر الدين الإسلامي نفسه وسياسة معظم الخلفاء. (المترجم)

ص: 275

بالحصون، كانت تؤدي فيها مناسكها سراً

(1)

، ولا تزال باقية في تلك البلاد إلى يومنا هذا. ولكن كنائس الإسكندرية، وقورينة، وقرطاجنة، وإفريقية، التي كانت تزدحم من قبل بالمصلين أخذت تخلو منهم وتتداعى، وانمحت من الأذهان ذكريات أثناسيوس، وسيريل Cyril، وأوغسطين، وخبت نيران المنازعات بين الأريوسيين، والدونانيين، واليعاقبة المسيحيين، حل محلها النزاع بين الشيعة وأهل السنة من المسلمين. وأيد الفاطميون سلطانهم بجمع طائفة الإسماعيلية في جماعة كبرى ذات مراسم وطقوس ودرجات متفاوتة، واستخدموا أعضاءها في التجسس والدسائس السياسية. وانتقلت طقوس هذه الجماعة إلى بيت المقدس وأوربا، وكان لها أكبر الأثر في أنظمة فرسان المعبد والشيعة المستنيرة Illuminate وغيرها من الجماعات السرية التي قامت في العالم الغربي كما كان لها أكبر الأثر أيضاً في طقوسها وملابسها. وترى رجل الأعمال الأمريكي بين الفينة والفينة مسلماً متحمساً غيوراً، بفخر بعقيدته السرية، وطربوشه الفاسي ومسجده الإسلامي

(2)

.

(1)

لم يكن أقباط مصر في حاجة إلى أن يمارسوا شعائرهم سراً بل كانوا يمارسونها جهراً حتى في أكثر العصور استبداداً. (المترجم)

(2)

في هذا القول بعض الغموض ولعل المؤلف يقصد أن من بين رجال الأعمال الأمريكيين مسلمين يفخرون بدينهم ويتباهون بثيابهم ويؤدون الصلاة في المساجد. (المترجم)

ص: 276

الفصل الثالِث

‌الإسلام في بلاد البحر المتوسط

649 -

1071

أدرك زعماء الإسلام، بعد فتح الشام ومصر، أن ليس في مقدورهم أن يدافعوا عن سواحل بلادهم من غير أسطول. وسرعان ما استولت سفنهم الحربية على قبرص ورودس وهزمت العمائر البيزنطية (652، 655)، ثم احتلوا قورسقة في عام 809 وسردينية في عام 810 وإقريطش (كريت) في 823، ومالطة في 870، وبدأ في عام 827 النزاع القديم بين بلاد اليونان وقرطاجنة مرة أخرى من أجل الاستيلاء على صقلية، فأرسل الأغالبة أمراء القيروان الحملة تلو الحملة وتقدموا إلى فتحها بقليل من النهب والدم المهراق؛ فسقطت بالرم في عام 831، ومسينا في 841، وسرقوسة في 878، وتارمينا في 902. ولما أن ورث الخلفاء الفاطميون ملك الأغالبة (909) كان مما ورثوه من أملاكهم جزيرة صقلية؛ ولما نقل الفاطميون عاصمة ملكهم إلى القاهرة أعلن حسين الكلبي والي صقلية من قبلهم نفسه أميراً عليها، وكانت له عليها سيادة تكاد تكون كاملة، وأسس فيها الأسرة الكلبية، وفي عهدها بلغت الحضارة الإسلامية في صقلية ذروة مجدها.

وأصبح مركز المسلمين حصيناً منيعاً بعد أن صارت لهم السيادة على البحر المتوسط، فأخذوا يتطلعون إلى المدن القائمة في جنوبي إيطاليا. وكانت القرصنة وقتئذ مما يدخل في نطاق العادات الشريفة، وكان المسيحيون والمسلمون على السواء يشنون الغارات على سواحل البلاد الإسلامية والمسيحية ليقبضوا منها على "الكفرة" ويبيعونهم في أسواق الرقيق، ولهذا شرعت أساطيل المسلمين، ومعظمها

ص: 277

من تونس وصقلية، تهاجم الثغور الإيطالية في القرن التاسع الميلادي. فاستولى المسلمون في عام 841 على باري القاعدة البيزنطة الكبرى في الجنوب الشرقي من إيطاليا؛ وفي العام التالي انقضوا انقضاضاً سريعاً على إيطاليا استجابة لدعوة وجهها إليهم لمبارد دوق بنفنتو Benevento ليساعدوه على سالرنو Saleno، ثم عادوا منها بعد أن أتلفوا الحقول وخربوا الأديرة. وفي عام 864 نزل ألف ومئتان من المسلمين في أستيا Ostia، وواصلوا الزحف حتى أشرفوا على أسوار روما، ونهبوا ضواحي المدينة وكنيستي القديسين بطرس وبولس، ثم عادوا على مهل إلى سفنهم. ورأى البابا ليو Leo الرابع أن السلطة المدنية عاجزة عن تنظيم الدفاع عن إيطاليا، فأخذ هذه المهمة على عاتقهِ، وعقد حلفاً بين روما وبين أملفي Amalfi، ونابلي، وجيتا Gaeta ومد سلسلة في عرض نهر التيبز ليمنع العدو من اجتيازه. وبذل العرب في عام 849 محاولة أخرى للاستيلاء على عاصمة المسيحية في الغرب؛ فقابلهم الأسطول الإيطالي المتحد بعد أن باركه البابا، وهزمهم، وقد صور رفائيل منظر الواقعة في قصر الفاتيكان، وفي عام 866 جاء الإمبراطور لويس الثاني من ألمانيا، وصد العرب الذين كانوا يغيرون من جنوبي إيطاليا على شبه الجزيرة وأرجعهم إلى باري وتارنتو Taranto؛ وما وافى عام 844 حتى أخرجوا من جميع شبه الجزيرة.

ولكن غاراتهم عليها لم تنقطع، وظلت إيطاليا الوسطى جيلاً من الزمان يغشاها جو من الخوف والفزع في كل يوم من أيام حياتها. ففي عام 876 أغاروا على كمبانيا ونهبوها، وهددوا روما تهديداً اضطر البابا إلى أن يؤدي لهم جزية سنوية مقدارها 25. 000 منقوص (حوالي 25. 000 دولار أمريكي) حتى يكفوا عن الإغارة عليها (23). وفي عام 884 أحرقوا دير مونتي كاسينو العظيم ودمروه عن آخره. وشنوا غارات أخرى متقطعة نهبوا فيها وادي نهر الأنيو Anio. ودامت الحال على هذا المنوال حتى اجتمعت قوات البابا وإمبراطوري

ص: 278

بيزنطية وألمانيا، ومدائن إيطاليا الوسطى والجنوبية، وهزمت العرب على نهر كرجليانو (916) وانتهى بذلك عصر الفتوح الإسلامية في إيطاليا، وهو العهد الذي دام مائة عام، كادت فيها إيطاليا تصبح ملكاً للعرب. ولو أن روما سقطت في قبضتهم لزحفوا على البندقية، ولو أ، هم استولوا عليها لأطبقت على القسطنطينية قوتان إسلاميتان عظيمتان. ترى إلى أي حد تتعلق مصائر الناس بنتائج الحروب ومصادفاتها!

وخضعت الثقافة الصقلية المتعدد الأصول في أثناء هذه الحوادث الحربية بحكم عادتها إلى الفاتحين الجدد، واتخذت لها طابعاً إسلامياً أبهى وأقوى من طابعهم القديم، واختلط في شوارع العاصمة الإسلامية بانورمس القديمة Panormus أو بالرم العربية، وبالرمو الإيطالية، الصقليون، واليونان، واللمبارد، وكلهم يكره بعضهم بعض من الناحية الدينية، ولكنهم يعيشون معاً صقليين عاديين في عواطفهم، وشِعْرهم، وجرائمهم. وفيها شاهد ابن حوقل حوالي عام 970 نحو ثلاثمائة مسجد، وثلاثمائة من معلمي المدارس ينظر إليهم الأهلون بعين الاحترام رغم ما اشتهر به هؤلاء المدرسون-كما يقول العالم الجغرافي-من قلة الذكاء وخفة الأحلام (34). هذا وإن كانت صقلية تستمتع بقسط كبير من المطر وضوء الشمس، فقد كانت تربتها غاية في الخصب، فلما جاءها العرب المهرة وأحسنوا تنظيم أحوالها الاقتصادية جنوا ثمار هذا التنظيم، وأضحت بالرم ثغراً تجارياً عظيماً بين أوربا المسيحية وإفريقية الإسلامية؛ وما لبثت أن صارت من أغنى المدن في بلاد الإسلام؛ وكان حب المسلمين للملابس الجميلة، والجواهر المتلألئة، وفنون الزينة، مما جعل الحياة في الجزيرة تسير سيراً هادئاً في غير عجلة ولكن في غير إسفاف. ويصف الشاعر الصقلي ابن حمديس (1055 - 1132) الساعات التي يقضيها الشاب البالرمي في متعته، ويحدثنا عن قصفهِ ومرحهِ حتى منتصف الليل، وعن اختلاط الرجال والنساء في الولائم والحفلات بعد أن طرد ملك المرح الهموم، وعن

ص: 279

الفتيات المغنيات اللاتي يدغدغن العود بأصابعهن اللطيفة، ويرقصن كأنهن الأقمار الساطعة فوق الأغصان اللدنة (25).

وكان في الجزيرة آلاف من الشعراء لأن العرب كانوا يحبون الفكاهة الحلوة، والشعر الموزون، ولأن الحب الصقلي كان يمدهم بموضوعات جمة مثيرة للخيال. وكان في الجزيرة علماء لأن بالرم كان فيها جامعة؛ وكان فيها أطباء عظام، لأن الطب الإسلامي الصقلي قد أثر تأثيراً ذا بال في مدرسة سالرنو الطبية (26). ولقد كان نصف ما امتازت به صقلية النورمانية من البهاء والعظمة صدى لعهدها العربي الزاهر، وتراثاً شرقياً من الصناعات والصناع أورثه العرب ثقافة فنية راغبة في أن تتلقى العلم على أي جنس وأي دين. ولما فتح أهل الشمال (النورمان) صقلية (1060 - 1091) أعانوا بفتحهم الزمان على محو آثار المسلمين في صقلية؛ وها هو ذا الكونت روجر Count Roger يفخر بأنه قد سوى بالأرض "المدائن، والقلاع، والقصور العربية التي بذل المسلمون في إقامتها أعظم الفنون وأعجبها"(27). ولكن الطراز المعماري الإسلامي خلف طابعه على قصر لازيزا، وعلى سقف كابلا بلاتينا Capella Polatina، ففي هذا المعبد القائم في قصر الملوك النورمان زُينَ المزار المسيحي بالنقوش العربية الإسلامية.

ص: 280

الفصل الرّابع

‌الإسلام في أسبانيا

711 -

1086

‌1 - الخلفاء والأمراء

لم يكن العرب هم الذين فتحوا أسبانيا أولاً بل الذين فتحوها هم المغاربة، فقد كان طارق من البربر، وكان في جيشه سبعة آلاف من بني جنسه مقابل ثلاثة آلاف من العرب، وقد خُلد أسمه، إذ سميت به الصخرة التي نزلت قواته عند قاعدتها، فقد سماها البربر جبل طارق واختصره الأوربيون إلى جبرولتر Gibraltar. وكان الذي سير طارقاً إلى فتح أسبانيا هو موسى بن نصير والي شمال إفريقية العربي. ثم عبر موسى البحر في عام 712، ومعه 10. 000 من الجنود العرب و 8000 من البربر وحاصر إشبيلية ومريدة، ولام طارق لأنه تعدى حدود الأوامر الصادرة له، وضربه بالسوط، وزجه بالسجن؛ ولكن الخليفة الوليد استدعى موسى وأطلق سراح طارق فواصل هذا القائد فتوحه. وكان موسى قد عين ولده عبد العزيز حاكماً لإشبيلية؛ ولكن سليمان أخا الوليد ارتاب في نوايا عبد العزيز وظنه يعمل ليستقل ببلاد الأندلس، فأرسل إليه من اغتاله وجيء برأسه إلى سليمان في دمشق، وكان قد تولى الخلافة بعد أخيه، فبعث يستدعي موسى، فلما جاء طلب إليه أن يعطيه رأس ولده حتى يسبل عينيه. ولم يمضِ على موسى عام واحد حتى مات من الحزن (28). ومن حقنا أن نعتقد أن هذه القصة ليست إلا خرافة من الخرافات التي تروى عن حب الملوك لسفك الدماء.

ص: 281

وعامل الفاتحون أهل البلاد معاملة لينة طيبة، ولم يصادروا إلا أراضي الذين قاوموهم بالقوة، ولم يفرضوا على الأهلين من الضرائب أكثر مما كان يفرضها عليهم ملوك القوط الغربيين، وأطلقوا لهم من الحرية الدينية ما لم تتمتع به أسبانيا إلا في أوقات قليلة نادرة. ولما أن توطد مركز المسلمين في أسبانيا، عبروا جبال البرانس ودخلوا غالة يريدون أن يجعلوا أوربا ولاية تابعة لدمشق. والتقى بهم بين تور وبواتييه على بعد ألف ميل شمالي جبل طارق جيش متحد مؤلف من قوى يوديس E (des دوق أكتوين، وشارل دوق أستراليا Austrsia. ودارت المعركة سبعة أيام هزم المسلمون بعدها في واقعة من أهم الوقائع الحاسمة في التاريخ (732)؛ وفيها قررت مصادفات الحرب مرة أخرى الدين الذي يتبعه الملايين التي لا يحصى عددها من بني الإنسان. ومن هذا الوقت أطلق على شال اسم شارل مارتلس Chsrles Martellus أي شارل المطرقة. وأعاد المسلمون الكرة في عام 735 واستولوا على أرليس Arles، ثم فتحوا أفنيون Avignon في عام 737 وخربوا وادي نهر الرون حتى ليون. وفي عام 759 أخرجهم بيبين القصير Pepin the Short نهائياً من جنوب فرنسا؛ ولكم الأربعين عاماً التي تنقلوا خلالها في ذلك الإقليم كانت في أغلب الظن ذات أثر قوي فيما يتصف به أهل لانجويدك Languedoc من تسامح غير عادي بين الأديان المختلفة، ومن مرح كثير ومن حب لأغاني الغزل غير المباح.

ولم يكن خلفاء دمشق يقدرون أسبانيا حق قدرها، فلم تكن تعرف عندهم حتى عام 756 إلى باسم "الأندلس"، وكان يحكمها والٍ يعين من القيروان. لكن شخصية روائية نزلت في أسبانيا عام 755، وكان سلاحها الوحيد هو ما يجري في عروقها من الدم الملكي، وأراد الله أن تؤسس فيها أسرة لا تقل في مجدها وتراثها عن خلفاء بغداد. ذلك أنه لما أمر بنو العباس في عام 750 أن يقتل جميع الأمراء الأمويين، لم ينجُ من هؤلاء الأمراء إلا عبد الرحمن أحد أحفاد

ص: 282

الخليفة هشام. وطارده أعداؤه من قرية إلى قرية، فاضطر أن يعبر نهر الفرات الواسع سباحة، واجتاز الصحراء إلى فلسطين، ثم انتقل منها إلى مصر وإفريقية حتى وصل آخر الأمر إلى مراكش. وكانت أخبار الثورة العباسية قد ألهبت نيران المنافسة الحزبية القديمة بين العرب، والسوريين، والفرس، والمغاربة في أسبانيا. واكن في تلك البلاد طائفة من العرب مخلصة الأمويين تخشى أن يعترض الخلفاء العباسيون على حقها في تملك الأراضي التي وهبها لهم ولاة بني أمية، فدعوا عبد الرحمن للانضمام إليهم وتولى قيادتهم. فجاء إليهم وعينوه أميراً على قرطبة (756)، وهزم جيشاً أرسله الخليفة المنصور لينتزعها منه، وبعث برأس قائد هذا الجيش ليعلق أمام أحد القصور في مكة.

ولعل هذه الحوادث هي التي منعت انتشار الدين الإسلامي في أوربا: ذلك أن أسبانيا الإسلامية قد أضعفتها الحرب الأهلية، وانقطعت عنها المعونة الخارجية فلم تواصل الغزو والفتح، بل انسحب المسلمون من شمالي أسبانيا، وانقسمت شبه الجزيرة من القرن الحادي عشر قسمين أحدهما مسلم والآخر مسيحي، يفصلهما خط يمتد من كوامبرا Coimbra ماراً بسرقسطة ومحاذياً لنهر الإبرة، وازدهر النصف الجنوبي الإسلامي بعد أن بسط فيه لواء السلم عبد الرحمن الأول وخلفاؤه، فعمه الرخاء، وترعرع فيه الشعر والفن. واستمتع عبد الرحمن الثاني بثمار هذا الرخاء؛ فقد اتسع وقته، بين حروبه مع المسيحيين على حدوده، وقمعه للثورات التي كان يقوم بها رعاياه، وصد الغارات التي كان يشنها النورمان على سواحل بلاده، واتسع وقته لتجميل قرطبة بالقصور والمساجد، وإجزال العطاء للشعراء. وكان يعفو عن المذنبين ويعاملهم معاملة لينة ربما كان لها بعض الأثر فيما حدث بعده من اضطراب اجتماعي.

وكان عبد الرحمن الثالث (912 - 961) آخر الشخصيات البارزة من أسرة بني أمية في أسبانيا؛ فقد آلت إليه الخلافة وهو في الحادية والعشرين

ص: 283

من عمره، ووجد الأندلس تمزقها الانقسامات العنصرية، والأحقاد الدينية، واضطراب حبل الأمن، ومساعي إشبيلية وطليطلة للاستقلال عن قرطبة. وقبض عبد الرحمن، رغم ما اتصف بع من دماثة الخلق ورقة الحاشية، واشتهاره بالكرم والمجاملة، على زمام الموقف بيد من حديد وقمع فتنة المدن الثائرة، وأخضع أشراف العرب الذين أرادوا أن يحذوا حذو معاصريهم الفرنسيين، فبسطوا على ضياعهم الواسعة الغنية سيادتهم الإقطاعية، ودعا إلى بلاطهِ رجالاً من مختلف الأديان كان يستشيرهم في شؤون الحكم؛ وعقد المخالفات التي يضمن بها توازن القوى بين جيرانه وأعدائه، وأدار شؤون البلاد بجد وعناية بدقائق الأمور، لا يقلان عما كان يتصف به نابليون في هذه الناحية. وكان هو الذي يضع الخطط الحربية لقوادهِ، وكثيراً ما كان ينزل إلى ميدان القتال بنفسهِ؟ وصد غزوة سانكو صاحب نافارا Sancho of Navarra، واستولى على عاصمته ودمرها، وأرهب بذلك المسيحيين فلم يغيروا على بلاده مرة أخرى في أثناء حكمه. ولما رأى في عام 929 أن له من القوة ما لا يقل عن أي حاكم في زمانهِ، وأدرك أن الخليفة العباسي في بغداد قد أصبح ألعوبة في يد الحرس التركي، اتخذ لنفسهِ لقب خليفة-وأمير المؤمنين، وحامي حمى الدين. وقد ترك وراءه بعد وفاته نبذة كتبها بخط يده قدر فيها قيمة الحياة البشرية تقديراً غير مبالغ فيه:"مضت خمسون سنة منذ توليت الخلافة فتمتعت بما لا يزيد عليه شيء من الثراء والمجد والنعم، فاحترمني الملوك وخافوني وحسدوني وحباني الله بأقصى ما يرغب فيه الإنسان، فأحصيت أيام السرور التي صفت لي دون تكدير في هذه المدة الطويلة فكانت أربعة عشر يوماً، فاعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها"

(1)

.

(1)

من كتاب نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب للمقري. (المترجم)

ص: 284

وأفاد ابنه الحكم الثاني (961 - 976) كما يفيد الرجل العاقل الحكيم من هذه الأعوام الخمسين التي حكمها أبوه وبحزم وجدارة، والتي لم يستمتع فيها بقسط موفور من السعادة. وكان في أثناء حكمه آمناً من الخطر الخارجي، والفتن الداخلية، فوجه جهوده إلى تزيين قرطبة وغيرها من المدن؛ وأنشأ فيها المساجد، والمدارس الكبرى، والبيمارستانات، والأسواق، والحمامات العامة، وملاجئ الفقراء (30)، وجعل جامعة قرطبة أعظم معاهد التعليم في زمانهِ؛ وأجزل العطاء لمئات الشعراء والفنانين والعلماء. وفيه يقول المقري المؤرخ الإسلامي:

وكان (الخليفة الحكم) محباً للعلوم مكرماً لأهلها، جماعاً للكتب بأنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله

إن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، وفي كل فهرست عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين لا غير. وأقام للعلم والعلماء سوقاً يانعة جلبت إليه بضائعه من كل قطر .. وكان يبعث في شراء الكتب إلى الأقطار رجالاً من التجار ويرسل إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه. وبعث في طلب كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني-وكان نسبه من بني أمية-وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه نسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق

(1)

.

وبينما كان الخليفة العالم يعنى بمسرات الحياة ونعيمها، كان يترك تصريف شؤون الحكم، وتوجيه السياسة القومية نفسها إلى وزيره اليهودي القدير حسداي ابن شيروط، ويترك قيادة الجيش إلى قائد نابه مجرد من الضمير تجمعت حول اسمه مادة لكثير من المسرحيات أو القصص الخيالية المسيحية. وقد أسمته هذه الروايات والقصص باسم المنصور، أما اسمه الحقيقي فهو محمد بن أبي عامر.

(1)

النص منقول عن نفح الطيب. (المترجم)

ص: 285

وهو ينتمي إلى أسرة عربية عريقة النسب لكنها قليلة الثراء. وكان يكسب قوته بكتابة المعروضات لمن يريد من الناس أن يتوجه بمطالب إلى الخليفة، ثم أصبح كاتباً في ديوان قاضي القضاة، ولما بلغ السادسة والعشرين من عمره في عام 967 اختير لإدارة أملاك عبد الرحمن أكبر أبناء الحكم. ثم تقرب إلى الملكة صبح أم الغلام، وفتنها بمجاملتها والثناء عليها، وأثر عليها بجده وكفايته، وما لبث أن أصبح هو المصرف لأملاكها وأملاك والدها، ولم يمضِ عام واحد حتى عين مديراً لدار الضرب. ومن ذلك القوت أصبح سخياً على أصدقائهِ سخاء جعل حاسديه يتهمونه بالارتشاء والخيانة. واستدعاه الحكم ليحاسبه على ما اؤتمن عليه من المال، وعرف ابن أبي عامر أن المال الذي في عهدته سيكون ناقصاً فطلب إلى صديق له غني أن يقرضه قيمة العجز؛ ثم توجه إلى القصر مسلحاً بهذا السلاح القوي، وواجه به من اتهموه، وانتصر عليهم انتصاراً حمل الخليفة على أن يسند له عدة مناصب تدر عليه المال الكثير. ولما مات الحكم أفلح ابن أبي عامر في تنصيب هشام الثاني ابن الحكم خليفة (976 - 1009) و (1010 - 1013) بعد أبيه وذلك بأن دبر بنفسهِ قتل منازعه في الخلافة، وبعد أسبوع واحد تولى هو الوزارة (32).

وكان هشام الثاني رجلاً ضعيفاً عاجزاً كل العجز عن سياسة الدولة، ولذلك كان ابن أبي عامر هو الخليفة في كل شيء ما عدا الاسم، واتهمه أعداؤه بحق بأنه يحب الفلسفة أكثر مما يحب الدين الإسلامي؛ وأراد أن يلجم ألسنتهم فدعا رجال الدين أن يُخرجوا من مكتبة الحكم الكبرى كل ما يجدونه فيها من الكتب التي تخالف مذهب أهل السنة، وأن يحرقوا هذه الكتب، وبهذه الطريقة الهمجية الإجرامية اشتهر بيت الناس بالتقى والصلاح. وضم في الوقت نفسه أصحاب المواهب العقلية إلى جانبه بأن بسط حمايته في السر على الفلاسفة، وأخذ يرحب بالأدباء في بلاطهِ، وآوى فيه عدداً كبيراً من الشعراء أجرى عليهم

ص: 286

مرتبات من بيت المال، وكان هؤلاء الشعراء يسيرون في ركابهِ حين يخرج إلى الحرب ويتغنون بانتصاراتهِ. وشاد مدينة جديدة هي مدينة الزاهرة في شرق قرطبة ضمت قصره، ومكاتب الإدارة؛ أما الخليفة الذي عنى بتدريبه على الانهماك في الفلسفة فقد بقي مهملاً يكاد يكون سجيناً في القصر الملكي القديم. وأراد ابن أبي عامر أن يزيد مركزه قوة فأعاد تنظيم الجيش وجعل معظمه من مرتزقة البربر والمسيحيين الذين كانوا يكرهون العرب، ولا يشعرون بأن للدولة عليهم حقوقاً، ولكنهم كانوا يجزونه على سخائهِ، وحسن معاملته بالولاء له شخصياً. ولما أن ساعدت ولاية ليون Leon المسيحية ثورة قامت عليه في بلادهِ، فتك بالثوار، وأوقع بأهل ليون هزيمة منكرة، وعاد منتصراً إلى عاصمتهِ؛ ولقب من ذلك الحين بالمنصور. وكثرت المؤامرات عليه، ولكنه كان يحيطها كلها بشبكة من الجاسوسية والاغتيال في الوقت المناسب؛ ولما انضم ابنه عبد الله إلى إحدى هذه المؤامرات، وافتضح أمره قطع رأسه. وكان المنصور مثل صلا الروماني لا يترك محسناً إلا أثابه ولا مسيئاً إلا انتقم منه.

وغفر الناس له جرائمه لأنه قمع جرائم غيره، وحقق العدالة للأغنياء والفقراء على السواء، حتى لم تكن الحياة ولا الأموال في قرطبة أعظم أمناً في وقت من الأوقات مما كانتا في أيامهِ، ولم يسع الناس إلا أن يعجبوا بثباتهِ، ومثابرتهِ، وفطنتهِ، وشجاعتهِ. وحدث في يوم من الأيام والمجلس منعقد برياستهِ أن شعر بألم في ساقهِ؛ فأمر باستدعاء الطبيب، ولما حضر أشار بكيها بالنار. فلم يفض المنصور المجلس، وقبل أن يحرق جسمه دون أن يظهر عليه مل يدل على ألمهِ. ويقول المقري: إن المجلس لم يعرف شيئاً مما حدث إلا بعد أن فاحت رائحة اللحم وهو يحترق

(1)

. وكان مما فعله أيضاً ليجمع القلوب على محبتهِ أن وسع مسجد

(1)

هذا هو النص الذي ننقله عن المقري: "إن المنصور كان به داء في رجلهِ واحتاج إلى الكي، فأمر الذي يكويه بذلك وهو قاعد في موضع مشرف على أهل مملكتهِ، فجعل يأمر وينهي، ويقرى القرى في أمورهِ ورجله تكوى، والناس لا يشعرون حتى شموا رائحة الجلد واللحم؛ فتعجبوا من ذلك وهو غير مكترث. (المترجم)

ص: 287

قرطبة واستخدم في توسيعه أسرى مسيحيين، واشترك هو بنفسه في أعمال البناء بفأسهِ، ومجرفهِ، ومِسّجَّتهِ

(1)

، ومنشارهِ. وأدرك أن الحاكم الذي ينتصر في الحروب، عادلة كانت أو ظالمة، يعلو شأنه بين معاصريه وبين الأجيال المستقبلة، ولهذا شن الحرب من جديد على ليون، واستولى على عاصمتها ودمرها وذبح أهلها. وكان في ربيع كل عام تقريباً يسير على رأس حملة جديدة لمحاربة الأقاليم الشمالية المسيحية؛ وقد عاد من هذه الحملات جميعها بلا استثناء مكللاً بالنصر. من ذلك أنه لما استولى في عام 997 على مدينة سنتياجو ده كمبسستيلا Santiago de Compstela، ودمر ضريح القديس جيمس الشهير، أرغم الأسرى المسيحيين على أن يحملوا أبواب الكنسية وأجراسها على أكتافهم في موكب نصره حتى دخل قرطبة (34). (وقد أعيدت هذه الأجراس مرة أخرى إلى كمبسستيلا محمولة على ظهر أسرى الحرب المسلمين).

ولم يقنع المنصور بما كان له في بلاد الأندلس الإسلامية من مقام، وإن كان في الواقع سيدها بلا منازع، بل كان يتوق إلى أن يكون سيدها اسماً وفعلاً، وأن يؤسس فيها أسرة مالكة. ففي عام 991 تخلى عن منصبه لابنه عبد الملك، ولم يكن يتجاوز الثامنة عشرة من عمرهِ، وأضاف إلى ألقابه الأخرى لقبي السيد والملك الكريم وحكم البلاد حكماً مطلقاً. وكان يرغب في أن يموت في ميدان القتال، ويعد العدة بالفعل لهذه الخاتمة، فكان إذا خرج لحرب من الحروب أخذ معه كفنه. وقد غزا قشتالة في عام 1002 وهو وقتئذ في الحادية والستين من عمرهِ، واستولى على مدنها، ودمر أديرتها، وخرب حقولها، ثم مرض في طريق العودة إلى بلادهِ، ولكنه لم يسمح للأطباء أن يعنوا بهِ، واستدعى إليه ابنه

(1)

المسجة: خشبة يطين بها. (المترجم)

ص: 288

وأخبره أنه سيدركه الموت بعد يومين اثنين، فلما بكى عبد الملك قال له إن هذا البكاء دليل على أن الدولة ستنهار بعد قليل (35). وقد صدقت النبوءة فانهارت خلافة قرطبة بعد جيل من ذلك التاريخ.

وعمت الفوضى بلاد الأندلس الإسلامية بعد موت المنصور، فلم يكن أمراؤها يجلسون على العرش إلا زمناً قصيراً، وكثرت بينهم حوادث الاغتيال، والمنازعات العنصرية، وحروب الطبقات؛ ورأى البربر أنهم محتقرون فقراء في الدولة التي أقاموا دعائمها بسواعدهم وسيوفهم، وأنهم قد طوح بهم إلى استرمادوره Estremadura القاحلة أو جبال ليون الباردة، فثاروا من حين إلى حين على العرب الحاكمين. وكان عمال المدن المستَغَلَّون يحقدون على من يستغلونهم، فكانوا يخرجون عليهم ويقتلونهم ويستبدلون بهم غيرهم. وأجمعت سائر الطبقات على كره تلك الأسرة الحاكمة أسرة ابن أبي عامر التي كادت في عهد ولده تستأثر بجميع مناصب الدولة ومقومات السلطة. ومات عبد الملك في عام 1008 وتولى الوزارة بعده أخوه عبد الرحمن، وكان عبد الرحمن رجلاً مستهتراً يشرب الخمر علناً ولا يتورع عن ارتكاب الخطايا، يفضل اللهو على النظر في شؤون الحكم، فلم يلبث أن طرد من منصبه على أثر ثورة اشتركي فيها جميع الأحزاب تقريباً. وأفلت الزمام من أيدي زعماء الثورة فنهبت الجماهير قصور الزاهرة وأحرقتها عن آخرها؛ وفي عام 1012 استولى البربر على قرطبة نفسها وأعملوا فيها السلب والنهب، وذبحوا نصف أهلها، وطردوا النصف الباقي منها، وجعلوا هذه المدينة عاصمة بربرية. بهذه الفقرة الموجزة يقص أحد المؤرخين المسيحيين ثورة أسبانيا الإسلامية الشبيهة كل الشبه بالثورة الفرنسية.

لكن الحماسة التي تدفع صاحبها إلى الهدم والتدمير قلما تقترن بالصبر الذي يتطلبه البناء والتعمير. ففي أثناء حكم البربر اختل الأمن والنظام وعم السلب والنهب، وزاد عدد المتعطلين؛ وخرجت على قرطبة المدائن الخاضعة لها ومنعت

ص: 289

عنها الخراج، وحتى ملاك الضياع الواسعة استأثروا بالسلطة كلها في ضياعهم. لكن من بقي في قرطبة من العرب أخذوا ينتعشون شيئاً فشيئاَ، حتى إذا حل عام 1023 طردوا البربر من العاصمة وأجلسوا على العرش عبد الرحمن الخامس، غير أن العامة من أهل قرطبة رأوا أنه لا يرجى خير من العودة إلى العهد القديم، فاستولوا على القصر وبايعوا بالخلافة محمداً المستكفي أحد زعمائهم (1023). وعين محمداً أحد عمال النسيج وزيراً له، ثم اغتيل هذا الوزير، ودس السم للخليفة الشعبي، ثم اتحدت الطبقتان العليا والوسطى وبايعت بالخلافة هشاماً الثالث (1027). وجاء دور الجيش بعد أربع سنين، فقتل وزير هشام، وطُلب إلى هشام نفسه أن ينزل عن الخلافة؛ وعقد مجلس من أصحاب الرأي في المدينة وأيقن المجتمعون أن النزاع على العرش قد جعل قيام الحكم الصالح غي مستطاع، فألغى الخلافة الأندلسية، وأحل محلها مجلساً للدولة، واختير ابن جهور رئيساً لهذا المجلس فحكم الجمهورية الجديدة بالعدل والحكمة.

لكن هذا جاء بعد فوات الأوان، أي بع أن اضمحلت السلطة السياسية وقضي على الزعامة الثقافية في قرطبة، فوصلت بذلك إلى حال لا يرجى منها شفاء. وروع العلماء والشعراء بكثرة الحروب الأهلية ففروا من "جوهرة العالم" إلى بلاط طليطلة، وغرناطة، وإشبيلية. واقتسم بلاد الأندلس الإسلامية ثلاثة وعشرون من ملوك الطوائف شغلتهم الدسائس والمنازعات فيما بينهم عن إغارة أسبانيا المسيحية على الإمارات الإسلامية واستيلائها عليها واحدة بعد واحدة. وازدهرت غرناطة بعض الوقت في حكم الحاخام صمويل هليفي Samuel Halevi المعروف عند العرب باسم إسماعيل بن نغرلة. واستقلت طليطلة عن قرطبة في عام 1035. ثم خضعت لحكم المسيحيين بعد خمسين عاماً من استقلالها.

وورثت إشبيلية مجد قرطبة، وكان بعضهم يظنها خيراً من العاصمة القديمة وأجمل منها؛ وكان الناس يحبونها لجمال حدائقها، ونخيلها، ووردها، وما فيها

ص: 290

من مرح دائم، وموسيقى، ورقص، وغناء. وكانت تتوقع سقوط قرطبة فتعجلت هي وأعلنت استقلالها في عام 1023، وعثر أبو القاسم محمد قاضي قضاتها على صانع حصر شبيه بهشام الثاني فنادى به خليفة، وآواه وأمسك هو بزمامهِ، وأقنع بلنسية، وطرطوشة وقرطبة نفسها بمبايعتهِ. وبهذه الطريقة السهلة أقام قاضي القضاة الداهية أسرة بني عباد القصيرة الأجل. ولما مات في عام 1024 خلفه ابنه عباد المعتضد وحكم إشبيلية بمهارة وقسوة مدة سبعة وعشرين سنة، وأخذ يمد سلطانة حتى كان نصف أسبانيا الإسلامية يؤدي له الجزية. وورث الملك من بعده ابنه المعتمد (1068 - 1019) وهو في السادسة عشر من عمرهِ، ولكنه لم يرث عنه مطامعه ولا وقسوته. وكان المعتمد أعظم شعراء الأندلس، يفضل مجالس الشعراء والموسيقيين على مجالس الساسة وقواد الجند، ويجزل العطاء لمنافسيه من الشعراء، ولا يحسدهم على تفوقهم، فلم يكن يرى من الإسراف أن يجيز إحدى الملح الشعرية بألف دينار (36). وكان يحب شعر ابن عمار، ولذلك اتخذه وزيراً له، وسمع جارية تدعى الرميكية ترتجل جيد الشعر، فابتاعها، وتزوجها، وظل حتى وفاته يحبها حباً شديداً، وإن لم يهمل غيرها من الغانيات في قصرهِ. وكانت الرميكية تملأ القصر بضحكها، وأحاطت سيدها بجو من المرح، جعل رجال الدين يلومونها على عدم اكتراث زوجها بشؤون الحكم، وما آلت إليه مساجد المدينة التي أوشكت أن تخلو من المصلين. لكن المعتمد مع هذا كان قادراً على أن يحكم، وأن يحب، ويغني. فلما أن هاجمت طليطلة مدينة قرطبة، واستغاثت قرطبة به، سير إليها حملة أنقذت المدينة من طليطلة، وأخضعتها لإشبيلية. وحمل الملك-الشاعر مدى جيل كامل مليء بالقلاقل لواء حضارة لا تقل ازدهاراً عن حضارة بغداد في أيام هارون الرشيد، وحضارة قرطبة في عهد المنصور.

ص: 291

‌2 - الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية

لم تنعم الأندلس طوال تاريخها بحكم رحيم، عادل، كما نعمت به في أيام الفاتحين العرب (37). ذلك حكم يصدره مستشرق مسيحي عظيم

(1)

قد يتطلب تحمسه شيئاً من التقليل من ثنائه، لكن هذا الحكم بعد أن تنقص منه ما عساه أن يكون فيه من التحمس يظل مع ذلك قائماً صحيحاً. لسنا ننكر أن الأمراء والخلفاء الأندلسيين قد اتصفوا بالقسوة التي يرى ميكفلي أنها لازمة لاستقرار الحكومات وثباتها، ولسنا ننكر أن قسوتهم وصلت في بعض الأحيان إلى حد الهمجية وغلظة القلب، يدل على ذلك ما فعله المعتمد حين زرع الأزهار في جماجم الموتى من أعدائهِ؛ وما فعله المعتضد حين قطع أوصال رجل ظل صديقاً له معظم حياته ثم غدر به هذا الصديق وأهانه آخر الأمر (38). ولكن المقري يورد في مقابل هذه الأمثلة النادرة مئات من الشواهد الدالة على عدل حكام الأندلس الأمويين وجودهم ودماثة أخلاقهم (39). وهم لا يقلون في هذه الصفات عن أباطرة الروم في زمانهم، وما من شك في أن حكمهم كان أفضل من حكم من سبقوهم من القوط الغربيين؛ ولقد كانوا أقدر أهل زمانهم على تصريف الشؤون العامة في العالم الغربي؛ فكانت قوانينهم قائمة على العقل والرحمة، تشرف على تنفيذها هيئة قضائية حسنة النظام. وكان أهل البلاد المغلوبون يحكمون في معظم الأحوال حسب قوانينهم وعلى أيدي موظفين منهم (40). وكان في المدن شرطة تسهر على الأمن فيها، وقد فرضت على الأسواق، والمكاييل، والموازين، رقابة محكمة؛ وكانت الحكومة تقوم بإحصاء عام للسكان والأملاك في فترات منظمة؛ وكانت الضرائب معقولة إذا قورنت بما كانت تفرضه منها روما وبيزنطية. وبلغت

(1)

هو استانلي لين بول، وذلك القول منقول عن كتابه "حكم المسلمين في أسبانيا"(المترجم)

ص: 292

الإيرادات في أيام عبد الرحمن الثالث 12. 045. 000 دينار ذهبي (أي ما يعادل 75. 213. 750 دولار أمريكي) -وأكبر الظن أن هذا كان يفوق إيرادات حكومات البلاد المسيحية اللاتينية مجتمعة (41). ولم يكن مصدر هذه الإيرادات هو الضرائب العالية بقد ما كان أثراً من آثار الحكم الصالح، وتقد الزراعة والصناعة، ورواج التجارة (42).

وكان حكم العرب نعمة وبركة قصيرة الأجل على الزراع من أهل البلاد. ذلك أن الفاتحين لم يبقوا على الضياع التي كبرت فوق ما يجب، والتي كان يمتلكها القوط الغربيون، وحرروا رقيق الأرض من عبودية الإقطاع (43). ولكن القوى التي كانت في هذه القرون تعمل لتثبيت دعائم الإقطاع ظلت تعمل عملها في أسبانيا أيضاً، وإن لقيت فيها من المقاومة أشد مما لقيته في فرنسا؛ فقد امتلك العرب بدورهم مساحات واسعة من الأراضي، وكان يقوم بزرعها مستأجرون قريبو الشبه برقيق الأرض. وكان العبيد يلقون على أيدي المسلمين معاملة أحسن قليلاً مما كانوا يلقونها على أيدي سادتهم الأولين (44). وكان في مقدور العبيد غير المسلمين أن يتحرروا من الرق بمجرد اعتناقهم الإسلام، وكان العرب في معظم الأحوال يتركون أعمال الزراعة إلى أهل البلاد، ولكنهم كانوا يستعينون بأحدث ما ألف من الكتب في علومها، وبفضل توجيههم بلغت هذه العلوم في أسبانيا من التقدم أكثر مما بلغته في أوربا المسيحية (45). واستبدل بالثيران البطيئة الحركة، التي كانت تستخدم حتى ذلك الوقت في جميع أنحاء أسبانيا للحرث والجر، البغال، والحمير، والخيل. وأدى تهجين السلالات الأسبانية والعربية من الخيل إلى وجود الجياد الأصيلة التي كان يمتطيها فرسان العرب وكبليرو Caballero (فرسان) الأسبان. ونقلت بلاد الأندلس الإسلامية

ص: 293

من آسية زراعة الرز، والحنطة السوداء

(1)

، قصب السكر، والرمان، والقطن، والسبانخ، والأسفرج

(2)

، والموز، الكراز، والبرتقال، والليمون، والسفرجل، والليمون الهندي، والخوخ، ونخيل البلح، والتين، والشليك، والزنجبيل، والمر وصناعة الحرير (46). وكانت زراعة الكروم من الأعمال الكبرى في بلاد الأندلس، وإن كان الدين الإسلامي يحرم الخمر. وأحالت حدائق الخضر، وغياض الزيتون، وبساتين الفاكهة مساحات من الأندلس-وخاصة حول قرطبة وغرناطة، وبلنسية-جنات على الأرض. كما استحالت جزيرة ميورقة Mojorca، التي فتحها العرب في القرن الثامن بفضل عملهم بالزراعة وعنايتهم بها فردوساً مليئاً بالفاكهة والأزهار، تشرف عليها أشجار النخيل التي سميت الجزيرة باسمها فيما بعد.

وأغنت مناجم أسبانيا المسلمين بالذهب، والفضة، والقصدير، والنحاس، والحديد، والرصاص، الشب، والكبريت، والزئبق. وكان المرجان يستخرج من البحر على طول سواحل أسبانيا، كما كان اللؤلؤ يصطاد قرب سواحل قطلونية، وكان الياقوت يستخرج من مناجم حول باجة ومالقة. وتقدمت الصناعات المعدنية في البلاد تقدماً عظيماً، فاشتهرت مرسية بمصنوعاتها من الحديد الشبهان، كما اشتهرت طليطلة بالسيوف، وقرطبة بالدروع. وازدهرت كذلك الصناعات اليدوية، فكانت قرطبة تصنع الجلد القرطبي الذي يستخدمه الحذاءون في أوربا المعروفون باسم Cordwaibner نسبة إلى "الجلد القرطبي Cordovan". وكان في قرطبة وحدها 13. 000 نساج، واكن المشتون في كل مكان يقبلون

(1)

نبات ينمو في ألمانيا وبريطانيا وتتخذ حبوبه طعاماً للخيل، والماشية، والدجاج؛ والكعك المصنوع من دقيقه طعام شهي على موائد الفطور الأمريكية. (ويسمى بالإنجليزية Buckwheat)(المترجم)

(2)

نبات تتخذ براعيمه الصغيرة طعاماً شهياً ويسميه ابن سينا اسفرغل وهو بالإنجليزية Asparagus. (المترجم)

ص: 294

على شراء السجاجيد، والوسائد، والسجف الحريرية، والشيلان، والأرائك الأندلسية. ويقول المقري (48) إن ابن فرناس القرطبي اخترع في القرن التاسع الميلادي النظارات، والساعات الدقاقة المعقدة التركيب، كما اخترع آلة طائرة. وكون أسطول تجاري يزيد على ألف سفينة يحمل غلات الأندلس ومصنوعاتها إلى إفريقية وآسية، وكانت السفائن القادمة من مائة ثغر وثغر تزدحم بها مرافئ برشلونة، والمرية، وقرطاجنة، وبلنسية، ومالقة، وقادس، وإشبيلية. وأنشأت الحكومة نظاماً للبريد ينقل رسائلها بانتظام. واحتفظت العملة الرسمية بأجزائها-الدينار الذهبي، والدرهم الفضي، والفلس النحاسي، -بثباتها واستقرارها النسبي، إذا قارناها بعملة العالم المسيحي اللاتيني في أيامها، ولكن هذه النقود الأندلسية أخذت هي الأخرى ينقص وزنها، ونقائها، وقوتها الشرائية.

وسار الاستغلال الاقتصادي في هذه البلاد سيرته في البلاد الأخرى، فاستحوذ العرب أصحاب الضياع الواسعة، والتجار الذين كانوا يعتصرون المنتج والمستهلك على السواء، على خيرات الأرض. وكان معظم الأغنياء يعيشون في الريف في بيوت ذات حدائق، ويتركون المدن الكبرى للبربر، والذين أسلموا من المسيحيين، والمستعربين (غير المسلمين من الأندلسيين الذين أخذوا عن العرب أساليب العيش ولغة الحديث)، وإلى طائفة قليلة العدد من الخصيان، والضباط والحراس الصقالبة، والعبيد خدم البيوت. وأحس الخلفاء في قرطبة بعجزهم عن القضاء على الاستغلال الاقتصادي من غير أن يضعفوا روح المغامرة فوقفوا بين هذا وذاك بتخصيص ربع غلات أرضهم لمعونة الفقراء (49).

وكان استمساك الطبقات المعدمة بدينها وتشددها في عقائدهما سبباً في زيادة سلطان الفقهاء أي علماء الشريعة الإسلامية؛ وكان العامة ينفرون من كل جديد

ص: 295

في العقائد أو الأخلاق نفوراً جعل الخارجين على الدين، والمفكرين

(1)

يخفون رؤوسهم في معظم الأحوال، وينزوون في البيوت أو يلجأون إلى الغموض في الأقوال. وكمت أفواه الفلاسفة، أو اضطروا إلى الجهر بآراء تقبلها جمهرة الناس وتحترمها. وكان الموت جزاء من يرتد عن دين الإسلام. نعم إن خلفاء قرطبة أنفسهم كانوا رجالاً ذوي آراء حرة، ولكنهم كانوا يظنون أن الخلفاء الفاطميين في مصر يتخذون العلماء المتنقلين عيوناً عليهم، ولهذا كانوا ينظمون في بعض الأحيان إلى الفقهاء في التضييق على التفكير الحر المستقل. لكن الحكام الأندلسيين قد أطلقوا لغير المسلمين جميعهم على اختلاف أديانهم حرية العبادة. وإذا كان اليهود الذين اضطهدهم القوط الغربيون أشد الاضطهاد قد ساعدوا المسلمين في فتوحهم، فقد ظلوا يعيشون من ذلك الوقت إلى القرن الثاني عشر مع المسلمين الفاتحين في أمن ووئام، وأثروا، وبرعوا في العلوم والمعارف، وارتقوا في بعض الأحيان إلى مناصب عالية في الحكومة. أما المسيحيون فكانت تعترضهم في سبيل الرقي في مناصب الدولة عقبات أكثر مما يعترض اليهود، ولكنهم رغم هذه العقبات ظفروا بنجاح عظيم. وكان المسيحيون الذكور، كالذكور في سائر الأديان، يرغمون على الختان بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية الصحية القومية، لكنهم فيما عدا هذا كانوا يحكمون بمقتضى شريعتهم القوطية الرومانية ينفذها فيهم قضاة يختارونهم هم أنفسهم (50). وكان الذكور الأحرار القادرون من المسيحيين يؤدون ضريبة الفرضة

(2)

نظير إعفائهم من الخدمة العسكرية؛ وكان مقدارها في العادة ثمانية وأربعين درهماً (24 ريالاً أمريكياً) للغني، وأربعة وعشرون للمتوسط الثراء، واثنا عشر درهم لمن يعمل بيده (51). وكان المسلمون

(1)

لا ندري كيف يتفق هذا القول مع ظهور كبار الفلاسفة أمثال ابن رشد في بلاد الأندلس نفسها. ولسنا نشك في أن المؤلف قد خانه التوفيق في هذا الحكم. (المترجم)

(2)

في الأصل الإنجليزي ضريبة الأراضي الزراعية وهو بلا شك سهو من المؤلف. (المترجم)

ص: 296

والمسيحيون يتزاوجون فيما بينهم بكامل حريتهم، ويشتركون من حين إلى حين بالاحتفال بأحد الأعياد المسيحية أو الإسلامية المقدسة، ويستخدمون المبنى الواحد كنسيةً ومسجداً (52). وجرى بعض المسيحيين على عادة أهل البلاد فاصطفوا "الحريم" أو مارسوا اللواط (53)؛ وكان المسيحيون من رجال الدين وغير رجال الدين يفدون بكامل حريتهم وهم آمنون من جميع أنحاء أوربا المسيحية إلى قرطبة، أو طليطلة، أو إشبيلية طلاباً للعلم، أو زائرين، أو مسافرين. وقد شكا أحد المسيحيين من نتيجة هذا التسامح بعبارات تذكرنا بشكاية العبرانيين القدماء من اصطباغ اليهود بالصبغة اليونانية فيقول:

"إن إخواني المسيحيين يعجبون بقصائد العرب وقصصهم، وهم لا يدرسون مؤلفات فقهاء المسلمين وفلاسفتهم ليردوا عليها ويكذبوها، بل ليتعلموا الأساليب العربية الصحيحة الأنيقة

واحسرتاه! إن الشبان المسيحيين الذين اشتهروا بمواهبهم العقلية لا يعرفون علماً ولا أدباً ولا لغة غير علوم العرب آدابهم ولغتهم؛ فهم يقبلون في نهم على دراسة كتب العرب، ويملئون بها مكتباتهم، وينفقون في سبيل جمعها أموالاً طائلة، وهم أينما كانوا يتغنون بمديح علوم العرب (54) ". وفي وسعنا أن نحكم عل ما كان للدين الإسلامي من جاذبية للمسيحيين من رسالة كتبت في عام 1311 م تقدر عدد سكان غرناطة المسلمين في ذلك الوقت بمائتي ألف، كلهم ما عدا 500 منهم من أبناء المسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام (55). وكثيراً ما كان المسيحيون يفضلون حكم المسلمين على حكم المسيحيين (56).

لكن هذه الصورة الجميلة كان لها وجه آخر أخذ يزداد وقتاً ما على مر الأيام. ذلك أن الكنيسة المسيحية لم تكن حرة، وإن كان المسيحيون أنفسهم أحراراً .. فقد صودر معظم أملاكها العقارية بمقتضى مرسوم يشمل جميع من يقومون بعمل إيجابي في مقاومة الفاتحين؛ كذلك دمرت معظم الكنائس وحرم بناء كنائس جديدة. وورث الأمراء المسلمون من ملوك القوط حق تنصيب

ص: 297

الأساقفة وعزلهم، وحق دعوة المجالس الكنسية نفسها إلى الانعقاد. وكان الأمراء يبيعون مناصب الأساقفة لمن يؤدون فيها أغلى الأثمان. ولو كان من يسند إليه المنصب من الفجرة أو المتشككين في الدين، وكان القساوسة المسيحيون يتعرضون أحياناً للشتائم من المسلمين في الشوارع، وكان فقهاء المسلمين يعلقون بكامل حريتهم على ما يبدو لهم أنه سخافات أو أباطيل في الدين المسيحي، ولكن المسيحيون الذين يردون عليهم بمثل أقوالهم كانوا يتعرضون للخطر.

وفي هذه العلاقات المتوترة قد تؤدي أية حادثة صغيرة إلى مأساة شديدة. مثال ذلك أن فتاة حسناء من فتيات قرطبة، معروفة لدينا باسم فلورا Flora فحسب ولدت لأبوين من دينين مختلفين، فلما توفي أبوها المسلم اعتزمت أن تعتنق الدين المسيحي، وفرت من بيت أخيها إلى بيت أحد المسيحيين، ولكن أخاها قبض عليها وضربها، وأصرت الفتاة على الارتداد عن دين أبيها، وسيقت إلى أحد المحاكم الإسلامية. وأمر القاضي بضربها وإن كان في مقدوره أن يحكم بإعدامها. ومع هذا فقد فرت مرة أخرى إلى بيت مسيحي حيث التقت بقس شاب يدعى أولوجيوس Eulogius أحبها حباً روحياً عارماً. وبينما كانت الفتاة مختبئة في أحد الأديرة، إذ قتل قس آخر يدعى برفكتوس Pcrfectos لأنه تكلم في حق النبي محمد أمام بعض المسلمين؛ وقد وعدوه بألا يشوا به، ولكن أقواله بلغت من العنف درجة روع لها مستمعوه فأبلغوا عنه ولاة الأمور. وكان في وسع بروفكتوس أن ينجو من العقاب إذا أنكر ما قال، ولكنه بدل أن يفعل هذا كرر أمام القاضي قوله إن محمداً كان "خادماً للشيطان"، فما كان من القاضي إلا أن حكم عليه بالسجن بضعة أشهر لعل هذا يصلح حاله؛ ولكنه لم ينصلح، وتمادى في أقواله فحكم عليه بالإعدام. وظل وهو يساق إلى المشنقة

ص: 298

يسب النبي، فيقول: إنه "مدعٍ، زان، ولدته جهنم"

(1)

، وابتهج المسلمون بمقتله، واحتفل المسيحيون بدفنه احتفالاً مهيباً، وعدوه من القديسين (850)

(2)

.

وأشعل مقتله نيران الحقد في قلوب الطائفتين. فتألفت جماعة من المتعصبين المسيحيين بزعامة يولجيوس وجعلت هدفها سب النبي علناً، والترحيب بالقتل اعتقداً منها بأن مصير من يقتل من أفرادها هو الجنة، وذهب راهب قرطبي يدعى إسحق على القاضي وعرض عليه رغبته في اعتناق الإسلام؛ وسر القاضي من هذا وبدأ يشرح له مبادئ الدين الإسلامي، ولكن الراهب قطع عليه شرحه وقال "إن نبيكم قد كذب عليكم وخدعكم؛ ألا لعنة الله عليه لأنه قد جر معه هذا العدد العظيم من البائسين إلى الجحيم"! فزجره القاضي وسأله هل هو ثمل؟ فرد عليه الراهب بقوله:"إني مالك لقواي فاحكم عليَّ بالإعدام" فأمر القاضي بسجنه ولكنه استأذن عبد الرحمن الثاني بأن يخرجه على أن بعقله خبالاً، غير أن موكب جنازة برفكتوس وما أحاط به من روعة وفخامة كان قد أثار حفيظة الخليفة فأمر بإعدام الراهب. وبعد يومين من هذا الحادث جرؤ جندي من الفرنجة في حرس القصر على سب النبي علناً؛ فكان جزاؤه الإعدام. وفي يوم الأحد التالي وقف ستة من الرهبان أمام القاضي وسبوا النبي ولم يطلبوا لأنفسهم الإعدام فحسب بل طلبوا فوق ذلك أن يعذبوا أشد التعذيب، فحكم عليهم بالإعدام. وحذا حذوهم قس، وشماس، وراهب. وابتهج لذلك أفراد الجماعة

(1)

لقد أثبتنا هذه الألفاظ وما قبلها كما هي رغم ما فيها من تطاول على مقام أشرف الأنبياء لكي يقدر القارئ شناعة الجرم الذي ارتكبه قائلها. (المترجم)

(2)

وليس أدل على روح التسامح التي كانت تسود ذلك العصر من سماح المسلمين لمواطنيهم المسيحيين بالاحتفال بدفن هذا القس الذي سب نبيهم بأقبح الألفاظ احتفالاً فخماً مهيباً كما يقول مؤلف الكتاب. (المترجم)

ص: 299

ولكن كثيرين من المسيحيين-من رجال الدين وغير رجال الدين-لم يرضوا على هذا التسابق للموت، وقالوا لتلك الفئة المتحمسة "إن السلطان يسمح لنا بأن نمارس شعائر ديننا، ولا يضطهدنا، فما الداعي إذن إلى هذا التعصب الشديد؟ "(59) ودعا عبد الرحمن إلى عقد مجلس من الأساقفة المسيحيين فأصدر قراراً بلوم طائفة المتحمسين المتعصبين، وهددهم بأن يتخذ ضدهم إجراءات عنيفة إذا لم ينقطعوا عن إثارة الفتن، فما كان من يولجيوس إلا أن أخذ يندد بأعضاء المجلس ويصفهم بالجبن.

وزادت هذه الحركة من تحمس فلورا، فغادرت الدير الذي كانت تقيم فيه وجاءت هي وفتاة أخرى تدعى مارية إلى القاضي وأخذتا تطعنان على النبي .... وتقولان: إن الإسلام من "اختراع الشيطان" فأمر القاضي بسجنها. وحملها بعض أصدقائهما على أن يرجعا عن أقوالهما، ولكن يولجيوس تغلب عليهما وأقنعهما بأن يرضيا بالقتل، فقتلا. وشجع هذا يولجيوس فأخذ يطلب بضحايا جدد، فأقبل على المحكمة قساوسة، ورهبان، ونساء يسبون النبي ويطلبون أن يعدموا

(1)

(852)، وأعدم يولجيوس نفسه بعد سبع سنين من ذلك الوقت، وخمدت الفتنة بعد سبع سنين من موتهِ فلم تسمع بين عامي 859، 983 إلا حادثين من حوادث السب والقتل، ولم نسمع عن حوادث أخرى من هذا النوع في أثناء الحكم الإسلامي في أسبانيا (60).

(1)

ليس أدل على تسامح الحكام المسلمين من سلوكهم في أثناء هذه الحركة، وعدم التجائهم إلى قمعها دفعة واحدة، واكتفائهم بالحكم على من يتقدمون إلى القضاة ليطعنوا في الدين ويسبوا الرسول. ترى ماذا يكون موقف أية حكومة من الحكومات الغربية في هذه الأيام لو تألفت مثل هذه الجماعة لهذا الغرض؟ إن أقل ما كانت تفعله بلا ريب هو أن تقبض على جميع أفراد الجمعية وتزجهم في السجن وتستأصل الفتنة من جذورها. وخليق بنا أن نشير إلى ما أتبعه الأسبانيون أنفسهم مع المسلمين بعد أن طرد العرب من أسبانيا وإلى ما لقيه المسلمين من قسوة وتعذيب همجي وعمل متواصل لمحو جميع الآثار الإسلامية في العلوم والفنون والآداب.

ص: 300

أما بين المسلمين أنفسهم فقد ضعفت الحماسة الدينية بازدياد الثراء، وظهرت في القرن الحادي عشر الميلادي موجة من التشكك رغم ما في الشريعة الإسلامية من شدة على المتشككين؛ ولم يقتصر الأمر على دخول مبادئ المعتزلة التي لا تناقض عقائد أهل السنة مناقضة شديدة، بل قامت طائفة أخرى تنادي بأن الأديان كلها باطلة، وتسخر بالأحكام الدينية، والصلاة، والصوم، والحج، والزكاة. ونشأت طائفة أخرى غير هذه وتلك سمت نفسها أتباع الدين العالمي، وأخذت تندد بكل العقائد، وتنادي بدين يقوم على المبادئ الأخلاقية دون غيرها. وكان من بين هؤلاء جماعة من اللاأدريين يقولون إن العقائد الدينية قد تكون صحيحة وقد لا تكون، فلسنا نؤكدها أو ننكرها، وكل ما في الأمر أننا لا نعرف حقيقتها، ولكننا لا تسمح لنا ضمائرنا بأن نقبل عقائد لا نستطيع إثبات صحتها (61). وأخذ رجال الدين يقاومون هذه العقائد مقاومة قوية؛ ولما أم حلت المصائب بالمسلمين في أسبانيا في القرن الحادي عشر أخذوا يقولون إن سببها هو هذا الضلال، ولما انتعش المسلمون بعض الوقت في الأندلس مرة أخرى، كان انتعاشهم في عهد حكام أقاموا سلطانهم كما كان من قبل على قواعد الدين، وقصروا الجدل القائم بين الدين والفلسفة على ما كان منه في بلاطهم وما يبتغون به تسليتهم.

ولكن القباب المتلألئة والمآذن المذهبة كانت على الرغم من الفلاسفة زينة المدائن الكبيرة والصغيرة التي جعلت بلاد الأندلس في القرن العاشر الميلادي أعظم البلاد المتحضرة في أوربا، بل إنها كانت في أغلب الظن أعظم البلاد المتحضرة في العالم كله في ذلك الوقت. لقد كانت قرطبة في أيام المنصور من أعظم مدن العالم حضارة، ولا يفضلها في هذا إلا بغداد والقسطنطينية. وكان فيها كما يقول المقري 200. 077 منزلاً، و 60. 300 قصر، 600 مسجد، و 700 حمام (62) عام وإن كانت هذه الإحصاءات لا تخلو من قليل من المغالاة الشرقية. وكان زائرو

ص: 301

المدينة يدهشون من ثراء الطبقات العليا، ومما كان يبدو لهم أنه رخاء عام،؛ فقد كان في وسع كل أسرة أن يكون لها حمار؛ ولم يكن يعجز عن الركوب إلا المتسولون. وكانت الشوارع مرصوفة، لكل منها طواران على الجانبين، تضاء أثناء الليل، ويستطيع الإنسان أن يسافر في الليل عشرة أميال على ضوء مصابيح الشوارع وبين صفين لا ينقطعان من المباني (63). وقد أقام المهندسون العرب على نهر الوادي الكبير الهادئ الجريان جسراً من الحجارة ذا سبعة عشر عقداً عرض كل واحد منها خمسون شبراً. وكان من أولى منشئات عبد الرحمن الأول قناة تحمل إلى مدينة قرطبة كفايتها من ماء الشرب تنقله إلى المنازل والحدائق، والفساقي والحمامات، واشتهرت المدينة بكثرة ما كان فيها من الحدائق والمتنزهات.

وكان عبد الرحمن الأول شديد الحنين إلى مسارح صباه، فأنشأ في قرطبة بستاناً عظيماً شبيهاً بالقصر الريفي الذي قضى فيه أيام صباه بالقرب من دمشق، وشاد في هذا البستان قصره المعروف "بقصر الرصافة"، وأضاف إليه من جاء بعده من الخلفاء أجنحة أخرى خلع عليها خيال المسلمين أسماء زاهية كقصر الروضة

وقصر المعشوق

وقصر السرور

وقصر التاج

(1)

. وكان لقرطبة كما كان لإشبيلية قصرها الذي يجمع بين بيت السكن العظيم والحصن المنيع. ويصف مؤرخو العرب هذه القصور وصفاً يجعلها تضارع في جمالها وترفها قصور نيرون في روما: يصفون أبوابها الفخمة، وعمدها الرخامية، وأرضها المرصوفة بالفسيفساء، وسقفها المذهبة، وما فيها من النقوش الجميلة التي لا يقد عليها إلا الفن الإسلامي وحده. وكانت قصور الأسرة المالكة، وكبار الملاك والتجار تمتد على شاطئ النهر العظيم؛ وقد ورث عبد الرحمن الثالث من إحدى جواريه ثروة طائلةـ وأراد أن ينفقها في افتداء من عساهم يكونون في الأسر من

(1)

والكامل، والمجدد، والحائر، والزاهر، والمبارك، والرستق، والبديع. (المترجم)

ص: 302

جنودهِ، ولما قال الباحثون الفخورون إنهم لم يجدوا أحداً من جنوده في الأسر عرضت عليهم الزهراء زوجته المحبوبة أن ينفق المال في بناء ضاحية وقصر يخلد بهما اسمها. وظل عشرة آلاف من العمال وألف وخمسمائة من الدواب يكدحون خمسة وعشرين عاماً (936 - 961) لتحقيق حلمها، فكان قصر الزهراء الملكي يقع على بعد ثلاثة أميال من قرطبة وإلى جنوبها الغربي. وقد زين أفخم زينة وأثث بأفخم أثاث. وكان القصر يقوم على ألف ومائتي عمود من الرخام، وكان جناح الحريم به يتسع لستة آلاف امرأة، وكان يحتوي على بهو لمجلس الخليفة سقفه وجدرانه من الرخام والذهب، له ثمانية أبواب مطعمة بالأبنوس والعاج والحجارة الكريمة، وكان به فسقية مملوءة بالزئبق تنعكس على سطحها أشعة الشمس المتماوجة. واجتمعت حول الزهراء قصور طبقة من الأشراف طبقت العالم شهرتها بالظرف الرقة، وحسن الذوق، وتعدد متعها العقلية. وأقام المنصور في الطرف المقابل لهذا القصر من المدينة قصراً آخر يضارعه (978) سمي بالزاهرة أحاطت به هو الآخر على مر الزمن ضاحية من قصور العظماء، وبيوت الخدم، والمغنين والعازفين، والشعراء، والخليلات. وقد حُرق القصران في أثناء الثورة التي تأجج لهيبها في عام 1010.

وكان الناس في العادة يتغاضون عن ترف الأمراء إذا ما أقام هؤلاء بيوتاً لله تفوق قصورهم في الفخامة والسعة وكان الرومان قد شادوا في قرطبة هيكلاً ليانوس Jauns، أنشأ المسيحيون بدلاً منه كنيسة كبرى؛ فلما تولى الخلافة عبد الرحمن الأول ابتاع من المسيحيين أرض الكنيسة، وهدمها وشاد في مكانها المسجد الأزرق، ولما عادت أسبانيا إلى حكم المسيحيين حولوا المسجد إلى كنيسة في عام 1238؛ وهكذا تتغير مقاييس التقى، والصدق، والجمال تبعاً لتقلبات الحظ في الحروب. وجعل عبد الرحمن هذا المشروع سلوته في سنيه الكدرة، فغادر بيته الريفي إلى قصره في المدينة ليشرف على العمل بنفسهِ، وكان يأمل أن يطول عمره

ص: 303

حتى يؤم المصلين في المسجد الفخم الجديد شكراً لله على توفيقهِ. ولكنه توفي في عام 788، بعد عامين من وضع الأساس، وواصل ابنه هشام عمل أبيه، وظل الخلفاء مدى قرنين كاملين يضيف كل منهم جزءاً جديداً للمسجد حتى كانت سعته في أيام المنصور 472 قدماً في 742. وكان يحيط به سور منيع من الآجر والحجر ذو أبراج على أبعاد غير منتظمة، وكانت له مأذنة ضخمة تفوق في حجمها وجمالها كل مآذن تلك الأيام، حتى عدت هي الأخرى من "عجائب الدنيا" التي لا يحصى لها عدد (64). وكان للمسجد تسعة عشر باباً تحيط بها عقود على شكل حذاء الفرس، نقشت عليها في الحجر ببراعة فائقة زخارف مكونة من أزهار وأشكال هندسية. وكانت هذه الأبواب تؤدي إلى مكان الوضوء الفسيح الذي يسمى الآن بهو البرتقال (Patio de los Naanjos) . وفي هذا البهو الرباعي الشكل، المرصوفة أرضه بالقرميد الملون كانت أربع فساق نحتت كل منها من كتلة واحدة من المرمر الأصم بلغ من ضخامتها أن تطلب نقلها من المقلع إلى مكانها في المسجد سبعين ثوراً. وكان المسجد نفسه يحتوي على أجمة من 1290 عموداً تقسم داخله إلى أحد عشر إيواناً وواحد وعشرين دهليزاً. وكانت تخرج من تيجان الأعمدة عقود مختلفة الأنواع-بعضها نصف دائري، وبعضها مستدق، وبعضها على شكل حذاء الفرس، ولمعظمها أوتاد من الحجر حمراء أو بيضاء بالتناوب. وكانت العمد من حجر اليشب والحجر السماقي، والمرمر، والرخام، انتزعت من خرائب الرومان والقوط الغربيين في أسبانيا، وكانت لكثرة عددها تحير الناظر وتوحي إليه بأن المسجد لا ينتهي عند حد. وقد نقشت على السقف الخشبي آيات من القرآن (الكريم) وزخارف أخرى داخل إطارات، وعلق فيه مائتا ثريا تحمل سبعة آلاف قنديل من الزيت المعطر تستمده من خزانات مصنوعة من نواقيس مسيحية مقلوبة معلقة هي الأخرى من السقف. أما الأرض والجدار فقد زينت بالفسيفساء، بعضها من الزجاج المطلي بالميناء،

ص: 304

الملون عند صنعه بكثير من الألوان الزاهية، وكثيراً ما كانت تحتوي على قطع من الفضة والذهب. ولا تزال هذه الزينات بعد ألف عام من وضعها تتلألأ كالجواهر في جدران الكنيسة. وقد جعل قسم من المسجد مزاراً مقدساً، ورصفت أرضه بالفضة وقطع القاشاني المطلية بالميناء، تحرسه أبواب مزدانة ومطعمة بالفسيفساء؛ وقامت عليه ثلاث قباب، وأحيط بساتر من الخشب محلاة بأبدع النقوش. وفي داخل هذا الموضع المنفصل أقيم المحراب والمنبر اللذان أفرغ عليهما الفنان كل ما وهب من حذق وإبداع. وكان المحراب نفسه تجويفاً سباعي الأضلاع محاطاً بالذهب ومزداناً بالفسيفساء المطلية بالميناء، ومزخرفاً بقطع صغيرة من الرخام وبنقوش من الذهب على أرضية قرمزية وزرقاء، يعلوه رباط من الأعمدة الرفيعة الرشيقة، والعقود المزدانة بأزهار الكُرَة

(1)

لا يفوقها في الجمال شيء مما أبدع الفن القوطي. وكان المنبر يعد أجمل منابر العالم طُراً؛ وكان يؤلف من 37. 000 قطعة صغيرة من العاج والأخشاب الثمينة-كالأبنوس، والأترج، وعود الند، والصندل الأحمر والأصفر، مثبتة كلها بمسامير من الذهب والفضة، ومطعمة بالجواهر. وكان على هذا المنبر صندوق مطعم بالجواهر عليه غطاء من الحرير القرمزي المطرز بخيوط من الذهب يحمل مصحفاً بخط الخليفة عثمان بن عفان، ومخضباً بدمه الذي جرى عليه عند مقتله. ويبدو لنا نحن الذين نفضل أن نزين دور تمثيلنا بالمعادن الذهبية وبالنحاس بدل أن نحلي كنائسنا بالجواهر والذهب، يبدو لنا أن في زخرفة المسجد الأزرق إسرافاً كبيراً، وأن جدرانه قد غطيت بطبقة من دماء الأجيال المستغلة؛ وأن الأعمدة فيه كثيرة مربكة، وأن العقد الذي على صوره حذاء الفرس ضعيف من الناحية المعمارية تنفر منه حاسة الجمال كما تنفر من منظر الرجل البدين ذي الساقين الفحجاوين

(2)

. ذلك حكمنا أما غيرنا فكان

(1)

حلية معمارية. (المترجم)

(2)

الساق الفحجاء هي التي انحنت من وسطها فتباعد وسطها عن وسط صاحبتها. (المترجم)

ص: 305

حكمه يناقض هذا الحكم؛ فالمقري (1591 - 1632) يرى أن هذا المسجد لا يدانيه مسجد آخر في سعته، أو جمال تخطيطه، أو نظام زخرفته الذي يشهد للقائمين به بحسن الذوق وبما يدل عليه من قوة وعظمة (65)، ولا يزال البناء حتى في شكله المسيحي المصغر يعد "بالإجماع أجمل المساجد الإسلامية في العالم كله"(66).

وكان من الأقوال المتداولة في بلاد الأندلس الإسلامية أنه "إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها" وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية"

(1)

. ذلك أن قرطبة كانت في القرن العاشر مركز الحياة الذهنية الأسبانية ذروتها، وإن اشتركت معها طليطلة، وغرناطة، وإشبيلية فيما وصل إليه ذلك العصر من رقي عقلي عظيم. ويصور المؤرخون المسلمون المدن الأندلسية تموج بالشعراء وجهابذة العلماء في العلوم الطبيعية، والأدبية، وكبار المشترعين، والأطباء؛ ويملأ المقري بأسمائهم ستين صحيفة (68). وكانت المدارس الابتدائية كثيرة العدد، ولكنها كانت تتقاضى أجوراً نظير التعليم، ثم أضاف الحكم إليها سبعاً وعشرين مدرسة لتعليم أبناء الفقراء بالمجان. وكانت البنات يذهبن إلى المدارس كالأولاد سواء بسواء، ونبغ عدد من النساء المسلمات في الأدب والفن (69)، وكان التعليم العالي يقوم به أساتذة مستقلون يلقون محاضراتهم في المساجد، وكانت المناهج التي يدرسونها هي التي كونت جامعة قرطبة ذات النظام المفكك، والتي لم يكن يفوقها في القرنين العاشر والحادي عشر إلا جامعتا القاهرة وبغداد الشبيهتان بها. وأنشأت الكليات أيضاً في غرناطة، وطليطلة، وإشبيلية، ومرسية، والمرية وبلنسية، وقادس (70).

(1)

قيل هذا في مناظرة جرت بين منصور بن عبد المؤمن وبين الفقيه العالم ابن رشد والرئيس ابي بكر بن هير وقائله هو ابن رشد نفسه وقد قدم المؤلف عجز العبارة على صدرها. (المترجم)

ص: 306

وأدخلت صناعة الورق من بغداد فازداد حجم الكتب وتضاعف عددها، حتى كان في الأندلس الإسلامية سبعون مكتبة عامة، وكان الأغنياء يتباهون بكتبهم المجلدة بالجلد القرطبي، ومحبو الكتب يجمعون النادر المزخرف منها. ومن ذلك أن الحضرمي أحد العلماء رأى في مزاد بقرطبة رجلاً آخر لا يفتأ ينافسه فيزيد من ثمن كتاب يرغب فيه حتى فاق الثمن كثيراً قيمة الكتاب، ولما سئل المزايد الذي اقتناه في ذلك قال إن في مكتبته الخاصة موضعاً خالياً يسع هذا الكتاب بالدقة. ويضيف فاغتاظ العالم من هذا القول أشد الاغتياظ ولم يسعه إلا أن يقول:"نعم لا يكون الرزق كثيراً إلا عند مثلك، ويعطى الجوز من لا أسنان له"

(1)

.

وكانت للعلماء في الأندلس منزلة رفيعة وشهرة واسعة، يعظمهم الناس ويهابونهم، ويستثيرونهم في شئونهم، ويعتقدون أن لا فرق مطلقاً بين العلم والحكمة. وكان علماء الدين والنحاة يعدون بالمئات؛ أما الخطباء، وفقهاء اللغة، وأصحاب المعاجم، والموسوعات، ودواوين الشعر، والمؤرخون، وكتاب السير فلم يكن يحصى عددهم. وكان أبو محمد علي بن حزم (994 - 1064) من جهابذة علماء الدين والمؤرخين، كما كان وزيراً لآخر الخلفاء الأمويين ويعد كتابه المعروف بـ"كتاب الملل والنحل"

(2)

الذي يتكلم فيه على اليهودية،

(1)

ثم أضاف: وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلاً وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه. (المترجم)

(2)

اسم الكتاب كاملاً هو "الفصل في الملل والأهواء والنحل" للإمام أبي محمد علي ابن أحمد ابن حزم سنة 456 هــ وأما كتاب "الملل والنحل" فللإمام أبي الفتح محمد ابن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548 هـ. والفصل الواردة في بدْ اسم الكتاب الأول جمع فصله بالكسر كقصعة وقصع وهي النخلة المنقولة من محلها إلى آخر لتثمر. هذا ولم نعثر على الفقرة الواردة هنا بنصها في كتاب ابن حزم ويبدو لنا أن دوزي الذي نقل عنه المؤلف فد أخذ معناها من مواضع متفرقة من الكتاب ولهذا لم نرَ بداً من ترجمتها واستعملنا ما عثرنا عليه من ألفاظ ابن حزم في الفص الذي تكلم فيه على النصارى. (المترجم)

ص: 307

والزرادشتية، والمسيحية، والفرق الإسلامية المختلفة من أقدم ما كتبه الأقدمون في علم الأديان المقارن. وإذا شئنا أن نعرف رأي العالم المسلم فيما كانت عليه المسيحية في العصور الوسطى فحسبنا أن نقرأ الفقرة الآتية من هذا الكتاب:

يجب أن لا تثير أوهام بني الإنسان عجباً، فإن أكثر الأمم عدداً، وأعظمها حضارة تستحوذ على عقول أبنائها هذه الأوهام

فالمسيحيون من الكثرة بحيث لا يحصي عددهم إلا الله وحده. وبوسعهم أن يباهوا بمن فيهم من ملوك حكماء وفلاسفة نابهين، ولكنهم مع هذا يقولون. إن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وأن أحد هؤلاء الثلاثة الأب والثاني الابن، وإن الإنسان إله وليس إلهاً، وإن المسيح قديم وجود من الأزل، ومع ذلك فهو مخلوق، ومنهم فرقة تسمى اليعاقبة، تبلغ عدتها مئات الآلاف تعتقد أن الخالق مات وصلب وقتل، وأن العالم بقي ثلاثة أيام بلا مدبر، والفلك بلا مدبر (72).

وكان ابن زم يؤمن بأن كل كلمة وردت في القرآن حق بنصها ومعناها (73).

وكان من أشد العوائق في سبيل تقدم العلم والفلسفة في بلاد الأندلس الخوف من أن يؤثرا في إيمان العامة، ولكن الأندلس تستطيع أن تفخر بكثير من الفلاسفة والعلماء. فمن هؤلاء مسلمة بن أحمد (المتوفى في عام 1007) والذي عدل أزياج الخوارزمي الفلكية لتلائم أسبانيا، ومن الكتب التي تعزى إليه، وإن لم يثبت أنه له بصورة قاطعة، كتاب يصف إحدى التجارب الكثيرة التي حولت الكيمياء الكاذبة إلى كيمياء صحيحة-وهي التجربة التي استخرجت أكسيد الزئبق من الزئبق. وأصبح اسم إبراهيم الزرقالي (1029 - 1087) أحد علماء طليطلة من الأسماء العالمية، لأنه حسن الآلات الفلكية؛ وينقل كوبرنيق فقرات من رسالته عن الاسطرلاب، وكانت أزياجه الفلكية خير الأزياج كلها في زمانه، وقد استطاع بها أن يثبت لأول مرة في التاريخ حركة الأوج الشمسي بالنسبة للنجوم. وكانت "أزياج طليطلة" المحددة لحركات الكواكب

ص: 308

تستخدم في كافة أنحاء أوربا؛ وكان لأبي قاسم الزهراوي (936 - 1013) طبيب عبد الرحمن الثالث منزلة رفيعة في العالم المسيحي، ويعرف فيه باسم أبو الكاسس Abulcasis؛ وهو حامل لواء الجراحين المسلمين، وتحتوي موسوعته الطبية المسماة "التصريف" ثلاثة كتب في الجراحة أصبحت بعد أن ترجمت إلى اللغة اللاتينية المرجع الأعلى في الجراحة قروناً كثيرة. وكانت قرطبة في ذلك الوقت المدينة التي يلجأ إليها الأوربيون لتجرى لهم الجراحات. وكانت تحتوي، كما تحتوي كل مدينة متمدينة، على بعض المتطببين الدجالين، والأطباء الذين ابتلوا بجنون الثروة؛ ومن هؤلاء رجل يسمى الحراني أعلن على دواء يشفى الاضطراب المعوية، وكان يبيع الزجاجة من للسذج من ذوي المال بخمسين ديناراً (237. 5 يال أمريكي).

ويقول المقري: "وسنمسك عن ذكر الشعراء الذين ظهروا في أيام هشام الثاني والمنصور لأن عددهم كان أكثر من رمال البحر"(75). وكان من بينهم الأميرة الولادة (المتوفاة في عام 1078)؛ والتي كان بيتها في قرطبة ندوة حقة شبيهة بندوات عهد الاستنارة في فرنسا: فكان يلتف حولها الظرفاء، والعلماء، والشعراء؛ وقد أحبت عدداً كبيراً منهم، وكتبت عن عشاقها بحرية لو سمعت بها السيدة ريكمييه Mm R (camisr لارتاعت لها. ولقد بزتها صديقتها مهجة القرطبية في جمال الجسم وخلاعة الشعر

(1)

وكاد كل إنسان في الأندلس وقتئذ أن يكون شاعراً، يتطارح الشعر المرتجل مع غيره لأي سبب. وكان الخليفة نفسه يشترك في هذه المطارحات الشعرية، وقلما كان يود في البلاد أمير مسلم ليس في بلاطه شاعر يكرم ويُخصص له راتب. وقد أدت هذه الرعاية الملكية إلى الشر كما أدت إلى الخير. ذلك أن ما وصلنا من شعر ذلك العصر كثيراً ما يبدوا فيه

(1)

يصفها المقري بقوله إنها من أجمل نساء زمانها ولازمت ناديها وكانت من أخف النساء روحاً. (المترجم)

ص: 309

التكلف والصناعة اللفظية، والمحسنات، وهو مثقل بالتشبيهات والاستعارات مفعم بالعبارات الدالة على الكبرياء والغرور. أما موضوعه فهو الحب الشهواني والعذري، وقد استبق الشعراء في أسبانيا وفي الشرق الإسلامي أساليب شعراء الغزل في عه الفروسية Toubadors، وطرقهم وفلسفتهم (76).

وسنختار من هذا العدد الجم نماً واحداً لامعاً هو سعيد ابن جودي ابن صاحب الشرطة بقرطبة

(1)

. كان سعيد جندياً مقداماً كثير العشق، يتصف بجميع الصفات التي تجعله في نظر المسلمين سميذعاً أي سيداً كاملاً بحق: فقد كان سخياً، شجاعاً، فارساً بارعاً، بهي الطلعة، فصيح اللسان، شاعراً ممتازاً، قوي الجسم، يجيد فنون المصارعة والمثاقفة بالسيف، والرمح، والرمي بالقوس (77). ولم يكن يدري قي أي وقت من الأوقات أيهما احب إليه-الحب أو الحرب. وكان يتأثر بلمس المرأة مهما ضعف، ولذلك افتتن بكثيرات من النساء كان حب كل واحدة منهن يبشر بحب دائم لا ينقطع. وكان حبه كحب شعراء عهد الفروسية الشعراء الجوالين الغزالين أشد ما يكون حين تندر رؤية الحبيب. وكانت أعظم قصائده الغزلية قصيدة ووجهها إلى جيجان التي لم ير منها إلا يدها الصغيرة الناصعة البياض. وكان أبقورياً صريحاً يشعر بأن على رجال الأخلاق يقع عبء البرهنة على أن السعادة ليست هي اللذة. ومن أقواله في هذا المعنى:

(1)

اسمه الكامل سعيد بن سليمان بن جودي، وترجمته في كتاب الحلة السيراء لابن الأبار طبعة دوزي ص 83 وما بعدها. ومن قوله في جيجان: سمعي أبي أن يكون الروح في بدني، فاعتاض قلبي منه لوعة الحزن. أعطيت جيجان روحي عن تذكرها، هذا ولم أرها يوماً ولم ترني. كأنني واسمها والدمع منسكب، من مقلتي راهب صلى إلى وثن. ويقال إنه نظر إلى جارية فاعتراها الخجل وأطرقت بعينها فقال: أمائلة الألحاظ عني إلى الأرض، أهذا الذي تبدين ويحك عن بغض. فإن كان بغضاً لست والله أهله، ووجهي بذاك اللحظ أولى من الأرض (المترجم).

ص: 310

لا شيء أملح ..... ومن مناقلة كأساً على طبقِ

ومن مواصلة من بعد معتبة ومن مراسلة الأحباب بالحدقِ

جريت جري جموحٍ في الصبا طلقا وما خرجت لصرف الدهر عن طلقي

ولا انثنيت لداعي الموت يوم دعا ولا انثنيت وحبل الحب في عنقي

وكان زملاؤه في الجندية يغضبون منه أحياناً لأنه يغوي أزواجهم، وقد قبض عليه في يوم ما أحد الضباط في بيته وقتله (897).

وقد لقي شاعر أعظم منه وأنبل خاتمة خيراً من هذه وأعظم منها بطولة، ذلك هو المعتمد أمير إشبيلية. وكان كغيره من الملوك الصغار في بلاد الأندلس بعد تفرقها قد ظل عدة سنين يؤدي الجزية إلى ألفنسو السادس (الأذفنش) ملك قشتالة يشتري بها عدم اعتداء المسيحية على الإسلام. ولكن الرشا تترك على الدوام بقية منها يؤديها الراشي متى طُلب إليه الأداء. وأستخدم ألفنسو المال الذي يأتيه من ضحيته في الانقضاض على طليطلة في عام 1085؛ أيقن المعتمد أن إشبيلية ستكون الفريسة الثانية. وكانت دويلات الأندلس وقتئذ قد أنهكتها حرب الطبقات وحروبها فيما بينها إلى حد عجزت معه عن مقاومة عدوها المشترك مقاومة مجدية؛ ولكن أسرة إسلامية جديدة قامت وقتئذ على الجانب الآخر من البحر المتوسط هي أسرة المرابطين وقد (أشتق اسمها من اسم أحد الأولياء الصالحين في الشمال الغربي من إفريقية). وكان الأساس الذي قامت عليه دولة المرابطين هو الاستمساك الشديد بالدين، ولم يكد يبقى فيها رجل غير جندي من جنود الله، ولم تجد جيوشها صعوبة في الاستيلاء على مراكش بأجمعها. وتلقى في ذلك الوقت مليكها يوسف بن تاشفين-وهو رجل يتصف بالشجاعة والدهاء-دعوة من أمراء الأندلس يستنجدون به من وحش قشتالة المسيحي الضاري. فعبر يوسف بجيشه مضيق جبل طارق، وتلقى المد من مالقة، وغرناطة، وإشبيلية،

ص: 311

والتقى بجيش ألفنسو عند الزلاقة القريبة من بطليوس (1086). (بدجوز Badaioz) . وبعث ألفنسو برسالة رقيقة إلى يوسف يقول فيها: "إن غداً (الجمعة) يوم عيد عندكم، ويوم الأحد عيد عندنا، ولهذا فإني أقترح أن تدور المعركة في يوم السبت". ووافق يوسف على هذا الاقتراح ولكن ألفنسو هجم على المسلمين في يوم الجمعة. وأظهر يوسف والمعتمد في الحرب كثيراً من ضروب البسالة، وأحتفل المسلمون بعيدهم بقتل عدد كبير من المسيحيين، ولم ينج ألفنسو وخمسمائة من رجاله من الموت إلا بشق الأنفس. ودهشت أسبانيا حين عاد يوسف إلى إفريقية دون أن يغنم شيئاً ..

ولكنه عاد بعد أربع سنين. وكان سبب رجوعه أن المعتمد ألح عليه بأن يقضي على قوة ألفنسو الذي كان يحشد الجيوش ليهاجم المسلمين من جديد. والتقى يوسف بالمسيحيين في مواقع غير حاسمة، وبسط سلطانه على بلاد الأندلس الإسلامية. ورحب به الفقراء لأن من طبعهم على الدوام أن يفضلوا السيد الجديد على القديم، وعارضته الطبقات المتعلمة لأنه في نظرهم يمثل الرجعية الدينية، وابتهج رجال الدين بمقدمه. واستولى يوسف على غرناطة من غير مقاومة، وأكتسب محبة أهلها بإلغاء جميع الضرائب التي لا ينص عليها القرآن (1090). وعقد المعتمد وغيره من الأمراء فيما بينهم حلفاً لمقاومته، كما عقدوا حلفاً مقدساً! مع ألفنسو. وحاصر يوسف قرطبة وأسلمها إليه أهلها، ثم حاصر إشبيلية ودافع عنها المعتمد دفاع الأبطال، ورأى بعينيه ولده يقتل في الدفاع عنها، فحزن لموته حزناً هد ركنه واستسلم للمحاصرين

(1)

، ولم يحل عام 1091 حتى سقطت جميع الأندلس ماعدا سرقطة في يد يوسف بن تاشفين، وأصبحت أسبانيا الإسلامية ولاية تابعة لإفريقية.

(1)

المعروف أنه كان للمعتمد ولدان هما المعتمد بالله والراضي بالله وأنعما قتلا غيلة وله في رثائهما شعر كثير. أنظر الجزء الثالث من ضحى الإسلام للمرحوم الدكتور أحمد أمين. (المترجم)

ص: 312

وسيق المعتمد أسير حرب إلى طنجة، وتلقى وهو فيها رسالة من أحد شعرائها وهو الحصري حَوت أبياتاً من الشعر يثني فيها عليه ويسأله العطاء. ولم يكن الأمير المغلوب على أمره يملك من متاع الدنيا في ذلك الوقت أكثر من خمسة وثلاثين ديناراً بعث بها إلى الحصري وأعتذر له عن قلتها

(1)

. ثم نقل المعتمد إلى أغمات القريبة من مدينة مراكش وعاش فيها بعض الوقت مكبلاً بالأغلال، فقيراً معدماً، ولم ينقطع عن قول الشعر حتى مماته (1095). ومن قصائده قصيدة خليقة بأن تنقش على قبره:

أرى الدنيا الدنية لا تواتى فأجمل في التصرف والطلاب

ولا يغررك منها حسن برد له علمان من ذهب الذهاب

فأولها رجاء من سرابٍ وآخرها رداء من تراب

(2)

.

(1)

الحصري هو صاحب "زهر الآداب" وهو الذي استجدا ابن عباد في منفاه، وكان فقيراً، فأخذت ابن عباد أريحيته وبعث إليه بكل ما معه، وبعث مع ذلك بقطعة يعتذر فيها عن قلة ما منحه وأستبشع مؤرخو الأدب فعلة الحصري وقالوا:"أنه جرى مع المعتمد على سوء عادته من قبح الكدية وإفراط الإلحاف" وقد قال المعتمد نفسه فسر هذا المعنى: سألوا اليسرا من الأسير وإنه؛ بسؤالهم لأحق منهم فأعب .. لولا الحياء وغزة الحمية؛ طي الحشا لحكاهم في المطلب .. (من الجزء الثالث من ظهر الإسلام للمرحوم الدكتور أحمد أمين)(المترجم)

(2)

هذه هي أقرب أبيات وجدناها في أشعار المعتمد إلى الأصل الإنجليزي وقد يكون في الترجمة الإنجليزية بعض التصرف الذي تحتمه ترجمة الشعر العربي إلى شعر إنجليزي. (المترجم)

ص: 313

الباب الرابع عشر

‌عظمة المسلمين واضمحلالهم

1058 -

1258

الفصل الأوَّل

‌الشرق الإسلامي

1058 -

1250

لما توفي طغرل بك في عام 1063 خلفه ابن أخيه ألب أرسلان سلطاناً على السلاجقة، ولم يكن ألب أرسلان وقتئذ قد جاوز السادسة والعشرين من عمرهِ ويصفه أحد المؤرخين المسلمين بأنه رجل طويل القامة له شاربان بلغ من طولهما أن كان يضطر إلى ربطهما حين يريد الصيد، وأن سهامه لم تُخطئ مرماها قط. وكان يضع على رأسهِ عمامة عالية يقول الناس إن المسافة من أعلاها إلى طرف شاربه لا تقل عن ذراعين. وكان حاكماً قوياً عادلاً، كريماً بوجه عام، لا يتوانى عن مجازاة من يظلم الناس أو يغتصب مالهم من عمالهِ، كثير البذل للفقراء. وكان يقضي جزءاً كبيراً من وقته في دراسة التاريخ، كما كان مولعاً بالاستماع إلى أخبار السابقين وإلى الأعمال التي تكشف عن أخلاقهم، وأنظمة حكمهم وإدارتهم (1).

ولكن ألب أرسلان قد أثبت رغم هذه الميول العلمية أنه خليق باسمهِ-"البطل قلب الأسد" فقد فتح هراة، وأرمينية، وبلاد الكرج، والشام. وحشد إمبراطور الروم جيشاً مؤلفاً من مائة ألف جندي من مختلف الأجناس،

ص: 314

مختل النظام ليلاقي به جنود ألب أرسلان المضرسين البالغ عددهم 15. 000 مقاتل، فلما التقيا عرض القائد السلجوقي على عدوه صلحاً معقولاً، رفضه رومانوس Romanus بازدراء، واشتبك معه في معركة عند منزبكرت (ملازكرت أو ملاسجرد) بأرمينية (1071)، وحارب ببسالة بين جنده الجبناء، فهزم ووقع في الأسر، وجيء به إلى السلطان فسأله ماذا كان يفعل لو ابتسم الحظ لجندهِ؟ فأجابه رومانوس بأنه في هذه الحال كان يمزق جسمه بالسياط. ولكن ألب أرسلان عامله أحسن معاملة، وأطلق سراحه بعد أن وعده بأن يفتدي نفسه بفدية كبيرة، وسمح له بالرجوع إلى بلاده، ومنحه كثيراً من الهدايا القيمة (2)، وبعد عام من ذلك الوقت اغتيل ألب أرسلان.

وكان ابنه ملك شاه (1072 - 1092) أعظم سلاطين السلاجقة على الإطلاق. وبينما كان قائده سليمان يتم فتح آسية الصغرى، كان هو نفسه يستولي على ما وراء نهر جيحون ويمتد فتوحه إلى بخارى وكاشغر. وأسبغ وزيره القدير الوفي نظام الملك على البلاد في عهد وعهد أبيه ألب أرسلان كثيراً من الرخاء والبهاء كالذي أسبغه البرامكة على بغداد في أيام هارون الرشيد. فقد ظل نظام الملك ثلاثين عاماً ينظم شؤون البلاد، ويشرف على أحوالها الإدارية والسياسية، والمالية، ويشجع الصناعة والتجارة ويصلح الطرق، والجسور، والنزل، ويجعلها آمنة لجميع المسافرين. وكان صديقاً كريماً للفنانين، والشعراء، والعلماء؛ شاد المباني الفخمة في بغداد، وأسس فيها مدرسة كبرى ذاع صيتها في الآفاق، وأمر بإنشاء إيوان القبة العظيم في المسجد الجامع بأصفهان، ورصد له ما يلزمه من المال. ويبدو أنه هو الذي أشار على ملك شاه بأن يستقدم إلى بلاطه عمر الخيام وغيره من الفلكيين لإصلاح التقويم الفارسي. وتقول قصة قديمة إن نظام الملك، وعمر الخيام، وحسن ابن الصباح أقسموا وهم صغار يطلبون العلم أن يقتسموا جميعاً ما عسى أن يواتي أي أحد منهم من حظ طيب. وأكبر الظن أن هذه القصة،

ص: 315

كغيرها من القصص الطيبة، من نسج الخيال، لأن نظام الملك ولد في عام 1017، على حين أن عمر الخيام، وحسن ابن الصباح توفيا فيما بين عامي 1123، 1124؛ وليس لدينا ما يشير إلى أن أحدهما كان من المعمرين.

وكتب نظام الملك وهو في سن الخامسة والسبعين فلسفته في الحكم في كتاب من أكبر الكتب في النثر الفارسي وهو كتاب-سياسة ناما أي كتاب فن الحكم. وهو يوصي فيه بقوة أن يستمسك الملك والشعب بأصول الدين، ويرى أن الحكومة لا يمكن أن تستقر إلا إذا قامت على هذا الأساس، واستمدت من الدين وسلطانه. ولم يبخل على مليكه في الوقت عينه ببعض النصائح الإنسانية يبصره فيها بما على الحاكم من واجبات، فقال إن الحاكم يجب أن لا يفرط في الشراب أو اللهو، وإن عليه أن يتبين كل ما يرتكبه الموظفون من فساد أو ظلم، ويعاقبهم عليه؛ وأن يعقد مجلساً عاماً مرتين كل أسبوع يستطيع أن يتقدم فيه أحقر رعاياه بما لديهم من الشكاوى والمظالم. وكان نظام الملك رحيماً في حكمه ولكنه لم يكن متسامحاً في أمور الدين؛ وهو يأسف لأن الدولة تستخدم في أعمالها المسيحيين واليهود والشيعة، ويندد أشد التنديد بطائفة الإسماعيلية، ويقول إنها تهدد وحدة الدولة. وفي عام 1092 اقترب من أحد أتباع الطائفة المتعصبين لها مدعياً أنه يريد أن يتقدم إليه بمعروض، وطعنه طعنة قضت عليه.

وكان هذا القاتل عضواً في طائفة من اعجب الطوائف في التاريخ. وكان منشؤها أن أحد زعماء الإسماعيلية-وهو الحسن بن الصباح الذي تجمع إحدى القصص المشكوك في صدقها بينه وبين عمر الخيام، ونظام الملك-استولى على حصن الموت (عش النسر) في الجزء الشمالي من إيران، ومن هذا الحصن المنيع الذي يعلوا عن سطح البحر بعشرة آلاف قدم شن حرباً عواناً من التقتيل

ص: 316

والإرهاب على أعداء الشيعة، وعلى الذين يضطهدون معتنقيها. وكان نظام الملك قد اتهم هذه الطائفة في كتابه بأن زعماءها من نسل المزدكية الشيوعية أهل فارس الساسانية. وكانت في الواقع جمعية سرية ذات درجات متفاوتة يمر بها أتباعها، ولها رئيس أعلى أطلق عليه الصليبيون اسم "شيخ الجبل". وكانت أدنى طبقاتها تشمل الذين يطلب إليهم أن ينفذوا من غير ما تردد أو تفكير كل ما يصدره لهم رؤساؤهم من الأوامر. ويقول ماركو بولو Marco Polo الذي مر بألموت نفسها في عام 1271 إن زعيم الطائفة الكبرى أعد خلف الحصن حديقة جمع فيها كل ما في الجنة-على حسب ما يعتقده. عامة المسلمين- من سيدات وفتيات يستطيع الرجال أن يشبعوا معهم شهواتهن، وإن الذين يريدون أو ينضموا إلى الطائفة كانوا يسقون الحشيش، حتى إذا غابوا عن وعيهم جيء بهم إلى الحديقة، فإذا عادوا إلى صوابهم قيل لهم إنهم في الجنة. وبعد أن يقضوا أربعة أيام أو خمسة يستمتعون فيها بالخمر والنساء ولذيذ الطعام، يخدرون مرة أخرى بالحشيش ثم ينقلون مرة أخرى من الحديقة، فإذا استيقظوا وسألوا عن الجنة التي كانوا فيها، قيل لهم إنهم سيعدون إليها ويبقون إلى أبد الدهر إذا أطاعوا الشيخ واخلصوا له أو استشهدوا في خدمتهِ (4). كان الشبان الذين يرضون بهذا الوضع يسمون "الحشاشين" أي الذين يشربون الحشيش-ومن هذه الكلمة اشتق لفظ Assassin الإفرنجي الذي يطلق على المغتال. وظل حسن يحكم ألموت خمساً ولثلاثين سنة، وأحالها مركزاً للاغتيال والتعليم والفن. وظلت هذه الطائفة باقية بعد وفاته بزمن طويل، واستولت على عدة حصون أخرى منيعة، وحاربت الصليبيين، ويقال إنها هي التي قتلت كنراد المنتفراتي Conrad of Monteferrat بتحريض رتشرد قلب الأسد (5). وفي عام 1256 استولى المغول بقيادة هولاكو على حصن ألموت وغيره من معاقل الحشاشين، وأخذت الدولة والإمارات الإسلامية من ذلك الوقت تطاردهم وتقتلهم لأنها ترى فيهم أعداء للمجتمع

ص: 317

يعملون على خرابه وتدميره. ولكنهم مع ذلك ظلوا بوصفهم طائفة دينية وأضحوا على مر الأيام مسالمين خليقين بالاحترام؛ وفي الهند، وفارس، والشام، وإفريقية كثيرون من أتباع هذه الطائفة يعترفون بزعامة أغا خان ويؤدون إليه عشر دخلهم (6).

وتوفي ملك شاه بعد شهر من وفاة وزيره، وتنازع أبناؤه على وراثة العرش واقتتلوا، وتفرق المسلمين في أثناء هذا النزاع فلم يواجهوا الصليبيين بقوة متحدة. وأعاد السلطان سنجر إلى بغداد أبهة السلاجقة في أثناء حكمه الذي دام من 1117 حتى 1157، وازدهرت في أيامه الآداب بفضل تعضيده ومناصرته، ولكن الدولة السلجوقية تفككت بعد وفاته وانقسمت إلى إمارات مستقلة تحكمها أسر قليلة الشأن وملوك متنازعون متقاتلون، وقام في الموصل أحد المماليك ملك شاه الأكراد وهو عماد الدين زنكي وأسس أسرة الأتابكة (آباء الأمراء) في عام 1127 وهي الأسرة التي حاربت الصليبيين حرباً عواناً وبسطت سلطانها على بلاد النهرين. وفتح ابنه نور الدين محمد (1146 - 1173) بلاد الشام، واتخذ دمشق عاصمة له، وحكم أملاكه حكماً عادلاً حازماً، وانتزع مصر من الأسرة الفاطمية المحتضرة.

وكانت عوامل الانحلال، التي أدت إلى خضوع الخلفاء العباسيين إلى سلطان بني بويه السلاجقة، قد أدت بعد قرنين من تضعضع الخلافة العباسية إلى اضمحلال شأن الخلافة الفاطميين حتى غدوا رؤساء دينيين لا أكثر في دولة يحكمها وزراؤهم وقادة الجنود. وانغمس هؤلاء الخلفاء في اللهو الشهوات بين نسائهم اللاتي لا يحصى عددهن، وأحاطوا أنفسهم بالخصيان والعبيد، وأفقدهم الترف والانغماس في الشهوات الجنسية صفات الرجولة، فتركوا وزراءهم يلقبون أنفسهم بالملوك ويوزعون مناصب الدولة ومزايا الحكم كما يشتهون. وحدث في

ص: 318

عام 1164 أن قام النزاع على الوزارة بين اثنين

(1)

من القواد. واستعان أحدهما وهو شاور على منافسه بنور الدين، فبعث إليه بقوة صغيرة يقودها أسد الدين شيركوه. وانتهى الأمر بأن قتل شيركوه شاور ونصب نفسه وزيراً. ولما مات شركوه خلفه في الوزارة ابن أخيه الذي صار فيما بعد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب والمعروف عند الغربيين باسم Saladin.

وقد ولد صلاح الدين في كريت الواقعة في أعالي نهر دجلة عام 1138 من أسرة كردية-غير سامية. وكان أبوه أيوب قد ارتقى في مناصب الدولة التي صار والياً على بعلبك أيام عماد الدين زنكي، ثم والياً على دمشق في أيام نور الدين محمود. ونشأ صلاح الدين في هاتين المدينتين في بيت من بيوت الإمارة، وتعلم فنون السياسة والحرب، ولكنه جمع إليها صلاحاً وتمسكاً بالدين، وتحمساً له، وإتقاناً لأصولهِ، وبساطة في المعيشة لا تكاد تفترق عن بساطة الزهاد. ويعده المسلمون من أعظم رجالهم الصالحين وكان خير أثوابه ثوباً من الصوف الخشن الغليظ، ولم يكن يشرب غير الماء وكان مضرب المثل في اعتداله في العلاقات الجنسية، وبلغ في ذلك درجة لا يدانيه فيها معاصروه. قدم إلى مصر مع شيركوه، واشترك فيما نشب فيها من قتال، واستلفت الأنظار ببسالته وحسن تدبيره، فعين حاكماً على الإسكندرية وصد عنها غارة الفرنجة في عام 1167. ثم تولى الوزارة وهو في سن الثلاثين، فبذل جهده في إعادة المذهب السني إلى مصر، حتى إذ كان عام 1170 استبدل باسم الخليفة الفاطمي الشيعي اسم الخليفة العباسي السني في خطبة الجمعة. ولم يكن للخليفة العباسي في ذلك الوقت أكثر من الزعامة الدينية الاسمية في بغداد. وكان الخليفة العاضد، آخر الخلفاء الفاطميين في ذلك الوقت، مريضاً في قصره، وظل على غير علم بهذا الانقلاب

(1)

هما شاور وضرغام. (المترجم)

ص: 319

الديني، لأن صلاح الدين حرص على أن لا تصله أنباؤه حتى يقضي هذا السجين العديم الشأن نحبه في هدوء وسلام. وقد حدث هذا بالفعل بعد قليل، فمات ولم يبايع من يخلفه على العرش، وانقضى بذلك حكم الأسرة الفاطمية دون أن يحدث في البلاد شيء من الاضطراب. وجعل صلاح الدين نفسه والياً على البلاد لا وزيراً، وأقر لنور الدين بالسيادة. ولما دخل صلاح الدين قصر الخليفة بالقاهرة وجد في اثني عشر ألف شخص كلهم نساء عدا أقارب الخليفة نفسه، كما وجد فيه من الحلي، وأثاث، والعاج، والخزف الثمين ما لا يوجد في قصر أعظم عظماء ذلك الوقت. ولم يحتفظ صلاح الدين بشيء من هذا كله لنفسهِ، ووهب القصر لقواد جنده، وظل هو يسكن حجرات الوزير ويعيش فيها عيشة البساطة التي هي من خير النعيم على صاحبها.

ولما مات نور الدين في عام 1173 أبى ولاة الأقاليم أن يبايعوا ابنه البالغ عمره أحد عشر عاماً ملكاً عليهم، وأوشكت بلاد الشام أن تقع مرة أخرى في براثن الفوضى. وقال صلاح الدين إنه يخشى أن يستولي الصليبيون على تلك البلاد فسار من مصر ومعه سبعمائة من الفرسان، واستطاع بحملة سريعة موفقة أن يستولي على جميع بلاد الشام. ولما عاد إلى مصر لقب نفسه ملكاً وأسس الأسرة الأيوبية (1175)، وخرج من مصر مرة أخرى بعد ست سنين من ذلك الوقت، واتخذ دمشق مقراً له، واستولى على بلاد النهرين، وكان فيها، كما كان في القاهرة. الرجل الحريص على دينهِ، المستمسك بأصولهِ. وأنشأ عدة مساجد، وبيمارستانات، وأديرة، ومدارس لتعليم قواعد الدين، وشجع العمارة، وإن لم يشجع العلوم الزمنية، وكان يشرك الفاطميون في احتقاره الشعر. ولم يكن يتوانى عن إصلاح كل خطأ ورد كل ظلم يصل إلى علمه، وخفف الضرائب في الوقت الذي أكثر فيه من المنشئات العامة، وأدار دولاب الحكومة بحزم وكفاية وحرص شديد على المصلحة العامة. وكانت البلاد الإسلامية تفخر بعدلهِ وصلاح

ص: 320

حكمه، بينما كانت المسيحية تعترف بشهامته وإن لم يكن من دينها

(1)

.

وسنمسك القلم عن التبسط في أحوال الأسر المحلية التي اقتسمت بلاد الشرق الإسلامية بعد موت صلاح الدين (1193). وحسبنا أن نقول إن ابنه كانت تنقصه مواهب أبيه، وإن حكم الدولة الأيوبية في بلاد الشام انقضى بعد ثلاث أجيال (1260). أما في مصر فقد ظل مزدهراً حتى عام 1250، ووصل إلى ذروة مجده وقوته في عهد الملك المستنير الملك الكامل (1218 - 1238) صديق فردريك الثاني. وفي آسية الصغرى أقام السلاجقة سلطنة بلاد "الروم" وجعلوا قونية (إيقونيوم Iconium الوارد ذكرها في أقوال القديس بولس) مركزاً لحضارة ذات آداب رفيعة. وانمحت من آسية الصغرى أسس الحضارة اليونانية التي كانت قائمة فيها منذ أيام هومر، وأصبحت بلاداً تركية لا تقل في صبغتها هذه عن التركستان نفسها، وتقوم فيها الآن الدولة التركية متخذة عاصمتها مدينة كانت في الزمن القديم عاصمة الحيثيين. وكانت قبيلة أخرى من الأتراك تحكم خوارزم (1077 - 1231)، وقد بسطت هذه القبيلة سلطانها من جبال أورال حتى الخليج الفارسي. وفي هذه الأحوال وهذا الانقسام السياسي أسس جنكيز خان الدولة الإسلامية الآسيوية.

وكانت بلاد الشام حتى هذه الفترة من عهود الاضمحلال تتزعم العالم كله في الشعر، والعلم، والفلسفة، وتنافس آل هوهنستوفن Hohenstaufen في الحكم. فقد كان سلاطين السلاجقة-طغرل بك، وألب أرسلان، وملك شاه وسنجر-من أقدر الحكام في العصور الوسطى، ويعد نظام الملك من أعظم رجال الحكم والسياسة، ولم يكن نور الدين، وصلاح الدين، والكامل

(1)

قد يدهش القارئ لأن المؤلف أغفل جهود صلاح الدين في رد الصليبيين، ولكن هذه الجهود ستأتي في موضعها من الأجزاء الأخرى. (المترجم)

ص: 321

أقل شأناً من رتشرد الأول، ولويس التاسع، وفردريك الثاني. وجرى هؤلاء الحكام المسلمون جميعهم، بل وصغار الملوك أنفسهم، على سنة الخلفاء العباسيين في مناصرة الآداب والفنون، حتى لنجد في بلاطهم شعراء أمثال عمر الخيام، والنظامي، والسعدي، وجلال الدين الرومي، وبلغت العمارة في أيامهم درجة من الازدهار لم تبلغها قط من قبل، وإن كانت الفلسفة قد اضمحلت لتشددهم في الدين

(1)

؛ فقد طارد السلاجقة وصلاح الدين كل خارج على السنة من المسلمين، ولكنهم كانوا يعاملون اليهود والمسيحيين معاملة بلغ من تسامحها ولينها أن المؤرخين البيزنطيين يحدثوننا عن جماعات مسيحية تطلب إلى الحكام السلاجقة أن يأتوا إليهم ليطردوا حكامها البيزنطيين الظالمين (7). وازدهر غرب آسية مرة أخرى مادياً، وأدبياً في عهد السلاجقة والأيوبيين حتى كانت دمشق، وحلب، والموصل، وبغداد، وأصفهان، والري، وهراة، وأميدا، ونيسابور، ومرو وقتئذ من أكثر مدن العالم ثقافة وجمالاً. وقصارى القول أن هذا العصر كان عصر اضمحلال متلألئ ساطع.

(1)

لسنا نعتقد أن التشدد في الدين يحول دون التقدم في الفلسفة ولكن عدم فهم الدين على الوجه الصحيح هو الذي يحول دون تقدمها. (المترجم)

ص: 322

الفصل الثاني

‌المسلمون في الغرب

1068 -

1300

توفي الملك الصالح آخر سلاطين الأيوبيين عام 1249، وتغاضت أرملته وجاريته السابقة شجرة الدر عن مقتل ابن زوجها ونادت بنفسها ملكة. وأراد الزعماء المسلمون في القاهرة أن يوفقوا بين هذا ومقتضيات الشرف والرجولة فاختاروا مملوكاً آخر يدعى أيبك ليكون شريكاً لها في الملك وتزوجت به شجرة الدر، ولكنها ظلت هي الحاكمة، ولما حاول أن يستقل بالملك دونها عملت على قتله في الحمام (1257)، ولم تلبث أن قتلتها جواري أيبك بالقباب، وكان أيبك قد عاش من العمر ما يكفي لإنشاء أسرة المماليك، وكان لفظ مملوك يطلق على الأرقاء البيض، وهم في العادة من الأتراك أو المغول الأشداء البواسل، الذين كان سلاطين بني أيوب يستخدمونهم في حرسهم الخاص، وأصبح هؤلاء فيما بعد ملوك مصر، كما أصبح أمثالهم ملوكاً في روما وبغداد، وظل المماليك يحكمون مصر، وبلاد الشام أحياناً؛ 267 عاماً (1250 - 1517) أريقت فيها كثير من دماء الاغتيال في عاصمة ملكهم؛ ولكنهم جملوها بآثار الفن. وقد أنجوا بشجاعتهم بلاد الشام وأوربا نفسها من المغول حين بددوا شملهم في واقعة عين جالوت (1260)، وكانوا هم الذين أنجوا فلسطين من الفرنجة، وطردوا آخر محارب مسيحي من بلاد آسية، وإن لم ينالوا من وراء ذلك من الحمد ما نالوه بهزيمة المغول.

وكان أعظم سلاطين المماليك وأشدهم قسوة الظاهر بيبرس (1260 - 1277).

ص: 323

كان الظاهر بيبرس مملوكاً تركياً؛ رفعه دهاؤه وبسالته إلى منصب القيادة في الجيش المصري، وكان هو الذي هزم لويس التاسع في عام 1250، والذي حارب بعد عشر سنين من ذلك الوقت ببسالة ومهارة منقطعة النظير تحت قيادة قطز في معركة عين جالوت. ثم قتل قطز وهو عائد إلى القاهرة ونادى بنفسه سلطاناً على مصر، وكان من الطريف أن يتقبل لنفسهِ الاحتفال الذي أعدته المدينة للضحية المنتصر. واشتبك الظاهر في عدة حروب مع الصليبيين كللت كلها بالنصر، ومن أجلها تضعه الروايات الإسلامية في المرتبة الثانية بعد هارون الرشيد وصلاح الدين، ويصفه مؤرخ مسيحي معاصر له بقولهِ:"إنه كان في السلم معتدلاً، عفيفاً، عادلاً بين شعبهِ، رحيماً برعاياه المسيحيين أنفسهم". وقد أحسن تنظيم حكومة مصر إلى درجة تثبت دعائم حكم خلفائه رغم ما اتصف به من عجز؛ فاحتفظوا بهذا الملك حتى غلبهم الأتراك العثمانيون في عام 1517. وقد أنشأ لمصر جيشاً وأسطولاً قويين، وطهر مرافئها، وأصلح طرقها، وقنوات ريها، وشاد المسجد المسمى باسمه في القاهرة.

وخلع مملوك تركي آخر ابن الظاهر بيبرس، وأصبح هذا المملوك السلطان المنصور سيف الدين قلاون (1279 - 1290)، وأهم ما اشتهر به في التاريخ هو البيمارستان الذي أنشأه في القاهرة، والذي خصص له مليوناً من الدراهم (ما يعادل 500. 000 ريال أمريكي) في العام ورُفع ابنه الناصر إلى العرش ثلاث مرات، ولكنه لم يخلع إلا مرتين، وبني قنوات لجر ماء الشرب إلى العاصمة، وأنشأ حمامات عامة، ومدارس، وأديرة، وثلاثين مسجداً، واحتفر قناة تصل الإسكندرية بالنيل سخر في حفرها مائة ألف عامل، وضرب المثل في بذخ المماليك، إذ نحر عشرين ألفاً من الذبائح في الاحتفال بزواج ولده. ولما سافر الناصر في رحلة خلال الصحراء حمل على ظهر أربعين بعيراً حديقة من الخضر بطينها الخصيب ليستمد منها حاجاته كل يوم (9). وأقفرت خزانة

ص: 324

الدولة الرومانية في أيامهِ، وكان سبباً في ضعف خلفائه ضعفاً خارت له فيما بعد قوة المماليك.

وبعد فإن سلاطين المماليك لا يقعون في نفوسنا موقع سلاطين السلاجقة، أو الأيوبيين. نعم إنهم خلفوا منشئات عامة عظمية، ولكن معظم هذه الأعمال كان يقوم بها فلاحون أو عمال فقراء يستغلون إلى أقصى ما تحتمله الطاقة البشرية، وتستطيعه حكومة لا تسأل قط عن أعمالها أمام الأمة أو أمام طبقة الأعيان؛ وكان الاغتيال هو الطريقة الوحيدة للتخلص من السلاطين، ولكن هؤلاء الحكام الغلاظ الأكباد كانوا أصحاب ذوق سليم، أسخياء في مناصرة الآداب والفنون، وكان عصر المماليك ألمع العصور الإسلامية في تاريخ العمارة الإسلامية في العصور الوسطى بأجمعها، وكانت القاهرة في عهدهم (1250 - 1300) أغنى مدن العالم الممتد في غرب نهر السند (10)، فكانت أسواقها غاصة بجميع لوازم الحياة وبكثير من كمالياتها، وكان فيها سوق للنخاسة يستطيع الإنسان أن يبتاع منها الرجال والفتيات، وحوانيت صغيرة جدرانها مزدحمة بالسلع المتفاوتة الأثمان، وأزقة غاصة بالناس والدواب، تعلو فيها أصوات البائعين الجائلين وعربات النقل، وقد أنشئت ضيقة عن عمد ليستظل بها المارة، ومتعرجة ليسهل الدفاع عنها، تختفي بيوتها وراء واجهات قوية، وحجراتها مظلمة رطبة وسط وهج الشمس وحرارتها في الشوارع الكثيرة الحركة والجلبة، يتنفس سكانها الهواء من بهو داخلي أو حديقة قريبة، وقد فرشت حجراتها بالأثاث الوثير، والسجف، والطنافس، والتحف الفنية، والمفارش والوسائد المطرزة المزركشة. وكان فيها رجال يمضغون الحشيش ليخدروا حواسهم

(1)

، ويستجلبوا الأحلام اللذيذة؛

(1)

لا نعتقد أن "مضغ الحشيش" كان ظاهرة بارزة في القاهرة جديرة بالتسجيل كما قد يتبادر إلى الذهن من قول المؤلف وإن وجد في القاهرة كما في سائر بلاد العالم من يتعاطون الحشيش وغيره من المخدرات وحسب القارئ أن يطلع على كتاب "اعترافات آكل أفيون إنجليزي" لدكونسي. (المترجم)

ص: 325

وفيها نساء يثرثرون في بيوت الحريم، أو يغازلن خلسة من وراء النوافذ. والموسيقى تنبعث من آلاف الآلات، والحفلات العجيبة تقام في القلعة، الحدائق العامة يفوح منها شذي الأزهار وتموج بالمتنزهين، والنهر العظيم والقنوات تسبح فيها سفائن النقل والركاب، وقوارب النزهة. هذه هي القاهرة المسلمة في العصور الوسطى

(1)

.

لله بستان وما قضيت فيه من المآرب

لهفي على زمني به والعيش مخضر الجوانب

فيروقني والجو منه ساكن والقطر ساكب

ولكم بكرت له وقد بكرت له غر السحائب

والطل في أغصانه يحكى عقوداً في ترائب

وتفتحت أزهاره فتأرجحت من كل جانب

وبدا على جنباته ثمر كأذناب الثعالب

وكأنما آصاله ذهب على الأوراق ذائب

فهناك كم ذهبية لي في الولوع بها مذاهب

وتعاقبت على شمالي إفريقية في ذلك الوقت أسر كان لها هي الأخرى شأن عظيم، منها الزيرية (972 - 1048) وبنو حفص (1228 - 1534) حكام تونس، والحموديون (1130 - 1269) في بلاد الجزائر، والمرابطون (1056 - 1147) والموحدون (1130 - 1269) أمراء مراكش. وفي

(1)

نقل المؤلف الترجمة لهذه الأبيات عن كتاب القاهرة Cairo تأليف استانلي لين بول Stanley Lane Poole ونقلها لين بول عن بالمر. وقد رجعنا إلى كتاب بالمر بدار الكتب وهو ديوان البهاء زهير وترجمته العربية لهذا المستشرق والترجمة الإنجليزية غير دقيقة كل الدقة وهي في صفحتي 827 من كتاب بالمر. (المترجم)

ص: 326

الأندلس سرعان ما تأثر المرابطون المنتصرون، جنود إفريقية المتقشفون الأولون، بحياة الترف التي كان يحياها أمراء قرطبة وإشبيلية الذين ثلوا هم عروشهم، وحل لين السلم محل التربية العسكرية الصارمة، وتخلت الشجاعة عن مكانها للمال حتى أصبح هؤلاء الشجعان مقياس السمو والعمة والهدف المبتغى، واكتسبت النساء برقتهن ومفاتنهن سلطاناً لا يدانيه إلا سلطان رجال الدين الذين يمنون الناس بمثل هذه المتع في الجنة. وفسد الموظفون، ولم يلبث دولاب الإدارة الذي بلغ درجة عالية من الكفاية في أيام يوسف بن تاشفين (1090 - 1106)، أن اختل في أيام ابنه على (1106 - 1143). واضطرب حبل الأمن، وثرت السرقات كلما ازاد إهمال الحكومة لواجباتها، فأصبحت الطرق غير آمنة، وكسدت التجارة، ونقصت الثروة. واغتنم ملوك أسبانيا الكاثوليكية هذه الفرصة فأغاروا على قرطبة، وإشبيلية وغيرها من مدائن الأندلس الإسلامية، وولى المسلمون وجههم مرة أخرى نحو إفريقية بها لتنجيهم من محنتهم.

وكانت ثورة دينية قد شبت في تلك البلاد في عام 1121، ورفعت إلى العرش طائفة أخرى ذات قوة وبأس شديد. فقد قام عبد الله بن تومرت يندد بعقائد السنيين الذين يعزون إلى الله صفات الآدميين، وبآراء الفلاسفة الذين يدعون إلى إرجاع كل شيء إلى العقل وأخذ يطالب بالعودة إلى البساطة في العيش في العقيدة الدينية، ثم أعلن في آخر الأمر أنه هو المهدي المنتظر والمنقذ الذي يقول به الشيعة. والتفت حوله قبائل البربر الهمج سكان جبال أطلس، ونظموا أنفسهم تنظيماً قوياً وسموا بالموحدين؛ وهزموا حكام مراكش المرابطين، ولم يجدوا صعوبة في أن يفعلوا مثل هذا الفعل في الأندلس. وعاد النظام والرخاء إلى الأندلس ومراكش في عهد عبد المؤمن (1145 - 1163) وأبي يعقوب يوسف (1163 - 1184) من أمراء الموحدين، وانتعشت الآداب والعلوم مرة أخرى، وبسط الأميران حمايتهما على الفلاسفة على أن يكون مفهوماً لديهم أن يجعلوا

ص: 327

كتبهم غير مفهومة، لكن أبا يوسف يعقوب (1184 - 1199) استسلم إلى فقهاء الدين، وتخلى عن الفلاسفة، وأمر بحرق جميع كتبهم. ولم يكن ابنه محمد الناصر (119 - 1214) يعنى بالفلسفة ولا بالدين، وأهمل شؤون الحكم، وانغمس في الملذات، وهزم هزيمة منكرة على أيدي قوات المسيحيين المتحدة في واقعة العقاب (Las Navas de Tolosa) عام 1212. وانقسمت أسبانيا الخاضعة للموحدين على أثر هذه الهزيمة إلى دويلات مستقلة افتتحها المسيحيون واحدة بعد واحدة-قرطبة في عام 1236، وبلنسية في 1238، وإشبيلية في عام 1248. وارتد المسلمون المغلوبون إلى غرناطة، حيث وقتهم جبال سيارا نفادا أو الحاج الثلجي بعض الوقاية، وحيث ازدهرت حقول الروم، وحدائق الزيتون، وغياض أشجار البرتقال بفضل ما يجري فيها من مياه الأنهار. وتعاقب على عرش غرناطة طائفة من الحكام الجازمين حافظوا على استقلالهم هي والبلدان التابعة لها-شريش، وجيان، والمرية، ومالقة-وصدوا عنها غارات المسيحيين المتكررة، وراجت التجارة وانتعشت الصناعة، وازدهرت الفنون، واشتهر السكان بثيابهم الزاهية وحفلاتهم المرحة، وظلت هذه المملكة الصغيرة قائمة حتى عام 1492، وكانت هي البقية الباقية في أوربا من تلك الثقافة التي جعلت بلاد الأندلس قروناً طوالاً من مفاخر بني الإنسان.

ص: 328

الفصل الثالِث

‌نظرات خاطفة في الفن الإسلامي

1058 -

1250

في هذا العصر عصر سيادة البربر على الأندلس الإسلامية أقام المسلمون قصر الحمراء في غرناطة والقصر والخرلدة في وإشبيلية. وكثيراً ما يسمى الطراز المعماري الجديد بالطراز المراكشي Morisco ظناً انه جاء من مراكش ولكن الحقيقة أن عناصره الأولى جاءت من بلاد الشام والفرس، وهي أيضاً من مميزات التاج محال في الهند، ألا ما أوسع ميادين الفن الإسلامي وما أكثر غناه! وقد كان الفن في ذلك الوقت فناً رقيقاً، ولم يعد يهدف إلى القوة والفخامة اللتين نشاهدهما في مساجد دمشق، وقرطبة، والقاهرة، بل يهدف إلى الرقة والمال، ويبدو فيه أن كل مهارة فنية قد وجهت إلى الزينة، وأن المثال قد طغى على مهندس المعمار.

وكان الموحدون من اكثر الحكام نشاطاً في العمارة، وقد شادوا أولاً بقصد الدفاع عن أملاكهم، فكانوا يحيطون مدنهم الكبرى بأسوار ضخمة قوية وأبراج مثل برج الذهب Torre del Oro الذي كان يحرس الوادي الكبير عند إشبيلية. وكان "القصر" Alcazar المقام هناك حصناً وقصراً معاً وكان يطل على العالم بواجهة خالية من الجمال. وكان الذي وضع تصميمه لأبي يعقوب يوسف (1181) هو الجالوني المهندس القرطبي، وأصبح هذا القصر بعد عام 1248 المسكن المحبب لملوك أسبانيا المسيحيين، وأدخل عليه بدور الأول (1353)، وشارل الخامس (126)

وإزابيلا (1833) تعديلاً في بنائه، أو رمموه، أو أعادوا ما تهدم منه، أو أضافوا إليه أبنية جديدة حتى أصبح معظمه

ص: 329

الآن مسيحياً في بنائه، ولكنه يغلب على نمطه وصنعه الطراز الإسلامي أو الإسلامي-المسيحي.

وأبو يعقوب يوسف الذي بدأ "القصر" هو نفسه الذي شاد في عام 1171 مسجد إشبيلية العظيم الذي لم يبقَ منه شيء في هذه الأيام. وقد أقام جابر المهندس في عام 1196 مأذنة هذا المسجد الفخمة المعروفة عند الغربيين باسم الخردلة، ثم حول المسيحيون الفاتحون هذا المسجد إلى كنيسة (1235)؛ ثم هدمت هذه الكنيسة في عام 1401، وأقيمت مكانها كنيسة إشبيلية الكبرى، وكان مما استخدم في بنائها مواد المسجد نفسه. والجزء الأدنى من الخرلدة إلى ارتفاع 230 قدماً هو نفس بناء المأذنة الأصلية، أما الاثنتان والثمانون قدماً الباقية فقد أضافها إليها المسيحيون (1568)، وحرصوا أن تكون متناسقة كل التناسق مع قاعدة المأذنة الإسلامية. والثلثان الأعليان من البناء كثير الزخارف، وفيهما شرفات مقنطرة ذات واجهات متشابكة من الجص والحجر؛ وفي أعلاها تمثال من البرونز للإيمان (1568) ولكنه لا يكاد يمثل مزاج أسبانيا الديني غير المتقلب لأنه يدور مع الريح، ومن هنا اشتق لفظ جير لدا-أي الذي يدور-الأسباني من جيرا Gira. وقد أقام المسلمون في مدينتي مراكش (1569) ورباط (1197) أبراجاً لا تكاد تقل جمالاً عن هذا البرج.

وفي غرناطة أمر محمد بن الأحمر (1232 - 1273) في عام 1248 بتشييد أعظم صرح في الأندلس الإسلامية على بكرة أبيها، ونعني به قصر الحمراء الشهير. وكان الموقع الذي اختير لتشييده عليه قمة جبلية شامخة تحيط بها أخاديد عميقة وتشرف على نهري الدارو Darro والجنيل Genil. وقد وجد الأمير في هذا الموضع حصناً يعرف بحصن الكذابة Acazabs يرجع تاريخه إلى القرن التاسع الميلادي، فأضاف إليه أبنية جديدة وأقام الأسوار الخارجية للحمراء وأقدم قصورها ونقش على كل جزء من أجزائها شعاره المتواضع "لا غالب إلا الله". وقد أضيفت إلى

ص: 330

هذا البناء الأصلي أجزاء أخرى في فترات مختلفة وأصلح ما تلف من على أيدي المسيحيين والمسلمين على السواء. ومن ذلك أن شارل الخامس أضاف إليه قصره البني على الطراز المربع طراز عهد النهضة، وهو بناء ناقص كئيب مهيب غير متناسق. وخط المهندس الذي لم يصل إلينا اسمه الفضاء الذي في داخل السور ليكون أولً حصناً لأربعين ألف رجل متبعاً في هذا مبدأ العمارة الحربية التي نمت وتطورت في بلاد الإسلام الشرقية (12). لكن ذوق القرنين التاليين الأكثر ميلاً إلى الترف حول هذا الحصن على مر الأيام إلى مجموعة كبيرة من الأبهاء والقصور، تكاد تمتا كلها بجمال الزخارف المكونة من الأزهار، وأوراق الأشجار، والأشكال الهندسية المحفورة أو المطبوعة في الجص أو الآجر أو الحجارة الملونة، والتي تبلغ من الجمال ورقة الذوق درجة منقطعة النظير. وأنشئت في بهو الآس بركة تنعكس على مياهها أغصان الأشجار وكلات الأبواب المزخرفة، ومن ورائها يقوم برج ذو أسوار حصينة كان المحاصرون يظنون أنهم واجدون فيه آخر ملجأ منيع. وفي داخل هذا البرج بهو السفراء، حيث كان يجلس أمراء غرناطة على رؤوسهم بينما كان المبعوثون الأجانب يعجبون بما حوته المملكة الصغيرة من فن وثراء، ولقد أطل شارل الخامس من شرفة لإحدى نوافذ هذا البهو فرأى الحدائق والغياض، والنهر يجري من تحتها، فقال بعد تفكير عميق:"ما أتعس حظ من خسر هذا كله! "(13) وفي الفناء الرئيسي للقصر المعروف ببهو الآساد أقيم اثنا عشر أسداً من الرخام رهيبة المنظر تحرس فسقتة من المرمر. وإن ما في البواكي المحيطة بهذا الفناء من عمد رشيقة رفيعة ذات تيجان في صورة أزهار، وتيجان ذات عمد صغيرة مدلاة، وكتابات كوفية، ونقوش عربية ذات ألوان أطفأ بريقها كر الغداة ومر العشي، كل هذا يجعل القصر أروع آية في الطراز الإسلامي الأندلسي. ولعل الأندلسيين المسلمين قد دفعهم ترفهم وتحمسهم إلى أن يتجاوزوا في فنهم حدود الرشاقة إلى

ص: 331

الإسراف، ذلك أنه حيث لا تشاهد العين إلا الزخرف والزينة فإنها هي والروح تملان حتى الجمال والحذق. وهذه الدقة في الزخرف تبعث في النفس إحساساً بالوهن وتضحي بطابع القوة والأمان اللذين يجب أن تشعرنا بهما هندسة البناء. ومع هذا فإن ذلك الكساء الزخرفي كله تقريباً قد عاش بعد اثني عشر زلزالاً. نعم إن سقف قاعة السفراء قد خر، ولكن ما عداه من القاعة لا يزال قائماً. وملاك القول إأن هذه المجموعة الجميلة من الحدائق والقصور، والفساقي، والشرفات توحي إلى الناظر بأقصى ما وصل إيه الفن الإسلامي الأندلسي من العظمة، كما توحي في نفس الوقت بضعف هذا الفن: توحي بالإسراف في الثراء، وبجهود الفاتحين تتوسد مهاد الراحة وتخلد إلى الدعة، وبحاسة الجمال المرهقة تستبدل بالقوة والعظمة والرشاقة والأناقة.

وعاد الفن الإسلامي الأندلسي في القرن الثاني عشر من أسبانيا إلى شمال إفريقية، وبلغت مدائن مراكش، وفاس، وتلمسان، وتونس، وصفاقس، وطرابلس أوج عظمتها بما شيد فيها من القصور والمساجد التي يبهر العين؛ وبالأحياء الفقيرة المتعرجة. أما في مصر وبلاد الشرق فقد طعم السلاجقة والأيوبيون والمماليك الفن الإسلامي بقوة جديدة، فقد أقام صلاح الدين وخلفاؤه في الجنوب الشرقي من القاهرة قلعتها الضخمة، واستخدموا في بنائها الأسى الصليبيين، ولعلهم حذو في طرازها حذو القلاع التي شادها الفرنجة في بلاد الشام، وشاد الأيوبيون في حلب المسجد العظيم والقلعة، وبنوا في دمشق ضريح صلاح الدين. وحدث في هذه الأثناء انقلاب في فن العمارة حول في جميع بلاد الشرق الإسلامي الطراز القديم في عمارة المساجد، وهو طراز الصحن الواسع إلى طراز المدرسة أو الجامع ذي المدرسة، وكان منشأ هذا الطراز الجديد أن المساجد زاد عددها فلم تعد ثمة حاجة إلى أن يكون في وسطها صحن كبير يتسع لجمهور كبير من المصلين، وأن ازدياد الحاجة إلى المدارس كان يتطلب تسهيلات جديدة في التعليم. ولهذا

ص: 332

امتت في المسجد الحقيقي أي من مكان الصلاة-الذي كان يعلوه في ذلك الوقت على الدوام تقريباً قبة كبيرة-امتدت منه أربعة أجنحة لكل منها مآذنه الخاصة ومدخله الكثير الزخارف، وقاعاته الرحبة للمحاضرات. وقد جرت العادة في أغلب الأحيان أن يكون لكل مذهب من المذاهب الأربعة جناح خاص، ويقول أحد سلاطين ذلك الوقت في صراحة: إن ذلك يتيح الفرصة لوجود مذهب منها في القليل يؤيد أعمال الحكومة القائمة. وقد استمر هذا الانقلاب في العمارة في عهد المماليك فأنشئت الساجد والمقابر الضمة التينة من الحجارة، تحرسها أبواب قوية كبيرة من البرونز المشغول، وتضيؤها نوافذ ذات زجاج ملون؛ وتتلألأ فيها الفسيفساء، والنقوش المحفورة في الجص الملون، وقع القرميد التي قاومت حتى الآن عوادي الزمان والتي لم يعرف طريقة صنعها غير المسلمين.

وقد درست الآثار المعمارية السلجوقية فلم يبقَ منها إلا أقل من واحد في المائة، نذكر من هذه البقية القليلة مسجد آني في أرمينية، والمدخل الفخم لمدخل قونية، ومسجد علاء الدين الفخم، والمدخل الكهفي، والواجهة ذات النقوش الشبيهة بالتطريز في جامع سرتجيلي، ونذكر منها في بلاد النهرين مسجد الموصل الكبير، ومسجد المستنصر في بغداد، وفي فارس برج طغرل بك في الري وقبر سنجر في مرو، والمحراب المتلألئ في مسجد همذان، والقبة المضلعة والعقود الصغيرة الفذة في السجد الجامع بقزوين، والعقود الكبرى والمحراب في جامع الحيدرية، وليست هذه إلا قلة من الصروح التي بقيت حتى الآن شاهدة على ما بلغه السلاجقة من حذق في العمارة وما بلغه ملوكهم من سمو في الذوق. وأجمل من هذه كلها المسجد الجامع في إصفهان الذي لا يدانيه في بلاد الفرس كلها إلا مسجد الإمام الرضا في مشهد والذي أقيم بعد ذلك الوقت. ومسجد إصفهان هذا أروع الآيات الفنية كلها في عصر السلاجقة. وقد أقيمت أجزاء من هذا

ص: 333

المسجد في قرون عدة، ويبدو عليها طابع تل القرون، فهو من هذه الناحية شبيه بكنيسة نتردام Notre Dam. وقد بدئ بتشييده في عام 1088 ووسع مراراً عدة، ولم يتخذ شكله الحاضر إلا في عام 1612، غير أن كبرى قبابه المشيدة من الآجر تحمل نقوش خاتم نظام الملك وعام 1088. ومدخل المسجد وأبواب المحراب-ومنها واحد يبلغ ارتفاعه ثمانين قدماً-مزينة بالقيشاني والفسيفساء الذي لا يكاد يوجد له نظير في تاريخ ذلك الفن بأكمله. وأبهاؤه الداخلية ذات قباب مضلعة وعقود صغيرة متتالية معقدة، وأقواس مستدقة تخرج من دعامات ضخمة. وعلى المحراب (1310) نقوش على الجص من أوراق الكرم والبشنين؛ وكتابات كوفية لا يعلو عليها شيء من نوعها في بلاد الإسلام جميعها.

وهذه الآثار تسخر من القائلين بأن الأتراك كانوا قوماً همجاً، فكما أن الحكام والوزراء السلاجقة كانوا من أقدر الساسة والحكام في التاريخ، كذلك كان المهندسون السلاجقة من أقدر البنائين وأشجعهم في عصر الإيمان الذي يمتاز بضخامة مبانيه وأعظمها قوة؛ ولقد وقف طراز المباني السلجوقية الضخمة الجريئة في وجه النزعة الفارسية إلى الزينة، ونشأ من اجتماع النزعتين السلجوقية والفارسية طراز معماري جديد عم آسية الصغرى والعراق وإيران، ومن العجيب أن يتفق هذا الطراز في الزمن مع ازدهار فن العمارة القوطي في فرنسا. ولم يجر السلاجقة على السنة التي جرى عليها العرب قبلهم فيخفوا مكان الصلاة في ركن من أركان الصحن، بل جعلوا للمسجد واجهة قوية متلألئة، ورفعوا بناءه، وأقاموا عليه قبة مستديرة أو مخروطية جمعت كل الصرح، وضمت أجزاءه جميعها في وحدة، وفي هذا الوقت بالذات اجتمع في البناء العقد المستدق، والقبو، والقبة أحسن اجتماع (14).

وبلغت الفنون كلها ذروة مجدها في هذا العصر العجيب عصر العظمة

ص: 334

والاضمحلال، فقد كان يبدو للفرس من مسرات الحياة التي لا غنى عنها، ولم يبلغ الخزف على اختلاف أشكاله ما بلغه في ذلك الوقت من تنوع في الشكل وجمال (15). ذلك أن الفرس أتقنوا ما ورثوه عن المصريين، وأعل الجزيرة، والساسانيين، وأهل الشام من فنون الزخارف البراقة، والتلوين المفرد، أو المتعدد الألوان فوق السطح المزجج أو تحته، وأعمال الميناء، والقرميد، والقاشاني، والزجاج، حتى بلغوا بذلك كله درجة الكمال. وتأثرت هذه الأعمال كلها بالفن الصيني، وخاصة ما كان منها متصلاً يتلوين الصور، ولكن ذلك لم يفرض سلطانه على الطراز الفارسي، وقد استورد الخزف وقتئذ من بلاد الصين، ولكن ندرة الكاولين في الشرق الأدنى والأوسط لم تشجع المسلمين على صنع هذه الآنية النصف الشفافة. إلا أن الفخار الفارسي مع هذا بقي طوال القرون الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر، لا يفوقه فخار آخر في العالم كله-فقد كان في تنوع أشكاله، ودقة تناسبه، وبريق زخارفه، ودقة حزونه، ورشاقته يسمو على كل ما عداه في العالم كله (19).

ولم تكن الفنون الصغرى في بلاد الإسلام مما تنطبق عليها هذه التسمية التي تبخسها حقها. فقد كانت حلب ودمشق في هذا العصر تصنعان العجائب من الآنية الزجاجية الهشة، والمزخرفة بالميناء، وصنعت القاهرة للمساجد والقصور قناديل من الزجاج المزخرف بالميناء أيضاً يبذل هواة التحف الفنية في هذه الأيام أقصى جهودهم للحصول عليها

(1)

. وكانت كنوز الفاطميين التي فرقها صلاح الدين تحتوي على آلاف من الزهريات المصنوعة من البلور والجزع البقراني، بلغ صانعوها من المهارة الفنية ما يعجز عنه الفنانون في هذه الأيام، وبلغ فن الزخارف العدنية الآشوري القديم في مصر والشام درجة من الإتقان لم يسبق لها مثيل،

(1)

وحسبنا أن نذكر أن آل رثتشيلد ابتاعوا إبريقاً عربياً صغيراً من الزجاج الزخرف بالميناء بمبلغ 13. 650 ريالاً أمريكياً.

ص: 335

ومن هذين القطرين انتقل هذا الفن إلى البندقية في القرن الخامس عشر (18). وكان النحاس، والبرونز، والشبَّه، والفضة، والذهب، تصبّ أو تطرق، وتصنع منها آنية للطبخ، وأسلحة، ودروع، وقناديل، وأباريق، وأحواض، وجفان؛ وصَّوانٍ؛ ومرايا وآلات فلكية، ومزهريات، وثريات، ومقالم، ومحابر، ومدافئ، ومباخر، وتماثيل للحيوانات، وصناديق للمصاحف، ومساند للمواقد، ومفاتيح، وأقفال، ومقصات

مزينة بنقوش محفورة، ومرصعة في كثير من الأحيان بالمعادن أو الحجارة الكريمة. وكانت الوجه العليا للموائد النحاسية تحفر عليها كثير من النقوش، وكانت الشبابيك الفخمة تصنع من المعد المشغول للمحاريب، والأبواب، أو القبور. وفي متحف الفنون الجميلة ببسطن صينية فضية نقشت عليها صور وعول، وإوز، واسم ألب أرسلان، ويرجع عهدها إلى عام 1066، وقد وصفها بعض العلاء بأنها أشهر ما أخرجه الفن الفارسي في العهود الإسلامية من تحف فضية، وأنها أهم تحفة فضية مفردة باقية من أيام السلاجقة (19).

وظل النحت فناً تابعاً لغيره من الفنون ومقصوراً على عمل النقوش البارزة والحفر على الحجارة أو الجص، وعلى الزخرفة العربية والكتابية، وقد يحدث أحياناً أن يأمر حاكم مستهتر بعمل تمثال له أو لزوجته أو إحدى مغنياته، ولكن هذا العمل كان خطيئة سرية قلما تعرض على أعين الجماهير. غير أن النقش على الخشب ترعرع وازدهر، فكانت الأبواب، والمنابر، والمحاريب، وكراسي المصاحف، والسجف، والسقف، والمناضد، والشبابيك الشَّعرية؛ والأصونة: والصناديق، والأمشاط، كانت هذه كلها تقطع على رسم شَعْرية أو يكدح في عملها صناع قاعدون القرفصاء يديرون المخارط بأقواس. وكان ثمة عمال آخرون أشد من هؤلاء كدحاً وأكثر منهم صبراً ينسجون الحرير والأطلس والحرير المشجر، والأقمشة المطرزة، والمخمل المشغول بخيوط الذهب والستائر؛ والخيام،

ص: 336

والطنافس ذات النسيج الرقيق البديع والرسوم الفتاة التي كانت موضع دهشة العالم وحسده. وقد شاهد ماركوبولو في آسية الصغرى حين زارها في عام 1270 "أجمل الطنافس في العالم كله"(20). ويقول جون سنجر سارجنت Jhon Singer Sargent إن السجادة العجمية "تساوي في قيمتها كل ما رسم من الصور حتى ذلك الوقت"(21)، مع أن الخبراء المختصين يحكمون بأن السجاجيد العجمية الحالية ليست إلا ناقصة من الفن الذي بزت فيه بلاد الفرس العالم له، ولم يبق من السجاجيد العجمية التي نسجت في عصر السلاجقة إلا قطع ممزقة، ولكن في وسعنا أن نتصور ما بلغه من إتقان وجمال منقطعي النظير مما نسج على منوالها بصورة مصغرة في العصر المغولي.

وكان التصوير في الإسلام من الفنون الكبرى في الرسو الدقيقة الصغيرة، كما كان طوال عهده من الفنون الصغرى في الرسم على الجدران؛ وفي الرسوم الملونة للكائنات الحية. وقد استخدم الخليفة الفاطمي الآمر (1104 - 1130) عدداً منم رجال الفن ليرسموا له في حجرته بالقاهرة صور شعراء ذلك الوقت (22)، ويبدو من ذلك أن تحريم الصور المنقوشة لم يعد له من القوة ما كان له في سالف الأيام. وقد بلغ التصوير في عهد السلاجقة ذروته في بلاد التركستان حيث أضعف بُعد المسافة كراهية أهل السنة لهذا الفن، ومن اجل هذا نرى في المخطوطات التركية صوراً كثيرة لأبطال الأتراك. ولم تصل إلينا رسوم دقيقة صغيرة يمكن الجزم بأنها من عصر السلاجقة، ولكن بلوغ هذا الفن أوَجه في عصر المغول الذي تلا ذلك العصر في بلاد الشام الشرقية لا يكاد يترك مجالاً للشك في ازدهاره في ذلك العصر السابق. فقد كانت العقول الأوربية والأيدي للصناع تخرج مصاحف تزاد جمالاً فوق جمالها على مر الأيام لمساجد السلاجقة والأيوبيين والمماليك، ومحال عبادتهم؛ ولكبرائهم، ومدارسهم، وكانوا ينقشون على جلود المصاحف المصنوعة من الجلد أو المطلية بالك نقوشاً تبلغ في

ص: 337

دقتها بيوت العنكبوت، وكان الأغنياء ينفقون بعض مالهم في استئجار الفنانين لإخراج اجمل ما عرف من الكتب، وكانت طائفة كبيرة من الوراقين، والخطاطين، والمصورين، والمجلدين، تعمل في بعض الأحيان سبعة عشر عاماً كاملاً لإخراج مجلد واحد. ولم يكن بد من أن يكون الورق من أحسن الأنواع، ويقال إن فرش الرسم كانت تصنع من شعرات بيضاء من رقاب القطط التي لا تزيد عرها على سنتين، وكان المداد الأزرق يصنع من مسحوق حجر اللازورد الأزرق، وكان يساوي وزنه ذهباً؛ ولم يكن الذهب السائل يعد أثمن من أن ترسم به بعض الخطوط أو تكتب به بعض الحروف في رسم أو نص. وفي ذلك يقول أحد شعراء الفرس:"إن الخيال لا يمكن أن يتصور مقدار السرور الذي يتيحه للعقل منظر خط متقن الرسم"(23).

ص: 338

الفصل الرّابع

‌عصر عمر الخيام

1038 -

1122

يبدو أن عدد الشعراء والعلماء في ذلك العصر لم يكن يقل عن عدد الفنانين. فقد كانت القاهرة، والإسكندرية، وبيت المقدس، وبعلبك؛ وحلب، ودمشق، والموصل، وحمص، وطوس، ونيسابور؛ وكثير غيرها من المدن تفخر بما فيها من مدارس كبرى، وكان في بغداد وحدها سنة 1064 ثلاثون مدرسة من هذا النوع، أضاف إليها نظام الملك بعد عام من ذلك الوقت مدرسة أخرى تفوقها كلها في سعتها، وفخامة بنائها، وأجهزتها، ويصفها أحد الرحالة بأنها أجمل بناء في المدينة كلها. وكانت هذه المدرسة الأخيرة تحتوي أربع مدارس للشريعة الإسلامية منفصلة كل منها عن الأخرى، يجد فيها الطلاب التعليم؛ والطعام، والعناية الطبية بالمجان، ويعطى كل منهم فوق ذلك ديناراً ذهبياً لما يحتاجه من النفقات الأخرى. وكان في المدرسة مستشفى، وحمام، ومكتبة مفتحة الأبواب بالمجان للطلبة وهيئة التدريس. ويغلب على الظن أن النساء كان يسمح لهن في بعض الأحوال بالالتحاق بهذه المدارس لأنا نسمع وجود شيخة-أي أستاذة-يهرع الطلاب إلى سماع محاضراتها كما كانوا يهرعون إلى سماع محاضرات أسبازيا Aspasia وهيباشيا Hypatia. (1178)(24) .

وكانت دور الكتب العامة أغنى مما كانت في أي عهد آخر من عهود الإسلام؛ وقد كان في الأندلس الإسلامية وحدها سبعون مكتبة عامة، وظل النحاة، وعلماء اللغة، وأصحاب الموسوعات، والمؤرخون موفوري العدد والثراء، وكانت كتب السير التي يضم كل منها عدداً من التراجم من الهوايات الشائعة المتقنة عند المسلمين. من ذلك أن القفطي (المتوفى في عام 1248) ترجم لأربعمائة

ص: 339

وأربعة عشر فيلسوفاً وعالماً، وأن ابن أبي أصيبعة (1203 - 1270) ترج لأربعمائة طبيب، وأن محمد الغوفي (1228)، ألف موسوعة تشمل ترجمة لثلاثمائة من شعراء الفرس لم يذكر فيها اسم عمر الخيام، وبز محمد بن خلكان (121 - 1282) بمفرده هؤلاء جميعاً وغيرهم بكتابة وفيات الأعيان الذي يحتوي على تراجم في صورة قصص لثمانمائة وخمسة وستين من ذوي المكانة من المسلمين. والكتاب على اتساع مجاله عجيب الدقة، وإن كان ابن خلكان نفسه يعتذر ما فيه من نقص ويختتمه بقوله "أبى الله أن يصح إلا كتابه"

(1)

وحلل محمد الشهرستاني في كتاب الملل والنحل (1128) المشهورة من أديان العالم وفلسفاته، ولخص تواريخها، ولم يكن في مقدور أحد من المسيحيين في ذلك العصر أن يكتب كتاباً يماثله في غزارة مادته ونزاهته.

أما أدب القصة عند المسلمين فلم يتجاوز حكايات كثيرة عن حوادث اللصوص، متقطعة، متقطعة لا يربطها بعضها ببعض إلا أنها تروى عن شخصية واحدة. وكان أوسع الكتب انتشاراً عند المسلمين بعد القرآن، وكتاب ألف ليلة وليلة، وكتاب كليلة ودمنة لبيدبا هو مقامات أبي محمد الحريري (1054 - 1122) البصري. وتروي هذه المقامات في نثر مسجع مغامرات الوغد السافل أبي زيد صاحب الشخصية الممتعة، وهو الذي يضطر القارئ إلى العفو عن مجونه، وجرائمه، وتجديفه بسبب فكاهته الظريفة، وحذقه ودهائه، وفلسفته الجذابة المغرية: أنظر إلى قوله في إحدى المقامات:

(1)

يقول ابن خلكان: "فمن وقف على هذا الكتاب من ذوي العلم ورأى فيه شيئاً من الخلل فلا يعمل المؤاخذة فيه، فإني توخيت فيه الصحة حسبما ظهر لي، مع أنه كما يقال، أبى الله أن يصح إلا كتابه. لكن هذا جهد المقل وبذل الاستطاعة، وما يكلف الإنسان إلا ما تصل قدرته إليه وفوق كل ذي علم عليم .... والله يستر عيوبنا بكرمه الضافي، ولا يكدر علينا ما منحنا من مشروع عظاته النمير الصافي إن شاء الله تعالى بمنه وكرمه". انتهى قول ابن خلكان. تالله ما اجمل هذا التواضع! (المترجم)

ص: 340

وعاص النصيح الذي لا يبيح

إذا ما سمح

وجل في المجال ولو بالمحال

وخذ ما صلح

(1)

ويكاد كل من يعرف الكتابة والقراءة من المسلمين في ذلك الوقت أن يقرض الشعر، ولا يكاد يوجد حاكم لا يشجعه، وإذا صدقنا قول ابن خدون مئات من الشعر كانوا يقيمون في بلاط المرابطين والموحدين في إفريقية وأسبانيا (26). وحدث في اجتماع للشعراء المتنافسين في إشبيلية أن نال الأعمى التطيلي

(2)

جائزة لأنه جمع في بيتي نصف شعر العالم كله إذ قال:

ضاحك عن جمان سافر عن در

ضاق عنه الزمان وحواه صدري

وتقول الرواية إن سائر الشعراء مزقوا قصائدهم دون أن يقرءوها، وفي القاهرة ظل البها زهير يغني عن الحب بعد أن ابيض شعره بزمن طويل، وفي بلاد الشرق الإسلامي كان انقسام الدولة إلى ممالك صغيرة سبباً في ازدياد عدد الأمراء والكبراء الذين يناصرون الآداب، وإلى تنافسهم في هذا الميدان كما حدث في ألمانيا في القرن التاسع عشر. وكان الفرس أغنى الأمم الإسلامية بالشعراء؛ فقد ظل الأنوري شاعر خراسان زمناً ما يتغنى بقصائده في بلاط سنجر، ومدحه بما لم يمدح به إلا نفسه. ومن مديحه لنفسه قوله بالفارسية ما معناه:

(1)

من المقامة الثانية عشرة الدمقشية. (المترجم)

(2)

أبو العباس التطيلي. ويروي سافر عن بدر وهذه القافية تتفق مع الترجمة الإنجليزية. وقصته كما يرويها ابن خلدون في حديثه عن الموشحات الأندلسية: "أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بإشبيليه وكل واحد منهم اصطنع موشحة، وتأنق فيها فتقدم الأعمى التطيلي للإنشاد، فلما افتتح موشحته المشهورة بالبيتين السابقين صرف ابن بقي موشحته وتبعه الباقون". (المترجم)

ص: 341

لي روح ملتهبة كالنار، ولسان فياض كالماء،

وعقل قواه الذكاء وشعراً مبرأ من العيوب،

ولكن ما أشد أسفي إذ لا أجد نصيراً خليقاً بمديحي

وما أشد أسفي إذ لا أجد حبيباً جديراً بغزلي!

ولا يقل عنه ثقة بنفسه معاصره الخاقاني (1106 - 1185)، وقد أثار بغطرسته معلمه فقال فيه شعراً يطعن في نسبه يقول فيه بالفارسية ما معناه:

أي خاقاني! مهما تكن مكانتك في الشعر فإني أسدي إليك نصيحة لا أقتضيك عليها أجراً:

لا تهجون أسن منك فربما تهجو أباك وأنت لا تدري

(1)

وأكثر ما يعرف الأوربيون من الشعر الفارسي هو شعر عمر الخيام، وتضعه بلاد فارس بين علمائهم الأعلام، ولا ترى فر رباعياته إلا لهواً عارضاً كان يلهو به "من أعظم علماء الرياضية في العصور الوسطى"(30). وقد ولد أبو الفتح عمر الخيام ابن إبراهيم في نيسابور عام 1038، ومعنى لقبه صانع الخيام، ولكن هذا اللقب لا يدل على صناعته أو صناعة أبيه إبراهيم، لأن الألقاب المهنية كانت قد فقدت في أيامه معانيها الحرفية، كما فقدت ألقاب الحداد Smith، والخياط Taylor والخباز Baker، والفخراني Potter، معانيها عند الإنجليز والأمريكيين

(2)

في الوقت الحاضر. ولا يكاد التاريخ يذكر شيئاً عن حياته، وإن كان يسجل أسماء الكثير من مؤلفاته، منها كتابه في الجبر الذي ترجم إلى الفرنسية في عام 1857، وهو يدل على تقدم كبير عما وصل إليه هذا العلم على أيدي الخوارزمي والعلماء اليونان. فقد وصل فيه إلى حل جزئي لمعادلات الدرجة

(1)

ليس هذا البيت من ترجمتنا بل إنه من شعر يهجو فيه بعضهم أبا العلاء صاعداً الأندلسي وهو ترجمة صادقة لقول أبي العلاء الآخر معلم الخاقاني.

(2)

وعندنا أيضاً. (المترجم)

ص: 342

الثالثة قيا أنه "ربما كان أعظم ما وصلت إليه الرياضة في العصور الوسطى"(31) ومنها كتاب آخر في الجبر (وهو كتاب مخطوط في مكتبة ليدن) يعد دراسة نقدية لنظريات إقليدس وتعاريفه. وقد كلفه السلطان ملك شاه مع جماعة من العلماء في عام 1074 إصلاح التقويم الفارسي، وكانت نتيجة عملهم تقويماً لا يخطئ إلا في يوم واحد كل 3770 عاماً-أي أنه أدق قليلاً من تقويمنا الحاضر الذي يخطئ يوم كل 3330 عاماً (32). وإنا لنترك اختيار أحد التقويمين للحضارة التي تتلو حضارتنا هذه. غير أن الدين الإسلامي كان أعظم سلطاناً على النفوس من العلوم الإسلامية، ولهذا عجز تقويم عمر الخيام عن أن يحل عند المسلمين محل التقويم الهجري. ومما يدل على ما بلغه ذلك العالم الفلكي من شهرة واسعة تلك القصة التي يرويا عنه نظامي عروضي الذي عرفه في نيسابور:

في شتاء سنة 508

(1)

في مدينة مرو أرسل السلطان ملكشاه في طلب صدر الدين محمد ابن المظفر رحمه الله، وكلفه أن يخبر الخيام-وكان ينزل داره-أن السلطان يريد الخروج للصيد، وأنه يطلب إلى عر أن يختار له خمسة أيام لا ينزل فيها مطر ولا ثلج. وفعل عمر ما كلف به ثم أرسل ابن المظفر إلى السلطان يخبره بما اختاره. ولما أعد السلطان عدته للرحيل هبط المطر؛ وهبت الرياح عواصف، ونزل الثلج والبرد، وأراد السلطان أن يعود، ولكن الخيام قال: لا تشغل بالك فإن المطر سينقطع في هذه الساعة ثم لا يهب مدة الخمسة الأيام اللاحقة. وسار السلطان وأنقطع المر مدة الأيام الخمسة (33).

والرباعيات في أصلها الفارسي قصيدة تتألف كل مقطوعة فيها من أربعة أبيات قافيتها آبا. وتعبر كل منها عن فكرة كاملة في شعر جامع محكم. ولسنا

(1)

أو 1114 - 1115 م.

ص: 343

نعرف منشأ هذا البحر، ولكنه يرجع إلى ما قبل زمن عمر الخيام بوقت طويل. ولم يكن هذا الشعر في الأدب الفارسي جزءاً من القصائد الطوال ولكن كل مقطوعة من مقطوعاته تكون وحدة مستقلة بذاتها، ومن ثم فإن الفرس الذين جمعوا الرباعيات لا يرتبونها حسب تتابع أفكارها، بل يرتبونها حسب قوافيها (34). وتوجد الآن آلاف من الرباعيات الفارسية، معظمها لا يعرف قائله، ومنها 1200 تُعزى إلى عمر الخيام فسه، ولكن كثيراً منها يُشك في أنها من قوله. ويرجع تاريخ أقدم مخطوط فارسي لرباعيات الخيام (وهو المخطوط المحفوظ في المكتبة البدلية Bodleian بأكسفورد) إلى عام 1460 لا قبل. ويحتوي على 158 من هذه الرباعيات مرتبة ترتيباً أبجدياً (35). وقد أمكن إثبات بعض هذه المقطوعات إلى شعراء قبل الخيام-بعضها إلى أبي سعيد، وواحدة منها إلى ابن سينا (37). وإن من الصعب، إلا في حالات، أن نجزم بأن مقطوعة من المقطوعات التي تُعزى إلى الخيّام من أقواله حقاً (38).

ولقد كان المستشرق الألماني فون همر Von Hammar أول من لفت نظر العالم الغربي إلى رباعيات الخيًّام في عام 1818، ثم ترجم إدوارد فتزجرلد Edward Fitzgerald في عام 1859 خمساً وسبعين منها شعراً إنجليزياً رصيناً ممتازاً، فريداً في وعه. ومع أن ثمن النسخة من الطبعة الأولى من هذه الترجمة لم يكن يزيد على بنس واحد فإنها لم يقبل عليها إلا عدد قليل، ولكن طبعات أخرى متتالية أكبر من الأولى عدداً صدرت بعدئذ، وأفلحت في تعديل الصورة التي كانت في عقول الناس عن العالم الرياضي الفارسي حتى جعلته من أكثر الشعراء شهرة، وجعلت شعره من أكثر ما يقرأ من الشعر في العالم. ويرى العارفون بالأصل الذي ترجمه فزجرلد أن من بين المائة والعشر من المقطوعات التي ترجمها تسعاً وأربعين تعبر كل منها عن رباعية واحدة من الأصل الفارسي تعبيراً صادقاً أميناً وأن أربعاً وأربعين مأخوذة كل منها من رباعيتن أو أكثر

ص: 344

وأن اثنتين تنعكس "فيهما روح القصيدة الأصلية بأجمعها"، وأن ستاً مأخوذة من رباعيات توجد أصولها أحياناً ضمن رباعيات الخيام، ولكنها في أغلب الظن ليست له؛ وأن اثنتي ينطبع عليهما تأثر فتزجرلد بما قرأه لحافظ، وأن ثلاثة لا نجد لها أصلاً في أي نص فيما لدينا من نصوص رباعيات الخيام، ويبدو أنها من وضع فتزجرلد نفسه، وقد استبعدها هو في الطبعة الثانية (39). ولسنا نجد في رباعيات الخيام ما يقابل المقطوعة الحادية والثمانين من ترجمة فتزجرلدد (40) وهي التي تقول:

إنني أدعو يا من أنجما من خبيث التراب إنساناً نما

وبفردوس أدب الأرقما كيفما زل امرؤ أو أجرما

فاحبه وأسأله غفران الأنام

(1)

أما فيما عدا هذه المقطوعات فإن الموازنة بين ترجمة فتزجرلد وبين الترجمة الحرفية للنص الفارسي تتجلى فيها على الدوام روح عمر. وهي أمينة على الأصل إلى الحد الذي يحق للإنسان أن يتوقعه من هذه الترجمة الشعرية. وقد كانت ترجمة فتزجرلد الدروينية السائدة في أيامه مما حمله على إغفال فكاهة الخيام الحلوة، وعلى توكيد ما في أقواله من نزعة مضادة للدين. ولكن المؤلفين الفرس الذي جاءوا بعد عمر الخيام بقرن واحد لا أكثر يخلعون عليه من الأوصاف ما يتفق كل الاتفاق مع أقوال فتزجرلد، فمرصد العباد (1223) يصفه بأنه فيلسوف ملحد، مادي تعس. ويقول عنه القفي في تاريخ الحكماء (1240) إنه لا نظير له في الفلك والفلسفة، ولكنه يصفه بأنه ملحد شديد الإلحاد، يضطره الحذر إلى أن يمسك لسانه، ويصفه أحد كتاب القرن الثالث عشر الميلادي بأنه رجل سيئ الخلق من أتباع ابن سينا، ويذكر كتابين للخيام في الفلسفة لا وجود لهما الآن. ويفسر بعض المتصوفة رباعيات عمر تفسيراً مبنياً على الاستعارات الصوفية

(1)

من ترجمة المرحوم محمد السباعي.

ص: 345

الخفية، ولكن الصوفي نجم الدين الرازي يطعن عليه ويقول إنه أكبر الملحدين في أيامه (41).

وكان عمر الخيام يرفض أقوال فقهاء الدين ويسخر منها على الدوام، ويفخر بأنه سرق أبسطة الصلاة من المساجد، ولعله قد تأثر بهذه النزعة بدراسته للعلوم الطبيعية، أو لعله كان فيها متأثراً بأقوال أبي العلاء المعري (42). وقد قبل النزعة الجبرية السائدة عند المسلمين، وإذ كان يأمل في حياة غير الحياة الدنيا، فقد استولت عليه فلسفة متشائمة حاول أن يجد لنفسه منها سلوى في الدرس والخمر، فترى المقطوعتين السابعة بعد المائة والتي بعدها من المحفوظ في المكتبة البدلية تسموان بالسكر إلى مرتبة الفلسفة العالمية:

وحانة كنستها بشاربي وعالمين وليا عن غاربي

ما عاد لي بالشر إما حاق بي شأن ولا خيرهما إن ضاق بي

ودعها يا قلب عند ضارب بأكرة يرسلها لضارب

تجد أخاك نائماً كشارب سكران من هذى وتلك غائب

أشفقت إلا من كئوس الطلى لله ما أحلى وما أجملا

أن تشرب العقل فلا يعقلا وأن يجوب المرء هذا الفلا

وأعقله من كل شيء سلا بين سماك نافر وهلا

(1)

(يريد من برج الحوت إلى الهلال أي من أحد رفي السماء إلى الطرف الآخر) وإذا عرفنا كم من شعراء الفرس يقولون في مدح الغيبوبة أقوالاً شبيهة بهذا القول، حق لنا نتساءل أليست هذه الأقوال الخمرية مجرد صورة من صور الأدب، ووقفة من مواقفه مثلها كمثل عشق هوراس للجنسين؟

(1)

لم نجد هاتين المقطوعتين فيما هو مترجم من رباعيات الخيام، وقد تفضل صديقنا الأستاذ دريني خشبة مشكوراً فترجمها شعراً. (المترجم)

ص: 346

وأكبر الظن أن هذه الرباعيات القليلة تطبع في عقل القارئ صورة خاطئة لحياة الخيام، وما من شك في أنها لم يكن لها إلا شأن قليل في الخمسة والثمانين عاماً التي امتدت إليها حياته. ومن واجبنا أن نصوره، لا في صورة السكير الذي يستلقي مخموراً في الطرقات، بل في صورة العالم المسن العاكف في هدوء على معادلاته التكعيبية، وعلى طائفة قليلة من أبراج النجوم والخرائط الفلكية، وعلى كأس من الخمر بين الفينة والفينة مع زملائه العلماء، وهم منتشرون على الكلأ كالنجوم. ويبدو أنه كان يحب الأزهار كحب المحصورين في أرض جدباء؛ وإذا أخذنا بقول النظامي العروضي قد نال بغيته في أن يدفن حيث يتفتح الزهر النضير. قال النظامي:

هبط عمر الخيام سنة 506 هـ (1112 - 13 م) مدينة بلخ ونزل في قصر الأمير أبي سعد، وكنت في خدمة الأمير فسمعت حجة الحق عمر يقول: سيكون قبري في موضع تنتثر الأزهار عليه في كل ربيع. وظننته يقول مستحيلاً ولكني كنت أعلم أنه لا يلقي لقول جزافاً.

ثم هبطت نيسابور سنة 530 هـ (1135 م) فقيل لي بأن ذلك الرجل العظيم قد مات، وكان له على حق الأستاذ فرأيت من واجبي أن أزور قبره وصحبت من يدلني عليه فأخرجني إلى مقبرة الحيرة، وهناك رأيت على يسار الزائر في سفح سور حديقة موضع دفنه، ورأيت أشجار الكمثري والبرقوق وقد تدلت أغصانها من داخل الحديقة ونثرت على قبره النوار حتى كادت نخفيه عن الأبصار. فعدت بالذاكرة إلى تلك القصة التي سمعتها منه في بلح، وغشيني الحزن، وغلبني الباء لأني لم أكن أعرف له نداً بين الرجال، وفهمت أن الله تعالى أسكنه فسيح جناته فضلاً وكرماً.

ص: 347

الفصل الخامِس

‌عصر السعدي

(1)

1150 -

1291

ولد بعد خمس سنين من وفاة عمر الخيام شاعر يجله الفرس أعظم من إجلالهم لعمر، وكان مولده في المدينة المعروفة الآن بفيروز آباد بالقرب من تفليس. وكأن الأقدار قد شاءت أن تتخذ من إلياس أبي محمد الذي عرف بعدئذ باسم نظامي وسيلة لإظهار نزعة الخيام الأخلاقية في أبشع صورها فجعلته يستمسك في حياته بأسباب الصلاح الحق، فيتمتع كل الامتناع عن شرب الخمر ويهب حياته لواجبات الأبوة وللشعر. وقصته ليلى والمجنون (1188) أشهر القصص

(2)

الغرامية في الشعر الفارسي. وخلاصتها أن قيس المجنون افتتن بليلى، ولكن أباها أرغمها على أن تتزوج برجل غيره، فأثرت تلك الخيبة في قيس وأفقدته عقله، فاعتز المدينة إلى البادية، ولم يكن يعود إلى صوابه لحظة وجيزة إلا إذا ذكر اسم ليلى أمامه. ولما ترملت جاءت ليلى إليه ولكنها توفيت بعد قليل، ولم يسع قيس إلا أن يقتل نفسه عند قبرها كما قتل روميو نفسه عند قبر جولييت. وليس في مقدور أي ترجمة أن تظهر ما يمتاز به الأصل الفرنسي من قوة في التعبير وجمال في النغم.

لقد كان الصوفيون أنفسهم يتغنون بالحب؛ ولكنهم يؤدون لنا أشد التأكيد أن العاطفة التي يعبرون عنها ليست إلا رمزاً لمحبة الله. وقد ولد محمد بن إبراهيم المعروف في عالم الأدب باسم فريد الدين العار بالقرب من نيسابور (1119)، ولقب بالعطار لأنه كان يبيع العطر. ولما اشتدت لديه العاطفة الدينية

(1)

يعرف باسم سعدي الشيرازي. (المترجم)

(2)

نظم المرحوم أحمد شوقي هذه الرواية شعراً.

ص: 348

غادر حانوته والتق بخلوة للصوفية. وتشتمل كتبه الأربعون على مائتي ألف بيت من الشعر أشهرها كلها منطق الطير. وخلاصته أن ثلاثين طائراً (أي صوفياً) يعتزمون البحث مجتمعين عن ملك الطيور كلها المسمى سيمورغ (الحق). ويختارون ستة وديان: الطب؛ والعشق، والمعرفة، والتجرد (عن جميع الشهوات)، والتوحيد (حيث يدركون أن الأشياء جميعها واحدة)، والحيرة (من فقدان الإحساس بالوجود الفردي). وتصل ثلاثة من الطيور الوادي السابع وادي الفناء (فناء النفس)، ويطرقون باب الملك المختفي. ويعرض الحاجب عن ل منهم سجل أعماله، فيغلبهم الحياء، ويستحيلون ترابا، ولكنهم يبعثون من هذا التراب في صورة ضياء، ويدركون بعدئذ أنهم هم وسيمورغ (وهو لفظ معناه ثلاثون طيراً) شيء واحد، ويفنون من هذا الوقت في سيمرغ كما تفنى الظلال في ضوء الشمس. ويعبر العطار في كتبه الأخرى عن عقيدته في وحدة الوجود تعبيراُ أكثر فيقول إن العقل يستطيع معرفة الله لأنه لا يستطيع معرفة نفسه، ولكن الهيام والوجد يستطيعان الوصول إلى الله، لأنه هو الحقيقة الجوهرية والقوة الكامنة في كل شيء والمصدر الوحيد لكل عمل وكل حركة، وهو روح العالم وحياته. وليس في مقدور أية نفس أن تستمتع بالسعادة حتى تفنى وتصبح جزءاً من هذه الروح الجامعة، والشوق إلى هذا الاتحاد هو وحده الدين الحق، وإفناء النفس فيه هو وحده الخلود الصحيح (45). ويرفض أهل السنة هذا كله ويعدونه بدعة وضلالاً، وقد هاجم جماعة من الغوغاء بيت العطار وأحرقوه عن آخره، ولكنه مع هذا لم يقضِ عليه القضاء كله، إذ تقول الرواية المتواترة إنه عاش مائة عام وعشرة أعوام، وأنه بار بيده الفل الذي نادى به فيما بعد معلماً له، والذي فاقت شهرته شهرة معلمه.

كان جلال الدين الرومي (1201 - 1273) من أهل بلخ، ولكنه عاش معظم حياته في قونية. وجاء إلى هذه المدينة صوفي عجيب هو شمس تبريري

ص: 349

ليخطب في أهلها، وبلغ من تأثر جلال الدين بخطبه أن عمد إلى تأسيس طائفة المولوية الذين لا يزالون يتخذون قونية عاصمة لهم، وأنشأ جلال الدين في حياته القصير نسبياً بضع مئات من القصائد. وقد جمعت القصار منها في ديوانه، وتمتز بعمق الشعور، والإخلاص وقوة الخيال وإن لم تخرجها هذه القوة عن مقتضيات الطبيعة، وبهذه الصفات كلها أصبحت تلك القصائد أسمى ما قيل من الشعر الديني في عهد المزامير. وكتابه المثنوي المأنوي عرض ضافٍ للتصوف، وهو ملحمة دينية تفوق في حجمها كل ما خلفه هوميروس، وفيها فقرات بارعة الجمال، ولكن الجمال إذا أثقل بعبء الألفاظ لا يبقى متعة إلى أبد الدهر. وموضوعه، كموضوع كتاب معلمه، هو وحدة الكون:

دق إنسان باب الحبيب، فناداه صوت من الداخل:

من الطارق؟ فأجابه "أنا" فناداه الصوت: "إن هذه الدار لا تتسع لي ولك"، وظل الباب مغلقاً. فسار المحب إلى الصحراء، وداو في عزلته على الصوم والصلاة ثم عاد بعد عام ودق الباب مرة أخرى، وسأله الصوت كما سأله من قبل:"من الطارق؟ " فأجاب المحب: "إنه أنت نفسك"، ففتح له الباب (46).

ونظرت حولي أبحث عنه، فلم أجده على الصليب، وذهبت إلى هيكل الأوثان؛ وإلى المعبد القديم، فلم أشاهد فيهما أثراً

ثم وجهت بحثي نحو الكعبة، لكنني لم أجده في هذا المكان الذي يلجأ إليه الشبان والشيب، وسألت ابن سينا عن مقامه، ولكن ابن سينا لم يحط به. ثم تفقدت قلبي، وفيه وجدته، ولم يوجد في مكان سواه (47).

إن كل سورة تراها لها أصل مثلها في العالم اللامكاني، فإذا انعدمت الصورة

ص: 350

فليس ذلك بذي خطر لأن أصلها باقٍ مخلد. وما من شكل جميل رأيته، أو قول حكيم سمعته-فلا يحزنك أنه قد فني لأنه في واقع الأمر لم يفنَ

فما دام النبع فياضاً فإن الأنهار تجري منه. فاطرد الغم من قلبك وعبِ من هذا النهر، ولا تظنن أن الماء سيفرغ فمعينه لا ينضب.

ولقد وضع أمام من ساعة مجيئك إلى عالم الخلق سلم لتفر عليه منه. ولقد كنت في أول الأمر جماداً، ثم استحلت بعدئذٍ نباتاً ثم صرت حيواناً، فكيف يخفى عليك؟ ثم جعلت بعدئذ إنساناً ذا علم، وعقل، ودين

فإذا ما واصلت رحلتك بعد الآن، أصبحت بلا ريب ملاكاً.

وانتقل مرة أخرى من طائفة الملائكة، وادخل ذلك البحر الخضم حتى تصبح نقطتك بحراً

دع عن هذا "الابن" وقل: "الواحد" على الدوام بكل قلبك (48).

وتذكر أخيراً السعدي، ولا حاجة إلى القول بأن اسمه الحقيقي أطول من هذا فهو مشرف الدين بن مصلح الدين عبد الله. وكان أبوه يشغل منصباً في بلاط سعد بن زنجي أتابك شيراز، ولما مات أبوه تبنى الأتابك الغلام، والذي جرى على سنة المسلمين فأضاف اسم وليه إلى اسمه. ويختلف العلماء في تاريخ مولده ووفاته، فمنهم من يقول إنهما 1184، 1283 (49)، ومنهم من يقول إنهما 1184، 1291 (50)، ومنهم من يحددهما بعامي 1193؛ 1291 (51). ومهما يكن هذان التاريخان فإنه عاش ما يقرب من مائة عام. ويقول هو نفسه إنه كان في صباه متمسكاً أشد التمسك بأهداب الدين

تقياً إلى أبعد حدود التقوى، عفيفاً أشد العفة (52). وبعد أن أتم علومه في المدرسة النظامية ببغداد (1226)، بدأ رحلته العجيبة التي قضى فيها ثلاثين عاماً طاف فيها بجميع بلاد الشرقين الأدنى والأوسط-الهند، وبلاد الحبشة، ومصر، وشمال إفريقية. وقاسى فيها كل أنواع الصعاب، وذاق مرارة الفقر والحرمان، وقد قال عن نفسه

ص: 351

إنه كان يشكو الحفاء حتى التقى برجل مقطوع القدمين فشكر الله على ما أنعم به عليه (53). وكشف وهو في الهند عن جهاز في صنم قيل عنه إنه يأتي بالمعجزات وقتل الدعي البرهمي المختفي فيه والذي كان هو إله ذلك الجهاز، وهو يوصي في شعره المتأخر المرح بأن تتبع هذه الطريقة العاجلة مع جميع الدجالين:

"فإذا أتفق لك أنت أيضاً أن كشفت عن مثل هذه الحيلة، فاقضِ من فورك على المحتال ولا تدعه يفلت منك، بل عجل به! لأنك إذا أبقيت على حياة ذلك الوغد، فلا تشك قط في أنه لن يرحمك

ومن أجل ذلك قضيت على هذا الخبيث رجماً بالحجارة، ولم ألتفت إلى نحيبه وعويله، لأن الموت كما تعلم لا ينطقون (54).

وحارب الصليبيين وأسره "الكفار"، ثم افتُدي، فتزوج ابنة من افتداه ليعبر بذلك عن شكره لأبيها، ولكنه تبين بعد ذلك أنها سليطة لا تطاق وكتب عنها يقول "إن غدائر ذات الجمال قيد في قدمي صاحب العقل"(55). ثم طلقها ولكنه التقى بغيرها من ذوات الغدائر، وسلك نفسه في سلسلة أخرى؛ ولما ماتت زوجته الثاني، آوى إلى صومعة في حديقة بشيراز وأقام فيها طوال الأعوام الخمسين الباقية من حياته.

وعرف معنى الحياة فشرع يكتب، ويقول المؤرخون إنه ألف كتبه الكبرى بعد أن اعتزل العالم، ومن هذه الكتب البيدناما وهو كتاب في الحكمة وديوانه وهو مجموعة من القصائد القصار، معظمها باللغة الفارسية وبعضها بالعربية، وبعضها يفيض بالتقى؛ وبعضها بالفحش، ويشرح السعدي في كتابه البستان فلسفته العامة بالشعر التعليمي الفلسفي، تتخلله في بعض الأحيان مقطوعات من الغزل الرقيق.

لم أعرف في حياتي أحلى من هذه اللحظات. وقلت لحبيبتي لما أن ضممتها إلى

ص: 352

صدري في تلك الليلة ونظرت إلى عينيها يكاد يغلبهما النعاس: "أي حبيبتي يا غصن بان لقد آن آوان النوم. غنِ يا بلبلي! وافتحي فاكِ كما تتفتح الوردة. اطردي النوم يا ملهبة قلبي، ولتقدم لي شفاك رحيق حبك". ونظرت إليّ حبيبتي وهمست بصوتٍ خافت: "أملهبة قلبكِ؟ ومع هذا توقظني من نومي؟ ".

وظلت حبيبتك طوال هذا الوقت تكرر قولها إنها لم تحب قط سواك

وكنت أنت تبتسم لأنك تعرف أنها كاذبة، ولكن ماذا يهمك من هذا؟ فهل شفتاها من أجله أقل حرارة وهما تحت شفتيك؟ وهل كتفاها أقل نعومة وأنت تداعبها بيديك؟

يقولون إن نسيم الربيع حلو جميل شبيه بشذى الورد وتغريد العندليب، والمرج الأخضر، والسماء الزرقاء. ويحك يا جاهل! إن هذه كلها لا تحلو إلا إذا كانت معها حبيبتك (56).

والجلستان وحديقة الورد (1258) مجموعة من القصص التعليمية تتخللها قصائد من الشعر المطرب الجميل:

سأل ملك ظالم أحد الأولياء الصالحين: "أي شيء أفضل من الصلاة؟ " فأجابه الولي بقولهِ: "أفضل منها لك أن تظل نائماً إلى منتصف النهار، فلا تؤذي أحد من خلق الله حتى ذلك الوقت (57).

يستطيع فقيران أن يناما على بساط واحد، ولكن مليكين لا تتسع لهما مملكة بأكملها (58).

إذا كنت تسعى إلى الغنى فلا تطلب الهناءة (59).

إن رجل الدين الذي يغضب إذا ناله أذى لا يزال كالجدول الضحل (60) لم يعترف قط إنسان بجهلهِ إلا من كان في مجلس وأخذ غيره يتحدث، وقبل أن يتم حديثه يبدأ هو بالسؤال (61).

لو كان فيك فضيلة واحدة وسبعون رذيلة لما رأى من يحبك غير فضيلتك الوحيدة (62).

ص: 353

لا تعجل

وتعلم الأناة. فإن الجواد العربي يعدو أشواطاً قليلة بأقصى سرعته ثم تخور قواه؛ أما الجمل فيمشي على مهل ولكنه يسافر بالليل وبالنهار حنى يصل إلى آخر سفرهِ (63).

حصل العلم لأن المال والثراء لا يعتمد عليهما

فإذا فقد صاحب المهنة ماله فليس له أن يندم على فقده لأن علمه في حد ذاته معين للثراء لا ينضب (64)

إن قسوة المعلم أعظم نفعاً من لين الأب (65).

لو محيت العقول من وجه الأرض لما وجد من يقول "أنا جاهل"

(1)

إن خفة البندقة لدليل على إنها فارغة (67).

وكان السعدي فيلسوفاً ولكنه أضاع سمعته الفلسفية لأنه كان يكتب في وضوح؛ وكانت فلسفته أصح وأسلم من فلسفة عمر الخيام؛ فهي تفهم ما في الإيمان من سلوى، وتعرف كيف تداوي جراح المعرفة بما في الحياة الحنونة من نعمة. ولقد قاسى السعدي كل ما في ملهاة الحياة البشرية من مآس، ولكن أجله مع ذلك طال حتى بلغ مائة عام. ولقد كان السعدي شاعراً كما كان فيلسوفاً: كان مرهف الحس بكل أنواع الجمال الظاهر والمكنون، الحسي منه والمعنوي، من جسم المرأة الجميلة إلى النجم الذي يستأثر لحظة بالسماء وقت المساء؛ وكان في وسعه أن يعبر عن الحكمة والتفاهة بإيجاز، ورقة، وظرف. ولم يكن يعجز في أية لحظة عن الإتيان بتشبيه نير جميل، أو عبارة بليغة فاتنة. ومن أقواله ما أشبه تعليم السفلة بقذف القبة بالجوز (68)"إني كنت وصديقي كحبتين في قشرة لوزة (69) "، "لو أن قرص الشمس كان في جُبّة" هذا التاجر البخيل "لما رأى إنسان

(1)

قارن هذا بالسطور الأولى من كتاب ديكارت المسمى "أحاديث عن الطريقة Discourses on Method" حيث يقول: "إن الإدراك السليم هو أكثر الأشياء كلها توزيعاً بالقسطاس المستقيم بين الناس، ذلك ما من أحد إلا يظن نفسه ذا حظ موفور منه، وحتى الذين يصعب علينا أن نرضيهم بحظهم في غيره من الأمور لا يرغبون عادة في أكثر مما لديهم منه".

ص: 354

ضوء النهار إلى يوم القيامة" (70) وقد ظل السعدي شاعراً إلى آخر يوم من حياته رغم ما كان ينطق به من حكمة. وكان يسلم حكمته راضياً مغتبطاً إلى عبودية الحب:

لقد قُدر عليّ ألا أضم حبيبتي إلى صدري

وألا أنسى بُعدي الطويل في قبلة أطبعها على شفتيها الحلوتين

وسأختلس منها ذلك الشراك الذي تقتنص به ضحاياها في طول البلاد

وعرضها حتى أستطيع أن أغريها بالمجيء إلى جانبي

ولكنني لن أجسر على أن أمس شعرها بيدٍ مسرفة في الجرأة

فكم في هذا الشعر من قلوب للمحبين حبيسة احتباس الطيور في الأقفاص

أنا عبد لهذا القد المياس الذي يبدو في نظري كأنما قد فصلت عليه الرشاقة

تفصيلاً كما بفصل الخياط الثوب

يا شجرة السرو يا أطراف من اللجين، إن لونك ورائحتك قد فاقا رائحة

الآس ونضرة الورد البري

احكمي بناظريك وضعي قدمكِ فوق كل حر وجميل

وامشي فوق الياسمين والأزهار

ولا تعجبي إذا أيقضتِ في زمن الربيع من الحسد ما يجعل السحب تبكي

بينما الأزهار الصغير تبتسم، وكل هذا يا حبيبتي من أجلكِ

وإذا ما وطئت جسم ميت بقدميك الجميلتين الخفيفتين، فلا عجب إذا

سمعت صوتاً يخرج من طيات أكفانه

لم يبقَ مكان للحيرة في بلدنا هذا أيام حكم مولانا المليك

سوى أنني جننت بحبك وجن الناس بفنائي في حبكِ (71).

ص: 355

الفصل السّادس

‌علوم المسلمين

1057 -

1258

قسم العلماء المسلمون الشعوب في العصور الوسطى طبقتين- طبقة الذين يعلمون وطبقة الذين لا يعلمون؛ ووضعوا في الطبقة الأولى الهنود، والفرس، والبابليين، واليهود، واليونان، والمصريين، والعرب، أولئك في اعتقادهم هم الصفوة المختارة من عباد الله في العالم؛ أما الطبقة الثانية- وخير من تشملهم الصينيون والأتراك- فهي أشبه بالحيوان منها بالإنسان (72). وأكبر خطأ في هذا التقسيم وهو وضع الصينيين في الطبقة الثانية.

وحافظ المسلمون في العصر الذي نتحدث عنه على تفوقهم غير المنازع في العلوم، وكان أعظم ما بلغوه من التقدم في علم الرياضة في مراكش وأذربيجان، ففيهما نشاهد مرة أخرى ما بلغته الحضارة الإسلامية من رقي عظيم. في مدينة مراكش نشر حسن المراكشي في عام 1229 جداول تشتمل على جيوب الزوايا لكل درجة من الدرجات، وجداول بجيوب التمام، وجيوب الأقواس، ومماسات الأقواس والأقواس المتماسة. وبعد جيل من ذلك الوقت أصدر ناصر الدين الطوسي أول رسالة يحث فيها حساب المثلثات بوصفه علماً مستقلاً بذاته لا بوصفه فرعاً من فروع علم الهيئة. وقد بقي كتابه المسمى شكل القطاع لا ينافسه منافس في هذا الميدان حتى نشر رجيومنتانس

Regiomontanus كتابه المثلثات De Triangulis بعد مائتي عام من ذلك الوقت، وربما كان حساب المثلثات الذي ظهر عند الصينيين في النصف الثاني من القرن الثالث عشر عربي النشأة (73).

ص: 356

وأشهر ما ظهر من الكتب في العلوم الطبيعية في ذلك العهد هو كتاب ميزان الحكمة الذي ألفه في عام 1122 مول يوناني من آسية الصغرى يدعى أبا الفتح. وفي هذا الكتاب تاريخ لعلم الطبيعة، وقوانين الروافع، وجداول بالكثافة النوعية لكثير من المواد السائلة والأجسام الصلبة، وفيه عرض لنظرية الجاذبية بوصفها قوة عامة تجتذب كل شيء نحو مركز الأرض (74). وقد أدخل المسلمون كثيراً من التحسينات على السواقي التي كانت معروفة عند اليونان والرومان، وشاهد الصليبيون هذه السواقي ترفع الماء من نهر العاصي فأدخلوها في ألمانيا (75). وعلا شأن الكيميائيين، وكانوا يعرفون كما يقول عبد اللطيف ثلاثمائة طريقة لتضليل الناس (76). ويقال إن أحد هؤلاء الكيميائيين حصل من نور الدين على قرض كبير لينفقه في البحوث العلمية ثم اختفى عن الأنظار، وبعدئذ نشر أحد الظرفاء ثبتاً بأسماء المغفلين وعلى رأسهم نور الدين نفسه، ووعد أن يضع اسم الكيميائي إذا رجع مكان اسم نور الدين، ويبدو أن هذا المؤلف الظريف لم يمسسه أذى (77).

وفي عام 1081 صنع إبراهيم السهلي أحد علماء بلنسية أقدم كرة سماوية معروفة في التاريخ. وقد صنعت هذه الكرة من النحاس الأصفر وكان طول قطرها 209 ملليمتر (81. 5 بوصة)؛ وحفر على سطحها 1015 نجماً مقسمة إلى سبعة وأربعين كوكبة، وتبدو النجوم فيها حسب أقدارها (78). وكانت خرلدة إشبيلية منارة ومرصداً في وقت واحد، وفيها قام جابر بأرصاده التي نشرها في كتابه إصلاح المجسطي (1240). كذلك ظهرت نفس هذه الثورة على نظريات بطليموس الفلكية في مؤلفات أبي إسحق البطروجي القرطبي (المعروف عند علماء الغرب باسم البتراجيوس Alpetragius) والذي مهد الطريق لكوبرنيق بنقده الهدام لنظرية أفلاك التدوير والدوائر المختلفة المراكز التي حاول بها بطليموس أن يفسر حركات النجوم ومساراتها.

ص: 357

وأنجب هذا العصر عالمين في تقويم البلدان طبقت شهرتهما العالم كله في العصور الوسطى، ونعني بهما الإدريسي وياقوت. فأما أبو عبد الله محمد الإدريسي فقد ولد في سنة 1100 وتلقى العلم في قرطبة، وكتب في بلرم إجابة لطلب روجر الثاني ملك صقلية، كتابه المسمى كتاب روجاري وقد قسم فيه الأرض سبعة أقاليم مناخية ثم قسم كل إقليم إلى عشرة أجزاء، ورسم لكل جزء من الأجزاء السبعين خريطة تفصيلية إيضاحية، وكانت هذه الخرائط أعظم ما أنتجه علم رسم الخرائط في العصور الوسطى، لم ترسم قبلها خرائط أتم منها، أو أدق، أو أوسع وأعظم تفصيلاً. وكان الإدريسي يجزم كما تجزم الكثرة الغالبة من علماء المسلمين بكرية الأرض، ويرى أن هذه حقيقة مسلم بصحتها. ويقاسمه هذا الشرف العظيم شرف حمل لواء علماء الجغرافية في العصور الوسطى أبو عبد الله ياقوت (1179 - 1229). وكان ياقوت بمولده يونانياً من سكان آسية الصغرى، وأسر في الحرب وبيع في سوق الرقيق، ولكن التاجر البغدادي الذي ابتاعه أحسن تربيته وتعليمه، ثم أعتقه. وكان ياقوت كثير الأسفار، سافر أولاً للتجارة، ثم سافر لدراسة الأرض وأهلها، لأنه أعجب أشد الإعجاب ببلادها، وسكانها المختلفي الأجناس، وبلباسهم وأساليب حياتهم. وقد سره وأثلج صدره أن يجد عشر مكاتب عامة تحتوي إحداها على 12. 000 مجلد، وف أمين هذه المكتبة لشأن الزائر فسمح له أن يأخذ منها مائتي كتاب إلى حجرته دفعة واحدة. وما من شك في أن الذين يحبون الكتب يرون أنها دم الحياة يجري في عروق عظماء الرجال يدركون ما شعر به ياقوت من بهجة حين حصل على الكنز العظيم من كنوز العقل. ثم انتقل ياقوت بعدئذ إلى خيوة وبلخ، وهناك أوشك المغول أن يقبضوا عليه أثناء زحفهم المخرب الفتاك، ولكنه استطاع الفرار عارياً من الثياب، وهو محتفظ بمخطوطاته، واجتاز بلاد الفرس إلى الموصل. وأنم وهو يعاني آلام الفاقة وشظف العيش أثناء عمله في نسخ الكتب كتابه الشهير معجم البلدان (1228)

ص: 358

وهو موسوعة جغرافية ضخمة جمع فيها كل المعلومات الجغرافية المعروفة في العصور الوسطى. ولم يكد يترك شيئاً من هذه المعلومات إلا أدخله في هذه الموسوعة- من فلك، وطبيعة، وعلوم آثار، والجغرافية البشرية، والتاريخ، هذا إلى ما أثبته فيها من أبعاد المدن بعضها عن بعض، وأهميتها وحياة مشهوري أهلها وأعمالهم، ولسنا نعلم أن أحداً أحب الأرض كما احبها هذا العالم العظيم.

وبعث علم النبات بعثاً جديداً على أيدي المسلمين في ذلك العصر وقد كاد ينسى بعد ثاوفراسطوس؛ فقد وضع الإدريسي كتاباً في النباتات وصف فيه ثلاثمائة وستين نوعاً مختلفاً منها، ولم يقتصر اهتمامه بها على الناحية الطبية، بل عنى أيضاً بالناحية العلمية النباتية. وذاعت شهرة أبي العباس الإشبيلي (1216) لدراسته حياة أنواع البات المختلفة التي تنمو بين المحيط الأطلنطي والبحر الأحمر. وجمع أبو محمد بن البيطار المالقي (1190 - 1248) كل ما عرفه المسلمون في علم النبات في موسوعة عظيمة غزيرة المادة ظلت هي المرجع المعترف به في هذا العالم حتى القرن السادس عشر، ورفعته إلى مقام أعظم علماء النبات والصيادلة في العصور الوسطى (79). ومن أهم ما ظهر من الكتب في العلوم الزراعية كتاب الفلاحة الذي وصف فيه مؤلفه ابن الأوان الإشبيلي أنواع التربة والسماد، وريقة زرع 585 نوعاً من أنواع النبات، وخمسين نوعاً من أشجار الفاكهة، وشرح طرق التطعيم، وبحث أغراض لأمراض النبات وطرق علاجها. وكان كتابه هذا أكمل البحوث في علم الفلاحة في العصور الوسطى جميعها (80).

وأنجب المسلمون في هذا العصر، كما أنجبوا في غيره من العصور أعظم الأطباء في آسية، وإفريقية، وأوربا. وكان أهم ما بغوا فيه علم الرمد، ولعل سبب هذا النبوغ أنه كان واسع الانتشار في بلاد الشرق الأدنى، ففي هذه البلاد كان الناس يبذلون أكثر المال لعلاج الأمراض وأقله للوقاية منها. وكان أطباء العيون يجرون

ص: 359

كثيراً من العمليات لإزالة إظلام العدسة (سادَّة العين أو الكتركتا). وقد بلغ من ثقة الطبيب خليفة بن أبي المحاسن الحلبي (1256) بحذقه في هذه العمليات أنه أجرى هذه الجراحة لرجل أعور (81). ووضع ابن البيطار في كتابه الجامع الطب النباتي. فقد وصف في هذا الكتاب ألفاً وأربعمائة من أنواع النبات والأغذية، والعقاقير، ثلاثمائة منها لم تكن معروفة من قبل، وحلل تركيبها الكيمائي، وخصائصها العلاجية، وأضاف إلى ذلك ملاحظات دقيقة عن طرق استخدامها في علاج الأمراض. ولكن أشهر أطباء المسلمين على بكرة أبيهم هو أبو مروان ابن زهر (1091 - 1162) الأشبيلي المعروف في عالم الطب الغربي أفنزور Avenzoar. وكان أبو مروان السادس من ستة أجيال من أطباء ذائعي الصيت متصلي النسب، كل منهم يحمل لواء الب في أيامه، وقد ألف تابه السمى كتاب التيسير إجابة لطلب صديقه ابن رش (أعظم فلاسفة زمانه) الذي كان يعده أعظم من أنجبه العالم من الأطباء منذ أيام جالينوس. وكان أهم ما برع فيه ابن زهر هو الوصف الإكينيكي؛ وقد ترك وراءه تحليلات صادقة للأورام الحيزرومية، والتهاب الثامور، ودرن الأمعاء، والشلل البلعومي (82). وكان للترجمتين العبرية واللاتينية لكتاب التيسير أعظم الأثر في الطب الأوربي.

كذلك تزعم الإسلام العالم كله في إعداد المستشفيات الصالحة وإمدادها بحاجاتها. مثال ذلك أن البيمارستان الذي أنشأه نور الدين في دمشق عام 1160 ظل ثلاثة قرون يعالج المرضى من غير أجر ويمدهم بالدواء من غير ثمن؛ ويقول المؤرخون إن نيرانه ظلت مشتعلة لا تنطفئ 267 سنة (83). ولما وفد ابن جبير إلى بغداد في عام 1184 دهش أيما دهشة من بيمارستانها العظيم الذي كان يعلو كما تعلو القصور الملكية على شاطئ نهر جلة، والذي كان يطعم المرضى ويمدهم

ص: 360

بالدواء من غير ثمن

(1)

. وفي القاهرة بدأ السلطان قلاون في عام 1285 تشييد بيمارستان المنصور أعظم مستشفيات العصور الوسطى على الإطلاق، فقد أقام في داخل فضاء واسع مسوّر مربع مباني أربعة يتوسطها فناء يزدان بالبواكي، وتلطف حرارته الفساقي والجداول. وكان يحتوي على أقسام منفصلة لمختلف الأمراض وأخرى للناقهين، ومعامل للتحليل، وصيدلية، وعيادات خارجية، ومطابخ، وحمامات، ومكتبة ومسجد للصلاة، وقاعة للمحاضرات، وأماكن للمصابين بالأمراض العقلية، زوت بمناظر تسر العي. وكان المرضى يعالجون فيه من غير أجر رجالاً كانوا أو نساء، أغنياء أو فقراء، أرقاء، أو أحراراً، وكان كل مريض يعطي عند خروجه منه بعد شفائه مبلغاً من المال حتى لا يضطر إلى العمل لسب قوته بعد خروجه منه مباشرة. وكان الذين ينتابهم الأرق يستمعون إلى موسيقى هادئة، وقصاصين محترفين، ويعطون في بعض الأحيان كتباً تاريخية للقراءة (85). وكان في جميع المدن الإسلامية الكبيرة مصحات للمصابين بالأمراض العقلية.

(1)

يقول ابن جبير في وصف هذا البيمارستان: "وهو على دجلة ويتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس، ويطالعون أحوال المرضى به، ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم قوم يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء ويدخل أليه من دجلة". (المترجم)

ص: 361

الفصل السّابع

‌الغزالي والنهضة الدينية

وبينما كانت العلوم تسير قدماً في طريق الرقي كان الدين يكافح للاحتفاظ بولاء الطبقات المتعلمة وإبقائها إلى جانبه؛ وأدى النزاع الذي قام بين الدين والعلم إلى تشكيك الكثيرين في عقائد الدين، بل إنه دفع بعضهم إلى الإلحاد والكفر. وقد قسم الغزالي المفكرين المسلمين إلى ثلاث طوائف: كلها في نظره كافرة وهي المؤلهة، والربوبية (أو الطبيعية)، والمادية. فأما المؤلهة فتؤمن بالله، وبخلود الروح ولكنها تنكر الخلق وبعث الأجسام، وتقول إن الجنة والنار حالات روحية لا غير؛ أما الثانية فتؤمن بالله ولكنها تنكر خلود الروح وترى أن العالم آلة تعمل بنفسها؛ وأما المادية فترفض وجود الله إطلاقاً

(1)

. وقامت حركة أخرى على شيء من النظام هي حركة الدهرية، وهؤلاء لا أدريون صريحون لا يؤمنون بشيء، وقد أعدم عدد من أتباع هذه الحركة ومن متبعي هذا المذهب إصبهان بن قرة الذي قال في يوم من أيام رمضان لأحد الصائمين الأتقياء إنه يعذب نفسه من غير داع، فالإنسان كالحبة ينبت وينمو ثم يحصد لكي يفنى إلى أبد الدهر

ثم نصحبه بأن يأكل ويشرب (86).

وكان رد الفعل الذي نتج من هذه الحركة المتشككة هو ظهور أبي حامد الغزالي أعظم علماء الدين المسلمين، الذي جمع بين الفلسفة والدين، فكان بذلك عند المسلمين، كما كان أوغسطين وكانت الأوربيين. ولد أبو حامد الغزالي في طوس عام 1058، ومات أبوه في صغره فكفله صديق له متصوف ودرس الغلام الشريعة، وعلوم الدين، والفلسفة. ولما بلغ سن الثلاثين عين أستاذاً

(1)

لخص المؤلف هذا من المقدمة الثانية من كتاب تهافت الفلاسفة. (المترجم)

ص: 362

في المدرسة النظامية الكبرى ببغداد؛ وسرعان ما أعجب العالم الإسلامي بفصاحته، وغزارة علمه، وبراعته في الجدل. وبعد أن قضى في هذا العمل ثلاث سنين طبقت فيها شهرته الآفاق أصيب بمرض غريب أقعده عن العمل وأفقده شهوة الطعام والشراب والقدرة على الهضم؛ وكان شلل لسانه يشوه منطقة في بعض الأحيان، ثم بدأت قواه العقلية تنهار. وشخص طبيب ماهر مرضه بأنه في الأصل مرض عقلي. وقد أقر الغزالي في ترجمته لحياته بأنه لم يعد يؤمن بقدرة العقل على فهم أسرار الدين الإسلامي، وأنه لم يكن يطيق ما في دروسه الدينية من نفاق. وغادر الرجل بغداد في عام 1094 يريد الحج إلى بيت الله الظاهر، ولكنه في الحقيقة كان يريد اعتزال الناس، وينشد الوحدة والصمت، والهدوء وإطلاق العنان للتفكير والتأمل. ولما عجز عن أن يجد في العلم ما يطلبه من عون يعيد إليه إيمانه المتداعي، انقلب من التفكير في العالم الخارجي إلى تأمل العالم الداخلي، معتقداً انه سيجد في هذا العالم من أقرب سبيل تلك الحقيقة الخالدة وهي القاعدة الثابتة الأكيدة للإيمان بعالم الروح. وتعرض بالنقد الشديد لعالم المحسوسات-وهو عماد النزعة المادية وأساسها، وفقد الثقة بالحواس واتهمها بأنها تجعل النجوم تبدو ضئيلة مع أنها بلا ريب أكبر كثيراً من الأرض، وإلا لتعذرت رؤيتها من بعدها الشاسع؛ واستخلص من هذا المثل ومن مئات غيره من الأمثلة أن الحواس وحدها ليست طريقاً موثوقاً به موصلاً إلى الحقيقة. وأما العقل فهو في رأيه أرقى درجة من الحواس وهو يصحح ما يصل إليها عن طريق إحداها بما يصل إليه عن طريق الأخرى، ولكنه هو الآخر يعتمد في النهاية على الحواس نفسها. فها عند الإنسان نوع من المعرفة، يهديه إلى الحقيقة، أصدق من العقل وأوكد؟ وأحس الغزالي بأنه قد عثر على هذا النوع من المعرفة في تأمل الصوفية الباطني: فالصوفي يقترب من سر الحقيقة المكنون أكثر مما يقترب منه الفيلسوف؛ وأرقى أنواع المعرفة هو التأمل في معجزة العقل حتى يظهر

ص: 363

الله للمتأمل من داخل نفسه، وحتى تختفي النفس ذاتها في رؤية الواحد (78).

وبهذه النزعة وهذا الزاج كتب الغزالي أعظم كتبه كلها تأثيراً ونعني به كتاب تهافت الفلاسفة واستعان فيه على العقل بجميع فنون العقل، فاستخدم الصوفي المسلم الجدل الفلسفي الذي لا يقل دقة عن جدل كانت Kant ليثبت أن العقل يؤدي بالإنسان إلى التشكك في كل شيء، وإلى الإفلاس الذهني، والانحطاط الخلقي، والتدهور الاجتماعي. وأنزل الغزالي العقل-قبل أن ينزله هيوم Hume بسبعة قرون-إلى مبدأ العلية، وأنزل مبدأ العلية نفسه إلى مجرد التتابع إذ قال إن كل ما ندركه هو أن ب تتبع أعلى الدوام ولا ندرك أن أهي علة ب. ومن أقواله أن الفلسفة، والمنطق، والعلوم لا تستطيع قط أن تثبت وجود الله، أو خلود الروح بل إن الإلهام المباشر هو وحده الذي يؤكد لنا هاتين العقيدتين اللتين لا قيام بغيرهما لأي نظام أخلاقي، وهو النظام الذي لا قيام لأية حضارة إلا به (88).

وعاد الغزالي في آخر الأمر عن طريق التصوف إلى العقائد الدينية السليمة جميعها، وعاد إليه كل ما كان يساوره في شبابه من مخاوف وآمال، وجهر بأنه يحس بعيني إله قاهر قريبتين من رأسه تتوعدانه وتنذرانه، وأخذ ينذر الناس من جديد بأهوال الجحيم يؤكد أن دعوته هذه لا غنى عنها لتقويم أخلاق العامة (89)، وعاد إلى الإيمان بكل ما جاء به القرآن والحديث، وقد شرح في كتابه إحياء علوم الدين هذه العودة إلى عقائده الأولى، ودافع عنها بكل ما كان له في شبابه من قوة وحماسة أصبح بهما أقوى عدو للمتشككة والفلاسفة الذين لم يواجهوا من قبله عدواً أشد منه عنفاً. ولما توفي في عام 1111 كانت موجة الإلحاد قد ردت على أعقابها، واطمأنت جميع قلوب المؤمنين المتمسكين بالدين، بل إن رجال الدين المسيحيين أنفسهم قد أثلج صدورهم ما وجدوه في كتبه، بعد أن ترجمت إلى اللغات الأجنبية، من دفاع حار عن

ص: 364

الدين، وعرض بليغ لقواعد التقى والصلاح لم يروا له نظيراً بعد أيام أوغسطين. واختفت الفلسفة منذ أيامه، بالرغم من ظهور ابن رشد، في أقصى أركان العالم الإسلامي، وضعفت البحوث العلمية، وأصبح الحديث والقرآن دون غيرهما من العلوم موضع اهتماماً العقول الإسلامية وشغلها الشاغل

(1)

.

وكان اعتناق الغزالي لمذهب التصوف نصراً باهراً للصوفية، فأخذ أهل السنة من بعده بالتصوف حتى طغت عقائد المتصوفة وقتاً ما على قواعد الدين. نعم إن علماء الدين والشريعة الإسلامية كانوا لا يزالون من الوجهة الرسمية أصحاب الكلمة العليا في علم الدين والشريعة، لكن ميدان التفكير الديني استسلم لمشايخ الطرق وأولياء الله الصالحين. ومن عجب أن ظهور طائفة الرهبان الفرنسيس في المسيحية قد عاصره نوع جديد من الزهد والنسك في العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر الميلادي، فقد أخذ الزهاد المتصوفة يهجرون الحياة العائلية يحيون حياة الأخوة الدينية بزعامة شيخ لهم ويسمون أنفسهم الفقراء أو الدراويش، وثانيهما لفظ فارسي معناه السائل. وكان هؤلاء يسعون بطرق مختلفة إلى التسامي بأرواحهم ليرتفعوا بها إلى الفناء في روح الله فيستطيعوا بذلك الإتيان بعجائب الأعمال: فمنهم من كانت وسيلته إلى هذا التسامي هي الصلاة والتأمل، ومنهم من كانت سبيله إليها النشوة التي تعقب الأذكار العنيفة.

وقد صيغت نظريات الصوفية في المائة والخمسين من الكتب التي ألفها محي الدين بن العربي (1165 - 1240) -وهو مسلم أندلسي أقام في دمشق. ومن أقواله أن العالم لم يخلق قط لأنه هو المظهر الخارجي لما هو في حقيقته الداخلية الله نفسه، والجحيم مقام مؤقت، لأن الناس كلهم سينجون آخر الأمر، والحب يخطئ إذا كان هو حب المظهر الجسمي الزائل، لأن الله وهو الذي يظهر في صورة

(1)

لا شك أن في هذا التعميم كثيراً من المبالغة. (المترجم)

ص: 365

المحبوب، والمحب الصادق يجد في أية صورة باعث الجمال كله ويعشقه. ولعل محي الدين قد تذكر أقوال بعض المسيحيين من أيام جيروم فأخذ يعلم الناس أن "من أحب وعف ثم مات مات شهيداً"، ووصل إلى أسمى درجات الصلاح والورع. وكان كثير من الدراويش المتزوجين يجهرون بأنهم يحبون هذه الحياة الطاهرة مع أزواجهم (90).

وأثرت بعض الطوائف الدينية الإسلامية مما كان يغدقه عليها الناس من العطايا، ورضيت أن تستمع بطيبات الحياة. وقد شكا من ذلك أحد شيوخ الشام حوالي عام 1250 فقال إن الصوفية كانوا من قبل أخوة مختلفين في الجسم ولكنهم متحدون بالروح، أما الآن فهم طائفة تكتسي أجسامها بالثياب بالحسنة ولكن سرائرها ممزقة خلقة. وكان الناس يبتسمون لهؤلاء الذين جمعوا بين الدين والدنيا ويتركونهم وشأنهم، ولكنهم كانوا يعظمون الأتقياء المخلصين الصادقين، ويعزون إليهم قوى وأفعالاً غير عادية، ويحتفلون بموالدهم، ويرجون منهم الشفاعة لهم عند الله، ويزورون قبورهم. ذلك أن الإسلام كالمسيحية دين يتطور ويكيف نفسه تكييفاً يدهش له محمد والمسيح إذا قدر لهما أن يعودا إلى هذا العالم

(1)

.

ولما انتصر أهل السنة على هذا النحو وضعفت روح التسامح الديني، وعادت إلى الوجود شيئاً فشيئاً القواعد الصارمة التي يعزونها إلى الخليفة عمر بن الخطاب فطلب إلى غير المسلمين أن يميزوا ثيابهم بخطوط صفراء، وحرم عليهم أن يركبوا الخيل وأذن لهم أن يركبوا الحمير أو البغال، ولم يسمح لهم بإنشاء كنائس أو معابد

(1)

ليست العقائد الدينية الأساسية هي التي تتطور وتتبدل على مر الأيام بل الذي يتطور هو ما لا يمس صميم الدين كالتشريع وأمثاله. وهناك أفعال ليست من الدين في شيء وبعضها مخالف له وأن أتاها بعض المسلمين منها الحج إلى المقابر الأولياء والتبرك بهم والتشفع بهم عند الله وهو ما لا يقره الدين. (المترجم)

ص: 366

جديدة وإن أجيز لهم أن يصلحوا ما يحتاج منها إلى الإصلاح؛ ولم يكن يجوز لهم أن يظهروا الصليب في خارج الكنائس، أو يدقوا نواقيسها؛ ولم يكن أبناء غير مسلمين يقبلون في المدارس الإسلامية، ولكن كان في وسع غير المسلمين أن ينشئوا لأبنائهم مدارس خاصة لهم. كان هذا كله هو ما يجب إتباعه من الوجهة النظرية، ولكنه لم يكن ينفذ على الدوام. ولا تزال هذه هي النصوص الحرفية للشريعة الإسلامية إن لم تكن هي المعمول بها على الدوام (92)

(1)

. ومع هذا فقد كان في بغداد وحدها في القرن العاشر 45. 000 مسيحي (93)، وكانت جنائز المسيحيين تسير في الشوارع دون أن يتعرض لها أحد (94)، وظل المسلمون على الدوام يحتجون على استخدام المسيحيين واليهود في المناصب العليا؛ ولقد كان صلاح الدين، في ثورة الحرب الصليبية وحدتها وما أوجدته في النفوس من أحقاد، كريماً رحيماً بمن في دولته من المسيحيين.

(1)

لا ندري من أين جاء الكاتب بقوله أن هذه النصوص الحرفية للشريعة الإسلامية، فلسنا نعلم أن الشريعة تنص على هذا، ولعل بعض هذه القيود قد وضعت على غير المسلمين في بعض اليهود، وضعها بعض الملوك أو الأمراء، ولكنها لم تكن قاعدة متبعة، وليست من الدين في شيء. وحسبنا ما قاله المؤلف نفسه بعد هذا دليلاً على تسامح المسلمين في أقرب العهود إلى نشأة الإسلام. (المترجم)

ص: 367

الفصل الثامِن

‌ابن رشد

عاشت الفلسفة وقتاً ما في أسبانيا الإسلامية بما كانت تبثه بحكمة وحذر من الآراء التي تتفق مع الدين بين محاولات النقد الهين غير العنيف؛ وقد وجد الفكر شيئاً من الحرية المزعزعة في بلاط الأمراء الذين كانوا يستمتعون سراً بالبحوث التي يرونها ضارة بعامة الشعب. ومن أجل ذلك اختار أمير سرقسطة وهو من المرابطين أبا بكر بن باجة الذي ولد في تلك المدينة حوالي عام 1106 ليكون وزيراً له وكان ابن باجة، أو أفمباس Avempace كما اختار الأوربيون أن يسموه فيما بعد، قد بلغ، وهو لا يزال في شبابه، مرتبة عليا غير عادية في العلوم الطبيعية، والطب، والفلسفة، والموسيقى، والشعر؛ ويقول ابن خلدون إن الأمير أعجب بأبيات قالها العالم الشاب إعجاباً دفعه إلى أن يقسم ألا يدخل عليه قط إلا وهو يسير على الذهب، وخشي ابن باجة أن يقلل هذا القسم من الحفاوة به فوضع قطعة من النقود الذهبية في كلا حذاءيه. ولما سقطت سرقسطة في أيدي المسيحيين، فر الوزير-العالم-الشاعر منها إلى فاس حيث وجد نفسه فقيراً معدماً بين مسلمين يتهمونه بالكفر، ومات ابن باجة في سن الثلاثين مسموماً كما تقول بعض الروايات. وتعدّ رسالته في الموسيقى التي لم نقف لها على أثر خير ما كتب في هذا الموضوع الدقيق في الآداب الإسلامية في الغرب. وأشهر مؤلفاته كلها كتاب مرشد الحيران الذي جدد فيه البحث في أحد الموضوعات الأساسية في الفلسفة الإسلامية. فقد قال ابن باجة إن العقل البشري يتكون من جزأين: العقل المادي الذي يتصل بالجسم ويموت بموته؛ والعقل الفعّال أو العقل الكوني غير البشري الذي يوجد في الناس كلهم، وهو وحده الذي

ص: 368

لا يموت بموتهم. والتفكير هو أسمى وظائف الإنسان، وبالتفكير وحده، لا بالنشوة الصوفية، يصل الإنسان إلى معرفة العقل الفعال وهو الله. ولكن التفكير مغامرة خطيرة، إلا إذا كانت في صمت. والرجل العاقل يعيش في عزلة هادئة، بعيداً عن الأطباء، ورجال القانون، والناس أجمعين؛ أو لعل عدداً قليلاً من الفلاسفة يؤلفون فيما بينهم جماعة تسعى مجتمعة لطلب المعرفة في رفق وتسامح بعيدة عن صخب الشعب وجنونه (95).

وواصل أبو بكر بن طفيل (أبو ياسر Adupacer عند الأوربيين)(1107؟ -1185) أفكار ابن باجة: وكاد يحقق مثله العليا. وكان هو الآخر عالماً، وشاعراً، وطبيباً، وفيلسوفاً؛ وكان وزيراً وطبيباً للخليفة أبي يعقوب يوسف في مدينة مراكش عاصمة الموحدين. وقد استطاع أن يقضي معظم ساعات يقظته في المكتبة الملكية ووجد بين الدرس وشئون الحكم متسعاً من الوقت كتب فيه، من بين الكتب العميقة، أعظم قصة فلسفية في أدب العصور الوسطى. وقد أخذ ابن طفيل عنوان قصته من ابن سينا ولعلها هي التي أوحت إلى دفوا (Defoe) بقصة ربنسن كروزو Robinson Crusse (بعد أن ترجمها أكلي Ockley إلى الإنجليزية في عام 1708).

وخلاصة القصة أن حي بن يقظان، الذي سميت القصة باسمه ألقى وهو طفل في جزيرة خالية من السكان، فأرضعته عنزة؛ وشب الفتى متوقد الذكاء عظيم المهارة، فكان يصنع حذاءيه وأثوابه بنفسه من جلود الحيوان، ودرس النجوم، وسرَّح الحيوانات حية وميتة، حتى وصل في هذا النوع من المعرفة إلى أرقى ما وصل إليه أعظم المشتغلين بعلم الأحياء (96). ثم انتقل من العلوم الطبيعية إلى الفلسفة وعلوم الدين؛ وأثبت لنفسه وجود خالق قادر على كل شيء؛ ثم عاش معيشة الزهاد، وحرم على نفسه أكل اللحم، واستطاع أن يتصل اتصالاً روحياً

ص: 369

بالعقل الفعال (97). وأصبح حي بعد أن بلغ التاسعة والأربعين من العمر متأهباً لتعليم غيره من الناس. وكان من حسن الحظ أن متصوفاً يدعى أسال استطاع في سعيه إلى الوحدة أن يلقي بنفسه على الجزيرة، فالتقى بحي، وكان هذا أول معرفة له بوجود بني الإنسان. وعلمه أسال لغة الكلام وسره أن يجد أن حياً قد وصل دون معونة أحد إلى معرفة الله، وأقر لحي بما في عقائد الناس الدينية في الأرض التي جاء منها من غلظة وخشونة، وأظهر له أسفه على أن الناس لم يصلوا إلى قليل من الخلاق الطيبة إلا بما وعدوا به من نعيم الجنة، وما أنذروا به من عقاب النار. واعتزم حي أن يغادر جزيرته ليهدي ذلك الشعب الجاهل إلى دين أرقى من دينهم وأكثر منه فلسفة. فلما وصل إليهم أخذ يدعوهم في السوق العامة إلى دينه الجديد وهو وحده الله والكائنات. لكن الناس انصرفوا عنه أو لم يفهموا أقواله. وأدرك أن الناس لا يتعلمون النظام الاجتماعي إلا إذا مزج الدين بالأساطير، والمعجزات، والمراسيم، والعقاب والثواب الإلهيين. ثم ندم على إقحامه نفسه فيما لا يعنيه، وعاد إلى جزيرته، وعاش مع أسال يرافق الحيوانات الوديعة والعقل الفعال، وظلا على هذه الحال يعبدان الله حتى الممات.

وقدم ابن طفيل إلى أبي يعقوب يوسف حوالي عام 1153 شاباً قاضياً وطبيباً يعرفه المسلمون باسم أبي الوليد محمد بن رشد (1126 - 1198) ويعرفه الأوربيون في العصور الوسطى باسم أفروس (Averro (s) ، واكبر فلاسفة المسلمين تأثيراً في العقول. ودل ابن طفيل بعمله هذا على تجرده من الغيرة والحسد تجرداً نادر الوجود في بني الإنسان. وكان جد ابن رشد وأبوه كلاهما قاضيين للقضاة في قرطبة، وقد هيأ له من التعليم كل ما تستطيع أن تهيئه له العاصمة القديمة. ونقل إلينا أحد تلاميذه هذه الفقرة التي يقولون إنها هي التي وصف بها ابن رشد نفسهُ أول لقاء له بالأمير فقال إنه لما قدم عليه لم يجد معه إلا ابن طفيل، وأخذ ابن

ص: 370

طفيل هذا يمتدحه بما لا يستحقه من المديح

وبدأ الأمير حديثه بأن سأل الفيلسوف عن رأيه في السموات، هل هي أزلية أو أن لها بداية؟ فارتاع الفيلسوف لذلك اضطرب، وأخذ يتلمس المعاذير للفرار من الإجابة. وأدرك الأمير ما هو فيه من اضطراب فالتفت إلى ابن طفيل وأخذ يتحدث إليه في الموضوع، ويعيد على مسامعه آراء أفلاطون وأرسطو وغيرهما من الفلاسفة، وما لفقهاء المسلمين عليها من اعتراض؛ ولا يرجع في شيء هذا إلا إلى ذاكرته مما لم يكن يظن أن له نظيراً حتى بين من كانت الفلسفة مهنته. وطمأن الأمير الفيلسوف وامتن علمه، ولما انصرف من حضرته بعث إليه بشيء من المال، وبجواد، وحلة غالية الثمن (98). وعين ابن رشد في عام 1169 قاضياً للقضاة في إشبيلية وفي عام 1172 قاضياً للقضاة في قرطبة، ثم استدعاه أبو يعقوب إلى مراكش بعد عشر سنين من ذلك الوقت ليكون طبيبه الخاص، وظل يشغل هذا المنصب حتى ورث الخلافة يعقوب المنصور. وفي عام 1194 نفي ابن رشد إلى أليسانة القريبة من قرطبة لغضب الشعب عليه بسبب آرائه. ثم عفي عنه وعاد إلى مراكش في عام 1198 ولكن المنية عاجلته في العام التالي، ولا يزال قبره حتى الآن قائماً في تلك المدينة.

وكاد كتابه في الطب ينسى بسبب شهرته الواسعة في الفلسفة، ولكنه كان في الحقيقة من أعظم أطباء زمانه، فقد كان أول من شرح وظيفة شبكية العين، وقال إن من يمرض بالجدري يكتسب الحصانة من هذا الداء (99). وكانت موسوعته الطبية المسماة كتاب الكليات في الطب بعد أن ترجمت إلى اللغة اللاتينية واسعة الانتشار في الجامعات المسيحية. وأبدى الأمير أبو يعقوب في ذلك الوقت رغبته في أن يكتب له أحد العلماء شرحاً واضحاً لآراء أرسطو، وأشار ابن طفيل أن يعهد هذا العمل إلى ابن رشد. ورحب الفيلسوف بهذا الاقتراح، لأنه كان يرى أن الفلسفة كلها قد اجتمعت في آراء الفيلسوف اليوناني، وأن كل ما تحتاجه

ص: 371

لكي تصبح موائمة لكل زمان هو أن تشرح وتفسر

(1)

. واعتزم ابن رشد أن يعيد لكل من كتب أرسطو البرى خلاصة موجزة في أول الأمر، ثم شرحاً لها موجزاً أيضاً، ثم شرحاً مطولاً للطلبة المتقدمين في الدرس- وكانت هذه الطريقة طريقة الشروح المتدرجة في الصعوبة مألوفة في الجامعات الإسلامية. ولقد كان من سوء الحظ أنه لا يعرف اللغة اليونانية، وأنه اضطر لهذا السبب إلى الاعتماد على الترجمة العربية للترجمة السريانية لكتب أرسطو؛ ولكن صبره، وصفاء ذهنه، وقدرته على التحليل الدقيق العميق، أذاعت شهرته في أوربا كلها وأكسبه اسم الشارح الأعظم ورفعه إلى أعلى مقام بين فلاسفة المسلمين لا يعلوا عليه في المنزلة إلا لبن سينا العظيم.

وأضاف ابن رشد إلى هذه الشروح كتباً ألفها هو في المنطق، والطبيعة، وعلم النفس، وما بعد الطبيعة، والفقه، والشريعة، والفلك، والنحو، ورداً على تهافت الفلاسفة للغزالي سماه تهافت التهافت. وهو يقول كما قال فرانسس بكن من بعده إن من الفلسفة قد يميل الإنسان إلى المروق من الدين، ولكن الدرس الواسع يؤدي إلى الائتلاف بين الفلسفة والدين. ذلك أن الفيلسوف، وإن كان لا يأخذ تعاليم القرآن، والتوراة، وغيرهما من الكتب النزلة (100) بمعناها الحرفي يدرك أنها لا غنى عنها لإنماء روح التقوى الطيبة والأخلاق السليمة في عقول الناس، الذين تشغلهم مطالب الحياة الملحة فلا يجدون من الوقت ما يكفي لغير التفكير العارض، السطحي، الخطر في مبادئ الأشياء وأواخرها. ومن ثم فإن الفيلسوف الناجح لا ينطق بلفظ أو يشجع لفظاً يعرض الدين (101)؛ ومن حق الفيلسوف في مقابل هذا أن يترك حراً يسعى وراء الحقيقة، ولكن عليه مع ذلك أن يحصر مناقشاته في دائرة المتعلمين ومداركهم، وألا يعمد

(1)

وأبدى سنتيانا Sanlatsna في كتابه حياة العقل The Life of Reason هذا الرأي نفسه.

ص: 372

إلى الدعاوة لآرائه بين العامة (102). وهو يرى أن العقائد الدينية إذا فسرت تفسيراً رمزياً تتفق مع ما يكشف عنه العلم والفلسفة (103). ولقد ظل هذا التفسير الرمزي للنصوص المقدسة المبني على الاستعارة التشبيه سنة متبعة حتى عند رجال الدين أنفسهم مئات السنين. وابن رشد لا يقول صراحة بالنظرية التي يعزوها إليه النقاد المسيحيون وهي أن قضية من القضايا قد تكون صادقة في الفلسفة (بين المتعلمين)، ولكنها قد تكون خاطئة (مضرة) في الدين (والأخلاق)(104)، وإن كانت تعاليمه تتضمن هذا المعنى. ومن أجل هذا وجب ألا يبحث عن آراء ابن رشد في رسائله الصغرى التي وضعها لجمهور الطلاب، بل في شروحه لأرسطو التي هي أكثر عمقاً وأصعب فهماً من الرسائل السالفة الذكر.

وهو يفسر الفلسفة بأنها البحث في عنى الوجد بقصد إصلاح شأن الإنسان (105) ويقول إن العالم أزلي، وإن حركات الكواكب لا بداية لها ولا نهاية؛ وإن القول بالخلق خرافة، فالقائلون بالخلق يدعون أن الله ينشئ كائناً (جديداً) من غير أن يحتاج في إنشائه إلى مادة موجودة من قبل

وهذا التصور هو الذي جعل علماء الأديان الثلاثة القائمة في هذه الأيام يقولون إن الشيء قد ينشأ من لا شيء (106)

والحركة أزلية ودائمة؛ وكل حركة تنشأ من حركة أخرى قبلها. وبغير الحركة لا يكون زمن ليس في وسعنا أن نتصور حركة ذات بداية ونهاية (107).

ولكنه مع هذا يقول إن الله هو خالق العالم، ويعني بهذا أن العالم موجود في أي وقت من الأوقات بقوة الله الحافظة، وإنه يمر في كل لحظة بعملية خلق مستمرة بقدرة الله الفعالة (108)؛ فالله هو نظام الكون، وقوته وعقله.

ومن هذا النظام الأعلى والعقل الكلي يكون نظام الأفلاك والنجوم عقلها المحرك. ومن عقل أدنى الأفلاك السماوية (فلك القمر) يأتي العقل الفعال الذي يدل في جسم الإنسان المفرد وعقله. والعقل الإنساني مكون من عنصرين

ص: 373

أحدهما العقل القابل أو المادي وهو استعداد الإنسان أو قدرته على التفكير أو المعرفة العقلية، وهذا العقل جزء من الجسم يفنى بفنائه (الجهاز العصبي؟)، والثاني العقل الفعال، المستمد من الله، وهو الذي يبعث العقل القابل على التفكير الفعلي، وهذا العقل الفعال لا يختلف في فرد عنه في آخر؛ بل هو سواء في الناس كلهم، وهو وحده الخالد الذي لا يفنى (109). ويشبه ابن رشد عمل العقل الفعال في الفرد أو في العقل القابل بتأثير الشمس التي يجعل ضوءها كثيراً من الأجسام نيرة، ولكنه يبقى في كل مكان، ويظل على الدوام كما كان (110). يسعى العقل الفردي للاتحاد مع العقل الفعال، كما تمتد النار إلى الأجسام القابلة للاحتراق. وبهذا الاتصال يصبح العقل البشري شبيهاً بالله، لأنه يستحوذ على الكون كله بالقوة في فكره، والحق أن العالم وكل ما فيه ليس له وجود بالنسبة لنا، وليس له معنى، إلا عن طريق العقل يدركه (111). وإدراك الحقيقة وحده عن طريق الذهن هو الذي يؤدي بالعقل إلى الاتحاد مع الله ذلك الاتحاد الذي يظن المتصوفة أنهم يستطيعون الوصول إليه بالتدريب النفساني على الزهد أو بالنشوة التي تحدث بالأذكار. وابن رشد بعيد كل البعد عن عقائد المتصوفة وعن الأسرار الخفية. ويرى أن الجنة ليست إلا ما يستمتع به العقلاء من حكمة هادئة محببة إلى النفس (112).

وهذه هي النتيجة التي وصل إليها أرسطو نفسه، ولا حاجة إلى القول بأن نظرية العقل الفعال والعقل المنفعل (nous pathetikos nous poietikos) مرجعها كتاب النفس لأرسطو De Anima (المقالة الثالثة)، كما فسرها الإسكندر الأفروديسي، وثامسطيوس الإسكندري، وهي التي استحالت إلى نظرية الفيض Emanation التي تقول بها الأفلاطونية الحديثة والتي انتقلت إلينا عن طريق الفارابي وابن سينا وابن باجة، وأصبحت هذه الفلسفة العربية في نهايتها كما كانت في بدايتها هي فلسفة أرسطو استحالت أفلاطونية حديثة؛ ولكن

ص: 374

بينا كانت عقائد أرسطو قد عدلت وحورت على أيدي معظم الفلاسفة المسلمين والمسيحيين حتى توفي بحاجات الدين، فإن العقائد الإسلامية قد انقضت على أيدي ابن رشد إلى أقل قدر حتى يوفق بينها وبين آراء أرسطو. ومن أجل هذا كان أثر ابن رشد في المسيحية أعظم منه في بلاد الإسلام، فقد اضطهده معاصره من المسلمين؛ ونسيه من جاء بعده منهم، وتركوا معظم كتبه تضيع أصولها العربية؛ ولكن اليهود احتفظوا بالكثير منها مترجماً إلى اللغة العبرية. وسار ابن ميمون على نهج ابن رشد فحاول أن يوفق بين الدين والفلسفة، أما في العالم المسيحي فإن الشروح بعد أن ترجمت من العبرية إلى اللاتينية كانت من أكبر البواعث على نزعة سيجر دي برابانت Siger de Brabant الإلحادية، ونزعة مدرسة بدوا Padua العقلية، وكانت خطر يهد أساس العقيدة المسيحية. وأراد تومس أكويناس أن يرد هذا التيار الذي بعثه ابن رش بمؤلفاته فكتب كتابه Summae لهذا الغرض، ولكنه سار على الطريقة التي اتبعها ابن رشد في شروحه في كثير من تفسيراته المختلفة لأرسطو، وفي قوله إن المادة هي منشأ الفروق بين الكائنات، وفي تفسيره الرمزي للنصوص الخاصة بالتجسيد في الكتاب المقدس، وفي قبوله الفكرة القائلة بأن العالم قد يكون أزلياً، وفي رفضه التصوف أساساً كافياً للدين، وفي اعترافه بأن بعض العقائد الدينية فوق إدراك العقل، وأنه يمكن قبولها عن طريق الإيمان (113). وقد وضع روجر بيكن ابن رشد في الرتبة الثانية بعد أرسطو وابن سينا، وأضاف إلى ذلك قوله مع المبالغة التي هي من خصائصه "تحظى فلسفة ابن رشد في هذه الأيام (حوالي عام 1370) بقبول جميع العقلاء"(114).

وفي عام 1150 أمر الخليفة المستنجد في بغداد بإحراق جميع كتب ابن سينا وإخوان الصفا الفلسفية. وفي عام 1194 أصدر الأمير أبو يوسف يعقوب المنصور وكان وقتئذ في إشبيلية أمراً بإحراق جميع كتب ابن رشد إلا عدداً قليلاً منها

ص: 375

في التاريخ الطبيعي، وحرم على رعاياه دراسة الفلسفة، وحثهم على أن يلقوا في النار جميع كتبها أينما وجدت .. وبادر العامة إلى تنفيذ هذه الأمور، وكان يسوءهم ويحز في نفوسهم هجوم الفلاسفة على إيمانهم الذي كان عند بعضهم أعز سلوى لهم في حياتهم المضنية النكدة. وفي هذا الوقت بالذات أعدم أبن حبيب لدراسته الفلسفة (115)، وأعرض الإسلام بعد عام 1200 عن كل تفكير نظري. ولما أن ضعفت القوة العباسية في العالم الإسلامي، أخذت تتجه اتجاهاً متزايداً نحو طلب المعونة من رجال الدين والفقهاء من أهل السنة. وأمدها هؤلاء بما تحتاجه من هذه القوة، نظير كبتها للتفكير الحر المستقل. ومع هذا له فإن هذه المعونة لم تكن كافية لإنقاذ الدولة المضمحلة. ففي أسبانيا كان المسيحيون يتقدمون من بلد إلى بلد، حتى لم يبقَ للمسلمين إلا غرناطة وحدها: وفي الشرق استولى الصليبيون على بيت المقدس، وفي عام 1258 استولى المغول على بغداد ودمروها تدميراً.

ص: 376

الفصل التاسع

‌غارة المغول

1219 -

1258

وهنا يثبت التاريخ مرة أخرى الحقيقة القائلة إن نعم الحضارة تغري الهمج بالهجوم على البلاد المتحضرة

(1)

. وكان السلاجقة قد بعثوا في بلاد الإسلام الشرقية قوة جديدة، لكنهم هم أيضاً ركنوا إلى الدعة والنعيم، وتركوا دولة ملك شاه تنقسم مملكتين ذواتي حضارة رائعة ولكنهما ضعيفتان من الناحية العسكرية. وكان التعصب الديني والعداء العنصري قد قسما الشعب أقساماً شديدة الغضب والتنازع وحالا بينه وبين الاتحاد لمقاومة الصليبيين.

وفي هذه الأثناء كان المغول الضاربون في شمالي آسية الغربي يزداد عددهم لقوة إخصابهم، ويشتد بأسهم لما يلاقون من شظف العيش وصعابه. وكانوا يعيشون في الخيام أو في العراء، ويرحلون وراء قطعانهم إلى مراعٍ جديدة، ويرتدون جلود الماشية، ويدرسون فنون الحرب دراسة المتحمس لها الراغب فيها. وكان أولئك الهون الجدد، كما كان بنو جنسهم منذ ثمانية قرون، بارعين في استعمال الخناجر، والسيوف، والسهام يطلقونها من فوق جيادهم التي تسابق الريح. وإذا جاز لنا أن نصدق ما يقوله فيهم جيوفني دي بيانو كريبيني Giovanni de Piano Carpini المبشر المسيحي، فإن هؤلاء الأقوام كانوا "يأكلون كل ما يستطيعون أكله حتى القمل نفسه"(116)، ولم يكونوا يشمئزون من أكل الفئران، والقطط، والكلاب، ودم الآدميين، اشمئزاز أعظم الناس ثقافة في هذه الأيام من أكل ثعابين الماء والقواقع البحرية. ونظم جنكيز خان-أي الملك

(1)

أنظر مقدمة ابن خلدون في هذا المعنى. (المترجم)

ص: 377

العظيم-أولئك الأقوام بما فرضه عليهم من القوانين الصارمة حتى أنشأ منهم قوة عظيمة البأس، وقادهم البأس، وقادهم لفتح أواسط آسية الممتدة من نهر الفلجا إلى سور الصين العظيم. بينما كان جنكيز خان غائباً عن حاضرة ملكه في كركورم خرج عليه زعيم المغول، وعقد حلفاً مع الشاه علاء الدين محمد صاحب خوارزم المستقلة. وقمع جنكيز خان هذه الفتنة وعرض الصلح على الشاه فقبله، ولكن نائبه في أترار Otrar قتل بعد قليل من ذلك الوقت تاجرين من المغول فيما وراء نهر جيحون، وطلب جنكيز خان أن يسلم إليه الوالي لمحاكمته، فرفض محمد هذا الطلب، وقتل رئيس البعثة المغولية، ورد بقية أعضائها محلوق اللحى، فلم يكن من جنكيز خان إلا أن أعلن الحرب وبدأ بذلك هجوم المغول على بلاد الإسلام (1219).

وهزم جيش من المغول بقادة جوجي ابن الخان جيش محمد البالغ أربعمائة ألف جندي عند جند، وفر الشاه على أثر هذه الهزيمة إلى سمرقند وترك 160. 000 من رجاله قتلى في ساحة الوغى. وتقدم جيش مغولى آخر بقيادة ابن ججتان ابن الخان نحو أترار واستولى عليها ونهبها، وسار جيش ثالث بقيادة الخان نفسه إلى بخارى وحرقها عن آخرها. وسبى آلافاً من نسائها، وذبح ثلاثين ألفاً من رجالها. واستسلمت له سمرقند وبلخ حين وصل إلى أبوابها ولكنهما لم تنجوا من النهب والمذاب العامة؛ وزار ابن بطوطة هذه المدن بعد مائة عام من ذلك الوقت وصفها بأن أكثره لا يزال خرائب ينعق فيها البوم. وزحف تولوي بن جنكيز خان بجيش يبلغ سبعين ألفاً اخترق به خراسان وخرب كل ما مر به من المدن. وكان المغول يضعون الأسرى في مقدمة جيوشهم ويخيرونهم بين قتال مواطنيهم-من أمامهم أو قتلهم من خلفهم. وفتحت مرو خيانة وأحرقت عن آخرها، ودمرت في اللهب مكتبتها التي كانت مفخرة الإسلام، وسمح لأهلها بأن يخرجوا من أبوابها يحملون معهم كنوزهم، ولكنهم لم يخرجوا على هذا النحو إلا ليقتلوا وينهبوا فرادى. ويؤكد لنا المؤرخون المسلمون أن هذه المذابح استمرت ثلاثة

ص: 378

عشر يوماً هلك فيها 1. 300. 000 نسمة (117). وقاومت نيسابور الغزاة ببسالة زمناً طويلاً، فلما استسلمت آخر الأمر (1221) قتل كل من فيها من الرجال، والنساء، والأطفال، ما عدا أربعمائة من مهرة الصناع أرسلوا إلى منغوليا، وكومت رؤوس القتلى في كومة مروعة؛ وخربت كذلك مدينة الري الجميلة ومساجدها البالغ عددها ثلاثة آلاف، وما كان فيها من مصانع الفخار الذائعة الصيت، وقتل أهلها عن أخرهم كما يقول أحد المؤرخين المسلمين (118). وجمع ابن الشاة محمد جيشاً جديداً من الأتراك وحارب به جيش جنكيز خان عند نهر السند ولكنه هزم وفر إلى دلهي. ولما خرجت هراة على واليها المغولي كان جزاؤها ذبح ستين ألفاً من أهلها. لقد كانت هذه الوحشية جزءاَ من علوم الحرب عند المغول، وكانوا يقصدون بها شل قوى أعدائهم بما يقذفونه من الرعب في قلوبهم، وإرهاب المغلوبين على أمرهم حتى لا يفكرون في الخروج عليهم. ونجحت هذه الخطة.

وعاد جنكيز خان بعدئذ إلى بلاد ليستمتع بأزواجه وخليلاته الخمسمائة، ومات في فراشه. وسير ابنه وخليفته أجتاي جيشاً من 300. 000 للقبض على جلال الدين، وكان قد جيش جيشاً جديداً في ديار بكر. وهزم جلال الدين وقتل، ولم يلق الغازون بعدئذ مقاومة فعاثوا في أذربيجان، وبلاد النهرين، والكرج، وأرمينية (1234). وسمع المغول أن فتنة قامت في إيران بقيادة الحشاشين، فزحف هولاكو حفيد جنكيز خان بجيش مغولي اخترق به سمرقند، وبلخ ودمر حصن الحشاشين في ألموت وولى وجهه شطر بغداد.

وكان المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين في المشرق من جلة العلماء، وكبار الخطاطين؛ وكان مثال الرقة ودماثة الأخلاق، شديد الاهتمام بأمور الدين، وبالكتب، والصدقات: وكل هذه أمور لا تتفق مع ذوق هولاكو. واتهم المغول الخليفة بأنه يتستر على العصاة، ويمنع ما وعد به من مساعدة على الحشاشين، وطلب إلى الخليفة جزاء له على فعلته أن يكون خاضعاً للخان الأعظم، وأن تجرد

ص: 379

بغداد من الأسلحة ومن جميع وسائل الدفاع. ورفض المستعصم هذه الطلبات بإباء وكبرياء، وحاصر المغول بغداد، وأرسل الخليفة إلى هولاكو بعد شهر من بدء الحصار هدايا وعرض عليه الصلح؛ وخدع بما وعد به من الرحمة فأسلم هو وولداه أنفسهم إلى المغول؛ ودخل هولاكو وجنوده بغداد في الثالث عشر من فبراير عام 1258، وأعملوا فيها السلب والنهب والقتل أربعين يوماً كاملة، فتكوا فيها بثمانمائة ألف من أهلها على حد قول بعض المؤرخين. وهلك في هذه المذبحة الشاملة آلاف من الطلاب، والعلماء، والشعراء، ونهبت أو دمرت في أسبوع واحد المكاتب والكنوز التي أنفقت في جميع قرون طوال، وذهبت مئات الآلاف من المجلدات طعاماً للنيران، وأرغم الخليفة أفراد أسرته على أن يكشفوا عن مخابئ ثروتهم، ثم قتلوا (119). وهكذا قضي على الخلافة العباسية في آسية.

ثم عاد هولاكو إلى منغوليا، وبقي جيشه وراءه، يتقدم لفتح الشام تحت إمرة غيره من القواد، حتى التقى عند عين جالوت بجيش مصري يقوده قطز وبيبرس من أمراء المماليك (1260). وزفّت البشرى إلى كل مكان في بلاد الإسلام وفي أوربا نفسها، وابتهجت نفوس الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، فقد حُل الطلسم وذهب الروع، ذلك أن معركة حاسمة دارت رحاها بالقرب من دمشق عام 1303 وكانت عاقبتها أن هزم المغول، ونجت بلاد الشام للمماليك، ولعلها أيضاً احتفظت للمسيحية بأوربا.

ولسنا نعرف أن حضارة من الحضارات في التاريخ كله قد عانت من التدمير الفجائي ما عانته الحضارة الإسلامية على أيدي المغول. لقد امتدت فتوح البرابرة لبلاد الدولة الرومانية قرنين من الزمان، وكان في استطاعة بلاد الدولة أن تنتعش بعض الانتعاش بين كل ضربة والتي بعدها، وكان الفاتحون الجرمان يكنون في قلوبهم بعض الإجلال للدولة المحتضرة التي يعملون على تدميرها، ومنهم من حاول المحافظة عليها. أما المغول فقد أقبلوا وارتدوا في

ص: 380

أربعين عاماً لا أكثر، ولم يأتوا ليفتحوا ويقيموا، بل جاءوا ليقتلوا، وينهبوا ويحملون ما يسلبون إلى منغوليا. ولما ارتد تيار فتوحهم الدموي خلف وراءه اقتصاداً مضطرباً، وقنوات للري مطمورة، ومدارس ودوراً للكتب رماداً تذروه الرياح، وحكومات منقسمة على نفسها، معدمة، ضعيفة، لا تقوى على حكم البلاد، وسكاناً هلك نصفهم، وتحطمت نفوسهم. واجتمع الانغماس الأبيقوري في الملذات، والهزال الجسمي والعقلي، وخور العزيمة والعجز الحربي، والانقسام الديني والالتجاء إلى المراسم الغامضة الخفية، والفساد السياسي والفوضى الشاملة، اجتمعت هذه العوامل كلها وائتلفت لتحطيم كل شيء في الدولة قبل الغزو الخارجي. لقد كان هذا كله-لا تبدّل المناخ-هو الذي بدل آسية الغربية من زعامتها على العالم فقراً مدقعاً، وخراباً شاملاً. وأحل محل مئات المدن العامرة المثقفة في الشام، وأرض الجزيرة، وفارس، والقفقاس، والتركستان ما تعانيه في الوقت الحاضر من فقر، ومرض، وركود

(1)

.

(1)

لقد أخذت تلك البلاد تنفض عن كاهلها ما كانت تعانيه من الفقر والمرض والركود، وشرعت تعمل بجد وعزيمة لاستعادة مجدها الغابر الذي أراد هؤلاء الغزاة المتوحشون أن يقضوا عليه. وفي بلاد آسية الغريبة في الوقت الحاضر نهضة قوية مباركة في جميع المرافق الحيوية تبشر بأن هذه البلاد ستستعيد عما قريب ما كان لها من منزلة سامية في تلك الأيام الخالية ولقد استطاعت في وقت قصير أن تحقق الشيء الكثير من أسباب الرقي وأن ترفع عن كاهلها ما كان يطوقها به الاستعمار البغيض من قيود، ويقيناً أنه لولا هذا الاستعمار لكنت خطاها في هذه السبيل أوسع وأثبت. (المترجم)

ص: 381

الفصل العاشِر

‌الإسلام والعالم المسيحي

إن قيام الحضارة الإسلامية واضمحلالها لمن الظواهر الكبرى في التاريخ. لقد ظل الإسلام خمسة قرون من عام 700 إلى عام 1200 يتزعم العالم كله في القوة، والنظام، وبسطة الملك، وجميع الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع مستوى الحياة، وفي التشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، والآداب، والبحث العلمي، والعلوم، والطب، والفلسفة. وفي العمارة أسلم مكانته الأولى في القرن الثاني عشر إلى الكنائس الكبرى الأوربية، ولم يجد فن النحت القوطي منافساً له في بلاد الإسلام التي كانت تحرم صنع التماثيل. أما الفن الإسلامي فقد أفنى قوته في الزخرفة، وعانى الشيء الكثير من ضيق المدى ووحدة الطراز المملة؛ ولكنه في داخل هذا النطاق الذي فرضه على نفسه لم يفقه حتى الآن فن سواه. وكان الفن والثقافة في بلاد الإسلام أعم وأوسع انتشاراً بين الناس مما كانا في البلاد المسيحية في العصور الوسطى؛ فقد كان الملوك أنفسهم خطاطين، وتجاراً، وكانوا أطباء، وكان في مقدورهم أن يكونوا فلاسفة.

ويغلب على الظن أن البلاد المسيحية كانت متفوقة على بلاد الإسلام من ناحية الآداب الجنسية في خلال تلك القرون، وإن لم يكن لكليهما حظ لمختار. غير لأننا لا يسعنا إلا أن نذكر أن الاقتصار على زوجة واحد في البلاد المسيحية، مهما بلغ من عدم التقيد بهذه العادة من الناحية العملية، فقد أبقى الغريزة الجنسية في نطاق محدود، ورفع منزلة المرأة رفعاً بطيئاً، في حين الإسلام قد أخفى وجه المرأة بالحجاب والقناع. (ولقد أفلحت الكنيسة في تقييد الطلاق، ويبدو أن اللواط لم يبلغ في المسيحية، ومنها إيطاليا في عهد النهضة، ما بلغه من الحرية

ص: 382

والانتشار- حاشا أن نقول في حياة المسلمين. غير أن المسلمين، كما يلوح، كانوا رجالاً أكمل من المسيحيين؛ فقد كانوا أحفظ منهم للعهد، وأكثر منهم رحمة بالمغلوبين، وقلما ارتكبوا في تاريخهم من الوحشية ما ارتكبه المسيحيون عندما استولوا على بيت المقدس في عام 1099، ولقد ظل القانون المسيحي يستخدم طريقة التحكيم الإلهي بالقتال أو الماء، أو النار، في الوقت الذي كانت الشريعة الإسلامية تضع فيه طائفة من المبادئ القانونية الراقية ينفذها قضاة مستنيرون. واحتفظ الدين الإسلامي، وهو أقل غموضاً في عقائده من الدين المسيحي، بشعائرهِ أبسط، وأنقى، وأقل اعتماداً على المظاهر المسرحية من الدين المسيحي، وأقل منه قبولاً لنزعة الإنسان الغريزية نحو الشرك. وهو شبيه بالمذهب البروتستنتي احتقاره ما يعرضه دين البحر المتوسط من عون للخيال والحواس وما يطلقه لهما من عنان، (ولكنه يستسلم للنزعة الجنسية في تصويره الجنة)

(1)

. وقد ظل هذا الدين بعيداً كل البعد تقريباً عن النظم الكهنوتية، ولكنه قيد في الوقت الذي كانت فيه المسيحية مقبلة على أخصب عصور الفلسفة الكاثوليكية.

ويكاد تأثير العالم المسيحي في الإسلام يكون مقصوراً على بعض المظاهر الدينية وعلى الحرب. فأما من حيث المظاهر الدينية فأكبر الظن أن التصوف قد جاء إلى العالم الإسلامي من نماذج مسيحية، ومن الرهبنة، وعبادة القديسين. ولقد تأثرت النفس الإسلامية بقصة عيسى وشخصيته وظهرت في الشعر والفن الإسلاميين وكانت فيهما موضع العطف الكبير (120).

أما العالم الإسلامي فقد كان له في العالم المسيحي أثر بالغ مختلف الأنواع. لقد تلقت أوربا من بلاد الإسلام الطعام، والشراب، والعقاقير، والأدوية،

(1)

لقد قال المؤلف من قبل، نقلاً عن بعض الفلاسفة، إن ما ورد في وصف الجنة من متع جسمية يجب ألا يؤخذ بحرفيته بل على أنه تقريب للمتع الروحية من أذهان الناس. (المترجم)

ص: 383

والأسلحة. وشارات الدروع ونقوشها، والدوافع الفنية، والتحف، والمصنوعات، والسلع التجارية، وكثيراً من الصناعات، والتشريعات والأساليب البحرية، وكثيراً ما أخذت عن المسلمين أسماء هذه كلها:

Orange. Lemon، Sugar، Syrup، Sherbet Julep. elixir، Jar Azure، Arapesque، Mattress. Sofa Muslin، Ealin، Fustian، Baziar، Caravan، Check Mate، Tariff، Douane، maguzine، Risk. sloop Barge. Cablc، Admiral.

ويقابل هذه في العربية: البرتقال، والليمون، والسكر، والشراب، والشربات، والحلاَّب، والإكسير، والإبريق، والأوراق، والنقش العربي، والحشية (واللفظ الإنجليزي مشتق من المطرح) والأريكة (اللفظ الإنجليزي مشتق من الصُّفة)، والموصلين، والساتان، والفستان والسوق، والقافلة، والشاة مات. والتعريفة، وحركة المرور، والديوان، والمخزن، والخطر، والقلوب بنوعيه، والحبل، وأمير البحار (وبعض هذه الألفاظ مأخوذة عن الفارسية مثل Bazaar وبعضها الآخر عن العربية). وقد جاءت لعبة الشطرنج إلى أوربا من الهند عن طريق بلاد الفرس، واتخذ لها في طريقها أسماء فارسية وعربية، فلفظ Check Mate مثلاً مأخوذ من عبارة الشاه مات. وبعض آلاتنا الموسيقية تحمل بين طيات أسمائها أدلة على أصولها السامية، ومن هذه الألفاظ Lute من العود، و Rebeck من الربابة، و Guitar من القيثارة و Tambourlne من الطنبور. وقد انتقل شعر شعراء الفروسية الغزليين Troubadour وموسيقاهم من بلاد الأندلس إلى بروفانس في فرنسا، ومن صقلية المسلمة إلى إيطاليا. ولعل الأوصاف العربية للرحلات إلى الجنة والجحيم كان لها نصيب من المسلاة الإلهية The Divine Comedy لدانتي. وقد دخلت القصص الخرافية، والأعداد الهندية إلى أوربا في زيها العربي أو صورتها العربية. والعلماء العرب هم الذين احتفظوا بما كان عند اليونان من علوم الرياضة، والطبيعة، والكيمياء، والفلك والطب،

ص: 384

وارتقوا بها، ونقلوا هذا التراث اليوناني بعد أن أضافوا إليه من عندهم ثروة عظيمة جديدة إلى أوربا. ولا تزال المصطلحات العلمية العربية تملأ اللغات الأوربية، ونذكر منها على سبيل المثال Algebra الجبر، Zero و Cipher للصفر، Azimuth السُّمُوت و Alembic للأنبيق، و Zenith للسمت، و Almanac للتقويم وهي مشتقة من لفظ المناخ. وظل أطباء العرب يحملون لواء الطب في العالم خمسمائة عام كاملة، وفلاسفة العرب عم الذين احتفظوا لأوربا بمؤلفات أرسطو وشوهوا لها هذه المؤلفات. وكان ابن سينا وابن رشد نجمين لاحا من الشرق للفلاسفة المدرسيين الذين كانوا ينقلون عنهما، ويعتمدون على كتبهما، ويثقون بهما ثقة لا تزيد عليها إلا ثقتهم بالنصوص اليونانية.

والقباب المضلعة أقدم في بلاد المسلمين منها في أوربا (121)، وإن لم يكن في مقدورنا أن نتتبع الطريق الذي وصلت منه إلى الفن القوطي؛ وأبراج الكنائس المسيحية المستدقة؛ وأبراج نواقيسها مدينة بالشيء الكثير إلى مآذن المساجد (122)، ولعل زخارف النوافذ القوطية المقطعة المصنوعة من الحجارة قد أوحت بها بوائك برج الخرلدة ذات الأقواس المقترنة (123). ويعزى انتعاش فن الخزف الرفيع في إيطاليا وفرنسا إلى انتقال صناع الخزف المسلمين في القرن الثاني عشر إلى هذين البلدين، وإلى زيادة صناعة الإيطاليين إلى بلاد الأندلس الإسلامية (124). ولقد أخذ صناع الحديد والزجاج في البندقية، ومجلدو الكتب في إيطاليا، وصانعوا الدروع والسلاح في أسبانيا، أخذ كل هؤلاء فنونهم عن الصناع المسلمين (125)، وكان النساجون في جميع أنحاء أوربا تقريباً يتطلعون إلى بلاد الإسلام ليأخذوا منها النماذج والرسوم، وحتى الحدائق نفسها قد تأثرت إلى حد بعيد بالحدائق الفارسية.

وسنشرح فيما بعد بالتفصيل السبل التي جاء منها هذا التأثير الإسلامي إلى بلاد الغرب، غير أننا نقول هنا بإيجاز إنه قد جاء عن طريق التجارة، والحروب

ص: 385

الصليبية؛ وعن آلاف الكتب التي ترجمت من اللغة العربية إلى اللاتينية؛ وعن الزيارات التي قام بها العلماء أمثال جربرت Gerbert، وميخائيل أسكت Michael Scot وأدلارد Adelard من أهل باث Bath إلى الأندلس الإسلامية؛ ومن الشبان المسيحيين الذين أرسلهم آباؤهم الأسبان إلى بلاط الأمراء المسلمين ليربوا فيها ويتعلموا الفروسية (126) -ذلك أن بعض الأشراف المسلمين كانوا يعدون "فرساناً وسادة مهذبين كاملين وإن كانوا مسلمين"(127)، ومن الاتصال الدائم بين المسيحيين والمسلمين في بلاد الشام، ومصر، وصقلية، وأسبانيا. وكان كل تقدم للمسيحيين في أسبانيا تتبعه موجة من آداب المسلمين، وعلومهم، وفلسفتهم، وفنونهم تنتقل إلى البلاد المسيحية، وحسبنا أن نذكر على سبيل المثال أن استيلاء المسيحيين على طليطلة في عام 1085 قد زاد معلومات المسيحيين الفلكية، وأبقى على الاعتقاد بكرية الأرض (128).

ولكن نار الحقد لم تطفئ لظاها هذه الاستدانة العلمية. ذلك أن لا شيء بعد الخبز أعز على بني الإنسان من عقائدهم الدينية، لأن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل يحيا معه بالإيمان الذي يبعث في قلبه الأمل. ومن أجل هذا فإن قلب الإنسان يتلظى غيظاً على من يهدده قُوته أو عقيدته. ولقد ظل المسيحيون ثلاثة قرون يشهدون زحف المسلمين، ويبصرونهم يستولون على قطر مسيحي في إثر قطر، ويمتصون شعباً مسيحياً بعد شعب، وكانوا يحسون بأيدي المسلمين القوية تقبض على التجارة المسيحية، ويستمعون إليهم وهم يسمون المسيحيين كفرة

(1)

وأمست المعركة المرتقبة في آخر الأمر معركة حقيقية، فاصطدمت الحضارتان في الحروب الصليبية، وقَتَل خيرُ ما في الشرق أو الغرب

(1)

إن الدين الإسلامي لا يقول قط إن المسيحيين كفرة بل يعتبرهم من الذميين أهل الكتاب. (المترجم)

ص: 386

خيرَ ما في الغرب أو الشرق، وكان هذا العداء المتبادل عاملاً فعّالاً في تاريخ العصور الوسطى كله، مضافاً إليه دين ثالث هو الدين اليهودي قائماً بين الطائفتين المحتربتين الرئيسيتين يتلقى ضربات كلتيهما. وخسر الغرب الحروب الصليبية، ولكنه ربح معركة الأديان؛ فقد وطرد كل مسيحي محارب من الأرض المقدسة؛ ولكن المسلمين، وقد استنزف النصر البطيء دمائهم، وخرب المغول بلادهم، مرت بهم فترة من العصور المظلمة ساد فيها الجهل والفقر، على حين أن الغرب المنهزم قد أنضجه ما بذل من جهود، فنسي هزائمه، وأخذ عن أعدائه التعطش إلى العلم والولع بالرقي. فأقام الكنائس عالية تناطح السحاب، وأخذ يجوب ميادين العقل، وحوّل لغاته الفجة الجديدة إلى أساليب دانتي وتشوسر Chaucer وفيون Villon، وسار تحدوه العزة إلى النهضة.

وبعد فإن القارئ العادي ستعتريه الدهشة من طول هذه الإلمامة بحضارة المسلمين، وسيأسف الباحث لما يجده فيها من إيجاز غير خليق بها. إن عصور التاريخ الذهبية دون غيرها هي التي أنجب فيها المجتمع، في مثل هذا الزمن القصير، ذلك العدد الجم من الرجال الذين ذاع صيتهم في الحكم، والتعليم، والآداب، واللغة، والجغرافية، والتاريخ، والرياضة. والفلك، والكيمياء، والفلسفة، والطب، كما أنجب الإسلام في الأربعة القرون الفاصلة بين هارون الرشيد وابن رشد. وقد استمد بعض هذا النشاط المتلألئ مادته من تراث اليونان، ولكم الكثير منه، وبخاصة في الحُكم، والشعر، والفن كان نشاطاً مبتكراً لا تقدر قيمته. ولقد كانت هذه الذروة من نهضة الإسلام من بعض نواحيها تحريراً للشرق الأدنى من سيطرة اليونان العلمية، ولم تمتد إلى فارس الساسانية والأكيمينية فحسب، بل امتدت كذلك إلى بلاد اليهود وبلاد سليمان، وإلى أشور بلاد أشور بانيبال، وإلى بابل حمورابي، وأكاد سرجون، وسومر بلد الملوك الذين لا تعرف أسماؤهم. وهكذا يثبت مرة أخرى اتصال حلقات التاريخ

ص: 387

بعضها ببعض: ذلك أن الأسس الجوهرية في الحضارة لا تضيع أبداً مهما حل بها من زلازل وأوبئة، وجدب، وهجرات مدمرة، وحروب مخربة مهلكة. بل إن ثقافات فنية تمد أيديها إلى هذه الأسس فتنتشلها من هذا اللهب، وتمد حياتها بالتقليد والمحاكاة، ثم بالخلق والابتكار، حتى ينبعث في الشعب الناشئ شباب جديد وروح وثابة جديدة. وكما أن الناس أعضاء في مجتمع، والأجيال لحظات في تسلسل الأسر، فإن الحضارات وحدات في كل أكبر منها وأعظم اسمه التاريخ، فهي مراحل في حياة الإنسانية. إن الحضارة متعددة الأصول، وهي نتاج تعاوني لكثير من الشعوب، والطبقات، والأديان، وليس في وسع من يدرس تاريخها أن يتعصب لشعب أو لعقيدة. ومن أجل هذا فإن العالِم وإن كان مواطناً في بلدهِ يحبه لما يربطه من صلات وثيقة، يحس أيضاً بأنه مواطن في بلد العقل، الذي لا يعرف عداوات ولا حدوداً. وهو لا يكاد ويكون خليقاً باسمه إذا ما حمل معه في أثناء دراسته أهواء سياسية، أو نزعات عنصرية، أو عداوات دينية، وهو يقدم لكل شعب حمل مشعل الحضارة وأغنى تراثها شكره وإجلاله.

ص: 388