المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكتاب الثالث   ‌ ‌الحضارة اليهودية 135 - 1300 - قصة الحضارة - جـ ١٤

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

الكتاب الثالث

‌الحضارة اليهودية

135 -

1300

ص: 2

الباب الخامس عشر

‌التلمود

الفصل الأول

‌النفي

135 -

565

بين بلاد الإسلام والمسيحية كان يعيش شعب عجيب احتفظ في خلال كل ما مر به من الشدائد بثقافته الخاصة يعزيه ويلهمه دينه الخاص، ويعيش على هدى شريعته ومبادئه الأخلاقية، ويخرج من بينه شعراؤه، وعلماؤه وأدباؤه، وفلاسفته، وينقل البذور الخصبة بين عالمين متعاديين.

ولم تكن فتنة باركوزشيه Bar Cohebs (132 - 153) آخر الجهود التي بذلها اليهود ليستعيدوا حريتهم التي قضى عليها بمبي وتيتس Titus. فقد أعادوا الكرة لاستخلاصها في عهد أنطونينس بيوس Antoninus Pius (135 - 161) وأخفقوا في محاولتهم وحرم عليهم أن يدخلوا المدينة المقدسة إلا في يوم تلك الذكرى المؤلمة، ذكرى تدميرها، فقد كان يسمح لهم نظير جعل معين أن يأتوا إليها ليندبوا ويبكوا أمام جدران الهيكل المهدم. وكان سكان فلسطين التي خرب من مدائنها في فتنة باركوزيبة 985 حتى محيت من الوجود، وقتل من أهلها 580. 000 رجل وامرأة قد نقص إلى نصف ما كان عليه من قبل، وانحط الباقون إلى درجة من النماقة كادت الحياة الثقافية معها ألا يبقى لها أثر. ومع هذا فإنه لم يكد يمضي على فتنة باركوزيبة جيل واحد حتى أنشئ في طبرية بيت الدين، أي المجلس اليهودي القومي-وهو هيئة مؤلفة من واحد وسبعين

ص: 5

من العلماء الأحبار والمشترعين-وافتتحت المعابد والمدارس ودب الأمل مرة أخرى في النفوس.

غير أن فوز المسيحية قد صحبته متاعب جديدة. ذلك أن قسطنطين كان قبل أن يعتنق المسيحية قد سوى من الوجهة القانونية بين الدين اليهودي وبين سائر الأديان التي يدين بها غيرهم من رعاياه. أما بعد اعتناقه المسيحية فقد اضطهد اليهود وفرض عليهم قيوداً ومطالب جديدة، وحرم على المسيحيين أن يتصلوا بهم (1). ونفى قسطنطين أحبارهم (337) وجعل زواج اليهودي من مسيحية جريمة يعاقب مرتكبها بالإعدام (2) وفرض جالوس Gallus أخو قسطنطين على اليهود من الضرائب الفادحة ما اضطر الكثيرين منهم إلى أن يبيعوا أبناءهم ليوفوا بمطالبه منهم. وثار اليهود مرة أخرى في عام 332 وأخمدت ثورتهم ودكت صبورى دكاً، وخربت أجزاء من طبرية وغيرها من المدن، وقتل آلاف من اليهود، واستعبد آلاف آخرون. وبلغت حال اليهودي الفلسطيني وقتئذ (359) درجة من الانحطاط، كما بلغ الاتصال بينهم وبين غيرهم من الجماعات اليهودية درجة من الصعوبة، اضطر معهما حاخامهم هلل الثاني أن ينزل عما كان ليهود فلسطين من الحق في أن يحددوا لجميع اليهود تواريخ أعيادهم، وأصدر لهم تقويما يحددون هم بمقتضاه تواريخ هذه الأعياد مستقلين عن يهود فلسطين، ولا يزال هذا التقويم الذي أصدره هلل معمولاً به إلى اليوم لدى اليهود في جميع أنحاء العالم.

فلما ارتقى يوليان عرش الإمبراطورية أنقذ اليهود إلى أجل قصير من هذا التعذيب. فقد خفض هذا الإمبراطور الضرائب المفروضة عليهم، وألغى القوانين التي تجعلهم أقل منزلة من غيرهم، وأطرى الصدقات العبرانية، واعترف بأن يهوه "إله عظيم". وسأل زعماء اليهود عن سبب امتناعهم عن الضحايا الحيوانية؛ فلما أجابوه بأن شريعتهم تحرم عليهم هذه التضحية إلا في هيكل أورشليم أمر أن

ص: 6

يعاد بناء الهيكل من مال الدولة (3). وأعيد فتح أورشليم لليهود فهرعوا إليها من جميع أنحاء فلسطين ومن كل ولاية في الإمبراطورية، وسخر الرجال والنساء والأطفال جهودهم لإقامة البناء، وتبرعوا بحليهم وما ادخروه من أموالهم لتأثيث الهيكل الجديد (4)، وفي وسعنا أن نتصور سرور القوم الذين ظلوا مائتي عام يدعون ربهم أن يمنّ عليهم بهذا اليوم (361). ولكن بينما كانوا يحفرون الأرض لوضع الأساس إذ خرج من باطنها لهيب أحرق عدداً من العمال القائمين بالعمل (5). غير أن الناس عادوا إلى العمل من جديد-فعادت هذه الظاهرة مرة أخرى-ولعل سببها انفجار بعض الغازات الطبيعية-فأوقفت العمل وثبطت همة القائمين بالمشروع. وفرح المسيحيون إذ بدا لهم أن الله غير راض عن إعادة بناء الهيكل، وعجب اليهود من هذا وحزنوا له. ثم مات يوليان فجأة، فحبست عنهم أموال الدولة، وسنت من جديد القوانين المقيدة لهم وجعلت أشد صرامة مما كانت من قبل، وحرم على اليهود مرة أخرى دخول أورشليم، فعادوا إلى قواهم، وفقرهم، وصلواتهم. وكتب جيروم بعد قليل من ذلك الوقت يقول: إن أهل فلسطين اليهود "لا يزيدون على عُشر ما كانوا عليه من قبل"(6). وفي عام 425 ألغى ثيودوسيوس الثاني الحاخامية الفلسطينية، وحلّت الكنائس المسيحية اليونانية محل المعابد والمدارس اليهودية، وتخلت فلسطين بعد هبة قصيرة في عام 614، عن زعامة العالم اليهودي.

فهل يلام اليهود بعد هذا إذا أملوا أن تكون حالهم أحسن من هذه الحال في بلاد لا تسود فيها المسيحية سيادتها في البلاد التي يخضعون لسلطانها. فمنهم من انتقل نحو الشرق إلى أرض النهرين وإلى بلاد الفرس وقووا العنصر اليهودي البابلي الذي لم ينعدم من تلك البلاد منذ الأسر الذي حدث في عام 597 ق. م. وكانت وظائف الدولة محرمة على اليهود في بلاد الفرس أيضاً؛ ولكن هذه الوظائف كانت محرمة كذلك على جميع الفرس ما عدا طبقة الأشراف، ولذلك

ص: 7

لم يكن هذا القيد ثقيلاً على اليهود أنفسهم (7). وقد حاقت باليهود في تلك البلاد عدة اضطهادات، ولكن الضرائب المفروضة عليهم كانت أخف عبئاً منها في غير تلك البلاد، وكانت الحكومة في الأحوال العادية تتعاون معهم، وكان ملوك الفرس يعترفون بالإجزيلارك أي زعيم الطائفة اليهودية ويجلونه. وكانت أرض العراق وقتئذ خصبة تسقيها مياه النهرين، ولذلك أضحى من فيها من اليهود زُرّاعاً أثرياء وتُجاراً ناشطين، ومنهم طائفة من بينها عدد من جلة العلماء الذائعي الصيت أثرت من عصر الجعة (8). وتضاعف عدد الجالية اليهودية في بلاد الفرس بسرعة كبيرة لأن دين الفرس كان يبيح تعدد الأزواج. وكان اليهود يتبعون هذه العادة لنفس الأسباب التي كانت تبيحها الشريعة الإسلامية. وكان الكوهنان الطيبان رب ونحمان أثناء تجوالهما يعلنان في كل مدينة يحلان بها عن رغبتهما في زوجات مؤقوتات، لكي يضربا بذلك مثلاً لشبان تلك المدن للحياة الزوجية ويبعداهم على الحياة الإباحية (9). وفي نحرديا Nehardea، وسورة، ويمبديثا أنشئت مدارس للتعليم العالي، أضحى علماؤها، وأضحت قرارات كواهنها الدينية، موضع الإجلال في جميع أنحاء البلاد التي تشتت فيها اليهود.

وظل اليهود في أثناء ذلك الوقت ينتشرون في جميع البلاد الواقعة حول البحر المتوسط. فمنهم من ذهب لينضم إلى الجاليات اليهودية في بلاد الشام وآسية الصغرى، ومنهم من ذهب إلى القسطنطينية، رغم عداء أباطرة الروم وبطارقتهم، ومنهم من اتجهوا من فلسطين جنوباً إلى جزيرة العرب وعاشوا في سلام وحرية دينية مع بني جنسهم الساميين، واحتلوا في تلك البلاد أقاليم برمتها مثل خيبر، وكاد عددهم في يثرب (المدينة) يكون مساوياً لعدد العرب أنفسهم، واستمالوا إلى دينهم عدد من الأهلين، وهيئوا عقول العرب لما جاء به الإسلام من عقائد يتفق بعضها مع العقائد اليهودية. ومنهم من عبروا البحر الأحمر إلى بلاد الحبشة حيث تضاعف عددهم بسرعة حتى قيل إنهم بلغوا

ص: 8

في عام 315 نصف سكان تلك البلاد (10). وكان اليهود يمتلكون نصف سفن الإسكندرية، وكان ثراؤهم في تلك المدينة السريعة التأثر والاهتياج مما زاد من حدة العداء الديني.

وانتشرت جاليات يهودية في جميع مدائن أفريقية الشمالية، وصقلية، وسردينية. وكان عددهم كبيراً في إيطاليا، وكان الأباطرة الوثنيون يحمونهم في العادة من الأذى، وإن كان الأهلون المسيحيون والإمبراطور ثيودريك، والبابوات يشددون عليهم النكير في بعض الأحيان. وكان في أسبانيا جاليات يهودية قبل يوليوس قيصر، ونمت تلك الجاليات دون أن يتعرض لها بأذى تحت حكم الأباطرة الوثنيين، وأثروا في عهد القوط الغربيين الآريين، ولكنهم تعرضوا للاضطهاد الميئس بعد أن اعتنق الملك ريكارد (568 - 601) عقائد مؤتمر نيقية. ولسنا نعرف أن اليهود تعرضوا للاضطهاد في غالة قبل أن تصدر قرارات مجلس أورليان الثالث والرابع (في عامي 538 و 541) بعد أن انتصر كلوفس Clovis المسيحي المتمسك بدينه على القوط الغربيين الآريين بجيل من الزمان. وأحرق مسيحيو أورليان كنيساً يهودياً حوالي عام 560، وطلب اليهود إلى جنترام Gunthram ملك الفرنجة أن يعيد بناؤه من أموال الدولة أسوة بما فعله ثيودريك في مثل هذه الحادثة من قبل. ولما رفض جنترام هذا الطلب صاح الأسقف جريجوري التوري Gregory of Tours:" ما أعظمك أيها الملك وما أعجب حكمتك! "(11).

وكان اليهود في البلاد التي انتشروا فيها ينتعشون على الدوام بعد هذه الخطوب، فكانوا يعيدون بناء معابدهم في صبر وأناة، وينظمون شئون حياتهم ويكدحون، ويتجرون، ويرابون، ويصلون، ويأملون، ويزدادون ويتضاعفون. وكان يطلب إلى كل جالية في بلد أن تقيم على نفقتها مجتمعة

ص: 9

ما لا يقل عن مدرسة ابتدائية وأخرى ثانوية يضمهما في العادة الكنيس نفسه وكان يشار على العلماء ألا يعيشوا في بلد يخلو من هاتين المدرستين. وكانت لغة العبادة والتعليم هي اللغة العبرية، أما لغة التخاطب اليومي العادي فكانت الآرامية في بلاد الشرق، واليونانية في مصر وفي بلاد أوربا الشرقية؛ أما في غير تلك البلاد فكان اليهود يتخاطبون بلغة من يعيشون بينهم من الأهلين. وكان الدين هو الموضوع الذي يدور حول التعليم اليهودي، أما الثقافة غير الدينية فكادت في ذلك الوقت أن تهمل إهمالاً تاماً. ذلك أن اليهود المشتتين لم يكونوا يستطيعون أن يحفظوا كيانهم جسمياً وروحياً إلا عن طريق شريعتهم، وكان الدين عندهم هو دراسة هذه الشريعة والعمل بها. وكان دين آبائهم يزداد قيمة لديهم كلما زاد الهجوم عليه، وكان التلمود والكنيس الدعامتين والملجأين اللذين لا غنى عنهما لشعب حائر تقوم حياته على الرجاء ويقوم رجاؤه على الإيمان بالله.

ص: 10

الفصل الثاني

‌منشئو التلمود

كان الكهنة ورجال الدين المقيمون في المعابد والمدارس الفلسطينية والبابلية هم الذين ألفوا أسفار الشريعة الضخمة المعروفة بالتلمود الفلسطيني والتلمود البابلي. وكانوا يقولون إن موسى لم يترك فقط لشعبه شريعة مكتوبة تحتويها الأسفار الخمسة، بل ترك له أيضاً شريعة شفوية تلقاها التلاميذ عن المعلمين ووسعوا فيها جيلاً بعد جيل. وكان أهم ما ثار حوله الجدل بين الفريسيين والصدوقيين الفلسطينيين هو: هل هذه الشريعة الشفوية هي الأخرى من عند الله فهي لذلك واجبة الطاعة؟ ولما أن زال الصدوقيون بعد تشتت اليهود عام 70 م وورث رجال الدين تقاليد الفريسيين ورواياتهم قبل جميع اليهود المتمسكين بدينهم الشريعة الشفوية، وأمنوا بأنها أوامر من عند الله وأضافوها إلى أسفار موسى الخمسة، فتكونت من هذه وتلك التوراة أو الشريعة الموسوية التي استمسك بها اليهود وعاشوا بمقتضاها، وكانت حقيقة لا مجازاً هي كيانهم وقواهم وحياتهم. وإن القصة التي تروي تلك العملية الطويلة التي استغرقت ألف عام، والتي تجمعت خلالها الشريعة الشفوية، واتخذت فيها صورتها النهائية المعروفة بالمشنا؛ والقرون الثمانية التي تجمعت فيها ثمار الجدل، والأحكام، والإيضاح فكانت هي الجمارتين ليتألف منهما التلمود الفلسطيني، وإلى أطولهما ليتألف منهما التلمود البابلي-إن القصة التي تروي هذه الأحداث الثلاثة لمن أكثر القصص تعقيداً وأعظمها إثارة للدهشة في تاريخ العقل البشري. وكما كان الكتاب المقدس أدب العبرانيين

ص: 11

الأقدمين ودينهم، كانت التوراة حياة العصور الوسطى ودماءهم.

وذلك أن أحكام الشريعة الواردة في الأسفار الخمسة أحكام مسطورة، ولهذا فإنها لم تكن تستطيع الوفاء بجميع حاجات أورشليم بعد أن فقدت حريتها، ولا اليهودية بعد أن فقدت أورشليم، ولا الشعب اليهودي في خارج فلسطين، لم تستطع الوفاء بحاجات هذه أو معالجة الظروف المحيطة بها. ومن ثم كانت مهمة علماء السَّنهدرين قبل التشتت، والأحبار بعده، هي تفسير الشريعة الموسوية تفسيراً يهتدي به الجيل الجديد والبيئة الجديدة ويفيدان منه. وتوارث المعلمون جيلاً بعد جيل تفاسير هؤلاء العلماء ومناقشاتهم وآراء الأقلية والأغلبية في موضوعاتها. على أن هذه لروايات الشفوية لم تدون، ولعل سبب عدم تدوينها أن هؤلاء العلماء أرادوا أن يجعلونها مرنة قابلة للتعديل، أو لعلهم أرادوا بذلك أن يرغموا الأجيال التالية على استظهارها. فكان في وسع الأحبار الذين أخذوا على أنفسهم تفسير الشريعة إذا اضطرتهم الظروف أن يستعينوا بمن قدروا على استظهارها. وكان الأحبار في الستة القرون الأولى بعد ميلاد المسيح يسمون "التنإم Tennaim" أي "معلمي الشريعة" وإذ كانوا هم وحدهم المتضلعين فيها، فقد كانوا هم المعلمين والقضاة بين يهود فلسطين بعد تدمير الهيكل.

وكان أحبار فلسطين وأحبار اليهود "المشتتين أرستقراطية فذة لا مثيل لها في التاريخ. ذلك أن هؤلاء الأحبار لم يكونوا طبقة وراثية أو مغلقة مقصورة على طائفة خاصة من الناس، بل إن الكثيرين منهم قد ارتقوا من أفقر الطبقات، وكان معظمهم يكسبون قوتهم بالعمل في الصناعات المختلفة حتى بعد أن أصبحوا من ذوي الشهرة العالمية، وظلوا إلى ما يقرب من أخريات تلك الفترة التي نتحدث عنها لا يعطون أجوراً على قيامهم بالتدريس أو بأعمال القضاء وكان الأثرياء

ص: 12

يجعلونهم في بعض لأحيان شركاء غير عاملين في مشروعاتهم المالية والتجارية، أو يؤوونهم في بيوتهم، أو يزوجونهم من بناتهم، ليوفروا عليهم عناء الكد لكسب قوتهم. ومنهم من عدد قليل أفسدهم ما كان لهم من المنزلة الرفيعة بين أبناء دينهم، ومنهم كانوا كسائر الخلق يغضون، ويغارون، ويحقدون، ويسرفون في النقد، ويتكبرون. ومنهم من كان لا بد لهم أن يذكروا أنفسهم المرة بعد المرة أن العالِم بحق رجل متواضع، لأن الحكيم يرى الجزء في ضوء الكل إن لم يكن لغير ذلك من الأسباب. وكان الناس يحبونهم لفضائلهم ولعيوبهم، ويعجبون بهم لعلمهم وتقواهم، ويروون ألف قصة وقصة تنبئ عن حكمتهم ومعجزاتهم. وقد ظل اليهود إلى يومنا هذا يجلون طلاّب العلم والعلماء كما لا يجلهم شعب آخر في العالم كله.

ولما كثرت قرارات الأحبار وتضاعفت أصبحت مهمة استظهارها شاقة غير معقولة. ولذلك حاول هلل وعقيبا Akiba ومإير Meir مراراً عدة أن يصنفوها ويستعينوا على استظهارها ببعض الأساليب والرموز، ولكن هذه التصانيف والرموز والحيل لم يحظ شيء منها بالقبول من جمهرة اليهود. وكانت نتيجة هذا أن أصبح الاضطراب في نقل الشريعة هو القاعدة العامة، ونقص عدد من يحفظون الشريعة كلها عن ظهر قلب نقصاً مروعاً، وكان مما زاد الطين بلة أن تشتت اليهود قد نشر هذه القلة في أقطار نائية. وحوالي عام 189 تابع الحبر يهودا هنسيا Jehuda Hansia في قرية صبورة

(1)

بفلسطين عمل عقيبا مإير، وعدله، وأعاد ترتيب الشريعة الشفوية بأكملها، ثم دونها، وزاد عليها إضافات من عنده، فكانت هي "مشنا الحبر يهودا"

(2)

وانتشرت هذه بين اليهود انتشاراً

(1)

قرية على بحيرة طبرية في فلسطين. (المترجم)

(2)

ونرى أقلية من العلماء أن يهودا لم يدون مشناه، وأنها أخذت تنتقل شفوياً من جيل إلى جيل حتى القرن الثامن الميلادي. ومن شاء معرفة رأي الأغلبية فليرجع إلى كتاب ج. ف. مور المسمى "اليهودية في القرن الأول من التاريخ المسيحي Judaism in the First Centuries of the Christian Eara طبعة جامعة كيمبردج بولاية مسشوستس عام 1932 المجلد الأول ص 151 وكذلك كتاب و. أ. أوسثرلي W. O. Oesterley و. ج. هـ. بكس G. H. Box، المسمى نظرة قصيرة في الآداب الدينية اليهودية في العصور الوسطى Short Survey of the Literature of Rabbinical and Medieval Judaism.

ص: 13

أصبحت معه بعد زمن ما هي المشنا، والصورة المعتمدة لشريعة اليهود الشفوية.

والمشنا (أي التعاليم الشفوية) كما نعرفها اليوم هي الصورة النهائية لطبعات مختلفة كثيرة وحواشي متعددة أدخلت عليها من أيام يهوذا إلى الآن. ولكنها مع هذا خلاصة مدمجة محكمة، وضعت لكي تحفظ عن ظاهرة قلب بكثرة التكرار؛ ولهذا فإن من يقبل على قراءتها يرى أن عباراتها المحكمة الجامعة الغامضة تعذب قارئها بما تبعثه في نفسه من الآمال الخادعة اللهم إلا إذا كان هذا القارئ ملماً بحياة اليهود وتاريخهم.

وقد قبلها يهود بابل وأوربا كما قبلها يهود فلسطين، ولكن كل مدرسة فسرت أمثالها وحكمها تفسيراً يخالف ما فسرتها به الأخرى، وجمعت ستة أجيال (220 - 500 م) من أحبار الأمورائم (الشراح) هاتين الطائفتين الضخمتين من الشروح وهما الجمارا الفلسطينية والبابلية، كما اشتركت من قبل ستة أجيال (10 - 220 م) من الأحبار التنإم في صياغة المشنا. وبذلك فعل المعلمون الجدد بمشنا يهودا ما فعله التنإم بالعهد القديم: فتناقشوا في النص، وحللوه، وفسروه، وعدلوه، ووضحوه لكي يطبقوه على المشاكل الجديدة، وعلى ظروف الزمان والمكان. ولما قارب القرن الرابع على الانتهاء نسقت مدارس فلسطين شروطها وصياغتها في الصورة المعروفة بالجمارا الفلسطينية. وشرع الكوهن رب آشي رئيس جامعة سورا حوالي ذلك الوقت في تقنين الجمارا البابلية وظل يواصل العمل في ذلك التقنين جيلاً من الزمان. وأتمه ربينا الثاني بار (ابن) شمويل، وهو أيضاً من جامعة سورا بعد مائة عام من ذلك الوقت (499).

ص: 14

وإذا ذكرنا أن الجمارا البابلية أطول من المشنا إحدى عشر مرة، بدأنا نعرف لم استغرق جمعها مائة عام كاملة. وظل الأحبار السبورائم (الناطقة) مائة وخمسين سنة أخرى (500 - 650) يراجعون هذه الشروح الضخمة، ويصقلون التلمود البابلي الصقل الأخير.

بقي أن نقول أن لفظ التلمود يعني التعليم. ولك يكن الأمورائم يطلقون اللفظ إلا على المشنا. أما في الاستعمال الحديث فهو يشمل المشنا والجمارا .. والمشنا في التلمود البابلي هي بعينها مشنا التلمود الفلسطيني، ولا يختلف التلمودان إلا في الجمارا أو الشروح فهي في التلمود البابلي أربعة أمثالها في التلمود الفلسطيني

(1)

.

ولغة الجمارا البابلية والجمارا الفلسطينية هي الآرامية أما لغة المشنا فهي اللغة العبرية الجديدة تتخللها ألفاظ كثيرة مستعارة من اللغات المجاورة.

(1)

يشتمل التلمود البابلي على 2049 ورقة من القطع الكبير أي نحو 6000 صفحة في كل منها 400 كلمة. وتنقسم المشنا إلى ستة سدريمات Sedarim (ست فصائل) وينقسم كل سدريم إلى عدد من المسكنات Masechtoth (المقالات) يبلغ مجموعها ثلاثاً وستين مسكنة وتنقسم كل واحدة منها إلى عدد من البرقيماب (الفصول) وكل برقيم إلى مسنيوتات (تعاليم). وتشتمل الطبعات الحديثة من التلمود عادة على: (1) شروح راشي Rashi (1040 - 1105) وهذه تظهر على الهامش الداخلي لصفحات النصوص (2) توسافوتات Tosaphoths. (إضافات) وهي مناقشات في التلمود للأحبار الفرنسيين والألمان من رجال القرنين الثاني عشر والثالث عشر وهذه تظهر على الهامش الخارجي لصفحات النصوص. وتضيف عدة طبعات إلى هذه وتلك توسفتات Toseffa (تكملات) -وهي بقايا من الشريعة الشفوية التي تخلو منها مشنا يهودا هنسيا. وسننقل في هذا الفصل فضلاً عن ذلك من المدرش (التفسير) وهي خطب ألقاها-على حد قولهم-التنإم أو الأمورائم ولكنها جمعت ودونت خلال الفترة المحصورة بين القرنين الرابع والثاني عشر، وتشرح في أسلوب شعبي سهل كتباً مختلفة من الكتب العبرية المقدسة. وويقرا رباه لسفر اللاويين وخمسة ملفات (مجلوتات Megilloth) - تشرح إستير، ونشيد الإنشاد، والمرائي، وسفر الجامعة: وتشرح المكيلتا Nschilta سفر الخروج والسفر Sifra يشرح سفر اللاويين، والسفري Sifre يشرح سفري الأعداد والتثنية، وتحتوي البسيقتا على عضات ذات صلة بفقرات من الكتاب المقدس.

ص: 15

وتمتاز المشنا بالإيجاز، فهي تعبر عن القانون الواحد بقليل من السطور، أما الجماريان فتتبسطان عن قصد وتعمد، وتذكران مختلف آراء كبار الأحبار عن نصوص المشنا وتصفان الظروف التي قد تتطلب تعديل القانون وتضيفان كثيراً من الإيضاحات. ومعظم المشنا نصوص قانونية وقرارات (هَلَكا)، أما الجماريان فبعضهما هلكا-إعادة نص قانون أو بحثه-وبعضها هجدة (قصص). وقد عرفت الهجدة تعريفاً غير دقيق بأنها كل ما ليس هلكا في التلمود. وأكثر ما تسجله الهجدة هو القصص، والأمثلة الإيضاحية. وأجزاء من السير، والتاريخ، والطب، والفلك، والتنجيم، والسحر، والتصوف، والحث على الفضيلة، والعمل بالشريعة، وكثيراً ما تروج الهجدة عن نفس الطلاّب المتعلمين بعد جدل معقد متعب. ومثال ذلك ما يأتي:

بينما كان رب أمي ورب أسى يتحدثان مع الكوهن إسحق منجا إذ قال له أحدهما: "احك لنا يا سيدي قصة لطيفة"، وقال الآخر:"لا بل أرجوك أن تفسر لنا بدلاً من هذا نقطة دقيقة من النقاط القانونية" .. فلما بدأ القصة أغضب أحدهما، ولما أخذ يشرح النقطة القانونية أغضب الآخر. فلما رأى ذلك ضرب لهما هذا المثل:"إن مثلي معكما كمثل رجل تزوج باثنتين إحداهما شابة والأخرى عجوز، فاقتلعت الزوجة الشابة جميع شعره الأشيب حتى يبدو شاباً، واقتلعت الزوجة العجوز جميع شعره الأسود حتى يبدو عجوزاً، وكانت نتيجة فعلهما هذا أن أصبح الرجل أصلع"(13).

ص: 16

الفصل الثالث

‌الشريعة

فإذا حاولنا الآن على الرغم من جهلنا بالموضوع عامة أن نصور باختصار مخل كريه، بعض مناحي هذا التلمود الضخم، الذي تتأثر به كل صغيرة وكبيرة من حياة العبرانيين في العصور الوسطى، إذا حاولنا هذا وجب علينا أن نقر من بداية الأمر أننا إنما نخدش الجيل، وأن معالجتنا إياه من خارجه تعرضنا لا محالة للخطأ.

‌1 - الناحية الدينية

يقول رجال الدين اليهود إن من واجب الإنسان أن يدرس الشريعة مسطورة وشفوية، ومن حكمتهم المأثورة في هذا المعنى قولهم:"إن دراسة التوراة أجل قدراً من بناء الهيكل (14) ". و"إن من واجب الإنسان وهو منهمك في دراسة الشريعة أن يقول لنفسه كل يوم: "كأنا في هذا اليوم قد تلقيناها من طور سيناء" (15)، وليست الدراسات الأخرى بعد ذلك واجبة؛ فالفلسفة اليونانية والعلوم الدنيوية لا تصح دراستها إلا في تلك الساعة التي ليست ليلاً ولا نهاراً (16). ويعتقد اليهود أن كلمة من كتابهم المقدس من كلمات الله بالمعنى الحرفي لهذه العبارة، وحتى نشيد الإنشاد نفسه إن هو إلا ترنيمة موحى بها من عند الله-لتصور بصورة مجازية اقتران يهوه بإسرائيل عروسه المختارة

(1)

. وإذا كان انعدام الشريعة تعقبه حتماً الفوضى الأخلاقية فإن

(1)

ويفسر رجال الدين هذه العبارة بأنها وصف رمزي لاتحاد المسيح بالكنيسة زوجته المختارة.

ص: 17

الشريعة وجدت لا محالة قبل أن يخلق العالم "في صدر الله أو عقله"

(1)

، وكان إنزالها على موسى لا شيء غيره حادثاً من حوادث الزمان. والتلمود أو بعبارة أدق جزؤه الذي يبحث في الشريعة (الهلكا) هو أيضاً كلمات الله الأزلية، وهو صياغة للقوانين التي أوحاها الله إلى موسى شفوياً ثم علّمها موسى لخلفائه، ولهذا فإن ما فيها من الأوامر والنواهي واجبة الطاعة تستوي في هذا مع كل من جاء في الكتاب المقدس

(2)

، لأنها صورة من الشريعة معدلة جاءت متأخرة عنها (18). وكانت بعض قرارات الأحبار تتعارض تعارضاً صريحاً مع قوانين أسفار موسى الخمسة، أو تفسرها تفسيراً يبيح مخالفتها (19). وكان يهود ألمانيا وفرنسا في العصور الوسطى يدرسون التلمود أكثر مما يدرسون الكتاب المقدس نفسه.

ومن المبادئ البديهية في التلمود، كما أن من المبادئ البديهية في الكتاب المقدس وجود إله عاقل قادر على كل شيء. وقد وجد بين اليهود من حين إلى حين عدد من المتشككين أمثال اليشع بن أيوبا العالم الذي اتخذه الكوهن ماير صديقاً له، ولكن يبدو أن أولئك المتشككين كانوا أقلية صغيرة لا تكاد تجهر بآرائها. والله كما يصفه التلمود إله متصف صراحة بصفات البشر، فهو يحب ويبغض ويغضب (20) ويضحك (21) ويبكي (22). وسحي بوخز الضمير،

(1)

قارن بذلك ما يعتقده الصينيون الأقدمون من أن حركة العالم وبقاءه إنما يعتمدان على القانون الأخلاقي؛ وتشبيه هرقليطس حيود الكواكب السيارة بالذنوب؛ و"أفكار" أفلاطون النموذجية الأصلية المقدسة. وأصل هذه النظرية يرجع إلى الآية الثانية والعشرين من الإصحاح الثامن من سفر الأمثال. وقبل أقر المسيح بأزلية الشريعة (الآية 7 من الإصحاح السابع عشر من إنجيل لوقا، والآية الثامنة عشر من الإصحاح الخامس من إنجيل متى)؛ كذلك يعتقد المسلمون أن القرآن أيضاً أولى.

(2)

لم يقر أي مجمع يهودي رسمي هذا الرأي التلمودي الخاص بالتلمود؛ واليهودية الحديثة بعد إصلاحها ترفضه.

ص: 18

ويلبس التمائم (24)، ويجلس على عرش يحيط به طائفة من الملائكة المختلفي الدرجات يقومون على خدمته، ويدرس التوراة ثلاث مرات في كل يوم (25). ويعترف رجال الدين بأن هذه الصفات البشرية قائمة على الافتراض إلى حد ما، ويقولون:"إننا نستعير له صفات من خلقه نصفه بها لنيسر بذلك فهمه"(26)؛ وإذا لم يكن في مقدور العامة أن يفكروا إلا على أساس الصور المادية فليس الذنب واقعاً عليهم. وهم يصورون الله أيضاً بأنه روح الكون غير المنظورة، السارية فيه كله، تمده بالحياة، تسمو عليه وتلازمه في وقت واحد، تعلو على العالم ولكنها مع ذلك حالة في كل ركن من أركانه وكل جزء من أجزائه. والحضرة الإلهية الكونية المسماة بالسكينا (السَّكَن) تكون بنوع خاص في الأشخاص المقدسين وفي الأماكن والأشياء المقدسة، وفي ساعات الدرس والصلاة. لكن هذا الإله القادر على كل شيء رغم هذا إله واحد. وليس بين الأفكار كلها فكرة أبغض إلى اليهودية من تعدد الآلهة، واليهود لا يفتئون يجهرون بوحدانية الله في حماسة قوية وينددون بشرك الوثنية وبما يبدو في الثالوث المسيحي من تثليث. وهم يجهرون بهذه الوحدانية في أشهر صلواتهم وأكثرها انتشاراً بينهم صلاة شمع يسرائيل:"اسمعي يا اسرائيل، الله إلهنا، الله واحد"(شمع يسرائيل أدوناي إلوهينا أدوناي أحد)(27). وليس ثمة مكان بجواره في هيكله أو عبادته إلى مسيح، أو نبي، أو قديس. وقد نهى أحبار اليهود الناس عن ذكر اسمه إلا في أحوال جد نادرة يقصدون بذلك أن يحولوا بينهم وبين تدنيسه أو اتخاذه وسيلة للسحر، ولكي يتجنبوا النطق بهذا الاسم الرباعي يهوه كانوا يذكرون بدلاً من لفظ أدوناي أي الرب، بل ويشيرون بأن يستعمل بدلاً منه عبارات مثل:"الواحد المقدس""الواحد الرحيم""السماوات""أبينا الذي في السماء". وفي اعتقادهم أن الله قادر على صنع المعجزات وأنه يصنعها فعلاً، وخاصة على أيدي كبار الأحبار؛ ولكن يجب ألا يظن أن هذه

ص: 19

المعجزات خرق لقوانين الطبيعة إذ ليس ثمة قوانين إلا إرادة الله.

وقد خلق كل شيء لغرض إلهي طيب: "فقد خلق الله القوقعة لمداواة الجرب، والزجاجة لمداواة لسعة الزنبور، والبعوضة لمداواة عضة الأفعى، والأفعى لعلاج الاحتقان (28) وبين الله والإنسان صلة لا تنقطع وكل خطوة يخطوها إنما يخطوها أمام ناظريه لا تخفي عنه، وكل عمل يعمله الإنسان أو فكرة تجول بخاطره في خلال يومه يمجد بها الذات الإلهية أو يغضبها. والناس كلهم أبناء آدم، ولكن "الإنسان قد خلق أولاً وله ذنب كذنب الحيوان (29) و"كانت وجوه الناس إلى عهد أخنوخ شبيهة بوجوه القردة (30). ويتكون الإنسان من جسم وروح، فروحه من عند الله، وجسمه من الأرض، والروح تدفعه إلى الفضيلة، والجسم يدفعه إلى الخطيئة، أو لعل دوافعه الشريرة وقد أتت إليه من الشيطان، ومن ذلك العدد الجم من الأرواح الخبيثة التي تكمن حوله في كل مكان (31). بيد أن كل شر قد يكون في نهاية الأمر خيراً؛ ولولا شهوات الإنسان الأرضية لما كد الإنسان أو تناسل. وتقول إحدى الفقرات الظريفة "تعال نعز الخير لآبائنا، فإنهم لو لم يأثموا لما جئنا نحن إلى هذه الدنيا" (32).

والخطيئة من فطرة الإنسان، ولكن ارتكابها ليس موروثاً، وقد قبل أحبار اليهود عقيدة سقوط الإنسان، ولكنهم لم يقبلوا عقيدة الخطيئة الأولى ولا الكفارة الإلهية. فالإنسان في رأيهم لا يعاقب إلا على ما ارتكبه هو من الذنوب، وإذا ما لقي من العقاب في الحياة الدنيا أكثر مما يبدو له أن يستحقه على ذنوبه، فقد يكون ذلك لأننا لا نعرف مقدار هذه الذنوب كلها، أو قد يكون هذا الإفراط في العقاب نعمة كبرى، تؤهله للخير العميم في الدار الآخرة. ومن أجل هذا يجب على الإنسان كما يقول عقيبا أن يبتهج لكثرة ما يصيبه من سوء (33) أما الموت فقد جاء إلى الدنيا بسبب آثام الإنسان؛ وغير الآثم بحق لا يموت أبداً (34). فالموت دين على البشرية الآثمة لباعت الحياة جميعها. ويقص

ص: 20

علينا مدرسنا قصة مؤثرة عن موت الكائن مإير فيقول:

بينما كان الكوهن مإير يلقي موعظته الأسبوعية عصر يوم من أيام السبت إذا مات ولداه المحبوبان فجأة في منزله. فغطتهما أمهما بغطاء، وأبت أن تندبهما في اليوم المقدس. ولما عاد الكوهن مإير بعد صلاة المساء سأل عن ولديه لأنه لم يرهما في الكنيس بين المصلين، فطلبت إليه أن يتلو الهبدلة (وهي دعاء يختتم به السبت) وقدمت له العشاء. ثم قالت له:"لدي سؤال أريد أن أسألك إياه. ائتمنني أحد الأصدقاء في يوم من الأيام على جواهر أحفظها له، ثم أراد الآن أن يستعيدها فهل أردها إليه؟ ". فأجابها الكوهن مإير "ذلك واجب عليك بلا ريب"؛ فأمسكت زوجته حينئذ بيده، وسارت به إلى الفراش ورفعت عنه الغطاء. فأخذ الكوهن مإير ينتحب ولكن زوجته قالت له: لقد كانا وديعة لدينا إلى حين والآن قد أراد سيدهما أن يسترد وديعته".

ولم يقل كتاب العبرانيين المقدس إلا الشيء القليل عن خلود الثواب والعقاب، ولكن هذه الفكرة أصبحت ذات شأن كبير في آراء الأحبار الدينية. فقد صوروا النار على أنها جهنم! Ge Hinnom أو شاول

(1)

، وقسموها كما قسموا السموات إلى سبع طبقات تتدرج في درجات العذاب. ولا يدخلها من المختتنين إلا أخبثهم (36)، وحتى الآثمون الذين يدامون على الإثم لا يعذبون فيها إلى أبد الآبدين، بل إن "كل من يلقون في النار يخرجون منها مرة أخرى إلا فئات ثلاثاً: الزاني، ومن يفضح غيره أمام الناس، ومن يسب غيره" (37). أما السماء فقد كانوا يسمونها جنة عدن Gen Edon، وكانوا يصورونها في صورة حديقة تحوي جميع المسرات الجسمية والروحية. فخمرها عصرت من كروم احتفظ بها من

(1)

كان وادي هنم كومة من الأقذار في خارج أورشليم، تظل النار متقدة فيه لمنع انتشار الأوبئة. أما شاول فقد كانت في رأيهم مكاناً مظلماً تحت الأرض يذهب إليه جميع الأموات.

ص: 21

الستة أيام التي خلق فيها العالم، والهواء فيها معطر بالروائح الزكية، والله نفسه يجتمع بالناجين من العذاب في وليمة أعظم ما يسر أصحابها أن يروا وجهه. بيد أن بعض أحبار اليهود يعترفون بأن أحداً لا يعرف قط ما وراء القبر (38).

وإذا ما فكر اليهود في النجاة كان تفكيرهم فيها أنها نجاة الشعب لا نجاة الفرد. وذلك أنهم وقد شتتوا في أنحاء العالم بضروب من القسوة لا يبررها في ظنهم عقل، وأخذوا يقوون أنفسهم باعتقادهم أنهم لا يزالون شعب الله المحبوب المختار، فهو أبوهم، وهو إله عادل، ولا يمكن أن ينكث عهده لإسرائيل. أليسوا هم الذين أنزل عليهم كتابه المقدس الذي يؤمن به المسيحيون والمسلمون ويعظمونه؟ وقد دفعتهم شدة يأسهم إلى درجة من الكبرياء اضطر معه أحبارهم الذين سموا بهم إلى تلك الدرجة أن ينزلوا بهم عنها بضروب اللوم والتأنيب. وكانوا في ذلك الوقت كما هم الآن يتوقون إلى البلد الذي نشأت فيه أمتهم، وكانوا يعزونها ويرون أنها المثل الأعلى لجميع البلدان، ويقولون "إن من يمشي أربع أذرع في فلسطين يعيش بلا ريب إلى أبد الآبدين، ومن يعش في فلسطين يطهر من الذنوب"(39). وحديث من يسكنون فلسطين في حد ذاته توراة" (40)، وأهم قسم في الصلوات اليومية وهو الشمونة عسراً (الفقرات الثمان عشرة) تحوي دعاء بمجيء ابن داود، الملك المسيح الذي يجعل اليهود كما كانوا أمة متحدة، حرة، يعبدون الله في هيكلهم بشعائرهم وترانيمهم القديمة.

‌2 - الشعائر الدينية

لم يكن ما يميز اليهود من غيرهم من الشعوب في عصر الإيمان الذي نتحدث عنه، والذي يحفظ عليهم وحدتهم وهم مشتتون، هو عقيدتهم الدينية بل شعائرهم، لم يكن هو العقيدة التي لم تفعل المسيحية أكثر من التوسع فيها والتي قبل الإسلام الكثير منها بل هو قواعد الطقوس والمراسم المعقدة تعقيداً ثقيلاً. يكن في مقدور

ص: 22

شعب غير هذا الشعب المتكبر، السريع التأثر، أن يظهر من الوداعة والصبر ما تتطلبه إطاعته والعمل بها. لقد كانت المسيحية تنشد الوحدة عن طريق توحيد العقيدة، أما اليهودية فكانت تنشدها عن طريق توحيد الشعائر. وفي ذلك يقول أبا أريكا:"إن الشرائع لم توضع إلا لكي تؤدب الناس وترقق طباعهم بالعمل بها"(41).

ولقد كانت الشعائر أولاً وقبل كل شيء هي قانون العبادة. ولما أن حلت المعبد اليهودية محل الهيكل استبدلت بالأضاحي الحيوانية القرابين والصلوات، ولكنهم لم يكونوا يجيزون وضع صورة لله أو للآدميين في المعابد كما لم يكونوا يجيزون وضعها في الهيكل. ذلك أنهم كانوا يتجنبون كل ما يشتم منه عبادة الأوثان، وكذلك كانت الموسيقى الآلية المباحة في الهيكل محرمة من المعابد. وفي هذا تختلف المسيحية عن اليهودية وتتفق مع الإسلام، فقد تكشف الدينان الساميان عن تقوى قائمة وتكشفت المسيحية عن فن مقبض قاتم كذلك.

وكانت الصلاة تجربة دينية يمارسها اليهودي المتدين كل يوم، بل يكاد يمارسها في كل ساعة. وكانت صلوات الصباح تتلى من قلقطيرات (علب صغيرة محتوية على فقرات من الكتاب المقدس) مثبتة على الجباه والأذرع ولم يكونوا يطعمون طعاماً دون أن يتلو دعاء قصيراً قبله وصلاة الشكر طويلة في نهايته. على أنهم لم يكونوا يكتفون بهذه الصلوات المنزلية، ذلك أن الناس لا يرتبطون ويتماسكون إلا إذا اشتركوا معاً في القيام بأعمال واحدة، وكان أحبار اليهود يحاجون بما عرف عن الشرقيين من مبالغة أن "الله لا يستجيب لصلاة الإنسان إلا إذا قام بها في الكنيس"(42). وكان أهم ما تشتمل عليه الطقوس الدينية العامة هو "الشمونة عسراً"، "والشمع يسرائيل، وتلاوة من أسفار موسى الخمسة، ومن سفر الأنبياء، ومزامير داود، وعظة تشتمل على تفسير فقرات من الكتاب

ص: 23

المقدس، وعلى "قديس Kaddish"(أدعية حمد وبركة للأحياء والأموات) ثم دعاء ختامي. ولا يزال هذا هو الأساس الجوهري للشعائر التي تقام في المعابد إلى يومنا هذا.

وأدق من هذه الشعائر وأكثر منها تفصيلاً القواعد الخاصة بالنظافة البدنية أو طقوس الطهارة. فقد كان أحبار اليهود يرون أن الصحة البدنية تعين على سلامة الروح (43) ولهذا كانوا يحرمون على بني دينهم أن يعيشوا في مدينة ليس بها حمّام (44)، ويعينون للاستحمام قواعد تكاد تبلغ مرتبة الأوامر الطبية كقولهم:"إذا اغتسل الإنسان بماء ساخن ولم يغتسل بعده بماء بارد كان مثله كمثل الحديد الذي يحمي في تنور ثم لا يوضع بعدئذ في ماء بارد"(45)، فمثل الجسم كمثل الحديد يجب أن يسقى ويُقَسَّى ويجب أن يدهن الجسم بالزيت بعد الاستحمام (46) كذلك يجب غسل اليدين عقب الاستيقاظ مباشرة، وقبل تناول كل وجبة من الوجبات وبعد تناولها، وقبل الصلاة العامة وقبل القيام بكل شعيرة دينية. وكانت جثث الموتى، والاتصال الجنسي، والحيض، والولادة، والحشرات، والخنازير، والجذام (ومختلف الأمراض الجلدية) كانت هذه كلها حسب القواعد الدينية نجسة، ومن مس شيئاً منها أو أصيب به وجب عليه أن يتوجه إلى الكنيس ويؤدى فيه شعائر التطهير. وكانت المرأة تعد نجسة (أي لا يقترب منها زوجها) أربعين يوماً بعد أن تلد ولداً ذكراً، وثمانين يوماً إذا كانت المولودة أنثى (47). ويجب وفقاً لما ورد في الكتاب المقدس (في الآيات من 9 إلى 14 من الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين) أن تجري عملية الختان للمولود الذكر في اليوم الثامن بعد مولده، وكان هذا الختان يعد قرباناً ليهوه وعهداً بينه وبين عباده؛ ولكن انتشار هذه العادة بين المصريين الأقدمين، والأحباش، والفينيقيين، والسوريين، والعرب، يوحى بأنها كانت إجراءاً صحياً يحتمه الجو الذي يساعد على النضوج والاهتياج الجنسي المبكرين، أكثر مما هو وسيلة من وسائل النظافة.

ص: 24

ويؤيد هذا الرأي ما يحتمه أحبار اليهود على بني دينهم ألا يبقوا لديهم عبداً أكثر من اثني عشر شهراً دون ختان (48).

وقد يخيل إلى الإنسان وهو يقرأ بعض أجزاء من التلمود أنه كتاب مبسط في الطب المنزلي أكثر مما هو كتاب في الشرائع الدينية، والحق أنه كان لا بد أن يجعل بمثابة موسوعة من النصائح للشعب اليهودي. ذلك أن يهود القرن الرابع والقرن الخامس بعد الميلاد كانوا كمعظم شعوب البحر المتوسط ينزلون عائدين إلى الخرافات والحيل الطبية التي تسود بين الشعوب المنعزلة الفقيرة؛ ولقد تسرب كثير من هذا الطب الشعبي والخرافي إلى التلمود. غير أننا مع هذا نجد في الجمارا البابلية وصفاً غاية في الجودة للمريء، والحنجرة، والقصبة الهوائية، والرئتين، والأغشية السحائية، وأعضاء التناسل. وقد وصف فيه خراجات الرئتين وتليف الكبد، والحَرَض الجَبَني وكثير غيرها من الأمراض وصفاً دقيقاً؛ ومما أثبته الأحبار أن الذباب وأكواب الشرب قد تنقل العدوى (49)، كما أثبتوا أن التدمام (أي الاستهداف للنزف) داء وراثي يجعل ختان أبناء المصابين به أمراً غير مستحب لكن هذه الآراء قد اختلطت بها رقي سحرية لطرد الأرواح الخبيثة التي يحسبونها سبباً في الأمراض.

ولقد كان أحبار اليهود، مثلنا نحن جميعاً، خبراء في التغذية الصحية. ونبدأ القواعد الحكيمة للتغذية عندهم بالأسنان. فهذه في رأيهم يجب ألا تخلع، مهما اشتدت آلامها (50) لأن "الإنسان إذا أجاد مضغ الطعام بأسنانه وجدت قدماه القوة"(51). وهم يمتدحون الخضر والفاكهة ما عدا البلح ويوصون بأكملها. أما اللحم فمن مواد الترف التي يجب ألا يتناولها سوى المتطهرين (52). ويجب أن يذبح الحيوان بحيث تقل آلامه إلى أقصى حد، وبحيث يخرج الدم من اللحم، لأن أكل اللحم بما فيه من الدم رجس. ومن أجل هذا يجب أن يعهد ذبح الحيوان لاتخاذ لحمه طعاماً إلى أشخاص مدربين، عليهم أن يفحصوا عن أحشائه

ص: 25

حتى يتأكدوا من أن الحيوان سليم من الأمراض. ويجب ألا يجمع في الوجبة الواحدة بين اللحم واللبن أو بين الأطعمة التي يدخل فيها هذان الصنفان، بل يجب ألا يوضعا قريبين أحدهما من الآخر في المطبخ (53). ولحم الخنزير محرم ممقوت. ولا يصح أكل البيض، أو البصل، أو الثوم إذا كان قد ترك بالليل منزوع القشر (54). ويجب الامتناع عن تناول الطعام في غير أوقاته المحددة:"لا تنقر طول النهار كالدجاج"(55). "والذين يموتون من الإفراط في الأكل أكثر ممن يموتون من نقص التغذية"(56). "والأكل إلى سن الأربعين نافع للصحة، أما بعد الأربعين فالشرب نافع لها"(57)، والاعتدال في الشرب خير من الامتناع عنه بتاتاً، فكثيراً ما يكون الخمر دواء نافعاً (58)، و "ليس ثمة سرور إلا به"(59). وقد أراد أحبار اليهود أن يسيروا في موضوع التغذية إلى غايته فقالوا إن "من يطل المكث في المرحاض يطل عمره" وأشاروا بأداء صلاة شكر كلما استجاب الإنسان لنداء الطبيعة

(1)

.

وكانوا يقامون التنسك وينصحون بني دينهم أن يتمتعوا بطيبات الحياة إذا لم يكن فيها ما هو محرم (61). وقد فرض عليهم الصيام في مواسم معينة وفي بعض الأيام المقدسة، ولكن لعل الدين هنا قد اتخذ وسيلة للحض على العناية بالصحة. واقتضت حكمة الشعب أن يؤمر اليهود بأن يحتفلوا بالأعياد ويقيموا الولائم من آن إلى آن، رغم نغمات الحزن والأسى التي كانت تسمع منهم حتى في أفراحهم. "يجب على الإنسان أن يدخل السرور في العيد على زوجته وآل بيته". ويجب عليه إن استطاع أن يهيئ لهم ثياباً جديدة (62). ويبدو أن السبت-وهو أعظم ما ابتدعه اليهود-كان عبئاً ثقيلاً عليهم في أيام التلمود، فقد كان ينتظر من اليهودي التقي أن يجعل كلامه أقل ما يستطيع، وألا يوقد النار في منزله، وأن يقضي الساعات عاكفاً على الصلاة في الكنيس. وثمة نبذة طويلة تتحدث بالتفصيل

(1)

أي كلما ذهب إلى المرحاض.

ص: 26

الوافي الممل عما يجوز عمله وما لا يجوز في السبت. ولكن فتاوي الأحبار كانت تهدف إلى التقليل من أهوال التقوى أكثر مما تهدف إلى زيادتها. وكان ما فيها من الدقة يرمي إلى تلمس الأسباب المقنعة لحمل الإنسان على أن يفعل ما يجب عليه أن يفعله في يوم الراحة. يضاف إلى هذا أن اليهودي الصالح كان يجد سعادة خفية في التمسك بشعائر السبت القديمة. فكان يبدؤه بقداس قصير. كان وهو محوط بأفراد أسرته وبأصدقائه (لأن هذا اليوم كان من الأيام التي يحلو فيها دعوة الأصدقاء)، يمسك بيده كأساً مملوءة بالخمر، يتلو عليها بعض الأدعية، ثم يشرب بعضها ويناول الكأس لضيوفه وزوجته وأبنائه. ثم يأخذ بعدئذ الخبز ويباركه، ويحمد الله "الذي يخرج الخبز من الأرض"، ويعطي بعضه لكل من يجلسون معه على المائدة. ولا يجوز الصوم أو الحزن في السبت.

وكانت أيام مقدسة كثيرة تتخلل العام وتتيح لليهود الفرص للاحتفال بالذكريات المقدسة أو الراحة المحببة. فمنها عيد الفصح اليهودي الذي يبدأ في الرابع عشر من شهر نيسان (إبريل) ويستمر ثمانية أيام يحيي فيها ذكرى فرار اليهود من مصر. وكانوا في الأيام الأولى من العهد الذي أوحى فيه بالكتاب المقدس يسمونه عيد الخبز الفطير، لأن اليهود قد فروا ومعهم العجين الذي يصنعون منه خبزهم دون أن يختمر. وكان هذا العيد يسمى في أيام التلمود عيد المرور، لأن يهوه وهو يقضي على البكور من أبناء المصريين قد "مر" بالبيوت التي رش من فيها من اليهود دم الحمل على قوائم أبوابها (63). وكان اليهود يحتفلون في اليوم الأول من هذا العيد بوجبة عيد الفصح (السّدِر)، فكان كل أب يرأس حفلة الصلاة لأسرته المجتمعة عنده. ويقوم معهم بمراسم تذكرهم بأيام موسى البئيسة، ينقل في خلالها عن طريق الأسئلة والأجوبة القصة القيمة العزيزة إلى الأبناء الصغار وفي عيد العنصرة، وموعده بعد سبعة أسابيع من عيد الفصح يحتفل اليهود في عيد شيوعوت بحصاد القمح وتجلي الله لموسى على الجبل في سيناء. وفي اليوم الأول

ص: 27

من تشرين-وهو الشهر السابع من السنة اليهودية الدينية، والشهر الأول من سنة اليهود المدنية-وهو يتفق بوجه عام مع الاعتدال الخريفي يحتفل اليهود بعيد رأس السنة، وبهلال الشهر، وينفخون في القرن الحمل (الشفار أي الصفارة) إحياء لذكرى نزول التوراة، ودعوة الناس إلى التوبة من الذنوب، واستعجالاً لذلك اليوم السعيد حين يدعي جميع اليهود العالم ليعبدوا الله في أورشليم. ومن مساء رأس السنة إلى اليوم العاشر من تشرين أيام توبة وتفكير عن الذنوب، وكان أتقياء اليهود في هذه الأيام جميعها ما عدا اليوم التاسع منها يصومون ويصلون؛ فإذا جاء اليوم العاشر المسمى يوم هاكريم (يوم الغفران) لم يكن يجوز لهم فيه أن يأكلوا أو يشربوا أو يحتذوا نعالاً أو يقوموا بعمل أو يستحموا أو يقربوا النساء من مطلع الشمس إلى مغيبها، بل كانوا يقضون النهار كله في الكنيس يصلون، ويعترفون بذنوبهم، ويستغفرون لها هي وذنوب بني دينهم، يستغفرون لهذه الذنوب بما فيها عبادة العجل الذهبي نفسه. وفي اليوم الخامس عشر من شهر تشرين يحل عيد سوكوت أو عيد المظلات. وكان المفروض أن يقضي اليهود هذا العيد في أخصاص إحياء لذكرى الخيام التي يقال إن آباءهم الأقدمين قد ناموا فيها خلال الأربعين يوماً التي قضوها في البيداء. ولما وجد اليهود المشتتون صعاباً جمة في الاحتفال بعيد الحصاد هذا كما هو مفروض عليهم بالدقة، أظهر أحبارهم ما يتصفون به من تسامح بأن فسروا السكة (الخيمة) بأنها كل ما يصح أن يرمز به للمسكن. وفي اليوم الخامس والعشرين من الشهر التاسع شهر كسلو (ديسمبر) والسبعة أيام التالية لهذا اليوم يقع عيد حَنّكة أو التكريس، الذي يذكرهم بتطهير الهيكل من المكابين (165 ق. م)، بعد أن دنسه أنتيوخوس إبفانيز Anfiochuc Epiphanes، وفي الرابع عشر من آذار (مارس) يحتفل اليهود بعيد بوريم الذي أنجى فيه موردكي وإستر الشعب من مكر الوزير الفارسي هامان. وكانوا في ذلك اليوم يتبادلون الهدايا والدعوات أثناء وليمة مرحة يشربون

ص: 28

فيها الخمر. وفي ذلك يقول رب ربا Rab Raba إن على الإنسان أن يشرب في ذلك اليوم حتى لا يستطيع التمييز بين قولهم "ملعون هامان" و "ملعون موردكي"(64).

وليس من حقنا أن نظن أن هؤلاء اليهود التلموديين قوم مفرطون في التشاؤم يحز في نفوسهم احتقار من حولهم من الشعوب لمواهبهم، تتقاذفهم أعاصير العقائد المتباينة، يهيمون في بيداء الآمال بالرجوع إلى بلادهم. ذلك أنهم وهم يعانون مرارة التشتت والظلم، والندم والفقر، كانوا يرفعون رؤوسهم عالية، ويتذوقون لذة العمل والكفاح في سبيل الحياة، ويستمتعون بما يتجلى به نساؤهم المثقلات من جمال قصير الأجل وما في الأرض والسماء من جلال مقيم. وفي ذلك يقول كوهنهم مإير:"يجب أن ينطق الإنسان في كل يوم بمائة دعوة صالحة"(65). ويقول كوهن آخر قولاً ما أجدرنا كلنا أن نعمل به "إذا مشي إنسان أربعة أذرع لا أكثر لم يطأطأ فيها رأسه أغضب الله، ألم يرد في الكتاب المقدس "مجده ملئ كل الأرض" (66).

‌3 - المبادئ الأخلاقية في التلمود

ليس التلمود موسوعة من التاريخ، والدين، والشعائر، والطب، والأقاصيص الشعبية وحسب، بل هو فوق هذا كله رسالة في الزراعة، وفلاحة البساتين، والصناعة، والمهن، والتجارة (67)، وشئون المال، والضرائب، والملك والرق، والميراث، والسرقة، والمحاكمات القضائية، والقوانين الجنائية. وإذا شئنا أن نوفي هذا الكتاب حقه من البحث، كان علينا أولاً أن نلم بطائفة كبيرة العدد من العلوم المختلفة، وأن نكتسب منها ما تهيؤه لعقولنا من الحكمة وسداد الرأي، ونستخدم تلك الحكمة الجامعة في الإلمام بأحكام هذا الكتاب في الميادين المختلفة السالفة الذكر.

وأول ما نذكره أن التلمود أولاً وقبل كل شيء قانون أخلاقي، وأن هذا القانون

ص: 29

الأخلاقي شديد الاختلاف عن القانون الأخلاقي المسيحي وعظيم لشبه بالقانون الإسلامي، حتى لتكفي نظرة خاطئة إليه لدحض الرأي السائد في العصور الوسطى القائل بأنه ليس إلا قصة المسيحية في تلك العصور. إن الأديان الثلاثة الكبرى متفقة في أن المبادئ الأخلاقية الفطرية-غير الدينية-تصلح لأن تكون قواعد عملية للإنسانية؛ وترى أن الكثرة الغالبة من الناس لا يمكن أن تحمل على المسلك الحسن والخلق القويم إلا عن طريق خوف الله. ولهذا أقامت الأديان الثلاثة قانونها الأخلاقي على مبادئ رئيسية واحدة: أن الله عيناً تبصر كل شيء، وأن القانون الأخلاقي منزل من عند الله، وأن الفضيلة تتفق في آخر الأمر مع السعادة بما يناله المحسن بعد الموت من الثواب والمسيء من العقاب. ولم يكن من المستطاع في الدينين الساميين فصل القوانين الثقافية والأخلاقية من الدين. فلم تكن هذه القوانين تجير التفرقة بين الجريمة والخطيئة، أو بين الشر والشريعة الكنسية، بل إن من مبادئها المقررة أن كل فعل ذميم. يعد إساءة إلى الله وانتهاكاً لحرماته ولاسمه جل جلاله.

وتتفق الأديان الثلاثة فضلاً عن هذا في بعض قواعد الأخلاق: تتفق في حرمة الأسرة والمسكن، وفيما يحب للآباء وكبار السن من تكريم وإجلال وفي حب الأبناء ورعايتهم، وفي مل الخير لجميع الناس. وليس ثمة شعب أكثر من اليهود حرصاً على تجميل الحياة العائلية، ولقد كان عدم الزواج عن قصد من الآثام الكبرى في اليهودية كما هو في الإسلام (68)؛ وكان إنشاء البيت وتكوين الأسرة من الأمور الشرعية التي يحتمها الدين (69)، وتنص عليه القاعدة الأولى من قواعد الشريعة البالغ عددها 613 قاعدة، وفي ذلك يقول أحد المعلمين اليهود (70)"إن من لا ولد له يعد من الأموات"، ويتفق اليهودي، والمسيحي، والمسلم في أن البشرية تصبح مهددة بالزوال إذا ما فقدت قوتها أوامر الدين التي تقضي بوجوب إنجاب الأبناء. على أن أحبار اليهود أباحوا تحديد عدد أفراد الأسرة في

ص: 30

بعض الأحوال؛ ويفضلون أن تكون السبيل إلى هذا هي منع الحمل، وفي ذلك يقول بعضهم:"هناك ثلاث طبقات من النساء يجب عليهن أن يستعملن الأدوية الماصة: القاصر خشية أن يقضي الحمل على حياتها؛ كيلا تكون النتيجة هي الإجهاض، والمرضع حتى لا تحمل فتضطر إلى فطام الرضيع قبل الأوان فيموت الطفل"(71).

وكان اليهود، كما كان معاصروهم، يكرهون أن يلدوا بنات ويسرون إذا أنجبوا الذكور، ذلك أن الذكر لا الأنثى هو الذي يحمل اسم أبيه واسم الأسرة، ويرث أملاكه، ويعني بقبره بعد وفاته، أما البنت فسوف تتزوج في بيت غريب وقد يكون بيتاً بعيداً، ولا تكاد تتم تربيتها حتى يفقدها أبواها. لكن الآباء متى رزقوا الأبناء، ذكوراً كانوا أو إناثاً، أعروهم وأدبوهم تأديباً ممزوجاً بالحب وفي ذلك يقول أحد أحبارهم:"إذا كان لا بد لك أن تضرب طفلك، فاضربه برباط حذاء"(72). ويقول آخر "إذا امتنع الإنسان من عقاب طفل، انتهت به الحال إلى الفساد المطلق"(73) وكان من الواجب على الآباء أن يتحملوا كل تضحية تتطلبها تربية الأبناء أي تثقيف العقل، وتقويم الخلق بدراسة "الشريعة وأسفار الأنبياء". وقد جاء في أحد الأمثال العبرية:"إن العالم ينجو بنفس تلاميذ المدارس"(74) فالسكينة أو الحضرة الإلهية تتجلى في وجوههم؛ وفي نظير هذا يجب على الابن أن يعظم والديه ويحميهما بكل ما في وسعه وفي جميع الأحوال.

والصدقات من الواجبات التي لا مفر من أدائها وإن "من يتصدق لأعظم ممن يقدم كل القرابين"(75). ولقد كان بعض اليهود أشحاء، وبعضهم بخلاء إلى أقصى حدود البخل، ولكنهم بوجه عام يفوقون سائر الشعوب في هباتهم وتبرعاتهم، وقد بلغ من سخائهم في هذه الناحية أن اضطر أحبارهم إلى أن ينوههم عن إعطاء أكثر من خمس أموالهم للصدقات، ومع هذا فقد وجد عند

ص: 31

وفاة بعضهم أنهم قد أعطوا نصف ما يملكون رغم هذا التحريم (76). "لقد كانت تلوح على وجه أبا أو منا على الدوام هالة من الطمأنينة القدسية، ذلك بأنه كان جرّاحاً ولكنه لم يكن يرضى أن يمسك بيديه أجراً على عمله، بل كان له صندوق في ركن حجرة استشارته يستطيع من كان في مقدوره أداء شيء من المال أن يضع فيه ما يرغب في أدائه

وحتى لا يعتري الخجل من يعجز عن أداء شيء منه" (77). وكان رب هونا "إذا جلس لتناول الطعام فتح أبوابه ونادى: من كان في حاجة أن يدخل ويطعم" (78). وكان شاما بن إلعي Chama ben Elai يطعم الخبز كل من يطلبه ويضع يده في كيس نقوده كلما سار في خارج داره حتى لا يحجم أحد عن سؤاله (79). ولكن التلمود كان يؤنب التظاهر بالبذل ويشير بأن يكون سراً ويقول "إن من يعطي الصدقات سراً أعظم من موسى" (80).

ووجه رجال الدين كل ما أوتوا من علم وبلاغة لامتداح نظام للزواج الذي كان هو والدين الأساس الذي يقوم عليه صرح الحياة اليهودية كلها. ولم ينددوا بالشهوة الجنسية ولكنهم كانوا يخشون قوتها وبذلوا جهدهم في كبح جماحها. فمنهم من كان ينصح بأكل الملح مع الخبز "ليقل المنى"(81)، ومنهم من كان يحس بأن الوسيلة الوحيدة لكبح جماح الشهوة الجنسية هو العمل المجهد مضافاً إلى دراسة التوراة؛ فإذا لم يجد هذه الوسيلة "فليذهب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد، وليلبس سود الثياب، وليفعل ما تبتغيه نفسه، ولكن عليه ألا يدنس اسم الله جهرة"(82). وعلى الإنسان أن يبتعد عن كل المواقف التي تثير شهوته، فلا يكثر من الحديث مع النساء، "ولا يمشي في الطريق خلف امرأة"(83) وتظهر فكاهة أحبار اليهود المبهجة مرة أخرى في قصة رب كهنا Red Kahan.

فقد كان مرة يبيع سلال النساء وإذا هو يتعرض لهواية الشيطان. وأخذ يقاوم طبيعته راجياً أن ينطلق هذه المرة على أن يعود إلى نجا. ولكنه بعد أن تغلب

ص: 32

على نفسه لم يعد بل صعد إلى سقف بيت وألقى بنفسه من فوقه، وقبل أن يصل إلى الأرض وصل إليه اليشع وأمسك به ولامه على أن اضطره إلى قطع مسافة أربعمائة ميل لكي يحول بينه وبين إهلاك نفسه (84).

ويلوح أن أحبار اليهود يرون أن البكورية لا بأس بها، ولكن البكورية الدائمة هي بعينها وقف النماء الطبيعي، ويعتقدون أن كمال المرأة في كمال الأمومة، كما أن اسمى فضائل الرجل فضيلة الأبوة الكاملة. وكان من الواجب على كل أب أن يدخر بائنة لكل بنت من بناته ومهراً يمهر به كل ولد من أولاده عروسه حتى لا يتأخر زواج الولد والبنت تأخراً يضر بصحتهما. وكانوا يشيرون بالزواج المبكر-في الرابعة عشرة للبنت وفي الثامنة عشرة للولد. وكان القانون يبيح زواج البنت إذ بلغت سنها اثنتي عشرة سنة وستة أشهر وزواج الولد في الثالثة عشرة من عمره. وكان يباح للطلاّب المشتغلين بدراسة الشريعة أن يؤخروا زواجهم بعض الوقت. ومن الأحبار من كانوا يقولون إن على الرجل أن يثبت دعائم مركزه الاقتصادي قبل أن يقدم على الزواج:"على الرجل أولاً أن ينشئ البيت، ثم يغرس الكرمة، ثم يتزوج"(85). -ولكن هذا الرأي هو رأي الأقلية ولعله لا يتعارض مع الزواج المبكر إذا ما تكفل الأبوان بتدبير العون المالي المطلوب. وكانوا ينصحون الشباب بألا يختار زوجته لجمالها بل لصفاتها التي سوف تجعلها في المستقبل أماً صالحة (86)، ويقولون "اهبط درجة في اختيار الزوجة، وأرقى درجة في اختيار الصديق"(87)، ومن يختر لنفسه زوجة من طبقة فوق طبقته يدع الناس إلى احتقاره.

وأجاز التلمود، كما أجاز العهد القديم والقرآن، تعدد الزوجات، ومن أقوال أحد الأحبار في هذا المعنى:"يستطيع الرجل أن يتزوج أي عدد من النساء يشاء" ولكن فقرة ثانية في مقاله هذا تحدد عدد الزوجات بأربع، وتطلب

ص: 33

فقرة ثالثة إلى من يريد أن يتخذ له زوجة ثانية أن يطلق زوجته الأولى إذا أرادت هي الطلاق (88). ونظام تعدد الأزواج هذا تفترضه كذلك العادة القديمة التي يطالب اليهودي بمقتضاها أن يتزوج من أرملة أخيه بعد وفاته، وأكبر الظن أن منشأ هذه العادة لم يكن هو العطف والشفقة فحسب، بل كانت تقوم فوق ذلك على الرغبة في الإكثار من النسل في مجتمع ترتفع فيه نسبة الوفيات شأنه في ذلك شأن كل المجتمعات التي قامت في العصور القديمة والعصور الوسطى.

وبعد أن يسر الأحبار للرجل إشباع غريزته الجنسية على هذا النحو جعلوا الزنى من الجرائم التي يعاقب مرتكبها بالإعدام، وكان منهم من يقول مع المسيح إن "الإنسان قد يزني بعينيه"(89)، ومنهم من ذهب إلى أبعد من هذا فقال:"إن من يتطلع إلى خنصر امرأة لا أكثر قد ارتكب إثماً في قلبه"(90)، ولكن رب أريكا أرقى من هؤلاء وأولئك قلباً إذ يقول: "يجد الإنسان في كتاب سيئاته يوم الحشر كل شيء رآه بعينيه وأبى أن يستمتع به (91).

وأبيح الطلاق برضا الطرفين، فأما الزوج (الرجل) فلا يمكن أن يطلّق إلا برضاه، وأما الزوجة فيجوز للرجل أن يطلقها بغير رضاها. وطلاق الزوجة الزانية أمر واجب، كذلك يشار بطلاق الزوجة إذا ظلت عقيماً عشر سنين بعد الزواج (92). ولم تكن مدرسة شماي تبيح طلاق المرأة إلا إذا زنت، أما مدرسة هلل فقد أباحت للرجل أن يطلق زوجته إذا وجد فيها "شيئاً معيباً"، وكانت الغلبة في أيام التلمود لرأي هلل، وقد ذهب فيه عقيبا إلى حد بعيد فقال إن "في وسع الرجل أن يطلّق زوجته، إذا وجد امرأة أخرى أجمل منها"(93). وكان في وسع الرجل أن يطلّق زوجته إذا عصت أوامر الشريعة اليهودية بأن سارت أمام الناس عارية الرأس، أو غزلت الخيط في الطريق العام، أو تحدثت إلى مختلف أصناف الناس أو "إذا كانت عالية الصوت أي إذا كانت تتحدث في بيتها ويستطيع جيرانها سماع ما تقول"(94) ولم يكن عليه في هذه الأحوال

ص: 34

أن يرد إليها بائنتها. ولم يكن هجر الرجل زوجته يوجب طلاقها منه (95)، وأباح بعض رجال الدين للزوجة أن تلجأ إلى المحكمة تطلب الطلاق من زوجها إذا قسا عليها، أو كان عنيناً، أو أبى أن يؤدي الواجبات الزوجية، أو لم ينفق عليها النفقة التي تليق بها (96)، أو كان مشوهاً أو نتناً (97). وكان الأحبار يحاولون تقليل الطلاق بأن يضعوا في سبيله إجراءات قانونية معقدة، ويفرضون في جميع الأحوال-إلا القليل النادر منها-استيلاء الزوجة على البائنة والمهر؛ ويقول الحاخام إلعَزَر Eleazar " إن المذبح نفسه ليذرف الدمع على من يطلق زوجة شبابه"(98).

وجملة القول أن قوانين التلمود، بوجه عام، من وضع الرجال وأنها لذلك تحابي الذكور محاباة بلغ من قوتها أن بعثت في نفوس أحبار اليهود الفزع من قوة المرأة، وهم يلومونها، كما يلومها الآباء المسيحيون، لأنها أطفأت "روح العالم" بسبب تشوف حواء المنبعث عن ذكائها. وكانوا يرون أن المرأة "خفيفة العقل"(99)، وإن كانوا يقرون لها بأنها وهبت حكمة غريزية لا وجود لها في الرجل (100). وهم يأسفون أشد الأسف لما جبلت عليه المرأة من ثرثرة:"لقد نزلت على العالم عشرة مكاييل من الكلام؛ أخذت المرأة منها تسعة، وأخذ الرجل واحداً"(101). ونددوا بأنهماكها في السحر وما إليه من الفنون الخفية (102)، وفي الأصباغ والكحل (103). ولم يكونوا يرون بأساً في أن ينفق الرجل بسخاء على ملابس زوجته، ولكنهم كانوا يطلبون إليها أن تجمل نفسها لزوجها لا لغيره من الرجال (104). وفي القضاء-على حد قول أحد الأحبار-"تعدل شهادة مائة امرأة شهادة رجل واحد"(105)؛ وكانت حقوق النساء الملكية محددة في التلمود بالقدر الذي كانت محددة به في إنجلترا في القرن الثامن عشر؛ فمكاسبهن وما يؤول إليهن من ملك لهن حق لأزواجهن (106)، ومكان المرأة هو البيت. ويقول أحد الأحبار المتفائلين إن المرأة في "عصر المسيح الثاني ستلد

ص: 35

طفلاً في كل يوم" (107) وإن "الرجل الذي له زوجة خبيثة لن يرى وجه جهنم" (108)؛ ويقول عقيبا من جهة أخرى إنه ليس أغنى من الرجل الذي له امرأة اشتهرت بأعمالها الطيبة (109): ويقول أحد المعلمين اليهود إن "كل شيء يصدر عن المرأة (110)". وقد جاء في أحد الأمثال العبرية: "إن كل ما في البيت من نعم وبركات قد جاء إليه عن طريق الزوجة، ولهذا فإن من الواجب على زوجها أن يكرمها

وليحذر الرجال من أن يبكوا المرأة، فإن الله يعد دموعها" (111).

ولقد جمع ناشر غير معروف في أبهج جزء من أجزاء التلمود، وهو الرسالة الصغيرة المسماة برقي أبوت Pirke Aboh (الأصول السياسية)، حكم كبار الأحبار الذين عاشوا في القرنين السابقين لمولد المسيح والقرنين التاليين له. وكثيراً من هذه الأمثال يمتدح الحكمة وبعضها يعرفها ويحدد معناها!

قال بن زوما: من هو الحكيم؟ هو الذي يتعلم من كل إنسان

من هو القوي؟ هو الذي يخضع ميوله (الخبيثة)

من يسيطر على روما خير ممن يستولي على مدينة. من هو الغني؟ هو الذي يسر بما قسم له

من هو الكريم؟ هو الذي يكرم بني جنسه (112)

لا تحتقر إنساناً ولا تحتقر شيئاً؛ فليس ثمة إنسان ليست له ساعته، وليس ثمة شيء ليس له مكانه (113)

لقد نشأت طول عمري؛ بين الحكماء، ولقد وجدت أن لا شيء أحسن للإنسان من الصمت

(114).

وقد اعتاد الكوهن إلعِزَر أن يقول: مثل من تزيد أفعاله على حكمته، كمثل شجرة كثرت فروعها وقلت جذورها، إذا هبت عليها الريح اقتلعتها وألقتها على وجهها

أما من تزد حكمته على أفعاله فمثله كمثل شجرة قلت أغصانها وكثرت جذورها لو أن رياح العالم كلها هبت عليها لما زحزحتها من مكانها (115).

ص: 36

الفصل الرابع

‌الحياة والشريعة

ليس التلمود من التحف الفنية، ذلك بأن جمع أفكار ألف عام كاملة ووضعها في مجموعة مترابطة متناسقة عمل لا يقوى عليه حتى مائة حبر من الأحبار الصابرين. وما من شك في أن كثيراً من المقالات قد وضعت في غير موضعها من الكتاب؛ وأن عدداً من الفصول قد وضع في غير المقالات التي يجب أن يوضع فيها، وأن موضوعات تبدأ، ثم تترك، ثم تبدأ من جديد على غير قاعدة موضوعة. وليس الكتاب ثمرة تفكير بل هو التفكير نفسه، فكل الآراء المختلفة قد دونت فيه وكثيراً ما نترك النقطة المتعارضة دون أن تحل وتفسر. وكأننا قد اجتزنا خمسة عشر قرناً من الزمان لننصف إلى نقاش أشد المدارس إخلاصاً ونستمع إلى عقيبا ومإير ويهودا وهنسيا ورب في أثناء جدلهم العنيف. وإذا ما ذكرنا أننا فضوليون متطفلون، وأن هؤلاء الرجال وغيرهم قد اختطفت ألفاظهم العارضة اختطافاً من أفواههم وقذف بها في نصوص لم تكن معدة لها، ثم أرسلت تجلجل خلال القرون الطوال، إذا ذكرنا هذا استطعنا أن نعفو عما نجده في هذه الأقوال من جدل، وسفسطة، وأقاصيص غير صادقة، وتنجيم وحديث عن الجن والشياطين، وخرافات، ومعجزات، وأسرار الأعداد، وأحلام وحي، ونقاش لا آخر له يتوج نسيجاً مهلهلاً من الخيالات والأوهام، والغرور الذي يغريهم ويأسو جراحهم ويخفف عنهم آلام آمالهم الضائعة.

وإذا ما اشمأزت نفوسنا من قسوة هذه القوانين، ومن دقة هذه النظم وتدخلها فيما لا يصح أن تتدخل فيه، وما يجازي به من يخرقها من شدة وبطش، فإن من واجبنا ألا تحمل هذه المسألة محمل الجد، ذلك أن اليهود لم يدعوا قط أنهم يطيعون

ص: 37

هذه الوصايا كلها، وأن أحبارهم كانوا يغضون أبصارهم عما يجدونه في كل صفحتين من كتابهم من ثغرات بين نصائحهم التي تدعو إلى الكمال وبين ما في الطبيعة البشرية من ضعف خفي. وفي ذلك يقول أحد الأحبار الحذرين:"لو أن إسرائيل قد حرصت الحرص الواجب على سبت واحد لجاء ابن داود من فوره"(116). ولم يكن التلمود كتاب قوانين يطلب إلى اليهود إطاعتها جملة وتفصيلاً، بل كان سجلاً لآراء الأحبار، جمعه جامعوه ليهدوا به الناس إلى التقي على مهل، ولم تطع الجماهير غير المثقفة إلا قلة مختارة من الأوامر التي جاءت بها الشريعة.

ويهتم التلمود اهتماماً كبيراً بالشعائر الدينية، ولكن بعض هذا الاهتمام كان رد فعل من اليهود لما بذلته الكنيسة المسيحية والدولة من محاولات لإرغامهم على التخلي عن شريعتهم. ولقد كانت هذه الشعائر سمة تميزهم، ورابطة تجمع شتاتهم وتصل بين مختلف أجيالهم، وشعاراً يتحدون بع عالماً لا يعفو قط عنهم. وإنا لنجد في مواضع متفرقة من مجلدات التلمود العشرين كلمات حقد على المسيحية، ولكنها حقد على مسيحية نسيت رقة المسيح وظرفه، مسيحية اضطهدت المتمسكين بشريعة أمر المسيح أتباعه بالعمل بها، مسيحية يرى أحبار اليهود أنها حادت عن مبدأ التوحيد جوهر الدين القويم وأساسه الذي لا يتبدل. وإنا لنجد بين هذه الشعائر والطقوس المعقدة، وهذا الجدل الشائك الطويل، مئات من النصائح السديدة، والبصيرة النفسانية، تتخللها في بعض الأحيان فقرات تعيد إلى الذاكرة جلال كتاب العهد القديم أو الحنان الصوفي الذي تراه في العهد الجديد. وإن ما يمتاز به اليهودي من فكاهة شاذة غريبة الأطوار لتخفف عنه عبء هذا الدرس الطويل. انظر مثلاً إلى ما يقوله أحد أحبارهم من أن موسى دخل متخفياً إلى الحجرة التي يلقي فيها عقيبا دروسه، وجلس في الصف الأخير، ودهش من

ص: 38

كثرة القوانين التي استنبطها المعلم الكبير من الشريعة الموسوية، والتي لم يحلم بها قط كاتبها (117).

ولقد ظل التلمود أربعة عشر قرناً من الزمان أساس التربية اليهودية وجوهرها. وكان الشاب العبراني ينكب عليه سبع ساعات في كل يوم مدى سبع سنين، يتلوه ويثبته في ذاكرته بلسانه وعينه؛ وكان هو الذي يكوِّن عقولهم ويشكِّل أخلاقهم بما تفرضه دراسته من نظام دقيق، وبما يستقر في عقولهم من معرفة، شأنه في هذا شأن كتابات كنفوشيوس التي كان يستظهرها الصينيون كما يستظهر اليهود التلمود. ولم تكن طريقة تعلمه مقصورة على تلاوته وتكراره، بل كانت تشمل فوق ذلك مناقشته بين المدرس والتلميذ، وبين التلميذ والتلميذ، وتطبيق القوانين القديمة على ما يستجد من الظروف، وقد أفادت هذه الطريقة حدة في الذهن، وتقوية للذاكرة، وتثبيتاً للمعلومات، ميزت اليهودي من غيره في كثير من الميادين التي تتطلب الوضوح، وتركيز الذهن، والمثابرة، والدقة، وإن كانت في الوقت نفسه قد عملت على تضييق أفق العقل اليهودي والحد من حريته. ولقد روض التلمود طبيعة اليهودي الثائرة المهتاجة، وكبح جماح نزعته الفردية، وبث فيه روح العفة والوفاء لأسرته وعشيرته؛ ولربما كان "نير الشريعة" عبئاً ثقيلاً على ذوي العقول السامية الكبيرة، ولكنها كانت السبب في نجاة اليهود بوجه عام.

وليس من المستطاع فهم التلمود إلا إذا درس في ضوء التاريخ على أنه العامل الفعّال الذي أبقى على شعب مطرود، معدم، مظلوم، يتهدده خطر التفكك التام. ولقد فعل أحبار اليهود في تشتتهم الواسع ما فعله أنبياؤهم للاحتفاظ بالروح اليهودية في الأسر البابلي. فقد كان لا بد لهم من أن يعيدوا إليهم عزتهم وكبريائهم، وأن يعملوا على أن يستقر بيتهم النظام، ويثبتوا في قلوبهم الإيمان، ويحافظوا على أخلاقهم القويمة، ويعيدوا إليهم سلامة العقول وصحة الأبدان اللتين حطمتهما

ص: 39

المحن الطوال (118). وبفضل هذا التأديب الشاق، وغرس أصول التقاليد اليهودية في صدر اليهودي بعد اقتلاعها، عاد الاستقرار وعادت الوحدة، عن طريق التجوال في أطراف القارات والأحزان خلال القرون الطوال. ولقد كان التلمود على حد قول هيني Heine وطناً منتقلاً لليهود يحملونه معهم أينما ساروا. فحيثما وجد اليهود، حتى وهم جالية واجفة في أرض الغربة، كان في وسعهم أن يضعوا أنفسهم مرة أخرى في عالمهم، وأن يعيشوا مع أنبيائهم وأحبارهم، وذلك بأن يرووا عقولهم وقلوبهم من فيض الشريعة. فلا غرابة والحالة هذه إذا أحبوا هذا الكتاب الذي نراه نحن أكثر تنوعاً واختلافاً مما كتبه مائة كاتب من أمثال منتاني Montaigne. ولم يكفهم الاحتفاظ بالكتاب كله، بل احتفظوا بأجزاء صغيرة منه بحب يصل إلى درجة الجنون، وكانوا يتبادلون قراءة نتف من هذا المخطوط الضخم، وأنفقوا في القرون المتأخرة أموالاً طائلة لطبعه كاملاً، وبكوا حين كانت الملوك والبابوات، والمجالس النيابية تحرم تلاوته، أو تصادره، أو تحرقه؛ وابتهجوا حين رأوا روشلين Reuchlin وإرزامس Erasmus يدافعان عنه، وعدوه في أيامنا هذه أثمن ما تمتلكه معابدهم وبيوتهم، واتخذوه ملجأ وسلوى، وسجناً للروح اليهودية.

ص: 40

الباب السادس عشر

‌يهود العصور الوسطى

(565 - 1300)

الفصل الأول

‌المجتمعات الشرقية

كان لليهود وقتئذ شريعة ولكن لم تكن هناك دولة، كان لهم كيان، ولم يكن لهم وطن. ذلك أن أورشليم ظلت إلى عام 614 مدينة مسيحية، وإلى عام 629 فارسية، وإلى عام 637 مسيحية مرة أخرى، ثم ظلت من ذلك الوقت إلى عام 1099 حاضرة إسلامية. وفي ذلك العام الأخير حاصرها الصليبيون، وانضم اليهود إلى المسلمين في الدفاع عنها، فلما سقطت في أيدي الصليبيين سيق من بقي فيها حياً من اليهود إلى إحدى بيعهم وأحرقوا عن آخرهم (1)، ولما استولى صلاح الدين على المدينة عام 1187 أعقب ذلك ازدياد سريع في عدد اليهود، واستقبل السلطان العادل أخو صلاح الدين ثلاثمائة من أحبارهم الذي فروا من إنجلترا وفرنسا في عام 1211 استقبالاً حسناً. لكن ابن نحمان لم يجد فيها بعد خمسين عاماً من ذلك الوقت إلا حفنة صغيرة من اليهود (2)، ذلك أن سكان بيت المقدس كانوا قد أصبحوا كلهم تقريباً مسلمين.

وظل اليهود كثيري العدد في سوريا والعراق وفارس الإسلامية رغم ما لاقوه في بعض الأحيان من الاضطهاد ورغم اعتناق عدد منهم دين الإسلام. وأضحت لهم في ربوعها حياة اقتصادية وثقافية ناشطة قوية. ولقد ظلوا في شئونهم الداخلية،

ص: 41

كما كانوا في عهد الملوك الساسانيين، يتمتعون بالحكم الذاتي تحت إشراف الإجزيلارك (رئيس اليهود في المهجر) ومديري المجامع الدينية. واعترف الخلفاء المسلمون بالإجزيلارك في كل من بلاد بابل. وأرمينية، والتركستان، وفارس، واليمن، رئيساً لجميع اليهود فيها؛ ويقول بنيامين التطيلي إن جميع رعايا الخليفة كان يفرض عليهم أن "يقوموا واقفين في حضرة أمير الأسر، وأن يحيوه باحترام"(3). وكان منصب الإجزيلارك وراثياً في أسرة واحدة ترجع بنسبها إلى داود، وكان سلطانه سياسياً أكثر منه روحياً، وقد أدى ما بذله من الجهود للسيطرة على رجال الدين إلى اضمحلاله ثم إلى سقوطه، وأصبح مديروا المجامع العلمية بعد عام 762 هم الذين يختارون الإجزيلارك ويسيطرون عليه.

وكانت الكليات الدينية في سورا Snra وبمبديثا Pumdeditha تخرج الزعماء الدينيين والعقليين لليهود في بلاد الإسلام، وتخرج أمثالهم بدرجة أقل لليهود في البلاد المسيحية. وحدث في عام 658 أن أخرج الخليفة مجمع سورا العلمي من اختصاص الإجزيلارك القانوني، فلما حدث هذا اتخذ رئيس المجمع لنفسه لقب جاؤن Gaon (صاحب السعادة) وابتدأ من ذلك الحين نظام الجاؤنية، وعهد الجاؤنيم في الدين والعلم البابليين (4). ولما ازدادت موارد كلية بميديثا وعظمت منزلتها لقربها من بغداد، اتخذ مديروها أيضاً لأنفسهم لقب جاؤن؛ وكاد اليهود في جميع أنحاء العالم فيما بين القرن السابع إلى القرن الحادي عشر يستفتون الجأنيم في المدينتين فيما يعرض لهم من مسائل التلمود القانونية، ونشأ لليهودية من أجوبتهم على هذه المسائل أدب قانوني جديد.

وحدث في الوقت الذي قامت فيه الجاؤنية انشقاق ديني فرق العالم اليهودي في الشرق وزلزلت له أركانه-أو لعل هذا الانشقاق نفسه هو الذي حتم قيام الجاؤنية في ذلك الوقت. ذلك أنه لما توفي الإجزيلارك سليمان، طالب ابن أخيه عنن بن داود بحقه في أن يخلفه في منصبه، ولكن زعماء سورا وبمبديثا طرحوا

ص: 42

مبدأ الوراثة وراءهم ظهرياً ونصبوا حنانياً أخا عنن الأصغر إجزلاركا في مكانه. فما كان من عنن إلا أن طعن في الجاؤنين، وفر إلى فلسطين وأنشأ فيها كنيساً خاصاً به، وطالب اليهود أينما كانوا أن ينبذوا التلمود وألا يطيعوا إلا قوانين أسفار موسى الخمسة. وكان هذا العمل من جانبه عودة إلى الوضع الذي كان عليه الصدوقيون؛ وكان شبيهاً بما ينادي به بعض الشيعة في الإسلام من نبذ "السنة" النبوية واتباع القرآن وحده، وما يطالب به البروتستنت من نبذ التقاليد الكاثوليكية والعودة إلى الأناجيل. على أن عنن لم يكتف بهذا بل أخذ يعيد النظر في أسفار موسى الخمسة ويشرحها شرحاً يعد خطوة جريئة في سبيل الدراسة النقدية لنصوص الكتاب المقدس. واحتج على ما أدخله علماء التلمود من تبديل في الشريعة الموسوية وما يحاولونه في تفسيرهم وشرحهم من توفيق بينها وبين الظروف القائمة في أيامهم، وأصر على اتباع ما جاء في الأسفار الخمسة من أوامر وتنفيذها بنصها، ولهذا سمي أتباعه بالقرائين

(1)

-أي "المتمسكين بالنصوص" وامتدح عنن عيسى وقال أنه رجل صالح لم يرغب في نبذ شريعة موسى المدونة، بل كل ما كان يطلبه أن ينبذ الناس قوانين الكتبة والفريسيين الشفوية. ويرى عنن أن عيسى لم يكن يرغب في وضع دين جديد، بل كان يرغب في تطهير الدين اليهودي وتدعيمه (5). وكثر اليهود القراءون في فلسطين، ومصر، وأسبانيا، ثم نقص في القرن لثني عشر، ولم يبق منهم الآن إلا أقلية آخذة في الانقراض في تركيا وجنوبي روسيا؛ وبلاد العرب. ونبذ القراءون في القرن التاسع ما كان ينادي به عنن من تفسير حرفي لنصوص الشريعة، وقالوا إن بعث الأجسام وما جاء في الكتاب المقدس من أوصاف جسمانية لله، يجب أن تؤخذ على سبيل المجاز، ولعلهم في قولهم هذا كانوا متأثرين بآراء المعتزلة المسلمين.

(1)

من اللفظ الآرامي قرا أي النص وهذا اللفظ نفسه مشتق من قرأ، ومنه أيضاً القرآن.

ص: 43

فلما فعلوا هذا عاد اليهود الربانيون إلى القول بأخذ عبارات التلمود بنصها، وقالوا إن ما ورد في الكتاب المقدس من عبارات أمثال "يد الله" وجلوس الله. يجب أن تؤخذ بمعناها الحقيقي، بل إن بعضهم قد تغالى في هذا فقدر بالدقة مقاييس جسم الله، وطول أطرافه، ولحيته (6). ونشأت فئة قليلة من اليهود حرة التفكير منها صبي البلخي Chivi al-Balchi كانت تنادي بأن أسفار موسى الخمسة نفسها ليست شريعة واجبة الطاعة (7). في هذه البيئة التي تمتاز بالرخاء الاقتصادي، والحرية الدينية، والجدل العنيف أنجبت اليهودية أول فيلسوف يهودي ذائع الصيت في العصور الوسطى.

ولد سعديا بن يوسف في قرية من قرى الفيوم في عام 892. وشب في مصر وتزوج فيها ثم هاجر إلى فلسطين في عام 915، ثم هاجر بعدئذ إلى بابل. وما من شك في أنه كان طالباً مجداً ومعلماً قديراً، لأنه عين وهو شاب في السادسة والثلاثين من عمره جاؤنا أي مديراً لكلية سوراً. وشاهد ما أدخله القراءون والمتشككة من بدع في الدين اليهودي القديم، فآلى على نفسه أن يفعل لهذا الدين ما فعله المتكلمون في الدين الإسلامي-فيبين أن هذا الدين القديم يتفق كل الاتفاق مع العق والتاريخ. وأخرج سعديا في حياته القصيرة التي لم تتجاوز خمسين عاماً مقداراً ضخماً من المؤلفات-معظمها-لا يماثلها في سجل التفكير اليهودي في العصور الوسطى إلى مؤلفات ابن ميمون. ومن هذه المؤلفات "الأجرون" وهو معجم آرامي للغة العبرية يعد أساساً للفلسفة العبرية؛ ومنها "كتاب اللغة" وهو أقدم ما عرف من كتب في نحو اللغة العبرية. وقد ظلت ترجمته العربية للعهد القديم إلى يومنا هذا الترجمة التي يستخدمها جميع اليهود الذين يتكلمون اللغة العربية، وإن شروحه لأسفار الكتاب المقدس "لتكاد تجعله" أعظم شارح للكتاب المقدس في جميع العصور (8)"؛ ويعد "كتاب الأمانات والاعتقادات" (933) أعظم رد في الدين اليهودي على الخارجين على هذا الدين.

ص: 44

ويؤمن سعديا بالوحي والتواتر معاً أي بالشريعة المكتوبة وغير المكتوبة، ولكنه يؤمن أيضاً بالعقل، ويطالب بأن يثبت استناداً إلى العقل صدق الوحي والتواتر. فإذا ما تعارضت نصوص الكتاب المقدس تعارضاً صريحاً مع حكم العقل، فلنا أن نفترض أن النص المتعارض لا يقصد به أن تأخذه العقول الناضجة بحرفيته. كذلك يجب أن تؤخذ أوصاف الله الجسمانية على أنها مجاز لا حقيقية؛ ذلك أن الله ليس إنساناً يتصف بما يتصف به البشر ويدل نظام العالم وقوانينه على وجود خالق عاقل مدبر. وليس من العقل في شيء أن يظن أن الله العاقل المدبر يعجز عن أن يثيب على الفضيلة، ولكن الفضيلة، كما هو واضح، لا يثاب عليها دائماً في هذه الحياة؛ ومن ثم لا بد أن تكون هناك حياة أخرى تعوض ما يبدو في هذه الحياة الدنيا من ظلم ظاهري؛ ولعل آلام الصالحين في هذه الدنيا ليست إلا عقاباً لبعض ما ارتكبوه من ذنوب حتى يدخلوا الجنة من فورهم بعد موتهم، كما أن ما يظفر به الأشرار من نعم إنما هو مثوبة على أعمالهم الصالحة العارضة، حتى

ولكن الناس كلهم حتى الذين يقومون بأحسن الأعمال الصالحة في هذا العالم وينالون فيه أعظم الخير والسعادة يحسون في أعماق قلوبهم أن ثمة حالاً خيراً من حالهم هذه الواسعة الآمال القليلة الممتعة، وكيف يجوز لله الذي اقتضت حكمته العظيمة خلق هذا العالم العجيب أن يبعث هذه الآمال في النفس إذا لم يشأ أن تتحقق؟ (9)، ولقد تأثر سعديا إلى حد ما بفقهاء الإسلام وسار على نهجهم في الشرح والإيضاح، بل إن استعار منهم في بعض الأحيان أساليب الجدل والنقاش. وقد انتشرت آراؤه في جميع أنحاء العالم اليهودية وتأثر بها ابن ميمون، وهل أدل على هذا من قول ابن ميمون:"لولا سعديا لكادت التوراة أن تختفي من الوجود"(10).

وهنا يجب أن نقر بأن سعدياً كان رجلاً فظاً إلى حد ما، وأن نزاعه مع الإجزيلارك داود بن زكاي قد أضر بيهود بابل. وكانت نتيجة هذا النزاع أن

ص: 45

أعلن داود في عام 930 حرمان سعديا، وأن أعلن سعديا حرمان داود. ولما مات داود في عام 940 نَصَّب سعديا إجزيلاركاً جديداً، ولكن المسلمين قتلوا هذا الإجزيلارك لأنه طعن في النبي محمد. فما كان من سعديا إلا أن عيّن ابن القتيل خلفاً، وقُتل هذا الشاب أيضاً؛ وحينئذ قرر اليهود بعد أن فت في عضدهم على هذا النحو أن يبقوا هذا المنصب شاغراً، وبذلك انتهى عهد الإجزيلاركية البابلية الذي دام سبعة قرون. وكان تفكك الخلافة العباسية في بغداد وقيام دوق إسلامية مستقلة في مصر، وشمالي أفريقية، وأسبانيا سبباً في ضعف الروابط بين يهود آسية وأفريقية وأوربا وأصيب يهود بابل بما أصيب به الإسلام في الشرق من ضعف اقتصادي بعد القرن العاشر الميلادي، فأغلقت كلية سورا أبوابها في عام 1034 وحذت حذوها بمبديثا بعد أربع سنين، وانتهى عهد الجاؤنية في عام 1040؛ وزادت الحروب الصليبية الهوة بين يهود بابل ويهود مصر، وأوربا، ولما خرب المغول بغداد في عام 1228 كادت الجالية اليهودية البابلية أن تختفي من صفحات التاريخ.

وكان كثيرون من يهود الشرق قد هاجروا قبل هذه الكوارث إلى أقاصي آسية الشرقية، وبلاد العرب، ومصر، وشمالي أفريقية وأوربا؛ فكان في سيلان 23. 000 عبراني في عام 1165 (11)، وبقيت في بلاد العرب عدة جاليات يهودية بعد أيام النبي؛ ولما فتح عمرو بن العاص مصر في عام 641 كتب إلى الخليفة يقول إن في الإسكندرية أربعة آلاف من اليهود "أهل الذمة". ولما اتسعت مدينة القاهرة ازداد عدد من فيها من اليهود أصحاب العقيدة القديمة والقرائين. وكان يهود مصر يستمتعون بالحكم الذاتي في شئونهم الداخلية بزعامة النجيد أو أمير اليهود، وازدادت ثروتهم من الأعمال التجارية وارتفعوا إلى المناصب العالية في حكومات الدول الإسلامية (12). وتقول إحدى الروايات إن أربعة من أحبار اليهود أبحروا على ظهر إحدى السفن من باري Bari في إيطاليا، ولكن

ص: 46

أحد أمراء البحر الأندلسيين المسلمين أسر سفينتهم وباعهم بيع الرقيق، فبيع الحبر موسى وابنه حنوخ في قرطبة، وبيع سحرية في الإسكندرية، وبيع الحبر هو سيل في القيروان. ثم اعتنق كل واحد من هؤلاء الأحبار، كما تقول الرواية، وأنشأ في المدينة التي بيع فيها مجمعاً علمياً. والشائع على الألسنة، وإن لم يكن هذا مؤكداً، أنهم كانوا من علماء سورا؛ وأياً كانت فقد نقلوا العلم من يهود الشرق إلى الغرب؛ وبينما كانت اليهودية في آسية آخذة في الضعف بدأت أيام عزها وسعادتها في مصر وأسبانيا.

ص: 47

الفصل الثاني

‌الجماعات اليهودية في أوربا

اتخذ اليهود طريقهم إلى بلاد الروسيا في العصور الوسطى من بابل وفارس مجتازين ما وراء جيحون والقوقاز، وإلى ساحل البحر الأسود من آسية الصغرى مجتازين القسطنطينية. وظل اليهود في تلك العاصمة يستمتعون بالرخاء النكد من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر. وكان في بلاد اليونان جماعات يهودية كبيرة وبخاصة في طيبة حيث كانت لمنسوجاتهم الحريرية شهرة عظيمة. وهاجر اليهود شمالاً إلى بلاد البلقان مجتازين تساليا وتراقية ومقدونية، ثم ساروا بمحاذاة نهر الدانوب إلى بلاد المجر. وجاءت حفنة من التجار العبرانيين من ألمانيا إلى بولندة في القرن العاشر لأن اليهود كانوا في ألمانيا من قبل ميلاد المسيح. فكان في متز Metz، واسبير Speyer، ومينز Mainz، وورمز Worms، واسترسبورج Strassbourg، وفرنكفورت Fraokfort، وكولوني جاليات يهودية كبيرة في القرن التاسع، وإن كانت هذه الجاليات قد شغلتها التجارة وما تستلزمه من كثرة الترحال فلم يكن لها شأن كبير في تاريخ اليهود الثقافي. ومع هذا فقد أنشأ جرشوم بن يهودا (960 - 1027) مجمعاً علمياً للأحبار في مينز وكتب بالعبرانية شرحاً للتلمود، وبلغ من سلطانه أن كان يهود ألمانيا يستفتونه فيما يعرض لهم من مسائل في شريعة التلمود بدل أن يستفتوا في ذلك جأونيم بابل.

وكان في إنجلترا يهود في عام 691 (13)، وجاء إليهم عدد آخر كبير منهم مع وليم الفاتح Willam the Conquelor، وبسط عليهم النورمان الفاتحون في أول الأمر حمايتهم لما كانوا يمدونهم به من رؤوس الأموال وما كانوا يقومون به من

ص: 48

جباية الإيراد. وكانت جماعاتهم المقيمة في لندن، وتورتش Norwch، ويورك، وغيرها من المراكز الإنجليزية خارجة عن اختصاص ولاة الأمور المحليين في شئونها القانونية، فكانت لا تخضع إلا للملوك أنفسهم. ووسعت هذه العزلة القضائية الهوة بين المسيحيين واليهود، وكانت سبباً من أسباب المذابح المدبرة التي حدثت في القرن الثاني عشر.

وكان في غالة تجار يهود من عهد يوليوس قيصر، وقبل أن يحل عام 600 بعد الميلاد وجدت جاليات يهودية في جميع المدن الكبرى في غالة؛ واضطهدهم الملوك المروفنجيون بوحشية، وأمرهم كلبريك Chilperic أن يعتنقوا الدين المسيحي على بكرة أبيهم وإلا فقأ أعينهم (581)(14)، أما شارلمان فإنه بسط عليهم حمايته لأنه وجد فيهم زراعاً، وصناعاً، وأطباء، ورجال مال نافعين، واختار يهوديا ليكون طبيبه الخاص، وإن كان قد أبقى على القوانين التي تحرم اليهود من بعض الحقوق التي يتمتع بها غيرهم. وتقول إحدى الروايات المشكوك في صحتها أنه استقدم في عام 787 أسرة فلونيموس Kalonymos من لكا Lucea إلى مينز ليشجع الدراسات اليهودية في دول الفرنجة، ثم أرسل في عام 797 يهودياً مترجماً أو مفسراً مع بعثة سياسية إلى هارون الرشيد. وكان لويس التقي Leuis the Pieus يميل إلى اليهود لعملهم في تنشيط التجارة؛ وعين موظفاً خاصاً للدفاع عن حقوقهم، واستمتع اليهود في فرنسا في القرنين التاسع والعاشر بقدر من الرخاء والطمأنينة لم يستمتعوا به بعدئذ قبل أيام الثورة الفرنسية؛ وذلك رغم ما كان يذاع ضدهم من الأقاصيص، وما يفرض عليهم من القيود الرومانية، وما يصيبهم أحياناً من الاضطهاد القليل (15) وكانت في إيطاليا من أقصاها إلى أقصاها جاليات يهودية منتشرة من تراني Trani إلى البندقية وميلان، وكان اليهود كثيرين في بدوا بنوع خاص، ولعلهم كان لهم أثر في نشر فلسفة ابن رشد في جامعتها. وكان في سالرنو Salerno، حيث أنشئت في البلاد المسيحية اللاتينية أولى مدارس الطب في

ص: 49

العصور الوسطى، ستمائة يهودي (16). ومنهم عدد من مشهوري الأطباء، وكان في بلاد فردريك الثاني في فجيا Foggia طائفة من العلماء اليهود، وعين البابا الكسندر الثالث (1159 - 1181) عدداً من اليهود في المناصب الكبرى في بيته (17)، ولكن فردريك اشترك مع البابا جريجوري التاسع في اتخاذ إجراءات ظالمة ضد يهود إيطاليا.

وكان يهود أسبانيا يلقبون أنفسهم سفرديم Sephardim، ويرجعون بأصولهم إلى قبيلة يهوذا الملكية

(1)

؛ ولما اعتنق الملك ريكارد Recared الدين المسيحي الأصيل، انضمت حكومة القوط الغربيين إلى رجال الدين الأقوياء أتباع الكنيسة الأسبانية في مضايقة اليهود وتنغيص حياتهم عليهم، فحرمت عليهم المناصب العامة، ومنعوا بالزواج من المسيحيات أو اقتناء أرقاء مسيحيين. وأمر الملك سيزبوت Sisebut جميع اليهود أن يعتنقوا المسيحية أو أن يخرجوا من البلاد (613)، وألغى الملك الذي خلفه على العرش هذا الأمر، ولكن مجلس طليطلة الذي عقد في عام 633 أصدر قراراً ينص على أن اليهود الذين عمدوا ثم عادوا إلى الدين اليهودي يجب أن يفصلوا عن أبنائهم، وأن يباعوا أرقاء. وأعاد الملك شنتيلا Chtntla العمل بمرسوم سيزبوت (635)؛ وحرم الملك إجيكا Egica على اليهود امتلاك الأراضي كما حرم على عمل مالي وتجاري بين أي مسيحي ويهودي (693). وكانت نتيجة هذا أن ساعد اليهود العرب حين جاءوا أسبانيا فاتحين في كل خطوة من خطوات الفتح.

(1)

يطلق اسم سفرد Sepharad في سفر عبدية (الكتاب الأول الفصل 20) على إقليم (لعله آسية الصغرى) نقل إليه الملك نبوخذنصر (597 ق. م) بعض اليهود، ثم أطلق هذا اللفظ بعدئذ على بلاد أسبانيا. وكان يهود ألمانيا يسمون تسمية غير دقيقة أشكنازيم لانتسابهم المزعوم إلى أشكنازيم Ashkenaz حفيد يافث بن نوح (سفر التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 3).

ص: 50

وأراد الفاتحون أن يعمروا البلاد فدعوا إلى الهجرة إليها، وقدم إليها فيمن قدم خمسون ألف يهودي من آسية وأفريقية (18)، وكاد سكان بعض المدن مثل أليسانة أن يكونوا كلهم من اليهود. ولما أن تحرر اليهود في أسبانيا الإسلامية من القيود المفروضة على نشاطهم الاقتصادي انتشروا في جميع ميادين الزراعة، والصناعة، والمال، والمناصب العامة، ولبسوا ثياب العرب، وتكلموا بلغتهم، واتبعوا عاداتهم، فلبسوا العمامة والأثواب الحريرية الفضفاضة، وركبوا العربات حتى أصبح من العسير تمييزهم من بني عمومتهم الساميين. واستخدم عدد من اليهود أطباء في بلاط الخلفاء والأمراء وعين أحد هؤلاء الأطباء مستشاراً لأعظم خليفة من خلفاء قرطبة.

فقد كان حسداي بن شبروط (915 - 970) بالنسبة لعبد الرحمن الثالث ما كانه نظام الملك في القرن التالي لملك شاه. وقد ولد حسداي في أسرة ابن عزرا المثرية المثقفة؛ وعلمه أبوه اللغات العبرية، والعربية، واللاتينية، ودرس الطب، وغيره من العلوم في قرطبة، وداوى الخليفة من أمراضه، وأظهر من واسع المعرفة وعظيم الحكمة في الأمور السياسية ما جعل الخليفة يعينه في الهيئة الدبلوماسية للدولة، ولما يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره كما يلوح. ثم عهدت إليه تباعاً أعمال أخرى ذات تبعات متزايدة في حياة الدولة المالية والتجارية. على أنه لم يكن له لقب رسمي لأن الخليفة تردد في منحه رسمياً لقب وزير خشية أن يثير عليه النفوس. ولكن حسداي قام بمهام منصبه الكثيرة بكياسة أكسبته محبه العرب، واليهود، والمسيحيين على السواء، وقد شجع العلوم والآداب، ومنح الطلاب الهبات المالية والكتب بلا ثمن، وجمع حوله ندوة من الشعراء، والعلماء، والفلاسفة، فلما مات تنافس المسلمون واليهود في تكريم ذكراه.

ص: 51

وكان ثمة رجال غيره في أنحاء أخرى من أسبانيا الإسلامية وإن لم يبلغوا ما بلغه. ففي أشبيلية دعا المعتمد إلى بلاطه إسحق بن بروك العالم والفلكي، ومنحه لقب أمير، وجعله حاخاماً أكبر لكل المجامع اليهودية فيها (19)؛ وفي غرناطة نافس شمويل هلوي ابن نجدلا Samuel Nalevi idn Naghdela حسداي ابن شبروط في سلطانه وحكمته وفاقه في عمله. وقد ولد شمويل في قرطبة عام 993 ونشأ فيها، وجمع بين دراسة التلمود والأدب العربي، وجمع بين هذين وبين الاتجار في التوابل. ولما أن سقطت قرطبة في أيدي البربر، انتقل إلى مالقة، وفيها زاد دخله القليل بكتابة العروض إلى ملك غرناطة. وأعجب وزير الملك بما كانت عليه هذه العروض من جمال الخط وحسب الأسلوب فزار شمويل، وصحبته إلى غرناطة، وأسكنه في قصر الحمراء، وجعله أمين سره. وما لبث شمويل أن أصبح أيضاً مستشاره، وكان مما قاله الوزير نفسه أنه إذا أشار شمويل بشيء فإن صوت الله يسمع فيما يشير به (20). وأوصى الوزير وهو على فراش الموت أن يخلفه شمويل، وبذلك أصبح شمويل في عام 1027 اليهودي الوحيد الذي شغل منصب وزير في دولة إسلامية وحظي بهذا اللقب. ومما يسر هذا الأمر في غرناطة أكثر منه في أي بلد آخر أن نصف سكان هذه المدينة في القرن الحادي عشر كانوا يهوداً (20). وسرعان ما رحب العرب بهذا الاختيار، لأن الدولة الصغيرة ازدهرت في عهد شمويل من النواحي المالية، والسياسية، والثقافية. وكان هو نفسه عالماً، وشاعراً، ونابغة في الفلك، والرياضة، واللغات، يعرف سبعاً منها، وقد ألف عشرين رسالة في النحو (معظمها بالعبرية) وعدة مجلدات في الشعر والفلسفة، ومقدمة للتلمود، ومجموعة من الأدب العبري. وكان يقتسم ماله مع غيره من الشعراء، وأنجد الشاعر والفيلسوف ابن جبيرول، وأمد بالمال طائفة من شباب الطلاّب، وأعان الجماعات اليهودية في قارات ثلاث وكان وهو وزير الملك حاخاماً لليهود يحاضر عن التلمود. ولقبه بنو ملته-اعترافاً منهم

ص: 52

بفضله-بالنجيد-الأمير (في إسرائيل). ولما توفي عام 1055 خلفه في الوزارة، والنجادة ابنه يوسف بن نجدلا.

وكانت هذه القرون الثلاثة-العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، هي العصر الذهبي ليهود أسبانيا، وأسعد عصور التاريخ العبري الوسيط، وأعظمها ثمرة. ولما أن افتدى موسى بن شنوك (المتوفي عام 975 وأحد المهاجرين من باري) من الأسر في قرطبة، أنشأ فيها بمجموعة حسداي مجمعاً علمياً، ما لبث أن أصبحت له الزعامة الفعلية على يهود العالم كله. وافتتحت مجامع مثله في أليسانة، وطليطلة، وبرشلونة، وغرناطة

، وبينما كانت المدارس اليهودية في الشرق تقصر نشاطها على التعليم الديني، كانت هذه المدارس الأسبانية تعلم فيما تعلمه الأدب. والموسيقى، والرياضيات، والهيئة، والطب، والفلسفة (21). وبفضل هذا التعليم نالت الطبقات العليا من يهود أسبانيا في ذلك الوقت سعة وعمقاً في الثقافة والظرف لم ينلهما إلا معاصروهم من المسلمين، والبيزنطيين، والصينيين. وكان مما يسربل الرجل المؤثر أو صاحت المركز السياسي بالعار ألا يلم بالتاريخ، والعلوم الطبيعية، والفلسفة، والشعر (22). ونشأت في ذلك الوقت أرستقراطية يهودية تزدان بما فيها من النساء الحسان، ولعلها قد أفرطت في الاعتداء بتفوقها على غيرها، ولكن كان يقابل هذا الاعتداد ويخفف من وقعه اعتقادها أن شرف المحتد وكثرة الثراء يفرضان على صاحبهما واجبات من السخاء والفضل.

ويمكننا أن نؤرخ بداية تدهور يهود أسبانيا من سقوط يوسف بن نجدلا. ذلك أنه كان يخدم الملك بكفاية لا تكاد تقل عن كفاية أبيه، ولكنه لم يكن له كما كان لأبيه من تواضع وكياسة جعلتا سكان البلاد-ونصفهم من المسلمين الأندلسيين-يرتضون أن يتولى أمورهم يهودي. من ذلك أنه جمع السلطة كلها في يده، وتشبه بالملك في لباسه، وسخر من القرآن، وتحدث الناس بأنه لا يؤمن

ص: 53

بالله. ولهذا ثار العرب والبربر في عام 1066 وصلبوا يوسف، وذبحوا أربعة آلاف من يهود غرناطة، ونهبوا بيوتهم، وأرغم الباقون من اليهود على بيع أراضيهم ومغادرة البلاد. وجاء المرابطون من أفريقية بعد عشرين عاماً من ذلك الوقت متأججة صدورهم بالحماسة الدينية ومتمسكين بأصول السنة، وانتهى بقدومهم عصر أسبانيا الإسلامية الزاهر الطويل الأمد. ونادى أحد رجال الدين من المسلمين أن اليهود قد وعدوا النبي بأن يعتنقوا الإسلام بعد خمسمائة عام من الهجرة، إذا لم يظهر في ذلك الوقت مسيحهم المنقذ المنتظر، وأن هذه الأعوام الخمسمائة تنتهي بالحساب الهجري في عام 1107، وطلب الأمير يوسف إلى جميع يهود أسبانيا أن يعتنقوا الإسلام، ولكنه أعفاهم من هذا الأمر حين أدوا لبيت المال مبالغ طائلة (23). ولما خلف الموحدون المرابطين في حكم مراكش وبلاد لندلس الإسلامية (1148)، خيروا اليهود والمسيحيين كما خير الملك سيزبوت اليهود قبل خمسمائة وخمسة وثلاثين عاماً من ذلك الوقت بين الارتداد عن دينهم أو الخروج من البلاد. وتظاهر الكثيرون من اليهود باعتناق الإسلام، وهاجر كثيرون منهم مع المسيحيين إلى شمالي أسبانيا.

وهنا وجد اليهود في بادئ الأمر من التسامح العظيم ما لا يقل جلالاً عما ظلموا يلقونه مدى أربعة قرون تحت حكم المسلمين. وأحسن الفنسو السادس والسابع ملكا قشتالة (الأذفونش) معاملة اليهود، وجعلاهم هم والمسيحيين سواء أمام القانون، ولما قامت حركة مناهضة للسامية (1107) في طليطلة، حيث كان 72. 000 يهودي، قمعها بصرامة (24). وحدث أرغونة مثل هذا التآلف بين الديانتين، الأم والابنة، وبلغ من هذا التآلف أن دعا الملك جيمس الأول اليهود أن ستوطنوا ميورقة، وقطلونية، وبلنسية، وكثيراً ما كان يمنح المستوطنين اليهود بيوتاً وأرضين من غير ثمن (25). وكانت لهم في برشلونة السيطرة على التجارة في القرن الثاني عشر، كما كان لهم نصف أراضيها الزراعية (26). نعم إن يهود

ص: 54

أسبانيا قد فرضت عليهم ضرائب باهظة، ولكنهم مع ذلك أثروا، واستمتعوا فيها بالاستقلال في شئونهم الداخلية. وكانت التجارة تتبادل بحرية بين المسيحيين واليهود والمسلمين الأندلسيين، وكان بنو الأديان الثلاثة يتبادلون الهدايا في الأعياد، وكان بعض الملوك من إلى حين يشترك بالمال في بناء المعابد اليهودية (27)، وكان في وسع الإنسان أن يجد بين عامي 1085 و 1492 يهودا يشغلون المناصب الكبرى في دول أسبانيا المسيحية منهم القائمون على شئون المال ومنهم الدبلوماسيين، ومنهم الوزراء أحياناً (28). واشترك رجال الدين المسيحيون في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في هذه الألفة المسيحية (29).

وكانت بداية عدم التسامح الديني بين اليهود أنفسهم. ذلك أن يهودا ابن عزرا المتولي شئون قصر الفنسو السابع ملك ليون وقشتالة وجه في عام 1149 قوة حكومة ملكية ضد اليهود القرائين في طليطلة. ولسنا نعرف تفاصيل ما حدث وقتئذ، ولكن اليهود القرائين الأسبان الذي كانوا إلى ذلك الحين طائفة كبيرة لم يعد يسمع لهم خبر (30). ودخل بعض الصليبيين أسبانيا في عام 1212 ليساعدوا أهلها على طرد المسلمين منها، وكانوا في أغلب الأحوال يحسنون معاملة اليهود؛ ولما أن اعتدت طائفة منهم على يهود طليطلة وقتلت كثيرين منهم، هب أهل المدينة المسيحيون للدفاع عن مواطنيهم، ووضعوا حداً لاضطهادهم (31)؛ وأدخل الفنسو العاشر ملك قشتالة بعض المواد المجحفة باليهود في قانونه الصادر عام 1265، ولكن هذا القانون لم يطبق حتى عام 1348، وكان ألفنسو في ذلك الوقت يستخدم طبيباً وخازناً لبيت المال يهودياً، واهدى إلى يهود إشبيلية ثلاثة من مساجد المسلمين ليجعلوها معابد لهم (32). واستمتع بما خلعه العلماء اليهود والمسلمون على حكمه اللطيف من مجد. ولما احتاجت مغامرات بدرو الثالث Pedro ملك أرغونة إلى فرض الضرائب الفادحة على رعاياه، كان وزير ماليته وعدد آخر من موظفيه يهودا، ولما ثار أعيان البلاد ومدنها على الملكية، اضطر الملك

ص: 55

إلى إقصاء أعوانه اليهود عن مناصب الدولة، وتوقيع قرار أصدره مجلس الكورتير Cortes (1283) بألا يعين بعد ذلك الوقت أي يهودي في المناصب الحكومية.

وكانت خاتمة عهد التسامح الديني حين أصدر مجلس زمورا Zmora الديني (1313) قراراً بأن يلبس اليهود شارة تميزهم من غيرهم، وألا يختلط اليهود بالمسيحيين، ويحرم على المسيحيين استخدام أطباء من اليهود وعلى اليهود أن يكون لهم خدم مسيحيون (33).

ص: 56

الفصل الثالث

‌الحياة اليهودية في البلاد المسيحية

‌1 - الحكومة

لم تحتم المدن المسيحية في العصور الوسطى-إذا استثنينا بالرم وقليلاً من المدن الأسبانية-أن يعيش من فيها من اليهود منعزلين عن سائر السكان. لكن اليهود كانوا في العادة يعيشون في عزلة اختيارية عن غيرهم من الأهلين لتيسر لهم هذه العزلة حياتهم الاجتماعية وسلامتهم الجسمية ووحدتهم الدينية. وكان كنيسهم مركز الحي اليهودي الجغرافي، والاجتماعي، والاقتصادي، يجتذب إليه معظم مساكن اليهود، ولهذا ازدحمت المساكن حوله ازدحاماً كبيراً، وأضر ذلك الازدحام بالصحة العامة والخاصة. وكانت الأحياء اليهودية في أسبانيا تحتوي على مساكن جميلة وعمارات كما تحتوي على أكواخ قذرة، أما في غيرها من بلاد أوربا فكادت المساكن أن تكون أحياء قذرة وبيئة مزدحمة بالسكان (34).

وكانت الجماعات اليهودية طوائف منعزلة شيه ديمقراطية وسط عالم ملكي مطلق، إذا استثنينا من هذا التعميم ما للثراء من أثر في الانتخابات وفي الاختيار للوظائف في جميع أنحاء العالم. وكان دافعوا الضرائب من الجماعات اليهودية يختارون أحبار الكنيس وموظفيه. وكانت فئة قليلة العدد من الكبار المنتخبين تكون بيت الدين أو المحكمة الشعبية، وهذه المحكمة هي التي كانت تجبي الضرائب، وتحدد الأثمان، وتتولى القضاء، وتصدره القرارات الخاصة بالطعام، والرقص، والأخلاق، والملبس، ولم تكن هذه القرارات تطاع على الدوام. وكان من حقها

ص: 57

أن تحاكم من يعتدون على القانون اليهودي من اليهود أنفسهم، وكان لها موظفون ينفذون أوامرها، وكانت العقوبات التي توقعها تختلف من الغرامات إلى الحرمان الديني أو التقي، وقلّما كان الحكم بالإعدام من اختصاص بيت الدين أو كان من العقوبات التي توقعها، وكانت المحكمة اليهودية تستعيض عن هذا الإعدام بالحرمان التام؛ يصدر في احتفال فخم مرعب توجه فيه التهم، وتصب فيه اللعنات، وتطفأ فيه الشموع واحدة بعد واحدة رمزاً إلى موت المجرم الروحي. وكان اليهود يسرفون في استخدام الحرمان، كما كان يفرط فيه المسيحيون، ولهذا فقدت هذه العقوبة ما كان لها من رهبة وتأثير. وكان رؤساء اليهود الدينيون-كما كان رؤساء الكنيسة المسيحيون-يضطهدون الملاحدة، ويحرمونهم من حماية القانون، ويحرقون كتبهم في حالات نادرة (35).

ولم تكن الجماعات اليهودية في الأحوال العادية خاضعة للسلطات المحلية وكان سيدها الوحيد هو الملك، تؤدي إليه الماء بسخاء لتبتاع منه الميثاق الذي يحمي حقوقها الدينية والاقتصادية؛ وكان فيما بعد تؤدي المال إلى الحكومات المحلية المحررة لتؤيد استقلال اليهود الذاتي بشئونهم الداخلية. إلا أن اليهود مع ذلك، كانوا يخضعون لقوانين الدولة، وجعلوا طاعة هذه القوانين مبدأ من مبادئهم الواجبة الطاعة، وقد ورد في التلمود أن "قانون البلد شريعة"(36)، وتقول إحدى فقراته:"صلوا لسلامة الحكومة، فلولا خوف الناس منها لابتلع بعضهم بعضاً"(37).

وكانت الدولة تجبي من اليهود "الفرضة" أو ضريبة الرءوس، وعوائد الأملاك، وكانت تصل أحياناً إلى 33% من قيمتها، وضرائب على اللحم، والخمور، والحلي، والواردات، والصادرات، فضلاً عن التبرعات "الاختيارية" للمساعدة على تمويل الحروب، أو تتويج الملوك، أو "مقدمهم" أو رحلاتهم. وكان اليهود الإنجليز البالغ عددهم في القرن الثاني عشر 1 slash 4 % في المائة من السكان

ص: 58

يؤدون للدولة 8% من الضرائب العامة. وقد أدوا هم ربع ما جمع من المال لحرب رتشارد الأول الصليبية، وأدوا فيما بينهم 5000 مارك ليفتدوه من أسر الألمان وهو ثلاثة أمثال ما أدته مدينة لندن (38). كذلك كانت الهيئات اليهودية تفرض ضرائب أخرى على اليهود، كما كان يطلب إليهم من حين إلى حين صدقات وإعانات للتعليم ولمساعد اليهود المضطهدين في فلسطين. وكان الملك في أي وقت من الأوقات يصادر أملاك "يهوده" بعضها أو كلها لسبب أو لغير سبب؛ ونقول يهوده لأنهم كانوا جميعاً بمقتضى قانون الإقطاع "رجال" الملك. وكان الملك إذا مات ينتهي العهد الذي قطعه بحماية اليهود، ولم يكن من يخلفه على العرش يرضى بأن يجدد العهد إلا إذا قدم إليه قدر كبير من المال، قد يبلغ في بعض الأحيان ثلث جميع ما يمتلكه اليهود في الدولة (39). من ذلك ما فعله ألبرخت الثالث Albrecht lll مارجريف برندبرج Margrave of Brander burg في عام 1463 إذ أعلن أن كل ملك ألماني جديد "يجوز له، عملاً بالسنن القديمة، إما أن يحرق جميع اليهود، أو يظهر لهم رحمته، فينقذ حياتهم، ويأخذ ثلث أملاكهم"(40) ولقد لخص براكتن Bracton كبير المشترعين اليهود في القرن الثالث عشر هذه النقطة بعبارة موجزة فقال: "ليس من حق اليهودي أن يكون له ملك خاص، لأن ما يحصل عليه أياً كان نوعه لا يحصل عليه لنفسه بل للمِلك"(41).

‌2 - الشئون الاقتصادية

وكانت هناك فضلاً عن هذه المتاعب السياسية قيود اقتصادية. نعم إن اليهود لم يكونوا يمنعون بحكم القانون من تملك العقار، ولم يكونوا يمنعون من تملكه بوجه عام، وقد كانوا في أوقات مختلفة في العصور الوسطى يمتلكون أراضي واسعة في بلاد الأندلس الإسلامية وأسبانيا المسيحية، وفي صقلية، وسيليزيا، وبولندة،

ص: 59

وإنجلترا، وفرنسا (42)؛ ولكن ظروف الحياة جعلت هذا التملك أمراً غير ميسر من الوجهة العلمية يزداد صعوبة على مر الأيام. ذلك أن اليهودي، وقد حرمت عليه الشريعة المسيحية أن يستأجر أرقاء مسيحيين، وحرمت عليه الشريعة اليهودية أن يستأجر أرقاء من اليهود، لم يكن أمامه إلا أن يفلح أرضه باستئجار عمال أحرار يصعب الحصول عليهم ويتطلب الاحتفاظ بهم نفقات طائلة. يضاف إلى هذا أن الشريعة اليهودية تحرم على اليهودي أن يعمل في يوم السبت، وأن الشريعة المسيحية كانت عادة تمنعه عن العمل في يوم الأحد، وكان هذا التعطل عقبة كبيرة في سبيله؛ وكانت العادات أو القوانين الإقطاعية تجعل من المستحيل على اليهودي أن يكون له منزلة في النظام الاقتصادي لأن هذه المنزلة تتطلب منه أن يقسم يمين الولاء للمسيحية، وأن يقوم بالخدمة العسكرية، مع أن شرائع الدول المسيحية كلها تقريباً تحرم على اليهود حمل السلاح (43). ولما حكم القوط الغربيون أسبانيا ألغى الملك سيزبوت جميع ما منحه أسلافه من الأرض لليهود، "وأمم" الملك إيجيكا جميع أملاك اليهود التي كانت ملكاً للمسيحيين في أي وقت من الأوقات، وفي تمام 1293 حرم مجلس الكورتيز في بلد الوليد بيع الأراضي لليهود؛ وفوق هذا كله فإن ما كان يتعرض له اليهود في كل وقت من الأوقات من احتمال طردهم من البلاد، أو مهاجمتهم، قد أقنعهم بعد القرن التاسع أن يتجنبوا امتلاك الأرضين أو العيش في الريف. كل هذه الصعاب ثبطت همة اليهود في الاشتغال بالزراعة ومالت بهم إلى حياة الحضر، وإلى العمل في الصناعة والتجارة والشئون المالية.

ونشط اليهود في الشرق الأدنى وجنوبي أوربا في الصناعة، والحق أن اليهود كانوا في معظم الأحوال هم الذين أدخلوا الفن الصناعي الراقي من بلاد الإسلام إلى بيزنطية وإلى البلاد الغربية، ولقد وجد بنيامين التطيلي Beniamin of Tudela مئات من صانعي الزجاج في إنطاكية، وصور؛ واشتهر اليهود في مصر وبلاد

ص: 60

اليونان بجمال منسوجاتهم المصبوغة والمطرزة وتفوقها على سائر المنسوجات من نوعها، وكان فردريك الثاني في القرن الثالث عشر لا بعد يستقدم إلى بلاده الصناع اليهود ليشرفوا على صناعة نسيج الحرير التابعة للدولة في صقلية. وكان اليهود في تلك الجزيرة وفي غيرها من البلاد يشتغلون في الصناعات المعدنية وبخاصة في الصباغة وصناعة الحلي، وظلوا يعملون في مناجم القصدير في كورونوول إلى عام 1290 (44). وانتظم الصناع العبرانيون في أوربا الجنوبية في طوائف للحروف قوية، وكانوا ينافسون الصناع المسيحيين منافسة شديدة، أما في أوربا الشمالية فقد احتكرت طوائف أرباب الحرف المسيحية كثيراً من الصناعات؛ وأخذت الدول المختلفة واحدة في إثر واحدة تحرم على اليهود الاشتغال حدادين، ونجارين، وخياطين، وحذائين، وطحانين، وخبازين، وأطباء؛ كما حرمت عليهم بيع الخمور، والدقيق، والزبد، والزيت في الأسواق (45)، وابتياع مساكن لأنفسهم في أي مكان خارج عن الأحياء اليهودية.

وإزاء هذه القيود الثقيلة لجأ اليهود إلى التجارة وكان رب Rab، العالم التلمودي البابلي، قد وضع لبني ملته شعاراً يدل على ثاقب فكره:"تاجر بمائة فلورين تحصل على لحم وخمر؛ أما إن استغلت هذا القدر نفسه في الزراعة فأكبر ما تحصل عليه هو الخبز والملح"(46). وكان البائع اليهودي الجائل معروفاً في كل مدينة وبلدة، والتاجر اليهودي معروفاً في كل سوق ومولد؛ وكانت التجارة الدولية عملاً تخصصوا فيه، وكادوا أن يحتكروه قبل القرن الحادي عشر، فكانت أحمالهم، وقوافلهم، وسفائنهم تجتاز الصحراوات، والجبال، والبحار، وكانوا في معظم الحالات يصبحون بضائعهم. وكانوا هم حلقة الاتصال التجاري بين بلاد المسيحية والإسلام، وبين أوربا وآسية، وبين الصقالبة والدول الغربية؛ وكانوا هم القائمين بمعظم تجارة الرقيق (47)؛ وكان يعينهم على النجاح في التجارة مهارتهم في تعلم اللغات، وقدرة الجماعات اليهودية البعيدة بعضها عن بعض على

ص: 61

فهم اللغة العربية، وتشابه عادات اليهود وقوانينهم، واستضافة الحي اليهودي في كل مدينة لأي يهودي غريب. ولهذا استطاع بنيامين التطيلي أن يجتاز نصف العالم وأن يجد له أينما حل موطناً. ويحدثنا ابن خرداذبة صاحب البريد في الدولة العباسية عام 870 في كتابه المسالك والممالك عن التجار اليهود الذين يتكلمون اللغات الفارسية، واليونانية، والعربية، والفرنجية، والإسبانية، والصقلية، ويصف المسالك البرية والبحرية التي ينتقلون بها من أسبانيا وإيطاليا إلى مصر، والهند، والصين (48). وكان هؤلاء التجار يحملون الخصيان، والعبيد، والحرير المطرز، والفراء، والسيوف إلى بلاد الشرق الأقصى، ويعودون منها بالمسك، والند، والكافور، والتوابل، والمنسوجات الحريرية (49). ثم كان استيلاء الصليبيين على بيت المقدس، واستيلاء أساطيل البندقية وجنوى على بلاد البحر المتوسط، فأصبحت للتجار الإيطاليين ميزة على اليهود، وقضى في القرن الحادي عشر على زعامة اليهودي التجارية. وكانت مدينة البندقية قد حرمت حتى قبل الحروب الصليبية نقل التجار اليهود على سفنها، ولم يمض بعد ذلك إلا قليل من الوقت حتى أغلقت عصبة المدن الهلسية The Hansatic League موانيها الواقعة على بحر الشمال والبحر البلطي في وجه التجارة اليهودية (50)، وقبل أن يحل القرن الثاني عشر أضحى الجزء الأكبر من التجارة اليهودية تجارة محلية، وكانت هذه التجارة حتى في هذا المجال الضيق تحددها القوانين التي تحرم على اليهود أن يبيعوا عدة أنواع من السلع (51).

فلم يكن لهم بد من العودة إلى شئون المال. ذلك أنهم وجدوا أنفسهم في بيئة معادية لهم معرضين لأن يتلف عنف الجماهير أملاكهم الثابتة، أو أن يصادرها الملوك الجشعون، فأرغمتهم هذه الظروف على أن يجعلوا مدخراتهم من النوع السائل السهل التحرك؛ فعمدوا أولاً غلى ذلك العمل السهل وهو مبادلة النقد، ثم انتقلوا منه إلى تلقي المال لاستثماره في التجارة؛ ثم إلى إقراض المال بالربا.

ص: 62

وكانت أسفار موسى (52) والتلمود (53) قد حرمت التعامل بالربا بين اليهود أنفسهم ولكنها لم تحرمه بين اليهودي وغير اليهودي. ولما أضحت الحياة الاقتصادية أشد تعقيداً مما كانت قبل، وصارت الحاجة إلى تمويل المشروعات أشد إلحاحاً نظراً لاتساع نطاق التجارة والصناعة، أخذ اليهود يقرض بعضهم بعضاً المال عن طريق وسيط مسيحي (54) أو عن طريق جعل صاحب المال شريكاً موصياً

(1)

في المشروع وأرباحه-وهي وسيلة أجازها أحبار اليهود، وعدد كبير من رجال الدين المسيحيين (55). وإذ كان القرآن وكانت الكنيسة المسيحية يحرمان الربا، وكان المقرضون المسيحيون لهذا السبب نادري الوجود قبل القرن الثالث عشر، فإن المقترضين المسلمين والمسيحيين-ومنهم رجال الدين المسيحيون، والكنائس والأديرة (56) -كان هؤلاء المقترضون يلجئون إلى اليهود ليقرضوهم ما يحتاجونه من المال. وحسبنا دليلاً على هذا أن هارون اللنكلني Aaron of Lincoln هو الذي قدم ما يلزم من المال لبناء تسعة أديرة سترسيه Cistercian، وبناء دير سانت أولبنز St. Albans (57) العظيم. ثم غزا رجال المصارف المسيحيون هذا الميدان في القرن الثالث عشر، واستعانوا بالوسائل التي أوجدها وسار عليها اليهود، وما لبثوا أن تفوقوا عليهم في الثراء واتساع نطاق الأعمال. "ولم يكن المرابي المسيحي أقل صرامة" من زميله اليهودي "وإن لم يكن أولهما في حاجة إلى حماية نفسه بالقدر الذي يحتاجه الثاني من خطر القتل والسلب والنهب"(58) فكان كلاهما يشدد النكير عن المدين بما عرف عن الدائنين الرومان من القسوة، وكان الملاك يستغلونهم جميعاً لمصلحتهم الخاصة.

فكان المرابون جميعاً تفرض عليهم ضرائب باهظة، وكان اليهود منهم يتعرضان من حين إلى حين إلى مصادرة أموالهم بأجمعها. وقد سار الملوك على سنة

(1)

الشريك الموصي هو الذي يشترك بالمال لا بالعمل وينال نصيباً من الربح إذا كسبت التجارة ولا يخسر شيئاً من ماله إذا لم تربح، ويسميه أهل الريف في مصر الشريك المرفوع. (المترجم)

ص: 63

السماح للمرابين بأن يتقاضوا رباً فاحشاً، ثم يلجئون من حين إلى حين إلى اعتصار هذه المكاسب من أصحاب المال. وكان المرابون يتحملون نفقات كبيرة في سبيل الحصول على أموالهم، وكثيراً ما كان الدائن يضطر إلى أداء الرشا للموظفين لكي يسمحوا له بالحصول على ما ماله (59). وحدث في عام 1198 حين كانت أوربا تستعد للحرب الصليبية الرابعة أن أمر البابا إنوسنت الثالث Innocent III جميع الأمراء المسيحيين بإلغاء جميع فوائد القروض التي يطالب بها اليهود مدينيهم المسيحيين (60). وأعنى لويس التاسع، ملك فرنسا القديس، جميع رعاياه من ثلث ما كانوا مدينين به لليهود لكي "يستنزل الرحمة على روحه وروح أسلافه"(61). وكان ملوك الإنجليز في بعض الظروف يصدرون خطابات إعفاء-يلغون بمقتضاها فائدة الدين أو رأس المال أو كليهما لرعاياهم-المدينين لليهود. ولم يكن من النادر أن يبيع الملوك هذه الخطابات، وأن يدونوا في سجلاتهم المبالغ التي حصلوا عليها نظير وساطتهم في هذا البر بالإنسانية (62). وكانت الحكومة البريطانية تطلب أن ترسل إليها صورة من كل تعاقد على قرض، وأنشأت ديواناً خاصاً باليهود يجمع هذه العقود، ويراقبها، ويستمع غلى القضايا الخاصة بها؛ فإذا ما عجز صاحب مصرف يهودي عن أداء الضرائب أو المطالب المفروضة عليه، رجعت الحكومة إلى ما لديها من سجلات عن قروضه، وصادرتها كلها أو بعضها، وأنذرت مدينيه بأن يؤدوا إليها هي لا إليه ما عليهم من الديون (63). ولما أن فرض هنري الثاني على سكان إنجلترا ضريبة خاصة في عام 1187، أرغم اليهود على أداء ربع أملاكهم، والمسيحيون على عشرها، وبذلك أدى اليهود وحدهم ما يقرب من نصف الضريبة كلها (64). وكان اليهود في بعض الأحيان "هم الذين يمولون المملكة"(65). وأمر الملك يوحنا في عام 1210 أن يزج في السجون يهود إنجلترا على بكرة أبيهم-رجالاً كانوا أو نساءً أو أطفالاً-ثم جمعت منهم ضريبة للملك بلغت 66. 000 مارك (66)،

ص: 64

وعذّب الذين ظنوا أنهم لم يبوحوا بكل ما كان لديهم من أموال مكنوزة بأن اقتلعت سن من أسنانهم كل يوم حتى يقرروا بحقيقة مدخراتهم (67). وفي عام 1230 اتهم هنري الثالث اليهود بقطع جزء من عملة الدولة (ويبدو أن بعضهم قد فعل ذلك حقاً)، فصادر ثلث ما يمتلكه يهود إنجلترا من ثروة منقولة، ولما تبين أن هذه الوسيلة مربحة، أعيدت في عام 1231؛ وبعد عامين من ذلك التاريخ انتزع اليهود 20. 000 مارك فضي، ثم انتزع منهم في عام 1244 ستون ألف مارك

(1)

- وهو مبلغ يوازي مجموع إيرادات التاج البريطاني السنوية. ولما استدان هنري الثالث 5000 مارك من دوق كورنوول رهن له جميع يهود إنجلترا ضماناً لدينه (68). وتوالت على اليهود فيما بين عامي 1252 و 1255 سلسلة من القروض المالية دفعتهم إلى حال من اليأس لم يروا معها بداً من أن يطلبوا أن يؤذن لهم بمغادرة إنجلترا جملة، ولكن طلبهم هذا لم يلق قبولاً (69). وحرم إدوارد الأول في عام 1275 التعامل بالربا تحريماً باتاً، ولكن الانقطاع لم ينقطع رغم هذا التحريم. وإذا كان خطر ضياع المال قد أزاد بسببه، فقد ارتفع سعر الفائدة، ولذلك أمر إدورد بالقبض على جميع اليهود ومصادرة جميع أملاكهم؛ وقبض كذلك على كثيرين من المرابين المسيحيين وشنق ثلاثة منهم. أما اليهود فإن مائتين وثمانين منهم قد شنقوا، وطيف بجثثهم في شوارع لندن ثم مزقت، وقتل عدد آخر منهم في المقاطعات الإنجليزية. وصودرت أملاك مئات منهم لصالح الدولة (70).

وأثرى أصحاب المصارف اليهود في الفترات القلقة التي تخللت أوقات المصادرة، وظهرت علائم الثراء المفرط على بعضهم أكثر مما يجب أن تظهر؛ فلم يقتصروا على تقديم المال اللازم لبناء القصور، والكنائس الكبرى، والأديرة،

(1)

كذلك المارك نصف رطل من الفضة، أما قيمته الشرائية فأكبر الظن أنها كانت تعدل قيمته في هذه الأيام خمسين مرة (8. 40 دولار أمريكي).

ص: 65

بل شادوا لأنفسهم فوق ذلك بيوتاً فخمة، فكانت تلك البيوت في إنجلترا من أول ما بني من البيوت بالحجارة. وكان بين اليهود أغنياء وفقراء على الرغم من قول إلعزر:"الناس كلهم أكفاء عند الله-النساء والعبيد، والأغنياء والفقراء"(71). وحاول رجال الدين أن يخففوا الفقر، وأن يمنعوا الاستغلال الجشع للمال بوضع عدة نظم اقتصادية مختلفة، فأخذوا يؤكدون ما على الجماعة من تبعات لجميع أفرادها، وخففوا آلام الشدائد بالصدقات المنظمة؛ نعم إنهم لم ينددوا بالغنى، ولكنهم أفلحوا في رفع مكانة العلم حتى سلوت مكانة الثراء؛ ووسموا الاحتكار والائتمار على التحكم في الأسعار بميسم الخطايا (72). وحرموا على بائع الأشتات أن يكسب أكثر من سدس ثمن الجملة (73)؛ وكانوا يراقبون الموازين والمقاييس، ويحددون أقصى الأثمان وأقل الأجور؛ لكن كثيراً من هذه النظم. قد عجزت عن تحقيق الغرض المقصود منها، لأن رجال الدين لم يستطيعوا فصل حياة اليهود الاقتصادية عن حياة جيرانهم في البلاد الإسلامية أو المسيحية، ووجد قانون العرض والطلب في السلع والخدمات له طريقاً ينفذ منها حول جميع التشريعات.

‌3 - الأخلاق

وحاول الأغنياء أن يكفروا عن ثرائهم بالصدقات الكثيرة، فكانوا يقرن يما على الثراء من واجبات اجتماعية، ولعلهم أيضاً خافوا ثورة الفقراء أو لعنهم فلم يعرف قط أن يهودياً مات من الجوع وهو يعيش في بيئة يهودية (75). ومن بداية القرن الثاني المسيحي كان مشرفون رسميون يفرضون في فترات محددة على كل فرد من أفراد العشيرة اليهودية مهما يكن فقيراً أن يكتتب بشيء من ماله "لصندوق العشيرة" الذي يعني بالشيوخ، والفقراء، والمرضى، وبتعليم اليتامى وزواجهم. وكانت واجبات الضيافة تقدم بالمجان وبخاصة للعلماء الجائلين. وفي

ص: 66

بعض الجماعات كان المسافرون اليهود إذا قدموا على بلد آواهم موظفون من الجماعات اليهودية في بيوت الأفراد اليهود. وزاد عدد الجمعيات الخيرية اليهودية زيادة كبيرة كلما تقدمت العصور الوسطى، فلم تكن هناك فقط كثير من المستشفيات، وملاجئ للأيتام وبيوت للفقراء والطاعنين في السن، بل كانت هناك أيضاً منظمات تؤدي أموال الفداء للمسجونين، وبائنات للعرائس الفقيرات، وأجور الأطباء للمرضى، وتعني بالأرامل المعدمات، وتدفن الموتى من غير أجر (77). وكان المسيحيون يشكون من شره اليهود ويحاولون أن يثيروا حماسة المسيحيين للصدقة بأن يضربوا لهم أمثلة من اليهود (78).

وكانت الفروق بين الطبقات عند اليهود تظهر في ثيابهم، وطعامهم، حديثهم وفي مائة أخرى من أساليب حياتهم. فكان اليهودي البسيط يلبس قفطاناً طويل الكمين فوقه حزام، وكان أسود اللون في العادة، كأنه رمز للحزن على هيكله المهدم وعلى بلاده، لكن أثرياء اليهود في أسبانيا كانوا يظهرون ثرائهم بلبس الثياب الحريرية، وطالما حذرهم الفقراء دون جدوى من أثر هذا التظاهر في إثارة البغضاء والأحقاد. ولما أن حرم ملك قشتالة هذا التجمل في الملبس أطاع الرجال اليهود أمره ولكنهم ظلوا يلبسون أزواجهم أفخر الثياب؛ ولما أن سألهم الملك في ذلك أكدوا له أن الشهامة الملكية لم تكن تقصد قط أن يطبق هذا القيد على النساء (79)، وظل اليهود طوال العصور الوسطى يجملون نساءهم بفاخر الثياب ولكنهم حرموا عليهن أن يظهرن أمام الجماهير عاريات الرأس، وأنذروهن بأن مخالفة هذا الأمر تصبح سبباً للطلاق، وأمر اليهودي أن لا يصلي في حضرة امرأة يرى الناس شعرها (80).

وكانت نواحي التلمود المنصلة بالقوانين الصحية مما خفف من آثار الازدحام في أحياء المدن؛ فعملية الختان، والاستحمام كل أسبوع، وتحريم الخمر وأكل اللحم الفاسد، كلها وسائل وقت اليهود شراً الأمراض المنتشرة في البيئات المسيحية

ص: 67

المجاورة لهم أكثر من غيرهم من السكان (81). مثال ذلك أن الجذام كان منتشراً بين فقراء المسيحيين الذين يأكلون اللحم أو السمك المملح، ولكنه كان نادر الحدوث بين اليهود؛ ولعل هذه الأسباب نفسها هي التي جعلت إصابة اليهود بالكوليرا وما شابهها من الأوبئة أقل من إصابة المسيحيين (82). لكن اليهود والمسيحيين على السواء كانوا يعانون الأمرين من الملاريا في أحياء روما القذرة الموبوءة بالبعوض من منافع كمبانيا Campagna.

وكانت حياة اليهودي تنعكس عليها من الناحية الأخلاقية تراثه الشرقي والقيود التي يفرضها عليه الأوربيون؛ ففي كل مناحي الحياة حقوق له مهضومة، وأمواله معرضة للنهب وحياته للخطر والإذلال، يتهم بجرائم ليست له يد فيها، ولهذا كله لجأ كما يلجأ الضعيف الجسم في كل مكان إلى الدهاء يتقي به الأذى. نعم إن أحبار اليهود كانوا ينادون في كل حين أن خداع "غير اليهودي شر من خداع اليهودي نفسه (83) "؛ ولكن بعض اليهود كانوا يخالفون هذه النصيحة (84)؛ ولعل المسيحيين أيضاً كانوا يخادعون بكل ما يعرفونه من خداع. فرجال المصارف اليهود منهم والمسيحيون لم يكونوا يرحمون مدينيهم بل كانوا يتقاضون منهم كل ما عليهم من ديون، وإن كنا لا ننكر أنه كان في العصور الوسطى، كما كان في القرن الثامن عشر، دائنون لا يقلوا أمانةً وإخلاصاً عن مإير أنسلم من آل روتشليد. وكان بعض اليهود والمسيحيين ينحتون النقود، أو يقبلون البضائع المسروقة (85). ولكن كثرة استخدام اليهود في المناصب المالية الكبرى توحي بأن من يستخدمونهم من المسيحيين كانوا يثقون بأمانتهم واستقامتهم، وقلّما كان اليهود يرتكبون جرائم العنف-كالقتل، والسطو، والسلب-، وكان السكر أقل انتشاراً بينهم في البلاد المسيحية في البلاد الإسلامية.

وكانت حياتهم الجنسية عفيفة إلى حد عجيب على الرغم من أخذهم بمبدأ تعدد

ص: 68

الزوجات، وكانوا أقل ميلاً للواط من غيرهم من الشعوب الشرقية الأصل

(1)

. وكانت نساؤهم عذارى ذوات خفر وحياء، وأزواجاً عاملات مجدات، وأمهات مخصبات ذوات ضمائر حية، وكان من أثر التبكير بالزواج أن قلت الدعارة بينهن إلى أقل حد يستطاع الوصول إليه عند بني الإنسان (86). وكان العزاب نادري الوجود بين رجالهم، وكان من القواعد التي وضعها الحاخام آشير بن يحيال أن من حق المحاكم أن ترغم الأعزب على الزواج إذا بلغ العشرين من العمر، ولم يكن منهمكاً في دراسة الشريعة (87). وكان الآباء هم الذين ينظمون أمور الزواج، وتقول إحدى الوثائق اليهودية الباقية من القرن الحادي عشر إنه كان يندر وجود فتيات "يبلغن من قلة الذوق أو من الوقاحة ما يجرأن معه على أن يبدين هواهن أو خيارهن" في هذه الناحية (88). ولكن الزواج لا يكون قانونياً إلا برضاء الزوجين (89). وكان من حق الوالد أن يزوج ابنته لمن يشاء وهي صغيرة السن حتى وإن كانت في السادسة من عمرها؛ ولكن زواج الأطفال على هذا النحو لم يكن يتم إلا إذا بلغ الزوجان سن الرشد، وكان من حق الفتاة أن تلغي هذا الزواج إذا شاءت (90). وكانت الخطبة إجراءً رسمياً تجعل الفتاة زوجة للرجل من الوجهة القانونية، ولا يمكن التفرقة بعدها بعد الزوجين إلا بوثيقة طلاق قضائية. وكان عقد يوقع عند الزواج (كتوبة) يحدد فيه بائنة الزوجة ومهر الزوج. وكان هذا المهر مبلغاً من المال يُتَجنَّب من مال الزوج ويؤدي للزوجة إذا طلقها أو مات عنها. وبغير هذا المهر الذي لم يكن يقل عن مائتي زوزا Zuza (وهو قدر يكفي لشراء بيت تسكنه أسرة واحدة) لا يصبح الزواج بعذراء صحيحاً من الوجهة القانونية.

(1)

لسنا نعتقد أن المؤلف يريد أن يتهم الشرقيين بأنهم يميلون إلى اللواط أكثر من غيرهم من الشعوب. فقد سبق أن وصف اللواط عند اليونان وصفاً لا نرى موجباً لإعادته، ونظن أنه إنما يريد أن يقارن اليهود-وهم شرقيون في الأصل-بغيرهم من شعوب الشرق فيقول إن هذا الداء كان أقل انتشاراً عند بعض الشعوب الشرقية. (المترجم).

ص: 69

وكان تعدد الزوجات سنّة جرى عليها أغنياء اليهود في البلاد الإسلامية ولكنها كانت نادرة بينهم في البلاد المسيحية (91). وتشير الآداب الدينية التي وصلت إلينا من عهد ما بعد التلمود ألف إشارة وإشارة إلى "زوج" الرجل، ولا تشير قط إلى "أزواجه". وأصدر جرشم بن يهوذا حاخام مينز في عام 100 م أمراً بحرمان كل يهودي يتزوج أكثر من واحدة، وما لبث تعدد الزوجات بعد هذا القرار أن انقرض أو كاد بين اليهود في جميع أنحاء أوربا ما عدا أسبانيا. على أن حالات من هذا التعدد ظلت تحدث من حين إلى حين إذا ظلت الزوجة عقيماً بعد عشر سنين من زواجها وسمحت هي للرجل أن يتخذ له حظية أو زوجة ثانية (92)، ذلك أن الأبوة كانت مسألة حيوية عند اليهود. وقد ألغى هذا القرار نفسه-قرار جرشم-ما كان للزوج قديماً من حق طلاق زوجته بغير رضاها ومن غير جريمة ارتكبتها؛ وأكبر الظن أن الطلاق بين اليهود في العصور الوسطى كان أقل منه في أمريكا في هذه الأيام.

وكانت الأسرة أكبر أسباب نجاة الحياة اليهودية وإن لم تكن رابطة الزواج قوية محكمة من الوجهة القانونية. ذلك أن الخطر المحدق باليهود من خارجهم قد قوى وحدتهم الداخلية، ويشهد أعداؤهم أنفسهم بما كانت تمتاز به الأسرة اليهودية، وما تمتاز به الآن، من "حرارة، وكرامة

وتفكير، وتدبر، وحب أبوي وأخوي" (94). فقد كان الزوج الشاب يشترك مع زوجته في العمل، وفي السرَّاء والضراء، وكان شديد الحب لها لأنه يراها جزءاً من نفسه الكبرى، وإذا أصبح أباً وكبر أطفاله من حوله أثاروا فيه قواه المدخرة وبعثوا فيه أعمق الوفاء. وأكبر الظن أنه لم يكن قبل الزواج قد مس جسم امرأة غير زوجته دون الشعار، ولم تكن تتاح له في تلك البيئة الصغيرة الوثيقة الصلات إلا أقل الفرص للخيانة الزوجية بعد الزواج. ويكاد منذ ولادة أطفاله يبدأ بائنات لبناته ومهور لأولاده، وكان من البدائة عنده أن من واجبه أن يساعد البنين والبنات بماله في

ص: 70

السنين الأولى من حياتهم وحياتهن الزوجية. وكان ذلك يبدو له أكثر حكمة من ترك الشاب يستعد لقيود الزواج المفرد بفترة من الاختلاط الجنسي الطليق. وكثيراً ما كان العريس يعيش مع عروسه في بيت أبيها-وقلّما كان ذلك سبباً في ازدياد سعادة الأسرة. وكان سلطان الأب الأكبر في البيت سلطاناً مطلقاً لا يكاد يقل في ذلك عن سلطانه في روما الجمهورية. فكان من حقه أن يحرم أبناءه دينياً، وأن يضرب زوجته ضرباً غير مفرط، فإذا ما أصابها بأذى جسيم فرضت عليه العشيرة غرامة تتناسب مع موارده، وكان في العادة يمارس سلطانه بصرامة لا تطغى قط على عاطفة الحب القوية.

وكان مركز المرأة منحطاً من الوجهة القانونية، عالياً من الناحية الأخلاقية. ولكن الرجل اليهودي يحمد الله، كما يحمد أفلاطون، لأنه لم يولد أنثى، وكانت المرأة تجيب عن ذلك بتواضع جم:"وأنا أحمد الله الذي خلقني كما أراد"(95). وكان للنساء في المعبد موضع منعزل في الرواق أو خلف الرجال وتلك تحية سمجة لمفاتنهن التي تلهي العابدين عن العبادة، ولم يكن يحسبن في العدد الواجب اكتماله لأداء الصلاة. وكانت الأغاني التي يمتدح بها جمال المرأة تعد عملاً غير لائق وإن كان التلمود قد أباحها (96). أما التغازل-إذا وجد-فلم يكن إلا عن طريق المراسلة، ولقد نهى الأحبار عن التخاطب بين الرجال والنساء-حتى بين الزوجين-أمام الناس (97)، وقد أبيح الرقص ولكنه كان مقصوراً على رقص المرأة مع المرأة والرجل مع الرجل (98).

وكان القانون يجعل الزوج هو الوارث الوحيد لزوجته، أما الأرملة فلم يكن من حقها أن ترث زوجها، فإذا مات حصلت على قيمة بائنتها، ومهر الزواج، أما فيما عدا هذا فقد كانت تعتمد على أبنائها الذكور، ورثة أبيهم الطبيعيين، في أن ييسروا لها سبل الحياة الطيبة. ولم تكن البنات يرثن آبائهن إلا إذا لم يكن له أبناء ذكور، فإذا كان له اعتمدن على حبهم الأخوي، وقلّما كان يخيب فيهم

ص: 71

رجاؤهن (99). ولم تكن البنات يرسلن إلى المدارس؛ فقد كان العلم مهما قل يعد بالنسبة إليهن أمراً شديد الخطورة. على أنهن رغم هذا كن يسمح لهن بأن يدرسن في بيوهن؛ فنحن نسمع عن عدد من النساء يلقين محاضرات عامة في الشريعة-وإن كانت صاحبة المحاضرة تستتر أحياناً عن المستمعين (100). ولكن المرأة اليهودية الجديرة بالتكريم والإخلاص، كانت تلقي بعد زواجها كل ما هي خليقة به منهما رغم ما كان يحيط بها من إجحاف مادي وقانوني، وقد نقل يهوذا بن موسى بن تيبون Tibbon عن حكيم مسلم قوله:"لا يكرم النساء إلا الكريم، ولا يحقرهن إلا الحقير (101) ".

وكانت صلات الأب بأبنائه أقرب إلى الكمال من الصلات الزوجية. فقد كان اليهودي بما عرف عن الرجل الساذج العمادي من كبرياء، يفخر بأبنائه وبقدرته على إنجاب الأبناء. وكان يقسم أغلظ إيمانه بأن يضع يده على خصيتي من يتلقى منه اليمين، ومن هنا اشتقت كلمة testimony الأوربية

(1)

، ومعناها الشهادة أو البيّنة أو الشاهد نفسه. وكان كل رجل يؤمر بأن يكون له طفلان على الأقل، وكان له في العادة أكثر من اثنين. وكان الطفل يلقى الإجلال الذي يليق بزائر قدم من السماء، ومن مَلَك تجسد، وكان الأب يلقى من التبجيل ما كان يجعله رسولاً من عند الله، فكان الولد يقف في حضرة أبيه حتى يأمره بالجلوس، ويطيعه طاعة جزعة قلقة تتناسب مع كبرياء الشباب. وكان الولد أثناء الاحتفال بالختان يكرس إلى يهوه بمقتضى عهد أبراهام، وكانت كل أسرة تشعر بأن تعد واحداً من أبنائها على الأقل ليتولى المناصب الدينية. وكان الولد، إذا بلغ الثالثة عشرة من عمره، يدخل ميدان الرجولة، ويفرض عليه كل ما تفرضه الشريعة على الرجال، ويحدث ذلك في حفل رهيب يثبت فيه هذا ويؤكد

(1)

من كلمة Testes ومعناها الخصيتان. (المترجم)

ص: 72

وكان الدين يخلع رهبته وقداسته على كل مرحلة من مراحل نموه، ويخفف بذلك من واجبات الآباء.

‌4 - الدين

كذلك كان الدين رقابة روحية في كل ناحية من نواحي القانون الأخلاقي. لا ريب إنه كانت في الشريعة ثغرات، وأن الحيل القانونية كانت تتلمس لكي تعاد إلى الشعب حرية التطبيق التي لا غنى عنها لكل شعب مغامر. ولكن يلوح أن الرجل اليهودي في العصور الوسطى كان يقبل الشريعة بوجه عام ويتخذها درعاً لا يقيه اللعنة الأبدية فحسب، بل يقيه فوق ذلك وبصفة أظهر للعيان تفكك جماعاته وانحلالها. نعم إنها كانت تضيق عليه في جميع مناحي الحياة، ولكنه كان يعظمها لأنها موطن نشأته ومدرسة تربيته والوسيلة التي لا بد منها لحياته.

وكان كل بيت في بلاد اليهود كنيساً، وكل مدرسة معبداً، وكل أب كوهناً. فصلوات الكنيس وطقوسه كان لها مثيلات موجزة في البيت. وكان الصوم والأعياد الدينية يحتفل بها فيه احتفالات تعليمية تربط الماضي بالحاضر والأحياء بالأموات وبمن لم يولدوا بعد. وكان من عادة الأب في مساء يوم الجمعة أي ليلة السبت من كل أسبوع أن يجمع حوله زوجته، وأولاده، وخدمه، ويباركهم فرداً فرداً، ويؤمهم في الصلاة، وفي القراءة من الكتب الدينية، والأغاني المقدسة. وكانت تعلق على باب كل حجرة كبيرة من حجرات البيت أنبوبة (مزوزا) محتوية على ملف من الرق كتبت عليه فقرتان من سفر تثنيه الاشتراع (الآيات 4 - 9 من الإصحاح السادس، 13 - 21 من الإصحاح الحادي عشر) تذكر اليهودي أن إلهه "واحد يجب عليه أن يحبه من كل قلبه وروحه وبكل قوته". وكان يجاء بالوالد على الكنيس من سن الرابعة وما بعدها، حيث ينطبع

ص: 73

الدين في نفسه في أكثر السنين تأثيراً في تكوينه.

ولم يكن الكنيس معبداً دينياً فحسبن بل كان فوق ذلك المركز الاجتماعي للعشيرة اليهودية؛ والمعنى الحرفي للفظ سناجوج، وإكليزيا، وسينود، وكلية هو مجتمع؛ ولقد كان الكنيس قبل المسيحية مدرسة ولا يزال يسمى شوله Schule عند اليهود الإشكنازيين، ثم أخذ على عاتقه في عهد التشتت عدداً كبيراً من الواجبات العجيبة المختلفة، فكان من عادة بعضها أن ينشر في كل سبت ما يصدره بيت الدين من قرارات خلال الأسبوع المنصرم، وأن يجبي الضرائب، وأن يعلن عن الأمتعة المفقودة، وأن ينظر في شكاوي بعض الأفراد من البعض الآخر، وأن يذيع أخبار الأملاك قبل موعده حتى يستطيع من له حقوق في هذه الأملاك أن يعترض عليه. وكان الكنيس يوزع الصدقات العامة، وكان في بلاد آسية مسكناً لأبناء السبيل. وكان مبناه على الدوام أجمل المباني في الحي اليهودي، وكان في بعض الأحيان وبخاصة في أسبانيا وإيطاليا آية من آيات العمارة، مزداناً أعظم زينة وأجملها؛ وكثيراً ما كان ولاة الأمور المسيحيون يحرمون على اليهود إقامة معابد تطاول أعلى كنيسة مسيحية في المدينة، وأمر البابا هونوريوس الثالث في عام 1221 بهدم معبد بهذا الوصف في بورج Bourges (102) .

وكان في أشبيلية في القرن الرابع عشر ثلاثة وعشرون كنيساً، وفي طليطلة وقرطبة ما لا يكاد يقل عن هذا العدد، منها واحد شيد في قرطبة عام 1315 تحتفظ به الحكومة الأسبانية على أنه أثر قومي.

وكان بكل كنيس مدرسة (بيت الدرس Beth ha Midrash) بالإضافة إلى المدارس الخاصة والمعلمين الخصوصيين، وأكبر الظن أن نسبة من كانوا يعرفون القراءة والكتابة بين يهود العصور الوسطى كانت أكبر منها بين المسيحيين (104) وإن كانت أقل منها بين المسلمين. وكانت أجور المدرسين تؤديها الجماعات اليهودية عامة أو يؤديها الآباء، ولكنهم كلهم كانوا خاضعين لرقابة

ص: 74

الجماعة المشتركة. وكان الأولاد يخرجون غلى المدارس مبكرين-قبل مطلع الفجر في الشتاء؛ ثم يعودون غلى بيوتهم بعد بضع ساعات لتناول الفطور، ثم يرجعون إلى المدرسة حيث يبقون حتى الساعة الحادية عشرة، ثم يأتون إلى المنزل للغذاء، ويعودون إلى المدرسة ظهراً، ثم يستريحون بين الساعة الثانية والثالثة، ثم يذهبون مرة أخرى غلى المدرسة ويبقون فيها إلى المساء، ثم يطلق سراحهم أخيراً ليعودوا إلى بيوتهم ليتعشوا، ويصلوا، ويناموا، وكذلك كانت حياة الغلام اليهودي حياة جدية شاقة (105).

وأول ما كان يدرسه الغلام اليهودي هو اللغة العبرية وأسفار موسى الخمسة؛ فإذا بلغ العاشرة من عمره بدأ يدرس المشنا، وفي الثالثة عشرة يأخذ في دراسة الأجزاء الرئيسية من التلمود، ومن شاء منهم أن يكون من العلماء واصل دراسة المشنا والجمارا من الثالثة عشرة غلى العشرين من عمره أو ما بعدها. وكان الطالب يتعلم عن طريق دراسته لموضوعات التلمود المختلفة مقداراً قليلاً من العلوم المختلفة تبلغ عشرة أو تزيد، ولكنه لا يكاد يدرس شيئاً من تاريخ اليهود (106). وكان أكثر ما يتعلمه عن طريق التكرار، وكانت التلاوة الجماعية قوية عالية غلى حد جعل بعض البيئات تمنع وجود المدارس فيها (107). أما التعليم العالي فكان مكانه اليشيبة أو المجمع العلمي، وكان خريج هذا المجمع يسمى تلميذ حاخام أي عالماً بالشريعة؛ وكان يعفى عادة من الضرائب المفروضة على سائر أفراد العشيرة، وكان ينتظر من غير العلماء أن يهبوا واقفين إذا أقبل أو أدبر وإن لم يكن حتماً من الأحبار الرسميين (108).

أما الحبر الرسمي فكان معلماً وقاضياً، وكاهناً. وكان يطلب إليه أن يتزوج، ولك يكن يتقاضى نظير القيام بواجباته الدينية إلا القليل من الأجر إذا تقاضى شيئاً منه على الإطلاق؛ وكان في العادة يكسب عيشه بعمل من الأعمال التي لا تمت بصلة إلى الدين؛ وقلّما كان يعظ، لأن الوعظ كان متروكاً لوعاظ متنقلين (مجديم)

ص: 75

يدربون على فنون البلاغة المرهبة ذات الأصوات المنغمة الطنانة الرنانة. وكان في مقدور كل فرد من المصلين أن يؤوم الجماعة، ويقرأ فقرات من الكتاب المقدس، ويعظ؛ ولكن هذا الشرف كان يختص به في العادة أحد اليهود البارزين أو الذين لهم يد طولي في الصدقات والأعمال الخيرية. وكانت الصلاة عند اليهود المتمسكين بالدين عملاً شديد التعقيد، لا تؤدي على الوجه لصحيح إلا إذا غطى المصلي رأسه دليلاً على الخشوع، وربط على ذراعيه وجبته علباً صغيرة، تحتوي فقرات من سفر الخروج (الآيات 1 - 16 من الإصحاح الثالث عشر) وتثنية الاشتراع (الآيات 4 - 9 من الإصحاح السادس، و 13 - 21 من الإصحاح الحادي عشر)، وثبت في أطراف ثيابه أهداباً نقشت عليها أهم وصايا الرب. وكان رجال الدين يفسرون هذه الإجراءات الشكلية بأنها أمور لا بد منها لتذكر اليهود بوحدانية الله، ووجوده، وشرائعه. أما السذج من اليهود فقد أصبحوا يحسبونها تمائم سحرية ذات قوى معجزة خارقة للطبيعة. وكانت الصلاة تختم بقراءة من ملف الشريعة الموضوع في تابوت صغير فوق المذبح.

وكان اليهود في المنفى لا يوافقون على إدخال الموسيقى في الشعائر الدينية، ويرون أنها قلّما تتفق مع حزنهم على وطنهم الضائع، ولكن الواقع أن بين الموسيقى والدين من الصلات القوية مثل ما بين الشعر والحب. ذلك أن التعبير المتحضر عن أقوى العواطف وأكثرها عمقاً يتطلب أشد الفنون إثارة للانفعالات النفسية؛ ولقد عادت الموسيقى إلى الكنيس عن طريق الشعر؛ ذلك أن البيتانيم Paitanim أو "الشعراء الجدد" العبرانيين شرعوا يكتبون أشعاراً دينية مثقلة بالزخرف الصناعي كالأبيات المتجانسة أول حروفها أو التي إذا جمعت الحروف الأولى منها كونت اسماً خاصاً أو جملة بعينها، ولكنها يرفع من قدرها رنين اللغة العبرية وفخامة نغماتها وامتلاؤها بالحماسة الدينية التي أضحت عند اليهودي وطنية وديناً معاً. ولا تزال ترانيم إلعزر بن قلير (من القرن الثامن) الفجة القوية

ص: 76

تجد لها مكاناً في طقوس بعض المعابد اليهودية. ولقد أظهرت أشعار مثلها عند يهود أسبانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، منها واحدة يترنم بها كثيرون من اليهود يوم عيد الكفارة.

إذا أقبلت ملكوتك تشققت التلال عن أناشيد.

وضحكت الجزائر متهللة لأنها تنتسب إلى الله.

وتغنى كل من فيها من المصلين بأعلى أصواتهم يثنون عليك.

حتى إذا سمعتها أبعد الشعوب نادت بك ملكاً متوجاً عليها (109).

ولما أن أدخلت هذه القصائد المقدسة (البيوطيم) في الصلوات التي تقام في المعابد، كان ينشدها مرتل القداس، وبذلك عادت الموسيقى إلى الشعائر الدينية. يضاف إلى هذا أن تلاوة الكتاب المقدس والأدعية كان ينشدها في كثير من المعابد رئيس فرقة المرتلين أو ينشدها النرتلون إنشاداً ترتجل معظم نغماته ارتجالاً، ولكنها تتبع في بعض الأحيان نماذج النغمات البسيطة الموضوعة للترانيم المسيحية (110). من ذلك أن النغمات المعقدة للأغنية العبرانية الذائعة الصيت المعروفة باسم كل نيدري Kol Nidre (جميع الإيمان)(111)، قد أخذت من مدرسة ديرسنت جول St. Gail الغنائية بسويسرا في وقت ما قبل بداية القرن الثاني عشر.

على أن الكنيس اليهودي لم يحل في قلب اليهودي محل الهيكل بكل معاني الحلول، بل ظل أمله في أن يقدم القربان ليهوه في يوم من الأيام أمام قدس الأقداس على تل صهيون، يلهب خياله، ويتركه عرضة لخداع "المسيح الكذاب" في مختلف الأوقات. من ذلك ما حدث في عام 20 حين أعلن شيريم Sereme وهو رجل سوري، أنه هو المنقذ المنتظر، وسير حملة لانتزاع فلسطين من المسلمين. وغادر اليهود مواطنهم في بابل وأسبانيا ليشتركوا في هذه المغامرة، ولكن القائم بها أسر، وعرضه الخليفة يزيد الثاني على الجماهير على أنه مهرج دجال، ثم أمر به فقتل. وبعد بضع سنين من ذلك الوقت تزعم عبوديا بن

ص: 77

عيسى بن إسحق الأصفهاني ثورة أخرى مثلها امتشق فيها عشرة آلاف يهودي الحسام، واستبسلوا في الحرب بقيادته، ولكنهم هزموا، وقتل ابن عيسى في المعركة وعوقب جميع يهود أصفهان بلا تمييز بينهم لانضمامهم إليه. ولما أثارت الحملة الصليبية الأولى ثائرة أوربا حسبت الجماعات اليهودية أن انتصار المسيحيين سيعيد فلسطين إلى اليهود (112)، ولكنهم أفاقوا من أحلامهم على سلسلة من المذابح المدبرة. وفي عام 1160 أثار دافيد الرؤى يهود العراق إذ نادى فيهم أنه هو المسيح المنتظر وأنه سيعود بهم إلى أورشليم ويرد إليهم حريتهم؛ لكن حماه خشي أن يحيق الهلاك باليهود بسبب هذه الأفكار فما كان منه إلا أن ذبحه وهو نائم. ثم ظهر مسيح آخر في جنوبي جزيرة العرب عام 1225 وأثار اليهود إثارة حمقاء. وكتب ابن ميمون "رسالة إلى الجنوب" ذائعة الصيت فند فيها مزاعم هذا الداعي، وذكر يهود العرب بما أعقب هذه المحاولات الطائشة في ماضي الأيام من هلاك ودمار (113)، ولكنه رغم هذا ارتضى الأمل في المسيح المنتظر، على أنه دعامة لا بد منها للروح اليهودية في تشتتهم، وجعل هذا الأمل إحدى العقائد الثلاث عشرة الأساسية في الديانة اليهودية (114).

ص: 78

الفصل الرابع

‌كراهية اليهود

ترى ما هو منشأ العداء القائم بين غير اليهود واليهود؟

لقد كانت الأسباب الرئيسية الباعثة على هذا العداء أسباباً اقتصادية، ولكن الخلافات الدينية كانت على الدوام سبباً في زيادة المنافسات الاقتصادية وستاراً لها، فالمسلمون المؤمنون برسالة محمد يغضبهم من اليهود عدم إيمانهم بهذه الرسالة، والمسيحيون الذين يؤمنون بألوهية المسيح يؤلمهم أن يجدوا شعبه نفسه لا يؤمن بهذه الألوهية. ولم يكن كثيرون من المسيحيين الصالحين يرون أن مما يخالف تعاليم دينهم أو يخالف التعاليم الإنسانية بوجه عام أن يلقوا على شعب بأسره، خلال القرون الطوال، تبعة أعمال فئة قليلة العدد من يهود أورشليم في آخر أيام المسيح، ويحدثنا إنجيل لوقا أن جماعات من اليهود رحبت بدخول المسيح أورشليم (الآية 37 من الإصحاح 29) وكيف حمل صليبه بيلاطس:"تبعه جمهور كبير من الشعب والنساء اللائي كن يلطمن وينحن عليه"(الآية 27 من الإصحاح 23)، وكيف أن كل الجموع الذين "كانوا مجتمعين لهذا المنظر لما أبصروا ما كان رجعوا وهم يقرعون صدورهم"(الآية 48 من الإصحاح 23)، ولكن هذه الشواهد القاطعة بعطف اليهود على عيسى كانت تنمحي ذكراها حين تتلى على المسيحيين قصة الآلام المريرة كل أسبوع مقدس من فوق ألف منبر ومنبر، فكانت نيران الحقد تضطرم في قلوب المسيحيين، وكان بنو إسرائيل في تلك الأيام يحبسون أنفسهم في أحيائهم وبيوتهم خشية أن تثور عواطف السذج من الناس فتؤدي إلى المذابح.

ونشأت حول هذا السبب الرئيسي من أسباب سوء التفاهم عشرات المئات

ص: 79

من أسباب الريبة والعداء. وتحمل رجال المصارف اليهود أكبر آثار العداء الناشئ من أسعار فائدة القروض، وهي أسعار ترتفع كلما قلت ضماناتها. ولما أن نمت الشئون الاقتصادية المسيحية، وغزا التجار ورجال المصارف من غير اليهود ميادين كان اليهود هم المسيطرين عليها من قبل، أثارت المنافسة الاقتصادية الأحقاد في الصدور، وأخذ بعض المرابين المسيحيين يبذرون بذور الحقد على السامية (115). وكان اليهود الذين يشغلون مناصب رسمية وبخاصة في المصالح المالية للحكومات المسيحية هدفاً طبيعياً لمن يكرهون الضرائب واليهود كليهما. وتأصلت هذه الأحقاد الاقتصادية والدينية في الصدور فأصبح كل ما هو يهودي بغيضاً لبعض المسيحيين، وكل ما هو مسيحي بغيضاً لبعض اليهود، فأخذ المسيحيون يعيبون على المسيح عزلتهم، ولم يغفروا لهم هذه العزلة التي كانت رد فعل لتمييز غيرهم عليهم. وما كان يوجه إليهم من اعتداء في بعض الأحيان، وبدت ملامح اليهود، ولغتهم، وآدابهم، وأطعمتهم، وشعائرهم، بدت هذه كلها في أعين المسيحيين غريبة كريهة. ثم إن اليهود كانوا يطعمون حين يصوم المسيحيون، ويصوم أولئك حين يفطر هؤلاء، وظل يوم راحتهم وصلواتهم يوم السبت كما كان في قديم الأيام، على حين أن يوم الراحة والصلوات عند المسيحيين قد تبدل فأصبح يوم الأحد، وكان اليهود يحتفلون بنجاتهم السعيدة من مصر في عيد فصح قريب قرباً يراه المسيحيون غير لائق من يوم الجمعة الذي يحزنون فيه لموت المسيح. ولم تكن الشريعة اليهودية تبيح لليهود أن يأكلوا طعاماً مسته يد غير يهودية، أو يشربوا خمراً عصرته، أو يستعملوا آنية لمستها (116)، أو أن يتزوجوا إلا من يهوديات (117). وكان المسيحي يفسر هذه القواعد القديمة-التي وضعت قبل نشأة المسيحية بزمن طويل-بأن اليهود يرون أن كل شيء مسيحي نجس، ويرد على هذا بأن الإسرائيلي نفسه لم يكن في أغلب الأحيان يمتاز بنظافة جسمه أو أناقة ثيابه. ونشأت من عزلة هؤلاء وأولئك بعضهم أقاصيص

ص: 80

سخيفة محزنة انتشرت بين كلا الطرفين. وكان قبل الرومان قبل ذلك الوقت يتهمون المسيحيين بأنهم يذبحون أطفال الوثنيين ليقدموا دماءهم في السر قرباناً لإله المسيحيين، ثم أخذ المسيحيون في القرن الثاني عشر يتهمون اليهود باختطاف أطفال المسيحيين ليقدموهم قرباناً إلى يهوه، أو ليتخذوا دماءهم دواء، أو يستعملوه في صنع الخبز الفطير لعيد الفصح. واتهم اليهود بأنهم يسممون الآبار التي يشرب منها المسيحيون ويسرقون الرقاق المقدس ليثقبوه ويخرجوا منه دم المسيح (118). ولما أن تباهى عدد قليل من تجار اليهود بثرائهم وأظهروا هذا الثراء بارتداء الملابس الغالية الثمن اتهم الشعب اليهودي على بكرة أبيه بأنه يستنزف أموال المسيحيين جملة ويضعها في أيدي اليهود. واتهمت اليهوديات بأنهم ساحرات، وقبل إن كثيرين من اليهود من حزب الشيطان (119). ورد اليهود على هذه الأقاصيص بأخرى مثلها عن المسيحيين، وبقصص مهينة عن مولد المسيح وشبابه. وكان التلمود ينصح بأن تشمل الصدقات اليهودية غير اليهود (120)، وكان بحيا Bahya يثني على الرهبنة المسيحية، وكتب ابن ميمون يقول إن تعاليم المسيح والنبي محمد تنزع بالإنسانية إلى الكمال (121)، ولكن اليهودي العادي لم يكن يستطيع فهم هذه المجاملات الفلسفية، وبادل أعداءه حقداً بحقد.

وكانت هناك فترات صفاء بين أوقات الجنون السالفة الذكر، فكثيراً ما كان اليهود يختلطون بالمسيحيين اختلاط الأصدقاء متجاهلين قوانين الدولة والكنيسة التي تحرم هذا الاختلاط، وكانوا أحياناً يتزاوجون وبخاصة في أسبانيا وجنوبي أوربا. وكان العلماء المسيحيون واليهود يتعاونون فيما بينهم، ميكائيل اسكت Michael Scot مع أناتولي Anatoh، ودانتي مع عمونيل (122)، وكان المسيحيون يقدمون الهبات للمعابد اليهودية، وفي مدينة وورمز Worms كانت هناك حديقة يهودية كبرى ينفق عليها من هبة وهبتها امرأة مسيحية (123). وبُدّل يوم السوق في ليون من السبت إلى الأحد تيسيراً لليهود، ووجدت الحكومات غير

ص: 81

الدينية أن اليهود عنصر نافع في الأعمال التجارية والمالية فأولتهم حمايتها في بعض الأوقات؛ وإذا كانت دولة من الدول قد قيدت حركات اليهود أو أخرجتهم من بلادها فقد كان سبب ذلك في بعض الأحيان أنها لم يعد في مقدورها أن تحميهم من التعصب والعدوان (124).

وكان موقف الكنيسة من هذه الأحداث يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. ففي إيطاليا كانت تحمي اليهود بوصفهم "حراس الشريعة" الواردة في العهد القديم وبوصفهم شهدوا أحياء على صحة الكتاب المقدس من الوجهة التاريخية وعلى "غضب الله". لكن مجالس الكنيسة كانت من حين إلى حين تعمل على زيادة متاعب الحياة اليهودية، وكثيراً ما كان يصدر عنها ذلك بحسن نية، وقلّما كانت تعتمد في عملها هذا على ما لها من سلطان عام. من ذلك أن قانون ثيودوسيوس Thedosian Code (439) ، ومجلس كليرمنت Clermont (535) ، ومجلس طليطلة (589) كلها حرمت تعيين اليهود في المناصب التي من حق شاغلها أن يوقع عقوبة على المسيحيين. وأمر مجلس أورليان Orleans (538) جميع اليهود ألا يخرجوا من بيوتهم طوال الأسبوع المقدس، ولعل ذلك الأمر كان يقصد به حمايتهم، وحرم استخدامهم في المناصب العامة. وحرم مجلس لاتران Lateran الثالث (1179) على القابلات أو المرضعات المسيحيات أن يخدمن اليهود، وندد مجلس بزيير Beziers (1246) باستخدام المسيحيين أطباء من اليهود؛ ورد مجلس أفنيون Avignon (1209) على قوانين الطهارة اليهودية بتحذير "اليهود والعاهرات" من لمس الخبز أو الفاكهة المعروضة للبيع؛ وأعاد القوانين الكنسية الصادرة بتحريم استئجار اليهود الخدم المسيحيين، وحذر المؤمنين من تبادل الخدمات مع اليهود، وأمر بتجنبهم لنجاستهم (125). وأعلنت بعض المجالس إلغاء كل زواج بين المسيحيين واليهود، وأحرق شماس في عام 1222 على القائمة الخشبية لأنه اعتنق الدين

ص: 82

اليهودي وتزوج بيهودية (126). وحرمت أرملة يهودية في عام 1234 من بائنتها بحجة أن زوجها اعتنق الدين المسيحي قبل وفاته وأن هذا يلغي زواجهما (127). وأصدر مجلس لاتران الرابع في عام 1215 قراراً يحتم "على اليهود والمسلمين-ذكوراً كانوا أو إناثاً-في كل ولاية مسيحية وفي جميع الأوقات أن يميزوا أنفسهم عن غيرهم في أعين الجمهور بلبس أثواب خاصة لأن المسيحيين يخطئون أحياناً فيتصلون بنساء اليهود والمسلمين، ويتصل اليهود والمسلمون بالنساء المسيحيات". ولهذا يجب على اليهود والمسلمين متى جاوزوا الثانية عشرة من العمر أن يميزوا ملابسهم بيوم خاص-ويكون ذلك بالنسبة للرجال في غطاء الرأس أو الجبة، وبالنسبة للنساء في أقنعتهن. وكان من أسباب صدور هذه الأوامر أنها رد على قوانين قديمة مماثلة لها أصدرها المسلمون ضد اليهود أو المسيحيين. وكان نوع الشارة المميزة تعينه محلياً حكومات الولايات أو المجالس الإقليمية للكنيسة المسيحية. وكانت في العادة تتخذ صورة عجلة أو دائرة من النسيج الأصفر، طول قطرها نحو ثلاث بوصات تخاط في مكان ظاهر فوق الملابس. ونفذ هذا للقرار في إنجلترا عام 1279؛ أما في أسبانيا وإيطاليا وألمانيا فلم ينفذ إلا في أوقات متباعدة قبل القرن الخامس عشر حين أخذ نيقولا القوزاوي Nickolas of Cusa وسان جيوفاني داكبسترانو San Giovanni Capistrano يدعوان إلى التشدد في تنفيذه بأكمله. وكان من أثر تلك الدعوة أن هدد يهود قشتالة في عام 1219 بمغادرة البلاد جملة إذا نفذ هذا القانون؛ ووافق ولاة الأمور الدينيون على إلغائه، وكثيراً ما كان الأطباء والعلماء، ورجال المال، والرحالة اليهود يعفون منه، ثم أخذ العمل به يضعف قبل القرن السادس عشر وامتنع نهائياً حين قامت الثورة الفرنسية.

ويمكن القول بوجه عام إن البابوات كانوا أكثر رجال الدين تسامحاً في العالم المسيحي. مثال ذلك أن جريجوري الأول، نهى عن إرغام اليهود على

ص: 83

اعتناق الدين المسيحي رغم تحمسه الشديد لنشر هذا الدين، وحافظ على مالهم من حق المواطنية الرومانية في البلاد الخاضعة لحكمه (128)؛ ولما أن استولى الأساقفة في طرشونة Terracina وبالرم على معابد اليهود لكي ينتفع بها المسيحيون أرغمهم جريجوري على أن يردوها إليهم كاملة (129)، وكتب إلى أسقف نابلي يقول:"لا تسمح بأن يضيق على اليهود في أداء صلواتهم، ودع لهم الحرية الكاملة في مراعاة أعيادهم وأيامهم المقدسة والاحتفال بها، كما كانوا هم وآباؤهم يفعلون من زمن بعيد"(130). وحث جريجوري السابع الحكام المسيحيين على إطاعة قرارات مجلس الكنيسة التي تحرم استخدام اليهود في المناصب؛ ولما قدم إنجنيوس الثالث إلى باريس عام 1145، وسار في موكب حافل إلى الكنيسة الكبرى التي كانت وقتئذ في الحي اليهودي، بعث اليهود إليه بوفد ليهدي إليه التوراة أو ملف الشريعة، فباركهم وعادوا إلى بيوتهم مغتبطين، وطعم البابا حمل عيد الفصح مع الملك (131). وكان البابا اسكندر الثالث على وئام مع اليهود واستخدم واحداً منهم في إدارة شئونه المالية (132)؛ وتزعم إنوسنت Innocent الثالث مجلس لاتران الرابع فيما طلبه من أن يكون لليهود شارة خاصة، ووضع هو المبدأ القائل بأن اليهود على بكرة أبيهم قد فرضت عليهم العبودية الأبدية لأنهم صلبوا عيسى (133)، ثم كرر في ساعة كان فيها أرق مزاجاً الأوامر البابوية التي تحرم إرغام اليهود على ترك دينهم وقال: "لا يحق لمسيحي أن يؤذي اليهود في أجسامهم

أو يسلبهم أملاكهم

أو يتسبب في إقلاقهم أثناء الاحتفال بأعيادهم

أو يبتز منهم المال بتهديدهم بإحراق موتاهم (134). وأعفى جريجوري التاسع منشئ محكمة التفتيش

(1)

اليهود من إجراءاتها أو اختصاصها إلا إذا حاولوا تهديد المسيحيين، أو ارتدوا إلى الدين اليهودي بعد أن تنصروا (135)،

(1)

أو ديوان التحقيق Inqusition كما يسميها بعض المترجمين. (المترجم)

ص: 84

ونبذ إنوسنت الرابع (1247) القصة القائلة بأن من شعائر اليهود ذبح أطفال المسيحيين وقال:

لقد ابتدع بعض القساوسة، والأمراء، والنبلاء، وكبار الأشراف

أساليب تتنافى مع الدين ضد اليهود خداعاً منهم وتضليلاً، فحرموهم بلا حق من أملاكهم قوة واقتداراً، واستولوا عليها لأنفسهم، واتهموهم زوراً وبهتاناً بأنهم يقتسمون فيما بينهم في يوم عيد الفصح اليهودي، قلب غلام مذبوح

والحق أنهم في حقدهم يعزون إلى اليهود كل حادث قتل أياً كان المكان الذي يقع فيه. وبسبب هذه التهم المختلفة وأمثالها تمتلئ قلوبهم غلاً على اليهود، فينهبون أموالهم

ويضطهدونهم بتجويعهم وسجنهم، وتعذيبهم، وإيذائهم بغير تلك الوسائل، ويقضون عليهم أحياناً بالإعدام، وبذلك أصبحت حال اليهود أسوأ مما كان عليه آباؤهم تحت حكم الفراعنة، وإن كانوا يعيشون الآن تحت حكم أمراء مسيحيين. وهم لهذا يضطرون إلى مغادرة البلاد التي عاش فيها آباؤهم من أقدم العهود التي يذكرها الإنسان. وإذ كان يسرنا ألا يلحقهم أذى، فإنا نأمركم أن تعاملوهم معاملة ودية رقيقة؛ فإذا وصل إلى علمكم نبأ اعتداء ظالم وقع عليهم، فردوا عنهم ما لحقهم من أذى، ولا تسمحوا بأن يصيبهم مثل هذا الظلم في المستقبل (137).

غير أن هذه الدعوة النبيلة لم تلق إلا أذناً صماء، واضطر جريجوري العاشر في عام 1272 أن يكرر ما جاء فيها من تنديد بقصة قتل أطفال المسيحيين استجابة لبعض الشعائر الدينية اليهودية، وأراد أن يزيد أقواله قوة وتأثيراً فقرر ألا تقبل شهادة مسيحي على يهودي إلا إذا عززها يهودي. وإن ما أصدره البابوات بعد هذا العهد حتى عام 1763 من أوامر مماثلة لهذا الأمر ليشهد بما كانت تمتلئ به قلوب البابوات من شفقة وإنسانية كما تشهد بأن هذا الشر لم تجتث جذوره. ومما يدل على أن البابوات كانوا مخلصين في دعوتهم ما كان يستمتع به اليهود

ص: 85

في الدويلات البابوية من طمأنينة إذا قيست حالهم بحال بني دينهم في غير هذه الدويلات، ونجاتهم النسبية من الاضطهاد. ذلك أنهم لم يطردوا قط من روما أو من أفنيون البابوية مثل ما طردوا في أوقات مختلفة من كثير من البلاد؛ وفي ذلك يقول مؤرخ يهودي عالم:"لولا الكنيسة الكاثوليكية لما بقي لليهود وجود في أوربا بعد العصور الوسطى"(139).

وكان اضطهاد اليهود بقوة في أوربا أثناء العصور الوسطى متقطعاً؛ فقد جرى الأباطرة البيزنطيون مائتي عام على خطة العسف التي جرى عليها جستنيان ضد اليهود، وطردهم هرقل من أورشليم عقاباً لهم على ما قدموا للفرس من معونة، وبذل كل ما في وسعه لإبادتهم، وحاول ليو الإسوري Leo the Isaurian أن يفند الإشاعة القائلة بأن اليهودي بقرار أصدره عام 723 يخير فيه اليهود البيزنطيين بين اعتناق الدين المسيحي أو النفي، فمن اليهود من خضع لهذا القرار ومنهم من أحرقوا أنفسهم في معابدهم مفضلين هذا على الخضوع له. وواصل باسيل الأول Basil (867 - 886) الحملة القاضية بإرغام اليهود على التعميد، وطالب قسطنطين السابع (912 - 959) اليهود بأن يقسموا أمام المحاكم المسيحية ويميناً مذلة ظلت باقية في أوربا حتى القرن التاسع عشر (141).

ولما دعا البابا إربان Urban الثاني إلى الحرب الصليبية الأولى في عام 1095 ظن بعض المسيحيين أنه يحسن بهم أن يقتلوا يهود أوربا قبل أن يخرجوا لقتال الأتراك في أورشليم، فلما قبل جدفري البويلوني Gosfrey of Bouillon قيادة الحملة أعلن أنه سيثأر لدماء المسيح من اليهود ولن يترك واحداً منهم حياً، وجهر رفاقه بعزمهم على أن يقتلوا كل من لا يعتنق المسيحية من اليهود. وقام أحد الرهبان يثير حماسة المسيحيين أكثر من هذا فأعلن أن نقشاً على الضريح المقدس في أورشليم يجعل تنصير جميع اليهود فريضة أخلاقية على جميع المسيحيين (142). وكانت خطة الصليبيين أن يزحفوا جنوباً بمحاذاة نهر الرين حيث توجد أغنى

ص: 86

مواطن اليهود في أوربا الشمالية. وكان يهود ألمانيا قد اضطلعوا بدور رئيسي في إنماء تجارة نهر الرين وانتهجوا خطة حميدة من الصلاح وضبط النفس أكسبتهم احترام المسيحيين عامتهم ورجال دينهم على السواء. وكان الأسقف رودجر الأسبيري R (diger of Speyer ذات صلة وثيقة بيهود أبرشيته، وقطع لهم عهداً يضمن لهم استقلالهم وسلامتهم، وأصدر الإمبراطور هنري الرابع في عام 1095 عهداً مماثلاً لهذا العهد لجميع اليهود المقيمين في مملكته (143)، لذلك وقعت أنباء الحرب الصليبية، والطريق الذي قررت إتباعه، وتهديدات زعائمها، وقع الصاعقة على تلك الجماعات اليهودية الآمنة المسالمة، فتملكهم الرعب حتى شل تفكيرهم، ودعا أحبارهم إلى الصوم والصلاة عدة أيام.

ولما وصل الصليبيون إلى أسبير جروا أحد عشر يهودياً إلى إحدى الكنائس وأمروهم أن يقبلوا التعميد، فلما أبوا قتلوهم عن آخرها (3 مايو سنة 1096)، ولجأ غيرهم من يهود المدينة إلى الأسقف جوهنسن Johannsen، فلم يكتف هذا الأسقف بحمايتهم، بل أمر بقتل عدد من الصليبيين الذي اشتركوا في مقتله الكنيسة. ولما اقترب بعض الصليبيين من تريير Trier استغاث من فيها من اليهود بالأسقف إجلبرت Egilbert، فعرض عليهم أن يحميهم على شريطة أن يعمدوا، ورضى معظم اليهود بهذا الشرط، ولكن بعض النساء قتلن أطفالهن وألقين بأنفسهن في نهر الموزل Moselle (أول يونية سنة 1096). وفي مينز خبأ روتارد Ruthard كبير الأساقفة 1300 يهودي في سراديبه، ولكن الصليبيين اقتحموها عليهم وقتلوا منهم 1014، واستطاع الأسقف أن ينقذ عدداً قليلاً منهم بإخفائهم في الكنيسة الكبرى (27 مايو سنة 1096)، وقبل التعميد أربعة من يهود مينز، خبأ المسيحيون اليهود في منازلهم، وأحرق الغوغاء الحي اليهودي، وقتلوا من وقع في أيديهم من اليهود القلائل، فما كان من الأسقف هرمان

ص: 87

Hermann إلا أن نقل اليهود سراً من مخابئهم عند المسيحيين إلى منازل المسيحيين في الريف وعرض بذلك حياته هو لأشد الأخطار. وكشف الحجاج الصليبيون هذه الحيلة، وصادوا فريستهم في القرى وقتلوا كل من عثروا عليه من اليهود (يونية سنة 1096) وكان عدد من قتلوا في إحدى القرى مائتي يهودي؛ وحاصر الغوغاء اليهود في أربع قرى أخرى، فقتل اليهود بعضهم بعضاً، مفضلين هذا على التعميد، وذبحت الأمهات من ولدن من الأطفال في أثناء هذه الاعتداءات وقت مولدهم. وفي وورمز أخذ الأسقف ألبرانشز Alebranches من استطاع أن يأخذهم من اليهود إلى قصره وأنقذ حياتهم، أما من لم يستطع أخذهم فقد هاجمهم الصليبيون هجوماً خالياً من كل رحمة. فقتلوا الكثيرين منهم، ثم نهبوا بيوت اليهود وأحرقوها، وفيها انتحر كثيرون من اليهود مفضلين الموت على ترك دينهم. ثم حاصرت جماعة من الغوغاء مسكن الأسقف بعد سبعة أيام، وأبلغ الأسقف اليهود أنه لم يعد في وسعه أن يصد أولئك الغوغاء، وأشار عليهم بقبول التعميد، وطلب إليه اليهود أن يتركوا وشأنهم لحظة قصيرة، فلما عاد السقف وجدهم جميعاً إلا قليلاً منهم قد قتل بعضهم بعضاً، ثم اقتحم المحاصرون الدار وقتلوا الباقين أحياء، وبلغ مجموع من قتل في مذبحة وورمز (20 أغسطس سنة 1096) نحو ثمانمائة من اليهود. وحدثت مذابح مثلها في متز Metz ورنجزبرج Regensburg وبراهة Prague (144) .

وأنذرت الحرب الصليبية الثانية بأنها ستفوق الحرب الأولى من هذه الناحية، فق أشار بطرس المبجل Peter The Venerabie، القديس رئيس دير كلوني Cluny على لويس السابع ملك فرنسا أن يبدأ بمهاجمة اليهود الفرنسيين، وقال له: "لست أطالبك بأن تقتل أولئك الخلائق الملاعين

لأن الله لا يريد محوهم من الوجود، ولكنهم يجب أن يقاسوا أشد ألوان العذاب كما قاساه قائين قاتل أخيه، ثم يبقوا ليلاقوا هواناً أقسى من العذاب، وعيشاً أمر من الموت" (145).

ص: 88

واحتج سوجر Suger رئيس دير سانت دنيس St. Denis على هذا الفهم الخاطئ للمسيحية، واكتفى لويس التاسع، بفرض ضرائب باهظة على أغنياء اليهود؛ غير أن اليهود الألمان لم يخرجوا من هذه المحن بالمصادرة وحدها، فقد خرج راهب فرنسي يدعى رودلف من ديره بغير إذن، وأخذ يدعو إلى ذبح اليهود في ألمانيا. وفي كولوني قُتل شمعون "التقي" وبترت أطرافه، وفي أسبير عذبت امرأة على العذراء لكي يقنعوها باعتناق المسيحية. وبذل الرؤساء الدينيون مرة أخرى كل ما في وسعهم لحماية اليهود، فأعطاهم الأسقف آرناند أسقف كولوني قصراً حصيناً يجتمعون فيه وأجاز لهم أن يتسلحوا؛ وامتنع الصليبيون عن مهاجمة الحصن، ولكنهم قتلوا كل من في أيديهم من اليهود الذين لم يعتنقوا المسيحية. وأدخل هنري كبير أساقفة مينز في بيته يهودا كان الغوغاء يطاردونهم، ولكن الغوغاء اقتحموا البيت وقتلوهم أمام عينيه. واستغاث كبير الأساقفة بالقديس برنارد St. Bernard أعظم المسيحيين سلطاناً في أيامه، وأجاب برنارد بأن ندد برودلف تنديداً شديداً وطلب أن يوضع حد لأعمال العنف الموجهة إلى اليهود. ولما واصل رودلف حملته عليهم جاء برنارد بنفسه إلى ألمانيا وأرغم الراهب على العودة إلى الدير. ولما أن جدت جثة أحد المسيحيين بعد ذلك بقليل مشوهة في ورزبرج Wurzburg؛ اتهم المسيحيون اليهود بأنهم هم الفاعلون، وهاجموهم رغم احتجاج الأسقف أمبيكو Embicho وقتلوا عشرين منهم، وعني المسيحيون بكثيرين غيرهم أصابتهم جروح في هذا العدوان منهم (1147)، ودفن الأسقف القتلى في حديقته (146). وعادت إلى فرنسا فكرة بدء الحرب الصليبية في بلاد المسيحيين قبل انتقالها إلى الشرق، وذبح اليهود في كارنتان Carentan، ورامرو Rameru، وسلي Sully. وفي بوهيميا ذبح الصليبيون 150 يهودياً، ولما أن انتهت موجة الذعر بذل رجال الدين المسيحيون المحليون كل ما في وسعهم لمساعدة من يقوا أحياء من اليهود، وأجيز لمن قبلوا التعميد مرغمين أن يعودوا إلى الدين

ص: 89

اليهودي، دون أن توقع عليها عقوبات الردة القاسية (147).

وكانت هذه المذابح إيذاناً بسلسلة من الهجمات الطويلة العنيفة لا تزال باقية إلى هذه الأيام. من ذلك أن حادثة قتل وقعت في بادن Baden عام 1235 ولم يعرف مرتكبها اتهم بها اليهود، فأدى ذلك إلى مذبحة منهم؛ وفي عام 1243 حرق جميع اليهود سكان بلتز Beltz القريبة من برلين وأهم أحياء بحجة أن بعضهم قد دنسوا خبزاً للتقدمة مقدساً (148). وفي عام 1283 أثيرت في مينز فكرة ذبح أطفال المسيحيين في بعض الشعائر اليهودية، وقتل عشرة من اليهود ونهبت البيوت اليهودية على الرغم مما بذله ورنر كبير الأساقفة من جهود. وفي عام 1285 أهاجت مثل هذه الشائعة أهل ميونخ Munich، ولجأ 180 يهودياً إلى كنيس لهم، فأشعل فيه الغوغاء النار، واحترق المائة والثمانون بأجمعهم. وبعد عام من ذلك الوقت قتل أربعون يهودياً في أبرويزل Oberwesel بحجة أنهم امتصوا دماء مسيحي، وفي عام 1298 حرق كل يهودي في روتنجن Rottingen حتى قضى نحبه بحجة أن بعضهم قد دنس الخبز المقدس. ونظم رندفلشخ Rindfleisch وهو بارون متمسك بدينه جماعة من المسيحيين الذين أقسموا أن يقتلوا جميع اليهود وأمدهم بالسلاح، وأبادوا جميع الجالية اليهودية في ورزبرج، وذبحوا 698 يهودياً في نورمبرج Nuremerg، ثم انتشرت موجة الاضطهاد فلم يمض إلا نصف عام حتى محي 140 كنيساً يهودياً (149). وملأ اليأس بعد هذه الاعتداءات المتكررة يهود قلوب ألمانيا، وكانوا قد أعادوا تنظيم جماعاتهم مراراً وتكراراً، فغادرت أسر يهودية كثيرة مينز، وورمز، وأسبير، وغيرها من المدن الألمانية وهاجرت إلى فلسطين لتعيش في بلاد المسلمين. وإذا كانت بولندة ولتوانيا تطلبان الهجرة إليها، ولم تكن قد حدثت فيهما مذابح حتى ذلك الوقت، فقد بدأت هجرة بطيئة من يهود بلاد الرين إلى بلاد القالبة في شرقي أوربا.

ص: 90

وأضحى اليهود في إنجلترا تجاراً ورجال مال بعد أن حرم عليهم تملك الأرض والانضمام إلى نقابات الصناع. ومنهم من أثروا من الربا وأصبحوا على بكرة أبيهم موضع الكراهية لأكله. وقد استعان الأشراف ملاك الأرض وأتباعهم على التسلح للحروب الصليبية بالمال المقترض من اليهود، ورهنوا لهم في نظير هذا المال ريع أرضيهم، واستشاط الزارع المسيحي غيظاً لرؤيته المرابين يثرون من كدحه. وحدث في عام 1144 أن وجد الشاب وليم من أهل نروخ Norwich قتيلاً، واتهم اليهود بمقتله لاستعمال دمه، وهوجم الحي اليهودي في المدينة ونهب وأحرق (150). وحمى الملك هنري الثاني اليهود، وحذا حذوه هنري الثالث، ولكنه جمع منهم 422. 000 جنيه ضرائب وقروضاً أخرى على رؤوس أموالهم في سبع سنين. وحدثت في الاحتفال بتتويج رتشرد الأول في إنجلترا (1190) مشاحنة تافهة شجعها الأشراف الذين يريدون أن يتخلصوا مما عليهم من ديون لليهود (151)، فتطورت إلى مذبحة امتدت إلى لنكولن Lincoin، واستامفورد Stamford، ولن Linn. وقتل الغوغاء 350 منهم في مدينة يورك في العام نفسه وكان يقودهم رتشرد دي ملابستيا Richard de Malabestia، وكان مستغرقاً في الدين لليهود. ثم قام مائة وخمسون من يهود يورك يتزعمهم الحبر توم طوب Tom Tob بقتل أنفسهم (153). وفي عام 1211 غادر ثلاثمائة من أحبار اليهود إنجلترا وفرنسا ليبدءوا حياة جديدة في فلسطين، وبعد سبع سنين من ذلك العام هاجر كثيرون من اليهود حين نفذ هنري الثالث أمر الشارة اليهودية. وفي عام 1255 راجت شائعة في أنحاء لنكولن تقول إن غلاماً يدعى هيو Hugh قد أغرى بدخول الحي اليهودي، ثم جلد، وصلب، وطعن بحربة، بحضور جمع من اليهود المبتهجين. وعلى أثر هذه الشائعة هاجمت عصابات مسلحة مقر اليهود، وقبضت على الكوهن الذي قيل إنه كان على رأس الاحتفال، وشدوه إلى ذيل جواد، وجروه في الشوارع، ثم شنقوه. ثم قبض على واحد وتسعين

ص: 91

يهودياً وشنق منهم ثمانية عشر، ونجا كثير من المسجونين بفضل تدخل جماعة من الرهبان الدمنيكيين البواسل

(1)

.

وأفلتت الجماهير من أيدي ولاة الأمور في أثناء الحرب الأهلية التي نشرت الاضطراب في إنجلترا بين عامي 1257، 1267، وكادت المذابح أن تمحو من الوجود يهود لندن، وكنتربري Canterbury، ونورثمبتن Northampton، وونشستر Winchtester، وورسستر Woecester، ولنكولن، وكيمبردج، فنهبت بيوتهم ودمرت، وأحرقت العقود، والسفاتج، وأصبح من بقوا أحياء من اليهود لا يملكون شروى نقير (155). وكان ملوك الإنجليز وقتئذ يقرضون المال من أصحاب المصارف المسيحيين في فلورنس وكاهورس Cahors، وأصبحوا في غير حاجة إلى اليهود، ومن ثم وجدوا أن من الصعب عليهم حمايتهم. ولهذا أمر إدوارد الأول من كان باقياً في إنجلترا من اليهود وكانوا حوالي 16000 يهودي أن يغادروا البلاد قبل أول نوفمبر من ذلك العام، وأن يتركوا وراءهم جميع أملاكهم الثابتة وما يمكن استرداده من الديون. وعرق الكثيرون منهم في القناة الإنجليزية التي أرادوا أن يعبروها في قوارب صغيرة، وسرق ملاحو السفن متاعهم وأموالهم، فلما وصل بعضهم إلى فرنسا أبلغتهم الحكومة الفرنسية أن عليهم أن يغادروا البلاد قبل بداية الصوم الكبير من عام 1291 (156).

وفي فرنسا أيضاً تبدلت الحالة النفسية بالنسبة لليهود حين قامت الحروب

(1)

ولا تزال بكنيسة لنكولن آثار مزار أقيم فيها في الماضي "لهيو الصغير" مصحوبة بالعبارة الآتية: "إن في القصة حوادث كثيرة تلقى الشك على صحتها، وإن وجود قصص مثلها في إنجلترا وغيرها من البلاد ليدل على أن منشأها هو الحقد الناشئ من التعصب على اليهود في العصور الوسطى، والخرافة المنتشرة وقتئذ، والتي لا يصدقها أحد قط في هذه الأيام، بأن قتل الأطفال كان من الشعائر الدينية في عيد الفصح اليهودي. وقد قامت الكنيسة منذ القرن الثالث عشر بمحاولات لحماية اليهود من كراهية الغوغاء ومن هذه التهم بنوع خاص".

ص: 92

الدينية على الأتراك في آسية، والملاحدة الألبجنسين Albigensian في النجويدك Languedoc. فقام الأساقفة يلقون الخطب الدينية المثيرة للنفوس، وكان من الشعائر المعتادة في بزيير أيام أسبوع الآلام أن يهاجم الغوغاء الحي اليهودي، وأخيراً دعا أحد رجال الدين المسيحيين في عام 1160 بالكف عن هذه المواعظ الدينية، ولكنه طلب إلى الجالية اليهودية أن تؤدي ضريبة خاصة في أحد السعف من كل عام (157). وفي طلوشة (طولوز) أرغم اليهود على أن يبعثوا بممثل لهم إلى الكنيسة في يوم الجمعة الحزينة من كل عام ليتلقى صفعة على أذنه لتكون بمثابة تذكرة لهم خفيفة بخطيئتهم الأبدية (158). وفي عام 1171 أحرق عدد من اليهود في بلوا Blois بحجة استخدامهم دماً مسيحياً في شعائر عيد الفصح اليهودي (159). ورأى الملك فيليب أغسطس الفرصة سانحة ليبتز منهم المال محتجاً بالدين، فأمر بأن يسجن جميع من في مملكته من اليهود لأنهم يسممون آبار المسيحيين (160)، ثم أمر بالإطلاق سراحهم بعد أن افتدوا أنفسهم بمال كثير (1180)، غير أنه طردهم من البلاد بعد عام واحد، وصادر جميع أملاكهم الثابتة، وأهدى معابدهم للمسيحيين. وفي عام 1190 أمر بقتل ثمانين يهودياً في أورنج Orange لأن ولاة الأمور في المدينة شنقوا أحد عماله لقتله أحد اليهود (161)، ثم استدعى اليهود إلى فرنسا في عام 1198 ونظم أعمالهم المصرفية تنظيماً يضمن به لنفسه أرباحاً طائلة (162). وفي عام 1236 دخل الصليبيون المسيحيون الأحياء اليهودية في أنجو Anjou وبواتو Poitou- وبخاصة ما كان منها في بوردو Bordeaux وأنجوليم Angoul (me- وأمروا بأن يعمد اليهود جميعاً، فلما أبوا داسوا بحوافر خيولهم ثلاثة آلاف منهم حتى قضوا نحبهم (163). وندد البابا جريجوري التاسع بهذه المذبحة، ولكنه لم ينج اليهود من الموت. وأشار القديس لويس على رعاياه بألا يجادلوا اليهود في أمور الدين، وقال لجوانفيل Joinville إن من واجب كل شخص من غير رجال الدين: "إذا سمع إنساناً يذكر الدين المسيحي بما لا يليق

ص: 93

أن يدافع عنه بالسيف لا باللفظ، ينفذه في بطن الآخر إلى أبعد مدى ينفذ فيه (164). وفي عام 1254 نفى اليهود من فرنسا، وصادر أملاكهم ومعابدهم، ثم عاد فسمح بدخولهم إياها، ورد إليهم معابدهم، وبينما كانوا يعيدون بناء جماعاتهم إذ أمر فيليب الجميل Philip the Fair (1306) بسجنهم، وصادر ما كان لهم من ديون، وجميع ما كان لهم من متاع لم يستثن إلا ما كان عليهم من الثياب، ثم طردهم جميعاً من فرنسا وكانوا يبلغون مائة ألف، ولم يسمح لهم بأكثر مما يكفيهم من الطعام يوماً واحداً. وقد بلغ ربح الملك من عمله هذا قدراً أغراه بأن يهدي معبداً يهودياً إلى سائق عربته (165).

وهكذا تجمعت طائفة متقاربة من الحوادث الدموية دامت نحو مائتي عام تكونت منها صورة ذات وجه واحد. ولم يقع على اليهود في برفانس Provence، وإيطاليا، وصقلية، والإمبراطورية البيزنطية بعد القرن التاسع إلا حوادث اضطهاد صغرى، واستطاعوا وقاية أنفسهم مها بالالتجاء إلى أسبانيا المسيحية، وكانت فترات الطمأنينة حتى في إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا طويلة، وكان اليهود يكثرون مرة أخرى ويثري بعضهم بعد كل مأساة تنزل بهم. غير أن قصصهم كانت تنقل إليها ما كان لهذه الفترات المحزنة من ذكريات مُرة، وكانت أيام السلام مليئة بخوفهم من خطر المذابح الذي لا ينفك يهددهم، وكان على كل يهودي أن يحفظ عن ظهر قلب الدعاء الواجب عليه أن يتلوه في ساعة الاستشهاد (166). وكانت حمى السعي إلى جمع المال ترتفع حرارتها بقدر ما كان يحيق بكسبه من أخطار، وكان لابسو الشارة الصفراء يقابلون في الطرقات بسخرية الساخرين على الدوام، كما كان يحيق بهذه الأقلية المنعزلة العديمة الحول والطول تحقير يحز في نفوسها وبذل من كبرياء أفرادها ويقطع ما بينها وبين العناصر الأخرى من مودّة، ويترك في أعين يهود الشمال تلك النظرة المعروفة بأحزان اليهود Judenschmerz التي تذكرهم بعشرات المئات من الإهانات والاعتداءات ألا ما أكثر من صلبوا انتقاماً لحادث صلب وحيد!

ص: 94

الباب السابع عشر

‌عقل اليهودي وقلبه

500 -

1300

الفصل الأول

‌الأدب

لقد ظلت روح اليهودي يتنازعها عاملان هما اعتزامه أن يشق طريقه في عالم معاد له وشغفه بثمار العقل. فالتاجر اليهودي عالم فقده العلم؛ يحسد الرجل الذي نجا من حمى الثراء، والذي شغف في هدوء واطمئنان بحب العلم وضرب بسهم في آفاق الحكمة، ولكنه لا يحسده فحسب بل يكرمه كذلك. وشاهد ذلك أن التجار ورجال المصارف الذاهبين إلى أسواق ترويس Troyes، كانوا يقفون في طريقهم ليستمعوا إلى راشي العظيم وهو يشرح التلمود (1). وبفضل هذه الروح ظل يهود العصور الوسطى وهم في غمار المشاغل التجارية، والفقر المذل، والازدراء القاتل، ظلوا ينتجون النحويين، وفقهاء الدين، والمتصوفة، والشعراء، والعلماء، والفلاسفة، ولم يضارعهم في آدابهم الواسعة وثرائهم العقلي إلا المسلمون فيما بين 1150 و 1200 (2). وكان مما يسر لهم أسباب هذا النبوغ أنهم يعيشون بين المسلمين أو على اتصال بهم، وإن كثيرين منهم كانوا يعرفون اللغة العربية، فكان عالم الثقافة الإسلامية الثري بأجمعه في العصور الوسطى مفتوحاً أمامهم يغترفون من بحره الطامي في العلوم والطب، والفلسفة، وبفضل وساطتهم أثاروا

ص: 95

عقل العالم الغربي المسيحي بما بثوا فيه من تفكير المسلمين.

وكان اليهود في بلاد الإسلام يستخدمون اللغة العربية في حديثهم ونثرهم المكتوب، أما شعراؤهم فقد استمسكوا في شعرهم باللغة العبرية ولكنهم استخدموا فيه الأوزان العربية والصور الشعرية؛ وفي البلاد المسيحية كان اليهود يتحدثون بلغة الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها، ويكتبون في آدابهم، ويعبدون يهوه بلسانهم القديم. وأخذ يهود أسبانيا بعد ابن ميمون يكتبون أدبهم باللغة العبرية بدل العربية بعد فرارهم من اضطهاد الموحدين. وقد استطاع اليهود بفضل جهود فقهاء لغتهم وإخلاصهم أن يحيوا اللغة العبرية من جديد؛ وكان قد تعذر عليهم فهم نصوص العهد القديم لعدم وجود الحركات المستقلة وعلامات الترقيم في اللغة العبرية، ولكن علماءهم استطاعوا بعد دراسة دامت ثلاثة قرون أن يضعوا النص المسورتي Masoretic (الذي قدسته التقاليد) وذلك بإضافة علامات للحركات، وإشارات للنبر، وعلامات للترقيم، وفواصل للشعر، وشروح الهوامش؛ وبفضل هذا العمل أصبح في مقدور كل يهودي بعد ذلك الوقت أن يقرأ كتبه الدينية.

واضطرتهم هذه الدراسات إلى وضع النحو العبري والمعجمات العبرية. ولفت شعر مناشة بن سروق (910 - 970) وعلمه نظر حسداي بن شبروط، فاستدعاه الوزير العظيم إلى قرطبة وشجعه على وضع قاموس لألفاظ الكتاب المقدس العبرية. ووضع يهوذا بن داود حيوج (حوالي عام 1000 م) النحو العبري على أساس علمي، في ثلاثة كتب باللغة العربية لغة الكتاب المقدس. وبزه في هذا العمل تلميذه يونا بن جناح (995 - 1050) السرقسطي حين وضع بالعربية كتابه في النقد الذي تقدم به النحو العبري والمعجمات العبرية خطوات واسعة. ووضع يهوذا بن قريش علم فقه اللغات السامية المقارن بدراسته اللغات العبرية، والآرامية، والعربية. وتقدم أبراهام الفارسي (حوالي عام 980) اليهودي

ص: 96

القرائي خطوة أخرى على هذا العمل بوضعه معجماً أرجع فيه جميع ألفاظ كتاب العهد القديم إلى أصولها ورتبها على الحروف الأبجدية. وبز ناثان بن يحيل من علماء روما (المتوفي عام 1160) سائر علماء المعاجم اليهود بوضعه معجماً للتلمود. وفي نربونة ظل يوسف قمحي وولداه موسى وداود (1160 - 1235) يعملون عدة أجيال في هذه الميادين، وظل محلول أو موجز Michlol داود قروناً عدة المرجع المعترف به في النحو العبري، وطالما أعان مترجمي الملك جيمس للكتاب المقدس (3). تلك كلها أسماء اخترناها من بين ألف اسم من أدباء اليهود.

وأفاد الشعر اليهودي من هذه الدراسات الواسعة فتحرر من الصيغ العربية، وأنشأ أشكاله وموضوعاته الخاصة به، وأنتج في أسبانيا وحدها ثلاثة رجال يضارعون أي ثلاثة غيرهم من الأدباء المسلمين أو المسيحيين في عصرهم. وأول هؤلاء الثلاثة هو سليمان بن جبيرول المعروف في العالم المسيحي باسم الفيلسوف أفسبرون Avlcebron. وقد هيأته مأساته الشخصية لأن يكون هو المعبر عن مشاعر إسرائيل. وكان مولد هذا "الشاعر بين الفلاسفة والفيلسوف بين الشعراء" على حد قول هيني في مالقه حوالي عام 1021. وتوفي أبواه وهو صغير السن فنشأ في جو من الفقر نزع به إلى التفكير المكتئب. وأعجب بشعره يقويتايل ابن حسان وهو رجل كان يشغل منصباً رفيعاً في دولة-مدينة سرقسطة الإسلامية. وفي هذه المدينة وجد ابن جبيرول الحماية والهناءة إلى حين، وأخذ يتهنى بمباهج الحياة. ولكن بعض أعداء الأمير قتلوا يقويتايل فاضطر ابن جبيرول إلى الفرار من المدينة وظل عدة سنين يهيم على وجهه في بلاد الأندلس الإسلامية، فقيراً عليلاً، هزيلاً إلى حد "يسهل معه على ذبابة أن تحملني". وأولاه صمويل بن نجدلا، وهو شاعر مثله، حمايته وأواه في غرناطة وفيها كتب سلّمان كتبه الفلسفية وخص الحكمة بشعره:

ص: 97

وكيف أتخلى عن الفلسفة؟

لقد عقدت معها عهداً.

فهي أمي وأنا أعز أبنائها؛

لقد طوقت عنقي بجواهرها ....

وستظل روحي تصبو إلى

مراقيها السماوية، ما دمت حياً ..

ولن يقر لي قرار حتى أكشف منبعها.

وربما كان كبرياؤه قد أدى إلى الشقاق بينه وبين صمويل: فعاد، وهو لا يزال شاباً في أخريات العقد الثالث من عمره، إلى الفقر والتجوال، حتى أذلت النكبات نفسه، فهجر الفلسفة إلى الدين:

رباه، ما الإنسان؟ إنه جيفة دنسة تطأها الأقدام.

إنه مخلوق كريه، يفيض مكراً وخداعاً.

إنه زهرة ذواية، تدبل إذا مسها الحر (6).

وينجو شعره في بعض الأحيان منحى عظمة المزامير المكتئبة الحزينة:

أنشر علينا السلام يا الله،

وأسبغ علينا نعمتك السرمدية.

ولا تجعلنا ممن يحل عليهم غضبك،

يا من نسكن إليه.

وسواء كنا نطوف بالأرض جيئة وذهاباً.

أو نقيم مكبلين بالأغلال في المنفى الموحش.

فسنظل نجهر أينما ذهبنا قائلين.

ها هنا مجدك يا رباه.

وخير كتبه كلها هو كيتير ملخوت (التاج الملكي) الذي ينادي فيه بعظمة الله كما كانت قصائده الأول تنادي بعظمته هو:

ص: 98

افر منك إليك لأجد

مكاناً ألجأ إليه. وفي ظلك

أختبئ من غضبك

إلى أن تهدأ سورتك،

حتى تستمع إلي وترثي لي،

ولن أفك قبضتي

حتى تهبط عليَّ نعمتك.

وقد اجتمع في أسرة ابن عزرا بغرناطة ما كان للثقافة اليهودية في أسبانيا الإسلامية من ثراء متعدد المناحي. وكان يعقوب ابن عزرا يشغل منصباً رفيعاً تحت رياسة شمويل بن نجدلا في بلاط الملك. وكان بيته ندوة للآداب والفلسفة ونبغ ثلاثة من أولاده الأربعة الذين نشئوا في هذا الجو العلمي، فكان اسحق شاعراً، وعالماً طبيعياً، ومتبحراً في التلمود، وكان موسى ابن عزرا (1070 - 1139) عالماً وفيلسوفاً، وكان أعظم شعراء اليهود قبل هلوي. وقد انتهت سعادة شبابه حين أحب بنت أخ له حسناء زوَّجها أبوها اسحق أخوه الأكبر بأخيه الأصغر أبراهام. فما كان من موسى إلا أن هاجر من غرناطة، وهام على وجهه في بلاد نائية يغذي بالشعر عواطفه المكبوتة البائسة:"ألا فعيشي، وإن كانت شفتاك يسيل منهما الشهد ليمتصه غيري، وتنفسي بالند يستنشقه سواي. وسأظل وفياً لك حتى تستعيد الأرض الباردة وديعتها، وإن لم تكوني أنت وفية لي. إن قلبي ليطرب لغناء العندليب، وإن كان المغنى يعلو على وينأى عني"(9). ووجَّه قيثارته آخر الأمر، كما وجهها ابن جبيرول. إلى الأغاني الدينية، وأخذ ينشد مزامير من الاستسلام الصوفي.

وكان أبراهام بن مإير بن عزرا-الذي يعده بروننج Browning

ص: 99

المعبر عن فلسفة العصر الفكتوري-يمت بصلة القرابة البعيدة لموسى بن عزرا، ولكنه كان من أصدقائه المقربين. وقد ولد في طليطلة عام 1093، وعرف في شبابه الفقر والجوع، ولكنه كان شديد التعطش إلى العلم في كل ميادينه. وأخذ هو أيضاً يتنقل من مدينة إلى مدينة، ومن مهنة إلى مهنة، ولازمه سوء الحظ في كل مهنة وفي كل مدينة، وقال في هذا بسخرية اليهودي المريرة:"لو اتجرت في الشمع لما غربت الشمس، ولو بعت أكفان الموتى لعاش الناس إلى أبد الدهر". وسافر إلى إيران مجتازاً مصر والعراق، ولعله قد ذهب أيضاً إلى بلاد الهند، ثم عاد إلى إيطاليا، ومنها إلى فرنسا، وإنجلترا. وبينما كان عائداً إلى أسبانيا في الخامسة والسبعين من عمره إذا وافته منيته، وكان لا يزال فقيراً ولكنه ذو شهرة واسعة بين اليهود أجمعين لبلاغة شعر ونثره. وكانت مؤلفاته لا تقل تنوعاً عن البلاد التي طاف بها-ألف في العلوم الرياضية، والفلكية، وفي الفلسفة، والدين؛ وكانت قصائده تختلف من الحب إلى الصداقة، ومن مناجاة الله إلى مناجاة الطبيعة، والفصول، ومن الحديث عن الشطرنج إلى التغني بجمال النجوم. وقد صاغ في صور شعرية أفكاراً لم يكن يخلو منها مكان ما في عصر الإيمان، واستبق نيومن Newman بهذه الترنيمة العبرية:

يا إله الأرض والسماء، منك الروح والجسد!

لقد وهبت الإنسان بعظيم حكمتك ما في الإنسان من ضياء قدسي

إن أيامي بين يديك، وأنت تعرف الخير لي

وتهبني بقوتك خير عن لي حيث أخشى الوقوف

وسترك يحجب عن العيون آثامي ورحمتك رعي الواقي

ولست تريد جزاء على نعمك وأفضالك (10)

وخير ما يشتهر به عند معاصريه هو تعليقه على كل كتاب من كتب العهد

ص: 100

القديم. وقد دافع عن صدق الكتب العبرية المقدسة، وأنها موحى بها من عند الله، ولكنه فسر العبارات الممجدة للخالق تفسيراً مجازياً. وكان أول من قال أن سفر إشعيا لم يكتبه نبي واحد بل كتبه اثنان من الأنبياء؛ ويعده اسبنوزا واضع أساس النقد العقلي للكتاب المقدس (11).

وكان أعظم شعراء عصره على بكرة أبيهم يهودا هليفي (1086 - 1147). وقد ولد في طليطلة بعد عام من استيلاء الفنسو السادس ملك قشتالة عليها. فنشأ فيها آمناً في كنف أعظم الملوك المسيحيين استنارة وتسامحاً في أيامه. وأعجب ابن عزرا بإحدى قصائده الأولى فدعاه إلى الإقامة معه في غرناطة، حيث استضافه موسى واسحق ابني عزرا في منزلهما. وأخذ شعره ينتشر ونكاته تذيع في جميع الأوساط اليهودية في أسبانيا. وكان ينعكس على شعره مزاجه المرح، وشبابه الموفق السعيد، وأخذ يتغنى بالحب، بكل ما عرف من الشعراء الجوالين المسلمين أو البروفنساليين، وبكل ما في نشيد الأنشاد من قوة ورنين. وقد حوت "حديقة بهجته" مقطوعة من الشعر الملتهب حماسة تعد أمرح الفقرات في هذه الطرفة الهزلية الرائعة:

ادن منها أيها الحبيب، لِمَ تتوانى أن تطعم بين حدائقها؟

انثن إلى مخدع الحب لتقطف سوسنها.

إن تفاحتي صدرها المحجوبتين ليفوح شذا عطرهما،

وهي تخبئ لك في قلائدها ثماراً شهية تتلألأ كالنور ....

لولا قناعها لاستحت منها نجوم السماء

وترك هليفي ضيافة ابني عزرا وسخاءهما وذهب إلى أليسانة وواصل الدرس عدة سنين في الجمع العلمي اليهودي بهذه المدينة، فدرس الطب، وأصبح من الأطباء غير النابهين، ثم أسس معهداً للغة العبرية في طليطلة وأخذ يحاضر فيه عن الكتاب المقدس. ثم تزوج وأنجب أربعة أبناء. فلما تقدمت به السن طغى

ص: 101

شعوره بما حل باليهود من نوائب على ما كان يرفل فيه من نعيم، فأخذ يتغنى بشعبه، وبأقرانه، ودينه، وكان يتوق كما يتوق غيره من اليهود لأن يختتم حياته في فلسطين:

أي مدينة الدنيا (أورشليم) يا ذات الجمال والجلال والكبرياء!

ليت لي جناحي نسر أطير بهما إليك حتى أبلل بدمعي ثراك!

إن قلبي في الشرق، وإن كنت مقيماً في الغرب (13).

ولم يكن يهود أسبانيا المنعمون فيها يرون في هذه الأشعار أكثر من ألفاظ مقفاة موزونة، ولكن هليفي كان مخلصاً في أقواله. فقد استودع أسرته في أيد أمينة عام 1141، وبدأ رحلة شاقة إلى أورشليم. وأتت الرياح بما لا تشتهي سفينته فحولتها عن طريقها ودفعتها إلى الإسكندرية حيث استقبلته الجالية اليهودية، ورجته ألا يجازف بالذهاب إلى أورشليم وكانت وقتئذ في أيدي الصليبيين. وبعد أن أقام في الإسكندرية وقتاً ما غادرها إلى دمياط ومنها إلى صور ثم انتقل منها لسبب لا نعلمه إلى مشق حيث اختفى ذكره من التاريخ. وتقول إحدى الأقاصيص أنه ذهب إلى أورشليم، فلما وقعت عينه عليها أول ما وقعت خرَّ راكعاً، وقبَّل الأرض، فداسته حوافر جواد يركبه أعرابي وقضت على حياته (14). ولكننا لا نعرف هل وصل حقاً إلى مدينة أحلامه، وكل الذي نعلمه علم اليقين أنه كتب في دمشق "أغنية لصهيون" ولعله كتبها في آخر سنة من حياته، وكان جوت الشاعر الألماني يعدها من أعظم القصائد في أدب العالم كله (15):

ألا ترغبين يا صهيون في أن تبعثي بتحياتك من صخورك المقدسة

إلى شعبك الأسير الذي يحييك لأنه البقية الباقية من أبنائك؟

ألا ما أجش صوتي وأنا أندب أحزانك ولكني حين أبصر حريتك في

ص: 102

أوهام أحلامي تنساب من صوتي النغمات حلوة شجية كنغمات القيثارة المعلقة

على شاطئ نهر بابل

ألا ليتني أستطيع أن أصب روحي حيث صبت

روح الله في أبنائك القديسين في الأزمان السابقة! لقد كنت منزل الملوك

وعرش الله، ولست أدري كيف يحتل العبيد الآن العرش الذي جلس عليه

أبناؤك من قبل؟

من ذا الذي يرشدني لبحث عن الأماكن التي أطل منها الملائكة بجلالهم

على سلك وأنبيائك في الأزمان القاصية؟

ومن ذا الذي يهب لي جناحين أطير بهما لأضع حطام قلبي بين خرائبك

وأستريح ن تجوالي؟

سأولّي وجهي نحو أرضك وأمسك بحجارتك أعتز بها كما يعتز الناس

بالذهب الثمين

إن هواءك يبعث الحياة في نفسي، وذرات ترابك هي المسك الشذي،

وأنهارك تفيض بالعسل المصفى.

وما أعظم بهجتي إذا استطعت أن أجيء إلى معابدك المخربة عارياً حافي

القدمين! حيث احتفظ بالتابوت، وحيث سكن الملائكة المكرمون في

المخابئ المظلمة

يا صهيون يا ذات الجمال الذي ليس بعده جمال، لقد اجتمع فيك الحب

والبهاء، إن أرواح أبنائك تتجه في حنان نحوك؛ وكانت أفراحك بهجتها

ومسراتها، وها هي ذي الآن تبكي في منفاها البعيد أسى وحسرة على خرائبك،

وتتوق لرؤية مرتفعاتك المقدسة، وتسجد في صلواتها خاشعة نحو أبوابك، إن

ص: 103

الرب ليحب أن يختارك لتكوني مسكنه الأبدي، وطوبى لمن اختاره الرب

وأنعم عليه بالراحة في داخل أبهائك.

وما أسعد من يرقبك وهو يقترب منك حتى يرى أضواءك المجيدة

تنتشر، ومن يطلع عليه فجرك الوضَّاء كاملاً صافياً من سماء المشرق.

وأسعد من هذا وذاك من يشهد بعينيه المتهللتين نعيم أبنائك المحررين،

ويرى شبابك يتجدد كعهدنا به في قديم الزمان (16).

ص: 104

الفصل الثاني

‌مغامرات التلمود

لقد بلغ رخاء يهود العصر الذهبي في أسبانيا مبلغاً يمنعهم أن يكونوا شديدي التمسك بالدين كما كان شعراؤهم في سني الاضمحلال، فقد كانوا يقرضون شعراً مطرباً، حسياً، رقيقاً، وينطقون بفلسفة توفق في ثقة بين الكتاب المقدس والتفكير اليوناني. ولقد ظل اليهود يزدادون رخاء حتى بعد أن طردهم الموحدون المتشددون في دينهم من بلاد الأندلس الإسلامية إلى أسبانيا المسيحية، وازدهرت المجامع العلمية اليهودية في ظل التسامح المسيحي في طليطلة وبرشلونة خلال القرن الثالث عشر. لكن اليهود لم يكن حظهم في فرنسا وألمانيا كما كان حظ يهود أسبانيا، فقد كانوا يزدحمون في أحيائهم الضيقة وهم جلون، ويبذلون خير مواهبهم في دراسة التلمود، ولم يكونوا يهتمون بتبرير عقائدهم للعالم غير المتدين، ولم يشكوا قط في أصوله، بل انهمكوا في دراسة الشريعة.

وأضحى المجمع العلمي الذي أنشأه جرشوم في مينز من أوسع المدارس نفوذاً في ذلك العصر، اجتمع فيه مئات من طلاّب العلم واشتركوا مع جرشوم في نشر نصوص التلمود وتوضيحها بعد أن ظلوا يكدحون في هذا العمل جيلين من الزمان. وقام بمثل هذا العمل في فرنسا الحاخام شلومو بن يصحق (1040 - 1105)، ويسميه بنو ملته راشي تدليلاً له وقد أخذوا هذا الاسم من الحروف الأولى من لقبه واسمه. وقد ولد راشي في تروي من أعمال شمبانيا، وتعلم في المدارس اليهودية في ورمز، ومينز، وأسبير، ثم عاد إلى تروي وأخذ يعول أسرته ببيع الخمور، ولكنه خص الكتاب المقدس والتلمود بكل ساعة من ساعات فراغه. وقد أنشأ مجمعاً علمياً في تروي مع أنه لم يكن حاخاماً رسمياً، وظل يعلم فيه أربعين

ص: 105

سنة، ووضع بالتدريج شروحاً للعهد القديم ومشنا. والجمارا ولم يحاول، كما حاول بعض العلماء الأسبان، أن يجد في النصوص الدينية آراء فلسفية، بل كل ما فعله أن فسر هذه النصوص تفسيراً اغترفه من بحر علمه الصافي الخضم، بلغ من تقدير بني دينه أن طبع هذا التفسير مع التلمود نفسه. وقد أكسبته طهارة حياته مضافة إلى تواضعه احترام شعبه فرفعوه إلى مقام القديسين، وأخذت الجماعات اليهودية في جميع أنحاء أوربا يرسلون إليه يستفتونه في المسائل الدينية والشرعية، وجعلوا لأجوبته الصفة القانونية. وأحزنته في شيخوخته مذابح الحملة الصليبية الأولى. وواصل عمله بعد وفاته أحفاده شمويل، ويعقوب، واسحق أبناء مإير، وكان يعقوب أول "التوسافيت"، وظل علماء التلمود الفرنسيون والألمان خمسة أجيال من بعد وفاته يراجعون ويعدلون شروحه بما يضيفون إليها من توسافوت أو "إضافات".

وما كاد التلمود يتم حتى أصدر جستنيان قراراً بتحريمه (553) لأنه "خليط من الصغائر، والخرافات، والمظالم، والإهانات، والسباب، والكفر، والتجديف"(17). ويلوح أن الكنيسة قد نسيت بعدئذ وجود التلمود؛ ذلك أنه قلّما كان يوجد من رجال الكنيسة اللاتينية من يستطيع قراءة اللغة العبرية أو الآرامية اللتين كتب بهما، وظل اليهود سبعمائة عام كاملة يقرءون ويدرسون مجلداته العزيزة عليهم بكامل حريتهم-يقرءونه بجد يخيل إلينا معه أنه قد نسوا معه الكتاب المقدس. لكنه حدث في عام 1239 أن رفع لقولاس دونين Nicholas Donin، وهو يهودي اعتنق المسيحية، إلى البابا جريجوري التاسع معروضاً يتهم فيه التلمود بأنه يحتوي على إهانات فاضحة للمسيح والعذراء، وتحريض على الغش والخداع في معاملة المسيحيين. وما من شك في أن بعض هذه التهم صحيح، لأن جامعي الكتاب في جدهم المتواصل قد عظموا التنائيم والأمورائم تعظيماً جعلهم يضمون إلى الأجزاء الشعبية من الجمارا وفي أجزاء

ص: 106

متفرقة منها ملاحظات يرد بها الأحبار الغضاب على نقد المسيحيين للدين اليهودي (18). ولكن دونين، وقد صار أكثر مسيحية من البابا نفسه، أضاف من عنده عدة تهم أخرى، لا يمكن إثباتها: منها أن التلمود يجيز غش المسيحي، ويحبذ قتله، مهما بلغ من صلاحه، وأن أحبار اليهود يجيزون لهم أن ينكثوا عهودهم التي أقسموا على الوفاء بها، وأن يقتلوا كل مسيحي يدرس الشريعة اليهودية. فما كان من جريجوري إلا أن أمر بأن يرسل إلى الرهبان الدومنيك أو الفرنسيس كل ما يمكن العثور عليه من نسخ التلمود في فرنسا، وإنجلترا، وأسبانيا، ثم أمر أولئك الرهبان بأن يفحصوا تلك الكتب بدقة وعناية، فإذا تبينوا أن هذه التهم صحيحة فليحرقوها. ولم نعثر فيما وصل إلينا من المعلومات المسجلة على ما حدث بعد ذا الأمر، ولكنا نعرف أن لويس التاسع أمر يهود فرنسا بأن يسلموا كل ما لديهم من نسخ التلمود وإلا كان جزاؤهم الإعدام، ثم استدعى أربعة من أحبارهم إلى باريس ليدافعوا عن الكتاب في نقاش علني أمام الملك، والملكة بلانش Blanche، ودونين، واثنين من الفلاسفة المدرسين-وليم الأوفرني William of Auvergne، وألبرتس مجنس Albertus Magnus (19) . ودام البحث ثلاثة أيام أمر بعدها الملك أن تحرق جميع نسخ التلمود (1240)، وشفع ولتر كرنوتس Walter Cornutus كبير أساقفة سان Sens لليهود فأمر الملك بإعادة كثير من نسخ التلمود إلى أصحابها، فلما مات كبير الأساقفة بعد ذلك بقليل اعتقد بعض الرهبان أن موته هو حكم الله على لين الملك. واقتنع الملك برأيهم هذا فأمر بمصادرة جميع نسخ التلمود، فجيء بها إلى باريس محملة على أربعة وعشرين عربة وألقيت في النار (1242). ثم صدر أمر بابوي في عام 1248 يحرم تملك التلمود في فرنسا، وضعفت بعد ذلك دراسة التلمود والآداب العبرية في جميع أنحاء فرنسا عدا برفاتس.

وحدث مثل هذا النقاش في برشلونة عام 1263، ذلك أن ريمند البنيافورتي

ص: 107

Rayond of Penafort وهو راهب دومنيكي يشرف على محكمة التفتيش في أرغونة وقشتالة أخذ على عاتقه أن ينصر يهود هاتين المقاطعتين. وأراد أن يعد واعظيه لهذا الغرض فنظم دراسات في اللغة العبرية في معاهد اللاهوت بأسبانيا المسيحية، وساعده في هذا يهودي متنصر يدعى بول المسيحي Paul the Christian وأمدا فيما بينهما ريمند بكثير من المعلومات عن الدينين المسيحي واليهودي فنظم الراهب نقاشاً بين بول والحاخام موسى بن نحمان الجيروني أمام جيمس الأول ملك أرغونة. وجاء ابن نحمان إلى النقاش على كره منه، لأنه كان يخشى النصر بقدر ما كان يخشى الهزيمة. ودام الجدل أربعة أيام كان الملك في أثنائها مبتهجاً، ويبدو أن الطرفين قد حافظا على آداب المناظرة. وفي عام 1264 أمرت لجنة دينية بجمع كل ما في أرغونة من نسخ التلمود، ومحت كل ما فيها من فقرات تطعن الدين المسيحي ثم ردت الكتب إلى أصحابها (20)، وتحدث ابن نحمان عن الدين المسيحي في تقريره الذي كتبه للمعابد اليهودية في أرغونة يصف فيه المناظرة بعبارات خيل إلى ريمند أن فيها طعناً شديداً على هذا الدين (21)، فاحتج الراهب لدى الملك على هذا العمل، ولكن جيمس لم يحرك ساكناً إلا في عام 1266 حين خضع لإلحاح البابا فنفى ابن نحمان من أسبانيا. وتوفي ذلك الحبر في فلسطين بعد عام من نفيه.

ص: 108

الفصل الثالث

‌العلوم عند اليهود

تكاد العلوم الطبيعية والفلسفة عند اليهود أن تنحصر كلها في بلاد الإسلام، ذلك أن المقيمين في البلاد المسيحية في العصور الوسطى كانوا بمعزل عن جيرانهم معرضين للاحتقار وإن كانوا متأثرين بأولئك الجيران، ولهذا لجأوا إلى التصوف والخرافات وأخذوا يمنون أنفسهم بمجيء مسيح ينقذهم مما هم فيه. وتلك كلها ظروف هي أسوأ ظروف يمكن أن ينشأ فيها العلم. غير أن الدين اليهودي كان يشجع على دراسة الفلك، لأن تحديد أيام الأعياد تحديداً دقيقاً إنما يعتمد على هذه الدراسة. وبفضل هذه الدراسة استبدل علماء الهيئة اليهود في بابل في القرن السادس التقديرات الفلكية بالأرصاد المباشرة للقبة السماوية. وقد حسبوا السنة على أساس الحركة الظاهرية للشمس، والشهور على أوجه القمر، وسموا الشهور بأسماء بابلية، وجعلوا بعض الشهور "كاملة" عدة كل منها ثلاثون يوماً، وبعضها "ناقصة" عدة كل منها تسعة وعشرون، ثم وفقوا بين التقويمين القمري والشمسي بإضافة شهر ثالث عشر إلى كل سنة ثالثة، وسادسة، وثامنة، وحادية عشرة، ورابعة عشرة، وسابعة عشرة، وتاسعة عشرة في كل دورة مؤلفة من تسعة عشر عاماً. وكان يهود في الشرق يؤرخون الحوادث على أساس التقويم السلوقي الذي يبدأ في عام 312 ق. م. أما في أوربا فقد اتخذوا في القرن التاسع "التاريخ اليهودي" الحال المعروف باسم "سنة العالم Anno Mundi والذي يبدأ بتاريخ خلق الدنيا كما يظنون في عام 3761 ق. م. وبهذا كله أصبح التقويم اليهودي لا يقل سخفاً وقدسية عن تقويمنا نحن

(1)

.

(1)

يريد التقويم المسيحي. (المترجم)

ص: 109

وكان من أوائل علماء الهيئة اليهود في بلاد الإسلام العالم ما شاء الله (المتوفى حوالي عام 815). وقد ترجم جيرار القريموني Gerard of Cremona كتابه في الفلك من العربية إلى اللاتينية واستقبل أحسن استقبال في العالم المسيحي. ورسالته في الأثمان هي أقدم مؤلف علمي موجود الآن باللغة العربية. وكانت أعظم رسالة في العوم الرياضية في ذلك العصر (22) هي رسالة أبراهام بن حيا البرشلوني (1065 - 1136) في الجبر، والهندسة، وحساب المثلثات وهي المعروفة باسم هيورها مشيحه. وقد ألف أيضاً موسوعة مفقودة في علوم الرياضة، والهيئة، والبصريات، والموسيقى، كما ألف في التقويم أقدم رسالة باللغة العبرية باقية إلى الآن. ولم يجد أبراهام ابن عزرا، في الجيل التالي، تعارضاً بين كتابه الشعر، والتبحر في التحليل التركيبي. وكان أبراهام هذا وذاك أول من كتب من اليهود رسائل علمية باللغة العبرية لا العربية. وبفضل هذه الكتب، وفيض من الكتب الأخرى التي ترجمت من العربية إلى العبرية غزت العلوم والفلسفة الإسلامية المجتمعات اليهودية في أوربا ووسعت نطاق حياتها الذهنية إلى ما وراء المعارف الدينية الخالصة.

وأفاد يهود ذلك العهد إلى حد ما من علوم المسلمين الطبيعية، وإن كانوا قد عادوا أيضاً إلى تقاليدهم القديمة الخاصة بفن العلاج، فكتبوا عدة رسائل قيمة في الطب، وأصبحوا هم أعظم الأطباء إجلالاً في أوربا المسيحية. ولقد ذاعت شهرة اسحق إسرائيلي (855 - 955؟) في طب العيون بمصر ذيوعاً عين بسببه الطبيب الخاص للأغالبة في القيروان. وكانت مؤلفاته الطبية، بعد أن ترجمت من العربية غلى العبرية واللاتينية، تعد أهم المراجع الطبية في أوربا بأجمعها؛ وكانت تستعمل كتباً للدراسة في سالرنو، وباريس، ونقل عنها بيرتن Burton، بعد حياة دامت سبعمائة عام، فيما كتبه عن تشريح السوداء (1621). وتصف الروايات المتواترة اسحق بأنه لم يكن يأبه بالمال، وبأنه عازب عنيد في

ص: 110

عزوبته، وبأنه عاش مائة عام كاملة. وأكبر الظن أنه كان من معاصريه آساف ها يهودي، وهو المؤلف الخامل الذكر لمخطوط كشف منذ وقت قريب، ويعد أقدم مؤلف طبي باللغة العبرية باق إلى الآن من الزمن القديم. ويشتهر هذا الكتاب بما جاء فيه من أن الدم يجري من الشرايين إلى الأوردة، ولو أنه طافت بعقله وظيفة القلب لاستبق بذلك هارفي Harvey (23) إلى كشف الدورة الدموية بأكملها.

وسيطر على فن الطب في مصر بعد قدوم ابن ميمون إليها (1165) الأطباء اليهود والمؤلفات اليهودية. فكتب أبو الفداء عن علماء القاهرة أهم رسالة في الرمد في القرن الثاني عشر، وألف الكوهين العطار (1275؟) كتاباً في الأقراباذين لا يزال يستعمل حتى الآن في العالم الإسلامي. وكان الأطباء اليهود في جنوبي إيطاليا وفي صقلية إحدى المسالك التي انتقل بها الطب العربي إلى سالرنو. ذلك أن شباتاي بن أبرهام (913 - 970) المعروف باسم ونولو والمولود في أترانتو وقع أسيراً في يد المسلمين، فدرس الطب العربي في بالرم، ثم عاد ليمارس مهنته في إيطاليا. ودرس بنفنوتس جراسس، أحد يهود أورشليم، في سالرنو، وأخذ يعلم فيها وفي منبلييه وكتب رسالة في طب العيون (1250؟) كان العالم الإسلامي والعالم المسيحي على السواء يريانها أهم رسالة في أمراض العين. وقد اختيرت هذه الرسالة بعد 224 عاماً من نشرها أول كتاب يطبع في موضوعها.

وكانت مدارس الأحبار اليهود وبخاصة في جنوبي فرنسا تدرس منهاجاً في الطب، وكان من بين الأغراض التي تبتغيها من هذه الدراسة أن تمكن رجال الدين من كسب المال من غير طريق الدين. وقد ساعد الأطباء اليهود الذين تدربوا في منبلييه على إقامة مدرسة منبلييه الطبية الشهيرة؛ ولما عين يهودي مديراً لتلك الكلية في عام 1300 جر ذلك على الشعب اليهودي حقد الأطباء في جامعة

ص: 111

باريس، واضطرت جامعة منبلييه أن تغلق أبوابها في وجه اليهود (1301) ونفى الأطباء العبرانيون فيمن نفى من اليهود من فرنسا في عام 1306. غير أن الطب المسيحي كان في ذلك الوقت قد حدث به انقلاب عظيم بتأثير الأطباء اليهود والمسلمين وما ضربوه لغيرهم من مثل طيبة. ذلك أن الأطباء الساميين كانوا قد نبذوا من زمن بعيد النظرية التي تقول إن المرض ينشأ من حلول الشياطين بالجسم، وكان نجاح تشخيصهم للمرض تشخيصاً قائماً على العقل وعلاجهم إياه قد أضعف إيمان الناس بقوة مخلفات الأولياء والصالحين وغيرها من وسائل العلاج المبنية على خوارق الطبيعة.

وكان من أصعب الأشياء على الرهبان والقساوسة الذين تضم أديرتهم وكنائسهم تلك المخلفات والتي تجتذب إليها الحجاج أن يرضوا بهذا الانقلاب فحرمت الكنيسة استقبال الأطباء اليهود في داخل بيوت المسيحيين، فقد كانت ترتاب في أن طب هؤلاء الناس أقوى من عقيدتهم، وكانت تخشى تأثيرهم في العقول المريضة. وفي عام 1246 حرم مجلس بزيير على المسيحيين استخدام أطباء يهود، وفي عام 1267 حرم مجلس فينا على الأطباء اليهود أن يعالجوا مسيحيين، غير أن هذه الأوامر وأمثالها لم تمنع بعض كبار المسيحيين من الانتفاع بمهارة اليهود، مثال ذلك أن البابا بنيفاس Boniface الثامن حين مرض بعينيه استدعى لعلاجه اسحق بن مردخاي (24)، وكان ريمند للي Raymond Lullys يشكو من أن بكل دير طبيباً يهودياً، وهال مبعوث بابوي أن يجد أن هذه الحال أيضاً في كثير من أديرة النساء، وكذلك ظل ملوك أسبانيا المسيحيون يستمتعون بعناية الأطباء اليهود حتى أيام فرديناند وإزبلا، وكتب ششت بنفنيست Sheshet Benveniste البرشلوني طبيب جيمس الأول ملك أرغونة (1231 - 1276) أهم رسالة في أمراض النساء في زمانه، ولم يفقد اليهود زعامتهم الطيبة في البلاد المسيحية إلا بعد أن استخدمت الجامعات المسيحية في القرن الثالث عشر الأساليب الطيبة القائمة على العقل.

ص: 112

ولم يفد علم الجغرافية إلا قليلاً من الشعب اليهودي، وكان من حقه أن يفيد من لسعة انتشاره وكثرة تنقله. بيد أن اثنين من اليهود كانا أعظم الرحالة في القرن الثاني عشر. وهذان هما بناحيا الراتسبوني Petschya of Ratisbon وبنيمين التطيلي، وقد كتبا قصصاً عبرية قيمة عن رحلاتهما في أوربا والشرق الأدنى. فقد غادر بنيمين سرقسطة في عام 1160، وطاف على مهل ببرشلونة، ومرسيلية، وجنوا، وبيزا، وروما، وسالرنو، وبرنديزي، وأترنتو، وكورفو، والقسطنطينية، ولجزائر الإيجية، وإنطاكية، وكل مدينة هامة في فلسطين، وبعلبك، ودمشق، وبغداد، وبلاد الفرس. ثم عاد بطريق البحر مجتازا المحيط الهندي، والبحر الأحمر إلى مصر، وصقلية، وإيطاليا ومنها براً إلى أسبانيا. ووصل إلى موطنه في عام 1173 حيث مات بعد قليل. وكان أكثر ما يهتم به هو الجماعات اليهودية ولكنه وصف المظاهر الجغرافية لكل بلد مر به والخصائص الجنسية لسكانه وصفاً يمتاز بكثير من الدقة والموضوعية. وقصته أقل طرافة ومتعة من قصص ماركوبولو التي كتبها بعد مائة عام من ذلك الوقت، ولكنها في أغلب الظن أقرب منها إلى الحقيقة. وقد ترجمت هذه الرحلة إلى جميع اللغات الأوربية تقريباً، ولا تزال إلى يومنا هذا من الكتب المحببة إلى اليهود (25).

ص: 113

الفصل الرابع

‌نشأة الفلسفة اليهودية

حياة العقل مزيج من قوتين أولاهما ضرورة الإيمان ليستطيع الإنسان الحياة. والأخرى ضرورة الاستدلال ليستطيع التقدم. وتكون إرادة الإيمان هي المسيطرة على العقل في عهود الفقر والفوضى لأن الشجاعة في تلك العصور هي كل ما يحتاجه الناس، أما في عهود الثراء فإن القوى الذهنية تبرز إلى الأمام لتفرض على الناس الرقي والتقدم، وعلى هذا فإن الحضارة في انتقالها من الفقر إلى الثراء تنزع إلى خلق النزاع بين العقل والإيمان، "والصراع بين العلم والدين". وفي هذا الصراع تعمل الفلسفة عادة على التوفيق بين الأضداد وإيجاد سلام وسط لأن وظيفتها هي أن ترى الحياة في كلتيها، ونتيجة ذلك أن يحتقرها العلم ويرتاب فيها الدين. وفي عصر الإيمان حين تجعل الصعاب الحياة شاقة لا تحتمل بغير أمل، تميل الفلسفة إلى الدين، وتستخدم العقل في الدفاع عن الإيمان، وتصبح ديناً متنكراً. وإذا نظرنا إلى الأديان الثلاثة التي اقتسمت فيما بينها حضارة البيض في العصور الوسطى رأينا ذلك القول أقل انطباقاً على المسلمين أكثر الناس ثراء، ورأيناه أكثر انطباقاً على المسيحيين وهم أقل من المسلمين ثراء، وأشد ما يكون انطباقاً على اليهود أقل أصحاب الأديان الثلاثة ثراء. وأكثر ما ابتعدت الفلسفة اليهودية عن الدين عند اليهود الأثرياء في بلاد الأندلس الإسلامية.

والفلسفة الإسلامية في العصور الوسطى مصدران هما الدين العبراني، والتفكير الإسلامي. وكانت كثرة المفكرين اليهود ترى أن الدين والفلسفة متشابهان في محتوياتهما ونتيجتهما، وأن كل ما يختلفان فيه هو الوسيلة والصورة: فالذي يعلمه الدين بوصفه عقيدة موحى بها من عند الله تعلمه الفلسفة على أنه حقيقة يثبتها

ص: 114

العقل، وقد قام معظم المفكرين اليهود من سعديا إلى ابن ميمون بهذه المحاولة في بيئة إسلامية، وأخذوا معلوماتهم عن الفلسفة اليونانية من التراجم العربية، ومن شروح المسلمين؛ وكتبوا بالعربية لليهود والمسلمين على السواء. وكما أن الأشعري وجه سلاح العقل ضد المعتزلة، وأنقذ بذلك العقيدة السنية في الإسلام، كذلك فعل سعديا الذي غادر مصر إلى بابل في نفس العام (915) حين تحول الأشعري من الشك إلى اليقين، وأنقذ الدين العبراني بطول جدله ومهارته فيه، ولم يستخدم سعديا أساليب المتكلمين المسلمين فحسب، بل استخدم كذلك دقائق مناقشاتهم نفسها (26).

وكان لانتصار سعدياً من الأثر في الدين اليهودي ببلاد الشرق، ما كان لانتصار الغزالي في الإسلام ببلاد الشرق، فقد عمل هذا الانتصار، مضافاً إلى الاضطراب السياسي والاضمحلال الاقتصادي، على خنق روح الفلسفة العبرانية في الشرق. وكملت القصة في أفريقية وأسبانيا، في القيروان وجد اسحق إسرائيلي بين مشاغله في الطب والكتابة متسعاً من الوقت يؤلف فيه كتباً فلسفية ذات تأثير كبير. فقد وضع رسالة في التعاريف أفاد منها منطق المدرسين مصطلحات جمة، وعَرَّفت رسالته في العناصر التفكير العبراني بكتاب أرسطو في الطبيعة، وأحل كتابه في النفس والروح نظرية مأخوذة من الأفلاطونية الحديثة عن الفيض الإلهي التقدمي من الله إلى العالم المادي، أحل هذه النظرية محل قصة الخلق كما وردت في سفر التكوين؛ وكان هذا من مصادر القبة اليهودية.

وكان أثر ابن جبيرول فيلسوفاً أكبر من أثره شاعراً. ولقد كان من الطرف التاريخية أن المدرسين كانوا ينقلون أقواله في هالة من الإجلال والتقدير ويسمونه أفسبرون ويحسبونه مسلماً أو مسيحياً، ولم يعرف الناس أن ابن جبيرول وأفسبرون رجل واحد إلا حين كشف ذلك سلومون منك Salomon Munk في عام 1846 (27). وكاد ابن جبيرول نفسه أن يهيئ عقول الناس لهذا الخلط إذ حاول

ص: 115

أن يكتب الفلسفة بعبارات بعيدة كل البعد عن الدين اليهودي. فقد أخذ كل مقتبساته في مجموعة أمثاله المسماة مختار اللآلي من مصادر غير يهودية إذا استثنينا عدداً قليلاً من هذه المقتبسات، وإن كانت القصص الشعبية اليهودية تحتوي على ثروة كبيرة من الحكم القوية التي تعد من جوامع الكلم. ومن هذه اللآلي لؤلؤة كنفوشية إلى أبعد حد:"كيف يستطيع الإنسان أن يتأثر من عدوه؟ بزيادة صفاته الطيبة"(28). وتكاد هذه الحكمة أن تكون خلاصة رسالته في إصلاح الصفات الخلقية التي ألفها ابن جبيرول كما يلوح وهو في سن الرابعة والعشرين حين تكون الفلسفة موضوعاً غير لائق بالإنسان. وقد اشتق الشاعر بأساليب في الاشتقاق اصطناعية جميع الفضائل والرذائل من الحواس الخمس، فأدى به هذا إلى نتائج غاية في السخف. ولكن الذي يمتاز به هذا الكتاب هو أنه حاول أن يضع في عصر الإيمان قانوناً للأخلاق لا يعتمد على العقيدة الدينية (29).

وبهذه الجرأة عينها امتنع جبيرول عن أن يقتبس في أهم كتبه كلها وهو كتاب "مقور حايم" من الكتاب المقدس، أو التلمود، أو القرآن. وكان هذا البعد عن القومية هو الذي جعل الكتاب بغيضاً لأحبار اليهود، كما جعله في ترجمته اللاتينية المسماة "منبع الحياة Fous Vitae" عظيم الأثر في العالم المسيحي. وقد قبل ابن جبيرول في هذا الكتاب أصول الأفلاطونية الحديثة التي تسري في الفلسفة الإسلامية كلها، ولكنه فرض على هذه الأصول الفلسفية مبدأ الاختيار الذي يؤكد عمل الإرادة عند الله والإنسان. ويقول ابن جبيرول في كتابه إن علينا أن نفترض وجود الله بوصفه الهيولي الأول، والجوهر الأول، والإرادة الأولى إذا شئنا أن نفهم وجود الحركة في أي شيء على الإطلاق، ولكننا لا نستطيع قط معرفة صفات الله. ولم يخلق الله الكون في زمان معين، بل هو ينساب في فيض متصل متدرج من ذات الله. وكل شيء في الكون، ماعدا

ص: 116

الله وحده يتكون من مادة وصورة، وهما تظهران مجتمعتين على الدوام، ولا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى إلا في الفكر وحده (30). وقد رفض أحبار اليهود هذه الآراء الكونية الشبيهة بآراء ابن سينا، وقالوا إنها هي المادية المقنعة، ولكن الكسندر الهاليسي Alexandre of Hales، والقديس بونافنتور St. Bonaventure ودنز اسكوتس Duns Scotus قبلوا فكرة كونية المادة تحت سيطرة الله وأولية الإرادة، وقال وليم الأوفروني عن ابن جبيرول إنه "أنبل الفلاسفة أجمعين" وظنه مسيحياً صالحاً.

أما يهودا هليفي فقد رفض كل تفكير فلسفي وقال عنه إنه من عبث العقل، وكان يخشى كما يخشى الغزالي أن تقوض الفلسفة دعائم الدين؛ وليس هذا لأنها تشك في عقائده، أو لأنها فوق ذلك تتجاهله، أو أنها تفسر الكتاب المقدس تفسيراً مجازياً فحسب، بل لأنها فوق هذا وأكثر منه تستبدل الجدل بالخشوع والإيمان. وقد قاوم هذا الشاعر غزو أفلاطون وأرسطو للدين اليهودي، وتسرب الآراء الإسلامية إلى اليهود، وهجمات اليهود القرائين المتواصلة على التلمود، نقول قاوم الشاعر هذا كله بتأليف كتاب في الفلسفة يعد أمتع كتب العصور الوسطى الفلسفية بأجمعها، ونعني به كتاب الخزري (1140؟) الذي عرض فيه آرائه في صورة قصة شبيهة بالمسرحيات تدور حول اعتناق ملك الخزر للدين اليهودي. وكان من حسن حظ هليفي أن الكتاب قد استخدمت فيه الحروف العبرية وإن كان قد كتب باللغة العربية، وبذلك لم يقرؤه غير اليهود المتعلمين؛ ذلك أن القصة تجمع أمام الملك أسقفاً، ومُلاَّ، وكوهناً؛ ثم تتخلص من الإسلام والمسيحية بعد قليل. فحين يقتبس المسلم والمسيحي من كتاب اليهود المقدس ويقران أنه كلام الله يصرفهما الملك ويستبقي الكوهن اليهودي ويصبح معظم الكتاب حديثاً للكوهن يعلم فيه ملكاً مطواعاً مختتناً أصول الدين اليهودي وشعائره. ويقول التلميذ الملكي لمعلمه: "لم يجد جديد منذ نزل دينكم اللهم

ص: 117

إلا تفاصيل عن الجنة والنار" (31). ويشجع هذا القول الكوهن فيقول إن اللغة العبرية لغة الله، وإن الله لم يتحدث بنفسه إلا لليهود، وإن أنبياء اليهود وحدهم هم الملهمون من عند الله ويسخر هليفي من الفلاسفة الذين ينادون بتفوق العقل ويخضعون الله والسموات لقياسهم المنطقي ومقولاتهم، مع أن العقل البشري لا يعدو أن يكون جزءاً من عالم المخلوقات المعقد وهو جزء هش متناه في الصغر .. والعاقل (وليس حتماً أن يكون متعلماً) هو الذي يقر بضعف العقل وعجزه عن إدراك الشئون غير الدنيوية، ويستمسك بالعقيدة التي جاءه بها الكتاب المقدس، ويؤمن ويصلي ببساطة الطفل (32).

ولكن افتتان الناس بالعقل قد أبقى على الرغم من هليفي، وظلت آراء أرسطو تغزو الدين اليهودي. فلقد كان أبراهام بن داود (1110 - 1180) مستمسكاً بدينه استمساك هليفي، يدافع عن التلمود ضد اليهود القرائين ويقص بكبرياء وفخار تاريخ الملوك اليهود في الدولة الثانية، ولكنه كان يتطلع، كما تطلع العدد الذي يخطئه الحصر من المسيحيين، والمسلمين، واليهود في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، إلى استخدام الفلسفة لإثبات أصول دينه. وقد ولد كما ولد هليفي في طليطلة، وكان يكسب عيشه من مهنة الطب. وقد رد على هليفي في كتابه العربي كتاب العقيدة الرفيعة بمثل ما رد به أكويناس فبما بعد على أعداء الفلسفة المسيحيين، فقال إن الدفاع السلمي عن الدين ضد غير المؤمنين يتطلب المحاجة المنطقية، ولا يمكن أن نعتمد هذا الدفاع على الإيمان بهذا الدين، وقد فعل ابن داود ما فعله ابن رشد بعده بزمن قليل (1126 - 1198)، وما فعله ابن ميمون بعده بجيل من الزمان (1135 - 1204)؛ والقديس تومس أكويناس بعده بمائة عام (1224 - 1274)، فبذل كل ما في وسعه من جد للتوفيق بين دين آبائه وبين فلسفة أرسطو. ولو أن الفيلسوف اليوناني شهد ذلك لسره أن يتلقى هذه التحية الثلاثية، أو أن يعرف أن الفلسفة اليهودية لم تعرفه

ص: 118

إلا من مخلصات الفارابي وابن سينا اللذين لم يعرفاه إلا عن طريق الترجمة المشوهة والأفلاطونية الحديثة المزورة. وكان ابن داود أكثر من القديس تومس إخلاصاً لمصدرهما الأرسطاطيلي المشترك فقال كما قال ابن رشد إن النفس الكلية وحدها، لا النفس الفردية، هي الخالدة (33). وهنا كان يحق لهليفي أن يشكو من أن أرسطو قد انتصر على التلمود، فلقد بدأت الفلسفة اليهودية، كما بدأت فلسفة العصور الوسطى بوجه عام، بالأفلاطونية الحديثة وبالتقوى، وها هي ذي تبلغ ذروتها بفلسفة أرسطو وبالشك. وسيبدأ ابن ميمون فلسفته من هذا الموقف الأرسطاطيلي الذي وقفه ابن داود، ويواجه في شجاعة ومهارة جميع مشكلات العقل في صراعه مع الدين.

ص: 119

الفصل الخامس

‌ابن ميمون

1135 -

1204

ولد أعظم عظماء اليهود في العصور الوسطى بمدينة قرطبة لأب من أكابر العلماء الممتازين هو الطبيب والقاضي ميمون بن يوسف. وسمي الغلام موسى، وكان من الأقوال المأثورة بين اليهود قولهم:"لم يظهر رجل كموسى من أيام موسى إلى موسى". وقد عرف بين الناس باسم موسى بن ميمون أو باسم أقصر من هذا وهو ميموني. ولما أن أصبح من أحبار اليهود الذائعي الصيت جمعت الحروف الأولى من لقبه واسمه فصارت رميم، وعبر العالم المسيحي عن أبوته بتسميته ميمونيدس Maimonides. وتقول إحدى القصص التي يغلب على الظن أنها من الخرافات الذائعة إن الغلام أظهر عدم الميل للدرس، وإن أباه الذي خاب فيه رجاؤه سماه "ابن الجزار" وبعثه ليعيش مع معلمه السابق الحاخام يوسف ابن مجاشن (34). ومن هذه البداية الفقيرة برع موسى الثاني في آداب الدين وآداب الكتاب المقدس، والطب، والعلوم الرياضية والهيئة، والفلسفة. وكان ثاني اثنين هما أعلم أهل زمانه، ولم يكن يضارعه في علمه إلا ابن رشد. ومن أغرب الأشياء أن هذين المفكرين البارزين اللذين ولدا في مدينة واحدة ولم يكن بين مولدها إلا تسع سنين لم يجتمع أحدهما بالآخر كما يلوح. ويبدو أن بن ميمون لم يقرأ لابن رشد إلا حين بلغ هو سن الشيخوخة وبعد أن ألف كتبه (35).

واستولى البربر على قرطبة في عام 1148 وهدموا الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية، وخيروا المسيحيين واليهود بين الإسلام والنفي، فغادر ابن ميمون أسبانيا في عام 1159 هو وزوجته وأبناؤه، وأقاموا في فاس تسع سنين مدعين أنهم مسلمون (36)، لأن المسيحيين واليهود لم يكن يسمح لهم بالإقامة هناك أيضاً.

ص: 120

وبرر ابن ميمون تظاهره بالإسلام بين اليهود المهددين بالخطر في مراكش بقوله إنهم لم يكن يطلب إليهم أن يؤدوا شعائر هذا الدين أداءً عملياً بل كل ما كان يطلب إليهم أن يتلوا صيغة لا يؤمنون بها، وإن المسلمين أنفسهم يعرفون أنهم غير مخلصين في النطق بها وإنما يفعلون ذلك ليخادعوا جماعة من المتعصبين (37). لكن كبير أحبار اليهود في فاس لم يوافقه على هذا القول، وكان جزاؤه أن قتل في 1165. وخشي ابن ميمون أن يلقى هذا المصير نفسه فسافر إلى فلسطين، ثم انتقل منها إلى الإسكندرية (1165) ومصر القديمة حيث عاش حتى وافته منيته. وسرعان ما عرف المصريون أنه من أعظم أطباء زمانه، فاختير طبيباً خاصاً لنور الدين على أكبر أبناء صلاح الدين، وللقاضي الفاضل البيساني وزير صلاح الدين. واستخدم ابن ميمون نفوذه في بلاط السلطان لحماية يهود مصر، ولما فتح صلاح الدين فلسطين أقنعه ابن ميمون بأن يسمح لليهود بالإقامة فيها من جديد (38). وفي عام 1177 عين ابن ميمون نجيداً أو زعيماً لليهود في القاهرة، ثم أفهمه أحد الفقهاء المسلمين (1187) بأنه مرتد عن الإسلام وطالب بأن توقع عليه عقوبة القتل التي هي جزاء المرتدين. ولكن الوزير أنقذ ابن ميمون إذ قال إن الرجل لذي أرغم على اعتناق الإسلام لا يمكن أن يعد مسلماً بحق (39).

وفي سني العمل المتواصل التي أقامها بالقاهرة ألف معظم كتبه. ومن هذه المؤلفات عشرة كتب في الطب باللغة العربية نقل فيها آراء أبقراط، وجالينوس، وديسقوريدس، والرازي وابن سينا. وقد اختصر في كتاب الأمثال الطبية كتاب جالينوس إلى ألف وخمسمائة عبارة قصيرة تشمل كل فرع من فروع الطب، وترجم هذا الكتاب إلى اللغتين العبرية واللاتينية، وكثيراً ما كان ينقل عنه في أوربا ويصدر ما ينقل بتلك العبارة:"قال الحبر موسى". ووضع مقالة في تدبير الصحة للملك الأفضل على بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ ومقالة أخرى في الجماع لسلطان حماة الملك المظفر تقي الدين أبي سعيد عمر

ص: 121

ابن نور الدين تحدث فيها عن الجماع من الوجهة الصحية، وعن عجز القوة الجماعية، وعن الانتصاب الدائم، وعن الأدوية المقوية للباه.

وقد أضاف ابن ميمون إلى هذه الرسائل عدة مقالات كل منها في موضوع واحد منها مقالة في السموم والتحرز من الأدوية القتّالة

(1)

، ومقالة في الربو

(2)

، وأخرى في البواسير، ورابعة في السوداء-ومقالة جامعة في شرح العقار. وتحتوي هذه الكتب الطبية، كما تحتوي سائر الكتب، على أقوال لا تتفق مع عقائد هذا لزمان السريعة التبدل-المعصومة من الخطأ-كقوله إنه إذا كانت الخصية اليمنى أكبر من اليسرى كان المولود الأول ذكراً (41)؛ ولكنها تمتاز برغبة صادقة في مساعدة المرضى، ببحثها الذي يمتاز بالتسامح والمجاملة في الآراء المتعارضة، وبما يسري فيها من طابع الحكمة والاعتدال في النصح ووصف الدواء. ولم يكن ابن ميمون يصف العقاقير إذا ما أغنى عنها تنظيم الغذاء (42). وقد حذر الناس من كثرة الطعام بقوله إن المعدة يجب ألا تنتفخ كأنها خراج (43). وكان يظن أن الخمر تفيد الصحة إذا شربت باعتدال (44)، ونصح بدرس الفلسفة لأنها تدرب على الاتزان العقلي والخلقي وعلى الهدوء وهما الصفتان اللتان تؤديان إلى صحة الجسم وطول العمر (45).

وبدأ ابن ميمون في الثالثة والعشرين من عمره شرحاً للمشنا، وظل يكدح في هذا العمل عشر سنين بين مشاغله التجارية، والطبية، والأسفار الخطرة براً وبحراً. ولما نشر هذا الشرح في القاهرة عام 1158 باسم كتاب السراج رفع ابن ميمون من فوره-وكان لا يزال شاباً لم يتجاوز الثالثة والثلاثين من عمره-إلى منزلة بين شراح التلمود عليها إلا منزلة راشي، وذلك

(1)

تعرف بالمقالة الفاضلة لأنها موجهة إلى القاضي الفاضل. (المترجم)

(2)

وضعت لمريض نبيل. (المترجم)

ص: 122

بفضل ما يمتاز به من الوضوح، وغزارة المادة، وصدق الأحكام. وبعد عشرين سنة من ذلك الوقت نشر أعظم كتبه كلها باللغة العبرية الجديدة وسماه متحدياً مستشيراً مشنا التوراة، وقد رتب فيه نظام منطقي، وإيجاز واضح، كل ما حوته أسفار موسى الخمسة من القوانين وجميع قوانين المشنا والجمارا ما عدا النزر اليسير. ويقول في مقدمة الكتاب:"لقد سميت هذا الكتاب مشنا التوراة (تكرار الشريعة) لأن من يقرأ الشريعة المسطورة (الأسفار الخمسة) لأول مرة، ثم يقرأ هذه المجموعة، يعرف الشريعة الشفوية جميعها من غير أن يحتاج في ذلك إلى الرجوع إلى أي كتاب آخر"(46)، وقد أغفل فيه بعض ما ورد في التلمود من قواعد خاصة بالفأل والطيرة، والتمائم، والتنجيم، فكان ذلك من بين مفكري العصور الوسطى القلائل الذين لم يؤمنوا بالتنجيم (47). وقد قسم الأوامر الواردة في الشريعة والبالغ عددها 613 أربعة عشر قسماً وضع لكل واحد منها عنواناً وخص كل عنوان "بكتاب". ولم يكتف بشرح كل قانون بل أخذ على نفسه بيان ضرورته المنطقية أو التاريخية. ولم يترجم إلى الإنجليزية من هذه الكتب الأربعة عشر إلا كتاب واحد، وهو مجلد ضخم نستطيع به أن نتبين ضخامة الكتاب الأصلي كله.

ويتضح من هذا الكتاب ومن كتابه الآخر الذي صدر بعده وهو: دلالة الحائرين، أن ابن ميمون لم يكن من الذين يجهرون بالإلحاد. بل إنه قد حاول جهده لكي يرجع المعجزات الواردة في الكتاب المقدس إلى علل طبيعية، ولكنه كان يدعو إلى الاعتقاد بأن كل لفظ في أسفار موسى الخمسة موحى به من الله، وإلى العقيدة الدينية القائلة بأن الشريعة الشفوية قد نقلها موسى إلى كبار رجال إسرائيل (48). ولعله كان يشعر بأن اليهود لا يستطيعون أن يكون اعتقادهم في الكتاب المقدس أقل شأناً من اعتقاد المسيحيين والمسلمين فيه، ولعله هو أيضاً كان يرى أن لا قيام للنظام الاجتماعي بغير الاعتقاد في قدسية أصل القانون

ص: 123

الأخلاقي. وكان ابن ميمون وطنياً شديد الحب لوطنه لا يقبل في عقيدته جدلاً "يجب على جمع بني إسرائيل أن يتبعوا كل ما ورد في التلمود البابلي، وعلينا أن نرغم اليهود في جميع أنحاء الأرض على أن يستمسكوا بالعادات والأساليب التي قررها حكماء التلمود"(49). وكان أكثر حرية إلى حد ما من معظم المسلمين والمسيحيين في أيامه، فكان يعتقد أن غير اليهودي المتمسك بأهداب الفضيلة، المؤمن بوحدانية الله، يدخل الجنة، ولكنه لم يكن يقل قسوة على كفرة اليهود من سفر التثنية أو التركمادا، ويقول إن اليهود الذين ينبذون الشريعة اليهودية يجب أن يقتلوا، و "من رأيي أن جميع أفراد العشيرة اليهودية التي بلغت من القحة والجرأة ما جعلها تخالف أمراً من أوامر الله يجب أن يعدموا"(50). وقد استبق أكويناس في الدفاع عن القتل جزاء للإلحاد بحجة "أن القسوة على من يضلون الناس سعياً وراء الزهو والخيلاء إنما هي رحمة بالعالم"(51)، وارتضى دون عناء عقوبة الإعدام التي يفرضها الكتاب المقدس جزاء للسحر، والقتل، ومضاجعة المحارم، وعبادة الأوثان، والسرقة بالإكراه، وخطف الأشخاص، وعصيان الأبناء للآباء، وخرق حرمة السبت (52). ولعل أحوال اليهود حين هاجروا من مصر القديمة، وحاولوا أن يؤسسوا لهم دولة من جماعة معدمة لا وطن لها، تقول لعل أحوال هؤلاء اليهود كانت تبرر وضع هذه القوانين. ولقد كانت حالة اليهود المزعزعة المضطربة في أوربا المسيحية أو أفريقية المسلمة كانت تتطلب قانوناً صارماً يخلق فيهم النظام والوحدة، ولكن الآراء المسيحية، والعادات اليهودية أيضاً في أغلب الأحيان، كانت أرحم من القوانين اليهودية في هذه الأمور (قبل أيام محكمة التفتيش).

وإن في نصيحة ابن ميمون التي يسديها إلى يهود زمانه لجانباً من هذه الروح أفضل من الجانب الصارم السالف الذكر: "إذا قال للكفرة لبني إسرائيل:

ص: 124

أسلمونا أحدكم لنقتله وجب عليهم أن يتحملوا جميعاً آلام القتل ولا يسلموا إليهم واحداً من أبناء إسرائيل" (53).

وأظرف من هذه الصورة صورة هذا العالِم وهو ينحدر إلى الشيخوخة، فقد أيد في هذه السن قول أحبار اليهود إن "اللقيط العالم (بالشريعة) يسبق الكوهن الأكبر الجاهل". وهو ينصح العالم بأن يخصص من وقته ثلاث ساعات في كل يوم لكسب العيش وتسعاً لدراسة التوراة. وكان يعتقد أن البيئة أقوى أثراً من الوراثة، ولذلك أشار على طالب العلم أن يسعى إلى صحبة الصالحين العقلاء من الناس. وينصح طالب العلم بألا يتزوج حتى يكتمل علمه، ويتخذ له حرفة، ويشتري له منزلاً (55)، وعندئذ يصح له أن يتزوج أربع نساء، ولكن لا يصح له أن يباشرهن إلا مرة واحدة في كل شهر.

"نعم إن مباشرة الإنسان لزوجته مسموح به على الدوام، ولكن من واجب العالم أن يصطنع القداسة في هذه العلاقة أيضاً، فعليه ألا يكون على الدوام مع زوجته كما يفعل الديك، بل يجب عليه أن يؤدي الواجب الزوجي في ليلة الجمعة

ويجب على الزوج والزوجة وقت المضاجعة ألا يكونا في حالة سكر، أو فتور، أو حزن، وألا تكون الزوجة نائمة في ذلك الوقت (56) ".

وهكذا ينشأ آخر الأمر الحكيم الذي:

"يتصف بالتواضع الجم، ولا يكشف رأسه أو جسمه

ولا يرفع صوته فوق الحد الواجب إذا تكلم، حديثه مع الناس جميعاً ظروف

بتجنب المبالغة والتصنع في الحديث، يعدل في حكمه على الناس، يؤكد فضائل غيره، ولا يتحدث عن أحد بسوء (57) ".

ولا يذهب إلى المطاعم إلا عند الضرورة القصوى: "فالرجل الحكيم لا يأكل في بيته ومن مائدته"(58). وهو يدرس التوراة في كل يوم حتى

ص: 125

يموت، ويحذر ألا يخدعه أحد بأنه المسيح، ولكنه لن يفقد إيمانه بأن المسيح الحق سيأتي ويعيد إسرائيل إلى صهيون، ويقود العالم كله إلى الدين الحق، وإلى الوفرة، والأخوة، والسلام:"تفنى جميع الأمم أما اليهود فباقون غلى أبد الدهر"(59).

وغضب أحبار اليهود من مشنا التوراة، فقلما كان في وسع أحد منهم أن يعفو عما يرمي إلى من إحلال كتابه محل التلمود مع ما في هذا من جرأة، وقد استاء كثيرون من اليهود مما عزى إلى ابن ميمون من القول بأن من يدرس الشريعة أعلى مقاماً ممن يعمل بها. ولكن الكتاب رغم هذا كله قد جعل صاحبه أعظم اليهود جميعاً في عصره، فارتضاه جميع يهود المشرق مستشاراً لهم وبعثوا إليه بمسائلهم ومشاكلهم، وخيل الناس في جيل من الزمان أو الجاؤنية قد عادت إلى الوجود. ولكن ابن ميمون لم ينتظر حتى يستمتع بهذا الصيت، بل شرع من فوره يؤلف كتابه التالي، فبعد أن قنن الشريعة ووضوحها لليهود المؤمنين، وجه جهوده للعمل على أن يعيد إلى حظيرة الدين اليهودي من أغرتهم الفلسفة أو أغوتهم جماعات الملاحدة من اليهود القرائين في مصر، وفلسطين، وشمال أفريقية، وأصدر إلى العالم اليهودي بعد عشر سنين من الكد أشهر كتبه كلها وهو: دلالة الحائرين (1190)، وقد كتبه باللغة العربية بحروف عبرية ثم ترجم إلى اللغة العبرية وسمى: مودة نبو حيم، ثم ترجم كذلك إلى اللاتينية وأثار عاصفة من أشد العواصف الذهنية في القرن الثالث عشر.

ويقول في مقدمة الكتاب إن غرضه الأول من وضعه أن يشرح بعض الألفاظ الواردة في الكتب المتنبئة، أي في العهد القديم. ذلك أن كثيراً من ألفاظ الكتاب المقدس وفقراته ذات معان متعددة، حرفية، ومجازية، ورمزية فمنها ما إذا أخذ بمعناه الحر في كان عقبة كؤوداً في سبيل المخلصين لدينهم،

ص: 126

ولكنهم إلى هذا يحترمون العقل أعظم مواهب الإنسان. أولئك ينبغي ألا يخيروا بين الدين بلا عقل وبين العقل بلا دين. وإذا كان العقل قد غرسه الله في الإنسان، فإنه لا يمكن أن يتعارض مع الوحي الإلهي، فإذا ما حدث هذا التعرض فسبب هذا-في رأي ابن ميمون-أننا نأخذ بمعناها الحرفي بعض العبارات الموائمة للعقلية الخيالية التصويرية التي هي من خصائص السذج غير المتعلمين الذين وجه إليهم الكتاب المقدس. ولقد قال أحبارنا إن من المحال أن نصف خلق الإنسان وصفاً كاملاً

ولقد وردت قصة هذا الخلق بعبارات مجازية حتى يستطيع فهمها غير المتعلمين كل بقدر ما له من مواهب، وما عليه إدراكه من ضعف. أما المتعلمون فيفهمونه فهماً مختلفاً عن فهم هؤلاء (61).

ثم ينتقل ابن ميمون من هذه النقطة الأولى إلى البحث في الذات الإلهية فيستنتج مما في الكون من شواهد التنظيم المحكم أن عقلاً سامياً يسيطر على هذا الكون، ولكنه يسخر من الرأي القائل إن الأشياء جميعها قد صنعت من أجل الإنسان (62)؛ فالأشياء لم توجد إلا لأن الله، وهو مصدرها وحياتها، موجود:"ولو أمكننا أن نفترض أنه غير موجود لا ستتبع هذا أن لا شيء غير ممكن الوجود". وإذ كان لا بد بهذه الطريقة من وجود الله، فإن وجوده متلازم مع جوهره. و "الشيء الذي يحتوي في ذاته على ضرورة وجوده، لا يمكن أن يكون لوجوده علة أياً كانت

(1)

". وإذ كان الله عاقلاً، فلا بد أن يكون غير ذي جسم؛ وعلى هذا فكل ما ورد في الكتاب المقدس من عبارات تشير إلى شيء من أعضاء الجسم أو أية صفة من صفاته يجب أن يفسر تفسيراً مجازياً. والحق، كما يقول ابن ميمون (ولعله يحذو في قوله هذا الحذو المعتزلة)، أننا لا نستطيع

(1)

ولقد صاغ ابن سينا هذه القضايا المنطقية، وأخذها عنه القديس تومس أكويناس ثم كيفها اسبنوزا حتى توائم فكرة الهيولي الذاتي الوجود.

ص: 127

معرفة شيء عن الله إلا أنه موجود، بل إن الصفات غير الجسمية التي نصفه بها-كالعقل، والقدرة على كل شيء، والرحمة، والحب، والوحدة والإرادة-كلها من نوع الجناس فهي إذا وصف بها الله كان لها معنى غير معناها إذا ما وصف بها الإنسان. ولن نستطيع قط أن نعرف معناها بالضبط إذا وصف بها الله، وليس في وسعنا أن نعرفه، ولا ينبغي لنا أن نعزو إليه خواص أو صفات أو نثبت له شيئاً من أي نوع كان. فإذا قيل في الكتاب المقدس إن الله أو المَلَك "كلم" الأنبياء"، فليس لنا أن نتخيل لفظاً أو صوتاً، والنبوة هي تنمية المخيلة إلى أقصى درجات النماء"، وهي فيض "الذات الإلهية" عن طريق الحلم أو النشوة الإبصارية، فالذي يقصه الأنبياء لم يحدث في الواقع وإنما حدث في هذه الرؤيا أو الحلم، وعلينا أن نفسره في معظم الأحوال تفسيراً مجازياً (64) "ولقد قال بعض حكمائنا في وضوح إن أيوب لم يكن له قط وجود، وإنما خلقه الشعراء خلقاً

ليكشفوا بهذا عن أهم الحقائق" (65). وهذا الإلهام التنبؤي في مقدور أي إنسان إذا نمى مواهبه إلى أقصى حدود النماء، ذلك بأن العقل البشري إلهام مستمر، لا يختلف اختلافاً جوهرياً عن بصيرة الأنبياء الواضحة الساطعة.

وبعد فهل خلق الله العالم في زمان معين، أو أن الكون ذا المادة والحركة، كما يظنه أرسطو، أزلي؟ يقول ابن ميمون إن هذا ما يحتار فيه العقل؛ فليس في وسعنا أن نثبت أزلية العالم أو خلقه؛ وإذن فالمتمسك بعقيدة آبائنا القائلة بخلقه (66)، ثم ينتقل من هذا إلى تفسير قصة الخلق الواردة في سفر التكوين تفسيراً مجازياً رمزياً: فآدم عنده هو الصورة الفعّالة أو الروح، وحواء هي المادة المنفعلة وهي مصدر كل شر، والأفعى هي الخيال (67). ولكن الشر ليس له وجود ذاتي موجب، وإنما هو انتفاء الخير؛ وترجع معظم مصائبنا إلى ما ترتكبه من أخطاء؛ ومن الشرور ما ليس شراً إلا من وجهة نظر الإنسان أو وجهة النظر الضيقة؛ وقد تكشف النظرة الكونية في كل شر ما هو خير للكل أو ما هو

ص: 128

في حاجة إليه (68). وقد أباح الله للإنسان الإرادة الحرة التي تجعل منه إنساناً بحق؛ وقد يختار الإنسان الشر أحياناً؛ والله تعلم مقدماً بهذا الاختيار، ولكن ليس هو الذي يقرره ويحتمه.

وهل الإنسان مخلد؟ هنا يستخدم ابن ميمون كل ما وهب من قدرة للتعمية على قرّائه، فهو يتجنب هذا السؤال في كتاب دلالة الحائرين، ولا يشير إليه إلا بقوله "إن النفس التي تبقى بعد الموت ليست هي النفس التي تعيش في الإنسان حين يولد"(69). وهذه النفس أو العقل "المنفعل" وظيفة من وظائف الجسم تموت بموته؛ أما الذي يبقى فهو "العقل المكتسب" أو "العقل الفعّال" الذي وجد قبل الجسم، وليس وظيفة من وظائف على الإطلاق (70). وهذه النظرة نظرة أرسطو وابن رشد تنكر كما يبدو الخلود الفردي. ولقد أنكر ابن ميمون في مشنا التوراة فكرة بعث الجسم وسخر من تصوير المسلمين للجنة تصويراً جسمانياً أبيقورياً، وقال إن تصويرها على هذا النحو في الإسلام واليهودية ليس إلا تمثيلاً لها بما يناسب خيال جمهرة الناس وحاجاتهم (71). وأضاف في دلالة الحائرين إلى قوله هذا أن: الموجودات غير الجسمية لا يمكن إحصاؤها إلا حين تكون قوى كائنة في الجسم

(1)

؛ وينطوي قوله هذا، كما يبدو، على أن الروح غير المادية التي تبقى بعد فناء الجسم ليست بذات إدراك فردي. وقد أثارت هذه الإشارات المتشككة كثيراً من الاحتجاجات لأن بعث الأجسام كان قد أصبح من العقائد الأساسية في الإسلام واليهودية. ولما كتب دلالة الحائرين بالحروف العربية أثار عقول العلماء في العالم الإسلامي؛ فقام عبد اللطيف، وهو عالم من علماء المسلمين، يسفهه لأنه "يهدم أركان جميع الأديان بنفس الوسائل التي يخيل إلى الناس أنه يدعمها بها"(73). وكان صلاح الدين وقتئذ منهمكاً في حرب حياة أو موت من الصليبيين؛ وكان السلطان من المستمسكين طول حياته بأصول

(1)

وقد استمد أكويناس من فكرته القائلة إن المادة هي "أصل الإنفرادية"!

ص: 129

الدين، وكان في هذا الوقت، بنوع خاص، أكثر بغضاً للإلحاد منه في أي وقت آخر لأن الإلحاد في ذلك الوقت يهدد الروح المعنوية الإسلامية، والمسلمون منهمكون في حرب مقدسة، بأشد الأخطار. ولهذا أمر في عام 1191 بإعدام السهرودي، وهو صوفي زنديق؛ ونشر ابن ميمون في الشهر نفسه مقالة في بعث الموتى عبّر فيها مرة أخرى عن تشكه في عقيدة الخلود الجسمي ولكنه أعلن أنه يؤمن بها على أنها من قواعد الدين فحسب.

وسكنت هذه الزوبعة إلى حين، وانصرف هو إلى عمله الطبي وإلى كتابة فتاوي دينية أو أخلاقية وصلت إليه من العالم اليهودي. ولما عرض عليه شمويل ابن يهوذا بن تبون، وكان وقتئذ يترجم دلالة الحائرين إلى اللغة العبرية، أنه يرغب في زيارته حذره من أن يظن أنه سيحدثه في أي موضوع علمي ولو مدة ساعة واحدة باللي أو بالنهار لأن عمله اليومي يجري على النحو الآتي: "فأنا أقيم في القسطاط بينما يقيم السلطان في القاهرة على بعد مسيرة يومي سبت

(1)

(ميل واحد ونصف ميل). وواجباتي نحو نائب السلطان جد ثقيلة؛ فعليَّ أن أزوره في كل يوم في الصباح الباكر، وإذا ما كان هو، أو أحد أبنائه، أو أي فرد في داخل حريمه، منحرف المزاج، فلن أجرؤ على مغادرة القاهرة بل عليَّ أن أقيم معظم النهار في القصر

ولا أعود إلى الفسطاط إلى ما بعد الظهر

وأكون وقتئذ قد أوشكت أن أموت من الجوع. ولكني أجد غرفة الاستقبال مزدحمة بالناس، من رجال الدين، وموظفي الدولة، والأصدقاء، والأعداء

فأنزل عن دابتي، وأغسل يدي، وأرجو مرضاي أن يصبروا عليَّ حتى أتناول بعض المرطبات-وتلك هي الوجبة الوحيدة التي أتناولها كل أربع وعشرين ساعة. ثم أستقبل مرضاي

وأظل كذلك إلى أن يحل الليل،

(1)

مسيرة السبت مسافة يبلغ مقدارها ألفي ذراع وهي التي يصرح لليهودي أن يمشيها في يوم السبت وتعادل المسافة بين النهاية القصوى للمعسكر والتابوت (الآية الرابعة من الإصحاح الثالث من سفر يشوع). (المترجم)

ص: 130

وقد أستمر على ذلك في بعض الأحيان حتى تمضي من الليل ساعتان أو أكثر من ساعتين، فأصف لهم الدواء وأنا مستلق على ظهري من فرط التعب، حتى إذا جن الليل تكون قواي قد خارت حتى لا أستطيع الكلام. ولهذا لن يستطيع إسرائيل أن يجتمع بي على انفراد إلا في يوم السبت. ففي ذلك اليوم يقبل عليَّ جميع المصلين، أو الكثرة الغالبة منهم على أقل تقدير، بعد صلاة الصبح، ليتلقوا عليَّ بعض العلم

ونظل ندرس معاً حتى الظهر ثم نفترق (74).

وقد أنهك هذا الجهد قواه قبل الأوان. وقد طلب إليه رتشرد الأول ملك إنجلترا أن يكون طبيبه الخاص، ولكن ابن ميمون لم يستطع تلبية طلبه.

وأدرك وزير صلاح الدين ما حل به من الضعف فسمح له أن يعتزل منصب ورتب له معاشاً، ثم توفي عام 1204 في التاسعة والستين من عمره، ونقلت رفاقه إلى فلسطين ولا يزال قبره قائماً في طبرية.

ص: 131

الفصل السادس

‌الحرب الميمونية

لقد أحس العالم الإسلامي والعالم المسيحي بتأثير ابن ميمون كما أحس به العالم اليهودي، فقد أخذ الفلاسفة المسلمون يدرسون دلالة الحائرين بإشراف معلمين من اليهود؛ وكانت تراجم لاتينية للكتاب تدرس في جامعتي منبلييه وبدوا، وكثيراً ما كان ألكسندر الهاليسي ووليم الإوفرني يقتبسان منه في جامعة باريس. واقتفى ألبرنس ماجنس أثر ابن ميمون في كثير من المسائل، وكثيراً ما كان القديس تومس ينظر في آراء الحبر موسى ليفندها إن لم يكن لغرض آخر. وكان اسبنوزا ينتقد التفسير المجازي للكتاب المقدس الذي يقول به ابن ميمون ويصفه بأنه محاولة غير شريفة للمحافظة على منزلة الكتاب المقدس، ولعله وهو يفعل هذا كان ينقصه الإدراك السليم للتاريخ؛ ولكنه مع ذلك كان يصف الحبر العظيم بأنه "أول من جهر بأن الكتاب المقدس يجب أن يواءم بينه وبين العقل"(75)، وقد أخذ عن ابن ميمون بعض آرائه عن النبوءات والمعجزات وصفات الله (76).

أما في الدين اليهودي نفسه فقد كان تأثير ابن ميمون تأثيراً انقلابياً؛ وقد واصل أبناؤه وحفدته عمله فكانوا مثله علماء ويهوداً: فقد خلفه ابنه أبراهام ابن موسى في منصب النجيد وطبيب البلاط عام 1205؛ وخلفه أيضاً حفيدة داود بن أبراهام، وابن حفيده سليمان بن أبراهام في زعامة يهود مصر. واحتفظ هؤلاء الثلاثة كلهم بتقاليد ابن ميمون في الفلسفة، وأتى على الناس حين من

ص: 132

الدهر أصبح فيه تطبيق آراء أرسطو على الكتاب المقدس واستخدام المجاز والاستعارة في تفسيره استخداماً يبلغ حد الشعوذة، ورفض ما جاء فيه من القصص والقول بأنها غير صحيحة من الوجهة التاريخية، نقول أصبح هذا كله من الطراز الحديث. فقيل مثلاً إن قصة إبراهيم وسارت ليست إلا خرافة تمثل المادة والصورة، وإن قواعد الطقوس اليهودية ليس لها إلا عرض رمزي وحقيقة رمزية (77). وبدا أن صرح الدين اليهودي كله يوشك أن ينهار على رأس أحبار اليهود. وقاوم بعضهم هذه النزعة مقاومة عنيفة: قاومها شمويل الفلسطيني، وأبراهام بن داود البسكوييري of Posqi (res، ومإير بن نادرس هليفي أبو العافية الطليطلي، ودون أستروك اللونلي Don Asteuc of Lunell، وسليمان بن أبراهام من يهود منبلييه، وجناح بن أبراهام جيروندي الأسباني، وكثيرون غيرهم. واحتج هؤلاء وأمثالهم على ما سموه "بيع الكتاب المقدس للإغريق"، وشنوا الغارة على المحاولة التي تهدف إلى إحلال الفلسفة محل التلمود، ونددوا بتشكك ابن ميمون في عقيدة الخلود، ورفضوا فكرته عن الإله غير المعروف وقالوا إنها تجديد مجازي لا يحرك أية نفس نحو التقي ولصلاح. وانضم أتباع القبلة الصوفية إلى المهاجمين ودنسوا قبر ابن ميمون (78).

وفرقت الحروب الميمونية شمل الجماعات اليهودية في جنوبي فرنسا في الوقت الذي أخذت فيه المسيحية الصادقة تشن حرباً شعواء لا هوادة فيها على الزندقة الألبجنسية. وكما أن المسيحية الصادقة قد أخذت تدافع عن نفسها ضد العقلية، بتحريم كتب أرسطو وابن رشد في الجامعات، كذلك خطا الكوهن سليمان ابن أبراهام من يهود منبلييه خطوة لم تكن مألوفة من قبل فصب لعنته على كتب ابن ميمون الفلسفية وحرَّم من الدين كل اليهود الذين يدرسون العلوم والآداب النجسة،

ص: 133

أو يفسرون الكتاب المقدس تفسيراً مجازياً-ولعله قد استبق بعمله هذا هجوم المسيحيين على الجماعات اليهودية بحجة أنها تحمي جماعة العقليين. ورد على هذا أنصار ابن ميمون بزعامة داود قمحي، ويعقوب بن مخير تبون بأن أقنعوا يهود لونل، وبزيير ونربونة في بروفانس، ويهود سرقسطة في أسبانيا بأن يحرموا سليمان وأتباعه من الدين. فلما فعلوا هذا خطا سليمان خطوة أجرأ من الأولى وأكثر منها إثارة للدهشة: ذلك أنه وشى إلى محكمة التفتيش في منبلييه بكتب ابن ميمون وقال إن فيها آراء خارجة على الدين شديدة الخطر على المسيحية وعلى اليهودية معاً. ووافقه الرهبان على رأيه وأحرقت جميع الكتب الفلسفية التي أمكن الحصول عليها في احتفال عام في منبلييه عام 1234 وفي باريس عام 1242 ثم أحرق التلمود نفسه في باريس بعد أربعين يوماً.

وأثارت هذه الحوادث حنق أنصار ابن ميمون ودفعتهم إلى أشد أعمال العنف، فقبضوا على كبار المشايعين لسليمان في منبلييه، واتهموهم بالوشاية بأبناء دينهم اليهود، وحكموا عليهم بقطع ألسنتهم؛ ويلوح أن سليمان نفسه قد قتل (79). وندم الكوهن جناح على اشتراكه في إحراق كتب ابن ميمون فقدم إلى منبلييه، وكفر عن عمله هذا علناً في كنيسها، وحج تائباً إلى قبر موسى بن ميمون. ولكن الدون أستروك واصل الحرب باقتراحه أن يصدر الأحبار قراراً يحرم دراسة أي علم من العلوم النجسة. وأيده في هذا ابن نحمان وآشر بن يحيل، حتى إذا كان عام 1305 أصدر سليمان بن أبراهام بن أردوط، الزعيم القوي المبجل ليهود برشلونة، قراراً بحرمان كل يهودي يعلم أي علم من العلوم غير الدينية ما عدا الطب، أو أية فلسفة غير يهودية، أو يجرؤ على دراسة شيء منها قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره. وكان رد أحرار منبلييه أن حرموا كل يهودي يمنع

ص: 134

ابنه من دراسة العلوم الطبيعية (80). ولم يكن لكلا القرارين أثر في دائرة واسعة، فقد ظل شبان اليهود في أماكن متفرقة يدرسون الفلسفة، غير أن ما كان لأردوط وأشر في أسبانيا من نفوذ: وازدياد الاضطهاد والخوف في جميع أنحاء أوربا الخاضعة وقتئذ لمحاكم التفتيش، دفعا الجاليات اليهودية إلى ما كانت عليه من عزلة عقلية وعنصرية. وضعفت عندهم دراسة العلوم، وأضحت العلوم الدينية الخالصة هي المسيطرة على المدارس العبرية، وتوارت الروح اليهودية بعد أن انفصلت عن العقل وانتابها الفزع الديني والعداء الشامل، توارت هذه الروح في الصوفية والتقوى الدينية.

ص: 135

الفصل السابع

‌القَبلة

تكتنف بحار الصوفية جزائر العلم والفلسفة أينما كانت، ذلك أن العلم يضيق الآمال، ولا يستطيع أن يتحمل عبأه راضين إلا من أسعدهم الحظ. وقد بسط يهود العصور الوسطى على الحقيقة، كما بسط عليها المسلمون والمسيحيون، ستاراً من آلاف الخرافات، وصوروا التاريخ تصويراً مسرحياً بما أدخلوه فيه من المعجزات ومن البشائر والنذر، وملأوا الهواء بالملائكة والشياطين، ومارسوا فنون السحر وتلاوة الرقي والتمائم، وأخافوا أنفسهم وأبنائهم بالحديث عن الساحرات والأغوال، وأضاءوا ظلمة النوم وغموضه بما وضعوه من تفسير للأحلام، وتبينوا في الكتابات القديمة أسراراً خفية باطنية.

والتصوف اليهودي قديم قدم اليهود أنفسهم، تأثر بالأثينية الزرادشتية القائلة بالظلمة والنور، وبالأفلاطونية الحديثة وباستبدالها الفيض الإلهي بعملية الخلق، وما تقول به الفيثاغورية الحديثة من أن للأعداد قوى خفية وأسراراً، وبالثيوصوفية الغنوسطية (مذهب الاتصال بالله أو الفناء بالذات والبقاء بالله) السائدة في سوريا ومصر؛ والكتب المسيحية الأولى الدينية المشكوك في صحتها (الأبوكريفا)، وبالشعراء والمتصوفة في الهند ومصر، وبكنيسة العصور الوسطى المسيحية. لكن مصادرها الأساسية كانت كامنة في عقلية اليهود أنفسهم وتقاليدهم. ولقد انتشرت بين اليهود قبل مولد المسيح نفسه، شروح سرية لقصة الخلق الواردة في سِفر التكوين وفي الإصحاحين الأول والعاشر من سِفر حزقيال؛ وقد حرمت المشنا شرح هذه الخفايا إلا لعالم منفرد موثوق به. وكان الخيال حراً طليقاً يتصور ما كان قبل خلق آدم، وما سوف يكون بعد فناء

ص: 136

العالم. وكانت نظرية فيلون القائلة بأن الحكمة الإلهية هي أداة الله الخالقة للكون مثلاً سامياً لهذه الأفكار الفلسفية. وكان للإسينيين كتابات سرية، يحرصون على كتمانها عن سواهم، وكانت الكتب العبرانية غير المعترف بصحتها ككتاب الأعياد تنشر بين الناس أقوالاً خفية عن خلق العالم. وجعلت أسماء يهوه التي لا يصح النطق بها ذات قوى خفية، وكانت حروفه الأربعة-التترجرام-تهمس في الآذان على أن لها معنى خفياً، وتأثيراً معجزاً، لا تنقل إلا العقلاء ذوي الأفهام الناضجة. وكان عقيبا يقول إن أداة الله في خلق العالم هي التوراة أو أسفار موسى الخمسة، وإن لكل كلمة ولكل حرف من هذه الأسفار المقدسة معنى خفياً وقوة خفية. وكان بعض الجأونيم البابليين يعزون إلى الحروف العبرية وإلى أسماء الملائكة أمثال هذه القوى الخفية، فمن عرف هذه الأسماء استطاع أن يسيطر على جميع قوى الطبيعة. وكان العلماء يعبثون بضروب السحر الأسود والأبيض-أي القوى العجيبة التي يحصل عليها بعض الناس عن طريق اتصال الروح بالملائكة أو الشياطين. وكان لاستحضار الأرواح ومعرفة الحظ بفتح الكتاب المقدس والتعاويذ، والتمائم، والرقي، ومعرفة الغيب، والقرعة، كان لهذه كلها شأنها في الحياة المسيحية. وقد شملت كتب اليهود جميع عجائب التنجيم؛ فكانت النجوم في هذه الكتب حروفاً هجائية وكتابات في السماء خفية لا يستطيع قراءتها إلا المطلعون على أسرارها (81).

وظهر فيوقت ما في القرن الأول بعد الميلاد كتاب من هذه الكتب ذات الأسرار الخفية في بابل يعرف باسم سِفر يصيرا أي كتاب الخلق. وكان الأتقياء المتصوفة من اليهود ومنهم يهودا هليفي يقولون إن واضعه هو إبراهيم أو الله نفسه. ومما جاء فيه أن عملية الخلق قد تمت بوساطة عشرة سفروتات Sefiroth- أعداد أو أصول هي: روح الله، وفيوض ثلاث منها: الهواء، والماء، والنار،

ص: 137

وثلاثة أبعاد مكانية إلى اليسار، وثلاثة أبعاد إلى اليمين. وهذه الأصول هي التي حدت محتويات العالم، كما حددت الحروف الهجائية العبرية الثلاثة والعشرون الصور والأشكال التي يستطيع بها العقل البشري فهم عملية الخلق. وتوالت على الكتاب شروح العلماء من أيام سعديا إلى القرن التاسع عشر.

ونقل أحد أحبار اليهود البابليين حوالي عام 840 هذه العقائد الخفية إلى إيطاليا، ثم انتقلت منها إلى ألمانيا، وبروفانس، وأسبانيا. وأكبر الظن أن ابن جبيرول قد تأثر بها في نظريته القائلة بوجود كائنات وسطى بين الله والعالم. واتخذ أبراهام بن داود "التقاليد السرية" وسيلة لإبعاد اليهود عن نزعة ابن ميمون العقلية. وأكبر الظن أن ابنه اسحق الضرير وتلميذه عزرائيل هما مؤلفا سِفر هباهير أو كتاب الضوء (1190؟)، وهو شروح صوفية للإصحاح الأول من سِفر التكوين. وقد استبدلا في هذا الكتاب فكرة خلق العالم عن طريق الفيض الرباني الواردة في سِفر بصيرا لمفكرة الضوء، والحكمة، والعقل. وعرض هذا التثليث للعقل الإلهي بوصفه ثالوثاً يهودياً (82). وعرض ألعزر من يهود ورمز (1176 - 1238)، وأبرام بن شمويل أبو العافية (1240 - 1291) هذه العقيدة السرية على أنها دراسة أعمق وأكثر نفعاً من التلمود. وقد استخدما وصف الصلة بين الله والنفس البشرية لغة الحب الشهواني والزواج التي كان يستخدمها المتصوفة المسلمون والألمان.

وقبل أن يستهل القرن الثالث عشر كانت كلمة قبلة قد عم استعمالها لوصف العقيدة السرية في جميع مظاهرها ونتائجها وفي عام 1295 نشر موسى بن شم طوب من علماء ليون الكتاب الثالث من الكتب القبلية الهامة المسمى سِفر زوهر أو كتاب المجد وعزا تأليفه إلى شمعون بن يوحاي أحد علماء القرن الثاني، فقال إن الملائكة قد ألهمت شمعون والسفروت العشرة أن يكشفوا لقرائه المستترين الأسرار التي كانت من قبل محتفظاً بها إلى أيام المسيح المنتظر.

ص: 138

وقد جمعت في الزوهر كل عناصر القبلة: فكرة الإله الشامل لكل شيء الذي لا يعرف إلا عن طريق الحب، والحروف الأربعة المكونة لاسم يهوه-التتراجوامتون-، والأوساط الخالقة، والفيوض الربانية، والاستعارات الأفلاطونية الخاصة بالعالم الكبير والعالم الصغير، وتاريخ ظهور المسيح وكيفية ظهوره، وأزلية الروح وتنقلها، والمعاني الصوفية للطقوس الدينية والأعداد، والحروف، والنقط، والشرط، واستعمال الكتابات الجفرية، والحروف الأولى من العبارات التي إذا جمعت كونت اسماً خاصاً، وقراءة الكلمات عكساً لا طرداً، والتفسير الرمزي لنصوص الكتاب المقدس، والقول بأن حَمل المرأة وإن كان في تجسيد لسر عملية الخلق. وقد شوه موسى الليوني عمله حين جعل شمعون بن يوحاي يشير إلى خوف حدث في روما عام 1264 ويقول بعد آراء لم تكن، كما يلوح، معروفة قبل القرن الثالث عشر، وقد خدع بذلك كثيرين من الناس، ولكنه لم يخدع زوجته، وقد اعترفت أن زوجها موسى كان يرى في شمعون خدعة مالية بارعة (83). وأدى نجاح هذا الكتاب إلى ظهور عدة كتب أخرى مضللة، وجازى بعض القبليين المتأخرين موسى بمثل أعماله فنشروا آرائهم هم معزوة إليه.

وكان للقبلة أثر شامل واسع المدى، وظل الزوهر وقتاً ما كتاباً يدرسه اليهود كدراستهم للتلمود، بل إن بعض القبليين قد هاجموا التلمود ووصفوه بأنه كتاب بال قديم، مفرط في التقطيع المنطقي؛ وتأثر بعض علماء التلمود، ومنهم ابن نحمان العالم التحرير تأثراً شديداً بالمدرسة القبلية. وانتشر الاعتقاد بصدق القبلة، وبأنها وحي من عند الله انتشاراً واسعاً بين يهود أوربا (84). وبقدر هذا الانتشار كان أثرها السيئ في مؤلفاتهم العلمية والفلسفية، وانقضى عصر ابن ميمون الذهبي في سخف الزوهر الوضاء. وتعدى أثر القبلة اليهود إلى المسيحيين فافتتن

ص: 139

بها بعض مفكريهم؛ فأخذ عنها ريمند للي Raymond Lully (1235؟ -1315) أسرار الأعداد والحروف من كتابه Ars Magna وحسب بيكو دلا ميرندولا Pico della Mirandola (1463 - 1494) أنه قد وجد في القبلة أدلة قاطعة على ألوهية المسيح (85)، واغتذى براسلسس Pracelsus، وكورنليوس Cornelius، وأجربا Agrippa، وربرت فلد Robert Fludd وهنري مور Henry More وغيرهم من المتصوفة المسيحيين ببحوثها، وأقر يوهانس روشلين Johonnes Rcuchlin (1455 - 1523) بأنه قد سرق من القبلة بحوثه الدينية، ولعل بعض الآراء القبلية قد سرت إلى يعقوب بوهم Jakob B (hme (1575 - 1624) . وإذا كانت نسبة اليهود الذين وجدوا السلوى في الإلهامات الصوفية إلى مجموعهم أكبر من هذه النسبة عند المسلمين أو المسيحيين، فما ذلك إلا لأن الدنيا قد كشرت عن نابها لليهود، وأرغمتهم في سبيل الحياة إلى أن يخفوا الحقائق وراء ستار من نسيج الخيال والرغبة، والبائسون السيئو الحظ هم وحدهم الذين لا بد لهم أن يعتقدوا أن الله قد اصطفاهم لنفسه.

ص: 140

الفصل الثامن

‌العَتق

لقد وجد يهود العصور الوسطى في عزلة جماعاتهم، وفيما تسبغه عليهم شعائرهم وعقائدهم من سلوى، ملجأ لهم من تمجيد الصوفية، وزوال خداع عقيدة المسيح المنقذ المنتظر، ومما كان ينتابهم من الاضطهاد حيناً بعد حين، ومن ملل الحياة الاقتصادية الرتيبة. فكانوا يحتفلون بمظاهر التقي بالأعياد التي تذكرهم بتاريخهم، وخطوبهم، ومجدهم التليد، وعدلوا في صبر وأناة احتفالاتهم التي كانت من قبل تقسم السنة الزراعية لتوائم حياتهم الحضرية. فكان القراءون المنقرضون يحتفلون بالسبت في البرد والظلمة حتى لا يخالفوا الشريعة بإيقاد النار أو إضاءة السراج، ولكن معظم اليهود كانوا يستقدمون أصدقاء لهم من المسيحيين أو زائرين ليبقوا لهم النار متقدة والمصابيح مضيئة، وكان أحبارهم يغضون النظر عن هذه المخالفة؛ وكانوا يغتنمون كل فرصة لإقامة المآدب يظهرون فيها سخائهم وأبهتهم: فكانت الأسرة تقيم وليمة يوم ختان ابن لها أو بلوغه سن الرشد، وفي خطبة ابن أو بنت وزواجهما، أو زيارة عالم أو صديق مشهور أو حلول عيد ديني. وأصدر رجال الدين أوامر بتحديد نفقات هذه الحفلات فنهوا من يقيمونها عن أن يدعوا إليها أكثر من عشرين رجلاً، وعشر نساء، وخمس بنات؛ وجميع أقارب الداعي حتى الطبقة الثالثة. وكانت حفلات الزواج تدوم أحياناً أسبوعاً كاملاً، لا يسمحون أن يقطعها يوم السبت نفسه. وكان العروسان يتوجان بالورد، والريحان، وأغصان الزيتون، وينثر في طريقهما النقل والقمح وتنثر فوقهما حبوب الشعير رمزاً للإخلاص؛ وكانت الأغاني والنكات تصاحب كل مرحلة من

ص: 141

مراحل هذا الحادث، وفي أواخر العصور الوسطى كان مهرج ممتهن يستأجر ليتم للحاضرين سرورهم. وكانت نكات هذا المهرج في بعض الأحيان صادق إلى حد القسوة، ولكنه يكاد على الدوام أن يعمل بقول هلل الظريف:"إن كل زوجة جميلة"(86).

وبهذه الطريقة كان الجيل المنقضي يحتفل بانقضائه وحاول جيل آخر مكانه، ويبتهج. ولد أبناء أبنائه، ويستكن إلى الشيخوخة المتعبة الرحيمة. ونحن نشاهد وجوه أولئك اليهود الشيوخ في صور رمبرانت Rembrandt. نشاهد ملامحهم الناطقة بتاريخ الشعب والفرد، ولحاهم تنفث الحكمة، وعيونهم قد انطبعت فيها الذكريات الحزينة، ولكنها قد رتقها الحب الحنون. وليس في صفات السلمين والمسيحيين الخلقية ما يفوق الحب المتبادل بين الشباب والشيب عند اليهود، الحب الذي يتغاضى عن جميع الزلات، وهداية العقول المجربة للعقول غير الناضجة، والكرامة التي تحمل من عاشوا حياتهم كاملة على أن يرتضوا الموت ويروه النهاية الطبيعية للحياة.

واليهودي إذا مات لا يترك لأبنائه متاع الدنيا فحسب، بل يترك لهم فوق ذلك نصائحه الروحية:"كن أول من يذهب إلى الكنيس"، وها هي ذي وصية ألعزر (1337) من أهل مينز تقول:"لا تتكلم في أثناء الصلاة وردد الاستجابات، واعمل الخير بعد الصلاة".

وها هي ذي آخر وصايا اليهودي:

غسَّلوني، ومشّطوا شعري ودرموا أظافري، كما كنت أفعل في حياتي، كي أسير طاهراً إلى مقري الأبدي كما كنت أسير إلى الكنيس كل سبت وضعوني في الثرى على يد أبي اليمنى، فإذا ضاق المكان قليلاً فإني واثق من أنه يحبني حباً يجعله يفسح لي مكاناً بجانبه (87).

فإذا ما لقط الشخص نفسه الأخير أقفل الابن الأكبر للميت أو أكبر أبنائه

ص: 142

أو أقربائه مقاماً فاهه وأغمض عينيه، ثم تغسل جثته وتضمخ بالأدهان العطرة، وتلف في قماش التيل النقي النظيف. ويكاد كل يهودي أن يكون عضواً في جمعية للدفن، تأخذ الجثة، وتعنى بها، وتقوم بآخر الشعائر الدينية، وتصحبها إلى قبرها. وكان حملة بساط الرحمة يسيرون في الجنازة حفاة، وتسير النساء أمام النعش، ينشدن نشيداً حزيناً، ويدققن طبلة. وكان ينتظر من كل غريب تمر به الجنازة أن ينضم إليها ويسير فيها إلى المقبرة. وكان تابوت الميت يوضع عادةً بالقرب من توابيت الموتى من أقاربه، حتى لقد كان معنى الدفن عندهم هو "الرقود مع الآباء" و "الاجتماع بالأهل". ولم يكن المشيعون يستولي عليهم اليأس، فقد كانوا يقولون أنه وإن مات الأفراد فإن بني إسرائيل لن يموتوا.

ص: 143

الكتاب الرّابع

‌العصور المظلمة

566 -

1095

ص: 146

الباب الثامن عشر

‌العالم البيزنطي

565 -

1095

الفصل الأول

‌هرقل

إذا حولنا الآن نظرنا من الجانب الشرقي للنزاع الدائم بين الشرق والغرب، شعرنا من فورنا بالعطف على دولة عظيمة تنتابها محنتان في وقت واحد: تمزقها الانقسامات في الداخل، ويهاجمها الأعداء من جميع الجهات في الخارج. فقد كان الآفار والصقالبة يعبرون نهر الدانوب ويستولون على أراضي الإمبراطورية وبلدانها، وكان الفرس يستعدون لاجتياح آسية الغربية؛ وخسر القوط الغربيون أسبانيا، واستولى اللمبارد بعد ثلاث سنين من موت جستنيان على نصف إيطاليا (568). وفشا الطاعون في جميع أنحاء الإمبراطورية في عام 542 وعاد إليها مرة أخرى في عام 566؛ وعمتها المجاعة في عام 569؛ وعطلت الحروب، والهمجية، والفقر، وسائل الاتصال، ووقفت في سبيل التجارة، وقضت على الآداب والفنون.

وكان لفاء جستنيان أباطرة أولى قوة وكفاية، ولكن المشاكل التي واجهتهم لم يكن في وسع أحد أن يتغلب عليها إلا رجال من طراز نابليون يتلو بعضهم

ص: 152

بعضاً مدى قرن كامل دون انقطاع. وقاتل جستنين الثاني (565 - 578) الفرس الساعين إلى التوسع قتال الأبطال؛ ولم تكد الآلة تضن على تيبيريوس الثاني بكل ما لديها من الفضائل، ولكنها اختصرته بعد حكم عادل قصير. وهاجم موريق الآفار الغزاة بشجاعة ومهارة، ولكنه لم يلق من الأمة إلا قليلاً من التأييد، فقد كان آلاف من أبنائها يدخلون الأديرة فراراً من الخدمة العسكرية؛ ولما أن نهى الموريق الأديرة عن قبول أعضاء جدد فيها إلا بعد زوال الخطر عن الدولة نادى الرهبان بسقوطه. وتزعم قوقاس الذي عمر مائة عام ثورة قام بها الجيش والعامة على الأشراف والحكومة (602)، وذبح أبناء موريق الخمسة أمام عينيه؛ وأبى الإمبراطور الشيخ على مربية أصغر أبنائه أن تنجيه من القتل بأن تستبدل ابنها هي به؛ فلما قطع رأسه علقت الرؤوس الستة لتتمتع بها أعين الشعب وألقيت جثثهم في البحر. وذبحت الإمبراطورة قسطنطينة، وبناتها الثلاث، وكثير من الأشراف، وكان مقتلهم مصحوباً في العادة بضروب من التعذيب، بعد محاكمة أو بغير محاكمة، فسملت أعينهم، واقتلعت ألسنتهم من أفواههم، وبترت أطرافهم، وارتكبت الفظائع التي تكررت فيما بعد أثناء الثورة الفرنسية.

وأفاد كسرى الثاني من هذا الاضطراب، وجدد الحرب القديمة حرب الفرس واليونان، وعقد قوقاس الصلح مع العرب، ونقل الجيش البيزنطي كله إلى آسية، ولكن الفرس هزموه في كل واقعة التقوا بها فيها، واستولى الآثار على جميع الأراضي الزراعية الواقعة خلف القسطنطينية إلا قليلاً منها، دون أن يلقوا مقاومة، واستغاث أشراف العاصمة بهرقل إمبراطور أفريقية اليوناني، ودعوه لينقذ الإمبراطورية وينجي أملاكهم. لكنه اعتذر محتجاً بكبر سنه، وأرسل إليهم ابنه. وجهز هرقل الأصغر عمارة بحرية، جاء بها إلى البسفور.

ص: 153

وخلع قوقاس، وعرض جثة للمغتصب المبتورة الأطراف أمام الشعب، ونودي به إمبراطوراً (610) ..

وكان هرقل خليقاً باسمه ولقبه، فقد شرع بعزيمة سميه الهرقل الأسطوري يعيد تنظيم الدولة المحطمة، وقضى عشر سنين يعمل لإحياء روح الشعب المعنوية، ويعيد قوة الجيش، وينظم موارد الخزنة، ووهب الأرض الزراع على شريطة أن يؤدي أكبر أبناء الأسرة الخدمة العسكرية. وفي هذه الأثناء استولى الفرس على أورشليم (614)، وتقدموا إلى خلقدون (615)؛ ولم ينقذ عاصمة الدولة وأوربا إلى الأسطول البيزنطي. ولم يمض بعد ذلك إلا قليل حتى زحفت جحافل الآفار على القرن الذهبي، وأغاروا على أرباض العاصمة، وقبضوا على آلاف من اليونان واتخذوهم أرقاء. وكانت نتيجة خسارة الأراضي الخصبة الواقعة خلف القسطنطينية مضافة إلى خسارة مصر أن انقطعت واردات الحبوب على المدينة، وأرغمت الحكومة على قطع إعانات الغذاء عن الأهلين (618)، وفكر في هرقل في يأس أن ينقل جيشه إلى قرطاجنة، وأن يأمل منها استرجاع مصر. ولكن الأهلين والقساوسة منعوه من المسير، ورضي البطريق سرجيوس أن يقرضه ثروة الكنيسة اليونانية بفائدة، ليمول بها حرباً مقدسة يستعيد بها أورشليم (3). ولهذا تصالح هرقل مع الآفار ثم زحف آخر الأمر لقتال الفرس.

وكانت الحروب التي أعقبت هذا الزحف آيات في التفكير والتنفيذ. فقد واصل هرقل الحرب على أعدائه ست سنوات، هزم فيها كسرى عدة مرات، وحاصر في أثناء غيابه جيش من الفرس، وجحافل من الآفار، والبلغار والصقالبة مدينة القسطنطينية (626)؛ فسير هرقل جيشاً هزم الفرس في خلقدون، ومزقت حامية العاصمة وعامتها بتحريض البطريق جحافل البرابرة. ودق هرقل أبواب طيسفون، وسقط كسرى الثاني، وطلبت فارس الصلح، وردت

ص: 154

كل ما كان كسرى قد استولى عليه من الإمبراطورية اليونانية، وعاد هرقل ظافراً إلى القسطنطينية بعد أن غاب عنها سبع سنين.

ولم يكن هرقل خليقاً بمصيره الذي جلله العار في سن الشيخوخة. فبينما هو يبذل ما بقي لديه من نشاط في إصلاح شئون الإدارة بعد أن هد المرض قواه إذا انقضت قبائل العرب على بلاد الشام (634)، وهزمت جيشاً يونانياً منهوك القوى، واستولت على بيت المقدس (638)، ثم استولت على مصر بينما كان الإمبراطور يعاني سكرات الموت (641). وكانت فارس وبيزنطية قد جرت كلتاهما الخراب على الأخرى بحروبها العوان. وواصل العرب انتصاراتهم في أيام قنسطانس Constans الثاني (642 - 668)؛ وظن قنسطانس أن لا نجاة للإمبراطورية، فقضى آخر سني حياته في الغرب ثم قتل في سرقوسة. وكان ابنه قسطنطين الرابع بجنونوتس Pognonotus أقدر منه أو أسعد حظاً. ولما أن حاول المسلمون مرة أخرى في خلال السنين الخمس الحاسمة (673 - 678) أن يستولوا على القسطنطينية أنقذت أوربا "التار الإغريقية" التي ورد ذكرها وقتئذ لأول مرة. وكان هذا السلاح الجديد، الذي يعزى اختراعه إلى كلسنيوس Calcinius السوري من نوع قاذفات اللهب المستخدمة في هذه الأيام، فهو مزيج حارق من النفط، والجير الحي، والكبريت، والزفت، يلقي على سفن العدو أو جيوشه في سهام ملتهبة، أو يصب عليها من أنابيب، أو يقذف في صورة كرات من الحديد مغطاة بالكتان ونسالته المغموسة في الزيت، أو يوضع في قوارب صغيرة وتشعل وتوجه إلى العدو. وأفلحت الحكومة البيزنطية في الاحتفاظ بسر هذا المزيج مدى قرنين من الزمان، وكان إفشاؤه يعد خيانة للوطن وإثماً دينياً؛ غير أن المسلمين كشفوا آخر الأمر هذا السر، واستخدموا "النار الإسلامية" في حرب الصليبيين. وظل هذا السلاح أكثر ما يتحدث عنه الناس في العصور الوسطى في العالم كله إلى أن اخترع البارود.

ص: 155

وهاجم المسلمون العاصمة اليونانية مرة أخرى في عام 717، فعبر جيش من العرب والفرس عدته ثمانون ألف مقاتل بقيادة مسلمة مضيق البسفور عند أبيدوس وحاصر القسطنطينية من خلفها. ثم جهز العرب في الوقت نفسه عمارة بحرية مؤلفة من ألف وثمانمائة سفينة، كانت على ما نظن من السفن الصغيرة، ودخلت هذه العمارة البحرية البسفور، وكانت تظلل المضيق، على حد قول أحد الإخباريين، كأنها غابة متحركة. وكان من حسن حظ اليونان وقتئذ أن جلس على عرش الإمبراطورية في هذه الأزمة، بدل ثيودوسيوس Theodosius الثالث الضعيف العاجز، قائد محنك هو ليو "الإسوري" Leo The Isaurian، وشرع ينظم وسائل الدفاع، فوزع قطع الأسطول البيزنطي بمهارة وحنكة، وتأكد من أن كل سفينة قد زودت بكفايتها من النار الإغريقية؛ فلم يمض إلا القليل من الوقت حتى اشتعلت النار في كل سفينة من سفن العرب، فلم تكد تبقى على واحدة منها. ثم هجم الجيش اليوناني على المحاصرين، وانتصر عليهم نصراً حاسماً ارتد المسلمون على أثره إلى بلاد الشام.

ص: 156

الفصل الثاني

‌محطمو الصور والتماثيل الدينية

يستمد ليو الثالث لقبه من إقليم إسوريا Isauris في قليقية، ويقول ثيوفان Theophanes إنه ولد في هذا الإقليم من أبوين أرمنيين؛ ثم انتقل والده من هناك إلى تراقية، وأخذ يربي الضأن، وأرسل منها خمسمائة رأس مصحوبة بابنة ليو هدية منه إلى الإمبراطور جستنيان الثاني وأصبح ليو فيما بعد جندياً في حرس القصر، ثم قائداً لفيلق الأناضول، ثم اختاره الجيش إمبراطوراً، والجيش كما لا يخفى لا يرد له اختيار؛ وكان ليو رجلاً طموحاً، قوي الإرادة، مثابراً، صبوراً؛ وكان قبل اختياره للجلوس على العرش قد هزم عدة مرات جيوشاً إسلامية تفوق جيوشه؛ كما كان بعد ذلك سياسياً محنكاً، وهب الإمبراطورية الاستقرار الناشئ من التطبيق العادل للقوانين العادلة، وأصلح نظام الضرائب، وخفض من أعباء رقيق الأرض، ووسع نطاق الملكية الزراعية، ووزع الأراضي على الفلاحين وعمر الأقاليم المهجورة، وعاد النظر في القوانين، ووضعها على أساس إنشائي حكيم، ولم يكن يعيبه إلا سلطانه الأوتوقراطي.

ولعله قد تشبعت نفسه وهو في صباه بآسية بفكرة رواقية متزمتة عن الدين سرت إليه من المسلمين، واليهود، والمانيين، واليعاقبة، ومن تعاليم القديس بولس، وكلها تذم عكوف جمهرة المسيحيين على عبادة الصور والتماثيل، والحرص الشديد على المراسم والطقوس، والاعتقاد بالخرافات. ولقد نهى العهد القديم في صراحة تامة (الآية الخامسة عشرة من الإصحاح الرابع من سِفر التثنية) المؤمنين على أن يضعوا: "تمثالاً منحوتاً صورة مثال ما شبه ذكر أو أنثى شبه بهيمة ما مما على الأرض

الخ". وكانت الكنيسة أول أمرها تكره الصور والتماثيل

ص: 157

وتعدها بقايا عن الوثنية، وتنظر بعين المقت إلى فن النحت الوثني الذي يهدف إلى تمثيل الآلهة. ولكن انتصار المسيحية في عهد قسطنطين، وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر في القسطنطينية والشرق الهلنستي، كل هذا قد خفف من حدة مقاومة هذه الأفكار الوثنية. ولما أن تضاعف عدد القديسين المعبودين، نشأت الحاجة إلى معرفتهم وتذكرهم؛ فظهرت لهم ولمريم العذراء كثير من الصور. ولم يعظم الناس الصور التي يزعمون أنها تمثل المسيح فحسب، بل عظموا معها خشبة الصليب- حتى لقد أصبح الصليب في نظر ذوي العقول الساذجة طلسماً ذا قوة سحرية عجيبة. وأطلق الشعب العنان لفطرته فحول الآثار، والصور، والتماثيل المقدسة، إلى معبودات، يسجد الناس لها، ويقبلونها، ويوقدون الشموع ويحرقون البخور أمامها، ويتوجونها بالأزهار، ويطلبون المعجزات بتأثيرها الخفي. وفي البلاد التي تتبع مذهب الكنيسة اليونانية بنوع خاص، كانت ترى الصور المقدسة، في كل مكان- في الكنائس، والأديرة، والمنازل، والحوانيت-، وحتى أثاث المنازل، والحلي، والملابس نفسها لم تخل منها. وأخذت المدن التي تتهددها أخطار الوباء، أو المجاعة، أو الحرب تعتمد على قوة ما لديها من الآثار الدينية أو على ما فيها من الأولياء والقديسين بدل أن تعتمد على الجهود البشرية للنجاة من هذه الكوارث؛ وكم من مرة نادى آباء الكنيسة، ونادت مجالسها، بأن الصور ليست آلهة، بل هي تذكير بها فحسب (4)، ولكن الشعب لم يكن يأبه بهذه التفرقة.

وغضب ليو الثالث من هذا الإفراط في التدين من جانب الشعب. وخيل إليه أن الوثنية أخذت تغزو المسيحية وتتغلب عليها من جديد بهذه الوسيلة، وحز في نفسه ما كان يوجهه المسلمون، واليهود، والشيع المسيحية المنشقة من المطاعن للخرافات السائدة عند جماهير المسيحيين المتمسكين بدينهم. وأراد أن يضعف من سلطان الأساقفة على الشعب والحكومة، ويضمن تأييد النساطرة، واليعاقبة،

ص: 158

فعقد مجلساً من الأساقفة، وأعضاء مجلس الشيوخ، وأذاع بموافقتهم في عام 726 مرسوماً يطلب فيه إزالة جميع الصور والتماثيل الدينية من الكنائس، وحرم تصوير المسيح والعذراء، وأمر بأن يغطى بالجص ما على جدران الكنائس من صور. وأيد بعض كبار رجال الدين هذا المرسوم، ولكن الرهبان وصغار القساوسة احتجوا عليه، وثار عليه الشعب، وهاجم المصلون الجنود الذين حاولوا تنفيذ القانون بالقوة، لأنهم قد روعهم وأثار غضبهم هذا التدنيس المتعمد لأعز رموز دينهم. ونادت قوات الثوار في بلاد اليونان وخلقيدية بإمبراطور آخر، وسيرت أسطولاً ليستولي على العاصمة. ودمر ليو هذا الأسطول، وزج زعماء معارضيه في السجون. وفي إيطاليا، التي لم تنمح منها في يوم من الأيام أساليب العبادات الوثنية، أجمع الشعب كله تقريباً على معارضة المرسوم؛ وطردت مدائن البندقية، ورافنا، وروما عمال الإمبراطورية، واجتمع مجلس من أساقفة الغرب دعا إليه البابا جريجوري الثاني وصب اللعنة على محطمي الصور والتماثيل المقدسة دون أن يذكر اسم الإمبراطور. وانضم بطريق القسطنطينية إلى الثائرين، وحاول بانضمامه إليهم أن يعيد إلى الكنيسة الشرقية استقلالها عن الدولة؛ فما كان من ليو إلا أن خلعه من منصبه (730)، ولكنه لم يعتد عليه، وبلغ من رأفة الإمبراطور في تنفيذ المرسوم أن ظلت معظم الكنائس إلى يوم وفاته في عام 741 تحتفظ بمظلماتها وفسيفسائها سليمة.

وسارا ابن قسطنطين الخامس (741 - 775) على نهجه ولقبه المؤرخون المعادون له بذلك اللقب الظريف "كبرونيموس Copronymus"(المشتق من الدبال). وجمع الإمبراطور الجديد مجلساً من أساقفة الشرق في القسطنطينية (754)، حرم عبادة الصور والتماثيل، ووصفها بأنها عمل "ممقوت"، وقال إن "الشيطان قد أعاد عبادة الأوثان إلى سابق عهدها عن طريق عبادتها". ولعن "الفنان الجاهل الذي يشكل بيديه النجستين ما لا يصح أن يؤمن

ص: 159

به الناس إلا بقلوبهم (5)، وأمر بأن يمحى ويدمر كل ما في الكنائس من صور وتماثيل. ونفذ قسطنطين هذا القرار بلا كياسة أو اعتدال، فسجن من قاومه من الرهبان أو ساط عليهم ألوان العذاب، فسلمت الأعين، واقتلعت الألسنة، وجدعت الأنوف مرة أخرى، وعذب البطريق وقطع رأسه (767). وفعل قسطنطين الخامس ما فعله هنري الثامن فيما بعد، فأغلق أديرة الربان والراهبات، وصادر أموالها، وحول مبانيها إلى أغراض غير دينية، ووزع أرضها على محاسبيه. وجمع عامل الإمبراطورية في إفسوس، بموافقة الإمبراطور، رهبان الولاية وراهباتها، وأرغم الرهبان على أن يتزوجوا الراهبات وإلا قتلهم جميعاً (6). وظل هذا الاضطهاد يجري في مجراه خمس سنين (763 - 771).

وأرغم قسطنطين ابنه ليو الرابع (775 - 780) على أن يقسم بالجري على خطة تحطيم الصور والتماثيل السالفة الذكر. وفعل ليو ما مكنته من فعله بنيته الضعيفة؛ ولما حضرته الوفاة اختار ابنه قسطنطين السادس البالغ من العمر عشر سنين إمبراطوراً (780 - 797)، ورشح أرملته إيريني وصية على العرش حتى يبلغ ولده القاصر سن الرشد. وحكمت إيريني الإمبراطورية بمهارة وقوة مجردة من الضمير. وكانت تعطف على مشاعر الشعب الدينية وعلى بنات جنسها، فأنهت في هدوء عهد تنفيذ المرسوم الخاص بتحطيم الصور والأصنام، وسمحت للرهبان أن يعودوا إلى أديرتهم ومنابرهم، ودعت رجال الدين في العالم المسيحي إلى مجمع نيقية الثاني (787)، حيث أعاد 350 من الأساقفة، بزعامة مندوبي البابا، تعظيم الصور المقدسة-لا عبادتها-وقالوا إنها تعبير مشروع عن التقي والإيمان المسيحيين.

وبلغ قسطنطين السادس سن الرشد في عام 790؛ ولما رأى أن أمه لا ترغب في أن تتخلى له سلطانها خلعها ونفاها من البلاد وسرعان ما ندم هذا الشاب ظريف على فعلته، فأعادها إلى بلاطه، وأشركها معه في حكم

ص: 160

الإمبراطورية (792)؛ فلما كان عام 797 عملت على سجنه وفقء عينيه، ثم حكمت الدولة بعدئذ بوصفها "إمبراطوراً" لا إمبراطورة. وظلت خمس سنين تصرف شئون الإمبراطورية بحكمة ودهاء، فخفضت الضرائب، ووزعت الهبات على الفقراء، وأنشأت المؤسسات الخيرية، وجملت العاصمة. وأحبها الشعب ورحب بها، ولكن الجيش قد ساءه أن تحكمه امرأة أقدر من معظم الرجال. وخرج عليها في عام 802 محطمو الصور والتماثيل، وخلعوها، ونادوا بنقفور وزير ماليتها إمبراطوراً. واستسلمت إيريني لمصيرها في هدوء، ولم تطلب إلى الإمبراطور أكثر من ملجأ أمين يليق بمقامها، فوعدها أن يجيب طابعها، ولكنه نفاها إلى لسبوس، وتركها تكسب قوتها القليل بالاشتغال بالخياطة حتى ماتت بعد تسعة أشهر من ذلك الوقت، لا تكاد تجد درهماً أو صديقاً. وعفا رجال الدين عن جرائمها لتقواها، ورفعتها الكنيسة إلى مقام القديسين.

ص: 161

الفصل الثالث

‌نظرة عامة في أحوال الإمبراطورية

802 -

1057

إذا أردنا أن نلقي نظرة شاملة على الحضارة البيزنطية نقدرها بها تقديراً صادقاً تطلب منا ذلك أن نلم بتاريخ كثير من الأباطرة وبعض الإمبراطورات- ولسنا نقصد بذلك ما دبروه ودبرنه من دسائس القصور، والثورات، والاغتيالات، بل نقصد سياستهم، وتشريعاتهم، وجهودهم الطويلة لحماية الإمبراطورية المتناقصة الرقعة من هجمات المسلمين في الجنوب، والصقالبة والبلغار في الشمال. وتمثل هذه الصورة من بعض نواحيها البطولة الصادقة: فقد حافظت الإمبراطورية خلال ظروف تاريخها، وتقلباته، ومن ظهر على عرشها ومن اختفى عنه من أشخاص، على القسط الأكبر من التراث اليوناني: احتفظت بالنظام الاقتصادي ثابتاً متصلاً، وظلت الحضارة قائمة كأن من ورائها دافعاً قوياً غير منقطع من الجهود القديمة لبركليز وأغسطس، ودقلديانوس، وقسطنطين. هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فهي صورة موسية لقواد يرقون إلى السلطة الإمبراطورية على أشلاء منافسيهم، ثم لا يلبثون أن يقتلوا مثلهم، ولمظاهر الأبهة والترف، والعيون المسمولة، والأنوف المجدوعة، والبخور والقتل والغدر، ومن أباطرة وبطارقة لا ضمير لهم يناضلون ليقرروا هل تحكم الإمبراطورية القوة أو الأساطير، السيف أو الكلام. وهكذا نمر بنقفور الأول (802 - 811) وحروبه مع هارون الرشيد، وميخائيل الأول (811 - 813) وقد ثل عرشه وجز شعره لأن البلغار هزموه، وليو الخامس الأرمني (813 - 820) الذي حرم مرة أخرى عبادة الصور والتماثيل والذي اغتيل وهو ينشد ترنيمة للكنيسة، وميخائيل

ص: 162

الثاني (820 - 829) الأمي "المتلجلج" الذي عشق راهبة وحمل مجلس الشيوخ على أن يتوسل إليه أن يتزوجها (7)، وثيوفيلس (829 - 842) المشترع المصلح، والملك البناء، والإداري الحي الضمير الذي أحيا سنه اضطهاد محطمي التماثيل وقضى عليه الزحار، وأرملته ثيودورا التي حكمت البلاد نيابة عنه حكماً قديراً (842 - 856) وأنهت عهد الاضطهاد، وميخائيل الثالث "السكّير"(842 - 867) الذي أسلم الإمبراطورية بعجزه اللطيف إلى أمه أولاً ثم إلى قيصر بارداس Caesar Bardas عمه المثقف القدير بعد وفاتها. ثم تظهر على المسرح على حين غفلة شخصية فذة لم تكن منتظرة تخرج على كل سابقة عدا سابقة العنف، وتؤسس الأسرة المقدونية القوية.

فقد ولد باسل المقدوني (862؟) بالقرب من هدريانوبل Hadriaople من أسرة أرمنية من الزراع. وأسره البلغار وهو صغير وقضى شبابه بينهم وراء الدانوب في البلاد التي كانت وقتئذ معروفة باسم مقدونية، ثم فر منهم وهو في الخامسة والعشرين من عمره، واتخذ سبيله إلى القسطنطينية واستأجره أحد رجال السياسة ليكون سائساً لخيوله لأنه أعجب بقوة جسمه وضخامة رأسه. وصحب سيده في بعثة إلى بلاد اليونان، وهناك استلفت نظر الأرملة دنيليس Danielis وحصل على بعض ثروتها. ولما رجع إلى العاصمة روض جواداً جموحاً يملكه ميخائيل الثالث، فأدخله الإمبراطور في خدمته. وظل يرتقي فيها حتى صار رئيس التشريفات وإن لم يكن يعرف القراءة والكتابة. وكان باسيل على الدوام قديراً فما يوكل إليه من الأعمال، سريع الاستجابة لها؛ فلما أن طلب ميخائيل زوجاً لعشيقته، طلق باسيل زوجه القروية، وأرسلها إلى تراقية مع بائنة طيبة، وتزوج يودوسيا Eudocia التي ظلت في خدمة الإمبراطور. وهكذا حبا ميخائيل باسيل بعشيقته، ولكن المقدوني ظن أنه يستحق العرش جزاء له على فعلته، فأقنع ميخائيل بأن بارداس يأتمر به ليخلعه، ثم قتل بارداس بيديه الضخمتين (866)، وكان

ص: 163

ميخائيل قد اعتاد من زمن طويل أن يملك دون أن يحكم فجعل باسيل إمبراطوراً وترك له جميع شئون الحكم. ولما هدده ميخائيل بعزله، دبر باسيل اغتياله وأشرف على هذا الاغتيال بنفسه، وانفرد هو بالإمبراطورية (867)، وهكذا كانت المناصب مفتحة الأبواب لذوي الكفاية حتى في عهد الملكيات الوراثية المطلقة، وهكذا أنشأ ابن الفلاح الأمي غير المثقف بتذلله وجرائمه أطول الأسر الحاكمة البيزنطية عهداً، وبدأ حكماً دام تسع عشرة سنة امتاز بالإدارة الحازمة، والقوانين الصالحة، والقضاء العادل، والخزانة الغاصة بالمال، وببناء الكنائس والقصور الجديدة في المدينة التي استولى عليها. ولم يكن أحد يجرؤ على معارضته؛ ولما أن مات بسبب حادث وقع له أثناء الصيد، انتقل الملك من بعده بهدوء غير معهود إلى ولده.

وكان ليو السادس (886 - 912) مكملاً لما في أبيه من نقص: كان متعلماً، كثير القراءة، ميالاً لعدم الحركة، دمث الأخلاق؛ ويقول الثرثارون المغتابون أنه كان ابن ميخائيل لا ابن باسيل، ولعل يودوسيا نفسها لم تكن متأكدة من أبوته. ولم يكسب لنفسه لقب "الحكيم" بشعره ولا برسالته في الدين، والإدارة، والحرب، بل كسبه بإعادته تنظيم شئون الحكم الإقليمي والكنسي، وصياغة القوانين البيزنطية، وتنظيمه الدقيق للصناعة. ومع أنه كان تلميذاً للبطريق العالم فوتيوس Photius معجباً به، وكان هو نفسه خاشعاً تقياً، فقد هز مشاعر رجال الدين، وسلى الشعب، بأربع زيجات، ماتت منها الأوليان دون أن تنجبا أبناء؛ وأصر ليو على أن يكون له ولد لأن هذا هو السبيل الوحيدة لوقاية الدولة من حرب الوراثة، وحرمت المبادئ الأخلاقية الدينية للكنيسة الزواج الثالث، وأصر ليو على رأيه، وتَوَّجت زوي Zoe زوجته الرابعة إصراره بولد.

وسمى قسطنطين السابع (912 - 958) البرفيروجنتس- "المولود

ص: 164

الأرجون"- أي في الشقة المبطنة بالبرفيري المخصصة لأن تستخدمها الإمبراطورات الحاملات. وقد ورث عن أبيه ذوقه الأدبي، ولكنه لم يرث عنه كفايته الإدارية. وألف لابنه كتابين في فن الحكم: أحدهما في ولايات الدولة وثانيهما كتاب في الاحتفالات يصف فيه ما يطلب إلى الإمبراطور من المراسم وآداب اللياقة. وأشرف على جمع مؤلفات في الزراعة، والطب، والطب البيطري، وعلم الحيوان، ووضع "تاريخاً للعالم مستمداً من المؤرخين" بجمع مختارات من كتب المؤرخين والإخباريين، وازدهرت الآداب البيزنطية بفضل تشجيعه ومناصرته، ولكنه كان ازدهار على طريقتها المصقولة الهزيلة.

وربما كان رومانوس الثاني (958 - 963) كغيره من الأطفال يقرأ كتب أبيه. وقد تزوج بفتاة يونانية تدعى ثيوفانو Theophano؛ وظن أنها دست السم لحميها وعجلت موت رومانوس؛ وقبل أن يموت زوجها البالغ من العمر أربعاً وعشرين سنة أغوت إلى أحضانها القائد الزاهد نقفور الثاني فوقاس، واغتصب القائد العرش وغضت هي النظر عن ذلك الاغتصاب. وكان نقفور قد أخرج المسلمين من حلب وإقريطش (كريت)(961)، ثم أخرجهم من قبرص في عام 965، ومن إنطاكية في عام 968، وكانت هذه الانتصارات هي التي زلزلت أركان الخلافة العباسية. وطلب نقفور إلى البطريق أن يعد كل من يقتلون من الجنود في حرب المسلمين بكل ما يوعد به

الشهداء من جزاء وتكريم؛ ولكن البابا لم يجبه إلى طلبه بحجة أن جميع الجنود قد دنسوا من قبل بما أراقوه من الدماء، ولو أنه فعل لكان محتملاً أن تبدأ الحروب الصليبية قبل بدايتها الحقيقية بمائة عام. وفقد نقفور مطامعه وآوى إلى قصره ليعيش فيه معيشة المتعبدين الزاهدين. وتضايقت ثيوفانو من هذه الحياة الشبيهة بحياة الأديرة فاتخذت لها خليلاً القائد تزيميسيس Tzimisces. وقتل هذا القائد نقفور (969) واستولى

ص: 165

بعد قتله على العرش وغضت النظر عن هذا الجرم، ولكن القتل ندم على فعلته، ونبذ خليلته، ونفاها من البلاد، وخرج هو ليكفر عن جرائمه بانتصارات وقتية غير حاسمة على المسلمين والصقالبة.

وكان الإمبراطور الذي خلفه على العرش من أقوى الشخصيات في تاريخ بيزنطية. وقد ولد باسيل الثاني لرومانوس وثيوفانو في عام 958، وكان إمبراطورا بالاشتراك مع نقفور فوقاس وتزيميسيس، ثم بدأ (976) وهو في الثامنة عشرة من عمره حكماً منفرداً دام خمسين عاماً. واكتنفته في بداية الحكم المتاعب من كل جانب: فأخذ كبير وزرائه يأتمر به ليغتصب عرشه، وأمد سادة الإقطاع الذين اعتزم أن يفرض عليهم الضرائب المتآمرين عليه بالمال، وخرج عليه بارداش اسكلروس Badas Sclerus قائد جيش الشرق، فأخمد بارداس فوقاس ثورته، ثم عمل هذا القائد المنتصر على أن يختاره جنوده إمبراطوراً، وكان المسلمون وقتئذ يستردون معظم ما استولى

عليه منهم تزيميسيس في بلاد الشام، وبلغت قوة البلغار أوجهاً، وأخذوا يعتدون على بلاد الإمبراطورية من الشرق والغرب. وقلم باسيل أظفار الفتنة، واسترد أرمينية من المسلمين، وحطم قوة البلغار بعد حرب طاحنة دامت ثلاثين عاماً. وبعد أن تم له النصر على البلغار في عام 1014 وسمل عيون 15. 000 أسير، ولم يترك إلا عيناً واحدة لكل مائة واحد منهم ليقود هذه الجموع المنكودة في عودتها إلى صمويل قيصر البلغار، وأطلق عليه اليونان اسم قاتل البلغار (بلغاراكتونوس Bulgaroctonus) ولعل ذلك كان منهم رهبة له لا إعجاباً له. ووجد بين هذه الحروب وقتاً يشن فيه حرباً شعواء على "الذين أثروا على حساب الفقراء". فحاول بما سنه من القوانين

في عام 996 أن يجزئ بعض الضياع الكبيرة ويشجع انتشار الفلاحين الأحرار. وكان يوشك أن يقود حملة بحرية على المسلمين في صقلية حين وافته المنية وجاءه وهو في الثامنة والستين من عمره. ولم تبلغ الإمبراطورية منذ أيام هرقل ما بلغته في

ص: 166

أيامه من السعة، ولم يكن لها منذ عهد جستنيان مثل ما كان لها في عهده من القوة.

ودب الضعف مرة أخرى في جسم الإمبراطورية في عهد أخيه الشيخ قسطنطين الثامن (1025 - 1028). ولم يكن لقسطنطين هذا من الأبناء إلا ثلاث بنات، فأقنع رومانوس أرجيروس Romanus Arguros أن يتزوج زوي Zoe كبراهن، وكانت سنها وقتئذ قرب من الخمسين. وحكمت زوي بمساعدة أختها ثيودورا الدولة بوصفها نائبة عن الإمبراطور طوال عهد رومانوس الثالث (1028 - 1034)، وميخائيل الرابع (1034 - 1042)، وميخائيل الخامس (1042)، وقسطنطين التاسع (1042 - 1055)؛ ولم تشهد الإمبراطورية قبل أيامها حكماً أصلح من حكمها. فقد شنت الأختان حرباً شعواء على الفساد في الدولة والكنيسة، وأرغمتا الموظفين على أن يردوا ما اغتصبوه من الأموال؛ ومن هؤلاء واحد كان رئيس وزراء رد إلى الدولة 5300 رطل من الذهب (2. 226. 00 ريال أمريكي) كان قد خبأها في حوض ماء، ولما أن مات البطريق ألكسيس Alexis، وجد في حجراته مخبأ يحتوي مائة ألف رطل من الفضة (27. 000. 000 ريال أمريكي)(9). ووقف بيع المناصب الحكومية فترة قصيرة، وجلست الأختان زوي وثيودورا قاضيتين في أعلى محكمة في الدولة، ووزعتا العدالة الصارمة بالقسطاس المستقيم. ولم يكن أحد يضارع زوي في نزاهتها؛ من ذلك أنها تزوجت قسطنطين التاسع وهي في الثانية والستين من عمرها، وكانت تعرف أن براعتها في تزيين نفسها بالأصباغ لا تكاد تحتفظ لها إلا بالشيء القليل من جمالها الظاهري، سمحت لزوجها الجديد أن يأتي بعشيقته اسكلرينا لنعيش معه في القصر الإمبراوري. واختار الإمبراطور حجراته بين حجراتهما، ولم تكن زوي تزوره قط إلا بعد أن تتأكد أنه بمفرده (10). ولما مات زوي (1050)، آوت ثيودورا إلى دير للراهبات،

ص: 167

وحكم قسطنطين التاسع بعد ذلك خمس سنين راعى فيها الحكمة وسلامة الذوق؛ فاختار لمعاونته رجالاً من ذوي الكفاية والثقافة، وأعاد تجميل كنيسة أيا صوفيا، وشاد المستشفيات والملاجئ للفقراء، وناصر الآداب والفنون. ولما مات (1055) تزعم أنصار الأسرة المقدونية ثورة شعبية أخرجت العذراء ثيودورا من مأواها في الدير، وتوجتها على الرغم منها إمبراطورة. وحكمت مع وزرائها الدولة حكماً صالحاً حازماً على الرغم من أنها كانت وقتئذ في الرابعة والسبعين من عمرها؛ ولكنها ماتت في عام 1065 ميتة مفاجئة، وضربت الفوضى على أثر موتها أطنابها في البلاد، فنادى الأشراف بميخائيل السادس إمبراطوراً، ولكن الجيش فضل عليه القائد اسحق كمنينوس، وكانت معركة واحدة كافية لحسم النزاع، فنرهب ميخائيل، ودخل كمنينوس العاصمة في عام 1075 إمبراطوراً. وهكذا قضى على الأسرة المقدونية بعد حكم دام مائة وتسعين عاماً، كان قوامه العنف، والحرب، والزنى، والتقي، والإدارة الممتازة.

واعتزل اسحق كمنينوس الملك بعد عامين، ورشح له خلفاً له قسطنطين. دوكاس Constantine Ducas، وآوى هو إلى دير، ولما توفي قسطنطين (1076) حكمت أرملته يودوسيا الدولة أربع سنين بوصفها إمبراطورة بالنيابة، ولكن مطالب الحرب كنت تحتاج إلى قائد أعظم منها قوة، وأشد حزماً، ولهذا تزوجت رومانوس الرابع وتوجته إمبراطوراً. وهزم الأتراك رومانوس عند ملازكرت (1071)، فعاد إلى القسطنطينية يجلله العار؛ ثم خلع، وسجن، وسملت عيناه، وترك ليموت من جروجه التي لم يعن بها أحد. ولما جلس على العرش كمنينوس الأول (1081) ابن أخي اسحق كمنينوس خيل إلى العالم أن الإمبراطورية البيزنطية موشكة على الانهيار، فقد استولى

الأتراك على بيت المقدس (1076) وأخذوا يزحفون على آسية الصغرى، وكانت قبائل البتزيناك Patzinak والكومان Cuman تقترب من القسطنطينية إلى الشمال، والنورمان يهاجمون

ص: 168

الحصون البيزنطية الأمامية في البحر الأدرياوي. وكان لجيش والحكومة يفت في عضدهما الخيانة، والعجز، والفساد، والجبن. وواجه ألكسيوس ذلك الموقف بشجاعة ودهاء، فوجه عملاءه إلى إيطاليا الخاضعة للنورمان ليثيروا بها الفتن، ومنح البندقية ميزات تجارية على أن تعينه بأسطولها على النورمان، وصادر كنوز الكنيسة ليعيد بها إنشاء الجيش، ونزل إلى ميدان القتال بنفسه، وانتصر في عدة معارك بفضل مهارته في الفنون الحربية لا بما سفكه من الدماء، ووجد بين هذه المشاغل الخارجية وقتاً استطاع أن يعيد فيه تنظيم الدولة ووسائل الدفاع عنها، ووهب بهذا كله الإمبراطور المتداعية حياة دامت مائة عام أخرى. فلما كان عام 1095 لجأ إلى حيلة دبلوماسية بارعة كان لها أثر بعيد. ذلك أنه استغاث بالغرب لمساعدة الشرق المسيحي، وعرض في مجلس بياسنزا أن تعود الكنيستان اليونانية واللاتينية إلى الاتحاد نظير اتحاد أوربا ضد المسلمين؛ وكانت هذه الاستغاثة هي وغيرها من العوامل التي أطلقت أولى تلك الحروب المسرحية المعروفة بالحروب الصليبية، والتي قدر لها أن تنقذ بيزنطية ثم تقض

آخر الأمر عليها.

ص: 169

الفصل الرابع

‌الحياة في بيزنطية

(566 - 1095)

وصلت الإمبراطورية اليونانية مرة أخرى في بداية القرن الحادي عشر إلى ما كانت عليه من القوة والثروة والثقافة في أوج مجدها أيام جستنيان، وذلك بفضل ما كان للأسرتين الإسورية والمقدونية من قوة حربية وحنكة سياسية، فانتزعت من المسلمين آسية الصغرى، وبلاد الشام الشمالية، وقبرص، ورودس، وخلقيدية، وإقريطش (كريت)؛ وعاد جنوبي إيطاليا فأصبح بلاد اليونان الكبرى Manga Grecia تحكمه القسطنطينية، واستُرِدَّت بلاد البلقان من البلغار والصقالبة، وسيطرت التجارة والصناعة البيزنطيتان مرة أخرى على أسواق بلاد البحر المتوسط، وانتصر المذهب المسيحي اليوناني في البلقان وروسيا، وأخذ الفن والأدب اليونانيان يستمتعان بنهضة مقدونية جديدة، وبلغ إيراد الدولة في القرن الثالث عشر، ما يوازي 2. 400. 000. 000 دولار من نقود هذه الأيام (11).

وكانت القسطنطينية نفسها في أوج عزها، تفوق روما القديمة والإسكندرية وتضارع بغداد وقرطبة المعاصرتين لها في التجارة والثروة، والترف والجمال، والرقة والفن. وكان معظم سكانها البالغ عددهم نحو مليون من الأنفس (12) من الأسيويين والصقالبة-الأرمن، والكبدوكيين، والسوريين، واليهود، والبلغار، واليونان أنصاف الصقالبة، يمتزج بهم ويلونهم تجار وجنود من الإسكنديناويين، والروس، والطليان، والمسلمين؛ وتغشيهم طبقة رقيقة من الأشراف اليونان. وكان في داخل الإطار الخارجي المكون نصفه من الذهب ونصفه من الوحل، والذي تدور فيه الحياة المنتجة الخصيبة في العاصمة البيزنطية

ص: 170

ألف نوع ونوع من المنازل-ذا السقوف الهرمية والسطوح أو القباب-ذات شرفات، وبوائك، وحدائق أو عرائش؛ وأسواق غاصة بحاصلات العالم كله، وألف شارع وشارع ضيق موحل تحف به المساكن والحوانيت، وكثير من الشوارع الواسعة تكتنفها القصور الفخمة، والأروقة الظليلة، مليئة بالتماثيل تتخللها أقواس النصر؛ وتتصل المدينة بالريف من خلال أبواب محروسة في أسوار حصينة؛ وقصور ملكية معقدة كقصر ثيوفيلس ذي الثلاثة أجنحة، وقصر باسيل الأول الجديد، وقصر نقفور فوقاس الريفي المؤدي بدرج من الرخام إلى رصيف تقوم عليه التماثيل على شاطئ بحر مرمرة؛ وكنائس "بعدد ما في السنة من أيام" كما يقول أحد الرحالة"، بعضها تحف فنية غاية في الإبداع، ومذابح تضم أثمن ما في العالم المسيحي من مخلفات وأكثرها تعظيماً وإجلالاً؛ وأديرة لا يستحي من فيها من فخامة مظهرها، تضطرب من داخلها بالقديسين ذوي الكبرياء، وكنيسة أيا صوفيا التي تجدد زينتها على الدوام، تتلألأ فيها الشموع والمصابيح، مثقلة بالبخور؛ رائعة المناظر المهيبة، تتردد في جنباتها الترانيم الرنانة التي لا تترك شكاً في النفوس.

وكان في داخل قصور الأشراف وكبار التجار في المدينة، وبيوت الريف المقامة في مؤخرتها على شاطئ البحر، كل ما يستطيع ذلك العصر أن يصل إليه من مظاهر الترف والزينة التي لا تحرمها العادات والتقاليد السامية: رخام من كل صنف ولون، وصور على الجدران وفسيفساء، وتماثيل وخزف جميل، وسجف تنزلق على عصى من الفضة، وأقمشة مصورة على الجدران، وطنافس، وحرائر، وأبواب مطعمة بالفضة والعاج، وصحائف من الفضة والذهب؛ في هذه البيئة يتحرك المجتمع البيزنطي، رجال ونساء حسان الوجه والقوام، عليهن أثواب من الفراء والحرير الجميل اللون الموشي بالمخرمات، لا ينقصن في رشاقتهن، ومغامراتهن الحبية، ودسائسهن عن أهل باريس وفرساي في عهد آل بوربون. ولم تعرف

ص: 171

النساء قبل ذلك العهد مساحيق أبهى أو عطوراً أذكى أو جواهر أثمن أو تصفيفاً للشعر أجمل مما عرفته نساء ذلك العصر. وكانت النار تبقى متقدة في القصور الإمبراطورية طوال أيام العام لتطبخ عليها العطور التي يتطلبها تعطير الملكات والأميرات (13). ولم تكن الحياة في أي وقت من الأوقات السابقة أكثر زينة وأشد تكلفاً، وأكثر حفلات، واستقبالات، ومناظر؛ وألعاباً، واستمساكاً بالمراسم، وأشد مراعاة لآداب اللياقة منها في ذلك الوقت. وكان الأرستقراط المتأصلون في أرستقراطيتهم إذا خرجوا إلى مضمار السباق، أو وجدوا في بلاط الإمبراطور، يتباهون بأثوابهم الجميلة، وإذا ساروا في الطرق العامة اندفعوا بعرباتهم الفخمة لا يبالون بالراجلين الفقراء فكسبوا بذلك عداوتهم، وقد بلغوا من الأبهة ما استحقوا من أجله لعنة رجال الدين الذين كانوا يخدمون الله في آنية وعلى مذابح من الرخام، والمرمر، والفضة، والذهب. ويقول ربرت الكلاري Robert of Clari إن القسطنطينية في ذلك الوقت كانت تحوي على "ثلثي ثروة العالم كله"، "وحتى العامة أنفسهم" كما يقول بنيمين التطيلي "من السكان اليونان وكأنهم كلهم أبناء ملوك"(15).

ووصفها أحد كتاب القرن الثاني عشر فقال: "إذا كانت القسطنطينية تفوق سائر المدن في ثرائها، فإنها تفوق هذه المدن أيضاً في رذائلها"(16). ذلك أن جميع رذائل المدن الكبرى قد وجدت لها مكاناً فيها بين أغنيائها وفقرائها على السواء. فالقسوة الوحشية والتقوى كانتا تتبادلان الاستحواذ على نفوس الأباطرة، وفي نفوس العامة كان يمكن التوفيق بين الحاجة الشديدة إلى لدين ومفاسد السياسة والحرب أو عنفهما، وظل إخصاء الأطفال لاتخاذهم خصياناً في بيوت الحريم وأعمال الإدارة، واغتيال المطالبين بالعرش أو الذين يخشى أن يكونوا مطالبين به أو سمل عيونهم، ظلت هذه الجرائم تسير سيرها خلال حكم الأسر المختلفة، وخلال التغيرات الرتيبة المملة التي لا تنقطع. وكانت جماهير

ص: 172

الشعب التي أفسدت نظامها وسخرتها الانقسامات العنصرية، والطائفية، والدينية، كانت هذه الجماهير متقلبة لا يقر لها قرار، متعطشة للدماء، تضطرب وتثور من آن إلى آن، ترشوها الدولة بوجبات الطعام المكونة من الخبز والزيت والخمر بلا ثمن؛ ويسيلها سباق الخيل ومصارعة الوحوش، والرقص على الحبال، والتمثيليات الصامتة الفاحشة البذيئة في الملاهي، والمراكب الإمبراطورية أو الكنسية في الشوارع. وكانت قاعات الميسر لا يخلو منها مكان، وتكاد بيوت العاهرات توجد في كل شارع، بل كانت في بعض الأحيان "تلاصق أبواب الكنائس"(17). واشتهرت نساء بيزنطية بدعارتهن وورعهن، كما اشتهر رجالها بحدة الذكاء والطموح والتجرد من الضمير. وكانت كل الطبقات من سكانها تؤمن بالسحر، والتنجيم، والتنبؤ بالغيب، والعرافة، والاتصال بالشياطين، والتمائم ذات القوة المعجزة. وكانت الفضائل الرومانية القديمة قد اختفت حتى قبل اختفاء اللغة اللاتينية. وقضى على الصفات الرومانية واليونانية سيل من الشرقيين فقدوا هم أيضاً مبادئهم الأخلاقية، ولم يستعيضوا عنها إلا بالألفاظ الجوفاء. ومع هذا فإن الكثرة الغالبة من الرجال والنساء في هذا المجتمع المتطرف في دينه وشهواته كانوا مواطنين ومؤدبين وآباء محتشمين يسكنون بعد لهو الشباب إلى حياة الأسر وما فيها من متع وأحزان، ويؤدون الأعمال الدنيوية وهم كارهون. وهؤلاء الأباطرة الذين كانوا يسملون عيون منافسيهم يغدقون الصدقات على المستشفيات وملاجئ الأيتام، والعجزة، ونزل المسافرين المجانية (18). وكانت طبقة الأشراف، التي يخيل إلى الناس أن الترف والراحة ديدنها وشغلها الشاغل كل يوم، تضم مئات من الرجال يقبلون على أعمال الإدارة والسياسة بغيرة يختلط بها الطمع في الكسب ولإنشاء، واستطاعوا بطريقة ما، وبالرغم مما يتعرضون له من الانقلابات وما يحاك حولهم من الدسائس، أن ينقذوا الدولة من كل كارثة تلم بها، وأن

ص: 173

يقيموا فيها نظاماً اقتصادياً أغدق عليها من الرخاء أكثر ما شهده العالم المسيحي في العصور الوسطى.

وكانت البيروقراطية التي أنشأها دقلديانوس وقسطنطين قد صارت في مدى سبعة قرون أداة قوية فعّالة في إدارة شئون الحكم: وصلت إلى كل إقليم من أقاليم الدولة. وكان هرقل قد استعاض عن تقسيم الدولة القديم إلى ولايات تقسيمها إلى وحدات عسكرية على رأسها حاكم عسكري (استراتيجوس Strategos) ، وكان هذا التقسيم وسيلة من مائة وسيلة عدلت بها الأنظمة البيزنطية لمواجهة الغزو الإسلامي. واحتفظت الوحدات الجديدة بقسط كبير من الحكم الذاتي وعمها الرخاء تحت إشراف الإدارة المركزية، فقد حباها هذا النوع من الحكم استمراراً في النظام دون أن يلقى على كاهلها العبء المباشر للنزاع والعنف اللذين كانت تضطرب بهما العاصمة؛ فبينما كانت العاصمة يحكمها الإمبراطور والبطريق، والغوغاء، كانت الوحدات العسكرية يحكمها القانون البيزنطي. وبينما كانت البلاد الإسلامية توحد بين القانون والدين، وبينما كان غرب أوربا يتعثر في فوضى عدد كبير من قوانين القبائل الهمجية، كان العالم البيزنطي يعض بالنواجد على نطاق جستنيان ويوسع نطاقه، فكانت قوانين جستين الثاني Jutslsn ll وهرقل "الجديدة"، والقوانين "المختارة" التي سنها ليو الثالث والمراسيم الملكية التي نشرها ليو السادس، وقوانين هذا الإمبراطور الجديدة الأخرى، كانت كل هذه قد كيفت مجموعات قوانين جستنيان كي تتفق مع الحاجات المتغيرة لقرون خمسة. ووهبت كتب القوانين العسكرية، والكنسية، والبحرية، والتجارية، والريفية، الأحكام القضائية في الجيش والكنيسة، والأسواق والثغور، والضياع، والبحار، نظاماً وثقة بين الناس، وجعلتها خليقة بأن يعتمد عليها؛ وكانت مدرسة القانون في القسطنطينية في القرن الحادي عشر المركز الثقافي للشئون غير الدينية في العالم المسيحي. وهكذا احتفظ البيزنطيون بأعظم ما وهبته لهم روما-ألا وهو

ص: 174

القانون الروماني-خلال ألف عام من الأخطاء والتغييرات، حتى إذا ما بعث بعثاً جديداً في بولونيا Bologna في القرن الثاني عشر أحدث انقلاباً عظيماً في القانون المدني لأوربا اللاتينية والقانون الكنسي للكنيسة الرومانية. وكان القانون البحري البيزنطي الذي سنه ليو الثالث والمستمد من الأنظمة البحرية لرودس القديمة أول مجموعة من القوانين التجارية في العالم المسيحي في العصور الوسطى؛ وقد أصبح في القرن الحادي عشر مصدراً لقوانين أخرى من نوعه في جمهوريتي تراني Trani وأملفي Amalfi الإيطاليتين، ومن هذا الطريق سرى إلى التراث القانوني في عصرنا الحاضر.

أما القانون الريفي فكان محاولة صادقة جديرة بالثناء للوقوف في وجه الإقطاع وإنشاء طبقة من الفرحين الأحرار. فقد وهب هذا القانون قطعاً صغيرة من الأرض إلى الجنود المتقاعدين؛ وكانت أرض واسعة من أملاك الدولة يزرعها الجند على أن يكون عملهم فيها نوعاً من الخدمة العسكرية، وكانت مساحات واسعة تزرعها الطوائف الخارجة على الدين المنقولة من آسية إلى تراقية وبلاد اليونان. وكانت أقاليم أوسع رقعة من هذه وتلك تستقر فيها جماعات البرابرة، ترغمهم على ذلك الحكومة أو تبسط حمايتها عليهم لأنها ترى أن وجودهم في داخل الإمبراطورية أقل خطورة من وجودهم في خارجها؛ وعلى هذا النحو استقر القوط في تراقية وإليريا، واللمبارد في بانونيا، والصقالبة في تراقية ومقدونية وبلاد اليونان؛ ولم يستهل القرن الحادي عشر حتى كان الجنس الصقلبي هو الجنس الغالب في البلوبونيز، وحتى كثر عدد الصقالبة في أتكا وتساليا. وتعاونت الدولة والكنيسة على إنقاص عدد الأرقاء؛ فحرمت الشرائع الإمبراطورية بيع الأرقاء الذين ينضمون إلى الجيش أو رجال الدين أو يتزوجون من شخص حر. وكان عمل العبيد في القسطنطينية مقصوراً في الواقع على العمل في المنازل، أما في غيرها من المدن فكانت تجارة الرقيق رائجة.

ص: 175

بيد أن من قوانين التاريخ الصادقة الأكيدة التي لا تكاد تفترق عن قانون نيوتن في الجاذبية أن الملكيات الزراعية الكبيرة كلما تقاربت واتسعت رقعتها اجتذبت إليها الملكيات الصغيرة، وأنها بعد فترات من الزمن تجمع هذه الملكيات الصغيرة إلى ضياع كبيرة عن طريق الشراء أو غيره من الطرق؛ ثم لا يلبث هذا التركيز على مر الزمن أن يتفجر، فتوزع الأرض مرة أخرى عن طريق الضرائب أو الثورة، ثم تبدأ عملية التركيز من جديد. ولقد كانت معظم الأراضي الزراعية في بلاد الشرق البيزنطية ضياعاً واسعة يمتلكها كبار الملاك المعروفون باسم الديناتوي dynatoi أي "الرجال الأقوياء"، أو الكنائس، أو الأديرة، أو المستشفيات التي ينفق عليها من أرضين أوصى بها إليها الأتقياء الصالحون من الناس. وكانت هذه الأراضي يفلحها رقيق الأرض، أو فلاحون أحرار من الوجهة القانونية، ولكنهم مكبلون بالأغلال من الناحية الاقتصادية. وكان ملاك الأرض تحيط بهم بطانة من الموالي، والحراس، وعبيد المنازل، ويحيون حياة الترف المنعم في بيوت الريف أو قصور المدن. وترى ما في حياة أولئك الملاك من خير وشر في قصة السيدة دنييلس Damielis محسنة باسيل الأول. ذلك أنها حين جاءت لزيارته في القسطنطينية كان ثلاثمائة من العبيد يتناوبون على حمل هودجها الذي جاءت فيه من بتراس Patras. وحملت معها لمحسوبها الإمبراطوري هدايا أثمن مما بعث به ملك من الملوك إلى الإمبراطور البيزنطي: منها أربعمائة شاب، ومائة خصي، ومائة عذراء. ومنها أربعة قطعة من النسيج المنقوش نقشاً فنياً، ومائة قطعة أخرى من التيل الرفيع (تبلغ كل منها من الرقة درجة تسمح لها بأن توضع في عقلة غاب)، ومجموعة من صحاف المائدة مصنوعة من الفضة والذهب. وقد تخلت هذه السيدة في أثناء حياتها عن كثير من ثروتها، فلما دنت منيتها أوصت بما بقي لديها إلى ابن باسيل، ووجد ليو السادس أنه قد وُهب ثمانين بيتاً ومزرعة في الريف، وأكداساً من النقود

ص: 176

والجواهر والصحاف والأثاث الثمين، والمنسوجات الغالية، وما لا يحصى من الماشية، وآلافاً من العبيد (19).

ولم يكن الأباطرة يسرون كل السرور بهذه الهدايا اليونانية؛ ذلك بأن هذا الثراء المجتمع من لحوم ملايين الناس ودمائهم كان يكسب أصحابه سلطاناً، وأنهم إذا اجتمعوا كانوا خطراً شديداً على أي ملك أو إمبراطوراً. ولهذا كان الأباطرة يعملون بدافع مصالحهم الشخصية وحب الإنسانية على وقف تركيز الثروة على هذا النحو. من ذلك أن شتاء 927 - 928 القارس قد أعقبه قحط ووباء، فباع الفلاحون أرضهم إلى كبار الملاك بأثمان منخفضة إلى أقصى حد، ومنهم من تخلى عنها نظير لقمة العيش. ولهذا أصدر رومانوس نائب الإمبراطور "مرسوماً جديداً" يندد فيه بالملاك ويصفهم بأنهم "أظهروا أنهم أشد قسوة من القحط والوباء"؛ وطالبهم بأن يردوا كل الأملاك التي ابتاعوها من أصحابها بأقل من نصف "الثمن المجزئ"؛ وأجاز لكل من باع أرضه أن يشتري في خلال ثلاث سنين ما باعه منها بالثمن الذي باعه به، ولكن هذا المرسوم لم تكن له نتيجة تستحق الذكر؛ وظل تركيز الملكية يجري في مجراه، وزاد الطين بلّة أن كثيرين من الفلاحين اضطرتهم الضرائب الباهظة إلى بيع أراضيهم والهجرة إلى المدن-إلى القسطنطينية إن استطاعوا-وإلى المعيشة من الإعانات الحكومية. وجدد باسيل الثاني النضال بين الأباطرة والأعيان، فأصدر في عام 996 مرسوماً يبيح للبائع أن يستعيد في أي وقت ما باعه من الأرض بالثمن الذي باعه به؛ وألغى عقود الأراضي التي استولى عليها الملاك بطريقة تخالف قانون عام 934؛ وأمر بأن تعود هذه الأراضي من فورها إلى ملاكها السابقين ومن غير ثمن. واستطاعت كثرة الملاك أن تحتال على التملص من هذه القوانين، ونشأ من ذلك في الشرق البيزنطي في أزمنة غير متصلة، قبل بداية القرن الحادي عشر، نظام معدل من أنظمة الإقطاع. ولكن جهود الأباطرة لم تذهب

ص: 177

كلها أدراج الرياح، ذلك أن من بقوا من الزراع الأحرار مدفوعين بغريزة التملك قد غطوا الأرض بالمزارع، والبساتين، والكروم، والمناحل، والمراعي، ونشأت في ضياع كبار الملاك الزراعة العلمية إلى أقصى ما وصلت إليه في العصور الوسطى، وكان تقدم الزراعة البيزنطية بين القرن الثمن والقرن الحادي عشر يضارع تقدم الصناعة في تلك البلاد.

واصطبغت الإمبراطورية الشرقية في ذلك العصر بصبغة حضرية نصف صناعية تختلف كل الاختلاف عن الصبغة الريفية الغالبة على أوربا اللاتينية الواقعة في شمال جبال الألب، فكان عمال المناجم وصناع المعادن يعملون بجد في الكشف عن مناجم الرصاص؛ والحديد، والنحاس، والذهب واستغلالها. وكانت القسطنطينية ومائة مدينة غيرها-أزمير، وطرسوس، وإفسوس، ودورزو، وراجوسا، وبتراس، وكورنثة، وطيبة، وسلانيك، وهدريانوبل، وهرقلية، وسليميريا-تترد فيها أصوات دابغي الجلود، وصانعي الأحذية، والسروج، والأسلحة، والصياغ، وصناع الحلي، وطارق المعادن، والنجارين، والحفارين على الخشب، وصانعي العجلات، والخبازين، والصباغين، والنساجين، والفخرانيين، وصانعي الفسيفساء، والنقاشين. وكانت القسطنطينية، وبغداد، وقرطبة، في القرن التاسع مراكز للصناعة والتبادل التجاري تكاد تضارع في سرعة حركتها وجنونها أي حاضرة من الحواضر في هذه الأيام. وظلت العاصمة اليونانية، بالرغم من المنافسة الفارسية تتزعم العالم الأبيض في إنتاج المنسوجات الرفيعة والحريرية ويليها في هذا أرجوس، وكورنثة، وطيبة. ونظمت صناعة النسيج أحسن تنظيم، وكانت تستخدم كثيراً من العبيد، أما غيرها من الصناعات فكانت تستخدم صناعاً أحراراً. وكان صعاليك القسطنطينية وسلانيك يحسون

ص: 178

بسوء حالهم، وكثيراً ما حاولوا القيام بثورات لم يوفقوا فيها. وكان أصحاب الأعمال الذين يستخدمونهم يؤلفون من بينهم طبقة وسطى كبيرة العدد، محبة للكسب، متصدقة، مجدة، ذكية، محافظة أشد المحافظة. وانتظمت الصناعات الكبرى بصنَّاعها، وفنَّانيها، ومديريها، وتجارها، ومحاميها، ورجال مالها في جماعات نقابية-سستماتا Sytemata- تحدرت من الجماعات القديمة المعروفة بالكوليجيا والأرتيس، وتشبه الوحدات الاقتصادية الكبيرة في الدول الحديثة ذات الصناعات الجماعية. وكانت كل جماعة نقابية منها تحتكر عملاً من الأعمال يتفق مع تكوينها، ولكنها كانت مقيدة أشد التقييد بأنظمة خاصة بمشترياتها، وبأثمانها، وبأساليب صناعتها، وشروط البيع؛ وكان مفتشون حكوميون يراقبون أعمالها وحساباتها، وكانت القوانين في بعض الأحيان تحدد أقصى الأجور. أما الصناعات الصغرى فكانت تترك للصناع الأحرار وللنشاط الفردي. وقد أفادت الصناعة البيزنطية من هذا نظاماً، ورخاء، واتصالاً، ولكن نظامها حال دون الابتكار والاختراع، ومال بها إلى الجمود وركود الحياة (20).

وكانت الحكومة تشجع التجارة بتعضيدها، وبمراقبة الأهوسة، والموانئ وتنظيم التأمينات والقروض بضمان السفن، وتشن حرباً شعواء على القرصنة، وكانت العملة البيزنطية أكثر عملات أوربا ثباتاً. وكان للحكومة البيزنطية إشراف واسع شامل متغلغل في جميع الأعمال التجارية-فكانت تحرم تصدير بعض المواد والسلع، وتحتكر تجارة الحبوب والحرير، وتفرض عوائد على الصادرات والواردات، وضرائب على المبيعات (21). وكادت هي تدعو غيرها من الدول إلى أن تحل محلها في سيادتها التجارية القديمة على بحر إيجة والبحر الأسود بسماحها إلى التجار الأجانب-الأرمن، والسوريين، والمصريين، والأملفيين والبيزيين، والبنادقة، والجنويين، واليهود، والروس، والقطلانيين-بنقل

ص: 179

معظم بضائعها هي، وبإنشاء وكالات شبه مستقلة في العاصمة أو بالقرب منها. وكان الربا مباحاً، ولكن القانون كان يحدد سعر الفائدة باثني عشر أو عشرة، أو ثمانية عشر في المائة، أو بأقل من ذلك في بعض الأحيان وكان رجال المصارف كثيري العدد، ولعل المرابين في القسطنطينية لا المرابين الطليان هم الذين أوجدوا نظام السفاتج القابلة للتحويل (22)، ووضعوا أوسع نظام للائتمان عرفه العالم المسيحي قبل القرن الثالث عشر.

ص: 180

الفصل الخامس

‌النهضة البيزنطية

ونشأ من كدح الشعب وحذقه، ومن أموال الأغنياء الزائدة على حاجتهم، إحياء عجيب للآداب والفنون في القرنين التاسع والعاشر. ذلك أن الدولة وإن ظلت إلى آخر أيام حياتها تسمى نفسها الدولة الرومانية، فإن ما فيها من العناصر اللاتينية إلا القليل منها كان قد اختفى كله تقريباً ما عدا القانون الروماني. فأضحت اللغة اليونانية في الشرق البيزنطي من أيام هرقل هي لغة الحكومة، والأدب، والشعائر الدينية، ولغة الحديث اليومي. وأصبح التعليم له يونانياً، وكان كل حر من الذكور، وكثير من النساء، بل وكثير من الأرقاء، يتلقى قدراً ما من التعليم؛ وأحيا قيصر بارداس Caesar Baradas (863) جامعة القسطنطينية التي تركت لتضمحل وتوت، كما تركت الآداب بوجه عام؛ خلال ما حدث من الأزمات في عهد هرقل؛ وذاعت شهرة هذه الجامعة بما كانت تدرسه من المناهج في فقه اللغة، والفلسفة، وعلوم الدين، والهيئة، والرياضة، والأحياء، والموسيقى، والآداب؛ وحتى ليبانيوس الوثني ولوشيان الكافر كانا متعلمين. وكان التعليم في العادة من غير أجر للطلاب ذوي المؤهلات، وكانت الدولة تتكفل بمرتبات المدرسين. وكثرت في البلاد دور الكتب العامة والخاصة، وظلت تحتفظ بروائع المؤلفات اليونانية والرومانية القديمة التي جر عليها النسيان ذيوله في الغرب المضطرب.

وكان انتقال التراث اليوناني في هذا النطاق الواسع منبهاً للعقول ومقيداً لها معاً. فقد كان من جهة مقوياً للتفكير وموسعاً لمداه، ومشجعاً على الخروج من

ص: 181

أساليب البلاغة الوعظية الرتيبة القديمة؛ والجدول الديني. ولكن ثراءه نفسه كان عائقاً له من الابتكار، لأن الابتكار أيسر على الجاهل منه على المتعلم، وكان أهم ما تهدف إليه الآداب البيزنطية أن توائم النساء المثقفات ذوي الفراغ؛ والرجال المثقفين الذين لا يعملون. وكانت هذه الآداب هلنستية لا يونانية؛ ولهذا كانت تطفو على ظاهر الحياة البشرية ولا تتعمق إلى قلبها. وقد اقتصر التفكير بتأثير العادات التي كسبها في مراحله الأولى على دائرة المتمسكين بالدين القويم، وكان محطمو الصور والتماثيل الدينية أتقى من القساوسة وإن كان رجال الكنيسة في ذلك العهد شديدي التسامح إلى حد عجيب.

وشهدت الإسكندرية عصراً آخر من عصور النهضة العلمية شبيهاً بعصرها القديم أخذ فيه العلماء يحللون اللغة، ويبحثون ويلخصون في علم العروض، ويؤلفون الكتب المجملة، والتواريخ العالمية، ويجتمعون المعاجم والموسوعات والدواوين. ففيه (917) جمع قسطنطين كفالاس Constantine Cephalas الديوان اليوناني. وفيه (976) جمع سويداس معجمه الكبير الغزير المادة. وألف ثيوفانيس (حوالي 814) وليو الشماس (المولود في عام (950) تاريخين قيمين لأيامهما والأيام القريبة منها، وألف بولس الإيجيني Paul of Aegine (815 - 890) موسوعة في الطب جمعت بين نظريات المسلمين وتجاربهم وبين ما خلفه للعالم جالينوس وأرباسيوس Oribasius، وتتحدت بلغة تكاد تشبه لغة هذه الأيام عن جراحات لسرطان القلب، وعن البواسير، وعن قنطرة المثانة، واستخراج الحصاة منها، والإخصاء، ويقول بولس إن الإخصاء كان يحدث بطحن خصيتي الأطفال في حمام حار (23).

وكان أعظم العلماء البيزنطيين في هذه القرون الثلاثة معلماً خامل الذكر معدماً يدعى ليو السلانيكي (حوالي 850)، لم تأبه القسطنطينية لوجوده حتى دعاه أحد الخلفاء إلى بغداد. ذلك أن أحد تلاميذه أسره المسلمون في حرب من

ص: 182

الحروب وأصبح عبداً لأحد عظماء المسلمين، وسرعان ما دهش هذا العظيم من علم هذا الشاب بالهندسة. وعرف المأمون خبره فأغراه بالاشتراك في نقاش مسائل هندسية في قصره. وأعجب الخليفة بعلمه، واستمع بشغف عظيم إلى ما قاله عن معلمه، وأرسل من فوره يدعو ليو إلى بغداد وإلى الثراء والجاه. واستشار ليو في ذلك موظفاً بيزنطياً، ثم استشار هذا الموظف الإمبراطور، ثيوفيلس، فأسرع هذا إلى تعيين ليو أستاذاً. وكان ليو ملماً بكثير من العلوم فكان يؤلف في الرياضة والهيئة، والتنجيم، والطب، والفلسفة ويعلمها. وعرض عليه المأمون عدة مسائل في الهندسة والهيئة وسُرّ من إجابته عنها سروراً جعله يعرض على ثيوفيلس صلحاً أبدياً وألفى رطل من الذهب إذ أعاره ليو غلى أجل قصير. ورفض ثيوفيلس هذا العرض وعين ليو كبيراً لأساقفة سلانيك لكي يبعده عن متناول يد المأمون (24).

وكان ليو، وفوتيوس Photius، وبسلوس Psellus كواكب ذلك العصر المنيرة. فأما فوتيوس (820؟ -891) أعلم أهل زمانه فقد ارتقى في خلال ستة أيام من رجل عادي إلى بطريق، فكان بذلك من رجال التاريخ الديني، وأما ميخائيل بسلوس (1018؟ -1080) فكان من رجال هذا العالم ومن حاشية الإمبراطور، مستشاراً للملوك والملكات، وكان فلتير عصره إلا أنه كان دمث الأخلاق مستمسكاً بالدين، وفي وسعه أن يبهر الناس في كل موضوع؛ ولكنه كان يرسو على قرار مكين بعد كل نقاش ديني وكل ثورة في القصر. ولم يكن يسمح بحب الكتب أن يطغى على حبه الحياة؛ وكان يعلم الفلسفة في جامعة القسطنطينية، ومنح فيها لقب أمير الفلاسفة؛ ثم دخل ديراً، فلما وجد حياة الأديرة أهدأ من أن تطاق عاد إلى الدنيا، وكان رئيساً للوزراء من 1071 إلى 1078؛ ووجد من وقته متسعاً للكتابة في السياسة، والعلوم، والنحو، واللاهوت، وفقه القانون، والموسيقى والتاريخ. ويسجل كتابه المعروف

ص: 183

باسم كروتوغرافيا Chronographia أو سجل الزمان الدسائس والمخازي التي حدثت في مائة عام (976 - 1078) بصراحة، وحماسة وكبرياء (فقال عن قسطنطين التاسع إنه كان "رهين إشارة بسلوس" (25)). وها هي ذي فقرة من وصفه للثورة التي أعادت ثيودورا إلى العرش في عام 1055 نضربها مثلاً لما قلناه:

وكان كل (جندي في الجمع) مسلحاً: فكان واحداً منهم يحمل بلطة قصيرة اليد، وآخر يحمل بلطة حربية، وثالث يحمل قوساً، ورابع يحمل حربة. وكان بعض الغوغاء يحملون حجارة ثقيلة، وأخذوا جميعاً يهرولون في اضطراب عظيم

إلى مسكن ثيودورا

ولكنها لجأت إلى كنيسة صغيرة، وأصمت أذنيها عن سماع صياحهم. وترك الغوغاء النصح ولجئوا معها إلى العنف، فاستل بعض خناجرهم، وألقوا بأجسادهم على ثيودورا كأنهم يريدون أن يقتلوها، ثم اختطفوها بقوة من مأواها المقدس، وألبسوها ثياباً فخمة، وأركبوها جواداً، وأحاطوا بها، وقادوها إلى كنيسة أيا صوفياً، حيث قدم لها جميع السكان عظماؤهم وسوقتهم فروض الطاعة والولاء، ونادوا كلهم بها ملكة عليهم (26).

وتكاد رسائل بسلوس الشخصية تبلغ من السحر والبلاغة ما بلغته رسائل شيشرون، وكانت خطبه، وأشعاره، وكتبه حديث الناس في زمانه؛ وكانت ملحه الخبيثة ونكاته القاتلة حافزاً مثيراً وسط علم معاصريه الجم الثقيل. وإذا ما وازناه هو وفوتيوس وثيوفانيس بأبناء الكوين Alcuin، وبراباني Rabani وأبناء جربرت Gerbert الذين كانوا يعيشون في الغرب في أيامه، بدا هؤلاء وكأنهم ضعاف مهاجرون من الهمجية إلى بلاد العقل.

وكان الفن أبرز نواحي النهضة البيزنطية. ذلك أن حركة تحطيم الصور والتماثيل الدينية قد حرمت في خلال الفترة الواقعة بين 726 و 842 تمثيل الكائنات المقدسة بالنحت المجسم أو بالصور وإن كانت الثانية أقل صرامة

ص: 184

منها في الأولى. ولكنها عوضت الفنان عن هذا التحريم بأن حررته من الاقتصار الممل على الموضوعات الكنسية، ونبهته إلى ملاحظة الحياة الدنيوية وتصويرها وتزيينها فقد اتخذ موضوعات لفنه بدل آلهة الأسرة الإمبراطورية والأشراف المناصرين لها، والحادثات التاريخية، ووحوش الغاب، ونبات الحقول وفاكهتها، وما يجري في البيوت من حوادث تافهة. وأنشأ باسيل الأولى في قصره النيا Nea أو الكنيسة الجديدة، وزينها كلها" على حد قول كاتب معاصر "باللآلئ الجميلة، والذهب، والفضة البراقة، والفسيفساء، والحرير، والرخام مما لا يحصى أنواعه" (27).

ومن أعمال القرن التاسع كثير من النقوش التي أزيح عنها الستار حديثاً في كنيسة أيا صوفيا. وقد أعيد بناء قبتها الوسطى في عام 975 بعد أن دمرها زلزال ثم وضعت فيها الصورة العظيمة المصنوعة من الفسيفساء والتي تمثل المسيح جالساً على قوس قزح، ثم وضعت فيها نقوش أخرى بالفسيفساء في عام 1028. وكانت هذه الكنيسة الضخمة تنبعث فيها الحياة الدائمة، كما تنبعث في الكائنات الحية، بموت أجزائها وتجديدها. واشتهرت أبوابها البرنزية التي وضعت فيها عام 838 بجمالها الممتاز شهرة جعلت ذوي الشأن يأمرون بأن تصنع في القسطنطينية أبواب مثلها لدير مونتي كازينو Monte Casino، وكنيسة أملفي، وباسلقا سان بولو القائمة في خارج أسوار روما. ولا يزال الباب الأخير ذو المصراعين المصنوع في القسطنطينية عام 1070 قائماً حتى الآن يشهد بعظمة الفن البيزنطي.

واكن القصر الملكي أو "القصر المقدس" الذي كانت النيا مُصَلاَّة مجموعة متزايدة من الحجرات، وأبهاء الاستقبال، والكنائس والحمامات، والأجنحة المنعزلة والحدائق، والدهاليز ذات العمد، والأبهاء. وقلّما جلس إمبراطور على العرش إلا أضاف إليه شيئاً جديداً وخلع ثيوفيلس على هذه المجموعة مسحة شرقية جديدة بأن أضاف إليها حجرة للعرش تعرف باسم التريكنكوس Triconchos

ص: 185

وهو اسم مشتق من المحاريب الشبيهة بالأصداف والتي تكون ثلاثة من جوانبها- وذلك طراز أخذ من بلاد الشام وأدخل عليه بعض التحسين. وقد شاد في الجهة الشمالية من هذه الحجرة قاعة اللؤلؤة وفي الجهة الجنوبية منها عدة من الباياقا Beliaka أو حجرات الشمس، والكاملات وهي حجرات ذوات سقف من الذهب، وعمد من الرخام الأخضر، وفسيفساء غاية في الرونق تمثل على أرضية من الذهب رجالاً ونساءً يجمعون الفاكهة. وهذا النقش نفسه فقد فاقه نقش آخر على جدران بناء مجاور له يمثل بالفسيفساء الزرقاء أشجاراً بارزة من ورائها سماء من الفسيفساء الذهبية، وتفوقه كذلك أرض بهو التوافق الذي نحسبه مرجلاً مليئاً بالأزهار. وأطلق ثيوفيلس العنان لذوقه الغريب الشاذ وافتتانه بالعظمة إلى أقصى حدود الافتتان في قصره بمجنورا Magnaura، فقد كانت تشرف على العرش شجرة ذهبية تجثم على غصونها وعلى العرش نفسه طيور من الذهب، وترقد على جانبي المقعد الملكي حيوانات خرافية مجنحة ذهبية، وعلى الأرض آساد أقدامها تحت قدميه. فإذا ما مثل بين يديه سفير أجنبي قامت الحيوانات الخرافية، ووقفت الآساد الذهبية، وهزت أذيالها، وزأرت، وغنت الطيور أغاني آلية (28) وكانت هذه السخافات كلها صور مطابقة من مثيلاتها التي كانت في قصر هارون الرشيد ببغداد.

وكان المال الذي ينفق في تزيين القسطنطينية يجمع من الضرائب المفروضة على التجارة ومن الوحدات العسكرية في الدولة. ولكن ما بقي من هذا المال كان يكفي لتزيين عواصم الولايات زينة أقل من زينة العاصمة الكبرى. فقد قامت الأديرة، بعد أن أعاد إليها الثراء، فخمة كثيرة العدد، وعاد إليها ثراؤها: ففي القرن العاشر أنشئ دير لفرا Lavra ودير إفرون Iviron في آثوس Athos وفي القرن الحادي عشر أقيم دير دافني Daphni للراهبات بالقرب من اليوسيس Eleusis. وتعد فسيفساؤه التي لا تكاد تفترق عن الفسيفساء اليونانية والرومانية القديمة أجمل مثل للطراز البيزنطي

ص: 186

الأوسط. واشتركت بلاد الكرج، وأرمينية، وآسية الصغرى في هذه الحركة، وأمست مراكز أمامية للفن البيزنطي. واستثارت المباني العامة في إنطاكية إعجاب المسلمين، وأنشئت في بيت المقدس كنيسة الضريح المقدس، ولما يمض على انتصارات هرقل إلا القليل؛ وفي مصر شاد الأقباط المسيحيون قبل الفتح العربي وبعد كنائس ذات قباب متواضعة في حجمها ولكنها مزدانة أجمل زينة فنية بكل ما وصل إلى أهلها من مصر الفرعونية، والبطليموسية، والرومانية، والبيزنطية من حذق في أشغال المعادن، والعاج، والخشب، والنسيج لم ينتقص منه شيء. وأخرج اضطهاد محطمي الصور والتماثيل آلاف الرهبان من الشام، وآسية الصغرى، والقسطنطينية إلى جنوبي إيطاليا حيث بسط عليهم البابوات حمايتهم؛ وبفضل هؤلاء اللاجئين، والتجار الشرقيين ازدهر الطراز المعماري والزخرفي البيزنطي في باري، وأترنتو، وبنفنتو، ونابلي، وروما نفسها. وظلت رافنا يونانية في فنها، وأخرجت في القرن السابع الفسيفساء الضخمة التي نشهدها في سانت أبولينارس St. Appolinaris في كلاس Glasse، وظلت سلانيك بيزنطية، وزينت كنيسة أيا صوفيا بصورة مقبضة للقديسين من الفسيفساء نحيلة كالقديسين الذين صورهم الجريكو El Greco.

وأخرجت النهضة البيزنطية في جميع هذه الأراضي والمدن، كما أخرجت في العاصمة نفسها، سيلاً من الروائع الفنية في الفسيفساء والنقش الدقيق، والفخار، والميناء، والزجاج، والخشب، والعاج، والبرونز، والحديد والجواهر، والأقمشة المنسوجة، والمصبوغة، والمنقوشة، بمهارة يخر بها العالم كله. وكان الفنانون البيزنطيون يصنعون أكواباً من الزجاج الأزرق، نقشت عليها تحت سطحها، أغصان وأوراق أشجار، وطيور، وصور آدمية، وآنية زجاجية، ذات رقاب مطلية بالميناء عليها زخارف عربية الطراز وأزهار؛ وأشكال أخرى من الزجاج بلغت من الدقة حداً جعلها هي خير ما أهداه الأباطرة البيزنطيون إلى

ص: 187

رؤساء الدول الأجنبية. وكان أعظم قيمة من هذه الهدايا السابقة ثمين الثياب والشيلان، والحبريات، والجبب الدلماشية

(1)

التي تبرز مفاخر فن النسيج البيزنطي. وكانت "عباءة شارلمان" في كنيسة متز والحرير الرقيق الذي وجد بآخن Aachen في تابوت ذلك الملك من هذا الطراز. وكان نصف مصدر الفخامة التي تحيط بالإمبراطور البيزنطي، وكثير الرهبة التي ترفع من مقام البطريق، وبعض الأبهة التي تكسو المُخَلص" والعذراء والشهداء في شعائر الكنيسة؛ كان مصدر هذا كله هو الثياب الفخمة التي أنفقت فيها حياة عدد من الصناع، وازدانت بعض القرون الطوال، وخير ما أخرجه البر والبحر من أصباغ. واحتفظ صائغو الحلي الذهبية وقاطعو الجواهر بذروة مجدهم الفني حتى القرن الثالث عشر، ولا تزال كنوز كنيسة القديس مرقس بالبندقية مليئة بثمار فنهم. ومن مخلفات ذلك العصر الفسيفساء الواقعية النزعة المدهشة الصنع التي وجدت في كنيسة القديس لوقا والمحفوظة في كلية الدراسات العليا Goll (ge de Hautes Etudes في باريس، ورأس المسيح المتوهج المنقوش في فسيفساء ديسيز في كنيسة أيا صوفيا؛ والفسيفساء الكبيرة الحجم التي تغطي أربعين ياردة مربعة، والتي استخرجت في اسطنبول عام 1935 من خرائب قصر الأباطرة المقدونيين (29). ولما خفَّت حدة محطمي الأصنام، وفي الأماكن التي لم تصل إليها حركتهم، غذت الكنيسة تقوى الناس بالصور المنقوشة على الخشب بالطلاء المائي الفردي، والتي تكتنفها أحياناً أطر منقوشة بالميناء أو الجواهر. وليس في تاريخ العالم كله صور دقيقة تفوق صورة "رؤية حزقيال" التي يحتويها مجلد من عظات جريجوري نزيانزين محفوظ في المكتبة الأهلية بباريس (30)، أو الصور الإيضاحية الأربعمائة التي يحتويها مخطوط "المناجاة" (Monologus) المحفوظ في الفاتكان (حوالي

(1)

نوع من الجبب يلبسها شمامسة الكنيسة الكاثوليكية وأساقفتها أحياناً والاسم مشتق من مقاطعة دلماشيا على البحر الأدرياوي. (المترجم)

ص: 188

عام 1000)، أو صور داود في كتاب التراتيل المحفوظ بباريس (حوالي عام 900). نعم إن هذه الصور لا تراعي فن المنظور، ولا تعني بإبراز الأشكال بطريق الضوء والظل، ولكنها تعوض هذا بالتلوين القوي البراق، وبالخيال الحي، وبالعلم الحديث بأصول التشريح البشري والحيواني، وبالعدد الجم المؤتلف من الوحش والطير، والنبات والزهر، تتخلل القديسين والأرباب، وبالفساقي، والعقود والإيوانات-فيها طيور تنقر الفاكهة، ودببة ترقص، ووعول وعجول تتشابك قرونها في النضال، وفهد يرفع ساقه الخبيثة ليمثل بها الحرف الأول من جملة دينية (31).

ولقد عرف صانعو الفخار البيزنطيون من زمن بعيد فن التطعيم بالميناء، وذلك بأن يضعوا على الطين المحروق والقاعد المعدني أكسيداً معدنياً إذا أدخل النار امتزج بالقاعد وأكسبه بريقاً ووقاية. وكان هذا الفن قد وصل من الشرق إلى بلاد اليونان القديمة، حيث اختفى في القرن الثالث قبل الميلاد، ثم عاد إلى الظهور في القرن الثالث بعده. وكانت هذه الفترة البيزنطية الوسطى غنية بأعمال الميناء من رصائع للصور، ومن صور للقديسين، وصلبان، ومن علب لحفظ المخلفات، وأكواب، وكؤوس للقرابين، وجلود كتب، وزينات للسروج وغيرها من العدد. وقد أخذت بيزنطية من فارس الساسانية منذ ذلك العهد البعيد وهو القرن السادس فن الميناء المقسم: وذلك بأن تصب العجينة الملونة في السطح المقسم إلى مساحات محاطة بأسلاك رفيعة أو قطع رقيقة من المعدن؛ وهذه الحواجز الملتحمة بقاعدة معدنية تكون النقش الزخرفي. ومن أعظم الأمثلة لفن الميناء المقسم وأوسعها شهرة علبة لحفظ المخلفات صنعت (حوالي عام 945) لقسطنطين برفيروجنتس محفوظة الآن في لمبورج Lemburg وهي بيزنطية بنوع خاص في دقة صنعها وفي أمانة صانعها، وفي نقوشها الزخرفية الموفورة.

وليس ثمة من الفنون تغلب عليه الصبغة الدينية أكثر مما تغلب على الفن

ص: 189

البيزنطي وليس أدل على هذا من أن مجلساً للكنائس عقد في عام 787 قد وضع القانون القائل بأن: على المصورين أن ينفذوا، وعلى رجال الدين أن يقرروا، الموضوعات ويشرفوا على عمليات تنفيذها" (32). ومن ثم كانت النزعة الجدية المكتئبة لهذا الفن، وضيق دائرة موضوعاته، والتكرار الممل في أساليبه وأنماطه. وندرة مغامراته في عالم الواقعية، والفكاهة، والحياة الشعبية؛ ولم يكن لهذا الفن نظير في تنميقه ولألائه، ولكنه لم يبلغ في يوم من الأيام ما بلغه الفن القوطي الناضج من تنوع وقوة، ومن نزعة دنيوية شائنة. ومن أجل هذا النقص عنه تزيد دهشتنا من انتصاراته وتأثيره، فقد كان العالم المسيحي على بكرة أبيه من كيف إلى فارس يقر له بالزعامة؛ ويتملقه بتقليده؛ وحتى الصين نفسها كانت بين الفينة والفينة تنحني له إجلالاً وتكريماً. ولقد كان في أشكال السورية نصيب من الفن الفارسي في تكوين موضوعات الفن الإسلامي في العمارة، والفسيفساء، والزخرف. وشكلت البندقية فنها على صورة فن القسطنطينية كما حذا الفن في كنيسة القديس مرقس حذو كنيسة الرسل في تلك المدينة، وظهر فن العمارة البيزنطية في فرنسا، ثم اتخذ طريقه نحو الشمال حتى بلغ آخن. وكانت المخطوطات المزخرفة في كل مكان شاهداً على ما للفن البيزنطي من أثر فيه، وأخذ البلغار عن بيزنطية دينها وزخارفها؛ ولما اعتنق فلادمير مذهب الكنيسة المسيحية اليونانية فتح بذلك أكثر من عشر سبل واسعة دخل منها الفن البيزنطي إلى الحياة الروسية.

وظلت الحضارة البيزنطية من القرن الخامس إلى القرن الثاني عشر هي السائدة في أوربا المسيحية في النظم الإدارية والدبلوماسية، وجباية الأموال، وفي الأخلاق، والثقافة، والفن. وأكبر الظن أنه لم يوجد قبل أيامها مجتمع يماثلها في فخامة زينتها، كما لم يوجد قبل أيامها دين به من المظاهر الفخمة مثل ما في دينها. وكانت هذه الحضارة، كما كانت كل حضارة أخرى. تعتمد على كدح رقيق الأرض والعبيد، وكان ما في محاريبها وقصورها من ذهب ورخام هو

ص: 190

عرق العمال الذين يكدحون في الأرض قد تبدل وتجسم. وكانت ثقافتها، ككل ثقافة سواها في زمانها، قاسية؛ وكان في وسع الرجل الذي يخر راكعاً أمام صورة العذراء أن يذبح أطفال موريق أمام عيني أبيهم. وكان في هذه الثقافة شيء من الضحالة، وكان عليها طلاء من الرقة الأرستقراطية يغطي بناء ضخماً من الخرافات الشعبية، ومن التعصب، ومن الجهل يتصف به غير الأميين، وكان نصف

(1)

هذه الثقافة يوجه إلى تأييد ذلك الجهل. ولم يكن يسمح لعلم أو فن ينمو أو فلسفة أن تنشأ إذا كانت تتعارض مع هذا الجهل، وظلت الحضارة اليونانية مدى ألف عام لا تضيف شيئاً جديداً إلى علم الإنسان بالعالم. فليس ثمة كتاب في الأدب البيزنطي أثار خيال بني الإنسان، أو خلده على مدى الزمان. ذلك أن العقل اليوناني في العصر الوسيط قد أثقله عبء التراث العظيم الذي انحدر إليه من الأيام الخالية، وسجن في المتاهة الدينية التي فقدت فيها بلاد اليونان المحتضرة مسيحية المسيح، فعجز عن أن ينهض فينظر نظرة واقعية ناضجة إلى الإنسان وإلى العالم. وسبب هذا أنه مزق المسيحية شيعاً لاختلافه على حرف واحد من حروف الهجاء أو على كلمة واحدة، وحطم الإمبراطورية الرومانية الشرقية لأنه رأى في كل خروج على الدين خيانة للدولة.

لكننا لا يزال يدهشنا أن هذه الحضارة قد عمرت ذلك الزمن الطويل. ترى ما هي الموارد الخفية، وما هي القوة الحيوية الكامنة، التي أمكنتها من أن تبقى حية بعد أن انتصر عليها الفرس في آسية، وبعد أن انتزع منها المسلمون بلاد الشام، ومصر، وصقلية، وأسبانيا؟ لعل العقيدة الدينية التي أضعفت الدفاع عن الدولة باعتماد أهلها على مخلفات القديسين ومعجزاتهم قد ثبت بعض النظام والتأديب في شعب ديدنة الصبر، وإن انتابه في فترات نوبات من

(1)

طلب جيش "الوحدة" العسكرية الشرقية في عام 669 أن يكون للإمبراطورية ثلاثة أباطرة في وقت واحد ليتفق هذا مع الثالوث الديني.

ص: 191

الاضطراب، وأحاطت الأباطرة والدولة بهالة من القداسة يرهبها التبديل. وقد أكسبتها البيروقراطية الخالدة بهيئتها الجامعة استمراراً واستقراراً لم تنل منهما جميع الحروب والثورات، وحافظت على السلام في الداخل، ونظمت اقتصادياتها، وجبيت الضرائب التي أمكنت الإمبراطورية من أن توسع رقعتها مرة أخرى حتى كادت تبلغ ما بلغته أيام جستنيان. وأكبر الظن أن موارد الخلافة الإسلامية كانت أقل من موارد الدولة البيزنطية وإن كانت أملاك الخلفاء أوسع رقعة من أملاك الأباطرة، ولقد كان ضعف نظام الحكومة الإسلامية، وقصور وسائل الاتصال ودولاب الإدارة عن الوفاء بحاجات الدولة، سبباً في تفككها بعد ثلاثة قرون من قيامها، على حين أن الإمبراطورية البيزنطية عاشت ألف عام.

وقد قامت الحضارة البيزنطية بثلاث مهام حيوية: أولها أنها ظلت ألف عام حصناً حصيناً وفي أوربا هجمات الفرس والدولة الإسلامية في المشرق، وثانيهما أنها احتفظت في أمانة بالنصوص التي أعيد فيها تسجيل آداب اليونان الأقدمين وعلومهم وفلسفتهم، وأسلمتها كاملة إلى أوربا حيث بقيت حتى نهبها الصليبيون في عام 1204. وجاء الرهبان الفارون من وجه محطمي الصور والتماثيل المقدسة بالمخطوطات اليونانية إلى جنوبي إيطاليا، وأعادوا إلى هذه البلاد علمها القديم بالآداب اليونانية؛ وغادر الأساتذة اليونان مدينة القسطنطينية فراراً من المسلمين والصليبيين على السواء، واستقروا أحياناً في إيطاليا، وكانوا هم الحاملين لبذور الآداب القديمة؛ وهكذا أخذت إيطاليا عاماً بعد عام تستكشف بلاد اليونان من جديد، وظل الناس يغترفون من ينبوع الحضارة الذهنية حتى ثملوا. وثالثها وآخرها أن بيزنطية هي التي أخرجت البلغار والصقالبة من دياجير الهمجية إلى المسيحية، وصمت قوة الجسم الصقلبي التي لا حد لها إلى روح أوربا وحياتها ومصائرها.

ص: 192

الفصل السادس

‌البلقان

(558 - 1075)

على بعد بضعة أميال لا أكثر في شمال القسطنطينية بحر مضطرب من خلائق الآداب ويحبون الحرب بنصف قلوبهم. ولم تكد موجة الهون تتراجع حتى أقبلت من التركستان خلائق أخرى جديدة تمت إليهم بصلة الدم يدعون الآفار مخترقين جنوبي الروسيا (558) واسترقوا جموعاً من الصقالبة، وأغاروا على ألمانيا حتى نهر الألب (562)، ودفعوا اللمبارد أمامهم إلى إيطاليا (568)، وعاثوا في بلاد البلقان فساداً حتى كاد ينمحي منها سكانها الذين ينطقون باللغة اللاتينية. وبسط الآفار سلطانهم في وقت ما على البلاد الممتدة من البحر البلطي إلى البحر الأسود، وحاصروا القسطنطينية في عام 626 وكادوا يستولون عليها؛ وكان عجزهم عن ذلك بداية اضمحلالهم؛ فغلبهم شارلمان على أمرهم في عام 805، وما لبثوا أن امتصهم البلغار والصقالبة شيئاً فشيئاً.

وكان البلغار، وهم في أصلهم خليط من الدم الهوني، والأجري Ugrian والتركي، يكونون قبل ذلك الوقت جزءاً من إمبراطورية الهون في روسيا؛ وأقام فرع منهم بعد موت أتلا Atilla مملكة لهم-"بلغاريا القديمة"-على ضفاف نهر الفلجا Volga حول مدينة قازان الحالية. وأثرت عاصمتهم بلغار Bolgar من التجارة النهرية، وظلت مزدهرة حتى خربها التتار في القرن الثالث عشر. وهاجر فرع آخر منهم في القرن الخامس نحو الجنوب الغربي إلى وادي الدن Don ـ، وعبرت إحدى قبائل هذا الفرع، وهي قبيلة اليوتجر Uitgurs، نهر الدانوب (679)، وأسست مملكة بلغارية ثانية في موئيزيا

ص: 193

Moesia واسترقوا من فيها من الصقالبة، وأخذوا عنه لغتهم وأنظمتهم، وامتصهم آخر الأمر العنصر الصقلبي، وبلغت الدولة الجديدة أوجهها في عهد الخاقان أو الخان (الرئيس) كروم Krum (802) ، وهو رجل جمع إلى شجاعة الهمج دهاء المتحضرين. وغزا الخاقان مقدونية-إحدى ولايات الدولة الرومانية الشرقية-ونهب 1100 رطل من الذهب، وأحرق مدينة سرديقا Sardica المسماة الآن صوفيا عاصمة بلغاريا الحالية. وكان له الإمبراطور نقفور الصاع صاعين وأحرق بلسكا Pliska عاصمة كروم (811)؛ ولكن كروم أوقع الجيش اليوناني في كمين نصبه له في أحد ممرات الجبال، وقتل نقفور، واتخذ من جمجمة الإمبراطور قدحاً لشرابه ثم حاصر القسطنطينية في عام 813، وأحرق أرباضها، وضرب تراقية، وفعل بها ما فعلته الجيوش التي غزتها في عام 1913. وبينما هو يعد العدة لهجوم آخر إذ انفجر أحد أوعيته الدموية وقضى على حياته. وعقد ابنه أمورتاج Omurtag الصلح مع اليونان وأسلموه بمقتضاه نصف تراقية، واعتنق البلغار المسيحية في عهد الخان بوريس Boris (852 - 888) . وآوى بوريس نفسه بعد حكم طويل إلى أحد الأديرة، ثم خرج منه بعد أربع سنين ليخلع ابنه الأكبر فلادمير، ويُجلس على العرش ابناً آخر أصغر من أخيه يدعى سيمون Simeon (893 - 927) ، وعاش بوريس حتى عام 907، وأصبح هو أول قديس قومي لبلغاريا. وكان سيمون من أعظم ملوك زمانه، فقد وسع رقعة أملاكه حتى شملت بلاد الصرب والبحر الأدرياوي، ولقب نفسه "إمبراطوراً وحاكماً مطلقاً لجميع البلغار واليونان"، وشن الحرب عدة مرات على بيزنطية، لكنه حاول أن يدخل الحضارة إلى بلاده بتراجم الآداب اليونانية، وأن يجمل عاصمته في أقاليم الدانوب بروائع الفن اليوناني. ويصف أحد معاصريه مدينة برسلاف Breslav بأنها "من أعجب ما تقع عليه العين". مليئة "بالقصور والكنائس الشامخة الكثيرة الزخرف، ولقد كانت في القرن الثالث عشر أكبر مدينة

ص: 194

في بلاد البلقان كلها؛ ولا تزال خرابات قليلة باقية منها. وأضعفت المنازعات الداخلية بلغاريا بعد موت سيمون. وحول ملاحدة بجوميل Bogomil نصف الفلاحين خلائق مسالمين شيوعيين؛ واستردت بلاد الصرب استقلالها في عام 931؛ وأعاد الإمبراطور يوحنا تزيمسيس بلغاريا الشرقية إلى أحضان الإمبراطورية اليونانية في عام 972، وفتح باسيل الثاني بلغاريا الغربية في عام 1014، وبذلك أضحت بلغاريا (1018 - 1186) مرة أخرى ولاية تابعة لبيزنطية.

وفي أثناء هذه الأحداث أقبل على الإمبراطورية القلقة زائرون من أقوام همج جدد يدعون المجر. والراجح أن المجر كانوا، كما كان البلغار، من تلك القبائل التي يطلق عليها ذلك الاسم غير الدقيق الأجري Ugri أو الإيجور Igurs (ومن هذا اللفظ اشتقت كلمة Ogre المرادفة لكلمة غول)، والتي كانت تضرب في البلاد المصاقبة لحدود الصين الغربية. وكان هؤلاء أيضاً قد سرى إليهم دم هوني وتركي كثير لطول اختلاطهم بهذين العنصرين. وكانوا يتكلمون لغة وثيقة الصلة بلغتي الفن (أهل فنلندة) والسمويد Somoyeds. وقد هاجروا في القرن التاسع الميلادي من سهول الأورال وبحر الخزر (قزوين) إلى الأراضي المجاورة لنهري الدن والدنيبر Dneiper والبحر الأسود، حيث كانوا يعيشون بفلح الأرض في الصيف، وصيد السمك في الشتاء، واقتناص الصقالبة وبيعهم عبيداً غلى اليونان في جميع فصول العام. وبعد أن أقاموا في أكرانيا ستين عاماً أو نحوها تحركوا مرة أخرى في اتجاه الغرب. وكانت أوربا وقتئذ في الدرك الأسفل من حياتها؛ فلم تكن فيها حكومة قوية غرب القسطنطينية، ولم يقف في وجههم جيش قوي. لهذا اجتاح المجر بسرابيا Bessarabia وملدافيا Moldavia (البغدان) في عام 889 وشرعوا في عام 895 في فتوحهم الدائمة لبلاد هنغاريا (المجر) بقيادة زعيمهم أرباد Arpad. وفي عام 899 عبرت جموعهم جبال الألب وانقضت على إيطاليا، وأحرقوا بافيا Pavia وكنائسها الثلاث والأربعين

ص: 195

جميعها، وذبحوا أهلها، وظلوا عاماً كاملاً يعيشون فيشبه الجزيرة فساداً، ثم فتحوا بنونيا Pannonia، وأغاروا على بافاريا Bavaria (900 - 907) ، وخربوا كارانثيا Carinthia (901) ، واستولوا على مورافيا Moravia (906) ونهبوا سكسونيا، وثورنجيا Thuringia وسوابيا Swabia (913) ، وألمانيا الجنوبية، والألساس Alsace (917) ، وانقضوا فجأة على الألمان المقيمين على ضفاف نهر الك Lech أحد روافد الدانوب (924). وارتجفت لذلك قلوب الأوربيين وتوجهوا إلى خالقهم بالدعاء والصلاة، لأن هؤلاء المغيرين كانوا لا يزالون أقواماً وثنيين، ولاح أن العالم المسيحي مقضي عليه لا محالة. ولكن المجر هُزموا عند جوثا Gotha عام 933، ووقف زحفهم على أثر هذه الهزيمة، ثم غزا إيطاليا مرة أخرى في عام 943 ن ونهبوا برغنديا في عام 955. وانتهى الأمر في ذلك العام نفسه بأن هزمتهم جيوش ألمانيا المتحدة بقيادة أتو Otto الأول في معركة حاسمة في لكفلد Lechfeld أو وادي ألك بالقرب من مدينة أوجزبرج Augsburg، واستطاعت أوربا عقب هذه الهزيمة أن تتنفس الصعداء بين خراباتها بعد أن حاربت في قرن واحد (841 - 955) النورمان في الشمال، والمسلمين في الجنوب، والمجر في الشرق.

وبعد أن خضع المجر أضحت أوربا أكثر أمناً مما كانت لاعتناقهم الدين المسيحي (975). ذلك أن الأمير جيزا Geza خشي اندماج هنغاريا في الإمبراطورية البيزنطية التي عادت وقتئذ توسع رقعتها، ولهذا اختار المذهب المسيحي اللاتيني لكي يسالمه الغرب، وزاد على ذلك بأن زوج ابنه ستيفن من جزيلا Gisela ابنة هنري الثاني دوق بافاريا. وأمسى استيفن الأول (997 - 1083) شفيعاً لهنغاريا وراعيها وأعظم ملوكها، فقد نظم شئون المجر على غرار النظام الإقطاعي الألماني، وقوى الأساس الديني الذي أقام عليه المجتمع الجديد بأن قبل مملكة هنغاريا وتاجها من البابا سلفستر Sylvster الثاني (1000).

ص: 196

وهرع الرهبان البندكتيون إلى بلاده، وأنشئوا الأديرة والقرى وأدخلوا فيها فنون الغرب الزراعية والصناعية، وبهذا انتقلت هنغاريا بعد حروب دامت مائة عام من ظلمات الهمجية إلى نور الحضارة، ولما أن هدت الملكة جزيلاً صليباً إلى صديق لها ألماني كان هذا الصليب آية رائعة من فن الصياغة الذهبية.

وكان أقدم موطن معروف للصقالبة إقليم من روسيا كثير المنافع تحيط به كيف، ومهيلف Mohilev، وبرست لتوفسك Brest Litovsk، وكانوا من عصر هندي أوربي يتكلمون لغات ذات صلة باللغتين الألمانية والفارسية. وكانت أقوام من البدو تجتاح بلادهم من آن إلى آن، وكثيراً ما كانوا يُستَرَقون، وكانوا على الدوام يعانون مرارة الفقر والظلم، ولهذا طبعوا على الصبر وجعلتهم الصعاب وخشونة العيش الدائمة صلاباً أشد، وفاقت خصوبة نسائهم نسبة الوفيات العالية بينهم المسببة من المجاعات، والأمراض والحروب، التي لم ينطفئ لها سعير. وكانوا يسكنون كهوفاً أو أكواخاً من الطين، ويعيش من صيد الحيوان، ورعيه، وصيد السمك، وتربية النحل، وكانوا يبيعون العسل، والشمع، والجلود، ثم استسلموا آخر الأمر لحياة الزراعة والاستقرار. وكانوا أهم أنفسهم يطاردون ويدفعون إلى المناقع والغابات التي يتعذر الوصول إليها، ثم يؤمرون بوحشية، ويباعون بلا رحمة؛ ولهذا تخلقوا، بأخلاق زمانهم، فكانوا يستبدلون السلع بالرجال؛ وإذ كانوا يعيشون في أقاليم باردة رطبة، فقد اعتادوا أن يدفئوا أجسامهم بالمشروبات الكحولية القوية، ومن أجل هذا وجدوا أن المسيحية خير لهم من الإسلام الذي يحرم الخمور (34). وكانت أبرز عيوبهم هي السكر، والقذارة، والقسوة، وحب السلب والنهب، وكان الادخار، والحذر، وسعة الخيال تتذبذب فيهم بين الفضيلة والرذيلة؛ ولكنهم كانوا إلى ذلك طيبي القلوب، أسخياء، حسني العشرة، مولعين بالألعاب، والرقص، والموسيقى، والغناء. وكان زعماؤهم كثيري الأزواج، أما الفقراء فكانوا يقتصرون على واحدة، وكانت النساء-

ص: 197

اللاتي يشترين بالمال أو يؤسرن في الحروب ليتخذن زوجات- وفيات مطيعات على غير ما كان ينتظر منهن (35). وكانت الأسر الخاضعة لسلطان الأب تنتظم انتظاماً غير وثيق العرى في عشائر ثم تنتظم العشائر في قبائل. ولربما كان للعشائر أملاك مشتركة في مراحل الرعي الأولى (36)، ولكن قيام الزراعة- التي تثمر فيها الدرجات المختلفة من النشاط، والكفاية في التربة المختلفة الخصوبة: ثماراً غير متساوية- أدى إلى نشأة الملكية عند الأفراد أو الأسر وكثيراً ما كان الصقالبة يتفرقون بسبب الهجرة أو الحروب الداخلية، ولهذا نشأت بينهم عدة لغات صقلبية: البولندية والونديشية Wendish، والتشكية، والسلوفاكية في الغرب، والسلوفينية والصربيكرواتية Serbo-Croat، والبلغارية في الجنوب، والروسية الكبرى، والروسية البيضاء، والروسية الصغرى (الروثينية والأكرانية Ruthenian & Ukrainian) في الغرب. على أن الذين يتكلمون أية لغة من هذه اللغات قد ظلوا يفهمون كل واحدة منها، وكانت جامعة اللغة والعادات بين الصقالبة، مضافة إلى سعة بلادهم، وكثرة مواردهم، وحيويتهم الناشئة من قسوة الظروف المحيطة بهم، والانتقاء الصارم، والطعام البسيط الخشن، كانت هذه كلها سبباً في ازدياد قوة الصقالبة الآخذة في الانتشار.

ولما أن زحفت القبائل الألمانية جنوباً وغرباً في هجرتها إلى إيطاليا وغالة خلفت وراءها رقعة من الأرض قليلة السكان في شمالي ألمانيا ووسطها. وانجذب الصقالبة نحو هذا الفراغ، ودفعهم إليه دفعاً الهون الغزاة، فانتشروا غرباً وعبروا نهر الفستيولا Vistula، ونهر الإلب نفسه، وكانوا في هذه الأرض هم الوند Wend، والبولنديين، والتشك، والفلاخ Vlache والسلوفاك الذين نعرفهم فيما بعد. وحدث في أواخر القرن الثالث تيار جارف من الهجرة الصقلبية عبر ريف اليونان، وأغلقت المدن بابها دونه، ولكن ماً صقلبياً غزيراً امتزج بالدم الهليني. وجاءت حوالي عام 640 قبيلتان صقلبيتان ذواتي قربي هما الصربي Serbi،

ص: 198

والكروباتي Chrobali، واستوطنتا بانونيا وإليركم lllyricum من جديد. واعتنق الصرب المذهب اليوناني المسيحي، واعتنق الكروات المذهب الروماني. وأضعف هذا الانقسام الديني، الذي عاق الوحدة الجنسية واللغوية، الأمة أمام جيرانها، ولهذا أخذت بلاد الصرب تتأرجح بين الاستقلال تارة، والخضوع لبيزنطية أو بلغاريا تارة أخرى، إلى أن كان عام 989 فهزم صمويل قيصر البلغار يوحنا فلادمير الصربي، وأسره، ثم زوجه بابنته كسارا Kossara وسمح له بالعودة إلى عاصمته زيتا Zita، على أن يكون فيها أميراً من قبل فلدمير. ذلك هو موضوع أقدم الروايات القصصية الصربية فلدمير وكسارا التي ألفت في القرن الثالث عشر. واحتفظت المدن الساحلية في دلماشيا القديمة-زارا، واسبالاتو Spalato، وراجوسا Ragusa بلغتها وثقافتها اللاتينيتين، أما بقية بلاد الصرب فأضحت صقلبية. وحرر الأمير فواسلاف صربياً في عام 1042 ولكنها عادت فاعترفت بسيادة بيزنطية في القرن الثاني عشر.

ولما أن بلغت هذه الهجرة الصقلبية الرائعة العجيبة تمامها في أواخر القرن الثامن أمست أوربا الوسطى، وبلاد البلقان، والروسيا بأجمعها بحراً صقلبياً تصطدم أمواجه بحدود القسطنطينية، وبلاد اليونان؛ وألمانيا.

ص: 199

الفصل السابع

‌مولد الروسيا

(509 - 1054)

لم يكن الصقالبة إلا آخر الأقوام الكثيرين الذين كانوا يمرحون ويطربون في تربة الروسيا الخصبة، وسهولها الرحبة، وأنهارها الكثيرة الصالحة للملاحة، ويأسون لمناقعها العفنة، وغاباتها المانعة، وافتقارها إلى المعاقل الطبيعية التي تصد الأعداء الغازين، وصيفها الحار، وشتائها البارد. فلقد أنشأ اليونان منذ القرن السابع قبل الميلاد على أقل سواحلها جدباً أي شواطئ البحر الأسود الغربي والشمالي نحو عشرين بلدة-ألبيا Albia، وتانيس Tanais، وثيودوسيا Theodosja، وبنتيكبيوم Panticapium (كرتش Kerche) . واقتتلوا مع السكوذيين الضاربين وراء هذه البلاد أو ناصروهم. وسرت إلى هؤلاء الأقوام-وأكبر الظن أنهم من أصل إيراني-بعض عناصر الحضارة الفارسية واليونانية، بل إنهم قد خرج من بينهم فيلسوف-أناخارسيس Anacharsis 600 ق. م-قدم إلى أثينة وتناقش مع صولون.

ثم أقبلت في القرن الثاني قبل الميلاد قبيلة إيرانية أخرى هي قبيلة السرماتيين، وهزمت السكوذيين وسكنت ديارهم؛ واضمحلت المستعمرات اليونانية في هذا الاضطراب. ودخل البلاط القوط من الغرب في القرن الثاني بعد الميلاد، وأنشئوا مملكة القوط الشرقيين، ثم قضى الهون على هذه المملكة حوالي عام 375، ولم تكد سهول روسيا الجنوبية تشهد بعد هذا الغزو أية حضارة، بل شهدت هجرات متتابعة من أقوام بدو- هم البلغار، والآفار، والصقالبة، والخزر، والمجر، والبتزيناك Patzinaks، والكومان Cumans، والمغول. وكان الخزر من أصل تركي زحفوا في القرن السبع مخترقين جبال القفقاس إلى جنوبي روسيا، وأنشأوا

ص: 200

مُلكاً منظماً امتد من نهر الدنبير إلى بحر قزوين (بحر الخزر)، وشيدوا عاصمة لهم في مدينة إتيل itil على مصب نهر الفلجا Volga بالقرب من أستراخان الحاضرة، واعتنق ملكهم هو والطبقات العليا منهم الدين اليهودي وكانت تحيط بهم الدولتان المسيحية والإسلامية، ولكنهم فضلوا في أكبر الظن أن يغضبوا الدولتين بدرجة واحدة عن أن يغضبوا واحدة منهما غضباً يعرضهم للخطر، وأطلقوا في الوقت عينه الحرية الكاملة لأصحاب العقائد المختلفة، فكانت لهم سبع محاكم توزع العدالة بين الناس- اثنتان للمسلمين، واثنتان للمسيحيين، واثنتان لليهود، وواحدة للكفر الوثنيين. وكان يسمح باستئناف أحكام المحاكم الخمس الأخيرة إلى المحكمتين الإسلاميتين، إذ كانوا يرون أنهما أكثر عدالة من المحاكم الأخرى (37). واجتمع التجار على اختلاف أديانهم في مدن الخزر تشجعهم على ذلك هذه السياسة المستنيرة، فنشأت هناك من ذلك تجارة منتعشة بين البحر البلطي وبحر قزوين، وأصبحت إتيل في القرن الثامن من أعظم مدن العالم التجارية. وهاجم الأتراك البدو خزاريا Khazaria في القرن التاسع؛ وعجزت الحكومة عن أن تحمي مسالكها التجارية من اللصوصية والقرصنة، وذابت مملكة الخزر في القرن العاشر وعادت إلى الفوضى العنصرية التي نشأت منها.

وجاءت من جبال الكربات في القرن السادس هجرة من القبائل الصقلبية إلى هذا الخليط الضارب في روسيا الجنوبية والوسطى. واستقرت هذه القبائل في وادي الدنيبر والدن، ثم انتشرت انتشاراً أرق إلى بحيرة إلمن Ilmen في الشمال، وظل أفرادها عدة قرون يتضاعفون، وهم في كل عام يقطعون الغابات ويجففون المستنقعات، ويقتلون الوحوش البرية، وينشئون بلاد أكرانيا. وانتشروا فوق السهول بفضل حركة من الإخصاب البشري لا يضارعهم فيها إلا الهنود والصينيون. ولقد كان هؤلاء الأقوام طوال التاريخ المعروف لا يقر لهم قرار- يهاجرون إلى بلاد القفقاس والتركستان، وإلى أقاليم أورال وسيبيريا، ولا تزال

ص: 201

عملية الاستعمار هذه في مجراها في هذه الأيام؛ ولا يزال البحر الصقلبي العجاج يدخل كل عام في خلجان عنصرية جديدة.

وأقبلت على العالم الصقلبي في بداية القرن التاسع غارة بدت وقتئذ أنها لا يؤبه بها. ذلك أن أهل الشمال الإسكنديناويين كان في وسعهم أن يوفروا بعض الرجال وبعض النشاط يقتطعونهما من هجماتهم على اسكتلندة، وأيسلندة، وأيرلندة، وإنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، وأسبانيا، وأن يوجهوا إلى روسيا الشمالية عصابات مؤلفة من مائة أو مائتين من الرجال، ينهبون بها الجماعات الضاربة حول للبحر البلطي، والفنلنديين، والصقالبة، ثم يعودون بجر الحقائب بالغنائم. وشاء هؤلاء الفيرنج جار Vaerlnjar أو الفرنجيون Varangians (" أتباع" الزعيم) أن يحملوا تلصصهم بالقانون والنظام فأقاموا مراكز محصنة في طرقهم، ثم استقروا بالتدريج وكانوا أقلية اسكنديناوية من التجار المسلحين بين زراعين خاضعين لهم. واستأجرتهم بعض المدن ليكونوا حماة للأمن والنظام الاجتماعي. ويبدو أن أولئك الحراس قد أحالوا أجورهم جزية، وأضحوا سادة من استخدموهم (38)، ولم يكد ينتصف القرن التاسع حتى أضحوا هم حكام نفجورود "الحصن الجديد"، وبسطوا ملكهم حتى وصلوا إلى كيف في الجنوب، وارتبطت الطرق والمحلات التي كانوا يسيطرون عليها برباط غير وثيق فتألفت منها دولة تجارية وسياسية، سميت روس Ros أو Rus وهي كلمة لا يزال اشتقاقها مثاراً للجدل الشديد. وربطت الأنهار العظيمة التي تحترق البلاد البحرين الأبيض في الشمال والأسود في الجنوب بالقنوات والطرق البرية القصيرة، وأغرت الفرنجيين بأن يوسعوا تجارتهم ويبسطوا سلطانهم نحو الجنوب. وسرعان ما أخذ هؤلاء التجار المحاربون البواسل يبيعون بضائعهم أو خدماتهم في القسطنطينية نفسها. ثم حدث ما يناقض هذا، حدث أنه لما أضحت التجارة على أنهار الدنيبر، والفلخوف Volkhov، ودوينا الغربي أكثر انتظاماً مما كانت قبل، أقبل

ص: 202

التجار المسلمون من بغداد وبيزنطية، وأخذوا يستبدلون الفراء، والكهرمان، وعسل النحل، وشمعه، والرقيق، بالتوابل، والخمور، والحرير والجواهر، وهذا منشأ ما نجده من النقود الإسلامية والبيزنطية الكثيرة العدد على ضفاف تلك الأنهار وفي اسكنديناوة نفسها. ولما حالت سيطرة المسلمين على البحر المتوسط الشرقي دون وصول الحاصلات الأوربية مجتازة المسالك الفرنسية والإيطالية إلى ثغور البلاد الواقعة في شرق هذا البحر، واضمحلت مرسيليا، وجنوا وبيزا في القرنين التاسع والعاشر، وازدهرت في مقابل هذا في الروسيا مدائن نفجورود، وسمولنسك Smolensk، وشرينجوف Shernigov، وكيف، ورستوف Rostov بفضل التجارة الاسكنديناوية، والصقلبية، والإسلامية، والبيزنطية.

وخلع السجل القديم الروسي (القرن الثاني عشر) على هذا التسرب الاسكنديناوي شخصية تاريخية بقصته عن "الأمراء الثلاثة": وخلاصتها أن السكان الفلنديين والصقالبة في نفجورود وما حولها أخذوا يتقاتلون فيما بينهم بعد أن طردوا سادتهم الفرنجيين، وبلغ من هذا التناحر أن دعوا الفرنجيين أن يرسلوا لهم حاكماً أو قائداً (862)، فجاءهم، كما تروي القصة، ثلاثة أخوة-روريك Rurik، وسنيوس Sinues، وتروفور Truvor- وأنشئوا الدولة الروسية. وقد تكون هذه القصة صادقة رغم تشكك المتأخرين فيها، وقد تكون طلاء وطنياً لفتح نفجورود على يد الاسكنديناويين. ويضيف السجل بعد ذلك أن روريك أرسل اثنين من أعوانه هما أسكولد Ascold ودير Dir ليستوليا على القسطنطينية، وأن هذين الشماليين وقفا في طريقهما ليستوليا على كيف، ثم أعلنا استقلالهما عن روريك والخزر جميعاً.

وبلغت كيف في عام 860 من القوة مبلغاً أمكنها أن تسير عمارة بحرية من ألف سفينة تهاجم القسطنطينية؛ وأخفقت الحملة في مهمتها، ولكن كيف بقيت كما كانت مركزاً لروسيا التجاري والسياسي، وجمعت تحت سلطانها بلاداً

ص: 203

واسعة ممتدة خلفها- وفي وسعنا أن نقول بحق إن حكامها الأولين- أسكولد Ascold، وأولج Oleg، وإيجور Igor لا روريك حاكم نفجورود-هم الذين أنشئوا الدولة الروسية. ووسع أولج، وإيجور، وألجا Oelga- الأميرة القديرة أرملة أولج-وابنها المحارب اسفياتسلاف Sivatoslav (962 - 972) مملكة كيف حتى انضوت تحت لوائها القبائل الصقلبية كلها تقريباً، ومدائن بولوتسك Polotsk، واسمولنسك وشرنجوف، ورستوف. وحاولت الإمارة الناشئة بين عامي 860، 1043 ست مرات أن تستولي على القسطنطينية. ألا ما أقدم زحف الروس على البسفور، وتعطش الروس إلى مخرج أمين إلى البحر المتوسط.

واعتنقت روس، كما سميت الإمارة الجديدة نفسها، تحت حكم فلديمير الخامس (972 - 1015)"دوق كيف الأكبر"، الدين المسيحي (989). وتزوج فلاديمير أخت الإمبراطور باسيل الثاني، وظلت الروسيا من ذلك الوقت إلى عام 1917 ابنة للدولة البيزنطية في دينها، وحروفها الهجائية، وعملتها، وفنها. وشرح القساوسة اليونان لفلاديمير منشأ الملوك وحقهم الإلهيين، وما لهذه العقيدة من نفع في تثبيت النظام الاجتماعي واستقرار الملكية المطلقة (39). وبلغت دولة كيف أوج عزها في عهد يروسلاف Yaroslav (1036 - 1054) بن فلاديمير، واعترفت بسلطانها اعترافاً غير أكيد كل البلاد الممتدة من بحيرة لدوجا Ladoga والبحر البلطي إلى بحر قزوين، وجبال القفقاس، والبحر الأسود، وكانت الضرائب تجبي إليها من هذه البلاد. وامتصت في جسمها الغزاة الاسكنديناويين وغلب على هؤلاء الدم الصقلبي واللغة الصقلبية. وكان نظامها الاجتماعي أرستقراطياً صريحاً، فكان الأمراء يعهدون بمهام الإدارة والدفاع إلى طبقة عليا من النبلاء، وطائفة أخرى مثلهم ولكنها أقل منهم مقاماً يعرفون بالديتسكي dietski أو الأوتروكي Otroki أي الخدم أو الأتباع. ويلي هؤلاء في المنزلة طبقة

ص: 204

التجار، وأهل المدن، ثم الزراع نصف العبيد، ثم العبيد أنفسهم. وأقر كتاب القانون المعروف باسم الرسكايا برافدا Raskaya Pravda أو الحق الروسي، الثأر الشخصي والمبارزة القانونية، وتبرئه المتهم بناء على إيمان الشهود، ولكنه أوجد نظام المحاكمة على أيدي اثني عشر محلفين من المواطنين (40). وأنشأ فلاديمير مدرسة للأولاد في كيف، وأنشأ باروسلاف مدرسة أخرى في نفجورود. وكانت كيف وهي ملتقى السفن النهرية الآتية من أنهار يلخوف، ودفينا، ودنبير الأدنى تجبي الضرائب على المتاجر المارة بها، وسرعان ما بلغت من الثراء درجة أمكنتها من أن تشيد أربعمائة كنيسة، وكاتدرائية كبيرة-تضارع أيا صوفيا-على الطراز البيزنطي. وجيء بالفنانين اليونان ليزينوا هذه المباني بالفسيفساء، والمظلمات وغيرها من ضروب الزينة البيزنطية، ودخلت فيها الموسيقى اليونانية لتمهد السبيل إلى نصرة الأغاني الروسية الجماعية. وأخذت الروسيا ترفع نفسها على مهل من غمار الأوحال والتراب، وتبني القصور لأمرائها، وتقيم القباب فوق أكواخ الطين، وتستعين بقوة أبنائها وجلدهم على بناء جزائر صغرى من الحضارة في بحر لم يخرج بعد من مظلمات الهمجية.

ص: 205

الباب التاسع عشر

‌اضمحلال الغرب

566 -

1066

بينما كان الإسلام يشق طريقه في أنحاء العالم، وبينما كانت بيزنطية تفيق من الضربات التي بدت قاصمة لظهرها، كانت أوربا تكافح للخروج من دياجير "العصور المظلمة" وهذا تعبير غير دقيق في وسع كل إنسان أن يعرّفه كما يهوى، أما نحن فسنقصره تعسفاً منا على أوربا غير البيزنطية في الفترة الواقعة بين بؤيثيوس Boethlus عام 524 ومولد أبيلارد Abelard في عام 1079. وظلت الحضارة البيزنطية مزدهرة خلال هذه الفترة رغم ما خسرته الدولة من أملاكها ومهابتها، أما أوربا الغربية فكانت في القرن السادس الميلادي مسرحاً لفوضى الفتوح، والانحلال، والعودة إلى الهمجية نعم إن قسطاً كبيراً من الثقافة اليونانية والرومانية القديمة قد بقي فيها، وإن كان معظمه صامتاً مخبوءاً في عدد قليل من الأديرة والأسر، ولكن مصادر الأسس الجسمية والنفسية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي كانت قد اضطربت اضطراباً لا تعود معه هذه الأسس إلى الاستقرار إلا بعد قرون طوال. ذلك أن الولع بالآداب، والإخلاص للفن، ووحدة الثقافة واتصالها، وتجاوب العقول بعضها مع بعض تجاوباً يشحذها ويخصبها، كل هذه الأسس قد انهارت أمام ضربات الحرب وويلاتها، وأخطار طرق النقل، والأساليب الاقتصادية في البيئات الفقيرة، ونشأة اللغات القومية، واختفاء اللغة اللاتينية من بلاد الشرق واللغة اليونانية من الغرب. وعجلت في القرنين التاسع والعاشر في سيطرة المسلمين على البحر المتوسط، وغارات النورمان،

ص: 206

والمجر، والمسلمين على السواحل الأوربية نزعة التخصص في أساليب الحياة ووسائل للدفاع وبدائية الفكر والكلام. وكانت ألماني وأوربا الشرقية ملتقى تيارات متعارضة من الهجمات، واسكنديناوة معششاً للقراصنة، وبريطانيا تجتاحها قبائل الإنكليز، والسكسون، والجوت، والدنمرقيين، وغالة يهاجمها الفرنجة، والرومان، والبرغنديون، والقوط، وأسبانيا يتنازعها القوط الغربيون والمسلمون، وكانت إيطاليا قد حطمتها الحروب الطوال التي دارت رحاها بين القوط والبيزنطيين، وظلت البلاد التي وهبت نصف العالم الأمن والنظام تعاني خمسة قرون طوال مساوئ الانحلال في الأخلاق والاقتصاد، وأنظمة الحكم.

ومع هذا فإن شارلمان، وألفرد Alfred، وأتو الأول قد وهبوا فرنسا، وإنجلترا وألمانيا فترات من النظام، وكانوا حافزاً على لسير إلى الأمام، وأحيت إرجينا Erigena موت الفلسفة، وجدد ألكوين Alcuin وغيره نشاط التعليم، وأدخل جريرت Gerbert علوم المسلمين إلى بلاد المسيحية وأصلح ليو التاسع وجريجوري السابع نظم الكنيسة وبعثا فيها القوة، ونشأ في فن العمارة طراز الزخرف الروماني، وبدأت أوربا في القرن الحادي عشر رقيها البطيء إلى ما وصلت إليه في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أي إلى أعظم ما بلغته في العصور الوسطى بأجمعها.

ص: 207

الفصل الأول

‌إيطاليا

‌1 - اللمبارد

568 -

774

انطفأ سراج الحكم البيزنطي في إيطاليا الشمالية بعد ثلاث سنين من موت جستنيان على أثر غارات اللمبارد على تلك البلاد.

ويظن بولس الشماس- وهو واحد منهم- أن اللمبارد أو اللنجوباردي Longobardi قد سموا بهذا الاسم لطول لحاهم (1)، وهم أنفسهم يعتقدون أن موطنهم الأصلي كان في اسكنديناوة (2)، ولهذا فإن دانتي، وهو من نسلهم (3)، يوجه الخطاب إليهم بهذا الوصف (4). ونراهم على ضفاف نهر الإلب الأدنى في القرن الأول الميلادي، وعلى ضفاف الدانوب في القرن السادس، ويستخدمهم نارسيس Narses في حروبه الإيطالية التي دارت رحاها عام 552، ثم يعيدهم إلى بانونيا بعد أن يحرز النصر. ثم يشتد ضغط الآفار على اللمبارد من الشمال والشرق، فيتحرك مائة وثلاثون ألفاً منهم في عناء-رجالهم ونساؤهم وأطفالهم، ومتاعهم- ويعبرون جبال الألب إلى "لمبارديا" سهول البو الخصيبة. ولعل نارسيس كان يستطيع وقف سيرهم، ولكنه كان قد خلع وجلله العار قبل عام من ذلك الوقت؛ كذلك كانت بيزنطية مشغولة عنهم بالآفار والفرس، ولم يكن لديها من المال ما تنفقه في أعمال البطولة التي يفيد منها غيرها. ولهذا فإنه لم يحل عام 573 حتى استولى اللمبارد على فيرونا، وميلان، وفلورنس، وبافيا-وقد أصبحت هذه المدينة الأخيرة عاصمة ملكهم، وفي عام 601 استولوا على بدوا، وفي 603

ص: 208

على كرمونا Gemona ومنتوا Manlua؛ وفي 640 على جنوا. وانتزع ليوتبراند Liutprand أعظم ملوكهم (712 - 744) رافنا في شرقي إيطاليا، واسبوليتو Spoleto في وسطها، وبنفنتو في جنوبها، وكان يطمح إلى جميع كلمة إيطاليا كلها تحت سلطانه. غير أن البابا جريجوري الثالث لم يكن يرضى أن تصبح البابوية أبرشية لمباردية؛ فاستغاث بالبنادقة الذين لم يخضعوا للمبارد، وأعاد هؤلاء رافنا إلى بيزنطية. ولم ير ليوتبراند بُدّاً من أن يقنع بحكم شمالي إيطاليا ووسطها أصبح حكم منّ عليهما منذ أيان ثيودريك القوطي، وكان هو مثل ثيودريك يجهل القراءة والكتابة (5).

وأنشأ اللمبارد حضارة خطت في مدارج الرقي. وكانوا يختارون ملكهم، وكان هذا يستشير في شئون الحكم مجلساً من الأعيان، ويعرض شرائعه عادة على جمعية شعبية مؤلفة من جميع الذكور الذين بلغوا سن الخدمة العسكرية. ونشر مليكهم راثاي Rathari (643) كتاب قوانين جمعت بين البدائية والتقدمية: فكانت تبيح أداء الدية المالية جزاء للقتل، وأرادت أن تحمي الفقراء من الأغنياء، وكانت تسخر من السحر والشعوذة، وتبيح حرية العبادة للكاثوليك، والأريوسيين، والوثنيين على السواء (6). وامتص الدم الإيطالي الغزاة الألمان عن طريق الزواج، واتخذوا اللسان اللاتيني لغة لهم وترك اللمبارد آثارهم في أماكن متفرقة: في العيون الزرقاء، والشعر الأشقر، وفي قليل من الكلمات التيوتونية في اللغة الإيطالية. ولما أن خبت حدة الفتوح واستقر القانون، عادت التجارة- وهي العمل الطبيعي في وادي نهر البو- سيرتها الأولى، ولم يكد ينتهي عصر اللمبارد حتى أثرت مدائن شمال إيطاليا وقويت واستعدت لتلقي الفنون وخوض الحرب عندما بلغت ذروتها في العصور الوسطى. أما الأدب فكانت سوقه راكدة، فلم يبق الدهر من أدب ذلك العصر وتلك الدولة إلا كتاباً واحداً ذا شأن-هو كتاب تاريخ اللمبارد لبولس الشماس (حوالي عام 748)،

ص: 209

وهو كتاب ممل، مشوه الترتيب، ليس فيه مثقال ذرة من الفلسفة. ولكن لمبارديا طبعت اسمها على فن العمارة وعلى شئون المال، وكانت حرف البناء قد احتفظت بشيء مما أخذته عن بيزنطية من تنظيم وحذق قديمين. وكان لإحدى الجماعات، وهي جماعة سادة كومو، السبق في صياغة طراز "لمباردي" في العمارة جمعته من أصول متعددة، وازدهر فيما بعد حتى أصبح هو الطراز الرومانسي.

ولم يمض جيل واحد على حكم ليوتبراند حتى تحطمت المملكة اللمباردية على صخرة البابوية. ثم استولى الملك إيستلف Aistulf على رافنا في عام 751، وأنهى بذلك تبعيتها لبيزنطية، وإذ كانت دوقية روما قبل ذلك الوقت تابعة من الوجهة القانونية للولي المقيم في رافنا فإن أيستلف طالب بحقه في ضم روما إلى مملكته الآخذة في الاتساع. واستغاث البابا استيفن الثاني بقسطنطين كبرونيموس فبعث الإمبراطور اليوناني بمذكرة غير ذات خطر إلى أيستلف، فما كان من استيفن إلا أن استغاث ببيبين القصير Pepin the Short ملك الفرنجة. وكان لهذه الاستغاثة نتائج ذات شأن لم تقف عند حد. ولاح لبيبين الأمل في بناء إمبراطورية له فعبر جبال الألب، ونكل بإيستلف، وجعل لمبارديا إقطاعية للفرنجة، وأعطى جميع إيطاليا الوسطى للبابوية. وظل البابوات يقرون بالسيادة الرسمية لأباطرة الشرق، أما إيطاليا الشمالية فقد قضي فيها على سلطان بيزنطية قضاءً نهائياً. وقد حاول ديسدريوس Desiderius الملك اللمباردي التابع أن يسترد استقلال لمبارديا وفتوحها، ولكن البابا هدريان الأول استدعي لمعونته إفرنجياً جديداً، وانقض شالمان على بافيا، وأرسل ديسدريوس إلى حد الأديرة وقضى على مملكة اللمبارد وجعلها ولاية تابعة للفرنجة.

ص: 210

‌2 - النورمان في إيطاليا

1036 -

1085

وتركت إيطاليا الآن تعاني الانقسام والحكم الأجنبي مدى ألف عام، لن نعني بتسجيل تفاصيل حوادثها. وحسبنا أن نقول إن النورمان شرعوا في 1036 يفتحون إيطاليا الجنوبية وينتزعونها من الدولة البيزنطية. ذلك أنه كان من عادة أشراف نورمنديا أن يوزعوا أراضيهم على أبنائهم بالتساوي كما يفعل الفرنسيون في هذه الأيام، وكانت نتيجة هذا القانون في نورمنديا أن تجزأت أملاك الأسر في العصور الوسطى إلى ملكيات صغيرة على حين أن نتيجته في فرنسا هي وجود أسر صغيرة. ولم يكن النورمان راغبين في حياة الفقر الهادئة، وكانوا إلى هذا لا يزالون يذكرون ما طبع عليه آباؤهم أهل الشمال من حب المغامرة والسلب والنهب، ولهذا أجَّر بعض شداد النورمان أنفسهم إلى أدواق إيطاليا الجنوبية المتنافسين المتنازعين، وأظهروا ضروباً من البسالة في حروبهم إلى جانب بنفنتو، وسلرنو، ونابلي، وكبوا، وإلى جانب أعدائها، وأعطوا مدينة أفرسا Aversa جزاء لهم على أعمالهم وترامى إلى مسامع غيرهم من شباب النورمان المتحمسين أن الأراضي تكسب بضربة أو ضربتين من سواعدهم، فغادروا نورمنديا إلى إيطاليا. وسرعان ما أصبح من فيها من النورمان كثرة تستطيع أن تقاتل لحسابها، ولم يحل عام 1053 حتى أنشأ أجرأهم ربرت جوسكارد Robert Guiscard (أي العاقل أو الماكر) مملكة نورمندية في إيطاليا الجنوبية. وكان ربرت هذا يتصف بكل الصفات التي تخلعها الأساطير على الأبطال. وكان أطول من جميع جنوده، وكان قوي الساعدين، صلب الرأي، جميل المحيا، أشقر الشعر، أصهب اللحية، فخم الثياب، سخي اليد ينثر الذهب نثراً، قاسياً في بعض الأحيان، وباسلاً على الدوام.

ص: 211

ولم يكن روبرت يعترف بغير قانون القوة والخداع، فاجتاح كلبريا Galabria واستولى على بنفنتو، وكاد يمشي إليها على جثة البابا ليو التاسع (1054)، وعقد حلفاً مع نقولا الثاني، تعهد فيه أن يكون خاضعاً له وأن يؤدي له الجزية، وأقطعه نقولا في نظير ذلك كلبريا، وأبوليا Apulia وصقلية (1059). وترك ربرت أخاه الأصغر روجر ليفتح صقلية، واستولى هو على باري Bari (1071) وطرد البيزنطيين من أبوليا. واغتاظ إذ وجد البحر الأدرياوي يعترض طريقه فأمل أن يعبره ليستولي على القسطنطينية، ويصبح أقوى ملوك أوربا جميعاً. وأنشأ من فوره عمارة بحرية، هزم بها الأسطول البيزنطي في واقعة بحرية بالقرب من درزو (1081)، واستغاثت بيزنطية بالبندقية، فخفت هذه المدينة لنجدتها لأنها لم تشأ إلا أن تكون ملكة البحر الأدرياوي، وأوقعت سفائنها الماهرة في ضروب القتال هزيمة منكرة بعمارة جوسكارد البحرية في عام 1082 على بعد قليل من موضع نصره الذي ناله من وقت قصير. ولكن ربرت استطاع بنشاطه الشبيه بنشاط يوليوس قيصر نقل جيشه إلى دورزو Durazzo وهزم عندها جيوش الكسيوس الأول الإمبراطور اليوناني، واخترق إبريوس وتساليا حتى كاد يصل إلى سلانيك. وبينما هو يوشك أن يحقق حلمه إذ تلقى دعوة حارة من البابا جريجوري السابع يستغيث به لينقذه من الإمبراطور هنري الرابع. فما كان من ربرت إلا أن ترك جيشه في تساليا، وعاد مسرعاً إلى إيطاليا، وحشد جيشاً من النورمان، والطليان، والمسلمين أنقذ به البابا، وانتزع روما من الألمان، وأخمد ثورة قام بها الشعب على جيشه، وترك هذا الجيش الحانق يحرق المدينة وينهبها ويخربها تخريباً لا يجاريه فيها تخريب الوندال أنفسهم لهذه المدينة (1084) وعاد في هذه الأثناء ابنه بوهمند Bohemond ليعترف بأن جيشه الذي كان في بلاد اليونان قد مزقه ألكسيوس شر ممزق. وأنشأ القرصان القديم أسطولاً ثالثاً هزم به أسطول البندقية بالقرب من جزيرة كورفو Gorfo (1084) ، واستولى على جزيرة

ص: 212

كفلونيا Cephalonia الأيونية، ثم مات فيها، بعدوى سرت إليه أو بالسم، في سن السبعين (1085). وكان هو أول القادة اللصوص في إيطاليا (الكندتيري Gonedottieri) .

‌3 - البندقية

451 -

1095

وبينما كانت هذه الأحداث تجري في مجراها إذا ولدت دولة جديدة في الطرف الشمالي من شبه الجزيرة؛ قدر لها أن تزداد قوة وعظمة حين كانت الفوضى تضرب بجيرانها على الجزء الأكبر من إيطاليا. وتفصيل ذلك أن سكان أكويليا Aquileia، وبدوا، وبلونو Belluno، وفلتري Feltre وغيرها من المدن فروا في أثناء غارات القبائل الهمجية في القرن الخامس والسادس-وبخاصة في أثناء غارة اللمبارد في عام 568 - لينجوا بأنفسهم من الهلاك وينضموا إلى صيادي السمك المقيمين في الجزائر الصغيرة التي كونها نهر البياف Piav والأديج Adige في الطرف الشمالي من البحر الأدرياوي. وبقى بعض هؤلاء اللاجئين في هذه الجزائر بعد انتهاء الأزمة، وأنشئوا فيها محلات: هرقلية، وملامكو Melamocco وجرادو Grado، وليدو Lido

وريفو ألتو Rivo Alto (النهر العميق). وقد أضحت هذه المحلة الأخيرة التي سميت فيها بعد ريالتو Rialto عاصمة حكومتهم المتحدة (811). وكانت قبلية من الفنيتي Veneti قد احتلت شمالي إيطاليا قبل عهد يوليوس قيصر بزمن طويل، وأطلق اسم فنيزيا Venezia في القرن الثالث عشر على المدينة الفذة التي نشأت حيث كان يقيم اللاجئون.

وكانت الحياة فيها شاقة في بادئ الأمر، فكان من الصعب الحصول على الماء العذب، لأن قيمته لم تكن تقل عن قيمة الخمر. وأرغمت الظروف البنادقة-أهل فنيزيا-لأن يصبحوا أهل سفن وتجارة لاضطرارهم إلى استبدال القمح وغيره من السلع بما يحصلون عليه من البحر من سمك وملح؛ وما لبثت

ص: 213

تجارة أوربا الشمالية والوسطى أن أخذت تنساب تدريجياً عن طيق الثغور البندقية. وأقر أن المدن البندقية الجديدة بسيادة بيزنطية عليه ليحمي نفسه من الألمان واللمبارد، ولكن مركز هذه الجزائر المنيع في مياهها الضحلة وتعذر الهجوم عليها براً أو بحراً لهذا السبب، مضافاً إلى جد أهلها وجلدهم، وازدياد الثراء الناتج من انتشار تجارتها، كل هذا قد وهب الدولة الصغيرة سيادة واستقلالاً غير منقطعين مدى ألف عام.

وظل اثنا عشر تربينوناً-يبدو أن كل واحد منهم كان يشرف على شئون جزيرة من الجزائر الاثنتي عشرة الكبيرة-يصرفون شئون الحكم حتى عام 697 حين أحست هذه العشائر بحاجتها إلى سلطة عليا موحدة، فاختارت أول دوج أو دوق أو زعيم doge، dux يتولى شئون الحكم حتى ينزله الموت أو تنزله الثورة عن عرشه. ودافع الدوج أجنلو بدور Agnelle Badoer (809 - 827) عن المدينة ضد الفرنجة دفاعاً أظهر فيه من ضروب المهارة ما جعل الأدواق فيما بعد يختارون من سلالته حتى عام 942. وثأرت البندقية لنفسها في عهد أرسلو Orsello الثاني (991 - 1088) من غارات القراصنة الدلماشيين بأن هاجمت معاقلهم واستولت على دلماشيا، وبسطت سيادتها على البحر الأدرياوي. وشرع البنادقة في عام 998 يحتفلون في عيد الصعود من كل عام بهذا النصر البحري وبهذه السيادة الاحتفال الرمزي المعروف عندهم باسم اسبوزاليزيا (sposalisia) : فكان الدرج يقذف في البحر من سفينة مزينة بهجة بخاتم مدشن، وينادي باللغة اللاتينية:"إننا نتزوجك أيها البحر، دليلاً على سلطاننا الحق الدائم"(7). وسَرَّ بيزنطية أن تقبل البندقية حليفاً لها مستقلاً، وكافأتها على صداقتها النافعة بامتيازات تجارية في القسطنطينية وغيرها وصلت تجارة البندقية بفضلها إلى البحر الأسود بل تعدته إلى بلاد الإسلام نفسها.

وحدث في عام 1033 أن قضت أرستقراطية التجار على انتقال السلطة إلى

ص: 214

الأدواق عن طريق الوراثة، وعادت مبدأ الانتخابات على يد جمعية من المواطنين، وأرغمت الدوج على أن يحكم بعدئذ بالاشتراك مع مجلس من الشيوخ. وكانت البندقية في ذلك الحين قد أصبحت تلقب "بالذهبية "(فنيسيا أوريا Venetia Aurea) ، واشتهر أهلها بثيابهم المترفة، وبانتشار التعليم بينهم، وبإخلاصهم لوطنهم وكبريائهم. وكانوا أقواماً نشطين راغبين في الكسب، ماهرين، دهاة، شجعاناً، ميالين للنزاع، أتقياء، لا يحرصون على مبدأ، يبيعون العبيد المسيحيين للمسلمين (8)، وينفقون بعض مكاسبهم في بناء الأضرحة للقديسين. وكان في حوانيت ريالتو صناع ورثوا من إيطاليا الرومانية حذق أهلها الصناعي؛ وكانت تجارة محلية نشيطة تسير في قنواتها، هادئة ساكنة إلا من صيحات بحارة قواربها الأنيقة اللفظ؛ وكانت موانئ الجزائر تجملها السفن المغامرة تحمل منتجات أوربا وبلاد الشرق. وكانت قروض الرأسماليين تمول رحلات التجار البحرية، وتعود على أصحاب هذه الأموال بربح لا يقل عن عشرين في المائة في الأحوال العادية (9). واتسعت الهوة بين الأغنياء (الماجوري) والفقراء (المنيوري) حين ازداد ثراء الأثرياء، ولم ينقص فقر الفقراء إلا قليلاً. ولم يكن أحد يظهر الرأفة بالسذج البسطاء، فكان الكسب والثراء من نصيب الأسرع، والظفر من نصيب الأقوى. فكان الفقراء يمشون على الأرض العارية، وتنساب فضلات بيوتهم في الشوارع إلى القنوات؛ أما الأثرياء فقد شادوا القصور الفخمة، وسعوا لكسب رضاء الله والناس بإقامة أفخم كنيسة ميرى في العالم اللاتيني، وتبدلت واجهة قصر الدوج، التي شيدت أول مرة في عام 814 واحترقت في عام 976، وتغير شكلها مراراً عدة قبل أن تستقر على شكلها الحاضر الذي هو مزيج رشيق من الزخرف الإسلامي والصورة التي هي من مميزات عصر النهضة.

وحدث في عام 828 أن سرق بعض تجار البنادقة من إحدى كنائس

ص: 215

الإسكندرية ما يظن أنه مخلفات القديس مرقس. واتخذت البندقية ذلك القديس شفيعاً لها وحاميها ونهبت نصف العالم لتواري عظامه. وبدئ بإنشاء كنيسة القديس مرقص الأولى في عام 830 ثم دمرتها النار في عام 976 تدميراً رأى معه أرسيولو Orseolo الثاني أن يبدأ كنيسة جديدة أوسع منها رقعة. واستدعى لهذا الغرض فنانين من بيزنطية أقاموها على نمط كنيسة الرسول المقدس في القسطنطينية- ذات سبع قباب فوق بناء صليبي. وظل العمل فيها جارياً نحو قرن من الزمان؛ وتم البناء الرئيسي بشكله الحاضر تقريباً في عام 1071، ودشن في عام 1095. ولما فقدت مخلفات القديس مرقس حين شبت النار في الكنيسة عام 976، وهدد فقدها قداستها، اتفق على أن يجمع المصلون في الكنيسة في يوم تدشينها ويدعوا الله أن توجد هذه المخلفات. وتقول إحدى الروايات المأثورة العزيزة على البنادقة الصالحين إن إحدى الأعمدة خر لدعواتهم، وسقط على الأرض، وكشف عن عظام القديس (10). وتهدم البناء وأصلح مراراً، وقلما مرت عشر سنين دون أن تشهد فيه تغييراً أو تحسيناً. وليست كنيسة القديس بطرس التي نعرفها الآن بنت تاريخ واحد أو عصر واحد، بل إنها سجل من الحجارة والجواهر لألف عام، فقد أضيفت في القرن الثاني عشر واجهة من الرخام إلى جدرانها المقامة من الآجر، وجيء بأعمدة مختلفة الأنواع من أكثر من عشر مدائن، وقم الفنانون البيزنطيون الذين اتخذوا البندقية وطناً لهم بعمل فسيفساء الكنيسة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وأخذ أربعة جياد برونزية من القسطنطينية حين استولى البنادقة عليها في عام 1204، ووضعت فوق البوابة الرئيسية، وأضاف الفنانون القوط في القرن الرابع عشر أبراجاً، وشبابيك مفرغة، وستاراً للضريح المقدس، وغطى مصورو عصر النهضة في القرن السابع عشر ونصف الفسيفساء بصور للجدران غير ذات شأن كبير. واحتفظ البناء العجيب في خلال هذا التغيير كله وهذه القرون الطوال بمميزاته ووحدته-

ص: 216

فكان على الدوام بيزنطياً وعربياً، منمقاً وشاذاً غير مألوف: فهو من خارجها شديد البريق ذو أقواس، وأكتاف، وأبراج مستدقة، وأبواب، والتفافات لولبية، ورخام متعدد الألوان مغلف بالمعادن، وطنف منحوتة، وقباب بصلية الشكل. وهو من الداخل يحوي متاهة من العمد الملونة، ومثلثات مطلية بين العقود؛ ومظلمات قائمة، وخمسة آلاف ياردة مربعة من الفسيفساء، وأرضية مرصعة باليشب والعقيق وغيرهما من الحجارة الكريمة، وحظاراً زخرفياً خلف المذبح صنع عام 976 في القسطنطينية من المعادن الغالية والميناء ذات الحزوز، مثقلة بألفين وأربعمائة قطعة من الجواهر، ومقاماً خلف المذبح الرئيسي منذ عام 1105. وقد عدت الرغبة الجامحة في الزخرف كورها في كنيسة القديس مرقس كما عدته في كنيسة أيا صوفيا، فرأت أن تكرم الله بالرخاء والحلي، وأن تروع الإنسان، وتؤدبه، وتشجعه، وتواسيه بمائة مشهد ومشهد من الملحمة المسيحية من بداية الخلق إلى نهاية العالم. وكانت كنيسة القديس مرقس أسمى وأخص ما عبر به عن أنفسهم أقوام لاتين استحوذ عليهم الفن الشرقي حتى ملك عليهم مشاعرهم.

‌4 - الحضارة الإيطالية

566 -

1095

ظلت إيطاليا الشرقية والجنوبية بيزنطية في ثقافتها، على حين أن بقية شبه الجزيرة قد نشأت فيها من تراث الرومان حضارة جديدة-عناصرها لغة جديدة، ودين جديد، وفن جديد. ذلك أن هذا التراث لم يفن كله رغم ما حل بالبلاد من غزو، وفوضى، وفقر. فأما اللغة الإيطالية فكانت هي اللاتينية الخشنة التي كانت تتكلم بها الجماهير في العهد القديم، وقد استحالت على مهل حتى أضحت أكثر اللغات رخامة. وأما المسيحية الإيطالية فكانت مؤلفة من وثنية خيالية جذابة، وشرك عاطفي من القديسين الحماة المحليين، وأساطير صريحة من

ص: 217

الخرافات والمعجزات. وكان الفن الإيطالي يرى أن الفن القوطي فن همجي ويستمسك بطراز الباسلفا، (البناء الروماني المستطيل الشكل)، ثم عاد آخر الأمر في عصر النهضة إلى الشكل الأوغسطي. ولم يزدهر نظام الإقطاع في إيطاليا مطلقاً؛ فالمدن لم تفقد قط سلطانها وتفوقها على الريف؛ وكانت الصناعة والتجارة، لا الزراعة، هما اللتين مهدتا السبيل إلى الثراء.

ولم تكن في روما في عهد من العهود مدينة تجارية، ولذلك ظلت آخذة في الضعف، فقد اندثر مجلس شيوخها في حروب القوط، وأضحت وأضحت نظم بلدياتها القديمة بعد سبعمائة عام من نشأتها أدوات جوفاء وأحلاماً تناقض روح الزمان، ولم يكن في وسع عامتها المؤلفين من خليط من الأجناس، والذين يعيشون عيشة قذرة يخفف من قذارتها بعض الشيء الإباحية الجنسية والصدقات البابوية، لم يكن في وسعها هؤلاء العامة أن يعبروا عن عواطفهم السياسية إلا بالثورات المتكررة على السادة الأجانب أو البابوات البغيضين. وكانت الأسر الأرستقراطية القديمة لا شغل لها إلا التنافس للسيطرة على البابوية أو التنازع مع البابوية للسيطرة على روما. وبينما كان التربيونون- محامو الشعب- والقناصل وأعضاء مجالس الشيوخ هم الذين ينفذون القانون بالعصا والحراب، أضحى النظام الاجتماعي يقوم الآن على أساس مزعزع من قرارات المجالس الكنسية ومواعظ الأساقفة، ووكلائهم، والمثل المريبة يضربها آلاف الرهبان المختلفي الأمم، وهم طائفة قلّما كانت غير متعطلة، ولم تكن على الدوام عازبة. وكانت الكنيسة قد شنت الغارة على الاختلاط الجنسي في الحمامات العامة وهجر الناس الأبهاء العظمى وحمامات السباحة الساخنة، وزال من الوجود فن الطهارة الوثني. وخُربت قنوات الشرب الإمبراطورية من جرّاء الإهمال أو الحروب فأخذ الناس يشربون مياه التيبر (11)؛ وعطلت حلبة مكسيموس Circus Maxtmus والكلسيوم Collosseum ذواتا الذكريات الدموية، وأخذت السوق العامة تعود في القرن

ص: 218

السابع مراعي للبقر كما بدأت، وغطى الوحل أرض الكبتول، وهدمت الهياكل القديمة والمباني العامة ليأخذ من أنقاضها ما تحتاجه الكنائس المسيحية والقصور من مواد، وعانت رومة من أبنائها أكثر مما عانته من الوندال والقوط (12)، وملاك القول إن روما يوليوس قيصر قد ماتت، وإن روما ليو العاشر لم تكن قد ولدت بعد.

وتشتت محتويات دور الكتب القديمة وتلفت، وكادت الحياة الذهنية أن تنحصر في الكنيسة. وهوى العلم تحت أقدام الخرافات التي تهب الفقر خيالاً ورواء؛ وظل الطب وحده يرفع رأسه عالياً تحتفظ منه الأديرة بما ورثته عن جالينوس. ولعل مدرسة طبية علمانية قد نشأت من دير للبندكتيين في سلرنو في القرن التاسع الميلادي، فكانت هي التي سدت الثغرة القائمة بين طب الأقدمين وطب العصور الوسطى، كما سدت إيطاليا الجنوبية الهنستية الثغرة التي قامت بين ثقافة هذه العصور وثقافة اليونان: وكانت سلرنو مصحة منذ أكثر من ألف عام، وقد وصفت الرواية المحلية المأثورة كلية أبقراط التي كانت بها؛ فقالت إنها تتألف من عشرة معلمين أطباء منهم واحد يوناني وآخر مسلم، وثالث يهودي (13). وجاء قسطنطين "الأفريقي" وهو مواطن يوناني درس الطب في مدارس المسلمين بأفريقية وبغداد-إلى مونتي كسينو Monte Gassino (التي أصبح فيها راهباً)، وإلى سلرنو القريبة منها، جاء إليهما ببضاعة عجيبة مثيرة من المعارف الطبية الإسلامية. وأسهمت تراجمه للكتب اليونانية والعربية في الطب وغيره من الميادين في إحياء العلم بإيطاليا، حتى كانت مدرسة سلرنو حين وفاته حاملة لواء العلوم الطبية في بلاد الغرب المسيحية.

وكان أهم ما أثمرته الفنون في هذا العصر هو ابتداع الطراز الرومانسي Romanesque في العمارة (774 - 1200). ذلك أن البنائين الإيطاليين وارثي التقاليد الرومانية في الصلابة والبقاء زادوا سمك جدران الباسلقا، وأنشأوا

ص: 219

في الكنائس جناحاً متقاطعاً مع الصحن، وأضافوا دعامات من أبراج أو عمد متلاصقة، وأقاموا للعقود التي يرتكز عليها السقف على عمد أو أو أكتاف متجمعة. وكان العقد الروماني الخالص يتكون من نصف دائرة بسيطة، وهو شكل دذو مهابة عظيمة، يصلح لجسر فوق فرجة أكثر مما يصلح لتحمل ثقل. وكان الدهليز في الطراز الرومانسي الأول-والصحن والدهليز في الطراز الرومانسي المتأخر-تعلوه عقود أن يتكون سقفه من بناء ذي أقواس. وكان البناء في الخارج خالياً في العادة من الزخرف ومبنياً من الآجر المكشوف. وكان داخل البناء يتحاشى الزخرف الكثير الذي يمز الطراز البيزنطي وإن كان يزدان بقصد غير كبير من الفسيفساء، والمظلمات، والنقوش المنحوتة. وفيما عدا هذا كان الطراز الرومانسي رومانيا، همه الثبات والمتانة لا الارتفاع القوطي والرشاقة القوطية؛ يهدف إلى إخضاع الروح للتواضع المهدئ لها لا لرفعها إلى نشوة عليا تعصف بها.

وأخرجت إيطاليا في هذه الفترة آيتين من روائع الفن الرومانسي: إحداهما كنيسة أمبروجيو Ambrogio المتواضعة في ميلان، والثانية الكتدرائية الضخمة في بيزا. وقد أعاد الرهبان البندكتيون في عام 789 البناء الذي منع أمبروز أحد الأباطرة من دخول بابه، ثم تهدم بعد ذلك مرة أخرى. ثم غير جيدو Guido كبير الأساقفة طرازه بعد عامي 1046 و 1071 تغييراً شاملاً فبدله من باسلقا ذات عمد إلى كنيسة ذات عقود. وكان سقف دهليزها وصحنها قبل أيامه من الخشب، فأقام لهما هو سقفاً معقوداً من الآجر والحجارة يرتكز على عقود مستديرة خارجة من أكتاف متراكبة. وكانت زوايا التقاطع الناشئة في السقف المعقود من تقاطع العقود المبنية تقويها "أضلاع" من الآجر، وذلك أول مثل من السقف المعقود "المضلع" في أوربا كلها.

ويخيل إلى الرائي إن واجهة كنيسة أمبروجيو تختلف كل الاختلاف عن

ص: 220

واجهة كتدرائية بيزا الكثيرة التعقيد، ولكن عناصر الطراز فيهما واحدة. وقد أقيمت هذه الكنيسة الكبرى بعد المعركة الحاسمة التي انتصر فيها أسطول بيزا على أسطول العرب بالقرب من بالرم (1063)؛ إذ طلبت المدينة إلى المهندسين بوشتو Buschetto (اليوناني؟) ورنالدو Rinaldo أن يخلدا ذكر المعركة، ويقربا بعض أسلاب النصر إلى العذراء، بأن يقيما معبداً تحسدها عليه إيطاليا على بكرة أبيها. وقد شيد البناء كله تقريباً من الرخام. وأقيمت فوق المداخل الغريبة أربع أكتاف لبواكي مفتوحة تقوم في عرض الواجهة متكررة تكراراً يتجاوز الحد؛ وجعل لهذه المداخل فيما بعد (1606) أبواب فخمة من البرونز. وكان في الداخل طائفة كبيرة من العمد الرشيقة-وهي غنائم مختلفة الأصول-تقسم الكنيسة إلى صحن ودهليزين؛ وتقوم فوق ملتقى جناح الكنيسة وصحنها قبة إهليلجية غير جميل الشكل. وكانت هذه أولى الكتدرائيات الكبرى في إيطاليا، ولا تزال حتى اليوم من أروع الصروح التي أقامها الإنسان في العصور الوسطى.

ص: 221

الفصل الثاني

‌أسبانيا المسيحية

711 -

1095

ليس تاريخ أسبانيا المسيحية في هذه الفترة إلا حرباً صليبية طويلة الأمد منشأها تصميمها المتزايد على إخراج المسلمين منها. وكان هؤلاء المسلمون قوماً أغنياء أقوياء، يمتلكون معظم الأراضي الخصبة، وتسيطر عليهم خير الحكومات؛ أما المسيحيون فكانوا فقراء ضعفاء، وتربة بلادهم ضنينة، وتفصلهم سلاسل الجبال عن سائر بلاد أوربا، وتقسمهم إلى ممالك صغيرة، وتشجع النعرة القومية الإقليمية، والتطاحن بين الأخوة، حتى لقد أريق من دماء المسيحيين على أيدي أهلها المسيحيين ذوي العواطف الثائرة أكثر مما أريق منها على أيدي المسلمين.

وكانت غارات المسلمين عليها في عام 711 قد دفعت من لم يغلبوا من القوط، والسويفي Suevi، والبرابرة الذين اعتنقوا الدين المسيحي، والكلت من سكان شبه الجزيرة، دفعت هؤلاء إلى جبال الكنتبريان في الشمال الغربي من أسبانيا وطاردهم المسلمون في هذه الجبال ولكن قوة صغيرة بقيادة جوت بلايو Got Pelayo هزمتهم عند كفادنجا Covadonga (718) ، ومن ثم نادى ذلك القائد بنفسه ملكاً على أسترورياس، وأسس الملكية الأسبانية، واستطاع ألفنسو الأول (739 - 757) على أثر هزيمة المسلمين في تور أن يمد الحدود الأستورية إلى جليقية Galicia ولوزيتانيا وبسكايا Biscaya. وضم حفيده ألفنسو الثاني (791 - 842) ولاية ليون، واتخذ أويدو حاضرة لمملكته.

وفي عهد هذا الملك وقعت حادثة كانت من أهم الحوادث في تاريخ أسبانيا. ذلك أن أحد الرعاة سار بهداية نجم من النجوم- كما تقول الرواية- حتى

ص: 222

وجد في الجبال تابوتاً من الرخام يعتقد الكثيرون أنه يحتوي على بقايا "الرسول يوحنا" أخي المسيح. وأقيم ضريح في المكان الذي وجد فيه التابوت، ثم شيدت في مكان هذا الضريح كتدرائية فخمة فيما بعد، وأضحى سنتياجو ده كمبستيلا Sontoagio de Compostela-" يوحنا قديس ميدان النجم" كعبة يحج إليها المسيحيون لا يفوقها في قداستها إلا بيت المقدس وروما؛ وكان لهذه العظام أكبر الأثر في إثارة للروح المعنوية عند الأسبان، وجمع الأموال اللازمة لقتال المسلمين. وصار القديس يوحنا شفيع أسبانيا وحاميها. وذاع اسم سنتياجو في قارات ثلاث. وهكذا تصنع العقائد التاريخ وخاصة حين تكون هذه العقائد خاطئة، والأخطاء هي التي يموت من أجلها الناس أشرف ميتة.

وإلى شرق استوريا، وفي جنوب جبال البرانس مباشرة تقع نافاري Navarre وكان معظم أهلها من سلاسلة البشكنس، وهم في أغلب الظن خليط من كلت أسبانيا وبربر أفريقية. وقد أفاد هؤلاء من منعة جبالهم فنجحوا في حماية استقلالهم من المسلمين، والفرنجة، والأسبان، حتى أسس سانكو نافاري الأول جراسيا Sancaho Garacia مملكة نافاري واتخذ بمبلونا عاصمة لها. وكسب سانكو لنفسه لقب "العظيم"(994 - 1035) باستيلائه على ليون، وقشتالة، وأرغونة؛ وأتى على أسباني المسيحية حين من الدهر أوشكت فيه أن تتحد، ولكن سانكو أفسد قبيل وفاته ما عمله طول حياته بأن قسم مملكته بين أولاده الأربعة. ومن تاريخ هذا التقسيم تبدأ حياة مملكة أرغونة؛ واستطاعت هذه المملكة أن تدفع المسلمين في الجنوب، وأن تضم إليها بالسلم نبرة في الشمال (1076)، فلم يحل عام 1095 حتى شملت رقعتها جزءاً كبيراً من وسط أسبانيا الشمالي. وفتح شارلمان في عام 788 مقاطعة قطلونيا-في شمال أسبانيا الشرق حول برشلونة؛ وظل يحكمها أدواق فرنسيون جعلوا هذا الإقليم "حدوداً أسبانية"، وكانت لغته القطلانية مزيجاً لطيفاً من فرنسية وبروفنسال ولغة قشتالة. وبدأت ليون الواقعة في الشمال

ص: 223

الغربي تاريخها "بسانكو السمين Sancho the Fat" الذي بلغ من البدانة درجة لم يكن يستطيع معها السير إلا متكئاً على تابع له. ولما خلعه الأشراف لجأ إلى قرطبة حيث شفاه حسداي بن شبروط الطبيب اليهودي الشهير من شحمه، ثم عاد سانكو إلى ليون يميس كما يميس دن كيشوت، واسترد عرشه (959)(14). وسميت قشتالة بهذا الاسم نسبة إلى قلعتها (كاستل Castle) . وكانت تواجه الأندلس الإسلامية وتقضي حياتها تتأهب للحرب. وفي عام 930 رفض فرسانها أن يظلوا طائعين لملوك أستورياس أوليون وأقاموا دولة مستقلة اتخذوا برغوس Burgos عاصمة لها. وضم فرنندو الأول (1035 - 1065) ليون وجليقة إلى قشتالة، وأرغم أميري طليطلة وأشبيلية على أن يعطوه جزية سنوية، ثم فعل ما فعله سانكو العظيم فأفسد جهوده بتقسيم مملكته بين أبنائه الثلاثة؛ وقد واصل هؤلاء بكل ما وهبوا من حماسة ما طبع عليه ملوك أسبانيا المسيحيون من تطاحن وحروب يقتل فيها الاخوة بعضهم بعضاً.

وأبقى الفقر الزراعي والتمزق السياسي أسبانيا المسيحية متأخرة أشد التأخر عن منافسيها المسلمين في الجنوب ومنافسيها الفرنجة في الشمال في نِعم الحضارة وفنونها. ولم تكن الوحدة في داخل كل مملكة من ممالكها الصغيرة إلا سحابة صيف لا تكاد تبدو حتى تنقشع؛ فكان النبلاء يتجاهلون الملوك إلا في أوقات الحرب، ويحكمون من عندهم من رقيق الأرض والعبيد حكم سادة الإقطاع؛ وكان رجال الكنيسة يؤلفون طبقة ثانية من الأشراف، فكان الأساقفة هم أيضاً يمتلكون رقيق الأرض والعبيد، ويتولون قيادة جندهم في الحرب، ويتجاهلون البابوات في العادة، ويحكمون المسيحيين الأسبان حكماً يكاد يجعل منهم كنيسة مستقلة. واجتمع نبلاء ليون وأساقفتها عام 1020 في مجالس قومية وأخذوا يشرعون لمملكة ليون كما تشرع مجالس النواب. وأصدر مجلس ليون مرسوماً يمنح تلك المدينة الحكم الذاتي، فجعلها بذلك أول مدينة تحكم نفسها

ص: 224

في أوربا في أثناء العصور الوسطى وصدرت مراسيم مماثلة لهذا المرسوم تمنح غيرها من المدن الأسبانية هذا الحكم الذاتي نفسه، وأكبر الظن أن الغرض من إصدارها هو إثارة حماستها وكسب أموالها في الحروب القائمة مع المسلمين، وبذلك قامت دمقراطية حضرية محدودة في وسط النظام الإقطاعي الأسباني، وتحت سلطان الملكية الأسبانية.

ويشهد تاريخ ردريجو (راي) دياز Diaz (Ruy) Roderigo بما كانت عليه أسبانيا المسيحية في القرن الحادي عشر من بسالة، وفروسية، وفوضى. وردريجو لهذا يعرف عندنا باللقب الذي حباه به المسلمون وهو السيد أي الرجل النبيل أو الشريف أكثر مما يعرف بلقبه المسيحي وهو الكمبيدور El Campaedor أي المهاجم أو البطل. وكان في مولده في بيفار Bivar بالقرب من برغوس Burgos حوالي عام 1040، ونشأ نشأة المغامرين المحاربين، يقاتل أينما وجد سبباً للقتال يدر المال. ولم يكد يبلغ سن الثلاثين حتى صار موضع إعجاب أهل قشتالة لمهارته وجرأته في القتال، وموضع ريبتهم لاستعداده أن يحارب المسلمين في صف المسيحيين أو يحارب المسيحيين في صف المسلمين؛ ويبدو أن هذا وذاك كانا عنده سواء. وأرسله ألفنسو السادس ملك قشتالة ليأتي بالجزية المستحقة له من المعتمد ابن عباد الشاعر أمير أشبيلية؛ ولكنه اتهم عند عودته بأنه احتفظ ببعض هذه الجزية لنفسه. فنفي من قشتالة (1081) وانضم إلى قطّاع الطرق، ونظم جيشاً صغيراً من الجنود المغامرين، وباع خدماته إلى من يشتريها من الحكام المسيحيين والمسلمين فقد ظل ثماني سنين في خدمة أمير سرقسطة ووسَّع رقعة أملاك المسلمين على حساب أرغونة. وفي عام 1089 قاد سبعة آلاف من الرجال معظمهم من المسلمين، واستولى على بلنسية وأرغمها على أداء جزية شهرية، مقدارها عشرة آلاف دينار ذهبي. وفي عام 1090 قبض على كونت برشلونة، ولم يطلقه إلا بعد أن افتدى بثمانين ألف دينار. ولما وجد بعد رجوعه من تلك

ص: 225

الحملة بلنسية قد أغلقت أبوابها دونه حاصرها عاماً كاملاً؛ فلما استسلمت له (1094)، نكث بكل الشروط التي ألقت بمقتضاها سلاحها، وحرق قاضي قضاتها حياً، ووزع أملاك سكانها على أتباعه، وكاد يحرق زوجة قاضي القضاة وبناته لولا احتجاج أهل المدينة وجنوده على هذا العمل (15). وكان السيد حين يقدم على هذه الأعمال وأمثالها إنما يسلك السبيل التي يسلكها أبناء زمانه، ولكنه كفر عن سيئاته بأن حكم بلنسية حكماً حازماً عادلاً، وجعلها حصناً منيعاً في وجه جيوش المرابطين المسلمين وحكمت زوجته يمينة Jimena (1099) المدينة بعد موته ثلاث سنين. وقد أحاله أعقابه المعجبون به، بما حاكوه حوله من أقاصيص، فارساً لا تحركه إلا رغبة مقدسة في إعادة أسبانيا إلى المسيح، ويعظم الناس رفاقه في برغوس تعظيمهم للقديسين (16).

ولم تستطع أسبانيا المسيحية، وهي على هذه الحال من الانقسام، أن تسترد البلاد من المسلمين إلا لأن أسبانيا الإسلامية قد فاقتها آخر الأمر في التمزق والفوضى. وكان سقوط خلافة قرطبة عام 1036 فرصة ثمينة اغتنمها ألفنسو السادس ملك قشتالة (الأذفنش)، فاستولى على طليطلة بمعونة المعتمد ملك أشبيلية (1085) واتخذها عاصمة لملكه وعامل المسلمين المغلوبين بما جبل عليه المسلمون من كرم، وشجع انتشار الثقافة الإسلامية في أسبانيا المسيحية.

ص: 226

الفصل الثالث

‌فرنسا

614 -

1060

‌1 - مجيء الكارولنجيين

614 -

768

لما جلس كلوتير Clotaire الثاني على عرش الفرنجة لاح أن مركز الأسرة المروفنجية وطيد؛ ذلك أنه لم يحكم ملك قبله من ملوك هذه الأسرة دولة تضارع دولته في الاتساع والوحدة؛ ولكن كلوتير كان مديناً بقوته إلى أشراف استراسيا وبرغندية؛ وقد كافأهم على تأييدهم له بأن زاد من استقلالهم ووسع أملاكهم وبأن اختار واحداً منهم هو بيبين Pepin الأول الأكبر ليكون "ناظراً للقصر". وكان ناظر القصر في بادئ الأمر هو المشرف على القصر الملكي وناظراً على المزارع الملكية؛ وزادت مهام مناصبه حين عكف الملوك المروفنجيون على الدعارة والدسائس، وأخذ يشرف شيئاً فشيئاً على شئون المحاكم، والجيش، والمال، وحَدَّ الملك داجوبرت Dagobet (628 - 639) ابن كلوتير من سلطان ناظر القصر والأشراف وقتاً ما "فوزع العدالة بين الأغنياء والفقراء على السواء" كما يقول فرديجار Fredegart الإخباري، "وكان قليل النوم والطعام، ولم يكن همه إلا أن يخرج الناس من مجلسه ممتلئة قلوبهم غبطة وإعجاباً (17) ". غير أن فرديجار يضيف إلى ذلك قوله: "وكانت له ثلاث ملكات وعدد كبير من الحظايا" كما كان عبداً لشهواته (18)". وعادت السلطة في عهد خلفائه- الملوك الذين لا يفعلون شيئاً-إلى ناظر القصر. وهزم بيبين الثاني الأصغر منافسيه في واقعة تستري Testry (687) ، واستبدل بلقب "ناظر القصر" لقب دوق الفرنجة وكبيرهم، وحكم غالة جميعها ما عدا أكتين

ص: 227

Aquitaone. وحكم شارل مارتل Chales Martel (المطرقة)، الذي كان بالاسم ناظراً للقصر ودوق استراسيا، غالة كلها تحت سلطان كلوتير الرابع (717 - 719). وهو الذي صد بعزيمته غارات الغاليين مستعيناً بالفريزيين والسكسون، وهو الذي صد المسلمين عند تور وردهم عن أوربا. وأعان بنيفاس Boniface وغيره من المبشرين على تنصير ألمانيا، ولكنه حين اشتدت حاجته إلى المال صادر أراضي الكنيسة. وباع مناصب الأساقفة لقواد الجيش، وأسكن جيوشه في الأديرة، وقطع عنق راهب بروتستنتي (19). وحُكِمَ عليها في مائة منشور وخطبة منبرية بأن مأواه الجحيم.

وأرسل ابنه بيبين الثالث ناظر قصر كلدريك الثالث بعثة إلى البابا زخرياس يسأله هل يأثم إذا خلع الإمعة المروفنجي وأصبح هو ملكاً بالاسم كما هو ملك بالفعل. وكان زخرياس وقتئذ في حاجة إلى تأييد الفرنجة ضد مطامع اللمبارد فبعث إليه بجواب مطمئن يقول فيه إنه لا يأثم. فلما تلقى بيبين الرد عقد جمعية من الأشراف والمطارنة في سواسون Soissons اختير فيها بإجماع الآراء ملكاً على الفرنجة (751)، ثم قص شعر آخر الملوك المروفنجيين البلداء وأرسله إلى دير. وجاء البابا استيفن الثاني في عام 754 إلى دير القديس دنيس St، Denis في أرباض باريس، ومسح بيبين "ملكاً بنعمة الله". وهكذا انتهت الأسرة المروفنجية (486 - 751) وبدأت الأسرة الكارولنجية (751 - 987).

وكان بيبين الثالث "القيصر" حاكماً صبوراً يعيد النظر، نقياً عملياً، محباً للسلم، لا يغلب في الحرب، متمسكاً بالأخلاق الفاضلة إلى حد لم يسبقه إليه ملك آخر في غالة في تلك القرون. وكان بيبين هو الذي مهد لشارلمان سبيل كل ما أتاه من جليل الأعمال؛ وفي خلال حكمها الذي دام ثلاثاً وستين سنة (571 - 814) تحولت بلدهما نهائياً من غالة إلى فرنسا. وأدرك بيبن ما في الحكم بغير معونة الدين من صعاب، فأعاد إلى الكنيسة أملاكها، وامتيازاتها

ص: 228

وحصانتها، وجاء إلى فرنسا بالمخلفات المقدسة، وحملها على كتفيه في موكب فخم؛ وأنقذ البابوية من الملوك اللمبارد، ومنحها سلطات زمنية واسعة في عهده المعروف باسم "عطية بيبين"(756)، وقنع بأن ينال في نظير هذا لقب "النبيل الروماني" وتحذيراً من البابا للفرنجة بألا يختاروا ملكاً إلا من سلالته. وتوفي بيبين في عنفوان قوته عام 768 بعد أن أوصى بملكه الفرنجة لولديه كارلومان Carloman الثاني وشارل الذي أصبح فيما بعد شارلمان على أن يحكماها معاً.

‌2 - شارلمان

768 -

814

ولد أعظم ملوك العصور الوسطى عام 742 في مكان غير معروف. وكان يجري في عروقه الدم الألماني وينطق باللسان الألماني، ويشترك مع قومه في بعض الصفات-قوة الجسم، والبسالة ورباطة الجأش، والافتخار بالأصل، والبساطة الخشنة التي تفصلها مئات السنين عن رقة الفرنسيين الحضرية المصقولة. وكان قليل العلم بالكتب وما فيها، لم يقرأ منها إلا عدداً قليلاً، لكن ما قرأه منها كان من خيارها، وحاول في شيخوخته أن يتعلم الكتابة باللغة التيوتونية القديمة واللاتينية الأدبية، وكان يفهم اللغة اليونانية (20).

ولما مات كارلون الثاني في عام 771 انفرد شارل بالحكم وهو في التاسعة والعشرين من عمره. وبعد سنتين من انفراده به بعث إليه البابا هدريان الثاني بدعوة عاجلة ليساعده على دسديريوس Desiderius اللمباردي الذي كان وقتئذ يغزو الولايات البابوية. ولبى شارلمان الدعوة وحاصر بافيا واستولى عليها، ولبس تاج لمباردي، وأيد عطية بيبي، وارتضى أن يكون حامي الكنيسة، جميع سلطاتها الزمنية. ولما عاد إلى عاصمة في آخن بدأ سلسلة من الحروب عدتها ثلاث وخمسون -قادها كلها تقريباً بنفسه- يهدف بها إلى تأمين

ص: 229

دولته بفتح بافاريا وسكسونية وجعلها مسيحيتين، والقضاء على الآفار المشاغبين المتعبين، وحماية إيطاليا من غارات المسلمين، وتقوية حصون فرنسا حتى تستطيع الوقوف في وجه مسلمي أسبانيا الذين يبغون بسط سلطانهم عليها. وكان السكسون المقيمون عند الحدود الشرقية لبلاده وثنيين، أحرقوا كنيسة مسيحية وأغاروا مراراً على غالة، وكانت هذه الأسباب كافية في رأي شارلمان لأن يوجه إليهم ثماني عشرة حملة (772 - 804)، قاتل فيها الطرفان بمنتهى الوحشية. فلما هزم السكسون خيرهم شارلمان بين التعميد والموت وأمر بضرب رقاب 4500 منهم في يوم واحد (21)، وسار بعد فعلته هذه إلى ثيونفيل ليحتفل بميلاد المسيح.

ولما كان شارلمان في بادربون Paderborn إذ استغاث به ابن العربي حاكم برشلونة المسلم في عام 777 لينصره على خليفة قرطبة. فما كان منه إلا أن سار على رأس جيش عبر به جبال البرانس، وحاصر مدينة بمبلونا المسيحية، وعامل البشكنس مسيحي أسبانيا الشمالية الذين لا يحصى عديدهم معاملة الأعداء، وواصل زحفه حتى وصل إلى سرقسطة نفسها. غير أن الفتن الإسلامية التي وعد ابن العربي بإثارتها على الخليفة والتي كانت جزءاً من الخطة الحربية المدبرة لم يظهر لها أثر، ورأى شارلمان أن جيوشه بمفردها لا تستطيع مقاومة جيوش قرطبة، وترامى إليه أن السكسون ثائرون عليه وأنهم يزحفون وهم غضاب على كولوني Cologce، فرأى من حسن السياسة أن يعود بجيشه إلى بلاده، واخترق بهم في وصف طويل رفيع ممرات جبال البرانس. وبينما كان يعبر أحد هذه الممرات عند رُنسفال Roncesvalles من أعمال نافاري إذا انقضت على مؤخرة الفرنجة قوة من البشكنس، ولم تكد تبقى على أحد منها (778)، وهناك مات هرودلاند Hruodland النبيل الذي أصبح بعد ثلاثة قرون بطل القصيدة الفرنسية الذائعة الصيت أغنية رولان Chancno de Roland. وسير شارلمان في عام 795 جيشاً آخر عبر جبال البرانس، واستولى به على شريط ضيق في شمالي أسبانيا

ص: 230

الشرقي وضمه إلى فرنسيا Francia. واستسلمت له برشلونة، وأقرت أستراسيا ونبرة بستادة الفرنجة عليهما (806). وكان شارلمان في هذه الأثناء قد أخضع السكسون لسلطانه (785)، وصد الصقالبة الزاحفين على بلاده (789)، وهزم الآفار وشتت شملهم (790 - 805)، ثم أخلد في السنة الرابعة الثلاثين من حكمه والثالثة والستين من عمره إلى السلام.

والحق أنه كان على الدوام يحب شئون الإدارة والحكم أكثر مما يحب الحرب، ولم ينزل إلى ميدان القتال إلا ليفرض على أوربا الغربية، التي مزقتها منذ قرون طوال منازعات القبائل والعقائد، شيئاً من وحدة الحكم والعقيدة.

وكان في أثناء هذا الحكم قد أخضع لسلطانه جميع الشعوب الضاربة بين نهر الفستيولا Vistula والمحيط الأطلنطي، وبين البحر البلطي وجبال البرانس، وإيطاليا كلها تقريباً، والجزء الأكبر من بلاد البلقان. ترى كيف استطاع رجل واحد أن يحكم هذه المملكة المتباينة المترامية الأطراف؟ الجواب أنه قد وهب من قوة الجسم والأعصاب ما يستطيع به أن يأخذ على عاتقه مئات التبعات، والأخطار، والأزمات، وأن يتحمل ما هو أصعب على النفس من هذا كله وهو ائتمار أبنائه به ليقتلوه. وكان في دمائه دم أو تعاليم بيبين الثالث الحذر الحكيم، وشارل مارتل الذي لا يرحم ولايلين، وكان هو نفسه إلى حد ما مطرقة مثل مارتل. وقد وسع أملاكهما وحافظ عليها بما وضعه لها من نظام عسكري قوي الدعائم، وسندها بما أفاء عليها من ظل الدين وشعائره. وكان في وسعه أن يضع لنفسه الأهداف الكبار، وأن يهيئ الرسائل ويبتغي الغايات. وكان في مقدوره أن يقود الجيوش، ويقنع الجمعيات، ويشرح صدور الأعيان، ويسيطر على رجال الدين، ويكبح جماح الحريم.

وقد جعل الخدمة العسكرية شرطاً لامتلاك أكثر من الكفاف من الأملاك، وبهذا أقام الروح العسكرية المعنوية على أساس الدفاع عن الأرض

ص: 231

وتوسيع رقعتها، وأوجب على كل حر إذا دُعي لحمل السلاح أن يمثل كامل العدة أمام الكونت المحلي، وكان كل عامل نبيل مسئولاً أمامه عن كفاية وحداته. وكان بناء الدولة يقوم على هذه القوة المنظمة يؤيدها كل عامل نفساني تخلعه عليها قداسة صاحب الجلالة الذي باركه رجال الدين، وفخامة الاحتفالات الإمبراطورية، والطاعة التقليدية للحكم القائم الموطد الدعائم. وكانت تجتمع حول الملك حاشية من النبلاء الإداريين ورجال الدين-رئيس خدم البيت، وقاضي القضاة وقضاة حاشية القصر، ومائة من العلماء، والخدم، والكتبة. وكان مما قوى إحساس الشعب باشتراكه في الحكم ما كان يعقده كل نصف عام من اجتماعات يحضرها الملاك المسلحون، يجتمعون كلما تطلبت اجتماعهم الشئون الحربية أو غيرها في مدن ورمز، وفلنسين، وآخن، وجنيف وباربون

وكانت هذه الاجتماعات تعقد عادة في الهواء الطلق. وكان الملك يعرض على جماعات قليلة من الأعيان أو الأساقفة ما عنده من الاقتراحات التشريعية، فكانت تبحثها وتعيدها إليه مشفوعة باقتراحاتها ثم يضع هو القوانين ويعرضها على المجتمعين ليوافقوا عليها بصياحهم؛ وكان يحدث في بعض الأحوال النادرة أن ترفضها الجمعية بالأنين أو القباع الجماعي. وقد نقل إلينا هنكمار Hincmar كبير أساقفة ريمس صورة دقيقة لشارلمان في هذه الاجتماعات، فقال إنه كان "يسلم على أكابر الحاضرين، ويتحدث إلى من لم يكن يراهم إلا قليلاً، ويظهر اهتماماً ظريفاً بالكبار، ويلهو مع الصغار". وكان يطلب إلى أسقف كل إقليم ورئيسه الإداري أن يبلغ الملك في هذه الاجتماعات عن كل حادثة هامة وقعت في إقليمه منذ الاجتماع السابق، ويضيف هنكمار إلى أقواله السابقة أن "الملك كان يرغب في أن يعرف هل الأهلون في أي ركن من أركان مملكته قلقون مستاءون، وما سبب قلقهم واستيائهم"(22). وكان عمال الملك يواصلون نظام الاستعلامات الرومانية القديمة فيستدعون إليهم كبار المواطنين ويطلبون إليهم أن "يعطوا بيانات صحيحة"،

ص: 232

معززة بالإيمان عما في الإقليم الذي يزورونه من أملاك ترفض عليها الضرائب، وعن حالة النظام في هذا الإقليم وعما يقع فيه من الجرائم أو من فيه من المجرمين. وكانت شهادة جماعة الباحثين الذين يقسمون الإيمان تستخدم في أرض الفرنجة في القرن العاشر للفصل في كثير من المشاكل المحلية الخاصة بالأملاك العقارية أو الجرائم. وقد نشأ من هذه الجماعات، بعد تطورها على يد النورمان والإنجليز، نظام المحلفين القائم في هذه الأيام.

وكانت الدولة مقسمة إلى مقاطعات يحكم كل مقاطعة في الشئون الروحية أسقف أو كبير أساقفة، وفي الشئون الدنيوية قومس Comes (رفيق للملك أو كونت. وكانت جمعية محلية من الملاك تجتمع مرتين أو ثلاث مرات كل سنة في عاصمة كل مقاطعة لتبدي رأيها في حكومة الإقليم وتكون بمثابة محكمة استئناف فيه. وكان للمقاطعات الواقعة على الحدود المعرضة للخطر حكام من طراز خاص يسمونهم جراف graf أو مارجريف Margravc، أو مرخرزوج Markherzog، فكان رولان المرسستفالي Roland of Maecesvallcs مثلاً حاكم مقاطعة برتن Breton وكانت كل الإدارات المحلية خاضعة لسلطان "مبعوثي السيد" missi dominici- الذين يرسلهم شارلمان يحملون رغباته للموظفين المحليين، ويطلعون على أعمالهم، وأحكامهم، وحساباتهم، ويمنعون الربا، والاغتصاب، والمحاباة، واستغلال النفوذ، ويتلقون الشكاوي، ويردون المظالم، ويحمون "الكنيسة، والفقراء، والذين تحت الوصاية، والشعب أجمع" من سوء استعمال السلطة أو الاستبداد، وأن يعرفوا الملك بأحوال مملكته. وكان العهد الذي عين بمقتضاه هؤلاء المبعوثون بمثابة عهد أعظم للشعب وضع قبل أن يوضع العهد الأعظم Magna Garta لحماية أشراف إنجلترا بأربعة قرون. ومما يدل على أن هذا العهد كان يقصد به ما جاء فيه ما حدث لدوق إستريا Istria، إذ اتهمه المبعوثون بارتكاب عدة مظالم، واغتصاب الأموال، فأرغمه

ص: 233

الملك على أن يرد ما اختلسه، وأن يعوض كل مظلوم عما وقع عليه من ظلم، ويعترف علناً بجرائمه، ويقدم الضمانات التي تمنعه من تكرارها. وإذا ما غضضنا النظر عن حروب شارلمان كان هو أعدل الحكام الذين عرفتهم أوربا منذ عهد ثيودريك القوطي وأكثرهم استنارة.

وتعد القوانين الست والخمسون الباقية من تشريعات شارلمان من أكثر المجموعات القانونية طرافة في العصور الوسطى. فهي لا تكون مجموعة منتظمة، بل هي توسيع القوانين "الهمجية" الأقدم منها عهداً وتطبيقاً على الظروف والمطالب الجديدة. ولقد كانت في بعض تفاصيلها أقل استنارة من قوانين ليوتبراند اللمباردي: فقد أبقت على عادات الكفارة عن الجرائم الكبرى، والتحكم الإلهي، والمحاكمة بالاقتتال، والعقاب ببتر الأعضاء (24)، وحكمت بالإعدام على من يرتد إلى الوثنية، أو من يأكل اللحم في أيام الصوم الكبير-وإن كان يسمح لرجال الدين أن يخففوا هذه العقوبة الأخيرة (25). ولم تكن هذه كلها قوانين، بل منها ما كان فتاوي، ومنها ما كان أسئلة موجهة من شارلمان إلى موظفيه، ومنها ما هو نصائح أخلاقية. وقد جاء في إحدى المواد:"يجب على كل إنسان أن يعمل بكل ما لديه من قوة وكفاية لخدمة الله وإتباع أوامره، لأن الإمبراطور لا يستطيع أن يراقب كل إنسان في أخلاقه الخاصة"(26). وحاولت بعض المواد أن تقيم العلاقات الجنسية والزوجية بين أفراد الشعب على قواعد أكثر نظاماً مما كانت قبل، على أن الناس لم يطيعوا هذه النصائح كلها؛ ولكن القوانين والنصائح في مجموعها تنم عن جهود صادقة لتحويل الهمجية إلى حضارة.

وشرع شارلمان للزراعة، والصناعة، والشئون المالية، والتعليم، والدين، كما شرع لشئون الحكم والأخلاق. وكان حكمه في فترة انحطت فيها الحالة الاقتصادية في جنوبي فرنسا وإيطاليا إلى الحضيض من جراء سيطرة المسلمين على

ص: 234

البحر المتوسط. وفي هذا يقول ابن خلدون إن المسيحيين لم يكن في وسعهم أن يسيروا لوحاً فوق البحر (27)، وكانت العلاقات التجارية بأجمعها بين غربي أوربا وأفريقية وشرقي البحر المتوسط غاية في الاضطراب. وكان اليهود وحدهم هم الذين يربطون النصفين المتعاديين من البلاد التي كانت أيام حكم روما عالماً اقتصادياً موحداً. وبقيت التجارة قائمة في أوربا الخاضعة لحكم الصقالبة وبيزنطية، وفي شمالها التيوتوني. وكذلك كانت القناة الإنجليزية وكان بحر الشمال يموجان بالمتاجر، ولكن هذه التجارة الأخيرة أيضاً اضطربت أحوالها قبل موت شارلمان، وقد أوقعتها في هذا الاضطراب غارات أهل الشمال وقرصنتهم.

وكاد أهل الشمال يغلقون ثغور فرنسا الشمالية، والمسلمون يغلقون ثغورها الجنوبية، حتى أضحت لهذا السبب جزيرة منفصلة عن العالم، وبلداً زراعياً، واضمحلت فيها طبقة التجار الوسطى، فلم تبق هناك طبقة تنافس كبار الملاك في الريف؛ وكان مما ساعد على قيام نظام الإقطاع في فرنسا هبات شارلمان للأراضي وانتصار الإسلام.

وبذل شارلمان جهوداً جبارة لحماية الفلاحين الأحرار من نظام رقيق الأرض الآخذ في الانتشار. ولكن قوة الأشراف والظروف القاهرة المحيطة به أحبطت جهوده. وحتى الاسترقاق نفسه اتسع نطاقه وقتاً ما نتيجة لحروب الكارولنجيين ضد القبائل الوثنية. وكانت أهم موارد الملك مزارعه الخاصة التي كانت مساحتها تتسع من حين إلى حين نتيجة المصادرة، والهبات، وعودة بعض الأراضي إلى الملك ممن يموتون بغير ورثة، واستصلاح الأراضي البور. وقد أصدر للعناية بهذه الأراضي قانوناً زراعياً مفصلاً أعظم تفصيل يشهد بعنايته التامة في بحث جميع موارد الدولة ومصروفاتها. وكانت الغابات والأراضي البور، والطرق العامة، والمواني وجميع ما في الأرض من معادن ملكاً للدولة (28). وشجع ما بقي في البلاد من تجارة بكافة السبل؛ فبسطت الدولة حمايتها على الأسواق، ووُضع

ص: 235

نظام دقيق للموازين والمقاييس والأثمان، وجففت المكوس، ومُنعت المضاربات على المحاصيل قبل حصادها، وأنشئت الطرق والجسور أو أصلحت، وأنشئ جسر عظيم على نهر الرين عند مينز، وطهرت المسالك المائية لتبقى مفتوحة على الدوام، واختطت قناة تصل الرين بالدانوب حتى يتصل بحر الشمال بالبحر الأسود. وحافظت الدولة على ثبات النقد، ولكن قلة الذهب في فرنسا واضمحلال التجارة أدّيا إلى استبدال الجنيه الفضي بجنيه شارلمان المعروف باسم السوليدس Solidus.

وامتدت جهود الملك وعنايته إلى كل ناحية من نواحي الحياة، فأسمى الرياح الأربع بأسمائها التي تعرف بها الآن؛ ووضع نظاماً إعانة الفقراء، وفرض على النبلاء ورجال الدين ما يلزمه من المال لهذا المشروع، ثم حرم التسول وجعله جريمة يعاقب عليها القانون (29). وهاله انتشار الأمية في أيامه حتى لا يكاد أحد يعرف القراءة والكتابة غير رجال الدين، كما هاله انعدام التعليم بين الطبقات الدنيا من هذه الطائفة، فاستدعى علماء من الأجانب لإعادة مدارس فرنسا إلى سابق عهدها؛ فأغرى بولس الشماس على أن يأتي إليه من منتي كسينو، وألكوين من يورك (782)، ليعلما في المدرسة التي أنشأها شارلمان في القصر الملكي بآخن. وكان ألكوين هذا (735 - 804) رجلاً سكسونياً، ولد بالقرب من مدينة يورك، وتعلم في مدرسة الكتدرائية وهي المدرسة التي أنشأها الأسقف إجبرت في تلك المدينة، وقد كانت بريطانيا وأيرلندة في القرن الثامن متقدمتين من الناحية الثقافية عن فرنسا. ولما بعث أفا Offa ملك مرسية Mercia ألكوين في بعثة إلى شارلمان ألح شارلمان على ألكوين أن يبقى عنده، وسر ألكوين أن يخرج من إنجلترا حين كان "الدنمرقيون يتلفون أرضها، ويدنسون الأديرة بما يرتكبونه فيها من الزنى"(30)، فآثر البقاء، وبعث إلى إنجلترا وغيرها من البلاد في طلب الكتب والمعلمين، وسرعان ما أضحت مدرسة القصر مركزاً نشيطاً من

ص: 236

مراكز الدرس، ومراجعة المخطوطات ونسخها، كما أضحت مركزاً لإصلاح نظم التربية إصلاحاً عم جميع المملكة. وكان من بين طلابها شارلمان نفسه، وزوجته ليوتجارد Liutgard، وأولاده وابنته جزيلا Gisela، وأمين سره اجنهارد Eginhard، وإحدى الراهبات، وكثيرون غيرهم، وكان أكثرهم شغفاً بالتعليم؛ فكان يحرص على العلم حرصه على تملك البلاد، يدرس البلاغة وعلوم الكلام، والهيئة؛ ويقول إجنهارد إنه بذل جهوداً جبارة ليتعلم الكتابة "وكان من عادته أن يحتفظ بالألواح تحت وسادته، حتى يستطيع في أوقات فراغه أن يمرن يده على رسم الحروف؛ ولكن جهوده هذه لم تلق إلا قليلاً من النجاح لأنه بدأ هذه الجهود في سني حياته"(31). ودرس اللاتينية بنهم شديد، ولكنه ظل يتحدث بالألمانية مع أفراد حاشيته؛ وقد وضع كتاباً فينحو اللغة الألمانية وجمع نماذج من الشعر الألماني القديم.

ولما ألح ألكوين على شارلمان، وبعد أن قضي في مدرسة القصر ثمة سنين، أن ينقله إلى بيئة أكثر منها هدوءاً، عينه الملك على كره منه رئيساً لدير تور (796)؛ وهناك حشد ألكوين الرهبان لينقلوا نسخاً من الترجمة اللاتينية المتداولة للتوراة والإنجيل التي قام جيروم أحد آباء الكنيسة اللاتين، ومن الكتب اللاتينية القديمة، بحيث تكون أكثر دقة من النسخ المتداولة وقتئذ. وحذت الأديرة الأخرى حذو هذا الدير، وبفضل هذه الجهود كانت كثير من أحسن ما وصل إلينا من النصوص القديمة من مخطوطات هذه الأديرة في القرن التاسع الميلادي؛ وقد احتفظ لنا رهبان العصر الكارولنجي بما لدينا من الشعر اللاتيني كله تقريباً عدا شعر كاتلس Gatullus، وتيبلس Tibullus، وبروبرتيوس Poptrtius، وبما لدينا من النثر اللاتيني كله تقريباً ما عدا كتابات فارو Varro، وتاستس Tacitns وأبوليوس Apnleius (32) . وكانت كثير من المخطوطات الكارولنجية جميلة الزخرفة يزينها فن الرهبان وصبرهم الطويل،

ص: 237

وكان من آثار هذه الكتب المزخرفة التي أخرجتها مدرسة القصر أناجيل "فينا" التي كانت أباطرة ألمانيا المتأخرون يقسمون عليها أيمان تتويجهم.

وأصدر شارلمان في عام 787 إلى جميع أساقفة فرنسا ورؤساء أديرتها "توجيهات لدراسة الآداب"، يلوم فيها رجال الدين على ما يستخدمونه من "اللغة الفظة" و "الألسنة غير المهذبة" ويحث كل كنيسة ودير على إنشاء مدارس يتعلم فيها رجال الدين على السواء القراءة والكتابة. ثم أصدر توجيهات أخرى في عام 789 يدعو فيها مديري هذه المدارس أن "يحرصوا على ألا يفرقوا بين أبناء رقيق الأرض وأبناء الأحرار، حتى يمكنهم أن يأتوا ويجلسوا على المقاعد نفسها ليدرسوا النحو، والموسيقى، والحساب". وفي عام 805 صدرت تعليمات أخرى تهيئ لهذه المدارس تعليم الطب، وتعليمات غيرها تندد بالخرافات الطبية. ومما يدلنا على أن أوامره لم تذهب أدراج الرياح كثرة ما أنشئ في فرنسا وألمانيا الغربية من مدارس في الكنائس والأديرة؛ فلقد أنشأ ثيودولف Theodulf أسقف أورليان مدارس في كل أبرشية من أسقفيته، رحب فيها بجميع الأطفال على السواء، وحرم على القساوسة الذين يتولون التدريس أن يتناولوا أجوراً (33)، وذلك أول مثل للتعليم العام المجاني في تاريخ كله. ونشأت مدارس هامة، متصلة كلها تقريباً بالأديرة، في خلال القرن التاسع في تور، وأوكسير Auxer، وبافيا، وسانت جول St، Gall، وفلدا Fulda، وغنت Ghent وغيرها من المدن. وأراد شارلمان أن يوفر حاجة هذه المدارس إلى المعلمين، فاستقدم العلماء من أيرلندة، وبريطانيا، وإيطاليا، ومن هذه المدارس نشأت في المستقبل الجامعات الأوربية.

على أننا يجب أن لا نغالي في تقدير القيمة العقلية لذلك العهد. فلقد كان هذا البعث المدرسي أشبه بيقظة الأطفال منه بالنضوج الثقافي الذي كان قائماً وقتئذ في القسطنطينية، وبغداد، وقرطبة، فلم يثمر هذا البعث كتاباً كباراً من

ص: 238

أي نوع كان. وكتابات ألكوين الشكلي مملة، مقبضة، خانقة؛ وليس فيها ما ينفي عنه تهمة التحذلق والتباهي بالعلم، وتدل على أنه إنسان لطيف يستطيع أن يوفق بين السعادة والتقي؛ وليس فيها ما يدل على هذا وينفي ذاك إلا بعض وسائله وأبيات من شعره. ولقد أنشأ كثير من الناس أشعاراً في أثناء هذه النهضة العلمية القصيرة الأجل، منها قصائد ثيودولف التي فيها قدر كاف من الجمال على طريقتها الضعيفة الخاصة بها. غير أن الأثر الأدبي الخالد الوحيد الذي خلفه ذلك العهد هو الترجمة المختصرة البسيطة لشارلمان التي كتبها اجنهارد. وهي تحذو حذو كتاب ستونيوس Seutonius حياة القياصرة Lives of the Caesars، بل الكتاب الأول ليقتطف بعض فقرات من الثاني يصف بها شارلمان. على أننا يجب أن نغفر كل شيء للمؤلف الذي يصف نفسه في تواضع جم بأنه "همجي، لا يعرف إلا قليلاً من لسان الرومان"(34)، وما من شك رغم هذا الاعتراف في أنه رجل عظيم المواهب، لأن شارلمان عيّنَه أستاذاً اقصره، وخازناً لبيت ماله، واتخذه صديقاً مقرباً له، واختاره ليشرف على الكثير من العمائر في حكمه الإنساني العظيم، ولعله قد اختاره لتخطيطها.

وشيدت قصور للإمبراطور في أنجلهيم Ingelheim ونجمجين Njimegen، وأقام في آخن عاصمته المحببة القصر والكنيسة الصغيرة الذائعي الصيت الذين تعرضا لأكثر من ألف من الأخطار وظلا قائمين حتى دمرتهما قنابل الحرب العالمية الثانية. وقد أقام المهندسون المجهولون تلك الكنيسة على نمط كنيسة سان فيتال San Vitale برافنا وهي التي أقيمت على غرار الكنائس البيزنطية السورية؛ فكانت النتيجة أن وجدت كنيسة شرقية جانحة في الغرب. وقد أقيمت فوق البناء المثمن قبة مستديرة، وقسم البناء من الداخل عدة أقسام بطابقين من عمد مستديرة "وزينت بمصابيح من الذهب والفضة، وحظارٍ، وأبواب من البرونز المصمت، وأعمدة وبوارق جيء بها من روما ورافنا"(35)، وينقش فسيفسائي ذائع الصيت في القبة.

ص: 239

وكان شارلمان سخياً غاية السخاء على الكنيسة، ولكنه مع هذا جعل نفسه سيدها، واتخذ من عقائدها ورجالها أدوات لتعليم الناس وحكمهم. وكانت كثرة رسائله متعلقة بشئون الدين، فكان يقذف الفاسدين من موظفيه والقساوسة الدنيويين بعبارات مقتبسة من الكتاب المقدس؛ وإن ما في أقواله من القوة لينفي عنه مظنة أن تقواه كانت خدعة سياسية. فقد كان يبعث بالمال إلى المسيحيين المنكوبين في البلاد الأجنبية، وكان يصر في مفاوضاته مع الحكام المسلمين على أن يراعوا العدالة في معاملة رعاياهم المسيحيين (36). وكان للأساقفة شأن كبير في مجالسه، وجمعياته، ونظامه الإداري، ولكنه كان ينظر إليهم، رغم احترامه الشديد لهم، على أنهم عماله بأمر الله، ولم يكن يتردد في أن يصدر أوامره لهم، حتى في المسائل المتعلقة بالعقائد أو الأخلاق. ولقد ندد بعبارة الصور والتماثيل حين كان البابوات يدافعون عنها، وطلب إلى كل قس أن يبعث إليه بوصف مكتوب لطريقة التعميد في أبرشيته، ولم تكن توجيهاته للبابوات أقل من هداياه لهم، وقضى على ما يحدث في الأديرة من تمرد، ووضع نظاماً للرقابة الصارمة على أديرة النساء ليمنع "الدعارة، والسكر، والشره" بين الراهبات. سأل القساوسة في أمر وجهه لهم عام 811 عما يقصدون بقولهم إنهم ينبذون العالم على حين "أننا نرى" بعضهم يكدحون يوماً بعد يوم بجميع الوسائل، ليزيدوا أملاكهم، فتارة يتخذون التهديد بالنار الأبدية وسيلة يستخدمونها لأغراضهم الخاصة، وتارة يعدون الناس بالنعيم السرمدي لهذه الأغراض نفسها، وطوراً يسلبون السذج أموالهم باسم الله أو اسم أحد القديسين، ويلحقون بذلك أعظم الضرر بورثتهم الشرعيين". على أنه رغم هذا قد أبقى لرجال الدين محاكمهم الخاصة، وأمر بأن يؤدي إلى الكنيسة عشر غلة الأرض، وجعل لرجال الدين الإشراف على شئون الزواج، والوصايا، وأوصى هو نفسه بثلثي ضياعه لأسقفيات

ص: 240

مملكته (37)، ولكنه كان يطلب إلى الأساقفة بين الفينة والفينة أن يقدموا "هبات" قيمة لتساعد على الوفاء بنفقات الحكومة.

وقد أثمر هذا التعاون الوثيق بين الكنيسة والدولة فكرة من أجلّ الأفكار في تاريخ الحكم: ألا وهي استحالة دولة شارلمان إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي تستند إلى كل ما كان لروما الإمبراطورية والبابوية من هيبة، وقداسة، واستقرار. ولقد كان البابوات من زمن طويل يستنكرون خضوع أقاليمهم إلى بيزنطية التي لا تصد عنها غارة ولا تقر فيها أمناً، وكانوا يشاهدون خضوع البطارقة المتزايد إلى إمبراطور القسطنطينية ويخشون أن تضيع حريتهم هم أيضاً. ولسنا نعرف من الذي لاحت له فكرة تتويج شارلمان إمبراطوراً رومانياً على يد البابا أو منذا الذي وضع خطة هذا التتويج، وكل ما نعرفه أن ألكوين، وثيودولف وغيرهما من الملتفين حوله قد تناقشوا في إمكانه، ولعلهم هم الذين خطوا فيه الخطوة الأولى، أو لعل مستشاري البابا هم الذي فكروا في هذا الأمر. وقامت في سبيل تنفيذه صعاب شديدة: فقد كان إمبراطور الروم يلقب وقتئذ بلقب الإمبراطور الروماني، وكان أحق الناس من الوجهة التاريخية بذلك اللقب، ولم يكن للكنيسة حق معترف به في حمل الألقاب أو نقلها من شخص إلى آخر، ولربما كان منح اللقب لشخص منافس لبيزنطية سبباً في إشعال نار حرب عاجلة عوان بين المسيحيين في الشرق وإخوانهم في الغرب، حرب تترك أوربا المخربة غنيمة سهلة للفتوح الإسلامية. غير أن الأمر قد سيره بعض التيسير إن إيريني جلست على عرش أباطرة الروم (797)، فقد قال البعض وقتئذ إنه لم يعد هناك إمبراطور روماني، وإن الباب أصبح مفتوحاً لكل من يطالب باللقب، فإذا ما نفذت هذه الخطة الجريئة قام مرة أخرى إمبراطور روماني في الغرب، تقوى به المسيحية اللاتينية وتتوحد، فتستطيع مقاومة انشقاق بيزنطية وتهديد المسلمين ولعل ما في اللقب الإمبراطوري من رهبة وسحر يمكن

ص: 241

أوربا الهمجية من أن تعود أدراجها خلال القرون المظلمة وترث حضارة العالم القديم وثقافته وتنشر المسيحية في ربوعه.

وحدث في السادس والعشرين من ديسمبر عام 795 أن اختير ليو الثالث بابا؛ ولم يكن شعب روما يحبه، وكان يتهمه بعدة فعال خبيثة، ثم هاجمه العامة في الخامس والعشرين من إبريل عام 799، وأساءوا معاملته، وسجنوه في دير. لكنه هرب من سجنه، وفر إلى شارلمان في بادربورن وطلب إليه أن يحميه. وأحسن الملك استقباله، وأعاده إلى رومة مع حرس مسلح، وأمر البابا ومتهميه أن يمثلوا أمامه في تلك المدينة في العام المقبل. ودخل شارلمان العاصمة القديمة بموكب فخم في الرابع والعشرين من نوفمبر عام 800، واجتمعت في أول ديسمبر جمعية من الفرنجة الرومان، واتفقت على إسقاط التهم الموجهة إلى ليو إذا ما أقسم يميناً مغلظة على أنه لم يرتكبها. وأقسم ليو اليمين وتهيأت السبيل إلى إقامة احتفال فخم بعيد الميلاد. فلما أقبل ذلك اليوم ركع شارلمان للصلاة أمام مذبح القديس بطرس بالعباءة اليونانية القصيرة والصندلين، وهما اللباس الذي كان يرتديه كبراء الرومان، ثم أخرج ليو على حين غفلة تاجاً مطعماً بالجواهر ووضعه على رأس الملك. ولعل المصلين كانوا قد علموا من قبل أن يفعلوا ما توجبه عليهم الشعائر القديمة التي يقوم بها كبراء الشعب الروماني لتأييد هذا التتويج، فنادوا ثلاث مرات:"ليحي شارل الأفخم، الذي توجه الله إمبراطوراً عظيماً للرومان لينشر بينهم السلام! ". ومسح رأس الملك بالزيت المقدس، وحيا البابا شارلمان ونادى به إمبراطوراً وأغسطس، وتقدم إليهم بمراهم الولاء التي ظلت محتفظاً بها للإمبراطور الشرقي منذ عام 476.

وإذا جاز لنا أن نصدق اجنهارد، فإن شارلمان قد قال له إنه ما كان ليدخل الكنيسة لو أنه عرف أن ليو ينوي تتويجه إمبراطوراً. ولربما كان قد عرف الخطة بوجه عام، ولكنه لم يرض عن السرعة التي تمت بها والظروف المحيطة

ص: 242

بها وقت إتمامها؛ ولعله لم يكن يسره أن يتلقى التاج من البابا، فيفتح بقبوله منه باباً للنزاع الذي دام قروناً طوالاً بين البابا والإمبراطور، وأيهما أعظم مكانة وأقوى سلطاناً: المعطي: أو آخذ العطية؛ ولعله فكر أيضاً فيما سوف يجره ذلك من نزاع مع بيزنطية في المستقبل. ثم أرسل شارلمان عدة رسائل وبعوث إلى القسطنطينية يريد بها أن يأسو الجرح الذي أحدثته هذه الفعلة، وظل زمناً طويلاً لا ينتفع بلقبه الجديد؛ حتى كان عام 802 فعرض الزواج على إيريني ليكون ذلك وسيلة يجعل بها لقبيهما المشكوك فيهما شرعيين (39)، ولكن سقوط إيريني عن عرشهما أفسد هذه الخطة اللطيفة. وأراد بعد ذلك أن يقلل من خطر هجوم بيزنطية عليه فوضع خطة لعقد اتفاق ودي مع هارون الرشيد، وقد أيد هارون ما نشأ بينهما من حسن التفاهم بأن أرسل إليه عدداً من الفيلة ومفاتيح الأماكن المقدسة في بيت المقدس. وردّ الإمبراطور الشرقي على ذلك بأن شجع أمير قرطبة على عدم الولاء لبغداد، وانتهى الأمر في عام 812 حين اعترف إمبراطور الروم بشارلمان إمبراطوراً نظير اعترافه بأن البندقية وإيطاليا الجنوبية من أملاك بيزنطية.

وكان لتتويج شارلمان نتائج دامت ألف عام، فقد قوى البابوية والأساقفة إذ جعل السلطة المدنية مستمدة من الهبة الكنسية، وأتاحت حوادث عام 800 لجريجوري السابع وإنوسنت الثالث أن يقيما على أساسها كنيسة أقوى من الكنيسة السابقة، وقوت شارلمان على البارونات الغضاب وغيرهم لأنها جعلته ولياً لله في أرضه، وأيدت أعظم التأييد نظرية حق الملوك الإلهي في الحكم، ووسعت الهوة بين الكنيسة اليونانية والكنيسة اللاتينية، لأن أولاهما لم تكن ترغب في الخضوع إلى كنيسة رومانية متحالفة مع إمبراطورية منافسة لبيزنطية. ولقد كان استمرار شارلمان في اتخاذ آخن لا روما عاصمة له شاهداً على انتقال السلطة السياسية من بلاد البحر المتوسط إلى أوربا الشمالية، ومن الشعوب اللاتينية إلى التيوتون. وأهم من هذا كله أن تتويج شارلمان أقام الإمبراطورية

ص: 243

الرومانية المقدسة عملياً وإن لم يقمها من الوجهة النظرية. وكان شارلمان ومستشاروه يرون أن سلطته الجديدة إحياء للسلطة الإمبراطورية القديمة، على أن الصبغة الجديدة الخاصة بهذا النظام لم يعترف بها إلا في عهد أتو Otto الأول، كما أنها لم تصبح "مقدسة" إلا حين ضم فردريك باربروسا Frederik Barbarossa لفظ مقدس sacrum إلى ألقابه في عام 1155. وجملة القول أن الإمبراطورية الرومانية المقدسة كانت-على الرغم من تهديدها للعقول والمواطنين-فكرة نبيلة، وحلماً من أحلام الأمن والسلام، وعودة للنظام والحضارة إلى عالم أنقذ من براثن الهمجية، والعنف، والجهل.

وأصبحت المراسيم الإمبراطورية تكتنف الإمبراطور في المهام الرسمية، فكان عليه أن يلبس أثواباً مزركشة، ذات مشبك ذهبي، وحذاءين مرصعين بالجواهر وتاجاً من الذهب والجوهر، وكان على زائريه أن يسجدوا أمامه لقبلوا قدمه أو ركبته، هذا ما أخذه شارلمان عن بيزنطية وما أخذته بيزنطية عن طيسفون. غير أن اجنهارد يؤكد لنا أن ثيابه-إذا استثنينا ما ذكرناه عنها آنفاً-لم تكن تختلف إلا قليلاً عن ثياب الفرنجة العادية: كانت تتألف من قميص من التيل، وسروال قصير لا شيء تحته، ومن فوق القميص والسروال القصير قناء من الصوف ربما كانت له أهداب من الحرير، وجورب طويل مربوط بشريطين يغطي ساقيه وحذاءين من الجلد في قدميه، وكان يضيف إليها في الشتاء معطفاً ضيقاً من جلود ثعلب الماء

(1)

أو الفنك

(2)

، وكان يحتفظ بسيف إلى جانبه لا يفارقه أبداً. وكان طول قامته ست أقدام وأربع بوصات، وكانت بنيته تناسب مع هذا الطول. وكان أشقر الشعر، شفذ العينين

(3)

، أشم الأنف،

(1)

أو سمور الماء وهو حيوان يعيش في البر والبحر معاً وله من أصابع رجليه جلدة تعاونه على السباحة (عن معجم الدكتور شرف).

(2)

أو ثعلب الصحراء (عن معجم الدكتور شرف).

(3)

يقال رجل شفذ إذا كان شديد البصر سريع الإصابة بالعين. (عن الفراء). المترجم

ص: 244

له شاربان وليست له لحية "جليلاً مهيب الطلعة على الدوام"(40). وكان معتدلاً في طعامه وشرابه، يمقت السكر أشد المقت، جيد الصحة على الدوام مهما تعرض لتقلبات الجو ومهما قاسي من الصعاب. وكثيراً ما كان يخرج للصيد أو يمارس ضروب الرياضة العنيفة على ظهور الخيل، وكان سبّاحاً ماهراً، يحب الاستحمام في عيون آخن الدفيئة. وقلّما كان يدعو الناس إلى الولائم، لأنه كان يفضل الاستماع إلى الموسيقى أو قراءة كتاب في أثناء الطعام. وكان يعرف قيمة الوقت كما يعرفها كل عظيم. وكان يستقبل زائريه ويستمع إلى قضاياهم في الصباح وهو يرتدي ثيابه أو يلبس حذائيه.

وكان من وراء مهابته وجلاله عاطفة قوية وهمة عالية، ولكنه كان يسخّر عاطفته وهمته لتحقيق أغراضه ويوجههما بذكائه وثاقب بصره. ولم تستنفد حروبه التي تربى على نصف المائة قوته وحيويته. وكان إلى هذا كله شديد العناية بالعلوم والقوانين، والآداب، وعلوم الدين لا تفتر حماسته لها على مر السنين، وكان يسوئه أن يبقى جزء من الأرض لم يستول عليه أو أي فرع من فروع العلم لم يضرب فيه بسهم. وكان شريف النفس من بعض الوجوه، وكان يزدري الخرافات، ويحرّم أعمال المتنبئين أو العرّافين، ولكنه صدّق كثيراً من الأعاجيب الأسطورية، وبالغ في مقدرة الشرائع على إصلاح أخلاق الناس وعقولهم. ولقد كان لهذه السذاجة النفسية بعض المحاسن: لقد كان في تفكيره وحديثه صراحة ونُبل قلَّما نراهما في رجال الحكم.

وكان يسعه أن يكون قاسياً إذا تطلبت سياسة الدولة القسوة، وأشد ما كانت قسوته فيما بذله من جهود لنشر الدين المسيحي، ولكنه مع هذا كان عظيم الرأفة، كثير الإحسان، وفياً مخلصاً لأصدقائه، ولقد بكى بالدمع عند وفاة أولاده، وبنته، والبابا هدريان. ويرسم لنا ثيودولف في قصيدة له عنوانها "حكم شارل" صورة لطيفة للإمبراطور في بيته، فيقول إنه إذا قدم من أعماله

ص: 245

أحاط به أبناؤه، فيخلع عنه ابنه شارل عباءته، ويأخذ ابنه نويس سيفه، وتعانقه بناته الست، ويأتين له بالخبز، والخمر، والتفاح، والأزهار، ويدخل الأسقف ليبارك طعام الملك، ويقترب منه ألكوين ليبحث معه ما لديه من الرسائل، ويهرول إجنهارد الضئيل الجسم هنا وهناك كأنه نملة، ويأتيه بكتب ضخمة (41). وقد بلغ من حبه لبناته أن أقنعهن بعدم الزواج، وقال إنه لا يطيق فراقهن، ومن أجل هذا أخذن يواسين أنفسهن بالارتماء إلى أحضان العشاق وجئن بعدة أبناء غير شرعيين (42). وقد قابل شارلمان هذه الأعمال منهن بنفس سمحة، لأنه هو نفسه قد جرى على سنة أسلافه، فاتخذ له أربع أزواج واحدة بعد الأخرى، وأربع عشيقات أو حظايا. ذلك أن حيويته الموفورة جعلته شديد الإحساس بمفاتن النساء، وكانت نساؤه يؤثرن أن يكون للواحدة منهن نصيب منه على أن يكون لها رجل آخر بمفردها. وقد ولدت له نساؤه نحو ثمانية عشر من الأبناء والبنات منهم أربعة شرعيون (43). وغض من في حاشيته ومن في روما من رجال الدين أبصارهم عن تحلل رجل مسيحي مثله من قيود الأخلاق المسيحية.

وكان شارلمان وقتئذ على رأس دولة أعظم من الإمبراطورية البيزنطية لا يعلو عليها في عالم الرجل الأبيض إلا دولة الخلفاء العباسيين. ولكن كل توسع في حدود الإمبراطوريات أو العلوم يخلق مشاكل جديدة. فلقد حاولت أوربا الغربية أن تحمي نفسها من الألمان بإدماجهم في حضارتها؛ غير أن ألمانيا كان عليها في هذا الوقت أن تحمي نفسها من أهل الشمال ومن الصقالبة؛ وكان الملاحون من أهل الشمال قد أنشئوا لهم مملكة في جتلندة Jutland قبل عام 800 م وأخذوا يغيرون على سواحل فريزيا Frisia. وأسرع إليهم شارل من روما، وأنشأ الأساطيل والقلاع عند الشواطئ والأنهار، وأقام حاميات في الأماكن المعرضة للأخطار، ولما أغار ملك جتلندة على فريزيا عام 810 صُدَّ عنها، ولكن شارلمان هاله أن يشهد من قصره في نربونة بعد قليل من ذلك الوقت، إذا جاز لنا أن

ص: 246

نصدق أخبار راهب سانت جول، سفن القراصنة الدنمرقيين في خليج ليون.

ولعله قد تنبأ، كما تنبأ دقلديانوس من قبل، بأن إمبراطوريته الواسعة في حاجة إلى الدفاع السريع عنها في عدة مواضع في وقت واحد، فقسمها في عام 806 بين أولاده الثلاثة-بيبين، ولويس، وشارل. ولكن بيبن توفي عام 810، وشارل في عام 811، ولم يبق من هؤلاء الأبناء إلا لويس، وكان منهمكاً في العبادة انهماكا بدا معه أنه غير خليق بأن يحكم عالماً مليئاً بالاضطراب والغدر. غير أن لويس رغم هذا قد رفع باحتفال مهيب في عام 813 من ملك إلى إمبراطور ونطق المليك الشيخ قائلاً:"حمداً لله يا إلهي إذ أنعمت عليَّ بأن أرى بعين ولدي يجلس على عرشي"(44).

وبعد أربع سنين من ذلك الوقت أصيب الملك الشيخ وهو يقضي الشتاء في آخن بحمى شديدة نتج عنها التهاب البلورة، وحاول أن يداوي نفسه بالاقتصار على السوائل، ولكنه توفي بعد سبعة أيام من بداية المرض بعد أن حكم سبعاً وأربعين سنة وعاش اثنتين وسبعين (814)، ودفن تحت قبة كتدرائية آخن، مرتدياً أثوابه الإمبراطورية. وما لبث العالم كله أن أسماه كارولس ماجنس Carolus Magnus أو كارل در جروس Karl der Grosse أو شارلمان Charlemagne (أي شارل العظيم)، ولما حل عام 1165 ومحا الزمان جميع ذكريات عشيقاته ضمته الكنيسة التي أحسن إليها الإحسان كله في زمرة الصالحين المنعمين.

‌3 - اضمحلال الكارولنجيين

كانت النهضة الكارولنجية فترة من فترات البطولة المتعددة في العصور المظلمة، ولولا ما اتصف به خلفاء شارلمان من عجز وما شجر بينهم من نزاع لكان من المستطاع أن تقضي هذه الفترات قبل مجيء أبلار بثلاثة قرون على ظلمات تلك

ص: 247

العصور، وعلى فوضى بارونات الإقطاع. وعلى النزاع الذي قام بين الكنيسة والدولة ومزقها شر ممزق، وعلى غارات النورمان، والمجر، والمسلمين التي أدى إليها هذا النزاع الأخرق. لكن رجلاً بمفرده، وحياة بمفردها لم يكفيا لإقامة حضارة جديدة. يضاف إلى هذا أن تلك النهضة القصيرة الأجل كانت نهضة كنسية ضيقة أشد الضيق، فلم يكن للمواطن العادي فيها نصيب، وما أقل من كان يعني بها من النبلاء، وما أقل من كان منهم يشغل نفسه بتعلم القراءة. وما من شك في أن شارل نفسه ملوم إلى حد ما على انهيار دولته. فلقد أفاء على رجال الدين من الثراء ما جعل سلطان الأساقفة، بعد أن رفعت يده القوية عنهم، يرجح سلطان الإمبراطور؛ ولقد اضطرته أسباب حربية وإدارية أن يمنح المحاكم والبارونات في الأقاليم قدراً من الاستقلال شديد الخطورة. ثم إنه جعل مالية الحكومة الإمبراطورية ذات الأعباء الجسام تعتمد على ولاء هؤلاء الأشراف الغلاظ واستقامتهم، وعلى ما تدره أراضيه ومناجمه من إيراد غير كبير، ولم يكن في وسعه أن يعمل ما عمله أباطرة الروم فينشئ بيروقراطية من الموظفين المدنيين مسئولين أمام السلطة المركزية دون غيرها، وقادرين على النهوض بأعباء الحكم مهما تكن شخصية الإمبراطور وأتباعه، فلم يكد يمضي على وفاته جيل واحد حتى أقبل رسل الإمبراطور الذين بسطوا سلطانه في الولايات أو تجاهل الولاة وجودهم، وألقى الأعيان المحليون عن كاهلهم سلطان الحكومة المركزية. وملاك القول أن حكم شارلمان كان عملاً جليلاً من أعمال العباقرة يمثل الرقي السياسي في عصر وفي رقعة من الأرض يعمهما الاضمحلال الاقتصادي.

وإن الألقاب التي أطلقها المعاصرون لخلفائه عليهم لتكفي وحدها لأن تقص علينا قصتهم: لويس التقي Louis the Pious، وشارل الأصلع Charles the Bald، ولويس المتلعثم Louis the Stammerer وشارل البدين

ص: 248

Charles the Fat، وشارل الساذج Charles the Simple. فأما لويس "التقي"

(1)

(814 - 840) فكان كأبيه طويل القامة، بهي الطلعة؛ وكان متواضعاً، رقيق الحاشية، خيّراً كريماً، مفرطاً في اللين إفراط يوليوس قيصر. وكان قد تربى على أيدي القساوسة فجعلته هذه التربية شديد الاهتمام بالمبادئ الأخلاقية التي كان يزاولها شارلمان باعتدال. من ذلك أنه لم تكن له إلا زوج واحدة ولم يكن له قط حظايا، وأنه طرد من حاشيته عشيقات أبيه وعشاق أخواته، ولما احتجت أخواته، ولما احتجت أخواته على عمله هذا حبسهن في أديرة الراهبات. وأرغم القساوسة على أن يعملوا بأقوالهم، وأمر الرهبان أن يحيوا الحياة التي توجبها عليها قواعد البنكتين، وحاول أن يقضي على المظالم والاستغلال أينما وجدا، وأن يصلح ما كان فاسداً من قبل. وقد أعجب الناس به لانحيازه إلى الضعفاء على الأقوياء في جميع الأحوال.

وأحس لويس أن عادت الفرنجة توجب عليهم تقسيم دولته فقسمها إلى ممالك يحكمها أبناؤه-بيبن، ولوثير Lothaire، ولويس "الألماني"(وسنسميه لدفج فيما بعد). وقد رزق لويس من يوديت Juidith زوجته الثانية ابناً رابعاً يعرف في التاريخ باسم شارل الأصلع؛ وكان لويس يحبه حباً لا يكاد يقل عن افتتان الأجداد بأحفادهم، ويريد أن يعطيه قسطاً من إمبراطوريته بعد أن يلغي التقسيم الذي عمله في عام 817، لكن أولاده الثلاثة الكبار عارضوا في هذا وشنوا على أبيهم حرباً داخية دامت ثمانية أعوام. وأيدت كثرة النبلاء ورجال الدين هذه الفتنة، ثم خرجت عليه القلة التي ظلت موالية له عندما تأزمت الأحوال في رُثفلد Rothfeld (القريبة من كلمار Colmar) والتي عرفت فيما بعد باسم لوجنفلد L (genfeld أي ميدان الأكاذيب. فلما رأى ذلك لويس أمر من بقي من أنصاره أن يتركوه وشأنه وأن يهتموا بحماية أنفسهم، ثم استسلم لأبنائه

(1)

وكلمة Pious الإنجليزية (ومثلها تقي العربية) ترجمة خاطئة أيدها طول الزمن لكلمة Pius اللاتينية التي تعني موقر، أمين رحيم، لطيف، وكثيراً من المعاني الأخرى.

ص: 249

(833)

، فلما تم لهم ذلك سجنوا يوديث وجزوا شعرها، وأودعوا شارل الصغير في دير، وأمروا أباهم أن ينزل عن العرش وأن يكفر علناً عما فعل، وجيء بلويس إلى كنيسة بسواسون يحيط به ثلاثون أسقفاً، وأرغم في حضرة لوثير ابنه وخلفه على أن يخلع ملابسه حتى وسطه، وأن يسجد على قطعة من نسيج الشعر ويقرأ جهرة اعترافاً بجريمته. ثم لبس مسوح الندم الرمادية اللون، وقضى سنة في أحد الأديرة. وحكمت فرنسا من تلك اللحظة أسقفية موحدة قامت بين الأسرة الكارلنجية المتفككة.

واشمأز الشعب من سوء معاملة لوثير لأبيه لويس؛ واستجاب كثيرون من النبلاء وبعض رجال الدين لنداء يوديث حين طالبت بإلغاء قرار الخلع، ودب النزاع بين الأخوة الثلاثة، وأطلق بيبين ولدفج أباهما، وأجلساه على عرشه، وأعادا يوديث وشارل إلى أحضانه (834). ولم يثأر لويس لنفسه، بل عفا عن كل من أساءوا إليه. ولما مات بيبين (838) قسمت الدولة تقسيماً جديداً لم يرض عنه لدفج، وهجم على سكسونيا، ونزل الإمبراطور الشيخ مرة أخرى إلى ميدان القتال، وصد المهاجمين، ولكنه مرض من تعرضه لتقلبات الجو وهو عائد من الميدان، وتوفي بالقرب من إنجلهايم Ingelheim (840) . وكان من آخر الألفاظ التي نطق بها رسالة يصفح بها لدفج، ويدعو لوثير، وقد أصبح إمبراطوراً، أن يحمي يوديث وشارل.

وحاول لوثير أن ينزل شارل ولدفج منزلة الأتباع، ولكنهما هزماه عند فنتناي Fonteney (841) ، وأقسما عند استراسبرج يمين الولاء المتبادلة المشهرة بأنها أقدم وثيقة كتبت باللغة الفرنسية. لكنهما وقعا مع لوثير في عام 843 معاهدة فردون، وقسموا فيما بينهم إمبراطورية شارلمان أقساماً ثلاثة تنطبق بوجه التقريب على إيطاليا، وألمانيا، وفرنسا الحالية. فاختص لدفج بالأراضي المحصورة بين نهري الرين والإلب، واختص شارل بالجزء الأكبر من فرنسا وبولايات

ص: 250

الحدود الأسبانية، وأعطى لوثير إيطاليا والأراضي المحصورة بين الرين شرقاً، والشلد Scheld، والساءون Saone والرون غرباً. وسميت هذه الأراضي الغير متجانسة، والممتدة من هواندة إلى بروفانس باسم لوثير-فكانت أرض بوثير، أو لوئرنجيا Lutheringia. أو لوثرنجار Lutharingar، أو لورين Lorraine. ولم تكن ذات وحدة جنسية أو لغوية، فكان لا بد أن تصبح ميداناً للقتال بين ألمانيا وفرنسا. وكثيراً ما استبدلت سيداً يسيد فيما تقلب عليها من نصر وهزيمة أريقت فيهما الدماء أنهاراً.

وفي خلال هذه الحروب الداخلية الكثيرة الأكلاف، والتي أضعفت الحكومة، وأنقصت السكان، والثروة، والروح المعنوية في أوربا الغربية، غزت القبائل الإسكنديناوية في سعيها إلى التوسع وبسط السلطان بلاد فرنسا فاكتسحتها بموجة همجية واصلت وأنمت الخراب والذعر اللذين جاءا في أعقاب الهجرات الألمانية قبل ذلك الوقت بثلاثة قرون. فبينما كان أهل السويد يتسربون إلى الروسيا والنرويجيون يضعون أقدامهم في أيرلندة، والدنمرقيون يفتحون إنجلترا، كان خليط من أهل إسكنديناوة، في وسعنا أن نسميهم الشماليين أو أهل الشمال، يغيرون على مدائن فرنسا القائمة على شواطئ البحار أو ضفاف الأنهار. واستحالت هذه الغارات بعد موت لويس التقي حملات قوية تقوم بها أساطيل مؤلفة من أكثر من مائة سفينة، يسيرها ملاحون محاربون. وقاست فرنسا في القرنين التاسع والعاشر سبعاً وأربعين من هذه الهجمات الشمالية؛ ونهب المغيرون في عام 840 مدينة رون Rouen، وبدءوا مائة عام من الهجمات على نورماندي، وفي عام 843 دخلوا مدينة نانت Nantes وذبحوا أسقفها وهو قائم للصلاة أمام مذبحه، وفي عام 844 صعدوا في نهر الجارون Garonne إلى طلوشة Tculcuse. وفي عام 845 صعدوا في نهر السين إلى باريس، ولكنهم تركوا المدينة وشأنها بعد أن أخذوا جزية مقدارها سبعة آلاف رطل من الفضة.

ص: 251

وبينا كان المسلمون يهاجمون روما استولى أهل الشمال على فريزيا في عام 846 وأحرقوا دوردرخت Dordreeht، ونهبوا ليموج Limoges. ثم حاصروا بوردو Berdeaux في عام 847، ولكنهم ردوا عنها وأعادوا الكرة عليها في عام 848، واستولوا عليها في هذه المرة، ونهبوها، وقتلوا أهلها، وأحرقوها عن آخرها. وفي العالم الذي تلاه وجهوا مثل هذه الضربات إلى بوفيه Beauvais وبايو Bayeux، وسانت لو St، Lu، ومو Meaux، وإيفرو Evreux، وتور Tours وفي وسعنا أن نصور ما حل بهذه البلاد من رعب إذا قلنا أن تور نهبت في أعوام 853، و 856، و 862، 872، و 886، و 903، 919 (45)، وإن باريس نهبت في عامي 856، و 861، وأحرقت في عام 865. وجهز الأساقفة في أورليان وشارتر Chartres جيشين صدوا بهما المغيرين (855)؛ ولكن القراصنة الدنمرقيين خربوا أورليان في عام 856. وفي عام 859 اخترق أسطول شمال مضيق جبل طارق ودخل البحر المتوسط، ونهب المدن الواقعة على ضفاف الرون من مصبه حتى مدينة فالنس Valence شمالاً، ثم عبر خليج جنوا، ونهب بيزا وغيرها من المدن الإيطالية. ولما قاومتهم قلاع النبلاء الحصينة في أماكن متفرقة في طريقهم نهبوا أو أتلفوا كنوز الكنائس والأديرة غير المحمية، وكثيراً ما أحرقوها بما فيها من مكتبات، ولم ينج القساوسة والرهبان من القتل في بعض الأحيان. وكان الناس في تلك الأيام الحالكة يدعون ربهم في صلواتهم قائلين:"اللهم أنقذنا من شر أهل الشمال"(46)! وكأنما كان المسلمون على موعد مع الشماليين فاستولوا على قورسقة وسردينية في عام 810، ونهبوا ساحل الرفييرا الفرنسي في عام 820، وخربوا أرل Arles في 842، واستولوا على ساحل فرنسا الواقع على البحر المتوسط وبقى في أيديهم حتى عام 972.

ترى ماذا كان يفعل الملوك والأشراف خلال هذه الأعوام الخمسين

ص: 252

الملية بالتدمير والتخريب؟ فأما الأشراف فقد كان لديهم من المشاغل ما يكفيهم، ولم يكونوا يرغبون في أن يخفوا لمساعدة أقاليمهم، ولم يستجيبوا إلا استجابات ضعيفة لما وجه إليهم من نداء للعمل الإجماعي. وأما الملوك فكانوا في شغل شاغل بحروبهم في سبيل التملك أو الاستيلاء على تاج الإمبراطورية، وكانوا أحياناً يشجعون الساحليين في غاراتهم على سواحل منافسيهم. وحدث في عام 859 أن اتهم هنكمار كبير أساقفة ريمس شارل الأصلع علناً بالإهمال في الدفاع عن فرنسا. وخلف شارل فيما بين 877 و 888 ملوك أكثر منه ضعفاً-لويس الثالث، وكارلومان، وشارل البدين. وتعاونت أحداث الزمان والمنايا فتوحدت مملكة شارلمان مرة أخرى تحت حكم شارل البدين، وأتيحت للإمبراطورية المحتضرة فرصة أخرى للدفاع عن حياتها. ولكن أهل الشمال استولوا على نجمين Nmegen وأحرقوها في عام 880، واتخذوا من كورتراي Courtrai وغنت قلاعاً لهم حصينة، وفي عام 881 أحرقوا لياج Li (ge، وكولوني، وبن Bonn وبروم Prum، وآخن؛ وفي 882 استولوا على تريير Trier، وقتلوا كبير أساقفتها الذي قاد المدافعين عنها؛ وفي السنة نفسها استولوا على ريمس، وأرغموا هنكمار على أن يقاتل ويموت. وفي عام 883 استولوا على أمين Amiens، ولكنهم انسحبوا منها بعد أن أخذوا أثنى عشر ألف رطل من الفضة من كارلومان. وفي عام 885 استولوا على رون، وساروا في النهر صعداً إلى باريس في سبعمائة سفينة عليها ثلاثون ألف رجل. وقاد حاكم المدينة الكونت أودو Odo أو أود Eudes، وأسقفها جزلان Gozlin المدافعين عنها، وقاوموا المغيرين مقاومة باسلة. وظلت باريس مضروباً عليها الحصار ثلاثة عشر شهراً هاجم المدافعون عنها المحاصرين أثنى عشر مرة؛ وانتهى الأمر بأن أدى شارل البدين الشماليين 7000 رطل من الفضة بدل أن يخف لإنقاذ المدينة، وأذن لهم فوق ذلك أن يسيروا في نهر السين صعداً ويقضوا الشتاء في برغندية التي نهبوها نهباً

ص: 253

ترتضيه نفوسهم. ثم خلع شارل وتوفي عام 888، وأختير أودو ملكاً على فرنسا، وصارت باريس بعد ثبت قيمتها من الوجهة الحربية الفنية مقر الحكومة.

وحمى شارل الساذج الذي خلف أودو على العرش (895 - 923) إقليم السين والساءون من المغيرين، ولكنه لم يرفع يده ضد غارات الشماليين على بقية فرنسا، ثم لم يكتف بهذا بل أسلم إلى رولف Rolf أو رلو Rollo أحد زعماء النورمان في عام 911 أقاليم رون، وليزيو Lisienx، وإفرو Evreux. وكان النورمان قد استولوا عليها من قبل. ووافق النورمان على أن يؤدوا عنها للملك ما يؤديه أمراء الإقطاع عن أملاكهم، ولكنهم كانوا يسخرون منه وهم يقومون بمراسم الولاء التقليدية. وارتضى ليو أن يُعَمَّد، وحذا رجاله حذوه، ثم استقروا على مهل وأصبحوا زراعاً ومتحضرين. وهكذا بدأت نورمنديا بأن كانت ولاية في فرنسا فتحها أهل الشمال.

ولقد وجد الملك الساذج حلاً لمشكلة باريس إن لم يكن لغيرها من المشاكل، ذلك أن النورمان أنفسهم سيصدون بعد ذلك الوقت من يحاولون دخول السين من المغيرين. أما في غير هذا الجزء من فرنسا فلم تنقطع غارات الشماليين، فنهبت تشارتر في عام 911، وأنجير Angers في عام 919، ونهبت أكتين Aquitaine وأوفرني في عام 923، كما نهبت آرتوا وإقليم بوفيه في عام 924. وفي هذا الوقت نفسه تقريباً دخل المجر برغندية في عام 917 بعد أن خربوا جنوبي ألمانيا، واجتازوا الحدود الفرنسية، ثم اجتازوها راجعين دون أن يلقوا مقاومة، ونهبوا الأديرة القريبة من ريمس وسان Sens وأحرقوها (937)، واخترقوا كأرجال الجراد الفتاك أكتين (951) وأحرقوا ضواحي كورتراي، وليون، وريمس (954)، ونهبوا برغندية على مهل. وأوشك صرح النظام الاجتماعي في فرنسا أن ينهار تحت هذه الضربات المتكررة التي كالها له الماليون والهون. وفي ذلك يقول أحد المجاميع الدينية المقدسة في عام 909.

ص: 254

لقد أقفرت المدن من السكان، وخربت الأديرة وحرقت، وأضحت البلاد في عزلة

وكما كان الناس الأولون يعيشون بغير قانون

فكذلك يفعل الآن كل إنسان ما يبدو حسناً في نظره غير آبه بالشرائع البشرية والدينية

فالأقوياء يظلمون الضعفاء، والعالم مليء بالعنف والقسوة على الفقراء، وأملاك الكنائس تنهب

ويلتهم الناس بعضهم بعضاً كما يفعل السمك في البحر (47).

وكان آخر الملوك الكارولنجيين- لويس الرابع، ولوثير الرابع، ولويس الخامس ملوكاً حسني النية، ولكنهم لم يكن لهم من القوة ما لا بد منه قامة نظام دائم من ذلك الخراب الشامل. ولما مات لويس الخامس ولم يكن له أبناء (987)، بحث أعيان فرنسا ورجال الدين فيها عن زعيم لهم من أسرة أخرى غير الكارولنجيين، حتى وجدوا هذا الزعيم المنشود من نسل مركيز من نوستريا Neustria يحمل ذلك الاسم العظيم الدلالة وهو روبرت القوي Robert the Strong (المتوفي عام 966). وكان أودو منقذ باريس ابن هذا المركيز؛ وكان هيو الأكبر Hugh the Great أحد أجداده (المتوفي 956) قد حصل بالشراء أو الحرب على الإقليم المحصور بين نورمنديا، والسين، واللوار كله تقريباً وكان فيه أميراً إقطاعياً، واجتمع له فيه من الثروة والسلطان ما لم يجتمع للملوك. وورث هيو كابت Hugh Capet ابن هيو هذا جميع تلك الثروة وذاك السلطان؛ وورث، كما يلوح، العزيمة التي كسبتهما. وعرض أدلبرو Adlabero كبير الأساقفة، بإرشاد العالم الداهية جربرت، أن يكون هيو كابت ملكاً على فرنسا، فاختير لهذا المنصب بالإجماع (987) وبدأت بذلك الأسرة الكابتية التي حكمت ابناً أو أباً أو حكم فروعها مملكة فرنسا إلى عهد الثورة الكبرى.

ص: 255

‌4 - الآداب والفنون

814 -

1066

لعلنا قد غالينا في وصف ما أحدثته غارات الشماليين والمجر من أضرار، ذلك أن حشدها كلها في حيز قليل توخياً للإيجاز يجعل صورة الحياة في تلك، الأوقات قاتمة فوق ما تستحق، مع أنها لم تكن تخلو بلا ريب من فترات ساد فيها الأمن والسلام؛ فقد ظلت الأديرة تشاد خلال هذا القرن التاسع الرهيب، وكثيراً ما كانت مراكز للصناعة الناشطة، وازدادت مدينة رون قوة بفضل اتجارها مع بريطانيا رغم ما أصيبت به من غارات وحرائق؛ وسيطرت كولوني ومينز على التجارة المارة بنهر الرين، ونشأت في فلاندرة مراكز غنية صناعية وتجارية بمدن غنت، وإيبرس Ypres، وليل Lile، ودويه، وآراس Arass، وتورناي Tournai، ودينان Dinant، وكمبريه، ولييج وفلنسين.

وأصيبت مكتبات الأديرة بخسائر فادحة في كنوزها القديمة من جرّاء هذه الغارات، وما من شك في أن كثيراً من الكنائس التي أنشئت فيها مدارس عملاً بقرار شارلمان قد دمرت، وإن كانت مكاتب قد بقيت في الأديرة أو الكنائس القائمة في فلدا، ولورسن Lorson، وريشنو Reichenau، ومينز، وتريير وكولوني، ولييج، ولأون Laon، وريمس، وكوربي Corbie، وفليري Fleury، وسانت دينس، وتور، وببيو Bobbio، ومونتي كسينو، وسانت جول

واشتهر دير البندكتيين في سانت جول بمن كان فيه من الكتّاب، كما اشتهر بمدرسته وكتبها، وفيه كتب نتكر بلبولوس Notker Balbulus- الألكن- (840 - 912) ترانيم بديعة ممتازة وسجل راهب سانت جول. وفيه ترجم نتكر لبيئو Notker Labeo- الغليظ الشفة- (950 - 1022) كتب بؤيثيوس، وأرسطو وغيرها من الكتب القديمة

ص: 256

إلى اللغة الألمانية؛ وأعانت هذه التراجم- وهي من أول ما كتب بالنتر الألماني- على تثبيت تراكيب اللغة الجديدة وقواعدها.

وحتى في فرنسا الجريحة كانت مدارس الأديرة تضيء حلكة هذه العصور المظلمة. فقد افتتح ريمي الأوكسيري Remy of Auxerre مدرسة عامة في باريس عام 900، وأنشئت في القرن العاشر مدارس أخرى في أوكسير وكوربي، وريمس ولييج. وأسس الأسقف فلبير Fulbert (960 - 1028) بمدينة تشارتر حوالي 1006 مدرسة أصبحت أشهر مدارس فرنسا كلها قبل أيام أبلار، ففيها وضع سقراط المبجل-كما كان تلاميذه يسمونه-قواعد تدريس العلوم، والطب، والآداب القديمة، بالإضافة إلى علوم الدين، والكتاب المقدس، والطقوس الدينية. وكان فلبير هذا رجلاً كريم الطبع، عظيم الإخلاص صبوراً صبر أولى العزم من الرسل، محسناً متصدقاً إلى أقصى حد. ولقد تخرج في مدرسته-قبل ختام القرن الحادي عشر-علماء أمثال جون السلزبوري John of Salisbury، ووليم الكنشي William of Conches، وبرنجار التوري Berengar of Tours وجلبرت ده لابريه Gilbert de la Porr (a. وفي هذه الأثناء وصلت مدرسة القصر التي أنشأها شارلمان أوج مجدها في كمبييني Compi (gne تارة وفي لأون تارة أخرى بفضل ما حباها به شارل الأصلع من عون وتشجيع.

وقد استدعى شارل إلى مدرسة القصر عام 843 علماء أيرلنديين وإنجليز في مختلف العلوم، كان من بينهم عالم من أعظم العقول المبتكرة وأعظمها جرأة في العصور الوسطى، رجل يبعث وجوده في ذلك الوقت الشك في صواب استبقاء اسم "العصور المظلمة" حتى على القرن التاسع نفسه، بَلْه غيره من القرون.

ص: 257

ويكشف اسمه عن أصله كشفاً مضاعفاً، فهو جوهان اسكوتس إريوجينا Johannes Scotus Eriugina أي جون الأيرلندي المولود في إرين Erin. وسنسميه نحن إرجينا Erigena. وكفى. ويبدو أنه لم يكن من رجال الدين، ولكنه كان رجلاً متبحراً في العلوم، يجيد اللغة اليونانية، مغرماً بأفلاطون والآداب القديمة، حلو الفكاهة إلى حد ما. وتحدثنا إحدى القصص-التي بدو من سياقها كله أنها من مخترعات الأدباء-أن شارل الأصلع، كان يطعم معه في يوم من الأيام فسأله: ما الفارق بين الأبله والأيرلندي quid distat inter sottum et Scottum؟ فأجابه جون-كما تروي القصة-: "المنضدة"(48). ولكن شارل رغم هذا كان يحبه حباً جماً، وكان يشهد محاضراته، وأكبر الظن أنه كان يستظرف إلحاده. ويفسر جون العشاء الرباني في كتابه عن القربان المقدس بأنه عمل رمزي، ويتضمن هذا ارتيابه في وجود المسيح بحق في الخبز والخمر المقدسين. ولما أخذ الراهب الألماني جتسشولك Gottdchalk ينادي بمبدأ الجبرية المطلقة وينكر تبعاً لذلك مبدأ حرية الإرادة في الإنسان. طلب هنكمار كبير الأساقفة إلى إيرجينا أن يرد عليه كتابه. فأجابه هذا إلى ما طلب وكتب رسالته المسماة الجبرية الإلهية De Divina praedestinatione (حوالي عام 851). وقد بدأها بإطراء الفلسفة إطراءً عظيماً فقال:"من يشأ أن يبحث جاداً عن علل الأشياء جميعها ويحاول كشفها، يجد جميع الوسائل الموصلة إلى العقيدة الصالحة الكاملة في العلم والتدريب اللذين يطلق عليهما اليونان اسم الفلسفة". وينكر الكتاب في واقع الأمر مبدأ الجبرية، ويقول الإرادة حرة عند الله وعند الإنسان، وإن الله لا يعرف الشيء، ولو عرفه لكان هو سببه. وكان رد إرجينا أكثر إلحاداً من أقوال جتسشولك، وأنكره مجلسان من مجالس الكنيسة في عامي 855 و 859، وأودع جتسشولك في دير قضى فيه بقية حياته أما إرجينا فقد حماه الملك.

ص: 258

وكان ميخائيل الألكن إمبراطور بيزنطية قد بعث إلى لويس التقي في عام 824 مخطوطاً يونانياً لكتاب يسمى الحكومة الكنوتية السماوية. ويعتقد المسيحيون المتدينون أن مؤلفه هو ديونيشيوس "الأريوباجي" Disnysius the "Areopagite". وأحال لويس التقي المخطوط إلى دير سانت دنيس، ولكن أحداً ممن فيه لم يستطع ترجمة لغته اليونانية، فقام إرجينا بهذه المهمة إجابة لطلب الملك. وتأثر بالترجمة أعظم التأثر، وأعاد الكتاب إلى المسيحية غير الرسمية الصورة التي ترسمها الأفلاطونية الجديدة للكون المتولد أو المنبعث من الله في مراحل مختلفة أو درجات من الكمال آخذة في النقصان، والذي يعود ببطء وبدرجات متفاوتة إلى الله مرة أخرى.

وأصبحت هذه الفكرة الرئيسية التي يدور حولها أعظم مؤلفات جون التقسيم الطبيعي (867). ففي هذا الكتاب نجد بين الكثير من السخف، وقبل أبلار بقرنين من الزمان، إخضاعاً جريئاً لعلوم الدين والوحي إلى العقل، ومحاولة للتوفيق بين المسيحية والفلسفة اليونانية، وفيه يقر جون بصحة الكتاب المقدس؛ ولكنه يقول إنه لما كان معناه في كثير من أجزائه غامضاً، فإن الواجب يقضي بتفسيره حسبما يمليه العقل-ويكون ذلك عادة بفهم نصوصه على أنها رموز أو استعارات. ويقول إرجينا في هذا:"إن السلطان يُستمد أحياناً من العقل ولكن العقل لا يُستمد أبداً من السلطان، ذلك بأن كل سلطان لا يرضى عنه العقل السليم يبدو ضعيفاً، ولكن العقل السليم لا يحتاج إلى تأييد السلطان أياً كان نوعه لأنه يستند إلى قوته"(49). ويجب ألا يحتج بآراء آباء الكنيسة

إلا إذا كان لا بد لنا من الاحتجاج بآرائهم لتقوية حججنا أمام الناس الذين لا يحسنون الاستدلال، ولهذا يخضعون للسلطان لا للعقل" (50). فها هو ذا عصر العقل يتحرك في أرحام عصر الإيمان.

ويعرف جون الطبيعة بأنها: "اسم عام يطلق على جميع الأشياء التي

ص: 259

تكون وغير التي تكون" أي على جميع الأجسام، والعمليات، والمبادئ، والعلل، والأفكار. وهو يقسم الطبيعة إلى أربعة أنواع من الكائنات.

(1)

ذاك الذي يخلق ولكنه لا يُخلَق- أي الله. (2) ذاك الذي يُخلَق ويخلق- أي العلل الأولى، والمبادئ، والنماذج الأولى، والأفكار الأفلاطونية، والكلمة، وهي التي يتكون من عملياتها عالم الأشياء المفردة، (3) ذاك الذي يٌخلَق ولا يخلق- أي عالم الأشياء المفردة السالفة الذكر، (4) ذاك الذي لا يخلق ولا يُخلَق- أي الله بوصفه الغاية النهائية التي تستوعب كل شيء. فالله هو كل شيء كائن بحق؛ لأنه يكوّن الأشياء وجميعها ويتكون من الأشياء جميعها". وليس ثمة عملية خلق في وقت بذاته، لأن هذا القول يتضمن تغيراً في الله. فإذا سمعنا أن الله قد أوجد كل شيء-، فيجب ألا نفهم من هذا القول إلا أن الله حال في كل شيء- أي يوجد بوصفه جوهر كل الأشياء"(51). "والله نفسه لا يدركه عقل من العقول، وليس الجوهر المكنون لكل شيء والذي خلقه الله مما يمكن إدراكه، وكل الذي نراه هو الأعراض لا الجوهر"(52) - أي صور الأشياء التي تدركها الحواس والعقول لا حقائقها التي لا تعرف ولا يمكن معرفتها-كما يقول كانت Kant فيما بعد. وليست الخصائص المحسوسة في الأشياء متأصلة في الأشياء نفسها، وإنما تتكون من الأشياء التي ندركها بها. فإذا قيل لنا إن الله يرغب، ويحب ويختار، ويرى، ويسمع

فيجب ألا نفكر إلا في أن حقيقته وقوته اللتين لا يستطاع وصفهما يُعَبَّر عنهما بمعان تتفق معنا في طبيعتها"- أي موائمة لطبيعتنا، "حتى لا يجد المسيحي الحق التقي ما يقوله عن الخالق، فلا يقول شيئاً عنه ليعلم به النفوس الساذجة" (53). ولمثل هذا الغرض لا لشيء سواه نستطيع أن نتحدث عن الله كأنه ذكر أو أنثى، وليس "هو" هذا ولا ذاك (54). فإذا فهمنا لفظ "الأب" بمعنى المادة الخلاّقة أو جوهر الأشياء جميعها، و"الابن"

ص: 260

على أنه الحكمة الإلهية التي تتكون أو تحكم بمقتضاها الأشياء كلها، والروح على أنه الحياة أو حيوية الخلق، إذا فهمنا هذه الثلاثة على هذا النحو جاز لنا أن نفكر في الله على أنه ثالوث. وليست الجنة والنار مكانين، بل هما أحوال النفس، فالنار هي الشقاء المنبعث من الخطيئة، والجنة هي السعادة المنبعثة من الفضيلة والنشوة المنبعثة من الرؤيا الإلهية (إدراك الألوهية) التي تتكشف من الأشياء جميعها للنفس التقية (55). وليست جنة عدن مكاناً على الأرض، بل هي حالة كهذه من حالات النفس (56). والأشياء جميعها خالدة: فللحيوانات أيضاً، كما للآدميين، نفوس تعود إلى الموت بعد الله أو إلى الروح الخالق الذي انبعثت منه (57). والتاريخ كله إن هو إلا فيض من عملية الخلق إلى الخارج عن طريق الانبعاث، وموجة مدية لا تغلب نحو الداخل تجذب الأشياء جميعها في آخر الأمر إلى الله.

لقد وجدت فلسفات شر من هذه الفلسفة وفي عصور النور، ولكن الكنيسة حسبتها تموج بالإلحاد والزندقة. ولهذا طلب نقولاس الأول إلى شارل الأصلع في عام 865 إما أن يبعث بجون إلى روما ليحاكم أو أن يفصله من مدرسة القصر، "حتى لا يستمر في تسميم الذين يسعون لطلب الخبز"(58). ولسنا نعرف نتيجة هذا الطلب، غير أن إنجليزياً من أهل مالمزبري Malmsbury يروي "أن جوهان اسكوتس جاء إلى إنجلترا وإلى ديرنا، كما تقول الأخبار، وأن الأولاد الذين يعلمهم كانوا يَشُكوُّنه بأقلامهم الحديدية"، وأنه مات من أثر هذا العمل. وأكبر الظن أن هذه القصة حلم من أحلام تلميذ كان يتمنى تحقيقه. ولقد تأثر بإرجينا فلاسفة من أمثال جلبرت، وأبلار، وجلبرت ده لابوريه على غير علم منهم، غير أنه بوجه عام قد نسي في غمار الفوضى الضاربة أطنابها في ذلك العصر المظلم. ولما أن رفع ستار النسيان عن كتابة في القرن الثالث عشر حكم مجلس سنس Sens بتحريمه (1225) وأمر البابا هونوريوس Honorius الثالث

ص: 261

بأن ترسل نسخة جميعها إلى روما وأن تحرق فيها.

ووقف الفن الفرنسي في هذه الأوقات المضطربة جامداً لا يتحرك، فقد ظل الفرنسيون يشيدون كنائسهم على نظام الباسلقا رغم ما ضربه لهم شارلمان من أمثلة. وفي عام 966 أصبح أحد الرهبان والمهندسين الإيطاليين ويدعى وليم من أبناء فلبيانو Volpiano رئيساً لدير فيكامب F (camp النورماني. وقد جاء معه من إيطاليا بكثير من أساليب الطراز النورماني والرومانسي، ويبدو أن أحد تلاميذه هو الذي بنى دير جوميج Jumi (ges الكنسي (1045 - 1067)؛ وفي عام 1042 دخل رجل إيطالي آخر يدعى لانفرانك Lanfranc الدير النورماني في بك Bec، وسرعان ما جعله مركزاً علمياً نشطاً، يهرع إليه طلاّب بلغوا من الكثرة ما اضطر القائمين عليه إلى إضافة أبنية جديدة له. وقد خطط لانفرانك هذه الأبنية، ولعله قد استعان على تخطيطها بمن هم أكثر منه خبرة بهذا العمل. ولم يبق حجر واحد من حجارة هذا البناء، ولكن دير الرجال في جائن Abbaye aux Hommes at Gaen (1077 - 1081) لا يزال قائماً غلى اليوم يشهد بقوة الطراز الرومانسي الذي تطور في نورماندي على أيدي لانفرانك ومن جاء بعده.

وشيدت في القرن الحادي عشر كنائس جديدة في جميع أنحاء فرنسا وفلاندرز، زينها الفنانون بصور الجدران وبنقوش الفسيفساء والتماثيل. وكان شارلمان قد أمر بأن يطلى داخل الكنائس ويلون ليستفيد من ذلك المؤمنون؛ وزينت قصور آخن وأنجلهيم بالمظلمات، وما من شك في أن كثيراً من الكنائس قد حذت حذو هذه القصور. وقد دمرت آخر قطع من مظلمات آخن في عام 1944، ولكن نقوشاً شبيهة بما كان على جدرانها لا تزال باقية في كنيسة سان جرمان St، Germain في أوكسير. ولا تختلف هذه النقوش في شكلها عن النقوش التي تزدان بها مخطوطات ذلك العصر ولا عن طرازها أو حجمها.

ص: 262

وقد كتب رهبان مدينة تور في عهد شارل الأصلع نسخة ضخمة ملونة من الكتاب المقدس وأهدوها إلى الملك، ولا تزال هذه النسخة محفوظة في قسم المخطوطات اللاتينية بالمكتبة الأهلية بباريس تحت رقم 1. وأجمل من هذا المخطوط إنجيل "لوثير" الذي كتبه في ذلك الوقت رهبان تور أيضاً. كذلك أخرج رهبان ريمس في هذا القرن التاسع كتاب تراتيل "أوترخت Utrecht" الذائعة الصيت-وبتأليف هذا المخطوط من 108 ورقة من الجلد الرقيق ويحتوي على مزامير داود وعقيدة الرسل مزدانة بكثير من صور الحيوانات على اختلاف أنواعها وبعدد لا يحصى من الأدوات وصور المهن والأعمال. وتصطبغ هذه الصور الحية بصبغة من الواقعية الشديدة بدلت فن التصوير الدقيق الذي كان من قبل جامداً مستمسكاً بالتقاليد.

‌5 - نشأة الأدواق

987 -

1066

وبرزت فرنسا التي كان يحكمها هيو كابت (987 - 996) فأصبحت وقتئذ أمة منفصلة عن غيرها، ولم تعد تعترف بسيادة الإمبراطورية الرومانية المقدسة عليها، ولم تعد قط إلى أوربا الغربية الوحدة التي وهبها إياها شارلمان اللهم إلا فترة قصيرة في أيام نابليون وهتلر. ولكن فرنسا التي كانت في أيام هيو كابت لم تكن فرنسا القائمة في أيامنا هذه؛ فقد كانت أكتين وبرغندية دوقيتين مستقلتين بالفعل، وظلت بورين بعدئذ سبعة قرون جزءاً من ألمانيا. وكانت فرنسا في ذلك الوقت موطناً أجناس مختلفة ولغات متعددة: فكانت فرنسا الشمالية فلمنكية أكثر منها فرنسية، وكان في دمها عنصر ألماني كبير؛ وكان سكان نورماندي من الشماليين، وكانت بريطانيا كلتيه غير ذات صلة بسائر البلاد، يسيطر عليها لاجئون من بريطانيا؛ أما بروفانس فكانت في جنس أهلها ولغتهم "ولاية" رومانية غالية، كذلك كانت فرنسا المجاورة

ص: 263

لجبال البرانس قوطية، وقطالونيا الخاضعة من الوجهة الرسمية للملكية الفرنسية قوطية أيضاً كما يدل على ذلك اسمها "قطالونيا". وكان نهر اللوار يقسم فرنسا إلى إقليمين، مختلفين في الثقافات واللغات. وكان العمل الذي اضطلعت به الملكية الفرنسية هو مزج الأجناس واللغات المختلفة، لينشئوا من أكثر من عشر شعوب أمة واحدة؛ ولقد تطلب هذا العمل ثمانمائة عام.

وأراد هيو كابت أن يهيئ الظروف لوراثة للعرش منظمة، فتوج ابنه ربرت ملكاً معه في السنة الأولى من حكمه ويعد "ربرت التقي"(996 - 1031) من الملوك الأوساط غير المبرزين (60)، ولعل سبب اشتهاره بهذه المكانة الوسطى أنه كان يتجنب مجد الحروب. مثال ذلك أنه لما قام النزاع بينه وبين هنري الثاني إمبراطور ألمانيا بشأن الحدود عقد اجتماعاً معه وتبادل وإياه الهدايا، ووصل معه إلى اتفاق سلمي. وكان ربرت رءوفاً بالضعفاء والفقراء يحميهم قدر استطاعته من الأقوياء غير ذوي الضمير، ومثله في هذا كمثل لويس التاسع، وهنري الرابع، ولويس السادس عشر. وقد أغضب الكنيسة بزواجه من برثا Bertha ابنة عمه (998)، وصبر على الحرمان وعلى سخرية الذين كانوا يعدونها ساحرة، ولكنه انفصل عنها آخر الأمر وعاش بعدئذ بائساً حزيناً إلى آخر أيام حياته. ويحدثا المؤرخون أن الناس حزنوا عليه أشد الحزن عند مماته (61)، وشبت نار حرب للوراثة بين ولديه، انتصر فيها هنري الأول (1031 - 1060) أكبرهما، ولكنه لم ينل النصر إلا بمعونة ربرت دوق نورماندي. ولما انتهى هذا الصراع الطويل (1031 - 1039) كانت المملكة قد وصلت إلى درجة من الفقر في المال والرجال لم تقو معها على منع تقطع أوصالها بفعل النبلاء الأقوياء المستقلين.

وانقسمت فرنسا حوالي عام 1000 م، بفعل كبار الملاك الذين كانوا يضمون إليهم تدريجياً ما يحيط بهم من الأراضي إلى سبع إمارات كبرى يحكم كلا منها كونت أو دوق. وهذه الأقسام هي أكتين، وطلوشة، وبرغندية، وأنجوا،

ص: 264

وشمبانيا، وفلاندرز، ونورمندية. وكان هؤلاء الأدواق أو الكونتات في جميع الحالات تقريباً ورثة زعماء أو قواد منحهم الملوك المروفنجيون أو الكارلونجيون ضياعاً جزاء لهم على خدماتهم الحربية أو الإدارية. وكان الملك قد أصبح يعتمد على هؤلاء الكبراء في تجييش الجيوش وحماية ولايات الحدود؛ ولم يكن بعد عام 888 يسن القوانين للمملكة جميعها، أو يجبي منها الضرائب، بل كان الأدواق والكونتات يسنون القوانين، ويجبون الضرائب، ويشنون الحروب، ويفصلون في القضايا ويعاقبون، ويكادون يكونون سادة مستقلين في ضياعهم، لا يدينون للملك إلا بولاء أسمى، ولا يؤدون له إلا خدمة عسكرية ذات نطاق محدود. واقتصرت سلطة الملك في وضع القوانين، والفصل في القضايا، وفي الشئون المالية، على ضياعه الملكية الخاصة، وهي التي سميت فيما بعد جزيرة فرنسا lle de France وتشمل إقليمي الساءون والسين الأوسط الممتدين من أورليان إلى بوفيه ومن تشاتر إلى ريمس. وتقدمت نورمندية دون سائر الدوقيات المستقلة استقلالاً نسبياً بأن نمت نمواً سريعاً إلى أقصى حدود السرعة في قوتها وسلطانها، فلم يمض عليها قرن واحد بعد تسليمها لأهل الشمال حتى أصبحت أكثر ولايات فرنسا مغامرة ومخاطرة-ولعل السبب في ذلك هو قربها من البحر وموقعها بين إنجلترا وباريس. وكان أهل الشمال وقتئذ مسيحيين متحمسين للمسيحية، لهم أديرة ومدارس أديرة، وكانوا يتناسلون باستهتار ما لبث أن دفع شبابا النورمنديين إلى إنشاء ممالك جديدة من الولايات القديمة. ذلك أن بحارة الشمال كانوا حكاماً أقوياء لا يبالون بالمبادئ الأخلاقية ولا راعون في الوصول إلى أغراضهم ضميراً، ولكنهم قادرون على أن يحكموا بيد من حديد شعباً مشاكساً، مضطرباً، مكوَّناً من الغاليين والفرنجة، والشماليين. ولم يكن ربرت الأول (1028 - 1035) قد أصبح بعد دوقا لنورمندية حين وقعت عينه في عام 1026 على هارلت Harlette ابنة

ص: 265

دباغ في فاليز Falaise. فلما رآها أضحت عشيقته العزيزة جرياً على إحدى السنن الدنمرقية القديمة، وسرعان ما أنجبت له ولداً يعرف عند معاصريه باسم وليم النغل William the Bastard وعندنا نحن باسم وليم الفاتح William the Conqueror. ولما اشتد على ربرت وخز ضميره لكثرة ما ارتكب من الذنوب غادر نورمندية في عام 1035 ليحج حجة التوبة إلى أورشليم، واستدعى قبل سفره أكابر الأعيان ورجال الدين وقال لهم:

"أقسم بديني أني لن أترككم دون أن أولي عليكم سيداً؛ إني لي إبناً نغلاً سيكبر بفضل الله، وإني لقوي الرجاء في أن يكون من أحسن الناس صفات، ورجائي أن تقبلوه سيداً عليكم؛ وليس يهمكم قط أنه لم يولد من زواج شرعي فهذا لن يؤثر في قدرته على الحكم

أو في توزيع العدالة بين الناس. وهأنذا أعينه وارثاً لعرشي، وأخلع عليه من هذه اللحظة دوقية نورمندية بأكملها (62).

وتوفي ربرت في طريق إلى أورشليم، وحكم الأشراف وقتاً ما بالنيابة عن ابنه. ولما شبت فتنة في البلاد تحاول خلعه أخمدها بوحشية ممزوجة بالكرامة، فقد كان رجلاً يجمع بين الدهاء والبسالة، بعيد النظر في وضعه خطط المستقبل، ملاكاً لأصدقائه، وشيطاناً على أعدائه. وكان يسمع تهكم الناس على مولده ويقبل هذا التهكم بصدر رحب، وكان من حين إلى حين يمضي بعض ما يكتب باسم وليم النغل Guiielmus Nethus؛ ولكنه حين حاصر ألنسون Alencon وعلق المحاصرون الجلود على جدرانهم إشارة إلى حرفة جده قطع أيدي من وقع في يديه من الأسرى وأرجلهم، وفقأ أعينهم، وقذف المدينة من مجانيقه بهذه الأعضاء. وأعجبت نورمندية بوحشيته وحكمه الصارم، وعمها الرخاء. فقد حد وليم من استغلال الأشراف للفلاحين، وأرضى أولئك الأشراف بالعطايا السنية، وكان يعني عناية الأتقياء الصالحين بواجباته الدينية، وجلل أباه العار بإخلاصه لزوجته إخلاصاً لم يسبق

ص: 266

له مثيل، وقد أولع بحب ماتلدة Matilda الجميلة ابنة بلدوين Baldwin كونت فلاندرز، ولم يؤثر فيه أن لها ولدين وزوجاً لا يزال على قيد الحياة وإن كان منفصلاً عنها. غير أنها ردت وليم وكالت له الإهانات وقالت "إنها تفضل أن تكون راهبة محجبة على أن تتزوج بنغل"(63)؛ ولكنه لم يرجع عن حبها، ونالها آخر الأمر وتزوجها رغم تشهير رجال الدين؛ وترتب على ذلك أن جَرَّدَ الأسقف مالجر Malger والأب لانفرانك رئيس الدير لأنهما ذما هذا الزواج، وحرق في صورة غضبه جزءاً من دير بك. ثم أقنع لانفرانك البابا نقولاس الثاني بأن يصادق على الزواج، وأراد وليم أن يكفر عما فرط منه فبنى في جائن دير الرجال النورمندي الذائع الصيت، وبفضل هذا الزواج ارتبط وليم بكونت فلاندرز، وكان قد وقع قبل ذلك الوقت في عام 1048 اتفاقاً مع ملك فرنسا. وبعد أن حمى جناحيه بهاتين الوسيلتين وزينهما شرع وهو في التاسعة والثلاثين من عمره في فتح إنجلترا.

ص: 267

الباب العشرون

‌نهضة الشمال

566 -

1066

الفصل الأول

‌إنجلترا

577 -

1066

‌1 - ألفرد والدنمرقيون

577 -

1016

لم يلق فتح الإنجليز والسكسون والجوت لإنجلترا بعد واقعة دورهام Deorham (577) إلا مقاومة يسيرة، وما لبث الغزاة أن اقتسموا البلاد فيما بينهم؛ فأقام الجوت مملكة في كنت Kent، وأسس الإنجليز ثلاث ممالك في مرسية، ونورثمبرلاند، وأنجليا الشرقية East Anglia، وأنشأ السكسون ثلاث ممالك أخرى في وسكس Wessex، وإسكس Essex، وسسكس Sussex أي في سكسونيا الغربية، والشرقية، والجنوبية. وكانت هذه الممالك السبع الصغيرة وممالك أخرى أصغر منها هي التي تكون فيها "تاريخ إنجلترا" حتى جمع أجبرت Egbert ملك سكس معظمها بالقوة أو بالختل في مملكة واحدة تحت حكمه.

وقبل أن ينشئ ملك السكسون هذه المملكة الجديدة- مملكة الإنجليز-

ص: 268

بدأت غزوات الدنمرقيين التي اجتاحت البلاد من بحر إلى بحر وهددت المسيحية الناشئة فيها بإحلال وثنية همجية جاهلة محلها، وفي ذلك يقول السجل الإنجليزي السكسوني: "جاءت في عام 787 ثلاث سفن إلى سواحل سكسونيا الغربية

وقتلت الأهلين-وكانت هذه أولى سفن الدنمرقيين التي جاءت تطلب أرض شعب الإنجليز". وأغارت على نورثمبرلاند Northumberland في عام 793 حملة دنمرقية أخرى، وخربت دير لندسفارن Lindisfarne الشهير وذبحت رهبانه. وفي عام 794 دخل الدنمرقيون نهر وير Wear، ونهبوا ويرموث Wearmouth وجرو Jarrow حيث كان يكدح بك Bec العالم قبل خمسين سنة من ذلك الوقت. وفي عام 838 هاجم المغيرون أنجليا الشرقية East Anglia وكنت Kent، وفي عام 839 رابط أسطول للقراصنة مؤلف من 350 سفينة في نهر التاميز، بينما كان بحارته ينهبون كنتربري Canterbury ولندن. وفي عام 867 - فتحت قوة من الدنمرقيين والسويديين مقاطعة نورثمبرلاند، وقتلت آلافاً من "الإنجليز"، وخربت أديرتها، وأتلفت ما فيها من دور الكتب أو شتتها. وخيمت الفاقة والجهالة على مدينة يورك وما حولها، وهي البلدة التي حبت شارلمان بألكوين؛ ولم يحل عام 871 حتى كان معظم إنجلترا الممتد في شمال نهر التاميز خاضعاً للمغيرين. واتجه جيش دنمرقي بقيادة جثرم Guthrum نحو الجنوب في ذلك العام نفسه ليهاجم ردنج Reading عاصمة وسكس، والتقى إثلرد Ethelred مليكها وأخوه الأصغر ألفرد بالدنمرقيين عند آشدون Ashdown وهزموا المغيرين، ولكن إثلرد جرح جرحاً مميتاً في معركة ثانية عند مرتن Merton وولى الإنجليز الأدبار.

وجلس ألفرد على عرش سكسونيا وهو في الثانية والعشرين من عمره (871) ويصفه أسر Asser بأنه كان وقتئذ أمياً illieratus، وقد يكون معنى هذا اللفظ أنه يجهل القراءة والكتابة أو أنه لا يعرف اللغة اللاتينية! ويبدو أنه كان مصاباً

ص: 269

بالصرع، وأنه أصيب بنوبة من نوبات الداء في يوم زفافه؛ ولكنه كان صياداً قوياً، وسيم الطلعة، رشيقاً، يفوق أخوته في الحكمة والمهارة الحربية. فلما مضى شهر على تتويجه، زحف بجيشه الصغير على الدنمرقيين الذين كانوا عند ولتن Wilton ولكنه هزم فيها هزيمة منكرة اضطرته إلى شراء الصلح من عدوه لينقذ بذلك عرشه؛ غير أنه انتصر في معركة حاسمة عند إثندون Ethandun (إدنجتن Edington الحالية) في عام 878 اجتاز بعدها نصف الجيش الدنمرقي القناة الإنجليزية ليغير على فرنسا المستضعفة، أما بقية الجيش فقد وافق بمقتضى معاهدة ودمور Wedmore. على ألا يتجاوز رجاله شمالي إنجلترا الشرقي في البلاد التي سميت فيما بعد دين لو Danelaw.

ويقول أسر وهو كاتب لا يوثق كل الثقة بأقواله إن ألفرد زحف بجيشه على أنجليا الشرقية "يقصد نهبها"، وفتح البلاد، ونادى بنفسه ملكاً عليها وعلى مرسية بالإضافة إلى وسكس؛ ولعله كان يقصد بهذا الزحف أن يوحد إنجلترا لكي يقاوم بها الدنمرقيين. فلما تم له ذلك وجه عنايته-كأنه شارلمان صغير-إلى شئون الحكم وإعادة تنظيم البلاد. فنظم الجيش تنظيماً جديداً، وأنشأ عمارة بحرية، ووضع قانوناً موحداً لممالكه الثلاث، وأصلح نظام القضاء، وسن من القوانين ما يكفل حماية الفقراء، وأنشأ مدناً وبلداناً جديدة؛ وأعاد بناء القديمة، وشاد "بالحجارة والخشب أبهاءً وغرفاً ملكية"، لموظفي حكومته الآخذين في الازدياد (2). وقد خصص جزءاً من ثمانية أجزاء من إيراد الدولة لإعانة الفقراء، وجزءاً آخر مثله للتعليم، وأنشأ في ردنج عاصمة ملكه مدرسة في قصره، وجاد بالمال بسخاء على أعمال التعليم والدين التي تقوم بها الكنائس والأديرة. وكان يحزنه ويقض مضجعه أن يعود بذاكرته إلى أيام صباه حين كانت "الكنائس غاصة بالكنوز والكتب

قبل أن تخرب وتحرق" بفعل الدنمرقيين، أما الآن: "فقد انحط التعليم بين الإنجليز انحطاطاً كانت نتيجته

ص: 270

أن عدداً قليلاً جداً منهم

هم الذين يستطيعون فهم طقوس دينهم باللغة الإنجليزية، أو ترجمة شيء منها إلى اللاتينية" (3). وقد بعث إلى البلاد الخارجية في طلب العملاء-بعث في طلي الأسقف أسر Asser من ويلز، وإرجينا Erigena من فرنسا، وكثيرين غيرهم-ليأتوا ويعلموا شعبه ويعلموه هو نفسه. وكان يؤسفه أنه لم يجد من قبل إلا قليلاً من الوقت يخصصه للقراءة، ولهذا فقد أقبل الآن على الدراسات الدينية والعلمية إقبال الرهبان. وقد ظل يلاقي صعوبة في القراءة، ولكنه كان "يأمر رجالاً يأمرون له ليلاً ونهاراً". وكاد أن يكون هو أول من أدرك ما للغات القومية من خطر متزايد قبل أن يدركه أحد غيره من الأوربيين، فعمل على أن تترجم بعض الكتب الأساسية الهامة إلى اللغة الإنجليزية، وجد هو نفسه في ترجمة كتاب سلوى الفلسفة The Consolatione of Philosphy لبويتيوس Boetius وكتاب العناية بالرعي Pastoral Care لجريجوري، وكتاب التاريخ العام Universal History لأوروسيوس Orosius وتاريخ إنجلترا الكنسي Ecclesiastical History of England لبيد Bede؛ وعمل ما عمله شارلمان فجمع أغاني شعبه، وعلمها أولاده، وشارك المغنين في بلاطه في إنشادها.

ووصلت غزوة دنمرقية جديدة إلى كنت في عام 894؛ وبعث دنمرقيو والدين لوالي الغزاة بالمدد، وعقد الوطنيون أهل ويزلت والكلت، الذين لم يكن الإنجليز والسكسون قد تغلبوا عليهم بعد، حلفاً مع الدنمرقيين وانقض إدوارد ابن ألفرد على معسكر القراصنة ودمره، وشتت أسطول ألفرد الجديد شمل الأسطول الدنمرقي (899) وتوفي الملك بعد عامين من هذه الواقعة، ولم تكن سنه قد تجاوزت الثانية والخمسين. وليس في وسعنا أن نوازنه برجل جبار مثل شارلمان لأن الرقعة التي كانت مسرحاً لمغامراته رقعة ضيقة، ولكنه ضرب

ص: 271

للأمة الإنجليزية بصفاته الأخلاقية-تقواه، واستقامته الخالية من التباهي، واعتداله، وجلده، وإخلاصه لشعبه، وشغفه بالاستزادة من التعليم-ضرب لها بهذه الصفات مثلاً، وبعث فيها روحاً، تلقتها بأعظم الشكر ونسيتها بعد قليل. وقد أعجب بها فلنير إعجاباً لعله كان مسرفاً فيه إذ قال:"لست أظن أنه كان في العالم كله رجل أجدر باحترام الخلف من ألفرد الأكبر"(4).

وواصل الإسكنديناويين هجومهم على إنجلترا في أواخر القرن العاشر، فأغارت قوة من الفيكنج (القراصنة النرويجيين) بقيادة أولاف تريجفسون Olat Tryggvsson على سواحل إنجلترا في عام 991. وعجز الإنجليز بقيادة الملك إثلرد (987 - 1013) (الملقب بردلس Redeless أي غير المنتصح لأنه أبى أن يعمل بمشورة أعيان البلاد) فنفح الغزاة برشا سخية متتابعة 10. 000، 16. 000، 24. 000، 36. 000، 48. 000، رطل من الفضة جمعها دينجلد Danegeld المخرب الوقح من أول ضريبة عامة فرضت على إنجلترا. وسعى إثلرد لكسب المعونة الأجنبية فشرع يفاوض نورمندية في عقد حلف معه، وتزوج إما Emma ابنة رتشارد الأول دوق نورمندية، ونشأت من هذا الزواج أحداث خطيرة وأدعى إثلرد أن الدنمرقيين يأتمرون به ليقتلوه، ويقضوا على برلمان الأمة الويتناجمور Witenagemor فأمر بقتل كافة من في الجزيرة من الدنمرقيين أينما وجدوا (1002). ولسنا نعلم إلى أي حد نفذ هذا الأمر بحذافيره، وأكبر الظن أن جميع من كانوا في إنجلترا من الذكور القادرين على حمل السلاح قد قتلوهم وبعض النساء، وكان من بين من قتلن منهن أخت سوين Sweyn ملك الدنمرقة، وأقسم سوين أن يثأر لمقتلهما، فغزا في إنجلترا في عام 1003، وأعاد الكرّة عليها بجميع قواه في عام 1013. وتخلى نبلاء إثلرد عنه، ففر إلى نورمندية، وأصبح سوين ملك إنجلترا وسيدها. غير إن إثلرد عاد إلى الكفاح بعد موت سوين (1014)، وتخلى عن الأعيان مرة أخرى، وعقدوا الصلح مع كنوت

ص: 272

Cnut بن سوين (1015). ومات إثلرد في لندن وهي محاصرة، وحارب إدمند ذو الجانب الحديدي Edmund Ironside ببسالة ولكن كنوت تغلب عليه عند أسندون Assandun (1016) . وارتضت إنجلترا بأجمعها كنوت ملكاً عليها، وتم بذلك للدنمرقيين فتح إنجلترا.

‌2 - الحضارة الإنجليزية- السكسونية

577 -

1066

لم يكن هذا الفتح أكثر من فتح سياسي؛ فقد كانت أنظمة الإنجليز والسكسون، ولغتهم، وأساليب حياتهم قد تعمقت أصولها في إنجلترا خلال القرون الستة الماضية تعمقاً لا يستطاع معه فهم نظام الحكم في البلاد أو لغة الإنجليز أو أخلاقهم إلا بدراسة هذه الأصول. ولقد تبدلت في أثناء الفترات الخالية من الأحداث، بين حرب وحرب، وبين جريمة وجريمة، أساليب الحرث والزرع والتجارة، وبعثت الآداب بعثاً جديداً، وأقيم صرح النظام والقانون على مهل.

وليس في التاريخ أساس لذلك القول الخداع وهو أن إنجلترا الإنجليزية السكسونية كانت جنة تنعم فيها عشائر الفلاحين الأحرار بالحياة القروية الديمقراطية. ذلك أن زعماء الجيش الإنجليزي السكسوني قد استولوا على الأرض الزراعية فلم يحل القرن السابع الميلادي حتى كان عدد قليل من الأسر يمتلك ثلثي تلك الأرض (5)، ولم يحل القرن الحادي عشر حتى كانت معظم البلدان ضمن أملاك الملك الخاصة أو أحد النبلاء أو الأساقفة. وفي أثناء الغزو الدنمرقي نزل كثير من الفلاحين عن أملاكهم في نظير حمايتهم، ولم يحل عام 1000 بعد الميلاد حتى كان معظمهم يؤدون إيجاراً من محصولهم أو من كدحهم إلى أحد السادة الملاك (6). وكانت هناك "اجتماعات للمدينة" و "اجتماعات للشعب"، "واجتماعات المائة" وهي اجتماعات كانت مثابة جمعيات أو محاكم للمقاطعة، ولكن لم يكن يسمح بحضورها إلا لملاك الأراضي، وأخذت هذه الهيئات

ص: 273

يضعف سلطانها وتقل مرات اجتماعها بعد القرن الثامن، ويحل محل معظمها محاكم النبلاء في ضياعهم. وكانت معظم السلطة الحكومية بإنجلترا في يد إلويتناجموت Witenagemot القومي- "مجلس العقلاء"- وهو جمعية صغيرة إلى حد ما تتألف من النبلاء، والأساقفة، وكبار وزراء التاج، وبغير موافقة هذا البرلمان الأبله لم يكن ملك إنجليزي يختار أو يبق على عرشه، أو يضيف قيراطاً إلى مزارعه الخاصة التي كان يستمد منها إيراده المستديم، ولم يكن في وسعه أن يسن قانوناً، أو يصدر حكماً قضائياً، أو يشن حرباً، أو يعقد صلحاً إلا بموافقته (7). وكان أعظم سند للملكية ضد هذه الهيئة الأرستقراطية هو ما كان بينها وبين الكنيسة من حلف غير رسمي. ذلك أن الدولة الإنجليزية قبل التفتح النورمندي وبعده كانت تعتمد على رجال الدين في كل ما يتصل بالتعليم العام، والنظام الاجتماعي، والوحدة القومية، وبالإدارة السياسية نفسها. وكان القديس دنستان رئيس دير جلاستنبري Clastonbury كبير مستشاري الملكين إدمند Edmund (940 - 946) وإدرد (946 - 955)، وقد حمى الطبقتين الوسطى والدنيا من النبلاء؛ وكان جريئاً في نقد الملوك والأمراء، ولذلك نفاه الملك إدوج Edwig (955 - 959) من البلاد، ثم أعاده إدجر Edger (959 - 975) إليها، وهو الذي وضع التاج على رأس إدوارد الشهيد Edward the Martyr (975 - 978) ، وشاد كنيسة القديس بطرس في جلاستنبري، وشجع الفنون والتعليم، وتوفي وهو كبير أساقفة كنتربري في عام 988. وكان أهل إنجلترا يجلونه ويعدونه أعظم قديسيهم قبل تومس آبكت Thomes (Becket.

ونشأت الشرائع ببطء في هذه الحكومة المفككة. وقد وجدت في القانون الألماني القديم، بعد أن عدل لفظه وظروفه، كفيتها. وبقيت في هذا القانون عادات تبرئة المتهم بشهادة شهود يقسمون بأنه بريء، كما بقيت فيه الدية،

ص: 274

والتحكيم الإلهي، ولكن عادة المحاكمة بالاقتتال لم تكن معروفة فيه. وكانت الدية في القانون الإنجيلي (الإنجليزي) تختلف اختلافاً له دلالته. فكانت دية الملك ثلاثين ألف ثرمزاً Thrimsas (نحو 13. 000 دولار أمريكي)، ودية الأسقف 15. 000، ودية النبيل أو رجل الدين ألفين، ودية الفلاح الحر 266. وكان القانون الإنجليسكسوني يقضي بأن يغرم الإنسان شلناً أو شلنين إذا تسبب في جرح إنسان جرحاً يبلغ طوله بوصة واحدة، وثلاثين شلناً إذا قطع جزءاً من أذن؛ على أننا يجب أن نضيف هنا أن الشلن الواحد كان يكفي لابتياع خروف. وكان قانون إثلبرت يعاقب الزاني بأن يؤدي إلى زوج من زنى بها غرامة ويبتاع له زوجة أخرى (8). وكل من قاوم أمر محكمة من المحاكم نودي به "خارجاً على القانون" فتصادر أملاكه لصالح الملك، ويباح دمه. ولم يكن يسمح بالدية في بعض الحالات، وكانت توقع بدلاً منها عقوبات صارمة: الاسترقاق، والجَلد، والإخصاء، وبتر اليدين أو القدمين، أو الشفة العليا، أو جدع الأنف، أو صلم الأذن، أو إعدام المذنب بشنقه، أو قطع رأسه، أو حرقه، أو رجمه، أو إغراقه في الماء، أو إلقائه في هوة سحيقة (9).

وكان النظام الاقتصادي شبيهاً بالقانون في بدائيته، وكان أقل تقدماً منه في بريطانيا الرومانية. وكانت جهود كثيرة قد بذلت في تقطيع الغابات وتجفيف المناقع، ولكن إنجلترا كانت لا تزال في القرن التاسع تشغل نصفها الغابات، والمروج، والمناقع، وكانت الحيوانات البرية-الدببة، والحلاليف، والذئاب-لا تزال تجوس خلال الغابات، وكان أكثر من يفلح الضياع هم الأسرى أو الأرقاء. وكان الاسترقاق في بعض الحالات مآل المذنبين أو المجرمين، وكان في وسع الأزواج أو الآباء أن يبيعوا أزواجهم أو أبنائهم إذا اضطرتهم الحاجة إلى بيعهم، وكان جميع أبناء الأمة أرقاء ولو كان آباءهم من الأحرار. وكان في مقدور السيد أن يقتل عبده متى أراد، وأن يضاجع أمته ثم يبيعها وهي حامل منه.

ص: 275

ولم يكن من حق العبد أن يرفع قضية إلى محكمة، وإذا قتله غريب ذهبت ديته القليلة إلى مالكه، وإذا أبق ثم قبض عليه كان يستطاع جلده حتى يموت (10) وكانت أهم تجارة في برستل Bristol هي تجارة الرقيق. وكان سكان البلاد كلهم إلا القليلين منهم قرويين، فكانت البلدان كفوراً، والمدن بلداناً غير كبيرة

(1)

فكانت لندن، وإكستر، ويورك، وتشستر، وبرستل، وجلوسستر، وأكسفورد، ونروج Norwich، وورستر، وونشستر كانت هذه كلها بلداناً صغيرة ولكنها نمت نمواً سريعاً بعد زمن ألفرد، ولما أن جاء الأسقف مليتس في عام 601 ليعظ في لندن لم يجد إلا "عدداً قليلاً من السكان الوثنيين"(11)، في البلدة التي كانت إحدى الحواضر في أيام الرومان، ثم عادت إلى النماء في القرن الثامن بفضل مركزها الحربي المشرف على نهر التاميز، حين أصبحت في عهد كنوت عاصمة البلاد القومية.

وكانت الصناعة تعمل عادة للسوق المحلية، غير أن صناعتي النسيج والتطريز كانتا أكثر تقدماً من سائر الصناعات، وكانتا تصدران منتجاتهما إلى بلاد القارة الأوربية. وكانت وسائل النقل صعبة غير آمنة، والتجارة الأجنبية ضئيلة الشأن. وبقيت الماشية تستعمل أداة للتبادل حتى القرن الثامن، ولكن بعض الملوك سكوا في ذلك القرن نقوداً فضية، منها شلنات ومنها جنيهات؛ وكانت أربعة شلنات في إنجلترا في القرن العاشر تكفي لشراء بقرة وتكفي ستة لشراء ثور (12). وكانت الأجور منخفضة بهذه النسبة نفسها، وكان الفقراء يسكنون في أكواخ خشبية ذات سقف من القش، ويعيشون على الخضر، أما خبز القمح واللحم فكانا طعام الأغنياء أو حفلات أيام الآحاد. وكان الأغنياء يزينون قصورهم

(1)

وقد احتفظت كثير من المدن الإنجليزية بمقاطع أنجليسكسونية في بدايتها- tun town بلدة. (home) nam وطن، Wick (house) منزل أوغور، Thorp (قرية)، burb (قصبة).

ص: 276

الساذجة الخشنة بستائر مصورة، ويدفئون أجسامهم بالفراء، ويجملون أثوابهم بالتطريز، ويزينون أنفسهم بالجواهر.

ولم تكن العادات والأخلاق ظريفة متأنقة كما أضحت في بعض العصور المتأخرة من تاريخ إنجلترا، فنحن نسمع الشيء الكثير عن الخشونة والفظاظة، والوحشية، والكذب والغدر، والسرقة وغيرها من العادات المتأصلة، ويعترف القراصنة النورمان الذين أغاروا على إنجلترا في عام 1066، ومنهم من لم يكونوا أبناء شرعيين، بأنهم دهشوا من انحطاط المستوى الخلقي والثقافي عند ضحاياهم. وكان جو إنجلترا الرطب يغري الإنجليز- السكسون بالإفراط في الطعام والشراب، وكانت "حفلة الجعة" عندهم من مستلزمات المجتمعات والأعياد. ويصف القديس بنيفاس الإنجليز في القرن الثامن وصفاً بهيجاً لا يخلو من المغالاة فيقول "إن المسيحيين والوثنيين على السواء يأبون أن تكون لهم زوجات شرعيات، ولا يزالون يعيشون عيشة الدعارة والزنى كما تعيش الخيل الصاهقة والحمر الناهقة"(13) وكتب في عام 756 إلى الملك إثلبولد Ethelbald يقول:

"لو أن احتقارك للزواج المشروع كان يهدف إلى الطهارة لكان أمراً محموداً، أما وأنتم منغمسون في الترف، وترتكبون الزنى مع الراهبات أنفسهن، فإن ذلك الاحتقار أمر مرذول يسربلكم العار

ولقد سمعنا أن نبلاء مرسية كلهم تقريباً يحذون حذوكم، فيهجرون أزواجهم الشرعيات، ويرتكبون الفحشاء مع الزانيات والراهبات

خذوا حذركم من هذا

إذا كانت أمة الإنجليز

تحتقر الزواج المشروع، وتسارع إلى الزنى، فلا بد أن يؤدي هذا الاتصال إلى وجود شعب دنيء يحقر الله، وستجر الخراب والدمار على البلاد بهذا التهتك وهذه الأخلاق المرذولة".

وكان من حق الزوج في القرون الأولى من حكم الإنجليز- السكسون أن يطلق زوجته متى شاء وأن يتزوج غيرها. وقد ندد مجمع هرتفورد Hertford

ص: 277

الديني (673) بهذه العادة، وعمل نفوذ الكنيسة بالتدريج على تثبيت قواعد العلاقة الزوجية، فارتفعت مكانة النساء ارتفاعاً عظيماً وإن لم يمنع هذا استرقاقهن في بعض الأحيان. ولم يكن النساء يتلقين إلا القليل من التعليم في الكتب، ولكن لم يجدن في ذلك ما يحول بينهن وبين تأثيرهن في الرجال واجتذابهم لهن. فكان الملوك يصبرون كثيراً على مغازلة النساء المتشامخات، ويستشيرون زوجاتهم في السياسة العامة (15). وقد ظلت إثلفلد ابنة ألفرد، وهي ملكة ونائبة عن الملك، جيلاً من الزمان تحكم مرسية حكماً حازماً صالحت، أنشأت فيه المدن، وأحكمت وضع الخطط الحربية، وانتزعت من الدنمرقيين دربي، وليستر، ويورك. ويقول عنها وليم من أهل مالمزبري إنها عانت مشقة كبيرة حين وضعت أول طفل لها، فأبت بعد ذلك عناق زوجها، وقالت إنه لا يليق بابنة ملك أن تستسلم لمتعة وقتية تؤدي بعد حين إلى تلك العواقب المتعبة" (16). وكانت تعيش في مرسية وقتئذ (حوالي 1040) جدجيفا Godgifa زوجة إيرل ليوفريك Earl Leofric. ودارت حول اسمها جديفا Godiva الذي اشتهرت به فيما بعد كثير من القصص الممتعة الجذابة، وأقيم لها تمثال في كوفنتري Coventry

(1)

.

وعانى التعليم، كما عانى كل شيء سواه، الأمرين من جرّاء الفتح الإنجليزي-السكسوني، ثم أخذ ينهض من كبوته على مهل بعد أن اعتنق الفاتحون الدين المسيحي. فقد افتتح بندكت بسكوب Benedict Biscop مدرسة في دير ويرزموث Wearsmouth حوالي عام 660، كان بيد Bede من خريجيها. وأنشأ إجبرت مدرسة ومكتبة في كنيسة يورك (735)، صارت أهم مركز للتعليم الثانوي في إنجلترا، وأضحت إنجلترا في النصف الثاني من

(1)

وقد ورد في هذه القصة أن ليوفريك رضى أن يعفي المدينة من ضريبة باهظة إذا أخرجت هي إلى الشوارع راكبة وعارية. والعالم كله يعرف بقية القصة.

ص: 278

القرن الثامن بفضل هاتين المدرستين وغيرهما من المدارس حاملة لواء التعليم في أوربا الواقعة شمال جبال الألب.

ويتجلى إخلاص معلمي الأديرة وظرفهم في شخصية بيد الموقرة The Venerable Bede أعظم علماء زمانه (673 - 735) وقد لخص هو سيرته تلخيصاً متواضعاً فقال:

بيد خادم المسيح، قس دير الرسولين المباركين، بطرس وبولس، القائم في ويرزموث وجرو. وإذ كنت قد ولدت في إقليم ذلك الدير فقد أدخلني أهلي فيه وأنا في السبعة من عمري لأربى على يدي رئيسه المبجل بندكت بسكوب، ولقد قضيت حياتي كلها بعد ذلك الوقت في هذا الدير، وبذلت كل ما أستطيع من جهد لدراسة الكتاب المقدس، والمحافظة على السنين المتبعة وترتيل الأناشيد اليومية في الكنيسة، وكنت أستمتع على الدوام بتلقي العلم أو بالتدريس أو بالكتابة

حتى عينت شماساً في التاسعة عشرة من عمري، ثم أصبحت قساً في سن الثلاثين

وبقيت من هذه السن إلى التاسعة والخمسين عاكفاً على دراسة الكتاب المقدس والأعمال الآتية

(17).

وكلها باللغة اللاتينية، وتشمل تعليقات على الكتاب المقدس، ومواعظ، وثبتاً بالحوادث العالمية وتواريخها، ورسائل في النحو، والرياضيات، والعلوم، والدين، وأهم من هذا كله كتابه في التاريخ الكنسي للأمة الإنجليزية (731). ويختلف هذا الكتاب الأخير عن معظم تواريخ الأديرة في أنه ليس سجلاً، حافلاً للحوادث؛ وربما كان في الجزء الأخير منه مثقلاً فوق ما يجب بأخبار المعجزات. وأن صاحبه على الدوام سريع التصديق لما لا يصح تصديقه، مدفوعاً إلى هذا بسذاجته البريئة الطاهرة، شأن العقل الحبيس من سن السابعة؛ ولكنه رغم هذا كله قصة واضحة خلاّبة، تسمو في أجزاء متفرقة منها إلى البلاغة

ص: 279

البسيطة، كما نرى ذلك في وصفه للفتح الأنجليسكسوني (18). وكانت بيد رجلاً مفكراً حتى الضمير، يعني أشد العناية بتواريخ الحوادث، وهو في العادة دقيق فيما يورده منها؛ يعين المراجع التي يعتمد عليها، ويسعى للحصول على الشواهد من مصادرها الأولى، ويقتبس مما يستطيع الوصول إليه من الوثائق الصحيحة. ومن أقواله في هذا المعنى:"لست أريد أن يقرأ أبنائي أكذوبة واحدة"(19)، ونرجو أن يكون قصده بأبنائه تلاميذه الستمائة الذي علمهم. وقد توفي بعد ست سنين من كتابة سيرته الذاتية السالفة الذكر، والتي جمع في سطورها الختامية كل ما حوته تقوى العصور الوسطى من رقة وإيمان:

"وأتوسل إليك يا يسوع الرحيم أن تمن بفضلك على من عطفت عليه فأسقيته من كلمات علمك العذبة بأن يقبل في يوم من الأيام عليك يا ينبوع الحكمة بأجمعها ويقف على الدوام أمام وجهك".

ويذكر بيد أن الناس في زمانه كانوا يتحدثون في إنجلترا بخمس لغات: الإنجليزية، والبريطانية (الكلتية)، والأيرلندية، والبكتية (الاسكتلندية)، واللاتينية. فأما الإنجليزية فكانت لغة الإنجليز (Angles) ، ولكنها لم تكن تختلف عن اللغة السكسونية إلا قليلاً، وكان يفهمها الفرنجة، والنرويجيون والدنمرقيون، فقد كان هؤلاء الأقوام الخمسة يتكلمون لهجات مختلفة من اللغة الألمانية، وقد نشأت الإنجليزية من اللغة الألمانية نفسها. وكان ثمة أدب أنجليسكسوني جدير بالاعتبار من القرن السابع، وليس لنا مصدر نعتمد عليه في تقدير معظمه إلا قطع متفرقة منه لأن جزأه الأكبر قد اندثر بعد أن أدخلت اللاتينية في إنجلترا الحروف اللاتينية (واستبدلتها بحروف شمالي أوربا التي كانوا يكتبون بها من قبل)، وبعد أن دمرت الفتوح الدنمرقية كثيراً من دور الكتب، وحين غمرت الفتوح النورمندية اللغة الإنجليزية بفيض من اللغة الفرنسية. يضاف إلى هذا أن كثيراً من القصائد الأنجليسكسونية كانت قصائد

ص: 280

وثنية، وكان يتناقلها جيلاً بعد جيل شعراء مغنون مستهترون بعض الاستهتار في حياتهم وحديثهم، وكان يحرم على الرهبان والقساوسة أن يستمعوا إليهم. ومع هذا فأكبر الظن أن راهباً من رهبان القرن الثامن هو الذي كتب أقدم قطعة بقيت لنا من الأدب الأنجليسكسوني-وهي شرح منظوم لسِفر التكوين ليس فيه من الإلهام كما في الأصل وقد وضع بين أبيات القصيدة ترجمة لقصة ألمانية تروي خروج آدم من الجنة. وهنا تسري في الشعر الحياة، ومن أكبر أسبابها أن الشيطان يصور في صورة الثائر المنفعل المتحدي، ولعل ملتن Milton قد وجد هنا لمحة بنى عليها وصفه للشيطان في قصيدته. ومن القصائد الأنجليسكسونية ما هو مراث؛ فقصيدة "الجائل" مثلاً تتحدث عن الأيام السعيدة الخالية في قصور الأشراف؛ أما الآن وقد مات النبيل "فقد أقفرت هذه الأرض الثابتة كلها" وأصبح "أكثر ما يثر الأشجان أن نتذكر أسباب السعادة"(20)؛ وليس ثمة تعبير عن هذه الفكرة أجمل من هذا التعبير لا نستثني من ذلك شعر دانتي نفسه. وأكثر ما تتغنى به هذه القصائد القديمة هو الحرب وهي حين تفعل هذا ممتعة قوية. و "أنشودة واقعة ملدون Maldon"(حوالي 1000) لا نرى في هزيمة الإنجليز شيئاً غير البطولة، والمحارب القديم برهتود Byrhteod، وهو واقف أمام جسد سيده القتيل "يبث الشجاعة" في قلوب السكسون حين أحدق العدو بهم بعبارات كعبارات مالوري Malory وتسبقها في الزمن:

كلما نقصت قوانا زادت أفكارنا صلابة، وقلوبنا حدة، وتضاعفت أمزجتنا. وها هو ذا أميرنا مزجى على الأرض؛ لقد قطعوه وأماتوه! ألا فلتحل الأحزان والأشجان أبد الدهر بالرجل الذي يغادر وطيس القتال! لقد تقدمت بي السنون، ولكنني لن أبرح هذا المكان؛ إني أريد أن أرقد إلى جانب مولاي، إلى جانب الرجل الذي أعزه (21).

ونظن أن بيولف Beloeulf أطول القصائد الأنجليسكسونية وأنبلها قد،

ص: 281

أنشئت في القرن السابع أو الثامن، واحتفظ بها لنا مخطوط يرجع تاريخه إلى عام 1000 يوجد الآن في المتحف البريطاني. ويبدو أن أبياتها البالغ عددها 3183 بيتاً هي القصيدة بأكملها والشعر غير مقفى ولكنه موزون متجانسة أوائل ألفاظه، مصوغ في لهجة سكسونيا الغربية لا نستطيع أن نفهمها في هذه الأيام. والقصة نفسها كأنها عبث الأطفال، وخلاصتها أن بيولف أمير القيط (القوط؟) في جنوبي السويد يعبر البحر ليطلق سراح هرنجار Hrothgar ملك الدنمرقة من التنين جرندل Grendel؛ وبعد أن يغلب جرندل وأم جرندل نفسها، يعود بطريق البحر إلا قيطلاند Geatland ويحكمها حكماً عادلاً مدة خمسين عاماً. ويظهر وقتئذ تنين ثالث يقذف باللهب ويعيث فساداً في أرض القيط، فيهاجمه بيولف، ويصاب في هذا الهجوم بجرح مميت، فيخف صديقه وجلاف Wiglaf إلى معونته ويتعاونان على قتل التنين. ويموت بيولف من أثر جرحه، وتحرق جثته على كومة الحريق. وليست القصة من السذاجة كما تبدو لنا من روايتنا هذه؛ فالتنين الذي تتحدث عنه آداب العصور الوسطى يمثل الحيوان البري الذي يكمن في الغابات المحيطة بمدن أوربا، وفي وسعنا أن نعفو عن خيال الناس الذين صور لهم الفزع هذه الوحوش في تلك الصورة الخرافية، ولقد نسجوا حولها كثيراً من الأقاصيص يعبرون بها عن شكرهم للرجال الذين تغلبوا على هذه الوحوش حتى أمنت القرى والنجوع شرهم.

وبعض فقرات القصيدة مسيحية الصبغة لا تنسجم مع بقية أجزائها، كأنما أراد ناشر رحيم من الرهبان أن يحفظ هذه القصيدة الوثنية الرائعة بأن يضيع في أجزاء متفرقة منها سطراً يشعر بالتقي والصلاح. غير أن جو القصيدة وحوادثها جو وثني خالص وحوادث وثنية خالصة. ولقد كان الحب، والحياة، والمعارك الحربية على الأرض هي التي تعني بها أولئك "النساء الحسان والرجال البواسل"، ولم يكونوا يعنون بجنة هادئة وراء القبور. ويقول المؤلف في بداية القصيدة بعد

ص: 282

أن يدفن سلد Scyld الملك الدنمرقي كما يدفن قراصنة الشمال في قارب يدفع إلى البحر وهو خال من الملاحين: "لا يستطيع الناس أن يقولوا وهم واثقون من الذي تلقى هذا العبء". غير أن جو القصيدة ليس بالجو الوثني المرح، بل تسري فيها من أولها إلى آخرها روح نكدة، وأكثر من هذا أن تلك الروح نفسها لا تبرح الحفلة التي أقيمت في بهو هرثجار. وفي وسعنا أن نلمح ثنايا أبيات القصيدة المتدفقة وما فيها من طرب وتحسر أنين العازف على القيثار:

ثم جلس بيولف على مقعد بجوار البئر

وأخذ يتحدث عن جرحه، وعما يحس به من آلام شديدة أشرف من جرّائها على الموت؛ وأدرك أن منيته قد دنت

ثم طاف حول كومة الدفن رجال أبطال أقران حرب، يريدون أن يعبروا عن أحزانهم، وأن يرثوا الملك، وأن ينشدوا ويتحدثوا عن الرجل؛ فأخذوا يشيدون بكل ما أوتوا من قوة ببطولته في أثناء حياته، ويمتدحون أعماله الباسلة الجديدة

ويقولون إنه كان أعظم ملوك العالم رأفة ورحمة، وأرقهم في معاملة شعبه، وأحرصهم على كسب الثناء

ومن أجل هذا كان خليقاً بالإنسان أن يثني على سيده وصديقه

وأن يحبه بكل قلبه، إذا ما حان أجله، وفارقت روحه جسده، وغادر هذا العالم.

وأكبر الظن أن بيولف أقدم ما بقي لدينا من القصائد في أدب بريطانيا، ولكن كيدمون Coedmon (المتوفى سنة 680) وهو أقدم الأسماء في هذا الأدب. ولسنا نعرفه إلا من فقرة طريفة في كتاب بيد، فقد جاء في كتاب التاريخ الكنسي (23) أنه كان في دير هوتبي Whitby أخ ساذج يجد في الغناء من الصعوبة ما يحمله على الهرب إلى مكان يختبئ فيه كلما جاء دوره في الغناء. وخيل إليه ذات ليلة وهو نائم مستقر في مرقده أن ملكاً قد جاءه وقال له:"غن لي شيئاً يا كيدمون! " فقال الراهب إنه لا يستطيع الغناء، فأمره الملك أن يغن، وحاول كيدمون الغناء، ولشد ما دهش من نجاحه، ولما استيقظ في

ص: 283

الصباح تذكر الأغنية، وأعاد غناءها؛ ولهذا أخذ يحاول قرض الشعر ونظم سفري التكوين، والخروج، والأناجيل شعراً "صاغه" كما يقول بيد "بألفاظ عذبة تأخذ بمجامع القلوب". ولم يبق من هذه الأشعار كلها إلا أبيات قليلة ترجمها بيد إلى اللغة اللاتينية. وبعد عام من ذلك الوقت حاول سينولف Cynewuif (ولد حوالي عام 750) وهو شاعر مغن في بلاط نورثمبرلاند أن يخرج هذه الرواية إلى حيز الوجود بأنه ينظم عدة قصص دينية مختلفة-"المسيح" و "أندرياس Andreas" و "يوليانا"، ولكن هذه القصص تبدو، إذا ما قورنت بقصة بيولف المعاصر لها، ميتة لا حياة فيها لكثرة ما بها من الصناعة والمحسنات اللفظية.

ويجيء النثر الأدبي في جميع الآداب بعد الشعر في الترتيب الزمني، لأن العقل ينضج قبل أن تتفتح أزهار الخيال، مع أن الناس ينطقون بالنثر قروناً "وهم لا يعرفون" قبل أن يتسع لهم وقتهم أو يمكنهم غرورهم من أن يصوغوه فناً من الفنون. وأوضح شخصية في نثر إنجلترا الأدبي هي شخصية ألفرد، فتراجمه ومقدماته يضفي عليها الإخلاص والبساطة كثيراً من البلاغة، وهو الذي بذل من الجهد في نشر "ملف الأسقف Bishop's Roll" الذي كان محفوظاً عند قساوسة كنيسة ونشستر، فاستحال على يديه أقوى وأوضح أقسام السجل الأنجليسكسوني أول كتاب قيم في النثر الإنجليزي. وليس ببعيد أن يكون معلمه أسر Asser هو الذي كتب الجزء الأكبر من حياة ألفرد، أو لعل هذه السيرة قد جمعت فيما بعد (حوالي عام 974)؛ ومهما من يكن من شأنها فهي مثل من أقدم الأمثلة على استعداد الإنجليز باللغة اللاتينية في الكتب التاريخية والدينية، على حين أن "القارة" الأوربية التي كانت لا تزال تستحي من أن تكتب هذه المؤلفات الكريمة باللغة "العامية".

ولقد وجد الناس بين مشاغل الشعر والحرب من النشاط والوقت ما يمكنهم

ص: 284

من تصوير المعاني، وتجميل الأشياء ذات النفع المادي. فقد أنشأ ألفرد مدرسة للفن في أثلني Athelney، واستقدم إليها من جميع الأنحاء رهباناً يحذقون الفنون والصناعات، "ولم ينقطع في أثنائه حروبه الكثيرة" كما يقول أسر "عن أن يعلم عماله في صناعة الذهب وصناعه في جميع الحرف"(25) ولم يقنع دنستان Dunstan بأن يكون من رجال الحكم والقديسين، فأخذ يمارس بجد صناعتي الحديد والذهب، وكان إلى هذا موسيقياً بارعاً صنع لكنيسة جلاستنبري أرغناً ذا مزامير. وقامت في البلاد الصناعات الفنية الدقيقة في الخشب، والمعادن، والميناء المقسمة، واشترك قاطعو الجواهر مع الحفارين في صنع الصلبان المنحوتة والمطعمة بالجواهر في رثول Ruthwetl وبيوكاسل Bewcasle (حوالي عام 700)، وصب تمثال من الشبه للملك كدولو Cadwailo (المتوفى سنة 677) ممتط صهوة جواد بالقرب من لدجيت Ludgate. وكانت النساء ينسجن أغطية الفراش، والأقمشة التي تزدان بها الجدران، والمطرزات، من الخيوط البالغة غاية الدقة (26). وزخرف رهبان وليشستر بالرسوم ذات الألوان الزاهية كتاب أدعية في القرن العاشر. وشادت ونشستر نفسها ويرك كنائس من الحجر منذ عام 635؛ وجاء بندكت بسكوب بالطراز اللمباردي إلى إنجلترا من الكنيسة التي أقامها في ويرزموث عام 674؛ وأعادت كنتربري في عام 950 بناء الكنيسة التي بقيت فيها من أيام الرومان. وينقل لنا بيد أن كنيسة بندكت بسكوب قد ازدانت بالنقوش المصنوعة في إيطاليا، "وأن كل من دخلها، وإن كان جاهلاً لا يعرف شيئاً من العلوم والمعارف، لا يسعه أينما ولى وجهه إلا أن يتأمل مظاهر المسيح وقديسيه التي لا يبلى جمالها

وأن يذكر وهو يرى أمام عينيه صورة يوم الحساب أن من واجبه محاسبة نفسه حساباً عسيراً" (27). وقصارى القول أن القرن السابع قد شهد نهضة في البناء في بريطانيا؛ ذلك أن الأنجليسكسون كانوا قد أتموا فتوحهم، والدنمرقيون لم يبدءوها، وأصبح البناءون الذين كانوا من قبل يبنون

ص: 285

بالخشب يجدون لديهم الموارد والعزائم التي تمكنهم من تشييد الأضرحة والمعابد بالحجارة. ولكننا يجب ألا ننكر أن بندكت قد استقدم من غالة البنّائين، وصانعي الزجاج، وصانعي الذهب، وأن الأسقف ولفرد Wilfrid قد جاء بالمثالين والنقاشين من إيطاليا لزخرفة كنيسته التي شادها في هكسهام Hexham في القرن السابع؛ وأن إنجيل لندسفارن Lindisfarne (حوالي عام 730) ذا الزخرف الجميل كان من عمل رهبان أيرلنديين دفعهم فرط زهدهم أو تحمسهم للتبشير إلى تلك الجزيرة القفرة القريبة من ساحل نورثمبرلاند. وقضى مجيء الدنمرقيين على هذه النهضة القصيرة الأجل، ولم يواصل فن العمارة الإنجليزية العود إلى ما بلغه بعدئذ من العظمة والجلال حتى استقر سلطان الملك كنوت في إنجلترا على أساس مكين.

‌3 - بين فتحين

1016 -

1066

لم يكن الملك كنوت فاتحاً وكفى، بل كان إلى هذا حاكماً قديراً. ولسنا ننكر أنه لوث بداية حكمه بأعمال القسوة: فقد طرد من البلاد أبناء إدمند إيرنسد Edmund Ironside وأمر بذبح أخي إدمند ليمنع بذلك عودة الملوك الأنجيسكسون إلى العرش. لكنه لما رأى أن أرملة إثلرد وأبناءه لا يزالون أحياء في رون Rouen، تغلب على كثير من المشاكل بأن خطب إما Emma لنفسه (1017). وكانت هي وقتئذ في الثالثة والثلاثين من عمرها، وقبلت الخطبة وحصل كنوت بضربة واحدة على زوجة، وحلف مع دوق نورمندية أخي إما، وعلى عرش مكين أمين. وأصبح عرشه من تلك اللحظة نعمة على إنجلترا وبركة. فقد كبح جماح الأعيان المشاكسين الذين حطموا روح إنجلترا وفرقوا وحدتها، ووقى البلاد شر الغزاة في المستقبل، ووهبها أثني عشر عاماً من السلم غير المنقطعة واعتنق الملك الدين المسيحي، وشاد كثيراً من الكنائس، وأقام نصباً تذكارياً

ص: 286

أسندون Assndun إحياء لذكرى الأنجليسكسون والدنمرقيين الذين حاربوا في ذلك المكان، وحج بنفسه إلى قبر إدمند، ووعد بأن يتبع قوانين إنجلترا وأنظمتها القائمة فيها، ووفى بوعده فيما عدا حالتين اثنتين: فقد أصر على أن تكون حكومة المقاطعات التي أفسدها الأعيان الأتوقراطيون تحت سيطرة عملائه هو، واستبدل بكبير الأساقفة وزيراً من غير رجال الدين ليكون كبير مستشاري التاج، وأنشأ طائفة من العمال الإداريين والموظفين المدنيين كان لهم الفضل في جعل حكومة البلاد ثابتة مستمرة، وكان عماله كلهم تقريباً، بعد سني حكمه الأولى المزعزعة، من الإنجليز. وقد جمع بين تاجي الدنمرقة وإنجلترا، ثم أصبح في عام 1028 ملكاً على النرويج، ولكنه كان يحكم مملكته الثلاثية من مدينة ونشستر.

وكان الغزو الدنمرقي حلقة في سلسلة الغزوات الأجنبية الطويلة وفي الامتزاج العنصري اللذين انتهيا بالفتح النورمندي وأنتجا آخر الأمر الشعب الإنجليزي. فقد امتزجت دماء الكلت والغاليين، والإنجليز والسكسون والجوت، والدنمرقيين والنورمان، بالزواج أو بغيره من الوسائل، فخلقت من البريطانيين أهل البلاد في زمن الرومان، وهم الذين ليست لهم ميزة ولا قدرة على الابتكار، خلقت منهم قراصنة عهد الملك إلزبث الصخابين، وفاتحي العالم الصامتين في القرون التالية. ولقد جاء الدنمرقيون إلى إنجلترا، كما جاء إليها الألمان وأهل الشمال، بحب للبحر يكاد يبلغ درجة الوجد والهيام، واستعداد لقبول دعوة البحر الغادرة إلى المغامرة والاتجار في أقاصي البلاد، أما من الجهة الثقافية فقد كانت غزوات الدنمرقيين كارثة على البلاد، وقف في أثنائها فن البناء فلم يخط خطوة إلى الأمام، وانحل فن زخرفة الكتب فيما بين عامي 750، 950؛ كما وقفت النهضة العلمية والأدبية التي شجعها ألفرد، وفعلت غزوات الشماليين ما فعلته في غالة نفسها فأخذت تقضي على أعمال شارلمان المجيدة.

ص: 287

ولو أن أجل كنوت طال لأمكنه أن يصلح الأضرار التي أنزلها مواطنوه بالبلاد، ولكن شئون الحرب والحكم تبلى الناس سراعاً، فلقد مات كنوت عام 1035 ولما يتجاوز سن الأربعين؛ وخلعت النرويج نير الدنمرقيين على الفور، واضطر هارثكنوت Harthacnut بن كنوت الذي عينه قبل موته ولياً لعهده أن يكرس كل جهوده لحماية الدنمرقة من غزو النرويجيين؛ وحكم ابن آخر من أبنائه يدعى هيرلت هيرفوت Herald Harefoot إنجلترا خمس سنين؛ ثم مات؛ وحكمها هارثكنوت عامين توفي بعدها سنة 1042، واستدعى من نورمنديا قبل وفاته ابن إثرل وإما الباقي على قيد الحياة، واعترف بهذا الأخ الأنجليسكسوني غير الشقيق وارثاً لعرش إنجلترا.

ولكن إدورد المعترف Edward the Confessor (1042 - 1066) كان غريباً عن البلاد بقدر ما كان أي دنمرقي آخر غريباً عنها. فقد نقله أبوه إلى نورمندية وهو في العاشرة من عمره، وقضى ثلاثين عاماً في بلاط النورمنديين، وتربى على أيدي أعيانهم وقساوستهم ونشئوه على التقي والصراحة. وجاء الملك الجد إلى إنجلترا بلغته وعاداته الفرنسية وأصدقائه الفرنسيين، وأصبح هؤلاء الأصدقاء من كبار موظفي الدولة ورؤسائها الدينيين؛ وتلقوا هبات ملكية، وشادوا في إنجلترا قصورا نورمندية منيعة، ولم يخفوا ازدراءهم للغة الإنجليزية وأساليب الحية الإنجليزية، وبدءوا الفتح النورمندي قبل وليم الفاتح بجيل من الزمان.

ولم يكن يستطيع في التأثير في الملك الرقيق المطواع إلا رجل واحد هو إيرل جدون Earl Gowdin حاكم وسكس ومستشار الدولة الأول في عهد كنوت وهرلد وهارثكنوت وكان إيرل جدون واسع الثراء حكيماً، داهية في الديبلوماسية صبوراً عليها، فصيح اللسان، قوي الحجة، بارعاً في الأعمال الإدارية؛ فكان بذلك أول الساسة العظام من غير رجال الدين في التاريخ

ص: 288

الإنجليزي. وقد رفعت تجاربه في شئون الحكم منزلته فوق منزلة الملك نفسه. وأضحت ابنته إديت Edilh زوجة إدوارد، ولولا إن إدوارد لم يكن له خلف لكان من المحتمل أن يصبح جدون جد ملك من الملوك. ولما أن تزوج تستنج Tostig ابن جدون يوديث Judith ابنة كونت فلاندرز، وأصبح سوين Soweyn ملكاً على الدنمرقة أنشأ إيرل جدون بهذه الصلات الزوجية حلفاً ثلاثياً جعله أقوى رجل في أوربا الشمالية كلها لا نستثني من ذلك التعميم مليكه نفسه. لكن أصدقاء إدوارد النورمنديين أثاروا في نفسه عوامل الغيرة، فعزل دون، وفر الإيرل إلى فلاندرز، كما خرج ابنه هرولد Harold إلى إيرلندة وحشد فيها جيشاُ ليقاتل به إدوارد المعترف (1051). ولم يكن أعيان الإنجليز راضين عن سيادة النورمنديين عليهم، فطلبوا إلى جدون أن يعود، ووعده بتأييد جنوده له. وغزا هرولد إنجلترا، وهزم جيوش الملك، ونهب ساحل إنجلترا الجنوبي الغربي وعاث في أرضه فساداً، ثم انضم إل والده وزحفا معاً إلى أعالي نهر التاميز، وثار الشعب في لندن على حكامه واستقبل الغزاة بالترحاب، وفر الموظفون ورجال الدين النورمنديون، واجتمع وتناجمور (مجلس) من أعيان الإنجليز وأساقفتهم، واستقبل جدون استقبال الظافرين؛ واسترد جدون سلطانه السياسي وما صودر من أملاكه (1052)، ولكنه مات بعد عام واحد بعد أن أنهكه الاضطراب والنصر.

وعُيّن هرولد إيرل وسكس، وخلف أباه في بعض ما كان له من سلطان. وكان وقتئذ في الحادية والثلاثين من عمره، طويل القامة، بهي الطلعة، قوي البنية، شهماً، مقداماً جريئاً، قاسياً في الحرب، كريماً في السلم شن حملة جريئة خاطفة على ويلز انتهت بضمها إلى إنجلترا، وقدم رأس جروفيد Gruffyodd زعيم ويلز هدية إلى الملك المسرور المروع (1063). وفي فترة هادئة من حياته العاصفة جاد بالمال الكثير لبناء كنيسة ولتام Watham، (1060) وإعانة

ص: 289

الكلية التي نشأت من مدرسة هذه الكنيسة، واجهت أنظار إنجلترا كلها إلى هذا الشاب الذي لا يفترق في شيء عن أبطال الروايات.

وأهم ما حدث في عهد إدوارد من الناحية المعمارية هو الشروع في بناء دير وستمنستر (1055). وكان الملك قد ألِفَ الطراز المعماري النورمندي أثناء حياته في رُوَن Rouen، فلما أمر ببناء الدير الذي أًبح فيما بعد مزاراً مقدساً ومقبرة لعباقرة إنجلترا، أمر أو أجاز أن يقام على الطراز النورمندي الرومانسي على نسق كنيسة الدير العظيمة التي بدئ في تشييدها قبل ذلك الوقت بخمس سنين لا أكثر في جومييج Jumi (ges، وكان هذا أيضاً فتحاً نورمندياً قبل أيام وليم. وكان بناء دير وستمنستر إيذاناً ببداية نهضة معمارية أوجدت في إنجلترا أجمل المباني الرومانسية في أوربا بأجمعها.

وفي مقبرة وستمنستر دفن إدوارد في بداية سنة 1066 ذات الأحداث الجسام، واجتمع الويتناجمور في السادس من يناير واختار هرودلد ملكاً على إنجلترا. وما كاد التاج يوضع على رأسه حتى جاءت الأخبار بأن وليم دوق نورمندية يطالب بالعرش ويستعد للحرب. وكانت حجة وليم أن إدوارد قد وعده في عام 1051 أن يوصي له بتاج إنجلترا جزاء له على إيوائه وحمايته في نورمندية ثلاثين عاماً. ويخيل إلينا أن هذا الوعد قد بذل حقاً (28)؛ ولكن إدوارد إما أن يكون قد نسيه، وإما أنه ندم على ما بذله، فأوصى قبل وفاته بقليل أن يخلفه هرولد على عرش إنجلترا. وسواء كان هذا أو ذاك فإن هذا الوعد لم تكن له قيمة إلا إذا أقره الويتان Witan، ولكن هرولد-كما يقول وليم-قد قبل منه مرتبة الروسية أثناء زيارة له في رون (في تاريخ لا نعرفه الآن)، فأصبح بذلك "رجل" وليم يدين له بالطاعة حسب قانون الإقطاع، وأنه وعد بأن يعترف به وارثاً لعرش إدوارد ويؤيده في المطالبة به. واعترف هرولد بهذا الوعد (29) ولكن قَسَمه أياً كان لم يكن من شأنه في هذه المرة أيضاً أن يقيد الأمة الإنجليزية بشيء،

ص: 290

فاختاره ممثلو الأمة بكامل حريتهم ملكاً عليهم، واعتزم هرولد أن يدافع عن ذلك الاختيار. ولجأ وليم إلى البابا، وحكم الكسندر الثاني بناء على مشورة هلدبراند Hildebrand بأن هرولد مغتصب، وحرمه هو ومناصريه من الكنيسة المسيحية، وأعلن أن وليم صاحب الحق الشرعي في عرش إنجلترا، وبارك غزوة وليم المرتقبة، وبعث إليه بعدم مدشن وخاتم يحتوي على شعرة من رأس القديس بطرس في داخل ماسة (30). وقد سر هلدبراند أن يجعل هذه الحادثة سابقة لتصرف البابوات في عروش الملوك وفي خلعهم، وطبق هذه السابقة بالفعل بعد عشر سنين من ذلك الوقت على هنري الرابع ملك ألمانيا، ولم تكن ثمة صعوبة في استخدامها مع الملك جون عام 1213. وانضم لانفرانك رئيس دير بك إلى وليم في دعوة أهل نورمندية-أو على الأصح أهل جميع الأقطار-لشن حرب مقدسة على الملك المحروم.

ولاقى هرولد في كهولته الأخيرة جزاء ما ارتكبه في شبابه من آثام. ذلك أن أخاه تستج الذي نفاه الويتان من زمن بعيد لم يستدعه هرولد من منفاه بعد أن آل الأمر إليه، ولهذا انضم تستج إلى وليم، وحشد جيشاً في شمال البلاد، وأقنع هارولد هاردرادا Harald Hardrada ملك النرويج بأن ينضم إليه، ووعده في نظير ذلك بعرش إنجلترا. وبينما كانت عمارة وليم البحرية المؤلفة من 1400 سفينة تقلع من نورمندية إذ أغار تستج وهاردرادا على نورثمبرلاند. واستسلمت لها مدينة يورك، وتوج فيها هاردرادا ملكاً على إنجلترا، وأسرع إليه هرولد بمن معه من الجند وهزم الغزاة من الشمال عند جسر استامفورد Stamford Bridge (في 25 سبتمبر)، وقتل في هذه الواقعة تستج وهاردرادا، ثم اتجه هرولد نحو الجنوب ومعه قوة قليلة يعجز لقلتها عن الوقوف في وجه جيش وليم، وأشار عليه جميع ناصحيه بالتريث. ولكن وليم كان يحرق إنجلترا الجنوبية ويخربها تخريباً، وكان هرولد يحس بأن من واجبه أن يحمي الأرض التي خربها هو من قبل والتي أصبح

ص: 291

يحبها اليوم. والتقى الجيشان عند سنلاك Senlac بالقرب من هيستنجس Hastinges (14 أكتوبر) ونشبت بينهما معركة دامت تسع ساعات. واخترق أحد السهام عين هرولد فأعماه الدم، ووقع على الأرض ومزق فرسان النورمنديين جسمه تمزيقاً؛ فقطع أحدهم رأسه، وآخر ساقه، ونثر ثالث أحشاء هرولد في ميدان القتال. ولما رأى الإنجليز قائدهم يخر صريعاً ولوا الأدبار؛ وأعقبت هذه الهزيمة مذبحة وفوضى بلغ من هولهما أن الرهبان الذين كلفوا فيما بعد بالبحث عن جثة هرولد لم يعثروا عليها إلا بعد أن جاءوا إلى الميدان بإديت سوانزنك Edith Swansneck التي كانت عشيقته، فتبينت جثة عشيقها المبتورة الأطراف، ودفنت قطعها في كنيسة ولتام التي بناها في حياته. ثم توج وليم الأول ملكاً على إنجلترا في يوم عيد الميلاد من عام 1066.

ص: 292

الفصل الثاني

‌ويلز

525 -

1066

فتح فرنتينس Frontinus وأجركولا Agrtcola بلاد ويلز وضماها إلى روما في عام 78 م. ولما انسحب الرومان من بريطانيا استردت ويلز حريتها، وخضعت على كره منه لحكم ملوكها. واحتل غربي ويلز مستعمرون أيرلنديون في القرن الخامس، ثم جاء إليها فيما بعد آلاف من البريطانيين فارين من الأنجليسكسون الذين فتحول جزيرتهم. ووقف زحف الأنجليسكسون أمام الحواجز القائمة عند حدود ويلز وأطلقوا على الشعب الذي لم يخضعوه اسم ويلهاس Wealhas-" الأجانب". ووجد الأيرلنديون والبريطانيون في ويلز سلالة كلتية من جنسهم، وسرعان ما امتزجت الطوائف الثلاثة وأضحت سمرو Cymru " أبناء وطن واحد". وصار هذا واسمهم كما صار لفظ سمرو Cymru اسم بلادهم وكان هؤلاء الأقوام يقيمون نظامهم الاجتماعي كله على أساس الأسرة والعشيرة شأنهم في هذا شأن معظم الشعوب الكلتية-البريطانيين، والكورنيين Cornish - سكان كورنوول الحالية)، والأيرلنديين، والجيليين Gaeis سكان شمالي إسكتلندة، وقد بلغ من حرصهم على هذا النظام أن يصبحوا يأنفون وجود دولة تضمهم ويرتابون أشد الارتياب في كل شخص أو شعب يجري في عروقه الدم الأجنبي. ولم يكن سخاؤهم وإكرامهم للضيف أقل قوة من نزعتهم القبلية، كما لم تكن شجاعتهم تقل عن عدم خضوعهم للنظام، ولا حياتهم الشاقة وجو بلادهم القارس يقلان عن حبهم للموسيقى والغناء والوفاء للأصدقاء، ولا فقرهم عن عاطفتهم القوية وخيالهم الواسع اللذين جعلا من كل فتاة أميرة ومن نصف الرجال ملوكاً.

ولم يكن يعلو على منزلة الشعراء المنشدين إلا الملوك أنفسهم. ولم يكن هؤلاء

ص: 293

الشعراء هم عرّافي شعبهم ومؤرخيه ومستشاري ملوكه فحسب، بل كانوا إلى ذلك شعراؤه. وقد خلد الزمان اسمين اثنين من هؤلاء الشعراء هما تليزن Talesin وأنورين Aneurin؛ وقد عاش كلاهما في القرن السادس الميلادي. وكان هناك مئات غيرهما، وعبرت القصص التي نسجوا بردها القناة الإنجليزية إلى بريطاني، ووصلت في صورة مصقولة إلى فرنسا. وكون هؤلاء المنشدون طبقة من الشعراء الدينيين، لم يكن يسمع لأحد أن ينتمي إليها إلا بعد مران صارم دقيق في معارفه. وكان كل من يريد الدخول في زمرتهم يسمى مابينوج Mabinog، وكان الموضوعات التي يرسها تسمى مابينوجي Mobinogi، ولهذا أطلق اسم مابينوجيون Mabinogion على ما بقي من قصصهم (31). ولا ترجع هذه القصص في صورتها الحالية إلى ما قبل القرن الرابع عشر، ولكن أغلب الظن أنها ترجع إلى ذلك الوقت الذي لم تكن فيه المسيحية قد دخلت بلاد ويلز. وهي قصص بدائية ساذجة ذات نزعة وثنية تشهد بأن الأهلين كانوا من عباد الطبيعة، مليئة بالحيوانات الغربية والحادثات المدهشة، يسودها جو نكد من النفي، والهزيمة، والموت؛ ولكنها ذات مزاج رقيق بعيد كل البعد عن الشهوانية والعنف اللذين نشهدهما في قصص الإدا Eddas الأيسلندية Icelandic ن والساجا Sagas خرافات أهل الشمال، والنيبيلنجليد Nibelungelied. وقد نشأ في عزلة جبال ويلز أدب خيالي يفيض بالولاء للأمة، والإخلاص فيما بعد لعيسى ومريم. وكان لهذا الأدب شأن في نشأة الفروسية، والقصص العجيبة التي تتحدث عن الملك آرثر Arthur وفرسانه العشاق البواسل الذين أقسموا أن يقضوا على الوثنيين ويقيموا دين المسيح".

ودخلت المسيحية ويلز في القرن السادس، وما لبثت بعد دخولها أن افتتحت المدارس في الأديرة والكنائس. وقد جاء الأسقف العالم أسر الذي كان أمين سر الملك ألفرد وكاتب سيرته من مدينة سانت دافد وكنيسته في مقاطعة بمبروك

ص: 294

Pembrokeshire. وتحملت هذه المزارات والمستقرات المسيحية الهجمات الأولى للقراصنة النورمنديين حتى طردهم الملك رودري الأكبر Rhodri (844 - 878) وأنشأ في الجزيرة أسرة ملكية قوية. ووحَّد الملك هيول الصالح Hywel The Good (910 - 950) ويلز كلها ووضع لها قانوناً موحداً منظماً. ولاقى جرفيد آب ليولين Grulfydd ab Llywelyn (1309 - 1063) من النجاح أكثر مما كان يجب أن يلقاه؛ فلما أن هزم مرسية Mercia أقرب القاطعات الإنجليزية إلى ويلز، أعلن عليه هرولد، الذي أصبح فيما بعد ملكاً على إنجلترا، حرباً دفاعية لصد عدوانه، وفتح بلاد ويلز، وضمها إلى بريطانيا (1063).

ص: 295

الفصل الثالث

‌الحضارة الأيرلندية

461 -

1066

كانت أيرلندة في الفترة الواقعة بعد موت القديس بارتك والقرن الحادي عشر مقسمة إل سبع ممالك، منها ثلاث في ألصتر Ulster، أما الباقية فهي كنوت Connought، ولينستر Leinster، ومنشستر Munster؛ وميث Meath. وكانت هذه الممالك تحارب بعضها بعضاً في أغلب الأوقات لأنها لم تستطع الانتقال إلى آفاق من الحياة أوسع من آفاقها الضيقة؛ ولكننا نسمع من بداية القرن الثالث الميلادي من غارات يشنها الأيرلنديون على السواحل البريطانية الغربية، وعن محلات أيرلندية في هذه السواحل. ويسمي الإخباريون هؤلاء المغيرين بالاسكتلنديين Scots- ويبدو أن هذا اللفظ لفظ أيرلندي معناه الجوالون، وإذا ذكر هذا اللفظ متصلاً بهذه الفترة من الزمن فمعناه الأيرلنديون. ولم تنقطع الحروب في أثنائها؛ وظلت النساء حتى عام 590 يطلبن إلى الاشتراك في القتال، والرهبان والقساوسة يدعون إليه إلى جانب غيرهم ممن هم أكثر اعتياداً له، وكان ثمة قانون يماثل في جوهره قوانين "البرابرة" الذين يسكنون القارة الأوربية، ويشرف على تنفيذ البريهون Brehons- وهم قضاة من رجال القانون مدربون أحسن تدريب، كانوا منذ القرن الرابع يعلّمون في مدارس الحقوق ويؤلفون رسائل قانونية باللغة الجيلية Gaelic (33) .

ونجت أيرلندة كما نجت اسكتلندة من الفتوح الرومانية، ولهذا فإنها لم تتح لها نعمة الاستمتاع بالقانون الروماني وبالحكومة المنظمة، فلم يفلح قانونها يوماً من الأيام في استبدال الأحكام القضائية بعادات الثأر والانتقام، أو التأديب بالانفعال. وظلت الحكومة قائمة على الأساس القبلي، ولم فلح قط في

ص: 296

تحقيق الوحدة القومية أو النظرة القومية الشاملة.

وكانت الأسرة هي الوحدة التي يقوم عليها المجتمع وشئونه الاقتصادية. ويتألف من عدة أسر بطن، ومن عدة بطون عمارة، ومن عدة عمائر قبيلة. وكان المفروض أن جميع أفراد القبيلة أبناء رجل واحد، وأخذت كثير من الأسر تضيف اسم القبيلة التي تنتمي إليها Ul أو O' (حفيد) للدلالة على نسبها، فأسرة أونيل مثلاً تقول إنها تنسب إلى نيال جلندبة Mial Glundubh ملك أيرلندة في عام 916. واتخذت أسر أخرى لنفسها اسم أبيها ولم تضف إليه إلا لفظ ماك Mac أي ابن. وكانت معظم الأراضي في القرن السابع ملكاً مشتركاً للبطون أو العمائر (34)، وكانت الأملاك الفردية الخاصة مقصورة على الأدوات والبضائع المنزلية (35)؛ ولكن الملكية الفردية انتشرت في البلاد قبل أن يحل القرن العاشر الميلادي، وسرعان ما نشأت طبقة أرستقراطية صغيرة العدد يمتلك أفرادها ضياعاً واسعة، كما نشأ عدد لا حصر له من الزراع الأحرار، وطبقة صغيرة من مستأجري الأرض، وطبقة أخرى من العبيد أصغر عدداً من أولئك المستأجرين (36). وظل الأيرلنديون في القرون الثلاثة التي أعقبت دخول المسيحية في البلاد (461 - 570) متأخرين عن الإنجليز من الناحيتين المادية والسياسية، أما من الناحية الثقافية فقد كانوا في أغلب الظن أرقى جميع الشعوب التي تسكن في شمال جبال البرانس والألب.

ويرجع هذا الاختلاف العجيب بين الناحيتين المادية والسياسية من جهة والناحية الثقافية من جهة أخرى إلى أسباب كثيرة: تدفق العلماء الغاليين والبريطانيين الفارين من الغارات الألمانية في القرن الخامس، وازدياد الصلات التجارية بالبريطانيين والغاليين، ونجاة أيرلندة قبل القرن التاسع من الهجمات الأجنبية، وقد افتتح فيها الرهبان، والقساوسة، والراهبات مدارس كثيرة مختلفة الأنواع والدرجات؛ منها مدرسة في كلونارد Clonard أنشئت في

ص: 297

عام 520 كانت تضم 3000 طالب (إذا أخذنا بأقوال المؤرخين المشايعين لوطنهم (37))؛ ومدارس أخرى في كلنماكنويس Clonmacnois (544) ، وكلنفرت Clonfert (550) ، وبنجور Bangor (560) . وكان عدد غير قليل من هذه المدارس يعد للطلاّب مناهج تستمر أثني عشر عاماً تؤدي إلى درجة الدكتوراه في الفلسفة، وتشمل دراسات للكتاب المقدس، وأصول الدين، والآداب اللاتينية واليونانية القديمة، ونحو اللغة الجيلية وآدابها، وعلوم الرياضة والهيئة، والتاريخ والموسيقى، والطب والقانون (38). وكان ينفق على فقراء الطلبة ممن لا يستطيع آباؤهم أن يعولوهم من الأموال العامة، لأن كثرة الطلبة كانت تعد نفسها لخدمة الدين، ولهذا لم يكن الأيرلنديون يضنون بأي بذل في سبيل إعداد الطلاب لهذه المهنة. وظلت هذه المدارس تدرس اللغة اليونانية بعد أن كاد العلم بهذه اللغة يختفي من أوربا الغربية بزمن طويل. وقد درس ألكوين في مدرسة كلنما كنويس، وفي أيرلندة تعلم جون اسكوتس إرجينا John Scotus Erigena اللسان اليوناني الذي جعله موضع إعجاب شارل الأصلع في فرنسا.

وكان مزاج هذا العصر وآدابه يساعدان على نشأة الأقاصيص والروايات الغرامية، لكن بعض العقول كانت تتجه إلى العلوم الطبيعية في أماكن متفرقة من البلاد، نذكر من أصحاب هذه العقول دنجال Dungal العالم الفلكي، وفرجيل Fergil العالم في الهندسة النظرية الذي علم قومه أن الأرض كروية، ودكويل Dicuil العالم الجغرافي الذي أعلن كشف أيسلندة على أيدي الرهبان الأيرلنديين في عام 795؛ والذي أوضح شد الضوء في منتصف ليالي الصيف الأيرلندي بقوله إن في وسع الإنسان أن يجد وقتئذ من الضوء ما يمكنه من تنقية البراغيث من قميصه (39). وكان النحويين كثيري العدد، ويكفي سبباً لهذه الكثرة أن علم العروض في أيرلندة كان في ذلك الوقت أكثر تعقيداً منه في أي مكان آخر. كذلك كان الشعراء كثيرين، وكانت لهم في المجتمع منزلة عالية،

ص: 298

وكانوا في العادة يجمعون إلى قرض الشعر وكتابة التواريخ وظائف التدريس والمحاماة ويجتمعون في مدارس للشعر حول شاعر نابه، ولهذا ورثوا كثيراً مما كان للكهنة الدرويد Druid قبل دخول المسيحية في البلاد من سلطات وامتيازات خاصة. وظلت مدارس الشعراء هذه مزدهرة من القرن السادس إلى القرن السابع عشر دون انقطاع، وكانت تعتمد في العادة على ما تهيئه لها الكنيسة أو الدولة من أرضين (40). وازدان القرن العاشر بأربعة شعراء قوميين مشهورين: فلان ماك لونين Flanne Mac Lonin، وكنث Kenneth، وأهارتجان O،Hartigan، وإيوكيد أفلين Eochid 'Flainn، وماك لياج Mac Liage الذي اتخذه الملك بريان بورو Brain Boru شاعر بلاطه.

واتخذت قصص أيرلندة في ذلك العصر صورة أدبية، وكان جزء كبير من مادة هذه القصص متداولاً قبل أيام بتريك، ولكن الناس كانوا يتناقلونها شفوياً ثم صيغت وقتئذ في قالب من النثر الموزون، والشعر الغنائي وما من شك في أن شعراء ذلك العصر هم الذين وضعوها في قالبها الأدبي، وإن لم تصل إلينا مخططة إلا بعد القرن الحادي عشر. ومن هذه القصص طائفة متصلة الحلقات تخلد ذكرى آباء الشعب الأيرلندي الأسطوريين. فمنها طائفة "فنية Fenion" أو "أسيانية Ossianic" تقص في شعر حماسي مثير مغامرات البطل الخرافي فن ماك-كمهيل Finn Mac Cumhail وأبنائه وحفدته الفيانا Fianna أو للفنيين Flinains. وتعزو الروايات المتداولة معظم هذه القصائد إلى أسيان Ossian بن فن Finn، الذي عاش، كما تقول الروايات، ثلاثمائة عام ومات في أيام القديس بتريك، بعد أن وهب القديس قسطاً من عقله الوثني. وتدور طائفة حماسية من القصص حول كوشولين Cuchulain الملك الأيرلندي، الذي نشهده في مائة منظر داعر من مغامرات الحرب والحب. وأجمل قصة في هذه المجموعة تروي قصة ديردر Deirdre ابنة فليم Felim كبير شعراء الملك كونور Conor

ص: 299

ومضمونها أن قساً درويدياً يتنبأ لها ساعة مولدها بأنها ستسبب كثيراً من النكبات لبلادها ألصتر؛ ويرفع الشعب عقيلته قائلاً: "فلتذبح"، ولكن الملك كونور يحميها من غضب الشعب، ويربيها، ويعتزم الزواج بها. وتزداد الفتاة جمالاً على مر الأيام، ثم تبصر ذات صباح الفتى ناأويز Naoise الوسيم يلعب الكرة مع غيره من الشبان، وتلتقط الفتاة كرة ألقيت خطأ وتعيدها إليه، و "ضغط على يدي وهو مبتهج". وتؤثر هذه الحادثة في عواطفها الناضجة فترجو خادمتها الخاصة قائلة:"أي مربيتي الرقيقة، إذا كنت تحبين لي الحياة، فاحملي مني رسالة إليه، وقولي له أن يأتي ليتحدث إليَّ سراً في هذه الليلة". ويقبل ناأويز ويغترف من حبها حتى يسكر، ثم يأتي إليها هو وأخواه إينل Ainnle وأردان Ardan في الليلة الثانية وينقلانها برضاها بطريق البحر إلى اسكتلندة. ويقع أحد ملوك اسكتلندة أسير هواها، فيخفيها الأخوة الثلاثة في شعاب الجبال، ثم يبعث الملك كونور بعد حين رسالة يقول فيها إنه يعفو عنهم جميعاً إذا عادوا إلى إيرين Erin. ويوافق ناأويز على طلب الملك مندفعاً إلى ذلك بحنينه إلى وطنه ومسارح صباه، وإن كانت ديريدر تحذره عاقبة هذه العودة وتنذره بأم الملك سيغدر به. وما كادوا يصلون إلى أيرلندة حتى هاجمهم جنود كونور؛ ويقاتل الأخوة قتال الأبطال، ولكنهم يخرون جميعاً صرعى، ويطير لب ديردر من شدة الحزن، فتلقى بنفسها على الأرض وتمتص دماء حبيبها، وتنشد هذه الأغنية الحزينة:

بينا كان أعيان البا Alba (اسكتلندة) ذات يوم يقصفون ويمرحون

إذا طبع ناأويز في السر قبلة

على وجنة ابنة لورد دنترون Duntrone،

ثم بعث إليها بظبية وثابة،

ص: 300

ظبية من ظباء الغاب وتحت قدميها خشف،

ثم أقبل عليها زائراً

وهو عائد من جيش إنفرنس Inverness،

فلما سمعت هذا، اكتوى قلبي بنار الغيرة،

ودفعت زور الصغير فوق الموج

ولم أبال هل قدر لي أن أحيا أو أموت.

ونزلا إلى الماء في إثري

إينل وأردان، اللذان لم ينطقا قط بغير الحق

وجاء بي مرة أخرى إلى البر،

وهما فتيان يغلبان مائة من الأبطال،

وقطع لي ناأويز عهداً صادقاً

وقسم بسلاحه ثلاث إيمان مغلظة

ألا يمس وجهي مرة أخرى

حتى يذهب من عندي غلى جيش الموتى.

يا ويلها، لو أنها سمعت في هذه الليلة

أن ناأويز مسجى في التراب

إذن لزرفت الدمع مدراراً

ولبكيت معها سبع مرات.

وتختتم أقدم صيغة من صيغ قصة "ديردر ذات الأشجان" بخاتمة قوية في سذاجتها: "وكانت بالقرب منها صخرة كبيرة، وضربت برأسها الحجر فتحطمت جمجمتها ولاقت حتفها"(41).

وكان الشعر والموسيقى وثيق الصلة في أيرلندة، شأنهما في غيرها من البلاد في حياة العصور الوسطى. فكانت الفتيات يغنين وهن ينسجن أو يغزان

ص: 301

أو يحلبن الأبقار؛ وكان الرجال يغنون وهم يفلحون الأرض أو يسيرون إلى ميدان القتال؛ والمبشرون يعزفون على القيثارة ليجمعوا حولهم مستمعيهم، وكانت أحب الآلات الموسيقية هي القيثارة، وكانت تتألف عادة من ستين وتراً يعزف عليها بالأنامل، وكانت التمبان timpan كماناً ذات سبعة أوتار تضرب بالريشة أو القوس؛ وكانت آلات موسيقى القرب تعلق في الكتف وتنفخ بالفم؛ ووصف جيرالدس كمبرنسس Giraldus Cambrensis (1185) العازفين الأيرلنديين على القيثارة بأنهم أحسن من سمع من العازفين، وهو إطراء عظيم القيمة لصدوره من ويلز المحبة للموسيقى.

وليس أجمل ما أثمره الفن الأيرلندي في ذلك العصر كأس أرداع Ardagh الذائعة الصيت (حوالي عام 1000) التي اجتمعت فيها 354 قطعة من الفضة، والذهب، والكهرمان، والبلور، والميناء المقسمة، والزجاج بل إن أجمل منها "كتاب كلز Book of Kells وهو يحتوي الأناجيل الأربعة مخطوطة في القرن التاسع على الرق بأيدي ربان أيرلنديين في بلدة كاز من أعمال ميث Mcath أو في جزيرة أيونا Iona وهو الآن من أعظم ما تمتلكه كلية ترنتي Trinity College بدبلن. وجاء طراز تزيين الكتب البيزنطي والإسلامي إلى أيرلندة عن طريق الاتصال البطيء بين الرهبان بعضهم ببعض مخترقين الحدود، وبلغ فيها درجة الكمال في فترة قصيرة من الوقت. ولم يكن لصور الإنسان والحيوان في تزيين الكتب بأيرلندة إلا شأن ضئيل، مثله في هذا كمثل الفن عند المسلمين، فقد كانوا يرون أن إنساناً أو حيواناً مهما بلغ لا يساوي نصف الحرف الأول. وكانت الروح السارية في هذا الفن هي أن يؤخذ حرف من الحروف أو شكل زخرفي واحد، ويمد فوق أرضية زرقاء أو ذهبية اللون بشكل فكه مبهج حتى يكاد يغطي الصفحة بتمامها في نسيج متشابك أشبه بالمتاهة. وليس في المخطوطات المسيحية المزخرفة ما يفوق كتاب كلز هذا، ويصفه

ص: 302

جرلد من كتاب ويلز- وهو الذي لا ينفك يظهر غيرته من أيرلندة- بأنه من عمل اللائكة المتخفين في أثواب البشر (42).

وإذ كان هذا العصر الذهبي في أيرلندة نتيجة لسلامتها من الغزوات الألمانية التي أرجعت سائر أوربا مئات السنين إلى الوراء، فقد قضت عليه غزوات الشماليين التي قضت في فرنسا وإنجلترا خلال القرنين التاسع والعاشر على كل ما أحرزه هذا البلدان بفضل ما بذله شارلمان وألفرد من جهود جبارة. ولعله قد ترامى إلى أهل النرويج والدنمرقة-وكانوا لا يزالون وثنيين-أن الأديرة الأيرلندية غنية بالذهب، والفضة، والحلي، وأن انقسام البلاد السياسي يجعلها عاجزة عن مقاومة أعدائها متحدة. وحدثت غزوة تجريبية في عام 795 ولكنها لم تسبب للبلاد خسارة تذكر، غير أيدت ما كان يشاع من عدم قدرة هذه الفريسة على صد الغزاة؛ ثم أعقبتها غزوات أخرى أكثر منها في عام 823 نهب فيها الغزاة كورك Cork وكلوين Gloyne، وخربوا ديري بنجور Bangor وموفيل Moville وذبحوا رجال الدين. ولم تكد تخلو سنة واحدة بعد ذلك العام الأخير من غزوة أو غزوات، استطاعت جيوش صغيرة باسلة أن تصد فيها الغزاة من بعض الأحيان، ولكنهم كانوا يعيدون الكرّة وينهبون الأديرة أينما حلوا. واستقرت جماعات من الغزاة الشماليين قرب شاطئ البحر، وأنشئوا مدائن دبلن، ولمرك Limerick، ووترفورد Waterford وفرضوا الجزية على نصف الجزيرة الشمالي. واتخذ مليكهم ثورجست Thorgest أرماغ Armagh مدينة القديس بتريك عاصمة لملكه الوثني، وتوّج زوجه الوثنية على مذبح كنيسة القديس كيران St، Kieran في كلونماكنيوس (43). وحارب ملوك أيرلندة متفرقين غزاة بلادهم، ولكنهم كانوا في الوقت عينه يحارب بعضهم بعضاً. فقد قبض ملاخي Malachi ميث على ثورجست وأماته غرقاً (845)، ولكن أولاف الأبيض Olof the White أحد الأمراء النرويجيين أسس في عام 851

ص: 303

مملكة دبلن التي ظلت تابعة لأهل الشمال حتى القرن الثاني عشر. وقضت هذه الغزوات المتتابعة على عصر العلم والشعر، وأحلت محله عصر الحروب الطاحنة، وكان الجمود المسيحيون والوثنيون في خلاله ينهبون الأديرة ويحرقونها، ويتلفون المخطوطات القديمة ويشتتون ما تجمع من التحف الفنية خلال القرون الطوال، "ولم يمارس شاعر، أو فيلسوف، أو موسيقي فنه المعتاد في تلك البلاد" كما يقول مؤرخ أيرلندي قديم (44).

وظلت الحال كذلك حتى ظهر آخر الأمر رجل كان له من القوة ما أمكنه أن يجمع شتات هذه الممالك ويؤلف منها أمة واحدة. كان يريان بورمها أو بورو Brian Borumha or Boru (941 - 1094) أخاً لماهون ملك منستر King Mahon of Munster، وزعيم عمارة دلجاس Dalgas. وحارب الأخوان جيشاً دنمرقياً بالقرب من تبريري Tipperary (968) ومزقاه شر ممزق، ولم يرحما فلوله المنهزمة؛ ثم استوليا على لمرك، وقتلا كل من عثرا عليه فيها من الشماليين. ولكن اثنين من صغار الملوك-ملوي ملك دزمند Molloy of Desmond ودونافان ملك هاي كاربيري Donanvan of Hy Garbery- خشيا أن يستولي الأخوان الزاحفان على مملكتيهما فعقدا حلفاً مع المهاجرين الدنمرقيين، واختطفا ماهون وقتلاه (976). وأوقع بريان، وقد أصبح الآن ملكاً، هزيمة ثانية بالدنمرقيين، وقتل ملوي. وصمم على توحيد أيرلندة كلها، ولم يتردد في إتباع أية وسيلة توصله إلى هذه الغاية، فتحالف مع الدنمرقيين مالكي دبلن، وهزم بمعونتهم ملك ميث، وندى به ملكاً على أيرلندة كلها (1013). ولما استمتع بالسلم بعد حروب دامت أربعين عاماً، أخذ يعيد بناء الكنائس والأديرة، ويصلح الجسور والرق، وينشئ المدارس والكليات، ويقر النظام ويقضي على الجرائم. ولقد وصف الخلف ذوو الخيال الواسع ما ساد البلاد من أمن بفضل هذه "السلم الملكية" في قصة كثيراً ما نراها في غير هذه المناسبة،

ص: 304

فقالوا إنه كان في مقدور الفتاة المثقلة بالحلي والجواهر أن تطوف في أنحاء البلاد بمفردها دون أن يتعرض لها أي أحد بأذى. وحشد أهل الشمال بأيرلندة في هذه الأحداث جيشاً آخر، زحفوا به على الملك الطاعن في السن، والتقى بهم الملك الإيرلندي عند كلنتارف Clontarf القريبة من دبلن في يوم الجمعة الحزينة في الثالث والعشرين من إبريل عام 1014 وهزمهم، ولكن ابنه مروغ Murrogh قتل في أثناء المعركة ثم ذبح بريان نفسه في خيمته.

وحلّت السلم- وهي الترف الذي لا يستمتع به إلا المحظوظون- في البلاد المنكوبة إلى حين، وانتعشت الفنون والآداب من جديد في القرن الحادي عشر، وظهر في خلاله كتاب لينستر the Book of Leinster وكتاب الترانيم وهما لا يكادان يقلان في جمال زخرفهما عن كتاب كلز نفسه. وكان للمؤرخين والعلماء شأن كبير في مدرس الأديرة، غير أن الروح الأيرلندية الشكسة لم تكن قد روضت بعد، فقد عادت الأمة فانقسمت غلى ممالك متعادية، وأنهكت قواها في الحروب الداخلية، ورأت حفنة من المغامرين من أهل ويلز وإنجلترا في عام 1172 أن من السهل عليها أن تفتح "جزيرة الدكاترة والقديسين"-وإن لم تجد من السهل عليها أن تحكمها.

ص: 305

الفصل الرابع

‌اسكتلندة

325 -

1066

هاجرت في أوائل القرن الخامس قبيلة من الاسكتي Scotti الجبليين من شمالي أيرلندة إلى الجزء الجنوبي الغربي من اسكتلندة، وأطلقوا اسمهم على جزء من شبه الجزيرة ذي المناظر الجميلة الخلاّبة الواقع في شمال نهر التويد Tweed ثم على شبه الجزيرة كلها. وأخذت ثلاثة قبائل أخرى تنازعها على امتلاك "كلدونية Caledonia" القديمة هذه: البكت Picts وهي قبيلة كلتية استقرت فوق خليج فورث The Firth of Forth، والبريطانيون وهم الذين فروا أمام غزاة بريطانيا الأنجليسكسون واستقروا بين نهر درونت Derwent وخليج كليد Ftrth of Clyde، والآنجلز Angles أو الإنجليز الضاربون بين نهر تين Tyne وخليج فورث. ومن هؤلاء كلهم تألفت الأمة الاسكتلندية: وهي أمة إنجليزية في لغتها، مسيحية في دينها، نارية في مزاجها كالأيرلنديين، عملية كالإنجليز، ماكرة، قوية الخيال ككل كلتي".

وكان الأسكتلنديون كالأيرلنديين يستنكفون أن يتخول عن نظامهم القائم على صلة القربى، ولا يرغبون في أن يستبدلوا الدولة بالقبيلة. ولم يكن يضارع النزاع بين الطبقات في شدته إلا ولاؤهم للقبيلة، وفخرهم بولائهم لها، وشدة مقاومتهم لأعدائهم الأجانب. وعجزت روما عن فتح بلادهم، بل إن سور هدريان الذي أقيم بين سلواي Solway والتين (120 م)، وسور أنطونينس بيوس Antoninus Pius، الذي يبعد ستين ميلاً نحو الشمال بين خليجي فورث وكليد (140)، وحروب سبتميوس سفيرس Septimius Sverus (208) أو ثيودوسيوس Theodosius (368) ، بل إن هذه كلها لم تجد نفعاً في القضاء

ص: 306

على الغزوات المتكررة التي كان يشنها البكث الجياع من حين إلى حين على البريطانيين. وفي عام 617 استولى السكسون بقيادة إدون ملك نورثبريا على معقل البكث الجبلي الحصين وأطلقوا عليه اسم إد (و) نبرج Ed (w) inburgh (إدنبره)، وفي عام 844 ضم كنث ماك ألبين Kenneth Mac-Alpin البكت والإسكتلنديين تحت سلطانه؛ وفي 954 استردت القبائل إدنبره، واتخذتها عاصمة لها، وفي 1018 استولى ملكولم الثاني على لوثيان Lothian (الإقليم الواقع شمال نهر التويد)، وضمها إلى مملكة البكت والاسكتلنديين. وبدأ أن الكلت قد ضمنوا لأنفسهم السيادة على البلاد، ولكن غزو الدنمرقيين لإنجلترا دفع آلافاً من "الإنجليز" إلى جنوبي اسكتلندة، وتدفق بذلك عنصر أنجليسكسوني قوي إلى دماء الأسكتلنديين.

وجمع دنكان الأول Duncan 1 (1034 - 1040) هذه الشعوب الأربعة كلها-البكت، والاسكت Scotts، والكلت البريطانيين، والأنجليسكسون-وكون منها مملكة واحدة هي مملكة اسكتلندة. ولما هزم الإنجليز دنكان عند درهام Durham مهدت هذه الهزيمة السبيل لقائده مكبث Macbeth، فطالب لنفسه بعرش البلاد لأن زوجته جروتش Gruoch كانت حفيدة كنث الثالث. واغتال مكبث دنكان (1040)، وحكم البلاد سبعة عشر عاماً قتله بعدها ملكولم الثالث ابن دنكان. واغتيل من الملوك السبعة عشر الذين حكموا اسكتلندة بين عامي 844 و 1075 اثنا عشر لأن ذلك العصر كان مليئاً بأعمال العنف والنزاع المرير طلباً للغذاء والماء، والحرية والسلطان. ولم تجد اسكتلندة في تلك السنين المليئة بالأحداث الجسام متسعاً من الوقت تمارس فيه ترف الحضارة ونعمها؛ فقد اغتصب المغيرون الشماليون جزائر أوركني Orkney وفارو Faroes، وشتلندة Shetland، وهبريده Hebrides؛ وقضت إنجلترا حياتها كلها مهددة بغارات قراصنة الشمال (الفيكنج Vikings) الشداد الذين كانوا يبسطون سلطانهم وينشرون بني جنسهم في أنحاء العالم الغربي.

ص: 307

الفصل الخامس

‌أهل الشمال

The Northmen

800 -

1066

‌1 - قصص الملوك

The Kings' Saga

يلوح أن أهل الشمال كانوا من التيوتون الذين انتقل أسلافهم إلى بلاد السويد والنرويج بعد أن اخترقوا الدنمرقة وعبروا مضيق أسكجراك Skaggerak وكتجات Kattegat، وحلوا في البلدين محل الكلت الذين حلوا من قبل محل شعب شيبه باللابلانديين والإسكيمو (45). وأطلق زعيم قديم يدعى دان مكلاتي Dan Mikillati اسمه على الدنمرقة- ومعناها منقع دان أو ولايته؛ وتركت قبيلة أسويونس Suiones، إحدى القبائل القديمة التي وصفها تاستس Tacitus بأنها كانت تسيطر على شبه الجزيرة العظيمة، تركت هذه القبيلة اسمها في اسم بلاد السويد Sweden (اسفريج Sverige) ، وفي اسم كثير من الملوك الذين يسمون اسوين Sweyn؛ وليس معنى لفظ النرويج (نورج Norge إلا الطريق الشمالي. وأصبح لفظ سكاني Scan (وهو الاسم الذي أطلقه بلني Pliny الأكبر على بلاد السويد اسكانديا Scandia في اللغة اللاتينية، ونشأ منه لفظ إسكنديناوة Scandinavia الذي يشمل الآن ثلاث أمم وثيقة الصلة في دمائها ذات لغات يفهم المتحدثون بها بعضهم بعضاً. وزادت خصوبة النساء أو زاد خيال الرجال في الأقطار الثلاثة على خصوبة التربة، فعمد الشبان أو غير الراضين عن مصيرهم إلى زوارقهم، وأخذوا يحومون حول السواحل يطلبون الطعام، أو العبيد، أو الأزواج، أو الذهب، ولم يكونوا لجوعهم يرعون قانوناً أو حدوداً للأقاليم، فاجتاح أهل

ص: 308

النرويج اسكتلندة، وأيرلندة، وأيسلندة وجرينلندة؛ وأهل السويد الروسيا؛ والدنمرقيون إنجلترا وفرنسا.

ولا يسعنا لقصر أجل الحياة البشرية أن نذكر في هذه العجالة آلهة تلك البلاد وملوكها بالتفصيل؛ وحسبنا أن نقول هنا إن جورم Gorm (860 - 935) وهب دنمرقة وحدتها، وإن ابنه هارلد بلوتوث (صاحب السن الزرقاء) Harald Bluetooth (945 - 985) جعل المسيحية دينها، وإن سوين فورك بيرد ذا اللحية المتشعبة Sweyn Forkbeard (985 - 1014) فتح إنجلترا ورفع دنمرقة مدى جيل من الزمان إلى منزلة من دول أوربا الكبرى. وجعل الملك أولاف اسكتكوننج Olaf Skottconung (994 - 1022) المسيحية دين السويد، ومدينةن أبسالا Uppsala عاصمة ملكة، وكانت بلاد النرويج في عام 800 مؤلفة إحدى وثلاثين إمارة، تفصلها بعضها عن بعض الجبال، والأنهار، والخلجان الطويلة الضيقة العميقة (الفيوردات)، ويحكم كلاً منها زعيم من المحاربين، وظلت كذلك حتى عام 850 حين زحف هلفدان الأسود Halfdan the Black أحد هؤلاء الزعماء من عاصمته ترندهيم Trondheim وأخضع لحكمه معظم الزعماء الآخرين، وصار أول ملوك النرويج. وخرج على ولده هارلد هارفاجر Harald Haarfager (860 - 933) الزعماء المتمردون، ورفضت جيدا Gyda التي خطبها لنفسه الزواج به إلا بعد أن يفتح جميع بلاد النرويج، وأقسم ألا يقص شعره أو يمشطه حتى يتم هذا الفتح، وأتمه بالفعل في عشر سنين، وتزوج بعدها بجيدا وبتسع نساء غيرها. ثم قص شعره وسمى باسمه المميز له- "صاحب الشعر الأشقر"(46). وحكم هاكون الصالح Haakon the Good (935 - 961) أحد أبنائه الكثيرين بلاد النرويج حكماً صالحاً دام سبعاً وعشرين سنة، قال فيها أحد قراصنة البلاد إن "السلم طالت حتى أصبحت أخشى أن توافيني منيتي في شيخوختي وأنا على فراشي في عقر داري"(47).

ص: 309

وحكم هاكون آخر- الإيرل الأكبر The Great Earl النرويج حكماً حازماً دام ثلاثين عاماً (965 - 995)، ولكنه أغضب الزراع الأحرار في شيخوخته باتخاذه بناتهم محظيات لهم ثم إعادتهن بعد أسبوع أو أسبوعين فاستقدم أولئك الزراع الأحرار أولاف ثرجفسون Olft Tryggvsson ونادوا به ملكاً عليهم.

وكان أولاف بن ترجف حفيد أحد أبناء هارلد ذا الشعر الأشقر. وكان "رجلاً شديد المرح والمجون"- كما يقول سنوري الأيسلندي Snori of Iceland- طروباً، أنيساً، محباً للاجتماع بالناس، جواداً كريماً، متأنقاً في لباسه

بديناً، قوياً، أجمل الناس خلقاً وأعظم براعة في الرياضة البدنية من كل من سمعنا به من أهل الشمال" (48). وكان في مقدوره أن يتنقل على المجاذيف خارج سفينته والرجال يجذفون، ويلعب بثلاثة خناجر حادة الأطراف، ويقذف بحربتين في وقت واحد، و "يستطيع أن يحسن القطع بكلتا يديه بدرجة واحدة" (49). وكان كثير المنازعات والمغامرات، وقد اعتنق المسيحية وهو في الجزائر البريطانية، وأصبح أعظم دعاتها قسوة، فلما جلس على عرش النرويج (995) هدم المعابد الوثنية، وشاد الكنائس المسيحية، وظل يعيش مع عدد من الزوجات. وقاوم الزراع الأحرار الدين الجديد أشد مقاومة، وأصروا على أن يقرّب أولاف القربان إلى ثور Thor كما تقضي بذلك الشعائر القديمة، وأجابهم أولاف إلى ما طلبوا ولكنه عرض أن يقرب إلى ثور خير قربان يرتضيه وهو الزراع الأحرار أنفسهم، فلم يكن منهم إزاء ذلك إلا أن اعتنقوا الدين المسيحي. ولما استمسك واحد منهم يدعى راند Rand بدينه الوثني، أمر أولاف بشد وثاقه ودفع ثعباناً في حلقه بأن كوى ذيل الثعبان بالنار، فاندفع الثعبان إلى بطن راند وجنبه. وقضى على حياته (50). وخطب أولاف لنفسه سجريد Sigrid ملكة السويد، فوافقت على الخطبة، ولكنها أبت أن تتخلى عن دينها الوثني، فما

ص: 310

كان من أولاف إلا أن ضربها بقفازة في وجهها وقال لها: "وما الذي يرغمني على أن أتخذك زوجة وأنت عجوز شمطاء، سليطة كافرة؟ ". فردت عليه سجفريد بقولها: "سيكون فعلك هذا سبباً في موتك يوماً من الأيام". وبعد سنتين من هذه الحادثة شن ملكا السويد والدنمرقة، إرك وإيرل النرويجي Eric Earg of Norway الحرب على أولاف، وهزماه في معركة حربية حامية الوطيس بالقرب من روجن R (gen، وألقى أولاف وهو بكامل عدته وسلاحه إلى اليم، ولم يظهر له أي أثر بعد (1000)، وقسمت بلاد النرويج على أثر ذلك بين الحليفين المنتصرين.

وأعاد أولاف آخر يدعى القديس بلاد النرويج إلى وحدتها (1016)، كما أعاد النظام، وعدل في قضائه، وأتم تحويل البلاد إلى الدين المسيحي. ويصفه اسنوري Snori بقوله إنه "كان رجلاً صالحاً دمث الأخلاق إلى حد بعيد، لا يتكلم إلا قليلاً، سخياً، ولكنه شره في جمع المال" مدمن بعض الإدمان على الاستمتاع بالسراري (51). ومن أعماله أنه قطع لسان أحد الزراع الأحرار لأنه فضل الوثنية على المسيحية، وسمل عيني زارع آخر (52). وإئتمر الزراع به مع كنوت ملك الدنمرقة وإنجلترا، فسيرا عليه خمسين سفينة وطردا أولاف من النرويج (1028)؛ ولكن أولاف عاد إليها بجيش، وحار لاسترجاع عرشه عند استكل ساند Sticklesand، فهزم ومات متأثراً بجراحه (1030). وشاد من جاء بعده من النرويجيين كنيسة في موضع المعركة تخليداً لذكره، واتخذوه القديس الشفيع للنرويج. واسترد ابنه ماجنس الصالح Magnus the Good (1035 - 1047) مملكته، ووهبها قوانين عادلة وحكماً صالحاً. وحكم حفيده هارلد الصارم Harald the Stern (1047 - 1066) حكماً عادلاً خالياً من الرحمة دام وليم النورمندي على إنجلترا.

وحدث في عام 860 أن أعاد جماعة من الشماليين قدموا من النرويج

ص: 311

أو الدنمرقة كشف جزيرة أيسلندة، ولم يسوءهم كثيراً أن يجدوها شديدة الشبه ببلادهم في ضبابها وفي واردتها. وهاجرت جماعات من النرويجيين إلى الجزيرة في عام 874 فراراً مما كانوا يعانونه من استبداد هارلد هارفاجر، ولم يحل عام 934 حتى بلغ سكانها من الكثرة درجة لم تزد عليها في جميع تاريخها حتى الحرب العالمية الثانية. وكان لكل ولاية من ولاياتها الأربع ثنجها thing أو جمعيتها، ثم أنشئ في عام 930 ثنجها العام أو برلمانها الموحد وكان من أقدم الهيئات في تاريخ الحكم النيابي، وبفضله كانت أيسلندة في ذلك الوقت هي الجمهورية الوحيدة الكاملة الحرية في العالم كله. ولكن ذلك العنفوان وتلك النزعة الاستقلالية اللذين كانا سبباً في الهجرة إلى الجزيرة، وقيام هذا المجلس النيابي فيها، أضعفا من سلطان الحكومة العامة والقوانين المشتركة، فكان من أثر ذلك أن أصبح الأفراد الأقوياء الذين ثبتت أقدامهم في ضياعهم الواسعة أصحاب الأمر والنهي في أراضيهم، وما لبثوا أن جددوا في أيسلندة المنازعات التي جعلت بلاد النرويج شوكة في جانب ملوكها. وجعل الثنج العام (Alltging) المسيحية الدين الرسمي للبلاد في عام 1000. ولكن الملاك أولاف القديس ساءه أشد الاستياء ما سمعه من أن أهل أيسلندة لا يزالون يأكلون لحم الخيل ويئدون أطفالهم ولعل طول ليالي الشتاء وشدة بردها كانا السبب في نشأة أدب قوامه أساطير وأقاصيص لعلها تفوق من حيث الكم والكيف مثيلاتها من القصص والأساطير التي تروى في أرض الشماليين.

وبعد ستة عشر عاماً من إعادة كشف أيسلندة شاهد أحد ربابنة السفن النرويجيين ويدعى جنبجورن ألفسون Gunnbjorn Uulfsson سواحل جرينلندة وأنشأ فيها ثوروولد Thorwald وولده إرك الأحمر مستعمرة نرويجية عام 985 ثم كشف بجرن هرجلفسن Bjerue Herjulfsson لبرادور Labrador في عام 986، وفي عام 1000 نزل ليف Leif بن إرك الأحمر إلى القارة الأمريكية؛

ص: 312

ولسنا نعرف أكان الموضع الذي نزل فيه هو لبرادور، أم نيوفوندلند Newtoundland، أم رأس كد Cod؛ وقضى ليف إركسن Lief Ericsson الشتاء "في فنلد Vinland"(أرض الخمر) ثم عاد بعدئذ إلى جريلندة؛ وفي عام 1002 قضى أخوه ثوروولد هو وثلاثون رجلاً عاماً في فنلندة. وتروي حاشية لا يتأخر تاريخها عن عام 1395 في "قصة أولاف ترجفسون" التي كتبها اسنري استرلوسون Snorri Sturluson (1179 - 1241) قصة خمس حملات مختلفة شنها أهل الشمال على قارة أمريكا بين عامي 985 و 1011. وقد جاء كرستفر كولمبس Christopher Columbous، كما يقول هو نفسه، إلى أيسلندة، ودرس ما يتردد على لسان أهلها من أقوال على الدنيا الجديدة (53).

‌2 - الحضارة الفيكنجية

(حضارة القراصنة الشماليين)

(1)

كان النظام الاجتماعي يقوم بين أهل الشمال، كما يقوم بين سائر الشعوب القديمة، على التأديب العائلي، والتعاون الاقتصادي، والإيمان الديني. وقد جاء فقرة من بيولف أن "لا شيء يقضي على وشائج القربى عند صاحب البصيرة"(54). وكان غير المرغوب فيهم من الأطفال يعرضون للموت، ولكن الطفل إذا ما قبله أبواه تلقى على يديهم مزيجاً من التأديب والحب. ولم يكن عندهم أسماء أسر، بل كان كل ولد يكتفي بأن يضيف إلى اسم أبيه: أولاف هرالدسون، ماجنس أولافسون، هاكون ماجنسن. وكان أهل اسكنديناوة

(1)

لفظ فيكنج مشتق من لفظ فيك في لغة أهل الشمال الأقدمين ومعناه شرم أو فيورد. ويظهر لفظ فيك بهذا المعنى نفسه في نارفيك Narvik، وشلزوبج Schleswig، وريكجافيك Reykjaxik، وبرويك Barwick، وويكلو Wicklow وغيرها. ومعنى لفظ فيكنجر Vikingr أحد الذي أغاروا على البلاد الملاصقة للفيوردات، ومعنى "الحضارة الفيكنجية" في هذا الفصل ثقافة الشعوب الإسكنديناوية في "عصر الفيكنج" بين عامي 700 و 1100 من التاريخ الميلادي.

ص: 313

قبل دخول المسيحية إلى البلاد بزمن طويل، إذا أرادوا أن يسموا طفلاً صبوا عليه ماء رمزاً لدخوله في حظيرة الأسرة.

وكان التعليم عندهم ذا صبغة عملية: فكانت البنات يتعلمن الفنون في المنزل، وكان منها عصر الجعة؛ أما الأولاد فكانوا يتعلمون السباحة، والمشي على مزالق الجليد، وأشغال الخشب والمعادن، والمصارعة، والتجذيف، والانزلاق، ولعبة الكرة والصولجان hockey (والاسم مشتق من الكلمة الدنمرقية hock ومعناها الخطاف)، والقنص، والرمي بالأقواس والسهام، والضرب بالسيوف، والطعن بالحراب، وكان القفز من ضروب الرياضة المحببة، وكان في وسع بعض النرويجيين أن يقفزوا بكامل سلاحهم ودروعهم إلى أعلى من طول قامتهم، وأن يسبحوا في الماء عدة أميال؛ ومنهم من كان يسبق أسرع جواد (55). وكان كثيرون من الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة، وبعضهم يتعلمون الطب أو القوانين. وكان الذكور والنساء على السواء مولعين بالغناء، ومن هؤلاء وأولئك من كانوا يعزفون على الآلات الموسيقية وهي عادة القيثارة. ونقرأ في إلدر أدا Elder Adda أن الملك جنار Gunnar كان يستطيع العزف على القيثارة بأصابع قدميه، ويستطيع بها أن يسحر الأفاعي.

وظل أغنياؤهم متعددي الزوجات حتى القرن الثالث عشر، وكان الآباء هم الذين يرتبون شئون الزواج، وكثيراً ما كان ذلك عن طريق الثراء، غير أن أحرار النساء كن يستطعن إلغاء هذا الترتيب (56). فإذا تزوجت الفتاة بغير إرادة والديها عد زواجها خروجاً عن القانون، وأباح القانون لأهلها أن يقتلوها. وكان في وسع الرجل أن يطلق زوجته متى شاء، فإذا لم يستطع أن يبرر الطلاق بأسباب قوية كان في مقدور أهلها أيضاً أن يقتلوه. وكان من حق الزوج والزوجة أن يطلق أحدهما الآخر إذا ما لبس الرجل ثياب النساء أو لبست المرأة ثياب الرجل-كأن تلبس المرأة سراويل قصيرة، أو يلبس الرجل قميصاً مفتوحاً عند صدره. وكان

ص: 314

من حق الرجل أن يقتل دون أن يلقى عقاباً-أي دون أن يثير خصاماً دموياً-أي رجل يضبطه في علاقة غير شريفة بزوجته (57). وكان النساء يكدحن ولكنهن بقي لديهن من الأناقة ما يكفي لأن يقتل الرجال بعضهم بعضاً من أجلهن، وكان الرجال ذوو السلطان في الحياة العامة أذلاء كما هي العادة في بيوتهن. ويمكن القول بوجه عام إن مكانة المرأة في اسكنديناوة الوثنية كانت أعلى منها في اسكنديناوة المسيحية (58). فلم تكن فيها أم الخطيئة بل كانت أم الرجال الأقوياء البواسل، وكان لها حق الثلث-وحق النصف بعد عشرين عاماً من زواجها-في كل ما يكسبه زوجها من مال؛ وكان يستشيرها في أعمالها المالية، وكانت تختلط في بيتها مع الرجال بكامل حريتها.

وكان العمل مما يشرف صاحبه، وكان لجميع الطبقات منه نصيب. وكان صيد السمك من الصناعات الكبرى، وصيد الحيوان من ضرورات الحياة لا من أسباب متعتها. ألا فليتصور القارئ ما استلزمه من كدح وقوة إرادة تقطيع غابات السويد وتذليل تربة منحدرات تلال النرويج المتجمدة وفلحها؛ وليست حقول القمح في منسوتا Minnesota إلا وليدة التربة الأمريكية ذللها صبر النرويجيين. وكانت الضياع الكبيرة قليلة العدد، حتى لقد فاقت اسكنديناوة غيرها من البلاد في كثرة عدد ملاكها، من الزراع الأحرار. وكان هناك من التأمين غير المكتوب يقلل من وقع الكوارث على أولئك الزراع: فإذا حرق بيت زارع عاونه جيرانه على بنائه من جديد، وإذا ما نفقت مواشيه بسبب المرض من "فعل الله" منحوه ما يعادل نصف ما خسره. وكان كل شمالي تقريباً ذا حرفة، وكان بارعاً بنوع خاص في التجارة، غير أن الرجل الشمالي كان متأخراً في استخدام الحديد الذي لم يدخل بلادهم إلا في القرن الثامن فلما دخلها صنعوا منه أنواعاً مختلفة من العدد، والأسلحة، والزخارف، صنعوها قوية جميلة من البرونز، والفضة، والذهب (59)؛ وكثيراً ما كانت الدروع والسيوف المزخرفة

ص: 315

الجميلة النقش، والأقراط، والدبابيس، والسروج جميلة يتباهون بها. وكان بناءو السفن الشماليون يبنون الزوارق والسفن الحربية؛ ولم تكن هذه أكبر من سفن الأقدمين، ولكن يبدو أنها كانت أصلب منها، فكانت مستوية القاع ليزيدها ثباتاً، محددة في جؤجؤها لتدمر سفن العدو؛ وكان غاطسها يتراوح بين أربع أقدام وست، وطولها بين ستين قدماً ومائة وثمانين، يدفعها الشراع حيناً والمجاديف في معظم الأحيان-ويبلغ عددها في الجانب الواحد من جانبها عشرة مجاديف أو ستة عشر، أو ستين مجدافاً. وهذه السفن الساذجة هي التي حملت الرواد والتجار، والقراصنة، والمحاربين من أهل الشمال في أنهار الروسيا منحدرة فيها إلى بحر الخرز والبحر الأسود، وعبرت بهم المحيط الأطلنطي إلى أيسلندة ولبرادور.

وكان الفيكنج يقسمون أنفسهم طبقات: الجارل Jarl والإيرل، وطبقة البندي Bondi أو الملاك الفلاحين، وطبقة العبيد، وكانوا يلقنون أبناءهم في صراحة (كما يفعل الحراس في جمهورية أفلاطون) أن انتماء كل إنسان غلى طبقته أمر قررته الآلهة لا يجرؤ على تبديله إلا غير المؤمنين (60). وكان الملوك يختارون ممن يجري في عروقهم الدم الملكي وولاة الأقاليم من طبقة الجارل. وهذا القبول الصريح للملكية والأرستقراطية، وهما من المستلزمات الطبيعية للحرب والزراعة، كان يسير معه جنباً إلى جنب نظام ديمقراطي عجيب يجعل من ملاك الأراضي مشرعين وقضاة في جمعيات محلية يعقدها أصحاب البيوت، وجمعيات قروية تعقد في الولايات، وجمعية قومية عامة أو برلمان. لقد كانت هذه الحكومة حكومة قوانين لا حكومة رجال فحسب، العنف فيها من الأمور الشاذة النادرة، والأحكام القضائية هي القاعدة العامة. نعم إن قصص تلك البلاد مليئة بحوادث الانتقام وما ينشأ عنه من خصام وإراقة للدماء، ولكن الافتداء حتى في عصر الفيكنج، عصر الدم والحديد، لقد أخذ يحل محل الانتقام الفردي، ولم يكن منهم من قانونه الوحيد هو النصر أو الهزيمة إلا قراصنة البحار. وكان

ص: 316

العقاب الصارم يستخدم لحمل أولئك الرجال، الذين غلظت طباعهم لطول كفاحهم مع الظروف، على الخضوع للسلم والنظام. فكان الزاني يعاقب بالإعدام شنقاً أو تطأه الخيل حتى يموت، وكان جزاء الحريق العمد هو إحراق مرتكبه وهو مصلوب، ومن يقتل أحد أبويه يعلق من قدميه إلى جانب ذئب حي معلق بنفس الطريقة، والثائر على الحكومة يشد إلى جوادين يسيران في اتجاهين متضادين حتى يمزق جسمه، أو يربط خلف ثور بري يجره حتى يقضي نحبه (61). ولعل في هذا العقاب الوحشي دليلاً على أن القانون لم يحل بعد محل الانتقام الشخصي، وكل ما في الأمر أنه جعله من حق المجمع نفسه. وحتى القرصنة نفسها قد تخلت عن مكانها للقانون، فاستقر اللصوص وأصبحوا تجاراً واستبدلوا الدهاء بالقوة؛ وجدير بالذكر أن كثيراً من مواد قانون أوربا البحري مأخوذة من قانون أهل الشمال منقولة عن حلف المدن الهانسية Hanseatic League (62) . وقد كتبت قوانين النرويج في عهد مجنس الصالح (1035 - 1047) على رق سمي بسبب لونه "الإوزة الشهباء". ولا يزال هذا الرق باقياً إلى الآن، ويحتوي على أوامر مستنيرة للإشراف على الموازين والمقاييس، ومراقبة، رجال الشرطة للأسواق والثغور، ومعونة الدولة للمرضى والمعوزين (63).

وقد عاون الدين القانون والأسرة على عل أولئك الحيوانات مواطنين صالحين. ولم تكن الآلهة التيوتونية مجرد أساطير لأهل الشمال، بل كانت أرباباً حقيقية تهاب وتحب، وتتصل اتصالاً وثيقاً بالآدميين بآلاف المعجزات وحوادث الغرام. ذلك أن النفوس البدائية في دهشتها ورعبها قد خولت جميع قوى الطبيعة ومجسماتها الكبرى إلى أرباب شخصية، يتطلب أقواهم أن يسترضي على الدوام استرضاء لا يقل أحياناً عن التضحية بالآدميين أنفسهم. وكان مجمع الآلهة مزدحماً بهم: كان فيه اثنا عشر إلهاً ذكراً، واثنتا عشرة إلهة أنثى؛ وكثير من مختلف المردة (الجوتون Jotun) وأرباب الأقدار (نورن Norn) ،

ص: 317

ورسل الآلهة والساقون (الفلكيري Valkyries) ، وبينهم عدد من العرّافات، وصغار العفاريت، والساحرات. فأما الآلهة فلم يكونوا أكثر من آدميين مبكرين، يولدون مثلهم، ويجوعون، وينامون، ويمرضون، وينفعلون، ويحزنون ويموتون؛ ولا يفوقون الآدميين إلا في أحجامهم، وطول أعمارهم، وعظيم قواهم. ومن هؤلاء أودين Odin (وودن Woden الألماني) أبو الآلهة كلهم، الذي كان يسكن بجوار بحر آزوف (آزاق) Azof في أيم قيصر، وهناك أنشأ أسجارد Asgard أو حديقة الأرباب لأسرته ومستشاريه واشتدت إليه الرغبة في تملك الأرضين ففتح بلاد أوربا الشمالية. على أنه لم يسلم من التحدي ولم يكن قادراً على كل شيء، فقد عنفه لوكي Loki أشد التعنيف (64)، وتجاهله ثور Thor ولم يعبأ به. فأخذ يزرع الأرض في طلب الحكمة، واشترى بأحد عينيه جرعة من ينبوع الحكمة. بم اخترع الحروف الهجائية، وعلم خلقة الكتابة، والشعر، والفنون، ووضع القوانين. وقبل أن تنتهي حياته على ظهر الأرض عقد جمعية من السويديين والقوط، وجرح نفسه في تسعة أماكن من جسمه، فمات ورجع أسجارد ليعيش فيها إلهاً.

وكان ثور في أيسلندة أعظم من أودين، فقد كان فيه إله الرعد، والحرب، والعمل، والقانون، وكلت السحب السوداء حاجبيه السوداوين، وكان الرعد صوته، والبرق مطرقته يلقي بها من السماء. وكان للشعراء الشماليين معه كثير من المزاح، كما يمزح اليونان مع هيفستوس Hephaestus وهرقل، ولعلهم قد أخذوا منذ ذلك الوقت البعيد يتشككون في آلهتهم تشكك هومر في آلهته، وكانوا يتمثلونه في جميع أنواع المآزق والأعمال الشاقة المضنية، ومع هذا فقد بلغ من حب الأيسلنديين له أن واحداً من كل خمسة منهم تقريباً كان يغتصب اسمه-ثورلف Throlf، ثورولد Thorwald، ثورشتين Thorstien

وكان بلدور Baldur بن أودين عظيماً في القصص وأقل مقاماً من أودين وثور

ص: 318

فيما يلقاه من العبادة. كان "ذا بهاء في صورته وملامحه

وكان أرق الآلهة، وأكثرهم حكمة، وأفصحهم لساناً (65)؛ وكادت هذه الصفات تغري المبشرين الأولين بأن يقولوا إنه هو المسيح عينه، ويقال إنه رأى حلماً مزعجاً ينبئه باقتراب منيته، ولما قص هذا الحلم على الآلهة طلبت الإلهة فرجا Frigga إلى جميع أنواع الجماد، والحيوان، والنبات، أن تقسم أغلظ الإيمان ألا يمسه أحدها بسوء، فكان جسده الفخم المجيد بعد هذا القسم يطرد جميع الأجسام المؤذية، وكان الآلهة يسلون أنفسهم بأن يقذفوه بالحجارة والسهام، والفؤوس والسيوف، فكانت هذه الأسلحة كلها ترتد عنه، ولا تترك في جسده أثراً. غير أن فرجا قد فاتها أن تأخذ عهداً على "شجيرة صغيرة تدعى المقاس"

(1)

ألا تمسه بسوء لأنها ظنتها أضعف من أن تؤذي إنساناً ما. فما كان من لكي الوقح المحب للوقيعة بين الآلهة إلا أن قطع منها عسلوجاً، وأقنع إلهاً كفيفاً أن يلقيه على بلدور، ونفذ العسلوج في جسده فقضى عليه، ثم ماتت زوجته نب Nep من فرط حزنها عليه، وحرقت جثتها مع بلدور وجواده المطهم على كومة واحدة (66).

وكان الفلكبري-الذين يختارون القتلى-هم الذين يحق لهم أن يحددوا أجل كل نفس. وكان الذين يموتون ميتة دنيئة يلفون في ممالك هل Hel، إلهة الموتى، أما الذين يموتون في ميدان القتال فيأخذهم الفلكيري إلى فلهلا Valhalla- " بهو الصفوة"، حيث يصبحون أبناء أدوين فيعودون مرة أخرى ذوي قوة وجمال، يقضون نهارهم في حروب البسالة وليلهم في شرب الجعة. ثم أتى حين من الدهر (كما تقول الأساطير الشمالية المتأخرة) أعلنت فيه الجوتون-شياطين الاضطراب والدمار الرهيبة-الحرب على الآلهة، وقاتلها قتالاً ملكت فيه هذه وتلك عن آخرها. وفي هذا العصر، عصر غسق الآلهة، تهدم الكون كله: ولم يقتصر هذا الدمار على الشمس، والكواكب، والنجوم،

(1)

وتسمى أيضاً الدبق والدابوق Mistletoe (المترجم)

ص: 319

بل شمل في النهاية الفلهلا نفسها وجميع من فيها من المحاربين والأرباب، ولم يبق إلا الأمل وحده-الأمل في أن مر الوقت البطيء سوف تنشأ منه أرض جديدة، وسماء جديدة، وعدالة خير من العدالة السابقة، وآلهة أعظم من أودين وثور. ولعل هذه القصة العظيمة ترمز إلى انتصار المسيحية، وإلى الضربات الشديدة التي كالها المليكان أولاف Olafs من أجل المسيح، أو لعل شعراء الفيكنج قد أخذوا يشكون في آلهتهم ويوارونهم التراب.

تلك أساطير عجيبة لا تفوقها في جمالها وفتنتها إلا أساطير اليونان. وكانت أقدم صورة وصلت إلينا منها هي صورتها ي تلك القصائد العجيبة التي سميت خطأ باسم Edda

(1)

. وخلاصة قصتها أن راهباً كشف في عام 1643 في مكتبة كبنهاجن الملكية مخطوطاً يحتوي عدداً من القصائد الأيسلندية القديمة، ووقع هذا الراهب في خطأ مزدوج فسماها إدا سيمند الحكيم The Edda of Saemund the Wise (حوالي عام 1056 - 1033) وهو عالم أيسلندي من رجال الدين. والباحثون الآن يجمعون على أن هذه القصائد قد كتبها في النرويج وأيسلندة، وجرينلندة كتاب غير معروفين في أوقات غير معروفة بين القرنين الثامن والثاني عشر، وأن سيمند ربما يكون قد جمعها ولكنه لم يؤلفها، وأن الإدا لم يكن اسمها. ولكن الزمن يقر الأخطاء كما يقر السرقات، ويوفق بين هذه الخطاء بأن يسمى القصائد الإدا الشعرية أو الإدا الكبرى. وهي في معظمها أغان قصصية عن الأبطال أو الآلهة الاسكنديناويين أو الألمان، وفيها نلتقي لأول مرة بسيجورد الفلسنجي Sigurd the Volsung وغيره من الأبطال

(1)

وقد وردت هذه الكلمة أول ما وردت في جذاذة ترجع إلى القرن العاشر وتعد في هذه الجذاذة جدة الأم. وكان من عجائب الأيام أن أصبح معناها علم العروض النرويجي وان استعملها بهذا المعنى استري استرلسون حين كتب بهذا العنوان (1222) رسالة عن الأساطير النرويجية ومن فن الشعر، وهذه الرسالة هي المعروفة لدينا باسم الإدا النثرية أو الصغرى.

ص: 320

الذكور والإناث والأوغاد الذين قدر لهم أن يتخذوا صورة أوضح من صورتهم هنا في الفولسنجساجا Volungasaga والنيبلنجنليد Nibelungenlied وأعظم قصائد الإدا قوة هي قصيد الفلسيا Voluspa التي تصف فيها البنية فولفا في صورة فخمة قاتمة خلق العالم، وآخرته المنتظرة ثم بعثه في آخر الأمر. وتختلف عن هذه القصيدة في الأسلوب "أغنية الواحد الأعلى" التي يصوغ فيها أودين، بعد أن يمر بمختلف الظروف ويلتقي بجميع أنواع الناس، ما تمليه عليه حكمته من الأمثال ليست كلها من الأمثال الخليقة بالآلهة:

لقد طرقت أماكن كثيرة مبكراً فوق أو ما يجب أو بعد فوات الأوان، قبل أن تعد الجعة أو بعد أن استنفدها الشاربون (67)

خير أنواع السكر هو الذي يستعيد كل إنسان بعده قواه العقلية (68). يجب ألا يثق الإنسان بأقوال فتاة ولا بأقوال امرأة، لا الخطيئة قد غرست في صدورهن (69)؛

هذا ما حدث لي حين حاولت إغواء تلك الغادة الفطنة؛

ولم أكسب من هذه الغادة شيئاً (70)

النهار يمدح في المساء، والسيف بعد أن يجرب، والمرأة بعد أن تحرق جثتها (71)

كثيراً ما يعاقب الإنسان على الألفاظ التي يتحدث بها إلى غيره (72)

واللسان هو سم الرأس (73). تجنب النزاع مع من هو شر منك ولو اقتصر نزاعك معه على ثلاثة ألفاظ، وكثيراً ما يستسلم خير الرجلين إذا ما ضر به شرهما (74)

يجب أن يكون الإنسان حكيماً في اعتدال وألا يسرف في الحكمة

لا تدع إنساناً يعرف مصيره قبل حلوله، لأن عقله يأمن بذلك من المشاغل

إن ذا العقل قلّما يبتهج قلبه

(1)

خير البيوت بيتك ولو كان صغيراً (77)

وخير المناظر منظر مصطلى الإنسان ومنظر الشمس (78).

وأكبر الظن أن قصائد الإدا الكبرى قد ظلت يتناقلها الناس شفوياً حتى

(1)

شبيه بهذا المعنى قول الشاعر العربي: ذو العقل يشق في النعيم بعقله، وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم (المترجم)

ص: 321

القرن الثاني عشر، ثم دونت في ذلك القرن. وكانت الحروف الهجائية في عصر الفيكنج هي حروف أوربا الشمالية كما كانت هي حروف ألمانيا وإنجلترا الأنجليسكسونية. وكانت هذه الرموز؛ ومعناها الحرفي "الأسرار الخفية") الأربع والعشرون تكون أبجدية أساسها بوجه عام هو الحروف اليونانية واللاتينية المطبعية المائلة. وكان في وسع الأدب في ذلك العصر أن يستغني عن الحروف، ذلك أن الشعراء والمغنين كانوا يؤلفون قصائدهم، ويحفظونها عن ظهر قلب، ويتلونها، ويتناقلها عنهم الناس شفوياً، وكانوا في هذه القصائد يتغنون بالآلهة التيوتونية و "عصر الأبطال"(من القرن الرابع إلى القرن السادس) الذي بسطت فيه الشعوب الألمانية سلطانها على أوربا. وقد احتفظ استرلسون وغيره من الكتاب بقطع صغيرة من هذه الأغاني، وبكثير من أسماء الشعراء. وأشهر هؤلاء كلهم هو سجفات ثوردارسون Sigvat Thordarsson الذي كان شاعراً ومستشاراً صريحاً في بلاط سانت أولاف. وكان شاعر آخر يدعى إجيل اسكلاجرمسون Egil Skallagrimsson (900 - 983) ، أشهر رجال زمانه في أيسلندة-كان محارباً شجاعاً، وشريفاً فردي النزعة، وشاعراً جياش العاطفة، وقد فقد في كبر سنه أصغر أولاده إذ مات غريقاً، وكاد يقضي عليه الحزن لولا أن أقنعته ابنته بأن يستعيض عن ذلك بكتابة قصيدة. فعمل بإشارتها وكتب قصيدتها المعروفة باسم "ثكل الابن" Sonartorrek التي يندد فيها بالآلهة ويتحداهم ويتهمهم بموت ولده. وهو يأسف لأنه لا يستطيع أن يعثر على أودين ليقاتله كما قاتل غيره من الأعداء. ثم يهدأ مزاجه حين يفكر أن الآلهة لم تسلط عليه الأحزان وكفى بل وهبته فوق ذلك ملكة الشعر، ثم يرضي بحظه فيعتزم أن يعيش ويعود إلى منزلته العالية في مجالس بلاده (79).

وما من شك في أن آداب ذلك العصر تغالى في وصف ما كان يسود مجتمع الفيكنج من عنف، شأنها في ذلك شأن الصحافة والتاريخ اللذين يخدعان القارئ

ص: 322

بالتحدث عما هو شاذ غير عادي ويهملان سير الحياة البشرية السوى. لكننا لا ننكر أن الظروف القاسية التي كانت تعيش فيها اسكنديناوة في الزمن القديم اضطرت الأهلين إلى أن يخوضوا معركة حامية في سبيل العيش لا يبقى فيها إلا أصلبهم عوداً، ومن أجل هذا نشأ عندهم من عادات النزاع القديم والأخذ بالثأر والقرصنة غي المقيدة في البحار المفتوحة، نشأ من هذه العادات قانون أخلاقي على غرار قانون نيتشة يدين بالشجاعة التي لا ترعى مبدأ ولا ضميراً. قال فيكنج لصاحبه:"قل لي أي دين تؤمن به؟ " فأجابه بقوله "إني أومن بقوتي". وأراد جولد هارلد Golq Harald أن يكون له على عرش النرويج، ورأى أن يناله بالقوة، لكن صديقه هاكون نصحه بقوله: فكر في أمرك واعرف هل تستطيع أن تبذل من قوة الرجولة ما يحقق مطعمك، لأن نيل هذه الغاية يتطلب من صاحبها أن يكون جريئاً، ثابتاً، لا يحجم عن فعل الخير أو الشر إذا كان فيه ما يوصله إلى مطلبه" (81). ومن هؤلاء الناس من كانوا يجدون في القتال لذة تكاد تنسيهم آلام جراحهم، ومنهم من كان يعتريهم وجد ونشوة في القتال تعرف عندهم باسم برسركس جانجر berserksgangr أي "طريقة برسلك". وكان البرسركيون-أو أصحاب قمصان الدببة-مقاتلين يندفعون إلى قلب المعركة دون أن يكون على أجسامهم قمصان من الزرد، ثم يحاربون ويصرخون كالحيوانات المفترسة، ويعضون بأسنانهم على دروعهم وهم غضاب ثائرون، فإذا انقضت المعركة فقدوا وعيهم وخارت قواهم (82). وكانت الفلهالا محرمة على غير الشجعان، ومن يمت في القتال من أجل جماعته تغفر له جميع خطاياه.

وهكذا تعود "رجال الفيوردات" شظف العيش والألعاب العنيفة، ثم ساروا في سفائنهم ذات المجاذيف يفتحون لهم ممالك في الروسيا، وبمبرانيا Pomerania، وفريزيا، ونورمندية وإنجلترا، وأيرلندة، وأيسلندة،

ص: 323

وجرينلندة، وإيطاليا، وصقلية. ولم تكن هذه المغامرات غارات تقوم بها جموع من الجند كجهاد المسلمين أو طوفان المجر، بل كانت بمثابة اندفاع حفنات متهورة من الرجال يرون كل ضعف جرماً؛ وكل قوة عملاً صالحاً، يشتهون الأرض، والنساء، والثراء، والسلطان، ويشعرون أن من حقوقهم المقدسة أن يكون لهم نصيب من ثمار الأرض. ولقد بدءوا حياتهم قراصنة واختتموها ساسة وحكاماً. فمنهم رولو Rollo الذي وهب نورمنديا نظاماً مبدعاً خلاّقاً، ومنهم وليم الفاتح الذي وهب إنجلترا هذا النظام نفسه، وروجر الثاني منشئه في صقلية. ولقد مزجوا دمهم الشمالي الجديد بدماء الشعوب التي أضعفتها الحياة الريفية الرتيبة فبعثوا فيها قوة ونشاطاً، إلا أن قلّما يفنى من لا يستحق الفناء، وإن احتراق نفايات الزروع ليخصب تربة الأرض ويجعلها أصلح مما كانت للزرع الجديد.

ص: 324

الفصل السادس

‌ألمانيا

566 -

1106

‌1 - تنظيم السلطة

لقد كانت غارات الشماليين المرحلة الأخيرة في غارات البرابرة التي تدفقت لآن عن مصير الألمان نفسها.

لقد أدى خروج تلك القبائل العظيمة- القوط، والوندال، والبرغنديين، والفرنجة، واللمبارد- إلى نقص سكان ألمانيا إلى حين، فتحرك الوند Wend الصقاربة غرباً من ولايات البحر البلطي ليملئوا ذلك الفراغ، وأصبح نهر الإلب قبل أن يحل القرن السادس الحد الجنسي، كما هو الآن الحد السياسي، بين العالم الصقلبي والعالم الغربي. فقد كان في غرب الإلب والسال Saale من بقي من القبائل الألمانية: السكسون في شمال ألمانيا الوسطى، والفرنجة الشرقيون في حوض الرين الأدنى، والثورنجيون بين هؤلاء وأولئك، والبافاريون Bavarians (الذين كانوا يسمون المركونيين من قبل) في حوض الدانوب الأوسط، والسوابيون Swabians (الذين كانوا يسمون السويفيين) على ضفاف نهر الرين والدانوب الأعليين وفيما بينهما، وعلى طول جبال جورا Jura الشرقية والألب الشمالية. ولم تكن في أوربا بلاد تسمى ألمانيا، بل كل ما كان فيها من قبائل ألمانية، وقد وهبها شارلمان وقتاً ما وحدة منشؤها، الفتح، ومستلزمات النظام المشترك، ولكن انهيار الإمبراطورية الكارولنجية فكك هذه الروابط، وظل الوعي القبلي والنزعة المحلية

ص: 325

يمنعان كل عامل يؤدي إلى المركزية حتى أيام بسمارك، ويضعفان قوة ذلك الشعب الذي يعاني الأمرين من جرّاء انحصاره بين أعدائه من جهة وبين جبال الألب والبحر من جهة أخرى. وأقامت معاهدة فردون (843) في واقع الأمر لويس أولدفج Ludwgi حفيد شارلمان أول ملك على ألمانيا، وأضافت معاهدة مرسن Mersen (870) إلى أملاكه بلاداً جديدة، وحددت ألمانيا بأنها الأرض المحصورة بين نهري الرين والإلب، تضاف إليها أجزاء من اللورين Lorrafne، وأسقفيات مينز، وورمز، واسبير Speyer. وكان لويس حاكماً وسياسياً من الطراز الأول، غير أنه له ثلاثة أولاد، قسمت مملكته بينهم جميعاً بعد وفاته، وضربت الفوضى أطنابها في أنحاء البلاد عشر سنين أغار فيها الشماليون على مدائن الرين، واختير بعدها آرنلف Arnulf، وابن غير شرعي لكارلومان Carloman ابن لويس، ملكاً على "فرنسيا الشرقية Wast Francia"(887) ورد الغزاة على أعقابهم. ولكن لويس "الطفل"(899 - 911) الذي خلفه على العرش كان أصغر وأضعف من أن يصد المجر الذين اجتاحوا بافاريا (900) وكارنثيا (901)، وسكسونيا (906)، وثورنجيا (908)، وأليمانيا Alemannia (909) ؛ وعجزت الحكومة المركزية عن حماية هذه الولايات، فكان على كل واحدة منها أن تدافع عن نفسها. وجهز أدواق الولايات ما يحتاجونه من الجيوش بأن أقطعوا أتباعهم الأرض نظير قيامهم بالخدمة العسكرية، ونال الأدواق بفضل الجيوش المؤلفة على هذا النحو استقلالهم الفعلي عن التاج، وأنشئوا ألمانيا الإقطاعية. ولما مات لويس رفع الأعيان وكبار رجال الدين كنراد الأول دوق فرنكونيا (911 - 918) على عرش البلاد، وكانوا قد نجحوا في أن يكون لهم هم حق اختيار الملك. وأنهك كنراد قواه في النزاع مع

ص: 326

هنري دوق سكسونيا، ولكنه بلغ من الحصافة أن أوصي باختيار هنري ليخلفه على العرش. وصد هنري الأول، المسمى "بالصائد" لشغفه بصيد الطير، قبائل الوند الصقلية إلى نهر الأودر Oder وحصن ألمانيا لتقوى على صد المجر، وهزمهم في عام 933 ومهد بجهوده السبيل إلى أعمال ابنه المجيدة.

وكان أتو الأول الأكبر (936 - 973) شارلمان ألمانيا. ولم يكن سنه حين جلس على العرش قد تجاوزت الرابعة والعشرين، ولكنه كان في هذه السن الصغيرة مليكاً بحق في مظهره ومخبره، وأحس بما للمراسم والرموز من عظيم الشأن فأقنع أدواق لورين، وفرنكونيا، وسوابيا، وبافاريا، بأن يؤلفوا حاشيته في حفل تتويجه الفخم في آخن على يد هيلدبرت Hildebert كبير الأساقفة، ولكن الأدواق ثاروا فيما بعد على سلطته المطردة النماء، وأغروا هنري أخاه الأصغر بأن يشترك معهم في مؤامرة تعمل لخلعه. وكشف أتو هذه المؤامرة، وقضى عليها، وعفا عن هنري، ثم ائتمر هنري بهد مرة أخرى، وعفا عنه للمرة الثانية؛ وأقطع المليك الداهية دوقيات جديدة لأصدقائه وأقاربه، وأخضع الأدواق لسلطانه شيئاً فشيئاً. ولم يرث من جاء بعده من الملوك ما كان له من دهاء وعزيمة ماضية فاحترقت ألمانيا في العصور الوسطى بنار النزاع بين الإقطاع، والملكية. وانحاز الأساقفة الألمان إلى جانب الملك في هذا النزاع، فأصبحوا بذلك مساعديه ومستشاريه في الشئون الإدارية، بل كان منهم في بعض الأحيان قواد جنده. وكان الملك يعين الأساقفة والرؤساء الأساقفة كما كان يعين غيرهم من موظفي الحكومة، فأصبحت الكنيسة الألمانية بهذه الوسيلة نظاماً قومياً بحتاً لا ترتبط بالبابوية إلا بأوهن الروابط. واتخذ أتو الدين المسيحي قوة لتوحيد البلاد فصهر به القبائل الألمانية وخلق منها دولة قوية.

ص: 327

وهاجم أتو الوند استجابة لرغبة أساقفته، وحاول أن يرغمهم بالسيف على اعتناق المسيحية. وأرغم ملك الدنمرقة ودوق بولندة وبوهيميا على أن يعترفوا به سيدهم الإقطاعي. وكان يطمع في أن يتولى عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ولهذا رحب بالدعوة التي وجهتها إليه أدليد الحسناء أرملة لوثير ملك إيطاليا لينقذها مما لحق بها من الإهانة على يدي برنجار الثاني المليك الجديد. وخلط أتو بمهارته بين السياسة والغرام، فغزا إيطاليا وتزوج بأدليد، وسمح لبرنجار أن يحتفظ بمملكته على أن تكون إقطاعاً له من التاج الأماني (951). وأبى الأشراف الإيطاليون أن يعترفوا بألماني إمبراطوراً لأن هذا يستلزم أن يكون هذا الإمبراطور سيداً لإيطاليا، وبدأ وقتئذ بين الطرفين نزاع دام ثلاثة قرون. وخرج على كنراد وهو غائب عن ألمانيا ابنه لودلف وزوج ابنته كنراد فعاد أتو إلى ألمانيا لكيلا ينشأ عن محاولته أن يكون إمبراطوراً ألا يظل ملكاً. ولما أن غزا المجر ألمانيا مرة أخرى (954) رحب بهم لودلف وكنراد وأمدهم بمن يرشدهم في غزوهم. وقطع أتو دابر الفتنة، وعفا عن لودلف، وأعاد تنظيم جيشه، وأوقع بالمجر عند لخفلد Lechfeld القريبة من أجزبرج Augsburg هزيمة منكرة (955)، أفاءت على ألمانيا فترة طويلة من الأمن والسلام. وصرف أتو بعدئذ جهوده إلى شئون البلاد الداخلية- فأعاد النظام إلى نصابه، وقضى على الجرائم، وأعاد ألمانيا المتحدة إلى الوجود، وجعلها أعظم دولة رخاء في تلك الأيام.

وسنحت له الفرصة مرة أخرى لإنشاء الإمبراطورية حين استعانا البابا يوحنا الثاني عشر على برنجار (959). فغزا أتو إيطاليا على رأس قوة كبيرة، ودخل روما من غير قتال، وتوجه يوحنا الثاني عشر إمبراطوراً رومانياً على الغرب في عام 962. ثم ندم البابا على فعلته، وأخذ يشكو من أن أتو لم يوف بما وعده به من

ص: 328

إعادة إكسرخسية

(1)

برافنا إلى البابوية. واتخذ أتو الخطوة المتطرفة الجريئة فزحف على روما، وعقد مجلساً دينياً من الأساقفة، وأقنعه بوجوب خلع يوحنا وتنصيب رجل من غير رجال الدين بابا مكانه باسم ليو الثامن (963). واقتصرت أملاك البابلي وقتئذ على دوقية روما وإقليم سابينا، واندمجت بقية إيطاليا الوسطى والشمالية في إمبراطورية رومانية مقدسة أضحت إقطاعية من إقطاعيات التاج الألماني. وكان ملوك ألمانيا يتخذون من هذه الحوادث حجة يبنون عليها ادعاءهم أن إيطاليا جزء من ميراثهم، أما البابوات فكانوا يتذرعون بها للقول بأن أحداً لا يستطيع أن يكون إمبراطوراً رومانياً في الغرب إلا إذا توجه البابا.

ولما أحس أتو بقرب منيته أراد أن يتقي ما عسى أن يعقب موته من الفوضى فحمل البابا يوحنا الثالث عشر على أن يتوج ابنه أتو الثاني إمبراطوراً معه (967)، وزوج ابنه هذا بثيوفانو ابنة رومانوس Romanus الثاني إمبراطور بيزنطية (972)، وتحقق بذلك إلى وقت قصير ما كان يحلم به شارلمان من توحيد الإمبراطوريتين بطريق الزواج، ثم توفي أتو ولما يتجاوز الستين من عمره، ولكنه قام في هذه السنين القلائل بما لم يقم به ذوو الأعمار الطوال (973)، وحزنت عليه ألمانيا كلها وعدته أعظم ملوكها. وصرف أتو الثاني (973 - 983) جهوده في ضم إيطاليا الجنوبية إلى دولته ومات في هذه المحاولة منهوك القوى قبل الأوان. وكان أتو الثالث (983 - 1002) وقتئذ طفلاً في الثالثة من عمره، فحكمت البلاد أمه وجدته أدليد نائبتين عنه مدة ثمان سنين، وأدخلت ثيافانو في أثناء نفوذها الذي دام ثمانية عشر عاماً بعض مظاهر الرقة البيزنطية إلى البلاط الألماني، وبث روح النهضة التي بدأها أتو في الآداب والفنون.

(1)

الإكسرخسية Exarchate مقاطعة يحكمها إكسرخس E xarch، والإكسرخس اسم كان يطلق قديماً على نائب الإمبراطور في إيطاليا، ومنصبه شبيه بمنصب الأسقف، ومعناه لغة القائد. (المترجم)

ص: 329

ولما بلغ أتو السادسة عشرة من عمره (996) شرع يحكم البلاد بنفسه. وأثر فيه جربرت وغيره من رجال الين، فعرض أن يتخذ روما عاصمة لملكه، ويجمع البلاد المسيحية كلها تحت سيادة الإمبراطورية الرومانية بعد أن يعيدها إلى الوجود ويشترك في حكمها الإمبراطور والبابا. وفسر أعيان روما ولمباردية وسوقتها هذا العمل بأنه مؤامرة ترمي إلى إقامة حكم بيزنطي ألماني في إيطاليا، ولهذا وقفوا في وجه أتو، وأقاموا في البلاد "جمهورية رومانية" وقلم أتو أظفار الفتنة، وأعدم كرسنتيوس Crescentius زعيمها، ثم عين جربرت بابا في عام 999؛ ولكن حياة أتو التي لم تزد على اثنتين وعشرين سنة، وبابوية جربرت التي دامت أربع سنين، كانتا أقصر من أن تمكناه من تنفيذ سياسته بحذافيرها؛ يضاف إلى هذا أن أتو، وهو نصف قديس ولكنه رجل إلى حد ما، قد وقع فيحب استفانيا Stephania أرملة كرسنتيوس، ورضيت أن تكون عشيقته وسجينته، ولما أحس المليك الشاب أن الموت يسري في عروقه أخذ يبكي ويندم، حتى قضى نحبه في فيتربو Viterbo ولما يتجاوز الثانية والعشرين من عمره (83).

وبذل هنري الثاني (1002 - 1024) آخر ملوك ألمانيا السكسون جهد ليعيد إلى الملك قوته في إيطاليا وألمانيا، حيث قوى الحكم الغلامين الصغيرين سلطان الأدواق وجرأ عليهما الدول المجاورة لهما. وبدأ بنكراد الثاني (1024 - 1039) حكم الأسرة الفرنكنونية أو السالية من الأباطرة وقد أعاد السلام إلى إيطاليا وضم إلى ألمانيا مملكة برغندية أو آرليس Aales. ودفعته حاجة إلى المال إلى أن يبيع مناصب الأساقفة بأثمان عالية أنبه عليها ضميره، فأقسم ألا يعود إلى بيع المناصب الدينية بالمال و "كاد يفلح في أن يبر بقسمه"(84). وبلغت الإمبراطورية في عهد ابنه هنري الثالث (1039 - 1056) ذروة مجدها وقد عرض في "يوم الغفران" من عام 1043 في كنستانس Constance أن يعفو عن كل من أساء إليه، وحض رعاياه أن يطهروا صدورهم من كل حقد ورغبة في الانتقام. وقد أفلح

ص: 330

بفضل مواعظه وقدوته الحسنة -وبفضل سلطانه في أغلب الظن- في أن يقضي على كثير من منازعات الأدواق، وتعاون مع "الهدنة الإلهية" في نشر ظل عهد ذهبي قصير الأجل على أوربا الوسطى. وقد ناصر العلوم، وأنشأ المدارس، وأتم كنائس اسبير، ومينز، وورمز. ولكنه لم يكن قديساً عمل للسلام الدائم، فقد ظل يحارب المجر حتى اعترفت له بالسيادة الإقطاعية عليها، وخلع ثلاثة من المتنافسين على البابوية، وعين اثنين من البابوات واحداً بعد الآخر، ولم يكن في أوربا كلها من يماثلها في سلطانه، ولكنه اندفع بسلطانه في آخر الأمر إلى الحد الأقصى فأثار بذلك مقاومة الأساقفة والأدواق جميعاً. غير أنه مات قبل أن تهب العاصفة، وخلف لهنري الرابع بابوية معادية، ومملكة مضطربة.

وكان هنري في الرابعة من عمره حين توج ملكاً في آخن وفي السادسة حين توفي أبوه وحكمت أمه واثنان من الأساقفة بالنيابة عنه حتى عام 1065 حين أعلن أن الغلام وهو في الخامسة عشرة قد بلغ سن الرشد، فوجد نفسه وقد آلت إليه سلطة إمبراطورية كفيلة بلا ريب أن تذهب بعقل أس شاب، وأصبح بطبيعة الحال يؤمن بالسلطة المطلقة، ويسعى لأن يحكم البلاد على هذا الأساس. وسرعان ما وجد نفسه في خصام أو حرب مع هذا أو ذاك من النبلاء الذين كادوا لعجزه أن يقطعوا أوصال دولته. ذلك أن السكسون قد أغضبتهم الضرائب المفروضة عليهم، وأبوا أن يردوا أراضي التاج التي يدعيها لنفسه، وظل يحاربهم حرباً منقطعة دامت خمسة عشر عاماً (1072 - 1088)؛ ولما أن هزمهم في عام 1075 أرغم قوتهم الكبرى ومن فيها من أشم النبلاء أنوفاً وكبار الأساقفة الحربيين أن يمشوا حفاة مجردين من السلاح بين صفين من جنده، ويقدموا مراسم الاستسلام عند قدميه وفي تلك السنة نفسها أصدر البابا جريجوري السابع مرسوماً يعارض به حق غير رجال الدين في تعيين الأساقفة أو رؤساء الأديرة، واستمسك هنري بالسوابق المتبعة منذ مائة عام، ولم يشك مطلقاً في أن تعيين هؤلاء وأولئك من

ص: 331

حقه، وظل عشر سنين يحارب جريجوري حرباً دبلوماسية وعسكرية، لم تنته إلا بموته، وكانت من أشد الحروب هو لا في تاريخ العصور الوسطى. وانتهز نبلاء ألمانيا المتمردون المشاكسون هذا النزاع ليزيدوا سلطتهم الإقطاعية، وعاد السكسون الذين استذلهم الملوك إلى ثورتهم. وانضم أبناء هنري إلى معارضيه وظل النزاع قائماً حتى نادى مجلس مينز بهنري الخامس ملكاً في عام 1098، وأسر الابن أباه وأرغمه على النزول عن العرش (1105) ثم فر الأب وخذ يحشد جيشاً جديداً، ولكنه مات في ليبيج في السنة السابعة والخمسين من عمره (1106)، ولم يجد البابا باسكال Paschal الثاني من حقه أن يمنح رجلاً محروماً مات دون أن يتوب دفنة مسيحية، ولكن أهل ليبيج تحدوا البابا والملك وشيعوا جنازة هنري الرابع في موكب ملكي فخم وواروه التراب في كنيستهم الكبرى.

‌2 - الحضارة الألمانية

566 -

1066

واستطاعت جهود الرجال والنساء الذين يفلحون الأرض وينشئون الأطفال أن تفتح ألمانيا وتهيئتها للحضارة. لقد كانت الغابات فيها ضخمة كثيفة إلى أقصى حد، تأوي إليها الوحوش الكاسرة، وتعوق الاتصال والوحدة، وقام أبطال مجهولون بتقطيع أشجار الغابات، ولعلهم أسرفوا في هذا التقطيع، ودام الكفاح في سكسونيا بين الأهلين وبين الأشجار التي تنمو بطبيعتها كلما قطعت، والمناقع التي تنشر الأوبئة- دام هذا الكفاح ألف عام ولم يكتب النصر فيه للإنسان إلا في القرن الثالث عشر. وتوالت الأجيال جيلاً بعد جيل والزراع والمجدون البواسل يطاردون الوحوش، وينقصون من أطراف البرابري القاحلة، ويذللون الأرض بالفأس والمحراث، ويغرسون أشجار الفاكهة، ويربون قطعان الماشية، ويعنون بالكرام، ويخففون من آلام وحدتهم بالحب والصلاة، والأزهار والموسيقى والجعة. وكان المعدنون يستخرجون من الأرض والملح، والحديد،

ص: 332

والنحاس، والرصاص، والحرف اليدوية القائمة في الضياع، والأديرة، والمنازل، تقرن الحذق الروماني إلى الألماني؛ والتجارة تنمو ويطرد نشاطها في الأنهار وتنساب إلى البحرين الأسود والبلطي. وكسب السكان المعركة العظيمة آخر الأمر؛ نعم إن الهمجية ظلت كامنة في شرائع البلاد وفي دماء الأهلين. ولكن الثغرة التي كانت قائمة بين فوضى القرن الخامس القبيلة ونهضة القرن العاشر التي بعثها أتو اجتيزت آخر الأمر، وصارت ألمانيا فيما بين 955 و 1075 أكثر بلاد أوربا رخاء، لا يضارعها في هذه الناحية إلا شمالي إيطاليا التي أخذت القانون والنظام عن الملوك الألمان. وواصلت المدن الرومانية القديمة أمثال تريير، ومينز، وكولوني تقدمها، ونشأت مدن جديدة حول مراكز الأساقفة في اسبير، ومجدبرج، وورمز، وبدأنا حوالي عام 1050 نسمع عن مدينة نورمبرج.

وكانت الكنيسة مربية ألمانيا والقائمة على إدارة شئونها في ذلك العصر؛ فقد افتتحت مدارس- أو بالأحرى كليات في أديرة فُلدا، وتجرنسي Tegernse، وريخنو Reichenau، وجندرسهايم Gandersheim وهلدسهايم Hildesheim، ولورسخ Lorsch. ولما عين ربانوس موروس Rabanus Maurus (776. - 856) رئيساً لدير فلدا العظيم في بروسيا بعد أن أتم دراسته تحت رعاية ألكوين في تور، ورفع مكانة مدرسة هذا الدير وأذاع شهرتها في جميع أنحاء أوربا حتى أضحت أما رؤوماً للعلماء ولاثنين وعشرين معهداً تنتسب إليها. وقد وسع مناهجها حتى شمل كثيراً من العلوم الطبيعية، وندد بالخرافات التي كانت تعزو الحوادث الطبيعية للقوى السحرية الخفية (85). ونمت دار الكتب في فلدا حتى أضحت من كبريات المكتبات العامة في أوربا؛ وهي التي أخرجت لنا سوتونيوس Suetonius وناستوس، وأمنيانوس مارسلنوس Ammajanus Marcetlinus. وثمة رواية غير موثوق بصحتها تعزو وإلى ربانوس أنشودة "جئت يا خالق الأرواح Veni Creator Spiritns" التي تنشد وقت

ص: 333

تدشين البابوات والأساقفة والملوك (86)، وافتتح سانت برونو St. Bruno، الذي كان دوق لورين وكبير أساقفة كولوني ثم أصبح مستشاراً إمبراطورياً لأتو الأكبر، مدرسة في القصر الملكي ليدرب فيها طبقة من الموظفين الإداريين، واستقدم العلماء وجاء بالكتب من بيزنطية وإيطاليا وكان هو نفسه يعلم فيها اللغة اليونانية والفلسفة.

ولم تكن اللغة الألمانية قد نشأت لها آداب في ذلك الوقت؛ وكان القائمون بالكتابة كلهم تقريباً من رجال الدين، وكانت لغة الكتابة هي الألمانية. وكان أعظم شعراء العصر الألمان وهو ولفريد استرابو Walafrid Strabo (809 - 849) وهو راهب سوابي في ريخنو. وكان وقتاً ما مريباً لشارل الأصلع في قصر لويس التقي في آخن. وقد وجد له في يوديث الحسناء الطموحة زوجة لويس نصيرة مستنيرة. ولما عاد إلى ريخنو ليتولى رياسة ديرها صرف جهوده كلها في الدين، والشعر، وفلاحة البساتين، وقد وصف لنا في قصيدة له ممتعة في العناية بالحدائق De cultura hortorum كل عشب وزهرة من الأعشاب والأزهار التي كان يربيها ويشغف بها.

وكان أعظم من ينافسه في الأدب الألماني في تلك القرون راهبة تدعى هرسويذا Hroswitha، وهي واحدة من كثيرات من النساء اللائي امتزن في ذلك العصر بثقافتهن. ورقتهن. وقد ولدت حوالي عام 935، ثم دخلت دير البندكتيين في جندرسهايم Gandersheim. وما من شك في أن مستوى التعليم في ذلك الدير كان أرقى مما نتوقع، ذلك أن هرسويذا قد درست شعراء روما الوثنية، وعرفت كيف تكتب باللغة اللاتينية بأسلوب سلس واضح، وكتبت بالشعر اللاتيني السداسي الأوتاد تراجم لبعض القديسين كما أنشأت ملحمة أصغر من هذه التراجم عن أتو الأكبر، ولكن كتبها التي خلدت ذكرها هي ستة مسرحيات نثرية من نوع المسلاة حذت فيها حذو ترنس Terence

ص: 334

وتقول هي إن الغرض الذي كانت ترمي إليه من كتابتها هو "أن تجعل الهبة الصغيرة التي حباها بها الله، تخرج بدافع الإخلاص صوتاً ضئيلاً تحمد به الله"(87). وتقول إنه يحزنها ما في المسالي اللاتينية من بذاءة وثنية، وإنها تحب أن تعرض على القرّاء بدلاً منها مسالي مسيحية؛ ولكن مسرحياتها نفسها تدور حول حب دنس لا يكاد يخفي ما ينطوي عليه من شهوة جثمانية. وخير مسرحياتها القصيرة وهي مسرحية أبراهام، وفيها يغادر ناسك مسيحي صومعته ليعني بابنة أخ له يتيمة. ثم تفر الفتاة مع شخص أغواها لا يلبث أن يهجرها، فتصبح من العاهرات. ويقتفي أبراهام أثرها، ويدخل عليها حجرتها متخفياً، وتقبله، فتعرفه، وترتد عنه في خجل، ويدور بينهما حوار شعري رقيق يقنعها به أن تقلع عن حياة الرذيلة وتعود معه إلى بيتهما. ولسنا نعرف هل مثلت هذه المسرحيات القصيرة أو لم تمثل، ذلك أن المسرحيات الحديثة لم تكن صدى لمسرحيات ترنس وأمثالها، بل نشأت من حفلات الكنيسة "وطقوسها الخفية" بعد أن امتزجت بها "مساخر" الممثلين الجائلين الصامتة.

ولم تكن الكنيسة موطناً للشعر، والتمثيل، وكتابة التاريخ فحسب، بل إنها فوق ذلك أمدت الفن بالموضوعات والمال. فقد تأثر الرهبان الألمان بالمثل البيزنطية والكارولنجية، وشجعتهم مناصرة الأميرات الألمانيات فأخرجوا في ذلك العصر عشرات العشرات من المخطوطات المزخرفة ذات الجمال الممتاز ويكاد برنولد Bernewald الذي كان أسقف هلدسهايم من 993 إلى 1022 أن يكون في حد ذاته خلاصة لثقافة ذلك العصر: فقد كان مصوراً، وخطّاطاً، وصانعاً للمعادن والفسيفساء، وحاكماً إدارياً، وقديساً. وقد جعل المدينة التي يعيش فيها مركزاً للفنون بمن جمع فيها من الفنانين على اختلاف أنواعهم ومواهبهم. وبفضل معونتهم، ويد الصناع أخرج صلباناً محلاة بالجواهر، وماثلات من الذهب والفضة منقوشة عليها صورة لحيوان والنبات، وكأساً من كؤوس القربان

ص: 335

مطعمة بجواهر قديمة تمثل واحدة منها ربات الجمال الثلاث عاريات كعادتهن (88). وكانت الأبواب الذائعة الصيت التي صنعها فنانوه لكنيسته أولى الأبواب المعدنية في العصور الوسطى التي صبت صباً بدل أن تصنع من ألواح مستوية ملصقة على الخشب. أما فن العمارة المحلية فلم يكن قد بدت فيه شواهد على تلك الأشكال الجميلة التي ازدانت بها المدن الألمانية في عصر النهضة؛ غير أن مباني الكنائس قد أخذت في ذلك الوقت تنتقل بالتدريج من الخشب إلى الحجارة، واستوردت من لمبارديا الآراء الرومانسية الخاصة بالأجنحة، وأمكنة المرتلين، والصحن، والأبراج، وبدأت وقتئذ كنائس هيلدسهايم، ولورسخ، وومز، ومينز، وتريير، واسبير، وكولوني. وكان النقاد الأجانب يشكون مما يتصف به هذا الفن الريني- الرومانسي من سقوف خشبية مستوية، وإفراط في الزخارف الخارجية، ولكن هذه الكنائس تعبر أصدق تعبير عما في الخلق الألماني من قوة وصلابة وعن روح ذلك العصر الذي يكافح أشد الكفاح ليرقى إلى مدارج الحضارة.

ص: 336

الباب الحادي والعشرون

‌صراع المسيحية

(529 - 1085)

الفصل الأول

‌القديس بندكت

حوالي 480 - 543

شهد عام 529 إغلاق مدارس أثينة الفلسفية كما شهد افتتاح مونتي كسينو Monte Cassino أشهر الأديرة في المسيحية اللاتينية. وقد ولد منشؤه بندكت النرسيائي Benedict of Nursia في بلدة اسبليتو Spoleto ويبدو أن أبويه كانا من طبقة الأشراف الرومانية الآخذة في الانقراض. ولما أرسل إلى روما ليتعلم، هاله ما رآه فيها من الفساد الجنسي، أو أنه كما يقول البعض أحب ولم يفلح في حبه، ولما بلغ الخامسة عشر من عمره فر إلى مكان سحيق على بعد خمسة أميال من سبياكو Subiaco في التلال السبينية، واتخذ له صومعة في كهف أسفل هاوية وعاش فيها بضع سنين في عزلة الرهبان. وتحدثنا محاورات البابا جريجوري الأول كيف كافح بندكت كفاح الأبطال لينسي المرأة:

"التي بعثت الشيطان ذكراها إلى قلبه، وألهب بها الذكرى نار الشهوة نفس عبد الله

حتى كادت تغلبه لذة الحب، وفكر في أن يهجو البرية ثم لطف الله به فعاد عقله فجأة إلى صوابه، وأبصر كثيراً في شجيرات العوسج والحسك تنمو بالقرب منه، فخلع ثيابه وألقى بنفسه في وسطها وأخذ يتمرغ فيها

ص: 337

مدة طويلة، فلما وقف على قدميه كان جلده قد تمزق وأصبح في حال يرثى لها، وهكذا داوى جراح نفسه بجراح قلبه".

وبعد أن عاش في هذه البرية المتوحشة بضع سنين واشتهر بين الناس بزهوه وثباته على تقواه، ألح عليه رهبان أحد الأديرة القريبة منه أن يكون رئيساً لديرهم، ولما أنذرهم بأن حكمه سيكون صارماً، لم يزدهم ذلك إلا إصراراً على رأيهم، فلم يرد بداً من إجابتهم على طلبهم والانتقال معهم إلى ديرهم. ولما قضى معهم أشهراً قليلة أخذهم فيها بأشد النظم دسوا له السم في النبيذ، فعاد إلى الحياة العزلة، ولكن بعض الشبان الأتقياء المخلصين جاءوا ليعيشوا بجواره، ويطلبوا هدايته، وجاء بعض الآباء بأبنائهم، ومنهم من كانوا من أهل روما نفسها، ليتلقوا عليه العلم، فلم يحل عام 520 حتى قام حوله اثنا عشر ديراً صغيراً بكل منها اثنا عشر راهباً. ولما رأى كثيرون من هؤلاء الرهبان القلائل أن حكمه صارم لا يطيقونه، انتقل مع أشد أتباعه إلى حماسة مونتي كسينو وهو تل يرتفع 1715 قدماً عن سطح البحر، ويطل على بلدة كسينوم Cassinum القديمة التي تبعد عن كبوا أربعين ميلاً جهة الشمال الغربي. وهناك هدم معبداً وثنياً، وأنشأ في مكانه (حوالي 529) ديراً ووضع أساس الحكم البندكتي الذي اهتدت به فيما بعد معظم الأديرة في بلاد الغرب.

وكان رهبان إيطاليا وفرنسا قد أخطئوا حين حذوا حذو نساك الشرق وعزلتهم، لأن مناخ أوربا الغربية ومناخ أهلها يجعلان هذا النوع من الحياة شاقاً عليهم مثبطاً لعزيمتهم، فأدى ذلك إلى نكوص كثيرين منهم على أعقابهم؛ فلما جاء بندكت لم يحرم التنسك ولم ينتقد النساك، ولكنه رأى من الحكمة أن يجعل التنسك جماعياً لا فردياً، خالياً من التنافس والتظاهر، يخضع في كل خطوة من خطواته إلى رئيس أحد الأديرة، ويقف عند الحد الذي إذا تعداه أضر بصحة الجسم أو بالعقل.

ص: 338

ولم يكن يطلب، حتى ذلك الوقت، إلى من يدخلون الأديرة ليعيشوا فيها أن يقسموا أي قَسم. فأحس بندكت أن الواجب يقضي على الطالب أن يقوم على خدمة راهب حديث العهد، ليتعلم منه بالتجربة ما يطلب إليه من حياة التقشف، فإذا ما أتم هذه التجربة لا قبلها أقسم الإيمان. وعليه بعد ذلك إذا شاء أن يتعهد كتابة بالبقاء في الدير على الدوام، وإصلاح أخلاقه، وطاعة رؤسائه؛ ثم يضع الراهب الجديد هذا القسم الكتابي بنفسه على المذبح، بعد أن يوقعه ويشهد عليه في احتفال رهيب. ولم يكن من حق الراهب بعد هذا الحفل أن يغادر الدير إلا بإذن رئيسه. وكان الرهبان هم الذين يختارون رئيس ديرهم، وكان عليه أن يستشيرهم في جميع الشئون الخطيرة، ولكنه هو وحده الذي يتخذ القرار الأخير، وكان عليهم أن يطيعوه طاعة عمياء وهم صامتون. ولم يكن لهم أن يتكلموا إلا إذا اقتضت ذلك الضرورة، وألا يمزحوا أو يضحكوا بصوت عال، وأن يمشوا وهم مطرقون بأبصارهم إلى الأرض. ولم يكن من حقهم أن يمتلكوا شيئاً "سواء كان كتاباً، أو لوحاً، أو قلماً-أو شيئاً على الإطلاق

بل يجب أن تكون كل الأشياء ملكاً مشاعاً" (3). وكان عليهم أن يغلفوا أو ينسوا كل ما شاهدوه من قبل من أحوال الملكية أو الاسترقاق. وكان من واجب رئيس الدير:

ألا يميز بين الأفراد في الدير

فلا يفضل الحر المولد عمن جاء من بين الأرقاء، إلا إذا كان لهذه التفرقة سبب معقول، إذ لا فضل لأحدنا على الآخر عند الله سواء كنا عبيداً أو أحراراً

لأن الله لا يعظم الأشخاص (4).

ويجب على من في الدير أن يتصدقوا على كل من يطلب الصدقة، وأن يستضيفوا كل من يطلب الضيافة بقدر ما تتسع له موارد الدير، وأن "يستقبلوا كل من يأتون من الضيوف كأنهم هم المسيح نفسه"(5).

ومن واجب كل راهب أن يعمل-في الحقول أو الحوانيت، وفي المطبخ،

ص: 339

وحول البيت، وينسخ المخطوطات

ولم يكن الرهبان يأكلون شيئاً حتى منتصف النهار، وفي أيام الصوم الكبير لا يأكلون إلا حين تغرب الشمس، وكانوا في الفترة الواقعة بين منتصف سبتمبر وعيد الفصح يقتصرون على وجبة واحدة في اليوم، وفي أشهر الصيف تباح لهم وجبتان لأن النهار وقتئذ طويل. وكان النبيذ مباحاً أما لحم كل حيوان ذي أربع فكان محرماً عليهم. وكانت أوقات العمل أنوم تقطعها دعوة إلى الصلاة الجماعية. وتأثر بندكت بالمثل الشرقية فقسم اليوم إلى "ساعات كنسية"-أي ساعات للصلوات كما قررها قانون الكنيسة أو قررتها قواعدها. فكان على الرهبان أن يستيقظوا في الساعة الثانية صباحاً، ويذهبوا إلى المعبد القائم في الدير، ويرتلوا، أو ينشدوا "تسبيحة الليل" وهي قراءة من الكتاب المقدس، وأدعية، ومزامير، فإذا طلع الفجر اجتمعوا "لصلاة السحر" أو "تسبيحة الصباح". وفي الساعة السادسة يجتمعون للصلاة القائمة-صلاة الساعة الأولى، وفي التاسعة يجتمعون للصلاة الثالثة، وفي منتصف النهار يصلون الصلاة "السادسة"، وفي الساعة الثالثة يجتمعون للصلاة التاسعة؛ وفي الغروب يصلون صلاة المساء؛ وقبل الذهاب إلى الفراش يصلون صلاة النوم وهي الصلاة الختامية، وكان وقت النوم هو بداية الليل، وكان الرهبان يستغنون عن الضوء الاصطناعي وينامون بملابسهم العادية وقلّما كانوا يستحمون (6).

وأضاف بندكت إلى هذه الأنظمة الصريحة بعض الإرشادات العامة التي يتبعها الرجل الكامل المسيحية.

1 -

يجب أولاً أن يحب الإنسان الله بكامل قلبه، وكامل روحه، وكامل قوته. 2 - وعليه أن يحب جاره كما يحب نفسه (3) وعليه ألا يقتل .... وألا يزني

أو يسرق

أو يطمع

أو يشهد زوراً

(8) وعليه أن يعظم الناس جميعاً .... (11) وأن يهر جسمه .... (13) وأن

ص: 340

يحب الصوم

(14) وأن يعين الفقراء

(15) وأن يكسو العرايا

(16) وأن يزور المرضى

(30) وألا يتسبب في الأذى وأن يصبر عليه

(31) وأن يحب أعدائه

(33) وألا يكون مولعاً بكثرة الكلام

(61) وألا يرغب في أن يسمى قديساً

ولكن عليه أن يكون من القديسين

(71) وإذا اختلف مع أحد فعليه أن يصافيه قبل أن تغرب الشمس

(72) وألا يقنط من رحمة الله (7)

وكان دير البندكتيين ملجأ يواسي المنكوبين في عصور الحرب والفوضى، والشك والتجوال، يلجأ إليه الفلاحون المعدومون أو المنكوبون، والطلاب الذين يتوقعون إلى مأوى هادئ، والرجال المتعبون من نزاع العالم وضجيجه، ويقول لهم:"تخلوا عن كبريائكم وحريتكم، تجدوا هنا الأمن والسلام". فلا عجب والحالة هذه إذا نشأت مائة دير مثله للبندكتيين في جميع أنحاء أوربا، كل منها مستقل عن غيره من الأديرة، لا يخضع إلا للبابا وحده، وهي بمثابة جزائر شيوعية في بحر الفردية عجاج. وكانت القواعد والنظم البندكتية من أثبت وأبقى ما ابتدعته العقول في العصور الوسطى، وكان دير كسينو نفسه رمزاً لهذا البقاء، فقد نهبه اللمبارد الهمج في عام 589؛ فلما انسحب اللمبارد عاد إليه الرهبان، ثم دمره المسلمون في عام 884؛ فأعاد الرهبان بناءه؛ ونهبه الجنود الفرنسيون في عام 1799، وهدمته قنابل الحرب العالمية الثانية وقذائفها، حتى سوته بالأرض في عام 1944. وهاهو ذا اليوم (1948) يعيد بناءه مرة أخرى رهبان القديس بندكت بأيديهم، فهو كالشجرة الطيبة إذا قطعت نمت وازدهرت من جديد.

ص: 341

الفصل الثاني

‌جريجوري الأكبر

540 -

604

بينا كان بندكت ورهبانه يعملون ويصلون آمنين مسالمين في مونتي كسينو، كانت الحرب القوطية (536 - 553) تجتاح إيطاليا من أقصاها إلى أقصاها وتترك الفوضى والفاقة أينما حلت. واضطربت الحال الاقتصادية في المدن وحلت بها الفوضى وتدهورت النظم السياسية، ولم يبق في روما نفسها سلطة مدنية عدا سلطة مبعوثي الإمبراطورية، يؤيدهم تأييداً ضعيفاً جنود بعيدون عنهم لا يتقاضون مرتباتهم. ولما انهارت السلطات الدنيوية على هذا النحو بدا لكل ذي عينين وللأباطرة أنفسهم أن لا حياة للدولة إلا ببقاء النظام الكنسي، ولهذا أصدر جستنيان في عام 554 مرسوماً يطلب فيه أن "يختار الأساقفة والرجال المشهورون في كل ولاية الأشخاص اللائقين الصالحين لتصريف شئون الحكومة المحلية"(8) ولكن جثة جستنيان لم تكد تبرد في مثواها الأخير حتى أخضعت غزوات اللمبارد (568) شمالي إيطاليا مرة أخرى إلى الهمجية وإلى المذهب الأريوسي وهددت صرح الكنيسة كله وزعامتها في إيطاليا بأشد الأخطار. وخلقت هذه الأزمة رجلاً، وكان التاريخ مرة أخرى شاهداً بما للعبقرية من أثر عظيم.

ولد جريجوري في روما قبل موت بندكت بثلاث سنين، وهو ينتمي إلى أسرة عريقة من أعضاء مجلس الشيوخ. وقد قضى صباه في قصر جميل على سفح تل كئيليا Caelian. ولما توفي أبوه ورث عنه ثروة طائلة، وارتقى بسرعة في سلم المناصب السياسية فكان في الثلاثة والثلاثين من عمره عمدة لروما، ولكنه لم يجد

ص: 342

في نفسه ميلاً للشئون السياسية؛ ولهذا فإنه حين أتم السنة التي يحق له فيها أن يتولى منصبه، وأيقن، كما يبدو من أحوال إيطاليا، ومما كان يردده الناس على الدوام، أن آخرة العالم قد اقتربت (9)، أنفق معظم ثروته في إنشاء سبعة أديرة، ووزع ما بقي منها صدقات للفقراء، وتخلى عن جميع مظاهر طبقته، وحول قصره إلى دير للقديس أندر St. Andrew وصار أول راهب فيه، وأخذ نفسه بأشد أنواع الزهد صرامة، ولم يطعم في معظم أيامه إلا الخضر والفاكهة، وأكثر من الصيام إلى حد أنه لما أقبل يوم سبت النور الذي يحتم فيه الصيام خيل إلى من يراه أن صوم يوم واحد بعده سيقضي عليه لا محالة. غير أنه كان يذكر بالخير الثلاث سنين التي قضاها في الدير ويقول إنها أسعد سني حياته.

ثم انتزع من هذا الهدوء ليكون "شماساً سابعاً" في خدمة البابا بندكت الأول، ثم أرسله البابا بلاجيوس Pelagius الثاني سفيراً له في البلاط الإمبراطوري بالقسطنطينية. وظل بين ألاعيب السياسة وأبهة القصور يعيش معيشة الراهب في عاداته، وطعامه وصلواته (10)، وإن كان مع ذلك قد خبر العالم وما فيه من مكر وخداع خبرة أفاد منها كثيراً. واستدعى مرة أخرى إلى روما عام 586 وعين رئيساً لدير القديس أندرو، ثم فشا في عام 590 طاعون دملي مروع قضى على عدد كبير من أهل روما وكان بلاجيوس من ضحاياه، وبادر رجال الدين والشعب إلى اختيار جريجوري ليخلفه؛ وكان يعز على جريجوري أن يترك ديره فكتب إلى إمبراطور الروم يرجوه ألا يوافق على اختياره للمنصب الجديد، ولكن عمدة المدينة احتجز الرسالة، وبينما كان جريجوري يعد العدة للهرب، ألقي القبض عليه، وحمل بالقوة إلى كنيسة القديس بطرس حيث أقام جريجوري آخر، أو هكذا يقولون، بابا (11).

وكان وقتئذ في الخمسين من عمره وقد دب الصلع في رأسه في هذه السن المبكرة وكان كبير الرأس أسمر اللون، أقني الأنف، خفيف شعر اللحية، أصدأه، قوي

ص: 343

الإحساس، حلو الحديث، ماضي العزيمة، رقيق العاطفة؛ وكان تقشفه الشديد وتبعاته الكثيرة قد أتلفت صحته، فكان يشكو عسر هضم، وحمى بطيئة خفيفة، وداء النقرس. وعاش في القصر البابوي كما كان يعيش في الدير-يلبس ثوب الرهبان الخشن، ويأكل أرخص الأطعمة وأشدها خشونة، ويشارك مساعديه من الرهبان والقسيسين في حياتهم العامة. ولم يمنعه انهماكه في معظم أوقاته في مشاكل الدين والدولة من أن يوجه كلمة أو يقوم بعمل يشعران بالعطف والحنان. من ذلك أنه أبصر في يوم من الأيام شاعراً جوالاً على باب قصره ومعه أرغن وقرد، فأمر جريجوري الرجل بالدخول، وقدم له الطعام والشراب (13). ولم يكن ينفق إيرادات الكنيسة في تشييد صروح جديدة بل أنفقها في الصدقات، وفي الهبات للمعاهد الدينية في جميع أنحاء العالم المسيحي، وفي افتداء أسرى الحروب. وكان يوزع على كل أسرة فقيرة في روما كل شهر قدراً من الحبوب، والنبيذ، والجبن، والزيت والسمك، واللحم، والثياب، والمال. وكان عماله يحملون الطعام المطبوخ في كل يوم إلى العجزة والمرضى؛ وكانت رسائله غاية في الصرامة لرجال الكنيسة المهملين، ولكبار الحكام السياسيين، ولكنها كانت تفيض رقة وحناناً للمنكوبين: من فلاح يشتغل في أرض الكنيسة، إلى أمة تريد أن تدخل الدير، أو سيدة شريفة يؤنبها ضميرها على ما اقترفت من آثام. وعلى هذا النحو كان القس راعياً بالمعنى الحرفي لهذا اللفظ، راعياً يعني بقطيعه، وكان للبابا الصالح الحق أن يؤلف كتابه المسمى Liber Pastoralis curae (590) ، وهي كتاب موجز في النصائح يهديها إلى الأساقفة، صارت فيما بعد من المراجع المسيحية الهامة، ولم يمنعه مرضه الدائم وشيخوخته المبكرة من أن ينهك قواه في تصريف الشئون الكنسية، والسياسة البابوية، والأعمال الزراعية، والخطط العسكرية، وتأليف الرسائل الدينية، والنشوة الصوفية، والاهتمام الشديد بآلاف تفاصيل الحياة البشرية. وقد خلع على منصبه السامي

ص: 344

ما يتصف به الدين من تواضع، فلقب نفسه في أولى رسائله الباقية لدينا اليوم "خادم خدمة الله" servus servorum Dei، وقد ارتضى أعظم البابوات لأنفسهم هذا اللقب النبيل.

وامتازت إدارته لشئون الكنيسة بالاقتصاد الحكيم، والإصلاح الصارم الشديد، وقد بذل جهوداً جبارة في قمع التسري والمتاجرة بالرتب الكهنوتية بين رجال الدين، وأعاد النظام إلى الأديرة اللاتينية، ونظم علاقتها بالبابا وبرجال الدين من غير الرهبان. وأصلح قانون القداس ولعله كانت له يد في نشأة النشيد "الجريجوري"، وقمع ما كان قائماً في ضياع البابا من استغلال وقدم القروض من غير فائدة للزراع المستأجرين، ولكنه لم يتوان عن جمع إيراد أملاك الكنيسة بالحزم والسرعة، وعرض بدهائه على اليهود الذين يعتنقون المسيحية أن يخفض لهم إيجار أملاك الكنيسة، وقبل للكنيسة الأراضي التي كان يهبها لها الأشراف الذي أقضت مضاجعهم مواعظه عن اقتراب نهاية العالم (14).

وكان في هذه المشاغل كلها يقابل أعظم حكام زمانه ويناقشهم في الشئون السياسية، يغلبهم في معظم الأحيان ويغلبونه في بعضها، ولكنه ترك في آخر الأمر سلطان الكنيسة وهيبة البابوية و "ميراث بطرس"(أي الولايات البابوية في إيطاليا الوسطى) ترك هذه كلها أعظم وأوسع رقعة مما كانت قبله. وقد اعترف من الوجهة الرسمية بسيادة إمبراطور الروم، ولكنه كان يتجاهل هذه السيادة من الوجهة العلمية؛ مثال ذلك أنه لما أن هدد دوق اسبليتو مدينة روما-وكان في حب مع نائب الإمبراطور في رافنا-عقد جريجوري صلحاً مع الدوق أن يستشير في ذلك نائب الإمبراطور أو الإمبراطور نفسه، ولما أن حاصر اللمبارد مدينة روما اشترك جريجوري في تنظيم الدفاع عنها.

غير أنه كان يأسف لكل دقيقة يقضيها في الشئون الدنيوية، ويعتذر لجماعات المصلين لعجزه عن أن يلقي عليهم عظات تريح بالهم بين المتاعب الدنيوية التي

ص: 345

تشغل باله هو، وقد أسعده أن يوجه عنايته فيما أتيح له من سني الهدوء القلائل إلى نشر الإنجيل في أوربا، وأخضع لسلطانه أساقفة لمبارديا المتمردين، وأعاد المذهب الكاثوليكي السليم إلى أفريقية، وتلقى تحويل أسبانيا الأريوسية إلى المذهب الكاثوليكي، وكسب إنجلترا لهذا المذهب دون أن يكلفه ذلك أكثر من أربعين راهباً بعث بهم إليها. ولما أبصر وهو رئيس دير القديس أندر بعض الأسرى الإنجليز يعرضون للبيع في أحد أسواق الرقيق في روما دهش كما يقول بيد Bede ذو النزعة الوطنية:

"من بياض إهابهم، ووسامة وجوههم، وجمال شعرهم، فأخذ يتأملهم لحظة وجيزة، ثم سأل، كما يقولون، عن الإقليم أو البلد الذي جيء بهم منه. ولما قيل لهم إنهم جاءوا من بريطانيا، وإن هذه هي صورة أهلها، سأل مرة أخرى هل سكان تلك البلاد مسيحيون

فلما أجيب بأنهم كفرة من عباد الأوثان صاح هذا الرجل الصالح قائلاً

وا أسفاه! إني ليحزنني أن يكون أولئك الناس الحسان ذوو الوجوه المشرقة من أتباع ملك الظلام، وأن تكون لأصحاب هذا المظهر الجميل عقول خالية من الجمال الداخلي". ثم سأل من أجل هذا مرة أخرى عن اسم أولئك الأقوام، فقيل له إن اسمهم الإنجليز Angles، فلما سمع هذا قال: "ألا ما أجدرهم بهذا الاسم

(1)

لأن لهم وجوهاً كوجوه الملائكة، وخليق بأولئك الرجال أن يرثوا مع الملائكة ملكوت السماوات (15) ".

ثم تقول القصة بعدئذ- وهي أطرف من أن تصدق- أن جريجوري استأذن البابا بلاجيوس الثاني أن يذهب على رأس جماعة من المبشرين إلى إنجلترا، فلما أذن له البابا بذلك بدأ رحلته، ولكنه وقف عن مواصلة الرحلة حين سقطت جرادة على الصفحة التي كان يقرأها في الكتاب المقدس؛ فصاح من فوره لوكستا Locusta، " إن معنى هذا loca sta" أي أقم في مكانك (16).

(1)

يشير إلى ما بين Angles أي الإنجليز و angels أي الملائكة من تجانس (المترجم)

ص: 346

وشغلته بعد ذلك بقليل شئون البابوية ولكنه لم ينس إنجلترا، فلما كان عام 596 أرسل إليها بعثة برياسة أوغسطين كبير الرهبان في دير القديس أندرو. فلما وصلت البعثة إلى غالة عاد الرهبان أدراجهم، إذ روعتهم أقاصيص الفرنجة عن وحشية السكون، فقد قيل لهم إن "أولئك الملائكة" وحوش مفترسة، القتل عندهم أفضل من الأكل، متعطشون لدماء الآدميين، وأن أحب الدماء إليهم دماء المسيحيين. وعاد أوغسطين يحمل هذه الأخبار إلى روما، ولكن جريجوري أنبه على ما فعل وشجعه على العودة، وأرسله إلى إنجلترا مرة أخرى فأتم بالسلم في عامين اثنين ما فعلته روما بالحرب في تسعين عاماً ثم لم يلبث عملها أن عفت آثاره.

ولم يكن جريجوري فيلسوفاً دينياً مثل أوغسطين العظيم، كما أنه لم يكن من الكتاب أصحاب الأساليب الجيدة مثل جيروم ذي الأسلوب الممتع الجذاب. ولكن كتاباته كان لها أعمق الأثر في عقلية الناس في العصور الوسطى، وكانت تعبر عن هذه العقلية أصدق تعبير؛ ولهذا فإن كتابات أوغسطين وجيروم تبدو إلى جانبها كأنها من أقلام اليونان والرومان الأقدمين. وقد خلف وراءه كتباً في الدين توائم عقلية الجماهير، حوت من السخف الكثير ما يحير الإنسان فلا يدري هل كان يؤمن هذا الإداري العظيم حقاً بما يكتبه، أو أنه لم يكن يكتب إلا ما يرى أن من الخير للنفوس الساذجة الأثيمة أن تؤمن به. وأعظم كتبه إمتاعاً هو ترجمته لحياة بندكت- وهي في واقع الأمر أنشودة ساحرة من التبجيل لا يدعى فيها أنه حرص على تمييز الأوهام من الحقائق تميز الناقد البصير. وخير ثرائه الأدبي هو رسائله الثمانمائة، ففيها يكشف هذا الرجل المتعدد المواهب عن قدرته في مائة من الميادين، ويرسم دون أن يشعر صورة دقيقة لعقله وزمانه. وقد أحب الشعب محاوراته لأنه يعرض عليهم فيها أعجب القصص عن رؤى رجال الدين في إيطاليا، ونبوءاتهم. ومعجزاتهم، على أنها حقائق تاريخية. ففيها

ص: 347

يقرأ القارئ عن الحجارة الضخمة يحركها الناس بصلواتهم، وعن قديس يستطيع أن يتخفى عن أعين الخلق، وعن سموم تصبح عديمة الضرر بفعل علامة الصليب، وعن أطعمة تنزل وتتكاثر بفعل المعجزات. وعن مرضى يشفون من أمراضهم وأموات يعودون إلى الحياة. ويتكرر في هذه المحاورات ذكر المخلفات وما لها من قوة، ولكن أعجب ما فيها ما يذكره عن السلاسل التي قيل إن بطرس وبولس قد قيدا بها؛ وكان جريجوري يحرص على ذكر هذه السلاسل ويمجدها إلى حد العبادة، ويهدي برادة منها إلى أصدقائه؛ وقد كتب مع هدية من هذا النوع إلى صديق مصاب بالرمد:"احرص على أن تضع هذه فوق عينيك باستمرار، لأن هذه الهدية بعينها قد أتت بكثير من المعجزات"(17). وقصارى القول أن مسيحية الجماهير قد استحوذت على عقل البابا العظيم وقلمه.

وكانت أعظم محاضراته في ميدان الدين هي كتابه Manga Moralla- وهو شرح لسِفر أيوب في ستة مجلدات. وهو يروي هذه المسيحية على أنها تاريخ حقيقي في كل سطر من سطوره، ولكنه بالإضافة إلى هذا يبحث في كل سطر عن معنى مجازي أو رمزي، ويختمها بقوله إنه يجد في سِفر أيوب جميع آراء أوغسطين الدينية. ويعتقد أن الكتاب المقدس هو كلمات الله بكل ما لهذا التعبير من معان، وأنه في حد ذاته نظام كامل من الحكمة والجمال، وأن على كل إنسان أن لا يضيع وقته ويفسد أخلاقه بقراءة الكتب الوثنية اليونانية والرومانية القديمة. على أن بعض آيات الكتاب المقدس في رأيها يكتنفها الغموض، وأنها كثيراً ما تصاغ في لغة شعبية تصويرية، ولهذا فهي في حاجة إلى أن تعني بتفسيرها عقول مدربة، والكنيسة وهي الأمينة على التقاليد المقدسة هي وحدها التي يحق لها أن تقوم بهذا التفسير والعقل الفردي أداة ضيقة مولعة بالتقسيم، لم توجد لتعالج الحقائق التي تسمو على الحواس، وإذا ما حاول العقل أن يدرك ما هو فوق مداركنا،

ص: 348

خسر كل شيء حتى ما يستطيع فهمه". وليس في مقدور أفهامنا أن تعرف الله، وكل ما في وسعنا أن نقول إنه ليس كذا وكذا ولكننا لا نستطيع أن نقول ما هو، و "يكاد كل ما يقال عن الله يكون غير خليق به لمجرد أنه يمكن أن يقال عنه" (19) ولهذا لا يحاول جريجوري محاولة صريحة أن يثبت وجود الله، ولكنه يقول إن في وسعنا أن نشير إلى جودة بالتفكير في النفس البشرية: أليست هي القوة الحية وهادية الجسم؟ ثم يقول جريجوري: "وكثيراً ما رأى عدد كبير من الناس

في هذه الأيام أرواحاً تفارق أجسامها" (20). ومأساة الإنسان الكبرى هي أنه قد أفسدت فطرته بتأثير الخطيئة الأولى، فمالت به إلى الشر، وهذا التكوين الروحي الفاسد الأساس ينتقل من الوالد إلى الولد بفعل التناسل الجنسي، فإذا ما ترك الإنسان وشأنه أضاف ذنباً إلى ذنب واستحق بذلك العذاب الدائم. وليست النار اسماً على غير مسمى، بل هي هوة سحيقة تحت الأرض مظلمة لا قرار لها وجدت من يوم أن خلق العالم. وهي نار لا ينطفئ لظاها مجسمة، ولكن في مقدورها رغم ذلك أن تطهر الأرواح والأجسام؛ وهي أبدية ولكنها لا تفنى المذنبين أو تنقص من إحساسهم بالألم، ويضاف إلى آلامهم في كل لحظة يقضونها متألمين رعبهم مما ينتظرونه من آلام مقبلة، ومن مشاهدة ما يلاقيه أحباؤهم المذنبون من هول العذاب، ويأسهم من النجاة، أو من السماح لهم بالفناء (21). وأوضح جريجوري بطريقة أقل إرهاباً من هذه الطريقة قول أوغسطين عن المطهر الذي يتم فيه الموتى التكفير عن ذنوبهم التي عفا الله عنها. وهنا يفعل جريجوري ما يفعله أوغسطين فيطمئن أولئك الذين روعهم بتذكيرهم بنعمة الله وفضله، وشفاعة القديسين وثمار تضحية المسيح نفسه، وما للقاء الرباني من قوة خفية عجيبة في نجاتهم، وهي قوة في متناول جميع التائبين المسيحيين.

ولعل تعاليم جريجوري الدينية تنعكس عليها صحتها المعتلة كما تنعكس عليها فوضى زمانه. فأما صحته المعتلة فقد كتب عنها في عام 599 يقول "قضيت أحد

ص: 349

عشر شهراً قلّما غادرت فيها فراشي، ينتابني فيها النقرس والقلق المؤلم

إلى حد صرت أرجو معه النجاة بالموت"، وكتب في عام 600 مرة أخرى: "أنا الآن ملازم للفراش منذ عامين، وقد اشتد بي الألم إلى حد أكاد أعجز معه عن مغادرة سريري مدة ثلاث ساعات أحتفل فيها بالقداس. وأنا أحس في كل يوم بأنني على حافة القبر وأني في كل يوم أرد عنه". وكتب في عام 601:"لقد مضى زمن طويل لم أغادر فيه الفراش، وما أعظم اشتياقي إلى الموت"(22). وجاءه الموت في عام 604.

لقد كان جريجوري المسيطر على أواخر القرن السادس، كما كان جستنيان المسيطر على بدايته، وكان له في هذه الحقبة أثر في الدين لا يعلو عنه إلا أثر النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ولم يكن جريجوري من رجال العلم ولا من المتبحرين في الدين، ولكن هذه البساطة هي التي جعلت له في عقول الناس أثراً أعظم من أثر أوغسطين الذي كان يهتدي بهديه في تواضع فاتن جذاب. أما من حيث الناحية العقلية فقد كان أول من تمثلت فيها عقلية العصور الوسطى أصدق تمثيل (23)، فبينما كانت يده تدير شئون إمبراطورية مشتتة، كان تفكيره منصرفاً إلى فساد الطبيعة البشرية وغواية الشياطين التي لا يخلو منها مكان على ظهر الأرض، وإلى نهاية العالم القريبة. وكان يخطب خطباً قوية في تلك العقائد الدينية المرعبة التي ظلت تغشى عقول الناس قروناً عدة، وكان يؤمن بجميع المعجزات الواردة في القصص الشعبية الخرافية، وبكل ما يعزى لمخلفات القديسين، وصورهم، وأورادهم من تأثير سحري، ويعيش في عالم مليء بالملائكة، والشياطين، والسحرة والأشباح وتجرد عقله من كل معنى يشعر بأن للعالم نظاماً قائماً على أساس العقل، وكان العلم في رأيه مستحيل الوجود في الكون، وكان الدين الرهيب هو وحده الذي بقي فيه. وقد ارتضت القرون السبعة التي جاءت بعد هذه النظرية، وحاول الفلاسفة المدسيون جهدهم أن يصورها بصورة

ص: 350

تتفق مع العقل، وكانت هي الأساس الموئس الذي بنيت عليه المسلاة الإلهية.

ولكن هذا الرجل بعينه الذي يؤمن بالخرافات ويبادر إلى تصديقها، والذي حطمت جسده تقواه المرعبة الرهيبة، هذا الرجل كان في قوة إرادته وفي قدرته على العمل رومانياً من الطراز القديم، لا ينثني عن قصده، صارماً في أحكامه، حازماً، عملياً، محباً للنظام وإطاعة القانون، وضع للأديرة قانوناً، كما وهبها بندكت حكماً، أقام سلطة البابوية الزمنية، وحررها من سلطان الإمبراطورية، وصرف شئونها بحكمة واستقامة جعلتا الناس يرون فيها ملاذاً يهرعون إليه في العصور العاصفة المقبلة. وقد اعترف بفضله وقدسه من جاء بعده من البابوات ولقبه الخلف المعجب به "جريجوري العظيم".

ص: 351

الفصل الثالث

‌الشئون السياسية للبابوية

604 -

867

ووجد البابوات الأولون الذين جاءوا بعده أن من أشق الأمور عليهم أن يستمسكوا بكل ما كان يستمسك به من أهداب الفضيلة، أو يحتفظوا بكل ما كان له من سلطان. بل ارتضت الكثرة الغالبة منهم أن تخضع لسلطان حكام الولايات أو للإمبراطور، وكثيراً ما لاقوا المهانة وهم يحاولون أن يقاوموا هذا السلطان. وكان الإمبراطور هرقل Heraclius يتوق إلى توحيد إمبراطوريته التي أنقذها من أعداء الفرس، فسعى إلى التوفيق بين الشرق ذي المذهب اليعقوبي-القائل بأن ليس للمسيح إلا طبيعة واحدة، -وبين الغرب المتمسك بمبادئ الكثلكة الأساسية والقائل بأن للمسيح طبيعتين. ومن أجل هذا أصدر في عام 638 منشوراً يعرض فيه التوفيق بين المذهبين بالاعتقاد أن للمسيح مشيئة واحدة وطبيعة واحدة. ووافق البابا هونوريوس Honorius الأول على هذا الاقتراح وأضاف إلى ذلك قوله إن مسألة الإرادة الواحدة أو الإرادتين "مسألة اتركها للنحويين لأنها من المسائل القليلة الخطر"(24). ولكن رجال الدين في الغرب نددوا بموقفه هذا؛ ولما أصدر الإمبراطور كنستانس Constans الثاني منشوراً (648) يبدي فيه ميله إلى هذا المذهب رفضه البابا مارتن Martin الأول. فأمر الإمبراطور حاكم رافنا أن يقبض على البابا ويأتي به إلى القسطنطينية، ولما لم يذعن البابا لرغبة الإمبراطور نفي إلى شبه جزيرة القرم، وبقي فيها إلى أن مات في عام 655. ورفض المجلس المسكوني السادس الذي اجتمع في القسطنطينية عام 680 المذهب الجديد وحكم على البابا هونوريوس بأنه يحابي الخارجين على الدين (25)، ووافقت الكنيسة الشرقية التي آلمها استيلاء المسلمين على بلاد الشام

ص: 352

ومصر التي تدين بمذهب اليعقوبيين، على هذا الحكم، وخفقت راية السلام الدينية لحظة وجيزة في سماء الشرق والغرب جميعاً.

ولكن إذلال البابوية المتكرر على أيدي أباطرة الشرق، وما حل بيزنطية من الضعف بسبب اتساع أملاك المسلمين في آسية وأفريقية وأسبانيا، وسيطرة المسلمين على البحر المتوسط، وعجز القسطنطينية أو رافنا عن أن تحمي الولايات البابوية بإيطاليا من هجمات للمبارد، كل هذا اضطر إلى البابوية إلى أن تدير ظهرها إلى الإمبراطورية المتداعية وتطلب معونة دولة الفرنجة الآخذة في النماء والقوة. وخشن البابا استيفن الثاني (752 - 757) أن يستولي اللمبارد على روما فيحط ذلك من شأن البابوية ويجعلها مجرد أسقفية محلية يسيطر عليها ملوك اللمبارد، فاستغاث بالإمبراطور قسطنطين الخامس، ولكن الإمبراطور لم يغثه، فولى البابا وجهه شطر الفرنجة، وأسفرت هذه الحركة عن نتائج سياسية غاية في الخطر. فقد لي بيبين القصير نداءه، وأخضع اللمبارد، ونفح البابوية "بهبة بيبين" التي أغنتها إذ منحتها جميع إيطاليا الوسطى (756)؛ وبفضلها قامت سلطة البابوية الزمنية. وبلغت هذه السياسة البابوية ذروتها حين وضع ليو الثالث التاج على رأس شارلمان، ولم يعد يعترف لشخص ما أنه إمبراطور على الغرب إلا إذا مسحه أحد البابوات. وهكذا أضحت أسقفية جريجوري الأول التي لا حول لها ولا طول من أعظم الدول في أوربا. ولما مات شارلمان (814)، انقلبت عطية الفرنجة للكنيسة ظهراً لبطن، فأخضع رجال الدين في فرنسا ملوكها شيئاً فشيئاً لسلطانهم، وبينما كانت إمبراطورية شارلمان تتدهور كان نفوذ البابوية وسلطانها يتزايدان.

وكان الأساقفة في بادئ الأمر أكثر الناس إفادة من ضعف الملوك الفرنسيين والألمان ومنازعاتهم ذلك أن رؤساء الأساقفة تحالفوا مع الملوك في ألمانيا، فنالوا بفضل هذا التحالف أملاكاً واسعة، وحصل الأساقفة والقساوسة على سلطات

ص: 353

إقطاعية كادوا يستقلون بها عن البابوات. ويلوح أن غضب الأساقفة الألمان واستياءهم من استبداد ورؤسائهم كان هو منشأ "الأحكام البابوية الكاذبة"، وهي مجموعة الأحكام التي قوت فيما بعد سلطان البابوية، والتي كانت تهدف في بادئ الأمر إلى تقرير حق الأساقفة في أن يستأنفوا أحكام مطارنتهم إلى البابوات أنفسهم. ولسنا نعرف متى صدرت هذه الأحكام ولا أين صدرت، ولكن أغلب الظن أنها جمعت في مدينة متز عام 842. وكان واضعها قس فرنسي تسمى باسم إزدورس مركاتور lsdorus Mercator. وكانت هذه المجموعة غاية في البراعة تشمل بالإضافة إلى طائفة كبيرة من القرارات الموثوق بها الصادرة من المجامع الدينية أو البابوات، عدداً من المراسيم والخطابات تعزوها إلى البابوات مبتدئة من كلمنت الأول (91 - 100) إلى ملخيادس Melchiades (311 - 314) . وكان الغرض الذي تهدف إليه هذه الوثائق أن ما جرت عليه الكنيسة من تقاليد وعادات قديمة تقضي بألا يخلع أي أسقف من منصبه، وألا يدعى أن مجلس من مجالس الكنيسة إلى الاجتماع، وألا يفصل أية مسألة من المسائل الكبرى، إلا بعد موافقة البابا. وتدل هذه الشواهد على أن البابوات جميعاً، حتى الأولين منهم، كانوا يدعون أنهم أصحاب السلطان العالمي المطلق بوصفهم خلفاء المسيح في الأرض. وكان البابا سلفستر الأول (314 - 335) يوصف في هذه الأحكام بأنه قد أصبحت له بمقتضى "هبة قسطنطين" السلطة الزمنية والدينية الكاملتين على جميع أوربا الغربية، وأن "هبة بيبين" بناء على هذا لم تكن إلا استرداداً أعرج لحق مختلس، وبدا أن خروج البابا عن سيادة بيزنطية بتتويجه شارلمان لم يكن إلا تقريراً مرتقياً من زمن بعيداً لحق يرجع في أصله إلى مؤسس الإمبراطورية الشرقية نفسه. ومما يؤسف له أن كثيراً من الوثائق المزورة تنقل نصوصاً من ترجمة القديس جيروم للكتاب المقدس ومن المعروف أن جيروم قد ولد بعد ستة وعشرين عاماً من وفاة ملخيادس.

ص: 354

ولقد كان في وسع كل من أوتي قدراً من العلم أن يكشف عن هذا التزوير، ولكن البحث العلمي كان قد انحط كثيراً خلال القرنين التاسع والعاشر، وكان مجرد القول بأن كثرة الادعاءات التي تعزوها هذه الأحكام البابوية إلى أساقفة روما الأولين قد صدرت من هذا البابا أو ذلك من البابوات المتأخرين، كان هذا القول وحده كافياً لإضعاف حجة النقاد، ولهذا ظل البابوات ثمانية قرون كاملة يفترضون صحة هذه الوثائق ويستخدمونها لتوطيد أركان سياستهم

(1)

.

وكان من المصادفات الطيبة أن كان ظهور "الأحكام الكاذبة" قبيل انتخاب شخصية من أعظم الشخصيات شأناً في تاريخ البابوية، تلك هي شخصية نقولاس Nicholas الأول (858 - 867) وكان نقولاس قد تلقى تعليماً عالياً فذاً في قانون الكنيسة وتقاليدها، وتدرب على مهام منصبه السامي بأن كان مساعداً محبوباً لطائفة من البابوات. وكان يضارع جريجوري الأول والثاني العظيمين في قوة الإرادة، ويفوقها في سعة مطامعه ونجاحه في الوصول إليها. وقد أقام منطقه على قضيتين يقبلهما وقتئذ جميع المسيحيين: وهما أن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وأن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس واحداً بعد واحد في تسلسل متصل، ثم استنتج من هاتين القضيتين استنتاجاً يقبله العقل وهو أن البابا، ممثل الله على ظهر الأرض، يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين-حكاماً كانوا أو محكومين-في شئون الدنيا والأخلاق إن لم تكن في جميع الشئون. ونشر نقولاس بفصاحته هذه الحجة السهلة، ولم يجرؤ أحد في البلاد المسيحية اللاتينية على معارضتها، وكل ما كان يرجوه الملك ورؤساء الأساقفة ألا يحملها محمل الجد أكثر مما يجب.

لكنه خيب رجاءهم: ذلك أنه لما أراد لوثير الثاني ملك لورين أن يطلق

(1)

ولقد كشف لورنزوافلا في عام 1440، بما لا يترك مجالاً للشك، عما في هذه الأحكام الكاذبة من تزوير، ولهذا فإن جميع الطوائف مجمعة في هذه الأيام على أن هذه الوثائق التي كانت ثاراً للجدل وثائق مزورة.

ص: 355

زوجته ثيوثيرجا Thentherga ويتزوج عشيقه ولدرادا حقق الرؤساء الدينيون في مملكته رغبته، فلجأت ثيوثيرجا إلى البابا نقولاس، وأرسل للبابا مبعوثيه إلى متز لينظروا في الأمر. ونفح لوثير أولئك المبعوثين برشا سخية ليؤيدوا الطلاق، وحمل كبير أساقفة تريير وكولوني هذا القرار إلى الهابا؛ ولكن نقولاس كشف ما فيه من تدليس، وأصدر قراراً بحرمان كبيري الأساقفة، وأمر لوثير أن يطرد عشيقته ويعيد زوجته إلى عاصمة؛ فعصى لوثير الأمر وزحف على روما بجيشه. وأقام نقولاس ثماني وأربعين ساعة صائماً مصلياً، وخانت لوثير على أثرها شجاعته فخضع لأوامر البابا.

وحدث أن هنكمار كبير أساقفة ريمس وأعظم الرؤساء الدينيين في أوربا اللاتينية بعد البابا وحده عزل أسقفاً يدعى راثراد Ratherad من منصبه، فلجأ الأسقف إلى نقولاس (863)؛ فأعاد البابا النظر في قضيته، وأمر بإعادة راثراد إلى منصبه؛ ولما تردد هنكمار في تنفيذ حكم البابا هدده بأن يصدر قرار الحرمان على جميع أبرشيته، وهو قرار يقضي بوقف الصلوات في جميع كنائسها. واستشاط هنكمار غضباً، ولكنه خضع. وكان نقولاس يكتب للملوك ولرجال الدين كأنه صاحب السلطان الأعلى. ولم يجرؤ أحد على معارضته إلا فوتيوس بطريق القسطنطينية. وقد ثبت من التطورات المقبلة أن الأحكام التي أصدرها البابا كانت كلها تقريباً في جانب العدالة، وأن دفاعه الصارم عن الأخلاق الفاضلة كان هو السراج الوهاج الذي أنار دياجير الظلام والملجأ الحصين في ذلك العصر المنحل، وكانت سلطة البابوية عند وفاته معترفاً بها في أقاليم أوسع رقعة من التي كان يعترف بها فيها قبل أن يتولى شئونها.

ص: 356

الفصل الرابع

‌الكنيسة اليونانية

566 -

898

لم يكن في وسع بطارقة الكنيسة الشرقية أن يعترفوا بهذا السلطان الأعلى لأسقف روما لسبب واضح هو أنهم كانوا من زمن بعيد خاضعين لأباطرة الروم، وأن هؤلاء الأباطرة لم ينزلوا حتى عام 871 عن دعواهم بأن لهم السيادة على روما ومن فيها من البابوات. ولقد كان البابوات من حين إلى حين يوجهون النقد إلى الأباطرة، ويعصون أوامرهم، بل ويشهرون بهم؛ ولكن الأباطرة هم الذين كانوا يعينونهم في مناصبهم، ويخرجونهم منها، ويدعون المجالس الكنيسية إلى الانعقاد، وينظمون شئون الكنيسة بقوانين تسنها الدولة، وينشرون آراءهم وتوجيهاتهم الدينية على رجال الدين. ولكن ثمة ما يحد من سلطان الأباطرة الديني المطلق في العالم المسرحي الشرقي إلا سلطان الرهبان، ولسان البطريق، واليمين التي يقسمها الإمبراطور حين يتوجه البطريق بأن لا يبتدع بدعة ما في الكنيسة.

وكانت أديرة الرهبان والراهبات منتشرة وقتئذ في القسطنطينية-بل في بلاد الشرق اليونانية على بكرة أبيها. وكان عدد هذه الأديرة في القسطنطينية وحدها يفوق عددها في الغرب، حتى لقد استحوذت نزعته التنسك على بعض أباطرة بيزنطية أنفسهم، فكانوا يعيشون معيشة الزهاد بين ترف القصور، ويستمعون في كل يوم إلى القداس، ويتقشفون في طعامهم، ويندمون على خطاياهم كلما اقترفوها وكانت تقوى الأباطرة والأثرياء حين يموتون سبباً في اتساع الأديرة وكثرة عددها بما كان يهبه هؤلاء وأولئك لها من الهبات في أثناء حياتهم ويوصون لها به من المال بعد وفاتهم. وكان الرجال والنساء من أعلى

ص: 357

الطبقات إذا ما أخافتهم نذر الموت يسعون لدخول الأديرة، ويسترضون ربهم بما يهبونها من الأموال التي تعفى بعدئذ من الضرائب، ومنم من كانوا يعطون بعض أملاكهم لدير من الأديرة على أن يتقاضوا منه في نظير ذلك مرتباً سنوياً. وكانت أديرة كثيرة تدعى أن بها مخلفات لبعض القديسين الأجلاء، وكان الناس يعزون إلى الرهبان السيطرة على ما لهذه المخلفات من قدره على فعل المعجزات، ويقدمون إليهم المال راجين أن ينالوا من وراء استثماره لديهم أرباحاً طائلة لا يصدقها العقل. وقد شوه عدد قليل من الرهبان دينهم بكسلهم، وفسقهم، وتحزبهم، وشرههم، وإن كانت كثرتهم قد تمسكت بأهداب الفضيلة والسلام. وكان الرهبان جميعهم ينالون احترام الشعب، ويستمتعون بالثراء المادي، بل يستمتعون أيضاً بنفوذ سياسي لم يكن يسع إمبراطوراً ما أن يتجاهله. وكان ثيودور (759 - 826) رئيس دير استويودون Studion في القسطنطينية مثلاً أعلى في التقي والسلطان. وكانت أمه قد وهبته في طفولته إلى الكنيسة، فتطبع بجميع الطباع المسيحية إلى حد جعله يهنئ والدته أثناء مرضها الأخير باقتراب منيتها ومجدها. وقد وضع لرهبانه قانوناً للعمل، والصلاة، والعفاف، وتنمية مواهبهم العقلية لا يقل شأناً عن قانون القديس بندكت في الغرب، ودافع عن استعمال الصور الدينية، وأنكر أمام الإمبراطور ليو الخامس بمنتهى الجرأة أن من حق السلطة الزمنية أن تتدخل بأية صورة في الشئون الكنسية. وقد نفى أربع مرات لعناده هذا ولكنه ظل في منفاه يقاوم محطمي الصور الدينية إلى يوم وفاته.

وأخذت الهوة بين المسيحية اللاتينية واليونانية تزداد بسبب ما كان بين المذهبين في هذه القرون من اختلاف في اللغة والطقوس والعقائد، وكان مثلهما في هذا كمثل جنس من أجناس الكائنات الحية انقسم في المكان وتنوع على توالي الأيام. فقد كانت الطقوس، والأثواب الكهنوتية، والآنية، والزخارف المقدسة في الكنيسة اليونانية أشد تعقيداً، وأكثر زخرفاً، وأعظم عناية بالناحية الفنية من

ص: 358

مثيلاتها في الغرب. فكان ذراعا الصليب اليوناني مثلاً متساويتين، وكان اليونان يصلون وهم وقوف، أما اللاتين فكانوا يصلون راكعين؛ وكان اليونان يعمدون أطفالهم بأن يغمروهم في الماء المقدس، أما اللاتين فكانوا يرشون الماء عليهم؛ وكان الزواج محرماً على القساوسة اللاتين ومباحاً للقساوسة اليونان؛ وكان القسيسون اللاتين يحلقون لحاهم، أما اليونان فكانوا يرسلونها إرسالاً يخلع عليهم مظهر التفكير؛ وتخصص رجال الدين اللاتين في الشئون السياسية، أما اليونان فتخصصوا في أمور الدين؛ وكانت الزندقة تنشأ على الدوام تقريباً في بلاد الشرق الذي ورث عن اليونان شغفهم بتحديد ما لا حد له؛ ولقد نشأت بأرمينية حوالي عام 660 من مبادئ الإلحاد الغنوطسية التي نادى بها بردسانس Bardesanes في بلاد الشام، ومن اتجاه الحركة المانوية نحو الغرب على ما يظن، شيعة من البولسيين Paulicians اشتق اسمها من اسم القديس بولس، لا تؤمن بالعهد القديم، ولا بالعشاء الرباني، ولا تقول بتعظيم الصور المقدسة ولا برمزية الصليب. وانتقلت هذه الطوائف وهذه النظريات كما تنتقل بذور النبات من بلاد الشرق الأدنى إلى البلقان، وإيطاليا، وفرنسا. وصبرت صبر أولى العزم على أقسى أنواع الاضطهاد، ولا تزال بقاياها موجودة إلى الآن في طوائف الملخاني Molokhani، والخليستي Khlysti، والدخوبور Dukhobors.

وكان الأباطرة أشد من الشعب إثارة للجدل القائم حول طبيعة المسيح الواحدة، وما من في أن الشعب لم يكن هو المسئول عن العبارة التي أدخلت على العقائد النيقية في طليطلة عام 589، والتي نقول إن الروح القدس ينبعث من الابن كما ينبعث من الأب، والتي لم تقبلها الكنيسة اليونانية. وزادت الهوة بين الكنيستين. لقد كانت العقيدة النيقية تحدث عن "الروح القدس الذي ينبعث من الأب"، ex patre procedit وظل هذا القول كافياً مدى 250 عاماً؛

ص: 359

ثم حدث في عام 589 أن غيره مجلس من مجالس الكنيسة عقد في طليطلة فجعله ex patri filioque procedit أي المنبعثة من الأب والابن. وارتضت غالة هذه الإضافة، واعتنقها شارلمان وعض عليها بالنواجذ. واحتج رجال الدين اليونان وقالوا إن الروح القدس لا ينبعث من الابن بل ينبعث عن طريقه. ووقف البابوات بين هؤلاء وأولئك إلى حين، ولم تدخل هذه العقيدة رسمياً في المذهب اللاتيني إلا في القرن الحادي عشر.

وقام في هذه الأثناء كفاح بين الإرادات أضيف إلى الكفاح بين الآراء، فقد كان من بين الرهبان الذين فروا من وجه محطمي الأصنام راهب يدعى إجناثيوس Ignathius ابن الإمبراطور ميخائيل الأول، واستدعت الإمبراطورة ثيودورا هذا الراهب في عام 840 وعينته بطريقاً. وكان رجلاً تقياً شجاعاً، شنع على قيصر بارداس Caesar Bardas رئيس الوزراء لأنه طلق زوجته وعاشر أرملة ابنه، ولما أصر بارداس على معاشرة أرملة ابنه المحرمة عليه طرده إجناثيوس من الكنيسة، فما كان من بارداس إلا أن نفى إجناثيوس، ورفع غلى عرش البطريقية أعظم علماء ذلك العصر وأكثرهم تهذيباً (855). كان فوتيوس (820؟ -891) يتقن علوم اللغة، والخطابة، والعلوم الطبيعية، والفلسفة؛ وكانت محاضراته التي يلقيها في جامعة القسطنطينية قد اجتذبت إليه طائفة من الطلاب المخلصين المتحمسين فتح إليهم مكتبته وبيته. وكان قبل أن يرقى إلى مقام البطريقية قد تم موسوعة في مائتين وثمانية بابا استعرض في كل واحد منها أحد الكتب المهمة ونقل نماذج منه. وبفضل هذه الموسوعة الضخمة بقيت لنا فقرات كثيرة من الآداب القديمة، وارتفع فوتيوس بفضل هذه الثقافة الواسعة فوق تعصب الشعب، الذي عجز عن أن يفهم السر في بقائه مرتبطاً برباط الود

ص: 360

والصداقة مع أمير كريت. واستاء رجال الدين في القسطنطينية حين رأوه يرتفع فجأة من بين العلمانيين إلى مقام البطريقية، وأرسل نقولاس الأول مبعوثيه إلى القسطنطينية لينظروا في الأمر، وقرر في رسائله إلى الإمبراطور ميخائيل الثالث وإلى فوتيوس المبدأ القائل بأن أية مسألة خطيرة من المسائل الكنيسة لا يصح أن يفصل فيها في أي مكان من غير موافقة البابا. وعقد الإمبراطور مجلساً كنسياً أقر تعيين فوتيوس، وانضم مبعوثو البابا إلى المؤيدين، فلما عادوا إلى روما أنكر عليهم نقولاس عملهم واتهمهم بأنهم قد خرجوا على التعليمات التي وجهها إليهم، وأمر الإمبراطور بأن يعيد إجناثيوس إلى منصبه، فلما تجاهل الإمبراطور هذا الأمر أصدر قراراً بحرمان فوتيوس (863). وهدد بارداس بأنه سوف يبعث جيشاً ليخلع نقولاس، ورد عليه نقولاس رداً بليغاً سخر فيه منه وأشار إلى خضوع الإمبراطور للمغيرين على أملاكه من الصقالبة والمسلمين:

"إنا نحن لم نغز كريت، ولم نقفز نحن صقلية من أهلها، ولم نخضع نحن بلاد اليونان، ولم تحرق الكنائس في ضواحي القسطنطينية، وبينما يفتح هؤلاء الوثنيون (أملاكك) ويحرقونها، ويخربونها، تبعث إلينا أيها المغتر تهددنا بهول جيوشك. إنك تطلق بارباس Barabbas وتقتل المسيح (27) ".

ودعا فوتيوس والإمبراطور مجلساً كنسياً آخر إلى الانعقاد، وأصدر هذا المجلس قراراً بحرمان البابا (867) وشنع على "إلحاد" الكنيسة الرومانية، ومن بينها انبعاث الروح القدس من الأب والابن، وحلق القساوسة للحاهم، وتحريم الزواج على رجال الدين. وأضاف فوتيوس إلى هذا قوله:"ولقد أصبحنا بفضل هذه العادات نرى في الغرب كثيرين من الأطفال لا يعرفون آباءهم".

وبينما كان الرسل اليونان يحملون هذا الهزل إلى روما إذ تبدل الموقف فجأة (867) بجلوس بازيل الأول على عرش الإمبراطورية. وكان بازيل قد قتل قيصر بارداس، وأشرف على اغتيال ميخائيل الثالث. ونادى فوتيوس أن

ص: 361

الإمبراطور الجديد قاتل سفاح، ورفض أن يمنحه العشاء الرباني. ورد عليه بازيل بأن دعا مجلساً كنسياً إلى الانعقاد، ونفى فوتيوس، وأعاد إجناثيوس، ولما مات إجناثيوس بعد ذلك بقليل، استدعى بازيل فوتيوس؛ وأعاده مجلس كنسي إلى مقام البطريقية، ووافق البابا يوحنا السابع على هذا القرار (وكان نقولاس الأول قد مات). وبهذا تأجل إلى حين انشقاق للكنيستين الشرقية والغربية إحداهما عن الأخرى بموت بطلي هذا الانشقاق.

ص: 362

الفصل الخامس

‌المسيحية تغزو أوربا

(529 - 1054)

لم يكن أجل الحوادث في التاريخ الديني لهذه العصور وأعظمها خطراً هو النزاع بين الكنيستين اليونانية واللاتينية، بل كان هو ظهور الإسلام وتحديه للمسيحية في الشرق والغرب على السواء. ذلك أنه لم يكد دين المسيح ثمار انتصاراته على الإمبراطورية الوثنية وعلى الشيع المسيحية الملحدة حتى انتزعت منه أعظم ولاياته عزة على الدين واستمساكاً به، انتزعها منه في يسر مروع دين يحتقر فلسفة الإلهيات المسيحية والمبادئ الأخلاقية المسيحية

(1)

. نعم إن البطارقة ظلوا في كراسيهم بإنطاكية، وبيت المقدس، والإسكندرية بفضل تسامح المسلمين، ولكن مجد المسيحية قد زال من تلك الأقاليم، وكانت المسيحية الباقية فيها مسيحية مارقة قومية فقد قامت أرمينية، والشام، ومصر وسلطات كهنوتية مستقلة تمام الاستقلال عن القسطنطينية وروما. واحتفظت بلاد اليونان بدينها المسيحي لأن الرهبان قد انتصروا فيها على الفلاسفة، وكان الدير العظيم دير لافرا المقدس الذي أقيم على جبل آثوس Mt، Athos في عام 961 يضارع في عظمته البارثنون بعد أن استحال كنيسة مسيحية. وكان لا يزال بأفريقية في القرن التاسع الميلادي عدد كبير من المسيحيين، ولكنهم كانوا يتناقصون تناقصاً سريعاً تحت حكم المسلمين. أما أسبانيا فقد كان الجزء الأكبر منها في عام 711 قد خرج من أيدي المسلمين، ذلك أن المسيحية ولت وجهها نحو الشمال بعد هزيمتها في آسية وأفريقية وواصلت فتوحها في أوربا.

(1)

في هذا القول كثيراً من المغالاة فالإسلام لا يحتقر فلسفة الإلهيات المسيحية ولا المبادئ الأخلاقية المسيحية وإن خالفها في بعض مبادئها وحسبنا دليلاً على هذا قول الله سبحانه وتعالى لنبيه: "وجادلهم بالتي هي أحسن".

ص: 363

وأوشكت إيطاليا أن تقع في أيدي المسلمين، ولكنها بعد أن أفلتت منهم انقسمت بين المذهبين المسيحيين اليوناني واللاتيني، وكاد دير مونتي كسينو يقوم على الحد الفاصل بين المذهبين، وقد بلغت شهرة هذا الدير غايتها تحت حكم رئيسه دزيدورس (1058 - 1087). فقد جاء إليه من القسطنطينية ببابين فخمين من البرونز، ثم لم يكتف بهذا فجاء إليه أيضاً بصناع، زينوا داخله بالفسيفساء والميناء. والزخارف في المعادن والعاج والخشب. وكاد الدير يصبح جامعة علمية تدرس مناهج في النحو والآداب اليونانية والرومانية القديمة، والآداب المسيحية واللاهوت، والطب، والقانون. وأخرج الرهبان مخطوطات مزخرفة غاية في الإبداع على غرار النماذج البيزنطية، ونسخوا بخطهم الجميل كتب روما الوثنية القديمة، ومنها طائفة يرجع الفضل في بقائها حتى الآن إلى عمل هؤلاء الرهبان. وفي روما لم تشأ الكنيسة في عهد البابا بنيفاس الرابع وخلفائه أن تظل الهياكل الوثنية آخذة في التهدم والانحلال بل شرعت تعيد بقاءها ليستخدمها المسيحيون ويعنوا بها، فدشن البانثينون لمريم العذراء ولجميع القديسين (609)، واستحال هيكل يانوس كنيسة للقديس ديونيشيوس، وهيكل زحلى (ساترن) كنيسة المخلّص. وجدد ليو الرابع (847 - 855) كنيسة القديس بطرس وزينها، وبفضل ازدياد سلطان البابوية، ومجيء الحجاج إلى تلك المباني، تمت حولها ضاحية من مختلف الأجناس واللغات اشتق اسمها من اسم تل الفاتيكان القديم.

وكانت فرنسا وقتئذ أغنى البلاد التابعة للكنيسة اللاتينية. ذلك أن ملوك الأسرة المروفنجية لم يكونوا يرتابون في قدرتهم على ابتياع ملكوت السماوات بعد أن يستمتعوا بتعدد الزوجات وتقتيل الخصوم فأخذوا يهبون الأسقفيات الكثير من الأراضي والأموال. وكانت الكنيسة في فرنسا كما كانت في غيرها من البلدان تتلقى الوصايا من الكبراء التائبين والوارثات العابدات الصالحات؛ ولما حرم

ص: 364

شلبريك Chilperic هذه الهبات ألغى جنثرام Gunthram أمر التحريم بعد قليل. وكان من سخريات التاريخ أن رجال الدين في غالة كانوا كلهم تقريباً من العنصر الغالي الروماني، وبهذا كان الفرنجة الذين اعتنقوا الدين المسيحي يخرون سجداً تحت أقدام من فتحوا هم بلادهم ويردون إليهم بالهبات ما نهبوه منهم من الحروب (28). وكان رجال الدين أعظم العناصر قدرة في غالة، وأحسنهم تعليماً، وأقلهم فساداً في الأخلاق. وكادت معرفة القراءة والكتابة أن تكون محصورة فيهم وحدهم، وكانت الكثرة الغالبة منهم تجد صادقة مخلصة في تعليم الشعب الذي كان يعاني الأمرين من شره كبرائه وملوكه، وفي تقييم أخلاقه، وإن كانت من بينهم أقلية صغيرة انغمست في الرذيلة. وكان للأساقفة القسط الأكبر من السلطة الزمنية والدينية في أبرشياتهم، وكانت محاكمهم الملجأ المفضل للمتقاضين في الشئون الدينية وغير الدينية أيضاً. وكانوا أينما وجدوا يبسطون حمايتهم على اليتامى، والأرامل، والمعدمين، والأرقاء؛ وكانت الكنائس تنشئ المستشفيات في كثير من الأبرشيات، ومنها hotel de Dieu-" نزل الله"-الذي افتتح في باريس عام 651. وقد اشتهر سان جرمان St. Germain، أسقف باريس في النصف الثاني من القرن السادس في جميع أنحاء أوربا بما بذله من الجهود في جمع الأموال-وإنفاق ماله الخاص-لتحرير العبيد. وقوى سيدونيوس أسقف مينز جسور الرين. وهذب فليكس أسقف نانت مجرى اللوار، وأنشأ ديدييه Didier أسقف كاهور Cahor قنوات لنقل مياه الشرب، وكان سان أجوبار St. Agobard (779 - 840) كبير أساقفة لبون نموذجاً صالحين في الدين، وعدواً لدوداً للخرافات، حرم المحاكمة بالمبارزة أو التحكيم الإلهي، كما حرم عبادة الصور، وتفسير الزوابع على أنها من أعمال السحر، وكشف عما في محاكمة الساحرات من أخطاء فكان بهذا "أكثر رؤوس ذلك الوقت صفاء"(29). وكان هنكمار الأرستقراطي كبير أساقفة ريمس (845 - 882) رئيساً لنحو

ص: 365

عشرين من المجالس الكنسية، وقد أفل ستة وستين كتاباً، وكان رئيس شارل الأصلع، وكاد ينشئ حكومة دينية في فرنسا.

واتصفت المسيحية في كل بلد بصفات أهله القومية، فأصبحت في أيرلندة صوفية، عاطفية، فردية النزعة، انفعالية؛ أدخلت فيها الجنيات، والشعر، وخيال الكلت العجيب الرقيق، وورث القساوسة قوى الدرويد السحرية، وأساطير الشعراء الغنائيين، وكان النظام القبلي في البلاد مساعداً على تفكك الكنيسة-حتى كادت كل جهة فيها يكون لها "أسقف" مستقل. وكان الرهبان فيها أكثر عدداً وأعظم نفوذاً من الأساقفة والقساوسة، وكان أولئك الرهبان يعيشون جماعات قلّما تزيد الواحدة منها على اثني عشر راهباً يقيمون في أديرة شبه منعزلة، معظمها مستقلة بشئونها ومنتشرة في أنحاء الجزيرة، تعترف للبابا برياسة الكنيسة، ولكنها لا تخضع لإشراف خارجي من أي نوع كان. وكان الرهبان الأسبقون يعيشون في صوامع منفصلة، ويعمدون إلى التنسك والزهد، ولا يجتمعون إلا في أوقات الصلاة. وجاء بعدهم جيل آخر-"الطبقة الثانية من القديسين الأيرلنديين"-خرجوا على هذه التقاليد المصرية، فكانوا يدرسون مجتمعين ويتعلمون اللغة اليونانية، وينسخون المخطوطات، وينشئون المدارس لرجال الدين وغير رجال الدين. وتخرج في المدارس الأيرلندية في القرنين السادس والسابع عدد متتابع من جبابرة القديسين الذائعي الصيت انتقلوا منها إلى اسكتلندة، وإنجلترا، وغالة، وألمانيا، وإيطاليا، ليعلموا فيها المسيحية المظلمة ويعيدوا إليها الحياة. وقد كتب أحد الفرنجة في عام 850 يقول:"تكاد أيرلندة كلها تهرع إلى جماعات إلى سواحلنا ومعها حشدن الفلاسفة"(30). وهكذا انعكست الآية واستُرِدَّ الدَّين، فبعد أن طردت غارات الألمان غالة وبريطانيا العلماء من هذين البلدين إلى إيرلندة، أخذ المبشرون الأيرلنديون يلقون بأنفسهم على فاتحي إنجلترا الوثنيين من الإنجليز والسكسون،

ص: 366

والنرويجيين، والدنمرقيين، وعلى المسيحيين الأميين نصف الهمج في غالة وألمانيا، يحملون الكتاب المقدس بإحدى يديهم والمخطوطات اليونانية والرومانية القديمة باليد الأخرى، ولاح وقتاً ما أن الكلت سوف يستردون عن طريق المسيحية ما خسروه من الأراضي بالقوة. وبذلك كانت العصور المظلمة هي التي أشرقت فيها الروح الأيرلندية وتلألأت كما لم تتلألأ من قبل ولا من بعد.

وكان أعظم أولئك المبشرين هو سانت كولمبا St. Columba، نحن نعرف الشيء الكثير عنه من سيرته التي كتبها له (حوالي عام 976) أدمنان Adamnan أحد خلفائه في أيونا Iona. وقد ولد كولمبا في دنجال Donegal عام 521، وكان يجري في عروقه دم الملوك؛ وكان ما كان بوذا قديساً في وسعه أن يكون ملكاً. وبدا عليه وهو طالب في مدرسة موفيل Moville من الورع ما جعله معلمه يلقبه كولمبكيل Columbkille أي عماد الكنيسة. وأنشأ مذ كان في الخامسة والعشرين من عمره عدداً من الكنائس والأديرة أشهرها كلها ما كان منها في دري Derry، ودرو Durrow، وكلز Kells ولكنه لم يكن قديساً فحسب، بل كان فوق ذلك مكافحاً "قوي البنية. جهوي الصوت"(31)، سبب له تهوره كثيراً من النزاع ثم إلى الحرب مع الملك ديرمويد Diarmuid؛ ودارت بينهما آخر الأمر معركة قتل فيها، على حد قولهم، 5000 رجل. وانتصر فيها كولمبا ولكنه رغم انتصاره فر من أيرلندة (563)، وهو مصمم على أن يهدي إلى المسيحية من الأرواح بقدر من قتل في معركة كولدرفنا Cooldrevna. وأنشأ وقتئذ في جزيرة أيونا القريبة من شاطئ اسكتلندة الغربي ديراً من أعظم أديرة العصور الوسطى وأوسعها شهرة. ومن هذا الدير نشر هو ومريدوه الإنجيل في جزيرة هبريده Hebrides، واسكتلندة، وشمالي إنجلترا. وبعد أن هدى آلافاً من الوثنيين إلى الدين المسيحي وزخرف ثلاثمائة "كتاب نبيل" مات وهو يصلي عند المذبح في الثامنة والسبعين من عمره.

ص: 367

وشبيه به في روحه واسمه سانت كولمبان St. Columban المولود في لينستر Leinster حوالي عام 543. ولسنا نعلم عنه شيء حتى نجده وهو في الثانية والثلاثين من عمره يؤسس الأديرة في جبال الفوج بفرنسا. وكان من تعاليمه للمبتدئين من أتباعه في لكسويل Luxeuil:

يجب أن تصوم كل يوم، وتصلي كل يوم، وتعمل كل يوم، وتقرأ كل يوم؛ وعلى الراهب أن يعيش تحت حكم أب واحد، وفي مجتمع يتألف في كثير من الإخوان، حتى يتعلم التواضع من أحدهم والصبر من آخر والصمت من ثالث ودماثة الأخلاق من رابع

ويجب أن يأوى إلى الفراش وهو متعب يكاد يغلبه النوم وهو سائر في الطريق (23).

وكانت العقوبات صارمة، أكثر ما تكون بالجلد: ستة سياط إذا سعل وهو يبدأ ترنيمة أو نسي أن يدرم أظافره قبل تلاوة القداس، أو تبسم أثناء الصلاة أو قرع القدح بأسنانه أثناء العشاء الرباني؛ وكانت اثنا عشر سوطاً عقاب الراهب إذا نسي أن يدعو الله قبل الطعام، وخمسون عقاب التأخر عن الصلاة، ومائة لمن يشترك في نزاع، ومائتان لمن يتحدث من غير احتشام مع امرأة (23). ولم يكن الناس يحجمون عن دخول الدير رغم هذا الحكم الإرهابي، فقد كان في دير مكسويل ستون راهباً، كثيرون منهم ينتمون إلى أسر غنية. وكانوا يعيشون على الخبز، والخضر، والماء؛ ويقطعون الغابات، ويحرثون الأرض، ويزرعون ويحصدون، ويصومون ويصلون. وهنا أقام كولمبان نظام "الحمد الذي لا ينقطع iaux perennis. فقد كانت الأوراد يتلوها بلا انقطاع ليلاً ونهاراً طائفة بعد طائفة من الرهبان يوجهونها إلى عيسى ومريم والقديسين (34). وكانت ألف دير ودير شبيهة بدير لكسويل من المعالم البارزة في العصور الوسطى.

ولم يكن المزاج الصارم الذي وضع هذه القواعد يجيز آراء غير هذه الآراء؛ ولهذا ألقى كولمبان، الذي يحرم النزاع، نفسه في نزاع متكرر مع الأساقفة الذين

ص: 368

يتجاهل سلطانهم، ومع الموظفين الزمنيين الذين لا يقبل تدخلهم في الشئون الدينية ومع البابوات أنفسهم. ذلك أن الأيرلنديين كانوا يحتفلون بعيد الفصح حسب تقويم كانت تسير عليه الكنيسة في بادئ الأمر ولكنها غيرته في عام 343. ونشأ من ذلك نزاع بينها وبين القساوسة الغاليين، فلجأ هؤلاء إلى جريجوري الأكبر، ورفض كولمبان أوامر البابا وقال: "إن الأيرلنديين أعلم منكم بالفلك أيها الرومان"، وأمر جريجوري أن يقر طريقة الأيرلنديين في الحساب وإلا "فسيعد من الخارجين عن الدين وتنبذه بازدراء كنائس الغرب" (35). ثم طرد الأيرلندي المتمرد من غالة (609)، لتشهيره بآثام الملكة برنهلد Brunhild: ووضع بالقوة على ظهر سفينة مقلعة إلى أيرلندة؛ ولكن السفينة اضطرت إلى الاندفاع عائدة إلى فرنسا، وعبر كولمبان الأرض المحرمة عليه وأخذ يعظ أهل بافاريا الوثنيين. ولسنا نعتقد أن كولمبان كان في حقيقة أمره رهيباً كما يبدو من حكمه وسيرته، فنحن نسمع أن السناجب كانت تجثم في اطمئنان على كتفيه وتدخل في قلنسوته وتخرج منها (36). ثم ترك زميلاً له أيرلندياً ليؤسس (613) دير سانت جول St. Gall على بحيرة كنستانس، وعبر هو ممر سان جوثار St. Gothard Pass بعد أن عانى في سبيل ذلك الأمرين، وأسس دير ببيو Bobbio في لمباوديا عام 613 حيث توفي بعد عامين في صومعته المنعزلة التي كان يعيش فيها معيشة الزهد والتقشف.

ويحدثنا ترتليان Tertullian عن وجود مسيحيين في بريطانيا في عام 208؛ كما يحدثنا بيد Bede عن وفاة سانت أولبان أثناء اضطهاد دقلديانوس للمسيحيين. وقد شهد الأساقفة البريطانيون مجلس سرديقا Sardica (347) ، كذلك ذهب جرمانوس Germanus أسقف أوكسير Auxerre إلى بريطانيا في عام 429 ليقضي فيها على الزنادقة البلاجيين (37). ويؤكد لنا وليم الملمزبريي William of Malmesbury أن الأسقف أباد جيشاً من السكسون بأن جعل الذين هداهم

ص: 369

من البريطانيين يصرخون "حمداً لله" في وجوههم (38). ثم ضعف شأن المسيحية البريطانية بعد أن كانت لها هذه القوة العظيمة، وأشرفت على الفناء بسبب غارات الأنجليسكيون، فلم تعد تسمع عنها شيئاً بعدئذ حتى دخل أتباع كولمبا نورثمبرلند في آخر القرن السادس، وحتى وصل أوغسطين ومعه سبعة آخرون من الرهبان من روما إلى إنجلترا. وما من شك في أن البابا جريجوري قد علم من قبل أن إثلبرت ملك كنت الوثني تزوج برتا Bertha الأميرة المروفنجية المسيحية. واستمع إثلبرت في لطف ومجاملة إلى أوغسطين، وظل غير مقتنع بحديثه، ولكنه أطلق له حرية الوعظ، وهيأ له ولزملائه الرهبان الطعام والمسكن في كنتربري. ثم استطاعت الملكة آخر الأمر (599) أن تقنع الملك باعتناق الدين الجديد، وحذا حذوهما كثيراً من رعاياهما. وفي عام 601 بعث جريجوري بصورة الكاهن إلى أوغسطين فأصبح على رأس عدد من أساقفة كنتبري الأجلاء الممتازين. واصطنع جريجوري اللين مع من بقي في إنجلترا من الوثنيين وأجاز تحويل الهياكل القديمة إلى كنائس، بأن تحول عادة التضحية بالثيران في يسر ولطف غلى "ذبحها لإنعاشهم لمديح الله"(39)، وبهذا كان كل ما طرأ على الإنجليز من تغير هو تحولهم من أكل لحم البقر حين يحمدون الله غلى حمد الله حين يأكلون لحم البقر.

وأدخل مبشر إيطالي آخر يدعى بولينوس panlinus المسيحية إلى نورثمبرلند (726). ذلك أن أزولد Oswald ملك نورثمبرلند دعا رهبان أيونا إلى المجيء غلى بلاده ليعظوا شعبه، وأراد أن يعينهم على أداء مهمتهم فمنحهم جزيرة لنسفارن Lindisfarne القريبة من ساحل إنجلترا الشرقي. وفيها أنشأ سانت إيدان St. Aidan (634) ديراً خلد اسمه بمن تخرج فيه من المبشرين المخلصين وبما أخرجه من المخطوطات المزخرفة ذات الروعة. وهناك ترك سانت كثبرت St. Cuthbert (635؟ -687) وراءه في دير ملروز Mlrose ذكريات طيبة لصبره، وتقواه، وفكاهته، وحسن إدراكه وبفضل صلاح هؤلاء الرجال

ص: 370

وأمثالهم، وبفضل ما كانوا ينعمون به من أمن وسلام وسط الحروب الكثيرة، أقبل عدد كبير من المتنصرين حديثاً والمتنصرات إلى أديرة الرجال والنساء التي قامت وقتئذ في إنجلترا. وقد رفع أولئك الرهبان من كرامة العمل، بكدحهم المتواصل في الغابات والحقول على الرغم من انتكاسهم من حين غلى حين وعودتهم إلى أساليب عامة الناس. فتزعموا هنا، كما تزعموا في فرنسا وألمانيا، ركب الحضارة في كفاحه ضد المناقع والآجام، وكما تزعموه في كفاحه ضد الأمية، والعنف والدعارة، والسكر، والشره. وظل بيد أن من يدخلون الأديرة من الإنجليز قد زاد على الحد الواجب، وأن الأشراف قد أسرفوا في إنشاء الأديرة ليعفوا أملاكهم من الضرائب، وأن أراضي الكنيسة المعفاة من الضرائب قد استغرقت من أرض إنجلترا الزراعية فوق ما يجب أن تستغرقه؛ وأنذر البلاد بأنه لم يبق من الجنود من يكفون لوقاية إنجلترا من الغزو (40). وسرعان ما أثبت الدنمرقيون، ومن بعدهم النورمان حكمة الراهب وبعد نظره في شئون الدنيا.

ووجد النزاع سبيله إلى الأديرة نفسها، وعكر عليها صفوها، حين اصطدم الرهبان البندتيون المقيمون في جنوبي إنجلترا والذين اتبعوا الشعائر الرومانية والتقويم الروماني، بالرهبان الأيرلنديين والتقويم الأيرلندي والشعائر الأيرلندية في الشمال. وحسم سانت ولفريد St. Wilfrid بفصاحته في مجتمع هوتبي Whitby المقدس (664) هذا النزاع-وهو من الوجهة الفنية التاريخ الصحيح لعيد الفصح-في صالح روما. وقبِل الرهبان الأيرلنديون على كره منهم هذا القرار، وأضحت الكنيسة الإنجليزية بعد وحدتها وما نالت من الحبوس والهبات سلطة اقتصادية وسياسية، واضطلعت بدور رئيسي في تحضير الشعب وحكم الدولة.

وجاءت المسيحية إلى ألمانيا هدية من الرهبان الأيرلنديين والإنجليز. ذلك أن وليبرورد Willibrord الراهب النورثمبري الذي تلقى تعليمه في أيرلندة اجتاز هو واثنا عشر من أعوانه المغامرين بحر الشمال في عام 690، واتخذ

ص: 371

مقره الديني في أوترخت Utrecht، وظل أربعين عاماً يعمل لهداية الفريزيين إلى المسيحية. ولكن أولئك الملاك ذوي النزعة الواقعية رأوا في وليبرورد يد بيبين الأصغر حاميه ونصيره؛ ولم يكن يرضيهم أن يقال لهم إن جميع أسلافهم غير المعمدين مثواهم الجحيم. ويروي أن ملكاً فريزياً عرف هذا وهو يوشك أن يعمد، فامتنع عن التعميد وقال إنه يفضل أن يخلد مع آبائه (41).

وواصل رجل أقوى من وليبرورد هذه الحملة في عام 716. ذلك أن نبيلاً إنجليزياً وراهباً بندكتياً يدعى ونفريد (680؟ -754) منحه البابا جريجوري الثاني اسم بنيفاس ولقبَّه خلفاؤه الصالحون لقب "رسول ألمانيا". وقد وجد ونفريد هذا بالقرب من فرتزلار Fritzlar في هس Hesse شجرة بلوط يعبدها الناس على أنها موطن لإله من الآلهة، فما كان منه إلا أن قطع الشجرة، ودهش الناس حين رأوا أنه ظل حياً فهرعوا إليه يطلبون التعميد. وأقيمت بعدئذ أديرة عظيمة في ريخنو Reichenau (724) ، وفلدا Fulda (744) ، ولورسخ Lorsch (763) . وعيَّن بنيفاس كبيراً لأساقفة مينز في عام 748، فنصب عدداً من الأساقفة ونظم الكنيسة الألمانية فجعلها أداة قوية لتقويم الأخلاق وتوطيد دعائم النظام الاقتصادي والسياسي. ولما أتم رسالته في هس وثورنجيا، أراد أن يختم حياته بالاستشهاد في سبيل الدين، فدخل فريزيا يعتزم أن يتم العمل الذي بدأه وليبرورد. وبعد أن ظل يكدح في هذا العمل سنة أو نحوها هاجمه الوثنيون وقتلوه. وبعد عام من مقتله نشر شارلمان الدين المسيحي بين السكسون بالسيف والنار، ورأى الفريزيون المعاندون أن لا مناص من الخضوع، وتم بذلك فتح بلاد الذين فتحوا روما على أيدي المسيحية الروماتية.

وكان آخر انتصارات الدين في أوربا هو هداية الصقالبة. وتفصيل ذلك أن رستسلاف Roslislav أمير مورافيا رأى المسيحية اللاتينية تدخل بلاده وتغفل في شعائرها لغة البلاد، فطلب إلى بيزنطية أن ترسل لبلاده مبشرين

ص: 372

يستخدمون اللغة العامية في عظاتهم وصلواتهم، فبعث إليه الإمبراطور بأخوين همامثوديوس Methodius وسيريل Cyril كانا نشآ في سلانيك، ولذلك كان من السهل عليهما أن يتكلما لغة الصقالبة. ورحب بهما أهل البلاد ولكنهما وجدا أن الصقالبة ليست لهم حروف هجائية يعبرون بها عن لغتهم تعبيراً كاملاً بالكتابة، وأن العدد القليل الذين يكتبون يستخدمون في كتابة حديثهم الحروف اليونانية واللاتينية. ولهذا ابتكر الحروف الهجائية الصقلبية وطريقة كتابتها، وذلك باستخدام الحروف اليونانية مع التحسينات التي دخلت عليها نتيجة استخدام اليونان إياها حتى القرن التاسع، فكان حرف B ينطق كما ينطق V، H ينطق حرف I (وحرف E في الإنجليزية)، Ch ينطق الأسكتلنديون Ch، وابتكر حروفاً صقلبية للأصوات التي لا تعبر عنها الحروف اليونانية. وترجم سيريل بهذه الحروف الهجائية الترجمة اليونانية السبعينية للعهد القديم ونصوص الطقوس اليونانية، وبدأ بهذا العمل لغة مكتوبة جديدة وأدباً جديداً.

ونشأ وقتئذ بين المسيحية اليونانية واللاتينية نزاع تبغي به كلتاهما أن تستحوذ على الصقالبة، فاستدعى البابا نقولاس الأول سيريل ومثوديوس إلى روما، حيث ترهب سيريل، ومرض، ومات (859) أما مثوديوس فعاد إلى مورافيا كبيراً لأساقفتها من قبل البابا. وأجاز البابا يوحنا الثامن استخدم الطقوس الصقلبية، ثم حرمها استيفن الخامس، واكتسبت الكنيسة اللاتينية وشعائرها مورافيا، وبوهيميا، وسلوفاكيا (وهي التي تتألف منها دولة تشكوسلوفاكيا الحاضرة)، كما كسبت بعدئذ بلاد المجر وبولندا، أما بلغاريا، والصرب، وروسيا قد ارتضت الطقوس والحروف الهجائية الصقلبية، وقدمت ولاءها للكنية اليونانية، وأخذت ثقافتها عن بيزنطية.

ولقد تأثرت هذه التغييرات الدينية بالاعتبارات السياسية. ذلك أن اعتناق الألمان المسيحية كان يقصد بهم ضمهم إلى مملكة الفرنجة وربطهم وإياها برباط

ص: 373

وثيق. وفرض الملك هارولد بلوتوث (صاحب الناب الأزرق) الدين المسيحي على الدنمرقة (974)، ليكون جزءاً من الثمن الذي طلبه الإمبراطور أتو الثاني للصلح. وانحاز بوريس Boris ملك بلغاريا إلى جانب الكنيسة اليونانية (864) بعد أن ظل يداعب البابوية وقتاً ما، وكان انضمامه إليها لرغبته في الاحتماء بها من توسع ألمانيا، وجعل فلاديمير Vladimir الأول روسيا بلاداً مسيحية (988) ليستطيع الزواج بأنا Anna أخت بازيل الثاني إمبراطور الروم، وليحصل على جزء من بلاد القرم بائنة لها (42) وظلت الكنيسة الروسية قرنين من الزمان تعترف بسلطان بطرق القسطنطينية، ثم أعلنت استقلالها عنه في القرن الثالث عشر، وأضحت الكنيسة الروسية بعد سقوط الإمبراطورية الشرقية (1453) ذلك الشأن الأكبر في العالم الأرثوذكسي اليوناني.

وكان الجنود المظفرون في هذا الفتح المسيحي لأوربا هم الرهبان، كما كانت الراهبات هن الممرضات في هذه الحرب الدينية. ذلك أن الرهبان قد عاونوا الزراع على استصلاح الأراضي البور وزراعتها، وتقطيع أشجار الغابات وتنظيف الأرض من الأعشاب، وتجفيف المستنقعات، وإقامة الجسور على الجداول، وشق الطرق، ولقد أقاموا في البلاد مراكز للصناعة، وأنشئوا المدارس، ونظموا الصدقات، ونسخوا المخطوطات وجمعوا مكتبات متواضعة، وبثوا النظام الأخلاقي وروح الشجاعة والطمأنينة في نفوس الحائرين الذين انتزعوا من عاداتهم وشعائرهم أو بيوتهم القديمة. وكان بندكت الأنياني يكدح، ويحفر، ويحصد بين رهبانه، كما ظل الراهب ثيودولف يسوق المحراث بالقرب من ريمس مدى اثنين وعشرين عاماً، وقد بلغ من إخلاصه في هذا العمل أن احتفظ بعد وفاته بهذا المحراث وكان موضعاً للإكبار والإجلال.

وكان الرهبان والراهبات يعودون إلى فطرتهم البشرية بين آونة وأخرى بعد أن يبقوا زمناً طويلاً مثلاً عليا للفضيلة، والخشوع، والجد، وكان لا بد من قيام

ص: 374

حملة في كل قرن تقريباً لرفع الرهبان مرة أخرى إلى المستويات العليا غير الفطرية التي شرعوا لأنفسهم قواعدها. كذلك كان بعض الرهبان ينهمكون في نوبات موقوتة من التقي والخشوع ثم يصبحون غير صالحين لنظام الرهبنة بعد أن يفيقوا من نشوتهم وتضعف حماستهم. ومن الرهبان والراهبات من كانوا نذوراً جيء بهم إلى الأديرة وهم أطفال في سن السابعة أو بعدها، ومنهم من جيء بهم وهم رضع في المهد، وقد ظلت هذه النذور حرمات لا يحل النكث بها حتى أباحت القرارات البابوية في عام 1179 التحلل منها إذ بلغ الطفل الرابعة عشرة من عمره (43). وهال لويس التقي ما رآه من ضعف النظام في الأديرة الفرنسية فدعا في عام 817 إلى عقد جمعية قومية من رؤساء الأديرة والرهبان في آخن، وعهد إلى القديس بندكت الأنياني أن يقرر السير في جميع في جميع أديرة بلاده على القواعد التي وضعها القديس بندكت النورسيائي St. Benedict of Nurcia. وأخذ بندكت الجديد يواصل العمل بجد، ولكن المنية وافته في عام 821، وما لبثت حروب الملوك أن أشاعت الفوضى في دولة الفرنجة، وخربت غارات النورمان، والمجر، والمسلمين مئات الأديرة، وهام الرهبان على وجههم في العالم غير الديني، ولما عاد بعضهم إلى أديرتهم بعد أن ارتدت موجة التخريب، جاءوا معهم إليها بطرائق الحياة في خارجها. يضاف إلى هذا أن السادة الإقطاعيين قد اغتصبوا الأديرة، وعينوا هم رؤساءها، واستولوا على إيرادها، ولم يحل عام 900 حتى تدهورت أديرة الغرب، كما تدهورت الأنظمة كلها، إلا القليل الذي يستحق الذكر منها، في أوربا اللاتينية إلى الدرك الأسفل من حياتها أثناء العصور الوسطى. وليس أدل على هذا الانحطاط من قول سانت أدو رئيس دير كلوني (المتوفى عام 942) "إن بعض رجال الدين في الأديرة وخارجها يستهترون بابن العذراء استهتاراً يستبيحون معه ارتكاب الفحشاء في ساحاته نفسها، بل في تلك البيوت التي أنشأها المؤمنون الخاشعون لكي تكون ملاذاً للعفة والطهارة في حرمها المسور،

ص: 375

لقد فاضت هذه البيوت بالدعارة حتى أصبحت مريم العذراء لا تجد مكاناً تضع فيه الطفل عيسى" (44). ومن دير كلوني جاءت حركة الإصلاح العظمى للأديرة.

ذلك أن اثني عشر راهباً قد أنشئوا حوالي عام 910 ديراً في هذا المكان بين تلال برغندية يكاد يكون موضعه على الحدود الفاصلة بين ألمانيا وفرنسا. وفي عام 927 أعاد أدو رئيسه النظر في قواعده ليجعلها أشد صرامة من الناحية الأخلاقية وييسرها من ناحية الجهود الجسمية: فمنع التقشف الشديد، وأوصى بالاستحمام، ووفر الطعام، وأجاز شرب الجعة والنبيذ، ولكنه شدد في الاستمساك بالإيمان القديمة التي يلتزم بها الرهبان الفقر، والطاعة، والعفة. وأنشئت أديرة أخرى على غراره في أماكن أخرى من فرنسا، ولكنها لم تكن كالأديرة القديمة لكل منها قانونه الذي لا يقوم على أساس معروف، ولا يخضع إلا خضوعاً غير وثيق إلى أسقف محلي أو سيد من الأشراف، بل كانت الأديرة البندكتية الجديدة المتصلة بدير كلوني يحكمها رؤساء يخضعون لرؤساء دير كلوني وللبابوات. وانتشرت بزعامة مايول Mayeul (954 - 994) ، وأوديلو Odilo (994 - 1049) ، وهيو Hugh (1049 - 1109) حركة تآخي الأديرة من فرنسا إلى إنجلترا، وألمانيا، وبولندة وهنغاريا، وإيطاليا، وأسبانيا، وانضمت كثير من الأديرة القديمة "إلى المجمع الكلوني"، فلم يحل عام 1100 حتى كان نحو ألفي دير تعترف بأن دير كلوني أبوها وحاكمها. وكانت السلطة المنظمة على هذا النحو البعيدة عن تدخل الدول ورقابة الكنيسة، سلاحاً جديداً في يد البابوية تسيطر به على رجال الدين في خارج الأديرة، ويسرت في الوقت نفسه إصلاح نظام الرهبنة على أيدي الرهبان أنفسهم إصلاحاً ينطوي على الجرأة والشجاعة، فكبحت أيد قوية ما كان في الأديرة من اضطراب، وتعطل، وترف، وفساد أخلاقي، ومتاجرة بالدين وبالرتب الكهنوتية، وشهدت إيطاليا ذلك المنظر الغريب منظر راهب فرنسي في أراضيها، إذا دعى أدو إلى إيطاليا ليصلح دير مونتي كسينو نفسه (45).

ص: 376

الفصل السادس

‌البابوية في الحضيض

(867 - 1049)

كانت روما آخر المدن التي وصل إليها الإصلاح. ذلك أن أهل هذه المدينة كانوا على الدوام مشاكسين صعاب المراس حتى في الوقت الذي كان فيه النسر الإمبراطوري يفيض بمخلبيه على الفيالق الضخمة يسيرها أينما شاء. أما في الوقت الذي نتحدث عنه فكل ما كان يعتمد عليه البابوات هو جيش مرابط ضعيف، ومكانة منصبه السامية، ورهبة دينهم، ولهذا وجدوا أنفسهم سجناء في أيدي أرستقراطية تحسدهم على منزلتهم وأهلين يضعف من تقواهم قربهم من عرش بطرس. وكان الرومان أعز نفساً من أن يثأروا بالملوك كما كانوا أكبر من أن يرهبهم البابوات لطول ما ألفوا صحبتهم والاختلاط بهم، فقد كانوا يرون في خلفاء المسيح في الأرض رجالاً مثلهم يمرضون، ويخطئون، ويأثمون، ويغلبون، فلم تعد البابوية في اعتقادهم حصناً حصيناً للنظام وملجأً عاصماً للنجاة، بل أضحت طائفة من العمال يجمعون الصدقات من أوربا لمساكين روما. وكانت تقاليد الكنيسة تقضي بألا يختار البابا بغير رضاء رجال الدين في روما وأشرافها وجمهرة سكانها، وتفرق حكام أسبوليتو، وبنفنتوا، ونابلي، وتسكانيا، وأشراف روما شيعاً وأحزاباً كما كانوا في عهدهم القديم، وكان الحزب صاحب اليد العليا في المدينة يحيك الدسائس لاختيار البابا والسيطرة عليه. وقد عملوا جميعاً على تدهور البابوية في القرن العاشر إلى أحط مستوى وصلت إليه في تاريخها كلها.

من ذلك أنه في عام 878 دخل لامبير Lambert دوق اسبوليتو مدينة روما على رأس جيشه، وقبض على البابا يوحنا السابع، وحاول أن يرغمه بتجويعه على تأييد ترشيح كارلومان لعرش الإمبراطورية. وفي عام 897 أمر البابا استيفن

ص: 377

السادس بأن تخرج جثة البابا فورموسوس Formosus، (891 - 896) من قبرها، وترتدي الملابس الأرجوانية، وتحاكم أمام مجلس كنسي بتهمة مخالفتها بعض قوانين الكنيسة، ثم يحكم بإدانتها، وتجرد من ثيابها الكهنوتية، وتبتر على أعضائها وتلقى في نهر التيبر (46). وثارت في العام نفسه ثورة سياسية في روما خلع على أثرها استيفن من منصبه، وقتل في السجن خنقاً (47). وظل كرسي البابوية عدة سنين بعد ذلك الوقت لا ينال إلا بالرشا أو القتل، أو رغبات النساء ذوات القوام السامي والخلق الدنيء، وبقيت أسرة ثيوفيلاكت Theophylact، أحد كبار الموظفين في قصر البابا، ترفع البابوات إلى كراسيهم وتنزلهم عنها كما يحلو لها. واستطاعت ابنته مروزيا Marozia أن تنح في اختيار عشيقها سرجيوس الثالث لكرسي البابوية (904 - 911)(48)، كما أفلحت زوجته ثيودورا في تنصيب البابا يوحنا العاشر (914 - 928). وقد اتهم يوحنا هذا بأنه عشيق ثيودورا، ولكن هذا الاتهام لا يقوم عليه دليل قاطع (49)، وما من شك في أنه كان زعيماً ممتازاً في الشئون الزمنية، لأنه هو الذي عقد الحلف الذي رد زحف المسلمين على روما في عام 916. وظلت مريوزا تستمتع بعدد من العشاق واحداً بعد واحد حتى تزوجت جويدو Guido دوق تسكانيا؛ وأخذا يأتمران لخلع يوحنا، وعملا على قتل أخيه بطرس أمام عينيه، ثم زج البابا في السجن حيث مات بعد أشهر قليلة ميتة لا تُعلم أسبابها، ثم رفعت مريوزا في عام 931 يوحنا الحادي عشر (931 - 935) إلى كرسي البابوية، وكان الشائع على الألسنة أن يوحنا هذا ابن لها غير شرعي من سرجيوس الثالث (50). وفي عام 923 سَجَن ابنها ألبريك Alberic يوحنا هذا في قلعة سان أنجيلوا Sant' Angelo، ولكنه سمح له أن يصرف من سجنه شئون البابوية الروحية، وظل ألبريك يحكم روما اثنتين وعشرين سنة، كان فيها الطاغية المسيطر "على جمهورية رومانية". وأوصى وهو على فراش الموت بأن يخلفه من بعده ابنه أكتافيان Octavian

ص: 378

وحمل رجال الدين والشعب على أن يعدوه باختيار أكتافيان باباً بعد موت أجابتوس Agapetus الثاني. وتم له ما أراد، فأصبح حفيد مروزيا هو البابا يوحنا الثاني عشر، وامتازت مدة ولايته بضروب من التهتك والدعارة في قصر لاتيران Lateran، (51) .

وعرف أتو الأول إمبراطور ألمانيا عن قرب ما وصلت إليه البابوية من انحطاط بعد أن توجه يوحنا الثاني عشر إمبراطوراً في عام 962. فلما عاد إلى روما في عام 963 بتأييد رجال الدين فيما وراء رجال الألب دعا يوحنا إلى المحاكمة أمام مجلس كنسي. واتهم الكرادلة يوحنا بأنه حصل على رشا نظير تنصيب الأساقفة، وأنه عين غلاماً في العاشرة من عمره أسقفاً، وأنه زنى بخليلة أبيه، وضاجع أرملته، وابنه أختها، وأنه حول قصر البابا إلى ماخور للدعارة. ورفض يوحنا أن يحضر أمام المجلس، أو أن يجيب عن هذه التهم، وخرج للصيد، فقرر المجلس خلعه، واختار بالإجماع مرشح أتو لكرسي البابوية، وكان هذا المرشح الذي أصبح البابا ليو الثامن (963 - 965) من غير رجال الدين. ولما عاد أتو إلى ألمانيا قبض يوحنا على زعماء الحزب الإمبراطوري في روما وبتر أعضائهم، وعمل على أن يعود إلى كرسي البابوية بقرار من مجلس خاضع لأمره (964)(52) ولما مات يوحنا (964) اختار الرومان بندكت الخامس لكرسي البابوية، وأغفلوا شأن ليو. فعاد أتو من ألمانيا، وخلع بندكت، وأعاد ليو، بهذا اعترف ليو رسمياً بحق أتو وخلفائه الأباطرة في أن يلغوا إذا شاءوا اختيار أي بابا في المستقبل

(1)

. ولما مات ليو عمل أتو على اختيار يوحنا الثالث عشر خليف له (965 - 972). ثم سجن أحد أشراف الرومان بندكت السادس (973 - 974)، وقتله خنقاً، وفر بنيفازيو فرنكون Bonifazio Francone، وكان قد نصب نفسه بابا شهراً من

(1)

تعد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ليو الثامن خارجاً على البابوية، ولا ترمي لأعماله أو قرارته قيمة ما.

ص: 379

الزمان، إلى القسطنطينية وحمل معه من كنوز البابوية كل ما استطاع أن يحمله. ثم عاد بعد تسع سنين من فراره، وقتل البابا يوحنا الثالث عشر (983 - 984)؛ وجلس على كرسي البابوية مرة أخرى، ومات ميتة هادئة في فراشه (985) ورفعت الجمهورية الرومانية رأسها من جديد، وأمسكت بزمام السلطة، واختارت كرسنتيوس Crescentius قنصلاً. فانقض أتو الثالث على روما بجيش قوي لا تستطيع مقاومته، وبتفويض من رجال الدين الألمان، ليقضي على الفوضى بتنصيب راعي كنيسته الخاصة بابا باسم جريجوري الخامس (996 - 999). وقضى الإمبراطور الشاب على الجمهورية، وعفا عن كرسنتيوس، وعاد إلى ألمانيا. وما كاد يعود حتى أعاد كرسنتيوس الجمهورية، وخلع جريجوري (997). فما كان من جريجوري إلا أن أصدر قراراً بحرمانه، ولكن كرسنتيوس سخر منه، وعمل على أن يختار يوحنا السادس عشر بابا. فعاد أتو مرة أخرى، وخلع يوحنا، وسمل عينيه، وقطع لسانه، وجدع أنفه، أمر أن يطاف به في شوارع روما على ظهر حمار ووجهه نحو ذنبه. ثم قطعت رؤوس كرسنتيوس واثني عشر من الزعماء الجمهوريين، وعلقت أجسادهم على أسوار سانت أنجليو (998)(53). وعاد جريجوري إلى كرسي البابوية، وظل جالساً عليه حتى مات مسموماً، في أغلب الظن، عام 998. وأجلس أتو في مكانه رجلاً أصبح من أنبه البابوات جميعاً.

ولد جربرت Gerbert من أسرة وضيعة بالقرب من أورلاك Aurillac من أعمال أوفرني Auvergne (حوالي عام 940)، ودخل وهو صغير السن أحد الأديرة. ثم سافر إلى أسبانيا عملاً بمشورة رئيس الدير ليدرس علوم الرياضة، إلى أن كان عام 970 فأخذه بوريل Borel كونت برشلونة معه إلى روما، حيث أعجب البابا يوحنا الثالث عشر بعلم الراهب وأوصى به أتو الأول خيراً. وقضى جربرت عاماً في التدريس بإيطاليا وكان أتو الثاني من بين طلابه في ذلك الوقت أو بعده. ثم انتقل إلى ريمس ليتلقى علم المنطق في مدرسة كنيستها، وسرعان ما نراه

ص: 380

رئيساً لتلك المدرسة (972 - 982). وكان يعلم طائفة من العلوم غريبة في اختلافها تشمل شعراء اليونان والرومان الأقدمين؛ وكان يكتب باللاتينية كتابة ممتازة، وله عدة رسائل تكاد تضارع رسائل سيدونيوس Sidonius. وكان يجمع الكتب حيثما ذهب، وينفق ماله بغير حساب في نسخ صور من المخطوطات المحفوظة في دور الكتب المختلفة، ولعلنا مدينون بما لدينا من خطب شيشرون (54). وكان حامل لواء العالم المسيحي في علوم الرياضة، وأدخل في البلاد صورة جديدة من الأرقام "العربية"؛ وكتب عن المعد والاسطرلاب، وألف رسالة في الهندسة النظرية؛ واخترع ساعة آلية، وأرغناً يديره البخار (55). وقد بلغ من مهارته في كثير من العلوم المختلفة أن اشتهر بعد وفاته بأنه كانت له قوى سحرية (56).

ولما توفي أدلبيرو (985) سعى جلبرت ليكون كبيراً لأساقفة ريمس، ولكن هبوكابت عين بدله أرنولف Arnulf، وهو ابن غير شرعي من البيت الكارولنجي. ولما أخذ برنولف يأتمر بهيو أصدر مجلس كنسي قراراً بخلعه على الرغم من احتجاج البابا، واختار جربرت رئيساً للأساقفة (991). ولكن قاصداً رسولياً أقنع مجمعاً دينياً عقد في مواسون Moisson بعد أربع سنين من ذلك الوقت بفصل جربرت من منصبه. فما كان من العالم المستذل إلا أن هرع إلى بلاط أتو الثالث في ألمانيا، حيث قوبل بأعظم مظاهر التكريم، وهيأ عقل المليك الشاب لفكرة إعادة الإمبراطورية الرومانية واتخاذ روما عاصمة لها. وعينه أتو كبيراً لأساقفة رافنا، ثم عينه بابا في عام 999. وتسمى جربربت باسم سلفستر Sylvester الثاني، كأنما أراد أن يقول إنه سيصبح سلفستراً ثانياً لقسطنطين ثان يوحد العالم مرة أخرى؛ ولو أنه هو وأتو عاشا عشر سنين أخرى لكان من المحتمل أن يحققا حلمهما، لأن أتو ابن أميرة بيزنطية، ولكان من المحتمل أيضاً أن يصبح جربرت ملكاً فيلسوفاً. ولكن المنية عاجلت جربرت في السنة الرابعة من جلوسه على

ص: 381

عرش البابوية، وتقول الإشاعة الرومانية إنه مات مسموماً، سمته استفانيا Stephania عينها التي سمت أتو.

وتدل الآمال التي كانت تخامرهما، كما تدل الحركات السياسية الدائبة على العمل في العالم حولهما، على قلة من كان فيه من المسيحيين الذين يعتقدون جادين أن العالم سينتهي في العام المتمم للألف بعد الميلاد. فقد حدث في بداية القرن العاشر أن أعلن مجلس كنسي أن القرن الأخير من حياة العالم قد استهل (57)، وظلت أقلية ضئيلة في نهاية ذلك القرن تؤمن بهذا القول وتستعد ليوم الحساب، أما الكثرة الغالبة فظلت تسير سيرتها المألوفة، وتعمل، وتلعب، وتأثم، وتصلي، وتحاول أن تطيل حياتها بعد سن الشيخوخة. ولسنا نجد شواهد على استيلاء الذعر على عقول الناس في عام 1000 بل إننا لا نجد زيادة في هبات الناس إلى الكنيسة (58).

وعادت البابوية سيرتها الأولى من الضعف والانحلال بعد موت جربرت، فأخذ أعيان تسكيولوم Tusculum متحالفين مع الأباطرة الألمان يشترون مناصب الأساقفة، ويبيعون البابوية، وقلّما كانوا يحاولون التستر على عملهم هذا. وكان بندكت الثامن (1012 - 1024) الذي رشحوه لهذا المنصب الأخير رجلاً ذكياً قوياً؛ ولكن بندكت (1032 - 1045) الذي عين بابا في الثانية عشرة من عمره دنس منصبه بحياة الفحش (59)، إلى حد جعل الشعب يثور عليه ويخرجه من روما. غير أنه عاد مرة أخرى بتأييد تسكيولوم، فلما أتعبه منصب البابوية باعها إلى جريجوري السادس (1045 - 1046) بألف (أو ألفي) رطل من الذهب. وأدهش جريجوري روما بأن كان البابا مثالياً أو أقرب ما يكون إلى المثالية. ويلوح أن الذي دفعه إلى ابتياع منصب البابوية هو رغبته الصادقة في أن يصلح شأنها ويحررها ممن كانوا يسيطرون عليها ولم يكن أمراء تسكيولوم راغبين في هذا الإصلاح، ولهذا أعادوا بندكت العاشر إلى كرسي البابوية، ولكن حزباً آخر رفع سلفستر الثالث إلى عرشها. واستغاث القساوسة

ص: 382

الإيطاليون بالإمبراطور هنري الثالث ليقضي على هذه المهازل، فجاء إلى استتري Stutri القريبة من روما وعقد فيها مجلساً كنسياً زج سلفستر في السجن، وقبل استقالة بندكت، وخلع جريجوري لاعترافه بأنه ابتاع منصب البابوية. وأقنع هنري المجلس بألا سبيل غلى انتشال الكنيسة من هذه الوهدة إلا بتنصيب بابا أجنبي تحت حماية الإمبراطور، واختير لهذا المنصب أسقف بامبرج Bamberg ولقب كلمنت Clement الثاني (1046 - 1047)، ولكنه مات بعد عام واحد من اختياره، كما قضت على خليفته دسموس Damasus الثاني (1047 - 1048) الملاريا التي كانت وقتئذ تنتشر باستمرار من مناقع كمبانيا التي لم تجفف. ثم وجدت البابوية آخر الأمر في ليو التاسع (1049 - 1054) رجلاً يستطيع أن يواجه مشاكلها بشجاعة، وعلم، واستقامة، وصلاح، قلّما رأت روما نظيراً له من زمن بعيد.

ص: 383

الفصل السابع

‌إصلاح الكنيسة

(2049 - 1054)

ثلاث مشاكل داخلية كان يضطرب بها قلب الكنيسة في ذلك الوقت: وهي المتاجرة بالمناصب في محيط البابوية والأسقفية، والزواج أو التسري بين رجال الدين من غير الرهبان، ووجود حالات متفرقة من الدعارة بين الرهبان أنفسهم.

فأما المتاجرة بالمناصب الكنسية وخدماتها فقد كانت هي المظهر الكنسي لما يعاصره من فساد في الشئون السياسية. ومن الناس الصالحين من كانوا هم أنفسهم مصدراً لهذه المتاجرة، مثال ذلك أن أم جوبيرت النوجنتي Guibert of Nogen كانت شديدة الرغبة في أن تهبه الكنيسة، فقدمت المال لرؤسائها لكي جعلوه قساً في إحدى الكنائس وهو في الحادية عشرة من عمره. وإذ كان الأساقفة في إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا يصرفون الشئون الروحية والزمنية جميعاً، وكانوا يقطعون أرضين، وقرى، ومدناً في بعض الأحيان، ليستمدوا منها إيراداتهم، فقد كانوا ذوو المطامع من الناس يقدمون مبالغ طائلة للرؤساء الزمنيين ليظفروا بهذه المناصب، وكان الشرهون من الرؤساء لا يتورعون عن ارتكاب كل مأثم للحصول على هذه الرشا. وحسبنا أن نذكر أن غلاماً في العاشرة من عمره عين رئيس أساقفة في نربونة Narbonne نظير مائة ألف صليدي (61)، وأن فيليب الأول ملك فرنسا كتب إلى رجل أخفق في الحصول على منصب رئيس أساقفة يواسيه في إخفاقه يقول:"أتركني أجني المال من منافسك، ثم حاول أن تسقطه باتهامه بابتياع منصبه، وسترى بعد ذلك كيف نرضيه"(62). وكان ملوك فرنسا يتبعون السنة التي سنها شارلمان فيعينون هم بانتظام أساقفة سان Sens، وريمس، وليون، وتور، وبورج، Bourges، أما في

ص: 384

غيرها من المدن الفرنسية فكان الدوق أو الكونت هو الذي يعينهم (63). وأضحت كثير من مناصب الأساقفة ميراثاً لبعض الأسر الشريفة، تختص به الصغار من أولادها أو غير الشرعيين منهم؛ وكان أحد البارونات في ألمانيا يمتلك ثماني أسقفيات ويورثها أبناءه (64). ويزعم أحد الكرادلة الألمان (حوالي عام 1048) أن الذين يبتاعون كراسي الأساقفة ومناصب الكنيسة قد باعوا الواجهات الرخامية في الكنائس، وألواح القرميد في سقفها، ليحصلوا من ثمنها على ما أدوه ثمناً لمناصبهم (65). وكان الذين ينالون المناصب بهذه الوسائل من رجال الدنيا لا من رجال الدين، يعيش الكثيرون منهم عيشة المترفين، ويشنون الحرب، ويغمضون أعينهم عن الرشا في المحاكم الأسقفية (66)، ويعيشون أقاربهم في المناصب الكنسية، ويعبدون المال من دون الله، ويدينون له وحدة بالطاعة والولاء. ويقول البابا إنوسنت الثالث في وصف أحد رؤساء الأساقفة في نارين إنه لديه كيساً من المال في الموضع الذي كان جب أن يكون فيه قلبه (67). وقد أصبح ابتياع الكراسي الأسقفية أمراً مألوفاً يقبله الناس العمليون على أنه أمر عادي لا غضاضة فيه؛ أما المصلحون فأخذوا ينادون بأن سمعان المجوسي قد استحوذ على الكنيسة (68).

وكانت المشكلة الأخلاقية بين رجال الدين العاديين تتأرجح بين الزواج والتسري. وكان زواج القساوسة في القرنين التاسع والعاشر أمراً مألوفاً في إنجلترا وغالة وشمالي إيطاليا، وكان البابا هدريان الثاني نفسه متزوجاً (69)؛ وكتب راثريوس Ratherius أسقف فيرونا (في القرن العاشر) يقول إن أساقفة أبرشيته كلهم تقريباً متزوجون، ولم يستهل القرن الحادي عشر حتى كانت العزوبة بين رجال الدن غير الرهبان من الأمور الشاذة النادرة (70). ومن الخطأ أن نعد زواج القساوسة مناقضاً للأخلاق الفاضلة وإن لم يتفق في كثير من الأحيان مع قوانين الكنيسة ومثلها العليا، ذلك أن زواجهم كان متفقاً مع عادات ذلك الوقت ومبادئه الأخلاقية؛ وكان القس المتزوج أسمى منزلة من القس العزب في مدينة ميلان (71)،

ص: 385

لأن ثانيهما كان يتهم بالتسري-بل إن الرأي العام كان يتسامح في التسري نفسه أي في اختلاط رجل غير متزوج بامرأة غير متزوجة اختلاطاً جنسياً منتظماً. ويلوح أن الكثرة الغالبة من القساوسة الأوربيين كانوا يحيون حياة لا غبار فيها من الناحية الأخلاقية، وإنا لنسمع طوال العصور الوسطى عن قساوسة وأساقفة يعيشون معيشة طاهرة نقية مخلصين لمن يرعونهم، وإنا كنا لا ننكر أنه كان في أماكن متفرقة رجال شواذ يندي من فعالهم الجبين، فها هو ذا الأسقف بنيفاس يشكو إلى البابا زخاري Zachary في 742 أن الأسقفيات تعطي "للشرهين من غير رجال الدين، وللزانين من القسيسين"(72)، وأن بعض الشمامسة "يحتفظون بأربع سراري أو خمس"(73). وقد اتهم بيد الموقر في هذا القرن بعينه "بعض أساقفة" إنجلترا بأنهم يضحكون ويهزلون، ويروون الأقاصيص، ويمرحون، ويسكرون و

يحيون حياة الملذات والفسق" (74). وكثرت هذه التهم وأمثالها في أواخر الألف السنة الأولى بعد الميلاد؛ فها هو ذا رالف جلابر Ralph Glaber يصف قساوسة ذلك العهد بأنهم يشاركون أهله في فسادهم الخلقي، وها هو ذا راهب إيطاليا يدعى بطرس داميان Peter Damian (1007 - 1072) يعرض على البابا كتاباً يسمى Liber Gomorrhianus ويصف فيه بالمغالاة التي يتوقعها الإنسان من رجل متمسك بدينه، ما يرتكبه القساوسة من رذائل؛ وفي هذا الكتاب فصل عن "مختلف القضايا المتناقضة للطبيعة". ويطالب داميان في هذا الكتاب بقوة أن يحرم الزواج على رجال الدين.

وكانت الكنيسة من زمن بعيد تعارض زواج رجال الدين بحجة أن القس المتزوج يضع ولاءه لزوجه وأبنائه في منزلة أعلى من إخلاصه للكنيسة سواء أدرك ذلك أو لم يدركه، وأنه سيميل من أجلهم إلى جمع المال أو المتاع، وأنه سيحاول أن ينقل كرسيه أو مرتبه لأحد أبنائه، وأن هذا قد يؤدي إلى طبقة وراثية

ص: 386

من رجال الدين في أوربا تشبه مثيلتها في بلاد الهند، وأن ما يضيفه هذا السلطان الاقتصادي على القساوسة ذوي الأملاك يزيد في قوتهم إلى الحد الذي تعجز معه البابوية عن السيطرة عليهم. ويضاف إلى هذا أن القس يجب أن يكرس حياته لله والكنيسة وبني الإنسان، وأن مستواه الأخلاقي يجب أن يعلو على مستوى أخلاق الشعب، وأن يضفي عليه مستواه هذا المكانة التي لا بد منها لاكتساب ثقة الناس وإجلالهم إياه. وكانت عدة مجالس كنسية قد طالبت بفرض العزوبة على القساوسة؛ وكان واحد منها-هو الذي عقد في بافيا عام 1018 - وقد أصدر قراراً يفرض فيه العبودية الدائمة والحرمان من الميراث على جميع أبناء القسيسين (75)، لكن رجال الدين ظلوا مع ذاك يتزوجون.

ووجد ليو التاسع أن كرسي الرسول بطرس قد افتقر لكثرة ما يوصي به رجال الدين من أملاك الكنيسة لأبنائهم، ولاستيلاء الأعيان على ضياع الكنيسة، ومن سطو قطاع الطرق على الحجاج الذي يأتون بالأدعية، والملتمسات، والنذور إلى روما، ولهذا وضع نظاماً لحماية الحجاج، وأعاد إلى الكنيسة ما خرج من أملاكها، وشرع يضطلع بهذا الواجب الثقيل، واجب تحريم بيع المناصب الكهنوتية، وزواج القساوسة. وقد بدأ عمله بأن أحال أعمال البابوية الداخلية والإدارية إلى الراهب المتبتل الحصيف الذي أصبح فيما بعد جريجوري السابع، ثم غادر روما في عام 1049، معتزماً أن يتعرف بنفسه أخلاق رجال الدين وأعمال الكنائس في مدائن أوربا الكبرى. وسرعان ما أعادت هيبته الشخصية، وصرامته غير المتكلفة، ما كان لرئيس الكنيسة الأعلى في قلوب الناس من إجلال؛ فأخفقت الرذيلة رأسها لمقدمه، وارتعت فرائص جدفري اللوريني الذي نهب الكنائس وتحدى الملوك حين أصدر البابا قراراً بحرمانه، وخضع صاغراً للجلد علناً أمام مذبح الكنيسة التي خربها في فردان، وتعهد بأن يصلح ما خربه منها، وأخذ يعمل في إصلاحها بيديه. وعقد ليو محكمة بابوية في كولوني، وقوبل فيها بجميع مظاهر

ص: 387

الإجلال من رجال الدين الألمان الذين كانوا يفخرون بوجود بابا ألماني ثم انتقل ليو إلى فرنسا ورأس محكمة في ريمس، وأخذ يفحص عن أخلاق رجال الدين وغير رجال الدين، وعن المناصب الكنسية، وانتهاب أملاك الكنيسة، وتحلل رهبان الأديرة من قوانينها، وانتشار الزندقة في البلاد. وأمر كل من حضر المحكمة من الأساقفة أن يعترف بخطاياه، فأخذ كل منهم، واحداً بعد واحد، ومنهم رؤساء الأساقفة أنفسهم، يتهم نفسه. وأنبهم ليو أشد التأنيب، وأعفاهم من مناصبهم، وعفا عن بعضهم، وحرم أربعة من حظيرة الدين، واستدعى غيرهم إلى روما ليكفروا علناً عن سيئاتهم. وأمر رجال الدين أن يخرجوا زوجاتهم وسراريهم، وأن يمتنعوا عن استعمال الأسلحة. ثم أصدر مجلس روما فضلاً عن هذا قراراً يقضي بأن يختار رجال الدين وعامة الشعب الأساقفة ورؤساء الأديرة، وحرم بيع المناصب الكهنوتية، ونهى رجال الدين عن أخذ الأجور نظير تقديم القرابين، أو عيادة المرضى، أو دفن الموتى. وأجرى مجلس عقد في مينز (1049) بإلحاح ليو، إصلاحات شبيهة بهذه الإصلاحات في ألمانيا. وعاد ليو إلى إيطاليا في عام 1050 ورأس مجلس فرشلي Vercelli وحرم فيه آراء برنير التوري Beregner of Tours الخارجة على الدين.

ورد ليو بزيارته الطويلة الشاقة إلى شمالي أوربا ما كان للبابوية من هيبة ومنزلة سامية، وأعاد الإمبراطور الألماني رئيساً للكنيسة الألمانية كما كان من قبل، وأرغم الأسقفيات الفرنسية والأسبانية على الاعتراف بسلطان البابا عليها، وخطا بعض الخطوات في سبيل تطهير الكنيسة من الرشا والدعارة. ثم قام بحملات أخرى في ألمانيا وفرنسا في عامي 1051، 1052، ورأس جمعية كنيسة عظيمة في ورمز وأخرى في مانتو Mantua؛ ولما عاد آخر الأمر إلى روما اضطلع بذلك الواجب البغيض، واجب حماية الولايات البابوية بقوة السلاح. ذلك أن الإمبراطور هنري الثالث كان قد وهبه دوقية بنفنتو؛ ولكن بندلف Pandulf

ص: 388

دوق كبوا أبى أن يقر هذه المنحة واستولى على هذه الدوقية واستمسك بها معتمداً على تأييد النورمان أتباع ربرت جسكارد. وطلب ليو أن يرسل إليه جيش ألماني يساعده على طرد بندلف ولكنه لم يرسل إليه إلا سبعمائة رجل، ضم إليهم بعض الإيطاليين غير المدربين، وزحف بهم على النورمان، وكاد فرسانهم وحدهم يبلغون ثلاثة آلاف من القراصنة المهرة في الحروب. وأوقع النورمان بجيش ليو هزيمة منكرة، وأسروه، ثم ركعوا أمامه يطلبون إليه أن يعفو عنهم لأنهم قتلوا خمسمائة من رجاله. وساقوه بعدئذ إلى بنفنتو، حيث قدموا إليه ما يليق بمقامه من مجاملة وتكريم، ثم استبقوه سجيناً تسعة أشهر. وتحطم قلب ليو من الحزن وندم أشد الندم على امتشاق الحسام، فحرم على نفسه أن يلبس غير الخيش، وأن ينام إلا على بساط وحجر، وكان يقضي اليوم كله إلا القليل منه في الصلاة. وأدرك النورمان أنه مشرف على الموت، وأطلقوا سراحه، ودخل روما بين تهليل الشعب وفرحه، وعفا عن جميع الذين حرمهم، وأمر أن يوضع تابوت في كنيسة القديس بطرس. وجلس بجواره يوماً واحداً مات بعده عند المذبح وجاء العرج، والبكم، والمجذومون من جميع أنحاء إيطاليا ليلمسوا جثته.

ص: 389

الفصل الثامن

‌الانشقاق الأكبر في الشرق

1054

حدث الانفصال النهائي بين الكنيستين اليونانية واللاتينية في عهد جلوس سانت ليو على كرسي البابوية. وبينما كانت أوربا الغربية تتخبط في ظلمات القرنين التاسع والعاشر، وبؤسهما وجهالتهما، وكانت الإمبراطورية الشرقية تحت حكم أباطرتها المقدونيين (867 - 1057)، تستعيد بعض ما استولى عليه العرب من أملاكها، وتسترد زعامتها في جنوبي إيطاليا، وتزدهر فيها الآداب والفنون من جديد. واستمدت الكنيسة اليونانية من عودة الثراء والسلطان إلى الدولة البيزنطية قوة وكرامة، فأدخلت بلغاريا وبلاد الصرب في حظيرة الكنيسة الشرقية، وقاومت بشدة لم يسبق لها مثيل ما كانت تدعيه البابوية المنحطة المعدمة من سلطان دين مطلق على العالم المسيحي. وكان اليونان في ذلك العصر ينظرون إلى المعاصرين لهم من الألمان والأنجليسكسون على أنهم أقوام من الهمج الغلاظ، وأنهم طائفة من غير رجال الدين الأميين ديدنهم العنف وتتزعمهم فئة فاسدة من رجال الدين. وكان رفض البابوية أن يكون الإمبراطور البيزنطي ملكاً على الفرنجة، واستيلاء البابوية على مقاطعة رافنا، وتتويج البابا لإمبراطور منافس لإمبراطور الشرق، واندفاع البابوية إلى إيطاليا اليونانية-كانت هذه الحادثات السياسية التي تحز في النفوس لا الاختلاف القليل بين العقائد هي التي شطرت العالم المسيحي شطرين أحدهما شرقي والآخر غربي.

ففي عام 1043 عين ميخائيل كرولاريوس Cerularius بطريقاً للقسطنطينية. وكان كرولاريوس هذا رجلاً من أسرة نبيلة، واسع الثقافة، حاد الذهن، قوي العزيمة. وكان في الأصل راهباً ولكن الذي رفع من شأنه

ص: 390

هو تاريخه السياسي لا تاريخه الديني. فقد كان كبير وزراء الإمبراطورية، وكان من أصعب الأمور على نفسه أن يقبل منصب البطريقية، لو أنها كانت تتطلب منه الخضوع إلى روما. وقد أذاع في عام 1053 رسالة باللغة اللاتينية كتبها راهب يوناني يلوم فيها الكنيسة الرومانية أشد اللوم لإرغامها رجال الدين على العزوبة مخالفة بذلك أفعال الرسل وتقاليد الكنيسة، ولاستعمالها خبزاً فطيراً في القربان المقدس، ولإضافة الفقرة القائلة بأن الروح القدس ينبعث من الأب والابن إلى العقيدة النيقية. وأغلق كرولاريوس في ذلك العام نفسه جميع كنائس القسطنطينية التي تستخدم الشعائر اللاتينية، وحرم جميع القساوسة الذين يصرون على استخدامها. وبعث ليو، وكان وقتئذ في أوج سلطانه، برسالة إلى كرولاريوس، يطلب أن يعترف البطريق بسيادة البابوات، ويصم كل كنيسة ترفض هذا الاعتراف بأنها "جمعية من الخارجين على الدين، وجماعة من المنشقين، ومعبد للشيطان"(76). ثم أرسل ليو وهو في هذه الحالة النفسية رسلاً إلى القسطنطينية ليناقشوا الإمبراطور والبطريق في الفوارق التي تبعد فرعي المسيحية إحداهما عن الآخر. واستقبل الإمبراطور رسل البابا بالترحاب، ولكن كرولاريوس أنكر عليهم حقهم في معالجة تلك المسائل. ثم مات ليو في شهر إبريل من عام 1054 وظل كرسي البابوية شاغراً مدة عام. حتى إذا كان شهر يولية أخذ المندوبون هذه المسألة على عاتقهم: ووضعوا على مذبح كنيسة أيا صوفيا قراراً بحرمان كرولاريوس، فما كان من ميخائيل إلا أن عقد مجلساً يمثل المسيحية الشرقية على بكرة أبيها، وكرر هذا المجلس جميع شكاوي الكنيسة اليونانية من الكنيسة الرومانية، ولم تغفل فيها شكواها من حلق اللحى، وشنع رسمياً على قرار المندوبين وعلى "كل ما كانت له يد في صياغته، سواء أكان ذلك بمشورتهم أم بصلواتهم نفسها"(77). وبذلك تم الاشتقاق بين الكنيستين.

ص: 391

الفصل التاسع

‌جريجوري السابع هلدبراند

(1073 - 1085)

كان من سوء حظ المسيحية أن وجدت فترة من الفوضى والضعف تفصل بين ولاية ليو التاسع وولاية بابا آخر من أقوى البابوات في تاريخ الكنيسة.

وهلدبراند اسم ألماني يوحي بأن صاحبه من أصل ألماني، ويفسره معاصرو جريجوري بأن معناه الشعلة الخالصة. وقد ولد من أبوين ينتميان إلى أسرة وضيعة في قرية سوفانو Sovano الواقعة في مستنقعات تسكانيا (1023؟)، وتلقى تعليمه في دير سانت ماري القائم على تل الأفنتين في روما، ثم انضم إلى طائفة الرهبان البندكتيين. ولما أن خلع البابا جريجوري السادس من منصبه ونفي إلى ألمانيا في عام 1046 صحبه هلدبراند في منفاه ليكون راعياً خاصاً؛ وقد استفاد في السنة التي قضاها في كولوني الشيء الكثير عن ألمانيا، وكان ما تعلمه ذا فائدة كبيرة له الصراع الذي نشبت فيما بعد بينه وبين هنري الرابع؛ ولم يمض على عودته إلى روما إلا قليل من الوقت حتى جعله ليو التاسع مساعد شماس أصيل، وعينه مديراً للولايات البابوية، واختاره في الوقت نفسه مندوباً للبابا في فرنسا، وفي وسعنا أن ندرك من ارتقاء شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره إلى هذه المناصب العالية ما كان له من الكفاية في الشئون السياسية والدبلوماسية وظل البابا فكتور الثاني (1055 - 1057) واستيفن التاسع (1057 - 1058)، يستخدمانه في المهام الكبرى؛ ولما ارتقى نقولاس عرش البابوية في عام 1059، وكان أكبر الفضل في ارتقائه إياه راجعاً إلى نفوذ هلدبراند نفسه، عين هذا الراهب الذي لا غنى عنه وزيراً للبابا مع أنه لم يكن قد أصبح قساً.

وكان هو الذي أقنع نقولاس ومجلس لاتران في عام 1057 بإصدار مرسوم

ص: 392

انتقل بمقتضاه حق انتخاب البابا إلى مجمع الكرادلة. وكان هدف هلدبراند من هذه الخطوة الحاسمة أن ينقذ البابوية من النبلاء الرومان والأباطرة الألمان، وكان الشاب الديني والحاكم السياسي قد وضع منذ ذلك الوقت المبكر خطته السياسية البالغة الأثر. وقد رأى أن ينقذ البابوية من السيطرة الألمانية بأن يغمض عينه من غارات النورمان وصلفهم في إيطاليا الجنوبية وأن يعترف بامتلاكهم ما انتزعوه من الأرض، ويوافق على مطامعهم، نظير تعهدهم له بحمايتهم الحربية. ورفع هلبراند في عام 1073 إلى عرش البابوية بعد أن خدم ثمانية بابوات مدة خمس وعشرين سنة؛ ولقد قاوم هو هذا الاختيار لأنه كان يفضل أن يعمل من وراء هذا العرش، ولكن الكرادلة، والقساوسة، والشعب عامة نادوا قائلين:"إن القديس بطرس يريد أن يكون هلدبراند بابا! ". ولهذا رسم قسيساً، ثم عين بابا، واتخذ لنفسه ذلك اللقب المبجل- جريجوري.

وكان قصير القامة، وعادي الملامح، حاد البصر، عزيز النفس، صلب الإرادة، قوياً في الحق، واثقاً من النصر، تلهمه وتشحذ همته أربعة أغراض: أن يتم ما بدأه ليو من تقويم أخلاق رجال الدين، وأن يضع حداً لتولي غيرهم المناصب الدينية، وأن يوحد أوربا كلها تحت سلطان كنيسة واحدة وجمهورية واحدة برياسة البابوية، وأن يوجه جيشاً مسيحياً إلى بلاد الشرق ليسترد الأرض المقدسة من الأتراك. وقد كتب في عام 1074 إلى أعيان برغندية وسافوي، وإلى الإمبراطور هنري الرابع، يرجوهم أن يجمعوا المال ويحشدوا الجند للقيام بحرب صليبية يعتزم أن يقودها بنفسه. فأما أعيان برغندية فلم يتحركوا لتلبية ندائه، وأما هنري فقد حال تزعزع مركزه فوق عرشه بينه وبين التفكير في حرب صليبية.

وكان مجلس لاتران المنعقد برياسة نقولاس الثاني وهلدبراند في عام 1059 قد حرم من حظيرة الدين كل قس يحتفظ بزوجة أو سرية، ونهى المسيحيين

ص: 393

عن حضور القداس الذي يقيمه قس يعرفون أنه يحتفظ بامرأة في بيته، ولم يشأ كثيرون من أساقفة لمبارديا أن يشتتوا أسر قساوستهم فأبوا أن يذيعوا هذه القرارات، وأخذ بعض رجال الدين المعروفين في تسكانيا يدافعون عن مبدأ زواج القساوسة ويقولون إنه يتفق مع الأخلاق ومع قوانين الكنيسة، وبذلك أصبح تنفيذ هذا التشريع غير مستطاع، وتذرع الوعاظ الخارجون على الدين بالرأي القائل إن القساوسة الذين يعيشون "آثمين" لا يستطيعون القيام بمراسيم العشاء الرباني الصحيحة فأخذوا ينادون متحمسين ببطلان هذه المراسم، مما اضطر البابوية إلى الرجوع في دعوتها هذه إلى جماهير المصلين (78). ولما أصبح هلدبراند هو جريجوري السابع (1073) تصدى لهذه المشكلة بعزيمة لا تنثني ولا تعرف الملل، فجدد مجمع ديني عقد في عام 1074 قرارات 1059، وأرسل جريجوري هذه القرارات إلى جميع أساقفة أوربا ومعها أمر صارم لهم بإذاعتها وتنفيذها بالقوة، وأباح لعامة الشعب ألا يطيحوا أمر من يخالفها من القساوسة. وكان لهذه الأوامر هي الأخرى رد فعل عنيف، فأعلن كثيرون من القساوسة أنهم يفضلون التخلي عن مناصبهم على التخلي عن أزواجهم، وعارض غيرهم في تنفيذ القرارات لأنها تفرض على الطبيعة البشرية قيوداً لا يقبلها العقل السليم، وتنبئوا بأن تنفيذها سينشر الاختلاط الجنسي السري وأعلن أتو أسقف كنستانس بأن يحبذ آراء قساوسته المتزوجين ويحميهم من العدوان، فما كان من جريجوري إلا أن أصدر قراراً بحرمانه، وأعفى رعاياه من إطاعة أوامره. وخطا جريجوري خطوة أخرى في عام 1075 فأمر أدواق سوابيا وكارنثيا، وغيرهم من الأمراء أن يلجئوا إلى القوة إذا دعت الضرورة لمنع من يقاومون أوامره من القساوسة من أداء واجبات مناصبهم: وإطاعة عدد من الأمراء الألمان، حرم كثيرون من القساوسة الذين أبوا أن يتخلوا عن أزواجهم من مناصبهم (79). ومات جريجوري دون أن يتم له النصر، ولكن إربان الثاني، وبسكال الثاني،

ص: 394

وكلكستوس Calixtus الثاني أكدوا قراراته ونفذوها، حتى إذا كان عام 1215 أصدر مجلس لاتران برياسة إنوسنت الثاني قراراً نهائياً بتحريم زواج القساوسة وأخذت هذه العادة بعد ذلك تزول.

وبدت مشكلة المناصب الدينية أبسط من مشكلة زواج القسيسين. فإذا سلمنا بأن المسيح قد أنشأ الكنيسة، وهو الرأي الذي يجمع عليه الملوك والبابوات، اتضح أن رجال الكنيسة، لا العلمانيين هم الذين يحق لهم أن يختاروا الأساقفة ورؤساء الأديرة، ولهذا كان من أكبر العار ألا يكتفي الملوك بتنصيب الأساقفة، بل أن يخلعوا عليهم فوق ذلك (كما يحدث في ألمانيا) عصا الأسقفية وخاتمها-وهما الرمزان المقدسان للسلطة الروحية. ولكن الملوك كان لهم رأي لا يقل عن هذا وضوحاً. فما دام الأساقفة ورؤساء الأديرة يسلمون (كما يسلم معظم الأساقفة الألمان ورؤساء الأديرة منهم) أن الملوك قد وهبوهم الأرض والدخل، وألقوا عليهم التبعات الزمنية، فقد يبدو خليقاً بهم وعدلاً-حسب قوانين الإقطاع-أن يكون أولئك الرؤساء الدينيون-أو الأساقفة منهم في القليل-مدينين بمناصبهم وولائهم الزمني للملوك، كما ظلوا مدينين بها في غير تذمر في عهد قسطنطين وشارلمان. فإذا ما عفوا عن هذا الخضوع وذاك الولاء خرجت نصف الأراضي الألمانية-التي منحت في السنين السابقة للأسقفيات والأديرة-عن سلطان الدولة (80)، وعما اعتاد أن يؤديه لها أصحابها من واجبات وخدمات. وارتاب الأساقفة الألمان وكثيرون من الأساقفة اللمبارد المنتمون إلى أصل ألماني والمدينون بمناصبهم إلى الألمان في نيات جريجوري وظنوا أنه يسعى للقضاء على استقلالهم الكنسي النسبي وإخضاعهم لكرسي روما إخضاعاً تاماً. أما جريجوري نفسه فكان راضياً بأن يحتفظ الأساقفة بولائهم الإقطاعي للملك (81)، ولكنه لم يكن يرضى بأن يردوا الأراضي التي وهبها الملوك لهم (82)، ذلك أن قانون الكنيسة لا يجيز انتقال ملكية أراضي الكنيسة لغيرها. وشكا جريجوري من أن تعيين غير

ص: 395

رجال الدين في المناصب الكنسية قد نشأت عنه عظم المفاسد الخاصة لبيع المناصب الكهنوتية، والانغماس في الشرور الدنيوية، والفساد الخلقي وهي الآثام التي ظهرت في الأبرشيات الألمانية والفرنسية، ولهذا كان يرى أن من الواجب إخضاع الأساقفة لسلطان البابا، وإلا صارت الكنيسة الغربية، كما صارت الكنيسة الشرقية، تابعاً ذليلاً للدولة.

وكان من وراء هذا الصراع التاريخي صراع آخر هو صراع البابوية مع الإمبراطورية، وهل من حق هذه أو تلك أو توحد أوربا وتحكمها. وكان الأباطرة الألمان يدعون أن سلطتهم هم أيضاً سلطة مقدسة لأنها من ضرورات النظام الاجتماعي. ألم يقل الرسول بولس إن السلطات القائمة مقدرة من عند الله؟ أليسوا هم كما يقول البابوات أنفسهم ورثة إمبراطورية روما؟ فهم المدافعون عن حرية الجزء كما يدافع جريجوري عن وحدة الكل وعن النظام فيه؟ وكان يسوءهم هم أنفسهم-قبل حركة الإصلاح الديني بزمن طويل -أن ينساب الذهب في شكل أجور وهبات الكنيسة بطرس-من ألمانيا إلى إيطاليا (83)؛ وكانوا يرون أن السياسة البابوية ليست إلا جهوداً تبذلها روما اللاتينية لإعادة سيطرتها القديمة على البلاد التي تزدريها إيطاليا وتسميها بلاد الشمال التيوتونية الهمجية. وكانوا يعترفون اعترافاً صريحاً بسلطان الكنيسة في الشئون الروحية، ولكنهم يؤكدون سلطان الدولة في الشئون الزمنية أو الدنيوية. وكان هذا يبدو في نظر جريجوري ثنائية مختلفة النظام، ويرى أن الاعتبارات الروحية يجب أن تعلو على الشئون المادية كما تعلو الشمس على القمر (84)، ولهذا يجب أن تخضع الدولة للكنيسة-أن تخضع مدينة الإنسان لمدينة الله-في جميع المسائل التي لها مساس بالعقيدة، أو التعليم، أو الأخلاق، أو العدالة، أو التنظيم الكنسي. ألم يعترف ملوك فرنسا وأباطرة الدولة الرومانية المقدسة اعترافاً ضمنياً بأن السلطة الروحية مصدر السلطة الزمنية وصاحبة السيادة عليها، وذلك حن ارتضوا أن يمسحهم

ص: 396

البابوات أو يثبتوهم في مناصبهم؟ إن الكنيسة بوصفها نظاماً إلهياً خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية؛ ومن حق البابا وواجبه، بوصفه خليفة الله في أرضه، أن يخلع الملوك غير الصالحين، وأن يؤيد أو يرفض اختيار البشر للحكام أو تنصيبهم حسب مقتضيات الأحوال (85). وقد تساءل جريجوري في رسالة كتبها وهو غاضب إلى هرمان Hermann أسقف متز: "منذا الذي يجهل أن الملوك والأمراء يرجعون بأصولهم إلى الذين لا يعرفون الله، ثم يتعالون ويصطنعون العنف والغدر، ويرتكبون في الحقيقة جميع أنواع الجرائم

ويطالبون بحقهم في حكم من لا يقلون عنهم-أي الشعب-جشعاً وعماية وعجرفة لا تطاق؟ " (86) وقد بدا لجريجوري، من نظرته إلى ما ساد أوربا من فرقة سياسية، وفوضى، وحروب، أن لا نجاة لها من هذا البؤس الذي خيم عليها دهراً طويلاً إلا بقيام نظام عالمي تتخلى فيه هذه الدول عن بعض سيادتها التي تعض عليها بالنواجذ وتعترف بالبابا سيداً اجتماعياً لها، وبأنه هو الزعيم الأجل لجمهورية مسيحية، أوربية في القليل، إن لم تكن عالمية.

وكانت الخطوة الأولى في سبيل الوصول إلى هذه الغاية هي تحرر البابوية من السيطرة الألمانية، والخطوة الثانية هي إخضاع جميع الأساقفة للكرسي البابوي، إن لم يكن إخضاعاً تاماً، فإلى الحد الذي يتحتم معه أن يكون الذين يختارونهم هم رجال الدين وشعب الأبريشة بإشراف أسقف يرشحه البابا أو المطران، وألا يصبح الاختيار نهائياً وقانونياً إلا إذا أيده رئيس الأساقفة أو البابا نفسه (87). وبدأ جريجوري عمله برسالة وجهها (1073) إلى أسقف شالون Ch (lon أنذر فيها بأن يحرم فيليب أغسطس ملك فرنسا لأنه يبيع مناصب الأساقفة. ثم وجه في عام 1074 الرسالة عامة إلى الأسقفيات الفرنسية يدعوها إلى التشهير بجرائم الملك في حضرته، وأن يمتنعوا عن أداء جميع الخدمات الدينية في فرنسا إذ أبى فيليب أن يصلح شأنه (88). وظل غير رجال الدين رغم هذا يعينون في المناصب الدينية

ص: 397

ولكن الأساقفة الفرنسيين ساروا على حذر وتركوا النزاع يحسم في ألمانيا نفسها.

واجتمع في فبراير من عام 1075 مجمع من الأساقفة الطليان في روما برياسة جريجوري، وأصدر قرارات تحرم بيع المناصب الكهنوتية، وزواج رجال الدين، وتعيين غيرهم في المناصب الكنسية. وأسرع جريجوري بعد صدور هذه القرارات إسراعاً عجيباً فحرم خمسة أساقفة للمتاجرة بالرتب الكهنوتية، وكان هؤلاء الخمسة من مستشاري هنري الرابع، ثم أوقف، أسقفي بافيا وتورين، وخلع أسقف بياسنزا Piacenza وأمر هرمان أسقف بامبرج Bamberg بالحضور إلى روما ليبرئ نفسه من التهم الخاصة بالمتاجرة بالرتب الكهنوتية، ولما حاول هرمان أن يرشو رجال المحكمة البابوية خلعه جريجوري دون أدنى مجاملة، وطلب إلى هنري بأدب ولطف أن يرشح شخصاً يليق أن يخلفه أسقفاً لبامبرج. ولم يكتف هنري بترشيح أحد رجال حاشيته المقربين بل إنه خلع عليه عصا الأسقفية وخاتمها دون أن ينتظر موافقة البابا-وذلك إجراء إن كان يتفق مع العادة المتبعة، فإن فيه تحدياً صريحاً لقرار مجمع روما المقدس. وكأنما أراد هنري أن يجعل رفضه مطالب جريجوري مما ظهر بتحديه هذا فعين أساقفة لابرشيات ميلان، وفرمو Fermo، وأسبيلتو-وهي بلدان قريبة كل القرب من مقر البابا-وظل المستشارون المحرومون موضع عطفه ورعايته.

وبعث جريجوري في شهر ديسمبر من عام 1075 برسالة احتجاج إلى هنري، وأمر حامليها بأن يضيفوا إليها رسالة شفوية ينذرون فيها الملك بالحرمان إذا ظل يتجاهل قرارات مجمع روما المقدس. فلما تلقى هنري الرسالة عقد مجلساً من الأساقفة الألمان في ورمز (24 يناير سنة 1076) حضره أربعة وعشرون منهم، وتخلف عنه بعضهم. وقبل أن ينعقد المجلس اتهم هيو Hugh أحد الكرادلة الرومان جريجوري بالفسق، والقسوة، والسحر، وبأنه توصل إلى كرسي البابوية بالرشوة والعنف، وذكر الأساقفة بأن العادات التي ظلت سارية

ص: 398

من قرون طوال تتطلب ألا يكون اختيار البابا مشروطاً بموافقة إمبراطور ألمانيا، ولم يكن جريجوري قد طلب هذه الموافقة. وكان مما شجع الإمبراطور على المضي في خطته أنه أخضع منذ قليل فتنة قامت في سكسونيا فعرض على المجلس اقتراحاً بخلع البابا، ووقع جميع من حضر من الأساقفة هذا القرار، وأيده مجلس من أساقفة لمبارديا عقد في بياسنزا، وبعث هنري بهذا القرار إلى جريجوري مذيلاً بهذه الحاشية المنتقاة:"من هنري الملك بأمر الله لا بالاغتصاب إلى هلدبراند الراهب المزيف لا البابا"(89). وسلمت الرسالة إلى جريجوري في مجمع مقدس بروما (21 فبراير سنة 1076)؛ وأراد الأساقفة الحاضرون كلهم البالغ عددهم مائة أسقف وعشرة أساقفة أن يقتلوا الرسول، ولكن جريجوري حماه؛ وحرم المجمع المقدس الأساقفة الذين وقعوا قرار ورمز، وأصدر البابا حكماً مثلثاً بحرمان هنري، ولعنته، وخلعه، وأعفى رعاياه من يمين الطاعة له (22 فبراير سنة 1076). ورد هنري على هذا بأن أقنع أساقفة أو ترخت بأن يصبو على جريجوري "الراهب الحانث" اللعنات من منبر الكنيسة وروعت أوربا كلها بأن يخلع البابا إمبراطوراً، وروعت أكثر من هذا بأن يخلع الإمبراطور بابا ويلعنه الأساقفة. وتبين أن العاطفة الدينية كانت أقوى من العاطفة القومية، وسرعان ما تخلى الرأي العام عن الإمبراطور، وعادت سكسونيا إلى الثورة، ولما أن استدعى هنري أساقفة مملكته وأعيانها إلى مجلسين يعقدان في ورمز ومينز أغفلت دعوته إغفالاً يكاد يكون تاماً. بل كان ما حدث هو نقيض هذا فقد وجد الأشراف الألمان في هذه الظروف فرصة سانحة لهم لتقوية سلطتهم الإقطاعية ضد الملك فاجتمعوا في تريبور Tribur (16 أكتوبر سنة 1076)، ووافقوا على حرمان الإمبراطور، وأعلنه أنه إذا لم يحصل على مغفرة سن البابا قبل اليوم الثاني والعشرين من شهر فبراير عام 1077 فإنهم سيرشحون خلفاً له على العرش. وتم الاتفاق بين الأعيان ومندوبي البابا في

ص: 399

تريبور أن يجتمع مجلس في أوجزبرج في اليوم الثاني من فبراير عام 1077 برياسة البابا لتسوية شئون الكنيسة والمملكة.

ولجأ هنري إلى اسبير مغلوباً على أمره لا يكاد يجد له معيناً. وكان يعتقد أن المجلس المقترح سيؤيد خلعه من ملكه، فبعث بالرسل إلى روما، يعرض على البابا أن يأتي هو بنفسه إليه ويسأله المغفرة؛ ورد عليه جريجوري بأنه مزمع أن يسافر قريباً إلى أوجزبرج ولهذا فإنه لا يستطيع استقبال هنري في روما. وبينما كان البابا في طريقه إلى تلك المدينة استضافته في مانتوا ماتلدا كونتة تسكانيا وصديقته ومؤيدته؛ وهنا عرف أن هنري قد دخل إيطاليا؛ وخشي جريجوري أن يحشد الملك جيشاً من سكان لمبارديا المعارضين للبابا، فلجأ إلى قصر ماتلدا الحصين في كانوسا Oanossa، القائم فوق جبال الأبنين بالقرب من رجيو إميليا Reggio Emilia. وهناك في الخامس والعشرين من شهر يناير سنة 1077، وفي يوم من أيام الشتاء الذي لم تشهد إيطاليا مثيلاً له في برودته، أقبل هنري، كما يقول التقرير الذي بعث به جريجوري إلى الأمراء الألمان:

"بنفسه إلى كانوسا

وليس معه إلا عدد قليل من أفراد حاشيته

ووقف بباب القصر، وحافياً، وليس عليه إلا أثواب بالية من الصوف، يتوسل إلينا والخوف يملأ قلبه أن نغفر له ونعفو عنه. وظل يفعل هذا ثلاثة أيام رثا فيها كل من حولنا لشقوته، وجاءوا يشفعون له بدموعهم وصلواتهم

فرفعنا آخر الأمر الحرمان عنه وقبلناه مرة أخرى في حظيرة الكنيسة أمنا المقدسة" (90).

ولم يكن تردد جريجوري طوال هذا الوقت ناشئاً من قسوة قلبه، بل إنه قد قرر مصالحة هنري دون أن يستشير الأمراء الألمان، وكان يعرف أنه إذا خرج هنري عليه بعد أن عفا عنه، ثم حرمه مرة أخرى، فإن هذا الحرمان لن يكون له من الأثر ما كان لحرمانه الأول، ولن يؤيده الأشراف بنفس القوة التي أيدوه بها من قبل؛ ولن يسهل على العالم المسيحي أن يفهم كيف يأبى خليفة

ص: 400

المسيح أن يعفو عن هذا التائب الذليل. وكان هذا الحادث نصراً روحياً لجريجوري، ولكنه كان إلى جانب هذا نصراً دبلوماسياً رائعاً لهنري، فقد استعاد به عرشه من تلقاء نفسه وعاد جريجوري بعد ذلك إلى روما وقضى العامين التاليين في إصدار التشريعات الكنسية التي كانت تهدف قبل كل شيء إلى إرغام القساوسة على عدم الزواج. غير أن الأمراء الألمان نادوا برودلف أمير سوابياً ملكاً على ألمانيا (1077) وبدا أن سياسة هنري قد أخفقت. لكنه بعد أن تحرر من اللعنة البابوية لقي عطفاً جديداً من الشعب الذي لم يكن شديد الحب للأشراف، فحشد جيشاً جديداً لتأييده، وظلت ألمانيا عامين كاملين تمزقها الحروب الداخلية. وظل جريجوري يتذبذب طويلاً، ثم أعلن تأييده لرودلف وحرم هنري مرة أخرى، وحرم على المسيحيين أن يخدموه، وعرض على من يتطوع تحت راية رودلف أن يغفر له خطاياه (مارس سنة 1080)(19).

وفعل هنري ما فعله من قبل لم يتحول عند قيد شعره. فجمع في مينز مجلساً من الأعيان والأساقفة الموالين له؛ وخلع المجلس جريجوري، وأيد مجلس من أساقفة ألمانيا وشمالي إيطاليا عقد في بركسن Brixen قرار الخلع، ونادى بجيبير Guibert كبير أساقفة رافنا بابا، وعهد إلى هنري أن ينفذ قراراته. واجتمع الجيشان المعاديان على ضفاف نهر السال Ssale في سكسونيا (15 أكتوبر سنة 1080)، وهزم هنري ولكن رودلف قتل في المعركة. وبينما كان الأعيان منقسمين على أنفسهم بشأن من يختارونه خلفاً له، دخل هنري إيطاليا، واخترق لمبارديا دون أن يلقى مقاومة، وجيش وهو يخترقها جيشاً آخر، وضرب الحصار على روما. واستغاث جريجوري بربرت جسكارد ولكن ربرت كان بعيداً عنه، فاستغاث بوليم الأول وكان جريجوري قد وافق على فتحه إنجلترا وأيد هذا الفتح، ولكن وليم لم واثقاً من أنه لا يريد أن يفقد هنري حجته الملكية. ودافع أهل روما عن رئيسهم الديني دفاع الأبطال، ولكن هنري استطاع أن يستولي

ص: 401

على جزء كبير من روما وفيه كنيسة القديس بطرس، وفر جريجوري إلى كاستلوسانتا أنجيلو Caslello Sant Angelo. واجتمع مجمع مقدس في قصر لاتران بدعوة من هنري، وخلع جريجوري وحرمه، ونادى باسم بجيبير بابا باسم كلمنت الثالث (24 مارس سنة 1084)، وبعد أسبوع من ذلك الوقت توج كلمنت هنري إمبراطوراً، وظل هنري سيد روما عاماً كاملاً.

غير أن ربرت جسكارد عاد من حروبه مع بيزنطية في عام 1085، واقترب من روما على رأس جيش مؤلف من 36. 000 رجل، ولم يكن عند هنري جيش يستطيع به ملاقاة هذه القوة، ففر إلى ألمانيا، ودخل ربرت العاصمة، وحرر جريجوري، ونهب روما، وخرب نصفها، وأخذ معه جريجوري إلى مونتي كسينو. واشتد غضب العامة في روما على النورمان غضباً لم يستطع معه البابا حليفهم أن يأمن على نفسه في ذلك المكان. وعاد كلمنت إلى روما متظاهراً بأنه البابا، وذهب جريجوري إلى سالرنو، وعقد فيها مجمعاً مقدساً آخر، وحرم هنري مرة أخرى، ثم خارت قواه الجسمية والروحية وقال:"لقد كنت أحب العدالة وأمقت الظلم، ولهذا فإني أموت منفياً". ولم يكن قد تجاوز الثانية والستين من عمره، ولكن النزاع المرير الذي خاض غماره قد حطم أعصابه وهد قواه، ولم تترك له هزيمته الظاهرة على يد الرجل الذي عفا عنه في كانوسا رغبة في الحياة. ومات جريجوري في سالرنو في الخامس والعشرين من مايو عام 1085.

وبعد فلعله كان متغطرساً فوق ما يجب في حبه العدالة، ومتحمساً فوق ما يجب في كرهه للظلم؛ وليس من حق الرجل العملي أن يرى ما في مركز عدوه من عدالة، بل إن ذلك من حق الفيلسوف وحده؛ ولقد استطاع إنوسنت الثالث بعد مائة عام من ذلك الوقت أن يحقق جانباً كبيراً من حلم جريجوري، وهو جمع العالم تحت لواء خليفة المسيح، ولكنه حققه بروح أكثر اعتدالاً من روح جريجوري وبوسائل دبلوماسية أكثر من وسائله حكمة. ومع هذا فإن

ص: 402

إنوسنت لم يظفر بهذا النصر إلا بفضل هزيمة جريجوري، ولقد تعلق هلبراند بأعلى مما يستطيع إدراكه، ولكنه رفع البابوية مدة عشر سنين إلى أعلى ما عرفته من المجد والقوة قبل أيامه. ولقد انتصر في حربه العوان على زواج القسيسين، وهي الحرب التي لم يقبل فيها مهادنة، وبذلك أعد لخلفائه قساوسة لا يدينون بالولاء لغير الكنيسة فزادت بذلك قوتها إلى أقصى حد. وانتهت حروبه ضد بيع الرتب الكهنوتية وحلول غير رجال الدين في المناصب الدينية بنصر وإن جاء متأخراً، ولكن آراءه كانت لها الغلبة في النهاية، وبذلك أصبح أساقفة الكنيسة خدماً طائعين للبابوية. وقد أدى استخدامه للمبعوثين البابوية إلى بسط سلطان البابوات على كل أبرشية في العالم المسيحي، وهو الذي وضع الخطة التي حررت انتخاب البابا من سيطرة الملوك. وسرعان ما رفعت هذه الانتخابات إلى عرش البابوية طائفة متسلسلة متصلة الحلقات، من الرجال الذين أدهشوا العالم بقوتهم وعظمتهم، ولم تمض على موت جريجوري عشر سنين حتى اعترف ملوك العالم ونبلاؤه بإربان الثاني زعيماً لأوربا جميعها في ذلك المزيج المؤلف من المسيحية، والإقطاع والفروسية، والاستعمارية، وهو المزيج المعروف عندنا باسم الحروب الصليبية.

ص: 403

الباب الثاني والعشرون

‌الإقطاع والفروسية

600 -

1200

الفصل الأول

‌نشأة الإقطاع

تجمعت في الستة قرون التي أعقبت موت جستنيان ظروف عجيبة كان لها أثر بطيء في التغير الأساسي الذي حدث فيه الحياة الاقتصادية في عالم أوربا الغربية.

فقد اجتمعت بعض الظروف التي أشرنا إليها من قبل ومهدت السبيل إلى عهد الإقطاع. ذلك أنه لما أصبحت مدن إيطاليا وغالة غير آمنة على نفسها أثناء الغارات الألمانية، انتقل أعيان هذه المدن إلى قصورهم الريفية وأحاطوا أنفسهم بأتباعهم من الزراع، وأسر من "الموالي". وأعوان عسكريين. وزاد حركة التفرق التي تهدف إلى تكوين وحدات اقتصادية شبه مستقلة في بلاد الريف قيام الأديرة التي كان رهبانها يفلحون الأرض ويشتغلون ببعض الصناعات اليدوية؛ ولم تعد الطرق صالحة للاحتفاظ بوسائل النقل وتبادل المتاجر لما أصابها من التخريب بسبب الحروب والإهمال من جرّاء الفقر. ونقصت إيرادات الدولة بسبب كساد التجارة واضمحلال الصناعة، وعجزت الحكومات الفقيرة عن حماية الحياة والملك والتجارة. واضطرت قصور الأعيان في الريف بسبب العقبات القائمة في سبيل التجارة أن تسعى للاكتفاء الذاتي من الناحية الاقتصادية، فأضحى الكثير من الأدوات التي كانت تشترى من المدن تصنع في الضياع الكبيرة منذ

ص: 404

القرن الثالث الميلادي. وتصف لنا رسائل سيدونيوس أبولينارس في القرن الخامس سادة الريف وهم يعيشون عيشة الترف وسط ضياع رحبة يفلحها مستأجرون نصف مستعبدين، وقد أضحوا من ذلك الوقت البعيد يكونون أرستقراطية إقطاعية لها محاكمها الخاصة (1) وجيوشها (2) ولا يختلفون عن البارونات في العهود المقبلة إلا في قدرتهم على القيادة.

وكانت العوامل التي مهدت السبيل إلى قيام الإقطاع بين القرنين الثالث والسادس هي بعينها التي أقامته بين القرنين السادس والتاسع: ذلك أن الملوك المروفنجيين والكارلونجيين أخذوا يؤجرون قوادهم وموظفيهم الإداريين بمنحهم مساحات من الأرض؛ وأضحت هذه الاقطاعات في القرن التاسع وراثية وشبه مستقلة بسبب ما طرأ من ضغط على ملوك الأسرة الكارولنجية. وأعادت غارات المسلمين، والشماليين، والمجر في القرن الثامن والتاسع والعاشر نتائج الغارات الألمانية التي حدثت قبلها بستة قرون وزادتها قوة: فقد عجزت الحكومات المركزية عن حماية الأجزاء النائية عن عواصمها، وأقام الأسقف أو البارون المحلي نظاماً في مقاطعته وهيئة للدفاع عنها، وظل محتفظاً بقوته ومحاكمه الخاصة. وإذا كان معظم المغيرين فرساناً فقد كان الطلب يكثر على المدافعين الذين يملك كل منهم جواداً، وأضحى الفرسان لهذا السبب أهم من المشاة، وهكذا نشأ في فرنسا، وإنجلترا في عهد النورمان، وفي أسبانيا المسيحية، طبقة من الفرسان بين الدوق والبارون من جهة والفلاحين من جهة أخرى، كما نشأت في روما القديمة طبقة من الفرسان بين الأشراف والعامة. ولم ير الشعب حرجاً في هذه التطورات، فقد كانوا يتطلعون إلى وجود نظام عسكري يتولى حمايتهم بما يحيط بهم من الرعب، ومن الهجمات التي قد تنقض عليهم في أي وقت كان، ولهذا الغرض كانوا يبنون بيوتهم أقرب ما تكون إلى قصر البارون المنيع أو الدير الحصين،

ص: 405

ولم يترددوا في قديم ولائهم وخدماتهم إلى سيد يبسط عليهم حمايته القانونية أو دوق يستطيع قيادتهم. وخليق بنا أن ندرك ما عساه يتولاهم من الرعب لو أنه فهموا خضوعهم هذا؛ فها هم أولاء رجال أحرار لم يعودوا قادرين على حماية أنفسهم، يعرضون أرضهم وجهودهم على رجل قوي ويطلبون إليه في نظير ذلك أن يحميهم ويطعمهم؛ وكان من عادة البارون في هذه الأحوال أن يقطع "رجُلَه" مساحة من الأرض يحتفظ بها يعتقد يستطع واهبها أن يلغيه في أي وقت يشاء. وقد أضحى هذا التملك المزعزع الصورة المألوفة لامتلاك رقيق الأرض إياها، فكان الإقطاع بمقتضاه هو خضوع الرجل من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية إلى رجل أسمى منه منزلة في مقابل تنظيم اقتصادي وحماية عسكرية.

وليس من المستطاع تعريف الإقطاع تعريفاً جامعاً مانعاً، فقد كانت له صورة تبلغ المائة عدا في مختلف الأزمنة والأمكنة. وكان منشأه في إيطاليا وألمانيا، ولكن تطوره الخاص به إنما حدث في فرنسا. ولعله بدأ في بريطانيا بتحويل البريطانيين إلى أرقاء أرض على أيدي الفاتحين الأنجليسكسون (3)، ولكن معظم خواصه في تلك البلاد قد جاء بها الغاليون من نورمندية، ولم ينضج هذا النظام الكامل في شمالي إيطاليا أو في أسبانيا المسيحية، ولذلك لم يستطع كبار الملوك في الإمبراطورية الشرقية أن يثبتوا دعائم استقلالهم العسكري والقضائي، أو إقامة نظام الولاء المتدرج الذي بدا في الغرب كأنه من مستلزمات الإقطاع. وبقيت أصقاع كبيرة من أوربا الزراعية خارج نطاق النظام الإقطاعي: كالرعاة وأصحاب الضياع الخاصة بتربية الماشية في بلاد البلقان، وشرقي إيطاليا، وأسبانيا؛ وزراع الكروم في غربي ألمانيا، وجنوبي فرنسا؛ والزراع الأشداء في السويد والنرويج؛ وطلائع التيوتون فيما وراء نهر الإلب؛ وأهل جبال الكريات،

ص: 406

والألب، والأبنين، والبرانس. ذلك أنه لم يكن يتوقع لتكون قارة كأوربا، تختلف أجزاؤها بعضها عن بعض أشد الاختلاف في طبيعة أرضها وأحوالها الاقتصادية، نظام اقتصادي موحد. وحتى في داخل نظام الإقطاع نفسه كانت ظروف التعاقد ومنزلة المتقاعدين تختلف باختلاف الأمم والملاك، والأزمنة المختلفة؛ ولهذا فإن البحث التحليلي الذي سنصفه فيما بعد ينطبق أكثر ما ينطبق على فرنسا وإنجلترا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر.

ص: 407

الفصل الثاني

‌التنظيم الإقطاعي

‌1 - العبد

كان المجتمع في تلك البلاد والأوقات يتكون من الأحرار، ورقيق الأرض، والعبيد. وكان الأحرار يشملون الأعيان، ورجال الدين، والجنود النظاميين، وأصحاب المهن، ومعظم التجار والصناع، والفلاحين الذين يملكون أرضهم ولا يلتزمون إلا بالقليل، أو لا يلتزمون بشيء على الإطلاق، لأي سيد إقطاعي، ولا يستأجرونها من سيد نظير إيجار نقدي. وكان أولئك الفلاحون الملاك يكونون أربعة في المائة من الزراع بإنجلترا في القرن الحادي عشر؛ وكانوا أكثر من هذا عدداً في غربي ألمانيا، وشمالي إيطاليا، وجنوبي فرنسا. والراجح أنهم كانوا يكونون ربع الزراع في أوربا الغربية (4).

ونقص عدد العبيد بازدياد عدد أرقاء الأرض؛ وكان معظم عملهم في إنجلترا في القرن الثاني عشر مقصوراً على الخدمة المنزلية، ولا يكاد يكون لهم وجود في أرض فرنسا الواقعة شمال نهر اللوار، وأخذ عددهم يزداد في ألمانيا في القرن العاشر، حين لم يكن الناس يتحرجون أو يؤنبهم ضميرهم من القبض على الصقالبة الوثنيين ليقوموا بالأعمال اليدوية الحقيرة في الضياع الألمانية، أو ليبيعوهم في البلاد الإسلامية أو البيزنطية. كذلك كان التجار الصقالبة يختطفون السلمين أو اليونان من الأراضي الممتدة على شواطئ البحر الأسود، وسواحل آسية الغربية، وإفريقية الشمالية، ليبيعوهم للعمل في الزراعة أو الخدمة المنزلية، أو خصياناً، أو سراري، أو عاهرات في بلاد الإسلام والمسيحية. وراجت تجارة العبيد في إيطاليا

ص: 408

بنوع خاص، وأكثر الظن أن منشأ ذلك هو قربها من البلاد الإسلامية حيث كان في وسع التجار أن يختطفوهم منها وهم مرتاحو الضمير، فقد كان يلوح لهم أن اختطافهم هو انتقام عادل من المسلمين لغاراتهم على البلاد المسيحية.

وقد خيل غلى الناس، وفيهم رجال الأخلاق الشرفاء، أن هذا النظام الذي ظل قائماً من بداية التاريخ المعروف نظام أبدي لا غنى عنه، ولسنا ننكر أن البابا جريجوري الأول اعتق اثنين من عبيده، ونطق في هذه المناسبة بعبارات خليقة بالإعجاب عما للناس جميعاً من حق طبيعي في الحرية (6)، ولكنه مع ذلك ظل يستخدم مئات العبيد في الضياع البابوية (7)، ويوافق على القوانين التي تحرم على العبيد أن يكونوا قساوسة أو أن يتزوجوا من المسيحيات الحرائر (8). وقد حرمت الكنيسة بيع الأسرى المسيحيين إلى المسلمين" ولكنها أباحت استرقاق المسلمين والأوربيين الذين لم يعتنقوا الدين المسيحي. وكان آلاف من الأسرى الصقالبة أو المسلمين يوزعون عبيداً على الأديرة، وظل الاسترقاق قائماً في أراضي الكنيسة وضياع البابوات حتى القرن الحادي عشر (9)؛ وكان القانون الكنسي يقدر ثروة أراضي الكنيسة في بعض الأحيان بعدد من فيها من العبيد لا بقدر ما تساويه من المال، فقد كان يعد العبد سلعة من السلع كما يعده القانون الزمني سواء بسواء؛ وحرم على عبيد الكنائس أن يوصوا لأحد بأملاكهم، وقرر أن ما قد يكون لهم وقت وفاتهم من مال مدخر يؤول إلى الكنيسة (10)؛ وقد أوصى كبير أساقفة نربونة في عام 1149 بعبيده المسلمين على أسقف بيزيير B (ziers (11) . وكان القديس تومس أكويناس يفسر الاسترقاق بأنه نتيجة لخطيئة آدم، وأنه وسيلة اقتصادية في عالم يجب أن يكدح فيه بعض الناس ليمكنوا بعضهم الآخر من الدفاع عنهم (12). وكانت هذه الآراء متفقة مع أقوال أرسطو، وموائمة لروح عصرها. وكانت القاعدة المقررة في الكنيسة والتي تنص على أن أملاكها لا يمكن النزول عنها إلا بقيمتها الكاملة في السوق (13)، كانت هذه القاعدة شراً على

ص: 409

عبيدها وأرقاء أرضها، فقد علت عنق العبيد والأرقاء في بعض الأحيان أصعب في أملاك الكنيسة منه في أملاك غيرها (14). غير أن الكنيسة مع هذا خطت خطوات متزايدة في تقييد تجارة الرقيق، وذلك بتحريم استرقاق المسيحيين في الوقت الذي كانت المسيحية سريعة الانتشار.

ولم يكن اضمحلال نظام الاسترقاق ناشئاً عن ارتقاء الأخلاق، بل كان نتيجة تطورات اقتصادية. فقد تبين أن الإنتاج الذي يؤدي إليه القسر الجسماني المباشر أقل ربحاً وأشد صعوبة من الإنتاج الذي يكون الحافز عليه هو الرغبة في التملك. ولقد ظل الاسترقاق قائماً وكانت كلمة Servus اللاتينية تطلق على العبيد وعلى رقيق الأرض، ولكن هذا اللفظ تطور مع الزمن واستحال إلى كلمة serf لرقيق الأرض، كما تطورت كلمة villein ومعناها رقيق الأرض فأصبحت villain ومعناها الآن "وغد"، وكما تطورت كلمة Slav ومعناها صقلبي إلى كلمة Slve أي العبد. ولقد كان رقيق الأرض لا العبد هو الذي يصنع الخبز لعالم العصور الوسطى.

‌2 - رقيق الأرض

الأصل في رقيق الأرض أنه رجل يفلح مساحة من الأرض يمتلكها سيد أو بارون يؤجرها له طول حياته ويبسط عليه حمايته العسكرية ما دام يؤدي له أجراً لها سنوياً من الغلات أو العمل أو المال، وكان في وسع هذا المالك أن يطرده منها متى شاء (15)، وإذا مات لا تنتقل الأرض إلى أبنائه إلا بموافقة المالك ورضائه. وكان من حق هذا المالك في فرنسا أن يبيع الرقيق مستقلاً عن الأرض بثمن يعادل أربعين شلناً (حوالي 400؟ ريال أمريكي)؛ وكان مالكه أحياناً يبيعه (أي أنه يبيع عمله) مجزءاً بعض لشخصه وبعضه لآخر؛ وكان في وسع هذا الرقيق في فرنسا أن يحل العقد الإقطاعي إذا أسلم الأرض وكل ما يملك إلى سيده؛ أما في إنجلترا فقد حرم من هذا الحق-حق مغادرة الأرض- وكان الذين يفرون

ص: 410

من أرقاء الأرض في العصور الوسطى يعاد القبض عليهم بنفس الصرامة التي يعاد بها القبض على العبيد في هذه الأيام.

وكانت الواجبات الإقطاعية التي يؤديها رقيق الأرض لمالكها متعددة مختلفة الأنواع، وما من شك في أن تذكرها وحده كان يحتاج إلى بعض الذكاء. (1) كان يؤدي في العام ثلاث ضرائب نقدية. (1) فرضه (ضريبة الرؤوس) وهي ضريبة صغيرة للحكومة عن طريق المالك (ب) وإيجاراً قليلاً (جـ) ونفقة يقررها الملك كما يهوى وتؤدي إليه مرة أو أكثر من مرة في العام (2) وكان يؤدي للمالك كل عام جزءاً من محصوله وماشيته، تبلغ عادة عشرة. (3) وكان عليه أن يعمل عند المالك كثيراً من أيام السنة مسخراً من غير أجر؛ وكان هذا النوع من الواجبات ميراثاً انحدر من النظم الاقتصادية القديمة، حين كان الفلاحون مجتمعين يؤدون بعض الأعمال العامة كتقطيع أشجار الغابات، وتجفيف المستنقعات، وشق القنوات، وإقامة الجسور والحواجز، بوصفها فرضاً واجباً عليهم للمجتمع أو للمالك. وكان بعض الأملاك يطلبون من الرقيق أن يعملوا عندهم ثلاثة أيام كل أسبوع في معظم السنة، وأربعة أيام أو خمسة كل أسبوع في موسم الحرث أو الحصاد؛ وكان من حقهم أن يطلبوا عند الضرورة عدة أيام أخرى لا يؤدون عنها إلا واجبات الطعام. ولم تكن هذه السخرة تفرض إلا على فرد واحد من الذكور في كل أسرة (4) وكان رقيق الأرض أن يطحن حبوبه ويخبز خبزه، ويصنع جعته، ويعصر عنبه في مصنع المالك، أو تنوره، أو خابيته، أو معصرته، وأن يؤدي له في نظير كل عمل من هذه الأعمال أجراً قليلاً (5) وكان يؤدي أجراً آخر ليكون له حق صيد السمك، أو اقتناص الحيوان البري، أو رعى ماشيته وحيوانه الأليف في أراضي المالك (6) وكان عليه أن يرفع قضاياه أمام محاكم صاحب الأرض، وأن يؤدي في نظير هذا رسماً يختلف باختلاف خطر القضية (7) وكان أن يلبي دعوة المالك في الانضمام

ص: 411

إلى فيلقه إذا نشبت الحرب (8) وإذا أسر المال كان على الرقيق أن يشترك في أداء فديته (9) وكان عليه فوق ذلك أن يشترك في تقديم الهدايا القيمة المستحقة لابن المالك إذا رقى إلى مرتبة الفرسان (10) وكان يؤدي للمالك ضريبة عن كل ما يحمله من الغلات ليبيعه في السوق أو المعرض (11) ولم يكن من حقه أن يبيع جعته أو خمره إلا بعد أن يسبقه المال باسبوعين يبيع فيهما هو جعته وخمره (12) وكان عليه في كثير من الأحيان أن يبتاع قدراً معيناً من خمر سيده كل عام؛ فإذا لم يبتعها في الوقت المناسب (كما تقول إحدى مواد قانون الضيعة)"صب المالك قدراً من الخمر يعادل أربعة جالونات فوق سطح الرقيق، فإذا جرى الخمر إلى أسفل كان على الرقيق أن يؤدي ثمنه، وإذا جرى إلى أعلى لم يكن يلزم بأداء شيء ما"(16). (13) وكان عليه أن يؤدي غرامة للمالك إذا ما أرسل هو ابناً له ليتعلم تعليماً عالياً أو وهبه للكنيسة لأن الضيعة بذلك تخسر يداً عاملة (14) وكان يؤدي ضريبة؛ ويحصل على إذن من المالك إذا تزوج هو أو أحد أبنائه من شخص خارج عن نطاق الضيعة لأن المالك يخسر بهذا العمل بعض أبناء الزوج أو الزوجة أو يخسرهم كلهم، وكان لا بد من الحصول على الإذن وهذه الضريبة في بعض المزارع في كل زوج أياً كان (15) ونستمع في حالات فردية عن "حق الليلة الأولى" أي حق السيد في أن يقضي مع عروس رقيق الأرض الليلة الأولى من زواجها، ولكن الرقيق كان يسمح له أحياناً أن "يفتدي" عروسه بأجر يؤديه للسيد (18)؛ وقد بقي حق الليلة الأولى بصورته هذه في بافاريا حتى القرن الثامن عشر (19). وكان المالك في بعض الضياع الإنجليزية يفرض غرامة على الفلاح الذي تأثم ابنته؛ وفي بعض الضياع الأسبانية كانت زوجة الفلاح التي يحكم عليها في جريمة الزنى تؤول أملاكها كلها أو بعضها لصاحب الأرض (20)(16) وإذا مات الفلاح ولم يكن له ولد يقيم معه عاد بيته وعادت أرضه إلى السيد تطبيقاً لحق الحكومة في أن ترث من لا وارث له؛ وإن

ص: 412

كان وارثه ابنة غير متزوجة لم يكن لها أن تستبقي الأرض إلا إذا تزوجت رجلاً يقيم في الضيعة نفسها، وسواء كان للمتوفى وارث أو لم يكن له فقد كان من حق السيد إذا توفي المستأجر أن يستولي في صورة ضريبة التركات على ماشية، أو قطعة من قطع الأثاث أو ثوب من تركه المتوفى، ولقس الأسقفية في بعض الحالات أن يستولي على مثل رسوم الوفاة هذه (21). ولم تكن رسوم الوفاة تحصل في فرنسا إلا إذا لم يكن المتوفى وارث يعيش معه في بيته. (17) وكان عليه في بعض الضياع وبخاصة في ضياع الكنيسة أن يؤدي ضريبة سنوية وضريبة تركات للقائد الذي ينظم وسائل الدفاع الحربي عن المقاطعة.

وليس في وسعنا أن نقدر مجموع الفروض الواجب على رقيق الأرض أداؤها بالنظر إلى هذه الرسوم والضرائب المتنوعة، وهي رسوم وضرائب لم تكن كلها تحصل من كل أسرة. وقد قدرت في ألمانيا في خلال العصور الوسطى بثلثي محصولاته (21)؛ وكانت قوة العادة، التي هي ذات سلطان الأكبر في الأنظمة الزراعية، في صالح رقيق الأرض؛ فقد كانت الرسوم التي يؤديها نقداً وعيناً تنزع على الثبات كما هي على مر القرون (22) رغم ازدياد غلة الأرض وانخفاض قيمة النقد. وكان كثير من القيود والفروض التي تثقل كاهل الرقيق في العصور الوسطى يخففها أو يلغيها تسامح الملاك، أو المقاومة الفعالة من جانب الأرقاء، أو نسيانها على مر الزمان (23). ولعل ما يوصف به رقيق الأرض في العصور الوسطى من بؤس قد بولغ فيه؛ فقد كان الجزء الأكبر من الرسوم التي تنتزع منه بديلاً من الإيجار النقدي الواجب أداؤه للمالك. وضرائب تؤدي للمجتمع لتمكنه من أداء الخدمات والأعمال العامة، ولعل نسبتها إلى دخله كانت أقل من نسبة الضرائب التي نؤديها نحن في هذه الأيام إلى حكومة الاتحاد، وإلى الولاية، والمقاطعة، والمدرسة

(1)

. ولقد كانت حال الفلاح المتوسط في القرن الثامن عشر مماثلة

(1)

يشير الكاتب هنا بطبيعة الحال إلى الولايات المتحدة الأمريكية. (المترجم)

ص: 413

لحال بعض الزراع الذين يقتسمون مع الملاك غلة الأرض التي يزرعونها في الدول الحالية، وكانت بلا شك خيراً من حال صعاليك الرومان في عهد أغسطس (25). ذلك أن المالك في ذلك الوقت لم يكن يعد نفسه مستغلاً، بل كان يعمل بجد في المزرعة، وقلّما كان موفور الثراء. وظل الفلاحون حتى القرن الثالث عشر ينظرون إليه نظرة الإعجاب، ونظرة الحب في كثير من الأحيان؛ وكانوا إذا ترمل السيد ولم ينجب أبناء يوفدون إليه الوفود يلحون عليه بأن يتزوج مرة أخرى، حتى لا يترك الضيعة دون وريث من نسله، فتسوء حالها إذا تعرضت لحرب الوراثة (26). وكان الإقطاع، كما كانت معظم الأنظمة الاقتصادية والسياسية في التاريخ، ما لا بد له أن يكون لمواجهة مستلزمات المكان والزمان وفطرة الناس.

وكان كوخ الفلاح يقام من الخشب الهش الرقيق، ويسقف عادة بالقش والعشب المتلبد، وأحياناً بالحصباء. ولم نسمع قط عن نظام لمقاومة الحريق قبل عام 1250، ومن أجل هذا كانت النار إذا اشتعلت في أحد هذه الأكواخ أتت عليه وعلى كل ما فيه. وكان الكوخ في كثير من الأحيان يتكون من حجرة واحدة ولا يزيد قط على حجرتين، وبه مدفأة يحرق فيها الخشب، وتنور، ووعاء للعجين، ومنضدة، وبضعة مقاعد، وصوان، وصحاف، وآنية، ومجمرة، ومرجل، وحمالة لتعليق الأوعية، وحشية كبيرة من الريش أو القش قرب التنور مبسوطة على الأرض ينام عليها الفلاح، وزوجته، وأبناؤهما، وطارق الليل من الضيوف مختلطين بعضهم ببعض يدفئ بعضهم بعضاً. وكان فناء البيت مأوى الخنازير والدواجن، وكانت النساء يعنين بنظافة البيت بقدر ما تسمح به الظروف، ولكن الفلاحين الكادحين كانوا يجدون في تنظيف البيت مشقة كبيرة. وتحدثنا الأقاصيص أن الشيطان لا يقبل أرقاء الأرض في الجحيم لأنه لا يطيق رائحتهم (27). وكان بالقرب من الدار فضاء مسور للحصان والأبقار، وقد يكون فيه أحياناً خلايا للنحل وخن للدجاج، وبالقرب منه كوم الروث يتكون من فضلات الحيوانات

ص: 414

وأفراد الأسرة. وكان حول هذا كله أدوات الزرع والصناعات المنزلية، وكان قط يحرس البيت من الفئران وكلب يشرف على هذا كله.

وكان الفلاح يرتدي قميصاً نصفياً من القماش أو جلد الحيوان، وسترة من الجلد أو الصوف، ومنطقة وسروالاً، وحذاءً نصفياً أو عالياً، وما من شك في أنه كان يبدو بملابسه هذه شخصاً قوياً لا يختلف كثيراً عن فلاح فرنسا في هذه الأيام. وليس من حقنا أن نصوره في صورة الشخص المظلوم المغلوب على أمره، بل علينا أن نتمثله بطلاً يفلح الأرض، قوياً صبوراً، تحفظ عليه كيانه كما يحفظ كيان كل إنسان غيره عزة كامنة مهما كانت بعيدة عن العقل والمنطق. ولم تكن زوجته أقل منه كدحاً من مطلع الفجر إلى مغيب الشمس، وكانت إلى هذا تنجب له الأبناء، وإذ كان هؤلاء الأبناء قيمة اقتصادية في المزرعة فقد كانت تكثر منهن؛ لكننا مع هذا نقرأ في أقوال بلاجيوس الفرنسيسي (حوالي 1330) أن بعض الفلاحين "كثيراً ما كانوا يمتنعون عن مباشرة أزواجهم كيلا يلدن أبناء محتجين بأنهم يخشون لفقرهم أن يعجزوا عن تربيتهم إذا كثروا"(28).

وكان طعام الفلاح كافياً مغذياً-يتألف من منتجات اللبن، والبيض، والخضر واللحم: وإن كان بعض المؤرخين المتظرفين يرثون له لأنه كان يضطر إلى أكل الخبز الأسود-أي المصنوع من الدقيق غير المنخول (29). وكان يشترك في حياة القرية الاجتماعية، ولكنه لم تكن له متع ثقافية؛ فلم يكن يعرف القراءة، لأنه في وجود رقيق الأرض التي يعرفها إساءة إلى سيده الأمي. وكان يجهل كل شيء عدا الزرع، وحتى هذا لم يكن بارعاً فيه. وكانت طباعه خشنة شديدة، ولعله كان فظاً غليظ القلب. وقد اضطرته أحوال أوربا المضطربة أن يعيش عيشة الحيوان الطيب، وفي الحق أنه استطاع أن يعيش على هذا النحو. فقد كان لفقره شرهاً، ولخوفه قاسياً، وللكبت الواقع عليه عنيفاً، وكان جلفاً لأنه يعامل معاملة الأجلاف. وكان هو عماد الكنيسة، ولكنه كان لديه من

ص: 415

الخرافات أكثر مما كان لديه من الدين، وقد اتهمه بلاجيوس بأنه كان يخدع الكنيسة فلا يؤدي إليها عشورها، ويهمل في مراعاة أيامها المقدسة وأيام صومها؛ ويشكو جوتييه ده كوانسي Gautier de Coincy) في القرن الثالث عشر (من أن رقيق الأرض "ليس له في قلبه من خشية الله أكثر ما في قلب الشاة ولا يأبه مطلقاً بقوانين الكنيسة المقدسة" (30). وكانت له لحظات فكاهته الثقيلة السمجة، ولكنه كان في حقله وفي بيته قليل الكلام، صريح الألفاظ، رزيناً، يشغله كدحه المتواصل وأعماله الكثيرة عن أن يضيع جهوده في الكلام أو الأحلام. وكان رغم خرافاته واقعي النزعة، يدرك تصاريف الأقدار التي لا هوادة فيها ولا رحمة، ويوقن أن الموت آت لا ريب فيه، فقد كان جدب فصل من فصول العام يهلكه هو وحيواناته جوعاً. وقد حدث بين عامي 970 و 1100 سنون قحطاً حصدت الأهلين زرافات في فرنسا، ولم يكن في وسع أي فلاح بريطاني أن ينسى ما حدث من القحط في عامي 1086 و 1125 في إنجلترا المرحة الطروب؛ وقد روع أسقف ترييه في القرن الثاني عشر حين رأى الفلاحين يذبحون جواده ويأكلون لحمه (31). ثم زاد الفيضان والوباء والزلزال الطين بلة وأحالت المسلاة آخر الأمر مأساة.

‌3 - مجتمع القرية

وكان جماعة من الفلاحين يتراوح عددهم بين خمسة وخمسمائة يتألفون من أرقاء الأرض، ونصف الأحرار، والأحرار، يبنون قريتهم حول قصر السيد الإقطاعي في الريف. ولم تكن بيوتهم منعزلة بعضها عن بعض بل كانت متجاورة داخل أسوار القرية لأن في قربها أماناً لهم. وكانت القرية عادة جزءاً من ضيعة واحدة أو أكثر من ضيعة، وكان السيد المالك هو الذي يعين الكثرة الغالبة من موظفيها، ولم يكونوا يسألون إلا أمامه وحده، ولكن الفلاحين كانوا يختارون لهم عمدة

ص: 416

أو رئيساً يتوسط بينهم وبين المالك وينسق نشاطهم الزراعي. وكانوا يجتمعون في السوق في فترات معينة ليتبادلوا السلع، وكان هذا التبادل هو البقية الباقية من التجارة في هذه الضيعة المكتفية بنفسها من الناحية الاقتصادية. فقد كان البيت الريفي ينتج بنفسه ما يلزمه من الخضر وبعض ما يلزمه من اللحوم، ويغزل صوفه أو كتانه، وينسج معظم ما يحتاجه أفراد من الثياب. وكان حداد القرية يصنع الآلات الحديدية، ودابغ الجلود يصنع البضائع الجلدية، والنجار ينشئ الأكواخ ويصنع الأثاث، وصانع العربات يصنع المركبات، والقصابون، والصباغون، والبناءون، وصانعو السروج، والحذاؤون، والصبانون

كان كل هؤلاء يعيشون في القرية أو يأتون إليها ليقيموا فيها بعض الوقت ليصنعوا ما يطلب إليهم صنعه، وكان القصاب العام أو الخباز ينافس الفلاح وزوجته في إعداد اللحم والخبز.

وكانت تسعة أعشار الاقتصاد الإقطاعي قائمة على الزراعة. وقد جرت العادة في فرنسا وإنجلترا في القرن الحادي عشر أن تقسم أرض المزرعة إلى ثلاثة حقول: أحدها يزرع قمحاً أو شيلماً، وثانيها شعيراً أو شوفاناً، ويترك الثالث بوراً. وكان كل حقل يقسم قطعاً مساحة كل منها نحو فدان إنجليزي أو نصف فدان يفصل كل منها على الأخرى حاجز من أرض غير محروثة. وكان موظفو القرية يحددون لكل زارع عدداً مختلفاً من القطع في كل حقل ويحتمون عليه أن يتبع فيها دورة زراعية تجري على خطة يضعها مجتمع القرية. وكان الأهلون مجتمعين يقومون في الحقل بالعمليات الزراعية كلها من حرث وتمهيد، وغرس وبذر، وحصاد. ولعل توزيع قطع الفلاح الواحد بين ثلاث حقول أو أكثر كان يهدف إلى إعطائه نصيباً معادلاً لنصيب غيره من الأراضي غير المتساوية الخصوبة، ولعل هذه القرية التعاونية كانت باقية من شيوعية بدائية لا تزال آثار قليلة منها باقية في هذه الأيام. وكان من حق كل فلاح يؤدي ما عليه من الواجبات الإقطاعية بالإضافة إلى زرع

ص: 417

هذه القطع أن يقطع الأشجار، ويرعى ماشيته، ويجمع الكلأ الجاف من غابات الضيعة، وأرض الكلأ المشاع فيها، "وأرضها الخضراء" وكان له عادة حول كوخه ما يكفي من الأرض لإنشاء حديقة وغرس الأزهار.

ولم يكن علم الزراعة في البلاد المسيحية الإقطاعية يضارع نظيره عند الرومان في عهد كولمبلا Columbella أو عند المسلمين في بلاد العراق أو الأندلس. وكانت أعقاب النبات وغيرها من النفايات تحرق في الحقول لإخصاب التربة وتطهيرها من الحشرات والأعشاب الضارة؛ وكان يتخذ من الطين الغضار

(1)

أو غيره من التراب والجير نوع من السماد البسيط، فلم يكن يوجد في ذلك الوقت مخصبات صناعية، وكان ما يعترض النقل من صعاب يقلل استخدام روث الحيوان، ولهذا كان رئيس أساقفة رون Rouen يلقي أقذار إسطبلاته في نهر السين بدل أن ينقلها إلى حقوله القريبة منها في دفيل Deville، وكان الفلاحون يشتركون في جمع دريهماتهم القليلة لشراء محراث أو زحافة يستعملونهما جميعاً. وظل الثور هو حيوان الجر عندهم حتى القرن الحادي عشر؛ ذلك أن هذا الحيوان أقل نفقة من الحصان في إطعامه، وكان إذا كبرت سنه أكثر منه نفعاً إذا اتخذ طعاماً. ولكن صانعي السروج اخترعوا حوالي عام 100 بعد الميلاد الطوق الجامد الذي يمكن الحصان من جر حمل ثقيل دون أن يختنق؛ وإذا وضع هذا الطوق في عنق الحصان أمكنه أن يحرث في اليوم الواحد ثلاثة أمثال ما يحرثه الثور أو أربعة أمثاله. وإذ كانت سرعة الحرث مهمة في الأجواء المعتدلة الرطبة فقد أخذ الحصان في القرن الحادي عشر يحل محل الثور ويفقد ما كان له من منزلة عالية جعلت الناس يحتفظون به من قبل للسفر، والصيد، والحرب (32). ودخلت السواقي أوربا الغربية في أواخر القرن الحادي عشر، وكانت مستخدمة قبل ذلك بزمن طويل في بلاد الشرق الإسلامية (33).

(1)

المارل ويسمى أيضاً بالثمن وهو نوع من الطين الخزفي غنى بكربونات الكلسيوم. (المترجم)

ص: 418

وكانت الكنيسة تخفف من كدح الفلاح بأيام الآحاد والأعياد التي كان "العمل الوضيع" فيها يعد إثماً من الآثام. وفي ذلك يقول الفلاحون: "إن أثوارنا تعرف متى يحل يوم الأحد، وهي بذلك تأبى أن تعمل في ذلك اليوم"(34). وكان الفلاح إذا فرغ من الصلاة في ذلك اليوم يغني ويرقص، وينسى في ضحكه الريفي العالي أعباء الوعظ والمزرعة الثقال. وكانت الجعة رخيصة الثمن، وكان الحديث حراً طليقاً بذيئاً. وكانت أقاصيص خليعة عن النساء تختلط بالخرافات الرهيبة التي تروي عن القديسين. وكانت ألعاب عنيفة ككرة القدم، والهوكي، والمصارعة، وقذف الأثقال يتبارى فيها رجل مع رجل. وكان قتال الديكة، ومصارعة الثيران كثيري الحدوث، وكان تحمس النظارة يصل غلى غايته حين يحاول رجلان معصوبان بالعينين، مسلحان بالعصى الغليظة أن يقتلا إوزة أو خنزيراً داخل دائرة مغلقة، وكان الفلاحون في بعض الليالي يتزاورون، ويلعبون ألعاباً داخل البيوت، ويحتسون الخمر، وكانوا في العادة يقضون أوقاتهم داخل البيوت، لأن الحارات لم تكن مضاءة، وكانوا يأوون إلى الفراش مبكرين بعد أن تظلم الدنيا بقليل لأن الشموع كانت غالية الثمن. وكانت الأسرة إذا حل الشتاء بليله الطويل تأوي الماشية في الكوخ وترحب بها وتفيد ما تحدثه فيه من الدفء.

وهكذا كان الفلاحون في أوربا يطعمون أنفسهم، وسادتهم، وجنودهم. وقساوستهم، وملوكهم، بكدحهم المتواصل وبسالتهم الصامتة، لا بما تبعثه في نفوسهم الحوافز الصالحة من مهارة وقدرة على الابتكار. وكانوا يجففون المناقع، ويقيمون الجسور والحواجز، ويقطعون أشجار الغابات، ويطهرون القنوات، ويشقون الطرق، ويبنون البيوت، ويوسعون نطاق دائر الحضارة، ويكسبون المعركة القائمة بين الغابة والإنسان. وإن أوربا الحديثة لمن خلقهم وصنع أيديهم؛ ونحن إذا ما شاهدنا الآن تلك السياج الأنيقة، والحقول المنظمة، لا نستطيع أن

ص: 419

نتصور ذلك الكدح الطويل، والمحن الشداد التي دامت عدة قرون، والتي حطمت ظهور الرجال وقلوبهم، والتي سخرت المواد الغفل التي تخرجها الطبيعة السخية على كره، ووضعت بها الأسس الاقتصادية لحياتها الحاضرة.

وكانت النساء أيضاً مجندات في تلك الحرب العوان، فقد كان خصبهن وصبرهن على إنجاب الأبناء وتربيتهم هما اللذين ذللا الأرض. وحارب الرهبان وقتاً ما، ولم يكونوا في حربهم أقل بسالة من غيرهم، فقد أقاموا أديرتهم مراقب أمامية في الفقار، وأنشئوا من الفوضى نظاماً اقتصادياً، وبنوا القرى في البراري، وبفضل هذه الجهود كلها رفرف علم الحضارة على ربوع أوربا في نهاية العصور الوسطى بعد أن كان الجزء الأكبر من أرضها في بداية تلك العصور أرضين غير منزرعة، وغابات خالية من السكان، وبراري مقفرة، ولعل هذا العمل، إذا نظرنا إليه النظرة الصحيحة، هو أشد كفاح، وأنبل نصر، وأعظم عمل تم في عصر الإيمان.

‌4 - المالك

في كل نظام اقتصادي يسيطر الرجال الذين يستطيعون السيطرة على أولئك الذين لا يستطيعونها إلا على الجماد. وكان المسيطر على الرجال في أوربا الإقطاعية هو السيد مالك-وهو باللغة اللاتينية dominus، وبالفرنسية seigneur، وبالرومانية senior وبالألمانية Hetr، وبالإنجليزية lord (أي السيد) وكانت أعماله تنقسم ثلاثة أقسام: أن يوفي وسائل الدفاع العسكري عن أراضيه وسكانها؛ وأن ينظم شئون الزراعة والصناعة والتجارة في تلك الأراضي، وأن يخدم سيده الأكبر أو مليكه في الحرب. ولم يكن المجتمع قادراً على البقاء في هذا النظام الاقتصادي الذي تحطم إلى عناصره الأولى وتمزق لطول عهده بالهجرة، والغارات، والنهب، والحروب - لم يكن المجتمع قادراً على البقاء في هذا النظام

ص: 420

إلا باستقلاله المحلي وكفاية موارده من الطعام والجنود؛ ولهذا أصبح القادرون على تنظيم وسائل الدفاع وفلح الأرض هم سادتها وملاكها بطبيعة الحال، وأضحى امتلاك الأرض وإدارتها مصدر الثراء والسلطان، ونشأ عهد من الأرستقراطية مالكة الأرض دام إلى عهد الانقلاب الصناعي.

وكان المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الإقطاع هو الولاء المتبادل الذي يتمثل فيما على رقيق الأرض أو التابع من التزامات اقتصادية وعسكرية لسيده. وفيما على هذا السيد من واجبات مثلها لسيده الأعلى، وفيما على هذا السيد الأعلى من واجبات للملك، وفيما على الملك من واجبات نحو السيد الأعلى، وفيما على هذا السيد الأعلى من واجبات نحو السيد الأصغر منه، وفيما على هذا السيد الأصغر من واجبات لتابعه أو رقيق أرضه. وكان السيد يجزي أرقاءه على خدمتهم إياه أرضاً يستبقونها طوال حياتهم، تكاد تكون ملكاً لهم. وكان يجيز لهم أن يستخدموا بأجر قليل أفرانه، ومعاصره، وطواحينه، ومياهه، وغاباته، وحقوله؛ وكان يستبدل بكثير من الواجبات التي تتطلب جهودهم العضلية قدراً قليلاً من المال، ويسمح بأن تسقط بعض الواجبات الأخرى على مر الزمان. ولم يكن ينزع الأرض من رقيقه إذا أعجزه المرض أو الشيخوخة-بل كان يعني به عادة ويقدم له المعونة (35). ومن الملاك من كان يفتح أبوابه للفقراء في أيام الأعياد ويطعم كل من يدخلها؛ وكان ينظم وسائل المحافظة على القناطر، والطرق، والقنوات، والتجارة، ويجد الأسواق التي يصرف فيها ما زاد من منتجات الضيعة على حاجتها، والأيدي العاملة للقيام بأعمالها، والمال ليشتري به حاجاتها. وكان يأتي إليها بالسلالات الطيبة من الماشية ليبريها، ويسمح لأرقائه أن يلقحوا ماشيتهم بالذكور الممتازة عنده؛ وكان من حقه أن يضرب رقيق أرضه، أو أن يقتله في بعض الأماكن أو الأحوال، دون أن يخشى عقاباً، ولكن شعوره بمصالحه الاقتصادية كان يكبح جماح وحشيته، وكانت له في أملاكه السلطات القضائية والعسكرية،

ص: 421

وكان يستفيد فوق ما يجب من الغرامات التي تفرضها محاكم الضيعة: ولكن معظم قضاة هذه المحكمة كانوا من أرقاء الأرض أنفسهم، وإن كانت ترهبها سلطة المأمور التابع للشريف. ويتبين لنا من تهافت الأرقاء على هذه الهيئات القضائية لتعفيه من الخدمات نظير ما يقدمه من المال -يتبين لنا من تهافتهم عليها أن قراراتها لم تكن شديدة الظلم. وكان في مقدور كل رقيق يجد في نفسه الجرأة الكافية أن يجهر برأيه في محكمة الضيعة. ومن الأرقاء من كانوا يجدون في أنفسهم هذه الجرأة، وقد أعانت هذه المحاكم بأحكامها الفردية، وبغير قصد منها، على إيجاد الحريات التي قضت آخر الأمر على عهد رقيق الأرض.

وكان في وسع السيد الإقطاعي أن يمتلك أكثر من ضيعة واحدة، وكان يعين في هذه الحالة وكيلاً له يشرف على أملاكه أي على ضياعه كلها، وكان له في كل منها ناظر أو مأمور، وكان هو ينتقل من ضيعة إلى ضيعة ومعه أفراد أسرته ليستهلكوا غلاتها في مواضع إنتاجها؛ وقد يكون له قصر حصين في كل واحد منها. وكان قصر السيد الإقطاعي يرجع نشأته إلى معسكر الفيالق الرومانية المسور (Castellum، Castrum) أو إلى قصر الشريف الروماني الريفي المحصن أو إلى حصن الزعيم الألماني (burg)، وكان يهدف إلى حماية سكانه أكثر مما يهدف إلى راحتهم. وكان أبعد وسائل الدفاع عنه من الخارج خندق عريض عميق: وكانت الأتربة الناتجة من حفره والتي تلقى في الجهة الداخلية منه تكون حاجزاً عالياً تدق فيه عُمد أربعة يرتبط بعضها ببعض ليتكون منها سور متصل. وكان جسر متحرك مثبت طرفه الداخلي يؤدي إلى باب حديدي كبير أو باب آخر شبكي قلبه، يحمي مدخلاً ضخماً في سور الحصن. وكان في داخل هذا السور اسطبلات، ومطبخ، ومخازن، وأبنية صغرى، ومخبز، ومغسل، وكنيسة صغيرة، ومساكن للخدم، مبنية كلها عادة من الخشب. وكان مستأجروا الضيعة يهرعون عادة هم وماشيتهم ومنقولاتهم إلى داخل

ص: 422

هذا السور. ويقوم في وسطه البرج أو بيت المالك؛ وهو في معظم الأحوال برج مربع كبير مقام من الخشب أيضاً؛ ولكنه قبل أن يستهل القرن الثاني عشر بني من الحجارة واتخذ شكلاً دائرياً ليسهل الدفاع عنه أكثر من ذي قبل وكان الطابق الأدنى من هذا البرج مخزناً وجباً، ومن فوقه يسكن المالك وأسرته. وقد نشأت من هذه الأبراج في القرنين الحادي عشر والثاني عشر قصور الأشراف في إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، وهي القصور التي كانت جدرانها الحجرية المنيعة عماد قوة الملاك ضد مستأجريهم وضد الملك.

وكان البرج من داخل مظلماً، ضيقاً محصوراً، قليل النوافذ صغيرها، وقلّما كانت لها ألواح زجاجية. وكان الخيش أو الورق الملون أو المصاريع الخشبية، أو شبابيك الشيش تمنع عنه معظم المطر والكثير من الضوء؛ وكانت الشموع والمشاعل تستخدم في الإضاءة الاصطناعية، ولم تكن هناك في معظم الأحوال إلا حجرة واحدة في كل طابق من أطباقه الثلاثة؛ وكانت السلالم أو الأبواب التي في السقوف، أو الدرج المتعرجة، تصل أطباق البرج بعضها ببعض. وكان في الطابق الثاني البهو الرئيسي، الذي تعقد فيه محكمة المالك والذي يستخدم فضلاً عن ذلك مطعماً، وحجرة لجلوس الأسرة، ونوم معظم أفرادها. وقد يكون في إحدى أطرافها مصطبة مرتفعة، يتناول عليها المالك، وأسرته، ومن يستضيفه طعامهم. أما غيرهم فكانوا يتناولون طعامهم على موائد متنقلة توضع أمام مقاعد في ممرات هذا الطابق. فإذا حان وقت النوم وضعت الحشيات على الأرض أو على أسّرة منخفضة من الخشب في الممرات. وكان أهل الدار كلهم ينامون في هذه الحجرة الوحيدة تحجبهم حواجز بعضهم عن بعض. وكانت الحجرات تطلى بالجير أو بالألوان الزيتية، وتزين بالأعلام، والأسلحة، والدروع. وكان من المستطاع وقاية الحجرة من التيارات الهوائية بالستائر أو الأقمشة المنقوشة. وكانت الأرض تبلط بألواح القرميد أو الحجارة، وتغطى بالقش

ص: 423

أو أغصان الأشجار؛ وكانت تدفأ من وسطها من موقد يحرق فيه الخشب وظلت الدار من غير مدخنة إلى أواخر العصور الوسطى؛ وكان الدخان يخرج من فتحة بالسقف، وكان من خلف المصطبة باب يوصل إلى "مشمسة" يستطيع السيد وأسرته وضيفه أن يستريحوا فيها ويستمتعوا بأشعة الشمس وكان الأثاث هنا أدعى إلى الراحة منه في الحجرات، فقد كان في هذه المشمسة بساط، ومدفأة، وسرير مريح.

وكان مالك الضيعة يرتدي جلباباً يتخذ عادة من الحرير الملون، نقشت عليه رسوم هندسية أو نباتية، وحرملة تغطي الكتفين وغير مشدودة يستطاع رفعها فوق الرأس؛ وسروالاً تحتياً (لباساً) قصيراً من فوقه سروال آخر (بنطلون) قصير أيضاً؛ وجوربين قصيرين يرتفعان إلى الفخذين، وحذاءين طويلين يرتفع طرفاهما الأماميين كأنهما مقدم سفينة، وكان يتأرجح من منطقة جراب وسيف، وتتدلى عادة من عنقه مدلاة على شكل صليب. ولما أراد الأشراف الأوربيون أن يميزوا الفرسان ذوي الخوذ والدروع أحدهم عن الآخر في الحرب الصليبية الأولى (36). أخذوا عن المسلمين عادة (37) تمييز أرديتهم، وحللهم، وألويتهم، ودروعهم، وسروج خيلهم بنقوش خاصة أو شعائر حربية، ومن ثم أنشأت الفروسية لنفسها رطانة عجيبة لا يفهمها إلا الفرسان والقائمون على شئون الفروسية

(1)

. ولم يكن المالك رغم هذه الزينات كلها بالإنسان المتعطل المتطفل، فقد كان يستيقظ في مطلع الفجر، ويصعد إلى برجه ليتبين هل يحدق به خطر، ثم يفطر مسرعاً،

(1)

وسمي اللون الأصفر، والأبيض، والأزرق، والأحمر، والأخضر، والأسود والبنفسجي، على هذا الترتيب نفسه، بالذهبي، والفضي، والسماوي، والوردي، والنباتي والرملي، والأرجواني. وكان الأزرق السماوي لوناً أخذ عن الشرق، ومن ثم كان من أسمائه "ما وراء البحر". وكان الصليبيون يزينون معاصمهم ورقابهم بأساور مزركشة من الفرو-تصبغ عادة باللون الأحمر- (واللفظ الإنجليزي الذي يسمى به هذا اللون وهو gules مشتق من لفظ جولا اللاتيني ومعناه حلق). وكانت الأديرة، والبلدان، والأمم، تستخدم هذه الرموز في القرن الثالث عشر كما تستخدمها الأسر، وكانت الأسر القديمة تضع عادة فوق رموزها أو ألويتها شعاراً موجزاً جامعاً مثل: طاهر السريرة؛ لا بالكثير ولا بالقليل. الخ.

ص: 424

وقد يذهب بعد ذلك للصلاة في الكنيسة، ثم "يتغدى" في الساعة التاسعة صباحاً، ويشرف بعدئذ على أعمال الضيعة الكثيرة، ويشترك بنفسه في بعضها، ويصدر أوامره إلى الناظر ورئيس الخدم، والسائس، وغيرهم من أتباعه، ويستقبل الزوار وعابري السبيل، ثم "يتعشى" معهم ومع أسرته في الساعة الخامسة، ويأوي عادة إلى فراشه في الساعة التاسعة مساء. وكان هذا العمل الرتيب يتغير في بعض الأيام إذا ذهب إلى الصيد، ويتغير كذلك أحياناً قليلة إذا لعب "البرجاس"، ويتغير من حين إلى حين إذا قامت الحرب. وكثيراً ما كان يقيم الولائم، ويتبادل الهدايا الكثيرة مع الأضياف.

ولا تكاد زوجته تقل عنه عملاً. فكانت تلد له كثيراً من الأبناء وتربيهم، وكانت توجه الخدم الكثيرين، وتلكمهم أحياناً، وتلاحظ المخبز، والمطبخ، والمغسل، وتشرف على عمل الزبد والجبن، وعصر الجعة، وتمليح اللحم لحفظه أيام الشتاء، وتعمل في تلك الصناعات المنزلية الكبرى صناعات الخياطة، والحياكة، والغزل، والنسيج والتطريز، التي تعد بها معظم ملابس الأسرة، فإذا خرج زوجها للحرب قامت هي بشئون المزرعة العسكرية والاقتصادية، وكان ينتظر منها أن تمده بحاجاته المالية في أثناء حروبه؛ فإذا وقع في الأسر كان عليها أن تدبر الماء اللازم لافتدائه من كد رقيق أرضه، أو من بيع جواهرها وأدوات زينتها؛ وإذا مات زوجها وليس له ولد ذكر، فقد تؤول إليها سيادة الضيعة. فتصبح هي سيدتها dame domina، ولكنها كان ينتظر منها أن تتزوج مرة أخرى بعد زمن قليل لتهيئ للضيعة والسيد الأكبر ما يلزمهما من الخدمة أو الحماية العسكرية. وكان السيد الأكبر يقصر اختيارها على عدد قليل من الخاطبين القادرين على أداء هاتين المهمتين، وكان في مقدورها أن تصبح في داخل قصرها مسترجلة أو صخابة، وتبادل زوجها لطمة بلطمة. وكانت في ساعات فراغها تلبس على جسمها القوي أثواباً فضفاضة من الحرير ذات أهداب من الفراء، وتحتذي حذاءين

ص: 425

لطيفين، وتغطي رأسها بغطاء جميل وتزدان بالحلي المتلألئة فتصبح بذلك كله قادرة على بعث نشوة الحب أو الأدب في قلوب الشعراء الجوالين.

وكان أبناؤها يتلقون تعليماً يختلف كل الاختلاف عن تعليم الجماعات. لأن أبناء الأشراف قلّما كانوا يرسلون إلى المدارس العامة، ولم يكن في كثير من الحالات يبذل أي مجهود في سبيل تعليمهم القراءة. ذلك أن القراءة والكتابة كانتا تتركان للقساوسة والكتبة الذين كانوا يستأجرون بأقل الأجور، وأن الكثرة الغالبة من فرسان الإقطاع كانوا يحتقرون المعارف العقلية، فقد تعلم جسكلين Guesclin مثلاً، وهو من أجل شخصيات الفروسية، جميع فنون الحرب، وتعود مواجهة كل تقلبات الجو بقلب ثابت، ولكنه لم يعن أقل عناية بتعلم القراءة؛ ولم يحتفظ الأشراف بتقاليدهم الأدبية إلا في إيطاليا وبيزنطية. وكان ابن أسرة الفرسان يرسل في السابعة من عمره، بدل المدرسة، ليكون وصيفاً في بيت شريف آخر يتأدب فيه ويتعلم الطاعة، والأخلاق الطيبة، وطريق اللبس، وقانون الشرف الخاص بالفرسان، ومما تتطلبه المثاقفة والحرب مع حذق، وربما أضاف القسيس المحلي إلى هذا شيئاً من التدريب على القراءة والحساب. وكانت البنات يتعلمن مائة من الفنون النافعة أو الجميلة، ولم تكن الوسيلة إلى هذا تزيد على النظر والعمل. وكن يعنين بشئون الضيوف، والفارس حين يعود من الحرب أو البرجاس؛ فكن يحللن دروعه، ويحضرون حمامه، ويأتين له بالثياب التحتية والفوقية، والعطور، ويخدمنه وقت الطعام بأدب جم وتواضع ورقة مدروسة؛ وكن هن، لا الأولاد، يتعلمن القراءة والكتابة، وكان منهن كثرة يستمعن إلى الشعراء، والقصاصين والمغنين وإلى نثر ذلك الوقت وشعره الإبداعيين.

وكثيراً ما كان بيت الشريف يشتمل على بعض المقطعين أو الأتباع. فأما المُقْطَع فكان رجلاً ينال من الشرف نظير خدمته العسكرية والشخصية،

ص: 426

أو المعونة السياسية، منفعة أو ميزة قيمة-وهي في العادة مساحة من الأرض ومن عليها من أرقاء الأرض، وفي هذه الحال يكون للمقطع حق الانتفاع بالريع، أما الملكية فتبقى للشريف. وكان الرجل الذي يمنعه كبرياؤه أو تمنعه قوته من أن يكون رقيق أرض ولكنه أضعف من أن يعد لنفسه وسائل الدفاع العسكرية، ويؤدي مراسم "الولاء" لشريف إقطاعي: يركع أمامه وهو أعزل عاري الرأس، ويضع يديه في يدي الشريف، ويعلن أنه "رجل"(homme)(وإن كان يحتفظ بحقوقه بوصفه رجلاً حراً)، ثم يقسم على بعض المخلفات المقدسة أو على الكتاب المقدس أن يظل وفياً للسيد إلى آخر أيام حياته. ثم يرفعه السيد، ويقبله، ويمنحه إقطاعية

(1)

، ويعطيه رمزاً لهذه المنحة قشة، أو عصاً، أو حربة، أو قفازاً. ويصبح السيد من ذلك الحين ملزماً بحماية المقطع، وصداقته، والإخلاص له، وتقديم المعونة الاقتصادية والقضائية؛ وكان عليه، كما يقول أحد المحامين في العصور الوسطى، ألا يهين هذا المقطع، أو يغري ابنته أو زوجته (39)، فإذا فعل كان من حق المقطع أن "يلقى القفاز" علامة على التحدي، أي أنه أصبح خارجاً عن الولاء له-ومن حقه مع ذلك أن يحتفظ بإقطاعيته.

وقد يُقطع المقطع "من باطنه" جزءاً من الأرض إلى مقطع أقل منه تكون علاقته به وتبعاته نحوه هي نفس العلاقة والتبعات التي بين المقطع الأصيل والسيد. وكان في وسع المقطع أن تكون له إقطاعيات من عدد من السادة، وأن يكون مديناً لهم "بولاء بسيط" وخدمات محددة، ولكن عليه أن يدين لسيد أعلى "بولاء كامل" وخدمة كاملة في لسلم والحرب. وقد يكون السيد نفسه مهما عظم شأنه، مقطعاً من قبل غيره من السادة إذا أخذ منه ملكاً أو إقطاعية، وقد يكون مقطعاً-أي مالكاً لإقطاعية-من مقطع من سيد آخر. وكان السادة كلهم

(1)

وهي بالإنجليزية tief؛ والكلمة مشتقة من كلمة fendum اللاتينية. وهذه مأخوذة عن كلمة faibu الألمانية القديمة والقوطية، ومعناها الماشية. وهي ذات صلة بكلمة Peco اللاتينية، ولقد أصبح مثلها معنى ثانوياً وهو البضائع أو النقود.

ص: 427

مقطعين من الملك. ولم تكن الرابطة الأولى في هذه الصلات المعقدة هي الرابطة الاقتصادية، بل كانت هي الرابطة العسكرية، فقد كان الرجل يقدم الخدمة العسكرية والولاء الشخصي، أو يدين بهما، إلى سيد، وكان ما يعطي له من الأرض جزاء له على خدمته وولائه لا أكثر ولا أقل. وكان الإقطاع من الوجهة النظرية نظاماً عظيماً تتبادل بمقتضاه الأخلاق الطيبة، يربط رجال المجتمع المعرض للخطر بعضهم ببعض برباط قوامه تبادل أداء الواجبات، والحماية، والإخلاص.

‌5 - الكنيسة الإقطاعية

وكان مالك الضياعة في بعض الأحيان أسقفاً أو رئيس دير؛ وكان كثير من الرهبان يعملون بأيديهم، وكثير من الأديرة والكنائس تنال حظها من أموال العشور التي تجبي من الأبرشية، ولكن المؤسسات الكهنوتية الكبيرة كانت بالإضافة إلى هذا العمل اليدوي وتلك الأموال في حاجة غلى المعونة المالية؛ وكانت تنال الجزء الأكبر من هذه المعونة من الملوك والأشراف على صورة هبات من الأرض أو أنصبه من الإيرادات الإقطاعية. وتراكمت هذه الهدايا حتى أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضي، وأكبر السادة الإقطاعيين في أوربا؛ فقد كان دير فلدا مثلاً يمتلك 15. 000 قصر صغير من قصور الريف، وكان دير سانت جول يمتلك ألفين من رقيق الأرض (40)؛ وكان ألكوين في تور سيداً لعشرين ألفاً من أرقاء الأرض (41). وكان الملك هو الذي يعين رؤساء الأساقفة، ورؤساء الأديرة، وكانوا يقسمون يمين الولاء له كغيرهم من الملاك الإقطاعيين، ويلقبون بالدوق والكونت وغيرهما من الألقاب الإقطاعية، ويسكون العملة، ويرأسون محاكم الأسقفيات والأديرة، ويضطلعون بالواجبات الإقطاعية الخاصة بالخدمة العسكرية والإشراف الزراعي. وكان الأساقفة ورؤساء الأديرة المرتدون الزرد والدروع والمسلحون بالحراب من المناظر المألوفة

ص: 428

في ألمانيا وفرنسا. وكان رتشرد أمير كورنوول في عام 1257 يجهر بأسفل الخلو إنجلترا من "الأساقفة ذوي الحمية المتوقدة والروح الحربية القوية"(42). وهكذا أضحت الكنيسة جزءاً لا يتجزأ من النظام الإقطاعي، فألفت نفسها منظمة سياسية، واقتصادية، وحربية لا منظمة دينية وكفى. وكانت أملاكها "الزمنية" أي المادية، وحقوقها والتزاماتها الإقطاعية بما يجلل بالعار كل مسيحي مستمسك بدينه، وسخرية تلوكها ألسنة الخارجين على الدين، ومصدراً للجدل العنيف ببين الأباطرة والبابوات. وهكذا أصبحت الكنيسة جزءاً لا يتجزأ من نظام الإقطاع.

‌6 - الملك

وكما كانت الكنيسة في القرن الثاني عشر منشأة إقطاعية ذات حكومة دينية غرضها تبادل الحماية، والخدمات، والولاء، تقوم بها طائفة من رجال الدين ويرأسها البابا سيدها الأعلى، كذلك كان الحكم الزمني الإقطاعي يتطلب لكي بلغ تمامه رئيساً أعلى لجميع المقطعين، وسيداً صاحب السلطان على جميع السادة الزمنيين، أي أنه كان في حاجة إلى ملك. وكان الملك من الوجهة الزمنية تابعاً لله، يحكم بما له من حق إلهي، بمعنى أن الله أجاز له أن يحكم، ومن ثم فوضه في أن يحكم. أما من الوجهة العلمية فإن الملك قد ارتفع إلى عرشه بطريق الانتخاب أو الوراثة، أو الحرب. نعم إنهم رجالاً من أمثال شارلمان، وأتو الأول، ووليم الفاتح، وفيليب أغسطس، ولويس التاسع، وفردريك الثاني، ولويس الجميل، وسعوا سلطانهم الموروث بقوة الخُلق أو السلاح؛ ولكن ملوك أوربا الإقطاعية لم يكونوا عادة حكاماً لشعوبهم بقدر ما كانوا مندوبين من قبل الأقيال التابعين لهم؛ فقد كان كبار الأشراف ورجال الدين هم الذين يختارونهم أو يوافقون على اختيارهم، وكان سلطانهم المباشر محصوراً في أملاكهم الإقطاعية أو ضياعهم؛ أما في غير هذه الأملاك والضياع من مملكتهم فقد كان رقيق الأرض أو التابع

ص: 429

الذي أقطع أرضاً يدين بالولاء للمالك الذي يحميه، وقلّما كان يدين بهذا الولاء للملك الذي كانت قوته الصغيرة البعيدة عنه عاجزة عن حماية المراكز الأمامية المشتتة في أنحاء المملكة. وعلى هذا فإن الدولة في النظام الإقطاعي لم تكن إلا ضيعة الملك.

وذهب هذا التفتيت في الحكم إلى أبعد حد في غالة لأن الأمراء الكارلونجيين أضعفوا قواهم بتقسيم الإمبراطورية، ولأن الأساقفة أخضعوهم لسلطان الكنيسة، ولأن هجمات الشماليين على فرنسا كانت أشد هجمات هؤلاء الأقوام عنفاً. ولم يكن الملك في هذا النظام الإقطاعي الكامل إلا "صاحب المقام الأول بين أنداد"؛ لا يعلو عمن يحملون لقب الأمير، والدوق، والمركيز، والكونت إلا قليلاً، ولكنه كان من الناحية العملية شبيهاً "بأشراف الدول هؤلاء"" فقد كان شريفاً إقطاعياً تقتصر موارده المالية على أربع أراضيه، ويضطر إلى الانتقال من ضيعة ملكية إلى أخرى ليحصل على طعامه وشرابه، ويعتمد في الحرب والسلم على المعونة العسكرية أو الخدمة الدبلوماسية التي يؤديها له تابعوه الأغنياء، ولم يكن هؤلاء يتعهدون له بأكثر من أربعين يوماً من العمل المسلح كل عام، وكانوا يقضون نصف وقتهم في الإئتمار به لخلعه. وكان الملك يضطر إلى منح الضيعة في إثر الضيعة لأقوياء الرجال ليكسب بذلك معونتهم أو يجزيهم على هذه المعونة، حتى كان ما بقي من الأرض لملوك فرنسا في القرنين العاشر والحادي عشر أقل من أن يجعل لهم فوق أتباعهم الملاك من السيادة ما يؤمنهم على عرشهم؛ ولما أن أورث هؤلاء الملاك أبناءهم ضياعهم، وأنشئوا لأنفسهم شرطة ومحاكم، وسكوا باسمهم النقود، لما أن فعلوا هذا لم يجد الملك لديه من القوة ما يمنعهم فعله من فعله، ولم يكن في وسعه أن يتدخل في اختصاصات أتباعه القضائية في أملاكهم إلا في قضايا الإعدام التي تستأنف له، ولم يكن من حقه أن يرسل موظفيه أو جباته إلى أملاكهم، أو يمنعهم أن يعقدوا المعاهدات

ص: 430

المستقلة، أو يشنوا الحروب من تلقاء أنفسهم. نعم إن ملك فرنسا كان من الناحية النظرية يمتلك جميع أراضي الملاك الذين يلقبونه سيدهم، ولكنه لم يكن في واقع الأمر إلا مالكاً من كبار الملاك، ولم يكن حتماً أكبرهم، ولم تكن أملاكه في يوم من الأيام أكبر من أملاك الكنيسة.

وكما أن عجز الملوك عن حماية ممالكهم كان سبباً في نشأة نظام الإقطاع، كذلك كان أعجز أمراء الإقطاع عن حفظ النظام فيما بينهم أو إقامة الحكومة الموحدة التي يتطلبها النظام الاقتصادي التجاري، كان هذا العجز سبباً في إضعاف السادة الإقطاعيين وتقوية الملوك، وكان تحمس الأشراف في المنازعات الحربية في أوربا الإقطاعية يلق بهم في غمار الحروب الخاصة والعامة حتى امتصت دماءهم الحروب الصليبية، وحرب الأعوام المائة، وحروب الوردتين، والحروب الدينية التي اختتمت بها هذه الحروب، ومنهم من افتقروا وخرجوا على القانون فصاروا أشرافاً من قطاع الطرق ينهبون ويقتلون كما يشاءون؛ وتطلبت المساوئ التي نشأت من الإفراط في الحرية سلطة موحدة تحفظ النظام في ميع أنحاء المملكة؛ وأوجدت التجارة والصناعة في خارج نطاق الرابطة الإقطاعية طبقة غنية متزايدة العدد؛ ولم يكن التجار راضين عن الضرائب الإقطاعية، وأخطار النقل داخل الممتلكات الإقطاعية، وأخذوا يطالبون بأن تحل حكومة مركزية محل القوانين الخاصة. وتحالف الملك مع هذه الطبقة ومع المدن الآخذة في النماء فأخذت هذه وتلك تمده بما يحتاجه من المال لتأييد سلطانه وتوسيعه؛ وأخذ كل من يحس بالظلم أو الأذى من الأعيان يتطلع إلى الملك لينقذه ويرد الأذى عنه. وكان كبار الملاك من بين رجال الكنيسة أتباعاً للملك عادة وأوفياء له، كذلك كان البابوات يجدون أن اتصالهم بالملك أيسر من اتصالهم بالأشراف المتفرقين الذين لا يستمسكون كل

ص: 431

الاستمساك بالقانون، ولم يمنعهم من هذا الاتصال كثرة ما كان يحدث بينهم وبين الملوك من نزاع. واستطاع ملوك فرنسا وإنجلترا تؤيدهم هذه القوى المختلفة أن يجعلوا سلطتهم وراثية بعد أن كانت بالانتخاب؛ وكانت وسيلتهم إلى هذا أن يتوج الواحد منهم ابناً أو أخاً له قبل وفاته، وارتضى الناس هذه الملكية الوراثية بديلاً من فوضى الإقطاع؛ كذلك كان تحسين سبل الاتصال وازدياد تداول النقد مما جعل فرض الضرائب المنتظمة مستطاعاً، وأمكن الملك بفضل موارده المتزايدة أن يحصل على ما يلزمه من المال لتقوية جيشه وزيادة عدده؛ وانضمت طبقة رجال القانون الناشئة إلى العرش وقوته بفضل ما في القانون الروماني الذي عاد إلى الحياة من نزعة نحو المركزية؛ فلم يحل عام 1250 حتى أيد علماء القانون حق الملك في أن يبسط سلطانه القضائي على كل من في مملكته، وحتى كان جميع الفرنسيين يقسمون يمين الولاء لمليكهم لا لسيدهم الإقطاعي. وبهذا كان لفليب الجميل في آخر القرن الثالث عشر من القوة ما أمكنه من إخضاع أشراف بلاده، بل وإخضاع البابوية نفسها، لسلطانه.

وخفف ملوك فرنسا على أشراف بلادهم مرارة هذا الانتقال بمنحهم ألقاباً وامتيازات في بلاطهم تعوضهم عن حقهم الخاص في سك النقود، وإصدار الأحكام القضائية، وشن الحروب؛ فكان كبار أتباعه يؤلفون حاشية الملك Curia regis، وأصبحوا بذلك رجال بلاط لا أصحاب صولة، واستحالت مراسم قصور الأعيان شيئاً فشيئاً إلى خدمات رسمية يقومون بها في مجالس الملك، وحول مائدته، وفي غرفة نومه. وكان أبناء الأعيان وبناتهم يرسلون إلى قصر الملك ليخدموه أو ليخدموا الملكية بأن يكونوا خدماً خصوصيين أو وصيفات، وليتعلموا آداب البلاط، وبذلك أصبح قصر الملك مدرسة لأبناء الأشراف

ص: 432

وكانت خاتمة الحفلات وأعظمها هي حفلة تتويج ملك فرنسا في ريمس أو إمبراطور ألمانيا في آخن أو فرانكفورت، ففي هذه الحالات كان صفوة الأعيان من جميع البلاد يجتمعون في أثوابهم وعدتهم الفخمة الرهيبة، وكانت الكنيسة تستخدم كل ما في شعائرها من خلفاء وجلال لإحاطة تتويج الحاكم الجديد بجميع مظاهر المجد والجلال، وبهذا أضحت سلطة الملك سلطة إلهية، لا يستطيع أحد أن يعارضها وإلا عد خارجاً صراحة على الدين. وأقبل الملاك الإقطاعيون على بلاط الملك الذي أخضعهم لسلطانه، وأسبغت الكنيسة حقاً إلهياً على الملوك الذين حطموا زعامتها وسلطانها في أوربا بعد ذلك الوقت.

ص: 433

الفصل الثالث

‌شريعة الإقطاع

كانت العادات والشرائع في الغالب شيئاً واحداً في نظام الحكم الإقطاعي حيث كان القضاة والقائمون بتنفيذ القانون المدني عادة أميين. فإذا ما ثارت مشكلة خاصة بالقانون أو العقاب، سئل أكبر أعضاء المجتمع سناً عما جرت به العادة في هذه المشكلة أيام شبابهم، ولهذا كان المجتمع نفسه المصدر الرئيسي للقوانين. نعم إنه كان في مقدور الشريف أو الملك أن يصدر الأوامر، ولكن هذه الأوامر لم تكن قوانين، وإذا ما طلب إلى الناس أكثر مما تجيزه العادات حالت بينه وبين مطالبه مقاومة الشعب عامة جهرة أو صمتاً (43). وكان لفرنسا الجنوبية قانون مكتوب ورثته عن الرومان، أما فرنسا الشمالية حيث كان الإقطاع أكثر تغلغلاً منه في الجنوب، فقد احتفظت في الأغلب الأعم بشرائع الفرنجة، ولما أن دونت هذه القوانين أيضاً في القرن الثالث عشر، أضحى تغييرها، الذي كان من قبل صعباً، أشد صعوبة مما كان، ونشأت مائة قصة قضائية للتوفيق بين هذه القوانين وبين الحقيقة الواقعة.

وكان قانون الملكية الإقطاعي قانوناً فذاً معقداً، يقر ثلاثة أشكال للملكية العقارية:(1) لملكية المطلقة غير المشروطة بشرط ما. (2) الالتزام وهو منح غلة الأرض لا ملكيتها لتابع إقطاعي بشرط أداء الخدمة المفروضة على الشريف و (3) الإيجار-وهو الذي تعطي به غلة الأرض لرقيق الأرض أو مستأجرها على شريطة أن يقوم بأداء الالتزامات الإقطاعية. وكان الملك وحده حسب النظرية الإقطاعية هو الذي يستمتع بالملكية المطلقة، أما كل من عداه، ومنهم أسمى الأشراف مقاماً، فكانوا مستأجرين يمتلكون الأرض على شريطة أن يؤدوا

ص: 434

عنها الخدمة الواجبة. كذلك م تكن ملكية السيد الإقطاعي للأرض مقصورة عليه وحده، بل كان لكل واحد من أبنائه حق موروث في أرض الآباء، وكان له أن يحول دون بيعها (44). وكانت العادة المألوفة أن نؤول الأرض إلى أكبر الأبناء الذكور، ذلك بأن هذه العادة التي لم تكن معروفة في القانون الروماني أو قوانين الأمم المتبربرة أصبحت موائمة لظروف النظام الإقطاعي، لأنها تضع شئون الحماية العسكرية والإشراف الاقتصادي في يد رئيس واحد، يفترض فيه أن أنضج أبناء الأسرة عقلاً. أما الذكور الأصغر منه سناً فكانوا يشجعون على المغامرة لتملك ضياع أخرى في أراضي غير أرض آبائهم، وكان القانون الإقطاعي، رغم ما فرضه على الملكية من قيود، لا يقل عن أي قانون سواه احتراماً للملكية وقسوة في عقاب من يعتدون على حقوقها. مثال ذلك أن أحد القوانين الألمانية كان ينص على أن من يزيل لحاء إحدى أشجار الصفصاف التي تمسك أحد الجسور "يشق بطنه، وتنتزع أمعاؤه، وتلف حول القطع الذي أحدثته"، وكان في وستفاليا قانون ظل معمولاً به حتى عام 1454 يقضي بأن من يرتكب جريمة إزالة أحد معالم حدود أرض جاره، يدفن في الأرض إلى ما تحت رأسه، ثم تسلط عليه أثوار ورجال لم يسبق لهم أن حرثوا أرضاً يحرثون رأسه؛ "وللرجل الدفين أن ينقذ نفسه بخير وسيلة يستطيعها"(46).

وكانت الإجراءات القضائية في القانون الإقطاعي تنبع في الأغلب الأعم قوانين البلاد الهمجية، وتعمل لاستبدال العقوبات القانونية العامة بالثأر الفردي؛ وكانت الكنائس، والأسواق العامة، "ومدن الالتجاء" تمنع حق الأماكن الحرم؛ وكان من المستطاع بفضل هذه القيود أن يوقف الانتقام حتى يتدخل القانون في الأمر. وكانت محاكم الضياع تنظر القضايا التي تقوم بين مستأجر ومستأجر، أو بين مستأجر وسيد؛ أما المنازعات التي تثور بين سيد وتابع له، أو بين سيد وسيد، فكانت تعرض على محلفين "من أعيان البارونية" وهم رجال

ص: 435

يجب ألا يقلوا منزلة عن الشاكي نفسه (47)، وأن يكونوا تابعين للإقطاعية نفسها، وممن يجلسون معه في بهو إقطاعي واحد. وكانت محاكم الأسقفيات أو الأديرة تنظر في قضايا رجال الدين، أما الاستئناف الأعلى فكان يرفع إلى المحكمة الملكية المؤلفة من أعيان الدولة، وكان يرأسها الملك نفسه أحياناً. وكان المدعي والمدعي عليه أمام محاكم الضياع يحبسان حتى يصدر الحكم في قضيتهما. وكان المدعي الذي يخسر القضية المرفوعة أياً كان نوعها يعاقب بنفس العقوبة التي توقع على المدعي إليه إذا ثبتت عليه التهمة. وكانت الرشوة شائعة في جميع المحاكم (48).

وظل التحكيم الإلهي معمولاً به طوال عهد الإقطاع. وقد حدث في عام 1215 أن فرض الاختبار بالحديد المحمي على بعض الخارجين على الدين في كمبريه Cambrai، فلما أصيبوا بحروق سيقوا إلى القائمة التي يشد عليها من يحرقون، ولكن أحدهم أعفي من العقوبة، كما يقولون، لأنه أقر بذنبه، فشفيت يده من فوره، ولم يبق فيها أثر للحروق. وكان انتشار الفلسفة في خلال القرن الثاني، وإقبال الناس من جديد على دراسة القانون الروماني، من أسباب كراهية الناس لهذا "التحكيم الإلهي". واستطاع البابا إنوسنت الثالث أن يقنع مجلس لاتران الرابع في عام 1216 بإلغاء هذا النوع من المحاكمة إلغاءً تاماً، وأدخل هنري الثالث هذا الإلغاء في القانون الإنجليزي (1219)، كما أدخله فردريك الثاني في قانون نابلي (1213)، أما في ألمانيا فقد ظلت الاختبارات القديمة معمولاً بها حتى القرن الرابع عشر، وقاسى سفنرولا Savonarola التحكيم الإلهي بالنار عام 1489 في فلورنس، وعاد هذا التحكيم إلى الوجود في محاكمة الساحرات في القرن السادس عشر (49).

وشجع نظام الإقطاع السنَّة الألمانية القديمة، سنة المحاكمة بالاقتتال، وكانت هذه السنة وسيلة للإثبات من ناحية، وبديلاً من الثأر الفردي من ناحية أخرى.

ص: 436

وأعاد النورمان هذه السنَّة إلى بريطانيا بعد أن أهملت في عهد الأنجليسكسون، ثم ظلت ثابتة في سجل القانون الإنجليزي حتى القرن التاسع عشر (50). ومما يذكر في هذا الصدد أن فارسياً يدعى هرمان Hermann اتهم فارساً آخر يدعى جاي Guy بالاشتراك في اغتيال تشارلس الصالح Charles the God ملك فلاندرز، فلما أنكر جاي التهمة دعاه هرمان إلى مبارزة قضائية، وظل الرجلان يتقاتلان عدة ساعات، حتى فقد كلاهما جواده وخسر سلاحه، فانتقلا من المبارزة إلى المصارعة، واستطاع هرمان أن يبرهن على عدالة التهمة بانتزاع خصيتي جاي من جسمه، ويموت جاي بتأثير هذا الانتزاع (51). ولعل الإقطاعيين قد استحوا من هذه العادات الهمجية ففرضوا قيوداً على حق المبارزة ظلت تتراكم على مدى الأجيال، فكان يطلب إلى المدعي إذا أراد أن يحصل على حق الدعوة إلى المبارزة أن يتقدم بقضية مرجحة الكسب، وكان من حق المدعي عليه أن يرفض القتال إذا أثبت أنه كان في غير مكان الجريمة حين وقوعها؛ ولم يكن لرقيق أرض أن يبارز حراً، أو مجذوم أن يبارز سليماً، أو ابن غير شرعي أن يبارز ابناً شرعياً، وقصارى القول أنه لم يكن يصح لشخص أن يبارز إلا شخصاً مساوياً له في مرتبته. وكانت قوانين بعض المجتمعات تمنح المحكمة حق منع أية مبارزة قضائية متى شاءت، وكان رجال الدين، والنساء، والمصابون بأية عاهة جسمية يعفون من المبارزة، ولكنهم كان لهم أن يختاروا "أبطالاً"-أي مبارزين بارعين-ينوبون عنهم في المبارزة. ولذلك نسمع منذ القرن العاشر عن أبطال مأجورين يحلون محل الذكور المبارزين وإن كانوا صحيحي الأجسام، ذلك بأنه إذا كان الله سيقضي في الأمر حسب عدالة التهمة فقد يبدو أن شخصية المقتتل لا شأن لها بهذا القضاء. وقد عرض أتو الأول مسألة عفة ابنته، والنزاع القائم حول وراثة بعض الضياع، ليفصل فيها أبطال مبارزون (52)، وكذلك لجأ الفنسو العاشر ملك قشتالة إلى هذا النوع من المبارزة ليقرر هي يعمل بالقانون الروماني في

ص: 437

مملكته (53) وكانت السفارات تزود أحياناً بالأبطال المبارزين ليكونوا حاضرين إذا نشب نزاع دبلوماسي يجوز الفصل فيه بالمبارزة. وظل أبطال من هذا النوع يظهرون في الاحتفال بتتويج ملوك الإنجليز حتى عام 1821، وقد أصبحوا قبل ذلك التاريخ من مخلفات الماضي ذوات الشكل الجميل، ولكن هذا البطل المبارز كان يفترض فيه في العصور الوسطى أن يلقى قفازة على الأرض، ويعلن بصوت عال استعداده للمبارزة للدفاع عما للملك من حق إلهي في تاجه (54).

وكان الالتجاء إلى الأبطال مما يحط من شأن المحاكمة بالاقتتال، وبهذا حرمته الطبقات الوسطى الناشئة في التشريعات العامة، واستبدلت به في القرن الثالث عشر القانون الروماني في أوربا الجنوبية، وكثيراً ما نددت به الكنيسة، وحرمه إنوسنت الثالث تحريماً قاطعاً (1215)، ومنعه فردريك الثاني من أملاكه في نابلي، وألغاه لويس التاسع في الأقاليم الخاضعة لحكمه خضوعاً مباشراً (1260)، وحرمه فليب الجميل (1303) في جميع أنحاء فرنسا. هذا والمبارزة لا تستمد أكبر أسباب نشأتها من الاقتتال القضائي بقدر ما تستمده من حق الناس القديم في أن يثأروا لأنفسهم ممن يعتدون عليهم.

وكانت العقوبات الإقطاعية قاسية قسوة وحشية، فكانت الغرامات لا يحصى لها عدد، وكان السجن يستخدم وسيلة لحجز المتقاضين أكثر مما يستخدم عقاباً للمذنبين، ولكن السجن كان في حد ذاته تعذيباً للمسجون لما كان ي حجراته من حشرات، وجرذان، وأفاع (55). وكان يحكم أحياناً على الرجال والنساء بالحِنَاك أو الصلب علناً، وأن يجعل المعاقب هدفاً لسخرية الجماهير، أو يقذف الطعام الفاسد أو يرجم بالحجارة، وكان كرسي الاعتراف يتخذ عقاباً لمن يرتكبون بعض الجرائم أو الثرثارين أو النساء الساقطات، فكان من يحكم عليهم بهذا العقاب يشدون إلى كرسي يربط برافعة طويلة ثم يغرق بهم الكرسي في مجرى مائي أو بركة. وكان الأشداء من المذنبين يحكم عليهم أحياناً بالعمل في السفن،

ص: 438

فكانوا يساقون إليها عراة، ولا ينالون إلا القليل من الطعام الذي لا يغني من جوع، ويشدون إلى المقاعد ثم يرغمون على التجديف فيها حتى تخور قواهم، فإذا امتنعوا أو توانوا جلدوا أشد الجلد وأقساه. وكان الجلد بالسوط أو العصا من العقوبات العادية. وكان جسم المذنب ووجهه أحياناً-يكوي ليوسم. رف ما يرمز للجريمة. وكان الحنث في الإيمان والتجديف يعاقبان أحياناً بحرق اللسان بقطعة من الحديد المحمي. وكان بتر الأعضاء أمراً مألوفاً، فكانت اليدان، أو القدمان، الأذنان، أو الأنف تقطع، والعينان تسلمان وكان من الوسائل التي لجأ إليها وليم الفاتح لمكافحة الجرائم "ألا يقتل إنسان أو يشنق لجريمة ارتكبها، بل أن تفقأ عيناه، وأن تقطع يداه، وقدماه، وخصيتاه، حتى إذا ما بقي شيء من جسمه كان ذلك الشيء الباقي دليلاً على جميع جرائمه وجوره"(56). وقلّما كان التعذيب من العقوبات المعمول بها في العصور الوسطى، وإن كانت الشرائع الرومانية والكنسية قد أعادته إلى الوجود في القرن الثالث عشر. وكان القتل والسرقة يعاقب عليهما أحياناً بالنفي وكان أكثر ما يعاقبان به هو قطع الرأس أو الشنق، وكان عقاب القاتلات أن يدفن وهن على قيد الحياة (57). ويمكن عقاب الحيوان الذي يقتل آدمياً بدفنه حياً أو بشنقه. وكانت المسيحية تدعو إلى الرأفة، ولكن المحاكم الكنسية كانت تعاقب على الجرائم بنفس العقوبات التي توقعها المحاكم المدنية، من ذلك أن محكمة دير سانت جنفييف St، Genevi (ve حكمت بدفن سبع نساء وهن على قيد الحياة عقاباً لهن على السرقة (58). وبعد فلعل كبح جماح الخارجين على القانون في العصور الهمجية، كان يحتاج إلى تلك العقوبات الوحشية، ولكن هذه العقوبات الوحشية نفسها بقيت حتى القرن الثامن عشر، ولم تكن شر أنواع التعذيب هي التي يفرضها الأشراف على القتلة بل كانت هي التي يفرضها الرهبان المسيحيون على الأتقياء المارقين.

ص: 439

الفصل الرابع

‌الحروب الإقطاعية

نشأ الإقطاع ليكون نظاماً عسكرياً لمجتمع زراعي غير مطمئن على نفسه؛ وكانت فضائله حربية أكثر منها اقتصادية. وكان ينتظر من سادة الإقطاع وأتباعهم أن يدربوا أنفسهم على الحرب وأن يكونوا في كل لحظة من اللحظات مستعدين لترك المحراث وانتضاء السيف.

وكان جيش الإقطاع هو الأداة الحكومية الإقطاعية، تنظمه روابط الولاء الإقطاعي وينقسم انقساماً دقيقاً إلى طبقة فوق طبقة حسب درجات الشرف والمنزلة، فالأمير، والمركيز، والكونت، ورئيس الأساقفة، وهم قواد الجيش، والبارون، والسيد، الأسقف، ورئيس الدير، هم رؤساء الفرق، وكان الفرسان Knights أو Chevaliers هم راكبي الخيل، وكان الأتباع هم خدم البارونات أو الفرسان، وكاد حملة السلاح men-at-arms- الجيش المرابط في المقاطعات أو القرى-يحاربون مشاة، وكان من وراء الجيش الإقطاعي، كما نراه في الحروب الصليبية، حشد من الخدم Varlets يتبعون الجند سيراً على الأقدام من غير نظام ولا قواد، وكانوا يساعدون الجيوش على انتهاب المغلوبين، ويريحون المعذبين ممن يسقطون في حومة الوغى، والجرحى من الأعداء بأن يجهزوا عليهم ببلطهم الحربية أو عصيهم الغليظة (59). ولكن الجيش الإقطاعي كان في جوهره وأساسه هو الفارس مكرراً، ذلك أن المشاة قد فقدوا منزلتهم العليا بعد معركة هدريانوبل (378)، ولم يستعيدوا هذه المنزلة إلا في القرن الرابع عشر، وكان الفرسان هم عماد الفروسية، وكان اسمهم وكل ما يتصل به من الأسماء الأخرى Cavalry، Chivalry، Caballero، Chevalier، Cavalier مشتقاً من اسم الفرس.

ص: 440

وكان المحارب في عهد الإقطاع يستخدم الحربة، والسيف، والقوس، والسهم. وقد مد الفارس نفسه ووسع دائرتها حتى شملت سيفه، وأطلق عليه اسماً ينم على إعزازه وحبه، وإن كان مما لا شك فيه أن الشعراء القصاصين هم الذين أطلقوا على سيف شارلمان اسم "المبتهجة" Joyeuse وعلى سيف رولان دورندل Durandel، وعلى سيف الملك آرثر اسم Excalibur. وكان لقوس عدة أشكال فقد تكون قوساً بسيطة قصيرة، تشد عند الصدر، وقد تكون قوساً طويلة تشد حول العين والأذن، وقد تكون قوساً متقاطعة يشد وترها في محز بمقبضها، ثم تطلق فجأة، وقد يستخدم أحياناً زند في إطلاقها، وتنطلق منها قذيفة من الحديد أو الحجر. وكانت القوس المتقاطعة أداة قديمة العهد، أما القوس الطويلة فكان أول من اشتهر باستعمالها إدورد الأول (1272 - 1307) في حروبه مع أهل ويلز. وكانت الرماية أهم عناصر التدريب العسكري في إنجلترا كما كانت من أهم العناصر في ألعاب الفروسية. وكان تطور القوس وإتقانها بداية تدهور النظام الإقطاعي من الناحية العسكرية، ذلك أن الفارس كان يستنكف أن يحارب راجلاً، ولكن الرماة كانوا يقتلون جواده، ويرغمونه على أن ينزل إلى الأرض التي لا تتفق وطبيعته. ووجهت آخر الضربات إلى الإقطاع في القرن الرابع عشر بعد اختراع البارود والمدافع، فقد أمكن بهما قتل الفارس المدرع وتدمير قصره من مساحة لا سلطان للفارس عليها لبعده عنها.

وإذ كان للمحارب الإقطاعي جواد يحمله، فقد كان يسعه أن يثقل نفسه بالدروع، ولهذا كان الفارس الكامل العدة في القرن الثاني عشر يغطي جسمه بالزرد من عنقه إلى ركبتيه-تستره شبكة ذات أكمام لذراعيه، وقلنسوة من الحديد تغطي كل رأس عدا عينيه، وأنفه، وفمه، وكانت ساقاه وقدماه تغطى بدروع من الزرد خاصة بها. فإذا كان في الحرب غطى رأسه فضلاً من غطائه السالف الذكر بخوذة من الصلب ذات وقاية من الحديد تحمي أنفه. وظهرت في

ص: 441

القرن الرابع عشر البيضة ذات الحافة الأمامية البارزة، والدرع المصنوع من الصفائح المعدنية لحماية الفارس من القوس الطويلة أو المتقاطعة، وبقيتا حتى القرن السابع عشر، ثم بطل استعمال الدروع كلها تقريباً ليكون المحارب سريع الحركة. وكان للفارس ترس معلق في عنقه، يقبض عليه بيده اليسرى من سيور مثبتة في سطحه الداخلي، وكان هذا الترس يصنع من الخشب، والجلد، والأربطة الحديدية، ويزدان في وسطه بمشبك من الحديد المذهب، وهكذا كان الفارس في العصور الوسطى قلعة متحركة.

وكانت الحصون عادة هي أهم وسائل الدفاع وأجداها في الحروب الإقطاعية. فكان في وسع الجيش الذي يهزم في ميدان القتال أن يجد له ملجأ داخل أسوار بيت الشريف، وكان في وسعه أن يقف من العدو وقفته الأخيرة داخل البرج. واضمحل علم الحصار في العصور الوسطى لأن ما يلزم لدك أسوار الأعداء من تنظيم وعدد كان أغلى وأشق من أن يطيقه الفرسان أصحاب المكانة العالية، ولكن فن المدمر والجندي الملغم ظل باقياً في تلك العصور. كذلك قل شأن الأساطيل في عالم كانت النزعة الحربية فيه أقوى مما تحتمله موارده. وقد ظلت السفائن الحربية شبيهة بسفائن الأقدمين-تحمل فوق سطوحها أبراج القتال، ويدفعها بالمجاذيف الرجال الأحرار أو الأرقاء المشدودين إليها. وكان ما ينقص الرجل أو السفينة من القوة يستعاض عنه بالزينة، فكان بناء السفن والفنانون في العصور الوسطى يضعون على خشب السفينة طبقة من القار تقيه من تأثير الماء والهواء، ثم يطلونها من فوقه. بالألوان الزاهية الممتزجة بالشمع-بيضاء أو قرمزية أو زرقاء في لون ماء البحر الشديدة الزرقة، وكانوا يذهّبون جؤجؤها وأسيجتها، ويقيمون في مقدمها ومؤخرها تماثيل لأناس، وحيوانات، وآلهة. وكانت الأشرعة تلون بألوان زاهية، بعضها أرجواني، وبعضها ذهبي، وكانت سفينة السيد تنقش عليها شارة درعه.

وتختلف حروب العصور الوسطى عن الحروب القديمة والحديثة في كثرة

ص: 442

عددها، وقلة نفقاتها وعدد من يقتلون فيها. فأما كثرة العدد فكان سببها أن كل سيد كان يدعي لنفسه حق محاربة كل رجل لا تربطه به روابط الإقطاع، كان كل ملك حراً في أن يعمد إلى السرقة الشريفة سرقة أراضي غيره من الحكام. وإذا ذهب الملك أو الشريف إلى الحرب، كان على أتباعه وأقاربه حتى الطبقة السابعة أن يتبعوه ويقاتلوا معه أربعين يوماً، ولا يكاد يوجد يوم من أيام القرن الثاني عشر لم تكن فيه حرب في جزء من أجزاء البلاد المعروفة الآن باسم فرنسا، وكان أسمى ما بلغه الفارس من الصفات أن يكون محارباً بارعاً، وكان ينتظر منه أن يكيل أو يتلقى الضربات القوية في سرور أو جلد، وكانت أعظم أمنية له أن يموت ميتة المحارب في "ميدان الشرف"، لا "ميتة الأبقار" في الفراش (60)، ولقد شكا برثولد الراتسبوني Berthold of Ratisbon من "قلة عدد السادة الذين يصلون إلى السن الصحيحة أو يموتون الميتة الصحيحة"(61) ولكن راتسبون هذا كان من الرهبان.

ولم تكن الحرب شديدة الخطورة، فها هو ذا أردركس فيتالس Ordericns Vitalis يصف معركة بريمول Br (mule (1119) بقوله إنه "لم يقتل إلا ثلاثمائة من الفوارس التسعمائة الذين كانوا يحاربون"(62)؛ وقد أسر أربعمائة فارس في معركة ننشبريه Tinchebrai (1106) ، التي كسب فيها هنري الأول ملك إنجلترا بلاد نورمندية، ولكن فارساً واحداً لم يقتل من فرسان هنري. وفي واقعة بوفين Bouvine (1214) وهي من الوقائع الحاسمة التي كانت أشد معارك العصور الوسطى هو لا قتل مائة وسبعون فارساً من الألف والخمسمائة الذين اشتركوا في القتال (63). وكانت الدروع والقلاع تجعل الميزة في الحرب للدفاع، فقد كان من الصعب أن يقتل الرجل الكامل العدة إلا إذا قطع رأسه وهو راقد على الأرض، ولم يكن هذا العمل مما ترضى عنه الفروسية. كذلك كان أسر الفارس وقبول فديته أدنى إلى الصواب من قتله والتعرض للانتقام الدموي، وها هو ذا فرواسار

ص: 443

Froissart يحزنه أن قتل في إحدى المعارك "كثيرون من الأسرى كان مستطاعاً أن يجني من افتدائهم 400. 000 فرنك (64) ". وكانت قواعد الفروسية، والحكمة المتبادلة بين الفرسان بعضهم وبعض، تحض على مجاملة الأسرى، والاعتدال فيما يطلب من الفداء، وكان من المعتاد أن يطلق سراح الأسير إذا وعد بشرفه أن يعود ومعه فديته قبل وقت معين، وقلّما كان فارس يحنث في هذا الوعد (65). وكان الفلاحون هم الذين قاسوا أشد البلاء في حروب الإقطاع. وكان كل جيش في فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، يغير على أراضي أتباع عدوه وأرقاء أرضه وينهب بيوتهم ويستولي على كل ما لم يجمع من الماشية في داخل أسواره، وكان كثيرون من الفلاحين بعد هذه الحروب يجرون محاريثهم، وهلك الكثيرون منهم جوعاً لقلة ما أنتجته الأرض من الحبوب.

وحاول الملوك والأمراء أن يحتفظوا بالسلم الداخلية في فترات بين الحروب؛ ونجح في هذه المحاولات الأدواق النورمنديون في نورمندية، وإنجلترا وصقلية، وكونت فلاندرز في بلاده، وكونت برشلونة في قطلونية، ونجح هنري الثالث مدى جيل من الزمان في ألمانيا؛ وفيما عدا هؤلاء كانت الكنيسة صاحبة الفضل في تقييد الحروب، فقد أصدرت عدة مجالس كنسية في فرنسا بين عامي 989 و 1050 قراراً بتحديد "سلم إلهية" وأنذرت كل من يستخدم العنف في الحرب مع غير المقاتلين بالحرمان من حظيرة الدين. ونظمت الكنيسة الفرنسية حركة تدعو إلى السلام في عدة مراكز مختلفة، وأقنعت كثيرين من الأشراف بأن يمتنعوا عن الحروب الخاصة بين بعضهم وبعض، ثم لم تكتف بهذا بل أقنعتهم فوق ذلك أن يشتركوا معها في تحريمها، وقام فلبرت أسقف تشارتر Fulbert of Chatrres (960 - 1028) يحمد الله في ترنيمة ذائعة الصيت لوجود فترة من السلام غير عادية. ورحبت الجماهير ترحيباً حماسياً بهذه الحركة، وأخذ الصالحون ينبئون بأنه لن تمض خمس سنين حتى يكون جميع سكان العالم

ص: 444

المسيحي قد وافقوا على برنامج السلام (66)، وأعلنت مجالس الكنيسة الفرنسية من عام 1207 وما بعدها "هدنة الله"، ولعلها في هذا كانت تذكر تحريم المسلمين للحرب في الأشهر الحرم فقالت: على الناس جميعاً أن يمتنعوا عن أعمال العنف طوال أيام الصوم الكبير، وفي موسم الحصاد وقطاف الكروم (من 15 أغسطس إلى 11 نوفمبر)، وفي أعياد محددة، وفي جزء من كل أسبوع-كان عادة من مساء الأربعاء إلى صباح الاثنين، وأجازت هذه الهدنة في صورتها النهائية قيام الحروب الخاصة أو الحروب الإقطاعية ثمانين يوماً في السنة. وقد أثمرت هذه النداءات والإنذارات ثمرتها، فقضى على الحروب الخاصة شيئاً فشيئاً بتعاون الكنيسة، وبقوة الملوك المتزايدة، ونشأة المدن والطبقات الوسطى، واستنفاد النشاط العسكري في الحروب الصليبية، وأضحت هدنة الله في القرن الثاني عشر جزءاً من القانون المدني والقانون الكنيسة في أوربا الغربية، وحرم مجلس لاتران الثاني (1139) استخدام العدد الحربية ضد الناس (67)، واقترح جرهوه الريخززبرجي Gerhoh of Reichersburg أن يحرم البابا جميع الحروب بين المسيحيين بعضهم وبعض، وأن يُعرض كل ما يشجر من النزاع بين الحكام المسيحيين على التحكيم البابوي (68). ورأى الملوك أن الوقت لم يحن بعد لتنفيذ هذا الاقتراح، فكانوا يثيرون الحروب القومية أكثر من ذي قبل كلما نقصت الحروب الفردية. وكان البابوات أنفسهم في القرن الثالث عشر، وهم يحركون البيادق البشرية ليظفروا بالسلطان، وكان هؤلاء البابوات يستخدمون الحرب أداة من أدوات السياسة.

ص: 445

الفصل الخامس

‌الفروسية

من العادات الألمانية القديمة عادات التعليم العسكري، بعد أن تأثرت بأساليب المسلمين في بلاد الفرس، والشام، والأندلس وبالأفكار المسيحية المتصلة بالخشوع والأسرار المقدسة، من هذه كلها نشأ نظام الفروسية، وهو نظام لم يبلغ حد الكمال ولكنه نظام نبيل كريم.

كان الفارس شخصاً شريف المولد-أي ينتمي إلى أسرة تحمل لقباً شريفاً وتمتلك أرضاً. ولم يكن من حق جميع أصحاب "الأصول"(أي الذين يمتازون بانتسابهم إلى أسر نبيلة) أن يختاروا فرساناً أو يحملوا هذا اللقب، فالأبناء غير الابن الأكبر-عدا أبناء الملوك-لم يكن لهم في العادة إلا أملاك قليلة لا تفي بالنفقات التي تتطلبها الفروسية، ولهذا يبقى هؤلاء ضمن الأتباع إلا إذا حصلوا بجهودهم على أراضي وألقاب جديدة.

وكان الشاب الذي يتطلع إلى أن يكون فارساً يخضع لنظام تأديبي شاق طويل. فكان يعمل وهو في السابعة أو الثامنة من عمره وصيفاً عند أحد السادة، حتى إذا بلغ الثانية عشرة أو الرابعة عشرة أصبح تابعاً لهذا السيد؛ يقوم بخدمته على مائدة الطعام، وفي غرفة نومه، وفي قصر الضيعة، وفي المثاقفة أو القتال، ويقوم جسمه وروحه بالتمارين والألعاب الشاقة الخطرة؛ ويتعلم بالتقليد والتجربة كيف يستخدم أسلحة الحرب الإقطاعية. فإذا أتم تدريبه سلك في نظام الفرسان حفل يشمل مراسم رهيبة يبدؤها الطالب بالاستحمام بوصفه رمزاً للتطهير الروحي ولعله كان أيضاً رمزاً للتطهير الجسمي. وكان لهذا يمكن أن يسمى "فارس الحمام" تمييزاً له من "فرسان السيف" الذين تلقوا لقب الفروسية في ميدان

ص: 446

القتال جزاء عاجلاً لهم على بسالتهم. وكان يرتدي في هذا الاحتفال قميصاً أبيض، من فوقه رداء أحمر ومعطف أسود، يمثل أولها ما يرجى أن يتصف به من نقاء الخلق، وثانيهما الدم الذي قد يسفكه في سبيل الشرف أو في سبيل الله، وثالثها الموت الذي يجب أن يكون متأهباً لملاقاته بلا وجل. وكان يصوم يوم كاملاً ثم يقضي ليلة يصلي في الكنيسة، ويعترف بذنوبه إلى أحد القسيسين، ثم يحضر مراسم القداس، ويأخذ العشاء الرباني، ويستمع إلى موعظة عن واجبات الفارس الخلقية، والدينية، والاجتماعية، والحربية، ويتعهد في خشوع أن يؤديها كلها. فإذا فعل هذا تقدم إلى المذبح ومعه سيف يتدلى من عنقه، فيرفع القس السيف ويباركه ويضعه مرة أخرى فوق عنقه، ثم يلتفت الطالب إلى الشريف الجالس الذي يريد أن يتلقى منه لقب الفروسية، فيسأله هذا السيد ذلك السؤال الصارم: "لأي غرض تريد أن تنضم إلى هذا النظام؟ إن كنت تبغي المال، أو الراحة، أو الشرف؛ دون أن تعمل ما يشرف الفروسية؛ فأنت غير خليق بها، وستكون منزلتك في نظام الفروسية كمنزلة القس المتاجر بالرتب الكهنوتية في الأسقفية. ويكون في الطالب وقتئذ متأهباً لأن يجيبه برد يؤكد له استعداده للقيام بما يفرضه عليه نظام الفروسية. وحينئذ يتقدم إليه فرسان أو سيدات يلبسونه زرد الفروسية من درع على صدره وفي ذراعيه، وقفازين من زرد في يديه، ومهمازين في حذاءيه

(1)

. ثم يقوم الشريف ويلطمه ثلاث لطمات بعرض السيف على عنقه أو كتفه، وقد يلطمه لطمة أخرى على خده، وهي كلها رموز لآخر الإهانات التي يستطيع أن يتلقاها دون أن يثأر لنفسه، ثم يمنح رتبة الفروسية بهذه الصيغة: باسم الله، والقديس ميخائيل، والقديس جورج أجعلك

(1)

وكان المهمازان المصنوعان من الذهب هما علامة الفارس، والمصنوعان من الفضة علامة تابعة، وإذا قيل عن إنسان أنه "كسب مهمازيه"(الذهبيين) كان معنى هذا أنه بلغ رتبة الفروسية.

ص: 447

فارساً". ثم يتسلم الفارس الجديد حربة؛ وخوذة، وجواداً؛ فيحكم خوذته على رأسه، ويقفز فوق جواده، ويهز حربته، ويلوح بسيفه، ويخرج من الكنيسة راكباً، ويوزع الهدايا على خدمه، ويولم وليمة لأصدقائه.

وكان من حقوقه وامتيازاته وقتئذ أن يخاطر بحياته في البرجاس الذي يتدرب فيه أكثر من ذي قبل على المهارة، والجد، والجرأة. وكانت بداية البرجاس في القرن العاشر، وكان أكثر ما ازدهر في فرنسا، وهو الذي سما ببعض العواطف الثائرة وضروب النشاط التي أفسدت حياة رجال الإقطاع. وقد يدعو إليه الملك أو شريف عظيم على لسان مناد للاحتفال بتنصيب فارس؛ أو زيارة مليك، أو زواج فرد من أفراد الأسرة المالكة. وكان الفرسان الذين يرغبون في الاشتراك في البرجاس يأتون إلى البلدة التي سيعقد فيها، ويعلقون أسلحتهم خارج نوافذ حجراتهم، ويثبتون دروعهم في جدران الحصون؛ والأديرة، وغيرها من الأماكن العامة. وكان النظارة يبحثون هذه كلها، وكان لهم أن يتقدموا بما لديهم من الشكاوي الخاصة بما أخطأ فيه كل متقدم للاشتراك في اللعب، فيستمع موظفو البرجاس إلى القضية ويحكمون بعدم أهلية المذنب من المتقدمين، وفي هذه الحالة تكون "على ترسه أو درعه لطخة". ويفد إلى هذا الجمع الحاشد المتحفز تجار الخيول ليعدوا الفارس للبرجاس، وبائعو الخردوات ليحلوه هو وجواده بالحلل الجميلة، والمرابون لافتداء من يسقطون في الحلبة، والعرّافون، واللاعبون على الحبال ونحوها، والممثلون الصامتون، والشعراء الجائلون والمغنون، والعلماء المتنقلون، والنساء الخليعات، والسيدات ذوات المقام السامي. وكان الحادث كله احتفالاً بهيجاً فيه الغناء والرقص؛ ومواعيد اللقاء، والمشاجرات، والمراهنات التي لا حد لها على المباريات.

وقد يدوم البرجاس إلى ما يقرب من أسبوع، وقد لا يدوم إلا يوماً واحداً. وقد قسمت الأيام في برجاس عقد في عام 1285، فكان يوم الأحد يوم اجتماع

ص: 448

وعيد، وخصص يوما الاثنين والثلاثاء للمثاقفة، ويوم الأربعاء للراحة، ويوم الخميس للبرجاس نفسه الذي أطلق اسمه على الحفل بوجه عام. وكانت حلبة الصراع ميدان بلدة أو فضاء في أحد أطرافها تحيط به من بعض نواحيه مقاعد وشرفات يشاهد منها السراة الحفل وهم مرتدون أفخر ما كان في العصور الوسطى من حلل. أما السوقة فكانوا يشاهدون الألعاب وهم وقوف حول الحلبة، وكانت المقاعد تزدان بالنسيج المزركش، والبيارق المستطيلة، والدروع المنقوش عليها شارات الأسر الشريفة. وكان الموسيقيون يبدءون المباريات بالأنغام الموسيقية، ويحيون بالنغمات العالية أبرع ما في سباق من ضربات. وكان النبلاء والنبيلات ينثرون النقود على السوقة الوقفين في الميدان، فكان هؤلاء يتلقفونها وهم يصيحون "هبات! " و "مرحى! ".

ويدخل الفرسان قبل المباراة الأولى حلبة البرجاس فيمشون إلى الميدان في حللهم وعددهم الفاخرة متباهين في خطاهم، ومن ورائهم أتباعهم على ظهور الجياد تقودها في بعض الأحيان بسلاسل من الفضة أو الذهب السيدات اللائي سيحارب الفرسان تمجيداً لهن. وكانت العادة المألوفة أن يحمل كل فارس ترسه، وخوذته أو حربته، ولفاعة أو قناعاً، أو دثاراً، أو شريطاً انتزعته السيدة المختارة من ثيابها.

وكانت المثاقفة معركة فردية بين فارسين يتباريان. وكانا يعدوان بجواديهما متقابلين ويرمي كلاهما الآخر بحربته المصنوعة من الصلب. فإذا ما اضطر أحد المتبارين أن ينزل عن جواده فإن قواعد المباراة تتطلب أن يترجل الآخر، وبهذا تدور المعركة بينهما راجلين وتستمر حتى يصيح أحدهما طالباً وقف القتال أن يضطر إلى الخروج منه لأنه تعب، أو جرح، أو مات، أو حتى يطلب القضاة أو الملك وقفه. ثم يمثل المنتصر أمام القضاة، ويتلقى في وقار جم جائزة منهم أو من سيدة جميلة. وكانت تشغل عدة أدوار من هذا النوع اليوم كله. وكان الحفل يختم باقتتال حق يصطف فيه الفرسان المتبارون جماعات متقابلة ويقتتلون اقتتالاً حقيقياً،

ص: 449

وإن كان يدور في العادة بأسلحة مثلمة، وقد أدى قتال من هذا النوع دار في نيوس Neuss (1240) إلى موت نحو ستين فارساً. وفي أمثال هذه المباريات كان يؤسر البعض، وتؤخذ لفدية ممن يؤسرون كما يحدث في الحروب الحقيقية سواء بسواء. وكانت جياد الأسرى وأسلحتهم غنيمة للمنتصرين؛ فقد كان الفرسان يحبون المال أكثر مما يحبون القتال نفسه وقد ورد في مجموعة الأقاصيص الفرنسية التي كتبت في فرنسا بين منتصف القرن الثاني عشر وآخر القرن الثالث عشر

(1)

أن أحد الفرسان احتج على تحريم الكنيسة لألعاب البرجاس وقال إن هذا التحريم إذا نفذ حرمه من الوسيلة الوحيدة التي يكسب بها عيشه (69). فإذا انتهت جميع المباريات اجتمع الأحياء من الفرسان والنبلاء من النظارة في حفل ليلي تعد فيه الولائم، ويدور فيه الرقص والغناء، ويستمتع فيه الفرسان الظافرون بتقبيل أجمل النساء، ويستمع الحاضرون إلى القصائد والأغاني التي تؤلف تخليداً لانتصارهم.

وكان يطلب إلى الفارس من الوجهة النظرية أن يكون بطلاً، وسميذعاً

(2)

وقديساً، وإذا كانت الكنيسة حريصة على ترويض الشرسين من الفرسان، فقد أحاطت نظام الفروسية بمراسيم وأيمان دينية. فقد كان الفارس يقسم أن يكون صادقاً في القول؛ وأن يدافع عن الدين، ويحمي الفقراء والمساكين، وينشر لواء السلم في ولايته، ويقاتل الكفرة. وكان مديناً لسيده الإقطاعي بولاء يرتبط به أكثر من ارتباط الآباء بحب الأبناء، ويتعهد أن يكون حارساً للنساء، مدافعاً عن عفتهن، وأن يكون أخاً لجميع الفرسان يبادلهم المجاملة وضروب المساعدة. وقد

(1)

هي المعروفة باسم Fabliux ويبلغ عددها نحو مائة قصة معظمها تهكمي. (المترجم)

(2)

ورد في القاموس المحيط للفيروزبادي: السميذع: السيد، الكريم، الشريف، السخي، الموطئ الأكتاف؛ والشجاع. ولعل هذه أقرب ترجمة لكلمة gentleman وقد وردت في بعض أشعار المعتمد. (المترجم)

ص: 450

يحدث في إبان الحروب أن يقاتل الفارس غيره من الفرسان، فإذا أسر واحداً منهم عامله معاملة الضيف. وهكذا كان الفرسان الفرنسيون الذين أسروا في كريسي Cr (cy وبواتييه يعيشون أحراراً مستمتعين بالراحة والاطمئنان في ضياع من أسروهم من الفرسان الإنجليز، يشتركون مع مضيفيهم في الولائم والألعاب، وظلوا كذلك حتى افتدوا (70). ورفع الإقطاع الشرف الأرستقراطي وطالب النبل عند الفارس إلى منزلة عالية علواً لا يستطيع أن يدركه ضمير السوقة-فكان يقسم بألا يتخلى عن البسالة الحربية والوفاء الإقطاعي؛ وأن يضع نفسه إلى أقصى حد في خدمة جميع الفرسان، وجميع النساء، وجميع الضعفاء والفقراء. وهكذا عادت الرجولة Virtus إلى معناها الذي كان لها عند الرومان بعد أن ظلت المسيحية ألف عام تؤكد الفضائل النسائية، وبهذا كانت الفروسية، رغم هالتها المسيحية، انتصاراً للأفكار الألمانية، والوثنية، والعربية على المبادئ المسيحية، ولقد كانت أوربا التي توالت عليها الهجمات من كل ناحية في مسيس الحاجة إلى الروح الحربية مرة أخرى.

على أن هذا كله كان هو الفروسية من الوجهة النظرية، وكان عدد قليل من الفرسان يستمسكون به في حياتهم، كما كان عدد قليل من المسيحيين يسمون إلى المستوى الرفيع الشاق من إنكار الذات. ولكن الطبيعة البشرية التي ولدت بين الغابات والوحوش قد لوثت هذا المثل الأعلى وذاك؛ فهذا البطل الذي قاتل يوماً ما ببسالة في ألعاب البرجاس أو في ميدان القتال قد يكون في يوم آخر سفاحاً غادراً، وقد يفخر بشرفه كما يفخر بالريشة التي في خوذته، ويفعل ما فعله لانسلكو Lancelot، وترسترام Tristram، وغيرهما ممن هم أكثر تأصلاً في الفروسية فيحطم بالزنى الأسر الطيبة. وقد يتشدق بحماية الضعفاء، ثم يقتل الفلاحين العزل بحد السيف، وكان يعامل العامل اليدوي الذي يعتمد عليه حصنه ومجده معاملة ملؤها الازدراء، كما يعامل الزوجة التي أقسم أن يعزها ويحميها بغلظة

ص: 451

في كثير من الأحيان وبوحشية في بعضها (71). وقد يستمع إلى الصلاة في الصباح؛ ويسطو على كل كنيسة في آخر النهار، ويشرب حتى يفقد وعيه في المساء. وهذا ما وصف به جلداس Gildas الفرسان البريطانيين الذين كان يعيش بينهم في القرن السادس، وهو القرن الذي يرى بعض الشعراء أن آرثر Arthur " والطبقة العظيمة من فرسان المائدة المستديرة" كانوا يعيشون في خلاله (72). وكان الفارس يتحدث عن الولاء والعدالة ولكنه يملأ صفحات فرواسار Froissart بالغدر والعنف. وبينما كان الشعراء الألمان يتغنون بالفروسية، تراهم لا ينقطعون عن الكلمات، وإحراق الدور، وقطع الطريق على المسافرين البريئين (73). ولقد دهش المسلمون من فظاظة الصليبيين وقسوتهم، وحتى بوهمند Bohemund العظيم نفسه، لما أراد أن يظهر احتقاره لإمبراطور الروم، بعث له ببضاعة من الأنوف والإبهامات المقطعة (74). لقد كان هؤلاء شواذ ولكنهم كانوا كثيرين. ولسنا ننكر أن من السخف أن ننتظر من الجنود أن يكونوا قديسين، ذلك أن إجادة القتيل تتطلب فضائلها الفذة، وهؤلاء الفرسان الغلاظ هم الذين طردوا الصقالبة من ضفاف نهر الأودر، والمجر من إيطاليا وألمانيا، وهم الذين رضوا أهل الشمال فكانوا هم النورمان وجاءوا بالحضارة الفرنسية إلى إنجلترا على شفار السيوف، فكانوا ما لا بد أن يكونوا.

وكان ثمة عاملان هما اللذان خففا من همجية الفروسية، ونعني بهما النساء والمسيحية، فأما المسيحية فقد أفلحت إلى حد ما في تحويل تيار الخصام في الفروسية إلى الحروب الصليبية، ولعلها استمدت العون في هذا التحويل من عبادة مريم العذراء أم المسيح، فقد رفعت هذه العبادة منزلة الفضائل النسائية فخفضت بذلك من حدة تحمس الرجال الأشداء الميالين إلى العنف. ولكن لعل النساء اللائي يعشن على ظهر الأرض، واللائي لهن تأثير كبير في الحواس وفي الأرواح، قد كان لهن أثر كبير من أثر مريم العذراء في تحويل الفارس المحارب إلى سيد كريم

ص: 452

الأخلاق. وكثيراً ما حرمت الكنيسة ألعاب البرجاس، ولكن الفرسان كانوا يغفلون أوامرها ويظهرون ابتهاجهم بهذا الإغفال، وكانت النساء يحرضنه، ولم يكن الفرسان يتجاهلون وجودهن، وكانت الكنيسة غير راضية عن الدور الذي تضطلع به النساء في حفلات البرجاس وفي الشعر، وقام الصراع بين أخلاق السيدات النبيلات وبين التعاليم الأخلاقية التي تدعو إليها الكنيسة، وانتصرت السيدات وانتصر الشعراء في صراع عالم الإقطاع.

لقد وجد الحب العذري، الحب الذي يجعل من المحبوب مثلاً أعلى، في كل عصر من العصور على الأرجح، وكان في شدته يتناسب إلى حد ما مع ما يوضع من العقبات من الزمن بين الشهوة وإشباعها. وقلّما كان هذا الحب من أقدم العصور إلى عصرنا الحاضر سبب الزواج، وإذا ما وجدنا هذا الحب منفصلاً كل الانفصال عن الزواج في عصر ازدهار الفروسية، وجب علينا أن نعد هذه الحال أقرب إلى الطبيعة وإلى الأحوال السوية من أحوالنا الحاضرة. لقد كانت النساء في معظم العصور، وبخاصة في عصر الإقطاع، يتزوجن الرجال لما لديهم من المال، ويعجبن بغير أزواجهن لما يتمتعون به من سحر وجمال. وكان الشعراء لفقرهم يتزوجون من الطبقات الدنيا ويحبون من طبقات بعيدة المنال، ويتوجهون بأجمل أغانيهم إلى السيدات اللاتي لا يرجون أن يصلوا إليهن. وكان الفارق بين المحب وحبيبه في العادة كبيراً إلى درجة يرى معها الناس أن أحفل الشعر بالعواطف الجياشة لا يعدو أن يكون تحية ظريفة للمحبوب. وكان السيد الإقطاعي المهذب يكافئ الشعراء الذين يتشببون بزوجته، وشاهد ذلك أن الفيكونت فو Vaux ظل يستضيف الشاعر بير فيدال Piere Vidal بعد أن تغزل فير بامرأته-بل بعد أن حاول أن يغويها (75) -وإن كانت هذه درجة من المجاملة لا يصح للشعراء عادة أن يجرءوا عليها. وكان الشاعر المحب يرى أن الزواج، إذ يتيح أكبر فرصة للمتعة بأقل قدر من الإغراء، قلّما يوجد الحب

ص: 453

العذري أو يستبقيه بعد أن يوجد، ويبدو أن دانتي التقي نفسه لم يحلم قط بأن يقرض الشعر الغزلي في زوجته، ولم يجد ما يعيبه في التغزل بغيرها من النساء المتزوجات منهن وغي المتزوجات وكان الفارس يرى ما يراه الشاعر من أن حب الفارس يجب أن تختص به سيدة أخرى غير زوجته، وكانت هذه السيدة عادة زوجة فارس آخر (76). وكانت معظم الفرسان يسخرون من هذا الحب العذري، ويعودون بعد وقت ما إلى أزواجهم، ويسلون أنفسهم بالحروب. وقد نسمع عن فرسان يصمون آذانهم عن نداء النساء اللاتي يعرضن عليهم حبهن العذري (77). ولقد مات رولان Roland، كما تحدثنا الأغنية Chanson وهو لا يكاد يفكر في خطيبته أود Aude التي كانت تموت من الحزن حين جاءها خبر وفاته. كذلك لم يكن حب النساء كله حباً عذرياً، ولكن جري العرف الذي كان متبعاً عند الكثيرات منهن أن يكون للسيدة حبيب، أفلاطوني أو بيروني

(1)

Byronic، مضافاً إلى زوجها. وإذا جاز لنا أن نصدق روايات الحب التي كتبت في العصور الوسطى قلنا إن الفارس كان يقسم بأن يقوم بخدمة السيدة التي أعطتها لونها

(2)

ليلبسه أو بأداء الواجب الذي يفرضه حبها. وكان لها أن تفرض عليه مغامرات خطرة لتمتحن حبه أو لتبعده عنها، وإذا ما قام بخدمتها على الوجه الأكمل كان المنتظر منها أن تكافئه على خدمته بعناق أو بما هو خير عنده من العناق، ذلك هو "الجزاء" الذي كان يطلبه. وكان يوجه إليها كل ما يقوم به من أعمال حربية مجيدة، وكان اسمها هو الذي يناديه في ساعات القتال الحرجة، أو حين يلفظ آخر أنفاسه. وتلك حالة أخرى من الحالات التي لم يكن فيها الإقطاع جزءاً من المسيحية، بل كان نقيضها ومنافسها. ذلك أن النساء اللاتي كن من الوجهة

(1)

الحب الأفلاطوني معروف أما الحب البيروني فنسبه الشاعر الإنجليزي بيرون صاحب الحب الشهواني الذي لم يكن يستحي منه، وكان يقول إنه إنما يفعل جهرة ما يفعله غيره في الخفاء. (المترجم).

(2)

أي الشارة ذات اللون الخاص بها. (المترجم).

ص: 454

النظرية مقيدات في حبهن بقيود شديدة، فقد أكدن بهذه الطريقة حقهن في الحرية، وشكلن بأنفسهن قانونهن الأخلاقي. وأخذت عبادة المرأة الشهوانية تنافس عبادة مريم العذراء الروحية، ونودي بالحب على أساس مستقل تقدر به قيم، وأوجد مثلاً عليا لأداء الخدمات لهم، وقواعد السلوك، وكان فيه تجاهل للدين معيب حتى في الوقت الذي كان يأخذ مصطلحاته ويصوره.

وقد أنارت هذه التفرقة المعقدة بين الحب والزواج مشاكل كثيرة خاصة بالأخلاق وآداب السلوك. وكان المؤلفون يعالجون هذه المسائل في تلك الأيام، كما كانوا يعالجونها في أيام أوفد بكل ما يتصف به الأخلاقيون من تدقيق وإتقان. وحدث في وقت ما بين عامي 1174 و 1182 أن ألف رجل يدعى أندرياس كيلانوس Andreas Capellanus أي القس أندرو-رسالة في الحب ودوائه Tractatus de amore et de amoris remedio أورد فيها بين ما أورد من المسائل قانون الحب العذري ومبادئه. ويقصر أندرو هذا الحب على الأشراف؛ ويقول بلا حياء إنه هيام فارس هياماً محرماً بزوجة فارس آخر، ولكنه يذكر أن خواص هذا الحب هي الولاء والتبعية، وخدمة الرجل للمرأة. وهذا الكتاب هو أهم المراجع التي يستشهد بها على وجود "محاكم الحب" التي كانت السيدات ذوات الألقاب يُستجوبن فيها ويقدمن القرارات الخاصة بالحب العذري. وكانت زعيمة السيدات في هذه الإجراءات أيام أندرو، إذا كان لنا أن نصدق ما يقوله هو عن هذا، هي الأميرة الشاعرة مارية Marie كونتة شمبانيا، وكانت زعيمتها قبل وقتها بجيل هي أمها. وأكثر النساء فتنة في المجتمع الإقطاعي هي إليانور Eleanor دوقة أكتين Aquitaaine التي كانت وقت ما ملكة فرنسا ثم ملكة إنجلترا بعدئذ. وكانت هي وأمها قاضيتين ترأسان محكمة الحب في مدينة بواتييه في بعض القضايا (79) وكان أندرو يعرف مارية حق المعرفة، وكان قساً خاصاً بها، ويبدو أنه ألف كتابه ليذيع به

ص: 455

نظرياتها وأحكامها في الحب؛ ومن أقواله فيه إن "الحب يعلم كل إنسان أن يتحلى بكثير من ضروب الأخلاق الفاضلة"، ويؤكد لنا أن أشراف بواتييه الغلاظ قد انقلبوا بفضل تعاليم مارية مجتمعاً من كرائم السيدات وذوي المروءة والشهامة من الرجال.

وتحتوي قصائد شعراء الفروسية الغزلين عدة إشارات إلى محاكم الحب السالفة الذكر التي كانت تقيمها سيدات من الطبقة الراقية-كونتة نربونة Narbonne وكونتة فلاندرز وغيرهما-في بييرفو Pirrefeu وأفنيون Avignon وغيرهما من بلدان فرنسا (80). ويحدثنا المؤرخون أن عشر نساء، أو أربع عشرة، أو ستين منهن كن يجلسن للفصل في القضايا التي تعرض عليهن؛ ومعظمها يعرضه نساء؛ وبعضها يعرضه رجال، وكانت تلك المحاكم تفض المنازعات وتسوي الخلافات؛ وتوقع العقاب على من يخرق القانون. وبمقتضى هذا الحق أصدرت مارية الشمبانية Marie of Champagne (كما يقول أندرو) في السابع والعشرين من إبريل عام 1174 فتوى في سؤال وجه إليها يقول فيه صاحبه:"هل يمكن وجود حب حقيقي بين الأشخاص المتزوجين؟ " فكان جوابها إنه لا يمكن وجوده، وكانت حجتها في ذلك أن "المحبين يعطون كل شيء بلا مقابل، ولا يتقيدون فيما يعطون بموجبات الضرورة، أما المتزوجون فإن ما عليهم من واجبات يرغمهم على أن يخضع كل منهم لرغبات زوجه"(81). وقد أجمعت محاكم الحب كلها، كما يقول أندرو، على واحد وعشرين قانوناً من "قوانين الحب": منها (1) لا يمكن أن يتخذ الزواج حجة لرفض الحب

(3) لا يستطيع إنسان أن يحب اثنين في وقت واحد (4) لا يمكن أن يظل كل الحب على حال واحدة، فهو إما أن يزيد وإما أن ينقص (5) المنة التي يسديها صاحبها مرغماً منه تافهة (11) لا يليق بالرجل أن يحبل النساء اللاتي لا يحببن إلا بقصد الزواج

(14) إن السهولة المفرطة في نيل الحبيب تحقر الحب، أما الصعاب التي تعترض الحب فإنها

ترفع من قدره

(19) إذا بدأ الحب يتناقص فسرعان ما يزول، وقلّما يعود

(21) يزداد الحب

ص: 456

على الدوام بتأثير الغيرة

(23) الشخص الذي يقع فريسة الحب لا ينام إلا قليلاً ولا يطعم إلا قليلاً (26) المحب لا يضن بشيء على حبيبه (82).

وكانت محاكم المحب هذه أجزاء من ندوات تقيمها نساء طبقة الأشراف، ولكن رجال هذه الطبقة لم يكونوا يعبئون بها، وكان الفرسان العشاق يضعون لأنفسهم قواعدهم. غير أن الذي لا يشك فيه أن ازدياد الثراء والتعطل قد أحاط الحب بأخيلة وآداب ومجاملات امتلأت بها قصائد شعراء الفروسية الغزليين وقصائد بداية النهضة. وفي ذلك يقول فلاني Villani شاعر فلورنس (1280؟ -1348) "تكون في فلورنس في شهر يونية من عام 1283 في عيد القديس يوحنا بينما كانت المدينة سعيدة آمنة

اتحاد اجتماعي قوامه ألف شخص، يرتدون كلهم بيض الثياب، ويطلقون على أنفسهم اسم خدام الحب. وقد نظمت هذه الجماعة سلسلة من الألعاب، والحفلات والرقص، مع السيدات، فكان الأعيان ورجال الطبقة الوسطى يمشون على دقات الطبول وأنغام الموسيقى، ويقيمون الولائم في منتصف النهار وفي الليل. وقد ظلت محكمة الحب هذه قائمة نحو شهرين، وكانت أجمل وأشهر ما أقيم من نوعها في تسكانيا" (83).

نشأت الفروسية في القرن العاشر، وبلغت ذروتها في القرن الثالث عشر، وقاست الأمرين من وحشية حرب المائة سنين، واضمحلت أشد الاضمحلال من جرّاء الأحقاد المزرية التي بددت شمل طبقة الأشراف الإنجليز في حروب الوردتين، ثم لفظت آخر أنفاسها في وسط الأحقاد التي أثارتها الحروب الدينية في القرن السابع عشر، ولكنها تركت آثارها البارزة في أوربا أثناء العصور الوسطى والعصر الحديث من النواحي الاجتماعية، والتربوية، والخلقية، والأدبية، والفنية، واللغوية. وازداد عدد طبقات الفروسية-ربطة الساق، والحمام، والقلادة الذهبية-وتضاعفت حتى بلغ عددها 234 طبقة منتشرة في بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وأسبانيا، وجمعت مدارس

ص: 457

كمدارس إيتن Eton؛ وهرو Harrow، وونشستر Winchester بين مثل الفروسية الأعلى والتربية "الحرة" في جهودها الموفقة في تاريخ التربية لتثقيف العمل، وتقوية الإرادة، وتقويم الأخلاق. وإذ كان الفارس يتعلم الآداب، والشهامة والمروءة، في حاشية النبيل أو المليك، فقد كان ينقل بعض هذه الصفات إلى من هم دونه من أفراد الطبقات الاجتماعية الأخرى؛ وليست المجاملات والرقة في الوقت الحاضر إلا مزيجاً مخففاً من فروسية العصور الوسطى المركزة. ولقد ازدهر الأدب الأوربي من أغنية رولان إلى دن كيشوت، لأنه أخذ يصف أخلاق الفرسان وموضوع الفروسية، وكان الكشف الثاني لنظام الفروسية من العناصر الفعّالة في الحركة الأدبية الإبداعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومهما يكن في آداب الفروسية الخلقية من إسراف وسخافات، ومهما كان الفرق كبيراً بين حقيقتها العلمية ومثلها العليا، فإنها بلا ريب من أعظم ما ابتدعته الروح البشرية من نظم؛ وإنها فن من فنون الحياة وأبهى وأفخم من كل فن سواه.

وهكذا نرى أن الصورة التي رسمناها للإقطاع لم تقتصر على أن تكون صورة للاسترقاق في الأرض، وللأمية، وللاستغلال، والعنف، بل كانت تجمع بين هذا كله وبين قدر يعدله من الفلاحين الأقوياء، يقطعون أشجار الغابات، ومن رجال متباهين أشداء في لغتهم، وحبهم، وحروبهم، وفرسان يقسمون بأن يكونوا شرفاء، خادمين لمن يحتاجون إلى خدمتهم، يجدون في طلب المغامرات وأسباب الشهرة كما يجد غيرهم في طلب الراحة والأمن، يحتقرون الخطر والموت والجحيم؛ ونساء صابرات كادحات، يلدن ويربين الأبناء في قرى الفلاحين، وسيدات من ذوات الحسب والنسب الرفيع يمزجن دعواتهن الرقيقة لمريم العذراء بالحرية الجريئة في التغني بالشعر الشهواني والحب العذري-ولعل الفروسية كانت أقوى أثراً من المسيحية في رفع منزلة المرأة. ولقد كان أهم ما اضطلع به الإقطاع من أعمال هو إعادة النظام السياسي والاقتصادي إلى أوربا

ص: 458

بعد أن توالت عليها الغارات والكوارث المخربة المقطعة لأوصالها مائة عام. ولقد أفلحت في غرضها هذا، ولما أن اضمحلت على أنقاضها وتراثها مدنيتنا الحديثة.

وبعد فليست العصور الوسطى حقبة للعالم أن ينظر إليها بتشامخ وازدراء. ذلك أنه لم يعد في وسعه أن يشهر بما كان فيها من جهل وخرافات، وتفكك سياسي، وفقر اقتصادي وثقافي؛ بل عليه بدلاً على هذا أن يعجب كيف استطاعت أوربا أن تفيق من الضربات المتعاقبة التي كالها لها القوط؛ والهون، والوندال، والمسلمون، والمجر؛ والشماليون، واحتفظت في وسط الاضطراب والمآسي بهذا القدر الكبير من الآداب والأساليب الفنية القديمة. ولا يسعه إلا أن يعجب بشارلمان، وألْفرِد، وأولاف، وأتو، وأمثالهم من الرجال الذين أقاموا من هذه الفوضى نظاماً كما يعجب ببندكت، وجريجوري، وبنيفاس، وكولمبا. وألكوين، وبرونو ومن إليهم من الرجال الذين صابروا وصبروا حتى بعثوا الأخلاق والآداب من قفار تلك الأيام؛ وبالمطارنة والصناع الذين استطاعوا أن يشيدوا الكنائس الكبرى، والشعراء المجهولين الذين استطاعوا أو يغنوا فيما بين كل حرب وحرب، وإرهاب وإرهاب. وكان لا بد للدولة والكنيسة أن تبدءا عملهما مرة أخرى من الدرك الأسفل، كما بدأه رميولوس ونوما قبلهما بألف عام، وكانت الشجاعة التي يتطلبها بناء المدن من الغابات، وخلق المواطنين الصالحين من الهمج، أعظم من أختها التي شادت شارتر، وأمين، وريمس في الزمن الحديث، أو هدأت حمى دانتي الانتقامية فصاغت منها شعراً موزوناً.

ص: 459