الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع والعشرون
مذهب الروم الكاثوليك
1095 -
1294
الفصل الأول
عقيدة الشعب
يعد الدين من كثير من الوجوه أكثر أساليب الإنسان طرافة لأنه آخر ما تفسر به الحياة، وهو سبيله الوحيدة لاتقاء الموت. وليس في تاريخ العصور الوسطى كله ما هو أعظم أثراً في النفس من الدين، فإنك تراه في كل مكان، ويكاد يكون أعظم القوى في تلك العصور. وليس من السهل على من يعيشون الآن منعمين تتوافر لهم جميع حاجاتهم أن يدركوا حق الإدراك، ما كان في تلك العصور من فوضى وعوزهما اللذان شكلا عقائد الناس في خلالها. ولكن من واجبنا أن ننظر إلى ما كان عند المسيحيين واليهود من خرافات، وأسرار خفية، ووثنية، وسذاجة، وسلامة طوية، نقول إن من واجبنا أن ننظر إلى هذا كله بنفس العطف الذي يجب أن ننظر به إلى عنائهم، وفقرهم، وأحزانهم، وإن فرار الآلاف المؤلفة من الرجال والنساء من "الدنيا، واللحم، والشيطان" إلى أديرة الرجال والنساء ليوحي إلينا بما كان يسود ذلك الوقت من اضطراب، واختلال أمن، وعنف أوفت على الغاية أكثر مما يوحي بجبن أولئك الفارين وخور عزيمتهم. وبدا أن من البداءة أن لا سبيل إلى السيطرة على الدوافع البشرية
الوحشية إلا بقانون أخلاقي تؤيده قوة تعلو على القوى البشرية. وكان أكبر ما يحتاجه العالم وقتئذ هو عقيدة توازن المحن بالآمال، وتخفف من وقع الحرمان بالسلوى والعزاء، وتزيل من ملل الكدح بخيال العقيدة، وتمحو قصر الأجل بعقيدة الخلود، وتضفي على المسرحية الكونية معنى ملهما يشرفها ويرفع من قدرها، لولاه لكانت موكباً لا معنى له ولا يمكن احتماله، موكباً من الأنفس، والأجناس، والنجوم، تهوى واحدة بعد واحدة إلى الفناء الذي ليس منه محيص.
وسعت المسيحية إلى الوفاء بهذه الحاجات بفكرة حماسية رائعة عن الخلق والخطيئة الآدمية، والأم العذراء، والإله المعذب، والنفس الخالدة التي قدر عليها أن تواجه يوم الحساب فيقضى عليها بالتردي في الجحيم إلى أبد الآبدين، أو أن تنجو وتنال النعيم السرمدي على يد كنيسة توفر لها بأسرارها المقدسة البركة الإلهية التي حلت على العالم بموت منقذه. وكانت حياة الكثرة الغالبة من المسيحيين تجول وتجد معناها في هذه النظرة الشاملة إلى العالم.
وكان أعظم ما أهدته العقيدة الدينية إلى العالم في العصور الوسطى هو ثقته بأن الحق سيعلو آخر الأمر، وأن كل نصر ظاهري للشر سيفنى آخر العهد حين يظفر الخير بالشر في العالم كله، وتلك ثقة تعلى من قدر البشرية وتدعم كيانها. وكانت عقيدة يوم الحساب أساس العقيدة المسيحية واليهودية والإسلامية. وبقى الاعتقاد بعودة المسيح إلى الأرض، ونهاية العالم لتكون هذه العودة وتلك النهاية تمهيداً ليوم الحساب الأخير، بقى هذا الاعتقاد بعد هبوط مسعى الرسل، ومرور العام المتمم للألف بعد المسيح، ومخاوف أربعين قرناً وآمالها. نعم إن هذا الاعتقاد أضحى أقل وضوحاً وأضيق انتشاراً مما كان قبل، ولكنه لم يمنح من النفوس، فقد قال روجر بيكن Roger Bacon في عام 1271: إن "العقلاء من الناس" يرون أن نهاية العالم قد قربت (1)، وكان كل وباء شامل، وكل
كارثة مدلهمة، وكل زلزال مروع، وكل مذنب يظهر في السماء، وكل حادثة غير عادية، كان كل شيء من هذا القبيل يعد نذيراً بنهاية العالم، وحتى إذا ظل العالم باقياً فإن الموتى وأجسامهم ستبعث من فورها
(1)
بعد وفاتها لتحاسب على ما قدمت من خير وشر.
وكانت تجيش في صدور الناس آمال غامضة بدخول الجنة، ولكنهم كانوا يخافون النهار خوفاً واضحاً صريحاً لا غموض فيه، وكان في الدين المسيحي في العصور الوسطى كثير من الرقة والرأفة، ولكن رجال الدين والوعاظ الكاثوليك، والبروتستنت الأولين، كانوا يشعرون بأن من الواجب عليهم أن يروعوا الناس بأهوال الجحيم
(2)
. ولم يكن المسيح في هذا العهد هو "عيسى الوديع الرقيق"، بل كان هو المنتقم الجبار لكل ما يرتكبه ويقال إن القديس البشر من آثام. وكان في الكنائس كلها تقريباً رمز من يمثل المسيح في صورة قاض، وكان في الكثير منها صور ليوم الحساب، تمثل ضروب التعذيب التي يلقاها الملعونون تمثيلاً أشد وضوحاً من النعيم الذي يتمتع به السعداء المقربون. مثوديوس استطاع أن يقنع بوريس Boris ملك بلغاريا باعتناق الدين المسيحي بأن رسم له صورة الجحيم على جدار القصر الشيطان مشدوداً إلى مشواة ملتهبة من الحديد بسلاسل حمراء من شدة الحرارة، لا ينقطع له الملكي (4). وكان كثيرون من المتصوفة يدعون أنهم رأوا في أحلامهم صوراً للنار، وقد وصفوها وصفاً جغرافياً، وصوروا ما فيها من عذاب (5)، ونقل إلينا الراهب تنديل Tundale من رهبان القرن الثاني عشر تفاصيل لها دقيقة: فقال إن في وسط الجحيم يرى صراخ من فرط
(1)
وكالت النظرية المسيحية القائلة بأن حساب الموتى سيؤجل إلى "يوم الحشر" الذي سيفنى فيه العالم، كانت هذه النظرية قد استبدلت بها العقيدة القائلة إن كل إنسان سيحاسب بعد موته مباشرة.
(2)
قارن هذا بقول القائد وليم بوث Wiliam Booth (1829 - 1912) عن أساليب وعاط جيش النجاة: "لاشيء يؤثر في قلوب الناس كما تؤثر فيه الأشياء الرهيبة المروعة. فهم لا يتأثرون إلا إذا تصاعد أمام أعينهم لهيب الجحيم".
الألم، ويداه طليقتان يمدهما ليقبض بهما على العصاة المذنبين، يحطمهم بأسنانه كما يحطم العنب، وأنفاسه النارية تجذبهم إلى حلقة الملتهب. ويقذف أعوانه من الشياطين أجسام المذنبين بخطاطيف من الحديد في النار مرة وفي الماء الزمهرير مرة أخرى، أو يعلقونهم من ألسنتهم، أو ينشرون أجسامهم بالمناشير أو يطرقونها بالمقاطع على سندان، أو يقلونها في النار، أو يعصرونها حتى تصفى من قطعة من النسيج. وكان الكبريت يمزج بالنار حتى تزيد رائحته الكريهة من عذاب الآثمين. وليس للنار ضوء، ولهذا فإن الظلمة المروعة تغشى هذه الآلام المختلفة التي لا يحصى لها عدد (6). أما الكنيسة نفسها فلم يصدر عنها رسمياً قول يحدد مكان النار أو يصفها، ولكنها كانت تعلن سخطها على أمثال أرجن Origen الذين يرتابون في حقيقة نيرانها المادية (7). ولو أن أهوال هذه العقيدة قد نالها بعض التخفيف لأخفقت تحقيق غرضها، ولهذا فإن القديس تومس أكويناس كان يؤمن بأن "النار التي ستعذب فيها أجسام المجرمين نار مادية" وحدد مكان الجحيم "في أسفل الأرض"(8).
ولم يكن الشيطان في خيال العامة من أهل العصور الوسطى، وفي خيال رجال من أمثال جريجوري الأكبر، رمزاً أو كتلة أو تشبيها، بل كان جسماً حقيقياً حياً من لحم ودم، يغشى كل مكان في العالم، يغوي الناس بضروب من المغريات ويخلق كل أنواع الشر. وكان من المستطاع عادة أن يطرد بقضه وقضيضه بقدر من الماء المقدس أو بعلامة الصليب، ولكنه في هذه الحال يخلف وراءه رائحة خبيثة هي رائحة الكبريت المحترق. والشيطان شديد الإعجاب بالنساء، ويتخذ بسماتهن ومفاتهن أدوات يغوى بها ضحاياه، وينال رضاءهن بعض الأحيان- إذا كان لنا أن نصدق النساء أنفسهم. فقد اعترفت امرأة من طلوشة (طولوز Toulouse) أنها كثيراً ما ضاجعت الشيطان، وأنها وهي في الثالثة والخمسين من عمرها ولدت منه هولة لها رأس ذئب، وذئب أفعى (9). وللشيطان في رأي
أقوام العصور الوسطى عدد لا يحصى من أعوانه الأبالسة، يحومون حول كل نفس، ويعملون دائبين على جرها إلى ارتكاب الإثم. وهؤلاء أيضاً يحبون أن يضاجعوا النساء اللاتي يهملن أنفسهن، أو ينمن وحدهن، أو ينقطعن للدين والعبادة (10). وقد وصف الراهب ريكالم Richalm أولئك الأبالسة بأنهم "ويملاؤن العالم كله، وأن الهواء كله ليس إلا كتلة سميكة منهم يترصدوننا في كل زمان ومكان .... ومن أعجب العجائب أن يبقى واحد منا حيا يرزق، ولولا رحمة الله لما نجا أحد من شرهم"(11). وكان الناس كلهم تقريباً بما فيهم الفلاسفة أنفسهم يؤمنون بهذا العدد الجم من الأبالسة والشياطين، ولكن روح الفكاهة المنجية كانت تخفف من رهبة هذا الإيمان بهم، وكان كثير من الرجال ذوي العقول المتزنة ينظرون إلى أولئك الأبالسة الصغار على أنهم جماعة من الخبثاء أكثر منهم خلائق مروعين. وكان من العقائد الشائعة أو أولئك الأبالسة يتدخلون تدخلاً مسموعاً، ولكنه غير منظور، في أحاديث الناس، ويخرقون أثوابهم، ويلقون بالأقذار على عابري السبل. ويقال إن شيطاناً متعباً جلس مرة على خمسة فأكلتها راهبة وهي لا تدري ما تفعل (12).
وأكثر رهبة من العقيدة السالفة الذكر الاعتقاد بأن "كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون"(الآية 14 من الإصحاح 22 من إنجيل متى). وكان المؤمنون المستمسكون بدينهم يعتقدون أن الكثرة الغالبة من الجنس البشري ستتردى في الجحيم (13)، وكان كثيرون من رجال الدين المسيحيين يؤمنون بحرفية القول المعزو إلى المسيح:"من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن"(مرقس إصحاح 16 الآية 16). ووصل القديس أوغسطين على الرغم منه إلى النتيجة القائلة إن من مات من الأطفال قبل التعميد مآله النار (14)، وكان القديس آنسلم يظن أن ليس في عذاب الأطفال غير المعمدين (الآثمين لأن آدم وحواء قد ارتكبوا الإثم) من المخالفة للعقل والمنطق أكثر مما في فرض الرق على
أبناء الأرقاء- وهو لا يرى أن في هذا بعداً ما عن المعقول (15). وقد خففت الكنيسة من هول هذه العقيدة بأن علمت الناس أن الأطفال غير المعمدين لا يلقون في الجحيم بل يلقون في يمبوس Infernus puerorum حيث لا يكون عذابهم إلا ما يشعرون به من ألم لأنهم حرموا من الجنة (16). وكانت الكثرة الغالبة من المسيحيين تعتقد أن المسلمين جميعاً- كما كانت الكثرة الغالبة من المسلمين ما عدا النبي محمداً تعتقد أن المسيحيين جميعاً- سيلقون في النار، وكان الاعتقاد السائد أن "غير المؤمنين" سيعذبون (17). وذهب مجلس لاتران الرابع إلى أبعد من هذا فأعلن (1215) أن لا نجاة لأحد من النار إذا لم يكن من أتباع الكنيسة الجامعة (18). وقرر البابا جريجوري التاسع أن ما كان يأمله ريمند للي Raymond Lully من أن "الله يحب شعبه حباً يؤدي إلى نجاة الناس جميعاً تقريباً، لأنه لو كان المعذبون أكثر من الناجين لكانت رحمة المسيح خالية من كثير الحب"(19)، وليس ثمة رجل آخر من رجال الدين البارزين أجاز لنفسه أن يعتقد- أو أن يقول- إن الناجين سيزيدون على المعذبين (20). وقدر برثلد الرجنز برجي Bertshold of Regensburg، وهو من أشهر وعاظ القرن الثالث عشر وأحبهم إلى الناس، نسبة المعذبين إلى الناجين بمائة ألف إلى واحد (21). ويرى القديس تومس أكويناس أن "في هذا أيضاً رحمة الله أكثر مما تظهر في شيء سواه، لأنه يرفع القليلين إلى معارج النجاة، التي يعجز عن إدراكها الكثيرون"(22). وكان كثيرون من الناس يعتقدون أن البراكين هي أفواه جهنم، وأن قعقعتها ليست إلا صدى خافتاً لأنين المعذبين (23)، وكان جريجوري الأكبر يقول إن فوهة بركان إتنا تزيد أتساعاً في كل يوم لتبتلع العدد الذي لا يحصى من الأرواح التي كتب عليها العذاب (24). وكانت أحشاء الأرض المزدحمة تضم ثناياها الحارة الكثرة الغالبة من جميع من ولدوا من بني الإنسان، ولا يستطيع أحد أن يستريح أو يفر من النار إلى أبد الدهر، وفي
ذلك يقول بوئلد: إحص رمال شواطئ البحار، أو الشعر الذي ينبت على أجسام البشر والحيوان من يوم أن خلق آدم، وقدر سنة من العذاب لكل حبة رمل أو شعرة، ثم اعلم أن هذه الحقبة من الزمن التي تصل إليها لا تكاد تمثل بداية آلام المعذبين (25). وكانت اللحظة الأخيرة في حياة الإنسان هي اللحظة في البداية كلها، وكان خوف الناس من أن يكون الإنسان في هذه اللحظة الأخيرة آثماً لم تغفر له ذنوب، كان هذا الخوف عبئاً ثقيلاً ترزح تحته النفوس البشرية.
وكانت عقيدة المطهر أو الأعراف تخفف من هذه الأهوال تخفيفاً غير قليل. وكانت الصلوات من أجل أرواح الموتى عادة قديمة قدم الكنيسة نفسها، وفي وسعنا أن نرجع طقوس التفكير عن الذنوب والصلاة على أرواح الموتى إلى عام 250 م (26). وقد تحدث أوغسطين عن وجود موضع يتطهر فيه الموتى من ذنوب غفرت لهم ولكنها لم يكفر عنها تكفيراً كافياً بعد موتهم، وقبل جريجوري الأول هذه الفكرة، وقال إن ما تعانيه الأرواح في المطهر من آلام قد يخفف ويقصر مداه بفضل دعاء الأحياء من أصدقائهم وصلواتهم (27)، غير أن هذه النظرية لم تصبح من العقائد الواسعة الانتشار حتى نفخ فيها بطرس دميان Peter Damian حوالي عام 1070 من روحه الحماسية وأذاعها ببلاغته. وزاد انتشار هذه الفكرة في القرن الثاني عشر حين ذاعت قصة تقول إن القديس بتريك St. Patrick أراد أن يقنع بعض المتشككين فأجاز حفر حفرة في إيرلندة نزل إليها بعض الرهبان، ثم عاد بعضهم، كما تقول القصة، ووصفوا المطر والنار وصفاً واضحاً ثبط عزيمة من يريدون أن يحذوا حذوه، وأدعى أون Owen الفارسي الأيرلندي أنه نزل من هذه الحفرة إلى الجحيم في عام 1153، ووصف ما لاقاه في العالم السفلي وصفاً لاقى نجاحاً منقطع النظير (28). فقد
أقبل الناس من بعيد لزيارة هذه الحفرة، ونشأت من ذلك شرور ومساوئ مالية اضطرت الباب إسكندر السادس أن يأمر في عام 1497 بردمها لأنها من الادعاءات الباطلة (29).
ترى كم من الناس في العالم المسيحي أثناء العصور الوسطى كانوا يصدقون العقائد المسيحية، إننا نسمع عن وجود ملحدين كثيرين، ولكن الكثرة الغالبة من أولئك الملحدين كانت تتمسك بالمبادئ الأساسية للعقائد المسيحية، وقد حدث بمدينة أورليان Orleans في عام 1017 أن "رجلين من أكرم الناس أباً وأوسعهم علماً" أنكروا عقائد خلق العالم، والتثليث، والجنة، والنار، وقالا إنها كلها مجرد هذيان" (30). ويقول جون السلزبري John of Salisbury في القرن الثاني عشر إنه سمع إنه كثيرين من الناس يتحدثون "أحاديث لا يقبلها الدين" (31)، ويقول فلاني Villani إنه كان بمدينة فلورنس في ذلك القرن نفسه جماعة من الأبيقوريين، يسخرون من الله والقديسين، ويطلقون العنان لشهواتهم الجسمية (32). ويحدثنا جرالدس كمبرنسس Giraldus Cambrensis (1146؟ - 1220) عن قس، لا يذكر إسمه، لامه قس آخر على عدم عنايته بالاحتفال بالقداس، فكان رده أن سأل ناقده هل يؤمن هو حقاً باستحالة مادة القربان إلى لحم المسيح ودمه، وبعقيدة التجسد، وبمولد المسيح من مريم العذراء، وبالبعث ـ وزاد على ذلك أن قال: هذا كله قد اخترعه القدماء الماكرون ليرهبوا الناس ويسيطروا عليهم
(1)
، وإن طائفة من المنافقين يحذون الآن حذوهم (33). وينقل جرلد الويلزي نفسه قول العالم سيمون التورنائي Simon of Tournai (حوالي 1201) في حسرة وألم: "رباه ياذا الجلال!
(1)
يذكرنا هذا بقول أبي العلاء المعري: أفيقوا أفيقوا ياغواة فإنما، دياناتكم مكر من القدماء. أرادوا بها جمع الحطام فألفحوا، وماتوا فبادت سنة اللؤماء. وبغير هذين البيتين من أقواله وقد ورد بعضها في الجزء الثاني من هذا المجلد. (المترجم).
إلى متى تبقى هذه الشيعة المخرفة من المسيحيين، وتدوم هذه البدعة التي لا أصل لها؟ " (34). وتقول إحدى القصص المتداولة عن سيمون هذا إنه أثبت في محاضرة له عقيدة التثليث بالحجج القوية البارعة، فلما رأى إعجاب مستمعيه به تاه بنفسه عجباً فقال إن في وسعه أن يثبت عكس هذه العقيدة بحجج أخرى أقوى من حججه الأولى، فلما نطق بهذا- كما تقول القصة- أصيب من فوره بالشلل والعته (35). وفي عام 1200 كتب بطرس رئيس دير الثالوث المقدس Holy Jrinity في ألدجيت Aidgate بلندن يقول: "من الناس من لا يعتقدون بوجود الله، ويقولون إن العالم سيره الصدفة .. ومنهم كثيرون لا يؤمنون بالملائكة الأخيار أو الأشرار، ولا بالحياة بعد الموت أو بأي شيء روحي لا تراه العين" (36). وقد أثار شجن فنسنت من أهل بوفيه Vincent of Beauvais (1200؟ - 1264) أن كثيرين يسخرون من الرؤى ومن القصص (قصص القديسين) " ويقولون "إنها من خرافات العوام أو إنها بدع كاذبة"، ويضيف إلى ذلك قوله:"وليس لنا أن نعجب من أن هذه القصص لا تقبلها عقول الذين لا يعتقدون بوجود النار"(37). وبقد كانت عقيدة الجحيم من العقائد التي لا يستسيغها الكثيرون. وكانت بعض النفوس الساذجة تتساءل: "لم خلق الله الشيطان إذا كان قد سبقت في علمه خطيئته وسقوطه؟ "(38). وقال بعض المتشككين إن الله لا أن تصل قسوته إلى الحد الذي يجعله يعاقب على الذنب المحدد بالألم الغير المحدود؛ ويجيب رجال الدين عن هذا الاعتراض بقولهم إن الذنب الذي يرتكبه الآدمي إجرام في حق الله، وإنه لهذا يعد إثماً لا نهاية له. ولم يقنع هذا القول ناسجاً كان يعيش في طولوز عام 1247 فقال: لو أنني استطعت أن أقبض على هذا الإله الذي لا ينجى من كل ألف من خلقه إلا واحداً ثم يعذب الباقين، لانتزعت أسنانه وأظافره كما يفعل بالخونة المارقين، ولبصقت
في وجهه" (39). ولبعض المتشككين أقوال لا تبلغ من
العنف هذا المبلغ كله، فيقولون مثلاً إن نار الجحيم لابد أن تكلس الروح والجسم حتى يصبحا عديمي الإحساس بها ويصير "من اعتاد الجحيم مستريحاً فيها راحته في أي مكان سواها"(40). وتبدو في نشيد أوكاسين ونيقولت Gueassin et Nieolette (حوالي عام 1230) الفكاهة القديمة القائلة بأن الإنسان يلقي في الجحيم صحاباً أظرف ممن يلقاهم في الجنة (41). ويشكو القسيسون من أن معظم الناس يؤجلون التفكير في النار إلى آخر لحظة في حياتهم لوثوقهم من أنهم مهما تكن آثامهم فإن "ثلاث كلمات"(ego-te absolvo)" تكفي لنجاتي"(42).
ويبدو أنه كان في القرى وقتئذ كما فيها الآن من لا يؤمنون بالله، ولكن الكافرين القرويين لا يتركون وراءهم ذكريات تحدث عنهم، يضاف إلى هذا أن معظم ما وصل إلينا من أدب العصور الوسطى قد كتبه رجال الدين أو أن رجال الدين قد أخفوا الجزء الأكبر منه ولم يبرزوا لنا إلا ما وقع عليه اختيارهم. وسنجد فيما بعد "علماء جوالين"يقولون شعراً يبدو فيه عدم الاحتشام، ولصوصاً غلاظاً ينطقون بأشد الأقوال تجديفاً، وأناساً ينامون ويغطون (43)، بل ويرقصون (44) ويفجرون (45) في الكنائس، كما نجد من يرتكبون "العهر، والنهم، والقتل، والسرقة في يوم الأحد"(كما يقول أحد الرهبان)"أكثر ممن يرتكبون هذه الذنوب في جميع أيام الأسبوع الذي قبله"(46). وفي وسعنا أن نذكر في هذه الصفحة ما لا يحصى من الأمثلة نجمعها من مائة بلد وبلد، ومن ألف عام وعام؛ وكلها تدل على ما كان في العصور الوسطى من نقص في الإيمان الحق، وتحذرنا من التغالي في الاعتقاد بتقوى الناس في تلك العصور، ولكن العصور الوسطى لا تزال مع هذا تغمر الباحث في جو من العبادات والعقائد الدينية، فلقد كانت كل دولة أوروبية تأخذ المسيحية في كنفها وتحت حمايتها، وترغم الناس بقوة القانون على الخضوع للكنيسة، وكان كل ملك، إلا القليل النادر منهم، يثقل
الكنيسة بالهبات، وكانت كل حادثة تقع في التاريخ، إلا ما ندر منها، تفسر على أساس من الدين، وكل واقعة في أسفار العهد القديم تسبق إلى تصوير شيء في أسفار العهد الجديد.
ومن أمثلة ذلك ما يقوله الأسقف العظيم من أن داود حين يراقب بتشبع وهو يستحم إنما يرمز إلى المسيح إذ يرى كنيسته تظهر نفسها من دنس هذه الدنيا (47). وكان كل شيء عادي طبيعي علامة على شيء خارق للمادة، كما كان لكل جزء من كنيسة، في رأي جيوم ديورانث Guiuame Durant (1237 - 1296) ، أسقف مندى mende، معنى ديني، فمدخل الكنيسة هو المسيح، الذي يوصلنا إلى الجنة، وعمدها تمثيل المطارنة وعلماء الدين، الذين يقيمون صرح الكنيسة، وغرفة المقدسات التي يلبس فيها القس ثيابه هي رحم مريم، الذي يتجسد فيه المسيح بجسد الآدميين (48)، ويقول أصحاب هذه النزعة إن لكل حيوان معنى في الدين، من ذلك ما جاء في كتاب عن الحيوان مؤلف في العصور الوسطى وهو نموذج لغيره من أمثاله: "إذا ولدت لبؤة شبلاً، فهي تلده ميتاً، وتظل تعني به ثلاثة أيام حتى يأتي أبوه في اليوم الثالث وينفخ في وجهه، ويبعث فيه الحياة. وبهذه الطريقة عينها أحيا الله جل وعلا ابنه سيدنا عيسى المسيح من بين الموتى (49).
وكان الناس يسرون بسماع مائة ألف من القصص عن الحوادث، والقوى، ووسائل الشفاء الخارقة، أو يخلقونها خلقاً من عند أنفسهم، كقولهم إن صبياً إنجليزياً حاول أن يسرق بعض زغاليل الحمام من عشها، فالتصقت يده بقوة سماوية بالحجر الذي اتكأ عليه، ولم تفك إلا بعد أن قضى أهله ثلاثة أيام في الصلاة الدعاء (50). وقدم طفل طعاماً لتمثال المسيح الطفل المنحوت في مزار صور فيه مولده، فما كان من الطفل المسيح إلا أن شكره ودعاه إلى دخول الجنة، ولم تمض على هذا الحادث ثلاثة أيام حتى توفى الطفل الذي قدم الخبز للمسيح (51).
وكلف قس فاسق بإحدى النساء، فلما عجز عن استمالتها إليه احتفظ بجسم المسيح الطاهر في فمه بعد القربان، لعله إذا قبلها والجسم في فمه استجابت إلى رغبته بقوة القربان المقدس
…
ولكنه لما أراد أن يخرج من الكنيسة خيل إليه أن جسمه قد تضخم حتى اصطدم رأسه بسقفها" فدفن الخبر المقدس في أحد أركان الكنيسة، واعترف بعدئذ بما حدث لقس آخر، فأخرجا الخبز من الأرض فوجداه قد استحال إلى صورة رجل مصلوب يقطر منه الدم (52). واحتفظت إحدى النساء بالخبز المقدس في فمها وهي في طريقها من الكنيسة إلى بيتها، ثم وضعته في قفير نحل لتقلل بذلك من عدد ما يموت من نحلها، فما كان من النحل "إلا أن بنى لضيفه العزيز من أحلى ما يخرجه من الشهد معبداً صغيراً بديع الصنع (53) " وملأ البابا جريجوري الأول مؤلفاته بقصص من هذا القبيل. ولعل الناس، أو المتعلمين منهم، كانوا يشكون في هذه القصص ويرون أنها أقاصيص مسلية طريفة وليست أسوأ من القصص العجيبة التي يطرد بها الملوك ورؤساء الجمهوريات في الوقت الحاضر الأم عن أنفسهم ويريحون بها عقولهم المجهدة، ولعل السذج في العصور الخالية لم يقبلوا أكثر من تبديل نوعها لا مداها، وإن في كثير من أقاصيص العصور الوسطى لشواهد على إيمان أهل تلك العصور إيماناً يحدث في النفس أعمق الأثر، وحسبنا أن نذكر منها أنه لما عاد البابا ليو التاسع المحبوب إلى إيطاليا بعد رحلة الإصلاح التي قام بها في فرنسا وألمانيا انشق له نهر أنين Aniene كما انشق البحر الأحمر لموسى ليستطيع أن يجتازه (54).
وترجع قوة الدين المسيحي إلى أنه يعرض على الناس الإيمان لا المعرفة، والفن لا العلم، والجمال لا الحقيقة، وقد فضله الناس في صورته هذه، وكانوا يرون أن ليس فيهم من يستطيع أن يجيب عن أسئلتهم، ولهذا كانوا يشعرون بأن من الحزم أن يؤمنوا بالأجوبة التي ينطق بها رجال الدين، ويؤكدوها توكيداً
يزيل مخاوفهم. ولو أن الكنيسة قد اعترفت بأنها تخطيء تارة وتصيب تارة أخرى لفقدوا ثقتهم فيها، ولعلهم كانوا يرتابون المعرفة ويرون أنها الثمرة المرة للشجرة المحرمة تحريماً ينطق بالحكمة، أو السراب الذي يضل الناس ويغويهم ليخرجوا من جنة السذاجة والحياة الخالية من الشك. وهكذا استسلم العقل في العصور الوسطى للإيمان في أغلب الأوقات والحالات، وجعل كل اعتماده على الله وعلى الكنيسة، كما يثق رجل هذه الأيام بالعلم وبالدولة. أنظر إلى قول فليب أغسطس لملاحيه أثناء عاصفة ثارت في منتصف الليل:"إنكم تهلكوا لأن آلافا من الرهبان يقومون من فراشهم في هذه اللحظة، ولن يلبثوا أن يصلوا من أجلكم (55) ". وكان الناس يعتقدون أنهم تسيطر عليهم قوة أعظم مما تستطيع المعرفة البشرية أن تهبهم، وكانوا في العالم المسيحي، كما كانوا في العالم الإسلامي، يسلمون أنفسهم إلى الله، كما كانوا حتى في دنسهم، وعفتهم، وفجورهم يبتهلون إليه أن ينجيهم. لقد كان هذا عصراً ثملاً بنشوة الإيمان بالله.
الفصل الثاني
الأسرار المقدسة
كانت القوة الثانية من قوى الكنيسة التي تلي تحديد الدين هي عملها في أداء الأسرار المقدسة- أي الشعائر التي ترمز إلى منح البركة الإلهية. ويقول القديس أوغسطين في هذا: "لا يستطيع الناس في دين من الأديان أن يرتبط بعضهم ببعض إلا إذا اجتمعوا في نوع من الزمالة عن طريق رموز أو شعائر يرونها رأي العين"(56). ويكاد اللفظ اللاتيني الذي يعبر عن هذه الأسرار المقدسة وهو لفظ Sacramentum ينطبق في القرن الرابع الميلادي على كل شيء مقدس- على التعميد، وعلى الصليب، والصلاة، وأطلقه أوغسطين في القرن الخامس على الاحتفال بعيد القيامة، ثم قصره إزدور الأشبيلي Isidore of Seville القرن السابع على التعميد وتثبيت العماد، والقربان المقدس. فلما كان الثاني عشر حددت الأسرار المقدسة بسبعة أسرار: التعميد، وتثبيت العماد، والكفارة، والقربان المقدس، والزواج، ورتبة الكهنوت، والمسح بالزيت قبيل الوفاة. أما الشعائر الصغرى التي تمنح البركة الإلهية كالرش بالماء المقدس أو علامة الصليب- فلم تكن من هذه الأسرار وسميت sacramentals أي المتعلقة بتلك الأسرار تمييزاً لها عن الأسرار الأصيلة.
وكان التعميد أهم تلك الأسرار كلها، وكان يهدف إلى غرضين: محو الخطيئة الأولى، بحيث يولد الشخص مولداً جديداً يستقبل على أثره في حظيرة الدين المسيحي. وكان المفروض أن يطلق الأبوان على طفلهما في هذا الحفل اسم أحد القديسين، ليكون هذا القديس المستقبل شفيع الطفل، وأنموذجه، وحاميه، وهذا هو "اسمه المسيحي" أو الخاص. وقبل أن يحل القرن
التاسع كانت طريقة التعميد المسيحية الأولى- طريقة غمر الطفل كله- قد استبدلت بها تدريجاً طريقة الرش لأنها أقل خطراً على الصحة من الطريقة الأولى في الأجواء الباردة الشمالية. وكان في وسع أي قسيس- أو أي مسيحي عند والضرورة- أن يقوم بعملية التعميد، وكانت الطريقة القديمة، طريقة تأجيل التعميد حتى يكبر الطفل، قد استبدلت بها طريقة التعميد في سن الرضاعة، وقد أنشأت بعض الجماعات وبخاصة في إيطاليا كنائس صغرى خاصة لأداء هذه الشعيرة.
وكانت مراسم تثبيت العماد والقربان المقدس تقام عند أتباع الكنيسة الشرقية بعد التعميد مباشرة. أما عند أتباع الكنيسة الغربية فقد أجلت سن تثبيت العماد شيئاً فشيئاً إلى السنة السابعة من حياة الطفل حتى يستطيع أن يتعلم المبادئ الأساسية للدين المسيحي. ولم
يكن يقوم بهذه العملية إلا أحد الأساقفة، ويصحبها دعاء إلى الروح القدس أن يدخل في جسم التعميد، ومسح جبهته بالزيت المقدس ولطمه لطمة خفيفة على خده، وبهذه الطريقة الشبيهة بما كان متبعاً في مراسم الفروسية يثبت المسيحي الصغير في دينه، ويكون له تبعاً لذلك كل ما للمسيحي من حقوق وعليه كل ما على المسيحي من واجبات.
وأهم من هذا مراسم الكفارة. فإذا كانت عقائد الكنيسة تلقن الناس أنهم آثمون، فقد كانت تعرض عليهم وسائل تطهير أرواحهم حيناً بعد حين بأن يعترفوا بذنوبهم إلى قسيس، ويقوموا بمراسم للكفارات. فقد ورد في الإنجيل (متى الآية 19 من الإصحاح السادس عشر، والآية 18 من الإصحاح الثامن عشر) أن المسيح غفر الخطايا، وأنه منح الرسل هذه القدرة نفسها قدرة "الربط والحل". وتقول الكنيسة إن هذه القدرة قد انحدرت بالتوارث من الرسل إلى المطارنة الأولين، ومن بطرس إلى البابوات، ثم وهبها المطارنة إلى القسيسين في القرن الثامن. واستبدلت
بطريقة الاعتراف العلني التي جرت بها العادة في أيام المسيحية الأولى طريقة الاعتراف السري الفردي حتى لا تمس كرامة بعض الكبار، ولكن الاعتراف العلني بقى عند بعض الطوائف الخارجة على مبادئ الكنيسة. وكانت الكفارة العلنية تفرض أحياناً عند ارتكاب بعض الجرائم الشنيعة كمذبحة سالونيك أو قتل بكت Becket. وقد قرر مجلس لاترن الرابع (1215) أن يتكرر الاعتراف والعشاء الرباني كل عام، وجعلهما من الواجبات الخطيرة، إذا أهملهما إنسان حرم من جميع صدمات الكنيسة ومن الدفن دفنة مسيحية. وأريد تشجيع من يريدون التوبة وحمايتهم فوضع "خاتم" على كل توبة بمفردها، ومعنى هذا الخاتم أنه لا يجوز لقس أن فشي ما أعترف له به. ونشرت منذ القرن الثامن قوائم تحدد الكفارة القانونية (التي قررتها الكنيسة) لكل مذنب ـ الصلوات، والصيام، والحج، وإخراج الصدقات، أو غيرها من أعمال التقى أو التصدق.
ولهذا "النظام العجيب" كما يصف ليبتيز مراسم الكفارة، كثير من النتائج الطيبة. فهو يربح التائب من آلام وخز الضمير الصامتة المنهكة للأعصاب، وهو يمكن القس من إصلاح أحوال أتباعه الخلقية والجسمية، وهو يريح بال المذنب بما يبعثه فيه من أمل في صلاح حاله، وهو كما يقول فلتير المتشكك، قيد يقلل من ارتكاب الجرائم (58). ويقول جيته Goethe " لقد كان من الواجب ألا يحرم بنو الإنسان من الاعتراف السمعي" (59). لكنه لم يخل من بعض النتائج السيئة: فقد كان هذا النظام يستخدم أحياناً لتحقيق أغراض سياسية، وذلك حين كان القساوسة مثلاً يأبون أن يغفروا للذين يناصرون الأباطرة على البابوات (60). وكان يستخدم أحياناً في محاكم التفتيش كما حدث حين أمر القديس شارل برميو St. Charles Perromeo (1538 - 1583) رئيس أساقفة ميلان قساوسته أن يطلبوا إلى من يأتونهم للتوبة على أيديهم أن يخبروهم بأسماء كل من يعرفونهم من الملحدين أو ممن تحوم حولهم شبهة الإلحاد (61).
وأخطأ بعض السذج فظنوا أن الغفران يبيح لهم أن يعودوا إلى ارتكاب الذنوب. ولما ضعف التحمس الديني كانت الكفارات القاسية المفروضة على من يتقدمون للتوبة مما يغريهم بالكذب، وأجيز للقساوسة أن يفرضوا على التائبين عقوبات مخففة، كانت في العادة هي التصدق بالمال لغرض ترضية الكنيسة. ونشأت من هذا "التخفيف" صكوك الغفران.
ولم يكن صك الغفران رخصة بإرتكاب الإثم، بل كان إعفاءاً جزئياً أو كلياً من بعض العقاب الذي يستحقه الإنسان جزاءاً له على آثامه الدنيوية، أو من هذا العقاب كله، وهذا الإعفاء تمنحه إياه الكنيسة. وكان الغفران الذي يمنح عند الاعتراف بمحو الخطيئة التي لولاه لأدت بكاسبها إلى الجحيم، ولكنه لم يكن يعفيه من العقاب "الزمني" المترتب على إثمه. وكانت أقلية صغرى من المسيحيين هي التي تكفر عن ذنوبها في هذا العالم تكفيراً تاماً، أما ما بقى من هذا التكفير فيحدث في المطهر. وكانت الكنيسة تدعى لنفسها حق التجاوز عن هذا العقاب، وذلك بأن تنقل إلى أي تائب مسيحي يقوم بأعمال معينة من التقى أو التصدق قسما صغيراً عن كنوز البركة التي تجمعت من تعذيب المسيح وموته، ومن أعمال القديسين الأبرار الذين تزيد حسناتهم عن سيئاتهم. وقد منحت صكوك الغفران منذ القرن التاسع، وأعطى بعضها في القرن الحادي عشر للحجاج الذين يزورون الأضرحة المقدسة، وكان أول صك بالغفران الكلي هو الذي عرضه إريان الثاني في عام 1095 على من يشتركون في الحرب الصليبية الأولى. ونشأت من هذه العادات سنة منح صكوك الغفران لمن يتلون أدعية معينة أو يؤدون خدمات دينية خاصة، أو ينشئون القناطر، أو الطرق؛ أو الكنائس أو المستشفيات، أو يقطعون الغابات، أو يجففون المستنقعات، أو يتبرعون بالمال لحرب صليبية أو لهيئة كهنوتية أو لعيد كنسي، أو حرب مسيحية.
واستخدمت هذه السنة في كثير من الأغراض الصالحة، ولكنها فتحت الأبواب
للمطامع البشرية، فقد بعثت الكنيسة ببعض رجال الدين، وكانوا في العادة من الرهبان ليجمعوا المال بأن يعوضوا على الراغبين صكوك الغفران نظير هبات يقدمها الطالبون، أو توبة من الذنوب، أو صلوات يؤدونها. وقد نشأ من هذه العروض التي يسميها الإنجليز "غافرات Pardoners" تنافس شديد جلل بالعار كثيراً من المسيحيين، فكانوا يتظاهرون بتعظيم بعض الآثار الدينية المزورة ليحملوا الناس على التبرع بالمال؛ وكانوا يحتفظون لأنفسهم من هذه الأموال بقسط قليل أو كثير. وبذلت الكنيسة عدة محاولات لتقليل هذه المساوئ، من ذلك أن مجلس لاتران الرابع أمر المطارنة أن ينهوا المؤمنين إلى ما هنالك من الآثار الدينية الكاذبة والشهادات المزورة، وحرمت رؤساء الأديرة من حق إصدار صكوك الغفران، وفرضت بعض القيود على حق المطارنة في إصدارها، وحث جميع رجال الدين على أن يراعوا جانب الاعتدال في تحمسهم لهذه الوسيلة الجديدة. وندد مجلس مينز الديني في عام 1261 بكثير من موزعي هذه الصكوك، ووصفهم بأنهم كاذبون أشرار يعرضون ما يعثرون عليه من عظام الناس أو الحيوان على أنها عظام أولياء صالحين، مرنوا على البكاء حين يشاءون، يساومون على التطهير من الذنوب بأكبر ما يستطيعون الحصول عليه من المال وبأقل ما يقدمونه من الأدعية والصلوات (62). وشهرت بها مجالس كنيسة أخرى مثل هذا التشهير كمجلس فين Vienne (1311) ومجلس رافنا (1317)(63)، لكن هذه المساوئ لم تنقطع.
وكان العشاء الرباني أهم الأسرار المقدسة بعد التعميد. ذلك أن الكنيسة تمسكت بحرفية العبارة المعزوة إلى المسيح وقت تناول العشاء الأخير، والقائلة أن الخبز هو جسمه وإن النبيذ دمه. وأهم ما تقوم عليه شعيرة العشاء الرباني هو تحول رغيف الخبز وكأس النبيذ إلى جسم المسيح ودمه بقدرة القسيس المعجزة، وكان الغرض الأول من القداس هو أن يسمح للمؤمنين أن يشتركوا في "جسم"
الأقنوم الثاني من الثالوث الإلهي "دمه، وروحه، وألوهيته"، وذلك بأكل القربان المقدس، وشرب النبيذ المقدس. وإذا كان شرب هذا النبيذ يعرض دم المسيح للانسكاب على الأرض فقد نشأت في القرن الثاني عشر عادة الاكتفاء بتناول العشاء الرباني بالخبز وحده، ولما أن طالب بعض المحافظين (الذين أخذ عنهم الهوسيون البوهيميون (Hussistes of Bohemia) أراءهم فيما بعد أن يتناولوا القربان بصور نيه ليتأكدوا من أنهم حصلوا على دم المسيح وجسمه، قال لهم علماء الدين إن دم المسيح "ملازم" لجسمه في الخبز، وإن جسمه "ملازم" لدمه في النبيذ (64). وانتشرت ألف قصة وقصة عن مقدرة الخبز المقدس على إخراج الشياطين، ومداواة الأمراض، وإطفاء النيران، والكشف عن الكذب باختناق الكاذبين (65). وكان يطلب إلى كل مسيحي أن يتناول العشاء الرباني مرة في العام على الأقل، وكان تناول الشاب المسيحي لأول مرة فرصة لإقامة المهرجانات الفخمة والحفلات السارة.
ونشأت عقيدة حضور المسيح في أثناء العشاء الرباني نشأة بطيئة. وكانت الصياغة الرسمية الأولى لهذه العقيدة هي التي أذاعها مجلس نيقية في عام 787. ثم قام راهب بندكتي فرنسي يدعى رتراموس Ratramus عام 855 وقال إن الخبز والخمر المقدسين لم يكونا جسم المسيح ودمه إلا بطريقة روحية لا جسدية. وقام برنجار Berenegar رئيس شمامسة تور حوالي عام 1054 وجهر بارتيابه في تحول الخبز والخمر إلى جسم المسيح ودمه، فكان جزاؤه الحرمان من الدين، وكذب لافرانك Lafrance رئيس دير بك Bec رداً عليه (1063)
يقرر فيه العقيدة الدينية الصحيحة قال فيه:
إنا لنعتقد أن المادة الأرضية .... تستحيل بتأثير القوة السماوية التي لا يستطيع أحد وصفها .... أو إدراك كنهها إلى جوهر جسم المسيح، على حين أن مظهره، وبعض صفاته الأخرى المتصلة بهذه الحقائق نفسها، تبقى خافية حتى
ينجو الناس من هول رؤية الأشياء النيئة المخضبة بالدماء، وحتى ينال المؤمنون الجزاءالكامل لإيمانهم. ومع هذا كله فإن جسم المسيح ذاته يبقى في الوقت عينه في السماء
…
مصونا كاملاً، لا يمسه أذى أو دنس (66).
وأعلن مجلس لاتران في عام 1215 أن هذه العقيدة من المبادئ الأساسية في الدين المسيحي، وأضاف مجلس ترنت Trent إلى هذا القول في عام 1260 أن كل جزيء من الخبز المقدس مهما كسر يحتوي جسم عيسى المسيح كله، ودمه، وروحه، وبهذه الطريقة تعظم الحضارة الأوروبية والأمريكية اليوم شعيرة من أقدم الشعائر في الأديان البدائية ـ وهي أكل الإله.
وقد رفعت الكنيسة من شأن عقدة الزواج إلى أكبر حد، وجعلتها عقدة دائمة، حين جعلت الزواج من الأسرار المقدسة. وحين يحتفل بضم إنسان إلى رجال الدين يهب المطران القس الجديد بعض القوى الروحية التي ورثها عن الرسل والتي يفترضون أن الله نفسه قد وهبها إياهم عن طريق المسيح. وفي آخر الأسرار المقدسة وهو المسح الأخير، يستمع القس إلى اعترافات المسيحي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويمنحه المغفرة التي تنجيه من النار، ويمسح أعضاءه حتى تتطهر من الخطيئة وتصبح بدل أن يحرقوا جسده كما يفعل الوثنيون، لأن الكنيسة كانت تقول إن الجسم أيضاً يبعث حيا بعد الموت، وهم يلفونه في كفنه، ويضعون قطعة من النقود في تابوته كما كان يفعل الأقدمون إذ يعتقدون أنهم يؤجرون كارون Charon لنقله إلى الدار الآخرة (66)، ثم يحملونه إلى قبره باحتفال مهيب ينفق فيه الكثير من المال. وقد يستأجر النائحون أو النائحات ليبكوه وينوحوا عليه ويرتدي أهله عليه سود الثياب مدة عام؛ حتى لا يستطيع أحد أن يعرف لطول مدة الحزن أن قلباً تائباً، وقساً خادماً، قد ضمنا لهذا الرجل جنة النعيم.
الفصل الثالث
الصلاة
الشعائر الدينية في كل دين عظيم لازمة لزوم العقيدة نفسها، فهي تعلم الايمان، وتغذيه، وتوجده في كثير من الأحيان، وهي تربط المؤمن بربه برباط يريحه ويطمئنه، وتفتن الحواس والروح بمظاهرها الروائية وشعرها، وفنها، وتربط الأفراد برباط الزمالة، وتخلق منهم جماعة مؤتلفة حين تقنعهم بالاشتراك في شعائر واحدة، وترانيم واحدة، وأدعية وصلوات واحدة، ثم يفكرون آخر الأمر تفكيراً واحداً.
وأقدم الصلوات المسيحية هي الصلاة التي مطلعها "أبانا الذي في السموات" والتي مطلعها "نؤمن بإله واحد"، وقبل أن ينتهي القرن الثاني عشر بدأت الصلاة الرقيقة المحببة التي مطلعها "السلام لك يامريم" تتخذ صيغتها المعروفة. وكانت هناك غير هذه الصلوات أوراد شعرية من الثناء والتضرع. ومن الصلوات في العصور الوسطى ما يكاد يكون رقى تمكن من يتلوها من الإتيان بالمعجزات، ومنها ما هو إلحاح متكرر لا يتفق مع تحريم المسيح "للتكرار العديم النفع"(67). ونشأت عند الرهبان والراهبات تدريجياً، وعند غير رجال الدين فيما بعد، عادة استعمال المسبحة، وهي عادة شرقية جاء بها الصليبيون (68). ونشر الرهبان الدمنيك هذه العادة. كما نشر الفرنسكان عادة "طريق الصليب" أو "مواضعه" وهي التي تقضي بأن يتلو المتعبد صلوات أمام صورة أو لوحة من لوحات أو صور أربع عشرة تمثل كل منها مرحلة من مراحل آلام المسيح، فكان القساوسة، والرهبان، والراهبات، وبعض العلمانيين ينشدون أو يتلون أدعية الساعات القانونية - وهي أعية، وقراءات، ومزامير، وترانيم صاغها البندكتيون وغيرهم
وجمعها ألكوين Alcuin وجريجوري السابع في كتاب موجز. وكانت هذه الأدعية تطرق أبواب السماء من مليون كنيسة وبيت متفرقة في جميع أنحاء الأرض كل يوم وليلة في فترات بين كل واحدة والتي تليها ثلاث ساعات. وما من شك في أن نغماتها الموسيقية كان لها أحسن الوقع على آذان أصحاب البيوت التي تستمع إليها كما يقول أوردركس فيتالس Ordericus Vitalis " ما أحلى أناشيد العبادة الإلهية التي تطمئن بها قلوب المؤمنين، وتدخل عليهم السرور"(69).
وكثيراً ما كانت الصلوات الرسمية التي تتلى في الكنائس توجه إلى الله الأب، وكان عدد قليل منها يوجه إلى الروح القدس، ولكن صلوات الشعب كانت توجه في الأغلب الأعم إلى عيسى ومريم، والقديسين. وكان الناس يخافون الله سبحانه وتعالى، فقد كان لا يزال يتصف في عقول العامة بكثير من القسوة التي كانت ليهوه، وكيف يجرؤ الشخص المذنب الساذج أن يوجه صلاته إلى ذلك العرش الرهيب البعيد؟ إن عيسى لأقرب إليه من ذلك العرش، ولكنه هو أيضاً اله، ومن أصعب الأشياء أن يجرؤ الإنسان على مخاطبته وجهاً لوجه بع أن أنكر نعمه هذا النكران التام. ومن أجل هذا بدا للناس أن من الحكمة أن توجه الأدعية والصلوات إلى أحد القديسين (أو إحدى القديسات) تشهد قوانين الكنيسة بمقامه في الجنة، وأن يتوسل إليه بأن يكون وسيلته عند المسيح. وبهذه الطريقة بعثت في عقول العامة من الماضي الذي لا يبيد أبداً جميع مظاهر الشرك الشعرية الخيالية، وملأت العبادات المسيحية بطائفة كبيرة من الأرواح، ترافق الناس، وتشد عزائمهم، وتكون لهم إخوة على الأرض تقربهم إلى السماء. وتخلص الدين من عناصره الأكثر قتاماً، فكان لكل أمة، ومدينة، ودير، وكنيسة، وحرفة ونفس؛ وأزمة من أزمات الحياة، وليها الشفيع النصير، كما كان لكل منها إلها في روما القديمة. كان لإنجلترا القديس
جورج، ولفرنسا القديس دنيس، وكان القديس بارثو لميو حامي الدابغين لأن جلده سلخ وهو حي، كان صانعوا الشموع يضرعون إلى القديس يوحنا لأنه غمر في قدر مليئة بالزيت المشتعل، وكان القديس كرستفر St. Christopher نصير الحمالين لأنه حمل المسيح على كتفيه، وكانت مريم المجدلية تتلقى توسلات بائعي العطور لأنها صبت زيوتاً عطرة على قدمي المسيح المنقذ. وكان لكل من يحدث له حادث طارئ، أو يصاب بمرض، صديق في السموات، فكان القديس سبستيان والقديس رتش Roch ذوي قوة وبأس في أيام الوباء. وكان القديس أبو لينيا St. Appolinia الذي كسر الجلاد فكه يشفي ألم الأسنان، وبليز St. Blalse يشفي آلام الحلق، والقديس كورئيل St. Corneille يحمي الثيران، والقديس جول Gall يحمي الدجاج والقديس أنطون يحمي الخنازير، وكان القديس ميدار Medord هو الذي تتضرع إليه فرنسا أكثر من سائر القديسين لينزل إليها المطر، فإذا لم ينزله ألقى عباده الذين ينفذ صبرهم تمثالاً له الماء من حين إلى حين، ولعل هذا كان بمثابة رقية سحرية (70).
ووضعت الكنيسة تقويماً كنسياً جعلت كل يوم فيه عيداً لأحد القديسين، ولكن التقويم لم يتسع للخمسة والعشرين ألفاً من القديسين الذين اعترفت بهم قوانين الكنيسة قبل أن يحل القرن العاشر الميلادي. وقد بلغ من معرفة الشعب بتقويم القديسين أن التقويم العادي قسم السنة الزراعية أقساماً أطلق على كل منها اسم أحد القديسين، ففي فرنسا مثلا كان عيد القديس جورج يوم البذر، وفي إنجلترا كان عيد القديس فالنتين St. Valentine يحدد آخر فصل الشتاء؛ فإذا حل ذلك اليوم، على حد قولهم، تزاوجت الطيور بحماسة في الغابات، ووضع الشباب الأزهار على أعتاب النوافذ في بيوت البنات اللاتي يحبونهن. ومن القديسين عدد كبير اعترفت بهم الكنيسة لأن العامة داوموا على عبادتهم وإحياء ذكراهم، أو لأن مكاناً ما قد أصر على هذه العبادة على الرغم من
معارضة رجال الدين. وعلقت صور ووضعت تماثيل للقديسين في الكنائس، والميادين العامة، وفي الطرق؛ وفوق المباني، وتلقت من أنواع العبادة التلقائية ما جلل بالعار بعض الفلاسفة ومحطمي العصور المقدسة. واضطر كلوديوس أسقف تورين إلى الشكوى من أن كثيرين من الناس "يعبدون صور القديسين،
…
فهم لم يقلعوا عن عبادة الأصنام، بل كل ما في الأمر أنهم غيروا أسماءها" فهم (71). وبهذه الطريقة، على الأقل، أوجدت إرادة الشعب وحاجته شكل العبادة التي يتعبدها.
وما دام القديسون قد كثر عددهم إلى هذا الحد، فقد كثرت تبعاً لذلك مخلفاتهم - عظامهم، وشعورهم، وأثوابهم، وأي شيء استعملوه في حياتهم. وكان المفروض أن كل مذبح يشمل واحدا أو أكثر من واحد من هذه المخلفات، فكانت باسلكا القديس بطرس تباهي بأنها تحتوي جسدي القديسين بطرس وبولس اللذين أصبحت روما بفضلهما كعبة الحجاج من جميع أنحاء أوروبا. وكانت كنيسة في سانت أومر St. Omer. تدعى أن فيها قطعاً من الصليب الحقيقي ومن الحرية التي اخترقت جسم المسيح، ومن مهده، وقبره، ومن المن الذي نزل من السماء، ومن عصا هارون، ومن المذبح الذي تلا عليه القديس بطرس القداس، ومن شعر تومس أبكت وقلنسوته، وقميصه المنسوج من الشعر، والشعر الذي جزء من مقدم رأسه، ومن الألواح الحجرية الأصلية التي سجلت عليها الوصايا العشر أصبح الله نفسه (72)، وتحتوي كنيسة أمين Amiens رأس يوحنا المعمدان في كأس فضية (73)، وتحتوي دير القديس دنيس جسم ديونيسيوس الأريويجي Dionysius the Areopagite وتاجه الشوكي. وتدعى واحدة من ثلاث كنائس متفرقة في فرنسا أن فيها جسد مريم المجدلية كاملاً (74)، كما تؤكد خمس كنائس في فرنسا أن في كل منها الأثر الحقيقي الوحيد الباقي من ختان المسيح (75)، وتعرض كنيسة إكستر Exter أجزاء من
الشمعة التي استعملها ملاك الله لإضاءة قبر عيسى، وأجزاء من العشب الذي تحدث منه الله إلى موسى (76). وفي دير وستمنستر بعض دم المسيح وقطعة من الرخام عليها طابع قدمه (77). ويعرض أحد أديرة در هام مفصلا من مفاصل القديس لورنس، والفحم الذي أحرقه، والصفحة التي قام عليها رأس يوحنا المعمدان إلى هيرود، وقميص العذراء، وقطعة من الصخر عليها علامات نقط من لبنها (78)، وكانت كنائس القسطنطينية قبل عام 1204 غنية أكثر من غيرها بالمخلفات المقدسة، فكان فيها الحرية التي نفذت في جسم المسيح، والتي لا تزال حمراء من دمه، والعصا التي ضرب بها، وقطع كثيرة من الصليب الحقيقي مغلفة بالذهب، وثريد الخبز الذي قدم ليهوذا في العشاء الأخير، وشعرات من لحية المسيح، وذراع يوحنا المعمدان اليمنى .... (79). وسرقت كثير من هذه المخلفات حين نهبت القسطنطينية، ثم أشترى بعضها، وأخذت تنتقل من كنيسة إلى كنيسة في بلاد الغرب إلى أيدي من يؤدي فيها أكثر الأثمان. وكانت تعزى إلى جميع المخلفات قوى معجزة، وتروي مئات الآلاف من القصص عما تحدثه من المعجزات. وكان الرجال والنساء يبذلون كل ما في وسعهم للحصول عما تحدثه من المعجزات. وكان الرجال والنساء يبذلون كل ما في وسعهم للحصول على أقل أثر، أو أقل أثر من أثر ليتخذوه طلسماً - كخيط من ثوب قديس، أو قليل من تراب علبة مخلفات، أو نقطة زيت من مصباح مقدس في ضريح. وكانت الأديرة تتنافس وتتنازع في جمع المخلفات وعرضها على العباد الأسخياء، لأن امتلاك المخلفات الشهيرة كان يدر على الدير أو الكنيسة ثروة طائلة.
وحسبنا مثلا لهذا أن نذكر أن "نقل" عظام تومس أبكت إلى ضريح جديد في كنيسة كنتر بري الكبرى (1220) جمع من الذين شاهدوا هذا العمل ما يقدر بنحو 000 ر 300 ريال أمريكي بنقود هذه الأيام (80). واجتذب هذا العمل الرابح كثيراً من ممارسيه، فكانت مخلفات زائفة كثيرة تباع للكنائس والأفراد، وكانت بعض الأديرة يغريها الكسب بـ "كشف" مخلفات
جديدة حين تحتاج إلى المال. وكان شر هذه المساوئ هو تقطيع الأولياء الأموات ليتيسر لعدد من الأماكن أن يحظى برعاية القديس وقوته (81).
ومما يذكر بالحمد لبعض رجال الدين من غير رجال الأديرة، وللكثرة الغالبة من الأديرة نفسها أنها لم تكن ترضي وأنها كثيراً ما كانت تندد، بهذه الدكاكيرية (الفيتنشية) المسرفة الواسعة الانتشار. ومن الرهبان الذين يسعون إلى العزلة في عباداتهم من لم يكونوا يرضون عن المعجزات التي تفعلها مخلفات أديرتهم. من ذلك أن رئيس جرامونت Grammont توسل إلى مخلفات القديس استيفن أن تمتنع عن الإتيان بخوارق العادات، لأنها تغري الجموع الصاخبة بالتجمع، ثم هدد القديس بقوله:"وإلا ألقينا عظامك في النهر"(82). ولم تكن الكنيسة هي التي تزعمت حركة خلق الأقاصيص الغرامية عن معجزات المخلفات أو مضاعفة عددها، بل الشعوب هي التي فعلت هذا، وكثيراً ما كانت للكنيسة تحذر الجماهير من تصديق ما يذاع من تلك الأقاصيص (83). مثال ذلك أن مرسوماً إمبراطورياً لعله صدر بناء على طلب الكنيسة حرم على الناس "حمل" مخلفات القديسين "أو بيعها" وأن القديس أوغسطين شكا من المنافقين الذين يلبسون مسوح الرهبان والذين "يتجرون في أجسام الشهداء، إذا كانوا شهداء يحق"، وقد أعاد جستنيان نشر هذا المرسوم (84). وكتب الأب جبيرت النوجنتي Guibert of Nogent حوالي عام (1119) رسالة في مخلفات للقديسيين ينادي فيها بوضع حد لجنون المخلفات، ويقول إن الكثير من هذه الآثار "لأولياء اشتهروا في سجلات لا قيمة لها"، وإن بعض "رؤساء الأديرة أغوتهم كثرة ما يحمل إليهم من الهدايا، فقبلوا اصطناع المعجزات "الكاذبة"، "وثمة نساء عجائز ونساء ساقطات كثيرات يتغنين بالأقاصيص الكاذبة عن القديسين الشفعاء وهن يعملن على أنوالهن .... فإذا ما فند إنسان أقوالهن هاجمته .... بلقاطاتهن". ويقول إنه قلما أوتي أحد من رجال الدين
الجرأة أو الشجاعة على الاحتجاج، ويعترف بأنه هو نفسه قد سكت رأى تجار المخلفات يعرضون على المؤمنين المصدقين "بعض ذلك الخبز عينه الذي مضغه السيد المسيح بأسنانه نفسها"، ذلك "أني لو جادلت المجانين لحق علي القول بأني مجنون"(85). ويضيف إلى ذلك أن في عدد من الكنائس رؤوساً كاملة ليوحنا المعمدان، ويعجب مما كان لهذا القديس من رؤوس كثيرة لا يمكن أن يقطعها قاطع (86). وحرم البابا إسكندر الثالث (1179) على الأديرة أن تطوف بما عندها من المختلفات لجمع التبرعات، كما حرم مجلس لاتران المنعقد في عام 1215 عرض المخلفات في خارج الأضرحة (87)، وندد مجلس ليون الثاني (1274) بـ "الحط من قدر" المخلفات والصور (88).
ويمكن القول بوجه عام إن ما قامت به الكنيسة لم يكن هو تشجيع الخرافات بل كان أكبر نصيب لها في هذه الناحية هو أنها ورثتها من خيال الناس أو من تقاليد عالم البحر المتوسط. وكان الإيمان بما لبعض المخلفات، والطلاسم، والتمائم، والرقي، من قدرة على الإتيان بالمعجزات عزيزاً على المسيحيين والمسلمين على السواء، وقد ورثوا هذه العقائد من الأديان الوثنية القديمة. وبقيت أشكال قديمة من عبادة عضو التذكير زمناً طويلاً في العصور الوسطى، ولكن الكنيسة ألغتها شيئاً فشيئاً (89) وورثت عبادة الله بوصفه رب الجيوش، وملك الملوك، بعض أساليب التقرب إليه وتعظيمه، ومخاطبته، من الساميين والرومان، وتذكرنا عادة حرق البخور أمام المذبح أو رجال الدين بعادة تقريب القرابين المحروقة، أما عادة الرش بالماء المقدس فكانت صورة قديمة من التعاويذ، وأما المواكب ومراسم التطهير فهي امتداد لشعائر موغلة في القدم، وملابس القساوسة، وتلقيب البابا بالحبر الأعظم Pontifex Maximus تراث من روما الوثنية. ووجدت الكنيسة أن معتنقي المسيحية من أهل الريف لا يزالون يعظمون بعض العيون، والآبار، والأشجار،
والحجارة، فرأت أن من الحكمة أن تخلع البركة على هذه الأشياء، وأن يستخدمها المسيحيون بدل أن تقضي قضاء مفاجئاً سريعاً على عادات شديدة الارتباط بعواطف الخلق. واتباعاً لهذا دشنت مجموعة من الحجارة في صورة مائدة في بلواريه plouaret على أنها مصلي القديسين السبعة، وحللت عبادة شجرة البلوط بأن علقت على الأشجار صور القديسين المسيحيين (90): وعادت الاحتفالات الوثنية العزيزة على الشعوب أو التي لابد منها لكي تبيح للناس الخروج على قواعد الأخلاق وأضحت أعياداً مسيحية، واستحالت الطقوس الوثنية النباتية طقوساً كنسية مسيحية وظل الناس كما كانوا من قبل يوقدون النيران في منتصف الصيف عشية عيد القديس يوحنا
(1)
، وسمي عيد قيام المسيح (عيد القيامة) بالاسم الوثني القديم Eostre وهو اسم إلهة الربيع التبوتونية القديمة؛ وحل تقويم القديسين المسيحي محل التقويم الروماني، وأجازت الكنيسة أن تبقى الأرباب القديمة العزيزة على الناس وأن تحمل أسماء قديسين مسيحين، فأضحت إلهة النصر Dea Victovria إلهة إقليم الألب الأدنى هي القديسة فكتوار St. Victoire، كما ولد كاستر وبلكس Castor and Pollux من جديد وأصبحا هما القديسين كزماس Cosmas ودميان Damian.
وكان أعظم ما ظفرت به هذه الروح، روح التكيف المتسامحة، من نصر هو السمو بعبادة الإلهة الأم الوثنية واستحالتها إلى عبادة مريم أم المسيح وهنا أيضاً كان الشعب هو البادئ بهذا التسامي. ذلك أن سيريل Cyril كبير أساقفة الإسكندرية وصف، في موعظة له شهيرة ألقاها في إفسس Ephesus عام 431، مريم بكثير من العبارات التي كان الوثنيون من أهل تلك المدينة يصفون بها "إلهتهم الكبرى" أرتميس - ديانا Artimis Diana دلالة على حبهم إياها
(1)
ويطلق على هذا العيد بالإنجليزية اسم Easter وكان عيد هذه الإلهة يحتفل به في يوم الاعتدال الربيعي. (المترجم)
واعتزازهم بها، ووافق مجلس إفسس في تلك السنة على أن تلقب مريم "أم الإله" وعلى الرغم من احتجاج نسطوريوس Nestorius وما لبثت أرق صفات عشتروت، وسيبيل، وأرتميس، وديانا، وإيزيس أن جمعت كلها في عبادة مريم ثم قررت الكنيسة في القرن السادس إقامة الاحتفال بعيد صعود العذراء إلى السماء، وحددته باليوم الثالث عشر من شهر أغسطس، وهو تاريخ عيدين لإيزيس وأرتميس (91). وأضحت مريم القديسة الشفيعة للقسطنطينية وللأسرة الإمبراطورية، وكانت صورتها تحمل في مقدمة كل موكب عظيم، وكانت (ولا تزال) تعلق في كل كنيسة وبيت في العالم المسيحي اليوناني. وأكبر الظن أن الصليبيين هم الذين جاءوا من الشرق إلى الغرب بعبادة العذراء عبادة قوية بمظاهرات ذات جمال وروعة (92).
ولم تشع الكنيسة نفسها عبادة مريم، نعم إن آباء الكنيسة كانوا قد كرموا مريم وفضلوها عن حواء، ولكن عداءهم للمرأة بوجه عام، ووصفهم إياها بأنها "الوعاء الضعيف"، ومصدر كل غواية بارتكاب الإثم، وخوف الرهبان من النساء وفرارهم منهن، وحملة الوعاظ على مفاتن النساء ونقائصهن- هذا كله لم يكن من شأنه أن يؤدي إلى عبادة مريم هذه العبادة القوية الشاملة. وكان الشعب وحده هو الذي ابتدع أجمل زهرة في العالم الروحي أثناء العصور الوسطى وجعل مريم أقرب الأشخاص إلى القلوب في التاريخ كله. ذلك أن سكان أوروبا المستفيقة من رقدتها لم يعودوا يقبلون تلك الصورة الصارمة لإله يعاقب الكثرة الغالبة من خلقه بإلقائهم في نار جهنم، فخففوا من تلقاء أنفسهم الأهوال التي يحدثهم عنها علماء الدين بما خلعوه على أم المسيح من صفات الرحمة والحنان، وكانوا يرون أن في وسعهم أن يقتربوا من عيسى - وهو لا يزال عندهم أسمى وأعدل من أن يتصلوا به مباشرة- عن طريق أمه التي لا ترد سائلاً، والتي لا يستطيع ابنها أن يرد لها شفاعة. وحسبنا دليلاً على رأي الناس
في مريم القصة التي يرويها قيصريوس الهسترباخي Caesarius of Heisterbach، (1230) وهي أن شاباً أغواه الشيطان بإنكار المسيح نظير ثروة طائلة وعدها إياه، ولكنه لم يفلح في أن يغريه بإنكار مريم، فلما تاب الشاب استطاعت مريم أن تقنع المسيح بالعفو عنه. ويحدثنا الراهب نفسه عن أخ له سترسي من غير رجال الدين سمعه يناجي المسيح بقوله:"رباه! إن لم تنقذني من هذه الغواية فسأشكوك إلى أمك"(93). وقد بلغت صلوات الناس لها من الكثرة حداً جعل خيال العامة يصور عيسى في صورة من يغار منها، فيقولون إن شخصاً ملأ السموات بصلاة العذراء "السلام لك يامريم" فظهر له المسيح، كما تقول القصة الطريفة، وأنبه أشد التأنيب وقال له: "إن أمي لتشكر لك كثيراً ما قدمت لها من أدعية وصلوات، ولكن عليك مع ذلك ألا تغفل إلى رحمة مريم لتخفيفها، كما كانت صرامة يهوه في حاجة إلى المسيح. والحق أن أم المسيح أصبحت كما وصفها القرآن، ثالثة الثالوث الجديد، يشترك كل إنسان في حبها والثناء عليها، فالعصاة أمثال أبلار ينحنون لها إجلالاً وتكريماً، والهجاءون أمثال روتبوف Rutrbeuf، والمتشككون الصخابون أمثال المدرسين الجوالين لم يكونوا يجرءون على النطق بكلمة نابية عنها، وكان الفرسان ينذرون أنفسهم لخدمتها، والمدن تقدم لها مفاتيحها، والطبقات الوسطى الرأسمالية الناشئة ترى فيها الرمز الطاهر للأمومة والأسرة، والجفاة للغلاظ من رجال النقابات الطائفية - وحتى أبطال الثكنات وميادين القتال الذين لا يتورعون عن النطق بأقبح الألفاظ فيما هو مقدس - يتبارون مع الفتيات القرويات والأمهات الثاكلات في توجيه صلواتهم إليها ووضع هداياهم تحت قدميها (95). وكان أقوى أسفار العصور الوسطى عاطفة هو ذلك الورد الذي يعلن في حماسة متأججة متزايدة مجدها ويطلب معونتها. ولم يكن مكان ما يخلو من صورة لها، بل لم تخل منها منحنيات
الشوارع وملتقيات الطرق والحقول. ولما أن تمخض القرنان الثاني عشر والثالث عشر عن أنبل مولد للشعور الديني في التاريخ أقبل الفقراء والأغنياء، والأذلاء والعظماء، ورجال الدنيا ورجال الدين، والفنانون، والصناع، اقبل هؤلاء جميعاً يجودون بما ادخروه من مال وبما لديهم من حدق ومهارة لتكريمها في ألف كنيسة وكنيسة سميت كلها إلا القليل منها باسمها أو كان أبهى ما فيها حرماً خاصاً هو ضريحها.
وعلى هذا النحو نشأ دين جديد، ولعل السبب في بقاء الكثلكة إلى هذا اليوم هو أنها استوعبت هذا الدين. وصيغ إنجيل لمريم، لا تعترف به الكنيسة، ولا يصدقه العقل، ولكنه يفتتن به افتتاناً يجل عن الوصف، وضع الشعب ما فيه من القصص وسطرها الرهبان، نذكر منها القصة الذهبية التي تقول إن أرملة قدمت ولدها الوحيد استجابة لنداء وطنها، فلما أسره العدو أخذت الأرملة تصلي إلى العذراء في كل يوم أن تنقذ ولدها وترده إليها، ومرت على ذلك أسابيع طوال لم تستجب العذراء لدعائها، فما كان منها إلا أن سرقت تمثال الطفل عيسى من بين ذراعي أمه وأخفته ببيتها، وحينئذ فتحت العذراء السجن، وأطلقت سراح الشاب، وأمرته أن "بلغ أمك، يا بني أن ترد إلي ولدي بعد أن رددت إليها ولدها"(96). وجمع رئيس دير فرنسي يدعى جولتييه ده كوانسي Gaultier de Coincy أقاصيص مريم في قصيدة طويلة مؤلفة من ثلاثين ألف بيت، نجد فيها العذراء تشفي راهباً مريضاً بأن تجعله يمتص اللبن من ثديها العذب. وقبض على لص كان على الدوام يصلي لها قبل أن يقدم على السرقة، وعلق اللص ليشنق، ولكن يديها ظلتا ترفعانه دون أن يراهما أحد فلما تبين الناس أنها تحميه، أطلق سراحه، وخرجت راهبة من ديرها لتحيا حياة الإثم، فلما عادت إلى الدير بعد عدة سنين تائبة محطمة الروح، وجدت العذراء- التي لم تغفل هي عن الصلاة إليها في كل يوم- قد شغلت مكانها على الدوام، وأن
إنساناً ما لم يلاحظ غيابها (97). ولك يكن في مقدور الكنيسة أن ترتضي هذه القصص كلها، ولكنها كانت تقيم احتفالات عظيمة في ذكرى الحوادث البارزة في حياة مريم- كالبشارة، والزيارة
(1)
، والتطهير (عيد تطهير العذراء ودخول المسيح إلى الهيكل)، والصعود، ثم خضعت الكنيسة آخر الأمر إلى إلحاح أجيال من غير رجال الدين ومن الرهبان الفرنسسكان فأجازت للمؤمنين أن يعتقدوا، ثم أمرتهم في عام 1854 أن يعتقدوا، بالحمل بلا دنس- أي أن مريم قد حملت مبرأة من أثر الخطيئة الأولى التي تلطخ، حسب قول الكنيسة، كل طفل يولد من رجل وامرأة من عهد آدم وحواء.
واستحالت الكثلكة بفضل عبادة مريم من دين رهبة- لعلها كانت ضرورية في العصور الوسطى- إلى دين رحمة وحب، وإن نصف ما في العبادات الكاثوليكية من جمال، وكثيرا مما في الفن الكاثوليكي والغناء الكاثوليكي من روعة وجلال، لمن خلق هذا الإيمان السامي الذي يتجلى في وفاء امرأة ورقتها، بل وفي جمال جسمها ورشاقتها. لقد دخلت بنات حواء الهيكل وبدلت روحه، وكانت هذه الكثلكة الجديدة من الأسباب التي طهرت الإقطاع فاستحال فروسية، ورفعت من شأن المرأة إلى حد ما في عالم من صنع الرجال، وبفضله وهب النحت والتصوير في العصور الوسطى فن تلك العصور عمقاً ورقة قلما كان اليونان يعرفونهما في عهدهم. وفي وسع الإنسان أن يعفو عن كثير مما في دينٍ وفي عصرٍ أوجدا مريم وكنائسها الكبرى.
(1)
زيارة مريم العذراء لإليصابات قبل أن تلد هذه أبنها يوحنا المعمدان، وتحتفل الكنيسة بهذه الذكرى في 2 يولية من كل عام. (المترجم).
الفصل الرابع
الطقوس
لقد كانت الكنيسة حكيمة إذ أفسحت في فنها، وترانيمها، وصلواتها، مكاناً لعبادة العذراء، ولكنها أصرت في العناصر القديمة من عباداتها وطقوسها على النواحي الصارمة الجدية من الدين. من ذلك أنها جرت على السنة التي كان يجري عليها الأقدمون، ولعلها رأت في هذه للسنة فائدة للمصلحة، فشرعت الصيام في أوقات معينة، نهت فيها عن أكل اللحم في جميع أيام الجمعة، كما حرمت أكل اللحم، والبيض، والجبن، طوال أيام الصوم الكبير الأربعين، وأمرت أن يدوم ذلك الصوم حتى الساعة الثالثة بعد الظهر، وأمرت كذلك ألا يكون في هذه الفترة زواج، أو طرب، أو صيد، أو محاكمات في دور القضاء، أو صلات جنسية بين الرجال والنساء (98). وكانت هذه نصائح لمن أراد أن يكون مسيحياً كاملاً، وقلما كان أحد يتمسك بها، أو يرغم على أتباعها، ولكنها أفادت في تقوية الإرادة وكبح الشهوات عند خلائق نهمين شهوانيين.
وكانت الصلوات أيضاً مما ورثته الكنيسة عن الأقدمين، ثم عدلت فصارت أشكالاً من التمثيل الديني، والموسيقى الدينية والفن الديني، رفيعة، سامية، مؤثرة في النفس. وكانت أقدم العناصر في الصلاة المسيحية هي مزامير العهد القديم وأدعية هيكل أورشليم وعظامه، وقراءات من العهد الجديد، وتناول القربان المقدس. وأدى انقسام الكنيسة شرقية وغربية إلى اختلاف في الشعائر الدينية، كما أدى عجز البابوات الأولين عن أن يفرضوا إراداتهم كاملة خارج حدود إيطاليا الوسطى إلى وجود خلاف في الحفلات الدينية حتى داخل الكنيسة
اللاتينية نفسها. من ذلك أن أحد الطقوس الذي استقر في ميلان انتشر إلى أسبانيا، وغالة، وأيرلندة، وشمالي بريطانيا، ولم تتغلب عليه الطقوس الرومانية إلا في عام 664، وأصلح البابا هدريان الأول طقوس الكنيسة في منشور خاص بعث به شرلمان حوالي آخر القرن الثامن، ولعل عمله هذا كان إتماماً لجهود بذلها جريجوري الأول في هذه السبيل، ودون جوليوم دوران Cuillaume Durand أهم طقوس الكنيسة الرومانية في كتابه "عرض للوظائف الدينية قائم على العقل Rationale divinorum officiornm (1286) . وفي وسعنا أن ندرك ما لقيه هذا المؤلف من قبول إذا عرفنا أنه أول ما طبع من الكتب بعد الكتاب المقدس. وكان المحور الذي تدور عليه العبادات المسيحية وأهم شعائرها هو القداس. وكان هذا الاحتفال يعرف في القرون الأربعة الأولى باسم "الحمد Eucharist"؛ وقد بقيت هذه الذكرى القدسية للعشاء الأخير جوهر الصلوات وعمادها الأساسي، ثم اجتمعت حولها في خلال إثنا عشر قرناً من الزمان مراسيم متتابعة معقدة من الأدعية والترانيم تختلف باختلاف أيام السنة، وفصولها، والغرض الذي يقام من أجله هذا القداس أو ذاك، ودونت هذه المراسم في كتاب القداس ليسهل على القس الرجوع إليها. وكانت الكنيسة اليونانية تفصل بين الرجال والنساء في وقت الاجتماع لإقامة القداس كما كانت الكنيسة اللاتينية تفعل ذلك في بعض الأحيان. ولم تكن هناك كراسي يجلس عليها المصلون، بل كانوا يؤدون الصلاة وهو وقوف، وكانوا في بعض اللحظات الرهيبة يؤدونها راكعين، ويعفى من الوقوف والركوع الشيوخ والضعفاء، وأقيمت للرهبان والقساوسة الذين يضطرون إلى الوقوف خلال الصلاة الطويلة أفاريز صغيرة في أمكنة الترتيل لتسند الجزء الأسفل من العمود الفقري، وأضحت هذه الرجمات miserieovoliae موضع عناية ناحت الخشب وحذقه. وكان القس الذي يقيم القداس يدخل وعليه (توغا ogat) كالتي
يرتديها اليونان والرومان الأقدمون، يغطيها قميص أبيض طويل all وحلة القداس Cbasuble وبطرشيل stole وكلها أثواب زاهية عليها زخارف رمزية، أكثرها ظهور الأحرف JHS وهي أوائل الكلمات Jesos Huiss Soter أي عيسى ابن (الله) المنقذ. وكان القداس نفسه يبدأ عند أسفل المذبح بهذا النشيد المتواضع: سأدخل في مذبح الله، ويضيف إليه السادن؛ "إلى الله الذي يضفي البهجة على شبابي". ثم يصعد القس المذبح ويقبله لأنه المكان المقدس الذي أودعت فيه مخلفات القديس. ويترنم بالدعاء الذي مطلعه كيري اليسون kyrie eleison (" ارحمنا يا الله") وهو بقية يونانية في القداس اللاتيني. ويتلو بعدئذ دعاء المجد ("المجد لله في العلا") والدعاء الأساسي الذي مطلعه "نؤمن بإله واحد" ثم يدشن قطعاً صغيرة من الخبز وقدحاً من الخمر لتكون جسم المسيح ودمه بأن يتلو عليها تلك الكلمات: هذا جسدي وهذا دمي.
Hic est sanguinis meus
(1)
و Hoc est corqus meum ثم يعرض هذه العناصر المتحولة- أي ابن الله- لتكون قرباناً يتقرب به إلى الله وإحياءاً لذكرى التضحية على الصليب، وبديلاً من التضحية القديمة بالأحياء. ثم يلتفت القس إلى المصلين ويأمرهم بأن يسموا بقلوبهم إلى الله، فيرد عليه السادن بوصفه نائباً عن المصلين بقوله:"إنا نرفعها إلى الرب". ويتلو القديس بعدئذ القداس المثلث Triplc Sanctus وحمل الله Ognus Dei، وأبانا الذي، ويشترك هو نفسه في تناول الخبز والخمر المقدسين، ويقدم العشاء الرباني إلى الحاضرين، وبعد أن يؤدي عدة صلوات إضافية ينطق بالصيغة الأخيرة وهي: تفرقوا، حان الفراق Ite-missa est، ولعل لفظ القداس الإنجليزية mass مشتق من لفظ missa هذا (99). ويبقى بعد هذا القداس في أشكاله المتأخرة أن يبارك القس المصلين، وأن تتلى بعض فقرات أخرى من الإنجيل- وهي
(1)
ومن هذه الألفاظ اشتق الساخرون "لفظ hevuspocus"
عادة الديباجة الأفلاطونية الجديدة من إنجيل يوحنا. ولا يقام القداس عادة إلا على يد مطران، وبعد القرن الثاني عشر لم يكن يقام إلا إذا ألقى فيه راهب موعظة.
وكان القداس ينشد على الدوام أول الأمر، وكان المصلون يشتركون في إنشاده، ثم قل اشتراكهم فيه أثناء القرن الرابع وما بعده، وأخذ مرتلون مختصون يردون على المنشد
(1)
. وتعد الترانيم التي يتغنى بها في الصلوات المختلفة بالكنائس من أعظم ما أنتجته العاطفة والفن في العصور الوسطى روعة وأقوالها في النفس أثراً. ويبدأ التاريخ المعروف للترانيم اللاتينية بهلاري Hilary أسقف بواتييه (المتوفى عام 367). ذلك أنه لما عاد إلى غالة من منفاه في بلاد الشام جاء معه ببعض الترانيم اليونانية- الشرقية وترجمها هذه كلها. ووضع أمبروز Amdrose بداية أخرى في ميلان، ولدينا من ترانيمه الطنانة ثمان عشرة ترنيمة كان لحرارتها المكبوتة أعظم الأثر في نفس أوغسطين. وأكبر الظن أن ترنيمة الشكر والإيمان النبيلة التي مطلعها "الشكر لك يا الله" والتي كانت تعزى قبل إلى أمبروز قد كتبها نيقيتاس مطران رمسيانا Remisiana في أواخر القرن الرابع. وربما كانت الترانيم اللاتينية قد أصبحت أرق من الترانيم السابقة إحساساً وأجمل صورة لتأثرها بالشعر العربي الإسلامي والبروفنسالي (100). ومن الترانيم ما يكاد يكون عبارات ركيكة لا تزيد على ألفاظ رنانة، مقفاة، غير أن ترانيم عهد العصور الوسطى الزاهر- في القرنين الثاني عشر والثالث عشر- أضحت من جوامع الكلم، محكمة العبارات، تتخللها القوافي الرخمية، وتعبر عن أفكار طيبة رقيقة، ترفعها إلى مستوى أعظم الشعر الوجداني الذي أنتجه الأدب العالمي.
(1)
أنظر الباب الثالث والثلاثين ففيه تفصيل واف لموسيقى القداس.
وجاء إلى دير القديس فكتور الشهير القائم في خارج باريس حوالي عام 1130 شاب من بريطاني بفرنسا، لا تعرف من اسمه أكثر من آدم نزيل دير القديس فكتور. وقضى الشاب ذلك الدير الستين عاماً الباقية من عمره هادئاً راضياً، وتشرب بروح هوجو Hugo ورتشرد الصوفيين الذائعي الصيت، وعبر عن هذه النزعة الصوفية تعبيراً متواضعاً، حلواً، دوياً، ترانيم يقصد بمعظمها أن تتلى بعد مراسم القداس. وبعد مائة عام من ذلك الوقت ألف راهب فرنسسكاني يدعى جكوبون ده تودي Jacopone de Todi (1228؟ - 1306) أعظم ترنيمة في العصور الوسطى وهي المعروفة باسم "وقفت الأم Sebat mather". وكان جكوبون هذا محامياً ناجحاً في تودي القريبة من بروجيا Perugia، واشتهرت زوجته بصلاحها وجمالها، وماتت هذه الزوجة إثر حادث سقوط طوار عليها في أحد الأعياد، فذهب الحزن بعقل جكوبان، وأخذ يجول على غير هدى في طرق أمبريا Umbria مردداً بأعلى صوته ذنوبه وأحزانه، وطلى نفسه بالقار والريش، وأخذ يمشي على أربع؛ وانضم إلى جماعة الفرنسسكان وأنشأ القصيدة التي تحتوي في إيجاز ما كان في هذا الوقت من تُقى وحنان:
وقفت الأم كسيرة القلب،
تزرف الدمع أمام الصليب
وابنها معلق يحتضر،
وقد نفذ في روحها المثقلة بالأحزان،
وهي تندبه وتتألم من أجله،
سيف الأسى البتار.
ألا ما أشد حزنها
تلك الأم التي أنعم الله عليها بابنها الوحيد،
والتي رماها الزمان بسهامه!
وأخذت وقتئذ تنتحب وتندب سوء حظها،
وترتجف حين أبصرت عذاب ابنها النبيل.
ومنذا الذي لا يحزن
إذا شاهد أم منقذنا
وقد شجتها الغصة؟
منذا الذي يستطيع أن يحاجز نفسه عن أن يشاركها أحزانها حين يرى هذه الأم الحنون
تندب مصير ولدها؟ .....
أقبلي ياأماه، يا منبع الحب،
وأشعريني آلامك بأكملها
دعيني أشاركك أحزانك،
واشعلي في قلبي نار الشوق
وحب المسيح إلهنا ومنقذنا،
دعيني أفعم قلبه بالسرور!
أيتها الأم المقدسة، افعلي هذا رحمة بي!
اغرسي ضريات من مات شهيداً
عميقة في قلبي
دعيني أقاسي آلام
ابنك الذي أصيب بجرح أليم
وتحمل الهوان من أجلي!
دعيني أبكِ بحق إلى جانبك،
وأقضي سني حياتي كلها
أشاركك الحزن على ابنك المصلوب.
ألا ليتني أستطيع أن أكون معك،
وأقف بجوار الصليب في صحبتك،
راضياً، مغتبطاً، مرتبطاً في الحزن بك
فليحيني الصليب،
ولتنجني آلام المسيح المنقذة للبشر:
وليرعني بلطفه،
وإذا ما بلي جسمي
فلتنظر روحي في أمجاد السماء
إليه وجهاً لوجه.
وليس في الشعر ما يضارع هذه الترانيم المسيحية التي قيلت في العصور الوسطى إلا قصيدتان إحداهما هي قصيدة عيد القربان Pange Lingue، والأخرى قصيدة "يوم الغضب" الرهيبة التي كتبها تومس السلوني Thomas of Celono حوالي 1250، والتي تنشد في القداس الذي يقام للموتى، وهنا توحي رهبة يوم الحساب بقصيدة لا تقل كآبة وكمالاً عن أي حلم من أحلام دانتي المعذبة (101).
وأضافت الكنيسة إلى طقوسها ذات الأثر الشديد في النفس والمشتملة على الأدعية والترانيم والقداس- أضافت إلى هذه الطقوس ما يحدث في الأعياد الدينية من حفلات ومواكب، وأخذ عيد الميلاد في البلدان الشمالية المراسم المفرحة للطبقة التي كان التيوتون الوثنيون يقيمونها احتفالاً بانتصار الشمس وقت الانقلاب الشتائي على الظلمة المقبلة، ومن هذا نشأت كتل عيد الميلاد التي تحرق في بيوت الألمان، وأهل فرنسا الشمالية، والإنجليز، وأهل إسكنديناوة، كما
نشأت شجرة عيد الميلاد التي تثقل بالهدايا، والولائم المرحة التي تتخم البطون القوية حتى الليلة الثانية عشرة بعد هذا العيد، وكان ثمة أعياد واحتفالات أخرى يخطئها الحصر- عيد الغطاس، وعيد الختان، وحد السعف، وعيد القيامة، وعيد الصعود، وعيد العنصرة
…
وكانت هذه لأعياد وأيام الآحاد كلها إلى درجة أقل منها قليلاً، أحداثاً مثيرة في حياة رجل يتذكره من ذنوبه، ويستحم، ويحلق لحيته أو يقص شعره، ويلبس خير ملابسه وأكثرها مضايقة له، ويطعم الله في العشاء الرباني، ويحس أعمق الإحساس بالمسرحية المسيحية الخطيرة الشأن التي قدر عليه أن يكون جزءاً منها. وكانت حوادث آلام المسيح تمثل في كثير من المدن في الثلاثة الأيام الأخيرة من أسبوع الآلام، تتضمنها مسرحية دينية ذات حوار وأغان بسيطة، كذلك كانت عدة أوقات أخرى من السنة الكنيسة تمتاز بأمثال هذه "الطقوس الخفية". وحدث في عام 1240 أن أبلغت يوليانا Juliana رئيسة دير قريب من لييج Liege قس القرية التي تقيم فيها أو رؤيا سماوية قد نبهتها إلى أنه لابد من تكريم جسم المسيح حين يستحيل القربان إلى لحمه ودمه في العشاء الرباني وذلك بإقامة عيد فخم رهيب، وأقر البابا إربان الرابع هذا الاحتفال في عام 1262 وعهد إلى تومس أكوناس أن يضع له "صلاة مؤلفة من ترانيم وأدعية تناسبه". وقام الفيلسوف بهذه المهمة على خير وجه وفي عام 1311 ثبت أخيراً عيد القربان واحتفل به في أول يوم خميس بعد عيد العنصرة بأفخم موكب من مواكب السنة المسيحية بأجمعها. وكانت هذه الحفلات تجتذب إليها جموعاً لا يحصى عددها، وتبعث البهجة والمرح في قلوب الكثيرين ممن يشتركون فيها، وهي التي مهدت السبيل للمسرحية غير الدينية في العصور الوسطى، وساعدت على قيام مواكب النقابات الطائفية واحتفالاتها، وألعاب البرجاس والاحتفال بتنصيب الفرسان، وتتويج الملوك، وشغل ما هنالك من فراغ
في حياة الأهلين الذين لا يميلون بفطرتهم إلى السلم والنظام بالحركات المنبعثة عن التقى، والصلاح، والمناظر التي تسمو بأرواحهم إلى أعلى الدرجات. ولم تكن الكنيسة تقيم تعاليمها الأخلاقية، التي تصل إليها عن طريق العقائد الدينية على الجدل المؤدي إلى الإقناع، بل كانت تلجأ في الوصول إلى هذا الغرض إلى الحواس عن طريق التمثيل، والموسيقى، والتصوير، والنحت، والعمارة، والقصص، والشعر ولا يسعنا إلا أن نعترف أن الالتجاء إلى العواطف على هذا النحو أكثر نجاحاً وأهدى إلى الغرض- شراً كان أو خيراً- من الالتجاء إلى العقل المتقلب ذي النزعة الفردية. ولقد أوجدت الكنيسة بالتجائها إلى هذا فن العصور الوسطى.
وكانت أعظم المهرجانات ما يقام منها عند أماكن الحج. فقد كان الرجال والنساء يحجون ليكفروا عن ذنب أو يوفوا بنذر، ويطلبوا شفاءاً من داء بإحدى المعجزات، أو ينالوا غفراناً، وما من شك في أنهم كانوا يسعون، كما يسعى السياح في هذه الأيام، ليشاهدوا بلدانا جديدة ومناظر جديدة، وليقوموا في طريقهم بمغامرات تطرد ما يلقونه في حياتهم الضيقة للرتيبة من ملل وسآمة. وكان هناك عشرة آلاف مكان معترف بجواز الحج إليها في أواخر القرن الثالث عشر. وكان أكثر الحجاج شجاعة يؤمون فلسطين النائية، ومنهم الحفاة ومنهم من لا يلبسون إلا قميصاً
واحداً، وكانوا يحملون في الصلاة، صليباً، وعكازاً، وكيساً من النقود تناولوها كلها من يد قيسي. وحدث في عام 1054 أن سار ليدبيرت Leidbert أسقف كمبريه على رأس ثلاثة آلاف حاج إلى بيت المقدس، وفي عام 1064 سار كبير أساقفة كولوني، ومينز، وأساقفة اسباير، وبامبرج، وأوترخت إلى بيت المقدس أيضاً، ومن ورائهم عشرة آلاف مسيحي هلك منهم ثلاثة آلاف في الطريق، ولم يعد منهم إلى أوطانهم سالمين إلا ألفان، وعبر حجاج آخرون جبال البرانس، أو جازفوا بحياتهم في المحيط الأطلنطي
ليزوروا الأماكن التي يقال إن بها عظام الرسول يعقوب بقمبستيلا Compostela من أعمال أسبانيا، وفي إنجلترا كان الإنجليز يحجون إلى قبر القديس كثيرت Cuthpret في درهام، وإلى قبر القديس إدوارد المعترف Edward the Confessor في وستمنستر، وإلى قبر القديس إدمند St. Edmund في بيوري Bury، أو إلى الكنيسة التي أنشأها كما يقولون يوسف الأرمائي Joseph of Aremathnea في جلاستنبري Glastonbury وكان أهم من هذه الأماكن كلها في نظر الإنجليز ضريح تومس أبكت في كنتر بري. وكانت فرنسا تجتذب الحجاج إلى قبر القديس مارتن في ثور وإلى نتردام في تشارتر، ونتردام في له- بوي- أن- فلاي Lebuyen Velay وفي إيطاليا كنيسة القديس فوانسس وعظامه في أسسي Assisi، وفيها أيضاً سانتا، كاسا Santa Casa أو البيت المقدس في لوريتو Loreto ويعتقد المتقون أنه هو البيت الذي سكنت فيه مريم مع عيسى في الناصرة، وأن الملائكة حملت هذا الكوخ من فلسطين حين طرد الأتراك آخر الصليبيين منها، وطارت به في الهواء ثم أنزلته في دلماشيا (1291)، ثم طارت فوق البحر الأدرياوي إلى غابات أنكونا (اللورتوم Louretum) التي اشتق منها اسم هذه القرية المكرمة.
وآخر ما نذكره في هذا المقام أن كل طرق العالم المسيحي كله كانت تؤدي بالحجاج إلى رومة، ليشاهدوا قبري بطرس وبولس، ولينالوا الغفران بزيارة المنازل المقدسة، أو الكنائس القائمة في تلك المدينة؛ أو للاحتفال بعيد من الأعياد، أو ذكرى سارة في التاريخ المسيحي. وحدث في عام 1299 أن أعلن البابا بنيفاس الثامن أن سيقام عيد كبير في عام 1300، وعرض أن يغفر جميع ذنوب من يأتون للتعبد في كنيسة القديس بطرس في ذلك العام. ويقال إن عدد من دخل أبواب روما من الغرباء في كل يوم من أيام هذه الشهور الإثنى عشر لم يكن يقل عن مائتي ألف، وإن مليوني زائر مع كل منهم نذر يناسبه وضعوا
ما معهم من الكنوز أمام قبر القديس بطرس، وقد بلغت هذه الكنوز من الكثرة حداً شغل قسيسين ظلا يعملان بالمجارف ليلاً ونهاراً لجمع النقود (102). وكانت دلائل السياح ترشد الحجاج إلى الطرق التي يسلكونها، والأماكن التي لابد لهم أن يزوروها في طريقهم أو حين يحطون رحالهم. ووسعنا أن نرسم لأنفسنا صورة حقيقية من فرحة الحجاج المتعبين، وقد كساهم العثير، وحين تقع أبصارهم آخر الأمر على المدينة الخالدة، وحين ترتفع عقيرتهم بأغنية الفرحة والحمد التي يتلوها الحجاج:"أي روما النبيلة، يا ملكة هذا العالم كله، ويا خير المدائن كلها، ي ذات اللون الأحمر الياقوتي الذي كستك به دماء الشهداء الوردية، ولكنك كالسوسن النقي بمن فيك من العذارى. إليك نهدي تحياتنا خلال السنين وندعو لك بالخير، ونحييك من خلال القرون! ".
وقد أضافت الكنيسة إلى الخدمات الدينية المختلفة خدمات أخرى أجتماعية، فقد أشعرت الناس بما للعمل من كرامة؛ ومارس رهبانها العمل في الزراعة والصناعة. ووافقت على أن ينتظم العمال في نقابات طائفية، ونظمت نقابات طائفية دينية للإشراف على أعمال الصدقات (103). وكانت كل كنيسة حرماً مقدساً من حق كل من يطارد أن يلجأ إليها ليجد فيها مقاماً له حتى تهدأ سورة من يطارده ويخضع للإجراءات القانونية، وكان إخراج هؤلاء الرجال من هذا الحرم الأمين تدنيساً له يعاقب من يرتكبه بالطرد من حظيرة الدين. وكانت الكنيسة الصغيرة والكبيرة المركز الاجتماعي في القرية أو المدينة. وكان حرمها المقدس في بعض الأحيان أو الكنيسة نفسها يستخدمان برضاء القساوسة لخزن الحبوب أو الدريس أو النبيذ، كما كانا يستخدمان أيضاً في طحن الحبوب أو عصر الجعة (104). وفي الكنيسة عمد معظم أهل القرية، وعندها سوف تدفن كثرتهم. أو فيها يجتمع الكبار في أيام الأحد ليتجاذبوا أطراف الحديث أو يتناقشوا في شؤون القرية، ويجتمع الشبان والشابات ليرى بعضهم بعضاً.
وعندها يجتمع المتسولون وتوزع الكنيسة صدقاتها، وفيها يجتمع كل ما تعرفه القرية من فن إلا القليل منه ليجمل بيت الله، ويبتهج ألف فقير بما يشهد من مجد المعبد المقدس الذي شاده الناس بأموالهم وأيديهم، والذي يعدونه ملكاً لهم، وموطنهم الجماعي والروحي. وكانت الأجراس المعلقة في برج الكنيسة تدق ساعات اليوم، أو تدعو المؤمنين إلى الصلاة والدعاء، وكانت موسيقى هذه الأجراس أحلى من كل ما عداها إذا استثنينا الترانيم التي تؤلف الإيمان الفاتر بتسابيح القداس. وقد ارتفعت أبراج الكنائس، المستدق منها وغير المستدق، في أقطار الأرض من نفجورود إلى فارس، ومن بيت المقدس إلى هبريدة تشق الفضاء لأن الناس لا يستطيعون الحياة بلا أمل ولا يرضون بالموت.
الفصل الخامس
القانون الكنسي
نمت إلى جانب الطقوس الدينية المعقدة الرائعة طائفة من الشرائع الكهنوتية أكثر منها تعقيداً، تنظيم أعمال الكنيسة وقراراتها. وكانت الكنيسة في ذلك الوقت تسيطر على دولة أعظم رقعة وأكثر تبايناً من أية إمبراطورية.
وقد نشأ القانون الكنسي شيئاً فشيئاً من العادات الدينية القديمة، ومن فقرات في الكتاب المقدس، وآراء آباء الكنيسة، وقوانين روما أو القبائل المتبربرة، وقرارات مجالس الكنيسة، وقرارات البابوات وآرائهم. وعدلت أجزاء من قانون جستنيان لكي تشرف على سلوك رجال الدين، وأعيدت صياغة بعضها الآخر لكي يتفق مع آراء الكنيسة في الزواج، والطلاق، والوصايا. وأعيدت مجموعات من الشرائع الدينية في البلاد الغربية في القرنين السادس والثامن، كما أعد أباطرة بيزنطية من حين إلى حين مجموعات مثلها في بلاد الشرق. وصيغت قوانين الكنيسة الرومانية في صيغتها التي كانت عليها في العصور الوسطى على يد جراتيان Gratian حوالي عام 1148.
وكان جراتيان هذا من رهبان بولونيا، ولذلك لا يبعد أن يكون قد درس على إرنيريوس Irnerius في جامعة تلك المدينة. وسواء كان هذا أو لم يكن فإن الذي لاشك فيه أن الموجز الذي أصدره يدل على علم غزير بالقانون الروماني وفلسفة العصور الوسطى. وقد سمي كتابه التوفيق بين القواعد المتعارضة Concordia discordantium Canonum، ثم أطلقت عليه الأجيال المتأخرة أسم القرارات. وقد جمعت فيه ما أصدرته الكنيسة من قوانين، وما كان لها من عادات، وما أصدرته المجالس الدينية والبابوات حتى عام 1139 من
قرارات
خاصة بالعقائد الدينية، والطقوس، والأنظمة، والقواعد الإدارية، والمحافظة على أملاك الكنيسة وإجراءات المحاكم الكنسية، وما لها من سوابق، وتنظيم حياة الرهبنة، وعقود الزواج وقواعد الوصية. وربما كانت طريقة العرض قد أخذت عن كتاب أبلار Sic et non " هكذا وإلا فلا".
وما من شك في أنها كان لها بعض الأثر في الطريقة المدرسية بعد جرايتان Gratian، فهي تبدأ بقضية مقررة ثم تنقل أقوالاً أو سوابق تعارضها، وتحاول أن تزيل هذه الاعتراضات وتضيف بعض الشروح والتعليقات. ولم تتخذ الكنيسة في العصور الوسطى هذا الكتاب مرجعاً نهائياً، ولكنه أصبح في الفترة التي كان قائماً فيها نصاً لا غنى عنه، ويوشك أن يكون نصاً مقدساً. وأضاف إليه جريجوري التاسع (1234) وننيفاس الثامن (1294) وكلمنت الخامس (1313) ملاحق من عندهم، وقد نشرت هذه الملاحق وبعض إضافات أقل منها شأناً مع كتاب جراتيان في عام 1582 باسم "مجموعة من القوانين الكنسية مقابلة لمجموعة قوانين جستنيان المدنية
(1)
.
والحق أن الميدان الذي يشغله القانون الكنسي كان أوسع من الميدان الذي يشغله أي قانون مدني معاصر له، فهو لا يقتصر على البحث في تكوين الكنيسة، وعقائدها، وأعمالها، بل يبحث فوق ذلك في القواعد التي تعامل بمقتضاها غير المسيحيين المقيمين في البلاد المسيحية، والطرق التي تستخدمها عند النظر في أمر الإلحاد، وفي القضاء على الملحدين، وفي تنظيم الحروب الصليبية، وفي قوانين الزواج وشرعية البناء، والمهور، والزنى، والطلاق، والوصايا، والدفن وأحوال الأرامل، واليتامى، وفي قوانين الإيمان، ونقضها، وانتهاك حرمة المعابد، والتجديف والمتاجرة بالدين والرتب الكهنوتية، والسب،
(1)
وفي 20 مايو 1918 أصبحت مجموعة القوانين الكنسية المعدلة هي قانون الكنيسة الرسمي.
والربا، والأثمان العادلة، وفي قواعد لتنظيم المدارس والجامعات، وهدنة الله وغيرها من الوسائل المقيدة للحرب والمنظمة للسلم؛ وما يجب أن تكون عليه المحاكم الكنسية والبابوية، وحق استخدام الطرد من الدين واللعنة والحرمان، وتوقيع العقوبات الكنسية، والعلاقة القائمة بين المحاكم المدنية والمحاكم الدينية، وبين الدولة والكنيسة. وكانت الكنيسة ترى أن الواجب المفروض على المسيحيين جميعاً أن يخضعوا لهذه المجموعة الضخمة من القوانين، وأن من حقها هي أن توقع على كل من يخرج على أي شيء منها مختلف العقوبات البدنية أو الروحية، لا يستثنى من ذلك إلا شيء واحد وهو أنه لا يجوز لأية محكمة كنسية أن تنطق بـ "حكم الدم" - أي أن تحكم بالإعدام على شخص ما.
وكانت الكنيسة قبل عهد محاكم التفتيش
(1)
تعتمد على وسائل الإرهاب الروحي، فكان الحرمان الأصغر Minor excommunication يمنع المسيحي من الاشتراك في العشاء الرباني وفي طقوس الكنيسة، وكان من حق كل رجل من رجال الدين أن يصدر هذه العقوبة، وكان معناها عند المؤمنين العذاب الدائم في نار الجحيم إذا مات الآثم قبل العفو عنه. أما الحرمان الأكبر Maior excommunication (وهو الحرمان الوحيد الذي تستخدمه الكنيسة في هذه الأيام) فلا يصدره إلا مجلس ديني أو مطارنة أعلى مرتبة من القساوسة كما أنه لا يصدر إلا على أشخاص داخل دائرة هذه المجالس أو أولئك المطارنة. فإذا صدر أبعد المحروم من كل اتصال قانوني أو روحي بالمجتمع المسيحي: فلا يستطيع أن يقاضي، أو يرث، أو يعقد عقداً صحيحاً من الوجهة القانونية، ولكنه يجوز لغيره أن يقاضيه، ويحرم على أي مسيحي أن يؤاكله أو يكلمه وإلا حق عليه الحرمان الأصغر. ولما أن صدر قرار الحرمان على ربرت ملك
(1)
أو دواوين التحقيق كما يسميها بعضهم.
فرنسا (998) لزواجه من ابنة عمه، تركه جميع رجال حاشيته وجميع خدمه تقريباً، وكان الخادمان اللذان بقيا عنده يلقيان في النار ما يتبقى من طعامه بعد كل وجبة من وجباته، حتى لا تدنسهما هذه البقايا. وكانت الكنيسة في الحالات القصوى تضيف إلى الحرمان عقوبة اللعنة Anathema، وهي عقوبة ذكر فيها بعناية وبأقوى عبارة. وبكل ما تحتويه العبارات القانونية من لغو، كل ما يتصل بهذه العقوبة. وكان آخر ملجأ للكنيسة هو حق البابا في أن يصدر قرار تحريم (Interdict) على أية بقعة من العالم المسيحي- أي أن يمنع إلى أجل جميع الخدمات الدينية أو الكثرة الغالبة منها. وإذا كان الناس في تلك الأيام يشعرون بحاجتهم إلى العشاء الرباني، ويخشون أن توافيهم المنية قبل أن يعفى عن خطاياهم، فقد كان المحروم يضطر عاجلاً أو آجلاً إلى مصالحة الكنيسة. وقد صدرت قرارات بالحرمان من هذا النوع على فرنسا في عام 998، وعلى ألمانيا في عام 1102، وعلى إنجلترا في عام 1208، وعلى روما نفسها في عام 1155.
وكانت كثرة ما صدر من قرارات الحرمان والتحريم سبباً في ضعف أثرهما في القرن الحادي عشر (105). فقد كان البابوات يصدرون بين الفنية والفنية قرارات لأغراض سياسية، كما حدث حين هدد إنوسنت الثاني مدينة بيزا بإصدار قرار التحريم عليها إذا لم تنضم إلى الجامعة التسكانية (106). وبلغت قرارات الحرمان بالجملة- للغش في أموال الزكاة التي كانت الكنيسة تتقاضاها من الأهلين- من الكثرة أن أضحت أقسام كثيرة من المجتمع المسيحي محرومة كلها في وقت واحد، ومنها ما لم تكن تعرف أنها محرومة، كما أن منها ما أغفل قرار الحرمان أو سخر منه (107) ولم يعبأ به. من ذلك أن قرار الحرمان بالجملة صدر على ميلان وبولونيا وفلورنس ثلاث مرات في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وظلت ميلان اثنين وعشرين عاماً تتجاهل القرار الثالث. ويحدثنا الأسقف جوليوم له مير
Guillaume le Maire في عام 1391 عن هذه القرارات فيقول: "لقد رأيت بعيني في بعض الأحيان أربعمائة محروم في أسقفية واحدة بل رأيت سبعمائة منهم
…
(1)
يزدرون سلطة المفاتيح ويوجهون ألفاظ التجديف والسباب للكنيسة ورجالها (108) ولم يعبأ فليب أغسطس وفليب الجميل بقرارات الحرمان التي صدرت عليهما.
وكان ما يحدث آنا بعد آن من تجاهل لهذه القرارات بدياة اضمحلال سلطان القانون الكنسي على غير رجال الدين في أوروبا. وكانت الكنيسة قد أخضعت لسلطانها طائفة كبيرة من شؤون الحياة البشرية حين تضعضعت السلطات الدينية في الألف السنة الأولى من التاريخ المسيحي، فلما أن قويت الحكومة المدنية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر استرد القانون المدني من القانون الكنسي طائفة بعد طائفة من الشؤون البشرية. نعم إن الكنيسة قد نالت مكاسب جديدة في التعيين في الوظائف الدينية، أما في الميادين الأخرى فقد أخذ سلطانها يضمحل في شؤون التعليم، والزواج، والأخلاق، والاقتصاد، والحرب فقد أعلنت الدول التي نمت وترعرعت في ظل النظام الاجتماعي. الذي أوجدته هي والذي أجاز لها أن تنمو وتترعرع، أعلنت هذه الدول أنها شبت عن الطوق وبدأت تلك العملية الطويلة- عملية التحرر من السلطة الدينية- التي بلغت غايتها في هذه الأيام. ولكن جهود واضعي القانون الكنسي لم تذهب هباء، كما لا تذهب هباء معظم الجهود المبدعة الخلاقة في هذا العالم، فهي التي أعدت ودربت أعظم من أخرجتهم من الحكام،
(1)
لعله يريد سلطة رجال الدين الذين كانت بيدهم مفاتيح السماء في ظنهم. (المترجم)
وأسهمت في نقل القانون الروماني إلى العالم الحديث، وأيدت الحقوق القانونية للأرامل والأطفال، ووضعت في القانون المدني المعمول به في أوروبا الغربية المبدأ الذي يجعل للزوجة في حياتها نصيباً من مال زوجها (109)؛ وكان له نصيب في صياغة الفلسفة المدرسية ووضع مصطلحاتها. وملاك القول أن الشريعة الكنسية كانت من أعظم الأعمال التي تمخض عنها العقل البشري العصور الوسطى.
الفصل السادس
رجال الدين
كان الناس في حديثهم العادي في العصور الوسطى يقسمون الخلق طبقتين: طبقة رجال الدين وطبقة "رجال الدنيا" وكان الراهب من رجال الدين وكانت الراهبة من نسائه، ومن الرهبان من كانوا أيضاً قسيسين وهؤلاء يكونون "رجال الدين النظاميين" أي رجال الدين الذين يتبعون قانون الأديرة (regula) ، أما غيرهم من رجال الدين فكانوا يسمون "دنيويين" أي يعيشون في الدنيا (saeculum) ، وكانت طبقات رجال الدين جميعها تمتاز من غيرها بحلق قمة الرأس وبأن يلبس أفرادها مئزراً طويلاً ذا لون واحد أي كان. ما عدا اللوتين الأحمر والأخضر، تضمه أزرار بطوله كله من الرأس إلى القدمين. ولم يكن لفظ رجال الدين يطلق على من كان منهم في "الدرجات الصغرى" فحسب ـ أي بوابي الكنائس، وقارئي الصلوات،، وقارئي الرقى، والسدنة- بل كان يطلق كذلك على جميع طلبة الدين ومدرسيه في الجامعات، وعلى كل من حلقوا قمة رؤوسهم- أي دخلوا في زمرة رجال الدين - وهم طلاب ثم أصبحوا فيما بعد أطباء أو محامين، أو فنانين، أو مؤلفين، أو استغلوا محاسبين أو مساعدين لرجال الأدب. وهذا هو السبب الذي من أجله ضاق معنى لفظي Clerical، Clerk فصارا "كتابياً" و"كاتباً". وكان يسمح لرجال الدين من غير الطبقات العليا أن يتزوجوا وأن يشتغلوا بأية مهنة محترمة، ولم يكونوا يلزمون بأن يظلوا مستمسكين بعادة حلق قمم رؤوسهم.
أما الطبقات الثلاث "الكبرى" أو "الطبقات المقدسة" - أتباع الشمامسة - والشمامسة- والقساوسة- فلم يكن يجوز لمن انضم إليها أن يخرج
منها، وقد أغلق أمام أفرادها بوجه عام باب الزواج بعد القرن الحادي عشر، ولكن لدينا شواهد تدل على أن بعض القساوسة اللاتين بعد أيام جريجوري السابع كانوا يتخذون لهم أزواجاً أو خليلات (110)، غير أن هذه الحالات أخذت تقل شيئاً فشيئاً حتى كانت من الحالات الشاذة النادرة
(1)
، وكان على قس الأسقفية أن يقنع بالمتع الروحية. وإذا كانت حدود الأسقفية تتفق في العادة مع حدود الضيعة أو القرية، فإن مالك الضيعة كان في أغلب الأحوال هو الذي يعين القس (111) بالاشتراك مع الأسقف. وقلما كان هذا القس ممن نالوا قسطاً موفوراً من التعليم، وسبب ذلك أن التعليم الجامعي كان وقتئذ كبير النفقة، وأن الكتب كانت نادرة، ولهذا كان يكفيه أن يعرف كيف يقرأ الصلوات والقداس، ويقوم بتقديم العشاء الرباني وتنظيم شؤون العبادة والصدقات في الأسقفية. ولم يكن في كثير من الحالات أكثر من مساعد أو نائب يستأجره قس أكبر منه ليؤدي الخدمات الدينية في الأسقفية نظير ربع دخله من معاشه. وكان في مقدور القس الكبير بهذه الطريقة أن يكون له معاش من أربع
(1)
لقد خلقت العزوبة العامة بين الرهبان والقساوسة وراهبات بعد عام 1215 مشكلة من المشاكل الجنسية. ولربما كانت أوروبا قد قاست بعض الخسارة في القوة الحيوية من جراء امتناع عدد كبير من الأشخاص الأصحاء عن الاضطلاع بواجب الأبوة والأمومة، ولكننا لا نعرف على وجه التحقيق إلى أي حد تورث القدرة العالية على التناسل. وأقرب من هذا البحث إلى الناحية العلمية أثر التفاوت في العدد بين الرجال والنساء الذين لا ينتمون إلى الطبقات الدينية والناشئ من تحريم الزواج على الرهبان والقسيسيين. ولما زادت نسبة الوفيات بين الرجال على مثلها بين النساء بسبب الأسفار للتجارة وغيرها، وبسب الحروب العادية والصليبية، والنزاع بين الأفراد والجماعات، وغير هذه من الأخطار، بقيت نسبة كبيرة من النساء عانسات أو لجأن إلى الاختلاط الجنسي غير المشروع. وكانت الكنيسة ترحب بمن يردن أن يترهبن من النساء إذا استوفين شروط الترهب ولكن عدد الرهبان والقساوسة مجتمعين كان يفوق عدد الراهبات كثيراً. ومن أجل هذا فأن بنات الأشراف اللاتي لا يتزوجن كثيراً ما من يوهين إلى الأديرة أما بنات غير هذه الطبقة فكن يلجأن إلى العمل على عجلة الغزل، أو يعيشن مع بعض أقاربهن، أو يحيين في جو من العار والرهبة ليشبعن مطالب رجال من ذوي المكانة.
أبرشيات أو خمسٍ، أما قس الأبرشية فكان يحيا حياة الفقر والمذلة (112)، يعتصر دله من "رسوم المذبح" أو التعميد أو عقود الزواج، أو الدفن، أو قراءة القداس للموتى. وكان في بعض الأحيان ينحاز إلى جانب الفقراء في حرب الطبقات، كما فعل جون بول John Ball (113) ، ولم يكن مستواه الخلقي يضارع مستوى قس هذه الأيام الذي سما إلى ما سما إليه بفضل المنافسة الدينية، ولكنه كان وجه عام يقوم بعمله صابراً حريصاً على إطاعة نداء الضمير وواجب الشفقة والرحمة. فكان يعود المرضى، ويواسي المحرومين، ويعلم الشباب، ويلوك صلواته، ويبث في الأهلين الغلاظ الشداد شيئاً من التحضر والخلق الطيب. ويقول أقسى ناقدي هذه الطائفة إن كثيرين من قساوسة الأبرشيات "كانوا ممن لا غنى عنهم في هذا العالم"(114)، وقال عنهم لكي Lecky المتحرر من قيود الدين:"ليس ثمة طائفة غيرهم أظهرت ما أظهروه هم من غيرة جامعة مجردة من الانهماك في متاع الدنيا، لا يثنيها عن هدفها مصالحها الشخصية، يضحي أفرادها في سبيل الواجب المفروض عليهم أعز ما في العالم من متاع، ويواجهون جميع الصعاب أياً كان نوعها وألوان العذاب والموت ببسالة لا تتزعزع ولا تلين"(115).
وكان للقساوسة والأساقفة يؤلفون فيما بينهم طبقة رجال الكهنوت. فأما الأسقف فكان قساً اختير ليؤلف من عدة أبرشيات وعدد من القساوسة أسقفية واحدة وكان الذين يختارونه لهذا المنصب من الوجهة النظرية وفي بداية الأمر هم القساوسة والشعب، ولكن الذي يرشحه لمنصبه عادة قبل أيام جريجوري السابع هو البارون أو الملك، وكان يختاره بعد عام 1215 كهنة الكنيسة الكبرى بالاشتراك مع البابا نفسه. وكان يعهد إليه بكثير من الشؤون الدنيوية والكنيسة، كما كانت محكمته الأسقفية تنظر في بعض القضايا المدنية وفي جميع القضايا التي تمس رجال الدين على اختلاف طبقاتهم. وكان من حقه
أن يعين القساوسة ويفصلهم، ولكن سلطته على الأديرة ورؤسائها في أسقفيته نقصت في الوقت الذي نتحدث عنه لان البابوات أخضعوا طبقات الرهبان لسلطانهم المباشر لخوفهم من سلطان الأساقفة. وكان إيراد الأسقف يأتي بعضه من الأبرشيات التابعة له، ولكن معظمه كان يأتيه من الضياع التابعة لكرسيه، وكان في بعض الأحيان يعطي إحدى الأبرشيات من المال أكثر مما يأخذ منها. وكان المتقدمون لشغل مناصب الأساقفة يتعهدون عادة بأن يؤدوا - للملك أولاً ثم للبابا فيما بعد- قدراً من المال نظير ترشيحهم، وكانوا بوصفهم حكاماً دنيويين يطرأ عليهم ما يطرأ على غيرهم من ميل لتعيين أقاربهم في المناصب ذات الإيراد المجزي- وكان مما يشكو منه البابا إسكندر الثالث أنه "لما حرم الله الأساقفة من الأبناء وهبهم الشيطان أبناء الإخوة والأخوات"(116). وكان كثيرون من الأساقفة يحيون الحياة المترفة، التي تليق بالسادة الإقطاعيين. ولكن كثيرين منهم كانوا يهبون أنفسهم لواجباتهم الروحية والإدارية. ولقد كان أساقفة أوروبا، بعد أن اصلح ليو التاسع نظام الأسقفيات، خير الطوائف كلها في العصور الوسطى من الناحيتين العقلية والخلقية.
وكان يرأس أساقفة كل إقليم كبير الأساقفة أو المطران، وكان له هو وحدة حق دعوة مجلس الكنيسة الإقليمي ورياسته. وكان بعض كبار الأساقفة، بما أوتوا من قوة في الخلق أو سعة في الثراء، يسيطرون على حياة أقاليمهم من نواحيها كلها تقريباً وكان كبار أساقفة مدن همبرج، وبرمن، وكولوني، وتريير، ومينز، ومجد برج، وسلزبرج الألمانية من السادة الإقطاعيين الأقوياء، يختارهم الأباطرة في كثير من الأحيان لتصريف شؤون الإمبراطورية أو ليكونوا لهم سفراء أو مستشارين. وكذلك أضطلع كبار أساقفة ريمس، ورون، وكنتربري، يمثل هذا الواجب الخطير في فرنسا، وتورمندية، وإنجلترا. ومن كبار الأساقفة- في
طليطلة، وليوان، ونربوته، وريمس، وكولوني، وكنتربري - من أصبحوا "رؤساء" كباراً ذوي سلطان غير منازع على جميع رجال الدين في أقاليمهم، وكان كبار الأساقفة يجتمعون في مجلس تتألف منه من حين إلى حين حكومة نيابية للكنيسة. وكانت هذه المجالس في العهود المتأخرة تدعى لنفسها سلطات تعلو على سلطات البابا، أما في العصر الذي نتحدث عنه، عصر أعظم البابوات، فلم يكن أحد في أوروبا الغربية ينازع سلطان أسقف روما سلطاته العليا الدينية والروحية. وكانت فضائل ليو التاسع وهلد براند قد كفرت عن فضائح القرن العاشر، كما أخذ سلطان البابوية ينمو بين صروف القرن الثاني عشر المتقلبة وكفاحه نمواً مكن إنوسنت الثالث من أن يدعي أن هذا السلطان يمتد إلى جميع بقاع الأرض. فقد كان الملوك والأباطرة يمسكون بركاب خادم خدم الله، ذي الثياب البيض، ويقبلون قدميه. وأضحى منصب البابوية في ذلك الوقت أسمى ما يطمع فيه إنسان على ظهر الأرض، فكانت أذكى العقول وقتئذ تتهيأ في أشد مدارس اللاهوت والقانون صرامة لتشغل فيما بعد مكاناً بين رجال الكنيسة. وكان الذين يرقون منهم إلى الذروة رجالاً من ذوي العقول الجبارة والقلوب الباسلة لا يخشون أن يحكموا قارة بأجمعها، وقلما كان موت الواحد منهم يثني غيره عن مواصلة السياسة التي وضعها هؤلاء الرجال هم ومجالسهم، فلقد أتم إنوسنت الثالث ما لم يتمه جريجوري السابع، وفاز إنوسنت الرابع والإسكندر الرابع بالنصر في الكفاح الذي قام به إنوسنت الثالث وجريجوري التاسع ضد الأباطرة الذين أرادوا تضييق سلطان البابوية.
وكان سلطان البابا يؤول إليه من الوجهة النظرية من الحقوق التي منحها المسيح الحواريين. وكانت حكومة الكنيسة بهذا المعنى حكومة دينية - أي حكومة الشعب، عن طريق الدين، على أيدي خلفاء الله في الأرض. لكن الكنيسة كانت بمعنى آخر حكومة ديمقراطية: فقد كان في وسع أي إنسان في
العالم المسيحي، عدا المصابين في عقولهم أو أجسامهم، والمحكوم عليهم في جرائم ارتكبوها، والمطرودين من حظيرة الدين؛ والأرقاء - كان في وسع أي إنسان عدا هؤلاء أن يختار قساً أو بابا. وكان الأغنياء في هذا المجال، كالأغنياء في كل مجال سواه، تتاح لهم فرص أكثر من غيرهم لأن يعدوا أنفسهم لتسلم درجات هذا السلم الديني الكثيرة، غير أن الباب كان مفتوحاً لجميع الناس على السواء، وكانت المواهب العقلية، لا الآباء والجدود، هي التي يعتمد عليها النجاح في أكثر الأحيان. وقد خرج مئات من الأساقفة وعدد كبير من البابوات من بين صفوف الطبقة الفقيرة (117) وكان سريان هذا الدم الجديد من جميع الطبقات في طوائف رجال الدين بمثابة غذاء مستمر لعقولهم، وقد "ظل عصوراً طوالاً الاعتراف العملي الوحيد بمساواة الناس بعضهم بعضاً"
(1)
.
ولقد مر بنا أن حق اختيار البابا قد اقتصر على "الأساقفة الكرادلة" المقيمين في روما، ثم زيد عدد هؤلاء الكرادلة السبعة تدريجاً بمن ضمهم البابوات إليهم من أمم مختلفة، حتى أضحوا كلية مقدسة مؤلفة من سبعين عضواً يمتازون من غيرهم بقلانسهم الحمراء ومآزرهم الأرجوانية، وأضحوا طبقة جديدة في سلم الدرجات الدينية لا يعلو عليهم إلا البابا نفسه.
(1)
من كتاب جيمس وستفول طمسن Jamns westfall Thomson " تاريخ العصور الوسطى الاقتصادي والاجتماعي Economic and Social History of the Middle Ages المطبوع بنيويورك سنة 1928 ص 601 أنظر أيضاً قول فلتير: "كانت الكاثوليكية تمتاز على الدوام بأنها تختص بذوي الجدارة ما تختص به الحكومات الأخرى ذوي النسب العريق". مقال في آداب أوروبا وأخلاقها (Esssay on the Manners and Morals of Europe في مجموعة مؤلفاته المطبوعة في نيويورك عام 1927 المجلد الثالث عشر ص 30) ويقول هتلر إن هذا هو مصدر السلطة القوية التي لا يصدقها العقل والتي تستقر في هذه المنظمة المعمرة. ذلك أن هذا الحشد الكبير من الرءوساء الدينيين، بفضل السنة التي جرى عليها دائماً دون استثناء سنة سد ما يطرأ على صفوفه من نقص بين أدنى طبقات الأمم، بفضل هذه السنة يحتفظ هذا الحشد بما بينه وبين عالم العاطفة الشعبية من رابطة غريزية، ويضمن لنفسه فوق هذا قدراً من الطاقة والنشاط والقوة سيظل بهذه الصورة موجوداً إلى أبد الدهر في جمهرة الشعب. من كتاب كفاحي Mein Kamp المطبوع في نيويورك سنة 1939، ص 643.
وكان البابا يحكم دولة روحية بلغت في القرن الثالث عشر ذروة مجدها ويساعده في حكمها أولئك الرجال وطائفة كبيرة من رجال الكنيسة وغيرهم من الموظفين يؤلفون جميعاً "الكوريا" Curia أو المحكمة التنفيذية والقضائية. وكان من حقه وحده أن يدعو للانعقاد مجلساً عاماً من الأساقفة، ولم يكن لما يصدرونه من الشرائع أية قوة إلا إذا صدق عليه البابا بمرسوم من قبله وكان له الحرية المطلقة في تفسير قانون الكنيسة؛ وإعادة النظر فيه، وتوسيعه، وإعفاء من يرى إعفاءه من قواعده. وكان هو المحكمة العليا التي تستأنف إليها أحكام محاكم الأسقفيات، وكان هو وحده الذي يستطيع أن يغفر بعض الذنوب الخطيرة أو يصدر صكوك الغفران الكبرى، أو يسلك شخصاً في زمرة القديسين. وكان على جميع القساوسة بعد عام 1059 أن يقسموا يمين الطاعة له، وأن يقبلوا رقابة مندوبي البابا على شؤونهم. وكانت جزائر مثل سردينيا وصقلية، وأمم كالإنجليز، والمجر، وأسبان تعترف بأنه سيدها الإقطاعي وترسل إليه الجزية، وكان في وسعه أن يرقب بعينية ويحرك بيديه كل جزء من أجزاء مملكته عن طريق الأساقفة، والقساوسة، والرهبان، المنبثين في كل مكان، فقد كان هؤلاء يكونون هيئة للمخابرات والإدارة لا نظير لها في أية دولة من الدول. وهكذا عاد إلى روما شيئاً فشيئاً، بدهاء بابواتها، ما كان لها من سلطان على أوروبا معتمدة على ما كان لكلمة الدين من قوة عجيبة.
الفصل السابع
البابوية في أوجها
1085 -
1294
ولم يقض على النزاع الذي قام به الكنيسة والدولة حول المناصب الكنسية بعد عهد جريجوري السابع وانتصار الإمبراطورية في الظاهر، بل ظل هذا النزاع قائماً جيلاً من الزمان، تولى فيه عدة أحبار، وانتهى بتراض بين الطرفين في اتفاق ورمز Worms (1222) الذي عقد بين البابا كلكستس الثاني Calixtus II والإمبراطورية هنري الخامس. وقد سلم هنري بمقتضى هذا الاتفاق بحق الكنيسة في "تعيين كل من يتمتعون بالخاتم والعصا، ورضي أن يجري انتخاب الأساقفة ورؤساء الأدير حسب القوانين الكنسية"، اي أن يقوم به رجال الدين أو الرهبان ذو الشأن" وأن يكون بمأمن من كل تدخل" واستخدام للمال. ووافق كلكستس على أن يجري انتخاب الأساقفة ورؤساء الأديرة الذين يمتلكون أرضاً من التاج في حضور الملك، وأنه إذا قام النزاع حول الانتخابات كان من حق الملك أن يفصل بين المتنازعين بعد استشارة أساقفة الإقليم، وأن على الأسقف أو رئيس الدير الذي يمتلك أرضاً من الملك أن يؤدي له جميع الالتزامات الإقطاعية التي يجب على التابع أن يؤديها للمتبوع (118) وكانت اتفاقات مماثلة لهذا الاتفاق قد عقدت قبل ذلك الوقت مع إنجلترا وفرنسا. وأدعى كل من الطرفين أنه هو المنتصر، والحق أن الكنيسة تقدمت بهذه الاتفاقيات خطوة كبيرة نحو استقلالها بشؤونها، ولكن الروابط الإقطاعية ظلت تعطي الملك الكلمة المسموعة في اختيار الأساقفة في جميع أنحاء أوروبا (119).
وحدث في عام 1130 أن انقسمت هيئة الكرادلة شيعتين، اختارت إحداهما لكرسي البابوية إنوسنت الثاني واختارت الثانية أنكليتس الثاني Anacletus II. وكان أتكليتس ينتمي إلى أسرة بييرليوني Pierleoni الشريفة، ولكنه كان له جد يهودي اعتنق الدين المسيحي، وكان معارضوه يسمونه (الجد اليهودي)، وبعث القديس برنار، وهو رجل كان في غير هذا الظرف الخاص صديقاً لليهود، برسالة إلى الإمبراطور لوثير الثاني Lothaire II يقول إن "مما يجلل المسيح بالعار أن يجلس رجل من أصل يهودي على كرسي القديس بطرس" - وقد نسي قوله هذا أصل بطرس نفسه. وأيدت كثرة رجال الدين، وأيد ملوك أوروبا كلهم إلا واحداً منهم، إنوسنت الثاني، وأخذت الجماهير في أوروبا تسلي نفسها بتوجيه المثالب لأنكليتس، واتهامه بأنه يضاجع المحرمات عليه، وينهب الكنائس المسيحية ليغنى بأموالها أصدقاءه اليهود، ولكن أهل روما ظلوا يؤيدونه إلى يوم وفاته (1138). وأكبر الظن أن قصة أنكليتس هي مصدر خرافة أندريس Andreais التي ذاعت في القرن الرابع عشر عن (البابا اليهودي)(119).
وكان هدريان الرابع (1154 - 1159) مثلاً آخر لما يستطيع أن يرقى إليه من الدرجات الرفيعة ذوو المواهب السامية. فقد ولد من أسرة وضيعة في إنجلترا، وجاء إلى أحد الأديرة يطلب الصدقات. وارتفع نقولاس بريكسبير Nicholas Breakspear بجدارته وحدها إلى منصب رئيس الدير وإلى كردينال ثم إلى بابا. ووهب إيرلندة إلى هنري الثاني ملك إنجلترا، وأرغم بربروسه أن يستعيد السلطة التي كانت للأباطرة الألمان
على البابوية، فدعا كلا الرجلين لأن يعرضا عليه مطالبهما. فأما الإسكندر فرفض الطلب، وأما فكتور فقبله، وأيد بربروسه في مجمع بافيا المقدس (1160) اختيار فكتور لكرسي البابوية، فما كان من الإسكندر إلا أن أصدر قراراً بحرمان فرديك، وأعفى رعايا الإمبراطور من طاعته في الشؤون المدنية، وساعد الثورة القائمة عليه في لمباردية. وأذل انتصار الجامعة المباردية في ليانو (1176) فرديك، فعقد الصلح مع الإسكندر في مدينة البندقية، وقبل قدمي البابا مرة أخرى. وأرغم هذا البابا نفسه هنري الثاني ملك إنجلترا على أن يسير حافي القدمين إلى قبر بكت Becket، وأن يتلقى هناك درساً في الطاعة من قساوسة كنتربري. وكان كفاح الإسكندر زمناً طويلاً ونصره المؤزر في هذا الكفاح هما اللذين مهدا السبيل لبابا من أعظم البابوات على بكرة أبيهم.
ولد إنوسنت الثالث في أنياني القريبة من روما في 1161. وكان وهو لا يزال يسمى أوتاربودي كنتي Lotariodi conti، ابن كونت سيني Segni يتصف بجميع المزايا التي يمتاز بها أبناء الأشراف ممن نالوا قسطاً كبيراً من الثقافة. ثم درس الفلسفة واللاهوت في باريس، والشريعة الكنسية والمدنية في بولونيا Bologna، ولما عاد إلى روما استطاع بمهارته الدبلوماسية، وعلمه الواسع بالعقائد الدينية، وصلاته بأصحاب النفوذ، أن يرقى رقياً سريعاً في المناصب الدينية، فكان وهو في الثلاثين من عمره شماساً أكبر، ولما بلغ السابعة والثلاثين اختير بابا بإجماع الآراء وإن لم يكن قد اصبح قسيساً (1198)، وجلس على كرسي البابوية في اليوم التالي ليوم اختياره، وكان من حسن حظه أن الإمبراطور هنري السادس الذي تمت له السيادة على إيطاليا وصقلية قد مات في عام 1197 وترك عرش الإمبراطورية لفرديك الثاني، وهو طفل في الثالثة من عمره. وانتهز إنوسنت هذه الفرصة السانحة، وكان في استخدامها جد عنيف: فقد طرد رئيس بلدية روما الألماني من منصبه، وأخرج الملتزمين الألمان من
اسيوليتو Spoleto وبروجيا Perugia، وتقبل خضوع تسكانيا، وأعاد حكم البابا في الولايات البابوية، واعترفت به أرملة هنري سيداً أعلى للصقليتين، وقبل هو أن يكون وصياً عل ابنها، ولم تمض عشرة شهور حتى كان إنوسنت سيد إيطاليا بلا منازع.
ويدل ما لدينا من الشواهد على أنه كان أعظم أهل زمانه عقلاً، فقد ألف وهو في بداية العقد الرابع من عمره أربعة كتب في علوم الدين، تمتاز بغزارة المادة وبلاغة الأسلوب، ولكن هذه الكتب قد طغى عليها سناً شهرته السياسية. وكانت عباراته التي ينطق بها في الشؤون البابوية تمتاز بالوضوح والتفكير المنطقي السليم، وقوة العبارة، ولولا منصبه الديني لبلغ في الفلسفة ما بلغه أكويناس، وبلغ في الأدب مبلغ أبلار وإن امتاز عنه بصدق العقيدة. وقد أكسبته عيناه الثاقبتان، وأكسبه وجهه السمر، مهابة لم ينقص منها قصر قامته. ولم تكن تعوزه الفكاهة، وكان يجيد الغناء، ويقرض الشعر، وكان رقيق الحاشية، وفي وسعه إذا شاء أن يكون رحيماً، صبوراً، ومتسامحاً فيما يمس شؤونه الخاصة. أما فيما يختص بعقيدته وأخلاقه، فلم يكن يقبل اي أنحراف عن أحكام الكنيسة أو مبادئها الخلفية، وإذا كان عالم الإيمان والأمل المسيحيين هو الدولة التي دعي لحمايتها فقد كان يسعه للدفاع عنها. وكان وهو الذي ولد في مهد الثراء يعيش عيشة البساطة الفلسفية، طول حياته، طاهر اليد في عصر فشت فيه الرشوة في كل مكان (120). وما كاد يتولى منصبه حتى حرم على موظفي هيئة الكرادلة أن يتقاضوا أجراً على ما يقومون به من أعمال. وكان يجب أن يرى كرسي الرسول بطرس يثري من مال العالم كله، ولكنه كان يصرف أموال البابوية بنزاهة معقولة. وكان دبلوماسياً بارعاً، وكان له نصيب معتدل من النقائض الخلقية التي تلازم هذه الحرفة الممتازة (121). وكأن الزمن قد عاد به
أحد عشر قرناً إلى الوراء، فجعله إمبراطوراً رومانياً رواقياً أكثر منه مسيحياً، لا يشك قط في أن من حقه أن يحكم العالم.
وكان من الطبيعي، وذكرى هؤلاء البابوات الأقوياء لا تزال مائلة في أذهان أهل روما، أن يقيم إنوسنت سياسته على الاعتقاد بقداسة منصبه ورسالته. ولهذا كان شديد الحرص على أبهة الاحتفالات البابوية وفخامتها، ولم ينزل قط أمام الجماهير عن قلامة ظفر من جلال منصبه وعظمته. وكان صادق الإيمان بأنه هو وارث السلطات التي يعتقد الناس عامة أن المسيح وهبها للحواريين وللكنيسة، فلم يكن في مقدوره أن يعترف بأن لأحد ما له هو من السلطان. ومن أقواله في هذا المعنى:"إن المسيح لم يترك لبطرس حكم الكنيسة كلها فحسب بل ترك له حكم العالم بأجمعه"(122) ولم يكن يدعي لنفسه السلطة العليا في الشؤون الأرضية أو الزمنية الخالصة، اللهم إلا في الولايات البابوية (123)، ولكنه كان يصر على أنه إذا ما تعارضت السلطة الروحية مع السلطة الزمنية وجب أن تسمو السلطة الروحية على السلطة الزمنية كما تسمو الشمس على القمر. وكان يستمسك بالمثل الأعلى الذي يستمسك به جريجوري السابع - وهو أن على الحكومات أن ترضي بأن يكون لها مكان في دولة عالمية يتولى البابا رياستها، على أن تكون له الكلمة العليا في جميع الشؤون القضائية، والأخلاقية، والعقائد الدينية، وأوشك في وقت ما أن يحقق هذا الحلم، فقد نفذ جزءاً من خطته على أثر استيلاء الصليبيين على القسطنطينية في عام 1204، إذ خضعت الكنيسة اليونانية إلى أسقف روما، واستطاع أن يتحدث وهو مغتبط عن ثوب المسيح غير المخيط، وأخضع بلاد العرب وأرمينية البعيدة نفسها السيطرة الكرسي البابوي في روما، واستطاع أن يكون هو صاحب الحق في تعيين رجال الدين في مناصبهم، واندفع في سلسلة من المغامرات والنزاع الخطيرة انتهت بإرغام رؤساء الحكومات الأوروبية على الاعتراف، بسيادته عليهم سيادة لم يسبق لها من قبل مثيل.
هذا في خارج إيطاليا، أما في إيطاليا نفسها فكانت سياسته أقل من هذا نجاحاً: فقد عجز فيما بذله من جهود متعددة للقضاء على الحروب القائمة بين دول المدن الإيطالية، ونغص عليه أعداؤه السياسيون في روما حياته وجعلوها غير آمنة حتى في وقت من الأوقات يخشى المقام في عاصمته. كذلك أفلح الملك شفير Severre النرويجي (1184 - 1202) في مقاومته بالرغم من صدور قرار الحرمان عليه (124) هو وبلاده، وتجاهل فيليب الثاني ملك فرنسا أمره حين عقد الصلح مع إنجلترا، وإن كان قد خضع لما أصر عليه البابا من أن يعيد زوجته التي هجرها، واقتنع ألفنسو التاسع صاحب ليون Leon أن يفارق برنجاريا Berengaria التي تزوجها لأنها من قريباته المحرمات عليه. واعترفت البرتغال، وأرغونة، وبلاد المجر، وبلغاريا، بأنها إقطاعيات بابوية، وأعطت البابا جزية سنوية، ولما رفض الملك جون أمر البابا بتعيين لانجتن Langton كبيراً أساقفة منتربري اضطره البابا بقرار التحريم الذي أصدره على إنجلترا وبدهائه السياسي أن يضم إنجلترا إلى الأقطاعات البابوية. ووسع إنوسنت سلطانه في ألمانيا بأن أعان أتو الرابع على فيليب صاحب سوابيا Swabia ثم أعان فيليب على أتو، وحصل في كلتا الحالتين على منح وامتيازات للبابوية نظير انتصاره لكلا الطرفين المتنازعين، فضلاً عن تحرير الولايات البابوية مما كان يتهددها من التطويق، وأذكر الإمبراطور أن بابا من البابوات هو الذي "نقل" السلطة الإمبراطورية من اليونان إلى الفرنجة، وأن شارلمان لم يصبح إمبراطوراً إلا بعد أن مسحه البابا وتوجه، وأن في مقدور البابوات أن يستردوا ما منحوا. وحسبنا دليلاً على سلطان إنوسنت ما وصفه به زائر بيزنطي إلى رومة إذ قال أن إنوسنت "ليس خليفة بطرس بل خليفة قسطنطين"(125).
وقد أحبط ما بذله الحكام الزمنيون من جهود لفرض الضرائب على رجال الدين دون رضاء البابا، ورصد المال في الكرسي البابوي لمعونة القساوسة المحتاجين،
وبذل ما في وسعه لتحسين تربية رجال الدين وتعليمهم، وقد رفع من منزلتهم الاجتماعية حين عرف الكنيسة بأنها ليست جميع المؤمنين المسيحيين بل هي جميع رجال الدين المسيحيين، وقاوم عادة استيلاء الأساقفة أو رؤساء الأديرة على العشور التي تجمع من الأبرشيات وحرمان قساوسة الأبرشية منها (126). وعمل على إصلاح ما كان في أديرة الرجال والنساء من تراخ وإهمال بأن نظم زيارات متتابعة لهذه الأديرة لمعرفة أحوالها والتفتيش عليها. واستطاع بفضل ما وضعه من التشريعات أن يحدد العلاقة بين رجال الدين وغير رجال الدين، وبين القساوسة والأساقفة، والأساقفة والبابوات. ورفع من شأن المجلس البابوي فجعله محكمة قديرة للمشورة، والإدارة، والقضاء، حتى أضحت وقتئذ أقدر هيئة حاكمة في زمانها، وقد ساعدت إجراءاتها ومصطلحاتها على تشكيل فن الدبلوماسية وطرائقها. وأكبر الظن أن إنوسنت نفسه كان أعظم أهل زمانه تبحراً في القانون، وأنه كان قادراً على أن يجد في المنطق والسوابق سنداً قانونياً لكل قرار يصدره. وكان العلماء والمشترعون يهرعون إلى "مجمع الكرادلة" حيث كان يرأس هذه الهيئة بوصفها المحكمة الكنسية العليا، ليفيدوا من نقاشها وأحكامها في المسائل القانونية المدنية والدينية، وقد اسماه بعضهم "أبا القانون Pater Iuris (127) ، وأسماه آخرون حباً وتفكهاً سليمان الثالث (128).
وكان آخر ما ناله من نصر بوصفه مشترعاً وبابا أن رأس في عام 1215 مجلس لاتران الرابع الذي عقد في كنيسة القديس يوحنا بروما. وأقبل على هذا المجلس العام الثاني عشر ألف وخمسمائة من رؤساء الأديرة، والأساقفة، ورؤساء الأساقفة، وغيرهم من علية رجال الدين والمندوبين فوق العادة من جميع الأمم ذات الشأن في العالم المسيحي المتحد. وكانت خطبة الافتتاح التي ألقاها البابا اعترافاً وتحدياً غاية في الجرأة إذ قال "إن أكبر سبب في فساد الخلق هو فساد رجال الدين أنفسهم، وهذا هو مصدر كل ما في العالم المسيحي من شرور: فقد
انمحى الإيمان، وطمست معالم الدين .... ووطئت العدالة بالأقدام، وكثر الخارجون على الدين، وجرؤ الناس على الانشقاق، وازداد غير المؤمنين قوة، وانتصر المسلمون (129)". ورضيت سلطات الكنيسة وعقولها المجتمعة في هذا المجلس أن يسيطر عليها رجل واحد سيطرة تامة، فكانت أحكامه هي قرارات المجلس، وقبلت هذه السلطات أن يعيد هو تعريف عقائد الكنيسة الأساسية، وأن يحدد معناها، وعرفت لأول مرة تعريفاً رسمياً عقيدة استحالة العشاء الرباني إلى لحم المسيح ودمه. وقبل المجلس قرارات البابا التي تطلب إلى غير المسيحيين في البلاد المسيحية أن يلبسوا شارة خاصة تميزهم من غيرهم، واستجاب بحماسة إلى دعوته بشن حرب على الملاحدة الألبجنسيين، ولكنه أيضاً أيده في الاعتراف بنقائض الكنيسة وعيوبها، وشهر ببيع المخلفات الزائفة، وانتقد انتقاداً شديداً صكوك الغفران التي "لا تتورع بعض رجال الدين .... عن منحها ويسرفون في ذلك إسرافاً بعيداً عن الحكمة، والتي أضحت مفاتيح الكنيسة بفضلها محتقرة، وفقدت التوبة ما كان لها من قوة" (130). وحاول المجلس أن يصلح حياة الرهبنة إصلاحاً شاملاً، وندد بإدمان رجال الدين الخمر وما انحدروا إليه من فساد في الأخلاق، وزواج في الخفاء، واتخذ بإزائهم إجراءات شديدة، ولكنه رفض ما ادعاه الألبجنسيون من أن كل اتصال بين الرجال والنساء إثم. وملاك القول أن مجلس لاتران الرابع كان في كثرة من حضره، وفي اتساع مداه وآثاره، أهم مجمع عقدته الكنيسة بعد مجلس نيقيه.
وبعد أن بلغ إنوسنت ذروة المجد في حياته أخذ ينهار مسرعاً نحو منيته العاجلة. ذلك أنه قد انهمك في توسيع سلطانه وإدارة أعماله انهماكاً دائماً لم يخلد فيه قط إلى شيء من الراحة، وأنهك قواه وهو لا يزال في الخامسة والخمسين من عمره. ومن أقواله وهو يتحسر: "ليس لدي متسع من الوقت أفكر فيه في الشؤون السماوية، بل إني قلما أجد وقتاً للتنفس، ولقد كرست حياتي لغيري
حتى كدت أصبح غريباً عن نفسي (131) " ولعله كان يسعه في آخر سنة من حياته أن يرجع بذاكرته إلى أعماله، وأن يحكم عليها حكماً موضوعياً أصدق من حكمه عليها في غمرة النزاع الذي كان وقت أن قام بها. لقد أخفقت الحملات الصليبية التي نظمها لاسترداد فلسطين، وكانت الحملة التي نجحت بعد وفاته هي التي أبيد فيها الألبجنسيون في جنوبي فرنسا بوحشية مجردة من كل رحمة. نعم إنه نال إعجاب مواطنيه، ولكنه لم ينل حبهم كما نال جريجوري الأول أو ليو التاسع، وقد شكا بعض رجال الدين من أنه كان ملكاً أكثر منه رجل دين، وظن القديس لتجاردس Lutgardia أنه لن يستطيع الفرار من النار إلا بشق الأنفس (132)، وحتى الكنيسة نفسها امتنعت عن أن تسلكه في عداد القديسين وفيهم من هم أقل وأكثر منه إطاعة لصوت الضمير، وإن كانت تفخر بعبقريته وتشكر له صادق جهوده.
ولكننا لا ينبغي لنا أن نضن عليه بأنه رفع الكنيسة إلى ذروة مجدها، وأوشك أن يحقق ما كانت تحلم به من أن تصبح دولة عالمية مسيطرة على شؤون الناس الأخلاقية. وكان هو أقدر حكام زمانه، يعمل لتحقيق أغراضه ببعد نظر، وإخلاص، ومزيج من الإصرار والمرونة، وجهود لا يكاد يصدقها الإنسان، فلما مات في عام 1216 كانت الكنيسة قد بلغت من دقة التنظيم، وعظيم الأبهة، وبعد الصيت، وقوة السلطان، ما لم تعرف له نظيراً قبل، وما لم تستمع بعد إلا في فترات جداً نادرة وقصيرة.
وليست لهونوريوس الثالث (1216 - 1227) منزلة عالية في سجلات التاريخ القاسية، لأنه كان لرقة حاشيته عاجزاً عن أن يخوض بقوة الحرب الناشبة بين الإمبراطورية والبابوية، أما جريجوري التاسع (1227 - 1241) فقد خاض غمار هذه الحرب بعزيمة تكاد تصل إلى درجة التعصب، وأن كان قد بلغ الثمانين من العمر حين جلس على كرسي البابوية وقد حارب فرديك
الثاني وانتصر عليه انتصاراً كان من أثره أن تأخر عصر النهضة مائة عام، وهو الذي نظم محكمة التفتيش، ولكنه كان إلى ذلك مخلصاً إخلاصاً لا يرقي إليه الشك، تقيا إلى حد البطولة، قوياً في دفاعه عما حسبه أثمن ما يملكه بنو الإنسان وهو الدين الذي جاء به المسيح.
وهل كان هذا الرجل قاسياً غليظ القلب، وهو الذي حمى كردينال فرانسس وهداه بحكمته، ولولا هذا لكان من الجائز أن يصبح من الملحدين المارقين. وقضى إنوسنت الرابع (1243 - 1254) على فردريك الثاني، وأقر استخدام محكمة التفتيش للتعذيب (133). وكان نصيراً صادقاً للفلسفة، مساعداً للجامعات، مؤسساً لمدارس القانون. وكان اسكندر الرابع (1254 - 1261) محباً للسلم، رحيماً، شفيقاً عادلاً "أدهش العالم بعده على الاستبداد"(134) ومعارضته لصفات أسلافه العسكرية" (135)، بفضل التقى عن السياسة، وقد مات "كسير القلب" كما يقول مؤرخ فرنسسكاني "ولم ينقطع يوماً عن التفكير فيما بين المسيحيين من نزاع متزايد رهيب" (136)، وعاد كلمنت الرابع (1265 - 1268) إلى امتشاق الحسام، ودبر هزيمة مانفرد Manfred، وقضى على أسرة هو هنستاوفن وعلى ألمانيا الإمبراطورية. ولما استعاد اليونان مدينة القسطنطينية تعرض الاتفاق القائم بين الكنيسة اليونانية والرومانية لخطر الزوال، ولكن جريجوري العاشر (1271 - 1276) استحق جمد ميخائيل بليجوس Miehael Palealogus بمقاومته مطامع شارل دوق أنجو في الاستيلاء على القسطنطينية، فلما عاد إمبراطور الروم إلى ملكه أخضع الكنيسة اليونانية إلى روما، وعادت البابوية إلى ما كانت عليه من تفوق.
الفصل الثامن
مالية الكنيسة
لقد كانت الكنيسة في واقع الأمر دولة أوروبية فوق الدول جميعها، تضطلع بشؤون العبادات، والأخلاق، والتعليم، والزواج، والحروب العامة، والحروب الصليبية، والموت، والوصايا، لنصف سكان قارة من القارات، وتشترك اشتراكاً فعلياً في تصريف الشؤون الزمنية، وتقيم أكثر الصروح نفقة في تاريخ العصور الوسطى، ولهذا كله لم تكن تستطيع أن تقوم بهذه الوظائف كلها إلا باستغلال مائة مصدر من مصادر الإيراد.
وكانت العشور أكبر مصادر هذا الإيراد: ذلك أن قانون الدولة فرض بعد شارلمان على جميع الأراضي التي يمتلكها غير رجال الدين أن تؤدي عشر مجموع غلتها أو ريعها عيناً أو نقداً إلى الكنيسة المحلية؛ كذلك فرض على كل أبرشية بعد القرن العاشر أن تبعث بجزء من عشورها إلى مطران الأسقفية. وأجازت مبادئ الإقطاع أن تقطع عشور الأبرشية للغير، وترهن، ويوصي بها، وتباع، شأنها في هذا الشأن جميع الأملاك أو الإيراد، فلم يكد يحل القرن الثاني عشر حتى نشأت شبكة مالية معقدة كانت الكنيسة المحلية وقسيسها هما القائمين على جمع عشورها ولم يكونا من مستهلكيها، وكان ينتظر من القس أن "يصب اللعنات من أجل عشوره" على حد قول الإنجليز - أي أن يخرج من الدين من يحاولون التملص من أدائها أو يزورون في إيرادهم؛ لأن الناس في تلك الأيام كانوا يكرهون أداء العشور للكنيسة التي يرون أن أعمالها لازمة لنجاتهم، كما يكرهون في هذه الأيام أداء الضرائب للدولة. فنحن نسمع عن ثورات يقوم بها دافعوا العشور من آن إلى آن، فقد حدث في رجيو إميليا Reggio Emilia عام
1280، كما يقول الراهب سلمبين Salimbene، أن تحدي الناس قرارات الحرمان والتحريم، وتعاهدوا على "ألا يؤدي أحد منهم أي عشور إلى رجال الدين .... وألا يجلسوا معهم على مائدة الطعام .... وألا يقدموا لهم طعاماً أو شراباً - وهو حرمان معكوس، اضطر معه الأسقف إلى أن يترضاهم (137).
وكان مصدر إيراد الكنيسة الأساسي هو أراضيها التي حصلت عليها بالهبة أو الوصية، وبالبيع أو إغلاق الرهن، أو بإصلاح الأراضي البور بأيدي جماعات الرهبان أو غيرها من الجماعات الدينية. وكان ينتظر من كل مالك حسب السنن الإقطاعية أن يوصي حين مماته بجزء من ماله للكنيسة؛ وكان الذين لا يفعلون هذا يرتاب في صدق إيمانهم، ويتعرضون لعدم الدفن في الأراضي المخصصة للموتى الصالحين (138). وإذا كان الذين يعرفون الكتابة من غير رجال الدين نسبة ضئيلة من الأهلين، فإن القس كان هو الذي يدعى في العادة إلى كتابة الوصايا. وقد اصدر البابا إسكندر الثالث في عام 1170 قراراً يحرم على أي إنسان عمل وصية صحيحة من الوجهة القانونية إلا في حضرة قسيس، وينص على أن كل موثق من غير رجال الدين يجرؤ على كتابة وصية بغير هذا الشرط يطرد من حظيرة الدين (139)، وكانت الكنيسة وحدها هي المختصة بإثبات صحة الوصايا. وكانت الهبات أو الوصايا لكنيسة ما في نظر الناس هي أول الطرق الموثوق بها للنجاة من آلام المطهر. وكان عدد كبير من الوصايا للكنيسة، وبخاصة قبل عام 1000 م يبدأ بهذه العبارة: Adventante mudi vespero، ومعناها أنه "لما كانت أمسية العالم قريبة" (140). ولقد سبق القول إن بعض الملاك كانوا ينزلون عن أموالهم إلى الكنيسة بوصف ذلك تأميناً لهم من العجز: فكانت الكنيسة تؤدي للراهب راتباً سنوياً وترعاه في حالتي المرضى والشيخوخة، على أن تتسلم تركته خالية من جميع الحقوق العينية حين وفاته (141). وكانت بعض الأديرة "تؤاخي" المحسنين إليها فتمنحهم نصيباً من تخفيف عذاب المطهر، وهو
التخفيف الذي ناله الرهبان بفضل صلواتهم وصالح أعمالهم (142). ولم يكتف الصليبيون ببيع أراضيهم إلى الكنيسة بأثمان بخسة ليحصلوا ببيعها على ما يحتاجونه من المال، بل إنهم استدانوا الأموال من الهيئات الكنسية بضمان ممتلكاتهم أو برهانها لها؛ وكثيراً ما كانت هذه الممتلكات تؤول إلى تلك الهيئات لعجز أصحابها عن أداء ما عليها من الديون. ومن الناس من كانوا يموتون وليس لهم ورثة طبيعيون فيتركون أملاكهم كلها للكنيسة، من ذلك أن ما تلدا دوقة تسكانيا Gountess Matilda of Tuscany حاولت أن توصي للكنيسة بما يكاد يبلغ ربع مساحة إيطاليا كلها.
وإذا كانت أملاك الكنيسة مما لا يجوز انتقاله إلى غيرها، وكانت قبل عام 1200 معفاة في الأحوال العادية من الضرائب الزمنية (143)، فقد أخذت هذه الأملاك تنمو على مر القرون، فلم يكن من الأمور غير العادية أن تمتلك كنيسة كبرى، أو يمتلك دير للرجال أو النساء، عدة آلاف من الضياع تشمل فيما تشمله نحو أثنتى عشرة بلدة، بل تشمل أحياناً مدينة كبرى أو مدينتين (144). فقد كان أسقف لانجر Langres مثلاً يمتلك المقاطعة كلها. وكان دير القديس مارتن في تور يحكم عشرين ألفاً من أرقاء الأرض، وكان أسقف بولونيا يمتلك ألفي ضيعة، وكان لدير لورسش Lorsch مثل هذا القدر من الضياع؛ وكان لدير لاس هولجاس Las Huelgas في أسبانيا أربع وستون بلدة (145)، وكانت الكنيسة في قشتالة تمتلك حوالي عام 1200 م ربع الأراضي الزراعية، وكانت في إنجلترا تمتلك خمسها، وفي ألمانيا ثلثها، وفي ليفونيا Livonia نصفها (146). على أنه يجدر بنا أن ننبه القارئ إلى أن هذه التقديرات تقريبية، وليست كلها مما يوثق بصحته. وأضحت هذه الثروة المكدسة موضع حسد الدولة ومطمعها. فقد صادر شارل مارتل أملاك الكنيسة ليمول بها حروبه، وأصدر لويس التقي القوانين التي تحرم على من كان له أبناء أن يوصي بأملاكه إلى الكنيسة (147).
وجرد هنري الثاني إمبراطور ألمانيا كثيراً من الأديرة من أراضيها، وقال في تبرير هذا العمل إن الرهبان قد نذروا أن يعيشوا فقراء، ووضعت بعض القوانين الإنجليزية الخاصة بالأموال المرصودة قيوداً على انتقال الأملاك إلى "الهيئات" أي الجماعات الكنسية. واستولى إدوارد الأول من الكنيسة الإنجليزية في عام 1291 على عشر أملاكها، كما استولى منها في عام 1294 على نصف دخلها السنوي. وبدأ فيليب الثاني سنة فرض الضرائب على أملاك الكنيسة في فرنسا، وجرى القديس لويس على هذه السنة وجعلها فيليب الرابع شريعة مقررة. ولما تقدمت الصناعة والتجارة، وكثرت النقود، ارتفعت الأثمان، أصبح دخل الأديرة والأسقفيات الآتي معظمه من الرسوم الإقطاعية التي كانت مقدرة من قبل على أساس مستوى الأثمان المنخفضة، والتي لم يكن يستطاع رفعها في هذه الأيام، نقول أصبح دخل الأديرة والأسقفيات لا يفي بمعيشة من فيها، دع عنك ترفهم (148)، فلم يحل عام 1270 حتى كانت كثرة الكنائس والأديرة في فرنسا مستغرقة في الدين، ذلك أنها كانت قد استدانت من أصحاب المصارف بفوائد مرتفعة لتفي بمطالب الملوك، وكان هذا من أسباب ضعف نشاط البناء في فرنسا في آخر القرن الثالث عشر.
وزاد البابوات في فقر الأسقفيات بما فرضوه من الضرائب على أملاكها وإيرادها ليمولوا الحروب الصليبية في بادئ الأمر وليوفوا بنفقات الكرسي البابوي المطردة الزيادة فيما بعد؛ وكان لابد من وجود مصادر للدخل المركزي كلما وسعت البابوية مجال أعمالها وزادتها تعقيداً. وتحقيقاً لهذه الغاية أمر البابا إنوسنت الثالث (1199) جميع الأساقفة أن يرسلوا إلى كرسي للقديس بطرس جزءاً من أربعين جزء من إيرادهم في كل عام، وفرضت ضرائب على جميع أديرة الرجال والنساء، وعلى الكنائس الداخلة في دائرة الحماية البابوية مباشرة. وفرض البابوات على كل أسقف في أول اختياره لمنصبه ضريبة تعادل من الوجهة
النظرية جميع إيراده في السنة الأولى، ولكنها كانت من الوجهة العملية تصف هذا الإيراد؟ وذلك نظير تثبيته في منصبه. وكذلك كانت مبالغ كبيرة تنتظر ممن يعينون رؤساء أساقفة، وكان يطلب إلى كل بيت من البيوت المسيحية أن يرسل إلى الكرسي بنساً سنوياً (90 slash 100 من الريال الأمريكي) يعرف باسم "بنسات بطرس". وقد جرت العادة على أن تفرض رسوم على القضايا التي تعرض على المحكمة البابوية. وكان البابوات يدعون لأنفسهم حتى لخروج على القانون الكنسي في بعض الحالات، كالإذن بزواج من يحرم زواجهم من ذوي القربى إذا بدا لهم أن ثمة غاية سياسية طيبة تبرر هذا الخروج، وفرضت أجور على الإجراءات القضائية التي يتطلبها هذا العمل. كذلك جاءت إلى البابوات أموال طائلة ممن ينالون صكوك الغفران البابوية، ومن الحجاج القادمين إلى روما. وقد حسب دخل الكرسي البابوي في عام 1250 فكان أكثر من دخل رؤساء الدول الأوروبية الزمنين مجتمعين (149). ولقد تلقى البابا من إنجلترا في عام 1252 ثلاثة أمثال إيراد التاج (150).
ومهما تكن ثروة الكنيسة متناسبة مع اتساع وظائفها، فقد كانت هذه الثروة أهم أسباب الإلحاد في هذا العصر. فقد أعلن آرنلد البرشيائي Arnold of Brescia أن كل قس أو راهب يموت وله ملك مآله النار لا محالة (151). وزاد البجوميل Bogoniles والولدنس Waldenses والباترين Paterines والكاثاري Cathari على ذلك فشنوا حملة شعواء على ثروة أتباع المسيح. وكان من قصائد الهجاء المتداولة في القرن الثالث عشر قصيدة عنوانها "الإنجيل حسب الماركات الفضية" مطلعها:"وقال البابوات للرومان في تلك الأيام: إذا جاء ابن الإنسان إلى مقعد جلالتنا فيكن أول ما تقولون: أيها الصديق لم جئت إلى هذا المكان؟ فإذا لم يعطكم شيئاً فألقوا به في الظلمات الخارجية"(152). وإنا لنجد في جميع آداب ذلك الوقت - في الأقاصيص الخرافية؛ وفي الأغاني، وفي قصة الوردة Roman de La Rose
وفي قصائد الشعراء الجاهلين، وأشعار شعراء الفروسية الغزليين، وفي قصائد دانتي، وفي أقوال مؤرخي الأديرة الإخباريين أنفسهم شكاوي من بخل رجال الدين أو ثرائهم (153). وقد ندد ماثيو باريس Mathew Paris أحد الرهبان الإنجليز بجشع رجال الدين الإنجليز والرومان الذين يعيشون منعمين من أملاك المسيح (154). وكتب هيوبرت ده رومان Hubert de Romans رئيس طائفة الرهبان الدمنيك عن "بائعي صكوك الغفران البابوية الذين يفسدون المحاكم الدينية بما يقدمونه من الرشا"(155). ويتحدث بترس كانتور Petrus Cantor وهو نفسه قسيس، عن القساوسة الذين يبيعون القداس أو أدعية الغروب (156)، وشنع بكت Beckte رئيس أساقفة كنتر بري بمجلس القضاء البابوي الذي يباع ويشتري، وينقل عن هنري الثاني قولا له يفخر فيه بأن جميع أعضاء مجلس الكرادلة يتقاضون منه أجوراً (157). والحق أن تهم الرشوة والفساد قد وجهت إلى كل حكومة ظهرت في التاريخ، وإن في هذه التهم لشيئاً من الحقيقة في جميع الأحوال، غير أن فيها كذلك بعض المبالغة في حوادث منشؤها أمثلة صاخبة حدثت في بعض الأوقات، ولكن هذه التهم تثير أحياناً غضباً يكاد يبلغ حد الثورة ـ، ولقد كان يسع الأهلين الذين أقاموا بدريهماتهم الكنائس لمريم العذراء أن يحتجوا وهم غضاب على جشع الكنيسة مجتمعة، وكم من مرة قتلوا قساً عنيداً (158).
واشتركت الكنيسة نفسها في نقد جشع رجال الدين، وبذلت كثيراً من الجهود للقضاء على شره رجالها وترفهم. فلقد حاول مئات من رجال الدين من القديس بطرس داميان St. Peter Damian والقديس برنار St. Bernard والقديس فرانسس، والكاردينال فترى Cardinal de Vitry إلى صغار الرهبان تقليل هذه المساوئ (159)، وإن ما كتبه هؤلاء المصلحون من رجال الكنيسة لهو أهم المصادر التي عرفنا منها ما نعرفه عن هذه المساوئ. وقام عدد من طوائف الرهبان ينادون بضرورة إصلاحها، ويضربون بأنفسهم المثل لما
يجب أن يكون عليه هذا الإصلاح، وندد البابا إسكندر الثالث ومجلس لاتران الذي عقد في عام 1179 بفرض الأجور على أداء مراسم التعميد، أو مسح المشرفين على الموت، أو القيام بمراسم الزواج، ودعا جريجوري العاشر مجلس ليون الجامع سنة 1274 خاصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لإصلاح الكنيسة. ولم يكن البابوات أنفسهم في ذلك العصر ممن يبدو عليهم ميل إلى الترف، وقد كسبوا مالهم بالانهماك في أداء واجباتهم المنهكة. وإن من المآسي التي تتعرض لها الروحانيات أنها تضمحل ويضعف شأنها إذا لم يعن بتنظيمها، وأنها تفسدها ما يتطلبه تنظيمها من ضرورات مادية.
الباب الثامن والعشرون
محاكم التفتيش في بداية عهدها
1000 -
1300
الفصل الأول
الإلحاد الألبجنسي
وصارت الحملة على رجال الدين سيلاً جارفاً في آخر القرن الثاني عشر فقد كان في عصر الإيمان مخابئ منعزل من التصوف الديني والعاطفة الدينية، بمنجاة من المسيحية الكهنوتية المنظمة، غير راضية عن أعمالها. وأقبلت على بلاد الغرب موجات جديدة من التصوف الشرقي لعلها سارت في ركاب الصليبيين العائدين إلى بلادهم. وجاءت من بلاد فارس عن طريق آسيا الصغرى وبلاد البلقان أصداء الأثينية المانوية
(1)
والشيوعية المزدكية. وجاءت من بلاد الإسلام كراهية الصور والاشمئزاز من القساوسة، وأعقب الحروب الصليبية واخفاقها شك خفي فيما يعزي إلى الكنيسة المسيحية من أصل قدسي ومعونة إلهية. وجاء البوليسيون paulicians إلى إيطاليا وبروفانس عن طريق بلاد البلقان فارين نحو الغرب من وجه الاضطهاد البيزنطي، يحملون معهم سخريتهم من الصور المقدسة والعشاء الرباني، ورجال الدين، وقسّموا إلى عالم روحي
(1)
المانوية أتباع ماني، وهو رجل من أهل همذان عاش بين عامي 215 و 276 وقال إن كل شيء يخرج من أصلين رئيسيين هما النور والظلام أو الخير والشر. (المترجم)
من خلق الله وعالم مادي من خلق الشيطان، وقالوا إن الشيطان هو يهوه الوارد ذكره في العهد القديم. وتكونت طائفة البجوميل bogomiles (أي أصدقاء الله) في بلغارية، وتسّموا فيها بهذا الاسم، وانتشروا في البوسنة بنوع خاص، وهو حموا بالسيف والنار في أوقات مختلفة في القرن الثالث عشر، واستماتوا في الدفاع عن أنفسهم، ثم استسلموا آخر الأمر (1463) للإسلام لا للمسيحية.
وظهرت في عام 1000 شيعة في طولوز (طلوشة) وأورليان، تنكر المعجزات وقدرة التعميد على غسل الذنوب ووجود المسيح في القربان المقدس، وتأثير الصلوات للقديسين. وأغفل أمرهم على إلى حين، ثم حوربوا، وأحرق ثلاثة عشر منهم أحياء في عام 1023. ونشأت شيع ملحدة أخرى شبيهة بهم، وأعقبت نشأتهم اضطرابات في كمبريه، ولينج (1025)، وجسلار Goslar (1052) وسواسون Soissons (1114) ، وكولوني (1146)، وغيرها من المدن، أحصى منها برثلد الرجنزبرجي Bcrthold of regensburg مائة وخمسين شيعة في القرن الثالث عشر (1)، منها جماعات عديمة الضرر تلتقي ليقرأ بعضها إلى بعض الكتاب المقدس بلغتها القومية دون الاستعانة بقسيس، وليفسروا بأنفسهم ما فيه من عبارات اختلف الناس في تفسيرها، ومنها جماعات عدة كالهيوملياتي Humiliati في ايطاليا، والبنجوين Beguines والبلغارد Beghards في البلاد الوطيئة، تتمسك بالدين في كل شيء إلا في إصرارها المحير على ان يعيش القساوسة فقراء. وكان الفرنسيسكان شيعة من هذا الصنف، وكانت تعد من الشيع الملحدة ولم تنج من هذا إلا بشق الأنفس.
لكن الولدنزيين Waldenses لم ينجو من هذا المصير، فقد استأجر تاجر ثري يدعى بطرس والدو Waldo Pater في عام 1170 جماعة من العلماء ليترجموا الكتاب المقدس إلى اللانج دك Langue doc لغة جنوبي فرنسا. وأقبل على درس الترجمة بشغف، وخرج من هذا الدرس معتقداً أن من واجب المسيحيين
أن يعيشوا كما كان يعيش الرسل - ليس للواحد منهم ملك خاص. ثم نزل عن جزء من ثروته لزوجته، ووزع الباقي منها للفقراء، وقام يدعوا الناس إلى أن يعيشوا فقراء. وجمع حوله طائفة قليلة العدد هي (رجال ليون الفقراء) لبسوا مسوح الرهبان، وعاشوا عيشة العفة والطهارة، ومشوا حفاة أو منتعلين الصنادل، وكانوا ينفقون من مكاسبهم مشاعة (2). وصبر عليهم رجال الدين بعض الوقت فلم يعارضوهم في شيء، وسمحوا لهم بان يقرءوا أو ينشدوا في الكنائس (3). ولكن بطرس ضرب بمنجله محصول رجل غيره، منفذاً بذلك أوامر الإنجيل بحرفيتها؛ فأذكره رئيس أساقفة ليون بعبارة قوية أن الأساقفة وحدهم هم الذين يجوز لهم أن يعضوا الناس. وسافر بطرس إلى روما (1189)؛ وطلب إلى الإسكندر الثالث أن يمنحه إذناً بالوعظ، فأجابه البابا إلى طلبه على شريطة أن يوافق على ذلك رجال الدين المحليون، وأن يكون خاضعاً لإشرافهم. وواصل بطرس عظاته، دون أن يحصل على موافقة رجال الدين المحليين، وأصبح أتباعه من أشهر رجال الدين تمسكاً بالكتاب المقدس، وحفظوا فقرات طويلة منه عن ظهر قلب. واصطبغت هذه الحركة تدريجياً صبغة معادية لرجال الدين، ونبذتهم جميعاً، وأنكرت صحة العشاء الرباني الذي يقدمه قس آثم، وعزت إلى كل مؤمن طاهر القدرة على العفو عن الذنوب. وعارض بعض الأعضاء صكوك الغفران، وعقيدة المطهر، وتحول القربان المقدس إلى جسم المسيح ودمه، والصلاة للقديسين. وقامت طائفة منهم تنادي بأن "الأشياء جميعها يجب أن تكون ملكاً مشاعاً"(4). ونادت طائفة أخرى بأن الكنيسة هي المرأة الحمراء المذكورة في سفر الرؤيا (5). وصدر في عام 1148 قرار بحل هذه الجماعة، وقبل إنوسنت الثالث في الكنيسة عام 1206 فئة منها هي فئة "الكاثوليك الفقراء"، أما كثرتها الغالبة فقد أصرت على آرائها الخارجة على الدين، وانتشرت من فرنسا إلى أسبانيا وألمانيا. وأصدر مجلس عقد في طولوز عام 1229، ليقاوم في أغلب
الظن انتشار هذه الشيعة، قراراً يقضي بألا يمتلك شخص من غير رجال الدين كتباً مقدسة عدا كتب التراتيل والأدعية (ومعظمها مزامير)، وحرم عليهم أن يقرءوا هذه الكتب بغير اللغة اللاتينية، لأن الكنيسة لم تكن حتى ذلك الوقت قد بحثت أية ترجمة إلى اللغات القومية وأيدت صحتها (6). ولما قاومت حركة القضاء على الألبجنسيين حرق آلاف من أتباع ولدو؛ ومات بطرس نفسه في بوهيميا في عام 1217، ويبدو أنه مات ميتة طبيعية.
وقبل أن ينتصف القرن الثاني عشر كانت بلدان أوربا الغربية معششاً للشيع الملحدة، حتى قال أحد الأساقفة في عام 1190 إن "المدن ملآى بأولئك الأنبياء الكاذبين"(7)، وكان في ميلان وحدها سبعة عشر ديناً جديداً، وكان أهم الشيع الملحدة فيها شيعة البتريائيين Pararines - ويبدو أن اسمهم مشتق من بتاريا Pataria أحد الأحياء الفقيرة في البلدة. ويلوح أن هذه الحركة بدأت احتجاجاً على الأغنياء، ثم استحالت حركة ضد رجال الدين، وأخذت تندد بالرشا وبيع المناصب الكهنوتية، وثراء رجال الدين وزواجهم، وانتشار التسري بينهم، واقترحت كما قال أحد زعمائها "أن تصادر أموال رجال الدين، وأتباع أملاكهم بالمزاد، فإذا قاوموا فلتبح بيوتهم للنهب، "وليطردوا هم وأبناؤهم غير الشرعيين من المدينة" (8). ونشأت شيع مثلها ضد رجال الدين في فيتربو Viterbo، وأرفيتو Orvieto وفيرونا Verona، وفرارا Ferrara وبارما parma وبياسنزا Piacenza، وريميني Rimini
…
(9) ، وكانت هذه الشيع في بعض الأوقات هي المسيطرة على الجمعيات الشعبية، والمستولية على زمام الحكم، وبلغ من سلطانها أن فرضت الضرائب على رجال الدين لتمويل المشروعات المدنية (10). وأمر إنوسنت الثالث مندوبه في لميارديا أن يستقسم جميع موظفي البلديات ألا يعينوا أحداً من الملاحدة في أية وظيفة أو أن يوافقوا على أي تعيين من هذا القبيل. وثار الغوغاء في مدينة ميلان عام 1273 وأخذوا "يجهرون
بأقوال التجديف والسباب"، ودنسوا عدة كنائس "بالأقذار التي نستنكف عن ذكرها" (11).
وكانت أسماء مختلفة تطلق على الشيع الملحدة كلها، فكانت تسمى شيعة الكاثارى، وهذا اللفظ مشتق من كلمة يونانية معناها "الطاهر". أو البلغاري نسبة إلى أصلهم (ومن هذا اللفظ اشتقت كلمة "بجر Bugger" للسباب)، والألبجنستين نسبة إلى بلدة ألبي Albi التي كانوا يكثرون فيها بنوع خاص. وكانت مدائن منبليه، ونربونه ومرسيليا المراكز الفرنسية للشيع الملحدة، ولعل منشأ هذا هو اتصالها بالمسلمين واليهود، وتردد التجار من مراكز الإلحاد في البوسنة، وبلغاريا، وإيطاليا. ونشر التجار حركة الإلحاد في طولوز، وأرليان، وسواسون، وأراس، وريمس، ولكن لانجويدك Languedoc وبروفانس بقيتا حصتها الحصين. وكانت حضارة العصور الوسطى الفرنسية قد بلغت ذروتها في هاتين المقاطعتين، فكان أتباع الأديان الكبرى يختلفون فيهما متحابين كما يتحاب أهل الحضر المهذبون.
وكانت حساناً مزهوات، والأخلاق طليقة من القيود، وكان الشعراء الغزليون ينشرون الأفكار المرحة، وكان عصر النهضة وشيك البدء فيهما كما كان وشيك البدء في إيطاليا أيام فردريك. وكانت فرنسا الجنوبية تتألف وقتئذ (1200) من إمارات تكاد تستقل كل منها بشئونها لا يربطها بالولاء إلى ملك فرنسا إلا رباطٍ واه. وكان نبلاء طولوز هم أعظم السادة في ذلك الإقليم، فقد كانوا يملكون من الأراضي أكثر من أملاك الملك الخاصة. وكانت عقائد الكاثارى وشعائرهم من ناحية عودة إلى العقائد والأساليب المسيحية الأولى، وكانت ناحية أخرى ذكرى غامضة للإلحاد الأريوسي الذي انتشر في فرنسا الجنوبية في عهد القوط الغربيين، ومن ناحية ثالثة نتيجة للآراء المانوية وغيرها من الآراء الشرقية. وكان من بينهم رجال دين يرتدون ثياباً سوداء، ومطارنة يسمون
الكمل perfecti، يقسمون وقت ترقيتهم لهذه المناصب أن يتخلوا عن آبائهم أزواجهم، أبنائهم، أن يهبوا أنفسهم "لله والإنجيل
…
ألا يقربوا امرأة قط، ولا يقتلوا حيواناً، ولا يأكل اللحم أو البيض أو منتجات الألبان، وألا يطمعوا إلا السمك والخضر. وكان أتباعهم "المؤمنون (Gredentes) " يتعهدون بأن يقسموا فيما بعد الأيمان على هذا، وكان يسمح لهم قبل أن يقسموها أن يأكلوا اللحم، ويتزوجوا ولكنهم كان يطلب إليهم أن يخرجوا من الكنيسة الكاثوليكية، وأن يسيروا نحو الحياة "الكاملة"، وأن يحيوا كل واحد من الكمل بثلاث ركعات علامة على التعظيم.
ويتقسم فلسفة الكاثارى الدينية الكون كما يقسمه المانوية إلى الخير: الله والروح، والسماء، والشر، الشيطان، والمادة، والعالم المادي. وتقول إن الشيطان لا الله هو الذي خلق العالم المرئي. وهي تعد المادة كلها شرا بما فيها الصليب الذي مات عليه المسيح والقربان المقدس، وتقول إن المسيح لم يكن يتحدث إلا مجازاً حين قال عن الخبز:"هذا جسمي"(13). وإذا كانت الأجسام كلها من المادة فإن كل اتصال بها يدنس المتصل، وكل الاتصال الجنسي إثم، وكان الجماع هو خطيئة آدم وحواء (14). ويصف أعداء الألبجنسيين أولئك القوم بأنهم يرفضون العشاء الربا، والقداس، وتعظيم الصور المقدسة، والتثليث، ولا يؤمنون بأن المسيح ولد من عذراء، وعندهم أن المسيح من الملائكة، ولكنه ليس هو الله. ويقال عنهم إنهم ينكرون الملكية الخاصة، ويأملون أن تقسم الطيبات بين الناس بالتساوي (15). وقد اتخذوا "عظة الجيل" أساساً لمبادئهم الأخلاقية؛ وكانوا يعملون أن يحبوا اعداءهم، وأن يعنوا
بالمرضى والفقراء، وألا يقسموا قط، وأن يستمسكوا على الدوام بالسلم؛ وكان يقال لهم إن العنف يتنافى مع الخلق الكريم، ولو كان موجهاً للكفار، وإن عقوبة الإعدام من أكبر الجرائم، وإن على الإنسان أن يوقن وهو مطمئن أن الله سينتصر
(1)
آخر الأمر على الشر من غير أن يستخدم وسائل شريرة (16). ولم يكن في هذه الفلسفة الدينية نار ولا مطهر، بل إن كل نفس ستنجو بعد أن تتقلب في عدة أدوار من التناسخ تطهرها من آثامها. ولا بد للإنسان أن يموت وهو طاهر لكي يصل إلى السماء؛ ولهذا كان عليه أن يتلقى من قس مسيحي القداس الأخير الذي يتم تطهير الروح من آثامها. وكان الكثاريون المؤمنون يؤجلون هذا القداس (كما كان بعض المسيحيين الأولين يؤجلون التعميد) إلى مرضهم الأخير في ظنهم، وكان الذين يشفون من هذا المرض يتعرضون لخطو الدنس من جديد، وللموت دون أن يقوموا بمراسيم القداس الأخير، ولهذا كان من أكبر البلايا أن يشفى الشخص من مرضه بعد أن يقوم بمراسيمه. وكان القساوسة الألبجنسيون يتهمون بأنهم يعملون لمنع هذه الكارثة بإقناع الكثيرين من المرضى الذين يشفون بأن يميتوا أنفسهم جوعاً ليرقوا إلى السماء. ويؤكد لنا أعداؤهم أنهم كانوا في بعض الأحيان يميتون المريض خنقاً برضاه حتى لا يكون ثمة مجال لاحتمال شفائه من مرضه الأخير (17).
ولقد كان يسع الكنيسة أن تترك شيعة الكاثارى تقضى بنفسها على نفسها، لولا أن هذه الطائفة أخذت توجه سهام النقد إلى الكنيسة. فقد أنكرت أن الكنيسة كنيسة المسيح. وقالت إن القديس بطرس لم يأت قط إلى رومة، ولم يؤسس البابوية، وإن البابوات خلفاء الأباطرة لا خلفاء الرسل، وإن المسيح لم يجد له مكاناً يضع فيه رأسه، أما البابا فيسكن قصراً منفياً، وإن المسيح لم يكن له ملك ولا مال ولكن كبار رجال الدين المسيحيين من ذوي الثراء
(1)
من تقرير كتبه سكوني Sacchoni أحد قضاة محكمة التفتيش (12). ولسنا نعرف شيئاً من عقائد الكاثارى وشعائرهم إلا منقولا عن أعدائهم. أما ما كتبوه هم فقد ضاع أو تلف.
العريض، وما من شك - كما يقول الكاثارى - في أن رؤساء الأساقفة، والأساقفة، ذوي الأملاك الواسعة، والقساوسة الدنيويين، والرهبان قسمان؛ هم الفريسيون Pharisees (الزنادقة) الأقدمون عادوا إلى الحياة من جديد! ولم يكونوا يشكون في أن الكنيسة الرومانية هي "زانية بابل"، وأن رجال الدين هم زمرة الشيطان، وأن البابا هو المسيح الدجال (18). وكانوا ينددون بالداعين إلى الحروب الصليبية ويصفونهم بأنهم قتله (19)، وكان الكثيرين منهم يستهزئون بصكوك الغفران والمخلفات المقدسة. ويقال إن جماعة منهم صوروا العذراء في صورة قبيحة، عوراء، مشوهة الجسم، وادعوا أنهم يفعلون بهذه الصورة المعجزات، وإن كثيرين من الناس آمنوا بقوة هذه الصور ة الزائفة، ثم كشفوا هم أنفسهم آخر الأمر عن سخريتهم (20). ونشرت كثير من آراء الكاثارى عن طريق الأغاني التي يذيعها شعراء الفروسية الغزلون، ولم يكن هؤلاء ممن تعجبهم تعاليم المسيح الأخلاقية وإن لم يعتنقوا آراء الشيعة الجديدة. غير أن جميع زعماء هذه الطائفة من الشعراء كانوا يعدون من أنصار الألبجنسيين، فقد كانوا يسخرون من الحج، والاعتراف، والماء المقدس، والصليب، وكانوا يسمون الكنائس "معششات اللصوص"، كما القساوسة الكاثوليك في رأيهم "خونة، كاذبين، منافقين"(21).
وظل رجال الدين والسلطة الزمنية في فرنسا الجنوبية حيناً من الدهر يبدون الكثير من التسامح مع طائفة الكاثارى، ويلوح أنهم أجازوا الجمهرة الشعب أن تختار بملء حريتها بين الدينين القديم والجديد (22). وعقدت مجالس عامة تتنافس فيها فقهاء الكاثارى والكاثوليك، منها واحد عقد في كاركسون Carcassonne حضرة مندوب من قبل البابا وآخر من قبل بجر والثاني ملك أرغونة (1204). وكذلك عقدت عدة فروع مختلفة من الكاثارى مجلساً من رجال دينها في عام 1176، وحضرة ممثلون لهذه الفروع من بلاد مختلفة.
وتباحث المجتمعون في عقائد هذه الشيعة؛ ونظمها؛ وشئونها الإدارية، ووضعت قواعد تسير بمقتضاها، وانفض المجتمعون دون أن يتعرض لهم أحد (23). وفوق هذا فإن الأشراف رأوا أن من الخير لهم أن يضعفوا سلطات الكنيسة في لانجويدك، ذلك أن هذه الكنيسة كانت واسعة الثراء تمتلك الكثير من الأرض، على حين الأشراف كانوا إذا قيسوا إليها فقراء، ولهذا شرعوا ينتزعون بعض أراضيها. وحدث في عام 1171 أن هاجم فيكونت بيزيير Beziers ديراً من الأديرة، وزج أسقف ألبى Albi في السجن، وعين أحد الخارجين على الدين لحراسته. ولما أن اختار رهبان آلية Allet رئيساً عليهم ممن لا يرضى عنهم الفيكونت أحرق الدير وزج بالرئيس في السجن. فلما مات السجين نصب الفيكونت المرح جثته في المنبر، وأرغم الرهبان على أن يختاروا في مكانه رئيساً يرتضيه. كذلك طرد ريمند روجر Raymond Roger كونت فوا foix رئيس دير باميير Pamiers ورهبانه من ديرهم، وأطعم خيله الشوفان من فوق من فوق المذبح، وأستخدم جنوده أذرع الصلبان التي عليها صورة المسيح مصلوباً وأرجلها مدقات لطحن الحبوب، واتخذوا صورة المسيح هدفاً للتدريب على الرماية. وهدم ريمند كونت طولوز عدداً من الكنائس، واضطهد رهبان مواساك Moissac، وطرد من حظيرة الدين (1196)، ولكن الحرمان الديني كان وقتئذ أمراً لا قيمة له في نظر الأشراف المقيمين في فرنسا الجنوبية، واعتنق الكثيرون منهم آراء الكاثارى الإلحادية، أو بسطوا على معتنقيها حمايتهم (24).
ولما جلس إنوسنت الثالث على كرسي البابوية في عام 1198 رأى في هذه التطورات خطراً محدقاً بالكنيسة والدولة جميعاً. لقد كان يرى بعض العذر فيما يوجه إلى الكنيسة من نقد، ولكنه كان يحس بأنه لا يستطيع أن يقف مكتوف اليدين، يرى هذا الصرح الديني العظيم الذي وضع له أكبر الخطط، وعقد عليه أنبل الآمال، والذي بدا له أقوى عاصم من العنف البشرى، والفوضى
الاجتماعية، ومن ظلم الملوك-، يرى هذا الصرح يهاجم منأساسه، وتغتصب ممتلكاته، وتهان كرامته، ويتعرض لضرب السخرية والتجديف. لقد ارتكبت الدولة هي أيضا كثيراً من الذنوب، واحتضنت الفساد والموظفين الفاسدين، ولكن البلهاء وحدهم هم الذين يرغبون في القضاء عليها. وهل يستطاع إقامة نظام اجتماعي دائم على المبادئ التي تنهى عن الأبوة، وتدعو إلى الانتحار وهل يفلح نظام اقتصادي يمجد الفقر ويخلو من كل ما في الملكية من حافز إلى السعي والعمل؟ وهل يستطاع إنقاذ العلاقات الجنسية بين النساء والرجال. وتنشئة الأطفال، من الفوضى الوحشية إلا بنظام كنظام الزواج. وقد بدأت عقائد الكاثارى لإنوسنت كأنها خليط من السخف، نفشت فيها سذاجة الجماهير سما زعافاً؟ وما فائدة حرب صليبية توجه إلى المسلمين في فلسطين إذا ظل هؤلاء الألبجنسيون يتضاعفون في قلب العالم المسيحي نفسه؟
وكتب إنوسنت بعد شهرين من توليته إلى رئيس أساقفة أوتش Auch في غسقونية يقول:
إن قارب القديس بطرس الصغير تتلقفه العواصف وتتقاذفه أمواج البحر، ولكن أشد ما يحزنني ويقض مضجعي
…
أن قامت في هذه الأيام فئة لم نر لها فيما مضى مثيلا في تحررها من جميع القيود وفي شدة أذاها، قد ارتكبت أخطاء لا يرتكبها إلا الشياطين، وأخذت توقع نفوس السذج من الناس في حبائلها، وتفسد بخرافاتها وبدعها الكاذبة معاني الكتاب المقدس، وتحاول أن تهدم وحدة الكنيسة الكاثوليكية. وإذ كان
…
هذا الوباء قد أخذ ينتشر في غسقونية والأقاليم المجاورة لها، فإنا ندعوكم أنتم والأساقفة زملاءكم إلى مقاومته بكل ما أوتيتم من قوة
…
وقد أصدرنا إليكم هذا الأمر القوي النافذ أن تقضوا على هذه الفئات الملحدة بكل ما تستطيعون من الوسائل، وأن تخرجوا من
أسقفيتكم كل من أصابهم دنسها
…
وفي وسعكم إذا اضطررتم أن تجعلوا الأمراء والشعب يقضون عليهم بحد السيف. (25)
ويبدو أن رئيس أساقفة أوتش - وهو رجل متسامح مع غيره كما هو متسامح مع نفسه - لم يقم بالعمل الذي تدعوه هذه الرسالة إلى القيام به، أما رئيس أساقفة تربونة وأسقف بيزيير فقد قاوما المندوبين اللذين عينهما إنوسنت لينفذا أوامرهم وحدث حوالي ذلك الوقت أن اعتنقت ست سيدات تتزعمهن أخت كونت فواه مبادئ الكاثارييين، وكان ذلك في احتفال عام شهده كثير من النبلاء، فما كان من إنوسنت إلا أن استبدل بمندوبيه المحققين مندوباً آخر أشد منهم بطشاً وأمضى عزيمة، وكان هذا المندوب هو أرنود Arnaud رئيس الرهبان السسترسيين (1204) ومنحه قوات غير عادية تجيز له أن يفحص ويحقق في جميع أنحاء فرنسا. وأمره أن يعرض على ملك فرنسا وأشرافها عفواً شاملا لكي يساعدوه في القضاء على شيعة الكاثارى الملحدة، ثم عرض البابا على فليب أغسطس فضلا عن هذا أن يمنحه نظير هذه المساعدة جميع الأراضي التي يمتلكها من يأبون الانضمام إلى حملة صليبية ضد الألبجنسين (26). لكن فليب تردد في قبول هذا العرض لأنه كان قد أتم قبيل ذلك الوقت فتح نور مندية، وكان في حاجة إلى متسع من الوقت يهضم فيه هذا الكسب الجديد. ووافق ريمند السادس صاحب طولوز أن يستخدم طريقة الإقناع مع الملحدين، ولكنه أبى أن يشترك في تشن عليهم، فما كان من إنوسنت إلا أن أصدر عليه قرار الحرمان، فلما وعد ريمند بأن يجيب البابا، عاد إلى التباطؤ والإهمال، وقال أحد الفرسان الذين أمرهم مندوب الباب بطرد الكاثارى من أرضه، "كيف نفعل هذا وقد نشأنا مع هؤلاء القوم ومنهم بعض أهلينا، ونراهم يعيشون بيننا معيشة الصالحين؟ "(27). وأقبل على القوم القديس دمينك من أسبانيا، وأخذ يخطب داعياً إلى مسالمة الزنادقة، وعاد
بعضهم إلى الدين القويم متأثرين بتقواه وصلاحه (28). ولعل المشكلة كانت بهذه الطريقة يصاحبها إصلاح شأن رجال الدين لو لم يقتل بيير ده كاستلنو Pierre de Castelnau أحد مندوبي البابا بيد فارس بسط عليه ريمند بعدئذ حمايته (29). وكان إنوسنت قد رأى جهوده التي بذلها نحو عشر سنين طوال ضد هذه الطائفة الملحدة تبوء بالخيبة، فلجأ إلى أساليب العنف الشديد، وحرم ريمند ومحرضيه من الكنيسة، وأصدر قرار التحريم ضد الأراضي الخاضعة لهم، وعرض هذه الأراضي على كل مسيحي يستطيع القبض عليهم، ودعا المسيحيين في جميع أقطار العالم إلى حرب صليبية ضد الألبجنسيين ومن يحمونهم. وأجاز فليب أغسطس لكثيرين من بارونات مملكته أن يتطوعوا في هذه الحرب، وجاءت فصائل من ألمانيا وإيطاليا. ووعدت جميع من يشتركون في هذه الحرب بالغفران الشامل الذي وعد به من يحملون الصليب للقتال في فلسطين. وطلب ريمند المغفرة، وكفر عن ذنبه علنا (ضرب بالسوط وهو نصف عار في كنيسة القديس جيل St. Gills) ونال المغفرة للمرة الثانية واشترك في الحرب المقدسة (1209).
وقاوم معظم سكان لانجويدك، خاصتهم وعامتهم على السواء، أولئك الصليبيين، لأنهم رأوا في هجوم أشراف الشمال وجنوده المغامرين محاولة تبغي الاستيلاء على أرضهم تحت ستار الغيرة الدينية، بل إن المسيحيين الصادقين من أهل الجنوب قاوموا غارات أهل الشمال (30). ولما اقترب الصليبيون من بيزيير عرضوا عليها أن يجنبوها ويلات الحرب إذا ما سلمت إليهم جميع الملحدين الذين دون أسقفها أسماءهم، ولكن زعماء المدينة رفضوا هذا العرض وقالوا إنهم يفضلون أن يضرب عليهم الحصار حتى يضطروا إلى أكل أطفالهم فما كان من الصليبيين إلا أن تسلقوا أسوار المدينة، واستولوا عليها، وقتلوا من أهلها عشرين ألفا من الرجال والنساء والأطفال بلا تمييز بينهم، وحتى الذين احتموا منهم
بالكنيسة لم ينجو من القتل (31). ومن القصص التي شاعت وقتئذ قصة لا نجد لها سنداً إلا فيما كتبه قيصر يوس هيسترباخ Caesarius Heisterbach بعد عشرين عاماً من ذلك الوقت، وهي تقول إن أرنود Arnaud مندوب البابا سئل هل يؤمن الكاثوليك على حياتهم فلا يقتلون، فأجاب:" اقتلوهم جميعاً فالله يعلم من هم أنصار"(32) ولعله كان يخشى أن يجهر جميع المغلوبين وقتئذ باعتناق الدين القويم، ثم يعودون بعد إلى ضلالهم. ولما حرقت بيزيير عن آخرها تقدم الصليبيون بقيادة ريمند ليهاجموا حصن كاركسون حيث وقف روجر كونت بيزيير وابن أخي ريمند وقفته الأخيرة يدافع عن الحصن، لكن الحصن سقط في أيدي الماجمين ومات روجر بزحار البطن.
وكان أكثر القواد شجاعة في هذا الحصار هو سيمون ده مونت فورت Simon de Montfort. وقدولد سيمون هذا في فرنسا حوالي عام 1170 وكان أكبر أبناء سيدمونت فورت القريبة من باريس. وأصبح سيمون بعدئذ إيرل ليست Earl of Leicester، وهو لقب ورثه عن أمه الإنجليزية. وقد استطاع سيمون أن يجمع بين التقي العظيم والحروب العوان، كما استطاع ذلك كثيرون من رجال وقته المتغطرسين. فكان يستمع إلى الصلوات في كل يوم، واشتهر بطهره وعفافه ونال شهرة عظيمة في حروب فلسطين. وأخذ في هذه الحرب الألبجنسية يهاجم بجيشه الصغير المؤلف من 4500 رجل بلدة في إثر بلدة يستحثه مندوب البابا، ويسحق كل ما يعترضه من مقاومة، ويعرض على الأهلين أن يختاروا بين يمين الولاء للكنيسة الرومانية أو القتل لأنهم مارقون، واختار آلاف منهم أن يقسموا يمين الولاء، وفضل مئات أن يقتلوا (33). وواصل سيمون حملاته أربعة أعوام خرب فيها أملاك كونت ريمند كلها تقريباً ما عدا طولوز، حتى استسلمت له طولوز نفسها في عام 1215، واجتمع مجلس من مندوبي البابا في منبلييه وقرر خلع كونت ريمند، وورث سيمون لقبه والجزء الأكبر من أملاكه.
ولم يكن إنوسنت الثالث راضياً كل الرضا عن هذه الاعمال، فقد هاله أن يجد أن الصليبيين استولوا على أملاك رجال لم يخرجوا قط على الدين وأن هؤلاء الرجال نهبوا وقتلوا كما يقتل القراصنة المتوحشون وينهبون (34). وأشفق البابا على ريمند فوظف له معاشاً سنوياً، ووضع جزءاً من أملاكه تحت وصاية الكنيسة تحتفظ بها لابنه ولما بلغ ريمند السابع سن الرشد فتح طولوز واستردها من سيمون، ومات سيمون نفسه وهو يحاصر المدينة مرة ثانية (1218). ووقفت الحرب الصليبية وقتئذ لما مات إنوسنت، وخرج من بقى حيا من الألبجنسيين المستمسكين بعقيدتهم يمارسون شعائر دينهم ويدعون له تحت حكم كونت طولوز الجديد اللين الرحيم.
وعرض لويس الثامن ملك فرنسا في عام 1223 أن يخلع ريمند، وأن يقضي على كل الخوارج في أملاكه، إذا سمح له هونوريوس الثالث بأن يضم هذا الإقليم إلى أملاكه الخاصة. ولسنا نعرف بم أجاب البابا، وكل ما نعرفه أن حرباً صليبية بدأت، وأن لويس أوشك أن ينتصر فيها حين لفته المنية في منبلييه (1226). وانتهز ريمند هذه الفرصة ليعقد الصلح ومع بلانش صاحبة قشتالة فيها عن لويس التاسع، فعرض أملاك ابنته جين Jeanne على الفونس أخي لويس، وعودة أملاك ريمند بعد وفاته إلى جين وزوجها. وكانت بلانش يؤرقها ويقض مضجعها الأشراف الثائرون عليها، فقبلت هذا العرض، ووافق عليه البابا جريجوري التاسع بعد أن تعهد ريمند بالقضاء على حركة الإلحاد بقضها وقضيضها. وعقدت معاهدة الصلح في باريس عام 1229 ووضعت الحروب الإلبجنسية أوزارها بعد ثلاثين عاماً من التقتيل والتخريب، وخرج الدين القويم ظافراً من هذه الحروب، وانتهى بانتصار عهد التسامح، وحرم مجلس نربونه (1229) أن يمتلك أحد من غير رجال الدين أي جزء من الكتاب المقدس (25) وأخذ الإقطاع ينتشر، وأخذت حرية المدن وحكوماتها البلدية في
الاضمحلال، وانقضى عصر شعراء الفروسية الغزلين في جنوبي فرنسا. وماتت في عام 1271 جبن هي وألفونس اللذان ورثا أملاك ريمند دون أن يكون لهما أبناء. آلت ولاية طولوز الواسعة إلى لويس التاسع والتاج الفرنسي، وأصبحت لفرنسا الوسطى وقتئذ منافذ تجارية حرة على البحر المتوسط، وخطت فرنسا خطوة واسعة نحو وحدتها، وكانت هذه الوحدة هي ومحكمة التفتيش أعظم ما أسفرت عنه الحروب الصليبية الألبجنسية.
الفصل الثاني
منشأ محكمة التفتيش أو التحقيق
لقد سن كتاب العهد القديم قانوناً بسيطا لمعاملة المارقين من الدين، يقضى بأن يفحص عنهم فحصاً دقيقاً، فإذا شهد ثلاثة شهود عدول بأنهم:"ذهبوا وراء آلهة أخرى" أخرج المارقون من المدينة و"رجموا بالحجارة حتى يموتوا"(تثينة التشريع 13: 10)
(1)
.
إذا قام في وسطك نبي أو حالم وأعطاك آية أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها وتعبدها، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم، لأن الرب إلهكم يمتحنهم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم
…
وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يقتل لأنه يتكلم بالزيغ من وراء الرب إلهكم
…
فتنزعون الشر من بينكم. وإذا أغواك سراً أخوك بن أمك، أو أبنك أو أبنتك، امرأة حضنك، أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلا نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك
…
فلا ترض منه ولا تسمع له، ولا تشفق عينك عليه، ولا تستره بل قتلاً تقتله. (تثينة التشريع 13: 1 - 9). لا تدع ساحرة تعيش (الخروج 22: 18).
وقد ورد إنجيل يوحنا (15: 6) أن عيسى عليه السلام ارتضى هذا القول: "إن كان أحد لا يثبت في يطرح خارجاً كالغصن فيجف، ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق" وحافظت الجماعات اليهودية في العصور الوسطى من الوجهة
(1)
في الأصل الإنجليزي (17: 25) ولكن 13: 10 هو الصحيح. (المترجم)
النظرية على الشريعة الكتاب المقدس الخاصة بالمروق من الدين، ولكنها قلما عملت بها. واستمسك بها ابن ميمون بلا تحفظ (36).
وكانت قوانين اليونان ترى المروق من الدين - أي الامتناع عن عبادة الآلهة اليونانية
(1)
جريمة كبرى يعاقب عليها بالإعدام، وهذا هو القانون الذي حكم به على سقراط بالموت، وفي روما القديمة، حيث كان الآلهة حلفاء الدولة وأصدقاءها الاوفياء، كان الخروج عليهم أو التجديف في حقهم من جرائم الخيانة العظمى التي يعاقب عليها بالإعدام. فإذا لم يوجد من يتقدم باتهام المذنب، استدعى القاضي الروماني نفسه هذا المتهم وقام بتحقيق القضية (inquisition) ، ومن هذا الإجراء أخذت محكمة التفتيش أو التحقيق العصور الوسطى شكلها وأسمها. وطبق أباطرة الروم القوانين الرومانية في العالم البيزنطي فحكموا بالإعدام على المانويين وغيرهم من المارقين. ثم كثر التسامح في البلاد الغربية خلال العصور المظلمة وهي التي قلما كان أبناؤها يتحدون الكنيسة، وقال ليو التاسع أن الحرمان من الدين يجب أن يكون هو العقاب الوحيد الذي يوقع على المارقين (37). ولما انتشر الإلحاد في القرن الثاني عشر قال بعض رجال الكنيسة إن حرمان الملحدين يجب أن يعقبه نفي الدولة إياهم أو سجنهم (38). ولما عادت بولونيا في القرن الثاني عشر إلى اتباع القوانين الرومانية جاءت في قانونها نصوص وأساليب، ودوافع، لإنشاء محكمة تحقيق، ونقل قانون الإلحاد الكنسي كلمة من القانون الخامس المعنون Dehereticls (الضلال) في كتاب جستنيان (39). وكان آخر ما فعلته الكنيسة أن أخذت في القرن الثالث عشر قانون ألد أعدائها، فردريك الثاني، وهو أن يكون الإعدام عقوبة الضلال.
ولقد كان من المبادئ العامة لدى المسيحيين - ولدى كثيرين من الضالين أنفسهم - أن الكنيسة قد أقامها ابن الله، وتبعا لهذا المبدأ كان كل هجوم على المذهب الكاثوليكي جريمة موجهة إلى الله نفسه، وكانت النظرة التي ينظر بها
(1)
في الأصل الإنجليزي 17 25 ولكن 13: 10 هو الصحيح. (المترجم)
إلى الضال العاصي هي أنه أداة للشيطان أرسل للقضاء على عمل المسيح، وكل رجل من رجال الحكم بغض النظر عن الضلال إنما يخدم الشيطان بعمله هذا. وإذ كانت الكنيسة نشعر بأنها جزء لا يتجزأ من حكومة أوربا الأخلاقية والسياسية، فقد كانت تنظر إلى الضلال كما تنظر الدولة إلى الخيانة: أي أنه عمل يراد به تقويض أسس النظام الاجتماعي. وفي ذلك يقول إنوسنت الثالث: "إن القانون المدني يعاقب الخونة بمصادرة أملاكهم وإعدامهم
…
وهذا يؤكد حقنا في أن يحرم من الدين من يخونون دين المسيح، وأن تصادر أملاكهم، ذلك بأن الإساءة إلى الذات العلية المقدسة جريمة أشنع من الإساءة إلى جلالة الملك" (40). وكان الضال يبدو في أعين الحكام الدينيين أمثال إنوسنت شراً من المسلم أو اليهودي، ذلك أن هذين يعيشان إما في خارج العالم المسيحي أو يخضعان لقانون نظامي - صارم - إذا كانا في داخله؛ يضاف إلى هذا أن العدو الأجنبي جندي في حرب صريحة، أما الضال فهو خائن في داخل البلاد يقوض أسس المسيحية وهي مشتبكة في حرب طاحنة مع الإسلام، يضاف إلى هذا في رأي رجال الدين، أنه إذا أجيز لكل إنسان أن يفسر الكتاب المقدس حسب ما يراه عقله (مهما يكن قاصراً)، وينشئ لنفسه الصورة التي يرتضيها من صور المسيحية، فإن الدين الذي حفظ لأوربا قانونها الأخلاقي الضعيف لن يلبث أن ينهار ويتفرق إلى مائة عقيدة، ويفقد ما له من أثر بوصفه قوة اجتماعية تربط الآدميين المتوحشين بفطرتهم، تخلق منهم مجتمعاً وحضارة.
وكان الشعب نفسه، إلا في جنوبي فرنسا وإيطاليا، أشد الناس حماسة في اضطهاد المخالفين، وقد يكون هذا لأن الشعب نفسه يعتنق آراء رجال الدين السالفة الذكر دون أن تكون دون لها في ذهنه صورة واضحة لها، أو لأن النفوس الساذجة تخشى بفطرتها كل مخالف وغريب، أو لأن الناس يسرهم أن يطلقوا في غمار الجماهير المجتمعة المجهولة العنان لغرائزهم المكبوتة بسبب ما عليهم من
التبعات بوصفهم أفراداً. وأيا كان السبب فإن "الغوغاء أنفسهم قد عاقبوا الضالين قبل أن تشرع الكنيسة في اضطهادهم بزمن طويل"(41) بل لقد كان الأهلون المتدينون يشكون لين الكنيسة المفرط مع الضالين (42)، وكانوا في بعض الأحيان "يختطفون المنشقين من أيدي القساوسة الذين يحمونهم"(43)، وشاهد ذلك ما كتبه قس من فرنسا الشمالية إلى إنوسنت الثالث يقول:"لقد بلغ من تقوى الناس هذه البلاد أنك لا تراهم على استعداد لأن يبعثوا إلى موضع الحرق بمن ثبت ضلالتهم فحسب، إنهم ليبعثون إليه فوق ذلك بكل من يظنونه ضالا"(44)، وحدث في عام 1114 أن زج أسقف سواسون ببعض الضالين في سجن، لكن العامة انتهزوا فرصة غيابهم "خافوا أن يصطنع رجال الدين معهم "فهجموا على السجن وجردوا الضالين منه وحرقوهم أحياء (45). وأصر العامة في ليبج عام 1144 على أن يحرق بعض الضالين الذين كان الأسقف أدلبرو Adlbero لا يزال يأمل في هدايتهم (46). ولما قال بيير ده بروي Birre de Bruys " إن القساوسة يكذبون حين يدعون أنهم يصنعون جسم المسيح"(وهم يصنعون القربان المقدس) وأحرق كومة من الصلبان في يوم الجمعة الحزينة، قتله العامة في مكانه وأحرقوه لساعته (48).
واشتركت الدولة على كره منها في اضطهاد الضالين لأنها كانت تخشى ألا تستطيع الحكم بغير مساعدة الكنيسة التي تغرس في قلوب الناس عقيدة دينية موحدة. يضاف إلى هذا خوفها أن يكون الضلال الديني ستاراً يخفي وراءه التطرف السياسي، ولم تكن في ظنها هذا مخطئة على الدوام (49). وقد يكون للاعتبارات المادية أثر في هذا الشأن لأن الضلال الديني أو السياسي كان يعرض للخطر أملاك الكنيسة والدولة، ولهذا، كان الرأي العام بين الطبقات العليا - مع استثناء لانجو يدك مرة أخرى - يطلب إلى الدولة أن تقضي على الضلال مهما كفها ذلك (50). ولهذا أمر هنري السادس إمبراطور ألمانيا (1194)
أن ينزل بالضالين أشد أنواع العقاب، وأن تصادر جميع أملاكهم، وأصدر أتو الرابع (1210)، ولويس الثامن ملك فرنسا (1226)، وأصدرت مدينتا فورنس (1227) وميلان (1228)، مراسيم شبيه بمرسوم هنري. وكان أشد قوانين والاضطهاد هو القانون الذي سنه فردريك الثاني فيما بين عامي 1220 و 1239 وقضى بأن يسلم الضالون الذين تحكم عليهم الكنيسة إلى " اليد الزمنية - أي إلى ولاة الأمور المحليين - وأن يحرقوا أحياء، فإذا ما رجعوا عن ضلالهم نجوا من الموت وحكم عليهم بالسجن مدى الحياة، ثم صودرت جميع أملاكهم، وحرم ورثتهم من ميراثهم، وظل أبناؤهم محرومين من حق الاختبار إلى أي منصب ذي دخل أو كرامة، إلا إذا كفروا عن ذنب آبائهم بالتبليغ عن غيرهم من الضالين. وقضى القانون بأن تحرق بيوت الضالين ولا يعاد بناؤها قط (51). وأضاف لويس التاسع الرقيق الظريف أحكاماً شبيهة بهذه الأحكام إلى قوانين فرنسا والحق أن الملوك هم الذين كانوا ينازعون الشعب فضل البداية في اضطهاد الضالين. وحسبنا أن نذكر غير ما سبق أن روبرت ملك فرنسا أمر بإحراق ثلاثة عشر ضالاً في أورليان عام 1022؛ وكان هذا أول حادث معروف من حوادث إعدام الضالين بعد إعدام برسليان priscilian بأيدي السلطات الزمنية في عام 385. وبعد ذلك شنق هنري الثالث إمبراطور ألمانيا عدداً من المانويين أو الكاثاريين في جسلار غير عابئ باحتجاج وازو Wazo أسقف ليبج وقوله إن في الحرمان من الدين عقاباً كافياً للضالين (52). وفي عام 1183 "بعث الكونت فليب صاحب فلاندرز هو ورئيس أساقفة ريمس "عدداً كبيراً من النبلاء، ورجال الدين، والفرسان، والفلاحين، والفتيات، والنساء المتزوجات، والأرامل إلى حيث أحرقوا وهم أحياء بعد أن صادرا أملاكهم واقتسماها بينهما".
وكان البحث عن الضالين قبل القرن الثالث عشر يترك في الأحوال العادية
للأساقفة. وإنا ليصعب علينا أن نسمي هؤلاء الأساقفة باحثين، لأنهم كانوا ينتظرون الشائعات العامة أو الضجيج الذي يدلهم على الضالين، فيستدعونهم ولكنهم يصعب عليهم أن يحملوهم بطريق التحقيق على الاعتراف بذنوبهم. ولم يكونوا يرتضون أن يلجئوا إلى التعذيب، فكانوا لذلك يعمدون إلى طريق التحكيم الإلهي، وهم مخلصون في ظاهر الأمر في اعتقادهم أن الله سيرسل المعجزات لحماية البريئين. وأيد القديس برنار هذه الوسيلة ووصفها مجلس من الأساقفة عقد في ريمس (1257) بأنها إجراء عادي في محاكمة الضالين، ولكن إنوسنت الثالث حرمها. وساء البابا لوسيوس الثالث إهمال الأساقفة في محاربة الضلال، بأن يزوروا أسقفياتهم مرة في كل عام على الأقل، وأن يقبضوا على كل من تحوم حولهم الشبهات وأن يسلكوا كل من لا يقسم يمين الولاء التام للكنيسة في زمرة الضالين (وقد رفض الكاثاري أن يقسموا هذا القسم)، ثم عليهم بعد ذلك أن يسلموا هؤلاء العصاة إلى ولاة الأمور المحليين. وخول مندوبو البابا حق خلع الأساقفة الذين يتوانون في القضاء على الضلال (54). وطلب إنوسنت الثالث في عام 1215 إلى جميع ولاة الأمور المدنيين أن يقسموا علماً بأن "يبيدوا من الأراضي الخاضعة لطاعتهم جميع الضالين الذين عينتهم الكنيسة ليلقوا ما يستحقون من العقاب" فإذا لم يفعلوا هذا كانوا هم أنفسهم ضالين. وكل أمير يهمل في أداء هذا الواجب يخلع ويعفي البابا رعاياه من طاعته (55) ولم يكن " العقاب الذي يستحقونه" حتى ذلك الوقت يزيد على النفي ومصادرة الأملاك (56).
ولما ارتقى جريجوري التاسع عرش البابوية (1227) وجد أن الضلال آخذ في الازدياد رغم المحاكمات الشعبية، والحكومية، والأسقفية. فقد كانت جميع بلاد البلقان، وكان الجزء الأكبر من إيطاليا، وغير قليل من فرنسا، كانت هذه البلاد مرتعاً للزيغ والضلال، حتى لقد أضحت الكنيسة، ولما يمض على
سلطات إنوسنت الرائع إلا زمن وجيز، يتهددها خطر الانقسام والتفكك. وكانت المسألة، كما يراها الحبر الطاعن في السن، أن الكنيسة وهي تقاتل فردريك والضلال في وقت واحد، إنما تقاتل في سبيل المحافظة على حياتها، وأنها يحق لها من أجل المبادئ الأخلاقية والأساليب التي تحتمها حالة الحرب. وروع جريجوري أن عرف أن الأسقف فلبو باترنون Fillippo Paterrenon الذي تمتد أسقفيته من بيزا إلى أرزو قد اعتنق مذهب الكاثاري، فعين لجنة للتحقيق يرأسها راهب من الدمنيك تعقد جلساتها في فلورنس وتقدم الضالين إلى المحاكمة (1227). وكانت هذه اللجنة في واقع الأمر بداية محكمة التحقيق البابوية، وإن كان المحققون فيها خاضعين من الوجهة الرسمية لسلطات الأسقف المحلى. فلما كان عام 1231 أدخل جريجوري في قانون الكنيسة الشرائع التي سنها فرردريك في عام 1224، وبذلك اتفقت الكنيسة والدولة من ذلك الوقت على أن الضالين الذين لا يتوبون عن ضلالهم خونة يجب أن يعاقبوا بالإعدام، وبهذا أنشئت محكمة (التفتيش) رسميا تحت سلطات البابوات.
الفصل الثالث
المحققون (المفتشون)
أرسل جريجوري وخلفاؤه بعد عام 1227 عدداً متزايداً من المحققين أو المفتشين الخصوصيين لمطاردة الضلال، وكان يفضل أن يختار لهذا العمل أعضاء طوائف الرهبان المتسولين الجدد لأن حياتهم البسيطة وإخلاصهم يختلفان عن ترف رجال الدين من ناحية، ولأنه من ناحية أخرى لا يستطيع الاعتماد على الأساقفة. على أنه لم يبح لأي محقق أن يقضي بحكم شديد على أي ضال من غير موافقة الأسقف، ولهذا اختير كثير من الرهبان الدمنيك لهذا الغرض، حتى لقد سموا من قبيل السخرية Domini Canes أي "كلاب الله"(الصيادين)(57). وكان كثيرون منهم رجالا متزمتين في أخلاقهم ولكن قل منهم من كان يتصف بالرحمة، ولم يكونوا يعتقدون في أنفسهم أنهم قضاة يزنون الأدلة بعدل ونزاهة، بل كانوا يظنون أنهم محاربون يطاردون أعداء المسيح. وكان منهم رجال ذو عناية وضمائر حية أمثال برنار جوي Bernard Gui، ومنهم من كانوا مرضى ساديين مثل روبرت الدمنيكي Robert the Dominican وهو رجل ضال تائب أرسل في يوم واحد من أيام 1239 مائة وثمانين شخصاً ليحرقوا أحياء، من بينهم أسقف منح الضالين حسب رأيه حرية أكثر مما يستحقون. وقد أعفى روبرت هذا من منصبه وحكم عليه بالسجن مدى الحياة (58).
وكان اختصاص محكمة التحقيق مقصوراً على المسيحيين دون سواهم، أما اليهود والمسلمون فلم يكونوا يدعون أمامها للتحقيق معهم إلا إن كانوا مسيحيين مرتدين (59). ولقد بذل الدمنيك جهوداً خاصة لتحويل اليهود إلى المسيحية،
ولكنهم لم يكونوا يلجئون في هذا العمل لغير الوسائل السلمية، وبلغ من حرصهم على هذا أنه لما اتهم بعض في عام 1256 بقتل بعض أطفال المسيحيين في بعض طقوسهم، عرض الرهبان الدمنيك والفرنسسكان حياتهم للخطر لإنقاذهم من الغوغاء (60). وخير ما يوضح لنا الغرض من إنشاء محكمة التحقيق ودائرة اختصاصها مرسوم بابوي أصدره نقولاس الثالث (1280).
نعلن بهذا حرمان جميع الضالين ونصب عليهم اللعنة - الكاثارى، والبتارين، ورجال ليون الفقراء. .. وكل من عداهم أياً كان الاسم الذي يسمون به. فإذا أدانتهم الكنيسة وجب إسلامهم إلى القاضي الزمني لمعاقبتهم .... وإذا ما ندم واحد منهم بعد اعتقاله وأراد أن يكفر عن ذنبه، وجب سجنه مدى الحياة
…
وكل من يأوي الضالين، أو يحميهم، أو يساعدهم، يحرم من الدين، وإذا لم يستطع المتهمون بالضلال أن يثبتوا براءتهم، طردوا من حظيرة الدين، فإذا بقوا محرومين عاماً كاملا حكم عليهم بما يحكم على الضالين. وليس لهؤلاء حق استئناف الحكم
…
وكل من يمنحهم دفنة مسيحية يحكم عليه بالحرمان ويظل كذلك حتى يعمل ما يستوجب الرضا عنه .. فلا يغفر له ذنبه حتى يخرج بيده جثث المحرومين ويطرحها في العراء. ونحن نحرم على غير رجال الدين جميعهم أن يناقشوا في مسائل الدين الكاثوليكي، ومن يفعل هذا يحرم من الدين، وعلى كل من يعرف أحداً من الضالين، أو ممن يعقدون اجتماعات سرية، أو ممن لا يؤمنون بعقائد الدين القويم أياً كانت، أن يبلغ ذلك إلى من يفضي إليه باعترافه، أو إلى شخص آخر يبلغه إلى الأسقف أو المحقق، فإذا لم يفعل هذا حرم من الدين. والضالون، وكل من يأوونهم، أو يؤيدونهم، أو يساعدونهم، وكذلك أبناؤهم حتى الجيل الثاني - هؤلاء لا يسمح لهم بتولي المناصب الكنسية .. وهانحن أولاء نحرمهم جميعاً وأمثالهم من دخلهم إلى أبد الدهر (61).
ويجوز أن تبدأ إجراءات محاكم التحقيق بالقبض العاجل على جميع الضالين، وعلى جميع المشتبه في ضلالهم أحياناً وقد تبدأ بأن يستدعى المحققون الزائدون على جميع السكان البالغين في مكان ما للبحث المبدئي. والذين يقرون بضلالهم في خلال "المهلة القانونية" الأولى، ومدتها ثلاثون يوما، ثم يتوبون، يطلق سراحهم بعد حبسهم زمناً وجيزاً، أو بعد أن يقوموا بعمل من أعمال التقى، أو يتصدقون بالمال (62) أما الضالون الذين لا يعترفون في أثناء هذه المهلة، ثم يكشف عن أسرهم في هذا التحقيق المبدئي، أو تدل عليهم عيون محكمة التحقيق (63)، أو يكشف عنهم بأية طريقة أخرى، أما هؤلاء جميعاً فيدعون إلى المثول أمام محكمة التحقيق، وكانت هذه المحكمة تؤلف الأحوال العادية من أثنى عشر رجلا يختارهم الحاكم الزمني في الإقليم من ثبت يحتوي أسماء المرشحين، يعرضه عليه الأسقف وهيئة المحققين، ويضم إليه اثنان من المسجلين وعدد من الحجاب فإذا ما انتهز المتهمون هذه الفرصة الثانية، وأقروا بذنبهم، عوقبوا عقاباً يختلف باختلاف ذنبهم، وإذا أنكروا جرمهم زجوا في السجن وكان من المستطاع محاكمة المهتمين وهم غائبون أو بعد مماتهم. وكانت المحاكمة تحتاج إلى شاهدين من شهود الإثبات، وتقبل من يعترفون بذنبهم من الضالين شهود إثبات على غيرهم، وكان يسمح للزوجات أن يشهدن على أزواجهن وللأبناء على آبائهم، ولا يسمح لهؤلاء أو أولئك أن يشهدن أو يشهدوا لهم (64) ويسمح لجميع المتهمين في مكان ما بناء على طلبهم أن يطلعوا على ثبت شامل يحوى جميع أسماء من يتهمونهم، ولكن هذا الثبت لا يدل أي متهم على من اتهمه، فقد كان يخشى أنه إذا واجه أي متهم من اتهمه فقد يعمد أصدقاء المتهم إلى قتل من يتهمه. وفي ذلك يقول لي Lea:" والحق أن عدداً من الشهود قد قتلوا لريبة بسيطة حامت حولهم"(65). وكان يطلب إلى المتهم عادة أن يذكر أسماء أعدائه، وكانت المحكمة ترفض أي دليل يقدمه أولئك الأعداء (66)،
وكان المبلغون الكاذبون يعاقبون أشد العقاب (67)، ولم يكن يسمح للمتهمين قبل عام 1300 بأن يستعينوا بأية معونة قانونية (68)، أما بعد عام 1354 فقد صدر مرسوم بابوي يحتم على المحققين ألا يعرضوا أدلة الإثبات على الأسقف وحده بل أن يعرضوها عليه وعلى رجال من ذوي السمعة الطيبة في الإقليم، وأن يصدروا حكمهم بما يتفق مع آرائهم (69). وكانت هيئة من الخبراء (perite) تدعى في بعض الأحيان لتبدي رأيها في الأدلة. وقصارى القول أن الأوامر الصادرة إلى المحققين كانت تنبههم إلى النجاة المذنب من العقاب خير من إدانة البريء، وأن من واجبهم أن يحصلوا إما على دليل واضح أو اعتراف صريح.
وكان القانون الروماني القديم يجيز الالتجاء إلى التعذيب للحصول على الاعتراف، ولم تكن هذه الطريفة تتبع في المحاكم الأسقفية، أو في السنين العشرين الأولى من سني محاكم التحقيق، غير أن إنوسنت الرابع (1252) أجازها حيث يكون القضاة واثقين من جرم المتهم، ثم أجازها من جاء بعده من الأحبار (70). ولكن البابوات كانوا ينصحون بأن يكون التعذيب آخر ما يلجأ إليه مع المتهمين، وألا يلجأ إليه إلا مرة واحدة، "وألا يصل إلى ما يؤدي إلى فقد عضو من الأعضاء أو إلى خطر الموت". وفسر المحققون عبارة "مرة واحدة" بأنها تعني مرة واحدة في كل محاكمة، فكانوا لذلك يقطعون التعذيب في بعض الأحيان ليواصلوا المحاكمة، ويرون بعدئذ أن من حقهم تعذيب المتهم. وكان التعذيب يستخدم في كثير من الأحيان لإغرام الشهود على أداء الشهادة، أو لإجبار الضال المعترف على الإدلال بأسماء غيره من الضالين (71). وكان من أنواعه الجلد، والكي بالنار، والتعذيب بالعذراء، والسجن الانفرادي في جب مظلم ضيق، وكانت قدما المتهم توضعان أحيانا على الفحم المتقد، أو كان يشد إلى إطار على شكل مثلث ثم تجذب يداه وساقاه بالحبال الملفوفة حول آلة لاوية. وكان طعام السجين يقلل أحياناً حتى يضعف
بذلك جسمه وإرادته فيؤثر فيه التعذيب النفساني، كالوعد بالرأفة أو التهديد بالقتل (72). وقلما كانت محكمة التحقيق ترى قيمة للاعتراف الذي يأتي من طريق التعذيب، ولكن هذه المشكلة كان يتغلب عليها بإرغام المتهم على أن يؤكد، بعد ثلاث ساعات من اعترافه، ما قرره أثناء التعذيب، فإذا أبى أمكن تعذيبه من جديد، وحدث في عام 1286 أن بعث موظفو كركسون Garcassonne برسالة إلى فيليب الرابع ملك فرنسا والى البابا نقولاس الرابع يشكون فيها من صعوبة التعذيب الذي يلجأ إليه المحقق جان جالان Jean Galand. فقد كان بعض المسجونين جان هذا يتركون زمناً طويلاً في السجن الانفرادي الحالك الظلام، وكانت قيود بعضهم تبلغ من الضيق جداً يضطرون معه إلى الجلوس في برازهم، أو لا يستطيعون ألا النوم على ظهورهم فوق الأرض الباردة (73). وقد شد بعضهم إلى العذراء شداً عنيفاً فقدوا معه استخدام أيديهم وأرجلهم، ومنهم من مات في أثناء التعذيب (74) وشنع فيليب على هذه الوحشية وحاول البابا كلمنت الخامس (1312) أن يحد من إلتجاء المحققين إلى التعذيب، ولكن سرعان ما أهملت أوامره (75).
وكان المسجونون الذين يأبون أن يفيدوا من الفرصتين اللتين تتاح لهم للاعتراف ثم يدانوا بعدئذ، والذين يرتدون إلى ضلالهم بعد توبتهم كان هؤلاء وأولئك يحكم عليهم بالسجن مدى الحياة أو الإعدام، وكان السجن مدى الحياة يخفف بمنح السجين شيئاً من الحرية في التنقل، والزيارة، والألعاب، أو يشدد بحرمانه من الطعام أو بتقييده بالأغلال (76). وكان الذين يدانون بعد أن يقاوموا يحكم عليهم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى بمصادرة أملاكهم. وكان بعض هذه الأملاك المصادرة يعطى عادة لحاكم الإقليم الزمني، ويعطي بعضها للكنيسة، وكان ثلث هذه الأملاك يعطي في إيطاليا للذي يبلغ عن الضال، أما في فرنسا فكانت الأملاك المصادرة تذهب كلها للتاج. وكانت هذه الاعتبارات كلها
تغري الدولة والأفراد بالإشتراك في تعقب الضالين، وفي محاكمة الموتى، وكان من المستطاع في أي وقت من الأوقات الاستيلاء على أملاك البريثين من الناس بحجة أن من أورثوهم إياها قد ماتوا وهم ضالون. وكان هذا من الشرور الكثيرة التي حاول البابوات أن يقضوا عليها، ولكن محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح (77). وكان مما يفتخر به أسقف رودس أنه جمع مائة ألف "صول
(1)
" في حملة واحدة على الضالين في أسقفيته (78).
وكان المحققون يعلنون في حفل رهيب يقام من آن إلى آن إدانة المذنبين وما يحكم به عليهم من عقاب. فأما التائبون فكانوا يوضعون على منصة في وسط الكنيسة، ثم يقرأ اعترافاتهم، ويطلب إليهم أن يؤكدوا هذا الاعتراف، وأن ينطقوا بصيغة خاصة يعلنون فيها إقلاعهم عن الضلال، ثم يقوم المحقق الذي يرأس الاحتفال فيعفي التائب من الحرمان، ويعلن سائر الإحكام المختلفة. فأما الذين "سيطلقون" أي يتركون إلى السلطات الزمنية فكان يسمح لهم بيوم آخر يرجعون فيه عن ضلالهم، وأما الذين يعترفون ويتوبون، ولو كانوا عند عمود الحرق، فكان يحكم عليهم بالسجن مدى الحياة، وأما اللذين يبقون على عنادهم فكانوا يحرقون وهم أحياء في ميدان العام .. وكان هذا الإجراء كله، من حكم، وتنفيذ يطلق عليه في أسبانيا اسم "عمل الإيمان aeto da fe" لأنه كان يقصد به أن يقوى عقائد الشعب الصحيحة، ويؤيد الإيمان بالكنيسة. ولم تنطق الكنيسة قط بحكم الإعدام، فقد كان شعارها القديم هو: إن الكنيسة تحجم عن إراقة الدماء (ecclesia aphorret a sanguine) ، ولهذا كان القسيسون يؤمرون بألا يسفكوا دماء، ومن أجل ذلك فإن الكنيسة حين تبعث إلى السلطات الزمنية باللذين تدينهم لم تكن تطلب إلى ولاة رجال الدولة
(1)
عملة فرنسية قديمة كانت قيمتها 1 slash 20 من الجنيه الفرنسي استبدل بها "الصلدى"(المترجم)
أكثر من أن يوقعوا عليهم (العقاب الذي يستحقونه) وتنبههم إلى أن يتجنبوا (كل ما من شأنه سفك الدماء أو التعريض لخطر الموت). ثم اتفقت الكنيسة والدولة بعد جريجوري التاسع على ألا يؤخذ هذا التحذير بمعناه الحرفي، بل أن يقتل المذنبون دون أن تسفك دماؤهم أي أن يحرقوا عند عمود الإحراق (79).
وكان عدد من حكمت عليهم محكمة التحقيق الرسمية بالموت أقل مما كان يعتقده المؤرخون في وقت من الأوقات (80). ومن الشواهد الدالة على ذلك أن برنار ده كو Bernard de Gaux وهو من المحققين المتحمسين، قد خلف سجلا طويلا بالقضايا التي نظر فيها؛ وليس في هذا السجل قضية واحدة حكم فيها بإرسال المذنب إلى السلطات المدنية (81). وحكم محقق يدعى برنارد جوى Bernard Gui في مدى سبعة عشر عاماً على تسعمائة وثلاثين ضالاً، فلم يتجاوز من حكم عليهم بالموت من بين هذا العدد خمسة وأربعين (82). وكانت الأحكام الصادرة في حفل عام بطولوز (طلوشة) عام 1310 وهي أن أمر عشرون شخصاً بأن يخرجوا للحج، وحكم على ستة وخمسين بالسجن، وعلى ثمانية عشر بالإعدام. وفي عمل الإيمان الذي حدث في عام 1312 أرسل واحد وخمسون إلى الحج، وحكم على ثمانية وستين بالسجن مدداً مختلفة، وأرسل خمسة إلى السلطات الزمنية (83). وقصارة القول أن شر مآسي محاكم التحقيق قد أخفتها السجون ولم تر الضوء عند أعمدة الإحراق.
الفصل الرابع
النتائج
لقد حققت محاكم التحقيق في العصور الوسطى أغراضها العاجلة، فقد قضت على الكثارية. فرنسا، ولم تبق من الولدنسيين إلا عدداً قليلا من المتحمسين المتفرقين في أماكن مختلفة، وأعادت جنوبي إيطاليا إلى الدين القويم، وأجلت تمزق المسيحية الغربية مدى ثلاثة قرون. وبها انتقلت زعامة أوربا الثقافية من فرنسا إلى إيطاليا، ولكن الملكية الفرنسية المطلقة، بعد أن قويت باستيلائها على لانجويدك، بلغت من السلطان مبلغاً استطاعت به أن تخضع البابوية لأمرها في أيام بنيفاس الثامن، وأن تزجها في السجن في عهد كلمنت الخامس.
ولم يكن لمحاكم التحقيق في أسبانيا قبل عام 1300 إلا شأن صغير، وترجع نشأتها فيها إلى عام 1232 حين استطاع ريمند البنيافورتي Raymond of panafort الراهب الدمنيكي عند جيمس الأول ملك أرغونة، ان يقنع هذا الملك بإدخال محاكم التحقيق في بلده. ولعل هذا الملك أراد أن يقلل من شطط محاكم التحقيق فسن في عام 1233 قانوناً يجعل الدولة هي التي تؤول إليها أملاك الضالين المصادرة، وإن أصبح هذا العمل نفسه في القرون التالية حافزاً قوياً للملوك وجدوا أن التحقيق والاستيلاء عملان شديدا الاتصال أحدهما بالآخر.
وفي شمال إيطاليا ضل الضالون كثيري العدد فلم يكن أتباع الدين القويم يعنون كثيراً بالاشتراك في اصطياد الضالين، وكان الطغاة المستقلون أمثال إزلينو Ezzelino في فيشنزا Vicenza وبلافيشينو Pallaviclno في كرمونا وميلان يحمون الضالين سراً أو جهراً. وفي فلورنس أنشأ الراهب روجيري Ruggieri
جماعة عسكرية من النبلاء المتمسكين بالدين لتأييد محكمة التحقيق، واشتبك معهم البارتيون في معارك دموية في الشوارع ولكنهم هزموا فيها (1245)، ثم أخفت الضلالة في فلورنس رأسها فيما بعد، وحدث في عام 1252 أن اغتال بعض الضالين الراهب بيرودافرونا Piero da Verona في ميلان، فلما قتل سلكته الكنيسة في عداد القديسين الشهداء وأسمته الشهيد بطرس، وكان لعملها هذا الأثر في مقاومة الضلالة في شمالي إيطاليا أكثر مما كان لجميع فظائع المحققين. وشنت البابوية حروباً صليبية على إزلينو وبلافنسينو، وقضى على أولها في عام 1259 وعلى الثاني في عام 1268، وبهذا كان انتصار الكنيسة في إيطاليا نصراً حاسماً في ظاهر الأمر.
ولم تثبت محكمة التحقيق قدمها في إنجلترا. نعم إن هنري الثاني حرص على إثبات تمسكه بدينه في أثناء نزاعه مع بكت بأن جلد واحداً وعشرين من الضالين وكواهم بالنار في أكسفورد عام 1266 (84). ولكننا لا نكاد نسمع عن ضلالة في إنجلترا قبل أيام ويكلف Wycalf. وفي ألمانيا ترعرعت محكمة التحقيق وأقدمت على أعمال جنونية زمناً قصيراً، ثم ماتت. فقد حدث في عام 1212 أن أحرق هنري أسقف أسترسبرج ثمانين ضالاً في يوم واحد، وكان معظمهم ولديين، وأعلن زعيمهم القس يوحنا عدم إيمانه بالغفران، وبالمطهر، وببقاء رجال الدين بلا زواج، وقال إن رجال الدين يجب إلا تكون لهم أملاك. وفي عام 1227 عين جريجوري التاسع كنراد Gonard قس ماربرج Marburg رئيساً لمحاكم التحقيق في ألمانيا وأمره ألا يكتفي بالقضاء على الضلال، بل أن يصلح أحوال رجال الدين بعد أن وصمهم البابا بالفساد، وقال إن فسادهم هو أهم أسباب ضعف الإيمان بين الناس. واضطلع كنراد بكلا الواجبين بمنتهى القسوة، وخير كل من اتهموا بالضلال بين واحدة من اثنتين: إما الاعتراف فالعقاب، أو الإنكار فالموت حرقاً. ولما أن سار في إصلاح رجال الدين على
هذا النحو من الجد، انضم المتمسكون بدينهم والضالون بعضهم إلى بعض في مقاومته، وانتهى الأمر بأن قتله أصدقاء ضحاياه (1233)، وتولى الأساقفة الألمان أعمال محاكم التحقيق، وخففوا من غلوائها، وجعلوا إجراءاتها أقرب إلى العدالة من ذي قبل. وبقيت بعض الشيع الدينية، بعضها شيع ضالة وبعضها صوفية، بوهيميا وألمانيا، ومهدت السبيل إلى هوس Huss ولوثر Luther.
وبعد فإنا حين نصدر حكماً على محاكم التحقيق يجب أن ننظر إليها على ضوء عصر اعتاد الوحشية، ولعل عصرنا الحاضر الذي قتل في الحروب وأزهق من الأرواح البريئة دون أية محاكمة، أكثر من أمثالهم بين أيام قيصر ونابليون، أقدر من غيره على فهم هذه المحاكم. إن التعصب يلازم الإيمان القوي على الدوام، والتسامح لا ينشأ إلا حين يفقد الإيمان يقينه، أما اليقين فسيف بتار. ولقد أقر أفلاطون التعصب في "قوانينه"، وأقره المصلحون في القرن السادس عشر، وإن بعض من ينتقدون محكمة التحقيق ليدافعون عن أساليبها إذا جرت عليها الدول الحديثة. ولقد تضمنت قوانين كثير من الحكومات الأساليب التي سارت عليها محاكم التحقيق، ولعل ما يحدث من تعذيب المشتبه فيهم سراً في هذه الأيام يسير على نمط محاكم التحقيق أكثر مما يسير على نمط القانون الروماني. وإذا وازنا بين اضطهاد المسيحيين للضالين في أوربا من 1227 إلى 1492، وبين اضطهاد الرومان للمسيحيين في الثلاثة القرون الأولى بعد المسيح، حكمنا من فورنا بأن هذا أخف وطأة وأكثر رحمة من ذاك. وإذا ما أسقطنا من حسابنا كل ما يطلب إلى المؤرخ من اعتدال في حكمه، وما يسمح به للمسيحي من تمسك بدينه. إذا أسقطنا من حسابنا هذا وذاك، فلا بد لنا أن نضع محاكم التحقيق في مستوى حروب هذه الأيام واضطهاداتها، ونحكم عليها جميعاً بأنها أشنع الوصمات في سجل البشرية كله، وبأنها تكشف عن وحشية لا نعرف لها نضيراً عند أي وحش من الوحوش.
الباب التاسع والعشرون
الرهبان والإخوان
1095 -
1300
الفصل الأول
حياة الرهبنة
لعل الذي أنجى الكنيسة من محنتها لم يكن هو ما لجأت إليه محاكم التحقيق من تعذيب، بل كان نشأة طوائف جديدة من الرهبان انتزعت من أفواه الضالين دعوة التقشف الديني والفقر، وظلت قرن من الزمان تهب طوائف الرهبان، وغير الرهبان من رجال الدين، مثلا طيباً من الإخلاص المطهر للنفوس.
وكانت الأديرة قد تضاعف عددها في العصور المظلمة، وبلغت ذروتها في القرن العاشر المضرب الذي ساءت فيه الأحوال إلى أقصى حد، ثم أخذ عددها في النقصان حين أخذ النظام يسود الشئون الزمنية، وأخذ الرخاء في الازدياد: مثال ذلك أنه كان في فرنسا حوالي عام 1100 خمسمائة وثلاثة وأربعون ديراً، وفي عام 1250 كان فيها 287، وربما كان هذا النقص في عدد الأديرة قد عوضه ازدياد متوسط أعضائها، ولكن الأديرة التي كان رهبانها يبلغون المائة كان جد قليل وكان لا يزال من السنن المتبعة في القرن الثالث عشر عند الآباء الأتقياء أو ثقال الظهر أن يهبوا أطفالهم في سن السابعة أو ما بعدها إلى الأديرة "زلفى" إلى الله. وهكذا بدأ القديس تومس أكويناس حياته في الدير، وكانت طائفة الرهبان البندكتين ترى أن النذر الذي ينذره أبوا الطفل بأن يهباه إلى الدير
لا يمكن الرجوع فيه (3). أما القديس برنار وطوائف الرهبان الجدد فكان من رأيهم أن لا ضير على الطفل الموهوب للدير إذا عاد إلى العالم متى بلغ سن الرشد (4)، وأصبح الراهب الراشد على مر الزمن في حاجة إلى إجازة بابوية إذا أراد أن يرجع في يمينه من غير لأن يرتكب ذلك إثما.
وكانت معظم الأديرة الغربية قبل عام 1098 تسير على نمط ما من أنماط طائفة الرهبان البندكتين بدرجات متفاوتة من الاستمساك بمبادئ هذه الطائفة فكانت تخصص للمبتدئ سنة يستطيع الطالب في أثنائها أن ينسحب من الدير بكامل حريته، وفي ذلك يقول الراهب قيصريوس الهيسترباخي Gaesarius of Heisterbach إن فارساً من الفرسان لنسحب من الدير "متذرعاً بتلك الحجة الدالة على الجبن وهي أنه يخشى الحشرات التي في ثياب (الرهبنة)، وذلك لأن ملابسنا الصوفية تأوي الكثير من الحشرات"(5). وكان الراهب يقضي من يومه أربع ساعات في الصلاة، وكانت وجبات الطعام قصيرة الأجل، وتقتصر عادة على الخضر، أما بقية اليوم فكانت تقضي في العمل، والقراءة، والتعليم، وأعمال المستشفيات، والصدقات، والراحة. ويحدثنا قيصريوس بأن ديره وزع أثناء القحط الذي حدث في عام 1197 ألفاً وخمسمائة صدقة من الطعام في يوم واحد و"حافظ على حياة كل من جاءنا من الفقراء حتى حل موعد الحصاد"(6) وذبح دير للسترسيين في وستفاليا جميع ضأنه وماشيته، ورهن كتبه وآنيته المقدسة، ليطعم الفقراء (7) وشاد الرهبان بعملهم وعمل أرقاء أرضهم أديرة، وكنائس صغيرة وكبيرة، وفلحوا ضياعاً واسعة، وجففوا مستنقعات، واستصلحوا أرض الغابات، ومارسوا مائة من الصناعات اليدوية، وعصروا أحسن النبيذ والجعة. ولقد دربت الأديرة آلافاً من الرجال الصالحين القادرين على الآداب والأنظمة الخلقية والذهنية، وإن كانت في ظاهر الأمر قد انتزعت الكثيرين منهم من
العالم لتدفنهم في غمار الصلاحية الأنانية، ثم أعادتهم إليه مرة أخرى ليكونوا مستشارين للأساقفة، والبابوات والملوك ومديرين لأعمالهم
(1)
.
وفاض ثراء المجتمع المتزايد على مر الزمن على الأديرة، وكان سخاء الشعب مصدراً لما كان ينغمس فيه الرهبان أحياناً من ترف. ولنضرب لذلك مثلا دير القديس ركوبيه St. Riquier، ولم يكن من أغنى الأديرة ولكنه كان له 117 تابعاً يملكون 2500 بيت في البلدة التي كان قائماً فيها، ويحصل من مستأجريها على العشرة آلاف دجاجة وعشرة آلاف ديك مخصى مسمن، وخمسة وسبعين ألف بيضة، وعلى نقدي معتدل لكل فرد ولكنه في مجموعة كبيرة (8). وثمة أديرة من هذا الدير ثراءاً وهي أديرة مونتي كسينو Monte Cassino، وكلوني Cluny وفلدا Fulda، والقديس جول St. Gall، والقديس دنيس St. Denis. وكان رؤساء الأديرة أمثال سوجر Suger رئيس القديس دنيس، وبطرس المبجل رئيس دير كلوني، وحتى سامسون Samson رئيس دير القديس إدمند في بيوري، كان هؤلاء الرؤساء سادة أقوياء عظماء أصحاب ثروات مادية طائلة وسلطان سياسي واجتماعي عظيم، وهذا هو سوجر بعد أن أطعم رهبانه وشاد كنيسة (7) فخمة كبرى تبقى لديه من الموارد المالية ما يمكنه من أن يتكفل
(1)
يقول عالم من كبار العلماء ليس في العادة ممن يشفقون على الكنيسة: " ليس أدل على كذب التهم التي يذيعها السفلة وهي أن رهبان العصور الوسطى كانوا نهمين، متلفين، مبذرين، فاسقين، ليس أدل على هذا الكذب من مئات السجلات، وقوائم الجرد التي بقيت حتى اليوم، والتي تشهد بما يتصف به الرهبان من عناية، وذكاء، وأمانة في إدارتهم أعمالهم. وإن ما قام به الرهبان من إصلاح اقتصادي لأوربا في العصور الوسطى ليشهد بأنهم كانوا بوجه عام ملاكاً وزراعاً أذكياء "تاريخ العصور الوسطى الاقتصادي ولاجتماعي لطمسن Thomson، Economic and Social History of the Middle Ages. 630، ويقول رينارد المتشكك:"إن أكمل أعمال المسيحية وأعظمها أثراً هي التي قامت بها طوائف الرهبان" طبعة مارك أوريل Marc Aorèle بباريس 627.
بنصف نفقات إحدى الحملات الصليبية (9)، ولعل القديس برنار كان يعني سوجر حين كتب يقول:"لو أنني قلت إني لم أر رئيس دير يركب على رأس موكب من ستين فارساً أو أكثر لكنت من الكاذبين"(10). ولكن سوجر كان رئيس وزراء لا بد له أن يحيط نفسه بمظاهر الأبهة والفخامة ليؤثر بذلك في نفوس الشعب! أما في حياته الخاصة فكان يعيش معيشة التقشف والبساطة؛ في خلوة متواضعة مراعياً جميع قواعد طائفته بقدر ما تمكنه من ذلك واجباته العامة. وكان بطرس من المبجل رجلاً صالحاً ولكنه عجز رغم جهوده المتكررة عن أن يحول دون ازدياد الثروة الجماعية في الأديرة التابعة لدير كلوني - وهي التي كانت من قبل تتزعم حركة الإصلاح - إلى حد أمكن الرهبان من أن يعيشوا عيشة البطالة الموهنة للقوى وإن كانوا أفراداً لا يملكون شيئاً.
إن الأخلاق تفسد كلما زاد الثراء، وفطرة الإنسان تظهر كلما أمكنتها موارده من الظهور، وفي كل جماعة كبيرة أيا كان نوعها يوجد أفراد هم أقوى من إيمانهم. ولقد ظلت كثرة الرهبان مستمسكة بالقواعد التي ارتبطت بها وفيه لها، ولكن أقلية منهم أخذت تنظر إلى العالم وإلى شئون الجسم نظرة أكثر ليناً. وكان رئيس الدير في كثير من الأحيان يعينه سيد إقطاعي أو ملك ويختاره من طبقة تعودت الراحة، ولم يكن هؤلاء الرهبان يتقيدون بقيود الأديرة، فكانوا يستمتعون بالصيد، والقنص، وألعاب الفروسية، وينغمسون في السياسة، وسرت عدواهم إلى الرهبان أنفسهم. وها هو ذا جرالدس كمبرنسس Giraldus Cambrensis يصور لنا حياة رئيس دير إفشام Evesham بصورة مروعة فيقول:"لم يكن أحد بمنجاة من فجوره"، وكان، جيرانه يخصون له ثمانية عشر ولداً، وكان لا بد من خلعه آخر الأمر (11). وأصبح رؤساء الأديرة المنكبون على مباهج الدنيا، السمان، الأغنياء، الأقوياء، هدفاً لسخرية الشعب وتشهير الأدباء، فكان أقسى ما كتب من الهجاء وأبعده عن المعقول وصفاً لرئيس دير
بقلم ولتر ماب walter Map، (12) . ومن الأديرة ما اشتهر بطعامه الشهي وخمرة. على أننا يجب ألا ننكر على الرهبان قليلا من الهناء، وفي وسعنا أن ندرك مقدار مللهم من الخضر، واشتياقهم إلى اللحوم، ولا يسعنا إلا أن نعطف على ثرثرتهم، وشجارهم، ونومهم وقت الصلاة من حين إلى حين (13).
ولقد استخف الرهبان، وهم يقسمون بأن يبقوا عزاباً، بقوة الغريزة الجنسية التي يستثمرها مراراً وتكراراً ما يشاهدون من مناظر وأمثله من غير رجال الدين. ويروى قيصريوس الهيسترباخي قصة تتكرر كثيراً في العصور الوسطى، عن رئيس دير وراهب شاب خرجا راكبين معاً. ووقعت عينا الشاب على النساء للمرة الأولى فسأل رئيس الدير:"من هؤلاء؟ " فأجابه "هؤلاء شياطين" فرد عليه الراهب بقوله: "لقد كنت أظنهم أجمل من رأيت في حياتي كلها"(14). ويقول الزاهد بطرس داميان في آخر أيام حياته الورعة المريرة:
في وسعي وأنا الآن رجل طاعن في السن أن أنظر وأنا آمن إلى وجه ذابل مجعد لإمرأة عجوز شمطاء عمشاء العينيين. أما من هن أجمل منها وجهاً وأكثر زينة فإني أغمض طرفي عنهن وأحذرهن كما يحذر الصبيان النار. ويلاه أيها القلب المفجوع! - الذي لا يستطيع الاحتفاظ بأسرار الكتاب المقدس التي قرأتها من أولها إلى آخرها مائة مرة، ثم لا تنمحي منه صورة لم أرها إلا مرة واحدة (15).
وكانت الفضيلة تبدو لبعض الرهبان كأنها صراع نفساني بين المرأة والمسيح ولم يكن تشهير بالنساء إلا جهود يبذلونها لإماتة شعورهن بمفاتنهن، كما كانت أحلامهم الصالحة النقية في بعض الأحيان يرطبها رضاب الشهوة، وكثيراً ما كانوا يعبرون عن رؤاهم القدسية الروحية بعبارات مستعارة من العشق الآدمي
(1)
. وكانت قصائد أوفد من الأشعار المحبوبة في بعض الأديرة،
(1)
وأنا لتجد هذا بعينه في أشعار الصوفية المسلمين. (المترجم)
ولم تكن مؤلفاته في فن الحب بأقل منها تداولاً بين الرهبان (17). وكانت التماثيل المقامة في بعض الكنائس الكبرى، والنقوش المحفورة في أثاثها، بل الرسوم المصورة في بعض الكتب المقدسة نفسها، تمثل عبث الرهبان والراهبات - تمثل خنازير في ثياب الرهبان، وأثواب الدير بارزة فوق أعضاء التذكير المنتصبة، والراهبات يعشن مع الشياطين (18). ويمثل نقش بارز فوق مدخل يوم الحشر في كنيسة ريمس شيطاناً يجر الرجال الآثمين إلى الجحيم، ومن بينهم أسقف على رأسه تاج الأسقفية. وقد سمح رجال الكنيسة في العصور الوسطى - ولعلهم كانوا من غير الرهبان الذين يحسدون هؤلاء على ما هم فيه من نعيم - سمحوا بأن تبقى هذه الرسوم الهزليه في أماكنها، ولكن رجال الدين. هذه الأيام رأوا من الخير إزالة الكثرة الغالبة منها. ولقد كانت الكنيسة نفسها أقسى من وجه النقد إلى آثام رجالها، وقامت طائفة متتابعة من المصلحين الدينيين تبذل ما وسعها من الجهد لكي تعيد الرهبان ورؤساء الأديرة إلى المثل العليا التي جاء بها المسيح.
الفصل الثاني
القديس برنار
عمت العالم المسيحي في أواخر القرن الحادي عشر، وفي نفس الوقت الذي تطهرت فيه البابوية، وامتلأت القلوب تحمساً للحرب الصليبية الأولى، حركة من الإصلاح الذاتي تحسنت بسببها أحوال رجال الدين غير الرهبان، وقامت في أثنائها من الرهبان جديدة أخذت نفسها بقواعد الأوغسطيين والبندكتيين الصارمة. فقد حدث في وقت غير معروف قبل عام 1039 أن أسس القديس يوحنا جلبيرتس St. John Galbertus (19) طائفة من الفلمبروزا Vallombrosa في " الوادي الظليل" المسمى الاسم في إيطاليا، وبدأ فيه نظام الإخوة العلمانيين الذي دعائمه فيما بعد طوائف الرهبان المتسولين. وأهاب المجمع المقدس الذي عقد في عام 1059 برجال الدين الذين يقتسمون أعمال الكنيسة ومواردها أن يعيشوا جماعة، وأن تكون أملاكهم مشاعة بيتهم كما كان شأن الرسل الأولين. ولم يستجب بعضهم إلى هذا النداء وبقوا "كهنة علمانيين"، واستجاب له كثيرون منهم، واتبعوا قاعدة رهبانية يعزونها إلى القديس أوغسطين، وكونوا من أنفسهم جماعات شبه رهبانية تعرف. مجموعها باسم "الكهنة الأوغسطيين أو الأوسطيين Austins
(1)
. وأنشأ القديس برونو St. Bruno الكرلوني في عام 1084، من بعد أن رفض أن يكون رئيس أساقفة ريمس، طائفة الكرثوزيين Corthusians، وذلك بأن أسس ديراً في
(1)
يجب ألا يخلط بينهم وبين الإخوان الأوغسطيين أو الأوسطيين الذين أنشأهم الزهاد في تسكانيا عام 1256.
بقعة منعزلة تدعى كارتريز Chartreuse في جبال الألب بالقرب من جرينوبل Grenoble، وأنشأ غيره من الأتقياء الصالحين وحدات كرثوزية في أماكن منعزلة بعد أن سئموا ما يسود العالم من نزاع وما ينصف به رجال الدين من تهاون. وكان كل راهب في هذه الأماكن يعمل، ويطعم، وينام، في خلوته الخاصة المنعزلة، ويعيش على الخبز واللبن، ويلبس ثياباً من شعر الخيل، ويكاد يلازم الصمت على الدوام. وكانوا يجتمعون معاً ثلاث مرات كل أسبوع للقيام بمراسيم القداس، وصلاة الغروب، وصلاة منتصف الليل، وفي أيام الآحاد، والأعياد ينطلقون في الحديث ويطعمون جماعة. وكانت هذه الطائفة أشد طوائف الرهبان صرامة، وظلت قرون كاملة تأخذ نفسها بقواعدها الأصلية وفيه لها أشد الوفاء.
وأنشأ ربروت المولسميسى Robert of Molesmes في عام 1098 بيت رهبنة جديد في مكان بري يدعى ستو Citeaux قريب من ديجون Djion، وذلك بعد أن أعيته الحيل لإصلاح أديرة البندكتين المتفرقة التي كان هو رئيساً عليها، واشتق من لفظ سيتو اسم الرهبان السترسيين كما اشتق من لفظ كارتريز اسم الرهبان الكرثوزيين. وأعاد ستيفن هاردنج من دورسسترشير Stephen Harding of Dorsestershire تنظيم هذا الدير ووسعه، وأنشأ له عدة فروع، ووضع عهد الحب Carta caritatis ليضمن به التعاون السلمي الموحد بين سيتو والبيوت السسترسية المختلفة وعادت مبادئ البندكيتين إلى كل ما كانت من صرامة، فكان الفقر التام أهم مستلزماتها، وامتنع الأعضاء عن أكل اللحم بكافة أنواعه، وحيل بينهم وبين التعليم، وحرم عليهم قرض الشعر، وأمروا أن يتجنبوا مظاهر الأبهة في الملابس الدينية، والآنية والأبنية. وحتم على كل راهب قوي الجسم أن يشترك في الأعمال اليدوية في الحدائق والمصانع التي تجعل الدير مستقلا عن العالم الخارجي، فلا يكون لراهب ما
حجة في مغادرة ديره. وامتاز السسترسيون عن جميع الطوائف الأخرى، رهبانية كانت أو غير رهبانية، بنشاطهم وحذاقهم في الأعمال الزراعية، وأنشأوا مراكز جديدة لطائفتهم في الأصقاع غير المسكونة، وجففوا المستنقعات، وقطعوا أشجار الغياض والغابات ليفسحوا مكاناً للزراعة، وكان لهم فضل كبير في استعمار ألمانيا الشرقية وإصلاح الأضرار التي ألحقها وليم الفاتح بإنجلترا. وكان يساعد الرهبان السترسين في هذه الجهود التي يبذلونها في سبيل الحضارة إخوان علمانيون مهتدون نذروا أن يبقوا عزاباً، صامتين، أميين (20)، يعملون زراعاً أو خدماً نظير الطعام والملبس والمسكن (21).
وبعثت هذه الصرامة الخوف في قلوب من يريدون الانضمام إلى هذه الطائفة، ولهذا كان نمو هذه الجماعة القليلة بطيئاً، ولولا ما بعثه القديس برنار في الطائفة الجديدة من حماسة قوية لقضي عليها في مهدها.
ولد القديس برنار بالقرب من ديجون (1091) من أسرة عريقة تنتمي إلى طبقة الفرسان، وكان في صباه شاباً حيياً تقياً، يؤثر العزلة. ولم يجد راحة في العالم الدنيوي، فأعتزم أن يدخل الدير، وكأنما أراد الرفقة في الوحدة، فأخذ ينشر دعاوة قوية موفقة بين أهله وأصدقائه ليدخلوا معه دير سيتو. ويحدثنا المؤرخون أن الأمهات والفتيات الصالحات للزواج كانت ترتعد فرائضهن حين يقترب منهن، خشية أن يغري أبناءهن أو عشاقهن بالتزام العفة، ولكنه نجح على الرغم من دموعهن. ولما أن قبل في دير سيتو (1113) جاء معه بتسعة وعشرين ممن يريدون دخول الدير، ومنهم إخوة له، وأحد اعمامه، وطائفة من اصدقائه، وأفلح فيما بعد بإقناع أمه وأخته بأن تترهبا، وأقنع أباه أيضاً بأن يترهب بعد أن توعده بأنه "إن لم يكفر عن ذنوبه فسيحترق إلى أبد الدهر
…
وينبعث منه الدخان والرائحة الكريهة" (22).
وأجبت استيفن هاردنج من فوره يتقوى برنار ونشاطه إعجاباً حمله على أن
يرسله (1115) على رأس ثلاثة عشر راهباً لينشئ بيتاً سترسيا جديداً يكون هو رئيسه. واختار برنار لبيته الجديد بقعة شجرة على بعد تسعين ميلا من سيتو تعرف بإسم الوادي اللامع Claivaux أو Clara vallis، ولم يكن في هذا المكان مسكن ولم يكن فيه قط إنسان. وكان أول عمل قامت به الفئة المتآخية أن بنت بأدبها "ديرها" الأول- وهو بناء خشبي يحوي تحت سقف واحد مصلى، ومطعماً، وفي أعلاهما مكان للنوم يصلون إليه بسلم خشبي. وكانوا ينامون في صناديق نثرت عليها أوراق الأشجار، ولم تكن النوافذ أكبر من رأس الرجل ولم يكن على الأرض شيء. وكان طعامهم مقصوراً على الخضر إلا سمكة يطعمونها من حين إلى حين، ولم يكونوا يطعمون خبزاً أبيض، أو توابل، وقلما يشربون نبيذاً، فكان هؤلاء الرهبان الحريصون على دخول الجنة يأكلون كما يأكل الفلاسفة الراغبون في طول العمر. وكانوا يعدون الطعام بأيديهم، فيتناوبون طهوه. وكان من القواعد التي وضعها برنار ألا يبتاع الدير أملاكاً، وألا له إلا ما يوهب، وكان يرجو ألا يكون له من الأرض أكثر مما يستطيع الرهبان العمل فيه بأيديهم وبأدواتهم البسيطة. وأخذ برنار وإخوانه المتزايد عددهم يعملون في هذا الوادي الهادي في صمت وقناعة بعيدين عن " زوبعة العالم " يقطعون أشجار الغابة، ويزرعون، ويحصدون، ويصنعون أثاثهم بأيديهم، ويجتمعون في أوقات الصلاة ليرتلوا الأناشيد بغير أرغن، ويتلو مزامير اليوم وترانيمه. ويصفهم وليم السانت تيري William of St. Thierry بقوله: "كلما أمعنت النظر فيهم زاد يقيني أنهم أعظم أتباع المسيح كمالا
…
لا ينقصون إلا قليلا عن الملائكة، ولكنهم أرقى كثيراً من الآدميين" (23). وانتشرت أنباء هذا السلام المسيحي وهذا الاستقلال الذاتي حتى كان في كليرفو قبل موت برنار سبعمائة من الرهبان. وما من شك في أنهم كانوا سعداء في ذلك المكان، لأن الذين بعثوا من هذه البيئة الشيوعية ليكونوا رؤساء أديرة، أو أساقفة،
أو مستشارين، كانوا كلهم تقريباً يتوقون للعودة إليها، وكان برنار نفسه - وقد عرضت عليه الكنيسة أرقى مناصبها، وذهب إلى أراضي كثيرة بناء على طلبها - يحن دائماً للعودة إلى صومعته في كليرفو ويقول سأبقى بكليرفو "حتى تسيل عيني، وحتى يواري جسدي في كليرفو بجوار أجساد الفقراء".
وكان رجلا متوسط الذكاء، ثابت اليقين، ماضي العزيمة، متناسق الصفات الخلقية، ولم يكن يعني بالعلم ولا بالفلسفة لأنه يحس أن عقل الإنسان وهو جزء من الكون متناه في الصغر عاجز عن الحكم على الكون، لا يستطيع الإدعاء بأنه يفهمه، وكان يدهش من كبرياء الفلاسفة السخيف وهم ينطقون بهذرهم عن طبيعة الكون، وأصله، ومصيره. وقد هاله ما يراه أبلار من تحكيم العقل في الدين، وقاوم هذه النزعة العقلية لأنها تجديف وقحة. وكان يفضل أن يمشي في ضياء معجزات الوحي غير سائل أو متشكك، مفضلاً هذا عن محاولة فهم العالم. وكان من رأيه أن الكتاب المقدس هو كلام الله، وإلا كانت هذه الحياة في رأيه بيداء من الشك الحالك الظلام، وكلما أوغل الدعوة إلى هذا اليمان الشبيه بإيمان الأطفال، ازداد يقينه بأن هذا هو الطرق السوي. ولم أن ما جاءه أحد رهبانه واعترف له في رهبة وفزع أنه لا يستطيع الإيمان بقدرة القس على أن يحول خبز القربان إلى جسم المسيح ودمه، لم يلمه برنار على ما قال، وأمره مع ذلك أن يشترك في العشاء الرباني، وقال له:" اذهب واشترك فيه بإيماني أنا"، ويؤكد لنا الرواة أن إيمان برنار فاض على المتشكك وأنجى روحه (25) وكان في وسع برنار أن يكره ويطارد حتى الموت، أو ما يقرب من الموت، الضالين أمثال أبلار أو آرنلد البريشيائي لأنهم أضعفوا كنيسة تبدو له رغم أخطائها وعيوبها مطية المسيح نفسها، وكما كان في وسعه أن يحب برقة لا تكاد تقل عن رقة العذراء التي كان يعبدها بغيرة منقطعة النظير. ورأى يوماً لصاً يساق إلى المشنقة فشفع له عند كونت شمبانيا ووعده أن يوقع عليه عقاباً أقسى من الموت
الذي لا يقاسيه إلا لحظة وجيزة (26). وكان يعظ الملوك والباباوات، ولكنه يكون أكثر رضاً عن نفسه حين يعظ الفلاحين والرعاة في واديه وكان يتسامح في أخطائهم، ويهدهم بما يضربه لهم بنفسه من مثل صالح، وينال حبهم الصامت ويبادلهم حباً بحب. ووصل في تقواه إلى حد الزهد المنهك للقوة، وقد أكثر من الصوم حتى اضطر رئيسه في سيتو أن يأمره بتناول الطعام. وظل ثمانية وثلاثين عاماً يعيش في صومعة واحدة ضيقة في كليرفو، على فراش من ورق الشجر، وليس فيها مقعد إلا حفرة في الجدار (27) وكانت طيبات العالم جميعها وما فيه من أسباب الراحة، تبدو له وكأنها لاشيء إذا قيست إلى التفكير في المسيح ووعده. وكتب وهو في هذه النشوة عدة ترانيم غاية في البساطة والرقة الأخاذة بمجامع القلوب:
أيها المسيح يا صاحب الذكرى الحلوة،
هب القلب البهجة الحقة،
إن أحلى من الشهد ومن الأشياء جميعها
مشهده الحلو،
وليس في كل ما يغنى شيء أجمل من ذكر عيسى أبن الله
ولا فيما يسمع شيء أحسن وقعاً على الأذن منه
ولا فيما يفكر فيه العقل أحلى منه.
أي عيسى يأمل التائبين
مارق قلبك على المتسولين!
وما أقربك لطالبيك!
ترى ماذا تكون لمن يلقوك؟
وقلما كان يعني بغير الجمال الروحي رغم إدراكه جمال اللفظ، فكان يغطي
عينيه خشية أن تسرفا في الاستمتاع الحسي بجمال بحيرات سويسرا (29). وكان ديره عارياً من جميع الزينة عدا صورة المسيح مصلوباً، وكان يلوم دير كلوني لكثرة ما ينفقه من المال في بناء الأديرة التابعة له وزينها، ويقول في هذا:"إن الكنيسة تتلألأ جدرانها وتغل يدها عن فقرائها، وتطلى حجارتها بالذهب وتترك أبناءها عراة، وتفتن عيون الأغنياء بالفضة التي تأخذها من البائسين"(30) وكان يشكو من أن دير القديس دنيس العظيم غاص بالفرسان المتكبرين المدرعين بدل العباد السذج، ويسميه:" حامية عسكرية، ومدرسة الشيطان، ومعشش اللصوص"(31) وتأثر سوجر بهذا اللوم، فأصلح عادات كنيسته ورهبانه، وعاش حتى استحق ثناء برنار.
ولم يكن إصلاح الأديرة الذي سطح ضياؤه من كليرفو، ورفع مستوى رجال الدين بترقية رهبان برنار إلى مراتب الأساقفة ورؤساء الأساقفة، لم يكن هذا إلا بعض ما أحدثه ذلك الرجل، الذي لم يكن يطلب شيئاً غير الخبز، من الأثر في جميع الطبقات وفي خلال نصف القرن الذي عاشه. وجاء لزيارته الأمير هنري الفرنسي أخو الملك وتحدث إليه برنار، وقبل أن ينقضي اليوم كان هنري راهباً يغسل الصحاف في كليرفو (32). وقد استطاع بعظاته - وقد أوشكت لفصاحتها وجزالة لفظها أن تكون شعراً - أن يؤثر في نفوس كل من سمعه، كما استطاع برسائله - وهي آيات خالدة في الدعوة الحماسة الحارة - أن يؤثر في المجالس، والأساقفة، والبابوات، والملوك، وأمكنه باتصاله الشخصي أن يشكل سياستي الكنيسة والدولة. وأبى أن يكون أكثر من رئيس دير، ولكنه رفع البابوات إلى عروشهم وأنزلهم عنها، ولم يكن الناس يستمعون إلى خبر من الأخبار بإجلال وخشوع أكثر مما يستمعون بهما إليه.
وقد خرج من صومعته ليقوم بنحو اثنتي عشرة مهمة دبلوماسية عالية، كانت في العادة بناء على طلب الكنيسة ولما أن اختارت طائفتان متنازعتان
أنكليتس الثاني وإنوسنت الثاني للجلوس على كرسي البابوية (1130) أيد برنار إنوسنت، ولما استولى أنكليتس على روما دخل برنار إيطاليا وأثار بقوة شخصيته وخطبه الحماسية مدن لمبارديا لتأييد إنوسنت، وسكرت الجموع بخطبه وتقاه فانكبت عليه تقبل قدميه ومزقت مئزره إرباً اتخذتها مخلفات مقدسة تورثها من بعدها. وأقبل عليه المرضى في ميلان، وأعلن المؤمنون المصابون بالصرع والشلل وغيرهما من الأمراض أنهم شفوا من أمراضهم بلمسه. ولما عاد إلى كليرفو بعد انتصاراته الدبلوماسية جاءته جموع الفلاحين من الحقول والرعاة من أعالي التلال، يطلبون إليه أن يباركهم، فلما تلقوا منه هذه البركة عادوا إلى كدحهم مرفوعي الرأس راضين.
وقبل أن يتوفى برنار في عام 1153 كان عدد أديرة السسترسيين قد زاد من ثلاثين ديراً في عام 1134 (وهي السنة التي مات فيها استيفن هاردنج) إلى 343 ديراً وانضم إلى هذه الطائفة عدد كبير من الناس متأثرين بتقواه وقوته، فلم يحل عام 1300 حتى كان عدد أفرادها ستين ألفا يقيمون في 693 ديراً. ونشأت طوائف أخرى من الأديرة في القرن الثاني عشر، فأنشأ روبرت الأبرسولي Robert of Abrissol حوالي عام 1100 طائفة الفنتفرول Fontevroult في أنجو، وفي عام 1120 تخلى القديس نربير Norbert عن ثروة عظيمة آلت إليه وأنشأ طائفة "رهبان المرعى الموعود"
(1)
النظامية في بريمنتريه Premontre بالقرب من ليون Leon. وفي عام 1131 أنشأ القديس جلبرت طائفة
(1)
Premonstrateusian وتسمى أيضا طائفة النربيرتين نسبة إلى منشئها. أما تسميتها بطائفة المرعى الموعود فسببها كما يقول نربير أن المكان الذي نشئوا فيه قد حدد له في رؤيا ظهرت له وهو في غاية كوسي Coucy بالقرب من ليون Leon في مقاطعة ايسن Aisne. المترجم
السمبرنجهام Sempringham الجلبرتيين الإنجليز على غرار طائفة فنترفول. وفي عام 1150 سار بعض الزهاد الفلسطينيين على سنة القديس باسيلي وانتشروا في جميع أنحاء فلسطين. ولما استولى المسلمون على فلسطين هاجر هؤلاء الرهبان "رهبان الكرمل" إلى قبرص، وصقلية، وفرنسا وإنجلترا. وفي عام 1198 صدق إنوسنت الثالث على قانون طائفة الرهبان "الثالوثيين Trinitarians"، وحضهم على افتداء المسيحيين الذين وقعوا أسرى في أيدي المسلمين. وكانت هذه الطوائف الجديدة مشعلا أضاء ظلمات الكنيسة المسيحية.
وأخذت حركة الإصلاح في الأديرة التي بلغت ذروتها على يد القديس برنار تضعف خلال القرن الثاني. فقد كانت الطوائف الحديثة النشأة تحافظ على مبادئها الصارمة بإخلاص معقول، غير أنه لم يكن من المستطاع أن يوجد الكثيرون من الناس الذين يستطيعون الصبر على هذا النظام الصارم في ذلك العهد السريع الخطى، فأثرى السسترسيون- ومنهم أتباع برنار نفسه في كليرفو- على مر الزمن بما انهال عليهم من هدايا ذوي الآمال، واستطاع الرهبان بفضل الأعيان الموقوفة من (التائبين) أن يضيفوا إلى طعامهم اللحم وكثيراً من النبيذ (33)، وعهدوا بجميع الأعمال اليدوية إلى أخوانهم العلمانيين، ولما مضت أربع سنين على موت برنار ابتاعوا عدداً من الأرقاء المسلمين (34) وكانت لهم تجارة واسعة تدر عليهم أرباحاً طائلة في منتجات صناعاتهم المشاعة، وأثاروا حقد نقابات أرباب الحرف لأنهم كانوا معفين من العوائد المفروضة على نقل البضائع (35). ولما ضعف إيمان الناس على أثر إخفاق الحملات الصليبية قل عدد الطلاب الجدد وانحطت بسبب هذا الضعف أخلاق جميع طوائف الرهبان،
ولكن المثل الأعلى القديم القاضي بأن يحيا الرهبان كما كان يحيا الرسل حياة شيوعية خالية من الملك الفردي لم يمت، بل بقي في نفوس الآلاف من الناس الاعتقاد الراسخ أن من واجب المسيحي الصادق أن يبتعد عن الثروة والسلطان. وأن يحافظ أشد المحافظة على السلام. ثم ظهر في تلال أمبريا Umbria بإيطاليا في أوائل القرن الثالث عشر رجل أعاد تلك المثل العليا القديمة إلى سابق قوتها وذلك ببساطته، وطهارته، وتقواه، وحبه وأدهش الناس بهذه الصفات حتى ظنوا أن المسيح قد ولد من جديد.
الفصل الثالث
القديس فرانسس
(1)
ولد جوفيني ده برنادون Giovanni de Bernadone في أسيسي Assisi عام 1182. وكان أبوه سربيترو ده برنادون Ser Pietro de Bernadone من أثرياء التجار، ذا تجارة واسعة مع برو فانس، وفيها أحب فتاة فرنسية تدعى بيكا pica وتزوجها وجاء بها إلى أسيسي. ولما عاد من رحلة أخرى ووجد أنها أنجبت له ولداً بدل اسم الطفل وجعله فرانسسكو Francesco أي فرانس، ويبدو أن ذلك كان تحية لبيكا. وشب الطفل وترعرع في أجمل صقاع في إيطاليا، ولم يفقد قط حبه لمناظر أمبريا الجميلة وسمائها الصافية. وتعلم من والديه اللغتين الفرنسية والإيطالية، وأخذ لغة اللاتينية عن قس الأبرشية، ولم يكن له بعدئذ نصيب من التعليم المنظم، ولكنه سرعان ما انتظم في عمل أبيه، وأغضب سربيترو بما أظهره من قدرة على صرف المال تفوق قدرته على كسبه، فقد كان أغنى شباب البلدة وأسخاهم يداً، يجتمع حوله أصدقاؤه يطعمون معه ويشربون ويغنون أغاني الشعراء الغزلين. وكان فرانس بين الفينة والفينة يرتدي حلة المنشدين الجاثلين المتعددة الألوان (36). وكان شاباً وسيما، أسود العينين، فاحم لون الشعر، صبوح، جميل الصوت. ويقول المترجمون الأولون له إنه لم تكن له قط صلة بالنساء، وإنه لم يعرف إلا امرأتين معرفة لا تتجاوز النظر
(1)
إن بعض ما كتب عن فرانسيس تاريخ صحيح وبعضه قصص. إذ كان بعض القصص من أروع الآيات الأدبية التي خلفتها العصور الوسطى فقد أثبتنا هذا البعض في الصفحات التالية ونبهنا القارئ إلى طبيعة هذه في كل مرة. وتقول هنا من بادئ الأمر أن معظم "زهيرات القديس فرانس Flovetti" و"مرآة الكمال Speculum Pertectiones من القصص الموضوعة. وعلى هذا النحو يجب أن يفسر ما نقتبسه من هذين الكتابين.
إليهما (27)، ولكن هذا بلا ريب يظلم فرانس بعض الظلم. ولعله سمع من أبيه في تلك السنين التي يتشكل فيها خلقه شيئا عن الضالين الإلبجنسيين والولدنسيين في جنوبي فرنسا، وعن إنجيلهم الجديد إنجيل الدعوة إلى الفقر.
وحارب في عام 1202 في جيش أسيسي بروجيا Perugia، وأسر، وقضى في الأسرة سنة شغلها كلها بالتأمل العميق. وفي عام 1204 تطوع في جيش البابا إنوسنت الثالث. وبينما هو طريح الفراش في إسبوليتو ينتفض جسده من الحمى إذا خيل إليه أن صوتاً يناديه"لم تهجر الإله إلى الخادم، والأمير إلى تابعه؟ فسأل هو ذلك الصوت: "رباه ماذا تريدوني أن أفعل؟ " فأجابه الصوت: "عد إلى موطنك، وهناك سيقال لك ماذا تفعل" (28). فما كان منه إلا ترك الجيش وعاد إلى أسيسي، ومن ذلك الوقت أخذ اهتمامه بتجارة أبيه يقل واهتمامه بالدين يزيد. وكان بالقرب من أسيسي مصلى صغيرة للقديس دميان. وبيتاً كان فرانسس يصلي فيها ذات يوم من أيام شهر فبراير عام 1207 إذ خيل إليه أنه يسمع المسيح يتحدث إليه من المذبح، ويتقبل حياته وروحه قرباناً له. وأحس من تلك اللحظة أنه موهوب إلى حياة جديدة، فأعطى قس المصلى كل ما معه من المال وعاد إلى منزله. والتقى ذات يوم بشخص مصاب بالجذام ففر منه مشمئزاً، ثم لام نفسه لعدم إخلاصه للمسيح، وعاد أدراجه وأفرغ ما كان كيسه من النقود في يد المجذوم وقبل يده، ويقول لنا هو أن هذا العمل كان بداية عهد جديد في حياته الروحية (29). وأخذ من ذلك الحين يزور مساكن المجذومين ويتصدق عليهم.
وقضى بعد قليل من ذلك الحادث عدة أيام في المصلى أو بالقرب منها، ويبدو أنه لم يكن يأكل في تلك الأيام إلا القليل الذي لا يغني عن الجوع، فلما ظهر مرة أخرى في أسيسي كان جسمه قد ضعف واهزل، ولونه قد امتقع، وثيابه قد تمزقت، وعقله قد تحير، حتى أخذ الأطفال في الميدان العام يصيحون
"بزو، بزو! pazzo! pazzo المجنون، المجنون! " وهناك عثر عليه أبوه، وسماه بالشاب الذي ذهب نصف عقله؛ وجره إلى منزله، وأغلق عليه حجرة ضيقة. ولما أطلقته أمه من حبسه عاد مسرعاً إلى المصلى، فحلق به أبوه الغاضب، وأنبه لتعرضه أسرته للسخرية، ولامه لأنه لم يفد قيها من المال الذي أنفقه على تربيته، وأمره أن يخرج من البلدة التي هو فيها. وكان فراسيس قد باع كل ممتلكاته الشخصية لينفق من ثمنها على المصلى، فلما سمع هذا القول من أبيه أعطاه ما كان معه من ثمنها، وقبله منه أبوه، ولكنه لم يعترف لوالده بحقه في أن يأمر شخصاً هو وقتئذ ملك للمسيح. ولما استدعى للمثول بين يدي محكمة الأسقف في ميدان القديسة مارياما جوري، مثل أمامها في خشوع وحوله جمع حاشد ينظر إليه. وقد خلد جيوتو هذا المنظر في صورة له ذات روعة. ووثق الأسقف بما قطعه على نفسه من وعد وأمره أن يتخلى عن جميع أملاكه. وآوى فرانسيس إلى حجرة في قصر الأسقفية، وما لبث أن عاد عارياً كما ولدته أمه، وألقى أمام الأسقف بثيابه المحزومة وما كان باقيا معه من نقود قليلة وقال:" لقد ظللت حتى هذه الساعة أدعو بيترو برنادون أبي، أما الآن فأحب أن أكون خادماً لله، لأني من هذه الساعة لن أنطق بغير "أبانا الذي في السموات" (40). وأخذ برنادون الثياب وغطى الأسقف فرنسس المرتجف بمئزره، وعاد فرانسس إلى مصلى القديس داميان، ونسج لنفسه ثوباً من أثواب النساك، وأخذ يسأل الناس طعامه من باب إلى باب، وشرع يبني بيديه المصلى المتصدعة، وجاء بعض أهل القرية يساعدونه، وكانوا يغنون جميعاً وهم يعملون.
وبينما كان يستمع إلى القداس في شهر فبراير من عام 1209 أثرت في نفسه العبارات التي كان القس يتلوها من تعاليم المسيح إلى الرسل: وفيما" أنتم ذاهبون أكرزوا قائلين إنه قد اقترب ملكوت السموات، أشفوا مرضى، طهروا برصاً
أقيموا موتاً، أخرجوا شياطين، مجانا أخذتم مجاناً أعطوا، لا تقتنوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم، ولا مزوداً في الطريق ولا ثوبين، ولا أحذية ولا عصا" (متى 10: 7 - 10).
وخيل إلى فرانسس أن المسيح نفسه هو الذي يتكلم وأنه يتكلم إليه مباشرة، وصمم على أن يطيع هذه الألفاظ وينفذها بنصها - أن يدعو إلى ملكوت السموات، وألا يفتني شيئاً، وأن يرجع إلى الوراء خلال المائتين والألف من الأعوام التي اختفت عن الناس صورة المسيح، وأن يعيد تشكيل حياته على غرار هذا المثل القدسي.
وهكذا وقف في ربيع ذك العام في ميدان أسيسي متحدياً سخرية الساخرين جميعها يدعو إلى إنجيل الفقر وإلى المسيح. واشمأزت نفسه مما كان سائداً في هذا العصر من سعي لكسب المال بالحق أو بالباطل، وروعة ما رآه من ترف بعض رجال الدين وأبهتهم، فأخذ يندد بالمال نفسه ويقول إنه هو الشيطان وهو اللعنة، وأمر أتباعه أن يجتنبوه كما الرجس (41). وأهاب بالرجال والنساء أن يبيعوا كل ما يملكون وأن يهبوا يجتنبوا ثمنه للفقراء. واستمعت إليه جماعات قليلة في دهشة وإعجاب، ولكن الكثرة مرت به وحسبته أبلها مفتوحاً بالمسيح، ولما قال له أسقف أسيسي الصالح:" يبدو لي أن طريقتك في الحياة من غير أن تملك شيئاً قاسية صعبة على النفس" أجابه فرانسس بقوله: "مولاي، إننا إذا كان لنا ملك احتجنا إلى الأسلحة للدفاع عنه"(42). وتأثرت به بعض النفوس، وعرض عليه اثنا عشر ممن تأثروا به أن يتبعوا تعاليمه ويسيروا على سننه، فرحب بهم، ولقنهم الفقرة السالفة الذكر من أقوال المسيح ليتخذوها رسالة وقاعدة يسيرون عليها، ونسجوا لأنفسهم ثياباً سمراء، وأقاموا لهم أكواخاً من أغصان الأشجار، ونبذوا هم وفرانسس عزلة الرهبان القديمة، فكانوا يخرجون كل يوم حفاة، ليس معهم من المال، يعظون الناس. وكانوا في بعض
الأحيان يغيبون عدة أيام، وينامون في مخازن الدريس، أو مستشفيات المجذومين، أو تحت أبواب الكنائس، فإذا عادوا غسل فرانسس أقدامهم وقدم لهم الطعام.
وكانوا يحيون بعضهم البعض، ويحيون كل من يلتقون بهم في الطريق، التحية الشرقية القديمة:"سلام الله عليكم" ولم يكونوا حتى ذلك الوقت قد أطلق عليهم اسم "فرانسسكان"، فقد كانوا يسمون أنفسهم "الإخوان الصغار Minorities Fratres أو المينوريين Minores". ذلك أنهم كانوا إخواناً لا قساوسة، ومعنى كونهم صغاراً أنهم أصغر خدام المسيح شأناً، وأنهم لا يمارسون قط سلطاناً، بل يخضعون على الدوام لسلطان من هم أرقى منهم؛ فهم يخضعون لأقل القساوسة درجة، ويقبلون يد أي قسيس يلقونه، ولم يرسم إلا عدد قليل منهم في الجيل الأول من نشأتهم قساوسة، ولم يرق فرانسس نفسه إلى أكبر من مرتبة شماس، وكانوا في جماعتهم الصغيرة يخدم بعضهم بعضاً، ويشتغلون بالأعمال اليدوية، ولم يكونوا يسمحون بوجود متعطل منهم، أو يشجعون الدراسة العقلية بينهم، لأن فرانسس لم يكن يرى في المعلومات الزمنية أية فائدة غير تكديس الثروة أو الجري وراء السلطان:"وسيجد إخواني الذين تغويهم الرغب الرغبة في العلم أنهم صفر الأيادي في يوم المحنة"(43). وكان يسخر من المؤرخين الذين لا يقومون هم أنفسهم بعمل عظيم، ولكنهم يشرفون لأنهم يسجلون ما يقوم به غيرهم من جليل الأعمال (44). وقد سبق فرانسس قول جيتة إن العلم الذي يستخدمه في العمل" (45) ولم يكن واحد من الإخوان يمتلك كتاباً بما في ذلك كتاب الترتيل نفسه؛ وكانوا في عظاتهم يلجأون إلى الغناء كما يلجأون إلى الخطابة، بل كانوا يحذون حذو الشعراء المغنين الجائلين فيكونون مطربي الله (46).
وكان الإخوان أحياناً يُسخر منهم ويُضربون، وتُسرق منهم أثوابهم حتى الثوب الأخير. وقد أمر فرانسس ألا يبدو أية مقاومة. وكان المعتدون
في كثير من الأحيان يدهشون من احتقار الإخوان للمجد والملك، وهو احتقار كان يبدو لهم فوق الطاقة البشرية، ولهذا كانوا يتقدمون إليهم يطلبون الصفح ويعيدون إليهم ما سرقوه (47). ولسنا نعرف هل هذا المثل الآتي المأخوذ من زهيرات القديس فرانسس تاريخ حق أو خيال، ولكنه في كلتا الحالتين يصور نشوة التقوى التي تسري في كل ما نسمعه عن القديس:
قال فرانسس في يوم من أيام الشتاء وهو سائر في طريقه من بروجيا يعاني الأمرين من برد الشتاء القارس: "أيها الأخ ليو، إن الإخوان الصغار يضربون أحسن الأمثلة في الصلاح والتهذيب، ومع هذا فاكتب إليهم، ولا تتوان عن تعليمهم، أن البهجة الكاملة ليست في هذا". وبعد أن واصل فرانسس السير في طريقه بعض الشيء قال: "أيها الأخ ليو، إن الإخوان الصغار قد ردوا البصر إلى المكفوفين، وقوموا المعوجين، وأخرجوا الشياطين، وأعادوا السمع إلى الصم، ومكنوا العرج من المشي المستقيم
…
وأحيوا من قضوا في القبر أربعة أيام، ومع هذا فاكتب: إن السرور الكامل ليس في ذاك". ثم سار في طريقه قليلاً ثم صاح بأعلى صوته: "أيها الأخ ليو، لو أن الأخ الصغير عرف كل اللغات والعلوم، وجميع الكتب المقدسة حتى استطاع أن يكشف عن الأمور المستقبلة ويتنبأ بها، بل استطاع أكثر من هذا أن يكشف عن مخبآت الضمائر والنفوس- فاكتب: إن السرور الكامل ليس في ذاك"
…
ومع هذا فقد سار بعدئذ قليلاً وصاح قائلاً: "أيها الأخ ليو، إن الأخ الصغير يحذق الوعظ إلى حد يستطيع معه أن يهدي الكفرة إلى دين المسيح- فاكتب: "ليس السرور في ذاك". ولما استمر هذا الطراز من الحديث ميلين كاملين سأله الأخ ليو:
…
"أبي، بالله قل لي أين يوجد السرور الكامل؟ " فأجابه فرانسس بقوله: "حين نصل إلى كنيسة مارية الملائكة"(وكانت وقتئذ مصلى الفرانسسكان في أسيسي) يبللنا المطر، متجمدين من شدة البرد، ملطخين
بالوحل، معذبين من شدة الجوع، وحين تدق الباب ويقبل البواب ثائراً ويقول:"من أنتما؟ " فتقول له: "نحن اثنان من إخوانك" فيرد علينا قائلاً: "إنكما كاذبان، بل أنتما وغدان تسيران في الطرق تخدعان العالم، وتختلسان صدقات الفقراء. اذهبا! " ثم يفتح لنا الباب، ويتركنا في خارجه نعاني آلام الجوع والبرد طوال الليل في المطر والثلج، فإذا ما تحملنا هذه القسوة صابرين
…
من غير أن نشكر أو نحزن، ونعتقد في ذلة وشفقة أن الله هو الذي أنطق البواب بالسخرية منا - ألا أيها الأخ ليو، أكتب، هناك السرور الكامل! وإذا ما واصلنا دق الباب، وخرج هو وطردنا وهو غاضب، وسبنا ولطم خدودنا وقال لنا: "أبعد أيها اللصان السافلان! - فإذا ما تحملنا هذا صابرين يملأ فلبينا الحب والفرح فاكتب أيها الأخ ليو: هذا هو السرور الكامل! وإذا ما عضنا الجوع وآلمنا البرد فدفعنا الباب مرة اخرى ودعوناه بحب الله أن يفتح لنا
…
فخرج بعصا كبيرة معقدة وقبض علينا من قلنسوتينا، وألقانا على الأرض، ودحرجنا على الثلج، ورض كل عظم من عظامنا بتلك العصا الثقيلة، فإذا ما فكرنا في آلام المسيح الرحيم، وتحملنا هذه الآلام كلها في صبر وسرور مدفوعين إليه بحب الله - فأكتب أيها الأخ ليو أن هنا لك وفي هذا يوجد السرور الكامل" (48).
وكانت ذكرى حياته المترفة الباكرة تبعث في نفوس شعوراً بالخطيئة يؤرقه ويقض مضجعة، وإذا كان لنا أن نصدق ما جاء في الزهيرات فأنه كان في بعض الأحيان يسائل نفسه في حيرة هل يغفر له الله ذنوبه؟ وثمة قصة مؤثرة تقول إنه الأيام الأولى من نشأة الطائفة حين لم يكن في وسعهم أن يجدوا كتاب صلوات يتلون منه أدعيتهم المقدسة، ارتحل فرانسس ورداً للتوبة، وأمر الأخ ليو أن يعيد بعده عبارات تتهم فرانسس بالخطيئة. وحاول ليون أن يعيد التهمة في كل جملة، ولكنه وجد أنه لم يكن يكرر التهمة، بل كان يقول بدلا منها
إن "رحمة الله وسعت كل شيء"(49). وحدث في مرة أخرى، وكان فرانسس قد نقه تواً من الحمي، أن طلب أن يجر وهو عار من الثياب أمام الناس في سوق أسيسي وأن يلقى أحد الإخوان على وجهه صفحة من الرماد، ثم قال هو للحاضرين:"إنكم تعتقدون أني ولي صالح، ولكن أعترف لله ولكم أنني في ضعفي هذا أكلت لحماً وشربت مرق لحم"(50). وزاد ذلك القول يقين الناس بطهره وقداسته، ورووا أن أخا شاباً أبصر المسيح والعذراء يحدثانه، وكانوا يعزون له عدة معجزات، ويأتون إليه بمرضاهم ومن بهم "مس " ليشفيهم. وأصبحت صدقاته مضرب المثل وموضوع القصص، فلم يطيق أن يرى أحداً أفقر منه، وكثيراً ما كان يتصدق على من يمر به من الفقراء بالثوب الذي يلبسه حتى كان مريدوه يجدون من أصعب الصعاب أن يبقوه مكتسياً. وتقول مرآة الكمال التي هي في أكبر الظن من نسج الخيال (51):
وبينما هو عائد من سينا Siena إذ التقى في طريقه برجل فقير، فقال لزميل من الرهبان: "يجب أن نعيد هذا المئزر إلى صاحبه، لأنا لم نأخذه إلا عارية حتى نعثر على من هو أفقر منا
…
وإنا إذا لم نعطه من هو أشد حاجة إليه منا عُدّ هذا منا سرقة".
وفاض حبه من الآدميين على الحيوان والنبات، وعلى الجماد نفسه. وتعزو إليه مرآة الكمال التي لم تثبت صحتها تسبيحاً للشمس يقول فيه:
حين تشرق الشمس في الصباح، يجب على كل إنسان أن يحمد الله الذي خلقها لننتفع بها .. وإذا جن الليل وجب على كل إنسان أن يسبح بحمد الله الذي أمدنا بأختنا النار التي تبصر بها أعيننا، لأننا جميعاً أشبه بالمكفوفين، وقد أضاء الله أعيننا بهذين الأخوين.
وكان يعجب بالنار إعجاباً يحمله على التردد في إطفاء شمعة، لأن النار قد
تعارض في أن تطفأ. وكان قوى الإيمان بما بينه وبين كل كائن حي من أواشج القربى. وأراد أن "يتوسل إلى الإمبراطور"(فردريك الثاني الذي كان مولعاً بصيد الطير)"لكي يخبره بحق حبه لله ولي لأن يضع قانوناً خاصاً يحرم على أي إنسان أن يقبض على أخوتنا القبرات أو يقتلها، أو يلحق بها أذى ما، وأن يطلب رؤساء البلديات وعمد البلاد، وملاك القصور والقرى، إلى كل رجل أن ينثر الحب في خارج المدن والقصور في يوم عيد الميلاد من كل عام حتى تجد أخواتنا القبرات وغيرها من الطير ما تأكله"(52). والتقى مرة بشاب اقتنص بضع قمريات وسار بها إلى السوق. وأقتنع فرانس الشاب أن يعطيه إياها، وبنى القديسون عشوشاً لها "حتى تثمر وتتضاعف"، وأطاعت القمريات فأثمرت وتضاعفت أضعافاً مضاعفة، وعاشت بجوار الدير سعيدة بصداقة الرهبان، وكانت أحياناً تخطف الطعام من المائدة التي يطعم عليها أولئك الرهبان (53). ونسجت حول هذا الموضوع عشرات من الأقاصيص لتزينه وتجمله، منها واحدة تقول إن فرانس خطب في " أخواتي الصغار من الطير" وهو في طريقه من كانورا Cannora إلى بيفانا Bevagna، فنزلت إليه الطيور التي عاشت على الأشجار لتستمع إليه، وظلت ساكنة بينما كان فرانس يختم عظته:
أخواتي الصغر من الطير! ما أكثر ما أنتن مدينات به إلى الله خالقكن، ومن واجبكن أينما كنتن وأنى كنتن أن تحمدنه لأنه وهبكن حلة ثنائية هذا إنكن لا تزرعن، ولا تحصدن، والله يطعمكن ويهبكن الأنهار والعيون لتشربن مائها، ويهبكن الجبال والوديان لتأوين إليها، والأشجار الباسقة التي تبنين فيها أعشاشكن، وإذ كنتن لا تستطعن أن تغزلن أو تخطن فإن الله يكسوكن أنتن وأبناءكن
…
فاحذرن إذن يا أخوتي الصغار أن ترتكبن ذنب الكفران بالنعمة، ولا تغفلن أبداً عن حمد الله (54).
ويؤكد لتا الأخوان جيمس وماسيو أن الطيور كانت تنحني احتراماً لفرانس، وأنها لم تكن تبرح أماكنها حتى يباركها. والزهريات Fioretta التي نقلنا منها هذه القصة هي تبسيط باللغة الإيطالية لكتاب Actus Beati Francisci المكتوب باللغة اللاتينية (1323)، وهي اقرب إلى الأدب منها إلى التاريخ الحق، ولكنها تعد في مستوى أجمل مؤلفات عصر الإيمان وأعظمها متعة.
ولما قيل له إن إنشاء طائفة دينية جديدة يتطلب الحصول على إذن من البابا، سافر فرانسس ومريده الاثنا عشر إلى روما في عام 1210، وعرضوا طلبهم ومبادئهم على إنوسنت الثالث. فنصحهم البابا العضيم بلطف أن يؤجلوا مسألة الإنشاء الرسمي للطائفة الجديدة حتى يحين الوقت لاختبار مبادئهم اختباراً عمليا، وقال لهم: "أبنائي الأعزاء، إن حياتكم لتبدو لي أقسى مما تطيقون، نعم إني أرى أنكم شديدوا التحمس لمبادئكم
…
ولكن من واجبي أن أفكر فيمن سيأتون بعدكم خشية أن يكون أسلوب حياتكم فوق ما يطيقون" (55). وأصر فرانسس على طلبه، وخضع له البابا آخر الأمر- خضعت القوة المتمثلة في شخص البابا إلى الإيمان الممثل في شخص فرانس-، وقص الإخوان شعورهم، وخضعوا لرجال السلطة الدينية، وحصلوا من البندكتين في مونت سياسيو Mt. Subasio القريب من أسيسي على مصلى القديسة ماري الملائكية St. Mary of the Angeles، وهي مصلى لا يزيد طولها عن عشرة أقدام، وقد بلغ من صغر مساحتها لأن أطلق عليها اسم بورتي نيكولا portiuncula- " أي الجزء الصغير". وبنى الإخوان لهم أكواخا حول المصلى، وكانت هذه الأكواخ أولى أديرة طائفة القديس فرانسس الأولى.
وانضم إلى الطائفة أعضاء جدد، ولم يقتصر الأمر على هذا، ولكن فتاة ثرية في الثامنة عشرة من عمرها هي كلارا ديي اسكفي Clara dei Sciffi طلبت
إليه أن يأذن لها بإنشاء طائفة ثانية من طوائف القديس فرانسس خاصة بالنساء (1212). وابتهج القديس لهذا الطلب ابتهاج - فقد غادرت الفتاة بيتها ونذرت نفسها للفقر، والطهر، وأصبحت رئيسة دير فرنسيسى أقيم حول مصلى القديس دميان. ثم أنشئت طائفة ثالثة من طوائف القديس فرانسس- وهي الطائفة الثلاثية- من بين العلمانيين الذين لم يكونوا يرتبطون بقواعد القديس فرانسس كاملة، ولكنهم أرادوا أن يتبعوا هذه القواعد قدر المستطاع، وأن يعيشوا في "الدنيا"، ويساعدوا الطائفة الأولى والثانية بعملهم وصدقاتهم. وحملت الطوائف الفرنسيسية المطردة الزيادة إنجيلها إلى بلدان أمبريا (1211)، ثم حملته فيما بعد إلى غيرها من مقاطعات إيطاليا. ولم يكن هؤلاء الرهبان ينطقون بشئ عن الضلالة بل كانوا يعظون الناس عظات بسيطة في شئون الدين، ولم يكونوا يطلبون إلى المستمعين أن يأخذوا أنفسهم بالعفة، والفقر، والطاعة التي وهبوا هم أنفسهم لها، بل كانوا ينادونهم " خافوا الله وعظموه؛ وأثنوا عليه وسبحوه
…
وتوبوا إليه واستغفروه
…
فإنكم تعلمون أنا عما قليل ميتون
…
تجنبوا الشر، وثابروا على الخير".
لقد طالما سمعت إيطاليا هذه الألفاظ من قبل، ولكنها قلما سمعتها من رجال أوتوا من الإخلاص البين مثل ما أوتي هؤلاء الرجال. وأقبل الناس زرافات ليستمعوا إلى مواعظهم، وعرفت قرية في أمبريا أن القديس فرانسس مقبل عليها، فخرجت على بكرة أبيها لتحييه بالأزهار، والأعلام، والأناشيد (56). ولما أقبل على سينا Siena وجد المدينة في حرب أهلية، فلما استمع الحزبان المتحاربان إلى مواعظه أقبلوا عليه خاضعين، وأنهوا نزاعهم طوعاً لأمر إلى حين (57). وكانت هذه الرحلات التبشيرية التي قام بها في إيطاليا هي التي أصيب فيها بالملاريا التي قضت على حياته في سن مبكرة.
بيد أن ما لقيه من النجاح في إيطاليا وجهله بالإسلام قد شجعاه على مواصلة
العمل، فاعتزم أن يذهب إلى بلاد الشام ويدعو المسلمين والسلطان نفسه إلى اعتناق الدين المسيحي. ولهذا أبحر في عام 1212 من إحدى الثغور الإيطالية ولكن عاصفة بحرية قذفت بسفينته إلى شاطئ دلماشيا واضطرته أن يرجع إلى إيطاليا، غير أن إحدى الأقاصيص تقول إن "القديس فرانسس أدخل في دينة سلطان بابل"(58). وتقول قصة أخرى أكبر الظن أنها غير صادقة كسابقتها إنه سافر في ذلك العام نفسه إلى أسبانيا ليدخل المسلمين في دين المسيح، ولكنه حين وصل إليها أصيب بمرض شديد اضطر مريديه أن يعودوا به إلى أسيسي. وتروى قصة أخرى مشكوك في صحتها أنه جاء إلى مصر، وأنه مر بسلام في صفوف المسلمين الذي كان يقاوم الصليبيين عند دمياط، وعرض أن يخوض النار إذا وعده السلطان أن يعتنق هو وجنوده الدين المسيحي إن خرج من النار سالما، ورفض السلطان هذا العرض ولكنه أمر بأن يعد للقديس حرس بصحبه إلى معسكر المسيحيين. وروع فرانسس حين رأى ما أظهره جنود المسيح من وحشية وهم يذبحون السكان المسلمين حين تولى الصليبيون على دمياط (59)، فعاد إلى إيطاليا مريضاً محزونا، وأصيب وهو في مصر، فضلاً عن مرض الملاريا، برمد أوشك في مستقبل حياته أن يفقد بصره.
وأزداد أتباع للقديس في أثناء غيابه زيادة أسرع مما يستطيع معها السيطرة عليهم. ذلك أن شهرته جعلت الأتباع ينضمون إليه دون أن يفكروا في الأمر التفكير الواجب، فأخذ بعضهم يندمون على تسرعهم، وشكا البعض الآخر من صرامة مبادئ الطائفة، فنزل فرانسس عن بعض القواعد وهو كاره وما من شك كذلك في أن انتشار الطائفة التي انقسمت إلى عدة بيوت منتشرة في أنحاء أمبريا قد تطلب مهارة إدارية وكياسة لا قبل له بهما لشدة انهماكه في مبادئه الصوفية. من ذلك ما يروى أن راهبا اغتاب زميلا له فأمره فرانسس أن يأكل قطعة من روث حمار حتى لا يحلو الخبث في لسانه من بعد. وصدع
الراهب بالأمر ولكن زملاءه هالهم العقاب أكثر مما هالتهم الجريمة (60). وتخلى فرانسس في عام 1220 عن زعامة الطائفة، وأمر أتباعه لأن يختاروا لها غيره مرشداً عاماً؛ وارتضى فيما بعد أن يكون راهباً بسيطاً. لكنه أزعجه بعد عام من ذلك الوقت ما رآه من استمرار التراخي في إطاعة المبادئ الأولى (1210) فوضع للطائفة قواعد جديدة - هي "الهد" الذائع الصيت - أراد بها أن يتقيد أتباعه تقيداً تاماً بمراعاة يمين الفقر التي أقسموا أن يراعوها؛ ونهى الرهبان عن الانتقال من أكواخهم عند البورتي أنكولا إلى الأحياء الطيبة الهواء التي أنشأها لهم أهل المدينة، وعرض هذه القواعد على هونوريوس الثالث فأحالها إلى لجنة من المطاردة لمراجعتها، فلما خرجت من أيديهم كانت قد أخذت بنحو اثنتي عشرة قاعدة من قواعد فرانسس ويمثلها من التعديلات المحففة، وهكذا تحققت نبوءة إنوسنت الثالث.
وعمد فرانسس في ذلك الوقت على كره منه، وإطاعة لما أخذه به نفسه من خشوع، عمد إلى حياة قضى معظمها في التفكير، والعزلة،، والزهد، والصلاة. وجاءته شدة خشوعه وقوة خياله من حين إلى حين برؤى المسيح، أو مريم، أو الرسل. وفي عام 1224 غادر أسيسي مع ثلاثة من مريديه وخرج يقطع الجبال والسهول حتى وصل صومعة على جبل فرنا M. Verna بالقرب من شوزي chiusi، وأقام منفرداً في كوخ منعزل وراء أخدود عميق لا يسمع لأحد ليو أن يزوره، وأمره ألا يأتي مرتين كل يوم، وألا يجئ إذا لم يتلق رداً على ندائه بأنه قريب منه. وفي اليوم الرابع عشر من سبتمبر عام 1224 يوم عيد تمجيد الصليب المقدس، وبعد صوم طويل وليلة قضاها ساهراً مصلياً - في هذا اليوم خيل إلى فرانسس أنه رأى ملكاُ ينزل من السماء معه صورة للمسيح المصلوب، ولما توارى الشبح أحس بآلام غريبة وتبين زوائد لحمية في كفيه وظهرت يديه، وفي أسفل قدميه وأعلاهما، وفي جسمه كله شبيهة في أماكنها
وفي لونها بالجروح التي أحدثتها في ظن الناس المسامير التي يعتقدون أنها دقت أطراف المسيح في الصليب والحربة التي نفذت في جنبه
(1)
.
وعاد فرانسس إلى صومعته وإلى أسيسي، وشرع بعد عام من الظهور تلك القروح يفقد بصره، إلى أن كان يوماً في زيارة لدير القديسة كلارا ففقد بصره فقداناً تاما. ومرضته كلارا حتى عاد إليه نور عينيه واستبقته في دير القديس دميان شهراً من الزمان، وفيه ألف في يوم من أيام 1224 "تسبيحه الشمس" بالنثر الإيطالي الموزون، ولعله ألفها وهو في نشوة الفرح أيام النقاهة من مرض عينيه (62):
رباه يا ذا الخير والجلال والسلطان الأعظم،
إليك الحمد. والمجد، والتكريم، وكل البركات،
انك أنت وحدك يا ذا الجلال خليق بها
وما من أحد يليق به أن يذكرك.
إليك الحمد يا رب أنت وجميع مخلوقاتك.
وأكثر ما يكون ذلك الحمد لأخينا الشمس
الذي يهبنا النهار ويضيؤنا به
والشمس جميلة ساطعة ذات روعة،
بينها وبينك يا ذا الجلال بعض الشبه،
تسبح بحمدك يارب قمر السماء ونجومها،
فقد خلقتها في السماء صافية، ثمينة، جميلة
(1)
قيل إنه ربما كان سبب هذه الفقاقيع هو الملاريا الخبيثة. ومما هو معروف أن هذا المرض يحدث نزيفاً في الجلد من الدم الأرجواني، لعدم معرفة القوم وقتئذ بوسائل العلاج الحديثة.
تسبح بحمدك يا رب الرياح، والهواء، والسحب، والأجواء كلها،
الطيب منها وغير الطيب، وهي التي تهب بها القوت لمخلوقاتك.
تسبح بحمدك يا رب أختنا المياه
ذات النفع العظيم والتواضع الجم، الثمينة النقية.
تسبح بحمدك يا رب أختنا النار
التي أضاءت بها دجى الليل،
وهي جميلة؛ ومبتهجة، وشديدة وقوية:
تسبح بحمدك يا رب أختنا وأمنا الأرض،
التي تمدنا بالغذاء وتسيطر علينا،
وتخرج لنا الفاكهة المختلفة الأشكال والأزهار
والأعشاب ذات الألوان.
يسبح بحمدك من يعفون عن الناس حبا فيك،
ويحتملون آلام المرض والمحن،
طوبى لمن يحتملونها في هدوء،
لأنك أنت يا العظمة ستضع على رؤوسهم التيجان.
ورأى بعض الأطباء في ريتي أن يمروا بقضيب من الحديد المتوهج على جبهته ليعالجوا بذلك مرض عينيه بعد أن مسحوهما "ببول غلام لم يباشر قط النساء" ويقال إن فرانسس نادى: "الأخ النار: إنك جميل فوق كل المخلوقات، فمن على في هذه الساعة، وانك لتعلم مقدار حبي العظيم الدائم لك"، وقال فيما بعد أنه لم يحس قط بألم. واسترد من قوة البصر ما يكفيه لأن يبدأ رحلة أخرى يعظ فيها الناس، ولكن متاعب السفر لم تلبث أن أنهكت قواه، وأقعده داء الملاريا ومرض الاستسقاء، فعادوا به إلى أسيسي.
واضطر رغم احتجاجه إلى، الرقاد في قصر الأسقفية، وسأل الطبيب أن يصدقه الخبر، فقيل له: انه لا يكاد يبقى حيا بعد الخريف، وأدهش جميع الحاضرين إذ بدأ يغني، ثم أضاف، على حد قولهم، مقطوعة أخرى إلى تسبيحة الشمس:
تسبح بحمدك يا رب يا من مننت علينا بأختنا ميْتَة الجسد التي لا ينجو منها بشر.
فوا أسفي على من يموتون وهم آثمون
وطوبى لمن هم طوع إرادتك المقدسة،
لأن الميتة الثانية لن ينالهم منها أذى.
ويقال؛ انه ندم في تلك الأيام الأخير على زهده لأنه "أساء به إلى أخيه الجسم"(64). ولما خرج الأسقف من عنده أقنع فرانسس الرهبان - أن ينقلوه إلى بورتي أنكولا، وفيها أملى وصيته، وهي وصية تجمع بين التواضع والقوة، فقد أمر أتباعه أن يقنعوا "بالكنائس الفقيرة المهجورة"، وإلا يقيموا في بيوت لا تتفق مع الأيمان التي أقسموها بأن يظلوا فقراء، وأن يسلموا للأسقف كل ضال أو ناكث للعهد من رهبان الطائفة وألا يغيروا قط مبادئهم (65).
وأدركته في اليوم الثالث من اشهر أكتوبر من عام 1226 ولم يتجاوز الخامسة والأربعين من عمره، وكان في اللحظة الأخيرة ينشد أحد المزامير. وبعد سنتين من وفاته سمته الكنيسة قديسا. وكان زعيمان آخران يسيطران على هذا العصر القوي الحركة هما إنوسنت الثالث وفردريك الثاني. فأما إنوسنت فقد رفع مقام الكنيسة إلى أعلى ذروة مجدها، ومن هذه الذروة هوت بعد عقد واحد. ولسنا ننكر أن فرانسس قد بالغ في فضائل الفقر والجهل،
ولكنه بعث القوة في الدين المسيحي بأن أعاد إليه روح المسيح. وأولو العلم وحدهم هم الذين يعرفون اليوم البابا والإمبراطور، أما القديس الساذج فيتغلغل حبه في قلوب الملايين من بني الإنسان.
وبلغ عدد أعضاء الطائفة التي أنشأها خمسة آلاف عضو عند وفاته وانتشرت في بلاد المجر، وألمانيا، وإنجلترا، وفرنسا، وأسبانيا. وكانت هي الدعامة التي تعتمد عليها الكنيسة في عودة شمالي إيطاليا من الضلالة إلى الكثلكة. ولم تقبل إنجيل الفقر والأمية الذي كانت تنادي به إلا أقلية صغيرة، لأن أوربا أصرت على التخبط في نية الثروة، والعلم، والفلسفة، والشك المثير للنفوس. وفي هذه الأثناء (1230) تحلل رهبان الطائفة مرة أخرى من القواعد أن يبقوا زمناً طويلا، وأن يبقوا بالعدد المطلوب، محتفظين بذلك المستوى العالي من الزهد الذي لا يكاد يقبله عاقل، والذي عجل منية فرانسس. فلما خفت وطأة قواعد الطائفة بعض الشيء زاد عدد الإخوان الصغار حتى بلغ قبل عام 1280 نحو مائتي ألف راهب يقيمون في ثمانية آلاف دير، وحتى أصبحوا من كبار الواعظين، وحتى حملوا رجال الدين بما ضربوه لهم من الأمثلة على أن يقوموا بالوعظ والإرشاد، وكانت هذه العادة حتى ذلك الوقت مقصورة على الأساقفة دون غيرهم. وخرج من بينهم قديسون أمثال القديس برنردينو السينائي Bernardino of Siena والقديس أنطوني البدوائي Antony of Padua، كما قام من بينهم علماء مثل روجر بيكن، وفلاسفة مثل دن اسكوتس Dun Scotus ومعلمون مثل أسكندر الهاليس Alexander of Hales، وأضحى بعضهم عمالاً لمحاكم التحقيق، وارتقى بعضهم إلى كراسي الأساقفة، ورؤساء الأساقفة، والبابوية، وقام كثيرون منهم بمغامرات تبشيرية في بلاد أجنبية بعيدة. وتوالت عليهم الهبات من الأنقياء الصالحين، وتعلم بعض زعمائهم، مثل الأخ إلياس،
حب الترف، وأقام لذكرى فرانسس تلك الباسلكا الرائعة التي لا تزال تتوج تل أسيسي وإن كان مؤسس الطائفة قد حرم إقامة الكنائس الكبرى. ولقد كانت رسوم سيمابيو Cimabue وجيتو Giotto في هذه الباسلكا أول نتاج ذلك الأثر العظيم الخالد الذي كان للقديس فرانسس ولتاريخه وقصصه في الفن الإيطالي.
واحتج كثيرون من أبناء الطائفة على التحلل من بعض قواعد فرانسس وآووا إلى صوامع أو أديرة صغيرة في جبال الأبنين يعيشون فيها زهاداً "روحيين" أو"متحمسين"، أما بقية الفرنسيسيين فقد آثروا لأديرة الرحبة. وكان الروحيون يقولون إن المسيح والحواريين لم يكن لهم متاع، ووافقهم على هذا القديس بونا فنتورا Bonaventura، وصدق البابا نقولاس الثالث على ذلك الرأي في عام 1279، غير أن البابا يوحنا الثاني والعشرين أعلن في عام 1323 أنه رأى خاطئ، ومن ذلك الحين عد الروحيون الذين أصروا على الدعوة إلى هذا المبدأ من الضالين، وقمعت حركتهم. وبعد مائة عام من وفاة فرانسس حرقت محاكم التحقيق اتباعه عند أعمدة التحريق.
الفصل الرابع
القديس دمنيك
يظلم الناس دمنيك حين يقولون إن اسمه يوحي بمحاكم التحقيق، ذلك أن دمنيك لم يكن هو الذي أنشأ تلك المحاكم، ولم يكن هو الذي تلقى عليه تبعة ما لجأت إليه من إرهاب؛ فقد كان نشاطه مقصوراً على هداية الناس بالقدوة والموعظة الحسنة. وكان أقوى من فرانسس شكيمة، ولكنه كان يجله ويراه أعظم منه قداسة، وحباه فرانسس بحبه جزاء له على هذه الصفات الطيبة. وكان عمل الرجلين في جوهره واحداً: فكلاهما نظم طائفة عظيمة من الرجال لا يعملون إلى نجاة أنفسهم بطريق العزلة، بل بالتبشير بين المسيحيين وغير المسيحيين. وأخذ كلاهما من الضالين أعظم أسلحتهم إقناعا - وهو مدح الفقر والقيام بالوعظ، وكان لهما معاً فضل إنقاذ الكنيسة.
ولد ومنجو دي جزمان Domingo de Guzman في قلعة رويجا من أعماله قشتالة (1170) ونشأ رعاية عم له من القساوسة، فكان رجلاً من آلاف الرجال الذين تمكنت المسيحية من نفوسهم، وعمرت بها قلوبهم. ويقال إنه لما نزل القحط بمدينة بلنسية، باع جميع متاعه، وفيه كتبه الثمينة ليطعم يثمنها فقراء المدينة. وأصبح قساً أغسطينياً نظامياً في كنيسة أسما Osma، وصحب أسقفها في عام 1201 في بعثة تبشيرية إلى طولوز، وكانت وقتئذ مركز الفئة الألبجنسية الضالة. وكان مضيفهما نفسه ألبجنسيا، وقد يكون من الأقاصيص الموضوعة أن دمينك هداه إلى الدين القويم في أثناء الليل. وأوحى إليه نصح الأسقف، والمثل الذي له بعض الضالين، فعمد إلى حياة الفقر الاختياري.
ومشى حافي القدمين، وبذل ما يستطيع من الجهد ليعيد الناس بطريق السلم إلى حظيرة الدين القويم. والتقى في منبلييه بثلاثة من مندوبي البابا - أرنلد Arnold وراؤل Raoul وبطرس الكاسلنوي Pictro of Castelnaw. وروع حين شهد ثيابهم الغالية وترفهم، وعزا هذا إلى ما أقرا به من عجز عن كفاح الضلالة، وأخذ عن كفاح الضلالة، وأخذ يؤنبهم بجرأة لا تقل عن جرأة أنبياء العبرانيين:"إن الضالين لا يردون الناس عن دينهم ويضمونهم إليهم بما يظهرون من القوة والأبهة، ولا بموكب الخدم والحشم؛ وإنما يردونهم بالوعظ الحماسي، وبالخشوع المماثل لخشوع الحواريين، وبالتقشف، والاستمساك بالدين"(66) ويقال إن المندوبين استحوا من عملهم، فصرفوا حاشيتهم وخلعوا نعالهم.
وأقام دمنيك في لانجويدك عشر سنين (1205 - 1216)، يعظ الناس بكل ما أوتي من غيرة وحماسة. ولم يذكر اسمه في حاث ذي صلة بالاضطهاد البدني إلا ما قيل من أنه أنجى أحد الضالين من اللهب عند عمود الإحراق (67). ويطلق عليه أتبتعه تفاخراً به اسم - persecutor Haere ticorum - وليس معنى هذا حتما أنه مضطهد الضالين بل قد يكون معناه أنه مطاردهم فحسب. وجمع حوله طائفة من الوعاظ، بلغ من تأثيرهم أن اعترف البابا هونوريوس الثالث (1216) بأن "الإخوان الوعاظ" طائفة جديدة، وصدق على دستورهم الذي وضعه لهم دمنيك، واتخذ الرجل مركزه الرئيسي في روما، وأخذ يجمع الأنصار ويعلمهم، ويبث فيهم الحماسة التي كادت تبلغ حد التعصب، ثم بعثهم يجوسون خلال أوربا حتى كيف Kiev من جهة الشرق، والبلاد الأجنبية، ليهدوا المسيحيين والكفار إلى دين المسيح. ولما عقد أول اجتماع للدمنيكيين في بولونيا عام 1220؛ أقنع دمنيك أتباعه بأن يوافقوا بأجماع الآراء على دستور الفقر المطلق .. ومات في هذه البلدة بعد عام من ذلك الاجتماع.
وانتشر الدمنيكيون، كما انتشر الفرنسيسيون، كل مكان فكانوا
إخواناً، متسولين، جوالين. ويصف مايثوياريس في عام 1240 طائفتهم في إنجلترا بقوله:
إنهم قوم شديدو الاقتصاد في طعامهم ولباسهم، لا يقتنون ذهباً ولا فضة ولا شيئاً ما لأنفسهم، يطوفون بالمدن، والبلدان، والقرى، يدعون إلى الإنجيل
…
ويعيشون جماعات من عشرة أو سبعة
…
لا يفكرون في الغد، ولا يحتفظون بشي ما للصباح التالي
…
يعطون الفقراء من فورهم كل ما بقى لديهم من الطعام الذي يتصدق بها الناس عليهم. يسيرون حفاة، ولا يحتفظون إلا بالإنجيل، وينامون بثيابهم على الحصر ويتخذون الحجارة وسائد يضعونها تحت رؤوسهم (68).
واضطلعوا في أعمال محاكم التحقيق بدور نشيط لم يكن على الدوام مشوباً برقة القلب، وعينهم البابوات في مناصب رفيعة وأرسلوهم في بعثات دبلوماسية خطيرة، والتحقوا بالجامعات، ونبغ منهم رجلان جباران في الفلسفة المدرسية هما ألبرتس ماجنس وتومس أكويناس، وكانوا هم الذين أنقذوا الكنيسة من أرسطو بأن بدلوه رجلا مسيحياً. ولقد أحدثوا هم والفرنسيسيون، وإخوان الكرمل وأوستن ثورة في حياة الرهبنة، وذلك باختلاطهم بعامة الشعب كل يوم في أثناء الخدمات الدينية، وسموا الرهبنة في القرن الثالث عشر فوهبوها من القوة والجمال ما لم تستمتع بمثله قبل.
وإن النظرة الشاملة إلى تاريخ الرهبنة لا تؤيد إسراف علماء الأخلاق في مدحها ولا سخرية شانئها. وفي وسعنا أن بذكر أمثلة جمة من سوء السيرة بين الرهبان وهذه الأمثلة إنما تلفت أنظارنا لأنها الشواذ وليست القاعدة، وهل منا من بلغ من الطهر والصلاح درجة يحق له معها أن يتطلب من أية طائفة من الناس حياة تقية لا تشوبها أدنى شائبة؟ ولقد نجا الرهبان الذين بقوا مخلصين لأيمانهم-
أي الذين عاشوا مغمورين في فقرهم، وعفتهم وتقواهم - نجا هؤلاء من الغيبة، ومن التاريخ، ذلك أن الفضيلة لا تنقل أخبارها، وأن القراء والمؤرخين يملون تكرارها. فنحن نسمع "صروح شامخة يملكها الرهبان الفرنسيسيون منذ عام 1249، وفي عام 1271 أبلغ روجر بيكن - الذي طالما تفرق سامعوه من حوله لشدة مغالاته - أبلغ هذا الراهب البابا أن " الطوائف الحديثة قد سقطت سقوطاً مروعاً من علياء كرامتها الأولى " (69). ولكن هذه ليست هي الصورة التي يصورها لنا الأخ سلمبين Salimbene في أخباره الصريحة الدقيقة (1288؟) فها هو ذا راهب فرنسيسي بتنقل بنا إلى ما وراء السجف إلى الحياة اليومية للطائفة التي ينتمي إليها. ولسنا ننكر أن في حياة أفرادها هفوات متفرقة، وأن فيها شيئاً من التنازع والتحاسد، ولكن جو من التواضع، والبساطة، والأخوة، والسلام يغمر هذه الحياة الشاقة المكبوتة (70). وإذا ما دخلت بين الفينة والفينة امرأة في هذه القصة، فكل ما لها فيها من أثر أنها تضفي مسحة من الرشاقة والحنان على حياة العزلة والضيق التي يحياها أولئك الرهبان. وها هو ذا مثل من ثرثرة الأخ سلمبين الصريحة.
كان في دير بولونيا شاب يسمى الأخ جويدو Guido اعتاد أن يغط في نومه غطيطاً عاليا لا يستطيع معه إنسان يبقى معه في نفس البيت ولهذا أمر أن ينام في سقيفة من الخشب والقش. ولكن هذا أيضا لم ينج منه الإخوان، لأن هزيم هذا الرعد الملعون كان يتردد صداه في جميع اتجاه الدير. ولهذا اجتمع القساوسة وذوو الرأي من الإخوان على بكرة أبيهم
…
وأصدروا رسمياً أن يردوه إلى أمه التي خدعت الطائفة، لأنها كانت تعرف هذا كله عن ولدها فبل أن تضمه إلينا. ولكنه مع ذلك لم يرسل إلى أمه، وكان عدم إرسال بفعل الله
…
ذلك أن الأخ نقولاس قال في نفسه: إن الغلام سيطرد لعيب طبيعي فيه، دون
أن يرتكب هو نفسه ذنباً، فكان يدعو الصبي في كل يوم عند مطلع الفجر أن يأتي إليه ويخدمه في ساعة القداس، حتى إذا فرغ منه أمر الغلام أن يركع وراء المذبح يرجو أن ينال منه بعض البركة. وفي هذه الساعة يلمس الأخ نقولاس بيديه وجه الغلام وأنفه، ويدعو الله أن يمن عليه بنعمة الصحة. وجملة القول أن الغلام شفى فجأة من مرضه شفاء تاماً، ولم يسبب للإخوان بعدئذ متاعب أخرى. وأصبح من هذه الساعة ينام نوماً هادئاً سالما كما تنام الرغبة
(1)
.
(1)
وتسمى أيضاً الفأرة النوامة وهي حيوان بين الفار والسنجاب dormouse. (المترجم)
الفصل الخامس
الراهبات
كانت العادات المسيحية المألوفة في المجتمعات المسيحية منذ أيام القديس بولس أن تهب بعض الأرامل وغيرهن من النساء الصالحات، أو اللاتي يعشن وحدهن، بعض أيامهن وثروتهن أو كل هذه الأيام والثروة إلى أعمال البر. ثم أخذت بعض النساء في القرن الرابع ينافسن الرهبان، فتركن شئون الدنيا وعشن عيشة دينية منفردات أو مجتمعات، ونذرن أنفسهن للفقر، والطهر، والطاعة، حتى إذا كان عام 530 أنشات أسكولاستيكا Scholastica توأمة القديس بندكت ديراً للنساء بالقرب من جبل كسينو Monte Cassino يسير على دستوره وتحت إشرافه، وأخذت أديرة النساء البندكتية من ذلك الحين تنتشر في أوربا، حتى كان عدد الراهبات البندكيات يضارع عدد الرهبان البندكتين. وافتتحت طائفة الرهبان السترسين أول دير للنساء في عام 1125، ثم افتتحت أشهر أديرتها وهودير بورت رويال Port Royal في عام 1204، ولم يحل عام 1300 حتى كان في أوربا 400 دير سترسي للنساء (72). وكانت معظم الراهبات اللاتي دخلن أديرة هذه الطوائف القديمة من الطبقات العليا (73)، وكثيراً ما كانت الأديرة ملاجئ للنساء اللاتي تضيق بهن بيوت أهلهن او اللاتي لم يكن يوائمهن أذواق هؤلاء الأهلين. ومن اجل هذا اضطر الإمبراطور مجوريان Majorian أن يحرم على الآباء التخلص من بناتهم الزائدات عن حاجتهم بإرغامهن على دخول الأديرة (74). وكان دخول أديرة النساء البندكتية يتطلب عادة بائنة، وان كانت الكنيسة قد حرمت جميع الهبات إلا الاختيارية منها (75). ولهذا
كان في وسع رئيسة الدير أن تكون، كما كنت الرئيسة الوارد ذكرها في أشعار سر Chaucer، امرأة من أسرة عريقة، ذات تبعات كثيرة، تدير أملاكاً واسعة هي مصدر إيراد ديرها. وكانت الراهبات في تلك الأيام تسمى "السيدة" لا "الأخت".
وأحدث القديس فرانسس انقلاباً كبيراً في نظم أديرة النساء كما احدث انقلاباً في نظم أديرة الرجال، ولما أن أقبلت عليه القديسة كلارا Clara في عام 1212 وأبدت إليه رغبتها في أن تنشا للنساء طائفة من الراهبات كالتي أنساها هو للرجال، تغاضى عن النظم الكنيسة، وتلقى منها إيمانها، وإن لم يكن وقتئذ أكثر من شماس، وضمها إلى طائفة الرهبان الفرنسيسين وإذن لها أن تنشئ طائفة الكلاريات الفقيرات The poor Clares، وأيد إنوسنت الثالث، بما اعتاده من قدرة على خرق حرفية القوانين في سبيل روحها، هذا الإذن (1216). وجمعت القديسة كلارا حولها بعض النساء الصالحات اللاتي عشن معها عيشة فقيرة مشتركة، يغزلن وينسجن، ويعنين بالمرضى، ويوزعن الصدقات. ونسجت حولها القصص الخرافية التي لا تكاد تقل في تمجيدها عما نسج حول فرانسس نفسه، منها، على حد قولهم أحد الباباوات:
جاء إلى ديرها ليستمع إلى حديثها عن الأمور القدسية والسماوية
…
وأمرت القديسة كلارا بأن تعد المائدة، ووضعت عليها أرغفة الخبز لكي يباركها الأب المقدس
…
وركعت القديسة كلارا في خشوح عظيم، وسألته ان يتفضل فيبارك الخبز
…
فأجابها الأب المقدس بقوله: " أيتها الأخت ياكلير Clare، يا أعظم النساء وفاءاً وإخلاصاً، إني أحب أن تباركي أنت هذا الخبز، وأن ترسمي فوقه علامة الصليب المقدس، صليب المسيح، الذي وهبت نفسك كاملة إليه". فأجابته القديسة كلارا بقولها: "مغفرة أيها الأب المقدس، لو أنني، وأنا المرأة الفقيرة الحقيرة، بلغت بي الجرأة أن أنطق بهذه البركة في حضرة خليفة المسيح لحق علي
أشد اللوم". ورد عليها البابا قائلاً: "ولكيلا يعزى هذا العمل إلى غطرستك وجرأتك بل يعزى إلى فضيلة الطاعة منك، فإني آمرك، بحق ما يجب عليك من الطاعة المقدسة، أن تباركي .. أنت باسم الله هذا الخبز"، فلم تجد القديسة كلارا وقتئذ مناصاً من أن تبارك الخبز في الخشوع بعلامة الصليب الأقدس عملاً بواجب الطاعة المفروضة عليها. ومن أعجب الأشياء أن علامة الصليب ظهرت على جميع تلك الأرغفة مرسومة أجمل رسم. فلما رأى الأب المقدس هذه المعجزة، طعم من الخبز وغادر المكان وهو يحمد الله ويودع بركته مع القديسة كلارا (76).
وماتت كلارا في عام 1253، وما لبثت أن ضمت إلى القديسين والقديسات. ونظم الرهبان الفرنسيسيون في عدة أماكن مختلفة مثل هذه الطوائف الكلارسية، أو طوائف كلارا الفقيرة. وكذلك أنشأت طوائف الرهبان المتسولين - الدمنيكية، والأوغسطينية، والكرملية - طائفة ثانية من الراهبات، ولم يحل عام 1300 حتى كان عدد الراهبات في أوربا لا يقل عن عدد الرهبان. ونزعت أديرة الراهبات في ألمانيا نزعة صوفية شديدة، وفي فرنسا وإنجلترا كثيراً ما كانت ملاجئ لنساء الأسر الشريفة اللاتي "هدين" لترك شئون الدنيا، أو اللاتي أصابهن الهجر، أو الخيبة، أو الثكل. ويكشف دستور الناكسات Nacren Rwle ما كان يطلب إلى الراهبات الإنجليزيات أن يتصفن به في القرن الثالث عشر. ولربما كان عدد الأسقف بور Poor هو الذي وضع هذا الدستور لدير نسائي في ترانت Tarrant من أعمال دورستشير Dorsetshire. ويخيم هذا الدستور جوا قاتم من الحديث الطويل عن الخطيئة والنار، وبعض الذم التجديفي لجسم المرأة (77). ولكن نغمة من الإخلاص الجميل تخفف من وقع هذا القتام، وهو من اقدم نماذج النثر الإنجليزية وأنبلها (78).
وبعد فإن من السهل على الإنسان أن يجمع من عشرة قرون أمثلة رائعة
من الفساد الخلقي المألوف. فقد دخلت الراهبات الأديرة على الرغم منهن (79) ووجد أن متاعب حياة التقى والصلاح، ولقد رأى ثيودور رئيس أساقفة كنتربي وإجبرت أسقف يورك من الواجب عليهما أن يحرما على رؤساء الأديرة، والقساوسة، والأساقفة غواية الراهبات (80). وكتب إيفيو Ivo أسقف تشارتر (1035 - 1115) يقول إن بعض راهبات دير القديسة فارا Fara يحترفن الدعارة، ويرسم أبلارا (1079 - 1142) صورة شبيهة بهذه الصورة لبعض الأديرة الفرنسية القائمة في أيامه، ووصف إنوسنت الثالث دير أجاثا Agatha بأنه ماخور انتشرت عدوى فساد الحياة فيه وسوء سمعته في جميع أنحاء الإقليم المجاور له (81). ويرسم ريجو Rigaud أسقف رون (1249) صورة طيبة بوجه عام للطوائف الدينية المنتشرة في أسقفيته، ولكنه يتحدث عن دير من أديرة النساء فيه ثلاث وثلاثون راهبة وثلاث أخوات من غير الراهبات وجدت منهن ثمان يحترفن الفسق أو يشتبه في إنهن يحترفنه، "ولا تكاد رئيسة الدير تبتعد عن الخمر ليلة واحدة"(82). وحاول بنيفاس الثامن (1300) أن يرقى بقواعد الآداب التقليدية في الأديرة فأمر بالتشديد في عزلة الراهبات عن العالم، ولمن أمره هذا لم يكن في الإمكان تنفيذه (83)، ولما جاء الأسقف ليودع هذا القرار في أحد أديرة النساء في أسقفية لنكلن Lincolin قذفت الراهبات به رأسه، وأقسمن أنهن لن يطعنه قط (84)، أكبر الظن ان هذه العزلة لم تكن مما نص عليه في قسمهن، ولم يكن لرئيسة الدير الواردة في أقاصيص تشوسر عمل تقوم به لأن الكنيسة حرمت على الراهبات أن يخرجن حتى للحج (85).
ولو أن التاريخ كان يعنى بذكر أمثلة الطاعة للقواعد المألوفة عنايته بذكر الأمثلة التي تخرق فيها هذه القواعد، لاستطعنا في اغلب الظن أن نذكر في مقابل كل زلة آثمة ألف مثل من الإخلاص والأمانة. ولقد كانت دساتير الأديرة في كثير من الحالات قاسية قسوة تخرجها عن طاقة البشر، وكانت خليقة
بالخروج عليها. من ذلك أنه يتطلب إلى الراهبات الكرثوزيات، والسترسيات إن يلتزمن الصمت فلا يتكلمن إلا إذا لم يكن من الكلام بد - وذلك قيد شديد على الجنس اللطيف. وكانت الراهبات في العادة يقمن بجميع ما يحتجنه من أعمال التنظيف، والطبخ، والغسل، والخياطة، ويصنعن الملابس للراهبات، والفقراء، والأغطية التيلية للمذبح، وأثواب القسس، وكن ينسجن السجف، والأقمشة التي تزين بها الجدران، وينقشن عليها بأصابعهن الرقيقة، ونفوسهن الصابرة، نصف تاريخ العالم. وكن ينسجن المخطوطات ويزينها بالرسوم والحروف الكبيرة ويقبلن الأطفال للإقامة في الدير، ويعلمنهم الأدب، وقانون الصحة، والفنون المنزلية، وكانت كثيرات منهن يعملن ممرضات في المستشفيات، وكن يقمن في منتصف الليل لصلين ثم مرة أخرى قبل الفجر، ويتلون الصلوات الأخرى في ساعاتها المحددة. وكانت أيام كثيرة أيام صوم، لا يذقن فيها الطعام حتى تحين وجبة المساء.
وإنا لنأمل أن تكون هذه القواعد الشديدة قد خرقت أحياناً. نحن إذا ما رجعنا بعقولنا إلى القرون التسعة عشر التي عاشتها المسيحية، وإلى من فيها من الأبطال، والملوك، والقديسين، صعب علينا أن نحصي كثيرين من الرجال الذين اقتربوا من الكمال المسيحي كما اقتربت منه الراهبات، وما أكثر الأجيال التي سعدت بفضل حياتهن التي تفيض بالخشوع الهادئ والعمل في ابتهاج لخدمة بني الإنسان. ولو أن آثام التاريخ جميعها وزنت أمام فضائل أولئك النساء لرجحتها هذه الفضائل ولكفرت عن كل ما اقترفه الجنس البشري من ذنوب.
الفصل السادس
المتصوفة
واستطاعت كثيرات من أولئك النساء أن تكن قديسات لأنهن أحسسن بالألوهية أقرب إليهن من أيديهن وأرجلهن. وقد تأثرت أخيلة الناس في العصور الوسطى بكل ما كان للألفاظ، والصور، والتماثيل، والحفلات، من قوة، بل تأثرت فوق هذا بلون الضوء ومقداره تأثراً جعل الرؤى غير الحسية تتوارد سراعاً على هذه الأخيلة، فكانت النفوس المؤمنة تحس أنها تخترق حدود الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة. وكان العقل البشري نفسه بكل ما له من سلطان غامض خفي يبدو كأنه شئ خارق للطبيعة، وللأشياء الأرضية، وقريب بلا ريب من العقل الكلي الذي يسير مادة العالم ويكمن فيها - أو أنه صورة من هذا العقل الكلي غير واضحة المعالم. وعلى هذا فأن في مقدور ذروة العقل أن تمس أسفل عرش الله. وكان الصوفي الخاشع المتذلل الطموح يتحرق أملا في أن تسمو روحه غير المثقلة بالذنوب، والتي علت بالصلوات، بفضل الله ونعمته إلى الرؤى الطوباوية والصحبة الالهية، ولم يكن من المستطاع بلوغ هذه الرؤى عن طريق الحس، أو العقل، أو العلم، أو الفلسفة المقيدة بالزمان، وبالكثرة، وبالأرض، ولا يستطيع أن تصل إلى لب الكون وقوته، ووحدته. وكانت المشكلة التي يواجهها الصوفي هي أن يطهر النفس التي هي عضو داخلي للإدراك الروحي، وإن يوسع أفقها وحبها حتى تشمل أقصى ما يمكن أن تشمله، فإذا تم لها ذلك رأت بقوة البصر الواضحة المجردة من الجسم معالم الكونية، والخلد، والألوهية، ثم عادت، وكأنها عادت من نفي طويل المدى، إلى الوحدة مع الله الذي افترقت منه حين ولدت عقاباً لها. ألم يعد المسيح ذوي القلوب الطاهرة أن يروا الله؟
ولهذا ظهر الصوفيون في كل عصر، وفي كل دين، وفي كل أرض، وامتلأت بهم المسيحية اليونانية رغم ما خلفته اليونان من تراث عقلي، وكان القديس أوغسطين ينبوع التصوف الذي نهل منه الغرب، وكانت اعترافاته بمثابة عودة الروح من الكائنات المخلوقة إلى الله. وقلما استطاع إنسان أن يطول تحدثه إلى الذات العلية كما طال تحدث أوغسطين إليها. وقد ناصر القديس أنسلم السياسي والقديس برنار المنظم، ذلك الاتصال الصوفي ليقاوم به النزعة العقلية التي كان يقول بها روسلن Roscelin وأبلار. ولما أخرج وليم الشمووي Wiliam of Champeaux من باريس بقوة منطق أبلار أنشأ في إحدى ضواحيها (1108) دير القديس فكتور St. Victor الأوغسطيني ليكون مدرسة للاهوات؛ وتجاهل خليفتاه هيو Hugh ورتشرد Richard خطر الفلسفة الناشئة الداهم، فلم يقيما قواعد الدين على الحجة والبرهان، بل أقاماها على الإحساس الصوفي بالحضرة الإلهية. فقد كان هيو (المتوفى عام 1141) يرى في كل صورة من صور الخلق رمزاً قدسياً، وكان رتشرد (المتوفى عام 1173). يرفض المنطق والعلم، ويؤثر "القلب" على "الرأس" على طريقة بسكال، ويصف بمنطق العالم القدير السمو الصوفي للروح إلى مقام الذات العلية.
وأحالت عواطف إيطاليا القوية هذه النزعة الصوفية ثورة متأججة. وحدث أن تاقت نفس يواقيم الفلورائي Joachim of Flora - أو جيوفني دي يواقيمي دي فيوري Giovanni dei Joacchimi di Fiori - أحد نبلاء كلابريا Calabria إلى رؤية فلسطين، وتأثرت بما شاهده في طريقه من بؤس الناس، فصرف حاشيته، وواصل سيره كما يسير الحاج الذليل. وتقول إحدى القصص إنه قضى في سنة من السنين الصوم الكبير كله على جبل طابور، وأن هالة عظيمة تبدت له في يوم عيد القيامة، وملأته نوراً إليها فهم به لساعته كل ما جاء في الكتاب المقدس، وكل ما في المستقبل والماضي. فلما عاد إلى كلابريا أصبح راهبا وقسا سسترسيا.
وتاقت نفسه إلى الزهد والتقشف، وآوى إلى صومعة. التّف حوله عدد من الأتباع والمريدين، وألف منهم طائفة جديدة من رهبان فلورا. وصدق سلستين الثالث Calesstine، 111 على ما وضعه لهم من دستور للفقر والصلاة. وبعث إلى إنوسنت في عام 1200 بطائفة من مؤلفاته قال إنه كتبها بوحي من الله، ولكنه رغم هذا يضعها بين البابا ليبحثها ويبدي رأيه فيها. ثم مات بعد سنتين من ذلك الوقت.
وكان أساس كتابه هو النظرية الأوغسطينية - التي كانت تلقى قبولا عظيما لدى جميع المتمسكين بالدين القويم - بأن هناك توافقاً رمزياً بين الحوادث الواردة في العهد القديم وفي تاريخ العالم المسيحي من مولد المسيح إلى قيام مملكة السماء على الأرض. وقسم يواقيم تاريخ البشر ثلاث مراحل: كانت أولاها حكم الله الأب وانتهت بمولد المسيح، والثانية يحكمها الابن وتستمر وفقاً للحساب السري 1260 سنة، والثالثة تحت حكم الروح القدس، ويسبقها عهد من الاضطراب، والحرب، والفقر، ولساد الكنيسة، ويؤذن بحلولها قيام طائفة جديدة من الرهبان تطهر الكنيسة وتحقق طوبى عالمية من السلام والعدالة والسعادة (86).
وصدق آلاف من المسيحيين، ومنهم رجال ذوو مناصب عالية في الكنيسة، ما قاله يواقيم عن الوحي الذي أوحى إليه، وأخذوا يتطلعون والأمل يعمر قلوبهم إلى الميلاد الثاني في عام 1260. وبعثت تعاليم يواقيم الشجاعة في قلوب الفرنسيسين الروحيين الذين كانوا يوقنون بأنهم هم الطائفة الجديدة؛ ولما أن أعلنت الكنيسة أنهم خارجون على القانون واصلوا دعوتهم بما أذاعوه من الكتابات التي تحمل اسمه. وظهرت في عام 1254 مجموعة من أهم مؤلفات يواقيم بعنوان الإنجيل الخالد وعليه تعليق يقول: إن بابا من البابوات ملوثا ببيع المناصب الكهنوتية سيكون
خاتم العهد الثاني، وإن الحاجة إلى العشاء الرباني وإلى القساوسة تنتهي في العهد الثالث حين يسود الحب العالمي. وحرمت الكنيسة قراءة هذا الكتاب، وحكم على راهب فرانسيسي يدعى جراردو دا بورجا Gherardo da Borga ظن أنه هو مؤلفه بالسجن مدى الحياة، ولكن الكتاب ظل يتداول سرا، وكان له أثر بالغ في التفكير الصوفي وفي تفكير الطوائف الضالة في إيطاليا وفرنسا من أيام فرانسس إلى أيام دانتي - الذي جعل ليواقيم مكاناً في الجنة.
تأججت حول بروصة في عام 1259 سورة جنونية من الندم والتوبة من الذنوب واكتسحت شمالي إيطاليا، ولعل الباعث عليها كان هو التحمس للشديد في ترقب حلول مملكة السماء. وأخذ آلاف من القادمين من مختلف الطبقات والأعمار يسيرون في مواكب غير منتظمة وليس عليهم من الثياب إلا ما يستر حقويهم، يبكون ويرجون الله الرحمة، ويضربون أنفسهم بسياط من الجلد. وانضم إلى هذه المواكب اللصوص والمرابون وردوا ما كسبوا من المال الحرام، متأثرين بعدوى الندم، فكانوا يركعون أمام أقارب ضحاياهم ويطلبون إليهم أن يقتلوهم، وأطلق سراح المسجونين، وطلب إلى المنفيين أن يعودوا إلى أوطانهم، وزالت العداوات بين الناس وصفت القلوب. وسرت هذه الحركة من ألمانيا إلى بوهيميا، ودخيل إلى الناس وقتاً ما أن إيماناً جديداً صوفياً سيغمر أوربا بأجمعها متجاهلا الكنيسة ولكن فطرة الإنسان ما لبثت أن استعادت قوتها، فتأججت نار العداوة بين الناس مرة أخرى، وخبت نار تلك الثورة الجنونية، ثورة الجلد بالسياط واختفت في الأعماق النفسية التي خرجت منها (87).
وفي فلاندرز سارت حركة التصوف سيراً هادئاً متصلا. ذلك أن قساً من ليبج يدعى لامبير لي بيج Lambert le Beuge (أي المتهتة) أنشأ على ضفاف نهر الموز Meuse في عام 1184 بيتاً للنساء اللاتي يردن أن يعشن معاً في
جماعة صغيرة نصف شيوعية، دون أن يقسمن أيمان الرهبة، ويعلن أنفسهن بنسج الصوف وعمل المحزمات. وأنشئت للرجال طائفة أخرى من بيوت الله مماثلة لهذا البيت، وأطلق الرجال على أنفسهم اسم "البيجارد"(Beghard) أي الرجال المتهتهين وعلى النساء اسم البجوين (أي المتهتهات). وكانت هذه الجماعات تندد بالكنيسة، كما يندد بها الولدنيون، لاقتنائها الأملاك، وسلكوا هم أنفسهم سبيل الفقر الاختياري. وظهرت في أجزبرج عام 2262 شيعة أخرى هي شيعة إخوان الروح الحر وثبتت أصولها في المدن القائمة على ضفاف نهر الراين. وكانت كلتا الحركتين تدعى أنها تتلقى الوحي الصوفي الذي يعفيها من سيطرة الكهنوت، بل يعفيها فوق ذلك من سيطرة الدولة والقانون الأخلاقي (88). وتضافرت الدولة والكنيسة على قمع الحركتين، فاندفعتا إلى العمل في الخفاء، وكانتا تظهران للعمل جهرة عدة مرات بأسماء جديدة، وكانتا من أسباب نشأة شيعة المنكرين للتعميد وغيرها من الشبع المتطرقة التي ظهرت في أيام الإصلاح الديني وممن بعثوا روح الحماسة في هذه الشيع.
وصارت ألمانيا أرض التصوف المحبوبة في بلاد الغرب، ففيها عاشت هلدجارد البنجنبه Hildegarde of Bingen (1099 - 1179)" سيبيلة الرين" The Sibyle of the Rhine كل حياتها البالغة اثنين وثمانين عاما، عدا عامين اثنين، راهبة بندكتية، واختتمتها رئيسة دير للنساء على روبرتسبرج Rupertsburg. وكانت مزيجاً غير مألوفة من حسن الإدارة والرؤى الخيالية، تقية ومتطرقة، شاعرة وعالمة، طبيبة وقديسة، وكانت تراسل البابوات والملوك، تكتب إليهم دائماً بنغمة صاحبة السلطان الملهم، في لغة لاتينية رصينة قوية قوة لغة الرجال. وقد نشرت عدة كتب في الرؤى الدينية (Scivias) ادعت فيها معاونة الذات العلية، وكان رجال الدين يغضبون حين يستمعون إليها لأن حديثها الملهم كان نقداً لاذعا لثراء الكنيسة وفسادها. قالت هلدجارد بعبارات تفيض بالآمال الخالدة.
إن للعدالة الإلهية ساعتها المحدودة
…
وإن أحكام الله لتوشك أن تنفذ؛ وستنهار الإمبراطورية والبابوية معاً بعد أن تترديا في هوة الإلحاد
…
ولكن أمة جديدة ستقوم على أنقاضهما .. وستضم الوثنيين، واليهود، وعباد الدنيا؛ والكفرة جميعاً، وسيسود العالم ربيع الدهر والسلام بعد مولده الجديد، ويعود الملائكة وهم واثقون إلى السكنى بين الآدميين (89).
وبعد مائة عام من ذلك الوقت أثارت إليصابات النورنجائية (1208 - 1231) بلاد المجر بحياتها القصيرة التي قضتها زاهدة متبتلة. وإليصابات هذه ابنة الملك اندرو Andrew وقد تزوجت وهي في الثالثة عشرة من عمرها بأمير ألماني، وكانت أُماً في الرابعة عشرة، أرملة في سن العشرين. ونهب أخو زوجها مالها وطردها في فقر مدقع، فلجأت إلى حياة الورع والتجوال، ووهبت حياتها للفقراء، وكانت تؤوي النساء المصابات بالجذام، وتغسل جروحهن. وكانت وهي الأخرى تتراءى لها رؤى سماوية، ولكنها لم تكن تذيعها، ولم تدع لنفسها أية قوة خارقة ولما التقت بكنراد الماربرجى Canrad of Marburge عضو محاكم التحقيق الشرس افتتنت افتتاناً وبيلاً بقسوته في إخلاصه للدين، فأضحت جاريته المطيعة، يضربها إذا حادت قيد شعرة عما يعتقد انه الصلاح التقي، فكانت تخضع له خضوع الأذلاء، وتفرض على نفسها ضروباً شديدة من التقشف عجلت منيتها ولما تتجاوز الرابعة والعشرين من عمرها (90). وبلغ من اشتهارها بالتقوى أن من كانوا يسيرون في جنازتها من اتباعها المخلصين الذين كادت تذهب النشوة بعقولهم قصوا شعر رأسها، وقطعوا أذنيها، وحلمتي ثديها ليتخذوها مخلفات مقدسة (91). ودخلت إليصابات أخرى الدير النسائي البندكتي في شنو Schnou القريبة من بنجن وهي في الثانية عشر من عمرها (1141)،
وعاشت فيه حتى توفيت في عام 1163. وكان ضعفها الجسمي، وإسرافها في زهدها يسببان لها نوبات من الإغماء، تتلقى فيها إلهاماً من مختلف الأولياء المتوفين، كلها تقريباً من المعادين للكنيسة. ومما قاله لها ملكها الحارس "إن كرامة الله قد ذبلت، وإن رئيس الكنيسة لمريض، وإن أعضائها لأموات
…
أي ملوك الأرض! إن ظلمكم الصارخ قد ارتفع دويه حتى وصل إلى أنا نفسي" (92).
وعلت موجة التصوف أواخر ذلك العهد في ألمانيا، وكان من متصوفيها ميستر إكهارت Meister Eckhart الذي وُلد حوالي علم 1260، والذي نضجت آراؤه الصوفية 1326، والذي حوكم وتوفي عام 1327. وواصل تلميذاه سوسو Suso وتولر Tauler دعوته إلى وحدة الوجود الصوفية، وكانت هذه التقاليد، تقاليد التقوى غير الكنيسة، أحد الينابيع التي فاضت منها حركة الإصلاح الديني.
وكانت الكنيسة في العادة تحمل هؤلاء المتصوفين وتقبلهم في كنفها. نعم إنها لم تكن تسمح بان يخرج أحد خروجاً خطيراً عن قواعدها الرسمية، أو تجيز الفردية الفوضوية التي تدعو إليها بعض الشيع الدينية، ولكنها كانت ترضى عن قول الصوفية إنهم يتصلون اتصالاً مباشراً بالله عز وجل وتستمع في غير غضب إلى تنديد الأولياء بأخطائها الآدمية. وكان كثيرون من رجال الدين، ومنهم ذوو المناصب العالية في الكنيسة، يعطفون على ناقديهم، ويعترفون بما في الكنيسة من عيوب، ويتمنون أن لو استطاعوا هم أيضاً أن يتخلوا عن الأدوات والأعمال التي يضطلعون بها في الشؤون السياسية الدنيوية وما فيها من أدران تلوثهم، ويستمتعوا بما في الأديرة من طمأنينة وسلام، يطمعون من تقوى
الشعب، ويحميهم سلطان الكنيسة. ولعل الصابرين من رجال الكنيسة هم الذين ثبتوا قواعد الدين المسيحي بين زعازع الإلهام الجنوني التي كانت تهدد العقول في العصور الوسطى بأشد الأخطار من حين إلى حين. وكلما أمعنا في دراسة أقوال متصوفة القرنين الثاني عشر والثالث عشر، لاح لنا أن الاستمساك بأصول الدين القويم كثيراً ما كان هو الواقي من انتشار الخرافات المعدية وأن الكنيسة من إحدى النواحي عقيدة - كما كانت الدولة قوة - أخرجت من الفوضى نظاماً ليحافظ على سلامة عقول الناس.
الفصل السابع
البابا المنكود
لما ارتقى جريجوري الثاني عرش البابوية في عام 1271 كانت الكنيسة مرة أخرى في عنفوان قوتها. ولم يكن جريجوري بابا فحسب، بل كان إلى هذا مسيحياً متمسكاً بآداب المسيحية. كان رجل سلام ومحبة، ينشد العدالة لا النصر. وكان يأمل أن يسترد فلسطين بجهد واحد جامح، فأقنع البندقية، وجنوى، وبولونيا بأن تضع حداً للحروب القائمة بينها، وعمل على أن يختار رودلف هيسبرج Rudolf of Hapsburg إمبراطوراً، ولكنه خفف بلطفه ورقته غضب المهزومين من المطالبين بالعرش، ووفق بين طائفتي الجلف Guelf والجبلين Ghibeline في فلورنس وسيينا المنقسمتين على نفسيهما، وقال لمؤيدين من الجلف "إن أعدائكم جبلينيون ولكنهم مع ذلك رجال، ومواطنون، ومسيحيون"(93). ودعا أحبار الكنيسة إلى مجلس يعقد في ليون (1274)، وجاءه في عام 1570 زعماء الكنيسة وأرسلت كل دولة عظمى ممثلاً لها، وبعث إمبراطور الروم برؤساء الكنيسة اليونانية ليؤكد من جديد خضوعها للكرسي البابوي في روما وأنشد رجال الدين اللاتين واليونان معاً نشيد الفرح والغبطة. ودعا الأساقفة أن يتقدموا بما في الكنيسة من عيوب تحتاج إلى الإصلاح، فلبوا الدعوة في صراحة منقطعة النظير (94)، وسنت القوانين التي أريد بها تخفيف حدة هذه الشرور واتحدت أوربا كلها اتحاداً رائعاً لتقوم بمجهود ضد المسلمين. ولكن جريجوري مات وهو عائد إلى روما (1276) وشغلت السياسة الإيطالية خلفاءه فلم يستطيعوا تنفيذ ما وضعه من خطط.
ومه هذا فإنه لما أختير بنيفاس الثامن بابا في عام 1294 كانت البابوية
لا تزال أقوى الحكومات الأوربية، وأحسنها تنظيماً، وخيرها إدارة، وأنماها موارد. وكان من سوء حظ الكنيسة، في هذا الوقت العصيب الذي أوشك أن يختم به قرن من القوة والتقدم، أن جلس على أقوى العروش في العالم المسيحي رجل كان له من فساد الخلق، والغطرسة الشخصية والحرص على السلطان حرصاُ خالياً من الكياسة، بقدر ما كان له من حب الكنيسة، وإخلاص في المقصد. ولم يكن هذا الرجل خلوا من الفضائل الفاتنة: فقد كان محباً للعلوم، يضارع إنوسنت الثالث في تجاربه القانونية، وثقافته الواسعة، أنشأ جامعة روما، وأعاد مكتبة الفاتيكان ووسع نطاقها، وعين جيتو Giotto وأرنلفودي كمبيو Arnolfo di Cambio في مناصب عالية، وساعد بما له على إنشاء واجهة كنيسة أرفيتو Orviieto الرائعة المدهشة.
وكان قد مهد السبيل لتسلمه عرش البابوية بأن أقنع سلسلتين الخامس Celestine الورع العاجز أن ينزل عن العرش بعد أن جلس عليه خمسة أشهر - وكان هذا عملاً لم يسبق له مثيل من قبل. وأحاط بنيفاس من بادئ الأمر بالبغض منذ البداية. وأراد أن يحبط كل ماعساه أن يدبر من خطط لإعادة سلستين، فأمر بأن يحتجز هذا الشيخ البالغ من السن ثمانين عاماً في روما، ولما فر سلستين، قبض عليه، ثم فر مرة ثانية، وقضى عدة أسابيع يجول في أنحاء أبوليا، حتى وصل إلى البحر الأدرياوي، وحاول أن يعبره إلى دمياط، ولمن القارب الذي كان يركبه تحطم به، وقذفه البحر إلى إيطاليا وجيء به أمام بنيفاس، وحكم عليه البابا بالسجن في حجرة ضيقة في فرنتينو Frintinoe، ومات بها بعد عشرة شهور من بداية سجنه (1296)(95).
وكان مما زاد طبع البابا الجديد حدة أصيب بسلسلة متتابعة الحلقات من الهزائم الدبلوماسية والانتصارات الكثيرة الأكلاف. فقد حاول أن يثني فردريك صاحب أرغونة عن قبول عرش صقلية، ولما أصر فردريك على قبوله
حرمة بنيفاس، وأصدر قرار التحريم على الجزيرة (1296). ولم يبال الملك ولا الشعب بهذا العقاب (96) واضطر بنيفاس في آخر الأمر أن يعترف بفردريك. وأعد العدة لحرب صليبية بان أمر البندقية وجنوى بعقد هدنة، ولكنهما رفضتا توسطه في الصلح وواصلتا الحرب ثلاث سنين أخرى، ولما عجز عن أن يقيم في فلورنس نظاماً يوافق مصالحه أصدر قراراً بحرمان المدينة، ودعا شارل صاحب فالوا أن يدخل إيطاليا ويهدئها (1100). ولم يفلح شارل إلا في كسب حقد الفلورنسيين عليه وعلى البابا. وأراد بنيفاس أن يبسط رأيه السلم في ولاياته البابوية فحاول أن يفض النزاع القائم بين أعضاء أسرة كولنا Colonna القوية، ولكن بيتر Pietro وجاكوبو Jacobo، وكلاهما كردينال، رفضاً عروضه ففصلهما، وحرمهما من الدين (1297)، فما كان من الكردينالين المتمردين إلا أن علقا على أبواب الكنائس الرومانية، ووضعا على مذبح القديس بطرس، منشوراً يطلبان فيه إلى البابا أن يدعو مجلساً كنسياً عاماً. وكرر بنيفاس قرار الحرمان؛ وضم فيه إليهما خمسة آخرين من الخارجين عليه، وأمر بمصادرة أملاكهما، وغزا أملاك أسره كولنا بالجيوش البابوية، واستولى على حصونها، ودك أبنية بالستينا Palestina، وأمر بنثر الملح فوق خرباتها. واستسلم العصاة، وعفا عنهم، ثم ثاروا مرة أخرى وهزمتهم جيوش البابا للمرة الثانية، وفروا من الولايات البابوية، وأخذوا يدبرون خطط الانتقام.
وبينما كان بنيفاس يلاقي هذه المحن في إيطاليا إذ واجهته على حين غفلة أزمة شديدة في فرنسا. فقد اعتزم فليب الرابع أن يوحد مملكته، فاستولى على ولاية غسقونية الإنجليزية، وأعلن إدوارد الأول عليه الحرب (1294)، وأراد كلا الملكين أن يجمع المال الذي يستعين به على قتال عدوه، فقررا أن يفرضا الضرائب على أملاك الكنيسة ورجالها. وكان البابوات قد أذنوا بفرض هذه الضرائب للاستعانة بها في الحروب الصليبية، ولكنهم لم يأذنوا قط لإنفاقها
في حرب زمنية خالصة. كذلك كان رجال الدين الفرنسيون قد اعترفوا بأن من واجبهم أن يشتركوا بالمال في الدفاع عن الدولة التي تحمي أملاكهم، ولكنهم كانوا يخشون أنه أطلق حق الدواة في فرض الضرائب من كل قيد، أصبح ذلك قوة في يدها تستخدمه للهدم. وكان فليب قد أضعف مكانة من قبل رجال الدين في فرنسا، فقد أخرجهم من المحاكم الإقطاعية والملكية، ومن مناصبهم القديمة في الإدارة الحكومية وفي مجلس الملك. وأزعج هذا الاتجاه الرهبان السسترسيين فمنعوا عن فليب خمس إيرادهم الذي طلبه ليستعين به في حرب إنجلترا، وبعث رئيس الجماعة يستنجد بالبابا. وكان لا بد لبنيفاس أن يسير بحذر لأن فرنسا كانت من زمن بعيد أقوى عماد للبابوية في كفاحها مع ألمانيا والإمبراطورية، ولكنه أحس بأن الأساس الاقتصادي لسلطان الكنيسة وحريتها لن يلبث أن ينهار إذ ما انتزع منها إيرادها بفرض ضرائب من قبل الدولة على أملاك الكنيسة دون موافقة البابا. ولهذا أصدر في شهر فبراير من عام 1296 مرسوماً بابويا يعد من أشهر ما أصدره البابوات من مراسيم في التاريخ الكنسي كله، وسمى هذا المرسوم بالكلمتين الأولين منه Clericis laicos، وكانت جملته الأولى إترافاً غير حكيم، وكانت نغمته تذكر قارئه بصواعق جريجوري السابع:
يقول الأقدمون إن العلمانيين شديدو العداء لرجال الدين، وتجاربنا لا تترك مجالا للشك في صدق هذا القول في الوقت الحاضر
…
وإنا لنقرر بعد استشارة إخواننا، وبمقتضى سلطتنا الرسولية أنه إذا أدى من رجال الدين
…
بغير إذن من البابا، عرض نفسه للحرمان من الدين
…
ونقرر أيضاً أن كل إنسان أياً كانت سلطته أو مرتبته يطلب هذه الضرائب أو يتسلمها، أو يغتصب أملاك الكنائس أو رجال الدين، أو يتسبب في اغتصابها
…
يتعرض بذلك للحرمان (97).
أما فيليب فكان قوى الاعتقاد بأن ما للكنيسة في فرنسا من ثروة عظيمة يجب أن تتحمل نصيبها في نفقات الدولة، ولهذا عارض مرسوم البابا بأن حرم تصدير الذهب والفضة والأحجار الكريمة، والطعام، وبأن حرم التجار أو المبعوثين الأجانب البقاء في فرنسا. وحالت هذه الإجراءات دون وصول المال إلى البابوية من أهم مصادر إيرادها، وأخرجت من فرنسا عمال البابا الذين كانوا يجمعون المال لحرب صليبية في الشرق. ولهذا نكص بنيفاس في مرسومه Ineffabirlis Amor (سبتمبر عام 1296)، ووافق على تبرع رجال الدين بالمال مختارين سبيل الدفاع الضروري عن الدولة، واعترف بحق الملك في أن يقرر هو هذه الضرورة. وألغى فيليب أوامره الانتقامية، وارتضى هو وإدوارد أن يكون بنيفاس - لا بوصفه بابا، بل بوصفه شخصاً عادياً - حكما في النزاع القائم بينهما. وحكم بنيفاس لصالح فيليب في معظم أوجه النزاع، وخضعت إنجلترا لحكمه إلى حين، واستمتع المحاربون الثلاثة بفترة قصيرة من السلم.
وقرر بنيفاس أن تكون سنة 1300 سنة عيد، ولعله أراد بذلك أن يملأ الخزانة البابوية، بعد أن نقضت إيراداتها من إنجلترا وفرنسا، أو لعله أراد أن يجمع المال اللازم لحرب يستعيد بها صقالبة بوصفها إقطاعية بابوية، ولحرب أخرى يوسع بها الولايات البابوية حتى تشمل تسكانيا (98). ونجح في هذه الخطة نجاحاً تاماً، فلم تشهد روما من قبل جموعاً كالتي شهدتها في ذلك الوقت. وفرضت حينئذ، ولعلها فرضت للمرة الأولى، قواعد المرور للإشراف على حركات الناس (99). وأحسن بنيفاس ومساعدوه إدارة شئون المدينة فجلبوا إليها الطعام موفورا وبيع فيها بأثمان معتدلة تحت إشراف البابا ورجاله. وكان من المزايا التي استمتع بها البابا أن الأموال الكثيرة التي جمعت بهذه الطريقة لم تكن مخصصة لغرض بالذات، بل كان وسعه أن يستخدمها كما يشاء. وبلغ بنيفاس وقتئذ ذروة مجده رغم ما ناله من أنصاف الانتصارات وما أحاق به من الهزائم المنكرة.
لكن المنفيين من آل كولنا كانوا في هذا الوقت عينه يسلون فليب بقصص عن شره البابا وظلمه، وضلالاته الشخصية الخفية. ثم حدث نزاع بين أعوام فليب وبرنارد سيسر Birnard Saissir المندوب البابوي. وقبض على المندوب لاتهامه بأنه يحرض على الفتنة، وقدم للمحكمة الملكية، وأدين، ووضع نحت حراسة رئيس أساقفة نربونة (1301). وارتاع بنيفاس للسرعة التي حوكم بها مندوبه، فطلب أن يطلق سراح سيسر على الفور، وأمر رجال الدين الفرنسيين أن يمتنعوا عن تسليم الإيرادات الكنسية للدولة، ثم طلب إلى فيلب في مرسومه المسمى "استمع يا ولدي" Ausculta fili (ديسمبر سنة 1301) أن يستمع في خشوع إلى خليفة المسيح يوصفه الملك الروحي على جميع ملوك الأرض، واحتج على محاكمة رجل من رجال الدين أمام محكمة مدنية، وعلى الاستمرار في استخدام أموال الكنيسة في الأغراض غير الدينية، وأعلن أنه سيدعو أساقفة ورؤساء الأديرة في فرنسا ليتخذوا الإجراءات "الكفيلة بالمحافظة على حريات الكنيسة وبإصلاح المملكة وتقويم الملك"(100). وحينما عرض المرسوم على فليب، اختطفه كونت أرتوا Artois من يدي رسول البابا وألقاه في النار، وصودرت نسخة منه كانت معدة لأن ينشرها رجال الدين الفرنسيون. وثارت ثائرة الطرفين حين نشرت وثيقتان زائفتان قيل إن إحداهما صادرة من بنيفاس إلى فليب تطلب إليه أن يطيعه في كل الشئون حتى الزمنية منها، والأخرى من فليب إلى بنيفاس تبلغ "حماقتك العظيمة أننا لا نخضع لإنسان ما في الشئون الزمنية" وسرعان ما ساد الاعتقاد بأن هاتين الوثيقتين المزورتين صحيحتان (101).
وفي اليوم الحادي عشر من فبراير سنة 1302 حرق مرسوم "استمع يا ولدي" رسميا في باريس في حضرة الملك وجمهور كبير. وأراد فليب أن يستبق المجلس الكنسي الذي يريد بنيفاس عقده فدعا الطبقات الثلاث في مملكته
إلى الاجتماع في باريس في شهر إبريل. وكتبت طل طبقة بمفردها من طبقات الأمة الثلاث - الأشراف، ورجال الدين، والعامة - في هذا المجلس، مجلس الطبقات، الأول من نوعه في تاريخ فرنسا، كتبت كل طبقة إلى روما تدافع عن الملك وعن سلطته الزمنية، وحضر نحو أربعة وخمسين من المطارنة الفرنسيين مجلس روما الذي عقد في شهر أكتوبر من المجلس القرار المسمى Uuamsanctum الذي حدد فيه مطالب البابوية تحديداً صريحاً تلفت الأنظار. وجاء في هذا المرسوم أنه لا توجد إلا كنيسة واحدة لا نجاة لأحد في خارجها، وأن ليس للمسيح إلا جسد واحد له رأس واحد لا رأسان، وأن هذا الرأس هو المسيح وممثلة البابا الروماني، وأن هناك سيفين أي قوتين القوة الروحية والقوة الزمنية، الأول تحمله الكنيسة، والثاني يحمله الملك نائباً عن الكنيسة، ولكنه يحمله تبعاً لإرادة القس وبإذن منه. والسلطة الروحية فوق السلطة الزمنية، ومن حقها أن ترشدها إلى أسمى غاياتها، وأن تحاكمها إذا ارتكبت إثماً. واختتم المرسوم بالعبارة الآتية:"ونعلن، ونحدد، وننطق بأن من الضروري للنجاة أن يخضع الناس جميعاً للرئيس الديني الروماني"(102).
وكان رد فيليب أن دعا جمعيتين إلى الانعقاد (في شهري مارس ويونية من عام 1303) وأن أصدرت الجمعيتان وثيقة اتهم فيها بنيفاس رسميا بأنه ظالم، وساحر، وكافر (103)، وطلبت أن يخلعه مجلس عام بالكنيسة. وبعث الملك وليم نوجارت William Nogarot كبير رجال القانون عنده إلى روما ليبلغ البابا ما يطلبه الملك من دعوة مجلس عام. وكان البابا وقتئذ في القصر البابوي بأناني Anagni فأعلن البابا وحده هو الذي يحق له أن يدعو مجلساً عاماً، وأعد مرسوماً يحرم فليب ويصب اللعنة على فرنسا. وقبل أن يصدره سار وليم نوجارت وسيارا كولنا Siarra Colonna على رأس ألفين من الجنود المرتزقة
واقتحما القصر، وقدما إلى البابا رسالة فيليب، وطلبا إليه أن يوقعها (7 سبتمبر سنة 1303)، فرفض بنيفاس هذا الطلب. وتقول رواية "موثوق بصحتها أعظم الثقة"(104) إن سياراً لطم الحبر الأعظم على وجهه وإنه كاد يقتله لولا تدخل نوجات. وكان بنيفاس وقتئذ الخامسة والسبعين من عمره، ضعيف الجسم، ولكنه ظل يتحدى خصومه. وبقي ثلاثة أياماً سجيناً في قصره والجنود المرتزقة ينهبونه. ولكن أهل أناني يؤيدهم أربعمائة فارس من عشيرة أورسيني Orsini فرقوا الجنود المرتزقين وأعادوا إلى البابا حريته. ويلوح أن سجانيه لم يقدموا له طعاماً مدى الثلاثة الأيام السابقة على تحريره، لأنه وهو واقف في السوق سأل: إن كانت هناك امرأة صالحة ترضى أن تقدم لي صدقة من النبيذ والخبز، فإني أمنحها بركة الله وبركتي". وقاده فرسان الأورسيني إلى روما وإلى الفاتيكان، وهناك انتابته حمى، شديدة مات منها بعد أيام قليلة (في الحادي عشر من شهر أكتوبر سنة 1303)
وحرم خليفته بندكت الحادي عشر (1303 - 1304) نوجارت، وسياراكولنا، وثلاثة عشر غيرهما من الرجال رآهم يقتحمون القصر في أناني. ومات بندكت بعد شهر من ذلك الوقت في بروجيا، وربما كان أحد الجبلين الإيطاليين قد دس له السم (105). ووافق فليب على أن يؤيد برتراند دي جو Bertrand de Got رئيس أساقفة بوردو للجلوس على كرسي البابوية إذا نهج سياسة المصالحة، وعفا عمن حرموا من الدين لهجومهم على بنيفاس، وسمح بأن تجبى من رجال الدين الفرنسيين ضريبة دخل سنوية مقدارها عشرة في المائة مدة خمس سنين، وأن يعيد أفراد أسرة كولنا إلى مناصبهم ويرد إليهم أملاكهم، وأن يشهر بذكرى بنيفاس (106). ولسنا نعرف إلى أي حد وافق برتراند على هذه المطالب، وكل ما نعلمه أنه اختير بابا، وتسمى باسم كلمنت الخامس (1305). وأنذره الكرادلة بأنه لن يكون آمناً على حياته في روما، فنقل
كلمنت كرسي البابوية إلى أفينون القائمة على الضفة الشرقية لنهر الرون، في خارج الحد الشرق لفرنسا وعلى بعد قليل منه (1309) وانتقل إليها بعد تردد قليل، وربما كان ذلك أيضاً بعد أن وصله اقتراح مريح من فليب. وهكذا بدأ "الأسر البابلي" للبابوات الذي دام ثمانية وستين عاماً واستسلام البابوية لفرنسا، بعد أن حررت نفسها من ألمانيا.
وأصبح كلمنت، رغم إرادته الضعيفة، أداة ذليلة في يد فليب الذي لا حد لمطالعة، فغفر للملك ذنوبه، وأعاد رجال كولنا إلى مناصبهم، وسحب موسوم Clercis laicoa وأجاز نهب أموال فرسان المعبد، ووافق أخيراً (1310) على محاكمة بنيفاس بعد موته على أيدي مجمع كنسي عقد في جروسو Croseau القريبة من أفينون. وشهد ستة من رجال الدين في التحقيق المبدئي الذي أجرى أمام البابا ومأموريه أنهم سمعوا بنيفاس يشير قبل سنة من توليه منصبه الديني إلى أن كل القوانين التي يفترض الناس أنها من عند الله قد اخترعها بعضهم لكي يلزموا العامة بأن يسلكوا مسلكا حسناً لخوفهم من الجحيم، وإلى أن من "البلاهة" أن نعتقد أن الله واحد وثلاثة في آن واحد، أو أن عذراء قد ولدت طفلا، أو أن الله قد صار إنسانا، أو أن الخبز يمكن أن يصبح جسم المسيح، أو أن هناك حياة أخرى مستقبلة. "هذا ما أومن به وما أعتقده، كما يؤمن به ويعتقده كل إنسان متعلم. أما السوقة فيعتقدون غير هذا، وعلينا أن نتكلم كما يتكلم السوقة، وأن نفكر ونعتقد كما تعتقد القلة وتفكر". ونقل هؤلاء الستة عن بنيفاس هذه الأقوال، وأعاد هذه الشهادة ثلاثة منهم بعد أن سئلوا فيما بعد. ونقل رئيس دير القديس جيل St. Giles القائم في سان جمينو San Gemino عن بنيفاس حين كان الكردينال جايتاني Gaetani أنه أنكر بعث الجسم والروح، وأيد هذه الشهادة عدد أخر من رجال الدين. ونقل أحد رجال الدين عن بنيفاس أنه قال عن القربان المقدس "إنه ليس إلا فطيرة". وأتهم بنيفاس
رجال كانوا قبل ذلك من أفراد بيته بأنه كانت له كثير من الصلات الجنسية الآثمة، الطبيعية منها وغير الطبيعية، واتهم غيرهم هذا المتشكك المزعوم بأنه حاول الاتصال السحري بـ "قوى الظلام"(107).
وأقنع كلمنت فليب قبل بدء المحاكمة الفعلية أن يترك مسألة إجرام بنيفاس إلى مجلس فينا العام الذي سيعقد فيما بعد. فلما عقد هذا المجلس (1311) مثل إمامه كرادلة وشهدوا بأن البابا المتوفى كان مستمسكاً بالدين القويم وبمكارم الأخلاق، وألقى فارسان بقفازيهما متحدين ومؤيدين براءته عن طريق الاقتتال. لكن أحداً لم يقبل هذا التحدي وأعلن المجلس انتهاء المحاكمة.
الفصل الثامن
عودة على بدء
الحروب الصليبية قد أضعفتا من قوتهما، في الوقت الذي زاد فيه انهيار الإمبراطورية من قوة إنجلترا وفرنسا، كما أثرت فرنسا باستيلائها على لانجويدك بمساعدة الكنيسة ولربما تكشف الأدلة التي قدمت ضد بنيفاس، صادقة كانت أو كاذبة، عن تيار التشكك الذي كان يجري في الخفاء على عصر الإيمان. وكذلك تدل الصفعة - المادية أو السياسية - التي وجهت إلى بنيفاس في أناني بمعنى من معانيها على بداية "العصر الحديث": فقد كانت انتصاراً للقومية على ما فوق القومية، وللدولة على الكنيسة، ولقوة السيف على سحر الكلام. ذلك أن كفاح الكنيسة ضد آل أهوهنستوفن وإخفاق كانت مناصرة الشعب لفليب الرابع على بنيفاس الثامن دليلا على غضب هذا الشعب من غلو محاكم التحقيق والحملة الصليبية الألبجنسية، فقد قيل إن محاكم التحقيق حرقت بعض آباء نوجارت (108)، ولم يكن بنيفاس يدرك، وهو يتورد في هذه المنازعات الكثيرة، أن أسلحة البابوية قد تثلمت من الإفراط في استخدامها، ثم إن الصناعة والتجارة قد أنشأتا طبقة من الناس أقل تقوى من طبقة الزراع، وأن الحياة والتفكير قد نزعا نزعة غير دينية، وأخذت الطبقات العلمانية تدرك أهميتها، وقبل أن تمضي سبعون سنة كانت الدولة قد طوت الكنيسة تحت جناحيها.
وإذا ما ألقينا نظرة شاملة على المسيحية اللاتينية، كان أهم ما ينطبع في ذهننا منها هو ما بين شعوبها المختلفة من وحدة نسبية في العقيدة الدينية، وانتشار سلطان الكنيسة الرومانية الواسع ورجالها في كل مكان انتشاراً أكسب أوربا
الغربية - أوربا غير الصقلية، وغير البيزنطية - وحدة في فعل العقل والأخلاق لم ير لها مثيل بعد ذلك الوقت. ولسنا نعرف في التاريخ كله نظاماً في غير هذه الرقعة من الأرض كان له هذا الأثر العظيم في مثل هذا العدد من الناس ولمثل هذا الزمن الطويل. فقد دام سلطان الجمهورية الرومانية والإمبراطورية الرومانية على أملاكهما الواسعة من أيام بمبي ألى أيام ألريك Alaric أربعمائة وثمانين عاما، ودامت إمبراطورية المغول والإمبراطورية البريطانية نحو مائة عام، أما الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فقد ظلت صاحبة السلطة العليا في أوربا من موت شارلمان (814) إلى موت بنيفاس الثامن (1303) أي 489 عاماً. ويبدو أن تنظيمها وإدارتها لم يبلغا من الكفاية ما بلغاه في الإمبراطورية الرومانية، كذلك لم يؤت رجالها من القدرة والثقافة مثل ما أوتي الرجال الذين حكموا الولايات والمدن للقياصرة، ولكن الكنيسة ورثت خليطاً من الهمج المسلوبي العقول، وكان عليها أن تبذل الجهود المضنية لتشق لها طريقاً تعود به إلى بسط النظام ونشر التعاليم. ولقد كان رجالها، رغم هذه الظروف، خير الرجال تعلماً في ذلك العصر، وكانوا هم الذين قدموا للناس في أوربا الغربية التعليم الوحيد المستطاع في خلال القرون الخمسة التي كان لها فيها السيادة والسلطان. وكانت محاكمها تقدم للناس أعدل ضروب العدالة في أيامها. فكانت المحكمة البابوية، المرتشية تارة والنزيهة تارة أخرى، إلى حد ما، محكمة عالمية تحكم في فض المنازعات الدولية، وتضييق نطاق الحروب. ولسنا ننكر أن هذه المحكمة كانت على الدوام مسرفة في نزعتها الإيطالية، ولكن عقول الإيطاليين كانت في تلك القرون أحسن العقول تدريباً، وكان في وسع أي إنسان أن يرقى إلى عضوية تلك المحكمة من أية طبقة، ومن أية أمة في العالم المسيحي اللاتيني.
ولقد كان من الخير أن يكون فوق دول أوربا وملوكها، رغم أساليب الخداع التي تلجأ إليها عادة السلطة البشرية الجماعية، سلطة عليا تستطيع محاسبة
هذه الدول وأولئك الملوك، وتخفف من حدة منازعاتها ومنازعاتهم. وإذا كان لا بد من قيام دولة عالمية، فهل ثمة مقر لها يبدو أليق من عرش القديس بطرس، يستطيع الناس مهما يكن من ضيقه أن يتطلعوا منه بعين قارية، ومن ورائها أحقاب طوال؟ وهل ثمة قرارات أكثر قبولا عند الناس في سلام، وأيسر تنفيذاً، من قرارات حبر من الأحبار يجله جميع سكان أوربا الغربية ويرون أنه خليفة الله في أرضه؟ وحسبنا دليلا على ما كان لقرارات هذه السلطة من قوة أنه لما خرج لويس التاسع إلى الحرب الصليبية في عام 1248: اشتد هنري الثالث ملك انجلترا في مطالبه من فرنسا واستعد لغزوها. فأنذر البابا إنوسنت الرابع إنجلترا بالحرمان إذا أصر هنري على مطالبة، ونكص هنري على عقبيه. ويقول هيوم المتشكك إن سلطان الكنيسة كان ملجأ حصيناً من عسف الملوك وظلهم (109) ولو أن الكنيسة اقتصرت في استخدام سلطاتها على الأغراض الروحية والخلقية، ولم تستخدمه قط لتحقيق الأغراض المادية، لحققت المثل الأعلى الذي كان يرتجيه حريجوري السابع- ولجعلت سلطانها الأخلاقي يعلو على قوى الدول المادية وكاد حلم جريجوري هذا بتحقق حين ضم إربان الثاني شتات العالم المسيحي لقتال الأتراك، فلما أطلق إنوسنت الثالث وجريجوري التاسع، وإسكندر الرابع، وبنيفاس الثامن اسم الحروب الصليبية المقدسة على حروبهم ضد الألبحنسيين، وفردريك العاني وآل كولنا، فلما فعلوا هذا تحطم المثل الأعلى العظيم في أيدي البابوات الملطخة بدماء المسيحيين.
وكانت الكنيسة إذا لم يتهددها خطر تصطنع التسامح الكثير مع أصحاب الآراء المخالفة، بل وآراء الضالين، وسوف نجد ما لم تكن نتوقعه من الحرية الفكرية بين فلاسفة القرنين الثاني عشر والثالث عشر، بل سوف نجد هذه الحرية بين أساتذة الجامعات المرخصة من قبل الكنيسة، والخاضعة لإسرافها، وكل ما كانت تطلبه أن يكون نقاشهم مقصوراً على المتعلمين، ومفهوما منهم
وحدهم، وألا يتخذ صورة الدعوة الثورية للناس بأن ينبذوا عقيدتهم وكنيستهم (110). ويقول كاتب هو أكثر نقاد الكنيسة المحدثين نشاطا إن، في الكنيسة إذ تضم السكان أجمعين، تضم كذلك كل صنف من أصناف العقول، من أكثر العقول تخريفاً إلى أكثرها لا أدرية، وإن كثيراً من العناصر التي تكن مستمسكة بالدين الرسمي، كانت تعمل تحت ستار الامتثال الرسمي بحرية أوسع مما يظن الناس عادة (111).
وجملة القول أن الصورة التي نرسمها في أذهاننا للكنيسة اللاتينية في العصور الوسطى هي أنها منظمة معقدة التركيب، تبذل كل ما في وسعها رغم ما يتصف به أبناؤها وزعماؤها من عيوب كامنة في فطرة الآدميين، لإرساء قواعد النظام الأخلاقي والاجتماعي، ونشر العقيدة الدينية التي تسمو بالناس وتواسيهم وسط حطام حضارة قديمة، وعواطف ثائرة، لمجتمع يجتاز دور التفاهة.
لقد كانت أوربا حين وحدتها كنيسة القرن السادس أشبه ببضاعة متناثرة بعد غرق سفينة بضاعة من الهمج المتنقلين، وكانت خليطاً من الألسنة والعقائد، وفوضى من الشرائع غير المسطرة التي لا يحصيها العد. ولكن الكنيسة وهبتها قانوناً أخلاقيا تؤيده سلطة فوق سلطة البشر، تبلغ من القوة ما يكفي لقمع الغرائز غير الاجتماعية الكامنة في نفوس ذوي العنف من الناس، ووهبتها كذلك أديرة يلجأ إليها الرجال، والنساء، وتأوى المخطوطات القديمة، وحكمتها بمحاكم كنسية، وربتها في المدارس والجامعات، وذللت قيادة ملوك الأرض لتحميل التبعات الأخلاقية وواجبات السلام، وخلعت على حياة أبنائها بهجة الشعر، والتمثيل، والغناء، وأوحت إليهم أن يقيموا أجل ما في التاريخ كله من أعمال فنية ولما عجزت عن إقامة مدينة فاضلة تسودها المساواة بين رجال مختلفي الكفايات نظمت الصدقات والضيافات، وحمت الضعفاء إلى حد ما من الأقوياء. وكانت بلا ريب أعظم قوة تعمل لنشر لواء الحضارة في تاريخ أوربا خلال العصور الوسطى.
الباب الثلاثون
الأخلاق والآداب في العالم المسيحي
700 -
1300
الفصل الأول
القانون الأخلاقي المسيحي
كان لا بد للإنسان في مرحلة سكنى الغاب أوفى مرحلة الصيد أن يكون شرهاً- حريصاً في بحثه عن الطعام، نهما في ابتلاعه - لأنه إذا جاءه الطعام مرة لا يدري متى يأتيه مرة أخرى. وكان لا بد له أن يكون شديد الحساسية الشهوانية، وكثيراً ما يطلق لهذه الشهوات العنان، فلا يتقيد بزواج لأن ارتفاع نسبة الوفيات تحتم ارتفاع نسبة المواليد، فكل امرأة يجب أن تصير أما كلما كان ذلك مستطاعاً، ولا بد أن تكون وظيفة الذكر حامية على الدوام. ولا بد أن يكون مشاكساً دائم الاستعداد للقتال من أجل طعامه ورفيقته.
لقد كانت الرذائل في وقت ما فضائل لا غنى عنها للمحافظة على البقاء، فلما وجد الإنسان أن أحسن سبيل إلى البقاء - بقاء الفرد وبقاء النوع - هي سبيل التنظيم الاجتماعي، وسع نطاق عصبة الصيد، فجعلها هيئة من النظام الاجتماعي لا بد فيها من كبح جماع الغرائز التي كانت عظيمة النفع في مرحلة الصيد عند كل خطوة يخطوها الإنسان، حتى يستطاع بذلك قيام المجتمع. فليست كل حضارة إلا توازناً وتجاذباً بين غرائز الإنسان ساكن الغابة وقيود
القانون الأخلاقي، فإذا وجدت الغرائز دون القانون الأخلاقي قضى على الحضارة، وإذا وجدت القيود دون الغرائز قضى على الحياة، فالمشكلة التي تواجهها الأخلاق هي أن تنظم القيود بحيث تحمي الحضارة دون أن توهن الحياة.
وكانت بعض الغرائز، وأكثر ما تكون غرائز اجتماعية، هي صاحبة السبق في تهدئة العنف البشري، والاختلاط الجنسي الطليق، والشره، وكانت هي أساساً حيوياً للحضارة. فقد خلق الحب الأبوي، في الحيوان والإنسان، نظام الأسرة الاجتماعي الفطري، وما فيها من تأديب تعليمي، ومساعدة متبادلة، ونقلت السلطة الأبوية، وهي مزيج من ألم الحب ومتعة الاستبداد، قانون السلوك الاجتماعي المنقذ للحياة إلى الطفل صاحب النزعة الفردية. وأحاطت القوة المنظمة التي يمارسها الزعيم، أو الشريف، أو وتمارسها المدينة أو الدولة، أحاطت هذه القوة وداجت إلى حد كبير قوة الأفراد غير المنظمة. وأخضع حب الاستحسان النفس البشرية إلى إرادة الجماعة، وهدت العادة والمحاكاة من حين إلى حين المراهق والمراهقة إلى السبل التي ارتضاها الناس عد تجاربهم وأخطائهم. وأرهب القانون الغرائز بشبح العقاب، وذلل الضمير الشاب بطائفة لا حصر لها من الموانع والمحرمات.
واعتقدت الكنيسة أن هذه المنابع الطبيعية أو الزمنية للأخلاق لا تكفي وحدها للسيطرة على الدوافع التي تحفظ الحياة في الغابة، بل تقضي على النظام في المجتمع، وقالت إن هذه الدوافع أقوى من أن تكبحها أية سلطة لا تكون لها في كل مكان وفي وقت واحد قوة مانعة رهيبة. ولهذا القانون الأخلاقي شديد الوقع على الجسم لا بد له أن يكون مختوماً بخاتم قوة غير بشرية إذا أريد أن يطيعه الناس، ولا بد له أن يكون مؤيداً بقوة إلهية وذا مكانة فوق المكانة الآدمية تحترمها النفس في غياب كل سلطة، وفي أثناء لحظات الحياة وخباياها الخفية، إن السلطة الأبوية نفسها، وهي عماد كل نظام أخلاقي واجتماعي، لتنهار في النزاع
القائم ضد الغرائز البدائية إلا إذا كان لها دعامة من العقيدة الدينية تغرس في قلب الطفل. فإذا أريد خدمة المجتمع ونجاته، فلا بد له من دين يقاوم الغرائز الملحدة بأوامر ليست من عند البشر ولا تقبل قط نزاعاً، بل هي أوامر من عند الله نفسه، محددة واضحة لا تقبل جدلا. وإذ كان الإنسان شديد الإثم والشراسة فإن هذه الوصايا الإلهية يجب ألا يؤيدها الثناء والشرف اللذان يمنحنهما الناس من يطيعونها، أو الخزي والعقاب اللذان يلحقان بمن يخرج عليها، بل يجب أن يؤيدها، فضلا عن هذا، الأمل في نعيم السماء تناله الفضيلة التي لا تلقى جزاءها في هذه الدنيا، وخوف الجحيم التي يتردى فيها الآثمون الذين لا يلقون على ظهر الأرض عقاباً. إن هذه الوصايا يجب ألا تأتي من عند موسى بل عند الله.
وكانت عقيدة الخطيئة الأولى في اللاهوت المسيحي هي التي مثلت بها النظرية القائلة إن الغرائز البدائية تجعل الإنسان غير صالح للحضارة وكانت هذه النظرية، كما كانت فكرة"كارما" في الديانة الهندية محاولة قصد بها ما يحل بالناس من آلام هم في الظاهر غير خليقين بها، وهذا التفسير هو أن "الصالحين يقاسون الآلام في هذه الحياة لأن أسلافهم ارتكبوا الإثم، وتقول النظرية المسيحية إن الجنس البشري على بكرة أبيه قد لوثته خطيئة آدم وحواء، ويقول جراتيان Gratiun في كتابه Decrtum (القرار) (حوالي عام 1150) الذي اتخذته الكنيسة بصفة غير رسمية جزءاً من تعاليمها: كل آدمي ولد نتيجة لاتصال الرجل بالمرأة يولد ملوثاً بالخطيئة الأولى؛ معرضاً للعقوق والموت، ولهذا فهو طفل مغضوب عليه (1) لا ينجيه من الخبث واللعنة إلا رحمة الله وموت المسيح الذي كفر عن آثامه (ولا ينقذ الإنسان من العنف، والشهوة، والشره، وينجيه هو والمجتمع الذي يعيش فيه من الهلاك إلا المثل الذي ضربه المسيح الشهيد في الوداعة ودماثة الخلق). وبعثت الدعوة إلى هذه العقيدة، مضافة إلى الكوارث الطبيعية التي لم تستطع العقول فهمها إلا على عقاب عن الخطايا، بعثت هذه
الدعوة في الكثيرين من الناس في العصور الوسطى شعوراً بأنهم مفطورون على الدنس، والانحطاط، والإجرام، وهو الشعور الذي غلب على كثير من أدبهم قبل عام 1200. ثم أخذ ذلك الشعور بالخطيئة والخوف من الجحيم يتناقض حتى جاء عهد الإصلاح الديني، وظهر بعدئذ بقوة ورهبة جديدين بين المتطهرين المتزمتين.
وتحدث جريجوري الأول ومن جاء بعده من علماء الدين عن سبع خطايا - الكبرياء، والبخل، والحسد، والغضب، والشهوة، والشره، والكسل، تقابلها في رأيهم السبع الفضائل الرئيسية: أربع منها"فطرية" أو وثنية امتدحها فيثاغورس وأفلاطون - الحكمة، والشجاعة، والعدالة، والاعتدال، وثلاث فضائل "دينية" - الإيمان، والأمل، والإحسان. ولكن المسيحية لم تؤمن قط بالفضائل الوثنية وإن ارتضتها، وكانت تفضل الإيمان عن العلم، والصبر عن الشجاعة، والحب والرحمة عن العدالة، والتعفف والظهر عن الاعتدال. ورفعت من شأن الإتضاع، ووصفت الكبرياء (وهو من أبرز صفات رجل أرسطو المثالي) بأنه أشنع الذنوب الشنيعة. وكانت المسيحية تتحدث أحياناً عن الحقوق الإنسان، ولكن أكثر ما كانت تؤكده هو واجبات الإنسان - واجباته نحو نفسه، ونحو بني جنسه، ونحو كنيسته وربه. ولم تكن الكنيسة تدعو إلى الاقتداء بالمسيح الرقيق، الوادع، الرحيم، لأنها كانت تخشى أن تجعل الرجال مخنثين. والحق أن رجال المسيحية اللاتينية في العصور الوسطى كانوا أكثر رجولة من ورثتهم وخلفائهم في هذه الأيام، لأنهم كانوا يواجهون من الصعاب أكثر مما يواجهه هؤلاء. ذلك أن علماء الدين والفلاسفة، كالرجال والدول، يتصفون بما يتصفون به، لأنهم في زمانهم ومكانهم، لم يكن لهم مما كانوا عليه بد.
الفصل الثاني
الآداب قبل الزواج
ترى إلى أي حد كانت آداب الناس في العصور الوسطى تمثل أو تحقق المبادئ والنظريات الأخلاقية في تلك العصور؟ فلتنظر أولا إلى الصورة التي كانت عليها تلك العصور دون أن يكون لدينا رأى سابق نريد اثباته.
لقد كانت أولى الحادثات التي تمت بصلة إلى الأخلاق في الحياة المسيحية هي التعميد: به كان الطفل يندمج جدياً في المجتمع وفي الكنيسة، ويخضع- أو يخضع عنه من يعمدونه - إلى قوانينهما. وفي هذه الحفل يتلقى كل طفل "اسماً مسيحياً" - ويكون هذا الاسم في العادة اسم أحد القديسين المسيحيين. أما الأسماء التي تضاف بعد هذا الاسم فكانت مختلفة الأصول، ويمكن الرجوع بها خلال أجيال متعددة إلى القرابة، أو المهنة، أو المكان، أو إلى شيء من معارف الجسم أو معالم الخلق، بل يمكن الرجوع بها أحياناً إلى شيء من الطقوس الكنيسة: ومن أمثلة هذه الأسماء سسلي ولكنز دوتر Cicely wilkinsdoughter وجيمس اسمث James Smith، ومرجريت فري ومن Margret Ferrywoman وماثيو باريس Matthew Paris، وأجنيس ردهد Agnes Redhead، وجون مريمان Jogn Merriman، وروبرت لتاني Robert Litany، وروبرت بندبسيت Robert Bendicite أو Benedict.
وكان جرجوري الأكبر، كما كان روسو، يحث الأمهات على أن يرضعن أطفالهن (3)، وكانت معظم النساء الفقيرات يفعلن هذا، أما نساء الطبقات العليا
فكانت الكثرة الغالبة منهن لا تفعلنه (4). وكان الأطفال محبوبين، كما هم محبوبين الآن؟ ولكنهم كانوا يضربون أكثر مما يضربون في هذه الأيام، وكانوا كثيري العدد بالرغم من كثرة من يموتون منهم في سن الطفولة وسن المراهقة. وكان بعضهم يؤدب البعض لاجتماعاتهم في مكان واحد، وقد تحضروا بسبب خوفهم من ارتكاب الذنوب. وتعلموا من أقاربهم ورفاقهم في اللعب كثيراً من فنون القطر أو المدينة، وتقدموا تقدماً سريعاً في معارفهم وخبثهم. وفي ذلك يقول تومس من أهل سيلانو Celano في القرن الثالث عشر:"لا يكاد الأولاد ينطقون حتى يتعلموا الخبث، وكلما تقدموا في السن زادوا سوءاً على سوء حتى يصبحوا مسيحيين بالاسم لا أكثر"(5). ولكن الذين يكتبون في الأخلاق مؤرخون غير صادقين، فقد كان الأولاد يبلغون سن العمل وهم في الثانية عشرة من عمرهم ويبلغون سن الرشد القانوني في السادسة عشرة.
وكانت مبادئ الأخلاق المسيحية تتبع مع المراهقين سياسة صامتة بآراء الأمور الجنسية. فقد كان النضج المالي أي القدرة على كفالة الأسرة يجيء بعد النضج الجنسي أي القدرة على الخلف، وكان الاعتقاد السائد أن التربية الجنسية قد تزيد آلام العفة في تلك الفترة من العمر، وكانت الكنيسة تتطلب العفة قبل الزواج لتساعد بذلك على الاحتفاظ بالوفاء بعده وعلى النظام الاجتماعي والصحة العامة. ولكن الشاب في العصور الوسطى كان في أكبر الظن قد ذاق أنواعاً من الصلات الجنسية قبيل بلوغه السادسة عشرة من عمره. فقد عاد اللواط إلى الظهور في أثناء الحروب الصليبية، وفي أثر تيار الآراء الشرقية
(1)
، وعزلة الرهبان والراهبات (6). وكانت المسيحية قد أفلحت في مهاجمة هذا الداء في العصور القديمة المتأخرة. وقد كتب هنري رئيس دير كليرفو عن فرنسا في عام
(1)
كثيراً ما تظهر هذه العادات اللعينة في الحروب، وقد وجدت في الغرب والشرق على السواء، وإذا رجع القارئ إلى الفصل الخامس باليونانية من هذه السلسلة رأى ما ناله المؤلف عنها عند القوم. (المترجم)
1177 يقول! "إن سدوم
(1)
القديمة قد أخذت تقوم فوق أنقاضها" (7). واتهم فليب الجميل رهبان المعبد بانتشار اللواط بينهم. وفي كتب التوبة الدينية التي تصف وسائل التكفير عن الذنوب ذكر لضروب الفحش من بينها البهيمية، وكانت طائفة كثيرة التنوع عن البهائم موضع صلات جنسية بالآدميين (8). وكانت الصلات الجنسية من هذا النوع إذا كشفت عوقب الطرفان المشتركان فيها بالإعدام، وفي سجلات البرلمان الإنكليزي ذكر لطائفة من الكلاب، والمعز، والبقر، والخنازير، والإوز، حرقت حية هي ومن ارتكب معها الفحشاء من الآدميين. كذلك كثرت مضاجعة المحارم في تلك الأيام.
ويبدو أن العلاقات الجنسية قبل الزواج، وفي خارج نطاق الزواج، كانت منتشرة أنشارها في أي وقت بين أقدم الأزمنة والقرن الثاني عشر، ذلك أن غريزة الإنسان المختلطة كانت تتعدى الحدود التي تقيمها الشرائع الزمنية والكنسية، وكانت بعض النساء يعتقدون أن ورعهن في آخر الأسبوع يكفر عن مرحهن وبطنتهن. وكان الاغتصاب شائعاً (9) رغم ما يتعرض له المغتصب من أشد ضروب العقاب، وكان الفرسان الذين يخدمون النساء أو الفتيات الكريمات المولد نظير قبلة أو لمسة من أيديهن يسلون أنفسهم بخادمات هؤلاء السيدات والفتيات، ومن أولئك السيدات من لم يكن يستطعن النوم مرتاحات الضمائر إلا إذا هيأت بأنفسهن هذه التسلية (10). كان مما يألف له فارس لاتور لاندرى La Tour Landry انتشار الفسق بين بعض الشبان من أبناء الأشراف، وإذا أخذنا بأقواله فإن بعض رجال الطبقة التي ينتمي إليها كانوا يفسقون في الكنائس بل "على المذبح" نفسه؛ وهو يحدثنا عن "ملكتين استمتعتا ببهجتهن الآثمة وبلذتهن داخل الكنيسة في أثناء الصلاة المقدسة في يوم خميس الصعود
(1)
بلدة لوط المذكورة في الكتاب المقدس. (المترجم)
أثناء الصيام (11). ويصف وليم المالمزبري Wiliam of Malmsbury أشراف النومان بأنهم منهمكون في البطة والدعارة" وأنهم يتبادلون العاشقات بعضهم مع بعض (12) خشية أن يضعف الوفاء حدة الشهوة. وكان الأطفال غير الشرعيين منتشرين في جميع أنحاء العالم المسيحي، وكانت سيرتهم موضوعاً لآلاف القصص، وكان أولاد الزنا أبطال عدد من هذه القصص فمنهم كوشولان Cuchulain، وآرثر Arthur، وجاوين Gawain ورولان Roland، ووليم الفاتح، وكثيرون من الفرسان المذكورين في تواريخ فرواسار Froissart.
وتمشى العهر مع مطالب ذلك الوقت، فقد كان بعض النساء الذاهبات إلى الحج يكسبن نفقة الطريق، كما يقول الأسقف بنيفاس، ببيع أجسادهن في المدن القائمة في طريقهم (13). وكان كل جيش يتعقبه آخر من العاهرات لا يقل خطراً عن جيش أعدائه. ويحدثنا ألبرت من أهل إيكس Aix فيقول إن "الصليبيين كان بين صفوفهم جمع حاشد من النساء في ثياب الرجال، يسافرون معهم دون أن يميزون عنهم، ويغتنمن الفرصة التي تتاح لهم مع الرجال"(14). ويقول المؤرخ العربي عماد الدين إنه في أثناء حصار عكا حضرت ثلاثمائة من الفرنسيات الحسان ليروحن عن الجنود الفرنسيين
…
لأن هؤلاء أبوا أن يخرجوا للقتال إذا حرموا لذة النساء، فلما رأى جنود المسلمين هذا طلبوا أن يهيأ لهم ما هيئ لهؤلاء (15). ويقول جرانفيل إن الأشراف الذين كانوا مع القديس لويس في حربه الصليبية "أقاموا مواخيرهم حول خيمة الملك"(16). وكان طلبة الجامعات، وبخاصة في باريس، ممن استبدت بهم الحاجة إلى هذا الترفيه أو رغبوا في محاكاة غيرهم فيه، ولهذا أنشأت الفتيات مراكز لسد هذه الحاجة (17).
وأباحت بعض المدن- أمثال طولوز (طلوشة)، وأفينون، ومنبليه، ونورمبرج- هذه الدعارة قانوناً. ووضعتها تحت إشراف البلديات بحجة أنه بغير
هذا الدنس لا تستطيع النساء الصالحات أن يخرجن إلى الشوارع وهم آمنات على أنفسهم (18). وكتب القديس أوغسطين يقول: "إذا منعت العاهرات والمواخير، اضطربت الدنيا من شدة الشبق"(19)، ووافقه على ذلك القديس تومس أكويناس (20). وكان في لندن في القرن الثاني عشر صف من "المواخير" بالقرب من جسر لندن. وقد أجاز أسقف ونشستر في بادئ الأمر قيامها، ثم صدق البرلمان على قيامها فيما بعد (21). وقد حرم القانون الذي أصدره البرلمان عام 1161 على صاحبات بيوت الدعارة أن يأوين فيها نساء يعانين آلام "الضعف الخطر من الاحتراف" - وهذا أول ما عرف من التشريع ضد انتشار أمراض السرية. وقرر لويس التاسع في عام 1254 نفي جميع العاهرات من فرنسا، ونفذ هذا القرار فعلا، ولكن الدعارة السرية لم تلبث أن حلت محل التجارة العلنية، حتى أهل الطبقات الوسطى من أنه يكاد من المستحيل حماية الفضيلة لدى زوجاتهم ونسائهم من إلحاح الجنود والطلاب. وعن انتقاد هذا القرار في آخر الأمر حتى ألغي في عام 1256. وحدد المرسوم الجديد الأماكن التي تستطيع فيها العاهرات أن يسكن ويمارسن مهنتهن في باريس، وحدد أيضاً ملابسهن وزينتهن، وأخضعهن لرقابة رئيس من رؤساء الشرطة يسمى ملك القوادين أو المتسولين أو الأفاقين Roi de Ribauds (23) . ونصح لويس التاسع وهو يحتضر ولده أن يعيد المرسوم الذي قضى بنفي العاهرات، ونفذ فليب وصيته، وكانت النتيجة هي النتيجة السابقة نفسها، وبقى القانون مدوناً في سجل الشرائع الفرنسية ولكنه لم ينفذ (24). وكان في روما، كما يقول الأسقف دوران الثاني المندى Bishop Durand II of Mende (1311) ، مواخير بالقرب من الفاتيكان، وقد أجاز رجال البابا إقامتها نظير ما يتقاضون من الأجور (25). وكانت الكنيسة تظهر العطف على العاهرات، وأقامت ملاجئ للتائبات من النساء ووزعت على الفقيرات الصدقات التي كانت تتلقاها من العاشقات التائبات (26).
الفصُل الثالث
الزواج
كان الشاب في عصر الإيمان قصير الأجل، وكان الزواج يحدث فيه مبكراً، وكان في وسع الطفل وهو في السابعة من عمره أن يوافق على خطبته، وكان هذا التعاقد يتم في بعض الأحيان ليسهل به انتقال الملكية أو حمايتها. ولقد تزوجت جراس صليبي Grace de Saleby في الرابعة من عمرها بشريف عظيم يستطيع حماية ضيعتها الغنية، ثم مات هذا الشريف ميتة سريعة فتزوجت وهي في السادسة من عمرها بشريف آخر، وزوجت وهي في الثالثة عشرة بشريف ثالث (27). وكان يستطاع حل هذا الرباط في أي وقت من الأوقات قبل سن البلوغ، وكان يفترض أن تكون هذه السن هي الثانية عشرة للبنت، والرابعة عشرة للولد (28). وكانت الكنيسة ترى أن رضي الوالدين أو الأوصياء غير ضروري للزواج الصحيح إذا بلغ الزوجان سن الرشد، وتحرم زواج البنات قبل سن الخامسة عشرة، ولكنها كانت تسمح بكثير من الاستثناءات، لأن حقوق الملكية في هذه المسألة كانت تطغى على نزوات الحب، ولم يكن الزواج إلا حادثا من حوادث أعمال المالية. وكان العريس يقدم لوالدي الفتاة هدايا أو مالا، ويعطيها"هدية الصباح" ويضمن لها حق بائنة في مزرعته. وكان هذا الحق في إنجلترا هو أن يكون للأرملة استحقاق مدى الحياة في ثلث ما يتركه الرجل من الأرض. وكانت أسرة الزوجة تقدم الهدايا للزوج، وتخصص لها بائنة تتكون من الثياب، والأثواب الثمينة، والآنية والأثاث، والأملاك في بعض الأحيان. وكانت الخطبة عبارة عن تبادل عهود أو مواثيق، وكان العرس نفسه ميثاقا واسمه
الإنجليزي Wedding مشتق من اللفظ الإنجليسكسوني Weddian ومعناه (الوعد) وكان القرين spouse هو الشخص الذي أجاب Responded " إني أريد".
وكانت الدولة والكنيسة معاً تعدان الزواج صحيحاً إذا تم بناء على تبادل عهد شفوي بين الطرفين ولو لم يصحبه أي احتفال قانوني أو كنسي (29). وكانت الكنيسة تريد أن تحمي النساء بذلك من أن يهجرهن من يغوينهن، وتفضل هذا الاتحاد عن الفسق أو التسري، ولكنها كانت بعد القرن الثاني عشر تنكر شرعية الزواج الذي يتم دون مصادقة الكنيسة، وأخذت بعد مجلس ترنت (1563) تتطلب حضور قس في هذا التعاقد. وكان القانون الزمني يرحب بتنظيم الكنيسة لشئون الزواج، فكان براكتن Bracton (المتوفى عام 1268) يرى أن لا بد من إقامة احتفال ديني لكي يصبح الزواج صحيحاً. ورفعت الكنيسة شأن الزواج إلى مقام القداسة، وجعلته ميثاقاً مقدساً بين الرجل والمرأة والله، ثم بسطت سلطانها القانوني تدريجيا على كل خطوة من خطوات الزواج، من واجبات فراش الزوجية إلى وصية الزوج الأخيرة قبل الوفاة. وذكر قانونها ثبتاً طويلا من "موانع الزواج"، فكان يجب أن يكون كلا الطرفين غير مقيد برباط زواج سابق، أو بنذر أنذره أن يظل بغير زواج، وكان الزواج بمن لم يعمد محرماً، غير أنه وجدت مع ذلك حالات من الزواج بين المسيحيين واليهود (30). وكان الزواج بين الأرقاء بعضهم وبعض، وبين الأرقاء والأحرار، المستمسكين بالدين الصحيح والضالين، وحتى بين المؤمنين والمحرومين، كان الزواج بين هؤلاء يعد صحيحاً (31). ويجب ألا يكون بين الطرفين صلة تصل إلى الدرجة الرابعة من القرابة- أي أنه يجب ألا يكون لهما جد مشترك في خلال أربعة أجيال، وفي هذه المسألة كانت الكنيسة ترفض القانون الروماني وتقبل القانون البدائي قانون الزواج من خارج العشيرة خشية أن يؤدى الزواج بين الأقارب الأدنين إلى الانحطاط الناشئ من التناسل داخل دائرة الأسرة، ولعلها كانت تعمل بذلك على منع تركيز الثروة
نتيجة للروابط الأسرية الضيقة. وكان من الصعب تجنب هذا التزاوج الداخلي في القرى الريفية، فكان لا بد للكنيسة أن تتغاضى عنه، كما كانت تتغاضى عن كثير من الثغرات الأخرى بين الحقيقة والقانون.
ويجئ بعد حفلة الزواج موكب العرس - بموسيقاه المدوية وثيابه الحريرية الفاخرة - يسير من الكنيسة إلى منزل العريس، وتعقبه الحفلات في هذا البيت طول النهار كله ونصف الليل. ولا يصبح الزواج صحيحاً حتى يتم اتصال الزوجين. وكان منع الحمل محرما، ويرى أكويناس أنه جريمة لا تزيد عنها شناعة إلا جريمة القتل العمد (32)، بيد أن وسائل مختلفة بعضها آلية: وبعضها كيميائية وبعضها سحرية، كانت تستخدم لهذا المنع، وكان أكثر ما يعتمد عليه هو وقف الجماع (33). وكانت العقاقير المجهضة، أو المؤدية إلى العقم، أو إلى العجز الجنسي، أو إلى الشبق، تباع مع الباعة المتنقلين. وكانت العقوبات التي وضعها ربانس مورس Rabanus Maurus للتكفير عن الآثام تقضي على "من تخلط منى زوجها بطعامها حتى تحسن قبول حبه، بالندم على فعلتها ثلاثة أعوام"(34). وكان وأد الأطفال نادراً، وقد أنشأت الكنيسة من أموال الصدقات في القرن السادس وما بعده الثامن النساء اللاتي ولدن أطفالا في السر أن يودعنهم عند باب الكنيسة، وأعلنت أنها ستكفلهن، وكان أولئك الأيتام يربون ليكونوا أرقاء أرض يعملون في أملاك الكنيسة. وقرر قانون أصدره شالمان أن الأطفال الذين يعرضون للجو في الخلاء يصبحون عبيداً لمن ينقذونهم ويربونهم. وأنشأ راهب من منبليه حوالي عام 1190 جماعة إخوان الروح القدس التي تخصصت في حماية اليتامى وتعليمهم.
وكان عقاب الزنا قاسياً، مثال ذلك أن أقل ما كان يحكم به القانون السكسوني على الزوجة التي تخون زوجها هو جدع أنفها وصلم أذنيها، وأجاز لزوجها أن يقتلها ولكن الزنا كان منتشراً رغم هذه العقوبات الشديدة وأمثالها (35)، وكان أقل ما يكون انتشاراً بين الطبقات الوسطى، وأكثر ما بين الأشراف. فكان سادة الإقطاع يغوون رقيقات الأرض ولا يحكم عليهم بغرامة قليلة: فمن "وطئ بنتاً من غير شكرها" -أي رغم إرادتها- أدى للمحكمة ثلاث شلنات (36). ويقول فريمان Freeman إن القرن الحادي عشر "كان عصراً فاسقاً"، وكان يعجب من وفاء وليم الفاتح الظاهري لزوجته (37) وهو وفاء لا يستطيع أن يعزو مثله لأبيه، ويقول تومس رايت Thomas Wright الأريب إن "مجتمع العصور الوسطى كان مجتمعاً فاسد الأخلاق فاجراً"(38).
وكانت الكنيسة تجيز انفصال الزوجين بسبب الزنا، أو الارتداد عن الدين، أو القسوة الشديدة وكان هذا الانفصال يسمى divortium ولكن معناه لم يكن إبطال الزواج، أما هذا الإبطال فلم يكن يمنح إلا إذا ثبت أن الزواج قد خالف أحد الموانع الشرعية التي نص عليها قانون الكنيسة. ويبعد أن تكون هذه الموانع قد ضوعف عددها عن قصد لكي يستعين على الطلاق من يستطيعون أداء الرسوم والنفقات الضخمة التي يتطلبها إبطال الزواج، بل إن الكنيسة كانت تستخدم هذه الموانع استخداماً حكيماً مرناً في الظروف الاستثنائية التي يرجى أن يؤدى الطلاق فيها إلى وجود وارث إلى ملك لم ينجب أبناء، أو يكون من ورائه فائدة أخرى للسلم أو السياسة. وكان القانون الألماني يجيز الطلاق في حالة الزنا، بل كان يجيزه في بعض الأحيان إذا اتفق عليه الطرفان (39). وكان
الملوك يفضلون قانون أسلافهم على قانون الكنيسة الصارم، وكان سادة الإقطاع وسيداته يعودون إلى القوانين القديمة فيطلق بعضهم بعضاً من غير إذن الكنيسة، ولم تبلغ الكنيسة في سلطانها واستمساكها بمقتضيات الذمة والضمير درجة من القوة تمكنها من تنفيذ قرارتها إلا بعد أن رفض إنوسنت الثالث أن يوافق على طلب الطلاق الذي تقدم به إليه فليب أغسطس ملك فرنسا القوي.
الفصُل الرابع
النساء
كانت نظريات رجال الكنيسة بوجه عام معادية للمرأة، فقد غالت بعض قوانين الكنيسة في إخضاعها، لكن كثيراً من مبادئ المسيحية وشعائرها رفعت من مكانتها. وكانت المرأة في تلك القرون لا تزال في نظر القساوسة وعلماء الدين كما كانت تبدو لكريستوم - (شراً لا بد منه، وإغواء طبيعياً، وكارثة مرغوباً فيها، وخطراً منزلياً، وفتنة مهلكة، وشراً عليه طلاء)(40). وكانت لا تزال حواء مجسدة في كل مكان، حواء التي خسر بسببها الجنس البشري جنات عدن، وأداة الشيطان المحببة التي يقود بها الرجال إلى الجحيم. وكان تومس أكويناس، وهو في العادة رسول الرحمة، يتحدث عنها كما يتحدث الرهبان، فينزلها من بعض النواحي منزلة أقل من منزلة الرقيق:
إن المرأة خاضعة للرجل لضعف طبيعتها، الجسمية والعقلية معاً (41). والرجل مبدأ المرأة ومنتهاها كما أن الله مبدأ كل شئ ومنتهاه (42)
…
وقد فرض الخضوع على المرأة عملا بقانون الطبيعة، أما العبد فليس كذلك (43) .. ويجب على الأبناء أن يحبوا آباءهم أكثر مما يحبون أمهاتهم (44).
وأوجب قانون الكنيسة على الزوج حماية زوجته، كما أوجب على الزوجة طاعة زوجها. وقد خلق الله الرجل لا المرأة، في صورته هو. ويعقب العالم بالقانون الكنسي على ذلك بقوله:(ويتضح من هذا أن الزوجة يجب أن تكون خاضعة لزوجها بل يجب أن تكون له أقرب ما تكون إلى الخادمة)(45) على أن في هذه الفقرات نغمة الرغبات المرجوة لا الحقائق الواقعة، غير أن الكنيسة
كانت تحتم على الرجل ألا يتزوج أكثر من واحدة، وتصر على أن يكون القانون الأخلاقي ذا مستوى واحد للرجال والنساء على السواء وتكرم المرأة بعبادة مريم وتدافع عن حق المرأة في وراثة الممتلكات.
وكان القانون المدني أشد عداء للمرأة من القانون الكنسي. فقد كان كلا القانونين يجيز ضرب الزوجة (46) ولما أن أمرت "قوانين بوفيه وعاداتها في القرن الثالث عشر" الرجل ألا يضرب زوجته" إلا لسبب (47) كان ذلك خطوة كبرى إلى الأمام. وكان القانون المدني ينص على ألا تسمع للنساء كلمة في المحكمة "لضعفهن" (48) ويعاقب على الإساءة للمرأة بغرامة تعادل نصف ما يفرضه على الرجل نظير هذه الإساءة نفسها (49) وقد حرم القانون النساء حتى أرقاهن مولداً، من أن يُمثلن ضياعهن في برلمان إنجلترا أو في الجمعية العامة للطبقات بفرنسا. وكان الزواج يعطى الزوج الحق الكامل في الانتفاع بكل ما لزوجته من متاع وقت الزواج والتصرف في ريعه (50) ولم يكن يرخص للمرأة أن تكون طبيبة.
وكان في حياتها الاقتصادية من التنوع بقدر ما كان حياة الرجل، فكانت تتعلم وتباشر فنون البيت العجيبة المجهدة: تصنع الخبز والفطائر المتنوعة، وتطهو اللحم، وتصنع الصابون والشمع، والزبد والجبن، وتعصر الجعة، وتستخرج الأدوية البيتية من الأعشاب وتغزل الصوف وتنسجه، وتنسج الأقمشة التيلية من الكتان، وتخيط الملابس لأسرتها، والسجف والملاءات، وأغطية الأسرة، والأنسجة التي تزين بها الجدران. وكان عليها أن تزين بيتها وتحتفظ به نظيفاً إلى الحد الذي يسمح به من فيه من الرجال، وأن تربي الأطفال. وكانت في خارج الكوخ الزراعي تشترك بقوة وجلد في أعمال المزرعة: تبذر، وتزرع، وتحصد، وتطعم الفراخ الصغار، وتحلب البقر، وتجز الأغنام، وتساعد على إصلاح البيت ونقشه وبنائه. وإذا كانت من سكان المدن، كانت وهي في
البيت أو الحانوت، تقوم بغزل ما يلزم لنقابات المنسوجات الطائفية من غزل ونسيج. ولقد كانت شركة من (نساء الحرير) أول ما أنشأ في إنجلترا فنون غزل الحرير وثنيه ونسجه (51). وكان عدد النساء في معظم نقابات الحرف الإنجليزية مساوياً لعدد الرجال، ويرجع معظم السبب في نقابات الحرف الإنجليزية مساوياً لعدد الرجال، ويرجع معظم السبب في هذا إلى أن الصناع كان يسمح لهم أن يستخدموا زوجاتهم وبناتهم، ويسجلوا أسماءهن في النقابات. وكانت بعض النقابات الطائفية المخصصة للصائغات من النساء تتألف من النساء وحدهن، وكان في باريس في آخر القرن الثالث عشر خمس عشرة نقابة طائفية من هذا النوع (52). على أن النساء قلما كن رئيسات في نقابات الحرف المكونة من الذكور والإناث، وكن يتقاضين أجوراً أقل من أجور الرجال نظير الأعمال المتساوية. وكانت نساء الطبقات الوسطى يعرضن بملابسهن ثروة أزواجهن، ويقمن بدور مثير في الأعياد الدينية والحفلات الاجتماعية التي تقام في البلدة. وقد ارتفعت نساء الأشراف الإقطاعيين، باشتراكهن في تحمل التبعات مع أزواجهن، وتقبلهن في ظرف وتمنع ما يقدمه الفرسان وشعراء الفروسية الغزلون من مراسم التبجيل والغرام، ارتفعت أولئك النسوة إلى منزلة اجتماعية قلما ارتفعت إليها النساء من قبل.
وقد وجدت المرأة في العصور الوسطى بفضل مفاتنها، كما تجد عادة، رغم أوامر الدين والقانون، وسائل للتحرر من نتائج عجزها، ولهذا فإن آداب ذلك العصر ملآى بأخبار النساء اللاتي حكمن رجالهن (53). ولقد كانت المرأة من وجوه كثيرة متفوقة على الرجل معترفاً لها بهذا التعوق، فكانت في أسر الأشراف تتعلم شيئاً من الأدب، والفن، والتهذيب، بينما كان زوجها غير المتعلم يكدح ويحارب، وكان في وسعها أن تظهر بكل ما لصاحبات الندوات الأدبية في القرن الثامن عشر من رشاقة، وتتصنع الإغماء كما تتصنعه البطلة في الروايات رتشاردسن Richardson وكانت في الوقت نفسه تنافس الرجل في حريته البذيئة في القول والفعل، وتتبادل
وإياه قصص المغامرات، وكثيراً ما كانت هي البادئة في الغرام دون حياة (53). وأيا كانت الطبقة التي تنتمي إليها فقد كانت تتنقل بكامل حريتها، وقلما كان معها محرم. وكانت تزحم الأسواق وتسيطر على الاحتفالات، وتصاحب الرجال في الحج، وتشترك في الحروب الصليبية، ولم يكن شأنها فيها للتسلية فحسب، بل كانت في بعض الأوقات جنديا في عدة حروب الكاملة. وكان الرهبان الخوار والعود يحاولون أن يقنعوا أنفسهم بأن منزلتها دون منزلة للرجال، ولكن الفرسان كانوا يقتتلون لنيل رضاها والشعراء يقرن بأنهم عبيد لها. وكان الرجال يتحدثون عنها وصفها خادماً مطيعاً، ويحملون بها على أنها إلهة معبودة. وكانوا يصلون لمريم العذراء ولكنهم يقنعون إذا حصلوا على إليانور الأكتانية Eleanor of Aquitine.
ولم تكن إليانور هذه إلا واحدة من عشرات النساء العظيمات في العصور الوسطى- أمثال جلا بلاسيديا Galla Plaisedia، وثيودورا، وإيرينه Irene، وأناكمينا Anna Commena، وما تلده كونتة تسكانيا، وماتلده ملكة إنجلترا، وبلانش النفبرية Blanch of Navarre، وبلانش القشتالية، وهلواز Heloise. وكان جد إليانور وليم العاشر الأكتاني، أميراً وشاعراً ونصيراً للشعراء الغزليين وزعيما لهم. وكان يفد إلى بلاطه في بوردو أحسن الفكهين والظرفاء وذوو الشهامة في جنوبي فرنسا الغربي، وقد تربت إليانور في هذا البلاط لتكون ملكة الحياة والآداب جميعاً. واتصف بكل ما كان في هذا الجو المشمس الحر من ثقافة وأخلاق: قوة في الجسم، ورشاقة في الحركة، وقوة في العاطفة الخلقية والجسمية، وحرية في العقل والآداب والحديث، وخيال شعري، وروح مشرقة، وهيام لا حد له بالحب، والحرب، والملذات كلها، يكاد يصل إلى الموت. ولما بلغت الخامسة عشرة من عمرها (1137) عرض عليها ملك فرنسا أن يتزوجها، لأنه كان يتوق إلى ضم دوقيتها أكتين،
وثغرها العظيم بوردو إلى تاجه وموارده المالية. ولم تكن تعرف أن لويس السابع بليد ورع، منهمك أشد الانهماك في شئون الدولة. فانتقلت إليه بمرحها، وجمالها، وتحررها من مقتضيات الضمير، فلم يعجبه إسرافها، ولم يهتم بالشعراء الذين تبعوها إلى باريس ليجزوها على رعايتها إياهم بالمدائح والقوافي.
وكانت شديد الشوق إلى المغامرات، فاعتزمت أن تصحب زوجها إلى فلسطين في الحملة الصليبية الثانية (1147)، وليست هي ووصيفاتها ملابس الرجال والحلل العسكرية، وبعثن بمغازلهن في ازدراء إلى الفرسان القاعدين في أوطانهم، وركبن في مقدمة الجيش يلوحن بالأعلام الزاهية ومن ورائهن الشعراء الغزلون (55). وأهملها الملك أو لامها فسمحت لنفسها في إنطاكية وغيرها من الأماكن ببعض مغامرات الحب، فأشيع مرة أنها تحب عمها رايمند البنتييري Raymond of pontiers، ومرة أخرى أنها تحب عبداً مسلماً جميلا، وقال النمامون الجهلاء مرة إنها تحب صلاح الدين التقي الورع نفسه (56). وصبر لويس على هذا العبث، وعلى لسانها السليط، ولكن القديس برنار شهر بها في العالم. وظنت أن الملك سيطلقها، فقاضته في عام 1152 تطلب الطلاق منه بحجة أن نسبهما متصل في الدرجة السادسة. وابتسمت الكنيسة ساخرة من هذه الحجة، ولكنها منحت الطلاق، وعادت إليانور إلى بوردو، واستعادت حقها في الملك أكتين، وفيها التفت حولها طائفة كبيرة من الخاطبين، اختارت منهم هنري بلانتاجنت Henry Plantagenet ولي عهد إنجلترا، وبعد سنتين من ذلك الوقت أصبح هنري الثاني، وعادت إليانور ملكة مرة أخرى (1154) - "ملكة إنجلترا بغضب الله" على حد قولها.
وجاءت إلى إنجلترا بأذواق الجنوب، وظللت فيها، كما كانت في فرنسا، المشترعة العليا للشعراء القصاصين والغزلين، ونصيرتهم، ومعبودتهم. وكانت وقتئذ قد بلغت السن التي تمكنها من أن تكون وفية، ولم يجد هنري ما يشينها.
ولكن الآية انعكست، فقد كان هنري أصغر منها بإحدى عشرة سنة ولم يكن ينقص عنها في حدة المزاج وقوة العاطفة، وسرعان ما أخذ يشيع حبه بين نساء البلاط. واستشاطت إليانور غضباً واكتوى قلبها بنار الغيرة، وهي التي من قبل تحتقر الرجل الغيور. ولما أنزلها هنري عن عرشها هربت من إنجلترا، نريد أن تحمي بأكتين، فأمر بتعقبها، وقبض عليها، وزجت في السجن، وظلت ستة عشر عاماً يذبل غصنها فيه وإن لم يفل ذلك من قوة إرادتها. وأثار الشعراء الغزلون عواطف أوربا على الملك، وائتمر به أبناءه، بإيعاز منها، لخلعه، ولكنه ظل يقاومهم ويحاربهم إلى يوم مماته (1189). وخلف رتشارد قلب الأسد أباه، وأخرج أمه من السجن، وعينها نائبة لملك إنجلترا حين خرج لقتال صلاح الدين في الحرب الصليبية، ولما أصبح ابنها جون ملكاً، آوت إلى دير فرنسا، حيث ماتت "من الحزن، وضعف العقل" في الثانية والسبعين من عمرها. لقد كانت إليانور "زوجة فاسدة، وأما فاسدة وملكة فاسدة"(57)، ولكن منذا الذي يفكر فيها على أنها من جنس خاضع ذليل.
الفصُل الخامِس
الأخلاق العامة
ما فتئت الشرائع والحكم الأخلاقية في كل عصر من العصور تقاوم ما درج عليه الآدميون من غش وخيانة. ولم يكن الناس في العصور الوسطى الطيب منهم والخبيث أكثر أو أقل من غيرهم في هذه الناحية، فكانوا يكذبون على أبنائهم وأزواجهما وطوائفهم، وأعدائهم، وأصدقائهم، وحكوماتهم، وريّهم، كان الرجل في العصور الوسطى مولعاً أشد الولع بتزوير الوثائق، يزور الأناجيل غير الصحيحة، ولعله لم يقصد في يوم من الأيام أن تؤخذ على أنها أكثر من قصص طريفة، ويزور الأوامر البابوية ليتخذها سلاحاً في السياسة الدينية، وكان الرهبان الأوفياء يزورون العهود ليكسبوا بها منحاً لأديرتهم من الملوك (58). ولقد زور لافرانك رئيس أساقفة كانتربري، كما تقول المحكمة البابوية، عهداً يثبت به قدم كرسيه الديني (59)، وزور المدرسون عهوداً يخلعون بها بعض الكليات في كيمبردج أقدمية زائفة، وكثيراً ما أفسدت "الأكاذيب التقية" النصوص، واخترعت ألف معجزة تعظم بها أصحابها. وكانت الرشوة منشرة في التعليم، والتجارة، والحرب، والدين، والحكومة، والقانون (60) وكان تلاميذ المدارس يرسلون الفطائر لممتحنيهم (61)، ورجال الحكم يقدمون الرشا ليعينوا في المناصب العامة، ويجمعون من أصدقائهم ما يلزمهم من المال (62). وكان من المستطاع تقديم الرشا للشهود لكي يقسموا أي قسم يراد منهم، كما كان المتقاضون يقدمون الهدايا إلى المحلفين والقضاة (63)، وقد اضطر إدوارد ملك إنجلترا أن يفصل معظم قضاته ووزرائه في عام 1289 لأنهم مرتشون (64).
وكانت القوانين تتطلب أن يقسم الناس الأيمان في كل صغيرة وكبيرة، فكانوا يقسمون على الكتب أو المخلفات المقدسة، وكان يطلب إليهم في بعض الأحيان أن يقسموا بألا ينقضوا القسم الذي يوشكون أن يقسموه (65)، ومع هذا فإن الحنث بالأيمان قد كثر إلى حد جعل الناس يلجئون إلى تحكيم القتال رجاء أن يظهر الله أي الجانبين أكثر كذباً من الجانب الأخر (66).
وكثيراً ما كان أرباب الحرف في العصور الوسطى يخدعون المشترين ببيعهم بضائع قديمة بالية، أو منقوصة الطول، أو يحتالون عليهم ببيعهم سلعاً غير المرغوب فيها. وكان بعض الخبازين يسرقون أجزاء صغيرة من العجين أمام أعين ملاكهم، ويستخدمون لذلك الغرض باباً سرياً في وعاء العجين، وكانت أقمشة رخيصة توضع سراً في مكان أقمشة غالية دفع ثمنها وتعهد البائعون بتوريدها، وكان الجلد الرخيص "يزين" لكي يبدو شبيهاً بأحسن أنواع الجلود (67)، وكانت الحجارة تخبأ في أكياس الدريس والصوف التي تباع بالوزن (68)، واتهم الذين يعبئون اللحوم في نورتش Norwich بأنهم "يشترون الخنازير المصابة بالحصبة، ويصنعون منها وزما وفطائر مضرة بالصحة"(69). ويصف برنلد الرجنسيرجي Berthold of Regenesburg (حوالي 1220) مختلف أنواع الغش التي تستخدم في الحرف المتباينة، والحيل التي يحتال بها التجار في الأسواق على أهل الريف (70). وكان الكتاب والوعاظ ينددون بالجري وراء الثروة، لكن حكمة ألمانية من حكم العصور الوسطى تقول:"إن كل الأشياء تطيع المال"؛ وكان بعض الأخلاقيين في تلك العصور يرون أن حب الكسب أقوى من الغريزة الجنسية (71). ولسنا ننكر أن شرف الفروسية كثيراً ما كان من الحقائق الواقعة في نظام الإقطاع، ولكن يبدو أن القرن الثالث عشر لم يكن يقل ولعاً بالمادة عن أي عهد آخر من عهود التاريخ. تلك كلها أمثلة من الاحتيال والخداع جمعناها من أزمنة طويلة ومساحات واسعة؛ وهي بلا ريب من الوقائع
الشاذة رغم كثرة عددها، وليس من حقنا أن نستخلص منها نتيجة أكثر من أن الناس في عصر الإيمان لم يكونوا خيراً منهم في عصرنا هذا عصر الشك، ومن أن القانون والأخلاق قلما أفلحا في الاحتفاظ بالنظام العام ضد ما ركب من نزعة فردية في طبيعة الناس الذين لم يقصد بهم بفطرتهم أن يكونوا مواطنين، خاضعين للقانون.
وكانت معظم الدول تعاقب على جريمة السرقة الخطيرة بالإعدام، كما كانت الكنيسة تحكم على مرتكبي السطو بالحرمان من الدين، ومع هذا فإن السرقة بأنواعها - من النشل في الطرق إلى الأشراف النهابين على ضفاف الرين - كانت من الجرائم الواسعة الانتشار. وكان مرتزقة الجنود الجياع، والمجرمون الفارون والفرسان المفلسون، يجعلون الطرق غير آمنة، وكانت شوارع المدن تشهد في ظلام الليل كثيراً من الشجار، والسرقة، والاغتصاب، والاغتيال (72). وتدل سجلات أسباب الوفاة في "إنجلترا الطروب" في القرن الثالث عشر على "نسبة في الاغتيال إذا حدثت في هذه الأيام عدت من الفضائح"(73). ويكاد الاغتيال يبلغ ضعفي عدد حالات الموت بسبب الحوادث المفاجئة، وقلما كان يقبض على المجرمين. وكانت الكنيسة تجاهد وهي صابرة للقضاء على حروب الإقطاع، ولكن ما نالته من نصر متواضع في هذه الناحية كان سببه أنها حولت الناس وخصامهم إلى الحروب الصليبية، التي كانت من إحدى النواحي حروباً استعمارية تبغي الفتح والمكاسب التجارية، فلما اشتبك المسيحيون في الحرب لم يكونوا أكثر رضا بالهزائم أو أكثر وفاء بالعهود والمعاهدات من المحاربين المنتمين إلى الأديان والعهود الأخرى.
ويبدو أن القسوة والوحشية كانتا في العصور الوسطى أكثر منهما في أية حضارة قبل حضارتنا نحن. ذلك أن المتبربرين لم يتخلوا عن بربريتهم بمجرد أن صاروا مسيحيين. وكان رجال الأشراف ونساؤهم يصفعون خدمهم ويصفع
بعضهم بعضاً، كما كان القانون الجنائي قاسياً قسوة وحشية، ولكنه عجز مع ذلك عن قمع الوحشية والجريمة. فكثيراً ما كان التعذيب بالعذراء، وبجفنة الزيت الملتهب، وبعمود الإحراق، وحرق الأحياء، وسلخ جلودهم، وتمزيق أطرافهم بشدها إلى الحيوانات، كثيراً ما كانت هذه الوسائل الوحشية تستخدم في العقاب. وكان للقانون الأنجليسكوسوني يعاقب الجارية السارقة بإرغام ثمانين جارية على أن تؤدى كل واحدة منهن غرامة، وأن تأتي بثلاث حزم من الوقود وأن تحرق السارقة حية (75). ويقول سلمبيني Salimbene الراهب الإيطالي في تاريخه الإخباري، وكان معاصراً للحروب التي شبت نارها في إيطاليا الوسطى في القرن الثالث عشر، إن المسجونين كانوا يعاملون بوحشية لو أننا سمعنا بها في شبابنا لما صدقناها:
فقد كانوا يربطون رؤوس بعض الرجال بحبل ومخلة، ويشدون الحبل بقوة تخرج عيونهم من أوقابها، وتسقطها على خدودهم، ومنهم من كانوا يربطونهم بإبهام يدهم اليمنى أو اليسرى وحدها، تحمل ثقلهم كله بعد أن يرفعوا عن الأرض، ومنهم من كانوا يعذبون بصنوف من العذاب أشنع من هذه وأشد منها رهبة أخجل من ذكرها، وآخرون
…
كانوا يجلسون وأيديهم مشدودة خلف ظهورهم، ويضعون تحت أقدامهم أوعية مملوءة بالفحم الملتهب
…
أو يربطون أيديهم بأرجلهم حول حفرة (كما يربط الحمل وهو ينقل إلى القصاب) ويبقونهم معلقين على هذا النحو طول النهار من غير طعام ولا شراب، أو كانوا يحكون قصبات أرجلهم بقطعة خشنة من الخشب حتى يظهر عظم الساق عارياً من اللحم؛ وهو عمل تكفي رؤيته وحدها لأن تبعث الأسى والألم في النفوس (76).
وكان رجل العصور الوسطى يتحمل الألم بشجاعة، ولعله كان أقل إحساساً به مما يبدو على رجال أوربا الغربية في هذه الأيام. وكان الرجال والنساء من جميع الطبقات شهوانيين إلى حد بعيد، وكانت أعيادهم ولائم شراب، وميسر،
ورقص، وانطلاق في العلاقات الجنسية؛ وكانت فكاهاتهم صريحة في بذاءتها صراحة لا تكاد تماثلها فيها فكاهات هذه الأيام (77)، وكانت أحاديثهم أكثر من أحاديث هذه الأيام حرية وأوسع منها مجالا (78)، وقلما كان رجل فرنسا يفتح فاه من غير أن يذكر الشيطان، على حد قول جواتفيل (79). وكان الناس في العصور الوسطى أقدر على سماع الفحش منا، ولم يكونوا يبرمون من الإصغاء إلى أفحش الأقوال التي وردت في مقالات رابليه Rabelais، وحسبنا أن نذكر أن الراهبات في كتب تشوسر كن يستمعن دون حياء إلى الأقذار الواردة في قصة ملر Millers، وفي أخبار سلمبيني الصالح أجزاء تبلغ من البذاءة والفحش درجة تعز على الترجمة (80) وكانت الحانات كثيرة العدد، وكان منها ما يقدم "فطائر" بالجعة على طراز هذه الأيام (81). ولقد حاولت الكنيسة أن تغلق الحانات في أيام الآحاد، ولكنها لم تلق إلا قدراً ضئيلا من النجاح. وكان من حق جميع الطبقات أن تسكر في بعض الأوقات، وقد وجد زائر لمدينة لوبك Lubeck نساءاً من طبقة الأشراف في حجرة الخمور يد من الشرب من تحت أقنعتهن (83). وكان في كولوني جمعية يلتقي أعضاؤها لشرب النبيذ مجتمعين وقد اتخذت شعاراً لها:"اشرب وأنت مرح" ولكنها كانت تفرض على أعضائها قواعد من الاعتدال في السلوك والآداب في الحديث.
وكان رجل العصور الوسطى كغيره من الرجال مزيجا بشرياً كاملا من الشهوانية والغرام، والذلة، والأنانية، والقسوة، والرقة، والصلاح، والشره، فقد كان أولئك الرجال والنساء، الذين يشربون ويسبون بكل ما فيهم من قوة، رحماء رحمة تمس شغاف القلوب، يخرجون آلاف الصدقات. وكانت القطط والكلاب وقتئذ كما هي الآن حيوانات مدللة، وكانت الكلاب تدرب على قيادة المكفوفين (85)، وقد نمت في قلوب الفرسان عاطفة الحب لخيلهم، وصقور صيدهم، وكلابهم، وبلغ تنظيم الصدقات مستوى رفيعاً
جديداً في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، فكان الأفراد، وكانت النقابات الطائفية، والحكومات، والكنيسة تشترك كلها في تخفيف آلام المنكوبين. وكان خراج الصدقات واجبا عاما يؤديه الجميع، فالذين يرجون دخول الجنة يوصون بالأموال للصدقات، والرجال الأغنياء يتبرعون بمهور البنات الفقيرات، ويطعمون العشرات من الفقراء في كل يوم، والمئات منهم في الأعياد الكبرى، وكان الطعام يوزع عند كثير من أبواب بيوت الأشراف ثلاث مرات في الأسبوع على كل من يعطيه (86). وكانت كل سيدة عظيمة، إلا القليل النادر منهن، تحسن أن واجبها الاجتماعي، إن لم يكن واجبها الأخلاقي، أن تشترك في تدبير شئون الصدقات، ولقد دعا روجر بيكن في القرن الثالث عشر إلى أن تنشى الدولة رصيداً للإنفاق منه على الفقراء، والمرضى، والطاعنين في السن (87)، ولكن القسط الأكبر من هذا العمل ترك تدبيره إلى الكنيسة، فقد كانت الكنيسة من إحدى نواحيها منظمة للصدقات تشمل القارة بأسرها، وكان جريجوري الأكبر، وشارلمان، وغيرهم يحتمون أن يخصص ربع العشور التي تجنيها كل أبرشية لمعونة الفقراء والعجزة (88)، وقد نفذ هذا إلى حين، ولكن استيلاء الرؤساء من رجال الدين والعلمانيين على إيرادات الأبرشيات، أخل بإدارتها لمواردها في القرن الثاني عشر، وتحمل عب هذه الصدقات أكثر من ذي قبل الأساقفة، والرهبان، والراهبات والبابوات. وكانت الراهبات كلهن، إلا عددا قليلا من الخاطئات، يهبن أنفسهن للتعليم، والتمريض، وأعمال البر، وإن أعمالهن المطردة الاتساع في هذه النواحي لتعد من أنصع الأعمال وأعظمها تقوية للعزائم في تاريخ العصور الوسطى وتاريخ هذه الأيام. وكانت الأديرة التي تستمد مواردها من الهبات والصدقات، وإيراد الأملاك الكنيسة، تطعم الفقراء، وتعنى بالمرضى، وتفتدى الأسرى، وكان آلاف من الرهبان يعلمون الشبان، ويعنون بالأيتام، ويعملون في المستشفيات، وكان دير كلوني العظيم يكفر عما له من ثراء واسع بالتصديق بالكثير من أمواله،
وكان البابوات يبذلون كل ما وسعهم لمساعدة فقراء روما، وواصلوا بطريقتهم الخاصة النظام الإمبراطوري القديم نظام توزيع الطعام على الأهلين.
ولكن التسول كان كثيراً بالرغم من هذا البر كله، فقد كانت المستشفيات وبيوت الإحسان تحاول إطعام من يقصدها وإيواءهم، وسرعان ما أحاط أبوابها الُرج، والمقعدون، والمقطوعوا السيقان، والمكفوفون، والأفاقون ذوو الثياب البالية الذين يتنقلون من "مستشفى إلى مستشفى ويجوسون خلالها يتصيدون لقيمات الخبز وقطع اللحم"(89). وقد اتسع نطاق التسول في العالم المسيحي في العصور الوسطى وزاد المتسولون إصراراً على مهنتم، وبلغ هذا الاتساع والإصرار حداً لا نظير له في أفقر الأراضي في الشرق الأقصى.
الفصل السادس
ملابس العصور الوسطى
ترى أي صنف من الناس كان سكان أوربا في العصور الوسطى؟ ليس في وسعنا أن نقسمهم عناصر، فقد كانوا جميعاً من "العنصر الأبيض" إذا استثنينا منهم العبيد الزنوج، ولكنهم كانوا مع هذا خليطاً متنوعاً من الخلق لا يستطيع أحد تصنيفهم. وكان منهم يونان بيزنطة وهلاس، والإيطاليون أنصاف اليونان سكان إيطاليا الجنوبية، وسكان صقلية اليونان - المغاربة - اليهود، وكان منهم أهل إيطاليا الرومان، والأميريون، والتسكان، واللمبارد، والجنوبيون، والبنادقة، وقد بلغ من تباين هؤلاء أن كانت كل طائفة منهم تنم عن أصلها بثيابها، وشعر رأسها، ولسانها، وكان منهم البربر، والعرب، واليهود، ومسيحيوا أسبانيا، وكان منهم الفرنسيون الغسقونيون، والبرغنديون، والباريسيون، والنورمان، ومنهم أهل الأراضي الوطيئة الفلمنكيون، والوالون Walloons، والهولنديون، ومنهم أهل إنجلترا الكلت، والإنجليز، والسكسون، والدنمرقيون والسلالات النورمانية، وكلت ويلز، وأيرلندة، وإسكتلندة، والنرويجيون، والسويديون، ومنهم مئات القبائل الألمانية، والفلنديون، والمجر والبلغار، وصقالبة بولندة، وبوهيميا، والدول البطية، والبلقان، والروسيا. وقصارى القول أن أوربا قد تجتمع فيها خليط من الدماء والأجناس، والانوف، واللحى، والثياب، لا ينطبق على تباينه العظيم أي وصف من الأوصاف.
وكان الجنس الألماني قد أصبحت له الغلبة في الطبقات العليا في جميع بلاد أوربا الغربية ما عدا جنوبي إيطاليا وأسبانيا، وذلك بسبب الهجرات والفتوح
التي لا يحصى عديدها. وقد بلغ الإعجاب بشعر الجنس الأشقر وعيونه مبلغاً اضطر القديس برنار أن يجاهد طوال موعظة كاملة يوفق بين هذا الإعجاب بشعر الجنس الأشقر وعيونه مبلغاً اضطر القديس برنار أن يجاهد طوال موعظة كاملة لكي يوفق بين هذا الإعجاب وبين العبارة الواردة في نشيد الإنشاد القائلة: إني أسود ولكن جميل، وكان الفارس المثالي طويلاً، أشقر، ملتحياً، كما كانت المرأة المثالية في الملاحم والروايات نحيلة ممشوقة القوام، رشيقة، زرقاء العينين، ذات شعر طويل أشقر أو ذهبي. وقد حل محل شعر الفرنجة الطويل عند الطبقات العليا في القرن التاسع رؤوس مقصوصة الشعر من الخلف، وليس عليها من الشعر إلا غطاء في اعلاها، واختفت اللحى بين الطبقات العليا من الأوربيين في القرن الثاني عشر، غير أن الذكور من الزراع ظلوا يطيلون لحاهم القذرة وشعر رأسهم إلى حد اضطروا معه أحياناً إلى جمعه في جدائل (90). وكان أهل إنجلترا على اختلاف طبقاتهم يطيلون شعر رأسهم، وكان المتأنقون الفناجرة في القرن الثالث عشر يصبغون شعرهم ويلوونه بمكاو من الحديد، ويربطونه بالأشرطة (91). وكانت النساء المتزوجات في هذا القرن وذاك البلد يربطن شعرهن بشبكة من الخيوط الذهبية، بينما كان الغلمان من الطبقات العليا يرسلونه على ظهورهم، وكانت لهم في بعض الأحيان بالإضافة إلى هذا، جديلتان تنوسان على صدروهم منحدرتان فوق أكتافهم (92).
وكان أهل أوربا الغربية في العصور الوسطى أكثر جمالاً وأجمل ثياباً مما كانوا عليه قبل ذلك الوقت أو بعده، وكثيراً ما كان الرجال يفوقون النساء في زينة الثياب وبهجة ألوانها. وكانت الجبة والعباءة الرومانيتان الفضفاضتان في القرن الخامس عشر تحاربان حرباً خاسرة مع السراويل القصيرة والمناطق التي كان الغاليون يلبسونها ويتمنطقون بها، فقد كان جو الشمال البارد وأعماله الحربية يتطلبان ثياباً أضيق وأسمك مما أوحى به دفء الجنوب وما فيه من راحة، ولما انتقل مركز القوة إلى شمال جبال الألب أعقب ذلك الانتقال ثورة في الثياب. فكان الرجل العادي يلبس سروالاٌ طويلا ضيقاً يعلوه قباء، أو قميص نصفي، مصنوعان من
الجلد أو القماش المتين، ويعلق في منطقته سكيناً، وكيساً، ومفاتيح، وعدد الصانع إن كان من الصناع، وكان يرسل فوق كتفيه لفاعة أو حرملة، ويضع على رأسه قلنسوة أو قبعة من الصوف، او اللباد أو الجلد، ويغطي رجليه بجوربين طويلين، وينتعل حذائين عاليين من الجلد إلى أعلى أصابع القدمين، كيلا يتمزقا من الاصطدام. وازداد طول الجورب قرب أواخر العصور الوسطى حتى بلغ أعلى الفخذ، وتطور معه السروال غير المريح الذي استبدله الرجل الحديث بقميص الشعر ثوب القديسين في العصور الوسطى، كان هذا السروال كفارة غير منقطعة عن ذنوبه الماضية. وكانت أجزاء الثياب كلها تقريباً من الصوف إلا القليل منه المصنوع من الجلد المدبوغ وغير المدبوغ الذي كان يلبسه الفلاحون أو الصائدون، وكانت كلها تقريباً تغزل وتنسج وتفصل وتخاط في البيت، ولمن الأغنياء كان لهم خياطون خاصون يسمون في إنجلترا " المقصات "، واستغنى قبل القرن التاسع عشر عن الأزرار التي كانت تستعمل من حين إلى حين في العهد القديم، ثم عادت إلى الظهور لتكون زينة لا ينتفع بها في شيء، ومن هنا جاءت عبارة " لا يساوي زراً Not worth a botton الإنجليزية (93). ونشأت في ألمانيا في القرن الثاني عشر بين الرجال والنساء على حد السواء عادة لبس جلباب ذي حزام فوق الحلة الألمانية الضيقة.
وكان الأغنياء يزينون هذه الأثواب الأساسية بمائة من الوسائل التي تفتق عنها خيالهم. فكانت حواشيها وأطرافها اللاصقة للعنق تسوى بالفراء، وحلل الحرير، أو الأطلس، أو المخمل محل التيل أو الصوف حيث يسمح بذلك الجو، وغطى الرأس بقلنسوة من المخمل، وانتعلت أحذية من القماش الملون تنطبق كل الانطباق على شكل القدمين. وكانت أجمل الفراء تستورد من الروسيا، وأحسنها كلها الفراء الثمينة المتخذة من جلد القاقم الأبيض، وكان يحدث أن يرهن الأشراف أرضهم ليبتاعوا جلد قاقم لزوجاتهم. وكان الأغنياء يلبسون سراويل
تحتية من التيل الأبيض الرفيع، وجورباً طويلاً ملوناً في اغلب الأحيان، ومصنوعاً عادة من الصوف، وفي بعض الأحيان من الحرير، وقميصاً من التيل الأبيض، ذا ذوق فاخر وردن جميل، وكان يلبس فوق هذا كله مئزراً، ومن فوقها كلها في الجو البارد أو المطير عباءة، أو حرملة، يمكن أن تمد حتى تغطي الرأس. وكانت بعض القلانس ذات قمة مستوية مربعة، وقد اصطنع هذه القلانس المعروفة باسم " ألواح الملاط mortiers" المحامون والأطباء في أواخر العصور الوسطى، وبقيت الآن في أثواب كبار رجال الكليات الجامعية. وكان المتأنقون في الثياب يلبسون قفازين في كل الأجواء و"يكنسون الأرض التربة بأذيال مآزرهم وجلابيبهم الطويلة " كما يقول الراهب أردركس Ardericuse Vitalis شاكياً متحسراً (94).
ولم يكن الرجال يزينون بالحلي أجسامهم وحدها، بل كانوا يزينون بها أيضاً ثيابهم - قلانسهم، ومآزرهم، وأحذيتهم. وكانت بعض الأردية تطرز عليها باللؤلؤ نصوص مقدسة أو عبارات بذيئة (95)، وأخرى تزين أطرافها بمخرمات منسوجة من خيوط الذهب أو الفضة، ومنهم من كان يلبس ثياباً من خيوط الذهب. وكان على الملوك أن يميزوا أنفسهم بزينة أكثر من هذه كلها، فكان إدوارد المعترف يلبس مئزراً مزكرشاً بالذهب من صنع زوجته المهذبة إدجيثا Edgitha، وكان شارل الجسور Chatles the Bold صاحب برغندية يلبس مئزراً فخماً مطعماً بالحجارة الكريمة ومثقلا بها يقدر ثمنه بمائتي ألف دوقة (نحو 000 و 280 و 1 دولار). وكان للناس كلهم عدا الفقراء منهم يختتمون، وكان لكل إنسان ذي شأن ولو ضئيل خاتم منقوش عليه رمزه الخاص، وكانت أية علامة بهذا الخاتم تقبل على أنها توقيعه هو نفسه.
وكانت الملابس تعد دليلاً على منزلة الإنسان أو ثرائه، وكانت كل طبقة تحتج إذا قلدت أثوابها الطبقة التي دونها، وقد سنت القوانين المالية - كما حدث
في فرنسا سنتي 1149 و 1306 - لتنظم ما ينفقه الناس على ملابسهم حسب ثرواتهم وطبقاتهم. وكانت حاشية السيد العظيم، أو جماعة الفرسان التابعين له، تلبس في المناسبات والأعمال الرسمية أثواباً يهديها هو إلى أفرادها مصبوغة باللون المحبب له أو الذي يميزه عن غيره، وكانت هذه الحلل الخاصة تسمى بالفرنسية Iivéé (وبالإنجليزية Iivery) ومعناها الموزعة لأن السيد كان يوزعها (deliver) مرتين في العام. على أن الأثواب الجيدة في العصور الوسطى كانت تعمل لتبقى مدى الحياة، ومنها ما كان يعني أصحابه بالنص إلى من تؤول إليه في وصيته.
وكانت نساء الطبقات العليا يلبسن قميصاً طويلاً من التيل، ومن فوقه جلباب أو مئزر ذو حواش من الفراء يصل إلى حد القدمين ويعلوه قميص نصفي يبقى منفرج الطرفين إذا لم يكن في الدار غرباء، ولكنه يربط طرفاه إذا جاء البيت زوار، وذلك لأن جميع النساء المتأنقات يتقن إلى أن يظهرن نحيلات القوام، وقد يتمنطقن بمناطق مرصعة بالجواهر، ويمسكن بكيس من الحرير، ويلبسن بأيديهن قفازاً من جلد الشموا. وكثيراً ما كن يضعن الأزهار في شعرهن، أو يخطنه بخيوط من الحرير ذات الجواهر. وكانت بعض السيدات يثرن غضب رجال الدين، وغضب أزواجهن بلا ريب، بأن يلبسن قبعات طويلة مخروطية مزدانة بقرنين، وقد جاء على النساء حين من الدهر كانت فيه المرأة غير ذات القرنين هدفاً لسخرية الساخرين (96). وأصبحت الكعاب العالية في أواخر العصور الوسطى هي الطراز المحبب، وكان الناقدون الأخلاقيون يشكون من أن النساء كثيراً ما يرفعن أطراف أثوابهن بوصة أو بوصتين ليظهرن أرساغهن وأحذيتهن الظريفة، أما سيقان النساء فلم يكن يبصرها إلا الأخصاء، وكانت رؤيتها غالية الثمن. وقد ندد دانتي بنساء فلورنس لظهورهن علناً في ثياب "تكشف عن صدورهن وأثدائهن"(97). وكانت ثياب النساء في حفلات
البرجاس موضعاً للتعليقات المثيرة من رجال الدين، وقد وضع الكرادلة قوانين يحددون بها طول أثواب النساء، ولما أمر رجال الدين أن تلبس النساء النقاب حرصاً على أخلاقهن "جعلن هذا النقاب يصنع من الموصلين الرقيق والحرير المشغول بالذهب، فظهرن فيه أجمل عشرات المرات مما كن بغيره وأتلفتن عيون النظارة وأغرينهم بالفساد أكثر من ذي قبل"(98). وكان جوي البروفنسي Guyot of Provins يشكو من أن النساء يستخدمن المساحيق على وجوههن بكثرة لم يبق معها من هذه المساحيق شيء تلون به الصور والتماثيل في الكنائس، وأنذرهن بقوله إنهن حين يلبسن الشعر المستعار أو يضعن الكمادات أو مسحوق الفول لأبن الخيل على وجوههن لتجميلها، إنما يضفن بذلك مئات السنين لمقامهن في الأعراف (99). وقد عنف برثلد الرجنسبرجي Berthold of Regenesburg حوالي 1220 النساء بفصاحة ما كان أضيعها:
أيتها النساء، إنكن ذوات حنان عظيم، وإنكن لأسرع في الذهاب إلى الكنيسة من الرجال
…
ومنكن من سينجون لولا شرك واحد تقعن فيه
…
ذلك أنكن تردن أن تنلن إعجاب الرجال فتصرفن جهودكن كلها في زينة ثيابكن
…
والكثيرات منكن يؤدين للخياطة أجراً لا يقل عن ثمن الثوب نفسه، فالثوب يجب أن يكون له وقايتان على الكتفين، ويجب أن يثنى وتكون له أهداب حول أطرافه كلها، وأنتن لا تكتفين بإظهار فخركن في عُرَى أزراركن نفسها، بل إنكن فوق هذا ترسلن أقدامكن إلى الجحيم بما تحملنها من أنواع العذاب الخاصة بها
…
وأنتن تشغلن أنفسكن ببراقعكن! وتحولنها تارة إلى هذه الناحية وتارة أخرى إلى تلك، وتطرزنها مختلفة بخيوط الذهب، وتصرفن فيها كل جهودكن، فتقضي إحداكن ستة أشهر كاملة في صنع نقاب واحد، وهو عمل آثم لا تبتغي به أكثر من أن يثني الرجال على ثيابها فيقولون:"رباه! ما أجمله! هل وجد من قبل ثوب يضارعه في الجمال؟ ". أما هن
فيقلن: "أيها الأخ برثلد، إنا لا نفعل هذا إلا إكراماً للرجل الصالح، حتى تقل نظراته إلى غيرنا من النساء". لا، يا سيدتي، صدقيني، لو أن رجلك الصالح صالح بحق، لفضل أن يستمع إلى حديثك الطاهر عن النظر إلى زينتك الخارجية
…
إن في وسعكم أيها الرجال أن تقضوا على هذا، وتكافحوه بقوة، بالقول الحسن أولا، فإذا أصررن على عنادهن، فأقدموا بشجاعة
…
وانتزعوه من فوق رؤوسهن، ولو اقتلعت معه أربع شعرات أو عشر، وألقوه في النار ولا تفعلوا هذا مرتين أو أربع مرات فحسب، وسترون أنهن سرعان ما يرجعن عن غيهن (100).
وكانت النساء في بعض الأحيان يتأثرن بهذا الوعظ، وحدث قبل أيام سفنرولا Savonarola بمائتي عام أن ألقين ببراقهن وحليهن في النار (101). ولكن أمثال هذه التوبة كانت لحسن الحظ نادرة وقصيرة الأجل.
الفصُل السّابع
في المنزل
لم يكن منزل العصور الوسطى مريحاً كثيراً، فقد كانت نوافذه قليلة، وقلما كان بها ألواح زجاجية، وكانت، المصاريع الخشبية تغلفها لتمنع البرد ووهج الشمس وكان موقد يدفئ المنزل أو أكثر من موقد، وكانت التيارات الهوائية تدخله من مئات الثقوب التي في الجدران، وتجعل المقاعد ذات الظهور العالية نعمة كبرى. وكان من عادة سكانها أن يلبسوا في الشتاء قبعات وفراء مدفئة في داخل المنزل نفسه. وكان الأثاث قليلاً ولكنه جيد الصنع، والكراسي أيضاً قليلة، وكانت في العادة غير ذات ظهور، ولكنها كانت في بعض الأحيان محفورة حفراً جميلاً، ومنقوشاً عليها شارات أصحابها المميزة، ومطعمة بالحجارة الكريمة. وكانت معظم المقاعد تحفر في أبنية الجدران أو تبنى فوق صناديق في مظلات البساتين. وكانت الطنافس نادرة الاستعمال قبل القرن الثالث عشر، ولكن إيطاليا وأسبانيا كانتا تستعملانها، ولما إنتقلت إليانور القشتالية إلى إنجلترا في عام 1254 للزواج من أدوارد الأول غطى خدمها أرض جناحها في وستمنستر بطنافس كما يفعل أهل أسبانيا ومن ثم انتشرت هذه العادة في إنجلترا. أما أرض البيوت العادية فكانت تنثر عليها الأعشاب أو القش، فكانت بعض البيوت لهذا السبب كريهة الرائحة إلى حد يأبى معه قس الأبرشية أن يزورها. وكانت أنسجة مزركشة تغطى بعض الجدران، لتزينها وتمنع عنها تيارات الهواء، ولتقسم بهو المنزل الكبير إلى حجرات صغيرة. وظلت بيوت إيطاليا وبروفانس تحتفظ بذكريات الترف الروماني، فكانت لذلك أوفر راحة وأكثر مراعاة
لشروط الصحة من بيوت شمال أوربا. وكانت بيوت الطبقات الوسطى في ألمانيا تحصل على ما يلزمها من الماء من مضخات مركبة على آبار توصل الماء إلى المطبخ (102).
ولم تكن النظافة في العصور الوسطى من الإيمان، وكانت المسيحية الأولى قد نددت بالحمامات وقالت إنها بؤر للفساد والفسق، وكان تحقيرها للجسم بوجه عام مما جعلها تهمل العناية بقواعد الصحة. ولم يكن استعمال المنديل على الطريقة الحديثة معروفاً في ذلك الوقت (103)، وكانت النظافة تتبع الثروة وتختلف باختلاف دخل الأفراد، فكان السيد الإقطاعي، ورجل الطبقة الوسطى المثري، يستحمان مرات معقولة في أحواض خشبية كبيرة، ولما انتشر الثراء في القرن الثاني عشر انتشرت معه نظافة الجسم، كانت مدن كثيرة في ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا في القرن الثالث عشر تحتوي حمامات، ويقول أحد الكتاب إن أهل باريس كانوا يستحمون في عام 1292 أكثر مما يستحمون في القرن العشرين (104)، وكان من نتائج الحروب الصليبية إدخال حمامات البخار العامة من بلاد الإسلام إلى أوربا (105). وكانت الكنيسة تعارض وجود الحمامات العامة بحجة أنها تفسد الأخلاق، وكان لهذه المخاوف ما يبررها في كثير من تلك الحمامات، وكان في بعض البلدان حمامات معدنية عامة.
وكان بالأديرة، وقصور سادة الإقطاع، وبيوت الأغنياء مراحيض تفرغ محتوياتها في بالوعات، ولكن معظم سكان البيوت كانوا يقضون حاجتهم في مراحيض خارج البيت، وكان المرحاض الخارجي الواحد في كثير من الحالات يفي بحاجة أثنى عشر منزلا (106). وكانت الأنابيب التي تنقل الفضلات من ضروب الإصلاح التي دخلت إلى إنجلترا في عهد إدوارد الأول (1271 - 1307) وكانت أوعية حجرات النوم في بيوت باريس في القرن الثالث عشر تفرغ من النوافذ في شوارع المدينة، ولا يصحب هذا العمل إلا تحذير للمارة:
إحذروا الماء! Carieau وظلت هذه الحوادث المفاجئة السيئة يتكرر ذكرها في المسالي إلى أيام موليير. وكانت المراحيض العامة ترفاً نادر الوجود، وقد وجد في سان جمينانو San Gimignano عام 1255، ولكن فلورنس لم يكن فيها وقتئذ شيء منها (107)، فكان الناس يقضون حاجتهم في فناء المنزل، وعلى درج السلم، وفي الشرفات، وكان ذلك يحدث في قصر اللوفر نفسه. وقد صدر مرسوم بعد وباء 1531 يحتم على أصحاب البيوت في باريس أن ينشئوا مرحاضاً في كل بيت، ولكن هذا الأمر كثيراً ما يخالف (108).
وكان أفراد الطبقات العليا والوسطى يغسلون أيديهم قبل الطعام وبعده، لأنهم كانوا يتناولون معظم الطعام بأصابعهم، ولم تكن هناك إلا وجبتان منتظمتان في اليوم، إحداهما في الساعة العاشرة، صباحا، والأخرى في الرابعة مساء، غير أن كلتا الوجبتين قد تدوم عدة ساعات. وكان موعد الوجبة في البيوت الكبيرة يعلن بالنفخ في بوق الصيد. وقد تكون مائدة الطعام ألواحاً خشنة تقام على قوائم من الخشب، وقد تكون أحيانا خوانا عظيما متين من الخشب الثمين المحفور حفراً يدعو إلى الإعجاب، وكان من حولها مقاعد أو دكك، والدكة تسمى بالفرنسية banc ومنها اشتق لفظ banquet للوليمة. وكانت في بعض البيوت الفرنسية آلات عجيبة ترفع مائدة كاملة الإعداد من طبقة سفلى أو تنزلها من طبقة عليا، ثم تزيلها من فورها حين يفرغ الجالسون من تناول الطعام (109)، وكان الخدم يحملون أباريق الماء لكل طاعم يغسل فيها يديه ويجففهما في قطائل يأخذها أولئك الخدم، ولم تكن هذه القطائل تستخدم في القرن الثالث عشر، ولكن الطاعمين كانوا يجففون أيديهم في غطاء المائدة (110). وكان الطاعمون يجلسون أزواجا، كل زوج مكون من رجل وامرأة، وكان كل اثنين يأكلان عادة من صحفة واحدة، ويشربان من كوب واحد (111). وكان كل فرد يعطي ملعقة، وكانت الشوك معروفة في القرن الثالث عشر، ولكنها قلما كانت تقدم
للطاعمين، وكان الآكل يستخدم سكينه الخاصة. وكانت الأكواب، وأطباقها والصحاف تصنع عادة من الخشب (112)، ولكن سادة الإقطاع والأغنياء من الطبقة الوسطى كانت لهم صحاف من الخزف أو من مزيج القصدير والرصاص ومنهم من كان يضع على المائدة أدوات من الفضة، بل إنها كانت تتخللها آنية من الذهب في بعض الأحيان (113). وقد تضاف إلى هذه الآنية صحاف من الزجاج، وصحفة أخرى كبيرة من الفضة في صورة سفينة، تحتوي أنواعا من التوابل، وسكين صاحب الدار وملعقته. وكان كل اثنين من الآكلين يعطيان قطعة كبيرة من الخبز، مستوية، ومستديرة، وسميكة، يضع عليها كل واحد اللحم والخبز يأخذهما بأصابعه من الصحفة العامة التي يدار بها عليه. وكان الطاعم يأكل هذه القطعة بعد نهاية الطعام أو تعطى إلى الكلاب والقطط التي يغص بها المكان، أو ترسل إلى الفقراء من الجيران. وكانت الوجبة العظيمة تختم بالتوابل والحلوى، ثم النبيذ.
وكان الطعام موفوراً، أو متنوعاً، وحسن الإعداد، ألا أن انعدام وسائل التبريد سرعان ما كان يفسد اللحم، ويملى من شأن التوابل التي يستطاع بها حفظه أو إخفاء تلفه. وكانت بعض هذه التوابل تستورد من بلاد الشرق ولكن غلو ثمنها كان يجعل الناس يزرعون غيرها في حدائق البيوت - ومن هذه البقدونس، والخردل، والقصعين، واليانسون، والثوم، والشبت
…
وكانت كتب الطهو كثيرة ومعقدة، وكان الطاهي في المنزل العظيم رجلا عظيم الشأن يحمل على كتفيه كرامة البيت وسمعته، وكانت لديه طائفة كبيرة من الأوعية النحاسية، وآنية الغلي، والقدور، وكان يفخر بما يقدمه من الأصناف التي تسر العين وتلذ الفم. وكان اللحم، والدجاج، والبيض رخيصا (114)، وإن كان ثمنها مع ذلك يضطر الفقراء إلى الاقتصاد على الحضر وهم كارهون (115). وكان الفلاحون يطعمون الخبز الأسمر الخشن المصنوع من دقيق الشعير، والشوفان،
أو الشيلم كاملا، يخبز في البيت، أما سكان المدن فكانوا يفضلون الخبز الأبيض -يصنعه الخبازون- يظهرون بذلك علوهم عن أهل الريف. ولم تكن هناك بطاطس، أو بن، أو شاي، ولكن اللحوم والخضر التي تؤكل الآن في أوربا - ومنها ثعابين الماء، والضفادع، وحيوانات القواقع أن يحل عهد شارلمان كان الأوربيون قد أتموا، أو كادوا يتمون، أقلمة الفواكه وأنواع النقل الأسيوية، غير أن البرتقال كان لا يزال نادراً في القرن الثالث عشر في شمال جبال اللب والبرانس. وكان أكثر اللحوم انتشاراً هو لحم الخنزير، فقد كانت الخنازير تقتات بالفضلات التي تلقى في الشوارع، ثم يأكل الناس الخنازير. وكان من الاعتقادات الشائعة أن لحم الخنزير يسبب الإصابة بالجذام، ولكن هذا الاعتقاد لم يقلل من رغبة الناس فيه، وكان الوزم والفصيد
(1)
من الأطعمة المحببة في العصور الوسطى، وكان المضيف من العظماء يضع على المائدة في بعض الأحيان خنزيراً كاملا، ويقطعه أمام ضيوفه، وكان هذا يعد من الأطعمة الشهية التي لا تقل في ذلك عن لحوم الحجل، والسمان، والدج، والطاووس، والكركي. وكان السمك من الأطعمة الأساسية، والرنكة من الأطعمة التي يعمد إليها الجنود، والحارة، والفقراء، أما منتجات الألبان فكان استعمالها أقل منه في هذه الأيام، ولكن جبُن بري Brie اشتهر منذ ذلك الوقت البعيد (117). ولم تكن أنواع السلطة قد عرفت، وكانت الحلوى نادرة. وكان السكر لا يزال يستورد من الخارج، ولم يكن قد حل بعد محل عسل النحل في التحلية؛ وكانت الحلوى بعد الطعام هي الفاكهة والنقل، وكانت الفطائر لا حصر لها لأنواعها، يشكلها الخبازون هي والكعك بألطف ما يتصوره الخيال من أشكال ولا يلومهم على هذا أحد رجلا كان أو امرأة (118). وقد يبدو من الأمور الغريبة التي
(1)
دم يوضع في معى ويشوى. (المترجم).
لا يصدقها العقل أنهم لم يكونوا يدخنون بعد الطعام، وكان الرجال والنساء يستبدلون بهذا شرب الخمر.
وإذ كان الماء غير المغلي مما لا تؤمن عاقبته فقد كانت جميع الطبقات تجد في الجعة والنبيذ بديلا منه، ولهذا كان من الأسماء النادرة اسما Drinkwater Boileu، " اشرب الماء" وفي هذا دليل على عدم الميل إلى شربه. وكان من أنواع الخمور خمر التفاح والكمثرى، وكانا من المسكرات الرخيصة التي يتناولها الفلاحون. وكان السكر من الرذائل المحببة للرجال والنساء في العصور الوسطى، وكانت الحانات يخطئها الحصر، والجعة رخيصة الثمن، فكانت هي شراب الفقراء المعتاد يتناولونه في جميع الأوقات حتى في الفطور. وكان يسمح للأديرة والمستشفيات القائمة شمال جبال الألب بجالون من الجعة لكل شخص في اليوم (119). وكان لكثير من الأديرة، والقصور، وبيوت الأغنياء، معاصرها الخاصة، لأن الجعة في البلاد الشمالية كانت من ضرورات الحياة لا تزيد عليها في ذلك إلا الخبز. وكان الأغنياء في كل الأمم، وجميع الطبقات في أوربا اللاتينية، يفضلون عليها النبيذ، وكانت فرنسا تعصر أشهر أنواعه، وتتغنى بمديحه في مئات الأغاني الشعبية. وكان الفلاحون في وقت قطف الكروم يعملون أكثر مما يعملون في سائر أيام العام، وكان رؤساء الأديرة الصالحون يجزونهم على جدهم بإجازة من القواعد الأخلاقية، وتحتوى اغنية كان يتغنى بها نزلاء دير القديس بطرس في الغابة السوداء بعض عبارات رقيقة:
فإذا وضع الفلاحون العنب، جئ بهم إلى الدير وقدم لهم اللحم والشراب بكثرة، ووضعت هناك خابية كبيرة، ملئت بالنبيذ
…
ليشر منها كل واحد منهم
…
فإذا لعب الشراب برؤوسهم وضربوا الخازن أو الطاهي، لم يؤدوا غرامة من أجل هذا العمل، وظلوا يشربون حتى لا يستطيع كل اثنين منهم أن يحملا الثالث إلى العربة (120).
وكان رب البيت عادة يسلي المدعوين بعد الوليمة بضروب من الشعوذة، والشقلبة، والغناء، والتهريج. وكان لبعض سادة الإقطاع طائفة خاصة بهم من هؤلاء المسلين وكان لبعض الأغنياء مازحون في وسعهم أن يوجهوا وقاحتهم المرحة وفكاهاتهم البذيئة دون أن يخشوا عقاباً أو تأنيباً. وإذا أراد المدعوون أن يقوموا هم بتسلية أنفسهم كان في وسعهم أن يرووا القصص، أو يستمعوا إلى الموسيقى أو يعزفونها، أو يرقصوا، أو يتغازلوا، أو يلعبوا النرد والشطرنج، والألعاب الداخلية الأخرى، وحتى الأشراف أصحاب الألقاب من الرجال والنساء كانوا يتراهنون ويلعبون الغميضاء. ولم تكن ألعاب الورق قد عرفت بعد، وقد حرمت القوانين الفرنسية الصادرة في عام 1256 و 1291 صنع النرد أو لعبه، ولكن لعب الميسر بالنرد كان واسع الانتشار رغم هذا التحريم، وكان رجال الأخلاق يتحدثون عن ثروات فقدت ونفوس ضلت نتيجة للعب الميسر. ولم يكن هذا اللعب محرماً على الدوام بمقتضى القانون، وكانت سيينا Saiena تهيئ له أمكنة في الميدان العام (121)، وقد حرم بأمر من مجلس عقد في باريس (1213) وبمرسوم أصدره لويس التاسع (1254)، ولكن أحداً لم يهتم بهذا التحريم: وأضحت هذه اللعبة من ضروب التسلية التي ينهمك فيها الأشراف ويقضون فيها أوقاتاً طويلا، وهي التي اشتق منها اسم خازن بيت مال الملك exchequer من المنضدة أو لوحة الشطرنج المختلفة الألوان Chequered table أو Chessboard التي كان إيراد الدولة يعد عليها (122). وقد ذهل أهل فلورنس في أيام دانتي من لاعب مسلم كان يلعب على ثلاث لوحات مختلفة في وقت واحد مع أمهر لاعبي المدينة، فقد كان ينظر بعينيه إلى إحدى اللوحات، ويحتفظ بوضع اللوحتين الأخريين في عقله، وقد كسب لعبتين وتعادل مع اللاعب الثالث (123). وكانت لعبة الداما معروفة في فرنسا وإنجلترا، وتسمى في الأولى dames وفي الثانية draughts.
وكان الواعظون من رجال الدين يحرمون الرقص، ولكن الناس كلهم تقريباً يمارسونه إلا من وهبوا أنفسهم للدين. وكان تومس أكويناس ذو النزعة المعتدلة يبيح الرقص في حفلات العرس، أو في الاحتفال بقدوم صديق من خارج البلاد أو بنصر قومي، وقد بلغ من أمر هذا القديس الطيب القلب أن قال: إن الرقص إذا كنت في حدود الأدب رياضة بدنية مفيدة للصحة (124)، وأظهر ألبرتس مجنس مثل هذا التسامح، ولكن رجال الأخلاق في العصور الوسطى كانوا يعترضون على الرقص ويعدونه من اختراع الشيطان (125)، ولم تكن الكنيسة ترضى عنه، لأنها تراه مغرياً بالفساد (126)، ولقد بذل شباب العصور الوسطى الجرئ كل ما في وسعه لتبرير مخاوفها (127). وكان الفرنسيون وألمان بنوع خاص مولعين بالرقص، وابتدعوا كثيراً من ضروبه الشعبية، يمارسونها في مواسم السنة الزراعية، أو الاحتفال بالنصر، أو لتقوية روح الشعب المعنوية إذا ألمت به كارثة أو انتشر بينه وباء. ويصف أحد الكتاب أن رقص البنات في الحقول بقوله: إنه أبهج ملذات الربيع، وإذا ما احتفل بمنح لقب فارس لأحد الشبان اجتمع كل الفرسان المجاورون له بعدتهم الحربية كاملة، وقاموا بضروب من الألعاب على ظهور الخيل أو راجلين، والعامة من حولهم يرقصون على نغمات الموسيقى العسكرية. وكان الناس أحياناً يسرفون في الرقص حتى يصبح وباءاً: فقد حدث في عام 1237 أن فرقة من الأطفال الألمان ظلت ترقص على طول الطريق من إرفورت Erfurt إلى أرنسادت Arnsadt، حتى مات كثيرون منهم في الطريق، وظل بعض من نجا منهم ويعانون من مرض الرقاص St Yttus' Dance
(1)
أو غيره من الاضطرابات العصبية الأخرى طول حياتهم (128).
وكان معظم الرقص يدور أثناء النهار وفي الهواء الطلق، ذلك بأن بيوت لم تكن جيدة الإضاءة بالليل - فقد كانت تنار بمصابيح مرتكزة أو معلقة ذات
(1)
اضطراب عصبي مصحوب بتشنجات متقطعة (المترجم)
فتائل وبها زيت، أو بمشعل من شحم الضأن، وإذ كان الشحم والزيت كلاهما غاليا فقد كان العمل والقراءة قليلين بعد غروب الشمس. ولهذا كان الضيوف يتفرقون بعد الظلام بزمن قليل، ويأوي أصحاب البيت إلى حجراتهم الخاصة. وقلما كانت حجرة النوم كافية، وكان يحدث أحياناً أن يجد الإنسان فراش نوم إضافي في بهو المسكن أو في حجرة الاستقبال. وكان الفقراء ينامون مستريحين على فراش من القش، والأغنياء ينامون متعبين على وسائد معطرة، وحشيات من الريش. وكانت فرش العظماء تغطى بكلة تقيهم البعوض ويستعان على تعليقها بكراسي. ولم تكن ثمة ما يمنع نوم عدد من الأفراد ذكورا كانوا أو إناثاً صغاراً أو كباراً في حجرة واحدة. وكان الناس مع جميع الطبقات في إنجلترا أو فرنسا ينامون عشرة (129).
الفصل الثامن
المجتمع والألعاب
لقد كانت الغلطة التي تتصف بها آداب العصور الوسطى بوجه عام يخففها بعض ما في التأديب والمجلات الإقطاعية من ظرف. فقد كان الرجال إذا التقوا يسلم بعضهم على بعض باليد، كأن هذا عهد منهم بالمسالمة وعدم الاستعداد لاستلام السيف. وكان ألقاب الشرف لا حصر لها وكانت متفاوتة المنزلة تبلغ المائة عدا، وكان من العادات الظريفة أن يخاطب كل كبير بلقبه واسمه الأول أو اسم ضيعته. وقد سن قانون للآداب يتبعه أفراد المجتمع الراقي في الظروف المختلفة- في البيت، وفي أثناء الرقص، وفي الشوارع، وفي ألعاب البرجاس، وفي بلاط الملك، وكان على السيدات أن يتعلمن كيف يمشين، ويحيين، ويركبن الخيل، ويلعبن، ويحملن الصقور برشاقة على معاصمهن
…
، وكانت هذه الآداب كلها وأخرى مثلها للرجال تؤلف ما يعرف باسم آداب البلاط Courtoisie. وقد نشرت القرن الثالث عشر إرشادات كثيرة الآداب اللياقة (130).
وكان المسافر ينتظر المجاملات والضيافة من أبناء طبقته. فكان المسافرون يستضافون أثناء سفرهم في أديرة الرجال إن كانوا ذكوراً والمسافرات يستضفن في أديرة النساء، على سبيل الصدقة إن كانوا فقراء أو نظير أجور أو هبات إن كانوا أغنياء. وقد أنشأ الرهبان منذ القرن الثامن مضايف عند ممرات جبال الألب، وكان لبعض الأديرة بيوت كبرى للضيوف تتسع لثلاثمائة من المسافرين وبها إسطبلات لخيولهم (131). على أن معظم المسافرين كانوا ينزلون في "نزل" أنشئت على الطريق، وكانت رخيصة الأجور، وفي استطاعته الرجل أن يجد فيها مومساً بأجر
معتدل إذا حافظ على كيس نقوده من السرقة، وكان الكثيرون يتحدون أخطار السفر - لما يجدونه في الطريق من أسباب الراحة السالفة الذكر - ومن هؤلاء التجار، وأصحاب المصارف، والقساوسة، والدبلوماسيون، والحجاج، وطلاب العلم، والرهبان، والسائحون، والأفاقون. وكانت طرق العصور الوسطى، على ما فيها من متاعب وأخطار غير مشجعة على الأسفار، غاصة بالكثيرين من الناس ذوى التشوق والآمال الذين يظنون أنهم سيكون أسعد حالا إذا بدلوا أماكنهم.
وكانت الفروق بين الطبقات شديدة في الأسفار كما هي في التسلية والألعاب. ولكن الخاصة والسوقة كانوا يختلطون من حين إلى حين: إذا عقد الملك جمعية عامة من أتباعه الإقطاعيين، ووزع الطعام على المجتمعين، وإذا قام الفرسان الأشراف بحركات عسكرية، وإذا دخل أمير أو أميرة، أو ملك أو ملكة إحدى المدن كامل العدة في موكب فخم واصطف الناس على جانبي الطريق العام ليمتعوا أنظارهم بموكبه، وإذا أقيم برجاس أو عقدت محاكمة بالاقتتال وسمح للجمهور بحضورهما. وكانت المشاهد المنظمة جزءاً أساسياً من الحياة في العصور الوسطى، فقد كانت المواكب الدينية، والاستعراضات العسكرية، والاحتفالات التي تقيمها نقابات الحرف؛ تملأ الشوارع بالأعلام، والمشاعل، وصور القديسين من الشمع، والتجار السمان، والفرسان المتبخترين، والفرق الموسيقية العسكرية، وكان الماجنون المتنقلون يمثلون مسرحيات قصيرة في القرية أو ميدان المدينة، والمغنون الجائلون يغنون ويلعبون، ويقصون قصص الغرام، والمشعوذون والقفازون يعرضون ألعابهم، والرجال والنساء يمشون أو يرقصون على حبال مشدودة فوق هاويات سحيقة خطرة، وكنت ترى أحياناً رجلين معصوبي العيون يمارس كلاهما بعض الحيل على زميله، أو كان يؤتى بطائفة من الوحوش إلى البلدة حيث تعرض حيوانات غريبة ورجال عجيبون، وحيث يقتتل حيوان مع حيوان حتى يقتل أحدهما.
وكان الصيد رياضة ملكية يعمد إليها الأشراف ولا تقل شاناً عندهم عن المثاقفة. وكانت قوانين الصيد تحدد مواسمه بفترات قليلة من العام، وكانت للأشراف أملاك يصيدون فيها ويُعَد الاعتداء عليها سرقة بحكم القانون. وكانت غابات أوربا لا تزال مسكناً لوحوش لم تعترف بعد بفوز الإنسان في حربه من أجل الاستيلاء على الكواكب الذي تعيش فيه؛ وحسبنا أن نذكر أن مدينة باريس مثلا قد هاجمتها الذئاب عدة مرات في العصور الوسطى. وكان الصائد من ناحية ما يعمل للاحتفاظ بسيادة الآدمي المزعزعة على هذه الأرض، كما كان يعمل من ناحية أخرى لزيادة موارد الطعام، ولم يكن أقل من هذين العملين شأناً أنه كان يعد نفسه للحرب التي لا مفر منها بتقوية جسمه وروحه وتعويدهما ملاقاة الأخطار، والقتال، وسفك الدماء. وكان في الوقت عينه يجعل من عمله هذا مهرجاناً. فكانت القرون العظمية المصنوعة من العاج والمطعمة أحياناً بالذهب تدعو النساء، والرجال، والكلاب: النساء يجلسن في رشاقة على الجياد المتبخترة وأرجلهن على جانب واحد من السروج، والرجال في حلل زاهية وعدة حربية متباينة - القوس والسهم، والبلطة الصغيرة، والحربه، والسكين، وكلاب الصيد على اختلاف أنواعها تجذب مقودها. وإذ ما أدى الطراد إلى عبور حقول الفلاحين، كان من حق السيد وأتباعه، وضيوفه أن يعبروا هذه الحقول مهما يكن التلف الذي يصيب البذور والمحاصيل، ولم يكن يشكو من الفلاحين إلا المتهورون الذين لا يحسبون للعواقب حساباً (132). وقد نظم الفلاحون الفرنسيون الصيد فجعلوا له قواعد، وسمه الطراد، ووضعوا له مراسم وآداباً معقدة.
وكانت السيدات يشتركن بنوع خاص في أكثر ضروب الصيد أرستقراطية - وهو الصيد بالبزاة، فقد كان في جميع الضياع الأكرى أقفاص تحوي أنواعاً كثيرة من الطيور، أغلاها ثمناً هي البزاة. وكان البازي يعلم الجلوس على معصم السيد أو السيدة في أي وقت، وكانت بعض السيدات المتأنقات يحتفظن بها وهن
يستمعن إلى الصلاة في الكنائس. وقد ألف الإمبراطور فردريك الثاني كتاباً ممتازاً في الصيد بالبزاة بلغت عدد صفحاته 589 صفحة، وكان هو الذي جاء إلى أوربا من بلاد الإسلام بعادة السيطرة على أعصاب البازي وتشوقه بتغطية رأسه بغطاء من الجلد. وكانت أنواع مختلفة من البزاة تدرب على الطيران العالي، ومهاجمة أنواع مختلفة من الطيور، وقتلها أو جرحها، ثم العودة إلى معصم الصائد، حيث يقربها ويقدم لها قطعه من اللحم جزاء لها على صنعها فتسمح له بأن يضع رجليها في شرك حتى يبصر فريسة أخرى. ويكاد يكون البازي الحسن التدريب أحسن ما يهدى للشريف أو الملك، وقد أفتدى أحد أدواق برغندية ولداً له بأن أرسل أثنى عشر صقراً أبيض لأسرة السلطان بايزيد. وكان منصب حافظ البزاة الأكبر في فرنسا من أعلى المناصب وأكبرها مرتباً في المملكة.
وكانت كثيراً من الألعاب الأخرى تخفف عن الناس حر الشمس وبرد الشتاء، وتحول عواطف الشباب ونشاطه إلى ضروب من المهارة الحيوية. فقد كان كل صبي تقريباً يتعلم السباحة، وكان الناس كلهم في شمال أوربا يتعلمون الانزلاق على الثلج، وكان سباق الخيال من الألعاب المحبوبة الواسعة الانتشار وبخاصة في إيطاليا، وكانت كل الطبقات تمارس الرمي بالقوس والسهام، ولكن طبقات العمال وحدها هي التي كانت تجد فسحة من الوقت لصيد السمك، وكانت في العصور الوسطى ضروب مختلفة من ألعاب الكرة، ولعبة الكرة والصولجان hockey، ورمي القرص quoits، والمصارعة والملاكمة، والتنس Tennis، وكرة القدم
…
وقد نشأت لعبة التنس في فرنسا، ولعل منشأها هناك من أصل إسلامي، ويلوح أن اسمها مشتق من لفظ Tenezi الفرنسي أي "العب"- وهو اللفظ الذي كان اللاعب يعلن به بداية لعبه (133). وقد انتشرت هذه اللعبة في فرنسا وإنجلترا انتشاراً بلغ منه أن كانت تلعب أحيانا أمام جماهير كبيرة في دور التمثيل أو الهواء الطلق (134). وكان الأيرلنديون يلعبون لعبة الكرة والصولجان
منذ القرن الثاني الميلادي، ويصف مؤرخ بيزنطي من رجال القرن الثاني عشر وصفاً حياً مباراة في الجحفة (البولو) استخدمت فيها مضارب ذات أوتار من الحبال شبيهة بلعبة لاكرس Lacrosse الكندية (135). ويقول أحد مؤرخي العصور الوسطى الإخباريين
(1)
وهو مروع وجل إن كرة القدم "لعبة بغيضة يدفع فيها الشبان كرة ضخمة، لا يقذفها في الهواء، بل يضربها بالقدم"(136). ويبدو أن هذه اللعبة جاءت من بلاد الصين إلى إيطاليا (137) وإنجلترا حيث انتشرت في القرن الثالث عشر انتشاراً واسعاً، وقد بلغ من عنفها أن حرمها إدوارد الثاني لأنها تؤدى إلى تعكير السلم (1314).
وكان الناس وقتئذ أكثر ميلاً إلى التآلف والاشتراك في الحياة مما هم الآن وكانت أنواع النشاط الجماعية تهز المشاعر في أديرة الرجال والنساء، وفي الجامعات، والقرى، ومراكز نقابات الحرف. وكانت الحياة بهجة مرحة في أيام الآحاد والأعياد بنوع خاص، ففي تلك الأيام كان الفلاحون، والتجار وكبار الملاك يلبسون أحسن ما عندهم من الثياب، ويطيلون الصلاة أكثر من المعتاد، ويشربون أكثر ما يستطيعون (138). وكان الإنجليز إذا حل أول يوم من شهر مايو يقيمون عمود هذا العام، ويضيئون المشاعل، ويرقصون حولها، وكأنهم يعيدون وهم نصف واعين ذكريات أعياد الخصب الوثنية. وكانت كثير من البلدان والقصور في أيام عيد الميلاد تعين "سيداً لسوء الحكم" ينظر للجماهير ضروب التسلية والمناظر. وكان المهرجون يلبسون الأقنعة، واللحى المستعارة، وينشدون أغاني عيد الميلاد، وكانت البيوت والكنائس تزدان بشرابة الراعي واللبلاب "وبكل ما هو أخضر في هذا الفصل من السنة (139) ". وكانت هناك
(1)
المؤرخون الاخباريون هم اللذين يكتفون في تواريخهم بإيراد الحوادث وتواريخها Chronicler مع وصف كما يشاهدونه في بعض الأحيان أمثال الجبرتي. (المترجم)
أعياد للفصول الزراعية، وللانتصارات القومية أو المحلية، وللقديسين، ولنقابات الحرف، وقلما كان يوجد في تلك الأيام رجل لا يملأ معدته بالشراب. وكان لإنجلترا المرحة أسواق تنساب فيها الأموال وتجرى فيها الجعة جرياناً سريعاً ولكنه ليس بالمجان، وكانت الكنيسة في القرن الثالث عشر تندد بهذه الاحتفالات، ولكنها هي نفسها اتخذتها أعياداً لها في القرن الخامس عشر (140).
وقد كيفت بعض الأعياد حفلات الكنيسة فجعلتها جدية في قالب هزلي، صخابة تختلف من الفكاهة الساذجة إلى الهجاء الشائن المقذع، وكانت مدينتا بوفيه Beauvais، وسان Sans، وغيرهما من البلدان الفرنسية تحتفل في اليوم الرابع عشر من شهر يناير بعيد "الحمار" fete a I ane. فتركب فتاة جميلة حماراً، ويخيل ألينا أنها تمثل بهذه الطريقة مريم أم المسيح أثناء فرارها إلى مصر، ثم يقاد الحمار إلى كنيسة، وينحني ويثني ركبته اليمنى احتراماً وعبادة، ويوضع بجانب المذبح، ويستمع إلى قداس وترانيم يتغنى فيها بمديحه، فإذا انتهت الصلاة نهق القس والمصلون ثلاث مرات تكريماً لهذا الحيوان الذي أنجى أم المسيح من هيرودس وحمل عيسى إلى أورشليم (141). وكانت أكثر من عشر مدائن في فرنسا تحتفل في كل عام - ويكون ذلك عادة في يوم عيد الختان - بعيد البلهاء fete de fous. وكان يسمح في هذا اليوم للطبقة الدنيا من القساوسة أن تثأر لخضوعها إلى كبار القسيسين والأساقفة طول العام بالسيطرة على الكنيسة والقيام بالشعائر الدينية، وكانو يلبسون في ذلك اليوم ملابس النساء أو ملابس الكهنوتية مقلوبة، ويختارون واحد منهم ليكون أسقف البلهاء episcopus fatuorum، ثم ينشدون أناشيد بذيئة، ويأكلون الوزم على المذبح، ويلعبون النرد عند أسفله، ويحرقون أحذية قديمة في المبخرة، ويلقون مواعظ مرحة (142). وكانت
كثير من البلدان في إنجلترا، وألمانيا، وفرنسا، في القرنين الثالث عشر والرابع عشر تختار من أهلها أسقف صبيان episcopus puerorum، ليرأس زملاءه في تقليد فكه للحفلات الكهنوتية (143). وكان رجال الدين المحليون يبسمون لهذه المهازل الشعبية ويتسامحون فيها، وظلت الكنائس وقتاً طويلا تغض النظر عنها، ولكنها حين رأتها تنزع إلى الإسراف في التحقير والبذاءة اضطرت إلى مقاومتها حتى اختفت آخر الأمر في القرن السادس عشر
(1)
.
وكانت الكنيسة بوجه عام متسامحة لينة الجانب إزاء فكاهات عصر الإيمان الوقحة، وذلك لعلمها أن الناس لا بد لهم أن يتحللوا بين الفينة والفينة من القواعد الأخلاقية، وان تفك القيود التي تعد في الأوقات العادية ضرورية للمجتمع المتمدين. ولقد يغضب بعض أشداء المتزمتين أمثال القديس يوحنا كريسستوم St. Johan Chrysostom وينادون:"أتضحكون وقد صلب المسيح؟ " ولكن "الفطائر، والجعة لم تنقطع، والنبيذ ظل يجري ساخناً في الأفواه، وكان القديس برنار يرتاب في المرح والجمال، ولكن معظم رجال الدين كانوا في القرن الثالث عشر أكولين، يستمتعون باللحم والشراب، ولا يرون في هذا ما يؤنبهم عليه ضميرهم، ولا يغضبون إذا سمعوا فكاهة حلوة أو رأوا ساقاً جميلة، ذلك أن عصر الإيمان لم يكن عصر جد وكآبة، بل كان عصراً مليئاً بالحيوية والمرح الشديد، والعاطفة الرقيقة، والسرور الساذج من نعم الأرض. ولقد كتب طالب مفكر على ظهر كتاب المفردات اللغوية أمنية له يتمناها لنا جميعاً:
(1)
بيد أن أسقف غلمان لا يزال ينتخب في كل عام في أدلستون Addlestone من أعمال سري Surrey بإنجلترا.
وإني لأرغب أن تكون الأيام كلها إبريل ومايو، وأن يجدد كل شهر جميع الفواكه مرة بعد مرة، وان تنبت في كل يوم أزهار الزنبق، والمنثور، والبنفسج، والورد في كل مكان يطرقه الإنسان، وأن تظل أشجار الغابات مورقة، والمروج خضراء، وأن ينال كل محب محبوبته، وأن يحب كلاهما الآخر حباً صادقاً أكيداً يمتلئ به قلبه، وأن يستمتع كل إنسان بما يحب من اللذة وأن يمتلئ القلب مرحاً وغبطة (145).
الفصل التاسع
الأخلاق والدين
ترى هل تؤيد الصورة العامة لأوربا في العصور الوسطى الاعتقاد بأن الدين يبعث على مكارم الأخلاق؟.
إن الصورة التي تنطبع في أذهاننا بوجه عام لتوحي بأن الثغرة الفاصلة بين نظرية الخلق الطيب وحقيقته في العصور الوسطى أوسع منها في أي عصر آخر من عصور الحضارة. ذلك أن العالم المسيحي في تلك العصور لم يكن يقل عنه في عصرنا اللاديني الحاضر امتلاءاً بالشهوات الجنسية، والعنف، وإدمان الخمر، والقسوة، والفظاظة، والدنس، والشره، والسطو، والخيانة، والتزوير. ويلوح أنه يفوق عصرنا الحاضر في استعباد الأفراد. ولكنه لم يكن يضارعه في الاستعباد الاقتصادي للأقاليم المستعمرة أو الدول المغلوبة. وقد فاقنا في إذلال النساء، ولكنه لا يكاد يضارعنا في عدم الاحتشام، وفي الفسق، والزنا، وفي الحروب الضروس، وفي كثرة من يقتلون فيها. وإذا وازنا بين مسيحية العصور الوسطى والإمبراطورية الرومانية من نيفرا إلى أوليوس، حكمنا أن هذه المسيحية قد رجعت بالناس إلى الوراء من الناحية الأخلاقية، غير أن كثيراً من أجزاء الإمبراطورية كانت في عهد نيرفا قد استمتعت بقرون كثيرة من الحضارة على حين أن العصور الوسطى تمثل في معظم مداها كفاحاً بين المبادئ الأخلاقية المسيحية والهمجية القوية التي كانت تحمل إلى حد كبير المبادئ الأخلاقية لدين لم تهتم هي بتلقي تعاليمه. ولقد كان يسع البرابرة أن يسموا بعض رذائلهم فضائل تستلزمها أحوال زمانهم، فعنفهم تطرف في الشجاعة،
وشهوانيتهم زيادة في الصحة الحيوانية، وخشونتهم وصراحتهم في الحديث، وعدم حيائهم إذا تحدثوا عن الأشياء الفطرية ليست شراً من الخلق المصطنع الذي ينطوي عليه شبابنا.
ولقد يكون من الأمور المهمة السهلة أن ندين مسيحية العصور الوسطى بالاعتماد على أقوال من كتبوا في الأخلاق من أبنائها. فقد كان القديس فرانسس يندب سوء أحوال القرن الثالث عشر ويصفه بأنه "زمان الخبث والظلم اللذين لا حد لهما (146)، وكان إنوسنت الثالث والقديس بونافتوراً، وفنسنت البوفينري، ودانتي يرون أن أخلاق ذلك "القرن العجيب" هي الفظاظة التي لا أمل إصلاحها، وقال الأسقف جروستستي Grosseteste، وهومن اكثر أحبار ذلك العصر حصافة، للبابا "إن الكاثوليك في جملتهم أحلاف الشيطان" (147). وحكم روجر بيكن (1214 - 1249) على العصر الذي يعيش فيه حكماً كعادته فقال.
لم يوجد قط، ما يمثله في الجهل
…
لأن فيه من الرذائل، ما لا مثيل له في أي عصر سابق
…
فيه الفساد الذي لا حد له
…
والعهر
…
والنهم
…
ومع هذا فإن لدينا التعميد ولدينا وحي المسيح
…
اللذين لا يستطيع الناس أن يؤمنوا بهما حق الإيمان أو يجلوهما حق الإجلال
…
وإلا لما سمحوا لأنفسهم بان يقعوا في هذا الفساد كله
…
ولهذا فإن كثيرين من العقلاء يعتقدون أن أوان المسيح الدجال قد آن، وأن نهاية العالم قد اقتربت (149).
ولا حاجة إلى القول بأن هذه العبارات وأمثالها إنما هي مغالاة ضرورية يعمد إليها المصلحون، وأن في وسع الإنسان أن يجد أمثالها في كل عصر من العصور.
ويبدو أن أثر خوف الجحيم في رفع مستوى الخلقي كان أقل من أثر الرأي العام أو القانون في أيامنا هذه أو في ذلك الوقت، ولكن جديراً بنا أن نذكر أن
المسيحية هي التي خلقت الرأي العام في تلك الأيام، وأنها هي التي أوجدت القانون إلى حد ما، وأكبر الظن أنه لولا القانون الأخلاقي الذي خلقته المسيحية، وما كان له من أثر ملطف، لكانت الفوضى التي أوجدتها خمسة قرون من الغزو، والحروب، والتدمير والتخريب أشد مما كانت. ولقد يكون الباعث الذي حملنا على اختيار الأمثلة التي ذكرناها في هذا الفصل هو التحيز غير المقصود، فإن لم يكن فإن أحسن ما توصف به أنها جزئية غير وافية، ذلك أن الإحصاءات معدومة وإن وجدت فهي غير موثوق بها، ومن شأن التاريخ أن يسقط من حسابه على الدوام الرجل العادي. وما من شك في أنه كان العالم المسيحي في العصور الوسطى آلاف من السذج الأخيار أمثال أم الأخ سلمبين Salimbene التي يصفها بأنها:"سيدة متواضعة تقية مخلصة، تكثر الصوم، ويسرها أن توزع الصدقات على الفقراء"(140)، ولكن كم مرة نعثر في صفحات التاريخ على مثيلات هذه السيدة؟.
ولقد كانت للمسيحية في الأخلاق آثار رجعية وآثار تقدمية معاً. فلقد كان من الطبيعي أن تضمحل الفضائل الذهنية في عصر الإيمان، وحلت الغيرة والحماسة، والإعجاب بالصلاح والطهارة، والتقوى غير المستندة إلى الضمير، في بعض الأحيان؛ حلت هذه محل الذمة العقلية (النزاهة في النظر إلى الحقائق) والبحث عن الحقيقة. وبدا للناس أن "الأكاذيب التقية" الممثلة في تبديل النصوص، وتزوير الوثائق آثام عرضية بسيطة يتجاوز عنها. وتأثرت الفضائل المدنية بقصر الاهتمام على الحياة الآخرة، وتأثرت أكثر من هذا بانحلال الدولة، ولكن الذي لا شك فيه أن حب الوطن، مهما يكن حبا محليا، لم ينعدم في قلوب الرجال والنساء الذين شادوا هذه الكنائس الكبرى الكثيرة، وبعض الأبهاء العظيمة في المدن. ولعل النفاق، الذي هو من مستلزمات الحضارة، قد زاد في العصور الوسطى، إذ نظرنا إليه في ضوء نزعة القدماء الدنيوية الصريحة،
أو الوحشية الجماعية السافرة التي نشاهدها في هذه الأيام.
على أن هذه الرذائل وغيرها تقابلها كثير من الفضائل. فلقد كافحت المسيحية ببسالة وإصرار سيل الهمجية القوي الجارف، وبذلت جهوداً جبارة لتقليل الحروب والمنازعات، والالتجاء إلى القتال والتحكيم الإلهي في المحاكمات، وأطالت فترات الهدنة والسلام، وسمت بعض السمو بعنف الإقطاع ومنازعاته فجعلتهما وفاءاً وفروسية، وقاومت القتال في المجادلات، ومنعت استرقاق المسجونين، وحرمت اتخاذ المسيحيين عبيداً، وافتدت عدداً لا حصر لهم من الأسرى، وعملت على تحرير أرقاء الأرض أكثر مما عملت على استخدامهم في أراضيها، وغرست في النفوس احتراما جديداً للحياة والأعمال البشرية، وحرمت وأد الأطفال، وقللت من الإجهاض، وخففت أنواع العقاب التي كان يفرضها القانون الروماني، قانون القبائل المتبربرة، ولم تقبل مطلقاً أن يكون مستوى الأخلاق عند النساء مختلفاً عنه عند الرجال، ووسعت مجال الصدقات وأعمالها، ووهبت الناس طمأنينة عقلية وسط ألغاز العالم المحيرة للعقول، وإن كانت بعملها هذا قد ثبطت البحوث العلمية والفلسفية. وآخر ما نذكره لها أنها علمت الناس أن الوطنية إذا لم يقاومها ولاء أسمى منها تصبح أداة للشره والنهم الجماعيين. وقد فرضت على جميع المدن والدول الصغرى الأوربية المتنافسة قانوناً أخلاقياً واحداً، وحافظت عليه، واستطاعت أوربا بهديها، وبشيء من التضحية التي لابد منها ببعض حريتها، أن تستمتع مدى قرن من الزمان بالمبادئ الأخلاقية الدولية التي نتمناها ونكافح من أجلها في هذه الأيام - نعني بها أن يكون لها قانون يخرج الدول من قانون الغابة، ويوفر على الناس جهودهم لينفقوها في معارك السلام وانتصاراته.
الباب الحادي والثلاثون
بعث الفنون
1095 -
1300
الفصل الأول
يقظة حاسة الجمال
ترى لأي سبب بلغت أوربا الغربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر درجة عليا في الفنون تضارع ما بلغته أثينة في عصر بركليز وروما في عهد أغسطس! الحّق أن لهذه النهضة الفنية أسباباً كثيرة. لقد صدت أوربا غارات أهل الشمال وغارات العرب، ولقد بعثت الحروب الصليبية في نفوس أهلها نشاطاً مبدعاً قوياً، وجاءت إلى أوربا بألف فكرة وفن من الشرق البيزنطي الإسلامي. ونشأت من إعادة فتح البحر المتوسط وفتح المحيط الأطلنطي لتجارة الأمم المسيحية، ومن الأمن والتنظيم اللذين استمتعت بهما التجارة المنقولة في أنهار فرنسا وألمانيا، والبحار الشمالية، واتساع نطاق الصناعة والشئون المالية، نقول نشأت من هذا كله ثروة لم تعرفها أوربا منذ أيام قسطنطين، وقامت فيها طبقات جديدة في مقدور كل منها أن تساعد الفن بالمال، ومدن غنية ذات حكم ذاتي تعمل كل منها جاهدة لكي تشيد كنيسة كبرى أجمل من آخر كنيسة فيها. وكانت خزائن رؤساء الأديرة، والأساقفة، والبابوات تفيض بالمال الذي يأتيها من العشور وعطايا التجار، وهبات النبلاء والملوك. وكانت حركة تحطيم الصور
قد قضى عليها، ولم يعد الفن يوسم كما كان يوسم من قبل بأنه عودة إلى عبادة الأصنام، ووجدت في الكنيسة، التي كانت من قبل تخشاه، وسيلة نافعة تغرس بها عقائدها ومثلها في نفوس غير الجهلاء، وتبت فيها ذلك الورع الذي جعلها ترفع الأبراج إلى السماء كأنها أدعية وأوراد صاعدة إلى الله. يضاف إلى هذا أن دين مريم الجديد، المنبعث من قلوب الناس من تلقاء نفسه، قد افرغ ما ينطوي عليه من حب وثقة في معابد فخمة يستطيع آلاف من أبنائها أن يجتمعوا فيها دفعة واحدة يقدمون لها فروض الولاء ويطلبون إليها العون. لقد اجتمعت هذه المؤثرات وأخرى كثيرة لتغمر نصف قارة من الأرض بسيل جارف من الفن لم يسبق له مثيل.
وكانت الفنون قد بقيت في أماكن متفرقة لم تقض عليها أعمال البرابرة المخربة، ولم يمح معالمها ما طرأ على البلدان من ضعف وانحلال، فالمهارات القديمة التي أشتهر بها الأهل الإمبراطورية الشرقية لم تضع قط، وكانت بلاد الشرق اليونانية وإيطاليا البيزنطية هي البلاد التي دخلت منها كثرة الفنانين والموضوعات الفنية في حياة الغرب الذي بعث من جديد. ولقد أدخل شارلمان في خدمته فنانين يونان فروا من وجه محطمي الصور البيزنطيين، وهذا هو الذي جعل فن آخن يقرن الرقة والنزعة الصوفية البيزنطية بالصلابة والنزعة الدنيوية الألمانية. وبدا رهبان دير كلوني الفنانون في القرن العاشر عهداً جديداً في فن العمارة الغربية وزينتها، وكان أول ما فعلوه أن نقلوا النماذج البيزنطية. وكان معلمو مدرسة فن الأديرة التي أقامها منتى كسينو Monte Cassino الرئيس دزدريوس Abbot Desederius، (1072) من اليوناس يسيرون على الأساليب البيزنطية، ولما أراد هونوريوس الثالث (1218) أن يزين جدران سان بولو بالنقوش الجدارية بعث بطلب صناع نقوش الفسيفساء من البندقية، وكان الذين جاءوا متشبعين بالتقاليد البيزنطية. وكان من المستطاع وجود جاليات من الفنانين البيزنطيين في كثير من
المدن الغربية، وكان طرازهم في التصوير هو الذي شكل طراز دوتشيو Duccio وسمابيو Cimabue وطراز جيتو Giotto نفسه في بداية عهده. وجاءت الموضوعات البيزنطية أو الشرقية- كالنقوش المركبة من خوص النخل أو ما يشبهه، وأوراق الأقتنا
(1)
، والحيوانات التي في داخل الرصائع - جاءت هذه الموضوعات إلى بلاد الغرب على المنسوجات، وعلى العاج، وعلى المخطوطات المزخرفة، وعاشت مئات السنين في طراز النقوش الروماني؛ وعادت أشكال العمارة السورية، والأناضولية، والفارسية- العقد، والقبة، والواجهة المحوطة بالأبراج، والعمود المركب الجامع لعدة طرز مختلفة، والشبابيك المجتمعة مثنى أو ثلاثاً تحت قوس يربطها- عادت هذه الأشكال إلى الظهور في عمارة الغرب. إلا أن التاريخ لا يعرف الطفرات ولا شيء قط يضيع.
وكما أن تطور الحياة يتطلب الاختلاف كما يتطلب الوراثة، وكما أن نطور المجتمع يحتاج إلى التجديد التجريبي وإلى العادة التي تعمل على الاستقرار، كذلك لم يكن تطور الفن في أوربا الغربية يتضمن استمرار التقاليد القديمة في المهارات والأشكال، والحافز الناشئ من المثل البيزنطية الإسلامية، بل كان يتضمن بالإضافة إلى هذا عودة الفنان المرة بعد المرة من المدرسة الفنية التي ينتمي إليها إلى الطبيعة، ومن الأفكار إلى الأشياء، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن تقليد النماذج إلى التعبير عن الذات. لقد كان من خصائص الفن البيزنطي القتام المقبض الجمود والسكون، ومن خصائص النقش الغربي الرشاقة الهشة النسائية، وليس في مقدور هذه الصفات أن تمثل ما في الغرب وقتئذ من رجولة حيوية، وما عاد إليه من نزعة همجية، ونشاط قوي. وكانت الأمم الخارجة من العصور المظلمة إلى ضياء القرن الثالث عشر تفضل رشاقة نساء جيتو النبيلة عن صور ثيودور الجامدة
(1)
ويسمى أيضاً شوك الجمل أو شوك اليهود أو الكنكر وهو نبات شوكي اتخذت رسوم أوراقه في الزينة المعمارية (المترجم)
المنقوشة في الفسيفساء البيزنطية، وتسخر من خوف الساميين من الصور والتماثيل، ولهذا حولت الزخارف المحضة إلى صور الملاك الباسم التي تشاهد في كنيسة ريمس الكبرى، وإلى صورة العذراء الذهبية في أمين Amiens، وهكذا غلبت بهجة الحياة خوف من الفن القوطي.
وكان الرهبان هم الذين حافظوا على الأساليب الفنية في الفن الروماني، واليوناني، والشرقي، ونشروها، كما حافظو على الآداب اليونانية والرومانية القديمة. ذلك أن الأديرة لحرصها على أن تستقل بذاتها دربت النازلين فيها على فنون الزخرفة كما دربتهم على الحرف العملية. فقد كانت كنيسة الدير تطلب مذبحاً، وأثاثاً للمحراب، وكأساً للقربان، وصندوقاً وعلباً لحفظ المخلفات، وأضرحة، وكتلاً للصلاة، وماثلات، وقد تتطلب نقوشاً من الفسيفساء، وصوراً على الجدران، وتماثيل وصوراً تبعث التقى في القلوب، وكان الرهبان يصنعون معظم هذا بايديهم، بل إنهم هم الذين يخططون الدير ويبنونه، كما فعل البندكتيون بدير مونتي كسينو الذي لا يزال قائماً إلى اليوم شاهداً على ما بذلوه في بنائه من جهود. وكانت في معظم الأديرة مصانع واسعة، مثال ذلك أن برناردي تيرون Bernard de Tiron أنشأ بيتاً دينياً جمع فيه على ما يقولون " صناعاً في الخشب والحديد، ونحاتين، وصائغين، ونقاشين، وبنائين
…
وغيرهم من العمال الحاذقين جميع الأعمال الدقيقة" (1). ولقد كانت المخطوطات المزخرفة التي كتبت في العصور كلها تقريباً من عمل الرهبان، وكانت أرق المنسوجات من صنع أيدي الرهبان، والراهبات، وكان المهندسون المعماريون الذين شادوا الكنائس على الطراز الروماني في عهدها الأول رهباناً (2)، وأمد دير كلوني غرب أوربا في القرن الحادي عسر وبداية القرن الثاني عشر بالمهندسين المعماريين وبكثير من المصورين والمثالين (3)، وكان دير القديس دنيس في القرن الثالث عشر مركزاً جم النشاط لمختلف الفنون. بل إن أديرة السترسيين نفسها، وهي التي أوصدت أبوابها دون أعمال الزخرفة في
أيام برنار اليقظ، سرعان ما استسلمت لمغريات الأشكال وبهجة الألوان، وشرعت تبني أديرة لا تقل في زينتها عن دير كلوني أو دير القديس دنيس. وإذا كانت الكنائس الإنجليزية الكبرى في العادة كنائس أديرة، فإن رجال الدين النظاميين أو الرهبان ظلوا إلى آخر القرن الثالث عشر أصحاب السيطرة على عمارة الكنائس في إنجلترا.
ولكن الدير مهما بلغ من صلاحيته لأن يكون مدرسة وملجأ للروح، مقضي عليه بسبب عزلته أن يكون مستودعاً للتقاليد لا مسرحاً للتجارب الحية، فهو أصلح للحفظ منه للابتكار، ولم تجد حياة العصور الوسطى التعبير الخصب الغزير في أشكال لم تمل التكرار، وصلت بالفن القوطي إلى درجة الكمال، لم تجد تلك الحياة هذا التعبير إلا بعد أن أمدت المطالب الواسعة لذوي الثراء من غير رجال الدين الفنون الدنيوية بحاجتها من الغذاء. ثم تجمع العلمانيون المتخصصون المحررون في إيطاليا أولاً، ثم تجمعت كثرتهم في فرنسا وقلتهم في إنجلترا، في نقابات الحرف، وانتزعوا الفنون من أيدي معلمي الأديرة وصناعها، وشادوا الكنائس الكبرى.
الفصل الثاني
زينة الحياة
ومع هذا فإن راهباً هو الذي أكمل وأوضح موجز في فنون العصور الوسطى وحرفها، ذلك هو ثيوفليس Theophilus- حبيب الله - الراهب في دير هلمر زشوزن Helmershausen القريب من بادربورن Paderborn والذي كتب حوالي عام 1190 موجزاً في مختلف الفنون يقول فيه:
ثيوفلس، القس الوضيع
…
يوجه كلماته إلى كل من يرغب في أن ينفض عنه كل غبار الكسل وشرود الروح
…
بالعمل اليدوي النافع، وبالتفكير السار فيما هو جديد
…
(هنا يجد الناس) كل ما عند بلاد اليونان من ألوان ومركبات مختلفة، وكل ما تعرفه تسكانيا من فنون الميناء
…
وكل ما تستطيع بلاد العرب أن تعرضه من الأعمال التي تتطلب الليونة، والصهر، والنقش، والحفر، وكل المزهريات الكثيرة الجواهرالمحفورة، والعاج الذي تزينه إيطاليا بالذهب، وكل ما تقومه إيطاليا من أنواع الشبابيك المختلفة الغالية، وكل ما يثني عله الناس من أعمال الذهب، أو الفضة، أو النحاس أو الحديد، أو العمل الدقيق في الخشب أو الحجر.
فها نحن أولاء هذه في الفقرة نشهد ناحية أخرى من نواحي عصر الإيمان، نشهد رجالاً ونساءً، ونشهد بنوع خاص رهباناً وراهبات، يعملون لإشباع الرغبة الغريزية في التعبير، ويجدون متعة في التناسب، والتناسق، والأشكال، ويحرصون على أن يجعلوا النافع جميلا. ولقد كانت أهم ما تحتويه المناظر التي صورت في العصور الوسطى صوراً للرجال والنساء وهم يعملون، وإن غلبت عليها
النزعة الدينية، وكان الغرض الأول والأساسي الذي يهدف إليه فنهم هو تجميل أعمالهم، وأجسامهم، وبيوتهم. وكان آلاف من صناع الخشب يستخدمون السكين، والمثقب، والازميل المقعر، والمنحت، ومواد الصقل، لحفر النضد، والكراسي، والمقاعد، والصناديق، والعلب، والخزائن، وأعمدة الدرج، والوزرات، والأسّرة، والصونة، وخزانات الطعام والشراب، والصور والتماثيل المقدسة، وأجزاء المذابح الكنيسة، وأماكن المرنمين
…
وتزينها بما لا يحصى من أنواع الأشكال والموضوعات، بارزة وغير بارزة، وكثيراً ما كانوا يضفون الفكاهات الخبيثة التي لا تعرف الفوارق بين ما هو مقدس وما هو دنس. وفي وسعنا أن نجد على الخناجر أشكالاً للبخلاء، والنهمين، والثرثارين، والحيوانات والطيور الغريبة ذات الرؤوس الآدمية. وكان نحاتو الخشب من أهل البندقية يصنعون في بعض الأحيان براويز أجمل من الصور التي في داخلها وأعظم منها قيمة، وفي القرن الثاني عشر بدا الألمان في صناعة حفر الخشب العجيبة التي أضحت من الفنون الكبرى في القرن السادس عشر
(1)
.
ولم يكن الذين يعملون في المعادن أقل شأناً من العاملين في الخشب. فقد كانوا يصنعون الحديد المشغول الرشيق للنوافذ، والأفنية، والأبواب الخارجية، والمفصلات قوية تمتد في عرض الأبواب الضخمة ذات أشكال نباتية متنوعة (كالتي نشاهدها في كنيسة نتردام NotreDame في باريس)، وكان ما يصنع منه لمقاعد المرنمين في الكنائس الكبرى "صلباً الحديد" ورقيقاً، كالمخرمات. وكان الحديد، أو البرونز، أو النحاس يصهر أو يطرق لتصنع منه أجمل المزهريات والقدور، والأباريق، والماثلات، والمباخر، والعلب، والمصابيح، وكانت صفائح البرنز تغطي كثيراً من أبواب الكنائس. وكان صناع الأسلحة يحبون أن
(1)
انظر سورة "الصلب" الباقية من القرن الثاني عشر في متحف هلير ستاوت أو تمثال جيمس الأصغر James the Less الباقي من القرن الثالث عشر والمحفوظ بالمتحف الفني في نيويورك.
يضعوا شيئاً من الزينة على السيوف وأغمادها، والخوذ، والتروس والدروع، وحسبنا شاهدأً على مقدرة صناع المعادن الألمان الثريا البرنزية الضخمة التي أهداها فردريك الثاني لكنيسة آخن الكبرى، وعلى مقدرة أمثالهم الإنجليز المائلة البرنزية الضخمة (المصنوعة حوالي 1100) المنقولة من جلوستر Gloucester والمحفوظة في متحف فكتوريا وألبرت Victoria and Albert Museum، وإن ولع صناع العصور الوسطى بأن يجعلوا من أبسط الأدوات تحفاً فنية ليتجلى في مزاليج الأبواب، وأقفالها ومفاتيحها، وحتى دوارات الهواء نفسها قد عنوا بزخرفتها بالنقوش الجميلة التي لا تستطيع رؤيتها إلا بالمرقب.
وازدهرت فنون المعادن النفيسة والأحجار الكريمة وسط مظاهر الفاقة العامة، فقد كان للملوك المروفنجيين صحاف من الذهب، وقد جمع شارلمان في آخن كنزاً من المصنوعات الذهبية. وكانت الكنيسة تحس، ومن حقها أن نغفر لها هذا الإحساس، أنه إذا كان الذهب والفضة يزينان وائد الأشراف وأصحاب المصارف، فإن من الواجب أن يسخرا أيضاً لخدمة ملك الملوك. ولهذا صنعت بعض المذابح من الفضة المنقوشة، وبعضها من الذهب المنقوش، كما نشاهد في كنيسة القديس أمبروز St. Anbrose بميلان وفي كنيستي بستونا Pistoia وبازل. وكان الذهب هو المعدن الذي تصنع منه عادة الحقة التي يوضع فيها الخبز المقدس، ويصنع منه الوعاء الذي يعرض فيه على المؤمنين ليعظموه، والكأس التي تحتوي النبيذ المقدس، والعلب التي تحفظ فيها المخلفات المقدسة ولقد كانت هذه الآنية في كثير من الأحيان أجمل صنعاً من أغلى الكؤوس التي تهدى للفائزين في المباريات في هذه الأيام. وكان الصياغ في إسبانيا يصنعون الخيام البديعة التي يحمل فيها الخبز المقدس أثناء سير موكبه في الشوارع. وفي باريس استخدم الصائغ بنار Bonnard، (1212) 1544 أوقية من الفضة وستين أوقية من الذهب ليصنع منها ضريحاً لعظام القديس جنيفييف Genevieve. وحسبنا دليلاً على
اتساع مجال فنون الصياغة الفصول التسعة والسبعون التي خص بها ثيوفيلس هذا الفن في كتابه. فيها نجد أن كل صائغ في العصور الوسطى كان ينتظر أن يكون هو وقليني Celiini سواء -يصهر، وينحت، ويطلى بالميناء، ويركب بالجواهر، ويطعم. وكن في باريس في القرن الثالث عشر نقابة قوية للصياغ وتجار الجواهر، وذاعت منذ ذلك الحين شهرة قاطعي الجواهر الباريسيين في عمل الجواهر الصناعية (5). وكانت الأختام التي يبصم بها الأغنياء الشمع الموضوع على رسائلهم أو مظاريفها تصمم وتحفر بعناية فائقة، وكان لكل رئيس ديني خاتم رسمي، وكان كل رجل ظريف أو متظرف يتباهى بخاتم، إن لم يتباهى بأكثر من خاتم، في يده. ألا إن الذين يقدمون لبني الإنسان أسباب غرورهم قلما يعدمون قوتهم.
وكانت النقوش البارزة الصغيرة على المواد الثمينة شائعة بين الأغنياء. وكان لهنري الثالث ملك إنجلترا نقش من هذا النوع قدرت قيمته بمائتي جنيه (000 و 40 ريال أمريكي)، وجاء بولدين الثاني بنقش أعظم من هذا قيمه من القسطنطينية ليضعه في سانت شابل Sainte Chapelle بباريس. وكان العاج يحفر بأعظم عناية ويبذل في حفرة جهد كبير طوال العصور الوسطى، وتصنع من أمشاط، وعلب، ومقابض، وقرون للشرب، وتماثيل مقدسة، وجلود للكتب، ومحافظ لأوراق الكتابة مزدوجة الثنايا أو مثلثتها، وعصى، وصوالج الأساقفة، وعلب وأضرحة .. وفي متحف اللوفر مجموعة من الأدوات العاجية من مخلفات القرن الثالث عشر تقترب من الكمال قرباً يثير الدهشة وتمثل النزول عن الصليب. وقد غلب الخيال وغلبت الفكاهة على التقى في أواخر هذا القرن فظهرت في بعض الأحيان نقوش دقيقة لمناظر غاية في الدقة في بعض الأحيان على علب المرايا وصناديق الزينة المعدة للنساء اللاتي لا يستطعن أن يعكفن على التقى في جميع الأوقات.
وكان العاج إحدى المواد التي استخدمت للتطعيم، وهو الذي يسميه الإيطاليون Intarsia (وهي كلمة مشتقة من اللفظ اللاتيني Intersere ومعناه يدخل أو يحشر) ويسميه الفرنسيون تلبيساً Marquetry (من Marquer أي يعلم). وكان الخشب نفسه يطعم به غيره من أنواع الخشب. كأن يحفر رسم في قطعة من الخشب ثم تدخل فيه قطع من خشب آخر وتضغط وتغرى في مواضع الحفر. وكان من أدق الفنون في العصور الوسطى عمل الميناء السوداء (النيلو Niello من اللفظ اللاتيني Nigellus أي أسود) - فكان السطح المعدني يحفر ويطعم بعجينة سوداء مكونة من مسحوق الفضة، والنحاس والكبريت، والرصاص، فإذا اصطنع فنجويرا Finiguerra من هذا الفن في القرن الخامس عشر صناعة النقش على ألواح النحاس.
وقامت صناعة الخزف مرة أخرى من صناعة الفخار حينما أيقظ الصليبيون العائدون من شرق أوربا من العصور المظلمة. وجاءت صناعة الميناء ذات الحزوز إلى بلاد الغرب من بيزنطة في القرن الثامن. ولدينا من القرن الثاني عشر لوحة مصورة تمثل يوم الحساب
(1)
، وحفرت فيها أرضية من النحاس ثم مليء الفراغ بعجينة الميناء. وكانت مدينة ليموج Limoge الفرنسية تصنع الآنية المطعمة بالميناء منذ القرن الثالث، فلما كان القرن الثاني عشر أضحت هي المركز الرئيسي في غربي أوربا لصناعة الميناء ذات الحزوز والميناء المصبوبة فوق النحاس. وكان الفخرانيون المسلمون في أسبانيا المسيحية في القرن الثالث عشر يغطون الآنية بطبقة لامعة من القصدير لا ينفذ فيها الضوء، أو من الميناء، ويتخذونها قاعدة
(1)
وهي الآن في متحف فكتوريا وألبرت.
للزخارف المصورة، وفي القرن الخامس عشر استورد التجار الإيطاليون هذه الآنية من أسبانيا في سفن مملوكة لأهل جزيرة ميورقة وسموا هذه الآنية ميولقة، فاستبدلوا بحرف r حرف I على طريقتهم في الترخيم.
وعاد فن الزجاج الذي كاد أن يبلغ حد الكمال في روما القديمة، إلى مدينة البندقية من مصر وبيزنطة، فنحن نسمع منذ عام 1024 عن اثني عشر مصنعاً في تلك المدينة، بلغ من تنوع منتجاتها أن بسطت الحكومة حمايتها على هذه الصناعة. واقترحت أن يطلق على صانعي الزجاج اسم "السادة". وفي عام 1278 نقل صناع الزجاج إلى حي خاص في جزيرة مورانو Murano ليكونوا هناك آمنين من جهة، وللاحتفاظ بسرية الصناعة من جهة أخرى. وسنت قوانين صارمة تحرم على صناعة الزجاج الانتقال إلى خارج الجزيرة أو الكشف عما في هذه الصناعة من أسرار خفية. وظل البنادقة أربعة قرون يسيطرون من هذه البقعة الأرضية الضيقة على فن الزجاج وصناعته فبي العالم الغربي، وارتقى فنا طلاء الزجاج بالميناء وتذهيبه، وكانت أليفو دي فينيزيا Olivo de Venezia تصنع منسوجات من الزجاج، كما كانت مورانو تخرج مقادير كبيرة من الفسيفساء والخرز، والقنينات، والأكواب، وأدوات المائدة، المصنوعة كلها من الزجاج، بل كانت تخرج مرايا زجاجية أخذت في القرن الثالث عشر تحل محل المرايا المصنوعة من الصلب المصقول. وكانت فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا تصنع هي الأخرى زجاجاً في هذه الفترة ذاتها، ولكنه كان يستخدم كله تقريباً في الأغراض الصناعية، ماعدا الزجاج الملون البراق الذي كان يستخدم في الكنائس الكبرى.
وكانت النساء على الدوام يغمط فضلهن في تاريخ الفن فلا ينلن ما هن خليقات به من التقدير. إن الزينة الشخصية والمنزلية من العناصر الجليلة الشأن في فن الحياة، ولقد هيأت أعمال النساء في تصميم الأزياء، وزينتها الداخلية،
وزخرفتها، ونسجها والتصوير عليها، هيأت أعمالهن في هذا أكثر مما هيأت معظم الفنون من أسباب المتعة غير المحسة التي نستمدها من وجود الأشياء الجميلة الصامتة معنا أو بالقرب منا. وكان للمنسوجات الرقيقة المغزولة بحذق وعناية ذات المنظر الجميل والملمس اللطيف قيمة عالية في عصر الإيمان، فقد كانت تغطي مذابح الكنائس، ومخلفات الأولياء، والآنية المقدسة، ويرتديها القساوسة، أفراد الطبقة الراقية في المجتمع رجالاً كانوا أو نساء، وكانت هذه المنسوجات نفسها تلف في ورق ناعم لطيف رقيق، اشتق اسمه من اسمها فسمي "ورق النسيج" واستطاعت فرنسا وإنجلترا في القرن الثالث عشر أن تنزلا القسطنطينية عن عرشها بوصفها أكبر منتج للتطريز الفني، فنحن نسمع في عام 1258 عن نقابات المطرزين في باريس، ويحدثنا ماثيو باريس Matthew Paris تحت عنوان سنة 1246 أن البابا إنوسنت الرابع ذهل حين رأى الأحبار الإنجليز الذين زاروا روما يرتدون ملابس مطرزة بالذهب وأمر أن تصنع مثل هذه الزخارف الإنجليزية الفخمة لحرامله وحلله التي يلبسها في أوقات القداس. وكانت بعض ملابس رجال الدين مثقلة بالجواهر، وخيوط الذهب، واللوحات المصورة المصنوعة من الميناء إلى حد يصعب عليهم معه المشي وهم يرتدونها (6)، ولقد اشترى ثري أمريكي ثوباً كهنوتياً يعرف بإسم حبرية أسكولي Cope of Ascol
(1)
بستين ألف دولار. وكان أشهر ثوب مطرز في العصور الوسطى هو "ثوب شارلمان الدلماشي: وكان الاعتقاد السائد أنه صنع في دلماشيا، ولكن يغلب على الظن أنه من صنع القسطنطينية في القرن الثاني عشر، وهو الآن من أثمن التحف في كنوز الفاتيكان.
(1)
ولما عرف أنها مسروقة أعادها إلى الحكومة الإيطالية، واكتفى بمدلاة جزاءاً له على أمانته.
وحلت السجف أو الأقمشة المطرزة التي تزين بها الجدران محل الصور الملونة في فرنسا وإنجلترا، وبخاصة في الأبنية العامة. وكان يحتفظ بعرضها كاملة لأيام الأعياد، فكانت في تلك الأيام تعلق تحت العقود بين أعمدة الكنائس، وفي الشوارع، وعلى القوارب في المواكب، وكانت تنسج عادة من الصوف أو الحرير بأيدي "المتُعباَت" أي الوصيفات اللاتي يخدمن قصور سادة الإقطاع تحت إشراف أمينة القصر. وكان عدد كبير منها تنسجه الراهبات، وبعضه ينسجه الرهبان. ولم تكن المنسوجات التي تزدان بها الجدران تطاول الصور الدقيقة الملونة في جمالها، وكان يقصد بها أن ترى عن بعد، وكان يضحى فيها بدقة الخطوط في سبيل وضوح الصورة ولألاء اللون وثباته. وكان يقصد بها تخليد ذكرى حادثة تاريخية أو قصة خيالية ذائعة الصيت، أو تفريج هم من في داخل البيوت بتمثيل المناظر الطبيعية، أو الأزهار، أو البحر. وقد ورد ذكرها في فرنسا منذ القرن العاشر، ولكن أقدم نموذج لها باق إلى اليوم لا يكاد يرجع عهده إلى ما قبل القرن الرابع عشر. وكانت فلورنس في إيطاليا، وشنشيلا في أسبانيا وبواتييه، وأراس، وليل في فرنسا، تتزعم مدائن الغرب في فن أقمشة الجدران والطنافس. هذا وليست أقمشة بايو Bayeux الذائعة الصيت في العالم كله من نوع هذه الأقمشة إذا أردنا الدقة في التعبير، لأن النقوش التي عليها مطرزة على سطحها وليست جزءاً من النسيج. وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى كنيسة بايو التي ظلت تحتفظ بها زمناً طويلاً، وتعزوها الرواية المتواترة إلى ماتلدة زوجة وليم الفاتح وإلى السيدات اللاتي كن في بلاط الملك النورمان، ولكن العلماء الذين لا يبالون بإغضاب كرائم العقائل يفضلون أن يعزوها إلى صناع غير معلومين، وإلى عصر أحدث من عصر وليم (8). وهذه الزينات تنافس المؤرخين الإخباريين في كونها مصدراً من مصادر الفتح النورماندي. فقد نقش على قطعة من نسيج التيل الأسمر، عرضها تسع عشر بوصة وطولها إحدى وسبعون ياردة،
ستون منظراً تصور على التوالي الاستعداد إلى الغزو، وسفائن النورمان تشق الإنجليزية بجآجئها العالية المصورة، ومعركة هيستنج الوحشية، وهارولد Harod يتلقى الطعنة ويموت. وهزيمة الجنود الأنجليسكسون وتبدد شملهم، وانتصار القوة المباركة. وهذه الأغطية أمثلة من أعمال التطريز الناطقة بالصبر الطويل، ولكنها ليست من اجمل ما صنع من نوعها. وقد اتخذها نابليون في عام 1083 وسيلة يثير بها الفرنسيين إلى غزو إنجلترا (9) ولكنه نسي أن يستعين على هذا الغزو ببركة الآلهة.
الفصل الثالث
التصوير
1 - الفسيفساء
اتخذ فن التصوير في عصر الإيمان ثلاثة أشكال رئيسية: الفسيفساء، والتحلية الصغيرة للكتب، والصور الجدارية، والزجاج الملون.
فأما فن الفسيفساء فكان وقتئذ في عهد الشيخوخة، ولكنه كان في خلال الألفي عام التي مرت عليه قد أثمر كثيراً من الدقة، فقد كان صانعوه، إذا أرادوا عمل الأرضية الذهبية التي يحبونها حباً جماً، يلقون ورقة رقيقة من الذهب حول مكعبات من الفضة، ويغطون هذه الورقة بغشاء رقيق من الزجاج ليمنعوا تلوث الذهب وقتامه، ثم يضعون المكعبات المذهبة في سطوح غير مستوية بعض الشيء ليمنعوا بذلك بريق السطوح. وكان الضوء ينعكس من هذه المكعبات في زوايا مختلفة وبذلك يكسب القطعة كلها نسيجاً حياً.
وأكبر الظن أن فنانين بيزنطيين هم الذين غطوا القباء الشرقي في إحدى الكنائس القديمة في ترشلو Torcello - وهي جزيرة صغيرة قريبة من البندقية - وجدارها الشرقي بنقوش من الفسيفساء تعد اروع ما خلقته العصور الوسطى (10). وتمتد أعمال الفسيفساء في كنيسة القديس مرقص على مدى سبعة قرون، وتمثل أنماطها تلك القرون السبعة، فقد أمر الدوج دمنيكوسلفو Domenico Selvo بعمل أولى نقوش الفسيفساء الداخلية في عام 1071، ويظن أنه استخدم في هذا العمل فنانين بيزنطيين، كذلك تمت فسيفساء عام 1153 تحت إشراف فنانين بيزنطيين، ولم يكن للفنانين الإيطاليين الشان الأكبر في
تزيين كنيسة القديس مرقس بالفسيفساء قبل عام 1450، وإن الرسم الفسيفسائي المنقوش في القبة الوسطى في القرن الثاني عشر، والذي تمثل صعود المسيح لهو أسمى ما بلغه هذا الفن، ويقرب منه في روعته النقش الفسيفسائي الذي يمثل يوسف والموجود في قبة البهو. ولقد ظل النقش الفسيفسائي الرخامي الموجود في طوار الكنيسة مدى سبعمائة عام يقاوم خطى بني الإنسان.
وفي الطرف الآخر من إيطاليا اتحد الفنانون اليونان والمسلمون صنع آيات النقش الفسيفسائي في صقلية النورمانية - في الكابلا بلتينا Capella Palatina وفي كنيسة مرترانا Martorana بمدينة بالرم Palermo وفي دير منريال Monreale وكنيسة شفالو Cefalu (1148) . وربما كانت الحروب البابوية التي شبت نارها في القرن الثالث عشر قد عاقت تقدم الفن في روما، ولكن نقوشاً فسيفسائية متألقة صنعت في ذلك القرن لتزدان بها كنائس سانتا ماريا ماجوري Santa Maria Maggiore وسانتا ماريا تراستفيري Trastevere والقديس يوحنا في لاتران "والقديس بولس خارج الجدران". وكان فنان إيطالي هو الذي وضع تصميم النقش الفسيفسائي لكنيسة التعميد في فلورنس، ولكن هذا النقش لا يبلغ من الروعة ما بلغته أعمال الفنانين اليونان في البندقية أو صقلية. وكان لدير سوجر في سانت دنيس (1150) أرضية فسيفسائية فخمة احتفظ ببعض أجزائها في متحف كلوني، وإن طوار دير وستمنستر (حوالي عام 1288) لمزيج من الظلال الفسيفسائية يثير الدهشة والإعجاب غير أن فن الفسيفساء لم يزدهر قط في شمال جبال الألب، فلقد طغى عليه في تلك البلاد الزجاج الملون كما طغت عليه في إيطاليا نفسها حتى كادت تخرجه منها الصور الجدارية حين أقبل على هذا الفن دتشيو Duccio وسيمابيو Cimabue، وجيتو.
2 - نقوش المخطوطات
ظل تزيين المخطوطات بالرسوم والنقوش الصغيرة بالفضة المذابة والذهب المذاب، وبالمداد الملون، فناً محبوباً يوائم تقوى الأديرة وجوها الهادئ. وقد بلغ هذا الفن ذروته في بلاد الغرب في خلال القرن الثالث عشر، شأنه في هذا شأن كثير من أوجه النشاط في العصور الوسطى، ولم يبلغ بعدئذ في وقت من الأوقات ما بلغه في خلال القرن من دقة وابتكار وكثرة، فقد حلت في ذلك العهد محل الصور والكسى الجامدة، والألوان الخضراء والحمراء القاسية التي كانت سائدة في القرن الحادي عشر، حلت محلها بالتدريج أشكال رشيقة رقيقة في ألوان جمة العدد، على أرضية زرقاء أو ذهبية، وغلبت صور العذراء على هذه النقوش، كما أخذت من ذلك الوقت تكثر في الكنائس الكبرى.
ولقد أتلفت كتب كثيرة في العصور المظلمة، وتضاعف قيمة ما بقي منها لأنها كانت في نصها وفنها خيطاً رفيعاً من خيوط الحضارة إذا صح هذا التعبير (11). وكان الناس في تلك الأيام يعتزون بكتب الترانيم، وبالأناجيل، والتراتيل، وكتل القداس، وكتب الصلوات، وأدعية الساعات، ويحسبونها الأدوات الحية التي تنقل إليهم الوي الإلهي، ولم يكونوا يرون أن أي مجهود يبذل في تزينها الزينة اللائقة بها أكثر مما تستحق. فكان الواحد منهم يبذل يوماً كاملاً في كتابة الحرف الأول من كلمة، وأسبوعاً كاملا في كتابة عنوان صفحة، ولا يرى في هذا خروجاً على المعقول، وقد حدث في عام 986 أن أقسم هارتكر Hartker أحد رهبان القديس Gall أن يظل ما بقي من حياته الدنيوية داخل جدران أربعة، ولعله كان يتوقع انتهاء العالم ذلك القرن. وظل في صومعته الصغيرة حتى مات بعد خمسة عشر عاماً من دخولها، وفيها زين بالصور والنقوش تراتيل القديس جول (12).
وكان فن المنظور وعمل القوالب وقتئذ أقل شأناً مما كانا عليه أيام ازدهارهما في عصر الكارولنجيين، فقد كان أصحاب النقوش الصغيرة يعنون بعمق اللون وبهائه، وازدحام الصور وحيويتها أكثر من عنايتهم بأن يخدعوا الناظر حتى يظن أن ما أمامه فضاء ذو ثلاثة أبعاد. وكانت أكثر موضوعاته تؤخذ من الكتاب المقدس، أو من الأناجيل غير القانونية، أو من أقاصيص القديسين، ولكن صوراً للنبات والحيوان كانت تستخدم أحياناً في تلك الزينة، وكان يسر صاحبها أن يصور نباتات وحيوانات خيالية كما يصور نباتات وحيوانات حقيقية. وكانت القواعد الكنسية المفروضة على الموضوعات وطريقة معالجتها في الكتب المقدسة نفسها أقل دقة وتحديداً في الغرب منها في الشرق، وكان يسمح للمصور أن ينتقل ويلهوا حراً في مجاله الضيق. وكانت رؤوس بشرية مركبة على أجسام حيوانات، ورؤوس حيوانات على أجسام بشرية، وكان قرد في زي راهب، وقرد يختبر في وقار كوقار الطبيب قنينة ملآى بالبول، وموسيقى يطرب سامعيه يحك فكي حمار - كانت هذه هي الموضوعات التي ازدان بها كتاب صلوات ساعات العذراء (13). ونشأت نصوص غير هذه مقدسة ودنسة، واتخذت لها مكاناً في مناظر الصيد، أو البرجاس، أو الحرب، وكان من الصور التي اشتمل عليها كتاب ترانيم في القرن الثالث عشر صورة تمثل داخل مصرف إيطالي، ذلك أن العالم الدنيوي، وقد استفاق من رهبة الأبدية، أخذ يغزو أرباض الحياة الدينية.
وكانت الأديرة الإنجليزية موفورة الإنتاج في هذا الفن السلمي، فقد أخرجت مدرسة أنجيليا الشرقية كتب مزامير واسعة الشهرة: منها كتاب محفوظ في مكتبة بروكسل، وآخر (الأورمبزي Ormbsy) في أكسفورد، وثالث (القديس أومر Omer) في المتحف البريطاني، ولكن خير ما أنتجه هذا الفن كان في فرنسا، فقد بدأت كتب التراتيل التي زينت للويس التاسع طرازاً من النقوش الجامعة المركزة، وتقسما إلى مدليات داخل إطارات، نقلت
بلا ريب عن زجاج الكنائس الملون. واشتركت الأراضي الوطيئة في هذه الحركة، فبلغ رهبان ليبج وغنت في فن تزيين الكتب بعض ما بلغه فن النحت في أمين Amiens وريمس Reime من الشعور الحماسي والرشاقة الفياضة، وأخرجت أسبانيا أعظم آية مفردة من آيات هذا الفن في القرن الثالث عشر في كتاب ترانيم للعذراء هو تسابيح (ألفونسو العاشر) الملك الحكيم (حوالي عام 1280). وإن نقوشه الصغيرة البالغ عددها 1226 نقشاً لتشهد بما كان يبذل في كتب العصور الوسطى من كد وإخلاص. ولا حاجة إلى القول بأن هذه الكتب كانت كتب خط كما كانت كتب تصوير، وكان الفنان الواحد في بعض الأحيان ينسخ ويؤلف النصوص ويكتبها ثم يرسم النقوش بيده. وإن الإنسان ليتردد، إذا أراد أن يحكم على الكثير من الكتب، أيهما أجمل زينتها أو نصها. إلا إننا قد خسرنا بالطباعة الشيء الكثير.
3 - النقوش الجدارية
من العسير علينا أن نقول إلى أي حد أثرت زخارف الكتب من حيث موضوعها وأشكالها في نقوش الجدران واللوحات المصورة، والصور المقدسة، ونقوش الخزف، والنحت البارز، والزجاج الملون، وإلى أي حد أثرت هذه في زخارف الكتب. لقد كان بين هذه الفنون تبادل كثير في موضوعاتها وأنماطها، وتفاعل مستمر. وكان الفنان الواحد في بعض الأحيان يمارسها جميعاً، وإنا لنظلم الفن والفنان معاً إذا ما فصلنا أحد هذه الفنون عن بقيتها فصلاً تاماً، او فصلنا الفنون عن الحياة القائمة في أيامها، ذلك أن الحقيقة أكثر ارتباطاً أجزائها من تواريخها، وإذا ما جزأ المؤرخ عناصر الحضارة التي يجري تيارها مجتمعاً في مجرى واحد، فإنما يفعل ذلك لسهولة البحث والإيضاح لا غير. وليس من حقنا أن نفصل الفنان عن الثقافة المعقدة التي ربته وعلمته، وأمدته بالتقاليد والموضوعات -
وأثنت عليه أو عذبته، واستخدمته، ودفنته، ونسيت اسمه أكثر مما ذكرته.
وكانت العصور الوسطى تقاوم الفردية، وتعدها من العقوق المفلس، وتأمر العبقري أن يغمر نفسه في أعمال زمانه ومجرى حوادثه. وكانت الكنيسة، الدولة، والمدينة المستقلة، ونقابة الحرف في عرف ذلك الوقت هي الحقائق الخالدة، وكانت هي الفنانين أنفسهم، ولم يكن الأفراد إلا أيدي الجماعة، وإذا ما قامت الكنيسة الكبرى على قواعدها كان جسمها وروحها يمثلان جميع ما قدسه واستنفده تصميمها، وبناؤها، وتزيينها من أجسام وأرواح. ومن اجل هذا ابتلع التاريخ جميع أسماء الرجال الذين نقشوا جدران عمائر العصور الوسطى قبل الثالث عشر، ولم يبق من هذه الأسماء إلا القليل، وكادت الحروب، والثورات، والرطوبة التي توالت مدى الدهور تبتلع أعمالهم. ترى هل كان في أساليب ناقشي الجدران عيوب. لقد كانوا يستخدمون أساليب المظلمات وأدهنة الجدران القديمة، فيضعون الألوان على الجدران قبل أن يجف بياضها، أو يرسمون على الجدران الجافة بألوان يجعلونها لزجة بما يدخلونه فيها من المواد الغروية. وكانوا يقصدون بكلتا الوسيلتين أن يخلدوا ما يرسمون، أما بنفاذ الألوان في الجدران أو بتماسكها، ومع هذا كله كانت الألوان تتطاير على مر السنين، ولذلك لم يبق من الرسوم الجدارية التي عملت في القرن الرابع عشر
(1)
ويصف ثيوفليس (1190) طريقة تحضير الألوان الزيتية، ولكن هذه الصناعة لم تبلغ كثيراً من الرقى قبل عهد النهضة.
ويلوح أن تقاليد النقش الروماني القديم على الجدران قد قضت عليه غارات القبائل المتبربرة وما أعقبها من فقر دائم عدة قرون. ولما أن بعث فن النقش الجداري الإيطالي، لم يسترشد باعثوه بالتقاليد القديمة، بل استرشدوا بأساليب
(1)
لهذا يدهش الإنسان من براعة المصريين الأقدمين لأنه يرى الألوان على بعض آثارهم وكأنها قد خرجت تواً من تحت أيديهم. (المترجم)
بيزنطية النصف يونانية والنصف شرقية، وإنا لنجد في أوائل القرن الثالث عشر مصورين يونان يعملون في إيطاليا - ثيوفانيس في البندقية، أبونيوس في فلورنس وملورمس Melormus في سيينا
…
وتحمل أقدم لوحات الفن الإيطالي الموقع عليها من راسميها في ذلك العهد أسماء يونانية، وقد جاء هؤلاء الرجال معهم بموضوعات وأنماط بيزنطية - بصور رمزية، دينية - صوفية، وهم لا يدعون قط أنهم يمثلون مواقف أو مناظر طبيعية.
ولما زاد الثراء وارتقى الذوق تدريجياً في إيطاليا خلال القرن الثالث عشر، واجتذبت الهبات العالية التي كان يعطاها الفنانون رجالاً من ذوي المواهب العالية، شرع المصورون الإيطاليون -جيونتا بيزانو Giunta Pisano في بيزا، ولابو Lapo في بستويا، وجيدو Guido في سينا، وبيترو كفليني Pietro Kavallini في أسيسي وروما، شرع هؤلاء المصورين يهجرون الطريقة البيزنطية الخيالية الحالمة، وينفثون في رسومهم اللون الإيطالي والعاطفة الإيطالية. ولهذا نقش جيدو (1271) في كنيسة سان دمنيكو في سينا صورة للعذراء بزت بصورة "وجهها الصافي الحلو"(14) أشكال الرسوم البيزنطية الضعيفة التي لا حياة فيها، والتي كانت سائدة في ذلك العصر وتكاد هذه الصورة تكون بداية عصر النهضة الإيطالية.
وبعد جيل من ذلك الوقت دفع دتشيو بيوننسنيا Duccio di Bouninsegna (1273 - 1319) مدينة سيينا في صورة جمالية مزينة بصورة "الجلالة" Maesta التي تمثل العذراء فوق عرشها. وتفصيل ذلك أن المواطنين ذوي الثراء قرروا أن الأم المقدسة، ملكتهم الإقطاعية، يجب أن ترسم صورتها في حجم رائع بيد أعظم فنان يعثرون عليه في أي مكان، وسرهم أن يختاروا لهذا دتشيو ابن بلدتهم، ووعدوه بأن يقدموا له الذهب، ووفروا له الطعام والوقت، راقبوا كل خطوة يخطوها في عمله. ولما أتم بعد ثلاث سنين
(1311)
وأضاف إليها ذلك التوقيع المؤثر: -" أي أم الإله المقدسة، هي سينا السلام ودتشيو الحياة لأنه صورك في هذه الصورة"- حملت الصورة (وكان طولها أربع عشرة قدماً وعرضها سبعة أقدام) إلى الكنيسة يحف بها موكب من الأساقفة، والقساوسة، والرهبان، والموظفين، ونصف سكان المدينة، وسط دوي الأبواق ودق النواقيس، وكانت الصورة التي لا تزال تصف بيزنطة في طرازها، تهدف إلى التعبير الديني لا التصوير الواقعي فقد كان أنف العذراء أطول وأكثر اعتدالاً مما يجب أن يكون، وكانت عيناها اكثر قتاماً، ولكن الصور المحيطة بها كانت ذات رشاقة وصفات أخلاقية واضحة، وكانت المناظر المأخوذة من حياة مريم والمسيح، والمرسومة على منصات المذابح والأبراج ذات فتنة جديدة وجلية. وجملة القول أن هذه الصورة كانت أعظم ما صور قبل جيتو Gioffo
(1)
.
كان جيوفتي سمابو Giovanui Cimabue (1240 - 1302) قد بدا وقتئذ في فلورنس أسرة من المصورين قدر لها أن تسيطر على الفن الإيطالي ملا يكاد يقل عن ثلاثة قرون. وقد ولد جيوفني لأسرة شريفة، وما من شك أنه قد أحزنها حين هجر القانون إلى الفن، وكان ذا روح عالية متكبرة، لا يتردد في أن يطرح وراء ظهره أية صورة يجد فيها هو أو غيره من الناس عيباً ما. ومع أن مدرسته الفنية، كمدرسة دتشيو، فرع من المدرسة الإيطالية - البيزنطية، فإنه قد أفرغ كل كبريائه وكل نشاطه، في فنه، وأثمرت جهوده هذه ثمرة أوفت على الثورة، وقد عمل هو، أكثر مما عمل دتشيو الذي يعلو عليه في مكانته الفنية، على إبطال الطراز البيزنطي وشق طريقاً للرقي جديداً. فثنى ورق الخطوط الجامدة التي كان يرسمها أسلافه، وكسا الروح لحماً، ووهب اللحم دماً ودفئاً، والآلهة والقديسين حناناً آدمياً، وأستخدم في تصويره الألوان الزاهية
(1)
والصورة الرئيسية محفوظة الآن في "الأيرا" أي متحف كنيسة سيينا.
الحمراء، والقرنفلية، والزرقاء، فنفث في صورة حياة ولألاء لم تعرفهما إيطاليا العصور الوسطى قبل أيامه، على أننا مضطرون إلى قبول كل ما ذكرناه عنه مستندين إلى سهادة معاصريه، لأن الصور التي تعزى له ليس فيها صورة واحدة موثوق بأنها من صنع يده، وأكبر الظن أن صورة العذراء والطفل والملائكة المرسومة بالطلاء المائي لمصلى روشلاي Rucellai في كنيسة سانتا ماريا نوفلا Santa Maria Novella بمدينة فلورنس، أكبر الظن أن هذه الصورة من صنع دتشيو (15) وتعزو رواية يشك فيها بعضهم، ولكنها في أغلب الظن صادقة، إلى سمابيو صورة "العذراء والطفل بين أربعة ملائكة" الموجودة في كنيسة سان فرانسيسكو السفلى في أسيسي. وهذا المظلم الضخم الذي يرجع المؤرخون تاريخه عادة إلى عام 1256 والذي أعيد في القرن التاسع عشر، هو أولى الآيات الفنية الباقية حتى الآن من روائع فن التصوير الإيطالي. وصورة القديس فرانسس التي فيها واقعية إلى حد يشهد بجرأة رسمها - فهي تمثل رجلاً روعته رؤية المسيح إلى حد هزل معه جسمه، وصورة الملائكة الأربعة هي بداية التآلف بين الموضوعات الدينية والجمال النسوي.
وعين سيمابيو في آخر سني حياته كبير أساتذة الفسيفساء في كنيسة بيزا، وفيها كما يقولون، وضع لقباً للكنيسة تصميم فسيفساء "المسيح في المجد بين العذراء والقديس يوحنا". ويروي فساري Vassari قصة لطيفة يقول فيها إن سمابيو وجد في يوم من الأيام غلاماً من الرعاة في العاشرة من عمره يسمى جيتو دي بندوني Giotto di Bondone، يرسم بقطعة من الفحم حمل على أردواز، فأخذه إلى فلورنس وجعله تلميذاً له (16). وليس ثمة شك في أن جيتو عمل في مرسم سيمابيو، وأنه شغل منزل أساتذه بعد موته. وهكذا بدأت أعظم أسرة من المصورين في تاريخ الفن.
4 - الزجاج الملون
سبقت إيطاليا شمالي أوربا بمائة عام كاملة في النقوش الجدارية والفسيفساء، وتأخرت عن تلك البلاد مائة عام في العمارة والزجاج الملون. وكان فن تلوين الزجاج معروفاً عند الأقدمين، ولكن أكثر ما عرف منه كان في صورة الفسيفساء الزجاجية، فقد ملأ جريجوري التوري Gregory of Tours (538 - 593) نوافذ كنيسة القديس مارتن بزجاج "مختلف الألوان" وتحدث بولس المنظم
(1)
Paul the Silentiary عن جمال ضوء الشمس حين يمر خلال الشبابيك المختلفة الألوان في كنيسة أيا صوفيا بالقسطنطينية. ومبلغ علمنا أنه لم تبذل في هذه الحالات أية محاولة لرسم صورة بالزجاج الملون، لكن ادلبيرو Adalbero أسقف مدينة ريمس زين كنيسته حوالي عام 980 بشبابيك "تحتوي تواريخ"(17)، وتحتوي أخبار القديس بنينيس St. Benignus على وصف ل "شباك مصور قديم جداً" يمثل القديس باسكاسيوس St. Paschasius، في كنيسة بدبحون (18). لقد كان هذا زجاجاً مؤرخاً، ولكن يبدو أن اللون هنا قد وضع على الزجاج ولم يصهر فيه. ولما أن قلل فن العمارة القوطية من الثقل الذي تتحمله الجدران وهيأ بذلك مكاناً للنوافذ الواسعة، سمح الضوء الكثير الذي يدخل الكنيسة بهذه الوسيلة- أو بالأحرى تطلب هذا الضوء - تلوين ألواح الزجاج، وبهذا وجدت الحوافز القوية الكثيرة عن وسيلة لتلوين الزجاج تلويناً أبقى على الزمن من الوسيلة القديمة.
والراجح أن الزجاج ذا الألوان المصهورة قد تفرع من الزجاج المطلي بالميناء. ويصف ثيوفيلس في عام 1190 هذه الصباغة الفنية الجديدة فيقول إن "رسماً" أو تصميماً يوضع على منضدة ويقسم أقساماً صغيرة، ويميز كل منها برمز للون
(1)
المنظم هنا بمعنى يحفظ النظام في الاجتماع. (المترجم)
المرغوب فيه. ثم تقطع قطع من الزجاج قلما يزيد طولها أو عرضها على بوصة واحدة بقدر مساحة الرسم. وتلون كل قطعة من الزجاج باللون المطلوب وذلك بصبغة مكونة من مسحوق الزجاج المخلوط بأكاسيد معدنية مختلفة - الكوبلت للون الأزرق، والنحاس الأحمر أو الأخضر، والمنجنيز للأرجواني
…
ثم يحرق الزجاج المطلي بعدئذ لتنصهر الأكاسيد والطلاء في الزجاج، وتوضع الأجزاء بعد تبريدها على التصميم، وتلحم بعضها ببعض بقطع رفيعة من الرصاص. وإذا نظر الإنسان لشباك مصنوع من هذا الزجاج الفسيفسائي فإن العين لا تكاد تلاحظ قطع الرصاص، بل تحسب أجزاؤه سطحاً ملوناً متصلاً. وكان ما يتهم به الفنان في هذه الحال هو اللون، وكان هدفه هو مزج الالوان، ولم يبحث في عمله عن الواقع، ولم يعن بالمنظور، وكان يظهر الأشياء المرسومة صورته بأغرب الألوان - ففيها جمالة خضر، وآساد قرنفلية، وفرسان زرق الوجوه (19). ولكنه حصل على النتيجة التي يبتغيها: حصل على صورة متلألئة مخلدة اللون، وعلى تخفيف الضوء الداخل في الكنيسة وتلوينه، وعلى تعليم العابدين والسمو بنفوسهم.
وكانت الشبابيك - حتى "الورود" العظيمة منها - تقسم في معظم الأحوال إلى لوحات مصورة، ورصائع، ودوائر، ومعينات، ومربعات، وذلك لكي يمثل الشباك الواحد عدة مناظر في سيرة أو موضوع ما. فكان أنبياء العهد القديم يصورون أمام نظائرهم في العهد الجديد أو أمام نبوءاتهم التي تحققت فيه. وكان العهد الجديد تضاف إليه أجزاء من الأناجيل غير القانونية، وقد كان ما تحتويه هذه الأناجيل الأخيرة من الأقاصيص ذات الخيال الجميل عزيزاً على عقل العصور الوسطى محبباً له. وكانت القصص المأخوذة من حياة القديسين أكثر في النوافذ من الحوادث المستقاة من الكتاب المقدس، مثال ذلك أن مغامرات القديس يوستاس St. Eustace كانت تروى على شبابيك تشارتر،
وعلى شبابيك سان Sens، وأوكسير Auxerre، ولمان Le Mans، وتور. وقلما كانت حوادث التاريخ غير الديني تظهر على الزجاج الملون.
ولم يمض نصف قرن على ظهور أول مثل للزجاج الملون في فرنسا حتى وصل درجة الكمال في تشارتر، كانت شبابيك الكنيسة الكبرى نماذج ينسج على منوالها أو أهدافاً يسعى لبلوغها في Sens، وليون Leon، وبورج Bourge، ورون. ومن هنا انتقل الفن إلى إنجلترا، وأوحى إلى صناع زجاج كنتربي ولنكلن، وقد نصت معاهدة عقدت بين فرنسا وإنجلترا على أن يسمح لأحد المصورين على الزجاج عند لويس السابع (1137 - 1180) بأن يأتي إلى إنجلترا (20). وفي القرن الثالث عشر كبر الأجزاء التي يتكون منها لوح الزجاج وفقد اللون بعض ما كان في الأعمال الأولى من دقة واهتزاز، وحلت في أواخر ذلك القرن الزخارف المكونة من خطوط خارجية رفيعة حمراء أو زرقاء اللون على قاعدة من لون واحد رمادي محل الألوان المتناسقة في الكنائس العظمى - وكان لفواصل الشبابيك نفسها وقد أخذت أشكالها تزداد تعقيداً على مر الأيام، شأن أكبر في الصورة، ومع أن الزخارف السالفة الذكر أضحت على مر الزمان فناً جميلاً، فإن مهارة المصور على الزجاج أخذت تضعف تدريجياً. ذلك أن روعة الزجاج الملون جاءت مع الكنائس القوطية الكبرى، فلما زال مجد القوط، زالت معه نشوة الألوان.
الفصل الرابع
النحت
لقد دُمر الكثير من أعمال النحت لأن البرابرة نهبوه على أثر انتصارهم في غزواتهم، ولأن المسيحية الناشئة حسبته من قبيل عبادة الأوثان الدنيئة. ولكن قليلاً منه نجا من هذا الدمار وبخاصة في فرنسا، فأثار خيال البربرية بعد أن روضت، والثقافة المسيحية بعد أن نضجت. واحتفظت الدولة الرومانية الشرقية في هذا الفن، كما احتفظت في غيره من الفنون، بالنماذج والمهارات القديمة، وأضافت إليها أساليب العرف والتصوف الأسيوية، وعادت فوزعت على الغرب البذور التي جاءت إليها قبل من روما وانتقل النحاتون اليونان إلى ألمانيا بعد أن تزوجت ثيودورا من أتو الثاني (972)، وانتقلوا كذلك إلى البندقية، ورافنا، وروما، ونابلي، وصقلية، ولعلهم انتقلوا أيضاً إلى برشلونة ومرسيليا، وليس ببعيد أن يكون المثالون الذين كانوا يعملون عند فردريك الثاني قد أخذوا فنهم. من هؤلاء الرجال وعن الفنانين المسلمين الخاضعين لسلطانه، ولما أثرت البربرية كان في وسعها أن تجمع بين الهمجية والجمال، ولما أثرت المسيحية، سخرت النحت كما سخرت غيره من الفنون لخدمة عقائدها وشعائرها الدينية، وكانت هذه في آخر الأمر هي الطريقة التي نمت بها الفنون الكبرى في مصر وآسيا، وبلاد اليونان، وروما، ذلك بأن الفن العظيم وليد الإيمان المنتصر.
ولم يكن النحت يفكر فيه على أنه فن مستقل بذاته، بل كان يعد مرحلة من فن شامل، ليس له اسم في لغة من اللغات -ذلك هو زخرفة العبادة،
وشأنه في هذا شأن الصور الجدارية، والفسيفساء والزجاج الملون. فكانت مهمة المثال الأولى هي تجميل بيت الله بالتماثيل والنقوش البارزة، وكانت مهمته الثانية هي صنع الصور والتماثيل الدينية لبث روح التقي في البيت، فإذا بقي بعد ذلك وقت ومال كان في وسعه أن ينحت تماثيل لأشخاص دنيويين، أو يزين أشياء لا تمت بصلة إلى الدين. وكانت المادة المفضلة في النحت الخاص بالكنيسة هي التي تتسم بالبقاء كالحجر، والرخام، والمرمر، والبرنز، أما التماثيل فكانت الكنيسة تفضل أن تصنعها من الخشب، ذلك بأن هذه التماثيل يستطيع حملها من غير مشقة المسيحيون السائرون في المواكب الدينية. وكانت التماثيل تلون كما كان يحدث في الفن الديني القديم، وكانت في أكثر الأحيان واقعية أكثر منها مثالية، تهدف إلى أن يشعر العابد بالنظر إلى صورة القديس أنه بين يديه، وقد بلغ من نجاح المثالين في بلوغ هذه الغاية أن كان المسيحي، كما كان العابد في الأديان القديمة، ينتظر أن يصنع التمثال نفسه المعجزات، وقلما كان يخامره الشك إذا سمع أن ذراع المسيح المصنوعة من المرمر قد تحركت لتبارك إنساناً، أو أن ثدي عذراء من الخشب قد در اللبن.
وخليق بكل من يدرس فن النحت في العصور الوسطى أن يستشعر الندم حين يبدأ هذه الدراسة. ذلك أن قسماً كبيراً من آثاره دمرها المتطهرون المتعصبون في إنجلترا، وكان البرلمان في بعض الأحيان هو الآمر بهذا التدمير، كما دمر الكثير من هذه الآثار في فرنسا أثناء الإرهاب الذي تعرض له الفن أيام الثورة. وكان ذلك العمل الرجعي في إنجلترا موجهاً إلى ما بدا لمحطمي الصور الجدد أنه زخرفة وثنية للأضرحة المسيحية، أما في فرنسا فكان يهدف إلى مهاجمة قبور الأسراف المكروهين وما لديهم من مجموعات فنية ودمى. ولهذا نجد في جميع أنحاء البلدين تماثيل بلا رؤوس، وأنوفاً مكسورة، وتوابيت مهشمة، ونقوشاً بارزة، وطنفاً، وتيجان عمد محطمة. ذلك أن ثورة جامحة من الحقد الدفين
الذي ظل يغلي زمناً طويلاً في الصدور على الاستبداد الكنسي والإقطاعي قد انفجر مرجلها آخر الأمر في صورة تخريب شيطاني لهذه الآثار - وكأن الزمن وأتباعه من العناصر الجوية قد أجمعت أمرها في ثورة من التدمير، فاكتسحت ظاهر التماثيل، وأذابت الحجارة، ومحت النقوش، وشنت على أعمال الإنسان حرباً باردة صامتة، لم تتخللها قط هدنة، وشن الإنسان نفسه على هذه الآثار ألف حرب وسعى فيها إل النصر بالتنافس في التدمير، فكان من أثر ذلك أننا لا نعرف النحت في العصور الوسطى إلا من حطامه.
وإذا نظرنا إلى عناصره المتناثرة في المتاحف، أضفنا إلى الأذى سوء الفهم. ذلك أن الفن الذي تمثله هذه العناصر لم يكن يقصد به أن ينظر إليه متفرقاً على هذه الصورة، فقد كان في أصله جزءاً لا يتجزأ من موضوع ديني، وكان صرحاً معمارياً كاملاً، ولهذا فإن ما قد يبدو لنا فجاً قبيحاً وهو بمفرده، قد يكون موائماً أحسن موائمة لما يحيط به من الحجارة. لقد كان التمثال القائم في الكنيسة الكبرى عنصراً في مجموعة، موضوعاً في المكان اللائق به، وكأنه يستطيل ليطاول علو الكنيسة الشامخ. فقد كانت الساقان متلاصقتين، والذراعان ملتصقتين بالجسم، وكان تمثال القديس في بعض الأحيان يدق ويمتد حتى يصل إلى أعلى قائمة كتف الباب. وكان المثال يهدف في أحيان قليلة إلى تقوية الأثر الأفقي لا الرأسي في نفس المشاهد، فكان يجعل التماثيل المقامة فوق الأبواب بدينة مفلطحة، كالتي نشاهدها فوق مدخل تشارتر، أو كان رجل أو حيوان يحشر في تاج عمود كما كان يحسر الإله اليوناني في قوصرة الباب أو الشباك، وبهذا انصهر فن النحت القوطي فأصبح جزاءً لا يتجزأ من فن العمارة الذي يزينه.
وكان خضوع النحت للعمارة في طرازها وهدفها الذي يمتاز به فن القرن الثاني عشر بنوع خاص، ثم شهد القرن الثالث عشر ثورة جامحة من
جانب المثال فخرج وقتئذ من النزعة التشكيلية إلى الواقعية، ومن الصلاح إلى الفكاهة والهجاء وتذوق الحياة الأرضية. فبينا نرى تماثيل القرن الثاني عشر الموجود في تشارتر مكتئبة جامدة، إذ نرى تماثيل القرن الثالث عشر في ريمس وقد فاجأها المثال أثناء حديثها الطبيعي أو عملها التلقائي. فمعارفها فردية وفي وضعها رشاقة ملحوظة، وإن كثيراً من هذه التماثيل القائمة في كنائس تشارتر وريمس لتشبه الفلاحين الملتحين الذين لا نزال نلتقي بهم في القرى الفرنسية، وتمثال الراعي الذي يدفئ نفسه بالنار والقائم فوق باب أمين Amiens الغربي قد يكون له نظير في حقل بنومندية أو جسبية Gaspe في هذه الأيام. وليس في التاريخ كله نحت يضارع النقوش القوطية الكنسية في واقعيتها الغريبة. ففي رون نجد تمثال فيلسوف مفكر له رأس خنزير محشوراً في أزهار من ذوات الورقات الأربع، وطبيباً نصفه آدمي والنصف الآخر إوزة، يدرس أنبوبة مليئة بالبول، ومعلم موسيقى نصفه آدمي ونصفه ديك يلقي درساً عل عضو غنطروس، ورجلاً أحاله ساحر كلباً، وظلت قدماه تلبسان حذائيه (21) وهناك صورة صغيرة مضحكة جاثمة تحت التماثيل في تشارتر، وأمين، وريمس. وفي كنيسة استرسبرج تاج عمود أعيد إلى وضعه الأول منذ قليل يمثل دفن رينرد الثعلب، Reynard the Fox يحمل نعشه خنزير وجدي، ويحمل الصليب ذئب، وينير الطريق أرنب بشمعة، ويرش دب الماء المقدس، وينشد القداس وعلٌ، ويتلو حمار صلاة الجنازة من كتاب مستند إلى رأس قطة (22). وفي كنيسة بفرلي Beverley ثعلب على رأسه قلنسوة راهب يرتقي منبراً ويعظ طائفة من الإوز التقية المتدينة (23).
وتمثل الكنائس فيما تمثله حدائق حيوانات من الحجارة، تكاد تجمع كل ما عرفه الإنسان من الحيوان، وإن كثيراً من الحيوانات التي لم تمر إلا بمخيلة رجال العصور الوسطى لتجد لها مكاناً في هذه المجموعات الضخمة التي لا تحصى
عديدها. ففي ليون Leon ستة عشر ثوراً تخور فوق أبراج الكنيسة الكبرى، ويقولون لنا إنها تمثل الوحوش القوية التي ظلت السنين الطوال تنقل جلاميد الحجارة من المحاجر إلى الكنيسة القائمة على رأس التل. وتقول إحدى القصص الظريفة: إن ثوراً كان في يوم من الأيام يصعد بمشقة فوق التل فوقع على الأرض من فرط الإعياء، وظل الحمل متزناً مزعزعاً على منحدر التل حتى ظهر ثور بمعجزة من المعجزات، وانزلق تحت عدة الثور الملقى على الأرض، وجر العربة إلى قمة التل، ثم اختفى في الهواء السماوي الإعجازي (24). وإنا لنبتسم ساخرين من هذه القصص الخيالية، ونعود إلى قراءة قصصنا التي تحدثنا عن الجرائم وعن العلاقات الجنسية.
واتسعت الكنائس أيضاً لحدائق النبات، وهل ثمة بعد العذراء والملائكة، والقديسين، زينة لبيت الله أحسن من النباتات، والفاكهة، وأزهار الريف الفرنسي، أو الإنجليزي، أو الألماني؟ ولقد بقيت الزخارف النباتية القديمة- التي تمثل أوراق الكنكر والكرم- في فن العمارة الرومنسية (800 - 1200)، ثم حلت محل هذه الزخارف الشكلية العرفية في الفن القوطي طائفة تدهش الإنسان لكثرتها من النباتات المحلية، منقوشة على قواعد الأعمدة وتيجانها، والأجزاء الشبه مثلثة التي بين العقود، والعقود نفسها، وفي الطنف، والعمد نفسها، والمنابر، ومقاعد المرنمين، وقوائم الأبواب، والمصاطب .. وليست هذه الأشكال مما حدده العرف، بل هي في كثير من الأحيان أنواع فردية، محبوبة في البيئة التي صورتها، وبعث فيها المؤلف الحياة. وتراها في بعض الأحيان زينات مركبة من نباتات مختلفة جمعت بعضها إلى بعض، وذلك أيضاً مما ابتدعه الخيال القوطي، ولكنها مع ذلك ظلت تشعر الناظر إليها بأنها من صنع الطبيعة. وترى الأشجار، والغصون، والعساليج، والأوراق، والبراعم، والأزهار، والفاكهة، والسرخس، والشقيق الأصفر، والطلح، والكرسون المائي، وعود الريح، وأشجار الورد،
والشليك، والحسك، والقصعين، والبقدونس، والريس، والكرنب، والكرفس، تساقط من مستودع الكنيسة الذي لا ينضب معينه، لقد كان المثال ثملا ببهجة الربيع، فهدت يده الإزميل في الحجر. وليس الربيع وحده هو الذي تمثله هذه النباتات والأزهار المنحوتة، بل إن جميع فصول السنة ممثلة فيها، وهي فوق هذا تطالعك بكل ما في أعمال البذر، والحصاد، وعصر الخمر، من كدح ومتعة، وليس في تاريخ النحت كله ما هو جمل في نوعه من "تاج عصر العنب" كنيسة ريمس الكبرى (25).
ولكن هذا العالم كله- عالم النبات والزهر، والحيوان والطير- كان في المرتبة الثانية إذا قيس إلى الموضوع الرئيسي في فن النحت أثناء العصور الوسطى- وهو حياة الإنسان وموته. ففي تشارتر ولاءون، وليون Lyons، وأكسير، وبورج نقوش أولية تروي قصة الخلق. وفي لاءون يعد الخالق عل أصابعه ما بقي له من الأيام حتى يتم عمله، وتراه في مناظر متأخرة عن هذا المنظر، وقد أجهده كدحه في خلق المون، متكئاً على عصاه، وجالساً ليستريح، ونائماً ذلك إله يسع كل فلاح ساذج أن يفهمه. وثمة نقوش بارزة في كنائس أخرى تصور أشهر العام وما اختص به كل شهر منها ون عمل وبهجة، وتبين نقوش غير هذه وتلك مختلف أعمال الإنسان فتصور الفلاحين في الحقل أو عند معصرة الخمر، وترى بعضهم يقودون الخيل أو الثيران وهي تشق الأرض أو تجر العربات، ومنهم من يجر الضأن، أو يحلب البقر. وهناك طحانون، ونجارون، وحمالون، وتجار، وفنانون وطلاب علم، بل إن هناك أيضاً فيلسوفاً أو فيلسوفين، ويصور المثال المعنويات المجردة عن طريق الأمثلة: فدونارتس Donartus يمثل النحو، وشيشرون الخطابة، وأرسطو الجدل، وبطليموس الفلك. وتجلس الفلسفة ورأسها في السحب، وفي يمناها كتاب، وفي يسراها صولجان، فهي ملكة العلوم. وثمة نقوش ترمز إلى الإيمان وعبادة الأوثان، والأمل واليأس، والصدقات والبخل،
والعفو، والدعارة، والسلام، والشقاق، وفي لاءون نقش على باب عال يصور معركة بين الفضائل والرذائل، وعلى الواجهة الغربية من كنيسة نوتردام في باريس صورة امرأة رشيقة معصوبة العينين تمثل المعبد، وأمامها امرأة أجمل منها في ثياب ملكية وعليها سيماء من اعتادت الأمر والنهي وتمثل الكنيسة بوصفها عروس المسيح. أما المسيح نفسه فيبدو تارة رحيماً وتارة أخرى رهيباً، وتمثله في بعض الصور وأمه تنزله من الصليب، أو يقوم من القبر وبالقرب منه رسم رمزي يمثل أسداً يعيد الحياة بأنفاسه إلى أشباله، كل مكان منحوتة أو مرسومة ملونة في الكنائس، ذلك أنه لم يكن يسمح للإنسان أن ينساها، وهنا أيضاً لم يكن يستطاع الاعتماد إلا على شفيع واحد لغفران الذنوب، ذلك هو مريم العذراء التي تبدو لهذا السبب في الصور المنحوتة، كما تبدو في الأوراد، صاحبة المكان الأول، ومنبع الرحمة اللانهائية، التي لا تسمح لابنها أن يفسر تفسيراً حرفياً تلك الكلمات القائلة إن الكثيرين يُدعَون والقليلين يختارون.
إن في فن النحت القوطي لعمقاً في الشعور، وتنوعاً ونشاطاً في الحياة، وتعاطفاً مع أشكال عالم النبات والحيوان جميعاً، وإن فيه لرقة، وظرفاً، ورشاقة، فهو معجزة من الحجارة لا تكشف عن اللحم بل الروح، وهذه كلها تحركنا وتشبعنا بعد أن فقدت روعة أجسام التماثيل اليونانية بعض ما كان لها من جاذبية ولعل سبب ضياعها هو أننا بلغنا سن الشيخوخة. وتبدو الآلهة الثقيلة القائمة في قوصرة البارثنون إذا وضعت إلى جانب الصور الحية التي أخرجها إيمان العصور الوسطى باردة ميتة. ولسنا ننكر أن النحت القوطي معيب من الناحية الفنية، فليس فيه ما يضارع كمال إفريز البارثنون، أو جمال آلهة بركستليز والإهانة الشهوانية، أو سيدات نقش السلام وشيوخه في روما، وما من شك في أن صور أولئك الشبان ذوي الوسامة، وصور أفرديتي اللينة العريكة، كانت تمثل في وقت ما
متعة الحب والحياة السليمة. ولمن آراءنا الدينية المبتسرة، إذا تذكر ما فيها من جمال وتغفل عما فيها من رهبة، تعود بنا المرة بعد المرة إلى الكنائس الكبرى وترجح كفة الإله الجميل المصور في أمين والملاك الباسم المصور في ريمس، "وعذراء شارتر".
وكان المثال في العصور الوسطى كلما زادت مهارته في فنه قوى أمله في تحرره من فن العمارة وفي أن يعمل فيه أعمالاً توائم الذوق الدنيوي المتزايد عند الأمراء والأحبار، والأشراف، والطبقة الرأسمالية المتوسطة.
ففي إنجلترا كان نحاتو الرخام في بربك Purbeek يستخدمون النوع الممتاز الذي يقطعونه من نتوء دورسسترشيد Dorestershire، واشتهر في القرن الثالث عشر بالعمد والتيجان الجاهزة، وبالدمى المضطجعة التي ينحتونها على توابيت الأموات الأغنياء- وصب وليم تورل William Torel وهو صانع من أهل لندن حوالي عام 1292 تمثالين من البرنز لهنري الثالث وإليانور القشتالية زوجة ولده ليوضعا في قبرهما الرخاميين في دير وستمنستر، ويبلغ هذان التمثالان من الجمال والدقة ما تبلغه أية تحفة برنزية في ذلك العصر واجتمعت في ذلك الوقت مدارس النحت عظيمة الشأن لييج، وهلدس هايم Hildesheim ونومبرج Naumburg. ونحت مثّال غير معروف حوالي عام 1240 التمثالين القوطيين البسيطين- ذوي الأبواب الفخمة- لهنري الأسد ولبؤته القائمين في كنيسة برنزويك Bruswick. وتزعمت فرنسا أوربا بأجمعها في جمال تماثيلها الرومنسية (في القرن الثاني عشر) والقوطية (في القرن الثالث عشر) ولكن معظم هذه التماثيل قائمة في كنائسها الكبرى، ولهذا فإن خير مكان تدرس فيه هو هذه الكنائس.
ولم يكن النحت في إيطاليا وثيق الصلة بالعمارة، ولا بالمدن ذات الحكومات المستقلة، ولا بنقابات الحرف كما في فرنسا، ولهذا فإنا في القرن الثالث عشر
نجد فنانين منفردين تسيطر شخصياتهم على أعمالهم وتخلد أسماءهم. من هؤلاء نيقولو بيزانو Niccolo Pisano الذي اجتمعت له عدة مؤثرات مختلفة انصهرت كلها فخرجت منها شخصية مركبة فذة. فقد ولد هذا الفنان في أبوليا عام 1225 واستمتع فيها بالجو الحافز الذي يحيط بحكم فردريك الثاني، ويبدو أنه درس فيها بقايا الفن الإيطالي القديم وآثاره المعادة (26). ثم انتقل إلى بيزا وورث فيها التقاليد الرومانسية، وسمع بالطراز القوطي الذي بلغ وقتئذ ذروة مجده في فرنسا. ولما أن نحت منبراً لمكان التعميد في بيزا اتخذ له نموذجاً تابوتاً في عهد هدريان. وقد تأثر أشد التأثر بالخطوط القوية الرشيقة التي تمتاز بها الأشكال القديمة، ولهذا فإن معظم الأشكال التي في منبره ذات ملامح وثياب رومانية وإن كانت أقواسه رومنسية وقوطية، فوجه مريم الذي نراه في لوحة المخاض وثوبها هما بعينهما وجه امرأة رومانية وثيابها، ونرى في إحدى الزوايا صورة لشخص رياضي عار شاهدة على الروح اليونانية القديمة التي كان يتأثر بها هذا الفنان، ودبت الغيرة في هذه التحفة في قلب سيينا (1256) فاستخدمت نقولو وأبنة جيوفيني، وتلميذه أرنلفو دي كمبيو Arnolfo di Cambio في صنع منبر أجمل من هذه لكنيستها، وحالفهم التوفيق في هذه المهمة. ويقوم المنبر الجديد المصنوع من الرخام الأبيض على عمد ذات تيجان تمثل أوراق النبات، وتتكرر فيه الموضوعات التي في منبر بيزا مع لوحة مزدحمة تمثل الصلب. وهنا يتغلب التأثير القوطي على التأثير الروماني القديم، ولكن المزاج القديم يظهر فيما يسبغه الفنان على الصورة النسائية التي تتوج الأعمدة من صحة سابغة لإخفاء فيها. وكأنما أراد نقولو أن يؤكد عواطفه الرومانية القديمة فوق قبر القديس دمنيك الناسك في بولونيا صوراً كاملة عن الرجولة على الطراز الوثني مليئة ببهجة الحياة. وانضم في عام 1271 إلى ابنه وأرنلفو لينحتوا الواجهة الرخامية التي لا تزال حتى اليوم قائمة في ميدان بروجيا العام. ومات بعد سبع سنين من ذلك الوقت، وهو لا يزال إلى
حد ما في سن الشباب، ولكنه مهد في حياته السبيل إلى دناتلو Donatello وإلى بعث فن النحت القديم في عصر النهضة.
وكان ابنة جيوفتى بيرانو (حوالي 1240 إلى حوالي 1320) يضارعه فيما تعرض له من تأثير متعدد النواحي، ولكنه يفوقه في مهارته الفنية. وقد عهدت إليه بيزا بناء مقبرة تليق بالرجال الذين كانوا في ذلك الوقت يقتسمون البحر المتوسط الغربي مع جنوى. وجيء بالتراب المقدس للميدان المقدس Compo Santo من جبل كلفارى. وأقام الفنان حول مستطيل كلئ عقوداً رشيقة امتزج فيها الطرازان الرومنسي والقوطي. وجيئت بروائع النحت لتزيين اليوائك، وظل الميدان المقدس قائما يخلد ذكرى جيوفنى بيزانو حتى حطمت الحرب العالمية الثانية نصف عقوده وتركته أنقاضاً مهملة
(1)
.
ولما منى البيزيون من الهزيمة على أيدي الجنويين (1284) لم يعد في مقدورهم أن يمدوا جيوفنى بما يحتاجه من المال، فانتقل إلى سيينا. ونحت في عام 1290 بعض النقوش البارزة لواجهة كنيسة أورفييتوا Orvieto الغربية غير المألوفة. ثم عاد فانتقل شمالا إلى بستونيا Pistonia ونحت لكنيسة سانتا أندريا Santa Andrea منبراً صورة أقل اكتمالا في رجولتها من صورة منبر والده في بيزا، ولكنه يفوق منبر أبيه في رشاقته وفي اتفاقه مع الطبيعة، والحق أن هذا المنبر لهو أجمل ما أخرجه فن النحت القوطي في إيطاليا.
وظل أرنلفو دي كمبيو (1232 - 1300) ثالث هؤلاء الثلاثة الذائعي الصيت يمارس عمله على الطراز القوطي برعاية البابوات، وكانت لمعضمهم روابط سابقة بفرنسا. فقد اشترك وهو في أورفييتو في قطع واجهة كنيستها، وصنع تابوتاً جميلا للكردنال دي براي Cardinal de Braye وكان شبيهاً بفناني النهضة في
(1)
والعمل يجري الآن في إعادة الميدان المقدس إلى ما كان عليه.
تعدد مهاراتهم؛ وبهذه المهارات المتعددة صمم، وشرع ينفذ، ثلاثة من الأعمال المجيدة التي تفخر بها فلورنس؛ كنيسة سانت ماريادل فيوري Janta Mariaidel fior وكنيسة سانت كروشي Santa Croce (الصليب المقدس) وبلاد تسو فكيو Plazzo Vecchio (القصر القديم).
ولكننا حين نتحدث عن أرنلفو وعن هذه الأعمال ننتقل بالقارئ من النحت إلى العمارة. فقد عادت كل الفنون وقتئذ إلى الحياة وإلى الصحة؛ ولم ترجع المهارات القديمة إلى سابق عهدها وكفى، بل أخذت تغامر في اتجاهات وصياغات فنية جديدة تكاد لكثرتها تبلغ حد التهور. وتآلفت الفنون وتوحدت، كما لم تتآلف أو تتوحد من قبل ولا من بعد، في المغامرة الواحدة وفي الرجل الواحد. وكان كل شئ قد أعد لتلك الدرجة الرفيعة التي بلغتها فن العصور الوسطى، فتجتمع الفنون كلها وتتعاون أكمل تعاون وأعظمه، ويطلق اسم فنها الجامع على الطراز ذلك العصر وفنه.
الباب الثاني والثلاثون
ازدهار الفن القوطي
1095 -
1300
الفصل الأول
الكتدرائيات
(1)
نُرى لمَ شاهدت أوربا هذا العدد الجم من الكنائس في الثلاثة القرون التي أعقبت عام 1000 بعد الميلاد؟ وأية حاجة دعت إلى أن تنشأ في أوربا التي لا يكاد سكانها في ذلك الوقت يصلون إلى خمس سكانها الحاليين معابد قلما تمتلئ لسعتها بالمصلين في أكثر الأيام قدسية؟ وكيف استطاعت الحضارة الصناعية تعجز عن الاحتفاظ بها؟
لقد كان السكان قليلين، ولكنهم كانوا مؤمنين، وكانوا فقراء، ولكنهم كانوا يبذلون بسخاء عظيم. ويقول سوجر رئيس دير القديس دنيس إن العابدين في أيام الأعياد، وفي الكنائس التي يؤمها الحجاج، كانوا من الكثرة بحيث "تضطر النساء إلى الجري إلى المذبح متخذات من رؤوس الرجال طواراً (1)، ولسنا ننكر أن الرئيس العظيم كان يجمع المال لبناء تلك الآية الفنية، وأنه
(1)
الكثدرائية هي الكنيسة الرئيسية في الأسقفية وفيها يكون مقر الأسقف أو عرشه. (المترجم)
خليق لهذا السبب بأن نغفر له بعض مغالاته. ولكن أسباباً كثيرة كانت تدعو إلى بناء الكنائس بهذه الكثرة وتلك السعة: لقد كان من المرغوب فيه أن يجتمع سكان بعض المدن مثل فلورنس، وبيزا، وتشارتز، ويورك، في صرح واحد في بعض المناسبات. كذلك كان لا بد أن تتسع كنيسة الدير المزدحم للرهبان والراهبات ولغير رجال الدين. وكان لا بد من أن تحفظ المخلفات المقدسة في أضرحة خاصة تتسع أيضا للصفوة من العابدين، وكانت الحاجة تدعو إلى وجود بناء مقدس رحب تقام فيه الطقوس الكبيرة، وإلى مذابح جانبية من الأديرة والكثدرائيات التي ينتظر أن يتلو قساوستها الكثيرون القداس في كل يوم، وكان الاعتقاد السائد أن مذبحاً أو مصلى يخصص لكل قديس محبوب قد يدعوه إلى إجابة طلبات من يتوسلون إليه، وكان لا بد أن يبنى لمريم"مصلى نسائي" إذا لم تكن الكنيسة كلها ملكا لها.
أما نفقات هذه الصروح فقد كان معظمها يؤخذ مما يجمع من الأموال في كرسي الأبرشية؛ وكان الأساقفة فضلا عن هذا يطلبون العطايا من الملوك والنبلاء، والمدن ذات الحكم الذاتي؛ والنقابات الطائفية والأبرشيات، والأفراد. وكانت المنافسة الطيبة تثار بين المدن التي أضحت الكثدرائية فيها رمزاً لثرائها وسلطانها، تتحدى بهما غيرها من المدن، وكان المتبرعون يوعدون بأن تغفر لهم ذنوبهم، كما كانت المخلفات المقدسة يطاف بها في الأبرشية لتحفز الناس إلى العطاء، وقد يحدث في بعض الأحيان أن يحرض الناس على البذل والسخاء بمعجزة من المعجزات (2). وكان التنافس في بذل المال للبناء شديداً، وكان الأساقفة يعارضون في جمع المال من الأبرشياتهم لإقامة منشآت في غيرها، ولكن أساقفة من أجزاء أخرى، ومن بلاد أجنبية في بعض الأحيان، كانوا يمدون بالمعونة مشروعات في غير بلادهم كما حدث في مدينة تشارتر ولسنا ننكر أن بعض هذه الطبقات كانت تقرب أحياناً من الإلزام، ولكنها قلما تصل إلى قوة
المؤثرات التي تعبأ لتمويل الحروب الحديثة من الأموال العامة. وقد استنفدت هيئات في الكثدرائيات الفرنسية أموالها الخاصة، وكادت تفلس من أجل ذلك الكنيسة الفرنسية في خلال سورة البناء القوطية. ولم يكن الناس أنفسهم يشعرون وهم يتبرعون بالمال بأنهم يستغلون، وقلما كانوا يحسون فقد القليل الذي يبذله كل فرد منهم، لأن هذا القليل كان يرد إليهم فيما يعود عليهم من عزة جماعية وعمل جليل عظيم، وفيما يكون لهم من بيت للعبادة، ومكان رحب يجتمعون فيه، ومدرسة يتعلم فيها أبناؤهم، ومدرسة للفنون والحرف تتلقاها فيها نقاباتهم الطائفية، وكانت في نظرهم كتاباً مقدساً من الحجارة يقرءون في تماثيله وصورة بعين بصيرتهم قصة إيمانهم. وقصارى القول أن بيت الله كان أيضاً بيت الشعب.
ومن هم الذين خططوا الكتدرئيات؟ إذا كانت العمارة هي فن تخطيط البناء وتجميله، وتوجيه القائمين بتشييده فإن علينا أن نرفض- في حالة الفن القوطي- الرأي القديم القائل أن القديسين أو الرهبان هم مهندسو هذه الصروح. لقد كانت مهمتهم هي أن يصوغوا حاجاتهم، وأن يتقدموا بفكرة عامة عن البناء المطلوب، ويحصلوا على مكان يقيمونه فيه، ويجمعوا ما يلزم من المال. وقد جرت عادة رجال الدين وبخاصة رهبان دير كلوني قبل عام 1050 أن يصمموا البناء، ويضعوا خطته، ويشرفوا على بنائه. أما الكتدرئيات الكبرى- كلها بعد عام 1050 - فقد كان لابد فيها من استخدام مهندسين محترفين، كانوا كلهم-إلا قلة منهم لا تذكر- من غير الرهبان أو القسس. ولم يكن المهندس المعماري يلقب بهذا اللقب قبل عام 1563، بل كان يسمى في العصور الوسطى"رئيس البنائين" وأحياناً "رئيس المشيدين"، وتدلنا هذه التسمية على منشئه فقد كان يبدأ حياته بناءً يعمل بيده البناء الذي يشرف عليه. فلما استهل القرن الثالث عشر وعظم الثراء، فشيدت بفضله الصروح الكبيرة، وزاد
التخصص، لم يبق "رئيس البنّائين" رجلاً يشترك بنفسه في العمل اليدوي، بل أصبح رجلاً يضع الخطط ويعرض المناقصات، ويقبل المشارطات، ويخطط الأرض، ويضع الرسوم، ويحصل على المواد، ويؤجر العمال والفنانين، ويؤدي إليهم أجورهم، ويشرف على أعمال البناء من البداية إلى النهاية. وإنا لنعرف أسماء الكثيرين من هؤلاء المهندسين الذين عاشوا بعد عام 1050 نعرف أسماء 137 من المهندسين القوط في أسبانية العصور الوسطى بله غيرها من البلاد. ومن هؤلاء من كانوا ينقشون أسماءهم على ما يشيدونه من الأبنية، ومنهم قلة ألفت كتباً في مهنها. وقد ترك فلار دي هنكور Villard de Honnecourt (حوالي عام 1250 سجلا من المذكرات والرسوم التخطيطية المعمارية توضح ما قام به من الأسفار وهو يمارس مهنته من ليون وريمس إلى لوزان وبلاد المجر.
ولم يكن للفنانين الذين يقومون بأعمال أقل درجة من البناء- أي الذين يحفرون الصور، والنقوش، أو يدهنون النوافذ والجدران، أو يزينون المذبح أو مكان المرتلين- لم يكن لهؤلاء الفنانين اسم خاص يمتازون به من الصناع، لقد كان رئيس صناع، وكانت كل صناعة تحاول أن تكون فناً. وكانت معظم الأعمال توزع بمقتضى عقوبة ومشارطات على النقابات الطائفية التي ينتمي إليها الصناع والفنانون على السواء أما العمل الذي لا يحتاج إلى مهارة فكان يقوم به أرقاء الأرض أو عمال متنقلون مأجورون، وإذا ما طلب العمل الإسراع جندت الحكومة رجالاً- وصناعاً ماهرين إذا لوم الأمر- لإنجازه (3). وكانت ساعات العمل تدوم في الشتاء من مطلع الشمس إلى مغيبها، وفي الصيف من بعد مطلع الشمس إلى قبيل الغروب مع السماح للعمال بوقت يتناولون فيه وجبة الغذاء. وكان المهندسون الإنجليز يتقاضون في عام 1275 اثني عشر بنساً في اليوم (12 سنتاً أمريكيا) تضاف إليها أجور الانتقال وهدايا في بعض الأحيان.
وكان تخطيط أرض الكثدرائية في جوهره هو تخطيط الباسيلكا الرومانية فهو صحن مستطيل ينتهي بمحراب وقبة، وترتفع فوق طرقتين وبينهما إلى سقف قائم على جدران وعمد. وطرأ على هذه الباسيلكا البسيطة تطور معقد ولكنه فاتن خلاب، فأضحت هي الكثدرائية الرومنسية أولاً والقوطية فيما بعد، فقطع الصحن والطرقتين صحنٌ عَرضي يجعل التصميم في شكل صليب لاتيني. وأخذت مساحة أرض الكثدرائية تزداد بفضل المنافسة أو الحماسة الدينية، حتى أضحت مساحة كنيسة نوتردام في باريس 000 و 63 قدم مربعة، ومساحة كنيسة تشارتر أو ريمس 65 ألفاً، وكنيسة أمين 70 ألفاً، وكولوني 90 ألفاً والقديس بطرس 100 ألف. وكانت الكنيسة المسيحية تبنى بحيث رأسها أو محرابها يكون على الدوام متجهاً نحو الشرق- أي نحو بيت المقدس.
ومن أجل هذا كان المدخل الرئيسي في الواجهة الغربية التي تستقبل زخرفتها الخاصة ضوء الشمس الغاربة. وكان كل مدخل في الكثدرائيات العظيمة يتألف من باكية ذات"تجويفات داخلة": أي أن أبعد العقود من الداخل يعلوه عقد أكبر منه يمتد إلى الخارج، من فوقه هو أيضاً عقد يعلوه عقد ثالث أكبر من الثاني، ويتكرر هذا الوضع حتى تبلغ العقود في بعض الأحيان ثماني طبقات يتكون منها كلها غلاف قابل للاتساع. وهناك "طبقات ثانوية" شبيهة بها تزيد جمال عقود الحن وأكتاف الشبابيك. ويتسع كل رباط حجري من العقد المعماري لتماثيل أو غيرها من الزخارف المنحوتة، وبذلك يصبح مدخل الكتدرائية، وبخاصة في الواجهة الغربية، وكأنه فصل شامل واف في كتاب القصص المسيحي الحجري.
ومما زاد في روعة الواجهة الغربية ومهابتها أن أقيم حولها من الجانبين برجان، ذلك أن الأبراج قديمة قدم السجلات التاريخية، ولم تكن تستخدم في الطرازين الرومنسي والقوطي مكاناً للأجراس فحسب، بل كانت تستخدم فوق ذلك
لتحمل ضغط الواجهة الجنوبي، وضغط طوب الأجنحة. وكان في المباني النورمندية والإنجليزية برج ثالث ذو نوافذ كثيرة، إذا لم يكن جزؤه الأكبر مفتوحاً عند قاعدته، وكان هذا البرج بمثابة "فانوس" ينفذ منه الضوء الطبيعي إلى وسط الكنيسة. وقد أراد المهندسون القوط المولعون بالأوضاع الرأسية أن يضيفوا برجاً رفيعاً مستدق الطرف لكل واحد من هذين البرجين، غير أنهم لم يسعفهم المال، أو المهارة الفنية، أو الحماسة، وسقطت هذه الأبراج المستدقة كما حدث في بوفيه، ولم تقم في كثدرائيات نوتردام، أو أمين، أو ريمس أبراج من هذا النوع، ولم يبن في تشارتر إلا برجان من الثلاثة الأبراج المستدقة التي كان في النية إقامتها، كما لم يبن في لاؤن إلا واحد من خمسة، وقد دمر هذا البرج المستدق في أثناء الثورة الفرنسية. وكان برج الجرس يشرف على المدن الإيطالية، كما كان البرج المستدق يشرف على براري البلاد الأوربية والشمالية. وكانت هذه الأبراج في تلك الجهات الشمالية منفصلة عادة عن بناء الكنيسة، تشبه من هذه الناحية برج بيزا Pisa المائل، أو برج جيتو في فلورنس. ولعل من شاهدوها قد تأثروا بالمآذن الإسلامية، ثم عادوا فنشروا هذا الطراز في فلسطين وسوريا، وأصبحت هي أبراج الأجراس في المدن الشمالية.
وإذ كانت العمد التي على جانبي الطرقة الوسطى في داخل الكنيسة تعتمد عليها عقود تنحني حتى تلتقي في قبة السقف، فإن هذه الطرقة تبدو للناظر كأنها هيكل المركب من الداخل في وضع مقلوب، ومن هذا الوضع اشتق اسمها Nav
(1)
. وكان طولها ينقص تأثيره في نفس الناظر إليه أحياناً، وبخاصة في إنجلترا، بإضافة شباك من الرخام أو الحديد المشغول منحوت أو مصبوب نحتاً أو صباً جميلاً يعترض الصحن ليقي المحراب من تطفل العلمانيين أثناء الصلاة.
(1)
الاسم الإنجليزي Nave الذي يطلق على صحن الكنيسة أي جزئها الأوسط الهام مشتق من كلمة net المأخوذة من كلمة navis اللاتينية ومعناها السفينة. (المترجم)
وكان في المحراب مقاعد للمرنمين كلها تحف فنية على الدوام، ومنبران، ومقاعد للقساوسة الذين يصلون بالناس، والمذبح الرئيسي الذي يحتوي في أغلب الأحيان على ستار خلفي مزخرف. ومن حول المحراب ممشى دائري يصل صحن الكنيسة بقباها، ويسمح للمواكب بأن تطوف البناء كله. وكانت بعض الكنائس تنشئ تحت المذبح قبواً تحفظ فيه مخلفات القديس الشفيع، أو عظام الأموات الممتازين، وكأنها بذلك تذكرنا بحجرات الدفن في مقابر الرومان.
وكانت المشكلة الكبرى في العمارة الرومانسية أو القوطية هي طريقة ارتكاز السقف. لقد كانت الكنائس الأولى المقامة على الطراز الرومنسي ذات سقف خشبية مصنوعة في العادة من خشب البلوط الجيد الجفاف. وإذا ما أحسنت تهوية هذا الخشب ومنعت عنه الرطوبة فإنه يبقى إلى ما شاء الله، وشاهد ذلك أن الطريقة الجنوبية المستعرضة في كثدرائية ونشستر لا تزال محتفظة بسقفها الخشبي المصنوع في القرن الثاني عشر. وأكبر عيب في هذه السقف هو تعرضها لخطر الحريق، فإذا ما شبت النار فيها من الصعب الوصول إليها لإطفائها. ولهذا فإنه لم يستهل القرن الثاني عشر حتى كانت الكنائس الكبرى كلها تقريباً قد بنيت سقفها. وكان ثقل هذا السقف هو الذي وجه تطور العمارة الأوربية في العصور الوسطى. فكان لابد من أن يرتكز قسم كبير من هذا الثقل على العمد المقامة على جانبي الصحن، وإذن فقد كان لابد من تقوية هذه العمد أو مضاعفة عددها، وقد تحقق هذا الغرض بضم عدد من العمد في مجموعة أو إحلال دعامات ضخمة من البناء محل هذه العمد. وكانت مجموعة العمد أو الدعامة الضخمة يعلوها تاج، وربما كانت لها أيضاً عصابة يتسع بها سطحها لتحمل ما يعلوها من ثقل، وكانت مروحة من العقود تقوم فوق كل مجموعة من العمد أو الدعامة: منها عقد مستعرض في الصحن يمتد إلى الدعامة المواجهة، وعقد مستعرض آخر يمر فوق الطرقة إلى دعامة في الجدار، وعقدان طوليان يمتدان إلى الدعامتين التاليتين
الخلفية منهما والأمامية، وعقدان ممتدان على طولي القطرين ويصلان بين إحدى الدعامات ودعامتين متقابلتين لها في عرض الصحن، وقد يكون هناك عقدان آخران ممتدان إلى دعامتين مقابلتين يعلوان فوق عرض الممشى. وقد جرت العادة أن يكون لكل عقد ركيزته الخاصة فوق عصابة الدعامة أو تاجها. وكان يحدث أحياناً ما هو خير من هذا فيكون مستطيل كل عقد في خط غير منقطع حتى يصل إلى الأرض ليكون طائفة من العمد المتجمعة أو الدعامات المركبة. وكان الأثر الذي ينتج من هذه العمد والدعامات الرأسية من أجمل خصائص الطرازين الرومنسي والقوطي. وكان كل مربع من العامات القائمة في الصحن أو الطرقات يكون فرجة ترتفع منها العقود منثنية انثناءاً رشيقاً نحو الداخل ليتكون منها قسم سن القبة. وكان هذا السقف يغطى من الخارج بسطح هرمي من الخشب تستره وتقيه طبقة من الأردواز أو القرميد.
وكانت قبة السقف أعظم ما أنتجته عمارة العصور الوسطى. وقد سمح مبدأ العقود بإيجاد فضاء يغطي أوسع رقعة من السطح الذي ييسر وجوده السقف الخشبي أو العوارض المرتكزة على العمد. وبهذا أصبح من المستطاع توسيع عرض الصحن حتى يوائم طوله الكبير، فلما زاد هذا العرض تطلب ذلك زيادة ارتفاعه حتى يتناسب الارتفاع مع سعته، وييسر هذا ارتفاع المستوى الذي تقوم فوقه العامات أو الجدران، وهذه الاستطالة الجديدة في العمد زادت هي الأخرى من علو الكثدرائية. وزاد تناسق أجزاء القبة لما أنشأت في حافاتها "ضلوع" من الآجر أو الحجارة تمتد من زوايا تقاطع العقود. وأدت هذه الضلوع هي الأخرى إلى تحسينات كبرى في البناء والطراز. فقد عرف البناءون كيف يبدأون القبة بإنشاء ضلع فوق إطار خشبي يسهل تحريكه ونقله، ثم ملئوا المثلثات التي بين ضلعين بالبناء الخفيف مثلثاً بعد نثلث، وجعلوا هذه الشبكة الرقيقة من البناء مقعرة، وبهذا نقل الجزء الأكبر من ثقله إلى الضلوع
نفسها، وجعلت هذه الضلوع قوية حتى يلقى الضغط السفلي على نقط معينة- هي دعامات الصحن أو الجدار. ولقد أضحت القبة ذات الأضلاع والعقود المتقاطعة من أهم ما تمتاز به عمارة العصور الوسطى في أعلى درجاتها.
وعولجت مشكلة ارتكاز البناء العلوي فوق هذا بجعل صحن الكنيسة أعلى من طرقاتها، وبهذا كان سقف الطرقة، هو والجدار الخارجي، بمثابة دعامة لقبة الصحن، وإذا ما بنيت فوق الطرقة نفسها قبة، فإن عقودها المضلعة تلقي نصف ثقلها إلى الداخل لتقاوم بذلك الضغط الخارجي للقبة الوسطى عند أضعف نقط في دعامات الصحن. ويضاف إلى هذا أن جزء الصحن الذي يعلوا عن سقف الطرقات يصبح في الوقت نفسه بمثابة طابق أعلى ترتفع نوافذه فوق مستوى البناء المجاور له، فتكون بذلك غير محجوبة وتضيء صحن الكنيسة. وكانت الطرقات نفسها تقسم عادة إلى طابقين أو ثلاثة أطباق تكون أعلاها شرفة، وتسمى التي أسفل منها ذات الأبواب الثلاثة لأن المسافات التي بين العقود والتي تواجه بها الصحن كانت تقسم عادة إلى "ثلاثة أبواب" بعمودين يقومان فيها. أو كان ينتظر من النساء في الكنائس الشرقية أن يصلين في ذلك المكان وأن يتركن الصحن كله للرجال.
وهكذا قامت الكثدرائية مرحلة في إثر مرحلة خلال عشرة أعوام أو عشرين عاماً أو مائة عام، تتحدى قوة الجاذبية لتمجد الله سبحانه. فإذا تمت وأصبحت معدة للصلاة دشنت باحتفال ديني فخم، يجتمع فيه كبار الأحبار وذوو المقام العالي، والحجاج، والنظارة، وجميع أهل المدينة ما عدا القرويين غير المتدينين. وتمضي عدة سنوات بعد ذلك لتكملة ما تحتاج إليه من الإضافات في الداخل والخارج وإضافة ألف من الزخارف وضروب التحلية. ويظل الناس قروناً طوالاً يقرءون على أبوابها، ونوافذها، وتيجان أعمدتها وجدرانها ما حفر أو صور عليها من تاريخ دينهم وقصصه- يقرءون قصة خلق العالم، وسقوط آدم، ويوم
الحساب، وسير الأنبياء والبطارقة وما تعرض له أولياء الله الصالحون من صنوف العذاب وما قاموا به من المعجزات، والقصص ذات المغزى التي تدور حول عالم الحيوان، وعقائد رجال الدين التحكيمية، بل وآراء الفلاسفة التجريدية. كل هذه نجدها في الكنيسة تتكون منها موسوعة حجرية كبيرة في الدين المسيحي. وكان المسيحي الصالح يرجو حين يموت أن يدفن بالقرب من تلك الجدران التي تمتنع الشياطين عن الجولان حولها. ويأتي الناس جيلاً بعد جيل للصلاة في الكثدرائية، ويخرجون جيلاً بعد جيل من الكنيسة إلى المقابر التي حولها وتظل الكثدرائية الشهباء عليهم في غدوهم ورواحهم بهدوء الحجارة الساكنة حتى يجيء الموت الأعظم، ويموت الدين نفسه، فتستسلم هذه الجدران المقدسة إلى الدهر الذي لا يبقي على شيء أو حتى تهدم هذه الكثدرائية لتبنى من أنقاضها هياكل جديدة لآلهة جدد.
الفصل الثاني
الطراز الرومنسي القاري
1066 -
1200
لو أننا قلنا إن هذا الوصف العام الذي وصفنا به الكثدرائية يصدق على جميع الكنائس في العالم المسيحي اللاتيني لأخطأنا خطأً كبيراً في شأن تنوع العمارة الغربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ذلك أن تأثير الفن البيزنطي قد بقي قائماً في مدينة البندقية، وقد أضيفت إلى كنيسة القديس بطرس زخارف بعد زخارف، وأبراج بعد أبراج، وغنائم تلو غنائم، ولكنها كانت على الدوام على نمط مثيلاتها في القسطنطينية ممتزجة بأخرى من بغداد. وأكبر الظن أن طراز القباب البيزنطي ذا المثلثات التي بين العقود القائمة فوق قاعدة يونانية على شكل الصليب، قد دخل فرنسا عن طرق جنوا أو مرسيليا، وظهر في كنيستي سانت إتين St. Etienne وسانت فرونت St. Front في برجويه Periguex وفي كتدرائيتي كاهور Cahors وأنجوليم Angouleme. ولما أن اعتزمت البندقية بناء قصر الدوج وتوسيعه عمدت في عام 1172 إلى خليط من الطرز المعمارية - الرومانية، واللمباردية، والبيزنطية، والعربية- وجمعتها كلها في آية من آيات الفن وصفها فيل هاردون Villehardouin في عام 1202 بأنها جد غنية وجميلة، ولا تزال حتى الآن أكبر مفاخر القناة الكبرى في تلك المدينة.
وليس ثمة تعريف لأي طراز معماري يسلم من الشواذ، ذلك بأن أعمال الإنسان، كأعمال الطبيعة نفسها، تأبى التعميم، وتلوح بفرديتها في وجه كل قاعدة. فلنقل إذن إن العقد المستدير، والجدران والدعامات السميكة، والنوافذ الضيقة، ومساند الجدران المتصلة بعضها ببعض أو انعدام هذه المساند، والخطوط الأفقية في الغالب، لنقل إن هذه الصفات هي التي يمتاز بها الطراز الرومنسي،
ولنكن مستعدين مع هذا إلى قبول بعض الانحراف عن هذا الوصف في هذا الطراز.
وقد طلبت بيزا بعد ما يقرب من قرن من إقامة كنيستها إلى ديوتيسالفي Diotisalvi أن يبني مكاناً للتعميد في عرض مربع من مربعات الكثدرائية (1102). فصمم البناء على شكل دائرة وجعل ظاهر البناء من الرخام، وشوه بالبواكي الخالية من النقوش، وأحاطه بالعمد، وأقام فوقه قبة لولا أنه جعل أعلاها مخروطي الشكل لكانة كاملة. ثم أقام بون أنو Bonanno من بيزا ووليم من انزبروك Innabruck البرج المائل ليكون برجاً للأجراس (1174). وقد تكرر فيه طراز واجهة الكاتدرائية- فهو سلسلة من البواكي الرومنسية بعضها فوق بعض وفي طبقته الثامنة علقت الأجراس. وهبط البرج في ناحيته الجنوبية بعد أن بنيت ثلاث طبقات فوق الأساس الذي لم يزد عمقه على عشر أقدام، وأراد المهندس أن يعوض هذا الميل بأن أمال الطبقات الأخرى نحو الشمال. وينحرف البرج الآن عن الوضع العمودي ست عشرة قدماً ونصف قدم في ارتفاع 179 قدماً- وقد زاد هذا الانحراف قدماً واحدة بين عامي 1828 و 1910.
وجاءت الأنماط الرومنسية مع الرهبان الإيطاليين الذين هاجروا إلى فرنسا، وألمانيا، وإنجلترا، ولعل هؤلاء الرهبان هم الذين طبعوا معظم الأديرة الفرنسية بالطابع الرومنسي، ولهذا فقد أصبح طراز الأديرة إسماً ثانياً لهذا الطراز في فرنسا. وقد شاد رهبان كلوني البندكتيون فيها ديراً فخماً (1098 - 1131) ويحتوي على أربع طرقات جانبية وسبعة أبراج، ونحتوا طائفة كبيرة من تماثيل الحيوانات أثارت غضب القديس برنار وأنطقته بالقول:
ماذا تريدون أن تفعل هذه الوحوش السخيفة المضحكة في أروقة الدير تحت سمع الرهبان وبصرهم؟ وما معنى وجود هذه القردة النجسة، وتلك
التنينات، والقنطروسات، والنمورة، والآساد
…
وأولئك المقاتلين، ومناظر الصيد التي تغطي الجدران؟
…
وماذا تعمل تلك المخلوقات التي نصفها وحوش ونصفها أناسي؟
…
إنا لنرى هنا عدة أجسام تحت رأس واحد، وعدة رؤوس فوق جسم واحد، ونرى في مكان ما حيواناً من ذوات الأربع له رأس ثعبان، وفي مكان آخر سمكة لها رأس حيوان من ذوات الأربع، ونرى في مكان غيره جواداً من الأمام وماعزاً من الخلف (4).
وقد دمر دير كلوني في أثناء اضطرابات الثورة الفرنسية، ولكن أثره المعماري انتشر في الألفين من الأديرة المنتسبة إليه. ولا يزال جنوبي فرنسا غنياً بالكنائس الرومنسية، فقد كانت التقاليد الرومانية فيها قوية في الفن كما كانت قوية في القوانين، وظلت زمناً طويلاً تقاوم الطراز "البربري" القوطي الذي أقبل عليها من الشمال. وإذ كان الرخام نادراً في فرنسا فقد عوضت نقص البريق الخارجي بكثرة الصور المنحوتة، وإن ما تمتاز به التماثيل من قوة التعبير لمما يثير الدهشة- ففيها يتبين الناظر العزم على نقل الإحساس بدل نقل المنظر، ولهذا فإن صورة القديس بطرس القائمة عند باب دير مواساك Moissac، (1150) بوجهها المعذب وساقيها العنكبوتيتين لم تكن تهدف بلا ريب إلى إبراز خطوط البناء بقدر ما كانت تهدف إلى التأثير في خيال الناظر إليها وبث الرعب في قلبه. وتدل صور النبات الدقيقة الواقعية في تيجان أعمدة مواساك على أن المثالين قد عمدوا عن قصد إلى تشويها يرسمون من الصور. وخير ما يوجد من هذه الواجهات الرومنسية في فرنسا هو المدخل الغربي لكنيسة القديس تروفيم St. Trophime في آرك (1152)، المزدحمة بصور الحيوانات والأولياء الصالحين.
وشادت أسبانيا ضريحاً رومنسياً فخماً في كنيسة سنتياجو دي كمبستسلا (1078 - 1211) الذي يحتوي "باب المجد" Portico de Glorira فيها
أجمل نحت رومنسي في أوربا كلها. وشادت كوامبرا Coimbra، التي أضحت بعد زمن وجيز مدينة البرتغال الجامعية، كثدرائية رومنسية في القرن الثاني عشر، ولكن الطراز الرومنسي لم يبلغ ذروته إلا في البلاد الشمالية التي هاجر إليها. لقد نبذته إيل دي فرانس Ile de Francs ولكن نورمندية أحسنت استقباله، لأن قوتها الخشنة كانت توأم أحسن مواءمة شعباً كان من عهد قريب من بحارة لشمال المغيرين، ولم يزل حتى ذلك الوقت من القراصنة. ولهذا شاد رهبان جومييج Jumieges البندكتيون وهي بلدة قريبة من رون- في عام 1048 ديراً اشتهر بأنه أكبر من أي دير سواه شيد في أوربا الغربية منذ أيام قسطنطين، ذلك بأن العصور الوسطى كانت تفخر أيضاً بضخامة مبانيها. وقد دمر هذا الدير نصف تدمير على أيدي المتعصبين من رجال الثورة، ولكن وجهته وأبراجه الباقية حتى الآن نحتفظ بتصميمه الجريء القوي. والحق أن الفزع النورمندي من الطراز الرومنسي قد تكون في ذلك المكان. وكان يعتمد في تأثيره على الحجم وشكل البناء أكثر مما يعتمد على الزينة.
وأراد وليم الفاتح أن يكفر عن ذنبه بزواج ماتلدة أميرة فلندرز فقدم عام 1066 المال اللازم لبناء كنيسة سانت إتين في كاين Caen وهي المعروفة بدير الرجال Abbayas aux Homme، وقدمت ماتلدة، لهذا الغرض عينة فيما نظن، ما يلزم من المال لبناء كنيسة الثالوث La Trinit المعروفة بدير النساء Abbys ayx Dames ولما أريد إعادة بناء دير الرجال في عام 1135 قسمت كل فرجة بين العمد في صحن الكنيسة بعمود إضافي في كل ناحية، وربط العمودان الجديدان بقوس مستعرضة، وبهذا أضحت القبة الرباعية قبة سداسية، وهو شكل انتشر في أوربا في القرن الثاني عشر.
وانتقل الطراز الرومنسي من فرنسا إلى فلاندرز، وأنشئت على هذا الطراز كتدرائية جميلة في تورناي (1066)؛ ومن فلاندرز، وفرنسا، وإيطاليا انتقل
إلى ألمانيا. وكانت مدينة مينز قد بدأت كثدرائيتها في عام 1009، وتريير Triere في عام 1016 واسباير speyer في 1030، ثم أعيد بناء هذه الكنائس قبل عام 1300، واحتفظ فيها حين إعادتها بالطراز المستدير، وشادت كلوني في ذلك الوقت في كبتول Kapitol كنيسة القديسة ماريا التي اشتهرت بجمالها من الداخل وكنيسة القديسة ماريا الشهيرة بأبراجها. وقد دمرت الكنيستان في الحرب العالمية الثانية. ولا تزال كثدرائية ورمز التي افتتحت في عام 1171 وأعيد بناؤها في القرن التاسع عشر تشهد بعظمة فن نهر الراين الرومنسي. وكان لكل واحد من هذه الكنائس قباً في كل طرف، وقلما كان يعنى فيها بالواجهات ذات التماثيل، المنحوتة، كانت تزدان من الخارج بالعمد وتدعم بأبراج أخرى صغيرة رفيعة ذات أشكال مختلفة. وإن الناقد غير الألماني ليمتدح هذه الأضرحة بالاعتدال المنبعث من نزعته الوطنية؛ ولكن الأماني يرى فيها جمالا فاتنا يوائم كل المواءمة جمال بلاد الرين الجذاب.
الفصل الثالِث
الطراز النورمندي في إنجلترا
1066 -
1200
لما جلس إدوارد المعترف على العرش في عام 1042 جاء معه بكثير من الأصدقاء والأفكار من بلاد نورمندية التي قضى فيها أيام شبابه. وبدأ دير وستمنستر في أيامه كنيسة نورمندية ذات عقود مستديرة وجدران ثقيلة؛ وقد دفن هذا البناء تحت دير القوطي الذي شيد في عام 1245؛ ولكنه كان بداية انقلاب معماري خطير، وكان الإسراع في استبدال الأساقفة النورمنديين بالسكسون والدنمرقيين مما أكد غلبة الطراز النورمندي في إنجلترا. ونفح وليم الفاتح وخلفاؤه الأساقفة بكثير من الثروة المصادرة من الإنجليز الذين لم يقدروا فتح بلادهم حق التقدير وأضحت الكنائس أداة لتهدئة العقول، وما لبث الأساقفة الإنجليز النورمنديون أن بلغوا من الثراء ما بلغه النبلاء الإنجليز النورمنديون، وتضاعف عدد الكثدرائيات والقصور، وتحالفت بعضها مع بعض في البلاد المفتوحة، وكتب في ذلك وليم المالزبري William of Malmsbnry يقول:"وأخذوا كلهم ينافسن بعضهم بعضا في إقامة العمائر الفخمة على الطراز النورمندي، لأن النبلاء كانوا يشعرون بأن اليوم الذي يحتفلون فيه بعمل فخم عظيم يوم ضائع"(5). والحق أن إنجلترا لم تشهد قط صورة جنونية في البناء كالتي شهدتها في ذلك الوقت. وتفرعت العمارة النورمندية الإنجليزية من الطراز الرومنسي وكانت مغايرة له في بعض أجزائه. فقد حذت حذو المثل الفرنسية ارتكاز السقف بعقود مستديرة على دعامات سميكة وجدران ثقيلة - وإن كانت سقفها قد صنعت في العادة
من الخشب. وإذ كانت القبة من الحجارة فقد كان سمك الجدران يتراوح بين ثمان أقدام وعشر. وكانت معظم الكنائس أشبه بالأديرة في أنها تقام في أماكن نائية لا في المدن. ولم يكن في الكنيسة إلا قليل من التماثيل الخارجية، لأن القائمين عليها كانوا يخشون على هذه التماثيل من مناخ البلاد الرطب، وحتى تيجان الأعمدة كانت تنحت نحتاً بسيطاً غير دقيق، والحق أن إنجلترا لم تبلغ في النحت ما بلغته بلاد القارة الأوربية، وأن لم تكن في تلك البلاد أبراج كثيرة تضارع الأبراج العظيمة التي تشرف على القصور النورمندية أو تحرس وجهات الكنائس النورمندية أو ملتقى الطرقات المغطاة فيها.
ولا يكاد يبقى إلى وقتنا هذا في إنجلترا كلها بناء كنسي رومنسي خالص. فقد ارتفعت في كثير من الكثدرائيات العقود والقباب في القرن الثالث عشر، ولم يبق فيها إلا الشكل الأساسي النورمندي، وقد دمرت النار كثدرائية كنتربرى القديمة في عام 1067، ثم أعاد لافرانك بناءها (1070 - 1077) على نمط دير الرجال الذي له في كائن، ولم يبق من كنيسة لافرانك إلا قطع قليلة من البناء في المكان الذي سقط فيه بكت. ثم أقام الرئيسان إرنلف وكنراد سردابا جديداً ومكاناً للمرنمين، واحتفظا بالعقد المستدير ولكنهما نقلا الضغط على نقط تقويها مساند خارجية. وكان الانتقال إلى الطرز القوطي قد بدأ قبل ذلك الوقت.
واختفت في عام 1291 كنيسة يورك التي شيدت في عام 1075 على قواعد نورمندية، وكان اختفاؤها تحت صرح قوطي، وأعيد بناء كثدرائية لكلن، التي كانت في الأصل (1075) نورمندية الطراز، على الطراز القوطي، وكان ذلك بعد أن دمرها زلزال عام 1185، ولكن الكنيسة النورمندية الأولى بقي منها البرجان الكبيران والأبواب الفخمة النحت، ومنها يستبين الإنسان ما يمتاز به الطراز القديم من حذق وقوة. وفي ونشستر بقيت من الكثدرائية القديمة التي
أقيمت بين عامي 1081 و 1103 طرقاتها المتقاطعة وسردابها. وهذه الكنيسة هي التي بناها الأسقف ولكلين Walkelin لاستقبال الوفود التي كانت تحج إلى قبر القديس إسويثين
(1)
. وقد لجأ إسويثين إلى ابن عمه وليم الفاتح ليمده بالخشب اللازم لسقف سطحها العظيم الاتساع، وأجاز له وليم أن يأخذ من غابة همباج Hemage كل ما يستطيع قطعه من الأشجار في ثلاثة أيام، فما كان من أتباع ولكلين إلا أن قطعوا جميع أشجار الغابة ونقلوها في اثنين وسبعين ساعة. ولما تم بناء الكثدرائية شهد تدشينها رؤساء الأديرة الإنجليزية وأساقفتها كلهم تقريبا، وليس من العسير علينا أن نتصور ما أثاره هذا الصرح الضخم من منافسة قوية في البناء.
وفي وسعنا أن نتصور كذلك اتساع مجالس التنافس في الأبنية النورمندية إذا لاحظنا أن دير سانت أولبنز بدئ في عام 1075، وأن كثدرائية إلى Ely بدئت في عام 1081، وروشستر في عام 1803، وكنيسة وورسستر في عام 1084، وكنيسة القديس بولس القديمة في عام 1087، وكنيسة جلوسسير في عام 1089، ودرهام في 1092، ونوروك في 1096 وتشيشستر في 1100، وتوكسبري kesburyTe في 1103، وإكستر في 1112، وبيتربرو Peterborough في 1116، وكنيسة دير رمزي Romsey في 1120، ودير فونتين Fountains في 1140، وكنيسة القديس دافدبويلز في 1176. وليست هذه الكنائس مجرد أسماء بل هي كلها آيات فنية، وإنا لنستحي أن تخرج من هذه الكنائس ولما نقض فيها إلا بضع ساعات، أو أن نفرغ من الكلام عليها في بعض السطور. وقد أعيد بناؤها أو بدلت كلها ما عدا واحدة على الطراز القوطي، ذلك أن كنيسة درهام لا تزال نورمندية
(1)
وهو أسقف من أساقفة ونشستر عاش في القرن التاسع. وتقول إحدى القصص إذا المطر قد أخر نقل جثته إلى الضريح الذي أعد له في عام 1971 مدة أربعين يوما؛ ومن ثم نشأ القول المأثور إن نزول المطر في يوم القديس اسويثين (15 يوليه) ينبئ باستمراره أربعين يوما.
في معظم أجزائها، ولا تزال أعظم الصروح الرومنسية في أوربا روعة.
ودرهام بلدة من بلدان التعدين يبلغ سكانها نحو عشرين ألفا. ويقوم عند ثنية من ثنايا نهر وير Wear نتوء صخري، ويقوم على هذا المرتفع ذي الموقع المنيع صرح الكثدرائية الضخم "نصفه كنيسة الله ونصفه الآخر حصن منيع لصد غارات الاسكتلنديين"(6). وقد أقام جماعة من رهبان جزيرة لندسفارن Lindisfarne فارين من المغيرين الدنمرقييين كنيسة من الحجر في ذلك المكان عام 995، ثم هدم أسقفها الثاني وليم السانت كارليفي of St. Carilef هذا البناء في عام 1093 وشاد الصرح القائم مكانه إلى هذا اليوم بشجاعة نادرة الوجود وثروة لا يعرف مصدرها حتى اليوم. وظل العمل فيها قائما. حتى عام 1195، ولهدا فإن الكثدرائية تمثل آمال من شادوها وجهودهم مدى مائة عام كاملة. وصحن الكنيسة الشامخ نورمندي الطراز، له صفان من البواكي ذات العقود المستديرة المرتكزة على تيجان غير منقوشة ودعامات ضخمة قوية. وقد أدخلت قبة درهام في إنجلترا فكرتين جديدتين غاية في الخطر: أولاهما أن ملتقى العقود والأقبية تخرج منه ضلوع، وهذا يساعد على التركيز الضغط في مواضع خاصة، والثانية أن العقود مستدقة الرؤوس على حين أن الأقطار مستديرة، ولو أن العقود المستعرضة كانت مستديرة لما وصلت تيجانها إلى الارتفاع الذي بلغته الأقطار وهي أطوال من العقود، ولأصبحت قمة القبة خطا مضطرباً غير متساو في الارتفاع. فلما رفعت تيجان العقود المستعرضة لتلتقي في شكل زاوية أمكن إيصالها إلى الارتفاع المطلوب. ويبدو أن هذه الحاجة المعمارية لا الاستجابة إلى حاسة الجمال هي منشأ أهم المظاهر البارزة في الطراز القوطي.
وأضاف الأسقف بدسي Pudsey في عام 1175 إلى الطرف الغربي من
كثدرائية درهام طنفاً جميلاً جذاباً أطلق عليه لسبب لا نعرفه اسم الجليل
(1)
والعقود القائمة في هذا المكان- الذي يحتوي قبر بيد الأب الموقر- مستديرة، ولكن العمد الرفيعة تقترب من الشكل القوطي. وقد تهدمت القبة القائمة فوق موضع المرنمين في أوائل القرن الثالث عشر، فلما أعيد بناؤها دعم المهندسون باكية الصحن بسنادات تربط الأجزاء العليا والوسطى من البناء بالسنادات الرأسية التي بالجدران الخارجية، وتختفي تحت البواكي التي في الصحن والطرقات. وأضيفت إليها بين عامي 1240، 1280 ضريح ذو تسعة مذابح ليحتفظ فيه بمخلقات القديس كثبت Cuthbett، وكانت العقود التي في هذا الضريح مستدقة وبذلك تم الانتقال إلى الطراز القوطي.
(1)
لعل الذي أوحى بهذا الاسم هو الآية السابعة من الإصحاح السادس عشر من إنجيل مرقس. (المترجم)
الفصل الرابع
نشوء العمارة القوطية وارتقاؤها
يمكن تعريف هندسة العمارة القوطية بأنها حصر ضغط البناء في أماكن خاصة، وتوازن هذا الضغط، وتوكيد الخطوط الرأسية، والقباب المضلعة، والأشكال المستدقة. وقد نشأ هذا الفن عن طريق حل المشاكل الآلية التي أوجدتها حاجة المباني الكنسية والأماني الفنية. ذلك أن خوف احتراق البناء أدى إلى إقامة القباب من الحجارة والآجر، وأن ازدياد ثقل السقف أوجب بناء الجدران السميكة والعامات السمجة، ووجود الضغط السفلي في كل مكان حدد سعة النوافذ، وأن الجدران السميكة ظللت النوافذ الضيقة، ولهذا أصبح داخل الكنيسة شديد الظلمة لا يتناسب مع جو البلاد الشمالية. وقد قلل اختراع القبة المضلعة ثقل السقف فأمكن بذلك إقامة العمد الرفيعة، وحصر التوتر في أماكن محددة، كما أن تركيز الضغط وتوازنه قد أكسبا البناء استقراراً من غير زيادة في الثقل، وحصر الارتكاز بطريق المساند قد سمح بوجود نوافذ طويلة في الجدران القليلة السمك، وكانت النوافذ مجالاً مغرياً لممارسة فن الزجاج الملون الذي كان موجوداً في ذلك الوقت، كما أن الإطارات الحجرية التي تعلو النوافذ المركبة قد شجعت على قيام الفن الجديد في النقوش الغائرة أو الرسوم السطحية، وجعلت عقود القباب مستدقة ليمكن إيصال العقود ذات الأطوال المختلفة إلى تيجانها بارتفاع واحد لها جميعاً، ثم جعلت العقود الأخرى وأشكال النوافذ مستدقة كذلك لتكون متناسقة مع عقود القبة. ولما تحسنت طرق احتمال الضغط على هذا النحو أمكن زيادة ارتفاع صحن الكنيسة، وأبرزت الأبراج
الكبيرة، وأبراج الأجراس الرفيعة، والعقود المستدقة أهمية الخطوط الرأسية وأنتجت ما يمتاز به الطراز القوطي من علو شامخ ورشاقة تبعث البهجة في النفوس. هذه الخصائص مجتمعة جعلت الكثدرائية القوطية أعظم ما أنتجته النفس البشرية وأجل ما عبرت به عن مشاعر.
لكننا نعدو طورنا إذا ادعينا أن في وسعنا أن نفرغ من وصف تطور العمارة في فقرة من فصل، ذلك أن بعض خطوات من هذا التطور جديرة بالبحث الهادئ على مهل. مثال ذلك أن مشكلة التوفيق بين الرشاقة الرفيعة والصلابة المستقرة قد حلتها العمارة القوطية أحسن مما حلها أي فن معماري قبل وقتنا الحاضر، ولسنا نعرف إلى متى يستطيع تحدينا لقوة الجذب أن ينجو من قدرة الأرض على تسوية لأعلاها بأسفلها. على أن المهندس القوطي لم يصب التوفيق والنجاح على الدوام، فإن تكن كنيسة تشارتر لا تزال قائمة سليمة من الشروخ، فإن موضع المرنمين في كثدرائية بوفيه تهدم بعد اثني عشر عاماً من بنائه، ولقد كان أهم ما يمتاز به الطراز القوطي هو الأضلاع في أجزاء البناء المختلفة: أضلاع العقود المستعرضة والممتدة على طول أقطارها، والتي ترتفع من كل فرجة بين أعمدة صحن الكنيسة، وتجتمع لتكون شبكة خفيفة رشيقة يمكن أن ترتكز عليها قبة رقيقة من البناء. وقد أضحت كل فرجة في الصحن وحدة بنائية قائمة بذاتها تتحمل الثقل والدفع الناشئين من العقود القائمة على دعاماتها، واللذين تساعد على تحملها ضغوط أخرى مقابلة لما تحدثها الفرجات المقابلة لهما في طرقات البناء وضغوط المساند الخارجية المركبة على الجدران في النقط التي يبدأ منها كل عقد مستعرض.
والمساند استنباط قديم، فقد كان لكثير من الكنائس التي شيدت قبل عهد القوط عمد مبنية تضاف إليها من خارجها عند النقط التي يقع عليها ضغط خاص. على أن الدعامات التي تصل جدران الأجزاء الداخلية والوسطى من البناء بالدعامات الرأسية للجدران الخارجية تنقل الدفع أو التوتر فوق فراغ
إلى مسند عند القاعدة وإلى الأرض. وقد كانت بعض الكثدرائيات النورمندية تستخدم في البواكي التي بين الصحن والطرقات الجانبية أنصاف عقود تدعم عقود الصحن، غير أن هذه المساند الداخلية تصل جدران الصحن في نقطة منخفضة لا تهب القوة للطبقة العليا المضيئة التي يكون ضغط القبة عليها بالغ الشدة، والتي يعرضها هذا الضغط إلى الانهيار. ولهذا فإن تقوية البناء في هذه النقط العالية كان يحتم إخراج المساند من مخابئها، وإقامتها فوق الأرض الصلبة والانتقال بها في الفراغ فوق سقف الممشى لتدعم بذلك جدار الطبقة العليا المضيئة مباشرة. وكان أقدم ما عرف من استخدام هذا النوع من المساند في كثدرائية نويون Noyon حوالي عام 1150 (7)، ولم يختتم ذلك القرن حتى أضحت من الاختراعات المحببة. على أنها لم تكن تخلو من أخطاء ذات خطورة: فقد كانت في بعض الأحيان توحي إلى الناظر بأنها هيكل بنائي، أو محالات أهملت إزالتها؛ أو مهرب لجأ إليه المصمم فيما بعد لأن بناءه هبط من وسطه، وأن "للكثدرائية عكازات" كما يقول ميشليه Mihcelet. ولهذا نبذ عصر النهضة هذا الضرب من المساند ورآها حواجز قبيحة المنظر، واخترع أساليب أخرى لحل أثقال قبة القديس بطرس. لكن المهندس القوطي كان على غير هذا الرأي، فقد كان يجب أن يعرض على الأنظار خطوط فنه وحيله الآلية، وقد أولع بالمساند ولعله ضاعف عددها من غير حاجة إلى هذا التضعيف، وجعلها مساند مركبة حتى تدعم بذلك البناء في نقطتين أو أكثر من نقطتين، أو تدعم إحداهما الأخرى، ثم جمل الدعامات التي تعمل على استقرارها بما أضافه إليها من "الشماريخ"
(1)
. وأثبت أحيانا - في ريمس - أن مَلكا واحداً في القليل يستطيع الوقوف على قمة الشمروخ.
(1)
الأبراج المستدقة المرتفعة Pinnacles
وكان توزيع التوتر أعظم أهمية في العمارة القوطية من العقد المستدق، ولكن هذا العقد أصبح هو السمة الخارجية الظاهرة للرشاقة الداخلية. وكان العقد المستدق هذا من الأشكال القديمة، فهو يظهر في ديار بكر بتركيا مقاماً فوق عمد رومانية لا يعرف لها تاريخ، وأقدم مثل له معروف التاريخ في قصر اين وردان ببلاد مشام، ويرجع تاريخه إلى عام 561 (6)، ويوجد هذا الشكل في قبة الصخرة في المسجد الأقصى ببيت المقدس، وهو من مباني القرن السابع، كما يوجد في مقياس للنيل بمصر أنشئ في عام 879، وكثيراً ما كان يقينه الفرس؛ والعرب، والأقباط، والمغاربة المسلمون قبل أن يبدأ ظهوره في أوربا الغربية في النصف الثاني من القرن الحادي عشر (9). ولعلة جاء إلى فرنسا الجنوبية من أسبانيا الإسلامية، ولعله جاء به الحجاج العائدون من بلاد الشرق، أو لعله نشأ في بلاد الغرب من تلقاء نفسه ليحل مشاكل آلية في تصميم العمارة. على أننا يجب أن نلاحظ أن مشكلة الوصول بعقود ذات أطوال مختلفة إلى تاج مستو يمكن أن تحل من غير الالتجاء إلى العقد المستدق، وذلك بتعلية النقطة التي يبدأ عندها من العامة أو الجدار في الداخل. وقد كان لهذه الطريقة أيضاً أثرها الجمالي لأنها تبرز الخطوط الرأسية، ولهذا استخدمت على نطاق واسع، وقلما كانت تتخذ بديلا من العقد المستدق بل كانت كثيرة الاستعمال مع هذا العقد لتقوية ومساعدته على أداء وظيفته. وحل العقد المستدق مشكلة أخرى: ذلك أنه لما كانت الطرقات الجانبية أضيق من صحن الكنيسة فإن فرجة الطرقة كان يزيد طولها على عرضها، ولهذا فإن تيجان عقودها المستعرضة تكون أقصر كثيراً من عقود قطريها، إلا إذا كانت العقود المستعرضة مستدقة أو إذا رفعت النقطة التي تبدأ عندها هذه العقود من الداخل ارتفاعاً يحول بين تناسقها مع القطرين. وقد كان العقد المستدق حلا لتلك العملية الصعبة عملية إقامة قبة من عقود ذات تاج
مستو على ممشى القبا، حيث يكون الجدار الخارجي أطول من الجدار الداخلي، وحيث تكون كل فرجة شبه منحرف لا يمكن تصميم قبته تصميما مقبولا بغير العقد المستدق. ومما يدل على أن هذا الشكل لم يستخدم فيها لرشاقته في أول الأمر كثرة المباني التي استخدم فيها لحل تلك المشكلات، مع أن العقود المستديرة ظلت تستخدم في النوافذ ومداخل الأبنية في الوقت عينه. ثم انتصر العقد المستدق تدريجياً لارتفاعه العمودي، وقد يكون للرغبة في تناسق الشكل أثر في هذا الانتصار. وإن التسعين عاماً من الكفاح المتواصل بين العقد المستدير والعقد المستدق-أي منذ ظهور العقد المستدق في الكثدرائية الرومنسية بدرهام (1104) إلى البناء النهائي لكثدرائية تشارتر (1194) - لهي فترة الانتقال إلى هذا الطراز المعماري في الهندسة القوطية الفرنسية.
وقد أوجد استخدام العقد المستدق في النوافذ مشاكل جديدة، وحلولا لها جديدة، ومفاتن جديدة، فقد قضى نقل التوتر عن طريق الأضلاع من القبة ومن العائم إلى نقط خاصة في البناء تدعمها سنادات، قضى هذا على حاجته إلى الجدران السميكة. ذلك بان المكان الذي بين كل نقطة ارتكاز والنقطة التي تليها، لم يكن يتحمل إلا ضغطا قليلا نسبيا؛ وإذن فقد كان من المستطاع جعل الجدار بين النقطتين رفيعاً، بل إن من المستطاع إزالته. وكان ملء هذا الفراغ الكبير بلوح واحد من الزجاج غير مأمون العاقبة، ولهذا قسم هذا إلى نافذتين مستدقتين (مقصدين) أو أكثر من نافذتين يعلوهما عقد من الحجارة. وبهذا أصبح الجدار الخارجي سلسلة من العقود أو البواكي شأنه في ذلك شأن صحن الكنيسة. وقد كان "الدرع" البنائي ذو الأربع القمم المتروك بين الأطراف العليا للنوافذ المزدحمة والمستدقة وبين قمة العقد الحجري المحيط بهذه النوافذ كان هذا الدرع فراغا قبيح المنظر يتطلب الزخرف. وقد حقق المهندسون الفرنسيون حوالي عام 1170 هذا المطلب بلوحات من النقوش الخطية: فقد ثقبوا الدرع بحيث
يتركون فيه قضباناً حجرية أو فواصل ذات أشكال زخرفية- مستديرة، أو مسننة أو منتفخة، ثم ملأوا الفجوات والنوافذ بالزجاج الملون. وعمد المثالون في القرن الثالث عشر إلى قطع أجزاء مطردة الزيادة من الحجارة؛ ووضعوا في الفتحات قضباناً حجرية صغيرة منحوتة على صورة أقداح أو غيرها من الأشكال. وأخذت أشكال هذه الحلي التي على شكل العصي تزداد كل يوم تعقيداً، ونشأت من هذا التعقيد طرز وعصور من العمارة القوطية أخذت أسماؤها من الخطوط الرئيسية في هذه الزخارف: كالعقد الرمحي، والطراز الهندسي، والمستدير، والعمودي، والكثير الألوان. وأنتجت عمليات أخرى شبيهة بهذه العمليات وطبقت على سطوح الجدران فوق مداخل البناء. أنتجت ما يسمى"بالنوافذ الوردية" على الطراز الذي بدأ في كنيسة نتردام عام 1230، وبلغ درجة الكمال في كنيستي ريمس، وسانت شابل Sainte Chabelle. وما من شئ يفوق جمال النوافذ "الوردية". في الكثدرائيات القوطية سوى العقود العليا التي في القبة.
وانتقلت الزخارف الخطية، بمعناها الواسع، أي ثقب الحجارة بأشكال زخرفية من أي نوع كان، من الجدران إلى غيرها من أجزاء الكثدرائية القوطية- إلى شماريخ المساند، وإلى السقف الهرمية التي فوق المداخل، وإلى "بطنيات" العقود، والأجزاء المثلثة المحصورة بين كل اثنين منها، وإلى البواكي التي تعلو العقود بين الصحن والطرقات الجانبية، وإلى ستائر المعبد، والمنبر والحظار الزخرفي الذي خلف المذبح، ذلك أن المثال القوطي، لابتهاجه بفنه، قلما كان يمس سطحاً دون أن يزخرفه، ولهذا كان يزحم واجهات المباني، والطنف، والأبراج، بصور الرسل والشياطين، والأولياء؛ والناجين والملعونين. وصور ما يمليه عليه خياله تيجاناً للعمد، ورفارف للزينة، وحليات من خشب أو حجارة،
وعتبات للأبواب والنوافذ العليا، وحليات شبكية، وقوائم أكتاف الأبواب والنوافذ. وكان يمثل بالحجارة ضحكة مع الحيوانات العجيبة والمرعبة التي ابتدعها خياله لتكون ميازيب
(1)
تبعد المطر الذي يلوث المباني عن الجدران، أو تجره إلى الأرض خلال المساند. ولم تجتمع في غير هذا الفن الثروة، والمهارة، والتقى، والفكاهة العارمة، لتوجد مثل هذه الكثرة من الزخارف التي تتكشف عنها الكثدرائية القوطية. ولسنا ننكر أن هذه الزخارف كانت في بعض الأحيان مسرفة في كثرتها، وأن الخطوط الزخرفية قد أسرف فيها إسرافاً جعلها هشة، وأن التماثيل وتيجان العمد كانت بلا ريب براقة بطلائها الذي محاه كر الدهور. ولكن هذه هي سمات الخصوبة الحيوية التي تكاد تغتفر معها كل الخطاء. ولقد يلوح لنا ونحن نجول بين هذه الآجام والحدائق الحجرية أن الفن القوطي كان، على الرغم من خطوطه وأبراجه الرفيعة الشامخة، فنا مغرما بالأرض، فنحن نستشف بين أولئك القديسين الذين ينادون بباطل، الأباطيل، وهول يوم الحساب القريب، صورة فنان العصور الوسطى، المعجب بحذقه، المبتهج بقوته، الساخر من اللاهوت والفلسفة، الذي يستمتع بشرب كأس الحياة المترعة ذات الحبب حتى الثمالة.
(1)
gargoyles أو حلوق صغيرة. (المترجم)
الفصل الخامس
الطراز القوطي الفرنسي
(1133 - 1300)
نقول أولاً إن الطراز القوطي لم يبدأ من لاشيء، بل إن تقاليد تبلغ المائة عداً قد اجتمعت كلها لتمهد له السبيل: الباسلكا الرومانية، والعقود، والقباب، والطبقات العليا ذات النوافذ، وموضوعات الزخرف البيزنطية، والعقد الستيني الأرمني، والسوري، والفارسي، والمصري، والعربي، والقباب ذات الزوايا المتقاطعة، والدعامات المتجمعة، والأساليب الغريبة، والنقوش العربية، والقباب المضلعة، وأبراج الواجهات، والنزعة الألمانية لما هو فكه أو شاذ غريب .. ولكن لم اجتمعت هذه المؤثرات كلها في فرنسا؟ لقد كان في وسع إيطاليا التي امتازت بين بلدان غربي أوربا بثرائها وتراثها أن تحمل لواء ازدهار الفن القوطي، ولكنها كانت سجينة في تراثها القديم. لقد كانت فرنسا، بعد إيطاليا، أغنى أمم الغرب وأكثرها تقدماً في القرن الثاني عشر، وكانت هي التي قدمت للحروب الصليبية أكثر الأموال والرجال، والتي أفادت من حوافزها الثقافية، وكانت هي التي تزعمت أمم أوربا في التعليم، والآداب، والفلسفة، وكان العالم يعترف بأن صناعها أمهر الصناع في الناحية الغربية من بيزنطة وقبل أن يجلس على عرشها فليب أغسطس (1180 - 1223)، كانت السلطة الملكية قد انتصرت على نزعة التفكك الإقطاعية، وكان رخاء فرنسا وقوتها، وحياتها العقلية قد أخذت تتجمع في أملاك الملك الخاصة- وهي الأملاك المعروفة بجزيرة فرنسا، والتي يمكن تحديدها تحديداً غير دقيق بالإقليم الممتد عند مجرى السين الأوسط. وكانت فيها تجارة رابحة رائجة تنتقل في أنهار
السين والواز Oise، والمارن، والأبن Aisns، وتخلف وراءها ثروة استحالت حجارة في الكثدرائيات التي شيدت في باريس، وسانت دنيس، وسنليس Senlis، ومانت Mantes، ونوايون Noyen، وسواسون Soissons، ولاؤون، وأمين، وريمس. وأخصب المال التربة التي نما فيها الفن.
كانت أولى روائع طراز عهد الانتقال هي كنيسة دير سانت دنيس في ضاحية باريس المسمات بهذا الاسم. وكانت هذه الآية من عمل أكمل الشخصيات وأكثرها توفيقاً في التاريخ الفرنسي. لقد كان سوجر (1081 - 1151) رئيس أحد الأديرة البندكتية، ونائب الملك في فرنسا، رجلاً حسن الذوق، لم تمنعه بساطة عيشها، يرى أنه ليس من الإثم أن يحب الأشياء الجميلة وأن يجمعها ليزخرف بها كنيسته. ولما أخذ عليه القديس برنار هذا الحب رد عليه بقوله: "إذا كانت الشرائع القديمة قد أمرت أن تستخدم الكؤوس الذهبية في شرب القربان وتلقي دماء الضأن
…
فإن أولى من هذا أن يخصص الذهب، والحجارة الكريمة، وأندر المعادن لصنع الآنية المعدة لتلقي دم سيدنا" (10). وهو لهذا محدثنا مزهواً عن جمال الذهب والفضة، والجواهر وقطع الميناء، والفسيفساء والنوافذ ذات الزجاج الملون، والثياب والآنية الغالية، التي جمعها أو صنعها لكنيسته، وعما كلفته من مال. ففي عام 1133 جمع الفنانين والصناع "من جميع البلاد" ليشيد ويزين بيتاً جديداً للقديس دنيس شفيع فرنسا، ليكون مقراً لعظام الملوك الفرنسيين. وأقنع لويس السابع ملك فرنسا وحاشيته بتقديم المال اللازم لهذا البناء "فتمثلوا بنا" على حد قوله "وخلعوا الخواتم من أصابعهم" ليقدموا المال اللازم لمشروعه الكثير الأكلاف (11). وفي وسعنا أن نتصوره وهو يستيقظ في الصباح الباكر ليشرف على أعمال البناء، من تقطيع الأشجار التي اختارها ليأخذ منها حاجته من الخشب، إلى تركيب الزجاج الملون الذي اختار له موضوعاته وألف له نقوشه. ولما أن دشن هذا الصرح في عام 1144
قام بهذه العملية عشرون مطراناً، وشهد الحفل ملك فرنسا، وملكتها، ومئات من الفرسان، وحق لسوجر أن يشعر بأنه نال بهذا العمل تاجاً من أجل تاج أي من الملوك.
ولم يبق في الصرح القائم هذه الأيام إلا أجزاء من كنيسته: وهي الواجهة الغربية، وفرجتان في الصحن، والمصليات التي تعلو على جانب الطرقات، وقبو الكنيسة. أما الجزء الأكبر داخل الكنيسة فهو بناء معاد قام به بيير ده منتريه Pierre de Montreux بين عامي 1231، 1281. والقبو من الطراز الرومنسي، أما الواجهة الغربية فتختلط فيها العقود المستديرة والمستدقة، ومعظم تماثيلها المنحوتة من عهد سوجر، وتشمل ما لا يقل عن مائة صورة، كثير منها فردي الطابع، وكلها تدور حول أحسن فكرة عن المسيح القاضي نشاهدها في كل ما أنتجه فن العصور الوسطى.
وبعد اثنتي عشرة سنة من وفاة سوجر كرمه الأسقف موريس دي سلي Maurice de Sully بأن أدخل التحسين على ماتركه من قواعد، وقامت كنيسة نوتردام دي باري Notre Dame de Paris على جزيرة في نهر السين. وإن التواريخ المتصلة ببنائها لتوحي بضخامة العمل الذي استلزمه تشييدها، فقد بنى موضع المرنمين والأجنحة التي على جانب الطرقات بين عامي 1163 و 182، وبني الصحن من 1182 إلى 1196، وأقيمت الأجزاء التي بين الأعمدة والأبراج فيما بين 1218 و 1223، وتم بناء الكثدرائية كلها في عام 1235. وكان يقصد في تصميمها الأول أن تكون البواكي القائمة فوق العقود التي بين الصحن والطرقات على الطراز الرومنسي، ولكن البناء كله اتخذ عند إتمامه الطراز القوطي. والوجهة الغربية أكبر مما تتطلبه الكثدرائية القوطية، ولكن سبب هذا أن الشماريخ التي كان في النية إقامتها فوق الأبراج لم تبن قط، ولعل هذا هو منشأ ما في الواجهة من هيبة ذات بساطة وقوة جعلت العلماء الأفذاذ
يضعونها في مصاف "أنبل ما أنتجته أفكار الإنسان من آراء في فن المعمار"(12). والشبابيك الوردية في كنيسة نوتردام دي باري آية في النقوش الخطية وجمال التلوين، ولكنها لم يقصد بها أن توصف بالقول أو بالكتابة والتماثيل التي بها، وإن عدا عليها الزمان أو أضرت بها الثورة، تبرز أحسن ما أنتجه الفن بين عصر قسطنطين وبناء كثدرائية ريمس. وقد نحتت في قلب المقص القائم فوق المدخل الرئيسي صور يوم الحساب بتؤدة أعظم مما نقش بها هذا الموضوع الذي نراه في كل مكان، فصورة المسيح هنا ذات جلال هادئ، والملك الذي عن يمينه من أعظم الانتصارات التي أحرزها فن النحت القوطي. وخير من هذا كله صورة عذراء العمود La Vierge de Trumeux القائمة فوق المدخل الشمالي: إن في هذه الصورة لدقة في التنفيذ، وفي صقل السطح الخارجي، وفي الثياب المنسجمة مع الطبيعة، ويسراً جديداً ورشاقة في أوضاع الوقوف، وإلقاء ثقل الجسم على إحدى القدمين، وتحرره بذلك من الوضع العمودي المتصلب. ويكاد فن النحت القوطي يعلل في هذه الصورة الجميلة استقلاله عن فن العمارة وينتج آية خليقة بأن تنتزع مما حولها، وتقام بمفردها تعلن عن فوز هذا الفن. وانتهى في كثدرائية نوتردام دي باري طور الانتقال وحل عصر الفن القوطي.
وتلقى قصة كاتدرائية تشارتر ضوءاً على ما كان عليه موضعها في العصور الوسطى وعلى خصائص تلك العصور. فقد كانت تشارتر بلدة صغيرة في الجنوب الغربي من باريس وعلى بعد خمسين ميلاً منها، على أطراف الممتلكات الملكية. وكابت سوقالسهل بوس Beauce" هنري فرنسا". ولكن قيل إن العذراء نفسها زارت هذا المكان، واتخذها الصالحون من العرج، والمكفوفين، والمرضى، والثاكلين، والثاكلات، مكاناً يحجون إليه، ومنهم من شفي أو نزلت في قلبه الطمأنينة عند ضريحها، وبذلك أضحت تشارتر هي بعينها لورد Lourde. يضاف إلى هذا أن أسقفها فلبير Fulbert، وهو رجل جمع بين الطيبة،
والذكاء، والإيمان، قد جعلها في القرن العاشر كعبة للتعليم العالي وأما حنوناً لطائفة من أنبه الشخصيات ذكراً في الفلسفة المدرسية. ولما أن احترقت في عام 1020 كثدرائية فلبير التي شيدت في القرن التاسع، أخذ على عاتقه من فوره أن يعيد بناءها، وطال عمره حتى شاهد تمام هذا البناء. ولما دمرته النار للمرة الثانية في عام 1134، جعل الأسقف ثيودريك إقامة كثدرائية جديدة بمثابة حرب صليبية حقة، فبعث في قلوب الناس من التحمس لإنجاز هذا العمل ما جعلهم يغدقون عليه من المال والجهد ما وصفه شاهد عيان هو هيمون Haimon رئيس أحد الأديرة النورمندية في عام 1144 بقوله:
رأيت الملوك، والأمراء، وذوي القوة والسلطان من رجال العالم المزهوين بألقاب الشرف وبالثراء، والرجال والنساء من أبناء الأسرة الشريفة، رأيت هؤلاء يطوقون أعناقهم المنتفخة المنبئة بالعظمة والكبرياء بالأرسان، ويشدون أنفسهم إلى العربات يجرونها كما تجرها الدواب، وكتل الخشب وما إليها من الأشياء اللازمة لحياة الناس أو لبناء الكنائس
…
يضاف إلى هذا أن نشاهد تلك لمعجزة تقع في الوقت الذي يجرون فيه العربات: وهي أن ألفاً من الرجال والنساء
…
يشدون أحياناً إلى حبال العربات
…
ومع ذلك فإنهم يتقدمون وهم صامتون لا يسمع لهم صوت ولا همس
…
فإذا وقفوا في الطريق لا تسمع منهم ألفاظاً إلا اعترافاً بخطاياهم
…
وضراعة ودعاءاً طاهراً
…
ويعظهم القسيسون ويدعونهم إلى السلام، وتسلى السخائم والأحقاد من الصدور وتزول أسباب الفرقة والانقسام، وينزل الدائنون عن ديونهم وتعود الوحدة إلى الصفوف (13).
ولم تكد كثدرائية الأسقف ثيودريك تتم (1180) حتى شبت فيها النار في عام 1194 فدمرت الصحن وهدمت قبته وجدرانه، ولم يبق من الكنيسة إلا القبو السفلي والواجهة الغربية ببرجيها وشمروخيها متفرقة منعزلة، ويقال إن
كل بيت في البلدة قد دمر في هذا الحريق المروع الذي لا تزال آثاره باقية تشاهد حتى اليوم في بقايا الكثدرائية. وفقد الأهلون شجاعتهم إلى حين وفقدوا بفقدها إيمانهم بالعذراء، وأرادوا أن يغادروا المدينة ولكن مليور Melior الرسول البابوي الذي لا تلين له قناة قال إن الله قد أصابهم بهذه الكارثة عقاباً لهم على ذنوبهم، وأمرهم أن يعيدوا بناء كنيستهم وبيوتهم، وتبرع رجال الدين في الأسقفية بدخلهم كله تقريباً مدى ثلاث سنين، وتناقل الناس أخبار معجزات جديدة لعذراء تشارتر، وبعث الإيمان في القلوب من جديد، وأقبلت الجماعات مرة أخرى كما أقبلت في عام 1144 لتساعد العمال المأجورين على جر عربات النقل ووضع الحجارة في أماكنها، وتبرعت بالمال كل كاتدرائية في أوربا (14)، ولم يحل عام 1224 حتى كان الكدح والأمل قد أتما الكاتدرائية التي جعلت تشارتر مرة أخرى مقصد الحجاج من جميع الأنحاء.
وكان التصميم الذي وضعه المهندس المجهول يقضي بألا يقيم الأبراج على جناحي الواجهة الغربية وحدها، بل أن يقيمها أيضاً على الأبواب التي عند ملتقى الطرقات المتعامدة على الصحن وعند القبا، غير أنه لم يبين من هذه الأبراج إلا برجان فوق واجهة الكنيسة. وارتفع برج الناقوس القديم (1145 - 170) بشمروخه إلى علو 351 قدماً في الطرف الجنوبي من الواجهة، وهذا البرج بسيط غير مزخرف يفضله المهندسون المحترفون على غيره من الأبراج المزخرفة (15). أما البرج الشمالي- المعروف ببرج الجرس الجديد فقد أحرقت النار شمروخه الخشبي مرتين، ثم أعاد جان لي تكسييه Jean le Texier بناءه بالحجارة على الطراز القوطي الكثير الألوان المزدحم بالزخارف الدقيقة، حتى حسبة فرجسون Fergusson" أجمل الشماريخ المنقوشة في القارة الأوربية"(16)، ولكن المتفق عليه بوجه عام أن هذا الشمروخ الكثير الزخرف لا يتفق مع الوحدة التي تتطلبها الواجهة الكالحة المجردة من الزينة (17).
وتعتمد شهرة كنيسة تشارتر على ما تحتويه من تماثيل منحوتة وزجاج، فهذا القصر، قصر العذراء، تسكنه عشرة آلاف شخصية منحوتة أو مصورة- من رجال، ونساء، وأطفال، وقديسين، وشياطين، وملائكة، وأشخاص الثالوث، وفي مدخل الكنيسة وحده ألفا تمثال (18)، تضاف إليها تماثيل أخرى مستندة إلى الأعمدة المقامة في داخل البناء، وإن الزائرين الذين يصعدون إلى السقف على الدرج البالغ عدده 312 درجة لتعتريهم الدهشة حين تقع أعينهم على تماثيل منحوتة بعناية وبالحجم الطبيعي في ذلك المكان الذي لا يبصرها فيه إلا الطلعة المتشوف. وتقوم فوق الباب الأوسط صورة رائعة للمسيح ليست كغيرها من الصور التي نحتت فيما بعد عابسة تحكم على الموتى، بل يرى فيه جالساً في جلال هادئ بين طائفة كبيرة من الناس السعداء، وقد مدت يده وكأنه يبارك العباد الداخلين. ويتصل بالتجويف الداخلي لعقد الباب تسعة عشر تمثالاً للأنبياء والملوك، والملكات، وهي نحيلة، متصلبة توأم بشكلها هذا عملها بوصفها عمد الكنيسة، وكثير من هذه التماثيل غير متقنة وناقصة، ولربما كانت تلفت أو بليت لقدم عهدها، ولكن وجوه بعضها تطالع الناظر إليها بطابع فلسفي عميق، وبراحة لطيفة، أو برشاقة العذارى التي بلغت درجة الكمال في ريمس.
وواجهات الأجنحة والطرقات الجانبية أجمل ما يوجد نوعها في أوربا. ولكل منها ثلاثة أبواب على جانبيها عمد وقوائم منحوتة نحتاً جميلاً تفصل كلاً منها عن الأخرى، وتكاد تغطيها تماثيل كل منها منفرد بملامح خاصة إلى حد جعل الناس يطلقون على عدد كبير منها أسماء من أهل تشارتر. وتجتمع تماثيل الباب الجنوبي البالغ عددها 783 تمثالاً حول المسيح الجالس على عرشه في يوم الحساب. وهنا توضع عذراء تشارتر في مركز أقل من مركز ولدها، ولكنها تعوض عن هذا، كما عوضها ألبرتس ماجنس Albertus Magnus، بالعلوم كلها وبالفلسفة، وترى في خدمتها على هذا الباب الفنون الحرة السبعة- الموسيقى ويمثلها
فيثاغورس، والجدل ويمثله أرسطو، والبلاغة ويمثلها شيشرون، والهندسة ويمثلها إقليدس، والحساب ويمثله نيقوماخوس، والنحو ويمثله برشيان Prician، والفلك ويمثله بطليموس. وقد أمر القديس لويس أن يتم الباب الشمالي:"بسبب إخلاصه الشديد لكنيسة عذراء تشارتر، ولنجاة روحه وأرواح آبائه" كما جاء بالنص في عهده الصادر عام 1259 (19). وحدث في عام 1793 أن رفضت جمعية الثورة الفرنسية بأغلبية قليلة اقتراحا يقضي بتدمير التماثيل المقامة في كثدرائية تشارتر باسم الفلسفة واسم الجمهورية، وارتضت الفلسفة بعدئذ ألا تدمر هذه التماثيل واكتفت بتحطيم بعض أيديها (20). وهذا الباب الشمالي هو باب العذراء، وهو يروي قصتها رواية ملؤها الحب والإجلال. والتماثيل المجسمة المقامة هنا تمثل فن النحت في نضوجه، والثياب التي عليها لا تقل في رشاقتها ومواءمتها للطبيعة عن مثيلاتها في أي نحت يوناني، وصورة "الطهر" تمثل الأنوثة الفنية كأحسن ما يمثلها الفن الفرنسي، ففيها يكسب الطهر الجمال قوة على قوته، وليس في تاريخ النحت كله ما هو أجمل من هذه الصورة، وفي ذلك يقول هنري أدمز Henry Adams: وهذه التماثيل هي أحسن ما صوره الفن الفرنسي في الرخام" (21).
وإذا ما دخل الإنسان الكنيسة انطبعت في نفسه أمور أربعة تمزج بعضها ببعض: الخطوط البسيطة الممثلة في الصحن والقبة، التي لا تكاد تبلغ في حجمها أو جمالها ما يبلغه صحن كنيسة أمين أو ونشستر، وستار مكان المرنمين المزخرف الذي بدأه عام 1514 جان دي تكسبه المولع بكثرة الألوان، وصورة المسيح الهادئة المقامة على عمود عند ملتقى الصحن بالطرقات الجانبية من جهة الجنوب، والتي تغمر المكان كله بلون هادئ وزجاج ملون منقطع النظير. ويرى الناظر في نوافذ هذا المكان البالغ عددها 174 نافذة 3884 صورة مأخوذة من الأقاصيص أو التاريخ، تختلف من الأساقفة إلى الملوك، وتمثل فرنسا في العصور
الوسطى، يراها الناظر في أبهى ما أخرجه الفن من ألوان - حمراء داكنة، وزرقاء خفيفة، وخضراء زمردية، وزعفرانية، وصفراء، وبنية، بيضاء. وفيها ترى مجد تشارتر أكثر مما تراه في أي مكان سواه. وليس من حقنا أن نطلب أن تكون الصورة التي في هذه النوافذ صوراً واقعية، ذلك أنها مشوهة، بل إنها لتبلغ حد السخف في بعض الأحيان. فرأس آدم في الحلية الوسطى التي تمثل طرده من الجنة معوج اعوجاجاً يؤلم النظر إليه، وإن العابد ليصعب عليه إذا ما أبصر مفاتن حواء أن لا يميل إلى شهوته الجنسية. لقد كان هؤلاء الفنانون يظنون أن حسبهم أن يروي الصورة قصة، بينا تمثل الصورة بألوانها. التي يختلط بعضها ببعض ويفني بعضها في بعض في عين الناظر، جو الكثدرائية، وما أجمل صورة نافذة"الإبن المتلاف"؛ وما أعظم الألوان والخطوط في صورة "شجرة يسى" الرمزية
(1)
، ولكن أجمل من هذه كلها صورة"عذراء النافذة الجميلة". وتقول الرواية المأثورة إن هذه اللوحة البديعة أنقذت من النيران التي اندلعت في الكنيسة عام 1194.
وإذا وقف الإنسان عند تقاطع الطرقات الجانبية والصحن رأى نوافذ تشارتر الكبرى الوردية الشكل. وتمتد النافذة الوسطى في الواجهة الرئيسية أربعين قدما كاملة، وتكاد تضارع في اتساعها الصحن الذي تطل عليه، ولقد وصفها بعضهم بأنها أجمل تحفة من الزجاج عرفها التاريخ (23).
وتغمر النافذة المعروفة "وردة فرنسا" ملتقى الطرق بالصحن من جهته الشمالية بفيض من الضوء. وكان زجاج هذه النافذة قد أهدى إلى لويس التاسع وبلانش القشتالية، ثم أهدياه إلى العذراء، ويواجهها في الناحية المقابلة لها من الكنيسة "وردة درية Dreux" القائمة عند تقاطع الطرقات بالصحن في الواجهة الجنوبية وهي التي أهداها بيير موكلير Pierre Mauclere من دريه وبلانش،
(1)
شجرة تسلسل يسوع من يسى والد داود. (المترجم)
والتي تضع ابن مريم مواجهاً "لأم الإله" في نافذة بلانش. وثمة خمس وثلاثون وردة أصغر من هذه واثنتا عشرة وريدة أصغر من هذه أيضاً، وبها تتم مجموعة زجاج تشارتر الدائري، وإذا ما وقف صاحب النزعة الحديثة، الذي تمنعه سرعته واضطراب أعصابه من أن يتطلب الكمال المحتاج إلى الصبر والهدوء، أمام هذه المناظر، أخذته الدهشة والحيرة من هذه الأعمال التي يجب أن تعزى إلى ما يتصف به الشعب والجماعة، والعصر، والعقيدة الدينية، من سمو في العاطفة وجد في العمل لا إلى عبقرية أفراد معدودين.
ولقد اخترنا كنيسة تشارتر لتمثيل العمارة القوطية الناضجة أو المتشعبة، وليس من واجبنا أن نعمد إلى هذه الإطالة نفسها في الحديث عن الكنائس ريمس، وأمين، وبوفيه. ولكن منذا الذي يستطيع أن يمر مسرعاً بالواجهة الغربية من كنيسة ريمس؟ وو أن الشماريخ الأصلية ظلت حتى الآن قائمة فوق الأبراج لكانت هذه الواجهة أعظم ما قام به الإنسان من أعمال، وإنا لتدهشنا وحدة الطراز وأجزاء الكنيسة المختلفة وتناسقها في بناء أقامته ستة أجيال من الناس. فقد دمرت النار في عام 1210 الكثدرائية التي أتمها هنكمار Hincmar في عام 840، وبدئت في يوم الذكرى الأولى لهذا الحريق كثدرائية جديدة من تصميم ربرت دي كوسي Robert de Coucy وجان دوربيه Jean dorbais. تليق بأن يتوج فيها ملوك فرنسا. ودام العمل أربعين عاماً نفد بعدها المال، فوقف البناء (1251)، ولم تتم الكنيسة العظيمة إلا في عام 1427. ودمرت النار في عام 1480 شماريخ الأبراج، واستخدمت أموال الكثدرائية المدخرة في ترميم البناء الرئيسي، أما الأبراج فلم يجدد بناؤها. ودمرت القنابل في الحرب العالمية الأولى عدداً من مساند الجدران وأحدثت فجوات كبيرة في السقف وفي القبة، ودمرت النار السقف الخارجي وحطمت كثيراً من التماثيل، ودمرت جماعات من المتعصبين عدداً آخر
من الصور، وعدا الزمان على بعضها الآخر فأبلاه ذلك أن التاريخ صراع بين الفن وعوادي الأيام.
وتمثل روائع النحت في كنيسة ريمس، كما تمثل واجهتها، أرقى ما وصل إليه الفن القوطي، فبعضها عتيق فج ولكن الموجود منها في المدخل الأوسط منقطع النظير، وإنا لنلتقي في عدة أماكن على أبواب الكنيسة، وقمم أبراجها المستطيلة. وفي داخلها، بتماثيل تكاد تضارع في صقلها ما نحت في عصر بكليز. ولسنا ننكر أن منها ما هو مفرط في الرشاقة كتمثال العذراء القائم على عمود المدخل الأوسط، وأنها توحي إلى الناظر بضعف قوة القوط، ولكن تمثال "العذراء التطهير" القائم عن يسار هذا المدخل نفسه، وتمثال "عذراء زيارة الملاك" القائم عن يمينه ليعدان من حيث التفكير والتنفيذ من الأعمال الجليلة التي يعجز القلم واللسان عن وصفها. وأوسع من هذين التمثالين شهرة، وإن لم تبلغ مبلغهما من الكمال، تماثيل الملائكة الباسمة في مجموعة تماثيل البشارة القائمة في هذه الواجهة. ألا ما أعظم الفرق بين الوجوه المستبشرة وبين تمثال القديس بولس القائم عند مدخل الشمالي! وأن كان هذا التمثال من أقوى الصور التي نحتت في الحجر.
وتوق التماثيل المنحوتة في كثدرائية أمين تماثيل ريمس في رشاقتها وصقلها، ولكنها تقل عنها في جلال التفكير وعمق الإيحاء. فهنا نرى فوق الباب الغربي تمثال الإله الجميل Beau Dieu الذائع الصيت، وهو تمثال تقيد صانعه بعض الشء بالتقاليد، وخلا بعض الئ من الحياة، وهما عيبان يطالعاننا بعد أن نشاهد تماثيل ريمس الحية الناطقة. وهنا أيضاً تمثال القديس فرمين Firmin وهو لا يمثله زاهداً فزعاً بل يمثله رجلا هادئاً صلبا لم يشك في يوم من الأيام بأن الحق سوف ينتصر، وهنا أيضاً عذراء تحتضن طفلها بين ذراعيها، ويبدو عليها كل ما تتصف به الأمومة الصغيرة السن من استغراق الحنان. وفي الباب الجنوبي
نرى العذراء الذهبية تبتسم وهي ترقب طفلها يلعب بكرة، وقد جملها المَثّال قليلا. ولكنها أكثر رشاقة من أن تستحق ما وصفها به رسكن Ruskin في غير كياسة بأنها "مدللة بيكاردي (Soubrette of picardy) . " وما ألذ أن يرى الإنسان المثالين القوط يكتشفون الرجال والنساء، بعد أن ظلوا مائة عام في خدمة الأغراض الدينية، وينحتون بعد هذا الكشف متع الحياة على واجهات الكنائس. وغضت الكنيسة النظر عن هذا الكشف بعد أن عرفت هي أيضاً كيف تستمتع بالحياة الدنيا، ولكنها رأت من الحكمة أن تصور منظر يوم الحساب على الواجهة الرئيسية.
وبنيت كثدرائية أمين فيما بين 1220 و 1288، وقام ببنائها سلسلة متتابعة من المهندسين. ربرت دي لوزارك Robert De Luzarches، وتومس دي كورمنت Thomas de Cormonte وابنه رنيول Regnault. ولم يتم بناء الأبراج إلا في عام 1402. وداخلها هو أكثر الصحون القوطية نجاحاً، فهو يرتفع في قبة علوها 140 قدماً، ويخيل إلى الناظر أنها تجتذب الكنيسة إلى أعلى، وليست تتحمل ثقلا. وترتبط بواكي الصحن ذات الثلاث الطبقات جذوع متصلة ممتدة من الأرض إلى القبة فتجعل منها وحدة فخمة ذات عظمة وجلال. وتعد القباب القائمة فوق القبا انتصاراً للتصميم المتناسق على اختلاف النظام الباعث على الحيرة والارتباك، وإن المرء ليذهل وتقف دقات قلبه حين تقع عيناه أول مرة على نوافذ الطابق الأعلى وعلى ورود أمكنة تقاطع الطرقات والصحن وعلى الواجهة.
وفي كثدرائية بوفيه عدا هذا الولعُ القوطي بالقباب طوره وبلغ مصيره المحتوم وهو السقوط. وذلك أن فخامة كتدرائية أمين أثارت الغيرة في قلوب أهل بوفيه، فبدوا بثلاث عشرة قدما. ووصلوا بموضع المرنمين إلى الارتفاع المطلوب، ولكنهم
ما كادوا يضعون سقفه حتى انهار واستفاق جيل آخر من هذه الكارثة فأعاد بناء موضع المرنمين إلى ارتفاعه السابق ولكنه انهار مرة أخرى في عام 1284. وأعيد البناء للمرة الثالثة وعلوا به هذه المرة إلى ارتفاع 157 قدماً فوق الأرض، ولما نفد ما عندهم من المال تركوا الكنيسة قرنين كاملين من غير جناحين أو صحن. ولما أفاقت فرنسا آخر الأمر من حرب المائة السنين في عام 1500، بدئ الجناحان الضخمان، ثم أقيم فوق ملتقى الجناحين برج فانوس بلغ ارتفاعه خمسمائة قدم ليعلو بذلك على شمروخ كنيسة القديس بطرس في روما. وانهار هذا البرج أيضاً في عام 1573 وانهار معه كبير من الجناحين ومكان المرنمين. ثم قنع أهل بوفيه الأبطال آخر الأمر بحل وسط: فرمموا موضع المرنمين وبلغوا به علوه غير الأمين، ولكنهم لم يضيفوا إليه صحناً، ولهذا فإن كثدرائية بوفيه كأنها رأس بلا جسم، فهي من خارجها واجهتان لجناحين جميلين قيمين، وقبا تحيط به وتخفيه السنادات، ومن داخلها موضع للمرنمين كالكهف يتلألأ بالزجاج الفخم الملون. ويقول أحد الأمثال الفرنسية القديمة إنه لو استطاع الإنسان أن يضم موضع المرنمين في كنيسة بوفيه إلى صحن كنيسة أمين، وإلى واجهة ريمس وشماريخ تشارتر، لو استطاع ذلك لكانت كثدرائية قرطبة تبلغ حد الكمال.
وإذا ما عاد الناس بخيالهم في العصور المقبلة إلى ذلك القرن الثالث عشر فسوف تتملكهم الحيرة فلا يدرون من أين كان لأهل هذا القرن ذلك الثراء الذي أقاموا به على الأرض تلك الصروح الفخمة المجيدة. ذلك أنه ما من أحد يستطيع أن يعرف ما صنعته فرنسا في ذلك الوقت - بالإضافة إلى جامعتها، وشعرائها، وفلاسفتها، وحروبها الصليبية- إذا وقف بنفسه أمام واحدة تلو واحدة من تلك الصروح القوطية الجريئة التي لا تعدو أن تكون هنا مجرد أسماء: نوتردام، وتشارتر، وريمس، وأمين، وبوفيه؛ وبروج (1195 - 1350)
ذات الصحن الرحب، والطرقات الأربع، والزجاج الذائع الصيت، والملاك الجميل النحت ذي الميزان، وجبل ساتنت ميشيل وديره العجيب (1204 - 1250) القائم في حصن مشرف على صخرة في وسط ماء البحر بالقرب من نورمندية، وكنستانس (1208 - 1328) وشماريخها النبيلة، ورون (1201 - 1500) وبابها الأمامي باب ناشري الكتب، وسانت شابل في باريس - "صندوق جواهر" الزجاجي القوطي التي شادها (1245 - 1248) بييردي منتريه لتكون ضريحاً متصلا بقصر القديس لويس يضم المخلفات التي ابتاعها ذلك الملك من بلاد الشرق. ومن الخير أن نتذكر في عصور الدمار أن مقدور الناس إذا شاءوا أن يبنوا كما بنو في فرنسا يوماً من الأيام.
الفصل السادس
الطراز القوطي الإنجليزي
(1175 - 1280)
وزحف الطراز القوطي من تشارتر و"جزيرة فرنسا Lle de Franec" إلى الأقاليم الفرنسية، ثم عبر الحدود إلى إنجلترا، وبلاد السويد، وألمانيا، وأسبانيا، ثم انتقل أخيراً إلى إيطاليا. وكان المهندسون والصناع الفرنسيون يقبلون ما يكلفون به من أعمال في البلاد الأجنبية، وكان الفن الجديد يسمى أينما حل العمل الوعود في فرنسا opus Francigenum، ورحبت به إنجلترا لأنها كانت في القرن الثامن عشر نصف فرنسية، لم تكن القناة الإنجليزية إلا نهراً بين ناحيتين من مملكة بريطانية تشمل نصف فرنسا، وكانت رون العاصمة الثقافية لتلك المملكة. واستمد الفن القوطي أصله من نورمندية لا من إيل دي فرانس، واحتفظ بالضخامة النورمندية في إطار قوطي. وحدث الانتقال من الطراز الرومنسي إلى الطراز القوطي في فرنسا وإنجلترا في وقت واحد تقريباً. ففي الوقت الذي كان العقد المستدق يستخدم في كنيسة القديس دنيس (1140) أخذ هذا الطراز يعود إلى الظهور في كثدرائيتي دراهام وجلوستر. وفي دير الفوارات Fountains Abbey، ومالمسزبري Malmsbury (24) . وكان هنري الثالث (1216 - 1272) يعجب بكل ما هو فرنسي ويحسد المجد المعماري الذي بلغته فرنسا في عهد القديس لويس، وفرض على رعاياه من الضرائب ما أفقرهم ليعيد بناء دير وستمنستر، ولينفق على مدرسة الفنانين-البنائين، والمثالين؛ والمصورين، والمزخرفين، والصياغ-الذين جمعهم قرب بلاطه لينفذوا مشروعاته. وسنقصر وصفنا هنا على الطراز الأول من الطرز التي تنقسم إليها العمارة القوطية الإنجليزية -وهي الطراز الإنجليزي- المبكر (1175 - 1280)،
والطراز المنقوش (1280 - 1380)، والطراز العمودي (1300 - 1450). وقد اتخذ هذا الفن من النوافذ والعقود الإنجليزية له اسماً آخر فسمى "بالريشة"
(1)
. وكانت الوجهات والأبواب في هذا الطراز أبسط من مثيلاتها في فرنسا، وإن كانت كنيستا لنكلن وروشستر قد حوتا بعض التماثيل المنحوتة؛ وحوت منها كنيسة ولز Wells أكثر من هاتين الكنيستين، ولكن هذه لم تكن القاعدة المتبعة، ولا يمكن على كل حالة مقارنة هذه التماثيل، في نوعها وعددها، بالتماثيل المقامة على أبواب كنائس تشارتر، أو أمين؛ أو ريمس. أما الأبراج فكانت تمتاز بالفخامة لا بالإرتفاع، وإن كانت أبراج سالزبري، ونوروك، ولتشفيلد تدل على ما يستطيع البناء الإنجليزي أن يفعله إذا ما آثر الرشاقة والارتفاع على الروعة والفخامة. كذلك عجز ارتفاع الكنيسة من الداخل عن أن يغزى المهندسين الإنجليز، لقد حاولوه أحياناً كما فعلوا في وستمنستر وسلزبري، ولكنهم في الأغلب الأعم كانوا يتركون القبة منخفضة انخفاضاً مقبضاً للنفس، كما تراها في جلوسستر، وإكستر. يضاف إلى هذا أن طول الكثدرائيات الإنجليزية الكبير لم يكن يشجع على بذل الجهود التي تجعل ارتفاعها يتناسب مع هذا الطول، فطول كنيسة ونشستر 556 قدماً، وطول كنيسة إلى Ely، 517، وكنتربري 514، ودير وستمنستر 511، أما كنيسة أمين فطولها 435، وريمس 430، وحتى كنيسة كيلان نفسها لا يزيد طولها على 475. لكن ارتفاع كنيسة ونشستر من الداخل لم يكن يزيد على 78 قدماً، وهو في كنيسة كنتربري لا يزيد على 80، وفي لنكلن لا يتجاوز 82، وفي وستمستر لا يتجاوز 103، أما أمين فترتفع إلى 140 قدماً.
(1)
والنوافذ التي سمى بها الطراز عالية ضيقة تنتهي بعقد مستدق كثيراً: مزدوج الفتحات أو ثلاثيها، وهو كثير الوجود في مباني النصف الأول من القرن الثالث عشر. (المترجم)
وظل الطرف الشرقي للكنيسة القوطية الإنجليزية هو القبا المربع المعروف في الطراز الإنجليسكسوني، متجاهلاً في ذلك التطور الفرنسي السهل الذي أنتج القبا الكثير الأضلاع أو النصف الدائري. وكان الطرف الشرقي يوسع في كثير من الحالات ليكون مصلى خاصة لعبادة العذراء، وإن كانت عبادة مريم لم تبلغ من الحماسة الدرجة التي بلغتها في فرنسا، وكثيراً ما كان موضع اجتماع القساوسة في الكثدرائية وقصر الأسقف متصلين بالكنيسة يكونان معها "حرم الكنيسة"، وكان يحيط به في العادة سور. وكان انتشار عنابر النوم، وقاعات الطعام، والدير، والطرقات المنعزلة في الأديرة القوطية بإنجلترا واسكتلندا - كما هي الحال في فوانتينز، درايبرج Dayburgh، وملروز Melrose، وتنتيرن، Tintern داخل محيط واحد مما جعلها تكون مجموعة فنية ذات جلالة وروعة.
ويبدو أن المبدأ الأساسي في العمارة القوطية-مبدأ توازن الضغوط وتصريفها لتقليل ضخامة الدعائم والمساند- وما ينشأ عن هذه الضخامة من قبح المنظر- لم يحز قط قبولاً تاماً في إنجلترا، ولم يعدل سمك الجدران الذي يمتاز به الطراز الرومنسي القديم إلا تعديلا يسيراً في الطراز القوطي الإنجليزي، حتى الحالات التي يتحتم فيها تكييف التصميم ليوائم القاعدة الرومنسية كما حدث في سلزبري. وكان المهندسون الإنجليز ينفرون من المساند المتنقلة نفور المهندسين الطليان. نعم إنهم لجئوا إليها في بعض الأماكن، ولكنهم فعلوا ذلك في غير مبالاة، وكانوا يشعرون بأن دعائم البناء أن يحويها البناء نفسه، لا أن تكون في الزوائد التي تضاف إليه، ولعلهم في هذا على حق، وإن لكثدرائياتهم لقوة وصلابة ورجولة تسمو فوق الجمال إلى العظمة والجلالة، وإن كانت تنقصها الرشاقة التي نشاهدها في روائع الفن الفرنسي.
وبعد أن مضت أربع سنين على مقتل بكت في كنتربري احترق موضع المرنمين في الكثدرائية (1174). وروع أهل البلدة لهذه الكارثة، وأخذوا
يضربون الجدران برؤوسهم في غضب وحيرة لأن العلي العظيم لم يمنع حلولها بضريح أصبح قبل وقوعها كعبة الحجاج المتدينين (25). وعهد الرهبان بناء الكنيسة إلى مهندس من أهل سان Sans يدعى وليم، وهو رجل فرنسي ذاع صيته على أثر بنائه لمدينته. وظل وليم يعمل في كنتربري من 1175 إلى 1188، ثم عجز عن العمل لسقوطه من فوق محالة، فواصل العمل "وليم الإنجليزي William the Englishman" وهو رجل "ضئيل الجسم"كما يقول الراهب جرفاز Gervase ولكنه دقيق أمين في أعمال كثيرة مختلفة الأنواع (26). وقد بقيت أجزاء كثيرة من الكثدرائية الرومنسية التي شيدت في عام 1096، وبقيت العقود المستديرة بين الجديدات القوطية بصفة عامة؛ ولكن السقف الخشبي الذي كان يغطى موضع المرنمين قد استبدلت به قبة من الحجر مضلعة، كذلك استطالت العمد فعلت إلى ارتفاعها الكامل الرشيق، ونحتت تيجانها نحتاُ بديعاً، وملئت النوافذ بالزجاج الملون البراق. وإن كثدرائية كنتربري المتجمعة في محيطها الكثدرائي، والتي تشرف مع ذلك على بلدتها الجميلة العجيبة لهي اليوم من أكثر مناظر الأرض إيحاء وإلهاماً للنفوس.
ونشر الأحبار والحجاج الذين لا يحصى عددهم الطراز القوطي في أنحاء بريطانيا بما أقيم من كنائس على نمطها. فأقامت بيتربرو peterborough في عام 1177 رواقاً فخماً ذا عد في واجهة الجناح الغربي من كثدرائيتها؛ وشيد الأسقف هيو دي لاسي Hugh de Lacy في عام 1189 الامتداد الجميل لكثدرائية ونشستر خلف مكان القربان على هذا الطراز. وحدث في عام 1186 زلزال تصدعت منه كثدرائية لنكلن من أعلاها إلى أسفلها، وبعد ست سنين من تصدعها شرع الأسقف هيو يعيد بناءها على تصميم قوطي قام به جوفري دي نواير Geoffrey de Noyers، وأتمها جروسست Grossete الشهم النبيل جوالي عام 1240. وهي قائمة على ربوة تطل على ريف إنجليزي يتمثل فيه
جمال هذا الريف أصدق تمثيل. وقل أن يشاهد ما يشاهده في هذه الكنيسة من روعة الحجم قد وفق بينها وبين رقة التفاصيل، فأبراجها الثلاثة العظيمة، وواجهتها العريضة ببابها ذي التماثيل المنحوتة وبواكيها المعقدة، وصحنها الفخم الذي يبدو خفيفاً رغم ضخامة حجمه وسعته. وجذوع أعمدتها الرشيقة وما على دعاماتها من نقوش لا تقل عن هذه الجذوع رشاقة، ونوافذها المشععة، وقوة بيت القساوسة الشبيهة بالنخلة، وعقود الصوامع الفخمة الرائعة - هذه تكفي وحدها لأن تجعل كثدرائية لنكلن مما يشرف بني الإنسان، ولو لم يكن فيها "مرنمة الملائكة". فقد حدث في عام 1239 أن سقط برج نورمندي قديم وحطم المرنمة التي شادها الأسقف هيو، فلما سقطت شيدت مرنمة جديدة في الفترة التي بين 1256 - 1280 على الطراز المزخرف الوليد، منقوشة ولكنها بديعة. وتعزو الأقاصيص اسمها إلى الملائكة الذين أقاموها- كما تقول القصة- لأن أيدي بني الإنسان تعجز من أن تقيم عملا يبلغ هذا المبلغ من الكمال، ولكن أغلب الظن أن هذا الاسم قد اشتق من الملائكة الموسيقيين الباسمين المنحوتة صورهم على الفرج المسدودة حول أقواس طاقات البواكي القائمة فوق العقود بين الصحن والجناحين. وأوشك المثالون الإنجليز أن يبلغوا في تماثيلهم القائمة على باب المرنمة الجنوبي ما بلغه المثالون في ريمس وأمين. فهناك أربعة تماثيل قد أزال رؤوسها وشوهها المطهرون المتزمتون تبلغ في الجمال مبلغ تماثيل ريمس وأمين، ومن هذه تمثالان يرمز أحدهما إلى الهيكل وآخر إلى الكنيسة هما أجمل التماثيل الإنجليزية التي نحتت في القرن الثالث عشر. ويظن السير وليم أسار Sir William osler وهو من كبار العلماء، أن مرنمة الملائكة هذه أجمل روائع الفن البشري على الإطلاق.
واستأجر الأسقف بور Poore في عام 1220 إلياس دي درهام Elias de Derham ليصمم ويبني كثدرائية سلزبري، وقد تم بناؤها في الفترة القصيرة
المعتادة التي لا تزيد على خمس وعشرين سنة. وهي في جميع أجزائها على الطراز الإنجليزي المبكر، وتشذ عن القاعدة المتبعة في الكثدرائيات الإنجليزية وهي جمعها بين عدة طرز مختلفة. وإن ما تمتاز به من وحدة في التصميم، وتناسق في الحجم والخطوط، وجلال ساذج في برج الجناح وشمروخة ورشاقة في القبة المقامة على معبد العذراء، وجمال في نوافذ بيت القساوسة إن ما تمتاز به من هذا كله ليعوضها عن ثقل دعامات الصحن وضيق القبة المقبض. ولا يزال لكثدرائية إلي Ely سقف من الخشب، ولكنه سقف غير منفر، فإن في الخشب من صفات الدفء والحيوية ما لا يوجد له مثيل في العمارة الحجرية. وقد أضاف المهندسون القوط إلى الحصن النورمندي باباً غريبا جميلا هو "باب الجليل"(حوالي عام 1205)، وبيتا للقساوسة به مجموعة من العمد الجميلة منحوتة من رخام بربك Purbeck، كما أضافوا إليها في القرن الرابع عشر على الطراز القوطي المزخرف مصلى العذراء، ومرنمة، ثم أقاموا عند ملتقى الجناحين بالسقف برج ناقوس ضخم هو "مُثَمّن إلى". وكانت كثدرائية ولز (1174 - 1191) من أقدم أمثلة الطراز القوطي الإنجليزي، ولم يكن صحنها جيد التصميم، ولكن الواجهة الشمالية التي أضافها الأسقف جوسلين Jocelyn، (1220 - 1242)" أوشكت أن تكون أجمل ما شيد في إنجلترا"(28). ولقد كان في كوى الواجهة 340 تمثالا، فقد منها 106 كانت من ضحايا تزمت المتطهرين، والتخريب، وعوادي الزمن، وتكون البقية الباقية أكبر مجموعة من الصور المنحوتة في بريطانيا. وليس في وسعنا أن نقول عن صفاتها مثل ما نقوله عن عددها.
وكانت آخر العمائر التي شيدت على الطراز القوطي الإنجليزي المبكر كنيسة دير وستمنستر. وكان سبب بنائها أن هنري الثالث الذي اتخذ إدوارد المعترف قديسة الشفيع أحس بأن الكنيسة النورمندية التي بناها إدوارد (1050)
غير جديرة بأن تحوي عظام هذا الشفيع، فأمر فنانيه أن يستعيضوا عنها بصرح قوطي على الطراز الفرنسي، وجبى لهذا الغرض ضرائب بلغ مقدارها 750،000 جنيه يمكننا أن نقدرها تقديراً تقريباً بما يعادل 90،000،000 دولار أمريكي حسب قيمة الدولار في هذه الأيام. وبدأ العمل في عام 1245، وظل قائماً حتى توفي هنري في 1272. وكان تصميمها على غرار تصميم كنيستي ريمس وأمين لا يستثنى من هذان الجناحان الكثير الأضلاع اللذان هما من مميزات الطراز القاري. ولقد تأثرت النقوش المنحوتة في الباب الشمالي، والتي تصور يوم الحساب، بالنقوش التي في الواجهة الغربية لكثدرائية أمين. وفي الفرج المسدودة في البواكي القائمة فوق العقود التي بين الصحن والجناحين نقوش بارزة مدهشة تمثل الملائكة، منها ملك في الفرجة الجنوبية يطل على الزمان بوجه حنون رحيم يضارع ملك كنيسة ريمس. وفوق مدخل بيت القساوسة صورتان تمثلان البشارة وتشير فيهما العذراء إشارة فاتنة تجمع بين التوسل والتواضع. وأجمل من هذا كله على جماله القبور الملكية التي في الدير، وأجمل من هذه كلها تمثال هنري الثالث نفسه، وقد جمل فيه صانعه الملك البدين القصير فجعله مثلا أعلى في الجمال وتناسب الأعضاء. ولقد أنست الناس هذه القبور الفخمة جرائم عشرين من الحكام، وكانت تعوضهم عنها العبقرية الإنجليزية المدفونة تحت حجارة توابيت الملوك.
الفصل السابع
الطراز القوطي الألماني
(1200 - 1300)
استوردت فلاندرز الطراز القوطي من فرنسا في تاريخ مبكر. فقد بدأت كنيسة القديس جودول Gudule التي ترفع هامتها كبرياء على تلها ببركسل في عام 1220، وأهم ما تفخر به هو زجاجها الملون. وأقيمت في كنيسة القديس بافون Bavon بغنت مرنمة قوطية في 1274، وكانت كنيسة القديس رمبولت Rompault في مكلن Nechlin تشرف على الريف من أبراجها الضخمة المفرطة في الزخرف وإن كانت لم تتم في يوم من الأيام. ذلك أن فلاندرز كانت تهتم بالنسيج أكثر مما تهتم بالدين، وكانت عمارتها مدنية لا دينية، وكان أعظم ما فيها من العمائر القوطية هو قاعات الأقمشة في إيبر Ypres وبروج وغنت. وكانت قاعة إيبر (1200 - 1304) أفخم هذه القاعات: فقد كان لها واجهة ذات ثلاثة أطباق من البواكي طولها 450 قدماً دمرت في أثناء الحرب العالمية الأولى. ولا تزال قاعة النسيج في بروج (1284 وما بعدها) تشرف بقبة ناقوسها الفخمة التي طبقت شهرتها العالم كله على الميدان الذي تقوم فيه. وتوحي هذه المباني الجميلة هي ومباني غنت (1325 وما بعدها) بما كانت عليه نقابات الحرف الفلمنكية من ثراء، وما كانت تتيه به من كبرياء هي خليقة به، وهي بعض ما في هذه المدن السارة الهادئة في هذه الأيام من فتنة وروعة.
ولقي الفن القوطي في انتشاره نحو الشرق إلى هولندا وألمانيا مقاومة متزايدة، ذلك أن رشاقة الطراز القوطي لم تكن تتفق بوجه عام مع النزعة العقلية التيوتونية، وأن الطراز الرومنسي أكثر مواءمة لهذه النزعة، ولهذا استمسكت
به ألمانيا حتى القرن الثالث عشر. وتعد كثدرائية بمبرج Bamberg العظمى (1185 - 1237) مرحلة انتقال: فالنوافذ فيها صغيرة وذات عقود مستديرة وليست فيها مساند متنقلة، ولكن القبة ذات ضلوع من الداخل وذات شكل مستدق. وإنا لنجد هنا في مطلع عهد الفن القوطي الألماني تطوراً في النحت ذا بال: فقد كان في بادئ الأمر يحذو حذو النحت الفرنسي، ولكنه سرعان ما خطا نحو طراز من النزعة الطبيعية البديعة والقوة. والحق أن الصورة التي تمثل المعبد فوق كنيسة بمبرج لأوقع في النفس من الصورة المماثلة لها في ريمس (29). وتمثالا اليصايات ومريم اللذان في المرنمة أقرب إلى أن يكونا نسختين من الموضوعين المماثلين لهما في فرنسا. ذلك أن تمثال اليصايات ذو وجه وشكل يشبهان وجه عضو من أعضاء مجلس الشيوخ امرأة ذات قوة وصلابة وهما الصفتان اللتان تحبهما ألمانيا على الدوام.
وتكاد كل كثدرائية ألمانية باقية من ذلك العهد تحتوي تماثيل تستلفت الأنظار، أحسنها كلها التي في كثدرائية نومبرج Naumburg (حوالي 1250). ففي المرنمة القريبة من هذه الكنيسة إثنا عشر تمثالا متعاقبة تمثل طائفة من علية القوم المحليين، في واقعية حازمة، وتوحي بأن الفنانين لم ينالوا حقهم من الأجر كاملا، وكأنما أرادوا أن يكفروا عن هذا الخطأ فكانت صورة يوتا Uta زوجة الأمير تمثل المرأة الألمانية كما يتوق إليها التفكير الألماني. وعلى ستار المرتمة نقش يمثل يهوذا يتناول المال ليغدر بالمسيح. والصور هنا مزدحمة وذات قوة ولكنها قوة لا تضر بفرديتها، فيهوذا قد مثل بحيث يبدو منتصفاً بشيئ من العطف، والفرنسيون شخصيات ذوات قوة. تلك هي آية فن النحت الألماني في القرن الثالث عشر.
وفي عام 1248 وضع كنرادا لهوشستادني onrad of Chochstaden كبير
أساقفة كولوني أشهر الكثدرائيات الألمانية وأقلها موافقة للطراز القوطي. وتقدم العمل تقدماً بطيئاً في خلال الفوضى التي أعقبت موت فردريك الثاني، فلم تدشن الكثدرائية إلا في عام 1322، ولهذا فإن جزءاً كبيراً منها يرجع تاريخه إلى القرن الرابع عشر، أما الشماريخ الرقيقة وما على زواياها من النقوش التي في صورة أوراق أشجار، ملفوفة وزخارف النوافذ الحجرية التي يوضع فيها الزجاج فقد بنيت في عام 1880 حسب تصميم لها من القرن الخامس عشر. وبنيت كثدرائية كلوني على غرار كثدرائية أمين فترسمت الطراز الفرنسي والأسلوب الفرنسي بدقة. فخطوط الواجهة مفرطة في اعتدالها وصلابتها، ولكن عمد الصحن السامقة الرفيعة، والنوافذ المتلألئة، والتماثيل الأربعة عشر التي على دعامات المرنمة تكسب داخل الكثدرائية جاذبية، لم تنج من الحرب العالمية الثانية إلا بأعجوبة، وتكاد تكون إحدى المعجزات.
وكثدرائية استراسبورج Strassbourg أكثر من هذه إمتاعاً للنفس. وهنا أيضاً كان قرب البلدة من فرنسا مما جعل الطراز الفرنسي يبدو وكأنه أقل بعداً عن الطابع الوطني مما يبدو في استراسبورج في هذه الأيام (1949)، فخارجها يمثل الرشاقة الفرنسية وداخلها يمثل القوة الألمانية. ويدخل الإنسان إلى الكثدرائية بعد أن يمر ببيوت مزدحمة جميلة المنظر ذات سقف هرمية. وتزين التماثيل الواجهة، ولكن النوافذ المشععة الواسعة ذات الروعة أبهى من هذه الزينة. والبرج الوحيد القائم في ركن واحد من أركان الواجهة يشوه منظرها، إذ يوحي إلى الإنسان بأن فيها نقصاً، ولكن الفنان قد أفلح كل الفلاح في أن يجمع هنا بين المهابة والزخرف، حتى ليستطيع الإنسان أن يفهم وصف جيته لهذه الواجهة بأنها "موسيقى متجمدة"، وإن كان علينا نحن أن نستخدم في وصفها لفظاً غير لفظ "متجمد". فقد كتب جيته يقول: "لما كنت قد نشأت على احتقار العمارة القوطية، فقد ازدريت هذه الواجهة، ولكني لما دخلتها اعترتني
الدهشة، وأحسست بما في جمالها من جاذبية" (30). والزجاج الملون في هذه الكثدرائية قديم العهد، ولعله أقدم من أي زجاج في فرنسا، والتماثيل المنحوتة التي عند باب الجناح الجنوبي (1230 - 1240) نادرة الجمال، وفي القوس التي فوق الباب نقش غائر يمثل موت العذراء، والرسل المجتمعون حول فراشها ذوو ملامح فردية غير وافية، ولكن الفكرة التي أوحت بصورة المسيح جميلة وقد أبرزها المثال بمهارة. ويقوم على جانبي هذا الباب تمثالان عظيمان: يمثل احداهما الكنيسة في صورة ملكة ألمانية بشوشة، والآخر لشخص نحيل رشيق، مكفوف ولكنه جميل، يرمز إلى معبد اليهود، ولو رفعت العصابة التي على عيني هذا التمثال لفاق المعبد الكنيسة. وقد أمرت لجنة الثورة الفرنسية في عام 1793 بتدمير تماثيل الكثدرائية لتجعل منها "معبداً للعقل"، ولكن عالما في التاريخ الطبيعي لا نعرف اسمه من هرمان Hurman أنقذ تمثالي الكنيسة والمعبد بأن أخفاهما في حديقته المخصصة لعلم النبات. كما أنقد النقوش التي فوق قوس الباب بأن غطاها بلوحة عليها نقش فرنسي: الحرية، والمساواة والإخاء (31).
الفصل الثامن
الطراز القوطي الإيطالي
(1200 - 1300)
أطلق الإيطاليون في العصور الوسطى على الطراز القوطي اسم طراز "تيدسكو" وأخطأ إيطاليو النهضة مثل خطأهم في أصل هذا الطراز، فاخترعوا له اسم القوطي لاعتقادهم أن برابرة ما وراء الألب وحدهم هم الذين يستطيعون إيجاد فن يبلغ هذا القدر من الإسراف ذلك أن ما في هذا الطراز من كثرة في الزخارف وعظم في الجرأة لم يكن يتفق وأذواق الإيطاليين ذات النزعة القديمة الطويلة العهد بالنقاء. وإذا كانت إيطاليا لم تتخذ الطراز القوطي، فقد كان ذلك عن إباء يكاد يبلغ حد الاحتقار. ولم يكن في مقدورها أن تطلع على العالم بلألاء كتدرائية ميلان الغريب وطراز أورفينو، وسيينا، وأسيسي، وفلورنس القوطي-البيزنطي- الرومنسي إلا بعد أن كيفته بما يوائم حاجاتها ومزاجها وكان الرخام موفوراً في أرضها وخراباتها وكان في وسعها أن تبني واجهات معابدها بألواح منه متعددة الألوان، ولكن كيف تستطيع أن تنحت واجهة رخامية لتشيد منها المدخل المعقدة كما كان ينحت أهل الشمال بالحجارة اللينو؟ إنها لم تكن في حاجة إلى النوافذ الكبيرة التي تدعو إليها حاجة بلاد الشمال الباردة القاتمة إلى الدفء والضوء، وكانت لذلك تفضل عليها النوافذ الصغيرة التي جعلت كاتدرائياتها معابد قليلة الحرارة تقي روادها وهج الشمس، ولم تكن ترى أن الجدران السميكة والأربطة الحديدية نفسها أقبح منظراً من الدعامات المتنقلة، فكانت لذلك تستخدمها في تزيين مبانيها، ولم تتقبل في يوم من الأيام المنطق الإنساني في الطراز القوطي.
ويكاد هذا الطراز في البلاد الشمالية يكون كله قبل عام 1300 مقصوراً
على الكنائس، لا يستثنى من هذا إلا عدد قليل منها في المدن التجارية مثل إيبر، وبروج، وغنت. وكان للعمارة المدنية في إيطاليا الشمالية والوسطى هما أغنى من الأراضي الوطيئة نفسها في الصناعة والتجارة، شأن عظيم في تنمية الفن القوطي، فقد اتخذت القاعات العامة، وجدران المدن، والأبواب، والأبراج، وقلاع سادة الإقطاع، وقصور التجارة، اتخذت هذه كلها الشكل القوطي أو الزخرف القوطي، وبدأت بروجيا دار بلديتها في عام 1281، وبدأت دارها العامة في 1289، وبولونيا دارها الشعبية في 1290، وبدأت فلورنس دارها الفذة الرشيقة المعروفة بقصر فيكو Vecchio في 1298 - وكلها على الطراز القوطي التسكاني.
وفي أسيسي أراد الأخ إلياس في عام 1228 بأن ينشئ مكاناً يتسع للعدد الجم من رهبانه الفرنسيين والطوائف المتزايدة من الحجاج إلى قبر القديس فرانسس، فأمر بتشييد دير سان فرانسيسكو وكنيستها العظيمة الاتساع- وهي أول كنيسة شيدت في إيطاليا على النظام القوطي. وعهد هذا العمل إلى رئيس البنائين ألماني يسميه الإيطاليون جاكوبو الألماني (يعقوب الألماني Jacopo d،Alemannia) ، ولعل هذا هو السبب في تسمية الطراز القوطي في إيطاليا "بالطراز الألماني". وشيد جاكوبو "كنيسة سفلى" على الطراز الرومنسي الذي فيه القبة ذات المنحنيات الزاوية عند ملتقى العقود، ثم أقام فوقها "كنيسة عليا" ذات نوافذ في عقودها محشوة بزخارف جميلة، وقباب مضلعة مستدقة. وتكون الكنيستان والدير كتلة من البناء ذات روعة، وإن كانت لا تبلغ في الإمتاع ما تبلغه المظلمات العجيبة التي أبدعتها أيدي سيمابيو Cimabue، وجيتو، وتلاميذ جيتو، أو السائحين الذين يهرعون كل يوم من مائة مدينة ومدينة إلى ضريح قديس إيطاليا المحبوب، أقل من يلقي المبالاة من هؤلاء القديسين.
ولا تزال سيينا حتى الآن من مدائن العصور الوسطى: فهي تتكون من
ميدان عام تحيط به دور الحمومة، وسوق عامة مكشوفة، تصل بها حوانيت متواضعة لا تبذل فيها جهود لاسترعاء النظر. ويتفرع من هذا الميدان المركزي نحو أثني عشر طريقاً تتعثر في طريقها الخطر الظليل بين مساكن قديمة مظلمة لا تكاد يبعد بعضها عن بعض بعشر أقدام، غاصة بخلائق بشوشين تفوح منهم روائح كريهة، الماء عندهم ترف أندر وأشد خطورة على أجسامهم من النبيذ. وتقوم على تل خلف المساكن كاتدرائية المدينة مبنية من الرخام القاتم والأبيض في سطور غير ذات جمال. وقد بديء بناء الكنيسة عام 1229 وتم في عام 1348، وأضيفت إلها في عام 1380 واجهة جديدة ضخمة من تصميم خلفه جيوفني بيزانو. وكلها من الرخام الأحمر أو الأسود أو الأبيض، وفيها ثلاثة أبواب كبيرة رومنسية الطراز على جانبي كل منها قوائم منحوتة نحتاً بديعاً، وتحيط بها سقف هرمية ذات نقوش معقوفة، ونافذة متشععة ترشح أشعة الشمس المغاربة، وتمتد البواكي والعمد على طول الواجهة تطالع الناظر بطائفة كبيرة من التماثيل، وفي الأركان شماريخ وأبراج من الرخام الأبيض تقلل من حدة زواياها، وفي المقص العالي نقش فسيفسائي ضخم يمثل العذراء الأم تسبح صاعدة إلى الجنة. وكان الفنان الإيطالي مولعاً بالسطوح البراقة الملونة، ولم يكن كالفنان الفرنسي مولعاً بانعكاسات الضوء والظل الدقيقة على العمد الداخلية في الأبواب وعلى الواجهات ذات النحت الغائر. وليست هنا مساند للجدران، وتعلو فوق المرنمة قبة بيزنطية الطراز، تتحمل ثقلها جدران سميكة وعقود مستديرة متسعة اتساعاً كبيراً، تقوم على مجموعات من عمد الرخام، وتحمل قبة ذات أضلاع مستديرة ومستدقة. والطراز القوطي التسكاني لا يزال يغلب عليه هنا الطراز الرومنسي، ولا يزال بعيداً كل البعد عن طراز كنيستي أمين وكلوني الثقيل المعجز. وفي داخل الكنيسة منبر نقولا وجيوفني بيزانو، وتمثال برنزي لقائم بالتعميد صبه دونانللو Donatello، (1457) ، ومظلمات من صنع بنتورتشيو Pinturicchio،
ومذبح من صنع بلدساري بروزيو Baldassare Peruzzio، (1532) ومقاعد للمرنمين كثيرة النقوش المنحوتة من عمل برتولميو نيروني Bartolomeo Neroni، (1567) ، وهكذا استطاعت إيطاليا أن تنمو قرناً بعد قرن بفضل سلسلة متصلة الحلقات من العباقرة الإيطاليين.
وبينما كانت كاتدرائية سيينا وبرج أجراسها يتشكلان تناقل الناس من قرية بلسينا Bolsena معجزة كانت لها نتائج معمارية. ذلك أن قساً، كان في سابق أيامه يشك في عقيدة استحالة العشاء الرباني إلى لحم المسيح ودمه، اقتنع بصدق هذه العقيدة الدينية حين رأى الدم على الخبز المقدس، ولم يكتف البابا إربان الرابع بأن يخلد هذه المعجزة بضم "عيد الجسد" إلى الأعياد المسيحية (1264)، بل أمر بتشييد كثدرائية في أرييفنو القريبة من قرية بلسينا. ووضع تصميم هذه الكاتدرائية أرنللو دي كمبيو Arnollo di Cambio ولورنزو مكاتني Lorenzo Mactani وظلا يعملان في تشيدها من 1290 حتى 1330. وجعلت واجهتها على طراز كاتدرائية سيينا، ولكنها أجمل منها صقلاً وتنفيذاً، وأحسن منها تناسباً في أجزائها، فكأنها تصوير ضخم من الرخام، كل عنصر من عناصرها آية فنية بذلت فيها عناية فائقة. وتروي النقوش البارزة المفصلة تفصيلاً لا يكاد يصدقه العقل، ولكنها مع ذلك دقيقة كل الدقة، وتتحدث هذه النقوش القائمة على العمد المربعة العريضة التي بين الأبواب مرة أخرى عن قصة خلق العالم، وحياة المسيح، وتطهير المسيح للجنس البشري من الذنوب والشقاء، ويوم الحساب. ويمتاز أحدها، وهو الذي يمثل زيارة العذراء لإليصابات، بأنه يرقى في ذلك العهد إلى الكمال الذي بلغه فن النحت في عصر النهضة. وهناك عمد منحوتة نحتاً دقيقاً تقسم مراحل الواجهة الشامخة الثلاث، وتأوى طائفة كبيرة من الأنبياء، والرسل والآباء، والقديسين. وتتوسط هذه المجموعة المعقدة نافذة مشععة تعزى إلى أركانيا Orcania، (1359) ، وإن كان
هذا مشكوكاً فيه، ويعلوها نقش فسيفسائي براق (أزيل في الوقت الحاضر) يمثل تكليل العذراء. وداخل الكنيسة الذي تتناوب فيه الخطوط الملونة تناوباً غريباً عبارة عن باسلكا ساذجة تحت سقف منخفض من الخشب، والإضاءة فيها ضعيفة، وليس في وسع الإنسان أن يمتدح المظلمات التي صنعها فرا أنجليكو Fra Angelieo وبنزولي جونزولي Benzzoli Gozzoli ولوكا سنيورلى Luca Signorelli.
ولكن ثورة البناء التي اجتاحت إيطاليا في القرن الثالث عشر أتت بأعظم عجائبها في مدينة فلورنس الثرية. فقد شاد كمبيو في عام 1294 كنيسة الصليب المقدس (سانتا كروشي Santa Croce) واحتفظ فيها بنظام الباسلكا التقليدي الخالي من الجناحين، ذي السقف الخشبي المستوي، ولكنه استخدم العقد المستدق في النوافذ، والصحن ذا البواكي والواجهة الرخامية. ولا يعتمد جمال الكنيسة على هندستها المعمارية بقدر ما يعتمد على كثرة ما في داخلها من التماثيل، والنقوش المنحوتة، والمظلمات، التي تكشف عن مهارة أصحاب الفن الإيطالي السائر نحو النضوج، وفي عام 1298 أنشأ أرنللفو لمكان التعميد واجهة من طبقات الرخام يتعاقب فيها اللونان الأسود والأبيض ذلك التعاقب الذي يمجه الذوق السليم، ويشوه كثيراً من مباني الطراز السكاني، لأنه يخضع الارتفاع العمودي لحشد من الخطوط المستقيمة. ولكن روح العصر المزهوة بنفسها-وهي بشير آخر بعصر النهضة- يمكن تبنيها في المرسوم (1294) الذي كلف به أرنللفو ببناء الكاتدرائية العظيمة.
لما كان الحزم أجمع يقضي على ذوي الأصول الكريمة أن يختطوا في أعمالهم خطة تجعل ما يتبعونه فيها من حكمة وفخامة تظهر في صورة تراها العين، فقد أمرنا أن يعد أرنللو رئيس المهندسين في المدينة نماذج أو تصميمات لإعادة بناء (كاتدرائية) سانتا ماريا ربراتا Sante Maria Reparata، بحيث تبدو
في أسمى حلة من الفخامة مهما أنفق فيها من المال، وبحيث لا تستطيع جهود البشر ولا قواهم أن تبتكر شيئاً أياً كان، أو أن تتعهد بالقيام بشيء، يفوقها سعة وجمالاً، وأن يراعى في هذا العمل ما أعلنه أحكم الحكماء من المواطنين وأشاروا به في مجلسهم العام وفي اجتماعهم العام وهو ألا تمس يد أعمال المدينة إلا إذا كان في نية صاحبها أن يجعلها موائمة للروح النبيلة المؤلفة من أرواح جميع مواطنيها مجتمعة في إدارة موحدة (32).
وأثار هذا التصريح الواسع الانتشار حماسة الجماهير، وهو الهدف المقصود به بلا ريب، فأخذوا يتبرعون بالمال. واشتركت نقابات الحرف الطائفية في تمويل المشروع، ولما أن تباطأت غيرها من النقابات فيما بعد تعهدت نقابة عمال الصوف بنفقات المشروع كله، وتبرعت لهذا الغرض بمبلغ ارتفع إلى 51،000 ليرة ذهبية (أي ما يعادل 9،270،000 دولار أمريكي) في العام (33). ولهذا صمم أرنللو البناء على أبعاد ضخمة، فقدر ارتفاع القبة الحجرية بمائة وخمسين قدماً، أي بما يساوي ارتفاع قبة بوفيه، وقدر اتساع الصحن بمائتين وستين قدماً في خمس وخمسين، واعتزم أن تتحمل ثقل البناء جدران سميكة، وأربطة حديدية، وعقود في الصحن مستدق، اشتهرت بقلة عددها الذي لا يزيد على أربعة، وبامتدادها الهائل الذي يبلغ خمساً وستين قدماً في الطول وتسعين قدماً في العرض. وتوفي أرنللو في عام 1301، وظل العمل قائماً بعد وفاته وأدخل على تصميمه كثير من التعديل بإشراف جيتو، وأندريا بيزانو، وبرونلسكي Brnnellcschi وغيرهم، ولم تدشن هذه الكتلة الضخمة المشوهة من البناء إلا في عام 1436 وغير اسمها إلى سانتا ماريا دي فيوري Santa Maria de Fiore. وهي صرح ضخم غريب المنظر استغرق تشييده ستة قرون، وغطى مساحة قدرها 84. 000 قدم مربعة، وتبين فيما بعد أنه يتسع لمستمعي سافونارولا Savonarola.
الفصل التاسع
الطراز القوطي الأسباني
(1091 - 1300)
حمل رهبان فرنسا في القرن الثاني عشر الطراز القوطي إلى أسبانيا فوق جبال البرانس، كما نقلوا طراز العمارة الرومنسي إلى تلك البلاد في القرن الحادي عشر. وكانت كثدرائية سان سلفادور القائمة في بلدة أفيلا الصغيرة (1091 وما بعدها) هي بداية الانتقال من الطراز الرومنسي إلى القوطي، وذلك بما احتوته من العقود المستديرة، والباب القوطي الطراز، والعمد الشيقة التي في القبا والتي ترتفع حتى تتصل بالأضلاع المستدقة في القبة. واحتفظ أهل سلمنقة Salamanca الأتقياء الكثدرائية القديمة التي تمثل دور الانتقال والتي شيدت في القرن الثاني عشر إلى جانب الكثدرائية الجديدة التي شيدوها في القرن السادس عشر، وتكون الكنيستان معا مجموعة من أكبر المجموعات البنائية وأعظمها روعة في أسبانيا. وفي طراجونة Taragona كانت الصعاب المالية سبباً في إطالة عملية بناء الكرسي الكهنوّتي من 1089 إلى 1375، وإن ما يتصف به البناء من بساطة ومتانة ليوائم الزخارف القوطية والإسلامية، وما فيه من الأروقة- المكونة من عمد رومنسية تحت قبة قوطية- لمن أجمل ما أخرجه فن القصور الوسطى.
وطراز البناء في طراجونة واضح المعالم، أما بورجوس Burgos، وطليطلة وليون فهي أكثر منها نزعة فرنسية، وتزيد كل واحدة عن التي قبلها في هذا الاتجاه. ذلك أن زواج بلانش القشتالية من لويس الثامن ملك فرنسا (1200) قد أدى إلى زيادة أسباب التدخل الذي بدأه من قبل الرهبان المهاجرون. وكان
ابن أخيها فرنندو الثالث ملك قشتالة هو الذي وضع الحجر الأساسي لكثدرائية بورجوس في عام 1221، وكان مهندس فرنسي غير معروف هو الذي قام بتصميم البناء، وألماني من كولوني- جوان دي كولونيا Juan de Colonia- هو الذي أقام الشماريخ (1442)، وبرغندي يدعى فلبيه دي برجونيا Felipe de Borgonia هو الذي بنى الناقوس العظيم فوق ملتقى الجناحين (1539 - 1543)، ثم قام أخيراً تلميذه جوان دي فاليجو Juan de Vallego الأسباني بإتمام الصرح كله 1567: وإن الشماريخ المزخرفة النوافذ، والأبراج المفتوحة التي تعتمد عليها هذه الشماريخ، والباكية ذات التماثيل، لتخلع على كنيسة سانتا ماريا لا مايور Senta Maria La Mayor (القديسة ماريا الكبرى) مهابة وفخامة لا يستطيع الإنسان أن ينساهما في وقت قصير. وقد كانت هذه الواجهة الحجرية كلها في بادئ الأمر مطلية، ولكن الألوان زالت عنها من زمن بعيد، ولهذا فإن كل ما نستطيعه الآن هو أن نحاول تصور الصرح المتلألئ الذي كان في وقت من الأوقات يضارع الشمس بهاء.
كذلك قدم فرنندو الثالث نفسه الأموال اللازمة لبناء كثدرائية طليطلة الأكثر من كثدرائية بورجوس فخامة. وقل أن توجد في المدن الداخلية مدينة جميلة الموقع كمدينة طليطلة- فهي تجثم في ثنية من ثنايا نهر التاجة، تخفيها تلال تحميها من الأعداء، وما من أحد يعرف ما هي عليه من فقر في هذه الأيام يتصور أن ملوك القوط الغربيين ومن جاء بعدهم من أمراء المسلمين، ثم ملوك اليون Leon وقشتالة المسيحيين، قد اتخذوا هذه المدينة عاصمة لهم. وقد بدأت كثدرائية في عام 1227 وأخذت ترتفع في الجو ببطء مرحلة بعد مرحلة، حتى أوشكت على التمام قبيل عام 1493. ولم ينشأ من التصميم الأصلي إلا برج واحد، وهي من طراز نصف إسلامي مغربي كطراز الخرلدة في أشبيلية، وتكاد تماثيلها في رشاقتها. وبنيت فوق البرج في القرن السابع عشر قبة أعد تصميمها أشهر
أبناء طليطلة دومنجوتيو كوبولي Domingo Teotocopuli الملقب باليوناني Elgreco. وطول الكنيسة من الداخل 495 قدماً وعرضها 178. وهي متاهة تحتوي على خمس طرقات ذات دعامات عالية، ومصليات مزخرفة، وتماثيل حجرية للأولياء الزهاد، وشبابيك من حديد مشغول، و 750 شباكاً من الزجاج الملون. ويتمثل في هذه الكثدرائية الضخمة كل ما يتصف به الخلق الأسباني من جد، وكل ما يتصف به التقي الأسباني من كآبة وقوة انفعال، وما في الآداب الأسبانية من رقة ودماثة، كما يتمثل فيها أيضاً بعض ما يتصف به المسلمون من ولع بالزخرف.
ومن الأمثال السائرة في أسبانيا أن "طليطلة أغنى كنائسنا، وفي أفيدو أكثرها قداسة، وفي سلمنقة أعظمها قوة، وفي ليون أعظمها جمالا"(34). وقد بدأ الأسقف منريك Manrique كثدرائية ليون Leon في عام 1205 وجمع المال اللازم لها من تبرعات صغيرة جوزي عليها من قدموها بصكوك الغفران، وتم بناؤها في عام 1303. وقد عمد المهندسون فيها إلى الخطة القوطية الفرنسية وهي أن يكون معظم بناء الكثدرائية مكوناً من نوافذ، ولزجاجها الملون منزلة عالية بين روائع ذلك الفن. وقد يكون حقاً أن تصميم الأرض التي بنيت عليها مأخوذ من كثدرائية ريمس، وأن الواجهة الغربية قد أخذت من شارتر، والباب الجنوبي الكبير من برجوس. ولهذا تمثل الكنيسة خليطاً عجيباً من الكثدرائيات الفرنسية يحتوي على أبراج وشماريخ مصقولة.
وقامت كنائس أخرى ابتهاجاً باستعادة المسيحية في أسبانيا- في رمورة عام 1174، وفي توطيلة عام 1188، ولريده 1203، وبلنسية 1262، وبرشلونة 1298. ولكننا يصعب علينا أن نصف الكنائس الأسبانية التي قامت في تلك الفترة من الزمان بأنها قوطية الطراز، لا يستثنى من ذلك التعميم إلا كنيسة ليون. فقد خلت هذه الكنائس من النوافذ الكبيرة والمساند
المتنقلة، واعتمد ثقل أبنيتها على جدران ودعامات ضخمة، وتمتد هذه العامات نفسيا حتى تكاد تصل إلى القبة، بدل أن تمتد ضلوع العقود من القاعدة إلى السقف، وهذه العمد العالية التي تقوم كالمردة الحجرية في كهوف الصحون الضخمة تكسب داخل الكنائس الأسبانية عظمة قاتمة مظلمة تخشع لها النفوس رهبة، على حين أن الطراز القوطي الشمالي يسمو بها لما يغمرها من ضوء. وكثيراً ما احتفظت الأبواب والنوافذ الطراز القوطي الأسباني بالعقود الرومنسية، كما احتفظت الزخارف المكونة من طبقات مختلفة ورسوم من الآجر الملون بعنصر إسلامي مغربي بين زخارفها القوطية، وبقي تأثير الطراز البيزنطي في القباب وأصاف القباب القائمة، ذات التقاسيم الثلاثية المتناسقة كثيرة الأضلاع. وهذه العناصر المختلفة هي التي أنشأت منها أسبانيا طرازاً من الكثدرائيات يعد من أجمل كثدرائيات أوربا.
وليست قصور الريف الحصينة وقلاعه، ولا جدران المدن وأبوابها، أقل الأعمال المعمارية في العصور الوسطى نبلاً وفخامة. فلا تزال جدران أفيلا قائمة إلى اليوم تشهد بإدراك العصور الوسطى لجمال الشكل، كما جمعت بعض الأبواب الكبيرة كباب الشمس Puerto de sol في طليطلة بين الجمال والمنفعة وكذلك أقام الصليبيون من ذكرياتهم للقلاع الرومانية، في الشرق الأدنى- ولعل ذلك كان أيضاً من ذكرياتهم لما شاهدوه من حصون المسلمين (35) - حصوناً قوية ضخمة كحصن الكرك (1121)، تفوق في حجمها وشكلها أية حصون من نوعها في ذلك العهد الحربي. وشادت بلاد المجر، حصن أوربا الحصين من المغول، قصوراً فخمة حصينة في خلال القرن الثالث عشر. ثم انتقل هذا الفن إلى بلاد الغرب وترك في إيطاليا آيات من الفن الحربي مثل برج فلتير Voltera الحصين، وفي فرنسا في القرن الثالث عشر قصور كوسي Coucy وبييرفون Pierrefonds، وقصر جويارد Chateau Guibard الذي شاده رتشرد قلب الأسد
(1179)
عل أثر عودته من فلسطين. ولم تكن القصور المحصنة في أسبانيا بدعة من بدع الخيال، بل كانت كتلاً ضخمة قوية من البناء صدت المسلمين المغاربة، واشتق منها اسم قشتالة (
(1)
. ولما استرد الفنسو السادس (الأذفنش)(1073 - 1108) ملك قشتالة مدينة سيجوفيا Segovia من المسلمين، أقام فيها قصراً حصيناً على نمط "قصر" طليطلة. وقامت أمثال هذه القصور الحصينة في إيطاليا لتكون قلاعاً يسكنها النبلاء، ولا تزال مقاطعتا تسكانيا ولمبارديا مليئتين، وكان في سان جمنيانو San Gimignano وحدها ثلاثة عشر قصراً حصيناً من هذا النوع قبل الحرب الأوربية الثانية، وبدأت فرنسا منذ القرن العاشر لا بعده تبني في شتودون Chateaudun القصور التي أضحت في عصر النهضة من أفخم مظاهر فنها المعماري. وانتقلت الأساليب الفنية في بناء القصور الحجرية إلى إنجلترا مع أتباع إدوارد المعترف المحببين، وارتقت بما اتخذه وليم الفاتح من إجراءات هجومية دفاعية في البلاد، فاتخذت في أثناء قبضته الحديدية عليها صروح برج لندن، وقصر ونزر Windsor، وقصر درهام اتخذت هذه الصروح أقدم صورها. ومن فرنسا أيضاً انتقل بناء القصور الحصينة إلى ألمانيا، حيث شغف به الأعيان الخارجون على القانون، والملوك المحاربون، والقديسون الغازون. فشاد اسكلس Schloss الكنجزبرجي الرهيب (1257) حصناً استطاع الفرسان النيوتون أن يحكموا منه السكان المعادين لهم، حتى كان هذا الحصن ضحية هو خليق بها من ضحايا الحرب العالمية الثانية.
(1)
Castile من Castle. (المترجم)
الفصل العاشر
لمحات متفرقة
لقد كانت العمارة القوطية أجل ما تكشفت عنه النفس البشرية في العصور الوسطى. ذلك أن أولئك الرجال، الذين أقدموا على تعليق هذه القباب على مشاءات قليلة من الحجارة، وقد درسوا عملهم، وعبروا عنه بإحكام أكثر مما فعله في برجه العاجي أي فيلسوف من فلاسفة العصور الوسطى، وقد أثمرت هذه الدراسة ما لم تثمره دراسة أولئك الفلاسفة، وان خطوط كنيسة نتردام وأجزائها المتناسقة لتؤلف قصيدة أعظم من الملهاة الإلهية. هذا وليس في وسعنا أن نعقد موازنة عامة بين العمارتين القوطية واليونانية- الرومانية القديمة، لأن هذه الموازنة تحتاج إلى كثير من التخصص. ولسنا ننكر أنه ما من مدينة واحدة في أوربا العصور الوسطى قد أخرجت من العمائر ما أخرجته أثينة أو روما، وأنه ليس من الأضرحة القوطية ضريح حوى من الجمال الصافي ما حواه البارثنون، ولكنا لا نعرف في العمائر اليونانية- الرومانية القديمة ما يضارع العظمة المعقدة التي نراها في واجهة كاتدرائية نتردام أو الوحي الذي ينزل على النفس فيسمو بها حين تشهد قبة كتدرائية أمين، وإن ما يتمثل في الطراز القوطي من تقيد واطمئنان ليعبر عن تعقل واعتدال كانت تدعو بلاد اليونان إليها أهلها ذوي العاطفة القوية الجائشة، وإن النشوة الخيالية التي في الطراز القوطي الفرنسي، والضخامة القائمة التي تمتاز بها كاتدرائية برجوس وطليطلة، واللتين ترمزان من غير قصد إلى ما في روح العصور الوسطى من شوق وحنان، وإلى ما في العقيدة الدينية من رهبة، وإيمان بالأساطير والعقائد الخفية. لقد كانت العمارة والفلسفة
اليونانيتان- الرومانيتان القديمتان علمين يهدفان إلى الثبات والاستقرار، ذلك أن العوارض الراكزة على الأعمدة والتي كانت تربط عمد البارثنون كانت هي التفسير الدنيوي لنقوش دلفي مع توكيد للتسامي، والنضج بالثبات، وهي توشك أن ترغم أفكار بني الإنسان على العودة إلى هذه الحياة وهذه الأرض. لقد كانت تسمية روح بلاد الشمال بالروح القوطية تسمية صادقة تنطبق على الواقع، لأنها ورثت الجرأة القلقة التي هي من مميزات البرابرة الفاتحين، وكانت تنتقل منهومة من نصر إلى نصر، حتى حاصرت آخر الأمر السماء بمساندها المتنقلة، وعقودها السامقة، ولكنها كانت بالإضافة إلى هذا روحاً مسيحية تطلب إلى السماء أن تهبها الرحمة التي أقصتها البربرية عن الأرض. وكانت البواعث هي التي أدت إلى أعظم انتصار للشكل على المادة في تاريخ الفن من أوله إلى آخره.
ولكن لم اضمحلت العمارة القوطية؟ لقد كان من أسباب اضمحلالها أن كل فن يقضي على نفسه بتعبيره الكامل عن نفسه، ويدعو إلى رد الفعل أو التغيير. ثم إن تطور الفن القوطي إلى العمودي في إنجلترا، وإلى كثرة الألوان والزخارف في فرنسا، لم يترك للشكل مستقبلاً سوى المغالاة ثم الاضمحلال. يضاف إلى هذا أن إخفاق الحملات الصليبية، وضعف العقيدة الدينية، وتحول الأموال من مريم العذراء إلى رب المال، ومن الكنيسة إلى الدولة، قد حطم روح العصر القوطي. وفوق هذا وذاك فإن فرض الضرائب على رجال الدين بعد أيام لويس التاسع قد أفرغ من المال خزائن الكاتدرائات، وفقدت المدن المستقلة ونقابات الحرق الطائفية، التي كانت تسهم في مجد العمارة القوطية ونفقاتها، واستقلالها، وثروتها، واعتزازها بنفسها، وأنهك الموت الأسود، وحرب المائة السنين فرنسا وإنجلترا كليهما، فكانت النتيجة أن المباني الجديدة في القرن الرابع عشر لم تقل فحسب، بل إن الكثرة الغالبة من الكثدرائيات
العظيمة التي بدأت في القرنين الثاني عشر قد تركت ناقصة. وآخر ما نذكره من أسباب هذا الضعف أن إعادة كشف الكتاب الإنسانيين للحضارة القديمة، ونهضة العمارة الجديدة في إيطاليا التي لم تمت فيها هذه الحضارة قط، قد أحلا محل الفن القوطي فناً خصباً موفور النماء، فسيطر فن النهضة المعماري من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر على أوربا الغربية، لا يستثنى من ذلك الإسراف في الزينة وكثرة التفاصيل. ولما جاء الدور على النزعة اليونانية-الرومانية القديمة فأصابها هي الأخرى الوهن أعادت الحركة الإبداعية التي قامت في بداية القرن التاسع عشر العصور الوسطى إلى خيال أصحاب النزعة المثالية، وعادت العمارة القوطية إلى الوجود. ولا يزال الكفاح قائماً بين الطرازين اليوناني-الروماني والقوطي في كنائسنا ومدارسنا وحواضرنا، على حين أن طرازاً معمارياً أصيلا أعظم جرأة من الطراز القوطي أخذ يعلو في أجواز الفضاء.
وظن رجل العصور الوسطى أن الحقيقة قد تكشفت له فلم يعد في حاجة إلى الجري الوحشي وراءها، ولهذا فإن الجهد الطائش الذي نبذله الآن الجري وراء تلك الحقيقة قد وجه في تلك الأيام إلى خلق الجمال، وقد وجد الناس بين كوارث الفاقة، والأوبئة الفتاكة، والحروب، من الوقت والروح القوية ما مكنهم من أن يحملوا ألفاً من الأدوات المختلفة الأنواع تختلف من حروف أسمائهم الأولى إلى الكثدرائيات الشامخة. وإذا ما وقفنا محتبسي الأنفاس أمام بعض مخطوطات العصور الوسطى، أذلاء أمام نتردام، وتمثلنا صورة صحن كنيسة ونشستر البعيدة ما كان في عصر الإيمان من خرافات وأقذار، وحروب دنيئة، وجرائم وحشية، وأدهشنا مرة أخرى ما كان يتصف به أجدادنا في العصور الوسطى من صبر طويل، وذوق جميل، وخشوع وإخلاص، وحمدنا لألف ألف من الرجال المنسيين ما بثوه في دم التاريخ من قداسة الفن.
الباب الثالث والثلاثون
موسيقى العصور الوسطى
(326 - 1300)
الفصل الأول
موسيقى الكنيسة
لقد أسأنا نحن إلى الكثدرائية. إنها لم تكن هذه المقبرة الباردة الخالية التي يدخلها الزائر في هذه الأيام، بل كان لها عمل تؤديه، ذلك أن من كانوا يدخلونها للعبادة لم يكونوا يجدون فيها تحفة فنية فحسب، بل كانوا يجدون فيها مريم وابنها يواسيانهم، ويشدان عزمهم. وكانت تستقبل الرهبان والقساوسة الذين كانوا يقفون عدة مرات في اليوم في مواضع الترنيم ينشدون أناشيد الصلوات الدينية. وكانت تستمع إلى أدعية المصلين الملحين يستمدون من الله الرحمة والعون. وكان صحنها وجناحاها تهدى المواكب التي كانت تحمل أمام الشعب صورة العذراء أو جسم ربهم ودمه. وكانت جنباتها الرحبة تردد في جد ووقار موسيقى القداس، ولم تكن هذه الموسيقى أقل شأنا من صرح الزجاج والحجارة. وما أكثر النفوس الجامدة القوية، المتشككة في العقيدة الدينية، التي أذابتها الموسيقى فخرت راكعة أمام ذلك السر الذي تعجز الألفاظ عنه.
وقد اتفق تطور موسيقى العصور الوسطى اتفاقاً عجيباً مع تطور الطرز
المعمارية، فكما أن الكنائس الأولى انتقلت في القرن السابع من شكلها القديم شكل القباب والباسلكات، إلى الشكل الرومنسي القوي المتين، وانتقلت في القرن الثالث عشر إلى الطراز القوطي المعقد، العالي، المزخرف، كذلك احتفظت الموسيقى المسيحية إلى زمن جريجوري الأول (540 - 604) بنغمات بلاد اليونان والشرق الأدنى الحزينة، وانتقلت في القرن السابع عشر إلى الترنيم الجريجوري أو الترنيم البسيط، ثم ازدهرت في القرن الثالث عشر فتعددت نغماتها وكثرت أصواتها القوية الجريئة تنافس الأساليب المتزنة التي تقوم عليها الكثدرائية القوطية.
وتضامنت غارات البرابرة في الغرب، مع بعث النزعة الشرقية في الشرق الأدنى، في تحطيم التقليد الذي كان يرمز إلى النغمات الموسيقية بحروف توضع فوق الكلمات، ولكن الأساليب اليونانية الأربعة -الدوري، والفريجي، والليدي، والمكسوليدي Mixolydeau بقيت وتولد منها بطريق التقسيم الأساليب الثمانية في التأليف الموسيقي- التأملي، والمحبوس، والجدي، والرزين، والمرح، والمبتهج، والقوي، والمنتشي. وظلت اللغة اليونانية ثلاثة قرون بعد الميلاد باقية في موسيقى الغرب الكنيسة، ولا تزال باقية في صلاة "ارحمنا يارب " Kyrie eleison. واتخذت الموسيقى البيزنطية شكلها في عهد القديس باسيلي، وقرئت الترانيم اليونانية بالسورية، وبلغت ذروتها في ترانيم رومانوس (حوالي 495) وسرجيوس (حوالي 620) ونالت أعظم نصر لها في الروسيا.
وكان بعض المسيحيين الأولين يعارض في استخدام الموسيقى في الدين، ولكن سرعان ما تبين أن دينا بغير موسيقى لا يمكن أن يقوي على منافسة العقائد التي تمس الإنسان الموسيقية. ومن أجل ذلك تعلم القس أن يغني القداس، وورث بعض الألحان التي كان يتغنى بها المرتل العبري، وعلم الشمامسة
وخدم الكنيسة أن يغنوا الردود، وعلم بعضهم تعليما فنياً في مدارس خاصة للترنيم جعلت سلستين الأول Celestine 1 (422 - 432) يصبح هو نفسه مرنماً حاذقاً، وكان هؤلاء المرنمون يكونون فرقاً عظيمة منهم، كان في فرقة أياصوفيا 35 مرنماً، 111 قارئاً. معظمهم من الغلمان (1). وانتشر غناء المصلين من الشرق إلى الغرب، وكان الرجال يتبادلون مع النساء أغنيات متجاوبة ويشتركون معهم قي التسبيحات الدينية وكانوا يظنون أن المزامير التي يغنونها تردد أو تقلد على الأرض تسابيح المديح التي يغنيها الملائكة والقديسون بين يدي الله في الجنة. وأخل القديس أمبروز في أسقفيته تبادل الغناء بين الرجال والنساء على الرغم من نصيحة الرسل بأن تظل النساء صامتات في الكنيسة، وقال هذا الإداري الحازم أن المزامير حلوة النغم في كل عصر، وتليق بكلا الجنسين، وهي تخلق رابطة عظيمة من الوحدة حين يرفع الناس جميعاً عقيرتهم في ترنيمة واحدة (2). وبكى أوغسطين حين سمع المصلين في كنيسة ميلان يتلون ترانيم أمبرزو، وصدق عليه قول القديس باسيلي إن المستمع الذي يستسلم للذة الموسيقى يستجيب للنشوة الدينية والتقوى (3). ولا تزال ترانيم أمبرزو تتلى في كنائس ميلان إلى يومنا هذا.
وثمة رواية متواترة كان أهل العصور الوسطى عامة يؤمنون بصحتها، وأضحت الآن بعد شكوك دامت زمنا طويلا مقبولة بوجه عام (4)، تعزو إلى جريجوري الأكبر وأعوانه إصلاحاً وتجديداً في الموسيقى الكنسية الكاثوليكية الرومانية، أدى إلى اعتبار"النشيد الجريجوري" الموسيقى الرسمية للكنيسة مدى ستة قرون. واجتمعت الألحان الهلنستية والبيزنطية مع الإيقاع العبري في الهيكل والمعبد فشكلت هذا النشيد الروماني أو النشيد البسيط. وكان هذا النشيد موسيقى تتألف من أغنية واحدة، وأيا كان عدد الأصوات المشتركة فيه، فقد كانت كلها تغنى نغمة واحدة، وإن كان النساء والغلمان كثيراً ما يغنون طبقة في السلم الموسيقي
أعلى من التي يغنيها الرجال، وكان هذا النشيد موسيقى سهلة على ذات المدى القليل، وكانت تسمح من حين إلى حين بإضافة نغمة أو بضع نغمات مركبة غير لفظية تحلى بها الأغنية، وكانت في مجموعها فواصل متصلة متحررة من قيود الوزن والقافية غير مقسمة إلى أوتاد أو تقسيم الذي تلقى فيه وكانت العلامات الموسيقية الوحيدة المستعملة في النشيد الجريجوري قبل القرن الحادي عشر تتألف من إرشادات صغيرة مأخوذة من علامات التنبير اليونانية توضع فوق الكلمات المراد غناؤها. وكانت هذه "الأنفاس" تدل على ارتفاع النغمة أو انخفاضها، ولكنها لا تدل على درجة الارتفاع أو الانخفاض، ولا تدل على مدة النغمة، فقد كانت هذه تعرف بالتواتر الشفوي وبحفظ طائفة جد كبيرة من أغاني الطقوس الكنسية. ولم تكن يسمح بأن تصحب الغناء آلة موسيقية، ولكن النشيد الجريجوري أصبح على الرغم من هذه القيود-أو لعله أصبح بسبب هذه القيود- أعظم مظاهر الطقوس الكنسية المسيحية واقعاً في النفس. وإن الأذن الحديثة التي اعتادت التوافق الموسيقي المعقد لتجد هذه الأغاني مملة رقيقة، وترى فيها استمراراً للتقاليد اليونانية، والسورية، والعبرية، والعربية ذات الصوت الواحد التي لا تقدرها في هذه الأيام إلا الأذن الشرقية. لكن الأناشيد التي تغنى في كثدرائية رومانية كاثوليكية في أسبوع الآلام، تنقذ بالرغم من هذا النقص إلى قلوب المستمعين بقوة سريعة عجيبة لا نجدها في الموسيقى التي تلهي تعقيداتها الأذن بدل أن تحرك الروح.
وانتشر النشيد الجريجوري في أوربا الغربية كأنه انتشار آخر للدين المسيحي، ورفضته ميلان، كما رفضت السلطة البابوية، وظلت أسبانيا زمناً طويلا محتفظة بنشيد"مستعرب Mozarabic" ألفه المسيحيون الخاضعون لحكم المسلمين، وهو نشيد لا يزال يتلى حتى اليوم في جزء من كثدرائية طليطلة. واستبدل شارلمان، وهو الحاكم المحب للوحدة، النشيد الجريجوري بالنشيد الغالي
في غالة، وأنشأ مدارس لموسيقى الكنيسة الرومانية في متز وسواسون، ووجد الألمان، الذين تكونت حناجرهم بتأثير مناخهم وحاجاتهم، صعوبة في هذه الأغاني ذات الألحان الرقيقة. وفي ذلك يقول الشماس يوحنا: "إن أصواتهم الخشنة التي تشبه هزيم الرعد، لا يمكن أن تنطق بالنغمات الرقيقة، لأن هذه الأصوات مبحوحة من كثرة الشراب (5).
وربما كان الألمان قد كرهوا الأسلوب الذي أخذ منذ القرن الثامن وما بعده يزين النشيد الجريجوري بـ "المحط القصيرة" وبسلسلة النغمات التي تتعاقب بانتظام. وقد بدأ "المط" بوصفه طائفة من الكلمات يسهل بها تذكر اللحن، ثم صار بعدئذ إدماجا للألفاظة والموسيقى في النشيد الجريجوري، كما كان يحدث حين لا ينشد القس Kyrie eleison " ارحمنا يا رب" بل ينشد (Kyrie eleison)(fon Piltatis،aquo bona cuncta Priocedant)" ارحمنا يا رب تمن علينا بجميع الخيرات يا رب". وأجازت الكنيسة هذه التحليات ولكنها لم تقبلها قط ضمن الترانيم الرسمية. وكان الرهبان المتضايقون من حياة الأديرة يسلون أنفسهم بتأليف هذه العبارات وإدخالها ضمن الأناشيد، حتى كثرت أدت إلى وضع كتب خاصة بها لتعلم الناس العبارات المحببة منها أو تحفظها من النسيان. ونشأت موسيقى التمثيل الكنسي من هذه العبارات. وقد وضعت سلاسل النغمات المتعاقبة على نسق تسابيح القداس. ونشأت هذه السنة من إطالة الحرف المتحرك الذي في آخر الكلمة إطالة سموها اليوبيلوس lubiuls أي نشيد الابتهاج، وكتبت في القرن الثامن عدة نصوص لهذه التوقيعات التي أدخلت في الألحان. وأصبحت هذه السنة فنا راقيا حوّل النشيد الجريجوري تدريجا إلى طراز مزخرف لا يتفق مع روحه الأولى أو مع قصده البسيط"
(1)
. وقضى هذا
(1)
ولم تقبل الكنيسة في أورادها إلا خمسة من هذه الأناشيد.
التطور على نقاء النشيد الجريجوري وسلطانه في القرن الثاني الذي شهد الانتقال من الطراز الرومنسي إلى الطراز القوطي في العمارة في بلاد الغرب.
وتطلب نقل هذه الكثرة من التواليف المعقدة علامات موسيقى أحسن من العلامات التي استعملت في تلك الأغنية السهلة. ولهذا قام أدو Odo رئيس دير كلوني ونوركر بالبولس Norker Ballbulus أحد رهبان دير القديس جول Gall في القرن العاشر بإحياء الطريقة اليونانية القديمة طريقة تسمية النغمات بحروف. وفي القرن الحادي عشر اقتراح كاتب لم يفصح عن اسمه استخدام السبعة حروف الكبيرة الأولى من السلم الموسيقي، واستخدام ما يقابلها من الحروف الصغيرة اللاتينية في الطبقة الثانية من السلم، والحروف اليونانية للطبقة الثالثة منه (6). وقام حوالي عام 1040 راهب بمبوزا Pomoasa القريبة من فرارا Ferrara يدعى جويدو الأرتزو Guido of Arezzo فسمى الست نغمات الأولى من السلم الموسيقي بأسمائها الحالية الغريبة بأن أخذ المقاطع الأولى من كل نصف شطر من ترنيمة ليوحنا المعمدان:
أنقذ الدنيا من دنس الشفاه
حتى يستطيع عبيدك
الذين يقومون بخدمتك
أن يرددوا أعذب
الألحان في الفضاء
الواسع المزهر
Ut queant laxis re sonare floris
Mira gestorum famuli tusrum
Solve Polluti reatum
وأصبحت تسمية النغمات الموسيقية بالمقاطع: أت أو دو، ري، مي، فا، صل، جزءاً لا يتجزأ من شباب الغرب.
وأهم من هذا تطور "الموسيقى" على يد جويدو. فقد نشأت حوالي عام 1000 عادة استخدام خط أحمر للتعبير عن النغمة التي يمثلها حرف F، ثم أضيف بعدئذ خط آخر أصفر أو أخضر ليمثل حرف G، ثم وسع جويدو أو شخص آخر قبله هذه الخطوط ليجعل منها مدرجا ذا أربعة خطوط، أضاف إليه معلمو
الموسيقى فيما بعد خطاً خامساً. وكتب جويدو ويقول إن غلمانه المرنمين قد استطاعوا بهذا المدرج الجديد وبالنغمات أت، ري، مي، أن يتعلموا في أيام قليلة ما كان يتطلب منهم قبلئذ عدة أسابيع "وكان هذا تقدماً يسيراً ولكنه تقدم عظيم الشأن بدأ به عهد جديد في تطور الموسيقى، وبفضله لقب جويدو بلقب "مخترع الموسيقى" وأقيم له تمثال فخلا يزال يرى في ميدان أرزو العام إلى هذا اليوم. وأحدث هذا التطور انقلاباً عظيما في الموسيقى، فبفضله تحرر المغنون من حفظ الترانيم الموسيقية الدينية كلها عن ظهر قلب، وأصبح من الميسور أكثر من ذي قبل تأليف الموسيقى، ونقلها، وحفظها، كما أصبح في مقدور العازف أن يقرأ النغمات الموسيقية بمجرد النظر إليها، ويستمع إليها بعينه، ولم يعد المؤلف مضطراً إلى أن يكون قريباً من الألحان التقليدية خشية أن يرفض المغنون حفظ الأدوار التي يؤلفها، بل أصبح في مقدوره أن يغامر بألف من التجارب. وأهم من هذا كله أنه قد أصبح في وسعه أن يكتب موسيقى متعددة الأنغام، يمكن أن يغنيها صوتان أو أكثر من صوتين في وقت واحد، أو أن يعزف اثنان أو أكثر من اثنين ألحاناً مختلفة ولكنها متوافقة.
ونحن مدينون لآبائنا في العصور الوسطى باختراع آخر لأمكن بفضله وجود الموسيقى الحاضرة. ذلك أنه قد أصبح من المستطاع تلحين الغناء بنقط توضع سطور المدرج الموسيقي أو بينها، ولكن هذه العلامات لم تكن تدل أية دلالة على المدى الذي يجب أن تمتد إليه النغمة، وأصبح لابد لتطور الموسيقى ذات اللحنين المستقلين (أو الأكثر من لحنين) تعزفان متناسقين في وقت واحد، أصبح لا بد لهذا التطور من وجود طريقة يقاس بها زمن كل نغمة وتدل على هذا الزمن، وربما كانت معلومات منقولة عن رسائل الكندي، والفارابي، وابن سينا وغيرهم من علماء المسلمين وفلاسفتهم الذين عالجوا موضوع أطوال النغمات الموسيقية أو علامات القياس (7). وكتب قس عالم في الرياضة من كولولي
يدعى فرانكو في وقت ما في القرن الحادي عشر (8) رسالة في قياس الغناء جمع فيها كل ما وجد قديماً من المقترحات النظرية والعملية. ووضع أساس ذو رأس مربع كان في بادئ الأمر يستخدم للدلالة على النغم، استخدم هذا العود ليمثل النغمة الطويلة، وكبرت علامة أخرى هي النقطة حتى أضحت شبه منحرف ومثلت بها النغمة القصيرة. ثم بدلت هذه العلامات على مدى الأيام، وأضيفت إليها ذيول حتى تطورت منها بمئات السخافات طريقتنا السهلة التي نستخدمها الآن لقياس النغمات.
وقد مهدت هذه التطورات الخطيرة السبيل إلى الموسيقى المتعددة النغمات، وكانت الموسيقى قد كتبت قبل فرانكو، ولكنها كانت موسيقى خشنة تعوزها الرقة، فلما أشرف القرن التاسع على الانتهاء وجدنا طريقة في الموسيقى تدعى "التنظين"- أي غناء النغمات المتطابقة بأصوات متوافقة. ثم انقطعت أخبار هذه الطريقة فلم نسمع منها إلا القليل النادر قبل نهاية القرن العاشر إذ نجد لفظي organum وسمفونيا Symphonia (الأغنية المنتظمة والإيقاع) يستعملان لهذه النغمات المركبة من صوتين. وكانت الأرغنة (الأغنية المنتظمة) قطعة من القداس يواصل فيها الصادح لحناً قديما موحد النغمة، في الوقت الذي يضيف فيه صوت آخر لحناً يتفق معه. ثم نشأت صورة أخرى من هذا النوع نفسه كان للصادح فيها نغمة جديدة عجيبة واجتذبت صوتاً آخر في اللحن المشترك. وخطا المؤلفون في القرن الحادي عشر خطوة لا تقل في نوعها جرأة عن توازن قوة في العمارة القوطية. فقد كتبوا قطعاً متعددة الأصوات بوحدة ملائمة لم ينقد فيها الصوت "المنجذب" إلى الصادح انقياداً أعمى في علو اللحن وانخفاضه، بل اندفع إلى ألحان أخرى ذات نغمات لا يحتم عليها أن تتحرك في خط متواز مع أصوات الصادح. وكاد هذا الإعلان للاستقلال يصبح ثورة حين
صحب الصوت الثاني نغمة الصادح الآخذة في الارتفاع بحركة انخفاض مقابلة لها. وأصبح هذا التوافق عن طريق التباين وحل التنافر المؤقت في يسر، أصبح هذا وذاك هياماً عند المؤلفين يكاد يجري مجرى القانون، وهذا دعا جون كتن John Cotton أن يكتب حوالي 1100 ويقول:" إذا كان الصوت الرئيسي يرتفع، وجب أن ينخفض الجزء المصاحب له"(9). وانتهى الأمر بأن جعلت ثلاثة أصوات مختلفة، أو أربعة، أو خمسة بل ستة في بعض الأحيان تغنى في مجموعة متشابكة من الإيقاع الانفرادي، تتقابل فيه الألحان المتباينة المتطابقة وتمتزج في انسجام رأسي أفقي دقيق، رشيق، شبيه بالعقود المتقابلة في قبة قوطية. ولم يحل القرن الثالث حتى كان هذا الفن القديم فن تعدد الأصوات قد وضع أساس التأليف الموسيقي الحديث.
وكان التحمس للموسيقى في هذا القرن ذي العواطف الثائرة والمهتاجة يضارع الولع بالعمارة والفلسفة. وكانت لكنيسة تنظر شزراً إلى تعدد الأصوات في الموسيقى، لأنها لم تكن تثق بقوة التأثير الديني للموسيقى إذا ما أصبحت في نفسها إغراء وغاية. ولهذا دعا جون أسقف سلزبري وفيلسوفها إلى وجوب وقف حركة التعقيد في التأليف الموسيقي. ووسم الأسقف جوليوم دوراند Guillaume Durand الصادح بأنه "موسيقى مختلفة النظام"، وأسف روجر بيكن، الثائر في ميدان العلم، لزوال النشيد الجريجوري الضخم. وندد مجلس ليون Lyous (1374) بالموسيقى الجديدة، وأصدر البابا يوحنا الثاني عشر (1324) اعتراضاً على الموسيقى المتعددة الأصوات لأن المؤلفين أصحاب هذه البدعة:" يفتتون الألحان .. فتندفع بعضها في إثر بعض بلا توقف، حتى تسكر الأذن من غير تهدئها، وتقلق بال المتعبد الخاشع دون أن تثير فيه خشوعه"(10). لكن الثورة ظلت تجري في مجراها، ففي أحد حصون الكنيسة الحصينة - كنيسة نتردام في باريس- ألف ليونينس Leoninus رئيس جماعة
المرنمين حوالي عام 1180 أجمل أغنية في أيامه، وارتكب خليفته بترونيوس Petronius إثما كبيراُ إذا ألف مقطوعات من ثلاثة أصوات أو أربعة. وانتشرت الموسيقى المتعددة الأصوات، كما انتشر الطراز القوطي، من فرنسا إلى إنجلترا وأسبانيا وقال جرالدس كمبرنسس Giraldus Chambraensis، (1146 - 1220) بوجود أغاني مكونة من جزأين في أيرلندة، كما قال عن بلدة ويلز قولا لا تخطئ إذا قلناه عنها اليوم:
وهم في أغانيهم لا ينطقون بالنغمات متحدة
…
بل ينطقون بنغمات كثيرة-بطرق كثيرة وأصوات كثيرة، ومن ثم فإن وجود المغنين الكثيرين الذين جرت عادة هذا الشعب على جمعهم، يؤدى إلى سماع أصوات يبلغ عددها عدد من تقع العين من المغنين، كما يؤدى إلى سماع أجزاء مختلفة متباينة تجتمع آخر الأمر في لحن متوافق متحد (11).
وخضعت الكنيسة آخر الأمر لروح العصر ونزعته اللتين لا تخطئان أبداً وارتضت الموسيقى المتعددة الأصوات، واتخذتها خادماً قوية للإيمان وأعدتها لما نالته من انتصار في عهد النهضة.
الفصل الثاني
موسيقى الشعب
وظهرت الرغبة في الوزن في مائة صورة من الموسيقى والرقص غير الدينيين. وكان لدى الكنيسة من الأسباب ما يجعلها تخشى هذه الغريزة إذا لم تفرض عليها رقابة. وكان من الطبيعي أن تتحالف هذه الرغبة مع الحب مصدر الأغاني والمنافس القوي للدين من هذه الناحية. وكانت النزعة الأرضية القوية التي تغلب على عقول العصور الوسطى في غيبة القسيس مما يميل بتلك العقول إلى التحرر في النصوص وإلى البذاءة فيها في بعض الأحيان، تحرراً وبذاءة ارتاع لها رجال الدين وأثار المجامع الدينية إلى إصدار قرارات لم يكن لها أثر. وكان المتعلمون الجوالون يلقون في تجوالهم أو يؤلفون في أثنائها أهازيج في النساء والخمر، ويقلدون الطقوس المقدسة تقليداً ساخراً معيبا. ونشرت مخطوطات تحتوي مقطوعات موسيقية جدية تلحن الألفاظ المرحة لقداس السكيرين، كما نشر كتاب صلوات الصخابين (13). وكانت أغاني الحب كثير كما هي في هذه الأيام، وكان منها ما هو في رقة ابتهالات الحور وحنانها، ومنها ما هو حوار للإغواء تصحبه نغمات رقيقة. ولا حاجة إلى القول بأنه كانت في ذلك الوقت أغان حربية، يقصد بها الوصول إلى الوحدة عن طريق إيجاد الأصوات، أو تحث على طلب المجد بالألفاظ الموزونة التي تسلب الحس. وكانت بعض الموسيقى أغني شعبية وضعها عباقرة غير معروفين، وادعاها عامة الشعب- أو لعلهم نقلوها عن مؤلفيها، كما كان البعض الآخر من الموسيقى الشعبية ثمرة قرائح محترفين ماهرين يستخدمون كل ما تعلموه في أوراد الكنيسة من فنون الموسيقى المتعددة الأصوات. ووجد
في إنجلترا ضرب من الموسيقى المتعددة الألحان المحبوبة وهو الموسيقى الدورية، فيها يبدأ أحد الأصوات لحناً، ثم يبدأ ثان هذا اللحن عينه أو لحناً آخر مؤتلفا معه حين يصل الأول إلى نقطة متفق عليها فيه، ثم يبدأ ثالث والثاني مستمر في غنائه، وهكذا دواليك حتى يجتمع عدد من الأصوات قد تبلغ الستة في دورة مرحة نشطة من النغمات المجتمعة.
وتكاد أغنية "الصيف مقبل" الذائعة الصيت تكون أقدم أغنية دورية، وأكبر الظن أن مؤلفها راهب من رهبان بلدة ريدنج Reading وأن ذلك كان في عام 1240. وتدل هذه الأغنية المعقدة ذات الستة الأجزاء على أن الموسيقى المتعددة الألحان قد استقرت بين الشعب. ولا تزال ألفاظ هذه الأغنية شاملة لروح ذلك القرن الذي كانت فيه حضارة العصور الوسطى كلها في طريق الأزهار:
الصيف مقبل
فغن يا وقوق بصوت عال
فالبذور تنبت والكلأ يتمايل
والزهر يتفتح الآن في الغاب
غن يا وقوق!
النعجة تنفى وراء الحْمل
والبقرة تخور وراء وليدها
والثور يقفز والوعل يفر
غن مرحاً يا وقوق!
يا وقوق يا وقوق ما أعذب شدوك،
فلا تقف عن الغناء لا تقف الآن أبداً،
غن يا وقوق الآن، غن يا وقوق،
غن يا وقوق، غن يا وقوق الآن.
وما من شك أن هذه الأغنية وأمثالها توائم المغنين الجوالين الذين كانوا يتنقلون من بلدة إلى بلدة، ومن بلاط إلى بلاط، بل قطر إلى قطر. فنحن نسمع عن مغنين من هذا النوع يأتون من القسطنطينية ليغنوا في فرنسا، وعن آخرين من إنجلترا يغنون في أسبانيا. وكان وجود هؤلاء المغنين وقيامهم جزءاً معتاداً في كل وليمة رسمية. فقد استخدم إدوارد الأول ملك إنجلترا (426) مغنيا في احتفال بزواج ابنته مرجريت (13). وكثيراً ما كانت هذه الجماعات من المغنين تنشد أغاني مجزأة كما كانت في بعض الأحيان معقدة تعقيداً غير مألوف. وكانت هذه الأغاني يؤلفها عادة-ألفاظها وموسيقاها- شعراء غزلون في فرنسا وآخرون مثلهم في إيطاليا وألمانيا
(1)
. وكان معظم الشعر في العصور الوسطى يكتب لكي يغنى، وفي ذلك يقول فلكيه Folquet الشاعر الغزلي الفرنسي: إن القصيدة بغير الموسيقى كطاحون بلا ماء" (14). ولدينا في هذه الأيام موسيقى لمائتين وأربع وستين من الأغاني الباقية للشعراء الغزلين البالغ عددها 2600. وتتألف هذه الموسيقى في العادة من نغمة متتابعة ذات مقطع واحد ووصلات على مدرج من أربعة خطوط أو خمسة. وأكبر الظن أن شعراء أيرلندة وويلز كانوا يغنون ويعزفون على آلات.
وإن كثرة الآلات الموسيقية واختلافها في العصور الوسطى يثير الدهشة: فآلات القرع- كالأجراس، والصنوج، والدفوف، والمثلث الموسيقي، والطبلة-والآلات الوترية-كالقيثارة على اختلاف أنواعها، والربابة، والعود، والكمان الأصغر، وذات الوتر الواحد وغيرها، وآلات النفخ، كالصفارة، والناي، والمزمار، والآلة القربة، والنفير، والبوق والقرن، والأرغن، هذه أمثلة اخترناها من مئات. لقد كان لدى أهل تلك الأيام
(1)
وكانوا يسمون Trodabors في فرنسا، Troudabors في إنجلترا و Trovators في إيطاليا و Mennlsinpets في ألمانيا. (المترجم)
كل ما تتطلبه اليد أو الإصبع، أو القدم، وكل ما يحتاجه لضبط الأوتار. وكانت بعض هذه الآلات قد بقيت من أيام اليونان وجاء بعضها الآخر، بصورته واسمه، من بلاد الإسلام كالرق والناي والقيثارة؛ وكانت الآلة العادية للمغني الجائل هي الكمان الصغيرة، وهي آلة كالكمان قصيرة يعزف عليها بقوس الرامي منحنية الظهر. وكان أكثر أنواع الأرغن انتشاراً قبل القرن الثامن هو الأرغن المائي، ولكن جيروم وصف في القرن الرابع أرغناً هوائياً (17)، وكتب بيدي يصف أرغناً ذا أنابيب من الشبه تملأ بالهواء من منفاخ ويصدر منه نغمات فخمة حلوة إلى أقصى حد" (18). وقد اتهم القديس دنستان St. Dunston (925؟ -988؟) بالسحر حين صنع قيثاراً يعزف إذ وضع ثقب في جدار (19)، ووضع في كثدرائية وستمنستر حوالي عام 950 أرغن ذو ستة وعشرين منفاخا، وأثنين وأربعين نافخاً لهذه المنافيخ، وأربعمائة أنبوبة، وكانت منافيخه ضخمة ضخامة تضطر العازف إلى أن يضربها بقبضات تحميها قفازات ذات بطانات سميكة (20). وكان في ميلان أرغن أنابيبه من الفضة، وفي البندقية أرغن ذو أنابيب من الذهب (21).
وبعد فإن كل ما يبعثه وصف العصور الوسطى للجحيم من رهبة قي النفس ليفني إذا ما نظر الإنسان إلى مجموعة الآلات الموسيقية في تلك العصور. وإن الصورة التي تبقى لدينا من ذلك الوقت لهي صورة قوم لا يقلون عنا سعادة إن لم يزيدوا علينا، يستمتعون بمرح الحياة ومطامعها، لا ينوء بهم الخوف من نهاية العالم أكثر مما تنؤ بنا شكوكنا هل تدمر الحضارة وتفنى قبل أن كتابة تاريخها؟