المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الباب الرابع والثلاثون   ‌ ‌انتقال المعارف 1000 - 1300 الفصل الأول   ‌ ‌نشأة اللغات القومية حافظت الكنيسة - قصة الحضارة - جـ ١٧

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

الباب الرابع والثلاثون

‌انتقال المعارف

1000 -

1300

الفصل الأول

‌نشأة اللغات القومية

حافظت الكنيسة إلى حدٍ ما على وحدة أوربا الغربية التي حققتها الدولة الرومانية وحافظت كذلك شعائرها وعظاتها ومدارسها على تراث روماني لم يبق له وجود في هذه الأيام - هو لغة دولية يفهمها جميع السكان المتعلمين في إيطاليا، وأسبانيا، وفرنسا، وإِنجلترا، واسكنديناوة، والأراضي الوطيئة، وألمانيا، وبولندة، وبلاد المجر، وبلاد البلقان العربية. لقد كان المتعلمون من أهل تلك البلاد يستخدمون اللغة اللاتينية في مراسلاتهم، وفي سجلات أعمالهم التجارية والمالية، والدبلوماسية، وفي القانون والأعمال الحكومية، وفي العلم والفلسفة، وفي آدابهم كلها تقريباً قبل القرن الثالث عشر. وكانوا يتكلمون اللغة اللاتينية على أنها لغة حية، تشتق في كل يوم كلمة أو عبارة جديدية للدلالة على الحقائق أو الأفكار الجديدة أو المتغيرة في حياتهم. وكانوا يكتبون رسائل حبهم باللاتينية من أبسط خطابات الحب إلى الرسائل الفصحى الطويلة المتبادلة بين هلواز وأبلار H (loise and Ab (lard

(1)

. ولم يكن الكتاب يؤلف أمة بل لقارة، ولم يكن في حاجة

(1)

أنظر هذه الرسائل وقصتها في كتابنا "أشهر الرسائل العالمية". (المترجم)

ص: 1

إلى ترجمة بل كان ينتقل من قطر إلى قطر بسرعة وحرية غير معروفتين في هذه الأيام، كما كان الطلاب ينتقلون من جامعة إلى جامعة دون أن تصادفهم عقبات اللغة، وكان في وسع العلماء أن يحاضروا باللغة نفسها في بولونيا، وسلمنقة، وباريس، وأكسفورد، وأبالا Uppsals، وكولوني. ولم يكونوا يترددون في استعارة كلمات جديدة وضمها إلى اللاتينية، وإن كان ذلك يزعج في بعض الأحيان الآذان التي اعتادت سماع لغة بترارك وشيشرون. وهكذا يستخدم العهد الأعظم الإنجليزي Magna Carta لفظي dessaiaiatus و imprisonatus حين يقول إنه لا يصلح أن "يقبض" على رجل حر أو "يسجن". وأمثال هاتين الكلمتين ثقيلة الوقع على آذاننا، ولكنها قد أبقت اللغة اللاتينية حية؛ وإن كثيراً من الألفاظ الإنجليزية الحديثة - مثل instance، و substantive و essence و entity

(1)

- لتنحدر من الكلمات التي أضيفت إلى اللغة اللاتينية في العصور الوسطى.

غير أن انفصام الصلات الدولية الذي أدى إليه سقوط روما، وانتشار الفاقة في العصور المظلمة انتشاراً أدى إلى انطواء الناس على أنفسهم، وفساد الطرق وكساد التجارة، كل هذا أوجد في الكلام تلك الاختلافات التي ما لبثت أن اتسعت بسبب عزلة المتحدثين بها عن بعض. بل إن اللغة اللاتينية كانت تعاني في أوج عزها بعض التغيرات الناشئة من اختلاف المناخ وأساليب المنطق المترتبة على تركيب أعضائه، وكانت قد تبدلت في موطنها الأصلي نفسه.

وكان موت الأدب قد أفسح الميدان لمفردات الرجل العامي وتراكيبه جمله، وهي مفردات وتراكيب كانت تختلف دائماً عن أقوال الشعراء والخطباء. وجاء تدفق الألمان، والغاليين، واليونان، والأسيويين على إيطاليا باختلافات كثيرة في النطق، وتخلص اللسان والعقل الكسولان بفطرتهما مما في الحديث الفصيح

(1)

ومعناها المِثْل، والاسم (في النحو)، والجوهر، والكيان. (المترجم)

ص: 2

الدقيق من علامات التصريف والإعراب فأضحى حرف H لا ينطق به في اللغة اللاتينية المتأخرة، وبعد أن كان حرف V ينطق به في اللغة الفصحى كما ينطق بحرف V الإنجليزي. وامتنع النطق بحرف N قبل S فكلمة mensa (المائدة) أصبح ينطق بها nesa، وتغير النطق بالحرفين المتصلين AE و CE وكان ينطق بها في اللغة الفصحى كما ينطق بحرف I، OI في اللغة الإنجليزية فأصبح ينطق بهما كحرف A الإنجليزي الطويل أو حرف E الفرنسي. ولما كانت الحروف الساكنة في آخر الكلمات قد مضغت أو نسيت (Coelem، rex، re، roi، portus، porto، porte) cilo، ciel فقد اقتضى ذلك أن تستبدل حروف الجر بعلامات الإعراب في الأسماء، وبعلامات التعريف في أواخر الكلمات أفعال مساعدة. وتبدل أسماء الإشارة القديمان illa، ille فأصبحا هما أدوات التعريف la، le، lo، el،il؛ واقتضب لفظ unus (واحد) اللاتيني ليكون أداة التنكير un. ولما انعدم تصريف الأسماء صار من الصعب أحياناً أن يعرف هل الاسم فاعل أو مفعول قبل الفعل أو بعده. وإذا ما تدبر الإنسان هذه العملية - عملية التبدل المستمر الممتد طوال عشرين قرناً من الزمان جاز له أن يقول إن اللغة اللاتينية لا تزال هي اللغة الحية الأدبية في إيطاليا، وفرنسا، وأسبانيا، لم تتغير عن لغة شيشرون إلا بقدر ما تغيرت لغته هو عن لغة رميولوس أو لغتنا نحن

(1)

عن لغة تشوسر.

وكانت أسبانيا قد بدأت تتكلم اللاتينية منذ عام 200 ق. م لا بعد، وما وافى عهد شيشرون حتى اتسعت الهوة بينها وبين لاتينية روما اتساعاً روع شيشرون لما بدأ له من رطانة قرطبة البربرية. وكان اتصال هذه اللغة اللاتينية بلهجات أيبيريا سبباً في ترقيق الحروف الساكنة اللاتينية في أسبانيا: فرقت T إلى D، P إلى B، و K إلى G؛ فـ Totum أصبحت todo، و operan

(1)

لغة الأمريكيين والإنجليز. المترجم)

ص: 3

أصبحت obra، و ecclesia أصبحت iglesia. كذلك رققت اللغة الفرنسية الحروف الساكنة اللاتينية، وكثيراً ما أسقطتها في النطق وإن ظلت محتفظة بها في الكتابة: est، (glisa، oeuvre، tout. ونطق بالقسم الذي أقسمه لويس الألماني Louis the German وشارل الجسور بلغتين هما الألمانية والفرنسية

(1)

- الفرنسية التي كانت لا تزال لاتينية إلى حد سميت معه اللغة الرومانية lingua romana، ثم أنقسمت هذه اللغة الرومانية إلى ما سمته فرنسا لغتين: langue d'oc وهي لغة فرنسا الواقعة في جنوب نهر اللوار و langue d'oil وهي لغة فرنسا الشمالية

(2)

. فلقد كان من عادات العصور الوسطى التفريق بين اللهجات بالطريقة التي ينطقون بها اللفظ المقابل للفظ "نعم" العربي؛ فأهل فرنسا الجنوبية كانوا يعبرون عنه بلفظ oc المشتق من اللفظ اللاتيني hoc ومعناه هذا، أما أهل الشمال فكانوا يستعملون لفظ o (l وهو مزيج من اللفظين اللاتينيين hoc lle، أي هذا - ذاك. وكان لفرنسا الجنوبية لهجة من لهجات اللانج دك تسمى البروفسنال أضحت فيما بعد لغة أدبية مصقولة على أيدي الشعراء الغزليين، ولكن الحروب الصليبية الألبجنسية كادت تقضي على هذه اللغة.

وكونت إيطاليا لغتها القومية ببطء أكثر مما تكونت به لغتنا أسبانيا وإيطاليا. ذلك أن اللاتينية كانت لغتها الوطنية، وأن رجال الدين، وهم الذين كانوا يتكلمون اللغة اللاتينية، كانوا كثيري العدد في إيطاليا، وأن استمرار

(1)

وتدل الثلاث السطور الأولى من هذا القسم على البطء الذي نشأت به اللغتان الفرنسية والألمانية " Pro Deo amur et pro Christian poblo et notre Commun salvament، dist di in avant، in quant Deus savir et podir me punat". "In Gedes minna ind in these Christian folches unser bedhero gealnissi، fon thesemo dage frammordes، so frame so mir Got gewizici indi madh forgibit" وترجمتها العربية هي: حباً في الله، ولخير الشعب المسيحي، ولنجاتنا جميعاً، ومن هذا اليوم إلى ما بعده، بقدر ما يهبني الله من الحكمة والقوة.

(2)

معنى اللفظين oc و oil كليهما "نعم أو هذا" وكل الفرق هو في طريقة النطق باللفظ الذي يحمل هذا المعنى. (المترجم)

ص: 4

ثقافتها ومدارسها منع اللغة أن تتغير بنفس اليسر والتحرر اللذين تغيرت بهما في بلاد ذات تقاليد منقطعة غير متصلة.

ولقد كان القديس أنطونيوس أحد رجال الدين في بدوا في ذلك العام المتأخر عام 1230 يخطب العامة باللغة اللاتينية؛ بيد أن عظمة لاتينية ألقاها في بدوا نفسها عام 1189 أسقف لاتيني زائر كان لابد أن يترجمها إلى اللغة الدارجة أسقف من أساقفة تلك المدينة (2). ولم يكد يكون للغة الإيطالية وجود في بداية القرن الثالث عشر؛ وكل ما كان في إيطاليا في ذلك الوقت نحو أربع عشرة لهجة، كانت هي استمرارا وتحريفاً متنوعاً للهجات السوقة لا تكاد إحداها يفهمها الباقون الذين لا ينطقون بها، وتعتز كل منها بما بينها وبين غيرها من فروق اعتزازاً مبعثة للعنصرية العارمة؛ وكان لكل حي من الأحياء المختلفة في المدينة الواحدة - كمدينة بولونيا - في بعض الأحيان لهجة مختلفة. لهذا كان لزاماً على أسلاف دانتي أن يخلقوا لغة، كما كان عليهم أن يخلقوا أدباً. ولقد حسب الشاعر في أحد أخيلته الظريفة أن الشعراء الغزليين التسكانيين اختاروا أن يكتبوا شعرهم باللغة الإيطالية لأنهم كانوا يكتبون في الحب، ولأن السيدات اللائى كن يخاطبونهم قد لا يفهمن اللغة اللاتينية (3). غير أنه مع هذا تردد في عام 1300 بين اللغة اللاتينية واللهجة التسكانية أيهما يختار لكتابة المسلاة الإلهية. وكان الفرق بسيط بين اللغة التي أختارها والتي لم يختارها هو الذي أنجاه من النسيان.

وبيننا كانت اللغة اللاتينية تنقسم وتتولد منها اللغات الرومنسية، كانت اللغة الألمانية القديمة تتفتت هي الأخرى إلى اللغة الألمانية الوسطى، واللغة الفريزية، والهولندية، والفلمنكية، والإنجليزية، والدنمرقية، والسويدية، والنرويجية، والأيسلندية. وليست عبارة "الألمانية القديمة" إلا تعبيراً سهلاً يشمل اللهجات الكثيرة التي كانت تفرض سيادتها القبلية أو الإقليمية في ألمانيا قبل عام 1050.

ص: 5

وهي اللهجات الفلمنكية، والهولندية، والوستفالية (الغالية الغربية) والإبستقالية (الغالية الشرقية) والألمانية Allemanic، والبافارية، والفرنكونية، والثورنجية، والسكسونية، والسيكيزية .... وتطورت اللغة الألمانية القديمة إلى الألمانية الوسطى (1050 - 1500) وكان من أسباب هذا التطور تدفق الكلمات الجديدة التي جاءت مع الدين المسيحي. ذلك أن الرهبان القادمين من أيرلندة، وإنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا جدوا في وضع المصطلحات التي كانوا في حاجة إليها لترجمة الألفاظ اللاتينية. فكانوا في بعض الأحيان يدخلون كلمة لاتينية بنصها إلى اللغة الألمانية - مثل Kaiser (قيصر) و Prinz (أمير) و Legende (قصة)؛ وتلك لصوصية مشروعة؛ لكن كان من المآسي تأثير التركيب اللاتينية للجمل كتأخير الفعل إلى آخر الجملة - فقد أحل الوقفات الجامدة المقلوبة القاطعة للأنفاس التي نراها في الأسلوب الألماني المتأخر محل التراكيب السهلة التي كانت من خصائص لغة الشعوب الألمانية (4). ولعل أجمل اللغات الألمانية كانت هي اللغة الألمانية العليا الوسطى التي كتب بها الشعراء العظام في القرن الثالث عشر- ولتر فن در جلويد Walter von der Vogelweide، وهارتمان فن أوي Hariman von Aue، وجتفرايد الأسترسبرجي Goufried of Strasbourg، وولفرام فن أسثنباخ Wolfram von Eschenbach؛ ولم تعد اللغة الألمانية إلى مثل هذه البساطة والمرونة، والوضوح، والقصد مباشرة إلى المعنى المطلوب إلا على يد هين Heine وجيتة الشاب.

وانتقل اللسان التيوتوني إلى إنجلترا في القرن الخامس مع الإنجليز، والسكسون والجوت، وكان هو أساس اللغة الإنجليزية الحاضرة. فهو الذي حباها بكل ما تنطوي عليه تقريباً من كلمات قصيرة طلية. ثم طغت اللغة الفرنسية على البلاد حين أقبل عليها النورمان، وسيطرت البلاد، والمحاكم، والأشراف من عام 1066 إلى 1362 وإن ظلت اللاتينية اللغة السائدة في

ص: 6

الدين والتعليم، وبقيت (إلى عام 1371) واجبة في الوثائق الرسمية. ودخلت آلاف الكلمات الفرنسية في اللغة الإنجليزية، وبخاصة في الثياب، والطهو، والقانون؛ حتى أصبحت نصف المصطلحات في القانون الإنجليزي فرنسية (5)؛ وظلت آداب فرنسا وإنجلترا مدى ثلاثة قرون آداباً واحدة؛ كما ظلت الرسائل الإنجليزية في روحها ولغتها حتى زمن تشوسر لا قبل (1340 - 1400) نصف فرنسية. ولما فقد الإنجليزية أملاكها في فرنسا عادت إلى الانطواء على نفسها، وانتصرت العناصر الأنجليسكونية في اللسان الإنجليزي؛ ولما زالت السيطرة الفرنسية من البلاد، كانت اللغة الإنجليزية قد اغتنت غناءً لا حد له؛ فقد استطاعت بما أضيف إلى أصلها الألماني من ألفاظ فرنسية ولاتينية، أن تعبر عن كل فكرة من آلاف الأفكار المختلفة بثلاث تعبيرات مختلفة (Kingly، royal، regal بمعنى ملكي؛ towfold، double، duplex بمعنى مزدوج؛ daily، journal، diurnal بمعنى يومي

). وإلى هذا يرجع غناها بما فيها من مترادفات تميز بها الفروق المختلفة في المعاني والاختلافات الدقيقة في ألفاظ الحديث. ومن يعرف تاريخ الألفاظ يعرف التاريخ كله.

ص: 7

الفصل الثاني

‌عالم الكتب

وكيف كانت تكتب هذه اللغات المختلفة؟ لقد أستعمل البرابرة بعد أن سقطت روما في أيديهم عام 476 الحروف الهجائية اللاتينية، وكتبوها كتابة "جارية"، ربطوا فيها الحروف بعضها ببعض، وخلعوا على معظمها شكلاً دائرياً بدل الحروف المعتدلة التي كانت سهلة الاستعمال في الكتابة على السطوح الصلبة كالحجارة أو الخشب. وكانت الكنيسة في تلك القرون تفضل الكتابة ذات الحروف "الكبيرة" لتسهل بذلك قراءة كتب القداس وكتب الصلوات. ولما عمل النساخون في عهد شارلمان على حفظ الآداب اللاتينية بنسخ عدة كتب من الآداب القديمة، استخدموا في عملهم هذا كتابة ذات حروف "صغيرة" واتفقوا على صور معينة لهذه الحروف، فأوجدوا بذلك "الحروف الصغيرة المقررة" التي ظلت أربعة قرون الطريقة العادية التي تكتب بها نسخ العصور الوسطى. وكأنما أريد أن تتمشى هذه الحروف مع الزخارف الخصيبة التي أخذت تنمو في العمارة القوطية فأضيفت إليها شرط تزيينها، وخطوط شَعْرية رفيعة، وزوائد معقوفة، فأصبحت هي الحروف "القوطية" التي ظلت منتشرة في أوربا إلى عهد النهضة، وفي ألمانيا حتى يومنا هذا. ولم توضع علامات الترقيم إلا في عدد قليل جداً من مخطوطات العصور الوسطى؛ لأن هذه الوسيلة التي ترشد القارئ إلى حيث يلتقط نَفسَه قد ضاقت في أثناء الغوص التي صحبت غارات البرابرة، ثم عادت إلى الظهور في القرن الثالث عشر، ولكنها لم يعم استعمالها حتى قررتها الطباعة في القرن الخامس عشر. وكانت الطباعة قد أعدت عدتها إلى حد ما في عام 1147 وبعد ذلك باستعمال القطع الخشبية. وبدأ ذلك في أديرة

ص: 8

بلاد الرين لطبع الحروف الأولى أو الرسوم على المنسوجات (6). وكانت أشكال كثيرة من الاختزال تستخدم في تلك الأيام، وكلها أحط كثيراً من "العلامات النيرونية" التي توصل إليها أرقاء شيشرون.

وكانوا يكتبون على الجلد السميك، وأوراق البردي، والجلد الرقيق أو الورق، بريش الطير، أو بأقلام الغاب، ويستخدمون لذلك مداداً أسود أو ملوناً. واختفى البردي من الاستعمال العام في أوربا بعد فتح العرب مصر. وكان الرق من المتخذ من جلد الخراف الصغيرة غالي الثمن، وكان لذلك يُدخر للمخطوطات المترفة، أما الرق المتخذ من جلد الضأن السميك فكان هو المادة المعتادة للكتابة عليها في العصور الوسطى. وظل الورق مادة غالية الثمن تستورد من بلاد الإسلام، ولكن مصانع أقيمت لصناعته في ألمانيا وفرنسا في عام 1190، وشرعت أوربا في القرن الثالث عشر تصنع ورقاً من الكتان.

وكانت كثيراً من الرقوق يُمحى ما عليها من مخطوطات قديمة ليكتب عليها كتاب جديد، وكان يُطلق على هذه الرقوق اسم خاص هو palimsest ومعناه "المحو مرة ثانية". وقد فقدت كثير من الكتب القديمة بهذا المحو، وبالوضع الخاطئ للمخطوطات، وبالحروب والنهب، والحريق والتلف. فقد نهب الهون مكاتب الأديرة في بافاريا، ونهب أهل الشمال مكاتبها في فرنسا؛ وتلفت كثير من الكتب اليونانية حين نُهبت القسطنطينية في عام 1204. وكانت الكنيسة في بادئ الأمر تعارض في قراءة الكتب الوثنية القديمة، وقامت أصوات مرتاعة في كل قرن تقريباً تندد بهذه الكتب، منها أصوات جريجوري الأول، وإزدو الأشبيلي، وبطرس دميان. ودمر توفيلس كبير أساقفة الإسكندرية كل ما وجده من المخطوطات الوثنية؛ كما أقنع القساوسة اليونان، على حد قول دمتريوس كلكنديلاس Demetrius Chalcondylas (7) ، أباطرة الروم بإحراق جميع مؤلفات الشعراء الغزلين ومنهم سابفو وأنكريون. غير أنه

ص: 9

كان في هذه القرون نفسها كثيرون من رجال الدين المولعين بالكتب الوثنية القديمة والحريصين على الاحتفاظ بهذه الكتب. وكانوا في بعض الحالات يفعلون سلاح النقد الموجه إليهم بتفسير معنى الشعر الوثني تفسيراً يتضمن أعظم العواطف المسيحية؛ واستطاعوا بطريق الاستعارات الظريفة أن يحولوا شِعر أوفد الغرامي إلى شعر يحض على مكارم الأخلاق. وكذلك احتفظ الناسخون في الأديرة بقسم كبير من التراث الأدبي القديم (8)؛ وكان يقال للرهبنة إذا تعبوا أن الله سيغفر لهم ذنباً من ذنوبهم نظير كل سطر ينسخونه، ويحدثنا أردركس فينالس Ordericus Vitalis أن أحد الرهبان نجا من الجحيم وكان على قيد شعرة منها بحرف واحد نسخه (9). ويلي الرهبان وحدهم في نسخ المخطوطات القديمة الكتبة الخصوصيون أو المحترفون الذين يستخدمهم الأغنياء أو بائعو الكتب أو الأديرة نفسها. وكان عمل هؤلاء النساخين مجهداً مما جعلهم يدونّون على الصفحات الأخيرة من المخطوطات المنسوخة مطالب غريبة كقول أحدهم:

بهذا يتم جميع الكتاب

فبحق المسيح هات لي جرعة

وظن كاتب آخر أنه خليق بأكثر من هذا فكتب في آخر مخطوطة تلك الخاتمة: "فليجز الكاتب على (عمل قلمه) بفتاة جميلة". (11)

ولم تفرض كنيسة العصور الوسطى رقابة منظمة على نشر الكتب؛ فإذا تبين أن كتاباً ما مناقض للدين، وكان في الوقت نفسه ذا تأثير قوي ككتاب أبيلار عن التثليث أستنكره مجلس من مجالس الكنيسة، ولكن عدد الكتب كان وقتئذ أقل من أن يكون شديد الخطر على الدين القويم؛ وحتى الكتاب المقدس نفسه كان نادر الوجود في خارج الأديرة، فقد كان نسخُه يحتاج إلى عام كامل، وشراؤه يحتاج إلى إيراد قس أبرشية؛ ولهذا قل من رجال الدين من

ص: 10

كان يمتلك نسخة كاملة منه. (12) غير أن كتاب العهد الجديد وأسفاراً خاصة من العهد القديم كانت أوسع منه انتشاراً. وأخرجت في القرن الثاني عشر نسخ من الكتاب المقدس ضخمة الحجم، فخمة الزخرف؛ ولم يكن يستطاع استعمال هذه الكتب إلا على مكتب، وكان في ذلك عادة في مكتبة الدير، وكانت في بعض الأحيان تشد إلى المكتب بسلسة للمحافظة عليها. وقد روعت الكنيسة حين وجدت الولدنسيين والألبجنسيين ينشرون ويوزعون تراجمهم هم للكتب للمقدسة، ولهذا حرم مجلس من مجالس الكنيسة عقد في نربونه (1227) على غير رجال الدين أن يكون لديهم أي جزء من الكتب المقدسة؛ ولقد تحدثنا عن هذا من قبل (13). ولكن يمكن القول بوجه عام إن الكنيسة لم تكن قبل القرن الرابع عشر تعارض في أن يقرأ الكتاب المقدس غير رجال الدين؛ وإن لم تكن تشجع هذه القراءة لأنها لم تكن تثق بتفسير العامة لأسرار الكتب الدينية.

وكان حجم الكتاب وعدد صفحاته يحددهما ما يستطاع وجوده من الجلود، وكان كل جلد منها يطبق لتتكون منه "ملزمة"؛ ولم تكن الكتب بعد القرن الخامس تصدر في صورة ملفات كما كانت تصدر في العهود القديمة

(1)

، بل كانت الجلود تقطع قطعاً مستطيلة لتكون ملازم من أربع أوراق، أو ثمان، أو اثنتي عشرة ورقة أو ست عشرة. وكانت ملازم مكونة من ست عشرة ورقة تضم مؤلفات طويلة في كتب صغيرة الحجم توضع في الجيب لتكون سهلة الاستعمال. وكانت تغلف أحياناً بالرق السميك أو القماش، أو الجلد المدبوغ، أو الورق المقوى. وكان الغلاف المصنوع من الجلد يزخرف أحياناً بأن تطبع

(1)

وظل كثير من السجلات الحكومية يكتب في مؤلفات؛ حتى أن "أنابيب الملفات، كانت تستعمل في إنجلترا من عام 1131 إلى عام 1833. وكان المكلف بالمحافظة على هذه السجلات يسمى صاحب الملفات".

ص: 11

عليه رسوم غير ملونة بقوالب من المعدن المحمى. وجاء الفنانون المسلمون الذين استقروا في البندقية إلى أوربا بفن ملْ هذه الأجزاء المنخفضة من الغلاف بألوان ذهبية، أما الغلاف الخشبي فقد كان يزخرف أحياناً بالميناء أو العاج المحفور، أو يطعم بالذهب أو الفضة أو الجواهر. وكان مما عابه القديس جيروم على الرومان قوله "إن كتبكم مطعمة بالحجارة الثمينة، مع أن المسيح مات عارياً! "(14) وقل أن يوجد من الكتب الحديثة ما يضارع التجليد الفخم الذي حليت به كتب العصور الوسطى.

وكانت الكتب البسيطة نفسها من مواد الترف. فقد كان الكتاب العادي غير المزخرف يكلف مقتنيه ما بين 160 دولاراً ومائتي دولار من نقود الولايات المتحدة الأمريكية حسب قيمتها في عام 1949 (15). وحسبنا شاهداً على هذا أن أحد زعماء حركة إحياء الآداب القديمة في القرن الثاني عشر وهو برنار من أهل شارتر قد خلف مكتبة لا تزيد مجلداتها على أربعة وعشرين مجلداً. وكانت إيطاليا أغنى بالكتب من فرنسا، ولهذا جمع أكرسيوس Accursius الأكبر عالمها القانوني الشهير ثلاثة وستين كتاباً. ونسمع عن نسخة عظيمة من الكتاب المقدس بيعت بعشر وزنات - أي بما لا يقل عن 10. 000 دولار، وعن كتاب للصلواة استبدلت به رمة؛ وعن مجلدين من مؤلفات برشيان Prescian أحد النحاة في القرن الخامس بيعاً ببيت وأرض (16). وعاق غلو الكتب قيام تجارة بائعيها حتى القرن الثاني عشر؛ حين استأجرت مدن الجامعات رجالاً من الورَّاقين وأصحاب المكتبات لينظموا جماعات من النساخين ينسخون الكتب للمدرسين والطلاب، وكان هؤلاء الرجال يبيعون نسخاً منها لكل من يعني بأداء أثمانها. ويبدو أنهم لم يدر قط بخلدهم أن يؤدوا شيئاً من المال لمؤلف حي. وإذا أصر رجل ما على أن يؤلف كتاباً جديداً، كان عليه أن يؤدي نفقة كتابته، أو يبحث عن ملك، أو نبيل، أو ثري ينفحه بهبة من المال نظير إهدائه

ص: 12

الكتاب أو الثناء عليه فيه. ولم يكن في وسعه أن يعلن عن كتابه إلا شفوياً، كما لم يكن في وسعه أن ينشره - أي يذيعه على الجمهور - إلا بالعمل على أن يستخدم في إحدى المدارس أو أن يتلى أمام من يستطيع جمعهم من المستمعين. وبهذه الطريقة قرأ جرالد من أهل ويلز حين عاد من أيرلندة في عام 1200 كتابه في تخطيط هذا القطر Topography على جمعية في أكسفورد.

وأدى ارتفاع أثمان الكتب، وقلة الأموال اللازمة لإنشاء المدارس إلى انتشار الأمية إلى حد لو أنه وجد في بلاد اليونان أو الرومان الأقدمين لجلب لهم العار. فقد كانت معرفة القراءة والكتابة قبل عام 1100 في البلاد الواقعة شمال جبال الألب تكاد تكون مقصورة على "خدم الدين" - وهم رجال الدين، وَالحَسَبَة، والكَتَبة، وموظفو الحكومة، وأصحاب المهن. وما من شك في أن رجال الأعمال كانوا في القرن الثاني عشر ممن يعرفون القراءة والكتابة، لأنهم كانوا يحتفظون بحسابات دقيقة محكمة. وكان الكتاب في المنزل تحفة ثمينة؛ وكان في العادة يقرأ بصوت عال إلى عدد من المستمعين؛ وقد وضع الكثير من قواعد الترقيم والأسلوب فيما بعد لتيسير القراءة الشفوية؛ وكان يعنى كل العناية بتبادل الكتب بين الأسر بعضها وبعض، وبين مختلف الأديرة، والأقطار.

وكانت دور الكتب كثيرة العدد وإن قل حجمها. وكان القديس قد قرر أن يكون لكل دير بندكتي مكتبة؛ وكانت بيوت الكارثوزيين والسترسيين تجد في جمع الكتب رغم كراهية القديس برنار للعلم، كذلك كان لكثير من الكتدرائيات - أمثال كتدرائيات طليطلة، وبرشلونة، وبامبرج Bamberg وهلدسهايم Hildesheim - مكتبات كبيرة، فكان في كنيسة كنتر بري مثلاً 5000 كتاب في عام 1300، ولكن هذا مثل نادر لا يقاس عليه (17)، أما معظم المكتبات فكان في الواحدة منها ما يقل عن مائة كتاب؛ وكان في مكتبة كلوني وهي من أحسن المكتبات 570 مجلداً (18). وكان عند مانفر ملك

ص: 13

صقلية مجموعة قيمة انتقلت إلى البابوية وأضحت نواة مجموعة الفاتيكان اليونانية. وقد بدأت المكتبة البابوية في عهد البابا دمسوس Damasus (366 - 384) ، ثم فقدت مخطوطاتها الثمينة ومحفوظاتها القيمة في فوضى القرن الثالث عشر، ولهذا يرجع تاريخ مكتبة الفاتيكان الحاضرة إلى القرن الخامس عشر. وشرعت الجامعات - أو على الأصح قاعات كلياتها - تنشئ لها مكتبات في القرن الثاني عشر، وأنشأ القديس لويس مكتبة سانت شابل Sainte Chapelle في باريس، وأغناها بالكتب التي أمر بنسخها من مائة دير؛ وكانت كثير من المكتبات، كمكتبات نتردام، وسان جرمان ده بريه St. Germain des Pr (s والسربون مفتوحة للطلبة الموثوق بهم، وكان من استطاع استعارة الكتاب في الخارج بضمان واف؛ وإن طالب العلم اليوم ليصعب عليه أن يقدر قيمة الثروة الأدبية التي كانت المدينة والكلية تضعها بين يديه دون مقابل.

وكانت هناك مكتبات خاصة في أماكن متفرقة، وإنا لنجد في ظلمات القرن العاشر نفسه جربرت Gerbert يجمع كتباً بحماسة محبي الكتب الحقة؛ وكان لغيره من رجال الدين أمثال جون السلزبري مجموعات خاصة بهم. كما كان لعدد قليل من النبلاء مكتبات صغيرة في قصورهم؛ وكان لفردريك بربرسا وفردريك الثاني مجموعات كبيرة، وجمع هنري الأرغوني مكتبة عظيمة حرقت علناً لاتهامه بالاتصال بالشيطان (19). وجاء دانيل من أهل مورلي Morley إلى إنجلترا من أسبانيا عام 1200 "بطائفة كبيرة قيمة من الكتب"(20). وكشفت أوربا في القرن الثاني عشرة ثروة أسبانيا العظيمة من الكتب فهرع العلماء إلى طليطلة، وقرطبة، وأشبيلية، وعبرت جموع رجال العلم الجديد التي لا حصر لها جبال البرانس وأحدثت في الحياة الذهنية في بلاد الشمال التي كانت وقتئذ في دور المراهقة انقلابا عظيم الأثر.

ص: 14

الفصل الثالث

‌المترجمون

كانت أوربا في العصور الوسطى منقسمة نصفين أحدهما لاتيني والآخر يوناني وإن كانت تجمعهما آلي حد ما لغة مشتركة. وكان النصفان متعاديان ويجهل أحدهما الآخر. وقد نسى الشرق اليوناني التراث اللاتيني ما عدا القانون، كذلك نُسى التراث اليوناني في الغرب كله ما عدا الصقليتين؛ لكن بعض التراث اليوناني كان مختبئاً وراء أسوار المسيحية- في بيت المقدس الإسلامية، والإسكندرية، والقاهرة، وتونس، وأسبانيا؛ أما العالم الواسع الرقعة البعيد الشقة الذي يشمل الهند والصين واليابان، والذي كان من عهد بعيد غنيا بالأدب والفلسفة والفن، فلم يكد العالم المسيحي قبل القرن الثالث عشر يعرف عنه شيئا.

واضطلع اليهود ببعض العمل الذي يهدف إلى ربط الثقافات المختلفة بعضها ببعض، فقد كانوا ينتقلون بين هذه الثقافات تنقل مجاري الماء المخصبة تحت تربة الأرض. ولما كثر عدد اليهود المهاجرين من بلاد الإسلام إلى البلاد المسيحية، ونسوا اللغة العربية، رأى علماؤهم أنه يجدر بهم ان يترجموا المؤلفات العربية (التي ألف اليهود كثيراً منها) إلى اللغة التي لا يعرف علماء هذا الشعب المشتت غيرها وهي اللغة العبرية. ومن أجل هذا ترجم يوسف قمجي (1105؟ - 1190؟) في نربونة كتاب (المرشد إلى واجبات القلب) تأليف الفيلسوف اليهودي بهية إلى تلك اللغة. وكان يوسف هذا والد أبناء من جلة العلماء، ولكن أعلى منهم كعبا في شؤون الترجمة أبناء يهوذا بن شاؤل بن طبون (1120؟ - 1190؟)؛ وكان هو أيضاً قد هاجر من بلاد الأندلس الإسلامية إلى جنوب فرنسا؛ وهو وإن كان من أكثر أطباء عصره نجاحا في مهنته كان له

ص: 15

من النشاط ما استطاع به ترجمة المؤلفات اليهودية العبرية لسعديه جاؤن، وابن جبيرول، ويهودا هلبفي إلى اللغة العربية. وأثار ابنه صمويل (1150؟ - 1232) العالم اليهودي إلى ترجمة كتاب دليل الحيران لابن ميمون إلى اللغة العبرية، وترجم موسى بن طبون كتاب العناصر لإقليدس من اللغة العربية أيضا، وترجم كتاب القانون الصغير لابن سينا، وكتاب الترياق للرازي، وثلاثة من مؤلفات ابن ميمون، وشروح ابن رشد القصيرة لأرسطو. وتزعم يعقوب بن طبون حفيد صمويل حركة الكفاح من أجل ابن ميمون في منبلييه، واشتهر بنبوغه في علم الفلك، ولكنه مع هذا ترجم عدداً من الرسائل العربية إلى اللغة العبرية، كما ترجم بعضها إلى اللغة اليونانية. وتزوجت ابنة صمويل عالما أوسع شهرة من أبيها هو يعقوب أناضولي. وقد ولد يعقوب هذا في مرسيلية حوالي عام 1194 ودعاه فردريك الثاني لتدريس اللغة العبرية في جامعة نابلي، وفيها ترجم إلى اللغة العبرية شروح ابن رشد الكبرى. وكان لهذه الشروح أبلغ الأثر في الفلسفة اليهودية. وكانت ترجمة كتاب المنصوري للرازي على يد الطبيب الفيلسوف ثم طب (1264) في مرسيلية حافزاً قوياً إلى النهضة الطبية عند العبرانيين.

وترجمت إلى اللغة اللاتينية كثر من التراجم العبرية للكتب العربية من ذلك أن كتاب التيسير لابن زهر ترجم إلى اللاتينية في بدوا (1280)؛ وفي بداية القرن الثالث عشر ترجم أحد اليهود أسفار العهد القديم كلها ترجمة حرفية من اللغة العبرية إلى اليونانية مباشرة. وتمثل لنا ترجمة كتاب كليلة ودمنة لبيدبا الطرق الملتوية التي كانت تسير فيها الهجرة الثقافية: فقد ترجم هذا الكتاب إلى الإنجليزية من ترجمة أسبانية لترجمة لاتينية لترجمة عبرية، لترجمة عبرية لترجمة فهلوية لترجمة للنسخة السنسكريتية المزعومة (21).

ص: 16

أما التيار الرئيس الذي صب به تيار الثروة الفكرية الإسلامية في العالم الغربي فكان عن طريق ترجمة الكتب العربية إلى اللغة اللاتينية. فقد ترجم قسطنطنين الأفريقي حوالي عام 1060 إلى اللغة اللاتينية كتاب الاختبار للرازي وكتب اسحق يوديوس في الطب، وترجمة حنين العربية لأمثال أبقراط وشرح جالينوس. وجمع ريمند (1130؟) المستنير المتسامح كبير أساقفة طليطلة بعد استردادها من المسلمين طائفة من المترجمين برياسة دمنيكو جند يسلفى وعهد إليهم ترجمة الكتب العربية في العلوم الطبيعية والفلسفية. وكان معظم هؤلاء المترجمين من اليهود الذين يعرفون اللغات العربية، والعبرية، والأسبانية، بالإضافة إلى اللاتينية في بعض الأحيان، وكان اكثر هذه الفئة نشاطاً أحد اليهود المتنصرين يدعى حنا الأسباني (أو "الأشبيلي") وقد حور الفلاسفة المدرسيون كنيته العربية وهي ابن داود فسموه أفنديث Avendeath. وقد ترجم حنا هذا مكتبة حقق من مؤلفات ابن سينا، والغزالي، والفارابي،

والخوارزمي عن أولها العربية أو عن تراجمها اليهودية. وأدخل بترجمته لكتاب الخوارزمي الأرقام الهندية- العربية في بلاد الغرب. ولا يقل هذا الكتاب أثراً عن ترجمته لكتاب مدسوس على أرسطو في الفلسفة والأسرار الخفية يدعى Secretum Secretorum وهو كتاب يدل على سعة انتشاره بقاء مائتي نسخة مخطوطة منه. وكانت بعض الكتب تترجم من العربية إلى اللاتينية مباشرة، وبعضها يترجم إلى اللغة القشتالية ثم يترجمها غنديسلوى إلى اللاتينية. وبهذه الطريقة حول العالمان كتاب حكور حاتم فأصبح Fon Vitae أو ينبوع الحياة وبه أصبح ابن جبيرول (Avicebron) من أشهر الفلاسفة في محيط الفلسفة الكلامية.

وكانت هناك روافد أخرى تغذى هذا التيار اللاتيني العربي. من ذلك أن

ص: 17

عالما من باث Bath يدى أبلار تعلم العربية في إنطاكية، وطرسوس، وطليطلة ثم نقل كتاب إقليدس من العربية إلى اللاتينية (1120) فكانت هذه الترجمة أول ترجمة لاتينية لهذا الكتاب؛ وهو الذي أدخل حساب المثلثات من بلاد المسلمين إلى الغرب بترجمته ازياج الخوارزمي (1126)(23).

وفي عام 1141 قام بطرس الموقر رئيس دير كلوني هو وثلاثة من العلماء المسيحيين يساعدهم أحد علماء العرب بترجمة القرآن إلى اللغة اللاتينية. ودخل علم الكيمياء والكيمياء الكاذبة العالم اللاتيني بترجمة ربرت من أهل تشتر أحد الكتب الكتب العربية في عام 1144. وبعد عام من ذلك الوقت قام رجل يدعى أفلاطون التيقولى بترجمة رسالة هيورها مشيحه العظيمة الشأن لمؤلفها إبراهام بارحيا.

وكان أعظم المترجمون على بكرة أبيهم رجلا يدعى حرار من أهل كريمونا، ذلك أنه لما قدم هذا الرجل إلى طليطلة حوالي 1165 أعجب بثروة العرب في العلوم والفلسفة فصمم على أن يترجم خير ما في هذه الثروة إلى اللغة اللاتينية، وقضى في هذا العمل التسع السنين الباقية من حياته؛ فتعلم اللغة العربية واستعان كما يبدو بمسيحي من أهل المدينة وبآخر يهودي (24).

وليس من المعقول أن يكون هو الذي ترجم الكتب الواحد والسبعين من غير أن يعاونه فيها أحد. ومهما يكن من شيء فإن الغرب مدين له بالتراجم اللاتينية للتراجم العربية لكتب أرسطو في التحليلات، وفي السموات والأرض، والكون والفساد، والمتيورولوجيا؛ وبطائفة من الشروح لإسكندر الفروديسي، والعناصر والفروض لإقليدس، وقياس الدائرة لأرخميدس، والمخروطات لأبلونيوس البرجاوي، وأحد عشر كتاب معزوة إلى جالينوس وعدة مؤلفات في الفلك يونانية الأصل، وأربعة مجلدات يونانية- عربية في الطبيعة، وأحد عشر كتاباً في الطب عند العرب، من بينها أكبر كتب الرازي وابن سينا والفارابي

ص: 18

وثلاثة من كتب الكندي، وكتابان لإسحاق إسرائيلي، وأربعة عشر كتاباً في الرياضة والهيئة عند العرب، وثلاث مجموعات من الأزياج الفلكية، وسبعة مؤلفات عربية في الهندسة والفلك؛ وقصارى القول أن ليس في التاريخ كله رجل أغنى بمفرده ثقافة لأخرى كما فعل جرار هذا. ولا يضارع جرار في عمله هذا إلا عمل حنين بن اسحاق، وعمل "بيت الحكمة" الذي أنشأه الميمون، وهما اللذان صبا العلوم والفلسفة اليونانية في القالب العربي.

ويلي أسبانيا في مجد الثقافات على هذا النحو مملكة الصقليتين النورمانية. ذلك ان حكام النورمان لم يكادوا يفتحون الجزيرة (1091) حتى استخدموا مترجمين ليقوموا بترجمة المؤلفات العربية واليونانية في الرياضة والهيئة المنتشرة في بالرم إلى اللغة اللاتينية. وواصل فردريك الثاني هذا العمل في فوجيا Foggia واستقدم إلى بلاطه للقيام به وبغيره من الأعمال عقلاً من اعجب العقول وأكثرها نشاطاً في أوائل القرن الثالث عشر ونعني بصاحب هذا العقل ميخائيل اسكت. وقد اشتق اسم هذا الرجل من موطنه الأصلي في إسكتلندة؛ وتراه في طليطلة عام 1217 وفي بولونيا عام 1220، وفي روما من 1224 إلى 1227، ثم تراه بعدئذ في فوجيا أو نابلي. وكان أول ما ترجمه كتاب الأجسام الكروية للبطروحي وهو نقد كتاب بطليموس. واعجب اسكت لما يمتاز به تفكير أرسطو من حرية واتساع في الأفق فترجم إلى اللغة اللاتينية الترجمة العربية لكتاب تاريخ الحيوان لأرسطو بما فيه "أجزاء الحيوان" و "توالد الحيوان"، وتعزو إليه رواية غير محققة تراجم كتب "ما وراء الطبيعة"، و "الطبيعة" و"النفس"، و "والسموات"، ولعله ترجم كذلك كتاب "الأخلاق". ووصلت تراجم ميخائيل لكتب أرسطو إلى البرتس مجنس وروجربيكن، وكان لها اثر كبير في الحركة العلمية في القرن الثالث عشر، وواصل شارل صاحب أنجو مناصرة الترجمة في جنوبي إيطاليا، وعمد له في هذا العالم اليهودي موسى من أهل سلرنو، واكبر الظن أن

ص: 19

شارل هو الذي قدم المال اللازم لترجمة الموسوعة الطبية الضخمة (1274) الرازي وهي معروفة بأسم "كتاب الحاوي" إلى اللغة اللاتينية على يد العالم اليهودي فرج بن سالم الجرجنتي.

وكانت جميع التراجم اللاتينية السالفة الذكر لعلوم اليونان وفلسفتهم مقولة من التراجم العربية- وكان منها ما هو ترجمة عربية للترجمة السريانية للأصل الذي يكتفه الغموض. ولم تكن هذه التراجم خالية من الدقة إلى الحد الذي اتهمها به روجر بيكن؛ ولكن ما من شك في ان الحاجة كانت منذ ذلك الوقت ماسة إلى تراجم من الأصل مباشرة. وكان من بين اقدم هذه التراجم الأصلية ترجمة كتب أرسطو على يد جيمس الذي لا نعرف عنه اكثر من انه "كاتب من البندقية" قبل عام 1128. وفي عام 1154 ترجم يوجين "أمير" بالرم كتاب بطليموس في "البصريات"، ثم اشترك في عام 1160 في ترجمة لاتينية لكتاب المجسطي من اللغة اليونانية مباشرة. وكان ارستيس من اهل قطانيا قد ترجم في الوقت عينة (1156؟) كتاب حياة الفلاسفة لديوجنيز ليرتيوس وكتاب مينون وفيدون لأفلاطون. ولم يؤثر استيلاء الصليبيين على القسطنطينية في الترجمة بالقدر الذي كان يحق لنا ان نتوقعه؛ فنحن لم نسمع الا عن ترجمة جزء من كتاب الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) لأرسطو (1209)؛ وأعقبت ذلك فترة مجدبة شرع بعدها في عام 1260 وليم الموربيكي William of Moerbeke كبير أساقفة كورنث الفلمنكي يعاونه في أغلب الظن عدد من المترجمين بترجمة طائفة من الكتب عن اللغة اليونانية مباشرة. وان عدد هذه التراجم وأهميتها لتنزلانه بين أبطال نقل الثقافة منزلة لا تعلو عليها إلا منزلة جرادر الكريموني. وكانت استجابته لطلب صديقه وزميله الراهب الدمنيكي تومس أوكوناس من الأسباب التي حملته على ترجمة عدد كبير من مؤلفات أرسطو

ص: 20

تاريخ الحيوانات، والسياسة، والبلاغة، وعلى إتمام ترجمة بعض التراجم السابقة أو مراجعتها. الميتافيزيقا والمنبورولوجيا (الأرصاد الجوية) وفي النفس .. وترجم للقديس تومس عدة شروح على كتب أرسطو وأفلاطون؛ وأضاف إلى هذه الأعمال الكثيرة تراجم لكتاب التشخيص لأبقراط وكتاب جالينوس في الطعام وعدة مؤلفات في علم الطبيعة لهيرون الإسكندري وأرخميدس. ولعنا مدينون له ايضاً بترجمة لكتاب الأخلاق لأرسطو تعزى من قبل إلى ربرت جروستستي، وكانت هذه التراجم جزء من المادة التي بنى عليها تومس كتابه العظيم الأثر في اللاهوت. ولم يحل عام 1280 حتى كانت كتب أرسطو كلها تقريباً في متناول العقل الغربي.

وقد أحدثت هذه التراجم كلها في أوربا اللاتينية ثورة عظيمة الخطر، ذلك ان تدفق النصوص العلمية من بلاد الإسلام واليونان كان له اعمق الأثر في استثارة العلماء الذين بدءوا يستيقظون من سباتهم؛ وكان لا بد ان تحدث تطورات جديدة في النحو وفقه اللغة، ووسعت نطاق المناهج الدراسية، وأسهمت بنصيب في نشأة الجامعات ونمائها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وكان عجز المترجمين أن يجدوا مفردات لاتينية تؤدي المعاني التي يريدون نقلها إلى تلك اللغة هو الذي أدى إلى دخول كثير من الألفاظ العربية في اللغات الأوربية؛ ولم يكن هذا اكثر من حادث عارض في أعمال الترجمة، ولكن أهم من هذا أن الجبر، وعلامة الصفر والنظام العشري في الحساب قد دخلت كلها في بلاد الغرب المسيحية بفضل هذه التراجم، وان الطب من ناحيته النظرية والعلمية تقدم تقدماً عظيماً بفضل ما قام به العلماء المترجمون اليونان، واللاتين، والعرب، واليهود، وان ما كان لعلم الهيئة اليوناني والعربي من شأن خطير قد احدث، وكان لا بد ان يحدث، توسعاً في علوم الدين، وفي تعديل أفكار العلماء عن

ص: 21

الإله، وكان ذلك إِرهاصاً بتغيير في هذه الناحية أوسع مدى جاء بعد عهد كوبرنيق. وان في إشارات روجر بيكن المتكررة لابن رشد، وابن سينا، والفارابي لدليلاً على ما كان لهؤلاء العلماء من تأثير وحافز جديد. وفي ذلك يقول روجر بيكن نفسه:"لقد جاءت إلينا الفلسفة من العرب"(25)، وسنرى إن الذي دعا تومس أكوناس لتأليف كتابه الجامع في اللاهوت هو ان يحول دون تسرب التفاسير العربية لأرسطو إلى علوم الدين المسيحية. وهكذا رد الإسلام إلى أوربا ما أخذه عن اليونان بطريق بلاد الشام؛ وكما أن هذه العلوم كانت بداية ذلك العصر العظيم عصر العلوم والفلسفة العربية، كذلك أثارت هذه التراجم عقل أوربا وحفزته إلى البحث والتفكير، وأرغمته على أن يشيد ذلك الصرح العقلي الخطير صرح الفلسفة المدرسية، وان ينقض ذلك الصرح الفخم حجراً بعد حجر، فينهار بذلك نظام العصور الوسطى الفلسفي في القرن الرابع عشر، وتبدأ الفلسفة الحديثة في غمرة التحمس العظيم أثناء عصر النهضة.

ص: 22

الفصل الرابع

‌المدارس

وكان الذي يقوم بنقل الحضارة من جيل إلى جيل الأسرة، والكنيسة، والمدرسة. وكان يعني عناية خاصة بالتربية الخلقية في العصور الوسطى، على حساب الثقافة العقلية، كما يعني اليوم بالتربية العقلية، على حساب التأديب الخلقي. ولم يكن في غير المألوف في إنجلترا بين الطبقات الوسطى والعليا أن يصل الولد في سن السابعة أو نحوها ليربى وقتاً ما في بيت غير بيته؛ وكان الغرض المقصود من هذا تمكين الروابط بين الأسرة من جهة، وإبعاد الولد عن اللين المنبعث من حنان الأبوين من جهة أخرى (26). كان نظام المدارس الفخم الذي أنشأته الإمبراطورية الرومانية قد انهار من خلال الفوضى الناشئة من الغارات ومن نقص سكان المدن؛ ولما أن هدأت موجة الهجرة في القرن السادس بقيت قلة من المدارس العلمانية في إيطاليا؛ وكان معظم الباقي مدارس لتعليم المعتنقين الجدد الدين المسيحي وقساوسة المستقبل. وظلت الكنيسة فترة من الزمن (500 - 800) تخص بعنايتها التدريب الاخلاقي، ولم تكن ترى ان النقل العلوم الدنيوية من واجباتها؛ ولكن الكتدرائيات، والأديرة، وكنائس الأبرشيات وأديرة النساء، قد حفزها شارلمان إلى فتح أبوابها لتعليم البنين والبنات تعليماً عاماً.

وحملت مدارس الأديرة وحدها في أول الأمر هذا العبء كله تقريباً. وكانت المدارس نوعين مدرية داخلية تهئ التعليم للمستجدين ومن ينذرهم آباؤهم للرهبنة أو الكنيسة، ومدرسة خارجية تعلم الأولاد من غير أجر على

ص: 23

ما يظهر (27). ونجت مدارس الأديرة الألمانية من اضطرابات القرن التاسع، وأسهمت بنصيب مثمر في النهضة الأتونية Ottonian؛ وكانت ألمانيا في القرنين التاسع والعاشر تعلو على فرنسا في كل ما يزين العقل؛ ذلك أن انحلال البيت الكارولنجي في فرنسا، وغارات أهل الشمال، كانا ضربتين قويتين وجهتا إلى مدارس الأديرة، ولهذا لم تبقى مدرسة القصر التي أنشأها شارلمان في بلاط الفرنجة بعد ان مات شارل الأصلع (في عام 877). وزادت الأسقفيات الفرنسية قوة كلما زاد الملوك ضعفاً، ولما أن وقفت غارات أهل الشمال كان الأساقفة ورجال الدين في خارج الأديرة أغنى من رؤساء الأديرة ومن الأديرة نفسها، ولهذا قامت مدارس الكتدرائيات في القرن العاشر في باريس، وشارتر، وأورليان، وتور، ولاؤن، وريمس، ولييج، وكولوني؛ على حين أن مدارس الأديرة ضعفت في ذلك القرن؛ ولما توفي فلبرت الصالح العظيم في شارتر، احتفظ الأسقف إِيفو Ivo بالمستوى الرفيع وبحسن السمعة الذين نالتهما مدرسة كتدرائيتها في الدراسات اليونانية والرومانية القديمة، وجرى برنار أسقف شارتر الذي خلف إِيفو على تقاليد سلفه الطيبة، وقد وصف حنا السلزبري برنار هذا في القرن الثاني عشر بقوله انه "في الوقت الحاضر اغزر منبع للآداب في غالة وعظم هذه المنابع روعة"(28). وفي إنجلترا ذاعت شهرة مدرسة يورك حتى قبل أن تعير ألكوين إلى شارلمان؛ وكادت مدرسة كنتربري تصبح جامعة ذات مكتبة كبيرة، وكان أمينها هو الرجل العظيم حنا السلزبري السالف الذكر؛ وهو رجل من اعظم العلماء والفلاسفة عقلاً في العصور الوسطى. ويبدو ان الطلاب الذين يهيأون لان يكونوا قساوسة كان ينفق عليهم من أموال الكتدرائية، أما غيرهم من الطلاب فكانوا يؤدون أجوراً قليلة. وقد أصدر مجلس لاتران الثالث (1179) قراراً يقول: "لكي لا يحرم الأطفال الفقراء من فرصة القراءة والرقى

يجب أن يخصص مرتب كافي لمدرس يعلم بالمجان من يعدون لممارسة مهنة الكهانة

ص: 24

وللفقراء من التلاميذ" (29) وطالب مجلس لاتران الرابع (1215) بأن ينشأ كرسي للنحو في كل كتدرائية من كتدرائيات العالم المسيحي، وأمر كل كبير أساقفه بأن يكون لديه كرسيان للفلسفة والقانون الكنسي (30). وخص البابا جريجوري التاسع (1227 - 1241) في أوامره السامية كنائس الأبرشيات على ان تنشئ مدرسة للتعليم الأولى، وتدل البحوث الحديثة على ان مدارس الأبرشيات هذه- المخصصة أولاً للتعليم الديني- كانت منتشرة في جميع أنحاء العالم المسيحي (31).

ترى ماذا كانت نسبة المراهقين من الأهلين الذين كانوا يؤمون هذه المدارس؟ اما البنات فلم يكن يذهب إليها فيما يبدو إلا بنات الطبقة الموسرة؛ وكانت معظم الأديرة تنشأ مدارس للبنات كالمدرسة التي في أرجنتي Argenteuil؛ وعلمت هلواز الآداب القديمة تعليماً ممتازاً (حوالي عام 1110)، ولكن اغلب الظن ان هذه المدارس لم تدخلها إلا نسبة صغيرة من البنات. ومن مدارس الكتدرائيات ما كانت تقبل البنات، فها هو ذا أبلار يحدثنا عن "النساء الشريفات المولد" اللائي كن يذهن إلى مدرسة نتردام في باريس عام 1114 (32). أما الأولاد فكانوا احسن حظاً من البنات، ولكن يبدو أن ابن رقيق الأرض كان يصعب عليه ان ينال تعليماً ما (33)، وان كنا نسمع أن بعض الأرقاء استطاعوا أن يلحقوا أبناءهم بأكسفورد (34). وكان كثير من المواد التي تعلم الآن في المدرسة يعلم وقتئذ في المنزل أو بالتدريب في الحوانيت؛ ولا ريب في أن انتشار الفنون في العصور الوسطى والدرجة الرفيعة التي بلغتها يوحيان بأنه كانت ثمة فرص واسعة للتدرب على الفنون والحرف. وتقدر إحدى الإحصاءات عدد الأولاد الملتحقين بالمدارس الأولية بإنجلترا في عام 1530 بستة وعشرين ألفاً من بين سكانها الذين يقدرون في ذلك الوقت بخمسة ملايين، أي بجزء من ثلاثين جزءاً من سكانها في عام 1931 (35)؛ ولكن دراسة حديثة لهذا

ص: 25

الموضوع تقول أن "القرن الثالث عشر كان اقرب إلى التعليم الشعبي والاجتماعي من القرن السادس عشر"(36).

وكان قس من قساوسة بيت الكتدرائية هو الذي يدير مدرسة الكتدرائية عادة،؛ وكان يسمى بأسماء مختلفة هي ارشسكولا (كبير المدرسة) Archiscola أو اسكلاريوس scolarius أو اسكلاستكس Scolasticus (المدرس). وكان التعليم كله باللغة اللاتينية؛ وكان التأديب صارماً، فكان الضرب بعد من مستلزمات التعليم كما كانت الجحيم من مستلزمات الدين، ومن اجل هذا كانت مدرسة ونشستر تحي طلابها ببيت من الشعر سداسي الأوتاد صريح في معناه وهو:" Aut disce، an discede manet sors teria caedi" ومعناه "تعلم أو ارحل والثالثة التي تختارها هي أن تضرب ". وكان المنهج يبدأ بالمجموعة الثلاثية- النحو والبلاغة، والمنطق-؛ ثم ينتقل الطالب بعدها إلى "المجموعة الرباعية" -الحساب، والهندسة، والموسيقى، والفلك؛ وكانت هذه هي "الفنون الحرة السبعة" على ان هذه المصطلحات لم تكن لها في ذلك الوقت نفس المعنى الذي لها في الوقت الحاضر. فأما المجموعة الثلاثية Trivium فكان معناها بطبيعة الحال إنها مكونة من ثلاث طرق، وأما الفنون الحرة فهي التي عرفها أرسطو قبل ذلك الوقت بأنها المواد الخليقة بالأحرار الذين لا يجرون وراء المهارات العملية (وكانت هذه تترك لصبيان الصناعات)، بل يسعون وراء التفوق العقلي والخلقي (28). وكان فارو (116 - 127 ق. م) قد كتب سبعة كتب في التأديب ذكر فيها سبع دراسات وصفها بأنها تؤلف المنهج اليوناني الروماني. وكتب مارتيانس كابلا Martianus Capella في القرن الخامس الميلادي كتاباً في مبادئ التربية نحا فيه منحى الاستعارة والتشبيه وكانت له شهرة واسعة وسماه "في زواج الفلسفة بعطارد On the Marriage of Philosophy and Mercury"، واخرج الطب والعمارة من مناهج التعليم لأنهما دراستان

ص: 26

عمليتان اكثر مما يجب أن تكون الدراسات، وبقيت بعد السبع الدراسات الشهيرة. ولم يكن "النحو" هو الدراسة المملة التي تضيع فيها روح اللغة بدراسة عظامها، بل كان هو فن الكتابة (gramma، graphs) ؛ وقد عرفة كيودورس بأنه هو دراسة العظيم في الشعر والخطابة دراسة تمكن الإنسان من أن يكتب كتابة صحيحة ظريفة. وكانت هذه الدراسة تبدأ في مدارس العصور الوسطى بالمزامير، ثم تنتقل إلى غيرها من أسفار الكتاب المقدس، ثم إلى كتب آباء الكنيسة اللاتيني، ثم إلى الآداب اللاتينية القديمة - شيشرون، وفرجيل، وهوراس، واستانيوس، وأوفد. وظل معنى البيان هو فن الحديث، ولكنه كان يشمل أيضاً دراسة واسعة الأدب. ويبدو أن المنطق كان من الموضوعات الراقية التي لا يمكن أن تشملها المجموعة الثلاثية. ولكن يبدو انه كان من الخطير للتلاميذ ان يتعلموا اتباع قواعد المنطق حين يبدءون يحبون الجدل.

وأدخلت الثورة الاقتصادية شيئاً من التغير في ميدان التعليم، فقد أحست المدن التي تعيش بالعمل في التجارة والصناعة بحاجتها إلى موظفين ذوى تدريب عملي؛ ولهذا أنشأت، رغم معارضة قوية من جانب الكنيسة، مدارس زمنية يعلم فيها مدرسون ألمانيون نظير أجور يتقاضونها من آباء التلاميذ. وكان الأجر السنوي في المدرسة العامة التي في مرتبة المدارس الثانوية بأكسفورد نحو أربعة بنسات أو خمسة (4. 5 دولار امريكي)؛ وقد أحصى فلاني Villani في عام 1483 تسعة آلاف ولد وبنت في مدارس الكنائس بفلورنس، و 1100 في ست من مدارس "المِعَدات" التي تهيؤهم للاشتغال بالأعمال التجارية والمالية، و 475 تلميذاً في المدارس الثانوية. ونشأت المدارس الزمنية في فلاندرز في القرن الثاني عشر؛ ولم يحل النص الثاني من القرن الثالث عشر حتى كانت هذه الحركة قد انتشرت في لوبك Lübeck ومدن البحر البلطي. ونقرأ في عام 1292 عن معلمة تدير مدرسة خاصة في باريس، وسرعان ما أضحت هذه واحدة من كثيرات مثلها (39)، فقد اخذ تحول التعليم إلى الناحية الدنيوية يجري مجراه.

ص: 27

الفصل الخامِس

‌جامعات الجنوب

وكانت المدارس غير الدينية كثيرة في إيطاليا بنوع خاص؛ وكان مدرسوها في العادة من غير رجال الدين بخلاف ما كانت عليه الحال فيما وراء الألب؛ كما كانت الروح والثقافة الإيطاليتان بوجه عام اقل من نزعتهما الدينية مما كانت عليه الحال في غير إيطاليا من البلاد. بل ذهب البعض إلى اكثر من هذا فحدث حوالي عام 970 ان نظم رجل يدعى فلجاردس Vilgardus حركة في رافنا تهدف إلى إعادة الوثنية (40). وكان في البلاد بطبيعة الحال كثير من مدارس كتدرائيات ميلان، وبفيا، وأوستا Aosta، وبارما ذات كفاية خاصة، وفي وسعنا أن نحكم على مقدار هذه الكفاية إذا عرفنا ان خريجيها لا فرانك وأنسلم؛ وكادت مدرسة مُنتى كازينو في عهد دزدريوس تكون جامعة. ولقد تضافر بقاء الأنظمة البلدية، ونجاح المدن اللمباردية في مقاومة بربرسا (1176)، والطلب المتزايد على المعلومات القانونية والتجارية، تضافرت هذه العوامل كلها على أن تنيل إيطاليا شرف السبق في مضمار إنشاء الجامعات في العصور الوسطى.

ولقد احتفلت جامعة بدوا في عام 1945 بالعيد المتمم للمائة بعد الألف من إنشائها على يد لوثير الأول Lothair I. وأكبر الظن أنها كانت مدرسة حقوق لا جامعة، ولم تتلق المرسوم الذي يجمعها مدرسة عامة إلا في عام 1361. وكان هذا هو الاسم هو يطلق في العصور الوسطى على الجامعة التي تضم عدداً من الكليات المختلفة، وكانت إحدى المدارس الكثيرة التي شرعت من القرن

ص: 28

التاسع عشر وما بعده نحي دراسة القانون الروماني: مدارس روما، ورافا، وأورليان في القرن التاسع؛ ومدارس ميلان، ونربونة، وليون Lyons في القرن العاشر؛ ومدارس فرونا، ومنتوا، وأنجرس Ongers في القرن الحادي عشر. ويبدوا أن بولونيا هي أولى مدائن غربي أوربا التي وسعت مدرستها فجعلتها مدرسة عامة، وفي ذلك يقول المؤرخ الإخباري أودوفريدوس Odsfredus في عام 1076: "شرع مدرس يدعى بببو Pepo يحاضر في القانون على مسئوليته الخاصة

في بولونيا، وكان من اعظم الرجال شهرة" (41). ثم انضم إليه غيره من المدرسين، حتى غدت مدرسة الحقوق في بولونيا قبل أيام إرتريوس Irnerius بإجماع الآراء خير مدارس أوربا على الإطلاق.

وبدأ إرنربوس يدرس القانون في بولونيا عام 1088، وانحاز في تدرسيه من جانب الجلف إلى جاني الجبلين، وفسر فقه القانون الذي عاد

ص: 29

وقتئذ إلى الحياة تفسيراً يتفق ومصلحة المطالب الإمبراطورية. ولسنا نعلم أكان منشأ هذا العمل من جانبه أن دراسة القانون الروماني أقنعته بقوة الحجج التاريخية والعملية التي تؤيد تفوق السلطة الإمبراطورية على السلطة الدينية أم أن المكافآت التي تتيحها له الخدمة الإمبراطورية قد أغرته بهذا الانحياز؟ وسواء كان هذا أو ذاك فإن الأباطرة الذين قدروا له عمله أغدقوا المال على المدرسة، وهرع عدد كبير من الطلاب الألمان إلى بولونيا، وألف أرنربوس مجلداً في التأويلات أو الشروح على كتاب القوانين لجستنيان وطبق الطريقة العلمية علة تنظيم القانون. ويعد كتاب قوانينه الذي جمعه أو جمع مع محاضراته آية من آيات المرض الجيد والحجج القوية.

وبدأ بإرنريوس العصر الذهبي في التشريع أثناء العصور الوسطى، وأقبل الرجال على بولونيا من جميع بلاد أوربا اللاتينية ليتلقوا فيها علم القانون الذي عاد وقتئذ إلى شبابه، وطبق جراتيان تلميذ أرنريوس الأساليب الجديدة على التشريع الكنسي، ونشر (1139) المجموعة الأولى من القانون الكنسي. وجاء بعد أرنريوس "العلماء الأربعة"- بلجارس Bulgarus، ومرتينس Martinus، وياقوبس Jacobus، وهوجو Hugo- بسلسلة من التأويلات الشائعة الصيت لتطبيق دستور جستنيان على المشاكل التشريعية في القرن الثاني عشر، وافلحوا في إدخال القانون الروماني إلى ميدان مطرد الاتساع. وجمع أكرسيوس Accursius الاكبر (1185؟ - 1260)، أعظم "الشراح " في بداية القرن الثالث عشر، أعماله هو وأعمالهم في شروح عامة أصبحت هي المرجع المعتمد الذي استعان به الملوك والعامة على تخطيط سلطان القانون الإقطاعي، ومحاربة سلطان البابوات. وبذلت البابوية كل ما تستطيع من الجهد لتعطيل حركة بعث القانون الذي يجعل الدين عملاً من أعمال الدولة وخادماً لها، ولكن الدراسة الجيدة غذت النزعة العقلية وحركة التحول إلى الناحية الدنيوية اللتين قامتا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وكانت هي المعبرة عنهما، وأوجدت طبقة من المحامين أخذت تتضاعف على مر الأيام وتجد في تخفيض نصيب الكنيسة في الحكم وتوسيع سلطان الدولة. ووصل الأمر إلى حد شكا معه القديس برنار من أن محاكم أوربا تدوي بشرائع جستنيان، ولم تعد تسمه قوانين الله (42). وكان انتشار فقه القانون الجديد حافزاً إلى خلق روح الاحترام للقانون، والشغف باتباع العقل لا يقل عن تراجم الكتب العربية واليونانية، وكان هذا الشغف هو الذي أوجد الفلسفة المدرسية الكلامية وقوض بعدئذ أركانها.

ولسنا نعلم متى قامت مدرسة للفنون- أي الفنون السبعة الحرة، في بولونيا، كما لا نعلم أيضاً متى أنشأت مدرسة الطب الشهيرة بهذه المدينة. ومبلغ علمنا أن الصلة الوحيدة التي قامت بين المدارس الثلاثة كانت تنحصر في أن يتسلم جريجو كل واحدة منها درجاتها من وكيل الأسقف في بولونيا. وقد نظم

ص: 30

الأساتذة أنفسهم في نقابة كنقابات الحرف، وحوالي عام 1215 نظم طلبة كل كلية أنفسهم في اتحاد طلاب جنوب الألب أو اتحاد طلاب ما وراء الألب. وضمت هذه "الجامعات" من بداية القرن الثالث عشر طالبات وطلاباً، وكان في كليات بولونيا في القرن الرابع عشر أستاذات (43).

وأنشئت نقابات الطلاب في بداية الأمر لتقوم بواجب الحماية المتبادلة لهم وتمكينهم من حكم أنفسهم بأنفسهم؛ ثم صار لها في القرن الثالث عشر سلطة عظيمة على هيئة التدريس؛ فقد كان في مقدور الطلبة ان يحولوا أي إنسان وبين الاستمرار في حياة التدريس في بولونيا بالمقاطعة المنظمة لمن لا يرضيهم من المدرسين. هذا إلى أن مرتبات الأساتذة كانت في كثير من الأحيان تؤديها "جامعات الطلاب" أي رؤساء نقابات الطلاب (44). وكان على المدرس الذي يرغب في إجازة للتغيب عن العمل، وان لم تزد على يوم واحد، ان يحصل على إذن بذلك من تلاميذه عن طريق رؤساء نقاباتهم. وكان يحرم عليه تحريماً صريحاً أن "يبتدع عطلات بمحض رغبته"(45). وكانت اللوائح التي تضعها لوائد الطلاب تحدد الدقيقة التي يبدأ فيها المدرس محاضرته، والتي تنتهي فيها هذه المحاضرة، ونوع العقوبات الذي تفرض عليه إذا خالف هذه القواعد. وكانت قوانين النقابات تأمر الطلاب أن يغادروا قاعة الدرس إذا أطال الأستاذ محاضراته عن الوقت المحدد لها. وكانت لوائح النقابات تفرض غرامة على المدرس إذ ترك فصلاً أو مرسوماً في شرحه القوانين، كما كانت تحدد مقدار ما يخصصه من المنهج لكل جزء من أجزاء الكتب المقررة. وكان يطلب إلى الأستاذ في بداية كل سنة جامعية أن يودع أمانة مقدارها عشرة جنيهات في أحد مصارف بولونيا، تخصم منها الغرامات التي يفرضها عليه رؤساء نقابات الطلاب، ويرد إليه ما يبقى منها في نهاية العام الدراسي بناء على أوامر أولئك الرؤساء. وكانت لجان من الطلاب

ص: 31

تعين لمراقبة سلوك كل مدرس وتبلغ رؤساء النقابات كل ما تراه من شذوذ أو عيب في هذا السلوك (46). وإذا ما بدت هذه القواعد لطالب هذه الأيام معقولة إلى درجة غير عادية، وجب عليه أن يذكر أن طلاب الحقوق في جامعة بولونيا كانوا رجالاً بين السابعة عشر والأربعين من عمرهم، وانهم كانوا في سن يستطيعون وهم فيها أن يؤدبوا أنفسهم؛ وانهم جاءوا للدرس لا للعب، وان الأستاذ لم يكن موظفاً عند أمناء الجامعة، بل كان محاضراً حراً يؤجره الطلبة في واقع الأمر لكي يعلمهم. وكان مرتب المدرس في بولونيا يتكون من الأجور التي يؤديها طلابه ويحدد اتفاق يعقد معهم. ثم غير نظام الأداء حوالي آخر القرن الثالث عشر حين عرضت المدن الإيطالية، حرصاً منها على أن يكون لها جامعات خاصة بها، مرتبات تؤديها البلديات إلى بعض أساتذة بولونيل؛ فما كان من مدينة بولونيا نفسها وقتئذ (1289) إلا أن وعدت بأداء مرتب سنوي لاثنين من الأساتذة؛ ولكن اختيار الأساتذة ظل متروكاً للطلاب؛ وقد زاد عدد هذه المرتبات السنوية التي تؤديها البلديات شيئاً فشيئاً، حتى إذا كان القرن الرابع عشر انتقل اختيار الأساتذة وانتقلت مرتباتهم إلى المدينة نفسها. ولما أصبحت بولونيا جزءاً من الولايات البابوية في عام 1506 صار تعيين الأساتذة من اختصاص السلطات الكنسية.

بيد أن جامعة بولونيا انطبعت في القرن الثالث عشر بروح علمانية تكاد تكون معادية للكنسية، وقلما نجد في غيرها من المراكز التعليمية الاوربية، وجرى غيرها من جامعات إيطاليا على هذا النسق وان لم تبلغ فيه ما بلغته جامعة بولونيا، فبيننا كانت كلية أصول الدين أهم الكليات في هذه الجامعات الاخرى، لم يكن في بولونيا كلية دينية على الإطلاق قبل عام 1364، بل حل القانون الكنسي فيها محل علم اللاهوت؛ وحتى علم البيان نفسه قد اتخذ صورة القانون، بل أن فن الكتابة نفسه أضحى- في جامعات بولونيا، وباريس، وأورليان،

ص: 32

ومنبلييه، وتور،

فن كتابة الوثائق القانونية، أو التجارية والمالية، أو الرسمية، وكانت درجات جامعية خاصة تمنح في هذا الفن (17). وكان من الأقوال الشائعة اقرب ما يمكن الحصول عليه من تعليم إلى الأحوال الواقعية هو الذي يتلقاه الطلاب في بولونيا؛ وترى أحد القصص المتداولة أن أحد علماء التربية الباريسيين نقض في بولونيا ما علمه في باريس، ثم عاد إلى باريس فنقص ما علمه في بولونيا (18). وتزعمت بولونيا في القرن الثاني عشر الحركة العقلية في اوربا، فلما كان القرن الثالث عشر تركت تعليمها يجمد حتى أضحى فلسفة القانون مدرسية كلامية آسنة، وحتى أضحى الشروح الأكورسية نصاً مقدساً لا يكاد يقبل التغيير، ويعطل تكييف القانون تكييفاً تقدمياً يوائم سير الحياة؛ ومن اجل هذا انتقلت روح البحث إلى ميادين أوسع حرية من ميدان القانون.

وانتشرت الجامعات في جميع أنحاء إيطاليا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ونشأت بعضها من جامعة بولونيا بهجرة الأساتذة والطلاب من هذه الجامعة؛ من ذلك أن بليوس غادرها في عام 1182 لينشئ مدرسة في مودينا؛ وأن يقوبس ده مندرا Jacobus de Mandra خرج منها إلى رجيو إميليا Reggio Emilia في عام 1188 واخذ معه تلاميذه؛ ونشأ من هجرة أخرى حدثت في اغلب الظن من بولونيا عام 1204 مدرسة عامة أو اتحاد مؤلف من عدة كليات في فيسنزا؛ وفي عام 1215 غادر رفريدس Roffredus جامعة بولونيا ليفتتح مدرسة للحقوق في أرزو Arezzo؛ وفي عام 1222 وسع عدد كبير من المدرسين والطلاب الذين غادروا بولونيا مدرسة قديمة كانت في بدوا، فأضيفت كليات للطب والآداب إلى مدرسة الحقوق التي كانت في هذه المدينة؛ وبعثت اليها مدينة البندقية بطلابها، وأسهمت فيما كانت تؤديه المدينة من مرتبات للأساتذة، وبذلك أصبحت بدوا في القرن الرابع عشر من أنشط مراكز

ص: 33

التفكير الأوربي. وفي عام 1224 أسس فردريك الثاني جامعة نابلي ليمنع طلاب إيطاليا الجنوبية من الهجرة جماعات إلى الشمال. ولعل هذا السبب عينة مضافاً إلى الدبلوماسية الكنسية هو الذي حمل أونسيت الرابع على إنشاء جامعة بلاط روما التي تبعت البلاط البابوي في هجراته ومنها هجرته إلى أفنيون نفسها، وفي عام 1303 أسس بنيفاس الثامن جامعة روما التي بلغت مجدها في أيام نقولاس الخامس وليو العاشر، وأحرزت لقب سبنزا Sapienza (العاقلة) في عهد بولس الثالث. وبدأت سينا جامعة بلديتها في عام 1246، وبياسنزا في عام 1248؛ وقبل أن يختتم القرن الثالث عشر وجدت مدارس القانون، والآداب، والطب أيضاً أحياناً، في كل مدينة كبرى بإيطاليا.

وكانت جامعات أسبانيا فذة في نوعها، فقد أنشأها الملوك وبسطوا حمايتهم عليها، فكانت تخدمهم وتخضع لأشراف حكوماتهم. فأنشأت قشتلة جامعة ملكية في بالنسية (Palencia)(1208) ، ثم أنشأت جامعة أخرى في بلد الوليد (1304)؛ وأنشأت ليون Leon جامعة في سلمنقة (1227) وأنشأت جزائر البليار جامعة في بالما (1280)، وأنشأت قطلونية جامعة في لريدا (1300). وكانت الجامعات الأسبانية تقبل إشراف الكنيسة عليها والمعونة المالية منها رغم صلتها بالملوك؛ ومنها ما نشأ من مدارس الكتدرائيات كجامعة بالنسية. وخص سان فرنندو وألفنسو الحكيم جامعة سلمنقة بأموال كثيرة في القرن الثالث عشر، وسرعان ما ساوت هذه الجامعات تعلم اللغة اللاتينية، والعلوم الرياضية، والفلك، وعلوم الدين، والقانون؛ ومنها ما كان يعلم الطب، واللغة العبرية، أو اليونانية. وافتتح راهب دمنيكي في عام 1250 مدرسة للدراسات

ص: 34

الشرقية في طليطلة لتدريس اللغتين العربية والعبرية. وما من شك في ان هذه المدرسة قد أفادت خيراً كثيراً لان أحد خريجيها ريمند مارتن Raymond Martin (حوالي عام 1260) اظهر علماً واسعاً بجميع كبار الفلاسفة ورجال الدين المسلمين. وكذلك كان للدراسات العلمية مكاان بارز في جامعة أشبيلية التي أنشاها ألفنسو الحكيم في عام 1254. وأنشأ الملك الشاعر دنيز Diniz في لشبونة جامعة للبرتغال عام 1290.

ص: 35

الفصل السادس

‌جامعات فرنسا

كانت فرنسا بلا ريب الزعيمة العقلية لأوربا في العصور الوسطى خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، فقد أصبحت لمدارس كتدرائياتها منذ بداية القرن الحادي عشر شهرة دولية عظيمة؛ وإذا كانت هذه المدارس قد نمت وازدهرت حتى أضحت جامعة عظيمة في باريس لا في شارتر، أولاؤن، أوريمس، فأكبر الظن إن سبب هذا هو إن تجارة السين الرابحة والأعمال المالية التي توجد عادةً في العاصمة قد جاءت إلى تلك المدينة بالثراء الذي يغري العقول وإنها كانت تقدم المال الذي يحتاجه العلم والفلسفة والفن.

وأول من عرف من المعلمين في مدرسة كتدرائية نتردام هو وليم الشامبووي William of Champeaux (1070 - 1121) ، وكانت محاضراته التي تقلى في أبهاء نتردام مثار الحركة العقلية التي نشأت منها جامعة باريس، ولما خرج أبلاد من بريطانيا (حوالي عام 1103) ووجه إلى وليم قياساً منطقياً أفعمه وقضى على سمعته، وبدأ اشهر المحاضرات في التاريخ الفرنسي، هرع الطلاب من كل صوب ليستمعوا إليه؛ فازداد عدد طلاب باريس وتضاعف عدد المدرسين. وكان الأستاذ (magister) في عالم التربية بباريس في القرن الثاني عشر رجلاً أجاز له رئيس كتدرائية نتردام أن يدرس. وكانت جامعة باريس في ذلك الوقت قد خطت خطوات سريعة لا نستطيع تتبعها، فارتقت من مدرسة كنيسة المدينة ونالت وحدتها الأولى من هذا المصدر الوحيد مصدر الإجازة التعليمية. وكانت هذه الإجازة تعطى عادةً بالمجان لكل من قضى وقتاً كافياً تلميذاً لأستاذ مرخص بشرط أن يوافق هذا

ص: 36

الأستاذ على طلبه؛ وكان من التهم التي وجهت إلا أبلار إنه أشتغل بمهنة التدريس دون أن يقضي فترة التلمذة المعتمدة من أستاذ.

وكان إدراك فن التدريس على هذا النحور، أي الأستاذ المعلم والصبي المتعلم، من الأصول التي قامت عليها الجامعة. ولما إن تضاعف عدد الأساتذة أنشأ والهم بطبيعة الحال نقابة طائفية. وظل لفظ (جامعة Univiresitas) يطبق منذ قرون على كل هيئة من عدة أفراد بما في ذلك النقابات الطائفية. وفي عام 1214 وصف ماثيو باريس "زمالة الصفوة المختارة من المدرسين" في باريس بأنها منظمة قائمة من زمن بعيد. ولنا أن نفترض، وإن كنا لا نستطيع أن نبرهن، أن (الجامعة) اتخذت حوالي عام 1170 صورة نقابة طائفية للمدرسين لا اتحاداً لعدة كليات، فلما كان عام 1210 أصدر البابا إنوسنت الثالث -وكان هو نفسه من خريجي جامعة باريس- مرسوماً اعترف فيه بقوانين نقابة المدرسين المدونة واعتمدها، ثم أصدر هذا البابا نفسه مرسوماً آخر خول فيه النقابة تختار مندوباً عنها يمثلها في المحكمة البابوية.

وقبل أن ينتصف القرن الثالث عشر انقسم مدرسو

(1)

جامعة باريس إلى أربع (سلطات) أو كليات كما نسميها الآن (Faculties)

(2)

: اللاهوت، والقانون الكنسى، والطب، و (الفنون). ولم يكن للقانون المدني بعد عام 1219 مكان في جامعة باريس بعكس ما كانت عليه الحال في جامعة بولونيا. وكان المنهج يبدأ بالفنون السمعية، ثم يرقى إلى الفلسفة وينتهي بعلوم الدين. وكان طلبة الفنون Arts (وكانوا يسمون Artlstae أي فنانين) هم المقاتلين عندنا (الطلاب) الذين لا يزالون في الجامعة، وإذ كانوا هم يؤلفون الجزء

(1)

لا يفرق المؤلف في هذا الفصل وفي الفصول السابقة بين مدرس وأستاذ. (المترجم)

(2)

الكلمة ذات صلة بكلمة Facile الفرنسية ومعناها تيسير أو تخويل أو سلطة للعمل. (المترجم)

ص: 37

الأكبر من المتعلمين في باريس فقد انقسموا -لتبادل المعونة ولأغراض الألفة والاختلاط- إلى أربع أمم Nations حسب مسقط رأسهم natio أو أصلهم: (فرنسا)(أي المملكة الضيقة الخاضعة خضوعاً مباشراً للملك الفرنسي) وبكاردي Picardy، ونورمندية، وإنجلترا؛ وضم طلاب جنوبي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا إلى الطلبة الفرنساويي المولد، وضم طلبة الأراضي الوطيئة إلى (بكاردي) وطلبة أوربا الوسطى الشرقية إلى (إنجلترا)، وكان الطلاب الذين جاءوا من ألمانيا من الكثرة بحيث تأخرت تلك البلاد عن إنشاء جامعات بها حتى عام 1347. وكان يحكم كل جامعة (وكيل Procurator) أو مدير، وكل كلية عميد، وكان لطلاب كلية الفنون -ومدرسيها في أغلب الأحيان- مدير يرأسهم، ثم اتسعت دائرة أعماله تدريجاً حتى أصبح قبل عام 1255 مدير الجامعة كلها.

ولسنا نسمع عن وجود أبنية خاصة بالجامعات، ويلوح إن المحاضرات كانت تلقى أثناء القرن الثاني عشر في أروقة نتردام، وسان جنفبيف، وسان فكتور، وغيرها من الأبنية الدينية، ولكننا نجد في القرن الثالث عشر مدرسين يستأجرون حجرات خاصة لفصولهم. وكان المدرسون -الذين أصبحوا يسمون أيضاً أساتذة Professores، ومعنى هذا اللفظ اللاتيني (المعلنون) - رجال دين مترهبين يفقدون مناصبهم إذا تزوجوا. وكانت طريق التعليم هي المحاضرات، وأكبر السبب في هذا أنه لم يكن في مقدور كل تلميذ أن يبتاع الكتب التي تجب عليه دراستها، أو يحصل على نسخ منها من دور الكتب. وكان الطلاب يجلسون على الطوار أو على الأرض ويدونون كثيراً من المذكرات. وكان العبء الملقى على ذاكرتهم شديداً أضطرهم إلى ابتكار عدة أساليب لمساعدة الذاكرة تتخذ في العادة شكل أبيات شعرية مثقلة بالمعنى بغيضة الصورة. وكانت لوائح الجامعة تحرم على المدرس أن يقرأ محاضرته للطلاب، بل كان يطلب

ص: 38

إليه أن يتكلم ارتجالاً، بل كان يحرم عليه أيضاً أن يُقطع الكلام. وكان الطلاب يتبرعون بتحذير المستجدين من أن يؤدوا أجر أي منهج قبل أن يستمعوا إلى ثلاث محاضرات فيه. وقد شكا وليم الكنشيسي في القرن الثاني عشر من إن المدرسين يلقون على الطلاب مناهج سهلة لكي يكسبوا بذلك الشهرة، والطلبة، والأجور، وإن طريقة الاختيار التي تعطى للطالب مجالاً واسعاً لاختيار الموضوعات والمدرسين أخذت تنزل بمستوى التعليم (50).

وكان التعليم ينتعش ويكتسب بعض الحيوية من حين إلى حين بمناقشات عامة تجرى بين المدرسين، والطلبة المتقدمين، والزائرين الممتازين، وكان النقاش يجري في العادة على شكل مقرر محدد يسمى النقاش المدوسي: فيوضع السؤال، ويجاب عنه جواباً سلبياً، ويؤيد هذا الجواب بعبارات مقتبسة من الكتب المقدسة أو كتب آباء الكنيسة، وبالاستنباط الذي يتخذ شكل الاعتراضات. ويتلو ذلك جواب إيجابي يؤيد بمقتبسات من الكتاب المقدس، ومن كتب آباء الكنيسة، وبأجوبة منطقية على الاعتراضات. والنقاش المدرسي هو الذي حدد الصورة النهائية الفلسفة المدرسية في عهد تومس أكوناس. وكانت تقعد بالإضافة إلى هذه المناقشات المدرسية الرسمية مناقشات غير رسمية يسمونها (أي شيء نحب quodiberta) - يستطيع المناقش بموجبها أن يتقدم بأي سؤال يناقش في التو والساعة. وقد أوجدت هذه المناقشات غير المقيدة هي الأخرى صورة من الصور الأدبية نشاهد مثلاً منها في كتابات القديس تومس الصغرى. وشحذت المناقشات الرسمية منها وغير الرسمية العقول في العصور الوسطى، وأفسحت المجال لحرية التفكير والقول؛ غير إنها اتجهت عند بعض الناس إلى خلق نوع من المهارة يستطيعون به أن يثبتوا أي شيء يريدون إثباته، أو الشعوذة اللفظية التي تكدس جبالاً من الجدل حول أنفه النقط.

ص: 39

وكان معظم الطلاب يعيشون في مضايف Hospicia تؤجرها جماعات منظمة من الطلاب. وكانت بعض المضايف تأوي فقراء الطلاب نظير أجر أسمي؛ ومثال ذلك إن بيت الله Hôtel Dieu الملاصق لكتدرائية نتردام خصص حجرة (للطلبة الفقراء). ثم اشترى جوسيوس اللندني Jucius of London هذا المسكن في عام 1180 واشترك من ذلك الوقت من المستشفى في تقديم المسكن والمأكل لثمانية عشر طالباً يقيمون فيه؛ ولم يحل عام 1231 حتى كانت هذه الطائفة من الطلاب قد انتقلت إلى مسكن أوسع من مسكنها القديم، ولكنها مع ذلك ظلت تسمى نفسها جماعة الثمانية عشر. ثم أنشأت طوائف الرهبان، أو الكنائس، أو أنشأ المحسنون الخيرون، مضايف أو مساكن أخرى للطلاب، وحبست عليها الحبوس، أو خصت بأقساط سنوية خفضت بعض نفقات العيش على الطلاب. وفي عام 1257 وهب ربرت ده سربون Robert de Sorbon قس القديس لويس (بيت السربون) المال اللازم لإيواء ستة عشر طالباً من طلبة علوم الدين، وأضيفت إلى ذلك هبات لغير هؤلاء من لويس وغيره من المحسنين حتى ارتفع عدد من تشملهم إلى ستة وثلاثين؛ ومن هذا البيت نشأت كلية السربونوأصبحت السربون في القرن السادس عشر الكلية الدينية في الجامعة، ثم أغلقتها الثورة في عام 1792، وأعادها بعدئذ نابليون، وهي الآن مركز لتدريس مناهج عامة في العلوم والأدب في جامعة باريس. @. وأنشئت كليات - Collegia بمعناها القديم وهو الجماعات- بعد عام 1300، وجاء المدرسون إليها ليسكنوا فيها، وعملوا مدرسين خصوصين للطلاب، يستمعون إلى محفوظاتهم، و (يقرأون) معهم النصوص؛ وأخذ المدرسون في القرن الخامس عشر يدرسون بعض المناهج في أبهاء المساكن، وازداد عدد المناهج التي تدرس بهذه الطريقة، ونقص عدد ما يدرس منها في خارجها، حتى أضحت (الكلية) مكاناً للتعليم ومسكناً للطلاب في وقت واحدة.

ص: 40

وحدث مثل هذا التطور في الكلية من بيت الطلبة في أكسفورد، ومنبلييه، وطولوز. وهكذا بدأت الجامعة من جمعية للمدرسين حتى أضحت جمعية من المعاهد والكليات.

وكان من بين مساكن الطلاب في باريس مسكنان مخصصان للطلاب المبتدئين الجدد في طائفتي الرهبان الدمنيك أو الفرنسيس، وكان الرهبان الدمنيك من بداية أمرهم يهتمون بالتعليم ويتخذونه وسيلة لمقاومة الإلحاد. وقد أنشئوا لهم مدارس على نظام خاص بهم أشهرها كلها المدرسة العامة Studium generale في كولوني، وكانت لهم معاهد أخرى من نوعها في بولونيا، وأكسفورد. وأصبح كثيرون من الإخوان أساتذة في هذه المدارس، يعلمون في الأروقة الخاصة بطائفتهم. وفي عام 1232 انضم ألكسندر الهاليسي Alexander of Hales وهو من أقدر المدرسين في باريس إلى طائفة الرهبان الفرنسيس، وواصل تدريس مناهجه للجمهور في دير الكردلير Cordeliers، وأخذ عدد الإخوان الذين يدرسون في باريس يزداد عاماً بعد عام، كما أخذ عدد من يستمعون إليهم من غير الرهبان يتضاعف، حتى شكا المدرسون من غير رجال الدين إنهم قد تركوا جالسين أمام مكاتبهم (كالطيور المنفردة في أعلى البيوت)، وأجاب الرهبان عن ذلك بأن المدرسين غير الرهبان يسرفون في الطعام والشراب، فأضحوا لذلك كسالى بلداء (51). وحدث في عام 1253 أن قتل طالب في شجار بأحد الشوارع، فأعتقل ولاة الأمور في المدينة عدداً من الطلاب، وأعرضوا عن احتجاجهم وطلبهم أن يحاكموا أمام أساتذة الجامعة أو الأسقف، وأمر رهبان الدمنيك، وواحداً من الرهبان الفرنسيس، وهم من جمعية المدرسين، لم يطيعوا أمر الامتناع عن إلقاء المحاضرات، فقررت الجمعية وقف عضويتهم فيها، غير إنهم لجأوا إلى الإسكندر الرابع فأمر أساتذة الجامعة (1255) بإعادتهم إلى

ص: 41

عضوية الجمعية. وأراد المدرسون أن يتجنبوا إطاعة الأمر فتفرقوا، وحرمهم البابا من الدين واعتدى الطلاب والغوغاء على الرهبان في الشوارع؛ ودام الجدل ست وستين تراضى الطرفان بعدها: فقبل الأساتذة، بعد أن نظموا من جديد، المدرسين الرهبان، وأقسم هؤلاء أن يطيعوا من ذلك الوقت قوانين (الجامعة). ولكن كلية الفنون حرمت جميع الرهبان حرماناً دائماً من عضويتها. وناصبت جامعة باريس البابوية العداء بعد أن كانت محل عطفهم، وناصرت الملوك في نزاعهم مع البابوات، وأضحت في مستقبل الأيام مركز حركة (غالية) تسمى لفصل الكنيسة الفرنسية عن روما.

ولم يكن لأي معهد علمي منذ أيام أرسطو من النفوذ ما كان لجامعة باريس، فقد ظلت ثلاثة قرون لا تجتذب إليها أكبر عدد من الطلاب فحسب، بل تجتذب فوق ذلك أعظم مجموعة من الرجال ذوي العقلية الفذة. فأبلار، وحنا السلزبري، وألبرتس مجنس، وسيجر البرابنتي، وتومس أكوناس، وبونافنتورا Bonaventura، وروجربيكن، وذنزاسكوتس، ووليم الأكامي William of Occam - هؤلاء يكادون يكونون هم تاريخ الفلسفة من 1100 إلى 1400. وما من شك في إنه كان في باريس مدرسون أفذاذ هم الذي أخرجوا أولئك الرجال العظام، ونشروا من المتعة العقلية ما لا يوجد إلا في ذرى التاريخ البشري. يضاف إلى هذا إن جامعة باريس كانت خلال هذه القرون ذات سلطان قوي في الدين والدولة، فقد كانت لساناً قوياً يعبر عن الرأي العام، وكانت في القرن الرابع عشر من أعظم مراكز التفكير الحر، وفي القرن الخامس عشر حصناً منيعاً للدين القويم والمحافظة على القديم. ولا يمكن القول بأنها (لم تضطلع بدور حقير) في الحكم على جان دارك.

وكان لغيرها من الجامعات نصيب في رفع فرنسا إلى منزلة الزعامة الثقافية في أوربا. فقد كان في أورليان مدرسة للقانون منذ القرن التاسع لا بعد، وكانت

ص: 42

في القرن الثاني عشر مركزاً للدراسات القديمة والأدبية الحديثة تنافس شارتر، ولم يكن يفوقها في القرن الثالث عشر إلا بولونيا في تدريس القانون المدني والكنسى. ولا تكاد تقل عنها في شهرتها مدرسة القانون في أنجر Angers وهي المدرسة التي أضحت في عام 1232 من أكبر جامعات فرنسا. وكانت طولوز (طلوشة) مدينة بجامعتها إلى إلحادها في الدين: ذلك أن جريجوري التاسع أرغم الكونت ريمند في عام 1229 على أن يتعهد بأداء مرتبات أربعة عشر أستاذاً -في علوم الدين، والقانون الكنسي، والفنون - يرسلون من باريس إلى طولوز لمقاومة حركة الإلحاد الألبجنسية بفضل ما لهم من النفوذ على الشبان الأكتانيين.

وكانت أشهر الجامعات الفرنسية القائمة في خارج باريس هي جامعة منبلييه. لقد كانت هذه المدينة، بفضل وقوعها على شاطئ البحر المتوسط في منتصف المسافة بين مرسيليا وإسبانيا، تستمع بمزيج وثاب من الدم الفرنسي، واليوناني، والإسباني، ومن ثقافة هذه الأجناس؛ وكان من أهلها عدد من النجار الإيطاليين وبقية من الجالية الإسلامية المغربية التي كانت في وقت ما تحكم المدينة. وكانت تجارتها رائجة ناشطة. وأنشأت منبلييه في وقت غير معروف مدرسة للطب ما لبثت أن فاقت مدرسة سلرنو، ولسنا نعلم علم اليقين أكان إنشاؤها أثراً من آثار طب سلرنو، أم طب العرب، أم اليهود. وأضيفت إلى هذه المدرسة مدارس للقانون وعلوم الدين، و (الفنون)، واكتسبت منبلييه بفضل تقارب هذه الكليات وتعاونها شهرة علمية واسعة، وإن كانت كل واحدة منها كلية مستقلة. وأضمحل شأن الجامعة في القرن الرابع عشر، ولكن مدرسة الطب انتعشت في عصر النهضة، وقام فيها عام 1537 أستاذ يدعى فرانسوا بليه يلقى سلسلة من المحاضرات عن أبقراط باللغة اليونانية.

ص: 43

الفصل السابع

‌جامعات إنجلترا

نشأت أكسفورد، كما نشأت بسبورس المماثلة لها في إسمها، لتكوين معبراً للماشية؛ ذلك بأن نهر التايمز يضيق عند هذه النقطة ويقل غوره. وبنى حصن عندها في 912، ونشأت سوق، وعقد الملكان كنوت Cnut وهرلد Harold جمعيات هناك قبل أن تنشأ الجامعة بزمن طويل. ويبدو إن مدارس نشأت في أكسفورد في أيام كنوت، ولكننا لا نسمع بوجود مدرسة كتدرائية بها. ونسمع حوالي عام 117 عن وجود (أستاذ في أسكنفورد)، Oxenford. وفي عام 1133 جاء من باريس ربرت بلن Robert Pullen، وهو رجل من رجال الدين، وأخذ يحاضر في اللاهوت في أكسفورد (52). وخطت المدرسة خطوات لا يعرف التاريخ عنها شيئاً الآن، أضحت بعدها مدرسة أكسفورد في القرن الثاني عشر مدرسة عامة أي جامعة - (ولا يعرف أحد متى تم ذلك)(53). وفي عام 1209، كما يقدر ذلك أحد كتاب ذلك العصر، كان في أكسفورد ثلاث آلاف طال ومدرس (54). وكان فيها كما كان في جامعة باريس أربع كليات: كلية الفنون، وكلية اللاهوت، وكلية الطب، وكلية قانون الكنيسة. أما تدريس القانون المدني فقد أغلقته الجماعات في إنجلترا وأستقر في دور المحاكم في لندن -وكانت دار لنكولن، وجراى، والمعبد الداخلي Inner Temple، والمعبد الأوسط Middle Temple في القرن الرابع عشر وليدة البيوت أو الحجرات التي كان القضاة وأساتذة القانون في القرن الثاني عشر يستقبلون فيها الطلاب ليدربوهم.

ص: 44

وبدأت الكليات في أكسفورد كما بدأت في باريس وكمبردج أروقة محبوسة عليها الأموال لفقراء الطلاب، وأصبحت في زمن مبكر، بالإضافة إلى غرضها الأول قاعات للمحاضرات؛ فكان المدرسون يسكنون فيها مع الطلاب، ولم ينقص القرن الثالث عشر حتى كانت القاعات هي الأقسام المادية والتعليمية التي تكونت منها الجامعة. وحوالي عام 1260 أنشأ سيرجون ده بالبول Sir John de Balliol الاسكتلندي (والد الملك الذي حكم أسكتلندة في عام 1292)(بيت باليون) في أكسفورد، ليكفر به عن جرم غير معروف، ليأوى بعض الطلاب الفقراء الذين سموا Socii أي الزملاء، وخص كلا منهم بثمانية بنسات (أي ما يعادل 8 دولارات أمريكية) في الأسبوع. وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت أنشأ ولترده مرتون Walter de Merton (بيت طلاب مرتون) في مولدن Malden أولاً ثم في أكسفورد بعد قليل، وحبس عليه بعض المال، ليعنى بطلاب بقدر ما تمكنه من ذلك موارده. وتضاعفت هذه الإيرادات أكثر من مرة على أثر ارتفاع قيمة الأرض، وبلغ هذا الارتفاع حداً شكاً معه كبير الأساقفة بكهام Peckham في عام 1284 من إن (الطلبة الفقراء) يتلقون منحاً إضافية (للمعيشة المترفة)(55). ويمكن القول بوجه عام إن الكليات الإنجليزية لم تغتن بفضل المنح الدراسية وغيرها من الهبات فحسب، بل اغتنت فوق ذلك بفضل ارتفاع قيمة الضباع التي حبست عليها. وفي عام 1280 أنشأت قاعة الجامعة- وهي الآن كلية الجامعة University College بهبة من وليم الدرهامي كبير أساقفة رون Rouen. ويتبين الإنسان كيف بدأت هذه الكليات الشهيرة بداية متواضعة إذا اطلع على شروط تأسيسها، فقد كانت تنص على وجود أربعة أساتذة وعدد من الطلاب الذين يهمهم أن يسكنوا معهم. وكان الأستاذة يختارون واحداً من بينهم ليكون "الزميل الأكبر"

ص: 45

أو "الرئيس principal" وهو الاسم الذي يعرف به عمداء الكليات الإنجليزية في هذه الأيام. وكانت جامعة أكسفورد في القرن الثالث عشر هي هذه الكليات مجتمعة في نقابة الاساتذة University؛ وكان هؤلاء يحكمهم وكلاء عنهم ثم مدير يختارونه ويخضع إلى أسقف لنكولن وإلى الملك.

ولم يحل عام 1300 حتى كانت أكسفورد مركزاً للنشاط الذهني والنفوذ العام لا تفوقها في ذلك إلا باريس. وكان اشهر خريجيها كلهم هو روجر بيكن. والتف حوله عدد اخر من الرهبان الفرنسيس من بينهم آدم مارش Adam Marsh، وتومس اليوركي Thomas of York، وجون بكهام John Peckham، فتألفت منه ومنهم جماعة ممتازة من رجال العلم. وكان زعيمهم وملهمهم ربرت جروستستي Robert Grosseteste (1175؟ - 1253) اظرف شخصية في حياة أكسفورد في القرن الثالث عشر. فقد درس فيها القانون والطب، والعلوم الطبيعية، وتخرج في عام 1179، ونال درجته في علوم الدين في 1189، وسرعان ما اختير بعدئذ (أستاذ مدارس أكسفورد) - وتلك اقدم صورة من لقب مدير الجامعة.

وأصبح في عام 1235، وهو لا يزال مديراً لجامعة أكسفورد، أسقف لنكولن، وأشرف في منصبه هذا على إتمام الكتدرائية العظيمة. وأبدى نشاطاً عظيماً في تشجيع دراسة اللغة اليونانية وأرسطو، واسهم في الجهود العقلية الجبارة التي بذلت في القرن الثالث عشر للتوفيق بين فلسفة أرسطو والدين المسيحي، وكتب شروحاً لكتاب الطبيعة لأرسطو، والتحليلات، ولخص علوم زمانه في موسوعة علمية، وعلى على إصلاح التقويم. وكان يفهم المبادئ التي يقوم عليها المجهر والمرقب، وفتح أبواباً كثيرة لروجر بيكن في الرياضيات والعلوم الطبيعية؛ واكبر الظن انه هو الذي عرف بيكن بالخصائص المكبرة

ص: 46

للعدسات (56). ويبدو أن كثير من الآراء التي نعززها إلى بيكن - في فن المنظور، وقوس قزح، والمد والجزر، والتقويم، والاعتماد على التجارب العلمية- قد أشار بها عليه جروستستي، ونخص منها بالذكر الفكرة القائلة أن العلوم كلها يجب أن تعتمد على الرياضيات، لان القوى كلها أثناء انتقالها في الفضاء تتبع أشكالاً وقواعد هندسية (57). وكتب شعراً فرنسياً ورسالة في الزراعة، وكان رجل قانون وطبيباً، كما كان عالماً في الدين وفي العلوم الطبيعية، وقد شجع دراسة اللغة العبرية، وكان يهدف بذلك إلى هداية اليهود إلى الدين االمسيحي، وكان في هذه الأثناء يعاملهم معاملة المسيحي الكثير التسامح، ويحميهم قدر ما يستطيع من حقد الجماهير واعتدائهم. وكان فوق هذا كله مصلحاً اجتماعياً نشيطاً، يدين على الدوام بالولاء للكنيسة، ولكنه جرؤ على ان يعرض على البابا أنوسنت الرابع في (1250) مذكرة مكتوبة يعزو فيها عيوب الكنيسة إلى محكمة الكرسي البابوي (58). وانشأ في أكسفورد أول (صندوق) يقرض الطلاب المال بغير فائدة (59). وقصارى القول انه هو أول واحد من ألف من ذوي العقول النابهة الذين أوجدوا بأعمالهم الجليلة هيبة أكسفورد العالية ومكانتها العظيمة في عالم العلم والعقل.

وأكسفورد الآن جامعة ومركز صناعي معاً تصنع السيارات كما تصنع العظماء، أما كيمبردج فلا تزال مدينة كليات جامعية، وجوهرة من جواهر العصور الوسطى تزينها الثروة الحديثة وحسن الذوق الإنجليزي، كل ما فيها ينتمي إلى كلياتها، ولا يزال الهدوء العقلي الذي هو من خصائص العصور الوسطى باقياً في هذه البلدة، اجمل البلدان الجامعية على الإطلاق. ويبدو أن عظمتها الذهنية يجب أن ترجع إلى حادث اغتيال وقع في أكسفورد. فقد قتل أحد الطلاب في عام 1209 امرأة في تلك البلدة الأخيرة، فاعتدى أهلها على مسكن الطلاب وشنقوا طالبين أو ثلاثة منهم. وأضربت نقابة المدرسين عن

ص: 47

العمل احتجاجاً على ما اقترفه أهل المدينة، وغادر أكسفورد 3000 طالب ومعهم، بطبيعة الحال، كثيرون من المدرسين - إذا صدقنا مافيو باريس وهو رجل لا يوثق بأقواله عادة. ويقال أن عدداً كبيراً منهم ذهبوا إلى كيمبردج وأقاموا فيها قاعات وكليات. ذلك أول ما ذكر عن وجود شيء أعلى درجة من مدرسة أولية. وحدثت هجرة ثانية- من الطلاب الباريسيين في 1228 - زاد بها عدد الطلاب زيادة كبيرة. وفي عام 1281 نظم أسقف إلي Ely أولى الكليات غير الدينية في كمبردج - وهي كلية القديس بطرس التي تسمى الآن ببترهوس (بيت بطرس). وشهدت القرون الثلاثة الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر إنشاء كليات أخرى وازدهارها، منها ما هو آية من آيات العمارة في العصور الوسطى ويحتضنها كلها نهر كام Cam الهادئ الممشى، وتكون هي وملحقاتها طائفة من أروع ما قام به الإنسان من الأعمال.

ص: 48

الفصل الثامن

‌حياة الطلاب

لم تكن سن طالب العصور الوسطى محددة، فقد يكون في أي سن، وقد يكون قساً او راهباً ممتازاً، أو رئيس دير، أو تاجراً، وقد يكون متزوجاً أو غلاماً في الثالثة عشر من عمره، يثقله عبء الكرامة المفاجئة التي ألقيت عليه في هذه السن. وكان هذا الطالب يذهب إلى بولونيا، أو أورليان، أو منبلييه ليصبح محامياً، أو طبيباً، أو يذهب إلى غير هذه من الجامعات في بعض الأحوال لكي يأهل نفسه لخدمة الحكومة، أو يجد لنفسه في العادة مجالاً في الكنيسة. ولم يكن يؤدي امتحاناً للدخول في الجامعة؛ بل كل ما كان يطلب إليه أن يعرف اللغة اللاتينية، وان يكون قادراً على أداء أجراً زهيد لكل مدرس يدرس منهجه عليه. فإذا كان فقيراً فانه قد يستعين على ذلك بمنحة دراسية أو بمعولة تسديها إليه قريته، أو كنيسته، أو يسديها إليه أصدقاؤه أو أسقفه. وكانت هناك آلاف من هذه الحالات (60). فسامسون Samson رئيس الدير وبطل اخيار جوسلين Jocelyn's Chronicle والماضي والحاضر لكارليل Carlyle's Past and Present مدين بتعليمه إلى قس فقير كان يبيع الماء المقدس ليؤدي لسامسون اجر تعليمه (61). وكان الطالب الذاهب إلى جامعة أو العائد منها ينتقل عادة بالمجان، ويجد الطعام والمأوى في الأديرة التي في طريقه (62).

فإذا قدم إلى أكسفورد، أو باريس، أو بولونيا ألفى نفسه عضواً في جماعة كبيرة من الطلاب السعداء، أو الحيارى، المقبلين على العلم، يجرفهم تيار دافق من الحماسة يجعل الفلسفة -المشوبة بنزعة إلى الإلحاد- مثيرة كالحرب، كما

ص: 49

يجعل الجدل ممتعاً فتاناً كأنه العاب البرجاس. واذا كان يعيش في عام 1300 فانه يجد في باريس 7000 طالب، وفي بولونيا 6000، وفي أكسفورد 3000

(1)

. وكان عدد طلاب جامعات باريس، وأكسفورد، وبولونيا، في القرن الثالث عشر يزيد عادةً على عددهم بعده، واكبر الظن أن سبب هذه الزيادة قلة الجامعات المنافسة لها، وكان الطالب الحديث تستقبله (أسرته) وقد ترشده إلى مسكن يعيش فيه- ربما كان مع أسرة فقيرة. وإذا كانت لها صلات قوية بالمسؤولين فقد يعطى سريراً ويترك مع غيره من الطلاب في حجرة في (بيت الطلبة) فتقل بذلك نفقاته. وكان الطالب في أكسفورد عام 1374 يؤدي مائة شلن وأربعة شلنات (ألف دولار وأربعين دولار) في العام نظير مسكنه وطعامه وعشرين شلنات (أي مائتي دولار) أجراً لتعليمه وأربعين شلناً ثمناً لملابسه (66).

ولم يكن تفرض عليه ملابس جامعية خاصة؛ على أنه كان يطلب إليه أن يشد ثوبه الخارجي بالأزرار وان لا يمشي حافي القدمين إلا إذا كانت جلبابه يصل إلى عقبيه (66). وكان الأساتذة يميزون بلبس القبة Cappa وهي (حرملة) حمراء أو أرجوانية ذات حاشية من جلد السنجاب ومقنعة، وكانوا في بعض الأحيان يغطون رؤوسهم بقلنسوة مربعة في أعلاها خصلة بدل (الشرابة). وكان الطالب في جامعة باريس في منزله رجل الدين ويتمتع بحصاناته فكان

(1)

هذه هي تقديرات راشدول Rashdall المتحفظ (63). أما أودفردوس Odofredus العالم القانوني الذي كان يكتب في عام 1250 فقدر عدد طلاب بولونيا عام 1200 بعشرة آلاف طالب، وقدر رابانس جوما Rabanus Gaume وهو راهب نسطوري عدد طلاب جامعة باريس في عام 1287 بثلاثين ألفاً، وقال فتز رالف Fitzralph كبير أساقفة أرماغ Armagh حوالي عام 1360 إنه كان في جامعة أكسفورد في وقت ما ثلاثون ألف طالب؛ وقدرهم ويكلف Wyclif في عام 1380 بضعفي هذا العدد؛ وعاد الأسقف غاسقوين Gascoigue الذي كان رئيس شرف في جامعة أكسفورد فقدرهم بثلاثين ألفاً (64)؛ ولا يخفى أن هذه التقديرات كلها إنما تعتمد على الحدس والتخمين، وأنها مبالغ فيها بلا ريب ولكننا لا نستطيع البرهنة على كذبها.

ص: 50

يعفى من الخدمة العسكرية، ومن الضرائب التي تفرضها الدولة على غيره ومن المحاكمة أمام المحاكم غير الدينية. وكان ينتظر منه أن يدخل في سلك رجال؛ الدين على انه لم يكن يرغم على ذلك في كل الأحوال. وكان في وسعه إذا تزوج أن يظل طالباً، ولكنه في هذه الحال يفقد امتيازات رجال الدين، ولا يستطيع الحصول على درجة علمية. أما الاختلاط الجنسي المتزن فلم يكن يجازي عليه بمثل هذه العقوبات. وقد وصف الراهب جك دة فترى Jaque de Virty طلبة جامعة باريس في عام 1230 بأنهم:(فاسقون أكثر من سائر أبناء الشعب؛ فهم لا يرون الفسق إثماً؛ وكانت العاهرات يسحبن الطلاب إلى المواخير صحباً يكاد يكون قوة واقتداراً، ويفعلن ذلك علناً في شوارع المدينة، فإذا امتنع الطلاب عن الدخول اتهمتهم العاهرات باللواط وكانت هذه الرذيلة البشعة (اللواط) تملأ المدينة إلى حد كان يعد معه من علامات النبل أن يكون للشخص غلام أو اكثر. وكان يوجد في المنزل الواحد حجرات للدرس في الطابق العلوي وماخور في اسفل منه؛ فكان الأساتذة يحاضرون في الطبقة العليا، والعاهرات يمارسن حرفتهن الدنيئة في الطبقة السفلى؛ وكانت مناقشات الفلاسفة تسمع في البيت الواحد مختلطة ومشاحنات العاهرات والقوادين (67).

هذا وصف يحمل في طياته المغالاة الواجبة؛ وكل ما يحق لنا أن نستنتجه منه أن لفظي طالب الدين والقديس لم يكونا مترادفين في باريس

(1)

. ويواصل جاك وصفه فيقول أن كل (أمة) من الطلاب كانت لديها صفات محببة لها تصف بها (الأمم) الأخرى؛ فالإنجليز كانوا يوصفون بأنهم يكثرون من الشراب وان لهم ذيولا؛ والفرنسيون كانوا مزهوين مخنثين؛ والألمان

(1)

ولكن قارن هذا بقول راشدول: ((وإن الأدلة لكثيرة على أن الصورة التي يصور بها ده فنري الحياة المدرسية ليست في أساسها غير صادقة إن كان فيها مبالغة (68))).

ص: 51

كانوا صخابين، (بذيئين إذا شربوا)؛ والفلمنكيون كانوا بدلاً نهمين (ليّنين كالزبد)؛ وكانوا كلهم (كثيراً ما ينتقلون بهذا الاختيار من الألفاظ إلى اللكمات)(69). وكان طلاب جامعة باريس يحشرون أولاً في الجزيرة التي تقوم عليها كتدرائية نتردام؛ وكانت هذه الجزيرة هي الحي اللاتيني الأصلي، وكان سبب تسميتها بذلك الاسم أن الطلاب كان يراد منهم أن يتكلموا باللغة اللاتينية - حتى في حديث غير المدرسي- وهي قاعدة كثيراً ما كانت تخرق، وحتى حين اتسعت رقعة الحي اللاتيني حتى شملت الطرف الغربي من الضاحية الممتدة في جنوب نهر السين، كان عدد الطلاب فيها من الكثيرة بحيث لم يكن من المستطاع السيطرة عليهم، فكانت المشاحنات كثيرة بين الطالب والطالب، وبين الطالب والأستاذ، وبين الطالب والشخص من أهل البلدة، وبين الراهب وغير الراهب. هذا في باريس، وفي أكسفورد كان ناقوس سانت ماري يدعو الطلاب، وناقوس سانت مارتن يدعو أهل البلدة، إلى حرب متقطعة بين بلدة وبلدة، وقد حدث شغب في أكسفورد (1928) وقعت فيه على الممتلكات أضرار قيمتها 3000 جنيه (150. 000 دولار)(20). وإصدار موظف في باريس (1269) أعلاناً ضد الطلاب الذين (يرتكبون بالنهار والليل فضائع تؤدي إلى إصابة الكثيرين بالجروح وإلى قتلهم، ويخطفون النساء، ويفسقون بالعذارى، ويسطون على البيوت)، ويرتكبون (مراراً وتكراراً حوادث السرقة وغيرها من الفظائع)(71). وربما كان طلاب أكسفورد اقل انهماكا في الشهوات الجنسية من طلبة باريس، ولكن حوادث القتل كانت كثيرة فيها، وتنفيذ العقاب في القاتل كان نادراً؛ فقلما كان القاتل يطارد إذا غادر البلدة، وكان الرجل في أكسفورد يرى أن حسب القاتل عقاباً له على جرمه أن يضطر إلى الانتقال إلى كيمبردج (72).

وإذ كان شرب الماء غير مأمون العاقبة وقتئذ، لان أوربا لم تكن قد

ص: 52

عرفت الشاي، أو القهوة، أو الدخان، فان الطلاب كانوا يوفقون بين حاجتهم من جهة، وبين مطالب أرسطو والحجرات غير المدفأة من جهة أخرى، بالخمر والجعة. وكان من الأسباب الداعية إلى إنشاء (نقابات) الطلاب الاحتفال بالأعياد الدينية والجامعية بالشرب الكثير جهرة. وكانت كل خطوة في السنة المدرسية (مسموماً للطرب) يحيا بالشراب. وكان الطلاب في كثير من الحالات يقدمون هذه المرطبات لممتحنيهم. وكانت (الأمم) في العادة تنفق في الحانات كل ما بقى لديها من المال في آخر العام الدراسي. وكان لعب الكعوب تسلية أخرى للطلاب، وقد فرضت عقوبة الحرمان الديني على بعض الطلاب للعبهم بالكعوب على مذابح نتردام (73). أما في الأوقات الأكثر نظاماً فقد كان الطلاب يسلون أنفسهم بالكلاب، والصقور، والموسيقى، والرقص، والشطرنج، ورواية القصص، والسخرية من الطلبة الجدد. وكان هؤلاء الجدد يسمون ذوي المناقير الصفر، وكانوا يتخذون هدفاً للإساءة والسخرية، ويرغمون على إقامة وليمة لسادتهم الذين سبقوهم إلى الجامعة بعام؛ وكان الخروج على القانون يعاقب بالغرامات أو بإرغام الخارج على تقديم عدة جالونات من الخمر يشربها الجماعة. ولم يرد ذكر للجلد في تأييد طلاب الجامعات حتى القرن الخامس عشر وان كان كثيراً ما يلجأ إليه في المدارس العامة. وكان ولاة الأمور في الجامعة يفرضون على الطلاب زيادة على هذا العام أن يقسموا يميناً مغلظة بإطاعة جميع اللوائح، وكان من الإيمان المفروضة بجامعة باريس يميناً يتعهد الطالب بمقتضاها ألا ينتقم من الممتحنين الذين يسقطونه في الامتحان (74)، فكان التلاميذ يقسمون مسرعين وينقضون إيمانهم على مهل. لقد كان الحنث في الإيمان كثيراً لان الجحيم لم تكن ترغب رجال الدين المحدثين.

ومع هذا كله كان وقت الطلاب يتسع لسماع المحاضرات وكان منهم الكسالى، ومنهم من كان الفراغ احب إليه من الشهرة؛ فكان لذلك

ص: 53

يفضلون مناهج القانون الكنسي الذي كانت دروسه تبدأ في الساعة الثالثة وتمكنهم من ان يواصلوا نومهم (75). وإذ كانت الساعة الثالثة بحساب ذلك الوقت هي الساعة التاسعة صباحاً، فانه يظهر من هذا انه معظم الفصول كانت تبدأ الدراسة بعيد الفجر؛ واكبر الظن إن ذلك كان في الساعة السابعة صباحاً وكانت السنة الدراسية في بداية القرن الثالث عشر تدوم أحد عشر شهراً، وقبل أن ينصرم القرن الرابع عشر كانت (العطلة الطويلة)، التي نشأت من الحاجة إلى أيدي الشباب في زمن الحصاد، تمتد من 28 يونيه إلى 25 أغسطس أو 15 سبتمبر، وفي جامعتي أكسفورد وباريس لم تكن عطلة عيد الميلاد وعيد الفصح تزيد على بضعة أيام قليلة، أما في جامعة بولونيا حيث كان الطلاب اكبر سناً واكثر غنى، ولعلهم كانوا أيضاً ابعد موطناً فقد كانت عطلة عيد الميلاد عشرة أيام وعطلة عيد الفصح أربعة عشر يوماً وكانوا يعطون واحداً وعشرون يوماً في الحفلات التي تسبق الصوم الكبير.

ويبدو أن لم تكن تعقد امتحانات في أثناء دراسة المناهج، ولكن كان هناك إلقاء ونقاش، وكان يمكن إقصاء العاجزين في خلال الدراسة. ثم نشأت حوالي منتصف القرن الثالث عشر عادة إلزام الطالب، بعد أن يمضي خمس سنين مقيماً في الجامعة للدراسة، أن يؤدي امتحاناً أولياً أمام لجنة من (أمته). وكان هذا يتضمن اولاً اختباراً خاصاً منفرداً- يشمل إجابات عن اسئلة، ويتضمن ثانياً مناقشة علنية يدافع الطلب فيها عن موضوع أو موضوعين، ويفند اعتراض المعترضين، ثم يختتم النقاش بتلخيص للنتائج وكان الذين يجتازون هذه الاختبارات الأولية بنجاح يسمون البكلارى Baccalarii أي الأتباع؛ وكان يسمح لهم أن يخدموا أستاذاً بوصفهم مدرسين مساعدين أو محاضرين (عاجلين). وكان في وسع التابع أن يواصل دراساته وهو مقيم ثلاث سنين أخرى، فإذا رأى أستاذه بعدئذ انه خليق بالتقدم إلى الامتحان قدم إلى ممتحنين يعينهم رئيس الجامعة.

ص: 54

وكان ينتظر من الأساتذة ألا يقدموا طلاباً يتضح انهم غير مستعدين للامتحان ألا إذا كان هؤلاء الطلاب من ذوي الثراء أو المكانة الممتازة؛ وكان الامتحان في هذه الحالة يعد لكي يناسب مقدرة الطالب، أو كان يستغني عنه استغناءً تاماً (76). وكانت الصفات الخلقية من الموضوعات التي يشملها الامتحان؛ لذلك فان الجرائم الخلقية التي يرتكبها الطالب خلال السنين الأربع او السبع التي يقضيها في الجامعة قد تحول بينه ولين الحصول إلى الدرجة التي يريدها لان الدرجة كانت شهادة بالرقى والأخلاقي والاستعداد العقلي في وقت واحد. وحسبنا شاهداً على ذلك ان السبعة عشر الذين رسبوا من ثلاثة وأربعين تقدموا لامتحان جامعة فينا في عام 1449 رسبوا كلهم لنقص في اخلاقهم، ولم يرسب منهم واحد لعدم كفايته العقلية.

فإذا اجتاز هذا الامتحان العلني والأخير اصبح أستاذاً أو (دكتوراً) وحصل من تلقاء نفسه على إجازة مصدق عليها من السلطة الدينية ليدرس في أي مكان شاء في العالم المسيحي. وكان وهو (تابع) يدرس مكشوف الرأس، أما الآن وقد نال إجازته فقد كان يتوج بقلنسوة، ويقبله أستاذه ويباركه، ثم يجلسونه في كرسي الاستاذية، فيلقي محاضرة افتتاحية، او يعقد نقاشاً افتتاحياً؛ وكان هذا هو بداية عمله أستاذاً. وكان من مستلزمات هذا التخرج ان يدعو جميع أساتذة الجامعة أو كثرتهم إلى وليمة ويقدم لهم الهدايا، وبهذه الاحتفالات وغيرها ينضم إلى نقابة الأساتذة.

ومما يريح بالنا أن نقول أن التعليم في العصور الوسطى كان فيه من العيوب المتعبة بقدر ما في نظمنا التعليمية في الوقت الحاضر. فلم يكن يواصل الدراسة في الخمس السنين التي يتطلبها نيل البكالوريوس إلا قلة صغيرة من المقيدين في

ص: 55

سجلات الجامعة. وكان افتراض ذوي الشأن أن جميع عقائد الكنيسة المقررة يلتزم بها المؤمنون بالدين مما يدعو عقول الطلاب للدعة لا للعمل. وكان البحث عن الحجج التي تثبت هذه العقائد، وإيراد الشواهد من الكتاب المقدس أو من أقوال آباء الكنيسة لتأييدها، وتفسير أقوال أرسطو بحيث تتفق معها، كان هذا كله يدرب العقول على التقسيم الشعري الدقيق اكثر مما يدرب الذهن على توخي الحقيقة والإذعان لما يمليه الضمير الحي. وفي وسعنا أن نسارع إلى أي أسلوب من أساليب الحياة ينسى مثل هذا التعسف في الإيمان بالفروض التي يقوم عليها هذا الأسلوب. وها نحن أولاء في هذه الأيام نترك الناس أحراراً يشكون في عقائدهم آبائهم الدينية، ولا نتركهم أحراراً يشكون في عقائدهم السياسية؛ وهاهو ذا الإلحاد السياسي يعاقب عليه بالحرمان الاجتماعي كما كان الإلحاد في الدين يعاقب عليه بالحرمان الديني في عصر الإيمان. والآن ورجل الشرطة يعمل جاهداً لكي يحل محل الله، فقد اصبح الارتياب في الدولة اشد خطورة من الارتياب في الكنيسة، ذلك انه ما من نظام عن تحدي المبادئ الأساسية التي يقوم عليها.

وما من شك في أن انتقال المعارف والتدريب على معرفة اكثر انتشاراً واعظم قدراً فيما يبدو لنا مما كانا في العصور الوسطى، ولكننا لا يصح لنا أن نقول هذا القول نفسه عن التربية الخلقية. ولم تكن المقدرة العلمية مما تعوز خريج الجامعة في العصور الوسطى، فقد كانت تخرج في كل عام عدداً كبيراً من رجال الإدارة القادرين، ورجال القانون الذين أوجدوا الملكية الفرنسية، والفلاسفة الذين قادوا سفينة المسيحية في بحار العقل الصاخبة، والبابوات الذين أتوا من الجرأة ما جعلهم يفكرون تفكير أوربا الموحدة. ولقد شحذت المسيحية

ص: 56

ذكاء الرجل الغربي، وخلقت لغة الفلسفة، ورفعت مكانة التعليم وهيبته، وقضت على فترة المراهقة الذهنية عند البرابرة الظافرين.

لقد انهارت كثير من أعمال العصور الوسطى أمام عجلة الزمن التي تدمر كل شيء في سبيلها، أما الجامعات التي خلفها لنا عصر الإيمان بكل ما فيها من عناصر التنظيم، فها هي ذي تكيف نفسها حسب التطورات التي لا مفر منها، وتخلع عن نفسها إهابها القديم لتحيا حياة جديدة، وتنتظر منا أن تعقد لواءها بلواء الحكومة.

ص: 57

الباب الخامس والثلاثون

‌أبلار

1079 -

1142

الفصل الأول

‌الفلسفة القدسية

ليسمح لنا القارئ أن نخص أبلار بباب كامل، وليس حديثنا عنه في هذا الباب مقصوراً عليه بوصفه فيلسوفاً أو من أصحاب الفضل أو إنشاء جامعة باريس، أو شعلة ألهبت عقل أوربا اللاتينية في القرن الثاني عشر، بل سنتحدث عنه بوصفه هو وهلواز ممثلين لأخلاق عصرهما وآدابه، وأرقى واعظم ما يخلب اللب ويبهر العقل في ذلك العصر. كان مولد أبلار في قرية له باليه Le Pallet القريبة من نانت Nantes إحدى مدن بريطانيا. وكان أبوه المعروف لنا بأسم بيرنجر Bérenger، ولا شئ غير هذا، صاحب ضيعة متواضعة، وكان بمقدوره أن يهئ لأولاده الثلاثة ولابنته تعليماً حراً. وكان بيير Pierrc (ولسنا نعرف اصل لقبه أبلار) أكبر أولئك الأبناء، وكان بمقدوره أن يطالب بحق الابن الأكبر في ميراث ابيه؛ ولكنه كان مولعاً بالدرس والتفكير الى حد جعله بعد أن كبر ينزل لأخويه عن حقه، وعن نصيبه في أملاك الأسرة، وشرع يطلب الفلسفة، ويلقى بنفسه في معركتها أينما حمى وطيسها، أو أينما وجد معلماً ذائع الصيت يدرسها. وكان اعظم ما اثر في حياته المستقبلية أن كان من أول

ص: 58

أساتذته جان وسلان Jean Roscelin (حوالي 1050 - حوالي 1120)، وهو رجل متمرد أنصب عليه كما أنصب على أبلار من بعده سخط الكنيسة وحرمانه من الدين.

وكان المنشأ الذي أثاره روسلان مسألة من مسائل المنطق الجاف الموغل في الجاف، والتي تبدوا ابعد المسائل كلها عن الأذى، وهي الوجود الموضوعي (للكليات). وكان (الكلي) في الفلسفة اليونانية وفلسفة العصور الوسطى هو الفكرة العامة التي تدل على صنف من الأشياء (كالكتاب، والحجر، والكوكب، والرجل، والنوع الإنساني، والشعب الفرنسي، والكنيسة الكاثوليكية)؛ أو الأعمال (كالقسوة، والعدالة)؛ أو الصفات (كالجمال، والصدق). وكان إفلاطون، وهو العليم بسرعة زوال الكائنات والأشياء الفردية، قد قال بأن الكلي اكثر بقاء، وأنه لذلك اكثر حقيقة، من أي فرد من الصنف الذي يصفه: فالجمال اكثر حقيقة من فريني Phryne، والعدالة اكثر حقيقة من أرستيديز والرجل اكثر حقيقة من سقراط؛ وهذا هو الذي كانت العصور الوسطى تعبر عنه (بالواقعية). وخالف أرسطو هذا الرأي وقال أن (الكلي) ليس إلا فكرة يكونها العقل لتمثل صنفاً من الأشياء المتماثلة؛ فهو يرى أن الصنف نفسه لا يرى إلا فيصوره أعضائه التي يتركب هو منها. والناس في وقتنا هذا يتجادلون: هل يوجد (عقل جماعة) منفصلاً عن رغبات الأفراد الذين تتكون منهم هذه الجماعة وأفكارهم ومشاعرهم؟ فأما هيوم فقد قال أن (العقل) الفردي نفسه ليس إلا اسماً مجرداً من سلسلة الأحاسيس والأفكار، والإرادات التي في كائن حي ولمجموعها. ولم يكن اليونان يهتمون اهتماما كبيراً بهذه المسألة، واكتفى فيلسوف من آخر الفلاسفة الوثنيين -هو برفيري Prophyry (حوالي 232 - حوالي 304) الذي أقام في الشام وفي روما - بصياغتها دون أن يعرف حلاً لها. لكن العصور الوسطى كانت تراها

ص: 59

مأساة حيوية. فقد كانت الكنيسة تزعم أنها موجود روحي بالإضافة الى مجموع الأفراد المنضمين إليها؛ وكانت تشعر بأن (للكل) صفات وقوى غير صفات أجزاءه وقواها؛ ولم يكن في مقدورها أن تعترف بأنها فكرة مجردة، وأن الأفكار والعلاقات التي لا نهاية لها والتي يوحي بها لفظ (الكنيسة) ليست إلا أفكاراً ومشاعر في أعضاءها المكونين لها، بل أنها هي (عروس المسيح) الحية. وشر من هذا قولها: إذا كان الأشخاص، والأشياء، والأعمال، والأفكار المفردة، هي وحدها الموجودة فماذا يكون مصير الثالوث؟ هل تكون وحدة الأقاليم الثلاثة فكرة مجردة لا اكثر، أو هل هي ثلاثة آلهة منفصلة عن بعضها البعض؟ أن علينا أن نضع أنفسنا في الجو اللاهوتي المحيط بروسلان إذ شئنا أن نفهم ما حل به.

ولسنا نعرف آراءه إلا من أقوال معارضيه، فهم يقولون أنه يرى أن الكليات والأفكار العامة ليست إلا ألفاظاً (voces) ، أي هواء الصوت (flatus vocis) ؛ فأما الأشياء المفردة فموجودة، والأفراد المفردون موجودون، وأما كل ما عدا هذا فهو أسماء (noméina) . وليست الأجناس، والأنواع، والصفات، وجود مستقبل؛ فالإنسان لا وجود له، بل الذين يوجدون هم الرجال، ولا وجود للون إلا في الأشياء الملونة. وما من شك في أن الكنيسة كانت تترك روسلان وشأنه لو لم يطبق هذه (الاسمية) على الثالوث. فقد نقل عنه أنه قال أن الله لفظ أطلق على أقانيم الثالوث الثلاثة، كما أطلق لفظ الإنسان على كثيرين من الرجال؛ ولكن كل ما له وجود حقاً هو الأقانيم الثلاثة- أي ثلاثة آلهة في واقع الأمر. وفي هذا اعتراف بالشرك الذي يتهم به الإسلام المسيحية اتهاما ضمنياً خمس مرات في اليوم من فوق ألف مأذنة

(1)

. ولم تكن الكنيسة ترضى

(1)

قصد حين يقول المؤذن "لا إله إلا الله" ولكننا نرى في هذا اتهاماً للمسيحية بل تقريراً لركن من أركان الإسلام. (المترجم)

ص: 60

بصدور هذه التعاليم من شخص هو قس من قساوسة كنيسة كمبيتي Compiégne. ودعى روسلا للمثول بين يدي مجمع ديني مقدس في سولسون (1092) وخير بين الرجوع عن أقواله والحرمان، فأختار الرجوع، وفر إلى إنجلترا وهاجم فيها عادة التسري عند رجال الدين؛ ثم عاد الى فرنسا ودرس في تور ولوش Loche. ويبدو أن هذه البلدة هي التي جلس فيها أبلار عند قدميه وهو نافد الصبر متململ (2). ورفض أبلار فكرة (الإسمية) ولكنه حرم من الدين مرتين لشكله في الثالوث. وخليق بالملاحظة أيضاً أن القرن الثاني عشر كان يسمى الواقعية (العقيلة القديمة) وأنه كان يسمى معارضيها الحديثين moderni. (3)

ودافع أنسلم (1033 - 1109) عن الكنيسة دفاعاً مجيداً في عدة مؤلفات يبدو أنها حركت عواطف أبلار، وكان لها فيه اثر عميق، وأن لم يكن هذا الأثر إلا المعارضة. وكان أنسلم من أبناء أسرة من أشراف إيطاليا؛ وعين رئيساً لدير بك Bec في نورمندية في عام 1078. وأضحى دير بك في أثناء حكمه، كما أضحى في أيام لافران Faanc مدرسة من اكبر المدارس التعليمية في الغرب، ولعل أنسلم كان، كما وصفه زميله الراهب إيدمر Eadmer في ترجمة له تنم عن تعلقه به، زاهداً ظريفاً لا يرغب بشيء سوى التفكير والصلاة، خرج من صومعته كارهاً ليحكم الدير ومدرسته. وكان الشك ابعد الأشياء عن رجل مثله، بل كان الإيمان عنده هو الحياة، و (يجب أن يسبق الإيمان؛ وكيف يستطيع عقل محدود أن يأتي عليه يوم يفهم فيه الله؟) وفي هذا يقول كما يقول أوغسطين:(لست أسعى للفهم لكي اعتقد، بل أني اعتقد لكي افهم)، ولكن تلاميذه طلبوا إليه حججاً يجادلون به الكفار؛ وكان هو نفسه يرى أن (من الاهمال، وقد تثبتنا في ديننا، إلا نعمل بفهم ما اعتقدنا)(4)؛ وكان

ص: 61

شعاره هو الإيمان بطلب الفهم؛ وألف سلسلة من الكتب العظيمة الأثر بدأ بها الفلسفة المدرسية حين حاول أن يدافع عن الدين المسيحي دفاعاً قائماً على العقل.

ودافع في رسالة صغيرة تدعى (حديث للنفس) عن الوجود الموضعي للكليات فقال: أن آراءنا في الخير، والعدالة والحق، نسبية، ولا معنى لها إلا إذا قورنت بخير مطلق أو عدالة مطلقة، أو حق مطلق؛ وإذا لم يوجد هذا الحق المطلق فلن يكون لنا مقاس أكيد للحكم، وبذلك تصبح علومنا وأخلاقنا على السواء جوفاء عديمة الأساس. والله - وهو الخير المطلق، والعدل المطلق، والحق المطلق- هو هذا المطلق المنقذ، وهو الغرض الذي لا بد له في حياتنا. وكأنما أراد أنسلم أن يذهب بهذه الواقعية إلى ابعد مدى فأنتقل في كتابه Proslogion (حوالي 1074) إلى برهانه الشهير المستمد من فن ما وراء المادة الذي أراد أن يثبت به وجود آلهة فقال: الله اكمل كائن يستطيع العقل أن يتصوره؛ ولكنه أن لم يكن إلا فكرة في رءوسنا، فأن ذلك ينقصه عنصراً من عناصر الكمال - وهو الوجود: وإذن فالله، وهو اكمل الكائنات، موجود. وكتب راهب متواضع، يدعى جونيلو Gaunilo، ويرمز لاسمه بلفظ الأبله Insipio - إلى أنسلم احتجاجاً يقول فيه أننا لا نستطيع أن ننتقل هذا الانتقال السحري من الإدراك إلى الوجود، وأن حجة لا تقل عن الحجة السابقة في قوتها يمكن أن تثبت وجود جزيرة تبلغ درجة الكمال، وأن تومس أكوناس يتفق في الرأي مع جونيلوه. ثم حاول أنسلم في مقالة رائعة ولكنها غير مقدمة اسماها (ابن الله الإنسان)، ويسأل لم كان هذا التجسد ضرورياً لقد كانت هناك فكرة يؤديها أميروز، والبابا ليو الأول وطائفة من آباء الكنيسة (6)، وتقوا أن آدم وحواء حين

ص: 62

أكلا الفاكهة المحرمة قد باعا نفسهما وباعا كل نسلهما الى الشيطأن، وأن لا شيء يستطيع افتداء البشرية من الشيطان والجحيم إلا موت الله الذي اصبح إنساناً. وعرض أنسلم حجة أدق من هذه وابلغ فقال: أن عصيان أبوينا الأولين كان ذنباً غير محدود لأنه ذنب في حق كائن غير محدود، وأنه قلب النظام الخلقي للعالم كله، ولا شيء يمكن أن يوازن ويمحو ذلك الذنب غير المحدد إلا التكفير عنه تكفيراً غير محدود؛ ولا يستطيع تقديم هذه الكفارة الغير محدودة إلا كائن غير محدود؛ ومن اجل هذا صار الإله إنساناً لكي يعيد إلى العالم توازنه الأخلاقي.

ونمت واقعية أنسلم وتطورت على يد تلميذ من تلاميذ روسلان يدعى وليم الشابوكسي William of Chapeaux (1070؟ - 1121) . فقد بدأ وليم في عام 1103 يعلم الجدل في مدرسة كتدرائية نتردام بباريس. وإذا جاز لنا أن نصدق أبلار -الذي كانت براعته الحربية تحول دون براعته التاريخية- قلنا أن وليم ذهب إلى ابعد مما ذهب إليه أفلاطون، فكان أفلاطونياً اكثر من أفلاطون نفسه حين قال أن الكليات ليست حقائق موضوعية فحسب، بل أن الفرد تحوير عارضي للحقيقة الجنسية، ولا وجود له إلا باشتراكه في الكلى؛ وعلى هذا فالإنسانية هي الكائن الحقبي، الذي يدخل في سقراط، ويكسبه وجوده. وينقلون عن وليم أنه قال فضلاً عن هذا أن الكلى بأجمعه حاضر في كل فرد من صنفه، فالإنسانية كلها حاضرة في سقراط وفي الاسكندر.

والقي أبلار عصا التسيار في مدرسة وليم بعد المثير من التجوال العلمي (1103)، وكان وقتئذ في الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين من عمره. وكان وسيم الخلق حسن القوام، بهي الطلعة (7). ذا جبهة عريضة تبعث في النفس الروعة؛ وكانت روحه المرحة تكسب طباعة وحديثة فتنة وحيوية. وكان يستطيع تأليف الأغاني وإنشادها، وكانت فكاهته القوية تزلزل الضعاف في قاعات الجدل. وكان شاباً مرحاً طروباً، عرف في الوقت نفسه باريس والفلسفة.

ص: 63

وكانت عيوبه هي العيوب التي تستلزمها صفاته: فقد كان مغروراً، مزهواً بنفسه، وقحاً، منطوياً على نفسه، دفعه ابتهاجه بمواهبه التي كان يعرفها حق المعرفة إلى أن يطرح بتهور الشباب العقائد التعسفية والعواطف الرقيقة التي كانت سائدة في عصره وبين أساتذته، وقد أسكرته (بهجة) الفلسفة (المحببة) إليه؛ فهذا العاشق الذائع الصيت يحب الجدل اكثر مما يحب هلواز.

وقد سخر من واقعية أستاذه المسرفة، وتحداه علناً أمام فرقته: يا عجباً الإنسانية كلها حاضرة في سقراط؟ إذن فحين تكون الإنسانية كلها حاضرة في الاسكندر لا بد أن يكون سقراط (الذي تشمله الإنسانية كلها) حاضراً في الاسكندر. ويخيل إلينا أن ما كان يقصده وليم هو أن جميع العناصر الجوهرية التي في الإنسانية حاضرة في كل كائن بشري. على أننا لم تصل إلينا حجج وليم في هذا النقاش؛ ومهما كانت هذه الحجج فأن أبلار لم يأخذ بشيء منها. فقد عارض واقعية وليم روسلان بالفلسفة التي سميت فيما بعد بالفلسفة لإدراكية. وهي تقول أن الصنف (الإنسان والحجر) ليس له وجود جسمي الا في أفراده التي يتكون منها (الرجال، والحجارة)؛ وأن الصفات (كالبياض، والطيبة، والحقيقة) لا وجود لها إلا في الأجسام، أو الأفعال، أو الأفكار التي تصفها. ولكن الصنف والصفة ليسا مجرد اسمين، بل هما مدركان تكونهما عقولنا من العناصر أو المظاهر التي نلاحظ وجودها مشتركة بين طائفة من الأفراد، أو الأجسام، أو الآراء. وهذه العناصر المشتركة حقيقة، وأن لم تظهر إلا في الصور الفردية. وليست المدركات التي نفكر بها في هذه العناصر المشتركة -الأفكار الجنسية أو الكلية التي نفكر بها في الأصناف المكونة من أجسام متماثلة- ليست هذه المدركات (رياح الصوت)، بل هي اكثر أدوات التفكير نفعاً وأكثرها ضرورة، وبغيرها لا يمكن أن يكون للعلم ولا للفلسفة وجود.

ص: 64

ويقولون أن أبلار بقي مع وليم (بعض الوقت). ثم شرع هو نفسه يدرس في ميلون Melun أولاً ثم في كوربي Corbeil بعدئذ، وتبعد أولى البلدتين أربعين ميلاً عن باريس أما الثانية فتبعد عنها خمسة وعشرين. وقد اخذ عليه بعضهم أنه أنشأ (حانوته) بعد تدريب جد قصير؛ ولكن عدداً كبيراً من الطلاب هرع إليه، لإعجابهم بسرعة بديهيته وزلقة لسانه. وكان وليم في هذه الأثناء قد اصبح راهباً في دير القديس فكتور حيث (طلب إليه) أن يستمر في إلقاء محاضراته؛ وعاد إليه أبلار تلميذاً بعد (مرض شديد). ويبدو أنه كان على عظام فلسفة وليم لحم اكثر مما توحي به القراءة العاجلة لسيرة أبلار الموجزة التي كتبها بنفسه، ولكن سرعان ما تجددت مناقشاتهم القديمة، وأرغم أبلار (كما يقول أبلار نفسه) وليم على أن يعدل فلسفته الواقعية، وبدأت مكانة وليم في الهبوط. وعرض الأستاذ الذي خلفه والذي عينه بنفسه في نتردام أن يخلي مكانة لأبلار (1109؟)، ولكن وليم لم يوافق على هذا العرض. وواصل أبلار محاضراته في ميلون، ثم فوق جبل سانت جفييف المجاور لباريس. ونشبت بينه وبين وليم، وببين طلابهما، حرب كلامية دامت عدة سنين، واصبح أبلار زعيم المحدثين أي الشبان المتمردين المتحمسين أصحاب المدرسة (الحديثة). وبينما هو يخوض غمار هذه الحرب ترهب والداه، ولعلهما فعلا ذلك استعداداً للموت، واضطر أبلار أن يعود إلى له باليه Pallet ليكون في وداعهما، وربما كان من أسباب عودته تسوية بعض المشاكل الخاصة بأملاك الأسرة. ثم رجع أبلار الى باريس في عام 1115، بعد أن قضى بعض الوقت يدرس علوم الدين في لاءون، وأقام مدرسته، أو بدأ منهج محاضراته، في قاعات نتردام التي كان يجلس فيها وهو طالب قبل ذلك الوقت باثنتي عشرة سنة أو نحوها. ويبدو أنه لم يلق في ذلك معرضة ما. وكان وقتئذ من موظفي الكتدرائية وأن لم يصبح من قساوستها (8). وكان بمقدوره أن يتطلع إلى

ص: 65

المناصب الكهنوتية العليا اذا لزم الصمت؛ ولكن هذا الشرط كان ثقيلاً عليه، لأنه درس الأدب كما درس الفلسفة، وكان أستاذاً في عرض الآراء عرضاً واضحاً لطيفا؛ وكان كغيره من الفرنسيين يرى أن الوضوح في التعبير واجب تحتمه المبادئ الخلقية، ولم يكن يخشى أن يخفف من عبء حديثه بقليل من الفكاهة. واقبل الطلاب من كثير من البلاد ليستمعوا إليه، وكانت الفصول التي يدرس لها كبيرة كبراً أغناه بالمال وأذاع شهرته بين الأمم (9)، تشهد بذلك رسالة بعث بها إليه فولك Foulques رئيس أحد الأديرة يقول فيها:

بعثت إليك روما أبناءها تعلمهم

ولم تمنع المسافة الشاسعة، أو الجبال أو الوديان أو الطرق الموبوءة باللصوص، الشبان من الإقبال عليك. وازدحمت فصولك بالشبان الإنجليز الذين عبروا البحر المفحم بالأخطار، واقبل عليك التلاميذ من جميع أنحاء أسبانيا وفلاندرز وألمانيا، ولم يملّو من الثناء على قوة عقلك. ولست اذكر شيئاً عن سكان باريس، وأقاصي فرنسا التي كانت هي الأخرى ظمأى لتعليمك، كأنه لا يوجد علم من العلوم لا يستطاع أخذه عنك (10).

وما دام قد بلغ هذه الذروة من المجد والنجاح وبعد الصيت، فلم لا يرقى الى كرس الأسقفية (كما ارتقى إليه وليم)، ثم إلى كرس رئيس الأساقفة، ولم لا يرقى إلى كرسي البابوية؟

ص: 66

الفصل الثاني

‌هلواز

ويؤكد أبلار أن ظل حتى ذلك الوقت (مستعففاً إلى أقصى حدود الاستعفاف)، وأنه كان (حريصاً على الامتناع عن جميع ضروب الإفراط)(11). ولكن هلواز ابنة أخي فلبير Fulbert قس الكتدرائية كان لها من جمال الخلق والهيام بالعلم ما اثر كل ما كان كامنا في أبلار من حساسية مرهفة برجولته وإعجاب بعقليته. وفي خلال تلك السنين المحمومة التي كانت الحرب ناشبة فيها بين أبلار ووليم عن الكلى وغير الكلى شبت هلواز من الطفولة إلى الأنوثة المكتملة، يتيمة لم يبقى لأبويها اثر. وبعث بها عمها إلى دير في أرجنتي Argentuil لتقضي فيه عدداً كبيراً من السنين، فلما ذهب إليه هامت بما في مكتبته الصغيرة من الكتب هياما أصبحت معه أنبه راهبة في الدير. ولما عرف فلبير إنها تستطيع لتحدث باللاتينية بنفس الطلاقة التي تتكلم فيها الفرنسية، وأنها لم تكتف بهذا بل أخذت تتعلم العبرية (12)، ولما عرف هذا اعجب بها، وجاء لتعيش معه في بيته القريب من الكتدرائية.

وكانت في سن السادسة عشر حين اتصلت حياتها بحياة أبلار (1117)؛ وفي ظنها أنها سمعت به قبل ذلك الوقت بوقت طويل، وما من اشك أنها كانت قد أبصرت مئات الطلاب تغض بهم الأبهاء وقاعات المحاضرات، وقد جاءوا ليستمعوا اليه؛ ولعلها هي ذات الحماسة الذهنية القوية قد ذهبت خفية أو علناً لترى وتسمع معبود علماء باريس ومثلهم الأعلى. وفي وسعنا أن نتصور حياءها وارتياعها حين اخبرها فلبير أن أبلار سيسكن معهما ويصبح معلمها

ص: 67

الخاص. وهاهو ذا الفيلسوف نفسه يفسر لنا أصرح تفسير كيف حدث هذا:

(وكانت هذه الفتاة الصغيرة هي التي

اعتزمت أن ارتبط بها برباط الحب. والحق أن هذا العمل من أسهل الأمور. فها هو ذا أسمى على كل لسأن، ولى من مزايا الشباب والجمال ما لا أخشى معه أن ترفضني امرأة، أيا كان شأنها، أتعطف عليها بحبي

وهكذا شرعت، وقلبي ملتهب بحب هذه الفتاة، ابحث عن الوسائل التي تمكنني من أن أتحدث إليها في كل يوم حديث المودة الخالية من الكلفة، حتى يسهل علي بذلك أن أحظى بموافقتها. ومن اجل هذا أقنعت عم الفتاة

أن يأويني في بيته

نظير اجر قليل أؤديه له

وكان هو رجلاً بخيلاً حريصاً على المال و

اعتقد أن ابنه أخيه ستفيد كثيراً من تعليمي

ولقد ذهلت من سذاجة الرجل، ولو أنه عهد بحمل وديع إلى عناية ذئب مفترس لما كنت اشد من ذلك دهشة وذهولاً

(ولم أطيل القول؟ واجتمعنا أولاً في المسكن الذي أظل حبنا، ثم في القلبين اللذين كانا يحترقان من جنبينا. وقضينا الساعات الطوال ننعم بسعادة الحب متسترين بستار الدرس

وكانت قبلاتنا يزيد عديدها على كلماتنا المنطقية، وكانت أيدينا اقل بحثاً عن الكتاب منها عن صدرينا، وكان الحب يجذب عيني كل منا إلى الآخر (13)).

وهكذا أحالت رقة هلواز العاطفة التي بدأت رغبة جسمية بسيطة (حناناً أذكى من عرف الطبيب). وكانت هذه تجربة جديدة في حياته لهته عن الفلسفة، فقد استعار من محاضراته وجداً وهياما لحبه، فأضحت هذه المحاضرات مملة على خلاف عاداتها. وأسف طلابه لما أصاب الجدلي المنطيق، ولكنهم رحبوا بالعاشق، وسرهم أن يعرفوا سقراط نفسه يمكن أن يأثم، وعزوا أنفسهم فقدوه من الحجج الدامغة بترديد أغاني الحب التي بدأ يؤلفها؛ وكانت هلواز

ص: 68

تسمع من نافذة بيتها أغاني افتتانه بها تتردد أصداؤها الصاخبة على ألسنة تلاميذه (14).

ولم يمض إلا القليل من الوقت حتى أبلغته أنها حامل، فما كان منه إلا أن اختطفها من بيت عمها وأرسلها إلى بيت أخته في بريطاني (15). ودفعه الخوف من جهة والرحمة من جهة أخرى فعرض على عمها الغاضب الحانق أن يتزوجها بشرط أن يسنح له فلبير بأن يظل أمر الزواج سراً. ووافق القس على هذا، وسافر أبلار إلى بريطانيا ليحضر عروسه الرقيقة القلب الغير راضية بالزواج. وكان عمر ابنهما أسطرلاب Astorlabe ثلاثة أيام حين اقبل هو على والدته. وظلت هلواز زمناً طويلاً ترفض الزواج به. ذلك أن إصلاحات ليو التاسع وجريجورى السابع كانت منذ جيل من الزمان قد حرمت مناصب القسيسين على المتزوجين إلا إذا ترهبت الزوجة، ولم تكن هلواز مستعدة لأن تفارق رفيقها وابنها على هذا النحو، وعرضت عليه أن تبقى عشيقته بحجة أن هذه العلاقة، إذا ظلت سراً يخفى عن الناس بحكمة، لن تحول بينه وبين الرقى في مناصب الكنيسة كما يحول الزواج (16). وقد أورد أبلار في كتابه تاريخ مصائي (الفصل السابع) فقرة طويلة يعزو فيها إلى هلواز في هذا الظرف ثبتاً طويلاً من المراجع والأمثلة المعارضة لزواج الفلاسفة، وحججاً فصيحة قوية في الاعتراض على (حرمان الكنيسة من ضوئه البراق):(تذكر أن سقراط قد تزوج، وكيف طهرت الفلسفة من هذا العار الذي دنسها تطهيراً خسيساً حتى يكون كثيراً أن تسمى عشيقتي من أن يعرف الناس أنها زوجتي، بل أن هذا يكون أيضاً اشرف لي)(17). ولكنه أقنعها بأن وعدها ألا يعرف الزواج إلا عدد قليل من أوثق الناس صلة بهما.

ص: 69

وتركا اسطرلاب مع أخت أبلار وعادا لى باريس وتزوجا بحضور فلبير. وأراد أبلار أن يحتفظ بسرية الزواج فعاد إلى حيث كان يسكن وهو أعزب، وعادت هلواز الى السكنى مع عنها، ولم يكن كلا الحبيبين يرى الآخر إلا نادراً وخلسة. ولكن فلبير، في حرصه على أن يسترد مكانته، اخلف الوعد الذي قطعه لأبلار وأذاع السر؛ وأنكرته هلواز، (وأنزل بها فلبير العقاب بعد العقاب). فما كان من أبلار إلا أن فر بها مرة ثأنية، وبعث بها هذه المرة على كره منها شديد، إلى دير أرجنتى، وأمرها أن ترتدي ثياب الراهبات، وألا تقسم اليمين أو تلبس القاب. ويقول أبلار أنه لما سمع فلبير وأقاربه بهذا (أيقنوا أنني قد غدرت بهم اشد الغدر، وتخلصت إلى أبد الدهر من هلواز إذ أرغمتها على أن تترهب. فاستشاطوا من هذه غضباً ودبروا مؤامرة على؛ وبينما كنت نائماً ذات ليلة

في حجرة سرية بمسكني، إذا اقتحموا على بمعونة خادم من خدمي قدموا له رشوة، وانتقموا مني انتقاما شنيعاً يجللهم العار

لأنهم بتروا أعضاء جسمي التي فعلت بها ما كان سبباً في حزنهم. ولاذوا بالفرار بعد أن فعلوا فعلتهم، ولكن اثنين منهم قُبض عليهما وفقدا أعينهما وأعضاء تناسلهما) (18).

ولم يكن في وسع أعدائه أن يختاروا له عقاباً أدل على مكرهم من هذا العقاب. نعم أنه لم يحط من منزلته لساعته، فأن باريس كلها بمن فيها من رجال الدين عطفت عليه (19). واقبل عليه طلابه يواسونه، وأنكمش فلبير واختفى وجر عليه النسيان ذيوله، وصار الأسقف أملاكه. ولكن أبلار أدرك أن قد قضى عليه، وأن (قصة هذا الاعتداء الشنيع حتى تبلغ أطراف الأرض). ولم يعد يستطيع التفكير في الرقى في مناصب الكنيسة، وأحس أن سمعته الطيبة قد

ص: 70

"محيت من الوجود محواً تاما"، وأنه سيكون مضغة في أفواه الأجيال المقبلة. وشعر بأن في سقوطه هذا قسطاً من العدالة الطبيعية غير الشعرية، فقد أجتث من لحمه ذلك الجزء الذي أذنب، وغدر به نفس الرجل الذي غدر هو به من قبل. وأمر هلواز أن تلبس النقاب وتترهب، وذهب هو إلى دير القديس دنيس وأقسم يمين الرهينة

(1)

.

(1)

اقرأ قصة هلواز وأبلار مفصلة في الجزء الأول من كتابنا: "أشهر الرسائل العالمية". (المترجم).

ص: 71

الفصل الثالث

‌صاحب النزعة العقلية

وعاد إلى محاضراته بعد عام من ذلك الوقت (1120) مستجيباً لإلحاح طلابه ورئيس ديره، وأخذ يلقيها في (صومعة) في شعبة دير ميزنل Maisoncelle. ونظن أننا نجد في كتبه أهم ما كان يحتويه منهج محاضراته. على أن هذه المحاضرات قد ألفها وهو قلق مضطرب على دفعات متقطعة، لا نستطيع أن نحدد تواريخها. وقد راجعها في سنيه الأخيرة حين تحطمن روحه، ولسنا ندري مقدار ما تحطم من حرارة الشباب بفعل الزمن. ولأبلار أربعة كتب صغرى في المنطق تدور كلها حول مسألة الكليات. ولا حاجة لنا إلى أن نوقفها من رقادها، لكن كتابة الجدل رسالة تقع في 375 صفحة في المنطق بمعناه عند أرسطو: فهي تحليل عقلي لأجزاء الكلام وأدوات التفكير (المادة، والكم، والمكان، والموضع، والزمن، والعلاقة، والصفة، والملكية والعقل، (والعاطفة)) وأشكال القضايا المنطقية، وقواعد الاستدلال. وكان من واجب عقل أوربا الغربية بعد أن استيقظ من سباته أن يوضح لنفسه هذه الأفكار الأساسية كما يفعل الطفل حين يتعلم القراءة. وكان الجدل أهم ما تعني به الفلسفة في أيام أبلار، ويرجع بعض السبب في هذا إلى أن الفلسفة الجديدة قد تفرعت من أرسطو عن طريق بوئيثيوس Boethius وبرفيري. ولم يكن الجيل الأول من أصحاب الفلسفة المدرسية يعرف إلا رسائل أرسطو المنطقية (وحتى هذه الرسائل لم تكن كلها معروفة له). ولهذا لم يكن كتاب أبلار في الجدل كتاباً ممتعاً خلاياً. ولكننا نسمع في صفحاته التي تعنى بالشكل قبل كل شيء إلى طلقة أو طلقتين من تلك المناوشات الأولى في الحرب التي قامت بين الدين والعقل ودامت مائتي عام.

ص: 72

وكيف نستطيع ونحن في عصر أخذ يشك في العقل نفسه، أن ندرك لألاء ذلك العهد الذي بدأ في التو يكشف (سر المعرفة العظيم؟)(20). ويقول أبلار أن الحق لا يمكن أن يناقض الحق، وأن حقائق الكتاب المقدس يجب أن تنفق مع مكتشفات العقل، وإلا لكان الله الذي وهبنا هذه وتلك يخدعنا بإحداهما (21).

ولعله قد كتب في عهد الباكر -قبل مأساته- كتابه حوار بين فيلسوف ويهودي ومسيحي. وفيه يقول: "أن ثلاثة رجال أقبلوا عليه (في رؤيا أثناء الليل) وسألوه بوصفه أستاذاً ذائع الصيت، أن يفصل في نزاع قائم بينهم. وقالوا أنهم كلهم يؤمنون بالله، وأن أثنين منهم يقبلان ما جاء بالكتب العبرية المقدسة، أما الفيلسوف فيرفضها، ويقترح أن يقيم حياته ومبادئه الأخلاقية على أساس العقل والقانون الطبيعي. ويرد عليهم الفيلسوف بقوله أن من أسخف السخف أن نستمسك بعقائد الطفولة. وأن نشارك الغوغاء في أباطيلهم، وأن نزج في الجحيم من لا يقبلون هذه السخافات التي لا تفترق في شيء عن عبث الأطفال! ". ويختتم قوله اختتاما غير فلسفي فيرمي اليهود بالبلاهة والمسيحيين بالجنون. ويرد عليه اليهودي بقوله أن الناس لا يستطيعون الحياة بغير القوأنين؛ وأن الله قد فعل ما يفعله الملك الصالح فأنزل على الناس دستورياً للأخلاق الفاضلة، وأن تعاليم التوراة هي التي أبقت على شجاعة اليهود وأخلاقهم خلال ما أصابهم من التشتت والمآسي التي دامت قروناً طوالا. فيسأله الفيلسوف: وكيف إذن عاش آباؤكم هذه المعيشة النبيلة قبل أن يرسل موسى وشرائعه بزمن طويل؟ - وكيف تؤمنون بوحي بعدكم بالنعيم في الدنيا، ومع هذا فقد ترككم تقاسون آلام الفاقة والبؤس؟ ويقبل المسيحي كثيراً مما قاله الفيلسوف واليهودي، ولكنه يقول أن المسيحية قد نمت وأكملت شريعة الفيلسوف الطبيعية وشريعة اليهودي الموسوية؛ وأنها قد سمت بمثل الإنسانية العليا إلى درجة لم تسم إليها قط من قبل؛ فلا

ص: 73

الفلسفة ولا اليهودية، كما جاءت في الكتب المقدسة، قد وهبت الإنسان سعادة سرمدية؛ أما المسيحية فتهب الإنسان القلق المعذب، هذا الأمل في السعادة، وهي لهذا عظيمة القيمة إلى أبعد حد. ألا أن هذا الحوار الذي لم ينته إلى غاية لهو ثمرة رائعة من نتائج قس في كتدرائية بباريس عام 1120.

وقد وَجَدت حرية في النقاش شبيهة بهذه الحرية نفسها منفذاً لها في كتاب آخر لأبلار بعد أشهر كتبه على الإطلاق، وهو كتاب نعم ولا sic et non (1120) . ونجد أول ذكر لهذا الكتاب في رسالة كتبها رجل من سانت تييري St. Tierry يدعى William إلى القديس برنار (1140) يصف فيها ذلك الكتاب بأنه كتاب مريب يوزع سراً بين تلاميذ أبلار والمتشيعين له (23). ثم اختفى هذا الكتاب بعدئذ من التاريخ حتى عام 1836 حين كشف فكتور كوزن Victor Cousin المخطوط بمكتبة في أفرانش Avranche. وما من شك في أن شكل الكتاب نفسه قد أحزن هذا الأسقف؛ ذلك أنه يبدأ بمقدمة تنم عن التقى والصلاح، ثم ينقسم إلى 157 سؤالاً تشمل أهم العقائد الأساسية للدين؛ وقد وضع في عمودين متقابلين تحت كل سؤال طائفتان من الأقوال إحداهما نؤيد الرد الإيجابي والأخرى تؤدي الرد السلبي، وكلتاهما مقتبسة من الكتاب المقدس، أو من كتب آباء الكنسية، أو من الآداب اليونانية الرومانية القديمة، بل أن بعضها مقتبس من فن الحب لأوفد. وقد يكون القصد من تأليف هذا الكتاب هو أن يكون مراجع يلجأ إليها في النقاش المدرس، ولكن مقدمته تنتقص من قيمة الاعتماد على آباء الكنيسة - سواء أراد الكتاب ذلك أو لم يرده- لأنها تظهر ما بينهم من التناقض، بل أنها لتظهر تناقض كل منهم لنفسه. ولم يشك أبلار في قيمة الكتاب المقدس بوصفه مرجعاً دينياً، ولكنه يقول أن لغته قد كتبت لغير المتعلمين، وأنها يجب تفسيرها

ص: 74

بالرجوع إلى العقل والمنطق. غير أن النص المقدس قد فد في بعض الأحيان لما أضيف إليه زوراً، أو لعدم العناية بالنسخ؛ ولهذا فإذا ناقضت نصوص الكتاب المقدس أو كتب آباء الكنيسة بعضها بعضاً، وجب أن نحاول التوفيق بين النصوص المتناقضة بالاعتماد على العقل. وكتب في نفس كلمة الافتتاح عبارة أستبق بها شكوك ديكارت بأربعمائة عام فقال: "أن أول مفاتيح الحكمة هو المثابرة على الأسئلة وتكرارها

لأن الشك يؤدي بنا إلى البحث، والبحث يوصلنا إلى النتيجة" (24). ويقول أن عيسى نفسه حين واجه العلماء في المعبد أمطرهم وابلاً من الأسئلة. ويكاد الحوار الأول في الكتاب يكون إعلاناً لاستقلال الفلسفة:"يجب أن يكون أساس الإيمان في عقل الإنسان وفي القضايا المتناقضة". وهو ينقل أقوالاً عن أمبروز، وأغسطين، وجر بحوري الأول، تؤيد الإيمان، ويستشهد بأقوال من هيلاري Hilary، وجيروم، وأوغسطين، على أن من الخير أن يستطيع الإنسان أن يثبت دينه بالاعتماد على العقل. ويكرر أبلار استمساكه بأصول الدين، ولكنه يعرض للجدل مسائل مثل: الإرادة الإلهية، والإرادة الحرة، ووجود الخطيئة والشرف في عالم خلقه إله خيّر قادر على كل شيء، واحتمال أن يكون الله غير قادر على كل شيء. وما من شكل في أن استدلاله الحر في هذه المسائل قد زلزل إيمان الطلاب الشبان المولعين بالجدل. على أن هذه الطريقة - طريقة التعليم بالبحث الحر إلى أقصى حدود الحرية- أضحت هي الخطية المألوفة المتبعة في الجامعات الفرنسية وفي الكتابات الفلسفية والدينية؛ وأكبر الظن أنها قد سلكت هذه السبيل بفضل المثل الذي ضربه لها أبلار (25). وسنرى القديس تومس يتبعها دون أن يخشى شيئاً ودون أن يوجه إليه لوم، وهكذا وجدت النزعة العقلية مكاناً لها في مستهل عهد الفلسفة المدرسية.

وإذا كان كتابه نعم ولا لم يغضب إلا عدداً قليلاً من الناس لأنه لم يوزع منه إلا عدد قليل من النسخ، فأن ما حوله أبلار من تحكيم العقل في

ص: 75

موضوع التثليث - وهو الموضوع الشديد الغموض- لم يكن له ذلك الأثر الضيق الذي كان لهذا الكتاب، ولم يكن ارتياع الناس له محصوراً في القليل منهم؛ وذلك لأنه كان موضوع محاضراته التي ألقاها في عام 1120، وموضوع كتابه في وحدة الإله والتثليث. وقد كتب هذا الكتاب، كما يقول هو نفسه:(لطلابي لأنهم كانوا على الدوام يبحثون عن العقول وعن الشروح الفلسفية، ويسألون عما يستطيعون فهمه من الأسباب لا عن الألفاظ دون غيرها، ويقولون أن من العبث أن نعلق بألفاظ لا يستطيع النقل تتبعها، وأنه لا شيء يمكن تصديقه إلا إذا أمكن فهمه أولاً، وأن من أسخف الأشياء أن يعظ إنسان غيره بشيء لا يستطيع هو نفسه أن يفهمه ولا يستطيع من يسعى لتعليمهم أن يفهموه (26) " وهو يقول أن هذا الكتاب (أنتشر انتشاراً واسعاً جداً) وأن الناس أعجبوا بما فيه من دقة. وقد أشار فيه إلى أن وحدة الله هي النقطة الوحيدة التي يتفق فيها أعظم الأديان وأعظم الفلاسفة. ففي الله الواحد الأحد تشهد قدرته بوصفه الأقنوم الأول، وحكمته بوصفه الأقنوم الثاني، ونعمته، وإحسانه، وحبه بوصفها الأقنوم الثالث. وهذه كلها نواح أو أعراض من الجوهر القدسي؛ ولكن جميع أفعال الله تتضمن وتجمع في الوقت عينه قدرته، وحكمته، وحبه (22). وقد شعر كثيرون من رجال الدين بأن هذا التشبيه مما يمكن التجاوز عنه والسماح به؛ ورفض أسقف باريس ما طلبه إليه روسلان -وكان قد أصبح وقتئذ شيخاً طاعناً في السن مستمسكاً بالدين- أن يتهم أبلار بالكفر؛ ودافع جيفروي Geoffroy أسقف شارتر عن أبلار طوال فترة السخط الذي حل بهذا الفيلسوف المستهتر. ولكن ألبريك Alberic ولوتلف، وهما مدرسان في ريمس كانا قد تنازعاً مع أبلار في لامون عام 1113، حرصاً كبير الأساقفة على أن يأمره بالمجيء إلى سواسون ومعه كتابه عن التثليث، وأن يدفع عن نفسه تهمة الإلحاد. فلما قدم أبلار إلى سواسون (1121) وجد أن الغوغاء قد أثيروا عليه، وأنهم

ص: 76

"يوشكون أن يرجموني بالحجارة

لاعتقادهم أني قلت بوجود آلهة ثلاثة" (28). وطلب أسقف شارتر أن يستمع المجلس إلى دفاع أبلار عن نفسه، ولكن ألبريك وغيره رفضوا طلبه بحجة أن أحداً لا يستطيع أن يدحض حجج أبلار ولا يسعه إلا أن يقتنع بأقواله. وأدانه المجلس من غير أن يستمع إليه، وأرغمه على أن يلقي كتابه في الدار، وأمر رئيس دير القديس Medrad أن يجزه في الدير سنة كاملة، ولكن مرسوماً بابويا أفرج عنه بعد وقت قصير، وأعاده إلى دير القديس دنيس.

وقضى أبلار في الدير سنة في شجار دائم مع رهبانه المشاكسين، ثم حصل بعد ذلك من رئيس الدير الجديد سوجر Suger العظيم على إذن بأن يبنى لنفسه صومعة في بقعة منعزلة في منتصف المسافة بين فونتينبلو Fontainebleau وتروى (1122)، وهناك أقام بمعونة رفيق في الدرجات الدنيا من الرهبة مصلى صغيرة من القش والغاب سماها (الثالوث المقدس). ولما سمع الطلاب أنه قد أجيز له مرة أخرى أن يدرس أقبلوا عليه، وجعلوا من أنفسهم مدرسة عاجلة مرتجلة، وبنوا أكواخاً بجوار المصلى، وناموا على القش والبوص، وطمعوا (الخبر الخشن وأعشاب الحقول (29). وظهر في هذا المكان تعطش للعلم ما لبث أن أوجد الجامعات وملأها بالطلاب. والحق أن العصور المظلمة أضحت في هذا المكان وكأنها كابوس أوشك أن يدرج في طيات النسيان. وأخذ الطلاب، في نظير ما يلقيه من المحاضرات، يحرثون الأرض، ويقيمون الأبنية، وأنشئوا له مصلى جديدة من الخشب والحجارة سماها الروح المقدس، كأنه يريد أن يقول أن حب مريديه قد نزل عليه نزول الروح القدس في اللحظة التي فر فيها من المجتمع إلى العزلة واليأس.

ولم تكن الثلاث السنين التي قضاها في ذلك المكان أقل سعادة من أية سنين عرفها من قبل. وأكبر الظن أن المحاضرات التي ألقاها على هؤلاء

ص: 77

الطلاب المشوقين قد أحتفظ بها وأعيدت صياغتها في كتابين يسمى أحدهما الدين المسيحي Theologia Christiana ويسمى الثاني الدين Theologia لاغير. وكانت العقائد الواردة في الكتابين مطابقة للدين القويم، ولكن العصر الذي كان حتى ذلك الوقت غريباً عن معظم آراء الفلسفة اليونانية قد راعه بعض الشيء أن يجد في الكتابين إشارات إلى المفكرين الوثنين مصحوبة بالثناء عليهم، كما وجد فيها ما يشير الى أفلاطون أيضاً قد استمتع الى حد ما لإلهام الإلهي (30). ولم يكن في وسع أبلار أن يعتقد أن جميع هذه العقول العظيمة الفذة السابقة للمسيح قد فاتتها أسباب النجاة (31)، وأصر على أن الله يفيض حبه على جميع الناس، وفيهم اليهود والكفار (32)، وعاد أبلار في غير ندم يدافع عن تحكيم العقل في أمور الدين، وقال أن الملحدين يجب أن يردوا عن إلحادهم بالعقل والمنطق لا بالعنف (33)، وأن الذين يوصون بالإيمان بلا فهم إنما يسعون في كثير من الأحيان لستر عجزهم عن أن يعلموا الدين تعليماً يدركه العقل (34)، وتلك شوكة نفذت من غير شك في جلود بعض الناس؟ فقد يبدو أن أبلار حين يحاول تفسير الدين المسيحي تفسيراً ينطبق على العقل والمنطق، لم يجرؤ على أكثر مما حاوله الإسكندر الهاليسي Alexander of Hales، وألبرتس مجنس، وتومس أكوناس من بعده؛ ولكن أبلار حاول أن يدخل أكثر عقائد الكنيسة خفاء وأعمقها غوراً في قبضة العقل، على حين أن تومس رغم شجاعته وجرأته ترك مسألة التثليث، وخلق العالم في زمن محدد، لإيمان بعيد عن متناول العقل، وفوق إدراكه.

وخلقت له جرأته على هذا التفكير وحدة ذهنه المتجددة أعداء جدداً. فقد كتب يشير في أغلب الظن إلى برنار الكلير فوكسي Bernard of Clairvaux ونوربرت Norbert مؤسس طائفة البريمنستر أتنسيين يقول:

يهرول بعض الرسل الجدد، الذين يثق العالم فيهم أعظم الثقة، هنا وهناك

ص: 78

ينهشون عرضي دون حياء، ولا يتركون لذلك سبيلاً إلا سلكوها، حتى أفلحوا على مر الزمن في أن يجعلوني هدفاً لسخرية الكثيرين من ذوي السلطان

ويشهد الله أنني كلما علمت بأن اجتماعاً جديداً لرجال الدين قد دعى إلى الانعقاد، اعتقدت أنهم لم يدعوا إلا لغرض واحد صريح هو إدانتي (35).

ولعه أراد أن يكسب أولئك الناقدين، فترك التدريس وقبل دعوة وجهت إليه بأن يكون رئيس دير القديس جلداس في بريطاني (1125؟)، ولكن أرجح من هذا أن سوجر هو الذي نظم بدهائه وحكمته هذه النقلة مؤملاً بهذا أن تسكن العاصفة. وكان هذا الانتقال ترقية لأبلار وسجن له في وقت واحد، فقد ألفى الفيلسوف نفسه وسط سكان من (البرابرة) الذين (لا يفهمون)، وبين رهبان "أدنياء لا يُرَوَّضون" يعيشون جهرة مع حظياتهم (36). ونفر أولئك الرهبان من إصلاحاته فدسوا إله السم في الكأس التي كان يشرب منها وقت العشاء الرباني، فلما خاب تدبيرهم هذا رشوا خادمة بأن يدس له السم في الطعام؛ ولكن راهباً غير تناول الطعام "وخر صريعاً من فوره"(37)؛ غير أن مرجعنا الوحيد في هذه الأقوال هو أبلار وحده. وأستبسل أبلار في النضال في هذه المعركة لأنه بقى في هذا المكان المنعزل إحدى عشرة سنة تتخللها بعض فترات كان في أثنائها بعيداً عنه.

ص: 79

الفصل الرابع

‌رسائل هلواز

ومرت به فترة من السعادة المعتدلة حين قرر سوجر أن يستخدم البيت الذي في أرجنتي لأغراض أخرى غير الدير. وكانت هلواز مذ افترقت عن أبلار قد عكفت في هذا البيت على أداء الواجبات التي تفرضها عليها حياة الرهبنة حتى عينت رئيس الدير و (علت مكانتها عند الجميع

فأحبها الأساقفة حب الآباء للأبناء، وأحلها رؤساء الأديرة حب الأخوة للأخوات، وأحبها غير رجال الدين كما يجب الأبناء الأمهات). ولما علم أبلار أن هلواز ومن معها من الراهبات يبحثن عن مكان لهن جديد، عرض عليهن مصلى (الروح القدس) ومبأنيها؛ وذهب بنفسه ليساعدهن على تنظيم إقامتهن في مقرهن الجديد. وكثيراً ما كان يزورهن ليعظهن ويعظ القرويين أقاموا بالقرب منهن. وهمس النمامون "أنني لا زالت تسيطر عليّ مباهج الحب الأرضي، وأنا الذي لم أكن أطيق في الأيام الخالية أن أفارق من امتلئ قلبي بحبها"(38).

وكانت هذه الفترة المضطربة التي قضاها رئيساً لدير القديس جلداس هي التي كتب فيها سيرته (تاريخ مصائبي)(1132). ولسنا نعرف الباعث له على كتابة هذه السيرة، فهي تتخذ شكل مقالة يواسى بها صديقاً يشكو بؤسه، "حتى إذا وازنت أحزانك بأحزاني، رأيت أن أولاهما ليست إلى جانب الثانية التي تستحق الذكر"؛ ولكن يبدو أن هذه السيرة كان يقصد بها أن يطلع عليها العالم، وأن تكون اعترافاً أخلاقياً، ودفاعاً دينياً. وتقول رواية قديمة، ولكنها مما لا يمكن تحقيقه، أن نسخة من الكتاب وصلت إلى يد هلواز، وإنها ردت عليه هذا الرد العجيب:

ص: 80

"إلى سيدها، بل أبيها، إلى زوجها، بل أخيها: من خادمته، بل أبنته، عن زوجته، بل أخته: إلى أبلار، من هلواز:

"لقد جيء إلى مصادفة منذ زمن بخطابك الذي كتبته يا حبيبي تعزية إلى صديق

وقد حوى أشياء لا يستطيع أحد أن يطلع عليها دون أن تفيض عيناه بالدمع لأنها تجدد أحزاني كاملة

فباسم الله الذي لا يزال يرعاك

باسم المسيح، ونحن خادماته وخادمتك، نستحلفك أن تتفضل فتخبرنا في رسائل منك متتابعة عن المصائب التي لازالت تتقاذفك حتى نشاركك على الأقل في أحزانك ومسراتك، نحن الذين بقينا على الدوام أوفياء لك

"أنك لتعرف يا أعز الناس علي - وأن الناس كلهم ليعرفون- ماذا خسرت بفقدك

لقد بدلت ثيابي وقلبي طوعاً لأمرك، كي أظهر لك أنك مالك جسمي وعقلي

ولم أكن أتطلع إلى عهد الزواج، أو إلى مهر تمهرني به

وإذا كان أسم الزوجة يبدو أكثر قداسة وأقوى رابطة، فأن أحب إلي، أسم الصديقة منه وأعذب على الدوام؛ أو، إذا لك يكن في هذا ما تستحي منه، أسم العشيقة أو العاهرة

وأني لأشهد لله لو أن أغسطس الذي حكم العالم كله رأى أني خليفة بأن يكون لي شرف الزواج به، وأن يملكني العالم بأسره أحكمه حكماً يدوم أبد الدهر، لكان قولهم أني مومسك أحب إلى من قولهم أني إمبراطورته

"وهل بين الملوك أو الفلاسفة من يضارعك في شهرتك؟ وأية مملكة أو مدينة أو قرية لم تتحرق شوقاً لرؤيتك؟ ومن من الناس لم يستحث الخطى لينظر إليك، حين تبدو أمام الجماهير؟

وأية زوجة، وأية عذراء، لم تتلهف عليك وأنت غائب، أو تتحرق شوقاً إليك وأنت حاضرة؟ وأية ملكة أو سيدة ذات سلطان لم تحدني على مباهجي وفراشي؟

"هلا حدثتني عن شيء واحد أن استطعت: لم أهملتني ونسيتني، بعد أن سلكت سبيل الحياة الدينية التي كنت أنت دون غيرك الآمر بها، فلم أحظ بعدئذ

ص: 81

بكلمة منك أو نظر إليك تبتهج بها نفسي، أو رسالة منك في غيبتك يرتاح لها قلبي؟ ألا فحدثني عن شيء واحد لا أكثر أن استطعت، أو دعني أفض إليك بما أحس به، بل ما يظنه الناس جميعاً: أن الشهوة الجنسية لا الحب هي التي وثقت الصلة بيني وبينك

فلما أن نلت ما تبغيه، زال من فوره كل ما كنت تتظاهر به

ليس هذا يا أحب الناس إلى هو أظنه أنا وحدي، بل ما يظنه الناس جميعاً

وكم كنت أتمنى أن يكون هذا لى دون غيري، وأن يجد حبك من يبرره غيري فخف بذلك بعض الشيء لواعج أحزاني.

"أتوسل إليك أن تستمع لما أطلبه إليك

في الوقت الذي أخادع نفسي في بوجودك معي في ألفاظك المكتوبة على الأقل - وهي ألفاظ لديك منها الشيء الكثير- أهد إلى صورتك الحلوة

فأنا أستحق منك أكثر منها

بعد أن فعلت من أجلك كل ما يمكن فعله

أما التي غويت حياة الدير الخشنة في سن الشباب

لا عن تقي وحب الدين بل إطاعة لأمرك لا لشيء سواء

ولست أنتظر ثواباً من الله على هذا العمل، لأني لم أعمال شيئاً لوجه الله كما تعرف ذلك حق المعرفة

ولذلك أستحلفك باسم الذي وهبت له نفسك، وأتوسل إليك أما الله أن تعيد إلي وجودك بأية سبيل في إستطاعتك، ولو بكلمة منك تخفف عن آلامي

وداعاً يا كل من أحب" (39).

لكن أبلار كان عاجزاً عجزاً جسمياً عن أن يستجيب إلى هذه العواطف الجياشة بعواطف من نوعها، ولهذا كانت الرسالة التي تعزوها إليه الرواية المتواترة تذكيراً لها بالنذر الديني الذي نذر له نفسه:"إلى هلواز أخته العزيزة في المسيح، من أبلار أخيها في المسيح نفسه"؛ وهو يوصيها بأن تقبل ما حل بهما من مصائب خاضعة لها، راضية بها، على أنها تطهير وعقاب للنجاة من عند الله. ويطلب إليها أن تدعو له، وبأمرها أن تخفف من أحزانها بأملها في أن يجتمعاً معاً في السماء، ويرجوها أن تواريه الثرى حين يموت في أراضي "الروح

ص: 82

القدس"

وتعيد في رسالتها الثانية عبارات الهيام وعدم النقي فتقول: "لقد كنت على الدوام أخشى أن أغضبك، لا أن أغضب الله، وأعمل على رضائك أكثر مما أعمل على رضائه

فأنظر أية حياة تعسة لا بد أن أحياها إذا كنت أقاسي كل هذا عبئاً، لا أمل لي في أن أثاب عليه في المستقبل. لقد ظللت، كما ظل الكثيرون غيرك زمناً طويلاً مغروراً بخداعي وتمويهي فحسبت النفاق ديناً" (40). فيجيبها بأن المسيح، لا هو، قد أحبهاً بحق: لقد كان هيامي شهوة جنسية لا حباً، ولقد أشبعت شهوتي الدنيئة فيك، وكان هذا كل ما أحببت

فاذرفي الدمع من أجل منقذك لا من أجل من منقذك لا من أجل من أغواك، من أجل منجيك لا من أجل مدنسك (41). ثم يؤلف دعاء مؤثراً يطلب إليها أن تتلوه من أجله. وتبدو في رسالتها الثالثة وقد استسلمت لموت حبة الدنيوي؛ ولا تطلب إليه وقتئذ إلا قاعدة جديدة تستطيع هي ومن معها من الراهبات أن يحيين بها حياة دينية حقة. ويستجيب هو إلى رغبتها ويضع لهن دستوراً رحيماً معتدلاً، ويكتب مواعظ يقوي بها إيمانهن، ويبعث بهذه كلها إلى هلواز موقعة بتوقيع رقيق:"وداعاً في الرب إلى خادمته، من كانت في وقت ما عزيزة على في هذا العالم، وأضحت الآن أعز الناس في المسيح". لقد كان في ثنايا قلبه المحطم لا يزال يهيم بحبها.

وبعد، فهل هذه الرسائل الشهيرة حقيقة؟ أن هذه المشكلة لتواجهنا قوية مستعصية. يقال أن أولى رسائل هلواز قد كتبت على أثر ظهور كتابه تاريخ مصائبي وهو يذكر فيه عدة زيارات قام بها أبلار لهلواز في الروح القدس؛ ومع هذا فهي تشكو أنه قد أغفلها. ولكن لعل تاريخه قد ظهر أجزاء منقطعة، وأن الأجزاء الأولى منه وحدها هي السابقة على الرسالة. ثم أن النزعة الشهوانية الجزئية الظاهرة في بعض فقراتها تبدو غير معقولة لصدورها من امرأة أكسبها تقاها وتفانيها في أمور الدين مدى أربعة عشر عاما ذلك الإجلال السامي عند جميع الناس، وهو الإجلال الذي يشهد به بطرس المبجل Peter the Venerable

ص: 83

كما يشهد به أبلار. يضاف إلى هذا ما في الرسائل من تنسيق بلاغي ومقتبسات من كتب الأدب القديم، ومن كتب الآباء، دالة على الحاذق والتكاتف لا يمكن وجودها في عقل يحس إحساساً صادقاً بالحب أو التقي أو الندم. وفوق هذا كله فأن أندم مخطوطات هذه الرسائل يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر. ويبدو أن جان ده مونج قد ترجمها من اللغة اللاتينية إلى الفرنسية في عام 1285 (42). وإلى أن نجد أدلة أكثر مما لدينا قوة فأن لنا أن نختتم هذا الفصل بقولنا أنها من أبدع الوثائق المزورة في التاريخ، وأن حوادثها غير موثوق بصحتها، ولكنها قسم خالد لا يفنى من أدب فرنسا الغرامي (43).

ص: 84

الفصل الخامس

‌المدين

لسنا نعرف متى فر أبلار من منصبه العالي في رياسة الدير ومما كان يعانيه من آلام أو كيف أتيح له هذا الفرار. فها هو ذا يوحنا السلزبري يقول أنه استمع الى محاضرات أبلار على جبل سانت جفييف في عام 1136، كذلك لا نعرف أي رخصة أجازت له أن يعود إلى التعليم، ولعله لم يطلب ترخيصاً ما، ولعله قد استهزأ في وقت ما بآداب الكنيسة فثار عليه رجالها وسلكوا ضده سبلاً ملتوية أدت إلى سقوطه الأخير.

وإذا كان إخصاؤه قد أزال رجولته، فإنا لا نرى أثراً لهذا في الكتب التي نقلت إلينا أسس تعاليمه. وأن من الصعب علينا أن نجد فيها خروجاً صريحاً عن الدين، وأن كان من اليسير أن نجد فقرات أثارت بلا ريب غضب رجال الدين. من ذلك أنه يقول في كتاب له عن فلسفة الأخلاق عنوانه اعرف نفسك scito te ipsum أن الخطيئة ليست في العمل نفسه بل في نية العامل، وأن العمل أياً كان- حتى القتل نفسه - ليس خطيئة في ذاته. مثال ذلك أن أما لم تجد لديها من الثياب ما يكفي لتدفئة طفلها فضمته إلى صدرها وأماتته خنقاً على غير علمٍ منها؛ لقد قتلت هذه الأم طفلها الحبيب إليها فعاقبها القانون العقاب الذي تستحقه كي يصبح غيرها من النساء اكثر منها عنايه، ولكن هذه الأم بريئة من الذنب عند الله. وفوق هذا فلكي تكون هناك خطيئة، يجب أن يكون مرتكبها قد خالف ضميره الأخلاقي لا ضمير غيره من الناس وحدهم؛ وعلى هذا فأن قتل الشهداء المسيحيين لا يعد إثماً ارتكبه الرومان الذين كانوا يشعرون بأن

ص: 85

اضطهاد هؤلاء المسيحيين واجب للابقاء على دولتهم أو دينهم الذي خالوه صحيحاً. وأكثر من هذا "أن الذين اضطهدوا المسيح أنفسهم أو اضطهدوا اتباعه، وهم يرون من واجبهم أن يضطهدوهم، قد ارتكبوا إثماً من حيث عملهم، ولكن لو أنهم امتنعوا عن اضطهادهم مخالفين بذلك ما تمليه عليهم ضمائرهم لارتكبوا بذلك إثماً أكبر"(44). قد يكون هذا كله منطقاً سليماً معاً؛ ولكن إذا أخذ بهذه النظرية فأن عقيدة الخطيئة من أولها إلى آخرها من حيث مخالفتها لأوامر الله معرضة لأن تتبخر في تيار الجدل القائم حول النيات فلا يبقى لها وجود قط؛ فأي الناس، إذا استثنينا القديس بولس وعدداً قليلاً ممن هم على شاكلته، يعترف بأنه عمل ما يخالف ضميره؟ وكانت ست فقرات من الفقرات الست عشرة التي أدين أبلار من أجلها في عام 1141 مأخوذة من هذا الكتاب.

وكان الذي أزعج الكنيسة أكثر من أي إلحاد معين تبينته عند أبلار هو افتراضه أن لا أسرار في الدين، وأن العقائد كلها يجب أن تكون قابلة للتفسير القائم على العقل، ولم يكن ثمة غرابة في صدور هذا القول منه. ألم يكن ثملاً بنشوة المنطق الذي جرؤ على يربطه بكلمة الله ويكاد يجعله من العلوم القديسة؟ (45). ولنا أن نتساءل كم من العقول القاصرة غير الناضجة التي تأثرت بجرثومة ذلك التحليل المنطقي قد ضلت طريقها بحججه الطلية المؤيدة والمعارضة، إذا سلمنا بأن هذا الأستاذ الذي أفتتن به الناس وأغواهم قد وصل بأساليب غير مستقيمة إلى نتائج صحيحة سليمة؟ ولو أنه لم يكن له أمثلة من نوعه لترك وشأنه دون أن يناله أذى، رجاء ألا يطول أجله. لكنه كان له أتباع متحمسون، وكان ثمة معلمون غيره -وليم الكنشسى William of Conches، وجلبرت ده لابربه Gilbert de la Porrée، وبرنجر التوري Berenger of Tours- وكانوا كلهم يضعون الدين على مرشحة العقل. فإذا ظل هذا التيار يجري في مجراه، فإلى متى تستطيع الكنيسة أن تحتفظ بوحدة المقيدة الدينية وقوة الإيمان

ص: 86

اللتين يقوم عليهما - فيما يبدو لها- نظام أوربا الأخلاقي والاجتماعي؟ ألم يشرع آرلد البرشيائي Arnold of Brescia أحد تلاميذ أبلار يشعل فعلاً نار الثورة في إيطاليا؟

وأكبر الظن أن هذه الاعتبارات أو نحوها هي التي أوقفت القديس برنار موقف العداء جهرة أمام أبلار. ذلك بأن حارس الدين الحريص على سلامته قد أشتم رائحة الخطر الذي يتهدد معتنقيه، فقاد المؤمنين إلى النضال. وكان من وقت بعيد ينظر بعين الارتياب إلى هجمات العقل الجريْ المتربص بالدين؛ ويبدو له أن طلب العلم إذا لم يقصد به خدمة الدين هو الوثنية بعينها؛ أما أن يحاول إنسان تفسير الأسرار المقدسة بقواعد العقل والمنطق فهو المعصية والحماقة؛ والعقل الذي يبدأ بتفسير هذه الأسرار الخفية سينتهي آخر الأمر إلى تدنيسها. ولم يكن القديس بالرجل الشرس المتربص للشر؛ ذلك أنه لما أن لفت وليم التييري أحد رهبان ريمس نظره في عام 1139 إلى ما في تعاليم أبلار من خطر، وطلب إليه أن يتهم الفيلسوف، صرف الراهب من عنده ولم يفعل شيئاً. ولكن أبلار نفسه استعجل الأمور بأن كتب إلى كبير أساقفة سان Sens أن تتاح له أثناء انعقاد مجلس الكنيسة المقبل في تلك المدينة، فرصة يدفع فيها عن نفسه تهمة الإلحاد التي يذيعها بعضهم عنه. ووافق كبير الأساقفة على هذا الطلب، لأنه لم يكن يرى بأساً في أن يكون كرسيه قبلة العالم المسيحي؛ وأراد أن يكون الكفاح قوياً فدعاً برنار إلى الحضور، ولكنه أبى وقال أنه سيكون في حلبة الجدل "طفلاً لا أكثر" أمام أبلار الذي تدرب على المنطق أربعين عاما. غير أنه كتب إلى عدد من الأساقفة بحثهم على الحضور للدفاع عن الدين:

"يحاول بطرس أبلار أن يقوض فضائل الدين المسيحي حين يدعى لنفسه القدرة على فهم الله فهما كاملاً بالاعتماد على العقل البشري. فهو يرقى إلى السموات العلا، وينزل إلى الأغوار السحيقة؛ ولا يستطيع شيء أن يختفي

ص: 87

عنه!

وهو لا يكتفي بأن ينظر إلى الأشياء من خلال المنظار نظرة غير واضحة، بل يرى أن لابد له من النظر إلى الأشياء وجهاً لوجه

أن فيه لشبها بأربوس حين يتحدث عن التثليث، وبيلاجبوس Pelagius حين يتحدث عن البركة، ونسطوريوس حين يتحدث عن شخص المسيح

أن دين المتقين هو الإيمان والتصديق، لا المجادلة؛ أما هذا الرجل فليس له عقل يصدق به ما لم يسبق له أن ناقشه بمنطقه (46).

وتغلب أتباع برنار عليه، وأظهروا له ضعفهم، فاضطروه إلى الحضور؛ فلما أقبل أبلار على سان (يونية سنة 1140) وجد الجماهير، كما وجدها في سواسون قبل ذلك الوقت بتسعة عشر عاما، ثائرة عليه لمجرد وجود برنار في المدينة، ولعدائه الشديد له، حتى لم يكن يجرؤ على الظهور في شوارعها. أما كبير الأساقفة فقد حقق حلمه، لأن سان بدت أسبوعاً كاملاً وكأنها مركز العالم كله. لقد جاء إليها ملك فرنسا تحف به حاشيته الفخمة، وأقبل عليها عشرات من كبار رجال الكنيسة، وكان برنار الذي أقعدته الرثية وعلت وجهه صرامة القداسة يبعث الرعب في قلوبهم جميعاً. وكان بعض أولئك الأحبار قد أحسوا فرادى أو مجتمعين بوخز الطعنات التي وجهها أبلار لمعائب رجال الدين، ولفساد أخلاق القساوسة والرهبان، وبيع صكوك الغفران، واختراع المعجزات الزائفة وأيقن أبلار أن المجلس سيدينه، فحضر جلسته الأولى وأعلن أنه لن يرضى بأن يحكم عليه غير البابا نفسه، ثم غادر الاجتماع وخرج من المدينة. ولم يكن المجلس واثقاً، بعد أن طلب إليه التنحي عن الحكم، أن من حقه قانوناً أن يحاكم أبلار؛ ولكن برنار أكد له أن هذا من حقه، فأخذ المجلس يطعن في ست عشرة مسألة منتزعة من كتب أبلار، ومن بينها تعريفه للذنب، ونظريته في التثليث التي يقول فيها أنه هو القدرة، والحكمة، والحب من صفات الإله الواحد.

وسافر أبلار إلى روما ليعرض قضيته على البابا وهو لا يكاد يملك شروى نقير،

ص: 88

وأعترضه في السفر شيخوخته وضعفه فتأخر كثيراً في الطريق. ولما وصل إلى دير كلوني في برغندية أستقبله بطرس المبجل بالشفقة والحنان، فاستراح في الدير بضعة أيام قليلة. وفي هذه الأثناء أصدر أنوسنت الثاني قراراً بالتصديق على حكم المجلس، وفرض الصمت الدائم على أبلار، والأمر بحجزه في أحد الأديرة. ورغب أبلار بالرغم من صدور هذا القرار أن يواصل حجه، ولكن بطرس أقنعه بالا يفعل، وقال له أن البابا لا يمكن أن يصدر قراراً يخالف ما يراه برنار. وخضع أبلار لهذا الرأي لما عاناه من الإعياء الجسمي والروحي، فصار راهباً في دير كلوني واختفى في ظلام أسواره وطقوسه، وقوى روح زملائه الرهبان بتقواه، وصمته، وصلواته. وكتب إلى هلواز - التي لم يرها قط بعد ذلك الوقت- يعترف اعترافاً مؤثراً بإيمانه بتعاليم المسيح، وألف لها في أغلب الظن، ترانيم من أجمل ما يحتو به أدب العصور الوسطى. وتعزى إليه (مرئية) في صورة رثاه من داود إلى يوناثان، ولكن في وسع أي قارئ أن يلمح فيها أينما رفيقاً:

لو قدر لي أن أرقد معك في قبر واحد

لرأيت السعادة في أن أموت،

فلست أعرف من النعم التي يمكن أن يهبها الحب في هذه الدنيا ما هو أعظم من هذه النعمة.

ولو أنني عشت بعد أن تموتين ويبرد جسمك

لكان ذلك هو الموت الأبدي،

ولن يكون في شبحي نصف روح

يمسك على حياتي أو نصف نفسي.

ص: 89

ها أنا ذا، ألقي قيثارتي

ألا ليتني أستطيع

أن أمسك كذلك دموعي وأنيني!

لقد آلم العزف يدي

ومح صوتي

من فرط الحزن، وحل بروحي الإعياء.

وأصابه المرض بعد هذا الوقت بقليل، وأرسله رئيس الدير الرحيم إلى دير القديس مارسل St. Marcel بالقرب من شالون ليبدل فيه الهواء؛ وهناك وفي اليوم الحادي والعشرين من أبريل عام 1142 وافته المنية وهو في السادسة والثلاثين من عمره. ودفن في كنيسة الدير؛ ولكن هلواز ذكرت بطرس المبجل بأن أبلار قد طلب في حياته أن يدفن في (الروح القدس). وجاء إليها الرئيس الرحيم نفسه بالجثة، وحاول أن يواسيها بالتحدث عن حبيبها الميت بأنه سقراط زمانه وأفلاطونه وأرسطوطاليسه؛ وترك معها رسالة تفيض بالحنان المسيحي:

وهكذا يا أختي العزيزة المعظمة في الله، أن الرجل الذي اجتمعت وإياه، بعد رابطتكما الجسمية، برابطة خير منها وأقوى هي رابطة الحب المقدس، والذي خدمت

الله معه، هذا الرجل يأخذه الله بدلاً منك، فهو صورة أخرى منك، وينفث فيه دفء صدره؛ ويحتفظ به حين يدوي صوت الملاك الأكبر، وينفخ في الصور من السموات العلي، ليرده إليه نعمة منه ورحمه (48).

ولحقت بحبيبها في عام 1164 بعد أن بلغت من السن ما بلغه هو، وكادت تنال من الشهرة مثل ما ناله. ودفنت بجواره في حديقة (الروح القدس).

ص: 90

ودمرت هذه الحديقة في أثناء الثورة الفرنسية، وعبثت الأبدي بالقبور، ولعلها اختلط بعضها ببعض. ثم نقل ما يظن أنه رفات أبلار وهلواز إلى مقبرة الأب لاشيز Père Lachaise بباريس في عام 1817. وهناك ترى الرجال والنساء إلى يومنا هذا يأتون في أيام الأحد من فصل الصيف يحملون الأزهار ليزينوا بها القبر

(1)

.

(1)

لقد أوردنا قصة أبلار وهلواز ورسائلهما في كتابنا (أشهر الرسائل العالمية) فليقرأها من أراد الإطلاع على هذه السيرة العجيبة. (المترجم)

ص: 91

الباب السادس والثلاثون

‌مغامرات العقل

1120 -

1308

الفصل الأول

‌مدرسة شارتر

ترى كيف نفسر تلك الثورة الفلسفية العجيبة التي بدأت بأنسلم، وروسلأن وأبلار، وبلغت ذروتها في ألبرتس مجنس والقديس تومس أكوناس؟ لقد كان لهذه الثورة، كما هي السادة، كثير من الأسباب: منها أن الشرق اليوناني لم يكن قد تخلى قط عن تراثه الثقافي القديم، بل كانت كتب الفلاسفة الأقدمين تدرس في كل قرن في القسطنطينية، وإنطاكية، والإسكندرية؛ وكان رجال أمثال ميخائيل بسلس Miehael Psellus، ونقفورس بلميدس Nicephorus Blemydes (1197؟ -1272) ، وجورج بشميرس George Pachymeres (1242؟ - 1310) ، وبارهبريوس Bar Hebareus السوري (1226؟ -1282) كان رجال من أمثال هؤلاء مطلعين على مؤلفات أفلاطون وأرسطو بلغتها الأصلية؛ وأخذ المعلمون اليونان يدخلون بلاد الغرب كما أخذت المخططات اليونانية تدخلها تدريجاً. وحتى في تلك البلاد نفسها كان قليل من التراث اليوناني قد بقى بعد العاصفة البربرية؛ فقد بقى الجزء الأكبر من أرغنوق أرسطو في المنطق، ومن كتابي مينوق وتيماوسي لأفلاطون، وكانت

ص: 92

الصورة التي رسمها هذا الفيلسوف لإر Er هي التي لونت خيال المسيحيين عن الجحيم. وقد جاءت الموجات المتتابعة من الكتب العربية واليونانية والإسلامية من أفكار جديدة تتحدى الأفكار المسيحية وتختلف عنها اختلافاً يهدد باكتساح لاهوت العالم المسيحي كله إذا لم تنشئ المسيحية لها فلسفة مناهضة لهما. على أن هذه المؤثرات لم نكن تستطيع أن تنشئ تلك الفلسفة المسيحية إذا كان الغرب قد ظل فقيراً كما كان؛ أما الذي جعل لهذه العوامل أثراً فعالاً فهو نمو الثورة حين أخذت الزراعة تعزو القارة الأوربية، وأتسع نطاق التجارة والصناعة، وتكاثرت الأموال وما تؤديه من خدمات. وتعاونت هذه النهضة الاقتصادية مع تحرر المدن ذات الحكم الذاتي، وقيام الجماعات، وإحياء الآداب اللاتينية والقانون الروماني، وتقنين الشريعة الكنيسة، ومجد الفن القوطي، وازدهار الأدب الخيالي، و (علم) الشعراء الغزلين (المرح)، واستيقاظ العلوم، وبعث الفلسفة، وتعاونت هذه كلها على إيجاد (نهضة القرن الثاني عشر).

وجاء في أعقاب ثورة الفراغ، والدرس، والمدارس. وكانت كلمة Scholê تعنى في أول الأمر الفراغ. وكان الأسكلاستكوس scholasticus هو المدرس أو الأستاذ، كما كانت عبارة (الفلسفة المدرسية) تعنى الفلسفة التي تدرس في مدارس العصور الوسطى الثانوية أو في الجامعات التي نشأت كثرتها الغالبة من هذه المدارس الثانوية. كذلك كانت (الطريقة المدرسية) هي أسلوب الجدل الفلسفي والعرض الفلسفي الذين يستخدمان في هذه المدارس. وإذا ما استثنينا فصول أبلار التي كانت في باريس أو قريبة منها، فقد كانت مدرسة شارتر أكثر هذه المدارس نشاطاً وأعظمها شهرة؛ ففيها امتزجت الفلسفة بالأدب، وكان في وسع من يتخرج فيها أن يكتب في المسائل الخفية العويصة بالوضوح والظرف اللذين أصبحا من التقاليد المشرفة في فرنسا. وكان أفلاطون، الذي جعل هو

ص: 93

أيضاً الفلسفة مفهومة مستساغة، من الفلاسفة المحببين هناك؛ وفيها سوى النزاع القائم بين الواقعيين والقائلين بأن الكليات أن هي إلا الألفاظ وليس لها وجود حقيقي في العقل أو في خراجه، سوى هذا النزاع بقولهم أن الكلمات (الحقيقية) هي بعينها الأفكار الأفلاطونية، أو النماذج الأولى الخلافة التي في عقل الله. وبلغت مدرسة شارتر ذروة نفوذها في عهد برنار أحد مواطنيها (حوالي 1117) وأخيه ثيودريك (حوالي 1114)؛ وكان ثلاثة من خريجيها يسيطرون على ميدان الفلسفة بأوربا الغربية في النصف القرن التالي لحياة أبلار وهم: وليم الكوشي، وجلبرت ده لا بريه، ويوحنا السلزبري.

ويتبين الإنسان اتساع مجال الفلسفة المدرسية بوضوح عجيب في سيرة وليم الكوشي (1080؟ - 1154). فقد كان رجلاً ملماً بكتب أبقراط، ولكريشيوس، وحنين بن أسحق، وقسطنطين الأفريقي، بل وحتى دمقريطس نفسه (1). وقد أفتتن بالنظرية الذرية؛ واستنتج أن جميع أعمال الطبيعة تبدأ في الأصل باجتماع الذرات، ويصدق هذا على أرقى عمليات الجسم البشري وأعظمها خطراً (2). والنفس عنده هي اتحاد العناصر الجوهرية في الفرد مع النفس الكونية أو العنصر الجوهري في العالم (3). ونهج وليم نهج أبلار في إحدى المسائل الخفية الشديدة الخطورة فكتب يقول:"في الألوهية قدرة، وحكمة، وإرادة، وهي التي يسميها القديسيون أقاليم ثلاثة (4) ". وهو يفهم القصة القائلة أن حواء خلقت من ضلع آدم فهما يعتمد على المجاز الواسع. وهو يرد بعنف على شخص ما يدعى كرنفيوس Cornifius وغيره من (الكرنفيوسيين) الذين يقامون العلم والفلسفة بحجة أن في الإيمان الساذج ما يكفيهم. "فهم لا يطيقون أن يبحث غيرهم شيئاً ما، ويريدون منا أن نؤمن كما يؤمن السذج والهمج من غير أن نسأل عن السبب، كي يكون لهم رفاق في الجهالة

ولكنا نقول: أن من واجبنا أن نبحث لكل شيء عن علة، فإذا عجزنا عن معرفة تلك العلة

ص: 94

وكلنا الأمر إلى

إلى الروح القدس وإلى الإيمان (5)

(ويقولون): لسنا نعرف كيف يكون هذا، ولكننا نعرف أن في قدرة الله أن يفعله

ألا أيها البلهاء المساكين! أن في قدرة الله أن يخلق غراباً من شجرة، ولكن هل فعل الله هذا في يوم من الأيام؟ فعليكم إذن أن تدلوا بعلة لوجود شيء ما بالصورة التي هو عليها، وإلا فامتنعوا عن الاعتقاد بأنه على هذه الصورة

(6) أننا لا تسرنا الكثرة، وإنما تسرنا الغلة المختبرة، ونحن نكد في البحث عن الحقيقة وحدها.

لقد كان هذا القول أكثر مما يطيقه وليم التييري، ولهذا بادر الراهب المتحمس، الذي أغرى القديس برنار بمهاجمة أبلار، بالطعن على هذا الثائر الجديد صاحب النزعة العقلية والتنديد به عند رئيس دير كليرفو اليقظ المترقب. ورجع وليم الكوشي عن إلحاده، ووافق على أن حواء خلقت من ضلع آدم (8)، وهجر الفلسفة لأنها مغامرة لا يتناسب فيها الكسب مع ما يتعرض له صاحبها من أخطار، واشتغل مريباً لهنري بلانتجنت Henry Plantagenet الإنجليزي واختفى أسمه من التاريخ. وكان جلبرت ده لا يريه Gilbert de la Porrée (1070 - 1154) أكثر من وليم توفيقاً في هذا العمل المفعم بالأخطار. فقد تعلم ودرس في شارتر وفي باريس، وصار أسقفاً لبتيير Potiers ووضع كتاباً ذا ستة مبادئ Liber sex prencepiorium ظل ستة قرون النص الذي يرجع إليه في علم المنطق؛ ولكن التعليق على بؤتيوس قد فهم منه أن طبيعة الله بعيدة عن إدراك العقل البشري بعداً يتحتم معه أن يؤخذ كل قول عنها على أنه تشبيه أو مجاز لا أكثر، ثم أنه أكد وحدة الله تأكيداً يجعل التثليث يبدو وكأنه مجاز لا غير (6). وفي عام 1148 اتهمه القديس برنار بالإلحاد، وأن كان وقتئذ في سن الثانية والسبعين، وحوكم على هذه التهمة في أوكسير Auxerre، وحير

ص: 95

معارضيه بما أورده من فروق دقيقة، وعاد إلى موطنه غير مدين. وحوكم مرة أخرى بعد سنة من ذلك الوقت، ورضى أن تحرق بعض فقرات انتزعت من كتبه، ولكنه عاد حراً إلى أبرشيتة؛ ولما طلب إليه أن يناقش آراءه مع برنار رفض الاقتراح وقال: أن هذا القديس يعوزه التبحر في اللاهوت إلى حد لا يستطيع معه فهم آرائه (10)، ويقول عنه يوحنا اللزبري: أن جلبرت "ناضج في الثقافة الحرة نضوجاً لا يفوقه فيه أحد من الناس (11) ".

وكان في مقدور يوحنا أن يقول هذا القول عن نفسه، لأنه كان من بين الفلاسفة المدرسيين أوسعهم ثقافة وأكثرهم تهذيباً، وأبلغهم قلماً. وكان مولده في لزبري حوالي عام 1117، وتتلمذ على أبلار في جبل القديس جفيف، وعلى وليم الكوشي في شارتر، وعلى جلبرت ده لابريه في باريس، ثم عاد إلى إنجلترا في عام 1149، وعمل أميناً لاثنين من رؤساء أساقفة كنتر بري هما: ثيوبولد وتومس أبكت، وقام لهما بعدة مهام دبلوماسية، زار فيها إيطاليا ست مرات، وأقام في البلاط البابوي ثماني سنين، وشارك بكت في ألقى في فرنسا، وشاهد مقتله في كتدرائيته، وعين أسقفاً لشارتر في عام 1178، وتوفى في عام 1180. وكانت حياته مليئة بالجلد، متعددة النواحي، عمل فيها هذا الرجل على وضع المنطق تحت مخبار تجارب الحياة ودراسة الفلسفة بتواضع منقطع النظير. ولما تقدمت به السن ورجع إلى آراء المدارس الفلسفية المختلفة أدهشه أن يراها لا تزال تجادل في الفرق بين الاسمية والواقعية: "ليس في مقدور الإنسان أن يتجنب هذه المسألة، ولقد حرم العالم وهو يبحثها، واستغرق بحثها من الوقت أكثر مما أستغرقه القياصرة في فتح العالم وحكمه

وأيا كانت النقطة التي يبدأ منها النقاش، فأنه يعود على الدوام ويرتبط بتلك المسألة، فهي أشبه بجنون روفس Rofus بنيفيا Naevia:" أنه لا يفكر في شيء آخر، ولا يتحدث عن شيء آخر، ولو أن نيفيا لم يوجد لظل روفس أبكم لا يبين"(12).

ص: 96

وحسم يوحنا نفسه الأمر من أيسر السبل حين قال: أن الكلى مدرك عقلي ييسر ربط الصفات المشتركة للكائنات المفردة؛ وكان جون لا أبلار هو الذي أقترح النظرية القائلة أن الكليات توجد في العقل مستقلة عن أفرادها المجسمة المادية.

وألف في تاريخ الفلسفة اليونانية والرومانية كتاباً بلغة لاتينية هي أحسن ما كتب منذ ظهرت رسائل الكوين - ويعد هذا الكتاب شاهداً عجيباً على اتساع الأفق العقلي في العصور الوسطى اتساعاً مطرداً؛ وظهر بعده كتاب المتالوجيكون Metalogicon الذي خفف فيه علم المنطق بما أضافه من ترجمة لنفسه، ثم كتاب بوليكراتكس Polycraticus (1159) الذي وضع له عنوناً ثانوياً غريباً (في حماقات رجال الحاشية وآثار الفلاسفة) De nugis Curialium et vistigüo philosophorum. وكان هذا الكتاب أول مقال في أدب العالم المسيحي عن الفلسفة السياسة. وهو يكشف عن أخطاء الحكومات القائمة في أيامه ورذائلها، ويرسم صورة للدولة المثالية، ويذكر صفات الرجل المثالي، ثم يواسينا بقوله: "كل شيء يشتري علناً، إلا إذا كان تواضع البائع هو الذي يمنع هذا الشراء، أن نار الجشع الدنسة تهدد مذابح الكنائس نفسها

وأن أحبار الكرسي الرسولي نفسه لا يضنون بأيديهم عن أن تدنسها المطايا" بل أنهم في بعض الأوقات يجوسون خلال الأقاليم في عربدة جنونية"(13). وإذا جاز لنا أن نصدق روايته التي نقلنا منها فقرات من قبل فأنه أبلغ البابا هدريان الرابع أن الكنيسة نصيباً موفوراً فيما يسود تلك الأيام من فساد، وأن البابا أجابه بما معناه أن الآدميين سيظلون آدميين مهما كانت أثوابهم؛ ويضيف يوحنا إلى ذلك تلك العبارة الحكومية: "في كل منصب من مناصب بيت الله (الكنيسة) إذا كان بعض رجالها يتكاسلون، فأن غيرهم يضافون إليهم ليؤدوا

ص: 97

عملهم. ولقد شاهدت من بين الشمامسة، ورؤساء الشمامسة، والأساقفة، والأحبار من يقومون بما يوجبه عليهم الله بجد وإخلاص يستبين الإنسان معهما أنهم أوتوا من مزايا الإيمان وفضائله أن من عهدوا إليه بحرث أبينا قد أحسنوا كل الإحسان" (14). وهو يرى أن الحكومة المدينة أكثر فساداً من رجال الذين، وأن من الخير لحماية الخلق أن يكون للكنيسة سلطان أخلاقي على جميع العالم ودوله (15).

وأوسع الفقرات شهرة في كتاب بوليكراتكس هي التي تشير إلى قتل الطغاة: "إذا حاد الأمراء شيئاً فشيئاً عن الطريق الحق، فليس من الخير في شيء أن يطاح بهم كلية على الفور، بل يكفي لومهم على ظلمهم بتعذيرهم والصبر عليهم، حتى يتبين أخيراً أنهم معاندون مصرون على فعل الشر

أما إذا تعارض سلطان الحاكم مع الأوامر الإلهية وأراد أن يحملني على أن أشاركه في حربه على الله، فأني لا أتردد قط في أن أرد عليه بقولي أن الله يجب أن يفضل على كل إنسان على ظهر الأرض أياً كان قدره

وليس قتل المستبد مشروعاً فحسب، بل هو حق وعدل" (16).

كانت هذه سورة من جون مهيجة مثيرة، أضاف إليها فقرة أخرى في موضع بعدها من الكتاب نفسه "بشرط ألا يكون القاتل مرتبطاً بالولاء للمستبد"(17). وهي جملة فيها نجاة للمستبدين لأن كل حاكم يلزم رعاياه بأن يقسموا يمين الولاء له. وفي القرن الخامس عشر دافع جان بتي (Jean Petie) عن اغتيال لويس صاحب أورليان بعبارات نقلها عن البوليكراتكس، ولكن مجلس كنستانس تغلب على بتي بحجة أن الملك نفسه لا يحق له أن يدين متهما دون أن يدعوه للمثول أمامه ويحاكمه.

ونحن (المحدثين) لا نستطيع أن نتفق على الدوام مع (المحدثين) في القرن الثاني عشر الذين كان يوحنا واحداً منهم؛ وهو يقول من آن إلى آن كلاماً

ص: 98

يبدو لنا أنه هراء، ولكن هراءه نفسه مصوغ في أسلوب من التسامح والظرف لا نكاد نعثر على ما يماثله بعدئذ قبل إرزمس Erasmus. وكان يوحنا أيضاً من الإنسانيين، يحب الحياة أكثر مما يحب الخلود، ويعشق الجمال والرحمة أكثر مما يعشق العقائد التحكمية في أي دين، ويقتبس من الآداب اليونانية - الرومانية القديمة وهو منشرح مغتبط أكثر منه حين يقتبس من صحف الكتاب المقدس. وهو يضع ثبتاً (بالأشياء التي يصح للرجل الحكيم أن يشك فيها dubitabilia، ومنها طبيعة النفس ومنشؤها، وخلق العالم، والعلاقة بين علم الله السابق وحرية الإرادة. ولكنه كان أحصف من أن يندفع إلى الإلحاد، بل كان يسير وسط الجدل القائم في أيامه بحصافة دبلوماسية وسحر خلاب. ولم يكن يرى أن الفلسفة صورة من صور الحرب، بل كان يراها بلسما للسلام، وبقول أن الفلسفة قوة مطلقة معدلة في الأشياء جميعها، وأن من وصل بطريق الفلسفة إلى الإحسان والمحبة فقد بلغ هدفها الحق" (18).

ص: 99

الفصل الثاني

‌أرسطو في باريس

نشر بطرس لمبارد أحد تلاميذ أبلار في عام 1150 كتاباً جمع فيه آراء أبلار مطهرة من الإلحاد، وكان غي القوت عينه بداية للفلسفة المدرسية الرسمية؛ وكان بطرس هذا، كما كان أنسلم، وارنلدا البريشيائي، وبنوفنتورا، وتومس أكوناس، إيطاليَّا جاء إلى فرنسا ليواصل العمل الراقي في اللاهوت والفلسفة. وكان يحب أبلار ويسمى كتابه نعم ولا كتاب صلواته، ولكنه إلى هذا كان يريد أن يكون أسقفاً، وقد طبق كتابه المسمى أربعة كتب في الآراء Sententearum طرائق نعم ولا بعد أن طهرها: وذلك بأن وضع تحت كل سؤال من أسئلة اللاهوت طائفة من العبارات المقتبسة من الكتاب المقدس ومن كتب آباء الكنيسة بعضها يؤيده وبعضها يعارضه؛ ولكن بطرس هذا وجد مخلصاً لكي يحيل كل الآراء المعارضة إلى نتائج تتفق مع الدين القويم. وقد عين أسقفاً لباريس وظل كتابه مدى أربعة قرون النص المحبب في برامج التعليم الديني إلى حد دعا روجر بيكن أن يأخذ عليه أنه حل محل الكتاب المقدس نفسه؛ ويقال إن أربعة من علماء اللاهوت ومنهم ألبرت وتومس كتبوا شروحاً على هذا الكتاب.

وإذا كان كتاب لمبارد قد أيد سلطان الكتب المقدسة والكنيسة على مطالب العقل الفردي، فقد حال مدى نصف قرن دون تقدم النزعة العقلية، ولكن حادثة عجيبة وقعت في تلك الخمسين عاماً بدلت علم اللاهوت؛ ذلك أن دخول أفكار أرسطو في ثوبها اللاتيني إلى أوربا بعد عامي 1150 و 1250 دفع علماء الدين الكاثوليك إلى أن يحاولوا التوفيق بين علم ما وراء الطبيعة اليوناني

ص: 100

وعلم اللاهوت المسيحي؛ كما أن مؤلفات ترجمة أرسطو العلمية وفيما وراء الطبيعة إلى اللغة العربية دفعت المفكرين المسلمين إلى أن يحاولوا التوفيق بين العقائد الإسلامية والفلسفة اليونانية. وكما إن اصطدام آراء أرسطو بعقول العبرانيين في أسبانيا قد اخذ يدفع ابن داود وابن ميمون في القرن الثاني عشر لان يحاولا التوفيق بين اليهودية والتفكير الهليني، وإن كان أرسطو قد بدا فوق متناول سلطان الكتب المقدسة، فقد اضطر علماء الدين المسيحي الى استخدام لغة العقل والمنطق وأسلحتهما. ولو أن الفيلسوف اليوناني كان حياً في هذه الأثناء لتبسم وهو يشهد كم من الأديان التي زلزلت العالم تجل آراءه.

ولكن ليس من حقنا أن نغالي في تقدير اثر المفكرين اليوناني في ازدهار الفلسفة أثناء تلك الفترة من الزمن. ذلك أن انتشار لتعليم، وما كان للجدل والحياة الذهنية من قوة حيوية في المدارس والجامعات خلال القرن الثاني عشر، والحافز القوي الذي كان لرجال من أمثال روسلان، ووليم الشمبوكسي، وأبلار، ووليم الكنشيسي، ويوحنا السلزبري؛ وأتساع آفاق الفكر بتأثير الحروب الصليبية، وازدياد علم الأوربيين بالحياة الإسلامية والتفكير الإسلامي في الشرق والغرب - كل هذا من شأنه أن يخلق رجالاً على شاكلة أكوناس ولو ظل أرسطو مجهولاً. والحق أن منشأ الجد الذي اتصف به أكوناس لم يكن حب أرسطو بل خشية ابن رشد. ذلك أن الفلاسفة العرب واليهود اخذوا منذ القرن الثاني عشر يؤثرون في التفكير المسيحي في أسبانيا؛ فقد دخل الكندي، والفارابي، والغزالي، وأبن سينا، وان جبيرول، وابن رشد، وابن ميمون أوربا اللاتينية من نفس الابواب التي دخلها منه افلاطون، وأرسطو، وأبقراط، وجالينوس، وأقليدس، وبطليموس.

وكان غزو التفكير الأجنبي على هذا النحو من أقوى الصدمات الذهنية للعقل الغربي الذي لم ينضج بعد، فلا عجب والحالة هذه إذا قوبل في بادئ الأمر

ص: 101

بالعمل على قمعه أو تأخيره؛ بل أن علينا أن نعجب من قوة التكييف المدهشة التي مكنت الجديد من امتصاص المعارف القديمة- الجديدة. وكان الأثر الأول لكتابي الطبيعة وما وراء الطبيعة لأرسطو، ولشروح ابن رشد، وهي الكتب التي وصلت الى باريس في العشر السنين الأولى من القرن الثالث عشر، أن زلزلت عقائد كثير من الطلاب، وان قام من العلماء أمثال أملريك البيني Amalric of Bène وداود الديننتي David of Dinant هاجمون بعض العقائد المسيحية الجوهرية كعقيدة خلق العالم، والإيمان بالمعجزات، والخلود الفردي. وظنت الكنيسة أن تسرب الأفكار العربية - اليونانية إلى جنوبي فرنسا أدى إلى تحلل الطبقات المتعلمة من الاستمساك بالدين القويم، واضعف من عزمها على مقاومة الحاد الألبجنسيين. ولهذا اجتمع مجلس كنسى في باريس عام 1210 وأدان أملريك وداود وحرم قراءة كتب أرسطو فيما (بعد الطبيعة والفلسفة الطبيعية) كما حرم قراءة (شروحها). وإذ كان هذا التحريم قد كرره مندوب من قبل البابا في عام 1215 فان لنا أن نفترض أن مرسوم عام 1210 قد أغرى الناس بقراءة هذه المؤلفات التي لولا هذا التحريم لكانت عندهم ممقوتة. وأجاز مجلس لاتران الرابع قراءة كتابي أرسطو في المنطق والأخلاق ولكنه حرم غيرهما من كتبه. وفي عام 1231 عفا جريجوري التاسع عن الأساتذة والعلماء الذين عصوا هذه المراسيم، ولكنه، جدد المراسيم (إلى اجل مؤقت حتى تبحث هذه الكتب وتطهر بما فيها). ويبدو أن الثلاثة الأساتذة الباريسيين الذين عينوا للقيام بمهمة تطهير كتب أرسطو قد تركوا هذا العمل. ولم تنفذ مراسيم التحريم زمناً طويلاً، لان كتابي الطبيعة وما وراء الطبيعة (الفيزيقا والمتافيزيقا) وغيرهما من كتب أرسطو كانا يقرأن في جامعة باريس عام 1222 (19). وأعاد أربان الرابع أمر التحريم في عام 1263؛ ولكن يبدو أن تومس أكوناس أكد له أن كتب أرسطو يمكن ان تطهر،

ص: 102

ولم يعمل أربان على تنفيذ تحريمه. وانتهى الأمر في عام 1266، إلى أن كان مبعوثو أربان الخامس في باريس يطلبون إلى جميع الطلاب المتقدمين لنيل درجة في الآداب دراسة جميع مؤلفات أرسطو دراسة وافية شاملة (20).

وأحدثت المشكلة التي واجهت العالم المسيحي اللاتيني في الربع الأول من القرن الثالث عشر أزمة كبرى في تاريخ الدين المسيحي. ذلك أن التعطش إلى الفلسفة الجديدة كان وقتئذ حمى ذهنية لا يمكن السيطرة عليها؛ ولهذا لم تواصل الكنيسة جهودها لفرض هذه السيطرة، بل إنها بدلاً من هذا وجهت قواها لحصار الغزاة وامتصاصهم فيها، فاخذ رهبانها الأوفياء يدرسون هذا اليوناني المدهش الذي قلب ثلاثة أديان رأساً على عقب؛ حتى أن الرهبان الفرنسيس وهم الذين يفضلون أوغسطين على أرسطو، رحبوا بالاسكندر الهاليس الذي بذل أول الجهود للتوفيق بين (الفيلسوف) والمسيحية. وبذل الرهبان الدمنيكيون كان تشجيع مستطاع لألبرتس مجنس وتومس أكوناس في هذا المشروع عينه؛ ولما أن انم هؤلاء الرجال الثلاثة عملهم بدا أن أرسطو لم يعد خطراً على المسيحية.

ص: 103

الفصل الثالث

‌الزنادقة

إذا شئنا إلاّ نفهم الفلسفة المدرسية على إنها تكديس لا طائل من ورائه للتجريدات المملة، وجب علينا ألا ننظر إلى القرن الثالث عشر على انه الميدان الذي يصول فيه الفلاسفة المدرسيون ويجولون غير منازعين، بل أن ننظر إليه على انه ميدان اصطرع فيه مدى سبعين عاما المتشككة، والماديون، والأحديون القائلون بوحدة الوجود، والجاحدون بالله، اصطرع فيه هؤلاء مع علماء اللاهوت المسيحي للاستحواذ على العقل الأوربي.

ولقد لاحظنا من قبل وجود نزعة عدم الإيمان بين أقلية ضئيلة من سكان أوربا، وزادت هذه الأقلية في القرن الثالث عشر على اثر اتصال الأوربيين بالمسلمين عن طريق الحروب الصليبية وتراجم الكتب العربية. ولما تبين الأوربيون وجود دين آخر، اخرج رجالاً عظاماً أمثال صلاح الدين والمندي، وفلاسفة مثل ابن سينا وابن رشد، كان ذلك في حد ذاته كشفاً اضطربت له نفوسهم؛ ذلك أن مقارنة الأديان لا تنفع الدين أي نفع. ومن الشواهد على هذا ما نقله ألفنسوا الحكيم Alfonso the wise، (1252 - 1284) عن انتشار عدم الاعتقاد بالخلود بين مسيحي أسبانيا (21)؛ وليس ببعيد أن تكون آراء ابن رشد قد تسربت إلى الشعب نفسه. وكان في جنوبي فرنسا في القرن الثالث عشر جماعة من أصحاب النزعة العقلية القائلين بان الله بعد ان خلق العالم تركه تسيره القوانين الطبيعية؛ وكانوا يعتقدون أن المعجزات مستحيلة، وان الصلاة لا تستطيع تغيير مسلك العناصر، وان الأنواع الجديدة لم تخلق خلقاً خاصاً وإنما وجدت بالتطور الطبيعي (22). وكان بعض أصحاب التفكير الحر-

ص: 104

وبعض القساوسة أنفسهم - ينكرون تحول العشاء الرباني إلى جسم المسيح (23). واخذ أحد المدرسين في أكسفورد يشكو قائلاً (انه ليس ثمة ما هو أشبه بالوثنية من القربان عند المذبح)(24). ويقول أَلان الليلي Alain of Lille (1114 - 1203) أن كثيرين من المسيحيين الزائفين في وقتنا هذا ينكرون البعث لان الروح تفنى مع الجسم)؛ وهم يؤيدون اعتقادهم بأقوال أَبيفور ولكريشيوس. ويعتنقون مذهب الجوهر الفرد، ويخرجون من هذا إلى أن خير ما يفعله الإنسان هو ان يستمتع بالحياة على ظهر الأرض (25).

ويبدو إن انتشار الصناعة في حواضر فلاندرز قد عمل على نشر الإلحاد. وشاهد ذلك إننا نجد داود الديننتي في بداية القرن الثالث عشر وسيجر البرابنتي قرب اختتامه يتزعمان حركة تشكك قوية. وكان داود (حوالي 1200) يدرس الفلسفة في باريس، ويمتع أنوسنت الثالث بجدله الدقيق (26)، ويعبث بضرب مادي من عقيدة الأحدية مضمونة إن الله، والعقل، والمادة الخالصة (المادة قبل ان تتشكل) أصبحت كلها وحدة في ثالوث جديد (27). وحرم كتابه الكواترنولي Quaternuli، والذي لا وجود له الآن. واحرق بأمر مجلس باريس المقدس الذي عقد في عام 1210. وندد هذا المجلس نفسه بأحدية قال بها أستاذ آخر من جامعة باريس هو أملريك البيني، ومضمونها ان الله والخليقة شيء واحد. وأرغم أملريك على أن يرجع عن قوله ومات، كما يقول، من حسرة الخيبة (1207)(28). وأمر المجلس تنبش عظامه وتحرق في ميدان باريس إرهاباً لاتباعه الكثيرين. غير انهم ظلوا مستمسكين بآرائهم على الرغم من هذا، ووسعوا نطاق آرائه فأنكروا وجود الجنة والنار، وقوة القربان المقدس. وحرق عشرة من اتباع أملريك هذا أحياء (1210)(29).

وازدهر التفكير الديني الحر في جنوبي إيطاليا الذي كان يحكمه فردريك الثاني، حيث شب القديس تومس، وحيث أعلن الكردنال أبلديني صديق

ص: 105

فردريك جهرة اعتناقه المذهب المادي (30). أما في إيطاليا الشمالية فان عمال الصناعة، ورجال التجارة والمال، والمحامين، وأساتذة الجامعات اندفعوا إلى حد ما في تيار المتشككين. واشتهرت جامعة بولونيا بعدم مبالاتها بالدين، فكانت المدارس الطبية فيها وفي غيرها من المدن مراكز للشك، وفيها نشأ القول المأثور (حيث يجتمع ثلاثة أطباء يكون اثنان منهم كافرين ubi tres medici duo athei)(31) ، وكادت آراء ابن رشد حوالي عام 1240 تصبح الطراز العصري بين الطبقات المتعلمة من غير رجال الدين في إيطاليا. وكان آلاف منهم يقبلون عقائد ابن رشد القائلة بان القانون الطبيعي يحكم العالم دون تدخل من قبل الله؛ وان العالم مخلد كله؛ وانه لا يوجد إلا نفس واحد خالدة هي (عقل) الكون (الفعال)، وان النفس الفردية ليست إلا مظهراً أو صورة عابرة زائلة من هذا العقل، وان الجنة والنار قصص اخترعت لتغرى العالم أو ترهبهم فيحسن سلوكهم (32). وأراد بعض المعتنقين لآراء ابن رشد ان يسترضوا محاكم التفتيش فتقدموا بعقيدة الحقيقة المزدوجة؛ فقالوا أن القضية قد تبدو صحيحة من ناحية الفلسفة أو حسب التعليل الطبيعي، ولكنها مع ذلك قد تكون خاطئة حسب الكتب المقدسة أو الدين المسيحي؛ واقروا في الوقت نفسه انهم يؤمنون بمقتضى الدين بما يشكون فيه حسب العقل والمنطق. وهذه النظرية تنكر الفرض الأساسي من فروض الفلسفة المدرسية - وهو إسكان التوفيق بين العقل والدين.

وكانت جامعة بدوا في أواخر القرن الثالث عشر، وطول القرنين الرابع عشر والخامس عشر مركزاً مضطرباً لفلسفة ابن رشد. ونذكر من الشواهد الدالة على هذا الاضطراب أن بطرس الأباوي Peter of abano (حوالي 1250 - 1316) أستاذ الطب في جامعة باريس ثم أستاذ الفلسفة في جامعة يدوا، الف كتاباً يراد به التوفيق بين النظريات الطبية والفلسفية. وقد اكتسب مكانة

ص: 106

ملحوظة في تاريخ العلوم الطبيعية لأنه قال في دروسه أن المخ هو مصدر الأعصاب وان القلب مصدر الأوعية الدموية. ولأنه قدر طول السنة تقديراً مدهشاً في وقته وهو 365 يوما، وست ساعات وأربع دقائق (34). وكان لثقته بالفلسفة يرجع العلل كلها تقريباً لقوة النجوم وحركتها، وكاد يبعد الله عن حكم العالم (35). واتهمه رجال محاكم التفتيش بالإلحاد؛ غير أن المركيز أزودست Azzo d'Este والبابا هونوريوس الرابع كانا من بين مرضاه فبسطا حمايتهما عليه. ثم اتهم مرة أخرى في عام 1315، ونجا هذه المرة من المحاكمة بان مات ميتة طبيعية. وحكم قضاة التفتيش بان تحرق جثته في ميدان الحريق، ولكن أصدقاءه أخفوا رفاته إخفاء محكما اضطرت المحكمة أن تنفذ حكمها بحرق صورة له (36).

ووجد تومس أكوناس بعد انتقاله من إيطاليا إلى باريسان فلسفة ابن رشد قد استحوذت من زمن بعيد على جزء كبير من الجامعة، ويؤيد هذا ما لاحظه وليم الأوفرني في عام 1240 من أن في الجامعة (كثيرين من الرجال يلتهمون هذه النتائج (من فلسفة ابن رشد) من غير تمحيص)؛ وان تومس نفسه وجد فلسفة أبن رشد منتشرة بين شباب الجامعة (37). ولعل ما نقله تومس عن هؤلاء قد روع البابا أسكندر الرابع (1256) فكلف ألبرتس مجنس أن يكتب رسالة في وحدة العقل ضد فلسفة ابن رشد. ولما جاء تومس ليدرس في باريس (1252 - 1261، 1269 - 1276) كانت حركة الفلسفة الرشدية قد بلغت ذروتها؛ وقد درس زعيمها في فرنسا سيجر البرابنتي Siger of Barbant في هذه الجامعة من 1266 إلى 1276. وظلت فلسفة ابن رشد والكثلكة تتخذان من جامعة باريس ميداناً لاقتتالهما جيلا من الزمان.

وكان سيجر (1235؟ - 1281) وهو قس من غير رجال الدين الاديرة متجراً في العالم؛ وحتى الأجزاء القليلة الباقية من مؤلفاته تنقل عن الكندي، والفارابي، والغزالي، وأبن سينا، وابن باجة، وأبن جبروئيل، وأبن ميمون. ويقول سيجر في سلسلة

ص: 107

من الشروح والتعليقات على أرسطو، وفي مقالة جدلية ضد رجلي الفلسفة الذائعة الصيت، ألبرت وتومس، يقول سيجر في هذه وتلك أن ألبرت وتومس يفسران الفلسفة تفسيراً خاطئاً وان ابن رشد يفسرها تفسيراً صحيحاً (39). وهو يستخلص ما يستخلصه ابن رشد من أن العالم أزلي، وان القانون الطبيعي لا يتبدل، وان نفس النوع وحدها هي التي تبقى بعد موت الفرد. ويقول سيجر أن الله هو العلة النهائية، لا العلة الفعلية، للأشياء- وهو هدف الخليقة لا علتها. وقد افتتن بالمنطق فقاده هذا الافتتان كما قاد فيكو Vico ونتشة إلى الإيمان بعقيدة تسلسل الحادثات تسلسلاً لا نهائياً فقال: بما أن جميع الحادثات الأرضية تحددها في نهاية الأمر تجمعات النجوم، وبما أن عدد التجمعات الممكن حدوثها محدودة، فان كل تجمع لا بد أن يتكرر بصورته نفسها المرة بعد المرة في زمن لا نهائي، تكراراً تعقبه حتما نفس النتائج التي أعقبته من قبل؛ وبذلك تعود (نفس الأنواع، ونفس الاراء، والقوانين، والأديان)(40). وقد حرص سيرجو على أن يضيف إلى هذا (ونحن نقول هذا أخذاً برأي الفيلسوف، دون أن نقطع بصحته)(41). وكان يضيف مثل هذا الاحتياط إلى كل رأي من آراءه الملحدة. ولم يكن يجهر بعقيدة الحقيقتين؛ وكان يعلم تلاميذه أن بعض النتائج تستتبعها آراء أرسطو ويستتبعها العقل؛ فإذا كانت هذه النتائج تناقض العقائد المسيحية، فانه يؤكد إيمانه بعقائد الدين، ويسمها هي وحدها، دون الفلسفة بميسم الحق (42).

ويدل تقدم سير إلى المطالبة بان يكون مديراً للجامعة على انه كان له فيها اتباع كثيرون، وان لم يوفق في طلبه هذا (1271). وليس أدل على تمكن فلسفة ابن رشد في جامعة باريس من تنديد إتين تمبييه Etienne Tempier أسقف باريس بهذه الحركة المرة بعد المرة. ففي عام 1269 حكم بأن ثلاث عشرة

ص: 108

قضية من القضايا التي يعلمها في الجامعة بعد الفلاسفة مبادئ الحادية لا تتفق مع الدين، وهذه القضايا هي:

انه لا يوجد في الناس كلهم إلا عقل واحد .... وان العالم أزلى

وانه لم يوجد قط رجل أول

وان النفس تفسد بفساد الجسم

وان إرادة الإنسان تريد وتختار بحكم الضرورة

وان الله لا علم له بالحوادث الفردية

وان أعمال الإنسان لا تسيطر عليها العناية الإلهية (43).

ويبدو أن مدرسة ابن رشد الفلسفية ظلت تعلم كما كانت تعلم من قبل، وشاهد ذلك أن الأسقف اصدر في عام 1277 ثبتاً بتسع عشرة ومائتي مسألة قرر رسمياً إنها تسم القائلين بها بالإلحاد. وهذه المسائل، على حد قول الأسقف، كان يعلمها سيجر أو بؤيثوس الداشياوي Boethius of Dacia أو غيرهما من أساتذة جامعة باريس ومنهم القديس تومس نفسه. وكانت هذه المسائل التسع عشرة والمائتين تشمل التي حكم عليها في عام 1269 وغيرها من المسائل الشبيهة بالأقوال الآتية:

إن عملية الخلق مستحيلة

إن الجسم إذا فسد (بالموت) لا يمكن أن يقوم بعدئذ بوصف كونه الجسم نفسه

أن من واجب الفيلسوف ألا يؤمن ببعث في المستقبل، لان هذا لا يمكن ان يمحصه العقل

أن أقوال علماء الدين قائمة على الطرافات

أن علوم الدين لا تضيف شيئاً ما إلى معلوماتنا

أن الدين المسيحي يقف في سبيل العلم

أن الإنسان يحصل على السعادة في هذه الحياة لا في غيرها

أن العقلاء في هذه الأرض هم الفلاسفة وحدهم

انه ليس ثمة حالة افضل من أن يجد الإنسان فراغاً في دراسة الفلسفة (44).

وأدانت محكمة التفتيش سيجر في شهر أكتوبر من عام 1277؛ وقضى سنيه الأخيرة في إيطاليا سجيناً بأمر المحكمة الرومانية حتى اغتاله مختال نصف مجنون في أرفيتو Orvieto.

ص: 109

الفصل الرابع

‌تطور الفلسفة المدرسية

لم يكن الحكم على هذه القضايا الإلحادية يكفي لصد هذه الهجوم الشديد على الدين المسيحي. ذلك أن الشباب ثمن بخمر الفلسفة القوي. فهل كان كسب المعركة بالالتجاء إلى العقل؟ لقد اقبل علماء الدين من الرهبان الفرنسيس والدمنيكيين، والأحبار من غير الرهبان أمثال وليم الأوفرني وهنري الغنتي Henry of Ghent، للدفاع عن المسيحية وعن الكنيسة، كما كان المتكلمون من قبلهم يدافعون عن الإسلام ضد المعتزلة.

وقسم الدفاع نفسه الى معسكرين رئيسيين: المعسكر الصوفي- الأفلاطوني ومعظم رجاله من الرجال الفرنسيس؛ والمعسكر العقلي- الأرسطوي ليس ومعظم رجاله من الرهبان الدمنيكيين. أما البندكتيون أمثال هيو Hugh ورتشرد السانت فكتوري فقد كانوا يحسون أن خير الدفاع عن الدين هو إدراك الإنسان المباشر وجود حقيقة روحية اعمق من كل تعمق ذهني. وكان (المتزمتون) أمثال بطرس رجل بلوا Blois، واستيفن رجل تورناي يقولون إن الفلسفة يجب ألا تبحث في مسائل اللاهوت، فإذا فعلت فعليها أن تتحدث وتسلك بوصفها خادماً للاهوت (46). ومن واجبنا أن نذكر أن هذا الرأي لم يكن يقول به إلا قسم من الجبهة المدرسية (47).

وعالج عدد قليل من الرهبان الفرنسيس أمثال اسكندر الهاليسي (1170؟ - 1245) المسألة عن طريق العقل، وحاولوا أن يدافعوا عن المسيحية باستخدام المصطلحات الفلسفية والأرسطوطاليسية، ولكن معظم الرهبان الفرنسيس

ص: 110

لم يكونوا يثقون بالفلسفة؛ وكانوا يحسون أن مغامرات العقل مهما تأت للكنيسة بالقوة والمجد إلى حين، قد تفلت من السيطرة عليها فيما بعد، وتبعد الناس عن الدجين بعد أن تترك المسيحية ضعيفة لا نصير لها في عام جاحد فاسد الأخلاق. فكانوا لهذا يفضلون أفلاطون عن أرسطو، وبرنار عن أبلار، وأغسطين عن أكوناس. وكانوا يعرفون النفس كما عرفها افلاطون بأنها روح مستقلة تسكن الجسم وتسكن فيه، وهالهم أن يروا تومس يأخذ بتعريف أرسطو للنفس بأنها (الصورة المادية) للجسم. وقد وجدوا في أفلاطون نظرية للخلود غير الشخصي لا فائدة منها قط في قمع غرائز الناس الحيوانية. واتبعوا رأي أغسطين فوضعوا الإرادة فوق العقل في الله وفي الإنسان على حد سواء، وكان الهدف الذي يبتغونه هو الخير لا الحقيقة. وكانوا في تربيتهم للقيم يجعلون الصوفي اقرب من الفيلسوف لجوهر الحياة الخفي ومعناها.

وسيطر القسم الأفلاطوني- الأوغسطيني من جيش المدرسين على العلوم الدينية التقليدية في النصف الأول من القرن الثاني عشر. وكان اعظم الناطقين بلسان هذا القسم هو بونافنتورا التقي- وهو رجل طيب القلب طارد الإلحاد، وصوفى يكتب في الفلسفة، وعالم يستهجن العلم، وصديق مدى الحياة ومعارض لتومس أكوناس، ومدافع عن الفقر الذي يدعو إليه الإنجيل ومضرب المثل لهذا الفقر، جمعت طائفة الرهبان الفرنسيس بإشرافه ورعايته قدراً كبيراً من الثروة الجماعية ولقد ولد جيوفني دي فدنزا Giovanni di Fidanza في تسكانيا عام 1221 ثم اصبح اسمه لسبب لا نعرفه بونا فنتورا- الحظ الحسن. وكاد يموت وهو صغير من أحد أمراض الأطفال، وأخذت أمه تصلي الى القديس فرانسيس ليمن عليه بالشفاء؛ وأحس جيوفني بعدئذ بأنه مدين بحياته إلى هذا القديس. ولهذا انظم إلى اتباعه وأرسل إلى باريس ليدرس على الاسكندر الهاليسي، ثم شرع في عام 1248 يعلم اللاهوت في الجامعة، واختير في عام 1257،

ص: 111

وهو لا يزال شاباً في السادسة والثلاثين من عمره، راعياً عاماً لطائفة الرهبان الفرنسيس، فلم يدخر وسعاً في إصلاح ما دبَّ في الطائفة من تراخ، ولكن دماثة أخلاقه لم تمكنه من النجاح، وان كان هو نفسه يحيى حياة الزاهد البسيطة؛ ولما حاءه الرسل يبلغونه انه اختير كردنالاً وجدوه يغسل الصحاف؛ ومات بعد عام واحد (1274) منفرط الإجهاد.

وكانت كتبه جيدة الأسلوب، واضحة، موجزة. وكان يتظاهر بأنه الجامع لها لا اكثر، ولكنه بعث في كل موضوع مسه بقلمه روح النظام، والحماسة، والتواضع الذي يستل السخائم. وكان كتابه القول الموجز خلاصة للاهوت المسيحي كثير الإعجاب، كما كان الحديث المفرد، ورحلة العقل إلى الله درة في تاج النقي الصوفي. ومن أهم مبادئه ان المعرفة الحقة لا تأتي عن طريق إدراك الحواس للعالم المادي بل تأتي لإدراك النفس للعالم الروحي عن طريق اللقانة. وكان بونا فنتورا يحب القديس تومس، ولكنه كان يعارض في قراءة الفلسفة، وينتقد في صراحة بعض ما استخلصه أكوناس من النتائج. وكان يذكر الرهبان الدمنيكيين بان أرسطو كان كافراً، وانه يجب الا توضع أقواله في منزلة أقوال آباء الكنيسة، وتساءل هل في مقدور فلسفة أرسطو أن تفسر حركات نجم من النجوم لحظة واحدة؟ (48). وهو يقول أن الله ليس نتيجة يصل إليها العقل عن طريق العقل بل هو وجود حي، الإحساس به خير من تحديده، وان الخير أسمى من الحقيقة، والفضائل الساذجة تعلو على كل العلوم. ويقولون ان الاخ إجيديو Egidio هاله في يوم من الأيام تبحر بونا فنتورا في العلم فقال له:(واحسرتاه! ماذا نفعل نحن الجهلاء السذج كي نكون خليقين بحب الله!) فأجابه بونا فنتورا بقوله: (أخي، انك لتعلم حق العلم انه يكفيك حب الله) فرد عليه أديجو بقوله: (فهل تؤمن إذن بان مقدور امرأة ساذجة ان تسره كما يسره أستاذ في اللاهوت؟). فلما أجابه بنعم اندفع ديجو الى الطريق وصاح

ص: 112

في امرأة متسولة: (ابتهجي، لأنك إذا أحببت الله، قد يكون لك مكان في ملكوت السموات أعلى من مكان الأخ بونا فنتورا!)(49).

وجلي أن من الخطأ أن نظن أن (الفلسفة) المدرسية المعروفة بهذا الاسم إنما هي آراء وأساليب في البحث مجدبة متفق عليها بالإجماع. لقد كانت هناك في واقع الأمر مائة من الفلسفات المدرسية؛ فقد كانت الكلية الواحدة من كليات الجامعة تضم أحد أشباع تومس الذي يمجد العقل، واحد أنصار بونا فنتورا الذي يستهجنه ويزدريه، واحد اتباع وليم الاوفرني (1180 - 1240) الذي يقول مع ابن جبيرول بحرية الإرادة، واحد اتباع سيجر يعلم فلسفة ابن رشد. وكاد الاختلاف والنزاع بين أنصار الدين القويم يبلغان من الشدة ما بلغاه بين الدين واللادين. فكان يوحنا بكهام الأسقف الفرنسيسي يندد بأكوناس تنديداً لا يقل صرامة عن تنديد تومس بسيجر وابن رشد؛ وكتب ألبرتس مجنس في ساعة فارقة فيها صلاحه يقول:(هناك أناس جاهلون لا يتورعون في محاربة استخدام الفلسفة لكل سلاح، وأَخُصُ بالذكر من هؤلاء الرهبان الفرنسيس- أولئك الوحوش الكاسرة الذين يسبون مالا يعرفون)(50).

وكان ألبرت يحب العلم ويعجب بأرسطو الا حين يتطرق إلى الإلحاد في الدين، وكان أول من درس من الفلاسفة المدرسين جميع مؤلفات الفيلسوف الكبرى، واخذ على نفسه أن يفسرها تفسيراً يوافق الدين المسيحي. وكان مولده في لاننجن Laningen بسوايبا Swabia حوالي عام 1201 وولده هو الكونت بلستادت Bollst?dt الثري، ثم درس في يدوا وانظم الى الرهبان الدمنيكيين واشتغل في بالتدريس في مدارس الدمنيك في هلدسهايم Hildesheim، وفرايبرح Freibueg، وراتسبون Ratisbon، واسترسبورج، وكولوني (1228 - 1245) وباريس (1245 - 1248). ثم عين بعدئذ مندوباً إقليمياً

ص: 113

لطائفته في ألمانيا ثم أسقفاً لراتسبون (1260) على الرغم من تفضله حياة التدريس. وتقول الرواية المأثورة انه كان يمشي حافي القدمين في جميع أسفاره (51). وفي عام 1262 سمح له أن يعتزل العمل ويأوى الى دير في كولوني، ثم ترك ما كان فيه من هدوء وهي في السادسة والسبعين من عمره (1277) ليدافع عن عقيدة تلميذه المتوفى تومس أكوناس وعن ذكراه في جامعة باريس. وافلح فيما ندب إليه، وعاد الى ديره، وتوفي في التاسعة والسبعين من عمره. وان حياته العامرة بالوفاء والإخلاص لدينه، وتواضعه الخلقي، وتعدد نواحي نشاطه العقلي، لتظهر فيها حياة الأديرة في خير مظاهرها.

وليس ثمة ما يفسر لنا كيف يستطيع رجل قضا ما قضا من الوقت في التدريس والأعمال الإدارية أن يكتب مقالات في كل فرع من فروع العلم تقريباً، ورسائل قيمة في كل فرع من فروع الفلسفة وعلوم الدين، نقول ليس ثمة شيء يفسر لنا هذا إلا هدوء حياة الأديرة الرتيبة والصبر الفائق الذي يمتاز به العلماء الألمان%=@وإلى القارئ كتب ألبرت الكبرى في الفلسفة واللاهوت بأسمائها الأصلية:

(1)

في المنطق de praedicabilibus; Philosophia Rationalis Perihermenias؛ de sex principüs; de praedicamentis Analytica priora، (De interpretatione i. e) ؛ libri elenchorum; Tropica; Analytica posteriora.؛ (2) وفيما وراء الطبيعة- De unitate intellictus contra Averroistas; metaphy Sica; de fato (3) وفي علم النفس De anima; De sensu et sensato، De memoria et reminiscentia، De intellectua et intelligibili، De potentüs animae (4) وفي علم الأخلاق Ethica (5) وفي السياسة Politicia (6) وفي اللاهوت Summa de creaturis; Summa theologiae Commentarium in sententias Petri Lombardi; ommentarium de divians nominibus. وتتكون الرسائل الخمس الواردة في هذا الثبت من واحد وعشرين مجلداً من مؤلفات ألبرت التي لم تنتشر كلها بعد. @. وقلما يوجد في التاريخ من كتب هذا القدر من المكتب والرسائل والمقالات، واخذ من غيره مثل ما اخذ، او اعترف بمثل صراحته،

ص: 114

بدينه لمن اخذ عنهم. ويتخذ البرت مؤلفات أرسطو أسساً لكتبه وتكاد عناوينها كلها تكون هي بعينها عناوين مؤلفات الفيلسوف القديم؛ وهو يستعين بشروح ابن رشد على تفسير مؤلفات ذلك الفيلسوف، ولكنه يفسر المؤلفات الأصيلة والشروح تفسيراً جريئاً اذا ما ناقضت الدين المسيحي. وهو يرجع الى آراء المفكرين المسلمين بدرجة جعلت مؤلفاته مصدراً هاماً بما نعرفه عن الفلسفة الإسلامية. ولا تخلو صفحتان من كتبه من أقوال يقتبسها من ابن رشد، ويرجع أحياناً إلى كتاب دلالة الحائرين لابن ميمون، ويعترف بان أرسطو اعظم مرجع في العلوم والفلسفة، وأوغسطين اعظم مرجع في علوم الدين، والكتاب المقدس اعظم المراجع في كل شيء ومقالاتهم المكدسة التي يخطئها الحصر سيئة الترتيب ولا يمكن ان يستخلص منها نظام متسق للتفكير، وهو يدافع عن عقيدة ما في موضع ثم يهاجمها في موضع اخر او في الموضع نفسه احياناً؛ ولم يتسع وقته لتصفيه متناقضاته. وكان إفراطه في الطيبة والتقي يحول بينه وبين التفكير الموضعي؛ وكان في وسعه ان يتبع تعليقاً على أرسطو برسالة طويلة مؤلفة منن اثنى عشر (كتاباً) في الثناء على مريم العذراء المباركة يقول فيها أن مريم كانت ملمة إلماماً كاملاً بالنحو، والبيان، والمنطق، والحساب، والهندسة، والموسيقى، والفلك.

فما هي إذن أهم أعماله؟ أن أهم هذه الأعمال هي انه كان له نصيب موفور في البحث العلمي في ذلك الوقت وفي نظرياته؛ وانه كان في ميدان الفلسفة (قدم أرسطو للاتين)، وهو كل ما كان يهدف إليه؛ وكان له الفضل في استخدام مؤلفات أرسطو في تعليم الفلسفة؛ وجميع كنوز التفكير والجدل الوثنية والعربية واليهودية والمسيحية التي استخدمها تلميذه الذائع الصيت في فلسفته التركيبية التي تفوق فلسفة أستاذه وضوحاً وتنظيماً. ولسنا نجافي الحقيقة إذا قلنا انه لولا ألبرت لما وجد تومس.

ص: 115

الفصل الخامس

‌تومس أكوناس

(أو تومس الأكوينى)

كان تومس، كما كان ألبرت، من أسرة شريفة، ولكنه تخلى عن الثراء لينال جنة الخلد؛ فقد كان والده الكونت لاندلف الأكويني Count Landulf من النبلاء الألمان، وابن عم بربرسا، ومن أبرز الشخصيات في البلاط الاكويني لفردريك الثاني الزنديق. كذلك كانت أمه من سلالة أمراء صقلية النورمان. ومع أن تومس ايطالي المولد فقد كان من ناحيتي أبيه وأمه ينتمي الى اصل شمالي أهم ما يجري في عرقه هو الدم التيوتوني؛ ولم يكن فيه شيء من الظرف الطليان وخبثهم، بل شب على ضخامة الجسم الالمانية، فكان كبير الرأس، عريض الوجه، أشقر الشعر، هادئاً بجده الذهني، وكان أصدقاؤه يلقبونه (ثور صقيلة الأبكم العظيم)(52).

ولقد ولد في عام 1225 بقصر أبيه في ركاسكا Roccosecca، على بعد ثلاثة أميال من أكوينو وفي منتصف الطريق بين نابلي وروما. وكان دير جبل كسينا قريباً من مسقط رأسه، وفيه تلقى تومس تعليمه المبكر، ولما بلغ الرابعة عشر من عمره بدأ دراسته في جامعة نابلي واستمرت هذه الدراسة خمس سنين؛ وكان في هذه الجامعة ميخائيل اسكت يترجم مؤلفات ابن رشد إلى اللغة اللاتينية؛ ويعقوب الأناضولي يترجم مؤلفات هذا الفيلسوف إلى اللغة العبرية؛ وبطرس الايرلندي أحد أساتذة تومس الشديد التحمس لأرسطو. وكانت هذه الجامعة تموج بالمؤثرات اليونانية والعربية، والعبرية، تصطدم فيها بالأفكار المسيحية. واتجه اخوة تومس نحو الشعر؛ ودخل أحدهم رينلدو Rainaldo

ص: 116

في بلاط فرديريك وصار فيها من الصائدين بالبزاة، وطلب إلى تومس أن ينظم إليه وأيده في هذه الدعوة ببرودل فنى Piero delle Vigne وفدريك نفسه، ولكن تومس، بدلاً من ان يقبل الدعوة، انظم إلى الرهبان الدمنيكيين (1244)؛ وأرسل بعد قليل من ذلك الوقت إلى باريس ليدرس اللاهوت؛ غير أن اثنين من اخوته اختطفاه في بداية رحلته بتحريض أمهما؛ وجيء به إلى قصر ركاسكا حيث وضع تحت الرقابة مدة عام (53)، اتخذت معه في خلاله كل وسيلة لمنعه من الاتجاه إلى هذه الناحية؛ وتروي إحدى القصص، واكبر الظن أنها موضوعه، أن فتاة حسناء أدخلت إلى حجرته رجاء أن تغريه بالعودة إلى هذه الحياة الدنيا، ولكنه اختطف من المدفأة شعلة ملتهبة أخرجها بها من الحجرة، وحرق علامة الصليب التي كانت في الباب (54). وما لبثت شدة تقواه أن ضمت أمه إلى جانبه، فساعدته على الفرار؛ ثم أصبحت أخته ماركتا Marcotta، بعد أحاديث كثيرة معه، راهبة بندكتيه.

وكان ألبرت الأكبر أحد معلميه في جامعة باريس (1254)، فلما نقل ألبرت إلى جامعة كولوني تبعه تومس إليها، وظل يدرس معه فيها حتى عام 1252. وكان تومس يبدو غبياً في بعض الأحيان، ولكن ألبرت كان يدافع عنه ويتنبأ بعظمته (55). ثم عاد بعدئذ إلى باريس واخذ يدرس فيها بعد أن نال درجة البكالوريوس في علوم الدين، وحذا في هذا الوقت حذو أستاذه فبدأ سلسلة من المؤلفات يعرف فيها فلسفة أرسطو في ثياب مسيحية. وغادر باريس في عام 1259 ليدرس في المعهد الذي أقامه الديوان البابوي تارة في أناني وتارة في آرفيتو وطوراً في فيتربو. والتقى في الديوان البابوي بوليم موربيك William Moerbeke وطلب إليه أن يصدر ترجمة لاتينية لمؤلفات أرسطو من اللغة اليونانية مباشرة.

وكان سيجر برابانت وقتئذ يتزعم في جامعة باريس ثورة تدعو إلى فلسفة ابن رشد، فأرسل تومس ليقاوم هذه الدعوة؛ ولما وصل إلى باريس نقل مركز

ص: 117

المعركة إلى معسكر العدو برسالته في وحدة العقل ضد فلسفة ابن رشد (1270) واختتمها بهذه الفقرة النارية التي لا عهد للناس بها:

انظروا كيف فدنا هذه الاخطاء؛ انا لم نبن هذا التفنيد على أسس من وثائق مستندة الى الإيمان بالدين، بل بيناه على علل وأقوال منقولة عن الفلاسفة أنفسهم. فإذا وجد إنسان يفخر مزهواً بحكمته المزعومة، ويرغب في نقل ما كتباه، فعليه ألا يفعل هذا في ركن من الأركان، أو أمام الأطفال لا قدرة لهم على البث في مثل هذه المسائل الشائكة. عليه ان يجيب علناً إذا كان له من الشجاعة ما يمكنه من هذا العمل، وسيجدني مستعداً لمواجهته، ولن يجد شخصي العاجز وحده، بل سيجد كثيرين غيري ممن جعلوا الحقيقة موضوع دراستهم؛ سنحارب أخطاؤه ونداوي جهله (56).

ولم تكن الحرب في ميدان واحد، لان تومس لم يكن مضطراً في هذه الفترة الثانية من اشتغاله بالتدريس أن يقاوم فلسفة ابن رشد وحدها، بل كان عليه فوق ذلك أن يصد هجمات زملائه الرهبان، الذين لم يكونوا يثقون بالعقل، ويرفضون قول تومس انه يمكن التوفيق بين أرسطو والمسيحية. ووجه جون بكهام الذي خلف بونافتورا في كرسي الرهبان الفرنسيس للفلسفة بجامعة باريس اشد اللوم إلى تومس لربطه اللاهوت المسيحي بفلسفة إنسان وثني. ويقول بكهام فيما بعد أن تومس لم يتحول عن موقفه ورد عليه (برفق وتواضع عظيمين)(57). وربما كانت هذه السنوات الثلاث التي احتدم فيها الجدل هي التي أنهكت قواه.

ودعى في عام 1272 إلى العودة إلى إيطاليا بدعوة من شارل دوق أنجو ليعيد تنظيم جامعة نابلي، ثم امتنع عن الكتابة في سنيه الأخيرة؛ ولسنا نعرف أكان سبب هذا ما اعتراه من ملل أم انه قد خاب ظنه في فائدة النقاش والجدل. ولما أن ألح عليه صديق له بان يتم كتابه الموجز في علوم الدين أجابه

ص: 118

بقوله: (لا أستطيع؛ لقد تكشفت لي أشياء يبدو لي معها أن ما كتبته ليس الا هباء)(58). ودعاه جريوجوري العاشر في عام 1274 لحضور مجلس ليون؛ وبدأ سفره الطويل على ظهر بغل مخترقاً إيطاليا، ولكنه اعتراه الضعف في الطريق بين نابلي وروما فآوى إلى الفراش في دير السترسبين فسانوفا Fossanuova بكنبانيا، وتوفي في عام 1274 غير متجاوز التاسعة والأربعين من عمره.

ولما ضم بعد وفاته إلى مجمع القديسين شهد شهود بأنه كان حلو اللسان، سهل الحديث، بشوش الوجه وديعاً .. كريم الاخلاق، صبوراً إلى أقصى حد، يتلألأ وجهه بالبشاشة والتقوى الممزوجة بالرقة، شديد العطف على الفقراء (59). وكان منهمكاً في التقى والدرس انهماكاً يشغل كل تفكيره وكل لحظة يقضيها مستيقظاً في يومه. يحضر جميع الصلوات المقررة في مواعيدها، يتلو قداسا أو يستمع لقداسين في كل صباح، ويقرأ ويكتب، ويعظ ويعلم، ويصلي. وكان من عاداته قبل أن يلقي عظة أو محاضرة، وقبل أن يجلس للدرس أو التأليف، أن يصلي؛ وكان زملاؤه الرهبان يظنون أنه (مدين بعلمه إلى صلواته اكثر مما هو مدين به إلى جهود عقله)(60). وأنا لنجد من حين إلى حين على هامش مخطوطاته دعوات صالحات مثل (السلام عليك يامريم Ave Maria!)(61) . وقد انهمك في الحياة الدينية والعقلية انهماكاً قلما كان يلاحظ معه ما يحدث حوله؛ فكانت صحفته ترفع وتغير في غرفة الطعام دون ان يدري ما بها في بعض الأحيان؛ ولكن يبدو أن شهيته للطعام كانت جيدة. دعى مرة للعشاء مع جماعة من رجال الدين على مائدة لويس التاسع، فترك العنان للتفكير وهو جالس إلى المائدة حتى نسى نفسه، ثم ضرب المائدة فجأة بقبضته وصاح قائلاً:(هذه هي الحجة الدامغة ضد المانويين!). وانبه رئيس ديره على عمله هذا وقال له: انك جالس إلى مائدة ملك فرنسا، ولكن لويس اظهر من الرقة والمجاملة ما هو خليق بملك مثله، فأمر أحد اتباعه بأن يأتي للراهب المنتصر بأدوات

ص: 119

كتابية (62). ومع هذا كله كان بمقدور الراهب المنهمك في أمور الدين أن يكتب في كثير من شئون الحياة العملية كتابة جيدة المعنى. وكان الناس يلاحظون كيف يستطيع أن يكيف مواعظه لتلائم عقول زملائه الرهبان المجدين في الدرس، أو عقول العامة السذج. وكان بعيداً عن التكلف، عديم مطالب الحياة، لا يسعى إلى ألقاب التعظيم، ويرفض الرقى الى مناصب الكنيسة، وقد انتشرت كتاباته في جميع العالم، ولكنها لا تحتوي على كلمة واحدة نابية؛ وهو يواجه بها كل حجة مقاومة لدينه، ويقرعها بالحسنى وفي هدوء.

وجرى على عادة زمانه وزاد عليها، فكان يعترف بصراحة بما يأخذه عن غيره، فهو يقتبس من ابن سينا، والغزالي، وأبن رشد، واسحق اسرائيلي، وابن جبيرول، وابن ميمون؛ وما من شك في أن أي طالب لا يستطيع فهم فلسفة القرن الثالث عشر المدرسية من غير أن يدرس ما سبقها من فلسفات المسلمين واليهود. ولا يشارك تومس وليم الأوفرني في تقديره لابن جبيرول، ولكنه عظيم الاجلال (للرابي ميسيز Rabbi Moyses) كما يسمى موسى بن ميمون، ويقول بما قال به هذا الفيلسوف من انه يمكن التوفيق بين العقل والدين، ولكنه يوافقه أيضاً على ان بعض أسرار الدين بعيدة عن متناول العقل؛ وينقل الحجج المؤيدة لهذا البعد من كتاب دلالة الحائرين (63). وهو يتفق مع ابن ميمون في أن مقدور العقل البشري ان يثبت وجود الله، ولكنه ليس في مقدوره ان يسموا لمعرفة صفاته، وهو يتتبع خطى ابن ميمون خطوة خطوة في بحث أزلية العالم

(1)

. ويسترشد في المنطق وما بعد الطبيعة بأرسطو ويكاد ينقل عنه في كل

(1)

ويقول العالم جلسن Gilson: " لو أن ابن ميمون لم يتأثر بابن رشد فيعتنق فكرة خاصة عن الخلود، لكان في وسعنا أن نقول إن ابن ميمون وتومس يتفقان في جميع النقط الهامة"(65) وفي هذا القول شئ من المبالغة إلا إذا قلنا إن التثليث وتجسد الأقنوم الثاني، والكفارة من العناصر غير ذات الشأن في الدين المسيحي.

ص: 120

صفحة من كتبه، ولكنه لا يتردد في أن يخالفه حينما يحيد الفيلسوف عن العقائد المسيحية؛ وبعد أن يعترف بان التثليث، والتجسد، والافتداء، ويوم الحساب لا يمكن إثباتها عن طريق العقل، يتقبل حكم العقل في جميع المسائل الأخرى قبولا كاملاً لا تردد فيه، ارتاع له اتباع أوغسطين. وكان ينزع الى مبادئ الصوفية في اعترافه بان بعض العقائد المسيحية فوق متناول العقل البشري، ويشاركهم في الشوق الى الاتحاد مع الله؛ ولكنه كان من جماعة (العقليين) لانه يفضل العقل على (القلب) بوصفه أداة توصل الى الحقيقة. وقد تنبأ بان أوربا مقبلة على (عصر العقل)، وكان يرى أن من واجب الفيلسوف المسيحي أن يستعد لملاقاة هذه النزعة الجديدة في ميدانها. وكان يبدأ حججه المنطقية بأقوال يقتبسها من الكتاب المقدس وآباء الكنيسة، ولكنه يقول بصراحة محكمة قوية:(أن الحجة التي تستند إلى أقوال الغير أوهن الحجج)(66). ومن أقواله في هذا المعنى: (أن دراسة الفلسفة لا تهدف الى الكشف عما فكر فيه الآخرون بل تريد أن تصل إلى حقيقة الأمور)(67). وان كتاباته لتضارع كتابات أرسطو فيما يسري فيها كلها من منطق.

وقلما نجد في التاريخ كله عقلاً واحداً اخضع مثله ميدانا من ميادين التفكير بمثل هذه السعة لحسن التنظيم وللوضوح. ولن نجد في أسلوب تومس ما يبهر أو يخلب لبنا، فهو أسلوب سهل يصل الى الهدف من اقرب السبل، موجز، دقيق، خال من الحشو والزخرف؛ ولكننا لا نجد فيه مثل ما نجد في أسلوب أوغسطين من قوة، وسعة الخيال، وانفعال ونزعة شعرية. وكان تومس يرى أن لا محل في الفلسفة للبلاغة، وكان يستطيع إذا شاء أن ينازل الشعراء في ميدانهم؛ ذلك أن اقرب ما كتبه الى الكمال هو الترانيم والأوراد التي وضعها لصيد القربان المقدس، ومن بينها ترنيمة Lauda Sion salvatorem التي تقول بوجود جسم المسيح ودمه وجوداً حقيقيا في العشاء الرباني، وصاغها في شعر فخم

ص: 121

طنان رنان. وفي التسابيح ترنيمة تبدأ بعبارة من أقوال أمبروز: Verqum supernum prodiens، وتختم بمقطوعتين Osalularis Bostia تنشدان أثناء البركة التي يمنحها الكاهن وقت العشاء الرباني، وفي صلاة المساء ترنيمة هي اعظم ما وجد من الترانيم في جميع العصور، وهي مزيج من الشعر واللاهوت:

تغن، يا لسان، بسر الجسم المجيد،

وبالدم الذي لا يقدر بمال، والذي أراقه

ملك الخلائق جميعا، وثمرة إكرام الأرحام،

فداء للعالمين.

أهدته إلينا وولدته عذراء لم يمسسها بشر،

وأقام على هذا الكوكب ينشر بذور الكلمة التي استحالت لحما،

أقام بيننا في تواضع، ثم اختتم مقامه اختتاماً عجيبا.

وفي ليلة العشاء الأخير والرسل لا يزالون مضطجعين،

مراعين كل ما تقضى به الشريعة القديمة في شأن الطعام الذي وضعته الشريعة،

الطعام الذي يطعمه الاثنا عشر مجتمعين يقدمه لنفسه بيديه،

إن الكلمة التي تجسدت تحيل الخبز بكلمة إلى لحمه؛

والنبيذ يصبح دم المسيح، وإذا عجزت الحواس أن ترى،

فليقو الطهر في القلب بالإيمان وحده.

ومن أجل هذا نجلّ هذا العشاء الرباني العظيم ونحن سجد؛

ألا فلتخل الطقوس القديمة مكانها لهذه الشعيرة الجديدة،

ولينج إيماننا عجز حواسنا المظلمة.

سبحوا بحمد الوالد والمولود وغنوا له أبهج الأغاني،

ص: 122

سلام، وتكريم، وسلطان، وبركات كثيرة

وليرفع الله له تسبيحا غير منتقص

صادر عن حواسنا وقلوبنا

(1)

.

وتكاد كتابات تومس تساوي في كثرتها كتابات ألبرت، وأن كانت حياة أولهما لا تزيد ألا قليلاً عن حياة الأخير، وقد كتب شروحاً على أحكام بطرس لمبارد، وعلى أناجيل أشعيا، وايوب، وبولس؛ وعلى كتاب تيماوس لافلاطون، وعلى مؤلفات بؤيثيوس والمؤلفات المدسوسة على ديونيسيوس، وعلى مكتب أرغنون، وفي السماء والارض، والسكون والفساد، والأفلاك، والطبيعة، وما وراء الطبيعة، وفي النفس، والسياسة، والاخلاق، وفي الحقيقة، وفي السلطان، وفي الشر، وفي العقل، وفي الفضيلة، وغيرها نن كتب أرسطو؛ وكتب يبحث نقطا تثار عارضة في جلسات الجامعة. وله رسائل في قوانين الطبيعة، والكائن، والجوهر، وحكم الامراء، وعمليات الطبيعة الخفية، وكتاب في اربعة مجلدات يسمى: خلاصة المذهب الكاثوليكي ضد الوثنيين Summa de veritate catholica de contra Gentiles (1267 - 1273) وخلاصة اللاهوت Compendium theologiae (1271 - 1273) . ويملأ ما نشر من مؤلفات تومس 10. 000 صفحة من القطع الكبير ذي العمودين في كل صفحة.

وكان إعداد خلاصة الدين الكاثوليكي ضد الوثنيين بطلب من ريمند البنيافورتي Raymond of Penafort زعيم طائفة الرهبان الدمنيكيين، ليستعين به على ضم المسلمين واليهود في أسبانيا إلى الدين المسيحي. ولهذا فان تومس يكاد

(1)

والمقطوعتان الأخيرتان تنشدان في أثناء البركة التي يمنحها الكاهن وقت العشاء الرباني وتتلى الترنيمة كلها في موكب يوم الخميس الصعود.

ص: 123

يستند في كل ما يورد من حجج في هذا الكتاب الى العقل والمنطق، وان كان يقول في أسف أن (هذا لا يكفي في الأمور المتعلقة بالله)(68). وهو يتخلى فيه عن الطريقة المدرسية في النقاس، ويعرض مادته في أسلوب يكاد يكون هو الأسلوب الحديث بعينه، ويعرضها أحياناً بمرارة لا تليق بهذا العالم الوديع الشبيه بالملاك. وهو يقول أن المسيحية دين الهي بلا ريب؛ لأنها غلبت روما وأوروبا على الرغم من دعوتها ضد ملاذ الدنيا وملاذ الجسد، وهي الدعوة التي لا يرحب بها الناس (69)؛ وهو يعترف صراحة الجزء الرابع من الكتاب بان العقائد الأساسية في الدين المسيحي لا يمكن إثباتها بالاستناد الى العقل والمنطق، وأنها تتطلب الإيمان بالوحي الإلهي كما جاء في الكتب المقدسة عند اليهود والمسيحيين.

ويوجه تومس أوسع كتبه كلها وهو خلاصة اللاهوت الى المسيحيين أنفسهم؛ وهو محاولة لشرح مجموعة العقائد الكاثوليكية في الفلسفة واللاهوت والدفاع عنها بالاستناد الى الكتب المقدسة وكتب آباء الكنيسة إلى العقل

(1)

. ومما جاء في مقدمة الكتاب: (سنحاول أن نتتبع الأمور المتعلقة بالعقائد المقدسة بإيجاز ووضوح بقدر ما تسمح به مادة هذا الموضوع). وقد يكون من حقنا ان نبتسم لهذا الإيجاز الذي يحتويه واحد وعشرون مجلداً، ولكن هذا ما يقوله المؤلف. والحق أن هذه الخلاصة ضخمة الحجم ولكنها بعيدة عن الحشو واللغو؛ وليست ضخامة حجمها إلا نتيجة سعة مجال بحثها؛ ذلك أن في هذه الرسالة عن اللاهوت رسائل كاملة فيما بعد الطبيعة، وفي علم النفس، والاخلاق، والقانون؛ وفيها ثمان وثلاثون رسالة، و 631 سؤالاً أو موضوعاً، وعشرة آلاف اعتراض أو رد. وترتيب الحجج الخاصة بكل سؤال مما يدعو إلى الإعجاب.

(1)

هذا الكتاب من أوله إلى السؤال التسعين من الجزء الثالث بما فيه هذا من تأليف تومس؛ أما بقية الكتاب فقد يكون من تأليف ريجلند البيرنوي رفيقه وناشر كتبه.

ص: 124

أما تركيب الكتاب فقد نال من الثناء اكثر مما يستحق، فهلا لا يضارع التنظيم المنطقي لكتاب الأخلاق لاسبنوزا او التتابع المسلسل لكتاب الفلسفة التركيبية لاسبنسر. ورسالته في علم النفس (الجزء الأول المشتمل على الأبواب من 75 إلى 94) موضوعة بين بحثه في الستة الأيام التي تم فيها الخلق وبين دراسة الإنسان وهو في عهد البراءة الأولى. وشكل الكتاب اكثر طرافة من تركيبه؛ وهو في جوهره يواصل طريقة أبلار من الحد الذي بلغته على يد بطرس لمبارد ويبلغ بها درجة الكمال: يبدأ بالسؤال، تتلوه الحجج النافية، والاعتراضات على الحجج الموجبة، ثم الحجج الموجبة المأخوذة من الكتاب المقدس، ومن كتب الآباء، والمستندة إلى العقل، ثم الردود على الاعتراضات. وهذه الطريقة تضيع الوقت أحياناً لأنها تورد حججاً واهية ثم تدحضها، ولكن النقاش أحياناً نقاش جوهري وحق. ومن خصائص تومس انه يورد الرأي المخالف لرأيه بصراحة مدهشة وقوة عظيمة؛ وبهذه الطريقة كان الكتاب خلاصة للإلحاد كما هو حصن حصين للعقائد المسيحية، ولكننا لا نستطيع أن نشكو قط من ان الشيطان لم يجد له مدافعاً قديراً.

ص: 125

الفصل السادس

‌فلسفة تومس

‌1 - المنطق

ما هي المعرفة؟ هل هي نور الهي بعثه الله في الإنسان، وبغير هذا لا يمكن أن تكون؟ يخالف تومس منذ البداية أوغسطين، والمتصوفة، والقائلين بمذهب اللقانة

(1)

: فالمعرفة في رأيه نتاج طبيعي، يحصل عليها الإنسان من حواس الجسم الخارجية، ومن الحاسة الداخلية المعروفة يا لشعور بالذات. وهي معرفة محدودة غاية في القصور، فما من عالم قد عرف حتى وقتنا هذا حقيقة الذبابة (70). ولكن المعرفة في داخل حدودها خليقة بان يوثق بها، ولا حاجة بنا لان يتولانا الغضب من أن العالم الخارجي قد يكون كله خداعاً في خداع. ويقبل تومس تعريف المدرسيين للحقيقة بأنها مطابقة الفكرة للشيء adequatio rei et intellectus، (71) . وإذ كان العقل يستمد كل معلوماته الطبيعية من الحواس (72) فان معرفته المباشرة للأشياء الخارجة عنه مقصورة على الأجسام- أي على عالم الحس والمحسوس، وليس في مقدوره أن يعرف من طريق مباشر العالم الذي فوق المحسوس، عالم ما وراء الطبيعة، العقول التي في داخل الأجسام أو الله في خلقه؛ ولكن في وسعه عن طريق المقارنة والقياس أن يستمد من تجارب الحس معرفة غير مباشرة بالعقول الأخرى، وان يحصل بمثل هذه الطريقة على معرفة مباشرة بالله (73). أما العالم الثالث عالم ما فوق الطبيعة - حيث يوجد الله- فليس في مقدور عقل الإنسان أن يعرف عنه شيئاً ألا من طريق الوحي

(1)

Intuitionists

ص: 126

الإلهي. وفي وسعنا ان نعرف طريق الفهم الطبيعي لن الله موجود، وانه واحد، لان وجوده ووحدانيته تتلألآن في عجائب العالم وحسن تنظيمه؛ ولكننا لا نستطيع بعقلنا وحده ان نعرف جوهرة اغو حقيقة التثليث؛ وحتى علم الملائكة أنفسهم قاصر ومحدود وإلا كانوا آلهة.

وقصور علمنا في حد ذاته دليل على وجود عالم فوق الطبيعي. ويكشف الله لنا عن هذا العالم في كتبه المقدسة؛ وكما ان من الحمق ان يقول الفلاح إن نظريات الفلسفة كاذبة لأنه يعجز عن فهمها، كذلك يكون من الحمق أن يرفض الإنسان الإيمان بالوحي الإلهي بحجة انه يبدو له في بعض النقط مناقضاً لمعلومات الإنسان الطبيعية. وعلينا أن نثق بأنه لو كانت معلوماتنا كاملة، لما كان ثمة تناقض بين الوحي والفلسفة؛ ومن الخطأ أن نقول إن قضية ما يمكن أن تكون خاطئة في الفلسفة وصحيحة في الدين؛ ذلك بأن الحقائق كلها تأتي من عند الله وهي واحدة. غير انه يحسن بنا أن نفرق بين ما نفهمه عن طريق العقل وما نعتقده عن طريق الإيمان (74)، لان ميداني الفلسفة والتصور ميدانان منفصلان؛ ويجوز للعلماء ان يبحثوا فيما بينهم ما يعترض به على الدين، ولكن (لا يحسن بالسذج من الناس أن يسمعوا إلى ما يقوله غير المؤمنين ضد الدين) لان العقول الساذجة ليس لها من الاستعداد ما تستطيع أن ترد به على المعترضين (75). ويجب على العلماء والفلاسفة، كما يجب على الفلاحين ان ينحنوا أمام قرارات الكنيسة؛ ومن واجبنا أن نهتدي بهديها في كل شيء (76)؛ لأنها هي المكان الذي أودع فيه الله الحكمة الإلهية؛ وقد أعطى البابا (الحق في ان يصدر أحكاماً نهائية في شؤون الدين حتى يأخذها الناس جميعاً بالإيمان لا يتزعزع)(77). وبغير هذا لا مفر من الفوضى العقلية، والأخلاقية، والاجتماعية.

ص: 127

‌2 - ما وراء الطبيعة

(الميتافيزيقا)

ميتافيزيقية تومس تعريفات معقدة عويصة وفروق دقيقة يقوم عليها كلها لاهوته.

1 -

الجوهر والوجود في الأشياء المخلوقة مختلفان، فالجوهر هو ما لا بد منه لإدراك الشيء؛ والوجود هو عملية الكينونة. فجوهر المثلث - أي انه ثلاثة خطوط مستقيمة تظم بينها فراغاً- واحد لا يتغير سواء وجد المثلث أو كان مجرد إدراك ذهني. أما في حالة الله فالجوهر والوجود شيء واحد؛ لان جوهرها هو انه العلة الأولى، والقوة التي يقوم عليها كل الأشياء (التي تقف تحت الأشياء) كما يقول أسبنوزا. وتعريفه يحتم وجوده لكي يوجد كل ما عداه من الأشياء.

2 -

والله موجود بالحقيقة، وهو الكائن المكون لجميع الكائنات، وعلتها التي تستند إليها، وكل الكائنات الأخرى موجودة بالتصور لا غير، وبالاشتراك المحدد في حقيقة الله.

3 -

وكل الكائنات المخلوقة فاعلة ومنفعلة معاً - أي أنها تفعل وتنفعل. وهي أيضاً مزيج من الكينونة والصيرورة: فلها صفات معينة قد تفقد بعضها وتكسب غيرها- فالماء مثلاً قد يدفأ. ويعبر تومس عن هذا التأثير بالعمل الخارجي أو التبدل الداخلي بلفظ الإمكانية potentia. والله وحده هو المنزه عن هذه الإمكانية، فهو لا ينفعل ولا يتبدل، وهو نشاط خالص، وحقيقة خالصة؛ وهو من بادئ الأمر كل شيء يمكن أن يكونه. ويمكن ترتيب الموجودات التي دون الله ترتيباً تنازلياً يقوم على عظم إمكانيتها في التأثر بما هو

ص: 128

خارج عنها والتحدد به. وعلى هذا يكون الرجل أرقى من المرأة لان (الأب هو المبدأ الفعال، على حين ان الأم هي المبدأ المنفعل أو المادي؛ فهي تقدم مادة الجسم التي لا صورة لها، والتي تتلقى صورتها عن طريق القوة المكونة التي في منى الأب)(78).

4 -

كل الكائنات ذات الأجسام تتكون من مادة وصورة، ولكن الصورة هنا (كما هي عند أرسطو) ليس معناها الشكل بل العنصر الفطري المنشط المميز. وحين تكون الصورة أو العنصر الحيوي جوهر كائن ما فهي تكون صورة أساسية جوهرية، وبهذا تكون النفس العاقلة- أي القوة التي تهب الحياة والقادرة على التفكير- هي صورة الجسم الأساسية، والله هو صورة الكون الأساسية.

5 -

والحقائق كلها إما جوهر أو عرض: إما أن تكون موجودات منفصلة كالحجر والانسان، او انها لا توجد الا على هيئة صفات في شيء آخر كالبياض والكثافة. أما الله فهو جوهر محض، لأنه هو الحقيقة الكاملة الموجودة بذاتها.

6 -

والجواهر كلها فردية، ولا شيء غير الأفراد موجود إلا في الفكر، والفكرة القائلة بان الفردية خداع هي نفسها خداع.

7 -

وفي الكائنات المكونة من مادة وصورة يكون العنصر الأساسي أو مبدأ الانفراد- أي تضاعف عدد الأفراد في النوع أو الصنف - هو المادة. أما الصورة أو المبدأ الحيوي في النوع بأكمله فهي في جوهرها واحدة. وهذا المبدأ يستخدم لكل فرد، مقداراً معيناً وشكلاً من المادة، ويستحوذ عليه، ويعطيه شكلاً؛ وهذه المادة التي تعينت بكميتها هي مبدأ الانفرادية- وليست الانفرادية هي الفردية بل الذاتية المنفصلة.

ص: 129

‌3 - اللاهوت

المحور الذي تدور حوله فلسفة وموضوع بحثها هو الله لا الانسان، وقد كتب في ذلك يقول:(أن أرقى ما نستطيع تحصيله من معرفة عنه في هذه الحياة أن نعرف انه فوق كل ما يمكن أن يدور. بخلدنا عنه)(79). وهو يرفض حجج أنسلم الكونية، ولكنه يقترب منها حين يقول أن وجوده وجوهره شيء واحد، فالله عنده هو الوجود نفسه:(أنا من أنا).

ويقول تومس انه يمكن البرهنة على وجود الله بعلل طبيعية (1) فالحركات كلما تنشأ من حركات سابقة، وهذه تنشأ من أخرى قبلها اسبق منها رجوعاً لا نهاية له وهذا مستحيل (2) كذلك يتطلب تسلسل العلل علة أولى (3) والعرضي، وهو ما قد يكون ولكن لا يتحتم أن يكون، يعتمد على الضروري الذي لا بد أن يكون؛ ويعتمد الممكن على الواقع، وهذا التسلسل يرجع بنا الى كائن ضروري هو الحقيقة الخالصة (4) والأشياء طيبة، وحقه، وسامية، بدرجات مختلفة، ولا بد أن يكون هناك اصل أو مصدر لهذه الفضائل الناقصة يبلغ حد الكمال في الطيبة والحقيقة والسمو (5) في العالم آلاف من الشواهد الدالة على ما فيه من نظام، وحتى الجمادات نفسها تتحرك بطريقة منظمة، وكيف يمكن وجود هذا إلا إذا كانت هناك قوة عاقلة هي التي خلقت هذه الأشياء؟

(1)

.

وإذا ما استثنينا مسالة وجود الله قلنا أن تومس يكاد يكون لا إداريا في اللاهوت الطبيعي (لا نستطيع أن نعرف ما هو الله، بل نعرف فقط ما لا يمكن أن يكونه)(82) - انه لا يترك، ولا يتعدد، ولا يتحول، ولا يحيط به زمان ولم تريد العقول المتناهية في الصغر ان تزيد علمها بما لا نهاية له؟ ويقول تومس

(1)

221، 5 منقولة عن ألبرت عن أرسطو (3) عن ابن ميمون (4) عن أنسلم.

ص: 130

أن من الصعب علينا أن نتصور الروح غير المادية (وهو يسبق برجسون في قوله هذا) لان العقل يعتمد على الحواس، ولان تجاربنا الخارجية كلها مقصورة على الأشياء المادية؛ وعلى هذا (لا نعرف الأشياء المجردة من الأجسام، والتي لا صور لها، إلا بمقارنتها بالأجسام المحسوسة التي لها صور)(83). وليس في مقدورنا أن نعرف الله (كما يقول ابن ميمون) إلا عن طريق المجاز والتشبيه، فستدل عليه من أنفسنا ومن تجاربنا؛ وعلى هذا فإذا كان في الناس خير، وحب، وحق، وعقل، وقدرة، وحرية، أو أي ميزة اخرى، فلا بد ان تكون هذه أيضاً في خالق الإنسان، وان تكون فيه بدرجة أعلى تتفق مع النسبة الموجودة بين اللانهائية وبيننا نحن. وإذا ما استعملنا ضمائر المذكر حين نتحدث عن الله فليس ذلك إلا من قبيل التيسير، أما الحقيقة فليس ثمة ذكر وأنثى في الله ولا في الملائكة. والله واحد لأنه حسب تعريفه هو الوجود ذاته، وان السير العالم الموحد ليكشف عن عقل واحد وقانون واحد. وان القول بوجود ثلاثة أقانيم في هذه الوحدة الإلهية له سر غامض لا يدركه العقل، ولا بد أن تعتقده بإيمان الواثقين.

وليس في مقدورنا كذلك أن نعرف هل خلق العالم في وقت بعينه، وبذلك يكون قد خلق من لاشيء، أو هل هو أزلي كما يظن أرسطو وابن رشد؟ ومن رأيه أن الحجج التي يدلى بها رجال الدين ليثبتوا بها خلق العالم في زمن بعينه حجج واهية يجب رفضها (حتى لا تبدو العقيدة السمحة بأنها قائمة على أسانيد منطقية جوفاء)(84). ويستنتج تومس من هذا أن علينا أن تعتقد بالاستناد إلى إيماننا وحده بخلق العالم في وقت معين؛ إذ ليس ثمة وقت بلا تغيير، ولا مادة تتحرك. وهو يحاول بأقصى جهده ان يشرح كيف ينتقل الله من لا خلق إلى خلق دون أن يعتريه تغير. وعملية الخلق في رأيه أزلية، ولكنها

ص: 131

تشمل في إرادة القيام بها تحديد الوقت الذي يتطلبه ظهور نتائجها (85) - وتلك طريقة ظريفة يروغ بها هذا الرجل العنيد من المشكلة التي يواجهها.

والملائكة في رأيه هم أرقى طبقات الخلق، وهم عقول بلا أجسام، غير قابلين للفساد، مخلدون. وهم رسل الله في حكم العالم بهم تترك الأجرام السماوية وبهم تهتدي (86)؛ ولكل إنسان ملك يحرسه وكبار الملائكة يعنون بجماعات كبيرة كم الناس. وإذ كان من الملائكة عقولاً بلا مادة فان بمقدورهم أن ينتقلوا من أحد أطراف العالم إلى الطرف الآخر من غير أن يتجاوزا ما بينهما من فضاء. ويملأ تومس ثلاثاً وتسعين صفحة في طبقات الملائكة، وحركاتهم، وحبهم، وعلمهم، وارادتهم، وكلامهم، وعاداتهم - وهذا هو اكثر أجزاء الخلاصة الطويلة تكلماً واكثر استعصاء على التنفيذ.

وكما أن هناك ملائكة فكذلك يوجد عفاريت، وهم أبالسة صغار يأتمرون بأمر الشيطان؛ وليس هؤلاء مجرد خيالات تخلقها عقول، العوام بل هم كائنات حقيقية يسيبون ما لا حصر له من الأذى؛ وفي وسعهم أن يجعلوا الرجل عاجزاً عن القيام بالوظيفة الجنسية بأن يثيروا فيه كره المرأة (87)، ويقومون بضروب مختلفة من السحر؛ فقد يرقد العفريت تحت الرجل، ويتلقى منيه، ويحمله مسرعاً في الفضاء؛ ويجامع أمرأة، فتحمل من منى رجل غائب (88). وفي وسع العفاريت أن يمكنوا السحرة من أن يتنبئوا بالحوادث التي لا تعتمد على إرادة الإنسان الحرة. وفي وسعهم أن يبلغوا الناس معلومات بأن يطيعوها في خيالهم، أو بأن يظهروا أمام عيونهم، أو يتحدثوا لهم بصوت مسموع؛ وقد يتعاونون مع الساحرات، ويساعدونهن على إيذاء الأطفال، عن طريق الحسد (89).

وكان تومس يعتقد بصدقى التنجيم في كثير من الأمور، شأنه في ذلك شأن كثيرين من معاصريه، وكثيرين من معاصرينا نحن:

يجب أن نربط بين حركات الأجسام

على هذه الأرض وحركات

ص: 132

الأجرام السماوية وهي علتها

وثمة طريقتان يستطاع بهما تفسير قدرة المنجمين في كثير من الأحيان على التنبؤ بالحقائق برصد النجوم: أولاهما إن عدداً كبيراً من الناس يسيرون وراء انفعالاتهم الجسمية، وبذلك تتجه أعمالهم في معظم الأحيان حسب ميل الأجرام السماوية، على حين إن هناك قلة منهم -وهم العقلاء وحدهم- يهدؤون ميولهم بعقولهم

وثانيتهما ناشئة من تدخل العفاريت (90).

بيد إن (أعمال البشر لا تخضع لفعل الأجرام السماوية إلا خضوعاً عارضاً وبطريق غير مباشر)(91)؛ وفيها مجال كبير لحرية الآدميين.

‌4 - علم النفس

يعنى تومس ببحث المشاكل الفلسفية التي يتضمنها علم النفس، والصفحات التي يخصصها لهذا الموضوع من أحسن ما في كتابه من تحليل وهو يبدأ بفكرة إن الكائن الحي عضوي معارضاً في ذلك فكرة إنه آلي: فالآلة تتكون من أجزاء تضم بعضها إلى بعض من الخارج، أما الكائن الحي فيكون أجزاءه بنفسه ويحرك نفسه بما فيه من قوة داخلية (92). وهذه القوة الداخلية المكونة هي النفس، ويعبر تومس عن هذه الفكرة بمصطلحات من كتب أرسطو: فالنفس عنده (صورة هيولية) للجسم - أي إنها هي المبدأ الحيوي والطاقة التي تعطي الكائن الحي وجوداً وشكلاً: (النفس هي المبدأ الأول لغذائنا، وإحساسنا، وحركتنا وفهمنا)(93). والنفس ثلاث درجات النفس الثابتة - أي القدرة على النماء، والنفس الحساسة - أي القدرة على الشعور، والنفس العاقلة - أي القدرة على التعقل والاستدلال. والأولى موجودة في كل ما هو حي، أما الثانية فلا توجد إلا في الحيوانات والآدميين، وأما الثالثة فلا توجد إلا في بني الإنسان. غير إن الكائنات الحية العليا تمر في نمائها الجسمي والفردي بالمراحل التي تبقى فيها

ص: 133

للكائنات السفلى؛ و (كلما علت الصورة في سلم المخلوقات

زاد عدد الأشكال الوسطى التي تمر بها قبل أن تصل إلى صورتها الكاملة) (94) -ويشبه هذا القول نظرية (الإعادة) التي ظهرت في القرن التاسع عشر والتي تقول إن جنين الإنسان يمر بالمراحل التي مر فيها النوع أثناء نموه.

وبينما كان أفلاطون، وأوغسطين، والرهبان الفرنسيس يظنون إن النفس سجينة في الجسم، ويقولون إن الإنسان هو النفس لا غير، كان تومس جريئاً في قبول فكرة أرسطو، وهو يعرف الإنسان - بل يعرف الشخصية نفسها- بأنه مزيج من الجسم والنفس ومن المادة والصورة (95). فالنفس وهي الطاقة الداخلية التي تبعث الحياة، وتخلق الصورة، توجد في كل جزء من أجزاء الجسم كاملة غير قابلة للانقسام (96) وهي ترتبط بالجسم بألف طريقة. فهي بوصفها نفساً نباتية تعتمد على الطعام، وبوصفها نفساً حاسة تعتمد على الإحساس، وبوصفها نفساً عاقلة تحتاج إلى الصور التي تنتج أو تتركب من الاحساسات. وحتى المقدرة العقلية والمدركات الأخلاقية تعتمد على وجود جسم سليم إلى حد معقول. فالجلد السميك يدل على النفس عديمة الإحساس (97)؛ وللأحلام، والانفعالات، والأمراض العقلية، والأمزجة أسس في وظائف الأعضاء (98). ويتحدث تومس في بعض الأحيان كما لو كان الجسم والنفس حقيقة واحدة موحدة، أي الطاقة الداخلية والصورة الخارجية لكل لا يتجزأ. ومع هذا فقد كان يبدو له واضحاً كل الوضوح ان النفس العاقلة- المجردة، المعممة، المستدلة، المصورة للكون، - حقيقة غير جسمية؛ وإننا مهما حاولنا، وعلى الرغم من ميلنا الى التفكير في جميع الأشياء بمصطلحات مادية، لا نستطيع ان نجد شيئاً مادياً في الإدراك؛ فهو حقيقة تختلف كل الاختلاف عن جميع الأشياء المادية أو المكانية؛ ويجب ان نصف هذه النفس العاقلة بأنها روحية، شيء يبعثه فينا الله وهو القوة النفسية القائمة وراء كل الظواهر المادية. والقوة غير المادية وحدها هي التي تستطيع

ص: 134

ان تكون فكرة كلية، أو تقفز إلى الإمام والى الخلف في الزمان، او تدرك الكبير والصغير بدرجة واحدة من السهولة (99). وفي مقدور العقل أن يدرك نفسه، ولكن من المستحيل ان نتصور كائناً مادياً يدرك نفسه.

ولهذا فلا حرج علينا إذا اعتقدنا إن هذه القوة الروحية الموجودة فينا تبقى بعد موت الجسم؛ ولكن النفس التي تفارق الجسم على هذا النحو ليست ذات شخصية؛ فهي لا تقدر ان تحس أو تريد، أو تفكر، بل هي طيف لا قوة له ولا يستطيع أن يقوم بعمل بغير الجسم (100)، ولا تكون مع الجسم شخصية منفردة لا يجوز عليها الموت إلا إذا عادت إلى الاتحاد مع الجسم، أي مع الإطار الجسدي الذي كانت هي حياته الداخلية. ولقد كان السبب الذي دفع ابن رشد واتباعه إلى النظرية القائلة بأن (لا خلود إلا للعقل الفاعل) وحده، أو نفس الكون، أو نفس النوع، هو عدم إيمانهم ببعث الجسم. أما تومس فيسخر كل ما وهب من قوة الجدل ليدحض هذه النظرية؛ وعنده ان اختلافه عن ابن رشد في مسألة الخلود هم أهم المشاكل القائمة في القرن الذي يعيش فيه، وان ما ينشأ عن الوقائع الحربية من تبديل في الحدود وتغيير في الألقاب يبدو إلى جانبها عبثا وجنودنا لا اكثر.

ويقول تومس إن للنفس خمس صور أو قوى: النفس النباتية وبها نطعم، وننمو، ونتكاثر؛ والنفس الحاسة وبها نستقبل التنبيهات من العالم الخارجي؛ والنفس المشتهية، وبها نرغب ونريد، والنفس المحركة وبها تحدث الحركة، والنفس العاقلة وبها نفكر (101). والمعلومات كلها تبدأ بالحواس، ولكن التنبيهات لا تسقط على سطح فارغ أملس؛ بل يتلقاها بناء معقد هو مركز الإحساس المشترك، الذي يصوغ هذه التنبيهات أو الأحاسيس فيؤلف منها أفكاراً. ويتفق تومس مع أرسطو ولُك Locke في انه "لا شيء في العقل لم يكن له من قبل وجود في الحواس"، ولكنه يضيف إلى ذلك كما يضيف كانت وليبنتز قوله:

ص: 135

"إلا العقل نفسه"- وهو قوة منظمة تستطيع تنبيهات التنبيهات إلى الأفكار، وأخيراً الى تلك الكليات والأفكار المجردة التي هي أدوات الاستدلال، والميزة التي اختص بها الإنسان على هذه الأرض.

والإرادة أو الرغبة هي الموهبة التي تستطيع بها النفس أو القوة الحيوية أن تتحرك نحو ما يرى العقل انه خير. ويعرف تومس الخير كما يعرفه أرسطو بأنه "هو الشيء المرغوب فيه"(102). والجمال شكل من أشكال الخير، لأنه هو الذي تسر رؤيته. ولم كانت رؤيته سارة؟ إنها تسر لما بين أجزائها من تناسب وتناسق يجعل منها كلا منظما. والعقل خاضع للإرادة لان الرغبة تستطيع أن تحدد اتجاه الفكر؛ ولكن الإرادة نفسها خاضعة للعقل لان رغباتنا تحددها الطريقة التي تدرك بها الأشياء، والآراء التي تكونها عنها (مقلدين في ذلك غيرنا عادة). وليست الحرية مستقرة حقيقة في الإرادة التي "يحركها بالضرورة" فهمنا للمادة كما يعرضها علينا العقل (103). بل هي مستقرة في التمييز (arbitrium) : ولهذا تتناسب الحرية تناسباً مطرداً مع درجات المعرفة، والقدرة على الاستدلال، والحكمة، وعلى قدرة العقل ان يعرض صورة صحيحة للحالة القائمة على الإرادة؛ ومن ذلك يرى أن الحكماء وحدهم هم الأحرار حقاً (104). وليس الذكاء خير مواهب النفس وأسماء فحسب بل هو أيضاً أعظمها قوة:"وطلب الحكمة هو من بين مطالب الإنسان كلها أكملها، واسماها، وأعظمها نفعاً، واجلبها للسرور"(105): "وعمل الإنسان الخليق به هو أن يفهم"(106).

‌5 - علم الاخلاق

وإذن فغاية الإنسان الحقة هي أن يصل إلى الحقيقة في الحياة الدنيا، وان يشهد هذه الحقيقة في الله في الحياة الآخرة؛ ذلك إننا إذا سلمنا مع أرسطو بان ما يسعى إليه الإنسان هو السعادة، فأين يجد أحسنها؟ انه لا يجدها في الملاذ

ص: 136

الجسمية، ولا في الشرف، ولا في الثروة، ولا في السلطان. بل انه لا يجدها في الأعمال الصادرة عن الفضيلة الخلقية، وان حصل من هذه كلها على البهجة. ولنسم كذلك بان (النظام الكامل للجسم ضروري

للسعادة الكاملة) (107). ولكن ليس في هذه الطيبات كلها ما يضارع السعادة الهادئة الشاملة المتصلة الناشئة من الفهم. ولعل تومس كان يذكر وقتئذ قول فرجيل: (ما اسعد من استطاع أن يعرف علل الأشياء!) فاعتقد إن أسمى عمل تقوم به النفس واعظم ما تغتبط به - أي الذروة الطبيعية لعقليتها الخاصة - هي (أن ينقش عليها النظام الكامل للكون وأسبابه)(108). وان السلام الذي يعلو على الفهم لينشأ من الفهم.

ولكن هذه السعادة الدنيوية العليا نفسها لا تترك لإنسان راضياً كل الرضا قانعاً كل القناعة، فهو يعرف معرفة غامضة ان (السعادة الكاملة الحقة لا يمكن أن تنال في هذه الحياة). وان في داخله صوتاً لا يمكن إسكاته يجعله يتوق على الدوام ولفهم لا يتأثران بما يتعرض له الآدميون الفانون من تغيرات ومن صرف الزمان. وقد تجد غير هذه الشهوات ما يشبعها في الطيبات الوسطى، أما عقل الإنسان الكامل فلن يستريح إلا إذا وصل الى ذروة الحق وجماعة وهو الله (109). ففي الله وحده الخير الأسمى لأنه مصدر كل الطيبات الاخرى، ولانه علة سائر العلل، وحقيقة كل الحقائق، والهدف الأخير للإنسان هو نور النعيم الباهر- الرؤيا التي تهب السعادة

(1)

.

وعلى هذا يكون علم الأخلاق هو الفن والعلم اللذين يعدان الإنسان لبلوغ هذه السعادة النهائية السرمدية؛ ويمكن تعريف الطيبة الخلقية أو الفضيلة بأنها السلوك المؤدي إلى غاية الإنسان الحقة وهي أن يرى الله. والإنسان بطبعه ميال الى الخير- المرغوب فيه: ولكن ما يراه هو خيراً ليس في كل الأحوال خيراً

(1)

وهو النور الذي يراه الملائكة والأبرار عند دخولهم الجنة. (المترجم)

ص: 137

من الناحية الأخلاقية؛ وقد عصى الإنسان الله بسبب خطأ حواء في الحكم على ما هو خير، وهو يحمل الآن في كل جيل وزر هذه الخطيئة الأولى

(1)

. وإذا ما سأل إنسان عند هذه النقطة لم خلق الله، الذي يعرف كل شيء قبل حدوثه، رجلاً وامرأة قدر عليهما أن يكونا مشغوفين بالمعرفة، وخلق جيلاً قدر عليه ان يكون ملوثاً بهذا الأثم الموروث، أجابه تومس ان المستحيل على أي مخلوق بمقتضى قوانين ما وراء الطبيعة ان يكون كاملاً، وان حرية الإنسان في أن يأثم هي الثمن الذي يجب عليه ان يؤديه نظير حريته في الاختيار. وإذ سلب الإنسان حرية الإرادة واصبح مجرد آلة ذات حركة ذاتية لا تسمو على الخير والشر بل تنحط دونهما، ولا تكون لها كرامة اكثر من إنها آلة.

وإذا كان تومس قد انغمس في عقيدة الخطيئة الاولى، وانغمس في مبادئ أرسطو، وفي الخوف من النساء واعتزلهن اعتزالاً ناشئاً من حياة الأديرة، فقد كان لابد من ان يكون سيئ الظن بالنساء، وان يتحدث عنهن حديث الرجال، وليس عليه في هذا لوم. وهو يحذو حذو أرسطو في أنانيته البالغة الخطورة حين يظن أن الطبيعة كبطارقة العصور الوسطى ترغب على الدوام في ان تخرج ذكوراً، وان المرأة مخلوق عاجز عارض، او انها ذكر أخطائه التوفيق (mas occasisnatum) ، وأكبر الظن - على حد قوله - إنها نتيجة لضعف قوة التلقيح عند الأب، أو لعامل آخر خارجي مثل ربح جنوبية رطبة (111). وكان يظن بالاعتماد على آراء أرسطو وبعض معاصريه في علم الأحياء إن المرأة ليس لها إلا المادة المنفعلة في الذرية، أما الرجل فهو الذي يعطى الصورة الفاعلة؛ وان المرأة هي انتصار المادة على الصورة؛ وهي من ثم اضعف الأوعية في الجسم، والعقل، والإرادة. وشأنها

(1)

لم يكن تومس يعرف أن الكنيسة ستقر نظرية الحمل بلا دنس الخاصة بالعذراء - أي تحررها من التلوث بالخطيئة الأولى - ولهذا ظن أن مريم أيضاً قد (حملت في إثم) وقد أضاف إلى ذلك في شهامة لم تمح ما قرره قبل (أنها قد طهرت قبل أن تلد من الرحم).

ص: 138

مع الإنسان شأن الحواس مع العقل. وفيها تسود الشهوة الجنسية؛ أما الإنسان فهو المعبر عن العنصر الأكثر ثباتاً. والرجل والمرأة كلاهما صوراً في صورة الله، ولكن الرجل أشبه به من المرأة. والرجل هو مبدأ المرأة وغايتها، كما أن الله هو مبدأ الكون وغايته، وهي تحتاج الى الرجل في كل شيء، أما هو فلا يحتاج إلا للتناسل؛ والرجل قادر على ان يؤدي جميع الواجبات احسن من أداء المرأة - لا يستثنى من هذا العناية بالبيت (112)، فهي لا تصلح لان تشغل أي منصب هام في الكنيسة او الدولة؛ وهي جزء من الرجل وان شئت الدقة الحرفية فهي ضلع من ضلوعه (113)؛ وعليها أن تنظر إلى الرجل نظرتها إلى سيدها الطبيعي، وان تقبل ارشاده، وتخضع لتقويمه وتأديبه، وبهذه الطريقة تؤدي رسالتها وتحظى بسعادتها.

هذا هو ما يقوله تومس عن المرأة؛ أما الشر فيبذل غاية جهده ليثبت انه في نظر علم ما وراء الطبيعة لا وجود له؛ ويقول ان الشر ليس موجوداً إيجابياً، لان كل حقيقة بوصفها حقيقة خير (114)؛ وليس الشر إلا غياب صفة أو مقدرة يجب أن تكون موجودة في الكائن بطبيعته، أو هي الحرمان من هذه الصفة أو المقدرة. فليس شراً في الرجل ألا يكون له جناحان، لكن شراً إلا تكون له يدان، مع انه ليس من الشر في الطائر إلا تكون له يدان. وكل شيء طيب كما خلقه الله، ولكن الله نفسه لا يستطيع ان ينقل كماله اللانهائي إلى مخلوقاته. والله يجيز بعض الشرور بقصد الوصول الى بعض الغايات الخيرة أو لمنع شرور اشد منها كما (تجيز بعض الحكومات

بحق بعض الشرور- كالعهر مثلاً- خشية .. أن يؤدي منعها إضرار اشد منها) (115).

والخطيئة عمل من أعمال الإرادة الحرة حين تخرق نظام العقل الذي هو أيضاً نظام الكون. ونظام العقل هو التوفيق الصحيح بين الوسائل والغايات، وهو فيما يختص بالإنسان تكييف السلوك بحيث يؤدي إلى السعادة السرمدية. والله يهبنا

ص: 139

حرية ارتكاب الخطأ، ولكنه يهبنا ايضاً، بوحيه الإلهي، الشعور بالصواب والخطأ. وهذا الضمير الغريزي ذو سلطان مطلق يجب أن يطاع مهما تكن النتيجة؛ فإذا أمرت الكنيسة إنساناً بشيء يخالف ضميره وجب عليه ان يعصى أمرها، وإذا حدثه ضميره بان الإيمان بالمسيح شر، وجب عليه أن ينفر من ذلك الدين (116).

والضمير في الأحوال العادية لا يميل بنا إلى الفضائل الطبيعية وحدها كالعدالة، والفطنة، والجلد، بل يميل بنا أيضاً الى الفضائل التي يأمرنا بها الدين كالإيمان، والأمل، والصدقات. وهذه الثلاث الصفات الأخيرة هي الصفات الخلقية التي يمتاز بها الدين المسيحي، وهي أيضاً سبب مجده. والإيمان واجب أخلاقي على الإنسان لان العقل البشري قاصر محدود؛ فعلى الإنسان أن يصدق تصديقاً قائماً على الإيمان عقائد الكنيسة التي تعلو على إدراك العقل وعقائدها التي يستطيع أن يعرفها بطريق العقل. وإذا كان الخطأ في شؤون الدين قد يؤدي بالإنسان إلى الجحيم، فان من الواجب ألا يتسامح في عدم الإيمان إلا إذا قصد بذلك تجنب شر أكبر؛ (فالكنيسة قد أجازت في بعض الأحيان شعائر الملحدين والوثنيين أنفسهم، حين كان غير المؤمنين كثيري العدد)(117). ويجب الا يسمح لغير المؤمنين بأن يكون لهم السيطرة أو السلطان على المؤمنين (118)؛ ويمكن التسامح بوجه خاص مع اليهود لان شعائرهم ترمز إلى شعائر الدين المسيحي قبل ظهوره، فتشهد بذلك على صحة هذا الدين (119). ويجب الا يرغم اليهود غير المعمدين على اعتناق الدين المسيحي (120)، ولكن الملحدين- وهم الذين تخلو عن إيمانهم بعقائد الكنيسة- يجوز إرغامهم دون ان يكون ذلك حرج على من يرغمهم (121). ويجب أن لا يعد أي إنسان ملحداً إلا إذا أصر على خطئه بعد أن تبينه له سلطة كهنويته؛ والذين يرجعون عن إلحادهم يمكن أن يسمح لهم بالتفكير عن ذنوبهم، بل يمكن فوق ذلك أن تعادلهم كرامتهم الأولى؛ فإذا عادوا

ص: 140

إلى إلحادهم (جاز أن يسمح لهم بالتفكير عن ذنوبهم، ولكنهم لا ينجون من الآم الموت)(122).

‌6 - علم السياسة

كتب تومس في الفلسفة السياسية ثلاث مرات: في شرحه لكتاب السياسة لأرسطو، وفي الخلاصة في اللاهوت، وفي رسالة قصيرة تسمى: في حكم الأمراء De regimine principum

(1)

ويبدو لأول ولهة أن تومس يعيد أقوال أرسطو، ولكننا إذا واصلنا القراءة أدهشتنا كثرة ما في كتاباته من أفكار أصلية قاطعة.

فهو يقول إن التنظيم الاجتماعي أداة أوجدها الإنسان بدلاً من أعضاء الجسم للحصول على مطالبه والدفاع عن نفسه، وان المجتمع والدولة قد وجدا للفرد، ولم يوجد الفرد للمجتمع والدولة، وان السيادة تأتي من عند الله وهي حق للشعب؛ ولكن الشعب كثير العدد، مشتت، متقلب، جاهل، وهو لذلك عاجز أن يمارس حقوق السيادة بنفسه وبحكمة؛ ولهذا فانه يكل هذه السيادة إلى أمير أو زعيم آخر. وتوكيل الشعب من ينوب عنه على هذا النحو يستطاع إلغاؤه على الدوام، و (لا يحتفظ الأمير بسلطة التشريع إلا من حيث هو ممثل لإرادة الشعب)(123).

ويمكن أن ينيب الشعب عنه في ممارسة سيادته عدداً كبيراً من الناس أو عدداً قليلاً منهم أو فرداً واحداً. وتصلح الديمقراطية، والأرستقراطية، والملكية إذا صلحت القوانين وحسن تنفيذها. ويمكن القول بوجه عام أن خير

(1)

لم يكتب تومس من هذه الرسالة إلا الكتاب الأول والفصول 1 - 4 من الكتاب الثاني. أما بقية الرسالة فقد كتبها بطليموس اللوقي Ptolemy of Lucca.

ص: 141

أنواع الحكومات هو الحكومة الملكية الدستورية، لأنها تمكن للوحدة، والاستمرار، والاستقرار. (وحكم الجماهير) كما يقول هوميروس (على يد الفرد خير من حكمهم على أيدي الكثيرين)(124). غير أن الأمير أو الملك يجب أن يختاره الشعب من أية طبقة حرة من السكان (125)؛ وإذا استبد الملك وجب خلعه بعمل منظم يقوم بع الشعب (126)، ويجب أن يظل على الدوام خادم القانون لا سيده.

والقانون ثلاثة أنواع: قانون طبيعي مثل (القوانين الطبيعية للكون)؛ والهي كالقوانين الواردة في الكتاب المقدس، وبشري أو وضعي كالقوانين التي تسنها الدولة. وقد اصبح النوع الثالث منها ضرورياً بسبب ما في طباع الناس من انفعالات، وبسبب قيام الدولة. ومن اجل هذا كان آباء الكنيسة يعتقدون ان الملكية الفردية تتعارض مع الشريعتين الطبيعية والإلهية، وإنها نتيجة لنزعة الإنسان في ارتكاب الآثام. لكن تومس لا يعترف بان الملكية تتعارض مع القوانين الطبيعية؛ فهو يبحث عن حجج الشيوعيين في أيامه ويرد عليهم كما يرد أرسطو بأنه إذا كان كل واحد من الناس يملك كل شيء فان أحداً من الناس لا يعنى بأي شيء (127). غير أن الملكية الفردية - في رأيه - وديعة عامة، (فالإنسان يجب إلا يمتلك الأشياء الخارجية على إنها ملكه الخاص بل على إنها ملك عام، وبذلك يكون على استعداد لان ينقلها الى غيره من الناس إذا ما احتاجوا إليها)(128). وإذا ما اشتهى الإنسان الكثير الزائد من الثروة، أو سعى إلى اكثر مما يحتاجه منها لحفظ مركزه في الحياة، كان طامعاً أثيما (129). (وكل ما يمتلكه بعض الناس اكثر من حاجتهم إنما يقصد به حسب القانون الطبيعي مساعدة الفقراء) و (إذا لم يوجد علاج آخر فان من حق الإنسان أن يسد حاجته من ملك غيره، بالاستيلاء عليه سراً أو جهراً)(130).

ولم يكن تومس الرجل الذي يجعل الاقتصاد علماً مملا غير شيق بفصله عن

ص: 142

الأخلاق. فكان يؤمن بحق الجماعة في تنظيم أعمال الزراعة، والصناعة، والتجارة، والإشراف على الربا، وبلغ منه أن طالب بتحديد (ثمن عادل) للخدمات والسلع. وكان ينظر بعين الريبة الى عملية الشراء بثمن منخفض والبيع بثمن مرتفع. ويندد اشد التنديد بجميع أنواع المضاربة في التجارة، وبكل المحاولات التي تبذل للحصول على الكسب بالمهارة في الاستفادة من السوق (131). وكان يعارض من الإقراض بفائدة، ولكنه لا يرى إثماً في الاقتراض (لغرض طيب) من مقرض محترف (132).

ولم يكن أرقى من أهل زمانه في نظرته الى الاسترقاق، فقد كان الفقهاء السوفسطائيون، والراقيون، والرومان، يعلمون أن الناس (بطبيعتهم) أحرار؛ وكان آباء الكنيسة يوافقون على الرق ويفسرونه كما يفسرون الملك بأنه ناشئ من نزعة الإنسان الآثمة التي كسبها نتيجة لسقوط آدم. وبرر أرسطو صديق الأقوياء الرق بزعمه ان نتيجة عدم المساواة الطبيعية في الإنسان، وحاول تومس أن يوفق بين هذه الآراء المتعارضة: فقال أنه لم يكن ثمة رق في حالة البراءة، أما سقوط آدم فقد وجد أن من الخير إخضاع السذج للعقلاء، لان من لهم أجسام قوية وعقول ضعيفة فقد أريد لهم بحكم الطبيعة أن يكونوا أرقاء (133). لكن العبد ليس ملكاً لسيده إلا بجسمه لا بروحه؛ وليس العبد مرغماً على قبول الاتصال الجنسي بالسيد، ويجب أن تتبع قواعد الأخلاق المسيحية بأجمعها في معاملة العبد.

‌7 - الدين

وبدا لتومس انه ما دامت المسائل الاقتصادية والسياسية في آخر الأمر مسائل اخلاقية، فان من العدل أن يوضع الدين في مرتبة أعلى من مرتبة السياسة والصناعة، وان تخضع الدولة في مسائل الأخلاق لرقابة الكنيسة وإرشادها.

ص: 143

وكلما سمت أغراض السلطة ازداد نبلها؛ ويجب أن يخضع ملوك الأرض، الذين يهدون الناس إلى السعادة الدنيوية، لسلطان البابا الذي يهدي الناس إلى السعادة الأبدية. على انه يجب أن تبقى الدولة صاحبة السلطان في الشئون الدنيوية، غير أن من حق البابا في هذه الشئون نفسها أن يتدخل إذا خالف الحكام قواعد الأخلاق الصالحة أو تسببوا في الأضرار بشعوبهم إضراراً كان يستطاع تجنبه. ولهذا فمن حق البابا أن يعاقب الملك المسيء أو يعفي رعاياه من يمين الولاء له؛ وفوق هذا فان من واجب الدولة إن تحمي الدين، وتؤيد الكنيسة، وتنفذ قراراتها (134).

والمهمة العليا للكنيسة أن تهدي الناس إلى سبيل النجاة؛ وليس الإنسان مواطناً في هذه الدولة الأرضية وحدها، بل هو فوق ذلك مواطن في مملكة روحية اعظم إلى ابعد حد من أية دولة أخرى. وحقائق التاريخ الكبرى تنبئ إن الإنسان قد ارتكب جرماً لا حد له بعصيان الله، فاستحق بهذا العصيان عقاباً لا حد له، وان الله الابن قد اصبح إنساناً وقاسى العار والموت، وانه قد خلق رصيداً من البركة المنجية يستطيع الإنسان أن ينجو به رغم خطيئته الاولى؛ والله يهب من يشاء من هذه البركة ما يشاء؛ وليس في مقدورنا ان نتبين أسباب اختياره، ولكن (ما من أحد من الناس قد بلغ من الجنون حداً يقول معه إن الجدارة هي سبب الاختبار الإلهي) (135). وتتردد عقيد بولس وأوغسطين الرهيبة في أقوال تومس الرفيق الظريف:

(من الخير أن يسير الله الإنسان بقضائه وقدره، لان الأشياء جميعاً خاضعة لمشيئته

وإذا كان الناس قد هيئوا للحياة السرمدية بمشيئة الله، فان من مشيئة الله أيضاً أن يسمح لبعضهم أن يعجزوا عن بلوغ هذه الغاية، وهذا هو ما يسمى (الشقاء)

وإذا كان قضاء الله وقدره يشمل إرادته في أن يهب البركة والمجد، فان الشقاء أيضاً يشمل إرادته في أن يسمح لشخص ما ان يقع في الخطيئة،

ص: 144

وان يعاقب على تلك الخطيئة بعذاب الجحيم .. (اختارنا فيه قبل تأسيس العالم)(136).

ويبذل تومس ما وسعه من جهد ليوفق بين قضاء الله وقدره وبين حرية البشر، ويبين لم يجب على الإنسان الذي قدر له مصيره أن يعمل لكسب الفضيلة، وكيف تستطيع الصلوات أن تؤثر في الله الذي لا يتغير ولا يتحول، وماذا يكون عمل الكنيسة في مجتمع قسم أفراده من قبل إلى ناجين ومعذبين؟ وهو يجيب عن هذا بان كل ما هنالك أن الله قد عرف من قبل ما سوف يختاره كل إنسان بحريته؛ وهو يفترض أن الوثنيين جميعهم من المعذبين مع جواز استثناء عدد قليل منهم بعث الله إليهم بوحي شخصي خاص

(1)

.

واعظم ما يناله الناجون من السعادة هو في رأيه رؤية الله؛ وليس معنى هذا انهم سيفعمونه؛ إذ لا يفهم اللانهائي غير اللانهائي؛ بيد أن المنعمين بما ينفخ فيهم من النعمة الإلهية سوف يشهدون جوهر الله (139). وبما أن الخليقة كلها قد نشأت من الله فأنها ستعود الى الله، والنفس البشرية التي هي منحة من كرمه لا تستريح حتى تعود فتنضم الى مصدرها. وهكذا تتم الدورة المقدسة دورة الخلق والعودة، وتختتم فلسفة تومس كما بدأت بالله.

‌8 - كيف استقبلت فلسفة تومس؟

لقد رأت الكثرة الغالبة من معاصريه إنها تكديس فضيع للاستدلالات الوثنية شديدة الخطر على الدين المسيحي؛ وصدمت مشاعر الرهبان الفرنسيس الذين كانوا يسلكون لمعرفة الله طريق الحب الصوفي الذي يقول به أوغسطين

(1)

إن الفقرة التي تقول أن كثيراً من المنعمين في الجنة يزيد نعيمهم بمشاهدة عذاب المعذبين توجد في ملحق كتاب الخلاصة (97: 7) وليست هذه الفقرة المخزية من أقوال تومس بل هي من أقوال ريجلند البيروني.

ص: 145

(نزعة) تومس (العقلية)، ورفعة العقل فوق الارادة، والفهم فوق الحب. وعجب الكثيرون كيف يمكن الدعاء والصلاة لإله فاتر، سلبي، يُعبد كالإله الموصوفي في كتاب الخلاصة؟ وكيف يمكن أن يكون عيسى جزءاً من هذا المعنى المجرد؟ وماذا كان يقول القديس فرانسس عن الله أو بأي شيء كان يتحدث إليه؟ وبدا لهم قوله أن الجسم والنفس يكونان وحدة سيقضى على عقيدة خلود النفس وعدم فسادها، وقوله أن المادة والصورة وحدة ستؤدي، رغم إنكار تومس المتكرر، إلى الانحدار إلى نظرية ابن رشد القائلة بان العالم أزلي، وإن المادة، لا الصورة، هي مبدأ الانفرادية سيحول دون التفرقة بين نفس ونفس، وينحدر بنا إلى نظرية ابن رشد القائلة بوحدة النفس وخلودها اللاشخصي. وشر من هذا كله أن غلبة أرسطو على أوغسطين في فلسفة تومس قد بدت للرهبان الفرنسيس كأنها انتصار للوثنية على المسيحية. ألا يوجد من الآن في جامعة باريس معلمون وطلاب يرفعون كتب أرسطو فوق الأناجيل؟

ودافعت المسيحية (السنية) عن نفسها في الربع الثالث من القرن الثاني عشر من فلسفة تومس الأرسطوطيلية، كما قاوم أهل السنة المسلمون ابن رشد لاعتناقه فلسفة أرسطو ونفوه، وكما حرق اليهود السنيون في بداية القرن الثالث عشر كتب ابن ميمون لنزعته الأرسطوطيلية. فقد حدث في عام 1277 أن اصدر أسقف باريس بإيعاز البابا يوحنا الحادي والعشرين مرسوماً باعتبار 219 قضية من قضايا تومس خروجا على الدين. وكان من بين هذه القضايا ثلاث (بنوع خاص) اتهم بها الأخ تومس، وهي قوله ان الملائكة لا أجسام لها، وان كل واحد منهم يكون بمفرده نوعاً منفصلاً عن غيره؛ وان المادة أساس الانفرادية؛ وان الله لا يستطيع مضاعفة الأفراد في نوع ما من غير المادة. وقال

ص: 146

الأسقف أن كل من يعتنق هذه العقائد يعد بهذا العمل وحده محروما من الدين. وبعد أيام قلائل من صدور هذا المرسوم اقنع ربرت كلواردبي Robert Kilwardby أحد كبار الرهبان الدمنيك أساتذة جامعة أكسفورد بان ينددوا ببعض عقائد تومس ومنها وحدة النفس والجسد في الإنسان.

وكان قد مضى على وفاة تومس في ذلك الوقت ثلاث سنين، ولم يكن في وسعه أن يدافع عن نفسه، ولكن ألبرت أستاذه القديم اندفع من كولوني الى باريس واقنع رهبان فرنسا الدمنيك بان يشدوا أزر زميلهم وأخيهم. ودخل راهب فرنسيسي يدعى وليم ده لا مار William de la Mare في المعركة برسالة سماها: Correctorium fratris Thomae يقول فيها ان تومس على حق في 118 نقطة، فقام راهب فرنسيسي آخر يدعى يوحنا بكنهام، كبير أساقفة كنتر برى يندد رسمياً بفلسفة تومس وينادي بالعودة الى بونا فنتورا والقديس فرانسس. وانضم دانتي الى المتنازعين فصاغ من فلسفة تومس فلسفة معدلة كانت الإطار العام الذي وضع فيه الملهاة المقدسة، واختار تومس ليقوده على السلم الموصل إلى أعلى سماء. ودامت الحرب مائة عام اقنع بعدها الرهبان الدمنيك البابا يوحنا الثاني والعشرين ان تومس من القديسين، وكان تقديسه (1323) انتصاراً لفلسفته. ووجد المتصوفة من ذلك الوقت في كتاب الخلاصة (140). اعمق واوضح عرض للحياة الصوفية الفكرية. ولما عقد مجلس ترنت (1545 - 1563) وضع كتاب الخلاصة على المذبح إلى جانب الكتاب المقدس وكتاب القوانين الكنسية (141). وفرض إجناتيوس ليولا Ignatius Loyola على اليسوعيين أن يعلموا فلسفة تومس، وقرر البابا ليو الثالث عشر في عام 1879،

ص: 147

والبابا بندكت الخامس عشر في عام 1921 أن تكون مؤلفات تومس الفلسفة الرسمية للكنيسة الكاثوليكية، وان لم يعلنا أن هذه المؤلفات سليمة من الأخطاء؛ وهذه الفلسفة تدرس الان في جميع كليات الروم الكاثوليكية؛ وقد كسبت لها انتصاراً جدداً في وقتنا الحاضر، وان كان لها نقاد من بين علماء الدين الكاثوليك، وهي الآن من أقوى أنظمة التفكير الفلسفي تأثيراً وأبقاها على الزمن، لا تقل في ذلك عن الأفلاطونية والأرسطوطيلية.

وبعد فان من السهل على من يقف الآن على كتفي السبعمائة العام الأخيرة أن يشير في مؤلفات أكوناس إلى بعض العناصر التي لم تثبت الأيام صحتها. وان مما يعيبه ويشرفه معاً انه كان كثير الاعتماد على ارسطو، وبقدر هذا الاعتماد كان يعوزه الابتكار ويظهر من الشجاعة ما أثار السبل للعقول في العصور الوسطى. وعنى تومس بالحصول على تراجم دقيقة لأرسطو منقولة عن اللغة اليونانية مباشرة، فكان لهذا يجيد معرفة مؤلفاته الفلسفية (لا العلمية) اكثر مما يجيد معرفتها أي مفكر آخر في العصور الوسطى عدا ابن رشد. ولم يكن يستكشف أن يأخذ العلم عن المسلمين واليهود، ويعامل فلاسفتهم باحترام صادر عن وثوقه بنفسه. وإنا لنجد في نظامه الفلسفي قدراً كبيراً من السخف والأباطيل التي نجد مثلها في جميع الفلسفات التي لا تتفق مع فلسفتنا؛ وان من اعجب الأشياء أن يكتب هذا الرجل المتواضع بمثل ما كتب من الطول عن الطريقة التي يعرف بها الملائكة ما يعرفون، وعما كان عليه الإنسان قبل سقوطه، وعما كان يؤول إليه أمر الجنس البشري لولا رغبة حواء في المعرفة. ولعلنا نخطئ إذ نفكر فيه على انه فيلسوف، فقد كان هو نفسه أميناً إذ سمى مؤلفه كتاباً في علم الدين، ولم يدع انه يسير وراء العقل الى حيث يقوده، ويعترف انه يبدأ بنتائجه، وهو عمل يسمه معظم الفلاسفة بأنه خيانة للفلسفة وان كانت كثرتهم تفعله. وقد كان

ص: 148

مجال بحثه أوسع مما جرؤ عليه مفكر بعده عدا سبنسر، وكان في كل ميدان واضحاً هادئ المزاج بعيداً عن المغالاة يبحث عن الطريقة الوسطى المعتدلة، ومن أقواله في هذا المعنى (أن الرجل العاقل يخلق النظام)(142). ولم يفلح في التوفيق بين أرسطو والمسيحية، ولكنه وهو يحاول هذا التوفيق كسب للعقل نصراً مؤزراً سيدوم على مدى الأيام، فقد قاد العقل أسيراً إلى قلعة الدين؛ ولكنه قضى بانتصاره على عصر الإيمان.

ص: 149

الفصل السابع

‌خلفاء تومس

يسرف المؤرخ على الدوام في التبسيط، ويتعجل فيعمد إلى حشد كبير من الأنفس والحوادث لا يستطيع قط ان يلم بها كل الإلمام أو يفهمها كل الفهم، ويختار من بينها عدداً قليلاً من الحقائق والوجوه يراها أطوع بقلمه من غيرها. وليس من حقنا أن نظن أن الفلسفة المدرسية معاني مجردة أزيلت منها آلاف الحقائق الغريبة؛ بل علينا أن ننظر إليها على إنها اسم غامض غير دقيق يطلق على مئات الفلسفات المتناقضة والنظريات اللاهوتية التي كانت تعلم في مدارس العصور الوسطى من أيام السلم في القرن الحادي عشر إلى أيام أكام Occam في القرن الرابع عشر. والمؤرخ يخضع اشد الخضوع وأثقله على نفسه بقصر الوقت ونفاذ الصبر الذي هو من طبيعة بني الإنسان؛ ويخط سطراً واحداً يحط به من قدر رجال خلدوا أسمائهم في أحد الأيام ولكنهم اختفوا الآن في طيات التاريخ. وكان من اعجب الشخصيات في القرن الثالث عشر المليء بذوي المواهب المتعددة من الرجال راومون لَلْ Ramon Lull او ريمند لَيْ Raymond Lully (1232؟ - 1315) . ولقد وُلد في بالما لأسرة قطالية Catalan وشق طريقه إلى بلاط جيمس الثاني في برشلونة، واستمتع بشاب صاخب، ثم اخذ يضيق نطاق عشقه حتى اكتفى بزوج واحدة. ولما بلغ سن الثلاثين نبذ على حين غفلة ملاذ العالم، والجسم، والشيطان، ووهب نشاطه المتعدد النواحي للتصوف والمعارف الخفية، وحب الانسانية، والتبشير بالدين، والسعي للاستشهاد. ثم درس اللغة العربية، وانشأ كلية للدراسات العربية في ميورقة، وطلب إلى مجلس

ص: 150

فينا أن ينشئ مدارس للغات والآداب الشرقية تعد الناس للتبشير بين المسلمين واليهود. واستجاب المجلس لرغبته وأنشأ خمس مدارس من هذا النوع- في رومة، وبولونيا، وباريس، وأكسفورد، وسلمنقة- كان فيها كراسي للغات العبرية، والكلدانية، والعربية. ولعل إلى نفسه تعلم اللغة العبرية لأنه اصبح عالماً متبحراً في القبالة.

ويستحيل علينا أن نقسم مؤلفاته البالغ عددها 150 أصنافاً. وحسبنا أن نسجلها هنا فنقول إنه شبابه أنشأ الأدب القطالي بأن كتب عدة مجلدات من الشعر الغزلي؛ ثم ألف بالغة العربية كتاباً ترجمه فيما بعد إلى اللغة القطالية "كتاب في التفكير في الله". وليس هذا الكتاب مجرد حلم صوفي بل هو موسوعة في علوم الدين من ألف ألف كلمة (1272). وبعد عامين من ذلك الوقت، وكأنما بدل نفسه ألّف كتاباً في حرب الفروسية، وألف في الوقت عينه تقريباً كتاباً في حرب الفروسية، وألّف في الوقت عينه تقريباً كتاباً في التربية سماه "كتاب في عقائد الشباب"، ثم جرّب حظه في الحوار الفلسفي ونشر فيه ثلاثة كتب يعرض فيها وجهات النظر الإسلامية، واليهودية، والمسيحية اليونانية، والمسيحية الرومانية، والتتارية، بتسامح ونزاهة، ورفق، تثير الدهشة. وألّف حوالي عام 1283 رواية دينية طويلة سمّاها بلانكيرنا Blanquerna حكم الخبراء الذين أوتوا الصبر على قراءتها بأنها "من روائع آداب العصور الوسطى المسيحية". ثم أصدر في رومة عام 1295 موسوعة أخرى سماها شجرة العلم Arbre de sciencia حوت أربعة آلاف سؤال في ستة عشر علماً مع أجوبة عنها موثوق بها. وحارب أثناء مقامه في باريس (1309 - 1311) فلسفة ابن رشد التي كانت لا تزال باقية فيها، وذلك في عدة مؤلفات دينية صغرى وقعها بإمضاء دقيق دقة لم يعتدها وهو Phantasticus " الواهم" وظل خلال حياته الطويلة يصدر مجلدات في العلوم والفلسفة بلغت من الكثرة جداً يصعب معه حصرها.

ص: 151

وافتتن في أثناء هذه المشاغل كلها بفكرة استهوت عقول العباقرة في هذه الأيام- وهي أن جميع قوانين المنطق وعملياته يمكن ردها إلى صور رياضية أو رمزية. فيقول ريموند إن "الفن العظيم"- فن المنطق- هو كتابة المدركات الأساسية للفكر البشري على مربعات متحركة، ثم جمع هذه المربعات في أوضاع مختلفة ليس القصد منها رد جميع الأفكار الفلسفية إلى معادلات وأشكال فحسب، بل يقصد بها كذلك أن تثبت بالمتساويات الرياضية حقائق الدين المسيحي. وكان ريموند يتصف بما يتصف به بعض مرضى العقول من دعة ولطف، فيأمل أن يرد المسلمين عن دينهم إلى الدين المسيحي بتأثير فنه المقنع. ورحبت الكنيسة بهذه الثقة، ولكنها لم ترض عما أقترحه من جميع أصول الدين إلى العقل ووضع التثليث والتجسد على مشرحة منطقه (144).

وأعتزم في عام 1292 أن يستعيض عن استيلاء المسلمين على فلسطين بتحويل أفريقية الشمالية إلى بلاد مسيحية، فعبَر البحر إلى تونس، ونظم فيها سراً جالية مسيحية صغيرة؛ ثم قبض عليه في عام 1307 أثناء رحلة تبشيرية إلى تلك البلاد وجيء به أمام قاضي القضاة. وعقد القاضي مناقشة علنية بين ريموند وبعض علماء الدين المسلمين. ويقول صاحب سيرة ريموند إنه انتصر فيما دار من نقاش وأنه ألقى في السجن، ولكن بعض التجار المسيحيين أفلحوا في إنقاذه وإعادته إلى أوربا. ويلوح أنه كان يتوق إلى الاستشهاد فعبر البحر مرة أخرى إلى بوجي في عام 1314، وأخذ يدعو للمسيحية علناً فرجمه الغوغاء المسلمون بالحجارة حتى مات (1315).

وإذا انتقلنا من ريموند إلى جون دنز اسكوتس John Duns Scotus كنا كمن ينتقل من كارمن إلى كلافيكورد الصافية المزاج

(1)

. واشتق

(1)

تمثيليتان غنائيتان أولاهما لبيزيه والثانية لباخ. (المترجم)

ص: 152

اسما جون الثاني والثالث من مسقط رأسه في دنز Duns من أعمال بروكشير Berwick-shire (؟) ولما بلغ الحادية عشرة من عمره أرسل إلى دير للرهبان الفرنسيس في دنفريز Dunfries، وانضم إلى طائفة الرهبان رسمياً بعد أربع سنين من دخول الدير. وتلقى العلم في جامعتي أكسفورد وباريس ثم علّم في أكسفورد، وباريس، وكولوني، ومات وهو كهل في الثانية والأربعين من عمره (1308)، بعد أن خلف وراءه عدداً جماً من المؤلفات معظمها فيما وراء الطبيعة تمتاز كلها بالغموض والخفاء بدرجة يندر أن تظهر مرة أخرى في الفلسفة إلا إذا ظهر اسكوتس جديد. والحق أن عمل دنز اسكوتس ليشبه إلى حد كبير عمل كانت الذي جاء بعده بخمسة قرون- فهو يقول إن العقائد الدينية يجب أن يدافع عنها بأنها لا غنى عنها من الوجهة الأخلاقية العلمية لا يتماسكها المنطقي. ورضى الرهبان الفرنسيس أن ينبذوا الفلسفة لينقذوا أوغسطين من تومس الدمنيكي فاتخذوا دكتورهم الشاب بطلاً لهم ونصيراً، وانضموا تحت لوائه، في حياته وبعد مماته، طوال عدة أجيال من الحرب الفلسفية.

وكان دنز هذا ذا عقل من أشد العقول توقداً وذكاء في تاريخ العصور الوسطى، فقد درس الرياضة وغيرها من العلوم، وتأثر في أكسفورد بجروستستى وروجر بيكين، فتكونت لديه فكرة صارمة عما يجب أن يكون الرهبان الصحيح، وطبق هذا الاختبار على فلسفة تومس فقضى بذلك على تهوره في اقتران الدين والفلسفة، ولما يكد هذا الاقتران يتم شهر العسل. وكان دنز يفهم الطريقة الاستقرائية في المنطق ولكنه كان يقول عكس ما يقوله فرانسس بيكن بالضبط، وهو أن كل استقراء، أي برهان- من النتيجة إلى العلة- برهان غير موثوق به، وإن البرهان الحقيقي الوحيد هو البرهان الاستنتاجي أي إظهار أن نتائج معينة لابد أن تحدث من طبيعة العلة ذاتها. مثال هذا أننا إذا أردنا أن نثبت وجود الله فإن علينا أن ندرس أولاً علم ما وراء الطبيعة- أي أن

ص: 153

ندرس "الكائن بوصفه كائناً"، ثم نصل عن طريق المنطق الدقيق إلى الصفات الجوهرية للعالم. وفي عالم الجواهر لابد أن يكون هناك جوهر هو مصدر كل ما عداه منها وهو الكائن الأول؛ وهذا الكائن الأول هو الله. ويتفق دنز مع تومس في أن الله هو الحقيقة الخالصة ولكنه لا يفهم تلك العبارة على أنها الواقعية الخالصة بل يفهم منها أنها الفاعلية الخالصة. فالله هو أولاً إرادة لا عقل، وهو علة العلل جميعها، وهو أزلى، ولكن هذا هو كل ما نستطيع أن نعرفه عنه بطريق العقل. أما إنه إله الرحمة، وأنه ثلاثة في واحد، وأنه خلق العالم في وقت، وأنه يسيطر على جميع الأشياء بقدرته- هذه وجميع عقائد الدين المسيحي كلها تقريباً يجب أن نؤمن بها أي أن نصدقها اعتماداً على الكتب المقدسة والكنيسة ولكنا لا نستطيع إثباتها بالفعل. والحق أننا في الساعة التي نبدأ فيها باستخدام العقل في إثبات وجود الله نقع في متناقضات تحيرنا (وهي التي يسميها كانت "متناقضات العقل الخالص"). وإذا كان الله قادراً على كل شيء، فهو علة كل النقائض، ومنها كل الشرور؛ وإذن تكون العلل الثانوية ومنها الإرادة البشرية، وهماً لا حقيقة. ولكي نتلافى هذه النتائج الهدامة، ولما كانت العقيدة الدينية لازمة للحياة الأخلاقية (وهو ما يسميه كانت " العقل العملي" فإن من الحكمة ألا نلجأ إلى فلسفة تومس التي تحاول أن تثبت الديّن بالفلسفة، وأن نقبل عقائد الدين بالرجوع إلى الكتاب المقدس وإلى الكنيسة (145). وليس في مقدورنا أن نعرف الله ولكننا قادرون على أن نحبه، وهذا الحب خير من المعرفة (146).

ودنز في علم النفس "واقعي" من الطراز الدقيق الخاص به: فالكليات عنده حقيقة موضوعية بمعنى أن تلك المظاهر الموحدة التي يجرّدها العقل من الأجسام المتماثلة ليكون منها فكرة عامة، لابد أن تكون موجودة في الأجسام، وإلا لما استطعنا أن ندركها ونجردها. وهو يتفق مع تومس في أن جميع المعرفة

ص: 154

الطبيعية مستمدة من الحواس، أما فيما عدا هذا فإنه يخالفه في جميع آرائه الفلسفية. فهو يقول إن أساس الانفرادية ليس هو المادة بل الصورة، والصورة بمعناها الضيق الدقيق التي نستطيع أن نقول عنها "هذه" haecceitas - أي الصفات الخاصة والعلامات المميزة للشخص أو الشيء الفردي. وليست من النفس ذاتها. وليست موهبة النفس الأساسية هي الفهم بل هي الإرادة، فالإرادة هي التي تعين إحساس أو القصد الذي يجب أن يتجه إليه العقل؛ والإرادة voluntas وحدها لا قوة الحكم (arbitrium) هي الحرة؛ ومن رأيه أن قول مبالغ فيه لأنه يمكن تطبيقه على كل حيوان في الحقول، وليس في مقدورنا أن نثبت الخلود الشخصي، بل علينا أن نؤمن به لا أكثر.

وكان في وسع الرهبان الدمنيك أن يروا في دنز انتصار الفلسفة الغربية على الفلسفة الإسلامية، كما كان الرهبان الفرنسيس يدعون إنهم يرون في تومس انتصار أرسطو على الأناجيل، ففلسفة ما وراء الطبيعة عنده هي فلسفة ابن رشد، وفلسفة شرائع الكون هي فلسفة ابن جبيرول، ولكن الحقيقة الأساسية الداعية إلى الأسى في اسكوتس هي تخليه عن محاولته إثبات العقائد المسيحية الأساسية بالالتجاء إلى العقل. واشتط أتباعه فذهبوا في هذه المسألة إلى أبعد من هذا، وأخرجوا عقائد الدين واحدة بعد واحدة من ميدان العقل، وضاعفوا بذلك ما وضعه من الفروق والمميزات الدقيقة إلى حد جعل لفظ "الدنزى" في إنجلترا يعني الأبله المولع بالتقسيم الشّعري، والسوفسطائي: البليد والغبي. وأبى الذين يحبون الفلسفة أن يخضعوا لعلماء اللاهوت الذين نبذوا الفلسفة. وتنازعت الدراستان وافترقتا؛ وأدى رفض الدين للعقل إلى رفض العقل للدين، وانتهت بذلك المغامرة الجريئة الكبرى التي قامت في عصر الإيمان.

ص: 155

وبعد فقد كانت الفلسفة المدرسية مأساة يونانية تكمن في جوهرها الأسباب التي قضت عليها. ذلك أن في محاولتها إثبات الدين عن طريق العقل اعترافاً ضمنياً بسلطان العقل، وأن اعتراف دنز أسكوتس وغيره بأن الدين في القرن الرابع عشر إضعافاً أدى إلى نشوب الثورة على طول جبهة العقائد الكنسية. لقد كانت فلسفة أرسطو هدية يونانية للمسيحية اللاتينية، وكانت أشبه بجواد طروادة يخفي في باطنه ألف عنصر من العناصر المعادية لهذا الدين. ولم تكن هذه البذور التي نبتت منها النهضة والاستنارة هي "انتقام الوثنية" من المسيحية فحسب، بل كانت فوق ذلك انتقاماً للإسلام على غير علم منه. فقد غزت المسيحية بلاد فلسطين، وأخرجت المسلمين من أسبانيا كلها تقريباً، فنقلوا علومهم وفلسفتهم إلى أوربا الغربية، وكانت هذه العلوم والفلسفة قوة من القوى العاملة على تفكك المسيحية وتفرقها، وكان ابن سينا وابن رشد، كما كان أرسطو، هما اللذين بثّا جراثيم النزعة العقلية في أوربا المسيحية.

ولكن مهما يكن من عيوب المغامرة المدرسية فإن شيئاً منها لا يمكن أن يغشى لآلآها الساطع. لقد كانت مغامرة جريئة متهورة جرأة الشباب من إفراط في الثقة وإسراف في الجدل؛ وكانت صوت أوربا الجديدة الناقهة التي كشفت من جديد قوة العقل المثيرة. ولقد استمتعت الفلسفة المدرسية في خلال القرنين اللذين سمت فيهما إلى عليائها بحرية في البحث، والتفكير، والتعليم، لانكاد نجد ما يفوقها في جامعات أوربا في هذه الأيام، وذلك على الرغم من المجالس التي كانت تطارد الإلحاد وبالرغم من محاكم التفتيش؛ واستطاعت بمعونة فقهاء القانون في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أن تشحذ عقول الغربيين بما صاغته من أدوات المنطق ومصطلحاته، وبالاستدلال الدقيق

ص: 156

المتقن الذي لا يفوقه في الفلسفة الوثنية شيء. وما من شك في أن هذه السهولة في الجدل قد أسرف فيها إسرافاً كبيراً، وأنها ولدت الجدل المفعم بالجشو ولغو الكلام "والتفتيت المدرسي" الذي لم يثر عليه روجر بيكن وفرانسس بيكن وحدهما، بل ثارت عليه أيضاً العصور الوسطى نفسها. ومع هذا فإن كفة الخير في هذا التراث ترجح كفة الشر. ذلك أن "المنطق، وعلم الأخلاق، وما وراء الطبيعة" على حد قول كندورسية Condorcet " مدينة للفلسفة المدرسية بما فيها من دقة لا يعرفها الأقدمون أنفسهم "، كما يقول سير وليم هملتن إن (اللغات العلمية مدينة للفلسفة المدرسية بما فيها من إحكام ودقة تحليلية" (149)، وإن أكثر ما في العقل الفرنسي من صفات خاصة ينفرد بها عما عداه - وهي حبه المنطق، ووضوحه، ودقته - قد كوّنه المنطق أيام مجده في مدارس فرنسا أثناء العصور الوسطى.

وكانت الفلسفة المدرسية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر تقدماً ثورياً في التفكير البشري أو في إعادته إلى سابق عهده. ذلك أن التفكير " الحديث " يبدأ بنزعه أبلار العقلية، ويسمو إلى ذروته الأولى في وضوح تومس أكوناس ومغامراته، ويصاب بهزيمة مؤقتة على يد دنز أسكوتس، يفيق منها على يد أكاّم، ويستحوذ على البابوية حين يخضع ليو العاشر لسلطانه، وعلى المسيحية حين يقبض على إرزمس Erasmus، ويضحك بأعلى صوته في ربليه، ويبتسم في منتاني، ويصخب في فلنير، وينتصر متهكماً في هيوم، ويحزن على ما فاته من نصر في أناضول فرانس. ولقد كان الاندفاع وراء العقل في العصور الوسطى هو الذي أقام هذه الطائفة من الفلاسفة المتهورين ذوي الأسماء اللامعة والعقول الباهرة.

ص: 157

الباب السابع والثلاثون

‌العلوم المسيحية

1095 -

1300

الفصل الأول

‌البيئة السحرية

كان الرومان في أوج مجدهم الإمبراطوري يقدرون العلوم التطبيقية، ولكنهم كادوا ينسون علوم اليونان البحتة. وإنا لنجد منذ العهد القديم في كتاب التاريخ الطبيعي تأليف بلنى الأكبر خرافات يظنها الناس من اختراع العصور الوسطى، ولا تكاد تخلو منها صحيفتان من ذلك الكتاب. ولقد تآزرت قلة عناية الرومان والمسيحيين بالعلوم حتى كادت تجدب البلاد منها قبل أن يغزوها البرابرة بزمن طويل وينثرون حطام المجتمع المدمر في سبل انتقال الثقافة. ودفن ما بقي في أوربا من علوم اليونان في مكتبات القسطنطينية، وحتى هذا القليل الباقي امتدت إليه يد التدمير حين نهبت المدينة في عام 1204. وهاجرت علوم اليونان في القرن التاسع إلى بلاد المسلمين عن طريق الشام، ونهبت أفكارهم فقامت في بلادهم نهضة ثقافية من أعظم النهضات وأكثرها إثارة للدهشة في التاريخ كله، وذلك في الوقت الذي كانت فيه أوربا المسيحية تجاهد للخروج من ظلمات الخرافات والهمجية.

وكان لابد للعلوم والفلسفة في العصور الوسطى أن ينمو غرسهما في جو من

ص: 158

الأساطير، والخرافات، والمعجزات، والفأل، والطيرة، والعفاريت، والهولات، والسحر، والتنجيم، والتنبؤ بالغيب، وهي العقائد التي لا تنتشر إلا في عصور الفوضى والخوف. كل هذه كانت توجد في العالم الوثني، ولا تزال توجد في هذه الأيام، ولكنها يخفف من حدتها فكاهة المدنية والعقول المستنيرة. وكانت ذات سلطان قوي عند الأقوام الساميين، وأضحت لها الغلبة بعد أيام ابن رشد وأبن ميمون، وحطمت فيما بين القرن السادس والقرن الحادي عشر أسوار الثقافة في غربي أوربا، وغمرت عقول الناس في العصور الوسطى في بحر زاخر من الآراء الغامضة الخفية والسذاجة التي تصدّق كل ما يقال مهما كان بعيداً عن المعقول. وحسبنا أن نذكر مثلاً لذلك أن أوغسطين كان يعتقد أن آلهة الوثنيين لا تزال موجودة في صورة عفاريت، وأن جنّ الحراج وجنيّاتها حقيقة (1). كما كان أبلار يظن أن الشياطين تستطيع أن تقوم بأعمال السحر لمعرفتها الوثيقة بأسرار الطبيعة (2). وكان ألفنسو الحكيم يؤمن بالسحر ويقبل النبوءات عن طريق النجوم (3)، وإذا كان هذا هو اعتقاد أولك الرجال فكيف يشكّ فيه من هم أقل منهم شأناً؟

وتسربت طائفة كبيرة من الكائنات الخفية غير الطبيعية من الوثنية إلى المسيحية، وكانت في الوقت الذي نتحدث عنه لا تزال تتسرب إليها من ألمانيا واسكنديناوة وأيرلندة في صورة سَحَرة، وجن، ومردة، وجنيَّات، وأغوال، وهولات عجيبة، وشياطين وعفاريت تمتص الدماء. وظلت خرافات جديدة تدخل أوربا من بلاد الشرق؛ فكان الأموات يمشون في الهواء في صورة أشباح، وكان الخلائق الذين باعوا أنفسهم للشيطان يجوسون خلال الغابات والحقول كما كانت تجوس خلالها الذئاب؛ وكانت أرواح الأطفال الذين ماتوا قبل أن يعمدوا تغشى المستنقعات وتظهر للناس في صورة غاز المستنقعات المضئ؛ ولما أن رأى القديس إدمند رتش St. Edmund Rich جماعة من الغربان السود أدرك من

ص: 159

فوره أنها سرب من الشياطين جاءت لتحمل روح غراب في تلك المنطقة (4)؛ وكانت كثير من قصص العصور الوسطى تقول إنه إذا خرج شيطان من جسم رجل، فإن في مقدور من حوله أن يروا ذبابة كبيرة سوداء تخرج من فمه (5)؛ وكانت دنيا الشياطين لا يعتريها الضعف مطلقاً.

وكانت مئات الأشياء - كالأعشاب، والحجارة، والنمائم، والأقراط، والجواهر - تلبس لكي ترد بقوتها السحرية الشياطين وتأتي للابسها بالحظ الطيب. وكان حذاء الفرس مجلبة للحظ الطيب لأنه على شكل الهلال، الذي كان في وقت ما إلهة معبودة. وكان الملاحون الذين هم تحت رحمة العناصر الطبيعية، والفلاحون الذين تتحكم فيهم تقلبات الأرض والسماء، يرون خوارق الطبيعة أينما ساروا، ويعيشون في جو من الخرافات والأوهام. وانتقل الاعتقاد بأن لبعض الأعداد قوى سحرية من فيثاغورس عن طريق الآباء المسيحيين: فكان رقم 3 وهو عدد الثالوث المقدس أكثر الأعداد قداسة، وكان يرمز إلى النفس البشرية؛ وكان الرقم 4 يمثل الجسم؛ ورقم 7 وهو مجموع الرقمين يرمز إلى الإنسان الكامل؛ ومن ثم كانت فضائل الرقم 7 - سبعة أعمار الإنسان، والكواكب السبعة، والسبع فضائل الرئيسية، والخطايا السبع المهلكة. وكانت عطسة في غير الوقت المناسب نذير سوء. وكان من الخير أن يتقى شرّها بعبارة (يرحمك الله)، كلما حدثت. وكان مزيج من الدواء يعطى لتوليد الحُب أو القضاء عليه؛ وكان منع الْحَمل ببصق ثلاث مرات في فم ضفدعة، أو إمساك حصاة من حجر اليشب باليد أثناء الجماع (6). وكان أجوبار Agobard المستنير كبير أساقفة ليون Lyons في القرن التاسع عشر يشكو من أن المسيحيين يؤمنون بهذه السخافات التي لم يكن يستطيع الإنسان قبل ذلك الوقت أن يحمل الكفرة على تصديقها) (7).

وقاومت الكنيسة وثنية هذه الخرافات، ونددت بالكثير من المعتقدات

ص: 160

وأعمال الشعوذة، وعاقبت مرتكبيها بضروب من الكفارات متدرجة في صرامتها، فكانت تندد بالسحر الأسود - الالتجاء إلى العفاريت لنيل السلطان على الحوادث -، ولكن هذه الضرب من السحر كان واسع الانتشار في ألف مكان خفي. وكان الذين يمارسونه يوزعون سراً كتاب اللعنة المحتوي على أسماء العفاريت الكبرى، ومساكنها، وقواها الخاصة (8). وكان كل إنسان تقريباً يؤمن ببعض الوسائل السحرية التي تحول مقدرة الكائنات فوق الطبيعية إلى غايات محبوبة. وهاهو ذا يوحنا السلزبري يحدثنا عن ضرب من السحر يستخدمه شماس وقس كبير أساقفة (9). وكان أبسط أنواع السحر ما يحدث بتلاوة الرقية وهي عبارة تتلى عدة مرات في العادة؛ وبها يمكن اتقاء شر، وشفاء من مرض، وإبعاد عدو من الطريق. وأكبر الظن أن معظم المسيحيين كانوا يعدَون علامة الصليب، والصلاة الربانية، والسلام عليك يا مريم Ave Maria رقي سحرية، ويستخدمون الماء المقدس، والعشاء الرباني على أنهما من الطقوس السحرية ذات الآثار المعجزة.

وكاد الاعتقاد بوجود النساء الساحرات يكون عاماً في ذلك الوقت؛ فها هو ذا كتاب التوبة الذي وضعه أسقف إكستر Exter يندد بالنساء اللائي يدعين القدرة على تبديل عقول الرجال بضروب من السحر، كتبديل الكره حُبَّاً، والحب كُرهاً، أو (سحر بضائع الناس وسرقتها)، أو (يدعين القدرة على أن يركبن في بعض الليالي على ظهور بعض الدواب مع حشد من العفاريت في صورة النساء، وعلى أن ينضممن إلى تلك الجماعات)(10) - وذلك هو (سبت الساحرات) الذي ذاعت سمعته السيئة في القرن الرابع عشر. وكان من ضروب سحر النساء السهلة صنع صورة من الشمع للضحية المقصودة، وإنفاذ الأبر فيها، وتلاوة صيغ من اللعنات عليها؛ وقد أتهم وزير من وزراء فليب الرابع بأنه أستأجر ساحرة لتفعل هذا بصورة الملك. وكان من المعتقدات المنتشرة أن بعض النساء يستطعن أن

ص: 161

يؤذين أو يقتلن بنظرة من (عيونهن الحاسدة). وكان برثولد الرجنزبرجي Berthold of Regenesburg يظن أن سيلقى في الجحيم من النساء أكثر ممن سيلقى فيها من الرجال لأن كثيرات من النساء يمارسن فنون السحر - فلديهن (رُقي للحصول على الزواج، ورقي للزواج، ورقي قبل مولد الطفل، ورقي قبل التعميد

ومن عجب أن الرجال لا يفقدون عقولهن بسبب فنون السحر الرهيبة التي تمارسها النساء عليهن) (11). وكانت قوانين القوط الغربيين تتهم النساء باستحضار العفاريت، وبتقريب القرابين للشياطين، وبإثارة العواصف وما إلى ذلك، وتأمر بأن تحلق رؤوس من تثبت عليهن هذه الجرائم، وجلدهن مائتي جلدة (12). وكانت قوانين كانوت Cnut في إِنجلترا تعترف بأن من المستطاع قتل إنسان بالسحر. وكانت الكنيسة في بادئ الأمر سهلة مع أصحاب هذه العقائد الشعبية، ترى فيها بقايا وثنية لن تلبث أن تزول، ولكن الذي حدث كان عكس هذا، فقد أخذت تزيد وتنتشر؛ حتى إذا كان عام 1298 شنت محكمة التفتيش حملة قوية بغية القضاء على السحر بحرق الساحرات علناً. ذلك أن الكثيرين من رجال الدين كانوا يعتقدون مخلصين أن من النساء من كن على صلة بالعفاريت، وأن من الواجب أن يحمي المؤمنون من رقاهن السحرية. ويؤكد لنا قيصريوس الهسترباخي Caesarius of Heisterbach أن كثيرين من الرجال في أيامه يتحالفون مع الشياطين (13)، ويقال أن من يمارسون السحر الأسود كانوا يحتقرون الكنيسة ويسخرون من شعائرها بأن يعبدوا الشيطان بقداس أسود (14). وكان كثيرون من المرضى وضعاف النفوس يعتقدون أنهم قد لبستهم العفاريت. ولربما كان القصد من الأدعية، والصيغ، والاحتفالات التي تتلى أو تقام لإخراج هذه العفاريت والتي تستخدمها الكنيسة لهذا الغرض، أن تتخذ علاجاً نفسياً لتهدئة عقول المخرّفين.

وكان الطب في العصور الوسطى إلى حد ما فرعاً من اللاهوت والشعائر

ص: 162

الدينية؛ فقد كان أوغسطين يظن أن أمراض الآدميين تسببها العفاريت، ووافقه لوثر على ظنه هذا؛ وبدا من ثم أن علاج الأمراض بالصلوات، وعلاج الأوبئة بالموكب الدينية وإقامة الكنائس، أمر يتفق مع المنطق السليم. ومن أجل هذا بنيت كنيسة سانتا ماريا دلاسالوتي Santa Maria della Salute في البندقية لمقاومة الطاعون؛ وقد شفيت تلك المدينة - على حد قولهم - من وباء الزحار بفضل الصلوات التي أقامها القديس جربولد Gerbold أسقف بايو Bayeux (15) . وكان الأطباء الصادقون يرحبون بما يسديه الإيمان بالدين من عون لنجاح وسائل العلاج، فكانوا يوصون بإقامة الصلوات، ولبس التمائم (16)؛ ولهذا نجد منذ عهد إدورد المعترف لا بعد الحكام الإنجليز يباركون الخواتم لهذا العلاج الجذام (17). وكان الملوك الذين نالوا القداسة بلمس المخلفات الدينية يشعرون أن في مقدورهم علاج المرضى بوضع أيديهم عليهم؛ وكان يظن أن المصابين بالداء الخنازيري يستجيبون أكثر من غيرهم للمس الملوك؛ ولهذا سمي هذا المرض (داء الملك King's evil) . وما أكثر ما تحمل القديس لويس من العناء الطويل في مس المصابين بهذا الداء، ويقال إن فليب فالوا (مس) ألفاً وخمسمائة من الأشخاص في جلسة واحدة (18).

وكان ثمة وسائل سحرية للمعرفة وللصحة جميعا، فقد انتشرت في العصور الوسطى كلها معظم الوسائل الوثنية التي كانت تتبع التنبؤ بالغيب أو رؤية الغائبين على الرغم من تنديد الكنيسة بهذه الوسائل؛ مثال ذلك أن تومس أبكت Thomas à Becket أراد أن يسدي النصح إلى هنري الثاني في مشروعه لغزو بريطاني فاستشار لذلك عرّافاً بزجر الطير ومراقبة طيرانها، وقارئ كف عرف مصير الحملة بدراسة خطوط يده (19). ويدعي قارئو الكف أن (علمهم) هذا مؤيد من عند الله، ويستدلون على صدق السحر بآية من سِفر الخروج (الآية الثامنة عشر من الإصحاح الثاني والعشرين) التي تقول: لا تدع ساحرة تعيش.

ص: 163

وكان غير هؤلاء من المتنبئين يحاولون معرفة الغيب بمراقبة حركات الرياح، أو المياه، أو الدخان المتصاعد من نار. وكان بعضهم يعلمون أن مواضع خبط عشواء على الأرض (أو أية مادة من مواد الكتابة) ويصلون هذه النقط بخطوط، ويتنبئون بحظ السائل بالنظر في الأشكال الهندسية التي تحدث بهذه الطريقة. ويقال أن بعضهم كانوا يتنبئون بالمستقبل باستحضار أرواح الموتى؛ من ذلك أن ألبرتس جروتس Albertus Grotus استحضر - على حد قولهم - روح زوجة الإمبراطور فردريك بربرسا بناء على طلبه (20). ومنهم من كان يستشير كتب التنبؤ بالغيب. كالكتب التي يقال أنها تحتوي على نبوءات السيبلات Sibyls أو من مرلين Merlin أو سليمان. ومنهم من كان يفتح الكتاب المقدس أو الإنياذة في غير موضع معين، ويتنبأ بالمستقبل بقراءة الآية أو بيت الشعر الذي تقع أعينهم عليه. وكان أكثر المؤرخين جداً ووقاراً في العصور الوسطى يجدون - كما وجد ليفي - أن الحوادث ذات البال قد عرفت قبل وقوعها إما مباشرة أو رمزاً، بالنذر، أو الرؤى، أو النبؤات، أو الأحلام. وكانت توجد أكداس من الكتب - ككتاب آرنلد الفلانوفي Arnold of Villanova - تعرض أحدث التفسيرات العلمية للأحلام - ولم تكن هذه التفسيرات أكثر سخفاً مما كتبه أشهر العلماء في القرن العشرين. وكان الناس في الزمن القديم يمارسون الأساليب المتبعة للتنبؤ أو الجلاء البصري كلها تقريباً كما يمارسونها في هذه الأيام.

غير أن زماننا الحاضر، على الرغم مما بذل فيه من بعض الجهود، لم يبلغ ما بلغه عصر الإيمان - في الإسلام أو اليهودية أو المسيحية - من اعتقاد بأن المستقبل مكتوب في النجوم كتابة لا يستطيع حل رموزها

(1)

. فإذا كان مناخ الأرض - على حد قولهم - ونمو النباتات يتأثران تأثراً واضحاً بالأجرام السماوية،

(1)

لعل الكاتب يريد أن بعض المسلمين كانوا يعتقدون أن المستقبل مدون في النجوم وربما كان هذا صحيحاً ولكن الدين الإسلامي نفسه لا يشير بهذا تصريحاً ولا تلميحاً. (المترجم)

ص: 164

فكيف لا تؤثر هذه الأجرام، في أحوال الناس والدول، بل كيف لا تحدد هذه الأحوال تحديداً فتسيطر على نموهم، وطبيعتهم، وأمراضهم، ومراحل حياتهم، وخصوبتهم، وما يفتشوا بينهم من أوبئة، وما يقع لهم من أحداث وثورات، وتقرير مصيرهم؟ هذا ما كان راسخاً في عقل كل إنسان تقريباً في العصور الوسطى. وقلما كان يخلو بيت من ملك أو أمير من منجم محترف. وكان الأطباء يحجمون مرضاهم، كما لا يزال كثير من الفلاحين يبذرون حبهم، حسب أوجه القمر؛ وكانت معظم الجامعات تدرس مناهج في التنجيم، ويقصدون به (علم النجوم)؛ وكان علم الفلك نفسه جزءاً من التنجيم، وكان من أكبر أسباب تقدمه اهتمام الناس بالتنجيم وأغراضه. وكان العلماء الجادون يقررون أنهم وجدوا علاقات ثابتة منتظمة يمكن التنبؤ بنتائجها بين الأجرام السماوية والأرض؛ فالذين يولدون وزحل في أوجه يكونون باردي المزاج، نكدين، منقبضي الصدور؛ والذين يولدون والمشتري في أوجه يكونون معتدلي المزاج مرحين؛ ومن يولدون تحت تأثير المريخ يكونون ملتهبي المزاج ذوي نزعة عسكرية؛ ومن يولدون تحت تأثير الزهرة يتصفون بالرقة وكثرة النسل؛ ومن يولدون تحت تأثير عطارد يصيرون خلائق منقلبين لا يثبتون على حال؛ ومن يولدون والقمر في كبد السماء يكونون سوداويين قد تصل حالهم إلى الجنون. وكانت قراءة الطالع المولود تنبئ بحياتها كلها بالنظر إلى البرج الموجود وقت مولده. ولهذا فإن من يريد معرفة الطالع الصحيح لشخص يجب عليه أن ينظر إلى الساعة ويعرف بالدقة اللحظة التي ولد فيها، وموضع النجوم بغاية الدقة والتحديد. ومن ثم كانت أهم الأغراض التي وضعت من أجلها الأزياج الفلكية هي المساعدة على معرفة هذه الطوالع.

وتبرز في تلك الأيام أسماء المتبحرين في هذه العلوم الخفية؛ من هؤلاء بطرس الأبنووي Peter of Abano الذي كان ينزل بالفلسفة فيجعلها تنجيماً. وكان لآرنلد الفلانوفي الطبيب الشهير ولع بالسحر؛ وكان سكوداسكولي

ص: 165

Cecco d' Ascoli، (1257؟ - 1327) مدرس التنجيم في جامعة بولونيا يفخر بأنه يستطيع قراءة أفكار أي إنسان، أو يعرف ما يخبؤه في يده إذا عرف تاريخ مولده. وأراد أن يشرح آراءه هذه فعمل على كشف طالع المسيح، وأثبت أن البرج الذي كان في السماء ساعة مولده قد جعل صَلْبه أمراً محتوماً. وأدانته محكمة التفتيش (1324)، وأرغم على إنكار دعواه، وعفى عنه شريطة أن يلزم الصمت، وخرج فلورنس، ومارس التنجيم لعدد من العملاء، ثم حرق علناً لأنه أنكر حرية الإرادة (1327). وأتهم كثير من العلماء المخلصين لعملهم - ومنهم قسطنطين الأفريقي، وجربرت، وألبرتس مجنس، وروجر بيكن، وفنسنت البوفسني Vincent of Beauvaris - بالسحر والاتصال بالشياطين لأن الناس لم يكونوا يصدقون أنهم حصلوا على علمهم بالوسائل الطبيعية. وكان ميخائيل اسكت هدفاً للريبة لأنه كتب رسائل ذائعة الصيت عن العلوم الخفية، منها كتاب في التنجيم، وكتاب في العلاقة بين الصفات الخلقية وصفات الجسم، وكتابين في الكيمياء الكاذبة. وكان ميخائيل يندد بالسحر، ولكنه يسره أن يكتب عنه، وقد ذكر ثماني وعشرين طريقة للتنبؤ بالغيب، ويبدو أنه كان يؤمن بها كلها (21). وكان كمعظم معاصريه دقيق الملاحظة، يجري بعض التجارب؛ ولكنه يقول إن حمل حجر اليشب أو الياقوت الأصفر يساعد الرجل على الامتناع عن الجماع (23). وقد بلغ مهارته أن ظل حسن الصلة بفردريك الثاني والبابوات، ولكن دانتي الصلب الذي لا يقبل شفاعة جعل مثواه الجحيم.

وكانت الكنيسة ومحكمة التفتيش جزءاً من البيئة المحيطة بالعلوم الأوربية في القرن الثالث عشر. وكانت الجامعات تعمل في الأغلب تحت سلطان الكنيسة ورقابتها؛ بيد أن الكنيسة كانت تترك للأساتذة قدراً كبيراَ من حرية العقيدة، وكانت في كثير من الأحوال تشجع طلب العلم. من ذلك أن

ص: 166

وليم الأوفرني أسقف باريس (المتوفى عام 1249)، كان يناصر البحث العلمي، ويسخر من الذين يتسرعون فيرون في كل حادثة غير مألوفة عملاً من أعمال الله مباشرةً. وقد يرع جروستستي أسقف لنكلن في دراسة العلوم الرياضية، والبصريات، وفي العلوم التجريبية، براعة جعلت روجر بيكن يضعه في منزلة أرسطو. ولسنا نعرف أن طائفتي الرهبان الدمنيك أو الفرنسيس قد أثارتا اعتراضاً على الدراسات العلمية التي قام بها ألبرتس مجنس أو روجر بيكن؛ أما القديس برنار وبعض المتحمسين المتزمتين فكانوا يعرضون في طلب العلم؛ ولكن الكنيسة لم تأخذ برأيهم هذا (23)، وكانت ترى أن من الصعب عليها أن ترضى بتشريح جثث الآدميين لأن من عقائدها الأساسية أن الإنسان خلق في صورة الله، وأن الجسم والروح كليهما سيقومان من القبر. وكان المسلمون واليهود يرون معها هذا الرأي بعينه (24)، كما كانت تقول به الكثرة الغالبة من الناس (25). وقال جيدو الفجيفانوي Guido of Vigevano في عام 1345 عن التشريح إنه (محرم بأمر الكنيسة)(26). ولكننا لا نجد ما يحرمه في أوامرها قبل مرسوم البابا بنيفاس الثامن الصادر في عام 1300، وحتى هذا المرسوم لا ينهى إلا عن تقطيع الجثث وغلى لحمها، لكي ترسل عظام الصليبيين المعقمة إلى أهليهم ليدفنوها في بلادهم (27). وربما فسر هذا تفسيراً خاطئاً ففهم على أنه نهى عن تشريح الجثث بعد الموت، ولكننا نجد مندينو Mondino الجرّاح الإيطالي يغلي الجثث ويشرحها حوالي عام 1320؛ ومبلغ علمنا أن الكنيسة لم تحتج على عمله هذا (28).

وبعد فإذا ما بدت ثمار العلوم الطبيعية في الغرب أثناء العصور الوسطى ضئيلة قليلة الغناء في هذا الموجز الذي يراه القارئ فيما بعد، فإن علينا أن نذكر أنها نشأت في بيئة من الخرافة والسحر معادية للعلم، وفي عصر تتجه فيه خير العقول إلى القانون، واللاهوت، وفي وقت يعتقد فيه الناس كلهم تقريباً أن المسائل

ص: 167

الكبرى الخاصة بنشأة الكون، وبني الإنسان، والطبيعة، ومصائر الناس قد حلّت كلها. ولكن العقول في أوربا الغربية استفاقت من رقدتها بعد عام 1150 لما أن ازداد الفراغ، ونمت الثروة، وأخذت التراجم تنصب صباً في أوربا من بلاد الإسلام، واشتدت رغبة الناس في المعرفة حتى صارت ولعاً وتحمساً، وشرعوا يبحثون شئون العالم القديم العظيم الذي كان يبحثه اليونان دون أن تقام في وجههم العقبات والعراقيل، ولم يمض إلاّ قرن من الزمان حتى كانت أوربا اللاتينية كلها تموج بالعلم والفلسفة.

ص: 168

الفصل الثاني

‌الثورة الرياضية

إن أول الأسماء العظيمة في علوم ذلك الوقت اسم ليوناردو فيبوناتشي ألبيزي Leonardo Fibonacci of Pisa.

لقد انتقلت علوم الرياضة السومرية، التي لا نعرف نشأتها، إلى بابل عن طريق بلاد اليونان؛ وانتقل هلم الهندسة المصرية، الذي لا يزال ماثلاً أمام أعيننا في الأهرام، إلى أيونيا وبلاد اليونان، ولعل انتقاله كان عن طريق كريت ورودس؛ وانتقلت علوم الرياضة اليونانية إلى أيونيا في أثر الإسكندر، وكان لها شأن أيما شأن في ذلك التطور الذي بلغ ذروته في براهماجبتا Brahmagubta (588؟ -60؟) ؛ وترجمت مؤلفات الهنود الرياضية إلى اللغة العربية حوالي عام 775؛ وبعد قليل من ذلك الوقت ترجمت مؤلفات اليونان في هذا العلم إلى تلك اللغة نفسها؛ ودخلت الأرقام الهندية إلى بلاد المسلمين الشرقية حوالي عام 830؛ ثم نقلها جربرت Gerbert إلى فرنسا حوالي عام 1000، ودخلت علوم الرياضة اليونانية، والعربية، والعبرية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر بلاد أوربا الغربية عن طيق أسبانيا وصقلية، وحملها التجار الإيطاليون إلى البندقية وجنوى، وأملفي، وبيزا؛ وشأن النقل في الحضارة كشأن التناسل في الحياة.

وظهر طريق آخر من طرق نقل العلوم في القرن السادس قبل الميلاد وذلك في صورة "المِعَد"؛ وهو أداة للعد بنقل عصى صغيرة من الخيزران من مجموعة إلى أخرى؛ ولا تزال أداة منقولة عن هذه تستعمل في بلاد الصين إلى يومنا هذا؛ ويقول هيرودوت إن المصريين في القرن الخامس

ص: 169

قبل الميلاد كانوا يستخدمون العصا في العَد، وينقلونه بأيديهم من اليمين إلى اليسار". أما اليونان فقد ساروا فيه من اليسار إلى اليمين. واستخدم الرومان أشكالاً كثيرة من المِعَد، كانت أدوات العد في احدها تنزلق في حزوز، وكانت هذه الأدوات تصنع من الحجارة، أو المعادن، أو الزجاج الملون؛ وكانوا يسمونها الكلسكولي Calculi أي الحجارة الصغيرة (29). ويذكر بؤيثيوس حوالي عام 525 المعد ويقول عنه إنه يمكّن الإنسان من العد بالعشرات؛ ولكن هذه البداية لاستخدام الطريقة العشرية أُهملت؛ وكان تجار إيطاليا يستخدمون العد، ولكنهم يكتبون نتائجه بالأرقام الرومانية السمجة.

ووُلد ليوناردو فيبوناتشي في بيزا عام 1180؛ وكان والده مديراً لإحدى المؤسسات التجارية في بلاد الجزائر، وانضم إليه ليوناردو في تلك البلاد وهو في سن المراهقة، وتعلم على يد أستاذ مسلم، ثم طاف ببلاد مصر، والشام، واليونان، وصقلية، ودرس أساليب التجار، وتعلم طريقة العد، على حد قوله "بوسيلة عجيبة استخدم فيها أرقام الهنود التسعة"(30)؛ وهنا كانت الأرقام الهندية في بداية تاريخها الأوربي تسمى بحق أرقاماً هندية؛ وكانت هذه الأرقام التي هي من أسبابا الملل والإجهاد لأطفال هذه الأيام موضع الدهشة والبهجة في ذلك الوقت. ولعل ليونادرو قد تعلم اللغة اليونانية كما تعلم العربية؛ وسواء كان ذلك أو لم يكن فإنا نجده ملماً برياضيات أرخميدس، وإقليدس، وهيرون، وديوفانتس Diophantus. ونشر في عام 1202 كتاب العد Libre abaci وهو أول عرض أوربي كامل للأرقام الندية، وللصفر، والطريقة العشرية، يقوم به مؤلف مسيحي، وكان بداية بعث العلوم الرياضية في بلاد أوربا المسيحية. وأدخل هذا الكتاب نفسه الجبر العربي في أوربا الغربية، وأحدث انقلاباً بسيطاً في ذلك العلم لأنه كان يستخدم من حين إلى حين حروفاً بدل الأرقام لتعميم

ص: 170

المعادلات الجبرية واختزالها. واستخدم ليوناردو في كتابه الهندسة التطبيقية Practica geometrica (1220) لأول مرة في العالم المسيحي على ما نعلم الجبر في حل النظريات الهندسية. ووضع في كتابين آخرين نشرا في عام 1225 طرقاً مبتكرة لحل معادلات الدرجة الأولى والثانية. وفي تلك السنة نفسها رأس فردريك الثاني في مدينة بيزا مهرجاناً رياضياً، وضع فيه يوحنا بالرمو John Palermo مسائل مختلفة حلها فيبوناتشي.

وظل تجار أوربا يقاومون طريقة العد الجديدة على الرغم من ظهور هذا المؤلف الذي يُعدّ بداية عهد جديد في تاريخ العلوم الرياضية، فقد كان كثيرون منهم يفضلون تحريك المِعًد بأصابعهم وكتابة النتائج بالأرقام الرومانية؛ وفي عام 1299 استطاع "العدّادون" في فلورنس أن يقنعوا ولاة الأمور بسن قانون يحرم استعمال "الأرقام الخيالية الجديدة"(32)، ولم يدرك إلاّ عدد قليل من الرياضيين أن الرموز الجديدة وهي الصفر وترتيب الخانات العشرية في آحاد وعشرات ومئات

قد مهدت السبيل إلى تطور علوم الرياضة تطوراً يكاد يكون مستحيلاً إذا ظلوا يتخذون الحروف القديمة اليونانية والرومانية واليهودية أرقاماً. ولم تحلّ الأرقام الهندية آخر الأمر محل الأرقام الرومانية إلاّ في القرن السادس عشر، ولا تزال طريقة العد الاثنا عشرية مستخدمة في ميادين كثيرة في إنجلترا وأمريكا لأن رقم 10 لم ينتصر بعد في كفاحه الطويل الذي دام الف عام انتصاراً حاسماً على رقم 12.

وكان للعلوم الرياضية في العصور الوسطى أغراض ثلاثة: خدمة التجار، وإمساك حسابات رجال الأعمال، ورسم خرائط للسماء. وكانت علوم الرياضة، والطبيعة، والفلك وثيقة الصلة بعضها ببعض، ومن كتب وفي واحد منها أفاد العلمين الآخرين؛ ومن أمثلة هؤلاء العلماء جون الهوليوودي John of Holywood (في يروكشير) المعروف في العالم اللاتيني باسم جوانس ده سكروبسكو

ص: 171

Johannes de Saerobosco الذي درس في أكسفورد، وكان أستاذاً في جامعة باريس، وألف رسالة عن الكرة الأرضية وعرضاً للرياضة الجديدة سماه الرياضة للملايين (حوالي 1230). ولكان لفظ اللوغارتمات وهو اسم ممسوخ من اسم الخوارزمي اصطلاحاً لاتينياً يطلق على الطريقة الرياضية التي تستخدم الأرقام الهندية. ويعزو جون إلى العرب فضل اختراع هذه الطريقة، وهو من المسئولين عن الخطأ الذي أدى إلى تسمية الأرقام الهندية بـ"الأرقام العربية"(33). وجاء رجل من تشيستر يدعى ربرت حوالي عام 1149 بحساب المثلثات العربي إلى إنجلترا، وأدخل لفظ الجيب في العلم الجديد، وذلك في أثناء تعديل أزياج البتاني والزرقاني.

وكان من أسباب دوام الاهتمام بالفلك حاجات الملاحة والرغبة الشديدة في التنجيم. وكانت المكانة العظيمة التي يمثلها كتاب المجسطي الذي ترجم مراراً كثيرة من أسباب جمود علم الفلك في أوربا المسيحية واستمساكه بنظرية بطليموس نظرية الدوائر المختلفة المراكز والدوائر التي في محيطات دوائر أخرى، والقائلة إن الأرض هي محور الكون. وأحست بعض العقول اليقظة كعقول ألبرتس مجنس، وتومس أكوناس، وروجر بيكن، بقوة النقد الذي وجهه العالم الفلكي البطروجي، لهذه النظرية في القرن الثاني عشر، ولكن لم توجد نظرية سماوية مقبولة تحل محل نظرية بطليموس الميكانيكية قبل أيام كوبرنيق. فقد كان علماء الفلك المسيحيون في القرن الثالث يتصورون أن الكواكب تدور حول الأرض، وأن النجوم الثوابت مرصوصة في قبة من البلور يسيرها العقل الإلهي، وتدور في حشد منظم حول الأرض؛ وأن مركز الكون كله وأرقى ما فيه هو ذلك الإنسان الذي يصفه علماء الدين بأنه دودة حقيرة ملوثة بالذنوب، ومحكوم على كثرة أفراده بأن يصلوا نار الجحيم. وقد بحث علماء الفلك الساميون في القرن

ص: 172

الثالث عشر رأي هرقليدس القائل بأن منشأ حركة السماء اليومية الظاهرة دوران الأرض حول محورها، ولكن العالم المسيحي نسى هذا الرأي نسياناً تاماً؛ ونقل مكروبيوس Macrobius ومارتيانس كابلا Martianus Capella رأياً آخر لهرقليدس وهو أن عطارد والزهرة يدوران حول الشمس؛ واستمسك جون اسكوتس إرجينس بهذا الرأي في القرن الثامن ثم طبقه على المريخ والمشتري، وبهذا أوشكت النظرية القائلة بأن الشمس مركز العالم أن تنتصر (34). ولكن هذه الفروض الباهرة كانت من بين الأفكار التي اندثرت في العصور المظلمة، وظلت الأرض مركز الكون حتى عام 1512 slash وإن كان علماء الفك جميعهم قد اتفقوا على أن الأرض كروية (35).

وجاءت الأزياج والآلات الفلكية إلى الغرب من بلاد الإسلام، أو عملت على غرار الأزياج والآلات الإسلامية. ورصد ولشر اللوريني Walcher of Lorraine الذي أصبح فيما بعد رئيساً لدير ملفيرن Malvern خسوف القمر في إيطاليا بأسطرلاب؛ وكان هذا أول الأرصاد الفلكية المعروفة في العالم المسيحي الغربي؛ ولكن وليم الكلودي William of St Cloud اضطر بعد مائتي عام من ذلك الوقت (حوالي 1296) أن يذكر الفلكيين، بأقواله وبما ضربه لهم من مثل بنفسه، أن خير ما يتقدم به العلم هو الملاحظة لا القراءة أو الفلسفة. وخير ما قدم لعلم الفلك المسيحي من عون في ذلك الوقت هو الأزياج الأُنفسية لحركات الأجرام السماوية التي أعدها عالمان يهوديان أسبانيان لأنفسو الحكيم.

وتجمعت المعلومات الفلكية فكشفت عن أخطاء تقويم يوليوس قيصر (46 ق. م) الذي وضع على أساس عمل سويجنيس والذي جعل السنة أطول من حقيقتها بإحدى عشرة دقيقة وأربع عشرة ثانية. وكان ازدياد تنقل الفلكيين، والتجار، والمؤرخين بين أقطار العالم مما كشف عن الصعاب التي يلاقونها

ص: 173

من جراء اختلاف التقاويم. وكان البيروني قد قام بدراسات نافعة للطرق المختلفة المتبعة في تقسيم الزمن وتاريخ الحوادث (حوالي عام 1000)، وواصل هارون ابن مشلام وابراهام بارخبة هذه الدراسة في عامي 1106 و 1122، وأعقبهما ربرت جروستستي وروجر بيكن فعرضا في القرن الثالث عشر مقترحات عملية، أسفرت (حوالي عام 1232) عن وضع جروستستي لطائفة من الأزياج لتعيين أوقات الحوادث الفلكية والتواريخ المتغيرة كتاريخ عيد القيامة، وكانت هذه الأزياج أول خطوة لوضع التقويم الجريجوري (1582) الذي يرشدنا ويضللنا في هذه الأيام.

ص: 174

الفصل الثالث

‌الأرض وحياتها

وكان أكثر العلوم تقدماً في العصور الوسطى هو علم طبقات الأرض؛ وسبب ذلك أن الأرض كانت في رأيهم موطن المسيح، وغلاف الجحيم، وأن الأحوال الجوية من تقدير الله. وكان المسلمون واليهود والمسيحيون على السواء يغشون علم التعدين بغلاف من الخرافات. ويؤلفون "الجوهريات فيما للحجارة من قوى سحرية. من ذلك أن ماربو Marbood أسقف رنن Rennes (1035 - 1133) كتب بالشعر اللاتيني كتاباً شعبياً سماه كتاب الجواهر وصف فيه القوى الخفية الكامنة في ستين نوعاً من الحجارة الكريمة، فقال هذا الأسقف المتبحر في العلوم إنه إذا أمسك الإنسان بيده حجراً من الياقوت الأزرق أثناء الصلاة كان ذلك أدعى لاستجابة الله إلى دعائه (36)، وإن حجر عين الهر إذا لف في ورقة من نبات الغار يُخفي من يمسك به من أعين الناس، وإن حجر الجمشت يجعله بمأمن من السكر؛ وإن الماس يجعل من يمسك به صنديداً لا يُهزَم (37).

وكان التشوف والتحمس اللذان أحاطا معادن الأرض بهذه الخرافات هما اللذين بعثا الناس في العصور الوسطى على التجوال في أوربا وبلاد الشرق، فأغنوا بذلك علم الجغرافيا على مهل. من هؤلاء جرالدس كمبرنسس Giraldus Cambrensis - جرالد الويلزي Girald of Wales، (1147 - 1223) - الذي طاف ببلاد كثيرة وكتب في موضوعات كثيرة، وأتقن لغات كثيرة ليس

ص: 175

منها لغته هو، والذي صحب الأمير جون إلى أيرلندة، وعاش فيها عامين، ثم طاف بأنحاء ويلز يدعو الناس إلى الحرب الصليبية الثالثة، وألف أربعة كتب ممتعة عن هذين البلدين. وقد أثقل صحف كتبه بتحيزه وبكثرة ما أورده فيها من أخبار المعجزات، ولكنه خففها بوصفه الواضح الحي للأشخاص والأماكن، وحديثه الظريف عن الأشياء التافهة التي توضح خصائص الأشخاص والعصور. وكان واثقاً من أن كتبه سوف تخلد ذكره (38)، ولكنه استخف بما يمتاز يه الزمان من قدرة على النسيان.

وكان هو واحداً من آلاف الرجال الذين حجوا إلى بلاد الشرق في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وقدر سمت خرائط البلاد والطرق ليهتدي بها هؤلاء الحجاج، وأفاد من ذلك علم الجغرافية. وحدث بين عامي 1107 و 1111 أن أبحر سجورد جوراسلفار Siguard Jorasalfare ملك النرويج في حملة صليبية ومعه ستون سفينة، ومرَّ بإنجلترا، وأسبانيا، وصقلية، ووصل إلى فلسطين. وحارب المسلمين كلما لاحت له فرصة لحربهم، ثم قاد حملته بعد أن هلك منها من هلك إلى القسطنطينية، ومنها اجتاز بلاد البلقان، وألمانيا، والدنمرقة بطريق البر حتى وصل إلى النرويج. وتكون قصة هذه الرحلة المفعمة بالأخطار جزءاً من قصص اسكنديناوة الشعبية العظيمة. وفي عام 1270 أعاد لنزارتي مالوسلو Lanzarotte Maocello كشف جزائر الخالدات التي كانت معروفة للأقدمين. وتقول إحدى الروايات المتواترة التي لم تحقق بعد إن أجولينو Ugolino وفادينو فيفلدو Vadino Vivaldo أبحرا من جنوى حوالي عام 1290 على ظهر سفينتين كي يصلا إلى الهند بالطواف حول قارة أفريقية. ويبدو أن جميع من كانوا على ظهر السفينتين من الملاحين لقوا حتفهم. وانتقلت قصة هذه الرحلة بطريقة ساخرة في صورة رسالة من "برجستون" Prester John اسطوري (حوالي عام 1150) يتحدث فيها عن أملاكه في أواسط آسية،

ص: 176

وعن جغرافية بلاد الشرق حديثاً مليئاً بالأوهام والخرافات. وقلّما كان المسيحيون يعتقدون بوجود أرضين وسكان في الأجزاء المقابلة لبلادهم وعلى سطح الأرض، وذلك على الرغم من قيام الحروب الصليبية وما استتبعته من الأسفار. وكان القديس أوغسطين يرى أن "من غير المعقول أن يسكن الناس في الجهة المقابلة لنا على سطح الأرض، حيث تغرب الشمس حين تشرق عندنا، وحيث يمشي الناس وأقدامهم في اتجاه أقدامنا"(39)؛ وكان راهب أيرلندي يدعى القديس فرجيل St. Fergil قد أشار حوالي عام 748 إلى إمكان وجود "عالم آخر وخلق آخرين تحت الأرض"(46). وقبِل ألبرتس مجنس وروجر بيكن هذه الفكرة، ولكنها بقيت خيالاً جريئاً يطوف بعقول قلة من الناس حتى طاف مجلان Magellan بالكرة الأرضية.

وجاءت إلى أوربا أهم المعلومات عن الشرق الأقصى من راهبين فرنسيين. ذلك أن إنوسنت الرابع أرسل في إبريل من عام 1245 إلى بلاط المغول في قرقورم جيوفني ده بيانو كربيني Giouanni de Piano Carpeni، وهو رجل بدين في الخامسة والستين من عمره. ولاقى جيوفني ورفيقه من العصاب أشد ما يلقاه الإنسان في حياته، فقد ظلا مسافرين خمسة عشر شهراً، يبدلان الجياد أربع مرات في كل يوم. وإذ كانت قوانين الرهبان الفرنسيس تحرم عليهما أكل اللحمـ فقد كادا يموتان جوعاً بين البدو الذي لا يكادون يجدون غيره طعاماً يمدونهما به. وأخفق جيوفني في مهمته، ولكنه كتب بعد موته وصفاً لرحلته يعد الآن من أمهات كتب الأدب الجغرافي - فهو يمتاز بوضوحه، وإنكاره لشخصه، واهتمامه بالحقائق دون غيرها لا يذكر فيها كلمة شكوى أو كلمة عن نفسه. وأرسل لويس التاسع في عام 1253 وليم الربركويزي William of Rubruquis (وليم فان رويزبروك William van Ruysbrook) إلى الخان الأعظم ليعيد على مسامعه رغبة البابا في عقد حلف معه. وعاد وليم يحمل معه دعوة جافة

ص: 177

بخضوع فرنسا إلى سلطة المغول (41)، وكان كل ما أثمرته البعثة هو وصف وليم الشيق الممتاز لعادات المغول وتاريخهم. وعرف الأوربيون وقتئذ لأول مرة منابع نهري الدن Don والفلجا، وموضع بحيرة بلكاش، وشعائر الدلاي لاما Dalai Lama، وأماكن النساطرة المسيحيين في الصين، والفرق بين المغول والتتار.

وأشهر الرحالة الأوربيين إلى بلاد الشرق الأقصى في العصور الوسطى وأعظمهم نجاحاً هم أسرة بولو تجار البندقية. فقد كان لأندريا بولو Andrea Polo أبناء ثلاثة هم ماركو الأكبر، ونقولو، ومافيو Maffeo؛ وكانوا كلهم يعملون في تجارة بيزنطية ويعيشون في القسطنطينية. وانتقل نقولو ومافيو حوالي عام 1260 إلى بخارى حيث بقيا ثلاث سنين، ومنها سافرا في أعقاب بعثة سياسية تتارية إلى بلاط كوبلاي خان في شانجتو. وأعادهم كوبلاي في بعثة إلى البابا كلمنت الرابع؛ واستغرقت عودتهما إلى البندقية ثلاث سنين، فلمّا جاء إليها كان كلمنت قد مات. وفي عام 1271 خرجا من البندقية عائدين إلى الصين، وأخذ نقولو معه ابنه ماركو الأصغر وكان وقتئذ في السابعة عشرة من عمره. وقضيا ثلاث سنين ونصف سنة في رحلتهما مخترقين قارة آسية عن طريق بلخ، وهضبة البامير، وكاشغر، ولوب تور، وصحراء غربي، وتنجوت. فلمّا وصلا إلى تنجوت كان ماركو في الحادية والعشرين من عمره؛ وأعجب به كوبلاس، وخصه بمناصب رئيسية، ووكل إليه القيام ببعثات هامة، وأبقى أفراد أسرة بولو الثلاثة في الصين سبعة عشر عاماً. ثم أبحروا عائدين إلى بلادهم، وقضوا في عودتهم ثلاث سنين عن طريق جاوة، وسومطرة، وسنغافورة، وسرنديب، والخليج الفارسي؛ ثم ساروا براً إلى طربزون، ومنها ركبوا السفينة إلى القسطنطينية والبندقية. فلمّا استقروا فيها لم يصدق أحد، كما يعرف العالم كله، القصص التي أخذ يقصها "ماركو ذو الملايين" عن "بلاد الشرق

ص: 178

الفخمة". وأسر ماركو وهو يحارب في جيش مدينة البندقية في عام 1298، وألقي في سجون جنوى عاماً كاملاً، وفي أملى قصته على زميل له في السجن. وأثبتت بحوث الرواد بعدئذ صحة عناصر قصته كلها تقريباً، وكانت تعد من قبل غير معقولة. فقد وصف ماركو للمرة الأولى رحلة تخترق جميع بلاد آسية، وفي كتابه أول لمحة كتبها أوربي عن بلاد اليابان، وأول وصف صادق لبكين، وجاوة، وسومطرة، وسيام، وبورما، وسرنديب، وساحل زنجبار، ومدغشقر، وبلاد الحبشة؛ وكشف كتابه للغرب الستار عن بلاد الشرق، وساعد على فتح طرق جديدة للتجارة، ولانتقال الأفكار، وكان له نصيب في تشكيل علم الجغرافية الذي أوحى إلى كولمبس بالسفر إلى الشرق بالاتجاه نحو الغرب.

ولمّا تسع ميدان التجارة والأسفار أخذ علم رسم الخرائط يعود متثاقلاً إلى المستوى الذي بلغه في أيام أغسطس، وشرع الملاحون يُعِدُّن كتباً يُهتَدَى بها إلى الثغور التجارية، تحتوي خرائط، ورسوماً، وإرشادات للسائحين، وأوصافاً لمختلف المرافئ؛ وبلغت هذه الكتب على أيدي أهل بيزا وجنوى درجة كبرى من الدقة. وكانت خرائط العالم التي رسمها الرهبان في ذلك الوقت إذا قورنت بغيرها تسير على نمط محدد لا تحيد له ويصعب فهمها.

وكانت رسائل أرسطو في علم الحيوان، وكتاب ثيوفراسطس الحجة في النبات، حافزاً قوياً لعقل الغرب المستيقظ من رقاده، فأخذ يكافح للخروج من القصص ومن أقوال بلني إلى علم الحيوان والنبات. وكان كل إنسان تقريباً في ذلك الوقت يعتقد أن الكائنات العضوية الصغيرة، بما فيها من الديدان والذباب، تتولد من تلقاء نفسها من التراب، والطين، والمواد المتعفنة، الفاسدة. وكادت الكتب التي تصف الحيوانات - الحقيقي منها والخرافي - وترسم صوراً لها تحل محل كتب علم الحيوان؛ وإذ كان الرهبان هم الذين يؤلفون معظم هذه الكتب فقد كان علم الحيوان يوصف في عبارات مستمدة من كتب اللاهوت

ص: 179

بأنه مستودع للرموز المقوية للإيمان، وابتدعت منه مخلوقات إضافية ابتكرها الخيال للهو والتسلية، أو خلقتها الحاجة إلى التقى والصلاح. انظر مثلاً إلى قول الأسقف هونوريوس الأوتوني Honorius of Autun من رجال القرن الثاني عشر الميلادي:

وحيد القرن، وحش شديد الافتراس له قرن واحد، فإذا أريد القبض عليه وُضعت في الحقل فتاة عذراء، إذا رآها اقترب منها واستراح في حجرها، وبذلك يُقبض عليه. ويمثل هذا الحيوان المسيح، ويمثل قرنه قوة المسيح التي لا تُغلب

فقد انتزعه الصيادون وهو في رحم عذراء - أي أن الذين أحبوا المسيح وجدوه في صورة إنسان (42).

وكان أقرب كتب الأحياء إلى العلم الصحيح في العصور الوسطى هو كتاب فردريك الثاني المسمى "فن القنص بالطير" وهو رسالة في هذا الفن في 589 صفحة، تعتمد فيما تعتمد عليه على المخطوطات اليونانية والإسلامية، ولكن الجزء الأكبر منها مستمد من الملاحظة والتجربة. وكان فردريك نفسه من أشهر الصائدين بالبزاة؛ ويحتوي وصفه لأجسام الطير على عدد كبير من المعلومات الأصيلة التي لم يسبقه إليها غيره من المؤلفين، ويدل تحليله لطيران الطيور وهجرتها، وتجاربه في تفريخ البيض بالطرق الصناعية، وأعمال الصقورة، على روح علمية لا نظير لها في أيامه (43). وقد وضح فردريك نصوص كتابه بمئات من صور الطير، ربما كانت من صنع يده - وهي رسوم "صادقة حتى في أدق التفاصيل"(44). ولم تكن مجموعات الحيوانات التي جمعها، مجرد هوى شاذ يقصد به التظاهر كما كان يظن بعض معاصريه، بل كانت معملاً يدرس فيه دراسة مباشرة مسلك الحيوانات. وبذلك كان هذا الإسكندر أرسطو نفسه.

ص: 180

الفصل الرابع

‌المادة والطاقة

كان حظ الطبيعة والكيمياء أحسن من حظ علمي طبقات الأرض والأحياء، ذلك أن قوانينهما وعجائبهما كانت في جميع الأوقات أكثر ائتلافاً مع عقيدة الإيمان بالله من "أنياب العالم الطبيعي ومخالبه الحمراء". ويدلنا على قوة هذه العلمين في بداية تلك الفترة ما كان يبذله ألفر المالمزبري Oliver of Malmesbury من جهود لصنع طائرة؛ فقد أتم في عام 1065 تركيب جهازه، وعلا به في الجو من مكان مرتفع ولقي حتفه (45).

ولمع في عالم الميكانيكا في القرن الثالث عشر اسم عظيم، اسم راهب دمنيكي سبق إسحق نيوتن إلى عدد من المبادئ الأساسية في هذا العلم. ذلك هو جردانس نموراريوس Jordaus Nemorarius الذي أصبح في عام 1222 القائد الثاني للرهبان الدمنيكيين. وإن قيامه بأعماله الباهرة في ميدان العلوم الطبيعية ليشهد بما كان عليه الإخوان الواعظون من حماسة عقلية وغيرة علمية. وقد ألف هذا الراهب ثلاث رسائل في العلوم الرياضية نافس فيها رسائل فيبوناتشي في شجاعته ونفوذه العظيم، استخدم فيها الأرقام الهندية، وارتقى بعلم الجبر بحرصه الدائم على استعمال الحروف بدل الأرقام في قوانينه العامة. وقد درس في كتابه Elementa super demonstrationem ponderis فعل الجاذبية في مسير جسم متحرك، ووضع القانون المعروف الآن باسم بديهية جردانس. وهو أن القوة التي تستطيع رفع جسم معين إلى ارتفاع معين تستطيع رفع جسم أثقل من الأول ك المرات إلى ارتفاع يقل عن الارتفاع الأول ك المرات. وحلل في رسالة أخرى De ratione ponderis (لعل مؤلفها أحد

ص: 181

تلاميذه) فكرة قوة السكون - حاصل قوة ما في طول ذراع رافعتها، واستبق الأفكار الحديثة في ميكانيكية الروافع والمستويات المائلة (46). وحاولت رسالة أخرى تعزى إلى "مدرسة جوردانس" أن تعبر عن نظرية الإزاحة الافتراضية - وهي المبدأ الذي قدره فيما بعد ليوناردو دافنشي، وديكارت، وجون برنولي John Bernoulli وصاغه آخر الأمر ج. ولارد جبز J. Willard Gibbs في القرن التاسع عشر.

وأثر تقدم الميكانيكا في الاختراع تأثيراً بسيطاً. من ذلك أن ربرت الإنجليزي Robert of England عرض في عام 1271 نظرية رقاص الساعة عرضاً واضحاً؛ وفي عام 1288 نسمع عن ساعة كبيرة في برج بوستمنستر، كما نسمع حوالي ذلك الوقت نفسه عن ساعات ضخمة مثلها في كنائس أخرى بالقارة الأوربية؛ ولكننا لا نجد دليلاً قاطعاً على أن هذه الساعات كانت آلات ميكانيكية كاملة؛ أما أول ذكر صريح لساعة تدار بالبكرات، والأثقال، والتروس فيرجع تاريخه إلى عام 1320 (47).

وكان أكثر فروع علم الطبيعة نجاحاً في ذلك الوقت هو علم البصريات، ذلك أن رسالة ابن الهيثم العربية التي ترجمت إلى اللاتينية قد فتحت آفاقاً جديدة في بلاد الغرب؛ وقد تحدث ربرت جروستستي عن هذا العلم في مقال له عن قوس قزح نشر حوالي عام 1230 عن "فرع ثالث من فن المنظور

لم يطرق بابه ولم يعرفه بيننا أحد حتى هذا الوقت

(وهو) يعرفنا كيف نجعل الأشياء الشديدة البعد عنا تبدو شديدة القرب منا، وكيف نجعل الأشياء الكبيرة القريبة التي تبدو جد صغيرة، وكيف نجعل الأشياء البعيدة تظهر بالحجم الذي نريده.

ويضيف إلى ذلك قوله إنه يمكن الوصول إلى هذه الأشياء العجيبة بتكسير "شعاع الضوء" وذلك بجعله يمر خلال عدة أجسام شفافة، أو عدسات مختلفة التركيب. وافتتن تلميذه روجر بيكن بهذه الآراء أيما افتتان. وبحث جون بكهام، وهو في أغلب الظن تلميذ من تلاميذ جروستستي في جامعة أكسفورد،

ص: 182

في انعكاس الضوء، وانكساره، وتركيب العين في رسالة سماها فن المنظور العام Perspetiva Communis؛ وإذا ذكرنا أن بكهام أصبح بعدئذ كبير أساقفة كنتربري، أدركنا مرة أخرى ما كان بين العلوم وكنيسة العصور الوسطى من وفاق.

وكان من نتائج هذه الدراسات في الضوء اختراع النظارات. فقد كانت المجاهر - النظارات المكبرة - معروفة لليونان الأقدمين (48)، ولكن يبدو أن صنع هذه النظارات بحيث تجمع الأشعة جمعاً صحيحاً وهي قريبة من العين كان لابد أن ينتظر البحوث التي تجري في هندسة انكسار الضوء. وتوجد وثيقة صينية ترجع إلى تاريخ غير موثوق بصحته بين عامي 1260 و 1300 تتحدث عن نظارات تسميها آي تاي Ai tai يستطيع بها كبار السن أن يقرءوا الكتابة الدقيقة. وجاء في موعظة لراهب دومنيكي ألقاها في بيسانزا عام 1305: "منذ عشرين عاماً قبل هذا الوقت كشف فن صنع النظارات (أكشيالي Occhiali) التي تمكن الإنسان من أن يحسن القراءة

ولقد تحدثت بنفسي إلى الرجل الذي كان أول من كشفها وصنعها". وورد في خطاب مؤرخ عام 1289: "لقد تقدمت بي السنون حتى أصبحت عاجزاً من القراءة والكتابة بغير النظارات المسماة (أكيالي okiali) التي اخترعت من وقت قريب". ويعزى فضل اختراعها عادة إلى سلفينودا مارتو Salvino da Marto الذي كُتب على شاهد قبره المصنوع في عام 1317 "مخترع النظارات". وفي عام 1305 أعلن طبيب من منبلييه أنه أعد غسيلاً للعين يجعل الإنسان في غنى عن النظارات (49).

وكانت قوة المغنطيس الجاذبة معروفة هي الأخرى لليونان، ويلوح أن الصينيين هم الذين كشفوا في القرن الأول الميلادي قدرته على تعيين الاتجاه. وتعزو إحدى الروايات الصينية المتواترة إلى المسلمين أول استعمال للإبرة المغنطيسية في إرشاد السفن حوالي عام 1093. وأكبر الظن أن استعمالها كان واسع

ص: 183

الانتشار بين الملاحين المسلمين والمسيحيين قبل نهاية القرن الثاني عشر؛ وترجم أقدم إشارة لهذا الاستعمال عند المسيحيين إلى عام 1205، وعند المسلمين إلى عام 1282 (50)، ولكن لعل الذين عرفوا هذا السر الثمين من زمن طويل لم يتعجلوا في إذاعته؛ يضاف إلى هذا أن الملاحين الذين كانوا يفيدون من هذا الاختراع كانوا يُرتاب في أمرهم فيظن أنهم سحرة، وبلغ من أمرهم أن بعض الملاحين رفضوا أن يسافروا مع أمير سفينة يحتفظ معه بهذه الآلة الشيطانية (51). ونجد أول وصف معروف لبيت إبرة تتحرك على نقطة ارتكاز في رسالة في المغنطيسية كتبها بطرس برجرينس Petrus Peregrinus في عام 1269. وقد سجل الحاج بطرس هذا كثيراً من التجارب، ودعا إلى الطريقة التجريبية، وأوضح فعل المغنطيس في جذب الحديد، ومغنطة غيره من الأجسام، وتعيين اتجاه الشمال، وحاول كذلك أن يصنع آلة دائمة الحركة تعمل بمغنطيسات تولد بنفسها القوة اللازمة لتحريكها (52).

وكانت البحوث في الكيمياء الكاذبة أكبر العوامل في تقدم علم الكيمياء؛ فقد أخذت النصوص العربية في هذا العلم تترجم إلى اللاتينية من القرن التاسع وما بعده، وما لبثت البحوث الخاصة بهذا النوع من الكيمياء أن انتشرت في بلاد الغرب حتى لم تخل منها الأديرة نفسها. فقد نشر الأخ إلياس خليفة القديس فرانسس كتاباً في الكيمياء القديمة طلبه إليه فردريك الثاني؛ وكتب راهب فرنسيسي آخر يشايع فكرة تحويل المعادن بعضا إلى بعض؛ وكان أشهر الكتب الطبية كلها في ذلك العهد كتاب في العلل يعرض الكيمياء القديمة والتنجيم كما وردا في كتاب مدسوس على أرسطو. وكان عدد من ملوك أوربا يستخدمون الكيميائيين القدامى ليسدوا ما ينقص من أموال خزائنهم بتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب (53). وواصل غيرهم من المتحمسين البحث عن إكسير الحياة وحجر الفلاسفة. ولم تنقطع هذه البحوث

ص: 184

رغم أن الكنيسة حرّمتها في عام 1307 ووصفتها بأنها من البحوث الشيطانية، ولعل بعض المؤلفين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر أرادوا النجاة من غضب الكنيسة بأن عزوا مؤلفاتهم إلى "جبر" Gebir

(1)

المسلم.

وأضافت التجارب الطبية على العقاقير معلومات كثيرة إلى علم الكيمياء، كما أن العمليات الخاصة بالصناعة كادت ترغم على الكشف إرغاماً، وأفاد على الكيمياء فوائد جمة من أعمال عصر الجعة، وصنع مواد الصباغة، والخزف، والميناء، والزجاج، والغَراء، واللك، والمداد، ومواد التجميل. وألّف بطرس العمري Peter of St. Omer حوالي عام 1270 كتاب صنع الألوان libier de coloribus fasciendis، فيه ذِكر لعدد من المواد الملوّنة المستخدمة في التصوير تصف واحدة منها كيفية صنع ألوان زيتية بخلط المواد الملونة بزيت بذر الكتان (54). ونشرت حوالي عام 1150 رسالة تعرف باسم Magister Salernus - ربما كانت من رسائل مدرسة الطب في سلرنو - ذكر فيها تقطير الكحول؛ وكان هذا أول ذكر صريح لهذه العملية المنتشرة في جميع أنحاء العالم في هذه الأيام. وكانت الأقطار التي تنتج العنب تقطر النبيذ وتسمى ما ينتج من تقطير هذا العصير ماء الحياة eau de vie aqua vitae. أما بلاد الشمال ذات العنب القليل والبرد القارس فكانت تجد تقطير الحبوب أقل نفقة من تقطير العنب؛ وكان لفظ يسكبيثا uisqebeatha الكلتي الذي اختصر فصار وسكي whisky يعني أيضاً "ماء الحياة"(55). على أن التقطير كان معروفاً عند الكيميائيين المسلمين قبل ذلك الوقت بزمن طويل، غير أن استكشاف الكحول ثم استكشاف الأحماض المعدنية بعد ذلك في القرن الثالث عشر وسّعا دائرة المعارف الكيميائية وآفاق الصناعة توسيعاً كبيراً.

(1)

ريد جابر بن حيان الكيميائي الشهير. (المترجم)

ص: 185

ويكاد يضارع تقطير الكحول فيما له من آثار خطيرة استكشاف البارود. ويرتاب العلماء الآن فيما كان يظن قديماً من سبق الصينيين إلى هذا الاختراع. وليست في المخطوطات العربية ذكر صريح به قبل عام 1300 (56). وكانت أول إشارة معروفة لهذه المادة المفرقعة هي التي وردت في كتاب النيران لحرق الأعداء الذي ألفه ماركس غريقس Marcus Graecus حوالي عام 1270، فقد وصف مارك اليوناني النار اليونانية والتألق الفسفوري، ثم وصف طريقة عمل البارود فقال: حوّل إلى مسحوق دقيق - كلاً على انفراد - رطلاً من الكبريت الحي، ورطلين من الفحم النباتي المصنوع من شجر الليمون الحامض أو الصفصاف، وستة أرطال من ملح البارود (نترات البوتاسيوم)، ثم أمزجها كلها (57). ولم نعثر على ذكر لاستخدام البارود في الأعمال الحربية قبل القرن الرابع عشر.

ص: 186

الفصل الخامس

‌إحياء علم الطب

يخلط الفقر على الدوام بين الأساطير والطب لأن الأساطير حرة لا ثمن لها والعلم غال عزيز المنال. والصورة الأساسية لطب العصور الوسطى هي صورة الأم ومخزنها الصغير من وسائل العلاج المنزلية؛ والنساء العجائز غزيرات العلم بالأعشاب واللاصوق، والرقى السحرية؛ وجامعي حشائش التطبيب يطوفون بها على الناس، والعقاقير المجربة ذات الفائدة الأكيدة، والحبوب ذات القوة المعجزة؛ والقابلات المتأهبات على الدوام لفصل الحياة الجديدة عن القديمة في عملية الولادة المخزية السخيفة، والدجالين المتأهبين لمداواة الناس أو قتلهم نظير أتفه الأجور؛ والرهبان بما ورثوه من طب الأديرة؛ والراهبات يواسين المرضى في هدوء بما يقدمن لهم من خدمات أو دعوات صالحات؛ والأطباء المدربين في أماكن متفرقة يعالجون القادرين ويمارسون طبهم القائم على أسا علمي إلى حد ما. وانتشرت العقاقير الغريبة المروعة والصيغ السحرية العجيبة؛ وكما أن بعض الحجارة إذا أمسكت باليد كانت في رأي بعض الناس تمنع الحمل، كذلك كانت بعض النسوة وبعض الرجال - حتى في سلرنو مدينة الطب نفسها - يأكلون روث الحمير لتقوى قدرتهم على الإخصاب.

وظل بعض رجال الدين يمارسون الطب حتى عام 1139، وكل ما كان هناك من علاج في المستشفيات كان يوجد عادة في الملاجئ أديرة الرجال والنساء. وكان للرهبان فضل عظيم في حفظ التراث الطبي من الضياع، وهم الذين مهدوا السبيل لزراعة النباتات الطبية، وربما كانوا يعرفون ما يفعلون وهم يخلطون الطب بالمعجزات. وحتى الراهبات أنفسهن كن في بعض الأحيان يحذقن علاج

ص: 187

المرضى؛ فقد كتبت هليجاردي Hildergarde المتصوفة رئيسة دير بنجن Bengin كتاباً في الطب العلاجي - هو كتاب العلل والعلاج (حوالي عام 1150) - وكتاباً في المواد الطبية أفسدته في بعض مواضعه بالرقى السحرية ولكنه مليء بالمعلومات الطبية. وربما كانت الرغبة في القيام بالخدمة الطبية الدائمة من البواعث على التجاء الشيوخ من الرجال والعجائز من النساء إلى الأديرة. ولمّا أن تقدم الطب الذي يمارسه غير رجال الدين، وسرى حب الكسب في القائمين على العلاج في الأديرة، وحرّمت الكنيسة في أوقات مختلفة (1130، 1339، 1663) على رجال الدين ممارسة الأعمال الطبية جهرة، ولم يحل عام 1200 حتى كاد هذا الفن القديم كله يصبح في أيدي غير رجال الدين.

ويرجع أكبر الفضل في بقاء الطب العلمي في بلاد الغرب أثناء العصور المظلمة إلى الأطباء اليهود، الذين نشروا المعلومات الطبية اليونانية - العربية في بلاد العالم المسيحي، وذلك عن طريق الثقافة البيزنطية التي انتشرت في جنوبي إيطاليا وترجمة الرسائل الطبية اليونانية والعربية إلى اللغة اللاتينية. وربما كانت مدرسة سلرنو الطبية قائمة في أحسن المواقع، وكانت أحسن المدارس استعداداً للإفادة من هذه المؤثرات؛ فقد كان الأطباء اليونان، واللاتين، والمسلمون، واليهود يعلمون أو يتعلمون فيها؛ وظلت حتى القرن الثاني عشر أكبر المعاهد الطبية في أوربا اللاتينية. وكانت النساء يدرسن التمريض والقبالة في سلرنو (59). وأكبر الظن أن النساء اللاتي يسمين طبيبات سلرنو كن قابلات تدربن في تلك المدرسة. وكان من أشهر ما أخرجته مدرسة سلرنو الطبية رسالة في التوليد نشرت في القرن الثاني عشر بعنوان: ترتولا وعلاج أمراض النساء، وأكثر المؤرخين مجمعون على أن ترتولا Trotula هذه كانت قابلة في سلرنو (60) ولقد وصلتنا من مدرسة سلرنو عدة رسائل هامة

ص: 188

تشمل فروع الطب كلها تقريباً منها رسالة لأرخماثيوس Archimatheus تصف حال الطبيب وهو واقف بجوار سري المريض: يجب أن يتحلى الطبيب وهو ينظر إلى حال المريض بالرزانة، حتى لا تقلل من مكانته خاتمة المريض السيئة، وهو يضيف شفاؤه عجيبة أخرى إلى ما اشتهر به من العجائب؛ وعليه ألاّ يغازل زوجة المريض أو ابنته أو خادمته؛ وحتى إذا لم تكن ثمة ضرورة بدواء ما وجب عليه أن يصف له مركباً عديم الضرر، حتى لا يظن المريض أن العلاج لا يساوي أجر الطبيب، وحتى لا يظن أن الطبيعة هي التي شفت المريض دون معونة الطبيب (61).

وحلت جامعة نابلي محل مدرسة سلرنو بعد عام 1268، حتى لم نعد نسمع عن هذه المدرسة إلاّ الشيء القليل. وكان خريجوها قبل ذلك العام قد نشروا طب سلرنو في طول أوربا وعرضها. وكان ثمة مدارس للطب صالحة في القرن الثالث عشر في بولونيا، وبدوا، وفرارا، وبروجيا، وسينا، ورومة، ومنبلييه، وباريس، وأكسفورد؛ وامتزجت في هذه المدارس التقاليد الطبية الثلاثة الشهيرة - اليونانية، والعربية، واليهودية، وامتصتها امتصاصاً تاماً، وصيغ التراث الطبي كله صياغة جديدة حتى أصبح هو أساس علم الطب الحديث، واحتفظ أسلوبا التشخيص القديمان - وهما فحص جدران الصدر بالمسماع وتحليل البول - بشهرتهما وكثرة استعمالهما (ولا يزالان يحتفظان بهما إلى يومنا هذا). وبلغ من انتشارهما أن كانت المبولة رمز مهنة الطب أو دلالتها في بعض الأماكن (62). كذلك بقيت أساليب العلاج القديمة بالمسهلات والحجامة؛ وكان الطبيب في إنجلترا "مركب عَلَق". وكانت الحمامات الحارة من طرق العلاج المحببة. فكان المرضى يسافرون "ليأخذون الماء" من العيون المعدنية. وكان الطعام الخاص بالمرضى يوصف وصفاً دقيقاً في الأمراض كلها تقريباً (63)، ولكن العقاقير الطبية كانت موفورة، فقلّما كان هناك عنصر من العناصر لا يستخدم في العلاج - من الأعشاب البحرية (الغنية باليود) التي وصفها روجر السلرني عام 1180

ص: 189

لعلاج تضخم الغدة الدرقية إلى الذهب الذي كان يتعاطى "لتسكين آلام الأطراف"(64) - ويظهر أن هذه هي طريقتنا الحديثة لعلاج التهاب المفاصل. ويكاد كل عضو من أعضاء الحيوان يكون له عمل في أقرباذين العصور الوسطى - قرون الغزال، دماء التنين، وصفراء الأفاعي، ومنيّ الضفادع؛ وكان براز الحيوان يوصف في بعض الأوقات (65). وكان أكثر العقاقير استعمالاً هو الترياق theriacum، وهو مزيج غريب من نحو سبع وخمسين مادة أشهرها لحم الأفاعي السامة. وكانت عقاقير كثيرة تستورد من بلاد الإسلام وظلت محتفظة بأسمائها العربية.

ولمّا ازداد عدد الأطباء المدربين شرعت الحكومات تنظم صناعة الطب. من ذلك أن روجر الثاني صاحب صقلية قصر مهنة الطب على الذين ترخص لهم الدولة، وأكبر الظن أ، هـ حذا في ذلك حذو السوابق الإسلامية القديمة. وحتم فردريك الثاني (1224) على من يريد ممارسة هذه المهنة أن يحصل على ترخيص بذلك من مدرسة سلرنو؛ فإذا أراد إنسان أن يحصل عليها وجب أن يتلقى منهاجاً يدوم ثلاث سنين في العلوم المنطقية Scientia logicali 1 - ونظن أن معنى هذا اللفظ العلوم الطبيعية والفلسفة؛ وكان عليه بعدئذ أن يدرس الطب في المدرسة لمدة خمس سنين، وينجح في امتحانين، ويتمرن عاماً تحت إشراف طبيب مجرب (66).

وكانت كل مدينة ذات شأن تدفع أجور الأطباء لعلاج الفقراء مجاناً (67). وكان في بعض المدن أطباء موظفون. من ذلك أنه كان في أسبانيا المسيحية في القرن الثالث عشر طبيب تستأجره البلدية للعناية بقسم خاص من الأهلين، فكان يفحص في فترات محددة كل شخص في الإقليم المخصص له، ويسدي النصيحة له حسب ما يكشف عنه الفحص. وكان يعالج الفقراء في مستشفى عام، ويجبر

ص: 190

على زيارة كل مريض ثلاث مرات في الشهر؛ فيصرح له في هذا الحال أن يطلب أجراً عن الزيارة التالية. وكان الطبيب الذي يؤدي هذه الخدمات يعفى من الضرائب ويتقاضى مرتباً سنوياً مقداره عشرون جنيها (68) قيمتها أربعة آلاف دولار في هذه الأيام

(1)

.

وإذ كان الأطباء المرخصون قليلي العدد في أوربا المسيحية أثناء القرن الثالث عشر، فقد كانت أجورهم عالية، وكانت لهم منزلة اجتماعية سامية؛ فمنهم من جمعوا ثروات طائلة، ومنهم من أصبحوا من هواة جمع التحف الفنية، ومنهم من كانت لهم شهرة عالمية. فمن هؤلاء الأطباء بطرس هسبانس petrus Hispanus - بطرس اللشبوني ولكملستيلي Peter of Lis bon and Compostela - الذي هاجر إلى باريس ثم إلى سينا، وكتب أوسع كتب الطب انتشاراً في العصور الوسطى وهو كتاب كنز الفقراء، وخير بحث في علم النفس في تلك العصور وهو كتاب النفس De anima، وصار بعدئذ البابا يوحنا الحادي والعشرين في عام 1276، ثم قضى نحبه حين سقط عليه سقف في عام 1277. وكان أشهر طبيب مسيحي في ذلك الوقت هو آرنلد الفلانوفي (حوالي 1235 - 1311). وقد ولد بالقرب من بلنسية وتعلم اللغات العربية، والعبرية، واليونانية؛ ودرس الطب في نابلي، وعلمه هو أو الفلسفة الطبيعية في باريس، ومنبلييه، وبرشلونة، ورومة، وألف عدداً كبيراً من الكتب في الطب، والكيمياء، والتنجيم، والسحر، واللاهوت، وعصر النبيذ، وتفسير الأحلام. ولمّا عين طبيباً لجيمس الثاني ملك أرغونة أنذر الملك مراراً أنه إن لم يحم الفقراء من الأغنياء فإنه سوف يلقى إلى الجحيم (70). وكان جيمس يحبه رغم هذا التحذير

(1)

ولم يكن يحق للطبيب حسب قوانين القوط الغربيين في أسبانيا أن يتقاضى أجراً إذا توفي مريضه.

ص: 191

ويرسله في كثير من البعثات الدبلوماسية. وهاله ما رآه في كثير من البلدان من البؤس والاستغلال، فأضحى من أتباع يواقيم الفورى Joachim of Flora وأعلن في رسائل يبعث بها إلى الأمراء والأحبار أن آثام الأقوياء وترف رجال الدين نذيران بخراب العالم. ورمى الرجل بالسحر الأسود والإلحاد وانهم بأنه صنع باستخدام الكيمياء سبائك من الذهب لربرت ملك نابلي. وأدانته محكمة الكنيسة ولكن البابا بنيفاس الثامن أطلق سراحه؛ ونجح في علاج البابا الشيخ من حصى في الكلى، فأهداه البابا قصراً في أنياني. ثم أنذر بنيفاس أنه إذا لم تصلح الكنيسة أحوالها، فسيحل عليها غضب الله سريعاً. وما لبث بنيفاس بعدئذ أن حلت به النوائب التي ذاعت أخبارها في طول البلاد وعرضها ومات من فرط اليأس. وظلت محكمة التفتيش تطارد آرنلد ولكن الملوك والبابوات كانوا يدافعون عنه لأنه يداوي أسقامهم، إلى أن مات غريقاً أثناء بعثة من قبل جيمس الثاني لكلمنت الخامس (71).

هذا من حيث الطب، أما الجراحة في ذلك الوقت فقد كانت تحارب في جبهتين إحداهما ضد الحلاقين والثانية ضد المطببين العموميين. فقد كان الحلاقون من زمن بعيد يعطون الحقن، ويخلعون الأسنان، ويعالجون بالجروح، ويحجمون. وكان الجراحون الذين تلقوا تدريباً طبياً يحتجون على أداء هذه الخدمات التي تستخدم فيها القوة العضلية، ولكن القانون ظل يحمي الحلاقين طوال العصور المظلمة كلها، حتى لقد ظل من واجبات جراحي الجيش في بروسيا إلى عهد فردريك الأكبر أن يحلقوا ذقون الضباط (72). وكان من نتائج هذا الخلط في الواجبات أن ظل الجراحون أقل منزلة من الأطباء في العلم وفي نظر المجتمع، فكان ينظر إليهم على أنهم صناع بسطاء يطيعون أوامر الطبيب الذي كان قبل القرن الثالث عشر يستنكف أن يمارس الجراحة بنفسه (73). وكان مما يثبط همم الجراحين زيادة على هذا خشيتهم من السجن أو الموت إذا أخفقوا في أعمالهم؛

ص: 192

ولم يكن يجرؤ على القيام بالجراحات الخطرة إلاّ أعظمهم شجاعة؛ وكان معظم الأطباء يطلبون قبل إقدامهم على هذه المجازفة ضماناً كتابياً بأنهم لن يصيبهم مكروه إذا أخفقوا في عملهم (74).

ومع هذا فقد تقدمت الجراحة في ذلك الوقت أسرع من تقدم أي فرع آخر من فروع الطب؛ ويرجع بعض السبب في هذا إلى أنها كانت تعنى بأحوال قائمة لا بنظريات، كما يرجع بعضه إلى ما كان يتاح للجراحين من فرص قيمة في معالجة جراح الجنود. ونشر روجر السالرني حوالي 1170 كتابه العمليات الجراحية وهو أقدم رسالة في الجراحة معروفة في بلاد الغرب المسيحية؛ وظلت هذه الرسالة من المراجع الهامة ثلاثة قرون، وفي عام 1238 أمر فردريك الثاني أن تشرح جثة كل مرة خمس سنوات في سالرنو (75)؛ وظل تشريح الجثث يجري بانتظام في إيطاليا بعد عام 1275 (76). وفي عام 1286 فتح طبيب في كرمونا جثة ليدرس عليها سبب وباء انتشر في ذلك الوقت، فكان هذا أول تشريح لجثة بعد الموت لمعرفة سبب الوفاة؛ وفي عام 1266 بدأ تيودريكو برجنيوني Theodorico Brogonomi أسقف سرفيا Cervia كفاحاً طويلاً في الطب الإيطالي ضد الفكرة العربية القائلة إن تكوين الصديد يجب أن يشجع أولاً في علاج الجروح؛ ويعد بحثه من أعظم البحوث في طب العصور الوسطى. وخطا ججليلمو ساليستي Guglielmo Salicetti - وليم الساليستوي Wiliam of Saliceto (1210 - 1277) - أستاذ الطب في جامعة بولونيا خطوات كبيرة إلى الأمام في تحسين الجراحة، وذلك في كتاب الجراحة الذي صدر في عام 1275. وقد قرن في هذا الكتاب التشخيص الجراحي بمعرفة الطب الباطني، وكان يعنى بالاحتفاظ بسجلات للمرضى، وأظهر كيف يوصل الأعصاب المنفصلة، ودعا إلى استعمال المشرط بدل الكي الذي

ص: 193

كان واسع الانتشار عند الأطباء المسلمين، لأن جروح المشرط أضمن من النار شفاءً ولا تترك أثر في الجسم مثل ما تتركه النار. وقال وليم في رسالة عامة إن سبب تضخم الغدة اللمفاوية والقرحة الزهرية هو الاتصال الجنسي بعاهر مصابة بالمرضين، ووصف داء الاستسقاء وصفاً دقيقاً وقال إنه ينشأ من تحجر الكليتين وضيقهما، وأسدى نصائح طبية ممتازة في الصحة والتغذية لكل سن في حياة الإنسان.

ونقل تلميذاه هنري المندفيلي Henri de Mondeville (1260 - 1320) وجيدو لانفرانشي Guido Lanfranchi ( المتوفى عام 1315) المعارف الطبية من بولونيا إلى فرنسا. وعمل المندفيلي ما عمله تيودوريكو فحسن طرق التعقيم بأن دعا إلى العودة إلى طريقة أبقراط وهي الاحتفاظ بالجرح نظيفاً بأبسط الوسائل. ولما نفي لانفرانشي من ميلان في عام 1290 انتقل إلى ليون وباريس، وألف كتاب التشريح الكبير Chirurgia Magna الذي أصبح المرجع المعتمد في هذا العلم في جامعة باريس. وقد وضع لافرانشي مبدأ بفضله أنقذ علم التشريح من الرسائل الهمجية وهو:"ليس في وسع إنسان أن يكون طبيباً قديراً إذا كان يجهل علم التشريح، وليس في مقدور إنسان ما أن يجري جراحات ناجحة إذا كان يجهل الطب". وكان لافرانشي أول من استخدم تشريح الأعصاب لعلاج التتنوس، وإدخال أمبوبة في المريء، وهو أول من أدلى بالوصف الجراحي لارتجاج المخ. وقصارى القول أن الفصل الذي وصف فيه إصابات الرأس من المعالم البارزة في تاريخ الطب.

وقد ورد ذكر الجرعات المنومة في كتب أرجن Origen، (185 - 254) وهيلاري أسقف بواتيه Hilary Bishop of Poitiers ( حوالي 353). وكانت طريقة التخدير المألوفة في العالم المسيحي أثناء العصور الوسطى هي طريقة

ص: 194

الاستنشاق مصحوبة في أغلب الظن بشرب مزيج أساسه المندرغورة

(1)

، ومحتو في العادة على الأفيون وعصير الشوكران، والتوت. وقد ورد ذكر هذه "الإسفنجة المنومة" في القرن التاسع وما بعده (78). أما التخدير الموضعي فكان يستعان عليه بضمادة غمست في محلول شبيه بهذا. وكان المريض يوقظ بتشميمه عصير الشمر. ولم تكن أدوات الجراحة وقتئذ قد تقدمت عما كانت عليه عند اليونان الأقدمين؛ أما فن التوليد فقد انحط عما كان عليه في عهد سورانس Soranus ( عام 100م) وبولس الإنجيني paul of Aegina ( حوالي 240م). وقد ذكرت العملية القيصرية

(2)

في الأدب، ولكن يبدو أنها لم يكن يلجأ إليها. وكان تقطيع الجنين عند تعسر الولادة لتخليصه من الرحم يلجأ إليه في كثير من الأحيان لأن القابلة قلّما كانت تعرف كيف تغير وضع الجنين. وكانت الولادة تحدث في كرسي يعد لهذا الغرض خاصة (79).

وتقدمت المستشفيات وقتئذ عما عرف عنها في أي عصر من العصور القديمة. فقد كان عند اليونان الأقدمين مؤسسات دينية لعلاج المرضى؛ وأنشأ الرومان مستشفيات لعلاج جنودهم، ولكن نظم الصدقات المسيحية كانت هي السبب في تقدم نظام المستشفيات تقدماً كبيراً. وحسبنا أن نذكر عن هذا التقدم أن القديس باسيلي أسس في مدينة قيصرية من أعمال كبدوكيا داراً تسمى الباسلياس نسبة إليه، كان فيها عدة مبان للمرضى، والممرضات، والأطباء، والمصانع، والمدارس. وافتتح القديس إفرايم Ephraim مستشفى في الرها عام 375؛ وأنشئت مستشفيات أخرى في جميع أنحاء الشرق اليوناني وتخصصت وتنوعت. وكان عند اليونان البيزنطيين مصحات للمرضى، وملاجئ للقطاء، وأخرى لليتامى، وملاجئ للفقراء،

(1)

وتسمى البيروح وهي نبات من الفصيلة الباذنجانية معروف في العالم القديم سبيه بصورة الإنسان (من قاموس الدكتور شرف). (المترجم)

(2)

وهي تخليص الجنين بشق البطن بدون استئصال الرحم. (المترجم)

ص: 195

وغيرها للفقراء أو العاجزين من الحجاج، أو للشيوخ الطاعنين في السن. وقد أسست فابيولا Fabiola في رومة عام 400 أول مستشفى في البلاد المسيحية اللاتينية وأنشأت أديرة كثيرة مستشفيات صغيرة، وقام عدد من الرهبان - رهبان المستشفيات، ورهبان المعبد، والأنطونيين، والألكسيين Alexians، - والراهبات بالعناية بالمرضى. ونظم إنوسنت الثالث في روما عام 1204 مستشفى الروح القدس Santo Spirito، وقامت بوحي منه مؤسسات من نوعه في جميع أنحاء أوربا، فكان في ألمانيا وحدها في القرن الثالث عشر أكثر من مائة من "مستشفيات الروح القدس". وكانت المستشفيات في فرنسا تعنى بالفقراء، والطاعنين في السن، والحجاج، كما تعنى بالمرضى؛ وكانت كمؤسسات الأديرة تستضيف هذه الطوائف؛ وأنشأ لويس التاسع حوالي عام 1260 ملجأ في باريس يدعى الثلاثمائة Les quinze-vingt؛ وكان في بادئ الأمر مأوى للمكفوفين، ثم أضحى مستشفى للرمد، وهو الآن من أهم المراكز الطبية في باريس؛ وأنشئ أول المستشفيات الإنجليزية المعروفة في التاريخ (وليس من الضروري أن يكون أول ما أنشئ منها في إنجلترا) بكنتربري عام 1084. وكانت هذه المستشفيات تقوم في العادة بأداء الخدمات بالمجان لمن يعجزون عن أداء الأجور، وكانت ممرضاتها (ماعدا مستشفيات أديرة الرجال) من الراهبات. واتخذت الأثواب التي ترتديها "ملائكة الرحمة ورسلها"، وهي التي تبدو في نظرنا مرهقة لهن، في القرن الثالث عشر، وأكبر الظن أنها اتخذت هذا الشكل لحمايتهن من الأمراض المعدية؛ ولهذا السبب عينه جرت عادة قص الشعر وتغطية الرأس (80).

وتطلب مرضان معينان اتخاذ وسائل خاصة للوقاية، وهذان المرضان هما "نار القديس أنطونيوس"، وهو وباء جلدي - لعله مرض الجمرة - وهو مرض بلغ من خبثه أن تألفت حوالي عام 1095 طائفة من الرهبان هي جماعة

ص: 196

الأنطونيين لمعالجة ضحاياه. ويذكر جريجوري التوري Gregory of Tours ( حوالي عام 560) مستشفيات الجذام؛ وتألفت جماعة القديس لازار St. Lazarus من الرهبان للخدمة في مستشفيات الجذام. وكانت أمراض ثمانية تعد من الأمراض المعدية: وهي الطاعون الدملي، والتدرن الرئوي، والصرع، والجرب، والحمرة، والبثرة الخبيثة، والرمد الحبيبي، والجذام. وكان يحرم على المصاب بأحد هذه الأمراض أن يدخل مدينة إلاّ معزولاً عن غيره، أو أن يعمل في بيع الطعام أو الشراب. وكان يفرض على المجذوم أن يحذر الناس من اقترابه بالنفخ في قرن أو بدق ناقوس. وكان مرضه يبدو عادة في شكل طفح صديدي على الوجه والجسم. وليس هذا المرض شديد العدوى، ولكن أكبر الظن أن ولاة الأمور في العصور الوسطى كانوا يخشون انتشاره بطريقة الجماع. وربما كان هذا اللفظ شمل فيما يشمله، ما يعرف الآن عند الأطباء بأنه مرض الزهري، ولكننا لا نجد إشارة صريحة لهذا الداء قبل القرن الخامس عشر (81). ويبدو أنه لم تتخذ أية وسيلة خاصة لعلاج المصابين بأمراض عقلية قبل القرن الخامس عشر.

وعانت العصور الوسطى من فتك الأوبئة أكثر مما عاناه أي عصر آخر معروف، وذلك لأن الفقر كان يحول بين أهلها وبين النظافة أو الغذاء الصالح ومن أمثلة ذلك "الوباء الأصفر" الذي اجتاح أيرلندة في عامي 550 و664 وأهلك كما تقول الأخبار غير الموثوق بصحتها ثلثي الأهلين (82). واجتاحت أوبئة مثله بلاد ويلز في القرن السادس، وإنجلترا في القرن السابع. وفشا في فرنسا وألمانيا في أعوام 994، 1043، 1089، 1130وباء يسميه الفرنسيون mal des ardents ( وباء الاحتراق) وقد وصف بأنه يحرق الأمعاء. وربما كان الصليبيون هم الذين نشروا وبائي الجذام والأسقربوط، ويبدو أن مرض التثني البولندي Plica Polonica-

ص: 197

وهو مرض من أمراض الشعر- قد جاء به الغزاة المغول إلى بولندة حين غزوها في عام 1287. وكان السكان البائسون يعزون هذه الأوبئة للقحط، والجدب، وجيوش الحشرات، وتأثير النجوم، وتسميم اليهود لآبار المياه، أو غضب الإله. وأقرب من هذه الأسباب إلى العقل ازدحام المدن الصغيرة المسورة بالسكان، وعدم وجود الاحتياطات الصحية أو مراعاة قواعدها، وما ينشأ عن ذلك من ضعف مقاومة الأهلين للعدوى التي يحملها الجنود والحجاج والطلاب العائدون إلى أوطانهم (83). وليست لدينا إحصاءات عن عدد الموتى في العصور الوسطى ولكن أكبر الظن أن الذين كانوا يصلون إلى سن النضوج لم يزيدوا على نصف المواليد، وكانت خصوبة النساء تعمل جاهدة للتكفير عن غباء الرجال وبسالة الجنود.

وتحسنت وسائل المحافظة على الصحة العامة في القرن الثالث عشر. ولكنها لم تبلغ قط في العصور الوسطى الدرجة الممتازة التي بلغتها أيام الإمبراطورية الرومانية. وكانت معظم المدن، وأحياء المدن، تعين موظفين للعناية بشوارعها (84)، ولكن أعمال هؤلاء الموظفين كانت بدائية. وكان من يزورون المدن المسيحية من المسلمين يشكون - كما يشكو من يزورون المدن الإسلامية من المسيحيين في هذه الأيام - من قذارة "مدن الكفار" ورائحتها الكريهة (85). فق كانت الفضلات وأقذار البالوعات تجري فوق البالوعات في شوارع كمبردج التي تبلغ الآن درجة كبرى من الجمال والنظافة، وكانت تنبعث منها "روائح كريهة

يمرض منها الكثيرون من المدرسين والطلاب" (86). وكانت لبعض المدن في القرن الثالث عشر قنوات مغطاة لنقل ماء الشرب، وبالوعات، ومراحيض عامة؛ وكانت الأمطار هي التي يعتمد عليها في معظم المدن لاكتساح الأقذار، وكان تدنيس الآبار ينشر وباء التيفود؛ وكانت المياه التي تستخدم في عمل الخبز وعصر الخمر تؤخذ عادة- في البلاد الواقعة في

ص: 198

شمال الألب- من المجاري المائية التي تتلقى أقذار المدن (87). وكانت إيطاليا أكثر رقياً من غيرها من البلدان، وأكبر السبب في هذا ما ورثته عن الرومان، وما سنه فردريك الثاني، من تشريعات مستنيرة لإزالة الأقذار، ولكن عدوى الملاريا الناشئة من المستنقعات المحيطة بها جعلت رومة مدينة غير صحية، قتلت كثيرين من كبار موظفيها وزائريها، وأنجت المدينة بين الفينة والفينة من الجيوش المعادية التي استسلمت للحمى وسط انتصاراتها.

ص: 199

الفصل السادس

‌ألبرتس مجنس

1193 -

1280

تبرز أمامنا في تلك الفترة من الزمان أسماء ثلاثة رجال وهبوا أنفسهم للعلم: أدلارد الباثي Adelard of Bath، وألبرت العظيم، وروجر بيكن. فأما أدلارد فقد تلقى العلم في كثير من الأقطار الإسلامية ثم عاد إلى إنجلترا وكتب (حوالي عام 1130) حواراً طويلاً سماه الأسئلة الطبيعية يشمل كثيراً من العلوم. ويبدأ الكتاب على الطريقة الأفلاطونية بوصف اجتماع أدلارد بجماعة من أصدقائه، ويسألهم عن الحالة في إنجلترا، فيجيبونه بأن الملوك يشعلون نيران الحروب، والقضاة يرتشون، وكبار رجال الدين يسرفون في شرب الخمر، وأن العهود جميعها تنكث، والأصدقاء كلهم يتحاسدون. ويتقبل أدلارد هذا على أنه هو الحال الطبيعية التي لا تقبل التغيير، ويعرض على أصدقائه أن ينسوها. ويسأل ابنُ أخ لأدلارد عمَّه ماذا تعلم في بلاد المسلمين؟ فيجيبه بأنه يفضل علوم المسلمين عن علوم المسيحيين، فيتحداه أصدقاؤه وتكون أجوبته لهم مختارات طريفة من جميع علوم ذلك العصر. ويندد فيها بما تفرضه التقاليد والسلطات من قيود ثقيلة ويقول: لقد تعلمت عن أساتذتي العرب أن أسترشد بالعقل، أما أنتم يا من أسرتكم

السلطات، فإنكم تسيرون إلى حيث يقودكم المقود والزمام

وماذا عسى أن تسمى السلطة غير المقود والزمام؟ " إن الذين يحسبون الآن من أصحاب السلطان إنما حصلوا على سلطانهم باتباع العقل، لا السلطات. ثم يقول لابن أخيه: "فإذا شئت إذن أن تسمع مني أكثر مما سمعت فأعط العقل وخذه

إذ ليس شيء أكثر ضماناً من العقل

وليس شيء أكثر كذباً

ص: 200

من الحواس (88) ". ويدلي أدلارد ببعض الأجوبة الطريفة وإن كان يسرف في اعتماده على المنطق الاستدلالي. فإذا سئل ما الذي يمسك الأرض في الفضاء أجاب بأن أسفل الأرض ومركزها شيء واحد؛ ويسأل إلى أي مدى يسقط الحجر إذا ألقى في ثقب يخترق مركز الأرض إلى الجانب الآخر منها؟ فيجيب بأنه لا يصل إلاّ إلى مركز الأرض. وهو يذكر في وضوح مبدأ عدم فناء المادة، ويقول إن مبدأ الاستمرار العالي يجعل وجود الفراغ مستحيلاً. وجملة القول أن أدلارد برهان ساطع على يقظة العقل في أوربا المسيحية أثناء القرن الثاني عشر. فقد كان شديد التحمس لإمكانيات العلوم، ويسمّى في زهو وخيلاء عصره أي عصر أدلارد بالعصر الحديث (89)، وأعلى ما وصل إليه التاريخ كله.

أما ألبرتس مجنس فلم تبلغ روحه العلمية ما بلغته روح أدلارد، ولكن شغفه بمعرفة حقائق الكون أدى به إلى إنتاج ضخم أكسبه اسم "العظيم". واتخذت معظم مؤلفاته العلمية، كما اتخذت معظم مؤلفاته الفلسفية، صورة شروح لرسائل أرسطو المقابلة لها، ولكنها تحتوي من حين إلى حين نسمات جديدة من الملاحظات المبتكرة، وتتاح له وسط سحب المقتبسات المنقولة عن المؤلفين اليونان، والعرب، واليهود فرص ينظر فيها إلى الطبيعة بنفسه. وقد زار معامل التجارب، والمناجم، ودرس كثيراً من المعادن المتنوعة، وفحص عن حيوان بلاده الأصلية - ألمانيا - ونباتها، ولاحظ حلول البحر محل الأرض والأرض محل البحر، وفسر بذلك وجود الحفريات القديمة في الصخور. وإذ كانت فلسفته قد طغت على علمه فحالت بينه وبين الدقة العلمية، فق ترك نظرياته "القَبْلية"

(1)

تؤثر في نظرته العلمية، مثال ذلك ادعاؤه أنه رأى شعر الخيل يتحول في الماء إلى ديدان. ولكنه كان مثل أدلارد يرفض تفسير الظواهر الطبيعية بأنها تحدث

(1)

النظريات القبلية هي التي تكون في عقل الباحث قبل أن يثبتها بالأدلة الاستقرائية Appiori theories

ص: 201

تبعاً لإرادة الله، ويقول إن الله يعمل وفق علل طبيعية، وإن من واجب الإنسان أن يبحث عن الله في هذه العلل نفسها.

وقد طمست ثقته بأرسطو رأيه في التجارب العلمية. وإنّا لتثير عقولنا فقرة شهية في الكتاب العاشر من مؤلفه De vegetabilis يقول فيها: " إن التجربة وحدها هي التي توصل إلى الحقائق المؤكدة Experimentum solum Certificat" ولكن كلمة تجربة esperimentum كان لها وقتئذ معنى أوسع من معناها في هذه الأيام كما يبدو ذلك من سياق هذه الفقرة: "إن كل ما هو مدون هنا إمّا ثمرة تجربتنا أو مأخوذ من مؤلفين نعلم أنهم قد كتبوا ما أيدته تجربتهم الشخصية، لأن التجربة وحدها هي التي توصل إلى الحقائق المؤكدة". ومع هذا كله فقد كان عمل ألبرتس تقدماً سليماً عظيم النفع. ويسخر ألبرتس من المخلوقات الأسطورية أمثال الحيوان الذي نصفه أسد وتصفه نسر؛ والهولة المفترسة القذرة التي لها جسم امرأة، وجناحا الطير الجارح ومخالبه وقدماه، والتي هي رسول انتقام الآلهة، والخرافات وقصص الحيوانات الخرافية الواردة في أحد الكتب الواسعة الانتشار في ذلك الوقت وهو كتاب Physiologus؛ ويذكر فيما يذكره أن "الفلاسفة يذكرون كثيراً من الأكاذيب"(90). وكان في بعض الأحيان - ولا نقول في أغلب الأحيان - يجري تجارب، كما حدث حين أثبت هو ورفاقه أن "زيز الحصيدة"( Cicada) ظل يغني لحظة وجيزة بعد أن قطع رأسه. ولكنه كان يثق بأقوال بلني ثقة الإنسان البريء بأولياء الله الصالحين، ويصدق تصديق السذج البلهاء القصص التي يرويها الكذابون من صائدي الوحوش والسمك.

وقد خضع لزمانه حين آمن بالتنجيم، وبعلم الغيب؛ وعزا قوى عجيبة للجواهر والأحجار، ويدعى أنه شاهد بعينيه ياقوتة زرقاء شفت قرحاً. وهو يرى، كما يرى تومس الواثق من نفسه، أن السحر من الحقائق المؤكدة، وأنه من فعل

ص: 202

العفاريت ويؤمن بأن الأحلام تنبئ أحياناً بالحوادث المستقبلة، ويقول:"إن النجوم في الحقيقة هي التي تحكم العالم" في الأحوال الجسمية، وأن اقتران الكواكب يفسر في أغلب الظن "أحداثاً خطيرة وأعاجيب عظيمة"، وأن المذنبات قد تنذر بالحروب وموت الملوك:"إن في الإنسان مصدراً مزدوجاً للعمل - الفطرة والإرادة؛ فأما فطرته فتحكمها النجوم، وأما الإرادة فحرة؛ لكن الإرادة إذا لم تقاوم، اكتسحتها الفطرة". ويعتقد أن في وسع المنجمين القادرين أن يتنبئوا إلى حد كبير بما سوف يحدث للإنسان في حياته، أو بنتيجة ما سوف يقدم عليه من المشروعات، وذلك بالنظر في مواقع النجوم. وهو يقبل ببعض التحفظ نظرية الكيميائيين القدامى، (أو المذهب النووي الحديث) القائل بتحول العناصر بعضها إلى بعض (92).

وكان أحسن ما عمله في علم النبات. فقد كان أول عالم في النبات من أيام ثيوفراسطس (على قدر ما وصل إليه علمنا) بدرس النبات للعلم بالنبات لا لفائدته في الزراعة أو الطب. وقد صنف النباتات، ووصف ألوانها، ورائحتها، وأجزاءها، وثمارها، ودرس قوة إحساسها، ونومها، وتذكيرها وتأنيثها، ونموها، وحاول أن يكتب مقالاً في الفلاحة. وقد دهش همبولدت Humboldt إذ وجد في كتاب النبات لألبرت:"ملاحظات غاية في الدقة عن التركيب العضوي للنبات وعن وظائف أعضائه"(93). وأما كتباه الضخم في الحيوان فمعظمه شرح لأرسطو، ولكننا نجد فيه أيضاً ملاحظات أصيلة. فهو يحدثنا مثلاً بأنه "سافر في بحر الشمال للقيام ببحوث فيه، وبأنه نزل في الجزائر، وعلى الشواطئ الرملية ليجمع" نماذج للدرس (94) وقد وازن بين الأعضاء المتماثلة في الحيوان والإنسان (95).

وإذا ما نظرنا إلى هذه الكتب في ضوء علمنا الحاضر حكمنا على أن فيها كثيراً من الأغلاط، ولكننا إذا نظرنا إليها في ضوء ما كانت عليه عقول الناس في الزمن الذي ألفت فيه حكمنا بأنها من أعظم ما أثمرته العقول في العصور

ص: 203

الوسطى. فقد كان الناس في ذلك الوقت يعترفون بأن ألبرت أعظم المعلمين في زمانه، ولقد طال به العمر حتى رأى رجالاً من طراز بطرس الأسباني Peter of Spain، وفنسنت البوفيزي اللذين ماتا قبله ينقلون عنه في مؤلفاتهم. نعم إنه لم يكن في مقدوره أن يضارع ابن سينا أو ابن ميمون أو تومس في دقة الحكم وصدقه أو في قبضته على ناصية الفلسفة، ولكنه كان أعظم علماء التاريخ الطبيعي في زمانه.

ص: 204

الفصل السابع

‌روجر بيكن

حوالي عام 1214 - 1292

ولد أشهر علماء العصور الوسطى في سمرست حوالي عام 1214، ونحن على يقين من أنه عاش حتى عام 1292، وأنه قال عن نفسه في عام 1267 إنه شيخ كبير (96). ودرس في أكسفورد على جروستستي وكسب من هذا العالم المحيط بشتى الفنون افتتاناً بالعلم. وكانت الروح الإنجليزية، روح النفعية والاعتماد على الاختبار، قد أخذت تتشكل. وسافر بيكن إلى باريس حوالي عام 1240، ولكنه لم يجد فيها الحافز القوي الذي بعثته فيه أكسفورد؛ وأدهشه كثيراً أن لم يجد إلاّ قلة ضئيلة من أساتذة جامعة باريس تعرف لغة من لغات العلم خلاف اللغة اللاتينية، وأنهم لا يولون العلم إلاّ قدراً ضئيلاً من وقتهم، وأنهم ينفقون الكثير منه في الجدل المنطقي والميتافيزيقي وهو الذي كان يبدو لبيكن عديم النفع في الحياة إلى حد الإجرام. ودرس الطب وشرع يكتب رسالة في تخفيف متاعب الشيخوخة. وسعى للحصول على ما يلزمه من المعلومات لهذه الرسالة بالسفر إلى إيطاليا؛ ودرس اللغة اليونانية في بلاد اليونان الكبرى

(1)

، وفيها عرف بعض المؤلفات الطبية الإسلامية، ثم عاد إلى أكسفورد في عام 1251، وانضم إلى هيئة التدريس في تلك الجامعة؛ وكتب في عام 1267 يقول إنه أنفق في العشرين السنة السابقة على ذلك العام ألفي جنيه في شراء "الكتب السرية والآلات" وفي تعليم الشبان اللغات والعلوم الرياضة (97). واستأجر اليهود ليعلموه هو وطلابه اللغة العبرية وليعاونوه على قراءة العهد القديم بلغته الأصلية.

(1)

كان اليونان في الزمن القديم يطلقون هذا الاسم على جنوبي إيطاليا. (المترجم)

ص: 205

وانضم إلى طائفة الرهبان الفرنسيس حوالي عام 1255، ولكن يبدو أنه لم يصبح في يوم من الأيام قساً.

وعافت نفس بيكن ميتافيزيقية المدرسيين، فألقى بنفسه بحماسة بالغة في تيار العلوم الرياضية، والتاريخ الطبيعي، والفلسفة. وليس من حقنا أن نفكر فيه على أنه مبتكر فذ، وصوت عالمي يدوي في بيداء الفلسفة المدرسية؛ لأن الواقع أنه كان في كل ميدان مديناً لمن سبقوه، وأن ما وهب من القدرة على الابتداع كان هو الذروة المحتومة لتطور طويل المدى. ولقد وضع ألكسندر نكهام، وبارثلميو الإنجليزي Bartholomew the Englishman، وربرت جروستستي، وآدم مارش Adam Marsh في أكسفورد تقاليد علمية ثابتة، ورثها بيكن، وأعلنها إلى العالم؛ وكان يعترف بفضل أولئك السابقين عليه ويثني عليهم ثناءً لا حد له: وكان يعترف كذلك بما للعلوم والفلسفة الإسلامية من فضل عليه وعلى العالم المسيحي كله، وربما هو مدين به لليونان عن طريق العلماء المسلمين؛ وأشار إلى أن علماء اليونان والمسلمين "الكفرة" كانوا هم أيضاً ممن تلقوا الوحي والهداية من الله (98). وكان يجل إسحق إسرائيلي، وابن جبيرول وغيرهما من المفكرين العبرانيين، ووجد في نفسه من الشجاعة ما يمكنه من أن يقول كلمة طيبة عن اليهود الذين كانوا يقيمون في فلسطين حينما صلب المسيح (99). ولم يكن يأخذ العلم بنهم عن العلماء وحدهم، بل كان يأخذه أيضاً عن أي إنسان تستطيع معارفه في الصناعات اليدوية أو الأعمال الزراعية أن تزيد ما لديه من معلومات. وكتب في هذا المعنى بتواضع لا عهد لنا به:

لا ريب في أن إنساناً ما لن يستطيع، قبل أن يرى الله وجهاً لوجه، أن يعرف شيئاً مؤكداً تأكيداً نهائياً

لأنه لا يوجد إنسان ملم بجميع أحوال الطبيعة إلماماً يمكنه من أن يعرف كل شيء

عن طبيعة ذبابة واحدة وخواصها .. وإذ كانت الأشياء التي يجهلها الإنسان لا حصر لها، وكانت أعظم وأجمل إذا

ص: 206

قيست إلى ما يعرفه منها، فإن من يمتدح نفسه بكثرة ما يعرفه، مخبول قد اختلت موازين عقله. وكلّما زاد الناس حكمة، كانوا أكثر تواضعاً واستعداداً لتلقي العلم من غيرهم؛ وهؤلاء لا يحتقرون من يأخذون عنهم لسذاجته، ولكنهم يظهرون التواضع للفلاحين، وللعجائز من النساء والأطفال، لأن السذج وغير المتعلمين يعرفون أشياء كثيرة تخفى على الحكماء .... ولقد عرفت أنا نفسي من ناس ذوي مكانة وضيعة حقائق أكثر أهمية من التي عرفتها من جلة العلماء الذائعي الصيت. فليحذر كل إنسان إذن أن يفاخر بما أوتي من حكمة (100).

واندفع في العمل بجهد وسرعة أثرنا في صحته حتى أعتل جسمه في عام 1256، فانسحب من الحياة الجامعية ولم نعد نعرف عنه شيئاً في العشر سنين التالية. وأكبر الظن أنه ألّف في هذه الفترة بعض كتبه الصغيرة أمثال: في العدسات المحرقة وفي قوى الاختراع والطبيعة العجيبة، وتقدير الحادثات الطبيعية. ووضع في هذا الوقت خطة ((الكتاب الرئيسي))، وهو موسوعة من عمل رجل واحد أراد أن تكون في أربعة مجلدات:(1) النحو والمنطق. (2) الرياضة، والهيئة، والموسيقى. (3) العلوم الطبيعية - البصريات، والجغرافية، والتنجيم، والكيمياء القديمة، والزراعة، والطب، والعلوم التجريبية. (4) ما وراء الطبيعة والأخلاق.

وبعد أن كتب أجزاء متفرقة من هذه الموسوعة واتته فرصة خيل إليه أنها فرصة سعيدة، فحالت بينه مبين إنجاز برنامجه. ذلك أن جاي فولك Guy Foulques كبير أساقفة نربونة ارتقى عرش البابوية في شهر فبراير من عام 1265 وتسمى باسم كلمنت الرابع، وجاء معه إلى البابوية ببعض الروح الحرة التي نشأت في جنوبي فرنسا من اختلاط الشعوب والعقائد الدينية. وكتب إلى بيكن في شهر يونية بأمره بإرسال "نسخة مبيضة" من مؤلفاته "سراً وعاجلاً"

ص: 207

و"دون مبالاة بتحريم أي رئيس ديني، أو لائحة الطائفة التي تنتمي إليها"(101). وشرع بيكن بكل ما في وسعه من جهد (كما يتبين ذلك من أسلوبه الحماسي) يعمل ليتم موسوعته؛ ولكنه خشي أن يتوفى كلمنت أو يفقد اهتمامه بالعمل قبل تماما÷ فأجله، وألف في اثني عشر شهراً - أو جمع من مخطوطاته - الرسالة الأولية المعروفة لنا بسام الكتاب الأكبر Opus Maius. وظن أن هذا المؤلف نفسه قد يكون أطول مما يريده البابا الكثير المشاغل فكتب عناصر منه سماها الكتاب الأصغر؛ وأرسل هذين المخطوطين في أوائل عام 1268 إلى كلمنت ومعها قال عن تضاعف الرؤية. وخشي أن تضيع هذه في طريقها إلى البابا فكتب خلاصة أخرى لآرائه هي الكتاب الرابع وأرسلها إلى كلمنت مع رسول خاص، مصحوبة بعدسة، وأشار على البابا أن يجري بها تجارب بنفسه. وتوفي كلمنت في شهر نوفمبر من عام 1268. ومبلغ علمنا أن كلمة واحدة لم ترسل إلى الفيلسوف من البابا نفسه أو ممن جاءوا بعده اعترافاً منه أو منهم بوصول هذه الكتب.

فالكتاب الأكبر إذن هو عندنا "أكبر مؤلفات" بيكن، وإن كان هو لم يرده إلاّ أن يكون فاتحة لمؤلفاته. وهو كتاب ضخم يضم ثمانمائة صفحة مقسمة إلى سبع رسائل:(1) في الجهل والخطأ. (2) وفي العلاقة بين الفلسفة وعلوم الدين. (3) وفي دراسة اللغات الأجنبية. (4) وفي فائدة العلوم الرياضية. (5) وفي فن المنظور والبصريات، (6) وفي العلوم التجريبية. (7) وفي الفلسفة الأخلاقية. وفي الكتاب قدره الخليق به من السخافات، وفيه كثير من الاستطراد، وأكثر مما يليق من المقتبسات الطويلة من مؤلفات غيره؛ ولكنه يمتاز بالقوة، والإخلاص، والاتجاه إلى القصد مباشرة، ويقبل عليه

ص: 208

القراء في هذه الأيام أكثر من إقبالهم على أي مؤلف آخر من مؤلفات العصور الوسطى في العلوم أو الفلسفة. وإنّا ليسهل علينا أن نفهم الاضطراب الحماسي، والإشادة البابوية، والحرص الشديد على الجهر بالتمسك بالدين القويم، والنزول بالعلم والفلسفة إلى منزلة الخدم لعلوم الدين، نقول إنّا ليسهل علينا أن نفهم وجود هذا كله في كتاب يبلغ هذا المبلغ من اتساع المدى وتعدد الموضوعات، كتب ليكون خلاصة عاجلة، ويراد به الحصول على تأييد البابا للتربية العلمية والبحث العلمي. ذلك أن روجر بيكن كان يشعر بما يشعر به فرانسس بيكن وهو أن تقدم العلوم في حاجة إلى معونة رؤساء الدين وكبار رجال الدولة، وإلى أموالهم لتبتاع بها الكتب، والآلات والسجلات، ومعامل الاختبار، والتجارب، ولأداء أجور الموظفين.

وكأنما أراد أن يستبق سميه إلى تحطيم "الأصنام" بثلاثمائة عام، فبدأ بذكر أربعة أسباب هي التي توقع الإنسان في الخطأ وهي:"الاقتداء بالمراجع الراهنة غير الجديرة بأن يقتدى بها، والعادة التي استقرت من زمن بعيد، وإحساس الجماهير الجاهلة، وتغشية الجهل بستار من التظاهر بالحكمة"(102). ويحرص على أن يضيف إلى هذا أنه "لا يشير بحال من الأحوال إلى تلك السلطة القوية الموثوق بها التي

وهبت إلى الكنيسة". (5) وهو يأسف لتسرع أهل زمانه واعتقادهم أنه يكفي لأن تكون قضية ما في رأيهم قد ثبتت بالدليل إذا وجدت في أرسطو، ويجهر بأنه لو أوتي السلطة الكافية لأحرق جميع كتب هذه الفيلسوف، لأنها في رأيه منبع الأخطاء ومصدر الجهل (103)، ثم تراه بعد هذا لا تخلو صفحتان من كتابه دون عبارة مقتبسة من أرسطو.

ويكتب في أول الجزء الثاني يقول: "وبعد أن أقصيت أسباب الخطأ الأربعة وألقيت بها في الدرك الأسفل أحب أن أبين حكمة واحدة لا أكثر هي الحكمة الكاملة، وهي الحكمة التي يحتويها الكتب المقدس". وفي رأيه أنه

ص: 209

إذا كان فلاسفة اليونان قد ألهموا نوعاً من الإلهام الثانوي، فسبب ذلك أنهم اطلعوا على كتب الأنبياء والبطارقة (104). ويبدو أن بيكن يؤمن بقصص الكتاب المقدس إيماناً ساذجاً، ويعجب لم لا يسمح الله للناس أ، يعيشوا ستمائة عام (105). ويؤمن كذلك بقرب نزول المسيح وبنهاية العالم. وهو يدافع عن العلم لأنه يكشف عن الخالق في خله، ولأنه يمكن المسيحيين من أن يهدوا الكفار الذين لا يتأثرون بالكتاب المقدس. وهكذا "يتأثر العقل البشري فيؤمن بحقيقة مولد المسيح من العذراء، لأن بعض الحيوانات تحمل وهي عذراء وتلد صغاراً، ومن أمثلة ذلك الصقورة والقردة، كما يقول أمبروز في كتابه الأيام الستة

(1)

. هذا إلى أن الخيل في كثير من البلدان تحمل بفعل الرياح وحدها حين تشتهي الذكر كما يقول بلني (106)، وتلك كلها أمثلة يؤسف لها اعتمد فيها على أصحاب "السلطة" العلمية لا أكثر.

ويبذل بيكن في الجزء الثالث من كتابة غاية جهده ليعلّم البابا اللغة العبرية لأن دراسة اللغات في رأيه لازمة للدين، والفلسفة، والعلوم، وذلك لأن الترجمة أياً كانت لا تنقل معنى الكتب المقدسة أو أقوال الفلاسفة الكفرة نقلاً دقيقاً. ويتحدث بيكن في الكتاب الأصغر حديثاً علمياً مدهشاً عن التراجم المختلفة للكتاب المقدس ويثبت علمه الواسع بالنصوص العبرية واليونانية. ويقترح أن يعين البابا لجنة من العلماء المتبحرين في اللغات العبرية، واليونانية، واللاتينية لمراجعة الترجمة اللاتينية القديمة لهذا الكتاب، وأن تكون هذه الترجمة المراجعة - لأحكام بطرس لمبارد هي التي تدرس مع علوم الدين. ويحث على إنشاء كراسي أساتذة لتدريس اللغات العبرية واليونانية والعربية، والكلدانية؛ ويعارض في استخدام القوة لتحويل غير المسيحيين إلى الدين المسيحي، ويتساءل

(1)

يريد الأيام الستة التي خلق الله فيها العالم. (المترجم)

ص: 210

كيف تستطيع الكنيسة أن تتصل بالمسيحيين اليونان، والأرمن، والسوريين، والكلدان إلاّ عن طريق لغاتهم. وكان بيكن يعمل بجد في هذا الميدان ويعظ الناس، وكان أول العلماء في العالم المسيحي الغربي يتم وضع كتاب نحو يوناني ليستخدمه الذين يعرفون اللاتينية، وأول مسيحي يؤلف في نحو اللغة العبرية. وكان يقول إن في مقدوره أن يكتب باللغتين اليونانية والعبرية، ويبدو أنه درس أيضاً اللغة العبرية (107).

وحين يصل بيكن إلى موضوع الرياضيات تصبح كتبه مسرحاً للتحمس البليغ والنظريات الغامضة. ويقول عن الرياضيات: "واعتقادي أن العلوم الرياضية لازمة وأنها تلي في ذلك اللغات". ويكشف عن خضوعه لتأثير الدين حين يقول إن العلوم الرياضية "يجب أن تساعد على معرفة مكان الجنة والنار"، وتزيد من علمنا بجغرافية الكتاب المقدس والتواريخ الدينية، وتمكن الكنيسة من إصلاح التقويم (108)، ويقول: ولنلاحظ كيف تساعدنا "القضية الأولى في الهندسة" - وهي إنشاء مثلث متساوي الأضلاع على خط معلوم - على "أن ندرك أننا إذا سلمنا بشخص الله الأب، تبدى أمامنا الثالوث ذو الأشخاص المتساوين"(109) ، ثم ينتقل من هذا المركز السامي الذي يضع فيه الرياضة فيستبق استباقاً مدهشاً علم الطبيعة الرياضية الحديث بإصراره على أن العلم لا يبلغ حد الكمال في الخصائص العلمية إلاّ إذا صاغ نتائجه كلها في صورة رياضية، وإن كان لابد له أن يجعل التجارب هي الطريقة التي يستخدمها في الوصول إلى تلك الغاية. وعنده أن جميع الظواهر غير الروحية آثر من آثار المادة والقوة، وأن جميع القوى تعمل في تناسق وانتظام، ولهذا فإنها يمكن التعبير عنها بخطوط وأشكال؛ "ومن الواجب تحقيق الأشياء بالبراهين المبينة بخطوط وأشكال"؛ وليست جميع العلوم الطبيعية في آخر الأمر إلاّ علوماً رياضية (110).

ص: 211

ولكن إن كانت الرياضة هي النتيجة، فإن التجربة يجب أن تكون وسيلة العلم وطريقة اختبار نتائجه. ولقد أحدث بيكن ثورة علمية أداتها الرياضيات والتجارب، على حين أن الفلاسفة المدرسيين من أبلار إلى تومس أكوناس قد وضعوا كل ثقتهم في المنطق، وكادوا يضمون أرسطو إلى الثالوث المقدس، لأنهم في واقع الأمر جعلوه روحاً قدساً. فهو يقول إن أدق النتائج التي يؤدي إليها المنطق تتركنا غير واثقين من صدقها، حتى تؤيدها الخبرة، فالحرق وحده هو الذي يقنعنا بحق أن النار تحرق؛ "ومن يُرد أن يبتهج ابتهاجاً لا ريب فيه بالحقائق الكامنة وراء الظواهر الطبيعية فليهب نفسه للتجارب العلمية"(111). ويبدو أنه في بعض الأوقات يرى أن التجربة experimentum ليست وسيلة من وسائل البحث، بل هي الطريقة النهائية من طرق البرهان بوضع الأفكار - التي وصل إليها الإنسان بالخبرة والاستدلال - موضع الاختبار، وذلك بأن تصنع على أساسها أشياء ذات فائدة علمية (112). وهو يدرك ويعلن في وضوح أكثر من فرانسس بيكن أن التجربة في العلوم الطبيعية هي البرهان الذي لا برهان غيره. ولم يكن يدّعي أن هذه الفكرة جديدة أتى بها من عنده، بل يعتقد أن أرسطو، وجالينوس، وبطليموس، والعلماء المسلمين، وأدلارد، وبطرس الاسبانيولي، وربرت جروستستي، وألبرتس مجنس وغيرهم قد قاموا بالتجارب العلمية أو امتدحوها، وكل ما فعله روجر بيكن أن جعل الضمني صريحاً، وأن ثبت راية العلم في الأرض المنتزعة من بيداء الجهل.

ولم يفد روجر بيكن العلوم نفسها، كما لم يفدها فرانسس بيكن، إلاّ في القليل الذي لا يغني، إذا استثنينا من ذلك علم البصريات وإصلاح التقويم. ذلك أن هذين الرجلين لم يكونا عالمين بل كانا من فلاسفة العلم. وقد واصل روجر عمل جروستستي وأمثاله فاستنتج أ، التقويم اليوليوسي البالغ في طول السنة الشمسية فزادها يوماً في كل 125 سنة - وهو أدق تقدير وصل إليه العالم في ذلك

ص: 212

الوقت - وأن التقويم كان في عام 1267 متقدماً عن الشمس بعشرة أيام. ولهذا اقترح إسقاط يوم من التقويم اليوليوسي في كل 125 سنة. ولا تكاد الصفحات المائة التي خصها بعلم الجغرافية في الجزء الرابع من الكتاب الكبير تقل براعة عن هذه الفكرة البارعة. فقد تحدث روجر بحماسة بالغة مع وليم ربرسكوي William of Rubresquis عن عودة زملائه الرهبان الفرنسيس من الشرق، وعرف الشيء الكثير عنه، وانطبع في ذهنه قول وليم إن ثمة ملايين لا حصر لها من الناس لم يسمعوا شيئاً قط عن الدين المسيحي. وأعلن بالاستناد إلى أقوال وردت في أرسطو وسنكا أن "البحر الذي يفصل طرف أسبانيا الغربي عن شرقي الهند يمكن اجتيازه في بضعة أيام قليلة جداً إذا كانت الريح مواتية"(113). وقد اقتبس كولمبس الفقرة التي نقلت عنه في مصور العالم (1480) الكردنال بيير دايي Pierre d'Ailly في خطاب كتبه إلى فرديناند وإزبلا في عام 1480 وقال إنها مما أوحي إليه بالرحلة التي قام بها في عام 1492 (114).

وكأنما كان بيكن في العمل الذي قام به في علم الطبيعة يرى بعين الخيال المخترعات الحديثة، وإن كان يغشاها من حين إلى حين الآراء السائدة في عصره. وإلى القارئ ترجمة حرفية لفقرات مشهورة يقفز فيها من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين:

يختص جزء من خمسة أجزاء من كل بصنع آلات عظيمة النفع إلى أقصى حد كالآلات التي تستخدم في الطيران، أو بالانتقال في مركبات لا تجرها دواب، ولكنها تجري مع هذا بسرعة لا تعادلها قط سرعة أخرى؛ أو في عبور البحار من غير مجاديف وبسرعة أكبر مما يظن إنها مستطاعة على أيدي الآدميين. ذلك أن هذه الأشياء قد حدثت في أيامنا هذه. وليس من حق أي إنسان أن يسخر أو يدهش منها. وهذا الجزء من العلم يرينا كيف تصنع آلات يستطاع

ص: 213

بها رفع أثقال لا يصدقها العقل أو إنزالها بغير مشقة ولا جهد

(115). ألا إن من المستطاع صنع آلات طائرة

إذا جلس الرجل في وسط الواحدة منا أمكنه أن يدير دولاباً عجيب الابتكار تستطيع به أجنحة صناعية أن تضرب الهواء كما يضربه جناحا الطائر

ويمكن أيضاً صنع آلات يمشي بها الإنسان في البحر أو النهر وفي قاعهما نفسه، من غير خطر عليه (116).

وفي الكتاب الأكبر فقرة فسرت بأنها تشير إلى البارود:

لقد كشفت فنون جديدة لمقاومة أ'داء الدولة يستطاع بها إهلاك كل من يجرؤ على مقاومتها وإن لم يستخدم في ذلك سيف أو غيره من الأسلحة التي تحتاج إلى الاتصال البدني

ذلك أن دوياً مروعاً يصدر من قوة الملح المعروفة بنيترات البوتاس إذا اشتعل فيه جسم ضئيل الحجم، وهو قطعة صغيرة من الرق؟

وهذا الدوي المروع يفوق هزيم الرعد وينبعث منه بريق أشد من البرق الذي يصحب الرعد.

وفي فقرة لعلها مدسوسة على الكتاب الثالث يضيف بيكن إلى القول السابق قوله إن بعض اللعب "المفرقعة" تستعمل في ذلك الوقت وتحتوي على خليط من نيترات البوتاس (بنسبة 41. 2%) والفحم النباتي (بنسبة 29. 4%) والكبريت (بنسبة 29. 4%)(117)، ويشير إلى أن قوة هذا المسحوق المفرقعة يمكن مضاعفتها بوضعه في داخل مادة صلبة. وهو لا يدّعي بأنه اخترع البارود، وكل ما في الأمر أنه كان من أوائل من درسوه كيميائياً وتنبئوا بإمكانياته.

وخير ما كتبه بيكن على الإطلاق هو الجزء الخامس من الكتاب الأكبر "في علم المنظور". وفي الرسالة المكملة له في تضاعف الرؤية. وقد تفرعت هذه المقالة البارعة في البصريات من كتاب جروستستي عن قوس قزح، ومن تلخيص وتلو Witelo لكتاب ابن الهيثم، ومن دراسات علم البصريات التي تنقلت من

ص: 214

ابن سينا، إلى الكندي، إلى بطليموس، وبلغت غايتها في إقليدس (300 ق. م) الذي برع في تطبيق الهندسة النظرية على حركات الضوء. وكان من البحوث التي قام بها بيكن: هل الضوء هو انبعاث جزيئات من الجسم المرئي؟ أو هل هو تحرك الوسط الكائن بين هذا الجسم والعين؟ ويعتقد بيكن أن كل جسم مادي يشع قوة في جميع الاتجاهات، وأن هذه الإشعاعات قد تنفذ في الأجسام الصلبة:

ليس ثمة جسم يبلغ من الكثافة حداً يمنع الأشعة منعاً باتاً من أن تمر فيه. ذلك أن المادة التي تتركب منها الأجسام واحدة فيها جمياً، ولهذا فليس ثمة جسم لا تحدث الأفعال التي تصحب مرور شعاع ما تغيراً فيه

إن أشعة الحرارة والصوت تخترق جدران إناء من الذهب أو الشب، ويقول بؤيثيوس إن عين الوشق

(1)

تخترق الجدران السميكة (118).

ولسنا واثقين من هذه القوة المعزوة إلى الوشق، ولكننا إذا استثنينا هذا القول حق علينا أن نعجب بهذا الخيال الجريء لذلك الفيلسوف، وهو "الخيال المتماسك في كل أجزائه". وحاول بيكن وهو يقوم بالتجارب على العدسات والمرايا أن يصوغ قوانين انكسار الضوء، وانعكاسه، وفعل الأشعة الضوئية في تكبير الأجسام وتصغيرها. ومثل لنفسه قدرة العدسة المجدبة على تركيز كثير من أشعة الشمس في نقطة واحدة، ثم تشتيت هذه الأشعة خلف هذه النقطة لتتكون منها صورة مكبرة فكتب يقول:

في مقدورنا أن نشكل الأجسام الشفافة (العدسات) ونرتبها بالنسبة إلى قوة بصرنا وللأجسام المرئية ترتيباً يجعل الأشعة تنكسر وتنحني في أي اتجاه نريده، فنرى من أية زاوية نشاء الجسم قريباً منا أو بعيداً عنا. وعلى هذا فإن في وسعنا أن نقرأ أصغر الحروف من بعد لا يصدقه الإنسان، وأن نعد حبات

(1)

Lynx وهو حيوان من فصيلة الهر مرتفع الجسم عند مؤخره، ذو شعر طويلـ وذيل قصير، تنتهي أذناه بخصلتين من الشعر ويقال إنه حاد البصر. (المترجم)

ص: 215

التراب أو الرمل

وعلى هذا فإن جيشاً صغيراً يمكن أن يبدو للناظر كبيراً

وقريباً منه كل القرب

وفي وسعنا أيضاً أن نجعل الشمس، والقمر، والنجوم تبدو كأنها قد نزلت إلينا،

وما إلى هذا من الظواهر الكثيرة المماثلة مما لا يتقبله عقل الشخص الذي يجهل الحقائق

(119) ويمكن إلى هذا تصوير السماء بكل ما لها من طول وعرض بصورة مجسمة تتحرك حركتها اليومية، وقيمة هذا عند الرجل العاقل تعادل مملكة بأسرها

ثمة عجائب أخرى غير هذه يخطئها الحصر ويمكن عرضها على العين (120).

تلك فقرات ذات روعة وجلال، ويكاد كل عنصر من عناصر النظرية التي نبسطها يوجد قبل بيكن وخاصة في كتب ابن الهيثم؛ ولكنه هو الذي جمع مادتها كلها في صورة عملية ثورية استطاعت وقت أن حل أوانها أن تبدل العالم. وهذه الفقرات هي التي أرشدت ليونارد دجس Leonard Diggis ( المتوفى حوالي 1571) إلى وضع النظرية التي اخترع المرقب على أساسها (121).

ولكن ما الذي يحدث إذا زاد تقدم العلوم الطبيعية من قدرة الإنسان دون أن يسمو بأغراضه؟ لعل أكثر نظرات بيكن نفاذاً إلى الصميم هي سبقه إلى تصور مشكلة لم تتضح للعالم إلاّ في أيامنا هذه، فهاهو ذا في الكتاب الأكبر يعبر عن اعتقاده الراسخ أن العلم وحده لا ينجي الإنسان:

كل هذه العلوم السالفة الذكر نظرية. ولسنا ننكر أن لكل علم وجهة عملية؛

ولكن الفلسفة الأخلاقية وحدها هي التي نستطيع أن نقول عنها

إنها عملية في جوهرها

لأنها تبحث في سلوك الإنسان، في الفضيلة والرذيلة، في السعادة والشقاء

والعلوم الأخرى كلها لا قيمة لها إلاّ من حيث أنها تعين على العمل الصالح؛ وعلى هذا الاعتبار تصبح العلوم "العملية"، كالتجارب والكيمياء، وغيرها علوماً نظرية إذا قورنت بالعمليات التي تعنى بها العلوم الأخلاقية أو السياسية. وعلم الأخلاق هذا هو سيد كل رفع من فروع الفلسفة (122).

ص: 216

ويصور بيكن حكمه الأخير في صالح الدين لا في اصلح الفلسفة، فبالأخلاق وحدها يؤيدها الدين يستطيع الإنسان أن ينجي نفسه. ولكن أي دين يقصد؟ إنه يحدثنا عن ندوة الأديان - البوذية، والإسلام، والمسيحية - وهي الندوة التي عقدت، على ما يقول وليم الربرسكوي في قرقورم Karakorum بناءً على دعوة منجوخان وتحت رياسته (123). ويفاضل بيكن بين الأديان الثلاثة، ويصدر حكمه في صالح الدين المسيحي، ولكنه لا يصدر هذا الحكم بوصفه ديناً يتعبد به الناس في العالم وكفى. وهو يشعر بأن البابوية، مهما وجه إليها جروستستي من نقد لاذع، هي الرابطة الروحية لأوربا، وبدونها تمزقها فوضى العقائد والحروب، وكان يأمل أن يدعم الكنيسة بالعلوم، واللغات، والفلسفة ليمكنها من أن تحكم العالم حكماً روحياً خيراً من حكمها الحاضر (124). وختم كتابه كما بدأه بالجهر الصادر عن عقيدة قوية بولائه للكنيسة، ويمجد في نهايته القربان المقدس - كأنه يقول إن الإنسان إذا لم يعمل من حين إلى حين للاتصال بأسمى مثله العليا احترق في لهيب هذا العالم.

ولعل عجز البابوات عن الاستجابة بوسيلة ما إلى المنهج الذي وضعه بيكن وإلى دعواته المتكررة وقد أظلم روحه وأمرَّ قلمه. وكانت نتيجة هذا أنه نشر في عام 1271 موجز الدراسات الفلسفية غير كامل لم يضف إلاّ القليل للفلسفة، ولكنه أضاف الشيء الكثير إلى الأحقاد الدينية التي كانت تمزق المدارس تمزيقاً. وفيه قضى قضاءً عاجلاً على الجدل الآخذ وقتئذ في الضعف بين الواقعية والصورية فقال:"ليس الكلى إلاّ تماثيل عدة أفراد" و"في الفرد الواحد من الواقعية أكثر مما يف الكليات كلها مجتمعة"(125). وأخذ بنظرية أوغسطين ووصل إلى أن جهود الأشياء كلها لإصلاح شأنها قد أحدثت سلسلة طويلة من التطورات (126). كما أخذ بفكرة أرسطو القائلة بوجود العقل الفاعل

ص: 217

أو العقل الكوني الذي "يسري إلى عقولنا وينيرها" وأقترب اقتراباً شديداً من مبدأ وحدة الوجود الذي ينادي به ابن رشد (127).

ولكنه لم يهز مشاعر معاصريه بآرائه الفلسفية بقدر ما هزها بهجومه على منافسيه وعلى مبادئ زمانه الأخلاقية. ذلك أنه في موجز الدراسات الفلسفية كاد يلهب بسوطه جميع نواحي الحياة في القرن الثالث عشر: اضطراب نظام المحاكم البابوية، وانحطاط طوائف رهبان الأديرة، وجهل رجال الدين، وثقل مواعظهم وخلوها من التشويق، وفساد أخلاق طلاب العلم، وما في الفلسفة من لغو وتلاعب بالألفاظ. وذكر في رسالة له عن أخطاء الطب "ستة وثلاثين عيباً أساسياً كبيراً" في النظريات والأعمال الطبية في عصره، وكتب في عام 1271 فقرة ربما تدعونا إلى التسامح في عيوب أيامنا هذه:

يُرتكب في عصرنا هذا من الذنوب أكثر مما يرتكب في أي عصر قبله. فالكرسي البابوي يمزقه خداع الظالمين وغدرهم

ولقد فشا الكبرياء بين الناس، وغلت مراجل الطمع في الصدور، وأنشب الحسد أنيابه في جميع النفوس؛ والبلاط البابوي كله يسربله الفجور بالعار، والنهم هو سيد الجميع

وإذا كان هذا هو شأن الرأس فماذا عسى أن تفعل سائر الأعضاء؟ فلننظر إلى كبار رجال الدين كيف يجرون وراء المال، ويهملون العناية بالأرواح، ويرفعون إلى المناصب العليا أبناء أخوتهم وأخواتهم وغيرهم من الأصدقاء وأولي الأرحام؛ والمحامين الماكرين الذين يفسدون كل شيء بنصائحهم

ولننظر إلى طوائف الرهبان من رجال الدين، لست أستثني أحداً مما أشاهده بينهم؛ انظروا في أية هاوية تردوا، وهووا من شامخ مجدهم فرادى وجماعات، وهاهم أولاء الرهبان (الإخوان) الجدد قد فسدوا فساداً مروعاً وحادوا عن تقواهم الأولى. إن رجال الدين على بكرة أبيهم لا هم لهم إلاّ التكبر، والفجور، والبخل، وحيثما يجتمع طلاب العلم

ص: 218

لا تسمع منهم إلاّ اغتياب غير رجال الدين والتشهير بحروبهم ومنازعاتهم ويغرها من الرذائل. والأمراء، والأشراف، والفرسان يظلم بعضهم بعضاً، ويُشقون رعاياهم بحروبهم ومطالبهم التي لا حد لها

والشعب الذي يشقى بأمرائه، يحقد على هؤلاء الأمراء، ولا يدين لهم بولاء إلاّ إذا أرغم على ذلك قوة واقتداراً؛ وقد أفسده المثل السيئ الذي ضربه له سادته وكبراؤه، فترى أفراده يظلم بعضهم بعضاً ويخدعه ويغشه، ونحن نشهد هذا كله بأعيننا في كل مكان، وهم منهمكون في فسقهم ونهمهم، وقد بلغوا من الانحطاط حداً يعجز اللسان عن النطق به. أما التجار والصناع فحدث عنهم ولا حرج، لأن الخداع والغش هما ديدنهم في جميع أقوالهم وأفعالهم

لقد كان الفلاسفة الأقدمون، وإن أعوزتهم الكياسة المنعشة التي تجعل الناس خليقين بالخلود، يعيشون خيراً منا إلى ابعد حد مستطاع، سواء في أدبهم أو في احتقارهم هذا العالم وكل ما فيه من بهجة وغنى، وثروة، وألقاب التكريم، كما يتبين الناس جميعاً من مؤلفات أرسطو، وسنكا، وتلي Tully، وابن سينا، والفارابي، وأفلاطون، وسقراط وغيرهم؛ وبهذا وصلوا إلى أسرار الحكمة، وكشفوا عن جميع المعارف؛ أما نحن المسيحيين فلم نكشف شيئاً شبيهاً بما كشفه أولئك الفلاسفة، بل إننا لنعجز عن إدراك حكمتهم. ومنشأ جهلنا هذا هو أن أخلاقنا شر من أخلاقهم

وليس ثمة بين العقلاء من يخالجه أدنى شك في أن الواجب يقضي بتطهير الكنيسة (128).

ولم تنطبع في عقله صورة طيبة من الفلاسفة المعاصرين له، وشاهد ذلك ما كتبه عنهم إلى كلمنت الرابع يقول إن أحداً منهم لا يستطيع في عشر سنين أن يؤلف كتاباً مثل الكتاب الأكبر، فقد كانت مؤلفاتهم في نظر بيكن مجلدات ضخمة من "الكذب الذي لا يستطاع وصفه" والحشو الذي لا ضرورة له (129)؛ وكان هيكل تفكيرهم كله يقوم على الكتاب المقدس

ص: 219

ومؤلفات أرسطو، وذاك قد أسيء فهمه وهذه قد أسيئت ترجمتها (130). وكان يسخر من نقاشا تومس الطويل في عادات الملائكة، وسلطانهم، وذكائهم، وحركاتهم (131).

وما من شك في أن هذا الإسراف في اتهام حياة أوربا وأخلاقها، وتفكيرها، في ذلك القرن المتلألئ الباهر قد جعل بيكن وحده في ناحية أوربا كلها في ناحية أخرى. ولكننا لا نجد دليلاً على أن طائفته أو الكنيسة قد اضطهدته أو تدخلت في حرية فكره أو قوله قبل عام 1277، أي قبل أن يكتب المرثاة السالفة الذكر بست سنين. ولكن حدث في تلك السنة أن أخذ يوحنا الفرشلي John of Vercelli رئيس الرهبان الدمنيك وجيروم الأسكولي Jerom of Ascoli رئيس الرهبان الفرنسيس يتفاوضان ليخففا من حدة بعض النزاع الذي شجر بين الطائفتين. واتفقا على أن يمتنع الإخوان في كل طائفة عن نقد الطائفة الأخرى، وأن "كل أخ يتبين أنه أساء إلى أخ من الطائفة الأخرى بالقول أو بالفعل يجب على مجلس مقاطعته أن يوقع عليه من العقاب ما يرضى أخاه الذي أسيء إليه (132). وبعد قليل من ذلك الوقت قام جيروم - على حد قول أخبار قادة الطائفة الأربعة والعشرين التي كتبت في القرن الرابع عشر - "عملاً بمشورة كثيرين من الإخوان فعارض واستقبح تعاليم الأخ روجر بيكن مدرس علم اللاهوت المقدس لأنها تحتوي على بدَع تثير الشك، ومن أجل هذا حكم على روجر المذكور بالسجن" (133). ولسنا نعلم عن هذه المسألة شيئاً غير هذا؛ فهل كانت هذه "البدع" هي الإلحاد، أو ارتياب من حكموا عليه في أنه يمارس فنون السحر، أو أن هذا الأمر يخفي في طياته قراراً بإسكات هذا الناقد البغيض إلى الدمنيك والفرنسيس على السواء؟ ولسنا نعرف كذلك ما فرض من التضييق على بيكن في سجنه أو طول الزمن الذي ظل فيه

ص: 220

سجيناً مضيقاً عليه. وكل ما نعرفه أن بعض المساجين الذين حكم عليهم بالسجن في عام 1277 قد أطلق سراحهم في عام 1292، وربما كان بيكن ممن أطلق سراحهم في ذلك الوقت أو قبله، لأنه نشر في عام 1292 موجزاً في الدراسات اللاهوتية، ثم لا نجد بعد ذلك إلاّ كلمة في سجل قديم: دفن الدكتور روجر بيكن الجليل القدر في كنيسة جريسي فريزر Grecy Frairs ( كنيسة الرهبان الفرنسيس) بأكسفورد في عام 1292" (134).

ولم يكن لبيكن في عصره إلاّ أثر قليل. فكل ما يذكره به ذلك العصر أنه رجل يأتي بكثير من الأعاجيب، وأنه ساحر ومشعوذ. وقد صور بهذه الصورة في مسرحية كتبها روجر جرين Roger Green بعد ثلاثمائة سنة من وفاته. وليس من السهل علينا أن نعرف مقدار ما يدين له سمه فرانسس بيكن (1561 - 1626)؛ وكل ما نستطيع أن نقوله في هذا أن فرانسيس وروجر على السواء كليهما رفضا منطق أرسطو، والطريقة المدرسية، وارتابا في الاعتماد على المراجع القديمة، وعلى العادات وغيرها من أصنام التفكير التقليدي، وامتدحا العلوم، وذكرا ما يتوقع اختراعه بالاعتماد عليها، ورسما منهاجاً لها، وأكدا فائدتها العملية؛ وطالبا بالمعونة المالية للبحوث العلمية. وأخذت شهرة بيكن تعظم وتنتشر ببطئ من القرن السادس عشر حتى أصبحت حياته من القصص الخرافية - فقيل إنه هو مخترع البارود، والبطل الحر التفكير، الذي ظل طول حياته مضطهداً من رجال الدين، والمبتكر العظيم للتفكير الحديث. والآن أخذت الآية تنقلب، فالمؤرخون يقولون أنه لم تكن لديه إلا فكرة مهوشة عن التجارب العلمية، وإنه لم يجر من هذه التجارب إلا القليل، وإنه كان في الدين أكثر حرصاً على تقاليده من البابا نفسه، وإن صفحات كتبه تنتشر فيها الخرافات والسحر، والخطأ في الاقتباس، والتهم الكاذبة، والقصص غير الصادقة المأخوذة من التاريخ.

ص: 221

وهذا كله صحيح؛ وصحيح أيضاً أنه وإن لم يجر من التجارب إلا القليل، قد ساعد على دعم مبدأ التجربة العلمية، ومهد السبيل الى قيامها، وأن جهره بالتمسك بالسنن الدينية قد يكون إجراءً سياسياً من رجل يسعى للحصول على تأييد البابوية للعلوم التي كانت مثاباً للريبة. أما أخطاؤه فقد كانت عدوى زمانه، أو لعلها قد نشأت من العجلة التي تسير بها روح تحرص على أن تجعل المعارف كلها ميداناً لها. وأما امتداحه نفسه فقد كان هو البلسم الشافي لتجاهل عبقريته؛ كذلك كان هجومه على غيره تنفيساً لغرض إنسان جبار خابت آماله، فأخذ يشهد إخفاق أحلامه النبيلة تغرق في بحرٍ من الجهل وهو عاجز عن إنقاذها. وأما هجومه على النقل في الفلسفة والعلم فقد أنار السبيل لتفكيرٍ أوسع مجالاً وأكثر حريةً مما كان في زمانه؛ كذلك كان تأكيده لأسس العلم وأهدافه الرياضية تقدما بخمسمائة عام عن العصر الذي يعيش فيه؛ وخير من هذا كله أن تحذيره الناس من إخضاع الأخلاق للعلم درس لرجال الغد يجب أن يأخذوا به. وملاك القول أن الكتاب الأكبر، رغم أخطائه وآثامه، خليق باسمه، وأنه أعظم من أي مؤلف في جميع آداب ذلك القرن العجيب.

ص: 222

الفصل الثامن

‌أصحاب الموسوعات

وقف العلماء المحيطون بمختلف العلوم موقفاً جريئاً بين العلم والفلسفة يعملون لبث النظام والوحدة في معارف عصرهم التي كانت آفاقها تزداد أتساعاً على مر الأيام؛ وليكونوا من العلم والفن، والصناعة والحكومة، والفلسفة والدين، والأدب والتاريخ، وحدة كلية منتظمة يمكن أن تتخذ أساساً للحكمة. ولهذا برز القرن الثالث عشر سائر القرون بما وضع فيه من الموسوعات، والخلاصات التي كانت كتباً جامعة طابعها التركيب. وكان أكثر أصحاب الموسوعات تواضعاً يقنعون بتلخيص موضوعات العلوم الطبيعية، ومن هؤلاء الكسندر نكهام رئيس دير سرنسستر Cirencester ( حوالي عام 1200)، وتموس الكنتمبريئي Thomas of Cantimpre الراهب الدومنيكي الفرنسي (حوالي عام 1244)؛ وقد كتب كلاهما موجزاً في العلوم بعنوان طبيعة الأشياء، ومنهم بارثلميو الإنجليزي Bartholomew of England وهو راهب فرنسيسي أخرج مجلداً كثير الحشو في خصائص الأشياء (حوالي 1240)؛ وفي عام 1266 كتب برونتو Brunetto Latini، وهو مسجل صكوك من فلورنس نفي من بلده لمبادئه السياسية الجلفية ( Guelf) ، وأقام بضع سنين في فرنسا، كتب بلغة دوئيل Lange d' oil كتاب الكنز Le livre de Tresor وهو موسوعة موجزة في العلوم والأخلاق والتاريخ والحكم. وظلت هذه الموسوعة واسعة الانتشار حتى أن نابليون نفسه فكر في أن تصدر الدولة طبعة منها بعد أن تراجع وذلك بعد خمسين عاماً من إصدار ديدرو Diderot موسوعته الكبرى التي هزت العالم هزاً. وكانت هذه

ص: 223

المؤلفات كلها التي صدرت في القرن الثالث عشر تمزج اللاهوت بالعلوم، والخرافات بالمشاهدات، لأنها كانت تتنفس هواء زمانها؛ ولو أننا قدر لنا أن نعرف نظرة الناس الى علمنا الجامع بعد سبعة قرون من هذه الأيام لأغضبنا ما نراه.

وأشهر موسوعات المسيحيين في العصور الوسطى موسوعة فنسنت بوفيه المسماة المرآة الكبيرة (1200 - 1264 أو حوالي ذلك الوقت). وقد انضم بوفيه هذا إلى جماعة الرهبان الدومنيك، وأصبح معلماً للويس التاسع وولده، وعهد إليه الإشراف على مكتبة الملك، وأخذ على عاتقه هو وجماعة من أعوانه أن يضع في صورة سهلة التناول جميع ما يحيط به من ألوان المعرفة. وقد أطلق على موسوعته أسم صورة العالم Imago Mundi، ومثل فيها العالم بمرآة ينعكس عليها الذكاء القدسي والتخطيط الإلهي، وكانت موسوعة ضخمة تعادل في حجمها أربعين مجلداً من المجلدات الكبيرة الحجم في هذه الأيام. وأتم منها فنسنت مع النساخين ثلاثة أجزاء: المرآة الطبيعية، ومرآة العقائد، ومرآة التاريخ، وأضاف إليها من خلفوه في هذا العمل، حوالي عام 1310 مرآة الأخلاق ومعظمها مأخوذ من موجز تومس أكوناس. وكان فنسنت إنساناً متواضعاً ظريفاً، قال عن نفسه "إني لا أعرف علماً واحداً"، وهو يتنصل من أنه ابتكر شيئاً ما ويقول إن كل ما أراد أن يفعله هو أن ينقل أقوال 450 مؤلفاً يونانياً، ولاتينياً، وعربياً. وقد نقل أخطاء بلني بأمانة، وصدق كل عجائب التنجيم، وملء صحفه بالصفات السحرية للنبات والحجر، ولكن عجائب الطبيعة وروائع جمالها تبدو مع ذلك واضحة في كتابه من حينٍ إلى حين، تنفذ من خلال ما فيه من أقوال غير ذات قيمة، ويحس هو بها كما لا يستطيع أن يحس بها ملتهم الكتب فحسب:

ص: 224

أعترف، وأنا الإنسان المذنب، ذو العقل الملوث في الجسد، أنني تدفعني الروح السامية نحو الخالق المسيطر على هذا العالم، وأني أزداد تعظيماً له حين تقع عيني على ما في خلقه

من عظمة وجمال. ذلك بأن العقل إذا أرتفع من الأقذار التي يحبها، وسما، وهو القادر على السمو إلى نور التأمل، أبصر من شاهق علوه عظمة الكون المحتوي على أماكن لا حصر لها مليئة بطوائف المخلوقات المختلفة الأنواع (135).

ويضارع النشاط العلمي الذي انبثق في القرن الثالث عشر عظمة فلسفاته المختلفة، وآدابه المتنوعة الباهرة، من الشعراء الغزلين الى دانتي. لقد كان علم تلك الأيام، كما كانت موجزاته العظيمة والمسلاة الإلهية، يعاني الشيء الكثير من إسراف أصحابه في الوثوق به، ومن عجزهم عن بحث فروضه، ومن خلط المعارف بالدين بلا تفريق بينهما. ولكن سفينة العلم الصغيرة التي كانت تسبح في بحرٍ من المزاعم الخفية خطت خطوات واسعة في عصر الإيمان نفسه. فقد بدأ أدلارد وجروستستي، وألبرت، وآرنلد الفلانوفي، ووليم السليستوي، وهنري المندفيلي، ولانفراتشي وروجر بيكن، وبطرس الحاج وبطرس الأسباني، بدأ هؤلاء كلهم مشاهدات وملاحظات جديدة، وتجارب صغيرة أخذت تحطم ما كان لأرسطو، وبلني، وجالينوس من سلطان على العقول. وملأ التحمس للارتياد والمغامرة أشرعة سفينة الرواد، قد عبر عن ذلك الإخلاص العلمي الجديد ألكسندر نكهام في بداية ذلك القرن العجيب فكتب يقول " إن العلم لا ينال إلا بثمنٍ باهض، هو اليقظة الدائمة، وإنفاق الوقت الطويل، وبالجد والكدح المتواصلين، وباستخدام العقل بحماسة وقوة"(136).

ولكن مزاج العصور الوسطى يتحدث إلينا قبيل نهاية كتاب ألكسندر أحسن أحاديثه، ويتحدث إلينا برقة لا تتناسب مع عصره فيقول:

ص: 225

ربما عشت أيها الكتاب بعد ألكسندر هذا، وربما أكلني الدود قبل أن تقرض صفحاتك

إنك مرآة عقلي، وشارح تأملاتي

والشاهد الصادق على ضميري، والماسي الرحيم لأحزاني

وإنك أنت المستودع الأمين الذي أودعت فيه أسرار قلبي

فيك أقرأ ما في نفسي

سوف تقع في يدي قارئ ينزل من عليائه فيدعو لي بخير، وإذن فسيفيد منك صاحبك أيها الكتاب الصغير، وإذن ستجزى إسكندرك أحسن جزاء وأعظمه؛ ولست آسفاً على كدحي، فستصادف إخلاص قاري صالح يضعك تارة في حجره، ويرفعك تارة إلى صدره، ويتخذك حيناً وسادة تحت رأسه، ويطويك برفق، ويدعو لي في حرارة وإخلاص عيسى المسيح الذي يعيش مع الله والروح القدس خلال الأحقاب التي لا نهاية لها - آمين (137).

ص: 226

الباب الثامن والثلاثون

‌عصر الخيال

1100 -

1300

الفصل الأول

‌إحياء اللغة اللاتينية

كل عصر في حياة العالم عصر خيال، لأن الناس لا يستطيعون أن يعيشوا بالخبز وحده، والخيال عماد الحياة، ولعل القرنين الثاني عشر والثالث عشر من تاريخ أوربا كانا إلى حد قليل أبعد خيالاً من معظم العصور الأخرى. ذلك أن هذين القرنين لم يرثا جميع المخلوقات الخفية التي ابتدعها خيال أوربا الوثاب فحسب، بل قبلاً الملحمة المسيحية بكل ما فيها من جمال الخيال ورهبته، واتخذا الحب والحرب فناً وديناً؛ وشهد هذان القرنان الحروب الصليبية وجاءا بمئات القصص والعجائب من بلاد الشرق، وكتبا في واقع الأمر أطول القصص الخيالية المعروفة في التاريخ كله.

وكان مما ساعد على ازدهار الأدب قي هذين القرنين ازدياد الثروة، والفراغ والأدب غير الديني، ونشأة المدن والطبقة الوسطى، وارتفاع شأن المرأة في الدين، ونظام الفروسية. ولما تضاعف عدد المدارس بهر شيشرون، وفرجيل، وهوارس، وأوفد، وليفي، وسالست، وسنكا، واستاتيوس، وجوفنال، وكونتليان، وسيوتونيوس، وأبوليوس، وسيدونيوس، وحتى ماريتال وبترونيوس

ص: 227

السفيهان المفحشان، بهر هؤلاء بفنهم وعالمهم الغريب كثيراً عن ملاجئ الأساتذة والأديرة المنعزلة عن العالم وتسربا في بعض البلاد إلى قصور الأعيان. واختلست الأرواح المسيحية من جيروم إلى ألكوين، إلى هلواز، وهيدلبيرت، دقائق من أوقات صلواتهم لينشدوا أغاني الإنياذة وهم صامتون. وكانت جامعة أورليان تعتز اعتزازاً خاصاً قوياً بآداب روما الوثنية، حتى شكا أحد المتزمّتين وهو مرتاع وجل قائلاً إن الآلهة القدامى، لا المسيح أو مريم، هي التي تعبد فيها. وكاد القرن الثاني عشر يصبح "عصر أوفد"؛ فقد أنزل فرجيل عن العرش الذي رفعه إليه ألكوين حتى جعله شاعر بلاط شارلمان؛ وكان الرهبان، والسيدات، "والعلماء الجاءلون" على السواء يقرءون بنشوة وابتهاج كتب التحولات، والهيرويدات، وفن الحب. وفي وسعنا أن نعفو عن كثير من أسباب اللهو المباح عند الرهبان الذين أحبوا هذه الكتب الملعونة، وحفظوها من الضياع، ولقّنوها بإخلاص ووفاء إلى الشبان المتبرمين الشاكرين.

ونشأت من هذه الدراسات القديمة لغة لاتينية خاصة بالعصور الوسطى، كان فيها من التنوع وأسباب المتعة ما يعد من أعظم المفاجآت السارة في الكشوف الأدبية. مثال ذلك أن القديس برنار الذي لم يكن يعتد إلاّ قليلاً بالمزايا العقلية، كتب رسائل تفيض بالحب الرقيق، والقدح الفصيح، واللّغة اللاتينية الممتازة؛ وقد احتفظت عظات بطرس دميان، وبرنار، وأبلار، وبرثولد الرجنز برجي للّغة اللاتينية بقوتها وحيويتها.

وكتب المؤرخون الأخباريون في الأديرة بلغة لاتينية فظيعة، ولكنهم يدعون أنهم يكتبون كتابة تشبع حاسة الجمال لدى القرّاء. بل كانوا يسجلون أولاً نشأة أديرتهم وتاريخها - انتخاباتها، ومبانيها، ووفاة رؤسائها، ومعجزات الرهبان ومنازعاتهم؛ وأضافوا إلى ذلك مذكرات عن الخسوف

ص: 228

والكسوف، والمذنّبات، والجفاف، والفيضان، والقحط، والأوبئة، ونذر أيامهم؛ وتوسع بعضهم فضمن كتاباته بعض الحوادث القومية والدولية نفسها. وقلّ منهم من كان يبحث في المراجع التي يعتمد عليها بروح النقد الصحيح، أو يفحص عن العلل؛ وكان معظمهم مهملين غير دقيقين، يضيفون إلى أرقامهم صفراً أو صفرين ليبعثوا الحياة في الإحصاءات الميتة. وكلّهم بلا استثناء يأتون بالمعجزات، ويظهرون سذاجةً أو استعداداً ظريفاً لتصديق كل ما يقال. من ذلك أن الإخباريين الفرنسيين افترضوا أن فرنسا قد استوطنها الطرواديون النبلاء، وأن شارلمان فتح أسبانيا واستولى على بيت المقدس، وحاول كِتاب أعمال الفرنسيين Gesta Francorum ( حوالي 1100) أن يروي بأمانة نسبية قصة الحرب الصليبية الأولى، ولكن كتاب أعمال الرومان Gesta Romanortum ( حوالي 1280) يروي في صراحة تاريخاً مخترعاً لتشوستر، وشكسبير، وألفاً من كتّاب الروايات. وجعل جوفري المنموثي Geoffrey of Monmouth حوالي (1100 - 1154) من كتابه تاريخ بريطانيا Historia Britonum ضرباً من الأساطير القومية، وجد فيها الشعراء قصص الملك لير، وآرثر، وميرلين Merlin، ولانسلت Lancelot، وترسترام Tristram، وبرسفال، وبرسفال Perceval، وجريل المقدس Holy Grail. ومن الأدب الحي حتى الآن ثرثرة جوسلين Jocelyn وما رواه من أخبار بيوري سانت إدمندس Bury St. Edmonds ( حوالي 1200) وما رواه الأخ سلمبيني Salimbene عن بارما (حوالي 1280).

وفي عام 1208 أهدى ساكسولانج (اللغوي) Saxo Lange الذي سمّى بعد وفاته ساكسو النحوي Saxo Grammaticus إلى أبسالوم كبير أساقفة لند Lund كتابه أعمال الدنمرقيين، وهو كتاب فيه بعض الحشو وفيه من سرعة التصديق مالا يصدّقه الإنسان (1). ولكنّه مع ذلك قصة قوية حية، فيها من

ص: 229

الاتصال أكثر مما في كثير من تواريخ الغرب في هذه الأيام. ففي الكتاب الثالث من هذا المؤلف نقراً عن أملث Amleth أمير جتلندة Jutland الذي قتل عمه الملك وتزوج الملكة. ويقول سكسو إن أملث هذا "اختار أن يتظاهر بالبلادة وفقدان الوعي فقداناً كاملاً، وضمن بهذا الصنع الماكر سلامته".

وارتقى خمسة من المؤرخين اللاّئين في ذينك القرنين من طبقة الإخباريين إلى طبقة المؤرخين وإن احتفظوا بالطابع الإخباري. من هؤلاء وليم المالزبري (حوالي 1090 - 1143) الذي رتّب مادة كتابه أعمال الأحبار Gesta Pontificum، وأعمال الملوك الإنجليز Gesta Regum Anglorum ليجعل منها قصة متصلة حية، نزيهة، جديرة بالثقة، تروي أخبار الأحبار والملوك. وأرسل أردركس فيتالس Ordericus Vitalis ( حوالي 1075 - 1143) المولود في شروزبري Shrewsbury إلى دير القديس إفرول St. Evroul في نورمندية في العاشرة من عمره وفاءً لنذر، وعاش فيها بقية سنيه الثمان والستين، ولم ير خلالها أبويه. وقضى من هذه السنين ثماني عشرة في كتابة تاريخ الكنيسة المكون من خمسة مجلدات، ولم يمتنع عن العمل في خلال تلك السنين، كما يقول الرواة، في أشد أيام الشتاء برداً حين كانت أصابعه تفقد حساسيتها من فرط البرد. ومن عجب أن عقلاً مضيقاً عليه في المكان يستطيع التحدّث عن هذا الحديث الحسن في مختلف الشئون الدينية والدنيوية، فضلاً عن استطرادات في تاريخ الرسائل والأخلاق العادية. وقص أتو Otto أسقف فرايزنج (حوالي 1114 - 58) في كتابه في المدينتين تاريخ الدين والعالم الدنيوي من خلق آدم إلى 1146، وبدأ ترجمة مليئة بالفخر لابن أخيه فردريك بربرسا، ولكنه توفي ولمّا يتجاوز بطله منتصف حياته. وعيّن رجل فرنسي مولود في فلسطين يدعى وليم الصوري William of Tyre ( حوالي 1130 - 1190) مستشاراً لبولدون الرابع ملك بيت المقدس،

ص: 230

ثم أصبح بعدئذ كبير أساقفة صور؛ وتعلّم اللغات الفرنسية، واللاتينية واليونانية والعربية وقليلاً من اللغة العبرية؛ وكتب بلغة لاتينية سليمة كتاباً هو خير ما يعتمد عليه من المصادر في تاريخ الحملات الصليبية الأولى، وسمّاه تاريخ حوادث ما وراء البحار Historia reum in partibus transmarinis gestarum. وقد حاول فيه أن يفسّر الحوادث جميعها بالاستناد إلى الأسباب الطبيعية. وكانت نزاهته في تصوير أخلاق نور الدين محمود وصلاح الدين من أكبر أسباب عقيدة أوربا المسيحية في هذين العاهلين اللذين يخالفانها في الدين. وكان ماثيو باريس (حوالي 1200 - 1259) راهباً في دير سانت أولبنز، وشغل أولاً منصب مؤرخ لديره، ثم بعد ذلك منصب مؤرخ للملك هنري الثالث، واستعان بهذين المنصبين على تأليف كتابه التاريخ الكبير بلغة شيّقة ممتعة؛ وهو يروي الحوادث الهامّة التي وقعت في تاريخ أوربا بين عامي 1235، 1259. ويمتاز كتابه بالوضوح والدقّة، ولكن فيه تحيّزاً لم يكن متوقعاً منه؛ وندّد فيه "بالبخل الذي نفر الشعب من البابا"، وانحاز إلى فردريك الثاني ضد البابوية. وملأ صفحاته بأنباء المعجزات، وروى قصة اليهودي الجوّال (في عام 1228)، ولكنه روى بصراحة تشكّك أهل لندن في انتقال بعض نقط من دماء المسيح إلى دير وستمنستر (1247). ووضّح كتابه بعدّة خرائط لإنجلترا رسمها بنفسه، وهي خير ما رسم من الخرائط في ذلك الوقت، وربما كان هو الذي رسم أيضاً الأشكال التي وضّح بها كتابه. وإنّا لنعجب بجدة وغزارة علمه، ولكن الصورة التي رسمها للنبي محمد (1236) تكشف عمّا يمكن أن يكون عليه رجل مسيحي متعلّم من جهل عجيب بالتاريخ الإسلامي.

أمّا أعظم المؤرخين في ذلك العصر فهما فرنسيان كتبا بلغتهما القومية، وكان لهما مع الشعراء الغزلين ورواة الملاحم وشعرائها الفضل في جعل اللغة الفرنسية لغة

ص: 231

أدبية. فأمّا أوّلهما جيوفروي ده فيل هاردون Geoffroy de Villehardouin ( حوالي 1150 - حوالي 1218). فكان من النبلاء والمحاربين لم ينل من التعليم النظامي إلاّ القليل؛ ولكن جهله بالحيل البلاغية التي تعلمّ في المدارس هو الذي مكّنه من أن يملي كتابه فتح القسطنطينية (1207) بلغة فرنسية دقيقة خالية من التنميق، تتّجه نحو الغرض من أقرب طريق، ومن أن يجعل هذا الكتاب من أهم ما كتب في فن كتابة التاريخ. ولم يكن من أسباب شهرة هذا الرجل بعده عن التحيّز، فقد كان وثيق الصلة بالحرب الصليبية الرابعة، واضطلع فيها بدور هام، فلم يستطيع لهذين السببين أن يرى تلك الخيانة الجميلة الظاهرة، خيانة الحقيقة والتاريخ، بعين الرجل الموضوعي الذي ينظر إلى الحقائق دون غيرها؛ ولكن من أهم مزاياه أنه كان في وسط الحوادث نفسها يشهدها ويحس بها حين وقوعها، ممّا أضفى على كتابه حيوية لا يكاد يبليها الزمن. وظهر بعد قرن أو نحوه من ذلك الوقت جان سير ده جوانفيل Jean Sire de Joinville قيم القصر في شمبانيا؛ وبعد أن خدم لويس التاسع في حملته الصليبية وفي فرنسا، كتب وهو في الثامنة والخمسين من عمره كتابه تاريخ القديس لويس (1309)؛ ونحن نحمد له وصفه خلائق التاريخ وصفاً أميناً بعيداً عن التكلف، واهتمامه بعاداتهم وقصصهم التي توضّح سيرهم وتنير ما يكتنفها من ظلمات. وبفضله نستطيع أن نحس بالجو الذي كان سائداً في ذلك العصر كما لا نحس به في كتاب فيل هاردون، فنصحبه حين يخرج من قصره بعد أن يرهن ما يمتلكه كله تقريباً لينضم إلى الحملة الصليبية؛ ويقول إنه لم يجرؤ على النظر إلى الوراء حتى لا يذوب قلبه أسىً حين تقع عينه على زوجته وأبنائه، ولعلّه لن يراهم بعد ذلك اليوم. ولم يكن لهذا الرجل ما كان لفيل هاردون من دهاء وسعة حيلة، ولكنه كان يمتاز بالإدراك الفطري السليم، وكان يرى ما في قديسه من عيوب، ولهذا رفض أن ينضم إلى الحملة الصليبية التالية حين طلب إليه لويس الانضمام إليها،

ص: 232

لأنه رأى ببصيرته أن هذه مغامرة لا يرجى لها فلاح، ويقول إنه حين سأله هذا الملك الورع:"أيّهما تفضّل - أن تصاب بالجذام أو أن ترتكب خطيئة موبقة؟ ".

"فأجبته وأنا الذي لم يكذب عليه قط بأنه خير لي أن أرتكب ثلاثين خطيئة موبقة من أن أصاب بالجذام. ولمّا خرج الرهبان من حضرته استدعاني وحدي وأجلسني عند قدميه وقال لي: كيف تجرؤ على هذا القول؟

فأجبته بأني قلته مرة أخرى بعد ذلك الوقت؛ فردّ عليّ بقوله: لقد تسرّعت وكنت أحمق في ردّك، فإن من واجبك أن تعرف أنه ليس ثمة جذام أبشع من ارتكاب الخطيئة الموبقة

وسألني: هل غسلت أقدام الفقراء يوم خميس الصعود؟ فأجبته: يا مولاي، لو فعلت لأصبت بالغثيان، إني لن أغسل قط أقدام أولئك الأدنياء. فقال لي الملك: الحق أنك قد أخطأت إذ نطقت بهذا القول، لأن عليك ألاّ تحتقر ما فعله الله ليعلمنا، ولهذا فإني أرجوك بحق حبّك الله أوّلاً وحبّك إياي ثانياً أن تعوّد نفسك غسل أقدام الفقراء" (2).

ولم تكن حياة القديسين كلها تروى بمثل هذا الصدق وتلك الأمانة، ذلك أن الإحساس بالتزام الأمانة ومراعاة الضمير في رواية التاريخ كانا من الضعف في عقول الناس في العصور الوسطى بحيث يخيّل إلينا معهما أن كتّاب هذه القصص الأخلاقية كانوا يظنّون أن لا ضرر مطلقاً في اعتقاد الناس أن ما يروونه صحيح كله، وأن الخير كل الخير في أن يصدقوه. وأكبر الظن أن المؤلفين كانوا في معظم الأوقات يأخذون القصص المنتشرة عن غيرهم، وأنهم كانوا يصدّقون ما يكتبون. وإذا أخذنا تراجم القديسين على أنها قصص لا أكثر وجدناها مليئة بالطرائف والمتع. فلينظر القارئ مثلاً إلى الطريقة التي حصل بها القديس كرستفر Christopher على اسمه. لقد كان في أول حياته رجلاً جباراً من أهل كنعان يبلغ طوله

ص: 233

ثماني عشرة قدماً، ثم دخل في خدمة أحد الملوك لأنه سمع أن هذا الملك أقوى رجل في العالم. وحدث في يوم من الأيام أن رسم الملك على نفسه علامة الصليب حين ذكر بعضهم أمامه اسم الشيطان، فاستدل كرستفر من هذا على أن الشيطان أقوى من الملك، ولم يكن منه إلا أن دخل في خدمة الشيطان. ولكن الشيطان رأى علامة الصليب إلى جانب الطريق فولّى هارباً، واستدل كرستفر من هذا على أن عيسى عليه السلام أقوى بلا شك من الشيطان، فوهب نفسه للمسيح. ووجد الرجل مشقّة في الصوم المسيحي، فقد كان جسمه الضخم يتطلب الطعام الكثير، وكان لسانه الكبير يتعثر في أبسط الصلوات. ووضعه ناسك صالح على شاطئ مخاضة أغرق تيارها السريع كثيرين ممن حاولوا اجتيازها. وحمل كرستفر المسافرين على ظهره ونقلهم إلى الشاطئ الآخر في أمان دون أن يبتلّوا بالماء، حتى كان في يوم من الأيام يحمل طفلاً صغيراً ليعبر به المجرى، فوجده ثقيلاً؛ ولمّا سأله عن السبب أجابه الطفل بأنه يحمل ثقل العالم كله؛ ولمّا وصل هذا الطفل إلى بر السلامة شكر له حسن صنيعه وقال له:"أنا المسيح عيسى" ثم اختفى؛ وفي هذه اللحظة أزهرت فجاءة عصا كرستفر وكان قد غرسها في الرمل (3). ثم لينظر القارئ إلى قصة القديس جورج شفيع بريطانيا. فمن هو هذا القديس؟ لقد كان بالقرب من سيلينم Silenum في ليبيا تنين يقدّم له في كل عام شاب أو شابة طعاماً له؛ وكان هذا الشاب (أو الشابة) يختار بالقرعة ويقدّم للتنين حتى لا يسمّم القرية بنَفَسه. ووقعت القرعة في أحد الأعوام على ابنة الملك العذراء؛ ولمّا أقبل اليوم الموعود مشت نحو البِركة التي يقيم فيها التنين، فرآها القديس جورج وسألها عن سبب بكائها، فأجابته الفتاة قائلة:"أيها الشاب، أرى أن لك قلباً كبيراً نبيلاً، ولكني أرجوك أن تبادر بالابتعاد عني". وأبى الشاب أن يجيبها إلى ما طلبت، وما زال بها حتى أجابته عن سؤاله، فلما فعلت قال لها:

ص: 234

"لا تخافي فإني سأساعدك باسم عيسى المسيح". وخرج التنين من الماء في هذه اللحظة ورسم جورج علامة الصليب، ونادى باسم المسيح، وهجم على التنين، وطعنه بحربته، وأمر الفتاة أن تلقى بمنطقتها حول عنق التنين الجريح، ففعلت ما أمرها به؛ وخضع التنين لسحر جمالها الفتّان كما يخضع له كل شهم من الرجال، وسار خلفها مطيعاً ذليلاً طوال حياتها. وجمع ياقوبو ده فوراجين Jacopo de Voragine كبير أساقفة جنوى هاتين القصتين وأمثالهما في كتاب ذائع الصيت نشر حوالي 1290؛ فكان يروى لكل يوم من أيام السنة قصة قديسها المخصص هذا اليوم له، وسمّى كتابه قراءات عن القديسين Legenda sanctorum. وصارت مجموعة قصص ياقوبو من الكتب المحببة للقرّاء في العصور الوسطى، وأطلقوا عليها اسم القراءات الذهبية. وأشارت الكنيسة بوجوب الاحتياط في تصديق بعض هذه القصص (4)، ولكن الناس أحبّوها وصدّقوها كلها، ولعلهم لم يكونوا في هذا أكثر انخداعاً في الحياة عن السذّج من الناس الذين يصدّقون القصص الخرافية هذه الأيام.

وكان الشعر أحسن ما كتب باللغة اللاتينية في العصور الوسطى، ولم يكن الكثير منه شعراً إلاّ بالاسم فحسب، لأن جميع المواد التلقينية على اختلاف أنواعها - من تاريخ، وقصص، ورياضة، ومنطق، ودين، وطب ـ كانت تكتب في أبيات موزونة مقفاة، ليسهل بذلك استظهارها. وكتبت أيضاً ملاحم تافهة عظيمة الطول مثل ملحمة الكسندريس Alexandreis (1176) التي نظمها ولتر الشاتيوني Walter of Chatillon؛ وتبدو لنا هذه الملاحم الآن مملة بقدر ما تبدو قصيدة الفردوس المفقود Paradise Lost. وكتب أيضاً جدل شعري ـ بين الجسم والنفس، والموت والإنسان، والرحمة والصدق، والفلاّح والقس، والمرأة والرجل، والنبيذ والماء، والنبيذ والجعة، والورد والبنفسج، والطالب الفقير والقس

ص: 235

الذي ينال من الطعام كفايته. بل ذهب بعضهم إلى أبعد من هذا فكتب جدلاً بين هِلين وجنيميد ليوازن بين فضائل عض الرجال للنساء وعشق الرجال للغلمان (5). وقصارى القول أن شيئاً ما من شئون الآدميين لم يكن غريباً على الشعر.

وترك الكتَّاب من القرن الخامس وما بعده قياس أوزان الشعر بمقدار ما فيه من الحروف المتحركة كما كانوا يفعلون في الشعر القديم، وجاء الشعر اللاتيني المستمد من الشعور العام لا من الفن العلمي بنوع من الشعر جديد يعتمد على النبرات والوزن والقافية. وكانت هذه الضروب من الشعر موجودة بين الرومان قبل أن تغزو الأوزان اليونانية بلادهم، وظلّت ألف عام مع الطراز اليوناني. وبقيت الأنماط الفصحى - من شعر سداسي الأوتاد، ومراث، وشعر من نوع شعر سابقو طوال العصور الوسطى؛ ولكن العالم اللاتيني حلّ هذه الأنماط، فقد خيّل إليه أنها لا تتناغم مع أمزجة التقى، والرحمة، والرقة، والأدعية الدينية التي نشرها الدين المسيحي؛ فدخلت فيه أوزان أكثر منها بساطة، هي الأبيات القصيرة من البحر العمبقي

(1)

تكاد تنقل كل عاطفة بشرية من خلجات القلب إلى ضربات أرجل الجند الزاحفين إلى الحرب.

وما من أحد يعرف من أين جاءت القافية إلى العالم المسيحي الغربي وإن الكثيرون يبدون آراء تعتمد على الحدس وحده. لقد اتبعت القافية في عدد قليل من القصائد الوثنية كقصائد إينوس، وشيشرون، وابوليوس؛ وكانت تستعمل أحياناً في الشعر العبري والسرياني، واستعملت مراراً متفرقة في الشعر اللاتيني أثناء القرن الخامس؛ وهي شائعة الاستعمال في الشعر العربي منذ عهد قديم يرجع إلى القرن السادس الميلادي. ولعل حب المسلمين للقافية قد أثر في

(1)

iambic بحر من الشعر مؤلف من فواصل قصيرة تليها فواصل طويلة، أو من مقاطع لها نبرة صوتية تليها مقاطع غير ذات نبرة صوتية (المترجم عن قاموس سعادة)

ص: 236

المسيحيين الذين اتصلوا بالإسلام؛ ويذكرنا الإفراط في التزام القافية في أواسط الأبيات وأواخرها في شعر العصور الوسطى اللاتيني بهذا الإفراط عينه في الشعر العربي. ومهما يكن في هذا من خير أو شر فإن هذه الصيغ الجديدة قد أنتجت ضرباً جديداً من الشعر اللاتيني، يختلف في كل شيء عن الشعر القديم، موفوراً وفرة عجيبة، يبلغ من الجودة درجة لم تكن متوقعة. وإلى القارئ مثلاً من شعر بطرس دميان (1007 - 1072) الناسك المصلح يشبّه دعوة المسيح بدعوة محب فتاة يحبها:

منذا الذي يدق بابي؟

أتريد أن تبدد أحلام ليلى؟

فيناديني: "يا أجمل العذارى،

يا أختي، ورفيقتي، يا جوهرة متألقة!

أسرعي! قومي! افتحي يا أحلى الفتيات!

أنا ابن الملك العليّ الأعلى

أنا أكبر أبنائه وأصغرهم

هبط من السماء إلى هذه الظلمة

ليحرر أرواح الأسرى

لقد تحملت الموت وكثيراً من ضروب الأذى"

فغادرت فراشي من فوري

وهرولت نحو عتبة الباب

لكي يفتح البيت كله إلى الحبيب

وتتملى روحي برؤية

ص: 237

من تتحرق شوقاً إليه.

ولكنه مرّ بنا مسرعاً

وغادر بابي

فماذا أفعل أنا الشقية البائسة؟

فتبعت والدمع ينهمر من عيني

الشاب الذي صوّرت يداه الإنسان.

وكان قول الشعر عند بطرس دميان أمراً عارضاً؛ أما عند هيلدبرت اللفرديني Hildebert of Lavardin (1055 - 1133) كبير أساقفة تور فكان هياماً شق به طريقه إلى الإيمان. ولعل برنجر Birenger عالم تور Tours الذي درس على فلبرت في بلدة شارتر Chartres قد بعث فيه حباً للآداب اللاتينية القديمة. ونزلت به محن كثيرة سافر بعدها إلى رومة، وهو لا يدري أي الأمرين أقوى عنده من الآخر: أهو السعي إلى البركة البابوية، أم إلى رؤية الأماكن التي جعلتها القراءة عزيزة عنده؟ وتأثر الرجل بعظمة العاصمة القديمة واضمحلالها، وأنطقه شعوره بمرثاة من الطراز القديم.

"أي روما! ليس في المدائن كلها ما يماثلك! وإن كدت تصبحين خربات! ألا ما كان أعظمك وأنت بمنجاة من الدمار! إننا نتعلم منك في محنتك؛ لقد حطم كبرياءك مر الدهور، فتداعت في المناقع حصون قيصر مع هياكل الأرباب. وتهدمت تلك الصروح، تلك الصروح الشاهقة التي كان البرابرة العتاة يرتعدون خوفاً حين يرونها قائمة، ويحزنون حين يرونها متداعية

ولكن كر الدهور وقعقعة السيوف لا يقويان على إبادة هذا المجد".

في هذه المرثاة برع شاعر في العصور الوسطى في استخدام اللغة اللاتينية براعة لا تقل عن براعة فرجيل نفسه. ولكنه لم تفارقه قط نزعته المسيحية، فقد كان يجد من السلوى في المسيح ومريم أكثر مما يجدها في جوبتر ومنيرفا، ولهذا

ص: 238

نراه في قصيدة متأخرة عن القصيدة السابقة يهجر الأضرحة القديمة ويقول:

(روما تتحدث): إن هذه الهزيمة أحلى عندي من تلك الانتصارات وإني في فقري لأعظم مني في غناي، وإني وأنا ملقاة على الأرض لأعظم مني وأنا رفيعة العماد، ولقد أمدني عَلَم الصليب بأكثر ممّا أمدّتني النسور، ووهبني بطرس أكثر ممّا وهبني قيصر، وحبتني الجموع العزلاء بأكثر مما حباني القواد المدججون بالسلاح. لقد سدت الأمم وأنا قائمة على قدمي، وهأنذا وأنا مخربة أضرب في أعماق الأرض؛ ولقد سيطرت على الأجسام وأنا قائمة، وهأنذا وأنا محطمة جاثية أحكم الأرواح؛ لقد كنت في الزمن القديم آمر شعباً بائساً، أما الآن فإني أصدر أوامري إلى أمراء الظلام؛ لقد كانت المدائن مملكتي في الزمن القديم أما الآن فمملكتي هي السماء.

إن اللغة اللاتينية لم يكتب بها حتى ذلك الوقت شعر يضارع هذا الشعر منذ أيام فورتناتس Fortunatus.

ص: 239

الفصل الثاني

‌الخمر والمرأة والأغاني

من الطبيعي أن يكون علمنا بالنواحي الوثنية أو المتشككة في حياة العصور الوسطى قطعاً متفرقة؛ ذلك بأن الماضي لم يصل إلينا نزيهاً أميناً إلا في دمائنا. وهذا يزيد من إعجابنا بروح التسامح والتحرر ـ أو روح الزمالة في الغبطة ـ التي حملت دير بندكتبيرن Benediktbeuern ( في بافاريا العليا) على الاحتفاظ بالمخطوط الذي شق طريقه إلى المطبعة في عام 1847 وسمّي باسم قصائد بيران Carmina Burana والذي يعد الآن أهم ما لدينا من المصادر لشعر "العلماء الجوالين"

(1)

ولم يكن هؤلاء من الذين يضربون في الآفاق؛ فقد كان منهم رهبان ضلوا في طريقهم إلى أديرتهم، ومنهم قساوسة فقدوا مناصبهم، وكانت كثرتهم طلاباً في طريقهم من موطنهم إلى جامعتهم أو من إحدى الجامعات إلى الأخرى؛ وكثيراً ما كانوا يقطعون طريقهم هذا سيراً على أقدامهم. وكان كثيرون من الطلاب بعرجون على الحانات في الطريق، ومنهم من كانوا يتذوقون الخمر والنساء، ويستمعون إلى المعارف غير المدونة، ومنهم من كانوا يؤلفون الأغاني، ويتغنون بها، ويبيعونها لمن يطلبها؛ ومنهم من فقدوا أملهم في أن يكونوا من رجال الدين فكانوا يعيشون بأقلامهم يخصون بشعرهم الأساقفة والأعيان. وكانت أكثر ميادين نشاطهم فرنسا وألمانيا الغربية؛ ولكن شعرهم ما لبث أن انتشر بين البلدان المختلفة لأنهم كانوا يكتبونه باللغة اللاتينية. وكانوا يدّعون أنهم ينتظمون في هيئة خاصة هي نقابة الجوّالين، واخترعوا لها مؤسساً موهوماً

(1)

ومن المصادر الأخرى مخطوط في مكتبة هارلم ألف قبل عام 1264 ونشره تومس رَيِت في عام 1841 باسم "قصائد لاتينية تعزى عادة إلى ولتر ميبس".

ص: 240

وقديساً شفيعاً هو شخصية أسطورية شبيهة بشخصيات ربليه وسمّوه جلياس Golias. وإنا لنجد من ذلك الزمن البعيد، وهو القرن العاشر الميلادي، ولتر كبير أساقفة سان Sens ساخطاً أشد السخط على "أسرة جلياس" المرذولة، كما أن مجلساً كنسياً عقد في عام 1227 جهر بسخطه على الجلياردي Goliardi لأنهم ينشدون أشعاراً يسخرون فيها من أقدس الأناشيد والطقوس الدينية (6). ويقول مجلس سلز برج المنعقد في عام 1281 إنهم "يسيرون بين الناس عراة، وينامون في أفران الخبز، ويغشون الحانات، وأماكن الألعاب، والمواخير، ويكسبون عيشهم برذائلهم، ويتشبثون اشد التشبث بشيعتهم"(7).

ولسنا نعرف من هؤلاء الشعراء الجليارديين، إلاّ أفراداً قلائل، منهم شاعر يسمّى هيو Hugh أو هوجو بريماس Hugo Primas، وكان راهباً علمانياً في أورليان عام 1140 يصفه كاتب من منافسيه (8) بأنه "إنسان دنيء"، مشوه الوجه"، ولكنه اشتهر "في كثير من الأقاليم" بحضور البديهة، وقرض الشعر، هلك لأن أحداً لم يبتع شعره؛ وكان يقذف الأغنياء من رجال الدين بأقذع أنواع الهجاء التي يمليها عليه حقده. كان رجلاً غزي العلم، صفيق الوجه، قليل الحياء، يصوغ أفحش المعاني في شعر سداسي الأوتاد، لا يقل روعة عن شعر هيلدبرت.

وكان أوسع منه شهرة شاعر آخر لا نعرف الآن اسمه ولكن المعجبين به كانوا يسمّونه "كبير الشعراء Archipoeta"( حوالي 1161)؛ وهو فارس ألماني يفضل الخمر والمداد عن السيف والدم، ويعيش عيشاً مضطرباً على الصدقات التي كان يمده بها من حين إلى حين رينلد فن داسل Rainald Von Dassel كبير أساقفة كولوني المنتخب، وسفير بربرسافي بافيا. وحاول رينلد أن يصلح ما فسد من أخلاقه، ولكن الشاعر توسل إليه أن يتركه وشأنه، وكان ذلك في قصيدة من أشهر ما قيل من القصائد في العصور الوسطى، وهي قصيدة "اعتراف

ص: 241

جالوت" - التي أصبحت المقطوعة الأخيرة منها نشيد الشراب المحبب الشائع في الجامعات الألمانية:

1 -

أنا الذي فاضت نفسي بالحقد الدفين الشديد،

استمع يا صاح إليّ أعلن ما في نفسي من حقد مرير:

لقد خلقت من عنصر واحد، مادتي الطيش،

أشبه الأشياء بورقة من شجرة في مهب الريح.

2 -

لم أطق حتى اليوم الأحزان ولا الاعتدال في الشهوات،

أحب النكات، والمرح عندي أحلى من الشهد.

وكل ما أمرت به فينوس هو عندي الغبطة التي لا تعادلها غبطة،

وهي لم تتخذ قط لها مسكناً في قلب خبيث.

3 -

إني أسير في الطريق الرحب شاباً غير نادم على شيء؛

إلا فلفني في الرذائل لفاً لكي أنسى كل الفضائل

(1)

فإن شرهي لعب اللذات أكثر من شوقي إلى ملكوت السموات،

لأن ما كان فيّ من روح قد مات، وأصبح من الخير لي أن أنجي الجسد.

4 -

عفواً أيها السيد الصالح، يا صاحب العقل الحصيف،

إن هذا الموت الذي أسعى إليه حلو، وهو سم ما أحلاه.

لقد نفذت في جسمي سهام لحاظ فتاة جميلة.

(1)

يذكرنا هذا بقول أبي نواس: تكثر ما استطعت من الخطايا

الخ. انظر الجزء 13 من هذه السلسلة. (المترجم).

ص: 242

وماذا على العقل لو عبدها إن لم يكن إليها من سبيل؟

5 -

ألا تحرقك النار إن جلست في وسطها؟

وإن جئت إلى بافيا، فهل تعود منها طاهراً عفيفاً كما جئتها؟

بافيا التي تجتذب الشباب بأطراف أناملها،

الشباب الذي وقع في شرك عينيها وافتتن بسحر شفتيها.

6 -

جيء بهبوليتس ليتعشى في بافيا،

فإذا أصبح الصباح اختفى هبوليتس عن الأنظار.

فليس في بافيا طريق لا يؤدي إلى الفجور،

وليس في أبراجها الكثيرة برج واحد للعفاف

7 -

إن هذا هو معقد أملي؛ فإذا دنت الساعة مني،

فدعني أمت في الحانة وكأس الخمر إلى جواري،

والملائكة يطلون عليّ ويغنون مغتبطين:

"رضي الله عن هذا السكير"

(1)

وتشمل قصائد بيرن جميع موضوعات الشباب: تشمل الربيع، والحب، والافتخار بغواية النساء، والفحش الرقيق، وأغاني الحب الحنونة التي لا يستجيب لها الحبيب، وأغنية ينشدها طالب علم يشير فيها بوقف الدرس، وتقرير يوم عطلة للحب

وفي إحدى الأغاني تفاجئ فتاة شاباً أثناء كدحه وتسأله: "ماذا تفعل يا سيدي؟ هيا بنا نلعب سوياً"؛ وتتغنى أنشودة أخرى بخيانة النساء.، وأخرى

(1)

ما أشبه هذه القصيدة بشعر عمر الخيام الذي ذكر المؤلف شيئاً منه في الجزء الذي عقده للحضارة الإسلامية في هذا المجلد. (المترجم)

ص: 243

غيرها بحزن فتاة غدر بها الحبيب، وكانت بدانتها سبباً في الضربات يكيلها لها أبواها. ويتغنى كثير من القصائد بملذات الشراب، والميسر، ومنها ما يتلذذ بثروة الكنيسة مثل "قصيدة الإنجيل حسب المارك الفضي"؛ ومنها ما يقلد أنبل الترانيم، ومنها قصيدة على غرار قصائد هوتمان Whitman تتغنّى بالطريق المفتوح (10). وكثير منها شعر غث لكن منه ما هو آية رائعة من آيات الشعر الغنائي. وهاهي ذي أنشودة محب يتغنى فيها بالموت المثالي:

لما أن استسلَمَت في غير مبالاة للحب ولي،

ضحك الجمال من كوكبها الوضّاء البعيد في السماء،

وغمرتني نشوة لا حد لعظمتها،

ولم يتّسع قلبي لهذه الغبطة العظيمة التي فاضت عليّ

حين بدّلتني حبيبتي، وقد طوّقتني بذراعيها، غير ما كنت،

وصبّت كل ما في شفتيها من رحيق في قُبلة حبتني بها.

وما أكثر ما أحلم بالحرية التي نلتها من صدرها اللين.

لقد أصبحت بعدها ربّاً آخر بين أرباب السماء،

وإذا ما وجدت يدي مرة أخرى فوق صدرها فسأكون المحكمُ الأعلى

بين الآلهة والخلق

(1)

ومعظم الشعر الغزلي في قصائد بيرن شهواني صريح. نعم إن فيه أبياتاً تفيض رقةً وظرفاً ولكنها أبيات قليلة نادرة الوجود؛ وكان علينا ولو لم نعثر على هذا الشعر أن نتوقع وجود ترانيم ألفينوس تنشأ عاجلاً أو آجلاً إلى جوار ترانيم الكنيسة، ذلك أن المرأة، وهي الدعامة القوية الوفية للدين، هي أكبر منافس للآلهة. وظلت الكنيسة تستمتع وهي صابرة لهذه الأغاني، أغاني الحب والخمر،

(1)

وهذا يذكّرنا أيضاً بقول أمرئ القيس في معلقته: وبيضة خدر

الخ. (المترجم)

ص: 244

ولكن مجلساً لها عقد في عام 1281 قرر أن كل قس (ومن ثم كل طالب) يؤلف أغاني شهوانية أو خارجة على الدين، أو يتغنى بها، يفقد بذلك منصبه الديني وحقوقه. وبذلك انحط من بقى من الطلاب بعد هذا القرار موالياً لجولياث إلى منزلة المغنى، وخرج من سلك الأدباء إلى سلك الوزانين المفحشين. ولم يحل عام 1250 حتى كان عهد الطلاب الجوّالين قد انقضى. ولكنهم كانوا قد ورثوا تياراً وثنياً يسري في طيّات القرون المسيحية، ولهذا فإن مزاجهم وشعرهم بقيا كامنين حتى دخلا في عصر النهضة.

وكان الشعر اللاتيني نفسه يلفظ آخر أنفاسه بانقضاء عهد الطلاب الجوّالين؛ ذلك أن القرن الثالث عشر قد وجه العقول نحو الفلسفة؛ وانزوت الآداب القديمة وقنعت بمنزلة صغرى في برامج الجامعات. ولم يجد الأدب الظريف الممتع أدب هيلدبيرت ويوحنا السلزبري الذي كان يضارع أدب عصر أغسطس، لم يجد هذا الأدب من يرثه. ولما تصرم القرن الثالث عشر واتخذ دانتي اللغة الإيطالية أداة يكتب بها شعره، أضحت اللغات القومية لغات الأدب؛ وحتى التمثيل ربيب الكنيسة وخادمها خلع عنه رداء اللاتينية ونطق بلغات الشعوب.

ص: 245

الفصل الثالث

‌بعث التمثيل

مات فن التمثيل القديم قبل بداية العصور الوسطى، لأنه انحدر إلى تمثيليات هزلية ماجنة ثم حلت محله استعراضات للألعاب؛ وكانت تمثيليات سنكا وهرسويذا Hroswitha حركات رياضية لا أكثر، ويبدو أنها لم تجد سبيلها إلى المسرح. وبقيت بعد ذلك ناحيتان من نواحي النشاط التمثيلي تصلان الماضي القديم بالزمن الذي تلا العصور الوسطى: أولاهما مناظر المحاكاة التي كانت تجري في الأعياد الزراعية، وثانيتهما التمثيليات الهزلية التي كان يمثلها المغنون الجوّالون والمهرّجون في أبهاء القصور أو ميادين القرى (12).

ولكن اشهر منابع التمثيل في العصور الوسطى هي الطقوس الكنسية شأنها في هذا شأن اليونان القديمة. فالقداس نفسه منظر تمثيلي، والحرم المقدس مسرح مقدس، وكان القساوسة القائمون بخدمة القداس يلبسون حللاً رمزية؛ ويقومون هم وخدم الكنيسة بالحوار. وأناشيد القساوسة والمرتلين المتبادلة، والمرتلين بعضهم مع بعض، توحي بأن التمثيل تطور من الحوار الذي نشأت منه المسرحية الديونيسية. وفي الاحتفالات التي كانت تقام في بعض الأعياد المقدسة نشأ العنصر التمثيلي نشأة واضحة صريحة؛ فقد كان الناس في بعض الطقوس الدينية التي تقام في يوم عيد الميلاد في القرن الحادي عشر يدخلون الكنائس في زي رعاة الغنم ويحييهم غلام "ملاك" من المغنين بقوله:"أخبار سارّة"، ويتعبّدون أمام صورة طفل من الجبس في مذود. ثم يدخلون ثلاثة "ملوك" من باب في الجهة الشرقية ويقودهم إلى المذود نجم يُجرّ على سلك (13). وكانت بعض الكنائس تمثل في

ص: 246

الثامن والعشرين من ديسمبر "مذبحة البريئين": فكان بعض الغلمان المرتّلين يمشون في صحن الكنيسة وجناحيها، ويسقطون على الأرض كأن هيرود قد ذبحهم، ثم يقومون، ويسيرون إلى الحرم المقدس، يرمزون بذلك لصعودهم إلى السماء (14). وفي يوم الجمعة الحزينة كانت كنائس كثيرة ترفع صور المسيح المصلوب من المذبح. ثم تحمل هذه الصور وتوجع في مستقر يشبه الضريح المقدس، تعاد منه بعد ذلك إلى المذبح في صباح عيد الفصح باحتفال مهيب رمزاً لبعث المسيح (15). وكتب جريجوري نزيانزين Gregory Nazianzen بطريق القسطنطينية في عام 380 لا بعد قصة آلام المسيح في صورة تمثيلية يوربيدية Euripidean (16) ، ولا تزال تمثيلية آلام المسيح من ذلك الوقت حتى الآن ذات شأن عظيم عند الشعوب المسيحية. وكانت الكتب تقول إن أول مسرحية من هذا النوع هي التي مثلت في سينا حوالي عام 1200، ولكن أكبر الظن أن مسرحيات أخرى كثيرة من نوعها مثلّت قبل ذلك التاريخ بزمن طويل.

وإذ كانت الكنيسة تستعين بالبناء، والنحت، والتصوير، والموسيقى لتطبع في عقول المؤمنين المناظر والأفكار الرئيسية في الملحمة المسيحية، فإنها بذلك كانت تلجأ إلى خيال الشعب وتزيد تقواه بما تضفيه على المناظر التمثيلية في الأعياد الكبرى من روعة وتفاصيل مطردة الزيادة؛ وكانت النصوص الموضحة التي أضيفت إلى الطقوس الدينية لتكسبها الروعة الموسيقية، كانت هذه النصوص الموضحة تحوّل أحياناً إلى تمثيليات قصيرة. من ذلك أن نصّاً موضّحاً لعيد الفصح في مخطوط من القرن العاشر في سانت جول St. Gall يدخل الحوار الآتي في ترنيمة مقسمة لتمثل فيها الملائكة والمريمات الثلاث

(1)

.

الملائكة: منذ الذي تبحثين عنه في الضريح يا خادمات المسيح؟

المريمات: نبحث عن المسيح الذي صلب يا رسلاً من السماء.

(1)

مريم أم المسيح، ومريم أختها؛ ومريم المجدلية. (المترجم)

ص: 247

الملائكة: ليس هو في هذا المكان، لقد صعد كما قال من قبل؛ اذهبن وأذعن أنه قد صعد.

المرتّلون جميعاً: احمدوا الرب، الرب قد صعد (17).

وأخذت المناظر الدينية منذ القرن الثاني تزداد تعقيداً على مر الأيام حتى لم يعد تمثيلها في داخل الكنيسة مستطاعاً. ولذا أقيم سوار مرتفع في خارجها ومثّل المسرحية فوقه ممثلون يختارون من بين أفراد الشعب، ويدرّبون على استظهار أدوار مطولة مكتوبة. وأقدم ما لدينا من أمثلة لهذا الضرب من التمثيل تمثيلية آدم التي كتبت في القرن الثاني عشر باللغة الفرنسية بينها سطور باللغة اللاتينية مكتوبة بالمداد الأحمر لتكون تعليمات للممثلين.

وفي هذه المسرحية يظهر آدم وحواء في دثارين أبيضين يلعبان في جنة ممثلة بأعشاب وأزهار أمام الكنيسة. ثم تظهر الشياطين في الأثواب الحمراء الملتصقة بالجسم التي أضحت من ذلك الوقت ثيابهم الخاصة في دور التمثيل، ويجري أولئك الشياطين بين النظارة يلوون أجسامهم ويقطّبون وجوههم تقطيباً مروعاً رهيباً، ويقدّمون الفاكهة المحرّمة لآدم فيرفضها، فيقدّمونها لحواء، فتتناولها، وتقنع آدم بأن يحذو حذوها. ويدان آدم وحواء برغبتهما في المعرفة فيسلكان في أغلال من الحديد وتجرّهما الشياطين إلى الجحيم ممثلة بحفرة في الأرض ينبعث منها صوت رهيب دال على الفرح. وفي الفصل الثاني يستعد قايين لذبح هابيل وينادي:"يا هابيل سوف تموت"، فيسأله هابيل:"ولم أموت؟ " فيجيبه قايين: "أتريد أن تعرف لم أريد أن أقتلك؟

سأخبرك. سبب ذلك أنك تفرط في سعيك لتنال الحظوة عند الله". ويلقى قايين بنفسه فوق هابيل ويضربه حتى يموت. ولكن مؤلف الرواية تأخذه الرأفة فيكتب بين السطور بالمداد الأحمر: "سيكون تحت ثياب هابيل جفنة" (18).

ص: 248

وأطلق فيما بعد على هذه التمثيليات المستمدة من الكتاب المقدس اسم "الأفعال الخفية"؛ واللفظ مشتق من الكلمة اللاتينية ministerium ومعناها الفعل، وكان هذا أيضاً هو معنى drama. ولمّا أضحت القصة تمثّل أحداثاً وقعت بعد زمن الكتاب المقدس سمّيت بمسرحيات المعجزات، وكانت تدور في العادة حول بعض الأفعال العجيبة التي قامت بها العذراء أو قام بها بعض القديسين. وقد كتب هيلاريوس Hillarius تلميذ أبلار كثيراً من هذه المسرحيات (حوالي 1125) بخليط من اللغتين اللاتينية والفرنسية، ولم ينتصف القرن الثالث عشر حتى كانت اللغات القومية الأداة التي تكتب بها "مسرحيات المعجزات". وأخذت الفكاهات المتزايدة الصراحة تصبح فيها ذات شأن مطرد الزيادة، كما أصبحت موضوعاتها تتجه شيئاً فشيئاً وجهة دنيوية غير دينية.

وكانت "المهازل" في هذه الأثناء قد أخذت تتطور تطوراً مستقلاً نحو المسرحيات. ويتمثل هذا التطور في مسرحيتين قصيرتين وصلتا إلينا من قلم آدم ده لا هال Adam de la Halle ( حوالي 1260)، وهو رجل أحدب من أراس Arras. وتدور إحدى هاتين المسرحيتين، مسرحية آدم Li jus Adam، حول حياة المؤلف نفسه. فقد كان يفكر في أن يكون قساً، ولكنه أحب مارية الحسناء. "وفي يوم جميل من أيام الصيف سماؤه صافية، وجوّه لطيف، بينما كانت الطيور تنطلق بأصواتها العذبة، لمحت بين الأشجار العالية على شاطئ النهر فتاة هي الآن زوجتي

لقد رويت الآن ظمأي منها". ويخبرها بهذا في صراحة ظريفة ويعتزم الذهاب إلى باريس وإلى الجامعة. ويدخل المؤلف في هذا الفصل الخاص بشئونه هو وزوجته، طبيباً ومجنوناً، وراهباً، يستجدي الناس الصدقات ويعدهم بالمعجزات، وجماعة من الجنيات ينشدن الأناشيد، ويذكّرنا هذا بأدوار الرقص التي تقحم إقحاماً في التمثيليات الغنائية الحديثة. ويسيء آدم إلى إحدى الجنيات، فتصب عليه لعنة تمنعه أن يفارق زوجته طول حياته، ومن

ص: 249

هذا الهراء أخذت المسرحيات تتطور تطوراً مستمراً حتى وصلت إلى مسرحيات برناردشو Bernard Shaw.

وكلما بعدت المسرحيات عن الموضوعات الدينية واقتربت من الموضوعات الدنيوية، انتقل تمثيلها شيئاً فشيئاً من الكنيسة وما حولها إلى السوق العامة أو إلى غيرها من ميادين البلدة. ذلك أنه لم تكن هناك وقتئذ دور للتمثيل، فكانوا إذا أرادوا أن يمثّلوا في مكان ما تلك المسرحيات القليلة ـ وكان ذلك يحدث في العادة في عيد من الأعياد الصيفية ـ يقيمون مسرحاً مؤقتاً، ويضعون مقاعد للنظارة، وينشئون مظلات مزركشة لأصحاب المقامات العالية. وكان من المستطاع أن تستخدم البيوت المحيطة بالميدان لتمثيل المناظر الخلفية وغيرها مما يحتاجه الممثلون. وكان الذين يقومون بالأدوار في المسرحيات الدينية هم الشبان من رجال الدين؛ أمّا في المسرحيات غير الدينية فكان الممثلون هم أهل المدينة "الماجنين" أو المغنّين الجوّالين؛ وقلّما كانت النساء يشتركن في التمثيل. ولما زاد بعد التمثيليات عن الكنيسة في مناظرها وموضوعاتها، نزعت هذه التمثيليات إلى التهريج والخلاعة والفحش؛ ورأت الكنيسة، وهي التي نشأت في أحضانها المسرحية الجدية، أن لابد لها من أن تعلن أن التمثيليات القروية تجافي الأخلاق الفاضلة. وهكذا نرى جروستستي أسقف لنكلن يضم التمثيليات، ومنها "تمثيليات المعجزات" إلى مجالس الشراب، "وعيد الحمقى"

(1)

، ويقول إن هذه أعمال يجب ألاّ يشهدها أي مسيحي؛ وصدرت بعده أوامر شبيهة بهذا الأمر (بين عامي 1136و 1144) تقضي بأن الممثلين الذين يشتركون في هذه التمثيليات يحرمون من الدين. أمّا القديس تومس فكان أكثر من هذا تسامحاً، وقال إن مهنة التمثيل قد وجدت لمواساة الإنسانية، وإن الممثل الذي يمارسها على خير وجه ربما نجا من الجحيم برحمة من الله.

(1)

اسم كان يطلق على رأس السنة عند بعض كنائس فرنسا في العصور الوسطى وسمّي كذلك لما كان يحدث فيه من الخلاعة. (المترجم)

ص: 250

الفصل الرابع

‌الملاحم والقصص المنثورة

سار اصطباغ الأدب بالصبغة الدنيوية مع نشأة اللغات القومية جنباً إلى جنب. ويمكن القول بوجه عام إن رجال الدين وحدهم هم الذين كانوا يفهمون اللغة اللاتينية قبل القرن الثاني عشر، وإن الكتّاب الذين كانوا يريدون أن يتصلوا بغير رجال الدين كانوا مضطرين إلى الكتابة باللغات القومية؛ وكان جمهور القرّاء يزداد اتساعاً كلما زاد النظام الاجتماعي نماء، وأخذت الآداب القومية ترتقي تدريجاً لتسد مطالب هذا الجمهور. وكانت نتيجة هذا أن نشأ الأدب الفرنسي في القرن الحادي عشر، والأدب الألماني في القرن الثاني عشر، والإنجليزي والأسباني والإيطالي في القرن الثالث عشر.

وكان من الطبيعي أن تصبح الصورة الأولى لهذا الأدب القومي هي الأغنية الشعبية، ثم طالت الأغنية فأضحت هي القصيدة الغنائية، ثم كبرت القصيدة الغنائية بما أدخل عليها من تطور وتضخم فصارت هي الملحمة الصغرى كملحمة بيولف Beowulf، وأغنية رولان Chanson de Roland ونيبلنجنلايد Nibelungenlied والسيد Cid. وأكبر الظن أن أغنية رولان ضمت بعضها إلى بعض حوالي عام 1130 من أغان كانت شائعة في القرن التاسع أو القرن العاشر. وهي تروى في أربعة آلاف بيت من الشعر السهل المنسجم العمبقي الوزن قصة موت رولان في رنسسفال Roncessvales. وتفصيل ذلك أن شارلمان بعد أن "فتح" بلاد الأندلس الإسلامية كان عائداً بجيشه نحو فرنسا، فما كان من جانيلون Ganelon الخائن إلا أن دل العدو على طريق الجيش، وتطوع رولان لقيادة المؤخرة لينجيها من مأزق خطر. وبينا هو سائر في أخدود ضيق

ص: 251

ملتو في جبال البرانس إذ انقض حشد من الباشقنس من شعاب الجبال على قوة رولان الصغيرة. ويرجوه صديقه ألفييه أن ينفخ في بوقه الكبير ليستنجد بشارلمان، ولكن رولان يأبى أن يطلب النجدة، ويقود هو وألفييه، وتوربين Turpin كبير الأساقفة، جنودهم، ويدافعون عن أنفسهم دفاع المستميت حتى يقتلوا كلهم تقريبا. وينزف الدم من جروح مميتة في رأس ألفييه ويغشى عليه فيظن رولان جندياً من الأعداء ويضربه بسيفه ويشق خوذته من أعلى رأسه إلى موضع أنفه ولكنه ينجو من الموت:

وينظر إليه رولان وهو يضربه،

ويسأله بصوت لينحنون:

"أيها السيد الرفيق، أتفعل هذا بجد؟

إني أنا رولان الذي يحبك أعظم الحب

ولم تطلب إليّ قط النزال"

فيقول ألفييه: "أنا الآن أستمع إلى قولك؛

ولكني لا أراك، رعاك الله وأنجاك!

لقد ضربتك، فاغفرها لي! "

فيجيبه رولان: "لم أصب بسوء

وأعفو عنك لساعتي وأشهد الله. "

فلمّا نطق بهذا انحنى كلاهما لصاحبه

وافترقا متحابين (20).

وينفخ رولان أخيراً في بوقه العاجي، ويواصل النفخ حتى ينبثق الدم من صدغيه، ويسمعه شارلمان فيعود لنجدته و"لحيته البيضاء تطير في الريح". ولكن الطريق طويل و"الجبال شامخة، شاسعة مظلمة، والوديان عميقة، والأنهار سريعة التيار". ورولان في هذه الأثناء حزين مكب على جثة ألفييه

ص: 252

يناديها بقوله: "أيها السيد الرفيق، لقد كنا زميلين أياماً وليالي طوالاً، لم تسيء إلي فيها ولم أسيء إليك، فإذا مت فالحياة من بعدك كلها آلام". ويتوسل إليه كبير الأساقفة وهو يحتضر أن ينجو بالهرب، ويأبى رولان، ويواصل الحرب حتى يفرّ المهاجمون، ولكنه هو أيضاً يصاب بجرح مميت. ويستجمع آخر ما فيه من قوة ويحطم فوق صخرة من الصخور سيفه دورندال Durendal المطعّم بالجواهر حتى لا يقع في أيدي الكفار. و"رقد الكونت رولان تحت شجرة صنوبر ووجهه متجه نحو أسبانيا

وطافت به وقتئذ ذكريات كثيرة، ففكر في البلاد التي فتحها، وفي فرنسا الحلوة، وفي أسرته، وفي شارل الذي رباه، وبكى". ورفع قفازه إلى السماء دليلاً على خضوعه لله، ووفائه. ويقبل شارل ويجده قد مات. تلك هي خلاصة القصة مترجمة ولكن الترجمة أياً كانت لا تستطيع محاكاة أصلها السهل الجذل، وما من أحد غير من نشأ على حب فرنسا وتكريمها يستطيع أن يحس بالقوة والعاطفة اللتين تفيض بهما هذه الملحمة التي يحفظها كل طفل فرنسي ويتلوها في كل صلواته.

ووهب شاعر مجهول حوالي عام 1160 أسبانيا ملحمة قوية يمجد فيها أخلاق راي Ruy أو ردريجو دياز (المتوفى سنة 1099)، وهي المعروفة بملحمة السيد Poema de Cid. وموضوعها هي الأخرى القتال بين الفرسان المسيحيين والمسلمين في الأندلس، وتمجيد بطولة سادة الإقطاع، وشرفهم، وعظمتهم، وتفضيل أمجاد الحرب عن ذلة الحب. وينفي رولان ملك جاحد بفضله، فيودع زوجته وأبناءه في أحد الأديرة ويقسم ألاّ يعيش بينهم بعدئذ حتى ينتصر في خمس معارك، ويخر لقتال المسلمين. ويردد النصف الأول من القصيد ذكر انتصارات هومرية. وينهب السيد في خلال الفترات الواقعة بين المعارك أموال اليهود، ويوزع الصدقات على الفقراء، ويقدم الطعام بيده إلى مجذوم، ويأكل معه في صفحة واحدة، وينام معه في فراش واحد، ويتبين أنه ألعازر Lazarus الذي

ص: 253

رفعه المسيح من بين الموتى. وليست هذه بطبيعة الحال هي صفات السيد التاريخية، ولكنها لا تسيء إلى التاريخ أكثر مما تسيء إليه أغنية رولان بتمجيدها شارلمان وجعلها إياه مثلاً أعلى للرجال. وأضحت ملحمة السيد حافزاً قوياً للتفكير الأسباني والعزة الوطنية الأسبانية؛ ،الفت مئات الأغاني الشعرية التي تدور حول بطلها، كما ألفت عنه مئات من الكتب متفاوتة القرب من الحقيقية التاريخية. وبعد فليس في الأشياء ما هو أبعد عن قلوب الناس من الصدق، وعماد النفس والدول هو الروايات الخيالية التي تتعاقب على مدى الأيام.

ولننتقل بعد ذلك إلى أيسلندة فنقول إن أحداً لم يفسر لنا بعد كيف أخرجت هذه الجزيرة الصغيرة، التي قست عليها الطبيعة وفصلتها البحار عن غيرها من البلدان، في تلك الفترة من الزمان، أدباً لا يتناسب في مداه ولا في بهائه مع مكانها وحجمها. لقد ساعدها على ذلك عاملان: قدر كبير من الروايات التاريخية المتواترة، العزيزة على قلب كل جماعة من الناس معزولة عن غيرها من الجماعات، وحب للقراءة، أو الاستماع إلى القارئين - أعان عليه طول الشتاء. لقد وجد في الجزيرة منذ القرن الثاني عشر لا بعد كثير من دور الكتب بالإضافة إلى مكتبات الأديرة. ولمّا أن أصبحت الكتابة من مميزات الشخص المهذب، صاغ الكتاب من رجال الدنيا والدين هذه القصص الشعبية صياغة أدبية بعد أن كانت من قبل ملكاً للشعراء الشعبيين.

وكان من بعض المصادفات النادرة أن نرى زعيم كتّاب القرن الثالث عشر في أيسلندة كان هو أغنى أهلها، والرجل الذي اختير مرتين ليكون رئيساً لجمهوريتها - الناطق بالقانون كما يسمونه فيها. كان أسنري استورلسون Snorri Sturlson (1178 - 1241) يحب الحياة أكثر مما يحب الأدب، وكان كثير الأسفار، منهمكاً في السياسة والمنازعات، ثم قتله زوج ابنته وهو في الثانية والستين من عمره.

ص: 254

وقد روى في كتابه العالم المستدير Heimskringla تاريخ بلاد الشمال وقصصها بما فطر عليه رجل الجد والعمل من بساطة وإيجاز؛ وروى في كتاب أدا استرا استور لسونر Edda Snorra Sturlsoner أو إدا المنشورة موجز التاريخ الورد في الكتاب المقدس، وشذرات من أساطير الشماليين، وضمنه مقالاً في أوزان الشعر، ورسالة فنه، وشرحاً فذاً لنشأة هذا الفن من البول يقول فيه إن طائفتين من الأرباب اقتتلوا ثم عقدوا الصلح بأن أخذوا يبصقون في جرة، ونشأ من هذا البصاق نصف إله يدعى أكفاريز Kvasir علّم الناس الحكمة كما علّمهم إياها بروميثيوس. وقتل الأقزام أكفاريز، ومزجوا دمه بالخمر وصنعوا رحيقاً يهب كل من يشربه القدرة على الغناء. واتخذ الإله العظيم أودين Odin سبيله إلى المكان الذي خزن فيه الأقزام هذا الخمر الشعري، وشربه كله، وطار إلى السماء؛ غير أن بعض السائل المحبوس خرج منه بطريقة قلّما تستخدم في الفساقي العامة؛ وسقط هذا الماء الإلهي رذاذاً ملهماً على الأرض، وامتص من سقط عليه موهبة قرض الشعر (21). ذلك هراء جاء به عالم من العلماء وليس هو أبعد عن العقل من التاريخ.

وهذه الفترة من تاريخ أيسلندة غنية بأدبها غنى تحار في العقول، ولا يزال هذا الأدب يفيض طرافةً، ومرحاً، وفكاهةً، وفتنة شعرية تسرى في نثره. وكتبت في ذلك العهد مئات من القصص المنثورة بعضها قصير وبعضها في طول الروايات النثرية، بعضها تاريخي وبعضها يخلط التاريخ بالأساطير. وكلها بوجه عام ذكريات للحضارة من عصر الهمجية، مليئة بأعمال المروءة والعنف، يُعَقّدها التقاضي ويخفف من مللها الحب. وكثيراً ما يرد في قصص إنجلنجا Ynglinga تأليف أستري ذكر فرسال الشمال الذين يحرق بعضهم بعضاً، أو يحرق الواحد منهم نفسه، أو ذكر أبهائهم أو أقداح شرابهم. وأوسع هذه القصص خيالاً

ص: 255

قصص الفلسنجاساجا Volsungasaga. وقد وردت قصصها في صورة باكرة في الإدا الكبرى أو الإدا الشعرية؛ وأحدث صورة لها هي التي وردت في خاتم النبلنجيين تأليف فاجنر Wagner.

والفلسنج Volsung هو كل من تناسل من ويلز Waels، وويلز هذا ملك من ملوك الشمال، وهو ابن حفيد أودين وجدّ سيجورد Sigurd ( سيجفريد Siegreied) . والنيبلنجيون حسب نص النيبلنجيد Nibelungenlied ملوك برغنديون، أما في الفلسنجاساجا فهم سلالة من الأقزام يحرسون في بلاد الرين كنزاً وخاتماً من الذهب يجلاّن من التقدير، ولكنهما يجلبان النقمة لكل من يمتلكها. ويقتل سيجورد فهنير Fahnir التنين الذي يحرس الكنز ويستولي عليه، ويصل في تجواله إلى تل تحيط به النيران وتنام عليه برندهلد Brundhild الفلكيرية Valkyrie ( نصف الإلهة التي هي من نسل أودين). وتلك إحدى صور قصة الجميلة النائمة Sleeping Beauty. ويفتتن سيجورد بجمالها وتفتتن هي به، ويقسمان يمين الوفاء، ثم يتركها ويواصل أسفارها - كما يفعل الرجال في كثير من فصص العصور الوسطى. ويلتقي في بلاط جيوكي Guki أحد ملوك بلاد الرين بالأميرة جدرون Gudrun، وتسقيه أمها شراباً مسحوراً ينسيه برندهلد ويتزوج جدرون؛ ثم يتزوج جنار Gunnar بن جيوكي برندهلد ويأتي بها إلى بلاط أبيه، ويسوؤها نسيان سيجورد إياها فتعمل على قتله، ثم تندم على فعلتها فتعلو كرمة حريقه، وتنتحر بسيفه وتحترق معه.

وأحدث صورة لهذه القصص الأيسلندية هي قصة أنجال المحترق Njal ( حوالي 1220). وشخصيات هذه القصة واضحة تحدد أعمالهم وأقوالهم أكثر مما يحدهم وصفهم. والقصة محكمة البناء وتنتقل حوادثها المثيرة تنقّلاً يحتمه السياق حتى تصل إلى الكارثة التي تدور حولها حوادثها - وهي احتراق بيت

ص: 256

نجال، وأحتراقه هو وزوجته برجثورا Bergthura وأبنائه على أيدي جماعة مسلحة من الأعداء يقودهم شخص يدعى فلوسي Flosi يحقد على أبناء نجال ويعمل على الانتقام منهم:

ثم نادى فلوسي

نجال، وقال له:"إني آذن لك، يا سيد نجال، أن تخرج لأنه لا يليق بك أن تحترق في داخل الدار"

فيرد عليه نجال قائلاً: "لن أخرج لأني شيخ كبير، لا أقوى على الثأر

لأبنائي، ولكن لن أعيش مجللاً بالعار"

ثم نادى فلوسي برجثورا قائلاً: "أخرجي يا صاحبة الدار لأني لا أريد

أن أحرقك داخل البيت مهما تكن الأسباب"

فتجيبه برجتورا بقولها: "لقد تزوجت نجال وأنا صغيرة، ووعدته

أن ألقى وإياه نفس المصير"

ثم عادا بعد ذلك إلى البيت.

وسألته برجثورا: "أية نصيحة نتبعها الآن؟ "

فيجيبها نجال: "سنذهب إلى فراشنا، ونرقد عليه، فطالما تاقت نفسي

إلى الراحة"

ثم قالت للغلام ثورد Thord بن كاري Kari: " سأخرجك أنت ولن

تحترق هنا"

فيجيبها الغلام قائلاً: لقد وعدتني يا جدتي ألاّ نفترق ما دمت أرغب

في البقاء معك؛ ولكني أرى أن موتي معك ومع نجال خير من

حياتي بعدكما"

ثم حملت الغلام إلى سريرها و

ووضعته بينها وبين نجال، ورسما عليهما

ص: 257

وعلى الغلام علامة الصليب، وأسلما روحهما إلى الله،

وكان هذا آخر لفظ سمعه الناس منهما (22).

وكان عصر الهجرة (300 - 600) قد ترك في ذكريات الشعوب والمغنين المضطربة ألف قصة وقصة عن الفوضى الاجتماعية، والشجاعة الهمجية، والحب القاتل؛ وانتقلت بعض هذه القصص إلى بلاد النرويج وأيسلندة وأثمرت الفلسنجاساجا، وكثير منها متقاربة الأسماء والموضوعات، وقد عاشت وتضاعف عددها في ألمانيا في صورة قصص تاريخية، وقصائد غنائية، وقصص شعبية، حتى قام رجل ألماني غير معروف في زمن غير معروف أثناء القرن الثاني عشر وصاغ من تلك المواد النيبلنجنليد أو أغاني النيبلنجببين، وهي مصوغة من قصص مسلسل من الشعر لكي بيتين منه قافية واحدة بلغة القسم الأوسط من ألمانيا العليا؛ وقصصها مزيج من الانفعالات البدائية والأمزجة الوثنية.

وحكم الملك جنثر Gumther وأخواه برغندية زمناً لها في القرن الرابع الميلادي من قصرهم في ورمز على ضفة نهر الدين، وكانت تقيم معهم في ذلك القصر أختهم الشابة كريمهيلد Kremhild - " التي لم يكن أجمل منها في بلد من البلاد". وكان الملك سجمند في هذه الأثناء يحكم الأراضي الوطيئة، وأقطع ابنه سيجفريد (سيجورد) ضيعة غنية بالقرب من أكسنتين Xanten الواقعة هي الأخرى على ضفة الرين. وترامت إلى مسامع سيجفريد أخبار جمال كريمهيلد فذهب لزيارة بلاط جنثر وأقام هناك على الرحب والسعة مدة عام، ولكنه لم ير كريمهيلد قط، وإن كانت هي قد أبصرت من نافذتها الشبان يتثاقفون في فناء القصر، فأحبته من أول نظرة. ذلك أن سيجفريد كان يفوق سائر الشباب في قراع السيوف، وأظهر بسالة عظيمة في حربة مع صفوف البرغنديين؛ واراد جنثر أن يحتفل بعقد الصلح بعد انتصاره فأمر سيدات القصر أن يشهدن الاحتفال!

ص: 258

وزينت كثيرات من بنات الأشراف أحسن زينة، وتاقت نفوس الشبان لنيل رضاء السيدات وإعجابهن، ونزلوا عن حقهم في أرض الملك الغنية نظير فوزهم بهذا الإعجاب

وتبدت كريمهيلد كأنها كوكب الصباح يتألق بين السحب الدكناء؛ ولم يكد يراها الشاب الذي انطوى قلبه على حبها من زمن بعيد حتى ذهب عنه ما كان يحس به من تعب .... وسر سيجفريد وحزن، فقد قال في نفسه:"كيف أخطب ود فتاة مثلك؟ تلك لا ريب أضغاث أحلام، ولكن الموت عندي أفضل من البعد عنك"

واحمرت وجنتاها حين أبصرت أمامها ذلك الرجل ذا النفس العالية، وقالت:"مرحباً بك يا سيجفريد، أيها الفارس الباسل النبيل". وامتلأ قلب الفارس شجاعة حين سمع هذه الألفاظ، وانحنى أمامها انحناءة جميلة شأن الفارس الشهم، وشكر لها تحيتها. وارتبط قلباهما برباط الحب القوي وتبادلا النظرات سراً.

وترامت أخبار برنهيلد ملكة أيسلندة إلى جنثر وكان أعزب، وقيل له إنها لا ينالها إلاّ من يتفوق عليها في ثلاث تجارب للقوى، وإنه إذا أخفق في أية تجربة منها جوزي بقطع رأسه. ووافق سيجفريد على أن يساعد جنثر على نيل برنهيلد إذا زوجه بكريمهيلد. ويعبران البحر بسرعة القصص وسهولتها؛ ويلبس سيجفريد طيلساناً سحرياً يخفيه عن الأنظار، ويساعد جنثر على الخروج ظافراً من التجارب الثلاث، ويأتي جنثر ببرنهيلد إلى موطنه ليتزوجها على كره منها. وتساعد ست وثمانون فتاة كريمهيلد على إعداد الأثواب الغالية للعروس. ويحتفل بزواج جنثر وبرنهيلد وبزواج سيجفريد وكريمهيلد احتفالاً فخماً.

ولكن برنهيلد تبصر سيجفريد فتحس أن هو لا جنثر الذي يليق أن يكون زوجها. ويقبل جنثر عليها ليلة زفافها فترده عنها خائباً، وتربطه في عقدة وتعلقه على الجدار. وينطلق جنثر من العقدة ويستنجد بسيجفريد؛ وفي الليلة الثانية يتخفى البطل في زي جنثر وينام بجوار برنهيلد، بينما يكون جنثر نفسه مختبئاً في

ص: 259

حجرة مظلمة يستمع إلى كل شيء ولا يرى شيئاً. وتلقى برنهيلد بسيجفريد بعيداً عن الفراش وتشتبك معه في معركة تفري العظم، وتحطم الرأس، ولا تجري على سنن متبعة. ويقول في نفسه أثناء المعركة:"واحسرتاه! إنني إذا مت بيد امرأة فإن الزوجات جميعهن سيحتقرن أزواجهن". وتهزم برنهيلد آخر الأمر، وتعد أن تكون زوجة. وينسحب سيجفريد دون أن يراه أحد حاملاً معه منطقتها وقرطها، ويحل جنثر نحله بجوار الملكة الخائرة القوى. ويهدي سيجفريد المنطقة والقرط إلى كريمهيلد، ويأتي بها إلى أبيها، فيتوجه ملكاً على الأراضي الوطيئة. ويستخدم سيجفريد ما له من ثروة في سنيبلنجن فيلبس زوجته ووصيفاتها من الثياب ما لم تلبسه امرأة أخرى قبلهن.

وتزور كريمهيلد بعد فترة من ذلك الوقت برنهيلد في مدينة ورمز. وتبصر برنهيلد أثواب كريمهيلد الغالية فتدب الغيرة في قلبها، وتذكّرها بأن سيجفريد من أتباع جنثر. وترد عليها كريمهيلد بأن تكشف لها عن المنطقة والقرط لتثبت لها أن سيجفريد لاجنثر هو الذي غلبها على أمرها. وكان لجنثر أخ نكد غير شقيق يدعى هاجن Hagen ملأ صدره حقداً على سيجفريد؛ فأرسلا إليه يدعوانه للخروج إلى الصيد. وينحني سيجفريد فوق مجرى ماء ليروي ظمأه، فيطعنه هاجن بحربة، وتبصر كريمهيلد بطلها يلقى منيته "فيغمى عليها وتفقد وعيها طوال ذلك اليوم وتلك الليلة". وترث كنز نيبلنج بوصفها أرملة سيجفريد، ولكن هاجن يغري جنثر باغتصابه منها، ويدفن جنثر وأخوته هذا الكنز في نهر الرين ويقسموا ألاّ يكشفوا لأحد عن مخبئه.

وتظل كريمهيلد ثلاثة عشر عاماً تفكر في الثأر من هاجن وأخوتها، ولكنها لا تجد الفرصة التي تمكنها من هذا الثأر، ثم تقبل ما عرضه عليها إتزل Etzel ( أتلا Atilla) ملك الهون من زواجه بها؛ وتنتقل إلى فينا Vienna لتعيش فيها وتكون زوجة له. "وكان إتزل ذا شهرة عظيمة تجتذب إلى بلاطه

ص: 260

بلا انقطاع أشجع الفرسان مسيحيين وكفاراً على السواء .... وكان الإنسان يرى عنده ما لا يستطيع أن يراه في هذه الأيام - يرى المسيحيين والكفرة جنباً إلى جنب. وكان الملك ندي اليد سخياً على الناس جميعاً أياً كانت عقائدهم، فلم يكن ثمة أحد لا ينل رفده". وظلت كريمهيلد تحكم البلاد "حكماً صالحاً" مدى ثلاثة عشر عاماً بدا فيها أنها لم تعد تفكر في الانتقام؛ وبلغ من أمرها أن طلبت إلى إتزل أن يدعو هاجن وإخوتها إلى وليمة؛ ويلبي هؤلاء الدعوة رغم تحذير هاجن، ولكنهم يأتون معهم بحاشية من الفلاحين والفرسان المسلحين. وبينما كان إخوة الملك وهاجن ومن معهم من الفرسان يستمتعون بضيافة حاشية الهون في بهو إتزل، إذ يقتل الفلاحون الذين في خارج البهو بأمر كريمهيلد، ويتلقى هاجن النبأ، فيستل سيفه، وتدور معركة رهيبة في البهو بين البرغنديين والهون (ولعل القصة ذكرى حربهم الحقيقية التي دارت في عام 437). ويطيح هاجن بضربته الأولى برأس أرتليب Artlieb ابن كريمهيلد وإتزل البالغ من العمر خمس سنين ويلقى برأسه في حجر كريمهيلد وجنثر. ولمّا كاد البرغنديون جميعاً يهلكون يطلب جرنوت Gernot أخو كريمهيلد وجنثر إلى إتزل أن يسمح للباقين من الزوار بالخروج من البهو. ويظهر فرسان الهون رغبتهم في إجابة هذا الطلب ولكن كريمهيلد ترفضه، وتستمر المذبحة. ويتوسل إليها جزلهر Gisslher أخوها الأصغر الذي كان غلاماً بريئاً في الخامسة من عمره لما قتل سيجفريد ويناديها: "أختي يا أجمل النساء، بأي ذنب أستحق الموت بأيدي الهون؟ لقد كنت على الدوام وفياً لك، لم تمسسك يداي بأذى؛ ولكني جئت إلى هذا المكان يا أعز الأخوات لأني وثقت بحبك، فهلاّ رحمتني". وترضى كريمهيلد بأن يخرج الباقون إذا أسلموا هاجن، فيرد عليها جرنوت بقوله: "ذلك يا أماه الله في علو سمائه، خير لنا أن نهلك عن آخرنا من أن نفتدي أنفسنا بواحد ما". وتخرج كريمهيلد الهون من البناء، وتغلق الأبواب على من

ص: 261

فيه من البرغنديين، وتأمر بإحراقه. ويجن البرغنديون من فرط الحرارة والظمأ فيصيحون من شدة الألم، فيأمرهم هاجن بأن يطفئوا ظمأهم بشرب دماء القتلى، فيصدعون بما يؤمرون، ويخرج بعضهم من بين الأخشاب الملتهبة المتساقطة، وتستمر المعركة دائرة في الفناء حتى لا يبقى حياً من البرغنديين غير جنثر وهاجن. ويقاتل ديتريخ Dietrich القوطي وهاجن، وينتصر عليه، ويأتي به إلى كريمهيلد مكبلاً بالأغلال. وتسأله هاجن أين أخفى كنز نيبلنج، فيجيبها بأنه لن يكشف لها عن ذلك السر ما دام جنثر حياً؛ ويقتل جنثر، وكان لا يوال حياً، بأمر أخته، ويحمل رأسه إلى هاجن، ولكن هاجن يتحداها بقوله:"إن مكان الكنز لا يعرفه الآن إلاّ الله وحده وأنا، ولن تعرفي هذا السر أيتها المرأة الشيطانة"، فتقبض بيدها على سيف وتقتله به. وتشمئز نفس هلدبراند Hildebrand القوطي مما سفكته كريمهيلد من الدماء فيقتلها.

تلك قصة رهيبة تجري فها الدماء كما تجري في أية قصة أخرى في عالم الأدب أو فيما هو دونه. وإنا لنظلم هذه القصة بعض الظلم إذا انتزعنا لحظاتها الرهيبة مما يحيط بها من ولائم، ومثاقفة، وصيد، وشئون النساء. ولكن هذا هو الموضوع الذي تدور حوادثها حوله - فتاة رقيقة يبدلها ما صادفته من الشر امرأة وحشية سفاحة. ومن عجب أنه قلّما يبقى في القصة بعد هذا شيء يقربها من الدين المسيحي، فهي في الواقع مأساة يونانية تدور حول الانتقام، ولا تفعل ما تفعله المآسي اليونانية إذ تأبى أن تقع في أعمال العنف على المسرح. وتطغى هذه الجرائم على جميع فضائل الإقطاع فلا يكاد يظهر منها شيء حتى إكرام رب الدار أضيافه الذين دعاهم لزيارته، وليس ثمة ما يفوق وحشية هذه القصة إلاّ وحشية أيامنا هذه.

ص: 262

الفصل الخامس

‌شعراء الفروسية الغزليون

Troubadour

(1)

في أواخر القرن الثالث عشر، أي في الوقت الذي كنا نتوقع فيه أن يكون الأدب الأوربي مصطبغاً بالحماسة الدينية التي بعثتها في الناس الحروب الصليبية، في أواخر هذا القرن بالذات نشأت في جنوبي فرنسا مدرسة من الشعر الغنائي أرستقراطية، وثنية، غير كهنوتية، عليها الطابع العربي، تنبئ بانتصار المرأة على القيود الثقيلة التي فرضتها عليها نظرية سقوط آدم. وانتقل هذا الطراز الشعري من طولوز إلى باريس ومن باريس إلى لندن ومع إليانور الأكتانية، واستحوذ على قلب ابنها الباسل رتشرد الأول، وأوجد المتصببين بالشعر من الألمان، وصاغ النغمات العذبة الهادئة التي مهدت السبيل إلى دانتي.

ويتلألأ في بداية هذا الطراز من الشعر وليم التاسع كونت بواتو، ودوق أكتين، وجد إليانور نفسها، وألفى هذا الخليع المستهتر نفسه في الحادية عشرة من عمره (1087) حاكماً لفرنسا الجنوبية يكاد يكون مستقلاً بحكمعا؛ واشترك في الحرب الصليبية الأولى وتغنى بنصرها؛ ولكنه كان مثل كثيرين من غيره من النبلاء في أرضه التي طغى عليها الإلحاد، فكان قليل الإجلال للكنيسة يسخر من قساوستها. وقد وُصف في ترجمة بروفنسالية له بأنه "من أكثر خلق الله أدباً وظرفاً، ومن أكثرهم غواية للنساء، وأنه فارس مغوار، كثير التورط في مغامرات الحب، يجيد الغناء وقرض الشعر، وقد ظل وقتاً طويلاً يجول في البلدان ويغوي النساء"(23). وقد اختطف وهو متزوج كونتة شاتل رول Chatellerault الحسناء، وعاش معها علناً دون حياء؛ ولمّا أمره أنجوليم Angouleme الأصلع

(1)

انظر اشتقاق هذا اللفظ فيما بعد. (المترجم)

ص: 263

الجريء أن يقلع عن غيه أجابه بقوله: "سأنبذ الكونتة في الساعة التي يحتاج فيها شعرك إلى مشط". والتقى يوماً ما بأسقف بواتيه بعد أن حكم بطرده من الكنيسة وقال له: "اغفر لي وإلاّ قتلتك" فرد عليه الأسقف وهو يمد له عنقه: "اضرب"، وأجابه وليم:"لست أحبك بالقدر الذي يكفي لأن أبعث بك إلى الجنة"(24). ووضع الدوق طرازاً من الشعر الغزلي يكتب إلى النبيلات، وكان يفعل ما يقول، وكانت حياته قصيرة مليئة بالمرح، فقد مات في السادسة والخمسين من عمره (1137)، وأورث إليانور ضياعه الواسعة وذوقه الشعري والغرامي.

وجمعت إليانور الشعراء حولها من طولوز، وسرّهم أن يتغنوا لها ولحاشيتها لجمال النساء وما تبعثه مفاتنهن من نشوة. وشرع برنار ده فنتادور Bernard de Ventadour، وكان شعره في نظر بترارك لا ينقص إلاّ قليلاً عن شعره هو نفسه، يتغنى بجمال فيكونتة فنتادور؛ وحملت الفيكونتة مديحه محمل الجد فاضطر زوجها أن يحبسها في برج قصره. وشجع هذا برنار فراح يتغنى بجمال إليانور نفسها وتبعها إلى رون Rouen؛ ولمّا أن فضلت حب ملكين أفرغ ما في قلبه من هيام في لحن حزين ذائع الصيت. وبعد جيل من ذلك الوقت أصبح الشاعر الغزلي برتران ده بورن Bertrand de Born صديق رتشرد الأول الحميم، ومنافسه المتفوق عليه في حب السيدة مينز المرتنياكية Dame Maens of Martignac؛ وصحب شاعر غزلي آخر يدعى بيرفيدال Piere Vidal (1167؟ -1215) رتشرد الأول في الحرب الصليبية، ورجع سالماً، وعاش بعد مجيئه فقيراً يقرض الشعر حتى رفض آخر الأمر بضيعة وهبها له ريمند السادس كونت طولوز (25). ولدينا أسماء 446 شاعراً آخر من الشعراء الغزلين، ولكن حسبنا هؤلاء الأربعة دليلاً على ما كانت عليه هذه الطائفة المغنية من انحلال.

كان بعض أفرادها موسيقيين أفاقين، وكانت كثرتهم من صغار النبلاء المولعين بالغناء، وكان أربعة منهم ملوكاً - رتشرد الأول، وفردريك الثاني،

ص: 264

وألفنسو الثاني، وبدرو الثالث ملك أرغونة. وظل هؤلاء الشعراء قرناً من الزمان (1150 - 1250) يسيطرون على أدب فرنسا الجنوبية، ويشكلون عادات الطبقة الأرستقراطية التي كانت تنتقل في ذلك الوقت من الوحشية الريفية إلى الفروسية التي كادت تكفّر بالمجاملات عن آثام الحرب، وبالظرف والأدب عن الفجور والفسق. وكانت لغة شعراء الفروسية الغزلين هي لانج دك Langue Dioc أو لغة الرومان Roman التي كانوا يتكلمون بها في جنوبي فرنسا وشمالي أسبانيا الشرقي. أما اشتقاق اسمهم فهو موضع الخلاف الشديد، والراجح أن كلمة تروبدرو Troubodour مشتقة من الكلمة الرومانية تروبار Trobar ومعناها يجد أو يخترع، كما أن من الواضح أن الكلمة الإيطالية Trovatore ( تروفتوري) مشتقة من تروفاري Trovare، ولكن من الناس من يقول إنها مشتقة من كلمة الطرب العربية ومعناها الغناء (26). وكانوا يسمون فنهم "الحكمة المرحة" gai sebar أو gaya ciencia ولكنهم كانوا يرونه من الأعمال الجدية التي تتطلب وقتاً طويلاً من المران على الشعر، والموسيقى، وآداب الحديث التي تليق بالفرسان أولي النبل والشهامة. وكانوا يتزيّون بزي الأشراف، ويتّشحون برداء طرزت حواشيه بالذهب والفراء الثمينة، وكثيراً ما كانوا يركبون وهم مدرعون بدروع الفرسان، ويتسابقون في ألعاب البرجاس، سيقاتلون بالرماح وبالأقلام في سبيل السيدات اللاتي يقدمون لهن شعرهم وإن لم يقدموا لهن حياتهم. ولم يكونوا يكتبون لغير طبقة الأشراف، وكانوا عادة يلَحّنون بأنفسهم شعرهم الغنائي ويستأجرون المغنين ليغنوه في المآدب وألعاب البرجاس، ولكنه كثيراً ما كانوا هم أنفسهم يعزفون على القيثار وينفّسون بأغنية عن عاطفة مكبوتة.

وأكبر الظن أن العواطف التي كانوا يعبّرون عنها لم تكن إلاّ صورة أدبية، وأن تحرّقهم لم يكن أكثر من رغبة، وأن مسكنهم مع حبيباتهم في السماء تعبير عن إشباع رغبتهم، وأن يأس التروبدور المحزن إن هو إلاّ رخصة شعرية وأداة للتعبير.

ص: 265

ويبدو أن الأزواج الذين كانوا يسمعون هؤلاء الشعراء يتشبثون بنسائهم لم يكونوا يرون في هيامهم أكثر من هذا، وأنهم لم يكونوا أكثر حرصاً على أزواجهم من معظم الذكور. وإذ كان الزواج بين الأشراف لا يعدو أن يكون حادثاً من حوادث تداول الثروة، فقد كان الحب إذا وجد يعقب الثروة لا يسبقها كما يحدث في القصص الفرنسي. وأما ما وجد من الحب في أدب العصور الوسطى فكان كله، من فرنسسكا Francesa وبيتريس Beatrice في الجنوب إلى إيسلد Isolde وجنيفير Guinevere في الشمال، حباً حراماً إذا استثنينا منه بعض الأمثلة القليلة. وكان عجز المحب عن الوصول إلى السيدة المتزوجة هو الذي أوجد طائفة التروبدور؛ ذلك أن من الصعب خلق رواية غرامية تدور حول الرغبة المشبعة، وحيث لا توجد العقبات لا يوجد الشعر. ولسنا نسمع إلاّ عن أفراد قلائل من شعراء الفروسية الغزلين حظوا آخر الأمر بعطف السيدات اللائي اختاروهن موضوعاً لأغانيهم، ولكن هذا لم يكن إلاّ خرقاً للمألوف من القواعد في العشر، فقد جرت العادة أن يطفئ الشاعر حرقته بقبلة من الحبيبة أو بلمس يدها. وكان هذا التمنع من أسباب الرقة والظرف؛ ومن أجل هذا انتقل شعر التروبدور - ولعله تأثر في هذا الانتقال بعبادة مريم - من الشهوانية إلى ما يقرب من الرقة الروحية.

لكنهم قلّما كانوا رجالاً أتقياء صالحين، وكان عدم تعففهم من أسباب التنافر بينهم وبين الكنيسة. وقد ألف بعضهم القصائد في هجو كبار رجال الدين، وفي السخرية من الجحيم (27)، والدفاع عن الملاحدة الألبجنسيين، والإشادة بالحملة الصليبية التي انتصر فيها فردريك العاصي حيث أخفق لويس الصالح. ولم يرض جولم أديمار Guillem Ademar إلاّ عن حملة صليبية واحدة، وكان سبب رضائه عنها أنها أبعدت من طريقه زوج سيدة يتشبّب بها. وكان

ص: 266

ريمون جوردن Ra mon Jorden يفضل ليلة يقضيها مع محبوبته عن أية جنة سماوية يعدونها بها (28).

وكانت الصور الإنشائية في نظر شعراء الفروسية الغزلين أجل شأناً من الوصايا الأخلاقية. وكان لكل ضرب من قصائدهم اسم يتسمى به فالكانزو Canzo أغنية الغرام، والبلانتي plante مرثية لصديق أو حبيب مات، والسرفنتي sirvente أغنية الحرب، والنزاع والهجوم السياسي، والستينة sixtene قصيدة تتألف من ست مقطوعات معقدة القافية، في كل واحدة منها ستة أبيات، اخترعها أرنو دانيل Arnaud Daniel واعجب بها دانتي، والرعوية pastourelle حوار بين شاعر فروسية غزلي وراعية، والفجرية aubade أو alba أغنية الفجر، وهي في العادة تنذر العاشقين بأن النهار سوف يفضح أمرهم، والسيرينا أو السرنيد serena أو serenade أغنية المساء، والبلادا balada قصة شعرية. وهاهي ذي فجرية لشاعر غير معروف تنطق ببعض أبياتها فتاة من فتيات القرن الثاني عشر تذكرنا بجوليت Juliet:

في حديقة ينشر فيها الشوك الأبيض أوراقه،

كانت سيدتي يضطجع حبيبها بجوارها

حتى نادي الرقيب بطلوع الفجر - ويلاه الفجر الذي يحزن المحبين!

رباه، يا رباه، ما بال الفجر يقبل مسرعاً!

أتوسل إليك يارب ألا ينقضي الليل، الليل الحبيب،

وألاّ يبتعد عني حبيبي،

ص: 267

وألاّ ينادي الرقيب "الفجر" - الفجر الذي يقضي على السلام!

رباه! يا رباه! ما بال الفجر يقبل مسرعاً!

"صديقتي الجميلة الحلوة، أنيليني شفتيك - شفتينا مرة أخرى!

ها هي ذي الطيور في المراعي تشدو

فليكن نصيبنا الحب، ونصيب الحسود الألم!

رباه! يا رباه! ما بال الفجر يقبل مسرعاً!

من تلك الريح الحلوة التي تقبل من بعيد

شربت حتى ارتويت من أنفاس الحبيب،

نعم، من أنفاس حبيبي المرح العزيز!

رباه! يا رباه، ما بال الفجر يقبل مسرعاً!

ألا ما لأجمل فتاتي وما أظرفها،

وما أكثر من يرقبون الطريق الذي يتجلى فيه جمالها

ولا يطوف بقلبها طائف القدر!

رباه! يا رباه! ما بال الفجر يقبل مسرعاً! (29)

وقضى على حركة شعراء الفروسية الغزلين في فرنسا في منتصف القرن الثالث عشر، وكان من أسباب القضاء عليها ما في صياغتها وعواطفها من تكلف وتصنع أخذا يتزايدان على مر الأيام، وما حل بجنوبي فرنسا من دمار بسبب الحروب الدينية الألبجنسية، فقد تهدمت في الوقت العصيب كثير من القصور التي كان يأوي إليها شعراء الفروسية الغَزِلون؛ ولمّا أن قاست طولوز نفسها حصاراً مزدوجاً انهار نظام الفروسية هذا في أكتين. وفر بعض المغنين إلى أسبانيا وبعضهم إلى

ص: 268

إيطاليا، وفيها بعث فن أغاني الحب بعثاً جديداً في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، ولم يكن بترارك ودانتي إلاّ وريثين للتروبدور. وكان ما خلفوه من تقاليد الشهامة والمرح عوناً على صياغة دستور الفروسية، وتحويل سكان جنوبي أوربا الهمج إلى رجال مهذبين؛ ولقد ظلت الآداب من ذلك الحين تحس بأثر أغانيهم الرقيقة، ولعل الحب تفوح منه في هذه الأيام رائحة ذكية مستمدة من عطر مديحهم.

ص: 269

الفصل السادس

‌المتصببون بالشعر من الألمان

انتشرت حركة شعراء الفروسية الغزلين من فرنسا إلى جنوبي ألمانيا حيث ازدهرت في عصر أباطرة هوهنستاوفن الذهبي وكان الشعراء الألمان يسمون المنيسانجر Mennisanger أي المتصببين بالشعر، ووجد شعرهم في الوقت الذي وجدت فيه في دستور الفروسية المعاصر خدمة المحبوب Minnedienst وخدمة السيدات Fraundienst. ونحن نعرف أسماء ثلاثمائة من هؤلاء المتصببين، ولدينا ثروة موفورة من شعرهم؛ وكان بعضهم من طبقة الأشراف الدنيا، وبعضهم من الفقراء، يرعاهم الأباطرة أو الأدواق. وكان كثيرون منهم أميين وإن التزموا قواعد صارمة في الوزن والقافية، وكانوا يملون ألفاظ أغانيهم موسيقاها؛ ولا يزال الشعر يسمى في ألمانيا إلى يومنا هذا دختونج Dichtung أي الإملاء. وكانوا عادة يتركون المغنين العازفين يغنون أشعارهم، وكانوا أحياناً ينشدونها بأنفسهم. ويروي لنا الرواة مباراة غنائية Sangerkreig عظيمة عقدت في قصر وارتبيرج Wartburg عام 1207، ويقال إن تان هوزر Tannhauser وولفرام فن إشنباخ Wolfram von Eschenbach اشتركا فيها

(1)

. وظل المتصببون قرناً من الزمان يعملون على رفع منزلة المرأة في ألمانيا، وأضحت نساء طبقة الأشراف الباعثة والملهمة لثقافة أرق من أية ثقافة عرفتها تلك البلاد فيما بعد حتى عصر شلر Schiller وجيته.

(1)

لقد خلطت القصص بين تان هوزر، وهو من المتصببين المتأخرين، وبين الفارس تان هوزر الذي فر من فينسبرج Venusberg إلى روما ووجد له مكاناً صغيراً في إحدى المسرحيات الغنائية.

ص: 270

ويضم ولفرام وولتر فن در فوجلويد Walter von der Vogeleide إلى طائفة المتصببين لأنهما كتبا في أغاني الحب، ولكن الأفضل أن يسلك ولفرام وقصائده المعروفة باسم بارزفال Parzival في سلك كتاب الروايات الغرامية. وكان مولد ولتر "ابن مرج الطيور" في مكان ما في التيرول Tirol قبل عام 1170. وكان من طبقة الفرسان ولكنه من فقرائهم، وزاد أحواله سوءاً على سوء بأن اتخذ الشعر صناعة له. ونسمع عنه وهو في سن العشرين يكسب قوته بالغناء في بيوت الأشراف من أهل فينا. وكان وهو في سن الشباب هذه يكتب في الحب كتابة شهوانية طليقة أغضبت منه منافسيه، ولا يزال الألمان حتى الآن يعتزون بقصيدته تحت شجرة التيليا Unter den Linden:

تحت شجرة التيليا وعلى الخلنج

كان لنا نحن الاثنين فراش،

وهنا كنت تبصيرنا وقد التفت حولنا

الأزهار المتقطعة والكلأ الهشيم؛

ومن أجمة في الوادي - تندرادى -

يشدو البلبل بألحانه العذبة.

وأسرعتُ إليه من خلال الفضاء بين الأشجار،

ووصل حبيبي إلى المكان قبلي،

وهناك وقعت في شرك الحبيب - وكنت أسعد الفتيات،

وحظيت بسعادة ليس فوقها سعادة.

وهناك قبّلني مراراً - تندرارى.

ص: 271

انظروا إلى شفتيّ ما أشد حمرتهما!

وهنا أسرع وهو مغتبط

فأقام لنا عريشاً من الأزهار،

ولا يزال هذا دعابة زائلة،

لأن الذين يمرون بهذا الطريق يرون المكان الذي

وضعت فيها رأسي بين الورود - تندرارى!

ولو أن إنساناً (لا قدّر الله!) كان بالقرب منا

لجللني العار، فقد رقدنا هناك سويا.

ولكن هذا لم يعرفه أحد غيري أنا والحبيب

والعندليب لصغير - تندرارى! -

وأنا أعرف أنه لن ينم علينا (32)

ونضج تفكيره لما كبر، وبدأ يرى في المرأة مفاتن ومحاسن أجمل من بشرتها البضة، وبدت له فوائد الاتحاد بالزواج أعظم قيمة من التقلب بين النساء:"ما أسعد الرجل وما أسعد المرأة، اللذين يرتبط قلباهما بالإخلاص المتبادل، والذين تزداد حياتهما قيمة على مر الزمن، وبارك الله في بيتهما وجميع أيامهما (33). وأخذ يندد بتملق زملائه الشعراء نساء البلاط، وقال إن لقب "المرأة" أعظم قيمة لديه من لقب "السيدة"، وإن النساء الصالحات والرجال الصالحين هم الأشراف بحق، وإن "النساء الألمانيات يضارعن الملائكة في الجمال، وإن من ذمهن كذاب أشر" (34).

ومات الإمبراطور هنري السادس في عام 1197 وعمّت الفوضى بلاد ألمانيا مدى جيل كامل ولم تنقطع إلاّ بعد أن بلغ فردريك الثاني سن الرشد. ولم يعد

ص: 272

الأشراف يناصرون الأدباء ويبسطون عليهم رعايتهم، فأخذ ولتر ينتقل من بلاط إلى بلاط يغني غناء البائس الشقي طلباً للقوت، ينافسه فيه المشعوذون والمهرجون الأذلاء. وحسبنا دليلاً على ما كان يعانيه في ذلك الوقت هذه العبارة المنقولة من حساب نفقات ولفجر Wolfeger أسقف باسو Passau " خمسة صلدات صرفت في 12 نوفمبر عام 1203 إلى ولتر فن درفوجلويد ليشتري بها سترة من الفراء يتقي بها برد الشتاء"(35). وكانت هذه حسنة مضاعفة لأن ولتر جبليني متحمس، هجا في شعره البابوات، وندد بعيوب الكنيسة، وثار على نقل الأموال الألمانية فوق جبال الألب لتملأ بها خزائن كنيسة القديس بطرس (36). غير أنه كان على الرغم من هذا مسيحياً صادقاً، ألف نشيداً عظيماً سماه "نشيد الصليبيين"، ولكنه كان يستطيع في بعض الأوقات أن يسمو فوق المعارك الحربية ويرى أن الناس كلهم أخوة:

الناس كلهم من أم واحدة

ونحن جميعاً أكفاء من الخارج والداخل؛

وأفواهنا تطعم كلها بطعام واحد،

وإذا ما سقطت عظامهم وأصبحت كومة مختلطة

فهل تعرفون يا من تميزون الأحياء بنظرة إليهم

أيهم الدنيء الآن وأيهم الشريف

بعد أن أكل الدود لحومهم وتعرت عظامهم؟

إن المسيحيين واليهود والكفار كلهم يتعبدون

والله يبسط رعايته على جميع الخلق (37).

وظل ولتر ربع قرن في تجواله وفقره، ثم وهبه فردريك الثاني ضيعة ودخلاً ثابتاً (1221)، فاستطاع أن يقضي السبع السنين الباقية من حياته

ص: 273

هادئاً مطمئناً. وقد أحزنه أن شيخوخته ومرضه لا يمكنانه من الاشتراك في الحرب الصليبية، وطلب إلى الله أن يغفر له عجزه عن أن يحب أعداءه (38). وقد أوصى في قصيدة له بمن يرث مخلفاته "فللحساد سوء حظي، وللكاذبين أحزاني، وللمحبين النادرين حماقاتي، وللسيدات آلام قلبي"(39). ودفن في كتدرائية ورزبج Wurzburg وأقيم بالقرب منها نصب تذكاري يعلن حب ألمانيا لأعظم شعراء عصره.

وقضى على حركة الشعراء المتصببين بعد موته ما تورطت فيها من إسراف ومغالاة، وحل بها ما حل بألمانيا من دمار وسقوط فردريك الثاني. ويصف لنا ألريخ فن لختنشتاين Ulrich von Lichtenstein ( حوالي 1200 - 1276) في سيرته الذاتية الشعرية ( Frauendienst) كيف نشأ وسط عواطف "خدمة السيدات". فاختار سيدة لتكون له معبودة، وخيطت شفته الشرماء ليقلل نفورها منه، وحارب من أجلها في ألعاب برجاس. ولمّا قيل له إنها عجبت حين عرفت أنه لا تزال له إصبع كانت تظن أنه فقدها في الدفاع عن شرفها، قطع هذا العضو الآثم وبعث به إليها دليلاً على الولاء والخضوع. وكاد يغمى عليه من شدة الفرح حين أسعده الحظ بشرب الماء الذي غسلت فيه يديها (40). ولمّا تلقى منها رسالة ظل يحملها في جيبه عدة أسابيع حتى وجد شخصاً يستطيع أن يثق بأنه سيقرؤها له سراً، لأن الريخ كان يجهل القراءة (41). ولمّا وعدته بأنها ستعطف عليه انتظر وفاءها بوعدها يومين كاملين في ثياب المتسولين بين المجذومين الواقفين ببابها، ثم أذنت له بالدخول، ولمّا تبينت إلحاحه أمرت فأنزل من نافذة مخدعها في ملاءة سرير. وكان له في ذلك زوجة وأبناء.

واختتمت حركة الشعراء المتصببين اختتاماً فيه بعض الكرامة بموت هنريخ فن مايسن Henrich von Meissen الذي أحرز بأغانيه في تكريم

ص: 274

النساء لقب "مداح النساء". ولمّا مات في مينز عام 1317 حملت نساء المدينة نعشه وأخذن يندبنه حتى ووري التراب في كتدرائية المدينة، وسكبن فوق تابوته خمراً بلغ من كثرتها أن جرت في طول الكنيسة كلها (42). وخرج فن الغناء بعد موته من أيدي الفرسان إلى أيدي الطبقة الوسطى؛ وزالت نزعة عباد السيدات الغرامية، وحل محلها في القرن الرابع عشر مرح جماعة المغنين في المدن وفنهم العارمان يرفعان إلى ربات الشعر قيام طبقة الملاك الوسطى.

ص: 275

الفصل السابع

‌الروايات الغرامية

أما في الروايات الغرامية فقد كانت الطبقة الوسطى هي المسيطرة على الميدان؛ ذلك أن شعراء شمالي فرنسا أبناء الطبقة الدنيا - المعروفين عند الفرنسيين باسم التوفير Trouveres أي المخترعين - كانوا يحيون ليالي الطبقات الوسطى والعليا بقصص شعرية تتحدث عن الحب والحرب، كما كان شعراء الفروسية الغزلون - التروبدور والتروفنوري يكتبون الأغاني الشعرية الرقيقة لنساء جنوبي فرنسا وإيطاليا.

وكانت كتابات المخترعين تتخذ صور القصص الشعرية، Ballade والأغاني الشعرية lai، والتحدث بأعمال الأبطال Chanson de geste، والقصص الغرامية. وقد وصلت إلينا نماذج جميلة من الأغاني الشعرية من قول كاتبة تدعى إنجلترا وفرنسا كلتاهما أنها أول شاعراتها العظيمات. فقد انتقلت Marie de France ( ماريا الفرنسية) من بريطاني لتعيش في إنجلترا في أيام هنري الثاني (1154 - 1189). وأشار عليها أن تصوغ عدداً من أقاصيص البريطانيين شعراً، ففعلت وخلعت عليها من طلاوة اللفظ وقوة العاطفة ما لم يفقها فيهما أي شاعر من شعراء الفروسية الغزلين. وخليق بإحدى قصائدها العاطفية أن تحتل مكاناً في صفحات هذا الكتاب، هي جديرة به، لموضوعها غير العادي - حديث المحبوبة الحية إلى حبيبها الميت:

هل أحبَّك هناك إنسان طوال الصيف والشتاء؟

وهل وجدت هناك جمالاً وضع في القبر معك؟

وهل قبلة الميت الطويلة أحلى مما كانت قبلتي لك؟

ص: 276

أو هل انتقلت إلى سعادة بعيدة ونسيتني كل النسيان؟

أي نوم رقيق همت به فلفّك لفاً رقيقاً؟

وأي موت ساحر أغواك بقوته العجيبة فاستحوذ عليك بالليل والنهار؟

إنك ترقد في بقعة صغيرة تحت الكلأ بعيدة من الشمس والظلال

ولكنها لشدة حزني بعيدة عني بعد السماء ....

ستظل ترقد في ذلك المكان كما ترقد الآن

وإن كان في العالم العلوي شخص آخر يحيا حياتك مرة أخرى

ويحب حبيبتك كما كنت تحبها.

أليس مقامك حلواً تحت النخيل؟

أليس اليوم الدفيء الهادئ الطويل الجميل الذي لا يعرف أحد كنهه

خيراً من الحب ومن الحياة؟

ألا ما أشبه أوراق الشجر العطرة العريضة العجيبة

بالأيدي تنسج برد الليل إلى نهايته،

تنسج النوم الذي لا يستطيع الطير البراق مقاومته،

أما أنت فالموت ينسج لك النوم

ويسلبك في الصباح وفي الظهيرة

كثيراً من الأنفاس العجيبة القوية.

ويقيني أنك وأنت في هذا المكان

قد وجدت الموت إغماءً لذيذاً.

لا تستمسك من هذه الساعة بكلمة قلتها أو غنّيتها؛

فما من شك في أنك قد سمعت من زمن بعيد أغاني كثيرة أعذب منها؛

لأن التربة الخصيبة قد وصلت بلا ريب إلى قلبك؛

وحولت إيمانك أزهاراً،

واختلست الريح الدافئة شيئاً فشيئاً روحك أثناء الساعات الغادرة.

ووجدت كثير من البذور الطرية تربة من التفكير المثمر

ص: 277

أنبتت زهرة تستقبل الشمس، ولولاها لما استقبلتها،

ولا ريب في أنك قد استمعت إلى كثير

من العواطف القوية الجائشة

التي جعلت ذلك الموضع أجمل مما كان

وجعلت جزءاً من عواطفك لا يحنو عليّ هناك (43).

وربما نشأت أغاني الأفعال من قصص الحوادث أو الأغاني. فكان الشاعر ينسج حول حادث تاريخي، يأخذ عادة من المؤرخين الإخباريين، قصة من المغامرات الخيالية يريها في أبيات ذات عشرة مقاطع أو أثني عشر مقطعاً، وتبلغ من الطول ما لا تتسع له إلاّ ليالي الشتاء في الشمال. ولقد كانت أغنية رولان مثلاً متقدماً لهذه الأغاني. وكان البطل المحبب لأغاني الأفعال الفرنسية هو شارلمان؛ وقد أفاد الشعراء الغزلون الفرنسيون من عظمته التاريخية فرفعوه في شعرهم إلى درجة من العظمة لا يكاد يسمو إليها آدمي، فبدلوا هزيمته في أسبانيا فتحاً مبيناً، وسيروه في حملات مظفرة إلى القسطنطينية، وبيت المقدس، ومن حول لحيته البيضاء الخرافية هالة من العظمة والجلال. وكانت الأغاني الفرنسية مرآة ينعكس عليها عصر الإقطاع في موضوعاته، وأخلاق أهله، وأمزجته. وكما كان بيولف والنيبلنجليد يرددان أصداء "عصر الأبطال" في زمن الهجرات، كانت هذه الأغاني الفرنسية - أيا كان موضوعها، أو مكانها، أو زمانها - تتحرك في جو إقطاعي إلى أهداف إقطاعية في أثواب إقطاعية. وكان موضوعها الذي لا تنفك تردده هو الحرب، بين سادة الإقطاع، أو بين الدول، أو الأديان، ولم تكن المرأة والحب يجدان بين قعقعة السيوف إلاّ أصغر مكان.

ص: 278

ولمّا صلحت أحوال النظام الاجتماعي، وارتفعت منزلة المرأة على أثر ازدياد الثروة، تختل الحرب عن مكانها في هذه الأغاني للحب، فأضحى هو موضوع الشعراء الرئيسين فلمّا كان القرن الثاني عشر حلت القصص الغرامية محل أغاني الأفعال، وجلست المرأة على عرش الأدب، وظلت تجلس عليه قروناً عدة. وكان اللفظ الفرنسي roman المقابل للرواية الغرامية يعني في أول الأمر أي مؤلَف مكتوب باللغة الفرنسية التي كانت تسمى هي الأخرى رومان Roman دليلاً على أنها من تراث الرومان الأقدمين. ولم تكن القصص الغرامية Romances تسمى في اللغة الفرنسية بهذا الاسم لأنها قصص وجدانية، بل كان الأمر عكس هذا أي أن بعض العواطف أضحت توصف بأنها رومانسية romantic ( وجدانية) لأنها كثيراً ما كتبت بهذه اللغة الرومانية roman الفرنسية. فكانت رواية الوردة Roman de la rose أو طروادة le Troie أو الثعلب de Renard لا تعني أكثر من قصة عن وردة، أو عن طروادة، أو عن ثعلب باللغة الرومانية أي الفرنسية الأولى. وإذ كانت كل صورة أدبية يجب ألاّ تولد في عرف الأدباء إلاّ من أبوين شرعيين، فإن لنا أن نعزو اصل الروايات الغرامية إلى أغاني الأفعال ممتزجة مع ما كان في قصائد شعراء الفروسية الغزلين من عواطف الغرام. ولعل بعض مادة هذه القصص قد أخذ من الروايات اليونانية مثل أثيوبيكا Ethiopica لهليودورس Heliodorus. وكان لكتاب واحد يوناني ترجم إلى اللغة اللاتينية في القرن الرابع أثر عميق في هذه الناحية، ونعني به سيرة الإسكندر الخيالية التي تعزى زوراً إلى كلسثنيز Callisthenes مؤرخه الرسمي. ذلك أن القصص التي تروى عن الإسكندر أضحت المعين المحبب الذي لا ينضب للفيض المتتابع من "سلاسل" الروايات التي انتشرت خلال العصور الوسطى في أوربا وفي بلاد الشرق الناطقة باللغة اليونانية. وكانت أجمل صورة لهذه القصة في بلاد الغرب هي رواية الإسكندر

ص: 279

Roman d'Alixandre من تأليف الشاعرين الغزلين لامبيير لي تور Lambert li Tors وإسكندر البرنابي Alexander of Bernay حوالي عام 1200. وتقع هذه الرواية في عشرين ألفاً من الأبيات الأثني عشرية المقاطع، أي من البحر المعروف بالبحر "الإسكندري".

وأكثر من هذه تنوعاً وأرق منها عاطفة سلسة الروايات الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية التي أخذت موضوعاتها من حصار طروادة. وكان أكبر ملهم لهذه الروايات هو فرجيل لاهومر. وكانت القصة التي كتبها ديدو Dido رواية غرامية حقة وإن جاءت في هذا الوقت البعيد. ألم يستوطن الطرواديون الفارون من هزيمة هم غير خليقين بها فرنسا، وإنجلترا، كما استوطنوا إيطاليا؟ ثم قام حوالي عام 1184 شاعر فرنسي غزلي يسمى بنواده سانت مور Benoit de Ste-Maure بإعادة قصة طروادة في ثلاثين ألف بيت من الشعرـ ترجمت إلى أكثر من عشر لغات، ودخلت في آداب أكثر من عشر أمم. وفي ألمانيا كتب ولفرام فن إسشنباخ Wolfram von Eschenbach قصة حصار طروادة التي لا تقل في حجمها عن الإلياذة نفسها، وفي إيطاليا أخذ بوكاشيو Boccaccio من بنوا Benoit قصة فيلوستراتو Filostrato؛ وفي إنجلترا كتب ليامون Layamon قص بروت Brut ( حوالي عام 1205) في 32. 000 بيت وصف بها تأسيس لندن على يد بروتس ابن حفيد إينياس Aeneas؛ ومن بنوا جاءت قصة ترويلس وكرسدي Troilus and Criseyde لتشوستر ومسرحية شيكسبير.

وكانت السلسلة الثالثة العظيمة من روايات العصور الوسطى الغرامية هي روايات آرثر Arthur. ولدينا من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أن آرثر هذا نبيل مسيحي إنجليزي، حارب الغزاة السكسون في القرن السادس. ولسنا ندري من هو الذي خلق منه هو وفرسانه تلك القصص البديعة المطربة التي لم يتذوق جمالها

ص: 280

إلاً محبو مالوري Malory وحدهم؟ ومنذا الذي ابتدع جاوين Gawaine وجلاهاد Galahad وبرسفال Perceval، ومرلين Merlin وجنيفر Guenevere، ولانسلت Lancelot، وترسترام Tristram، وفروسية المائدة المستديرة Round Table ذات الصبغة الدينية المسيحية، وقصة الكأس المقدسة

(1)

Holy Grail؟ لم يصل الأدباء إلى جواب مؤكد عن هذه الأسئلة بعد نقاش دام مائة عام كاملة، ذلك أن البحث يقضي على الحقيقة المؤكدة

(2)

. ونجد أقدم إشارة لآرثر في كتب المؤرخين الإخباريين الإنجليز، وتظهر بعض عناصر قصته في أخبار نينوس Nenius (976) ، ووُسّع نطاق هذه القصة في التاريخ البريطاني Historia Britanica لجوفري المنسوئي Geoffrey of Monmouth؛ وصاغ قصة جوفري شعراُ فرنسياً ربرت ويس Robert Wace وهو شاعر غزلي من جرسي Jersey في رواية بروتس الإنجليزي Le Brut d'Anglettere (1155) ؛ وفيها نجد للمرة الأولى قصة المائدة المستديرة. والراجح أن أقدم أجزاء متقطعة لهذه القصة هي بعض قصص ويلز التي جمعت الآن في مابنوجيون Mabinogion؛ وأقدم مخطوطات عثرنا عليها للقصيدة بعد نمائها وتطورها مخطوطات فرنسية. والإجماع منعقد على أن مكان بلاط آرثر والكأس المقدسة في ويلز والجنوب الغربي من بريطانيا. وأقدم رواية كاملة منثورة للقصة هي التي ندها في مخطوط إنجليزي يعزى إلى ولتر ماب Walter Map أحد كبار شمامسة أكسفورد (1137 - 1196) وإن كان هذا مشكوكاً في صحته. وأقدم صياغة شعرية لهذه السلسلة هي التي نجدها في روايات Romans كريتيان ده تروي Chretien de Troyes ( حوالي 1140 - 1191).

(1)

الكأس التي استعملها المسيح في العشاء الأخير. (المترجم)

(2)

يريد في أغلب الظن ما كان يظنه الناس حقيقة مؤكدة. (المترجم)

ص: 281

ولسنا نعرف عن حياة كريتيان إلاّ قدراً ضئيلاً لا يكاد يزيد على ما نعرفه عن حياة آرثر. نعرف عنه أنه ألف في بدء حياته الأدبية قصة مفقودة تدعى ترستان Tristan. ووصلت هذه القصة إلى يدي الكونتة ماري ده شمباني Marie de Champagne ابنة إليانور الإكتانية، ويلوح أنها قد بعثت في قلبها الأمل بأن كريتيان هو الرجل الخليق بأن يصوغ "الحب الرقيق"، وأنبل المثل العليا في صورة الرواية الغرامية. واستدعته ماري لأن يكون شاعرها الغزلي - إذا صح هذا التعبير - في بلاطها بتروي Troyes. وكتب وهو في رعايتها (1160 - 1172) أربع روايات غرامية في شعر مقفى (الشعر الدو بيت العربي) كل بيتين منه ذوا قافية، وفي كل بيت ثمانية مقاطع. وهذه الروايات هي ارك وانيد Eric et Enide وكليجيه Cliges، وأيفين Yvaine وفارس العربة Le Cheva،ier de la Charette - ولم يجد هذا الشاعر عنواناً أرقى من هذا لقصة "الفارس الكامل" لا نسلت Lancelot. وبدأ في عام 1175 أثناء إقامته في بلاد فليب كونت فلاندرز رواية كونت دل جرال Conte del Graal أو برسفال له جالوا Perceval le Gallois، وكتب منها 9000 بيت وتركها ليتمها غيره في 60. 000 بيت. ويظهر جو هذه في القصص بداية ارك:

عقد الملك آرثر في يوم عيد الفصح مجلساً للبلاط في كاردجان Cardigan، ولم يشهد الناس قبل ذلك الاجتماع حاشية أغنى من حاشيته، فقد حضر الاجتماع كثيرون من صفوة الفرسان الأقوياء، البواسل، ذوي الجرأة والشجاعة، كما أجتمع منها كثيرات من النساء والفتيات ذوات الثراء الواسع، وبنات الملوك ذوات الرقة والجمال. وقبل أن ينفض الاجتماع في ذلك اليوم أبلغ الملك فرسانه أنه يرغب في أن يخرج في اليوم الثاني لصيد الوعل الأبيض؛ وكان ذلك استمساكاً منه بالعادة القديمة. فلما سمع لورد جاوين هذا غضب أشد الغضب وقال: "مولاي!

ص: 282

لن يعود عليك من هذا الصيد ثناء ولا رضاء. فنحن نعرف من زمن بعيد ما هي هذه العادة عادة الوعل الأبيض: نعرف أن من يقتل الوعل الأبيض يجب أن يقبل أجمل فتاة في حاشيتك

ولكن هذا قد يؤدي إلى شر مستطير، لأن في هذا المكان خمسمائة فتاة من ذوات الحسب والنسب،

وما من واحدة منهن إلا لها فارس جريء مغوار، على استعداد لأن يعلن بالحق أو بالباطل أن السيدة التي هو متيم بها أروعهن كلهن جمالاً وأعظمهن رقة". فأجابه الملك بقوله: "إني أعلم هذا حق العلم، ولكن علمي به لا يحول بيني وبين تنفيذ ما أعتزمته

وسنذهب غداُ لنصيد الوعل الأبيض وسيكون ذلك اليوم يوم بهجة ومرح" (44).

وفي بداية الرواية أيضاً نجد المبالغات القصصية الممتعة. "لقد عمدت الطبيعة في تكوين إنيد Enide إلى كل ما لديها من حذق، ودهشت الطبيعة خمسمائة مرة من نجاحها في إبداع هذا المخلوق الكامل". ويقال في قصة لانسلت إن "المحب الكامل مطيع على الدوام، يسارع إلى تنفيذ رغبات حبيبته وهو مسرور

والألم (في سبيلها) محبب إليه، لأن الحب الذي يهديه ويقوده في سبيله يخفف هذا الألم بل يمحوه" (45). غير أن الكونتة ماري كان لها في الحب رأي فيه شيء من المرونة:

إذا وجد الفارس فتاة أو عذراء مهجورة، وإذا كان يعنى بسمعته الطيبة، فإن نفسه لا تطاوعه بأن يعاملها معاملة غير شريفة إلاّ بقدر ما تطاوعه لأن يقطع عنقه. وإذا ما هاجمها فإنه سيجلل بالعار في كل بلاط، أما إذا انتزعها منه وهي تحت حراسته بحد السلاح فارس آخر اشتبك معه في معركة، فإن من حق هذا الفارس الثاني أن يفعل بها ما يريد دون أن يجلله عار أو يستحق من أجله لوماً (46).

وشعر كريتيان ظريف ولكنه ضعيف، وسرعان ما يمل الإنسان ثقله وكثرته في عصر السرعة الحديث. لكنه يمتاز بأن فيه أكمل تعبير باق حتى اليوم عن المثل الأعلى للفروسية، وذلك في الصورة التي رسمها الكاتب لحاشية

ص: 283

تبدو فيها المجاملات، والشرف، والبسالة والإخلاص للحبيب أجل قدراً من الكنيسة أو العقيدة. ولقد أثبت كريتيان في روايته الأخيرة أنه خليق باسمه

(1)

، ورفع سلسلة الروايات التي تدور حول الملك آرثر إلى الذروة العليا بأن أضاف إليها قصة الكأس المقدسة

(2)

فقد جاء في القصة أن يوسف الأريماثيائي Josephh of Arimathea تلقى بعض دم المسيح المصلوب في وعاء شرب منه المسيح نفسه أثناء العشاء الأخير؛ وجاء يوسف أو واحد من نسله بهذا الوعاء والدم الخالد إلى بريطانيا، حيث احتفظ به ملك مريض سجين في قصر خفي عجيب، ولن يعثر على الكأس ويطلق سراح الملك بسؤاله عن سبب مرضه إلاّ فارس كملت طهارة حياته وقلبه. وتقول قصة كريتيان إن برسفال الغالي أخذ يبحث عن الكأس، أما الصيغة الإنجليزية للقصة فتقول إن الذي أخذ يبحث عنها هو جلاهاد الآن الطاهر للانسلوت الملوث. وتتفق القصتان في أن الذي عثر عليها صعد بها إلى السماء. وفي ألمانيا بدل ولفرام فن اسشنباخ برسفال فجعله بارفيزال Parvizal وأعطى القصة أشهر صورة كانت عليها في العصور الوسطى.

وولفرام هذا فارس بافاري (حوالي 1165 - حوالي 1220) كان يكسب قوته بشعره، ثم وجد له نصيراً في هرمان Herman أمير ثورنجيا Thuringia، وأقام في قصر وارتبرج Wartburg عشرين عاماً، وكتب أشهر قصيدة في القرن الثالث عشر. وما من شك في أنه كان يمليها إملاء لأن الرواة يؤكدون لنا أنه لم يتعلم قط القراءة. وهو يقول إنه لم يأخذ قصة بارزيفال عن كريتيان بل أخذها عن شاعر بروفنسالي يدعى كيو Kiot. ولسنا نعرف شاعراً يسمى بهذا الاسم، كما أننا لا نعرف أحداً لعرض لهذه القصة بين زمني كريتيان (1175)

(1)

أي بأنه مسيحي صميم. (المترجم)

(2)

Holy Grail ويقال إن لفظ Grail مأخوذ من لفظ Cratalis المشتق من اللفظ اللاتيني crater ومعناه الكأس.

ص: 284

وولفرام (1205). ويبدو أن أحد عشر "كتاباً" من "كتب" قصيدة ولفرام البالغ عددها ستة عشر تعتمد على قصة كونت دل جرال Conte del Graal لكريتيان، ولم يكن المسيحيون الصالحون والفرسان الأنجاد من رجال العصور الوسطى يرون أن مادة الروايات الغرامية ملك مشاع، من حق كل من يشاء أن يستعيرها إذا كان في وسعه أن يرقى بها، ولقد فاق ولفرام في هذه الناحية أستاذه كريتيان.

وبارزيفال في قصة ولفرام لبن فارس من أنجو Anjou رزقه من الملكة هرزليد Herzeleide ( الحزينة القلب) حفيدة تيتورل Titurel - أول حراس الكأس - وأخت أمفورتاس Amfortas الملك المريض في ذلك الوقت. ويبلغها قبل أن تلد بارزيفال بقليل أن زوجها خر صريعاً في معركة بين الفرسان أمام الإسكندرية. وتعتزم ألاّ تعرض بارزيفال للموت وهو صغير السن، فتربيه في عزلة في الريف، وتخفي عنه أصله الملكي، وينشأ جاهلاً بفنون القتال وحمل السلاح:

وحزن لذلك أهلها أشد الحزن، لأنهم رأوه عملاً مشئوماً،

وقالوا إن هذه النشأة لا تليق قط بابن ملك عظيم،

ولكن أمه أخفته في أودية الغابات البرية،

وحال حبها وحزنها بينها وبين التفكير في مبلغ إساءتها للطفل الملكي.

فلم تعطه قط سلاحاً من أسلحة الفرسان إلاّ ما كان يصنعه لنفسه

في أثناء لعبه من الأعشاب التي تنبت في طريقه المنعزل.

فقد صنع لنفسه منها قوساً وسهاماً، يقذف بها،

وهو مرح غافل عن التفكير،

الطيور وهي تشدو فوق رأسه على الأشجار المورقة.

ص: 285

فلمّا أن سقط طير الغاب المغرد ميتاً عند قدميه،

مال برأسه ذي الشعر في دهشة وحيرة صامتة،

واندفع في غضب الطفولة وحيرتها الصامتة يقتلع غدائر شعره الذهبي؛

(فأنا أعلم حق العلم أنه لم يكن على ظهر الأرض كلها من يضارعه في جماله)

وطاف بعقله أن الموسيقى التي ظل طول حياته يعزفها بيده

قد ملأت بأنغامها العذبة قلبه نشوة، فأحزنه هذا التفكير وأمضه (47).

ويبلغ بارزيفال طور الرجولة وهو قوي الجسم فارغ العقل، حتى تقع عينه في يوم من الأيام على فارسين في الطريق، فيجب بدروعهما البراقة، ويظنهما إلهين لا فارسين، ويعتزم أن يكون له مثل ما لهما من رونق وبهاء. ويعود إلى موطنه ليبحث عن الملك آرثر الذي يجعل الرجال فرساناً، وتحزن أمه لذهابه حزناً يكاد يقتلها. ويلتقي بارزيفال في طريقه بدوقة نائمة فيختلس منها قبلة، ويسلبها منطقتها، وخاتمها، ويرتكب بعمله هذا إثماً يدنسه سنين طوالاً. ثم يلتقي بإيثر Ither، الفارس الأحمر، ويرسل معه هذا الفارس رسالة يدعو فيها الملك آرثر للقتال. ويدخل بارزيفال على الملك ويستأذنه في أن يجيب هو دعوة إيثر، فيأذن له ويعود إلى إيثر، ويقتله - لأن الحظ في القصص يكون في جانب المبتدئ - ويلبس دروعه، ويركب طلباً للمغامرات. ويطلب إلى جرنمانز Gernemanz في أثناء الليل أن يستضيفه، ويعجب به البارون الشيخ، فيعلمه أساليب القتال الإقطاعية وسدي إليه نصيحة الفرسان:

أشفق على المحتاجين، وكن رحيماً، كريماً، متواضعاً. إن الرجل الكريم المحتاج يستحيي أن يسأل، فتقدم إليه أنت بالعون قبل أن يسألك

ولكن كن حازماً لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط

لا تكثر من السؤال، ولا ترفض الإجابة عن سؤال خليق أن تسأله. لاحظ واستمع

أعف عمن يستسلم لك مهما تكن إساءته إليك

تخلّق بأخلاق الرجولة

ص: 286

وكن مرحاً

احترم النساء وأحبهن، فذلك مما يزيد في شرف الشاب - كن ثابتاً فإن الثبات من شيم الرجال. ألا ما أقل ما ينال من الثناء شخص يخون الحب الشريف (48).

ويخرج بارزيفال مرة أخرى في طلب المغامرات، ويفك الحصار عن كندورامور Kondurramur، ويتزوجها، ويتحدى زوجها بعد عودته، ويبارزه، ويقتله، ثم يترك لزوجته يبحث عن أمه. وتشاء الصدف أن يصل إلى قصر "الكأس المقدسة" فيستضيفه حراسه الفرسان، وتقع عينه على الكأس (والكأس في هذه القصة حجر ثمين)، ويذكر نصيحة جورنماتز الطيب، فلا يسأل عن الكأس المسحورة أو الملك المريض، ولم يكن يعرف أنه عمه. ويصحو في صباح اليوم الثاني فيجد القصر كله خاوياً على عروشه؛ فيخرج منه على ظهر جواده، وترفع أيد مجهولة الجسور الموصلة إلى القصر كأنها تنهاه عن العودة إليه. وينضم مرة أخرى إلى بلاط آرثر، ولكن العرافة كندرى Kondury تتبعه في أثناء هذا الترحيب بالجهل وقلة الأدب لأنه لم يسأل عن سبب علة أمفورتاس، ويقسم بارزيفال أن يعود مرة أخرى لطلب الكأس.

ولكن سورة من الغضب تظلم عليه حياته في تلك الساعة. فهو يشعر أنه غير جدير بما وجهته إليه كندرى من تقريع، ويدرك كثرة ما في العالم من مظالم، ويخرج عن طاعة الله، ويظل أربع سنين لا يزور كنيسة، ولا ينطق بصلاة (49). وتصيبه في تلك السنين مائة من الكوارث، ويظل يبحث عن الكأس ولكنه لا يجدها. ثم يعثر في يوم من الأيام على خلوة ناسك يدعى تريفر يزنت Treverezent ويتبين أنه عمه، ويعرف منه قصة الكأس، وأن علة أمفورتاس التي تفارقه سببها أنه ترك حراسة الكأس ليشغل نفسه بحب غير مشروع. ويعيد الناسك بارزيفال إلى الدين المسيحي، ويتحمل عنه عقاب ذنوبه. وهكذا يهون بارزيفال على نفسه، وتطهر من خطاياه، وجهله وينجيه

ص: 287

عذابه من آثامه، فيعود إلى البحث عن الكأس المقدسة. ويكشف الناسك إلى كندرى أن بارزيفال ابن أخي أمفورتاس ووارث ملكه، فتبحث عنه وتعلن إليه أنه اختير ليخلف أمفورتاس على العرش وليكون حارساً على الكأس. ثم تقوده إلى القصر الخفي، ويسأل أمفورتاس عن سبب مرضه، ويشفي الملك الشيخ لساعته. ويجد بارزيفال زوجته كندوبرامور وتأتي إليه لتكون ملكته. ويرزقان بولد يدعى لوهنجرين Lohengrin.

وكأنما أراد جتفرايد السلزبرجي Gottfied of Salisburg أن يمد فاجنر Wagner بموضوع آخر لمسرحياته الموسيقية، فأخرج حوالي عام 1210 أعظم تراجم قصة ترستان نجاحاً. وهذه القصة تمجد الزنا وعدم الوفاء تمجيداُ حماسياً، وتندد بالدستور الأخلاقي الإقطاعي والمسيحي على السواء.

ولد ترتستان، كما ولد بارزيفال، لأم صغيرة السن تدعى بلانش فلير Blanche fleur ( الزهرة البيضاء) ولمّا يمض إلاّ وقت قصير على نبأ يأتيها بأن زوجها الأمير قتل في معركة. ولهذا تسمى الطفل ترستان - أي الحزين - وتموت بعد مولده. ويكفل الولدَ عمُّه مارك Mark ملك كورنوول Cornwall ويجعله من الفرسان. ولمّا بلغ أشده واستوى نبغ في ألعاب البرجاس وقتل مورولد Morold خصيمه الأيرلندي، ولكنه يجرح في المعركة جرحاً مسموماً يقول له عنه مورولد وهو يحتضر إنه لا يشفيه إلاّ إيزيولت Iseult ملكة أيرلندة. فيتخفى في زي تانتريس Tantris العازف على القيثارة، ويزور أيرلندة وتشفيه ملكتها. ويعين مربياً لابنة الملكة واسمها أيضاً إيزيولت. ويعود بعدئذ إلى كورنوول ويحدث مارك عن جمال إيزيولت الصغيرة وحسن صفاتها وأدبها، ويرسله مارك مرة ثانية ليخطب له هذه الفتاة. وتأبى إيزيولت أن تفارق وطنها، وتتبين أن ترستان هو قاتل عمها مورولد فيمتلئ قلبها حقداً عليه، ولكن أمها تقنعها بالرحيل، وتعطي وصيفتها برنجين Brangane شراباً مسحوراً يبعث الحب

ص: 288

في القلوب لتسقيه إيزيولت ومارك لتستثير به حبهما. وتخطيء الوصيفة فتسقيه إيزيولت وترستان فلا يلبث الاثنان أن يحتضن كلاهما الآخر، وتكثر الخيانات ويتفقان على أن يخفيا حبهما؛ وتتزوج إيزيولت مارك، وتنام مع ترستان، وتدبر مكيدة لقتل برنجين لأنها تعرف أكثر مما ينبغي أن تعرفه. ومارك هو الرجل الشهم النبيل في هذه القصة (وليس الأمر كذلك في قصة مالوري)؛ فهو يكشف الخديعة، ويخبر إيزيولت وترستان أنهما أعز عليه من أن ينتقم منهما، ويقنع في ذلك بنفي ابن أخيه من البلاد. ويلتقي ترستان في تجواله بإيزيولت ثالثة ويقع في حبها، وإن كان قد أقسم أن يكون هو وملكة مارك "قلباً واحداً، وروحاً واحدة، وجسماً واحداً، وحياةً واحدة". وهنا يترك جتفرايد القصة ناقصة حطمت فيها جميع المثل العليا للفروسية. أما بقية القصة فمن صنع مالوري وعصر متأخر.

وأخرجت ألمانيا في هذا الجيل العجيب، الحيل الأول من القرن الثالث عشر شاعراً آخر يكون هو وولتر، وولفرام، وجتفرايد أربعة لا يدانيهم أربعة سواهم في أي مكان آخر في أدب العالم المسيحي في أيامهم. بدأ هارتمان فن أو Hartman von Aue بتقليد كريتيان تقليداً أعرج في روايتيه الشعريتين ارك Erec وإوين Iwein، ولكنه لمّا التفت إلى أقاصيص بلاده سوابيا Swabia أخرج آية فنية صغرى هي Der arme heinrich ( حوالي عام 1205). وكان "هنري المسكين" كما كان أيوب رجلاً غنياً يصاب وهو في عنفوان مجده بداء الجذام ولا يستطيع أن يشفيه منه إلاّ موت عذراء طاهرة من أجله (إذ لابد أن يقول السحر في العصور الوسطى كلمته في القصص). ولا يتوقع هنري أن يجد هذه التضحية فيستسلم للحزن واليأس، ولكن فتاة هذه صفاتها في الوجود، تعتزم أن تموت كي يشفى هنريخ من دائه الوبيل. ويظن أبواها أن قرارها هذا موحى

ص: 289

به من عند الله فيوافقان على هذا العمل الذي لم يكن أحد يظن أنهما سيوافقان عليه، وتكشف الفتاة عن صدرها الجميل للنصل. ولكن هنريخ تدب فيه نخوة الرجولة على حين غفلة، فيأمر بألاّ تقتل الفتاة، ويرفض هذه التضحية، ويمتنع عن العويل، ويرتضي آلامه معتقداً أنها من عند الله، وتتبدل روحه بفضل هذه النزعة الجديدة، فيزول مرضه الجثماني زوالاً سريعاً، ويتزوج الفتاة التي أنقذته ويعوض هارتمان القصة عما فيها من سخف وبعد عن المعقول بشعره البسيط السلس الخالي من التكلف، وقد احتفظت ألمانيا بهذه القصيدة حتى هذا العصر القليل الإيمان.

وثمة قصة أجمل منها كتبها شاعر فرنسي غير معروف في وقت ما في النصف الأول من القرن الثالث عشر وسماها هذان هما أوكسيان ونيقولت c'EST D'Aucassin et Nicolette. والقصة نصفها رواية غرامية، ونصفها سخرية من الروايات الغرامية، صيغت كما يليق بها أن تصاغ تارةً شعراً وتارةً نثراً، ووضعت لها علامات موسيقية بين النصوص الشعرية.

وخلاصتها أن أوكسان ابن الكونت بوكير Beaucaire يغرم بنيقولت متبناة فيكونت بوكير. ويعارض الكونت في زواجه بها لأنه يريد أن يزوج ابنه من أحد البيوت الإقطاعية التي تستطيع أن تمده بالعون في الحرب، ويأمر تابعه الفيكونت أن يخفي الفتاة. ويريد أوكسان أن يراها فيشير عليه الفيكونت أن "يدع نيقولت وشأنها وإلاّ فلن يرى الجنة قط". ويرد عليه أوكسان رداً يتفق مع نزعة التشكك التي أخذت تظهر في الوقت:

ما شأني أنا والجنة؟ إني لا يهمني قط أن أدخلها، وكل الذي يهمني أن أحظى بنيقولت

ذلك أن الجنة لا يدخلها إلاّ القساوسة الطاعنون في السن، والشيوخ المقعدون، والمرضى الذين لا يبارحهم السعال ليلاً أو نهاراً أمام مذابح الكنائس

أما أنا فلا شأن لي بهؤلاء، بل إني أريد أن يكون مأواي الجحيم، لأن الجحيم مثوى العلماء الظرفاء، والفرسان الأنجاد الذين يقتلون في ألعاب

ص: 290

الفروسية أو الحروب العوان، كما هي مأوى النًّابل القوي والرجل الوفي. إني أريد أن أكون مع هؤلاء. وإليها تذهب السيدات الحسان الظريفات اللاتي لكل منهن أصدقاء - اثنان أو ثلاثة - زيادة على زوجها. وفيها يمر العازفون والمغنون، وملوك العالم. سأذهب مع هؤلاء إذا كان نيقولت صديقتي الحلوة الجميلة إلى جانبي.

ويغلق والد نيقولت باب حجرتها عليها، كما يحبس والد أوكسان ابنه في سرداب أرضي حيث يتغنى بدواء عجيب مسحور:

نيقولت - يا زهرة الزنبق البيضاء،

يا أحلى فتاة وجدت في عريش،

يا حلوة كالكرمة

التي تفيض بها الكأس المتبلة حلاوة؛

حدث لك في يوم من الأيام،

أن جاء من ليموزين Limousin

حاج متعب خائف،

يرقد من شدة الألم على فراشه،

يتقلب ويخشى الموت حين يتنفس،

مكتئب أشد الاكتئاب،

قاب قوسين أو أدنى من الموت.

فدخلتِ يا ذات الطهر والنقاء،

ومشيت بخفة حتى أبصرك الرجل العليل،

ورفعت زيل ثوبك المسبل.

ورفعت الجلباب الموشى بالفراء،

ص: 291

ورفعت الشعار وكشفت له لخفة

عن كل عضو فيك جميل.

وحدث وقتئذ حادث عجيب،

فقد قام في تلك الساعة سليماً معافى،

وغادر فراشه، وأمسك بيده الصليب،

واتجه مرة أخرى نحو بلاده العزيزة.

يا زهرة الزنبق البيضاء الحلوة،

ما أحلى وقع قدميك!

وما أحلى ضحكك وما أخلى حديثك!

وما أجمل لعبنا معاً!

وما أحلى قبلاتك وما ألين ملمسك!

إن الناس كلهم لابد مولعون بك (51).

وفي هذه الأثناء تفتل زهرة الزنبق حبلاً من أغطية فراشها وتنزل به إلى الحديق، وتمسك ذيل ثوبها بكلتا يديها

وانزلقت بخفة فوق الندى المتراكم على الكلأ، وخرجت بهذه الطريقة من الحديقة. وكان شعرها ذهبياً، جعلت منه غدائر حب صغيرة. وعيناها زرقاوين باسمتين، ووجهها جميل يسر المرء أن يراه. لها شفتان أشد حمرة من الوردة أو الكرزة في حر الصيف، وأسنان بيضاء صغيرة، وثديان ناهدان يبدوان تحت ثيابها كأنهما رمانتان. وكانت ذات خصر نحيل تكاد يداك تنطبقان عليه، وكانت الأزهار التي تنكسر تحت قدميها تبدو سوداء أمام باطنهما وبشرتها. ألا ما أنصع بياض تلك الفتاة الحسناء (52).

وتتخذ سمتها إلى نافذة سجن أوكسان ذات القضبان الحديدية وتقص خصلة من شعرها وتلقيها إليه، وتقسم أن حبها لا يقل عن حبه. ويرسل والدها من يبحث له عنها، فتفر إلى الغابات وتعيش مع الرعاة الذين يعرفون قدرها. ويظن

ص: 292

والد أوكسان بعد مضي فترة من الزمان أنها أصبحت بعيدة عن ولده فيطلق سراحه. فيخرج اوكسان إلى الغابات ويبحث عنها وتعترضه في ذلك البحث حوادث لا تخلو من الهزل، ثم يعثر عليها ويردفها خلفه على جواده و"يقبّلها وهما راكبان". ويريدان الفرار من أبويها اللذين يتعقبانهما، فيركبان سفينة يعبران بها البحر المتوسط؛ وينزلان في أرض يلد فيها الرجال، ويحترب الناس بالترامي المرح بالفاكهة. ويعتقلهما محاربون أقل من هؤلاء رقة، ويفترقان مدى ثلاثة أعوام، ثم يجتمعان آخر الأمر مرة أخرى؛ ويموت الوالدان الحانقان لحسن الحظ، ويصبح أوكسان ونيقولت كونت بوكير وكنتتها.

وليس في أدب فرنسا الموفور الثراء ما هو أبدع من هذه القصة.

ص: 293

الفصل الثامن

‌الرجوع إلى الهجاء

وكانت الفكاهة التي تخللت فصول هذه القصة توحي بأن الفرنسيين بدءوا يتخمون بالروايات الغرامية. ذلك أن أشهر قصائد العصور الوسطى - وهي القصيدة التي يعرفها من القراء أكثر ممن يعرفون المسلاة الإلهية - بدأت قصة غرامية وانتهت بأن كانت أقوى وأفحش قصيدة هجائية في التاريخ كله. وتفصيل ذلك أن جيوم ده لوريس Guillaume

(1)

، وهو طالب صغير السن في أورليان، كتب حوالي عام 1237 قصيدة رمزية كان يقصد بها أن تشمل جميع فنون الحب، وأن تكون بفضل صبغتها التجريدية نموذجاً لجميع الروايات الغرامية وخلاصة لهذه الروايات. ولسنا نعرف عن وليم اللواري هذا William of the Loire أكثر من أنه كتب الأبيات الأولى البالغ عددها 4226 من رواية الوردة roman de la rose. وهو يصور نفسه فيها يطوف في حلمه بحديقة حب فخمة تتفتح فيها كل زهرة معروفة وتشدو فيها جميع الطيور، وتجتمع فيها أزواج سعيدة تمثل كل ما في حياة الحب من متعة ونعيم - المرح والسرور، والأدب والجمال، ويرقص كل زوجين اثنين من هذه المتع تحت رياسة إله الحب. ذلك دين جديد يحتوي فكرة جديدة عن الجنة تحل فيها المرأة محل الله. وفي هذه الجنة يرى الحالم زهرة أبهى من كل ما يحيط بها من جمال، ولكنها تحرسها ألف شوكة. وهذه الوردة هي رمز المحبوب. وتتألف من شوق بطل الرواية إلى بلوغها وقطفها قصة جميع الحملات الغرامية التي تثيرها الشهوة المكبوتة التي تثير الخيال وتغذيه. وليس في القصة كلها إنسان سوى راويها نفسه، أمّا من بقى من الممثلين فيها فتجسيد

(1)

جيوم هو وليم كما يكتبه الفرنسيون. (المترجم)

ص: 294

الصفات خُلُقية توجد في كل القصور التي يطارد فيها الرجال النساء: المظهر الجميل، والكبرياء، والنذالة، والحياء، والثراء، والبخل، والحسد، والخمول، والنفاق، والشباب، واليأس، و"الفكر الجديد" نفسه - ومعنى الفكر الجديد هنا هو التذبذب. وأعجب ما في القصة أن جو يوم استطاع بهذه التجريدات أن يقرض شعراً ممتعاً - ولعل سبب ذلك أن الحب أياً كان عصره وأياً كان مظهره فيه من المتعة بقدر ما في الدم من حرارة

(1)

.

ومات وليم صغير السن دون أن يتم قصيدته؛ وظل العالم أربعين عاماً حائراً لا يدري هل فعل المحب الذي أصابه كيوبد إله الحب بسهمه فأخذ يرتجف من شدة الحب، نقول هل فعل أكثر من أن يقبل الوردة. ثم أمسك فرنسي آخر يدعى جان ده مونج Jean de Meung بالشعلة، وبلغ بها أكثر من اثنين وعشرين ألف بيت من الشعر في قصيدة بينها وبين قصيدة وليم من البعد مثل ما بين ربليه وتنيسُنْ Tennyson. ذلك أن مرور جيل من الزمان قد بدل مزاج القوم؛ وأن الروايات الغرامية

(1)

لا تقل ترجمة تشوستر للنصف الأول من قصيدة رواية الوردة " The Roman of the Rose" في جمالها عن أصلها الذي كتبه وليم بنفسه.

ص: 295

قد استنفذت إلى حين كل ما عندها من حديث، وأخذت الفلسفة تغشى بستار العقل شعر الإيمان؛ وكانت الحروب الصليبية قد أخفقت، وبدأ عصر الشك والهجاء. ويقول بعضهم إن جان كتب الجزء العاصف العجاج الذي أكمل به القصيدة بناءً على إشارة الملك فليب الرابع الذي بعث بمحاميه المتشككين ليضحكوا في وجه البابا. وكان مولد جان كلوبنل Jean Clopinel في مونج القائمة على شاطئ نهر اللوار حوالي عام 1250، ودرس الفلسفة والأدب في باريس، وأصبح من أعظم رجال زمانه تبحراً في العلوم. ولسنا ندري أي عامل من عوامل الشر والفساد أغراه بأن يسخّر علمه، وبغضه للكهنوتية، واحتقاره للمرأة والروايات الغرامية، أن يسخّر هذا كله ليكمل به أعظم قصيدة غرامية في الأدب كله. فقد أخذ جان يبسط آراءه في جميع الموضوعات من خلق العالم إلى يوم الحساب بينما ينتظر الحبيب المسكين في الحديقة طوال هذا الوقت ليقطف الوردة. ويصوغ أبياته في شعر من نفس البحر ذي الثمانية المقاطع والقافية الواحدة في كل بيتين كالذي صاغ فيه وليم قصيدته، ولكنه بما فيه من حماسة وطرب بعيدٌ كل البعد عن أشعار وليم الحالمة. وإذا كان قد بقى في قلب جان شيء من الغرام فقد كان ذلك هو صورة أفلاطون الخيالية للعصر ذهبي في الماضي "لا يقول أحد فيه إن هذا الشيء أو ذلك ملك له، ولا يعرف فيه الناس الشهوات أو السلب والنهب"، ولم يكن فيه سادة إقطاعيون، ولا دولة، ولا قانون، يعيش الناس فيه دون أن يأكلوا اللحم أو السمك أو الطير، و"تكون فيه جميع خيرات الأرض ملكاً مشاعاً بينهم"(53). وليس جان متحرراً من الدين، فهو يقبل عقائد الكنيسة دون أن يحط من قدرها، ولكنه يبغض "أولئك الفجار البدن المترفين، والإخوان المتسولين، الذين يخدعون الناس بالألفاظ الكاذبة، ويملأون بطونهم باللحم والشراب"(54) وهولا يطيق المنافقين، ويوصيهم بأكل البصل والثوم لييسر لهم أن يذرفوا دموع التماسيح (55). ويقر بأن "حب امرأة ظريفة" خير ما في الحياة مننعم، ولكن يبدو أنه لم يتذوق قط هذه النعمة (56)، ولعله لم يكن خليقاً بأن يتذوقها لأن الهجاء لم يكن قط طريق كسب فتاة حسناء؛ ولأن جان كان شديد التأثر بأوفد، وقد تتلمذ عليه إلى حد جعله يفكر في وسائل الانتفاع بالنساء، ويُعَلّم غيره هذه الوسائل، أكثر ممّا يحبهم. وهو يجهر بأن الاقتصار على زوجة واحدة سخف، لأن الطبيعة قد أعدت الكل للكل- كل النساء لكل الرجال. وهو يُنطق الرجل المشبع بهذه الأبيات يؤنب بها زوجته المزدانة:

ص: 296

وماذا تجدي هذه المظاهر كلها؟

وأي نفع يعود على من الأثواب الغالية وهذه الحلل ذات القطع الشاذ الغريب؟

وماذا يعنيني من هذه العصائب التي تولين بها شعرك وتعقصينه،

وتجدلينه بخيوط من الذهب؟ ولماذا تطعمين بالعاج

مرايا مرصعة بالميناء، منشورة عليها دوائر ذهبية؟

وما شأن هذه الجواهر الخليقة بتيجان الملوك،

لؤلؤ وياقوت أحمر وأزرق جميل، يبعث فيك الغرور الجنوني الممقوت؟

وما جدوى هذه الأقمشة الغالية!

والطيات المثناة المجدولة، والمناطق التي تطوقين بها خصرك.

محلاة ومزدانة بالنقوش الكثيرة؟

ثم قولي لمَ تختارين أن تلبسي في قدميك حذاءين ملتمعين

إلاّ إذا كنت تشتهين أن تكشفي عن ساقيك الجميلتين؟

قسماً بالقديس ثيبو Thibaud لأبيعنّ هذه الأشياء الغثة

قبل أن تمضي من هذا الوقت ثلاثة أيام، ولأنبذنّك نبذ الثوب الخلق!

وإنّا لنجد بعض السلوى حين نعرف أن إله الحب يهاجم في آخر الأمر، على رأس أتباعه الذين يخطئهم الحصر، البرج الذي يقوم فيه الخطر، والحياء، والخوف (تردد السيدة) بحراسة الوردة، ويُدخِل الترحابُ الحبيبَ إلى الكعبة الداخلية ويتركه يقتطف أمل أحلامه. ولكن أنّى لهذه الخاتمة الغرامية التي طال انتظارها أن تمحو 18. 000 بيت من الواقعية الفظة والبذاءة الساحرة؟

وكان أكثر ما يقبل الناس على قراءته في أوربا الغربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر كتب ثلاثة هي رواية الوردة، والقصة الذهبية، ورينار

ص: 297

الثعلب. وبدأت قصة Reynard باللاتينية في إيسنجرينس Ysingrinus حوالي عام 1150 ثم انتقلت منها إلى عدة لغات قومية بأسماء مختلفة Roman de Renart، Reynard the Fox، Reinele de Vos، وانتهى تطوافها برواية Reineke Fuchs لجيته. وأضاف مؤلفون مختلفون نحو ثلاثين قصة مرحة لهذه السلسلة حتى بلغ مجموعها 24. 000 بيت خصصت كلها تقريباً لهجاء الأساليب الإقطاعية، وحاشية الملوك، والاحتفالات المسيحية، والعيوب الآدمية على لسان الحيوان.

ويحتال رينار الثعلب حيلاً شيطانية على الأسد نوبل Noble ( الشريف) ملك الدولة، ويُعطّر درع نوبل بالسيدة هاروج Dame Harouge الفهدة وينصب لها من الدسائس ما لا يقل عن دسائس تليران Talleyrand حتى ترضى أن تكون عشيقته. ويسترضي نوبل وغيره من الوحوش بأن يهب كلاً منها طلسماً ينبئ الزوج بخيانات زوجته. وبهذه الطريقة تنكشف مخاز رهيبة، ويضرب الأزواج زوجاتهم الخائنات، فتفر الزوجات ويحتمين ببرنار فيتخذهن جميعاً حريماً له. وتقول إحدى القصص إن الحيوانات تشتبك في ألعاب الفروسية، وتبدو بأثواب الفرسان الزاهية في استعراض رائع. وترى الثعلب في قصة رينار الميت La Mort Renart يحتضر؛ ويقبل برنار Bernard الحمار كبير أساقفة الحاشية ليقوم له بالمراسيم الدينية، ويخاطبه بلغة توفى على الغاية في العاطفة والإخلاص، وتصنع منتهى الجد والوقار. ويعترف رينار بذنوبه، ولكنه يشترط إذا شفي من مرضه أن يصبح في حل من يمينه غير مقيد بها. وتدل المظاهر كلها على أنه مات، وتجتمع كل الوحوش الكثيرة العدد التي خانها في زوجاتها، أو ضربها، أو مزق لحمها، أو خدعها، تتظاهر بحزنها عليه، ولكنها في خبيئة أمرها سعيدة بموته. ويلقى كبير الأساقفة على قبر الميت عظة شبيهة بأقوال ربليه، ويلوم رينار لأنه كان يرى "أن كل شيء حسن إذا استطعت أن

ص: 298

تستحوذ عليه". ولكن رينار تدب فيه الحياة حين يرش عليه الماء المقدس، ويقبض على عُنق شانتكلير (الديك) وهو يطوح بالمبخرة، ويخرج إلى الغابة بفريسته. وبعد فإذا أراد الإنسان أن يفهم العصور الوسطى على حقيقتها فعليه ألاّ ينسى رينار.

ذلك أن قصة رينار أعظم القصص الخرافية التي تروى على لسان الحيوان لهجاء الإنسان. وكانت هذه القصص عادة تكتب بالشعر ذي الثمانية الأوتاد، ويتراوح طولها بين ثلاثين بيتاً وألف بيت؛ ومنها ما هو قديم يرجع إلى عهد إسيوب Aesop أو إلى أقدم من عهده، وجاء بعضها من بلاد الهند عن طريق المسلمين. وكان أكثره قذفاً في حق النساء أو القسيسين، يحسد النساء على ما حبتهن الطبيعة من سلطان، والقسيسين على ما لهم من قوى غير طبيعية؛ يضاف إلى هذا أن النساء والقساوسة قد عابوا على المغنين تلاوة القصص الخرافية الشائنة. ذلك أن الخرافات كانت تتجه على الدوام لأصحاب البطون القوية، وتستخدم لغة الحانات والمواخير، وصاغت آلافاً من الفكاهات شعراً. ولكن تشوسر، وبوكاشيو، وأريستو Aristo، ولافنتين، ومائة غيرهم من القصاصين استمدوا من معينها الفياض كثيراً من القصص المثيرة المدهشة.

وكانت نهضة الشعر الهجائي سبباً في انحطاط منزلة الشعر الغنائي. واشتق الشعراء المغنون الجوالون اسمهم Minstrels الإنجليزي من لفظ Ministerials، وهم في الأصل خدم في حاشية البارونات، أشتقوا اسمهم الفرنسي Jonglenurs من اللفظ اللاتيني ioculator أي صاحب النكات. وقد قام هؤلاء بوظيفة شعراء اليونان الدوارين والماجنين الرومان، وشعراء اسكنديناوة القدماء، والمغنين الإنجليسكسون، وشعراء ويلز وأيرلندة المداحين. وكان المغنون حين بلغت الروايات الغنائية قمة مجدها في القرن الثاني عشر يقومون مقام الطباعة في هذه الأيام؛ وقد احتفظا بمكانتهم بما كانوا يروونه أحياناً من القصص الخليقة بأن

ص: 299

تسمى أدباً. فكان الواحد منهم يمسك بقيثارة أو الكمان الكبيرة وينشد الأغاني أو القصص القصيرة، أو الملاحم، أو قصص مريم أو القديسين، وأغاني أعمال الأبطال، والروايات الغرامية أو خرافات الحيوانات

(1)

. وإذا حل موسم الصوم الكبير، وقل عليهم الطلب، عقدوا إذا استطاعوا مؤتمراً للمغنين والماجنين كالمؤتمر الذي نعرف أنه عقد حوالي عام 1000؛ وفيه يتعلم بعضهم ما عند البعض الآخر من حيل وأساليب، وما عند شعراء الفروسية الغزلين والقصاصين من أغان وقصص جديدة. ومنهم من كان يرضى، إذا تبين أن أو قاله ذات طابع عقلي أقوى مما يطيقه المستمعون، أن يسلوهم بالشعوذة، والألعاب البهلوانية، وثني الأجسام، والمشي على الحبال. ولمّا أخذ القصاصون يتنقلون في المدن يروون أقاصيصهم، ولمّا انتشرت عادة القراءة وقل الطلب على القصاصين، تحول المغني الجائل تدريجاً إلى ممثل للمهازل ذات الأغاني والرقص، وأصبح المغني في واقع الأمر مشعوذاً، يقذف بالسكاكين، ويحرك الدمى، ويعرض ألعاب الدببة المدربة؛ والقردة، والخيل، والديكة، والكلاب، والجمال، والأسود. ومن المغنين من حول خرافات الحيوانات إلى روايات هزلية، ومَثَّلها دون أن يمحو ما فيها من فحش. وقاومت الكنيسة شيئاً فشيئاً هذه الطائفة، وحرمت على الصالحين الاستماع إلى أفرادها، وعلى الملوك أن يطعموهم، وكان هونوريوس أسقف أوتون Autun يرى أن أحداً من أولئك المغنين أو القصاصين لن يدخل الجنة.

وكان حب الشعوب لأولئك المغنين والقصاصين ورواة خرافات الحيوانات، والترحيب الصاخب الذي لقيته ملحمة جان ده مونج عن الطبقة الوسطى

(1)

ما أشبه هؤلاء "بالشعراء" الذين ينشدون على الربابة قصص أبي زيد الهلالي وغيره من الأبطال والذين أخذوا مع الأسف الشديد ينقرضون في هذه الأيام. (المترجم)

ص: 300

bourgoisie من الطبقات المتعلمة وطلبة الجامعات المتمردين؛ كان هذا خاتمة ذلك العصر. نعم إن الروايات الغرامية ظلت باقية، ولكنها كانت تتحداها من كل ناحية القصائد الهجائية، والفكاهات، والمزاج الدنيوي الواقعي الذي يسخر من قصص الفروسية قبل أن يولد سرفنتيز Cervantes بزمن طويل. وظل الهجاء قرناً كاملاً من ذلك الوقت هو المسيطر على الميدان، يقرض بأنيابه قلب الإيمان، حتى تزعزعت جميع دعائم صرح العصور الوسطى، وتحطمت أضلاعه، وتركت نفس الإنسان مزهوة تترنح على حافة العقل.

ص: 301

الباب التاسع والثلاثون

‌دانتي

1265 -

1321

الفصل الأول

‌شعراء الفروسية الغزليون الإيطاليون

كان بلاط فردريك الثاني هو المكان الذي ولد فيه الأدب الإيطالي. وربما كان لمن في حاشيته من المسلمين نصيب في الحافز الباعث على نشأة هذا الأدب لأن كل مسلم يعرف القراءة والكتابة في ذلك الوقت كان يقرض الشعر. وساعد ذلك أن سيلو دالكلمو Cillo d'Alcamo ( حوالي عام 1260) كتب "حواراً" جميلاً "بين عاشق وسيدة". وتكاد مدينة ألكامو إحدى مدن صقلية تكون مدينة إسلامية. ولكن أثراً أقوى من أثر المسلمين جاء إلى الجزيرة من شعراء الفروسية الغزلين في يروفانس. فقد كان هؤلاء يرسلون أشعارهم، أو يأتون بأنفسهم، إلى فردريك وأعوانه المثقفين وكان هو يجلّهم ويقدّر جهودهم. ولم يكن فردريك نفسه يناصر الشعر فحسب، بل كان فوق ذلك يكتبه، ويكتبه باللغة الإيطالية. وقد ألّف كبير وزرائه بيرودل فني Piero delle Vigne أغاني ممتازة، وربما كان هو الذي صاغها في تلك الصيغة المجهدة. وكان رينلدوداكوينو Rinaldo d'Aquino ( أخو القديس تومس) والذي كان يعيش في بلاط فردريك، وجيدو دلي كولن

ص: 302

Guido delle Colonne، وياقوبو دالنتينو Lacopo da Lentino أحد مسجلي الصكوك في بلاط فردريك، كان هؤلاء جميعاً من بين شعراء تلك "النهضة الأبولية". وإنّا لنجد في أغنية ياقوبو (كتبت حوالي 1233) أي قبل مولد دانتي بجيل من الزمان، ما نجده من قصائد الحياة الجديدة Vita Nuovo من رقة العاطفة وجمال الصقل:

أجد في قلبي قوة تدفعني إلى أن أخدم الله،

لكي يكون مثواي الجنة

المكان المقدس الذي سمعت أن البهجة والنعيم

يفيضان في كل مكان فيه.

غير أني أكره الذهاب إليها من غير حبيبتي

ذات الوجه المتلألئ والشعر البراق،

لأني أعرف أنها غابت عنها وكنت أنا فيها

كان نعيمي أقل من لا شيء.

ولكن حذار أن تظن أني أقول هذا

لأني سأرتكب فيها الآثام،

بل كل ما أبغيه أن أشاهد طلعتها البهية،

وعينيها الناعستين الجميلتين، ووجهها الصبوح

حتى تتم بذلك سعادتي

برؤية سيدتي مبتهجة في مكانها!

ولما أن سافر فردريك وحاشيته في بلاد إيطاليا أخذ معه شعراءه وحيواناته البرية، ونشر هؤلاء أثرهم في لاتيوم، وتسكانيا، ولمباردية. وسار ابنه مانفرد Manfred على سنته في مناصرة الشعر وكتب مقطوعات غنائية استحقت ثناء دانتي. وتُرجم كثير من الشعر "الصقلي" إلى لغة تسكانيا، وكان

ص: 303

له نصيب في تكوين مدرسة الشعراء التي انتهت إلى دانتي. وحدث في ذلك الوقت عينه أن هجر شعراء الفروسية الغزلون الفرنسيون بلاد لانجويك Languedoc التي مزّقتها الحروب الدينية، ولجأوا إلى بلاد الإيطاليين، وعلّموا شعراء تلك البلاد فنهم المرح، كما علّموا النساء الإيطاليات أن يرحبن بقصائد المديح، وأقنعوا كبار الإيطاليين بأن يجزلوا العطاء للشعراء وإن توجهوا بشعرهم إلى زوجاتهم، وقد بالغ بعض شعراء التسكان في تقليد شعراء الفروسية فكتبوا شعرهم بلغة بروفنسال نفسها للفرنسيين. ومن هؤلاء Sordello ( حوالي 1200 - 1270) وهو شاعر ولد في منتوا Mantua بلدة فرجيل، وأني ما أغضب إزلينو Ezzelino الرهيب؛ ففر إلى بروفانس، وكتب بلغة تلك البلاد قصائد في الحب الروماني الأفلاطوني.

ونشأ من هذه العاطفة الأفلاطونية، بمزيج عجيب من الميتافيزيقا والشعر "الأسلوب الحلو الجديد" التسكاني. ذلك أن الشعراء الإيطاليين خرجوا على الشهوانية الصريحة التي وجدوها عند المغنين من شعراء بروفانس، وآثروا أن يحبوا، أو ادعوا أنهم يحبون، النساء بوصف كونهن ممثلات للجمال النقي المجرد، أو كونهن رموزاً للحكمة أو الفلسفة الإلهيتين. وكانت هذه نغمة جديدة في إيطاليا التي عرفت مائة ألف من شعراء الغزل. وربما كان قلم القديس فرانسس هو الذي حرك هذه الأفلام العفيفة، أو لعل كتاب الخلاصة لتومس أكوناس كان شديد الوطأة عليهم، أو لعلهم شعروا بتأثير المتصوفة المسلمين الذين لم يكونوا يرون في الجمال غير الله، والذين كانوا يوجهون قصائد الحب للخالق جل وعلا.

وتكونت المدرسة الحديثة من سرب من المغنين العلماء، فأخذ جونزلي Guinizelli، (1230؟ -1275) أحد مواطني بولونيا، الذي سماه دانتي والده في الأدب (3)، يتغنى بفلسفة الحب الجديدة في أغنية ذائعة الصيت سماها أغنية "القلب الرقيق"، وطلب فيها أن يغفر له الله حبه لمعشوقته لأنها في رأيه الألوهية

ص: 304

مجسدة؛ ونشر لاباجيني Lapa Gianni، ودينو فرسكوبلدي Dino Frescobaldi، وجيدو أرلندي Gudio Orlandi، وسينودا بستويا Cino da Pastoia، نشر هؤلاء الأسلوب الجديد في شمالي إيطاليا؛ وجاء به إلى فلورنس جيدو كفلكنتي Guido Cavalcanti ( حوالي 1258 - 1300) صديق دانتي وأظرف من عبّر عن هذا الأسلوب قبل الشاعر الكبير. وكان جيدو من الأشراف، ولهذا كان يختلف عن سائر هؤلاء الشعراء العلماء، وكان جيدو من الأشراف، ولهذا كان يختلف عن سائر هؤلاء العلماء، وكان زوج ابنة فاريناتا دجلي أبرتي Farinata degli uberti الذي قاد حزب الجبلين Ghibelline في فلورنس. وكان من أصحاب التفكير الحر في الدين ومن المقتنعين بفلسفة ابن رشد، متشكّكاً في الخلود وفي الله نفسه (4). واضطلع بدور إيجابي، عنيف في الشئون السياسية، وأصدر دانتي ومن معه من الرؤساء في عام 1300 قراراً بنفيه؛ فلمّا أصابه المرض عفي عنه، ومات في ذلك العام نفسه. وكان عقله الأرستقراطي المتكبر أليق ما يكون لصياغة الأغاني فاترة تماثل في رقتها الأغاني القديمة:

جمال النساء؛ وقرار الإرادة العليا؛

والفرسان الأنجاد المسلحون لألعاب الرجولة؛

وشدو الطير الجميل؛ وإجابات المحب الحلوة؛

ورقة السفن المسرعة فوق متن البحار؛

والهواء الصافي حين يبدأ الضوء أن يكون؛

والثلج الأبيض، الذي يسقط ويستقر في سكون الريح؛

وحقول الأزهار، والمكان الذي ينبع منه الماء؛

والفضة والذهب، وزرقة الجواهر:

إذا وزنت أمام مالي من قيمة

في قلب سيدتي العزيزة عليّ

ص: 305

فإنها تبدو ضئيلة. وفي الحق أني لأسمو في نظرها

على هذه كلها وأعلو عنها علو السماء عن الأرضين

وكل خير سرعان ما يمتد للخلائق الأقربين

وأخذ دانتي الشيء الكثير عن جيدو وقلّد أغانيه، ولعله مدين له بعزمه على كتابة الملهاة المقدسة The Divine Comedy باللغة الإيطالية. وشاهد ذلك قول دانتي نفسه:"وقد رغب إلى في أن أكتب له على الدوام بلغة البلاد لا باللغة اللاتينية"(6). وكان أسلاف دانتي هم الذين بدّلوا في القرن الثالث عشر فجاجة اللغة الجديدة وعجزها إلى نغمتها الحلوة، وإلى العبارات المركزة الدقيقة التي لا تضارعها فيها لفة أخرى من اللغات الأوربية، وهم الذين خلقوا لغة يستطيع دانتي أن يسميها:"فخمة، أصيلة، مهذبة، عظيمة"(7) ـ تليق لأن يكتب بها أعظم العلماء. وكانت أشعار البروفنساليين تبدو إذا قيست إلى أغاني الإيطاليين ناشزة غير متناغمة، وقصص الأبطال الشعرية، وغناء المغنين الجائلين تكاد تكون بالنسبة لها تافهة حقيرة. ولم يعد الشعر في هذه الأغاني الإيطالية مصرفاً للثرثرة المرحة، بل أصبح عملاً من أعمال الفن القوية المحكمة يبذل في صياغته من الجهد مثل ما بذل نقولا لا بيزانو وولده في نحت تماثيل المنابر. وبعد فإن من أسباب عظمة الرجل العظيم أن رجالاً أقل منه قد مهدوا له السبيل، وهيئوا لعبقريته مزاج عصره، وشكّلوا له أداة يمسكها بيديه، وأسلموه عملاً أنجزوا نصفه.

ص: 306

الفصل الثاني

‌دانتي وبياتريس

في شهر مايو من عام 1265 وَلدت بلا ألجيري Bella Alighieri لزوجها ألجيرو ألجيري Alighiero Aligieri ولداً سموه دورانتي Duarante ألجيري، ولعلهما لم يفكرا في ذلك الوقت أن معنى هذين اللفظين هو حاصل الجناح الطويل البقاء. ويبدو أن الشاعر نفسه هو الذي اختصر اسمه الأول دانتي (8). وكان لأسرته سلسلة نسب طويلة في فلورنس. ولكنها حلت بها القافلة، وماتت والدة الطفل في السنين الأولى من عمره، وتزوج ألجيري وغيرها، ونشأ دانتي مع زوجة أبيه، وأخ له غير شقيق، وأختين غير شقيقتين، ولعله لم يكن سعيداً معهم (9). ومات والد دانتي حين كان ابنه في الخامسة عشر من عمره، وخلف لهم عبئاً من الديون (10).

وكان دانتي يذكر من بين مدرسيه برونتو لاتيني Brunetto Latini ولا ينسى فضله عليه. وكان بونتو حين عاد من فرنسا قد اختصر موسوعته الفرنسية الكنز Tresor إلى موسوعة إيطالية صغرى سماها الكنيز Tesoretto وتعلم منه دانتي كيف يخلد الإنسان ذكره Come l'uom s'eterna (11) . وما من شك في أن دانتي قد درس فرجيل، وأنه وجد في دراسته لذة كبيرة، فهو يحدثنا عن أسلوب شاعر مانتوا الجميل، وهل يوجد طالب سواه أحب كتاباً من كتب القدماء حباً جعله يسير وراء مؤلفه في الجحيم؟ ويشير بوكاشيو إلى أن دانتي كان في بولونيا عام 1287. وحصل الشاعر في هذه البلدة أو في مكان سواها قدراً يؤسف له من العلوم ومن فلسفة المعجزات التي كانت منتشرة في زمانه

ص: 307

جعل قصيدته مثقلة بعلمه الواسع الغزير. وكان مما تعلمه فضلاً عن هذا ركوب الخيل، والمثاقفة، والتصوير، والغناء. ولسنا نعرف كيف كان يحصل على قوته، وأياً كانت سبيله في تحصيله فإنه كان يقبل في الأوساط المثقفة، لصداقته لكفلكنتي إن لم يكن لأسباب أخرى مضافة إلى هذه الصداقة، وقد وجد في هذه الأوساط كثيراً من الشعراء.

وبدأت أشهر الحوادث الغرامية كلها حين كان دانتي وبياتريس كلاهما في سن التاسعة. وكانت بدايتها كما يقول بوكاشيو في حفلة من حفلات أولمايو أقيمت في بيت فلكو برتناري Folco Portinari أحد كبار المواطنين في فلورنس. وكانت "بيس" الصغيرة ابنة فلكو، والراجح أيضاً أنها هي التي يتحدث عنها دانتي باسم بياتريس (12)، ولكن هذا الرجحان لا يقرب من التأكيد قرباً يزيل شكوك المتزمتين. ولسنا نعرف شيئاً عن هذا اللقاء الأول إلاّ من الوصف الذي كتبه عنه دانتي بعد تسع سنين من ذلك الوقت في فيتا نيوفو Vita Nuovo وخلع عليها فيه من الصفات ما جعلها مثلاً أعلى قال:

كان لباسها في ذلك اليوم من أبدع الملابس، فقد كان ذا لون قرمزي هادئ جميل، وكانت ممنطقة ومزينة بما يناسب سنها الصغيرة. وإني لأقول صادقاً كل الصدق إن روح الحياة المستكنة في أعمق خبايا القلب أخذت من تلك اللحظة ترتجف ارتجافاً عنيفاً اهتزت معه جميع أجزاء جسمي، وقالت هي تهتز:"هاهي ذي إلهة أعظم مني قوة مقبلة لتسيطر عليَّ" وأصبحت من تلك اللحظة عبداً لهواها (13).

إن فتى يقترب من سن البلوغ لفتى ناضج لهذا الارتجاف متأهب له؛ ولقد عرف معظمنا هذه التجربة، وفي وسعنا أن نعود بذاكرتنا إلى ذلك العشق السريع الزوال، ونرى أنه من أكثر التجارب التي تعترض شبابنا روحانياً، وأنه يقظة عجيبة خفية من يقظات الجسم والروح، ندرك بها الحياة، والصلات

ص: 308

الجنسية، ونقص الواحد منّا بمفرده، وإن كان الإنسان مع هذا لا يدرك وقتئذٍ رغبة الجسم في الجسم، بل كان ما في الأمر أنه يتوق في الحياء لأن يكون قريباً من حبيبته ويخدمها، ويستمع إلى حديثها، ويراقب ظرفها ورشاقتها. وإذا ما وهبت نفس الشاب حساسية كحساسية دانتي ـ أي إذا كان ملتهب العاطفة قوي الخيال، فقد يبقى هذا الإلهام وذاك النضوج في ذاكرته مدى الحياة، ويظل أبد الدهر حافزاً قوياً له. ويصف لنا دانتي كيف كان يتحين الفرص ليرى بياتريس، وإن لم تتح له إلاّ نظرة لها دون أن تراه هي؛ ثم يبدو أنه ظل لا يراها تسع سنين، حتى بلغا الثامنة عشر من عمرهما، وفي هذا يقول:

واتفق أن تبدت لي هذه الفتاة العجيبة في أثواب ناصعة البياض بين سيدتين من كرائم العقائل أكبر منها سناً. وبينما كانت تجتاز الشارع التفتت إلى الناحية التي كنت واقفاً فيها يجلّلني الحياء، وحبتني بفضل لا أستطيع وصفه

إذ سلمت عليّ وهي مشرقة البهجة، تحيط بها هالة من الفضيلة والروعة، خيّل إليَّ معها في تلك اللحظة وتلك البقعة أنني قد نلت منتهى ما أصبو إليه من السعادة

ثم غادرت ذلك المكان ثملاً بنشوة الفرحة

وفي هذه اللحظة اعتزمت أن أؤلف أغنية، فقد كنت أنزع إلى حد ما أن أقول الحديث المقفى (14).

وهكذا نشأت سلسلة أغانيه وتعليقاته المعروفة باسم الحياة الجديدة La vita nuovo، إذا حاز لنا أن نصدق ما قاله هو عن نفسه. وأخذ في فترات من التسع السنين التالية (1283 - 92) يؤلف مقطوعاته الغنائية، ثم أضاف إليها النثر فيما بعد. وكان يرسل إلى كفلكانتي المقطوعة في إثر المقطوعة، وكان كفلكانتي يحتفظ بها، وأصبح من ذلك الوقت صديقاً له. والقصة الغرامية التي تحدثنا عنها هذه الأغاني من المبتكرات الأدبية إلى حد ما، وإن ذوقنا الذي تبدل في هذه الأيام ليمج هذه القصائد لما فيها من تاليه للحب تأليهاً مسرفاً في الخيال كما كان يفعل شعراء الفروسية الغزلون، وللأحاديث المدرسية المملة التي

ص: 309

يفسدها بها، وما تحتويه من البحوث الخفية الغامضة حول الثلاثات والتسعات. لهذا كان من الواجب علينا أن نغض الطرف عن هذه العيوب التي هي في الحق عدوى زمانه:

يقول الحب فيها: "كيف يمكن أن يكون الجسم وهو من تراب نقياً هذا النقاء؟ ".

ثم يقسم وهو لا ينفك يحدق فيها: "حقاً إنها لمخلوق من خلق الله لم يعرف من قبل".

إن لها من شحوب الدرة القدر الخليق بالمرأة الجميلة لا أكثر منه ولا أقل ولقد سمت بالقدر الذي يمكن أن تسمو به الطبيعة وإبداع الخالق، بها يقاس الجمال، وكل ما وقعت عليه نظراتها الحلوة.

خرجت منه أرواح الحب ملتهبة. فإذا نظر الناس إلى هذه الأرواح سرت في عيونهم وأصابت سهام تلك العيون شغاف قلوبهم.

وفي بسماتها ترى الحب مجسّماً فلا يستطيع إنسان أن يطيل النظر إليها (15) وبعض النثر أبعث على السرور من الشعر:

فإذا ظهرت في مكان ما، خيّل إليّ وأنا أؤمل أن تحييني تحيتها الجميلة، أن لم يبق لي في العالم كله عدو، وغمرني في ذلك الوقت فيض من المحبة لا أشك معه في أنني سأعفو عن كل من أساء إليَّ مهما تكن إساءته

ومشت يجللها التواضع، فلمّا أن غادرت المكان قال كثيرون ممن فيه:"ليست هذه امرأة وإنمّا هي مَلَك جميل هبط من السماء". وإني لأقول بحق إن فيها من الرقة والظرف ما يبعث في نفس كل من ينظرون إليها هدوءاً وسكينة يعجز البيان عن وصفهما (16).

وليس في هذا الافتتان، الذي نحسبه متكلفاً، إشارة إلى فكرة زواجه من

ص: 310

بياتريس. ولقد تزوجت بالفعل في عام 1289 من سيمون ده باردي Simon de Bardi، وهو عضو في شركة مصرفية كبرى. ولم يهتم دانتي بهذا الحادث العرضي، بل ظل يكتب فيها القصائد دون أن يذكر اسمها، فلمّا ماتت بياتريس بعد عام من زواجها وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، رثاها الشاعر بقصيدة هادئة ذكر فيها اسمها لأول مرة، جاء فيها:

صعدت بياتريس إلى السماوات العلي،

إلى الملكوت الذي يتمتع فيه الملائكة بالسلام.

فهي تعيش معهم، وإن فقدها الأصدقاء،

ولم يدفعها إليه زمهرير الشتاء، كما يدفع غيرها من الناس

لا ولا حر الصيف اللافح،

وإنما اندفعت بغير هذا وذاك، بلطفها الكامل،

لأن هالة عظيمة خرجت من نور جبينها الوضّاء،

فأثارت الدهشة في نفس الخلاق الأزلي،

وسرت فيه رغبة حلوة في ذلك الجمال البارع،

فأمرها أن تتوق إليه في علاه،

لأنه رأى إن هذا المكان الممل الخبيث

غير جدير بكل هذا اللطف وتلك الرقة (17).

ويصورها في قصيدة أخرى يحيط بها في الجنة من يقدمون لها فروض الولاء، ثم يقول:

وبعد أن كتبت هذه المقطوعة، قدر لي أن أرى رؤيا عجيبة. إذ أبصرت أشياء اعتزمت بعدها ألاّ أقول شيئاً قط عن هذه السيدة المنعمة، إلى أن يحين الوقت الذي أستطيع فيه أن أتحدث عنها حديثاً أجدر بها. وأنا أبذل ما وسعني من جهد لبلوغ هذه الغاية، كما تعرف هي بحق. ومن أجل هذا فإذا أراد الله

ص: 311

باعث الحياة في كل شيء أن يطيل حياتي عدداً قليلاً من السنين، فإني أرجو أن أكتب فيها ما لم يكتب من قبل في أية امرأة سواها؛ فإذا فعلت فقد يرى المنعم المتفضل أن تغادر روحي هذه الأرض لتتملّى بمجد سيدتها، أعني مجد بياتريس السعيدة التي لا تنفك الآن تتطلع إلى وجه الله العلي القدير.

وهكذا، أخذ كما يقول في ختام كتابه الصغير، يتطلع إلى وضع كتاب أكبر منه وأعظم، "وأخذت مقطوعاتي تتابع بلا انقطاع من أول يوم رأيت فيه وجهها في هذه الحياة، حتى رأيت هذه الرؤيا" التي يختتم بها أقوله في الجنة (18). وكلما عرفنا إنساناً رسم لنفسه طريقاً واضح المنهج، ولم يحد عنه مهما صادفه من ظروف الدهر وطوارق الحدثان.

ص: 312

الفصل الثالث

‌الشاعر في غمار السياسة

بيد أنه حاد في بعض الأحيان عن صراطه المستقيم. فقد تورط دانتي بعد موت بياتريس بوقت ما في خفيف بعد حب خفيف ـ أحب "بيترا Pietra"، " وبرجلتا Paragoletta" و "ليزتا Lisetta"" وغيرهن من الأباطيل التي لم ينتفع بهن إلاّ زمناً قصيراً"(19) وقد وجه إلى سيدة واحدة - يسميها السيدة الظريفة قصائد غزلية - أقل روحانية من قصائده إلى بياتريس. ثم تزوج في عام 1291 وهو في السادسة والعشرين من عمره جما دوناتي Gemma Donati، وهي فتاة من سلالة أقدم الأسر الشريفة في فلورنس. وأنجبت له في عشر سنين عدة أبناء يقدرهم البعض بثلاثة، والبعض بأربعة، والبعض الآخر بسبعة (20). وبلغ من إخلاصه لدستور شعراء الفروسية الغزلين أنه لم يذكر قط زوجته أو أبناءه في شعره، ولو فعل لكان هذا عملاً غير لائق به، لأن الزواج والحب الروائي ضدّان لا يجتمعان.

ثم ألقى بنفسه في بحر السياسة، ولعل الذي ساعده على هذا هو كفلكانتي؛ وأنضم لأسباب لا نعرفها إلى حزب "البيض Blanchi" وهو حزب الطبقة المتوسطة العليا. وما شك في أنه ذا مواهب سياسية، لأنه اختير في عام 1300 لا بعد عضو في المجلس البلدي؛ وحدث في أثناء اضطلاعه بهذا العبء القصير الأجل أن حاول السود Neir يقودهم كورسو دوناتي Corso Donati أن يحدثوا انقلاباً سياسياً مفاجئاً يعيدون به الأشراف الأقدمين إلى الحكم. ولكن المقدومين - أعضاء المجلس البلدي - قمعوا الفتنة وسعوا

ص: 313

بموافقة دانتي لنشر لواء السلام في المدينة بنفي زعماء الحزبيين - ومنهم دوناتي - صهر دانتي، وكفلكانتي صديقه. لكن دوناتي غزا فلورنس في عام 1301 بعصبة من السود المسلحين، وخلع المقدمين، واستولى على زمام الحكم؛ ثم حوكم دانتي وخمسة عشر من المواطنين في أوائل عام 1302 وأدينوا بعدة جرائم سياسية، ونفوا من البلدة، وحكم عليهم بأن يقتلوا حرقاً إذا عادوا إلى فلورنس مرة أخرى. ففر دانتي ولكنه ترك أسرته في المدينة لأنه كان يأمل في العودة إليها بعد قليل. واضطره هذا النفي وما صحبه من مصادرة أمواله إلى أن يقضي تسعة عشر عاماً في فقر مدقع وتجوال في البلاد، ملأ قلبه غلاًّ وحقداً، وكانا من أسباب مزاجه النكد الذي يسود موضوع الملهاة الإلهية. أما شركاؤه في النفي فقد أقنعوا مدائن أرِزَّو، وبولونيا، وبستويا بأن تسيّر على فلورنس جيشاً مؤلفاً من 10. 000 مقاتل ليعيدهم إلى السلطة أو في القليل يردهم إلى أوطانهم (1304)، وقد فعلوا هذا على الرغم من نصيحة دانتي لهم ألاّ يقدموا على هذا العمل. وأخفقت هذه المحاولة، واختط دانتي لنفسه من ذلك الوقت خطة خاصة، وعاش مع أصدقائه في أرِزّو، وبولونيا وبدوا.

وكانت السنون العشرة الأولى من نفيه هي التي جمع فيها بعض القصائد التي كتبها إلى السيدة الظريفة، وأضاف إليها تعليقات نثرية استحالت بها هذه السيدة إلى السيدة الفلسفة. ويحدثنا دانتي في قصيدة المائدة ( Conviuio)( حوالي عام 1308) كيف ولّى وجهه، بعد خيبته في الحب وفي الحياة، نحو الفلسفة ليخفف بها من آلامه؛ وكيف وجد في هذه الدراسة المغرية إلهاماً مقدساً، وكيف اعتزم أن يشرك فيما كشفه من إلهام من لا يستطيعون قراءة اللغة اللاتينية بأن يكتب لهم بالإيطالية. ويبدو أنه كان يفكر في كتابة موجز أو كنز جديد يدعي فيه أن كل جزء من أجزاء تعليق على إحدى قصائده

ص: 314

عن السيدة الجميلة. وتلك بلا ريب خطة عجيبة أراد بها أن يستعيض عن الحب الشهواني بالحب المجدب. والكتاب الصغير خليط مهوش من العلوم الغامضة العجيبة، والاستعارات المتكلفة، وشذرات فلسفية مستمدة من بؤيثيوس وشيشرون. ويحق لنا أن نشيد بعبقرية دانتي التي حملته على أن يتخلى عن إتمام هذا الكتاب، ويراه عملاً خاسراً كل الخسران، بعد أن كتب ثلاثة من الشروح الأربعة عشر التي كان يعتزم كتابتها.

وشرع وقتئذ في ذلك العمل المتواضع ألا وهو إعادة حكم أباطرة الدولة الرومانية المقدسة في إيطاليا؛ ذلك أن تجاربه قد أقنعته بأن منشأ ما في المدن الإيطالية من فوضى وعنف هو فهمها الخاطئ المجزًّأ للحرية - فقد كان كل إقليم، وكل مدينة، وكل طبقة، وكل فرد، وكل ذي شهوة يطالب بالحرية الفوضوية. وقد كان هو يتوق إلى ما تاق إليه مكيفلي بعد مائتي عام من ذلك الوقت، إلى قوة تنسق جهود الأفراد، والطبقات، والمدن فتجعل منها كلاًّ منظماً، يستطيع الناس في داخله أن يعملوا ويعيشوا في سلم وأمان. وكان يرى أن هذه السلطة الموحدة إمّا أن تأتي من البابا أو من رئيس الدولة الرومانية الشرقية، التي كان شمالي إيطاليا من زمن بعيد يخضع لها من الوجهة النظرية. غير أن دانتي كان قد نفى من زمن قصير بأمر حزب متحالف مع البابوية؛ وتقول إحدى الروايات غير المؤكدة إنه اشترك في بعثة سياسية غير موفقة أرسلت من فلورنس إلى بنيفاس الثامن؛ وقد ظل البابوات زمناً طويلاً يعارضون في توحيد إيطاليا لأن هذا يعرض لخطر حريتهم الروحية وسلطتهم الزمنية. ولهذا بدا أن الأمل الوحيد في عودة النظام في عودة النظام إلى البلاد هو إعادة السلطة الإمبراطورية، بالرجوع إلى السلم الرومانية التي بسطت لواها روما القديمة.

وفي هذه الظروف كتب دانتي في تاريخ غير معروف رسالته المثيرة في الملكية المطلقة De monarchia، كتبها باللغة اللاتينية، وكانت لا تزال لغة

ص: 315

الفلسفة؛ وقال إنهم لما لكان عمل الإنسان الذي يليق به هو النشاط الذهني، ولما كان عجز عن ممارسة هذا النشاط إلاّ في السلم، فإن الحكم المثالي هو إقامة دولة عالمية تقر السلام الدائم وتبسط العدالة على جميع سكان الأرض. فإذا قامت هذه الدولة كانت هي الصورة الصحيحة المطابقة للنظام السماوي الذي وضعه الله في الكون. وكانت روما الإمبراطورية أقرب الدول إلى هذه الدولة العالمية، ولقد أظهر الله رضاءه عن هذه الدولة إذ اختار أن يكون إنساناً في عهد أغسطس، وإذا أمر المسيح نفسه للناس بأن يخضعوا لسلطان القياصرة السياسي. ولم يكن سلطان الإمبراطورية القديمة مستمداً بطبيعة الحال من الكنيسة المسيحية، غير أن الدولة الرومانية المقدسة لم تكن إلاّ هذه الدولة القديمة عادت إلى الوجود. نعم إن البابا هو الذي توج شارلمان إمبراطوراً؛ ولاح بهذا أن الإمبراطورية قد خضعت للبابوية؛ ولكن (اغتصاب حق لا يخلق هذا الحق؛ ولو أنه خلقه لدلت هذه الطريقة عينها على خضوع السلطة الكنسية للدولة المدنية بعد أن أعاد الإمبراطور أتو Otto البابا ليو Leo وخلع بنيفاس)(21).

ولقد كان كتاب الملكية المطلقة دفاعاً قوياً عن قيام (عالم واحد)، ذا حكومة واحدة، وشرائع واحدة، رغم ما في هذا الكتاب من جدل مدرسي، لم يعد يتمشى مع طرائق التفكير السائدة في ذلك الوقت. ولم يكن مخطوط الكتاب معروفاً في أثناء حياة مؤلفه إلاّ لعدد قليل من الناس، ولكنه انتشر بعد وفاته، واتخذه لويس البافاري Louis of Bavaria عدو البابوية وسيلة للدعاوة، ثم أحرق الكتاب علناً بناءً على مرسوم بابوي صدر في عام 1329، وأدرج في القرن السادس عشر في الثبت البابوي المحتوي أسماء الكتب المحرمة، ثم رفعه من هذا الثبت ليو الثالث عشر في عام 1897.

ويقول بوكاشيو إن دانتي ألف كتاب الملكية (حين جاء هنري السادس). ذلك أن ملك ألمانيا غزا إيطاليا في عام 1310 راجياً أن يبسط على شبه الجزيرة

ص: 316

كلها، عدا الولايات البابوية، الحكم الإمبراطوري الذي انقضى عهده بموت فردريك الثاني. ورحب به دانتي، وجاشت في صدره آمال كبار؛ وأهاب بمدن لمبارديا، في "رسالة موجهة إلى أمراء إيطاليا وشعوبها" أن تفتح قلوبها وأبوابها إلى "القادم" اللكسمبرجي الذي سينجيها من الفوضى والبابوات. ولمّا وصل هنري إلى ميلان هرع دانتي إليها وألقى بنفسه وهو في نشوة الحماسة عند قدمي الإمبراطور، وخيّل إليه أن كل ما كانت تصوره له أحلامه من قيام إيطاليا الموحدة يوشك أن يتحقق. لكن فلورنس لم تستجب لنداء الشاعر، وأوصدت أبوابها في وجه هنري؛ ووجه دانتي وهو في سورة الغضب رسالة "إلى الفلورنسيين أشد الناس إجراماً Scelestissimis Florentinis ( مارس 1311) قال فيها:

ألا تعرفون أن الله قد أمر أن يخضع بنو الإنسان كلهم لحكم عاهل واحد ليدافع عن العدالة، والسن، والحضارة؟ وأن إيطاليا كانت على الدوام فريسة للحرب الأهلية كلما زال عنها سلطان الإمبراطورية؟ يا من تعتدون على القوانين البشرية والإلهية ويا من يدفعكم النهم الرهيب إلى ارتكاب كل جريمة مهما بلغت من الشناعة - ألم تروعكم رهبة الميت الثانية فخرجتم على مجد الأمير الروماني، ملك الأرض ومبعوث الله؟

يا أحمق الناس وأبلدهم إحساساً! سوف تخضعون صاغرين إلى النسر الإمبراطوري! (24).

وساء دانتي وملأ قلبه هلعاً أن هنري ترك فلورنس وشأنها؛ ولهذا كتب الشاعر إلى الإمبراطور في شهر إبريل كما كتب نبي من أنبياء إسرائيل يحذر الملوك فقال:

لسنا ندري أي خمول يقعدك عن العمل هذا الزمن الطويل

إنك تضيع الربيع كما تضيع الشتاء في ميلان

(لعلك لا تعرف) أن فلورنس مصدر الشر المستطير

وأنها هي الأفعى

التي تنفث من أنفاسها الفاسدة الدخان الموبوء الذي يقضي على القطعان المجاورة لها

هُبَّ إذن يا ابن يسَّي Jesse النبيل! (25).

ص: 317

وكان رد فلورنس أن أعلنت نفي دانتي، وحرمانه أبد الدهر من كل عفو يصدر عن الخائنين. وترك هنري فلورنس دون أن يمسها بسوء، وانتقل عن طريق جنوى وبيزا إلى روما حيث توفي (1313).

وكان موته من أشد الفواجع التي حلت بدانتي؛ ذلك أنه قد قامر بكل شيء على انتصار هنري، وحرق من ورائه كل الجسور الفلورنسية، ولم ير أمامه إلاّ أن يفر إلى جبيو Gibbio ويلجأ إلى دير الصليب المقدس (سانتا كروس Santa Croce) . ويبدو أنه كتب في هذا الدير جزءاً كبيراً من الملهاة المقدسة (26). غير أنه لم يكن قد شبع من السياسة فقد كان في أغلب الظن مع أجشيوني دلا فجيولو Uguccione della Fuggiulo في لوكا Lucca عام 1316؛ وفي ذلك العام هزم فجيولو الفلورنسيين عند مونتي كاتيني Montecantini؛ ثم استفاقت فلورنس من هذه الهزيمة وضمت ابني دانتي إلى المحكوم عليها بالإعدام - ولم ينفذ هذا الحكم قط. وخرجت لوكا على أجشيوني وألفا دانتي نفسه بلا وطن. ورأت فلورنس في نشوة النصر أن تكون كريمة، وأن تنسى أحكامها الأبدية، فعرضت أن تعفو عن جميع المنفيين وتؤمنهم على حياتهم إذا عادوا إليها، على شرط أن يؤدوا لها غرامة مالية، وأن يسيروا في شوارع المدينة في أثواب الندم، وأن يزج بهم في السجن وقتاً قصيراً. وتطوع أحد أصدقاء دانتي بإبلاغه هذا القرار، فرد عليه برسالة ذائعة الصيت قال فيها:

إلى صديق فلورنس: تلقيت رسالتك بما يليق بها من الإجلال والحب، وأدركت منها بقلب مفعم بالشكر

أن عودتي إلى بلدي عزيزة على نفسك. ولكن انظر إلى ما هو مفروض عليَّ

ذلك أنني إذا ما قبلت أن أؤدي قدراً من المال وأن أتحمل وصمة السجن، فسيعفى عنّي فأستطيع العودة من فوري ..

فهل هذه إذن هي الدعوة الكريمة التي توجه إلى دانتي ألجيري ليعود إلى

ص: 318

بلده بعد أن صبر على النفي ما يقرب من خمسة عشر عاماً

إن رجلاً ينادي بالعدالة لا يطيق أن يؤدي ما له إلى من يرتكبون المظالم، كأنهم يحسنون إليه. ألا إن هذه ليست الطريقة التي أعود إلى بلدي

فإذا كان ثمة طريقة أخرى

لا تزري بكرامة دانتي

فإني لن أتوانى قط عن اتباعها؛ أما إذا لم يكن دخول فلورنس مستطاعاً بهذه الطريقة الأخرى، فإني لن أدخلها أبداً

ما هذا الذي تقول! أليس في وسعي أن أستمتع بنور الشمس وجمال النجوم في كل مكان على ظهر الأرض؟ أليس في مقدوري أن أفكر في أعظم الحقائق شأناً؟ (27)

واغلب الظن أنه قبل في أواخر عام 1316 دعوة وجهها إليه كانْ جراندي دلا اسكالا Can Grande Della Scalla، حاكم فيرونا لأن يجيء إليه ويعيش في ضيافته. ويبدو أنه أتم في هذه البلدة قسم الجنة في الملهاة المقدسة (1318) - وفيها بلا ريب أهدى هذا القسم إلى كان جراندي. وفي وسعنا أن نصوره في تلك الفترة من حياته - أي في الحادية والخمسين من عمره - كما صوره بوكاشيو في الحياة الجديدة عام 1354؛ نصوره رجلاً متوسط القامة "منحني الظهر قليلاً" يسير بخطى وقورة متزنة تنم عن المهابة والانقباض، ذا شعر أسود وبشرة سمراء، ووجه طويل ينم عن كثرة التفكير، وجبهة بارزة مغضنة، وعينين غائرتين ذواتي نظرات صامتة، وأنف رفيع أقنى، وشفتين منطبقتين، وذقن بارز (28).

ذلك وجه روح كانت من قبل وادعة ظريفة، ولكن الآلام جعلتها نكدة مريرة؛ ولي سمن السهل على دانتي صاحب الوصف الوارد في الحياة الجديدة أن يتصنع كل ما وصفه به هذا الكتاب من شفقة ورقة عاطفة؛ وأن شيئاً من هذه الصفات ليظهر فيما بدا عليها من حنان وهو يستمع إلى قصة فرانسيسكا. وكان عبوساً صارماً شأن الرجل المغلوب على أمره المنفي من بلده، وقد أكسبته الشدائد حدة في اللسان، وغطرسة يغطي بها ما فقده من قوة وسلطان.

ص: 319

فكان يفخر بنسبة لأنه كان فقيراً، ويحتقر رجال الطبقة الوسطى من أهل فلورنس الذين يجرون وراء المال؛ ولم يكن في وسعه أن يغفر لبرتناري زواج بياتريس من مصرفي؛ وسلك طريق الانتقام الوحيدة التي وجدها أمامه فوضع أمامه المرابين في الدرك الأسفل من النار. ولم يكن ينسى قط أذى أو إهانة وما أقل من سلم من أعداءه من سموم قلمه. وكان يرى أن الذين يبقون على الحياد في الثورات أو الحروب أقل نفعاً في نظره منهم في نظر سولون. وكان منبع صفاته الخلقية كلها هو الشدة الملتهبة:"لم أكن ما أنا بفضل ثرائي بل بفضل الله عليَّ، وإن غيرتي على بيته لتشعل النار في قلبي"(29).

وقد افرغ في قصيدته كل ما وهبه الله من قوة، ولم يكن أن يستطيع أن يعيش بعد تمامها زمناً طويلاً. ففي عام 1319 غادر فيرونا وسافر إلى رافنا ليعيش فيها مع الكونت جيدو دا بولنتا Count Guido da Polenta، ثم تلقى دعوة من بولونيا للقدوم إليها لكي يتوج فيها شاعراً لبلاطها، ورفض الدعوة بأنشودة رعوية كتبها باللغة اللاتينية. وفي عام 1321 أرسله جيدو إلى مدينة البندقية في بعثة سياسية كان نصيبها الإخفاق، وعاد دانتي من هذه البعثة مريضاً بحمى أصابته من مستنقعات فينيتو Veneto. ولم يستطع جسمه الضعيف مقاومة المرض، فقضى عليه في 14 سبتمبر سنة 1321 وهو في السابعة والخمسين من عمره. واعتزم الكونت أن يقيم شاهداً على قبر الشاعر، ولكن شيئاً من هذا لم يتم، أما النقش القليل البروز القائم فوق التابوت الرخامي في هذه الأيام فقد نحته بيترو لمباردو عام 1483، والعالم كله يعرف أن بيرون جاء إليه وبكى، والقبر في هذه الأيام لا يكاد يبدو للناظر، يجده الإنسان في أحد الأركان وهو قادم من أكثر ميادين رافنا ازدحاماً بالأعمال، وإذا ما قدمت إلى حارسه المقعد الطاعن في السن بضع ليرات أنشدك بعض قطع جميلة طنانة من القصيدة التي يمتدحها الناس جميعاً ولا يقرؤها منهم إلاّ القليلون.

ص: 320

الفصل الرابع

‌الملهاة المقدسة

‌1 - القصيدة

يقول بوكاشيو إن دانتي بدأها بالشعر اللاتيني السادس الأوتاد- (ذي الستة تفاصيل) - ولكنه استبدل به اللغة الإيطالية، لكي تصل قصيدته إلى عدداً أكبر من القراء. ولعله تأثر في اختياره بقوة عاطفته؛ فقد بدا له أن التعبير عن الانفعال باللغة الإيطالية أيسر منه باللغة اللاتينية التي طال ارتباطها بالحياة المدنية والقيود القديمة. وكان في شبابه قد قصر اللغة الإيطالية على شعر الحب؛ أما الآن وقد جعل موضوعه أسمى فلسف، وهي افتداء البشرية عن طريق الحب، فقد خطر بباله أن يقدم على التحدث بلغة بلاده. وكان في وقت ماض غير معروف قد بدأ مقالاً لاتينياً لم يتمه سماه في فصاحة اللغة الشعبية De vulgari eloquentia، أراد به أن يغري الطبقة المتعلمة بالتوسع في استخدام اللغة القومية. وقد امتدح فيه جزالة اللغة اللاتينية وإحكامها، ولكنه عبر عن أمله في أن تسمو اللغة الإيطالية فوق لهجاتها العامية بفضل أشعار دولة فردريك، والأسلوب الجديد الذي ابتدعه شعراء التسكان واللمبارد القصاصون، فتصبح (كما ورد في المأدبة"غاصة بأروع التعابير وأجملها")(30). ولم يكن دانتي نفسه- الذي نعلم عن كبريائه ما نعلم- يتصور أن ملحمته ستجعل اللغة الإيطالية صالحة للتعبير عن أي غرض من الأغراض الأدبية، وأنها لن تكتفي بهذا بل ستسمو بهذه اللغة إلى درجة من العذوبة والرقة قلّما عرف لها العالم مثيلاً.

ولم يبذل في إعداد قصيدة ما من الجهد مثل ما بذل دانتي في إعداد قصيدته.

ص: 321

وكانت نزعة إلى التثليث- تعبر عن الثالوث الديني المقدس- وتنم عن ضعف الشاعر هي التي عينت شكل القصيدة فجعلتها مؤلفة من ثلاثة "أناشيد"، كل نشيد ثلاث وثلاثون أغنية، تقابل سني حياة المسيح على هذه الأرض، تضاف إليها أغنية أخرى في النشيد الأول فتكون عدتها مائة كاملة. واعتزم أن يكتب كل أغنية في مجموعات كل منها ثلاثة أبيات، يتفق البيت الثاني من كل مجموعة ثلاثة أبيات، يتفق البيت الثاني من كل مجموعة في قافيته مع البيتين الأول والثالث من المجموعة التي بعدها. وليس ثمة ما هو أكثر تكلفاً من هذا، ولكن ما من فن يخلو من التكلف، وخير ما يمكن أن يصنعه الفنان أن يخفي تكلفه؛ وهذه القافية الثلاثية terza rima تربط كل أغنية بالتي تليها، وتؤلف منها كلها أغنية واحدة متصلة، تنساب في لغتها الأصلية انسياباً سهلاً على اللسان، ولكنها إذا ترجمت تعثرت وبدت كليلة. ولقد ندد دانتي مقدماً بكل ترجمة لقصيدته، فما من شيء يسري فيه توافق الاتصال الموسيقي يمكن أن ينقل من لغته الأصلية إلى لغة أخرى دون أن يفقد حلاوته وتوافقه

(1)

.

وكما أن أبيات القصيدة هي التي عينت صورتها، فإن الاستعارات هي التي عينت قصتها، وقد شرح دانتي في الرسالة التي أهدى بها القصيدة إلى كان جراندي (32) ما تنطوي عليه أناشيده من رموز، ولنا أن نظن أن شرحه هذا فكرة متأخرة لاحت لشاعر كان يريد أن يكون فيلسوفاً، ولكن انهماك العصور الوسطى في الرمزية، وما كان في الكنائس الكبرى من تماثيل رمزية، ومظلمات جيتو، وجادي Gaddi ورفائيل، وكلها رمزية، وتسامي دانتي الرمزي في الحياة الجديدة والمائدة، كل هذا يوحي بأن الشاعر كان يفكر في النقط الرئيسية لمشروعه الذي وصفه وصفاً مفصلاً قد يكون خيالاً. ويقول دانتي أن

(1)

ومن واجبنا أن تستثني من هذا ترجمة دانتي جبريل روزتي للحياة الجديدة ومن جاءوا قبل دانتي.

ص: 322

القصيدة تتبع "جنس" الفسلفة، وأن موضوعها هو الأخلاق. وهو يفعل ما يفعله عالم الدين الذي يفسر الكتاب المقدس فيجعل لكلماته ثلاث معاني: الحرفي، والمجازي، والصوفي.

"وموضوع هذه القصيدة حسب معانيها الحرفية

هو حال الأرواح بعد الموت

أما إذا نظرنا إليها نظرة مجازية فإن موضوعها هو الإنسان من حيث تعرضه للثواب والعقاب العادلين الذين يستحقهما بسبب أعماله الطيبة أو الخبيثة .. والغرض المقصود منها في مجموعها وأجزائها هو انتشال من يحيون هذه الحياة مما يعانونه من شقاء، وإرشادهم إلى طريق السعادة".

وإذا عبّرنا عن هذه المعاني بطريقة أخرى قلنا إن الجحيم Inferno هي مرور الإنسان بالخطيئة، والعذاب، واليأس؛ وإن المطهر هو تطهيره عن طريق الإيمان؛ والفردوس هو نجاته عن طريق الوحي الإلهي والحب غير الأناني. وبمثل فرجيل، الذي يقود دانتي خلال الجحيم والمطهر، والمعرفة والعقل، والحكمة. وهي التي تستطيع أن تقودنا إلى أبواب السعادة؛ والإيمان، والحب (بيرتيس) وحدهما هما اللذان يدخلاننا فيها. وكان النفي في ملحمة حياة دانتي هو جحيمه، كما كانت دراساته وكتاباته هي مطهرة، وكانت آماله وحبه هما نجاته وسعادته اللتين لم تكن له غيرهما نجاة أو سعادة. ولعل اتخاذ دانتي رمزيته في الفردوس مأخذ الجد الشديد هو الذي يجعل هذا النشيد أكثر أناشيده استعصاء على الفهم؛ ذلك بأن بياتريس التي كانت في الحياة الجديدة رؤيا سماوية تصبح في تصويره السماء تجريداً ذا أبهة وفخامة- ومثل هذا الجمال البريء غير خليق بهذا المصير. ويشرح دانتي لكان جراندي في آخر الرسالة سبب تسميته ملحمته ملهاة- Commedia

(1)

فيقول أن القصة انتقلت من الشقاء إلى السعادة، و (إنها

(1)

وقد أضاف إليها المعجبون بها صفة Divrina ( المقدسة) في القرن السابع عشر.

ص: 323

كتبت بأسلوب مهلهل وضيع، باللغة العامية التي تتحدث بها ربات المنازل أنفسهن" (33).

وكانت هذه الملهاة الأليمة وهي "الكتاب الذي هزل فيه جسدي هذه السنين الطوال" شغله وسلوته في منفاه، ولم يفرغ منها إلاّ قبل موته بثلاث سنين. وقد لخص فيها حياته، وتعليمه، وآراءه الدينية، وفلسفته؛ ولو أنها احتوت فضلاً عن هذا ما كان في العصور الوسطى من فكاهة، ورقة، وشهوانية عارمة لجاز أن تكون من المؤلفات "الجامعة في العصور الوسطى". ذلك أن دانتي قد حشر في هذه المائة من الأناشيد المنجزة كل ما أخذه من العلم عن برونتو لاتيني، ولعله حشر فيها أيضاً ما تعلمه في بولونيا- حشر فيها كل ما كان هناك من فلك وعلم الكون، وطبقات الأرض، والتوقيت في عصر تمنعه المشاغل من أن يكون عصر علم. ولم يكن يؤمن فوق ذلك بجميع الأساطير المعماة الملغزة التي كانت تعزو معاني وقوة خفية للأعداد ولحروف الهجاء. فكان يقول مثلاً إن العدد 9 يميز بياتريس من غيرها لأن جذره التكعيبي هو 3 الذي جعله الثالوث رقماً مقدساً. وفي الجحيم تسع دوائر، وتسع طبقات في المطهر، وتسع طبقات كرية في الفردوس. ويستمد دانتي في رهبة واعتراف بالجميل قسطاً كبيراً من فلسفة أكوناس وعلوه الدينية، ولكنه لا يسير وراءه سيراً حقيقياً ولا يراعي الأمانة في النقل عنه. وما من شك في أن القديس تومس لم يكن يرتاح إلى الحجج الواردة في كتاب الملكية أو إلى رؤية البابوات في الجحيم، وإن تصوير دانتي لله بأنه نور وحب "الحب الذي يحرك الشمس وسائر النجوم"(23) لهو قول أرسطو انتقل إليه عن طريق الفلسفة العربية. وكان يعرف الشيء القليل عن الفارابي، وابن سينا، والغزالي؛ وأبن رشد؛ ويضع ابن رشد في المحيط الخارجي للجحيم، ولكنه يهز مشاعر المتينين بوضعه

ص: 324

سيجر البرابنتي Siger de Brabant معتنق مذهب ابن رشد في الفردوس (36). وفضلاً عن هذا فهو ينطق تومس بالثناء على الرجل الذي أثار ثائرة هذا العالم الديني الذي يكاد يصل إلى مرتبة الملائكة. غير أنه يبدو أن سيجر أنكر عقيدة الخلود الفردي الذي هو دعامة قصيدة دانتي؛ ولهذا فإما أن يكون التاريخ قد تعالى في وصف سيجر بالزيغ والضلال أو في وصف دانتي بالاستمساك بالدين.

وتؤكد الدراسات الحديثة ما استمده دانتي من المصادر الشرقية وبخاصة المصادر الإسلامية كقصة أردا فيراف التي تصف الصعود إلى السماء، ووصف الجحيم الوارد في القرآن، وقصة المعراج، ووصف الجنة والنار في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري؛ وفتوحات ابن عربي

ففي رسالة الغفران يصور المعري إبليس بعذب في الجحيم وهو مقيد بالأغلال، كما يصور الشعراء المسيحيين وغيرهم من "الكفرة" يعذبون فيها. وتستقبل صاحب القصة عند باب الجنة واحدة من الحور العين، اختيرت لترشده (38). وقد رسم ابن عربي في الفتوحات الحياة الآخرة رسماً دقيقاً، ووصف الجنة والنار بأنهما فوق بيت المقدس وتحتها مباشرة، وقسم النار والجنة إلى سبع طبقات، وصور مكان الملائكة المسبحين حول النور القدسي- وصف ذلك كله كما ورد في الملهاة المقدسة لا يفترق عنه في شيء (39)(ونقول هنا استطراداً إن ابن عربي كتب قصائد في الحب يفسرها المفسرون تفسيراً مجازياً دينياً)، ومبلغ علمنا أن شيئاً من هذه الكتابات العربية لم يكن قد ترجم قبل زمان دانتي إلى أية لغة يستطيع قراءتها.

وقد وردت في الآداب الدينية اليهودية والمسيحية غير المعترف بها أوصاف لرحلات أو رؤى في الجنة أو النار؛ ولا حاجة بنا إلى ذكر ما ورد في وصفهما في الكتاب السادس من إنياذة فرجيل. وتقول قصة أيرلندية إن القديس باتريك زار المطهر والجحيم، ورأى فيهما أثواباً وأحزمة من نار، والمذنبين معلقين فيها من أرجلهم، أو تلتهمهم الأفاعي أو يغطيهم الجليد (40). ووصف قس إنجليزي

ص: 325

قصاص يدعى آدم ده رس Adam de Ros في قصيدة طويلة طواف القديس بولس في النار يقوده الملاك ميخائيل؛ وينطق ميخائيل بوصف مراتب العقاب التي توقع على درجات الذنوب المختلفة، ويظهر بولس وهو يرتجف من هذه الأهوال كما يرتجف منها دانتي (41). وتحدث قبل هذا يواقين الفلوري Jaockin of Flora عن هبوطه إلى الجحيم وصعوده إلى السماء. وجملة القول أنه قد وجدت مئات من هذه الرؤى والقصص؛ وأمام هذا الحشد الكبير من الأوصاف المروعة نرى أنه لم يكن دانتي بحاجة إلى أن يتخطى الحواجز اللغوية إلى الآداب الإسلامية لكي يجد فيها نماذج لوصف الجحيم. ولقد فعل دانتي ما يفعله كل فنان فمزج ما لديه من مادة وبدل فوضاها نظاماً، ووضعها فوق النار بعد أن أضاف إليها خياله القوي وإخلاصه الملتهب. ولقد أخذ عناصر وصفه أنى وجدها- من تومس، ومن شعراء الفروسية الغزلين، ومن مواعظ بطرس دميان النارية وما ورد فيها من وصف لعذاب الجحيم، ومن تفكيره الطويل في بياتريس في حياتها وبعد موتها، ومن صراعه مع السياسيين والبابوات، ومن العلوم القليلة التي اعترضت طريقه؛ ومن اللاهوت المسيحي وما ورد فيها عن سقوط آدم، وعن التجسد والخطيئة، والغفران، ويوم الحساب؛ ومن الفكرة الأفلوطينية- الأوغسطينية عن مدارج صعود الروح حتى تتحد مع الله. ومن توكيد تومس أن الرؤى الطوباوية هي الهدف الأخير الذي يغتبط به الأبرار؛ من هذا كله صاغ القصيدة التي وجدت فيها روح العصور الوسطى وما يحيط بها من رعب، وأمل، واغتراب صوتاً، ورمزاً، وصورة تعبر بها وتصورها.

‌2 - الجحيم

"وجدت نفسي وأنا في منتصف طريق حياتنا في غابة مظلمة كانت الجادة فيها غير واضحة ومفقودة"(42). وبينما كان دانتي يجول في هذه الظلمة إذ التقى

ص: 326

بفرجيل "أستاذي ومرشدي الذي أخذت عنه وحده الأسلوب الجميل الذي شرفت به"(43). ويخبره فرجيل أن السبيل السليمة الوحيدة للخروج من الغاية هي اجتياز الجحيم والمطهر؛ فإذا ما صحبه دانتي فيهما فسيقوده إلى أبواب الفردوس، "حيث يتولى إرشادك من هو أجدر مني وأكرم". ويضيف إلى هذا في صراحة أنه جاء ليقدم العون إلى الشاعر بأمر بياتريس. ويمران خلال فتحة في سطح الأرض إلى أبواب الجحيم، نقشت عليها هذه الألفاظ المريرة:"من خلالي يدخل الإنسان المدينة المحزنة؛ ومن خلالي يدخل الإنسان الآلام السرمدية؛ ومن خلالي يدخل الإنسان بين الأجناس الضالة. لقد حركت العدالة خالقي الأعلى؛ وصنعتني القوة الإلهية هي والحكمة العليا والحب الأزلي. ولم يخلق قبلي سوى الأشياء الأزلية، وأنا باقية أبد الدهر؛ فتخلوا عن كل آمالكم يا من تدخلون هذه الدار! ".

والجحيم فتحة تحت الأرض تمتد إلى مركزها. ويصورها دانتي بخيال قوي يكاد يبلغ الغاية في الاكتئاب: فهي هاوية سحيقة مظلمة مرعبة، بين صخور ضخمة قاتمة؛ تتصاعد من منافذها الأبخرة والروائح الكريهة، وتجتاحها السيول الجارفة، وبها بحيرات ومجار؛ وعواصف من المطر، والثلج، والبرد؛ ومشاعل من لهب؛ وتزمجر فيها الرياح والزمهرير الذي يجمد فيه الدم والجسد؛ وبها أجسام معذبة، ووجوه كالحة مقطبة؛ ويشقها صراخ وأنين يقف لهما الدم في العروق. وفي أعلى مكان في هذه الفتحة الجهنمية يقيم من لم يكونوا أخياراً أو أشراراً، ومن وقفوا على الحياد بين الخير والشر. أولئك يعاقبون بآلام خسيسة، تلسعهم الزنابير، ويأكلهم الدود، ويحرق قلوبهم الحسد والندم، وهؤلاء يزدريهم دانتي الذي لم يقف على الحياد في يوم من الأيام.

"الرحمة والعدالة تزدريانهم، ونحن لا نتحدث عنهم، بل نلقي نظرة عليهم ونمر بهم". ويعمل الجائلان إلى نهر أكرون Acheron في باطن الأرض،

ص: 327

ويعبره بهما كارون Charon الذي يعمل في ذلك المكان من أيام هومر فإذا عبراه وجد دانتي نفسه في المحيط الخارجي للجحيم حيث يقيم الصالحون الذين لم يعمدوا، ومنهم فرجيل وجميع الصالحين من عبدة الأوثان، وجميع اليهود الصالحين إلا عدداً قليلاً من أبطال العهد القديم الذين أطلقهم المسيح حين زار هذا المحيط الخارجي ورفعه إلى السماء. وكل ما يعذب به هؤلاء هو رغبتهم الأبدية في مصير خير من مصيرهم، وعلمهم بأنهم من ينالوا هذا المصير. وفي هذا الموضع من الجحيم شعراء وثنيون يعظمهم كل المقيمين فيه - هومر، وهوراس، وأوفد، ولو كان؛ وهؤلاء يرحبون بفرجيل ويحلون دانتي المكان المقدس بينهم، ثم يقول دانتي: وأنظر إلى أعلى "فأرى سيد العارفين يجلس بين أسرة الفلاسفة" أي أرسطو يحيط به سقراط، وأفلاطون، ودمقريطوس، وديجين، وهرقليقوس، وأنكسغوراس وأنبادقليس، وطاليس، وزنون، وشيشرون، وسنكا، وإقليدس، وبطليموس، وأبقراط، وجالينوس، وابن سينا، وابن رشد"الذي ألف الشرح العظيم"(48). وما من شك في أنه لو كان دانتي مطلق الحرية في رأيه لوضع في الجنة هذه الفئة النبيلة كلها، ومن بينها فلاسفة المسلمين المخالفين له الدين.

ثم يقوده فرجيل إلى الدائرة الثانية، حيث تتقاذف الرياح العاتية الذين ارتكبوا خطايا جسدية شهوانية لا يستريحون منها أبداً. وهنا يشاهد دانتي باريس، وهِلِين، وديدو، وسميراميس، وكليوبطرة، وترستان، وباولو، وفرانسسكا. وقصة فرانسسكا كما يرويها دانتي تتلخص في أن فرانسسكا دا بولنتا الجميلة أريد لها أن تتزوج جيانسيتو مالا تستتا Gianciotto Malateste الشجاع المشوه لتقضي بزواجها على نزاع قام بين أسرة بولنتا سادة رافنا، وأسرة مالتستا سادة ريميني. هذا هو الجزء المؤكد في القصة، أما بقيتها فغير مؤكدة. فهناك رواية يقبلها الكثيرون تقول إن باولو Paolo الوسيم أخا جيان سيتو يدّعي

ص: 328

أنه هو الخطيب، وأن فرانسسكا تعاهده على أن تتزوج به، ولكنها تجد في يوم العرس أنها تزف على الرغم منها إلى جيان سيتو. ثم لا يمضي إلاّ القليل من الوقت حتى تستمتع بحب باولو؛ ويقبض عليها جيان سيتو ويقتلها في تلك اللحظة (حوالي 1265). وتُقَص فرانسسكا داريميني قصتها وهي تتأرجح في الريح خيالاً بلا جسد إلى جانب روح حبيبها غير المجسد:

"إن أشد ما يحزن الإنسان أن يذكر أيام الهناء حين يقترب منه الشقاء

كنا في يوم من الأيام نتسلى بقراءة لانسلت، وكيف استبد به الهوى. وكنا في تلك الساعة وحدنا ولا يوجد بالقرب منا ما نرتاب فيه. وكثيراُ ما كانت أعيننا تتبادل النظرات في أثناء هذه القراءة، وذهب اللون من خدودنا وتبدلت صورتها. ثم وقعت أعيينا على نقطة في الكتاب واحدة، وذلك حين وصلنا إلى تلك القبلة المشتهاة التي طبعها في هيامه ونشوته فتى برح به الوجد. وفي تلك اللحظة طبع وهو يرتجف قبلة على شفتيَّ، طبعها ذلك المحب الذي لن يفارقني قط. لقد كان الكتاب وكاتبه كلاهما مبعوثين من عند الحب. ولم نقرأ شيئاً في صحفه بعد ذلك اليوم" (47).

ويتملك الأسى دانتي حين يسمع هذه القصة فيغمى عليه، ثم يفيق فيجد نفسه في الدائرة الثالثة من الجحيم، حيث يستقر من كان ذنبهم النَّهم في حمأة تحت عاصفة دائمة من الثلج، والبرد، والمياه القذرة، وحين ينبح في وجوههم سر بيروس Cerberus ويمزقهم إرباً بأنيابه الثلاثية. ثم يهبط فرجيل ودانتي إلى الدائرة الرابعة، حيث يقيم أفلوطس Plutus؛ وهنا يلتقي المبذرون والبخلاء ويقتتلون، ويلقى بعضهم على بعض أثقالاً ضخمة في حرب سيسفية

(1)

Sisyphean

(1)

نسبة إلى سيسفس ملك كورنثية الذي حكم عليه أن يرفع إلى أعلى تل حجراً ضخماً، وكلما رفع هذا الحجر إلى أعلى التل تدحرج إلى أسفله، وبهذا أصبح عمله هذا أبدياً لا ينقطع. وهذا هو المعنى المقصود بهذا اللفظ في المتن. (المترجم)

ص: 329

ويسير الشاعران بأزاء نهر استيكس Styx المظلم الذي يغلى ماؤه، حتى يصلا إلى الدائرة الخامسة؛ حيث يقيم من كان ذنبهم الغضب ملطخين بالأقذار، يضربون أنفسهم ويمزقون أجسادهم. والذين كان ذنبهم الكسل والتراخي يغمرون في ماء البحيرة الأستيجية Stygiam الآسن، وتعلو سطحها الطيفي فقاعات من زفيرهم. وينقل فليجاس Phlegyas على سطح البحيرة حتى يصلا في الدائرة الثالثة إلى مدينة ديس Dis، أو الشيطان Lucifer، حيث يشوى الملحدون في قبور ملتهبة؛ ثم يهبطان إلى الدائرة السابعة، وهناك يريان من ارتكبوا جرائم العنف تحت راية المنوتور Minotaur

(1)

يكادون على الدوام يغرقون في نهر من الدناء مضطرب صاخب، ويرميهم القنطورون

(2)

بالسهام كلما علت رؤوسهم فوق ماء النهر. ويريان قسم من هذه الدائرة المنتحرين ومنهم بيرو دل فني Piero delle Vigne، وفي قسم آخر يريان من ارتكبوا جرائم العنف ضد الله، أو الطبيعة، أو الفن، يقفون حفاة فوق رمال حامية، وتسقط على رؤوسهم كسف من النار. ويلتقي دانتي بين السدوميين بمعلمه القديم برونتو لاتيني- وهو مصير لا يليق بشخص كان هادياً لدانتي وصديقاً له وفيلسوفاً.

وتظهر عند طرف الدائرة الثامنة هولة مروعة تحمل الشاعرين وتنحدر بهما إلى هاوية المرابين؛ وفي أحد أخوار هذه الهاوية يشاهدان طائفة عجيبة من الآلام السرمدية يعذب بها من يغوون النساء، والمتملقون والمتجرون بالوظائف الدينية. وهؤلاء المتجرون يعلقون من أرجلهم في حفر لا تظهر منها إلا سيقانهم، ويلحس اللهب أقدامهم تدليلاً لهم. ومن بين هؤلاء المتجرين البابا نقولاس الثالث (1277 - 1280)؛ ويندد دانتي أشد التنديد بسوء أعمال هذا البابا وغيره

(1)

مخلوق خرافي له رأس ثور وجسم إنسان. (المترجم)

(2)

القنطور أو السنطر مخلوق وهمي نصفه إنسان والنصف الآخر فرس. (المترجم)

ص: 330

من البابوات؛ ويصور نقولاس هذا صورة فذة جريئة فيقول إن البابا يحسب أن دانتي هو بنيفاس الثامن (المتوفي عام 1303) وأن قدومه إلى الجحيم متوقع في أية لحظة من اللحظات (48). ويتنبأ نقولاس بأن كلمنت الرابع (المتوفي عام 1314) سينضم إليهم بعد زمن قليل. وفي الخور الرابع من الدائرة الثامنة يقيم من يدعون معرفة الغيب، ورءوس أولئك الأقوام مثبتة في أعناقهم ومتجهة نحو ظهورهم. ويطل الشاعران من جسر - "ماليبلج Malebolge"- فوق الخور الرابع فيريان من تحتهما مختلسي الأموال العامة يسبحون إلى أبد الدهر في بحيرة من القار في درجة الغليان. أما المنافقون فلا ينقطع مرورهم حول الخور السادس في أردية من الرصاص مطلية بالذهب. ويشاهد في الممر الوحيد الذي يخترق هذا الخور قيافي مصلوباً وملقى على الأرض بحيث لا يستطيع أحد اجتياز الطريق إلا إذا وطئ جسده. وفي الخور الرابع يعذب اللصوص بأفاع سامة؛ وهنا يتعرف دانتي على عدد من الفلورنسيين، ويشاهد عقد قائم فوق الخور الثامن لهيباً يحرق جلوده مثيري السوء، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب؛ ويرى من بين هؤلاء أديسيوس المخادع. وفي الخور التاسع يستقر النمامون والعاملون على الانشقاق تنتزع أطرافهم طرفاً بعد طرف.

وفي الخور العاشر من الدائرة الثامنة يرقد المزورون، والمزيفون، والكيميائيون الكاذبون، يئنون من أوجاع مختلفة، وتملأ الهواء من حولهم رائحة كريهة هي رائحة العرق والصديد، وأنين المعذبين يملأ الهواء بأصوات كقصف الرعد.

وينتهي مطاف الشاعرين بالدائرة التاسعة وهي الدرك الأسفل من الجحيم، ومن عجب أن توصف بأنها هوة واسعة من الجليد؛ وفيها يدفن الخونة في الجليد إلى أذقانهم، وتتجمد دموع الألم فتصبح قناعاً متبلوراً فوق وجوههم. ومن بين هؤلاء يرى كونت أجولينو دلا غراردسكا Count Ugolino della Gheardesca الذي خان بيزا مشدوداً أبد الدهر إلى رجييري Ruggieri كبير الأساقفة، الذي

ص: 331

سجنه هو وأبناءه وأحفاده وتركهم كلهم يموتون جوعاً. والآن يستند رأس أجولينو على رأس كبير الأساقفة، ويظل رجييري إلى الأبد يضع رأس أجولينو وفي مركز الأرض أي في قاع فتحة الجحيم الآخذة في الضيق يرقد الشيطان (لوسفر) الجبار مدفوناً في الجليد إلى وسطه يرفرف بجناحين ضخمين مثبتين في كتفيه، ويذرف من وجوهه الثلاثة التي تقسم رأسه دموعاً من الدم المتجمد من شدة الزمهرير، ويمضغ في كل فك من فكوكه الثلاثة أحد هؤلاء الخونة: بروتس، وكاسيوس، ويهوذا Judas.

وقصارى القول أن نصف الأهوال التي كانت تزعج الأنفس في العصور الوسطى قد جمعت في هذه القصة الدموية. وكلما أمعن الإنسان في قراءة صحفها الرهيبة ازداد رعباً على رعب حتى تطغى عليه نتيجة هذا الرعب آخر الأمر فلا يعود يطيقها. وإن ذنوب الإنسان وجرائمه في هذا العالم وفي جميع عوالم الكون وسلامه لأقل من غضب الإله وانتقامه بالصورة التي يتخيلها الشاعر. وإن فكرة دانتي عن الجحيم لهي منتهى ما وصل إليه لاهوت العصور الوسطى من فظاعة. لقد كان اليونان والرومان القدامى يصورون جحيماً يسمونها Hades أو avenrus تتلقى جميع الموتى من الآدميين. وكان مقرها مكاناً عظيماً مظلماً تحت الأرض لا يمكن تمييز شيء فيه، ولكنهم لم يصوروا هذه الجحيم بأنها مكان للتعذيب؛ وكان لابد من أن تمر قرون طوال من الهمجية، والاضطراب، والحرب قبل أن يتقول الإنسان على خالقه فيعزو إليه صفتي الانتقام السرمدي والقسوة التي لا ينضب لها معين.

ويخفف من روعنا أن نعلم أن دانتي وفرجيل قد مرا من خلال مركز الأرض، وأنهما قلبا اتجاه رأسيهما وأقدامهما، وأنهما يتحركان إلى أعلى نحو الجهة المقابلة لبلادنا من الأرض. ويجتاز الشاعران قطر الأرض كله في سرعة الأحلام

ص: 332

التي تهزأ بم رالزمان، ويخرجان إلى النصف الجنوبي منها في صباح يوم عيد الفصح، ويشربان في وضح النهار، ويقفان عند اسفل الجبل المدرج وهو المطهر.

‌3 - المطهر

إذا قيست فكرة المطهر بفكرة الجحيم بدت فكرة رحيمة؛ ذلك أن في مقدور الإنسان بجهده وألمه، وأمله ورؤياه، أن يطهر نفسه من الذنوب والأثرة، ويرق خطوة خطوة في مدارج الإدراك، والحب، والنعيم، والمطهر، كما يصوره دانتي، مخروط جبلي مقسم إلى سبع طبقات: ما قبل المطهر وهو سبعة أسطح - واحد للتطهير من الذنوب الميتة - وفي أعلاه يقوم الفردوس الأرضي. وينتقل المذنب من كل طبقة إلى التي تليها وتقل آلامه كلما انتقل إلى طبقة أعلى من التي كان فيها، وفي أثناء هذا الانتقال ينشد ملك إحدى التطويبات. وتوجد في المراحل السفلى من المطهر سبع عقوبات للذنوب التي اعترف بها وغفرت، ولكنها لم يكفر عنها بما يكفي من العقاب. بيد أن هناك فارقاً عظيماً بين المطهر والجحيم من هذه الناحية؛ ففي الجحيم يعرف الإنسان هذه الحقيقة المريرة وهي أن العذاب سرمدي، أما المطهر ففيه تلك الحقيقة التي تبعث القوة في النفس وهي أن السعادة السرمدية ستعقب العقاب الذي أحل له أجل ينتهي عنده. ويسري في هذه المقطوعات مزاج ارق وضياء أبهى مما يسري في المقطوعات السابقة، وتكشف عن دانتي يتعلم الرأفة من فرجيل مرشده الوثني. ويغسل فرجيل بالدهن والندى ما غطى وجه دانتي من عرق الجحيم وأقذارها. وتتلألأ في ضوء الشمس المشرقة مياه البحر الذي يحيط بالجبل حين تهتز النفس التي كدرتها الذنوب طرباً وهي تستقبل الرحمة الإلهية. وهنا في الطبقة الأولى يلتقي دانتي بكاتو اليوتكي Cato od Utica، الرواقي الصارم العنيد، الذي آثر أن يقتل نفسه على أن يتلقى عذاب رحمة قيصر. وقد وضعه دانتي في هذه الطبقة تحقيقاً

ص: 333

لأمل تومس أكانوس في أن ينجو بعض عبدة الأوثان من الهلاك. وفي هذه الطبقة نفسها يقيم مانفرد بن فردريك الذي قاتل بابا من البابوات ولكنه أحب الشعر. ويسرع فرجيل بدانتي وهو يتلو عليه تلك الآيات التي تجري على كثير من ألسنة الناس.

"دع الناس يتكلموا، وقف أنت كالبرج المتين الذي لا تهتز قمته وإن هبت عليه كل الرياح"(50). وليس المطهر بالمكان الذي يوائم فرجيل، فهو لا يستطيع أن يجيب عن أسئلة دانتي بالسرعة التي تعّود أن يجيب بها عن أسئلته في الجحيم. وهو يحس بنقص ذكائه، ويظهر أحياناً حنيناً يؤلمه، غير أن ألمه هذا يزول حين يلتقي الشاعران بسردلو Sordello. ويحتضن الشاعران إبنا مانتوا أحدهما الآخر، يؤلف بين قلبيهما حبهما للبلدة التي قضيا فيها عهد الشباب. وفي هذه اللحظة ينطلق لسان دانتي بهذا الخطاب المؤلم يوجهه إلى بلده، ويلخص فيه مقاله عن الحاجة إلى الحكومة الملكية:

أي إيطاليا المستعبدة! يا موطن الأحزان! يا سفينة بغير دليل في مهب العاصفة الهوجاء! يا سيدة انتزعت منها ولاياتها الجميلة، ولم تعد إلاّ ماخوراً دنساً! إن هذا الروح الرقيق قد حفزه الصوت الجميل الصادر من بلده العزيز أن يحيي رجلاً من أهل وطنه مرحباً به مبتهجاً بلقائه. وفيك يقيم الأحياء من أبنائك يقتتلون؛ يأكل الواحد منهم لحم أخيه من الغل والحقد؛ نعم ما أشد الضغن الذي يملأ قلوب من يحيد بهم جدار واحد وخندق واحد. ألا أيها البائس الحزين طف بشواطئ بجارك، ثم عد إلى نفسك فاسألها هل يستمتع جزء منك بالسم الحلوة؟ وماذا يفيدك إذا كان جستنيان قد (أحيا القانون الروماني) من أجلك، وهل ينفعك أن يصلح العنان إذا كان السرج (بغير مَلك)؟ أيها الخلائق، يا من يجب عليكم أن تظلوا مخلصين أوفياء، أجلسوا قيصر في السرج إذا شئتم أن تستجيبوا لأمر الله (51)! ".

ص: 334

وكأنما أراد دانتي أن يظهر شوقه إلى الملوك الذين يستطيعون القبض على الأعنة الثابتة، فيصف لنا كيف يقوده سردلو هو وزميله إلى واد مشمس جميل عند سفح جبل المطهر منثورة عليه الأزهار، ويفوح منه شذى عطرها الذكي، ويقيم فيه الإمبراطور رودلف، وأتوكا Ottokar ملك بوهيميا، وبطرس الثالث ملك أرغونة، وهنري الثاني ملك إنجلترا، وفليب الثالث ملك فرنسا.

وتقود لوشيا (التي ترمز إلى ضوء رحمة الله) دانتي وفرجيل، ويدخلهما أحد الملائكة إلى الشرفة الأولى من شرفات المطهر. وهنا يعاقب المتكبرون بأن يحمل كل منهم فوق ظهره المقوس حجراً ضخماً، وترى على الجدار والطوار نقوش بارزة تصور أعمال التواضع الذائعة الصيت وما للكبرياء من نتائج رهيبة. وفي الشرفة الثانية يرى الحاسدون في أثواب من الخيش الغليظ، تخلط عيونهم باستمرار بخيوط من حديد؛ وعلى السطح الثالث يستقر الغضب، وعلى الرابع الكسل، وعلى الخامس البخل، ويلقى كل واحد منهم ما يستحقه من العقاب. ويرى على هذا السطح الأخير البابا هدريان الخامس، الذي كان في وقت ما حريصاً على الثروة. يكفّر عن ذنبه وهو هادئ هدوء الواثق من النجاة في آخر الأمر. وفي إحدى الحوادث الباهرة التي تضيء ختام قصة المطهر يظهر الشاعر الروماني استاتيوس Statius ويحيي الشاعرين الجائلين ويظهر من السرور بلقائهما ما يندر أن يظهره شاعر يلتقي بشاعر آخر على ظهر الأرض. ويصعد الشعراء الثلاثة جميعاً إلى السطح السادس حيث يطهر النّهمون من نهمهم. وهناك تهتز الفاكهة الذكية الرائحة على الأشجار أمام أولئك النادمين، فإذا امتدت أيديهم إليها لتقطفها استرجعت الأشجار فاكهتها؛ وتسمع أصوات في الهواء تردد ما في التاريخ من أعمال القناعة. وعلى السطح السابع والأخير يستقر الذين كان جرمهم أنهم لم يستعففوا، ولكنهم اعترفوا بذنبهم قبل الموت، وهؤلاء يمسسهم مساً خفيفاً ليطهرهم من ذنبهم. وهكذا يظهر دانتي أنه يعطف عطف الشعراء على

ص: 335

آثام الجسد وخاصة إذا ارتكبها ذوو المزاج الفني ممن هم لهذا السبب رقيقو الإحساس، واسعوا الخيال، مندفعون في أعمالهم. ومن بين هؤلاء جيدو جوينزلي Guido Guiuxelli؛ الذي يحبه دانتي ويسميه أباه في الأدب، ويشكر له "الأغاني الحلوة، التي ستوحي إلينا ما بقيت لغتنا بأن نحب المداد الذي خطت به"(52).

ويقودهما أحد الملائكة خلال نار في صعودهما الأخير إلى جنة الأرض، وهنا يودع فرجيل صاحبه بقوله:

"إن علمي لا يصل إلى أبعد من هذا، لقد سرت بك بحذقي وفني إلى هذا الحد، فاتخذ الآن مسرتك دليلاً لك

انظر! تر الشمس التي تسطع أشعتها على جبتهك؛ انظر! تر الأعشاب والشجيرات والأزهار التي تخرجها هذه الأرض موفورة من تلقاء نفسها. وإلى أن تأتيك هاتان العينان الوضّاءتان (عينا بياتريس) تشع منهما البهجة، وهما اللتان جعلتاني ببكائهما أسرع إلى معونتك حيث تشاء. ولا تنتظر أن تسمع مني بعد الآن صوتاً أو غشاوة تحذرك. وإذ كنت الآن حراً تختار لنفسك ما تشاء، حصيفاً، حكيماً

فإني أخلع عليك التاج والعمامة وأجعلك سيد نفسك" (53).

ويجوس الآن دانتي خلال الغابات والحقول، وعلى ضفاف الأنهار في جنة الأرض ومن ورائه - لا من أمامه - فرجيل واستاتيوس، يستنشق هواءها النقي ذا الرائحة الذكية، ويستمع من خلال الأشجار شدو الطير تغنى القسم الأول من النشيد الكهنوتي. وتمتنع سيدة تجمع الأزهار عن الغناء لتشرح لم خلت هذه الأرض الجميلة من الناس، فتقول إنها كانت فيما مضى جنة عدن، ولكن الإنسان عصى ربه، فأخرج هو وذريته من مباهجها البرئية. وتنزل بياتريس من السماء إلى هذه الجنة المفقودة يحيط بها لألأء يذهب سناه بالأبصار،

ص: 336

فلا يستطيع دانتي، أن يراها بعينه، بل كل ما يقدر عليه أن يحس بوجودها:

"ومع أن عيني لم ترياها فقد سرت منها قوة فضلى خفية لم أكد أمسها حتى استبدت بي قوة الحب القديم"(54).

ويلتفت ليحدث الشاعر الذي يرشده، ولكن فرجيل كان قد عاد إلى المحيط الخارجي للجحيم وهو الموضع الذي جاء به منه استجابة لنداء بياتريس. ويبكي دانتي ولكن بياتريس تأمره أن يندب بدل البكاء شهواته التي دنس بها بعد موتها صورتها التي في قلبه. وتؤكد له أن تلك الغابة المظلمة التي أنجته منها على يد فرجيل لم تكن إلاّ حياة الدعارة التي ضل فيها في منتصف عمره واظلم أمامه بسببها السراط المستقيم. ويقع دانتي على الأرض من فرط الخجل، ويقر بذنوبه، فتقبل عذارى سماويات ويشفعن له عند بياتريس التي أساء إليها بفعله، ويرجونها أن تكشف له عن جمالها الثاني الروحي. وليس هذا لأن بياتريس قد نسيت جمالها الأول:

"فأنت لم تر في حياتك، لا في الفن ولا في الطبيعة شيئاً يبلغ من الحلاوة ما بلغته تلك الأعضاء التي كانت داخل إطارها الجميل، والتي تناثرت الآن هباء"(55).

ويرق قلبها، وتكشف له عن جمالها السماوي الجديد، ولكن العذارى يحذرن دانتي من النظر إليها مباشرة، ويطلبن إليه أن يكتفي بالنظر إلى قدميها. وتقوده بياتريس هو واستاتيوس (الذي أتم أجله في المطهر بعد أن قضى فيه اثني عشر قرناً) إلى نبع يخرج منه نهران - أحدهما ليثي Lethe ( النسيان) والآخر يونوئي Eunoe ( الفهم الصالح). ويشرب دانتي من يونوئي فيتطهر، وتتحدد حياته، و"يصلح للصعود إلى النجوم"(56).

وليس صحيحاً أن وصف الجحيم هو وحده الجزء الطريف الممتع في الملهاة

ص: 337

المقدسة. نعم إن في وصف المطهر كثيراً من الفقرات التعليمية المجدية، وإن فيه على الدوام قدراً كبيراً من اللاهوت الذي لا حاجة للقصيدة به، ولكنها وقد خلت في هذا النشيد من رهبة التعذيب ترثى في مدارج الجمال والحنان خطوة بعد خطوة، وتغمر هذا الرقي بجو من جمال الطبيعة الذي عاد إليها من جديد فأكسبها بهجة وطلاوة، وبذلك تتأهب القصيدة لأن تضطلع بشجاعة بذلك الواجب العظيم واجب إحاطة بياتريس المجردة من الجسد بالجمال الروحاني، وبفضلها يدخل دانتي الجنة مرة أخرى، كما دخلها في أيام شبابه.

‌4 - السموات

لقد كان تفقه دانتي في علوم الدين مما زاد عمله مشقة؛ فلو أنه أجاز لنفسه أن يصور الجنة في صورة حديقة مليئة بالمباهج الجسمية كما هي مليئة بالمباهج الروحية، لوجدت فطرته مجالاً واسعاً لهذا التصوير. ولكن كيف يستطيع العقل البشري وهو "المركب المادي"، أن يتصور جنة ذات نعيم روحي خالص؟ يضاف إلى هذا ان نشأة دانتي الفلسفية كانت تمنعه أن يصور الله أو ملائكة الجنة وقديسها بصورة مجسدة؛ بل كان تمثلهم جميعاً كأنهم صور ونقط من نور؛ وكان تصويرهم بهذه الصورة تتبعه تجريدات تضيع في الفراغ النوراني حياة الجسد المذنب وحرارته. غير أن العقيدة الكاثوليكية كانت تعترف بعث الجسم بعد الموت؛ ولهذا فإن دانتي وهو يحاول أن يكون روحانياً يخلع على بعض سكان الجنة ملامح جسدية وينطقهم كلام بشري؛ وممّا يسر له الإنسان أن يقرأ لبياتريس، وهي في الجنة قدمين جميلتين.

ولقد نَفَّذ الصورة التي صور بها الجنة في خياله تنفيذاً متناسقاً يدعو إلى الدهشة، ونَفّذها بخيال رائع، وتفاصيل دقيقة واضحة. واسترشد بفَلَك بطليموس فصوّر السماء كأنها سلسلة من تسع كرات مجوفة مطردة الاتساع تدور حول الأرض؛

ص: 338

وهذه الكرات هي "المساكن الكثيرة" التي فيها "بيت الأب". وقد ثبت في كل كرة كوكب وعدد كبير من النجوم، كما تثبت الجواهر في التاج. وكلما تحركت هذه الأجرام السماوية، وقد وهبت كلها ذكاءً ربانياً متفاوت الدرجات، أخذت تتغنى ببهجة سعادتها وتسّبح بحمد خالقها، وتغمر السماوات بموسيقى تلك الكرات. ويقول دانتي إن النجوم هي أولياء السموات الصالحون، وأرواح الناجين، ويختلف ارتفاعها عن الأرض باختلاف ما كسبت في عمل صالح في حياتها على ظهر الأرض، وبقدر هذا الارتفاع تكون سعادتها، ويكون قربها من أعلى السموات التي يقوم عليها عرش الله.

وكأن النور الذي تشعه بياتريس قد جذب دانتي فارتفع من جنة الأرض إلى الدائرة الأولى من دوائر السماوات وهي دائرة القمر؛ وفيها تستقر أرواح الذين اضطروا لغير ذنب ارتكبوه إلى الحنث بأيمانهم الدينية، ومن هؤلاء شخص يدعى بكاردا دوناتي Piccarda Donati. ويقول لدانتي إنهم في أسفل دائرة من دوائر السموات، وإنهم يستمتعون بقدر من النعيم أقل مما تستمتع به الأرواح التي فوقهم؛ وقد أنجتهم الحكمة الإلهية من كل حسد، وشوق، وتذمر؛ ذلك بأن جوهر السعادة هو الخضوع لإرادة الله خضوعاً مقروناً بالغبطة والسرور، لأن "في إرادته راحتنا"(57). وهذا هو بيت القصيد في الملهاة المقدسة.

ويرقى دانتي مع بياتريس إلى السماء الثانية منجذباً إليها بقوة مغنطيسية سماوية تجذب كل شيء إلى الله. وهذه السماء الثانية هي التي يسيطر عليها الكوكب عطارد. وفيها يقيم الذين كانوا يقومون وهم على الأرض بنشاط عملي يبتغون به الخير، ولكنهم كانوا أكثر إنهِماكاً في الشرف الدنيوي منهم في خدمة الله. ويظهر من بين هؤلاء جستنيان، يصوغ في عبارات ملكية الوظائف التاريخية للإمبراطورية الرومانية والشريعة الرومانية. وعن طريقه يوجه دانتي ضربة أخرى يبغي عليها قيام عالم واحد، خاضع لشريعة واحدة،

ص: 339

وملك واحد. ثم تقود بياتريس الشاعر إلى السماء الثالثة، وهي دائرة الزهرة حيث يتنبأ فلك Folque الشاعر البروفنسالي بمأساة بنيفاس الثامن. وفي السماء الرابعة وهي دائرة الشمس يشاهد دانتي الفلاسفة المسيحيين يوئيثيوس، وإزدور الأشبيلي، وبيد Bede، وبطرس لمبارد، وجراتيان، وألبرتس مجنس، وتومس أكوناس، وبونا فنتورا، وسيجرده برابانت. ويتبادل كل من تومس الدمنيكي، وبونا فنتورا الفرنسيسي حديثهما، فيقص تومس على دانتي حياة القديس فرانسس، كما يقص عليه بونا فنتورا قصة القديس دمنيك. وإذ كان تومس على الدوام رجلاً واسع العقل إلى حد فإنه يقحم في قصته أقوالاً عن موضوعات دينية دقيقة؛ وتشتد رغبة دانتي في أن يكون فيلسوفاً فيمتنع في عدة أغان عن أن يكون شاعراً.

وتقوده بياتريس إلى السماء الخامسة، سماء المريخ، حيث تقيم أرواح المحاربين الذين قتلوا وهم يحاربون لنصرة الدين الحق - يوشع، ويهوذا مكابيوس، وشارلملن، وحتى ربرت جوسكاد Robert Guiscard الذي خرب روما. وينتظم هؤلاء على شكل صليب متلألئ عليه المسيح المصلوب؛ ويشترك كل نجم من النجوم في هذا الرمز المضيء في إيقاع موسيقى سماوي. ويصعد الشاعر وبياتريس إلى السماء الخامسة سماء المشتري فيجد فيها دانتي من كانوا وهم على ظهر الأرض يوزعون العدالة بالقسطاس المستقيم؛ ففيها داود، وحزقيال، وقسطنطين، وتراجان - وها هو ذا وثني آخر يقتحم السماء. وتنتظم هذه النجوم الحية في صورة نسر، وتكلم بصوت واحد، وتُحدث دانتي في علوم الدين، وتردد الثناء على الملوك العدول. ويصعد وقائدته إلى تسمية بياتريس تسمية مجازية لم العصر الخالد" فيصلان إلى السماء السابعة سماء البهجة، سماء زحل وحاشيته من النجوم. ويزداد جمال بياتريس بها كلما علت في السموات، كأن كل دائرة تعلو إليها تزيدها بهجة وجلالاً؛ وهي لا تجرؤ على

ص: 340

الابتسام لحبيبها لئلا يحترق ويستحيل رماداً بقوة إشعاعها. وهذه السماء هي دائرة الرهبان الذين عاشوا معيشة الصالحين، وأخلصوا لأيمانهم، ومن بينهم بطرس دميان؛ ويسأله دانتي كيف يوفق بين حرية الإنسان وعلم الله بالغيب، وما يؤدي إليه هذا العلم من الإيمان بالقضاء والقدر؟ فيجيبه بطرس بأن أكثر الأرواح استنارة في السماء تحت عرش الله لا تستطيع الإجابة عن هذا السؤال. وهنا يظهر القديس بندكت، ويرثى للفاسد الذي انحدر إليه رهبانه.

ويسبح الشاعر وقتئذ من دوائر الكواكب إلى السماء الثامنة، منطقة النجوم الثوابت. ويطل إلى أسفل من كوكبة الجوزاء فيرى الأرض المتناهية في الصغر ذات منظر حقير لم أتمالك معه نفسي من الابتسام". ولربما كان خليقاً بأن يسري فيه وقتئذ إلى أمد قصير حنين إلى هذا الكوكب التعس، ولكن نظرة من بياتريس تنبؤه أن هذه السماء، سماء الضوء والحب، لا مكان للذنوب والنزاع، هي موطنه الحق.

وتبدأ الأغنية الثالثة والعشرون بتشبيه من التشبيهات التي يمتاز بها شعر دانتي:

كالطائر الذي جلس طوال الليل في عشه المظلم بين أوراق الشجر، ومعه صغاره الجميلة، يتحرق شوقاً إلى رؤية نظراتها الحلوة، وإلى أن يسعى سعيه الحبيب ليأتي إليها بطعامها غير شاعر بما يلاقيه في سبيلها من مشقة، جلست تستبق الزمن على الغصن المعلق فوق عشها، يقظة تترقب أن تطلع الشمس فتطرد من الشرق ستار الفجر.

وتحدق بياتريس بعينيها في جهة من الجهات مترقبة، فتنشق السماء فجاءة عن منظر وضّاء؛ وتناديه قائلة:"انظر! إلى جيش المسيح المنتصر" - أرواح جديدة كسبتها الجنة. ويلتفت دانتي ولكنه لا يرى إلاّ ضوءاً ساطعاً قوياً يذهب سناه ببصره، فلا يعرف ما يمر به. وتأمره بياتريس أن يفتح عينيه،

ص: 341

وتقول له إنه يستطيع في ذلك الوقت أن يطيق النظر إلى بهائها كاملاً. وتبتسم له، ويقسم أن هذا حادث لا يمحى من ذاكرته. وتسأله:"لم يأسرك جمال وجهي؟ " وتأمره أن ينظر بدلاً منه إلى المسيح ومريم والرسل. ويحاول هو أن يتبينهم، ولكنه لا يبصر إلاّ "كتائب من البهاء، تسقط عليها من فوقها بورق ترسلها أشعة محرقة"، وتصل إلى أذنيه في تلك اللحظة موسيقى الكتائب السماوية.

ويصعد المسيح ومريم، ولكن الرسل يبقون خلفهما، وتطلب بياتريس إليهم أن يتحدثوا إلى دانتي، فيسأله بطرس عن دينه، وتسرّه أجوبته، ويوافقه على أن الكرسي الرسولي سيظل شاغراً أو مدنساً مادام بنيفاس بابا (58). إن بنيفاس لا يجد في قلب دانتي ذرة من الرحمة.

ويختفي الرسل في الطباق العليا، ويصعد دانتي أخيراً مع "التي أسكنت روحي الجنة" إلى السماء التاسعة، أعلى السموات جميعا". وليس في هذه السماء نجوم، بل كل ما فيها نور صاف، وفيها الله الروح الخالص، المجرد من الجسد، والذي لا علة له، والأصل الثابت لجميع الأرواح، والأجساد، والأسباب، والنور، والحياة. ويحاول الشاعر وقتئذ أن يستمتع بنور النعيم الباهر، ولكنه لا يرى إلاّ نقطة من الضوء تدور حولها تسع دوائر من الذكاء الخالص - ملائكة الطبقة الأولى، وأرواح سماوية، وعروش، وأملاك، وفضائل، وسلطات، وإمارات، وملائكة كبار، وملائكة غير كبار. وعن طريق هؤلاء - وهم عمال الله ومبعوثوه - يحكم الخالق جلا جلاله العالم. ولا يستطيع دانتي أن يرى الجوهر الإلهي، ولكنه يرى كل كتائب السماء تؤلف من نفسها وردة وضّاءة، هي أعجوبة من النور البراق وألوان المختلفة تتمدد ورقة بعد ورقة حتى تصبح زهرة ضخمة.

وحينئذ تترك بياتريس حبيبها، وتحتل مكانها في الوردة. ويراها تجلس

ص: 342

على عرشها، ويظل يرجوها أن تساعده، فتبتسم له، وتحدق في ذلك الوقت بعينيها في مركز جميع الأضواء؛ ولكنها ترسل القديس برنار ليساعده ويواسيه. ويوجه برنار نظر دانتي نحو ملكة السماء؛ ويتجه الشاعر نحوها ولكنه لا يرى إلاّ بريقاً وهاجاً يحيط به آلاف من الملائكة مسربلين بالنور. ويقول له برنار إنه إذا شاء أن يكون له من القوة ما يستطيع به أن يشهد الرؤى السماوية واضحة، فإن عليه أن ينضم إليه في الصلاة لأم الإله. وتبدأ الأغنية الأخيرة بتضرع برنار بنغمه الحلو:

"أيتها العذراء، يا ابنة ابنك، يا من أنت أعظم تواضعاً ورفعة من كل الخلائق". ويتوسل إليها برنار أن تمن على دانتي بأن يقدر على رؤية ذات الجلال القدسي؛ فتنحني بياتريس وينحني كثير من القديسين نحو مريك ويرفعون أيديهم مقبوضة يتوسلون إليها بالدعوات. وتلقي مريم نظرة قصيرة رحيمة على دانتي، ثم تحول عينيها نحو "النور السرمدي". والآن، كما يقول الشاعر:"تصفو نظراتي، فيدخل فيها شيئاً فشيئاً ذلك النور الأعلى وهو الحق". ويقول إن كل ما رآه بعدئذ تعجز اللغة عن وصفه، ويعجز الخيال عن تصوره؛ ولكن "في هذه الهوة من البهاء المتألق، الصافية الشامخة، خيل إلى أني أرى كرة ذات ثلاثة ألوان مجتمعة في لون واحد". وتختتم الملحمة الفخمة ونظرات دانتي لا تزال مثبتة على النور المتألق، يجذبها ويدفعها "حب الله الذي يحرك الشمس وجميع النوم".

وجملة القول أن الملهاة المقدسة أعجب القصائد كلها وأصعبها. فليس ثمة قصيدة غيرها تضن بكنوزها إلاّ على من يبذلون في سبيلها جهوداً جبارة؛ ولغتها أكثر اللغات إيجازاً وإحكاماً بعد لغة هوراس وتاستس، فهي تجمع في كلمة أو بضع كلمات معاني وأفكاراً دقيقة يتطلب فهمها كاملة معلومات سابقة غزيرة، وعقلاً مستيقظاً، وذكاءً؛ وحتى بحوثها المملة في علوم الدين، والنفس، والفلك،

ص: 343

تمتاز بدقة في اللفظ وغزارة في المادة، لا يستطيع أن يجاريها فيهما أو يستمتع بهما إلاّ الفيلسوف المدرسي. ذلك أن دانتي كان يحيا في عصره حياة قوية عميقة تكاد قصيدته بسببها أن تتحطم تحت عبء الإشارات إلى الحوادث والمعاني المعاصرة التي لا يمكن فهمها إلاّ إذا أضيف إليها كثير من الشروح التي تعطل تتابع القصة.

وكان يحب أن يعلم الناس، ولهذا أراد أن يفرغ في قصيدة واحدة ما تعلمه كله تقريباً، وكانت النتيجة أن البيت الحي من الشعر يرقد إلى جانب السخافات الميتة، ويضعف جمال بياتريس وفتنتها بأن ينطقها بما يحبه ويكرهه في الشئون السياسية. وهو يقطع قصته ليصب جام غضبه على مائة مدينة أو جماعة أو فرد، ويغرق ملحمته أحياناً في بحر من السباب؛ وهو متيم بحب إيطاليا؛ ولكن بولونيا مليئة بالقوادين (59)، وفلورنس هي الثمرة المحبوبة من ثمار الشيطان (60)، وبستونيا حظيرة للوحوش (61)، وجنوى "استشرى فيها الفساد"(62)؛ وأما بيزا "ألا لعنة الله على بيزا! ألا ليت نهر الآرنو يسد عند مصبه، ويغرق بيزا كلها، بما فيها من حرث ونسل، تحت مياهه الصاخبة"(63). ويظن دانتي أن "الحكمة العليا، والحب الأزلي" هما اللذان خلقا الجحيم. وهو يعد بأن يزيل الجليد لحظة من الزمان عن عيني البريجو Alberigo إذا ما أخبره هذا باسمه وقص عليه قصته. ويجيبه البريجو إلى ما طلب ويرجوه أن ينجز ما وعد- ويقول "مد إليَّ يدك، وافتح عيني! " - ويواصل دانتي حديثه قائلاً: ولكنني "لم أفتحهما له؛ لأن الوقاحة معه هي المجاملة بعينها"(64). ألا إننا سننجو جميعاً من العذاب إذا كان رجل مليء قلبه بهذا الغل يستطيع أن يطوف به طائف خلال الجنة.

ومع هذا كله فإن قصيدته أعظم كتب العصور الوسطى، ومن أعظم كتب التاريخ بأجمعه. ذلك بأن تجمع قوتها وغزارة مادتها تدريجياً خلال أغانيها البالغ عددها مائة أغنية تجربة لا يستطيع قارئ أكمل قراءتها أن ينساها؛ وهي كما قال فيها كارليل Carlyle أعظم القصائد إخلاصاً؛ فليس فيها شيء من الادعاء،

ص: 344

أو الملق، أو التواضع الكاذب، أو الخنوع، أو الجبن؛ بل إن أقوى رجال ذلك العصر، ومنهم البابا الذي يدّعي أنه صاحب السلطان الأعلى، يهاجمون بقوة وحرارة ليس لهما في الشعر كله مثيل. وفيها فضلاً عن هذا كله خيال وثّاب يسري فيها كلها ويبعث فيها القوة، ويغالب شيكسبير لينتزع منه لواء الشعر: فيها صور واضحة حية لأشياء لم يرها الأرباب أو البشر؛ ووصف الطبيعة لا تستطيعه إلاّ روح يقظة قوية الملاحظة مرهفة الحس؛ وقصص قصيرة، كقصة فرانسسكا وأجلينو، تجمع المآسي العظيمة في حيز صغير دون أن تترك منها شيئا ذا بال. نعم إن هذا الرجل خلو من الفكاهة، ولكن فيه حُبًّاً ظل حتى أحالته المصائب لاهوتاً.

ويبلغ دانتي آخر الأمر بقصيدته مرتبة السمو. نعم إننا لا نجد في ملحمته ما نجده في الإلياذة من تيار الحياة الجارف أو تتابع الحوادث سراعاً، كما أننا لا نجد فيها ما في شعر فرجيل من انسياب سهل هادئ، أو يمتاز به شكسبير من إدراك شامل، وتسامح، وغفران الذنوب؛ ولكن فيها عظمة، وقوة معذبة نصف همجية تستبق ميكل أنجلو وتنبئ بقدومه؛ وإذ كان دانتي ممن يحبون النظام كما يحبون الراية، فقد قيد عواطفه ورؤياه فخلع عليهما صورة محددة، ولهذا أخرج قصيدة ذات قوة ماثلة أمام أعيينا لم يصل إلى مثلها إنسان آخر من بعده. وقد ظلت إيطاليا طوال القرون التي أعقبت عصره تجله وترى فيه الرجل الذي حرز لغتها الذهبية من القيود؛ وتلقى بترارك ويوكاشيو ومائة غيرهما من الأدباء الإلهام من وقائعه وفنه، ورددت أوربا كلها أصداء قصة المنفّي الفخور الذي سار إلى الجحيم ثم عاد منها ولم يبتسم قط بعد عودته.

ص: 345

الخاتمة

‌تراث العصور الوسطى

إن من الخير أن نختتم بدانتي قصتنا الطويلة المتشعبة، فقد ظهر في القرن الذي توفي فيه أولئك الرجال الذين شرعوا بعدئذ في تحطيم الصرح العظيم صرح الإيمان والأمل الذي عاش فيه: فمن هؤلاء ويكلف Wyclif، وهوس Huss اللذان مهدا السبيل للإصلاح الديني؛ وجيتو Giotto وكريسلاراس Chrysolaras، وبترارك، بوكاشيو الذين بشروا بالنهضة، وقد يبقى إلى زمن طويل خلال تاريخ الإنسان - ذي العدد الكبير والطبائع المختلفة - مزاج من نوع ما في بعض النفوس وبعض الأماكن بعد أن ينشأ المزاج الذي يخلفه أو يناقضه في نفوس وأماكن أخرى. ففي أوربا مثلاً وصل عصر الإيمان إلى عنفوان مجده، في دانتي، ثم أصابته طعنة نجلاء من يد أكام Occam في القرن الرابع عشر؛ ولكنه ظل يغالب والنصف حتى أقبل برونو Bruno وجلليو وديكارت واسبنوزا، وبيكن، وهُبز Hobbs؛ وقد يعود عصر الإيمان إذا ما حلت بعصر العقل كارثة

(1)

؛ ولقد بقيت مساحات واسعة تحت شعار الإيمان وسلطانه بينا كانت أوربا الغربية تسير بسفينة العقل في البحار الغير مطروقة. إن العصور الوسطى حال من أحوال الزمان كما هي فترة من فتراته: ومن واجبنا أن نختتمها في أوربا الغربية بكولمبس؛ ولكنها دامت في الروسسيا إلى زمن بطرس الأكبر (المتوفى عام 1725)؛ أما في الهند فلا تزال باقية إلى اليوم.

ولقد نساق إلى التفكير في العصور الوسطى على أنها فترة مجدبة محصورة بين سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب (476) وكشف أمريكا؛ بيد

(1)

يقصد بعصر العقل عصرنا الحاضر، ولهذا يقول إنه سيسمى المجلد السابع من هذه السلسلة وهو المجلد الذي يروي حضارة هذا العصر "عصر العقل". (المترجم)

ص: 346

أننا يجب ألاّ ننسى أن أتباع أبلار كانوا يسمون أنفسهم محدثين moderni، وأن أسقف إكستر Exeter قد وصف في عام 1287 القرن الذي يعيش فيه بأنه "الزمن الحديث moderni tempores"(1) . أضف إلى هذا الحد الفاصل بين العصور "الوسطى" والعصور "الحديثة" يتقدم على الدوام؛ وأن عصر الفحم والزيت والأحياء القذرة المليئة بالدخان والكَتَن، إذا حل محله عصر أكثر منه نظاماً وأرحم مه حياة، قد يعد من العصور الوسطى. كذلك لم تكن العصور الوسطى مجرد فترة بين حضارة وحضارة. ذلك أننا إذا أرخنا بداية هذه العصور بقبول روما للمسيحية وبمؤتمر نيقية في عام 325، رأيناها تشمل القرون الأخيرة من حياة الثقافة اليونانية - الرومانية القديمة، ونضوج المسيحية الكاثوليكية حتى أضحت حضارة كاملة غنية في القرن الثالث عشر، وانقسام تلك الحضارة إلى الثقافتين المتعارضتين وهما النهضة والإصلاح الديني. وشيء آخر خليق بالذكر، وهو أن رجال العصور الوسطى كانوا ضحية للهمجية، ثم صاروا هم أنفسهم الغالبين للهمجية، وأمسوا بعدئذ المنشئين لمدنية جديدة. وليس من الحكمة أن ننظر بعين الكبرياء إلى عصر أنجب هذا العدد الجم من عظماء الرجال وعظمات النساء، ورفع منار البابوية فوق أنقاض العصور الوسطى، وأقام الدول الأوربية وجمع بالكدح الدائب تلك الثروة التي خلفتها لنا تلك العصور

(1)

.

وقد جمع هذا التراث بين الشر والخير. فأما عن الشر فنقول إننا لم نفق بعد كل الإفاقة من العصور المظلمة: من اضطراب الأمن الذي يثير المطامع والشهوات، والخوف الذي يولد القساوة، والفقر الذي يوجد القذارة والجهل، والقذارة التي تتفشى بسبها الأمراض، والجهل الذي يؤدي إلى سرعة التصديق وإلى الإيمان بالخرافات، والسحر - كل هذا لا يزال باقياً بيننا؛ وإن العقائد التحكمية القائمة

(1)

قصرنا الجزء الأكبر من هذه الإعادة على الحديث عن المسيحية في العصور الوسطى، ولن نعيد هنا الخلاصة التي كتبناها عن الحضارة الإسلامية في ختام الكتاب الثاني في هذا المجلد.

ص: 347

على غير أساس من العقل، والتي أدت إلى التعصب وإلى محاكم التفتيش لا تزال تنتهز الفرص أو الإذن لكي تظلم، وتقتل، وتدمر، وتخرب. وليست "العصرية" بهذا المعنى إلاّ ستاراً يغشى مبادئ العصور الوسطى وعاداتها، ولا تزال هذه المبادئ والعادات باقية في الخفاء؛ وليست الحضارة في أي جيل من الأجيال إلاّ ثمرة من ثمار الكدح الذي تقوم به قلة مزعزعة مغمورة وميزة اضطرارية لهذه القلة. ولقد خلفت محاكم التفتيش آثارها السيئة في المجتمع الأوربي: فقد جعلت التعذيب جزءاً مقرراً معترفاً به في الإجراءات القضائية، وردت الناس من مغامرات العقل إلى الاتفاق الراكد المنبعث من الخوف.

والدين أهم ما ورثنا إياه عصر الإيمان: أورثنا يهودية ظلت حتى القرن الثامن عشر يستوعبها التلمود؛ وأورثنا الإسلام الذي هدأت عقول أصحابه بعد انتصار السُنَّة على الفلسفة في القرن الثاني عشر، ومسيحية انقسمت بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، ولكنها لا تزال رغم هذا الانقسام أقوى الأديان وأعظمها أثراً في تاريخ الرجل الأبيض. فعقيدة كنيسة العصور الوسطى يدين بها الآن 330. 000. 000 من الرومان، و 128. 000. 000 من الأرثوذكس والكاثوليك؛ ولا تزال شعائرها تحرك النفوس بعد أن أخفقت كل الحجج المنطقية. ولقد خلفت جهد الكنيسة في ميادين التعليم، والصدقات، وبث الأخلاق الفاضلة في نفوس الهمج من الناس، خلفت هذه الجهود إلى العالم الحديث تراثاً ثميناً من النظام الاجتماعي، والتأديب الخلقي. ولسنا ننكر أن ما كانت تحكم به البابوية من قيام دولة أوربا الموحدة قد قضى عليه النزاع الذي قام بين الإمبراطورية والبابوية؛ ولكن ما من جيل من الأجيال لا تستثيره رؤى نظام أخلاقي دولي يسمو على النظم الأخلاقية المتضاربة السائدة في الدول المستقلة ذات السيادة.

ولما أن قضى على ذلك الحلم البابوي اتخذت الأمم الأوربية الشكل الذي

ص: 348

لا تزال تحتفظ به في جوهر حتى هذا القرن، وتأهب مبدأ القومية لكتابة التاريخ السياسي للأزمنة الحديثة. وابتدع عقل العصور الوسطى في هذه الأثناء أنظمة من القانون المدني والكنسي، ودساتير بحرية وتجارية، وعهوداً لحرية المدن، ونظام المحلفين، وحق القضاء في إطلاق سراح المسجون بلا محاكمة. وفي العصور الوسطى وضع نبلاء الإنجليز العهد الأعظم، واعَدَّت المحاكم والمجالس القضائية للدول والكنيسة أساليب الحكم ودواليب الإدارة الباقية إلى هذه الأيام. وظهر نظام الحكم النيابي في الكورتيز Cortes مجلس أسبانيا النيابي، والألثنج Althign مجلس أيسلندة، وجمعية الطبقات الفرنسية، والبرلمان الإنجليزي.

وكان أعظم من هذا كله تراث العصور الوسطى الاقتصادي: فقد استغلت هذه العصور البراري المقفرة، وكان لها النصر في مغالبة الغابات، والحراج، والمستنقعات، والبحار، وأخضعت تربة الأرض لإرادة الإنسان. وقضت العصور الوسطى على الاسترقاق في معظم أجزاء أوربا الغربية، وكادت تقضي أيضاً على نظام رقيق الأرض. ونظمت العمال المنتجين في نقابات الحرف، وهي النقابات التي لا تزال من المثل العليا عند رجال الاقتصاد الذين يسعون لإيجاد طريق وسط بين الأفراد غير المسئولين والدولة الأتوقراطية. ولقد ظل الخياطون، والأساكفة، وصناع الملابس إلى وقتنا هذا يقومون بأعمالهم اليدوية في حوانيت خاصة كما كانوا يقومون بها في العصور الوسطى؛ وكان خضوعهم لنظام الإنتاج الكبير وللتنظيم الرأسمالي على مرأى ومسمع منا. وإن المواسم الكبرى التي تعقد في المدن الحديثة ويجتمع فيها الناس والسلع لمن مخلفات تجارة العصور الوسطى؛ كما أن من هذا التراث أيضاً ما نبذله من جهد لمنع الاحتكار، وتحديد الأثمان والأجور؛ ولقد ورثنا عمليات المصارف الحديثة كلها تقريباً من نظم العصور الوسطى المالية، وحتى منظماتنا الأخوية، وجمعياتنا السرية تمتد جذورها وشعائرها إلى العصور الوسطى نفسها.

ص: 349

وكانت مبادئ العصور الوسطى الخلقية وليدة الهمجية ومنشأ نظام الفروسية. وإن فكرتنا عن السيد الكامل (السيذع) لمن خلق تلك العصور؛ ولا تزال مثل الفروسية العليا؛ وإن بعدت عن أساليب الفرسان القدامى، من أنبل الأفكار التي طافت بالعقل البشري؛ وربما كانت عبادة مريم العذراء قد جاءت بعناصر جديدة من الرقة والحنان إلى أخلاق الرجل الأوربي. وإذ كانت القرون المتأخرة قد ارتقت بأخلاق الناس عمّا كانت عليه في العصور الوسطى، فقد ذلك الرقي على أسس من وحدة الأسرة، والتربية الخلقية، والانتشار البطيء لعادات الشرف، والأمانة، والمجاملة، وهي الأسس التي أرست دعائمها العصور الوسطى، شأنها في هذا شأن الحياة الأخلاقية للمتشككين المحدثين التي لا يبعد أن تكون صدى للمبادئ الأخلاقية المسيحية التي اعتنقها الناس في شباب هذا الدين.

أما تراث العصور الوسطى الذهني فهو أضعف مما ورثناه عن اليونان الأقدمين كما أنه يختلط به كثير من المعارف الخفية الفاسدة التي ترجع أصولها إلى الأزمنة القديمة. ولكنه على الرغم من هذا يشمل اللغات الحديثة، والجامعات ومصطلحات الفلسفة والعلوم. وكانت الطريقة الجدلية المدرسية تدريباً في المنطق لا فتحاً فلسفياً دائماً، وإن كانت هذه الطريقة تسيطر على ألف كلية. ولسنا ننكر أن بعض العقائد الدينية في العصور الوسطى قد عاقت كتابة التاريخ الصحيح؛ فقد كان الناس في تلك العصور يحسبون أنهم يعرفون منشأ العالم والإنسان ومسيرهما، وحاكوا نسيجاً من الأساطير كاد يقصر التاريخ على مؤرخي الأديرة الإخباريين. لكن ليس صحيحاً أن مؤرخي العصور الوسطى لم يكونوا يعرفون شيئاً عن التطور والتقدم؛ وكان القرن الثالث عشر، كما كان القرن التاسع عشر، متأثراً أشد التأثر بما تم فيه من جليل الأعمال. كذلك لم تكن العصور الوسطى زمن ركود وجمود كما كنا نظن ذلك مزهوين؛ ذلك أن بعد ما بيننا وبين تلك

ص: 350

العصور يجعلنا نظم الحركة سكوناً، والفروق معدومة من الوجود، ونحسب التغير جموداً؛ ولكن الرغبة في التغيير كانت تلح وقتئذ، كما تلح الآن، في تبديل العادات والثياب، واللغة والأفكار، والشرائع ونظم الحكم، وأساليب التجارة والمال، والأدب والفن. غير أن مفكري العصور الوسطى لم يكونوا يعلقون أهمية كبرى على ارتقاء الوسائل غير المصحوبة بإصلاح الغايات كما يفعل المحدثون غير المفكرين أهل هذه الأيام.

وفي الحق ا، تراث العصور الوسطى العلمي تراث متواضع، ولكنه يشمل فيما يشمل الأرقام الهندية، والطريقة العشرية، وفكرة العلوم التجريبية، وقسطاً كبيراً من العلوم الرياضية والجغرافيا، والفلك، والبصريات. وفي العصور الوسطى كشف البارود، واخترعت النظارات، والبوصلة البحرية، والساعة ذات الرقاص

(1)

، وتقطير الكحول - الذي يبدو أشد المخترعات لزوماً للإنسان! وفيها ارتقى أطباء العرب واليهود بالطب اليوناني، وحرر الرواد المسيحيون الجراحة من فنون الحلاقين؛ ونصف المستشفيات التي تقوم الآن في أوربا أنها من منشئات العصور الوسطى وإما أنها مؤسسات باقية من ذلك العهد جددت في العصور الحديثة، ولقد ورث العلم الحديث من طريقة التفكير في العصور الوسطى نزعته الدُّوَلية، وقسطاً غير قليل من لغته الدُّوَلية.

وأجل ما ورثه العالم من العصور الوسطى بعد التأديب الأخلاقي هو الفن. نعم إن بناء إمبير استيت Empire State Building لا يقل روعة وجلالاً عن كتردائية شارتر، وأنه يدين بعظمته لهندسته وحدها - لثباته رغم ارتفاعه وعتوه ودقة تخطيطه. ولكن اجتماع فنون النحت، والتصوير، والشعر، والموسيقى مع فن العمارة في حياة الكتدرائية القوطية يكسب كتدرائيات أميان،

(1)

من حق العرب علينا أن نقول إن هذه المخترعات يكاد يرجع الفضل كله فيها إلى الحضارة الإسلامية. (المترجم)

ص: 351

وريمس، ونتردام سعة وعمقاً في التوافق الروحي، وثروة وتنوعاً في الزخرف، يملآن النفس غبطة أكثر مما تملؤها عظمة البناء الحديث، ولا تفتر معهما متعة الإنسان على مر السنين. وإن من واجب الإنسان أن يغفر الشيء الكثير لذلك العصر الذي أحب بملء قلبه رموز دينه، وأعمال يديه - من أبواب، وأبراج ومنارات مستدقة، وقباب من حجارة تناطح السماء، وتماثيل ومذابح للقربان وواجها، ومقابر عني بنحتها أعظم عناية، وشبابيك تنافس بألوانها قوس قزح، وتتقي أشعة الشمس قبل أن تنقذ فيها. ومن أجل الكتدرائيات نشأت الموسيقى المتعددة النغمات، ووضعت العلامات الموسيقية والسلم الموسيقي؛ ومن الكنيسة نشأ في فن التمثيل الحديث.

ولا يقل تراث العصور الوسطى في الأدب عن تراث الرومان وإن لم يبلغ في علو قدره ما بلغه الأدب اليوناني. ففي وسعنا أن نضع دانتي في مرتبة فرجيل، وبترارك إلى جانب هوراس، وشعراء العرب والفروسية الغزلين إلى جانب أوفد، وتيبلس، وبروبرتيوس؛ وإن روايات آرثر الغرامية لأشد عمقاً وأكثر نبلاً من كل ما حواه كتابا التناسخ أو الهرويدات، ولا يقل عنهما ظرفاً وجمالاً؛ وإن الترانيم الكبرى التي كانت تنشد في العصور الوسطى لأرقى من أجمل الأغاني الشعرية الرومانية. ولا يقل القرن الثالث عشر رقياً من عصر أغسطس أوليو العاشر؛ وقلّما شهد قرن من القرون ما شهده ذلك القرن من ازدهار فني أو ذهني كامل متعدد الألوان؛ وقد اتسع فيه نطاق التجارة اتساعاً لا يقل عمّا وصل إليه في أواخر القرن الخامس عشر؛ وكانت هذه التجارة سبباُ في اتساع رقعة العالم المعروف وازدياد ثروته ويقظته. وكان في القرن الثالث عشر بابوات أقوياء من طراز إنوسنت الثالث وبنيفاس الثامن، رفعوا مقام الكنيسة مدى قرن كامل إلى أعلى درجات النظام والقانون في جميع البلاد الأوربية. ولم يكن

ص: 352

القديس فرانسس يخشى أن يكون مسيحياً؛ وأعاد الرهبان المتسولون المثل العليا للأديرة، ورفع الحكام العظام أمثال فيليب أغسطس، والقديس لويس، وفليب الرابع، وإدور الأول، وفردريك الثاني، وألفنسو العاشر، رفع هؤلاء دولهم من بلاد تجري على العادات والتقاليد إلى دول تتبع القوانين، كما رفعوا شعوبهم إلى مستويات جديدة من الحضارة في العصور الوسطى. وانبعثت في القرن الثالث عشر فلسفة وعلوم جديدة تغلبت على النزعات الصوفية التي كانت سائدة في القرن الثاني عشر، وكان انبعاثها بحماسة وشجاعة لا يفوقهما ما كان منها في عصر النهضة. وفي الأدب خطا ": القرن العجيب" من بارزيفال تأليف ولفرام فن إسشنباخ إلى فكرة الملهاة المقدسة، ولاح أن عناصر حضارة العصور الوسطى وصلت في خلال ذلك القرن إلى الوحدة والوضوح وإلى صورتها النهائية.

وبعد فإنّا لن نستطيع تقدير العصور الوسطى حق قدرها إلاّ إذا نظرنا إلى النهضة الأوربية على أنها إتمام لما بدأته لا نقض له. فقد واصل كولمبس ومجلان Magellan مثلاً رحلات الارتياد التي قام بها التجار والملاحون من أهل البندقية، وجنوى، ومرسيليا، وبرشلونة، ولشبونة، وقادس، والتي تقدمت على أيديهم تقدماً عظيماً؛ وإن الروح التي كانت متأججة في أثناء القرن الثاني عشر لهي نفسها التي أثارت روح الكبرياء والكفاح في المدن الإيطالية خلال عصر النهضة؛ كذلك كان النشاط والخلق القوي اللذان امتاز بهما إنريكو دوندولو Enrico Dnodolo، وفردريك الثاني، وجريجوري التاسع هما اللذين تلتهب بهما صدور رجال النهضة؛ وكان منشأ زعماء عصابات المغامرين العسكريين الذين يبيعون خدماتهم لأي حزب في كل نزاع من الخطة التي اتبعها ربرت جسكارد Robert Guiscard؛ ومنشأ الحكام "الطغاة" مثل إزلينو Ezzelino وبلافشينو Pallavicino؛ وسار المصورون في الدرب الذي شقه لهم سمابيو Cimabue [M. M. A1] ودوتشيو Duccio؛ وكانت بلسترينا Palestrine همزة الوصل بين الترنيم

ص: 353

الجريجوري وباخ Bach. كذلك كان بترارك وارثاً لدانتي وشعراء الفروسية الغزلين، كما كان بوكاشيو قصاصاً إيطالياً جواباً. وقد ظلت الروايات الغرامية مزدهرة في أوربا أثناء النهضة على الغم من كتاب دن كيشوت، وبلغت أساليب كريتيان ده تروي Chretien de Troyes حد الكمال على يد مالوري Malory. وكانت بداية "إحياء الآداب" في مدارس العصور الوسطى؛ وكل ما امتازت به النهضة في هذه الناحية أنها وسعت دائرة هذا الإحياء حتى شملت الآداب اليونانية بعد أن كان مقصوراً على اللاتينية، وأنها نبذت الفن القوطي لتنهض بالفن اليوناني. لكننا يجب ألاّ ننسى أن نقولو بيزانو Niccolo Pisano اتخذ فن النحت اليوناني في القرن الثالث عشر نموذجاً له ينسج على منواله، ولمّا أن جاء كريسلوراس Chrysoloras باللغة اليونانية وآدابها إلى إيطاليا (1393)، كان لا يزال باقياً من عمر العصور الوسطى مائة عام كاملة.

وكان الدين الذي شاد الكنائس الكبرى وألّف الترانيم الجميلة هو الدين السائد في إيطاليا، وأسبانيا، وفرنسا في عهد النهضة مع فارق واحد، وهو أن الكنيسة الإيطالية، التي كان لها نصيب كبير في ثقافة ذلك الوقت، وهبت العقل الإيطالي حرية في التفكير ولدت في جامعات العصور الوسطى، وظلت باقية، بشرط أن يكون مفهوماً فهماً ضمنياً أن يسير الفلاسفة والعلماء في بحوثهم دون أن يحاولوا القضاء على دين الجماهير.

ومن أجل هذا لم تشترك إيطاليا ولا فرنسا في حركة الإصلاح الديني، بل انتقلتا من ثقافة القرن الثالث عشر الكاثوليكية إلى ثقافة القرنين الخامس عشر والسادس عشر "الإنسانية"، ثم انتقلتا من هذه الثقافة الأخيرة إلى عصر الاستنارة في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكان هذا الاطراد المستمر مضافاً إلى تجارة البحر المتوسط قبل كشوف كولمبس هي التي أكسبت الشعوب اللاتينية ميزة ثقافية مؤقتة على الأمم الشمالية التي اجتاحتها الحروب الدينية، والتي كان لها فيها

ص: 354

من الآثار المدمرة أكثر مما كان في البلاد اللاتينية. وتمتد أصول هذا الاطراد مجتازة العصور الوسطى إلى روما القديمة ومجتازة جنوبي إيطاليا إلى بلاد اليونان القديمة. وكان تيار واحد عظيم من الثقافة يجري خلال المستعمرات اليونانية في صقلية، وإيطاليا، وفرنسا، وخلال الفتح الروماني لفرنسا وأسبانيا واصطباغهما بالصبغة اللاتينية مبتدئاً من سابفو وأنكريون إلى فرجيل وهوراس، وإلى دانتي وبترارك، وإلى ربليه ومنتائي، وإلى فلتير وأناتول فرانس. ونحن في انتقالنا من عصر الإيمان إلى عصر النهضة إنما نتقدم من الطفولة المزعزعة غير الواثقة بنفسها إلى الشباب البهيج للثقافة التي قرنت ما كان عند الرومان واليونان الأقدمين من ظرف ورقة إلى ما كان عند البرابرة من قوة؛ وهي ثقافة نقلت إلينا تراثاً متجدد الشباب موفور الغنى لحضارة من حقها علينا أن نعمل على الدوام لزيادتها وألاّ نتركها تموت.

شكراً لك مرة أخرى أيها القارئ الصديق

انتهى المجلد الرابع ويليه المجلد الخامس في حضارة عصر النهضة

ص: 355