الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الثالث
مسرح الحوادث الإيطالية
1378 -
1534
الباب السادس
ميلان
الفصل الأول
ما وراء الأحداث
إننا نظلم النهضة حين نركز دراستنا على مدائن فلورنس، والبندقية، وروما، ذلك أن النهضة ظلت نحو عشر سنين هي اكثر بهاء في ميلان تحت حكم لدوفيكو Lodovico وليوناردو منها في فلورنس، وكانت إزبلا دست Isabella D'Este في مانتوا خير من تجلى في شخصها تحرير النهضة للمرأة والارتفاع بشأنها، وأعلت النهضة كذلك من شأن بارما Parma بظهور برجينو، كما أعلت من شأن ارفيتو Orvieto بظهور سينوريلي Siqnorelli. وبلغ أدب النهضة ذروته على يد أريستو Ariosto في فيرارا، كما بلغ أثرها أعلاه في تهذيب الأخلاق في اربينو Urbrino أمام كستجليوني، وهي التي خلعت أسم فياندسا Faenza على فن من فنون الخزف وأسم فيتشندسا على الطراز المعماري البلاسي Palladian
(1)
في تلك المدينة، واعادت الحياة إلى سينا Siena حين أنجبت بنتورتشيو، وإلى ساسيتا Sassetta وسادوم Sadom وجعلت نابولي موطنا ورمزا للحياة المرحة وشعر الأناشيد. ولهذا نرى من
(1)
يشير الكاتب إلى كلمة Faience المشتقة من كلمة فياندسا ومعناها القاشاني، والطرافة أي المنسوب إلى بالاس أثينا إلهة الحكمة عند اليونان. (المترجم)
واجبنا ان نمر على مهل في شبه الجزيرة التي لا نظير لها في أشباه الجزائر من بيدمنت Piedmont إلى صقلية، ونتيح الفرصة للأصوات المتنوعة الخارجة من مدائنها تمتزج في النشيد المتعدد النغمات الذي تترنم به النهضة.
لم تكن الحياة الاقتصادية في الدول الإيطالية خلال القرن الخامس عشر أقل تنوعا من مناخ المدن، ولهجاتها، وأزيائها. فقد كان شمالي شبه الجزيرة ينتابه أحيانا شتاء قارس تتجمد فيه مياه نهر البو من منبعه إلى مصبه، بينما كان الإقليم الساحلي المحيط بجنوى والذي تحميه الألب الليجورية Lligurian Alps يستمتع بجو معتدل يكاد يدوم طول العام. وكان الضباب يلف قصور البندقية، وأبراجها، وشوارعها المائية، وكانت روما مشمسة ولكن العفن يتصاعد في سماءها، أما نابلي فهي الفردوس في مناخها. وكانت هذه المدائن أينما وجدت وما يتصل بها من أقاليم الريف تنتابها من حين إلى حين تلك الزوابع، والفيضانات، والحدب، والأعاصير، والمجاعات، والأوبئة، والحروب، التي لا تنفك الطبيعة تسيرها على العالم لتوازن بها إسراف بنى الإنسان في التناسل والإخصاب كأنها تتبع في ذلك تعاليم مالتس Malthus
(1)
. وكانت الحرف اليدوية القديمة تمد فقراء المدن بالكفاف من العيش كما تمد الأغنياء بأسباب الترف، ولم يصل إلى مرحلة المصانع ورؤوس الأموال إلا صناعة النسيج، من ذلك أن إحدى مصانع الحرير في بولونيا تعاقدت مع ولاة الأمور في المدينة على أن تخرج من الغزل "ما تخرجه 4000 امرأة غازلة"(1) وكانت في تلك المدن طبقة وسطى من خليط من صغار البائعين، وتجار الواردات والصادرات، والمدرسين، والمحامين، والأطباء، ورجال الإدارة، والسياسة، وكانت طبقة من رجال الدين الأثرياء المهتمين بشئون هذه
(1)
هو العالم الاقتصادي الذي عاش بين 1766 و 1834 والقائل بأن سكان العالم يتضاعفون أكثر من تضاعف الغذاء، وأن الطبيعة ترسل إليهم الكوارث حتى يتوازن هذا مع ذاك. (المترجم)
الدنيا تضيف بهرجها ورشاقتها إلى الأبهاء والشوارع، كما كان الرهبان على اختلاف طوائفهم، النكدون منهم والمرحون، يجوبون البلاد طلباً للصدقات أو المغامرات. وكان الأعيان من الملاك ورجال المال يعيشون أكثر ما يعيشون داخل أسوار المدن، ويسكنون أحياناً في قصور ريفية. وكان يتزعم هذه الطائفة من الأعيان صاحب مصرف، أو مغامر حربي مستأجر، أو مركيز، أو دوق، أو دوج، أو ملك هو وزوجته أو عشيقته مثقل بأسباب الترف ومزدان بثمار الفن، يرأس داراً للقضاء. أما في الريف فكان الفلاح يحرث فدادينه القليلة أو بعض أملاك سيد المقاطعة، ويعيش عيشه الفرقة التي ألفها منذ أجيال حتى لم تعد تخطر له على بال.
وكان الرق قائماً في نطاق ضيق، وكان أكثر ما يقوم به الأرقاء هو خدمة الأغنياء، كما كانوا في بعض الأحيان يكملون بعملهم ما يقوم به العمال الأحرار في الضياع الكبيرة أو يصلحون ما فسد من هذه الأعمال، وكانوا أكثر ما يوجدون في صقلية، ولكنهم كانوا يوجدون كذلك في أماكن متفرقة من شبه الجزيرة حتى في جزئها الشمالي (2). وأخذت تجارة الرقيق تزداد منذ القرن الرابع عشر إلى ما بعده، فكان تجار البندقية وجنوى يستوردونهم من بلاد البلقان، وجنوبي الروسيا، وبلاد الإسلام، وكان العبيد والإماء المغاربة يعدون زينة لبلاط الملوك والأمراء في إيطاليا (3)، وقد تلقى البابا إنوسنت الثامن في عام 1488 مائة رقيق مغربي هدية من فرديناند الكاثوليكي، وزعهم هدايا من غير ثمن على كرادلته وغيرهم من أصدقائه (4)، وبيعت كثير من نساء كابوا جواري في روما بعد الاستيلاء على تلك المدينة في عام 1501 (5)، غير أن هذه الحقائق المتفرقة لا توضح اقتصاديات النهضة بقدر ما توضح أخلاق بنيها، ذلك أن الرق لم يكن له إلا شأن ضئيل في إنتاج السلع أو نقلها.
أما هذا النقل فكانت أهم وسائله ظهور البغال أو العربات، أو الأنهار،
أو القنوات، أو البحار. وكان الأغنياء يسافرون على ظهور الخيل أو في مركبات تجرها الخيول، وكانت سرعتها معتدلة ولكنها مثيرة للمشاعر، وكان الانتقال من بيروجيا إلى أربينو وهي مسافة تبلغ أربعة وستين ميلاً يستغرق يومين ويتطلب أن يكون المسافر صلب العود، وقد يحتاج الانتقال في قارب من برشلونة إلى جنوى أربعة عشر يوماً. وكانت النزل كثيرة العدد عظيمة الصخب، قذرة، غير مريحة. وكان منها واحد في بدوا يتسع لمائة ضيف ومائتي حصان، وكانت الطرق وعرة شديدة الخطر، والشوارع الرئيسة في المدن مرصوفة بالبلاط، ولكنها لم تكن تضاء أثناء الليل إلا نادرا. وكانت المياه النقية تأتي إلى المدن من جبال، وقلما كانت توصل إلى بيوت الأفراد، بل كانت تصل عادة إلى نافورات عامة بديعة التصميم يجتمع حول مياهها الباردة المنعشة الساذجات من النساء والعاطلون من الرجال ليتناقلوا أخبار اليوم.
كان يحكم دول المدن التي تقتسم شبه الجزيرة في بعض الأحيان - كما حدث في فلورنس، وسيناء، والبندقية - أقلية من التجار ذوي المال، ولكن أكثر من كانوا يحكمونها هم "المستبدون" على اختلاف درجات استبدادهم. وكان هؤلاء قد حلوا محل الأنظمة الجمهورية أو أنظمة القومونات
(1)
، بعد أن أفسدها استغلال الطبقات وأعمال العنف السياسية. فكان يبرز من تنافس الأقوياء رجل - يكاد يكون على الدوام وضيع النشأة- يخضع سائر المتنافسين، أو يبيدهم أو يستأجرهم، وينصب نفسه حاكماً مطلقاً، ويورث من يخلفه سلطته في بعض الأحيان. هكذا كان يحكم آل فسكونتي، وأسفوردسا في ميلان، والأسكاليجير Scaliger في فيرونا، وآل كراريسي Carraresi في بدوا، والجندساجا Sonzaga في
(1)
حكومات البلديات المستقلة. وكان العرب في العصور الوسطى يستخدمون هذا اللفظ في رسائلهم إلى تلك المدن كما نر في صبح الأعشى. (المترجم)
مانتوا والإستنسي Estensi في فيرارا. وكان هؤلاء يستمتعون بشيء من الحب المزعزع، لأنهم كانوا يكبحون جماح الحركات الحزبية، ويؤمنون الناس على أنفسهم وأموالهم، داخل أسوار المدينة، وبقدر ما تسمح بذلك أهواؤهم. وارتضت الطبقات الدنيا حكمهم لأنها رأت في هذا الحكم آخر ملجأ لها يعصمها من طغيان الأدواق، ووطنت طبقات الفلاحين المحيطة بهم نفسها على هذا الوضع لأن القومون لم يهبها ما تريده من الحماية أو العدالة أو الحرية.
وكان المستبدون قساة لأنهم كانوا غير آمنين. ولم تكن تؤيدهم تقاليد من شرعية الحكم، وكانوا معرضين في أية لحظة للاغتيال أو للثورة عليهم، فقد أحاطوا أنفسهم بالحراس، لا يأكلون أو يشربون إلا وخوف السم يراودهم، وكان أكثر أمل لهم أن يموتوا موتاً طبيعياً. وكانوا في العقود الأولى من حكمهم يدبرون شئون المدن بالدسائس، والرشا، والاغتيال الخفي الهادئ، وساروا على سنن مكفيلي كلها قبل أن يولد مكفيلي نفسه، ثم أحسوا بعد عام 1450 بأنهم أصبحوا أكثر أمناً لأن الزمن خلع على حكمهم شيئا من القداسة، فأقنعوا في حكمهم الداخلي بالوسائل العلمية، ولكنهم كانوا يكمون أفواه الناقدين، ويخمدون أنفاس المتذمرين المنشقين، ويستخدمون لهذا الغرض جيشاً كبيرا من الجواسيس. وكانوا يعيشون مترفين، ويتخذون الأبهة المصطنعة وسيلة للتأثير في النفوس. غير أنهم رغم هذا قد نالوا احترام رعاياهم وتسامحهم معهم بل أنهم نالوا في فيرارا وأربينو ولاء هؤلاء الرعايا وإخلاصهم بإصلاحهم شئون الإدارة، وتوزيع العدالة بالقسطاس المستقيم في الأمور التي تتأثر بها مصالحهم الخاصة. وكانوا يساعدون الشعب إذا حلت به المجاعة أو غيرها من الشدائد، ويخففون من آثار التعطل بالأعمال العامة، وبناء الكنائس والأديرة، وتجميل المدن بروائع الفن، ومناصرة العلماء، والشعراء، والفنانين الذين
يستطيعون أن يخلعوا شيئاً من الطلاء على سياستهم، ويحيطوهم بهالة من السناء، ويخلدوا ذكراهم.
وكانوا يوقدون نار حروب كثيرة ولكنها كانت في العادة صغيرة، يريدون بها أن يحصلوا على سراب الأمان الخادع بتوسيع رقعة أملاكهم، ويشبعوا نهمهم المتزايد إلى تملك أرضين يفرضون عليها ضرائب. ولم يكونوا يبعثون برعاياهم إلى هذه الحروب، لأنهم إن فعلوا اضطروا إلى تسليحهم وقد يكونون في هذا كالساعي إلى حتفه بظلفه، ولهذا كانوا يستأجرون الجنود المرتزقة، ويؤدون إليهم أجورهم بما يحصلون عليه من الفيء من الأراضي المفتوحة، أو الفدية، أو مصادرة أملاك المغلوبين، أو النهب والسلب. وكان المغامرون المتهورون ينقون من فوق الألب وفي أعقابهم في أكثر الأحيان شراذم من الجنود الجياع، ويبيعون خدماتهم إلى مكن يؤدي عنها أكبر الأثمان، يناصرون هذا الجانب أو ذاك تبعا لتقلبات الأجور. من ذلك أن خياطا من اسكس، يعرف في إنجلترا باسم سير جون هوكود Sir John Hawkwood وفي إيطاليا باسم أكوتو Acuto، حارب بمهارة عسكرية فنية من ذلك عدة مئات الآلاف من الفورينات، ومات في سنة 1394 بعد أن وصل إلى طبقة السادة الزراع، ودفن باحتفال مهيب، وزين قبره بثمار الفن في كنيسة سانتا ماريا دل فيوري.
وكان الحاكم المطلق ينفق المال على شئون التعليم كما ينفقه في إنشاء المدارس، ودور الكتب، وإعانة المجامع العلمية والجامعات. فقد كان في كل بلدة في إيطاليا مدرسة تنفق عليها الكنيسة عادة، وفي كل مدينة كبرى جامعة. وارتفع الذوق العام والآداب العامة بفضل الدروس التي لقنها الإنسانيون، ونشرتها الجامعات، وحاشيات الملوك والأمراء، وأصبح من كل أثنين من الإيطاليين واحد يستطيع الحكم على الفن، وكان في كل
مركز هام فنانوه، كما كان له طرازه المعمار الخاص. وانتشرت مباهج الحياة بين الطبقات المتعلمة في إيطاليا من أقصاها إلى أقصاها، ورقت الأخلاق وظرفت نسبيا، وإن كانت الغرائز قد أضحت حرة طليقة إلى حد لا مثيل له من قبل. وملاك القول أن العبقرية لم تجد منذ أيام أغسطس حتى ذلك الوقت الذي نتحدث عنه تلك الكرة التي تستمتع إليها وتحضر مجالسها، ولا تلك المنافسة الحافزة الدافقة، أو تلك الحرية الواسعة.
الفصل الثاني
بيدمنت ولجوريا
في الشمال الغربي من إيطاليا وفي الجنوب الشرقي من فرنسا الحالية كانت تقع إمارة سافوي - بيدمنت، وهي التي كانت أسرتها الحاكمة حتى عام 1945 أقدم الأسر الملكية كلها في أوربا. وقد أنشأ هذه الدولة الصغيرة الكونت همبرت الأول Count Humbert 1 وكانت تابعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة، ولكن هذه الدولة الصغيرة المزدهرة اتسعت وبلغت ذروة المجد تحت حكم "الكونت الأخضر" أماديوس Amadeus VI (1343 - 1383) الذي ضم إليها مدن جنيف، ولوزان، وأوستا Aosta، وتورين، وأتخذ هذه المدينة الصغيرة الأخيرة عاصمة لدولته. ولم يكن أحد من حكام زمانه يستمتع بمثل ما يستمتع به هو من شهرة عظيمة بالحكمة، وبالعدل، والسخاء. ورفع الإمبراطور سجسمند Sigismund حكام هذه الدولة إلى مرتبة الأدواق (1416)، ولكن دوقها الأول أمديوس الثامن قطع رأسه حين أرتضى أن يلقب انتيبوب (أي البابا الدخيل) فلكس الخامس Felix V Antipope (1439) . وفتح فرانسس الول سافوي بعد مائة عام أو نحوها من ذلك الوقت وضمها إلى فرنسا (1536)، وأضحت هي وبيدمنت ميدانا للصراع بين فرنسا وإيطاليا، وأسلمهما إله الحكمة إلى إله الحرب، وخيم عليهما الركود فلم يصلهما التيار الإيطالي الجارف، أو تشعرا بروح النهضة كاملة، وكل ما لدينا من آثارهما الفنية صور من عمل ديفيندينتي فيرارى Defendente Ferrari، ولكنها لا تسمو إلى ما فوق المرتبة الوسطى، تشاهدها الآن في معرض تورين الفني وفي فيرتيشيلي Vercelli موطن ذلك الفنان.
وتقوم في جنوب بيدمنت مدينة لجوريا Liguria التي تضم جميع أمجاد
الرفييرا الإيطالي، ففي جهة الشرق يوجد رفييرا الليفنتي Riviera di Levant ( أي ساحل مشرق الشمس)، وفي الغرب رفييرا البنتيتي Por di Pontente أي ساحل مغربها، وتقوم عند ملتقاهما على عرش مت التلال وقاعدة منبسطة من البحر ذي الماء الأزرق مدينة جنوى التي لا تكاد تقل بهاء وروعة عن نابلي. وقد بدت هذه المدينة لعين بترارك كأنها "بلد الملوك، والمثل الأعلى للرخاء، وباب البهجة والسرور"، ولكن هذا الوصف ينطبق عليها قبل التصدع الذي حدث في كيوجيا chioggia (1378) ، وبينا كانت البندقية تنتعش انتعاشا سريعاً بفضل تعاون جميع طبقاتها تعاوناً منظماً قائماً على الإخلاص للمصلحة العامة في سبيل إعادة التجارة والرخاء المادي، ظلت جنوى جارية على ما ألفته من التناحر الداخلي بين الأشراف بعضهم وبعض، وبين الأشراف والعامة. وأوقد الظلم الذي ارتكبته الألجاركية الحاكمة نار ثورة صغيرة (1383)، ذلك أن القصابين ساروا، وهم مسلحون بأدوات حرفتهم التي لا يرد لها مطلب، وعلى رأس جماعة من الغوغاء إلى قصر الدوج Doge وأرغموه على تخفيض الضرائب وطرد جميع النبلاء من المناصب الحكومية، وحدثت في جنوى عشر ثورات في فترة لا تزيد على خمس سنين، (1390 - 1394)، حكم خلالها وسقط عشرة دوجات، حتى بدا لأهلها آخر الأمر أن النظام أثمن من الحرية، وخشيت الجمهورية المنهكة أن تضمها ميلان إلى أملاكها فأسلمت نفسها مع شاطئ الرفييرا التابعين لها إلى فرنسا (1396)، ثم قامت ثورة عاصفة بعد عامين من ذلك الوقت طرد على أثرها الفرنسيون، ووقعت خمس معارك طاعنة في شوارع المدينة، وأحرق عشرون قصراً، ونبهت المباني الحكومية وهدمت، وأتلف من الأملاك ما قيمته مليون من الفلورينات. وأدركت جنوى مرة أخرى أن فوضى الحرية لا يمكن أن تطاق، فأسلمت نفسها إلى ميلان (1426). ولكن ميلان طغت وتجبرت فلم يطق أهل جنوى صبراً
على حكمها، وشبت نار الثورة فيها مرة أخرى، وأعيدت الجمهورية (1435)، وعاد تطاحن الأحزاب إلى سابق عهده.
وكان عنصر الثبات الوحيد وسط هذه التقلبات هو مصرف القديس جورج. وترجع نشأته إلى أن الحكومة في أثناء حربها مع البندقية اقترضت المال من الاهلين، وأعطتهم بدلها صكوكاً، فلما وضعت الحر بأوزارها عجزت الحكومة عن استهلاك هذه الصكوك، ولكنها عهدت إلى المقرضين أن يحصلوا العوائد الجمركية على البضائع التي تمر بالميناء، وكون الدائنون من أنفسهم هيئة عرفت باسم بيت القديس جورج Casa di San Giorgio، واختاروا من بينهم مجلس إدارة من خمسة محافظين، وأعطتهم الحكومة قصراً يتخذونه مقراً لهم. وسارت إدارة البيت أو الشركة سيراً حسناً، وكانت أقل أنظمة الجمهورية فساداً، وعهد إليها أمر جباية الضرائب، وأقرضت الحكومة بعض مالها، واستولت في نظير ذلك على أملاك قيمة في ليجوريا، وقورسقة، وشرقي البحر المتوسط، وفي البحر الأسود، وأصبحت في وقت واحد بيت مال الحكومة ومصرفاً خاصاً يقبل الودائع، ويخصم الكمبيالات، ويعقد القروض لتمويل التجارة والصناعة. وإذ كانت الأحزاب جميعها مرتبطة بها، فقد كانت موضع احترامها جميعاً، ولا يمسونها بأذى ما في أثناء الثورات والحروب، ولا يزال قصرها الفخم الذي أنشئ في عهد النهضة قائماً إلى اليوم في ميدان كريكا منتو Piazza Caricamento.
وكان سقوط القسطنطينية في أيدي الأتراك العثمانيين ضربة أوشكت أن تقضي على جنوى، فقد استولى الأتراك على محلة بيرا القريبة من القسطنطينية، التي كانت تابعة لجنوى. ولما خضعت الجمهورية المفتقرة إلى فرنسا مرة أخرى (1458)، أشعل فرانتشيسكو اسفوردسا نار ثورة بفضل ما بذله من الأموال، طرد الفرنسيين على أثرها من جنوى، وخضعت المدينة مرة أخرى لحكم ميلان (1464). وأتاحت الإضرابات
التي أضعفت ميلان بعد اغتيال جالست جاليستو اسفوردسا (1474) إلى أهل جنوى فسحة قصيرة تنسموا فيها نسيم الحرية؛ فلما أن استولى لويس الثاني عشر على ميلان سنة 1499، دانت جنوى أيضاً لسلطانه. ثم حدث آخر الأمر في أثناء الصراع الطويل الذي قام به فرانسيس الأول وشارل الخامس أن قام أمير من أمراء البحرين من أهل جنوى يدعى أندريا دوريا Andrea Doria ووجه سفنه لقتال الفرنسيين، وطردهم من جنوى ووضع لها دستوراً جمهورياً جديداً (1528)؛ جعل حكومتها الحركية تجارية شبيهة بحكومتي فلورنس والبندقية؛ وخضعت بالحقوق السياسية فيها الأسر التي كانت أسمائها مدونة في الكتاب الذهبي ( il libro d'oro) . وتألفت الحكومة الجديدة من مجلس للشيوخ يضم أربعمائة عضو، ومن مجلس يتألف من مائتين، ومن دوج يختار لمدة عامين. وبسط هذا النظام لواء السلام والأمن بين الأحزاب المتنازعة، وحافظ على استقلال جنوى حتى غزاها نابليون في عام 1797.
ولم تسهم المدينة في أثناء هذه الاضطرابات العاصفة إلا بأقل من نصيبها الخليقة به في الآداب، والعلوم، والفنون الإيطالية. نعم إن رؤساء بحريتها ارتادوا البحار في عزم وشجاعة، ولكن لما أن قام ابنها كولمبس بينهم كانت جنوى أجبن، أو أفقر، من أن تمده بالمال ليحقق به أحلامه. أما أعيانها فكانوا منهمكين في السياسة، وتجارها لا هم لهم إلا كسب المال، ولم يكن لإحدى الطائفتين متسع من الوقت أو المال تنفقه في مغامرات العقل، وأعيد بناء كتدرائية سان لوراندسو القديمة على الطراز القوطي (1307)، وأصبح داخلها رائعاً فخماً، وزين معبد سان جيوفنى باتستا (1451 وما بعدها) وهو مصلى الكتدرائية - بمحراب جميل، وستر من صنع ماتيو تشفتالى Mateo Civitali، وتمثال مكتئب ليوحنا المعمدان من صنع ياقوبو سانسو فينا Iacopo Sansovino. وأحدث أندريا دوربا
ثورة في جنوى لا تكاد تقل أثراً عما أحدثه من ثورة في حكومتها، فقد استدعى الراهب جيوفنى دا منترسولي Giovanni de Mantorsoli من فلورنس ليعيد تخطيط قصر د رينا Palazza Dorina، (1529) كما استقدم بيرينو دل فاجا Perino del Vaga من روما ليزينها بالمظلمات والنقوش البارزة على الجص، ورسوم الحيوانات والنباتات الغريبة التي لا وجود لها، وبالنقوش العربية الطراز؛ وقد أضحى القصر بذلك من أعظم قصور إيطاليا فخامة. وجاء ليونى ليونى Leone Leoni منافس سلينى وعدوه من روما ليصب مدلاة جميلة لأمير البحر، كما خطط متتروسولى قبره. وملاك القول أن عصر النهضة لمن يبدأ في جنوى قبل دوربا بزمن طويل ولم يطل بعد وفاته كثيراً.
الفصل الثالث
بافيا
كانت مدينة بافيا تقوم هادئة على ضفة نهر التيسينو بين جنوى وميلان، وكانت في وقت من الأوقات مقر ملوك لمباردى، ثم خضعت في القرن الرابع عشر لميلان، واتخذها آل فسكونتى واسفوردسا عاصمة ثانية لهم.
وبدأ جلياتسو فسكونتى الثاني (1360) القلعة الفخمة Castello، التي أتمها جيان Gian ( أي جيوفنى، أو جون) جلياتسو فسكونتى؛ والتي اتخذت مسكناً لهذا الدوق الثاني، وقصراً لمباهج أدواق ميلان المتأخرين. وقد وصف بترارك هذا القصر بأنه "أنبل ثمار الفن الحديث، ووضعه كثيرون من معاصريه في مصاف مساكن الملوك في أوربا. وكانت مكتبة القصر تضم مجموعة من الكتب تعد من أثمن المجموعات في أوربا، وكان من بين ما تحتويه 951 ألف مخطوط مزينة الهوامش بالنقوش. ونقل لويس الثاني عشر حين استولى على ميلان عام 1499 مكتبة بافيا هذه فيما نقله من المغانم، وضرب جيش فرنسي داخل القلعة بآخر طراز من مدافعه (1527)، حتى لم يبق منها الآن إلا أسوارها.
وهكذا دمرت القلعة، ولكن أجمل درة من عهد آل فسكونتى واسفوردسا لا تزال باقية سليمة - ونعني بها دير تشيرتوزا Certosa المستتر بعيدا عن الطريق العام بين بافيا وميلان. فقد أعتزم جيان جلياتسو وفسكونتي giangaleazzo Visconti أن يقيم في سهل مطمئن هادئ صوامع، وطرقات مقنطرة، وكنيسة وفاء لنذر نذرته زوجته. وظل أدواق ميلان من ذلك الوقت حتى عام 1499 يكملون هذا الصرح ويزينونه لتكون رمزا لتقواهم
وفنهم، حتى يتعذر علينا ان نجد في إيطاليا كلها ما هو أبدع منه. وخطط كرستوفورو مانيتجاتسو Cristoforo Mantegazza وجيوفنى أنطونيو أماديو Giovanni Antonio Amadeo من أهل بافيا واجهة هذا الدير اللمباردية - والرومانية، ونحتاها وأقاماها من رخام كرارا وأمداهما بما يلزمهما من المال جلياتسو ماريا أسفوردسا ولدوفيكو إل مورو (المغربي) Lodovico il moro وفي هذه الواجهة إسراف في الزخرفة، وإفراط في العقود، والتماثيل، والنقوش البارزة، والمدليات، والعمد المستديرة والمربعة، والتيجان، والنقوش العربية الطراز، والملائكة المحفورة، والقديسين، وجنيات الأساطير، والأمراء، والفاكهة، والأزهار، يتعذر معه أن تشعر الناظر إليها والتناسق. أما كل جزء فيها إذا نظر أليه بمفرده فيسترعي انتباهه دون مراعاة لسائر أجزاءه. لكن كل جزء مع ذلك هو في حد ذاته ثمرة كدح، وحب، وحذق؛ ،عن نوافذه الأربعة التي من طراز عهد النهضة والتي أنشأها أمديو لخليقة وحدها بأن تخلد أسمه. وليست الواجهة وحدها هي التي تستلفت الأنظار بجمالها، ففي بعض الكنائس الإيطالية نرى الواجهات فخمة رائعة في حين أن بقية أجزاءها الخارجية ليس فيها ما تمتاز به، أما دير كرتوز بيافيا فكل معالمه ومناظره الخارجية جميلة تسترعي النظر: لا فرق في ذلك بين الدعامات الملتصقة بالجدران، والأبراج الرائعة، والبواكي، والمنارات اللولبية القائمة فوق الليوان الشمالي والصحن، وعمد الطرق المقنطرة وعقودها الرشيقة. وإذا ما علا الإنسان يبصره من داخل الفناء إلى ما فوق هذه العمد الرفيعة خلال أطباق ثلاثة متتالية من البواكي حتى وقع على الطبقة الرابعة التي تعلوها من العمد والتي تقوم عليها القبة، إذا ما علا ببصره إلى الطبقة وجدها مجموعة مؤتلفة، متناسقة، خططت ونفذت تخطيطاً وتنفيذاً يستثيران أعظم الإعجاب، أما داخل الكنيسة فكل شيء فيه جميل لا يعلو عليه جمال، ففيه عناقيد
من العمد قائمة؛ وعقود قوطية لقباب محفورة، وسراديب، ورديئات مشبكة، مصبعة دقيقة الصنع كأنها المخرمات (الدنتلا) الملكية؛ ومداخل وطرق مقنطرة ذات أشكال وزخارف رشيقة؛ ومحاريب من الرخام مرصعة بالحجارة الكريمة، وصور من صنع بيروجينو، وبرجنيونى، ولوينى؛ ومقاعد فخمة مطعمة يجلس عليها المرنمون؛ وزجاج ملون براق، وعمد بذل في نحتها أعظم العناية؛ وبندريلات
(1)
، وعصابات لأحجار الزوايا في العقود، وطنف؛ وفبر جيان جلياتسو فسكونتي الفخم الذي أقامه كرستو فورو رومانو ونبدتو بريسكو؛ وقبر لدوفيكو إل مورو وبيتريس دست وتمثالاهما، وقد جمع بينها وأقيما من الرخام البديع، وإن كان أحدهما قد مات قبل الآخر بعشر سنين، وفرقت بينهما خمسمائة ميل. كذلك اجتمعت في هذا الصرح طرز مختلفة لمباردية، وقوطية، مع طراز عصر النهضة، فأثمرت ما يكاد يكون أكمل الثمار المعمارية لهذا العصر الأخير. ذلك أن ميلان قد جمعت في عهد لدوفيكو المغربي حسان النساء اللاتي خلقن فيها بلاطاً لا نظير له في غيرها من البلدان، وفنانين متفوقين أوفوا على الغاية في الإتقان، نذكر منهم برامنتي، وليوناردو، وكَردَسو Cardosso لينزعوا زعامة إيطاليا، مدى عشر سنين زاهية متلألئة، من فلورنس، والبندقية وروما.
(1)
البندريل Spandrel في العمارة هي المسافة بين المنحني الخارجي لعقد والزاوية القائمة التي تقوم فوق أحد طرفيه (معربة). (المترجم)
الفصل الرابع
الفسكونتى
1378 -
1447
توفي جلياتسو الثاني في عام 1378 وأوصى بنصيبه من مملكة ميلان ابنه جيان جلياتسو فسكونتي الذي ظل يتخذ بافيا عاصمة له. وكان جيان جلياتسو هذا من الطراز الذي يحبه مكيفلي ويعجب به. فقد كان يقضي جزءا كبيرا من وقته في مكتبة قصره العظيمة، يعني ببنيته الضعيفة، ويكسب ولاء رعاياه بالضرائب المعتدلة، ويتردد على الكنيسة مظهراً تقواه التي تأسر النفوس، ويملأ بلاطه بالقساوسة والرهبان، وبذلك كان هو آخر أمير في إيطاليا يمكن أن يظن الدبلوماسيون أنه يعمل ليجمع شبه الجزيرة كلها تحت سلطانه. ومع هذا فقد كان ذلك هو الأمل الذي يراوده والمطمع الذي يشغل باله، والهدف الذي يسعى لتحقيقه بالدهاء، والغدر، والقتل كأنه قد قرأ كتاب الأمير وأجله قبل أن يكتب، وكأنه لم يسمع بالمسيح.
وكان بيرنابو Bernnabo أبن عمه في هذه الأثناء يحكم النصف الآخر من مملكة الفسكونتي من حاضرته ميلان. وكان برنابو وغداً سافراً، أرهق رعاياه بأفدح الضرائب، وأرغم الفلاحين على أن يعنوا بالخمسة الآلاف من كلابه التي يستخدمها في الصيد ويطعمها، وكمم أفواه المتذمرين بأن أعلن أن المجرمين سيعذبون أربعين يوماً. وكان يسخر من تقوى جيان جلياتسو، ويعمل على خلعه ليجعل نفسه سيد أملاك أسرة فسكونتي. وعرف جيان بما يدبره له، وكان لديه من الجواسيس العدد الذي لابد لكل حكومة قديرة أن تحتفظ به منهم، فأعد العدة للقاء بينه وبين بيرنابو، ولما جاءه هذا مطمئنا مع ولديه، قبض حرس جيان السري على ثلاثتهم،
ويبدو أنه دس السم لبيرنابو (1385). وحكم جيان بعدئذ ميلان، ونوفارا، وبافيا، ونياتشندسا، وبارما، وكرمونا، وبريشيا Brescia ثم استولى في عام 1387 على فيرونا، وفي عام 1389 على بدوا، وأذهل فلورنس في عام 1399 حين ابتاع بيزا بمائتي ألف فلورين، وخضعت بيروجيا، وأسيسي، وسنا لقواده في عام 1400، كما خضعت لهم لوكا وبولونيا في عام 1401، وبذلك اصبح جيان سيد شمالي إيطاليا كله من نوفارا إلى البحر الأدرياوي. وكانت الولايات البابوية قد ضعفت وقتئذ من جراء الانشقاق الذي حدث فيها (1378 - 1417) على أثر عودة البابوية من أفنيون. وكان جيان يحرض البابوات المتنافسين بعضهم على بعض، ويحلم بأن يستولي على جميع أراضي الكنيسة، فإذا تم له ذلك سير جيوشه على نابلي، وكان يعتقد أن سيطرته على بيزا وغيرها من المنافذ سترغم فلورنس على الخضوع، وبذلك تبقى مدينة البندقية وحدها خارجة عن هذا النطاق، ولكنها لن يكون لها حول ولا تستطيع أن تقف بمفردها في وجه إيطاليا المتحدة. غير أن المنية عالجت جيان جلياتسو فمات في عام 1402 ولما يتجاوز الحادية والأربعين من عمره.
وقلما كان في هذا الوقت كله يغادر بافيا أو ميلان، وكان يحب الدسائس أكثر مما يحب الحرب، ونال بالدهاء أكثر مما ناله قواده بقوة السلاح. على أن هذه المغامرات السياسية كلها لم تستنفذ خصب عقله، فقد أصدر كتاب قوانين يشمل فيما يشمله قواعد تضمن صحة الشعب، وعزل المصابين بالأمراض المعدية عزلا إجبارياً (7). وبدأ يشيد تشير توذا دي بافيا Certosa di Pavia وكتدرائية ميلان، وأستدعى مانيول كريسلوراس Manuel Chrysoloras ليكون أستاذ اللغة اليونانية في جامعة ميلان، وعضد الشعراء، والفنانين، والعلماء، والفلاسفة، وأعتز بصحبتهم، ومد القناة العظمى naviglio Grande من ميلان إلى بافيا، فأنشأ بذلك
طريقاً مائياً داخليا في عرض إيطاليا ممتدا من جبال اللب وخترقا ميلان، وسائرا في نهر ألبو إلى البحر الأدرياوي، يروي مائة آلاف من الأفدنة. ونشطت الزراعة والتجارة بفضل هذه القناة، وشجع نشاطها قيام الصناعة، وشرعت ميلان تنافس فلورنس في المنسوجات الصوفية. وكان الحدادون من أهلها يصنعون السيوف والدروع للمحاربين في أوربا الغربية كلها، وحدث في أزمة من الأزمات أن صنع بعض رؤساء صناع الأسلحة ما يكفي ستة آلاف جندي في قليل من الأيام (8) وكان نساجو الحرير من أهل لوكا الذين أفقرتهم المنازعات الحزبية والحروب، قد هاجروا بالمئات إلى ميلان في عام 1314، فلم يحل عام 1400 حتى كانت صناعة المنسوجات الحريرية قد ازدهرت في هذه المدينة، ازدهارا جعل رجال الأخلاق يشكون من أن الملابس قد أصبحت جميلة إلى حد يجلل لابسها بالعار. لكن جيان جلياتسو حمى هذا الاقتصاد المزدهر بالإدارة الحكيمة، والعدالة المنسقة المنظمة، والعملة الموثوق بها، والضرائب المعتدلة التي شملت رجال الدين والأعيان كما شملت العامة وغير رجال الدين. وقد عمل على توسيع نطاق إدارة البريد، فكان فيها عام 1425 مائة جواد تعمل بانتظام؛ وكانت مكاتب البريد تقبل المراسلات الخاصة، وخيلها تسافر خلال النهار - وطول الليل في أوقات الضرورة. وقد بلغت الإيرادات السنوية للدولة في فلورنس عام 1423 أربعة ملايين فلورين ذهبي (100. 000. 000 دولار)، وبلغت إيرادات البندقية أحد عشر مليون فلورين، وميلان اثني عشر مليوناً (9). وكان يسر الملوك أن يزوجوا أولادهم وبناتهم من أسرة فسكونتي؛ ولم يفعل الإمبراطور ونسسلاس Wenceslas أكثر من تتويج الحقيقة الواقعة بالمظهر الرسمي حين أعلن تصديقه الإمبراطوري عن أن يحمل جيان لقب دوق وعلى شريعة هذا اللقب، وحين خلع عليه هو وورثته دوقية ميلان "إلى أبد الدهر".
غير أن أبد الدهر هذا لم يدم أكثر من اثنين وخمسين عاماً. ذلك أن جيان ماريا فسكونتي Gianmaira Visconti
(1)
أكبر أبناء جيان كان في سن الثالثة عشرة حين مات أبوه (1402)، ولذكل أخذ القواد الذين قادوا جيوش جيان إلى النصر يتنافسون للظفر بمنصب الوصي على الملك، وبينما كان هؤلاء القواد يتنازعون حكم ميلان عادة إيطاليا إلى انقسامها القديم: فاستردت فلورنس مدينة بيزا، واستولت البندقية على فيرونا، وقيتشنتسا، وبدوا، وخضعت كل من سينا، وبيروجيا، وبولونيا إلى طاغية من الطغاة. وعادة إيطاليا كما كانت، بل أسوء مما كانت، لأن جيان ماريا Gianmaria ترك شؤون الحكم للولاة الطغاة المستبدين ووجه كل اهتمامه لكلابه، ودربها على أكل لحوم البشر، وكان يسره ويثلج قلبه أن يراها تطعم الأحياء من الآدميين الذين حكم عليهم بأنهم مذنبون سياسيون أو مجرمون في حق المجتمع (10)، وانتهى به الأمر أن أغتاله ثلاثة من الأعيان.
ويلوح أن أخاه فلبو ماريا فسكونتي ورث عن أبيه حدة ذكائه، وجده، وجلده، وأطماعه وسياسته البعيدة النظر. ولكن ما كان يتصف به جيان جلياتسو من شجاعة ممتزجة بالهدوء، أضحى في فلبو جبناً ممتزجاً بالخمول، وخوفاً دائماً من الاغتيال، واعتقاداً لا يتزعزع في غدر الجنس البشري لا ينفك يراوده. ولهذا أغلق على نفسه أبواب قلعة بورتا جيوفيا Porta Giovia في ميلان، وأخذ يأكل ويسمن، وأولع بالخرافات والمنجمين، ولكنه استطاع بفضل دسائسه ودهائه لا غير أن يبقى إلى آخر أيام حكمه الطويل سيد بلده المطلق، وسيد قواده بل وأسرته أيضاً، وتزوج بيتريس تندا Beatrice Tenda طمعاً في مالها، ثم حكم عليها
(1)
لقد كن جيان جلياتسو يدعو العذراء أن تهبه ولداً ذكراً؛ فلما نال أمنيته أظهر شكره واغتباطه بأن أقسم أن يحمل جميع نسله اسمها.
بالإعدام جزاء خيانتها، وتزوج بعدها من ماريا صاحبة سافوي، وأبقاها في عزلة عن جميع الناس عدا وصيفتها، وأقض مضجعه عدم وجود ولد له، وأتخذ له عشيقة، ثم رقت أخلاقه بعض الشيء بسبب حبه بيانكا الفتاة الحسناء التي كانت ثمرة هذه العلاقة. وجرى على سياسة أبيه في مناصرة العلم، وأستدعى مشهوري العلماء إلى جامعة بافيا، وعهد ببعض الأعمال الفنية إلى برندلسكو والى بيزانلو صانع المدليات، المنقطع النظير. وحكم ميلان حكما أتوقراطياً حازماً، قضى فيه على التحزب والانقسام، ووطد دعائم النظام، وحمى الفلاحين من الضرائب الفادحة التي كانت يفرضها عليهم سادة الإقطاع كما حمى التجار من قطاع الطرق، وأفلح بسياسته الخارجية البارعة ومهارته في استخدام جيوشه في أن يعيد ولاء بارما، وبياتشندسا وجميع بلاد لمباردي حتى بريشيا، وجميع الأراضي الواقعة بين ميلان وجبال الألب، أن يعيد ولاء هذه كلها إلى ميلان، وأقنع أهل جنوى في عام 1421 أن طغيانه أرحم بهم من حروبهم الداخلية؛ وشجع التزاوج بين الأسر المتنافسة، فقضى بذلك على كثير من أسباب النزاع القائمة بينها؛ وأستبدل بمائة من الحكومات المستبدة حكومة استبدادية واحدة، وأخذ الأهلون الذين حرموا من الحرية ولكنهم تحرروا من النزاع الداخلي يتذمرون، ويتكاثرون، وينعمون بالرخاء.
وكان بارعاً في العثور على القواد المقتدرين، لكنه كان يرتاب في أنهم جميعاً يعملون على أن يحلوا محله، فكان يؤلبهم بعضهم على بعض، وظل يوقد نار الحرب يرجو من ورائها أن يستعيد كل ما كسبه أبوه، وأضاعه أخوه. ونشأت من حروبه مع البندقية وفلورنس طائفة من المحاربين المغامرين المستأجرين، نذكر منهم جتلاميلاتا Gattamelata، وكليوني، وجيرمنيولا garmagnola، وبراتشيو، وفورتبر اتشيو Fortebraccio، ومنتوني Montone، وبتشينينو Piccinino، ومودسيو أتندولو
Muzio Attendolo.... الخ. وكان مودسيو هذا صبيا ريفيا ينتمي إلى أسرة كبيرة من المحاربين والمحاربات؛ وكسب لقب اسفوردسا بما أظهره في خدمة جوانا Joanna الثانية ملكة نابلي من قوة الجسم والإرادة، ثم خسر عطفها عليه، وأودعه السجن، ولكن أخته ذهبت إلى السجن منتضية كامل سلاحها وأرغمت السجانين على إطلاق سراحه؛ ثم عين قائدا لإحدى فيالق ميلانو، ولكنه غرق بعد قليل من ذلك الوقت وهو يعبر أحد الأنهار. وسرعان ما قفز أبنه غير الشرعي إلى مكان أبيه، وشق طريقه إلى العرش بالحرب والزواج.
الفصل الخامس
آل أسفوردسا
1450 -
1500
كان فرانتشيسكو اسفردسا المثل الكامل لجندي النهضة. كان طويل القامة، وسيم الخلق، مولعا بالرياضة البدنية، شجاعا؛ وكان أحسن العدائين، والقفازين، والمصارعين في جيشه؛ لا ينام إلا قليلاً، ويمشي عاري الرأس صيفاً وشتاء، ويجتذب محبة رجاله بالاشتراك معهم في تحمل المشاق وفي الطعام، وفي قيادتهم إلى النصر الذي يدر عليهم المغانم الكثيرة بمهارته في الفنون والحركات العسكرية، لا بكثرة العدد أو وفرة السلاح. ولم يكن أحد يدانيه في شهرته العسكرية حتى كان قوى أعدائه تلقى سلاحها، في أكثر من موقعة، حين تقع أعينها عليه، وتحييه برؤوسها العارية وتصفه بأنه أعظم قواد زمانه. وكان يطمع في أن يقيم لنفسه دولة، ولم يكن يتردد في اصطناع أية وسيلة توصله إلى غرضه لا يصده عنها مراعاة مبدأ أو وخز ضمير. وحارب على التوالي في صف ميلان، وفلورنس، والبندقية، حتى كسب فلبو ولاءه بأن زوجه من بيانكا، وأمهرها كرمونا وبنتريمولي (1441)، ولما توفي فلبو بعد ست سنين من ذلك الوقت ولم يكن له وارث من نسله، وانتهت بموته أسرة الفسكونتي، أحس فرانتشيسكو بأن المهر يجب أن يشمل ميلان أيضا.
لكن أهل ميلان لم يكونوا يرون هذا الرأي، واعتلوا جمهورية سموها الجمهورية الأمبروزية نسبة إلى الأسقف العظيم الذي أدب ثيودوسيوس وهدى أوغسطين قبل ألف عام من ذلك الوقت. غير أن الأحزاب المتنازعة في المدينة لم تتفق على رأي؛ واغتنمت المدن التابعة لميلان هذه الفرصة السانحة وأعلنت استقلالها؛ وسقطت بعضها أمام جيوش البندقية؛ ولاح
خطر هجوم البندقية وفلورنس على ميلان؛ وزاد من شدة الخطر أن كلا من دوق أورليان، والإمبراطور فردريك الثالث، وألفنسو ملك أرغونة طالب بميلان لنفسه. فلما تأزمت الأمور على هذا النحو ذهب وفد من أهل المدينة إلى أسفوردسا وأعطوه بريشيا، ورجوه أن يدافع عن ميلان، فاستجاب لرغبتهم، وصد الأعداء بما أوتي من نشاط وحسن تدبير، ولما أن عقدت الحكومة الصلح مع البندقية دون أن تستنير برأيه وجه جنده ضد الجمهورية، وحاصر ميلان حتى كادت تهلك جوعا، وقبل استسلامها له، ودخل المدينة وسط تهليل الجماهير الجياع، وأغمد في نفوسهم شهوة الحرية بتوزيع الخمر عليهم. ثم دعيت إلى الاجتماع جمعية عمومية مكونة من رجل عن كل أسرة في المدينة، وخلعت عليه سلطة الدوق غير عابئة باحتجاج الإمبراطور، وبدأت أسرة اسفوردسا عهدها الباهر القصير (1450).
ولم تتبدل أخلاقه بعد توليه أزمة الحكم، بل ظل يعيش عيشة بسيطة ويعمل بجد؛ وكان من حين إلى حين يلجأ إلى أعمال القسوة والغدر، متذرعا إلى ذلك بمصلحة الدولة؛ ولكنه كان يوجه عام عادلا رحيما. وكان من عيوبه إحساسه المرهف بجمال النساء إحساساً طليقا لا يقف عند حد؛ وحدث أن قتلت زوجته المهذبة عشيقته ثم سامحته؛ وقد ولدت له ثمانية أبناء، وكانت تسدي إليه النصح الحكيم في الشؤون السياسية، وحببت الشعب في حكمه بما كانت تقدمه من غوث إلى المحتاجين وحماية المظلومين. وكان يصرف شؤون الدولة في كفاية لا تقل عن كفايته في قيادة جندها. وكان النظام الاجتماعي الذي فرضه على المدينة سببا في عودة الرخاء إليها إلى درجة أنستها أو كادت تنسيها ذكريات آلامها وحريتها المتقطعة. ولما أستتب له المر شرع يبني قلعة اسفرديسكو Castello Sforzesco ليتخذها حصنا ضد العصيان أو الحصار وحفر قنوات جديدة، ونظم الأشغال العامة وشاد المستشفى العظيم Ospeddale Maggiore، وجاء إلى ميلان بالكاتب
الإنسان فيليفو Filelfo، وشجع التعليم، والعلم، والفن، وأغرى فتشيندسو فبا Vincenzo Foppa أن يأتي من بريشيا ليقيم مدرسة تصوير. ولما هددته دسائس البندقية، ونابلي، وفرنسا، أوقفها كلها عند حدها بأن كسب تأييد كوزيمو ده ميديتشي القوى وصداقته المتينة، ثم قلم أظافر نابلى بأن زوج أبنته ابوليتا Ippolita بألفنسو بن فرديناند، وأمن شر دوق أورليان بأن عقد حلفا مع لويس الحادي عشر ملك فرنسا. ولكن بعض الأعيان ظلوا يأتمرون به ليقتلوه ويحصلوا على سلطانه، غير أن نجاح حكمه قضى على تدبيرهم، وعاش حتى مات في سلام ميتة القواد التقليدية (1466).
وإذ كان ابنه جليانسو ماريا اسفوردسا قد ولد وفي أحضانه النعمة فإنه لم يتلق دروس الفقر والكفاح، واستسلم للملذات، والترف، والظاهر الكاذبة؛ وكان يجد لذة كبير في إغواء أزواج أصدقائه، ويعاقب معارضيه بقسوة يبدو أنه ورثها وراثة ملتوية، غامضة من دماء آل فسكونتي عن طريق بيانكا الرحيمة. ولم يقاوم أهل ميلان استبداده وظلمه لأنهم قد اعتادوا الحكم المطلق، فلم يكونوا يبالون بما يصيبهم منه؛ ولكن الانتقام الفردي ثأر لما كان مكبوتاً في قلوب الجماهير من شدة الرعب. وتفصيل ذلك أن جيرولامو ألجياتي Girolamo Olgiati أحزنه أن يغوي الدوق أخته ثم ينبذها؛ وحسب جيوفني لمبونياني Giovannl Lampugnani أن هذا السيد نفسه قد انتزع منه بعض ملكه؛ وكان نقولو منتينو Niccolo Monteno قد علمهما كما علم كارلوفسكونتي تاريخ الرومان ومثلهم العليا، وعلمهما كذلك قتل المستبدين من عهد بروتس إلى بروتس. وبعد أن طلب الشبان الثلاثة العون من الأولياء الصالحين كنيسة القديس استيفن، حيث كان جلياتسو يتعبد وانهالوا عليه طعناً حتى فارق الحياة (1476). وقتل لمبونياني وفسكنتي قبل أن يبرحا مكانهما، وعذب الجاني تعذيباً لم يكد يترك فيه عظماً من عظامه دون أن يكسر أو يخلع من وقبه؛ ثم سلخ جلده
حياً، ولكنه ظل إلى آخر نفس من حياته يرفض أن يندم على ما فعله، ويدعوا الأبطال الوثنيين والقديسين والمسيحيين ليباركوا عمله، ومات وهو يردد تلك العبارة التي تمثل شعار الرومان الأقدمين وشعار النهضة وهي:
"الموت مر ولكن السمعة الطيبة تبقى إلى أبد الدهر Mors acrba، fama perpetua"، (11) .
وترك جلياتسو عرشه إلى ولد له لم يكن يتجاوز السابعة من العمر، يسمى جيان جلياتسو اسفوردسا، وظل حزبا الجولف والجبلين ثلاث سنين يتنافسان للاستحواذ على وصاية العرش ويستخدمان في سبيل ذلك وسائل القوة والخداع، وكان الفوز في آخر الأمر لشخصية من أروع الشخصيات وأكثرها استعصاء على التحليل في عهد النهضة المليء بالشخصيات الرائعة المعقدة، ونعني بها شخصية لدوفيكو اسفوردسا Lodovico Sforza رابع أبناء فرانتشسكو اسفوردسا. ولقبه أبوه مورو mauro؛ ولكن معاصريه بدلوا هذا اللقب إلى آل مورو il Moro ( المغربي) - لأنه كان أسود الشعر والعينين، وارتضى هو عن طيب خاطر هذا الاسم الساخر، وأضحت بذلك الشارات والحلل المغربية طرازا شائعا في بلاطه. ووجد غيرهم من الفكهين لهذا الاسم مرادفا في اللغة الإيطالية هو Moro ومعناه شجرة التوت، وأصبحت هذه أيضا شعاراً له، وصار لون التوت طراز العصر في ميلان، واتخذ منه ليوناردو موضوعا وتصميما لبعض زخارفه في حجرات القلعة ( Castello) . وكان أعظم معلمي لدوفيكو هو العالم فيليلفو الذي أمده بأساس قوى في الآداب القديمة، ولكن بيانكا حذرت العالم الإنساني بقولها؛ "إن علينا أن نعلم أميراً لا تلميذاً فحسب"، ولهذا حرصت على أن يحذق ابنها فني الحكم والحرب. وقلما أظهر لدوفيكو شجاعة بدنية، ولكن ذكاء آل فسكونتي تحرر فيه من قسوتهم، وأصبح رغم أخطائه وآثامه من أعظم رجال التاريخ تحضراً.
ولم يكن وسيما، فقد كفاه الله شر هذا العائق الذي يلهي ويشغل عن مهام الأمور، وكان وجهه مكتنز اللحم، وأنفه مسرفا في الطول والانحناء، وذقنه ممتلئا، وشفتاه شديدتي الانطباق؛ ومع هذا فإن في صورته الجانبية المعوزة إلى بوت رفيو Botraffio، وتماثيله المحفوظين في ليون Lyons واللوفر قوة هادئة في الملامح، وحساسية في الذكاء، ورقة تكاد تصل إلى حد النعومة. وقد أشتهر بأنه في معظم الأحيان مراوغا، ولا تجده أبدا ذا ضمير حي، وقد تجده من حين إلى حين عديم الإخلاص، ولقد كانت هذه هي العيوب التي يشترك فيها ساسة النهضة، ولعلها هي العيوب التي لا غنى عنها لجميع الدبلوماسيين مهما يكن في هذا القول من قسوة. ومع هذا فقلما تجد بين أمراء النهضة من يضارعه في رحمته وكرمه، فقد كانت القسوة مما يتنافى مع طبعه، وما أكثر من أستمتع بجوده من الرجال والنساء. لقد كان حليما دمث الأخلاق، مرهف الحس بكل جمال وكل فن، قوي الخيال، جياش العاطفة، ولكنه قلما كان يفقد اتزانه أو هدوء طبعه. وكان متشككا، يؤمن بالخرافات، سيد الملايين، وعبد منجمه. كان لدوفيكو هذا كله، وكان الوارث المتوّج المزعزع للعناصر المتنافرة.
ظل ثلاثة عشر عاما (1481 - 1494) يحكم ميلان نائبا عن أبن أخيه. وكان جلياتسو اسفرودسا جبانا يميل إلى العزلة، يرهب تبعات الحكم، كثيرا ما تنتابه الأمراض، عاجزا عن القيام بالأعمال الجدية، يسميه جوتشيارديني Guicciardini العاجز، وكان يستسلم للهو أو المرض، يسره أن يترك تصريف شؤون الدولة إلى عمه الذي كان يعجب به إعجاباً ملؤه الحسد، ويثق به ثقة ممزوجة بالشك. وقد نزل له لدوفيكو عما في لقب الدوق ومنصبه من أبهة وفخامة، فكان جيان هو الذي يجلس على العرش، ويتقبل الولاء، ويعيش الترف الملكية، ولكن زوجته إزبلا الأرغونية كان
يسوءها استيلاء لدوفيكو على زمام السلطة، وحرصت جيان على أن يتولى بنفسه مقاليد الأمور، ورجت أباها ألفنسو، ولي عهد عرش نابولي، أن يزحف بجيشه، ويوليها السلطات التي يتولاها الحاكم الحق.
وكان حكم لودفيكو يتسم بالحزم والكفاية، وقد أنشأ حول عشته الصيفية في فيجيفانو مزرعة تجريبية واسعة، ومحطة لتربية الماشية، وكانت تجرى فيها التجارب على زراعة الأرز، والكروم، وأشجار التوت؛ وكان يصنع من ألبان ماشيته زبداً وجبنا لم تعرف إيطاليا نفسها نظيرا لهما من قبل، وكانت ثمانية وعشرون ألفا من الثيران، والبقر، والجاموس، والضأن، والمعز ترعى في الحقول وعلى سفوح التلال؛ وكانت أسطبلاته الرحبة تضم الجياد والأفراس التي تنتج أجمل الخيل في أوربا. وكان يشتغل في صناعة الحرير في ميلان وقتئذ عشرون ألف عامل، وانتزعت من فلورنس كثيرا من أسواق أوربا. وكان الحدادون، والصياغ، والحفارون للخشب، وصناع الميناء؛ والخزف، والفسيفساء، وناقشو الزجاج، وصناع العطور، والبارعون في صناعة التطريز ونسج الستر، وصناع الآلات الموسيقية، كان هؤلاء كلهم تعج بهم صناعات ميلان، وكانوا يزينون بالحلى القصور، وكبار أفراد الحاشية ويصدرون ما يكفي منها لابتياع أدوات الترف الأرق منها والتي تستورد من بلاد الشرق. وحرص لدوفيكو على أن ييسر حركة مرور الناس والبضائع، و "يهب الناس أكثر مما لديهم من الضوء والهواء"(12) فأمر بتوسيع الشوارع الهامة، وأقيمت على جانبي الطرق الكبرى المؤدية إلى القلعة Castello قصور وحدائق للأعيان من السكان، وعلت في سماء المدينة كاتدرائيتها الكبرى، التي اتخذت وقتئذ صورتها النهائية، وأضحت مركزا من المراكز المتنافسة في حياتها النابضة. وكان يسكن ميلان في عام 1492 مائة وثمانية وعشرون ألفا من السكان (13)، وبلغت من الرخاء في عهد لدوفيكو ما لم تبلغه في عهد جيان
جلياتسو فسكونتي نفسه. ولكن الناس أخذوا يضجون بالشكوى من أن هذا الثراء الموفور كان يذهب لتقوية نائب الملك وزيادة أبهة البلاط لا لانتشال عامة الشعب من فقره الذي طال عليه العهد حتى لم تعد تعرف بدايته. وكان أصحاب البيوت يئنون من فدح الضرائب، كما كانت مظاهرات الشغب والاحتجاج تضطرب بهما كرومونا ولودي Lodi. وكان لدوفيكو يرد على ذلك بقوله انه في حاجة إلى المال لإقامة المستشفيات والعناية بالمرضى، ولمعونة جامعتي بافيا وميلان، ولتقديم المال اللازم لإجراء التجارب في الزراعة، وتربية الحيوان، والصناعة، ولكي يؤثر بما يبدو في بلاطه من روعة الفن وفخامة المظهر في قلوب السفراء الذين لا تحترم حكوماتهم إلا الدول القوية الغنية.
ولم تقتنع ميلان بهذه الحجج، ولكن يبدو أنها شاركت لدوفيكو في مسرته حين جاء إليها بعروسه التي كانت أظرف أميرات فرارا وأكثرهن استئثارا بالمحبة (1491). ولم يكن يدعي أنه كفء لبيتريس دست العذراء المرحة؛ ذلك انه كان وقتئذ في سن التاسعة والثلاثين، وكان قد أتخذ له عددا من الخليلات ولدن له ولدين وبنتاً - بيانكا الظريفة التي لم يكن حبه أياها يقل عن حب أبيه للسيدة الجياشة العاطفة التي سميت هذه الفتاة باسمها. ولم تثر بيتريس شيئا من المتاعب بسبب الاستعدادات المعتادة التي يتخذها الرجال في زمن النهضة للاكتفاء بزوجة واحدة، لكنها حين وصلت ميلان هالها أن تجد تشتيشيليا جييليراني Cecillia Gellerani الحسناء آخر عشيقات زوجها لا زالت تقيم في حاشية القصر. وأدهى من هذا وأمر أن لدوفيكو ظل يزور تشتيشيليا مدة شهرين بعد زواجه، ولما سأل في هذا قال لسفير فيرارا أنه لا يطيق إبعاد الشاعرة المثقفة التي أستمتع بها جسمه وعقله. وأنذرته بيتريس بأنها ستعود إلى فيرارا؛ فخضع لدوفيكو وأقنع الكونت برخميني بأن يتزوج تشتيشيليا.
وكانت بيتريس فتاة في الرابعة عشرة من عمرها حين جاءت إلى لدوفيكو؛ ولم تكن بارعة الجمال، ولكنها كانت تفتن من رآها بمرحها البريء الذي كانت تستقبل به الحياة وتستمتع بها وكانت قد نشأت في نابلي، وتمرست في أساليبها المبهجة وغادرتها قبل أن تفقد صدقها وأمانتها، ولكنها أخذت منها إسرافها وخلوها من الهموم، فلما أفاض عليها لدوفيكو من ثروته أطلقت العنان لهذا الإسراف حتى قالت عنها ميلان أنها "جنت جنوناً بحب الإسراف"(14). وكان كل من في المدينة يغفر لها هذا لأنها كان تنشر المرح البريء في كل مكان - "تقضي الليل والنهار" كما يقول أحد الإخباريين المعاصرين "في الغناء والرقص وجميع أنواع المسرات" حتى سرت روحها في جميع أفراد البلاط، فلم تقف فيه البهجة عند حد. ووقع لدوفيكو الوقور الرزين في حبها بعد بضعة أشهر من زواجهما، وأعترف بعض الوقت بأن القوة مهما بلغت، والحكمة أيا كانت، لا قيمة لهما إلى جانب سعادته الجديدة. وأضافت بفضل رعايته زينة العقل إلى روح الشباب، فتعلمت كيف تخطب باللغة اللاتينية، وشغلت عقلها بشؤون الدولة، وأدت لزوجها في بعض الأوقات خدمات جليلة بأن كانت سفيرة له لا تستطاع مقاومتها، ورسائلها لأختها ازبلادست التي فاقتها شهرة طاقة من الزهر العطر وسط الأجمة المكفيلية من منازعات عصر النهضة.
وأضحى بلاط ميلان وقتئذ، وفيه بيتريس تتزعم الرقص، ولدوفيكو الكادج يؤدي نفقات الحفلات أضخم بلاط للأمراء لا في إيطاليا وحدها، بل في أوربا بأجمعها، وأتسع قصر اسفورديسكو حتى بلغ ذروة مجده، ببرجه الأوسط الشامخ، ومتاهة حجراته المترفة التي لا تعرف بدايتها من نهايتها، وأرضه المطعمة، ونوافذه الزجاجية الملونة، وأرائكه المطرزة، وطنافسه العجمية؛ وسجفه التي نقشت عليها مرة أخرى قصص طروادة وروما، هنا سقف من صنع ليوناردو، وهناك تمثال أخرجته يد
كروستوفورو سولاري أو كروستوفور روماني، ولا يكاد يخلو مكان فيه من أثر بالغ الجمال من آثار الفن اليوناني، أو الروماني، أو الإيطالي. في هذه البيئة المتألقة أختلط العلماء بالمحاربين، والشعراء بالفلاسفة، والفنانون بالقواد، وأختلط هؤلاء جميعا بالنساء اللاتي أضفن إلى مفاتنهن الطبيعية كل ما يمكن أن تسبعه عليهن من رقة مستحضرات التجميل، والجواهر، والثياب، وكان الرجال حتى الجنود منهم يعنون بتصفيف شعرهم وبأثوابهم. وكانت الفرق الموسيقية تعزف على مجموعة الآلات المختلفة، والأغاني تتردد في جنبات الأبهاء. وبينما كانت فلورنس ترتعد فرقا أمام سفنرولا وتحرق أباطيل الحب، والفن، كانت الموسيقى والآداب الخليعة تسود عاصمة لدوفيكو. وكانت الأزواج يتغاضون عن عشق زوجاتهم نظير استمتاعهم هم بما يشاءون (17)، وكانت الحفلات الساخرة المقنعة لا تنقطع، وآلاف الأزياء المرحة تستر ما لا يحصى من الآثام، والرجال والنساء يرقصون ويغنون، كأن الفقر لا يترقب المدينة خارج أسوارها، وكأن فرنسا لا تعد العدة لغزو إيطاليا، أو كأن نابلي لا تتآمر على تخريب ميلان.
ولق وصفها بيرناردينو كوريو Bernardino Corio، وكان قد جاء إلى بلاطها من موطنه في كومو Como، بأسلوبه الفصيح البليغ في كتابه تاريخ ميلان Historia di Milano، (1500 فيما يظن) فقال:
"لقد كان بلاط أمرائها فخما إلى أبعد حدود الفخامة، مليئا بالحديث عن أنماط الثياب، وبالمباهج الجديدة، ولكن الفضيلة كانت في ذلك الوقت يثني عليها كل لسان حتى كأن منيرفا ربة الحكمة كانت تتنافس مع فينوس (الزهرة) ربة الجمال في أيهما يكون مدرستها أزهى المدرستين وأعظمهما بهاء. وأقبل على مدرسة كيوبد أجمل الفتيان، وقدم إليها الآباء بناتهم، والأزواج زوجاتهم، والأخوة أخواتهم، وهرعوا جميعا إلى أبهاء الغرام بلا تفكير ولا مبالاة، حتى روع ذلك من كانت لهم عقول يفهمون بها.
كذلك عملت منيرفا بكل ما فيها من قوة على تزيين مجمعها العلمي الظريف، الذي دعا إليه الأمير لدوفيكو اسفوردسا، فخر الأمراء وأعظمهم، رجالا لا يدانيهم أحد في العلم أو الفن من أقصى أطراف أوربا، وأجرى عليهم الأرزاق. لقد اجتمعت فيه علوم اليونان، وأزدهر شعر اللاتين ونثرهم وأنار الآفاق، وفيه سكنت ربات الشعر، وجاء إليه أساتذة فن النحت، وأساتذة التصوير من الأقاليم النائية، وفيه كانت تتردد أصداء الأغاني والأصوات العذبة على اختلاف أنواعها، وتسمع الألحان الحلوة التي يخيل إلى الإنسان أنها تتساقط من السماء نفسها على ذلك البلاط الذي لا مثيل له في العالم" (17).
ولعل بيتريس هي التي أحلت، بحب الأمومة المتوقد، الخراب والدمار بلدوفيكو وإيطاليا. فقد ولدت له ولد ذكرا في عام 1493 سمى مكسميليان باسم إشبينه، وارث عرش الإمبراطورية. وتحيرت بيتريس فلت تكن تدري ماذا يكون من أمرها وأمر الطفل إذا مات لدوفيكو، ذلك أن زوجها لم يكن له حق شرعي في حكم ميلان، وقد يخلعه جيان جلياتسو بمساعدة أهل نابلي في أية لحظة، وينفيه، أو يقتله، وإذا استطاع جيان أن يكون أن يكون له ولد، فالمفروض أن هذا الابن سيرث الدوقية، مهما يكن من مصير لدوفيكو. وكانت هذه المتاعب، تقض مضجع لدوفيكو فبعث بالسر يرسل إلى الملك مكسميليان يعرض عليه أن يزوجه ببيانكا ماريا اسفوردسا ابنة أخيه ويزودها ببائنة مغرية مقدارها أربعمائة ألف دوقة (5. 000. 000 دولار)، على شرط أن يمنح مكسميليان، حين يصبح إمبراطورا، لدوفيكو لقب دوق ميلان مع ما يتبع هذا اللقب من سلطات، ووافق الملك مكسميليان على هذا العرض، ومن واجبنا أن نضيف إليه أن الأباطرة الذين خلعوا لقب الدوق على الفسكونتى المتولي شئون الحكم قد أبو أن يوافقوا على أن يلقب به الحكام من أسرة اسفوردسا، وكانت ميلان من الوجهة القانونية لا تزال خاضعة لسلطان الإمبراطورية.
وكان جيان جلياتسو مشغولا بكلابه وظبائه شغلا يحول بينه وبين الالتفات إلى هذه التطورات وما تسببه له من متاعب. ولكن زوجته إزبلا ذات الروح الحماسية قد تبينت الاتجاه الذي تسير فيه، وكررت رجاءها إلى أبيها. ولما حل شهر يناير من 1494 جلس الفنسو على عرش نابلي، وأتخذ له سياسة معادية عداء صريحا لنائب الملك في ميلان. ولم يكتف البابا إسكندر السادس بالتحالف مع نابلي، بل كان يتوق إلى ضم مدينة فورلي Forli - التي كان يحكمها أحد أفراد أسرة اسفوردسا - مع عدة بلدان أخرى ليكون منها دولة بابوية قوية. وكان لورندسو ده ميديتشي، صديق لدوفيكو، قد توفي في عام 1492، ودفع اليأس لدوفيكو إلى أتباع وسائل مستيئسة لحماية نفسه، فعقد حلفا بين ميلان وفرنسا، وارتضى أن يمر شارل الثامن والجيش الفرنسي بلا مقاومة في شمالي إيطاليا حين يعتزم شارل تأييد حقوقه في عرش نابلي.
على هذا النحو جاء الفرنسيون، واستضاف لدوفيكو شارل، ودعا له بالنجاح والتوفيق في حملته على نابلي. وبينما كان الفرنسيون يزحفون جنوبا إذ توفي اسفوردسا بمجموعة من العلل، وظن خطأ أن لدوفيكو دس له السم، وفعل لدوفيكو ما يقوى هذه الريبة إذ عجل فعمل على أن يخلع عليه لقب الدوق (1495). وفي هذا الوقت بالذات غزا لويس، دوق أورليان، إيطاليا على رأس جيش فرنسي آخر، أعلن سيستولي على ميلان التي يمتلكها لأنه من نسل جيان جلياتسو فسكونتي. وتبين لدوفيكو وقتئذ انه أرتكب خطأ موبقاً حين رحب بشارل، فأسرع يقلب سياسته رأسا على عقب، وسعى إلى عقد "حلف مقدس" من البندقية، وأسبانيا، وإسكندر السادس، ومكسميليان ليطرد الفرنسيين من شبه الجزيرة. فما كان من شارل إلا أن رجع على أعقابه مسرعا، ومنى بهزيمة غير حاسمة عند فرنوفو Fornovo، (1495) ولم يستطع إعادة فلول جيشه إلى فرنسا
إلا بشق الأنفس. وقرر لويس دوق أورليان أن ينتظر حلول يوم يكون فيه أسعد حظاً من يومه السابق.
وكان لدوفيكو يفخر بما كللت به خطته الملتوية من نجاح ظاهري. فقد ألقى على ألفنسو درسا قاسيا، خدع أورليان، وقاد الحلف إلى النصر. وبدا أنه أصبح أمنا في مركزه. فخفف من يقظة دبلوماسيته، وأخذ يستمتع مرة أخرى بأبهة بلاطه وحريات شبابه. ولما حملت بيتريس مرة ثانية أعفاها من الالتزامات الزوجية، وعقد صلة غير شرعية مع لكريدسيا كريفيلي Lucrezia Crevelli (1496) . وأحزنت بيتريس خيانته وتحملتها على مضض، ولم تعد تنشر حولها الغناء والمرح، بل شغلت نفسها بولدها، وأما لدوفيكو فكان يتردد بين عشيقته وزوجته، ويبرر هذا بأنه يحبهما كلتيهما، واعتكفت بيتريس مرة أخرى في عام 1497 لتضع حملها، ووضعت ولدا ميتا، وماتت بعد ساعة من وضعه وهي تعاني آلاما مبرحة، ولما تتجاوز الثانية والعشرين من عمرها.
وتبدل في تلك اللحظة كل شيء في المدينة وفي الدوق، ويقول كاتب معاصر إن الناس "أظهروا من الحزن ما لم يعرف مثله في ميلان من قبل"، وارتدى أفراد الحاشية ثياب الحزن، وغلب على لدوفيكو الأسى والندم فكان يقضي أياما طوالا في العزلة والصلاة، ولم يكن هذا الرجل القوي الذي قلما فكر من قبل في الدين يرجو إلا مرحمة واحدة - هي أن يلقى منيته، ويرى بيتريس مرة أخرى، وينال منها المغفرة، ويستعيد حبها، وظل أسبوعين كاملين يرفض استقبال موظفي الدولة، ومندوبيه، وأطفاله، ويحضر الصلاة ثلاث مرات في اليوم، ويزور في كل يوم قبر زوجته في كنيسة سانتا ماريا دلى جرادسى Santa Maria delle Grazie، وعهد إلى كرستوفورو سولارى أن ينحت تمثالا لبيتريس تمثالا مضطجعا، إذ كان يرغب في أن يوارى معها بعد موته في قبر واحد، فقد طلب أن
يوضع تمثاله بجوار تمثالها، وحدث هذا فعلا، ولا يزال هذا النصب الساذج قائما في التشرتوازا دي بافيا Cetrosa di Paira يخلد ذكرى ذلك العهد السعيد القصير الذي انتهى بالنسبة إلى لدوفيكو وميلان كما أنتهي بالنسبة إلى بيتريس وليوناردو.
وسارت المأساة إلى نهايتها سيرا حثيثا، ففي عام 1498 أصبح دوق أورليان هو لويس الثاني عشر ملك فرنسا، ولم يكد يجلس على العرش حتى أكد من فوره عزمه على امتلاك ميلان. وأخذ لدوفيكو يبحث عن الحلفاء، ولكنه لم يجد له حليفا واحدا، فقد ذكرته مدينة البندقية في غير مجاملة باستعدائه شارل الثامن عليها. ثم ولى قيادة جيشه جلياتسو دي سان سيفيرينو Galeazzo di San Severino الذي كان أجمل من أن يتولى قيادة جيش، ولم يكد هذا القائد يبصر العدو حتى أطلق ساقيه للريح، وزحف الفرنسيون على ميلان دون أن يلقوا أية مقاومة. ثم عين لدوفيكو صديقه الوفي الذي يضع فيه ثقته بيرنردينو داكورتي Bernardino da Corte ليحرس مكسميليان. ثم أتخذ لدوفيكو طريقة متخفيا (في 2 سبتمبر سنة 1499) إلى انزبروك ومكسميليان بعد أن لاقى كثيرا من الأخطار؛ ولما أن قاد جيان تريفلدسيو Gian Trivulzio، وهو قائد من أهل ميلان أساء إليه لدوفيكو في يوم من الأيام، الفرنسيين إلى ميلان سلمه بيرناردينو القصر وكنوزه دون مقاومة نظير رشوة قدرها 150. 000 دوقة (1. 875. 000 دولا أمريكي). ويقول لدوفيكو وهو حزين ممتعض "انه لم تقع قط خيانة أفظع من هذه منذ أيام يهوذا"(18). وأمنت على قوله إيطاليا كلها.
وأصدر لويس أمره إلى تريفلدسيو بان يؤدى البلد المفتوح نفقات الفتح، فأخذ القائد يجني الضرائب الباهظة، وسلك الجنود الفرنسيون مسلك الغلظة والوقاحة، وأخذ الناس يتمنون عودة لدوفيكو، حتى عاد فعلا على رأس
قوة صغيرة من مرتزقة السويسريين، والجرمان، والإيطاليين. وأرتد الجنود الفرنسيين إلى القصر، ودخل لدوفيكو ميلان ظافرا (في الخامس من فبراير سنة 1500). وجيء إليه أثناء مقامه القصير في المدينة بأسير فرنسي هو الفارس بايار Chevalier Bayard الذي اشتهر بشجاعته وحسن أدبه. ورد إليه لدوفيكو جواده وسيفه، وأطلق سراحه، وأرسله محروسا إلى معسكر الفرنسيين. غير أن هؤلاء لم يردوا الجميل بمثله، بل أخذت الحامية المعسكرة في القصر تطلق القذائف على شوارع ميلان، حتى نقل لدوفيكو مقر قيادته إلى بافيا لينجي السكان من القتل أو يكسب رضاهم. ثم بدأت أمواله تنفذ، وعجز عن أداء رواتب الجنود في مواعيدها، فاقترحوا عليه أن يعوضوا أنفسهم بنهب المدن الإيطالية، فلما نهاهم عن ذلك استشاطوا غضبا. وعهد إلى جيان فرانتشيسكو جندساجا Giannfrancesco Gonzaga وزوج ازبلا أخت بيتريس أن يتولى قيادة جيشه الصغير. وقبل فرانتشيسكو هذه المهمة، ولكنه أخذ يتفاوض سرا مع الفرنسيين (19). فلما ظهر هؤلاء عند نوفارا Novara قاد لدوفيكو قوته المختلطة إلى الميدان، ولكنها ارتدت على أعقابها عند أول صدمة وولت الأدبار، ووضع قوادها شروط الصلح مع الفرنسيين، ولما حاول لدوفيكو الفرار متخفيا، غدر به السويسريون المرتزقون وأسلموه إلى العدو (10 أبريل عام 1500). وارتضى مصيره المحتوم في اطمئنان وهدوء، ولم يطلب إلا أن يؤتى بنسخته الخاصة من المسلاة الإلهية من مكتبته في بافيا. واقتيد بشعره الأشيب، وسط الجموع الساخرة في شوارع ليون Lyons، ولكنه ظل في أثناء ذلك محتفظا بأنفته وكبريائه، وسجن في قصر ليس سانت جورج Lys-Ssint George في برى Berry. ورفض لويس الثاني عشر أن يقابله، وتجاهل رجاء الإمبراطور مكسميليان انه يطلق سراح الأسير المهشم، ولكنه سمح للدوفيكو أن يتمشى في أفنية القصر، ويصطاد السمك من الخندق، وأن يستقبل الأصدقاء.
ولما مرض لدوفيكو وأضحت حياته في خطر بعث إليه لويس بطبيبه الأستاذ سالومون Maitre Salomon، وجاء إليه بأحد أقزامه من ميلان ليسليه، ثم نقله في عام 1504 إلى قصر لوش Loches وسمح له بقسط من الحرية أكثر مما كان له قبل، وحاول لدوفيكو الهرب في عام 1508، فتسلل من الأماكن المحيطة بالقصر يحمل حملا من القش، ولكنه ضل طريقه في الغابات، واقتفت كلاب الصيد أثره، وشددت عليه من أجل ذلك الحراسة في سجنه، فحرم من الكتب، ومن أدوات الكتابة، وسجن في جب تحت الأرض. وهناك في السابع من شهر مايو عام 1508 مات في ظلام العزلة، بعيدا كل البعد عن حياة البهجة التي كان يستمتع بها يوما ما في عاصمته المرحة. وكان حين وافته المنية في السابعة والخمسين من عمره (20).
كان لدوفيكو في حياته قد أجرم في حق الرجال والنساء وفي حق إيطاليا نفسها، ولكنه كان يحب الجمال، كان يعز الرجال الذي جاءوا إلى ميلان بالفن والموسيقى، والشعر، والعلم. وفي ذلك يقول جرولامو تيرابسكي Girolamo Tiraboschie منذ قرن من الزمان:
إذا أحصينا العدد الجم من العلماء الذين وفدوا إلى بلاطه من كافة أنحاء إيطاليا وهم واثقون من انهم سينالون الشرف أعظمه ومن الهبات أسخاها، وإذا ذكرنا العدد الكبير من مشهوري المهندسين المعماريين والرسامين الذين دعاهم إلى ميلان، والمباني الكثيرة الفخمة التي أقامها فيها، وذكرنا فوق ذلك أنه شاد جامعة بافيا العظيمة ووهبها الأموال الطائلة، وأفتتح المدارس لكل أنواع العلوم في ميلان، وإذا ما قرأنا فضلا عن هذا كله قصائد المدح ورسائل التبجيل التي وجهها إليه العلماء على اختلاف أجناسهم، إذا فعلنا هذا فانا لا يسعنا إلا أن نقر بأنه خير من عاش على ظهر الأرض من الأمراء.
الفصل السادس
الآداب
أحاط لدوفيكو وبيتريس نفسيهما بعدد كبير من الشعراء، لكن حياة البلاط بلغت من البهجة والمرح حدا لا تستطيع معه أن تلهم الشاعر ذلك الإخلاص الحافظ القوي الذي ينطقه بعيون الشعر. وكان سرافينو الأكويلائي Serafino of Aqulia دميما قصيرا، ولكن أغانيه التي ينشدها بنفسه على العود كانت تبعث البهجة في قلب بيتريس وأصدقائها، فلما توفيت خرج خلسة من ميلان لأنه لم يطق ما ساد في الحجرات من صمت بعد أن كانت تعج بضحكاتها، وتشهد خطوات قدميها الرقيقتين. واستقدم لدوفيكو كاملي Camelli وبلينتشيوني Bellincione الشاعرين التسكانيين إلى بلاطه لعلهما يبعثان الرقة في التعبيرات اللمباردية، وكانت النتيجة أن نشبت حرب شعواء بين الشعراء التسكانيين واللمبارديين، أخرجت منها الأغاني المسمومة الشعر النبيل الشريف. وكان بلينتشيوني مشاغباً شكساً إلى حد دفع منافساً له من الشعراء أن بعث له نقشاً يكتب على قبره يحذر فيه من أن يمر به أن يخفف الوطء لئلا تقوم جثته وتعضه. ومن أجل هذا أتخذ لدوفيكو شاعرا لمبارديا يدعى جسبار فسكونتى Gasparo Visconti شاعر بلاطه، فسكونتي هذا لبياتريس في عام 1496 مائة وثلاثا وأربعين من الأغاني وغيرها من القصائد مكتوبة بحروف من الفضة والذهب على رقائق من العاج، ومزينة بنقوش دقيقة بديعة ومغلفة بورق مقوى مطلي بالفضة المنقوشة عليها الأزهار بالميناء، وكان شاعرا بحق ولكن الزمن طواه وطمس ذكراه. وكان يحب بترارك، واشتبك في محاورة شعرية جدية ولكنها ودية مع برامنتي موضوعها مقارنة مزايا كل من بتراراك ودانتي، ذلك أن
المهندس العظيم كان يحب أن يضع نفسه في عداد الشعراء أيضا، وكانت هذه المجادلات الشعرية من موضوعات الترويح المحببة في بلاط الأمراء والملوك في عهد النهضة، يكاد يشترك فيها كل إنسان، وحتى قواد الجيوش أنفسهم أصبحوا ممن ينشئون الأغاني الشعرية. وكانت خير القصائد في عهد آل اسفوردسا هي التي كتبها شاعر مصقول العبارة يدعى نقولا دا كريجيو Niccolo da Correggio، وجاء إلى ميلان مع حاشية بيتريس يوم زفافها، وبقي في ميلان حباً ببيتريس ولودفيكو، وعمل عندهم شاعراً ودبلوماسياً، وألف أنبل أشعاره حين ماتت بيتريس. وكانت تشيتشيليا جلراني عشيقة لدوفيكو هي الأخرى شاعرة، وكانت ترأس ندوة ممتازة من الشعراء، والعلماء، ورجال الحكم والفلاسفة، وقصارى القول أن كل ما امتازت به فرنسا في القرن التاسع عشر من رقة الحياة والثقافة قد أزدهر في ميلان أيام لودفيكو.
ولم يكن لدوفيكو يضارع لورندسو في ولعه بالعلوم، ولا في اختياره من يناصرهم. فقد جاء إلى مدينته بألف من العلماء، ولكن مناقشاتهم العلمية لم تخرج عالما واحدا ممتازا. وقد ولد فرانتشيسكو فيليلفو Francesco Fillelfo، الذي رددت إيطاليا كلها أصداء علمه وشتائمه، في تولنتينو، وتلقى العلم في بدوا، وعين فيها أستاذا وهو في الثامنة عشر من عمره، واشتغل بالتدريس وقتا ما في البندقية، وسره حين أتيحت له الفرصة لزيارة القسطنطينية إذ عين فيها أمينا لقنصلية البندقية (1419). قلما جاءها شرع يدرس اللغة اليونانية على جون كريسلوراس Joho Chrysoloras وتزوج بابنة جون، وظل سنين طوالا موظفا صغيرا في البلاط البيزنطي. فلما عاد إلى البندقية كان هلنستياً بارعاً يفخر، وله بعض الحق، بأنه لا يوجد إيطالي غيره متمكن من اللغتين القديمتين وآدابهما تمكنه هو. وكان يكتب الشعر، ويلقي الخطب، باللغتين اليونانية واللاتينية،
وكانت البندقية تؤجره نظير كونه أستاذ لهاتين اللغتين وآدابهما أجرا عاليا غير معتاد وهو مائة سكوين Sequin (12. 500 دولار) في العام، لكن فلورنس أغرته بأجر أكبر من هذا (1429) فجاء إليها وأصبح فيها أكبر علمائها. وقد قال هو عن نفسه إن "المدينة على بكرة أبيها تقف لتتطلع لي
…
واسمي يجري على كل لسان". ولا يفسح لي الطريق كبار رجال البلدة المدنيين فحسب، بل يفسحه أيضاً لي النساء أنفسهن، ويظهرن لي من الإجلال والتعظيم ما يخجلني. وكان يستمع لدروسه أربعمائة شخص في كل يوم، معظمهم من الرجال المتقدمين في السن، من منزلة أعضاء مجلس الشيوخ"(22). ولكن سرعان ما انتهى هذا كله، لأن فيليلفو كان ميالا للنزاع والشجار، حتى أغضب أولئك الرجال الذين استدعوه إلى فلورنس - نقولو ده نقولي، وأمبروجيو ترافرساري وغيرهما. ولما سجن كوزيمو ميديتشي في قصر فتشيو، حرض فليليفو الحكومة على أن تعدمه، فلما أنتصر كوزيمو هرب هو من المدينة، وقضى ست سنين يعلم في سينا وبولونيا، واخيرا اجتذبه فلبوماريا فسكونتي (1440) إلى ميلان بان منحه ذلك الأجر الذي لم يكن له نظير من قبل وهو 750 فلورينا في العام، وفيها قضى فيليلفو بقية حياته الطويلة العاصفة.
وكان فيليلفو ذا نشاط مروع عجيب، كان يلقي في كل يوم محاضرات تدوم أربع ساعات في اللغة اليونانية أو اللاتينية أو الإيطالية، ويشرح كتب الأقدمين، أو أشعار دانتي، أو كتب افلوطرخس، واكن يلقي خطبا عامة في الاحتفالات الحكومية، أو الحفلات الخاصة؛ وكتب بالغة اللاتينية ملحمة في فرانتشيسكو اسفوردسا، وعشر "قصائد" في الهجاء، وعشرة "كتب" من الشعر الغنائي، وألفى بيت وأربعمائة من الشعر اليوناني، وكتب عشرة آلاف بيت في الحب (1465) لم تطبع، وكثير منها مما لا يجوز طبعه، وكانت له زوجتان، وتزوج بثالثة، وكان له أربعة وعشرون من الأبناء
الشرعيين فضلا عن غير الشرعيين الذين كان وجودهم دليلا على خياناته. وقد وجد وسط هذه الجهود كلها متسعا من الوقت لإثارة حروب أدبية شعواء مع الشعراء، والسياسيين، والكتاب الإنسانيين. وكان رغم ما يتقاضاه من مرتب كبير، ،أجور أخرى تأتيه من حين إلى حين، يشكو الفقر في أوقات متفرقة، ويستجدي مناصريه في أشعار له على مثال أشعار قدماء اليونان والرومان ذات القافية الواحدة لكل بيتين يطلب إليهم المال، والطعام، والكساء، والخيل، ووظيفة كردنال. ولقد أخطأ أن جعل بجيوبين من يسعى إليهم، فقد وجد أن هذا الوغد المرح يفوقه في البذاءة.
لكن علمه، رغم هذا كله، قد جعله العالم الذي يسعى إليه في زمانه. فقد أستقبله البابا نقولاس الخامس في قصر الفاتيكان عام 1453، ووهبه كيسا به 500 دوقة (12. 500 دولار)، وعينه الفنسو الأول ملك نابلي شاعر بلاطه ومنحه لقب فارس، واستضافه دوق بورسو Bprso في فيرارا، كما استضافه المركيز لدوفيكو جندساجا في مانتوا والطاغية سجسمند ومالتستا في ريميني. ، ولما أصبح غير آمن على نفسه في ميلان على أثر موت فرانتشيسكو اسفوردسا وما أعقب موته من فوضى، لم يجد صعوبة ما في الحصول على منصب في جامعة روما، غير أن خازن بيت المال البابوي تلكأ في أداء مرتبه، فعاد فيليلفو إلى ميلان، ولكنه مع ذلك كان يتوق إلى أن يختم حياته بحفيد الرجل الذي رشحه هو للإعدام. غير أن لورندسو عفا عنه، وعرض عليه كرسي الأدب اليوناني في فلورنس، وقد بلغ من فقر فيليلفو وقتئذ أن اضطرت حكومة ميلان أن تقرضه المال اللازم لسفره، فاستطاع بذلك أن يصل إلى فلورنس حيث مات بالزحار بعد أسبوعين من وصوله إليها وكان وقتئذ في الثالثة والثمانين من عمره (1481). وكانت حياته واحدة من حيوات مائة مثله، إذا نظر إليها مجتمعه فاح منها شذى عطر النهضة الإيطالية الفذة، التي يمكن أن يكون فيها طلب العلم وجدا وهياما، والأدب حربا وقتالا.
الفصل السابع
الفن
كان الحكم المطلق نعمة على الفن وبركة، فقد كان أكثر من عشرة حكام يتنافسون في البحث عن المهندسين المعماريين، والمثالين، والرسامين ليزينوا لهم عواصمهم ويخلدوا ذكراهم، وكانوا ينفقون في هذا التنافس أموالا قلما تخصصها الديمقراطيات للجمال، أموالا لم يكن يستطاع تخصيصها للفن لو أن ثمار الجهود والعبقرية البشرية كانت توزع على الناس بالقسطاس المستقيم. وكانت نتيجة هذا ان الفن الإيطالي في عصر النهضة كان فنا خاص ببطانة الملوك ذا ذوق أرستقراطي، ولكنه كان في الأغلب الأعم يلم في شكله وموضوعه بحاجات العظماء من رجال الدنيا والسلطات الكنسية. ذلك هو فن النهضة على حين أن أنبل الفنون وأعظمها هو الذي يخلق للجماهير من كدحها ومن ثمار هذا الكدح هبة عامة ومجدا عاما، هكذا كانت الكنائس الفوطية الكبرى وهياكل بلاد اليونان وروما القديمة.
وترى كل ناقد يندد بكتدرائية ميلان لإكتضاضها بالزخارف، واضطراب خطوط البناء، ولكن أهل ميلان لا يزالون منذ خمسة قرون يجتمعون في مبناها الضخم الظليل، مشغوفين به، ولا يزالون حتى في هذا العهد المتشكك يعتزون به ويرون أنه عملهم الجماعي وموضع فخرهم المشترك. وكان الذي بدأ هذا البناء هو جيان جلياتسو فسكونتي (1386)، وقد وضع تصميمه على نطاق خليق بعاصمة إيطاليا الموحدة التي كان يحلم بوجودها، فكانت تتسع لأربعين ألفا يعبدون فيها الله ويظهرون إعجابهم بجيان. وتقول الرواية المأثورة أن نساء ميلان كن يصبن في ذلك الوقت بمرض غريب في أثناء حملهن، وأن كثيرين من أطفالهن يموتون وهم صغار.
وقد مات لجيان نفسه ثلاثة أبناء تعسرت ولادتهم وماتوا بعد أن ولدوا بزمن قليل، وحزن عليهم أشد الحزن، ولهذا وهب المزار العظيم لمريم في مولدها Mariae nasceenti، رجاء أن يرزق بوارث، وأن تلد نساء ميلان أبناء أصحاء. ثم دعا المهندسين من فرنس وألمانيا للاشتراك في العمل مع المهندسين الطليان، فأما المهندسون من أهل الشمال فقد جاءوا بالطراز القوطي، وأما الإيطاليون فهم الذين أفاضوا عليها الزخرف، وضعف التناسق بين الطراز والشكل من جراء تضارب الآراء بين الجانبين ومن الزمن الطويل الذي تم فيه بناء الكنيسة، والذي بلغ قرنين من الزمان. تبدل خلالها مزاج العالم وذوقه، فلم يعد من أتموا هذا الصرح يحسون بما يحس به من بدأوه. ولم يكن قد تم من البناء حين توفي جبان جلياتسو (1402) إلا جدرانه، ثم توقف العمل لقلة المال. ثم أستدعى لدوفيكو برامنتي وليوناردو، وغيرهما ليصمموا السقف المستدير الذي يضم الأبراج المتفرقة الفخمة في تاج موحد، لكنه رفض آراءهم؛ ثم أستدعى آخر الأمر (1490) جيوفني أنطونيو أمديو من عمله الشاق في التشرتوزا دي بافيا، وعُهد إليه بالأشراف التام على مشروع الكنيسة الكبرى كله. وكان هو ومعظم مساعديه مثالين أكثر منهم مهندسين؛ ولهذا لم يكونوا يطيقون أن يبقى أي جزء من ظاهر البناء خاليا من النحت أو الزينة؛ وقضى الرجل في هذا العمل السنين الثلاثين الأخيرة من حياته (1490 - 1522) ومع هذا فإن السقف المستدير لم يتم إلا في عام 1759؛ كما أن واجهة الكنيسة التي بدأ بها في عام 1616 لم يتم إلا بعد أن فرض نابليون إتمامها فرضاً بأمر إمبراطوري (1809).
وكانت في أيام لدوفيكو ثانية كنائس العالم من حيث الحجم، فقد كانت تغطي مساحة قدرها 120. 000 قدم مربعة، أما اليوم فقد نزلت عن هذا الشرف الخداع، شرف الضخامة، إلى كتدرائية القديس بطرس في إشبيلية،
ولكنها لا تزال تفخر بطولها وعرضها (486 قدماً × 289)، وبارتفاعها البالغ 354 قدماً من الأرض إلى رأس العذراء الذي يعلو المنارة القائمة في السقف المستدير، وبأبراجها المستدقة العلية البالغ عددها مائة وثلاثة وخمسين والتي تقلل من مجدها وعظمتها، وبالتماثيل البالغ عددها ألفين وثلاثمائة والتي تغطي هذه الأبراج المستدقة، والعمد، والجدران، والسقف. وقد شيدت الكنيسة كلها حتى سقفها نفسه بالرخام الأبيض جيء به إليها بجهد كبير من اكثر من عشرة محاجر في إيطاليا. وواجهة البناء منخفضة انخفاضاً يتناسب مع سعته، ولكنها مع ذلك تستر السقف المستدير البديع؛ وليس في وسع الإنسان أن يشاهد متاهات العمد التي تقوم فوق أرضها كأنها تضرع وتبتهل إلا إذا طار بجناحين ثم استطاع أن يقف في أعلاها وسط الهواء، وعليه إذا أراد أن يحس بروعة حجمها الضخم وما فيه من إسراف، أن يطوف المرة بعد المرة حول سقفها العظيم بين طائفة لا حصر لها من الدعامات؛ وعليه أن يجتاز شوارع المدينة الضيقة المزدحمة، ثم يخرج فجأة إلى ميدان الكنيسة الرحب المفتوح، لكي يدرك روعة الواجهة والمنارة اللتين تنعكس عليهما شمس إيطاليا فتبدلهما لآلاء حجرياً؛ وعليه أن يزاحم بمنكبيه الجموع الحاشدة في أحد أيام العطلة ويدخل معها من أبواب الكنيسة ويدع كل هذه الرحاب الواسعة؛ والعمد، التيجان، والعقود، والقباب، والتماثيل، والمحاريب، والألواح الزجاجية الملونة تنقل إليه بصمتها سر الإيمان والأمل والعبادة.
وإذا كانت الكاتدرائية هي الأثر الخالد الذي أقامه جيان جلياتسو فسكونتي، وإذا كانت تشرتوزا بافيا هي ضريح لدوفيكو وبيتريس، فإن المستشفى الكبير ( Ospedale Maggiore) هو الأثر البسيط الضخم الذي يخلد ذكرى فرانتشيسكو اسفوردسا. وأراد اسفوردسا أن يخطط بطريقة "خليقة بأملاك الدوق العظيمة، وبالمدينة الكبرى الذائعة الصيت"، فاستدعي من فلورنس (1456) أنطونيو أفرولينو Antonio Averulino
المعروف باسم فيلاريتى Filarete والذي اختار له شكلاً ضخما من الطراز الرومانسي اللمباردي، والراجح أن برامنتي هو المهندس الذي أنشأ الفناء الداخلي، وقد أنشأ في مواجهته طبقتين من العقود المستديرة تعلو كل طبقة منها شرفة ظريفة رشيقة. وقد ظل المستشفى الكبير من أعظم ما في ميلان من أمجاد حتى دكت الحرب الأوربية الثانية معظم أجزائه وتركتها خراباً تنعى من بناها.
وكان لدوفيكو وحاشيته يرون أن فنان ميلان الأعظم هو برامنتي لا ليوناردو، لأن ليوناردو لم يكشف لأهل زمانه إلا جزاءاً من نفسه. وقد ولد دوناتو د انيولو Donato d'Agnolo في كاستل ديورانتي Castel Drante القريبة من أربينو Urbino وأطلق عليه من قبيل السخرية لقب برامنتي ومعناه الشخص الذي يلتهب بالرغبات الجامحة التي لا تشبع. ورحل إلى مانتوا ليدرس مع مانتينيا Mantegna؛ وتعلم فيها ما يكفي لأن يخرج بعض مظلمات متوسطة الجودة، ويرسم صورة ملونة رائعة للعالم الرياضي لوكا بتشيولي Leca Pocioli؛ ولعله التقى في مانتوا بليون باتستا البيرتي Leon Batista Alberli الذي كان يصمم كنيسة سانت أندريا Sant' Andrea؛ وسواء كان هذا أو لم يكن فان طائفة من التجارب المتكررة في فن المنظور نقلت برامنتي من التصوير إلى العمارة؛ ونشاهده عام 1472 في ميلان يدرس كنيستها الكبرى بدقة الرجل الذي يعتزم القيام بأعمال جليلة. وأتيحت له حوالي عام 1476 فرصة يظهر فيها كفايته، وكانت هذه الفرصة هي تخطيط كنيسة سانتا ماريا حول كنيسة سان ساتيور San Satiro الصغيرة. وقد أظهر في هذه الآية الفنية المتواضعة طرازه المعماري الخاص في القباءات نصف الدائرية، وحجر المقدسات، والقبب المثمنة الأضلاع، والقباب الدائرية، التي تعلوها كلها طنف رشيقة، والتي تزدحم بعضها فوق بعض في صورة جامعة تخلب اللب. ولما عجز
برامتي عن أن يجد مكانا للقبا، أخذ يداعب بفن المنظور، فنقش على الجدار القائم خلف المحراب صورة قبا تخدع الإنسان خطوطه المتجهة كلها نحو مكان واحد فلا يكاد يشاهد قبا غائراً بحق. وقد أضاف إلى كنيسة سانتا ماريا دل جراتسي قباً، وسقفاً مستديراً مقببا، والمداخل المعمدة للطرق المقنطرة التي كانت هي الأخرى بين ما دمرته الحرب الأوربية الثانية. ولما سقط لدوفيكو رحل برامنتي نحو الجنوب، متأهباً لأن يهدم روما ويبنيها من جديد.
ولم يكن المثالون الذي في بلاط لدوفيكو فنانين جبارين مثل دوناتلو وميكل انجلو، ولكنهم نحتو للشيرتوزا، والكتدرائية، والقصر، مائة صورة وصورة ذات رشاقة خلابة فتانة. وسيضل الناس يذكرون اسم كرستوفورو سولاري Cristoforo Solari الأحدب ( II Gobbo) ما بقي القبر الذي أنشأه للدوفيكو وبياتريس قائما. وكسب جيان كرستوفورو رومانو محبة الناس جميعاً بظرفه وغنائه العذب؛ وكان من كبار المثالين في التشيرتوزا ولكنه انتقل إلى مانتوا بعد موت بيتريس بعد أن ظلت هذه المدينة تلح عليه عاماً كاملاً، وفيها نحت لإزبيلا مدخلاً ظريفاً لحجرة مكتبتها في قصر البرديزو Paradiso ( الجنة) ثم حفر صورة لها في مدلات تعد من اجمل مدليات النهضة. وانتقل بعدئذ إلى أربينو ليعمل فيها عند الدوقة إلزبتا جندساجا Elisabetta Gonzaga، ثم أصبح من أبزر الشخصيات في كتاب البلاط لكستجليوني Caztiglione. وكان أعظم حفاري المدليات في ميلان كلها هو كرستوفورو فبا Crcistoforo Foppa. الملقب من قبيل السخرية كرادسا Caradossa، وهو الذي قطع الجواهر البراقة التي كانت تتحلى بها بيتريس، وجاب على نفسه حسد تشيليني Cellini.
وكان في ميلان مصورون جيدون قبل ليوناردو بجيل من الزمان، كان فيها فينتشندسوفيا الذي ولد في بريشيا، وتكون في بدوا، وقام أكثر
أعماله في ميلان، وذاعت في أيامه شهرة مظلماته التي صورها في سانت يستورجيو sant' Eustorgio، ولا تزال صورة استشهاد القديس سبستيان تزين أحد جدران الكاستلو. وترك لنا أمبروجيو برجنيوني الذي نسج على منواله بميلان، وفي تررين، وبرلين، وكلها تجرى على تقاليد روح التقى الصادق القوي؛ وترك لنا كذلك صورة أنيقة لجيان جلياتسو اسفوردسا في طفولته هي الآن بين مجموعة ولاس wallace في لندن. وفي الصور نجاحا في التعبير عن هذا الموضوع الشاق. وكان أمبروجيو ده برديس Ambrogio de Perdis مصور البلاط عند لودفيكو حين قدم إليه ليوناردو، ويلوح أنه كان له نصيب في تصوير عذراء الصخور مع ليوناردو نفسه، لعله هو الذي رسم الصورة الساحرة للموسيقيين الملائكة المحفوظة في المعرض القومي بلندن، ولكن أجمل مخلفاته صورتان محفوظتان في الأمبروزيانا: أحدهما لشاب جاد غاية الجد لا يعرف من هو
(1)
، والثانية لفتاة يعتقد الآن إنها بيانكا ابنة لدوفيكو غير الشرعية. وقلما أفلح فنان غيره في إدراك المفاتن المتضاربة لفتاة تتصف بالحشمة والبراءة، ولكنها مدركة لجمالها الساذج فخورة به.
وكانت المدن الخاضعة لميلان تقاسي الأمرين من جراء نزوح ذوي المواهب من أهلها إلى تلك العاصمة لما فيها من مغريات، ولكن كثيرا من هؤلاء استطاعوا أن يخلدوا أسماءهم في تاريخ الفن. ولم تكن كومو تقنع بأن بابا لا أكثر لميلان يوصل إلى البحيرة التي سميت تلك المدينة باسمها، بل كانت هي أيضاً تفخر بروائعها الفنية مثل برج القومون Torre del Comune، وبرولتو
(1)
يعزو بعض العلماء هذه الصورة لليوناردو دافنشي وربما كانت تمثل فرنكينو جفوري Franchino Gaffuri، وهو موسيقي في بلاط لدوفيكو.
Broletto وتفخر أكثر من ذلك بكتدرائيتها الفخمة المشيدة من الرخام. وقد قامت الواجهة القوطية الرائعة لهذه الكاتدرائية أيام اسفوردسا (1457 - 1487)؛ وصمم برامنتي لها مدخلا جميلا من الجهة الجنوبية، وشاد ستوفورد سولاري القبا الخلاب على الطراز البرامنتي. وأهم من هذه المعالم وأكثر إمتاعا تمثالان يجاوران المدخل الرئيسي: أحدهما على اليسار لبلني الأكبر Pliny the Elder وثانيهما على اليمين لبلنى الأصغر Pliny the Younger، وهما من أبناء روما القدمين، وثنيان متحضران اتخذا لهما مكانا في واجهة كتدرائية مسيحية أيام لدوفيكو المغربي السمحة.
وكانت أجمل درة في برجامو Bergamo هي الكابلا كليوفي Capella Colleoni وكان سبب قيامتها أن الأفاق البندقي المغامر الذي ولد هنا أراد أن يشاد له معبد تثوى فيه عظامه وأن يكون لقبره شاهد يخلد انتصاراته. وصمم جيوفني أنطونيو أماديو المعبد والقبر، وحرص على أن يظهر فيهما الروعة والذوق السليم، ثم أقام سكستس سيري النورمبرجى Sixtus Siry of Nuremberg على الضريح تمثال فارس من الخشب، لو أن فيروتشيو ولم يَصُب لهذا القائد العظيم تمثالاً آخر من مادة أقوى وهي البرنز لكان لهذا التمثال الخشبي شهرة أوسع من شهرته الحاضرة. وكان قرب برجامو من ميلان مانعاً لها من الاحتفاظ بمصيرها، ولكن واحداً منهم هو أندريا بريفتالي Andrea Previtali عاد إلى برجامو (1513) بعد أن درس مع جيوفني بليني في البندقية، وأورثها صوراً تمثل التقى بأعظم معانيه والتواضع في أجمل صورة.
وكانت بريشيا تخضع تارة للبندقية وتارة لميلان، وساعدها ذلك على أن تحفظ التوازن بين التأثيرين، وأن يكون لها مدرسة للفن خاصة بها. وكان من أبنائها النابهين فنتشيندسو، وقد وزع ثمار مواهبه على ست مدن أو نحوها، ثم عاد بعدئذ ليقضي السنين الأخيرة من عمره في مسقط رأسه،
وشارك تلميذه فينتبشندسو جفركيو Vincezo Giverchio شرف تكوين المدرسة البريشية الفنية. ودرس جيرولامو روماني المعروف باسم رومانينو مع فيرامولو، ثم درس في ما بعد في بدوا والبندقية، ثم أتخذ بريشيا مركزا له وصورة فيها وفي غيرها من بدن إيطاليا الشمالية سلسلة طويلة من المظلمات وستر المحاريب، والصور، ألوانها ممتازة ولكن خطوطها لا تبلغ هذه الدرجة من الإتقان. وحسبنا أن ننظر من هذه الصور صورة العذراء والطفل المحفوظة في إطار فخم من صنع استيفانو لمبرتي Stefano Lamberti في كنيسة سان فرانتشيسكو. وسما تلميذه السندرو بنفيتشينو Alessandro Bonvieino، المعروف باسم موريتو البريشيائي Moretto da Brescia، بهذه الأسرة إلى أعلى مكانتها بأن مزج مجد البنادق ذوي الإحساس المرهف بالعاطفة الدينية المتحمسة التي ظلت تمتاز بها صور بريشيا إلى آخر أيامها. وقد رسم موريتو في كنيسة القديسين نادسارو وتشيلسو Nazaro e Celso حيث وضع تيشيان صورة البشارة، صورة لا تقل عن هذه الصورة الأخيرة جمالاً وهي صورة تتويج العذراء. وصورة الملاك الأكبر التي بها لا تقل من حيث رقة الشكل والملامح عن أجمل الأشكال الموجودة في الكريجورو. وكان في وسعه أن يصور كلما شاء صوراً لفينوس مثيرة للشهوات شأنه في هذا شأن تيشيان؛ وتكشف صورة سالومي عن وجه من أظرف وأرق ما صور من الوجوه في نطاق فن النهضة كله بدل أن تكشف عن صورة قاتلة بالنيابة.
وجمعت كريمونا حياتها كلها حول كنيستها الكبرى التي أنشئت في القرن الثاني عشر وحول البرج ( Torrazo) المجاور لها وهو برج يكاد يضارع برج جيتو والخرلدة Giralda. ورسم جيوفيني ده ساكى Giovanni de Sacchi، المسمى البرودينوني II Prodenone بسام المدينة التي أنشأ فيها، داخل هذه الكنيسة أروع آية من آياته الفنية هي صورة يسوع يحمل صليبه. وأنجبت
ثلاث أسر عظيمة في تلك المدينة أجيالا متعاقبة من ذوي المواهب العالية في فن التصوير الكريموتائي: أسرة بيمي Bempi ( وقد أنجبت بنيفادسيو Benifazio، وبينيديتو benedetto، وجيان فرانتشيسكو وأسرة بكاتشيني Boccaccini وأسرة كامي Campi. ودرس يوكاتشيويكا تشيبني في البندقية، وأقحم نفسه في منافسة لا طاقة له مع ميكل أنجلو في روما، ثم عاد إلى كريمونا، وعلا صيته بما انشأ من مظلمات في كتدرائيتها صور فيها العذراء، وواصل ابنه كاملو Camillo أعماله الرائعة الممتازة. كذلك واصل جيليو Giuilio وانطونيو ولدي جلبترو كامي وبرتردينو كامى تلميذ جيوليو أعمال جلياتسو. وكان جلياتسو هذا قد وضع تصميم كنيسة سانتا مرغريتا في كريمونا ثم رسم فيها صورة المخلص في المعبد. وهكذا نزعت الفنون في إيطاليا على عهد النهضة إلى أن تجتمع في عقل واحد، وقد ازدهرت في عهد عباقرة متعددي الكفايات تعددا لم يعرف حتى في بلاد اليونان.
الباب السابع
ليوناردو دافنتشي
1452 -
1519
الفصل الأول
تكوينه
1452 -
1482
ولد ليوناردو أعظم الشخصيات الفنانة في العصور الوسطى في الخامس عشر من إبريل عام 1452 بالقرب من قرية فنتشي التي تبعد عن فلورنس بنحو ستين ميلا. وكانت أمه كترينا Caterina من بنات الفلاحين لم ترد داعيا إلى أن تتزوج أباه. وكان الذي أغواها بيرو دانطونيا محاميا على شيء من الثراء، ولما ولد له ليوناردو في عام مولده امرأة من طبقته، واضطرت كترينا أن تقنع بزوج فلاح مثلها، وأسلمت ابنها الذي كان ثمرة اتصالها بعشيقها إلى أبيه وزوجته، فنشأ ليوناردو في نعيم شبه أرستقراطي ينقصه حب الأم وحنانها. ولعله قد سرى إليه في هذا الجو المبكر حب الثياب الجميلة وكره النساء.
والتحق بمدرسة قريبة من قريته وأولع فيها بدراسة العلوم الرياضية، والموسيقى، والرسم، وسر والده بغنائه وعزفه على العود، ودرس كل شيء في العالم الطبيعي بشغف، وصبر، وعناية، ليستطيع بهذه الدراسة أن يجيد الرسم، وكان للعلم والفن اللذين ائتلفا ائتلافا عجيبا في عقله منشأ واحد - هو الملاحظة المفصلة الدقيقة. ولما أشرف على الخامسة عشر من عمره أخذه أبوه إلى مرسم فيروتشيو في فلورنس، وأقنع هذا الفنان
المتعدد الكفايات أن يقبله صبيا يتمرن عنده. والعالم المتمدن كله يعرف قصة فارساى التي يروي فيها كيف صور ليوناردو الملك في صورة تعميد المسيح التي رسمها فيروتشيو، وكيف روع الأستاذ بجمال الصورة روعة حملته على أن يتخلى عن الرسم ويخصص جهوده للنحت. لكن أكبر الظن أن قصة هذا التخلي قصة خيالية نسج بردها بعد وفاة صاحبها؛ وشاهد ذلك أن فيروتشيو رسم عدة صور بعد صورة التعميد هذه، ولعل ليوناردو قد رسم في فترة التمرين صورة البشارة المحفوظة في متحف اللوفر بما فيها صورة الملك السمج والفتاة المروعة. ذلك أنه كان يصعب عليه أن يتعلم الرقة والظرف من فيروتشيو.
وتحسنت أحوال السيد بيرو المالية تحسنا كبيرا من خلال ذلك الوقت، فاشترى عدة عقارات، وأنتقل هو وأسرته إلى فلورنس (1469)، وتزوج بأربعة نساء واحدة بعد واحدة، ولم تكن ثانيتهما تكبر ليوناردو بأكثر من عشر سنين. ولما ولدت الثالثة منهن لبيرو طفلا، أفسح له ليوناردو مكانه بأن ذهب ليعيش مع فيروتشيو، وقبل في ذلك العام عضوا في جماعة القديس لوقا. وكانت هذه الجماعة تتألف في الأغلب الأعم من الصيادلة، والأطباء، والفنانين، وكان مقرها الرئيسي في مستشفى سانتا ماريا نوفا. ولعل ليوناردو قد أتيحت له هناك بعض الفرص لدراسة التشريح الداخلي والخارجي معا. ولعله في تلك السنين قد رسم الصورة التي تعزى إليه إن كان هو الذي رسمها، وهي صورة القديس جيروم النحيلة، الدالة على معرفة بالتشريح، والموجودة بمعرض الصور في قصر الفاتيكان، واكبر الظن أنه هو الذي رسم قبيل عام 1474 الصورة الزاهية الألوان غير الناضجة وهي صورة البشارة الموجودة في معرض أفيزي.
واستدعى ليوناردو قبل عيد مولده الرابع والعشرين بأسبوع واحد
وثلاثة شبان آخرين للمثول أمام لجنة مشكلة من أعضاء مجلس السيادة في فلورنس لمحاكمتهم بتهمة اللواط. ولسنا نعرف ما تم في هذه المحكمة، ولكن التهمة تجددت في اليوم السابع من شهر يونيه عام 1456 وأمرت اللجنة بحبسليوناردو مدة قصيرة. ثم أطلقت سراحه وقالت إن التهمة غير ثابتة عليه (1). وما من شك في انه كان في هذا الصنف، ودليلنا على ذلك انه لم يكد يستطيع أن يفتتح لنفسه مرسما خاصا، حتى جمع حوله طائفة من الشبان الوسيمي الوجوه، كان يصحب بعضهم معه في هجرته من مدينة إلى مدينة، وكان يشير في مخطوطاته إلى هذا أو ذاك منهم بقوله "أحب أحبائي" أو "أعز أعزائي"(2). ولسنا نعرف ماذا كانت علاقاته الخاصة بأولئك الشبان، وفي مذكراته فقرات يفهم منها انه يكره الصلات الجنسية أيا كان نوعها
(1)
. ولقد كان من حق ليوناردو أن يرتاب في السبب الذي دعا إلى توجيه هذه التهمة علنا له نفر قليل غيره دون غيرهم من أن اللواط كان واسع الانتشار في إيطاليا وقتئذ، ولم يغفر قط لفلورنس ما أصابه من مهانة باعتقاله.
ويبدو أنه حمل المر على محمل أكثر جدية مما حملته عليه فلورنس. وعرض على ليوناردو بعد عام من هذه التهمة مرسم في حديقة آل ميديتشي. وقبله، ثم طلب إليه مجلس السيادة نفسه في عام 1478 أن يصور ستارا لمحراب معبد القديس برنار في قصر فيتشيو لكنه لسبب ما لم يقم بما عهد ايه، فأتخذه بدلا منه غرلندايو وأئمة فلبينولي، ومع هذا فإن مجلس السيادة عهد إليه بعد قليل من ذلك الوقت بعمل آخر: هو أن يقوم برسم صورتين - ولسنا نستطيع أن نصفهما بأنهما صورتان حيتان- لرجلين بالحجم
(1)
ولم يستشيطون غضبا بسبب الأشياء التي هي أجمل ما يسعى أليه، وبسبب تملكهم واستخدامهم أحط أجزاء الجسم
…
(3) إن عملية الاستيلاء والأعضاء التي تستخدم فيها لتدعو كلها إلى الاشمئزاز؛ ولولا جمال الوجوه، وزينة القائمين بها والغريزة المكبوتة لفقدت الطبيعة النوع البشري على بكرة أبيه.
الطبيعي شنقا في مؤامرة الباتسي على لورندسو وجوليانو ده ميديتشي. ولعل ليوناردو صاحب الولع السقيم ببشاعة الجنس البشري وآلامه قد شعر ببعض المتعة في هذا الواجب البشع البغيض.
لكنه والحق يقال كان مولعا بكل شيء، فقد كانت جميع أوضاع الجسم البشري وحركاته وسكناته، وجميع تعبيرات الوجه في الصغار والكبار على السواء، وجميع أعضاء الحيوان وأجزاء النبات وحركاتها من تماوج أعواد القمح في الحقول إلى طيران الطير في السماء، وجميع ما يتناوب على الجبال من تحات وارتفاع، وجميع التيارات والدوامات المائية والهوائية، وتقلبات الجو وظلاله، وبدائع السماء التي لا تبلى جدتها - كل هذه كانت تبدو له عجيبة غاية العجب، لا يُنقص التكرار من روعتها وغرابتها وأسرارها. حتى لقد ملأ آلاف الصفحات بملاحظاته عنها، ورسوم أشكالها التي لا تحصى. ولما طلب إليه الرهبان سان اسكوبيتو San Scopeto أن يرسم صورة لمعبدهم (1481)، رسم كثيرا من الصور المبدئية لعدد كبير من المعالم والأشكال أدت به إلى أن يضل في التفاصيل وأن يعجز عن إتمام صورة عبادة المجوس.
لكن هذه الصورة رغم هذا النقص من أعظم صوره. ذلك أن التصميم الذي بنيت عليه رسم على طراز هندسي دقيق روعي فيه فن المنظور مراعاة غاية الدقة، وقسمت فيه جميع الرقعة التي رسم عليها مربعات تنقص نقصا تدريجيا، فقد كانت نزعة ليوناردو الرياضية تنافس على الدوام نزعته الفنية، وكثيرا ما كانت تتعاون معها. لكن موهبة ليوناردو الفنية كانت وقتئذ قد تكونت ونمت، واتخذت صور العذراء الوضع والملامح التي احتفظت بها في جميع صوره إلى آخر حياته: كذلك صور المجوس تصويرا ينم عن فهم عظيم عجيب - في شاب مثله - لأخلاق الكبار من الناس وتعبيراتهم، وكانت صورة "الفيلسوف" التي في اليسار دراسة حالم مذهول بحق التفكير نصف المتشكك، كأن المصور قد أصبح
في هذه السن المبكرة ينظر إلى قصة المسيحية بروح الرجل المتشكك الكاره لتشككه، المؤمن الجاشع رغم هذا التشكك. وتجمعت حول هاتين الصورتين نحو خمسين صورة أخرى، كأنما هرع كل رجل وكل امرأة إلى هذا المهاد ليبحث فيه في شغف ونهم عن معنى الحياة، وعن بعض ضياء العالم، ثم وجد ضالته في طائفة لا حصر لها من المواليد.
وهذه الآية الفنية التي لم تتم، والتي كاد الزمان يذهب بمعالمها، معلقة الآن في معرض أفيزي بفلورنس، ولكن فلبيتولي هو الذي نفذ الرسم الذي ارتضاه الإخوان الإسكوبيتينيون. فقد كان طبع ليوناردو ومصيره اللذان لازماه إلى آخر أيام حياته إلا في حالات شاذة قليلة، هما أن يبدأ ما يريد عمله، ويرسم في عقله صورة له مسرفة في العظمة، ثم يضل في بيداء التجارب والتفاصيل، ثم ينظر فيما وراء موضوعه منظرا متناسقا بعيد المدى إلى أقصى حدود البعد من الصور البشرية، والحيوانية، والنباتية، والأشكال المعمارية، ومن الصخور، والجبال، ومجاري الماء، والسحب، والأشجار، يراها كلها في ضوء خفي من الظلال والقتام، وينهمك في فلسفة الصورة أكثر من انهماكه في تنفيذها وعملها، ويترك لغيره ما هو أقل من هذا من الواجبات نعني بذلك تلوين الأشكال التي رسمها على هذا النحو، ووضعها بحيث تكشف عن سرها ومعناها، ثم يتولى عنها في يأس بعد إجهاد طويل للجسم والعقل لما وجده من نقص في الصورة التي صاغتها يده من المادة التي لديه فلم ترق إلى ما رسمه لها في أحلامه.
الفصل الثاني
في ميلان
1482 -
1499
ولم يكن في الرسالة التي بعث بها ليوناردو وهو في سن الثلاثين إلى لدوفيكو نائب الملك في ميلان سنة 1482 شيء من التردد، أو الإحساس بضيق الوقت الذي لا يرحم، بل كل ما كانت تفصح عنه هو مطامع الشباب التي لا تقف عند حد، هي مطامع تغذيها قوى مطردة النماء. لقد نال كفايته من المقام في فلورنس، واشتدت رغبته في رؤية أماكن ووجوه جديدة. وكان قد سمع أن لدوفيكو في حاجة إلى مهندس حربي ومعماري، ومثال، ومصور، وقال في نفسه انه سيتقدم بهؤلاء جميعا مجتمعين في شخص واحد، ومن أجل هذا كتب رسالته الذائعة الصيت:
سيدي الأجل الأفخم: لقد اطلعت الآن اطلاعا كافيا على جميع البراهين التي يتقدم بها كل أولئك الذين يحسبون أنفسهم أساتذة في أدوات الحروب ومخترعيها، وأنعمت النظر فيها، فتبين لي أن اختراع هذه الآلات السالفة الذكر واستخدامها لا يختلفان في شيء عن الآلات والطرق التي تستخدم الآن. وقد جرأني هذا على أن أتصل بعظمتكم دون أن أبغي قط الإساءة إلى أحد غيري، لكي أكشف لكم عما عندي من الأسرار، ثم أعرض عليكم بعدئذ، إذا سركم هذا، أن اشرح لكم شرحا وافيا في الوقت الذي يوائمكم جميع الأمور التي أوجزها في هذه الرسالة:
1 -
عندي تصميمات للقناطر خفيفة، قوية تصلح للانتقال بسهولة
…
2 -
إذا حوصر مكان ما، فأني أعرف كيف أقطع الماء عن الخنادق، وكيف أقيم عددا لا يحصى من .... السلالم لتسلق الجدران وغيرها من الآلات
…
3 -
لدي طرق لصنع المدافع التي يسهل حملها، والتي يمكن بها إلقاء حجارة صغيرة بطريقة تضاهي نزول البرد
…
4 -
وإذا أتفق أن كانت المعركة تدور في البحر، فإني أعرف كيف أصنع كثيرا من الآلات التي تصلح كل الصلاحية لأغراض الهجوم والدفاع، والسفن التي تستطيع مقاومة نيران أثقل المدافع، والبارود والدخان.
5 -
ولدي أيضاً وسائل أستطيع بها الوصول إلى أماكن معينة بحفر الكهوف والطرق السرية الملتوية، أحفرها دون ضجيج ولو أستلزم ذلك المرور تحت الخنادق أو تحت نهر جار.
6 -
وأستطيع أيضاً صنع عربات مغطاة آمنة لا يمكن الهجوم عليها، تستطيع الدخول بين صفوف العدو المتراصة المزودة بالمدفعية؛ وليس ثمة فرق من الجنود المسلحين مهما عظمت قوتها لا تستطيع هذه العربات فوق من الجنود المسلحين مهما عظمت قوتها لا تستطيع هذه العربات تحطيما. وتستطيع فرق المشاة أن تزحف خلف هذه العربات دون أن تصاب بأذى ودون أن يستطيع العدو مقاومتها.
7 -
كذلك أستطيع إذا دعت الحاجة أن أصنع المدافع، ومدافع الهاون، والمدافع الخفيفة، بأشكال غاية في الجمال والمنفعة، تختلف كل الاختلاف عما هو مستعمل منها الآن.
8 -
وحيث يتعذر استخدام المدافع أستطيع أن أمدكم بمجانيق، ومنغوليات، وقذافات
(1)
وغيرها من الآلات ذات القوة العجيبة، وليست شائعة في الوقت الحاضر. وقصارى القول أني أستطيع أن أزودكم في مختلف الظروف التي تدعو إليها الحاجة بعدد لا يحصى من آلات الهجوم والدفاع المختلفة الأنواع.
9 -
واعتقادي أنني أستطيع في وقت السلم أن أرضيكم
(1)
آلات حربية قديمة كانت تستخدم لقذف الحجارة والقذافات آلات لرمي الحجارة.
بقدر ما يرضيكم أي إنسان غيري في فن العمارة، وفي إنشاء المباني العامة والخاصة، وفي نقل الماء من مكان إلى مكان.
10 -
أستطيع فوق ذلك أن أصنع التماثيل من الرخام أو الصلصال، كما أستطيع التصوير بحيث لا يقل عملي فيه عن عمل أي إنسان آخر مهما يكن شأنه.
وسأقوم فضلا عن هذا بعمل الحصان البرنزي الذي سيضفي مجدا خالدا وشرفا أبديا على الذكرى الطيبة للأمير والدكم وعلى بيت اسفوردسا العظيم.
واذا ما بدا لأي إنسان أن أحد الأشياء السابقة مستحيل أو غير عملي، فإني أعرض استعدادي لتجربته في حديقتكم أو في أي مكان ترون عظمتكم أن أجربه فيه، وأتقدم لكم بأعظم آيات الخضوع والولاء.
ولسنا نعرف بماذا أجاب لدوفيكو عن هذه الرسالة، ولكننا نعرف أن ليوناردو وصل ميلان في عام 1482 أو في عام 1483 وانه سرعان ما وجد طريقه إلى قلب "المغربي". وتقول إحدى القصص إن لورندسو قد بعثه إلى لدوفيكو ليقدم إليه عودا موسيقيا جميلا هدية منه يستجلب بها رضاه، وتقول قصة أخرى انه فاز في ميلان في مباراة موسيقية، وانه لم يفز فيها بسبب إحدى القوى التي دعاها لنفسه "بأعظم آيات الخضوع والولاء" بل فاز بصوته الموسيقي وحديثه الطلي، وبالنغمات الحلوة التي كانت تنبعث من العود الذي صنعه بيده على شكل رأس حصان (5). ويبدو أن لدوفيكو حين قبله عنده لم يضعه في المنزلة التي قدر هو بها نفسه، بل قبله على انه شاب نابه- قد يكون أقل نبوغا في العمارة من برامنتي، ولم يكسب من التجارب ما يكفي لأن يعهد إليه بأعمال الهندسة العسكرية، ولكنه يستطيع أن يعد الحفلات المقنعة في البلاط، والمواكب في المدينة، ويزخرف ثياب الزوجة أو العشيقة أو الأميرة، وينقش الرسوم على الجدران، ويرسم الصور الملونة، وربما استطاع أن يحفر القنوات لتحسين وسائل الري في
سهل لمباردي. ويسوؤنا أن نعلم أن هذا الرجل صاحب العقل الواسع المتعدد الكفايات قد أضطر أن ينفق الوقت الثمين الذي لا يعوض في صنع أحزمة غريبة الشكل لزوجة لدوفيكو الحسناء بيتريس دست، وبضع نماذج لأثواب المثاقفة والحفلات، وينظم المواكب، أو يزين الإسطبلات، غير أن الفنان في عصر النهضة كان ينتظر منه أن يعمل هذه الأشياء كلها في الفترات التي لم يكن يشتغل فيها برسم صور مريم العذراء؛ وقد اشترك برامنتي نفسه في سخافات البلاط، ومن يدري لعل ما في طباع ليوناردو من أنوثة قد حبب إليه رسم الثياب والحلي، وما في طباعه من رقة الفارس المهذب قد جعله يستمتع بتصوير الخيل السريعة العدو على جدران الإسطبلات، وقد زين حجرة القصر استعداداً لزواج بيتريس، وأنشأ للعروس حماما خاصا، وأقام في الحديقة ظله جميلة لمتعتها الصيفية، ونقش حجرات أخرى لحفلات القصر، ورسم صورا ملونة للدوفيكو وبيتريس، وأبنائهما، وصورا غيرها لتشيتشيليا جلرينى، ولكريدسيا كريفلي عيشيقتي لدوفيكو. وقد ضاعت هذه الصورة كلها إلا إذا كانت صورة فرونيبر الحسناء المحفوظة في متحف اللوفر هي بعينها لكريدسيا. ويصف فارساي صور الأسرة بأنها "غاية في الإبداع"، وقد ألهمت صورة لكريدسيا أحد الشعراء قصيدة خماسية يمدح بها جمال هذه السيدة ويثنى فيها على مهارة الفنان (6).
وربما كانت تشيتشيليا هي النموذج الذي رسم منه ليوناردو صورة عذراء الصخور. وقد تعاقدت معه على هذه الصورة (1483) الجماعة المعروفة باسم أخوة الحمل Confraternity of the Conception لتكون في وسط ستار المحراب لكنيسة فرنتشيسكو. وقد أشترى الصورة الأصلية فيما بعد فرانسيس الأول وهي الآن في متحف اللوفر. وإذا ما وقف الإنسان أمامها طالعه وجه الأمومة الرقيق الذي أستعمله ليوناردو أكثر من عشر مرات فيما رسمه من الصور بعد ذلك الوقت؛ وأبصر صورة الملك تذكره
بمثيلته في صورة تعميد المسيح لفيروتشيو؛ وطفلين أبدع تصويرهما، وفي خليفة الصورة صخور معلقة بارزة لا يتصور أحد غير ليوناردو أنها كانت مسكن مريم العذراء. وقد عدا الزمان على الألوان فجعلها قائمة، ولكن لعل الفنان نفسه أراد أن يكون لها هذا الأثر القائم، وأنه خضب صورته بجو مغبر يسميه الإيطاليون "المدخَّن sfumato". وهذه الصورة من أروع صور ليوناردو، ولا يعلو عليا إلا صورة العشاء الأخير، وموناليزا، وصورة العذراء والطفل والقديسة آن.
وصورتا العشاء الأخير وموناليزا أشهر الصور على الإطلاق في العالم كله، ونرى الناس يحجون ساعة بعد ساعة، ويوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، إلى حجرة الطعام حيث توجد أعظم مفاخر ليوناردو. ففي ذلك البناء المستطيل المتواضع كان الرهبان الدمنيك المتصلون بكنيسة لدوفيكو المحببة- سانتا ماريا دل جرادسي- يتناولون طعامهم. فلما جاء الفنان إلى ميلان طلب إليه لدوفيكو بعد وقت قليل من وصوله أن يرسم صورة العشاء الأخير على أبعاد جدار في المطعم. وظل ليوناردو ثلاث سنين (1495 - 1498) يكدح أو يلهو بالعمل في فترات متقطعة؛ كان الدوق والرهبان في أثنائها يظهرون تأففهم من تباطؤه الذي لا آخر له. وقد شكا رئيس الدير إلى لدوفيكو- إذا صح أن نصدق فاساري- من تباطؤ ليوناردو البادي للعيان، وأبدى عجبه من أنه كان في بعض الأحيان يجلس أمام الجدار ساعات طوالاً لا يمسه فيها. ولم يجد ليوناردو صعوبة ما في أن يفهم الدوق أن أهم ما في عمل الفنان هو تصور الفكرة لا تنفيذها، وأن "العباقرة" حسب تعبير فاساري "ينتجون أكثر إنتاجهم حين لا يقومون إلا بأقل الأعمال". واقتنع الدوق بهذا التفسير ولكنه وجد من الصعب عليه أن يشرح لرئيس الدير. وقال ليوناردو للدوفيكو أنه يواجه في هذه الحالة صعوبتين بنوع خاص- أولهما أن يفكر في الملامح الخليقة بابن الله؛
وأن يصور إنساناً لا قلب له مثل يهوذا الأسخريوطي؛ ولعله قد أشار في دهاء إلى أنه قد يتخذ وجه رئيس الدير الذي يسرف في التردد عليه نموذجاً لوجه الأسخريوطي هذا
(1)
. وكان ليوناردو يطوف أنحاء ميلان بحثاً عن الرءوس والوجوه التي يستخدمها لتمثيل الرسم، وقد أختار من بين المئات الذين عثر عليهم الملامح التي مزجها في مصهر فنه حتى أخرج منها تلك الرءوس الانفرادية التي جعلت آيته الفنية موضع إعجاب العالم. وكان في بعض الأحيان يهرول من الشارع أو من رسمه إلى المطعم، ويضيف ضربة أو ضربتين إلى الصورة، ثم يعود من حيث أتى (8).
وكان موضوع الصورة جليلا فاخرا، ولكنه كان ممن وجه نظر الفنان محفوفا بالمخاطر. ذلك انه لابد أن يقتصر على صور الذكور، وعلى منضدة متواضعة في حجرة بسيطة، ويجب أن لا تتعدى المناظر الطبيعية الحقيقية أو المتخيلة أشدها قتاما، وألا يشتمل على شيء من ظرف النساء يضعف من قوة الرجال. ولم يكن يستطيع أن يدخل في الصورة من الأعمال الواضحة ما يبعث على الحركة ويشعر بالحياة. على أن ليوناردو قد أخل قدرا ضئيلا من المناظر الطبيعية يبصرها الرائي من خلال النوافذ التي رسمها خلف صورة المسيح، ثم استبدل بالعمل والحركة صورة الاجتماع الذي عقد في اللحظة الحاسمة التي تنبأ فيها المسيح بأن أحد الرسل سيغدر به، فيسأله كل واحد منهم في خوف وهلع أو في دهشة وذهول:"أأنا هو؟ ". وقد كان في وسع ليوناردو أن يختار موضوع العشاء الرباني؛ ولكن هذا كان من شأنه أن يجمد ثلاثة عشر وجها كلها فيجعل منها صورة موحدة رزينة عديمة الحركة. أما هذا الموضوع ففيه أكثر من الحركة الجسمية
(1)
وقد لا تكون هذه القصة إلا خرافة، وليس لنا مرجع نعتمد عليه فيها إلا فاساري، لكننا من جهة لا نجد شاهداً على عدم صحتها إلا رواية إن صورة العشاء الأخير ليس فيها ما يشبه معالم الأحياء من الرجال.
العنيفة، فيه روح باحثة متقصية، وفيه وحي وإلهام، ولم يكشف قط فيما بعد فنان في صورة واحدة عن مثل هذا العدد الجم من النفوس. وقد أعد ليوناردو للرسل عددا لا يحصى من الرسوم المبدئية التخطيطية، بعضها- كصورة يوحنا الأكبر، وفيليب، ويهوذا الأسخريوطي- رسوم بلغت من الرقة والقوة درجة لا تضارعها إلا رسوم رمبرانت Rembrandt وميكل أنجلو. ولما أراد ليوناردو أن يتخيل ملامح المسيح، وجد أن الرسل قد استنفذوا مصادر إلهامه كلها، ويقول لوماتسو Lomazzo ( وقد كتب في عام 1557) إن دسينالي Zenale صديق ليوناردو القديم أشار عليه بأن يترك وجه المسيح ناقصا وقال له:"إن من المستحيل حقا أن يتصور الإنسان وجوها أجمل وأرق من وجه يوحنا الأكبر أو يوحنا الأصغر. فارض إذن بسوء حظك، وأترك مسيحك ناقصا لأنك لو أتمتته لما كان إذا قورن بوجوه الرسل منقذهم أو سيدهم"(9). وعمل ليوناردو بهذه النصيحة، ورسم هو أو أحد تلاميذه رسما تخطيطيا لرأس المسيح (هو الآن في معرض بريرا Brera) ؛ ولكنه يمثل حزنا واستسلاما خليقين بالنساء، بدل أن يمثل العزيمة التي دبت في هدوء في قلب جشمان Gethsemane، ولعل ليوناردو يعوزه التقي وتعظيم المقدسات، ولو أنهما كانا له وأضفيا إلى حسه المرهف، وعمق تأثره، وحذقه لجاءت صورته أقرب إلى الكمال.
وإذ كان ليوناردو مفكرا وفنانا معا، فقد كان يتجنب التصوير على الجص لأنه في اعتقاده لا يتفق مع التفكير بحال. ذلك أن التصوير على المواد الطرية وعلى الجص الموضوع توا لابد أن يكون سريعا قبل أن يجف. وكان ليوناردو يفضل التصوير الزلالي
(1)
على جدار جاف- أي التصوير بألوان ممزوجة بمادة هلامية، لأن هذه الطريقة تتيح له فرصة التفكير والتجربة. غير أن هذه الألوان لا تلتصق بقوة على السطح الذي توضع
(1)
بألوان داخلها الزلازل بدل الزيت. (المترجم)
فوقه، ولهذا فإن الطلاء بدأ يتقشر ويتساقط في أثناء حياة ليوناردو نفسها؛ دع عنك تأثير رطوبة المطعم وغمره بمياه المطر من حين إلى حين. وكانت الصورة حين شاهدها فاساري في عام 1536 قد بدأت تفقد معالمها، ولما أن رآها لوماتسو Lomazzo بعد ست سنين من إتمامها كان التلف قد بلغ منها مبلغا لا يستطاع إصلاحه. وعجل الرهبان هذا التلف فيما بعد بأن شققوا بابا إلى المطبخ بين أرجل الرسل (1656). أما النقوش المحفورة التي تمثل هذه الصورة والمنتشرة في جميع أنحاء العالم فلم تؤخذ عن الأصل الذي تلف، بل أخذت من صورة له غير متقنة رسمها ماركو دجيونو Marco d'Oggiono أحد تلاميذ ليوناردو. وكل ما نستطيع دراسته منها في هذه الأيام هو تأليفها وخطوطها الخارجية العامة، أما ظلالها ودقائقها فإن دراستها من أصعب الأشياء. وأيا كانت عيوب الصورة حين فرغ منها ليوناردو، فقد أدرك بعضهم لساعته أنها أعظم صورة أخرجها فن النهضة حتى ذلك الوقت.
وكان ليوناردو في هذه الأثناء قد عهد أليه عمل آخر يختلف عن ذلك العمل السالف الذكر كل الاختلاف ويزيد عليه صعوبة. ذلك أن لدوفيكو كان يتوق من زمن بعيد إلى أن يخلد ذكرى أبيه فرانتشيسكو اسفوردسا بتمثال لفارس يضارع تمثال جتاميلاتا Gattamelata الذي صنعه دوناتيلو في بدوا، وتمثال كليوني لفيروتشيو في البندقية، وأثارت هذه الرغبة مطامع ليوناردو؛ فشرع يدرس تشريح الجواد، وحركاته، وطبيعته، ورسم لهذا الحيوان مائة صورة تخطيطية، كلها تقريباً ذات نشاط وتخطيط. وسرعان ما أنهمك في صنع نموذج له من الجص؛ ولما طلب إليه بعض سكان بياتشندسا أن يدلهم على الفنان ليصمم لهم أبواباً من البرنز لكنيستهم الكبرى ويصبها، كبت لهم رداً نستبين منه خصائصه المميزة له يقول فيه: "ليس ثمة من يستطيع القيام بهذا العمل غير ليوناردو الفلونسي، الذي يصنع الآن الجواد البرونزي للدوق فرانتشيسكو؛ وليس بكم حاجة إلى أن
تدخلوه في حسابكم، لأن لديه من الأعمال ما يشغله طول حياته؛ واعتقادي أن هذا العمل يبلغ من الفخامة درجة لا يستطيع معها أن يتمه" (10). وكانت هذه الفكرة نفسها تراود أيضاً لدوفيكو في بعض الأوقات، وكان يطلب إلى لورندسو أن يستدعي فنانين آخرين ليتموا العمل (1489)؛ ولم يكن لورندسو كما لم يكن ليوناردو، يظن أن ثمة إنسان أجدر بذلك من ليوناردو نفسه.
وأخيراً تم النموذج الجصي (1493)، ولم يبقى إلا أن يصب التمثال من البرونز. وعرض النموذج على الجمهور في شهر نوفمبر من ذلك العام تحت قوس يزدان به موكب عرس بيانكا مارية ابنة لدوفيكو. ودهش الناس من ضخامة حجمه وروعته؛ فقد كان الحصان وراكبه يعلوان في الجو ستاً وعشرين قدماً، وأنشأ الشعراء قصائد يتغنون فيها بمدحه، ولم يكن أحد يشك في أن التمثال حين يصب سيفوق في قوته ومطابقته للحياة آيات دوناتيلو وفيروتشيو. ولكنه لم يصب، ويلوح أن لدوفيكو لم يكن في غنى عن المال الذي يبتاع به الخمسين من أطنان البرنز اللازمة له. ولذلك ترك النموذج في العراء، وأخذ ليوناردو يشغل نفسه بالفن والغلمان، والعلم والتجارب، والأدوات الآلية والمخطوطات؛ ولما استولى الفرنسيون على ميلان عام 1499 اتخذ رجالهم الجواد والحصى هدفاً لهم وحطموا قطعاً كثيرة منه، وأبدى لويس الثاني عشر في عام 1500 رغبته في أن ينقله على عربة إلى فرنسا غنيمة حربية له، ثم لا نعود نسمع عنه بعد ذلك.
وحطم هذا الإخفاق العظيم أعصاب ليوناردو وهد قواه إلى حين، ولعله قد أفسد علاقته بالدوق؛ ولم يكن لدوفيكو عادة يضن على فنانه بالمال، ودهش أحد الكرادلة حين عرف أن ليوناردو أعطى ألفي ودقية (25. 000 دولار؟) في عام من الأعوام فضلا عن غيرها من الهدايا والامتيازات (11) ولهذا كان يعيش عيشة الأرستقراطي: فكان عنده عدة
صبيان يتدربون على العمل، وكثيرون من الخدم، والأتباع، والجياد، وكان يستأجر الموسيقيين، ويلبس الحرير والفراء، والقفازات المزركشة، والأحذية الجلدية ذات الأشكال الغريبة. وكان ينتج أعمالاً لا تقدر بمال، ولكن يبدو أنه كان في بعض الأحيان يبعث بالمهام التي يعهد بها إليه، أو ينقطع عنها ليشتغل ببحوثه الخاصة وبالتأليف في العلم، والفلسفة، والفن. ومل لدوفيكو آخر الأمر تباطؤه فاستدعى بروجينو في عام 1497 ليزين له بعض الحجرات في قصره؛ غير أن بروجينو تعذر عليه المجيء، وتولى ليوناردو العمل، ولكن هذا الحادث حز في نفس الرجلين. وحدث حوالي ذلك الوقت أن حلت بلدوفيكو ضائقة مالية من جراء نفقاته الدبلوماسية، والنفقات العسكرية، فتأخر في أداء مرتب ليوناردو. وظل ليوناردو يقوم بنفقاته الخاصة ما يقرب من عامين، ثم بعث إلى لدوفيكو ليذكره بمطلوبه (1495). واعتذر لدوفيكو اعتذاراً كريماً، ثم وهب ليوناردو بعد عام من ذلك الوقت كرمة يتخذها مورداً لرزقه. وكان كيان لدوفيكو السياسي لذلك في ذلك الوقت يتحطم فوق رأسه؛ فقد استولى الفرنسيون على ميلان، وفر لدوفيكو، وألفى ليوناردو نفسه حراً ولكنه متعب غير مطمئن.
ورأى أن ينتقل إلى مانتوا (ديسمبر عام 1499)، حيث رسم صورة رائعة لإزبلا دست، ولكنها طلبت إلى زوجها أن يتخلى عنها. وكان ذلك أول مرحلة خطئها هذه الصورة في طريقها إلى متحف اللوفر. ولم يستسيغ الفنان هذا الفعل، فغادر المدينة إلى البندقية؛ وأدهشه فيها جمالها الفخم، ولكنه وجد ألوانها الزاهية، وزخارفها القوطية- البيزنطية متلألئة براقة أكثر مما يطيقه ذوقه الفلورنسي، فعاد أدراجه إلى المدينة التي قضى فيها أيام صباه.
الفصل الثالث
فلورنس
1500 -
1501، 1503 - 1506
وكان في الثامنة والأربعين من العمر حين حاول أن يمسك مرة أخرى بحبل الحياة الذي قطعه قبل ذلك بسبعة عشر عاماً. وكان وقتئذ قد تبدل، وتبدلت فلورنس أيضا، ولكنه سار في طريق غير الذي سارت فيه هي. فأما فلورنس فقد أصبحت في أثناء غيابه جمهورية نصف ديمقراطية من الوجهة السياسية ونصف متزمتة من الوجهة الدينية، وأما هو فقد أعتاد حكم الدوق وترف الأرستقراطية وأساليبها الناعمة. وأخذ أهل فلورنس، وهم الناقدون على الدوام، ينظرون شزراً إلى حريره ومخمله، والى ظرف آدابه، واتباعه من الشبان ذوي الشعر المعقوص. وكان ميكل أنجيلوا وقتئذ أقل منه باثنين وعشرين عاما، ولم تكن تعجبه ملامحه الجميلة التي تختلف كل الاختلاف عن أنفه المحطم، وكان وهو الفقير المعدم يعجب من أين يجد ليوناردو المال الذي يحيا به تلك الحياة الرخية؛ وكان ليوناردو قد اقتصد ستمائة دوقة في الأيام التي قضاها في ميلان، ورفض الآن عروضا كثيرة حتى التي جاءته من مركيزة مانتوا، ولما بدأ يعمل مرة أخرى كان يعمل متباطئا كعادته.
وكان الرهبان السرفيون قد استخدموا فلبينولي ليرسم ستار محراب لكنيسة البشارة Annunziato، وأظهر ليوناردو عرضا رغبته في أن يقوم بمثل هذا العمل، وكان فلبينو كريما إذ تخلى عن هذه المهمة للرجل الذي كان يراه الناس عامة أعظم المصورين في أوربا، وجاء الرهبان السرفيون بليوناردو وأسرته ليعيشوا في الدير، وتكلفوا بنفقاتهم في المدة التي بدت لهم جد طويلة، ثم حدث في يوم من عام 1501 أن كشف الغطاء
عن الرسم التمهيدي لصورة العذراء والطفل والقديسة آن والطفل يوحنا ((فأعجب بها أشد العجب كل من رآها)) كما يقول فرساي ((ولما علقت
…
هرع إليها الناس عامة، رجالا ونساء، شيبا وشبانا من كل فج، وظلوا يفدون إلى الدير يومين كاملين ليشاهدوها، كأنهم في أيام عيد، وأثارت عظيم دهشتهم وإعجابهم)). ولسنا نعرف أكانت هذه هي الصورة الكاملة الحجم التي هي الآن أحد كنوز مجمع الفنون الملكي في بيت بيرلنجتن Burlington House بلندن. والراجح أنها هي، وإن كان الثقات الفرنسيون (12) يرون إنها هي الشكل الأول للصورة المحفوظة في اللوفر، والتي تختلف عنها كل الاختلاف. وإن الابتسامة التي تنم الكبرياء والرقة والتي يتلألأ بها وجه العذراء في الرسم التمهيدي وتجمله لهي من معجزات ليوناردو بحق، وإذا قيست بها ابتسامة موناليزا بدت هذه الابتسامة أرضية ساخرة، بيد أن هذه الصورة لم تكن من الصور الناجحة، وإن كانت من أعظم ما صور في عهد النهضة. ذلك أن في مقام العذراء القلق فوق ساقي أمها الممتدتين بعض ما تشمئز منه الأنفس وما ينم عن ذوق سقيم. ويلوح أن ليوناردو قد أهمل هذا الرسم التمهيدي إلى الصورة التي طلبها الرهبان، فكان لا بد لهم أن يلجئوا إلى لبي من جديد، ثم إلى بروجينو ليصور لهم ستار المحراب؛ ولكن ليوناردو سرعان ما رسم صورة العذراء، والقديسة آن والطفل يسوع المحفوظة في متحف اللوفر، ولعله قد رسمها من صورة معدلة من الرسم التمهيدي للصورة في بيت بيرلنجتن. وكانت هذه الصورة نصرا فنيا مؤزرا. من رأس آن المزين بالجواهر إلى قدمي مريم العاريتين عريا مخزيا والجميلتين جمالا ربانيا. وهنا وصل التقسيم إلى مثلثات الذي اخفق في الصورة التمهيدية ذروة النجاح؛ فرؤوس آن، مريم، والطفل، والحمل تكون هي الأربع جانبا واحدا عظيم الثراء، والطفل وجدته يحدقان في كلف إلى مريم، وأثواب النساء
التي لا نظير لها في الثياب تملأ الفراغ الذي بين أجزائها، وقد لطف القتام الذي هو من خصائص فرشاة ليوناردو وجميع الخطوط الخارجية للصورة كما تلطفها الظلال في الحياة الواقعية. ولقد كانت الابتسامة الليوناردية التي طبعها على فم مريم في الصورة التمهيدية، ولكنه طبعها على فم آن في الصورة الملونة، هي الطراز الذي سار عليه أتباع ليوناردو نصف قرن من الزمان.
ثم انتقل ليوناردو من هذه الدعوات الرقيقة ذات النشوة الدينية الصوفية ليعما مهندسا عسكريا في خدمة سيزارى بورجيا (يونية 1502)؛ ذلك أن بورجيا كان وقتئذ قد بدأ حملته الثالثة في الرومانيا Romagna، وكان في حاجة إلى رجل يستطيع رسم الخرائط التخطيطية، وبناء الحصون وتجهيزها، وإقامة الجسور على الأنهار أو تحويل مجراها، واختراع أسلحة الهجوم والدفاع، ولعله قد سمع عن الآراء التي عبر عنها ليوناردو عن آلات الحرب أو صورها بها. فقد كان فيها مثلا رسم لعربة مدرعة أو دبابة يحرك عجلاتها الجنود من داخل جدرانها، وكتب ليوناردو يقول ((أن هذه العربات تحل محل الفيلة
…
ففي وسع الإنسان أن يطعن بها، وفي وسعه أن يمسك بها بمنافيخ يروع بها خيول العدو، وفي وسعك أن تضع فيها جنودا مسلحين بالبنادق القصيرة تحطم بها كل سرية)) (12). وفي مقدورك، كما يقول ليوناردو أن تضع مناجل فتاكة على جانبي المركبة، ومنجلا دوارا أشد منها فتكا على عمود بارز إلى الأمام، وهذه كلها تحصد الرجال حصد الهشيم (14). أو تستطيع أن تجعل عجلات المركبة تدير جهازا يلقى بالقذائف الحديدية المهلكة في الجهات الأربع (15). وفي وسعك أن تهاجم حصنا بأن تضع جنودك تحت غطاء واق، وأن تصد المحاصرين بأن تلقي عليهم زجاجات ملأى بالغاز السام (17). وقد فكر ليوناردو في وضع ((كتاب يبين كيف تصد الجيوش بقوة الفيضان الناشئ من إطلاق المياه)) وكتاب يبين كيفية إغراق الجيوش بسد منافذ المياه التي تجري في
الوديان (18) ووضع تصميما لأدوات تقذف بطريقة آلية وابلا من السهام من سطح دوار، ولرفع المدافع على العربات، وإسقاط سلم مزدحم بقوة محاصرة تحاول تسلق الجدران (19). واغفل بورجيا معظم هذه الأدوات لأنه ظنها غير عملية، واكتفى بتجربة واحدة منها أو اثنتين في حصار تشري Ceri عام 1503، ولكنه مع ذلك أصدر هذه البراءة:
إلى جميع عالمنا، وحكام قلاعنا، وضباطنا، ورؤساء الجنود المرتزقون، والموظفين، والجنود، والرعية. نلزمكم جميعا ونأمركم بأن حامل هذا خادمنا الممتاز الذي نوليه أعظم حبنا، ومهندسنا المعماري، وكبير مهندسينا ليوناردو دافنشي - الذي عيناه للتفتيش على قلاعنا ومعاقلنا في أملاكنا، حتى نستطيع أن نمدها بما هي في حاجة إليه حسب ما يشير علينا به - نلزمكم ونأمركم أن تيسروا له الانتقال الذي لا يتحمل فيه أية مشقة أو يطلب إليه فيه أداء فريضة ما، وأن يلقى منكم هو ومن معه الترحيب الودي، وأن تكون له الحرية التامة في أن يطلع، ويختبر، ويقيس بأعظم الدقة كل ما يرغب فيه. وعليكم أن تقدموا له العون بالعدد الذي يرغب فيه من الرجال ليتمكن من تحقيق هذه الغاية، وأن تمدوه أنتم بكل ما في وسعكم من معونة وتكرموه غاية الأكرام. وإن إرادتنا لتقتضي أن يحتم على كل مهندس أن يتصل به ويعمل بمشورته في كل ما يقوم به من الأعمال في جميع أملاكنا (20).
وكتب ليوناردو كثيرا، ولكنه قلما كتب عن نفسه. ولق كنا نود أن نعرف رأيه في بورجيا، وأن نضعه إلى جانب رأي الرسول الذي بعثه فلورنس إلى سيزاري في ذلك الوقت - نعني نقولو مكفيلي. ولم استطعنا لأضاء لنا رأيه كثيرا مما خفي علينا في الرجل. غير أم كل ما نعرفه أن ليوناردو زار إمولا Imoia، وفائندسا، وفلورلي، ورافنا، وريميني، وبسارو، وأربينو، وبروجيا، وسينا، وغيرها من المدن، وأنه كان في
سنجاليا Sinigallia حين اقتنص سيزاري وخنق فيها أربعة من الضباط الخونة، وانه قدم إلى سيزارى ست خرائط كبيرة لإيطاليا الوسطى، بين فيها اتجاه المجاري المائية، وطبيعة الأرض وتضاريسها، والمسافات التي بين النهار، والجبال، والحصون، والبلدان. ثم عرف فجأة أن سيزاري موشك على الموت في رومة، وأن إمبراطوريته آخذة في الانهيار، وأن أحد أعداء آل بورجيا في طريقه إلى العرش البابوي. وولى ليوناردو وجهه مرة أخرى نحو فلورنس (إبريل 1503) بعد أن أخذ عالم العمل يبتعد عنه.
وفي شهر أكتوبر من ذلك العام عرض بيترسدريني رئيس حكومة فلورنس على ليوناردو وميكل أنجيلو أن يرسم كلاهما صورة جدارية في بهو الخمسمائة الجديد في قصر فيتشيو. وقبل كلاهما العرض، وكُتب معهما عقدان دقيقان غاية الدقة، وذهب كل منهما إلى مرسم خاص به ليرسما صورتيهما التمهيديتين. وكان الذي طلب إليهما أن يصور كل منهما بعض انتصارات جيوش فلورنس: فيصور أنجيلو معركة في الحرب مع بيزا، ويصور ليوناردو انتصار فلورنس على ميلان عنيد أنغياري Anghiari. وأخذ أهل فلورنس المتيقظون المتحفزون يتتبعون هذا العمل كأنه مباراة بين المجالدين، وثار النقاش الحاد بين المتنافسين وأساليبهما، وظن أحد المراقبين أنه إذا تفوقت إحدى الصورتين على الأخرى تفوقا حاسما، فإن هذا التفوق سيقرر للمصورين فيما بعد هل ينهجون نهج ليوناردو ويتبعون نزعته نحو الرقة والتمثيل الدقيق للمشاعر، أو يهيمون كما يهيم ميكل أنجيلو بالعضلات الضخمة والقوة الشيطانية.
ولعل هذا هو الوقت - ونقول لأن الحادث الذي سنرويه ليس له تاريخ - لعل هذا هو الوقت الذي أطلق اصغر الفنانين العنان لحقده على ليوناردو فأهانه إهانة سافرة، وتفصيل ذلك أن بعض الفلورنسيين كانوا
يناقشون في أحد الأيام فقرة من المسلاة الإلهية في بياتسا سانتا ترينيتا Piazza Santa Trinita. وشاهدوا في أثناء النقاش ليوناردو مارا بهم فأوقفوه وسألوه أن يشرح لهم. وظهر ميكل أنجيلو في هذه اللحظة، وكان معروف عنه أنه قد درس دانتي دراسة متقنة. فقال ليوناردو:((هاهو ذا ميكل أنجيلو، وسيشرح لكم هذه الأشعار)). وظن هذا الجبار الشقي أن ليوناردو يسخر في غضب وازدراء: ((أشرحها أنتك يا من صنعت نموذجا لجواد يصب من البرنز ثم عجزت عن صبه، وتركته دون أن تتمه، فيا للعار: وقد ظنت ديكة ميلان الخصبة أن في طاقتك أن تنجزه)) ويقال إن ليوناردو احمر وجهه خجلا، ولكنه لم ينبس ببنت شفة، وسار ميكل أنجيلو في طريقه وهو يكاد يتمزق من الغيظ (21).
وأعد ليوناردو صورته التمهيدية بعناية فائقة، فزار موضع المعركة في أنغياري وقرأ التقارير التي كتبت عنها، ورسم عدة صور تخطيطية للخيل والرجال في معمعان القتال أو في حشرجة الموت، وأتيحت له وقتئذ، ما لم يتح له إلا قليلا في ميلان، فرصة إدخال الحركة على فنه، فأفاد منها أكبر فائدة من هول منظره. ذلك أن أحدا من أهلها لم يكن يظن أن أرق الفنانين في فلورنس يستطيع أن يتخيل أو يصور هذه المذبحة الوطنية. ولعل ليوناردو قد أفاد في هذا العمل من تجاربه في حملات سيزارى بورجيا، فاستطاع أن يعبر في صورته عن الأهوال التي ربما رآها أو استخرجها من عقله. ولم يحل شهر فبراير من عام 1505 حتى كان قد فرغ من صورته التمهيدية وشرع يرسم صورته الوسطى - معركة الأعلام - في بهو الخمسمائة.
ولكن شرع الرجل الذي درس الطبيعة والكيمياء والذي لم يكن قد عرف بعد مصير صورة العشاء الأخير وقع مرة أخرى في خطأ موبق. ذلك أنه كان يجري بعض التجارب التي تستخدم فيها الحرارة، ورأى أن يثبت الألوان
في الجدار المجصص بالحرارة المنبعثة من موقد على الأرض. وكانت الحجرة رطبة، والشتاء شديد البرودة، فلت تعلو الحرارة علوا كافيا، ولم يمتص الجص الطلاء، وبدأت الألوان التي في أعلى الجدار تسيل، ولم يفلح ما بذله من مجهود جبار في أن يمنع التلف. ونشأت في هذه الأثناء صعاب مالية، فلم يؤجره مجلس السيادة أكثر من خمسة عشر فلورينا (188؟ دولارا) في الشهر، وهو مبلغ ضئيل ينقص كثيرا عن المائة والستين أو نحوها التي كانت مخصصة له في ميلان. ولما أن عرض عليه موظف قليل الكياسة أن يؤدي له أجرة نحاسية رفضها ليوناردو، وترك العمل مجللا بالعار مفعما باليأس، وكل ما كان له من سلوى قليلة هو أن ميكل أنجيلو لم يرسم صورة ملونة بعد أن أتم صورته التمهيدية، لأنه قبل دعوة البابا يوليوس الثاني بالقدوم إلى روما ليقوم بها ببعض الأعمال. وهكذا أخفقت المباراة العظمى إخفاقاً يؤسف له، وكان من أثره أن فلورنس أصبحت حاقدة على أعظم فنانين في تاريخها كله.
وقضى ليوناردو في العمل فترات متقطعة من 1503 إلى 1506 رسم فيها صورة موناليزا أي السيدة إلزبتا الزوجة الثالثة لفرنتشيسكو دل جيوكندو الذي صار عضوا في مجلس السيادة في عام 1512. ولعل طفلا من أبناء فرانتشيسكو دفن في عام 1499 كان من أبناء إلزبتا هذه، ولربما كانت هذه الفاجعة من أسباب الملامح الجدية الحزينة الكامنة وراء بسمات صورة جيوكندا La Gioconda. ةفي وسعنا أن نتبين الروح التي أقبل بها على هذه الصورة الفاتنة التي أمتزج فيها التصوير بالفلسفة، إذا علمنا أن ليوناردو أستدعى صاحبتها إلى مرسمه مرارا كثيرة في هذه السنوات الثلاث، وأنه قد سخر في رسم صورتها جميع أسرار فنه وما فيه من تدرج غير محَس، فيخلع عليها في رقة الضوء والظلال، ويحيطها بمنظر خيالي خلاب من الشجار والمياه، والجبال والسماء، ويكسوها أثوابا من المخمل والساتان،
ذات الطيات كل طية فيها في حد ذاتها آية فنية رائعة، ويدرس بعناية عاطفية فائقة العضلات الدقيقة التي تكون الفم وتحركه، ويأتي بالموسيقيين ليعزفوا لها حين تتذكر طفلها، ولم يكن لمئات الموانع والعوائق، وعشرات المصالح التي تشغل باله وتصرفه عن عمله، وما أضطر إليه وقتئذ من كفاح في تصميم صورة انغيارين ولم يكن لهذا كله أثر في وحدة فكرته أو في مثابرته وتحمسه، فبقيت هذه متصلة غير متقطعة.
ذلك إذن هو الوجه الذي أريق في وصفه بحر من المداد على آلاف الصفحات، وهو وجه جميل وإن لم يكن جماله غير مألوف، ولو أن الأنف كان أقصر مما هو لكتبت فيه آلاف أخرى من الصفحات، ولكان في مقدور كثير من صور الغلمان في الزيت أو الرخام - كأية صورة من صور كريجيو - أن تجعل صورة ليزا هذه ذات جمال متوسط لا أكثر. أما الذي رفع من شأن هذه الصورة وخلد شهرتها على مر القرون فهو ابتسامتها وما يصحبها من بريق وليد في عينيها، انثناء إلى أعلى في شفتيها ينم عن السرور الذي لم تحاول كبته. ترى لأي شيء تبتسم؟ أتبتسم لما يبذله الموسيقيون من جهود لتسليتها؟ أم لنشاط الفنان وجده حين يقضي في تصويرها ألف يوم ولا يفرغ منها أبدا؟ أم لأنها ليست مجرد موناليزا تبسم، ولكنها ككل النساء تقول لكل الرجال: ((مساكين أيها العشاق المولهون! إن الطبيعة التي تأمركم بتعمير الأرض واستمرار الخلق تحرق أعصابكم بالنهم السخيف لأجسامنا، وترهق عقولكم فتتوهمون في غير تعقل أن مفاتننا هي المثل الأعلى في الجمال، وترتفع بكم إلى نشوة شعرية لا تلبث أن تخبو إذا نلتم بغيتكم منا - كل هذا لكي تسرعوا تكونوا آباء؟ ترى أيمكن أن يكون هناك سخف أكبر من هذا السخف؟ ولكننا نحن النساء أيضاً نقع مثل الرجال في الشراك، ونؤدي لكم في نظير افتتانكم بنا ثمنا أغلى مما
تؤدونه أنتم. ولكن اعلموا أيها البلهاء المحببون أنه يسرنا أن ترغبوا فينا، وأن الحياة تفتدى حين نُحب)). أو هل كانت ابتسامة ليوناردو نفسه هي التي صورت على فم ليزا - هل كانت هي الروح المقلوبة التي يصعب عليها أن تستعيد المسة الرقيقة الناعمة من يد امرأة، والتي لا تؤمن بمصير أيا كان للحب أو العبقرية إلا الانحلال البذيء وقليلا من الشهرة يومض ويخبو في نسيان الإنسان؟
ولما أن انتهت آخر الأمر الجلسات، احتفظ ليوناردو بالصورة، مدعيا أنها هي التي أكثر الصور اكتمالا لا تزال ناقصة. ولعل زوجها لم يكن يعجبه منظر زوجته وهي تثني شفتيها في وجهه ووجه زائريه، فيشاهد ذلك من جدران بيته الساعة تلو الساعة. وابتاع فرانسس الأول هذه الصورة بعد كثير من السنين بأربعة آلاف كراون (50. 000 دولار)(22). وعلقها في إطار بقصره في فنتينبلو Fonlainbleau، وهي الآن معلقة في البهو المربع Salon Carre بمتحف اللوفر بعد أن عدا عليها الزمان، وأبدى الذين حاولا ردها إلى أصلها فطمسوا دقائقها الفنية، ولعلها تتسلى كل يوم بآلاف العابدين، وتنتظر أن تمحو الأيام بسمات موناليزا وتؤكدها.
الفصل الرابع
في ميلان ورومة
1506 -
1516
إننا إذا تأملنا هذه الصورة، وحسبنا عدد ساعات التفكير الطوال التي كانت المرشد الهادي أثناء الدقائق التي قضاها يعمل بفرشاته، إذا فعلنا هذا أعدنا النظر في حكمنا على ما يبدو لنا من تباطؤ ليوناردو وكسله، وأدركنا مرة أخرى أن عمله كان يشمل فيما يشمله ما قضاه في التفكير وفي غير نشاط من أيام يخطئها الحصر، مثله في هذا كممثل المؤلف إذ يتجول في المساء، أو يستلقي على فراشه دون أن يطرق عينه النوم، يضع خطة ما سيكتبه في غده من فصل أو صفحة أو بيت من الشعر، أو يكرر بلسان عقله كلمة وصف جميلة أو عبارة ساحرة خلابة. يضاف إلى هذا أن ليوناردو، في خلال السنوات الخمس التي قضاها في فلورنس والتي شهدت صور العذراء والطفل والقديسة آن بجميع أشكالها، وموناليزا والصورة التمهيدية الوحسية، والمعركة الحامية الوطيس، وجد متسعا من الوقت رسم فيه عدة صور أخرى كالصورة الجميلة لجنيفرا ده بينتشي Ginevra de Benci الموجودة الآن في فينا، وصورة الطفل الفتى المفقودة التي خرج عنها آخر الأمر إلى مركيزة مانتوا (1504) بعد إلحاح شديد، ولكن وكيلها أرسل معها مذكرة كبيرة للدلالة قال فيها "إن ليوناردو قد اصبح يضيق أشد الضيق بالتصوير، ويقضي معظم وقته في الهندسة النظرية"(23). ولعل ليوناردو في أثناء هذه الساعات التي يقضيها متعطلا في الظاهر، كان يدفن الفنان في العالم ويدفن أبليز في فاوست Faust.
غير أن العلم لم يأته بمال، ومع أنه كان يعيش الآن عيشة بسيطة خالية
من الترف، فما من شك في أنه كان يتحسر على انقضاء تلك الأيام التي كان فيها أمير الفنانين في ميلان. ولما أن دعاه شارل دا مبواز Chales d' Amboise نائب لويس الثاني عشر في ميلان أن يعود إليها، طلب ليوناردو إلى سدريني شكا من أن ليوناردو لم يعمل بعد ما يقابل المال الذي تقاضاه نظير تصوير معركة انغباري، فما كان من ليوناردو إلا أن جمع المال الذي لا يستحقه وجاء به إلى سدريني ولكنه رفضه. وأراد سدريني آخر الأمر أن ينال رضا ملك فرنس فأذن لليوناردو ان بالذهاب على شريطة أن يعود إلى فلورنس بعد ثلاثة أشهر من ذهابه، وإلا كان عليه أن يؤدي له غرامة قدرها 150 دوقة (1875؟ دولار)، وغادر ليوناردو المدينة وبقي في ميلان في خدمة أمبواز Amboise ولويس حتى عام 1513 وإن كان قد عاد لزيارة فلورنس في أعوام 1507، 1509، 1511. وأحتج سديني على بقائه ولكن لويس تغلب عليه بفضل المجاملة الكريمة المستندة إلى قوته الموثوق بها. وأراد لويس ألا يترك في الأمر شيئا من الغموض فعين ليوناردو "مصورا ومهندسا دائما - Peintre et ingenier ordinaire لملك فرنسا".
ولم تكن هذه الوظيفة وظيفة تشريف لا يترتب عليها عمل، فقد كان ليوناردو يعمل لكسب المال الذي يعيش منه، فنحن نسمع عنه مرة أخرى أنه كان يزين القصور، ويخطط القنوات أو يحفرها، ويعد المواكب، ويرسم الصور، ويضع تمثال فارس للمارشال تريفلدسيو Trivulizo ويشترك في دراسات تشريحية مع ماركنتونيو دلا توري Marcontorio delia Torre. والراجح أنه في أثناء مقامه في ميلان صورتين كانتا ثمار الطبقات الدنيا من عبقريته، أولاهما صورة القديس يوحنا المحفوظة في متحف اللوفر ذات المعارف المستديرة المنسوبة، والغدائر المسترسلة
والملامح الرقيقة التي من شأنها أن تجمل صورة ترسم لمجدلين Magdelen، والثانية هي صورة ليدا والبجعة (وهي الآن جزء من إحدى المجموعات الخاصة في روما) ذات الوجه الناعم اللحيم الذي يذكرنا بصورة القديس يوحنا وباخوس والتي كانت تعزى قبل إلى ليوناردو، ولكنها في أغلب الظن نسخة من صورة مفقودة أو صورة تمهيدية لهذا الفنان. ولو أن هاتين الصورتين قد قضى عليهما في مهدهما لتضاعفت بذلك شهرته.
وطرد الفرنسيون من ميلان في عام 1512، وبدأ مكسمليان بن لدوفيكو يحكمها حكما قصير الأجل. ومكث ليوناردو فترة قصيرة يكتب مذكرات موجزة في العلوم والفن بينما كانت ميلان تحترق بالنار التي أوقدها فيها السويسريون، غير أنه سمع في عام 1513 أن ليو العاشر اختير لمنصب البابوية، فظن أنه قد يجد في روما الميديتشية مكانا حتى لفنان في الحادية والستين من عمره، فاتخذ سبيله إليها ومعه أربعة من تلاميذه. وفي فلورنس ضم جوليانو ده ميديتشي أخو ليوناردو إلى حاشيته، وخصص له معاشا شهريا قدره ثلاث وثلاثون دوقة (812؟ دولار). ولما وصل ليوناردو إلى روما رحب به البابا المحب للفن، وأسكنه حجرات في قصر بلفدير. ولعل ليوناردو قد التقى هنا برفائيل وسدوما - وما من شك في أنهما قد تأثرا به. وليس ببعيد أن يكون ليو قد عهد إليه بعمل صورة من الصورن وشاهد ذلك أن فارساي ينبئنا بعظم دهشة البابا حين وجد ليوناردو يمزج الطلاء قبل أن يبدأ الرسم. ويروى أن ليو قال وقتئذ:"إن هذا الرجل لن يفعل قط شيئا لأنه يبدأ بالتفكير في آخر مرحلة من عمله قبل مرحلته الأولى"(24). والحق أن ليوناردو لم يعد بعد فنانا، فقد أخذ العلم يستحوذ عليه شيئا فشيئا، فشرع يدرس التشريح في المستشفى، ويشتغل بحل مسائل في الضوء، ويكتب صفحات طوالا في الهندسة النظرية، ويتسلى في أوقات فراغه بعمل عظايا آلية ذات لحية، وقرنين،
وجناحين، وجعلهما يخفقان بأن حقنهما بالزئبق، وكان من أثر ذلك أن فقد اهتمام ليو به.
ولكن حدث في ذلك الوقت أن اعتلى لويس الثاني عشر عرش فرنسا، خلفا لفرانسس المحب للفن، واستولى مرة أخرى على ميلان في عام 1515، ويلوح انه دعا ليوناردو لينضم إليه فيها، وودع ليوناردو إيطاليا في عام 1516 وصحب فرانسس إلى فرنسا.
الفصل الخامس
ليوناردو الرجل
ترى أي صنف من الرجال كان هذا الرجل أمير الفن؟ إن لدينا عدة صور يقال إنها تمثله، ولكن ليس منها واحدة تمثله قبل سن الخمسين. على أن فاساري يحدثنا بحماسه غير مألوفة عن "جمال جسمه الذي لم يوفه إنسان حقه من المديح" كما يتحدث "عن روعة مظهره الذي يبلغ أقصى حدود الجمال، والذي كان بخلع حلة من الصفاء على كل نفس حزينة "؛ غير أن فاسارى لا يحدثنا إلا بما كانت تتداوله الألسنة من الشائعات، وليست لدينا صورة ما تمثل هذه المرحلة من عمره التي بلغ فيها الغاية القصوى من الجمال. وكان ليوناردو حتى وهو في سن الكهولة يطيل لحيته، ويعنى بتعطير جسمه وعقص غدائر شعره. وتكشف إحدى الصور التي رسمها ليوناردو لنفسه، وهي الآن في المكتبة الملكية بونزر Windsor، عن وجه عريض لطيف، وشعر طويل مسترسل، ولحية كبيرة بيضاء. وتظهره صورة فخمة في معروض أفيزى من يد فنان غير معروف ذا وجه قوي، وعينين فاحصتين نافذتي النظرات، وشعر أبيض، ولحية بيضاء، وقبعة سوداء ملساء. وتقول بعض الروايات المأثورة، كما يقول العلماء، إن الصورة العظيمة التي رسمها روفائيل لأفلاطون في مدرسة أثينا إنما هي صورة ليوناردو نفسه (34أ). وثمة صورة طباشيرية له من صنعه محفوظة في معرض تورين Turin يظهر فيها أصلع الرأس إلى منتصف رأسه، مغضن الجبهة، والخدين، والأنف، يكاد شعره يغطي عليه. ويبدو أنه شاخ قبل الأوان، وأنه مات في السابعة والستين من عمره، رغم اقتصاره في طعامه على الخضر، مع أن ميكل أنجيلو، الذي كان يسخر بالقواعد الصحية، والذي تناوبته
العلل والأوجاع، عمّرَ حتى بلغ التاسعة والثمانين. وكان يرتدي الملابس الفخمة، على حين أن مايكل أنجيلو كان مهلهل الثياب. وكان ليوناردو مشهوراً بصباه بقوة عضلاته، فكان يثني حذاء الفرس بيديه، وكان مثقفاً ماهراً، يجيد ركوب الخيل وترويضها، وكان يحبها ويراها أنبل الحيوانات وأجملها. والظاهر أنه كان يرسم ويصور بالألوان، ويكتب بيده اليسرى، وكان هذا هو الذي جعله يكتب من اليمين إلى اليسار لا رغبته في أن يجعل ما يكتبه متعذر القراءة.
ولقد أشرنا من قبل إلى أن اللواط لم تكن متأصلة فيه، بل نشأة من الصلة غير المحببة التي كانت قائمة بين زوجة أبيه المثقلة الظهر وبين ابن غير شرعي لزوجها من غيرها. ولهذا فإن حاجته لأن يعطف الناس عليه ويعطف عليهم قد وجدت ما يشبعها في الشبان الحسان الذين جمعهم معه فيما بعد. وكان يرسم من النساء أقل ما يرسم من الرجال، ولم يكن ينكر جمالهن، ولكن يبدو أنه كان يشارك سقراط في تفضيل الغلمان عليهن، وشاهد ذلك أننا لا نجد في ثنايا مخطوطاته الكثيرة كلمة حب أو عطف واحدة على النساء، غير أنه كان يفهم حق الفهم كثيراً من طباع النساء المختلفة، ولم يفقه أحد تصوير رقة العذارى، ولهف الأمهات، ودهاء النساء. ولعل إحساسه المرهف، وتلاعبه الخفي بالألفاظ والقواعد، وإغلاق مرسمه بقفلين أثناء الليل قد انبعثت كلها من إدراكه لشذوذه وخوفه أن يتهم بالإلحاد. ولم يكن حريصاً على أن تقرأه كثرة الناس، وقد كتب في ذلك يقول:" إن الحقائق غذاء أعلى للعقول الراجحة لا للإفهام المتأرجحة"(25)
ولعل شذوذه الجنسي قد أثر في نواحي أخرى من أخلاقه، فقد كان مثال الرأفة والرقة في معاملته أصدقائه، ولم يكن يطيق قتل الحيوان، و (لا يسمح لإنسان أن يؤذى أي كائن حي)(26)؛ وكان يشتري الطيور
المحبوسة في الأقفاص ليطلقها (27)؛ غير أنه كان يبدو بليد الإحساس في بعض النواحي الأخرى. ويلوح أنه قد افتتن أيما افتتان بتصميم أدوات الحرب، وأنه لم يشعر بغضب قوي على الفرنسيين لأنهم ألقوا في غيابة الحب لدوفكيو الذي ظل ستة عشر عاماً يفق عليه عن سعة في ميلان، ولقد طاوعته نفسه، دون أن يبدو عليه شيء من وخز الضمير، إلى الذهاب لخدمة بورجيا في الوقت الذي كانت تخشى فيه ميلان اعتداءه على حريتها. وكان ككل فنان، وكل مؤلف، وكل لوطي، شديد الإدراك لنقائصه، مرهف الحس، كثير الغرور، انظر إلى قوله:" إذا كنت وحدك فأنت كلك ملك لنفسك، أما إذا كان معك رفيق فأنت نصف نفسك؛ لأنك بهذا تقسم نفسك كما يهوى رفاقك"(28) ومع أنه كان في وسعه أن يتألق في المجتمعات بوصفه موسيقياً ومحدثاً بارعاً، فإنه كان يفضل العزلة ويقضى وقته منهمكاً في أداء واجباته، ومن أقواله في هذا المعنى:" إن الحرية أكبر هبات الطبيعة"" ولا شك أنه قال هذا القول لأنه لم يشعر قط بآلام الجوع".
وكانت فضائله هي الثمار الطيبة لعيوبه. فربما كانت كراهيته للصلات الجنسية قد أمكنته من أن يصرف قواه في عمله؛ وما من شك أن إحساسه المرهف قد فتح له آفاق لا تحصى من الحقائق لا تدركها عين الرجل العادي. فقد كان يتتبع طوال النهار، وفى خلال كثير من الشوارع، وجهاً غير عادي، ثم يعود إلى مرسمه ليرسمه رسماً متقناً كأنه جاء بهذا النموذج نفسه معه. وكان عقله يبتهج أشد الابتهاج بالأشياء الشاذة الغريبة سواء كانت أشكالا أو أعمالا أو آراء غير مألوفة. وقد كتب مرة يقول " إن النيل قد ألقى في البحر من المياه أكثر مما تحتويه الأرض جميعها من ماء في هذه الأيام " ولهذا فإن جميع البحار والأنهار قد مرت بمصب النيل عدداً لا يحصى من المرات" (30). وكانت نزعة شبيهة بهذه هي التي دفعته إلى أساليب
الخداع العجيبة؛ من ذلك أنه أخفى في من الأيام في إحدى الحجرات أمعاء كبس نظيفة، ولما أن اجتمع أصدقاؤه في تلك الحجرة، نفخ الأمعاء بمنفاخ في حجرة مجاورة، وظل يفعل هذا حتى التصق الضيوف بالجدران. وقد دون في مذكراته عدداً من الخرافات والنكات في الدرجة الثانية من الفكاهة.
وقد تعاون تشوفه، وشذوذه، وإرهاف حسه، وحرصه الشديد على الكمال، على خلق أكبر عيب من عيوبه وأشدها إيذاء له - نعني بذلك عجزه أو قعوده عن إتمام ما بدأه. ولعله كان يبدأ كل عمل من أعمال الفن لرغبته في أن يحل مشكلة فنية من مشاكل التأليف، أو اللون، أو التصميم، ثم يفقد اهتمامه بالعمل حين يعثر على حل هذه المشكلة. وكان يقول في ذلك: إن الفن هو التفكير والتصميم، لا التنفيذ العملي، ذلك الجهد الخليق بعقول أقل من عقول الفنان، أو أنه كان يصور لنفسه شيئاً دقيقاً، أو معنى من المعاني، أو مستوى من الكمال لا تستطيع يده الوانية الصبورة، والتي تصبح بعدئذ قلقة ضجرة، أن تحققه، فيترك العمل يائساً بعد ما بذل فيه من جهود، كما فعل حين أراد أن يصور وجه المسيح (31). وكان ينتقل مسرعاً من عمل إلى عمل، ومن موضوع إلى موضوع، وكان يولع بكثير من الأشياء ويعوزه الهدف الذي يوحد بين ما يولع به، والفكرة المسيطرة عليه. وقصارى القول أن هذا الرجل "الرجل العالمي" كان مزيجاً من قطع متلألئة، وكانت تتملكه كفايات أكثر من أن يسخرها كلها لتحقيق هدف واحد، ولهذا قال في حسرة آخر الآمر:" لقد أضعت ساعات كثيرة "(32).
وكتب ليوناردو خمسة آلاف صفحة، ولكنه لم يتم قط كتاباً واحداً. وكان من حيث الكم مؤلفاً أكثر منه فناناً، ويقول عن نفسه إنه كتب مائة وعشرون مخطوطاً، بقى منها خمسون. وهي مكتوبة من اليمين إلى
اليسار بحروف نصف شرقية تكاد تضفي لوناً من الصدق على القصة القائلة إنه سافر في يوم ما إلى بلاد الشرق الأدنى، وخدم سلطان مصر واعتنق الدين الإسلامي (32). وهو كثير الأخطاء في النحو، وله طريقة خاصة في الهجاء، وقد قرأ في موضوعات مختلفة ولكنها قراءات متقطعة غير منتظمة. وكانت له مكتبة صغيرة تضم سبعة وثلاثين مجلداً تشمل: الكتاب المقدس، وخرافات إيزوب، ومؤلفات ديوجين ليرتيوس، وأوفد، ولفي، ويلني اللأكبر، ودانتي، ويترارك، وجييو، وفيليلفو، وفيتشينو، وبلتشي، ورحلات "منسفليد" ورسائل في العلوم الرياضية، والجغرافية الكونية، والتشريح والطب، والزراعة، وقراءة الكف، وجميع فنون الحرب. ومن أقواله أن " معرفة تاريخ الأيام الخالية، والجغرافية تزين العقل وتغذيه " ولكن أخطاءه التاريخية الكثيرة تدل على أنه لا يعلم من التاريخ إلا أشياء قليلة متفرقة. وكان يأمل أن يصبح كاتباً مجيداً، وبذل عدة محاولات ليرقي بأسلوبه إلى مستوى عالي من البلاغة، كما نشاهد ذلك في وصفه المتكرر للفيضان (35). وقد كتب أوصافاً قوية واضحة لعاصفة ولمعركة (36)، وما من شك في أنه كان يعتزم نشر بعض ما كتب، وكثيراً ما حاول أن ينظم بعض مذكراته لهذا الغرض، ومبلغ علمنا أنه لم ينشر قط شيئاً منها أثناء حياته، ولكنه لا شك قد أجاز لبعض أصدقائه أن يطلعوا على بعض المخطوطات المختارة، لأنا نجد إشارات في كتاباته في كتب فلافيو بندو Flavio Bindo، وجيروم كاردن Jerome Cardan، وتشيليني.
وكان يجيد الكتابة في العلم كما يجيدها في الفن، ويكاد بقسم وقته بالتساوي بينهما. وأعظم مخطوطاته كلها رسائل في التصوير نشرة لأول مرة في عام 1651. ولاتزال هذه الرسالة مجموعة من قطع مفككة مهوشة النظام كثيرة التكرار على الرغم مما بذله المحدثون من جهود في إصدارها،
وقد استبق ليوناردو القائلين بأن التصوير لا يعرف إلا بممارسة التصوير، وهو يظن أن المعرفة الطيبة بالنظريات تساعد الفنان في عمله؛ ويسخر من ناقديه ويقول إنهم أشبه "بأولئك الذين قال فيهم دمتروس إنه لا يعنى بالريح التي تخرج من أفواههم اكثر من عنايته بالتي يخرجونها من أجزائهم السفلى". وفكرته الأساسية هي أن من واجب طالب الفن أن يدرس الطبيعة لا أن ينقل رسوم غيره من الفنانين:"احرص أيها الفنان حين تذهب إلى الحقول على أن توجه عنايتك إلىما فيها من أشياء مختلفة، فعليك أن تدقق النظر إلى هذا الشيء أولا ثم إلى داك، وأن تجمع طائفة من الأشياء المختلفة اخترتها من بين أقلها قيمة"(38). وهو يرى بطبيعة الحال أن لابد للفنان من أن يدرس التشريح، وفن المنظور، واستخدام الضوء والظلال، ويقول إن الحدود المعينة تعيناً تظهر الصورة كأنها قطعة من خشب:"واحرص على الدوام على أن ترسم الصورة بحيث لا يتجه الصدر إلى الناحية التي يتجه إليها الرأس"(39)، وذلك سر من أسرار الرشاقة التي نشاهدها في تأليف ليوناردو. ثم يقول آخر الأمر:"ارسم الصور وفيها من الأفعال ما يكفي لأن يظهر ما يدور بخلد صاحبها"(40). ترى هل نسي هذا وهو يرسم موناليزا، أو هل غالى في قدرتنا على أن نقرأ الروح التي تطالعنا في العينين والشفتين؟
ويظهر ليوناردو الرجل في رسومه أوضح وأكثر مراراً مما يظهر في صوره الملونة أو مذكراته. وهذه الرسوم لا يحصى عددها، ففي إحدى المخطوطات وحدها- كودبتشي أطلنطيكو- الموجودة في ميلان ألف وسبعمائة رسم. وكثير منها تخطيطات أولية سريعة، وكثير منها آيات فنية تحملنا على أن نضع ليوناردو في صف أقدر رسامي النهضة، وأدقهم، وأكثرهم تعمقاً، وليس في رسوم ميكل أنجيلو أو رومبرانت ما يضارع صورة العذراء، والمسيح، والقديسة آن المحفوظة في بيت بيرلجتن وكان ليوناردو
يستخدم في رسومه الفحم النباتي والطباشير الأحمر أو القلم والمداد يرسم بها مظاهر الحياة الجسمية لا يكاد يترك منها شيئاً وكثيراً من ظواهر الحياة الروحية .. وترى في رسومه عشرات من صور الطفل يسوع يمدون سيقانهم السمينة ذات الخديدات، وعشرات من الشبان نصف يونانيين في صفحات وجوههم ونصف نساء في أرواحهم، وعشرات من العذارى الحسان ذوات الطلعة المتحاشمة الرقيقة، تتماوج شعورهن في الريح. وترى المولعين بالألعاب الرياضية الفخورين بعضلاتهم، والمحاربين يقتتلون أو تتلألأ على أجسامهم الأسلحة والدروع، والقديسين المختلفي الأشكال من جمال سبستيان الرقيق إلى بشرة جيروم الشاحبة الهزيلة، وترى صوراً لمريم العذراء تريك أن العالم قد أنقذه طفلهن، ورسوماً معقدة من الملابس التي تلبس في الحفلات المقنعة؛ ودراسات للفاعات والطيلسانات والمخرمات، والمآزر تداعب الرءوس أو الأعناق، وتنثني على الذراعين أو تتدلى من الكتفين أو الركبتين في ثنايا تخطف الضوء وتجتذب اللمس، وتبدو أكثر واقعية من الثياب التي نسها على أجسامنا. هذه الأشكال كلها تتغنى بحرارة الحياة وعجائبها، ولكنها تنتثر فيما بينها صور غريبة مرعبة، وأخرى هزيلة- من رءوس مشوهه، وبلهاء يغمزون بالعيون، ووجوه كوجوه الحيوان وأجسام كسيحة، وساء سليطات بتولين من فرط الغضب، وقناديل البحر ذات شعور من الأفاعي، ورجال تمزقت أجسامهم وتقلصت من الشيخوخة، ونساء في المراحل الأخيرة من الانحلال الجسمي. هذه تكون ناحية أخرى من نواحي الواقعية، أحاطت بها عين ليوناردو النزيهة العالمية، وتثبتت منها، ووضعتها في عزم وإصرار على لوحة الرسم، كأنما أراد أن يواجه الشر القبيح في غير مبالاة. وقد أبعد هذه الرسوم التخطيطية المروعة عن صوره الملونة النهائية، حتى لا تخرج عن ولائها للجمال، ولكنه كان عليه أن يجد مكاناً لها في فلسفته. ولعله قد وجد في الطبيعة من المسرة ما لم يجده في الإنسان، ذلك أن الطبيعة محايدة، لا يمكن أن تتهم بأن الشر الذي فيها منبعث من الحقد؛
بل إن كل ما فيها يمكن أن يغتفر إذا نظر إليه بالعين النزيهة. ومن أجل هذا رسم ليوناردو كثيراً من المناظر الطبيعية؛ ولام بتيتشيلي لأنه أغفلها، فتتبع بقلمه خيوط الأزهار تتبع الرجل الأمين؛ وقلما كان يرسم صورة دون أن يزيدها سحراً وعمقاً بما يضعه في خلفيتها من الأشجار، ومجاري الماء، والصخور، والجبال، والسحب، والبحار. وكان يبعد الأشكال المعمارية كل البعد عن فنه حتى يفسح بذلك مكاناً للطبيعة لكي تدخل فيه، فتمتص الفرد المصور أو الجماعة المصورة في كلية الأشياء التي تمزجها وتوفق بينها.
ولقد حاول ليوناردو في بعض الأحيان أن يجرب حظه في التخطيط المعماري ولكنه أخفق في ذلك إخفاقاً أرجعه عنه، فنحن نجد بين رسومه رسوماً معمارية للخيال فيها أكبر نصيب، وهي صور غريبة نصف سُوريَّة. وهو يحب القباب، ورسم رسماً تخطيطياً جميلاً لكنيسة أيا صوفيا لكي يقيم لدوفيكو كنيسة مثلها في ميلان، ولكن هذه الكنيسة لم تقم قد على ظهر الأرض. وأرسله لدوفيكو إلى بافيا ليشترك في إعادة تخطيط كنيستها الكبرى، ولكن ليوناردو وجد علماء الرياضة والتشريح في بافيا أكثر متعة وطرافة من الكنيسة. وساءته ضوضاء المدن الإيطالية، وقذارتها، وضيقها وازدحامها، فأخذ يدرس تخطيط المدن، وعرض على لدوفيكو رسماً تخطيطياً لمدينة ذات طابقين. تسير في الطابق الأسفل منها جميع الحركة التجارية "والأحمال التي تتطلبها خدمة السوقة وأسباب راحتهم"؛ أما الطبقة العليا فتتكون من طريق عرضه عشرون براتشيا Braccia ( أي نحو أربعين قدماً) مقام على بواك معمدة ولا"تستخدمه المركبات، بل يخصص لراحة الطبقة العليا من الأهلين". وتصل الطابقين في بعض الأماكن سلالم حلزونية، وتتخلل الطبقة العليا في أماكن متفرقة فساقى ترطب الهواء وتنقيه (41). ولم يكن عند لدوفيكو من المال ما يكفي هذا الانقلاب، وبقى أشراف ميلان يعيشون على الأرض.
الفصل السادس
المخترع
إنا ليصعب علينا أن ندرك أن لدوفيكو وسيزاري بورجيا كانايريان أن ليوناردو مهندس قبل أن يكون أي شيء آخر، وحتى المناظر التي وضع تصميمها لدون ميلان كانت تشمل آلات بارعة مبتكرة ذاتية الحركة. ويقول فاساري أنه كان "في كل يوم يصنع نماذج ويضع رسوماً لنقل الجبال في يسر وشقها لييسر الانتقال من مكان إلى آخر، وأن يستعين على جر الأحمال الثقال بالروافع، والآلات الرافعة على اختلاف أنواعها؛ ويبتكر الوسائل لتنظيف المواني ورفع الماء من الأعماق البعيدة الغور (42"). وقد صنع آلات لقطع الخيوط بأشكال لولبية، وسار في الطريق الصحيح الموصل لاختراع الساقية، وابتكر كماحات (فرامل) ذوات سيور (43) وصمم أول مدفع آلي، ومدافع ثقيلة بأجهزة ذات ضروس لزيادة مداها؛ وآلات لنقل الحركة بعدة سيور، وترساً لمضاعفة سرعة الحركة ثلاثة أضعاف، ومفتاحاً مُضَبَّباً قابلاً للضبط، وآله للف المعادن وتدويرها، وقاعدة متحركة لآلة طباعة، وترساً بريمياً ينغلق من نفسه لرفع سلم (44). ووضع خطة للملاحة تحت الماء ولكنه رفض أن يفصح عنها (45)، وأحيا فكرة الآلة البخارية التي قال بها هيرو الاسكندري، وأظهر كيف يستطيع ضغط البخار في مدفع أن يرمي قذيفة من الحديد مدى 1200 ياردة، وابتكر وسيلة للف الخيط وتوزيعه بالتساوي على مغزى دوار (46)، ومقص ينفتح بحركة واحدة من حركات اليد. وكثيراً ما يترك العنان لخياله يغرر به، مثال ذلك أنه اقترح صنع أسكيات (مزالق الثلج)
منتفخة للمشي على الماء، أو طاحونة هوائية تعزف على عدة آلات موسيقية في وقت واحد (47). ووصف هابطة بقوله:"إذا أمسك إنسان بخيمة مصنوعة من نسيج التيل، سدت جميع ثقوبها، وكان عرضها اثنتي عشرة ذراعاً وعمقها مثلها، استطاع أن يلقي نفسه من أي مكان عظيم الارتفاع دون أن يصيبه أذى"(48).
وقضى نصف حياته يفكر في مشكلة طيران الإنسان، وكان كما كان تولستوي Tolstoi يحسد الطير ويرى أن جنسها أرقى من الإنسان من نواحي كثيرة. ودرس دراسة مفصلة حركات أجنحتها وذيولها والطرق الآلية لارتفاعها، وانزلاقها، ودورانها، وهبوطها. وكانت عيناه النافذتان تلاحظان هذه الحركات بشغف وتشوق عظيمين، كما كان قلمه السريع يرسمها ويسجلها. ولاحظ كيف تفيد الطير من تيارات الهواء وضغوطه المختلفة، ووضع خطة تسخير الهواء:
"ستشرح جناحي الطير وعضلات الصدر التي تحرك هذين الجناحين؛ ثم تعمل هذا نفسه في الإنسان لكي تظهر هل يستطيع الإنسان أن يبقى في الهواء بتحريك جناحين (49)
…
وليس ارتفاع الطيور دون أن تحرك أجنحتها إلا نتيجة حركتها الدائرية بين تيارات الرياح (50) .... ويجب ألا يكون للطير الذي نصنعه نموذج غير نموذج الخفاش لأن أغشيته
…
يمكن أن تتخذ وسيلة لربط إطار الجناحين (51) .... والطير آلة تعمل وفقاً لقانون آلي، وفي وسع الإنسان أن يصنع ألة مطابقة لها في جميع حركاتها، وإن لم تكن تماثلها بقوتها (52").
وقد وضع عدة رسوم لآلة لولبية يستطيع الإنسان إذا ضغط عليها بقدميه أن يحرك جناحيها بسرعة تكفي لارتفاعه في الهواء (53). ووصف في مقال قصير في الطيران آلة من صنعه مركبة من قماش منشى من التيل القوي، ووصلات من الجلد، وأربطة من الحرير الخام. وأطلق على
هذه الآلة أسم "الطائر" وكتب تعليمات مفصلة لطيرانها وقال (54):
إذا ما أديرت هذه الآلة ذات اللولب
…
بسرعة، فأن هذا اللولب يحدث في الهواء حركته اللولبية فترتفع بذلك إلى أعلى (55) .... جرب هذه الآلة فوق الماء، حتى لا يصيبك أذى إذا سقطت (56)
…
وسيطير "الطائر" العظيم طيرانه الأول
…
فيثير دهشة العالم كله ويذيع شهرته في جميع أنحائه؛ ويخلع المجد الأبدي على العش الذي درج منه (57).
ترى هل حاول أن يطير فعلاً؟ إن في الكودبتشي أطلنطيكو (58)، إشارة تقول:"في صباح غد، اليوم الثاني من شهر يناير 1496 سأصنع الأربطة وأقوم بالمحاولة". ولسنا نفهم معنى هذه العبارة، ولكن فادسيو كاردانو Fazio Cardano، والد جيروم كاردان العالم الطبيعي (1501 - 1576) أخبر ولده أن ليوناردو نفسه قد جرب الطيران (59). ويظن بعضهم أنهم لما كسرت ساق أنطونيو أحد مساعدي ليوناردو في عام 1510 كان كسرها وهو يحاول الطيران بآلة من الآت ليوناردو. على أننا لانستطيع التأكد من صحة هذا القول.
لكن ليوناردو لم يكن يسير في الطريق الصحيح. ذلك أن الإنسان، حين استطاع الطيران، لم يستطعه لأنه حاكى الطير- إذا استثنينا من ذلك الانزلاق وحده- بل لأنه استخدم الآلة ذات الاحتراق الداخلي في تشغيل مروحة تستطيع دفع الهواء إلى الوراء لا إلى أسفل، وسرعة الاندفاع إلى الأمام هي التي تمكن الطائرة من الطيران إلى أعلى. غير أن أنبل ما يمتاز به الإنسان هو رغبته الشديدة في المعرفة. ونحن حين تروعنا حروب الجنس البشري وجرائمه، وتثبط هممنا أنانية ذوي الكفايات منا وانتشار الفاقة وأبديتها، وتبعث الأسى والحزن في نفوسنا الخرافات والسذاجات التي تزين بها الأمم والأجيال قصر الحياة وحقارتها، نقول
إنّا حين يحدث هذا نحس بأن الجنس البشري ينجو بعض النجاة إذا رأينا أنه يستطيع أن يحتفظ في عقله وقلبه بحلم يرتفع به إلى السماكين مدى ثلاثة آلاف عام منذ راوده لأول مرة في اليوم الذي ذاعت فيه قصة ديدلوس Daedalus وإيكاروس Icarus، وعاد إلى الظهور في المحاولات الفاشلة التي بذلها ليوناردو وآلاف من الناس غيره، ثم تحقق حين تم له ذلك الانتصار المجيد المفجع في عصرنا الحاضر.
الفصل السّابع
العَالِم
نجد إلى جانب رسوم ليوناردو التخطيطية، على الصفحة نفسها تارة، وتارة أخرى على الصورة المبدئية لرجل، أو امرأة، أو منظر طبيعي، أو آلة، مذكرات يحاول بها عقله النهم المتعطش أبداً إلى المعرفة أن يحل قوانين الطبيعة ويفهم أسرارها وعملياتها. ولعل ليوناردو العالم قد نشأ من ليوناردو الفنان: ذلك ن اشتغاله بالتصوير قد أرغمه على دراسة التشريح، وقوانين النسب وقواعد المنظور، ومقارنة الضوء وانعكاسه، وكيمياء الألوان والزيوت؛ ثم نقلته هذه البحوث إلى بحوث أخرى أكثر منها دقة واتصالا بالتصوير، ذات صلة بتركيب النبات والحيوان ووظائف أجزائه؛ ثم ارتفع من هذه البحوث مرة أخرى إلى الإدراك الفلسفي للقانون الطبيعي العالمي الذي لا تبديل فيه. وكثيراً ما كان الفنان يطل مرة أخرى في العالم؛ فقد يكون الرسم العلمي شيئاً ذا جمال، أو ينتهي بزخرف جميل من الطراز العربي.
وكان ليوناردو ينزع إلى إقامة الطريقة العلمية على الخبرة لا على التجارب العلمية (60)، شأنه في هذا شأن الكثرة الغالبية من علماء عصره. وفي ذلك يقول لنفسه ناصحاً:((تذكر وأنت تتحدث عن الماء أن تبرز الخبرة أولا ثم العقل)) (61). وإذا كانت خبرة الإنسان لا تعدو أن تكون جزءاً صغيراً مجهرياً من الحقيقة، فقد كمل ليوناردو خبرته بالقراءة، وهي الخبرة غير المباشرة. ولهذا أخذ يدرس بعناية الناقد الفاحص كتابات ألبرت السكسوني Albert of Sexony، (62) وعرف بعض آراء روجر
بيكن، وألبرتس مجنس، ونقولاس الكوزائي Nicholas of Cusa، وتعلم الشيء الكثير من اختلاطه بلوكا بتشيولي Luca Pacioli، وماركنتونيو دلا توري وغيرهم من أساتذة جامعة بافيا، ولكنه كان يعرض كل شيء على محك تجاربه، ويقول، ((كل من يعتمد على المراجع في مناقشة الأفكار إنما يعمل بذاكرته لا بعقله)) (63). وكان أقل مفكري عصره غموضاً وخفاء، ورفض تصديق الكيمياء الكاذبة والتنجيم، وكان يرجو أن يحين الوقت الذي ((يحصى فيه جميع المنجمين)) (64).
وحاول أن يجرب نفسه في العلوم كلها تقريباً، فأخذ يدرس الرياضيات في حماسة بالغة لأنه وجدها أنقى صورة من صور التفكير والاستدلال، وكان يشعر بشيء من الجمال في الأشكال الهندسية، ورسم بعضها في نفس الصفحة التي كان يدرس فيها صورة العشاء الأخير. وقد عبر تعبيراً قوياً عن مبدأ من مبادئ العلم الأساسية حين قال:((لا تكون حقيقة حيث لا يستطيع الإنسان أن يطبق علماً من العلوم الرياضية أو أي واحد من العلوم التي تقوم عليها)) (66)؛ وردد في فخر صدى قول أفلاطون: ((فليمتنع غير العالم الرياضي عن قراءة عناصر كتابي)) (67).
وقد افتتن بعلم الفلك، وعرض ((يصنع منظاراً يرى به القمر كبيراً)) (68)، ولكن يبدو أنه لم يصنعه، وكتب في ذلك يقول: ((إن الشمس لا تتحرك
…
وليست الأرض في مركز دائرة الشمس، ولا هي في مركز الكون)) (69) و ((للقمر في كل شهر شتاء وصيف)) (70). وله بحث دقيق في البقع السوداء التي تظهر على القمر، ويعارض من هذه الناحية آراء ألبرت السكسوني (71). وقد اهتدى ببعض آراء ألبرت هذا فقال أنه لما كانت ((كل مادة ثقيلة تحدث ضغطاً إلى أسفل، ولا يمكن أن تبقى معلقة إلى ما شاء الله، فإن الأرض كلها يجب أن تكون كروية)) وستغطى آخر الأمر بالماء (72).
ولاحظ وجود القواقع البحرية المتحجرة على المرتفعات العالية فستنتج من وجودها أن المياه قد وصلت إلى هذه المرتفعات (73). (وقد أشار بوكاتشيو إلى هذا حوالي عام 1338 في كتابه فيلوكويو (74)). ورفض فكرة الطوفان العام (75). وأرجح وجود الأرض إلى عهد قديم كان من شأنه أن يصدم مشاعر المؤمنين في عصره لو كان في عصره مؤمنين، وحدد للمواد التي قذف بها نهر اليو في البحر زمناً يبلغ 000، 200 عام، ورسم خريطة لإيطالية بالشكل الذي تصور أنها كانت عليه في حقبة جيولوجية قديمة، وظن أن الصحراء الكبرى كانت في وقت ما تغطيها المياه الملحة (76)، وقال إن الجبال قد كونها التحات الناشئ من فعل مياه الأمطار (77)، وإن قاع البحر دائب على الارتفاع بفعل رواسب الأنهار التي تصب فيه، وإن ((أنهاراً جد عظيمة تجري تحت سطح الأرض)) (78)، وإن سريان الماء الباعث للحياة في جسم الأرض يقابل حركة الدم في جسم الإنسان (79)، وإن سدوم وعمورة لم يدمرها خبث بني الإنسان، بل دمرتها القوى الجيولوجية البطيئة، وأكبر الظن أن هذه القوى هي انخفاض أرضهما في البحر الميت (80). وكان ليوناردو يتتبع في نهم ما حدث من التقدم في علم الطبيعة على أيدي جان بردان Jean Buridan وألبرت السكسوني Albert of Saxony في القرن الرابع عشر، وكتب مائة صفحة عن الحركة والثقل، ومئات أخرى عن الحرارة، والسمعيات، والبصريات، والألوان، وعلم نواميس السوائل المتحركة (الهيدروليكا)، والمغنطيسية. ويقول ((إن علم الميكانيكا هو فردوس العلوم الرياضية، لأن به يستطيع الإنسان أن يجني ثمار الرياضيات)) في العمل النافع (81). وكان يجد متعة كبيرة في البكرات، والرافعات الكبيرة والصغيرة، ويرى أنه لا حد للأشياء التي تستطيع أن ترفعها أو تحركها، ولكنه كان يسخر ممن يبحثون عن الحركة الدائمة، ويقول في هذا: ((إن القوة مع الحركة المادية، والثقل مع الاصطدام
هي القوة الأربع العارضة التي يرتكز فيها وجود جميع أعمال بني الإنسان وغاياتها)) (82). لكنه رغم هذا الميول لم يكن إنساناً مادياً، بل إنه كان على عكس هذا، ودليلنا على ذلك أنه عرف القوى بأنها ((مقدرة روحية
…
روحية لأن الحياة التي بها خفية لا ترسم وليس لها جسم .. ولا تُحَس لأن الجسم الذي تتكون فيه لا يزداد في حجمه ولا في وزنه)) (83).
ودرس انتقال الصوت ورد الوسط الذي ينتقل فيه إلى أمواج الهواء، وقال: ((إذا ضرب وتر العود
…
نقل الحركة إلى وتر مثله له نفس النغمة على عود آخر، وفي وسع الإنسان أن يتأكد من هذا بوضع قشة على الوتر المشابه للوتر الذي ضرب)) (84). وكانت لديه فكرته الخاصة عن المسرة (التلفون):((إذا وقفت مركبة، ووضعت رأس أنبوبة طويلة في الماء، ووضعت طرفها الآخر على أذنك، سمعت حركة السفن الأخرى البعيدة عنك؛ وفي وسعك أن تصل إلى هذه النتيجة نفسها إذا وضعت رأس الأنبوبة على الأرض، فتسمع صوت أي إنسان يمر على بعد منك)) (85).
لكنه كان يولى الإبصار والضوء من الاهتمام أكثر مما يولي الصوت، وكانت العين تثير عجبه:((منذا الذي يعتقد أن هذه البقعة الصغيرة تستطيع أن تحتوي صور العالم أجمع)) (86) وكان مما يثير دهشته أعظم مما تثيره العين قدرة العقل على أن يستعيد الصور التي مرت به من زمن بعيد. ولقد كتب وصفاً غاية للجودة للطريقة التي تستطيع بها عدسات المنظار أن تعوض ضعف عضلات العينين (87). وشرح عملية الإبصار على أساس مبدأ ((آلة التصوير ذات الصندوق المظلم)): ففي آلة التصوير وفي العين تقلب الصور بسبب التقاطع الهرمي للأشعة الضوئية التي تنبعث من الجسم إلى آلة التصوير أو إلى العين (88). وحلل انكسار ضوء الشمس في قوس قزح، وكان يعرف كما يعرف ليون باتستا ألبرتي الشيء الكثير عن الألوان المتممة قبل أن
يقوم متشل شفرول Michel Chevreul بعلمه الحاسم بهذا الموضوع بأربعة قرون (89).
وقد وضع أساس عدد لا يحصى من المذكرات وبدأ بكتابتها وتركها لمن جاءوا بعده، وكتب رسالة عن الماء، لأن حركة الماء خلبت لبه وبهرت عينيه، فأخذ يدرس مجاري الماء الساكنة والمضطربة، ومياه العيون والشلالات، والفقاقيع والزبد، والسيول، وهطول المطر من السحب، واشتداد هبوب الريح وسقوط المطر في وقت واحد. وكتب ذلك مكرراً قول طاليس Thales بعد ألفي عام ومائتين من أيامه يقول:((لولا الماء لما وجد لدينا شئ على الإطلاق)) (90). واستبق باسكال Pascal إلى مبدئه الأساسي في توازن الموائع ( hydrostatics) - وهو أن الجسم المائع ينقل ما يحدث عليه من الضغط (91). ولاحظ أن السوائل في الأواني المستطرقة تكون ذات ارتفاع واحد (92). وإذا كان قد ورث عن ميلان تقاليدها في هندسة السوائل المتحركة. فقد صمم وأنشأ القنوات، وأشار إلى السوائل التي يمكن اتباعها لإنشاء القنوات الصالحة للملاحة تحت الأنهار التي تجتازها أو فوقها، وعرض أن يحرر فلورنس من حاجتها إلى ميناء بيزا بتحويل مجرى نهر الآرنو من فلورنس حتى البحر إلى قناة (93). هذا ولم يكن ليوناردو حالماً يضرب في اثنتي عشر حياة لا حياة واحدة.
ووجد عقله اليقظ إلى ((التاريخ الطبيعي)) مسلحاً في هذا التوجيه بكتاب ثيوفراسطوس الحجة في النبات. فأخذ يفحص؛ نظام ترتيب الأوراق على السوق والغصون، وصاغ قوانينها. ولاحظ أن الحلقات التي تشاهد على مقطع مستعرض لجذع شجرة تدل بعددها السنين التي عاشتها تلك الشجرة، كما يدل عرضها على مقدار ما كان في ذلك العام من
رطوبة (94). ويبدو أنه قد خدع كما خدع أهل زمانه في قدرة بعض الحيوانات على شفاء أمراض معينة بوجودها مع المرضى أو بلمسهم إياها (95). لكنه كفر عن هذا الارتكاس إلى التخريف غير اللائق بالعلماء بأن بحث تشريح الخيل تشريحاً كاملا ودقيقاً إلى حد لا نجد له نظيراً فيما سبقه من التاريخ المدون. وقد أعد رسالة خاصة في هذا الموضوع، ولكنها ضاعت في أثناء احتلال الفرنسيين ميلان. وكاد هو يفتتح عهد التشريح المقارن بدراسة أطراف الإنسان والحيوان بوضع بعضها إلى جانب بعض. واطرح وراء ظهره سلطان جالينوس الذي طال به العهد، وأخذ يعمل معتمداً على الأجسام دون غيرها، ولم يكتف بوصف تشريح الإنسان بالقول بل أضاف إلى أقواله الرسوم التي فاقت كل ما رسم قبلها في هذا الميدان، وأعد العدة لوضع كتاب في هذا الموضوع، وترك له مئات من المذكرات والرسوم الإيضاحية، وقال إنه ((شرح أكثر من ثلاثين جثة آدمية)) (96). ومما يؤيد صحة قوله هذا رسومه التي يخطئها الحصر للجنين، والقلب، والرئتين، والهيكل العظمي، والجهاز العضلي، والأمعاء، والعين، والجمجمة، والخ، والأعضاء الرئيسية في المرأة. وكان هو أول من أمدنا بوصف علمي، عن طريق الرسوم والمذكرات المدهشة الواضحة، للرحم، كما أمدنا بوصف دقيق للثلاثة الأغشية التي تغلف الجنين. وكذاك كان هو أول من رسم تجويف العظم الذي يرتكز عليه الخد والمعروف الآن بجيب هايمور Antrum of Highmore. وقد صب الشمع في صمامات قلب ثور ميت لكي يحصل بذلك على بصمة مضبوطة لتجويفه. وكان أول من ميز الرباط المعدل للبطين الأيمن (97). وقد افتتن أيما افتتان بشبكة الأوعية الدموية، وفطن إلى وجود دورة الدم، ولكنه لم يدرك جهازها كل الإدراك. وكتب في ذلك يقول: ((القلب أقوى كثيراً من سائر العضلات ....
وليس الدم الذي يعود إلى القلب حين ينفتح هو نفس الدم الذي يغلق
الصمامات)) (98). وقد تتبع سير أوعية الجسم الدموية، وأعصابه، وعضلاته بدقة كبيرة، وقال إن السبب في الشيخوخة هو تصلب الشرايين، وإن سبب هذا التصلب هو قلة الرياضة الجسمية (99). وبدأ كتاباً عن النسب الصحيحة لجسم الإنسان ليكون ذلك عوناً للفنانين، وقد ضمن صديقه بتشيولي Pacioli كتابه في النسب المقدسة بعض آرائه في هذا الكتاب. وقد حلل الحياة الجسمية للإنسان من مولده إلى موته، ثم شرع يوضح حياته العقلية:((ألا ليت الله يمن علي بأن أشرح أيضاً الأحوال النفسانية لعادات الإنسان بنفس الطريقة التي أصف بها جسمه:)) (100).
وبعد، فهل كان ليوناردو من كبار العلماء؟ إن ألكسندر فن همبولدت Alexander Von Humboldt يرى أنه ((أعظم علماء الطبيعة في القرن الخامس عشر)) (101). ويصفه وليم هنتر بأنه ((أعظم علماء التشريح في عصره)) (102). غير أنه لم يكن مبتكراً بالقدر الذي يظنه همبولدت، فقد جاءته كثير من آرائه في علم الطبيعة من جان بردان، ةألبرت السكسوني، وغيرهما ممن سبقوه. وكان يقع في أغلاط شنيعة، منها قوله في بعض ما كتبه ((إن أي سطح مائي ملاصق للهواء يمكن أن يكون في يوم ما أقل من سطح البحر)) (103)، ولكن هذا الأغلاط جد قليل إلى حد يدعو للدهشة في هذا القدر الجم من المذكرات التي تكاد تشتمل كل موضوع على سطح الأرض أو في السماء. أما أقواله في الميكانيكا النظرية فهي أقوال الهاوي ذي التفكير الراقي والعقل الحصين؛ وإذا ذكرنا أنه كان يعوزه التدريب والآلات، والزمن، وأنه بلغ ما بلغ رغم هذه العوائق الجمة، ورغم كدحه في الأعمال الفنية، فإنا لا نستطيع أن نحاجز أنفسنا عن القول بأن ما وصل إليه في العلم لهو من معجزات ذلك العصر المعجز.
وكان ليوناردو يرتفع في بعض الأحيان من دراساته في هذا الميادين الكثيرة إلى عالم الفلسفة: ((ألا أيتها الضرورة العجيبة: إنك بقوة العقل
الأعلى تلتزمين كل النتائج بأن تكون الأثر المباشر لعللها؛ كما أنك بقوة القانون الأعلى الذي لا ينقض تلتزمين كل عمل طبيعي بأن يعطيك وأن يتبع في هذه الطاعة أقصر عملية مستطاعة)) (104). وإنا لنستمتع في هذه الأقوال إلى نغمة العلم القوية في القرن التاسع عشر، وهي توحي بأن ليوناردو قد نفض عنه بعض العقائد الدينية. وقد كتب فاسارى في الطبعة الأولى لسيرة الفنان يقول إنه كان من بين ((طائفة من أصحاب العقول الملحدة، فلم يكن يؤمن بأي دين من الأديان، ولعله كان يرى أنه يفضل أن يكون فيلسوفاً عن أن يكون مسيحياً)) (105) - غير أن فارساى حذف هذه الفقرة من الطبعات التالية. وكان ليوناردو من حين إلى حين يلمز رجال الدين بعض اللمزات؛ فقد سماهم ((الفريسيين، وأتهمهم بأنهم يخدعون السذج بالمعجزات الكاذبة، وسخر ((العملة الزائفة)) أي الصكوك السماوية التي كانوا يستبدلون بها نقود هذا العالم (106). وكتب في أحد أيام الجمعة الحزينة يقول: ((اليوم يلبس العالم كله ثوب الحداد لأن إنساناً واحداً مات في الشرق)) (107). ويلوح أنه كان يعتقد أن الموتى من القديسين عاجزون عن سماع ما يوجه إليهم من الدعوات (108). ((ليت لي من قوة البيان ما أستطيع به أن أؤنب الذين يعظمون عبادة الآدميين فوق عبادة الشمس .... وإن الذين يرغبون في أن يتخذوا الآدميين أرباباً يعبدونهم ليقعون في خطأ شنيع)) (109). وكان أكثر من سائر فناني النهضة تحرراً في تصوير العقائد المسيحية: فقد منع تصوير الهالات فوق الرؤوس، ووضَع العذراء على ركبتي أمها، وجعَل الطفل عيسى يحاول أن يركب ظهر الحمل الرمزي. وكان يرى أن العقل جزء من المادة، ويؤمن بوجود نفس روحية، ولكنه فيما يبدو كان يظن أن النفس لا تستطيع أن تعمل إلا عن طريق المادة، ووفقاً لقوانين ثابتة لا تتبدل (110)؛ وكتب يقول: ((النفس لا تفسد قط بفساد
الجسم)) (111)، ولكنه أضاف إلى هذا قوله: إن ((الموت يقضي على الذاكرة، كما يقضي على الحياة)) (112)، وإن ((النفس لا تستطيع أن تعمل أو تحس بغير الجسم)) (113). وكان إذا خاطب الإله خاطبه بتذلل وتحمس في بعض الفقرات (114)، ولكنه كان في أحيان أخرى يقول إن الله هو الطبيعة، والقانون الطبيعي، و ((الضرورة)) (115)؛ وقد ظلت وحدة الوجود الصوفية دينه الذي يؤمن به إلى آخر أيام حياته.
الفصل الثامن
في فرنسا
1516 -
1519
جاء ليوناردو إلى فرنسا في الرابعة والستين من عمره، وهو مريض، وسكن مع رفيقه الوفي فرانتشيسكو ملدسي francesco Melzi، وهو شاب في الرابعة والعشرين، في بيت جميل في كلو Cloux بين بلدة أمبواز وقصر أمبواز على نهر اللوار، وكان وقتئذ مسكناً للملك يتردد عليه، وكان العقد الذي بينه وبين فرانسس الأول ينص على أنه ((مصور الملك. ومهندسه، الفني والمعماري، والمشرف على آلات الدولة، نظير مرتب سنوي قدره سبعمائة كرون (8750دولاراً أمريكياً). وكان فرانسس رجلا كريماً يقدر العبقرية حتى في عهد اضمحلالها. وكان يستمتع بحديث ليوناردو ((ويؤكد))، كما يقول تشييني ((إن العالم لم يشهد قط رجلا يعرف ما يعرفه ليوناردو؛ وليس ذلك في النحت، والتصوير، والعمارة فحسب، بل إنه فوق ذلك فيلسوف عظيم (116))) وقد أدهشت رسوم ليوناردو التشريحية أطباء البلاط الفرنسي.
وضل وقتاً ما يكدح لكي يكسب مرتبة بعرق جبينه؛ فكان ينظم المواكب والحفلات التنكرية للاستعراضات الملكية، وعمل في مشروعات توصيل نهري الوار والساءون بقنوات، وتجفيف مستنقعات سالوني Salogne، (117) ولعله قد اشترك في تخطيط أجزاء من قصر اللوار؛ وثمة شواهد تربط اسمه بجمال شامبور Chambord البارع (118). وأكبر الظن أنه قلما كان يشتغل بالتصوير بعد عام 1517، فقد أصيب في ذلك العام بنوبة شلل عطلت جانبه الأيمن عن الحركة. نعم إنه كان يصور بيده اليسرى ولكن الصور التي تتطلب العناية الكبيرة كانت تحتاج إلى كلتا يديه.
ولم يكن في ذلك الوقت إلا حطاماً مغضن الجسم من ذلك الشاب الذي وصل جمال جسمه ووجهه إلى فاساري خلال نصف قرن من الزمان. وضعفت ثقته بنفسه، وكانت من قبل موضع فخاره، واستسلمت روحه الصافية إلى آلام الضعف والانحلال، وحل الأمل محل حب الحياة. وكتب وقتئذ وصية بسيطة، ولكنه طلب أن تقام جميع الصلوات والمراسيم الكنسية على جنازته، وكان قد كتب مرة يقول:((إن الحياة التي تقضى في الخير تجعل الموت حلواً، كما أن اليوم الذي ينفق على خير وجه يجعل النوم مريحاً لذيذاً)) (119).
ويروي فاساري قصة مؤثرة عن وفاة ليوناردو في اليوم الثاني من شهر مايو سنة 1519 بين ذراعي الملك، ولكن يلوح أن فرانسس كان وقتئذ في مكان آخر غير الذي توفى الفنان فيه (120). وقد دفنت جثته في الطريق المقنطر بكنيسة سان فلورنتين في أمبواز. وكتب ملتزي إلى اخوة ليوناردو يبلغهم نبأ وفاته وأضاف إلى ذلك قوله:((إني لعاجز عن أن أعبر عما قاسيته من الألم بسبب موته؛ ومادام فيّ رمق من الحياة سأظل أعيش في شقاء أبدي. وسبب ذلك واضح معروف. ذلك أن فقد رجل مثله مصدر حزن لجميع الناس، لأنه ليس في مقدور الطبيعة أن توجد رجلا آخر من نوعه، فلينزل الله العلي سبحانه وتعالى السكينة على روحه إلى أبد الدهر)) (121).
ترى في أية مرتبه من مراتب الخلق نضعه وإن كنا لا نعرف هل فينا من العلم وضروب الحذق المتنوعة ما نستطيع بهما أن نحكم على هذا الرجل المتعدد الكفايات. إننا نفتتن بمواهبه العقلية المتنوعة أفتتاناً يغرينا بالمبالغة فيما قام به من الأعمال؛ ذلك أنه كان في التفكير أخصب منه في التنفيذ؛ ولم يكن هو أعظم العلماء، أو المهندسين، أو المصورين، أو المثالين، أو المفكرين في عصره؛ وكل ما في الأمر أنه كان الرجل الذي جمع كل هذه المواهب في شخصه، وكان في كل ميدان من ميادينها يضارع أحسن من برز
فيه؛ وما من شك في أنه كان في مدرسة الطب رجال يعرفون فن التشريح أكثر مما يعرف هو؛ ولقد تمت أعظم الأعمال الهندسية في إقليم ميلان قبل أن يجئ ليوناردو؛ وخلف رفائيل وتشييان مجموعة من الصور الجميلة أكثر مما بقي لدينا من رسوم ليوناردو؛ وكان ميكل أنجيلو أعظم منه في فن النحت، كما كان مكيفلي وجوتشيارديني Guicciardini أعمق منه تفكيراً. ومع هذا فأكبر الظن أن دراسات ليوناردو للحصان كانت خير دراسات في التشريح حتى ذلك اليوم. ولقد اختاره لدوفيكو وسيزاري بورجيا مهندساً لهما وآثراه على جميع رجال إيطاليا؛ وليس في صور روفائيل أو تيشيان، أو ميكل أنجلو ما يضارع صورة العشاء الأخير لليوناردو؛ وليس بين المصورين من بلغ مبلغ ليوناردو في دقة التدرج في الألوان تدرجاً غير محس، أو في التصوير الدقيق للمشاعر والأفكار والحنان الوجداني، ولم يقدر تمثال من تماثيل ذلك العصر بالدرجة التي قدر بها تمثال اسفوردسا الجصي، وليس في الصور كلها صورة تفوق صورة العذراء والطفل والقديسة آن؛ وليس في فلسفة النهضة ما يعلو على إدراك ليوناردو لماهية القانون الطبيعي.
ولم يكن هو نموذج ((رجل النهضة)) لأنه كان من أكثر ذلك الطراز دقة ودماثة، وكان مسرفاً في الانطواء على نفسه، وأرق أخلاقاً من أن يمثل عصراً شديد العنف والسلطان في القول والعمل. كذلك لم يكن هو ((الرجل الجامع)) للكفايات، لأن صفات الحاكم أو الإداري لم يكن لها مكان في مواهبه المتعددة، ولكنه كان رغم قصوره ونقائصه أكمل رجل في النهضة، بل لعله كان أكمل رجل في جميع العصور. وإذا ما فكرنا فيما قام به من جلائل الأعمال، أدهشتنا المسافة الشاسعة التي بعد بها هذا الرجل عن نشأته، وتجدد إيماننا بما يستطيع الجنس البشري أن يبلغه.
الفصل التاسع
مدرسة ليوناردو
وترك ليوناردو وراءه في ميلان سرباً من الفنانين الشبان بلغ إعجابهم به درجة تحول بينهم وبين الابتكار. ولدينا صور على الحجر لأربعة منهم - جيوفني أنطونيو بولترفيو Giovanni Antanio Boltraffio، وأندريا سالينو Andrea Salino، وقيصاري دا سستو Caesare Da Sesto وماركو دجيونو Marco ? Oggion- على قاعدة تمثال ليوناردو الأبوي في البياتسا دلا اسكالا Diazza della Scala في ميلان. وكان له تلاميذ غير هؤلاء نذكر منهم أندريا سولاري، وجودتزيو فيراري، وبرنردينو ده كونتي، وفرانتشسكو ملدسي .... وقد عملوا جميعاً في مرسم ليوناردو، وتعلموا كيف يقلدون رشاقة الخطوط دون أن يصلوا إلى دقته أو عمقه. واعترف مصوران آخران بأنه أستاذهما، وإن لم نكن واثقين من أنهما عرفاه شخصياً، أولهما جيوفني أنطونيو باتسي Giovanni Antonio Bazzi الذي سمح لنفسه بأن ينحدر إلينا خلال عصور التاريخ باسم سودوما Sodoma، ولعله قد قابله في ميلان أو رومة؛ وثانيهما برنردينو لويني Bernardino Luini الذي كان يسرف في تقدير العاطفة، ولكن هذا الإسراف كان صريحاً جذاباً يبعد عنه اللوم. وكان يختار لموضوعاته المتكررة صورة العذراء وطفلها، ولعله كان يرى إن هذا الموضوع الذي تكرر حتى أصبح أكثر الموضوعات التصويرية إثارة للسآمة والملل هو أرقى ما تمثل به الحياة بوصفها سلسلة متصلة الحلقات: من المواليد، ومن الحب الذي يعلو على الموت، ومن الجمال النسوي الذي لا يتضح
أبداً إلا في الأمومة. ولقد بز أتباع ليوناردو على بكرة أبيهم في إدراكه رقة أستاذه النسوية، وما في ابتسامة ليوناردو من حنان - لا غموض؛ وليست صورة الأسرة المقدسة التي في الأمبروازيانا في ميلان إلا نسخة أخرى لطيفة من صورة العذراء والطفل والقديسة آن التي رسمها المعلم نفسه، وكذلك جمعت صورة الاسبوز اليدسيو Sposalizio الموجودة في ساروني Saronne جميع ماصوره كريجيو من رشاقة. ويبدو أنه لم يكن يشك قط، كما يشك ليوناردو. في القصة المؤثرة، قصة الفتاة الفلاحة التي حملت بالإله؛ وقد رقق الخطوط والألوان في صوره بما وهب من التقوى الساذجة التي قلما كان يشعر بها ليوناردو أو يمثلها؛ وإن الرجل المتشكك الغير راضي عن تشككه الذي يسعه رغم هذا أن يعظم الأسطورة الجميلة الملهمة، ليقف أمام صورتي نوم الطفل الرضيع يسوع، وعبادة المجوس أطول مما يقف أمام صورة القديس يوحنا لليوناردو، كما أنه يجد فيهما من الإشباع والصدق أعمق مما يجده في صور ليوناردو.
وانقضى عصر ميلان العظيم بانقضاء هؤلاء الفنانين الظرفاء، وقلما كان المهندسون، والمصورون، والمثالون، والشعراء، الذين خلعوا على بلاط لدوفيكو صورة ذات روعة وبهاء منقطعتي النظير، قلما كان هؤلاء من أبناء ميلان نفسها، وقد بحث كثيرون منهم عن مراع أخرى لهم لما سقط الحاكم المطلق الرقيق. ولم يبرز في الفوضى والذلى اللتين أعقبتا ذلك العصر فنان ذو شأن يحل محلهم، وكان القصر والكنيسة وحدهما هما اللذين يذكران الإنسان بعد جيل من ذلك الوقت بأن ميلان ظلت عشر سنين عظيمة - هي العشر السنوات الأخيرة في القرن الخامس عشر - تتزعم موكب الحضارة في إيطاليا.
الباب الثامن
تسكانيا وأمبريا
الفصل الأول
بيرو دلا فرانتشيسكا
إذا ما عدنا الآن إلى تسكانيا وجدنا أن فلورنس قد فعلت ما فعلته باريس في هذه الأيام، فاستحوذت على مواهب الأقاليم التابعة لها، ولم تترك فيها إلا شخصا هنا وشخصاً هناك يستوقفنا في طريق عودتنا إليها، وقد ابتاعت لوكا عهداً باستقلالها الذاتي من الإمبراطور شارل السادس (139)، واستطاعت أن تبقى مدينة حرة إلى أيام نابليون. وكان أهل لوكا يفخرون بكتدرائيتهم الباقية من القرن الحادي عشر، واكن من حقهم أن يفخروا بها، وقد احتفظوا بها بتجديد بنائها المرة بعد المرة، وجعلوها متحفاً حقاً للفنون، وهي الآن متعة للعين والروح بما حوته في مواضع الترنيم من مقاعد جميلة (1452)، وزجاج ملون (1485)، وبصورة عميقة أعظم من صورة العذراء مع القديس استيفن والقديس يوحنا المعمدان (1509)، وبعدد من الصور المتتابعة الجميلة من صنع ماتيو تشفيتالي Matteo Civrtali ابن لوكا نفسها.
وفضلت بستويا فلورنس على الحرية، ذلك أن الصراع بين البيض والسود قد أشاع الاضطراب في المدينة، فلجأت الحكومة إلى مجلس السيادة في فلورنس أن يتولى هو شئونها (1306)، وشرعت بستويا من
ذلك الحين تأخذ فنها كما تأخذ شرائعها من فلورنس، وقد صمم فيها جيوفني دلا ربيا giovanni della Robbia وبعض مساعديه (1514 - 1525) إفريزاً حوى نقوشاً بارزة على الصلصال المحروق البراق لمستشفاها المعروف باسم أسبدالي دل تشيو Ospedale del Ceppo والذي سمي بهذا الاسم لوجود جذع شجرة مجوف يستطيع الإنسان أن يلقي فيه ما يتبرع به للمستشفى. ويمثل هذا النقش "أعمال الرحمة السبعة": كساء العارين، وإطعام الجائعين، والعناية بالمرضى، وزيارة السجون، واستقبال الغرباء، ودفن الموتى، ومواساة الثاكلين. لقد كان الدين هنا يتجلى في أحسن مظاهره.
وكانت بيزا قد بلغت من قبل درجة من الثراء استطاعت معها أن تحول جبال الرخام إلى كنيسة كبرى، وموضعا للتعميد، وبرجاً مائلاً. وكانت تدين بهذا الثروة لى موقعها المنيع على مصب الآرنو، ومن أجل هذا أخضعتها فلورنس إلى سلطانها قوة واقتداراً (1405)، لكن بيزا لم تقبل لنفسها هذا الإذلال، فكانت تثور المرة بعد المرة، وحدث في عام 1431 أن طرد مجلس السيادة الفلورنسي من بيزا جميع الذكور القادرين على حمل السلاح، واحتفظ بنسائها وأطفالها رهائن يضمن بهم حسن سلوك الأهلين (1). واغتنمت بيزا فرصة الغزو الفرنسي (1495) لتستعيد به استقلالها، وظلت أربعة عشر عاماً تحارب جنود فلورنس المرتزقين، حتى خضعت آخر الأمر بعد مقاومة عنيفة أبلت فيها بلاء الأبطال، فلما حدث هذا هاجرت كثير من الأسر الكبيرة إلى فرنسا أو سويسرا مفضلة النفي على الخضوع الأجنبي، وكان من بين هذه الأسر آل سمسندي Sismondi أسلاف المؤرخ الذي روى في عام 1838 بعبارة بليغة قصة تلك الحوادث في كتابه تاريخ الجمهوريات الإيطالية. وحاولت فلورنس أن تكفر عن استبدادها بتمويل جامعة بيرزا وبإرسال فنانيها لتزيين الكنيسة
والميدان المقدس، ولكن شيئاً ما لم يكن ليستطيع أن يأسو جراح تلك المدينة التي تقضي عليها طبيعتها الجيولوجية بالاضمحلال، حتى ولا المظلمات الذائعة الصيت التي صورها بينوتسو جتسولي Benzzo Gozzol في الميدان المقدس لذي يضم رفات الموتى. وكان سبب القضاء عليها أن رواسب نهر الآرنو تدفع ساحل البحر إلى الأمام دفعا تدريجياً لا رحمة فيه ولا هوادة، حتى نشأ من ذلك ثغر جديد في ليفورنو Livorno أو لجهورن Leghorn على بعد ستة أميال مبيزا، ففقدت هذه المدينة مركزها التجاري الممتاز الذي كان سبباً في ثرائها وفي مأساتها جميعاً.
أشتق اسم سان جمنيانو san Gimignano من اسم القديس جمنيان Giminian الذي أنجى القرية البدائية من جحافل أتلا حوالي عام 450 م. وتمتعت المدينة ببعض الرخاء في القرن الرابع عشر، ولكن السر الغنية فيها انقسمت أحزاباً متطاحنة سفاحة، وشادت الأبراج الستة والخمسين الحصينة (التي نقصت الآن إلى ثلاثة عشر) والتي خلعت على البلدة اسمها الذي اشتهرت به زهو سان جمنيانو دلي بلي توري San Gimqnens delle Belle Torri ( أي ذات الأبراج الجميلة). وبلغ النزاع بين أحزابها في عام 1353 درجة من العنف أضطر المدينة أن تستسلم للقضاء فترضي بالاندماج في أملاك فلورنس. ويبدو أن الحياة قد بدأت تفارقها من ذلك الحين. نعم إن دومنيكو غرالندايو أذاع شهرة معبد سانتا فينا Santa Fina القائم في كنيسة سانتا أجستينو Santa Ogostino ومناظر من حياة القديس أوغسطين تضارع صور الفرسان التي صورها في معبد آل ميديتشي، وإن بينيدتو دا مايانو Bendetto da Maiano حفر محاريب جميلة لهذه المزارات المقدسة، ولكن التجارة سلكت مسالك أخرى، وافتقرت الصناعة إلى مقوماتها، وانعدم الحافز الذي لابد منه لتقدمها، وظلت سان جمنيانو
ساكنة في شوارعها الضيقة، وأبراجها المتصدعة، حتى إذا كان عام 1928 حولت إيطاليا تلك المدينة إلى أثر قومي، واحتفظت بها بوصفها صورة نصف حية لما كانت عليه الحياة في العصور الوسطى.
وكانت أرتسو، القائمة على بعد أربعين ميلاً من فلورنس تجاه منبع الآرنو، بقعة حيوية في شبكة الحصون الدفاعية عن فلورنس ومسالكها التجارية. وكان مجلس السيادة الفلورنسي شديد الرغبة في السيطرة عليها، وينصب الفخاخ لإيقاعها تحت هذه السيطرة، فلما كان عام 1384 اشترت فلورنس هذه المدينة من دوق أنجو Anjou، ولم تنس أرتسو قط هذه المهانة. وفيها ولد بتراراك وأريتينو Aretino، وفارساى، ولكنها عجزت عن الاحتفاظ بهم، لأن روحها كانت لا تزال هي روح العصور الوسطى. وقد ذهب لوكا اسبنيلو Luca Spinello، ويسمى هو أيضاً أريتينو Aretino، من أرتسو ليصور في رسوم الميدان المقدس في بيزا مظلمات حبة جميلة تنبض بصدمات المعارك الحربية (1390 - 1392)، ولكنها تمثل فيما تمثله المسيح ومريم والقديسين تمثيلا ينطق بعظيم التقوى المؤثرة في النفس أعظم التأثير. وقد صور لوكا - إذ جاز لنا أن نصدق فارساي - الشيطان بصورة قبيحة منفرة بلغ من قبحها أن غضب منه الشيطان نفسه فظهر له في حلم وأخذ يؤنبه بعنف مات معه لوكا من شدة الرعب. وفي الثانية والتسعين من العمر (2).
وكانت بلدة بورجو سان سبيلكرو Borgo San Sapolcro تقع على نهر التيبر الأعلى في الشمال الشرقي من أرتسو، وبدا أنها اصغر من أن ينشأ فيها فنان من طراز راق أو أن يقيم بها مثل هذا الفنان. وكان من أبنائها بيرو دي بينيدتو الذي سمى فرانتشيسكا باسم أمه، لأن والده توفي وهي حامل به، فربته في حب وحنان، وهدته إلى تعلم الرياضيات والفن، وأعانته على تعلمهما. ونحن نعلم أنه ولد في بلدة الضريح المقدس، ولكنا نجد
أول إشارة له وهو في فلورنس عام 1439. وهذا هو العام الذي أتى فيه كوزيمو بمجلس فيرارا إلى فلورنس. ولعل بيرو قد أبصر الحلل الفخمة التي يرتديها الحبار والأمراء البيزنطيون الذين جاءوا ليتفاوضوا في توحيد الكنيستين اليونانية والرومانية. وفي وسعنا أن نفترض ونحن أكثر من هذا ثقة انه درس مظلمات ماساتشيو Masaccio في نعبد برنكاتشي Berncacci، وكانت هذه هي العادة المألوفة التي لا يكاد يخرج عنها كل طالب فن في فلورنس، وأمتزج ما كان لماساتشيو من هيبة، وقوة، ومراعاة جدية لقواعد المنظور، في فن بيرو بما كان للأحبار الشرقيين من لحى ذات جلال وروعة وجمال.
ولما عاد بيرو إلى برجو (1442) اختير عضواً في مجلس المدينة ولما يتجاوز السادسة والثلاثين من العمر. وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت عهد إليه أول عمل يذكره التاريخ المدون: أن يرسم صورة مارنا دلا مزريكورديا لكنيسة سان فرانتشيسكو، ولا تزال هذه الصورة محفوظة في قصر البلدية، وهي مزيج عجيب من صور القديسين المكتئبين، ومن عذراء نصف صينية تكشف ثياب رحمتها عن ثمان صور، ومن صورة فطنة للملك الأكبر جبريل يعلن إلى مريم البشارة بأمومتها بطريقة شكلية محضة، ومن صورة للمسيح تجعله شخصياً فلاحاً مُثَّل صلبه تمثيلاً واقعياً محزناً، ومن صورة واضحة للأم الحزينة والرسول يوحنا. تلك صورة نصف بدائية، ولكنها قوية ليس فيها شيء من العواطف الجميلة، ولا الزخرف الرقيق، ولا يحاول صاحبها أن يخلع على القصة المفجعة شيئاً من الرقة المثالية، ولكنا نرى أجساماً يعلوها ويستنفذ جهدها عثير الحياة، غير أنها مع ذلك تسمو إلى درجة النبل في آلامها الصامتة، وصلواتها، وغفرانها ذنوب من آذوها.
وانتشر صيته وقتئذ في جميع أنحاء إيطاليا، وانهالت عليه الأعمال
فصور في فيرارا (1449؟) صوراً جدارية في قصر الدوق. وكان روجير فان در ويدن Rogier van der Weyden مصور الحاشية في تلك البلدة، وأكبر الظن أن بيرو أخذ عنه شيئاً من أصول فن التصوير باللون الممزوج بالزيت، ورسم في ريمني Rimini (1451) صورة لسجسمندو مالاتيستا Sigismondo Malatesta - الطاغية، والقاتل، ونصبر الفن - وهو واقف وقفة المصلي الخاشع. والى جانبه كلبان فخمان يخففان من رهبة الموقف. ورسم بيرو في أرتسو في فترات مختلفة بين 1452 و 1464 سلسلة من المظلمات تمثل أعلى مستوى وصل إليه فنه، وأكر ما تحدث عنه قصة الصليب الحقيقي، التي تنتهي باستيلاء كسرى الثاني عليه، ثم استرداده وإعادته إلى بيت المقدس على يد الإمبراطور هرقل. ولكن في هذه الصورة مواضع أيضاً لحوادث من امثال موت آدم، وزيارة الملكة سبأ لسليمان، وانتصار قسطنطين على مكنتيوس عند جسر ملفيا. وإن جسم آدم الهزيل وهو يحتضر، ووجه حواء المنهوك وثدييها المتهدلين، وأجسام أبنائهما القوية، وبناتهما التي لا تقل قوة ورجولة عن أجسام البنين، والأثواب الفخم السابة التي ترتديها حاشية ملكة سبأ، ووجه سليمان العميق التفكير الذي تكشف عنه الخداع، والطريقة المدهشة التي يسقط بها الضوء في حكم قسطنطين، والطريقة الفاتنة الخلابة التي يحتفظ بها الرجال والجياد في انتصار هرقل - هذه كلها من أقوى مظلمات عصر النهضة وأعظمها تأثيراً في النفس.
والراجح أن بيرو قد صور في فترات تتخلل هذه الجهود الكبرى ستار المحراب في بورجيا كما رسم بعض صور جداريه في الفاتيكان - وقد غطيت هذه الصور الجداريه فيما بعد بالجير لتفسح مكاناً لفرشاة روفائيل الأعظم منها شأناً. وصور في أربينو عام 1469 أعظم صورة له الإطلاق - وهي الصورة الجانبية التي تستوقف النظر للدوق فيدير يجو دامونتي فيلترو Duke Federigo da Montefeltro وكان أنف فيدير يجو
قد كسر وخده الأيمن قد جرح في حفلة برجاس: وصور بيرو جانبه الأيسر سليما ولكنه منتفخ بما فيه من شامات، ثم صور النف المعوج صورة واقعية جريئة. كذلك كشف في الصورة عن حقيقة هذا الحاكم بشفتيه المضمومتين وعينيه نصف المغمضتين، ووجه الرزين، فأظهره الرجل الرواقي، الذي خبر حقارة المال والسلطان. غير أننا لا نجد في ملامحه رقة الذوق الذي هدى فيديريجو إلى تنظيم الموسيقى القديمة المزدانة بالرسوم. وقد رسم بيرو معها في الصورة ذات الطيتين المحفوظة في أفيزى صورة جانبية لباتيستا أسفوردسا زوجة فيديريجو، ذات جلال ووقار، ولكنه خلع على الصورتين من الرشاقة ما يجعلهما سخيفتين بحق.
وشرع بيرو في عام 1480 وبهذا بلغ الرابعة والستين من عمره يقسي كثيراً من المتاعب بسب مرض عينيه، ويظن فارساي انه فقد بصره، ولك يبدو انه كن لا يزال قادراً على التصوير الجيد. وكتب في سني الشيخوخة كتاباً دراسياً في فن المنظور ورسالة حلل فيها لعلاقات والنسب الهندسية التي يتطلبا فن التصوير. وتبنى تلميذه لوك بشيولي أفكاره في كتابه النسب الإلهية De divina proptione، ولعل آراء بيرو في الرياضة قد أثرت بهذه الطريقة غير المباشرة في دراسات ليوناردو لهندسة الفن.
ولقد نسي العالم الآن كتب بيرو وكشف صوره من جديد. وإذا ما ذكرنا الوقت الذي كان يعيش فيه، وعرفنا أنه أتم عمله في الوقت الذي بدأ فيه ليوناردو، ولم يسعنا إلا أن نضعه في مصاف كبار المصورين الإيطاليين في القرن الخامس عشر. ولسنا ننكر أن صورة تبدو عديمة
الصقل، وأن وجوهها خشنة غليظة، وأن كثير منها يبدو أنه صيغ في قالب فلمنكي، لكن الذي يسمو بها إلى مرتبة النبل هو ما يظهر عليها من مهابة وهدوء، وطلعة وقورة، وقفة رائعة، وما في حركات أصحابها وأعمالهم من قوة مقموعة محتجزة ولكنها مع ذلك مسرحية. والسمة التي تتألق في هذه الصور هي الانسياب والتناسق ألا وهو الأمانة التي دفعت بيرو إلى تمثيل ما أبصرته عينه وأدركه عقله محتقراً بذلك العواطف المتكلفة والتقيد بمثل أعلى لصوره.
وكان بعده عن مراكز النهضة الكبيرة مما حال بينه وبين وصوله فنه إلى ما كان خليقاً به أن يبلغه من كمال، وحرم هذا الفن من أن يكون له أثره القوي الكامل فيمن جاء بعده من الفنانين، ومع ذلك فقد كان من بين تلاميذه سنيوريلي Signorelli، كما أنه كان ممن شكلوا طراز لوكا. وكان والد روفائيل هو الذي دعا بيرو إلى أربينو، ومع أن هذه الدعوة جاءت قبل مولد روفائيل بأربعة عشر عاماً، فإن هذا الشاب المحظوظ قد أبصر ودرس بلا ريب ما خلفه بيرو في تلك المدينة وفي بورجيا من صور. كذلك أخذ ميلتسو دا فورلي Melozzo da Forli عن بيرو شيئاً مكن القوة والرشاقة في التصميم، وإن صورة الملائكة الموسيقيين التي رسمها ميلتسو والمحفوظة في الفاتيكان لتذكرنا بالصور التي رسمها بيرو في أحد أعماله الأخيرة - صورة عيد الميلاد المحفوظة في معرض الصور بلندن - تذكرنا بها كما تذكرنا صورة الملائكة المرنمين لبيرو بصورة كنتوريا للوكا دلا ربيا. وهكذا يترك الناس تراثهم لمن يأتون بعدهم - يتركون عملهم، وقوانينهم، ومهاراتهم، ويصبح انتقال هذا التراث نصف أسباب الحضارة ومقوماتها.
الفصل الثاني
سنيوريلي
بينما كان بيرو دلا فرانتشيسكا يرسم روائع صوره في أرتسو دعا لتسارو فرساي Lazzaro Vasari والد جد المؤرخ المعروف بهذا الاسم شاباً من طلبة الفنون يدعى لوكا سنيوريلي ليعيش في بيت أسرة فارساي ويدرس الفن على بيرو. وكان لوكا قد ابصر نور العالم لأول مرة في أقرطونة Cortona التي تبعد نحو أربعة عشر ميلا إلى الجنوب الشرقي من أرتسو (1441). ولم يكن قد تجاوز الحادية عشرة من عمره حين قدم بيرو إلى هذه المدينة: ولكنه بلغ الربعة والعشرين حسن توفي هذا الفنان. وشغف الشاب بفن المصور في هذه الفترة وتعلم منه رسم الجسم العاري رسماً صادقاً لا أثر فيه للتصنع - وبصرامة مرجعها إلى تأثير معلمه، وقوة في الرجولة تنبئ بقوة ميكل أنجيلوا. وكان هذا الشاب يفحص عن الجسم الإنساني أينما استطاع أن يجده، وكان يبحث فيه عن القوة لا عن الجمال، ويبدو أن هذا هو كل مل كان يعنيه. فإذا كان قد صور شيئاً خلاف هذا فقد كان ذلك خروجاً منه عن خطته المرسومة يضيق به ذرعاً وإن ارتضاه إلى حين. وحتى في هذا كان يتخذ الأجسام العارية في بعض الأحيان ليزن بها هذه الرسوم. ولم يجيد تصوير النساء العاريات (إذا كان لنا أن نتحدث في هذا دون أن نراعي الدقة الكاملة) شأنه في ذلك شأن ميكل أنجيلو، فإذا رسمهن لم يلقي في رسمه إلا قليلاً من النجاح، وكان إذا صور الذكور لم يفضل منهم الشبان ذوي الجمال كما كان يفضلهم ليوناردو وسودوما؛ بل كان يفضل الكهول الذين اكتملت رجولتهم وقوية عضلاتهم.
واحتفظ سنيوريلى بهذا الشغف أثناء تنقلاته بين مدن إيطاليا الوسطى يترك فيها الصور العارية أينما ذهب؛ وبعد أن قام ببعض الأعمال في سان سيبلكرو وانتقل منها إلى فلورنس (حوالي عام 1475) ورسم للورندسو صورة مدرسة بان وهي صورة على القماش مزدحمة بالآلهة الوثنية العارية وأهداها له. والراجح أيضاً أنه صور للورندسو صورة العذراء والطفل المحفوظة في معرض أفيزى، وصورة العذراء ممتلئة الجسم ولكنها جميلة، وأكثر ما تتكون منه خليفة الصورة هو الرجال العراة، وقد استمد ميكل أنجيلو منها بعض الإيحاء بصورة الأسرة المقدسة.
ومع هذا فإن هذا المصور الوثني للأجسام العارية قد استطاع أيضاً رسم صورتين تنمان عن التقى والصلاح؛ فصور العذراء في الأسرة المقدسة المحفوظة في معرض أفيزى من أجمل ما أخرجه فن النهضة. وذهب سنيوريلى إلى لوريتو Loreto بدعوة من البابا سكستس الرابع (حوالي عام 1479) وزين حرم سانتا ماريا بصورة جصية ممتازة للمبشرين بالإنجيل وغيرهم من القديسين. ثم نجده بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت في روما يضيف إلى معبد سستينى منظراً من حياة موسى يثير الإعجاب بما فيه من صور الذكور، والاشمئزاز مما فيه من صور النساء. واستدعى بعدئذ إلى بروجيا (1484) فرسم بعض صور جصية صغرى في كتدرائيتها. ويلوح أنه اتخذ أقرطونة موطناً له في ذلك الحين، ورسم فيها صوراً طلبت إليه من أماكن أخرى، ولم يتركها في الغالب إلا لأعمال كبرى في سينا؛ وأفيتو، ورومة، وصور في طرفات دير مونتى أليفيتو Monte Oliveto المقنطرة في شيوزورى Chiusuri القريبة من سينا مناظر من حياة القديس بندكت، وأتم لكنيسة سانت أجيستينو في سينا ستاراً لمحرابها يعد من خير رسومه كلها، ولم يبقى من هذه الصورة إلا جانباها. ورسم بعدئذ لبنديلفو بيروتشى طاغية سينا
حوادث من التاريخ أو القصص القديم، ثم انتقل إلى أرفينو ليقوم فيها بخاتمة أعماله الكبرى.
وتفصيل ذلك أن مجلس الكتدرائية ظل ينتظر في غير جدوى قدوم بروجيو ليزين معبد سان بردسيو، وكان قبل دعوته قد بحث في دعوة بنتورتشيو Pintoriccio ورفض هذه الدعوة. فلما كان عام 1499 استدعى سنيوريلى، وطلب إليه أن يتم العمل الذي بدأه الراهب أنجيلكو في المعبد قبل خمسين عاماً من ذلك الوقت. وكان ذلك العمل هو تزيين المحراب المحبب إلى الأهلين في الكتدرائية العظيمة؛ وكان سبب هذا الحب أن قد علقت فوقه صورة قديمة للسيدة دى سان دسيو التي تستطيع (كما يعتقد الناس) أن تخفف آلام الوضع، وأن تدعم الوفاء بين المحبين، والأزواج، وأن تمنع الحمى الراجعة، وتهدئ العاصفة. وكان الراهب أنجيلكو قد رسم على سقف المحراب صوراً تمثل يوم الحساب حوت كل ما يكتنف روح العصفور الوسطى من آمال ومخاوف، ثم رسم سنيوريلى تحت هذه الصور موضوعات أخرى شبيهة بموضوعها تمثل - المسبح الدجال، وخاتمة العالم، وبعث الموتى، والجنة، وهبوط الملعونين إلى الجحيم. غير أن هذه الموضوعات القديمة لم تكن بالنسبة له في واقع الأمر إلا إطاراً يظهر فيه الرجال والنساء العراة الأجسام في مائة من الأوضاع المختلفة، وفي مائة من انفعالات الفرح والألم. ولم يشهد عشر النهضة بعد ذلك الوقت هذه الأكداس من اللحوم البشرية إلا حين أخرج ميكل أنجيلو صورة يوم الحساب. ترى هل كان سنيوريلى يبتهج بتصوير الأجسام الجميلة أو المشوهة، والوجوه الحيوانية أو السماوية، وتجهم الشياطين، وآلام المعذبين حين يتناثر عليهم لهب النار، وتعذيب المذنبين واحداً بعد واحد بتكسير أسنانهم وعظام أفخاذهم بالعصى الغليظة - نقول هل كان سنيوريلى يبتهج بهذه المناظر، أو هل أمر أن يصورها كي يشجع
الناس على التقى والصلاح؟ وسواء كان هذا أو ذاك صور نفسه (في أحد أركان صور المسبح الدجال) يتطلع إلى هذا التطاحن بهدوء الرجال الذي نجا من العذاب.
وقضى سنيوريلى ثلاث سنين في رسم هذه المظلمات عاد بعدها إلى أقرطونة ورسم صورة المسبح الميت لكنيسة سانت مرغريتا. لما حملت له الجثة "طلب أن تنضى من ثيابها" كما يقول فاسارى، "وتذرع الصبر الذي ليس عده صبر، ولم يذرف دمعة واحدة، ورسم صورة للجسم كي يستطيع أن يشهد على الدوام في هذه الصورة التي من صنع يده، ما حبته به الطبيعة؛ وسلبته إياه الأقدار القاسية".
وحلت به في عام 1508 نكبة من نوع آخر. ذلك أن يوليوس الثاني عهد إليه هو وبروجينو، وبنتورتشيو، وسودوما أن يزينوا الغرف البابوية في قصر الفاتيكان. وبينما هم قائمون بالعمل إذ أقبل عليهم روفائيل، وسر البابا من مظلماته البدائية سروراً حمله على أن يخصص له كل الحجرات وطرد منها سائر الفنانين. وكان سنيوريلى وقتئذ في السابعة والستين من عمره، وربما كانت يده قد فقدت حذقها وثباتها، بيد أنه رغم هذا صور بعد أحد عشر عاماً من ذلك الوقت ستاراً لمذبح عهدت به إليه شركة سان جيرولامو في أرستو، ونجح في ذلك نجاحاً أكسبه كثيراً من الثناء. ولما فرغ من الصورة جاء الاخوة الشركاء في أقرطونة وحملوا صورة السيدة والقديسين على أكتافهم طوال الطريق إلى أرتسو؛ ورافقهم سنيوريلى، وأقام مرة أخرى في بيت فاسارى. وفيه أبصر جيورجيو فاسارى Giorgio Vasari وهو غلام في الثامنة من عمره، وتلقى منه كلمات مشجعة على دراسة الفن ظل يذكرها أمداً طويلاً. وكان سنيوريلى في صباه شاباً قوى العاطفة سريع الاهتياج، لكنه أصبح في شيخوخته سيداً عطوفاً رحيماً، أوفى على
الثمانين من عمره، ويعيش في رخاء لا بأس به في البلدة التي كانت مسقط رأسه. واختير وهو في الثالثة والثمانين من عمره وللمرة الأخيرة في حياته عضواً في مجلس حكام أقرطونة ثم مات في عام 1524.
وبعد، فإن من العلماء الممتازين من يعتقدون أن سنيوريلى لم يبلغ من الشهرة ما تؤهله لها مواهبه، ولكن لعل الحقيقة أنه نال فوق ما يستحق. لقد كان يرسم في يسر، ولقد أدهشنا في دراساته للتشريح، ومواقف النماذج؛ وفن المنظور، وترتيب أجزاء الصورة بحيث يتبين الناظر إليها القريب منها والبعيد؛ وهو يدخل علينا السرور باستخدام الأجسام البشرية في تأليف صورة وتزيينها. وهو حين يرسم صورة السيدات يسمو أحياناً إلى مستوى عال من الرقة، ولقد افتتنت عقول الناقدين الخبيرين بصور الملائكة الموسيقيين في لورنتو. أما في ما عدا هذا فكان هو الداعي إلى إجادة تصوير الجسم بإتقان التشريح؛ فهو لم يخلع عليه رقة بدنية، أو رشاقة شهوانية، أو يمجده بجمال التلوين، أو سحر الضوء والظل، وقلما كان يدرك أن وظيفة الجسم هي أن يكون المظهر الخارجي والأداة المعبرة عن الروح أو الأخلاق الرقيقة التي لا تدركها الحواس؛ وأن الواجب الأسمى للفن هو أن يبحث عن الروح ويظهرها في ثنايا قناعها الجسدي. ولق أخذ ميكل أنجيلو عن سنيوريلى تعظيمه للتشريح إلى حد العبادة، كما أخذ عنه إضاعته الغاية في سبيل الوسيلة؛ ولهذا نراه يكرر في صورة يوم الحساب التي رسمها في معبد سستينى ما في مظلمات أفيتو من جنون عجيب بوظائف أعضاء الجسم ويكررها في الثانية بصورة أكبر منها في الأولى. غير أنه أستخدم في الصور التي رسمها على سقف هذا المعبد نفسه وفي تماثيله جسم الإنسان فجعله لسان الروح الناطق. وقد انتقل فن التصوير على يد سنيوريلى في خطوة واحدة من أهوال فن العصور الوسطى ورقته، إلى مغالاة في الزخرف مغالاة أفقدته روحه.
الفصل الثالث
سينا وسودوم
كادت سينا في القرن الرابع عشر تلاحق فلورنس في التجارة والحكم والفن. أما في القرن الخامس عشر فقد أنهكت قواها في أعمال العنف والتعصب الحزبي إلى حد لم تصل إليه أي مدينة أخرى في أوربا، فقد تناوبت على حكم المدينة خمسة أحزاب - أو خمسة تلال Monti كما يسميها أهلها - أسقطت كلا منها ثورة جامحة نفي على أثرها أعضاؤه البارزون واكنوا يبلغون في بعض الأحيان عدة آلاف. وفي وسعنا أن نتبين حدة هذا النزاع من اليمين التي أقسمها حزبان من هذه الأحزاب الخمسة والتي يعلنان بها عزمها على وضع حد لهذا النزاع (1494). ويصف شاهد عيان روعته هذه الحال أعضاء الحزبين مجتمعين اجتماعاً رهيباً في سكون الليل في جناحين منفصلين بكنيستهم الرحبة الخافتة الضوء:
وقرئت شروط الصلح وكانت تملأ ثماني صفحات، وصحبتها يمين من أشد الأيمان رهبة، مليئة بألفاظ المقت واللعن، والحرمان، واستنزال الشر، ومصادرة الأموال، وغيرها من المصائب التي تستك منها المسامع والتي لا ينجي منها شيء حتى القربان المقدس ساعة الموت. بل إنه سيضاعف اللعنات على الذين ينكثون العهد ويحالفون هذه الشروط؛ وإني
…
لأعتقد أن أحد لم يسمع قط يميناً أشد هولا أو رهبة من هذه اليمين. ثم أخذ الكتبة الواقفين على جانبي المحراب يسجلون أسماء جميع المواطنين وهم يقسمون على الصليبين الموضوعين في كلا الجانبين، ثم يقبله كل اثنين من هذا الحزب وذاك، وتدق أجراس الكنيسة وينشد دعاء "لك الحمد يا رب" مصحوباً بموسيقى الأرغن أثناء تلاوة القسم.
وتمخض هذا النزاع عن قيام أسرة سيطرت على الموقف هي أسرة بيتروتشى. ذلك أن بنفدلفو بيتروتشى نصب نفسه حاكاً بأمره في عام 1497 ولقب نفسه بصاحب الفخامة il magnifico، وعرض أن يهب سينا النظام، والسلم، والحكم الأتوقراطي الصالح الذي سعدت به فلورنس أيام آل ميديتشى. وكان بنديلفو هذا على جانب كبير من المهارة، وكان على الدوام ينجو بنفسه من جميع الأزمات بل إنه نجا من انتقام سيزارى بورجيا نفسه؛ وقد ناصر الفنون وكان يميز غثها من ثمينها، ولكنه كثيراً ما كان يلجأ للاغتيال خفية حتى لقد فرح الناس جميعاً بموته (1512)، فلما كان عام 1525 بلغ يأس المدينة درجة لم يسعها معه إلا أن تتقدم للإمبراطور شارل الخامس بأن يضعها تحت حمايته، وعرضت عليه في نظير ذلك خمسة عشر ألف دوقة.
وبلغ فن سينا ذروته خلال فترات الصحو التي سادها السلم، فواصل أنطونيو باريلى Antonio Barile تقاليد العصور الوسطى في الحفر العجيب على الخشب، وشاد لورندسو دى مريانو في كنسية فنتجيستا محراباً عالياً على الطراز الروماني الجميل. واتخذ ياقوبو دلا كويرتشيا Jacopo della Quercia لقبه من قرية في مؤخرة سينا. وكان الذي يمده بالمال وهو ينحت تماثيله الأولى هو أرلندو ماليفلتى Orlando Malevalti فأثبت بذلك أنه غير خليق بأن يسمى صاحب "الوجوه الشريرة". ولما أن نفي أرلندو لأنه انضم إلى الجانب الخاسر في النزاع السياسي، غادر ياقوبو سينا لاي لوكا (1390) حيث تصميم قبر فخم لإلاريا دل كاريتو Iliaria del Carretto، وبعد أن ظل فترة من الزمن ينافس دوناتيلو وبرونيلسكو في فلورنس انتقل إلى بولونيا وحفر على باب سان بترونيو Soan Patronio تماثيل ونقوشاً رخامية تعد من أجمل ما صنع في النهضة (1425 - 1428). وشاهدها ميكل أنجيلو في موضعها بعد سبعين عاماً من ذلك الوقت، وأعجب بما تنطق به هذه الصور العارية من قوة ورجولة، وظل
وقتاً ما يستمد منها الوحي والحافز. ولما عاد ياقوبو بعدئذ إلى سينا قضى شطراً كبيراً من العشر سنين التالية يعمل في آيته الفنية المعروفة باسم "الفسقية المرحة Fonte Gaia". فنقش على قاعدتها الرخامية صورة العذراء السيدة المدينة الرسمية؛ وصورة حولها الفضائل السبعة الأصلية؛ وأضاف إلى ذلك مناظر من العهد القديم ملأت جزءاً كبيراً من القاعدة، ثم ملأ ما بقى بعد ذلك بصور الأطفال والحيوانات - تشهد كلها بقوة التفكير وحسن التنفيذ الذين يبشران بقدوم ميكل أنجيلو. وأعجبت سينا بعمله هذا فبدلت اسمه وجعلته ياقوبو ذا القسقية Jacopo della Fonte وأجازته عليه بألفي كرون ومائتين (55. 000 دولار أمريكي؟). ومات في الرابعة والستين من عمره بعد أن أنهكه فنه، وحزن عليه جميع المواطنين.
واستعانت المدينة المعجبة بنفسها طوال الجزء الأكبر من القرنين الرابع عشر والخامس عشر بمائة فنان مختلفي المواطن ليجعلوا كنيستها درة العمارة في إيطاليا، وعين دمينيكو دل كورو Domenico del Coro أحد أساتذة التلبيس بالخشب مشرفاً على العمل في الكتدرائية بين عامي 1413 - 1423، وأخذ هو وامتيو دي جيوفني، ودمينيكو بكافومي Domenico Beccafumi وبنتورتشيو وكثيرون غيرهم يطعمون أرض المزار العظيم بقطع من الرخام تمثل حوادث في الكتب المقدسة حتى أضحت أرض الكنيسة أعجب أرض الكنائس في العالم كله. ونحت انطونيو فيديريغي Antonio Federighi لهذه الكنيسة فسقيتين جميلتين للتعميد، وصب لها لورندسو فتشيتا Lorenzo Veccietta صندوقاً للعشاء الرباني من البرنز البراق، وأقام سانو دي ماتيو Sano di Matteo اللجيا دلا ميركندسيا Loggia della Mercanzia في الميدان (1417 - 1438) وحفر فيتشيتا وفيدريجي على واجهات عمدها تماثيل مؤتلفة متناسقة. وشهد القرن الرابع عشر قصراً
من أشهر القصور، منها قصور سلميني Salimbeni، وبونسنيوري Buonsignori، وسرتشيني Saracini، وجرتانيلي Grottanelli
…
، ووضع برناردو رسيلينو Bernardo Rosselino في عام 1470 رسوماً لقصر أسرة بيكولوميني على الطراز الفلورنسي، وصمم أندريا برينو لأسرة بيكولوميني محراباً في الكنيسة (1481)، وشاد الكردنال فراتشيسكو بكولوميني مكتبة ملحقة بهذه الكنيسة (1495) لتضم الكتب والمخطوطات التي تركها له عمه بيوس الثاني، وأنشأ لورندسو ودي ماريانو لهذه الدار مدخلاً يعد من أجمل مداخل الدور في إيطاليا. وسم بنتو ريتشيو ومساعدوه (1503 - 1508) على جدرانها، داخل أطر معمارية فخمة رائعة، مظلمات جميلة تبهج النفوس وتمثل مناظر في حياة البابا العالم.
وكان في سينا خلال القرن الخامس عشر عدد كبير من المصورين في المرتبة الثانية من الإجادة، نذكر منهم تاديو برتولي Taddeo Bartoli، ودومينيكو دي برتولو Domenico di Bartolo، ولوندرسو دي بيترو المسمى فيتشتيا، واستيفانو دي جيوفيني، المعروف باسم ساسيتا Sassetta، وساني دي بيترو Sani di Pietro، وماتيو دي جيزفني، وفرانشيسكو دي جيورجيو، وقد واصلوا جميعاً التقاليد الدينية القوية في الفن السينمائي، فكانوا يصورون موضوعات تدل على التقي والخشوع، وقديسين مكتئبين، وكثيراً ما يصورونهم في لوحات جامدة مزدحمة كثيرة الطيات كأنهم يريدون أن يطيلوا حياة العصور الوسطى إلى أبد الدهر. وقد أسترد ساسيتا شهرته حديثاً بفضل نزوة عارضة من نزوات الناقدين، وكان قد صور بخطوط وألوان ساذجة موكباً رائعاً من مواكب المجوس وأتباعهم يتحركون في ثبات ووقار مجتازين ممرات الجبال إلى مهد المسيح. ووصف في صورة رشيقة ثلاثية الطيات مولد العذراء، وفي صورة أخرى وصف ترحيب
القديس فرانسس بالفقر، ومات عام 1450 بعد أن هدت جسمه الريح الجنوبية القارسة (5).
ولم تنجب سينا فناناً ذاعت شهرته بالخير أو بالشر في جميع أنحاء إيطاليا إلا في أواخر ذلك القرن. وكان الاسم الصحيح لهذا الفنان هو جيوفيني أنطونيو باتسي Giovanni Antonio Bazzi ولكن معاصريه السفهاء بدلوا اسمه إلى سودوما لأنه لم يكن يستحي من التصريح بانه يشتهي الرجال. وارتضى وهو منشرح الصدر هذا اللقب الذي يستحقه الكثيرون، ولكنهم يعجزون عن الحصول عليه. وكان مولده في فرتشيلي Vereclli، (1477) ، ثم انتقل منها إلى ميلان، ولعله تعلم فيها التصوير واللواط من لورندسو. وخلع على صورة سيدة بريرا Brera ابتسامة شبيهة بالتي يخلعها دافنتشي على صورة سيداته. وقلد صورة ليدا التي رسمها ليوناردو تقليداً بلغ من الدقة والإحكام أن ظل الناس عدة قرون يظنون إن صورته هي الصورة الأصلية التي رسمها ليوناردو نفسه. وهاجر سودوما إلى سينا بعد سقوط لدوفيكو، وأنشأ فيها طرازاً من التصوير خاصاً به، فكان يصور موضوعات مسيحية وهو مغتبط غبطة الفنان الوثني بالأشكال البشرية. ولعله في خلال أقامته الأولى في سينا قد رسم تلك الصورة القوية صورة المسيح مصلوباً على العمود يوشك أن يجلد، ولكنه مع ذلك سليم الجسم صحيحه. وصر لرهبان مونتي أليفيتو مجيوري Monte Oliveto Maggiore سلسلة من المظلمات روى فيها قصة القديس، بعضها في غير عناية وبعضها ذات جمال مغر إلى حد لم يسع رئيس الدير معه إلا أن يصر على عدم أداء أجر سودوما إلا بعد أن يكسو أجسام الصور العارية حتى لا تفتتن بها عقول من في الدير.
وأعجب المصر في أجستينو تشيجي Agestino Chigi بأعمال سودوما حين زار موطنه سينا ودعاه إلى رومة، حيث وكل إليه البابا يوليوس الثاني أن ينقش إحدى حجرات نقولاس الخامس في قصر الفاتيكان،
ولكن سودوما قضى شطراً كبيراً من الوقت يعيش المعيشة التي يمثلها اسمه. حتى اضطر البابا الشيخ إلى طرده، وحل محله رفائيل. ودرس سودوما في فترة من فترات تواضعه طراز الفنان الشاب، وأخذ عنه شيئاً من صقله الناعم ورشاقة تصويره ورقته. ثم أنقذ تسيجي سودوما بأن عهد إليه أن يصور في بيت تشيجي الريفي قصة الإسكندر وركسانا، ولما خلف البابا ليو العاشر يوليوس الثاني بعد قليل من ذلك الوقت استرد سودوما مكانته عند البابا؛ ورسم جيوفني للبابا المرح صورة للكريديسيا عارية تطعن نفسها وتموت. وكافأه ليو على هذه الصورة مكافأة سخية ومنحه لقب فارس من طبقة المسيح.
ولما عاد سودوما إلى سينا مثقلاً بهذه الأكاليل، عهد إليه رجال الدين والدنيا كثيراً من الأعمال؛ ومع أنه كان كما يبدو من المشككين في الدين فقد رسم صوراً للعذراء لا تكاد تقل عن صور رفائيل. وكان استشهاد القديس سبستيان من الموضوعات التي تروقه بنوع خاص؛ ولم يفقه أحد قط في تصوير هذا الاستشهاد في قصر بتي Bitti؛ وصور كذلك في كنيسة سان دمينيكو بسينا القديسة كاترين مغمي عليها تصويراً واقعياً وصفه بلدساري Baldassare بأنه لا مثيل له من نوعه. وبينا كان سودوما يقوم بهذه الأعمال جلل سينا بالعار لما كان يقوم به من "أعمال حيوانية" على حد قول فاساري.
"لقد كان يحيا حياة الفسق والفجور، إذ كان على الدوام يحيط نفسه بالغلمان والشبان المرد ويفتتن بهم إلى حد الجنون، فقد أطلق عليه اسم سودوما، ولم يكن يخجل قط من هذا العمل، بل كان يفخر به، ويقرض فيه الشعر، ويتغنى به على العود. وكان مولعاً بأن يملأ بيته بجميع أنواع الحيوانات العجيبة: كالغريراء، والسناجب، والقردة، والفهود، والحمر القزمة، وخيول السباق المغربية، وأمهار إلبا، وغربان الزرع،
والبنطم%=@العزيراء حيوان حفار في حجم الثعلب تطارده الكلاب، والبنطم نوع من الدجاج المنزلي يمتاز بالشجاعة ويقال إن اسمه مشتق من بنطم بجزيرة جاوة. (المترجم) @، واليمام وأمثالها من المخلوقات
…
وكان لديه فضلاً عن هذه غراب أسود أجاد تعليمه النطق حتى كان يحاكي صوته، وخاصة حين يجيب طارق الباب. وكثيراً ما كان الطارقون يظنون أن صاحبه هو الذي يجيبهم. وكانت الحيوانات الأخرى أليفة مروضة تلتف حوله على الدوام، وتلعب وتقفز قفزاتها العجيبة، حتى كان بيته سفينة نوح بحق" (7).
وتزوج بامرأة من أسرة طيبة، ولكنها فارقته بعد أن ولدت له طفلاً واحداً؛ وبعد أن قضى في سينا مدة من الزمن خسر فيها إيراده وما لقيه من ترحاب، غادرها إلى فلتيرا، ثم إلى بيزا ولوكا، (1541 - 1542) للبحث عن أنصار جدد. ولما تخلى عن هؤلاء أيضاً، عاد إلى سينا، واشترك في فقره مع حيواناته، ومات في الثانية والسبعين من عمره بعد أن أنجز في الفن كل ما تستطيع أن تنجزه اليد الصناع دون أن تكون لها روح عميقة ترشدها.
وكان الرجل الذي شغل مكانه في سينا هو دمينيكو بكافومي، وكان دمينيكو هذا قد درس طراز بروجينو حين قدم هذا الفنان إليها في عام 1508؛ فلما غادرها بروجينو، سافر دمينيكو إلى رومة ليستزيد من العلم، وعرف الشيء الكثير عن مخلفات الفن الروماني القديم، وبحث عن أسرار رفائيل وميكل أنجيلو. ولما عاد إلى سينا قلد أولاً سودوما، ثم نافسه في عمله؛ وطلب إليه مجلس السيادة أن ينقش قاعة مجمع الكرادلة، فقضى ست سنوات يكدح في تزيين جدرانها (1529 - 1535) بمناظر من التاريخ الروماني، وأبدع في هذا النقش من الوجهة الفنية ولكنه كان نقشاً ميت الروح.
وانقضى عهد النهضة في سينا بموت بكافومي (1531). نعم إن
بلدساري بيرتسي كان من أبنائها، ولكنه غادرها إلى روما، وعادت سينا مرة أخرى إلى أحضان العذراء، وأعدت نفسها في غير عناء لاستقبال عهد الإصلاح المعارض، ولا تزال حتى اليوم متشددة في التمسك بالدين الأصيل راضية بهذا الاستمساك، تغري الأرواح المتعبة أو المستطلعة بتقواها الساذجة، وحفلات البرجاس أو السباق الشتوية (منذ عام 1659) وتمنعها عن كل ما هو جديد.
الفصل الرابع
أمبريا والبجليوني
تقوم في أماكن متفرقة من أمبريا الجبلية مدائن ترني terni، واسبوليتو، وأسيسي، وفولنيو Foligno، وبروجيا، وجينو Gobbio، وتحيط بها تسكانيا من الغرب، ولاتيوم من الجنوب، وولايات التخوم من الشمال والشرق. ونتحدث هنا أول ما نتحدث عن فبريانو Fabriano- الواقعة خارج حدودها في التخوم- لأن جنتيلي دا فبريانو كان هو البشير بمدرسة أمبريا الفنية.
وجنتيلي Gentile هذا شخصية غامضة ولكنها شخصية ذات أثر قوي: فقد رسم صوراً تمثل العصور الوسطى في جبيو، وبروجيا، وأقاليم التخوم، متأثراً بعض التأثر بمصوري سنا الأولين، ولكنه ينضج على مهل، ثم يعلو نجمه إلى حد يحمل بنديلفو مالاتستا، كما تقول إحدى الروايات التي لا يقبلها العقل، على أن يكافئه بأربعة عشر ألف دوقة نظير زخرفة معبد بروتيلو Broletto في بريشيا (حوالي عام 1410)(8) برسوم جصية. وبعد عشر سنين أو نحوها من ذلك الوقت عهد إليه مجلس شيوخ البندقية أن يرسم منظراً حربياً في قاعة المجلس الكبير، ويلوح أن جنتيلي يليني كان من بين تلاميذه في ذلك الوقت. ثم نجده بعدئذ في فلورنس يرسم لكنيسة سانت ترينيتا Santa Trinita صورة عبادة المجوس (1423)، التي يعدها العالم من روائع الفن ومنهم أهل فلورنس المزهوون المتكبرون. ولا تزال هذه الصورة في معرض أفيزي: وهي عبارة عن حشد براق جميل على ظهور الخيل من الملوك والأتباع، ومن
الخيول المطهمة، والماشية المطرقة، والحمر المدملجة، والكلاب اليقظة، وصورة لمريم جميلة، كلها مركزة حول طفل رضيع فنان، يضع يده الفاحصة على رأس ملك أصلع. وتلك صورة رائعة، زاهية اللون، منسابة الخطوط، ولكنها تكاد تكون بدائية في خلوها من فن المنظور، وتمثيل القرب والبعد، واستدعى البابا مارتن الخامس جنتيلي إلى روما، حيث أنشأ بعض المظلمات في سان جيوفني لاتيرانو San Giovanni Laterno، وقد اختفت هذه المظلمات، ولكننا نستطيع أن نحدس ما كانت عليه من تحمس روجيير فان درويدن، فقد أعلن حين رآها أن جنتيلي أعظم المصورين في إيطاليا (9). وأنشأ جنتيلي في كنيسة سانت ماريا نوفا مظلمات أخرى لم يعد لها وجود، منها واحد أنطق ميكل أنجيلو بقوله لفارساي انه "كانت له يد شبيهة باسمه"
(1)
(10)، وتوفي جنتيلي في روما عام 1427 في عنفوان مجده.
وحياته شاهدة بأن أميريا التي ينتمي إليها من الناحية الثقافية كانت تنجب عباقرتها وطرازها الخاص في الفن. ولكن المصورين الأمبريين كانوا بوجه عام يهتدون بهدى سينا، ويواصلون الجري على النزعة الدينية دون انقطاع من دوتشيو Duccio إلى بيروجينو والشطر الأول من حياة روفائيل. وكانت اسيسي المنبع الروحي للفن الأمبري. ذلك أن كنائس القديس فرانسس والقصص التي كانت تروي عنه قد أذاعت في الأقاليم المجاورة لتلك البلدة نزعة دينية قوية سيطرت على الفن كما سيطرت على العمارة، وعارضت الموضوعات الوثنية أو الموضوعات غير الدينية التي كانت تغزو الفن الإيطالي في بلدان أخرى، ولهذا قلما كانت تطلب صوراً من المصورين في أمبريا، وإن كان بعض الأفراد إذا ادخروا طوال حياتهم شيئاً من المكال قد يطلبون عادة إلى فنان محلي أن يرسم صورة للعذراء
(1)
لفظ جنتيلي يعني الرقة والظرف. (المترجم)
أو الأسرة المقدسة ليضعوها في معبدهم المفضل، ولهذا فإنه قلما كانت توجد كنيسة، مهما بلغت من الفقر تعجز عن جمع المال لإقامة مثل هذا الرمز الدال على التقي والأمل والفخر الجماعي، وعلى هذا النحو كان لجبيو مصوروها، كما كان أتفيانونلي Ottaviano Nelli وفولينو Foligno نقولا دي لبيراتوري Niccolo di Liberatore وكما كانت بروجيا تفخر يبفجلي Bonfigli وبروجينو ونتورتشيو.
وكانت بروجيا أقدم بلدان أمبريا، وأكبرها، وأغناها، وأشدها عنفاً. وكان موقعها على قمة جبل منيع يبلغ ارتفاعها ألف قدم وستمائة، ويتعذر الوصول إليها إلا بعد جهد جهيد، وكانت تشرف على مناظر فسيحة من الريف المجاور لها. وكان موقعها هذا صالحاً كل الصلاحية للدفاع، ولهذا بنى الإتروربون- أو ورثوا ممن قبلهم- مدينة في هذا المكان قبل ان يؤسسوا روما. وظل البابوات زمناً طويلاً يدعون أن بروجيا تابعة للولايات البابوية، ولكن المدينة نادت باستقلالها في عام 1375، وظلت أكثر من مائة عام تعاني آثار الحزبية العارمة التي لا تفوقها فيها إلا سينا.
وكانت أسرتان غنيتان تقتتلان من أجل السيطرة على المدينة- على تجارتها وحكمها، ورتبها الكهنوتية، وأهلها البالغ عددهم 40. 000 نسمة. لقد كان آل أدي Oddi وآل بجيولوني يقتل بعضهم بعضاً غيلة أو علناً في الطرقات، وكانت دماء القتلى تخضب السهل الذي يبسم تحت أبراج المدينة. وكان آل بجليوني يشتهرون بحسن وجوههم وقوة أجسامهم، وشجاعتهم، ووحشيتهم، واكنوا وهم في وسط أمبريا الصالحة التقية يسخرون من الكنيسة ويسمون أنفسهم بأسماء وثنية- إركولو Ercolo، وترويلو troilo، وأسكانيو Ascanio، وأنيبالي Annibale، اطلنطا، وبنلوبي penelope، ولافيانا laviana، وزنوبيا. وصد البجليوني محاولة قام
بها الأدي في عام 1445 للاستيلاء على بروجيا، وظلوا من ذلك الحين يحكمون المدينة حكم الطغاة وإن كانوا يعترفون رسمياً بأنها إقطاعية بابوية ولنترك الآن فرانتشيسكو ماتارتسو Franccsco Matarazzo مؤرخ بروجيا نفسه وصف حكومة البجليوني:
أخذت حال مدينتنا تزداد سواءً على سوء منذ اليوم الذي طرد فيه الأدي، والتحق جميع الشبان بحرفة الجندية، ، واضطربت حياتهم جميعاً، وانتشرت في كل يوم أخبار عن إيغالهم في اللذات المختلفة، وفقدت المدينة عقلها وعدالتها، فكان كل إنسان يأخذ حقه بيده كأنه هو صاحب السلطان والملك المسيطر. وبعث البابا راجياً أن يعيد بذلك النظام إلى المدينة المضطربة، ولكن كل من بعثهم إليها عادوا فزعين مرعوبين يخشون أن تمزق أجسادهم إرباً، لأن البجليوني أنذرهم بأن يلقوا بعضهم من نوافذ القصر، ولهذا لم يجرؤ كردنال أو غيره من الأحبار أن يقترب من بيروجيا إلا إذا كان صديق السرة الحاكمة. وبلغ من تعاسة المدينة أن اصبح أشد الناس خروجاً على القانون أعظم أهلها شأناً، وإن كان من قتل منها رجلين أو ثلاثة رجال يسير في داخل القصر كما يشاء، ويذهب وبيده سيفه أو خنجره ليخاطب الحاكم أو غيره من ولاة الأمور، كان كل صاحب مقام يتعرض للمهانة ويطأه بالأقدام القتلة المأجورون الذين لهم الحظوة عند الأشراف، ولم يكن في وسع أحد من الأهلين أن يدعي أن شيئاً ما ملك له، فقد كان الأشراف ينهب بعضهم ممتلكات البعض الآخر وأرضه، وكانت كل الوظائف تباع أو تلغى، وبلغ من فدح الضرائب وشدة الاغتصاب أن ضج الناس جميعاً بالشكوى (11).
وسأل أحد الكرادلة البابا إسكندر عما عساه أن يفعل مع أولئك الشياطين الذين لا يخشون الماء المقدس؟ (12) وكان البجليوني بعد أن طردوا الأدي من المدينة قد انقسموا أحزاباً جديدة، وأخذوا يتطاحنون
تطاحناً من أشد ما عرف في عهد النهضة ومن أكثرها إراقة للدماء، وكانت أطلنطا بجيلوني التي ترملت بعد اغتيال زوجها تواسي نفسها بجمال ابنها جريفونيتو Grifonetto الذي يصفه ماتارتسو بانه جانوميد
(1)
ثان. وخيل إليها أنها قد استعادت سعادتها حين تزوج زنوبيا اسفوردسا التي لم تكن تقل عنه جمالاً. ولكن فرعاً صغيراً من أسرة بجليوني أخذ يدبر المؤمرات للقضاء على الفرع الحاكم- الذي يضم أستوري Astorre، وجيدو Guido، وسمونيتو Simonetto، وجيان بولو Gianpaolo. وكانوا يقدرون شجاعة جريفونيتو فضموه إليهم بأن أوهموه أن جيان بولو أغوى زوجته الشابة، وبينما كانت الأسر الكبيرة من آل بجيلوني في ذات ليلة من عام 1500 مجتمعة خارج قصورها في بروجيا تحتفل بزواج أستوري ولافينيا إذ هاجمهم المتآمرون في فراشهم وقتلوهم عن آخرهم إلا واحداً منهم، فقد نجا جيان بولو بأن تسلق أسطح المنازل، واستتر بظلام الليل مع بعض طلاب الجامعة المرتاعين. بعد أن تخفى في زي طالب منهم، وخرج من أبواب المدينة عند مطلع الفجر. ورعت أطلنطا إذ عرفت أن ابنها كان من هؤلاء السفاحين، فطردته من عندها بعد أن صبت عليه اللعنات. وتفرق هؤلاء القتلة وتركوا جريفونيتو وحيداً لا مأوى له في المدينة. وعاد جيان بولو في صباح اليوم التالي إلى بروجيو ومعه حرس مسلح والتقى بجريفيونيتو في أحد الميادين العامة، وأراد أن يبقى على حياة الشاب، ولكن جنوده أصابوا أطلنطا وزنوبيا من مخبئهما فوجدتا الابن والزوج يلفظان آخر أنفاسهما في شارع المدينة، وركعت أطلنطا إلى جواره، واستغفرت الله للعنتها إياه، ومنحته رضاها، وطلبت إليه أن يعفو عن قاتليه. ويقول
(1)
جانوميد شاب في أساطير اليونان يقال انه كان من أجمل البشر خطفه نسر زيوسي وهو يرعى قطعان أبيه. (المترجم)
متارتسو "إن الشاب النبيل مد يده لأمه الشابة، وضغط على يدها البيضاء وفاضت روحه من جسمه الجميل"(13). وكان بروجينو وروفائيل يصوران وقتئذ في بروجيا.
وأمر جيان بولو فقتل مائة من الرجال في الشوارع أو في الكنيسة إذ ظنهم مشتركين في المؤامرة، وزين البلدة بناء على أمره برءوس القتلى كما علقت صورهم مقلوبة رءوسهم إلى أسفل، ووجد الفن بروجيا في هذا موضوعاً من موضوعاته الهامة. وحكم جيان بولو المدينة من ذلك الوقت دون أن يلقى مقاومة حتى استسلم ليوليوس الثاني (1506) ورضى أن يحكمها نائباً عن البابا؛ ولكنه لم يعرف كيف يحكم من غير أن يلجأ إلى الأغتيال، ولما مل ليو العاشر جرائمه، أغراه بالقدوم إلى روما في عام (1520) بعد أن أمنه فيها على نفسه؛ ثم أمر به فقطع رأسه في قصر سان أنجليو. وكان هذا العمل من الوسائل التي تلجأ إليها دبلوماسية النهضة للتخلص من غير المرغوب فيهم وحافظ رجال آخرون من آل بجلوني على سلطاتهم إلى حين، حتى إذا ما أغتال مالاتستا بجليوني مندوبا بابوياً، سير البابا بولس الثالث جيشاً ليستولي على المدينة نهائياً ويلحقها بأملاك الكنيسة (1534).
الفصل الخامس
بيروجينو
وأزدهر الأدب والفن ازدهاراً عجيباً في عهد هذه الحكومة حكومة المؤامرات والاغتيالات، فقد كان في مقدور أصحاب المزاج الناري الذين يعبدون العذراء ويهينون الكرادلة، ويقتلون أولي القربى، وكان في مقدور هؤلاء أن يشعروا بحمى الكتابة المبدعة، ويتأدبوا بأدب الفن الصارم. وإن كتاب ماتارتسو المسمى أخبار مدينة بروجيا Cronaca della Citta di Perugia، والذي يصف ذروة مجد أسرة بجليوني ليعد من أروع ما أنتجته النهضة في الأدب. وكانت التجارة قبل أن يتولى آل بجليوني زمام السلطة قد جمعت من الثروة ما يكفي لتشييد قصر البلدية الضخم القوطي الطراز (1280 - 2333) وأن تزينه هو وبناء الغرفة التجارية الكليجيو دل كامبيو Collegio del Cambio (1452 - 1456) برسوم من أجمل ما أخرجه الفن في إيطاليا. وكان لهذه الغرفة منصة للقضاة، ومقعد لمبدلي النقود منحوتاً نحتاً بديعاً لا يستطيع معه أحد أن يتهم رجال الأعمال في بيروجيا بقلة الذوق. ولا تكاد مقاعد المرنمين في كنيسة القديس دمنيكو (1476) تقل عن هذين رشاقة، كما كان في هذه الكنيسة معبد الورود الذائع الصيت الذي صممه أجستينو دي دوتشيو. وكان أجستينو هذا يتردد بين فني النحت والعمارة، وكان في العادة يجمع بينهما كما فعل في معبد الدعاء oratovio بكنيسة سان برتردينو (1461)، حيث غطى الواجهة كلها تقريباً بالتماثيل، والنقوش البارزة، والزخارف العربية وغيرها من أنواع الزخارف. ذلك أن كل سطح غير مزخرف كان على الدوام يثير حماسة أحد الفنانين الإيطاليين.
وكان خمسة عشر مصوراً على الأقل يعملون في تلبية هذه الدعوة في بيروجيا؛ وكان زعيمهم في شباب بيروجينو هو بينيديتو بنفجلي. والظاهر أن بينيديتو هذا تعلم شيئاً من المبادئ الجديدة التي أنشأها ونماها ماسوليني، وماساتشيو، وأتشيلو Uccello، وغيرهم في فلورنس، وكان ذلك عن طريق اختلاطه بدومنيكو فندسيانو أو بيرو دلا فراتشيسكا، أو عن طريق دراسة المظلمات التي صورها بنوتسو جتسولي في مونتى فلكو. ولما أن نقش مظلمات لقصر البلدية أظهر من المعرفة بفن المنظور ما كان جديداً بين فناني أمبريا، وإن كانت شخصياته قد استعارت وجوهاً مقررة الطراز من قبل، وكانت مكسوة بأثواب خالية من الرونق. وكان في المدينة منافس لبينيديتو أصغر منه سناً ولكنه يضارعه في عدم بهاء الألوان، ويفوقه في رقة العاطفة والرشاقة في بعض الأحيان، وعني به فيورندسو دي لورندسو Fiorenzo di Lorenzo. وتقول الرواية المأثورة في بيروجيا أن بنفجلي وفيورندسو قد علما الأستاذين اللذين بلغا بفن التصوير الأمبري ذروته.
تعلم برتردينويتي المعروف باسم بنتورتشيوفني التصوير الزلالي والتصوير الجصي (المظلمات) من فيورندسو، ولكنه لم يلجأ إلى التصوير بالزيت الذي جاء إلى بيروجيتو من أهل فلورنس؛ وسافر في صحبة بيروجيتو إلى رومة في عام 1481وهو في السابعة والعشرين من عمره، وغطى لوحة في معبد سستيني بصورة لتعميد المسيح لا حياة فيها؛ لكنه ارتقى بعد ذلك؛ فلما أمره البابا إنوسنت الثامن بان يزين إحدى الشرفات المكشوفة في قصر بلفدير اختط في تزيينها خطة جديدة بأن صور فيها مناظر من جنوي وميلان، وفلورنس، والبندقية، ونابلي، وروما، ولم تكن رسومه خالية من العيوب ولكن كان تصويره نزعة إلى الولع بالطبيعة تسر الناظر استرعت التفات البابا إسكندر السادس. وأراد هذا البابا الظريف من آل بيروجيا أن يزين حجراته الخاصة في الفاتيكان فكلف بنتو رتشيو وبعض أعوانه أن ينقشوا على الجدران والسقف مظلمات تمثل
أنبياء وسيبيلات (عرافات اسطورية)، وموسيقيين، وعلماء، وقديسين ومريم العذراء، ولعل فيهم أيضاً معشوقات. وسر البابا من هذه أيضاً سروراً حمله على أن يعهد إلى هذا الفنان بأن يرسم في الجناح الذي خصص له في قصر سانت أنجيلو بعض أحداث الصراع بين البابا وشارل الثامن (1495). وكانت بيروجيا في هذه الأثناء قد وصلتها شهرت بنيو رتشيو، فاستدعته إليها وطلبت إليه كنيسة سانتا ماريا ده فسي Santa Maria de' Fossi أن يصور ستاراً لمحرابها، فلبى الطلب ورسم صورة العذراء والطفل والقديس يوحنا التي اعجب بها كل من رآها ما عدا المحترفين. ولقد سبق القول أنه زين مكتبة بكولوميني بصور متلألئة من حياة ببيوس الثاني والقصص التي تروى عنه، وقد أضحت هذه الحجرة بفضل هذه الصور القصصية رغم ما فيها من عيوب من أبهج ما خلفه فن النهضة. وقضى بنتو رتشيو في هذا العمل خمس سنين انتقل بعدها إلى رومة، وكان له نصيب من الإذلال الذي لحق الفنانين على أثر نجاح روفائيل. ثم اختفى بعدئذ من الميدان الفني، ولعل ذلك كان بسبب مرضه، لأن بيرجينو وروفائيل تفوقا عليه. وتقول إحدى القصص المشكوك في صحتها أنه مات من الجوع في سينا في سن التاسعة والخمسين (1513)(14).
ولقب بيترو بيروجينو بهذا اللقب لأنه اتخذ بيروجيا موطناً له، وإن كانت بيروجيا نفسها تسميه على الدوام فنوتشي Vannucci باسم أسرته. وكان مولده في تشتا دلا بييف Citta' della Pieve، (1446) القريبة من بيروجيا ثم أرسل إليها وهو في التاسعة من عمره، وتتلمذ فيها على يد فنان معروف. ويقول فرساي أن معلمه كان يرى أن مصوري فلورنس أحسن المصورين في إيطاليا، ونصح الشاب بأن يذهب إليها ليدرس فيها. فذهب إليها بيترو، وقلد مظلمات ماساتشيو بعناية شديدة، وجعل يتدرب عند فيروتشيو حوالي عام 1468،
وأغلب الظن أن بيروجينو التقى به ولم يستنكف أن يتعلم منه بعض خصائص الصقل والرشاقة، وازدياد العناية بالمنظور، والألوان، والزيوت، وإن كان بيروجينو في ذلك الوقت أكبر منه بست سنين. وتظهر مهارته في هذه النواحي في صورة القديس سبستيان التي رسمها بيروجينو والمحفوظة في متحف اللوفر وقد بدت فيها من حول صورة القديس ميان جميلة، ومنظر طبيعي لا يقل لطفاً عن وجه القديس ذي الثقوب، ولما ترك بيروجينو مرسم فيروتشيو عاد إلى الطراز الأمبري في صورة العذراء المتحاشمة الوديعة، ولعل تأثيره هو الذي رقق التقاليد الواقعية في فن التصوير الفلورنسي فجعله فناً مثالياً كما يبدو في صور الراهب بارتولميو وأندريا دل سارتو Andrea del sarto.
ولما بلغ بيروجينو الخامسة والثلاثين من عمره في عام 1481 كان قد بلغ من الشهرة حداً جعل البابا سكستس الرابع يدعوه إلى روما، فصور في معبد سستيني عدة مظلمات أجمل ما بقي منها صور المسيح يسلم مفاتيح إلى بطرس والصورة شديدة التقيد بالعرف في تناسب شكلها أكثر مما ينبغي، ولكن الهواء وما فيه من تدرج دقيق في الضوء يصبح في الصورة لأول مرة في التصوير عنصراً واضحاً متميزاً يكاد يلمس باليد، والأثواب التي كانت قد أضحت في صور نفجلي ذات طراز واحد مقرر جمعت هنا وثنيت حتى أصبحت تنبض بالحياة، وخلعت على بعض الصور نزعة انفرادية مدهشة- كصور المسيح، وبطرس وسنيورلي؛ ولم يكن أقلها من هذه الناحية وجه بيروجينو نفسه الكبير، المستدير، الشهواني، الواقع، وقد استحال بهذه المناسبة من حواريي المسيح.
وعاد بيروجينو إلى فلورنس في عام 1486، ويستدل على ذلك من أن محفوظات المدينة تذكر أنه قبض عليه لارتكابه جريمة الاعتداء على أحد أعدائه. وتفصيل ذلك أنه هو وصديقاً له تخفيا وتسلحا بالعصى الغليظة
وترقبا في الظلام عدواً لهما، ولكن أمرهما كشف قبل أن يرتكبا الجريمة، ونفي الصديق، وحكم على بيروجينو بغرامة قدرها عشرة فلورينات (15). وبعد أن أقام في روما فترة أخرى، اتخذ له مرسماً في فلورنس (1492)، واستأجر بعض المساعدين، وشرع ينتج لعملائه الأقربين والأبعدين صوراً لم تكن كلها معتنى بصقلها؛ وكان منها لجماعة أخوان جيسواتي Gesuati صورة مريم تحتضن جسم المسيح الميت أضحت فيها صورة العذراء حزينة ومجدلين المفكرة مثالا كرره هو ومساعدوه في نحو مائة شكل مختلفة لكل معهد أو فرد يطلبه. واتخذ صورة مريم والقديسين طريقها إلى فينا، كما اتخذ صورة أخرى طريقها إلى كرمونا، وثالثة إلى فانو، ورابعة هي صورة مريم في مجدها إلى بيروجينا، وخامسة إلى الفاتيكان، وتوجد الآن واحد في معرض أفيزي. واتهمه منافسوه بأنه حول مرسمه إلى مصنع، وظنوا أنه من العار أن يصبح ثرياً سميناً. ولكنه ابتسم لقولهم ورفع أثمان صوره؛ ولما دعته مدينة البندقية ليرسم لوحتين في قصر الدوق وعرضة عليه أربعمائة دوقة (5000 دولاراً) طلب ثمانمائة، فلما لم يجب إلى طلبه بقى في فلورنس، وكان يصر على أن يؤدى أجره فوراً ويرفض الآجل منه؛ ولم يكن يتظاهر باحتقار الثروة، بل كان يعتزم ألا يموت من الجوع حين تبدأ يده في الاهتزاز، وابتاع له أملاكاً في فلورنس وبيروجيا؛ وكان يلزم نفسه بأن يضيف ولو قدراً قليلاً من الأرض عقب كل انقلاب في حياته. وصورته التي رسمها لنفسه والقائمة الآن بالميدان في بيروجيا (1500) واعتراف صريح صراحة عجيبة. فهو يظهر فيها ذا وجه مكتنز، وأنف كبير، وشعر مهدل دون عناية تحت قلنسوة حمراء ضيقة، وعينين هادئتين نافذتين، وشفتين تنمان عن بعض الاحتقار، ورقبة ضخمة، وهيكل قوي. وجملة القول أنه كان رجلا لا يسهل خداعه؛ متأهباً للكفاح، واثقاً من نفسه، لا يقدر الجنس البشري تقديراً كبيراً. ويصفه فاساري بأنه لم يكن رجلا متدنياً، وبأنه لا يؤمن قط بخلود الروح (16).
على أن تشككه ونزعته التجارية لم يحولا بينه وبين السخاء في بعض الواقف (17)، أو بينه وبين إنتاج أرق الصور وأكثرها خشوعاً وتعبداً في عصر النهضة. ومن هذه الصور صورة جميل للعذراء رسمها للكرتوزا دي بافيا (وهي الآن في لندن)؛ ومنها صورة مجدلين التي تعزى إليه والمحفوظة في متحف اللوفر، وهي صورة لخاطئة جميلة مجيلة لا يحتاج الإنسان معها إلى الرحمة الإلهية لكي يعفو عن خطيئتها. ورسم لراهبات سانتا كلارا بفلورنس صورة الدفن كانت ملامح النساء فيها ذات جمال نادر، ووجوه الشيوخ من الرجال تفصح عن حياتهم، وخطوط التأليف فيها تلتقي على جثة المسيح التي لا دم فيها، تحتوي على منظر طبيعي من الأشجار الرفيعة النامية على منحدرات صخرية، وعلى بلدة بعيدة قائمة على جوٍ هادئ؛ وكل هذه تخلق جواً من الهدوء وعلى منظر الموت والأحزان. والحق أن هذا الرجل كان يستطيع أن يصور وأن يبيع.
وعرف أهل بيروجيا آخر الأمر قدره من نجاحه في فلورنس. فلما أعتزم تجار الميدان أن يزينوا غرفتهم، أفرغوا ما في جيوبهم من مال في سخاء المتوانين المتراخين، وعهدوا بالعمل إلى بيتور فانوتشي. وساروا على مزاج ذلك العصر ومشورة أحد علماء بلدتهم، فطلبوا إليه أن يزين قاعة الاجتماع بمزيج من الموضوعات المسيحية والوثنية: فيزين السقف بصورة للكواكب السبعة والبورج؛ وأن ترسم على أحد الجدران صورة مولد المسيح والتجلي؛ وعلى جدار آخر صورة الأب الخالد، والأنبياء، وست سيبيلات "عرافات" وثنيات تشير إلى ما سيرسمه ميكل أنجيلو من نوعها فيما بعد. ورسم على جدار غيره الفضائل الأربعة الروحانية يمثل كلا منها أبطال من الوثنيين: الفطنة يمثلها نوما Numa، وسقراط؛ وفابيوس؛ والعدالة يمثلها بتاكوس Pittacus، وفيوريوس Furius، وتراجان، والجلد ويمثله لوسيوس، وليونداس، وهوراشيوس ككليس Horatius Cocles والاعتدال يمثله بركليز وسنسناتوس واسكبيو Scipio، ويبدو أن هذا كله
كان من صنع بيروجيا ومساعديه- ومنهم روفائيل- في عام واحد هو عام 1500 أي العام الذي كان فيه اقتتال البجليوني بريق الدماء في شوارع بيروجيا. فلما حقنت الدماء كان بمقدور أهل البلدة أن يخرجوا من مساكنهم ليمتعوا أنظارهم بالجمال الجديد الذي خلع على الميدان. ولعلهم وجدوا الشخصيات الوثنية جامدة بعض الشيء وودوا لو أن بيرودجينو لم يصورها واقفة ثابتة بل قائمة بعمل مل يكسبها حياة، ولكن صورة داود كانت جليلة رائعة بحق، وصورة عرافة ابربثتربون لا تكاد تقل رشاقة عن عذراء روفائيل، وصورة الأب الخالد فكرة طيبة فذة عن الكافر. وأظهر بيروجينو في رسومه على هذه الجدران وهو في سن الستين قواه الكاملة، وفي عام 1501 نصبته المدينة رئيساً لبلديتها اعترافاً منها بفضله.
ثم أخذ ينحدر من هذا الأوج انحدراً سريعاً، ففي عام 1592 صور زواج العذراء في صورة قلدها روفائيل بعد عامين في صورة اسبيوز الدسيو وفي عام 1503 عاد إلى فلورنس، ولم يسره أن يرى المدينة تلهج بالثناء على صور داود لميكل أنجيلو؛ وكان من بين الفنانين الذي دعوا للنظر في المكان الذي توضع فيه الصورة. ولكن المثال نفسه لم يقتنع برأيه، وكانت له الغلبة عليه. والتقى الرجلان بعد قليل من ذلك الوقت، وتبادلا الشتائم؛ وكان ميكل أنجيلو وقتئذ شاباً في الحادية والعشرين من عمره فقال إن بيروجينو غبي، وإن فنه "عتيق سخيف"(18). وقاضاه بيروجينو على هذا السب ولكنه لم يجن سوى السخرية. وفي عام 1505 اتفق على أن يتم لكنيسة البشارة صورة الوديعة التي بدأها فلبينو لبي ولم تيمها، وأن يضيف إليها صورة صعود العذراء؛ وأتم عمل فلبينو بحذق وسرعة ولكنه كرر في صورة الصعود كثيراً من الأشكال التي استخدمها في عدة صور سابقة، ومن أجل هذا اتهمه فنانو فلورنس (وكانوا لا يزالوا يحسدونه على أجوره القديمة)
بالتكاسل والإبطاء، فما كان منه إلا أن ترك المدينة مغضباً واتخذ مسكنه في بيروجيا.
وتكررت هزيمة الشيخوخة على يد الشاب، وهي الهزيمة التي لا مفر منها، حين قبل دعوة البابا يوليوس الثاني ليزين له حجرة في الفاتيكان (1507). فلما أن أتم بعض مراحل العمل ظهر تلميذه السابق روفائيل واكتسح كل شيء أمامه، فغادر بيروجينو روما كسير القلب، وعاد إلى بيروجيا، يرجو القيام ببعض الأعمال، وظل يعمل فيها إلى آخر أيام حياته؛ فبدأ (1514) ولعله أتم (1520) ستاراً لمحراب مُعقَّد النقش لكنيسة سانت أجستينو، وكرر فيه مرة أخرى قصة المسيح. ثم صور لكنيسة عذراء لجريمي Madonna delle Lagrime في تريقي Trevi (1521) صورة عبادة المجوس وهي نتاج مدهش لرجل في الخامسة والستين على الرغم مما فيها من بعض الرسوم التافهة. وبينما كان يصور في فنتنيانو Fontignano القريبة من بيروجيا في عام 1523 إذ أصيب بالطاعون أو لعله مات من الشيخوخة والضعف. وتقول الرواية المتواترة إنه أبى أن يتلقى القداس الأخير، وقال أنه يفضل أن يرى ما سوف يحدث في العالم الآخر للروح الخاطئة المعاندة (19)، ومن أجل ذلك دفن في أرض مجردة من القداسة (20).
وبعد فان الناس جميعا يعرفون عيوب تصوير بيروجينو - يعرفون إسرافه في العواطف، ويعرفون تقواه المصطنعة الحزينة، ووجوهه البيضية الشكل المتقيدة بالعرف، والشعر المعقود بالأشرطة، والرؤوس المنحنية إلى الأمام على الدوام دليلا على التواضع لا يستثنى منها رأساً كاتو Cato وليونداس Leonidas الجريء. وفي وسعنا أن نجد في أوربا وأمريكا مائة من طراز بيروجينو الذي يتكرر كل يوم، لقد كان هذا الأستاذ خصباً أكثر
منه مبتكراً، وإن صوره لتعوزها الحركة والحيوية، وتنعكس عليها حاجات الخشوع الأمبري أكثر مما تنعكس عليها حقائق الحياة ومعانيها. ولكن فيها مع ذلك كثيراً مما يسر النفس التي بلغت من النضج حداً لا يكفي للتغلب على ما تتصف به من سوفسطائية؛ فيها صفة ضوئها الحية، وجمال نسائها المتواضع، وجلال شيوخها الملتحين، وألوانها الرقيقة الهادئة، والناظر الطبيعية الظريفة التي تخلع السلام على المآسي بأجمعها.
ولما عاد بيروجينو في عام 1499 بعد طول المقام في فلورنس، جاء معه إلى الفن الأمبري من عند الفلورنسيين الحذق في التنفيذ، دون أن يأتي منهم موهبة النقد، فلما مات أورث هذا الحذق في إخلاص رفاقه وتلاميذه- بنتورتشيو، وفرانتشيسكو أبرتينو "البكياكا li Bachiacca وجيوفني دي بيترو "لوسبانيا Lo Spagna" ورفائيل. والحق أن هذا الأستاذ أدى واجبه: لقد أغنى تراثه وأسلمه غنياً إلى من جاءوا بعده، ودرب تلميذاً له بزه وسمى عليه. ذلك أن روفائيل هو بيروجينو مبرأ من أخطائه، كاملا غاية الكمال.
الباب التاسع
مانتوا
1378 -
1540
الفصل الأول
فتورينود أفلتري
كانت مانتوا مدينة محظوظة لأنها حكمتها طوال عصر النهضة أسرة واحدة لا أكثر، ولأنها نجحت من الاضطرابات الناشئة من الثورات، والاغتيالات التي تحدث في بلاط الحكام، والانقلابات السياسية؛ ذلك أنه لما أصبح لويجي جندساجا Luigi Gonzaga رئيس الشعب (1328) استتب الأمر لبيته إلى حد كان يستطيع معه أن يغادر عاصمة ملكه من حين إلى حين، ويؤجر نفسه إلى المدن الأخرى ليكون قائداً لجيوشها- واتبع خلفاؤه هذه العادة مدى أجيال عدة. ورفع الإمبراطور سجسمند الأول سيد هذه الأسرة من الوجهة النظرية جيان فرانتشيسكو الأول حفيد حفيده إلى مرتبة مركيز (1423)، وأصبح هذا اللقب من ذلك الحين وراثياً في أسرة جندساجا حتى استبدل به لقب أسمى منه وهو لقب دوق (1530). وكان جيان هذا حاكماً صالحاً، جفف المستنقعات وأصلح أحوال الزراعة والصناعة، وناصر الفن، وأستقدم إلى مانتوا رجلاً من أعظم رجال التربية وأنبلهم ليعلم أبنائه.
واتخذ فتورينو لقبه من مسقط رأسه بلدة فلترى Feltre في الشمال الشرقي من إيطاليا. وتملكته الرغبة القوية في دراسة الآداب القديمة. وهي التي
كانت تجتاح جميع أنحاء إيطاليا في القرن الخامس عشر اجتياح السيل الجاف، فسافر إلى بدوا ودرس اللغتين اليونانية واللاتينية، والعلوم الرياضية، وفنون البلاغة على أساتذة مختلفين، وأدى لواحد منهم أجره بأن عمل خادماً عنده، ولما أن تخرج من الجامعة فتح مدرسة لتعليم الصبيان. وكان يختار تلاميذه على أساس من المواهب والحرص على التعليم لا على أساس الحسب أو كثرة المال؛ وكان يتقاضى من أغنى التلاميذ أجراً يتناسب مع ثروتهم، أما الفقراء فلم يكن يتقاضى شيئاً على الإطلاق. ولم يكن يقبل الكسالى المتوانين ويطلب كل بأن يبذلوا في التعليم أقصى الجهود، ويحرص على النظام الصارم الدقيق. وإذا كانت هذه المطالب مما يصعب الوفاء بها في جو المدينة الجامعية الصاخب فقد نقل فتورينو مدرسته إلى البندقية (1423). وفي عام 1525 قبل دعوة جيان فرانتشيسكو للمجيء إلى بدوا ليعلم فيها نخبة ممتازة من الأولاد والبنات، من بينهم أربعة من أبناء المركيز وبنت له، وابنة فرانتشيسكو اسفوردسا، وبعض أبناء الأسر الحاكمة الإيطالية.
وخصص المركيز للمدرسة بيتاً عرق باسم كاسا دسوجوسا Casa Zojosa أي البيت المبتهج. وحول فتورينو القصر إلى ما يشبه الدير، وعاش فيه هو وتلاميذه عيشة البساطة، قانعين بالضروري من الطعام، وجروا فيه على المثل اللاتيني المأثور "العقل السليم في الجسم السليم". وكان فتورينو نفسه يجيد الألعاب الرياضية كما يجيد العلم، فكان يتقن المثاقفة، وركوب الخيل، لا يتأثر بتقلبات الجو حتى كان يرتدي نوعاً واحداً من الثياب صيفاً وشتاء، ولا يحتذي إلا الصنادل في أشد الأيام برداً. وإذ كان ذا مزاج شهواني سريع الغضب. فقد عمل على أن يسيطر على هاتين النزعتين بالالتجاء إلى الصيام من حين إلى حين، وبأن يضرب جسمه بالسوط كل يوم. ويعتقد معاصره أنه لم يقرب النساء قط طوال حياته.
وكانت أولى وسائله للتسامي بغرائز تلاميذه وتنشئتهم على الخلق الكريم أن يحتم عليهم التمسك الشديد بأصول الدين، وأن يغرس فيهم الإحساس
الديني القوي؛ فكان يقاوم كل نزعة إلى الفساد، والفحش، والنطق بالعبارات النابية، يعاقب كل من يغضب أو يحتد في الجدل، وكاد يجعل الكذب من الجرائم التي يعاقب عليها بالإعدام. على أنه لم يكن بحاجة إلى من يقول له، كما قالت زوجة لورندسو لبولتيان، أنه يربي أمراء قد يواجهون في يوم من الأيام واجبات الحكم أو الحرب. وكانت وسيلته إلى تقوية أجسام تلاميذه وتحسين صحتهم أن يدربهم على ضروب كثيرة من الألعاب الرياضية كالجري، وركوب الخيل، والقفز، والمصارعة، والمثاقفة، والتمارين العسكرية، وكان يعودهم على تحمل المشاق دون أن يجأروا بالشكوى أو يصابون بأذى؛ واكن يرفض نزعة العصور الوسطى إلى احتقار الجسم وإن كانت مبادئه الخلقية هي المبادئ التي كانت سائدة في تلك العصور؛ وكان يقدر كما يقدر اليونان ما لصحة الجسم من شأن في رفع مستوى الرجال. ولهذا كان يستعين على تكوين أجسام تلاميذه بالألعاب الرياضية، وبالجهود الجسمية، كما يعنى بتكوين أخلاقهم بالتمسك بالدين والنظام والتأديب، ورفع مستوى ذوقهم بتعليمهم التصوير والموسيقى، وعقولهم بالعلوم الرياضية، واللغتين اللاتينية واليونانية، والآداب القديمة. وكان يرجو أن يجمع في تلاميذه بين فضائل الأخلاق المسيحية، وصفاء الذهن الثني الحاد، والإحساس بالجمال الذي هو من خصائص عصر النهضة. وهكذا تحقق لأول مرة مثل النهضة الأعلى للرجال الكامل L'uomo universale- أي الرجل الصحيح الجسم، المتين الخلق، الغزير العلم- تحقق هذا المثل على يد فتورينو دا فلتري.
وانتشرت أخبار طريقته في جميع أنحاء إيطاليا وفي غيرها من الأقطار، وأقبل الكثيرون على مانتوا ليروا معلمها لا ليروا مركيزها، وأخذ الآباء يرجون جيان فرانتشيسكو أن يسمح بإلحاق أبنائهم في "مدرسة الأمراء" كما كانت تسمى مدرسته. وقبل رجاءهم، وجاءه فيما بعد عدد من الأعيان أمثال فردريجو الأبينوئي، وفراتشيسكو الكستجليوني، وتديو منفريدي
Taddeo Monfrdi ليربو على يديه. وكان الطلاب الذين تلوح عليهم أعظم سمات النجابة يحظون بعناية الأستاذ الخاصة، فكانوا يقيمون معه تحت سقف واحد، ويحظون بالميزة التي لا تقدر بمال وهي أن يكونوا على صلة دائمة بخلقه الكريم وعقله الراجح. وكان فتورينو يصر على أن يقبل في المدرسة النجباء من الطلاب الفقراء، وأقنع المركيز بأن يرصد ما يلزمه من المال والوسائل المدرسية المساعدين لتعليم ستين من فقراء الطلبة في وقت واحد وإيوائهم، فإذا لم تف هذه الأموال بالحاجة وفاها فتورينو من موارده الخاصة الضئيلة؛ ولما مات في عام 1446 وجد أنه لم يترك من المال ما يكفي لتشييع جنازته.
وأثبت لدوفيكو جندساجا، الذي خلف جيان فرانتشيسكو دوقاً على مانتوا (1444) أنه تلميذ خليق بأن يشرف أستاذه. فقد كان لدوفيكو حين تولى فتورينو أمر تربيته غلاماً في الحادية عشر من عمره، بديناً وقحاً، ولكن فتورينو عمله كيف يسيطر على شهيته وأن يكون جديراً بجميع ما يفرضه على الحكم من واجبات. وأدى لدوفيكو هذه الواجبات أحسن أداء وترك دولته عند وفاته رخية مزدهرة، وفعل ما يفعله أمير النهضة الحق فخص الآداب والفنون بجزء من ماله؛ وجمع مكتبة كبير ممتازة، وكان أكثر ما احتواه الآداب اللاتينية واليونانية القديمة؛ واستخدم النقاشين ليزينوا له ملحمتي الإنياذة والملهاة الإلهية، وأشأ أول مطبعة في مانتوا؛ وكان بوليتيان، وبيكوا دلا ميرندولا، وفيليفو، وجوارينو دا فيرونا Guarino da Verona، وبلاتينا من بين الكتاب الإنسانيين الذين تمتعوا في وقت واحد من الأوقات برفده، وعاشوا في بلاطه. وأقبل ليون باتستا ألبرتي من فلورنس بناء على دعوته، وصمم معبد الإنكوروناتا Ancoronata في الكتدرائية، وكنيستي سانتا أندريا وسانتا سيستيانو. وجاء أيضاً دوناتيلو وصب للدوفيكو تمثالاً نصفياً من البرونز، وفي عام 1460 عين المركيز في خدمته فناناً من أعظم فناني النهضة هو أندريا مونتينيا Anderea Montegna.
الفصل الثاني
أندريا منتينيا
1431 -
1506
ولد هذا الفنان في أسولا دي كارنورا Asola di Cartua القريبة من بدوا قبل مولد بتيتشيلي بثلاثة عشر عاماً. وعلينا أن نراجع في الزمن قليلاً إلى الوراء إذا شئنا أن نقدر أعمال منتينيا الجميلة حق قدرها. لقد قيد اسمه في نقابة المصورين في بدوا ولما يتجاوز العاشرة من العمر. وكان فرانتشيسكو أسكواراتشيوني Francesco Squaracione وقتئذ أشهر معلمي التصوير لا في بدوا وحدها بل في إيطاليا كلها. والتحق أندريا بمدرسته وبلغ من سرعة تقدمه أن أخذه أسكواراتشيوني قد تأثر كثيراً بالكتاب الإنسانيين، فجمع في مرسمه كل ما كان يستطيع الحصول عليه وينقله من بقايا الروائع القديمة في فني النحت والعمارة، وأمر تلاميذه أن يقلدوها المرة بعد المرة ويتخذونها نماذج للرسوم القوية، المتناسقة غير المسرفة. وأطاع منتينيا أمره في حماسة قوية، وعشق العاديات الرومانية، واتخذ أبطالها مُثُلاً عليا له؛ وبلغ من إعجابه بفنها أن جعل لنصف صوره خلفيات من فن العمارة الرومانية، وأن كانت نصف شخصياته أياً كانت الأمة التي ينتمون إليها والزمن الذي يعيشون فيه، ذات طابع روماني وكساء روماني. وأفاد فنه من افتتان الشباب هذا كما عانى منه الشيء الكثير. فقد تعلم من هذه المثل جلال التخطيط وهيبته، ونقائه وصرامته؛ ولكنه لم يخرر رسومه تحريراً كاملاً من هدوء الأشكال المنحوتة في الحجر، ولما قدم دوناتيلو إلى بدوا وكان منتينيا لا يزال غلاماً في الثانية عشرة من عمره شعر مرة أخرى بتأثير هذا المثال، كما أحس بدافع قوي نحو الواقعية. ثم إنه افتتن في الوقت عينه بعلم المنظور
الجديد الذي نما حديثاً في فلورنس على يد ماسولينو، وأتشيلو Uccello وماتشيو؛ ودرس أندريا قواعده كلها وأدهش جميع معاصريه بقدرته على تمثيل القرب والبعد تمثيلاً صادقاً إلى حد الفظاظة.
وتلقى سكوارانشيوني في عام 1448 دعوة لعمل مظلمات في كنيسة الرهبان الإرمتاني Eremitani Friars في بدوا، فعهد العمل إلى اثنين من أحب تلاميذه إليه وهما نقولو بتسولو، ومنتينيا. وأتم نقولو لوحتين من الطراز ممتاز ثم فقد حياته في مشاجرة، وواصل أندريا العمل، وكان وقتئذ في السابعة عشرة من عمره، وأذاعت اللوحات الثمان التي رسمها في السبع سنين التالية شهرته في جميع أنحاء إيطاليا. وكانت موضوعات الرسوم مأخوذة من العصور الوسطى، أما طريقة التنفيذ فكانت ثورة على تلك العصور؛ فقد كانت الخلفيات مأخوذة من العمارة الرومانية القديمة ومفصلة بعناية شديدة، وكانت أجسام الرجال قوية، ودروع الجنود الرومان البراقة تختلط بملامح القديسين المسيحيين الجادة الحزينة؛ وامتزجت الوثنية والمسيحية في هذه المظلمات امتزاجاً أوضح من امتزاجها في كل صفحات الكتاب الإنسانيين. وبلغ الرسم هنا درجة جديدة من الدقة والرشاقة، وبذل في المنظور من الجهود ما وصل به إلى درجة الكمال؛ وقلما شهد التصوير صورة رائعة في شكلها وهيئتها كصورة الجندي الذي يحرس القديس أمام الجسر الروماني، أو شهد شيئاً بلغ من الواقعية العاتية ما بلغه الجلاد الذي يرفع هراوته ليضرب بها الشهيد على أم رأسه. وأقبل الفنانون من المدن القاصية ليدرسوا فن ذلك الشاب العجيب الذي أنجبته بدوا- وقد دمرت كل هذه الرسوم الجصية عدا اثنين منها في الحرب العالمية الثانية.
وشهد ياقوبو بليني هذه اللوحات أثناء عملها، وأعجب بأندريا، وعرض عليه أن يزوجه ابنته، وكان ياقوبو نفسه مصوراً واسع الشهرة كما كان في ذلك الوقت (1454) أياً لمصورين قدر لهم أن يتفوقوا عليه ويقضوا على
شهرته. وقبل منتينيا هذا العرض، ولكن اسكواراتشيولي قاومه، وعاقب هروب مانتينيا من بيته الذي آواه وتبناه فيه بأن ذم المظلمات الإرمتانية ووصفها بأنها تقليد جامد شاحب للرخام العتيق. والأغرب من هذا أن آل بليني أفلحوا في أن ينقلوا إلى أندريا تلميحهم بأن في هذه التهمة بعض الصدق (2). وأعجب من هذا وذاك أن الفنان الحاد المزاج صدق هذا النقد وأفاد منه بأن تخلى عن دراسة صناعة التماثيل إلى الحرص على ملاحظة الحياة بجميع حقائقها ودقائقها، فضمن اللوحتين الأخيرتين من الألواح الإرمتانية صورتين لمعاصرين له إحداهما صورة لشخص بدين متربع هو اسكواراتشيونى نفسه.
ولما أن ألغى منتينيا عقده مع معلمه كان في وسعه أن يقبل بعض الدعوات التي تكاثرت عليه وكان منها عرض من لدوفيكو جندساجا في مانتوا (1456)؛ ولكن أندريا ظل يماطل فيه أربع سنين، كان في أثنائها يرسم لكنيسة سان دسينو San Zeno في فيرونا صورة كثيرة الطيات لا تزال حتى اليوم تجعل هذا الصرح الفخم كعبة للحجاج من مختلف الأقطار. وقد صور في اللوحة الوسطى من هذه الصورة وسط إطار فخم بين عمد وشرفة وقوصرة رومانية الطراز مريم العذراء ممسكة بطفلها، يحف بهما الموسيقيين والمرنمون من الملائكة؛ ثم رسم تحت هذا صورة قوية تمثل صلب المسيح، وتحتوي على بعض الجنود الرومان يقذفون النرد ليعرفوا من منهم يستحوذ على أثوابه؛ والى اليسار صورة حديقة زيتون تمثل منظراً طبيعياً وعراً كان خليقاً بأن يدرسه ليوناردو ليستعين به على رسم عذراء الصخور. وتعد هذه الصورة ذات الثلاث الطيات من أعظم صور عصر النهضة
(1)
.
وقضى منتينيا في فيرونا ثلاث سنين ثم قبل أخيراً أن يذهب إلى مانتوا
(1)
واستولى الفاتحون الفرنسيون على اللوحات السفلى في عام 1797، أما حديقة الزيتون والبعث فهما الآن في تور، وصورة الصلب محفوظة في متحف اللوفر؛ وقد رسمت من هذه نسخ طيبة حلت محلها في صورة فيرونا الكثيرة الطيات.
(1460)
، حيث بقى إلى أن وافته المنية إذا استثنينا فترات قصيرة أقامها في فلورنس وبولونيا وسنتين أقامها في روما. وأسكنه لدوفيكو بيتاً أمده فيه بالوقود والحبوب، ورتب له خمسة عشر دوقة (375 دولاراً) في الشهر. وزين أندريا في خلال هذه المدة قصور ثلاثة مراكيز، وأمكنة صلاتهم، وبيوتهم الريفية. غير أنه لم يبق من ثمار كدحه في مانتوا غير المظلمات الذائعة الصيت في قصر الدوق، وبخاصة ما كان منها في بهو الخطيبين- دجلي اسبوزي Sala degli Sposi- التي سميت بهذا الاسم وزينت بمناسبة خطبة فيدريجو بن لدفيكو لمرجريت أميرة بافاريا. ولا يتعدى موضوع النقش صور الأسرة الحاكمة- المركيز، وزوجته، وأبنائه، وبعض الحاشية؛ ويرى فيها الكردنال فرانتشيسكو جندساجا يرحب به والده لدوفيكو عند عودة الحبر الشاب من رومة، ولكنها تمثل مجموعة من الصور التي أوفت على الغاية في واقعيتها، ومن بينها منتينيا نفسه الذي يبدو أكبر سناً مما هو في الحقيقة، لأنه لم يكن قد تجاوز وقتئذ الثالثة والأربعين، ولكنك تراه في صورته وقد تجعد وجهه وانتفخ ما تحت عينيه.
وكان لدوفيكو أيضاً يتقدم به العمر تقدماً سريعاً، وكانت السنون الأخيرة من حياته كدرة مفعمة بالمتاعب. فقد كانت ابنتان من بناته مشوهتي الخلق؛ وكانت الحرب قد استنفدت موارده؛ واجتاح وباء الطاعون مانتوا في عام 1478 حتى كاد يقضي على حياتها الاقتصادية؛ ونقص ارادات الدولة نقصاً كبيراً. وكان مرتب منتينيا من المرتبات الكثيرة التي لم تؤد زمناً ما إلى أصحابها، فبعث الفنان إلى لدوفيكو برسالة تقريع، ولكن المركيز رد عليه رداً رقيقاً يطلب إليه فيه أن يتذرع بالصبر؛ وانتهى وباء الطاعون، ولكن لدوفيكو لم يعش بعده. فلما خلفه ابنه فيدريجو (1478 - 1484) بدأ منتينيا العمل، وأتم في عهد جيان فرانتشيسكو بن فيدريجو (1484 - 1519)، أجمل أعماله كلها وهي صورة انتصار قيصر
وكانت هذه الصور التسع المرسومة على القماش بالألوان الزلالية قد صممت قد تزدان بها قاعة فيتشيا Vecchia في قصر الدوق، ثم باعها دوق معسر من أدواق مانتوا إلى تشارلز الأول ملك إنكلترا، وهي الآن في قاعة هامبتن. ويصور هذا الفريز
(1)
الضخم البالغ طوله ثمانياً وثمانين قدماً موكباً من الجنود، والقسيسين، والأسرى، والعبيد، والموسيقيين، والمتسولين، والفيلة، والثران، والأعلام، وأنصاب الانتصار، والغنائم كلها تحف بالقيصر وهو راكب في مركبة تتواجه إلهة للنصر. ويعود منتينيا في هذه الصورة إلى موضوعه الأول المحبوب وهو روما القديمة، ويرسم مرة أخرى كما يعمل المثال، ولكن أشخاصه يجيشون وينبضون بالعمل؛ وتستطيع العين أن تتبع الصور رغم ما فيها من عشرات التفاصيل الجميلة حتى تنتهي إلى آخرها وهو حادث التتويج؛ وقد اجتمع في هذا العمل المجيد كل ما وهبه الفنان من جمال التأليف، والرسم، والمنظور، والملاحظة الدقيقة، فأصبح بذلك خير آيات هذا الفنان العظيم.
واستجاب منتينيا في السبع السنين التي انقضت بين بداية صورة انتصار قيصر والانتهاء منها إلى دعوة من إنوسنت الثالث، وصورة عدة مظلمات (1488 - 1489) بادت كلها فيما باد بفعل عوادي الزمن في روما. لكن منتينيا أخذ يشكو من شح البابا، بينا كان البابا يشكو من قلة صبره، فعاد إلى مانتوا، واختتم حياته الكثيرة الإنتاج بمائة صورة في موضوعات دينية؛ أخذ فيها ينسى قيصر ويعود إلى المسيح. وأشهر هذه الصور كلها وادعاها إلى النفور صورة المسيح الميت Cristo Morto ( المحفوظة في بريرا)، وتمثل المسيح راقداً على ظهره، وقد رسمت قدماه كبيرتين في مقدمة الصورة ومتجهتين نحو الناظر؛ وهو يبدو فيها أشبه بجندي مغامر مأجور منه بإله خارت قواه.
(1)
الفريز لفظ معرب ومعناه قماش الصوف الخشن. (المترجم)
وأخرج منتينيا في شيخوخته صورة وثنية أخيرة، فقد تخلى في صورة بانسس Parnassus المحفوظة في متحف اللوفر عما اعتاده قبل من تصوير الحقيقة لا الجمال، فقد استسلم ساعة من الزمن للأساطير المنافية للأخلاق، ورسم صورة عارية لفينوس على عرشها فوق جبل بارنسس بجوار المريخ حبيبها المحارب، وصور في أسفل الجبل أبلو وربات الفنون يمجدان جمالها بالرقص والغناء. وأكبر الظن أن إحدى تلك الربات هي الدرة اليتيمة إزبلا دست زوجة جيان فرانتشيسكو وكانت وقتئذ أعظم سيدات البلاد.
وكانت هذه آخر صور منتينيا العظيمة، وكانت السنون الأخيرة من حياته قد خيم عليها الحزن بسبب ضعف صحته، وحدة أخلاقه، وتراكم الديون عليه. وقد ساءه ما كانت تدعيه إزبلا لنفسها من حقها في فرض دقائق الصور التي تطلب إليه رسمها؛ ولهذا آثر العزلة وهو غاضب ناقم، وباع معظم مجموعاته الفنية وانتهى به الأمر أن باع بيته. ووصفته إزبلا في عام 1505 بأنه:"يستسلم للبكاء والاضطراب؛ غائر الوجه إلى حد يبدو معه أقرب إلى الموت منه إلى الحياة"(3). ومات بعد عام من ذلك الوقت في سن الخامسة والسبعين. وأقيم على قبره في سانت أندريا تمثال نصفي من البرنز لعله من صنع منتينيا نفسه في فنه مدى نصف قرن من الزمان، حتى إنهدت قواه وتشعبته الأحزان. ذلك أن الذين يبغون "الخلود" يجب أن يبتاعوه بحياتهم.
الفصل الثالث
أولى سيدات العالم
أولى سيدات العالم La prima donna Mondo- هكذا كان الشاعر نيقولو دا كريجيو يسمى إزبلا دست (4). وكان الكاتب القصصي بنديلو يراها "صاحبة السيادة بين النساء"(5)، ولم يكن أريستو Ariosto يعرف أي الصفات في "إزبلا الكريمة الجليلة" أجدر بالثناء، جمالها الفتان، أو تواضعها، أو حكمتها أو مناصرتها الآداب والفنون. فقد كانت تتصف بمعظم المزايا والمفاتن التي جعلت المرأة المتعلمة في عصر النهضة إحدى تحف التاريخ النادرة. وكانت ذات ثقافة واسعة متنوعة دون أن تكون "من العلماء" ودون أن تفقد شيئاً من جاذبية النساء. ولم تكن ذات جمال رائع غير عادي؛ وكان الذي يعجب به الرجال فيها هو حيويتها، وسمو روحها، وقو تقديرها، وكمال ذوقها. وكان في مقدورها أن تركب الخيل طول النهار ثم ترقص طوال الليل، وأن تظل في كل لحظة ملكة حاكمة. وكانت تستطيع أن تحكم مانتوا بكياسة وعقل يختلفان عن كياسة زوجها وعقله، ولما أدركه الضعف في سنيه الأخيرة، أمسكت بزمام دولته الصغيرة وحالت بينها وبين أن تتشتت على الرغم من أخطائه، وتجواله، ومرض الزهري الذي أصيب به. وكانت تراسل أعظم الشخصيات في زمانها مراسلة الند للند؛ وكان البابوات والأدواق يسعون لصدقاتها، والحكام يفدون على بلاطها، وأرغمت كل فنان على أن يعمل لها، وألهمت الشعراء وأن يتغنوا بها؛ وأهدى إليها بمبو Bembo، وأريستو، وبرناردو ومؤلفاتهم، وإن كانوا يعرفون ضيق مواردها المالية. وكانت تجمع الكتب والتحف الفنية
بحكمة العالم ودقة الخبير الماهر؛ وكانت أينما ذهبت تكون هي المصدر الذي يشع الثقافة، والمثل الذي يحتذي في إيطاليا كلها.
وكانت من آل إستنسي Estensi- الأسرة النابهة التي أنجبت أدواقاً لفيرارا، وكرادلة للكنسية؛ ودوقة لميلان. وقد ولدت إزبلا في عام 1474 وكانت تكبر أختها بيتريس بعام. وكان والدها إركولى Ercole الأول صاحب فيرارا، وأمهما إليانورا أميرة أرغونة وابنة فيرانتي Frrante الأول ملك نابلي؛ وقد رزقا خير الأبناء. وأرسلت بيتريس إلى نابلي لتتقن أساليب النشاط والمرح في بلاط جدها، ونشئت إزبلا وسط العلماء، والشعراء، وكتاب المسرحيات؛ والموسيقيين، والفنانين الذين جعلوا من فيرارا في وقت ما أبهى العواصم الإيطالية.
وكانت وهي في السادسة من عمرها ذات ذكاء نادر أكثر مما تؤهله لها سنها ويدهش له الدبلوماسيون؛ وها هو ذا بلترامينو كاساترو Beltramino Cusatro يكتب عنها إلى المركيز فيدريجو صاحب مانتوا عام 1480: "لم أكن أتصور قط أن شياً من هذا مستطاع"(6). وظن فيدريجو أن هذه غنيمة طيبة ينالها ابنه فرانتشيسكو، فخطبها من والدها؛ ووافق إركولي على هذه الخطبة لأنه كان في حاجة إلى معونة مانتوا على البندقية، ووجدت إزبلا نفسها وهي في السادسة من عمرها مخطوبة لغلام في الرابعة عشرة. وبقيت عشرة أعوام أخرى في فيرارا تتعلم كيف تخيط وتغني، وتكتب الشعر الإيطالي والنثر اللاتيني، وتعزف على البيان العود، وترقص بخفة ورشاق يخيل إلى من يراها أن لها جانحين لا تراهما العين. وكانت ذات وجه أبيض صاف وعينين سوداوين براقتين، أما شعرها فكان أشبه بشبكة من خيوط الذهب. ولما بلغت السادسة عشرة من عمرها غادرت مسارح طفولتها السعيدة، وأصبحت بحق مركيزة مانتوا فخورة بهذا المركز السامي.
أما جيان فرانتشيسكو فكان كالح الوجه أشعث الشعر، مولعاً بالصيد، متهوراً في الحرب والحب. وكان في سنيه الأولى يعنى بشئون الحكم، واستبقى منتينيا وغيره من العلماء في بلاطه وأخلص لهم. وقد حارب في فورنوفو Fornovo بشجاعة تعدو حدود الحكمة، ثم أرسل إلى شارل الثامن معظم المغانم التي استولى عليها في خيمة الملك بعد فراره؛ ولسنا نعلم أكان الباعث على هذا هو الشهامة والمروءة أم التبصر وحسن التدبر. وقد أطلق العنان لشهواته الجنسية كما هي عادة الجنود، وبدأت خيانته لزوجته أثناء الوضع الأول. وبعد سبع سنين من زواجه سمح لعشيقته تيودورا أن تظهر في حفل برجاس في بريشيا بثياب لا تكاد تفترق عن الثياب الملكية، وكان هو فيه من بين اللاعبين. وربما كانت إزبلا ملومة بعض اللوم من هذه الناحية: فقد اعتراها بعض السمن، وشرعت تقوم بزيارات طويلة إلى فيرارا، وأربينو، وميلان؛ ولكن أياً كان حظها من اللوم فإن المركيز لم يكن ممن يطيقون الاقتصار على زوجة واحدة. وصبرت إزبلا على مغامراته صبر الكرام، ولم يعرها الالتفات جهرة، وظلت زوجة وفية، تسدى إلى زوجها النصح السديد في السياسة، وتسعى لتحقيق مصالحه بفضل ما أوتيت من حذق دبلوماسي ومن فتنة. ولكنها كتبت إليه في عام 1506 - وكان وقتئذ يتولى قيادة جنود البابا- كلمات قليلة أشعرته فيها بما تحسه من أذى، قالت: "لست في حاجة إلى من يجعلني أقسم بأنك يا صاحب العظمة قد قل حبك لي في الأيام الأخيرة. على أنه لما كان هذا من الموضوعات غير المحببة فإني لن
…
أقول أكثر من هذا" (7). وكان من بواعث اهتمامها بالفن، والأدب، والصداقة أنها تحاول بذلك نسيان الفراغ المرير الذي تعانيه في حياتها الزوجية.
وليس في كل ما تتكشف عنه النهضة من متع كثيرة ما هو أجمل من روابط الود والحنان التي كانت تربط إزبلا، وبيتريس، وإلزبتا جندساجا
زوجة أخي إزبلا؛ وقلما نجد في أدب النهضة ما هو أجمل من رسائل الحب المتبادلة بينهن. لقد كانت إلزبتا ضعيفة الجسم ميالة إلى الجلد، وكثيراً ما كان يعتريها المرض؛ أما إزبلا فكانت مرحة، حلوة الفكاهة، متوقدة الذكاء، أكثر اهتماماً بالأدب والفن من إلزبتا وبيتريس؛ ولكن حسن الذوق وكمال العقل جعلا هذا الاختلاف في الأخلاق يكمل بعضه بعضاً؛ وكانت إلزبتا تحب المجيء إلى مانتوا، كما كانت صحتها تشغل بال إزبلا أكثر مما تشغل بالها صحتها هي نفسها، وكانت تتخذ كل الوسائل التي تمكنها من شفاء علتها. ولكن إزبلا كانت تتصف بشيء من الأنانية التي لا نجدها قط في إلزبتا؛ فقد كانت تطاوعها نفسها بأن تطلب إلى سيزاري بروجيا أن يعطيها صورة كيوبد التي صورها ميكل أنجيلو، والتي اختلسها بروجيا بعد استيلائه على أربينو موطن إلزبتا. ولما سقط لدوفيكو المورو (المغربي) زوج أختها الذي حبها بكل ما يتطلبه النبل، والشهامة سافرت إلى ميلان، ورقصت في أقامها لويس الثاني عشر قاهراً لدوفيكو. على أن هذا العمل قد يكون هو الوسيلة النسوية التي لجأت إليها لتنجي بها مانتوا من الغضب الذي أثاره زوجها بصراحته غير الحكيمة في نفس لويس، ولقد كانت خطتها الدبلوماسية تقتضي منها الاشتراك في ما يقوم بين الدول من صلات الغرام في زمانها وزماننا نحن. أما فيما عدا هذا فكانت امرأة صالحة، وقلما كان في إيطاليا رجل لا يسره أن يخدمها، وكتب لها بمبو يقول أنه "يرغب في أن يخدمها ويسرها كما لو كانت هي البابا نفسه"(8).
وكانت تتكلم اللغة اللاتينية أحسن مما تتكلمها أية امرأة أخرى في أيامها، ولكنها لم تتقن قط هذه اللغة؛ لما أن شرع ألدس مانوتيوس Aldus Manutius يطبع الكتب الممتازة من الآداب القديمة؛ كانت هي من أشد عملائه تحمساً لاقتنائها- وقد استأجرت العلماء لترجمة أفلوطرخس،
وفيلوستراتس، كما استخدمت أحد علماء اليهود ليترجم لها مزامير من اللغة العبرية حتى تعرف على وجه التأكيد معناها الأصلي. وكانت إلى هذا تجمع الكتب المسيحية أيضاً، وتقرأ كتب آباء الكنيسة في شجاعة نادرة في تلك الأيام. والراجح أنها كانت تقتني الكتب اقتناء الجامعين الهواة أكثر من اقتناء القراء والعلماء؛ وكانت تجل أفلاطون، ولكنها كانت في الحقيقة تفضل قصص الغرام والفروسية التي كانت تلذ قراءتها لأريستو ومن على شاكلته في جيلها وتاسو Tasso وأمثالها في الجيل الذي يليه. وكانت تحب الزينة والحلي أكثر مما تحب الكتب والفن؛ وكانت نساء إيطاليا وفرنسا ينظرن إليها حتى في سنيها الأخيرة على أنها مرآة الطراز الحديث وملكة الذوق. وكان من أساليبها الدبلوماسية أن تؤثر في الشعراء؛ والكرادلة بشخصيتها الجذابة، وأناقة ملبسها، ورقي آدابها، وقوة عقلها مجتمعة. وكانوا يظنون أنهم يعجبون بواسع علمها أو حكمتها حين كانوا في الواقع الأمر يمتعون أنظارهم بجمالها أو حسن ثيابها، أو رشاقتها. وإنا ليصعب علينا أن نصفها بالتعمق في شيء اللهم إلا في قدرتها على الحكم. وكانت ككل معاصريها تقريباً تستمع إلى المنجمين، وتحدد بداية مشروعها بمواقع النجوم. وكانت تسلي نفسها بالأقزام، وتتخذهم جزءاً من بطانتها، وأمرت ببناء ست حجرات ومعبد في قصرها تناسب أحجامهم. وبلغ أحد هؤلاء الأقزام من قصرها (كما يقول أحد الفكهين) حداً لو أن الدنيا زاد مطرها بوصة واحدة لمات غرقاً. وكانت أيضاً مولعة بالكلاب والقطط، تختارها بذوق المربي الهاوي، فإذا ماتت أقامت لدفنها جنازة رهيبة يشترك فيها الأحياء من الحيوانات المدللة، مع كبار رجال البلاط وكبيرات سيداته.
وكان كاستلو (القصر) - أو الرجيو أو قصر الدوق Palazzo Ducale الخاضعة لحكمها خليطاً من المباني أقيمت في أوقات مختلفة وعلى طراز متباينة. ولكنها كلها على نمط الحصن الخارجي والقصر الداخلي الذين قامت عليهما
المباني المشابهة له في فيرارا، وبافيا، وميلان، ويرجع تاريخ بعض أجزائه مثل قصر الرئيس Palazzo del Capitano إلى عهد الحكام من آل بوناكلزي Buonacolsi من رجال القرن الثالث عشر؛ أما الكاستلو سان جيورجيو (قصر القديس جرجس) فكان من منشآت القرن الرابع عشر. وكان الجزء المعروف ببهو الخطيبين من عمل لدوفيكو جندساجا ومنتينيا في القرن الخامس عشر؛ وأعيد بناء كثير من الحجرات في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأعيدت زخرفة بعضها مثل بهو المرايا Sala degli Specchi خلال حكم نابليون، واختير لها كلها أظرف الأثاث، وكانت المجموعات الكبيرة من الحجرات السكن، وأبهاء الاستقبال، ومكاتب الإدارة، تطل على أقنية أو حدائق، أو نهر المنتشيو المتعرج الذي أشاد به فرجيل في شعره، أو البحيرات التي تحف بمدينة مانتوا. وكانت إزبلا تشغل في هذه المتاهة أجنحة تختلف باختلاف الأوقات، فكانت في سنيها الأخيرة تفضل شقة صغيرة مكونة من أربع حجرات ( camerini) تعرف باسم المرسم il Studiolo أو الفردوس li Paradiso؛ وقد جمعت في هذه الشقة وفي حجرة أخرى معها تسمى الكهف il Grotto كتبها وتخفها الفنية، وآلاتها الموسيقية- وكانت هذه نفسها تخفاً فنية جميلة.
وكان أعظم ما تهتم به في حياتها بعد عنايتها بالمحافظة على استقلال مانتوا ورخائها، وبعد روابط الصداقة في بعض الأحيان، هو جمع المخطوطات، والتماثيل؛ والصور الملونة والخزف الفني الرفيع، وقطع الرخام القديم، ومنتجات الصياغ الفنية الدقيقة، وكانت تستعين بأصدقائها؛ وتستخدم عمالاً خصوصيين في مختلف المدن من ميلان إلى رودس ليساوموا ويبتاعوا لها، وأن ينتهوا إلى كل ما يمكن العثور عليه من هذه اللقي والكنوز؛ وكان الذي يضطرها إلى المساومة هو أن خزانة دولتها الصغيرة تضيق عن تحقيق جميع آمالها. وكانت مجموعتها صغيرة، ولكن كل قطعة منها كانت
من أجمل ما يوجد من نوعها، فقد كان لديها تماثيل من صنع ميكل أنجيلو، وصورة من صنع منتينيا، وبروجينو، وفرانتشيا Francia. على أنها لم تقنع بهذه فألحت على ليوناردو دافنتشي، وجيوفني بيلي أن يرسما لها بعض الصور، ولكنهما امتنعا عن الحضور بحجة أنها تعطي من الثناء أكثر مما تعطي من المال؛ وما من شك في أنه في أنه كان من أسباب هذا الامتناع إصرارها هي على أن تحدد بالدقة ما يجب أن تمثله كل صورة وما يجب أن تحتويه. وكانت في بعض الأحيان تستدين الأموال الطائلة لترضي رغبتها القوية بالحصول على إحدى الآيات الفنية كما فعلت حين أدت 115 دوقة (1875 دولاراً) إلى جان فان أيك Jan Van Eyck ثمناً لصورة عبور البحر الأحمر. على أنها لم تكن سخية على منتينيا، وإن كانت قد أقنعت زوجها بعد وفاة هذا العبقري الجبار أن يغري لورندسو كستا Lorenzo Costo بالمجيء إلى مانتوا نظير مرتب كبير. وزين كستا الملجأ المحبب لجيان فرانتشيسكو جندساجا، وقصر سان سبستيان، ورسم عدة صور للأسرة، كما رسم صورة متوسطة القدر للعذراء لتوضع في كنيسة سانت أندريا.
واستدعى جيوليو ببي Giulio Pippi في عام 1524 ورمانو Romano أعظم تلاميذ روفائيل، فأقام في مانتوا، وأدهش أفراد الحاشية بحذقه في العمارة والتصوير. وأعيد نقش قصر الدوق كله تقريباً حسب التصميمات التي وضعها له، وقام بهذا النقش هو تلاميذه- فرانتشيسكو بريماتشيو Franccsco Primaticcio، ونقولو دل أباتي Niccolo dell' Abbate، ميكل أنجيلو أنسيلمي Mickel Angelo Anselmi، وكان فيدريجو ابن إزبلا الحاكم في ذلك الوقت؛ وإذ كان هو قد اكتسب وهو في رومة، كما اكتسب رومانو؛ القدرة على التذوق الموضوعات الوثنية واستخدام الأجسام العارية في الزينة. فقد أمر بأن تصور على جدران عدة حجرات في قصره وعلى سقفها صوراً جذابة لأورورا Aurora، وأبلو، ومحاكمة باريس،
واختطاف هلن Helen، وما إليها من أساطير قديمة. وشرع جويليون في عام 1525 ينشئ في أرباض المدينة أشهر أعماله كلها هو قصر التي Palazzo del Te
(1)
ويتكون هذا القصر من بناء مؤلف من طابق واحد على شكل مستطيع واسع الرقعة، بسيط التصميم، مشيد من كتل حجرية ذي نوافذ من طراز النهضة، يحيط ما كان في ماضي الأيام حديقة غناء، ولكنه الآن أرض قفرة مهملة من أثر الحرب العالمية الأخيرة. فإذا دخل الإنسان القصر لم يكد يفيق من دهشة إلا إلى دهشة: يجد فيه حجرات أفرغ عليها الذوق السليم زينة من عمد مربعة، وشرفات محفورة، وبندريلات
(2)
مصورة وسراديب ذات خزانات، وجدران، وسقف، وكوات وتمثل قصة الجبابرة وآلهة الأولمب، وكيوبد، وسيكي Psyche، وفينوس وأدنيس والمريخ، وزيوس وأولمبيا، كلها في صورة عارية رائعة، تنطق بذوق العهد المتأخر من عهود النهضة وما كان فيه من حب واستهتار. وأراد بريماتشيو أن يتوج هذه الروائع الفنية التي تمثل الشهوات الجنسية الطليقة، والكفاح والمهول الضخم، فصور في الجص موكباً منقوشاً فخماً من الجنود الرومان مماثلا للصورة التي رسمها ماتينيا صورة انتصار قيصر ولا تكاد تقل عن نحت فدياس نفسه. ولما أن دعا فرانسس الأول بريماتشيو، ودل أباتي إلى فنتينبلو Fontainebleau، جاءا إلى القصر ميلك فرنسا بهذا الطراز من النقش ذي الأجسام الوردية العارية التي أتى بها جويليو رومانو إلى مانتوا من صورة التي رسمتها في روما مع روفائيل، وهكذا شع الفن الوثني من حصن المسيحية الحصين إلى العالم.
وكانت السنون الأخيرة من حياة إزبلا فترة امتزج في كأسها الحلو بالمر،
(1)
إن اشتقاق هذا اللفظ ومعناه غير معروفين على وجه التحقيق.
(2)
لفظ معرب يدل على المسافة بين المنحنى الخارجي لعقد الزاوية القائمة التي تقوم فوق أحد طرفيه (عمارة) ويسمى بالإنجليزية spandrel.
فقد كانت تساعد زوجها العليل على حكم مانتوا، وأنجتها براعتها الدبلوماسية من أن تقع غنيمة في يد سيزاري بورجيا، ثم في يد لويس الثاني عشر؛ ومن بعدهما في يد فرانسس الأول، وأخيراً في يد شارل الخامس. فقد استطاعت أن تلاطفهم واحداً بعد واحد، وأن تتملقهم وتسحرهم بمفاتنها، في الوقت الذي كان فيه جيان فرانتشيسكو أو فيوريجو على حافة الهاوية السياسية. وخلف فدريجو أباه في عام 1519، وكان قائداً محنكاً وحاكماً قديراً، ولكنه أجاز لعشيقته أن تحل محل أمه في السيطرة على بلاط مانتوا، ولعل إزبلا قد أرادت أن تبتعد عن هذه المهانة، فسافرت إلى روما (1525) لتطلب القبة الحمراء
(1)
لابنها إركولي. ووقف كلمنت السابع من طلبها هذا موقفاً سلبياً، ولكن الكرادلة رحبوا بها واتخذوا جناحها في قصر الكولنا Colonno، ندوة لهم، واحتجزوها هناك حتى ألفت نفسها سجينة في القصر أثناء انتهاب روما (1527). ولكنها نحتت بمهارتها المعتادة، وكسبت رتبة الكردنالية المرجوة لإركولي وعادت إلى مانتوا ظافرة.
وذهبت إلى مؤتمر بولونيا وكانت لا تزال فاتنة جذابة في سن الخامسة والخمسين، وخلبت عقل الإمبراطور والبابا، وساعدت أعيان أربينو وفيرارا على أن ينجوا إمارتيهم من الاندماج في الولايات البابوية، وأقنعت شارل الخامس أن يرقي فيدريجو إلى مرتبة الادواق. وأقبل تيشييان في ذلك العام نفسه على مانتوا، ورسم لها صورة ذائعة الصيت. ولسنا نعرف على وجه التحقيق مصير هذه الصورة، ولكن النسخة التي نقلها عنها روبنز Rubens تظهرها في شكل امرأة لا تزال في عنفوان الحياة، مولعة بها. ولما زارها بمبو بعد ثمان سنين من ذلك الوقت أذهله نشاطها ومرحها، ويقظة ذهنها، وكثرة ما تعنى به من الشئون، ووصفها بأنها "أكثر النساء حكمة وأحسنهن حظاً"(9)، ولكن حكمتها كانت أقل من أن تقنعها بقبول
(1)
رتبة الكردنالية. (المترجم)
الشيخوخة راضية مبتهجة. ووافتها المنية في عام 1539 في سن الرابعة والستين، ودفنت مع حكام مانتوا السابقين في معبد مجلس السيادة Capella dei Signor بكنيسة سان فرانتشيسكو، وأمر أبنها بأن يقام لها قبر جميل تخليداً لذكراها ولحقها إلى الدار الآخر بعد عام واحد. ولما أن نهب الفرنسيون مانتوا في عام 1797 هدمت قبور أمرائها وأميراتها، واختلطت رفات من فيها بثرى الحطام.
الباب العاشر
فيرارا
الفصل الأول
بيت إست
كانت أكثر مراكز النهضة نشاطاً في الربع الأول من القرن السادس عشر في فيرارا، والبندقية وروما. وليس في مقدور الطالب الذي يجول في أنحاء فيرارا أن يعتقد- إلا حين يدخل قصرها العظيم- أن هذه المدينة الهاجعة كانت قي يوم من الأيام موطن أسرة قوية، بلاطها أفخم بلاط في أوربا، وأن من بين الذين كانوا يتقاضون معاشاً من حكمها أعظم شاعر في ذلك العصر.
وكان من أسباب نشأة هذه المدينة موقعها على الطريق التجاري بين بولونيا والبندقية، ومنها الإقليم الزراعي الواقع من خلفها والذي جعل منها سوقاً تباع فيها غلاته؛ هذا إلى أن المدينة نفسها قد أصابت غنى كثير بوقوعها عند ملتقى ثلاثة فروع من نهر البو. وقد ضمت إلى الإقليم الذي منحه بيبين الثالث إلى البابوية (756)، والذي منحها إياه شارلمان (773)، والذي أعطته الكونتة ماتلدا التسكانية إلى الكنيسة (1107). وكانت المدينة تقر من الوجهة الرسمية بأنها إقطاعية بابوية ولكنها كانت تحكم نفسها بوصفها "قومونا" مستقلاً تسيطر عليه أسرة غنية من التجار. ولما اضطربت أحوالها بسبب هذه المنازعات قبلت الكونت أتسو Azzo السادس صاحب إست Este حاكماً عليها مطلق السلطة (بودستا Podesta) ، (1208)
وجعلت هذا المنصب وراثياً في أبناء من بعده. وكانت إست هذه إقطاعية صغيرة تابعة للإمبراطور، على بعد أربعين ميلا أو نحوها من فيرارا، وكان الإمبراطور أتو Otho الأول قد وهبها للكونت أتسو الأول صاحب كانوسا (961)؛ وأصبحت في عام 1056 مركز هذه الأسرة، وما لبثت أن تسمت باسمها؛ ونشأت من هذا البيت التاريخي فيما بعد الأسرتان الحاكمتان في برنزويك وهانوفر.
وحكم أفراد هذه الأسرة فيرارا من 1208 إلى 1597، وكانوا من الناحية الرسمية اتباعاً من للإمبراطور والبابوية، ولكنهم كانوا من الناحية الفعلية حكاماً مستقلين، يحملون لقب مركيز ثم بدل هذا اللقب بعد عام 1470 بلقب دوق.
ونعم الناس في حكمهم بالرخاء إلى حد ما، وأمدوا البلاط بحاجاته وأسباب ترفه، فاستطاع أن يستضيف الأباطرة والبابوات، وأن يحتفظ بحاشية كبير من العلماء، والفنانين، والشعراء، والقسيسين. واستطاع آل إستنسي أن يحتفظوا بولاء رعاياهم خلال أربعة قرون؛ ولما أن أخرجهم مندوب من قبل البابا كلمنت الخامس ونادى بفيرارا ولاية تابعة للبابا (1311)، وجد الناس أن حكم الكنيسة أثقل عليهم من استغلال رجال الدنيا، فطردوا المندوب البابوي وردوا السلطة إلى أسرة إستنسي (1317)، وأصدر البابا يوحنا الثاني والعشرون قرار "الحرمان" على المدينة؛ فلما حرمت على الأهلين الشعائر الدينية المقدسة بدءوا يتذمرون؛ وسعى آل إستنسي لاسترضاء الكنيسة ونالوا رضاها بشروط قاسية: فاعترفوا أن فيرارا إقطاعية بابوية، يحكمونها بوصفهم مندوبين عن البابوات، وتعهدوا بأن يؤدوا هم وخلفائهم إلى البابوية من مال الدولة جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دوقة (250. 000؟ دولار)(1).
ووصل بيت إست إلى ذروة مجده أثناء حكم نقولو الثالث الذي دام
زمناً طويلاً فلم تكن هذه الأسرة تحكم فيرارا وحدها بل كانت تحكم معها روفيجو Rovigo، ومودينا، وروجيو وبارما، بل إنها حكمت أيضاً ميلان فترة قصيرة. وتزوج نقولو عدداً كثيراً من النساء واحدة بعد أخرى، وكان له أيضاً عدد من الخليلات؛ وكان من بين زوجاته واحدة ذات جمال بارع محبوبة من الشعب تدعى باريزينا مالاتيستا Parisina Malatesta، وكانت ترتكب الفحشاء مع أوجو Ugo ابن زوجها، وأمر نقولو بقطع رأسيهما (1425)، كما أمر بأن تقتل كل من يثبت عليها الزنى من نساء فيرارا، فلما تبين أن هذا الأمر سيهدد فيرارا بالإقفار من السكان، غض النظر عنه. وكان حكم نقولو في ما عدا هذا حكماً طيباً، فقد خفض الضرائب، وشجع الصناعة والتجارة، واستقدم ثيودورس جادسا Theodorus Gaza لتدريس اللغة اليونانية في جامعة المدينة، وعهد إلى جوارينو دا فيرونا Gurino da Verona أن ينشئ في فيرارا مدرسة تضارع في شهرتها ونتائجها مدرسة فتوريتو دا فلتري في مانتوا.
وكان ليونيلو Leonello بن نيقولو شخصية فذة نادرة (1441 - 1450)، كان رحيماً وقوياً، ظريفاً وقادراً، ذكياً وعملياً، تدرب على جميع فنون الحرب، ولكنه كان محباً للسلم، وكان هو المحكم المحبوب ورسول السلام بين زملائه حكام إيطاليا. وقد علمه جوارينو العلوم والآداب فأصبح قبل لورندسو ده مديتشي بجيل من الزمان من أعظم رجال ذلك العصر ثقافة حتى لقد دهش العالم فيليلفو من اتقان ليونيلو اللغتين اللاتينية واليونانيو، وعلوم البيان والشعر، والفلسفة والقانون. وكان هذا المركيز أول من أشار من العلماء بأن الرسائل المزعومة التي كتبها القديس بولس إلى سنكا مزورة (2). وقد أنشأ مكتبة عامة، وأمدها بالمال والنفوذ، وعين في هيئة التدريس بها خير من يستطيع العثور عليهم من العلماء، وكان يشترك اشتراكاً فعلياً في
مناقشاتهم. ولم يلوث حكمه بشيء من الدنايا أو سفك الدماء أو المآسي، اللهم إلا قِصَره المفجع، ولما مات في سن الأربعين حزنت عليه إيطاليا بأجمعها.
وجاءت من بعده طائفة متتابعة من الحكم حافظوا على العصر الذهبي الذي بدأه ليونيلو. وكان أخوه بورسو Borso (1450 - 1471) ، أصلب منه عوداً، ولكنه استمسك بسياسة السلم، وزاد رخاء فيرارا في أيامه زيادة حسدتها عليه سائر الدول. ولم يكن يعنى بالأدب والفنون، وإن كان قد ساعدها بالمال مساعدة قيمة، وحكم دولته بمهارة وعدالة نسبية، ولكنه حمل أهلها ضرائب فادحة، وأنفق كثيراً منها في أبهة البلاط ومظاهره. وكان يحب الألعاب الفخمة والرتب العالية، ويتوق إلى أن يكون دوقاً مثل آل فسكونتي في ميلان، واستعان بالمنح السخية حتى أقنع الإمبراطور فردريك الثالث بأن يخلع عليه لقب دوق مودينا ورجيو (1452) وأقام لهذه الناسبة احتفالاً فخماً أنفق فيه أموال طائلة، وبعد تسع سنين من ذلك الوقت حصل من سيده الإقطاعي الثاني البابا بولس الثالث على لقب دوق فيرارا. وذاع صيته في عالم البحر المتوسط، وبعث إليه حكام بابل وتونس المسلمون بالهدايا، ظناً منهم أنه أعظم حاكم في إيطاليا.
وكان بورسو سعيداً بأخويه: ليونيلو الذي ضرب له أحسن المثل، وإركولى الذي أبى أن يكون له نصيب في المؤامرة تهدف إلى خلعه، وظل معينه الوفي إلى آخر أيامه ثم ورث السلطة من بعده. وظل إركولى يحكم ست سنين حافظ على السلم، وأبهة الحكم، وناصر الشعر والأدب، وفرض الضرائب الباهظة، وقوى رابطة الصداقة مع نابلي بزواجه من إليانورا أميرة أرغونة وابنة الملك فيرانتي، واستقبلها في بلده بأعظم الحفلات التي شهدتها فيرارا (1473) وأكثرها بذخاً، ولكن إركولى انضم إلى فلورنس
وميلان ضد نابلي والبابوية في عام 1478 حين أعلن سكستس الرابع الحرب على فلورنس لأنها عاقبت المشتركين في مؤامرة باتسي Pazzi؛ ولما وضعت الحرب أوزارها، حمل سكستس مدينة البندقية على الانضمام إليه في هجومه على فيرارا (1482). وبينما كان إركولى طريح الفراش، زحف جنود البندقية حتى صاروا على بعد أربعة أميال من المدينة، وهرع الفلاحون الذين أخرجوا من ديارهم وأرضهم وازدحموا داخل أسوار المدينة، وشاركوا أهلها في مجاعتهم. ثم أخشى البابا صاحب المزاج المتقلب أن تصبح فيرارا ملكاً للبندقية لا للبابوية ولا لابن أخيه، فعقد الصلح مع اركولى، وارتد البنادقة إلى أمواه بلدهم واحتفظوا بروفيجو.
ووزعت الحقول من جديد، وجاء الطعام إلى المدينة، ونشطت التجارة مرة أخرى، واصبح من المستطاع أن تجني الضرائب. وشكا إركولي من أن الغرامات التي تنتزع من الخارجين على الدين أخذت تنقص عن معدلها البالغ ستة آلاف كرون في العام (150. 000 دولار)، ولم يكن يعتقد أن الناس قد أصبحوا أكثر صلاحاً من ذي قبل، وطالب باستخدام الشدة في تنفيذ القانون (3). وكان سبب هذا حاجته الملحة إلى المال لأنه رأى أن السكان زاد عددهم عما تتسع له المدينة، فألحق بها مدينة أخرى لا تقل عنها سعة، وقد خطط هذه المدينة الإضافية تخطيطاً راعى فيه أن تكون شوارعها واسعة مستقيمة لم تر أية مدينة إيطالية أخرى مثلها منذ أيام الرومان. وبذلك كانت فيرارا الجديدة "أول مدينة حديثة بحق في أوربا"(4). ولم تمض إلا عشر سنين حتى امتلأت بالسكان الذين نزحوا من المدينة القديمة، وأقام إركولي فيها الكنائس، والقصور، والأديرة، وأغرى نساء الدين بأن يتخذن فيرارا موطناً لهن.
وكان مركز حياة الشعب في المدينة هو الكتدرائية، أما الصفوة المختارة فكانت تفضل عنها القصر الكبير الذي بناه نقولو الثاني (1383) لحماية
الحكومة من العدوان الخارجي أو الثورة الداخلية، ولا تزال أبراج هذا الحصن الضخمة تشرف على ميدان المدينة الأوسط. وفي أسفله الجباب التي مات فيها باريسينا Parisina وكثيرون غيره، ومن فوقها الأبهاء الواسعة التي زخرفها دسو دسي Dosso Dossi ومساعدوه، والتي كان يعقد فيها الأدواق والدوقات مجالسهم ومجالسهن، ويعزف فيها الموسيقيون ويغنون، ويثب فيها الأقزام، وينشد فيها الشعراء قصائدهم، ويلقى فيها المهرجون نكاتهم العجيبة، ويطلب فيها الذكور الإناث، ويرقص فيها السيدات والفرسان طول الليل، وفي الأيام والحجرات الأكثر هدوءاً تقرأ الفتيات والفتيان روايات الفروسية والغرام. وفي هذا الجو ولدت إزبلا وبيتريس دست لإركولي ولإليانور في عامي 1474 و 1475 ونشأتا كما تنشأ أميرات الجان يكتنفهما الثراء، والأعياد، والحرب، والأغاني، والفن. ولكن جداً حنوناً محباً أغرى بيتريس بالحرحيل إلى نابلي، وخطيباً دعاها إلى ميلان، وفي السنة التي خطبت فيها بيتريس وهي سنة 1490 رحلت إزبلا إلى مانتوا. وأحزن سفرهما كثيرين من أهل فيرارا، ولكن زواجهما قوى رابطة الحلف بين آل استنسي من جهة واسفوردسا وجندساجا من جهة أخرى. ونصب إبوليتو أحد أبناء الفنانين الكثيرين كبير أساقفة وهو في الحادية عشرة من عمره، وكردنالاً في الرابعة عشرة من عمره، وأصبح من أكثر رجال الدين ثقافة وأفسدهم أخلاقاً في أيامه.
وإن الأنصاف ليقتضينا حين نتحدث عن هذه المناصب الكنسية ومن يعينون فيها دون مراعاة الكفاية والسن أن نقول إنها كانت جزءاً من الأحلاف الدبلوماسية في ذلك الوقت. ومثال ذلك أن أسكندر السادس الذي جلس على كرسي البابوية منذ عام 1492 كان يحرص على استرضاء إركولي لأنه كان يهدف إلى جعل ابنته لكريدسيا بورجيا دوقة فيرارا. فلما عرض على إركولي أن يتزوج ألفنسو ابن الدوق وولي عهده لكريدسيا، قابل إركولي
هذا العرض بفتور، لأن لكريدسيا لم تكن سمعتها قد طهرت كما هي مطهرة الآن. ثم قبل الاقتراح آخر الأمر، ولكن ذلك لم يكن إلا بعد أن انتزع من الأب الملح شروطاً أنطقت الاسكندر بأنه تاجر مساوم. وكان من هذه الشروط أن يمنح البابا لكريدسيا بائنة قدرها مائة ألف دوقة (1. 250. 009؟ دولار)؛ وأن تخفض الجزية السنوية التي تؤديها فيرارا للبابوية من أربعة آلاف مكورين إلى مائة (1250؟ دولار)؛ وأن يثبت البابا دوقية فيرارا لألفنسو وورثته إلى أبد الدهر. وظل ألفنسو متمتعاً رغم هذا كله حتى شاهد عروسه، وسنرى فيما بعد كيف كان استقباله إياها.
وارتقى عرش الدوقية في عام 1505، وكان طرازاً جديداً من آل إستنسي. ذلك أنه قبل ارتقائه العرش قد سافر إلى فرنسا، والأراضي الوطيئة، وإنجلترا، ودرس الأساليب الفنية للتجارة والصناعة، فلما تم له الأمر ترك للكريدسيا مناصرة الفنون والآداب، وصرف جهوده في إدارة دولاب الحكومة وصنع الآلات، وقرض الشعر. وقد صنع بنفسه إناء رقيقاً منقوشاً من الخزف الرفيع، كما صنع أحسن أنواع المدافع في وقته، ودرس فن التحصين، حتى أصبح عمدة هذا الفن والمرجع الذي تعتمد عليه فيه جميع أنحاء أوربا. وكان في الأحوال العادية حاكماً عادلاً، عامل لكريدسيا بعطف وحنان على الرغم من رسائلها الغزلية، لكنه كان يطرح العواطف جانباً حين يعامل عدواً خارجياً أو يقمع فتنة داخلية.
وحدث أن افتتن اثنان من إخوة الفنسو هما إبوليتو وجويليو بوصيفة من وصيفات لكريدسيا تدعى أنجيلا، كما حدث أن اندفعت أنجيلا دون روية وفي ساعة من ساعات كبريائها وغطرستها فعيرت ابوليتو بأن قالت له أنه هو كله أقل قيمة عندها من عيني أخيه، فما كان من الكردنال إلا أن قطع الطريق هو وجماعة من القتلة المأجورين على أخيه، ووقف يشاهد أعوانه وهم يقتلعون عيني جويليو بالعصي (1506)، وطلب
جيويليو إلى ألفنسو أن يأخذ له بحقه، فنفى الدوق الكردنال، ولكنه لم يلبث أن سمح له بالعودة. وآلم جويليو ذلك الإهمال البادي للعيان من جانب الفنسو فأتمر مع أخ آخر يدعى فيرانتى على قتل الدوق والكردنال جميعاً، لكن المؤامرة كشفت، وزج جويليو وفيرانتي في سجون القصر الانفرادية، حيث مات فيرانتي في عام 1540، أما جويليو فقد عفا عنه ألفنسو الثاني في عام 1558 بعد خمسين عاماً من الحجز البسيط، لكنه خرج من اعتقاله شيخاً طاعناً بالسن، أبيض شعر الرأس واللحية، يلبس ثياباً من الطراز الذي كان سائداً منذ خمسين عاماً، ووافته المنية بعد أن أطلق سراحه بزمن قليل.
وكانت صفات ألفنسو هي الصفات التي تتطلبها حكومته، ذلك بأن البندقية كانت توسع رقعة أملاكها بضم أجزاء من رومانيا Romangna، وكانت تحيك الدسائس للاستيلاء على فيرارا، ولم يكن يوليوس الثاني البابا الجديد راضياً عن الامتيازات التي منحها سلفة أسرة إستنسي بمناسبة زواج لكريدسيا، فاعتزم أن يحط منزلة الإمارة فيجعلها إقطاعية خاضعة لأمره تزوده بالإيراد لا أكثر. وحدث في عام 1508 أن استطاع يوليوس إقناع ألفنسو بالانضمام إليه هو وفرنسا وإسبانيا في سعيهم لإخضاع البندقية.
وكان من أسباب موافقة ألفنسو أنه كان شديد الرغبة في استرداد روفيجو من البندقية. وركز البنادقة هجومهم على فيرارا، وسيروا أسطولهم في نهر البو، ولكن مدفعية ألفنسو المختفية عن الأنظار هزمت هذا الأسطول، ثم مني جيش البندقية بهزيمة ساحقة على يد جنود فيرارا يقودهم إبوليتو الذي لم يكن يفوق استمتاعه بالحرب إلا استمتاعه بالنساء. ولما لاح أن البندقية قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة عقد يوليوس معها الصلح وأمر ألفنسو أن يحذو حذوه لأنه لم يشأ أن يضعف البنادقة وهم أقوى خطوط الدفاع ضد الأتراك ضعفاً لا قيام لهم بعده. لكن ألفنسو
لم يجب يوليوس إلى ما طلب، وما لبث أن ألفى نفسه مشتبكاً في الحرب مع عدوه ومع من كان إلى وقت قريب حليفاً له. وسقطت رجيو ومودينا في أيدي الجيوش البابوية، وبدا أن ألفنسو خاسر لا محالة. فلجأ في باسه إلى روما، وسأل البابا عن شروط الصلح، فطلب إليه البابا أن ينزل آل إستنسي جميعاً عن العرش، وأن تنضم فيرارا إلى الولايات البابوية، فلما رفض ألفنسو هذه المطالب حاول يوليوس أن يقبض عليه، ولكن ألفنسو تمكن من الهرب، وقضى ثلاثة شهور يجول متنكراً معرضاً للأخطار حتى وصل إلى عاصمته. ومات يوليوس في عام 1513، وأسترد ألفنسو رجيو ومودينا، وواصل ليو العاشر حرب البابوية على فيرارا؛ ولم ينقطع ألفنسو في هذه الأثناء عن تحسين مدفعيته وتبديل أساليبه الدبلوماسية، فصمد في عناد شديد حتى مات ليو أيضاً (1521). وسوى البابا أدريان السادس الأمور تسوية شريفة مع الدوق الباسل الذي لا يقهر، وأتيحت لألفنسو فترة من الوقت وجه فيها مواهبه إلى فنون السلم.
الفصل الثاني
الفنون في فيرارا
وكانت ثقافة فيرارا أرستقراطية خالصة، كما كانت فنونها على الدوام في خدمة القلة المختارة، ولم يكن لأسرة الدوق، التي لا تنقطع الحروب بينها وبين البابوية، ما يحملها على التمسك بأهداب الدين إلا أن تضرب بذلك أحسن مثال في التقي والصلاح للشعب الذي تحكمه، وقد شادت بعض الكنائس الجديدة، ولكنها لم تكن لها صفة الدوام. وقد أنشئ في الكتدرائية في القرن الخامس عشر برج غير ذي روعة، وموضع للمرنمين من طراز النهضة ذلك الوقت وأنصارهم كانوا يفضلون بناء القصور، ومن أجل هذا صمم بياجيو روسيتي Biagio Rossetti قصراً من أجمل القصور هو قصر لدوفيكو إل مورو (لدوفيكو المغربي)؛ وتقول إحدى الروايات المشكوك في صحتها إن لأدوفيكو أمر ببنائه ظناً منه أنه قد يطرد يوماً ما من ميلان، وقد بقى دون أن يتم حين أخذ إلى فرنسا، ويعد فناؤه غير المسقف ذو البواكي البسيطة الرشيقة في الدرجة الثانية من دور النهضة. وأجمل منه الفناء الكبير الذي بنى لآل اسفوردسا (1499)، والذي يسمى الآن فناء بيفلكوا ( drinkwater) Bevilacqua نسبة إلى أحد ساكنيه المتأخرين. وأروع من هذا القصر على روعته قصر ديامنتي Palazzo de' Diamanti الذي وضع تصميمه روستي (1492) لسجسمند أخي الدوق إركولي، والذي اشتق أسمه من واجهته المكونة من 12. 000 عقدة رخامية على شكل الماس.
وكانت قصور الترف والمتعة طراز ذلك العصر، وكانت تطلق عليها
أسماء غريبة للخيال فيها أكبر نصيب: بيلفيوري Belfiori، بلرجوارديو Belrguardio لاروتندا La Rotonda، بلفدير، وكان أعظم من هذه القصور كلها قصر آل إستنسي الصيفي المسمى "قصر اسكفانويا (تخطى الإزعاج) Paluzzo di Schifanoia" أو "بدون قلق San Souci" كما يريد فردريك الأكبر أن يسميه. وقد بدئ في إنشائه عام 1391، وأتمه بورسو في عام 1469، وكان يتخذ بيتاً من بيوت الحاشية ومسكناً لغير ذوي المنزلة الكبرى من أسرة الدوق. ولما ضعف شأن فيرارا حول القصر إلى مصنع للدخان، وطليت النقوش الجدارية التي رسمها كُسَّا، وتوراً Tura وغيرهما من المصورين في القاعة الكبرى بالجير. ثم أزيلت هذه الطبقة الجيرية في عام 1840 وأنقذت سبع من اللوحات الاثنتي عشر، وهي سجل حافل مدهش للأزياء، والصناعات، والمواكب، والألعاب في عصر، بورسو مختلطة اختلاطاً عجيباً بشخصيات من الأساطير الوثنية. وتعد هذه المظلمات من أحسن ما أنتجته مدرسة من مدارس التصوير ظلت نصف قرن من الزمان تجعل فيرارا أحفل مراكز الفن الإيطالي بالنشاط.
وظل مصورو فيرارا خاضعين للتقاليد الجيوتسكية حتى نفض عنهم نقولو الثالث هذا الركود باستقدام فنانين أجانب لمنافستهم- ياقوبو بليني من البندقية؛ ومنتينيا من بدوا، وبيزانيلو من فيرونا. وأضاف ليونيلو قوة جديدة إلى هذا الحافز حين رحب بروجير فان درويدن (1449) الذي كان ممن جهدوا المصورين الإيطاليين إلى استعمال الزيت. واقبل في هذا العام نفسه بيرو دلا فرانتشيسكا من بورجوسان سبيلكر Borgo san Selqocro ليرسم صورة جدارية (فقدت الآن) في قصر الدوق. وكان الذي كون آخر الأمر مدرسة التصوير في فيرارا هو دراسة كوزيمونورا الحماسية لمظلمات منتينيا في بدوا والصناعة الفنية التي كان فرانتشيسكو سكوارا تشيوني يعلمها في تلك المدينة.
واختير تورا مصوراً للبلاط عند بورسو (1458) ورسم عدة صور لأسرة الدوق، واشترك في تصوير قصر اسكفانويا، ونال من الثناء ما جعل والد رفائيل في مصاف زعماء الفن في إيطاليا. ويبدو أن جيوفني سانتى كان يعجب بشخوص كوزيمو المكتئبة، وبالخلفيات المعمارية التي كان يرسمها لصوره، وبمناظره الطبيعية المحتوية على أشكال غريبة من الصخور ولكن رفائلو سانتى لو اطلع على هذه الصور لما وجد فيها شيئاً من عناصر الدقة والرشاقة التي نجدها في صور إركولي ده روبيرتي Ercole de' Roberti تلميذ تورا الذي خلف معلمه في منصب مصور الحاشية عام 1495، ولكن هذا المصور الجبار كانت تنقصه القوة والحيوية إلا إذا استثنينا من هذا التعميم الحفلة الموسيقية المحفوظة في معرض الصور في لندن والتي هي من صنع فرانز هلزيان Frans Halsian، وإن كانت في ما مضى تعزى إلى إركولي هذا. ورسم فرانتشيسكو كسا أعظم تلاميذ تورا على الإطلاق في قصر اسكفانويا آيتين فنيتين جمعتا قدراً كبيراً من الحيوية والرشاقة وهما: انتصار فينوس والسباق وهما صورتان تكشفان عن فتنة الحياة وبهجتها في بلاط فيرارا. ولما أن أدى إليه بورسو أجر الصورتين بالسعر الرسمي- أي عشر بولنينات bolognini عن كل قدم من الجزء المصور- احتج كستا على هذا، ولما عجز بورسو عن أن يدرك ما في احتجاجه من قوة حول فرانتشيسكو كسا مواهبه الفنية إلى خدمة بولونيا (1470). وفعل لورندسو كستا هذا الفعل نفسه بعد ثلاثة عشر عاماً من ذلك الوقت وخسرت بذلك مدرسة فيرارا الفنية رجلين من خيرة رجالها.
غير أن دسودسي بعث فيها بعض الحياة بدراسته الفنية في البندقية وقت أن كان جيور جيوني في أوج مجده (1477 - 1510). ولما عاد إلى فيرارا أصبح هو مصور ألفنسو الأول المقرب؛ وكان صديقه أريستو ويضعه هو وأخاً له بين رجال الفن الخالدين.
وفي وسعنا أن نفهم لم كان يحب دوسو، الذي أدخل في صوره عناصر من الحياة الخلوية تكاد تكون إيضاحاً لملحمة أريستو الغابية، وغمرها بالألوان القوية التي استمدها من مصوري البندقية العظام. وكان دوسو وتلاميذه هم الذين زخرفوا قاعة الاجتماع في القصر بمناظر حية من المباريات الرياضية على النمط القديم، لأن ألفنسو كان يحب الرياضة أكثر مما يحب الشعر. ورسم دسو في سنيه الأخيرة بعد أن اضطربت يده مناظر رمزية وأسطورية في سقف بهو أورورا Sala dell' Aurora، وكان للموضوعات الوثنية المنتشرة في إيطاليا الغلبة في الاحتفال بجمال الجسم والحياة الشهوانية. ولعل من أسباب الضعف الذي أخذ يدب وقتئذ في فن فيرارا- والذي كان من أكبر العوامل فيه النفقات الباهظة التي تطلبتها حروب ألفنسو- غلبة الجسم على الروح، وزوال الشغف بموضوعات الدين القديم وفخامته من الفن الذي أصبح كثرته دنيوية وتركته في معظمه فناً زخرفياً لا أكثر.
وكانت أعظم الشخصيات البارزة في عصر الضعف هي شخصية بنفينوتو تيسي Benvenuto Tisi المعروف باسم جاروفالو Garofalo نسبة إلى موطنه. وزار روما مرتين شغف على أثرهما بفن رفائيل شغفاً حمله على أن ينضم إلى مساعديه في مرسمه وإن كان هو يكبر رفائيل بعامين. ولما اضطرته شئون أسرته إلى العودة إلى فيرارا وعد رفائيل أن يعود إليه، ولكن ألفنسو وأعيان المدينة وكلوا إليه كثيراً من الأعمال لو يستطيع انتزاع نفسه منها. فاستنفد نشاطه، ووزع مقدرته في إنتاج عدد كبير من الصور بقيت لنا منها حوالي سبعين صورة، وكلها تنقصها القوة والصقل، ولكن منها واحدة هي صورة الأسرة المقدسة المحفوظة في الفاتيكان تثبت أن الفنانين الصغار في عهد النهضة كانوا هم أيضاً يستطيعون الاقتراب من سماء العظمة.
ولم يكن المصورون إلا قسماً صغيراً من الفنانين الذين كانوا يكدحون ليدخلوا السرور على المحظوظين من أهل فيرارا. فقد كان مزخرفو الكتب
بالصور الدقيقة ينتجون فيها، كما ينتج أمثالهم في غيرها من المدن، أعمالاً ذات روعة وجمال تستوقف العين وتسرها أطول مما تستوقفها وتسرها كثير من الصور الذائعة الصيت؛ وقد احتفظ قصر الاسكفانويا بعدد من هذه الدرر وبالخط اليدوي الجميل. وكذلك استقدم نقولو الثالث ناسجي الطنافس من بلاد فلاندرز؛ وكان فنانو فيرارا يقدمون لهم ما يحتاجونه من الرسوم؛ وازدهر هذا الفن الذي يتطلب كثيراً من الصبر والأناة على يد ليونيلو وبروسو؛ وكانت الطنافس التي ينتجها هؤلاء الناسجون تزدان بها جدران القصر، وكانت تعار إلى الأمراء والأعيان في بعض الاحتفالات الخاصة. وكذلك كان الصائغون لا ينقطعون عن العمل في صنع الآنية الكنيسة، وحلي الأفراد، من ذلك أن اسبيرانديو Sperandio من أهل مانتوا، وبيزانيلو من أهل فيرونا قد نقشا هنا عدداً من المدليات الكبيرة تعد من أجمل ما أخرجته النهضة.
وآخر ما نذكره من هذه الفنون وأقلها شأناً في تلك المدينة فن النحت. ونذكر من رجاله كرستوفورو دا فيرندسا Crislofora da Firenza، ونقولو بارنتشلي Niccolo Baroncelli، وقد صنعا تمثالاً لنقولو الثالث على صهوة جواده وكان لأولهما تمثال الرجال ولثانيهما تمثال الجواد. وأقيم التمثال في عام 1451 قبل أن يقيم دوناتيلو تمثال جتا متلاتا في بدوا بعامين. ثم وضع إلى جواره في عام 1470 تمثال من البرنز للدوق بورسو، وهو جالس جلسة هادئة خليقة برجل السلام. وحطم هذان التمثالان في عام 1796 بأيدي الثوار الذين زعموا أن التماثيل البرنزية رمز للاستبداد والظلم. فصهروها وصنعوا منها مدافع ليضعوا بها حداً للاستبداد ولجميع الحروب، وزين ألفنسو لمبادري غرف المرمر في القصر بكثير من التماثيل؛ ثم فعل ما فعله كثيرون من فناني فيرارا فآوى إلى بولونيا، حيث نجده بعد ذلك في أوج مجده. لقد كان بلاط فيرارا بأفكاره، وأذواقه، وأجوره أضيق من أن يحول ثروة المدينة الفانية إلى فن خالد.
الفصل الثالث
الآداب
قامت الحياة الذهنية في فيرارا على أساسين هما الجامعة وجوارينو دا فيرونا Guarino da Verona. فأما الجامعة فقد أنشئت في عام 1391، ولكنها سرعان ما أغلقت لقلة المال، فلما أعاد فتحها نقولاس الثالث، عاشت عيشة هزيلة حتى أعاد ليوتيلو تنظيمها (1442)، وعين لها موارد مالية بمرسوم مقدمته خليقة بالتنويه والتسجيل.
من الآراء القديمة التي يعتنقها المسيحيون وغير المسيحيين على السواء، أن السماوات والبحار والأرضين لا بد أن تفنى يوماً ما؛ ومصداقاً لهذا دمرت كثير من المدن العظيمة فلم يبق منها إلا خربات سويت بالأرض، وحتى روما الفاتحة نفسها قد أصبحت أطلالاً بالية وخربات دارسة؛ أما الذي لا يبليه كر الغداة ومر العشي، بل يبقى أبد الدهر، فهو إدراكنا للأشياء القدسية والإنسانية الذي نسميه الحكمة (6).
ولم يحل عام 1474 حتى ضمت الجامعة خمسة وأربعين أستاذ يتقاضون مرتبات مجزية، ولم يكن في إيطاليا ما يضارع كلياتها الخاصة بدراسة الفلك، والعلوم الرياضية، والطب إلا كليتا بولونيا وبدوا.
وأما جوارينو فقد ولد فيرونا عام 1370، ثم سافر إلى القسطنطينية وعاش فيها خمس سنين، أتقن فيها اللغة اليونانية، وعاد بعدها إلى البندقية مع بضاعة قيمة من المخطوطات اليونانية. وتقول إحدى القصص إنه لما ضاع أحد هذه الصناديق أثناء عاصفة بحرية اشتعل رأسه شيباً في ليلة واحدة. واخذ يعلم اللغة اليونانية في البندقية، وكان من بين تلاميذه منها فتورينو دا فيلتري، ثم انتقل منها ليعلم هذه اللغة
نفسها في فيرونا، وبدوا، وبولونيا، وفلورنس، فأصبح عميد الدراسات القديمة فيها واحدة بعد واحدة. ولما بلغ التاسعة والخمسين من عمره قبل دعوة من فيرارا، فذهب إليها وأصبح فيها معلماً لبونيلو، وبورسو، وإركولى، وبهذا تربى على يديه من أعظم الحكام استنارة في تاريخ النهضة. وكان نجاحه في تدريس اللغة اليونانية وبيانها في الجامعة حديث الناس كلهم في إيطاليا؛ وبلغ من إقبال الناس على محاضراته أن كان الطلاب يهرعون في زمهرير البرد لينتظروا خارج أبواب الحجرات المخصصة لدروسه وهي لا تزال مغلقة. ولم يكونوا يفدون من المدن الإيطالية وحدها، بل كانوا يأتون أيضاً من بلاد المجر وألمانيا، ولإنجلترا؛ وتخرج منهم عدد كبير ليشغلوا مناصب ذات شأن عظيم في التربية، والقضاء، والحكم. وكان يفعل ما يفعله فتورينو فيعول من ماله الخاص فقراء الطلبة؛ وكان يتخذ له مساكن بسيطة، ولا يتناول من الطعام إلا وجبة واحدة في اليوم، وكان من عادته أن يدعو أصدقائه، لا للولائم، بل "للفول والحديث" على حد قوله feve et favole (7) . ولم يكن مثلاً أعلى في الأخلاق بقدر ما كان فتورينو، فقد كان يسعه أن يكتب أشد الطعن وأقذعه كما يفعل أي كاتب إنساني، ولعله كان يرى في هذا شيئاً من التسلية الأدبية؛ ولكن يبدو أن أبناءه الثلاثة عشر كانوا كلهم من أم واحدة؛ وكان يراعى جانب الاعتدال في كل شيء إلا الدرس، وقد احتفظ بصحته وقوته، وصفاء ذهنه حتى بلغ سن التسعين (8). ويرجع إليه هو أكبر الفضل في تشجيع أدواق فيرارا للتعليم، والعلم، والشعر وفيما بلغته عاصمتهم من الشهرة الواسعة بوصفها أعظم المراكز الثقافية في أوربا كلها.
وجاء في أعقاب إحياء التراث القديم تجدد العلم بالمسرحيات اليونانية والرومانية القديمة، وعاد معها إلى الحياة بلوتوس Plutus ابن الشعب،
وترنس Terence عبد الأرستقراطية المحبوب المعتوق، بعد خمسة عشر قرناً من حياتهما، وكانت مسرحياتهما تمثل على مسارح مؤقتة في فلورنس، وروما، وأكثر ما كانت تمثل في فيرارا. وكان إركولي الأول بنوع خص يحب المسالي القديمة، ولا يضن بشيء من المال في سبيل تمثيلها، وقد كلفه تمثيل مسرحية Menaechmi مرة واحدة ألف دوقة. ولما شهد لدوفيكو صاحب ميلان تمثيل هذه المسرحية في فيرارا، رجا إركولي أن يبعث إليه بالممثلين ليعيدوا تمثيلها في بافيا، فلم يكتفي إركولي بإجابة طلبه بل ذهب هو معهم (1493)؛ ولما قدمت لكريدسيا بورجيا إلى فيرارا، احتفل إركولي بزواجها بخمس من مسالي بلوتوس مثالهما مائة ممثل وعشرة ممثلين، وكانت تتخلل مناظرها فترات طويلة من الموسيقى الشجية والرقص؛ وقد ترجم جوارينو، وأريتسو، وإركولي نفسه بعض المسرحيات اللاتينية إلى اللغة الإيطالية، وكانت تمثل بلغة البلاد؛ وكان تقليد هذه المسالي القديمة هو الأساس الذي قامت عليه كتابة المسرحيات الإيطالية واتخذت منه شكلها؛ فكان بوياردو Boiardo وأيستو، وغيرهما يؤلفون المسرحيات لرفقة الدوق التمثيلية، وكان أريستو يضع تصميم المناظر، ودسُّودسي يرسم الثابت منها لأول مرة مسرح دائم في فيرارا وأوربا الحديثة (1532).
وكانت حاشية الدوق تناصر أيضاً الموسيقى والشعر وترعاهما؛ وكان من شعراء فلورنس فيتو فسبازيانو استرستي Vito Vespasiano Strozzi ولكنه لم يكن في حاجة إلى معونة الدوق المالية لأنه كان ينتمي إلى أسرة فلورنسية غنية. وقد كتب باللغة اللاتينية عشرة "كتب" من قصيدة في مدرج بورسو، وتفي قبل أن يتمها، فرتك هذه المهمة إلى ابنه إركولي. وكان إركولي هذا خليقاً بهذا العمل، فقد كان يكتب الأغاني الممتازة باللغتين اللاتينية والإيطالية، كما كتب أيضاً قصيدة طويلة هي قصيدة
الصيد La Caccia أهداها إلى لكريدسيا بورجيا. وتزوج في عام 1508 بشاعرة تدعى بربارة توريلي Barbara Torelli؛ وبعد ثلاثة عشر يوماً من زواجه وجد ميتاً بجوار بيته، وقد أثخن جسده باثنين وعشرين جرحاً وحشياً فظيعاً، ولا يزال سبب مقتله من الحوادث الخفية التي لم تكتشف بعد أربعة قرون من وقوعها. ويظن بعضهم أن ألفنسو قد راود بربارا عن نفسها، فلما صدته عنها انتقم لنفسه بأن أستأجر بعض القتلة لاغتيال منافسه الفائز بها. ولكن هذه القصة واهية الأساس، لأن ألفنسو كان يظهر للكريدسيا جميع إمارات الوفاء طوال حياتها. ورثته الأرملة الحزينة بقصيدة يندر أن نجد ما يماثلها في الإخلاص في أدب بلاط فيرارا الذي كانت تغلب عليه النزعة المصطنعة، وهي تسأل فيها الشاعر القتيل "لم لا أحمل إلى القبر معك؟ ":
ألا ليت ناري تدفئ ذلك الجليد الجمد.
وتحليل بالدموع هذا الثرى إلى لحم حي.
تعيد إليك من جديد بهجة الحياة!
إذن لواجهت ببسالة وقوة
ذلك الرجل الذي فصم أعز ما بيننا من رباط، وصحت به.
"أيها الوحش القاسي! هاك ما يستطيع الحب أن يفعله! ".
وكانت روايات الفروسية الغرامية غداء يومياً في هذا المجتمع القائم في بلاط الحكام، الذي وهب الفراغ، والنساء الحسان، وكان شعراء الفروسية الغزلون الفرنسيون في فيرارا في أيام دانتي يترنمون بقصائدهم، وقد خلفوا وراءهم مزاحاً من الفروسية الخيالية غير الثقيلة؛ وكانت أقاصيص شارلمان الخرافية، وفرسانه، وحروبه مع المسلمين قد أصبحت مألوفة هنا وفي إيطاليا الشمالية كلها لا تكاد ثقل في ذلك عنها في فرنسا نفسها؛ وانتشر
الشعراء القصاصون الفرنسيون فزادوا في هذه القصص وملأوها بأغاني البطولة والمجد، وأصبح إنشادها، بعد أن أضيفت بها حادثة إلى حادثة، وبطل إلى بطلة، مجموعة ضخمة من القصص الطويلة المضطربة، تنادي شاعراً مثل هومر لينسج من هذه القصص المفككة ملحمة متتابعة ويجعل منها وحدة متناسقة.
وقام بهذا الواجب نبيل إيطالي ففعل بقصص شارلمان ما فعله قبل ذلك بقليل قارس انجليزي، هو سير تومس مالوري Sir Thomas Malory بأقاصيص الملك آرثر والمائدة المستديرة؛ وكان هذا النبيل الإيطالي هو بوياردو كونت اسكانديانو Boiardo Count of Scandiano؛ وكان من أبرز أعضاء الخاشية في فيرارا. وقد أوفدته أسرة إستنسي في عدة سفارات خطيرة الشأن، وعهدت إليه إدارة مودينا ورجيو وهما أكبر أملاكها. ولم يكن قديراً في حكمه بقدر ما كان قديراً في غنائه، فكان يوجه الشعر العاطفي القوي إلى أنطونيا كبرارا Antonia Caprara، يسترحمها ويغتني بمحاسنها، أو يلومها على أنها غير وفية في إثمها؛ فلما تزوج ناديا جندساجا وجه موسيقاه كي ترعى في كلأ آمن من كلئها السابق، وبدأ ملحمة تدعى أرلندو الواد Orlando Innamorato (1486 وما بعدها) يقص فيها متاعب أرلندو (أي رولان) للساحرة أنجلكا ويمزج بهذه القصة الغرامية مائة منظر ومنظر من الطعن، وألعاب الفروسية، والحرب. وتقول قصة فكهة منها إن بوياردو أخذ يطوف البلاد باحثاً عن اسم طنان يليق بالفارس المسلم الفخور بقصته، فلما عثر على ذلك اللقب العظيم رودمومنتي Rodomonte دقت أجراس أسكندريانو إقطاعية الكونت ابتهاجاً بهذا التوفيق، كأنها كانت تعلم أن سيدها كان يضع لفظاً للرجل النفاخ المختال سوف يذيع في أكثر من عشر لغات.
وإنا ليصعب علينا في هذه الأيام الثائرة التي يضطرب فيها عالمنا حتى في وقت السلم بألفاظ العدوان، والقتال، والمنافسات الحادة، نقول إنا ليصعب علينا في هذه الأوقات أن نجد شيئاً من الطرافة في أحداث الحروب والغرام التي تقع لأرلندو، ورينلدو، واستلفو، ورجييرو، وأجرمنتي، ومرفيزا Marfiza، وفيورديليسا Fiordelisa، وسكربنتي Sacripante، وأجريكاني Agricane، وإن أنجلكا التي كان يسعها أن تستثير عواطفنا بجمالها لتبعث في نفوسنا السآمة بما تمارسه من فنون السحر والقوى الغيبية؛ ذلك أننا لم نعد تسحرنا الساحرات في هذه الأيام. تلك قصص تليق بمستمعين حسان في ظلل قصر، أو بين أسوار حديقة، ويؤكد المؤرخون لنا أن الكونت كان يقرأ هذه المقطوعات الشعرية في بلاط فيرارا (9)، وما من شك في أنه كان يقرأ مقطوعة أو مقطوعتين في كل جلسة. ونحن نظلم بوياردو وأريستو حين نريد أن نقرأ لهما ملحمة في جلسة واحدة، ذلك أنمها كانا يكتبان لجيل وطبقة من أهل الفراغ، كما أن بوياردو كان يكتب لإنسان لم يشهد غزو شارل الثامن لإيطاليا. فلما أن حل بها ذلك الإذلال الذي فتح عيونها لأحداث الدهر، وأبصرت ما هي عليه من ضعف، وأدركت أن ما فيها من فن وشعر لا يصد عنها قوى الشمال التي لا ترحم، دب اليأس في قلب بوياردو، فألقى بقلمه بعد أن كتب ستين ألف بيت وكتب هذه الموشحة التي نفس بها عن يأسه:
أي إلهي المنقذ! إني وأنا أغنى.
أرى إيطاليا تلتهب وتندلع فيها النيران.
رماها بها أولئك البالغون، تندفع شجاعتهم العظيمة،
فيتقدمون ليحيلوا جميع أرجائها صحارى وقفاراً.
وظل آخر أيامه طيب الفعل، وكأنما كان حكيماً إذ مات (1494) قبل أن يبلغ الغزو عنفوانه؛ ولم تثر عواطف الفروسية النبيلة التي كانت
تدفعه إلى أشد الألفاظ قوة في شعره إلا أضعف الاستجابات في الجيل المضطرب التي تراه. وهو أن كان قد افتتح باباً جديداً في التاريخ بتنمية الملحمة الغرامية الحديثة، فإن صوته لم يلبث أن عفا عليه النسيان في الحروب التي دارت رحاها أثناء حكم ألفنسو، والفتن والقلاقل التي عمت المدينة في أيامه، وفي استيلاء الأجانب على إيطاليا، وفي الجمال المغري الذي يتسم به شعر أريستو الأرق منه لفظاً.
الفصل الرابع
أريستو
يحب ألا يغيب عن أذهاننا، ونحن نوشك أن نتحدث عن أعظم شعراء النهضة الإيطالية، أن الشعر الموسيقي غير قابل للترجمة، وأن الذين لم يسعدهم الحظ منا بأن تكون اللغة الإيطالية لغتهم الأصلية يجب ألا يتوقعوا أن يعرفوا لمَ تضع إيطاليا لدوفيكو أريستو في المرتبة العالية التي لا يعلو عليها إلا دانتي بين شعرائها، وأنها تحب قصيدة أرلندو فيوربوسو وتقرؤها بابتهاج لا ترقي إلى درجته البهجة التي يقرأ بها الإنجليز مسرحيات شكسبير. أما نحن فإذا سمعناها فإنما نسمع الألفاظ ولكننا ينقصنا اللحن والإيقاع.
وكان مولد أريستو في الرابع عشر من سبتمبر عام 1474 في رجيو إميليا التي كلن أبوه حاكماً عليها؛ ثم انتقلت الأسرة إلى روفيجو في عام 1481، ولكن يبدو لدوفيكو تلقى تعليمه في فيرارا. وقد ألحق بها ليتعلم القانون لكنه فضل عليه الشعر، وكان في هذا شبيهاً ببترارك، ولم تضطرب أحواله كثيراً على أثر غزو الفرنسيين في عام 1494؛ ولما أن أعد شارل الثامن عدته للانقضاض على إيطاليا مرة ثانية (1496) قال أرلندو قصيدة حاكى فيها أسلوب الشاعر الروماني القديم هوراس Horace وضع فيها الأمور فيما بدا له أنه الوضع الصحيح:
"ماذا يعنيني من قدوم شارل وجيوشه؟ سأبقى في الظلال أستمع
إلى خرير الماء اللطيف، أرقب الحاصدين في عملهم. وأنت يا فوليس
(1)
ألا تمدين يدك البيضاء من خلال الأزهار المبرقشة وتنسجين لي أكاليل على نغمات صوتك الموسيقي (10)؟ ".
وتوفى والده في عام 1500 وخلف لأبنائه ميراثاً يكفي لإعالة واحد منهم أو اثنين؛ وأصبح لدوفيكو أكبر الأبناء رب الأسرة، وأخذ يكافح الضيق المالي كفاحاً طويلاً، وأثر القلق الناشئ من هذا الكفاح في أخلاقه فبعث فيه من الجبن والوجل والذلة والغضب ما لا يستطيع أن يدركه إلا الشعراء ذوو المسغبة؛ وفي عام 1503 التحق بخدمة الكردنال إبوليتو دست؛ ولم يكن إبوليتو هذا ممكن يتذوقون الشعر، ولهذا شغل أريستو وضايقه بكثير من المهام الدبلوماسية وبغيرها من الأمور التافهة، وكان الشاعر يتقاضى أجراً قدراً 240 ليرة (3000؟ دولار) في العام، لم تكن إليه بانتظام. وحاول أن يحسن مركزه بنظم قصائد يشيد فيها بشجاعة الكردنال وعفته، ويدافع فيه عن سَلم عيني جويليو. وعرض عليه إبوليتو أن يزيد مرتبة، إذا قبل أن ينظم في سلك رجال الدين بحيث يصبح من حقه أن يختار لبعض المناصب الكنسية، لكن أريستو كان يبغض رجال الدين وآثر يكتوي بنار الغرام بدل أن يحترق مع رجال الدين.
كانت المدة التي قضاها في خدمة إبولينو هي التي كتب فيها معظم مسرحياته. وكان قد بدأ هذه الفترة من حياته بالاشتغال بالتمثيل، وكان من أعضاء الفرقة التي بعثها إركولي إلى بافيا، ولما أن شرع يؤلف
(1)
شخصية أسطورة تقول عنها الأساطير اليونانية إنها أميرة تراقية تزوجها ديموفون ابن ثيسيوس بعد عودته من طروادة، وذات مرة رحل ديموفون إلى أثينة ووعد بالعودة، فلما عجز عن الرجوع شنقت نفسها وتحولت إلى شجرة لوز (عن معجم الأعلام في الأساطير اليونانية والرومانية للأستاذ أمين سلامة).
المسرحيات كانت مسرحياته تحمل طابع ترنس أو بلونوس، وكان هو صريحاً كل الصراحة حين عرضها إذ قال أنها محاكاة لهذا وذاك (11). ومثلت مسرحيته المسماة كساريا Cassaria في فيرارا عام 1508، كما مثلت سبوزيثى Suppositi في روما عام 1519 أمام ليو العاشر ونالت رضاه، وظل يؤلف المسرحيات إلى آخر سنة في حياته، وترك أحسنها كلها وهي مسرحية اسكولا ستيسكا ناقصة حين وافته منيته. وتدور هذه المسرحيات كلها حول الموضوع القديم: كيف يستحوذ شاب أو عدد من الشبان، بحيل خدمهم في العادة، وبالزواج أو الغواية، على فتاة أو عدة فتيات. ولمسرحيات أريستو منزلة عالية بين المسالي الإيطالية، ولكنها لا تشغل إلا المنزلة الدنيا في تاريخ التمثيل بوجه عام.
ونظم الشاعر الجزء الأكبر من ملحمته الضخمة أرلند فيوربوزو Orlands Furioso أثناء اشتغاله بخدمة إبوليتو؛ ويبدو من هذا أن الكردنرل لم يكن ممن يرفضون رقابتهم على من في خدمتهم. ولما أن عرض أريستو المخطط على إبوليتو سأله هذا الخبر ذو النزعة الواقعية- كما تقول إحدى الروايات غير الموثوق بها وهي رواية إن لم تكن صحيحة فإنها تعبر أحسن تعبير عن روح العصر: "أنى وجدت يا سيد لدوفيكو هذا الهراء كله؟ "(12). ولكن يبدو أن الإهداء وما فيه من ثناء كان له عند إبوليتو من المعاني أكثر مما للكتاب نفسه؛ ومن أجل هذا تكفل الكردنال بنفقات نشر القصيدة (1515)، على أن يحتفظ أريستو بجميع الحقوق الخاصة بها وجميع الأرباح الناتجة من بيعها. ولم تر إيطاليا أن القصيدة "هراء" في هراء، أو لعلها ظنت أنها هراء مطرب، فنفدت منها سبع طبعات بين عامي 1524 و 1527؛ وسرعان ما كانت أحسن فقراتها تردد ويتغنى بها في طول شبه الجزيرة وعرضها؛ وقد قرأ
أريستو نفسه كثيراً منها لإزبلا دست أثناء مرضها في مانتوا وامتدح صبرها بالثناء عليها في الطبعات التالية. وقضى أريستو عشر سنين (1505 - 1515) في كتابة فيوريوزو، وستة عشر عاماً أخرى في صقلها؛ ويضيف إليها مقطوعة من آن إلى آن حتى كادت أبياتها تبلغ 39. 000 أي مجموع أبيات الإلياذة والأوديسة مجتمعتين.
وكان كل ما تعتزم في بادئ الأمر أن يكمل ويوسع قصيدة أرلندو الواله لبوياردو. ولهذا أخذ عن سابقه طابع الفروسية العام وموضوعاها، ومغامرات فرسان شارلمان الغرامية والحربية، والشخصيات الهامة، وترتيب الحوادث المهلهل، والانتقال من قصة فبل أن تتم إلى قصة أخرى، والأعمال السحرية التي تقلب القصة ظهراً لبطن في كثير من الأحيان، بل أنه ذهب إلى ابعد من هذا فأخذ عنه فكرة الرجوع بنسب أسرة إستنسي إلى ذلك الزواج الأسطوري بين روجييرو وبرادامنتي. ولكنه مع ذلك لا يذكر أسم بوريارد قط، على حين أنه يمتدح مائة من الناس غيره، ذلك انك إذا كنت مديناً لأحد فلن تكون عنده بطلاً من الأبطال. ولعل أريستو قد شعر بأن موضوع الملحمة وشخصياتها مأخوذان من الأقاصيص المتداولة لا من بوريادو نفسه.
وقد فعل أريستو ما فعله الكونت وما لم تفعله الأقاصيص فغَلَّب شأن الحب على شئون الحرب، ولهذا قال في مستهل القصيدة:
"إني أتغنى بالنساء، والفرسان، والسلاح، والحب، وأعمال الفروسية والمغامرات الجريئة". وتنفذ القصيدة هذا المنهج بحذافيره: فهي سلسلة من المعارك الحربية، بعضها تقوم به المسيحية ضد الإسلام، ومعظمها معارك في سبيل النساء، وفيها أكثر من عشرة أمراء وملوك يتقاتلون من أجل أنجلكا، وهي تداعبهم جميعاً، وتوقع بينهم، وتقع في شر أعمالها
حين تشغف بحب رجل وسيم غير نابه، وتتزوج به قبل أن تبحث البحث المألوف عن إيراده. ويتعقبها أرلندو وهو الذي يدخل القصة بعد ثمان مقطوعات في ثلاث قارات، ويغفل في هذه الأثناء أن يخف لمعونة مليكه شارلمان حين يهاجم المسلمون باريس، ويصاب بالجنون حين يدرك أنه فقدها (المقطوعة الثالثة والعشرون)، ثم يعود إليه صوابه بعد ست عشرة مقطوعة أخرى حين يعثر على عقله الضائع في المقر، ويعود به إليه أحد المسافرين إلى هذا الكوكب قبل ملاحي جول فيرن Jule Verne. ويحتفظ بهذا الموضوع الرئيسي ويسبب له كثيراً من الاضطراب ما يتخلل أحداثه من مغامرات يقوم بها كثير من الفرسان الآخرين يطارد كل واحد منهم المرأة التي يحبها في ست وأربعين أخرى من الشعر المُغوي للنساء. وتسر النساء بهذا الطراد، ولعلنا نستطيع أن نستثني منهن إزبلا التي تقنع رودمنتي بأن يقطع رأسها بدل أن يفض بكارتها، وتنال بذلك تمثالا يخلد اسمها. وأدخلت في القصيدة قصة القديس يوحنا القديمة: فترى فيها أنجليكا الحسناء تشد إلى الصخور بجانب البحر، زلفى إلى تنين يطلب عذراء في كل عام، وقبل أن يصل روجييرو لينقذها يذكرها الشاعر ويقدرها كما يقدرها كريجيو نفسه في أبيات تفقدها الطلاوة الموسيقية:
لقد قسا إنسان غليظ القلب لا يعرف الرحمة،
فعرض على شاطئ البحر على الحيونات الضارية
امرأة هي أجمل من على الأرض من النساء، عرضها عارية،
بالصورة التي شكلت بها الطبيعة جسدها الحلو الجميل،
ولم يستر بشيء من الثياب مهما رق
جسمها الذي جمع بين السوسن الناصع
وحمرة الورد الهادئة الذي يستقبل بها حر الصيف وزمهرير الشتاء
ولا يصيبه منهما أذى، والذي كان يتألق على أطرافها المتلألئة الساطعة،
ولولا أن رأى دمعة متلألئة منحدرة،
بين ورود خديها وسوسنها الأبيض،
تبلل ثديين كأنهما تفاحتان ثبتتا على صدرها،
وشاهد شعرها الذهبي يتماوج في النسيم،
لظنها تمثالاً منحوتاً من المرمر أو صورة من الرخام،
صاغتها في الصخر يد مثال صناع.
وأريستو لا يحمل هذا كله على محمل الجد، فهو يكتب ليسلي ويسر، وهو يسعى عامداً إلى أن يفتتنا بسحر شعره فيقودنا في الخيال إلى عالم غير حقيقي، ويخلع على قصصه جواً من الغموض بما يخله فيها من الجن، والأسلحة، والرقى السحرية، والخيل المجنحة التي تطوف بالسحب، والآدميين الذين استحالوا أشجاراً، والقلاع التي تذوب بكلمة جبار صلف، وترى ألندو تنفذ حربته في جسد ستة من الهولنديين، وأستلفو ينشئ أسطولاً بأن يلقي في الهواء أوراق الأشجار، وبمسك بالريح في مثانة، ثم نرى أريستو بعد ذلك يضحك من هذا كله، ويبتسم ابتسامة الرجل السمح، لطعان الفروسية وتمويهها. وحاسة الفكاهة عند أريستو قوية ممتازة ممتزجة بالتهكم الظريف، فهو يضم إلى النفايات التي تُلقى بها الأرض على القمر صلوات المنافقين، وتملق الشعراء، وخدمات أفراد البلاط، وهبات قسطنطين (في المقطوعة الرابعة والثلاثين)، وأريستو لا يدعى الفلسفة إلا من حين إلى حين، وفي قليل من افتتاحيات المقطوعات. ذلك أن النزعة الشعرية قد تملكته حتى فقد نفسه واستنفذ قواه وهو ينشئ شكلاً جديداً لشعره ويصقله، فلم يبق لديه من الجهد ما يبذله في غرض من الأغراض التي تسمو بالحياة أو في أي شيء من فلسفتها (13).
ويحب الإيطاليون قصة فيوربوزو لأنها كنز من القصص المثيرة- لا تخلو واحدة منها من الإشارة إلى امرأة حسناء غير بعيدة- تروي بلغة رخيمة ولكنها خالية من التكلف والصنعة، في مقطوعات قوية حماسية
تنقلنا نقلاً سريعاً من منظر إلى منظر. وهم يغفرون لكاتبها الاستطرادات والأوصاف الطويلة، والابتسامات التي لا يحصى عددها والمتكلفة في بعض الأحيان، يغفرون له هذه كلها لأنه يكسوها شعراً ساطعاً متلألئاً، وهم يجدون فيها جزاء طيباً من هذا الغفران، ويصيحون في صمت "مرخى! " حين يخرج عليهم الشاعر ببيت يثير عجبهم كالذي يقول فيه عن دسربينو Zerbino:" لقد صاغته الطبيعة ثم حطمت القالب الذي صاغته فيه". ولا يطول انزعاجهم من تملق أريستو آل إستنسي طمعاً في رفدهم، ولا من مديحه إبوليتو، وإشادته بعفة لكريدسيا، فقد كان هذا الخضوع من سمات تلك الأيام، فأنت ترى مكيفلي لا يستنكف أن يخر راكعاً لينال إعانة مالية، والشاعر له أن يعيش.
لكن هذه المعيشة أصبحت شاقة حين قرر الكردينال أن يخرج للحرب في بلاد المجر، وطلب إلى أريستو أن يرافقه، فلما رفض أريستو أعفاه إبوليتو من خدمته وقطع عنه مكافأته (1517). ولكن ألفنسو أنقذ الشاعر من آلام الفاقة بأن خصص له معاشاً قدره أربعة وثمانون كروناً (1050؟ دولاراً) فضلاً عن ثلاثة خدم وجوادين، ولم يكد يطلب إليه في نظير ذلك شيئاً. وظل أريستو حتى بلغ السابعة والأربعين من عمره أعزب عنيداً في عزوبته، ولكنه لم يكن في خلالها متبتلا كل التبتل. ثم خرج ألسندرا بينوتشي Alessandra Benucci التي أحبها وهي لا تزال متزوجة من تيتو فسبازيانو استراتسي. ولم يرزق منها أبناء، ولكنه كان له ولدان غير شرعيين رزق بهما قبل زواجه.
وظل ثلاث سنين (1522 - 1525) حاكماً لجارفنيانا Garfagnana وهي أقليم جبلي موبوء بقطاع الطرق واللصوص، ولم يكن طوال هذه السنين سعيداً في عمله. فقد كان غير لائق للعمل ولا للقيادة، وسره أن يعتزل عمله
ليقضي الثمان السنين الأخيرة من حياته في فيرارا. ثم ابتاع في
عام 1528 قطعة من الأرض في أرباض المدينة، أقام فيها بيتاً ظريفاً، لا يزال ظاهر المعالم في فيا أريستو (طريق أريستو) وتحافظ عليه الدولة، وقد نقش على واجهته بيتين بشعر هوراس يتسمان بالبساطة والجلال قال فيهما "هو صغير ولكنه يوائمني، ولا يؤذي إنساناً ما، وليس هو حقيراً ولكني حصلت عليه من مالي الخاص، انه بيتي". وعاش فيه هادئاً يعمل في حديقته حيناً، ويراجع أو يطيل الأريستو في كل يوم.
وظل في هذه الأثناء يحاكى هوراس في نظمه، فكتب إلى عدد من أصدقائه سبع رسائل شعرية وصلت إلينا تحت عنوان "قصائد الهجو". وليست هذه القصائد عادة متماسكة كقصائد هوراس التي حذا حذوها، كما أنها ليست قوية مريرة قاتلة كقصائد جوفنال، ذلك أنها كانت ثمرة عقل ينطوي على الحب ولا يجد السلام أبداً، يتحمل على مضض ضربات الدهر وسخرياته، ووقاحة المتعجرفين وإهاناتهم. وتصف هذه الرسائل عيوب رجال الدين، وما كان سائداً في روما من أتجار بالمناصب الدينية، وتحيز البابوات المنغمسين في حب الدنيا لأقاربهم وذويهم "الرسالة الأولى"، ويهجو في الرسالة الثانية إبوليتو لأنه يؤجِر خدمه أكثر مما يؤجر شاعره، وفي الثالثة يسخر من النساء ويقول إنهن قلما يكن وفيات أو شريفات، ويعرض فيها نصيحة خبير أوذي منهن عن طريقة اختبار الزوجة وترويضها، وفي الرابعة يرثي لحياة الحاشية، ويروي في حنق زيارة غير موفقة قام بها لليو العاشر:
قبلتُ، فانحنى من مقعده المقدس، وأمسك بيدي وحياني بتقبيل خدي، وأعفاني فوق هذا من نصف ضرائب التمغة التي كان علي أن أؤديها، ثم خرجت وصدري مفعم بالأمل، ولكن جسمي مبلل بالمطر وملوث بالطين، وتناولت عشائي في مطعم الكبش.
وفي هذه المجموعة قصيدتان يندب فيهما حياته الشاقة في جارفنيانا،
وأيامه التي "تنقضي في التهديد، أو العقاب، أو الإقناع أو التحصيل". وارتاعت موهبته الشعرية وشلت فسكن صوتها من أثر الجرائم، والقضايا، والمشاغبات التي كانت تقع في الإقليم، ومن بعد المسافة، بينه وبين عشيقته (الرسالتان الخامسة والسادسة). وتسأل السابعة بمبو أن يختار معلماً يونانياً لفرجينيو Virginio بن أريستو:
يجب أن يكون هذا اليوناني غزير العلم، ولكنه يجب أن يكون كذلك ذا مبادئ طيبة، لأن العالم بغير الأخلاق ليس عديم القيمة فحسب، بل هو شر من هذا وأشد ضرراً. وإن من الصعب لسوء الحظ أن نجد في هذه الأيام معلماً من هذا الصنف، فقل أن تلقى بين الكتاب الإنسانيين من لا يتصف بشر الرذائل، كما أن الغرور الذهني يجعل الكثيرين منهم متشككين. ترى لم نرى العلم وعدم الإخلاص متلازمين على الدوام؟ (15).
ولم يكن ألايستو نفسه في معظم أيام حياته متمسكاً بدينه، ولكنه لجأ إليه في آخر أيامه كما كان يلجأ إليه مفكرو النهضة كلهم تقريباً. وكان منذ صباه يشكو البرد المصحوب بالنزلات الشعبية، وأكبر الظن أن هذا المرض قد زادت حدته بتأثير أسفاره لأداء المهام التي كان يكلفه بها الكردينال. واشتدت هذه العلة في عام 1532 فانقلبت إلى ذات الرئة، وأخذ يغالب المرض كأنه لا يكفيه أن يخلد أسمه وحده، ولم يكن قد تجاوز الثامنة والخمسين حين توفي (1533).
وصار أريستو من عظماء الكتاب حتى قبل وفاته، فصوره رفائيل قبل موته بثلاث وعشرين سنة في مظلم البارنسس بقصر الفاتيكان إلى جانب هوميروس وفرجيل، وهوراس، وأوفد، ودانتي، وبترارك بين أصوات بني الإنسانية الذين لا ينسون على مر الأيام. وتسميه إيطاليا "هومرها" كما تسمى الفيوربوزو "إلياذتها" ولكن يبدو حتى لم يمجدون إيطاليا ويسبحون بحمدها أن في هذا من السخاء أكثر مما فيه من العدالة. ذلك أن العالم الذي
يصفه أريستو يبدو خفيفاً، خالياً غريباً، إلى جانب حصار طروادة القاسي الرهيب، وأن فرسانه- ومنهم من لا يستطاع تمييز أخلاقهم كما لا يستطاع تمييز أسلحتهم بعضهم من بعض- لا يكادون يرقون إلى جلال اجممنون، أو إلى عاطفة أخيل الجائشة أو حكمة نسطور، أو نبل هكتور، أو مأساة بريام، ومن ذا الذي يسوي بين أنجلكا الحسناء الطائشة، وبين هلن Helen الإلهة بين النساء التي سيطرت بقوتها على الأقدار؟ ومع هذا كله فان الكلمة الأخيرة في ذلك يجب أن تكون كالأولى، وهي أن الذين يجيدون معرفة لغة أريستو، ويدركون ما في مرحه وعاطفته من تدرج لا يكاد يحس به، ويتأثرون بموسيقى حلمه العذبة الشجية، أن هؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون أن يصدروا حكماً صحيحاً على أريستو.
الفصل الخامس
بعد أريستو
لقد كان الإيطاليون أنفسهم، بما أوتوا من حاسة الفكاهة القوية، هم الذين جاءوا بالعلاج الشافي من النزعة الإبداعية الوجدانية التي في ملحمتي أرلندو. وتفصيل ذلك أن جيرولامو فولنجو Girolamo Folengo نشر قبل ست سنين من موت أريستو قصيدة تدعى أرلندينو Orlandino صور فيها سخافات الملحمتين وبالغ في ذلك مبالغة يطرب لها القارئ. وقد أستمع جيرولامو في بولونيا إلى محاضرات بمبونتسي Ppmponazzi ذات النزعة المتشككة، ووضع لتدريسه منهاجاً من العشق، والدسائس، والملاكمة، والمبارزة، طرد على أثره من الجامعة. ثم تبرأ منه أبوه، فأنخرط في سلك الرهبان البندكتيين (1507)، ولعل الذي دفعه إلى هذا حاجته إلى مورد يعيش منه. وبعد ست سنين من ذلك الوقت شغف بحب جيرولاما ديدا Girolama Dieda وفر معها، ونشر في عام 1509 مجموعة من المسرحيات الهزلية سماها مكرونيا Maccaronea، وذاع اسمها من ذلك الحين فسميت به طائفة متزايدة من قصائد الهجو الفظة البذيئة، خلط فيها بين الشعر اللاتيني والإيطالي. وكانت أرلندينو ملحمة ساخرة مليئة بالخلاعة ومكتوبة باللغة الإيطالية الدارجة الخشنة، تسري فيها روح الجد في مقطوعة أو اثنتين، ثم تفاجئ القارئ بفكرة وعبارة من أقذر الأفكار والتعابير. وترى فيها الفرسان مسلحين بأدوات المطبخ يظهرون على بغال عرجاء. وزعيم رجال الدين في القصة هو الراهب جريفارستو Griffarosto - أي الرئيس ملتهم الشواء. وتتألف مكتبته من كتب في الطهو تتخللها المأكولات
والخمور، ((وكل ما يعرفه من اللغات هو لغة الثيران والخنازير (16)، ويتخذه فولنجو وسيلة لهجو رجال الدين الإيطاليين هجاء لو اطلع عليه أحد من أتباع لوثر لسر منه أعظم السرور. وتلقى الشعب هذه الملحمة بعاصفة قوية من الهتاف والاستحسان، ولكن المؤلف ظل يتضور من الجوع. ثم آوى أخيراً إلى دير، وأخذ يكتب شعراً يدعو إلى التقي والصلاح، ومات وهو على هذه الحال من التقوى في سن الثالثة والخمسين (17). وكان ربليه يحب الشعر ولعل أريستو كان في سنيه الأخيرة يشاركه في مرحه.
وحافظ ألفنسو الأول على دولته الصغيرة وصد عنها هجمات البابوية، ثم أندفع أخيراُ اندفاعاً أحمق إلى الانتقام لنفسه بتشجيع الجيش الألماني - الأسباني المحاصر لروما وتحريضه، حتى استولى ذلك الجيش عليها ونهبها (1527)(18). وأظهر شارل الخامس إعجابه به بأن رد إليه موديتا ورجيو إقطاعيتي فيرارا القديمتين، وبهذا ترك ألفنسو دوقيته إلى ورثته كاملة غير منقوصة. وفي عام 1528 أرسل ابنه إركولي إلى فرنسا ليأتي منها بزوجة دبلوماسية من الأسرة المالكة تسمى رينية Rene'e أو ريناتا Renata - وهي فتاة صغيرة الجسم مكتئبة المزاج، مشوهة الخلقة، تملكت نفسها سراً آراء الكلفنيين. ولما توفيت لكريدسيا واسى ألفنسو نفسه بعشيقة تدعى لورا ديانتي Laura Diante ولعله أقترن بها قبل وفاته (1534). وكان قد غلب كل عدو إلا الدهر.
الباب الحادي عشر
البندقية وأملاكها
1378 -
1534
الفصل الأول
بدوا
كانت بدوا إيطالية كبرى في عهد الدكتاتروية الكراريسية Carraresi تنافس البندقية وتهددها بالخطر، وقد انضمت فعلاً إلى جنوى في عام 1378 وحاولتا معاً أن تخضعا الجمهورية القائمة في هذه الجزيرة، وفي عام 1380 حين أنهكت الحروب مع جنوى قوى البندقية أسلمت هذه إلى دوق النمسا مدينة تريفيزو Treirso ذات المركز الحربي الهام والواقعة في شمالها، وفي عام 1383 ابتاع فرانتشيسكو الأول صاحب كرارا تريفيزو من النمسا، ثم حاول بعد قليل من ذلك الوقت أن يستولي على فيتشندسا ويوديني Udine وفريولي، ولو انه نجح في هذا لسيطر على الطرق المؤدية من البندقية إلى مناجم الحديد التابعة لها عند أجوردو Agordo وعلى الطرق التي تسلكها تجارة البندقية وتجارتها. ولكن البندقية نجت من هذا الخطر بفضل مهارة رجالها الدبلوماسيين، فقد أقنعوا جيان جلياتسو فيسكونتي بالانضمام إلى البندقية في حربها ضد بدوا. وما من شك في أن جيان لم يكن يثق بالبندقية، غير انه مع هذا اغتنم هذه الفرصة التي سنحت له لتوسيع رقعة بلاده نحو
الشرق بتغاضي البندقية، وهزم فرانتشيسكو صاحب كرارا (فرانتشيسكو كرارا) ونزل عن عرشه (1389)، وجدد ابنه، سميه وخلفه (1399)، معاهدة عام 1338 التي اعترف فيها بأن بدوا تابعة للبندقية. ولما أن واصل فرانتشيسكو الثاني صاحب كرارا الكفاح، وهجم على فيرونا وفيتشندسا أعلنت بدوا لمجلس الشيوخ يحكمها حكماً مباشراً (1405). وتخلت المدينة المنهوكة القوى عن ذلك الترف المستغل الوطني، وازدهرت في ظلال الحكم الأجنبي القدير الحازم، وأصبحت المركز التربوي لأملاك البندقية، يهرع إلى جامعتها الذائعة الصيت الطلاب من جميع أنحاء العالم المسيحي اللاتيني - بيكو دلا ميرندولا Paico della Mirandola، وأريستو، وبمبو، وجوتشيارديني Guieciardini، وتسو، وجالليو، وجستافس فازا Gustaus Vasa الذي صار ملك بولندة
…
وأنشأ دمتريوس كلكنديلس Demetrius Chalcondyles فيها كرسياً للغة اليونانية قبل أن يرحل إلى فلورنس بستة عشر عاماً. وكان في وسع شكسبير بعد مائة عام من ذلك الوقت أن يتحدث عن بدوا الجميلة مهد الفنون.
وكان في بدوا من أهلها رجل يرى نفسه معهداً علمياً قائماً بذاته، ذلك هو فرانتشيسكو سكوارتشيوني Francesco Squarcione الذي تعلم أولاً حرفة الخياطة، ثم أولع بالفن القديم، وطاف في كثير من أنحاء إيطاليا واليونان، ونسخ الرسوم والنقوش التي على التماثيل والعمائر اليونانية والرومانية، أو رسم لها صوراً تخطيطية، وجمع المدليات وقطع النقود، والتماثيل القديمة، ثم عاد إلى بدوا يحمل مجموعة من أحسن المجموعات القديمة في أيامه، وافتتح فيها مدرسة لتعليم الفن، وضع فيها مجموعته، ورسم لتلاميذه منهجين أساسيين: دراسة الفن القديم وعلم المنظور الحديث: ولم يبق في بدوا من الفنانين البالغ عددهم مائة وسبعة وثلاثين والذين نشأوا على يديه إلا عدد
جد قليل لأن كثرتهم قد جاءت إليها من خارجها. ولكنها استعاضت عن هذا بأن جاء إليها جيتو من فلورنس ليصور فيها حلبة المظلمات، والتيتشيرو Oltichiero من فيرونا (حوالي 1376) لينقش فيها معبداً في كنيسة القديس أنطوني St. Antthony ودوناتيلو الذي خلف ذكريات من عبقريته في الكنيسة الكبرى وميدانها. وأقام بارتولميو بلانو أحد تلاميذ دوناتيلو تمثالين جميلين لامرأتين في معبد جتا ميلاتا Gattamelata في هذه الكنيسة نفسها، وأضاف بيترولمباردو البندقي تمثالا جميلا لابن أفاق مغامر وقبراً فخماً لأنطونيو روزيللي Antonio Roselli. ونحت أندريا بريوسكو Andrea Briosco - رتشيو Rieceo - وأنطونيو، وتليو لمباردو Tullio Lombardo لمعبد جتا ميلاتا أيضاً نقوشاً في الرخام، كما أقام رتشيو في إيطاليا، ثم اشترك مع ألسندرو ليوناردو البندقي وأندريا موروني البرجامي ( of Bergamo) في تخطيط كنيسة القديسة جوستينا Giustina (1502 وما بعدها) التي لم تتم، والتي كانت طرازاً خالصاً من فن النهضة المعماري.
وكانت بدوا وفيرونا المدينتين اللتين جاء منهما ياقوبو بليني وأنطونيو بيزانيلو إلى البندقية بمبادئ مدرسة البندقية في التصوير التي منها ذاعت شهرة البندقية في العالم أجمع.
الفصل الثاني
أحوال البندقية الاقتصادية والسياسية
كانت أحوال البندقية في عام 1378 قد انحطت إلى الدرك الأسفل: كان أسطول جنوى المنتصر يعترض تجارتها في البحر الأدرياوي، وكان جنود جنوى وبدوا يسدون عليها الاتصال بينها وبين القارة من جهة البر، ويكاد أهلها يموتون جوعاً، وحكومتها تفكر في الاستسلام. فلما مضى نصف قرن من ذلك الوقت كانت تحكم بدوا، وفيتشندسا، وفيرونا، وبريشيا، وبرجامو، وتريفيزو، وبيلونو، وفلتري، وفريولي، وإستريا، وساحل دلماشيا، وليبانتو، وبتراس، وكورنثة. وبدت وهي آمنة في قلعتها ذات الخنادق الكثيرة كأنها بمنجاة من تصاريف الأقدار السياسية التي كانت تجري في أراضي شبه الجزيرة الإيطالية؛ وظلت ثروتها وقوتها تسموان حتى تربعت كالملكة المتوجة على رأس إيطاليا. ولقد وصفها فليب ده كومين Philippe de Comine بعد أن وصل إليها سفيراً لفرنسا في عام 1495 بقوله أنها ((أعظم مدينة ظافرة شهدتها في حياتي)) (1). ووصف بيترو كاسولي Pietro Casole الذي جاءها من ميلان حوالي ذلك الوقت عينه فقال: هذه المجموعة الفذة المكونة من 117 جزيرة، و150 قناة، و400 جسر يشرف عليها كلها الطريق الكبير طريق القناة العظمى الجارية الذي وصفه الرحالة كومينيز Comines بأنه ((أجمل شوارع العالم على الإطلاق)) وأضاف أنه ((عجز عن وصف ما حوته من جمال، وفخامة وثراء)).
ترى من أين جاءت هذه الثروة التي كانت مصدر هذه الفخامة؟
لقد جاء بعضها من مائة من الصناعات - بناء السفن، والصناعات الحديدية، وصناعة الزجاج، ودبغ الجلود وصناعتها، وقطع الجواهر وتركيبها، وصناعة النسيج
…
التي نظمت كلها في نقابات للحرف كبيرة عظيمة، تجمع صاحب العمل والأجير في الزمالة الوطنية. جاء بعض الثروة من هذه الناحية ولكن لعل معظمها جاء من أسطولها التجاري الذي كانت أشرعته تخفق فوق مياهها الضحلة، والذي كانت فسنه تحمل بضائع البندقية والبلاد التابعة لها في البر، والسلع الألمانية التي تأتي إليها من وراء جبال الألب، وتنقلها إلى مصر وبلاد اليونان، وبيزنطة، وآسية، ثم تعود من بلاد الشرق مثقلة بالحرير، والتوابل، والطنافس، والعقاقير الطبية؛ والأرقاء. وكانت قيمة صادراتها في السنين العادية تبلغ عشرة ملايين دوقية (250. 000. 000)(3)؛ ولم يكن في أوربا كلها مدينة أخرى تبلغ صادراتها هذا القدر؛ وكانت سفن البندقية ترى في مائة من المرافئ من طربزون على البحر الأسود، إلى قادس في أسبانيا، ولشبونة، ولندن، وبروج، بل وفي أسلندة نفسها (4). وكان التجارة يجتمعون من نصف الكرة الأرضية في السوق المالية مركز البندقية التجاري. وقد وضع لهذه الحركة التجارية نظام التأمين البحري، وكانت الضرائب المفروضة على الصادرات والواردات هي المصدر الرئيسي لموارد الدولة. وبلغ دخل حكومة البندقية السنوي في عام 1455 ثمانمائة ألف دوقية (20. 000. 000؟ دولار) بينما كان دخل فلورنس في ذلك العام نفسه 200. 000 دوقية، ونابلي 310. 000، والولايات البابوية 400. 000 وأسبانيا المسيحية كلها 800. 000 (5).
وكانت هذه التجارة هي التي تحدد الاتجاه السياسي لجمهورية البندقية لأنها كانت أكبر موارد هذه الجمهورية؛ فقد رفعت إلى مركز السلطان أرستقراطية تجارية جعلت من نفسها طبقة وراثية وسيطرت على جميع
جهاز الدولة؛ وأوجدت عملاً نافعاً لسكان المدينة البالغ عددهم 190. 000 (في عام 1422)؛ وإن كانت قد جعلتها يعتمدون على الأسواق، والخامات والأطعمة الخارجية. وكانت البندقية سجينة في متاهتها البحرية، فأصبحت لذلك عاجزة عن إطعام سكانها إلا بالطعام المستورد من الخارج؛ ولم يكن في وسعها أن تحصل على المواد اللازمة لصناعتها إلا باستيراد الخشب، والمعادن، والفلزات، والجلد، والأقمشة؛ ولا تستطيع أن تؤدي أثمانها إلا بالبحث عن أسواق لمنتجاتها وتجارتها. وإذ كانت تعتمد على أرض القارة في الحصول على الطعام، والنافذ التجارية، والمواد الخام، فقد اشتبكت في سلسلة من الحروب لفرض سيطرتها على شمالي إيطاليا؛ وإذ كانت تعتمد كذلك على غير الأراضي الإيطالية فقد كانت قوية الرغبة في أن تسيطر على الأصقاع التي تفي بحاجتها: الأسواق التي تصرف فيها بضائعها، والطرق التي تجتازها تجارتها التي لا حياة لها بغيرها؛ ومن أجل هذا جعلتها ((الأقدار المسيطرة)) دولة استعمارية.
وهكذا كان محور تاريخ البندقية السياسي هو حاجاتها الاقتصادية؛ ولهذا فإنه لما حاول آل اسكاليجيري في فيرونا أو الكراربيسي في بدوا، أو الفيسكونتي في ميلان أن يبسطوا سلطانهم على الشمالي إيطاليا الشرقي، أحست البندقية بالخطر المحدق بها، وامتشقت السلاح دفاعاً عن نفسها؛ ولما خشيت أن تسيطر فيرارا على منصب البو حاولت أن تكون صاحبة القول الفصل في اختيار المركيز الحاكم فيها في توجيه سياسته، وقاومت ما تدعيه البابوية من أن فيرارا إقطاعية تابعة لها. وكانت الخطة التي جرت عليها في التوسع نحو الغرب سبباً في إغضاب التي كانت هي الأخرى تسعى للتوسع وبسط السلطان، ولما أن هاجم فلبوماريا قيسكونتي فلورنس (1423)، استنجدت الجمهورية التسكانية بالبندقية، وأبانت لها أن سيادة ميلان على تسكانيا لن تلبث أن تستولي على جميع إيطاليا الواقعة في
شمال الولايات البابوية؛ وحدث في مجلس شيوخ البندقية نقاش طالما حدث مثله في التاريخ، فقد أخذ الدوج توماسو موتشينجو Tommaso Mocrenigo وهو يحتضر يدعو إلى السلم، وأخذ فرانتشيسكو فسكاري Francssco Foscari يدعو على شن حرب هجومية للدفاع عن المدينة؛ وكانت الغلبة لفسكاري، واشتبكت البندقية مع ميلان في سلسة من الحروب دامت من 1425 إلى 1454 ما عدا فترات من السلم قليلة. ثم كان موت فلبوماريا (1447)، والفوضى التي ضربت أطنابها في الجمهورية الأمبروازية في ميلان، واستيلاء الأتراك على القسطنطينية، فرأت الدول المتنافسة أن توقع فيما بينها معاهدة في لودي Lodi تركت جمهورية الجزرية منهوكة القوى ولكنها منتصرة.
وكان لبداية توسعها في البحر الأدرياوي سبب مشروع؛ فقد كانت هي الميناء الواقع في أقصى شمال البحر المتوسط؛ وكان هذا الموقع الجغرافي من أحسن المواقع بالنسبة للمدينة، ولكنه يصبح عديم الفائدة لها إذا لم تسيطر على البحر الأدرياوي. ذلك أن في الساحل الشرقي لهذا البحر مكامن لسفن القراصنة التي كانت غاراتها منشأ خسارة كثيرة وأخطار دائمة لمراكب البندقية؛ ولما أن أغرت البندقية الصليبيين بالرشا ليساعدوها على امتلاك زارا عام 1202، استولت بذلك على مركز استطاعت أن تطهو منه معششات للقراصنة عاماً بعد عام، وما زالت كذلك حتى قبل جميع ساحل دلماشا سيادتها. ولما استولى هؤلاء الصليبيين أنفسهم على المدينة القسطنطينية (1204) كان نصيب البندقية من مغانمهم جزيرة كريت (إقريطش) وسلانيك، وجزائر سكليديس، واسبوراديس وهي حلقات ثمينة في السلسلة الذهبية التجارية؛ ثم استولت بصبرها ومثابرتها على دورتسو Dorazzo، وساحل ألبانيا، وجزائر أيونيا (1386 - 1392)، وفريولي وإستريا (1418 - 1420)، ورافنا (1441)؛ فأضحت بذلك ملكة البحر الأدرياوي وبلا منازع، وفرضت رسوم المرور على جميع السفن التي تمر بهذا البحر والتي
تملكها غيرها من المدن (6)؛ ولما صعب على القسطنطينية أن تدافع عن أملاكها النائية بسبب تقدم الأتراك العثمانيين نحو هذه العاصمة، خضعت كثير من الجزائر والمدن اليونانية طائعة إلى البندقية لأنها وجدت فيها القوة الوحيدة التي تستطيع حمايتها. وكانت لقبرص ملكة عظيمة تدعى كاترينا كرنارو Caterina Coenaro آخر أسرة لوزينيا Lusigna الحاكمة، واقتنعت هذه الملكة بأنها لا تستطيع الدفاع عن جزيرتها ضد الأتراك؛ فنزلت عن عرشها لحاكم من قبل البندقية (1489)، نظير معاش منها قدره ثمانية آلاف دوقية في العام؛ وأوت إلى ضيعة في أوسولو Osolo القريبة من تريفيزو، وأنشأت فيها بلاطاً غير رسمي، وأخذت تناصر الآداب والفنون، وأصبحت موضوع قصائد ومسرحيات غنائية تتحدث عنها أو تهدي إليها، وصور برسمها لها بليني؛ وتيشيان وفيرونيز غير المؤمنين.
ووجهت هذه الانتصارات كلها التي حققتها البندقية بالحرب تارة وبالدبلوماسية تارة أخرى؛ وهذه المنافذ، والموارد، والمعاقل التي استولت عليها تجارة البندقية، واجهت هذه كلها قوة الأتراك العثمانيين الناشئة الجارفة، وقد حدث في عام 1416 أن هاجمت حامية تركية في غاليبولي أسطولاً تملكه البندقية، وحارب البنادقة بشجاعتهم المعهودة، وانتصروا على الأتراك نصراً حاسماً، وعاشت الدولتان المتنافستان جيلاً من الزمان متهادنتين، وعقدت بينهما صداقة تجارية ارتاعت لها أوربا التي كانت تريد من البندقية أن تشترك في معركة أوربا ضد الأتراك. ولم يفصم شيء من الأحداث عرى هذا الاتفاق حتى سقوط القسطنطينية نفسه، فقد عقدت البندقية معاهدة تجارية سمحة مع الأتراك المنتصرين، وتبادلت المجاملات مع الغزاة الفاتحين. غبر أن وصول البنادقة إلى تجارة ثغور البحر الأسود المربحة أصبح من ذلك الوقت يعتمد على إذن الأتراك، وسرعان ما للقوا في سبيل ذلك كثيراً من القيود التي ضايقتهم مضايقة شديدة. ولما أن أعلن البابا بيوس Pius الثاني حرباً دينية على الأتراك معبراً عن عواطفه المسيحية ومصالح أوربا التجارية وعاهدته
الدول الأوربية على أن تمده بالعتاد والرجال، استجابت البندقية إلى دعوته وكانت تأمل أن تتكرر الأحداث التي وقعت في عام 1204. ولكن الدول نكثت عهودها، وألفت البندقية نفسها منفردة في حربها ضد الأتراك (1463)، وظلت تواصل الحرب ستة عشر عاماً، وانتهت بهزيمتها وانتهابها، ثم وقعت معاهدة تخلت بمقتضاها لهم جزيرة نجروينت Negroponte ( عويبة ( Eubcea)) وشفودره، وشبه جزيرة المورة، ودفعت غرامة حربية مقدارها 100. 000 دوقية، وتعهدت بأداء عشرة آلاف دوقية في كل عام نظير تمتعها بالاتجار مع الثغور التركية. وأعلنت أوربا أنها قد خانت بعملها هذا العالم المسيحي، ولما أن دعا بابا آخر إلى حرب صليبية ضد الأتراك أعارت البندقية هذه الدعوة أذناً صماء، وكانت بذلك متفقة مع أوربا على أن التجارة أعظم شأناً من المسيحية.
الفصل الثالث
حكومة البندقية
لقد حكومة البندقية موضع إعجاب أصدقائها وأعدائها على السواء؛ وكان أعدائها أنفسهم يرسلون عمالهم يدرسون نظمها وأساليب عملها. وكانت أداتها الحربية تتكون من أقدر أسطول بحري وجيش بري في إيطاليا. فقد كان لها في عام 1423، فضلاً عن أسطولها التجاري الذي يستطاع تحويله في وقت الحاجة إلى سفن حربية، عمارة بحرية مؤلفة من ثلاث وأربعين سفينة تساعدها ثلاثمائة سفينة صغرى (7). وكانت هذه السفن تستخدم في الحروب التي تقوم بها القوات البرية في إيطاليا؛ فقد حدث في عام 1439 أن جرت هذه السفن على الأرض فوق بكرات كبار تخطت بها الجبال والسهول حتى أنزلت في بحيرة جاردا Garda ومنها أطلقت نيرانها على أملاك ميلان (8). وبينما كانت غيرها من الدول الإيطالية تستخدم في حروبها جنود مرتزقة، أنشأت البندقية لها جيشاً مجنداً من أهلها المخلصين الأوفياء، المضرسين المدربين على القتال، المسلحين بأحدث أنواع البنادق والمدافع. أما قواد الجيش فقد كانت تعتمد في الحصول عليهم على المغامرين الذين تمرسوا على أساليب النهضة في الكر والفر. وسمت البندقية في حربها مع ميلان بمواهب ثلاثة من أشهر هؤلاء المغامرين هم فرانتشيسكو جرمنيولا، وإرزمو دا نارني Erasmo da Narni المعروف باسم جتاميلانا Gattamelata، وبارتولميو كليوني؛ وقد أشتهر الثاني والثالث من هؤلاء بقوانينهما التاريخية، كما أشتهر أولهم بأن رأسه قطع في ميدان البندقية الصغير بتهمة دخوله في مفاوضات مع العدو.
وكانت هذه الحكومة، التي حاولت المدن الأخرى محاكاتها حتى
فلورنس نفسها، ألجركية مغلقة. مقصورة على الأسر القديمة التي اغتنت من قديم الزمان بالتجارة غنى أصبح مألوفاً لديهم إلى حد لا يستطيع معه أحد منهم أن يحس بما للمال من شأن في مركزه إلا البادئون. وقد استطاعت هذه الأسرة أن تحدد عضوية المجلس الأكبر فتقصره على الذكور من أبناء الرجال الذين كانوا أعضاء في المجلس من عام 1297؛ ولهذا سجلت في عام 1315 أسماء جميع المرشحين لهذا المجلس في كتاب ذهبي، وكان على المجلس أن يختار من بينهم ستين - صاروا فيما بعد مائة وعشرين ((مدعوا Pregadi)) يعملون في فترات تدوم عاماً كاملاً بوصفهم مجلس شيوخ تشريعي؛ ويعين المجلس رؤساء المصالح الحكومية الكثيرة العدد الذين تتكون منهم الهيئة الإدارية؛ ويختار رئيس الهيئة التنفيذية - الخاضع على الدوام لهذا المجلس - وهو الدوج أو الزعيم الذي يتولى رياسته ورياسة مجلس الشيوخ، ويحتفظ بمنصبه مدى الحياة إلا رأى المجلس أن يخلعه. ويعاون الدوج في عمله ستة مستشارين يؤلفون معه مجلس السيادة Signoria. ويكون هذا المجلس الشيوخ حكومة البندقية الحقيقية من الناحية العملية؛ فقد تبين أن كثرة أعضاء المجلس الأكبر تحول بينه وبين العمل الجدي القوي ولهذا أصبح في واقع الأمر هيئة من الناخبين يمارس حق التعيين والإشراف. لقد كان هذا الدستور صالحاً يمكن من العمل، وكان له الفضل في أن يشيع الرخاء بين الشعب في الأحوال العادية، ويستطيع أن يضع قواعد السياسة المرسومة المدروسة الطويلة الأمد، التي لا تستطيع وضعها حكومة تتعرض لتقلبات انفعالات الشعب وعواطفه. ولم تظهر كثرة الشعب تذمرها من قيام هذه الأقلية بالحكم وإن كانت محروما من المناصب العامة؛ وقد حدث في عام 1310 أن ثارت على الحكومة جماعة من الأشراف المحرومين من الحكم بزعامة باجامنتي تيبولو Bajamante Tiepolo وأن تأمر الدوج مارينو فاليري Marino Faliere
في عام 1355 ليجعل من نفسه حاكماً بأمره، ولكن المحاولتين قضى عليهما من غير كبير عناء.
وأراد المجلس الأكبر أن يحتاط من المؤامرات الداخلية والخارجية، فكان يختار من بين أعضائه في كل عام هيئة من عشرة أعضاء يكونون لجنة للأمن العام؛ أصبحت في وقت ما أقوى هيئة في الحكومة بفضل جلستها ومحاكمتها السرية، وعيونها وإجراءاتها السريعة. وكثيراً ما كان السفراء يرسلون إليها التقارير السرية، ويرون أن أوامرها ملزمة لهم أكثر من أوامر مجلس الشيوخ؛ وكان لكل قرار تصدره قوة القانون كاملة. وكان عضوان أو ثلاث أعضاء منها يندبون في كل شهر ليقوموا بعمل مفتشي الدولة يبحثون بين الأهلين والموظفين عن كل ما تشتم منه رائحة الخطأ أو الخيانة. وقد نسجت حول هذه الهيئة الصغيرة أقاصيص يبالغ معظمها في سرية أعمالها وفي قسوتها. ولكنها كانت تبلغ قراراتها وأحكامها إلى المجلس الأكبر، ومع أنها كانت تجيز وضع الاتهامات السرية في أفواه تماثيل رءوس الآساد المنتشرة في أنحاء المدينة فإنها كانت ترفض البحث في أية تهمة لا تحمل توقيع من يواجهها، أو لا تعرض اسمي شاهدين يؤيدانها (9)؛ ثم هي بعد هذا تتطلب أن يوافق عليها بأغلبية أربعة أخماس اللجنة قبل أن تقيد التهمة على صاحبها (10). وكان من حق كل من يقبض عليه أن يختار محامين للدفاع عنه أمام مجلس العشرة (11)؛ ولم يكن حكم الإدانة يصدر إلا بعد أن تقره أغلبية الأعضاء في ثلاثة اقتراعات متتالية؛ وكان عدد الأشخاص الذين حكم عليهم مجلس العشرة بالسجن ((قليلاً جداً)) (12). بيد أنها مع ذلك لم تكن تستنكف أن تدبر اغتيال الجواسيس، وأعداء البندقية في الدول الأجنبية (13). ولما أحس مجلس الشيوخ في عام 1582 أن مجلس العشرة قد أدى الغرض المقصود
منه، وأنه كثيراً ما تعدى السلطة المخولة له، حد من سلطانه، وأصبح المجلس منذ ذلك الحين لا وجود له إلا بالاسم.
وكان القضاء الأربعون المعينون من قبل المجلس الأكبر هيئة قضائية حازمة صارمة؛ وكانت القوانين واضحة الصياغة تنفذ تنفيذاً دقيقاً على الخاصة والعامة سواء بسواء؛ وكانت العقوبات شاهداً واضحاً على قسوة ذلك العصر، فكان السجن في معظم الأحيان في حجرات انفرادية ضيقة لا ينفذ إليها إلا أقل قدر مستطاع من الضوء والهواء؛ وكان الجلد، والكي بالنار، وبتر الأعضاء، وسمل العيون، وقطع اللسان، وتهشيم الأطراف على العذراء وما شابهها من الأدوات، عقوبات يقرها القانون. وكان من المستطاع خنق المحكوم عليه بالإعدام داخل السجون، أو إغراقهم في الماء سراً، أو شنقهم في نافذة من نوافذ قصر الدوج، أو حرقهم وهم مشدودون على عمود الإحراق. أما الذين ارتكبوا جرائم شنيعة أو سرقات من الأماكن المقدسة فكانوا يعذبون بالملاقط التي تحمى في النار حتى تحمر، ثم تجرهم الجياد في شوارع المدينة، ثم تقطع رءوسهم وتمزق أشلاؤهم (14). وكأنما أرادت البندقية أن تكفر عن هذه الوحشية، فكانت تفتح أبوابها للاجئين السياسيين والعقليين، وكان لها من الجرأة ما مكنها من أن تحمي إلزبتا جندساجا وجيدوبلدو من وحشية بورجيا، حين أرغم الخوف إزبلا أخت زوجها على أن تخرجها من بلدتها مانتوا.
وأكبر الظن أن تنظيمها الإداري كان خير النظم في أوربا في القرن الخامس عشر، وإن كان الفساد قد وجد سبيله إليها كما وجدها إلى سائر الحكومات. وقد أنشئ فيها مكتب للصحة العامة في عام 1385؛ واتخذت الإجراءات الكفيلة بتزويد المدينة بماء الشرب النقي ومنع تكون المستنقعات. وكان بالمدينة مكتب آخر مهمته تحديد أيمان المواد الغذائية؛ وأنشئ نظام للبريد داخل المدينة وخارجها لا يقتصر واجبه على أعمال
الحكومة بل يحمل أيضاً رسائل الأفراد وينقل الطرود (15). وكان الموظفون العموميون المتقاعدون يتقاضون معاشات من الدولة، ووضعت النظم الكفيلة بإعادة أراملهم وأبنائهم اليتامى (16). وبلغت إدارة الأملاك التابعة للبندقية في إيطاليا من العدل والكفاية بالنسبة لما كانت عليه من قبل درجة كفلت لها من الرخاء ما لم تستمتع به في أي عهد سابق، وما جعلها تعود مسرعة إلى الولاء للبندقية بعد فصلتها عنها صروف الحرب (17). أما إدارة البندقية للبلاد التابعة لها وراء البحار فلم تكن خليقة بكل هذا الثناء؛ ذلك أنها كان ينظر إليها قبل كل شيء على أنها غنائم الحرب، فكان كثير من أرضها الزراعية يوهب لأشراف البندقية وقواد جيشها، وقلما كان السكان الوطنيون يصلون إلى المناصب العليا وإن ظلت لهم نظم حكومتهم المحلية. أما من حيث علاقتها بغيرها من الدول فقد كان مبعوثوها الدبلوماسيون يؤدون إليها أجل الخدمات، وقل من الحكومات ما كان لها مراقبون يقضون ومفاوضون أذكياء مثل بورناردو موستنياتي؛ وكثيراً ما كسبت البندقية بالدبلوماسية ما خسرته في الحروب مسترشدة في ذلك بتقارير سفرائها الواسعي الاطلاع، وسجلات هيئاتها الحكومية الدقيقة وحسن تصريف مجلس شيوخها (18).
وإذا ما نظرنا إلى هذه الحكومة من الناحية الأخلاقية لم نجدها خيراً من سائر حكومات ذلك العصر، بل إنها كانت أسوأ منها من ناحية التشريعات الخاصة بعقاب المجرمين. فقد كانت هذه الحكومة تعقد الأحلاف وتنقضها حسب تقلب مصالحها، لا يحول بينها وبين سياستها وازع من ضمير أو عاطفة ولاء. لقد كان هذا هو القانون الذي يسير عليه جميع الدول في عصر النهضة، والذي لم يتردد المواطنون في العمل به، فكانوا يرحبون بكل ما تناله البندقية من نصر أياً كانت الوسيلة التي تناله بها؛ وكانوا يبتهجون بقوة الدولة وثباتها، ويولونها وقت الحاجة من ضروب
الوطنية ويؤدون إليها من الخدمات ما لا نجد له مثيلاً في الدول المعاصرة لها؛ وكانوا يعظمون الدوج تعظيماً لا يعلوا إلا تعظيمهم الله وحده.
وكان الدوج في العادة وكيل المجلس الأكبر ومجلس الشيوخ، ولم يكن هو سيد المجلسين إلا في الأحوال الاستثنائية المحضة؛ وكانت الأبهة التي تحيط به تعلو كثيراً على سلطانه؛ فقد كان إذا ظهر أمام الجماهير ارتدى أفخم الثياب، وأثقل الجواهر، وكانت قلنسوته الرسمية وحدها تحتوي من الجواهر ما قيمته 194. 000 دوقية (4. 850. 000؟ دولار) (19)؛ ولربما كانت حلله التي علمت المصورين البنادقة الألوان الفخمة التي جرت بها أقلامهم، وشاهد ذلك أن عدداً من أعظم صورهم لآلاء يمثل الدوج في حلله الرسمية. وكان مصدر هذه الفخامة أن البندقية تؤمن بالاحتفالات والمظاهر تؤثر بها في نفوس السفراء والزوار، ترهب بها الأهلين، وتخلع من الأبهة ما تستعيض به عن السلطان. وحتى الدوقة نفسها كان يحتفل بتتويجها أعظم احتفال وأفخمه. وكان الدوق هو الذي يستقبل كبار الوافدين عليه من الأجانب، ويوقع جميع الوثائق الهامة المتصلة بأعمال الدولة، وكان له نفوذ شامل واسع متصل يضمنه له بقاؤه في منصبه مدى الحياة بين أشخاص يختارون لعام واحد لا أكثر؛ أما من الوجهة النظرية فلم يكن أكثر من خادم الحكومة والناطق بلسانها.
وتمر بنا في تاريخ البندقية سلسلة طويلة متصلة من الأدواج ذوي مجد وفخامة، ولكن عدداً قليلاً منهم هم الذين طبعوا شخصيتهم على صفات الدولة ومصائرها. نذكر من بينهم فرانتشيسكو فسكاري الذي اختاره المجلس الكبير ليخلف توماسو متشينيجو على الرغم من خطابه البليغ وهو يحتضر. وجلس الدوج الجديد على العرش في الخمسين من عمره، ورفع البندقية من خلال حكمه الذي دام أربعة وثلاثين عاماً (1423 - 1457) إلى ذروة قوتها، وأراق فيها أنهاراً من الدماء، وخاض فيها كثيراً من
العواصف، وهزم فيها ميلان، واستولى على برجامو، وبريشيا، وكرمونا، وكريما. ولكن سلطة الدوج الاستبدادية المطردة النماء أثارت غيرة مجلس العشرة، فاتهمه بأنه نجح في الانتخاب باستخدام الرشوة، فلما عجزوا عن إثبات هذا الادعاء اتهموا ابنه باقوبو بالخيانة بميلان (1445)، واضطر ياقوبو تحت تأثير التعذيب على العذراء أن يقر بذنبه أو يدعي أنه ارتكبه، فنفي على أثر ذلك إلى رومانيا Rumania ولكنه سمح له بعد قليل أن يعيش بالقرب من تريفيزو. وحدث في عام 1450 أن اغتيل أحد مفتشي مجلس العشرة، واتهم ياقوبو بارتكاب الجريمة، ولكنه أنكرها وأصر على هذا الإنكار رغم ما لاقاه من أقسى أنواع التعذيب، ثم نفي إلى كريت حيث أصيب بالجنون من فرط الحزن والعزلة، وأعيد إلى البندقية في عام 1456، واتهم مرة أخرى بالاتصال سراً بحكومة ميلان، فاعترف بهذا الاتصال وعذب حتى أشرف على الموت، وأعيد إلى كريت حتى وافته المنية بعد وقت قصير. وانهارت قوة الدوج الطاعن في السن أمام هذه المحاكمات التي عجز عن الوقوف في سبيلها رغم مكانته العالية بعد أن قاسى أهوال الحرب الطويلة البغيضة للشغب وتبعاتها، وصبر على محنها صبر الكرام. ولما بلغ السادسة والثمانين من عمره أصبح عاجزاً عن حمل أعباء منصبه، خلعه المجلس الكبير وخصص له معاشاً سنوياً قدره ألفا دوقية، فآوى إلى بيته حيث مات بعد أيام قليلة على أثر انفجار أحد الشرايين بينما كانت أجراس البرج تعلن جلوس دوج جديد على العرش.
وكانت انتصارات فسكارى قد جرت على البندقية حقد جميع الدول الإيطالية لأن واحدة منها لم تعد تشعر بالأمن والطمأنينة أمام قوتها الغاصبة، ولهذا تكونت ضدها أكثر من عشرة أحلاف، وانتهى الأمر بانضمام فيرارا ومانتوا، ويوليوس الثاني، وفريناند ملك أسبانيا، ولويس الثاني عشر ملك فرنسا، والإمبراطور مكسميليان، وتكوينها فيما بينها عصبة كميرية The League of Cambria بقصد تحطيم قوتها. وكان ليوناردو لورندينو
(1501 - 1521) هو الدوج أثناء هذه الأزمة، وقاد الشعب خلالها قيادة حكيمة قوية لا يستطيع الإنسان تصديقها، ولا تكشف الصورة الجميلة التي رسمها جيوفني بليني إلا عن شطر صغير منها. وانتزع من البندقية كل ما كانت قد ظفرت به من المكاسب على أرض القارة خلال مائة عام من التوسع استعانت عليه بالقوة، ولم يترك لها إلا القليل الذي لا يغني، ثم حوصرت هي نفسها. وصهر لوردانو صحاف المائدة وسكها نقوداً، وجاء الأشراف بثروتهم المدخرة ليمولوا بها أعمال المقاومة، وطرق صانعوا الأسلحة مائة ألف منها، وتسلح كل رجل ليحارب في جزيرة بعد جزيرة دفاعاً عن قضية ميئوس منها. ونجت البندقية، أنجت نفسها بمعجزة، واستردت بعض أملاكها في القارة، ولكن الجهود التي بذلتها في الحرب أقفرت مواردها المالية وأضعفت روحها المعنوية، ولما مات لوراندو أدركت البندقية أن ما بلغته من عظمة ومجد في المال والسلطان قد آذن بالزوال وإن كان لا يزال أمامها خمسة وسبعون عاماً من أعمال تيشيان والكثرة الغالبة من أعمال تنتورتو وفيرونيز.
الفصل الرابع
الحياة في البندقية
كانت العقود الأخيرة من القرن الخامس عشر والعقود الأولى من القرن السادس عشر أعظم الفترات روعة وأكثرها فخامة في حياة البندقية، فقد كانت تصب في جزائرها مكاسب التجارة العالمية التي عقدت الصلح مع الأتراك، ولم تنقص نقصاناً كبيراً بكشف الطريق حول أفريقية أو فتح المحيط الأطلنطي للملاحة، وتوجت هذه الجزائر بالكنائس، وأحيطت القنوات بالقصور، وامتلأت هذه القصور بالمعادن الثمينة والأثاث الغالي الثمين، وزينت النساء بالثياب الفخمة والجواهر الغالية، وأمدت هذه المكاسب طائفة كبيرة من الرسامين بالمال الكثير، وأنفقت الأموال بسخاء على الحفلات الباهرة في القوارب المزدانة بالطنافس، والمواكب المقنعة وخرير الماء المختلط بالموسيقى والغناء.
أما حياة الطبقات الدنيا فكانت هي حياة الكدح الرتيب المألوف، يخفف منه نوعاً ما الفراغ والثرثرة اللذان تتسم بهما إيطاليا، وعجز الأغنياء عن أن يحتكروا مبادئ العشق إلا بين أعلى الطبقات. وكانت القناة الكبرى وكل قنطرة مقوسة تموج بالرجال يحملون غلات نصف العالم، وكان في المدينة من الأرقاء أكثر ممن في غيرها من المدن الأوربية؛ وكان أكثرهم يؤتى بهم من الشرق، ولم يكونوا يستخدمون في الأعمال الشاقة، بل كانوا يعملون خدماً في البيوت، وحراساً خصوصيين، وكانت الجواري يعملن مرضعات، وخليلات، وكان للدوج بيترو مدتشينجو وهو في سن السبعين جاريتان تركيتان يستمتع بهما (20)، ويقول أحد سجلات البنادقة أن رجلاً من رجال الدين باع جارية لزميل آخر من طائفته،
ولكن عقد البيع ألغي في اليوم الثاني لأن المشتري الجديد وجد الجارية حاملاً (21).
ولم تكن الطبقات العليا متعطلة خاملة رغم ما كانت تستمتع به من نعيم؛ فقد كان الكثيرون منهم حين يبلغون أشدهم يشتغلون بالتجارة، والأعمال المالية، والدبلوماسية، وفي شئون الحكم والحرب، ويظهرهم ما لدينا من صورهم أيضاً رجال جد أقوياء الشعور بما عليهم من واجبات. وكانت أقلية منهم تلبس الحرير والفراء، ولعلها كانت تفعل ذلك لتسر المصورين الذين كانوا يرسمونها؛ وكانت طائفة من شبان الطبقات الموسرة - مثل جماعة الجورب La Compagna della Scalza - تزدهي بصدرياتها الضيقة، وخزها المقصب، وجواربها المخططة المطرزة بخيوط الذهب أو الفضة، أو المطعمة بالجواهر. لكن كل شاب شريف كان يخفف من فخامة ثيابه حين يصبح عضواً في المجلس الأكبر؛ فقد كان يطلب إليه حينئذ أن يرتدي ((الطوجة)) (الشملة الرومانية)، لأن هذا الثوب يكاد يضفي الكرامة على كل من يلبسه من الرجال، والسرية والخفاء على كل من تأتزر به من النساء. وكان الأشراف يكشفون عن ثرائهم الخفي من حين إلى حين في قصورهم الفخمة بالمدينة، أو في حدائق بيوتهم الريفية في مورانو Murano أو غيرها من ضواحي حين يستقبلون بالذبح زائراً أو يحيون ذكرى حادث خطير في تاريخ المدينة أو الأسرة. من ذلك أن الكردنال جريماني Grimani أعد حفلة استقبال لرانتشيو فرنيزي Ranuccio Farnese (1542) ، دعا إليها ثلاثة آلاف ضيف، جاء معظمهم في قمرات بالجندولات، مفرشة بالمخمل والوسائد المريحة، وأعد لهم الموسيقى والألعاب البهلوانية، والمشي على الحبال، والرقص، والطعام والشراب. لكن أشراف البندقية كانوا في الأحوال العادية، معتدلين في حياتهم، وفي طعامهم وشرابهم، وثيابهم، وكانوا يعملون لكسب بعض ما ينفقون.
ولعل الطبقات الوسطى كانت أسعد أهل المدينة، وكانت تشترك وهي مرحة في المباهج الخاصة والعامة؛ وكان من هذه الطبقات صغار رجال الدين، وموظفو الحكومة، والأطباء، ورجال النيابة العامة، ورجال التعليم، والمشرفون على الصناعة ونقابات الحرف، والأعمال الحسابية في المصارف الأجنبية، والقائمون على التجار المحلية. ولم يكن يقلق بالهم حرصهم على الاحتفاظ بالمال الكثير كما يحرص الأغنياء، أو الكدح المتواصل لإطعام صغارهم وكسائهم كما يكدح الفقراء؛ وكانوا كغيرهم من الطبقات يلعبون الورق، والنرد، ويقضون الساعات في لعبة الشطرنج، ولكنهم قلما كانوا يتورطون في لعب الميسر حتى تخرب بيوتهم. وكان يطيب لهم أن يعزفوا على الآلات الموسيقية، ويغنوا ويرقصوا. وكانوا لضيق منازلهم أو مساكنهم يتنزهون ويقضون الوقت في الشوارع، وهي تكاد تخلو من الخيل والمركبات لأن وسيلة النقل المفضلة هي القنوات. ولهذا لم يكن من غير المألوف لدى الطبقات التي لا تميل كثيراً إلى السكون والجلوس أن تقيم في بعض الأمسيات في الأيام العادية أو في أيام الأعياد حفلات رقص وغناء في الميادين العامة لا تقتضيها شيئاً من سابق الاستعداد. وكانت لكل أسرة آلاتها الموسيقية وفيها أفراد يمكن الاستماع إلى أصواتهم؛ وكانوا شديدي التأثر بالغناء، وشاهد ذلك أنه لما أن تزعم أدريان ولارت Adrian Willaert جماعتي المرنمين في كنيسة القديس مرقس، واستمع الآلاف الذين استطاعوا دخول الكنيسة إلى هذه الترانيم، قلبوا شعارهم الشهير الذي كانوا يفخرون به وأصبحوا وقتاً ما مسيحيين أولاً وبنادقة فيما بعد.
وكانت حفلات البندقية أعظم الحفلات الأوربية فخامة، وذلك لما كان يحيطها من الكنائس، والقصور، والبحر؛ وكانت كل مناسبة يتذرع بها لإقامة الحفلات أو المواكب الفخمة كتتويج الدوج، أو عيد ديني، أو يوم عطلة قومية، أو زيارة كبير أجنبي، أو يوقع صلح مرضي، والجارنيجليو
Gharingello أو عيد النساء، أو مولد القديس مرقس، أو مولد شفيع إحدى النقابات. وكانت ألعاب المثاقفة لا تزال أهم ألعاب الحفلات في القرن الرابع عشر؛ وليس أدل على هذا من أنه حين أقامت البندقية استقبالاً فخماً لملكة قبرص بعد نزولها عن العرش في عام 1491، احتوى هذا الحفل على ألعاب للمثاقفة قام بها جنود من كريت فوق ماء القناة الكبرى المتجمد، غير أن المثاقفة كانت تبدو من الألعاب التي لا تناسب الدولة البحرية، ولهذا استبدل بها تدريجياً نوع من الحفلات المائية كانت في العادة سباق الزوارق. وكان أعظم حفلات السنة كلها حفلة زواج البحر، وهو احتفال من أعظم الاحتفالات فخامة يمثل زواج البندقية - صاحبة العظمة والجلال La Serenissima - إلى البحر الأدرياوي. ولما قدمت إلى البندقية في عام 1493 بيتريس دست مبعوثة لدوفيكو صاحب ميلان الفاتنة، زينت القناة الكبرى على طولها كله زينة الطرق الفخمة في الأيام المسيحية، وخرجت لاستقبالها بوتشينتور Bucentour، ممثلة لدولة البندقية ومزدانة كلها بالأرجوان والذهب، يحف بها ألف قارب تسير بالأشرعة أو المجاذيف، مزدانة كلها بأكاليل الزهر والأعلام الملونة؛ وبلغ عدد القوارب من الكثرة درجة غطت صفحة الماء كله حتى تعذرت رؤيته في دائرة لا يقل نصف قطرها عن ميل، كما يقول أحد متحمسي المؤرخين.
وقد وصفت بيتريس في رسالة بعثت بها من البندقية حفلة تنكرية أقيمت لتكريمها في مقر الدوج بهذه المناسبة. وكانت حفلة تمثيلية معظمها من النوع الإيمائي الصامت يقوم بها ممثلون مقنعون يسمون المتنكرين. وكان البنادقة مولعين بأنواع مختلفة من هذا التمثيل، وظلوا حتى عام 1462 محتفظين بالتمثيلات الدينية ((الخفية))، ولكن الشعب اضطر القائمين بتمثيلها إلى أن يقدموا لها أو يمثلوا بين فصولها مناظر هزلية فاسدة مضطربة إلى حد اضطرت الدولة معه إلى تحريمها في ذلك العام. وكانت الحركة الإنسانية
في هذه الأثناء قد جددت علم الإيطاليين بالمسالي اليونانية والرومانية القديمة فمثلت ((جماعة الجورب Compagna della Scalza)) وغيرها من الجماعات مسرحيات بلوتوس وترنس، وكذلك مثل جيوفني أرمونيو الراهب، والممثل، والموسيقي في عام 1506 مسرحية استفانيوم Stephanium أولى المسالي الحديثة باللغة اللاتينية في دير الإريمتاني Eremitani. وأخذت مسلاة البندقية تخطو من هذه البداية إلى الأمام نحو مسرحيات جلدوني Goldoni، وكانت في أثناء تقدمها تنافس المهازل الماجنة أو المهرجة ولم تكن أحياناً تقل عنها في الفكاهة البذيئة الطليقة، وبلغت في ذلك حداً اضطرت معه الكنيسة والدولة إلى الاشتباك في حرب دائمة مع مسرح البندقية.
وكان الفجور والدعارة يوجدان في أخلاق البنادقة والإيطاليين إلى جوار الاعتقاد الديني القوي، والصلاح الذي يتمثل في الصلوات والذهاب إلى الكنائس كل أسبوع. فقد كانت كنيسة القديس مرقس تزدحم في أيام الآحاد والأعياد المقدسة بالوافدين إليها لتلقي على مسامعهم مواعظ ملآى بالرهبان الدينية والأمل في النجاة تحيط بهم نقوش الفسيفساء أو تماثيل القديسين، أو النقوش. وكان ظلام الكهوف المعمدة المقصود يزيد من رهبة الصور الدينية والمواعظ؛ وحتى العاهرات كن يأتين إلى ذلك المكان بعد أن يسأمن صناعتهن طوال الليل، يخفين المنديل الأصفر الذي يحتم عليهن القانون لبسه رمزاً لجماعتهن، وذلك لكي يطهرن نفوسهن بالأدعية والصلوات. وكان مجلس شيوخ البندقية يرحب بتقوى الشعب هذه ويحيط الدوج والدولة بكل ما تخلعه المراسم الدينية من رهبة، حتى لقد أنفق الأموال الطائلة في استيراد مخلفات القديسين الشرقيين من القسطنطينية بعد سقوطها، وعرض أن يؤدي عشرة آلاف دوقة ليظفر برداء المسيح غير المخيط.
ومع هذا فإن مجلس الشيوخ نفسه الذي يشبّهه بترارك بمجلس من الآلهة (22) كثيراً ما سخر من سلطة الكنيسة، وتجاهل أشد القرارات البابوية
رهبة، ولم يبال بلعناتها وقرارات حرمانها، وظل يرحب باللاجئين من المتشككين المتبصرين (حتى عام 1527)(23)، ووجه أشد اللوم لأحد الرهبان لأنه هاجم يهودياً (1512)، وحاول أن يجعل الكنيسة في البندقية من أملاك الدولة؛ فكان هو الذي يختار الأساقفة لأبرشيات البندقية، ثم يعرضهم على روما لتوافق على اختيارهم؛ وكثيراً ما كان تعيينهم يتم فعلاً وإن رفضت روما الموافقة على اختيارهم. ولم يكن أسقف يعين في أسقفية بندقية بعد عام 1488 إلا إذا كان من أهل البندقية نفسها، ولم يكن يسمح لأحد من رجال الكنيسة في البندقية أو أملاكها بأن يجمع إيراداً لها أو ينفقه في مصالحها إلا إذا كانت الحكومة قد وافقت على تعيينه. وكانت الكنائس والأديرة خاضعة للتفتيش عليها من قبل الدولة؛ ولم يكن من حق أحد من رجال الكنيسة أن يتولى منصباً عاماً (24). وكان ما يوصى به للأديرة أو مؤسساتها يؤدي ضريبة للدولة، وكانت المحاكم الكنسية تفرض عليها رقابة شديدة لكي تتأكد الدولة من أن المذنبين من رجال الدين يعاقبون بما يعاقب به غيرهم. وظلت الجمهورية زمناً طويلاً تقاوم دخول محكمة التفتيش في المدينة، ولما سلمت بذلك آخر الأمر جعلت تنفيذ أحكام محكمة التفتيش في البندقية مشروطاً بمراجعة لجنة من مجلس الشيوخ والموافقة عليها؛ وبهذا لم تصدر هذه المحكمة إلا ستة أحكام بالإعدام في تاريخ محكمة التفتيش بمدينة البندقية بأجمعه (25). وأصرت الحكومة في كبرياء على أنها في المسائل الزمنية ((لا تعترف بسلطة عليا إلا سلطة الجلالة القدسية)) (26)؛ وكانت تنادي جهرة بالمبدأ القائل أن مجلس عاماً من أساقفة الكنيسة أعلى سلطة من البابا، وإن أحكام البابوات يمكن أن تستأنف إلى مجلس يعقد بعد صدورها. وأيدت الدولة ذلك حين صب البابا سكستس الرابع اللعنة على المدينة (1483) فما كان من مجلس العشرة إلا أن أمر جميع رجال الدين بأن يواصلوا خدماتهم كما اعتادوا قبل؛ ولما جدد يوليوس الثاني اللعنة واتخذها جزءاً من الحرب التي شنها
على البندقية، منع مجلس العشرة نشر قرار اللعنة في جميع أملاك البندقية، وأمر عماله في روما بأن يلصقوا على أبواب كنيسة القديس بطرس استئنافاً للحكم لمجلس يعقد فيما بعد (1509)(27). لكن يوليوس انتصر في هذه الحرب وأرغم البندقية على أن تعترف بأن سلطته الروحانية سلطة مطلقة لا معقب لها.
وملاك القول أن الحياة في البندقية كانت في الجو المحيط بها أكثر بهجة منها في روحها. ولقد كانت الحكومة حازمة عظيمة الكفاية، وأظهرت في الشدائد شجاعة نادرة، ولكنها كانت في بعض الأحيان ذات قسوة وحشية، وكانت على الدوام تتسم بالأنانية؛ فلم تكن في يوم من الأيام تفكر في البندقية على أنها جزء من إيطاليا، ويبدو أنها قلما كان يهمها ما عساه يصيب تلك البلاد الممزقة من مآس. ولقد أنجبت البندقية رجالاً ذوي شخصيات قوية - يعتمدون على أنفسهم، ذوي بصيرة ودهاء، وقادرين على الكسب، شجعاناً، ذوي أنفة وكبرياء. وإنا لنعرف الكثيرين منهم من صورهم التي رسمها لهم فنانون كانوا يناصرونهم بالقدر الذي كان عندهم من الظرف والرقة لا يزيدون عليه. ولقد كانت حضارة البندقية إذا قيست بحضارة فلورنس، تنقصها المهارة والعمق، وإذا قيست بحضارة ميلان في عهد لدوفيكو تعوزها الرقة والرشاقة، ولكنها أكثر الحضارات التي عرفها التاريخ بهجة، وفخامة، وشهوانية ساحرة خلابة.
الفصل الخامس
فن البندقية
1 - العمارة والنحت
الطابع الحسي هو أساس فن البندقية لا تستثنى من ذلك عمارتها نفسها، فقد كان في كثير من كنائس البندقية وقصورها، وبعض مباني الأعمال منها، فسيفساء ومظلمات على واجهاتها. وكانت واجهة كنيسة القديس مرقس تتلألأ بالذهب والزينة التي وضعت فيها وضعاً يكاد يكون خبط عشواء؛ وكان يأتي إليها في كل عشر سنين أو نحوها مغانم جديدة وأشكال جديدة حتى أضحى وجه المزار العظيم خليطاً من العمارة، والنحت، والفسيفساء، يطغي فيه الزخرف على البناء، وتُنْسِي فيه الأجزاء الوحدةَ والكلَّ. وإذا شاء الإنسان أن ينظر إلى تلك الواجهة بشيء أحب من الدهشة، وجب عليه أن يقف على بعد 576 قدماً منها عند الطرف الأقصى لساحة القديس مرقس Piazza San Marco؛ فعلى هذا البعد تمتزج أمام عينيه مجموعة المداخل الرومانسية، والمنحنيات المحدبة القوطية، والعمد الرومانية القديمة، والأسيجة التي من طراز عهد النهضة، والقباب البيزنطية، تمتزج هذه كلها في صورة خيالية عجيبة أشبه بحلم علاء الدين السحري.
ولم تكن الساحة وقتئذ رحبة فخمة كما هي الآن؛ فقد ظلت حتى القرن الخامس عشر غير مرصوفة، وكان جزء منها تشغله الأشجار والكروم، وجزء منها فناء لقطاع الأحجار وجزء آخر مرحاضاً. ثم رصفت بالآجر في عام 1495؛ وفي عام 1500 صب ألسندور ليوباردي لصواري الأعلام الثلاثة قواعد لم تفقها قط أية صواري أنشئت بعد ذلك الوقت، ثم أقام
فيها بارتلميوبون الأصغر Bartolommeo Buon the Younger برج الجرس الفخم. (وقد سقط هذا البرج في عام 1902 ولكنه أعيد بناؤه بالتصميم عينه). ولا يضارعه في إدخال السرور على النفس مكتباً وكيلي كنيسة القديس مرقس - مكتب وكالة فيتشيو ومكتب الوكالة الجديدة ( nuovo) - الذين شيدا بين عامي 1517 و 1640 عند طرفي الميدان في الجنوب والشمال بواجهتهما الضخمتين اللتين تبعثان الملل والمسامة.
وقامت بين كنيسة القديس مرقس والقناة الكبرى تاج العمائر المدنية في البندقية ونعني بها قصر الدوج. وقد أدخل عليه في تلك الفترة كثير من التجديد حتى لم يبق من شكله الأول إلا النزر اليسير. من ذلك أن بيترو باسيجيو Pietro Baseggio أعاد بين عامي 1309 و 1340 بناء الجناح الجنوبي المواجه للقناة؛ وأن جيوفني بون وابنه بارتلميوبون الأكبر شادا جناحاً جديداً (1424 - 1438) في ناحية الغربية أي الجانب المقابل للساحة الصغرى، ثم أقاماً ((باب الورق)) Porta della Carta
(1)
القوطي (1438 - 1443) في الركن الجنوبي الغربي. وتعد هاتان الواجهتان الجنوبية والغربية، بما فيهما من البواكي والشرفات الرشيقة من أجمل ما خلفه عصر النهضة؛ وتنتمي معظم التماثيل والصور المنحوتة على الواجهات، وكذلك النقوش الفخمة المنحوتة على تيجان العمد إلى القرنين الرابع عشر والخامس عشر؛ ويظن رسكن Ruskin أن أحد هذه التيجان - وهو القائم تحت صورتي أدم وحواء - أجمل التيجان في أوربا كلها. وأقام بارتلميوبون الأصغر وأنطونيو رتسو داخل الفناء عقداً مزخرفاً سمي باسم فرانتشيسكو فسكاري يجمع بين ثلاثة بأنماط من العمارة ألف بينها ائتلافاً غير متوقع: جمع بين عمد النهضة وأسكفاتها، والعقود الرومانسية، والأبراج المستدقة القوطية
(1)
وسمي باب الورق لأن المجلس الأعلى كان يلصق قراراته على لوحة للإعلانات بالقرب منه.
وقد وضع رتسو Rizzo في كوتي العقد تمثالين عجيبين: تمثالا لآدم يؤكد برائته، وتمثالاً لحواء وهي تظهر دهشتها من العقاب الذي يفرض من أجل المعرفة. وقد صمم رتسو واجهة الفناء الشرقية وأتمها بيترو لمباردو. وهي قران مبهج بين العقود المستديرة والمستدقة ذات شرفات وطنوف. وكان رتسو نفسه هو الذي صمم بناء سُلَّم الجبابرة Scala de Giganti المؤدي من الفناء إلى الطابق الأول - وهو بناء بسيط، فخم اشتق اسمه من التمثالين الضخمين الممثلين للمريخ ونبتون اللذين أقامهما ياقوبو سانوفينو Jacopo Sanovino عند أول الدرج رمزاً لسيادة البندقة على البر والبحر. وكان في الداخل حجرات للسجن الانفرادي، ومكاتب للأعمال الإدارية، وحجرات استقبال، وقاعات كبيرة لاجتماع المجلس الأكبر، ومجلس الشيوخ، ومجلس العشرة. وكان عدد كبير من هذه الحجرات الجدارية في تاريخ الفن.
وبينما كانت الجمهورية تفخر بهذه الدرة المعمارية، كان كبار الأغنياء من النبلاء .. مثل آل جوستنياني، وكنتاريني، وجرتي، وبرباري، الكبرى بقصورهم. وليس لنا أن نتصور هذه القصور بحالها المنحطة الحاضرة، بل علينا أن نتصورها بما كانت عليه من العز أثناء القرنين الخامس عشر والسادس عشر، بواجهاتها المبنية بالرخام الأبيض والرخام السماقي، والسربنتين، ونوافذها القوطية، وعمدها التي من طراز النهضة، وأبوابها المطلة على الماء، وأفنيتها المختبئة المزدانة بالتماثيل، والفساقي، والحدائق، والمظلمات، والقوارير، وما في داخلها من أرض صنعت من الرخام، ومن مدافيء فخمة، وأثاث مطعم مرصع، وزجاج من صنع مورانو Murano، والظل، والسجف المصنوعة من نسيج الذهب أو الفضة، والماثلات البرنزية المذهبة، أو المشغولة بالميناء، أو من المعدن المنقوش،
واللوحات المنقوشة الغائرة في السقف، والرسوم الجدارية التي صورها رجال طبقت شهرتهم الخافقين. من ذلك أن قصر فسكاري قد زين برسوم ملونة من صنع جيان بليني، وتيشيان، وتنتوريتو، وباريس بردوني Paris Bordone، وفيرونيز. وربما كان في هذه الحجرات من الفخامة أكثر ما فيها من أسباب الراحة، فأظهر الكراسي مستقيمة أكثر مما ينبغي، والنوافذ تسبب بوضعها تيارات الهواء، وما بها من وسائل التدفئة لا يدفئ جانبي الحجرة أو جانبي الإنسان في وقت واحد.
ولكن في البندقية قصور أنفق على الواحد منها مائتا ألف دوقة، وسن قانون في عام 1476 أريد به تحديد نفقاتها بمائة وخمسين دوقة للحجرة الواحدة، ولكننا نسمع بعدئذ عن حجرات أنفق على تشييدها وتأثيثها ألفا دوقة. وأكبر الظن أن أعظم هذه القصور زينة كان هو بيت الذهب Ca،dOro الذي سمي بهذا الاسم لأن صاحبه مارينو كنتاريني Marino Contarini أمر بأن يغطى كل إصبع من واجهته الرخامية أو ما يقرب منه بالنقوش التي كان معظمها مطلياً بالذهب. ولا تزال شرفاته وزخارفه القوطية الطراز تجعل هذه الواجهة أجمل الواجهات المطلة على الفناء.
وبينا كان هؤلاء الرجال واسعوا الثراء يجملون بيوتهم ويؤثثونها بأفخم الأثاث، فأنهم لم يكونوا يضنون ببعض المال لتشييد الكنائس الفخمة التي كانوا يلجئون إليها بأرواحهم في بعض الأحيان. ومن عجب أن كنيسة القديس مرقس لم تكن قبل عام 1807 كنيسة البندقية الكبرى، بل كانت من الوجهة الرسمية الكنيسة الخاصة بالدوج ومزار قديس المدينة المشفع فيها، فكانت والحالة هذه ملكاً لدين الدولة إذ صح هذه التعبير. وكان كرسي الأسقفية ملحقاً بكنيسة أصغر منها هي كنيسة سان بيترو دي كاستيلو San Pietro di Castello القائمة في الركن الشمالي الشرقي من المدينة. وكان مركز الرهبان الدمنيك في هذا الجزء القاصي نفسه، في كنيسة سان جيوفني إي باولو
San Giovanni e Paolo، وهناك وجد جنتيل وجيوفيني بليني راحتهما الأبدية. وكان أهم من هذه الكنيسة من الوجهة التاريخية كنيسة الرهبان الفرنسيس - كنيسة سانتا ماريا جلوريوزا دي فراري Santa Mario Gloriosa di Frari، (1310 - 1343) المعروفة باسم الموجز المحبب إي فراري I Frari أي ((الإخوان Friars)) . ولم يكن منظر الكنيسة من الخارج ذا روعة وبهاء، ولكن شهرتها من الداخل أخذت تزداد على مر الأيام لأنها صارت قبراً يضم رفات عظام البنادقة - فرانتشيسكو فسكاري، وتيشيان، وكانوفا Canova - ومعرضاً للفنون. وفيها صمم أنطونيو رزو نصباً تذكارياً فخماً للدوج نقولو ترون Niccolo؛ وفيها وضع جيان بليني صورته الشهيرة فراري مادنا Frari modonna. ووضع تيشيان مادنا سليلة أسرة بيزارو؛ وأهم من هذه كلها تقوم صورة صعود العذراء لتيشيان في جلال وروعة خلف المذبح. وكانت تحف فنية أقل من هذه شأناً تزين المزارات الأقل من تلك الكنائس قدراً: فكانت كنيسة القديس زكريا تطالع المصلين فيها بصور سيدات مُلهمات من تصوير جيوفني بليني وبالما فتشيو؛ وكنيسة سانتا ماريا دل أورتو تطالعهم بصورة مخاض العذراء لتنتوريتو وبعظام تنتوريتو نفسه. وتلقت سان سبستيانو رفات فيرونيز وعدداً من أجمل صوره، ورسم تيشيان لكنيسة سان سلفادور صورة البشارة في الحادية والتسعين من عمره.
وكانت أسرة فذة من المهندسين والمثالين دائبة العمل في تشييد كنائس البندقية وقصورها. فقد جاء آل لمباردي إلى البندقية من شمالي إيطاليا الغربي ومن أجل هذا لقبوا بلقبهم الذي عرفوا به، ولكن اسمهم الحقيقي كان آل سولاري Solari، وكان منهم كرستوفورو سولاري الذي نحت تمثالي لدوفيكو وبيتريس، وأخوة أندريا المصور، وكان كلاهما يعمل في البندقية وميلان معاً. وكان منهم بيترو لمباردو الذ خلف أثره في نحو
عشرين بناء في البندقية، وكان هو وولداه أنطونيو وتليو الذين خططا كنيستي جيبي San Giobbe وسانتا ماريا دي ميراكولي Santa Maria de'Mircoli - التي ينفر منها ذوقنا في هذه الأيام، كما خططا فبري بيترو موسينيجو، وقبر نقولو مارسلو في سانتى جيوفني إباولو، وقبر الأسقف دسانتي Zanetti في كتدرائية تريفيزو، وقبر دانتي في رافنا، وقصر فيندرامين كاليجري vendramin - Caiegri الذي مات فيه الموسيقي فاجنر، وكانوا في هذه المشروعات كلها هم أصحاب تصميمات البناء والتماثيل جميعاً. وقد قام بيترو نفسه بأعمال كثيرة بين البناء والتماثيل في قصر الدوج. وأنشأ تليو وأنطونيو يعاونهما ألسندرو ليوباردي قبر أندريا فندارمين في سانتى جيوفني إباولو - وهي أعظم أعمال النحت في البندقية لا يستثنى من ذلك إلا تمثال الكيلوني Colleoni ( الفارس) الذي أقامه فيروتشيو وليوباردى مرقس Scuolia di San Marco مدخلا فخماً وواجهة غريبة الشكل، وأشترك في آخر الأمر فنان يدعى سانتى لمباردو في بناء مقر اخوة سان ركو Scuola di San Rocco، التي اشتهرت بست وخمسين صورة من رسم تنتوريتو. ويرجع إلى أعمال هذه الأسرة معظم الفضل في انتشار طراز النهضة من العمد وطيلاتها، والقواصر المزخرفة. وتغلبها على العقود والأبراج المستدقة القوطية والقباب البيزنطية. غير أن عمارة فن النهضة التي كانت لا تزال مزعزعة من أثر النفوذ الشرقي، وقد أسرفت في الزخارف إسرافاً أدى إلى طمس خطوطها ومعالمها، وكان في حاجة إلى جو روما وإلى التقاليد الرومانية القديمة لتكسب الطراز الجديد صورته المحددة المتنافقة.
2 - آل بيليني
كان التصوير هو السبب الثاني من أسباب مجد البندقية الفني بعد كنيسة القديس مرقس وقصر الدوج؛ وقد اجتمعت عوامل كثيرة فجعلت المصورين موضع الرعاية الخاصة في مدينة البندقية. فقد كان على الكنيسة هنا، كما كان
عليها في المدن الأخرى، أن يقص قصة المسيحية على شعبها الذي لم يكن يعرف القراءة منه إلا عدد قليل، وكانت من أجل ذلك في حاجة إلى الصور والتماثيل لتستبقي بها أثر الكلام السريع الزوال فكان لابد والحالة هذه أن يكون لكل جيل، وأن يكون في كثير من الكنائس والأديرة، صورة للبشارة، والولادة، والعبادة، وزيارة العذراء لإليصابات، والمخاض، ومذبحة الأبرياء
(1)
، والفرار إلى مصر، والتجلي، والعشاء الأخير، والصلب، والدفن، والبعث، وصعود المسيح إلى السماء، وصعود العذراء، والاستشهاد. وكانت الصور التي يمكن انتزاعها من مواضعها ونقلها إذا تقادم عهدها وحالت ألوانها، أو مل المصلون رؤيتها، تباع للمولعين بجمعها أو للمتاحف. وكانت من آن إلى آن ويعاد تلوينها أو إصلاحها في بعض الأحيان، ولو أن مصوريها بعثوا إلى الحياة اليوم لمل استطاعوا أن يتعرفوا عليها. ولا حاجة إلى القول إن هذا لا ينطبق على الصور الجذابة، فقد كانت هذه في العادة تتلف وهي على جدرانها. وكان مصيرها هذا يتقي أحياناً بتصويرها على القماش الخشن ثم يلصق هذا القماش بعدئذ على الجدار، كما حدث في قاعة المجلس الأكبر. وكانت الدولة تناقش الكنيسة في البندقية في حبها للصور الجدارية، لأن في وسع هذه الصورة أن تذكى نار الوطنية والعزة القومية حين يحتفل بعظمة الحكومة ومواكبها، وانتصارها، في ميدان التجارة أو الحرب. وكانت الجماعات المختلفة تطلب هي الأخرى صوراً جدارية، وأعلاماً لتخليد ذكرى قديسيها المشفعين أو لمواكبها السنوية. وكان الأغنياء يطلبون صوراً للمناظر الخارجية الجميلة، أو مناظر العشق داخل البيوت، ترسم لهم على جدران القصور، وكانوا يجلسون أمام المصورين ليرسموا لهم صوراً يخدعون بها ساعة من الزمان سخريات مجدهم
(1)
Massacre of the Innocents يسمى أيضاً Childermas Day وهو يوم تحتفل به الكنيسة في الثامن والعشرين من ديسمبر لتحيي ذكرى قتل هيرودس للأطفال. (المترجم)
السريع الزوال. وكان مجلس السيادة يطلب صورة لكل دوج يتولى الحكم، وحتى النواب القائمون بالعمل في كنيسة القديس مرقس عملوا على حفظ ملامحهم للخلف الذي لا يعنى بهم. ولهذا كله كانت البندقية هي المدينة التي انتشرت فيها الصور الملونة الثابتة وذات الحوامل أوسع انتشار.
وظل التصوير الملون يتقدم بخطى بطيئة في البندقية حتى منتصف القرن الخامس عشر، ثم ما لبث أن ازدهر ازدهاراً مفاجئاً، وتلألأ تلألؤاً منقطع النظير، وتفتح كما تتفتح الزهرة حين تستقبل شمس الصباح الساطعة، وذلك لأن البنادقة وجدوا فيه وسيلة لنقل الألوان والحياة التي تعلموا الافتتان بها، وربما كان بعض هذا الولع بالألوان قد جاء إلى البندقية من بلاد الشرق مع التجار الذين استوردوا من البضائع، ونقلوا عنهم ذكريات للقرميد البراق، والقباب المذهبة، وعرضوا في أسواق البندقية، أو كنائسها، أو بيوتها، حرير الشرق وطيلسانه، ومخمله، وديباجة، وأقمشته المنسوجة من خيوط الذهب والفضة، والحق أن البندقية لم تقرر في يوم من الأيام أهي دولة غربية أم شرقية، فقد كان الشرق والغرب يجتمعان في سوق المال، وكان في وسع عطيل ودزدمونا أن يتزوجا، وإذا لم تستطع البندقية أن تأخذ اللون من الشرق ولم يستطع مصوروها أن يأخذوه منه فقد كان من المستطاع أخذه من سماء المدينة، وحسبهم أن يراقبوا تعاقب الأضواء والغيوم تعاقباً لا ينقطع على مر الأيام، وبهاء مغرب الشمس حين ترسل أشعتها الذهبية على أبراج الجسور والقصور، أو تنعكس على مياه النهر. وكانت انتصارات جيوش البندقية وأساطيلها في تتلك الأيام، وانتعاشها ببسالة من خطر الخراب المحدق بها، مما أثار خيال أنصار الفن والمصورين وكبرياءهم، فخلدوا ذلك في الفن، وأدرن ذوو الثراء إن المال لا قيمة له إلا إذا استطاعوا أن يحولوه إلى صلاح، أو جمال، أو حق.
وأضيف إلى هذه الحوافز حافز آخر خارجي عمل على قيام مدرسة بندقية للتصوير. وتفصيل ذلك أن جنتلي فبريانو Gentile Fabriano أستدعى إلى البندقية في عام 1409 ليزين القاعة الكبرى في المجلس الكبير، وجاء أنطونيو بيرانو المسمى بيزانيلو من فيرونا ليشترك معه في هذا العمل. ولسنا نعرف إلى أي حد أجادا عملهما، ولكنهما في أغلب الظن أثارا رغبة مصوري البندقية في أن يستبدلوا بالأشكال الدينية الجامدة القائمة المأخوذة من التقاليد البيزنطية، وبالأشكال الحائلة اللون العديمة الحياة المأخوذة من مدرسة جيتو ومن على شاكلته - أن يستبدلوا بهذه وتلك الخطوط الرفيعة والألوان الزاهية. ولعل بعض التأثيرات الصغرى قد هبطت عليها أيضاً من فوق الألب مع جيوفني الألماني Giovanni d'Alamagna ( المتوفى عام 450)، ولكن أن جيوفني قد كبر في مورانو والبندقية وتعلم فيهما فنه، وقد صور هو وصهره أنطونيو فيفاريني Antonio Vivarini ستاراً لمحراب كنيسة القديس زكريا بدت في صوره تلك الرشاقة والرقة اللتان جعلتا أعمال بليني فيما بعد وحيا أوحى إلى البندقية.
وجاء أكبر المؤثرات إليها من صقلية أو الفلاندرز، وكان ممن جاء على أيديهم أنطونيلو دا مسينا Antonello d Messina. نشأ أنطونيلو نشأة رجال الأعمال، ولعله لم يكن في شبابه يظن أن اسمه سيخلد في تاريخ الفن قروناً طوالاً. وشاهد وهو في نابلي (إذا صدقنا قصة فارساي التي ربما كانت من نسج الخيال) صورة زيتية بعث بها إلى الملك ألفنسو جماعة من التجار الفلورنسيين من بروج. وكان المصورون الإيطاليون من عهد سيمابو Cimabue ( من حوالي 1240 إلى حوالي عام 1302) الذين يصورون على الخشب أو القماش الخشن يعتمدون على الألوان الزلالية - فيمزجون الألوان بمادة هلامية. وهذه الألوان تترك سطح الصورة خشناً، ولم يكن مزيجاً صالحاً للظلال المتدرجة الدقيقة، وكانت تنتزع إلى التشقق
والانطفاء حتى قبل موت الفنان. ولكن أنطونيلو أدرك فائدة خلط المادة الملونة بالزيت إذ وجدها أسهل مزجاً، وأيسر استعمالاً وتنظيفاً، وألمع صقلاً، وأطول بقاء. ثم سافر الرجل إلى بروج حيث درس صناعة التصوير بالزيت على المصورين الفلمنكيين الذين كانوا ينعمون وقتئذ بمجد بيرغندية. ولما له فرصة للذهاب إلى البندقية أحب المدينة - وكان هو نفسه ((زير نساء عاكفاً على اللذات)) (25) - حباً حمله على أن يقضي فيها بقية حياته. وترك الأعمال المالية ووجه جهوده كلها نحو التصوير. فرسم لكنيسة سان كسيانو San Cassiano بالزيت شعاراً للمذبح أصبح فيما نموذجاً لمائة صورة من نوعه: نرى فيها العذراء متربعة على عرشها بين أربعة من القديسين، وتحت قدميها الملائكة الموسيقيون، وقد لونت أثواب الديباج والأطلس بالألوان البندقية الكاملة. وكان يشارك أنطونيو في عمله بالأسلوب الجديد غيره من الفنانين، وهكذا بدا عصر التصوير العظيم في البندقية. وجاءه كثير من النبلاء ليصورهم، ولا يزال لدينا حتى اليوم عدد من هذه الصور: صورة الشاعر الخشنة القوية في بافيا، وصورة المحارب المغامر في اللوفر، وصورة رجل بدين مستهزئ في مجموعة جنسن بفلدلفيا، وصورة شاب في نيويورك، وصورة المصور نفسه في لندن. ولما بلغ أنطونيو ذروة نجاحه انتابه المرض، وأصيب بالتهاب البلورة، ومات في سن التاسعة والأربعين، ودفنه فنانو البندقية في موكب فخم، واعترفوا بفضله عليهم في قبرية كريمة قالوا فيها:
في هذه الأرض يثوي أنطونيو المصور، أعظم من تزدان به مسنا وصقلية جميعها، ولم تقتصر شهرته على صوره التي امتازت بالحذق والجمال، بل امتاز فضلا عن هذا لأنه خلع على التصوير الإيطالي هالة من المجد والخلود بتحمسه العظيم له وبجهوده التي لا تعرف الملل، وبمزجه الألوان بالزيت (39).
وكان من بين تلاميذ جنيتلي دافيريانو في البندقية ياقوبو بليني الذي أنشأ أسرة قصيرة الأجل ولكنها عظيمة الشأن في فن النهضة. وشرع ياقوبو بعد أن قضى عهد التلمذة يعمل في فيرونا، وفيرارا، وبدوا. وفي هذه المدينة الخيرة تزوجت ابنته بأندريا مانتينيا وفيها وقع ياقوبو تحت نفوذ اسكوراتشيوني بتأثير أندريا هذا وبغير تأثيره، فلما عاد إلى البندقية جاء إليها معه بمسحة من فن بدوا وصدى من فلورنس إذا أجيز لنا أن نستخدم هذه الكناية بعد أساليب أنطونيلو في استخدام الزيت، انتقلت إلى أبناء ياقوبو الذين ينافسون في عبقريتهم جنتيلي وجيوفيني بليني.
وكان جنتيلي في الثالثة والعشرين من عمره حين انتقلت أسرته إلى بدوا (1452) وفيها أحس إحساساً قوياً بتأثير صهره مانتينا، فحين أخذ ينقش مصراعي الأرغن لكتدرائية بدوا حاكى بعناية مفرطة الصور الجامدة وأساليب القرب والبروز في التصوير التي شاهدها في مظلمات إرمتاني. أما في البندقية فقد ظهرت في صورته التي رسمها لسان لورندسو جوستنياني رقة جديدة لم تعهد من قبل. وفيها عهد إليه مجلس السيادة عام 1474 والى جيوفني أخيه غير الشقيق أن يصوروا أو يعيدا تصوير أربع عشرة لوحة في قاعة المجلس الأكبر. وكانت هذه الصور المرسومة على القماش الخشن من أوائل الصور التي رسمت بالزيت في البندقية (30)، ولكن النار حرقتها في عام 1577. غير أن ما بقى من رسومها التخطيطية يدل على أن جنتيلي قد استخدم فيها طرازه القصصي الذي يمتاز به، والذي يصور فيه حادثة كبرى في الوسط والى جانبها نحو عشر حوادث أقل منها شأناً. وقد شاهد فارساي هذه الصور، ودهش من واقعيتها، وتنوعها، وتعقدها (31).
ولما بعث السلطان محمد الثاني إلى المجلس الأعلى في طلب مصور ماهر، اختير له جنتيلي فسافر إلى القسطنطينية وزين حجرات السلطان (1474)
وأنعش روحه بصور غرامية، ورسم له صورة (توجد الآن في لندن) وصورة على مدلاة (بسطن) تدل كلتاهما على شخصية قوية صورتها يد صناع، ومات السلطان في عام 1481 وكان خليفته أكثر استمساكاً منه بقواعد الدين يطيع ما جرى عليه المسلمون من تحريم تصوير الآدميين، فبعثر كل ما وجده من هذه الصور ما عدا هاتين الصورتين اللتين صورهما جنيتلي في العاصمة التركية. وجر النسيان ذيوله على غيرهما من الصور. وكان من حسن حظ جنتيلي أنه عاد إلى البندقية في عام 1480 مثقلاً بالهدايا والنياشين من السلطان الشيخ، وعاد فانضم إلى جيوفني في قصر الدوج، وأتم ما تعاقد عليه مع المجلس الأعلى، وكافأه المجلس على عمله بأن رتب له معاشاً قدره مائتا دوقة كل عام.
وكانت أعظم صور له هي التي رسمها في شيخوخته. وكان في حوزة نقابة القديس يوحنا الإنجيلي الصليب الحقيقي الذي يعتقد انه يأتي بالمعجزات، فطلبت إلى جنتيلي أن يوضح في ثلاث صور شفاء أحد المرضى بقوة هذا الصليب، وموكباً فيه الجسد الطاهر يحمله، والعثور على الجزء المفقود بمعجزة. فأما اللوحة الأولى فقد عدا الدهر عليها فأفقدها بهائها ورونقها، وأما الثانية التي رسمها جنتيلي في سن السبعين فهي منظر متلألئ كبير من العظماء، والمرنمين، وحملة الشموع يسيرون حول ميدان القديس مرقس، الذي يرى في خلفية الصورة، ولم يكن منظره في ذلك الوقت يختلف كثيراً عما هو عليه اليوم. وأما الصورة الثالثة التي رسمها جنتيلي في الرابعة والسبعين فقد رسم هذا الصليب المقدس وقد سقط في قناة سان لورندسو وازدحم الناس في الطرق الجانبية والجسور وقد استولى عليهم الفزع، وخر الكثيرون منهم ركعاً ضارعين، ولكن أندرو فندرامين يقفز في الماء، ويستعيد الأثر المقدس، ثم يطفو وهو معه، ويتحرك في مهابة غير متصنعة نحو الشاطئ. وقد رسم كل شخص على هذا القماش المزدحم بإخلاص
واقعي، ونرى الفنان مرة أخرى يبتهج إذ يحيط الحادثة الرئيسية فيها بالحوادث التي تسترعي الالتفات: بقارب يتسلل من حوضه في الوقت الذي يرقب فيه ملاح الجندول استعادة الأثر المقدس، والمغربي الأسود العريان وقد وقف متأهباً لأن يغطس في الماء.
ورسم جنتيلي آخر صورة عظيمة له (بريرا Bera) وهو في السادسة والسبعين من عمره، وقد رسمها إخوان لجماعة القديس مرقس ينتمي اليها، ومثل فيها الرسول يعظ في الإسكندرية. وهي كالعادة صورة مزدحمة، لأن جنتيلي كان يفضل تصوير الإنسانية جملة لا تفصيلاً، ومات الرجل في الثامنة والسبعين (1507) وترك الصورة ليكملها أخوه جيان.
ولم يكن جيوفيني بليني (جيان بليني، أو جيامبيليني Giambellini) أصغر من جنتيلي إلا بعامين ولكنه عاش بعده تسع سنين. وقد طاف في عمره المديد البالغ ستة وثمانين عاماً بجميع نواحي فنه فحاول وأتقن عدداً كبيراً من الصور المختلفة وسما بالتصوير البندقي إلى ذروة مجده. وقد استوعب وهو في بدوا تعاليم منتينيا الفنية دون أن يقلد طريقته أو طرازه في نحت التماثيل، ولما كان في البندقية سار بنجاح لم يسبق له مثيل على الطريقة الجديدة في خلط المادة الملونة بالزيت. وكان أول من كشف من البنادقة عن عظمة الألوان ومجدها، وبلغ في الوقت عينه درجة من الرشاقة والدقة في رسم الخطوط، وفي رقة الإحساس، وعمق التفسير، رفعته حتى في حياة أخيه إلى منزلة أعظم المصورين في البندقية وأكثر من يسعى إليه منهم.
ويلوح أن رجال الكنائس، ونقابات الحرف، وأنصار الفن لم يكونوا يملون من صور العذراء التي كان يخرجها لهم. وقد ترك من ورائه صوراً لها في مائة شكل وشكل في أكثر من عشرة بلاد.
وفي المجمع العلمي البندقي وحده مجموعة كبيرة من هذه الصور: صورة
العذراء مع الطفل النائم، والعذراء مع امرأتين مقدستين، والعذراء مع بمبينو، وعذراء ألبرتيني، وعذراء القديس بولس والقديس جورج، والعذراء على العرس
…
وخير هذه المجموعة كلها على الإطلاق عذراء القديس أيوب، ويقولون إن هذه الصورة الخيرة هي أولى الصور التي رسمها جيوفيني بالزيت، وهي أبهى الصور ألواناً في البندقية - أي في العالم أجمع. وفي متحف كرير Correr الصغير القائم في الطرف الغربي من ميدان القديس مرقس صورة أخرى للعذراء من رسم جيامبلينو حنونة، حزينة، جميلة، وفي كنيسة القديس زكريا صورة لعذراء أيوب تختلف عن مثيلتها السالفة الذكر، وفي كنيسة فراري Frari صورة العذراء على عرشها، وهي صورة جامدة بعض الشيء قاسية بعض القسوة، يحف بها قديسون مكتئبون، ولكنها تسترعي النظر بأثوابها القيمة الزرقاء. وفي وسع الجائل الطلعة أن يكشف عن كثير غير هذه من عذارى جيان في فيرونا، وبرجامو، وميلان، وروما، وباريس، ولندن، ونيويورك، وواشنجتن. ترى ماذا عسى يقال أكثر من هذا بالتصوير الملون، عن السيدة مريم بعد هذه الصور الممثلة للإخلاص والتعبد؟ إن في وسع بروجينو ورفائيل أن يضارعا هذه الصور في كثرتها، ولقد استطاع نيشيان فيما بعد أن يجد ما يقوله عنها في كنيسة فيراري نفسها.
ولم يوفق جيوفني هذا التوفيق كله فيما رسمه من الصور للمسيح نفسه، فصور بركة المسيح المحفوظة في متحف اللوفر لا تعلو على المرتبة الوسطى، ولكن صورة الحديث المقدس القريبة منها ذات جمال يثير الدهشة. وقد لاقت صورة الأتقياء في البرايرا بميلان ثناء جماً (32)، ولكنها تمثل مجموعة من ذوى الوجوه المنفرة، يمسكون بالمسيح الميت الذي يبدو أنه لا يطلب
لراحته الجسمية الكاملة إلا أن يتخلص من ذلك الإسراف في الاهتمام به، وهذه الصورة الخشنة الفجة التي تمثل دفن المسيح - والتي لا يعرف تاريخها - من الصور التي رسمها بليني في شبابه على طراز منتينيا. وأجمل من هذه وأجلب للسرور صورة القديس جستينا وهي إحدى الصور في مجموعة خاصة بميلان. وهي أيضاً صورة تحكم فيها العرف ولكنها رقيقة المعارف، تنخفض جفونها في حياء، عليها ثياب رائعة، مما جعلها من أكثر جهود جيان نجاحاً. ويبدو أنها كانت لسيدة من الأحياء، ولقد برع جيان وقتئذ في تصوير وجوه الأحياء ونفوسهم براعة جعلت الكثيرين من أنصار الفن يرجون أن يشاركوه في خلود ذكراه. أنظر مرة أخرى إلى صورة الدوج لوردانو. لقد استطاع بليني بعمق فهمه، ونفاذ بصره، ومهارة يده، أن يستوعب قوة الرجل الصافية، الغير مترددة التي أمكنته من أن يقود شعبه إلى النصر في حرب حياة أو موت ضد هجمات الدول الكبرى في إيطاليا وفي أوربا شمالي جبال الألب جميعها إلا القليل منها، ثم هاهو ذا جيوفني ينافس ليوناردو الذي كان وقتئذ يطغي عليه في مهارته وشهرته، فيحاول أن يرسم مناظر طبيعية مختلفة غريبة كتلك المجموعة المختلطة من الصخور، والجبال، والقلاع، والضأن، والماء، والأشجار المنشقة، والسماء الغائمة التي يواجهها القديس فرنسيس في هدوء (في مجموعة فرك Frich) حين يكوى بالنار.
ولما بلغ الفنان سن الشيخوخة مل تكرار الموضوعات المقدسة المعتادة وأخذ يجرب الموضوعات الرمزية وموضوعات الأساطير القديمة، فجسد المعرفة، والسعادة، والصدق، والنميمة، والمطهر، والكنيسة نفسها، أو حولها إلى قصص، وحاول أن يبعث الحياة بالمناظر الطبيعية المغرية الفاتنة، ومن صوره اثنتان معلقتان في معرض الصور القومي بواشنجتن هما صورة اورفيوس بسحر الوحوش وصورة عبد الأرباب-
وهما مجموعة من النساء العاريات النهود، والرجال نصف العرايا نصف السكارى. وتاريخ الصورة هو 1514، وقد صورت إجابة لطلب ألفنسو دوق فيرارا حينما كان الفنان في الرابعة والثمانين من عمره. وهي تذكرنا مرة أخرى بمفخرة ألفيري Alfieri وهي أن نماء الآدميين في إيطاليا أشد وأقوى من نمائهم في أي مكان آخر على وجه الأرض.
ولم يعش جيوفني إلا عاماً واحداً بعد أن ودع بهذه الصورة عهد الشباب؛ وقد عاش حياته كاملة سعيدة سعادة معقولة: لقد كان موكباً مدهشاً من روائع الفن، ومجموعة بديعة من الألوان النقية على الأثواب الملساء، وكان ارتقاء لا حد له من الرشاقة، والتركيب، والحيوية عن الحياة آل جيولسكي Giolleschi والمعجبين بفنون بيزنطية، وكان فيها من قوة الإدراك والانفرادية ما لا يرى قط الأشكال المجدبة والخليط الذي لا يستطاع تمييزه في صورة جنتيلي. كانت توسطاً مثمراً في الزمن والطراز بين منتينيا الذي لم يعرف غير الرومان، وتيشيان الذي كان يحس بكل ناحية من نواحي الحياة من فلورا Flora إلى شارل الخامس ويصورها. وكان من تلاميذ جيان جيورجيوني Giorgione الذي تلقى عنه ذلك التقليد العظيم. فقد كان للفن البندقي جيلاً في أثر جيل يجمع معارفه، وينوع تجاربه، ويعد العدة لذروة مجده.
3 - من آل بيليني إلى جيورجيوني
وكان نجاح آل بيليني سبباً في نشر فن التصوير في البندقية، وكان فن الفسيفساء قبل عهدهم صاحب الشأن الأعلى فيها، فتضاعف عدد المراسم، وسخا أنصار الفن على المصورين، وزاد عدد هؤلاء، ولم يبلغون ما بلغه آل بيليني أو جورجيوني؛ ولكنهم لو شأوا وسط جماعات أقل من هؤلاء شأناً لكانوا من ألمع النجوم في هذا الفن. وقد بلغ من جمال الصور
التي رسمها فنتشندسو كاتبنا أن كان بعض صوره يعزى إلى بيليني أو جيورجيوني. واستجاب بارتولميو الأخ الأصغر لأنطونيو فيفاريني إلى مطالب المتحفظين فاستخدم في موضوعات العصور الوسطى أساليب اسكوارتشيوني والألوان القوية التي عرف المصورون كيف يخلطونها وينقلونها. ولاح وقتاً ما أن ألفيزي فيفاريني Alvise Vivarini تلميذ بارتولميو وابن أخيه سوف ينافس جيان بيليني في رسم صورة جميلة للعذراء، وقد رسم بالفعل ستاراً لمحراب عليه صور العذراء مع القديسين انتقل من إيطاليا إلى متحف القيصر فريدريك في برلين. وكان ألفيزي هذا معلماً بارعاً؛ وشاهد ذلك أن ثلاثة من تلاميذه نالوا شهرة لا بأس بها. أولئك هم باريولميو منتانيا الذي نتركه لنتحدث عنه في فيتشندسا، أما ثانيهما جيوفني باتستاتشيما دا كونجليانو Giovanni Batltista Cima da Conegliano فقد كان يرسم صور العذراء لمن يطلبها في السوق، ومن هذه صورة في بدوا الآن رسم معها ميكائيل رسماً جميلاً. وأخرى في كليفلند Cleveland يغطي عيوبها لونها الزاهي. ورسم ماركو باسيتي Marco Basiti صورة جميلة هي صورة دعاء أبناء زبيدي (في البندقية الآن) وأخرى ذات بهجة - هي صورة شاب في المعرض القومي بلندن.
وربما كان كارلو كريفلي Carlo Crivelli أيضاً من تلاميذ آل فيفاريني؛ وسواء كان هذا أو لم يكن فقد اضطر إلى الفرار من البندقية بعد أن بلغ السابعة عشرة من عمره بقليل (1457): ذلك أنه اختطف زوجة بحار فحكم عليه بالسجن وبغرامة؛ فلما أطلق سراحه احتمى في بدوا حيث درس في مدرسة اسكوارتشيوني، ثم انتقل منها إلى أسكولي Ascoli في عام 1468 وقضى الخمسة عشر عاماً الباقية يرسم لهذه المدينة وما حولها. ولعل خروجه من البندقية بهذه السرعة قد حال بينه وبين الاشتراك في الحركة التقدمية لفن التصوير البندقي؛ وكان يفضل الألوان
الزلالية على الألوان الزيتية، ويستمسك بالموضوعات الدينية التقليدية، واتبع طريقة تكاد تكون بيزنطية في إخضاع التمثيل للزخرف. وقد خلع على صوره صقلاً شبيهاً بصقل الميناء جعلها توائم الإطارات المذهبة الكثيرة الطيات التي وضعها فيها؛ وإن في صور العذارى التي أخرجها لرشاقة ورقة في الرسم يستبق بها جيورجيوني وإن بدا فيهما شيء من الفتور.
وكان فيتور Vettor ( فتوري Vittore) كرباتشيو كبيراً بين هؤلاء الصغار. وقد بدأ تعليمه بدراسة المنظور والتخطيط على طريقة مانتينيا، ثم اتبع الطراز القصصي على نحو ما كان يفعل جنتيلي بليني، وأضاف إليه تفضيل الشباب أناشيد الرعاة الخيالية عن حادثات أيامه، واستخدم في موضوعاته الوجدانية فنه الذي أتقنه كل الإتقان. ومن صوره التي لا تتفق مطلقاً مع روحه المرحة الطروب صورة رسمها في بداية عهده (توجد الآن بنيويورك) هي صورة تفكير في آلام المسيح - وهي دراسة للموت يقوم بها القديسان جيروم وأونوفريوس Onofirus يتصوران المسيح الميت جالساً أمامهما وتحت أقدامهما جمجمة وعظام على شكل صليب، وفي خلفية الصورة سماء ملبدة بالغيوم. ولما بلغ كرباتشيو الثالثة والثلاثين من عمره عهد إليه عمل خطير (1488)؛ فقد طلب إليه أن يرسم لمدرسة القديس أرسولا Arsula سلسلة صور توضح تاريخها. واستجاب إلى الطلب وصور على تسع لوحات جملية مجيء كونون Conon أمير إنكلترا الوسيم إلى بريطانيا ليتزوج بأرسولا ابنة ملكها، ورجاءها إياه أن يؤجل الزفاف حتى تستطيع أن تحج إلى روما مع حاشية لها مؤلفة من أحد عشر ألفاً من العذارى، ثم مصاحبة كونون لها مدفوعاً إلى ذلك بحبها، ونيل الجميع بركة البابا، ثم ظهور ملك لأرسولا وإبلاغه إياها أنها لا بد لها أن تذهب هي وعذاراها إلى كولوني ليستشهدن، ثم تركها هي وصاحباتها كونون وهو حزين وذهابها إلى كولوني هادئة كريمة، وعرض ملكها الصغير الوثني عليها أن تتزوجه، ثم رفضها هذا
العرض ومقتل الأحد عشر ألفاً وواحدة جميعهن. ووفقت هذه القصة خيال كرباتشيو، فقد كان يسره أن يرسم جماعات العذارى والحاشية، وقد جعل كل من رسمه منهم تقريباً أرستقراطياً حسن الوجه ذا ثياب زاهية؛ ولم يجيء إلى هذه المناظر بعلمه بالتصوير فحسب بل جاء معه بعلمه بالأشياء الواقعية - كالعمارة، ونقل البضائع في الخلجان، وانتقال السحب في السماء على مهل.
وفي خلال التسع السنين التي كان كرباتشيو يعمل فيها في تصوير أرسولا رسم لمدرسة القديس يوحنا الإنجيلي صورة شفاء المحسوس بتأثير الصليب المقدس. ثم بدا لفتوري أن يصور منظراً على قناة في البندقية يناظر فيه جنتلي بليني، وملأه بالناس؛ وقوارب النزهة، والقصور، فكان فيه بذلك كل ما عند جنتلي من واقعية وتفاصيل مصقولة صقلاً براقاً فوق متناول أرجل العجوز. ثم طلبت مدرسة القديس جورج شفيع السلافونيين إلى كرباتشيو أن يخلد لها شفيعها القديس على جدران محرابهم في البندقية مدفوعين إلى هذا الطلب بما لقيه من نجاح، واستغرق هذا العمل تسع سنين أخرى رسم فيها تسعة مناظر، لا تبلغ ما بلغته مناظر أرسولا، ولكنها تدل على أن كرباتشيو وهو في العقد السادس من عمره لم يفقد ميله إلى رسم الأجسام الرشيقة في مجموعات متناسقة، ومن ورائها العمائر الخيالية في التفكير والمقنعة في التصوير. ونرى في الصورة القديس جورج يهاجم التنين هجوماً عنيفاً ولكن القديس جيروم يظهر على النقيض من هذا في صورة العالم الهادئ المنهمك في الدرس في حجرة تدهش الناظر بجمالها، وليس معه رفيق غير أسده. وقد رسم كل مظهر من مظاهر الحجرة بأمانة ودقة ولم يترك حتى العلامات الموسيقية الواضحة على ملف ساقط في الحجرة وضوحاً حولها ملمينتي Malmenti إلى نغمات على البيان.
وفي عام 1508 عين كرباتشيو واثنان آخران من المصورين المغمورين
ليقدروا قيمة رسم تجاري عجيب صورة مصور شاب ناشئ على الجدار الخارجي على مصنع التيديسكي - وهو مصنع يملكه التجار التيوتون بالقرب من جسر السوق المالية. وقدر قيمته بمائة وخمسين دوقة (1875؟ دولاراً). ولم يرسم كرباتشيو بعدئذ إلا صورتين عظيمتين وإن كان قد عاش بعد هذا الوقت ثماني عشرة سنة، فأما أحدهما فهي صورة المخلص في المعبد (1510) التي رسمها لمعبد أسرة سانودو Sanudo في كنيسة القديس جيني. وكان لا بد لها أن تنافس في هذا المكان صورة عذراء القديس أيوب لجيان بيليني؛ وجيوفني لافتوري هو الفائز في هذه المنافسة الصامتة وإن كانت عذراء ثانيهما وحاشيتها من السيدات بارعات الجمال. ولو أن كرباتشيو قد وجد في قرن آخر بعد الذي عاش فيه لكان هو سيد زمانه؛ ولكنه عاش لسوء حظه بين جيوفني بيليني وجيورجيوني.
4 - جيورجيوني
قد يبدو غريباً أن يستأجر الفنانون بأجور عالية لنقش جدار في مخزن بضائع، ولكن البنادقة في عام 1507 كانوا يحسون بأن الحياة بلا لون هي والموت سواء، وكان لمن فيها من التجار الألمان، ومنهم من جاءوا من نورمبرج بلد Durer، إحساسهم العارم الخاص بالفن. ولهذا خصصوا بعض مكاسبهم لهذا الغرض السامي وهو رسم صورتين جداريتين، وكان من حظهم أن اختاروا لهذا العمل رجلين من الخالدين. وسرعان ما أفسدت رطوبة الجو وشمسه هاتين الصورتين، فلم يبقى منهما إلا قطع صغيرة متفرقة، ولكن هذه القطع وحدها تشهد بما كان لجيورجيوني دا كاستيلفرانكو من شهرة واسعة. وكان وقتئذ في التاسعة والعشرين ممن عمره؛ ولسنا نعرف اسمه على وجه التحديد، وتقول إحدى القصص إنه ابن رجل من الأشراف يدعى باربريلي Barbarelli من عشيقة له من بنات الشعب؛ ولكن لعل
هذه قصة نسجت حوله في ما بعد (33). ولما بلغ الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمره (وقد يكون ذلك في عام 1490) أرسل من كاستيلفرانكو Caststelfranco إلى البندقية ليعمل صليباً عند جيان بليني. وتقدم الشاب بخطى سريعة، وعهدت إليه أعمال درت عليه مالاً كثيراً، فابتاع بيتاً، ونقش ورسم رسماً جصياً على واجهته، وملأ بيته موسيقى ومرحاً، لأنه كان يجيد العزف على العود، ويفضل الاستمتاع بأجسام النساء عن رسمهن على القماش. وليس من السهل علينا أن نعرف المؤثرات التي كونت طرازه المتأنق، لأنه لم يكن يشبه غيره من المصورين في عصره، في أنه ربما تعلم من كرباتشيو شيئاً من الرشاقة والجاذبية. وأكبر الظن أن أعظم ما تأثر به هو الأدب لا الفن. ذلك أن الأدب الإيطالي حين بلغ جيورجيوني السابعة والعشرين أو الثامنة والعشرين من عمره كان يتجه نحو النزعة الريفية؛ فقد نشر سنادساروا Sannazaro قصائد أركاديا في عام 1504؛ ولعل جويرجيوني قرأ هذه القصائد ووجد في أخيلتها الجميلة بعض ما أوحى إليه بالمناظر الطبيعية المثالية والحب المثالي. ولعل جيورجيوني قد أخذ عن ليوناردو - الذي مر بالبندقية في عام 1500 - ميلاً إلى رقة التعبير الخيالية الصوفية، والتدرج الخفيف غير المحس، ورقة الأسلوب التي جعلته لحظة قصيرة مفجعة حامل لواء البندقية.
ومن أقدم لأعمال التي تعزى إليه - ونقول تعزى إليه لأننا لا نستطيع أن نجزم بأن شيئاً ما من عمله هو - لوحتان خشبيتان تمثلان تعرض الطفل باريس لقسوة الجو ونجاته؛ وقد تذرع بهذه القصة لتصوير الرعاة، والمناظر الريفية الموحية بالسلام. وإنا لنجد في الصورة الأولى، التي يجمع الثقات على أنها من صنعه، صورة الغجرية والجندي الخيال الذي اختص به جيورجيوني: نجد امرأة نلتقي بها على غير انتظار، عارية إلا من لفاعة حول كتفيها، تجلس على أثوابها التي خلعتها على شاطئ يغشاه الطحلب
لمجرى مائي دافق، ترضع طفلاً، وتتلفت حولها في قلق. ومن خلفها يمتد منظر من العقود الرومانية، ونهر، وجسر، وأبراج، وأشجار غريبة، وبرق أبيض، وسحب خضراء تنذر بالعواصف، والى جانب المرأة فتى وسيم يمسك بعصا راع - ولكن ثيابه أغلى من ثياب الرعاة - وقد سره المنظر فغفل عن العاصفة التي توشك أن تثور. وليست القصة معروفة بوضوح، وكل ما تعنيه الصورة أن جيورجيوني كان يحب الشبان ذوي الجمال، والنساء ذوات الجسم الأملس الرقيق، والطبيعة حتى في نزواتها وغضبها.
ورسم في عام 1504 لأسرة ثاكلة في مسقط رأسه صورة سيدة كاستيلفرانكو. والصورة سخيفة جميلة، يرى في مقدمتها القديس لبيرالي St. Liberale في دروع براقة من التي يلبسها الفرسان في العصور الوسطى، ممسكاً برمح للعذراء، والقديس فرانسس يعظ الهواء. وفي أعلى الصورة جلست مريم العذراء هي وطفلها على قاعدة مزدوجة، والطفل ينحني إلى الأمام في غير اكتراث من موضعه العالي. غير أن الديباج الأخضر والبنفسجي الذي يرى عند قدمي مريم بعد من عجائب التلوين والتخطيط. وتسقط أثواب مريم حولها متثنية، أجمل ما يكون التثني. وينم وجهها عن الحنان الرقيق الذي يصوره الشعراء في رفاق خيالهم، ويتراجع المنظر في غموض شبيه بغموض مناظر ليوناردو حتى تذوب السماء في البحر.
ولما تلقى جيورجيوني وصديقه تدسيانو فيتشيلي Tiziano Vecelli الدعوة إلى نقش مخزن التجار التيوتون Fondaco dei Tedeschi، أختار جيورجيوني جداره لمواجه للقناة الكبرى واختار تيشيان الجدار المجاور للسوق المالية. وقد وجد فارساي، وهو يتأمل مظلم جيورجيوني بعد خمسين عاماً من ذلك الوقت، أنه عاجز عن أن يعرف بداية أو نهاية لهذا الخليط الذي وصفه مشاهد آخر بأنه: أنصاب تذكارية، وأجسام عارية، ورؤوس مظللة
عليها بالجلاء والقتام .. ومهندسون يقيسون الكرة الأرضية، وفن المنظور ممثل في عمد، وبين هذه كلها رجال على ظهور الخيل، وما إلى ذلك من الأوهام))، غير أن هذا الكاتب نفسه يضيف إلى ذلك قوله:((ونرى من هذا كيف كان جيورجيوني بارعاً في استخدام الألوان في الرسم على الجص)) (34).
غير أن عبقريته كانت تتمثل في التفكير لا في الألوان. ذلك انه لما رسم صورة فينوس النائمة التي كانت ذخيرة لا تقدر بمال في معرض الصور في درسدن Dersden ربما كان يفكر فيها تفكيراً حسياً خالصاً بوصفها جسما مكوناً من جزيئات تثير الشهوة، وما من شك مطلقاً في أنها هذا الجسم أيضاً، وأنها تدل على انتقال فن البندقية من الموضوعات المسيحية إلى الموضوعات والاحساسات الوثنية. ولكننا لا نجد في فينوس ما يتنافى مع الأخلاق أو ما يوحي بما يناقض الفضيلة، فهي ترقد نائمة، عارية مقلقة في الهواء الطلق، على وسادة حمراء وثوب من الحرير الأبيض، وذراعها اليمنى تحت رأسها، وتتخذ من يدها اليسرى ورقة تين
(1)
، وأحد طرفيها البالغ غاية الكمال في التصوير ممتد فوق الطرف الآخر الذي يرتفع من تحته. وقلما وصل الفن إلى ما وصل إليه هنا من إبراز التكوين المخملي للبشرة النسائية أو إظهار ما في الوضع الطبيعي من رشاقة. ولكن وجهها ينم براءة وطمأنينة قلما تتفقان مع الجمال العريان، إن جيوجيوني في هذه الصور قد بعد بنفسه كل البعد عن الخير والشر على السواء، وجعل حاسة الجمال تسيطر برهة من الزمان على الشهوة. وفي صورة أخرى له هي صورة السمفونية الريفية المحفوظة في متحف اللوفر نرى اللذة ممثلة في صورة حسية صريحة، ولكن فيها مع ذلك كل ما في الطبيعة من براءة. ففي هذه الصور امرأتان عاريتان، ورجلان مرتديان أثوابهما يستمتعان
(1)
يريد أنها تستر بها نفسها. (المترجم)
بعطلة في الريف: وأحد الرجلين شاب من الأشراف في صدرية من الحرير الأحمر البراق، يعزف على عود بغير انتظام، والى جانبه راع أشعث الشعر يجهد نفسه في سد الثغرة القائمة بين العقل الساذج والعقل المثقف. والسيدة صاحبة الأرستقراطي ذات حركة رشيقة تفرغ إبريقاً من البلور في بئر، أما فتاة الراعي فتنتظره في صبر وأناة حتى يلتفت إلى مفاتنها أو إلى نايها. وليس لفكرة الخطيئة أي أثر في رؤوس هذه الجماعة لأن العود والناي قد ارتفعا بالغريزة الجنسية إلى التوافق الموسيقي والانسجام. ويقوم وراء صور الآدميين منظر من أغنى المناظر في الفن الإيطالي.
ويبدو أخيراً في صورة الحفلة الموسيقية المحفوظة في قصر بتي Pitti أن الشهوة قد نسيت لأنها بدائية غير لائقة، وأن الموسيقى هي كل شيء، أو أنها رباط للصداقة أدق وأسمى من الشهوة. وقد ظلت هذه الصورة، وهي أجمع الصور لخصائص جيورجيوني، حتى القرن التاسع عشر تعزى إليه هو نفسه، أما الآن فكثيرون من النقاد يعتقدون أنها من صنع تيشيان، وإذ كانت المسألة لا تزال موضعاً للشك فلنتركها لجيوجيوني، لأنه كان يحب الموسيقى حباً لا يعلو عليه إلا حبه للنساء، ولأن لتيشيان من روائع الفن ما يكفي قبعته بريشة، وهو يبدو عديم الحياة إلى حد ما، في وقفته، والى جانبه راهب جالس أمام معزف من نوع البيان القديم، ويداه اللتان أجيد تصويرهما على مفاتيحه، وقد استدار بوجهه إلى قس في الجهة اليمنى للناظر، والقس يضع إحدى يديه على كتف الراهب، ويمسك بالأخرى كماناً جهيراً مرتكزاً على الأرض. ترى هل انتهيا من العزف أو أنهما لم يبدأا به بعد؟ ليس هذا أمراً ذا بال، لأن الذي يحركنا ويثير مشاعرنا هو ما نشاهده في وجه الراهب من شعور عميق صامت، وقد رقت كل جارحة في وجهه وكل عاطفة في قلبه، وهذا وذاك بسحر الموسيقى
التي يستمع إليها بعد أن صمتت الآلتان بزمن طويل. وهذا الوجه ليس فيه شيء من المثالية ولكن فيه أعمق الواقعية، هو من معجزات التصوير في عصر النهضة.
وكانت حياة جيورجيوني قصيرة الأجل، ويبدو أنها كانت حياة مرحة. والظاهر انه كانت له نساء كثيرات، وانه كان يعالج كل غرام مخفق بغرام جديد يبدؤه بعده بقليل. ويقول فارساي إن جيورجيوني أصيب بالطاعون لأن عدواه سرت إليه من آخر امرأة أحبها، ولك الذي نعرفه انه مات أثناء الوباء الذي انتشر في عام 1511، ولما يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره. وكان له قبل وفاته نفوذ واسع، فقد كان أكثر من عشرة فنانين صغار يرسمون مناظر لأناشيد الرعاة الريفية، وصوراً تمثل أحاديث الناس، وألحاناً موسيقية إضافية، وحللاً للمقنعات يحاولون بها عبثاً أن يبلغوا ما بلغه طرازه من رقة وصقل، وما بلغته مناظره الطبيعية من توافق وانسجام، وما في موضوعاته من غرام صادق صريح. وقد ترك من بعده تلميذين كان لهما أثر كبير في العالم: سيبستيانو دل بيمبو Sabastiano del piombo الذي ذهب إلى روما وتدسيانو فيتشيلي Tiziano Vecelli أعظم الفنانين البنادقة على الإطلاق.
5 - تيشيان (دور التكوين)
1477 -
1533
ولد في بلدة بييف Pieve في السلسلة الكادورية Cadorico من جبال الدلميت Dolmites، ولم ينس قط هذه الجبال الوعرة في مناظره. ولما بلغ التاسعة أو العاشرة من عمره جيء به إلى البندقية وتتلمذ على سيبستيانو زكاتو، وجنتيلي بيليني، وجيوفيني بيليني كل واحد منهم بعد الآخر، وكان هو في مرسم جيوفيني الذي لم يكن يكبره بأكثر من عام. ولما أنشأ هذا الغلام المصور مرسمه الخاص وأخذ ينتج الصور كما كان الغلام الشاعر كيتس يقرض الشعر، ذهب إليه تيشيان في أغلب الظن مساعداً له أو زميلاً، وبلغ من تأثير جيوفني فيه إن بعض
صوره الأولى تعزى إلى جيوفني، وأن بعض صور جيوفني المتأخرة تعزى إلى تيشيان. وأكبر الظن أن صورة الحفلة الموسيقية التي تجل عن المحاكاة مما صور في تلك الفترة، وقد عملا معاً في نقش جدران مخزن التجار التيوتون.
وفر تيشيان من الوباء الذي قضى على حياة جيورجيوني - أو لعله في من الجمود الذي أصاب الفن بسبب حرب عصبة كمبرية - إلى بدوا (1511)، حيث حكمنا بما يبدو في المظلمات من فجاجة قلنا انه هو في الخامسة والثلاثين من عمره كان لابد له أن يقطع شوطاً طويلاً قبل أن يبلغ المستوى الذي بلغته خير أعمال جيورجيوني، غير أن جوته Goethe قد رأى بعين بصيرته النافذة أنها تبشر بالشيء الكثير (36). ولما عاد تيشيان إلى البندقية وجه إلى الدوج ومجلس العشرة (31 مايو سنة 1513) رسالة تذكرنا بالدعوة التي وجهها لدوفيكو قبل ذلك بجيل من الزمان:
أيها الأمير الجليل، أيها السادة الأعلون العظماء! لقد ظللت أنا تيشيان الكادوري منذ طفولتي أدرس فن التصوير، وأهدف بذلك إلى أن أنال قليلاً من الشهرة أكثر مما أنال من المال .... ولقد تلقيت في الماضي وفي الحاضر دعوات ملحة من قداسة البابا وغيره من العظماء للدخول في خدمتهم، ولكنني وأنا أحد رعاياكم المخلص الأمين تحدوني الرغبة الصادقة في أن أترك لي أثراً في هذه المدينة الذائعة الصيت. فإذا راقكم ذلك يا أصحاب السعادة فإني أحب أن أزين قاعة المجلس الكبير وأن أبذل في هذا كل ما وهبت من قوة، وأن أبدأ برسم صورة على القماش للمعركة التي دارت على جانب الميدان الأصغر، وهو موضوع يبلغ من الصعوبة درجة لم يجرؤ معها أحد على محاولته. وإني قابل أن أتناول على جهودي أية مكافأة ترون أنها تليق بها أو أقل .. وإذ لم أكن، كما قلت قبل، أرغب
إلا في أن أنال ذلك الشرف، وأن أدخل السرور على نفوسكم، فإني أرجو أن أنال أول رخصة لسمسار مدى الحياة تخلو في مخزن التجار التيوتون، وألا تحول بيني وبينها أية وعود بذلت لغيري، مع ما يصحبها من التكاليف والإعفاءات التي نالها السيد دسوان بيلين Zuan Belin ( جيان بيليني)، فضلا عن تعيين مساعدين لي يتناولان أجرهما من مكتب الملح، وأن أحصل على جميع الألوان وما أحتاجه غيرها
…
وأعدكم في نظير ذلك أن أقوم بالعمل السالف الذكر بالسرعة والإتقان اللذين يرضيان مجلس السيادة (37).
وكانت «رخصة السمسار» الواردة في هذه الرسالة وظيفة رسمية يعمل صاحبها وسيطاً بين تجار البندقية والتجار الأجانب. كانت رخصة السمسار لدى التجار الألمان في البندقية تجعل الحائز لها فعلاً المصور الرسمي للدولة ويتقاضى نظير ذلك 300 كرون (3750 دولاراً) في العام نظير رسم صورة للدوج وما عسى أن تتطلبه الحكومة من الصور الأخرى. ويبدو أن المجلس قبل اقتراح تيشيان على سبيل التجربة، وسواء كان ذلك أو لم يكن فقد بدأ الفنان برسم معركة كادوري في قصر الدوج. ولكن شانئيه أقنعوا المجلس بسحب الرخصة منه والامتناع عن أداء أجر مساعديه (1514). ثم دارت مفاوضات ضايقت كل من اشترك فيها، وانتهت بتعيينه في المنصب ونيله أجره دون لقبه (1516). وأخذ يؤجل العمل ويتباطأ فيه فلم يتم حتى عام 1537 الرسمين اللذين بدأهما في قاعة المجلس الأكبر. ودمرت النار الرسمين في عام 1577.
وارتقى تيشيان على مهل كما يرتقي أي كائن حي وهب من العمر مائة عام. ولكنه في عام 1508 لا بعد أظهر من تباشير نفاذ الروح وقوة التطبيق ما رفعه بعدئذ فوق منافسيه في التصوير. ولدينا الآن صورة لا اسم لها تعرف فيما مضى باسم أريستو تطالعنا بذكريات من طراز
جيورجيوني - بالوجه الشعري والعينين اللتين تشع منهما الدقة وقليل من الخبث، وأثواب فخمة كانت نموذجاً نسجت على منواله ألف صورة أخرى، وفي هذه الفترة (1506 - 1516) كان الفنان السائر في طريق النهوض يعرف كيف يخلع على صور النساء قدراً كبيراً من الجمال فبدأت بذلك تختلف عن نساء جيورجيوني وتتجه نحو نساء روبنز Rubens. واستمر الانتقال من صور العذراء إلى صور فينوس على يد تيشيان، حتى وهو يرسم صوراً دينية ذات روعة وشهرة فائقة. فكانت اليد التي تبعث في القلوب التقي بصورة السيدة الغجرية وعبادة الرعاة هي نفسها التي تستطيع أن تصور امرأة تزدان وتصور تلك البراءة الخليعة التي نشاهدها في صورة فلورا الموجودة في معرض أفيزي. وأكبر الظن أن هذا الوجه الظريف وهذا الصدر الناهد وجدا أيضاً في صورة ابنة هرودياس، وشالوم في هذه الصورة لا يفترق في شيء عن أهل البندقية كما أن الرأس المقطوع رأس عبري بكل ما فيه.
وأخرج تيشيان في عام 1515 أو حواليه صورتين من أشهر صوره هما ثلاثة أعمار الإنسان وهي جماعة من الأطفال العراة نائمين تحت شجرة، ومعهم كيوبيد يلقنهم في هذه السن الصغيرة جنون الحب، وشيخ في العقد التاسع يتأمل جمجمة، وفتى وفتاة سعيدين في ربيع الحب، ولكن كليهما ينظر إلى الآخر نظرة تنم عن قلق كأنهما قد عرفا مقدماً إصرار الزمن على إبلاء تلك العاطفة. وصورة الحب الطاهر والحب الدنس قد خلع عليهما اسم حديث لو بعث تيشيان حيا لدهش منه. وقد سميت الصورة حين ذكرت لأول مرة الجمال المزدان وغير المزدان (38)، وأكبر الظن انه لم يكن بقصد بها تلقين درس في الأخلاق بل كان الغرض منها أن تزدان بها قصة من القصص. والجسم العاري الدنس في الصورة
هو أكمل شكل في سجل أعمال تيشيان، فكأنه صورة فينوس ده ميكو نقلت إلى عصر النهضة. ولكن صورة المرأة الطاهرة عليها أيضاً صبغة دنيوية، فمنطقتها المزدانة بالحلي تستلفت الأنظار، ورداؤها الحريري يغري باللمس، وأكبر الظن أنها هي الخليلة المرحة التي كانت نموذج صورة فلورا أو المرأة تتزين. وإذا ما أنعم الإنسان النظر فيها تكشفت له خلف صور الآدميين عن منظر طبيعي معقد فيه نبات وحيوان وأجمة كثيفة من الأشجار، وراع يتعهد قطيعه، وعاشقان، وصائدون وكلاب يطاردون أرنباً برياً، وبلدة وأبراجها، وكنيسة وبرج جرسها، وبحر أزرق جيورجيوني الطراز، وسماء ملبدة بالغيوم. ترى ماذا يهمنا إذا كنا لا نعرف ماذا تعني هذه الصورة بالضبط؟ إنها الجمال ((يبقى برهة)) أمامنا، أليس هذا هو الذي يظن فاوست Faust انه هو الحياة والروح؟.
ولما أدرك تيشيان أن الجمال النسوي مزداناً أو طبيعياً يجد له على الدوام من يطلبه اتخذه موضوعاً له وهو جذلان، فقبل في بداية عام 1516 دعوة ألفنسو الأول لرسم بعض لوحات في قصره بفيرارا. وهيئ للفنان مسكن في القصر ومعه مساعدان له، وقضى فيه نحو خمسة أسابيع، ويلوح انه تردد عليه بعدئذ قادماً من البندقية.
ورسم تيشيان لقاعة المرمر ثلاث صور واصل فيها مزاج جيورجيوني الوثني. ففي صورة السكارى نرى رجالاً ونساء، وبعضهم عرايا، يشربون، ويرقصون، ويتغازلون، أمام منظر من الأشجار السمراء، وبحيرة زرقاء، وسحب فضية، وأمامهم على الأرض ملف يحمل شعاراً بالفرنسية:((من يشرب ولا يعد إلى الشرب لا يعرف ما هو الشرب)). وعلى بعد من هذا الشعار نرى نوحاً طاعناً في السن يتمطى وهو عار
سكران، وبالقرب من الجزء الأول فتى وفتاة يرقصان معاً، وأثوابهما تدور في الهواء، وفي الجزء الأمامي من الصورة امرأة يدل ثدياها الناهدان على أنها في مقتبل العمر نائمة على الكلأ عارية، والى جانبها طفل قلق يدفع ثوبه ليروح عن مثانته ويتم بذلك دورة السكارى خارجاً من الغابات يفاجئ المرأة المهجورة، ونرى ساتيرات مخمورات، ورجلاً عارياً تلتف الأفاعي حوله، وإله الخمر العاري يقفز من عربته ليمسك بالأميرة الهاربة. وتبلغ النهضة الوثنية في هذه الصورة وفي صورة عبادة فينوس أعظم ما بلغته من قوة وسلطان.
ورسم تيشيان في هذه الثناء صورة تستلفت الأنظار للدوق ألفنسو نصيره الجديد: رسمه ذا وجه جميل ينم عن ذكاء، وجسم ممتلئ تزيده مهابة ثياب رسمية فخمة، ويد جميلة (يصعب أن تكون يد فخراني ومحارب) متكئة على مدفع محبوب، وتلك هي الصورة التي أعجب بها وأثنى عليها ميكل أنجيلو نفسه. وجلس إريستو لتيشيان ليصوره، ورد هذه التحية لتيشيان ببيت من الشعر في إحدى طبعات فيور بوسو المتأخرة، كذلك جلست لكريدسيا بورجيا للمصور العظيم، ولكن أثراً ما لم يبق لهذه الصورة، ولربما جلست أيضاً لورا ديانتي Laura Diante عشيقة ألفنسو لصورة لم تبق إلا نسخة مأخوذة عنها في مودينا. وأكبر الظن أن ألفنسو هذا هو الذي رسم له تيشيان صورة من أجمل صوره وهي صورة مال الخراج، ترى فيها فريسياً له رأس فيلسوف يوجه سؤاله في إخلاص والمسيح يجيبه في غير غضب جواباً بليغاً.
ومن المميزات الخاصة بذلك العصر أن تيشيان قد استطاع الانتقال من تصوير باخوس إلى تصوير المسيح، ومن فينوس إلى مريم، ثم عاد من مريم والمسيح إلى فينوس وباخوس، دون أن يضطرب لذلك عقله، ذلك
انه صور في عام 1518 لكنيسة الرهبان أعظم صورة على الإطلاق وهي صورة صعود العذراء. ولما وضعت هذه الصورة في إطار فخم من الرخام خلف المذبح العالي رأى سانودو Sanudo كاتب اليوميات البندقي أن هذا الحادث خليق بالتسجيل فكتب يقول: ((في 20 مايو 1518: أقيمت بالأمس اللوحة التي صورها تيشيان
…
للرهبان الفرنسيس)) (39). ولا تزال رؤية صورة الصعود في كنيسة الرهبان من الحوادث الهامة في حياة إنسان ذي إحساس رقيق. ويرى الإنسان في وسط اللوحة الضخمة التي رسمت عليها هذه الصورة العذراء كاملة قوية، مكتسبة ثوباً أحمر ومئزراً أزرق، ذاهلة متوجسة، ترفعها خلال السحب هالة مقلوبة من صغار الملائكة المجنحين. وفوق صورة العذراء حاول المصور محاولة مخففة - وكان لابد لها أن تخفق - أن يصور الله - فلم يرسم إلا ثوباً، ولحية، وشعراً تنفشه رياح السماء، وأجمل من هذا صورة الملك الذي يأتيه بتاج لمريم. وتحت هذا صور الرسل، وهم عدد متباين من الصور الفخمة، ينظر بعضهم في دهشة، وبعضهم يركع للصلاة والعبادة، وبعضهم يتطلع إلى أعلى كأنه يريد أن يؤخذ إلى الجنة. وإذا ما وقف متشكك نافر أمام هذه الدعوة القوية إلى الإيمان لم يسعه إلا أن يأسف لتشككه، ويقر بما في هذه الأسطورة من جمال، وما تبعثه في النفس من أمل.
وأراد ياقوبو بيزارو، أسقف باقوس Paphos في قبرص أن يعبر عن شكره لله لما أحرزه أسطول البندقية من نصر على العمارة التركية فعهد إلى تيشيان أن يصور ستاراً آخر في محراب كنيسة الرهبان - للمعبد الذي دشنته من قبل أسرة هذا الأسقف. وأدرك تيشيان الخطر الذي سوف يتعرض له إذ يقوم على رسم صورة عذراء أسرة بيزارو يتحدى بها تحفته الفنية التي نالت الإعجاب من وقت قريب. لكنه ظل يعمل في الصورة الجديدة سبع سنين قبل أن يطلقها من مرسمه. وآثر فيها أن يرسم العذراء
جالسة على عرشها، لكنه خرج على السوابق المألوفة فرسم صورتها إلى اليمين مائلة من ركن فوضع بذلك من يقدم لها التاج جهة اليسار، كما وضع القديس فرانسس عند قدميها. ولولا النقش البراق الذي يركز انتباه الناظر على الأم وطفلها لأختل توازن الصورة. ورحب كثيرون من الفنانين بهذه التجربة وحذوا حذوه فيها بعد أن ملوا التركيب التقليدي المألوف المركز أو الهرمي.
ودعا المركيز فيدريجو جندساجا تيشيان إلى مانتوا في عام 1523، لكن الفنان لم يقم فيها طويلاً لأنه كلف بأعمال في البندقية وفيرارا. غير أنه بدأ فيها سلسلة من إحدى عشرة صورة تمثل أباطرة الرومان، وقد فقدت هذه كلها. وقد رسم في إحدى زياراته صورة جذابة للمركيز الشاب الملتحي. وكانت إزبلا العظيمة أم فيدريجو لا تزال على فقيد الحياة، فجلست إليه ليصورها، ولما وجدت أن الصورة واقعية أكثر مما تطيق، وضعتها بين عادياتها القديمة، وطلبت إلى تيشيان أن ينسخ لها صورة كان فرانتشيا Francia قد رسمها قبل أربعين عاماً من ذلك الوقت. تلك هي الصورة التي أخذ عنها تيشيان (ولعل ذلك كان في سنة 1534) صورة المشهورة ذات القلنسوة الشبيهة بالعمامة، والأكمام المزركشة، والفراء المثناة، والوجه الظريف. واحتجت إزبلا قائلة أنها لم تكن تظن نفسها بهذا الجمال، ولكنها عملت على أن تنحدر هذه الصورة التذكارية إلى الخلف.
والى هنا نترك تدسيانو فيتشيلي بعض الوقت، ذلك أننا لا نستطيع أن نفهم الشطر المتأخر من حياته إلا إذا أحطنا علماً بالحوادث السياسية التي كان لشارل الخامس أكبر أنصاره فيها شأن كبير بعد عام 1533. وكان تيشيان قد بلغ السادسة والخمسين من العمر في ذلك العام. ومنذا الذي كان يظن وقتئذ انه لا يزال أمامه من العمر ثلاثاً وأربعين سنة، وأنه سيرسم في النصف الثاني من حياته عدداً من روائع الفن لا يقل عما رسمه منها في نصفها الأول.
6 - صغار الفنانين والفنون الصغرى
من واجبنا أن نعود الآن القهقرى لنشيد في إيجاز بذكر مصورين ولدا بعد مولد تيشيان ولكنهما توفيا قبله بزمن طويل. إن علينا أن ننحني في إجلال قبل أن نختم هذا الفصل أمام جيرولامو سافلدو Girolamo Salvaldo الذي قدم إلى البندقية من بريشيا وفلورنس، ورسم صورتين ممتازتين هما صورة العذراء والقديسين الموجودة الآن في معرض بريرا، ثم صورة فاتنة للقديس متى محفوظة في متحف الفنون بنيويورك، وصورة مجدلين المحفوظة في برلين، وهي أكثر إغواء من صورة السيدة البدينة المسماة بهذا الاسم نفسه والتي رسمها تيشيان.
وقد أطلق على جياكومو نجريتي Giacomo Nigreti اسم بالما Palma نسبة إلى بعض تلال بالقرب من مسقط رأسه سيرينا Serina في الألب البرماسية Bermasque، ثم أصبح اسمه بالما فتشيو حين ذاعت شهرة بالما جيوفاني ابن أخيه. وظل معاصروه هو وتيشيان وقتاً ما يرونهما ندين. ولعل عوامل الغيرة قد دبت بين الرجلين، ولم تخف حدتها بعد أن سرق تيشيان عشيقة جياكومو. ذلك أن جياكومو كان قد رسم لها صورة سماها فيولنتي Violante، ثم جاء تيشيان فاتخذها نموذجا لصورة فلورا. وكان بالما، كما كان تيشيان، بارعاً في تصوير الموضوعات الطاهرة والدنسة بدرجة واحدة من المهارة إن لم نقل بدرجة واحدة من الحماسة، وقد تخصص في تصوير الأحاديث الدينية أو الأسر المقدسة، ولكن شهرته في أكبر الظن ترجع إلى صور الفتيات البندقيات الشقراوات - أي النساء الناهدات اللائى يصبغن شعرهن صبغة سوداء ضاربة إلى الحمرة. مع هذا فان أجمل صوره هي الصور الدينية: القديسة بربارا المعلقة في كنيسة سانتا ماريا فرموزا Santa Maria Formosa، وهي شفيعة المدفعيين
البنادقة، وصورة يعقوب وراحيل الموجودة في معرض درسدن ويرى فيها راع وسيم يقبل فتاة ناهدة. ولولا أن تيشيان قد رسم نحو خمسين صورة أعمق من صور بالما لكانت هذه الصورة الخيرة في مستوى أحسن صور عصره وبلده.
وأتخذ تلميذه بنيفادسيو دي بيتاتي Bonifazio de' Pitati، المسمى فيرونيز نسبة إلى مسقط رأسه، طراز صورة العيد الريفي Fete Champetre لجيورجيوني وصورة ديانا لتيشيان، وذلك حين نقش على جدران البندقية وأثاث بيوتها صوراً جذابة للمناظر الطبيعية والجسام العارية، وإن صورة ديانا وأكتابون لتضارع صور هذين الأستاذين.
واكن لورندسو لتو Lorenzo Lotto أقل منزلة عند مواطنيه من بنفادسيو في أيامهما، ولكن شهرته زادت على مر السنين. وكان لورندسو هذا ذا روح حيية مكتئبة ولهذا لم تكن تناسبه حياة مدينة البندقية التي لم تكد تسكت فيها دقات الأجراس ونغمات المرنمين حتى عادت الوثنية فيها إلى ما كان لها من السيطرة. وقد رسم وهو في العشرين من عمره صورة تعد من أعظم صور النهضة ابتكاراً وهي صورة القديس جيروم المحفوظة في متحف اللوفر. وليست هذه صورة مبتذلة للزاهد الضامر الجسم، بل تكاد تكون دراسة صينية للأخاديد القائمة والصخور الجبلية، ليس العالم الشيخ فيها إلا عنصراً مصغراً، لا تكاد العين تقع عليه لأول وهلة. وتلك هي أولى الصور الأوربية التي تمثل الطبيعة بما لها من قوة برية لا يوصفها مظهراً خيالياً في مؤخرة الصورة. وانتقل لورندسو بعدئذ إلى تريفيزو حيث نقش على ظهر مذبح كنيسة سانت كرستينا صورة العذراء على العرش وهي الصورة العظيمة التي أذاعت شهرته في جميع إيطاليا الشمالية. ثم أصاب نجاحاً آخر حين رسم صورة للعذراء لكنيسة القديس دمنيكو في ركاناتي recanati استدعي بسببها إلى روما، حيث طلب
إليه البابا يوليوس الثاني بعض حجرات الفاتيكان، ولكن المظلمات التي بدأت لتوها أتلفت حين قدم رفائيل إلى المدينة. وربما كان هذا الإذلال سبباً من أسباب مزاج لورندسو النكد. غير أن برجامو كانت أحسن تقديراً لموهبته التي اختص بها وهي تخفيف ألوان فن البندقية القوية وجعلها ألطف وأكثر اعتدالاً ومواءمة للتقى والصلاح. وظل يعمل في برجامو اثنتي عشرة سنة، لا ينال فيها إلا أجراً متوسطاً، ولكنه آثر أن يكون الأول في برجامو عن أن يكون الرابع في البندقية. ثم نقش لكنيسة سان بارتولميو ستاراً لمذبحها مزدحماً بالصور ولكنه مع ذلك جميل رسم فيه صورة العذراء في جلالها. وأجل من هذه صورة عبادة الرعاة الموجودة في بريشيا. وفيها نرى الألوان كاملة شاملة ولكنها مخففة وأكثر إراحة للعين والروح من أثر البريق الذي تحدثه صور الفنانين البنادقة العظام.
وإذ كان لتوذا نفس حساسة، فقد كان في وسعه أحياناً أن يكون أكثر نفاذاً إلى الشخصية من تيشيان، ولذلك فانك قل أن تجد من الفنانين من أدرك لآلاء الشباب الصحيح الجسم بنفس العمق الذي أدركه به لتو في صورة غلام الموجودة في قصر بميلان. ويظهر لورندسو في صورته التي رسمها لنفسه صحيح الجسم قوية فيما يبدو، ولكن ما من شك في أنه قد قاسى كثيراً من متاعب المرض والألم قبل أن يستطيع تصوير المرض تصويراً يبعث العطف في صورة الرجل المريض في معرض برغيز أو في صورة أخرى لها نفس العنوان في معرض دوريا Doria بروما - ففيهما نرى يداً هزيلة تضغط على القلب، وسمات الألم والحيرة تبدو على الوجه كأن صاحبها سواء كان صالحاً أو عظيماً يسأل لما اختصته الجراثيم بفتكها؟ وتمثل صورة أخرى هي صورة لورا البولائية Laura di Pola امرأة ذات جمال هادئ تحيرها هي الأخرى الحياة ولا تجد جواباً لحيرتها إلا في الإيمان والتدين.
وقد وصل لتو نفسه إلى هذه السلوى. ذلك أنه ظل قلقاً وحيداً، أعزب، يتنقل من مكان إلى مكان، ولعله كان يتنقل من فلسفة إلى فلسفة، حتى اتخذ سكنه في سنيه الأخيرة (1552 - 1556) في دير سانتا كاسا Santa Casa بلوريتو Loreto بالقرب من البيت المقدس الذي يعتقد الحجاج أن أم الإله لجأت إليه. وقد وهب جميع أملاكه لهذا الدير في عام 1554، وأقسم أن يكرس نفسه له. وكان تيشيان يصفه بأنه ((صالح كصلاح نفسه، وفاضل كالفضيلة ذاتها)) (41). وطالت حياة لتو حتى انقضى الشطر الوثني من عصر النهضة، وغرق في بحار الراحة (إذا جاز هذا التعبير) بين زراعي مجلس ترنت، وأسهمت الفنون الصغرى بنصيبها فيما كان هناك من ثقافة غزيرة في ذلك القرن المزعزع (1450 - 1550) الذي عانت فيه تجارة البندقية كثيراً من الهزائم وظفر فيه فن التصوير البندقي بكثير من الانتصارات. ولم يكن ذلك مولوداً جديداً Renaissance بالنسبة لهذه الفنون، لأنها كانت قديمة ناضجة في إيطاليا قبيل عصر بترارك، وكل ما في الأمر أنها واصلت ما كان لها في العصور الوسطى من جودة وامتياز. ولربما كان من يشتغلون بالفسيفساء قد فقدوا شيئاً من مهارتهم أو صبرهم على العمل؛ وحتى لو كان فإن ما قاموا به من الأعمال في كنيسة القديس مرقس كان في القليل أرقى من العصر الذي يعيشون فيه. وكان الفخرانيون وقتئذ يتعلمون صناعة الخزف الرفيع، فقد جاء إليهم ماركوبولو قبل ذلك ببعضه من بلاد الصين، وكان بعض السلاطين قد أرسل نماذج منه إلى الدوج (1461)؛ ولم يحل عام 1470 حتى كان البنادقة يصنعونه في بلدهم. كذلك وصلت صناعة الزجاج في مورانو ذروة مجدها في تلك الفترة، فأخرجوا بلوراً غاية في النقاء وجمال الشكل، وكان أشهر صناع الزجاج في ذلك الوقت معرفين في جميع أنحاء أوربا، وكانت جميع البيوت
المالكة تتنافس في الحصول على مصنوعاتهم. وكان معظمهم يستخدمون في صنعه قالباً أو نموذجاً؛ وكان منهم من أغفل القالب، ونفخ فقاعة من الهواء في الزجاج السائح وهو ينصب في الفرن، ثم يشكلون المادة فناجين ومزهريات، وأقداحاً، وحلياً لا تحصى ألوانها ولا أشكالها، وكانوا أحياناً ينقشون سطحه بالميناء الملونة أو الذهب بعد أن أخذوا هذا الفن عن المسلمين. وكان صناع الزجاج يحرصون أشد الحرص على أن يحتفظوا في أسرهم أسرار العمليات التي وصلوا بها إلى ما وصلوا إليه من إعجاز في هذه المصوغات ذات الجمال الهش، وسنت حكومة البندقية قوانين صارمة لمنع هذه الدقة العجيبة من أن تتسرب معرفتها إلى الأقطار الأخرى. من ذلك ما قرره مجلس العشرة في عام 1454 من أنه:
((إذا نقل صانع إلى بلد آخر فناً أو حرفة أضر نقلها بالجمهورية، أمر بأن يعود، فإذا لم يطع الأمر، زج أقرب أقربائه في السجن، وذلك كي يحمله تضامنه مع أسرته على أن يعود؛ فإذا أصر على عدم إطاعة الأمر، اتخذت الإجراءات السرية لقتله أينما وجد)) (52).
وحدثت الاغتيالات الوحيدة المعروفة تنفيذاً لهذا القرار في فينا في القرن الثامن. لكن الصناع والفنانين البنادقة اتخذوا طريقهم فوق جبال الألب في القرن السادس عشر على الرغم من هذا القانون، ونقلوا صناعتهم إلى فرنسا وألمانيا وقدموا هدية إلى فاتحي إيطاليا.
وكان نصف صناع البندقية فنانين، فكان المشتغلون بصناعة القصدير يزينون الأطباق والصحاف الكبيرة، والأكواب، والأقداح بحافات رشيقة ورسوم نباتية جميلة. واشتهر صناع الدروع بالزرد الدمشقي، والخوذ، والرتوس، والسيوف، والخناجر، والأغماد المنقوشة بالرسوم الجميلة، كما كان غيرهم من كبار الصناع يصنعون للسيوف القصيرة مقابض من العاج مرصعة بالجواهر. وقد حفر بلدساري دجلي أمبرياكي
Baldassare degli Embriachi الفلورنسي بالبندقية في عام 1410 من العظم الستار العظيم المكون من تسعة وثلاثين جزءاً، والذي يوجد الآن في المتحف العاصمي بنيويورك. ولم يقتصر حفارو الخشب على صنع التماثيل والنقوش البارزة كتمثال الختان الموجود في اللوفر أن الصندوق الملون الذي صنعه بارتولمبو منتانيا، والذي كان من قبل في متحف بُلدْى بتسولس Poldi Pezzoli الذي دمرته القنابل في ميلان، بل أنهم كانوا ينقشون سُقُف أعيان البندقية، وأبوابهم، وأثاثهم بالخشب المحفور، وبالعُقد، وبالتلبيس، وهم الذين حفروا أمكنة المرنمين في الكنائس مثل كنيسة فيراري، والقديس زكريا. وكانت الطلبات تنهال على صناع الجواهر البنادقة من خارج البلاد وداخلها، ولكنهم احتاجوا إلى بعض الوقت ليسموا بفنهم من الكم إلى الكيف. وكان الصياغ بعد أن أصبحوا وقتئذ تحت تأثير الفن الألماني لا الشرقي يخرجون الأطنان من الصحاف، والحلي الشخصية، وأربطة الزينة لكل شيء من الكتدرائيات إلى الأحذية. وبقي فن تزيين المخطوطات وفن الخط الجميل، وإن أخذ يخلى مكانه للطباعة بالتدريج. وتأثرت نقوش منسوجات البندقية أكسبتا المنتجات طابعها الفني وألوانها. وكانت مدينة البندقية هي التي طلبت إليها ملكة فرنسا ثلاثمائة قطعة من الساتان المصبوغ (1532)، وكانت الأقمشة الناعمة المترفة التي تصنع في حوانيت البنادقة، والألوان التي تكتسبها في أحواض الصباغة بالبندقية هي التي وجد فيها المصدرون البنادقة نماذج للأثواب الفخمة الزاهية التي أكسبت فنهم نصف ما كان له من بهجة ولآلاء. ولقد كانت البندقية تحقق المثل الأعلى الذي إرتآه رسكن Ruskin وهو وجود نظام اقتصادي تستحيل فيه كل صناعة فناً، وتعبَر فيه كل سلعة عن شخصية صانعها وعن مذهبه الفني.
الفصل السادس
آداب البندقية
1 - ألدوس مانوتيوس
كانت البندقية في ذلك الوقت تشغلها مهام الحياة وانهماكها فيها عن العناية بالكتب، ولكن علماءها، ودور كتبها، وشعراءها، وطابعيها، قد اشتركوا في إذاعة حسن الأحدوثة عنها. نعم إنها لم تسهم بنصيب بارز في حركة الآداب الإنسانية، بيد أن هذه النزعة كان لها في البندقية من يمثلها أنبل تمثيل - ونعني به إرمولاء وبربارو Ermolao Brabaro الذ توجه أحد الأباطرة شاعراً وهو في الرابعة عشرة من عمره، وعلم اللغة اليونانية، وترجم أرسطو، وخدم بني وطنه طبيباً، وخدم بلاده دبلوماسياً، وكنيسته كردينالاً، ومات بالطاعون وهو في سن التاسعة والثلاثين. ولم تكن نساء البندقية حتى ذلك الوقت يعنين بالتعليم إلا فيما ندر، فقد كن يقنعن بأن يكن مغريات في الجسم، أو مخصبات في النسل، أو موقرات آخر الأمر، ولكن إيرينه الاسمبلمبيرجيه Irine of Spilimbergo افتتحت في عام 1530 ندوة لرجال الأدب، ودرست التصوير على تيشيان، وكانت تغني بصوت رخيم، وتجيد العزف على الكمان الكبير، وعلى معزف تلك الأيام الشبيه بالبيان، وعلى العود، وتتحدث حديث العلماء في الأدب القديم والحديث. وكانت البندقية تبسط حمايتها على اللاجئين العقليين الفارين من الأتراك في الشرق ومن المسيحيين في الغرب، ففيها كان أرتينو يستهزئ وهو آمن بالبابوات والملوك، كما أشاد بيرون Byron في هذا المكان نفسه باضمحلالهم بعد عدة قرون. لقد كان الأشراف والأحبار يقيمون الأندية والمجامع العلمية
لنشر الموسيقى والآداب، ويفتحون بيوتهم ومكتباتهم للدارسين المجدين، والمغنين، والعلماء، وكانت الأديرة، والكنائس، والأسر تجمع الكتب، فكان للكردينال دمنيكو جريماني منها ثمانية آلاف أهداها فيما بعد إلى البندقية، وحذا حذوه في ذلك الكردينال يساربون فأهدى إليها مجموعة مخطوطاته الثمينة. وأرادت الحكومة أن تحفظ هذه الكنوز والبقية الباقية مما أهداه بترارك إلى المدينة فأمرت مرتين بتشييد دار كتب عامة، ولكن الحرب وغيرها من المشاغل وقفت في سبيل هذا المشروع، فلما كان عام 1536 كلف مجلس الشيوخ آخر الأمر ياقوبو ساسوفينو Jacopo Sansovino أن يشيد مكتبة فتشيا Libreria Vecia وهي من الناحية المعمارية أجمل بناء للمكتبات في أوربا.
وكان الطابعون البنادقة في تلك الأيام يخرجون أجمل الكتب المطبوعة في ذلك العصر، بل لعلها أجملها في كل العصور، ولم يكونوا هم أول من قام بهذا العمل في أوربا، فقد أنشأ اسوينهايم Sweynheim وبناردز Pannartz، وكانا في وقت ما مساعدين لجوهان فست Johann Fust في مينز، وأول مطبعة إيطالية في دير للرهبان البندكتيين في سبياكو بجبال الأبنين (1464)، ثم نقلا آلاتهما إلى روما في عام 1467 ونشرا فيها ثلاثة وعشرين كتاباً خلال الثلاث السنين التالية. وبدأت الطباعة في البندقية وميلان في عام 1469 أو قبلها، فلما كان عام 1471 افتتح برناردو تشينيني Bernardo Cennini داراً للطباعة في فلورنس، فأحزن فتحها بوليتيان الذي قال في أسف وحسرة إن ((أسخف الأفكار يمكن نقلها في ساعة من الزمان إلى آلاف المجلدات ونشرها في خارج البلاد)) (43). وأخذ النساخون الذين تعطلوا ينددون عبثاً بالاختراع الجديد، وقبل أن يختتم القرن الخامس عشر تم طبع 4987 كتاباً في إيطاليا: منها 300 في فلورنس، و 629 في ميلان، و 925 في روما، و 2835 في البندقية (44).
ويرجع تفوق البندقية في هذه الناحية إلى تيوبلدو مانوتشي Teobaldo Manucci الذي غير اسمه فجعله ألدو مانودسيو Aldo Manuzio، ثم صبغه بعدئذ صبغة لاتينية فجعله ألدوس مانوتيوس Aldus Manutins. وكان مولده في بسيانو من أعمال رومانيا Bussiano in Romagna (1450) ، وتعلم اللغة اللاتينية في روما واليونانية في فيرارا، تعلمهما على جوارينو دا فيرونا، ثم أخذ هو يحاضر في آداب اللغتين في فيرارا. ودعاه بيكو ديلا ميرندولا Pico della Mirandola أحد تلاميذه للمجيء إلى كابري Capri ليعلم فيها ليونيلو Lionello وألبرتو بيو ولدي أخيه. وتوطدت بين المعلم والتلميذين أواصر الحب القوي المتبادل، وأضاف ألدوس اسم بيو إلى اسمه الأول، وأتفق ألبرتو وأمه كونتة كابري أن يمولا أول المشروعات الكبرى في النشر. وكانت خطة ألدوس أن يجمع، ويحرر، ويطبع، الآداب اليونانية القيمة التي نجت من عاديات الدهر، وينشرها بتكاليفها. وكان هذا المشروع مجازفة خطرة لعدة أسباب: منها أن من الصعب الحصول على المخطوطات، وأن الكتاب القديم الواحد توجد منه مخطوطات متعددة تختلف نصوصها بعضها عن بعض اختلافاً يبعث على اليأس، وأن المخطوطات كلها تقريباً مليئة بالأخطاء الناشئة من النسخ، وأن لابد من البحث عن المنقحين الذين تعهد إليهم مقابلة النصوص ومراجعتها، ورسم الحروف اللاتينية واليونانية وصبها، ولابد بعد هذا من استيراد كميات كبيرة من الورق، واستخدام الجماعين والطباعين وتدريبهم، ولابد من تنظيم أداة للتوزيع، وخلق جمهور من القراء على نطاق أوسع مما كان من قبل. ولابد من تقديم جميع المال اللازم لهذا كله مع عدم وجود قانون لحماية حقوق الطبع.
واختار ألدوس البندقية مركزاً لعمله، لأن علاقاتها التجارية جعلتها مركزاً ممتازاً للتوزيع، ولأنها كانت أغنى مدن إيطاليا بأجمعها، ولأن فيها
كثيرين من الأثرياء الذين قد يرغبون في تزيين حجراتهم بكتب لم تفتح، ولأنها كانت تأوي عشرات من اللاجئين من علماء اليونان الذين يسرهم أن يقوموا بأعمال النشر العلمي وقراءة التجارب. وكان جون اسباير John Speyer قد أنشأ قبل ذلك الوقت أول مطبعة في البندقية (1469)، ثم أنشأ نقولاس جنسن Nicholas Jensen الفرنسي الذي تعلم الفن الجديد عند جوتنبرج في مينز، مطبعة أخرى بعد عام من ذلك الوقت. وفي عام 1479 باع جنسن مطبعته إلى أندريا تريسانو Andrea Torresano، واستقر ألدوس مانوتيوس في البندقية عام 1490، وتزوج فيها بابنة تريسانو عام 1499.
وجمع ألدوس في بيته القريب من كنيسة القديس أجستينو Santa Agostino جماعة من العلماء اليونان، وأمدهم بالطعام، والفراش، وجعلهم يعملون في إخراج الكتب اليونانية القديمة. واكن يتحدث إليهم باللغة اليونانية، ويكتب بها عبارات الإهداء والمقدمات، وكانت الحروف الجديدة ترسم وتصب في منزله، وفيه يضع المداد، وتطبع الكتب وتجلد. وكان أول ما نشره منها (1495) كتاباً في نحو اللغتين اليونانية واللاتينية من مؤلفات قسطنطين لاسكارس Contantine Lasscaris، وبدأ في العام نفسه يصدر مؤلفات أرسطو بلغتها الأصلية. وفي عام 1496 نشر نحو اللغة اليونانية لثيودوروس جادسا Theodorus Gaza، وأصدر في عام 1497 معجماً يونانياً لاتينياً جمعه هو نفسه، ذلك انه ظل يشتغل بالدرس حتى في أثناء مخاطر النشر ومحنه، وكانت ثمرة الدراسة التي دامت سنين طوالاً أن طبع في عام 1502 كتابه في مبادئ نحو اللغة اللاتينية Rudimenta Linguae Latinae مع مقدمة في اللغة العبرية متوسطة الحجم.
ومن هذه البدايات الفنية واصل العمل في نشر الآداب اليونانية القديمة (1495 وما بعدها): فنشر لموسيوس Musaeus هيرود ولياندر
Herod and Leander، وهزيود Hesiod، وثيوجنيس Theognis، وأرسطوفانيز، وهيرودوت، وتوكيديدس، وسفكليز، ويوربديز، ودمستنيز، وإيسكنير، ولوسياس Lysias، وأفلاطون، وبندار، وكتاب موراليا لأفلوطرخس. وأخرج في تلك السنين نفسها عدداً كبيراً من المؤلفات اللاتينية والإيطالية، مبتدئاً من كونتليان ومنهياً ببمبو، وكتاب أدجيا Adagia لإرازمس Erasmus. فقد رأى هذا المصلح ما ينطوي عليه مشروع ألدو من أهمية عظمى فجاء بنفسه ليقيم معه وقتاً ما لم ينشر في خلاله أدجيا أو معجم المقتبسات فحسب، بل نشر أيضاً مؤلفات ترنس، وبلوتوس، وسنكا. وقد وضع ألدوس للكتب اللاتينية حروفاً رشيقة شبيهة بخط اليد رسمها له فرانتشيسكو دا بولونيا وهو من مهرة الخطاطين، ولم يأخذها من خط بترارك كما تقول الأقاصيص، وهذا هو الخط الذي نسميه الآن بالخط المائل Italic واسمه الإنكليزي مشتق من أصله (اللاتيني). أما النصوص اليونانية فقد وضع لها تصميماً أساسه خط تلميذه مارقوس موسوروس الكريتي Marcus Mausaurus of Crete الذي كان يبذل فيه عناية فائقة. وكان يضع على جميع الكتب التي ينشرها ذلك الشعار عجل على مهل Festina Lente مضافاً إليه صورة دلفين رمزاً إلى السرعة ومرساة (هلبا) رمزاً إلى الإستقرار. ومن هذا الرمز مضافاً إليه صورة البرج الذي استخدمه ترسانو من قبل أخذ الطابعون والناشرون عادتهم التي ألفوها وهي وضع شعار لهم فيما ينشرونه من الكتب
(1)
.
وكان ألدوس يعمل في مشروعه ليلاً ونهاراً - بالمعنى الحرفي لهذه العبارة. وقال في المقدمة التي وضعها لكتاب أورغانون لأرسطو: ((يجب أن يزود الذين يريدون الأدب بما يلزمهم من الكتب لتحقيق أغراضهم، ولن أستريح حتى أزودهم بحاجاتهم منها)). وقد نقش على باب مكتبه ذلك
(1)
شعار هذا الكتاب هو صورة باذر الحب.
التحذير: ((يطلب إليك ألدوس أياً كنت أن تقول ما تريد بإيجاز، وأن تسرع بالخروج
…
لأن هذا مكان عمل)) (45) وقد أنهمك في حملة النشر انهماكاً أهمل معه أسرته وأصدقاءه وأتلف صحته. وقد تحالفت عليه ألف محنة ومحنة قضت على قوته ونشاطه: فالإضراب المتكرر عطل برنامجه، وعطلته الحرب سنة كاملة حين كانت البندقية تقاتل في سبيل حياتها عصبة كمبرية، ونهب الطابعون المنافسون له في إيطاليا، وفرنسا، وألمانيا المطبوعات التي ابتاع مخطوطاتها بأغلى الأثمان، وأدى للعلماء أجوراً عالية لمراجعة نصوصها. ولكن منظر كتبه الصغيرة السهلة التناول، الواضحة الخط، الأنيقة التغليف، تخرج من عنده إلى جمهور من القراء مطرد الزيادة، بثمن معتدل (حوالي دولارين من نقود هذه الأيام)، لكن منظرها هذا كان يدخل السرور على قلبه، وكان هو يرى فيه جزءاً أو في كدحه، وكان يقول وقتئذ لنفسه إن مجد بلاد اليونان سيتلألأ أمام كل من يريدون الاستمتاع به (46).
وتأثر علماء البنادقة بإخلاصه فاشتركوا معه في تأسيس المجمع العلمي الجديد Neacademia (1500) الذي كان يعمل للحصول على كتب الآداب اليونانية، وطبعها، ونشرها. ولم يكن أعضاء هذا المجمع ينطقون في مجالسهم بغير اليونانية، واستبدلوا بأسمائهم الأصلية صيغاً يونانية، وكانوا يشتركون جميعاً في مهام الطباعة. وكانت صفوة ممتازة من الرجال تكدح معه في هذا المجمع. بمبو، والبرتوبيو، وإرازمس الهولندي، ولنكر Lenacre الإنكليزي. وكان ألدوس يعزو إليهم أكبر الفضل في نجاح مشروعه، ولكن الحقيقة أن نشاطه وشغفه بعمله كانا هما سبب النجاح. ومات الرجل منهوك القوى، فقيراً (1515)، ولكنه أدى رسالته. وواصل أبناؤه عمله، ولكن مات حفيده ألدو الثاني (1597) أفلس المشروع بعد أن حقق الغرض من إنشائه في أمانة وإخلاص، فقد أخرج الآداب اليونانية من الأرفف التي لا تكاد تطلع عليها الأعين من
مجموعات الأغنياء، ونشرها في نطاق بلغ من سعته أن ما حدث في إيطاليا من تخريب ونهب في العقد الثالث من القرن السادس عشر، وما حل بأوربا الشمالية من الدمار في حرب الأعوام الثلاثين كان يسعها أن تضيع منها هذه المجموعات كما ضاع الأكبر منها في عصر احتضار روما القديمة دون أن يلحقها ضرر كبير.
2 - بمبو
ولم يقتصر عمل أعضاء المجمع العلمي الجديد على الإسهام بقسط مورفور في إحياء الأدب اليوناني، بل أنهم أسهموا بنصيب كبير في نشر آداب العصر الذي كانوا يعيشون فيه. فقد كان منهم أنطونيو كتشيو Antonio Coccio المعروف باسم سابلكوس Sabellicus والذي كتب تاريخياً إخبارياً للبندقية في كتابه العقود Decades. وقرض أندريا نفاجيرو Andrea Navagero قصائد لاتينية بلغت من كمال الشكل درجة قال معها مواطنوه الفخورون به إنه انتزع زعامة الأدب من فلورنس وجاء بها إلى البندقية. وكان مارينو سانودو يحتفظ بيومية طريفة يدون فيها الأحداث الجارية في السياسة، والأدب، والفن، والعادات، والأخلاق. وقد بلغ عدد مجلدات هذه اليوميات ثمانية وخمسين مجلداً تصور الحياة في البندقية تصويراً أوفى وأكثر حياة من أي تاريخ لأية بلدة في إيطاليا.
وكان ساندودو يكتب بلغة الكلام اليومية الدارجة السريعة، أما صديقه بمبو فقد أنفق نصف حياته يصقل أسلوبه اللاتيني والإيطالي المتكلفين.
وتلقى بيترو الثقافة وهو في مهده فقد كان ابن أسرة من أغنياء البنادقة المتعلمين. وكأنما شاءت الأقدار أن تؤكد نقاءه الأدبي فجعلت مولده فضلاً عن ذلك في فلورنس الموطن الذي يفخر بلهجته التسكانية. ثم درس اللغة اللاتينية في صقلية على قسطنطين لسكاريس، كما درس الفلسفة في بدوا على
بمبوناتسي Pomponazzi. ولعله قد سرى إليه من بمبوناتسي هذا شيء من النزعة المتشككة، إذا جاز أن نحكم عليه من ساوكه، لأنه لم يكن يعتقد اعتقاداً جدياً أن من الأعمال ما يعد ذنوباً وآثاماً. فقد كان بمبوناتسي يشك في خلود الروح، غير أنه أوتي من رقة الطبع ودماثة الخلق ما نأى به عن حرمان المؤمنين من سلوى هذا الخلود؛ ولما اتهم أستاذه المتهور بالإلحاد، استطاع بمبو أن يقنع البابا ليو العاشر بألا يقسو عليه.
وقضى بمبو في فيرارا أسعد أيامه - بين الثامن والعشرين والسادسة والثلاثين من عمره (1498 - 1506). وفيها وقع في هوى لكريدسيا بورجيا ملكة هذا البلاط ذي الأدب الرفيع - ولعله لم يكن أكثر من هوى بالمعنى الأدبي لهذا اللفظ؛ وقد نسى ماضيها المريب في رومة، إذ أغوته رشاقتها الهادئة، وبريق شعرها ((التيتياني))، وشهرتها الفاتنة؛ ذلك أن شهرتها أيضاً كان في مقدورها أن تكسر الناس كما يكسرهم جمالها. وكتب إليها بفصاحة الأدباء رسائل فيها من الرقة والحنان ما يتفق مع سلامته ووجوده بجوار زوجها ألفنسو الصياد البارع. وقد أهدى إليها حواراً باللغة الإيطالية عن حب العذارى (الأفلاطوني) سماه Gli Asolano (1505) ؛ ومدحها بقصائد من البحر الرثائي اليوناني لا تقل في رشاقتها من أية قصائد نظمت في عصر روما الفضي. وكانت هي تكتب إليه في حذر، وليس ببعيد أن تكون قد بعثت إليه بخصلة شعرها المحفوظة مع رسائلها له في المكتبة الأمبروزية بميلان.
ولما انتقل بمبو من فيرارا إلى أربينو (1506) كان قد بلغ ذروة مجده؛ لقد كان طويل القامة، وسيم الخلق، كريم المحتد والتربية، ذا هيبة خالية من الكبرياء، لا يقحم نفسه في غير شأنه. وكان في وسعه أن يكتب الشعر في ثلاث لغات؛ وكانت رسائله تلقى تقديراً عظيماً. وكان حديثه حديث المسيحي، والعالم، والسيد المهذب. ولما نشر حواره في
الحب العذري أثناء إقامته في أربينو صادف ذلك هوى في نفس حاشية المدينة؛ وأي عجب في هذا؟ فهل ثمة موضوع ألذ من الحب؟ وأي موضوع تمثيلي أحق بالحديث من حدائق كترينا كرنارو Catarina Cornaro في أسولا Asolo؟ - وأية مناسبة أليق من زواج إحدى وصيفاتها؟ ومن ذا الذي يستطيع التحدث عن الحب مهما يكن حباً أفلاطونياً، من ثلاثة الشبان، وثلاث العذارى الذي أنطقهم بمبو بحديثه الذي مزج فيه بين الفلسفة الشعر؟ وحيته البندقية التي أخذ فنانوها لمحات ومناظر من الكتاب، وفيرارا التي تلقت دوقتها ذلك الإهداء المعقم بالخشوع والإجلال، وروما الني كان رجال الدين فيها ينعمون بالحب، وأربينو التي كانت تفخر بأنه من أبنائها - وكانت إيطاليا كلها تحييه وتصفه بأنه أستاذ العواطف الرقيقة والأسلوب المصقول. ولما صور كستجليوني النقاش الذي سمعه أو تخيله في قصر الدوق بأربينو، ووصفه في الرسول Courier بأنه المثل الأعلى في الحديث، أعطى لبمبو الدور الممتاز في الحوار، واختاره لينطق بالفقرة الختامية الذائعة الصيت عن الحب العذري.
وصحب بمبو في عام 1512 جليانو ده ميديتشي إلى روما؛ وبعد عام من ذلك الوقت أصبح أخو جليانو البابا ليو العاشر؛ وسرعان ما أسكن بمبو في الفاتيكان وأصبح أمين البابا. وكان ليو يحب فكاهته الحلوة، وأسلوبه البليغ الشبيه بأسلوب شيشرون، وطريقته السهلة في الحياة. وظل بمبو سبع سنين زينة البلاط البابوي، ومعبود المجتمع، وولداً عقلياً لرفائيل، محبوباً من كبار الأغنياء، ومن كريمات السيدات. ولم يتجاوز بمبو المراتب الدينية الدنيا، وارتضى لنفسه الرأي السائد في روما وهو أن ارتباطه التجريبي بالكنيسة لا يحول بينه وبين القليل من طرائد النساء الظريفة. وكانت فيتوريا كولنا Vittoria Colonna أطهر الطاهرات تهيم به أعظم هيام.
وكان في هذه الأثناء يكتب وهو في البندقية، وفيرارا، وأربينو، وروما شعراً لاتينياً لا يستنكف كاتلوس Catullus وتيبلوس Tibllus أن يكتباه - من مراث، وأناشيد رعاة، وقبريات، وقصلئد غنائية، بعضه صريح في وثنيته، وبعضه مثل قصيدة برايابوس Priapus يجاري أحسن ما كتب من الشعر الداعر في عصر النهضة. وكانت لغة بمبو وبوليتيان اللاتينية صحيحة لا غبار عليها مطلقاً من الناحية اللغوية، ولكنها جاءت في غير أوانها؛ ولو أنهما ولدا قبل عصرهما بأربعة عشر قرناً لكانت كتبهما لا غنى عنها في مدارس أوربا الحديثة؛ أما وهما يكتبان في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فلم يكونا هما الناطقين بروح عصرهما أو بلدهما ولا بالطبقة التي ينتسبان إليها. وأدرك بمبو هذا، ودافع في مقال له عن اللغة العامية Della volgar lingua عن استعمال اللغة الإيطالية فت الأغراض الأدبية. وحاول أن يضرب المثل لأبناء جيله فألف أغاني على طريقة بترارك، ولكن حرصه الشديد على الصقل أفسد عليه الشعر، وأحال حبه إلى غرور شعري. ومع هذا فإن كثيراً من هذه الأغاني قد لحن وصار من الأغاني الغزلية، ولحن بعضه باليسترينا Palestrina العظيم نفسه.
ولما مات أصدقاؤه: ببينا، وتشيجي، ورفائيل أصبحت روما في نظرة مدينة موحشة لا يستطيع فيها البقاء. فاستقال من منصبه في خدمة البابا (1520)، وطلب الصحة والراحة، كما طلبهما بترارك، في بيت ريفي قريب من بدوا. والآن وهو في الخمسين من عمره أصيب بسهام الحب العارم غير العذري، وعاش طوال السنين العشرين التالية من غير زواج مع دنا موروسينا Donna Morosina التي لم تهبه ثلاثة أبناء فحسب، بل وهبته أيضاً من المتعة والسلوى، والحب، والرعاية، وما لم يستمتع بمثله في أيام شهرته، وما كان له في هذه الآونة أحسن الوقع في نفسه أثناء سني الضعف والهرم. وكان لا يزال وقتئذ يستمتع بإيراد عدد من المناصب
الدينية؛ وكان أكثر ما يستخدم فيه ثروته هو جمع الصور والتماثيل الجميلة، وكانت صورتا فينوس وجوف تحلان مكان الشرف إلى جانب مريم والمسيح (48). وأصبح بيته كعبة يحج إليها الأدباء، وندوة للفنانين والفكهين؛ وأخذ من هذا العرش يضع القوانين، ويقرر الأساليب التي تطبق في إيطاليا. وكان حتى وهو يشغل منصب أمين البابا قد حذر سادوليتو من أن يقرأ رسائل القديس بولس خشية أن تفقد ذوقه أحاديث العامة غير المصقولة، وقال له بمبو ((أبعد عنك هذه السفاسف لأن أمثال هذا السخف لا تليق برجل ذي كرامة)) (49). وقال لإيطاليا إن اللغة اللاتينية كلها يجب أن تحذو أسلوب شيشيرون، وإن اللغة الإيطالية يجب أن تتخذ أسلوب بترارك وبوكاتشيو نموذجاً لها. وكتب هو نفسه وهو في سن الشيخوخة تاريخين لفلورنس والبندقية، وقد ماتا رغم جمال لغتهما. ولكن الكاتب صاحب الأسلوب الجميل نسى قواعده حين ماتت حبيبته موروسينا، كما نسى أفلاطون ولكريدسيا وكستجليوني وكتب إلى صديق له رسالة لعلها هي الرسالة الوحيدة من الرسائل التي جرى بها قلمه الخليفة بالذكر:
لقد فقدت أعز قلب في العالم، قلب كان يعنى بي ويحنو أشد الحنو على حياتي - التي كان يحبها، ويحافظ عليها أكثر من حياته نفسها، قلب بلغ من سيطرته على نفسه، واحتقاره لجميع ضروب الزخرف والزينة الباطلة، والخز والذهب، والجواهر والكنوز الغالية الثمن، وأن قنع بالمتعة الوحيدة السامية (كما أكد لي هو نفسه) وهي ما أكنه له من الحب. وقد اكتسى هذا القلب فضلاً عن ذلك بأرق الأعضاء، وأملسها، وأكثرها رشاقة، وألطفها؛ وكان في خدمته ملامح جميلة، وأحلى وأظرف قد التقيت به في هذه الأرض.
ولم يكن في مقدوره قط أن ينسى آخر عبارة نطقت بها:
((أوصيك بأبنائنا، وأتوسل إليك أن تعنى بأمرهم، إكراماً لي ولك. وثق أنهم أبنائك أنت، لأنني لم أخنك قط، ومن أجل هذا فإني أستطيع أن أمسك الآن بجسم الرب وأنا مطمئنة النفس))؛ ثم أضافت إلى هذا بعد وقفة طويلة: ((اطمئن مع الإله)). وبعد دقائق قليلة أغمضت إلى آخر الدهر عينيها اللتين كانتا نجمين ساطعين يهدياني في إخلاص ووفاء في أثناء حجي طوال الحياة (50).
وبعد أربع سنين من ذلك الوقت كان لا يزال حزيناً عليها. ولما فقد ما كان بينه وبين الحياة من صلات عمد آخر الأمر إلى التقى والصلاح، حتى استطاع بولس الثالث في عام 1539 أن يرسمه قساً وكردنالاً، وكان في الثمان السنين الباقية من حياته قطباً من أقطاب الكنيسة وقدوة يقتدي به فيها.
الفصل السابع
فيرونا
وإذا ما أرجأنا الكلام على أريتينو Aretino وسمعته السيئة التي طبقت الآفاق إلى فصل آخر من الكتاب، وانتقلنا الآن من البندقية إلى أملاكها الشمالية والغربية، وجدنا هناك أيضاً شيئاً من بهاء العصر الذهبي ولآلائه. فقد كان في وسع تريفيزو أن تفخر بأنها أنجبت لورندسو لتو Lorenzo Lotto وباريس بردون؛ وكان من كتدرائيتها صورة للبشارة من رسم تيشيان. ومكاناً للمرنمين من صنع آل لمباردي الكثيري العدد. وخلعت بلدة بردينوني Pordenone الصغير اسمها على جيوفني أنطونيو ده ساكي Giovanni Antonio de Sacchi ولا تزال تظهر في كتدرائيتها إحدى روائعه الفنية، وهي صورة العذراء والقديسين والمعطى. وكان جيوفني جم النشاط، عظيم الثقة بنفسه، حاضر البديهة، لا يتوانى عن استلال سيفه، راغباً في أن يقوم بأي عمل في أي مكان. فنحن نراه يصور في أوديني Udine، واسبلمبيرجو Splimbergo، وتريفيزو، وفيتشندسا، وفيرارا، ومانتوا، وكريمونا، وبياتشندسا، وجنوي، والبندقية؛ وأشأ طراز على نمط مناظر جيورجيوني الطبيعية، وخلفيات تيشيان المعمارية، وعضلات ميكل أنجيلو. وسره أن يقبل دعوة للذهاب إلى البندقية (1527)، ولأنه كان يتوق أن ينافس فرشاته تيشيان. وكادت صورة من صنعه هي صورة القديسين مارتن والقديس كرستفر التي صروها لكنيسة سان ركو San Rocco أن توهم الناظر بأنها تمثال مجسم، وذلك بتأثير الأضواء والظلال الملقاة عليها؛ وكانت البندقية تفخر به وتضعه في مضاف تيشيان. ثم واصل
بردينوني أسفاره، وتزوج ثلاث مرات، وشك في أنه قتل أخاه، ومنحه يوحنا ملك المجر لقب فارس (وإن لم يكن هذا الملك قد رأى شيئاً من صوره)، ثم عاد إلى البندقية (1533)، ليواصل صراعه مع تيشيان. وأراد مجلس السيادة في البندقية أن يحفز تيشيان إلى إتمام صورة المعركة التي كان يصورها في قصر الدوج، فاستخدم بردينوني لتصوير لوحة على الجدار المقابل لتلك الصورة. وتكررت بينهما المنافسة التي قامت من قبل بين ليوناردو وميكل أنجيلو (1538)، وأضيفت إليها تكملة مسرحية: هي أن بردينوني كان ينتضي سيفاً في منطقته، وحكم النقاد بأن صورته على القماش - البديعة اللون، المسرفة في الحركة - ترقى إلى المنزلة الثانية. ثم انتقل بردينوني بعدئذ إلى فيرارا ليرسم صوراً على النسيج المزخرف لإركولي الثاني، ولكنه مات بع أسبوعين من وصوله إليها، وقال أصدقاؤه أنه مات مسموماً، أما أعداؤه فقالوا إنه موت الشيخوخة.
وكان لفيتشندسا أيضاً أبطالها. فقد أنشأ فيها بارتلميو منتانيا مدرسة للتصوير أخرجت كثيراً من الصور العذارى في الدرجة الوسطى من الجمال. وخير صور منتاينا كلها صور العذراء على عرشها الموجود في بريرا؛ وهي تحذو حذو نموذج أنطونيلو، ففيها صورتا قديسين إلى اليمين، ومثلهما إلى اليسار، وملائكة يعزفون على آلات موسيقية عند قدمي العذراء؛ لكن هؤلاء الملائكة خليقون هنا بأسمائهم، والعذراء بملامحها الحسنة، وثوبها الجميل، ومن أحسن الصور لمعرض النهضة لصور العذارى المزدحم بها. غير أن التصوير في فيتشندسا لم يبلغ ذروة مجده في هذا الوقت، وكان عليها أن تنتظر على يد بلاديو Palladio.
وأصبحت فيرونا في عام 1404 من أملاك البندقية بعد أن كان لها تاريخ مجيد دام ألفاً وخمسمائة عام، وظلت تابعة لها حتى عام 1796.
بيد أنها مع ذلك كانت لها حياة ثقافية سليمة خاصة بها. وكان مصوروها في الدرجة الثانية بعد مصوري البندقية، أما مهندسوها المعماريون، ومثالوها، وحافرو الخشب فيها، فلم يفقهم أحد في العاصمة الجليلة العظيمة. وتوحي مقابر آل اسكالجلير Scaligers التي أقيمت في القرن الرابع عشر بأن المدينة لم ينقصها الفنانون، وإن كانت هذه المقابر مسرفة في زخرفها؛ وتمثال الفارس القائم في كان جراندي ديلا اسكالا Can Grande della Scala وما يرى على جواده من جُلّ منساب يمثل الحركة أصدق تمثيل، وهذا التمثال لا يسمو عليه آيات دناتيلو وفيروتشيو الفنية. وكان أعظم من يسعى إليه من حفارين على الخشب في إيطاليا هو الراهب جيوفني دا فيرونا (الفيروني). وكان يعمل في عدة مدن، ولكنه وهب جزءاً كبيراً من حياته لحفر مواقف المرنمين في كنيسة سانتا ماريا في أرجانو مسقط رأسه وترصيعها.
وأعظم الأسماء في فن العمارة الفيورني هو الراهب جيوكندا Gioconda (( العبقري النادر الجامع)) كما يسميه فاساري. وكان جيوكندا هذا ضليعاً في الأدب اليوناني، وعالماً في النبات، وجامعاً للعاديات، وفيلسوفاً، ومتفقهاً في الدين، كما كان هذا الراهب الدمنيكي فوق ذلك من كبار المهندسين والمعماريين في زمانه. وهو الذي أخذ عنها العالم الذائع الصيت يوليوس قيصر اسكالجير اللغتين اللاتينية واليونانية، وكان يوليوس هذا يمارس الطب في فيرونا قبل أن ينتقل لفرنسا. ونسخ الراهب جيوكندا النقوش الموجودة على الآثار القديمة في رومة، وأهدى كتاباً في هذا الموضوع إلى لورندسو ده ميديتشي. وكان من ثمار بحوثه أن كشف الجزء الأكبر من آثار بلني فم مجموعة قديمة من الرسائل في باريس؛ وقد أقام وهو في هذه المدينة جسرين على نهر السين؛ ولما تعرضت المياه الضحلة التي تجعل وجود البندقية بشكلها الحالي مستهدفاً إلى الانطمار بسبب رواسب
نهر برينتا، وأقنع الراهب جيوكندا مجلس السيادة فيها أن يأمر بتحويل مصب النهر إلى مكان بعيد عنها في الجنوب، وقد تطلب هذا التحويل نفقات جمة. ولولا هذا لما كانت البندقة اليوم ذات الشوارع المائية التي تعد معجزة من المعجزات. ومن أجل هذا يسمي لويجي كونارو Luigi Cornaro جيوكندا منشئ البندقية الثاني. أما آيته الفنية في فيرونا فهي قصر الكنسجليو، وهو مشرقة رومانسية بسيطة يعلوها طنف رشيق، وتتوجها تماثيل للكرنيلوس نيبوس Cornlius Nepos، وكاتلس، وفتروفيوس، وبلني الأصغر، وإميليوس ماتشير Emilius Macer - وكلهم من السادة المهذبين مواطني فيرونا الأقدمين. وعين جيوكندا في روما مهندساً لكنيسة القديس بطرس مع رفائيل وجوليا نودا سنجالو Giuliano da Sangallo، ولكنه مات في تلك السنة نفسها (1514)، وكان عمره وقتئذ إحدى وثمانين سنة، حافلة بجلائل الأعمال.
وحفزت أعمال جيوكندا في أثار روما القديمة مهندساً آخر من أهل فيرونا هو جيوفتماريا فلكونيتو Giovanmaria Falconetto. وقد بدأ بتصوير جميع الآثار القديمة في الإقليم الذي يعيش فيه، ولما أتم تصويرها رحل إلى روما ليقوم بهذا العمل نفسه فيها، وخصه باثنتي عشرة سنة كاملة من حياته. ولما عاد إلى فيرونا انظم إلى الجانب الخاسر في السياسة فاضطر إلى الانتقال إلى بدوا، وفيها شجعه بمبو وكرنارو على أن يطبق الرسوم اليونانية والرومانية القديمة في العمارة، وآوى المعمر الكرم جيوفنماريا وأطعمه، وأمده بالمال والحب حتى بلغ ذلك الفنان ستة وسبعين عاماً من العمر. وصمم فلكونيتو شرفة لقصر كرنارو في بدوا، وبابين من أبواب تلك المدينة وكنيسة سانتا ماريا دلي جرادسي Santa Maria delle Grazie، وتألف من جيوكندو، وفلكونيتو، وسانميتشيلي ثالوث من المعماريين لم يكن له نظير إلا في روما وحدها.
وكان أكثر ما عمل فيه ميشيل سانميتشيلي هو أعمال التحصين، وكان هو ابن مهندس معماري من فيرونا وابن أخي مهندس آخر مثله، فحفزه نسبه هذا إلى السفر إلى روما وهو في سن السادسة عشرة وأخذ يعنى عناية شديدة بقياس الأبنية القديمة، وبعد أن ذاع صيته في تخطيط الكنائس والقصور أرسله كلمنت السابع ليشيد لبدوا وبياتشندسا. وكانت أهم الخصائص المميزة لمبانيه الحربية هي ((البسطيون)) أي البرج البارز من البناء، الذي يستطاع إطلاق المدافع من شرفته البارزة في خمس جهات. وبينا كان يختبر حصون مدينة البندقية، إذ قبض عليه وأتهم بالتجسس، ولكن الذين حققوا معه راعتهم معارفه. فلم يسع مجلس السيادة إلا أن يستخدمه في إنشاء حصون في فيرونا، وبريشيا، وزارا، وكررفو، وقبرص، وكريت. ولما عاد إلى البندقية شاد حصناً حصيناً على نهر ليدو Lido. وبينما كان يحفر لوضع الأساس لم يلبث أن التقى بالماء، فعمل ما عمله الراهب جيوكندا في مثل هذه الحال، فدفع في الأرض نطاقاً مزدوجاً من الخوازيق المتصلة بعضها ببعض، ونزح الماء من بين الدائرتين، وألقى بالأساس في هذه الحلقة الجافة. وكان ذلك العمل مجازفة منه خطرة ظل نجاحها مشكوكاً فيه حتى اللحظة الأخيرة. وتنبأ النقاد بأن هذا البناء سيتصدع من أساسه وينهار حين تطلق المدافع الضخمة من هذا الحصن. ووضع مجلس السيادة فيه أضخم ما في البندقية من المدافع وأقواها وأمر بأن تطلق كلها في وقت واحد، وفرت النساء الحوامل من جوار الحصن خشية أن يسقطن حملهن، ثم أطلقت المدافع، وظل الحصن ثابتاً كالطود، وعادت الأمهات، وكان سانمتشيلي حديث الناس في جميع أنحاء البندقية.
وصمم في فيرونا بابين فخمين زينهما بالعمد والأطناف. ويضع فارساي هذين البناءين من الوجهة المعمارية في مستوى الملهى والمدرج
الرومانيين اللذين بقيا في فيرونا من أيام الرومان. وشاد فيها أيضاً قصر بفلاكوا bavilacqua وقصري جريماني grimani وموتسينيجو Mocenigo وأقام برجاً لحرس الكتدرائية وقبة لكنيسة سان جيورجيو ميجوري. ويقول لنا عنه صديقه فارساي إن ميشيل أصبح في آخر أيامه مثلا للمسيحي الصالح، وإن لم يتورع في شبابه عن بعض الاتصال غير المشروع بالنساء، ولم يكن يفكر قط في الكسب المادي، وكان يعامل الناس جميعاً بالرأفة والمجاملة. وأورث مهاراته ياقوبو سانوفينو وابن أخ له كان يحبه أعظم الحب. ولما بلغه أن ابن أخيه هذا قتل في قبرص وهو يقاتل الأتراك مع جيوش البندقية، أصيب سانميتشيلي بالحمى ومات بعد أيام قليلة في سن الثالثة والسبعين (1559).
وأنجبت فيرونا صانع أجمل المدليات في عصر النهضة، بل لعله صانع أجملها في جميع العصور (51). ذلك هو أنطونيو بيزانو المعروف في التاريخ باسم بيزانيلو Pisanello، والذي كان يوقع باسم بكتور Pictor ( أي المصور) ويرى انه مصور بحق. وقد بقيت له نحو ست من صوره، وهي صور ممتازة
(1)
. ولكنها ليست هي التي خلدت اسمه على مدى القرون. ذلك انه أولع بما في رسوم النقود اليونانية والرومانية من حذق ونزعة واقعية وإحكام في التصوير، فصنع نقوشاً مستديرة صغيرة قلما يزيد قطر الواحد منها على بوصتين، جمعت بين دقة الصناعة والصدق والأمانة مما جعل
(1)
قارن هذه بالصورة الأمنية صورة ليونيلودست Leonello d'Este ( برجامو) وصورة أميرة بيت دست التي تدل على التفكير العميق (اللوفر)، في بيئة جميلة من الأزهار والأصداف، و ((صورة جانبية لسيدة)) (واشنجتن)، وهي مظلم ذو روعة، وصورة ((القديس جورج)) في كنيسة سانت أنستازيا بفيرونا، والدراسة الفذة الرائعة في الضوء والظل التي تطالعنا في صورة ((سانت اوستاشيوس)) (لندن).
مدلياته أصدق ما لدينا تصويراً لعدد من أعيان عصر النهضة. وليست هذه المدليات من الأعمال التي تتطلب عمق التفكير، وليس فيها نزعة فلسفية ولكنها كنوز من الصناعة التي تشهد بالدأب والصبر الطويل على العمل وإيضاح عظيم القيمة للتاريخ.
وإذا استثنينا من المصورين في بيرونا بيزانيلو وآل كارتو حق لنا أنها انحدرت بعد سقوط آل اسكالجير انحطاطاً هادئاً في هذا الفن حتى لم يعد لها فيه إلا شأن ثانوي. ولم تكن كما كانت البندقية مصفقاً يتزاحم فيه التجار المختلفوا الأديان من عشر أرضين، وتقضي كل طائفة منهم على عقائد الأخرى بطول الاحتكاك، ولم تكن، كما كانت ميلان في عصر لدوفيكو، قوة سياسية، أو كما كانت فلورنس مركزاً للمال، أو كما كانت روما بيتاً دولياً. كذلك لم تكن هذه البلدة قريبة من الشرق، ولم تأسرها النزعة الإنسانية فتنصبغ مسيحيتها بالوثنية، بل ظلت مقتنعة بموضوعات العصور الوسطى، وقلما انعكس على فنها ذلك التحمس لتصوير الأجسام الذي أخرج صور جيورجيوني وتيشيان ورفائيل العارية. نعم إن أحد أبنائها، المعروف باسمها، قد أولع بالنزعة الوثنية، ولكن باولو الفيروني Paolo Vernese هذا صار في مستقبل حياته من أبناء البندقية أكثر مما كان من أبناء فيرونا واطمأنت روما لهذا واستراح ضميرها.
وظل مصوروها في القرن الرابع متقدمين على العصر الذي يعيشون فيه، فها هو ذا واحد منهم - ألتيكيرودا تسفيو Altichiero da Zevio - تستدعيه بدوا ليزين معبد سان جيوجيو. وفي أواخر ذلك القرن سافر استيفانو دا تسفيو إلى فلورنس وتلقى تقاليد جيتو على أنيولو جدي Bgnolo Gaddi. ثم عاد إلى فيرونا ورسم مظلمات جصية وصفها دوناتيلو
بأنها خير ما صور في تلك الجهات حتى ذلك الوقت. وتقدم عليه تلميذه دمنيكو موروني بدراسة أعمال بيزانيلو وآل بيليني، وكان تلميذه هذا هو الذي اخرج صورة هزيمة البئوناكلتري The Defeat of the Buonacolsi في الكاستلو بمانتوا والتي تضارع مناظر جنتيلي التي يخطئها الحصر. وساعد فرانتشيسكو بن دمينيكو بما رسمه من الصور الجدارية أعمال الراهب جيوفني في الخشب فأقاما معاً غرفة المقدسات في كنيسة سانتا ماريا ببلدة أرجانو، وهذه الحجرة من أثمن الكنوز في إيطاليا. وصور جيرولامو داي لبري Giorolamo dai Libri تلميذه دمينيكو وهو في السادسة عشرة من عمره (1490) على ستار لمذبح هذه الكنيسة نفسها صورة الخلع من الصليب deposition from the Cross التي يقول فارساي إنها ((حين أزيح عنها الستار أثارت الدهشة ما دفع المدينة على بكرة أبيها إلى أن تجري لتهنئ والد الفنان)) (25) فقد كان ما فيها من منظر طبيعي من أجمل ما أنتجه الفن في القرن الخامس عشر. وفي صورة أخرى من صور جيرولامو (نيويورك) رسمت شجرة رسماً بلغ من واقعيته أو حاولت الطيور أن تجثم على أفنانها - كما يقول أحد الرهبان الدمنيكيين، ويؤكد فارساي الذي لا يلقي القول على عواهنه، أن في وسعك أن تعد شعر الأرانب في صورة الميلاد التي رسمها جيرولامو لكنيسة سانتا ماريا في أرجونا (53). وكان والد جيرولامو قد أطلق عليه لقب داي لبري لحذقه في تزيين المخطوطات؛ وواصل الابن عمل أبيه وفاق فيه جميع المشتغلين بهذا الفن في إيطاليا بأجمعها.
وبدأ ياقوبوبليني يمارس فن التصوير في فيرونا حوالي عام 1462. وكان ممن في خدمته من الغلمان لبيرالي Liberale الذي سمي فيما بعد باسم المدينة، والذي دخلت عن طريقه مسحة من التلوين البندقي والحيوية البندقية في فن التصوير الفيروني. وقد وجد ليبرالي، كما وجد جيرولامو، أن أكثر ما يفيده ويدر عليه الخير هو زخرفة المخطوطات؛ فقد كسب في سينا وحدها
ثمانمائة كرون من هذه الزخرفة. ولما أساءت ابنته المتزوجة معاملته في شيخوخته أوصى بضيعته إلى تلميذه فرانتشيسكو تربيدو، وذهب ليعيش معه، ومات في السن الطيبة المعقولة سن الخامسة والثمانون (1536). ودرس تربيدو Torbido أيضاً مع جيورجيوني، وتفوق على لبيرالي، الذي لم يسئه هذا التفوق وسامحه فيه. وكان للبيرالي تلميذ آخر هيو جوفاني فرانتشيسكو كاروتو الذي تأثر بصور مانتينيا الكثيرة الطيات الموجودة في سان دسينو San Zeno. وقد انتقل إلى مانتوا لأخذ الفن على الأستاذ الشيخ، وتقدم في دراسته تقدماً جعل فيه مانتننتا يبعث بعمل هذا التلميذ كأنه عمله هو نفسه. ورسم جيوفان فراتشيسكو صوراً ممتازة لجويدوبلدو وإلزبتا دوق أربينو ودوقتها، ثم عاد إلى فيرونا رجلاً عظيم الثراء يستطيع من حين إلى حين أن يجهر بآرائه في غير مبالاة. من ذلك أن أحد رجال الدين أتهمه يوماً بأنه يرسم صوراً داعرة فسأله:((إذا كانت الصور المرسومة تثيرك إلى هذا الحد، فكيف تؤتمن على اللحم والدم)) (54). وكان من مصوري فيرونا القلائل الذين خرجوا على الموضوعات الدينية.
وإذا أضفنا إلى هؤلاء الرجال السالفي الذكر فرانتشيسكو بنسنيوري، وباولو مورندو Paolo Morando المسمى كفادسولو Cavazolo، ودومنيكو بروساسورتشي Domenico Brusasorci وجيوفني كروتو (الأخ الأصغر لجيوفان فرانتشيسكو) أوشك ثبت أسماء مصوري فيرونا أن يختتم. ولقد كانوا جميعاً رجال طيبين فهاهو ذا فاساري يخلع على كل واحد منهم تقريباً فضيلة أخلاقية؛ وكانت حياتهم حياة منتظمة إذا راعينا أنهم فنانون، وكانت أعمالهم تتصف بالجمال الهادئ السليم الذي تنعكس عليه فطرتهم وبيئتهم. ذلك أن فيرونا كانت تضرب على وتر أصغر من التقى والهدوء في أغنية النهضة.
الباب الثاني عشر
إيمليا وأقاليم التخوم
1378 -
1534
الفصل الأول
كريجيو
على بعد خمسين ميلاً جنوبي فيرونا يلتقي المسافر بطريق إيمليا القديم الذي كان يمتد 175 ميلاً من بياتشندسا ماراً بيارما. ورجيو، ومودينا، وبولونيا، وإيمولا، وفورلي، وتشيزينا Cesena حتى يصل إلى ريميني
(1)
. ونمر الآن ببياتشندسا كما نمر ببارما (إلى حين)، لنتحدث عن بلدة صغيرة ذات حكم ذاتي (قومون) على بعد ثمانية أميال إلى الشمال الشرقي من ريجيو، وتشترك معها في هذا الاسم. وكريجيو Corregio واحدة من عدة بلدان في إيطاليا لا تذكر في التاريخ إلا لأنه قد وجدت فيها عباقرة خلعت عليهم أسمها. وكانت الأسرة الحاكمة فيها تسمى أيضاً كريجيو، ومن أفرادها نقولو دا كريجيو الذي كتب عدة قصائد لبتريس وإزبلا دست. وكانت هذه البلدة مكاناً يتوقع الإنسان أن يولد بع عباقرة ويموتوا، ولكنهم لا يقولون أو يفعلون شيئاً، لأنها لم يكن لها فن ذو شأن أو تقاليد واضحة تنشئ الكفاية الفطرية وتعلمها وتشكلها. غير انه كان على رأس
(1)
تتكون من هذه البلدان كلها مضافا إليها فيرارا، ورافنا مقطعة إيمليا الحالية. وتقع إلى الجنوب الشرقي من ريميني أقاليم التخوم التي تشمل بيزارو، وأربينو، وأنكونا وماتشيرانا Maceerata وأسكولي بيتشينو Ascoli Piceno.
بيت كريجيو في القرن السادس عشر الكونت جلبرات Count Gilbert العاشر وزوجته فيرونيكا جمبارا Veronica Gambara التي كانت من أعظم سيدات النهضة. فقد كان في مقدورها أن تتكلم اللغة اللاتينية، وكانت تعرف الفلسفة المدرسية (الكلامية) وكتبت شروحاً على الآراء الدينية لآباء الكنيسة. وقالت شعراً بأسلوب بترارك، وكانت تلقب ((ربة الشعر العاشرة))، واتخذت من بلاطها الصغير ندوة للفنانين والشعراء، وساعدت على إشاعة تلك العبادة الغرامية للنساء التي أخذت من ذلك الوقت تحل بين الطبقات العليا في إيطاليا محل عبادة مريم العذراء الشائعة في العصور الوسطى، والتي كانت توجه الفن الإيطالي نحو تمثيل مفاتن النساء. وقد كتبت في اليوم الثالث من سبتمبر عام 1528 إلى ازبلا دست تقول:((لقد فرغ السيد أنطونيو أليجري Antonio Allegri من رسم تحفة رائعة تصور مجدلين في الصحراء، وتعبر أكمل تعبير عن الفن السامي الذي يعد من كبار أساتذته)) (1).
وكان أنطونيو أليجري هذا هو الذي أختلس عن غير علم منه شهرة مدينته وأذاع هذه الشهرة بين سائر البلدان، وإن كان خليقاً باسم أسرته أن ينطق بطبيعة فنه المرحة. وكان أبوه من صغار ملاك الأراضي، أوتي من الثراء ما أمكنه به أن يكسب لابنه عروساً بائنتها 257 دوقة (6425؟ دولاراً). ولما أظهر أنطونيو ميلا إلى الرسم والتصوير الملون، أرسل ليتدرب عنه عمه لورندسو أليجري. ولسنا نعرف من الذي علمه بعدئذ، ويقول بعضهم انه ذهب إلى فيرارا ليتلقى الفن على فرانتشيسكو ده، بيانكي - فيراري Francesco de'Bianch Ferari، ثم انتقل إلى مرسمي فرانتشيا Francio وكستا في بولونيا، ثم انتقل مع كستا إلى مانتوا حيث تأثر بمظلمات مانتينيا الضخمة. وسواء كان ذلك أو لم يكن فالمعروف أنه قضى معظم حياته في كريجيو مغموراً إذا قيس إلى غيره من الفنانين،
ويبدو أنه كان هو دون غيره من أهل هذه المدينة يظن أنه سيكون من بين المخلدين. ويلوح أنه درس النقوش المحفورة التي نقلها ميركنتونيو رايمندي Mercantonio Raimondi عن رفائيل، وأكبر الظن أنه شاهد أيضاً أعمال ليوناردو إن لم تكن في أصولها فلا أقل من أن تكون في نسخ منقولة عنها. وقد دخلت هذه المؤثرات كلها في أسلوبه الفردي الكامل في فرديته وكان لها طابعها فيه.
وإن تسلسل موضوعاته وتتابعها ليقابل ضعف العقيدة الدينية بين الطبقات المتعلمة في إيطاليا في الربع الأول من القرن السادس عشر، ونشأة الموضوعات الدنيوية فيه ووجود المناصرين له من غير رجال الدين، فقد كانت أعماله الأولى، ما كان منها يرسم للأفراد المشترين وما كان يرسم للكنيسة وهو الجزء الأكبر منها، كانت هذه الأعمال تروي قصة المسيحية، فمنها صورة عبادة المجوس، وفيها يبدو وجه العذراء جميلا شبيها بوجه صغار البنات الذي احتفظ به كريجيو فيما بعد للشخصيات غير ذات شأن في صوره، ومنها صورة الأسرة المقدسة، وعذراء القديس فرانس التي ظلت العذراء فيها محتفظة بملامحها التقليدية، لاستراحة بعد العودة من مصر التي تمتاز بالتجديد والابتكار في التأليف، والتلوين، والخصائص، وصورة لا دسنجريلا La Zingarella حيث رسمت العذراء وهي منحنية في حنان حول طفلها، بكل ما استطاعه كريجيو من رشاقة، وصورة العذراء تعبد الطفل التي جعل فيها الطفل مصدراً يشع منه الضوء الذي ينير المنظر كله.
وقد جاء تحوله إلى النزعة الوثنية نتيجة عمل غريب كلف به. ذلك أن جيوفنا دا بياتشندسا رئيسة دير سان باولو في باروما عهدت إليه تزيين
حجرتها، وكانت سيدة يهمها نسبها أكثر مما تهمها تقواها، ولهذا اختارت موضوعا لزخرف حجرتها مظلمات ديانا العفيفة ربة الصيد، ورسم كريجيو فوق المدفأة ديانا في عربة فخمة، ثم رسم من فوقها في ستة أجزاء متقاطعة تلتقي كلها عند السقف المستدير مناظر مستمدة من الأساطير القديمة، في أحدها كلب يدلك طفلاً ويظهر نحوه أعظم الحب، ويعبر هذا الكلب بعين صورت أعجب التصوير عن خوفه من أن يختنق ويقضي على حياته من فرط الحب، ويسمو جماله اليقظ على جميع الأشكال البشرية والدينية المتناثرة حوله. ومن ذلك الحين أصبح الجسم البشري العاري في معظم الأحوال العنصر الأساسي في الزخارف التصويرية التي قام بها كريجيو، ودخلت الأساليب الوثنية في الموضوعات المسيحية نفسها. ذلك أن رئيسة الدير قد حولته عن المسيحية.
وأثار نجاحه أهل بارما وجاءه بأعمال درت عليه كثيرا من الربح، ففي عام 1519 رسم الزواج الخفي لسانت كاترين (نابلي). وفي هذه الصورة تظهر العذراء والقديس ذوي جمال يعجز عن الوصف، ومع هذا فان كريجيو جاء بأحسن منهما حين استخدم الموضوع نفسه لرسم الصورة التي تعد من أثمن كنوز اللوفر والتي تحوي وجوهاً جميلة، ومنظراً طبيعياً فاتناً، وتبادل الظلال والأضواء على الأثواب المهفهفة والشعر المتماوج.
وقبل كريجيو في عام 1520 مهمة شاقة يقوم بها في بارما - وهي أن يقوم بنقش مظلمات في السقف المقبب لكنيسة جديدة في دير للبندكتيين في سان جيوفني إفنجيلستا San Giovanni Evangelista وفوق منصتها والمعبدين الجانبيين فيها. وظل يكدح في هذا العمل أربع سنين، حتى إذا كان عام 1523 انتقل مع زوجته وأبنائه إلى بارما ليكون أقرب إلى عمله. وقد صور على القبة الرسل جالسين جلسة مستريحة في دائرة حول السحب الوثيرة، يحدقون بأعينهم في صورة المسيح التي روعي فيها المنظور والتناسب
في الحجم مع غيرها من الصور بحيث تخدع الناظر إليها أسفل فيتمثل له البعد بينها وبين الرسل الناظرين إليها. وأكبر السباب في روعة هذه القبة يرجع إلى صور الرسل الفخمة، الذين يظهر بعضهم عراة، ينافسون في ذلك آلهة فدياس، ولعل مصورهم قد أخذ عن ميكل أنجيلو جلال العضلات التي رسمها في معبد سستيني قبل ذلك الوقت باثني عشر عاماً. ويرى في بندريل
(1)
بين عقدين القديس أمبروز القوي يناقش القديس يوحنا في بعض المسائل الدينية، وقد خلع عليه الفنان من الجمال ما لا يقل عن جمال أي إله بالغ من آلهة البارثنون. وترى أشكال فنية مفرطة في الجمال، يفترض أنها ملائكة تملأ فراغ الصورة بوجوه ملائكية، وأعجاز، وسيقان، وأفخاذ. وهنا نرى النهضة اليونانية التي تقادم عهدها في الآداب الإنسانية وفي مانوتيوس، وقد بلغت أوجها في الفن المسيحي.
ولما حل عام 1522 فتحت كتدرائية بارما العظيمة أبوابها للفنان الشاب، وتعاقدت معه على أن تؤجره ألف دوقة (12. 500 دولار) لينقش لها أماكن الصلاة والقبا، وموضع المرنمين، والقبة. وظل يقوم بهذه المهمة في فترات امتدت إلى ثمان سنوات من عام 1526 إلى يوم وفاته. واختار لزخرفة القبة صورة صعود العذراء وروع كثيرين من قساوسة الكتدرائية بأن جعل هذه الصورة النهائية منظراً جائشاً باللحوم الآدمية. فوضع في وسط الصورة العذراء متكئة على الهواء، تسبح نحو السماء بذراعيها الممتدتين لتقابل فيها ابنها، ومن حولها وأسفل منها حشد سماوي من الرسل، والحواريين، والقديسين - صورا أحسن تصوير لا يقل عن أحسن صور رفائيل، ويخيل إلى الناظر أنهم يدفعونها إلى أعلى بأنفاس الضراعة والعبادة، وتستند العذراء على جماعة من الملائكة يبدون كأنهم فتيان وفتيات أصحاء
(1)
البندريل Spendrel هو المسافة بين المنحني الخارجي لعقد والزاوية القائمة التي تقوم فوق أحد طرفيه (عمارة). (المترجم)
الجسام تبدو أجسامهم العارية الفتية رائعة الجمال، أولئك أجمل الفتيان المراهقين العراة في الفن الإيطالي بأجمعه. وذهل أحد رجال الدين وارتبك حين شاهد كل هذه الأذرع والسيقان فعاب الصورة بقوله إنها:((كتلة من لحم الضفادع المقلو))؛ ويبدو أن غيره من جماعة القسيسين قد التبس عليهم أمر ذلك الخليط من اللحم البشري الذي يحتفل بالعذراء؛ وأن ذلك أدى إلى أن يقف عمل كريجيو في الكتدرائية إلى حين.
وكان في هذه الأثناء تتقدم به السن إلى الكهولة (1530)، وأخذ يتوق إلى الحياة الهادئة المستقرة؛ ولهذا ابتاع بضعة أفدنة خارج كريجيو وأصبح من ملاك الأرض كأبيه، واجتهد في أن يعول أسرته ويمول مزرعته بفرشاته، وأخرج في خلال مشروعاته الكبرى وبعدها طائفة من الصور الدينية، تكاد كل واحدة منها تكون آية فنية: مجدلين تقرأ؛ عذراء القديس سبستيان- وهي أجمل عذراء في كريجيو؛ وسيدة إسكوديلا ومها طاس والطفل المسيح مصوراً أحسن تصوير؛ وسيدة سان جيرولامو التي تسمى في بعض الأحيان ألـ جيرونو II Giorno أو النهار، ولا تقل صورة جيروم هنا في جمالها عن صورته عند مايكل أنجيلو. وصورة الملك الممسك بكتاب أمام المسيح ذات جمال كجمال الفتيات، وتمثل مجدلين وهي تضع خدها على فخذ المسيح أطهر الخاطئات وأرقهن قلباً، والألوان القوية الزاهية الحمراء والصفراء تجعل الصورة كلها خليقة بتيشيان في أحسن عهوده. وآخر ما نذكره من صوره صورة عبادة الرعاة التي خلع عليها الخيال أسم الليل La Notte، ولم يكن ما أولع به كريجيو في هذه الصور هو الطائفة الدينية بل كل قيمها الجمالية - خشوع الأم الشابة وتعبدها، وهي نفسها ذات جمال تطالعك بوجهها البيضي، وشعرها اللامع الأملس، وجفونها الناعسة، وأنفها الرفيع، وشفتيها الرقيقتين، وصدرها الناهد؛
يضاف إلى ذلك عضلات القديسين الرياضية القوية، وجمال مجدلين المتحاشمة، وجسد الطفل الوردي. وكان كريجيو، وهو ينزل عن محاولات الكتدرائية يمتع عينيه بمناظر مؤتلفة قد تسفر حين تتم عن جمال رائع فتان.
وتلقى حوالي عام 1523 عدداً من الطلبات من فيدريجو الثاني جندساجا كشفت عن مل ما في فنه من العناصر الوثنية. ذلك أن هذا المركيز أراد أن يستميل إليه شارل الخامس فأمر برسم صورة في إثر صورة أهداها جميعاً إلى الإمبراطور، وتلقى منه في نظير ذلك الجزاء التافه المرغوب وهو لقب دوق. وكان هذا المركيز قد نشأ في جو روما الوثنية وعرف كريجيو ذلك فصور له طائفة من الموضوعات الأسطورية تخلد ذكرى الانتصارات الأولمبية في الحب أو الشهوات. ففي صورة تربية إيروس (إله الحب) تضع فينوس الغماء على عيني كيوبيد (كيلا يهلك الجني البشري)؛ وفي صورة جوبتر وأتيوبي يتخفى الإله في زي ساطير (جنية الحراج) ويتقدم نحو السيدة وهي راقدة على الكلأ عارية؛ وفي صورة دانائى Danae يمهد بشير مجنح لقدوم جوبتر بخلع ملابس الفتاة الجميلة، والى جانب فراشها يلعب غلامان سعيدان غير عابئين بفجور الأرباب. وفي صورة أيوما ينزل جوبتر مختفياً في سحابة من سمائه التي مل الإقامة فيها، ويمسك بيد قوية سيدة بدينة تتمنع عنه في دلال ثم تخضع لرغبته وثنائه، وفي صورة اغتصاب جتيميد يرى غلام جميل يسرع به نسر إلى السماء ليشبع رغبات إله الآلهة محب الجنسين على السواء. وفي صورة ليدا والبجعة يصور المحب في صورة بجعة، ولكن الموضوع هو بعينه؛ وحتى في صورة العذراء والقديس جورج نرى صورتين لكيوبيد يلعب فيهما لعباً سمجاً أمام العذراء كما أن القديس جورج في زرده البراق هو المثل الأعلى لجسم الشباب في عصر النهضة.
على أننا ليس من حقنا أن نستنتج من هذا أن كريجيو لم يكن إلا رجلاً شهوانياً يميل إلى تصوير الأجسام. لقد كان يحب الجمال حباً ربما يكون عارماً، ولعله أسرف في إبراز ظاهر هذه الموضوعات الأسطورية دون غيرها، ولكنه في صور العذراء قدر الجمال الأشد عمقاً من هذا حق قدره. وبينما كانت فرشاته تجول في صور جبل أولمبس، كان هو نفسه يعيش معيشة رجل الطبقة الوسطى المنتظم المخلص لأسرته، الذي لا يكاد يترك داره إلا ليقوم بعمل، ويقول عنه فاسارى إنه ((كان يقنع بالقليل، ويعيش كما يجب أن يعيش المسيحي الصالح))، ويقال إنه كان حيياً مكتئباً؛ ومنذا الذي لا يكتئب وهو يأتي كل يوم إلى عالم من كبار مشوهين بعد أن تراوده في مرسمه أحلام الجمال.؟
ولعل نزاعاً قد شجر حول أجر العمل في الكتدرائية؛ وشاهد ذلك أن تيشيان سمع أصداء هذا النزاع تترد في بارما حين زارها، وقال إنه لو أن القبة قلبت وملئت بالدوقات لما وفى ملؤها بأجر كريجيو نظير ما صوره فيها. ومهما يكن من هذا الأمر فأن مسألة الأجر هذه كان لها شأن عجيب في احتضار الفنان. ذلك أنه تلقى في عام 1534 قسطاً من هذا الأجر قدره ستون كروناً (750؟ دولاراً) كلها من النحاس. وحمل الفنان هذا الحمل المعدني وسافر من بدوا راجلاً؛ واشتد الحر عليه، فأسرف في شرب الماء، فانتابته الحمى، ومات في مزرعته في اليوم الخامس من شهر مارس في عام 1534 في سن الأربعين (ويقول بعضهم إنه كان في سن الخامسة والأربعين).
وإذا ما أحصينا أعماله المجيدة التي قام بها في حياته القصيرة هالتنا كثرتها. فهي أكثر مما قام به ليوناردو، أو تيشيان، أو مايكل أنجيلو أو أي فنا آخر غير رفائيل في السنين الأربعين الأوائل من حياته، وكريجيو لا يقل عنهم جميعاً في رشاقة الخطوط. وفي حسن الهيكل الخارجي،
وفي تصوير النسيج الحي للبشرة الآدمية. ويمتاز تلوينه بالسيولة واللألاء، والحياة الناشئة من انعكاس الأضواء والشفيف، وهو أرق - بألوانه البنفسجية، والبرتقالية، والوردية، والزرقاء، والصيغات الفضية المختلفة - من البريق الذي يخطف البصر في رسوم البنادقة المتأخرين. وكان أستاذاً في التضليل فكان يصور الضوء والظل بتراكيبهما وإيحياءاتهما التي يخطئها الحصر، حتى لا تكاد المادة في صور عذاراه تستحيل صورة ووظيفة من صور الضوء ووظائفه. وكان يجرب في جرأة عظيمة أساليب من الأشكال يؤلف بينهما: الهرمي، والقطري، والدائري، ولكنه في مظلمات القبا ترك الوحدة تفلت منه بين سيقان القديسين والملائكة المسرفة في الكثرة. وقد أولع بمراعاة المنظور في صوره ولعاً جاوز الحد، ولهذا بدت الشخوص التي في صور القبا مزدحمة مكدسة، منفرة شبيهة بصورة المسيح الصاعد لسان جيوفني إيفانجيلستا وإن كانت هذه الشخوص قد رسمت كما يتطلب العلم الدقيق. لكنه لم يعني قط الدقة الميكانيكية، ولذا فأن كثيراً من شخصياته، كشخصية مكوبر Micawber تنقصها الدعامات الظاهرة التي تستند إليها. وقد صور بعض موضوعات دينية تصويراً غاية في الإبداع ولكن أعظم ما كان يهتم به هو الجسم - جماله، وحركاته، ومواقفه، ومباهجه؛ وترمز صوره الأخيرة انتصار فينوس على العذراء في الفن الإيطالي أثناء القرن السادس عشر.
ولم يكن يتفوق عليه في نفوذه في إيطاليا وفرنسا غير ميكل أنجيلو؛ وقد اتخذته مدرسة بولونيا في التصوير التي يتزعمها آل كراتشى نموذجاً في القرن السادس عشر؛ وأقام الفنانان اللذان جاءا بعد هذه الأسرة، وهما جيدو رينى Guido Reni ودومينيكيو Domenichino على أساس فن كريجيو فناً ممتازاً في تصوير الأجسام ذات عاطفية حسية. وأدخل شارل له برون Cherles Le Brun ( الأسمر) وبيير مينو Pierre Mignaud
في فرنسا ونشرا في فرساي نمطاً شهوانياً وردياً من الزخارف المكونة من شخوص وثنية كصور كيوبيد يقذف السهام وصغار الملائكة الممتلئ الأجسام؛ وكان كريجيو لا رفائيل هو الذي غزا فرنسا، وطبع فنها بطابع احتفظ به إلى أيام وتو Watteau.
واتصلت أعماله في بارما نفسها وحورها فرانتشيسكو مدسيولى Francesco Muzzuoli الذي يسميه الإيطاليون أصحاب الأهواء والنزوات البرمجيانينو IIP armigianino أي البارمى. وقد ولد مدسيولى هذا يتيماً (1504)، وكفله عمان له كانا مصورين، ولهذا تفتحت مواهبه بسرعة. وعهد إليه وهو في السابعة عشرة من عمره، أن يزين معبداً في الكنيسة نفسها - كنيسة سان جيوفنى إيفانجيلسيا - التي كان كريجيو ينقش قبتها. وكاد طرازه في هذه المظلمات يبلغ من الرشاقة ما بلغه طراز كريجيو نفسه، وأضاف إليه ما امتاز به من حب للملابس اللطيفة. ورسم حوالي ذلك الوقت صورة لنفسه كما يرى في مرآة، وهي من أكثر الصور الذاتية استرعاء للنظر في فن التصوير، تكشف عن غلام ذي رقة، وإحساس مرهف، وكبرياء. ولما حاصرت جيوش البابا مدينة بارما حزم عماه هذه الصور وغيرها من صوره، وأرسل فرانتشيسكو بها إلى روما (1523) ليدرس أعمال رفائيل وميكل أنجيلو، ويستجاب رضاء البابا كلمنت السابع. وبينما كان يشق طريقه نحو النجاح الكامل إذ أرغمه انتهاب روما على الفرار إلى بولونيا (1527)، حيث سرق زميل له فنان جميع صوره المحفورة ورسومه. ويبدو أن عميه اللذان يكفلانه كانا قد ماتا قبيل ذلك الوقت فأخذ يكسب قوته بأن رسم لبيترو أريتينو Pieteo Aretino صورة العذراء الوردة التي كانت قبل في درسدن، ولبعض الراهبات صورة سانتا مرغريتا التي لا تزال بولونيا. ولما جاء شارل الخامس ليعيد تنظيم إيطاليا المخربة رسم له فرانتشيسكو صورة
بالزيت، أعجب بها الإمبراطور وكان من شأنها أو تغنى الفنان لولا أن بارامجيانينو عاد بها إلى مرسمه ليصقلها بعدد قليل من المسات، ثم لم ير شارل بعد ذلك أبداً.
وعاد إلى بارما (1531) وطلب إليه أن ينقش قبة في كنيسة مادنا دلا استيكاتا Madonna della Steccata. وكان وقتئذ في أوج مجده، وكان الأعمال التي ينتجها من حين إلى حين من أعلى طراز، فكان منها جارية تركية أشبه بالأميرات منها بالإماء، وزوج الفريسة كاترين وهي صورة تضارع صورة كريجيو التي تحمل الاسم عينه، بما فيها من أطفال ذوى جمال سماوي، وصورة أخرى لا أسم لها يقال إنها لعشيقته أنتيا Antea التي قيل عنها إنها أشهر الخليلات في ذلك العهد، ولكنها هنا تتحاشم تحاشماً ملائكياً في أثواب أفخم من أن ترتديها إلا الملكات.
لكن بارمجيانينو أولع في ذلك الوقت أشد الولع بالكيمياء الكاذبة، ولعل الذي دفعه إلى هذا ما حل به من الفقر والكوارث، فأهمل التصوير وانصرف إلى إقامة أفران لاستخراج الذهب. ولما عجز قساوسة سان جيوفنى عن إعادته إلى عمله في الكنيسة أمروا باعتقاله لعدم وفائه بعهده لهم، فما كان من المصور إلا أن فر إلى كسلمجيروي Casalmaggiore ودفن نفسه بين الأنابيق والبوتقات، وأطلق لحيته، وأهمل مظهره وصحته، وأصيب بالبرد والحمى، ومات موتاً فجائياً كما مات كريجيو (1540).
الفصل الثاني
بولونيا
إذا مررنا بريجيو ومودينا بسرعة لا تليق بهذين البلدين فليس ذلك لأنهما لم تنجبا أحداً من أبطال السيف أو الفرشاة أو القلم. ففي ريجيو قام راهب أوغسطيني هو أمبروجيو كاليبينو Ambrogio Calepino بعمل معجم في اللغتين اللاتينية والإيطالية، أخذ يزداد كلما أعيد طبعه حتى أصبح معجماً في إحدى عشرة لغة (1590). وكان لبلدة كابري الصغيرة Little Capri كتدرائية خططها لها بلدساري بيروتسي Baldasseri Peruzzi (1514) ؛ وكان في مودينا مثال؛ هو جيدو متسوني Guido Mazzoni، أدهش مواطنيه بما تنطق به صورة له في الطين المحروق تمثل موت المسيح من واقعية دقيقة، وكانت مواقف المرنمين التي أقيمت في القرن الخامس عشر في الكتدرائية المنشأة بتلك المدينة في القرن الحادي عشر تضارع في الجمال واجهة هذه الكنيسة وبرج جرسها. ولعل بيليجرينو دا مودينا Pellegrino da Modena الذي عمل مع روفائيل في روما ثم عاد إلى مسقط رأسه كان يصبح مصوراً ذائع الصيت لو لم يقتله بعض المجرمين الذين كانوا يريدون قتل والده. وما من شك في أن أعمال العنف التي كانت سائدة في عصر النهضة قد قضت حيث اتسع نطاقها على عدد كبير ممن لو عاشوا لأصبحوا من كبار العباقرة.
وتقع بولونيا عند ملتقى عام للطرق التجارية في إيطاليا؛ ومن أجل هذا ظل رخاؤها في ازدياد، وإن كانت زعامتها العقلية قد أخذت تنتقل إلى فلورنس بعد أن أخذت النزعة الإنسانية تقضي على الفلسفة المدرسية؛
فلم تكن جامعتها وقتئذ إلا واحدة من جامعات كثيرة في إيطاليا، ولم تعد تعلم الشرائع لأحبار الكنيسة أو الأباطرة، ولكن مدرستها الطبية كانت لا تزال ذات الشأن الأعظم بين أمثالها من المدارس. وكان البابوات يدعون أن بولونيا إحدى الولايات البابوية، وكان الكردنال ألبرنودسي Albornozy قد أيد هذه الدعوى تأييداً عارضاً (1360)؛ ولكن انشقاق الكنيسة بين البابوات المتنافسين عليها (1378 - 1417)، أضعف سلطان البابوية في المدينة حتى جعله سلطاناً اسمياً؛ وارتفعت فيها أسرة غنية، أسرة بينتيفجليو Bentivoglio فصارت صاحبة السلطة السياسية، واحتفظت فيها طوال القرن الخامس عشر بدكتاتورية هينة، راعت أشكال الحكم الجمهوري، واعترفت بسيادة البابوات رسمياً ولكنها تجاهلتها عملياً. وحكم جيوفني بينتيفجليو بولونيا، بوصفه زعيماً (كابو Capo) لمجلس الشيوخ، سبعة وثلاثين عاماً (1469 - 1506) بحكمة وعدالة أكسبتاه إعجاب الأمراء وحب الشعب. وعنى في أثناء هذا الحكم برصف الشوارع، وإصلاح الطرق، وحفر القنوات؛ وساعد الفقراء بالعطايا، وقام بطائفة من الأشغال العامة ليخفف من حدة التعطل؛ وناصر الفنون مناصرة قوية. وكان هو الذين استدعى لورندسو كستا إلى بولونيا، وكان هو وأبناؤه هم الذين صور لهم فرانتشيا؛ والذي رحب في بلاطه بفيليفو، وجوارينو، وأورسبا Aurispa وغيرهم من الكتاب الإنسانيين. قد لجأ في أواخر حكمه إلى طائفة من الإجراءات الصارمة للاحتفاظ بسلطانه؛ ذلك بأن مؤامرة دبرت لخلعه فأحفظته ونفثت سموم الغل في قلبه، وأفقدته هذه الإجراءات حب شعبه. وحدث في عام 1506 أن زحف البابا يوليوس الثاني بجيش بابوي على بولونيا، وطلي إليه أن ينزل عن الملك؛ فأجابه إلى طلبه بهدوء وسلام، وسمح له أن يغادر المدينة سالماً، ومات في ميلان بعد عامين من ذلك الوقت. ووافق يوليوس
على أن يحكم بولونيا من ذلك الحين مجلس شيوخها، على أن يكون للرسول البابوي حق رفض كل تشريع تعارضه الكنيسة. وتبين للأهلين أن حكم البابوات أحسن نظاماً وأوسع حرية من حكم آل بينتيفجليو؛ ذلك أن البابوات لم يقاوموا الحكم الذاتي المحلي، كما أن الجامعة استمتعت بحرية علمية واسعة النطاق؛ وبقيت بولونيا ولاية بابوية اسمياً وعملياً حتى أيام نابليون (1796).
وكانت بولونيا في عصر النهضة تفخر بعمارتها المدنية، فقد أقامت فيها نقابة التجار غرفة تجارية جميلة الشكل (1382 وما بعدها)، وأعاد المحامون (1384) بناء قصر رجال القانون. كذلك شاد الأشراف قصوراً جميلة مثل قصر البيفلكوا Bevilacqua الذي عقد فيه مجلس ترنت Trent جلساته في عام 1547، وقصر بلافتشيني Pallavicini الذي وصفه كاتب معاصر بأنه "خليق بالملوك"(3). وأنشئت لقصر البودستا Podesta ( الحاكم) الضخم، وهو مقر الحكومة، واجهة جديدة (1492)، وصمم برامنتي درجاً حلزونية فخمة لقصر القومونية (البلدية). وكان لكثير من الواجهات عقود في مستوى الشارع، فكان في وسع الإنسان أن يسير عدة أميال في قلب المدينة دون أن يتعرض للشمس أو للمطر إلا حين يعبر الشارع من جانب إلى جانب.
وبينا كان المتشككون في الجامعة يجادلون في خلود الروح كان الشعب وحكامه يشيدون الكنائس الجديدة أو يزينون القديم منها أو يرممونه، ويأتون بالقرابين إلى الأضرحة التي تأتي بالمعجزات أملاً في الخير على أيدي أصحابها. وأضاف الرهبان الفرنسيس لكنيستهم الجميلة في سان فرانتشيسكو برجاً للجرس يعد من أجمل الأبراج في إيطاليا؛ وزين الرهبان الدمنيك كنيستهم في سان دمنيكو بمواضع للمرنمين بذل الراهب دميانو البرجامي في حفرها وتطعيمها جهداً عظيماً، واستخدموا ميكل أنجيلو في حفر
أربع صور ليزين بها الصندوق الذي كانوا يحتفظون فيه بعظام مؤسس طريقتهم.
وكانت كتدرائية القديس بترونيو مفخرة فن بولونيا العظيمة ومأساته المفجعة في وقت واحد. وتفصيل ذلك أن بترونيوس Petronius هذا كان أسقف المدينة في القرن الخامس الميلادي، وكان رجال الدين الذين يرأسهم يحبونه أعظم الحب. وادعى كثيرون من عباده في عام 1307 أنهم شفوا من عماهم، وصممهم، وما إلى ذلك من الأدواء، حين غسلوا الأجزاء المريضة من أجسامهم بالماء المأخوذ من بئر تحت ضريحه، وسرعان ما اضطرت المدينة إلى إعداد أماكن تتسع لمئات الحجاج الذين أقبلوا على المكان طلباً للشفاء. وقرر المجلس في عام 1388 أن تقام كنيسة للقديس بترونيوس، وأن تكون من السعة بحيث تزري بالفلورنسيين وكنائسهم، فيكون طولها سبعمائة قدم وعرضها أربعمائة وستين قدماً، وتعلو قبتها فوق الأرض خمسمائة قدم. وتبين أن المال يقصر عن تحقيق هذه الكبرياء؛ فلم يتم من هذه الكنيسة إلا نيفها ( Nava) والأجنحة المحيطة به إلى ارتفاع الليوان، ولم ينشأ من الواجهة إلا جزؤها الأسفل. ولكن هذا الجزء الأسفل آية فنية تشهد بما كان لفن النهضة من أمان نبيلة وذوق راق. وحفرت على ستر الأبواب وطيلاتها نقوش (1425 - 1438) تضارع في موضوعها وتفوق في قوتها الأبواب التي أقامها جيبيرتي Gheberti لموضع التعميد في في كتدرائية فلورنس ولا تقل عنها إلا في جمال الصقل ودقته، وحفرت في القوصرة حفراً بارزاً مستديراً صورة العذراء والطفل خليقة بأن تقارن بصورة بيتا Pàieta لميكل أنجيلو، وإن كان قد حفر إلى جانبها صورتين منفرتين لبترونيوس وأمبروز. ولقد كانت هذه الأعمال التي قام بها ياقوبو دلا كويرتشيا Jacopo della Quercia من فناني
سينا ملهمة لميكل أنجيلو، ولو أن ميكل قد أخذ بأكثر مما أخذ به من النقاء الروماني القديم الذي ينطبع به تصميم دلا كويرتشيا لأنجى نفسه مما أتسم أسلوبه في النحت من مغالاة في إبراز العضلات.
وكان فن النحت ينافس في بولونيا فن العمارة. من ذلك أن بروبيردسيا ده رسي Properzia de 'Rossi نحتت نقشاً قليل البروز لواجهة كنيسة القديس بترونيوس نال من الثناء ما حدا بالبابا كلمنت السابع حيث قدم إلى بولونيا أن يطلب مقابلتها، ولكنها كانت قد توفيت في ذلك الأسبوع نفسه؛ ونال ألفنسو لمباردي شهرته في التاريخ خلسة من وراء تيشيان. ذلك أنه عرف أن تيشيان سيرسم صورة لشارل الخامس في أثناء مؤتمر بولونيا (1530) فما كان منه إلا أن أقنع المصور بأن يقبله خادماً عنده؛ وبينا كان تيشيان يرسم صورة الإمبراطور الجالس أمامه، أخذ ألفنسو وهو مختبئ بعض الاختباء وراءه يصوغ نموذجاً من الجص للإمبراطور. وأبصره شارل وطلب أن يرى عمله؛ فلما رآه أحبه، وطلب إلى ألفنسو أن ينقله على الرخام. ولما أن دفع شارل إلى تيشيان ألف كرون أمره أن يدفع نصفها إلى ألفنسو. وجاء لمباردي بالصورة الرخامية بعد تمامها إلى شارل في جنوى ونال منه ثلاثمائة كرون أخرى. ولما ذاعت شهرة ألفنسو على هذا النحو استدعاه الكردنال ياقوبو ده ميديتشي إلى روما وكلفه بنحت قبرين لليو العاشر وكلمنت السابع، ولكن الكردنال توفى في عام 1535، وخسر ألفنسو نصيره ومهمته، فتبعه إلى الدار الآخرة في خلال عام واحد.
وكان أكثر التصوير في بولونيا في القرن الرابع عشر زخرفة للمخطوطات، ولما انتقل من هذا إلى الرسوم الجدارية اتخذ الطراز الروماني الجامد. ويبدو أن فنانين من فيرارا هما اللذان أنجيا مصوري بولونيا من طراز بيزنطة الجامد الميت. ولما قدم فرانتشيسكو كسا ليقيم في بولونيا (1470)، كان لا يزال في تصويره شئ من القسوة التي انطبع بها طراز مانتينتا وجمود
الخطوط التي تشاهد في أسلوب نحته، ولكن كان قد تعلم كيف ينفث في صوره شعوراً وهيبة، وكيف يبعث فيها الحركة، ويغرقها في ألوان يتلاعب بها فيخلع عليها الحياة. وجاء لورندسو كستا إلى بولونيا وهو غلام في الثالثة والعشرين من عمره (1483)، وأقام بها ستة وعشرين عاماً، واتخذ له مرسماً في البيت الذي كان فيه مرسم فرانتشيا. ونشأت بين الرجلين صداقة قوية، وتأثر كلاهما بالآخر تأثراً أفاد منه الشيء الكثير، وكانا أحياناً يعملان معاً في صورة واحدة. ونال كستا ثناء جيوفني بينتيفجليو ورفده بعد أن رسم صورة ممتازة للعذراء على عرشها لتوضع في كنيسة القديس بترونيوس. ولما أن فر جيوفني عند اقتراب يوليوس الرهيب (1506)، قبل كستا الدعوة ليخلف مانتينتا في مانتوا.
وكان فرانتشيسكو فرانتشيا في أثناء ذلك الوقت يتخذ سبيله ليصبح راس مدرسة بولونيا وتاجها. وكان أبوه ماركو رايبوليني Marco Raibolini، غير أنه لما كانت الألقاب في إيطاليا لا ضابط لها، فقد عرف فرانتشيسكو فيما بعد اسم الصائغ الذي كان يتتلمذ عليه. وظل سنين كثيرة يمارس فنون أشغال الذهب، والفضة والنَّل
(1)
، والميناء، والحفر. وعين بعدئذ رئيساً لدار الضرب، ونقش نقوداً لمدينة بينتيفجليو والبابوات؛ وامتازت نقوده بجمالها امتيازاً جعلها مطمع جامعي التحف، وارتفعت أثمانها ارتفاعاً عظيماً بعد موته بزمن قليل. ويصفه فاساري بأنه رجل محبوب، ظريف الحديث إلى حد يستطيع معه أن يطرد الهم عن أشد الناس حزناً واكتئاباً، وكسب محبة الأمراء والأعيان وكل من عرفه" (4).
ولسنا نعرف سبب تحول فرانتشيا إلى فن التصوير. وكل ما نستطيع أن نقوله أن بينتيفجليو كشف عن مواهبه وعهد إليه - وهو في التاسعة
(1)
ضرب من النقش في القرون الوسطى هو عبارة عن زخرفة المعادن بحفر أشكال عليها ثم ملئها بمزيج من الكبريت مضافاً إليه عدة معادن أخرى. (المترجم)
والأربعين - أن يرسم ستاراً لمذبح في معبد بكنيسة سان جياكومو مجيوري (1499). وسر الطاغية من هذا الرسم وكلف فرانتشيا بأن يزخرف قصره بالنقوش الجدارية. وقد أتلفت النقوش حين نهب الغوغاء القصر في عام 1507، ولكن فاساري يؤكد لنا أن هذه المظلمات وغيرها "أكسبت فرانتشيا من الإجلال في هذه المدينة ما جعل الناس يعظمونه تعظيم الأرباب"(5). وانهالت عليه الطلبات، ولعله قد قبل منها أكثر مما يسمح بإمكانياته أن تنضج. وتلقت مانتوا، وريجيو، وبارما، ولوكا، وأربينو لوحات من فرشاته؛ ففي بيناكوتيكا بولونيز حجرة مليئة بأعماله، وفي فيرونا صورة للأسرة المقدسة، وفي تورين صورة لدفن المسيح، وفي اللوفر أخرى لصلبه، وفي لندن صورة للمسيح الميت، وأخرى رائعة لبارتوليمو بياتشيني، وفي مكتبة مورجان صورة للعذراء والطفل، وفي متحف الفن بنيويورك صورة مبهجة لفيدريجو جندساجا في شبابه. وليس في هذه الصور كلها صورة من الطراز الأول، ولكن كل واحدة منها قد رسمت رسماً أنيقاً رشيقاً، ولونت بألوان هادئة، ونفث فيها من الرقة والتقى ما يجعلها بشيراً بصور رفائيل.
وإن الصداقة الأدبية التي نشأت عن طريق الرسائل بين فرانتشيا ورفائيل لمن أطرف الحوادث في تاريخ النهضة. وكان منشأ هذه الصداقة أن تموتيو فيتي Timoteo Viti الذي كان تلميذ فرانتشيا في بولونيا (1490 - 1495)، أصبح في أربينو أحد معلمي رفائيل الأولين. ولعل بعض خصائص فرانتشيا انتقلت إلى الفنان الشاب (6). ولما أن ذاعت شهرة رفائيل في روما دعا فرانتشيا إلى زيارته، لكن فرانتشيا اعتذر لكبر سنه وكتب أغنية في الثناء على رفائيل وتلقى منه رداً مؤخراً (5 سبتمبر سنة 1508) يفيض بالمجاملات السائدة في عصر النهضة.
عزيزي السيد فرانتشيسكو:
تلقيت تواً صورتك، وقد وصلت إلي بحالة جيدة. وإني لأشكر لك
ذلك من صميم قلبي. والصورة غاية في الجمال. وتطابق الحياة مطابقة تجعلني أخطئ أحياناً فأعتقد أنني معك أستمع إلى كلماتك. وإني لأرجوك أن تعذرني وتغفر لي إبطائي وتأجيلي إرسال صورتي مرسومة بيدي، لأني لم أستطع بعد رسمها بنفسي كما اتفقنا بسبب اشتغالي بأمور هامة ملحة لا تنقطع أبداً
…
على أنني أبعث إليك صورة أخرى لمولد المسيح رسمتها وسط مشاغلي الكثيرة الأخرى رسماً أخجل منه. غير أني أبعث إليك بهذه الصورة التافهة إطاعة لك وحباً فيك لا لشيء آخر؛ وإذا ما لقيت بدلاً منها (رسمك) قصة يهوديث Judith فإني سأضعها بين أعز الأشياء وأعظمها قيمة عندي.
والسيد إل داتاريو Il Datario ينتظر صورتك الصغيرة للعذراء بشوق زائد، كما أن الكردينال رياريو Riario في انتظار الصورة الكبرى .. وأنا أترقب وصولها بنفس اللذة والسرور اللذين أنظر بهما إلى كل أعمالك، وأثني عليها؛ فأنا لا أرى شيئاً أجمل أو أكثر تقى، أو أعظم إتقاناً من أعمالك.
والآن تشجع، واعتن بنفسك وكن حكيماً كعادتك، وثق أني أحس بآلامك كأنها آلامي أنا نفسي؛ وداوم على حبك لي كما أحبك أنا من كل قلبي. وأنا في خدمتك في كل شئ. المخلص رفائيل سانتشيو Rafael Sancio. وفي وسعنا أن نتغاضى هنا عن بعض التنميق الذي أملته المجاملات، ولكن الذي يؤكد لنا أن الحب المتبادل بين الرجلين كان حباً صادقاً هو رسالة أخرى بعث بها رفائيل إلى فرانتشيا مع صورته الذائعة الصيت القديسة تشيتسيليا St. Cecilia لتوضع في معبد ببولونيا، وطلب إليه "بوصفه صديقاً له أن يصحح ما قد يجده فيها من الأخطاء"(8). ويقول فاساري إن فرانتشيا حيث رأى الصورة راعه جمالها، وأحس أمامها بعجزه، ففقد
كل رغبة في التصوير، ومرض، ومات بعد قليل في السابعة والستين من عمره (1517). وهذه ميتة من الميتات الكثيرة المشكوك في روايتها في كتاب فاساري، ولكنه يتفضل فيضيف إلى قوله السابق أن هنالك أقوالاً أخرى في هذه المسألة.
ولعل فرانتشيا قد شاهد قبل وفاته بعض صور أخرى محفورة قام بها في روما تلميذه مركنتونيو رابمندي نقلاً عن رفائيل. ذلك أن مارك هذا شاهد في زيارته للبندقية بعض صور حفرها ألبرخت دورر Albrecht Dürer على النحاس أو الخشب، فما كان منه إلا أن أنفق كل ما معه من النقود تقريباً في شراء ستة وثلاثين نقشاً محفوراً من عمل فنان نورمبرج تمثل آلام المسيح عند الصلب؛ ثم نقلها على النحاس، وطبع منها عدة نسخ وباعها على أنها من عمل دورر. ولما سافر إلى روما حفر على النحاس رسماً من صنع رفائيل مطابقاً للأصل مطابقة سمح معها المصور العظيم أن يحفر عدد كبير من صوره، وأن تطبع منها عدو نسخ وتباع للراغبين. كذلك نقل ريمندي صور رفائيل وغيره، وحفر الصور المنقولة على النحاس وطبع منها عدة نسخ وباعها. وبينا كان فرانتشيا يكسب المال بهذه الطريقة الجديدة، أصبح الفنانون في أوربا على علم بالصور المشهورة التي رسمها فنانو النهضة، وبهذا أدى فنجويرا Finiguerra، وريمندي ومن جاءوا بعدهما للفن ما أداه جوتنبرج وألدوس مانوتيوس للطباعة، وما أداه غير هؤلاء للعلم والأدب؛ فقد أنشئوا خطوطاً جديدة للاتصال والنقل وقدموا للشباب مجمل تراثه وخطوطه الرئيسية على الأقل.
الفصل الثالث
على طول طريق إيمليا
تقع في شرق بولونيا سلسلة من البلدان الصغيرة كان لها نصيب مناسب لحجمها في لألاء مجد النهضة. فكان في إمولا Imola الصغيرة إنوتشندسو دا إمولا Innocenzo da Imola الذي درس مع فرانتشيا وخلف صورة للأسرة المقدسة لا تكاد تقل جمالاً عن صور رفائيل. وخلعت فائنزا Faenza اسمها على إحدى الصناعات التي اشتهرت بها وهي صناعة القاشاني faience؛ ففيها - وفي جبيو، وبيزارو، وكاستل دورانتي، وأربينو - واصل الفخرانيون الإيطاليون في القرنين الخامس عشر والسادس عشر تغطية الأدوات الطينية بطبقة معتمة من الميناء، ونقشوا عليها بالأكاسيد المعدنية رسوماً متى أحرقت في النار أصبحت ذات ألوان زاهية بنفسجية، وخضراء، وزرقاء، متعددة الضلال، وقد بلغ هذا الفن علي أيديهم حد الكمال. واشتهرت فورلي (واسمها القديم فورم ليفاي Forum Livi) بمصورين وببطلة في هذا الفن لا تقل عن الرجال. ولن نحسب لهذه البلدة ميلتزو دا فورلي Melozzo da Forli بل نتركه لروما التي كانت موضع أعماله المحببة له. أما تلميذه ماركو بالمتسانو Marco Palmezzano فقد صور الموضوعات المسيحية القديمة لنحو مائة من الكنائس والمناصرين، وخلف لنا صورة فاتنة خداعة لكاترينا اسفوردسا Caterina Sforza.
وقد ولدت كاترينا لجالياتسو ماريا اسفوردسا Galeazzomaria Sfordza دوق ميلان دون أن يتزوج أمها، وتزوجت هي جيرولامو رياريو القاسي الوحشي طاغية فورلي، الذي ثار عليه رعاياه في عام 1488 وقتلوه، وقبضوا على كاترينا وأبنائها؛ ولكن بعض الجنود الموالين لها استولوا على
القلعة. ووعدت هي القابضين عليها، إذا ما أطلقوا سراحها، أن تذهب إلى أولئك الجنود وتقنعهم بالتسليم، فأجابوها إلى ما طلبت. ولكنهم احتفظوا بأبنائها رهائن عندهم. فما كادت تدخل القلعة حتى أغلقت أبوابها، وتولت بنفسها توجيه الدفاع بقوة وعنف؛ ولما أن هددها الثوار بقتل أبنائها إذا لم تسلم هي ورجالها لم تعبأ بتهديدهم وقالت لهم أن في رحمها ابناً آخر وإنه يسهل عليها أن تحمل بعدة أبناء آخرين. وبعث لدوفيكو صاحب ميلان جنوداً أنقذوها، وأخمدت الفتنة في غير شفقة، ونصب أتافيانو Ottaviano ابن كاترينا حاكماً على المدينة تسيره أمه بيدها الحديدية. حسبنا هذا عنها الآن وسنواصل الكلام عليها في موضع آخر.
ولا تزال تقوم الآن في شمال طريق أيمليا وجنوبه عاصمتان قديمتان: أولاهما رافنا، التي كانت فيما مضى ملجأ للفاتحين الرومان، وسان مارينو San Marino الجمهورية التي احتفظت بنظام حكمها إلى هذه الأيام. وكان منشأ سان مارينو هذه أن قامت حول دير القديس مارينوس St. Marinus ( المتوفى عام 366) محلة صغيرة ذات مركز منيع على قمة جبل صخري. وقد استطاعت بفضل هذا الموقع أن تنجو من هجمات المغامرين الأفاقين في أيام النهضة. واعترف البابا إربان الثامن رسمياً باستقلالها في عام 1631، ولا تزال محتفظة بهذا الاستقلال مناً وكرماً من الحكومة الإيطالية التي لا تجد فيها إلا القليل مما يمكن أن تفرض عليه ضريبة. أما رافنا فقد استعادت رخاءها الزائل بعد أن استولى عليها البنادقة في عام 1441؛ ثم طالب بها يوليوس الثاني للبابوية في عام 1509؛ ثم رأى جيش فرنسي أن من حقه، بعد أن انتصر في معركة شهيرة بالقرب منها، أن ينهب المدينة نهباً لم تنج قد من آثاره إلى أيام الحرب العالمية الثانية، التي حطمتها مرة أخرى. وفي هذه البلدة صمم بيترو لمباردو بناء على طلب برناردو بمبو والد الشاعر الكردنال، القبر الذي يضم الآن رفات دانتي (1483).
وتقع ريمنى جنوب الربيكون مباشرة في الموضع الذي يلتقي فيه طريق إيمليا بطرف البحر الأدرياوى. وقد دخلت هذه البلدة في تاريخ النهضة دخولاً عنيفاً بفضل أسرتها الحاكمة أسرة المالاتيستا Malatesta أي الرؤوس الشريرة. وكان أول ظهور لهذه الأسرة في أواخر القرن العاشر، وكانوا وقتئذ عمالاً للدولة الرومانية المقدسة يحكمون تخوم أتكونا من قبل أتو الثالث. وأخذ هؤلاء يناصرون الحلف على الحبلين، ثم يناصرون هؤلاء على أولئك، ويخضعون للإمبراطور تارة، وللبابا تارة أخرى، فاستطاعوا بذلك أن يستحوذوا على السيادة الفعلية، وإن لم يستحوذوا على السيادة الرسمية، في أنكونا، وريمينى، وسيزينا، وأن يحكموا هذه البلدان حكم الطغاة المستبدين لا يعرفون من مبادئ الأخلاق سوى الدسائس، والغدر، والسيف، حتى لم يكن كتاب الأمير لمكيفلى إلا صدى خافتاً لحكمهم الواقعي، حكم الدم والحديد استحالا مداداً كما استحال حكم بسمارك فلسفة نيتشه. وكان أحد أفراد هذه الأسرة والمسمى جيوفنى هو الذي قتل زوجته فرانتشيسكا دا ريمنى وأخاه باولو (1285). وأبلغ سجسمندونالاتيستا Sigismondo Malatesta شهرة الأسرة ذروتها من حيث القوة، والثقافة، والاغتيال. وولدت له عشيقاته الكثيرات عدة أبناء، وكان في بعض الأحيان يجمع بين هؤلاء العشيقات في وقت واحد ويسبب له الجمع بينهن كثيراً من المتاعب (9). وتزوج ثلاث مرات، وقتل اثنتين من زوجاته متهماً إياهن بالزنا (10). وقد اتهم بأنه واقع ابنته حتى حملت منه، وأنه حاول أن يأتي ولده، وأن ولده هذا صده عن نفسه بخنجره المسلول (11)، وأنه قد أفرغ شهوته في جثة سيدة ألمانية آثرت أن تموت على أن تحتضنه (12)، بيد أننا لا نجد ما يؤيد هذه الأعمال إلا أقوال أعدائه. ولقد كان وفياً وفاء غير معهود لعشيقته الأخيرة إيزتا ديجلى أتى Isott degli Atti، وتزوجها
آخر الأمر، ولما توفيت أقام لها في كنيسة سان فرانتشيسكو نصباً تذكارياً نقش عليه مكرس لإيزتا المقدسة. ويبدو أنه لم يكن يؤمن بالله ولا بخلود الروح، ويظن أن من النكات الظريفة المرحة أن يملأ حوض الماء المقدس في الكنيسة حبراً وأن يراقب المصلين يلطخون أنفسهم به وهم داخلون (13).
ولم يكن في الجرائم التي ارتكبها من التنوع والتباين ما يكفي لاستنفاد مجهوده. فقد كان قائداً قديراً، واشتهر بالبسالة والتهور وعدم المبالاة بالعواقب، وبقوة العزيمة وتحمل كل ما تتعرض له الحياة العسكرية من مشاق. وكان يقرض الشعر. ويدرس اللغتين اللاتينية واليونانية، ويعين العلماء والفلاسفة، ويبتهج بصحبتهم. وكان يحب بنوع خاص ليون باتيستا ألبرتى، الذي كان شبيهاً بليوناردو قبل أيام دافنتشي، وقد كلفه بأن يحول كاتدرائية سان فرانتشيسكو إلى هيكل روماني. وقام ألبرتى بهذا العمل، فلم يمس الكنيسة القوطية التي أقيمت في القرن الثالث عشر بشيء، ثم أقام لها واجهة على الطراز الروماني القديم اتخذ نموذجاً لها قوس أغسطس المقام في ريمنى عام 27 ق. م. وكان يعتزم تغطية مكان المرنمين بقبة، ولكن هذه القبة لم تبنى قط، فكانت النتيجة عملاً ناقصاً مشوهاً منفراً سماه معاصروه هيكل مالاتيستيانو Tempio Malatestiano. وكان الفن الذي تم به تزيين الداخل أنشودة تمجد الوثنية. فقد صور سجسمندو في مظلم رائع من عمل بيرو دلا فرانتشيسكا راكعاً أمام قديسه الشفيع، ولكن هذا المظلم يكاد يكون كل ما بقى في الكنيسة من الرموز المسيحية. ودفنت إيستا في أحد أماكن الصلاة في الكنيسة، ووضع على قبرها قبل عشرين سنة من وفاتها نقش قبل فيه:((إلى ايستا ريمنى فخر إيطاليا في الجمال والفضيلة)). وكان في مكان أخر للصلاة صور للمريخ، وعطارد، وزحل، وديانا، وفينوس. واحتوت جدران الكنيسة على نقوش بارزة في الرخام من طراز راق ممتاز أكثرها من صنع أجستينو دى دتشيو Agostino di Duccio تمثل ساطيرات،
وملائكة، وغلمان مغنيين، وفنون وعلوم مجسدة، مزخرفة بالحروف الأولى من أسمى سجسمندو وإيستا. وقد وصف الباب بيوس الثاني، وهو من المولعين بالفنون الرومانية القديمة، هذا البناء الجديد بأنه هيكل نبيل ملئ بالرموز الوثنية إلى حد يبدو معه كأن الضريح لم يكن لمسيحيين بل لكفة يعبدون آلهة الكافرين)) (14).
وأرغم البابا بيوس سجسمندو في معاهدة مانتوا (1459) أن يرد إمارته إلى الكنيسة، ولما استعاد الطاغية الجريء قبضته عليها، قذفه البابا بقرار الحرمان، واتهمه بالإلحاد، وقتل الأقارب، ومضاجعة المحارم، والزنا، والاغتصاب، والحنث في الإيمان، والغدر، وتدنيس المقدسات (15). وسخر سجسمندو من هذا القرار وقال إنه لم ينقص كثيراً من تمتعه بالطعام والخمر (16)، ولكن صبر الباب العالم وأسلحته ودهائه تغلبت عليه؛ وانتهى الأمر حين خر سجسمندو في عام 1463 راكعاً أمام مندوب بابوي، وأسلم دولته إلى الكنيسة، وغفرت له ذنوبه. ولكن حميته المتأججة أدت به إلى أن يقود جيشاً من البنادقة، انتصر به على الأتراك في عدة وقائع، وعاد إلى ريمنى ومعه جائزة بدت له من أثمن الجوائز، لا تقل قيمة عن عظام أعظم القديسين - وهي رماد جمستوس بليثو Gemistus Pletho الفيلسوف اليوناني الأفلاطوني الذي كان قد اقترح فعلاً استبدال العقدية الأفلاطونية الوثنية بالدين المسيحي. ودفن سجسمندو كنزه الثمين في قبر فخم بجوار هيكله؛ ومات بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت (1468)، ومن حقه علينا ألا نغفله في الصورة المركبة التي نرسمها لعصر النهضة.
وإذا كان سجسمندو يمثل الأقلية الصغيرة، ولكنها الأقلية ذات النفوذ، التي رفضت جهرة، إلى حد قليل أو كثير، العقيدة المسيحية السائدة في العصور الوسطى، نقول إذا كان سجسمندو يمثل هذه الأقلية، فما علينا إلا ننحدر بإزاء ساحل البحر الأدرياوى من ريمنى إلى أقاليم التخوم
فتصل إلى لوريتو، حيث نجد مثالاً حياً للدين القديم لا يزال يملأ قلوب الإيطاليين. فقد كان آلاف الحجاج المخلصين يهرعون في كل عام من أيام النهضة، كما يهرع آلاف منهم في هذه الأيام، لزيارة البيت المقدس Casa Santa وهو بيت يقال لهم إن مريم، ويوسف، وعيسى، كانوا يسكنونه في الناصرة، ثم نقلته الملائكة، كما تقول القصة العجيبة، بمعجزة من المعجزات إلى دلماشيا أولاً (1291)، ثم عبرت به البحر الأدرياوى (1294)، إلى أجمة من الغار قريبة من ريكاناتى Recanati. وقد أقيم حول البيت الحجري الصغير سور من الرخام من تصميم برامنتى، وأضاف إليه أندريا سانسوفينو Andrea Sansovino زخارف في صورة تماثيل، ثم شيد جويليانو دا مايانو Guiliano de Maiano وجويليانو دا سانجلو Gniliauo da Sangallo (1468 وما بعدها) فوق هذا البيت كنيسة، ووضع على مذبح داخل البيت المقدس تمثال لمريم والطفل مصنوع من خشب الأرز الأسود، يقول الأتقياء الصالحون إنه من صنع الفنان لوقا الإنجيلي. ولما احترق هذا التمثال عام 1921 وضعت في مكانه صورة أخرى منه، مزينة بالجواهر والأحجار الكريمة، وتضيئه المصابيح الفضية ليلاً ونهاراً. لقد كان هذا أيضاً من أعمال النهضة.
الفصل الرابع
أربينو وكستجليونى
على بعد عشرين ميلاً من البحر الأدرياوى إلى داخل البلاد، وفي منتصف المسافة بين لورينو وريمنى، تقوم إمارة أربينو الصغيرة التي لا تزيد مساحتها على أربعين ميلاً مربعاً، مختفية على شاهق فوق نتوء منظري من جبال الأبنين Apenine. وكانت هذه البلدة في القرن الخامس عشر من أعظم مراكز الحضارة على سطح الأرض. وكانت أسرة المنتيفلترى Montrfrltri، التي جمعت ثروتها من مغامرات أفرادها في الحروب إلى جانب من يستأجرونهم هم وعصابتهم، ثم أنفقتها بحكمة حداً لا يقل عن شناعة الطرق التي جمعت بها، نقول كانت هذه الأسرة قد امتلكت هذا الإقليم المخطوط قبل مائتي عام من ذلك الوقت.
وحكم فيدريجو منتيفلترو أربينو حكماً عجيباً فذاً دام ثمانية وثلاثين عاماً (1444 - 1482)، امتاز بالمهارة والعدالة إلى حد يفوق ما امتاز به منهما لورندسو العظيم. وقد بدأ حياته بهذا العمل الحكيم وهو أن تتلمذ على فتورينو دا فلترى Vittorino da Feltre، وكانت حياته أعظم مفخرة نالها هذا المعلم النبيل. وكان وهو يحكم أربينو يؤجر نفسه ليقود جيوش نابلى، وميلان، وفلورنس، والكنيسة. ولم يخسر في حياته معركة واحدة، أو يسمح بأن تمس الحرب أرض بلاده. وقد يؤخذ عليه أنه استولى على بلدة مت بتزوير رسالة من الرسائل، وأنه نهب فلتيرا Volterra نهباً منظماً أسرف فيه كل الإسراف، ولكنه اشتهر مع ذلك بأنه كان أرحم قواد زمانه. وكان في الحياة المدنية عظيم الشرف والوفاء؛ كسب من المال بمغامراته الحربية ما يكفي لإدارة دولته دون أن يرهق رعاياه بالضرائب
الفادحة؛ وكان يسير بينهم من غير سلاح أو حرس، لثقته بولائهم القائم على الحب والإخلاص. وكان في كل يوم يجلس في حديقة مفتوحة من كل جانب يستمع فيها إلى كل من يريد التحدث إليه في أمر ما؛ وفي آخر النهار يصدر أحكامه باللغة اللاتينية. وكان يهب المال للمعدمين، ويدفع المهور للبنات اليتامى، ويملأ أهراءه بالحب في وقت الرخاء، ويبيعه بأرخص الأثمان في وقت الشدة، وينزل عن ديون الفقراء من المشترين. وكان إلى ذلك زوجاً صالحاً، وأباً طيباً، وصديقاً كريماً.
وشاد لنفسه في عام 1468 قصراً ولأعضاء حكومته الخمسمائة قصراً آخر لم يكن معقلاً للدفاع بقدر ما كان مركزاً لشؤون الإدارة ومعقلاً للآداب والفنون. وأجاد لوتشيانو لورانا Luciano Laurana تخطيطه إجادة حملت لورندسو ده ميديتشى على أن يرسل باتشيو بنتيلى ليرسم له صوراً منه. وكان يتكون من واجهة من أربع طبقات، تعلوها أربع قباب في وسط برج ذي مزاغل على كلا الجانبين، ومن إيوان داخلي ذى بواك رشيقة. ومعظم حجراته الآن عارية، ولكن نقوشها المحفورة التي لا يمكن إزالتها، وموقدة الفحم، يكشفان ذوق ذلك العصر وترفه. وكان هذا هو وسط القصر الذي أخذ عنه كستجليونى نموذج صورة رجل البلاط وكانت الحجرات التي يسر منها فيدريجو أعظم السرور هي التي جميع فيها مكتبته، وكان يتحدث فيها مع الفنانين، والعلماء، والشعراء الذين يستمتعون بصداقته ورفده. وكان هو نفسه أكثر رجال الدولة ثقافة وتهذيباً، وكان يؤثر أرسطو على أفلاطون، ويتقن معرفة كتب الأخلاق، والسياسة، والطبيعة كل الإتقان، وكان يفضل التاريخ عن الفلسفة، وسبب ذلك بلا شك أنه يستطيع أن يعرف عن الحياة بدراسة ما سجل عن السلوك البشرى أكثر مما يعرف عنها بتتبع مشاكل النظريات
البشرية المعقدة. وكان يحب الآداب القديمة دون أن يؤدي به هذا الحب إلى التخلي عن المسيحية؛ فقد كان يقرأ كتب آباء الكنيسة، وكتب الفلاسفة المدرسين، ويستمع إلى القداس في كل يوم. وكان في السلم والحرب على السواء نقيض سجسمند ومالاتيستا. وكان في مكتبته الشيء المثير من مؤلفات آباء الكنيسة وأدب العصور الوسطى كما كان فيها الشيء الكثير من كتب الأدب القديم. وقد استخدم ثلاثين من النساخين أربعة عشر عاماً لينسخوا له المخطوطات اليونانية واللاتينية حتى أضحت مكتبته أكمل المكتبات في إيطاليا خارج الفاتيكان. واتفق مع أمين مكتبته فسبازيانو دا بستشي Vispasiano da Bisticci على ألا يسمح بضم كتاب مطبوع إلى مجموعة كتبه، لأنه كان يعتقد أن الكتاب تحفة فنية، في تجليده، وخطه، وزخرفه، كما أنه وسيلة لنقل الأفكار. ولهذا لم يكد يوجد كتاب في قصره غير مكتوب بعناية فائقة على الرق وغير موضح بالرسوم الزخرفية، وغير مجلد بالجلد القرمزي ذي مشابك من الفضة.
وكانت زخرفة الكتب بالصور من الفنون المحبوبة في أربينو. وأكثر ما تعتز به مكتبة الفاتيكان التي ابتاعت مجموعة فيدريجو وتقدره أعظم التقدير من هذه الكتب نسختان من "كتاب أربينو المقدس"، كان الدوق قد كلف فسبازيانو وغيره من المصورين بزخرفتهما، وتجليدهما، حتى يبلغ "هذا الكتاب وهو أجل الكتب جميعاً من الجمال والقيمة أقصى ما يستطاع"(17). وأراد فيدريجو أن يزين جدران قصره فاستقدم نساجين للسجاد كما استقدم من المصورين جستوس فان غنت Justus van Ghent من فلاندرز، وبدرو برجويتي Pedro Berruguete من أسبانيا، وباولو أتشيلو Paolo Uccello من فلورنس، وبيرو دلا فرانتشيسكا من برجو سان سبيلكو Borgo San Sepolcro، وميلتسو دا فورلي
Melozzo da Forli. وهنا رسم ميلتسو صورتين من أجمل صوره (إحداهما الآن في لندن والأخرى في برلين) تمثلان غرس "العلوم"(أي الأدب والفلسفة) في بلاط أربينو ومعهما صورة فخمة لفيدريجو نفسه. ومن أولئك المصورين، ومن فرانتشيا وبيروجينو، وجد هذا الحافز الذي أوجد مدرسة أربينو الخاصة والتي كان يتزعمها والد رفائيل. ولما أن استولى سيزاري بورجيا على كنوز القصر في عام 1502 قدرت قيمتها بمائة وخمسين ألف دوقة (1. 875. 000 دولار)(18).
وكان لفيدريجو كثيرون من الأصدقاء أما أعداؤه فكانوا قليلين، وقد منحه البابا سكستس الرابع لقب دوق (1474)، كما منحه هنري السابع ملك إنجلترا وسام فارس من مرتبة ربطة الساق؛ ولما مات (1482) خلف وراءه إمارة مزدهرة، وتقاليد من العدالة والسلام ملهمة لمن خلفه. وبذل ولده جيدوبلدو Guidobaldo كل ما في وسعه لترسم خطاه ولكن المرض حال بينه وبين مشروعاته الحربية، وتركه عليلاً معظم أيام حياته. وتزوج في عام 1488 إلزبتا جندساجا أخت زوج إزبلا مركيزة مانتوا. وكانت إلزبتا تشكو المرض في أكثر أيامها، أثر فيها ضعف جسمها فجعلها كثيرة الحياء والرقة. ولعلها قد خفف عنها سوء حالها أن عرفت أن زوجها عنين (19)، فقنعت، على حد قولها، أن تعيش معه كأنها أخت له (20)، وعلى هذا الأساس تجنبا ما ينشأ عادة من النزاع بين الزوج وزوجته. غير أنها أضحت أماً له لا أختاً، تبذل له كثيراً من الحنان والعناية، ولم تفارقه قط في خلال ما أصابه من المحن المفجعة. ومما يزيد من قيمة الرسائل التي كتبتها لإزبلا أنها تكشف فيها عن رقة في الشعور، وقوة في صلات الأرحام لا نجدهما أحياناً عندما نقدر القيم الأخلاقية لعصر النهضة، انظر مثلاً إلى هذه الفقرة المؤثرة التي جاءت في رسالة بعثت بها إلزبتا إلى إزبلا المرحة النشيطة بعد أن قضت هذه أسبوعين في زيارة لأربينو عام 1494.
إن فراقك لم يشعرني بأني فقدت أختا عزيزة فحسب، بل أشعرني فوق ذلك بأن الحياة نفسها قد فارقتني؛ ولست أعرف الآن ما أخفف به أحزاني إلا الكتابة إليك كل ساعة لأخبرك على الورق ما ترغب شفتاي في أن تحدثك به. وإذا استطعت أن أعبر لك عما أشعر به من الحزن لفراقك، فإني أعتقد أنك ستعودين إلي رحمة بي وإشفاقاً علي. ولولا خوفي ممن أن أغضبك لتبعتك أنا نفسي. وإذ كان هذان الغرضان كلاهما متعذراً لما أكنه لعظمتك من الإجلال، فليس أمامي إلا أن أرجوك وألح عليك في أن تذكريني أحياناً، وأن تعرفي أن مكانك دائماً هو قلبي (21).
وكان من المسائل التي هي موضع النقاش في بلاط جيدوبلدو وإلزبتا. "ما هو أحسن دليل على الحب بعد المثابرة عليه والاستمساك به؟ ". وكان الجواب هو: "المشاركة في السراء والضراء"(22). وقد صدر عن الزوجين الشابين كثير من الأدلة على هذه المشاركة. من ذلك ما حدث في نوفمبر عام 1502 حيث سير سيزاري بورجيا جيشه على حين غفلة في الطريق المؤدي إلى أربينو بعد أن ادعى أنه الصديق الحميم لجيدوبلدو. وكان سبب زحفه أنه يطالب بهذه المدينة بوصفها إقطاعية للكنيسة. وجاءت سيدات أربينو إلى الدوق بماسهن ولآلئهن، وعقودهن، وأساورهن، وأقراطهن، لينفقها في حشد جيش عاجل للدفاع عن المدينة. ولكن غدر بورجيا لم يترك للدوق ما يكفي من الوقت للمقاومة المجدية؛ ذلك أن من يستطاع حشدهم من الجنود سيكونون فريسة هينة للقوات المدربة الغليظة القلوب الزاحفة على المدينة، وكان سفك الدماء والحالة هذه عملاً عديم الجدوى. وترك الدوق والدوقة سلطانهما، وثروتهما، وفرا إلى ستا دلا كاستلو ومنها إلى مانتوا حيث استقبلتهما إزبلا بالحب والأسى. وخشي بورجيا أن يحشد جيدوبلدو جيشاً له في تلك المدينة، فطلب إلى إزبلا والمركيز أن يخرجا اللاجئين من بلدهما. وأراد جيدوبلدو أن يحمي مانتوا من غضب بورجيا فغادرها هو
وإلزبتا إلى البندقية حيث قدم لهما مجلس الشيوخ ما يحتاجانه من الحماية ومطالب الحياة غير عابئ ببورجيا. وبعد أشهر قليلة من ذلك الوقت مرض بورجيا ووالده إسكندر السادس بالملاريا الحاجة وهما في روما، ومات البابا، وشفي سيزاري ولكن موارده المالية نضبت. وثار أهل أربينو على الحامية التي وضعها في المدينة، وأخرجوها منها ورضوا بعودة جيدوبلدو وإلزبتا وأظهروا ابتهاجهم بهذه العودة (1503). ونادى الدوق بفرانتشيسكو ماريا دلا رفيري Francesco Maria della Rovere ابن أخيه ولياً لعهده، وإذ كان فرانتشيسكو هذا ابن أخت البابا يوليوس الثاني أيضاً فقد ظلت الإمارة الصغيرة آمنة مدى عشر سنين.
وأضحى بلاط أربينو في الخمس السنين التالية لهذه الحوادث (1504 - 1508) نموذج الثقافة الإيطالية ودرة تاجها. وكان جيدوبلدو مولعاً بالآداب القديمة، ولكنه كان يشجع استعمال اللغة الإيطالية في الأدب؛ وفي بلاطه مثلت لأول مرة مسلاة من أولى المسالي الإيطالية وهي مسلاة كالندرا Calandran تأليف ببيينا Bibbiena ( حوالي 1505) وأخذ المثالون والمصورون ينحتون ويرسمون المناظر اللازمة لهذا التمثيل، وجلس النظارة على الطنافس، وأطربتهم فرقة موسيقية مختفية وراء المسرح، وأنشد الأطفال مقدمة للمسرحية، وتخلل الرقص فصولها، وفي آخرها أنشد غلام يمثل إله الحب بعض الأشعار، وعزفت أغنية على الكمان الكبير دون أن تصحبها ألفاظ، وأنشدت للحب أغنية رباعية (من أربعة أشخاص). ذلك أن بلاط أربينو، وإن كان أكثر بلاط الأمراء مراعاة للأخلاق، كان أيضاً مركز الحركة التي رفعت مقام المرأة عالياً، وكان يحب أن يتحدث عن الحب أفلاطونياً كان أو غير أفلاطوني. وكانت زعيمة الحياة الثقافية في البلاط هي إلزبتا التي لم يكن لها بديل من الحب العذري ومعها إيميليا بيو Emilia Pio التي ظلت إلى آخر أيامها أرملة عفيفة حزينة بعد موت زوجها أخي جيدوبلدو. وأضاف بمبو
الشاعر وببيينا الكاتب المسرحي إلى هذه الدائرة عنصراً أكثر مرحاً ونشاطاً من أفرادها الآخرين؛ كما أضيف إليها عنصر من عناصر الجمال القوي مغر ذائع الصيت هو برنردينو أكلتي Bernardino Accolti المعروف باسم يونيكو أرتينور "أي إرِّزيان الواحد الأحد"، والمثال كروستونورو رومونا الذي التقينا بع من قبل في ميلان.
وكان من أفراد هذه الدائرة أيضاً رجل من الأشراف هو جوليانو ده ميديتشي، ابن لورنس واتفيانو فريجوسا الذي اصبح بعد قليل دوج جنوى وأخوه فيدريجو الذي قدر له ان يكون كردنالا ولويس الكانوسي Louis of Canossa الذي صار بعد قليل القاصد الرسولي البابوي في فرنسا. وانضم غير هؤلاء إلى هذه المجموعة من حين إلى حين كبار رجال الدين، والقواد العسكريون، وكبار الموظفين، والشعراء، والعلماء، والفنانون، والفلاسفة، والزائرون الممتازون. وكانت هذه الجماعة المختلفة الأصناف تجتمع مساء في ندوة الدوقة، وتثرثر، وترقص، وتغني، وتلعب بعض الألعاب، وتتحدث. وفيها وصل فن الحديث - الحديث المهذب الحضري، الذي يبحث في الشئون ذات البال بحثا جديا أو فكاهيا - وصل هذا الحديث إلى أرقى ما وصل إليه في عصر النهضة.
وهذه الجماعة المهذبة هي التي وصفها كستجليونى ورفعها إلى مرتبة المثل العليا في كتاب من أشهر كتب النهضة وهو كتاب رجل البلاط Cortigiano ويعنى به الرجل المهذب. وكان كستجليونى نفسه من هذا الصنف: مان ابناً وزوجاً صالحاً، وكان ذا شرف ورقة حتى في مجتمع روما الفاسد، وكان دبلوماسياً يجله الصديق والعدو، وصديقا وفيا لا تنفرج شفتاه عن كلمة نابية لإنسان ما، وقصارى القول انه كان رجلا كاملا بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معان، وإنساناً يراعى إحساس الناس جميعاً. وقد مثل رفائيل سجاياه أعجب تمثيل وأصدقه
في الصورة الفخمة الرائعة المعلقة في متحف اللوفر: وهي ذات وجه قلق مفكر، وشعر أسود، وعينين هادئتين رقيقتين لم يؤت من الدهاء ما يستطيع أن يكون به دبلوماسياً ناجحاً لولا سحر استقامته وهو بلا جدال رجل فطر على حب الجمال، في المرأة والفن، وفي الأخلاق والأسلوب، مع إحساس الشاعر المرهف، وإدراك الفيلسوف.
وهو ابن الكونت كرستوفورو كستجليوني الذي كانت له ضيعة في إقليم مانتوا والذي تزوج فتاة من أسرة جندساجا تمت بصلة القرابة إلى المركيز فرانتشيسكو. وأرسل وهو في من عمره (1496) إلى بلاط لدوفيكو في ميلان، وسر كل من فيه بطيبة قلبه، وحسن أدبه، وبراعته المتعددة النواحي في الألعاب الرياضية، والآداب، والموسيقى، والفن. ولما توفي والده ألحت عليه أمه أن يتزوج وأن يحرص على ألا تبيد سلالته؛ ولكن بلدساري Baldassare وإن كان في وسعه أن يكتب أحسن الكتابة في الحب، كان أفلاطونياً من حيث الزواج، واضطر أمه أن تنتظر سبعة عشر عاماً قبل أن ينصاع لنصيحتها. وقد انضم إلى جيش جيدوبلدو، ولم يجن من انضمامه إليه إلا كسر عقبه، وقضى فترة النقاهة في قصر الدوق بأربينو، وبقي فيه أحد عشر عاماً، مغرماً بهواء الجبال، والرفقة المهذبة، والحديث الحلو الممتع، وإلزبتا. ولم تكن إلزبتا جميلة، وكانت تكبره بست سنين، وتكاد تماثله في ضخامة الجسم، ولكن روحها اللطيفة أسرت قلبه، فكان يحتفظ بصورة لها خلف مرآة في حجرته، ويؤلف في السر أغاني في مديحها (23)، وفض جيدوبلدو هذا المشكل بأن بعثه في مهمة إلى إنجلترا (1506)؛ ولكن بلدساري انتحل أول عذر للعودة مسرعاً. وأدرك الدوق أن لا ضرر من بقائه، ورضي في سماحة وكرم أن يؤلف منهما ومن إلزبتا أسرة من
ثلاثة، وبقي كستجليوني معهما حتى توفي الدوق (1508)، وظل مخلصاً إخلاصاً عفيفاً لأرملته، وبقي في أربينو حتى خلع ليو العاشر ابن أخي الدوق عن عرش الدوقية وأجلس مكانه ابن أخ له هو (1517).
ثم عاد إلى أرضه القليلة التي ورثها بالقرب من مانتوا وتزوج إبوليتا توريلي Ippolita Torelli دون حب سابق بينهما، وكانت أصغر منه بثلاثة وعشرين عاماً. ثم بدأ يشغف بها حباً، وأحبها أولا كما تحب الأطفال، ثم الأمهات، وأحس أنه لم يعرف المرأة، ولا عرف نفسه حق المعرفة من قبل، ونفحته هذه التجربة الجديدة بسعادة قوية لم ير لها نظيراً من قبل. لكن إزبلا أقنعته بأن يكون سفيراً لمانتوا في روما، فذهب إليها على كره، وخلف وراءه زوجته في عناية أمه. ولم يكد يعبر جبال الأبنين التي تفصل بين البلدين حتى تلقى الرسالة التالية:
لقد ولدت بنتاً صغيرة، ولست أظن أن ذلك سيسوؤك؛ ولكنني أسوأ حالاً من ذي قبل، فقد توالت علي ثلاث من نوبات الحمى؛ وأنا الآن أحسن مما كنت، وأرجو ألا تعاودني. ولن أكتب إليك أكثر من هذا، لأني لم أستعد صحتي تماماً، وأرسل إليك تحياتي الخالصة من كل قلبي-
من زوجتك التي أنهكها الألم قليلاً - من أبولينا المخلصة لك (24)
وماتت أبولينا بعد فترة قصيرة من كتابة هذه الرسالة، ومات بموتها حب كستجليوني للحياة. نعم إنه ظل يخدم إزبلا والمركيز فيدريجو في روما، ولكنه لم يجد في بلاط ليو العاشر المهذب السلام الذي كان يستمتع به في بيته في مانتوا، ولم يجد فوق ذلك الاستقامة، والحنان، والظرف التي كادت تجعل من دائرة أربينو مثله العليا مجسمة.
وقد بدأ في أربينو (1508) كتابه الذي خلد اسمه على الزمان وأتممه في روما. وكان الغرض منه تحليل الظروف التي تنتج الرجل المهذب
الكامل السلوك الذي يمتاز به. وقد تمثل كستجليونى تلك الرفقة المهذبة في أربينو تبحث هذا الموضوع؛ ولعله نقل بعض الأحاديث التي سمعها فيها بعد أن هذبها وصقلها؛ وقد ذكر أسماء الرجال والنساء الذين كانوا يتحدثون هناك، وخلع عليهم من العواطف ما يتفق مع أخلاقهم. فنراه مثلاً ينطق بمبو بنشيد في الحب العذري ثم يبعث بالمخطوط إلى بمبو ليسأله هل يعترض بعد أن أصبح الأمين المعظم للبابا على استخدام اسمه على ذلك النحو؛ وأجاب بمبو السمح بأنه لا اعتراض له على هذا العمل. على أن المؤلف الحي رأى مع هذا أن يحتفظ بالمخطوط فلا ينشره حتى عام 1528، ولم يعطه إلى العالم قبل موته بعام واحد إلا لأن بعض أصدقاؤه اضطروه إلى هذا بنشرهم نسخاً منه في روما. ولم تمض على نشره عشر سنين حتى ترجم إلى اللغة الفرنسية، وفي عام 1561 ترجمه سير تومس هوبى Sir Thomas Hoby إلى اللغة الإنكليزية ترجمة قوية منمقة العبارة جعلته من أشهر كتب ذلك العصر يقرؤه كل متعلم في عصر الملكة إلزبث.
وكان كستجليونى يميل إلى الاعتقاد، وإن لم يكن واثقاً كل الثقة من اعتقاده هذا، أن أول ما يشترط في الرجل المهذب الكامل أن يكون كريم المحتد، ذلك بأن من أصعب الأمور أن يكسب الإنسان كرم الأخلاق ورشاقة الجسم وحسن العقل إلا إذا نشأ بين أشخاص يتصفون بتلك الصفات؛ وقد خيل إليه أن الأرستقراطية مهد الأخلاق الطيبة، ومستقرها، والقدرة على تذوقها، وهي مرباها وأداة انتقالها. كذلك يجب أن يجيد السميذع - الرجل الكامل المهذب - من أوائل حياته ركوب الخيل، وأن يتعلم فنون الحرب، ويجب أن لا يبالغ في التحمس لفنون السلم والآداب إلى حد يضعف في المواطنين الصفات الحربية التي إذا إنعدمت في أمة كان مصيرها الاستعباد. على أن كثرة الحروب تحيل الإنسان وحشاً ضارياً؛ ذلك أنه يحتاج، فضلاً عن الصلابة الناشئة
مما في حياة الجندي من الصعاب، إلى تأثير النساء المهذب المرقق للإحساس، ((وليس ثمة بلاط، مهما بلغ من العظمة يمكن أن يكون فيه روعة أو بهجة أو مرح إذا خلا من النساء؛ وليس في وسع رجل الحاشية أن يكون رشيقاً، كيساً لطيفاً، شجاعاً، أو أن يقوم في وقت من الأوقات بأي عمل من أعمال الشهامة والفروسية إلا إذا استثاره حديث النساء
…
وحبهن)) (25). فإذا شاءت المرأة أن يكون لها هذا النفوذ المهذب والمرقق وجب أن تحتفظ بكامل أنوثتها، فتبتعد عن تقليد الرجال في هيئتها، أو آدابها، أو حديثها، أو ملبسها. ويجب أن تعنى بجمال جسمها، وحنان حديثها، ورقة روحها؛ ولهذا فأن من واجبها أن تتعلم الموسيقى، والرقص، والآداب، وفن التسلية؛ فتستطيع بذلك أن تحصل على جمال الروح الداخلي وهو الغرض المنبه للحب وباعثه. ((وليس الجسم الذي يتلألأ فيه الجمال المعين الذي ينبع منه
…
لأن الجمال غير مادي)) (26)((وليس الحي إلا رغبة في الاستمتاع بالجمال)) (27) أما ((من يظن أنه يستمتع بالجمال بامتلاك الجسم فهو مخدوع أشد الانخداع)) (28). ويختتم الكتاب بتحويل الفروسية العارمة السائدة في العصور الوسطى إلى ذلك الحب العذري الشاحب وهو آخر إخفاق تغفره المرأة للرجل.
ولقد انهار المثل الأعلى الذي تصوره كستجليونى للعالم ذي الثقافة المهذبة الرقيقة، والاحترام المتبادل، انهار هذا المثل عندما اجتيحت روما وهبت نهباً وحشياً في عام 1527. وفي ذلك تقول فقرة في أواخر هذا الكتاب:((كثيراً ما كان ازدياد الثروة سبباً في الدمار المروع، كما حدث في إيطاليا المسكينة التي كانت ولا تزال غنيمة للأمم الأجنبية بسبب ما فيها من حكم فاسد وثراء عظيم)) (29). وكان في وسعه أن يلوم نفسه إلى حد ما على هذا الدمار. ذلك أن البابا كلمنت السابع اختاره في عام 1524 مندوباً بابوياً إلى مدريد ليصلح ما بين شارل الخامس والبابوية. وكان سلوك كلمنت
نفسه مما أثار العقبات في طريق هذه البعثة فأخفقت؛ ولما ترامت الأنباء إلى أسبانيا بأن جنود الإمبراطور غزت روما، وألقت البابا في السجن، ودمرت كل ما ادخره يوليوس، وليو، ومئات الفنانين من ثراء ونعيم تقطعت أسباب الحياة ببلدسا رى كستجليونى وفاضت روح أظرف سميذع في عصر النهضة في كدينة طليطلة عام 1529 غير متجاوز الواحدة والخمسين من العمر.
ونقلت جثته إلى إيطاليا وأقامت له أمه ((التي عاشت بعد ولدها على الرغم منها)) قبراً تخليداً لذكراه في كنيسة سانتا ماريا دلى جرادسى خارج مانتوا. ووضع جوليو رومانو تصميم القبر وألف له بمبو نقشاً ظريفاً، ولكن أجمل ما حفر على الحجارة من ألفاظ هو الأشعار التي ألفها كستجليونى نفسه لتحفر على قبر زوجته التي جىء برفاتها عند مماته لتدفن إلى جانبه تنفيذاً لوصيته.
((أنا لا أعيش الآن أيتها الزوجة العزيزة لأن الأقدار قد انتزعت حياتي من جسمك؛ ولكني سأعيش حين أوضع معك في قبر واحد، وتختلط عظامي بعظامك)) (30).
الباب الثالث عشر
مملكة نابلي
1378 -
1534
الفصل الأوَل
ألفنسو الأفحم
كانت جميع أرض شبه الجزيرة الإيطالية الواقعة في الجنوب الشرق من ولايات التخوم والولايات البابوية تكون مملكة نابلي. وكان جزؤها الواقع ناحية البحر الأدرياوي يشمل ثغور باسكارا، وباري، وبرنديزي، وأترانتو، ويشمل نحو الداخل مدينة فيجا التي كانت في وقت ما العاصمة النشيطة لفريدريك الثاني ذلك الرجل العجيب، وفي الطرف الداخلي لعقب إيطاليا يقوم ثغر تارنتو القديم، وفي إبهام إيطاليا تقوم رجيو أخرى، وعلى الساحل الجنوبي الغربي يمتد مشهد فخم في إثر مشهد يتدرج في العظمة إلى ساليرنو، وأملفه وسرينتو، وكابرى، ويصل إلى ذروته في نابلي النشيطة الكثيرة الحركة، والجلبة، والثرثرة، والعواطف الجائشة، والبهجة.
وكانت وحدها المدينة العظيمة في المملكة. وكان الإقليم في خارجها وخارج الثغور إقليماً زراعياً، إقطاعياً، منطبعاً بطابع العصور الوسطى: فكانت التربة يفلحها أرقاق الأرض أو العبيد، أو فلاحون ((أحرار)) في أن يموتوا جوعاً أو يعملوا ليحصلوا على الكفاف من العيش تحت سيطرة بارونات يحكمون ضياعهم حكماً قاسياً مجرداً من الرحمة متحدين سلطان العرش. وقلما كان
الملك يحصل على إيراد له من هذه الأراضي، ولكن كان عليه أن يدبر المال اللازم لحكومته وبلاطه من إيراد أملاكه الإقطاعية الخاصة، أو باستغلال سيطرته الملكية على التجارة إلى أقصى حد مستطاع.
وكان بيت أنجو قد أخذ يضمحل اضمحلالا سريعاً على أثر فرار الملكة جونا Joanna الأولى المرة بعد المرة، ذلك الفرار الذي انتهى عندما أمر شارل صاحب دورزو بخنقها بحبل من حرير (1382). ولم تكن جونا الثانية حين جلست على العرش (1414) أقل طيشاً من سميتها الأولى وإن كانت وقتئذ في سن الأربعين. وتزوجت ثلاث مرات، ونفت من البلاد زوجها الثاني، وعملت في اغتيال الثالث. ولما واجهتها الثورة استغاثت بألفنسو ملك أرغونة وصقلية، وتبنته وجعلته ولياً للعهد (1420)، وارتابت بحق في أنه يأتمر بها ليخلعها ويجلس على العرش مكانها، فتبرأت منه (1423)، وأوصت بدولتها بعد وفاتها إلى رينيه صاحبة أنجو (1435). وأعقبت ذلك حرب طويلة في سبيل وراثة العرش حاول فيها ألفنسو، وقد جرب الأمور في نابلي، أن يستولي على العرش. وبينما كان يحاصر جيتا إذ وقع أسيراً في يد الجنوبيين وجيء به أمام فليوماريا فيسكونتي في ميلان. وأفلح ألفنسو، بمنطق الرائع الذي لم يتعلمه في المدارس بلا ريب، أن يقنع الدوق بأن عودة الحكم الفرنسي إلى نابلي، مضافة إلى القوات الفرنسية لبتي تضغط وقتئذ على ميلان من الشمال، وجنوى من الغرب، ستوقع نصف إيطاليا بين شقي الرحى، وأن الفسكونتي سيكوم أول من يحس بوطأتها. واقتنع فلبو بمنطقه وأطلق سراحه وتمنى له عوداً سعيداً إلى نابلي. وانتصر ألفنسو بعد حروب ودسائس كثيرة، وانتهى بذلك حكم بيت أنجو في نابلي (1268 - 1442) وبدأ حكم بيت أرغونة (1442 - 1503). واتخذ هذا الاغتصاب سنداً شرعياً لغزو الفرنسيين إيطاليا في عام 1494، وهو الغزو الذي كان المأساة الأولى في شبه الجزيرة.
وسر ألفنسو بعرشه الملكي الجديد سروراً حماه على أن يترك حكم أرغونة وصقلية إلى أخيه جون الثاني. ولم يكن جون هذا بالحاكم السهل، ففد اشتط في فرض الضرائب، وترك الماليين يرهقون الشعب ويبتزون أمواله، ثم يبتز هو أموالهم، واغتصب المال من اليهود بأن هددهم بإرغامهم على التعميد. لكن عبء الضرائب وقع معظمه على طبقة التجار؛ أما ألفنسو فقد خفف عبأها عن الفقراء وساعد المعوزين. وظنه أهل نابلي ملكاً صالحاً، فقد كان يسير بينهم غير خائف منهم لا يحمل سلاحاً ولا يحيط به حرس. وإذا لم يكن له أبناء من زوجته فقد كان له عدد منهم من نساء بلاطه؛ وحدث أن قتلت زوجته إحدى أولئك النسوة المنافسات لها، فما كان من الملك إلا أن امتنع عن السماح لها بالمثول بين يديه بعد هذه الفعلة. وكان حريصاً على الذهاب إلى الكنيسة، يستمع إلى المواعظ استماع المؤمنين المخلصين.
غير أنه مع ذلك تأثر بآراء الكتاب الإنسانيين، وساعد طلاب الأدب القديم بسخاء جعلهم يطلقون عليه اسم الأفخم Il Magnanimo؛ وكان يرحب بفلا Valla، وفيليلو، ومانتي، وغيرهم من الإنسانيين على مائدته ويسخو عليهم بماله. وقد نفح بجيو بخمسمائة كرون (12،500؟ دولار) أجراً له على ترجمة الفيروبيديا تأليف أكسانوفون إلى اللغة اللاتينية، كما وظف لبارثولميو فازيو خمسمائة دوقة كل عام نظير تأليفه كتاب تاريخ ألفنسو، ونفحه بألف وخمسمائة دوقة أخرى عندما فرغ منه، ووزع في عام واحد هو عام 1458 عشرين ألف دوقة (500. 00 دولار) على رجال الأدب. وكان يحمل معه أينما سار كتاباً من كتب الأدب القديم؛ وكان وهو في بيته أو في حروبه بأمر بأن يقرأ له شيء من هذا الأدب وهو على مائدة الطعام، وكان يأذن للطلاب الذين يريدون الاستماع إلى هذه القراءات بحضور تلك المآدب. ولما أن كشفت
رفات ليفى المزعومة في يدوا أرسل بكاديلي Beccadelli إلى البندقية ليبتاع له أحد عظامه، واستقبله بالرهبة والخشوع الخليقين بأن يستقبل بهما المواطن الصالح من أهل نابلي جريان دم القديس جانواريوس Jaunarius. ولما أن أخذ مانتي يلقي أمامه خطباً باللغة اللاتينية أفتتن ألفنسو بأسلوب العالم الفلورنسي وعباراته الاصطلاحية افتتان جعله يسمح ببقاء ذبابة على أنفه الملكي حتى فرغ الخطيب من خطبته (1). وترك للكتاب الإنسانيين في بلده مطلق الحرية في أن يقولوا ما يشاءون وإن بلغت أقوالهم حد الإلحاد والأدب المكشوف، وحماهم من محكمة التفتيش.
وكان أعجي العلماء في بلاط ألفنسو هو لورندسو فلا، وقد ولد لورتدسو هذا في روما (1407)، ودرس الآداب القديمة مع ليوناردو بروني، وأولع بالغة اللاتينية ولعاً وصل إلى درجة الغضب، حتى كان من بين حملاته حملة يريد بها القضاء على اللغة الإيطالية بوصفها لغة أدبية وإحياء اللغة اللاتينية الفصحى حياة جديدة. وبينا كان يعلم اللغة اللاتينية والبيان في بافيا هجا بارتولوس المشترع الذائع الصيت هجواً شديداً لاذعاً سخر فيه من لغته اللاتينية المتكلفة، وقال إن أحداً لا يستطيع فهم القانون الروماني إلا إذا كان متمكناً من اللغة اللاتينية ومن التاريخ الروماني. ودافع طلبة القانون في الجامعة عن بارتولوس، وانحاز طلبة الآداب إلى فلا؛ وتطور الجدل فأصبح شغباً، وطلب إلى فلا أن يغادر المدينة. وكتب فيما بعد مذكرات عن العهد الجديد، استخدم فيها مقدرته اللغوية وعنفه في الهجوم على ترجمة جيروم اللاتينية للكتاب المقدس، وكشف عن أغلاط كثيرة في هذا المجهود الضخم الجليل. وأثنى إرزمس فيما بعد على نقد فلا هذا ولخصه واستعان به. وبسط فلا في رسالة أخرى سماها اللغة اللاتينية الرشيقة البليغة النقية، وسخر من لاتينية العصور الوسطى، وعرض في مرح
بلاتينية كثيرين من الكتاب الإنسانيين. وكان يفضل كونتليان على شيشرون في عصر يعبد شيشرون. وقد تخلى عنه أصدقاؤه فلم يكد يكون له في العالم صديق.
وأراد أن يؤكد عزلته عن الناس فنشر في عام 1413 حواراً في اللذة والخير والحق شرح فيه خروج الكتاب الإنسانيين على التبعة الأخلاقية شرحاً أوفى على الغاية في التهور والقوة. واتخذ للحوار ثلاثة أشخاص كانوا لا يزالون وقتئذ أحياء وهم ليوناردو بروني الذي جعله يدافع عن الرواقية، وأنطونيو بيكاديلي ليزود عن الأبيقورية، ونقولو ده نقولى ليوفق بين المسيحية والفلسفة. وقد جعل بيكادلي يتحدث بقوة استنتج منها القراء بحق أن آراءه هي آراء فلا نفسه. وكان مما ورد من أقواله: من واجبنا أن نفترض أن الطبيعة البشرية صالحة لأنها من خلق الله، وذلك أن الطبيعة والله في الحقيقة شيء واحد، ومن أجل هذا فأن غرائزنا صالحة، ورغباتنا الفطرية في اللذة والسعادة تكفي في حد ذاتها لأن تبرز العمل في سبيلها بوصفهما الهدف الصحيح للحياة الإنسانية. ويجب أن تعد كل اللذائذ سواء كانت حسية أو عقلية لذائذ مشروعة حتى نتبين مضارها.
وما من شك أن فينا عزيزة قوية للتزاوج، وليس فينا بلا ريب غريزة لأن نستمسك بالعفة طول حياتنا، ولهذا كان الاستعفاف غير طبيعي، بل هو عذاب لا يطاق، ويجب ألا يدعى إليه الناس على أنه فضيلة. واستنتج بيكادلي من هذا أو جعله فلا يستنتج أن بقاء الفتاة عذراء خطأ وخسارة وأن العاهر أعظم قيمة للبشرية من الراهبة (3).
واستمسك فلا في حياته بهذه الفلسفة، بقدر ما سمحت له بذلك موارده، فقد كان إنسان مشوش العواطف، حاد الطبع، عنيف الألفاظ. وكان ينتقل من مدينة إلى مدينة يبحث عن الأعمال الأدبية؛ ولما طلب عملاً في الأمانة البابوية، رفض طلبه؛ ولما استخدمه ألفنسو (1435)،
كان ملك أرغونة وصقلية يحارب للاستيلاء على عرش نابلي، وكان البابا بوجنيوس الرابع (1431 - 1447) من أعدائه يطالب بنابلي ويراها إقطاعية من إقطاعياته خارجة عليه. وكان عالم متهور مثل فيلا، ملم بالتاريخ إلمامه بالجدل والمناظرة، لا يملك ما يخشى عليه من الضياع، كان عالم مثله آلة طيعة يمكن استخدامها ضد البابا. ولهذا كتب فلا (1440)، ومن ورائه ألفنسو يحميه، أشهر رسائله جميعاً وعنوانها في هبة قسطنطين الكاذبة التي يخطئ الناس في تصريفها. وقد هاجم في هذه الرسالة عهد قسطنطين الذي خلع فيه أول إمبراطور مسيحي على البابا سلفستر الأول (314 - 335) السلطة الزمنية الكاملة على غربي أوربا بأجمعه، وقال إن هذه الوثيقةمزورة سخيفة. وكان نيقولاس القوزي Nicholas of Cusa قد أوضح منذ زمن قليل (1433) بطلان هذه الهبة في رسالته الاتفاقية الكاثوليكية التي كتبها لمجلس بازل. وكان هذا المجلس أيضاً على خلاف مع يوجنيوس الرابع؛ ولكن انتقاد فلا لهذه الوثيقة من الناحيتين التاريخية واللغوية قضى عليها قضاء وضع حداً نهائياً لهذه المسألة (وإن كان فلا نفسه قد وقع في كثير من الأخطاء).
ولم يكتفي فلا وألفنسو بالحجج العلمية بل لجأا أيضاً إلى الحرب السافرة، ويقول فلا في هذا:((أنا لا أهاجم الموتى فحسب، بل أهاجم أيضاً الأحياء))، وأخذ يقذف بوجينوس المؤدب بالقياس له بأشنع السباب:((وحتى لو فرضنا جدلا أن هذه الوثيقة صحيحة، فإنها تكون مع ذلك عديمة القيمة، لأن قسطنطين لم يكن له سلطة إصدارها، ومهما يكن من أمرها فإن جرائم البابوية قد جعلتها لاغية)) (3). ثم اختتم فلا أقواله (متجاهلاً ما وهبه يبيين وشارلمان للبابوية من أملاك) بأنه إذا تبين أن هذه الهبة مزورة، فإن السلطة الزمنية للبابوات قد ظلت
ألف عام سلطة مغتصبة. وقد نشأ من هذه السلطة الزمنية فساد الكنيسة، وحروب إيطاليا، ((وسيطرة القساوسة المتغطرسة، الهمجية، الاستبدادية)). وأهاب فلا بأهل روما أن يثوروا ويقضوا على الحكومة البابوية القائمة في تلك المدينة، ودعا أمراء أوربا إلى العمل على حرمان البابوات من جميع ما لهم من أملاك (4). لقد كانت الدعوة أشبه بدعوة لوثر، ولكن ألفنسو كان هو الموحي بها، وهكذا أصبحت النزعة الإنسانية الأدبية سلاحاً من أسلحة الحرب.
ورد بوجينوس على هذه الحرب باستخدام محكمة التفتيش، فاستدعى فلا أمام ممثليها في نابلي، وأقر أمامهم في سخرية بأيمانه الكامل بالدين ثم أبى أن يزيد على ذلك شيئاً. وأمر ألفنسو ممثلي هذه المحكمة بأن يدعوه وشأنه، ولم يجرءوا هم على عصيان أمره. وواصل فلا هجومه على الكنيسة فأظهر أن المؤلفات التي تعزى إلى ديونيسيوس الأريوبجيتى غير حقيقية، وأن رسالة أبقاروس إلى المسيح التي نشرها يوزبيوس مزورة، وأن الرسل لم يكن لهم شأن ما في تكوين العقائد التي تعزى إليهم. على أنه لما ظن أن ألفنسو كان يعمل لمصالحة البابوية، قرر أن من الخير له أن يصالحها هو أيضاً، فوجه اعتذاراً إلى يوجينيوس، أعلن فيه رجوعه عن إلحاده، وأكد إيمانه بدينه، وطلب أن تغفر له ذنوبه. ولم يرد عليه البابا، غير أنه لما جلس نقولاس الخامس على عرش البابوية، وأرسل في طلب العلماء، عين فلا أميناً للهيئة الدينية البابوية (1448)، وعهد إليه أعمال الترجمة من اللغة اليونانية إلى اللاتينية، واختتم حياته قساً في كنيسة سان جون لاتران ودفن في أرض طاهرة.
وقد أبان مناظره المسالم أنطونيو بيكادلي عن أخلاق ذلك العصر بتأليف كتاب بذيء وترحيب كبراء إيطاليا بهذا الكتاب. وقد ولد أنطونيو في بالرم (1394) ولهذا لقب بالبانرمينا il Panormi'a، وتلقى تعليمه العالي في سينا، ولعله تلقى فها أيضاً أخلاقه المريبة، وألف حوالي عام 1425 سلسلة من المرثي والنكات الشعرية باللغة اللاتينية عنوانها
هرما فرودبني، تضارع كتابات ماريتال في لاتينيتها وأدبها المكشوف. ورضى كوزيمو ده ميديتشي أن تهدى إليه، وأكبر الظن أنه ارتضى هذا الإهداء دون أن يقرأ الكتاب، وأثنى جوارينو دا فيرونا رغم تمسكه بأهداب الفضيلة، على بلاغة عباراته، وقرظه نحو مائة كتاب آخر، ووضع الإمبراطور سجسمند في آخر الأمر تاج الشعر على مفرق بيكادلي (1433)، لكن القساوسة شنعوا على الكتاب، وأصدر يوجنيوس قراراً بحرمان كل من يقرؤه، وحرقه الرهبان علناً في فيرارا وبولونيا، وميلان. غير أن بيكادلي ظل مع ذلك يحاضر في جامعات بولونيا وبافيا ويتلقى أعظم درجات الثناء، وحصل على ثمانمائة اسكولي من الفيسكونتي، وطلب إليه أن يكون مؤرخ البلاط في نابلي. وألف كتابه في تاريخ الأقوال والأعمال الخالدة للملك ألفنسو بلغة لاتينية بليغة جعلت إينياس سيلفيوس يكواوميني-الذي أصبح فيما بعد البابا بيوس الثاني، وليس هو ممن لا يجيدون اللغة اللاتينية، - يعلن أنه نموذج للأسلوب اللاتيني الجيد. وعاش بيكادلي حتى بلغ السابعة والسبعين من العمر ومات مكرماً عظيم الثراء.
الفصل الثاني
فيرانتي
ترك ألفنسو مملكته إلى فرديناند الذي يقال إنه ولده (حكم بين 1448و 94)، وكان فيرانتي (كما يسميه شعبه مشكوك في نسبه. ذلك أنه كان لوالدته مرجريت الهيجارية Margaret of Hijar عشاق آخرون غير الملك، ويؤكد ينتانو أمين فيرانتي أن أباه كان يهودياً اعتنق الدين المسيحي، وكان فلا مربيه. ولم يكن فيرانتي معروفاً بالدعارة الجنسية، ولكنه كان يتصف بمعظم الرذائل التي تنشأ من الخلق الحاد الأهوج الذي لم يروضه قانون أخلاقي صارم، وكان يستثيره فيما يبدو عداء للناس لا مبرر له. وقرر البابا كلكستس Calixtus الثلث شرعية مولده. ولكنه أبى أن يعترف به ملكاً، وأعلن انقراض أسرة أرغونة في نابلي، وطالب بهذه المملكة إقطاعية للكنيسة. وبذل رينه Rene صاحب أنجو محاولة أخرى لاستعادة العرش الذي أوصى به إليه جونا الثاني. وبينما هو ينزل قواته على ساحل نابلي إذ ثار البارونات الإقطاعيون على بيت أرغونة وتحالفوا مع أعداء الملك الأجانب. وواجه فيرانتي هذا التحدي من الجانبين ببسالة يزيدها الغضب قوة على قوتها، وغلب أعداءه، وانتقم لنفسه أقسى انتقام وأشده بطشاً؛ فغرر بأعدائه واحداً بعد واحد مدعياً أنه يريد مصالحتهم، ودعاهم إلى المآدب الفخمة، وقتل بعضهم بعد تناول الحلوى، وزج البعض الآخر في السجن، وترك الكثيرين منهم يموتون جوعاً في غيابه السجون، واحتفظ ببعضهم في الأقفاص ليتسلى بمنظرهم متى شاء، حتى إذا ماتوا حنطت أجسامهم وألبست حللهم المفضلة، واحتفظ بها في متحفه (5). على أن هذه القصص قد
تكون من قبيل "الفظائع" التي تذاع في أو قلت الحرب والتي يخترعها المؤرخون من أبناء المعسكر المعادي لمن يعزونها إليهم. فقد كان هذا الملك هو الذي عامل ليوناردو ده ميديتشي في عام 1479 معاملة عادلة لا غبار عليها. وكادت الثورة أن تطيح به في عام 1485، ولكنه استرد مكانه، وحكم بلاده حكماً طويلا دام ستة وثلاثين عاماً، ومات وسط مظاهر السرور العام. أما بقية قصة نابلي فموضعها في الجزء الذي سنتحدث فيه عن انهيار إيطاليا.
ولم يواصل فيرانتي الخطة التي جرى عليها ألفنسو في مناصرة العلماء، ولكنه عين رئيساً لوزرائه رجلا كان شاعراً، وفيلسوفاً، ودبلوماسياً ماهراً كل ذلك في وقت واحد، ذلك هو جيوفني بنتانوس Giovanni Pontanus. وتدرج جيوفني بمجمع نابلي العلمي، الذي أوجده بيكادلي من قبل، في معارج الرقي. وكان أعضاؤه من رجال الأدب يجتمعون في فترات معينة لتبادل الآراء ومطارحة الأشعار، وقد اتخذوا لهم أسماء لاتينية (فتسمى بنتانو باسم جفيانوس بينتانوس)، وكانوا يحبون أن يعتقدوا أنهم يواصلون بعد فترة انقطاع طويلة قاسية ثقافة روما الإمبراطورية العظيمة. وكانت طائفة منهم تكتب لغة لاتينية خليقة بأن يكتبها أدباء العصر الفضي في روما؛ وكتب بنتانوس رسائل في الأخلاق بالغة اللاتينية، امتدح فيها الفضائل التي يقال إن فيرانتي كان يتجاهلها، كما كتب رسالة بليغة في المبادئ يوصي فيها الحكام بالصفات المحببة التي ازدراها مكفيلي في كتاب الأمير بعد عشرين عام من ذلك الوقت، وأهدى جيوفني هذه الرسالة المثالية إلى تلميذه ألفنسو الثاني (1494 - 1495) ابن فيرانتي وولي عهده، وكان ألفنسو هذا يسير على كل المبادئ التي دعا إليها مكيفلي. وكان بنتانو يعلَّم بالشعر وبالنثر معاً، ويشرح في أشعار لاتينية سداسية الأوتاد قواعد علم الفلك الغامضة والطريقة الصحيحة لزراعة
أشجار البرتقال، وامتدح في طائفة من القصائد الممتعة كل نوع من أنواع الحب الطيب السوي: اشتياق الشباب للسلم، وحنان العروسين وصلتهما العاطفية، والإشباع المتبادل بين الزوجين، ومباهج الحب الأبوي وأحزانه، واندماج الزوجين في كائن واحد على مر السنين. ووصف في شعر، يبدو أنه خارج من القلب كشعر فرجيل ويدا على إتقان كبير عجيب للألفاظ اللاتينية، حياة أهل نابلي المرحة الخالية من العمل: وصف العمال وهم مستلقون على الكلأ، والمولعين بالرياضة يمارسون ألعابهم، والمتنزهون في عرباتهم، والبنات المغريات يرقصون رقصة الطرنطيلة على دقات الرق، والفتيان والفتيات يتغازلون وهم سائرون على شاطئ الخليج، والعشاق يتواعدون ويتلاقون، والأشراف يستحمون في بايا Baiae كأن خمسة عشر قرناً لم تمض على نشوات أوفد وقنوطه. ولو أن بينتانو كتب الإيطالية بنفس الأسلوب السلس الظريف الذي كتب به الشعر اللاتيني لوضعناه في مرتبة بترارك وبوليتيان اللذين كانا يجيدان اللغتين، واللذين أوتيا من الحصافة ما جعلهما يسايران الومن الحاضر كما يجولان في طرائق الماضي.
وكان أبرز الأعضاء في المجمع العلمي بعد بنتانو هو باقوبو سنادسارو Jacopo Sannazaro. وكان في مقدور ياقوبو هذا أن يكتب، كما يكتب بمبو، لغة إيطالية بأنقى اللهجات التسكانية- التي تختلف أشد الاختلاف على لغة الكلام في نابلي. وكان في مقدوره، كما كان في مقدور بوليتيان وبنتانو، أن يصوغ مراثي ونكات شعرية لا يستحي منها تيبلوس ومارتيال لو أنها عزيت إليهما. وكتب مرة مقطوعة شعرية يثني فيها على البندقية فبعثت إليه بستمائة دوقة (6). ولما خرج ألفنسو الثاني ليحارب البابا اسكندر السادس، اصطحب معه سنادسارو ليقذف روما بسهام شعره؛ ولما أن اتخذ البابا الشهواني، الذي كانت أسرته- أسرة بورجيا- تتخذ شعاراً
لها صورة ثور أسباني، لما أن اتخذ هذا البابا جوليا فارنيزي عشيقة له رماه سنادسارو ببيتين جعلا جنود ألفنسو يندمون بلا ريب على جهلهما باللغة اللاتينية:
من ذا الذي يرتاب في أن أوربا جلست يوماً على ثور من صور.
فها هو ذا ثور أسباني يحمل جوليا.
ولما نزل سيزاري بورجيا إلى الميدان ليحارب نابلي صوب إليه هذا السهم:
سيسمون بورجيا سيزاري أو لا يسمونه شيئاً على الإطلاق.
ولكن لما لا يجمع بين الاثنين، فهو كلاهما معاً.
وأخذت هذه الطعنات تنتقل من الأفواه إلى الآذان في إيطاليا، وكان لها شأن في تكوين القصص التي كانت تروى عن آل بورجيا.
وألف سنادسارو في فترة من فترات مزاجه الهادئ (1526) ملحمة لاتينية عنوانها ولادة العذراء. وكانت هذه القصيدة عملاً فذاً مدهشاً، استخدم الشاعر فيها الآلهة الوثنية القديمة، ولكنه جاء بها ليتخذها معواناً له على صيغة قصة الإنجيل، وإضافات لها، وقد أقتبس فيها أنشودة الرعاة الرابعة الذائعة الصيت لفرجيل فأدخلها في صلب القصيدة وجعلها بذلك تضارع ملحمة فرجيل. ولغتها اللاتينية ممتازة، وقد سر بها كلمنت السابع أعظم السرور، ولكن أحداً حتى البابا نفسه لا يكلف نفسه عناء قراءتها في هذه الأيام.
وكتب سنادسارو أعظم قصائد على الإطلاق بلغة قومه الحية. ومزج فيها النثر بالشعر - ونعني بها قصيدة أركاديا (1504). وكان الشاعر قد تعب من حياة المدن كما تعب منها ثيوقريطس في الإسكندرية القديمة، وعرف كيف يحب هدوء الريح وشذي زهره ونباته، وخالف بذلك لورندسو وبوليتان الذين كانا يعبران بإخلاص لا شك فيه عن عواطف
أهل الحضر قبل أيامه بنحو عشرين عاماً. أما في أيامه هو فقد كانت صور المناظر الطبيعية تعبر عن تقدير أصحابها للريف تقديراً مطرد النماء، فأخذ الناس يتحدثون عن الغابات والحقول، ومجاري المياه الصافية، والرعاة الأشداء ينشدون أناشيد الحب على نغمات المزمار. ووصف كتاب سنادسارو هذه الأخيلة التي سرت بين الناس، وانتشر الكتاب بين الشعب وذاعت شهرته إلى حد لم يحظ به أي كتاب آخر في عصر النهضة الإيطالية. فقد طاف فيه بقرائه في عالم خيالي من الرجال الأشداء والنساء الحسان - ليس فيهم ولا فيهن شيوخ أو عجائز، وكلهم وكلهن عرايا. ووصف فخامتهم وفخامتهن، وروعة المناظر الطبيعية، قي نثر شعري، كان هو المثال الذي حذا حذوه الكتاب في إيطاليا، وفي فرنسا وإنكلترا بعدها، وتخللت نثره أبيات من الشعر لا نجد فيها عليه مأخذاً. وفي هذا الكتاب وُلِد أدب الرعاة الحديث مولداً جديداً، ولعله كان أقل ظرفاً من الأدب القديم، ولعله أكثر منه طولا وأشد عصفاً؛ ولكنه كان ذا أثر غير محدود في الأدب والفن. وفيه وجد جيورجيوني، وتيشان، ومائة من الفنانين بعدهما موضوعات لصورهم الملونة، وفيه وجد ادمند اسبنسر Edmund Spenser، وسير فيليب سدني Sir Philip Sidney صوراً لأوصاف ملكات الجن في قصائدهم، وفي ملحمة أركاديا الإنكليزية. ذلك أن سنادسارو قد كشف في عالم الأدب مرة أخرى عن قارة أعظم فتنة من العالم الجديد الذي كشف كولمبس، وعن مدينة فاضلة فتانة في وسع كل روح أن تدخلها دون أن يكلفها ذلك الدخول شيئاً أكثر من معرفة القراء، وتستطيع أن تبني قصرها كما يتطلبه ذوقها وهواها دون أن ترتفع عن الصفحة إصبعاً.
وكان الفن في هذا العهد أكثر رجولة من الشعر، وإن كانت المسحة الإيطالية الناعمة قد أحدثت أثرها فيه أيضاً. وقد أقبل دوناتيلو، ومتشبلدسو
من فلورنس، وضربا المثل في الفن بالتابوت الرائع الذي نحتاه للكردينال رينلدو براننكتشي Rinaldo Branc-acci في كنيسة سان أنجلو أنيلو San Angelo a Nilo. وأمر ألفنسو الأفخم أن يقام مدخل جديد (1443 - 1470) للقصر الجديد Castel Nuovo الذي بدأه شارل الأول صاحب أنجو (1283)؛ وكان فراننشيسكو لورانا هو الذي وضع تصميم هذا القصر، كما أن بيترو دي مارتينو، وجوليانو دا مايانا في أغلب الظن هما اللذان حفرا النقوش الجميلة التي تمثل أعمال الملك العظيمة في الحرب والسلم. ولا تزال كنيسة سانتا كيارا Santa Chiara، التي بنيت لروبرت الحكيم Robert the Wise (1310) تضم النصب القوطي الجميل الذي أقامه الأخوان جيوفني وباتشي دا فريندسى Pace da Frenze في عام 1343 بعد موت الملك بزمن قليل. وأنشئ لكاتدرائية سان جنارو San Gennaro (1272) جزء داخلي قوطي جديد في القرن الخامس عشر؛ وهنا في الكابلادل تزورو يجري دم القديس جاتوريوس راعي نابلي وحاميها، ثلاث مرات في العام، مؤكداً رخاء المدينة التي أرهقتها أعمال التجارة، وأثقلها عبء القرون، ولكنها تجد سلواها في الإيمان والحب.
وظلت صقلية بمعزل عن النهضة. نعم إنها أنجبت عدداً قليلاً من العلماء، وقليلاً من المصورين أمثال أنطونيلو دا مسينا، ولكنهم هاجروا منها ليجدوا في أرض شبه الجزيرة فرصاً أوسع مما يتاح لهم منها في موطنهم الأصلي. وكان في بالرم، ومنتريال، وتشيفالو Cefalu فن عظيم، ولكنه لم يكن إلا بقية من أيام بيزنطية، أو الإسلام، أو النورمان. ذلك أن أمراء الإقطاع ملاك الأرض كانوا يؤثرون القرن الحادي عشر على الخامس عشر، ويحتقرون الآداب أو يجهلونها كما كان يفعل الفرسان. وكان الشعب الذي يحكمونه أفقر من أن يعبر عن نفسه تعبيراً ثقافياً يزيد
على ثيابه الزاهية، وفسيفسائه الديني البراق، وآماله المكتئبة الحزينة، وأغانيه، وشعره الساذج الذي يتحدث فيه عن الحب والعنف.
وكان للجزيرة الجميلة ملوكها وملكاتها من أسرة أرغونة حكموها من 1295 إلى 1409 ثم كانت من بعد ذلك درة في تاج أسبانيا مدى ثلاث قرون.
وبعد فهمها بدا من الإطناب في هذه العجالة القصيرة في أحوال وبعد فهمها بدا من الإطناب في هذه العجالة القصيرة في أحوال إيطاليا غير الرومانية، فإنها لم توف الحياة الكاملة المتنوعة التي كانت تحياها شبه الجزيرة ذات العواطف الجياشة ما هي خليقة به على الوجه الأكمل. وقد يكون أجدر بنا أن نرجئ التحدث عن الأخلاق والعادات، والعلم والفلسفة، إلى ما بعد الفصول التي سنتحدث فيها عن باباوات النهضة، ولكن كم من مسالك فرعية عظيمة القيمة قد فاتتنا حتى في هذه المدن التي ألقينا فيها نظرة عاجلة! فنحن لم نقل شيئاً مثلاً عن فرع كامل من فروع الأدب الإيطالي لن أعظم الروايات القصصية من أعمال عصر متأخر عن هذا العصر الذي تحدثنا عنه. كذلك كان حديثنا عن الدور الهام الذي اضطلعت به الفنون الصغرى في زينة أجسام الإيطاليين، وعقولهم، وبيوتهم موجزاً غير واف بها؛ فكم من بثور وقروح متورمة مشوهة قد استحالت عظمة وجلالة بفضل فنون النسيج!؛ وماذا كان يكون شأن عظماء الرجال والنساء الذين مجدهم المصورون البنادقة لولا ثيابهم المنسوجة من المخمل، والساتان، والحرير، والديباج؟ لقد أحسن هؤلاء صنعاً إذ ستروا عريهم ووسموا العري بميسم الإثم؛ وما كان أحكمهم أيضاً إذ لطفوا حر صيفهم بالحدائق وإن لم تكن ذات أشكال مبتكرة متباينة، وجملوا بيوتهم بالقرميد الملون على سقفها وأرضها، وبالحديد المشغول المزخرف والنقوش العربية الطراز، والآنية النحاسية المصقولة البراقة، والتماثيل والصور الصغيرة المتخذة من الشبه أو العاج، تذكرهم بمدى
ما يستطيع الرجال والنساء أن يبلغوه من الجمال، وأشغال الخشب المحفور والملبس الذي بني ليبقى ألف عام، والفخار البراق تزدان به النضد والأصونة وأرفف المُصْطليات، والزخارف المعجزة في زجاج البندقية الذي يتحدى الزمان بقوامه الهش، والأصباغ الذهبية، والمشابك الفضية لأغلفة الكتب المصنوعة من الجلد تحيط بذخائر المؤلفات القديمة التي زخرفها أرباب الأقلام السعداء. وقد آثر كثيرون من المصورين أمثال سانو دي بيترو أن يفقدوا ضوء أبصارهم في رسم الصورة الدقيقة وتلوينها على أن يبسطوا تصورهم الدقيق العميق للجمال في أشكال فجة على الألواح والجدران. وقد يلذ للإنسان، إذ مل الطواف في معارض الفن، أن يجلس في بعض الأحيان وهو منشرح الصدر ساعات طوال يتأمل زخارف المخطوطات وخطها الجميل، وهي المخطوطات التي لا تزال مخبأة في قصر اسكفانويا Schifanoia بفيرارا أو في مكتبة مورجان بنيويورك، أو الأمبروزيانا بميلان.
لقد اجتمعت هذه الفنون مضافاً أليها الفنون الكبرى، والكدح واحب، والمماحكة وفن الحكم، والورع والحرب، والإيمان والفلسفة، والعلم والخرافة، والشعر والموسيقى، والأحقاد والأهواء، وشعب وديع محبوب، جياش العاطفة، اجتمعت هذه كلها لخلق النهضة الإيطالية والوصول بها إلى كمالها وانهيارها في روما الميديتشية.